كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّهُمْ صَغَارٌ ، فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقِضٌ بِالِاسْتِرْقَاقِ ، وَبِالْخَرَاجِ ، وَيَفْسُدُ بِالْحُدُودِ ، وَهِيَ عُقُوبَةٌ وَإِذْلَالٌ ، وَلَا تَسْقُطُ بِالْعُقُوبَةِ بَعْدَ الْوُجُوبِ عَلَى أَنَّ الصَّغَارَ عَلَيْهِ ، فِي الْوُجُوبِ دُونَ الِاسْتِيفَاءِ وَقَدْ يَمْنَعُ الْإِسْلَامُ مِنْ وُجُوبِ مَا لَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِيفَائِهِ كَذَلِكَ الْجِزْيَةُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُسْقِطُ مَا وَجَبَ مِنَ الْجِزْيَةِ ، لَمْ يَخْلُ إِسْلَامُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ أَوْ مِنْ تَضَاعِيفِهِ . فَإِنْ كَانَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ وَاسْتِقْرَارِ الْوُجُوبِ اسْتُوفِيَتْ مِنْهُ جَبْرًا وَحُبِسَ بِهَا إِنِ امْتَنَعَ . وَإِنْ كَانَ إِسْلَامُهُ فِي تَضَاعِيفِ الْحَوْلِ سَقَطَتْ عَنْهُ جِزْيَةُ مَا بَقِيَ مِنَ الْحَوْلِ ، وَهَلْ تُؤْخَذُ مِنْهُ جِزْيَةُ مَا مَضَى قَبْلَ إِسْلَامِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي حَوْلِ الْجِزْيَةِ : هَلْ هُوَ مَضْرُوبٌ لِلْوُجُوبِ أَوْ لَا . فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ : أَنَّهُ مَضْرُوبٌ لِلْوُجُوبِ كَالْحَوْلِ فِي الزَّكَاةِ ، فَعَلَى هَذَا لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى مِنْهُ قَبْلَ إِسْلَامِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ مَضْرُوبٌ لِلْأَدَاءِ كَالْحَوْلِ فِي عَقْلِ الدِّيَةِ ، فَعَلَى هَذَا تَجِبُ عَلَيْهِ جِزْيَةُ مَا مَضَى قَبْلَ إِسْلَامِهِ . وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ الْقَوْلَيْنِ مَعًا ، وَقَالَ : الْجِزْيَةُ تَجِبُ بِأَوَّلِ الْحَوْلِ ، وَتُؤْخَذُ فِي أَوَّلِهِ ، وَلَيْسَ الْحَوْلُ فِيهَا مَضْرُوبًا لِلْوُجُوبِ ، وَلَا لِلْأَدَاءِ ، وِإِنَّمَا هُوَ مَضْرُوبٌ لِانْقِضَاءِ مُدَّتِهَا ، احْتِجَاجًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ إِلَى قَوْلِهِ : حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [ التَّوْبَةِ : 29 ] . فَأَمَرَ بِالْكَفِّ عَنْ قِتَالِهِمْ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ ، فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا بِالْكَفِّ عَنْهُمْ دُونَ الْحَوْلِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِأَوَّلِ الْحَوْلِ وُجُوبُهَا ، وَلَا أَدَاؤُهَا ، مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ أَنْ تُؤْخَذَ جِزْيَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا فِي كُلِّ سَنَةٍ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ وُجُوبُهَا وَأَدَاؤُهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُهُ فِي كُلِّ حَوْلٍ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ أَدَاؤُهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ حَوْلِهِ كَالزَّكَاةِ وَالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الدِّيَةِ ، فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ ضَمَانُهَا دُونَ دَفْعِهَا ، لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا ضَمِنُوا الْجِزْيَةَ حَرُمَ قَتْلُهُمْ قَبْلَ دَفْعِهَا .

فَصْلٌ : وَإِذَا تَعَذَّرَ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنَ الذِّمِّيِّ حَتَّى مَضَتْ عَلَيْهِ سَنَوَاتٌ لَمْ تَتَدَاخَلْ ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ جِزْيَةُ مَا مَضَى مِنَ السِّنِينَ كُلِّهَا .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَتَدَاخَلُ ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ إِلَّا جِزْيَةُ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْجِزْيَةَ عُقُوبَةٌ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَتَدَاخَلَ كَالْحُدُودِ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّهَا مَالٌ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُهُ فِي كُلِّ حَوْلٍ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَدَاخَلَ كَالزَّكَاةِ وَالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ مُعَاوَضَةٌ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ وَالْمُسَاكَنَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَتَدَاخَلَ كَالْأُجْرَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْحُدُودِ مَعَ انْتِقَاضِهِ بِمَنْ أَفْطَرَ بِجِمَاعٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، ثُمَّ أَفْطَرَ فِيهِ فِي يَوْمٍ ثَانٍ ، لَمْ تَتَدَاخَلِ الْكَفَّارَتَانِ ، وَإِنْ كَانَتَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْحُدُودِ أَنْ لَا مَالَ فِيهَا ، فَجَازَ أَنْ تَتَدَاخَلَ كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ ، وَالْجِزْيَةُ مَالٌ ، فَلَمْ تَتَدَاخَلْ ، كَالْمَالِ فِيهَا . فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، وَغَابَ الذِّمِّيُّ سِنِينَ ثُمَّ عَادَ مُسْلِمًا ، وَادَّعَى تَقَدُّمَ إِسْلَامِهِ ، وَسُقُوطَ جِزْيَتِهِ فِي جَمِيعِ مُدَّتِهِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : قُبِلَ قَوْلُهُ فِي سُقُوطِهَا عَنْهَا ، وَأُحْلِفَ إِنِ اتُّهِمَ . قَالَ الرَّبِيعُ : وَفِيهَا قَوْلٌ آخَرُ : أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ : لِأَنَّهَا عَلَى أَصْلِ الْوُجُوبِ ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى . وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ قَالَ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ ، وَلَيْسَ يَصِحُّ : لِأَنَّهُ خُلْفٌ فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

لْمَقْصُودَ بِعَقْدِ الْجِزْيَةِ تَقْوِيَةُ الْإِسْلَامِ وَإِعْزَازُهُ وَإِضْعَافُ الْكُفْرِ وَإِذْلَالُهُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَافِعِيُّ : " وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ دِينَ اللَّهِ بِمَا لَا يَنْبَغِي ، أَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ ، أَوْ أَصَابَهَا بِاسْمِ نِكَاحٍ ، أَوْ فَتَنَ مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ ، أَوْ قَطَعَ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ ، أَوْ أَعَانَ أَهْلَ الْحَرْبِ بِدَلَالَةٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، أَوْ آوَى عَيْنًا لَهُمْ : فَقَدْ نَقَضَ عَهْدَهُ ، وَأُحِلَّ دَمُهُ ، وَبَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى وَذِمَّةُ رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُسْمِعُوا الْمُسْلِمِينَ شِرْكَهُمْ وَقَوْلَهُمْ فِي عُزَيْرٍ وَالْمَسِيحِ ، وَلَا يُسْمِعُونَهُمْ ضَرْبَ نَاقُوسٍ ، وَإِنْ فَعَلُوا عُزِّرُوا وَلَا يُبْلَغُ بِهِمُ الْحَدُّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِعَقْدِ الْجِزْيَةِ وأقسامه تَقْوِيَةُ الْإِسْلَامِ ، وَإِعْزَازُهُ ، وَإِضْعَافُ الْكُفْرِ وَإِذْلَالُهُ : لِيَكُونَ الْإِسْلَامُ أَعْلَى وَالْكُفْرُ أَخْفَضَ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى ، فَكُلُّ مَا دَعَا إِلَى هَذَا كَانَ الْإِمَامُ مَأْمُورًا بِاشْتِرَاطِهِ عَلَيْهِمْ ، وَمَا يُؤْخَذُونَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ فِي عَقْدِ جِزْيَتِهِمْ يَنْقَسِمُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا وَجَبَ بِالْعَقْدِ دُونَ الشَّرْطِ . وَالثَّانِي : مَا وَجَبَ بِالشَّرْطِ ، وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ بِالْعَقْدِ . وَالثَّالِثُ : مَا لَمْ يَجِبْ بِالْعَقْدِ ، وَوَجَبَ بِالشَّرْطِ . وَالرَّابِعُ : مَا لَمْ يَجِبْ بِالْعَقْدِ ، وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ بِالشَّرْطِ .

وَالْخَامِسُ : مَا لَمْ يَجِبْ بِعَقْدٍ وَلَا شَرْطٍ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ مَا وَجَبَ بِالْعَقْدِ ، وَكَانَ الشَّرْطُ فِيهِ مُؤَكَّدًا لَا مُوجَبًا فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءٍ : أَحَدُهَا : الْتِزَامُ الْجِزْيَةِ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [ التَّوْبَةِ : 29 ] . أَيْ يَضْمَنُوهَا . وَالثَّانِي : الْتِزَامُ أَحْكَامِهَا بِالْإِسْلَامِ فِيمَا أَجَابُوهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَهُمْ صَاغِرُونَ وَالصَّغَارُ : أَنْ تَجْرِيَ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ . وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا يَجْتَمِعُوا عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ ، لِيَكُونُوا آمِنِينَ مِنْهُمْ كَمَا أَمِنُوهُمْ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ ، فَلَوْ قَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ ، وَقَعَدَ عَنْهُمْ بَعْضُهُمُ انْتَقَضَ عَقْدُ الْمُقَاتِلِ ، وَنُظِرَ فِي الْقَاعِدِ ، فَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ الرِّضَا كَانَ نَقْضًا لِعَهْدِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ الرِّضَا كَانَ عَلَى عَهْدِهِ ، وَلَوِ امْتَنَعُوا جَمِيعًا مِنْ بَذْلِ الْجِزْيَةِ حكم أهل الذمة في هذه الحالة كَانَ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ سَوَاءٌ امْتَنَعُوا جَمِيعًا مِنِ الْتِزَامِهَا أَوْ مِنْ أَدَائِهَا ، وَإِنِ امْتَنَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مِنْ بَذْلِهَا نُظِرَ ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنِ الْتِزَامِهَا كَانَ نَقْضًا لِعَهْدِهِ كَالْجَمَاعَةِ ، وَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا مَعَ بَقَائِهِ عَلَى الْتِزَامِهَا لَمْ يَكُنْ نَقْضًا لِعَهْدِهِ ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ بِخِلَافِ الْجَمَاعَةِ : لِأَنَّ إِجْبَارَ الْجَمَاعَةِ عَلَيْهَا مُتَعَذِّرٌ ، وَإِجْبَارَ الْوَاحِدِ عَلَيْهَا مُمْكِنٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ إِذَا امْتَنَعُوا مِنْ أَدَائِهَا ، وَيَنْتَقِضُ إِذَا امْتَنَعُوا مِنْ بَذْلِهَا كَالْآحَادِ ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ مَا وَجَبَ بِالشَّرْطِ ، وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ مَا مُنِعُوا مِنْهُ لِتَحْرِيمِهِ ، وَذَلِكَ سِتَّةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنْ لَا يَذْكُرُوا كِتَابَ اللَّهِ بِطَعْنٍ عَلَيْهِ وَلَا تَحْرِيفٍ لَهُ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَذْكُرُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَكْذِيبٍ لَهُ ، وَلَا إِزْرَاءٍ عَلَيْهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا يَذْكُرُوا دِينَ اللَّهِ بِذَمٍّ لَهُ ، وَلَا قَدْحٍ فِيهِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ لَا يَفْتِنُوا مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ ، وَلَا يَتَعَرَّضُوا لِدَمِهِ أَوْ مَالِهِ . وَالْخَامِسُ : أَنْ لَا يُصِيبُوا مُسْلِمَةً بِزِنًا ، وَلَا بِاسْمِ نِكَاحٍ . وَالسَّادِسُ : أَنْ لَا يُعِينُوا أَهْلَ الْحَرْبِ ، وَلَا يُئْوُوا عَيْنًا لَهُمْ ، وَلَا يَنْقُلُوا أَخْبَارَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ . فَهَذِهِ السِّتَّةُ تَجِبُ بِالشَّرْطِ ، وَفِي وُجُوبِهَا بِالْعَقْدِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : تَجِبُ بِالْعَقْدِ ، وَيَكُونُ الشَّرْطُ تَأْكِيدًا ، تَعْلِيلًا بِدُخُولِ الضَّرَرِ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ خَالَفُوهَا انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِنَّهَا لَا تَجِبُ بِالْعَقْدِ ، تَعْلِيلًا بِدُخُولِهِمْ تَحْتَ الْقُدْرَةِ ، وَخُرُوجِهَا عَنْ لَوَازِمِ الْجِزْيَةِ ، لَكِنَّهَا تَلْزَمُ بِالشَّرْطِ ، لِتَحْرِيمِهَا وَظُهُورِ الضَّرَرِ بِهَا ، وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ خَالَفُوهَا بَعْدَ اشْتِرَاطِهَا ، فَفِي انْتِقَاضِ عَهْدِهِمْ بِهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَنْتَقِضُ بِهَا عَهْدُهُمْ لِلُزُومِهَا بِالشَّرْطِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَنْتَقِضُ بِهَا عَهْدُهُمْ ، لِخُرُوجِهَا عَنْ لَوَازِمِ الْعَقْدِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَا لَا يَجِبُ بِالْعَقْدِ ، وَيَجِبُ بِالشَّرْطِ ، وَهُوَ مَا مَنَعُوا مِنْهُ : لِأَنَّهُ مُنْكَرٌ ، فَذَلِكَ سِتَّةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنْ لَا يَعْلُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَبْنِيَةِ ، وَيَكُونُوا إِنْ لَمْ يَنْخَفِضُوا عَنْهُمْ مُسَاوِينَ لَهُمْ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يُحْدِثُوا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ بَيْعَةً ، وَلَا كَنِيسَةً ، وَإِنْ أُقِرُّوا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ . وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا يُجَاهِرُوا الْمُسْلِمِينَ بِإِظْهَارِ صُلْبَانِهِمْ . وَالرَّابِعُ : أَنْ لَا يَتَظَاهَرُوا بِشُرْبِ خُمُورِهِمْ ، وَخَنَازِيرِهِمْ ، وَلَا يَسْقُوا مُسْلِمًا خَمْرًا ، وَلَا يُطْعِمُونَهُمْ خِنْزِيرًا . وَالْخَامِسُ : أَنْ لَا يَتَظَاهَرُوا بِمَا قَدَّرَهُ الشَّرْعُ مِنْ قَوْلِهِمْ : عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ، وَالْمَسِيحُ . وَالسَّادِسُ : أَنْ لَا يُظْهِرُوا بِتِلَاوَةِ مَا نُسِخَ مِنْ كُتُبِهِمْ ، وَلَا يُظْهِرُوا فِعْلَ مَا نُسِخَ مِنْ صَلَوَاتِهِمْ وَأَصْوَاتِ نَوَاقِيسِهِمْ . فَهَذِهِ سِتَّةٌ تَجِبُ عَلَيْهِمْ بِالشَّرْطِ : لِأَنَّهَا مَنَاكِيرُ لَزِمَ الْمَنْعُ مِنْهَا بِالشَّرْعِ ، فَإِنْ خَالَفُوهَا ، فَفِي بُطْلَانٍ عَهْدِهِمْ بِهَا قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : وَهُوَ مَا لَمْ يَجِبْ بِالْعَقْدِ ، وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ بِالشَّرْطِ ، وَهُوَ مَا مُنِعُوا مِنْهُ ، لِتَطَاوُلِهِمْ بِهِ ، وَذَلِكَ سِتَّةُ أَشْيَاءٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُمْنَعُوا مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ عِتَاقًا ، وَهِجَانًا ، وَلَا يُمْنَعُوا مِنْ رُكُوبِ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ . وَالثَّانِي : تَغْيِيرُ هَيْئَاتِهِمْ ، بِلُبْسِ الْغُبَارِ وَشَدِّ الزُّنَّارِ ، لِيَتَمَيَّزُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِاخْتِلَافِ الْهَيْئَةِ ، وَلِوَاحِدَةِ نِسَائِهِمْ إِذَا بَرَزَتْ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْخُفَّيْنِ أَحْمَرَ ، وَالَآخَرُ أَسْوَدَ لِيَتَمَيَّزَ بِهِ نِسَاؤُهُمْ .

وَأَنْ يَكُونَ عَلَى أَبْوَابِهِمْ أَثَرٌ يَتَمَيَّزُ بِهَا دُورُهُمْ ، فَقَدْ أَخَذَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعْضَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِذَلِكَ ، فَكَانَ أَوْلَى . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُخْفُوا دَفْنَ مَوْتَاهُمْ ، وَلَا يُظْهِرُوا إِخْرَاجَ جَنَائِزِهِمْ . وَالرَّابِعُ : أَنْ لَا يُظْهِرُوا عَلَى مَوْتَاهُمْ لَطْمًا ، وَلَا نَدْبًا ، وَلَا نَوْحًا . وَالْخَامِسُ : أَنْ لَا يَدْخُلُوا مَسَاجِدَنَا صِيَانَةً لَهَا مِنْهُمْ . وَالسَّادِسُ : أَنْ لَا يَتَمَلَّكُوا مِنْ رَقِيقِ الْمُسْلِمِينَ عَبْدًا ، وَلَا أَمَةً ، لِئَلَّا يُذِلُّوهُمْ بِالِاسْتِرْقَاقِ ، وَيَحْمِلُوهُمْ عَلَى الِارْتِدَادِ . فَهَذِهِ السِّتَّةُ إِنْ لَمْ تُشْتَرَطْ عَلَيْهِمْ لَمْ تَلْزَمْهُمْ ، وَفِي لُزُومِهَا إِذَا شُرِطَتْ عَلَيْهِمْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَلْزَمُ لِخُرُوجِهَا عَلَى مُحَرَّمٍ وَمُنْكَرٍ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ خَالَفُوهَا بَعْدَ اشْتِرَاطِهَا عُزِّرُوا عَلَيْهَا ، وَلَمْ يَنْتَقِضْ بِهَا عَهْدُهُمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَلْزَمُ بِالشَّرْطِ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْإِسْلَامُ يَعْلُو ، وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا خَالَفُوهَا بَعْدَ الشَّرْطِ ، فَعَلَى انْتِقَاضِ عَهْدِهِمْ بِهَا قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الْخَامِسُ : وَهُوَ مَا لَا يَجِبُ بِعَقْدٍ ، وَلَا شَرْطٍ ، وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى إِذْلَالِهِمْ ، وَذَلِكَ سِتَّةُ أَشْيَاءٍ : أَحَدُهَا : أَنْ لَا يُعْلُوا أَصْوَاتَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَتَقَدَّمُوا عَلَيْهِمْ فِي الْمَجَالِسِ . وَالثَّالِثُ : لَا يُضَايِقُوهُمْ فِي الطَّرِيقِ ، وَلَا يَمْشُوا فِيهَا إِلَّا أَفْرَادًا مُتَفَرِّقِينَ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ ، وَلَا يُسَاوُوهُمْ فِي الرَّدِّ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : اضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِ الطُرُقِ ، وَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ . وَالْخَامِسُ : إِذَا اسْتَعَانَ بِهِمْ مُسْلِمٌ فِيمَا لَا يَسْتَضِرُّوا بِهِ أَعَانُوهُ . وَالسَّادِسُ : أَنْ لَا يَسْتَبْذِلُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْ مِهَنِ الْأَعْمَالِ بِأَجْرٍ وَلَا تَبَرُّعٍ . فَهَذِهِ السِّتَّةُ تُشْتَرَطُ عَلَيْهِمْ إِذْلَالًا لَهُمْ ، فَإِنْ خَالَفُوهَا لَمْ يَنْتَقِضْ بِهَا عَهْدُهُمْ ، وَأُجْبِرُوا عَلَيْهَا ، إِنِ امْتَنَعُوا مِنْهَا ، فَإِنْ أَقَامُوا عَلَى الِامْتِنَاعِ عُزِّرُوا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا يَنْتَقِضُ بِهِ الْعَهْدُ ، وَلَا يَنْتَقِضُ ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَقِضْ بِهِ عَهْدُهُمْ أُخِذُوا بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُقُوقِ ، وَأُقِيمَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَتْلٍ ، وَلَزِمَهُ مِنْ حَدٍّ ، وَقُوِّمُوا بِهِ مِنْ تَأْدِيبٍ ، وَإِنِ انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ ، نُظِرَ حَالُهُمْ بَعْدَ نَقْضِهِمْ ، فَإِنْ قَاتَلُوا بَطَلَ أَمَانُهُمْ ،

وَكَانُوا حَرْبًا يُقْتَلُونَ ، وَيُسْتَرَقُّونَ ، وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلُونَا فَفِي بُطْلَانِ أَمَانِهِمْ بِانْتِقَاضِ عَهْدِهِمْ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ أَنَّ أَمَانَهُمْ لَا يَبْطُلُ بِنَقْضِ الْعَهْدِ : لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ فِي عَقْدٍ ، فَالْتَزَمْنَا حُكْمَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمُوهُ . وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ نَقْضِ الْعَهْدِ من أهل الذمة : أثره أَنْ يُقَرُّوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَزِمَ أَنْ يَبْلُغُوا مَأْمَنَهُمْ ، ثُمَّ يَكُونُوا بَعْدَ بُلُوغِ مَأْمَنِهِمْ حَرْبًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مِنَ الْأُمِّ أَنَّ أَمَانَهُمْ قَدْ بَطَلَ : لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَهْدِ ، فَبَطَلَ بِانْتِقَاضِهِ مَا اسْتَحَقَّ بِهِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ ، فَعَلَى هَذَا قَدْ صَارُوا بِبُطْلَانِ الْأَمَانِ حَرْبًا يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْأَسْرَى إِمَّا الِاسْتِرْقَاقُ أَوِ الْمَنُّ ، أَوِ الْفِدَاءُ ، فَلَوْ أَسْلَمُوا قَبْلَهَا سَقَطَتْ عَنْهُمْ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَرَقُّوا ، وَيُفَادَوْا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ ، وَإِنْ جَازَ اسْتِرْقَاقُ الْأَسِيرِ الْمُحَارِبِ بَعْدَ إِسْلَامِهِ : لِأَنَّ لِهَؤُلَاءِ أَمَانًا مُتَقَدِّمًا لَمْ يَكُنْ لِلْأَسِيرِ ، فَصَارَ حُكْمُهُمْ بِهِ أَضْعَفَ وَأَخَفَّ مِنَ الْأَسِيرِ . فَأَمَّا أَمَانُ ذَرَارِيهِمْ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ، فَفِي بُطْلَانِ أَمَانِهِمْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَبْطُلُ : لِأَنَّهُمْ تَبَعٌ فِي لُزُومِهِ ، فَكَانُوا تَبَعًا فِي بُطْلَانِهِ ، فَيَصِيرُوا سَبْيًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : - وَهُوَ أَظْهَرُ - أَنَّ أَمَانَهُمْ لَا يَبْطُلُ لِاسْتِقْرَارِهِ فِيهِمْ ، فَلَمْ يَبْطُلْ بِبُطْلَانِهِ فِي غَيْرِهِمْ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْبَوْا ، وَيَجُوزَ إِقْرَارُهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ سَأَلُوا الرُّجُوعَ لِدَارِ الْحَرْبِ أُعِيدَ الصِّبْيَانُ : لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِاخْتِيَارِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ ، وَأَقَامَ الصِّبْيَانَ حَتَّى يَبْلُغُوا ، ثُمَّ يُخَاطَبُوا بِالْجِزْيَةِ ، فَإِنِ الْتَزَمُوهَا اسْتُؤْنِفَ عَهْدُهُمْ عَلَيْهَا ، وَإِنِ امْتَنَعُوا مِنْهَا بَلَغُوا مَأْمَنَهُمْ ، ثُمَّ كَانُوا حَرْبًا ، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغِ الصِّغَارُ وَطَلَبَهُمْ أَهْلُوهُمْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ نُظِرَ . فَإِنْ كَانَ طَالِبُهُمْ هُوَ الْمُسْتَحِقَّ لِحَضَانَتِهِمْ أُجِيبَ إِلَى رَدِّهِمْ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ الْمُسْتَحِقِّ لِحَضَانَتِهِمْ مُنِعَ مِنْهُمْ .

لَا يُحْدِثُوا فِي أَمْصَارِ الْإِسْلَامِ كَنِيسَةً وَلَا مَجْمَعًا لِصَلَاتِهِمْ وَلَا يُظْهِرُوا فِيهَا حَمْلَ خَمْرٍ وَلَا إِدْخَالَ خِنْزِيرٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يُحْدِثُوا فِي أَمْصَارِ الْإِسْلَامِ كَنِيسَةً وَلَا مَجْمَعًا لِصَلَاتِهِمْ ، وَلَا يُظْهِرُوا فِيهَا حَمْلَ خَمْرٍ وَلَا إِدْخَالَ خِنْزِيرٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا قَدْ دَخَلَ فِي جُمْلَةِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ مُنْكَرَاتِهِمْ ، فَيُمْنَعُوا مِنْ إِحْدَاثِ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ ، لِمَا رَوَى مَسْرُوقٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ قَالَ : لَمَّا صَالَحَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ نَصَارَى الشَّامِ كَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا ، فَذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُمْ لَا يَبْنُونَ فِي بِلَادِهِمْ ، وَلَا فِيمَا حَوْلَهَا دِيرًا وَلَا كَنِيسَةً ، وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ وَأَنْ لَا يَمْنَعُوا

الْمَارَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ ، وَأَنْ لَا يُجَدِّدُوا مَا خَرِبَ مِنْهَا - ذَكَرَهُ أَبُو الْوَلِيدِ فِي الْمُخَرَّجِ عَلَى كِتَابِ الْمُزَنِيِّ ، وَلِأَنَّ إِحْدَاثَهَا مَعْصِيَةٌ ، لِاجْتِمَاعِهِمْ فِيهَا عَلَى إِظْهَارِ الْكُفْرِ ، وَلِذَلِكَ أَبْطَلْنَا الْوُقُوفَ عَلَى الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ ، وَعَلَى كُتُبِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ، وَلِأَنَّهُمْ يَقْتَطِعُونَ مَا بَنَوْهُ مِنْ غَيْرِ إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ فِيهَا ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِسْلَامُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ظَاهِرًا ، فَلِهَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ مُنِعُوا . فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ حُكْمَ بِلَادِ الْإِسْلَامِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى هَذَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا أَحْيَاهُ الْمُسْلِمُونَ . وَالثَّانِي : مَا فَتَحُوهُ عَنْوَةً . وَالثَّالِثُ : مَا فَتَحُوهُ صُلْحًا . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ مَا ابْتَدَأَ الْمُسْلِمُونَ إِنْشَاءَهُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ مِنْ مَوَاتٍ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ مِلْكٌ كَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَالَحَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي نُزُولِهَا عَلَى إِحْدَاثِ بَيْعَةٍ وَلَا كَنِيسَةٍ فِيهَا : لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَالَحُوا عَلَى مَا يَمْنَعُ مِنْهُ الشَّرْعُ ، وَيَكُونُ خَارِجًا مِنْ جُمْلَةِ صُلْحِهِمْ ، وَإِنْ تَمَسَّكُوا فِيهِ بِعَقْدِ الصُّلْحِ قِيلَ لَهُمْ : إِنْ رَضِيتُمْ بِإِبْطَالِ هَذَا مِنْهُ ، وَإِلَّا نَقَضْنَا عَهْدَكُمْ ، وَبَلَّغْنَاكُمْ مَآمِنَكُمْ ، وَلَا يَبْطُلُ أَمَانُهُمْ بِنَقْضِنَا بِعَهْدِهِمْ لِأَنَّنَا نَحْنُ نَقَضْنَاهُ بِمَا مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهُ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ نَرَى فِي هَذِهِ الْأَمْصَارِ بِيَعًا وَكَنَائِسَ كَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وَبَغْدَادَ ، وَهُوَ مِصْرٌ إِسْلَامِيٌّ بَنَاهُ الْمَنْصُورُ . قُلْنَا : إِنْ عَلِمْنَا أَنَّهَا أُحْدِثَتْ وَجَبَ هَدْمُهَا ، وَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهَا كَانَتْ قَدِيمَةً فِي الْمِصْرِ قَبْلَ إِنْشَائِهِ لِأَنَّ النَّصَارَى قَدْ كَانُوا يَبْنُونَ صَوَامِعَ ، وَدِيَارَاتٍ ، وَبِيَعًا فِي الصَّحَارِي يَنْقَطِعُونَ إِلَيْهَا ، فَتُقَرُّ عَلَيْهِمْ ، وَلَا تُهْدَمُ ، وَإِنْ أَشْكَلَ أَمْرُهَا ، أُقِرَّتِ اسْتِصْحَابًا ، لِظَاهِرِ حَالِهَا .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً مِنْ بِلَادِ الشِّرْكِ إِحْدَاثِ أهل الذمةِ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ فيه ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَالَحُوا عَلَى اسْتِئْنَافِ بِيَعٍ وَكَنَائِسَ فِيهَا ، فَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ مِنْ بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ ، فَمَا كَانَ مِنْهَا خَرَابًا عِنْدَ فَتْحِهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَمِّرُوهُ ، لِدُرُوسِهَا قَبْلَ الْفَتْحِ ، فَصَارَتْ كَالْمَوَاتِ . فَأَمَّا الْعَامِرُ مِنَ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ عِنْدَ فَتْحِهَا ، فَفِي جَوَازِ إِقْرَارِهَا عَلَيْهِمْ إِذَا صُولِحُوا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ إِقْرَارُهَا عَلَيْهِمْ لِخُرُوجِهَا عَنْ أَمْلَاكِهِمُ الْمَغْنُومَةِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ،

وَلِذَلِكَ أُقِرَّتِ الْبِيَعُ وَالْكَنَائِسُ فِي بِلَادِ الْعَنْوَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَمْلِكُهَا الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ ، وَيَزُولُ عَنْهَا حُكْمُ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ ، وَتَصِيرُ مِلْكًا لَهُمْ مَغْنُومًا لَا حَقَّ فِيهَا لِأَهْلِ الذِّمَّةِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ لِمَا ابْتَنَوْهُ مِنْهَا حُرْمَةٌ ، فَدَخَلَتْ فِي عُمُومِ الْمَغَانِمِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ بِيعَتْ عَلَيْهِمْ ، لِتَكُونَ عَلَى حَالِهَا بِيَعًا وَكَنَائِسَ لَهُمْ ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ اسْتِصْحَابًا لِحَالِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تَجُوزُ لِزَوَالِهَا عَنْهُمْ بِمِلْكِ الْمُسْلِمِينَ لَهَا ، فَصَارَتْ كَالْبِنَاءِ الْمُبْتَدَأِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ صُلْحًا إِحْدَاث أهل الذمةِ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ فيه ، فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ نُصَالِحَهُمْ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِلْكَ الدَّارِ لَنَا دُونَهُمْ ، وَيَسْكُنُونَ مَعَنَا فِيهَا بِالْجِزْيَةِ ، فَيُنْظَرُ فِي بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ ، فَإِنِ اسْتَثْنَوْهَا فِي صُلْحِهِمْ أُقِرَّتْ عَلَيْهِمْ : لِأَنَّ الصُّلْحَ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ عَامًّا فِي جَمِيعِ أَرْضِهِمْ ، وَخَاصًّا فِي بَعْضِهِمْ ، فَيُقَرُّوا عَلَيْهَا بِالصُّلْحِ ، وَيُمْنَعُوا مِنِ اسْتِحْدَاثِ غَيْرِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَثْنُوهَا فِي صُلْحٍ صَارَتْ كَأَرْضِ الْعَنْوَةِ ، هَلْ يَمْلِكُ الْمُسْلِمُونَ بِيَعَهُمْ وَكَنَائِسَهُمْ إِذَا فَتَحُوهَا ؟ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوَجْهَيْنِ . وَيَكُونُ حُكْمُ هَذَا الْبَلَدِ فِي مَنْعِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَحْكَامِنَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ نُصَالِحَهُمْ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِلْكُ الدَّارِ لَهُمْ دُونَنَا عَلَى جِزْيَةٍ يُؤَدُّونَهَا إِلَيْنَا ، عَنْ رُءُوسِهِمْ ، أَوْ عَنْ أَرْضِهِمْ ، أَوْ عَنْهُمَا جَمِيعًا ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَرُّوا عَلَى بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْنِفُوا فِيهَا إِحْدَاثَ بِيَعٍ وَكَنَائِسَ : لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهَا لِلْمُسْلِمِينَ مَلِكٌ . فَأَمَّا الْأَقْسَامُ الْخَمْسَةُ الَّتِي يُؤْخَذُ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِهَا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ ، فَيُؤْخَذُ هَؤُلَاءِ فِي بَلَدِهِمْ بِقِسْمَيْنِ مِنْهَا ، وَهُوَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي : لِأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِعَقْدِ الْجِزْيَةِ وَهِيَ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ : لِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا بِهَذَا الصُّلْحِ مِنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ . وَبِالْقِسْمِ الثَّانِي : وَهِيَ الشُّرُوطُ السِّتَّةُ : لِأَنَّهَا مُحَرَّمَاتٌ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهَا . فَأَمَّا الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ الْبَاقِيَةُ مِنْ مُنْكَرَاتِهِمْ وَاسْتِعْلَائِهِمْ ، فَلَا يُؤْخَذُوا بِهَا ، وَلَا يُمْنَعُوا مِنْهَا : لِأَنَّهَا دَارُهُمْ ، وَهِيَ دَارُ مُنْكَرٍ فِي مُعْتَقَدٍ وَفِعْلٍ ، فَكَانَ أَقَلُّ أَحْوَالِهِمْ فِيهَا أَنْ يَكُونُوا مُقَرِّينَ عَلَى مَا يُقَرُّونَ عَلَيْهِ فِي بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ تُسْتَحْدَثَ ، فَهِيَ مَا كَانَتْ مَجْمَعًا لِصَلَوَاتِهِمْ ، وَمَا اخْتُصَّ بِعِبَادَاتِهِمْ ، وَتِلَاوَةِ كُتُبِهِمْ ، وَدِرَاسَةِ

كُفْرِهِمْ ، فَهِيَ الْمَخْصُوصَةُ بِالْحَظْرِ وَالْمَنْعِ ، فَأَمَّا بِنَاءُ كل ما سوى ما يختص بالعبادة عندهم مَا سِوَاهَا فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ أَمْلَاكًا خَاصَّةً ، يَسْكُنُهَا أَرْبَابُهَا ، فَلَا يُمْنَعُوا بِنَاءَهَا ، وَلَا أَنْ يَبِيعَهَا الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ ، وَيَشْتَرُونَهَا مِنْهُمْ : لِأَنَّهَا مَنَازِلُ سُكْنَى ، وَلَيْسَتْ بُيُوتَ صَلَاةٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَبْنُوا مَا يَسْكُنُهُ بَنُو السَّبِيلِ مِنْهُمْ لِكُلِّ مَارٍّ وَمُجْتَازٍ ، وَلَا يَخْتَصُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِمِلْكِهِ ، فَيُنْظَرُ . فَإِنْ شَارَكَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي سُكْنَاهُ فَجَعَلُوهُ لِكُلِّ مَارٍّ مِنْ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ جَازَ ، وَلَمْ يُمْنَعُوا مِنْ بَقَائِهِ ، وَإِنْ جَعَلُوهُ مَقْصُورًا عَلَى أَهْلِ دِينِهِمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ ، فَفِي جَوَازِ تَمْلِيكِهِمْ مِنْ بِنَائِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ : لِأَنَّهُ مَنْزِلُ سَكَنٍ ، فَصَارَ كَالْمَنْزِلِ الْخَاصِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ أَنْ يُمَكَّنُوا مِنْهُ كَالْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَقْصُورًا عَلَيْهِمْ عُمُومًا ، لِيَتَعَبَّدَ فِيهِ سَابِلَتُهُمْ ، فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ فَرْقٌ ، وَقَدْ يَئُولُ بِهِمْ إِلَى أَنْ يَصِيرَ بَيْعَةً أَوْ كَنِيسَةً لَهُمْ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا اسْتُهْدِمَ مِنْ بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمِ إعادة أهل الذمة لبنائها الَّتِي يَجُوزُ إِقْرَارُهُمْ عَلَيْهَا مَعَ عِمَارَتِهَا ، فَفِي جَوَازِ إِعَادَتِهِمْ لِبِنَائِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ : يُمْنَعُونَ مِنْ إِعَادَةِ بِنَائِهَا ، وَيَكُونُ إِقْرَارُهُمْ عَلَيْهَا مَا كَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى عِمَارَتِهَا : لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَرَطَ عَلَى نَصَارَى الشَّامِ أَنْ لَا يُجَدِّدُوا مَا خَرِبَ مِنْهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ لَهُمْ إِعَادَةُ بِنَائِهَا اسْتِصْحَابًا لِحُكْمِهَا ، وَأَنَّ الْأَبْنِيَةَ لَا تَبْقَى عَلَى الْأَبَدِ ، فَلَوْ مُنِعُوا مِنْ بِنَائِهَا بَطَلَتْ عَلَيْهِمْ . وَالصَّحِيحُ عِنْدِي مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يُنْظَرَ فِي خَرَابِهَا ، فَإِنْ صَارَتْ دَارِسَةً مُسْتَطْرَفَةً كَالْمَوَاتِ مُنِعُوا مِنْ بِنَائِهَا : لِأَنَّهُ اسْتِئْنَافُ إِنْشَاءٍ ، وَإِنْ كَانَتْ شَعِثَةً بَاقِيَةَ الْآثَارِ وَالْجُدْرَانِ جَازَ لَهُمْ بِنَاؤُهَا ، وَلَوْ هَدَمُوهَا لِاسْتِئْنَافِهَا لَمْ يُمْنَعُوا : لِأَنَّ عِمَارَةَ الْمُسْتَهْدَمِ اسْتِصْلَاحٌ ، وَإِنْشَاءَ الدَّارِسِ اسْتِئْنَافٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يُحْدِثُونَ بِنَاءً يَتَطَوَّلُونَ بِهِ بِنَاءَ الْمُسْلِمِينَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّهُ لَا تَخْلُو مَسَاكِنُهُمْ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَسْتَأْنِفُوا بِنَاءَهَا . وَالثَّانِي : أَنْ يَسْتَدِيمُوا سُكْنَاهَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُعِيدُوا بِنَاءَهَا .

فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَسْتَأْنِفُوا بِنَاءَهَا بَعْدَ الْعَهْدِ ، فَلَا يَخْلُو مُجَاوِرُوهُمْ فِي مَوْضِعِهِمْ مِنَ الْمِصْرِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ مِنْ غَيْرِ دِينِهِمْ . فَإِنْ كَانَ مُجَاوِرُوهُمْ مُسْلِمِينَ ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَعْلُوا بِأَبْنِيَتِهِمْ عَلَى أَبْنِيَةِ الْمُسْلِمِينَ ، فَيَطَّوَّلُوا عَلَى أَبْنِيَتِهِمْ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْإِسْلَامُ يَعْلُو ، وَلَا يُعْلَى ، فَإِنْ عَلَوْا بِأَبْنِيَتِهِمْ هُدِمَتْ عَلَيْهِمْ ، وَهَلْ يُمَكَّنُونَ مِنْ مُسَاوَاتِهِمْ فِي الْأَبْنِيَةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُمَكَّنُونَ مِنَ الْمُسَاوَاةِ : لِأَنَّهُ قَدْ أُمِنَ الِاسْتِعْلَاءُ وَالِاسْتِشْرَافُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُمْنَعُونَ مِنَ الْمُسَاوَاةِ حَتَّى تُنْقَصَ أَبْنِيَتُهُمْ عَنْ أَبْنِيَةِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا يُمْنَعُونَ مِنَ الْمُسَاوَاةِ فِي اللِّبَاسِ وَالرُّكُوبِ ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْإِسْلَامُ يَعْلُو ، وَلَا يُعْلَى . وَهَلْ يُرَاعَى الْمَنْعُ مِنَ الِاسْتِعْلَاءِ فِي مَوْضِعِهِمْ مِنَ الْمِصْرِ أَوْ فِي جَمِيعِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي مَوْضِعِهِمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ جِيرَةٍ : لِأَنَّ مَا بَعُدَ عَنْهُمْ ، فَقَدْ أَمِنَ إِشْرَافَهُمْ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : يُمْنَعُونَ فِي جَمِيعِ الْمِصْرِ أَنْ يَتَطَاوَلُوا بِالِاسْتِعْلَاءِ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ ، وَإِنْ كَانَ مُجَاوِرُوهُمْ فِي مَوْضِعِهِمْ مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ جَازَ لَهُمْ أَنْ يَتَطَاوَلُوا فِيهَا بِأَبْنِيَتِهِمْ ، فَيَعْلُوَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ كَمَا يَعْلُو بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَعْضٍ ، وَهَلْ يُمْنَعُ جَمِيعُهُمْ أَنْ يَعْلُوا بِأَبْنِيَتِهِمْ عَلَى أَبْنِيَةِ مَنْ لَا يُجَاوِرُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمِصْرِ أَوْ لَا ؟ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ . وَإِنْ كَانَ مُجَاوِرُوهُمْ فِي مَوْضِعِهِمْ أَهْلَ ذِمَّةٍ عَلَى غَيْرِ دِينِهِمْ كَالْيَهُودِ مَعَ النَّصَارَى ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَالَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْأَبْنِيَةِ : لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ أَهْلُ ذِمَّةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُمْنَعُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِذَا اسْتَعْدَوْنَا ، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنَ الْمُسَاوَاةِ : لِأَنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَمْنَعَ كُلَّ صِنْفٍ مِنْهُمْ مِمَّا نَمْنَعُ بِهِ أَنْفُسَنَا .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : مِنْ مَسَاكِنِهِمْ أَنْ تَكُونَ قَدِيمَةَ الْأَبْنِيَةِ ، إِمَّا لِأَنَّهُمْ سَكَنُوهَا قَبْلَ صُلْحِهِمْ ، أَوْ لِأَنَّهُمُ اشْتَرَوْهَا مِنْ مُسْلِمٍ بَعْدَ الصُّلْحِ ، فَيَجُوزُ إِقْرَارُهُمْ

عَلَيْهِمَا ، وَإِنِ اسْتَعْلَوْا بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، كَمَا نُقِرُّهُمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ ، وَإِنْ مُنَعُوا مِنَ اسْتِحْدَاثِهَا ، لَكِنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنَ الْإِشْرَافِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَأَنْ لَا يَعْلُوا عَلَى سُطُوحِهَا إِلَّا بَعْدَ تَحْجِيرِهَا ، وَإِنْ لَمْ يُؤْمَرِ الْمُسْلِمُ بِتَحْجِيرِ سَطْحِهِ مِنْ جَارِهِ ، وَيُمْنَعُ صِبْيَانُهُمْ مِنَ الْإِشْرَافِ ، وَإِنْ لَمْ يُمْنَعْ صِبْيَانُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْإِشْرَافِ ، فَيَصِيرُوا مَأْخُوذِينَ مِنَ الْمَنْعِ مِنْ إِشْرَافِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا يُؤْخَذُ الْمُسْلِمُ بِالْمَنْعِ عَنْ إِشْرَافِهِ عَلَى جَارِهِ الْمُسْلِمِ وَيُؤْمَرُ بِالتَّحْجِيرِ ، وَإِنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ الْمُسْلِمُ : لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَأْمُونٌ وَهُمْ غَيْرُ مَأْمُونِينَ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يُعِيدُوا أَبْنِيَةَ مَسَاكِنِهِمْ بَعْدَ اسْتِهْدَامِهَا أهل الذمة ، فَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ كَالْمُسْتَأْنِفِينَ لِبِنَائِهَا ، فَيُمْنَعُوا مِنَ الِاسْتِعْلَاءِ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ كَانَتْ عَالِيَةً قَبْلَ هَدْمِهَا ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُمْنَعُونَ مِنْ إِعَادَةِ بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ إِذَا اسْتُهْدِمَتْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ إِعَادَتِهَا بَعْدَ الْهَدْمِ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْهَدْمِ مِنَ الْعُلُوِّ الطَّائِلِ ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقُولُ فِيهِ إِنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ إِعَادَةِ بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ إِذَا اسْتُهْدِمَتْ . فَأَمَّا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَرْتَفِقُوا فِي أَبْنِيَتِهِمْ - بِإِخْرَاجِ الرَّوَاشِينَ وَالْأَجْنِحَةِ إِلَى طُرُقِ السَّابِلَةِ فَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُمْنَعُونَ ارْتِفَاقَهُمْ بِهَا كَالْمُسْلِمِينَ ، لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي اسْتِطْرَاقِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُمْنَعُونَ مِنْهَا ، وَإِنْ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا الْمُسْلِمُونَ : لِأَنَّهَا طُرُقُ الْمُسْلِمِينَ دُونَهُمْ بِمَا يُمْنَعُونَ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ الَّذِي لَا يُمْنَعُ مِنْهُ الْمُسْلِمُ ، وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي آثَارِ حُشُوشِهِمْ إِذَا أَرَادُوا حَفْرَهَا فِي أَفَنِيَةِ دُورِهِمْ كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ .

يُفَرِّقُوا بَيْنَ هَيْئَتِهِمْ فِي الْمَلْبَسِ وَالْمَرْكَبِ وَبَيْنَ هَيْئَاتِ الْمُسْلِمِينَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ هَيْئَتِهِمْ فِي الْمَلْبَسِ وَالْمَرْكَبِ وَبَيْنَ هَيْئَاتِ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَنْ يَعْقِدُوا الزَّنَانِيرَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمُسْلِمِينَ فِي هَيْئَاتِ الْمَلْبَسِ وَالْمَرْكَبِ ، فَيُؤْخَذُونَ بِهِ فِي عَقْدِ ذِمَّتِهِمْ مَشْرُوطًا عَلَيْهِمْ ، لِيَتَمَيَّزُوا بِهِ ، فَيُعْرَفُوا ، وَلَا يَتَشَبَّهُوا بِالْمُسْلِمِينَ ، فَيَخْفَوْا ، لِمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، مِنِ افْتِرَاقِ الْأَحْكَامِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْهَيْئَاتِ مُعْتَبَرٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : فِي مَلَابِسِهِمْ . وَالثَّانِي : فِي أَبْدَانِهِمْ .

وَالثَّالِثُ : فِي مَوَاكِبِهِمْ . فَأَمَّا الْمُعْتَبَرُ فِي مَلَابِسِهِمْ أي أهل الذمة فَالِاخْتِيَارُ أَنْ يُجْمَعَ فِيهِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لُبْسُ الْغِيَارِ . وَالثَّانِي : شَدُّ الزُّنَّارِ . فَأَمَّا الْغِيَارُ : فَهُوَ أَنْ يُغَيِّرُوا لَوْنَ ثَوْبٍ وَاحِدٍ مِنْ مَلَابِسِهِمْ لَا يَلْبَسُ الْمُسْلِمُونَ مِثْلَ لَوْنِهِ ، إِمَّا فِي عَمَائِمِهِمْ ، وَإِمَّا فِي قُمُصِهِمْ ، وَيَكُونُوا فِيمَا سِوَاهُ مِثْلَ مَلَابِسِ الْمُسْلِمِينَ ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَ غِيَارِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، لِيَتَمَيَّزُوا ، وَعَادَةُ الْيَهُودِ أَنْ يَكُونَ غِيَارُهُمِ الْعَسَلِيَّ ، وَهُوَ الْمَائِلُ إِلَى الصُّفْرَةِ كَالْعَسَلِ ، وَرُبَّمَا غَيَّرُوا بِنَوْعٍ مِنَ الْأَزْرَقِ يُخَالِفُ مَعْهُودَ الْأَزْرَقِ ، وَغِيَارُ النَّصَارَى أَنْ يَكُونَ غِيَارُهُمُ الْأَدْكَنَ ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْفَاخِتِيِّ ، وَرُبَّمَا غَيَّرُوا بِنَوْعٍ مِنَ الصُّوفِ . وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْأَلْوَانُ شَرْطًا لَا يُتَجَاوَزُ إِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِلَوْنٍ مُتَمَيِّزٍ ، فَإِذَا صَارَ مَأْلُوفًا مُنِعُوا مِنَ الْعُدُولِ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ ، لِئَلَّا يَقَعَ الِاشْتِبَاهُ وَالْإِشْكَالُ ، فَإِنْ تَشَابَهَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي لَوْنِ الْغِيَارِ جَازَ ، وَإِنْ كَانَ تَمَيُّزُهُمْ فِيهِ أَوْلَى . وَأَمَّا الزُّنَّارُ فَهُوَ كَالْخَيْطِ الْمُسْتَغْلِظِ يَشُدُّونَهُ فِي أَوْسَاطِهِمْ فَوْقَ ثِيَابِهِمْ ، وَأَرْدِيَتِهِمْ ، وَيُمْنَعُوا أَنْ يَسْتَبْدِلُوا بِشَدِّ الْمَنَاطِقِ وَالْمِنْدِيلِ : لِأَنَّ الْمِنْطَقَةَ مِنْ لُبْسِ الْمُتَخَصِّصِينَ بِالرُّتَبِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْمَنَادِيلِ فِي الْأَوْسَاطِ مِنْ لُبْسِ ذَوِي الصَّنَائِعِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَلَمْ يَتَمَيَّزْ بِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ ، وَجَمِيعُ الْأَلْوَانِ مِنَ الزَّنَانِيرِ سَوَاءٌ بِخِلَافِ الْغِيَارِ : لِأَنَّ أَصْلَ الزُّنَّارِ كَالْغِيَارِ . فَإِنْ شُرِطَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ فِي غِيَارٍ أَوْ زُنَّارٍ جَازَ : لِأَنَّهُمْ يَتَمَيَّزُونَ بِهِ ، وَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِمُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْغِيَارِ وَالزُّنَّارِ أَخَذُوا بِهِمَا مَعًا : لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّمَيُّزِ مِنْ أَحَدِهِمَا . فَأَمَّا نِسَاءُ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، فَيُؤْخَذْنَ بِلُبْسِ الْغِيَارِ فِي الْخِمَارِ الظَّاهِرِ الَّذِي يُشَاهَدُ ، وَيَلْبَسْنَ خُفَّيْنِ مِنْ لَوْنَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَسْوَدُ ، وَالْآخَرُ : أَحْمَرُ أَوْ أَبْيَضُ ، لِيَتَمَيَّزَ نِسَاؤُهُمْ عَنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، وَيُؤْخَذْنَ بِشَدِّ الزُّنَّارِ دُونَ الْخِمَارِ ، لِئَلَّا تَصِفَهَا بِثِيَابِهَا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا ، فَإِنِ اقْتَصَرَ فِي النِّسَاءِ عَلَى التَّمَيُّزِ بِأَحَدِهِمَا جَازَ ، وَإِنْ كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ أَوْلَى ، فَإِنْ لَبِسَ أَهْلُ الذِّمَّةِ الْعَمَائِمَ وَالطَّيَالِسَةَ ، لَمْ يُمْنَعُوا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : يُمْنَعُونَ مِنْ لُبْسِ الْعَمَائِمِ وَالطَّيَالِسَةِ : لِأَنَّهَا مِنْ أَجْمَلِ مَلَابِسِ الْمُسْلِمِينَ ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَمَيُّزُهُمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِذَا تَمَيَّزُوا بِالْغِيَارِ وَالزُّنَّارِ جَازَ أَنْ يُسَاوُوهُمْ فِي صِفَاتِ مَلَابِسِهِمْ كَمَا يُسَاوُوهُمْ فِي أَنْوَاعِ مَأْكَلِهِمْ .

وَأَمَّا لُبْسُ فَاخِرِ الدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ ، فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْهُ فِي مَنَازِلِهِمْ ، وَفِي مَنْعِهِمْ مِنْهُ ظَاهِرًا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُمْنَعُونَ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّطَاوُلِ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُمْنَعُونَ مِنْهُ كَمَا لَا يُمْنَعُونَ مِنْ فَاخِرِ الثِّيَابِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ ، وَلِأَنَّهُمْ يَصِيرُونَ مُتَمَيِّزِينَ بِلُبْسِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، لِتَحْرِيمِ لُبْسِهِ عَلَيْهِمْ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَرْقُ الْمُعْتَبَرُ فِي أَبْدَانِهِمْ أهل الذمة ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي شُعُورِهِمْ . وَالثَّانِي : فِي أَجْسَادِهِمْ . فَأَمَّا الشُّعُورُ فَيُمَيَّزُونَ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَنْحَذِفُوا فِي مُقَدَّمِ رُءُوسِهِمْ عِرَاضًا تُخَالِفُ شَوَابِيرَ الْأَشْرَافِ . وَالثَّانِي : لَا يَفْرُقُوا شُعُورَهُمْ فِي رُءُوسِهِمْ ، وَيُرْسِلُونَهَا ذَوَائِبَ : لِأَنَّ هَذَا مِنَ الْمُبَاهَاةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ . وَأَمَّا فِي أَجْسَادِهِمْ ، فَهُوَ أَنْ تُطْبَعَ خَوَاتِيمُ الرَّصَاصِ مَشْدُودَةً فِي أَيْدِيهِمْ أَوْ رِقَابِهِمْ ، وَهُوَ أَوْلَى : لِأَنَّهُ أَذَلُّ ، وَإِنَّمَا أُخِذُوا بِالتَّمَيُّزِ فِي أَبْدَانِهِمْ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عِنْدَ دُخُولِ الْحَمَّامَاتِ ، فَإِذَا تَجَرَّدُوا فِيهَا مِنْ ثِيَابِهِمْ ، وَقَدِ اخْتِيرَ أَنْ يَدْخُلُوهَا وَفِي أَيْدِيهِمْ جَلْجَلٌ . وَالثَّانِي : لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا وُجِدُوا مَوْتَى ، لِيُعْرَفُوا ، فَيُدْفَعُوا إِلَى أَهْلِ دِينِهِمْ ، فَيَدْفِنُونَهُمْ فِي مَقَابِرِهِمْ وَلَا يَتَشَبَّهُوا بِالْمُسْلِمِينَ ، فَيُصَلُّوا عَلَيْهِمْ ، وَيَدْفِنُونَهُمْ فِي مَقَابِرِهِمْ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمَيَّزُوا بِمِيسَمٍ وَلَا وَسْمٍ : لِأَنَّهُ مُؤْلِمٌ وَغَيْرُ مَأْثُورٍ ، فَإِنِ اقْتَصَرُوا عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فِي أَبْدَانِهِمْ إِمَّا بِالشُّعُورِ أَوْ بِخَوَاتِيمِ الرَّصَاصِ الْمَطْبُوعَةِ جَازَ ، لِوُقُوعِ التَّمْيِيزِ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَوْلَى : لِأَنَّهُ أَظْهَرُ . فَأَمَّا النِّسَاءُ فَلَا يَعْرِضْ لِتَحْذِيفِ شُعُورِهِنَّ ، وَيُمْنَعُوا مِنَ الْفَرْقِ وَالذَّوَائِبِ فِي الْحَمَّامَاتِ دُونَ مَنَازِلِهِنَّ ، وَهُنَّ فِي طَابَعِ خَوَاتِيمِ الرَّصَاصِ إِذَا خَرَجْنَ كَالرِّجَالِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْفَرْقُ الْمُعْتَبَرُ فِي مَرَاكِبِهِمْ أهل الذمة فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي جِنْسِ الْمَرْكُوبِ . وَالثَّانِي : فِي صِفَةِ الْمَرْكُوبِ . فَأَمَّا جِنْسُ الْمَرْكُوبِ ، فَيَرْكَبُونَ الْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ

عِتَاقًا ، وَهِجَانًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [ الْأَنْفَالِ : 165 ] فَأَخْبَرَ بِإِعْدَادِهَا لِأَوْلِيَائِهِ فِي جِهَادِ أَعْدَائِهِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : الْخَيْلُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، يَعْنِي بِالْخَيْرِ الْغَنِيمَةَ ، وَهُمُ الْمَغْنُومُونَ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرُوا بِهَا غَانِمِينَ . وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : الْخَيْلُ ظُهُورُهَا عِزٌّ وَبُطُونُهَا كَنْزٌ . وَأَمَّا صِفَةُ الْمَرْكُوبِ ، فَيُخْتَارُ أَنْ يَرْكَبُوا عَلَى الْأُكُفِ عُرْضًا لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَخْتِمُوا فِي رِقَابِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالرَّصَاصِ ، وَأَنْ يُظْهِرُوا مَنَاطِقَهُمْ ، وَيَجُزُّوا نَوَاصِيَهُمْ ، وَيَرْكَبُوا الْأُكُفِ عُرْضًا ، وَلَا يَتَشَبَّهُوا بِالْمُسْلِمِينَ فِي لَبُوسِهِمْ . فَأَمَّا الْخَتْمُ بِالرَّصَاصِ فِي رِقَابِهِمْ ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ ، وَأَمَّا إِظْهَارُ مَنَاطِقِهِمْ ، فَهُوَ شَدُّ الزُّنَّارِ فِي أَوْسَاطِهِمْ ، فَوْقَ ثِيَابِهِمْ ، وَأَمَّا جَزُّ نَوَاصِيهِمْ فَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحْذِيفِهِمْ فِي مُقَدَّمِ رُءُوسِهِمْ ، وَأَمَّا رُكُوبُ الْأُكُفِ عُرْضًا فَهُوَ أَنْ تَكُونَ رِجْلَا الرَّاكِبِ إِلَى جَانِبٍ ، وَظَهْرُهُ إِلَى جَانِبٍ ، فَإِنَّ تَجَاوُزَ الْأُكُفَ إِلَى ضِدِّهِ بِحَمْلِ الْأَثْقَالِ إِلَى السُّرُوجِ بِمَا تَمَيَّزَ مِنْ سُرُوجِ الْمُسْلِمِينَ ، وَكَانَتْ رُكُبُهُمْ فِيهَا خَشَبًا ، وَلَمْ تَكُنْ حَدِيدًا ، وَيُمْنَعُونَ مَنْ تَخَتُّمِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّطَاوُلِ وَالْمُبَاهَاةِ ، وَلَوْ وُسِمَتْ بِغَالُهُمْ بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَمَّا لِلْمُسْلِمِينَ كَانَ أَوْلَى .

شرط بعقد الذمة معهم أَنْ لَا يَدْخُلُوا مَسْجِدَا الْمُسْلِمِينَ مُنِعُوا مِنْ دُخُولِهِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا يَدْخُلُوا مَسْجِدًا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا مُعْتَبَرٌ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ مَعَهُمْ ، فَإِنْ شُرِطَ فِيهِ أَنْ لَا يَدْخُلُوا مَسْجِدَ الْمُسْلِمِينَ حكم دخوله لأهل الذمة مُنِعُوا مِنْ دُخُولِهِ بِحُكْمِ الشَّرْطِ ، وَإِنْ أُغْفِلَ شَرْطُهُ عَلَيْهِمْ مُنِعُوا مِنْ دُخُولِهِ لِأَكْلٍ وَمَنَامٍ ، لِمَا فِيهِ مِنِ اسْتِبْذَالِهِمْ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ الْمُسْلِمُ : لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَعْتَقِدُ تَعْظِيمَهُ دِينًا ، وَالْمُشْرِكَ يَرَى اسْتِبْذَالَهُ دِينًا . وَأَمَّا دُخُولُهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ ، وَمَا يَعْرِضُ فِيهِ مِنْ حَاجَةٍ إِلَى مُسْلِمٍ ، فَيَجُوزُ بِإِذْنٍ وَيُمْنَعُونَ مِنْهُ بِغَيْرِ إِذَنٍ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [ التَّوْبَةِ : 6 ] . فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى إِبَاحَةِ الدُّخُولِ بَعْدَ الْإِذْنِ . فَإِنْ قَدِمَتْ وُفُودُ الْمُشْرِكِينَ ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُنْزِلَهُمُ الْإِمَامُ فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ ، فَإِنْ أَرَادَ إِنْزَالَهُمْ فِي الْمَسَاجِدِ اعْتُبِرَتْ حَالُهُمْ . فَإِنْ خِيفَ مِنْهُمْ تَنْجِيسُ الْمَسْجِدِ مُنِعُوا مِنْ نُزُولِهِ ، وَإِنْ أُمِنَ مِنْهُمْ تَنْجِيسُهُ نُظِرَ

فِيهِ ، إِنْ لَمْ يَرْجُ إِسْلَامَهُمْ مُنِعُوا مِنْ نُزُولِهِ صِيَانَةً لَهُ مِنَ الِاسْتِبْذَالِ ، وَإِنْ رُجِيَ إِسْلَامُهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ جَازَ إِنْزَالُهُمْ فِيهِ . قَدْ أَنْزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي الْمَسْجِدِ ، فَكَانَ سَبَبًا لِإِسْلَامِهِمْ ، وَإِسْلَامِ قَوْمِهِمْ . وَلَوْ دَعَتِ الضَّرُورَةُ فِيمَنْ لَمْ يَرْجُ إِسْلَامَهُمْ إِلَى إِنْزَالِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ لِتَعَذُّرِ مَا يَنْزِلُونَ فِيهِ ، مُسْتَكِنِّينَ فِيهِ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ جَازَ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ أَنْ يَنْزِلُوا : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْزَلَ سَبْيَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَبَنِيَ النَّضِيرِ مِنْ ضَرُورَةٍ حَتَّى أَمَرَ بِهِمْ ، فَبِيعُوا . وَرَبَطَ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ الْحَنَفِيَّ إِلَى سَارِيَةٍ فِي مَسْجِدِهِ . فَأَمَّا مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ الْإِذْنُ ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ لِمُقَامٍ أَوِ اجْتِيَازٍ ، فَإِنْ كَانَ لِمُقَامٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ تَزِيدُ عَلَى مُقَامِ السَّفَرِ لَمْ يَصِحَّ الْإِذْنُ فِيهِ إِلَّا مِنْ سُلْطَانٍ يَنْفُذُ أَمْرُهُ فِي الدِّينِ أَوْ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ أَهْلُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَيَكُونُ الْإِذْنُ مَشْرُوطًا أَنْ لَا يَسْتَضِرَّ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُصَلِّينَ . وَإِنْ كَانَ دُخُولُهُ لِاجْتِيَازٍ أَوْ لُبْثٍ يَسِيرٍ نُظِرَ فِي الْمَسْجِدِ . فَإِنْ كَانَ مِنَ الْجَوَامِعِ الَّتِي لَا يَتَرَتَّبُ الْأَئِمَّةُ فِيهَا إِلَّا بِإِذْنِ السُّلْطَانِ لَمْ يَصِحَّ الْإِذْنُ فِي دُخُولِهِ إِلَّا مِنْ سُلْطَانٍ : لِأَنَّهُ لَمَّا اعْتُبِرَ إِذْنُهُ فِي إِمَامَةِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يُعْتَبَرَ فِيمَا أُبِيحَ مِنْ دُخُولِ أَهْلِ الذِّمَّةِ . وَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ مِنْ مَسَاجِدِ الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ فِيهَا أَئِمَّتُهَا بِغَيْرِ إِذَنِ السُّلْطَانِ لَمْ يُعْتَبَرْ إِذَنُ السُّلْطَانِ فِي دُخُولِهِ . وَفِي مَنْ يَصِحُّ إِذْنُهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : كُلٌّ مَنْ صَحَّ أَمَانُهُ لِمُشْرِكٍ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ ، وَحُرٍّ وَعَبْدٍ ، صَحَّ إِذْنُهُ فِي الْمَسْجِدِ : لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ أَغْلَظُ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا إِذْنُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ مِنَ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ ، لِمَا تَعَلَّقَ بِهِمْ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا تَعْلِيمُهُمُ الْقُرْآنَ أهل الذمة ، فَيَجُوزُ بِهِ إِذَا رُجِيَ بِهِ إِسْلَامُهُمْ ، وَلَا يَجُوزُ إِذَا خِيفَ بِهِ الِاسْتِهْزَاءُ بِهِ . قَدْ سَمِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - أُخْتَهُ تَقْرَأُ سُورَةَ " طه " فَأَسْلَمَ . وَقَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ : إِذَا سَمِعْتُ الْقُرْآنَ كَادَ أَنْ يَنْقَطِعَ قَلْبِي . وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي تَعَلُّمِ الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ ، وَأَخْبَارِ الرَّسُولِ إِنْ رُجِيَ بِهِ إِسْلَامُهُمْ لَمْ

يُمْنَعُوا مِنْهُ ، وَإِنْ خِيفَ اعْتِرَاضُهُمْ وَجَرْحُهُمْ فِيهِ مُنِعُوا مِنْهُ ، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ تَعْلِيمِ الشِّعْرِ وَالنَّحْوِ ، وَمَنَعَهُمْ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ تَعَلُّمِهِ : لِأَنَّهُ فِي اسْتِقَامَةِ أَلْسِنَتِهِمْ بِهِ تَطَاوُلًا عَلَى مَنْ قَصَّرَ فِيهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَنَّهُمْ رُبَّمَا اسْتَعَانُوا بِهِ فِي الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْقُرْآنِ . وَهَذَا فَاسِدٌ : لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عُلُومِ الدِّينِ ، وَأَشْبَهَ عِلْمَ الطِّبِّ وَالْحِسَابِ ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ صَانَ كِتَابَهُ عَنْ قَدْحٍ بِدَلِيلٍ ، وَاعْتِرَاضٍ بِحُجَّةٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يَسْقُوا مُسْلِمًا خَمْرًا وَلَا يُطْعِمُوهُ خِنْزِيرًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُكْرِهُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ ، وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ ، فَإِنَّ التَّبَعَةَ فِيهِ عَلَيْهِمْ لَا عَلَى الْمُسْلِمِ ، فَيُعَزَّرُوا سَوَاءٌ شُرِطَ عَلَيْهِمْ فِي عَهْدِهِمْ أَوْ لَمْ يُشْرَطْ ، وَلَا يَنْتَقِضْ بِهِ الْعَهْدُ إِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ ، وَفِي انْتِقَاضِهِ بِهِ إِنْ شُرِطَ وَجْهَانِ : وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَغْلِبَهُمُ الْمُسْلِمُ عَلَيْهِ كَرْهًا ، فَيَشْرَبَ خَمْرَهُمْ ، وَيَأْكُلَ خِنْزِيرَهُمْ ، فَيُقَامُ عَلَى الْمُسْلِمِ حَدُّ الْخَمْرِ ، وَيُعَزَّرُ لِأَكْلِ الْخِنْزِيرِ ، وَيُعَزَّرُ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، لِتَعَدِّيهِ عَلَيْهِمْ ، وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ ، فِيمَا شَرِبَهُ مِنَ الْخَمْرِ وَأَكَلَهُ مِنَ الْخِنْزِيرِ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَعْرِضُوهُ عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ وَيَقْبَلُهُ الْمُسْلِمُ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ تَغْلِيبٍ ، فَيُقَامُ عَلَى الْمُسْلِمِ حَدُّ الْخَمْرِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا يُعَزَّرُ فِي حَقِّهِمْ ، وَيُعَزَّرُ الذِّمِّيُّ ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا فِي عَهْدِهِمْ ، وَلَا يُعَزَّرُ إِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ ، وَهَكَذَا لَوِ ابْتَدَأَ الْمُسْلِمُ بِطَلَبِهِ ، فَأَجَابُوهُ إِلَّا أَنَّ تَعْزِيرَهُمْ فِي الِابْتِدَاءِ بِعَرْضِهِ أَغْلَظُ مِنْ تَعْزِيرِهِمْ فِي إِجَابَتِهِمْ ، وَإِنِ اسْتَوَتِ الْحَالَاتُ فِي حَدِّ الْمُسْلِمِ وَتَعْزِيرِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ كَانُوا فِي قَرْيَةٍ يَمْلِكُونَهَا مُنْفَرِدِينَ لَمْ نَتَعَرَّضْ لَهُمْ فِي خَمْرِهِمْ وَخَنَازِيرِهِمْ وَرَفْعِ بُنْيَانِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ بِمِصْرِ الْمُسْلِمِينَ كَنِيسَةٌ أَوْ بِنَاءٌ طَائِلٌ لِبِنَاءِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ هَدْمُ ذَلِكَ ، وَتُرِكُوا عَلَى مَا وُجِدُوا ، وَمُنِعُوا إِحْدَاثَ مِثْلِهِ ، وَهَذَا إِنْ كَانَ الْمِصْرُ لِلْمُسْلِمِينَ أَحْيَوْهُ أَوْ فَتَحُوهُ عَنْوَةً ، وَشُرِطَ هَذَا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَإِنْ كَانُوا فَتَحُوا بِلَادَهُمْ عَلَى صُلْحٍ مِنْهُمْ عَلَى تَرْكِهِمْ ذَلِكَ خُلُّوا وَإِيَّاهُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَالَحُوا عَلَى أَنْ يَنْزِلُوا بِلَادَ الْإِسْلَامِ يُحْدِثُوا فِيهِ ذَلِكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ ، إِنْ تَفَرَّدُوا بِمِلْكِهِ وَسُكْنَاهُ مِنَ الْقُرَى وَالْبِلَادِ هل يعترض عليهم إظهار الخمر لَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِمْ فِي إِظْهَارِ خُمُورِهِمْ وَخَنَازِيرِهِمْ فِيهِ ، وَضَرْبِ نَوَاقِيسِهِمْ ، وَابْتِنَاءِ بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ ، وَتَعْلِيَةِ مَنَازِلِهِمْ ، وَتَرْكِ الْغِيَارِ وَالزُّنَّارِ وَلِأَنَّهَا زَادُهُمْ ، فَأَشْبَهَتْ دَوَاخِلَ مَنَازِلِهِمْ ، فَأَمَّا رُكُوبُهُمُ الْخَيْلَ فِيهَا فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : لَا يُمْنَعُونَ مِنْ رُكُوبِهَا كَمَا لَمْ يُمْنَعُوا مِمَّا سِوَاهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُمْنَعُونَ مِنْ رُكُوبِهَا : لِأَنَّهَا رُبَّمَا صَارَتْ قُوَّةً لَهُمْ تَدْعُوهُمْ إِلَى نَقْضِ الْعَهْدِ ، فَخَالَفَتْ بِذَلِكَ مَا سِوَاهَا ، ثُمَّ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ بَعْدَ هَذَا مِنْ حُكْمِهِمْ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً وَصُلْحًا مَا قَدْ مَضَى شَرْحُهُ .

يَكْتُبُ الْإِمَامُ أَسْمَاءَهُمْ وَحُلَاهُمْ فِي دِيوَانٍ وَيُعَرِّفُ عَلَيْهِمْ عُرَفَاءَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيَكْتُبُ الْإِمَامُ أَسْمَاءَهُمْ وَحُلَاهُمْ فِي دِيوَانٍ أهل الذمة ، وَيُعَرِّفُ عَلَيْهِمْ عُرَفَاءَ لَا يَبْلُغُ مَوْلُودٌ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِهِمْ إِلَّا رَفَعَهُ إِلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ : لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ مَوْضُوعٌ لِلتَّأْبِيدِ ، فَاحْتَاجَ إِلَى دِيوَانٍ يُفْرَدُ لَهُ ، وَقَدْ سُمِّيَ دِيوَانَ الْجَوَالِي : لِأَنَّهُمْ أُجْلُوا عَنِ الْحِجَازِ ، فَسُمُّوا جَوَالِيَ ، وَهَذَا الدِّيوَانُ مَوْضُوعٌ فِيهِمْ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنْ يَذْكُرَ فِيهِ عَقْدُ ذِمَّتِهِمْ ، وَمَبْلَغُ مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ مِنْ قَدْرِ جِزْيَتِهِمْ ، وَمَا شُرِطَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَحْكَامِ ، لِيُحْمَلُوا عَلَيْهَا فِيمَا عَلَيْهِمْ ، وَلَهُمْ مِمَّنْ تَوَلَّاهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ ، وَذِكْرُ الْإِمَامِ احْتِيَاطٌ ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكْتُبَ فِيهِ اسْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، وَيَرْفَعَ فِي نَسَبِهِ وَقَبِيلَتِهِ ، وَصِنَاعَتِهِ حَتَّى يَتَمَيَّزَ عَنْ غَيْرِهِ ، وَيَذْكُرَ حِلْيَةَ بَدَنِهِ الَّتِي لَا تَتَغَيَّرُ بِالْكِبَرِ كَالطُّولِ وَالْقِصَرِ ، وَالْبَيَاضِ ، وَالسُّمْرَةِ ، وَالسَّوَادِ ، وَحِلْيَةَ الْوَجْهِ وَالْأَعْضَاءِ ، لِيَتَمَيَّزَ إِنْ وَافَقَ اسْمٌ اسْمًا ، وَيَذْكُرَ فِيهِ الذُّكُورَ مِنْ أَوْلَادِهِمْ دُونَ الْإِنَاثِ ، لِاعْتِبَارِ الْجِزْيَةِ بِبُلُوغِ الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ ، وَإِنْ وُلِدَ لِأَحَدِهِمْ مَوْلُودٌ أَثْبَتَهُ ، وَإِنْ مَاتَ مِنْهُمْ مَيِّتٌ أَسْقَطَهُ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُثْبِتَ فِيهِ مَا أَدَّوْهُ مِنَ الْجِزْيَةِ ، لِيُعْلَمَ بِهِ مَا بَقِيَ وَمَا اسْتُوْفِيَ ، وَيَكْتُبَ لَهُمْ بِالْأَدَاءِ بَرَاءَةً يَكْتُبُ اسْمَ الْمُؤَدِّي ، وَنَسَبَهُ ، وَحِلْيَتَهُ ، لِيَكُونَ حُجَّةً لَهُ تَمْنَعُ مِنْ مُطَالَبَتِهِ ، وَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ حَوْلُ الْجِزْيَةِ مُعْتَبَرًا بِالْمُحَرَّمِ : لِأَنَّهُ أَوَّلُ السَّنَةِ الْعَرَبِيَّةِ ، وَتُعْتَبَرُ فِيهِ السَّنَةُ الْهِلَالِيَّةُ كَمَا تُعْتَبَرُ فِي الزَّكَاةِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُكْمِ دِيوَانِهِمْ عَرَّفَ الْإِمَامُ عَلَيْهِمُ الْعُرَفَاءَ ، وَضَمَّ إِلَى كُلِّ عَرِّيفٍ قَوْمًا مُعَيَّنِينَ أَثْبَتَ مَعَهُمُ اسْمَ عَرِّيفِهِمْ فِي الدِّيوَانِ ، وَيَكُونُوا عَدَدًا يَضْبُطُهُمُ الْعَرِّيفُ الْوَاحِدُ فِيمَا نُدِبَ لَهُ . وَالْعَرِّيفُ مَنْدُوبٌ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْرِفَ حَالَ مَنْ وُلِدَ فِيهِمْ ، فَيُثْبِتَهُ ، وَحَالَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ ، فَيُسْقِطَهُ ، وَمَنْ قَدِمَ عَلَيْهِمْ مِنْ غَرِيبٍ ، وَمِنْ مُسَافِرٍ عَنْهُمْ ، وَمُقِيمٍ ، وَيُثْبِتُ جَمِيعَ ذَلِكَ فِي دِيوَانِهِمْ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ قَامَ بِهَذَا مِنَ الْوَفَاءِ إِلَّا مُسْلِمًا يُقْبَلُ خَبَرُهُ .

وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَكُونَ ذِمِّيًّا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَعْرِفَ حَالَ مَنْ دَخَلَ فِي جِزْيَتِهِمْ ، وَمَنْ خَرَجَ مِنْهَا ، فَيُثْبِتَهُ ، وَالدَّاخِلُ فِيهَا : الصَّبِيُّ إِذَا بَلَغَ ، وَالْمَجْنُونُ إِذَا أَفَاقَ ، وَالْعَبْدُ إِذَا عَتَقَ . وَالْخَارِجُ مِنْهَا : مَنْ مَاتَ أَوْ جُنَّ بَعْدَ إِفَاقَتِهِ ، أَوِ افْتَقَرَ بَعْدَ غِنَاهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ عَمِيَ أَوْ زَمِنَ ، وَيَعْرِفَ حَالَ مَنْ نَقَضَ عَهْدَهُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ قَامَ بِهَذَا مِنَ الْعُرَفَاءِ إِلَّا مُسْلِمٌ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُحْضِرَهُمْ إِذَا أُرِيدُوا لِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ ، وَلِاسْتِيفَاءِ حَقٍّ عَلَيْهِمْ ، وَلِيَشْكُوا إِلَيْهِ ، مَا يُنْهِيهِ عَنْهُمْ إِلَى الْإِمَامِ عَنْ حَقٍّ لَهُمْ يَسْتَوْفُونَهُ ، أَوْ مِنْ تَعَدِّي مُسْلِمٍ عَلَيْهِمْ يَكُفُّ عَنْهُمْ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ قَامَ بِهَذَا مِنَ الْعُرَفَاءِ ذِمِّيًّا مِنْهُمْ : لِأَنَّهَا نِيَابَةٌ عَنْهُمْ ، لَا يُعْمَلُ فِيهَا عَلَى خَبَرِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ صُلْحُهُمْ بَعَثَ فِي كُلِّ بِلَادٍ ، فَجُمِعَ الْبَالِغُونَ مِنْهُمْ ، ثُمَّ يُسْأَلُونَ عَنْ صُلْحِهِمْ : فَمَنْ أَقَرَّ بِأَقَلِّ الْجِزْيَةِ قُبِلَ مِنْهُ وَمَنْ أَقَرَّ بِزِيَادَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ غَيْرُهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا عَقَدَ الْإِمَامُ مَعَهُمُ الذِّمَّةَ عَلَى جِزْيَةٍ وَشُرُوطٍ يَجُوزُ مِثْلُهَا أهل الذمة ، وَجَبَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ إِمْضَاءُ عَهْدِهِ ، وَأَجْرَى أَهْلَ الذِّمَّةِ فِيهِ عَلَى شَرْطِهِ : لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ مُؤَبَّدٌ . فَإِنْ كَانَ فِي عَقْدِهِ مَا يَمْنَعُ مِنَ الشَّرْعِ ، وَهُوَ أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ ، أَوْ يَشْتَرِطَ لَهُمْ شُرُوطًا يَمْنَعُ الشَّرْعُ مِنْهَا أَبْطَلَ الْإِمَامُ بَعْدَهُ ذَلِكَ ، وَاسْتَأْنَفَ الصُّلْحَ مَعَهُمْ عَلَى مَا يَجُوزُ فِي الشَّرْعِ ، فَإِنْ أَجَابُوهُ إِلَيْهِ غَيَّرَ فِي الدِّيوَانِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الصُّلْحِ الْفَاسِدِ ، وَأَثْبَتَ فِيهِ مَا اسْتَأْنَفَهُ مِنَ الصُّلْحِ الْجَائِزِ . وَإِنِ امْتَنَعُوا مِنْ إِجَابَتِهِمْ إِلَيْهِ نَقَضَ عَهْدَهُمْ ، وَبَلَّغَهُمْ مَأْمَنَهُمْ ، وَعَادُوا حَرْبًا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا ، وَتَطَاوَلَ الزَّمَانُ ، وَأَشْكَلَ عَلَى إِمَامِ قدر جزية أهل الذمة الْوَقْتِ قَدْرُ جِزْيَتِهِمْ ، فَإِنِ اسْتَفَاضَتْ بِهَا الْأَخْبَارُ ، وَانْتَشَرَ ذِكْرُهَا فِي الْأَمْصَارِ ، عَمِلَ فِيهَا عَلَى الْخَبَرِ الْمُسْتَفِيضِ . وَإِنْ لَمْ تُعْرَفِ اسْتِفَاضَتُهَا رَجَعَ إِلَى شَهَادَةِ الْعُدُولِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِذَا شَهِدَ مِنْهُمْ عَدْلَانِ بِمِقْدَارٍ مِنَ الْجِزْيَةِ يَجُوزُ أَنْ يُصَالَحُوا عَلَى مِثْلِهِ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ بِهِ عَدْلَانِ ، وَكَانَ فِي دِيوَانِهِمُ الْمَوْضُوعِ بِجِزْيَتِهِمْ قَدْرُ جِزْيَتِهِمْ ، وَشُرُوطِ صُلْحِهِمْ ، فَإِنِ ارْتَابَ بِهِ وَلَمْ تَقَعْ فِي النَّفْسِ صِحَّتُهُ ، لِخُطُوطٍ مُشْتَبِهَةٍ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهِ .

وَإِنِ انْتَفَتْ عَنْهُ الرِّيبَةُ ، وَكَانَ تَحْتَ خَتْمِ أُمَنَاءِ الْكِتَابِ ، فَفِي جَوَازِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ عَلَيْهِ فِي حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهِ الْقُضَاةُ وَالْحُكَّامُ ، وَعَلَى هَذَا لَوِ ادَّعَى ذِمِّيٌّ دَفْعَ جِزْيَتِهِ بِبَرَاءَةٍ أَحْضَرَهَا لَمْ يَبْرَأْ بِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهِ فِي حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ اعْتِبَارًا بِعُرْفِ الْأَئِمَّةِ فِيهِ : لِأَنَّ الدِّيوَانَ مَوْضُوعٌ لَهُ ، وَكَمَا يَجُوزُ فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّاوِي عَلَى خَطِّهِ إِذَا تَحَقَّقَهُ ، وَخَالَفَ مَا عَلَيْهِ الْقُضَاةُ وَالْحُكَّامُ مِنَ الْعَمَلِ بِمَا فِي دَوَاوِينِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حُقُوقَ بَيْتِ الْمَالِ عَامَّةٌ ، فَكَانَ حُكْمُهَا أَوْسَعَ ، وَأَحْكَامَ الْقُضَاةِ خَاصَّةٌ ، فَكَانَ حُكْمُهَا أَضْيَقَ . وَالثَّانِي : أَنَّ حُقُوقَ بَيْتِ الْمَالِ لَا يَتَعَيَّنُ مُسْتَحِقُّهَا ، وَيَتَعَذَّرُ مَنْ يَتَوَلَّى الْإِشْهَادَ فِيهَا ، وَحُقُوقَ الْخُصُومِ عِنْدَ الْقُضَاةِ ، يَتَعَيَّنُ مُسْتَحِقُّهَا ، وَلَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَلَّى الْإِشْهَادَ فِيهَا . وَعَلَى هَذَا لَوِ ادَّعَى ذِمِّيٌّ دَفْعَ جِزْيَتِهِ بِبَرَاءَةٍ أَحْضَرَهَا تَقَعُ فِي النَّفْسِ صِحَّتُهَا بَرِئَ .

فَصْلٌ : فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْإِمَامُ مَا يَعْمَلُ عَلَيْهِ مِنْ جِزْيَتِهِمْ مِنْ خَبَرٍ مُسْتَفِيضٍ ، وَلَا شَهَادَةٍ خَاصَّةٍ ، وَلَا دِيوَانٍ مَوْثُوقٍ جزية أَهْلَ الذِّمَّةِ ، بِصِحَّتِهِ أَوْ وَجَدَهُ ، وَقُلْنَا : إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْمَعَ أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْصَارِ ، وَيَسْأَلَهُمْ عَنْ قَدْرِ جِزْيَتِهِمْ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَسْأَلَهُمْ أَفْرَادًا غَيْرَ مُجْتَمِعِينَ ، فَإِذَا اعْتَرَفُوا بِقَدْرٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جِزْيَةً لَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ ، وَكَانَ مَعَهُمْ عَلَى مَا مَضَى ، لَوْ صُولِحُوا عَلَى مَا لَا يَجُوزُ . وَإِنِ اعْتَرَفُوا بِقَدْرٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جِزْيَةً قَبِلَهُ مِنْهُمْ ، وَلَهُمْ فِيهِ حَالَتَانِ . إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَتَّفِقُوا جَمِيعًا عَلَى الْقَدْرِ ، فَيَعْمَلَ عَلَيْهِ مَعَ جَمِيعِهِمْ بَعْدَ إِحْلَافِهِمْ عَلَيْهِ ، وَالْيَمِينُ وَاحِدَةٌ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَخْتَلِفُوا فِيهَا ، فَيُقِرُّ بَعْضُهُمْ بِدِينَارٍ ، وَيُقِرُّ بَعْضُهُمْ بِأَكْثَرَ ، فَيَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا أَقَرَّ بِهِ ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ - وَإِنْ جَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - وَيَكْتُبُ الْإِمَامُ فِي دِيوَانِ الْجِزْيَةِ أَنَّهُ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِمْ حِينَ أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ صُلْحُهُمْ ، فَاعْتَرَفُوا بِكَذَا وَكَذَا . وَإِنِ اخْتَلَفُوا أَثْبَتَ أَسْمَاءَ الْمُخْتَلِفِينَ ، وَمَا لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ بِإِقْرَارِهِ ، وَأَنَّهُ أَمْضَاهُ بَعْدَ إِحْلَافِهِ ، لِجَوَازِ أَنْ تَتَجَدَّدَ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ ، يُخَالِفُهَا ، فَيَحْكُمَ بِهَا ، وَإِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِأَكْثَرِهِمَا

أَقَرُّوا بِهِ عَمِلَ عَلَيْهَا ، وَاسْتَوْفَى مَا لَمْ يَأْخُذْهُ مِنَ الزِّيَادَةِ ، وَعَادَ إِلَى دِيوَانِهِ ، فَأَثْبَتَ مَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ بَعْدَ مَا أَخَذَ مِنَ الْإِقْرَارِ ، وَصَارَ ذَلِكَ حُكْمًا مُؤَبَّدًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

لَيْسَ لِلْإِمَامُ أَنْ يُصَالِحَ أَحَدًا مِنْهُمْ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ الْحِجَازَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَيْسَ لِلْإِمَامُ أَنْ يُصَالِحَ أَحَدًا مِنْهُمْ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ الْحِجَازَ بِحَالٍ ، وَلَا يَبِينُ أَنْ يَحْرُمَ أَنْ يَمُرَّ ذِمِّيٌّ بِالْحِجَازِ مَارًّا لَا يُقِيمُ بِهَا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ لَيَالٍ وَذَلِكَ مَقَامُ مُسَافِرٍ ، لِاحْتِمَالِ أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِجْلَائِهِمْ عَنْهَا أَنْ لَا يَسْكُنُوهَا وَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْخُلَهَا الرُّسُلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ الْآيَةَ وَلَوْلَا أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَجَّلَ مَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْهُمْ تَاجِرًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يُقِيمُ فِيهَا بَعْدَ ثَلَاثٍ لَرَأَيْتُ أَنْ لَا يُصَالَحُوا عَلَى أَنْ لَا يَدْخُلُوهَا وَلَا يُتْرَكُوا يَدْخُلُونَهَا إِلَّا بِصُلْحٍ كَمَا كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَأْخُذُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ إِذَا دَخَلُوا الْمَدِينَةَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ بِلَادَ الْإِسْلَامِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : حَرَمٌ ، وَحِجَازٌ ، وَمَا عَدَاهُمَا . فَأَمَّا الْحَرَمُ دخول غير المسلم إليه ، فَهُوَ أَشْرَفُهَا ، لِمَا خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَيْتِهِ الْحَرَامِ الَّذِي عَلَّقَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ وَالْحَجَّ ، وَشَرَّفَهُ بِهَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْنِ مَا مَيَّزَهُ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ بِحُكْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَدْخُلَهُ قَادِمٌ إِلَّا مُحْرِمٌ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ . وَالثَّانِي : تَحْرِيمُ صَيْدِهِ أَنْ يُصَادَ ، وَشَجَرِهِ أَنْ يُعْضَدَ . وَلَمَّا كَانَتْ لَهُ هَذِهِ الْحُرْمَةُ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَهُ مُشْرِكٌ مِنْ كِتَابِيٍّ ، وَلَا وَثَنِيٍّ لِمَقَامٍ ، وَلَا اجْتِيَازٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ دُخُولُهُمْ إِلَيْهِ لِلتِّجَارَةِ وَحَمْلِ الْمِيرَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِيطَانٍ ، وَيُمْنَعُونَ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ ، احْتِجَاجًا بِأَنَّ شَرَفَ الْبِقَاعِ لَا يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِهِمْ إِلَيْهَا كَالْمَسَاجِدِ ، وَلَمَّا لَمْ تَمْنَعِ الْجَنَابَةُ مِنْ دُخُولِهِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ الْمُشْرِكُ . وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، وَقَتَادَةُ : يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ فِيهِ الذِّمِّيُ دُونَ الْوَثَنِيِّ ، وَالْعَبْدُ الْمُشْرِكُ إِذَا كَانَ مِلْكًا لِمُسْلِمٍ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ نَصْرَانِيٍّ بِمَكَّةَ يُقَالُ لَهُ مَوْهَبٌ ، وَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ إِلَّا مِنْ مُسْتَوْطِنٍ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [ التَّوْبَةِ : 28 ] . وَفِي قَوْلِهِ : نَجَسٌ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ أَنْجَاسُ الْأَبْدَانِ ، كَنَجَاسَةِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ ، وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، حَتَّى أَوْجَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ الْوُضُوءَ عَلَى مَنْ ضَاجَعَهُمْ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ سَمَّاهُمْ أَنْجَاسًا لِأَنَّهُمْ يَجْنُبُونَ ، فَلَا يَغْتَسِلُونَ ، فَصَارُوا لِوُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهِمْ كَالْأَنْجَاسِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَنْجَاسًا ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ .

وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَلَيْنَا أَنْ نَجْتَنِبَهُمْ كَالْأَنْجَاسِ صَارُوا بِالِاجْتِنَابِ فِي حُكْمِ الْأَنْجَاسِ ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَقَوْلُهُ : فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [ التَّوْبَةِ : 28 ] . يُرِيدُ بِهِ الْحَرَمَ ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَسْجِدِ ، لِحُلُولِهِ فِيهِ ، كَمَا قَالَ : سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [ الْإِسْرَاءِ : 1 ] . يُرِيدُ بِهِ مَكَّةَ : لِأَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ مِنْ مَنْزِلِ أُمِّ هَانِئٍ ، وَهَكَذَا كُلُّ مَوْضِعٍ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ، فَقَالَ اللَّهُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْحَرَمَ إِلَّا فِي قَوْلِهِ : فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [ الْبَقَرَةِ : 144 ] . يُرِيدُ بِهِ الْكَعْبَةَ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، وَقَدْ مَنَعَ أَنْ يَقْرَبَهُ مُشْرِكٌ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَنْعُ مَحْمُولًا عَلَى عُمُومِهِ فِي الدُّخُولِ وَالِاسْتِيطَانِ . وَقَالَ تَعَالَى : وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا [ الْبَقَرَةِ : 126 ] . يَعْنِي مَكَّةَ ، وَحَرَمَهَا ، وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا [ الْبَقَرَةِ : 126 ] . يَعْنِي بِمَكَّةَ ، وَهُوَ قَبْلَ فَتْحِهَا ، فَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِهَا عَلَى الْكَافِرِ بَعْدَ فَتْحِهَا . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : أَلَا لَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْقَصْدِ ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا اخْتُصَّ الْحَرَمُ بِمَا شَرَّفَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ عَلَى سَائِرِ الْبِقَاعِ تَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِ ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يُصَانَ مِمَّنْ عَانَدَهُ ، وَطَاعَنَهُ ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا ذَكَرَ فَضَائِلَ الْأَعْمَالِ فِي الْبِقَاعِ ، فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ ، فَقَالَ : صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي بِأَلْفِ صَلَاةٍ ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي هَذَا ، وَهَذَا التَّفْضِيلُ يُوجِبُ فَضْلَ الْعِبَادَةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ مَوْهَبٍ النَّصْرَانِيِّ بِمَكَّةَ ، فَهُوَ أَنَّهُ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ : لِأَنَّهَا نَزَلَتْ سَنَةَ تِسْعٍ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ ، فَهُوَ أَنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ أَعْظَمُ ، لِتَقَدُّمِ تَحْرِيمِهِ ، وَلِوُجُوبِ الْإِحْرَامِ فِي دُخُولِهِ ، وَلِلْمَنْعِ مِنْ قَتْلِ صَيْدِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْمُسْلِمِ الْجُنُبِ ، فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْنَعِ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ مِنْ الِاسْتِيطَانِ لَمْ يُمْنَعْ مِنَ الدُّخُولِ ، وَالْمُشْرِكُ مَمْنُوعٌ مِنْ الِاسْتِيطَانِ ، فَمُنِعَ مِنَ الدُّخُولِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ الْحَرَمَ مُشْرِكٌ ، وَوَرَدَ الْمُشْرِكُ رَسُولًا إِلَى الْإِمَامِ ، وَهُوَ فِي الْحَرَمِ ، خَرَجَ الْإِمَامُ إِلَيْهِ ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الدُّخُولِ ، فَلَوْ دَخَلَ مُشْرِكٌ إِلَى الْحَرَمِ سواء كان جاهلا أو عالما بالتحريم لَمْ يُقْتَلْ ، وَعُزِّرَ إِنْ عَلِمَ بِالتَّحْرِيمِ ، وَلَمْ يُعَزَّرْ إِنْ جَهِلَ ، وَأُخْرِجَ ، فَإِنْ مَاتَ فِي الْحَرَمِ لَمْ يُدْفَنْ فِيهِ ، فَلَوْ دُفِنَ فِيهِ نُبِشَ ، وَنُقِلَ إِلَى الْحِلِّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ بَلِيَ ، فَيُتْرَكَ كَسَائِرِ الْأَمْوَاتِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ .

وَلَوْ أَرَادَ مُشْرِكٌ أَنْ يَدْخُلَ الْحَرَمَ ، لِيُسْلِمَ بِهِ مُنِعَ مِنْ دُخُولِهِ ، حَتَّى يُسْلِمَ ، ثُمَّ يَدْخُلَهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ ، فَلَوْ صَالَحَ الْإِمَامُ مُشْرِكًا عَلَى دُخُولِ الْحَرَمِ بِمَالٍ بَذَلَهُ كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلًا ، وَيُمْنَعُ الْمُشْرِكُ مِنَ الدُّخُولِ ، فَإِنْ دَخَلَ إِلَيْهِ أُخْرِجَ مِنْهُ ، وَلَزِمَهُ الْمَالُ الَّذِي بَذَلَهُ مَعَ فَسَادِ الصُّلْحِ ، لِحُصُولِ مَا أَرَادَ مِنَ الدُّخُولِ ، وَاسْتَحَقَّ عَلَيْهِ مَا سَمَّاهُ دُونَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ ، وَإِنْ فَسَدَ : لِأَنَّهُ لَا أُجْرَةَ لِمِثْلِهِ لِتَحْرِيمِهِ . وَحَدُّ الْحَرَمِ مِنْ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ دُونَ التَّنْعِيمِ عِنْدَ بُيُوتِ نِفَارٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ . وَمِنْ طَرِيقِ الْعِرَاقِ عَلَى ثَنِيَّةِ خَلٍّ بِالْمُقَطِّعِ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ . وَمِنْ طَرِيقِ الْجِعِرَّانَةِ مِنْ شِعْبِ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ عَلَى تِسْعَةِ أَمْيَالٍ . وَمِنْ طَرِيقِ الطَّائِفِ عَلَى عَرَفَةَ مِنْ بَطْنِ نَمِرَةَ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ . وَمِنْ طَرِيقِ جَدَّةَ مُنْقَطَعُ الْأَعْشَاشِ عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحِجَازُ استيطان الحجاز لغير المسلم فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْطِنَهُ مُشْرِكٌ ، مِنْ كِتَابِيٍّ وَلَا وَثَنِيٍّ ، وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ كَسَائِرِ الْأَمْصَارِ احْتِجَاجًا بِإِقْرَارِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمْ إِلَى أَنْ قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَاَلَى إِلَيْهِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ أَرْضٍ حَلَّ صَيْدُهَا حَلَّ لَهُمُ اسْتِيطَانُهَا كَغَيْرِ الْحِجَازِ . وَدَلِيلُنَا : مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : كَانَتْ آخِرُ مَا عَهِدَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ قَالَ : لَا يَجْتَمِعُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ وَهَذَا نَصٌّ . وَلَمَّا قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَبْلَ عَمَلِهِ بِهِ لَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ قَوْلِهِ ، وَتَشَاغَلَ أَبُو بَكْرٍ فِي أَيَّامِهِ مَعَ قِصَرِهَا بِأَهْلِ الرِّدَّةِ ، وَمَانِعِي الزَّكَاةِ ، وَتَطَاوَلَتِ الْأَيَّامُ بِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَتَكَامَلَتْ لَهُ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ ، وَفَتَحَ مَا جَاوَرَهَا ، نَفَّذَ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُ ، وَرَأْيُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى إِجْلَائِهِمْ وَكَانَ فِيهِمْ تُجَّارٌ وَأَطِبَّاءُ ، وَصُنَّاعٌ ، يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ : فَضَرَبَ لِمَنْ قَدِمَ مِنْهُمْ تَاجِرًا ، وَصَانِعًا مَقَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يُنَادَى فِيهِمْ ، بَعْدَهَا اخْرُجُوا ، وَهُنَا إِجْمَاعٌ بَعْدَ نَصٍّ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُمَا ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِيَهُودِ خَيْبَرَ حِينَ سَاقَاهُمْ عَلَى نَخْلِهَا : أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُقَامَهُمْ غَيْرُ مُسْتَدَامٍ ، وَأَنَّ لِحَظْرِهِ فِيهِمْ حُكْمًا مُسْتَجَدًّا . وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : لَئِنْ عِشْتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَنْفِيَنَّ الْيَهُودَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ ، فَمَاتَ قَبْلَ نَفْيِهِمْ ، وَلِأَنَّ الْحِجَازَ لَمَّا اخْتُصَّ بِحَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَمَبْعَثِ رِسَالَتِهِ وَمُسْتَقَرِّ دِينِهِ ، وَمُهَاجَرَةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَارَ أَشْرَفَ مِنْ غَيْرِهِ ، فَكَانَتْ حُرْمَتُهُ أَغْلَظَ ، فَجَازَ أَنْ يُصَانَ عَنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَالْحَرَمِ .

فَإِذَا ثَبَتَ حَظْرُ اسْتِيطَانِ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِلْحِجَازِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَدْخُلُوهُ دُخُولَ الْمُسَافِرِينَ لَا يُقِيمُوا مِنْ مَوْضِعٍ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ : لِأَنَّ عُمَرَ حِينَ أَجْلَاهُمْ ضَرَبَ لِمَنْ قَدِمَ مِنْهُمْ تَاجِرًا أَوْ صَانِعًا مَقَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، فَكَانَ هَذَا الْقَدْرُ مُسْتَثْنًى مِنَ الْحَظْرِ ، اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِاسْتِيطَانِ دُونَ الِاجْتِيَازِ : وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ [ التَّوْبَةِ : 6 ] وَيَكْفِيهِ أَنْ يَهْتَدِيَ بِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فِي مُدَّةِ ثَلَاثٍ : وَلِأَنَّهُ لَمَّا انْخَفَضَتْ حُرْمَةُ الْحِجَازِ عَنِ الْحَرَمِ ، وَفُضِّلَتْ عَلَى غَيْرِهِ أُبِيحَ لَهُمْ مِنْ مُقَامِ مَا لَمْ يَسْتَبِيحُوهُ فِي الْحَرَمِ ، وَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنِ اسْتِيطَانِ الْحِجَازِ مَا اسْتَبَاحُوهُ فِي غَيْرِهِ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اخْتُصَّتِ الْإِبَاحَةُ بِمُقَامِ الْمُسَافِرِ ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لَا يَتَجَاوَزُونَهَا ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ دُخُولِ الْحِجَازِ ، وَإِنْ كَانُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ : لِأَنَّ مَقْصُودَهُ التَّصَرُّفُ دُونَ الْأَمَانِ . فَلَوْ أَذِنَ لَهُمْ وَاحِدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْخُلُوا بِإِذْنِهِ ، وَإِنْ كَانَ لَوْ أَذِنَ لِحَرْبِيٍّ جَازَ أَنْ يَدْخُلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِإِذْنِهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْمَقْصُودَ بِإِذْنِهِ لِلْحَرْبِيِّ أَمَانُهُ ، وَأَمَانُ الْوَاحِدِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَجُوزُ ، وَالْمَقْصُودَ بِإِذْنِهِ لِلذِّمِّيِّ فِي دُخُولِ الْحِجَازِ التَّصَرُّفُ الْمَقْصُورُ عَلَى إِذْنِ الْإِمَامِ ، فَلَوْ دَخَلَ ذِمِّيٌّ الْحِجَازَ بِغَيْرِ إِذْنٍ عُزِّرَ وَأُخْرِجَ وَلَا يُغْنَمُ مَالُهُ : لِأَنَّ لَهُ بِالذِّمَّةِ أَمَانًا وَلَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ بِلَادَ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ إِذْنٍ غُنِمَ مَالُهُ : لِأَنَّهُ لَا أَمَانَ لَهُ ، وَيَجُوزُ إِذَا أَقَامُوا بِبَلَدٍ مِنَ الْحِجَازِ ثَلَاثًا أَنْ يَنْتَقِلُوا إِلَى غَيْرِهِ ، فَيُقِيمُوا فِيهِ ثَلَاثًا ، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي بَلَدٍ بَعْدَ بَلَدٍ ، فَإِنْ لَمْ يَقْضِ حَاجَتَهُ فِي الثَّلَاثِ ، وَاحْتَاجَ إِلَى زِيَادَةِ مَقَامٍ : لِاقْتِضَاءِ الدُّيُونِ مُنِحَ ، وَقِيلَ لَهُ : وَكِّلْ مَنْ يَقْبِضُهَا لَكَ ، وَلَوْ مَرِضَ ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى النُّهُوضِ مُكِّنَ مِنَ الْمُقَامِ : لِأَنَّهَا حَالُ ضَرُورَةٍ حَتَّى يَبْرَأَ ، فَيَخْرُجَ بِخِلَافِ الدَّيْنِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى قَبْضِهِ ، فَإِنْ مَاتَ فِي الْحِجَازِ لَمْ يُدْفَنْ فِيهِ : لِأَنَّ الدَّفْنَ مَقَامُ تَأْبِيدٍ إِلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ إِخْرَاجُهُ ، وَيَتَغَيَّرَ إِنِ اسْتُبْقَى مِنْ غَيْرِ دَفْنٍ فَيُدْفَنُ فِي الْحِجَازِ لِلضَّرُورَةِ كَمَا يُقِيمُ فِيهِ مَرِيضًا . فَأَمَّا الْحِجَازُ ، فَهُوَ بَعْضُ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ قَوْلٍ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَوَجِّهٌ إِلَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، فَهِيَ فِي قَوْلِ الْأَصْمَعِيِّ مِنْ أَقْصَى عَدَنَ إِلَى أَقْصَى رِيفِ الْعِرَاقِ فِي الطُّولِ ، وَمِنْ جَدَّةَ وَمَا وَالَاهَا إِلَى أَطْرَافِ الشَّامِ فِي الْعَرْضِ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : جَزِيرَةُ الْعَرَبِ فِي الطُّولِ مَا بَيْنَ حَفْرِ أَبِي مُوسَى إِلَى أَقْصَى الْيَمَنِ ، وَفِي الْعَرْضِ مَا بَيْنَ رَمْلَ إِلَى يَبْرِينَ إِلَى مُنْقَطَعِ السَّمَاوَةِ ، وَفِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ أَرْضُ نَجْدٍ وَتِهَامَةَ ، وَحَدُّ نَجْدٍ وَتِهَامَةَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، فَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ : إِذَا خَلَّفْتَ عَجَازَ مُصْعِدًا ، فَقَدْ أَنْجَدْتَ ، فَلَا تَزَالُ مُنْجِدًا حَتَّى تَنْحَدِرَ فِي ثَنَايَا ذَاتِ عِرْقٍ ، فَإِذَا فَعَلْتَ فَقَدْ أَتْهَمْتَ ، وَلَا تَزَالُ مُتْهِمًا فِي ثَنَايَا الْعَرْجِ حَتَّى يَسْتَقْبِلَكَ الْأَرَاكُ وَالْمَدَارِجُ .

وَقَالَ غَيْرُهُ : جَبَلُ السُّرَاةِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَهُوَ أَعْظَمُ جِبَالِهَا يُقْبِلُ مِنْ ثُغْرَةِ الْيَمَنِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى وَادِي الشَّامِ فَمَا دُونَ هَذَا الْجَبَلِ فِي غَرْسِيَّةَ مِنْ أَسْيَافِ الْبَحْرِ إِلَى ذَاتِ عِرْقٍ ، وَالْجُحْفَةِ هُوَ تِهَامَةُ ، وَمَا دُونَ هَذَا الْجَبَلِ فِي شَرْقِيِّ مَا بَيْنَ أَطْرَافِ الْعِرَاقِ إِلَى السَّمَاوَةِ ، فَهُوَ نَجْدٌ . وَأَمَّا الْحِجَازُ فَهُوَ حَاجِزٌ بَيْنَ تِهَامَةَ وَنَجْدٍ ، وَهُوَ مِنْهُمَا ، وَحَدُّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، فَقَالَ قَوْمٌ : هُوَ مَا احْتَجَزَ بِالْجَبَلِ فِي شَرْقِيِّهِ وَغَرْبِيِّهِ عَنْ بِلَادِ مَذْحِجَ إِلَى فَيْدَ . وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ اثْنَتَا عَشْرَةَ دَارًا لِلْعَرَبِ . فَالْحَدُّ الْأَوَّلُ : بَطْنُ مَكَّةَ ، وَأَعْلَا رُمَّةَ وَظَهْرُهُ ، وَحَرَّةُ لَيْلَى . وَالْحَدُّ الثَّانِي : يَلِي الشَّامَ شَفْيٌ وَبَدَا ، وَهُمَا جَبَلَانِ . وَالْحَدُّ الثَّالِثُ : يَلِي تِهَامَةَ بَدْرٌ ، وَالسُّقْيَا ، وَرِهَاطُ ، وَعُكَاظُ . وَالْحَدُّ الرَّابِعُ : سَاكَةُ وَوَدَّانُ . وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهِ بِالْحِجَازِ ، فَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ : لِأَنَّهُ حَجَزَ بَيْنَ نَجْدٍ وَتِهَامَةَ . وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ : سُمِّيَ حِجَازًا لِمَا أَحْجَزَ مِنَ الْجِبَالِ ، وَأَمَّا غَيْرُ الْحِجَازِ فَضْلٌ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ ، فَمَنْ دَخَلَهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِغَيْرِ ذِمَّةٍ وَلَا عَهْدٍ أي بلاد الإسلام غير الحرم والحجاز فَهُوَ حَرْبٌ كَالْأَسْرَى يُغْنَمُ وَيُسْبَى ، وَيَكُونُ الْإِمَامُ فِيهِ مُخَيَّرًا كَتَخْيِيرِهِ فِي الْأَسِيرِ بَيْنَ الْأَحْكَامِ الْأَرْبَعَةِ مِنَ الْقَتْلِ أَوِ الْأَسْرِ أَوِ الْمَنِّ أَوِ الْفِدَاءِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْفُوَ مِنْ سَبْيِ ذُرِّيَّتِهِ بِخِلَافِ السَّبَايَا فِي الْحَرْبِ : لِأَنَّ الْغَانِمِينَ قَدْ مَلَكُوهُمْ : فَلَا يَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْهُمْ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ ، وَذُرِّيَّةُ هَذَا الدَّاخِلِ بِغَيْرِ عَهْدٍ لَمْ يَمْلِكْهُمْ أَحَدٌ ، فَجَازَ فَوْقَ الْإِمَامِ . فَأَمَّا مَنْ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ ، فَضَرْبَانِ : أَهْلُ ذِمَّةٍ ، وَأَهْلُ عَهْدٍ . فَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ ، فَهُوَ الْمُسْتَوْطِنُ ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِيطَانُهُمْ إِلَّا بِجِزْيَةٍ إِذَا كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ ، أَوْ شُبْهَةِ كِتَابٍ . وَأَمَّا أَهْلُ الْعَهْدِ ، فَهُوَ الدَّاخِلُ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ اسْتِيطَانٍ ، فَيَكُونُ مَقَامُهُمْ مَقْصُورًا عَلَى مُدَّةٍ لَا يَتَجَاوَزُونَهَا ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [ التَّوْبَةِ : 2 ] فَأَمَّا مُدَّةُ سَنَةٍ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقِيمُوهَا إِلَّا بِجِزْيَةٍ ، وَفِي جَوَازِ إِقَامَتِهِمْ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ فِيمَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَبَيْنَ سَنَةٍ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لِأَنَّهَا دُونَ السَّنَةِ كَالْأَرْبَعَةِ .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّهُ فَوْقَ الْأَرْبَعَةِ كَالسَّنَةِ ، وَسَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ لَمْ يَكُونُوا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَا يُتْرَكْ أَهْلُ الْحَرْبِ يَدْخُلُونَ بِلَادَ الْإِسْلَامِ تُجَّارًا فَإِنْ دَخَلُوا بِغَيْرِ أَمَانٍ وَلَا رِسَالَةٍ غُنِمُوا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُرَاعِيَ ثُغُورَ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَّصِلَةَ بِدَارِ الْحَرْبِ مِنْ دُخُولِ الْمُشْرِكِينَ إِلَيْهَا : لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمَنُونَ عَلَيْهَا مِنْ غِرَّةٍ يَظْفَرُونَ بِهَا أَوْ مَكِيدَةٍ يُوقِعُونَهَا ، وَمَنْ دَخَلَهَا مِنْهُمْ ، فَهُوَ حَرْبٌ مَغْنُومٌ يَتَحَكَّمُ الْإِمَامُ فِيهِ بِخِيَارِهِ مِنْ قَتْلِهِ أَوِ اسْتِرْقَاقِهِ أَوْ فِدَائِهِ أَوِ الْمَنِّ عَلَيْهِ إِلَّا فِي حَالَتَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ رَسُولًا لِلْمُشْرِكِينَ فِيمَا يَعُودُ بِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ صُلْحٍ يُجَدَّدُ أَوْ هُدْنَةٍ تُعْقَدُ أَوْ فِدَاءِ أَسْرَى : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ [ التَّوْبَةِ : 6 ] . قِيلَ : إِنَّهَا فِي الْمُرْسَلِ فَيَكُونُ لَهُ بِالرِّسَالَةِ أَمَانٌ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ ، لَا يَحْتَاجُ مَعَهَا إِلَى اسْتِئْنَافِ أَمَانٍ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَسُولًا فِي وَعِيدٍ وَتَهْدِيدٍ ، فَلَا يَكُونُ أَمَانٌ ، وَيَكُونُ حَرْبًا يَفْعَلُ فِيهِ الْإِمَامُ مَا يَرَاهُ مِنَ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ : لِأَنَّ فِي هَذِهِ الرِّسَالَةِ مَضَرَّةً ، وَفِي الْأُولَى مَنْفَعَةً فَصَارَ بِالْمَنْفَعَةِ مُوَالِيًا : فَأَمِنَ ، وَبِالْمَضَرَّةِ مُعَادِيًا ، فَغُنِمَ . فَلَوِ ادَّعَى وَقَدْ دَخَلَ بِلَادَ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ رَسُولٌ نُظِرَ فِي دَعْوَاهُ . فَإِنْ عُلِمَ صِدْقُهُ فِيهَا كَانَ آمِنًا ، وَإِنْ عُلِمَ كَذِبُهُ فِيهَا كَانَ مَغْنُومًا ، وَإِنْ أَشْبَهَتْ حَالُهُ قُبِلَ قَوْلُهُ ، وَكَانَ آمِنًا ، وَلَمْ يَلْزَمْ إِحْلَافُهُ عَلَى الرِّسَالَةِ : لِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ [ الْمَائِدَةِ : 99 ] . وَلَا يَجُوزُ إِذَا دَخَلَ الرُّسُلُ بِلَادَ الْإِسْلَامِ ماذا لهم وماذا عليهم أَنْ يُظْهِرُوا فِيهَا مُنْكَرًا مِنْ صُلْبَانِهِمْ ، وَخُمُورِهِمْ ، وَخَنَازِيرِهِمْ ، وَجَوَّزَ لَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ إِظْهَارَ خُمُورِهِمْ وَخَنَازِيرِهِمْ : لِأَنَّهَا عِنْدَهُ مِنْ جُمْلَةِ أَمْوَالِهِمُ الْمَضْمُونَةِ الِاسْتِهْلَاكِ وَهَذَا فَاسِدٌ : لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى .

فَصْلٌ : وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الدَّاخِلِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلى دَارَ الْإِسْلَامِ : حقوقه أَمَانٌ يَدْخُلُ بِهِ دَارَ الْإِسْلَامِ ، فَيَصِيرُ آمِنًا عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَلَّاهُ إِلَّا الْإِمَامُ أَوْ مَنْ نَابَ عَنْهُ من يتولى عقد الأمان مِنْ أُولِي الْأَمْرِ : لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِالْمَصْلَحَةِ مِنْ أَشْذَاذٍ وَأَقْدَرُ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْ كَيْدِهِ ، فَإِنْ قَدَّرَ لَهُ الْإِمَامُ مُدَّةَ الْأَمَانِ أُقِرَّ عَلَيْهَا إِلَى انْقِضَائِهَا مَا انْتَهَتْ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، وَلَا يَبْلُغُ بِهِ سَنَةً إِلَّا بِجِزْيَةٍ ، وَفِيمَا بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَالسَّنَةِ قَوْلَانِ مَضَيَا .

وَلَا تُنْقَضُ عَلَيْهِ مُدَّةُ أَمَانِهِ ، وَلَا يَخْرُجُ قَبْلَ انْقِضَائِهَا إِلَّا بِمُوجِبٍ لِنَقْضِ الْأَمَانِ : لِوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَمَّنَهُ فِي دُخُولِهِ رَجُلٌ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ هل يصح أمانه كَانَ أَمَانُهُ مَقْصُورًا عَلَى حَقْنِ دَمِهِ وَمَالِهِ دُونَ مُقَامِهِ ، وَنَظَرَ الْإِمَامُ فِي حَالِهِ ، فَإِنْ رَأَى مِنَ الْمَصْلَحَةِ إِقْرَارَهُ أَقَرَّهُ عَلَى الْأَمَانِ ، وَقَرَّرَ لَهُ مُدَّةَ مُقَامِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ أَمَّنَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَقْدِيرُ مُدَّتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَرَ الْإِمَامُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ إِقْرَارَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَخْرَجَهُ مِنْهَا آمِنًا حَتَّى يَصِلَ إِلَى مَأْمَنِهِ ثُمَّ يَصِيرُ حَرْبًا ، فَيَكُونُ أَمَانُ الْمُسْلِمِ لَهُ مُوجِبًا لِحَقْنِ دَمِهِ وَلِمُقَامِهِ ، وَإِقْرَارِهِ ، فَافْتَرَقَا فِي الْحُكْمِ مِنْ وَجْهٍ ، وَاجْتَمَعَا فِيهِ مِنْ وَجْهٍ .

فَصْلٌ : وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ بِأَمَانِ الْإِمَامِ ثُمَّ عَادَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ انْقَضَى حُكْمُ أَمَانِهِ ، فَإِنْ عَادَ ثَانِيَةً بِغَيْرِ أَمَانٍ غُنِمَ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ أَمَانًا : لِأَنَّهُ خَاصٌّ . فَلَمْ يَتَكَرَّرْ ، فَلَوْ عَقَدَ لَهُ الْأَمَانَ عَلَى تَكْرَارِ الدُّخُولِ صَحَّ اعْتِبَارًا بِصَرِيحِ الْعَقْدِ ، وَكَانَ فِي عَوْدِهِ وَتَرَدُّدِهِ آمِنًا يُقِيمُ فِي كُلِّ دَفْعَةٍ مَا شُرِطَ لَهُ مِنَ الْمُدَّةِ وَإِذَا كَانَ أَمَانُ الْحَرْبِيِّ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ كَانَ عَامًّا فِي جَمِيعِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ مَقْصُورًا عَلَى بَلَدٍ بِعَيْنِهِ ، فَلَا يَصِيرُ آمِنًا فِي غَيْرِهِ ، وَإِذَا كَانَ أَمَانُهُ مِمَّنِ اسْتَنَابَهُ الْإِمَامُ كَانَ عَامًّا فِي بِلَادِ وِلَايَتِهِ وَلَا يَكُونُ عَامًّا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا : لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِمَامِ عَامَّةٌ ، وَوِلَايَةَ النَّائِبِ عَنْهُ خَاصَّةٌ ، وَإِذَا كَانَ أَمَانُهُ مِنْ جِهَةِ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ أَمَانُهُ مَقْصُورًا عَلَى بَلَدِهِ خَاصَّةً ، وَفِيمَا كَانَ طَرِيقًا لَهُ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ : لِأَنَّ الْأَمَانَ يَقْتَضِي عَوْدَهُ إِلَى مَأْمَنِهِ ، وَلَا يَكُونُ لَهُ أَمَانٌ إِنْ يَتَجَاوَزْ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ ، وَإِذَا دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَ الْإِسْلَامِ وَادَّعَى أَنَّهُ دَخَلَهَا بِأَمَانِ مُسْلِمٍ ، فَإِنْ كَانَ مَنِ ادَّعَى أَمَانَهُ حَاضِرًا رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ ، فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى الْأَمَانِ قُبِلَ قَوْلُهُ : لِأَنَّهُ لَوْ أَمَّنَهُ فِي حَالِ تَصْدِيقِهِ صَحَّ أَمَانُهُ ، وَإِنْ أَكْذَبَهُ عَلَى الْأَمَانِ كَانَ الْحَرْبِيُّ مَغْنُومًا ، وَإِنْ كَانَ مَنِ ادَّعَى أَمَانَهُ غَائِبًا فَفِي قَبُولِ قَوْلِ الْحَرْبِيِّ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُقْبَلُ قَوْلُهُ ، وَيَكُونُ آمِنًا كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ مَنِ ادَّعَى الرِّسَالَةَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُقْبَلُ وَإِنْ قُبِلَ فِي الرِّسَالَةِ : لِأَنَّ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى الرِّسَالَةِ مُتَعَذِّرٌ فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيهَا ، وَإِقَامَتُهَا عَلَى الْأَمَانِ مُمْكِنَةٌ ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِيهِ .


مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " فَإِنْ دَخَلُوا بِأَمَانٍ وَشُرِطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ عُشْرٌ أَوْ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ أُخِذَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي مَتَاجِرِ أَهْلِ الْحَرْبِ إِذَا دَخَلُوا بِلَادَ الْإِسْلَامِ لِمَنَافِعِهِمْ ، وَكَانَ انْقِطَاعُهَا عَنِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرَ ضَارٍّ بِهِمْ حَتَّى يَأْخُذَهُ الْإِمَامُ مِنْهُمْ مِنْ عُشْرٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ بِحَسَبِ مَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ يَكُونُ عِبْئًا مَصْرُوفًا فِي أَهْلِ الْفَيْءِ : لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَالَحَ أَهْلَ الْحَرْبِ فِي حَمْلِ مَتَاجِرِهِمْ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْعُشْرِ ، وَصَالَحَ أَهْلَ الذِّمَّةِ فِي حَمْلِهَا إِلَى الْمَدِينَةِ عَلَى نِصْفِ الْعُشْرِ لِيَكُونَ ذَلِكَ ضِعْفَ مَا يُؤْخَذُ فِي زَكَاةِ الْمُسْلِمِ مِنْ رُبْعِ الْعُشْرِ : وَلِأَنَّ

الْإِمَامَ مَنْدُوبٌ إِلَى تَوْفِيرِ مَا يَصِلُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ إِمَّا بِغَنِيمَةٍ إِنْ قُهِرُوا ، وَإِمَّا بِجِزْيَةٍ وَخَرَاجٍ إِنْ صُولِحُوا ، فَكَذَلِكَ عُشْرُ أَمْوَالِهِمْ إِذَا اتَّجَرُوا ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِمْ كَانَ الْعُرْفُ الَّذِي عَمِلَ بِهِ الْأَئِمَّةُ الْعُشْرَ ، وَلَيْسَ بِحَدٍّ لَا يَجُوزُ مُجَاوَزَتُهُ إِلَى زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ : لِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ الِاجْتِهَادُ الْمُعْتَبَرُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي كَثْرَةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَقِلَّتِهَا ، فَإِنْ كَثُرَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ كَالْأَقْوَاتِ كَانَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ أَقَلَّ ، وَإِنْ قَلَّتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ كَالطَّرَفِ وَالدَّقِيقِ كَانَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ أَكْثَرَ ، فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَخَذَ مِنْ الْقُطْنِيَّةِ الْعُشْرَ ، وَأَخَذَ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالزَّبِيبِ نِصْفَ الْعُشْرِ . وَالثَّانِي : الرُّخْصُ وَالْغَلَاءُ ، فَإِنْ كَانَ انْقِطَاعُهَا يُحْدِثُ الْغَلَاءَ كَانَ الْمَأْخُوذُ أَقَلَّ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْدِثُ الْغَلَاءَ كَانَ الْمَأْخُوذُ أَكْثَرَ ، وَإِذَا كَانَ الِاجْتِهَادُ فِيهِ مُعْتَبَرًا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ عَمِلَ الْإِمَامُ فِي تَقْرِيرِهِ عَلَى مَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ ، فَإِنْ رَأَى مِنَ الْمَصْلَحَةِ اشْتِرَاطَ الْعُشْرِ فِي جَمِيعِهَا فَعَلَ ، وَإِنْ رَأَى اشْتِرَاطَ نِصْفِ الْعُشْرِ فَعَلَ ، وَإِنْ رَأَى اشْتِرَاطَ الْخُمُسِ فَعَلَ ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يُنَوِّعَهَا بِحَسَبِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا ، فَيَشْرِطَ فِي نَوْعٍ مِنْهَا الْخُمُسَ ، وَفِي نَوْعٍ الْعُشْرَ ، وَفِي نَوْعٍ نِصْفَ الْعُشْرِ فَعَلَ ، وَصَارَ مَا انْعَقَدَ شَرْطُهُ عَلَيْهِ حَقًّا وَاجِبًا فِي مَتَاجِرِهِمْ مَا أَقَامُوا عَلَى صُلْحِهِمْ ، كَالْجِزْيَةِ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَنْ يَنْقُضَهُ إِلَى زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ ، فَإِنْ نَقَضُوا شَرْطَهُمْ بَطَلَ حُكْمُ الشَّرْطِ بِنَقْضِهِمْ ، وَجَازَ اسْتِئْنَافٌ وَصُلْحٌ مَعَهُمْ يَبْتَدِئُهُ بِمَا يَرَاهُ مِنْ زِيَادَةٍ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْ نُقْصَانٍ مِنْهُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْعُشْرِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا فِي عَيْنِ الْمَالِ أَوْ يَكُونَ فِي ذِمَمِهِمْ عَنِ الْمَالِ ، فَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي الْمَالِ وَجَبَ عَلَى كُلِّ مَنْ حَمَلَهُ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ مِنْ حَرْبِيٍّ وَذِمِّيٍّ وَمُسَالِمٍ ، أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ الْعُشْرُ ، وَلَا يَمْنَعُ الْإِسْلَامُ مِنْ أَخْذِهِ ، وَلَا يَكُونُ أَخْذُهُ مِنَ الْمُسْلِمِ جِزْيَةً ، إِنَّمَا يَكُونُ ثَمَنًا يُضَافُ إِلَى الثَّمَنِ الَّذِي ابْتَاعَهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ، وَيَكُونُ مَا أَدَّاهُ إِلَيْهِمْ تِسْعَةُ أَعْشَارِ ثَمَنِهِ ، وَمَا أَدَّاهُ إِلَى الْإِمَامِ عُشْرُ الثَّمَنِ أَوْ عُشْرُ الْأَصْلِ ، وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي ذِمَمِهِمْ لِأَجْلِ الْمَالِ ، وَعَنْهُ أُخِذَ عُشْرَهُ مِنَ الْحَرْبِيِّ إِذَا حَمَلَهُ وَلَمْ يُؤْخَذْ مِنَ الْمُسْلِمِ : لِأَنَّهُ جِزْيَةٌ مَحْضَةٌ . وَفِي أَخْذِهِ مِنَ الذِّمِّيِّ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُؤْخَذُ مِنْهُ لِشِرْكِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ لِجَرَيَانِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ . فَأَمَّا الذِّمِّيُّ إِذَا اتَّجَرَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ ، فَلَا عُشْرَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ : لِأَنَّ الْجِزْيَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْهُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ مَالِهِ ، إِلَّا أَنْ يَدْخُلَ تَاجِرًا إِلَى الْحِجَازِ فَيُمْنَعَ مِنْ دُخُولِهِ إِلَّا بِمَا يُشْتَرَطُ عَلَيْهِ مِنْ عُشْرِ مَالِهِ : لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنِ اسِتِيطَانِ الْحِجَازِ فَمُنِعَ مِنَ التِّجَارَةِ فِيهِ إِلَّا مَعْشُورًا ، وَهُوَ لَا يُمْنَعُ مِنِ اسْتِيطَانِ غَيْرِهِ ، فَلَمْ يُعْشَرْ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شُرِطَ عَلَيْهِمْ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمْ شَيْءٌ ، وَسَوَاءٌ كَانُوا يَعْشِرُونَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا دَخَلُوا بِلَادَهُمْ أَوْ يُخَمِّسُونَهُمْ أَوْ لَا يَعْرِضُونَ لَهُمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ عَلَيْهِمْ عُشُورُ أَمْوَالِهِمْ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ فِيهَا إِذَا حَمَلُوهَا مَعَهُمْ ، وَلَا وَجْهَ لِمَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُمْ يَعْشِرُونَ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ الْمَعْهُودِ مِنْ فِعْلِ عُمَرَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُفْعَلُ مَعَهُمْ مَا يَفْعَلُونَهُ مَعَ تُجَّارِنَا إِذَا دَخَلُوا إِلَيْهِمْ ، فَإِنْ كَانُوا يَعْشِرُونَهُمْ عُشِرُوا ، وَإِنْ كَانُوا يَخْمِسُونَهُمْ خُمِسُوا ، وَإِنْ كَانُوا يَتْرُكُونَهُمْ تُرِكُوا : لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [ النَّحْلِ : 126 ] وَهَذَا خَطَأٌ : لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُطِهِمْ : وَلِأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَأْخُذْ عُشْرَهُمْ إِلَّا بَعْدَ اشْتِرَاطِهِ عَلَيْهِمْ : وَلِأَنَّهُ مَالٌ مَأْخُوذٌ عَنْ أَمَانٍ ، فَلَمْ يَلْزَمْ بِغَيْرِ شَرْطٍ كَالْجِزْيَةِ : وَلِأَنَّ عُلُوَّ الْإِسْلَامِ يَمْنَعُ مِنْ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ كَمَا يُقْتَدَى بِهِمْ فِي الْغَدْرِ إِنْ غَدَرُوا ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَوَارِدَةٌ فِي الِاقْتِصَاصِ مِمَّنْ مُثِّلَ بِهِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ ، ثُمَّ قَالَ : وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [ النَّحْلِ : 126 ] .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِذَا اتَّجَرُوا فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أُفُقٍ مِنَ الْآفَاقِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمْ فِي السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً كَالْجِزْيَةِ ، وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَتَبَ أَنْ يُؤْخَذَ مِمَّا ظَهَرَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَنْ يُكْتَبَ لَهُمْ بَرَاءَةٌ إِلَى مِثْلِهِ مِنَ الْحَوْلِ ، وَلَوْلَا أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَخَذَهُ مِنْهُمْ مَا أَخَذْنَاهُ ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ أَحَدٍ فِي سَنَةٍ إِلَّا مَرَّةً ( قَالَ : ) وَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ مَا أَخَذَ عُمَرُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رُبُعُ الْعُشْرِ ، وَمِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ نِصْفُ الْعُشْرِ ، وَمِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ الْعُشْرُ اتْبَاعًا لَهُ عَلَى مَا أَخَذَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : قَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنَ حَدِيثٍ صَحِيحِ الْإِسْنَادِ أَنَّهُ أَخَذَ مِنَ النَبَطِ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالزَّيْتِ نِصْفَ الْعُشْرِ ، يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَكْثُرَ الْحَمْلُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَمِنَ الْقُطْنِيَّةِ الْعُشْرَ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ : ) وَلَا أَحْسَبُهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْهُمْ إِلَّا بِشَرْطٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا أَخَذَ مِنَ الْحَرْبِيِّ عُشْرَ مَالِهِ فِي دُخُولِهِ ، ثُمَّ نَقَلَهُ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ لَمْ يُعْشَرْ ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَافَ بِهِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ : لِأَنَّهَا دَارٌ وَاحِدَةٌ ، فَإِنَّهُ بَاعَ مَالَهُ وَاشْتَرَى بِهِ مَتَاعًا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ ، وَأَرَادَ حَمْلَهُ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ رُوعِيَ شَرْطُ صُلْحِهِمْ ، فَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا عَلَيْهِمْ تَعْشِيرُ أَمْوَالِهِمْ مِنْ دُخُولِهِمْ وَخُرُوجِهِمْ عُشِرُوا خَارِجِينَ كَمَا عُشِرُوا دَاخِلِينَ . وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ عَلَيْهِمْ لَمْ يُعْشَرُوا فِي الْخُرُوجِ وَعُشِرُوا فِي الدُّخُولِ ، وَإِذَا اتَّجَرُوا

فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ حَتَّى حَالَ عَلَيْهِمُ الْحَوْلُ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : عُشِرُوا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ ثَانِيَةً ، وَاعْتَبَرَهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهُمْ فِي كُلِّ حَوْلٍ ، وَهَذَا عِنْدَهُ مُعْتَبَرٌ بِالشَّرْطِ الْمَعْقُودِ مَعَهُمْ ، فَإِنْ تَضَمُّنَ تَعْشِيرَ أَمْوَالِهِمْ فِي كُلِّ حَوْلٍ عُشِرُوا ، وَإِنْ تَضَمَّنَ تَعْشِيرَهَا مَا حَمَّلُوهُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُعْشَرُوا اعْتِبَارًا بِمُوجِبِ الشَّرْطِ . فَأَمَّا الذِّمِّيُّ إِذَا اتَّجَرَ فِي الْحِجَازِ بَعْدَ تَعْشِيرِ مَالِهِ حَتَّى حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ عُشِرَ ثَانِيَةً فِي كُلِّ حَوْلٍ : لِأَنَّ لِلذِّمِّيِّ فِي الْجِزْيَةِ حَوْلًا مُقَيَّدًا تَتَكَرَّرُ جِزْيَتُهُ فِيهِ ، فَجُعِلَ أَصْلًا لِعَشْرِ مَالِهِ فِي كُلِّ حَوْلٍ ، وَلَيْسَ هُوَ فِي حَوْلِ الْجِزْيَةِ أَصْلًا : وَلِأَنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ جَارِيَةٌ عَلَى الذِّمِّيِّ دُونَ الْحَرْبِيِّ ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ حُكْمُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِ فِي كُلِّ حَوْلٍ ، صَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي تَعْشِيرِ مَالِ الذِّمِّيِّ فِي الْحِجَازِ فِي كُلِّ حَوْلٍ . فَأَمَّا إِذَا اتَّجَرَ الذِّمِّيُّ فِي غَيْرِ الْحِجَازِ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ ، فَلَا عُشْرَ عَلَيْهِ لِجَوَازِ اسْتِيطَانِهِ لَهَا بِخِلَافِ بِلَادِ الْحِجَازِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْطِنَهَا ، فَإِنْ شَرَطَ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ حُمِلُوا عَلَى شُرُوطِهِ ، وَكَانَ زِيَادَةً فِي جِزْيَتِهِمْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَيُحَدِّدُ الْإِمَامُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِي تِجَارَاتِهِمْ مَا يَبِينُ لَهُ وَلَهُمْ وَلِلْعَامَّةِ لِيَأْخُذَهُمْ بِهِ الْوُلَاةُ ، وَأَمَّا الْحَرَمُ دخول أهل الذمة إليه فَلَا يَدْخُلَهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ بِحَالٍ كَانَ لَهُ بِهَا مَالٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَيَخْرُجُ الْإِمَامُ مِنْهُ إِلَى الرُسُلِ ، وَمَنْ كَانَ بِهَا مِنْهُمْ مَرِيضًا أَوْ مَاتَ في الحرم أُخْرِجَ مَيِّتًا وَلَمْ يُدْفَنْ بِهَا . وَرُوِيَ أَنَّهُ سَمِعَ عَدَدًا مِنْ أَهْلِ الْمَغَازِي يَرْوُونَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا يَجْتَمِعُ مُسْلِمٌ وَمُشْرِكٌ فِي الْحَرَمِ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، حَتَّى يَنْتَشِرَ فِي كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَفِيهِمْ ، يَزُولُ الْخِلَافُ مَعَهُمْ ، فَإِذَا انْتَشَرَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا فِي عَصْرٍ بَعْدَ عَصْرٍ اكْتَفَى بِانْتِشَارِهِ عَنْ تَجْدِيدِهِ ، فَإِنْ خِيفَ بِتَطَاوُلِ الزَّمَانِ أَنْ يُخْفَى جَدَّدَهُ ، كَمَا يَفْعَلُ الْحُكَّامُ فِي الْوُقُوفِ إِذَا خِيفَ دُرُوسُهَا جَدَّدُوا الْإِسْجَالَ بِهَا : لِتَكُونَ حُجَجُ سَبِيلِهَا دَائِمَةَ الثُّبُوتِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يُسْقِطَ عَنْ أَهْلِ الْحَرْبِ تَعْشِيرَ أَمْوَالِهِمْ بِحَادِثٍ اقْتَضَاهُ نَظَرُهُ مِنْ جَدَبٍ أَوْ قَحْطٍ أَوْ لِخَوْفٍ مِنْ قُوَّةٍ تَجَدَّدَتْ لَهُمْ جَازَ إِسْقَاطُهُ عَنْهُمْ ، وَلَوْ رَأَى إِسْقَاطَ الْجِزْيَةِ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُهَا : لِأَنَّ الْجِزْيَةَ نَصٌّ وَالْعُشْرَ اجْتِهَادٌ . وَإِذَا زَالَ السَّبَبُ الَّذِي تَرَّكَهُ تَعْشِيرَ أَمْوَالِهِمْ لَمْ يَأْخُذْهُمْ بِعُشْرِ مَا كَانُوا حَمَلُوهُ ، وَنَظَرَ فِي التَّرْكِ : فَإِنْ كَانَ مُسَامَحَةً لَهُمْ أَخَذَ عُشْرَهُمْ بَعْدَ زَوَالِ السَّبَبِ بِالشَّرْطِ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ كَانَ إِسْقَاطًا لَمْ يَأْخُذْهُ بَعْدَ زَوَالِ سَبَبِهِ إِلَّا بِشَرْطٍ مُسْتَأْنَفٍ . وَإِذَا دَعَتِ الْإِمَامَ الضَّرُورَةُ فِي الِاسْتِعَانَةِ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ أَنْ

يَتْرُكَ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ : لِيَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى مَعُونَةِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ الْأَوْلَى قَبْضُهَا مِنْهُمْ ، وَرَدُّهَا عَلَيْهِمْ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَأَرْفَقَهُمْ بِتَرْكِهَا عَلَيْهِمْ جَازَ ، وَكَانَ ذَلِكَ إِبْرَاءً مِنْهَا فِي وَقْتِهَا ، وَلَمْ يَكُ إِسْقَاطًا لَهَا مِنْ أَصْلِهَا ، فَإِذَا زَالَ السَّبَبُ عَادَ إِلَى أَخْذِهَا بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا عُقِدَتِ الذِّمَّةُ مَعَ قَوْمٍ وَجَبَ الذَّبُّ عن أهل الذمة عَنْهُمْ مِنْ كُلِّ مَنْ آذَاهُمْ مِنْ مُسْلِمٍ وَمُشْرِكٍ سَوَاءٌ اخْتَلَطُوا بِالْمُسْلِمِينَ أَوِ اعْتَزَلُوهُمْ ، فَلَوْ عَجَّلَ الْإِمَامُ بِجِزْيَتِهِمْ ، وَقَصَدَهُمُ الْعَدُوُّ ، فَلَمْ يَذُبَّ عَنْهُمْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مِنْ جِزْيَتِهِمْ مَا قَابَلَ زَمَانَ مُتَارَكَتِهِمْ مَعَ عَدُوِّهِمْ دُونَ مَا عَدَاهُ ، فَإِنِ اشْتَرَطُوا فِي عَقْدِ صُلْحِهِمْ أَنْ لَا يَذُبَّ أَهْلَ الْحَرْبِ عَنْهُمْ لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ إِنْ كَانُوا مُخْتَلِطِينَ بِالْمُسْلِمِينَ : لِئَلَّا يَتَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنِ اعْتَزَلُوا الْمُسْلِمِينَ بِقَرْيَةٍ انْفَرَدُوا بِسُكْنَاهَا ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ مُسْلِمٌ أَوْ مَالُ مُسْلِمٍ ، أَوْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ قَرْيَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ لَمْ يَصِحِّ هَذَا الشَّرْطُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ ، وَلَا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ مُسْلِمٌ حُمِلُوا عَلَى الشَّرْطِ فِي مُتَارِكَتِهِمْ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ ، وَلَمْ يَلْزَمِ الذَّبُّ عَنْهُمْ إِلَّا أَنْ يَخَافَ عَلَيْهِمُ الِاصْطِلَامَ ، فَيَلْزَمُ اسْتِنْقَاذُ نُفُوسِهِمْ دُونَ أَمْوَالِهِمْ : لِأَنَّ لِلذِّمَّةِ حَقًّا فِي حِفْظِهَا ، وَسَقَطَ حِفْظُ أَمْوَالِهِمْ بِالشَّرْطِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابٌ فِي نَصَارَى الْعَرَبِ تُضَعَّفُ عَلَيْهُمِ الصَّدَقَةُ وَمَسْلَكُ الْجِزْيَةِ

بَابٌ فِي نَصَارَى الْعَرَبِ تُضَعَّفُ عَلَيْهُمِ الصَّدَقَةُ وَمَسْلَكُ الْجِزْيَةِ على نَصَارَى الْعَرَبِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " اخْتَلَفَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي نَصَارَى الْعَرَبِ مِنْ تَنُوخَ وَبَهْرَاءَ وَبَنِي تَغْلِبَ ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ صَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يُضَعِّفَ عَلَيْهُمُ الْجِزْيَةَ وَلَا يُكْرَهُوا عَلَى غَيْرِ دِينِهِمْ ، وَهَكَذَا حَفِظَ أَهْلُ الْمَغَازِي قَالُوا : رَامَهُمْ عُمَرُ عَلَى الْجِزْيَةِ فَقَالُوا : نَحْنُ عَرَبٌ لَا نُؤَدِّي مَا يُؤَدِّي الْعَجَمُ ، وَلَكِنْ خُذْ مِنَّا كَمَا يَأْخُذُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ، يَعْنُونَ الصَدَقَةَ فَقَالَ : عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا ، هَذَا فَرْضٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، فَقَالُوا : فَزِدْ مَا شِئْتَ بِهَذَا الِاسِمْ لَا بِاسْمِ الْجِزْيَةِ : فَرَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يُضَعِّفَ عَلَيْهِمُ الصَدَقَةَ ، ( قَالَ : ) فَإِذَا ضَعَّفَهَا عَلَيْهِمْ فَانْظُرْ إِلَى مَوَاشِيهِمْ وَذَهَبِهِمْ وَوَرِقِهِمْ وَأَطْعِمَتِهِمْ وَمَا أَصَابُوا مِنْ مَعَادِنِ بِلَادِهِمْ وَرِكَازِهَا وَكُلِّ أَمْرٍ أُخِذَ فِيهِ مِنْ مُسْلِمٍ خُمْسٌ فَخُذْ خُمْسَيْنِ أَوْ عُشْرٌ فَخُذْ عُشْرَيْنِ أَوْ نِصْفُ عُشْرٍ فَخُذْ عُشْرًا أَوْ رُبُعُ عُشْرٍ فَخُذْ نِصْفَ عُشْرٍ ، وَكَذَلِكَ مَاشِيَتُهُمْ خُذِ الضِّعْفَ مِنْهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا دِينُ الْعَرَبِ ، فَلَمْ يَكُونُوا أَهْلَ كِتَابٍ ، وَكَانُوا عَبَدَةَ أَوْثَانٍ ، فَجَاوَرَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ الْيَهُودَ ، فَتَهَوَّدُوا وَجَاوَرَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ النَّصَارَى ، فَتَنَصَّرُوا ، فَكَانَ فِي قَحْطَانَ بِالشَّامِ تَنُوخُ وَبَهْرَاءُ وَبَنُو تَغْلِبَ مُجَاوِرِينَ لِلنَّصَارَى ، فَتَنَصَّرُوا ، وَأَشْكَلَتْ حَالُهُمْ عِنْدَ فَتْحِ الشَّامِ عَلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَلْ دَخَلُوا فِي النَّصْرَانِيَّةِ قَبْلَ التَّبْدِيلِ فَيُقَرُّونَ أَوْ بَعْدَ التَّبْدِيلِ مَعَ الْمُبَدِّلِينَ ، فَلَا يُقَرُّونَ ، فَغَلَّبَ فِيهِمْ حُكْمَ الْحَظْرِ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ ، وَتَحْرِيمِ مَنَاكِحِهِمْ وَذَبَائِحِهِمْ ، فَأَقَرَّهُمْ عَلَى هَذَا ، وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ أَلَّا يُنَصِّرُوا أَوْلَادَهُمْ ، ثُمَّ طَالَبَهُمْ بِالْجِزْيَةِ حِينَ أَقَرَّهُمْ عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ ، فَأَبَوْا أَنَفَةً مِنْ ذُلِّ الْجِزْيَةِ ، وَقَالُوا : نَحْنُ عَرَبٌ لَا نُؤَدِّي مَا يُؤَدِّي الْعَجَمُ ، وَلَكِنْ خُذْ مِنَّا كَمَا يَأْخُذُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ الصَّدَقَةَ ، فَقَالَ عُمَرُ : لَا آخُذُ مِنْ مُشْرِكٍ صَدَقَةً فَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طُهْرَةً : فَنَفَرَ بَعْضُهُمْ وَلَحِقَ بِالرُّومِ ، وَكَادَ الْبَاقُونَ أَنْ يَلْحَقُوا بِهِمْ ، فَقَالَ عُبَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ التَّغْلِبِيُّ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ لِلْقَوْمِ بَأْسًا وَشِدَّةً ، فَلَا تُعِزَّ عَدُوَّكَ بِهِمْ ، وَخُذْ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ ، فَأَعَادَ مَنْ رَحَلَ إِلَى مَنْ أَقَامَ ، وَقَالُوا : زِدْ مَا شِئْتَ بِهَذَا الِاسْمِ لَا بِاسْمِ الْجِزْيَةِ ، فَرَاضَاهُمْ عُمَرُ عَلَى أَنْ أَضْعَفَ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةَ وَجَعَلُوهَا جِزْيَةً بِاسْمِ الصَّدَقَةِ ،

تُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ كَمَا تَجِبُ الصَّدَقَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ مِنَ الْمَوَاشِي وَالزُّرُوعِ ، وَالثِّمَارِ ، وَالذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ ، وَعَرُوضِ التِّجَارَةِ إِذَا بَلَغَتْ نِصَابًا ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ دُونَ النِّصَابِ ، وَلَا فِي الدُّورِ وَالْعَقَارِ ، وَلَا فِي الْخَيْلِ ، وَالْبِغَالِ ، وَالْحَمِيرِ ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَنْ كُلِّ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ شَاتَانِ ، وَعَنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعَانِ ، وَعَلَى كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاتَانِ ، وَعَمَّا سَقَتْهُ السَّمَاءُ مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الْعُشْرُ الْخُمُسُ ، وَعَمَّا سُقِيَ بِنَضْحٍ أَوْ غَرْبٍ يَجِبُ فِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ الْعُشْرُ ، وَعَمَّا وَجَبَ فِيهِ رُبُعُ الْعُشْرِ مِنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ نِصْفُ الْعُشْرِ ، فَيُؤْخَذُ مِنْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنَ الذَّهَبِ مِثْقَالٌ ، وَمِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنَ الْوَرِقِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، وَعَمَّا وَجَبَ فِيهِ الْخُمُسُ مِنَ الرِّكَازِ وَالْمَعَادِنِ الْخُمُسَيْنِ ، فَكَانَ عَقْدُ صُلْحِهِمْ مَعَ عُمَرَ مُسْتَقِرًّا عَلَى هَذَا ، وَحَمَلَهُمْ عَلَيْهِ بَعْدَ عُمَرَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَلِيٌّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَمْ يَمْنَعُوهُمْ أَنْ يُنَصِّرُوا أَوْلَادَهُمْ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اشْتِرَاطَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ كَانَ إِرْهَابًا وَلَمْ يَكُنْ إِلْزَامًا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَاهُ مِنْ صُلْحِ عُمَرَ ، فَهُوَ شَيْءٌ يَزِيدُ ، وَيَنْقُصُ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَقِلَّتِهِ ، وَيَجِبُ وَلَا يَجِبُ بِوُجُودِ الْمَالِ وَعَدَمِهِ ، وَيُعْلَمُ وَلَا يُعْلَمُ بِظُهُورِ الْمَالِ وَاسْتِبْطَانِهِ ، فَصَارَ مَجْهُولًا لِتَبَرُّزِهِ بَيْنَ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ وَوُجُوبٍ وَإِسْقَاطٍ ، وَمَكْتُومٍ وَمَشْهُورٍ . وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ صَالَحَهُمْ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُمْ دِينَارَ الْجِزْيَةِ : لِأَنَّهُمُ امْتَنَعُوا مِنْ بَذْلِ الْجِزْيَةِ لِئَلَّا يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ صَغَارٌ ، فَصَارَتْ مُضَاعَفَةُ الصَّدَقَةِ على نصارى العرب هِيَ الْجِزْيَةَ مَأْخُوذَةً بِاسْمِ الصَّدَقَةِ ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ : هَؤُلَاءِ قَوْمٌ حَمْقَى ، أَبَوْا الِاسْمَ ، وَرَضُوا بِالْمَعْنَى . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عَقْدِ الصُّلْحِ مع أهل الحرب على مُضَاعَفَةُ الصَّدَقَةِ التي على المسلمين عليهم عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ حَمْلُهُمْ عَلَيْهِ سَوَاءٌ بَلَغَ الْمَأْخُوذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دِينَارًا أَوْ نَقَصَ عَنْهُ ، وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْ مَالُهُ نِصَابَ الزَّكَاةِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ ، وَمَنْ لَمْ يَمْلِكْ مَالًا مُزَكًّى ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ فِعْلِ عُمَرَ فَكَانَ إِمْضَاؤُهُ عَلَى هَذَا ، وَإِنْ نَقَصَ الْمَأْخُوذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الدِّينَارِ : لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ فِي وَقْتٍ آخَرَ عَلَى الدِّينَارِ لِمَا يَسْتَفِيدُهُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ مَنْ لَا مِلْكَ لَهُ ، فَيُؤَدَّى ، فَيَكُونُ الِاعْتِبَارُ بِهَا لَا بِالدِّينَارِ ، وَيَكُونُ مَا يُخَافُ مِنْ نُقْصَانِ الدِّينَارِ فِي وَقْتٍ مَجْبُورًا بِمَا يُرْجَى مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يُصَالَحُوا عَلَى هَذَا إِذَا عُلِمَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ ذَوِي الْأَمْوَالِ مِنْهُمْ يَفِي بِدِينَارٍ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ مِنْ جَمِيعِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَفِ بِالدِّينَارِ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ لَمْ يَجُزْ . مِثَالُهُ : أَنْ يَكُونُوا أَلْفَ رَجُلٍ ، فَإِنْ عُلِمَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ بِمُضَاعَفَةِ الصَّدَقَةِ أَلْفُ دِينَارٍ فَصَاعِدًا جَازَ ، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ دِينَارٍ لَمْ يَجُزْ ، وَلَا يَضُرُّ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ بَعْضِهِمْ أَقَلُّ مِنْ دِينَارٍ إِذَا أُخِذَ مِنْ غَيْرِهِ أَكْثَرُ مِنْهُ ، وَلَا شَيْءَ عَلَى مَنْ لَا مَالَ لَهُ مِنْ مُزَكًّى : لِأَنَّهُ قَدْ

أُخِذَ مِنْ غَيْرِهِ مَا جَبَرَهُ ، فَصَارَ بَدَلًا مِنْهُ ، وَحَمَلَ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ صُلْحَ عُمَرَ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ كَثْرَةَ أَمْوَالِهِمْ ، وَأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ ذَوِي الْأَمْوَالِ يَفِي بِجِزْيَةِ جَمِيعِهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّهُ يَجُوزُ حَمْلُهُمْ عَلَيْهِ إِذَا بَلَغَ الْمَأْخُوذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دِينَارًا فَصَاعِدًا ، فَإِنْ نَقَصَ عَنِ الدِّينَارِ أُخِذَ مِنْهُ تَمَامُ الدِّينَارِ ، وَلَا يُجْبَرُ بِزِيَادَةِ غَيْرِهِ ، وَمَنْ لَمْ يَمْلِكْ نِصَابًا مُزَكًّى ، أُخِذَ مِنْهُ دِينَارُ الْجِزْيَةِ ، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِأَخْذِهَا مِنْ غَيْرِهِ : لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَرُّوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى التَّأْبِيدِ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْقَصَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينَارِ الْجِزْيَةِ ، وَحَمْلُ صُلْحِ عُمَرَ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ جَمِيعَهُمْ أَغْنِيَاءُ : لِمَا شَاهَدَهُ مِنْ كَثْرَةِ أَمْوَالِهِمْ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَعْجِزُ عَنِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ عَنْ دِينَارٍ ، وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْأَقْيَسُ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَشْبَهُ بِصُلْحِ عُمَرَ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا كَانَتْ مُضَاعَفَةُ الصَّدَقَةِ على من تكون من أهل الذمة مَأْخُوذَةً مِنْ أَمْوَالِ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : آخُذُهَا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ دُونَ الصِّبْيَانِ ، احْتِجَاجًا بِأَنَّ مَا أُخِذَ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ ، وَكَانَ النِّصَابُ فِيهِ وَالْحَوْلُ فِيهِ مُعْتَبَرَيْنِ اشْتَرَكَ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ كَالزَّكَاةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَخَرَجَ مِنْهُ الصِّبْيَانُ : لِأَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ بِالْإِقْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ جِزْيَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ كَالدِّينَارِ ، وَلِأَنَّ النِّسَاءَ مَحْقُونَاتُ الدِّمَاءِ ، فَلَمْ تُضَاعَفْ صَدَقَةُ الْجِزْيَةِ كَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الزَّكَاةِ ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا جِزْيَةٌ ، فَكَانَ اعْتِبَارُهَا بِالْجِزْيَةِ أَوْلَى مِنَ اعْتِبَارِهَا بِالزَّكَاةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا لَمَّا خَرَجَتْ عَنِ الزَّكَاةِ قَدْرًا وَمَصْرِفًا خَرَجَتْ عَنْهَا حُكْمًا وَالْتِزَامًا .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ النِّصَابُ فِي مُضَاعَفَةِ الصَّدَقَةِ على نصارى العرب عَلَيْهِمْ مُعْتَبَرًا ، فَفِي زَمَانِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِوُجُودِ النِّصَابِ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ كَالزَّكَاةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُعْتَبَرُ وُجُودُهُ فِي رَأْسِ الْحَوْلِ : لِأَنَّهُ لَمَّا اعْتُبِرَ الْيَسَارُ بِدِينَارِ الْجِزْيَةِ ، فِي رَأْسِ الْحَوْلِ كَذَلِكَ النِّصَابُ : لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ جِزْيَةٌ . فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ لَمْ يَخْلُ النِّصَابُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِي آخِرِهِ مَعْدُومًا فِي أَوَّلِهِ ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا شَيْءَ فِيهِ اعْتِبَارًا بِالزَّكَاةِ ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَجِبُ فِيهِ ضِعْفُ الصَّدَقَةِ اعْتِبَارًا بِالْجِزْيَةِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ مَعْدُومًا فِي آخِرِهِ ، فَيُنْظَرُ فِيهِ فَإِنْ عُدِمَ بِالتَّلَفِ ، فَلَا شَيْءَ فِيهِ ، وَإِنْ عُدِمَ بِنَقْلِهِ إِلَى مَالٍ غَيْرِ مُزَكًّى أُخِذَ مِنْهُ : لِأَنَّهُمْ مُتَّهَمُونَ لَا يَتَدَيَّنُونَ بِأَدَائِهَا ، فَأُخِذَتْ مِنْهُمْ ، وَالْمُسْلِمُونَ لَا يُتَّهَمُونَ : لِأَنَّهُمْ يَتَدَيَّنُونَ بِأَدَائِهَا ، فَلَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُمْ .

فَصْلٌ : وَإِذَا بَذَلَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لِلْإِمَامِ فِي وَقْتِنَا أَنْ يَعْقِدَ مَعَهُمُ الذِّمَّةَ عَلَى مُضَاعَفَةِ الصَّدَقَةِ كَالَّذِي فَعَلَهُ عُمَرُ جَازَ اقْتِدَاءً بِهِ ، وَاتِّبَاعًا ، وَلَوْ سَأَلُوهُ أَنْ يَعْقِدَهَا عَلَى صَدَقَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ مُضَاعَفَةٍ جَازَ إِذَا لَمْ تَنْقُصْ عَنْ دِينَارِ الْجِزْيَةِ ، فَإِنْ نَقَصَتْ عَنْهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْقِدَهَا مَعَهُمْ وَجْهًا وَاحِدًا : لِأَنَّ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ ، إِنَّمَا هِيَ فِي عَقْدٍ أَمْضَاهُ إِمَامٌ مُجْتَهِدٌ ، فَإِذَا عَقَدَ عَقْدًا مُسْتَأْنَفًا ، فَلَا يَمْضِي بِأَقَلَّ مِنْ دِينَارِ الْجِزْيَةِ ، فَإِنْ بَلَغَ أَخْذَهَا مِنْ بَعْضِهِمْ دِينَارًا عَلَى كُلِّ رَأْسٍ مِنْهُمْ ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا يَجُوزُ : لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ لَا يُؤَدِّي دِينَارًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَجُوزُ : لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ أَخْذُ دِينَارٍ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ وَقَدْ أُخِذَ . فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ، لَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَقَدَ الْجِزْيَةَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ يُؤَدُّونَهَا مِنْ مَالِهِ نُظِرَ فِي مَوْضُوعِهَا ، فَإِنْ أَوْجَبَهَا عَلَيْهِمْ وَتَحَمَّلَهَا عَنْهُمْ جَازَ : لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِهَا وَهُمْ مَأْخُوذُونَ بِهَا إِنِ امْتَنَعَ مِنْهَا ، وَإِنْ أَوْجَبَهَا عَلَى نَفْسِهِ لِتَكُونَ عَنْهُ وَعَنْهُمْ ، فَفِي جَوَازِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : هُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ ، لَا يَجُوزُ : لِأَنَّهُمْ يُقِيمُونَ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ تَلْزَمُهُمْ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ ، يَجُوزُ لِحُصُولِ الْفَرْضِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُمْ .

فَصْلٌ : إِذَا قَالَ : مَنْ بَذَلَ ضِعْفَ الصَّدَقَةِ أَنَفَةً مِنَ اسْمِ الْجِزْيَةِ : قَدْ أَسْقَطْتُ اسْمَ الصَّدَقَةِ عَنِّي ، وَرَضِيتُ بِاسْمِ الْجِزْيَةِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي سُقُوطِهَا وَالِاقْتِصَارِ عَلَى دِينَارِ الْجِزْيَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَسْقُطُ مُضَاعَفَةُ الصَّدَقَةِ - عَلَيْهِ : لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ مَا قَدْ أَسْقَطَ عَنْ نَفْسِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهُ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ : لِأَنَّ حُكْمَ الْجِزْيَةِ مَوْجُودٌ فِي الْحَالَيْنِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِاخْتِلَافِ الْأَسْمَاءِ تَأْثِيرٌ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَكُلُّ مَا أُخِذَ مِنْ ذِمِّيٍّ عَرَبِيٍّ فَمَسْلَكُهُ الْفَيْءُ وَمَا اتَّجَرَ بِهِ نَصَارَى الْعَرَبِ وَأَهْلُ دِينِهِمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ ذِمَّةِ الْعَرَبِيِّ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ جِزْيَةٌ ، وَلَيْسَتْ زَكَاةً ، وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي إِيجَابِهَا عَلَى النِّسَاءِ زَكَاةً . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ زَكَاةً قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ [ التَّوْبَةِ : 103 ] الْآيَةَ . وَالْكَافِرُ لَا يَتَطَهَّرُ بِمَا يُؤَدِّيهِ مِنْهَا . وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ . وَقَالَ عُمَرُ : النَّاسُ رَجُلَانِ : مُسْلِمٌ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةَ ، وَكَافِرٌ فَرْضَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ . وَقَالَ عَلِيٌّ : لَا زَكَاةَ عَلَى مُشْرِكٍ ، فَكَانَ هَذَا إِجْمَاعُ الْأَئِمَّةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ . وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَصْرُوفًا فِي أَهْلِ الْفَيْءِ دُونَ أَهْلِ الصَّدَقَةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِنْ كَانُوا يَهُودًا تُضَاعَفْ عَلَيْهِمِ فِيهِ الصَدَقَةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي جَوَازِ صُلْحِهِمْ عَلَى مُضَاعَفَةِ الصَّدَقَةِ على اليهود والنصارى سَوَاءٌ ، وَإِنْ كَانَ صُلْحُ عُمَرَ مَعْقُودًا عَلَى نَصَارَى الْعَرَبِ ، فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُعْقَدَ مَعَ الْيَهُودِ ، وَمَعَ نَصَارَى الْعَجَمِ : لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ فِي الْجِزْيَةِ سَوَاءٌ ، فَإِذَا اتَّجَرُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَجَبَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهَا بَعْدَ الْحَوْلِ ضِعْفُ الزَّكَاةِ : لِأَنَّ أَمْوَالَ التِّجَارَةِ مُزَكَّاةٌ ، فَلَوْ تَجِرَ بَعْضُ نَصَارَى الْعَرَبِ إِلَى الْحِجَازِ الذي يجب عليه في هذه الحالة أُخِذَ مِنْهُ الْعُشْرُ فِي دُخُولِ الْحِجَازِ ، وَضِعْفُ الصَّدَقَةِ بِعَقْدِ الصُّلْحِ ، وَجُمِعَ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ، وَإِنْ كَانَا حَرْبِيَّيْنِ كَمَا يُجْمَعُ عَلَيْهِ بَيْنَ الدِّينَارِ وَالْعُشْرِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْمُهَادَنَةِ عَلَى النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ وَنَقْضِ مَا لَا يَجُوزُ مِنَ الصُّلْحِ

بَابُ الْمُهَادَنَةِ عَلَى النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ وَنَقْضِ مَا لَا يَجُوزُ مِنَ الصُّلْحِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " إِنْ نَزَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ بِقُوَّةِ عَدُوٍّ عَلَيْهِمْ ، وَأَرْجُو أَنْ لَا يُنْزِلَهَا اللَّهُ بِهِمْ ، هَادَنَهُمُ الْإِمَامُ عَلَى النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى مُدَّةٍ يَرْجُو إِلَيْهَا الْقُوَّةَ عَلَيْهِمْ لَا تُجَاوِزُ مُدَّةَ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ الَّتِي هَادَنَهُمْ عَلَيْهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهِيَ عَشْرُ سِنِينَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْمُهَادَنَةُ معناها ، فَهِيَ الْمُسَالَمَةُ وَالْمُوَادَعَةُ عَنْ عَهْدٍ يَمْنَعُ مِنَ الْقِتَالِ وَالْمُنَافَرَةِ ، وَقَدْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ فَرْضِ الْجِهَادِ مَنَعَ مِنْهَا بِقَوْلِهِ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [ التَّوْبَةِ : 5 ] وَجَعَلَ غَايَةَ أَمْرِهِمْ فِي قَتْلِهِمْ أَنْ يُسْلِمُوا ، فَقَالَ فَإِنْ تَابُوا الْآيَةَ ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِقِتَالِهِمْ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ إِنْ لَمْ يُسْلِمُوا فَقَالَ تَعَالَى : قَاتِلُوا الَّذِينَ إِلَى قَوْلِهِ : وَهُمْ صَاغِرُونَ [ التَّوْبَةِ : 29 ] فَكَانَ هَذَا بَعْدَ قُوَّةِ الْإِسْلَامِ لَكِنْ بِهَا تُؤْخَذُ جِزْيَتُهُمْ ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذِنَ فِي مُهَادَنَتِهِمْ وَمُسَالَمَتِهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا ، فَقَالَ تَعَالَى : وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا [ الْأَنْفَالِ : 61 ] . وَقَالَ تَعَالَى : إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ إِلَى قَوْلِهِ : عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ [ التَّوْبَةِ : 4 ] فَوَادَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَهُودَ بَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ ، وَبَنِي قَيْنُقَاعَ بِالْمَدِينَةِ لِيَكُفُّوا عَنْ مَعُونَةِ الْمُشْرِكِينَ ، وَيَكُونُوا عَوْنًا لِلْمُسْلِمِينَ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ عُهُودِهِ حَتَّى نَقَضُوا الْعَهْدَ ، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ نَقَضَ عَهْدَهُ مِنْهُمْ بَنُو قَيْنُقَاعَ فِي مَعُونَةِ قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ ، وَأَظْفَرَهُ اللَّهُ بِهِمْ ، وَأَرَادَ قَتْلَهُمْ ، فَسَأَلَهُ عَبْدُ اللَّهُ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ فِيهِمْ ، وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةِ دَارِعٍ وَأَرْبَعَمِائَةِ حَاسِرٍ فَنَفَاهُمْ إِلَى أَذْرِعَاتَ مِنَ الشَّامِ . ثُمَّ نَقَضَ بَنُو النَّضِيرِ عُهُودَهُمْ بَعْدَ أُحُدٍ : لِأَنَّهُمْ هَمُّوا أَنْ يَفْتِكُوا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَارَ إِلَيْهِمْ ، وَأَظْفَرَهُ اللَّهُ بِهِمْ ، فَأَجْلَاهُمْ إِلَى أَرْضِ خَيْبَرَ . ثُمَّ نَقَضَ بَنُو قُرَيْظَةَ عُهُودَهُمْ بِمَعُونَةِ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْخَنْدَقِ ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ فَأَظْفَرَهُ اللَّهُ بِهِمْ وَحَكَمَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ ، فَحَكَمَ بِسَبْيِ الذَّرَارِيِّ ، وَقَتْلِ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي ، فَقَتَلَهُمْ ، وَكَانُوا سَبْعَمِائَةِ رَجُلٍ . ثُمَّ هَادَنَ قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَشْرَ سِنِينَ ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِلَّا الَّذِينَ

عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ [ التَّوْبَةِ : 7 ] حَتَّى نَقَضَتْ قُرَيْشٌ الْعَهْدَ بِمَعُونَةِ أَحْلَافِهِمْ مِنْ بَنِي بَكْرٍ عَلَى قِتَالِ أَحْلَافِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ خُزَاعَةَ ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ سَنَةَ ثَمَانٍ حَتَّى فَتَحَ مَكَّةَ ، وَكَانَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ ، وَعُمْرَةُ الْقَضِيَّةِ سَنَةَ سَبْعٍ ، وَكَانَ هَذَا الصُّلْحُ عَظِيمَ الْبَرَكَةِ أَسْلَمَ بَعْدَهُ أَكْثَرُ مِمَّنْ أَسْلَمَ قَبْلَهُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ إِرَادَةِ الْهُدْنَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ بِهِمْ قُوَّةٌ ، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الْمُوَادَعَةِ مَنْفَعَةٌ عقد الهدنة ، فَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُهَادِنَهُمْ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَدِيمَ جِهَادَهُمْ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [ آلِ عِمْرَانَ : 139 ] . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ بِهِمْ قُوَّةٌ لَكِنَّ لَهُمْ فِي الْمُوَادَعَةِ مَنْفَعَةً عقد الهدنة ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَرْجُوا بِالْمُوَادَعَةِ إِسْلَامَهُمْ ، وَإِجَابَتَهُمْ إِلَى بَذْلِ الْجِزْيَةِ ، أَوْ يَكُفُّوا عَنْ مَعُونَةِ عَدُوٍّ ذِي شَوْكَةٍ أَوْ يُعِينُوهُ عَلَى قِتَالِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَنَافِعِ الْمُسْلِمِينَ ، فَيَجُوزُ أَنْ يُوَادِعَهُمْ مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، فَمَا دُونَهَا : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [ التَّوْبَةِ : 1 ] وَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ، فَإِنْ أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَبْلُغَ بِمُدَّةِ مُوَادَعَتِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ سَنَةً لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّهَا مُدَّةُ الْجِزْيَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَرَّ فِيهَا مُشْرِكٌ إِلَّا بِهَا ، فَأَمَّا مَا دُونَ السَّنَةِ وَفَوْقَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، فَفِي جَوَازِ مُوَادِعَتِهِمْ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : نَصَّ عَلَيْهِ هَاهُنَا ، وَفِي الْجِزْيَةِ مِنْ كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُوَادَعَتُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَجَعَلَهَا حَدًّا لِغَايَةِ الْمُوَادَعَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ ، يَجُوزُ أَنْ يُوَادِعَهُمْ مَا دُونُ السَّنَةِ ، وَإِنْ زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ : لِأَنَّهَا دُونَ مُدَّةِ الْجِزْيَةِ كَالْأَرْبَعَةِ مَعَ عُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [ الْمَائِدَةِ : 1 ] . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ لَا يَكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ ، وَهُمْ عَلَى ضَعْفٍ يَعْجِزُونَ مَعَهُ عَنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ عقد الهدنة فَيَجُوزُ أَنْ يُهَادِنَهُمُ الْإِمَامُ إِلَى مُدَّةٍ تَدْعُوهُ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا أَكْثَرُهَا عَشْرُ سِنِينَ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَادَنَ قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَشْرَ سِنِينَ لَا أَغْلَالَ فِيهَا ، وَلَا أَسْلَالَ ، وَدَامَتْ هَذِهِ الْمُهَادَنَةُ سَنَتَيْنِ حَتَّى نَقَضُوهَا فَبَطَلَتْ فَإِنِ احْتَاجَ الْإِمَامُ إِلَى مُهَادَنَتِهِمْ أَكْثَرَ مِنْهَا لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ عَنْ حَظْرٍ ، فَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى مُدَّةِ الِاسْتِئْنَافِ وَالتَّخْصِيصِ ، وَقِيلَ لِلْإِمَامِ : اعْقِدِ الْهُدْنَةَ عَشْرَ سِنِينَ ، فَإِذَا انْقَضَتْ وَالْحَاجَةُ بَاقِيَةٌ اسْتَأْنَفْتَهَا عَشْرًا ثَانِيَةً ، فَإِنْ عَقَدَهَا عَلَى أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ بَطَلَتِ الْهُدْنَةُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْعَشْرِ ، وَفِي بُطْلَانِهَا فِي الْعَشْرِ قَوْلَانِ ، مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ :

أَحَدُهُمَا : تَبْطُلُ إِذَا مُنِعَ تَفْرِيقُهَا . وَالثَّانِي : تَصِحُّ إِذَا أُجِيزَ تَفْرِيقُهَا ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ ، وَهَكَذَا إِنْ دَعَتْهُ الْحَاجَةُ أَنْ يُهَادِنَهُمْ خَمْسَ سِنِينَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُهَادِنَهُمْ أَكْثَرَ مِنْهَا ، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ مَا زَادَ عَلَى الْخَمْسِ بَاطِلًا ، وَفِي بُطْلَانِ الْهُدْنَةِ فِي الْخَمْسِ قَوْلَانِ . وَلَوْ هَادَنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ لِحَاجَةٍ دَعَتْ إِلَيْهَا ثُمَّ ارْتَفَعَتِ الْحَاجَةُ عقد الهدنة كَانَتِ الْهُدْنَةُ بَاقِيَةً إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّتِهَا بَعْدَ زَوَالِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْتَدِئَ بِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ الْتِزَامًا لِمَا اسْتَقَرَّ مِنْ عَقْدِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [ الْمَائِدَةِ : 1 ] .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُهَادِنَ إِلَى غَيْرِ مُدَّةٍ عَلَى أَنَّهُ مَتَى بَدَا لَهُ نَقْضُ الْهُدْنَةِ عقد الهدنة فَجَائِزٌ ، وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا عَلَى الْعَدُوِّ لَمْ يُهَادِنْهُمْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى لَمَّا قَوِيَ الْإِسْلَامُ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْآيَةَ ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِصَفْوَانَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ بِسِنِينَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لَا أَعْلَمُهُ زَادَ أَحَدًا بَعْدَ قُوَّةِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . يَجُوزُ فِي الْهُدْنَةِ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُقَدَّرَةِ الْمُدَّةِ إِذَا عُلِّقَتْ بِشَرْطٍ أَوْ عَلَى صِفَةٍ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ وَادَعَ يَهُودَ خَيْبَرَ قَالَ : أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ ، وَيَكُونُ الْإِمَامُ مُخَيَّرًا فِيهَا إِذَا أَرَادَ نَقْضَهَا ، وَلَيْسَتْ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الَّتِي تُمْنَعُ الْجَهَالَةُ فِيهَا ، وَإِذَا جَازَ إِطْلَاقُهَا بِغَيْرِ مُدَّةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ : أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ ، وَإِنْ قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ خَيْبَرَ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوحِي إِلَى رَسُولِهِ مُرَادَهُ دُونَ غَيْرِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : أُقِرُّكُمْ مَا شِئْتُ فَيَجُوزُ ، وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى مَشِيئَتِهِ ، فِيمَا يَرَاهُ صَلَاحًا مِنِ اسْتِدَامَةِ الْهُدْنَةِ أَوْ نَقْضِهَا ، فَإِنْ عَقَدَهَا عَلَى مَشِيئَتِهِمْ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّهُمْ يَصِيرُونَ مُتَحَكِّمِينَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى " : وَإِنْ عَقَدَهَا الْإِمَامُ عَلَى مَشِيئَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عقد الهدنة جَازَ إِذَا اجْتَمَعَتْ فِيهِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَوِي الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ فِي تَدْبِيرِ الدُّنْيَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَوِي الْأَمَانَةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ عِبَادِهِ . فَإِنْ تَكَامَلَتْ فِيهِ صَحَّ وُقُوفُ الْهُدْنَةِ عَلَى مَشِيئَتِهِ ، وَإِنْ أَخَلَّ بِشَرْطٍ مِنْهَا لَمْ يَصِحَّ ، فَإِذَا انْعَقَدَتْ نُظِرَ :

فَإِنْ كَانَ مِنْ وُلَاةِ الْجِهَادِ عَمِلَ عَلَى رَأْيِهِ فِي اسْتِدَامَةِ الْهُدْنَةِ بِالْمُوَادَعَةِ أَوْ نَقْضِهَا بِالْقِتَالِ ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِئْذَانُ الْإِمَامِ فِي الْحَالَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ وُلَاةِ الْجِهَادِ جَازَ لَهُ اسْتَدَامَتُهَا بِغَيْرِ إِذَنِ الْإِمَامِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَقْضُهَا إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ : لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ فِي الِاسْتِدَامَةِ ، وَمُخَالِفٌ فِي النَّقْضِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ وَحَالُ الْإِمَامِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى اسْتَدَامَتِهَا فَتَلْزَمَ . وَالثَّانِي : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى نَقْضِهَا فَتَنْحَلَّ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَرَى الْمُحَكَّمُ نَقْضَهَا ، وَيَرَى الْإِمَامُ اسْتَدَامَتَهَا ، فَتَغْلِبُ اسْتِدَامَةُ الْإِمَامِ ، وَيَصِيرُ كَالْمُبْتَدِئِ بِهَا . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَرَى الْمُحَكَّمُ اسْتَدَامَتَهَا ، وَيَرَى الْإِمَامُ نَقْضَهَا ، فَيُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ يُغَلَّبْ نَقْضُ الْإِمَامِ ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ غُلِّبَ اسْتِدَامَةُ الْمُحَكَّمِ كَالْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ . وَلَوْ أَطْلَقَ الْهُدْنَةَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ عقد الهدنة ، أَوْ عَلَى غَيْرِ صِفَةٍ ، فَقَالَ : قَدْ هَادَنْتُكُمْ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ إِطْلَاقَهَا يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ ، وَهُوَ لَوْ أَبَّدَهَا بَطَلَتْ كَذَلِكَ إِذَا أَطْلَقَهَا ، وَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ نَقْضَ الْعَهْدِ لَمْ يَبْدَأْ بِقِتَالِهِمِ إِلَّا بَعْدَ إِنْذَارِهِمْ وَإِعْلَامِهِمْ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [ الْأَنْفَالِ : 58 ] .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَا يَجُوزَ أَنْ يُؤَمَّنَ الرَسُولُ وَالْمُسْتَأَمَنُ إِلَّا بَقَدْرِ مَا يَبْلُغَانِ حَاجَتَهُمَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ بِهَا سَنَةً بَغَيْرِ جِزْيَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ ، وَأَنَّ لِلرَّسُولِ أَمَانًا يُبَلِّغُ فِيهِ رِسَالَتَهُ ، وَأَنَّهُ لَا يُعْشَرُ مَا دَخَلَ مَعَهُ مِنْ مَالٍ ، وَإِنْ كَانَ الْعُشْرُ مَشْرُوطًا عَلَيْهِمْ : لِأَنَّهُ لَمَّا تَمَيَّزَ عَنْهُمْ فِي أَمَانِ الرِّسَالَةِ تَمَيَّزَ عَنْهُمْ فِي تَعْشِيرِ الْمَالِ تَغْلِيبًا لِنَفْعِ الْإِسْلَامِ بِرِسَالَتِهِ ، فَإِنِ انْقَضَتْ رِسَالَتُهُ فِيمَا دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ جَازَ أَنْ يَسْتَكْمِلَهَا ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقِيمَ سَنَةً إِلَّا بِجِزْيَةٍ ، وَإِنْ لَمْ تُنْقَضْ رِسَالَتُهُ إِلَّا فِي سَنَةٍ جَازَ أَنْ يُقِيمَهَا بِغَيْرِ جِزْيَةٍ : لِأَنَّ حُكْمَ الرِّسَالَةِ مَخْصُوصٌ فِي أَحْكَامِ جَمَاعَتِهِمْ ، وَهَكَذَا الْأَسِيرُ إِذَا حُبِسَ فِي الْأَسْرِ مُدَّةً لِمَصْلَحَةٍ رَآهَا الْإِمَامُ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ : لِأَنَّهُ مُقِيمٌ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ ، فَصَارَ مُسَاوِيًا لِلرَّسُولِ فِي سُقُوطِ الْجِزْيَةِ وَمُخَالِفًا فِي الْعِلَّةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَا يَجُوزَ أَنْ يُهَادِنَهُمْ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُمُ الْمُسْلِمُونَ شَيْئًا عقد الهدنة بِحَالٍ لِأَنَّ الْقَتْلَ لِلْمُسْلِمِينَ شَهَادَةٌ ، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ أَعَزُّ مِنْ أَنْ يُعْطَى مُشْرِكٌ عَلَى أَنْ يَكُفَّ عَنْ أَهْلِهِ لِأَنَّ أَهْلَهُ قَاتِلِينَ وَمَقْتُولِينَ ظَاهِرُونَ عَلَى الْحَقِّ إِلَّا فِي حَالٍ

يَخَافُونَ الِاصْطِلَامَ فَيُعْطُونَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ أَوْ يَفْتَدِي مَأْسُورًا فَلَا بَأْسَ لِأَنَّ هَذَا مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَالْأَوْلَى مِنَ الْهُدْنَةِ أَنْ تُعْقَدَ عَلَى مَالٍ يَبْذُلُهُ الْمُشْرِكُونَ لَنَا إِذَا أَجَابُوا إِلَيْهِ ، فَإِنْ تَعَذَّرَتْ إِجَابَتُهُمْ إِلَيْهِ ، وَدَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى مُهَادَنَتِهِمْ عَلَى غَيْرِ مَالٍ جَازَ ، فَأَمَّا عَقْدُهَا عَلَى مَالٍ يَحْمِلُهُ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ ، فَلَا يَجُوزُ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ ، وَأَظْهَرَهُ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا ، وَجَعَلَ لَهُمُ الْجَنَّةَ قَاتِلِينَ وَمَقْتُولِينَ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [ التَّوْبَةِ : 111 ] فَلَمْ يَجُزْ مَعَ ثَوَابِ الشَّهَادَةِ وَعِزِّ الْإِسْلَامِ أَنْ يَدْخُلُوا فِي ذَلِكَ الْبَذْلِ وَصَغَارِ الدَّفْعِ مَا لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ إِلَيْهِ ، فَإِنْ دَعَتْ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ ، وَذَلِكَ فِي إِحْدَى حَالَتَيْنِ . إِمَّا أَنْ يُحَاطَ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي قِتَالٍ أَوْ وَطْءٍ يَخَافُونَ مَعَهُ الِاصْطِلَامَ ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبْذُلُوا فِي الدَّفْعِ عَنِ اصْطِلَامِهِمْ مَالًا ، يَحْقِنُونَ بِهِ دِمَاءَهُمْ ، قَدْ هَمَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْخَنْدَقِ أَنْ يُصَالِحَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ ، وَشَاوَرَ الْأَنْصَارَ ، فَقَالَ : إِنْ كَانَ هَذَا بِأَمْرِ اللَّهِ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ نَقْبَلْهُ . وَرَوَى أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ عَمْرٍو الْغَطَفَانِيَّ رَئِيسَ غَطَفَانَ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنْ جَعَلْتَ لِي شَطْرَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ وَإِلَّا مَلَأْتُهَا عَلَيْكَ خَيْلًا وَرَجُلًا ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : حَتَّى أَسْتَأْذِنَ السُّعُودَ ، يَعْنِي سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ ، وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ ، وَأَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ فَاسْتَأْمَرَهُمْ فَقَالُوا : إِنْ كَانَ هَذَا بِأَمْرٍ مِنَ السَّمَاءِ ، فَنُسَلِّمُ لِأَمْرِ اللَّهِ ، وَإِنْ كَانَ بِرَأْيِكَ ، فَرَأْيُنَا تَبَعٌ لِرَأْيِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَمْرٍ مِنَ السَّمَاءِ ، وَلَا بِرَأْيِكَ فَوَاللَّهِ مَا كُنَّا نُعْطِيهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثَمَرَةً إِلَّا بِشِرًى أَوْ قِرًى ، فَكَيْفَ ، وَقَدْ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِكَ فَقَالَ لَهُ : هُوَ ذَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ ، وَلَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا ، فَهُوَ وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِمْ فَقَدْ نَبَّهَ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْأَنْصَارِ عَلَى جَوَازِ عَطَائِهِمْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ، وَلِأَنَّ مَا يَنَالُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ نِكَايَةِ الِاصْطِلَامِ أَعْظَمُ ضَرَرًا مِنْ ذِلَّةِ الْبَذْلِ ، فَافْتَدَى بِهِ أَعْظَمَ الضَّرَرَيْنِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : افْتِدَاءُ مَنْ فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْأَسْرَى إِذَا خِيفَ عَلَى نُفُوسِهِمْ عقد الهدنة ، وَكَانُوا يَسْتَذِلُّونَهُمْ بِعَذَابٍ أَوِ امْتِهَانٍ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَبْذُلَ لَهُمُ الْإِمَامُ فِي افْتِكَاكِهِمْ مَالًا لِيَسْتَنْقِذَهُمْ بِهِ مِنَ الذِّلَّةِ وَالْخَطَرِ ، وَإِنِ افْتَدَاهُمْ بِأَسْرَى كَانَ أَوْلَى . وَرَوَى أَبُو الْمُهَلَّبِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَادَى رَجُلًا بِرَجُلَيْنِ . وَمَا بَذَلَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ مَالٍ فِي اصْطِلَامٍ أَوْ فِدَاءٍ فَهُوَ كَالْمَغْصُوبِ لِأَخْذِهِ مِنْهُمْ جَبْرًا بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنْ ظَفِرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً لَمْ يَغْنَمُوهُ ، وَأُعِيدَ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مِنْ مَالِ مُسْلِمٍ ، أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، وَإِنْ وَجَدُوهُ مَعَ مُسْتَأْمَنٍ نُظِرَ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ سَبَبُ

بَذْلِهِ بَاقِيًا لَمْ يُسْتَرْجَعْ مِنْهُ : لِمَا فِي اسْتِرْجَاعِهِ مِنْ عَوْدِ الضَّرَرِ ، وَإِنْ زَالَ سَبَبُ بَذْلِهِ اسْتُرْجِعَ مِنْهُ وَأُعِيدَ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ ، وَلَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِ فِي غَيْرِهِ مِنْ أَمْوَالِهِ لِأَمَانِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِنْ صَالَحَهُمُ الْإِمَامُ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ فَالطَّاعَةُ نَقْضُهُ عقد الهدنة ، كَمَا صَنَعَ النَبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النِّسَاءِ وَقَدْ أَعْطَى الْمُشْرِكِينَ فِيهِنَّ مَا أَعْطَاهُمْ فِي الرِّجَالِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ ، فَجَاءَتْهُ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مُسْلِمَةً مُهَاجِرَةً ، فَجَاءَ أَخَوَاهَا يَطْلُبَانِهَا فَمَنَعَهَا مِنْهُمَا ، وَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ مَنَعَ الصُلْحَ فِي النِّسَاءِ وَحَكْمَ فِيهِنَّ غَيْرَ حُكْمِهِ فِي الرِّجَالِ ، وَبِهَذَا قُلْنَا لَوْ أَعْطَى الْإِمَامُ قَوْمًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْأَمَانَ عَلَى أَسِيرٍ فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، أَوْ مَالٍ ، ثَمَّ جَاءُوهُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ إِلَّا نَزْعُهُ مِنْهُمْ بِلَا عِوَضٍ ، وَإِنَّ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إِلَى أَنَّ النَبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّ أَبَا جَنْدَلِ بْنَ سُهَيْلٍ إِلَى أَبِيهِ ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ ، إِلَى أَهْلِهِ ، قِيلَ أَهْلُوهُمْ أَشْفَقُ النَّاسِ عَلَيْهِمْ وَأَحْرَصُهُمْ عَلَى سَلَامَتِهِمْ ، وَلَعَّلَهُمْ يَقُونَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ مِمَّا يُؤْذِيهِمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونُوا مُتَّهَمِينَ عَلَى أَنْ يَنَالُوا بِتَلَفٍ أَوْ عَذَابٍ ، وَإِنَّمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ دِينَهُمْ فَكَانُوا يُشَدِّدُونَ عَلَيْهِمْ بِتَرْكِ دِينِهِمْ كَرْهًا ، وَقَدْ وَضَعَ اللَّهُ الْمَأْثَمَ فِي إِكْرَاهِهِمْ ، أَوَلَا تَرَى أَنَّ النِّسَاءَ إِذَا أُرِيدَ بِهِنَّ الْفِتْنَةُ ضَعُفْنَ وَلَمْ يَفْهَمْنَ فَهْمَ الرِّجَالِ ، وَكَانَ التَّقِيَّةُ تَسَعُهُنَ ، وَكَانَ فِيهِنَّ أَنْ يُصِيبَهُنَّ أَزْوَاجُهُنَ وَهُنَّ حَرَامٌ عَلَيْهِنَّ ، قَالَ وَإِنْ جَاءَتْنَا امْرَأَةٌ مُهَادِنَةٌ أَوْ مُسْلِمَةٌ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى مَوْضِعِ الْإِمَامِ فَجَاءَ سِوَى زَوْجِهَا فِي طَلَبِهَا مُنِعَ مِنْهَا بِلَا عِوَضٍ . وَإِنْ جَاءَ زَوْجُهَا فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمُا يُعْطَى مَا أَنْفَقَ وَهُوَ مَا دَفَعَ إِلَيْهَا مِنَ الْمَهْرِ . وَالْآخَرُ لَا يُعْطَى ، وَقَالَ فِي آخِرِ الْجَوَابِ وَأَشْبَهُهُمَا أَنْ لَا يُعْطَوْا عِوَضًا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ : ) هَذَا أَشْبَهُ بِالْحَقِّ عِنْدِي " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْقِدَ الْهُدْنَةَ عَلَى شُرُوطٍ مَحْظُورَةٍ عقد الهدنة قَدْ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهَا . فَمِنْهَا : أَنْ يُهَادِنَهُمْ عَلَى مَالٍ يَحْمِلُهُ إِلَيْهِمْ ، فَهُوَ مَحْظُورٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ . وَمِنْهَا : أَنْ يُهَادِنَهُمْ عَلَى خَرَاجٍ يَضْرِبُونَهُ عَلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ عقد الهدنة . وَمِنْهَا : أَنْ يُهَادِنَهُمْ عَلَى رَدِّ مَا غَنِمَ مِنْ سَبْيِ ذَرَارِيهِمْ : لِأَنَّهَا أَمْوَالٌ مَغْنُومَةٌ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبْيَ هَوَازِنَ عَلَيْهِمْ . قِيلَ : إِنَّمَا رَدَّهُمْ عَلَيْهِمْ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ تَفَضُّلًا عَلَيْهِمْ ، فَخَالَفَ الْتِزَامَهُ لِلْمُشْرِكِينَ عَنْ عَقْدٍ . وَمِنْهَا أَنْ يُهَادِنَهُمْ عَلَى دُخُولِ الْحَرَمِ أَوِ اسْتِيطَانِ الْحِجَازِ عقد الهدنة ، فَلَا يَجُوزُ .

وَمِنْهَا : أَنْ يُهَادِنَهُمْ عَلَى تَرْكِ قِتَالِهِمْ عَلَى الْأَبَدِ عقد الهدنة ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْطِيلِ الْجِهَادِ . وَمِنْهَا : أَنْ يُهَادِنَهُمْ ، وَلَيْسَ بِهِ حَاجَةٌ إِلَى مُهَادَنَتِهِمْ : لِقُوَّتِهِ عَلَيْهِمْ وَعَدَمِ النَّفْعِ بِمُهَادَنَتِهِمْ . وَمِنْهَا : أَنْ يُهَادِنَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا . وَمِنْهَا : أَنْ يُهَادِنَهُمْ عَلَى إِظْهَارِ مَنَاكِيرِهِمْ فِي بِلَادِنَا مِنْ صُلْبَانِهِمْ وَخُمُورِهِمْ وَخَنَازِيرِهِمْ عقد الهدنة . وَمِنْهَا : أَنْ يُهَادِنَهُمْ عَلَى إِسْقَاطِ الْجِزْيَةِ عَمَّنْ أَقَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ عقد الهدنة . وَمِنْهَا : أَنْ يُهَادِنَهُمْ عَلَى تَعْشِيرِ أَمْوَالِنَا إِذَا دَخَلْنَا إِلَيْهِمْ عقد الهدنة . وَمِنْهَا : أَنْ يُهَادِنَهُمْ عَلَى أَلَّا نَسْتَنْقِذَ أَسْرَانَا مِنْهُمْ عقد الهدنة ، فَهَذِهِ وَمَا شَاكَلَهَا مَحْظُورَةٌ ، قَدْ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهَا ، فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهَا فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ ، فَإِنْ شُرِطَتْ بَطَلَتْ ، وَوَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ نَقْضُهَا : لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُدُّوا الْجَهَالَاتِ إِلَى السُّنَنِ ، وَلَا تَبْطُلُ الْهُدْنَةُ ، وَإِنْ كَانَتْ شَرْطًا فِيهَا : لِأَنَّهَا لَيْسَتْ كَالْبُيُوعِ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الَّتِي تَبْطُلُ بِفَسَادِ الشَّرْطِ : لِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنْ جَهَالَةِ الثَّمَنِ ، وَلَيْسَتْ بِأَوْكَدَ فِي عُقُودِ الْمُنَاكَحَاتِ الَّتِي لَا تَبْطُلُ بِفَسَادِ الْمَهْرِ ، وَلَا يَلْزَمُ الْإِمَامَ أَنْ يُعْلِمَهُمْ بُطْلَانَ الشُّرُوطِ قَبْلَ مُطَالَبَتِهِمْ بِهَا ، فَإِنْ طَالَبُوهُ بِالْتِزَامِهَا أَعْلَمَهُمْ حِينَئِذٍ بُطْلَانَهَا فِي شَرْعِنَا ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَنَا الْعَمَلُ بِهَا . فَإِنْ دَعَوْهُ إِلَى نَقْضِ الْهُدْنَةِ نَقَضَهَا ، إِلَّا أَنْ يَخَافَ مِنْهُمُ الِاصْطِلَامَ ، فَيَجُوزُ لِلضَّرُورَةِ ، أَنْ يَلْتَزِمَهَا مَا كَانَ عَلَى ضَرُورَتِهِ كَمَا قُلْنَا فِي بَذْلِ الْمَالِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ ، فَصُورَةُ مَسْأَلَتِنَا : أَنْ يُهَادِنَهُمْ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ مَنْ جَاءَنَا مُسْلِمًا مِنْهُمْ عقد الهدنة : فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَالَحَ قُرَيْشًا فِي الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى هَذَا ، فَنَذْكُرُ حُكْمَهَا فِي صُلْحِهِ ثُمَّ نَذْكُرُهُ فِي صُلْحِنَا . أَمَّا حُكْمُهَا فِي صُلْحِهِ ، فَقَدْ كَانَتْ هُدْنَتُهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ مَعْقُودَةً عَلَى هَذَا أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ مَنْ جَاءَهُ مُسْلِمًا مِنْهُمْ ، فَجَاءَهُ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو مُسْلِمًا ، فَقَالَ لَهُ سُهَيْلٌ : هَذَا ابْنِي أَوَّلُ مَنْ أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ ، فَرَدَّهُ إِلَيْهِ ، وَقَالَ لِأَبِي جَنْدَلٍ : قَدْ تَمَّ الصُّلْحُ بَيْنَنَا ، وَبَيْنَ الْقَوْمِ فَاصْبِرْ حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا ، ثُمَّ رَدَّ بَعْدَهُ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ ، وَأَبَا بَصِيرٍ ، فَرَدَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ مِنَ الرِّجَالِ ، ثُمَّ جَاءَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مُسْلِمَةً ، فَجَاءَ أَخَوَاهَا فِي طَلَبِهَا ، عِمَارَةُ وَالْوَلِيدُ ابْنَا عُقْبَةَ ، وَجَاءَتْ سَعِيدَةُ زَوْجَةُ صَيْفِيِّ بْنِ الرَّاهِبِ مُسْلِمَةً ، فَجَاءَ فِي طَلَبِهَا ، وَجَاءَتْ سَبِيعَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّةُ مُسْلِمَةً ، فَجَاءَ زَوْجُهَا وَاسْمُهُ مُسَافِرٌ مِنْ قَوْمِهَا فِي طَلَبِهَا ، وَقَالُوا : يَا مُحَمَّدُ قَدْ شَرَطْتَ لَنَا رَدَّ النِّسَاءِ وَطِينُ الْكِتَابِ لَمْ يَجِفَّ ، فَارْدُدْ عَلَيْنَا نِسَاءَنَا ، فَتَوَقَّفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ

رَدِّهِنَّ تَوَقُّعًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِنَّ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ [ الْمُمْتَحِنَةِ : 10 ] الْآيَةَ ، وَالَّتِي بَعْدَهَا ، فَامْتَنَعَ حِينَئِذٍ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ رَدِّهِنَّ وَمِنْ رَدِّ النِّسَاءِ كُلِّهِنَّ ، وَلَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ رَدِّ الرِّجَالِ : لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الرِّجَالَ أَثْبَتُ مِنَ النِّسَاءِ ، وَأَقْدَرُ عَلَى التَّوْبَةِ إِنْ أُكْرِهُوا عَلَى الْكُفْرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ النِّسَاءَ ذَوَاتَ الْأَزْوَاجِ يَحْرُمْنَ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ مِنَ الْكُفَّارِ ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُمْ وَالرِّجَالُ بِخِلَافِهِنَّ ، فَلِهَذَيْنِ وَقَعَ الْفَرْقُ فِي الرَّدِّ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، فَرَّدَ الرِّجَالَ ، وَلَمْ يَرُدَّ النِّسَاءَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَنَحْنُ نَبْدَأُ بِشَرْحِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ مِنْ تَفْسِيرٍ وَفِقْهٍ . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ [ الْمُمْتَحِنَةِ : 10 ] فَفِيمَا يُمْتَحَنُ بِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بِأَنْ يَشْهَدْنَ بِأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : بِمَا فِي السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ : يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا [ الْمُمْتَحِنَةِ : 12 ] الْآيَةَ ، ثُمَّ قَالَ : اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ [ الْمُمْتَحِنَةِ : 10 ] يَعْنِي بِمَا فِي قُلُوبِهِنَّ : لِأَنَّ الِامْتِحَانَ يُعْلَمُ بِهِ ظَاهِرُ إِيمَانِهِنَّ ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ يَعْنِي بِالِامْتِحَانِ ، فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ [ الْمُمْتَحِنَةِ : 10 ] يَعْنِي تَمْنَعُوهُنَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِيهِنَّ وَأَزْوَاجِهِنَّ ، لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ [ الْمُمْتَحِنَةِ : 10 ] يَعْنِي أَنَّ الْمُسْلِمَةَ لَا تَحِلُّ لِكَافِرٍ بِحَالٍ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [ الْمُمْتَحِنَةِ : 15 ] فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَعْنِي أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَحِلُّونَ لِلْمُسْلِمَاتِ بِحَالٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَعْنِي أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ كَافِرَةٍ وَثَنِيَّةٍ ، وَلَا مُرْتَدَّةٍ ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا يَعْنِي مُهُورَهُنَّ ، وَفِي مَنْ تُدْفَعُ إِلَيْهِ مُهُورُهُنَّ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَزْوَاجُهُنَّ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِيهِنَّ ، فَعَلَى هَذَا يُدْفَعُ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ إِنْ كُنَّ قَدْ أَخَذْنَهُ مِنْهُمْ ، وَلَا يُدْفَعُ إِنْ لَمْ يَأْخُذْنَهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِلَى كُلِّ طَالِبٍ لَهُنَّ مِنْ زَوْجٍ وَأَهْلٍ وَهُوَ شَاذٌّ . فَعَلَى هَذَا يُدْفَعُ إِلَى مَنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِطَلَبِهِنَّ مِنْ زَوْجٍ وَأَهْلٍ ، سَوَاءٌ أَخَذْنَهُ أَوْ لَمْ يَأْخُذْنَهُ ، وَهَذَا فَاسِدٌ : لِأَنَّهُ قَالَ : وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا [ الْمُمْتَحِنَةِ : 10 ] فَلَا يَأْخُذُ مَنْ لَمْ يُنْفِقْ ثُمَّ قَالَ : وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ

أُجُورَهُنَّ [ الْمُمْتَحِنَةِ : 10 ] يَعْنِي الْمُؤْمِنَاتِ اللَّاتِي جِئْنَ مِنْ دَارِ الشِّرْكِ مُسْلِمَاتٍ عَنْ أَزْوَاجٍ مُشْرِكِينَ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى نِكَاحَهُنَّ لِلْمُسْلِمِينَ إِذَا انْقَضَتْ عِدَدُهُنَّ ، أَوْ كُنَّ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهِنَّ . وَقَوْلُهُ : إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يَعْنِي مُهُورَهُنَّ ، وَلَيْسَ يُرِيدُ بِالْإِيتَاءِ الدَّفْعَ إِلَّا أَنْ يَتَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ فَيَصِيرُ مُسْتَحِقًّا ثُمَّ قَالَ : وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ [ الْمُمْتَحِنَةِ : 10 ] يَعْنِي أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ عَنْ زَوْجَةٍ وَثَنِيَّةٍ لَمْ يُقِمْ عَلَى نِكَاحِهَا تَمَسُّكًا بِعِصْمَتِهَا إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ فِي عِدَّتِهَا ، وَفِي الْعِصْمَةِ هَاهُنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : الْجَمَالُ . وَالثَّانِي : الْعَقْدُ ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا [ الْمُمْتَحِنَةِ : 10 ] يَعْنِي أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا ارْتَدَّتْ زَوْجَتُهُ ، فَلَحِقَتْ بِأَهْلِ الْعَهْدِ رَجَعَ الْمُسْلِمُ عَلَيْهَا بِمَهْرِهَا ، كَمَا يَرْجِعُ أَهْلُ الْعَهْدِ عَلَيْنَا بِمَهْرِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ ، ثُمَّ قَالَ : وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ يَعْنِي مَنِ ارْتَدَّتْ إِلَى الْكُفَّارِ ، وَهِيَ زَوْجَةُ الْمُسْلِمِ إِذَا ارْتَدَّتْ فَلَحِقَتْ بِأَهْلِ الْعَهْدِ ، وَفَوَاتُهَا أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فِي الرِّدَّةِ ، ثُمَّ قَالَ : فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا [ الْمُمْتَحِنَةِ : 11 ] فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : فَعَاقَبْتُمُ الْمُرْتَدَّةَ بِالْقَتْلِ ، فَلِزَوْجِهَا أَنْ يَرْجِعَ بِمَهْرِهَا فِي غَنَائِمِ الْمُسْلِمِينَ ، وَهَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَعْنِي : فَعَاقَبْتُمُ الَّذِينَ لَحِقَتِ الْمُرْتَدَّةُ بِهِمْ مِنَ الْكَفَّارِ ، وَفِيمَا أُرِيدَ بِمُعَاقَبَتِهِمْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : إِصَابَةُ الْعَاقِبَةِ مِنْهُمْ بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالْغَنِيمَةِ : فَيُدْفَعُ مِنْ غَنَائِمِهِمْ مَهْرُ مَنِ ارْتَدَّ إِلَيْهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ كَمَا يُوجِبُ عَلَيْهِمْ مَهْرَ مَنِ ارْتَدَّ إِلَيْهِمْ ، وَوَجَبَ لَهُمْ مَهْرُ مَنْ أَسْلَمَ أَيْضًا جَعَلَ ذَلِكَ قِصَاصًا تَسَاوِيًا وَرَدَّ فِعْلٍ إِنْ زَادَ فَيَكُونُ مَعْنَى عَاقَبْتُمْ أَيْ تَقَاصَصْتُمْ ، وَهُوَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنَ الْعَقِبِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ مَنَعَ رَسُولَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ رَدِّ النِّسَاءِ إِذَا أَسْلَمْنَ دُونَ الرِّجَالِ ، وَأَوْجَبَ لِأَزْوَاجِهِنَّ مُهُورَهُنَّ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ ، وَأَصْحَابُنَا مَعَهُمْ : هَلِ اشْتَرَطَ فِي عَقْدِ هُدْنَتِهِ رَدَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عقد الهدنة أَوْ جَعَلَهُ مَقْصُورًا عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : إِنَّهُ خَرَجَ فِي شَرْطِهِ أَنْ يَرُدَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ : لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ لَهُمْ مَا لَا يَجُوزُ ، وَلَكِنْ سَأَلُوهُ لَمَّا أَسْلَمَ مِنْ نِسَائِهِمْ مَنْ أَسْلَمَ أَنْ

يُجْرِيَهُنَّ فِي الرَّدِّ مُجْرَى الرِّجَالِ : لِيَمُنَّ عَلَيْهِنَّ بِرَدِّهِنَّ : لِظَنِّهِمْ أَنَّ رَدَّهُنَّ جَائِزٌ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَنْعَ مِنْ رَدِّهِنَّ : لِيَكُونَ حُجَّةً لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الِامْتِنَاعِ ، وَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا مِنْهُ ، وَجَعَلَ رَدَّ الْمَهْرِ عَلَى الْأَزْوَاجِ تَوْكِيدًا لِعَقْدِ الْهُدْنَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَطْلَقَ فِي شَرْطِ الْعَقْدِ رَدَّ مَنْ أَسْلَمَ : وَلَمْ يُصَرِّحْ بِذِكْرِ النِّسَاءِ فِي رَدٍّ وَلَا مَنْعٍ ، فَكَانَ ظَاهِرُ الْعُمُومِ مِنَ الشَّرْطِ اشْتِمَالَهُ عَلَيْهِنَّ مَعَ الرِّجَالِ ، وَإِنْ كَانَ تَخْصِيصُهُ مُحْتَمِلًا فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى خُرُوجَهُنَّ مِنْ عُمُومِهِ ، وَكَذَلِكَ كَانَ مُرَادُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . وَتَمَسَّكَتْ قُرَيْشٌ بِظَاهِرِ الْعُمُومِ فِي رَدِّ النِّسَاءِ ، فَأَظْهَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُرُوجَهُنَّ مِنَ الْعُمُومِ بِمَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَرَّحَ بِرَدِّهِنَّ فِي شَرْطِ هُدْنَتِهِ كَمَا صَرَّحَ بِذِكْرِ الرِّجَالِ حَتَّى مَنَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ رَدِّهِنَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ ، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وَجْهِ اشْتِرَاطِهِ لِرَدِّهِنَّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ ، وَلَوْلَا سَهْوُهُ عَنْهُ ، لَمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ ، وَقَدْ يَسْهُو كَغَيْرِهِ مِنْ أُمَّتِهِ لَكِنْ لَا يُقِرُّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى خَطَأٍ ، فَيَكُونُ مُسَاوِيًا لَهُمْ فِي السَّهْوِ مُبَايِنًا لَهُمْ فِي الْإِقْرَارِ ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ عَلَيْهِ اسْتِدْرَاكًا لِسَهْوِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ فَعَلَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِحَظْرِهِ لَكِنْ دَعَتْهُ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ لِمَصْلَحَةِ وَقْتِهِ فِي حَسْمِ الْقِتَالِ : لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ نَحْوَ أَرْبَعَةِ آلَافٍ ، وَقَدْ يُفْعَلُ فِي الِاضْطِرَارِ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ فِي الِاخْتِيَارِ ، فَلَمَّا زَالَتْ ضَرُورَتُهُ مَنَعَ مِنْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ قَدْ كَانَ مُبَاحًا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ أَنْ تُقَرَّ الْمُسْلِمَةُ عَلَى نِكَاحِ كَافِرٍ ، وَلِذَلِكَ أَقَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى نِكَاحِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ ، وَكَانَ عَلَى كُفْرِهِ إِلَى أَنِ انْتَزَعَهَا مِنْهُ حَتَّى أَسْلَمَ ، ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ ، فَلِذَلِكَ شَرَطَ رَدَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ نِسَائِهِمْ عَلَيْهِمْ ثُمَّ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ ، وَنَسَخَهُ ، فَامْتَنَعَ مِنْهُ وَأَبْطَلَ شَرْطَهُ فِيهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَمَذْهَبُكُمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْسَخَ السُّنَّةَ إِلَّا السُّنَّةُ ، وَالْقُرْآنَ إِلَّا الْقُرْآنُ فَكَيْفَ نَسَخَ السُّنَّةَ هَاهُنَا بِالْقُرْآنِ . قِيلَ : أَمَّا نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ ، فَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَأَمَّا نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تُنْسَخَ السُّنَّةُ بِالْقُرْآنِ فَعَلَى هَذَا سَقَطَ السُّؤَالُ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ ، فَعَلَى هَذَا ، عَنْ هَذَا النَّسْخِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ كَانَ مُسْتَبَاحًا بِعُمُومِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي إِبَاحَةِ النِّكَاحِ ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِتَخْصِيصِ الْعُمُومِ ، فَكَانَ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِقُرْآنٍ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ كَانَ مُسْتَبَاحًا بِالسُّنَّةِ ثُمَّ نَسَخَتْهُ السُّنَّةُ بِمَا رُوِيَ مِنْ إِبْطَالِ الشَّرْطِ فِي هُدْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .

فَصْلٌ : فَأَمَّا حُكْمُ الشَّرْطِ فِي هُدْنَةِ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْأَعْصَارِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُهَادَنُوا عَلَى رَدِّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ نِسَائِهِمْ عقد الهدنة بِحَالٍ ، وَلَئِنْ فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي هُدْنَتِهِ ، فَقَدْ كَانَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الشَّرْطِ فِي حَظْرِ الرَّدِّ ، وَقَدِ اسْتَقَرَّ مِنْهُ مَا لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ . فَأَمَّا اشْتِرَاطُ رَدِّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ عقد الهدنة ، فَمُعْتَبَرٌ بِأَحْوَالِهِمْ عِنْدَ قَوْمِهِمْ ، وَفِي عَشَائِرِهِمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ ، فَإِنْ كَانُوا مُسْتَذَلِّينَ فِيهِمْ ، لَيْسَ لَهُمْ عَشِيرَةٌ تَكُفُّ الْأَذَى عَنْهُمْ ، وَطَلَبُوهُمْ لِيُعَذِّبُوهُمْ ، وَيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ ، كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تُعَذِّبُ بِلَالًا . وَعَمَّارًا وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ ، لَمْ يَجُزْ رَدُّهُمْ عَلَيْهِمْ ، وَكَانَ الشَّرْطُ فِي رَدِّهِمْ بَاطِلًا ، كَمَا بَطَلَ فِي رَدِّ النِّسَاءِ حَقْنًا لِدِمَائِهِمْ ، وَكَفًّا عَنْ تَعْذِيبِهِمْ وَاسْتِذْلَالِهِمْ ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مِنَ الْمُسْلِمِ مَالَهُ وَدَمَهَ ، وَأَنْ لَا يُظَنَّ بِهِ إِلَّا خَيْرًا ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ فَكُّ الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ عَوْنًا عَلَى أَسْرِ مُسْلِمٍ . فَأَمَّا مَنْ كَانَ فِي عِزٍّ مِنْ قَوْمِهِ ، وَمَنَعَةٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ قَدْ أَمِنَ أَنْ يُفْتَنَ عَنْ دِينِهِ أَوْ يَسْتَذِلَّهُ مُسْتَطِيلٌ عَلَيْهِ ، جَازَ رَدُّهُ عَلَيْهِ ، وَصَحَّتِ الْهُدْنَةُ بِاشْتِرَاطِ رَدِّهِ . قَدْ رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هُدْنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ أَبَا جَنْدَلِ بْنَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو عَلَى أَبِيهِ ، وَرَدَّ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ عَلَى أَهْلِهِ ، وَرَدَّ أَبَا بَصِيرٍ عَلَى أَبِيهِ : وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا ذَوِي عَشِيرَةٍ ، وَطَلَبَهُمْ أَهْلُوهُمْ إِشْفَاقًا عَلَيْهِمْ ، وَفَادَى الْعَقِيلِيَّ بَعْدَ إِسْلَامِهِ بِرَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانَا أَسِيرَيْنِ فِي قَوْمِهِ ، لِقُوَّةِ عَشِيرَتِهِ فِيهِمْ . وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ مُرَاسَلَةَ قُرَيْشٍ بِالْحُدَيْبِيَةِ ، فَعَرَضَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ ، فَقَالَ إِنِّي قَلِيلُ الْعَشِيرَةِ بِمَكَّةَ ، وَلَا آمَنُهُمْ عَلَى نَفْسِي ، فَعَرَضَ عَلَى عُمَرَ ، فَقَالَ مِثْلَ ( ذَلِكَ ) فَقَالَ لِعُثْمَانَ : أَنْتَ كَثِيرُ الْعَشِيرَةِ بِمَكَّةَ ، فَوَجَّهَهُ إِلَيْهِمْ ، فَلَمَّا تَوَجَّهَ فَلَقُوهُ بِالْإِكْرَامِ وَقَالُوا لَهُ : طُفْ بِالْبَيْتِ وَتَحَلَّلْ مِنْ إِحْرَامِكَ ، فَقَالَ : لَا أَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَحْصُورٌ عَنِ الطَّوَافِ ، فَانْقَلَبُوا عَلَيْهِ ، حَتَّى بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قُتِلَ ،

فَبَايَعَ أَصْحَابَهُ مِنْ أَجْلِهِ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ ذِي الْعَشِيرَةِ الْمَانِعَةِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي الرَّدِّ . وَمِثْلُهُ مَا قُلْنَاهُ : فِي وُجُوبِ الْهِجْرَةِ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ إِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا بِعَشِيرَتِهِ إِذَا أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَضْعَفًا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ ، فَصَارَ الرَّدُّ مَقْصُورًا عَلَى طَائِفَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهِيَ الْمُمْتَنِعَةُ بُيُوتُهَا لِقُوَّتِهَا وَمَنْعُ الرَّدِّ مُشْتَمِلًا عَلَى طَائِفَتَيْنِ : أَحَدُهُمَا : جَمِيعُ النِّسَاءِ مِنَ الْمُمْتَنِعَاتِ ، وَالْمُسْتَضْعَفَاتِ . وَالثَّانِي : الْمُسْتَضْعَفُونَ مِنَ الرِّجَالِ ، وَكَذَلِكَ الصِّبْيَانُ إِذَا وَصَفُوا الْإِسْلَامَ عِنْدَ الْمُرَاهَقَةِ مَمْنُوعُونَ مِنَ الرَّدِّ ، وَإِنْ كَانُوا مُمْتَنِعِينَ لِأَنَّهُمْ قَدْ يُفْتَنُونَ عَنْ دِينِهِمْ . نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ، فَجَعَلَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ إِسْلَامِهِ قَبْلَ بُلُوغِهِ ، وَذَهَبَ جَمِيعُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ ، وَمَنْصُوصِهِ فِي سَائِرِ كُتُبِهِ أَنَّ إِسْلَامَهُ لَا يَصِحُّ قَبْلَ بُلُوغِهِ ، وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْ رَدِّهِ اسْتِظْهَارًا لِدِينِهِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ مَا هُوَ عَلَيْهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ . فَإِنْ وَصَفَ الْإِسْلَامَ رُدَّ إِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا ، وَلَمْ يُرَدَّ إِنْ كَانَ مُسْتَضْعَفًا ، وَإِنْ وَصَفَ الْكُفْرَ حُمِلَ عَلَى هُدْنَةِ قَوْمِهِ . فَلَوْ شَرَطَ فِي الْهُدْنَةِ رَدَّ مَنْ أَسْلَمَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ عقد الهدنة بَطَلَتْ : لِأَنَّ إِطْلَاقَهُ يَقْتَضِي عُمُومَ الرَّدِّ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يُرَدَّ ، وَمِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ عُمُومُهُ بِالْعُرْفِ فِيمَنْ يَجُوزُ رَدُّهُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا التَّفْصِيلُ ، فَالْكَلَامُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهَا : فِي النِّسَاءِ . وَالثَّانِي : فِي الرِّجَالِ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي النِّسَاءِ ، فَلَيْسَ لَهُنَّ إِلَّا حَالٌ وَاحِدَةٌ فِي الْمَنْعِ مِنْ رَدِّهِنَّ ، فَإِذَا مَنَعَ الْإِمَامُ مِنْهُ نُظِرَ فِي الطَّالِبِ لَهُنَّ : فَإِنْ كَانَ غَيْرَ زَوْجٍ مِنِ ابْنٍ أَوْ أَخٍ أَوْ عَمٍّ ، فَلَا شَيْءَ لَهُ إِذَا امْتَنَعَ : لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ عَنْ بُضْعِهَا بَدَلًا . وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ لَهَا زَوْجَهَا قِيلَ لَهُ : إِنْ أَسْلَمْتَ فِي عِدَّتِهَا كُنْتَ عَلَى نِكَاحِكَ لَهَا ، وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ مُنِعْتَ مِنْهَا عقد الهدنة ، وَنُظِرَ فِي مَهْرِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَدْفَعْهُ إِلَيْهَا لَمْ يَرْجِعْ بِهِ ، وَإِنْ دَفَعَهُ إِلَيْهَا ، فَعَنْ رُجُوعِهِ بِهِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ فِي امْتِنَاعِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ رَدِّهِنَّ ، هَلْ كَانَ لِنَسْخٍ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ أَوْ كَانَ مَعَ تَقَدُّمِ الْحَظْرِ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ رَدَّ الْمَهْرِ فِي عَقْدِ هُدْنَتِهِ ، فَكَانَ مُسْتَحِقًّا فِي مَنْعِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْهُ لَمْ يُطَالَبْ .

فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ اشْتَرَطَ رَدَّهُنَّ مَعَ إِبَاحَتِهِ ، ثُمَّ نَسَخَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ هُدْنَتِهِ ، فَلَا مَهْرَ لِزَوْجِ الْمُسْلِمَةِ مِنْ بَعْدِهِ : لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ رَدِّهَا عَلَيْهِ : لِمَا اسْتَقَرَّ مِنْ تَحْرِيمِهِ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ حَظْرَهُ كَانَ مُتَقَدِّمًا ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَشْتَرِطْ رَدَّهُنَّ أَوْ شَرَطَهُ سَهْوًا أَوْ مُضْطَرًّا وَجَبَ لِزَوْجِ الْمُسْلِمَةِ فِي هُدْنَةِ الْإِمَامِ بَعْدَهُ الرُّجُوعُ بِمَهْرِهَا : لِأَنَّ رَدَّهُنَّ فِي الْحَالَيْنِ مَحْظُورٌ ، وَالشَّرْطَ فِيهِمَا مَمْنُوعٌ ، فَصَارَ الْقَوْلَانِ فِي رَدِّ الْمَهْرِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى هَذَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْأَصَحُّ ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : لَا مَهْرَ لَهُ ، وَوَجْهُهُ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَرْجِعْ بِهِ غَيْرُ زَوْجِهَا وَأَهْلُهَا لَمْ يَرْجِعْ بِهِ زَوْجُهَا كَالنَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَمَّا لَمْ تَرْجِعْ زَوْجَةُ مَنْ أَسْلَمَ بِمَا اسْتَحَقَّتْهُ مِنَ الْمَهْرِ وَجَبَ أَنْ لَا يَرْجِعَ زَوْجُ مَنْ أَسْلَمَتْ بِمَا دَفَعَهُ مِنَ الْمَهْرِ ، لِتَكَافُئِهِمَا فِي النِّكَاحِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ : لَهُ الرُّجُوعُ بِالْمَهْرِ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا [ الْمُمْتَحِنَةِ : 10 ] فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ حُكْمُ الْجَمِيعِ . وَالثَّانِي : أَنَّ عَقْدَ الْهُدْنَةِ قَدْ أَوْجَبَ الْأَمَانَ عَلَى الْأَمْوَالِ ، وَيَضَعُ الزَّوْجَةَ فِي حُكْمِ الْمَالِ : لِصِحَّةِ الْمُعَاوَضَةِ عَلَيْهِ نِكَاحًا وَخُلْعًا ، فَاقْتَضَى أَنْ يَجِبَ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ الرُّجُوعُ بِبَدَلِهِ ، وَهُوَ الْمَهْرُ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ التَّفْرِيعُ ، فَيَكُونُ اسْتِحْقَاقُ مَهْرِهَا مُعْتَبَرًا بِتِسْعَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ لَهَا زَوْجُهَا ، فَإِنْ طَلَبَهَا غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِهَا لَمْ يَسْتَحِقَّ مَهْرُهَا : لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَنَافِعَ بُضْعِهَا ، فَإِنِ ادَّعَى زَوْجِيَّتَهَا فَصَدَّقَتْهُ قُبِلَ قَوْلُهَا ، وَإِنْ أَنْكَرَتْهُ لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ مِنْ عُدُولِ الْمُسْلِمِينَ يَشْهَدَانِ بِنِكَاحِهِ ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ ، وَلَا شَاهِدٌ وَيَمِينٌ : لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ عَلَى عَقْدِ نِكَاحٍ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَدْ سَاقَ إِلَيْهَا مَهْرَهَا ، فَإِنْ لَمْ يَسُقْهُ لَمْ يَسْتَحِقُّهُ ، وَقَوْلُهَا فِي قَبْضِهِ مَقْبُولٌ ، فَإِنْ أَنْكَرَتْهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا يَمِينٌ : لِأَنَّ رَدَّهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَى غَيْرِهَا ، وَطُولِبَ الزَّوْجُ بِالْبَيِّنَةِ ، وَيُقْبَلُ مِنْهُ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ ، وَشَاهِدٌ وَيَمِينٌ : لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ عَلَى مَالٍ ، فَإِنْ كَانَ مَا دَفَعَهُ مِنَ الْمَهْرِ حَرَامًا كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الرُّجُوعَ بِمَهْرِهَا : لِأَنَّهُ دَفَعَ مَا لَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ مِثْلٌ ، وَلَا قِيمَةٌ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ قَدْ هَاجَرَتْ بِإِسْلَامِهَا إِلَى بَلَدِ الْإِمَامِ أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ وَفِي هَذَا النَّائِبِ عَنْهُ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : هُوَ النَّائِبُ عَنْهُ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ لِمُبَاشَرَتِهِ لَهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : النَّائِبُ عَنْهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ : لِأَنَّ الْمَهْرَ يُسْتَحَقُّ فِيهِ ، فَإِنْ هَاجَرَتْ إِلَى غَيْرِ بَلَدِهِ لَمْ يُسْتَحَقَّ مَهْرُهَا لِعَدَمِ مَنْ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ . وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ : أَنْ يَسْتَقِرَّ إِسْلَامُهَا بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ رد المرأة في الهدنة ، فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ مَجْنُونَةً ، وُقِفَ أَمْرُهَا عَلَى الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ ، وَمُنِعَ مِنْهَا : لِئَلَّا تُفْتَنَ عَنْ دِينِهَا إِذَا بَلَغَتْ أَوْ أَفَاقَتْ ، فَإِنْ صَبَرَ الزَّوْجُ مُنْتَظِرًا يُمْنَعُ مِنَ الْمَهْرِ ، فَإِنْ بَلَغَتِ الصَّغِيرَةُ ، وَأَفَاقَتْ عَلَى الْإِسْلَامِ دُفِعَ إِلَيْهَا مَهْرُهَا ، وَإِنْ وَصَفَتِ الْكُفْرَ لَمْ يُدْفَعْ إِلَيْهَا مَهْرُهَا ، وَيُمَكَّنْ مِنْهَا . وَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الصَّبْرِ وَالِانْتِظَارِ ، وَقَالَ : إِمَّا التَّمْكِينُ مِنْهَا أَوْ دَفْعُ مَهْرِهَا ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُجْبَرُ عَلَى الصَّبْرِ انْتِظَارًا لَهَا ، وَلَا يُمَكَّنُ مِنْهَا : لِجَوَازِ إِسْلَامِهَا ، وَلَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَهْرُهَا : لِجَوَازِ كُفْرِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَهْرُهَا : لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لَا يُعَجَّلُ لَهُ أَيْسَرُهُمَا ، وَرُوعِيَ حَالُهَا إِذَا بَلَغَتْ ، فَإِنْ أَقَامَتْ عَلَى الْإِسْلَامِ اسْتَقَرَّ مِلْكُهُ عَلَى الْمَهْرِ وَمَنَعَهُ مِنْهَا ، وَإِنْ وَصَفَتِ الْكُفْرَ اسْتَرْجَعَ مِنْهُ مَهْرَهَا ، وَمُكِّنَ مِنْهَا . فَأَمَّا الْمَجْنُونَةُ ، فَإِنْ كَانَتْ قَدْ وَصَفَتِ الْإِسْلَامَ قَبْلَ جُنُونِهَا دُفِعَ إِلَيْهِ مَهْرُهَا ، وَإِنْ وَصَفَتْهُ فِي جُنُونِهَا كَانَتْ كَالصَّغِيرَةِ فِي انْتِظَارِ إِفَاقَتِهَا . وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ : أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةَ الْحَيَاةِ لَمْ تَمُتْ : لِيَصِيرَ الزَّوْجُ مَمْنُوعًا مِنْهَا ، فَإِنْ مَاتَتْ نُظِرَ فِي مَوْتِهَا ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ طَلَبِ الزَّوْجِ لَهَا اسْتَحَقَّ مَهْرَهَا : لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْجَبَهُ بِالطَّلَبِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ ، وَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَ طَلَبِهِ ، فَلَا مَهْرَ لَهُ : لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ مَنْعٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمَهْرَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ : الزَّوْجُ دُونَهَا ، وَكَانَ قَبْلَ طَلَبِهِ ، فَلَا مَهْرَ لِوَارِثِهِ ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ طَلَبِهِ اسْتَحَقَّ وَارِثُهُ الْمَهْرَ لِوُجُوبِهِ بِالْمَنْعِ قَبْلَ الْمَوْتِ . وَالشَّرْطُ السَّادِسُ : أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً فِي عِدَّتِهَا ، فَإِنْ طَلَبَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، فَلَا مَنْزِلَةَ لِوُقُوعِ الْفِرْقَةِ بِانْقِضَائِهَا إِلَّا أَنْ يَطْلُبَهَا فِي الْعِدَّةِ ، وَلَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ بِتَأْخِيرِهِ إِلَى انْقِضَائِهَا كَمَا لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ . وَالشَّرْطُ السَّابِعُ : أَنْ تَكُونَ مُقِيمَةً عَلَى إِسْلَامِهَا ، فَإِنِ ارْتَدَّتْ عَنْهُ مُنِعَ مِنْهَا ، وَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِمَهْرِهَا لِهَذَا الْمَنْعِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَسْتَحِقُّهُ لِمَنْعِهِ مِنْهَا بِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ كَالْمُسْلِمَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تَسْتَحِقُّهُ : لِأَنَّهُ مَنْعٌ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَلَيْسَ يُمْنَعُ لِثُبُوتِ الْإِسْلَامِ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ فَرْجَ الْمَرْأَةِ الْمُرْتَدَّةِ مَحْظُورٌ عَلَى الْكَافِرِ كَالْمُسْلِمَةِ .

وَالشَّرْطُ الثَّامِنُ : أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مُقِيمًا عَلَى كُفْرِهِ : لِيَكُونَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهَا ، فَإِنْ أَسْلَمَ ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ إِسْلَامُهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ، فَيَكُونَانِ عَلَى النِّكَاحِ ، وَلَا مَهْرَ لَهُ لِتَمْكِينِهِ مِنْهَا ، فَلَوْ كَانَ قَدْ أَخَذَ الْمَهْرَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ اسْتَرْجَعَ مِنْهُ : لِئَلَّا يَكُونَ مَالِكًا لِبُضْعِهَا بِغَيْرِ مَهْرٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ إِسْلَامُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ، فَقَدْ بَطَلَ النِّكَاحُ ، بِانْقِضَائِهَا ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْمَهْرِ : فَإِنْ كَانَ قَدْ أُخِذَ بِالطَّلَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ لَمْ يُسْتَرْجَعْ مِنْهُ ، وَصَارَ بِالْقَبْضِ مُسْتَهْلَكًا فِي الشِّرْكِ ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذِ الْمَهْرَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ نُظِرَ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ طَلَبَهَا حَتَّى أَسْلَمَ ، فَلَا مَهْرَ لَهُ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ أَنْ يَسْتَأْنِفَ نِكَاحَهَا ، وَإِنْ قَدَّمَ الطَّلَبَ ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهَا حَتَّى أَسْلَمَ ، فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِمَهْرِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَسْتَحِقُّهُ لِوُجُوبِهِ بِالطَّلَبِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَسْتَحِقُّهُ : لِأَنَّهُ مُمَكَّنٌ مِنْ نِكَاحِهَا إِنْ أَحَبَّ . وَالشَّرْطُ التَّاسِعُ : أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مُقِيمًا عَلَى نِكَاحِهَا ، فَإِنْ طَلَّقَهَا ، فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ طَلَاقُهُ بِعَدَمِ الْمُطَالَبَةِ لَهَا ، فَلَهُ الْمَهْرُ : لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَحَقَّهُ بِالْمَنْعِ ، وَلَا يَسْقُطُ بِالطَّلَاقِ كَمَا لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ طَلَاقُهُ قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ بِهَا ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ بَائِنًا بِثَلَاثٍ أَوْ خُلْعٍ ، فَلَا مَهْرَ لَهُ : لِأَنَّهُ رَاضٍ بِتَرْكِهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ طَلَاقُهُ رَجْعِيًّا ، فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى رَجْعَتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْ ، فَلَا مَهْرَ لَهُ : لِتَرْكِهَا عَنْ رِضًى ، وَإِنْ رَاجَعَهَا ، فَلَهُ الْمَهْرُ لِارْتِفَاعِ الطَّلَاقِ بِالرَّجْعَةِ ، فَصَارَ بَاقِيًا عَلَى التَّمَسُّكِ بِهَا . فَإِذَا اسْتَقَرَّ مَهْرُهَا بِاسْتِكْمَالِ هَذِهِ الشُّرُوطِ التِّسْعَةِ ، وَكَانَتِ الْمُطَالَبَةُ بِزَوْجَةٍ أَوْ زَوْجَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ ، حُكِمَ لَهُ بِمُهُورِهِنَّ كُلِّهِنَّ ، وَلَوْ طَالَبَ بِعَشْرِ زَوْجَاتٍ أَسْلَمْنَ عَنْهُ وَقَدْ نَكَحَهُنَّ فِي الشِّرْكِ قِيلَ لَهُ : اخْتَرْ مِنْ جُمْلَتِهِنَّ أَرْبَعًا ، وَلَكَ مُهُورُهُنَّ ، وَلَا مَهْرَ لَكَ فِيمَا عَدَاهُنَّ ، لِاسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ عَلَى تَحْرِيمِ مَنْ زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ ، وَإِذَا كَانَ الْمَهْرُ مُسْتَحَقًّا ، فَقَدْ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ : الْمُسْتَحَقُّ فِيهِ هُوَ الْقَدْرُ الَّذِي دَفَعَهُ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ دُونَ مَهْرِ الْمِثْلِ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا [ الْمُمْتَحِنَةِ : 10 ] وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ مَا دُفِعَ ، فَإِنْ كَانَ أَقَلُّهَا مَهْرَ مِثْلِهَا رَجَعَ بِهِ ، وَلَمْ يَرْجِعْ بِمَا غَرِمَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ بَدَلُ الْبُضْعِ الْفَائِتِ عَلَيْهِ .

وَإِنْ كَانَ أَقَلُّهَا مَا غَرِمَهُ رَجَعَ بِهِ ، وَلَمْ يَرْجِعْ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَغْرَمْهَا ، وَسَوَاءٌ فِي اسْتِحْقَاقِهِ الْمَهْرَ بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِطَ رَدَّهُنَّ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ أَوْ لَا يَشْتَرِطَ ، إِلَّا أَنَّ الْهُدْنَةَ تَبْطُلُ بِاشْتِرَاطِ رَدِّهِنَّ وَلَا تَبْطُلُ إِنْ لَمْ يَتَشَرَّطْ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الرِّجَالِ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : فِي اسْتِحْقَاقِ رَدِّ الْأَقْوِيَاءِ عقد الهدنة ، فَصِفَةُ الرَّدِّ أَنْ يَكُونَ إِذْنًا مِنْهُ بِالْعَوْدِ ، وَتَمْكِينًا لَهُمْ مِنَ الرَّدِّ ، وَلَا يَتَوَلَّاهُ الْإِمَامُ جَبْرًا إِنْ تَمَانَعَ الْمَرْدُودُ ، وَكَذَلِكَ أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي جَنْدَلٍ وَأَبِي بَصِيرٍ فِي الْعَوْدِ ، فَإِنْ أَقَامَ الْمَطْلُوبَ عَلَى تَمَانُعِهِ مِنَ الْعَوْدِ قِيلَ لِلطَّالِبِ : أَنْتَ مُمَكَّنٌ مِنِ اسْتِرْجَاعِهِ ، فَإِذَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ لَمْ تُمْنَعْ مِنْهُ ، وَإِنْ عَجَزْتَ عَنْهُ لَمْ تُعَنْ عَلَيْهِ ، وَرُوعِيَ حُكْمُ الْوَقْتِ فِيمَا يَقْتَضِيهِ حَالُ الْمَطْلُوبِ ، فَإِنْ ظَهَرَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي حَثِّهِ عَلَى الْعَوْدِ لِتَأَلُّفِ قَوْمِهِ أَشَارَ بِهِ الْإِمَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ وَعْدِهِ بِنَصْرِ اللَّهِ ، وَجَزِيلِ ثَوَابِهِ ، لِيَزْدَادَ ثَبَاتًا عَلَى دِينِهِ ، وَقُوَّةً فِي اسْتِنْصَارِهِ ، وَإِنْ ظَهَرَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي تَثْبِيطِهِ عَنِ الْعَوْدِ أَشَارَ بِهِ سِرًّا وَأَمْسَكَ عَنْ خِطَابِهِ جَهْرًا ، فَإِنْ ظَهَرَ مِنَ الطَّالِبِ عُنْفٌ بِالْمَطْلُوبِ وَاعَدَهُ الْإِمَامُ فَإِنْ كَانَ لِفَرْطِ إِسْفَاقٍ تَرَكَهُ ، وَإِنْ كَانَ لِشِدَّةِ مَنْعِهِ ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الْمَطْلُوبِ مَالٌ أَخَذَهُ مِنَ الطَّالِبِ الَّذِي نَظَرَ فِيهِ : فَإِنْ كَانَ أَخَذَهُ قَبْلَ الْهُدْنَةِ كَانَ الْمَطْلُوبُ أَحَقَّ بِهِ . وَإِنْ أَخَذَهُ بَعْدَ الْهُدْنَةِ كَانَ الطَّلَبُ أَحَقَّ بِهِ : لِأَنَّ أَمْوَالَهُ قَبْلَ الْهُدْنَةِ مُبَاحَةٌ ، وَبَعْدَهَا مَحْظُورَةٌ . فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ مِنَّا مُقِيمًا عَلَى شِرْكِهِ بَعْدُ لَمْ يُسْلِمْ مُكِّنَ طَالِبُهُ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ قَوِيًّا أَوْ ضَعِيفًا رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً خِيفَ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ أَوْ لَمْ يُخَفْ : لِأَنَّ الْهُدْنَةَ قَدْ أَوْجَبَتْ أَمَانَهُ مِنَّا ، وَلَمْ تُوجِبْ أَنْ نُؤَمِّنَهُ مِنْهُمْ ، وَاسْتَحَقَّ بِمُطْلَقِ الْهُدْنَةِ تَمْكِينَهُمْ مِنْهُمْ ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ بِهَا أَنْ نَقُومَ بِرَدِّهِ عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطُوا ذَلِكَ عَلَيْنَا ، فَيَلْزَمُنَا بِالشَّرْطِ أَنْ نَرُدَّهُ بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَدَّ ، وَلَا يَلْزَمُنَا أَنْ نُعَاوِضَهُمْ عَنْهُ . فَإِنْ شَرَطَهَا فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ ، أَنْ نُعَاوِضَهُمْ عَمَّنْ لَحِقَ بِنَا مِنْ كُفَّارِهِمْ عقد الهدنة كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا : لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَبْذُلَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ لِلْمُشْرِكِينَ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : وَالضُّعَفَاءُ ردهم في الهدنة فَلَا يَلْزَمُ الْإِمَامَ مُعَاوَضَةُ الطَّالِبِ فِي دَفْعِهِ عَنِ الْمَطْلُوبِ بِخِلَافِ النِّسَاءِ فِي حُقُوقِ الْأَزْوَاجِ : لِأَنَّ رَقَبَةَ الْحُرِّ لَيْسَتْ بِمَالٍ يَصِحُّ فِيهِ الْمُعَاوَضَةُ بِخِلَافِ بُضْعِ الْحُرَّةِ . فَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ عَبْدًا غَلَبَ عَلَى سَيِّدِهِ ، وَهَاجَرَ مُسْلِمًا رده في الهدنة ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَغْلِبَ عَلَى نَفْسِهِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ ، فَيَعْتِقَ بِهِجْرَتِهِ بَعْدَ إِسْلَامِهِ سَوَاءٌ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ الْهُدْنَةِ أَوْ بَعْدَهَا : لِأَنَّ الْهُدْنَةَ تُوجِبُ أَمَانَهُمْ مِنَّا ، وَلَا تُوجِبُ أَمَانَ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ .

وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَغْلِبَ عَلَى نَفْسِهِ بَعْدَ إِسْلَامِهِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ الْهُدْنَةِ ، فَيْعَتِقَ بِهِجْرَتِهِ مُسْلِمًا : لِأَنَّهُ غَلَبَ عَلَى نَفْسِهِ فِي حَالِ الْإِبَاحَةِ . فَإِذَا أُعْتِقَ فِي هَذِهِ الْحَالِ ، فَهَلْ يَلْزَمُ الْإِمَامَ غُرْمُ قِيمَتِهِ لِسَيِّدِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ، كَالزَّوْجَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ الْهُدْنَةِ ، فَلَا يُعْتَقُ لِحَظْرِهِ أَمْوَالَهُمْ بَعْدَهَا ، فَلَمْ يَمْلِكْهَا مُسْلِمٌ بِالْغَلَبَةِ ، وَيَكُونُ عَلَى رِقِّهِ لِسَيِّدِهِ ، وَيُمْنَعُ مِنْ دَفْعِهِ إِلَيْهِ ، اسْتِيفَاءَ رِقِّهِ عَلَيْهِ : لِئَلَّا يُسْتَذَلَّ بِالِاسْتِرْقَاقِ ، وَيُقَالُ لِسَيِّدِهِ : إِنْ أَعْتَقْتَهُ كَانَ لَكَ وَلَاؤُهُ ، وَلَا قِيمَةَ لَكَ عَنْهُ بَعْدَ عِتْقِهِ ، وَإِنِ امْتَنَعْتَ مِنْ عِتْقِهِ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْكَ جَبْرًا : لِمَا أَوْجَبَتْهُ الْهُدْنَةُ مِنْ حِفْظِ مَالِكَ ، وَكَانَ الْإِمَامُ فِيهِ مُجْتَهِدًا فِي خِيَارَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَبِيعَهُ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ يَدْفَعَ قِيمَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، وَيَعْتِقَهُ عَنْ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَهُمْ وَلَاؤُهُ . فَلَوْ كَانَ الْمَطْلُوبُ أَمَةً ذَاتَ زَوْجٍ غَلَبَتْ عَلَى نَفْسِهَا وَهَاجَرَتْ مُسْلِمَةً ، فَحَضَرَ سَيِّدُهَا وَزَوْجُهَـا فِي طَلَبِهَا ، كَانَ حُكْمُهَا مَعَ السَّيِّدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ الْعَبْدِ فِي الْعِتْقِ وَالرَّدِّ ، وَغُرْمُ الْقِيمَةِ عَلَى التَّقْسِيمِ الْمُقَدَّمِ . وَأَمَّا حُكْمُهَا مَعَ الزَّوْجِ ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا ، فَإِنْ كَانَ حُرًّا كَانَ فِي اسْتِحْقَاقِهِ لِمَهْرِهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ قَوْلَانِ كَالْحُرَّةِ ، وَلَا يَكُونُ غُرْمُ قِيمَتِهَا لَوْ أَخَذَهَا السَّيِّدُ مَانِعًا مِنْ غُرْمِ مَهْرِهَا لِلزَّوْجِ . وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا ، فَفِي اسْتِحْقَاقِ الْمَهْرِ قَوْلَانِ أَيْضًا ، لَكِنَّهُ مِلْكٌ لِسَيِّدِهِ دُونَهُ ، فَلَا يُسَلَّمُ إِذَا اسْتَحَقَّ إِلَّا بِاجْتِمَاعِ الزَّوْجِ مَعَ سَيِّدِهِ : لِأَنَّ مِلْكَ الْبُضْعِ لِلْعَبْدِ . وَمِلْكَ الْمَهْرِ لِلسَّيِّدِ ، فَإِنْ تَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِطَلَبِهِ مُنِعَ ، وَإِنِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ دُفِعَ بِاجْتِمَاعِهِمَا إِلَى السَّيِّدِ دُونَ الْعَبْدِ كَمَا لَوْ مَلَكَ الْعَبْدُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ نِصْفَ الصَّدَاقِ ، كَانَ مِلْكًا لِلسَّيِّدِ ، وَلَمْ يَنْفَرْدِ بِقَبْضِهِ ، إِلَّا بِاجْتِمَاعٍ مَعَ عَبْدِهِ . وَلَوْ كَانَتِ الْمَطْلُوبَةُ أُمَّ وَلَدٍ ، فَجَاءَ سَيِّدُهُمَا فِي طَلَبِهَا كَانَتْ فِي الْعِتْقِ ، وَاسْتِحْقَاقِ الْقِيمَةِ كَالْأَمَةِ ، وَلَوْ كَانَتْ مُكَاتَبَةً ، فَإِنْ حُكِمَ بِعِتْقِهَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْأَمَةِ بِطَلَبِ كِتَابَتِهَا ، وَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِقِيمَتِهَا قَوْلَانِ . وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ بِعِتْقِهَا ، كَانَتْ عَلَى كِتَابَتِهَا ، وَلَمْ تُبَعْ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَدَّتْ مَالَ كِتَابَتِهَا عَتَقَتْ بِالْكِتَابَةِ ، وَكَانَ لَهُ وَلَاؤُهَا ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَا أَدَّتْهُ مِنَ الْكِتَابَةِ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ أَكْثَرَ ، وَإِنْ عَجَزَتْ وَرَقَّتْ حُسِبَ مِنْ قِيمَتِهَا بِمَا أَخَذَهُ مِنْ مَالِ كِتَابَتِهَا بَعْدَ إِسْلَامِهَا ، وَلَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيْهِ مَأْخَذُهُ مِنْهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ بَلَغَ قَدْرَ الْقِيمَةِ ، فَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ ، وَعَتَقَتْ ، وَكَانَ وَلَاؤُهَا لِلْمُسْلِمِينَ ، وَهَلْ يُرَدُّ عَلَيْهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : لَا يُرَدُّ إِذَا قِيلَ : إِنَّ سَيِّدَ الْأَمَةِ لَا يَسْتَحِقُّهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُرَدُّ إِذَا قِيلَ إِنَّ سَيِّدَ الْأَمَةِ يَسْتَحِقُّهُ ، فَإِنْ كَانَ مَا أَدَّتْهُ أَكْثَرَ مِنَ الْقِيمَةِ ، لَمْ يَسْتَرْجِعْ فَاضِلَ الْقِيمَةِ مِنْ سَيِّدَهَا ، وَإِنْ كَانَ مَا أَدَّتْهُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا اسْتَحَقَّ سَيِّدُهَا تَمَامَ قِيمَتِهَا قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّهُ عِتْقٌ بَعْدَ ثُبُوتِ الرَّدِّ ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا مَنِ ارْتَدَّ بَعْدَ الْهُدْنَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَحِقَ بِهِمْ عقد الهدنة لَمْ يَخْلُ حَالُ الْإِمَامِ فِي عَقْدِ هُدْنَتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ قَدِ اشْتَرَطَ فِيهَا رَدَّ مَنِ ارْتَدَّ إِلَيْهِمْ لِيُؤْخَذُوا بِرَدِّهِ وَتَسْلِيمِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُرْتَدُّ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً ، فَإِنِ امْتَنَعُوا مِنْ رَدِّهِ كَانَ نَقْضًا لِهُدْنَتِهِمْ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ أَنْ لَا يَرُدُّوا مَنِ ارْتَدَّ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُسِلْمِينَ ، فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرَطَ ذَلِكَ لِقُرَيْشٍ فِي هُدْنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ . فَأَمَّا الْآنَ فَفِي جَوَازِ اشْتِرَاطِهِ الْهُدْنَةَ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هُدْنَةِ الْحُدْيَبِيَةِ : وَلِأَنَّ الرِّدَّةَ قَدْ أَبَاحَتْ دِمَاءَهُمْ فَسَقَطَ عَنَّا حِفْظُهُمْ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ شَرْطٌ بَاطِلٌ : لِأَنَّ هُدْنَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحُدَيْبِيَةِ لَمَّا بَطَلَتْ فِي رَدِّ مَنْ أَسْلَمَ بَطَلَتْ فِي تَرْكِ مَنِ ارْتَدَّ : لِأَنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ عَلَيْهَا جَارِيَةٌ . وَالصَّحِيحُ عِنْدِي مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهَا تَبْطُلُ فِي تَرْكِ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ النِّسَاءِ وَلَا تَبْطُلُ فِي تَرْكِ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ الرِّجَالِ ، كَمَا بَطَلَتْ فِي رَدِّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ النِّسَاءِ ، وَلَمْ تَبْطُلْ فِي رَدِّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ : لِأَنَّ النِّسَاءَ ذَوَاتِ فُرُوجٍ يَحْرُمُ عَلَى الْكَافِرِ مِنَ الْمُرْتَدَّةِ مِثْلُ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُسْلِمَةِ ، وَلَعَلَّ اخْتِلَافَ الْقَوْلَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ . فَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الرَّدِّ كَانَ عَلَيْهِمْ لِتَمْكِينٍ مِنْهُمْ ، وَأَنْ لَا يَذُبُّوا عَنْهُمْ ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ تَسْلِيمُهُمْ : لِأَنَّهُمْ مَا الْتَزَمُوهُ فَإِنْ ذَبُّوا عَنْهُمْ ، وَلَمْ يُمَكَّنُوا مِنْهُمْ انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ . وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الرَّدَّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ جَازَ لَهُمْ أَنْ يَذُبُّوا عَنْهُمْ ، وَلَا يُمَكَّنُوا مِنْهُمْ ، وَكَانُوا فِيهِ عَلَى عَهْدِهِمْ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ عَهْدُ الْهُدْنَةِ مُطْلَقًا لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ رَدُّ مَنِ ارْتَدَّ إِلَيْهِمْ ، وَلَا إِقْرَارُهُ مَعَهُمْ ، فَإِطْلَاقُهُ يُوجِبُ رَدَّ مَنِ ارْتَدَّ مِنَّا ، وَلَا يُوجِبُ رَدَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ : لِأَنَّ إِطْلَاقَهُ مُوجِبٌ لِإِمْضَاءِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ فِيهِ : لِأَنَّ حُكْمَهُ أَعْلَى ، فَكَانَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ بِمَعْنًى ، فَيَلْزَمُهُمُ التَّمَكُّنُ مِنْهُمْ ، وَلَا يَلْزَمُهُمْ تَسْلِيمُهُمْ ، فَإِنْ ذَبُّوا عَنْهُمْ ، وَلَمْ يُمَكَّنُوا انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ ، فَصَارَتْ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّ إِلَيْهِمْ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ ثَلَاثَةً تَنْقَسِمُ عَلَى أَحْكَامٍ ثَلَاثَةٍ :

أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ تَسْلِيمُ الْمُرْتَدِّينَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمُ التَّمْكِينُ مِنَ الْمُرْتَدِّينَ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ تَسْلِيمُهُمْ . وَالثَّالِثُ : لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ تَسْلِيمُهُمْ ، وَلَا التَّمْكِينُ مِنْهُمْ ، فَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ تَسْلِيمُهُمْ ، وَلَا التَّمْكِينُ مِنْهُمْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَغْرَمُوا مُهُورَ مَنِ ارْتَدَّ مِنْ نِسَائِنَا وَقِيمَةَ مَنِ ارْتَدَّ مِنْ عَبِيدِنَا وَإِمَائِنَا ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ عَمَّنِ ارْتَدَّ مِنَ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ غُرْمٌ كَمَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ عَمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَحْرَارِهِمْ غُرْمٌ : لِأَنَّ رَقَبَةَ الْحُرِّ لَا تُضْمَنُ بِغَيْرِ جِنَايَةٍ ، فَلَوْ عَادَ الْمُرْتَدُّونَ إِلَيْنَا لَمْ نَرُدَّ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مَا أَخَذْنَاهُ مِنْ مُهُورِ النِّسَاءِ ، وَرَدَدْنَا مَا أَخَذْنَاهُ مِنْ قِيمَةِ الْعَبِيدِ : لِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا لَهُمْ بِدَفْعِ الْقِيمَةِ مِلْكًا ، فَلَمْ يَصِرْ لِنِسَائِهِمْ بِدَفْعِ الْمُهُورِ أَزْوَاجًا . وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِمُ التَّمْكِينُ مِنْهُمْ ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ تَسْلِيمُهُمْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ غُرْمُ مَهْرٍ ، وَلَا قِيمَةُ مَمْلُوكٍ : لِأَنَّنَا إِنْ وَصَلْنَا إِلَيْهِمْ بِالتَّمْكِينِ ، فَقَدْ وَصَلْنَا إِلَى حَقِّنَا ، وَإِنْ لَمْ نَصِلْ إِلَيْهِمْ مَعَ التَّمْكِينِ فَلِعَجْزِنَا . وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ تَسْلِيمُهُمْ أُخِذُوا بِهِ جَبْرًا إِذَا كَانَ تَسْلِيمُهُمْ مُمْكِنًا ، وَلَا غُرْمَ إِذَا سَلَّمُوهُمْ . فَإِنْ فَاتَ تَسْلِيمُهُمْ بِالْمَوْتِ أُغْرِمُوا مُهُورَ النِّسَاءِ ، وَقِيمَةَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ ، وَإِنْ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُمْ بِالْهَرَبِ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَى رَدِّهِمْ لَمْ يَغْرَمُوا مَهْرًا ، وَلَا قِيمَةً ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى رَدِّهِمْ غَرِمُوا مُهُورَ النِّسَاءِ وَقِيَمَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَوَجَبَ لَنَا عَلَيْهِمْ مُهُورُ مَنِ ارْتَدَّ مِنْ نِسَائِنَا ، وَقِيَمُ مَنِ ارْتَدَّ مِنْ عَبِيدِنَا وَإِمَائِنَا ، وَوَجَبَ لَهُمْ عَلَيْنَا مُهُورُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ نِسَائِهِمْ وَقِيَمُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ عَبِيدِهِمْ وَإِمَائِهِمْ جَعَلْنَاهُ قِصَاصًا قَوْلًا وَاحِدًا : لِمَا فِي الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ مِنَ الْخَطَرِ الشَّاقِّ ، فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الْقَدْرِ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّتَانِ ، وَإِنْ فَضَلَ لَنَا رَجَعَتْ بِالْفَضْلِ عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ فَضَلَ لَهُمْ دَفَعْنَا الْفَضْلَ إِلَيْهِمْ ، وَدَفَعَ الْإِمَامُ مَا قَاصَصَهُمْ بِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إِلَى مُسْتَحِقِّيهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَكَتَبَ إِلَيْهِمْ أَنْ يَدْفَعُوا مَا قُصِّصُوا بِهِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْقِدَ هَذَا الْعَقْدَ إِلَّا الْخَلِيفَةُ أَوْ رَجُلٌ بِأَمْرِهِ عقد الهدنة : لِأَنَّهُ يَلِي الْأَمْوَالَ كُلَّهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَوَلَّى عَقْدَ الْهُدْنَةِ الْعَامَّةِ إِلَّا مَنْ إِلَيْهِ النَّظَرُ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ ، وَهُوَ الْخَلِيفَةُ ، أَوْ مَنِ اسْتَنَابَهُ بِهِ فِيهَا الْخَلِيفَةُ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَاهَدَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَبَنِي النَّضِيرِ بِنَفْسِهِ ، وَهَادَنَ قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ بِنَفْسِهِ : وَلِأَنَّ الْخَلِيفَةَ ، لِإِشْرَافِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمُورِ أَعْرَفُ بِمَصَالِحِهَا مِنْ أَشْذَاذِ النَّاسِ : وَلِأَنَّ أَمْرَهُ بِالْوِلَايَةِ أَنْفَذُ ، وَهُوَ عَلَى التَّدْبِيرِ وَالْحِرَاسَةِ أَقْدَرُ .

فَإِنِ اسْتَنَابَ فِيهَا مَنْ أَمَرَهُ بِعَقْدِهَا صَحَّ : لِأَنَّهَا صَدَرَتْ عَنْ رَأْيِهِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُبَاشِرَهَا بِنَفْسِهِ : لِأَنَّهُ عَامُّ النَّظَرِ ، فَلَمْ يَفْرُغْ لِمُبَاشَرَةِ كُلِّ عَمَلٍ ، فَإِنِ اسْتَنَابَ فِيهَا مَنْ فَوَّضَ عَقْدَهَا إِلَى رَأْيِهِ جَازَ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ ، وَكَانَ عَقْدُهَا فِي هَذَا مَنْسُوبًا إِلَى الْمُسَتَنَابِ الْمُبَاشِرِ ، وَفِي مَا قَبْلَهُ مَنْسُوبًا إِلَى الْمُسْتَنِيبِ الْآمِرِ ، وَهُمَا فِي اللُّزُومِ عَلَى سَوَاءٍ . وَأَمَّا وُلَاةُ الثُّغُورِ ، فَإِنْ كَانَ تَقْلِيدُهُمْ تَضَمَّنَ الْجِهَادَ وَحْدَهُ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَعْقِدَ الْهُدْنَةَ إِلَّا قَدْرَ فَتْرَةِ الِاسْتِرَاحَةِ ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَنَةً : لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُجَاهِدَ فِي كُلِّ سَنَةٍ ، وَفِيمَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَسَنَةٍ قَوْلَانِ : لِأَنَّهُ قَعَدَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ عَنِ الْجِهَادِ مِنْ غَيْرِ هُدْنَةٍ جَازَ ، فَكَانَ مَعَ الْهُدْنَةِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ . وَإِنْ تَضَمَّنَ تَقْلِيدَ وَالِي الثُّغُورِ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِرَأْيِهِ فِي الْجِهَادِ وَالْمُوَادَعَةِ جَازَ أَنْ يَعْقِدَ الْهُدْنَةَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا : لِدُخُولِهَا فِي وِلَايَتِهِ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَسْتَأْذِنَ فِيهَا الْخَلِيفَةَ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهُ انْعَقَدَتْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ إِنْفَاذُهُ عقد الهدنة " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا اجْتَهَدَ الْإِمَامُ فِي الْهُدْنَةِ حَتَّى عَقَدَهَا ثُمَّ مَاتَ أَوْ خُلِعَ لَزِمَ مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ إِمْضَاؤُهَا إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّتِهَا ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فَسْخُهَا ، وَإِنِ اسْتَغْنَى الْمُسْلِمُونَ عَنْهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ [ التَّوْبَةِ : 4 ] ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ نَصَارَى نَجْرَانَ أَتَوْا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي وِلَايَتِهِ ، وَقَالُوا لَهُ : إِنَّ الْكِتَابَ بِيَدِكَ ، وَإِنَّ الشَّفَاعَةَ إِلَيْكَ ، وَإِنَّ عُمَرَ أَجْلَانَا مِنْ أَرْضِنَا ، فَرُدَّنَا إِلَيْهَا ، فَقَالَ : إِنَّ عُمَرَ كَانَ رَشِيدَ الْأَمْرِ ، وَإِنِّي لَا أُغَيِّرُ أَمْرًا فَعَلَهُ . وَلِأَنَّ مَا نَفَذَ بِالِاجْتِهَادِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفْسَخَ بِالِاجْتِهَادِ كَالْأَحْكَامِ ، فَإِنْ كَانَ عَقْدُ الْهُدْنَةِ فَاسِدًا ، فَإِنْ كَانَ فَسَادُهَا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ لَمْ تُفْسَخْ لِنُفُوذِ الْحُكْمِ بِإِمْضَائِهَا ، وَإِنْ كَانَ فَسَادُهَا مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ فُسِخَتْ . وَلَمْ يَجُزِ الْإِقْدَامُ عَلَى حَرْبِهِمْ إِلَّا بَعْدَ إِعْلَامِهِمْ بِفَسَادِ الْهُدْنَةِ ، وَقَدْ تَظَاهَرَ يَهُودُ خَيْبَرَ بِكِتَابٍ نَسَبُوهُ إِلَى عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ كَتَبَهُ لَهُمْ فِي وَضْعِ الْجِزْيَةِ عَنْهُمْ ، وَلَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مِنَ الرُّوَاةِ عَنْهُ ، فَلَمْ يَجُزْ قَبُولُ قَوْلِهِمْ فِيهِ ، وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا لَجَازَ أَنْ يَكُونَ لِسَبَبٍ اقْتَضَاهُ الْوَقْتُ ، ثُمَّ سَقَطَ : لِأَنَّهُ لَا يَسْتَجِيزُ أَنْ يُعَامِلَهُمْ بِمَا يَعْدِلُ فِيهِ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَوْلِهُ : حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [ التَّوْبَةِ : 29 ] وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْمَلْ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ ، وَأَوْجَبُوهَا عَلَيْهِمْ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْيَهُودِ . وَتَفَرَّدَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِإِسْقَاطِهَا عَنْهُمْ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَلَهُمْ عَلَى

نَخِيلِ خَيْبَرَ حِينَ فَتَحَهَا ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ لَا تَقْتَضِي سُقُوطَ الْجِزْيَةِ . وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ إِذَا هَادَنَ قَوْمًا أَنْ يَكْتُبَ عَقْدَ الْهُدْنَةِ فِي كِتَابٍ يَشْهَدُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ ، لِيَشْمَلَ بِهِ الْأَئِمَّةَ بَعْدَهُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ فِيهِ : لَكُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ وَذِمَّتِي ، وَكَذَا فِي الْأَمَانِ : لَكُمْ أَمَانُ اللَّهِ وَأَمَانُ رَسُولِهِ وَأَمَانِي ، وَحَرَّمَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ ذَلِكَ ، وَكَرِهَهُ آخَرُونَ : لِأَنَّهُ رُبَّمَا خُفِرَتِ الذِّمَّةُ ، فَأَفْضَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ تُخْفَرَ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ مَعْنَاهُ : أَنَّ لَكُمْ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الْوَفَاءِ بِالذِّمَّةِ وَالْأَمَانِ ، فَلَمْ يَنْسُبْ إِلَيْهِمَا مَا تُخْفَرُ بِهِ ذِمَّتُهُمَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى خَرْجٍ عَلَى أَرَاضِيهِمْ يَكُونُ فِي أَمْوَالِهِمْ مَضْمُونًا كَالْجِزْيَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا أَنْ يُصَالِحَ الْإِمَامُ أَهْلَ بَلَدٍ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ عَلَى خَرَاجٍ يَضَعُهُ عَلَى أَرْضِهِمْ ، يَسْتَوْفِيهِ كُلَّ سَنَةٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ : فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَنْعَقِدَ الصُّلْحُ عَلَى أَنْ تَكُونَ أَرْضُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ ، فَقَدْ صَارَتْ بِهَذَا الصُّلْحِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَصَارُوا بِإِقْرَارِهِمْ فِيهَا أَهْلَ ذِمَّةٍ لَا يُقَرُّونَ إِلَا بِجِزْيَةٍ ، وَلَا يُجْزِئُ الْخَرَاجُ الْمَأْخُوذُ مِنْ أَرْضِهِمْ عَنْ جِزْيَةِ رُءُوسِهِمْ : لِأَنَّهُ أُجْرَةٌ حَتَّى يَجْمَعَ عَلَيْهِمْ بَيْنَ خَرَاجِ الْأَرْضِ وَجِزْيَةِ الرُّءُوسِ ، فَإِنْ أَسْلَمُوا سَقَطَتْ عَنْهُمْ جِزْيَةُ رُءُوسِهِمْ ، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُمْ خَرَاجُ أَرْضِهِمْ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَنْعَقِدَ الصُّلْحُ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ بَاقِيَةً عَلَى أَمْلَاكِهِمْ ، وَالْخَرَاجُ الْمَضْرُوبُ عَلَيْهَا مَأْخُوذًا مِنْهُمْ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَنْعَقِدَ الشَّرْطُ عَلَى أَمَانِهِمْ مِنَّا ، وَلَا يَنْعَقِدَ عَلَى ذَبِّنَا عَنْهُمْ ، فَتَكُونُ أَرْضُهُمْ مَعَ هَذَا الشَّرْطِ مِنْ جُمْلَةِ دَارِ الْحَرْبِ ، وَيَكُونُوا فِيهَا أَهْلَ عَهْدٍ ، وَلَا يَكُونُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ ، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ جِزْيَةُ رُءُوسِهِمْ : لِأَنَّهُمْ مُقِيمُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَيْقَتْصِرُ عَلَى أَخْذِ الْخَرَاجِ مِنْهُمْ قَلَّ أَوْ كَثُرَ ، وَيَكُونُ الْخَرَاجُ كَالصُّلْحِ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْجِزْيَةِ ، وَلَيْسَ بِجِزْيَةٍ . فَإِنْ أَسْلَمُوا أَسْقَطَ الْخَرَاجَ عَنْهُمْ ، وَصَارَتْ أَرْضُهُمْ أَرْضَ عُشْرٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَسْقُطُ عَنْهُمْ خَرَاجُ الْأَرْضِ بِإِسْلَامِهِمْ : لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بِالصُّلْحِ أَرْضَ خَرَاجٍ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى الْعُشْرِ : لِنُفُوذِ الْحُكْمِ بِهِ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّ بِالْكُفْرِ سَقَطَ بِالْإِسْلَامِ كَالْجِزْيَةِ . وَاحْتِجَاجُهُ بِنُفُوذِ الْحُكْمِ فَنُفُوذُهُ مَقْصُورٌ عَلَى مُدَّةِ الْكُفْرِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَنْعَقِدَ الشَّرْطُ عَلَى أَمَانِهِمْ مِنَّا ، وَذَبِّنَا عَنْهُمْ عقد الهدنة ، فَقَدْ صَارَتْ

أَرْضُهُمْ بِهَذَا الشَّرْطِ دَار‌َ الْإِسْلَامِ ، وَصَارُوا فِيهَا أَهْلَ ذِمَّةٍ لَا يُقَرُّونَ إِلَّا بِجِزْيَةٍ ، وَيَكُونُ خَرَاجُ أَرْضِهِمْ مَعَ بَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِمْ جِزْيَةً عَنْ رُءُوسِهِمْ ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُجْمَعَ عَلَيْهِمْ بَيْنَ خَرَاجِ الْأَرْضِ وَجِزْيَةِ الرُّءُوسِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَسْقُطُ جِزْيَةُ رُءُوسِهِمْ بِخَرَاجِ الْأَرْضِ ، وَأَجْمَعُ عَلَيْهِمْ بَيْنَ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ : لِأَنَّ خَرَاجَ الْأَرْضِ عِوَضٌ عَنْ إِقْرَارِهَا عَلَيْهِمْ ، وَالْجِزْيَةَ عَنْ حِرَاسَةِ نُفُوسِهِمْ ، فَلَمْ يَسْقُطْ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ : لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُقِرَّهُمْ بِالْجِزْيَةِ دُونَ الْخَرَاجِ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عِوَضًا عَنْهُمَا جَازَ أَنْ يُقِرَّهُمْ بِالْخَرَاجِ دُونَ الْجِزْيَةِ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عِوَضًا عَنْهَا : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنُوبُ عَنْهُمَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ الِاقْتِصَارُ عَلَى خَرَاجِ الْأَرْضِ كَانَتْ صِحَّتُهُ مُعْتَبَرَةً بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ خَرَاجُ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ لَا يَنْقُصُ عَنْ جِزْيَتِهِ عقد الهدنة ، فَإِنْ نَقَصَ عَنْهَا أُخِذَ بِتَمَامِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ مَنْ لَا أَرْضَ لَهُ مِنْهُمْ لَا يُقَرُّ مَعَهُمْ إِلَّا بِجِزْيَةِ رَأْسِهِ عقد الهدنة ، وَيُؤْخَذُ هَذَا الْخَرَاجُ مِنْ أَرْضِهِمْ زُرِعَتْ أَوْ لَمْ تُزْرَعْ : لِأَنَّهَا جِزْيَةٌ . فَإِنْ شَرَطَ أَخْذَ الْخَرَاجِ مِنْهَا إِذَا زُرِعَتْ وَإِسْقَاطَهُ إِذَا لَمْ تُزْرَعْ كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا : لِأَنَّهُمْ قَدْ يُعَطِّلُونَهَا فَتَسْقُطُ . وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَعَاشٌ غَيْرُ الزَّرْعِ جَازَ : لِأَنَّهُمْ لَا يُعَطِّلُونَهَا إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ ، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ مَعَاشٌ غَيْرُهُ لَمْ يَجُزْ . وَيُؤْخَذُ هَذَا الْخَرَاجُ مِنْ كُلِّ مَالِكٍ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، وَإِنْ كَانَتْ جِزْيَةُ الرُّءُوسِ مَأْخُوذَةً مِنَ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ : لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا جَمِيعُهُمْ ، فَصَارَ الْخَرَاجُ أَعَمَّ نَفْعًا مِنَ الْجِزْيَةِ ، فَلِذَلِكَ صَارَ أَعَمَّ وُجُوبًا . فَإِنْ جَمَعَ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ فِي شَرْطٍ بَيْنَ خَرَاجِ الْأَرْضِ وَجِزْيَةِ الرُّءُوسِ عقد الهدنة جَازَ ، وَصَارَ خَرَاجُ الْأَرْضِ زِيَادَةً عَلَى الْجِزْيَةِ ، فَيُؤْخَذُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، وَتُؤْخَذُ جِزْيَةُ الرُّءُوسِ مِنَ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ ، فَإِنْ أَسْلَمُوا أَسْقَطَ عَنْهُمُ الْخَرَاجَ وَالْجِزْيَةَ ، وَأَسْقَطَ أَبُو حَنِيفَةَ الْجِزْيَةَ دُونَ الْخَرَاجِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَا يَجُوزُ عُشُورُ مَا زَرَعُوا عقد الهدنة لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ قَدْ صَارَتْ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ ، وَهِيَ دَارُ الْإِسْلَامِ ، وَهُمْ

فِيهَا أَهْلُ ذِمَّةٍ يَلْزَمُهُمْ خَرَاجُ الْأَرْضِ وَجِزْيَةُ الرُّءُوسِ ، فَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ مِنْهُمْ عَلَى عُشُورِ مَا زَرَعُوا : لِأَنَّ عَلَيْهِمْ حَقَّيْنِ : الْخَرَاجَ ، وَالْجِزْيَةَ ، فَإِنْ جُعِلَ الْعُشْرُ خَرَاجًا بَقِيَتِ الْجِزْيَةُ ، وَكَانَ الْخَرَاجُ فَاسِدًا : لِأَنَّهُ أُجْرَةٌ لَا تَصِحُّ إِلَّا مَعْلُومَةً ، وَهَذِهِ مَجْهُولَةٌ : لِأَنَّهُمْ قَدْ يَزْرَعُونَ وَلَا يَزْرَعُونَ ، وَيَكُونُ زَرْعُهُمْ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا . وَإِنْ جُعِلَ الْعُشْرُ جِزْيَةً بَقِيَ الْخَرَاجُ ، وَكَانَتِ الْجِزْيَةُ فَاسِدَةً لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْجَهَالَةِ بِهَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ لَهُمْ ، وَهِيَ دَارُ حَرْبٍ ، وَهُمْ فِيهَا أَهْلُ عَهْدٍ عقد الهدنة ، فَيَجُوزُ أَنْ يُصَالَحُوا عَلَى عُشُورِ مَا زَرَعُوا : لِأَنَّهُ لَا خَرَاجَ عَلَى أَرْضِهِمْ لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِمْ . وَلَا جِزْيَةَ عَلَى رُءُوسِهِمْ لِمَقَامِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، فَيَصِيرُ عُشْرُ زَرْعِهِمْ مَالَ صُلْحٍ لَيْسَ بِخَرَاجٍ ، وَلَا جِزْيَةٍ ، فَجَازَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ فِي الْعِلْمِ بِهِ ، وَالْجَهْلِ : لِأَنَّهُ مَالُ تَطَوُّعٍ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ بَاقِيَةً عَلَى مِلْكِهِمْ ، وَهِيَ دَارُ الْإِسْلَامِ عقد الهدنة : لِأَنَّهُمْ فِيهَا أَهْلُ ذِمَّةٍ تَلْزَمُهُمْ جِزْيَةُ رُءُوسِهِمْ ، وَلَا يَلْزَمُهُمْ خَرَاجُ أَرْضِهِمْ ، فَيَكُونُ صُلْحُهُمْ عَلَى عُشُورِ مَا زَرَعُوا وَالْجِزْيَةُ عَنِ الرُّءُوسِ ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وَجْهِ فَسَادِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ هَلْ يَفِي أَقَلُّهُ بِقَدْرِ الْجِزْيَةِ أَوْ لَا يَفِي ، فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ يَفِي بِقَدْرِ الْجِزْيَةِ جَازَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِذَا كَانَ لَهُمْ مَكْسَبٌ غَيْرُ الزَّرْعِ : لِجَوَازِ أَنْ لَا يَزْرَعُوا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ كَسْبٌ غَيْرُ الزَّرْعِ جَازَ : لِأَنَّهُمْ لَا يَدَعُونَهُ إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِذَا لَمْ يَضْمَنُوا تَمَامَ الْجِزْيَةِ عِنْدَ قُصُورِهِ أَوْ فَوَاتِهِ . وَيَجُوزُ إِنْ ضَمِنُوا تَمَامَ مَا قَصَّرَ أَوْ فَاتَ : لِأَنَّ قَدَرَ الْجِزْيَةِ إِذَا تَحَقَّقَ حُصُولُهُ لَمْ تُؤَثِّرِ الْجَهَالَةُ فِيمَا عَدَاهُ مِنَ الطَّوْعِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ تَبْدِيلِ أَهْلِ الذِّمَّةِ دِينَهُمْ

بَابُ تَبْدِيلِ أَهْلِ الذِّمَّةِ دِينَهُمْ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " أَصْلُ مَا أَبْنِي عَلَيْهِ أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ دَانَ دِينَ كِتَابِيٍّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ آبَاؤُهُ دَانُوا بِهِ قَبْلَ نُزُولِ الْفُرْقَانِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى ، وَذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ خَالَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ مِنَ الْكُفَّارِ يَنْقَسِمُونَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ هُمْ أَهْلُ كِتَابٍ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، فَتُقْبَلُ جِزْيَتُهُمْ ، وَتَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ وَذَبَائِحُهُمْ . وَقِسْمٌ لَا كِتَابَ لَهُمْ وَلَا شُبْهَةَ كِتَابٍ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَلَا تُقْبَلُ جِزْيَتُهُمْ وَلَا تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ . وَقِسْمٌ لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ ، فَهَؤُلَاءِ تُقْبَلُ جِزْيَتُهُمْ ، وَلَا تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ ، وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ التَّحْرِيمِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ كَمَالُ الْحُرْمَةِ فِيهِمْ لِأَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهَؤُلَاءِ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : بَنُو إِسْرَائِيلَ ، وَإِسْرَائِيلُ هُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ، فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ مُوسَى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالتَّوْرَاةِ فَآمَنَ بِهِ جَمِيعُهُمْ ، وَدَعَا غَيْرَهُمْ ، فَآمَنَ بَعْضُهُمْ ، وَدَخَلَ بَعْدَهُ فِي دِينِهِ قَوْمٌ ، ثُمَّ بَدَّلُوا دِينَهُمْ حَتَّى عَدَلُوا عَنِ الْحَقِّ فِيهِ ، وَسُمِّيَ مَنْ دَخْلَ فِي دِينِهِ الْيَهُودَ ، فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ بِالْإِنْجِيلِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ ، فَآمَنَ بِهِ بَعْضُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْيَهُودِ ، وَآمَنَ بِهِ طَوَائِفُ مِنْ غَيْرِهِمْ ، ثُمَّ بَدَّلُوا دِينَهُمْ حَتَّى عَدَلُوا عَنِ الْحَقِّ فِيهِ ، وَسُمِّيَ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِ النَّصَارَى ، فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقُرْآنِ ، وَجَعَلَهُ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ - فَدَعَا جَمِيعَ الْخَلْقِ بَعْدَ ابْتِدَائِهِ بِقُرَيْشٍ : لِأَنَّهُمْ قَوْمُهُ ، ثُمَّ بِالْعَرَبِ ، ثُمَّ بِمَنْ عَدَاهُمْ ، فَآمَنَ بِهِ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ كَافَّةِ الْخَلْقِ ، فَصَارَتْ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ نَاسِخَةً لِكُلِّ شَرِيعَةٍ تَقَدَّمَتْهَا ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ بَعْدَ نَسْخِ جَمِيعِ الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِالْإِسْلَامِ أَنَّ

النَّصْرَانِيَّةَ مَنْسُوخَةٌ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي الْيَهُودِيَّةِ بِمَاذَا نُسِخَتْ ، عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْأَشْهَرُ نُسِخَتْ بِالنَّصْرَانِيَّةِ ، حَيْثُ بَعَثَ اللَّهُ عِيسَى بِالْإِنْجِيلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالْإِسْلَامِ حَيْثُ بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقُرْآنِ . فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَهُمْ مُقَرُّونَ عَلَى دِينِهِمْ تُقْبَلُ جِزْيَتُهُمْ ، وَتَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ ، وَتُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ : لِعِلْمِنَا بِدُخُولِهِمْ فِي هَذَيْنِ الدِّينَيْنِ قَبْلَ تَبْدِيلِهِمْ ، فَثَبَتَتْ لَهُمَا حُرْمَةُ الْحَقِّ ، فَلَمَّا خَرَجَ أَبْنَاؤُهُمْ عَنِ الْحَقِّ بِالتَّنْزِيلِ حَفِظَ اللَّهُ فِيهِمْ حُرْمَةَ إِسْلَامِهِمْ ، فَأَقَرَّهُمْ عَلَى دِينِهِمْ مَعَ تَبْدِيلِهِمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْجِدَارِ : وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [ الْكَهْفِ : 82 ] الْآيَةَ ، فَحَفِظَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمَا صَلَاحَ أَبِيهِمَا ، وَقِيلَ : إِنَّهُ كَانَ الْأَبَ السَّابِعَ حَتَّى أَوْصَلَهُمَا إِلَى كَنْزِهِمَا . وَأَمَّا غَيْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الجزية ، فَيَنْقَسِمُونَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونُوا قَدْ دَخَلُوا فِي الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ قَبْلَ تَبْدِيلِهِمْ فَيَكُونُوا كَبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي إِقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ وَاسْتِبَاحَةِ مُنَاكَحَتِهِمْ وَذَبَائِحِهِمْ : لِدُخُولِ سَلَفِهِمْ فِي دِينِ الْحَقِّ . الْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونُوا قَدْ دَخَلُوا فِيهَا بَعْدَ التَّبْدِيلِ مَعَ غَيْرِ الْمُبَدِّلِينَ ، فَهُمْ كَالدَّاخِلِ قَبْلَ التَّبْدِيلِ فِي قَبُولِ جِزْيَتِهِمْ ، وَإِبَاحَةِ مُنَاكَحَتِهِمْ وَذَبَائِحِهِمْ : لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا فِيهِ مَعَ أَهْلِ الْحَقِّ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونُوا قَدْ دَخَلُوا فِيهِ بَعْدَ التَّبْدِيلِ مَعَ الْمُبَدِّلِينَ فَيَكُونُوا عَنْ حُكْمِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ : لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي حَقٍّ : لِأَنَّ التَّبْدِيلَ بَاطِلٌ ، فَلَا تُقْبَلُ جِزْيَتُهُمْ ، وَلَا تُسْتَبَاحُ مُنَاكَحَتُهُمْ ، وَلَا ذَبَائِحُهُمْ ، وَيُقَالُ لَهُمْ مَا يُقَالُ لِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ : إِمَّا الْإِسْلَامُ أَوِ السَّيْفُ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَقَعَ الشَّكُّ فِيهِمْ : دَخَلُوا قَبْلَ التَّبْدِيلِ أَوْ بَعْدَهُ ، وَهَلْ دَخَلُوا مَعَ الْمُبَدَّلِينَ أَوْ مَعَ غَيْرِ الْمُبَدِّلِينَ ، فَهَؤُلَاءِ يَغْلِبُ مِنْهُمْ حُكْمُ التَّحْرِيمِ فِي الْأَحْكَامِ الثَّلَاثَةِ ، فَتُحْقَنُ دِمَاؤُهُمْ بِالْجِزْيَةِ تَغْلِيبًا لِتَحْرِيمِهَا ، وَلَا تُسْتَبَاحُ مُنَاكَحَتُهُمْ ، وَلَا ذَبَائِحُهُمْ تَغْلِيبًا لِتَحْرِيمِهَا كَمَا فَعَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي نَصَارَى الْعَرَبِ ، حِينَ أَشْكَلَ عَلَيْهِ أَمْرُهُمْ هَلْ دَخَلُوا فِي النَّصْرَانِيَّةِ ، قَبْلَ التَّبْدِيلِ أَوْ بَعْدَهُ ، فَأَمَرَهُمْ بِالْجِزْيَةِ حَقْنًا لِدِمَائِهِمْ ، وَحَرَّمَ نِكَاحَ نِسَائِهِمْ وَأَكْلَ ذَبَائِحِهِمْ ، وَجَعَلَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْمَجُوسِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " فَلَا تَقْبَلُ مِمَّنْ بَدَّلَ يَهُودِيَّةً بِنَصْرَانِيَّةٍ ، أَوْ نَصْرَانِيَّةً بِمَجُوسِيَّةٍ ، أَوْ مَجُوسِيَّةً بِنَصْرَانِيَّةٍ ، أَوْ بِغَيْرِ الْإِسْلَامِ الجزية وَإِنَّمَا أَذِنَ اللَّهُ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ عَلَى مَا دَانُوا قَبْلَ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَذَلِكَ خِلَافُ مَا أَحْدَثُوا مِنَ الدِّينِ بَعْدَهُ

فَإِنْ أَقَامَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ وَإِلَّا نُبِذَ إِلَيْهِ عَهْدُهُ ، وَأُخْرِجَ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِمَالِهِ : وَصَارَ حَرْبًا ، وَمَنْ بَدَّلَ دِينَهُ مِنْ كِتَابِيَّةٍ لَمْ يَحِلَّ نِكَاحُهَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : قَدْ قَالَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ ، وَقَالَ فِي كِتَابِ الصَيْدِ : وَالذَّبَائِحِ إِذَا بُدِّلَتْ بِدِينٍ يَحِلُّ نِكَاحُ أَهْلِهِ فَهِيَ حَلَالٌ ، وَهَذَا عِنْدِي أَشْبَهُ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَاسٍ : " وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ " ( قَالَ الْمُزَنِيُّ : ) فَمَنْ دَانَ مِنْهُمْ دِينَ أَهِلِ الْكِتَابِ قَبْلَ نُزُولِ الْفُرْقَانِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ عِنْدِي فِي الْقِيَاسِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا أَنْ يَنْتَقِلَ أَهْلُ الذِّمَّةِ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَنْتَقِلُوا إِلَى دِينٍ يُقَرُّ عَلَيْهِ أَهْلُهُ . وَالثَّانِي : إِلَى دِينٍ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ أَهْلُهُ . فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ ، وَهُوَ أَنْ يَنْتَقِلُوا إِلَى دِينٍ يُقَرُّ عَلَيْهِ أَهْلُهُ كَمَنْ بَدَّلَ يَهُودِيَّةً بِنَصْرَانِيَّةٍ ، أَوْ بِمَجُوسِيَّةٍ الجزية ، أَوْ بَدَّلَ نَصْرَانِيَّةً بِيَهُودِيَّةٍ ، أَوْ مَجُوسِيَّةٍ ، أَوْ بَدَّلَ مَجُوسِيَّةً بِيَهُودِيَّةٍ ، أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ ، فَفِي إِقْرَارِهِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : إِنَّهُ يُقَرُّ عَلَيْهِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيِّ : لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ يَتَوَارَثُونَ بِهَا مَعَ اخْتِلَافِ مُعْتَقَدِهِمْ ، فَصَارُوا فِي انْتِقَالِهِ فِيهِ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ ، كَانْتِقَالِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مَذْهَبٍ إِلَى مَذْهَبٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [ آلِ عِمْرَانَ : 185 ] ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْوَثَنِيُّ إِذَا انْتَقَلَ إِلَى نَصْرَانِيَّةٍ لَمْ يُقَرَّ ، وَالنَّصْرَانِيُّ إِذَا انْتَقَلَ إِلَى وَثَنِيَّةٍ لَمْ يُقَرَّ ، وَجَبَ إِذَا انْتَقَلَ النَّصْرَانِيُّ إِلَى يَهُودِيَّةٍ أَنْ لَا يُقَرَّ : لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ مُنْتَقِلٌ إِلَى دِينٍ لَيْسَ بِحَقٍّ . فَإِذَا تَقَرَّرَ الْقَوْلَانِ ، فَإِنْ قِيلَ بِالْأَوَّلِ أَنَّهُ مُقَرٌّ فِي انْتِقَالِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِيمَا انْتَقَلَ إِلَيْهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مُكَافِئًا لِدِينِهِ كَيَهُودِيٍّ تَنَصَّرَ أَوْ نَصَرَانِيٍّ تَهَوَّدَ ، فَأَصْلُ هَذَيْنِ الدِّينَيْنِ سَوَاءٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ ، وَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُمَا بِانْتِقَالِهِ مِنْ أَحَدِ الدِّينَيْنِ إِلَى الْآخَرِ إِلَّا فِي قَدْرِ الْجِزْيَةِ ، فَتَصِيرُ جِزْيَتُهُ جِزْيَةَ الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَ إِلَيْهِ دُونَ جِزْيَةِ الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَتْ أَقَلَّ أَوْ أَكَثَرَ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الدِّينُ الَّذِي انْتَقَلَ إِلَيْهِ أَخَفَّ حُكْمًا مِنَ الدِّينِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الجزية ، كَنَصْرَانِيٍّ تَمَجَّسَ ، فَيَنْتَقِلُ عَنْ أَحْكَامِهِ فِي الْجِزْيَةِ وَالْمُنَاكَحَةِ وَالذَّبِيحَةِ وَالدِّيَةِ إِلَى أَحْكَامِ الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَ إِلَيْهِ ، فَتُقْبَلُ جِزْيَتُهُ ، وَلَا تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُ ، وَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ ، وَتَكُونُ دِيَتُهُ ثُلُثَيْ عُشْرِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ نِصْفَهَا كَالْمَجُوسِ فِي أَحْكَامِهِ كُلِّهَا ،

فَيَصِيرُ بِذَلِكَ مُنْتَقِلًا مِنْ أَخَفِّ الْأَحْكَامِ إِلَى أَغْلَظِهَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الدِّينُ الَّذِي انْتَقَلَ إِلَيْهِ أَعْلَى حُكْمًا مِنَ الدِّينِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الجزية كَمَجُوسِيٍّ تَنَصَّرَ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَ إِلَيْهِ لِإِقْرَارِهِ عَلَيْهِ فِي إِبَاحَةِ الْمُنَاكَحَةِ وَالذَّبِيحَةِ ، وَقَدْرِ الدِّيَةِ ، فَيَصِيرُ مُنْتَقِلًا مِنْ أَغْلَظِ الْأَحْكَامِ إِلَى أَخَفِّهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الدِّينِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فِي تَحْرِيمِ مُنَاكَحَتِهِ وَذَبِيحَتِهِ وَقَدْرِ دِيَتِهِ تَغْلِيبًا لِأَحْكَامِ التَّغْلِيظِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حُرُمَاتِهَا عَلَيْهِ ، كَالْمَشْكُوكِ فِي دِينِهِ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ . وَإِنْ قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَ إِلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يُؤْخَذَ جَبْرًا بِالِانْتِقَالِ عَنْهُ إِلَى دِينٍ يُؤْمَرُ بِهِ : وَفِي الدِّينِ الَّذِي يُؤْمَرُ بِالِانْتِقَالِ إِلَيْهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : دِينُ الْإِسْلَامِ أَوْ غَيْرُهُ : لِأَنَّهُ انْتَقَلَ إِلَى دِينٍ قَدْ كَانَ مُقِرًّا بِبُطْلَانِهِ ، وَانْتَقَلَ عَنْ دِينٍ هُوَ الْآنَ مُقَرٌّ بِبُطْلَانِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَرَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الدِّينَيْنِ ، لِإِقْرَارِهِ بِبُطْلَانِهِمَا ، فَوَجَبَ أَنْ يُؤْخَذَ بِالرُّجُوعِ إِلَى دِينِ الْحَقِّ ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ إِنِ انْتَقَلَ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ أَوْ إِلَى دِينِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أُقِرَّ عَلَيْهِ ، فَنَزَلَ لِأَنَّنَا كُنَّا قَدْ صَالَحْنَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ عَلَى دِينِهِ ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَنَا بَاطِلًا فَجَازَ أَنْ يُعَادَ إِلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ بَاطِلًا ، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِفَةِ دُعَائِهِ إِلَى دِينِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّنَا نَدْعُوهُ إِلَى الْعَوْدِ إِلَى الْإِسْلَامِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى إِلَى الْعَوْدِ إِلَى الْكُفْرِ ، فَإِنْ عَادَ إِلَى دِينِهِ فِي الْكُفْرِ أُقِرَّ عَلَيْهِ : لِأَنَّ الدُّعَاءَ إِلَى الْكُفْرِ مَعْصِيَةٌ ، وَيَجُوزُ إِذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ لَهُ : نَحْنُ نَدْعُوكَ إِلَى الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ عُدْتَ إِلَى دِينِكَ الَّذِي كُنْتَ عَلَيْهِ أَقْرَرْنَاكَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّنَا نَدْعُوهُ ابْتِدَاءً إِلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَى دِينِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ أَمْرًا بِالْعَوْدِ إِلَى الْكُفْرِ : لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَمْ يَكُنْ أَمْرًا بِالْكُفْرِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَاهُمْ إِلَى الشَّهَادَةِ أَوِ الْجِزْيَةِ ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ أَمْرًا بِالْمُقَامِ عَلَى الْكُفْرِ ، وَلَكِنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ فِيهِمْ ، فَإِذَا تَوَجَّهَ الْقَوْلَانِ فِيمَا يُؤْمَرُ بِالْعَوْدِ إِلَيْهِ ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الدِّينِ الْمَأْمُورِ بِهِ أُقِرَّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ فَفِيمَا يَلْزَمُ مِنْ حُكْمِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا أَنَّهُ يُنْبَذُ إِلَيْهِ عَهْدُهُ ، وَيُبَلَّغُ مَأْمَنَهُ ، ثُمَّ يَكُونُ حَرْبًا لِأَنَّ لَهُ أَمَانًا عَلَى الْكُفْرِ ، فَلَزِمَ الْوَفَاءُ بِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ تَرْكُهُ : لِيَقْضِيَ

أَشْغَالَهُ وَنَقْلَ مَالِهِ ، وَلَا يُتَجَاوَزُ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، فَإِذَا بَلَغَ أَدْنَى مَأْمَنِهِ بِذُرِّيَّتِهِ وَمَالِهِ صَارَ حَرْبًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَصِيرُ فِي حُكْمِ الْمُرْتَدِّ : لِأَنَّ ذِمَّتَهُ لَيْسَتْ بِأَوْكَدَ مِنْ ذِمَّةِ الْإِسْلَامِ ، فَعَلَى هَذَا يُسْتَتَابُ ، فَإِنْ تَابَ ، وَإِلَّا قُتِلَ صَبْرًا بِالسَّيْفِ ، وَفِي الِانْتِظَارِ بِقَتْلِهِ ثَلَاثًا ، قَوْلَانِ : وَيَكُونُ أَمَانُ ذُرِّيَّتِهِ بَاقِيًا ، وَأَمَّا مَالُهُ ، فَيَكُونُ فَيْئًا لِبَيْتِ الْمَالِ ، وَلَا يُورَثُ عَنْهُ : لِأَنَّ مَنْ قُتِلَ بِحُكْمِ الرِّدَّةِ لَمْ يُورَثْ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : فِي انْتِقَالِهِ إِلَى دِينٍ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ أَهْلُهُ الجزية ، كَانْتِقَالِهِ مِنْ يَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ أَوْ مَجُوسِيَّةٍ إِلَى وَثَنِيَّةٍ ، أَوْ زَنْدَقَةٍ ، فَإِنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ ، وَيُؤْخَذُ بِالِانْتِقَالِ عَنْهُ : لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لِمَا انْتَقَلَ إِلَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ إِقْرَارُ أَهْلِهِ عَلَيْهِ ، فَكَانَ إِقْرَارُ غَيْرِ أَهْلِهِ أَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَفِي الَّذِي يُؤْمَرُ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : الْإِسْلَامُ لَا غَيْرَ : لِأَنَّهُ دِينُ الْحَقِّ ، فَكَانَ أَحَقَّ بِالْعَوْدِ إِلَيْهِ . الْقَوْلُ الثَّانِي : الْإِسْلَامُ أَوْ دِينُهُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ صُلْحِهِ عَلَيْهِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : الْإِسْلَامُ ، أَوْ دِينُهُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ ، أَوْ دِينٌ يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ ، فَفِيمَا عَلَا كَالْيَهُودِيَّةِ ، وَالنَّصْرَانِيَّةِ ، أَوِ انْخَفَضَ كَالْمَجُوسِيَّةِ : لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ ، وَفِي صِفَةِ دُعَائِهِ إِلَى ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ . فَإِنْ عَادَ إِلَى الْمَأْمُورِ بِهِ مِنَ الدِّينِ أُقِرَّ عَلَيْهِ ، وَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَ انْتِقَالِهِ وَعَوْدِهِ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُرْتَدَّةِ ، وَلَا جِزْيَةَ عَلَى مُرْتَدٍّ ، وَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى الدِّينِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَفِيمَا يَلْزَمُ مِنْ حُكْمِهِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى : أَحَدُهُمَا : يُنْبَذُ إِلَيْهِ عَهْدُهُ ، وَيُبَلَّغُ مَأْمَنَهُ بِمَالِهِ وَبِمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ ، ثُمَّ يَكُونُ حَرْبًا . فَأَمَّا مَنْ تَمَانَعَ عَلَيْهِ مِنِ ذُرِّيَّتِهِ : فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ بَالِغًا مِنْ نِسَائِهِ وَبَنَاتِهِ ، كَانَ أَمَلَكَ بِنَفْسِهِ ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ صَغِيرًا رُوعِيَ مُسْتَحِقُّ حَضَانَتِهِ ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُسْتَحِقَّ لَهَا ، كَانَ لَهُ إِخْرَاجُهُمْ جَبْرًا ، وَعَاوَنَهُ الْإِمَامُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُقِيمُ أَحَقَّ بِحَضَانَتِهِ مُنِعَ مِنْهُمْ ، وَأُقِرَّ مَعَ الْمُقِيمِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَصِيرُ فِي حُكْمِ الْمُرْتَدِّ يُسْتَتَابُ ، فَإِنْ تَابَ ، وَإِلَّا قُتِلَ ، وَيَكُونُ مَالُهُ فَيْئًا لِبَيْتِ الْمَالِ . فَأَمَّا ذُرِّيَّتُهُ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ بَالِغًا ، فَلَهُ حُكْمُ مُعْتَقَدِهِ بِنَفْسِهِ ، فَإِنْ أَقَامَ عَلَى دِينِهِ أُقِرَّ عَلَيْهِ ، وَإِنِ انْتَقَلَ عَنْهُ مَعَ وَلِيِّهِ صَارَ عَلَى حُكْمِهِ .

فَأَمَّا مِنْ كَانَ مِنْهُمْ صَغِيرًا ، فَهُوَ عَلَى دِينِهِ الْأَوَّلِ لَا يَزُولُ عَنْهُ حُكْمُهُ بِانْتِقَالِ أَبِيهِ كَمَا لَا يَصِيرُ وَلَدُ الْمُرْتَدِّ مُرْتَدًّا ، فَإِنْ كَانَ لِصِغَارِ أَوْلَادِهِ أُمٌّ وَعَصَبَةٌ كَانُوا فِي كَفَالَةِ أُمِّهِمْ ، وَفِي جِزْيَةِ عَصَبَتِهِمْ . وَإِنْ كَانَ لَهُمْ أُمٌّ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَصَبَةٌ كَانُوا فِي كَفَالَةِ أُمِّهِمْ ، وَفِي جِزْيَةِ قَوْمِهَا ، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ عَصَبَةٌ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أُمٌّ كَانُوا فِي كَفَالَةِ عَصَبَتِهِمْ ، وَفِي جِزْيَتِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أُمٌّ وَلَا عَصَبَةٌ كَانُوا فِي كَفَالَةِ أَهْلِ دِينِهِمْ ، وَفِي جِزْيَتِهِمْ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ فَكَانُوا أَلْحَقَ بِكَفَالَتِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ تَمَانَعُوا مِنْ كَفَالَتِهِمْ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ ، وَأُجْبِرَ عَلَيْهَا مَنْ قُرِعَ مِنْهُمْ . فَأَمَّا نَفَقَاتُهُمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ ، وَلَا ذُو قَرَابَةٍ يَلْتَزِمُهَا ، وَلَا وُجِدَ فِي قَوْمِهِمْ مُتَطَوِّعٌ بِهَا ، فَهِيَ مُسْتَحَقَّةٌ مِنْ تَرِكَةِ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَارِثٍ : لِأَنَّهَا ، وَإِنْ كَانَتْ تَصِيرُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ ، فَبَعْدَ فَوَاضِلِ الْحُقُوقِ . وَلَوْ قِيلَ : إِنَّهَا فِي سَهْمِ الْمَصَالِحِ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ كَانَ مَذْهَبًا ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

بَابُ نَقْضِ الْعَهْدِ

إِذَا عَقَدَ الْإِمَامُ الْهُدْنَةَ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ كَانَ عَقْدُهَا مُوجِبًا لأمرين اِلْمُوَادَعَةِ وَأَنْ يَشْتَرِكَ فِيهَا الْفَرِيقَانِ

بَابُ نَقْضِ الْعَهْدِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِذَا نَقَضَ الَّذِينَ عَقَدُوا الصُلْحَ عَلَيْهِمْ ، أَوْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ نقض العهد فَلَمْ يُخَالِفُوا النَّاقِضَ بِقَوْلٍ ، أَوْ فِعْلٍ ظَاهِرٍ ، أَوِ اعْتِزَالِ بِلَادِهِمْ ، أَوْ يُرْسِلُونَ إِلَى الْإِمَامِ أَنَّهُمْ عَلَى صُلْحِهِمْ : فَلِلْإِمَامِ غَزْوُهُمْ ، وَقَتْلُ مُقَاتِلَتِهِمْ ، وَسَبْيُ ذَرَارِيهِمْ ، وَغَنِيمَةُ أَمْوَالِهِمْ ، وَهَكَذَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَنِي قُرَيْظَةَ عَقَدَ عَلَيْهِمْ صَاحِبُهُمْ فَنَقَضَ ، وَلَمْ يُفَارِقُوهُ ، وَلَيْسَ كُلُّهُمْ أَشْرَكَ فِي الْمَعُونَةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ ، وَلَكِنْ كُلُّهُمْ لَزِمَ حِصْنَهُ فَلَمْ يُفَارِقِ النَاقِضَ إِلَّا نَفَرٌ مِنْهُمْ ، وَأَعَانَ عَلَى خُزَاعَةَ وَهُمْ فِي عَقْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةُ أَنْفَارٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَشَهِدُوا قِتَالَهُمْ : فَغَزَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُرَيْشًا عَامَ الْفَتْحِ بِغَدْرِ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ مِنْهُمْ ، وَتَرْكِهِمْ مَعُونَةَ خُزَاعَةَ ، وَإِيوَائِهِمْ مَنْ قَاتَلَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا عَقَدَ الْإِمَامُ الْهُدْنَةَ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ كَانَ عَقْدُهَا مُوجِبًا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِلْمُوَادَعَةِ ، وَهِيَ الْكَفُّ عَنِ الْمُحَارَبَةِ جَهْرًا ، وَعَنِ الْخِيَانَةِ سِرًّا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ ، [ الْأَنْفَالِ : 58 ] . وَالثَّانِي : أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهَا الْفَرِيقَانِ ، فَيَلْتَزِمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَهُمَا ، وَلَا يَخْتَصَّ بِأَحَدِهِمَا : لِيَأْمَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ [ التَّوْبَةِ : 7 ] . فَإِذَا ثَبَتَ بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ : وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهَا ، وَلَمْ يَجُزْ نَقْضُهَا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [ الْمَائِدَةِ : 1 ] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِذِمَّتِهِ ، فَإِنْ نَقَضَ الْمُشْرِكُونَ ارْتَفَعَ حُكْمُ الْعَقْدِ ، وَبَطَلَ أَمَانُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَصَارُوا بِنَقْضِهِ حَرْبًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ [ التَّوْبَةِ : 12 ] .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ فِي نَقْضِ الْعَهْدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ :

إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جَمِيعِهِمْ أَوْ مِنْ بَعْضِهِمْ . فَإِنْ كَانَ مِنْ جَمِيعِهِمْ ، صَارَ جَمِيعُهُمْ حَرْبًا ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَمَانٌ عَلَى نَفْسٍ وَلَا مَالٍ نقض العهد . وَإِنْ نَقَضَهُ ، لَمْ يَخْلُ حَالُ النَّاقِضِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُمُ الرِّضَا بِنَقْضِهِ فِي قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ ، فَيَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ بِالرِّضَا كَمَا انْتَقَضَ بِهِ عَهْدُ الْمُبَاشَرَةِ ، وَيَصِيرُ جَمِيعُهُمْ حَرْبًا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُمُ الْكَرَاهَةُ لِنَقْضِهِ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ ، فَيَكُونُوا عَلَى عَهْدِهِمْ ، وَلَا يَنْتَقِضُ فِيهِمْ بِنَقْضِ غَيْرِهِمْ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ [ الْأَعْرَافِ : 165 ] . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُمْسِكُوا عَنْهُ ، فَلَنْ يَظْهَرَ مِنْهُمْ رِضًا بِهِ ، وَلَا كَرَاهَةٌ لَهُ فِي قَوْلٍ ، وَلَا فِعْلٍ ، فَيَكُونُ إِمْسَاكُهُمْ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [ الْأَنْفَالِ : 25 ] . وَكَذَلِكَ كَانَتْ سُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي عَاقِرِ نَاقَةِ صَالِحٍ : بَاشَرَ عَقْرَهَا أُحَيْمِرٌ وَهُوَ الْقُدَارُ بْنُ سَالِفٍ ، وَأَمْسَكَ قَوْمُهُ عَنْهُ : فَأَخَذَ اللَّهُ جَمِيعَهُمْ بِذَنْبِهِ ، فَقَالَ تَعَالَى : فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ، [ الشَّمْسِ : 14 ، 15 ] . وَفِي قَوْلِهِ : فَسَوَّاهَا ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : فَسَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الْهَلَاكِ . وَالثَّانِي : فَسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضَ . وَالثَّالِثُ : فَسَوَّى بِهِمْ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ . وَفِي قَوْلِهِ : وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : وَلَا يَخَافُ اللَّهُ عُقْبَى مَا صَنَعَ بِهِمْ مِنَ الْهَلَاكِ . وَالثَّانِي : وَلَا يَخَافُ الَّذِي عَقَرَهَا عُقْبَى مَا صَنَعَ مِنْ عَقْرِهَا . وَالثَّالِثُ : وَلَا يَخَافُ صَالِحٌ عُقْبَى عَقْرِهَا : لِأَنَّهُ قَدْ أَنْذَرَهُمْ ، وَنَجَّاهُ اللَّهُ حِينَ أَهْلَكَهُمْ ، وَقَدْ وَادَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَهُودَ بَنِي النَّضِيرِ ، وَهَمَّ بَعْضُهُمْ بِقَتْلِهِ ، فَجَعَلَهُ نَقْضًا مِنْهُمْ ، لِعَهْدِهِ ، فَغَزَاهُمْ ، وَأَجْلَاهُمْ . وَوَادَعَ يَهُودَ بَنِي قُرَيْظَةَ ، فَأَعَانَ بَعْضُهُمْ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْخَنْدَقِ . وَقِيلَ : إِنَّ الَّذِي أَعَانَهُ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ : حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ ، وَأَخُوهُ ، وَآخَرُ فَنَقَضَ بِهِ عَهْدَهُمْ ، وَغَزَاهُمْ ، حَتَّى قَتَلَ رُمَاتَهُمْ ، وَسَبَى ذَرَارِيَهُمْ . وَهَادَنَ قُرَيْشًا فِي الْحُدَيْبِيَةِ ، وَكَانَ بَنُو بَكْرٍ فِي حِلْفِ قُرَيْشٍ ، وَخُزَاعَةُ فِي حِلْفِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَارَبَ بَنُو بَكْرٍ خُزَاعَةَ ، وَأَعَانَ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ ، وَأَمْسَكَ عَنْهُمْ سَائِرُ قُرَيْشٍ ، فَجَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَقْضًا لِعَهْدِ جَمِيعِهِمْ ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ

مُحَارِبًا ، وَأَخْفَى عَنْهُمْ أَثَرَهُ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ ، وَفَتَحَ مَكَّةَ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُمْسِكَ يَجْرِي عَلَيْهِ فِي نَقْضِ الْعَهْدِ حُكْمُ الْمُبَاشِرِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَقْدُ بَعْضِهِمْ لِلْهُدْنَةِ مُوجِبًا لِأَمَانِ جَمِيعِهِمْ ، وَإِنْ أَمْسَكُوا كَانَ نَقْضُ بَعْضِهِمْ مُوجِبًا لِحَرْبِ جَمِيعِهِمْ إِذَا أَمْسَكُوا .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا ، وَجَعَلْنَا ذَلِكَ نَقْضًا لِعَهْدِ جَمِيعِهِمْ ، جَازَ أَنْ يَبْدَأَ الْإِمَامُ بِقِتَالِهِمْ بِإِنْذَارٍ وَغَيْرِ إِنْذَارٍ نقض العهد ، كَمَا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى نَاقِضِ عَهْدِهِ فُجَاءَةً بِغَيْرِ إِنْذَارٍ ، وَجَازَ أَنْ يَهْجُمَ عَلَيْهِمْ غِرَّةً وَبَيَاتًا ، فَيَقْتُلَ رِجَالَهُمْ ، وَيَسْبِيَ ذَرَارِيَهُمْ ، وَيَغْنَمَ أَمْوَالَهُمْ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَنِي قُرَيْظَةَ . وَإِنْ جَعَلْنَاهُ نَقْضًا لِعَهْدِ مَنْ بَاشَرَ ، وَلَمْ نَجْعَلْهُ نَقَضًا لِعَهْدِ مَنْ لَمْ يُبَاشِرْ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ أَنْ يَكُونُوا مُتَمَيِّزِينَ عَنْهُمْ أَوْ مُخْتَلِطِينَ بِهِمْ ، فَإِنْ تَمَيَّزُوا عَنْهُمْ فِي مَوْضِعٍ انْحَازُوا عَنْهُ : أَجْرَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ حُكْمَهُ : فَقُوتِلَ النَّاقِضُونَ لِلْعَهْدِ ، وَقُتِلُوا ، وَكُفَّ عَنْ غَيْرِ النَّاقِضِينَ وَأُمِّنُوا ، وَإِنِ اخْتَلَطُوا بِهِمْ فِي مَوَاضِعِهِمْ غَيْرَ مُتَمَيِّزِينَ عَنْهُمْ ، لَمْ يُجُزْ أَنْ نُقَاتِلَهُمْ إِلَّا بَعْدَ إِنْذَارِهِمْ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشُنَّ عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ ، وَلَا يَهْجُمَ عَلَيْهِمْ غِرَّةً وَبَيَاتًا ، وَيَقُولَ لَهُمْ : يَتَمَيَّزُ مِنْكُمْ نَاقِضُ الْعَهْدِ مِمَّنْ لَمْ يَنْقُضْهُ ، فَإِنْ تَمَيَّزُوا عَمِلَ بِمَا تَقَدَّمَ ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزُوا نَظَرَ : فَإِنْ كَانَ الْمُقِيمُونَ عَلَى الْعَهْدِ أَكْثَرَ أَوْ أَظْهَرَ لَمْ يُنْذَرُوا بِالْقِتَالِ ، وَقِيلَ لَهُمْ : مَيِّزُوا عَنْكُمْ نَاقِضِي الْعَهْدِ مِنْكُمْ ، إِمَّا بِتَسْلِيمِهِمْ إِلَيْنَا ، وَإِمَّا بِإِبْعَادِهِمْ عَنْكُمْ . فَإِذَا فَعَلُوهُ ، فَقَدْ تَمَيَّزُوا بِهِ ، وَخَرَجُوا مِنْ نَقْضِ الْعَهْدِ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا وَاحِدًا مِنْهُمَا ، وَأَقَامُوا عَلَى اخْتِلَاطِهِمْ بِهِمْ بَعْدَ الْمُرَاسَلَةِ بِالتَّمَيُّزِ عَنْهُمْ : صَارُوا مُمَاثِلِينَ لَهُمْ ، فَصَارَ ذَلِكَ حِينَئِذٍ نَقْضًا مِنْهُمْ لِلْعَهْدِ ، فَجَرَى عَلَى جَمِيعِهِمْ حُكْمُ النَّقْضِ : لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَهْدِ أَنْ لَا يُمَايِلُوا عَلَيْنَا عَدُوًّا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا ، [ التَّوْبَةِ : 4 ] . الْآيَةَ وَقَدْ ظَاهَرُوهُمْ بِالْمُمَايَلَةِ ، فَانْتَقَضَ عَهْدُهُمْ ، وَإِنْ كَانَ النَّاقِضُونَ لِلْعَهْدِ أَكْثَرَ وَأَظْهَرَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشُنَّ عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ نقض العهد ، وَلَا يُقْتَلُوا فِي غِرَّةٍ وَبَيَاتٍ وَحُورِبُوا جَهْرًا ، وَلَمْ يَجِبِ الْكَفُّ عَنْ قِتَالِهِمْ : لِأَجْلِ مَنْ بَيْنَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ ، لِأَنَّهُمْ كَالْأُسَرَاءِ فِيهِمْ ، فَإِنْ أُسِرُوا لَمْ يَجُزْ قَتْلُ الْأَسْرَى إِلَّا بَعْدَ الْكَشْفِ عَنْهُمْ : هَلْ هُمْ مِمَّنْ نَقَضَ الْعَهْدَ أَوْ أَقَامَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ لَمْ يُوصَلْ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْهُمْ جَازَ أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ ، وَكَذَلِكَ فِي ذَرَارِيهِمْ إِنْ سُبُوا ، وَأَمْوَالِهِمْ إِنْ غُنِمَتْ ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ ، فَإِنِ ادَّعَوْا مِنَ الذَّرَارِي وَالْأَمْوَالِ مَا أَنْكَرَهُ الْغَانِمُونَ نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ فِي أَيْدِي الْغَانِمِينَ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ فِيهِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا يَحْلِفُ الْغَانِمُونَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُمْ لَا يَتَعَيَّنُونَ فِي اسْتِحْقَاقِهِ ، وَكَانَ مَغْنُومًا مَعَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ .

مَتَى ظَهَرَ مِنْ مُهَادِنِينَ مَا يَدُلُّ عَلَى خِيَانَتِهِمْ نَبَذَ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ وَأَبْلَغَهُمْ مَأْمَنَهُمْ ثُمَّ هُمْ حَرْبٌ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " مَتَى ظَهَرَ مِنْ مُهَادِنِينَ مَا يَدُلُّ عَلَى خِيَانَتِهِمْ نَبَذَ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ وَأَبْلَغَهُمْ مَأْمَنَهُمْ ، ثُمَّ هُمْ حَرْبٌ نقض العهد قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً الْآيَةَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ عَقْدَ الْهُدْنَةِ مُوجِبٌ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ : أَحَدُهَا : الْمُوَادَعَةُ فِي الظَّاهِرِ . وَالثَّانِي : تَرْكُ الْخِيَانَةِ فِي الْبَاطِنِ . وَالثَّالِثُ : الْمُجَامَلَةُ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ . فَأَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ الْمُوَادَعَةُ فِي الظَّاهِرِ فَهِيَ الْكَفُّ عَنِ الْقِتَالِ ، وَتَرْكُ التَّعَرُّضِ لِلنُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ ، فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ مِثْلُ مَا يَجِبُ لَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، فَيَسْتَوِيَانِ فِيهِ ، وَلَا يَتَفَاضَلَانِ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُفُّوا عَنْ أَهْلِ ذِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُفُّوا عَنْ أَهْلِ ذِمَّتِهِمْ إِلَّا أَنْ يُدْخِلُوهَا فِي عَقْدِ مُهَادَنَتِهِمْ ، فَيَخْتَلِفَانِ فِي الذِّمَّتَيْنِ ، وَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الْمُوَادَعَتَيْنِ ، فَإِنْ عَدَلُوا عَنِ الْمُوَادَعَةِ إِلَى ضِدِّهَا ، فَقَاتَلُوا قَوْمًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، أَوْ قَتَلُوا قَوْمًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، أَوْ أَخَذُوا مَالَ قَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ : انْتَقَضَتْ هُدْنَتُهُمْ بِفِعْلِهِمْ ، وَلَمْ يُفْتَقَرْ إِلَى حُكْمِ الْإِمَامِ لِنَقْضِهَا ، وَجَازَ أَنْ يُبْدَأَ بِقِتَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ إِنْذَارٍ ، وَيُشَنَّ عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ ، وَيُهْجَمَ عَلَيْهِمْ غِرَّةً وَبَيَاتًا ، وَجَرَى ذَلِكَ فِي نَقْضِ الْهُدْنَةِ مَجْرَى تَصْرِيحِهِمْ بِالْقَوْلِ أَنَّهُمْ قَدْ نَقَضُوا الْهُدْنَةَ . وَأَمَّا الثَّانِي : وَهُوَ تَرْكُ الْخِيَانَةِ ، فَهُوَ أَنْ لَا يَسْتَسِرُّوا بِفِعْلِ مَا يَنْقُضُ الْهُدْنَةَ لَوْ أَظْهَرُوهُ مِثْلَ أَنْ يُمَايِلُوا فِي السِّرِّ عَدُوًّا ، أَوْ يَقْتُلُوا فِي السِّرِّ مُسْلِمًا ، أَوْ يَأْخُذُوا لَهُ مَالًا ، أَوْ يَزْنُوا بِمُسْلِمَةٍ ، وَهَذَا مِمَّا يَسْتَوِي الْفَرِيقَانِ فِي الْتِزَامِهِ ، فَإِنْ خَانُوا بِذَلِكَ حُكْمَ الْإِمَامِ : تَنْتَقِضْ هُدْنَتُهُمْ ، وَلَمْ تَنْتَقِضْ بِمُجَرَّدِ خِيَانَتِهِمْ ، وَيَكُونُوا عَلَى الْهُدْنَةِ ، مَا لَمْ يَحْكُمِ الْإِمَامُ بِنَقْضِهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [ الْأَنْفَالِ : 58 ] . وَقَدْ نَقَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُدْنَةَ قُرَيْشٍ بِمَا أَسَرُّوهُ مِنْ مَعُونَةِ بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَبْدَأَ بِقِتَالِهِمْ مُجَاهَرَةً ، وَلَا يَشُنَّ عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ وَالْبَيَاتَ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَيَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الِانْتِهَاءِ ، فَصَارَ هَذَا الْقِسْمُ مُخَالِفًا لِلْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْهُدْنَةَ تَنْتَقِضُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ بِالْفِعْلِ ، وَتَنْتَقِضُ فِي هَذَا الْقِسْمِ بِالْحُكْمِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُبْتَدَأَ فِي الْأَوَّلِ بِشَنِّ الْبَيَاتِ وَالْغَارَةِ ، وَيَجِبُ أَنْ يَبْدَأَ فِي هَذَا بِقِتَالِ الْمُجَاهِرَةِ .

وَإِذَا خَافَ خِيَانَةَ أَهْلِ الْهُدْنَةِ جَازَ أَنْ يَنْقُضَ هُدْنَتَهُمْ ، وَلَوْ خَافَ خِيَانَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْقُضَ بِهَا ذِمَّتَهُمْ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّظَرَ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ لَنَا ، وَالنَّظَرَ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ لَهُمْ ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْنَا إِجَابَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِذَا سَأَلُوهَا ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْنَا إِجَابَةُ أَهْلِ الْهُدْنَةِ إِذَا سَأَلُوهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ تَحْتَ الْقُدْرَةِ يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُ خِيَانَتِهِمْ ، وَأَهْلَ الْهُدْنَةِ خَارِجُونَ عَنِ الْقُدْرَةِ لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُ خِيَانَتِهِمْ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ الْمُجَامَلَةُ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ ، فَهِيَ فِي حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ أَغْلَظُ مِنْهَا فِي حُقُوقِهِمْ ، فَيَلْزَمُهُمْ فِي حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُفُّوا عَنِ الْقَبِيحِ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ ، وَيَبْذُلُوا لَهُمُ الْجَمِيلَ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ ، وَلَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكَفُّوا عَنِ الْقَبِيحِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَبْذُلُوا لَهُمُ الْجَمِيلَ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ، [ التَّوْبَةِ : 33 ] . فَإِنْ عَدَلُوا عَنِ الْجَمِيلِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ ، فَكَانُوا يُكْرِمُونَ الْمُسْلَمِينَ ، فَصَارُوا يَسْتَهِينُونَ بِهِمْ ، وَكَانُوا يُضَيِّفُونَ الرُّسُلَ ، وَيَصِلُونَهُمْ ، فَصَارُوا يَقْطَعُونَهُمْ ، وَكَانُوا يُعَظِّمُونَ كِتَابَ الْإِمَامِ ، فَصَارُوا يَطْرَحُونَهُ ، وَكَانُوا يَزِيدُونَهُ فِي الْخِطَابِ ، فَصَارُوا يَنْقُصُونَهُ ، فَهَذِهِ رِيبَةٌ لِوُقُوفِهَا بَيْنَ شَكَّيْنِ : لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدُوا بِهَا نَقْضَ الْهُدْنَةِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدُوا بِهَا نَقْضَهَا ، فَيَسْأَلُهُمُ الْإِمَامُ عَنْهَا ، وَعَنِ السَّبَبِ فِيهَا ، فَإِنْ ذَكَرُوا عُذْرًا يَجُوزُ مِثْلُهُ قَبِلَهُ مِنْهُمْ ، وَكَانُوا عَلَى هُدْنَتِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوا عُذْرًا أَمَرَهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى عَادَتِهِمْ مِنَ الْمُجَامَلَةِ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ ، فَإِنْ عَادُوا أَقَامَ عَلَى هُدْنَتِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَعُودُوا نَقَضَهَا بَعْدَ إِعْلَامِهِمْ بِنَقْضِهَا ، فَصَارَتْ مُخَالِفَةً لِلْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَعْدِلُ عَنْ أَحْكَامِ الْهُدْنَةِ إِلَّا بَعْدَ مَسْأَلَتِهِمْ ، وَلَا يَحْكُمُ بِنَقْضِهَا إِلَّا بَعْدَ إِعْلَامِهِمْ . فَأَمَّا سَبُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ مِمَّا يَنْتَقِضُ بِهِ عَقْدُ الْهُدْنَةِ ، وَعَقْدُ الذِّمَّةِ ، وَكَذَلِكَ سَبُّ الْقُرْآنِ ، فَإِنْ كَانَ جَهْرًا ، فَهُوَ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ كَانَ سِرًّا فَهُوَ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَنْتَقِضُ بِهِمَا عَقْدُ الْهُدْنَةِ ، وَلَا عَقْدُ الذِّمَّةِ : احْتِجَاجًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَهْطًا مِنَ الْيَهُودِ دَخَلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا : " السَّامُ عَلَيْكَ " ، فَقَالَ : " وَعَلَيْكُمْ " ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : " يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا ؟ فَقَالَ : قَدْ قُلْتُ : وَعَلَيْكُمْ ، ثُمَّ قَالَ : مَهْلًا يَا عَائِشَةُ ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ " .

فَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ سَبًّا ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُمْ : إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ أَعْظَمُ مِنْ شَتْمِهِمُ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ ، فَهُوَ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ . وَدَلِيلُنَا : مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : سَمِعْتُ رَاهِبًا يَشْتُمُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : " لَوْ سَمِعْتُهُ أَنَا لَقَتَلْتُهُ ، إِنَّا لَمْ نُعْطِهِ الْأَمَانَ عَلَى هَذَا " وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ ، فَكَانَ إِجْمَاعًا : وَلِأَنَّ مَا كَانَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْإِسْلَامِ كَانَ شَرْطًا فِي عَقْدِ الْأَمَانِ : قِيَاسًا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ : وَلِأَنَّ مَا حُقِنَ بِهِ دَمُ الْكَافِرِ ، انْتَقَصَ بِشَتْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَالْإِيمَانِ . وَأَمَّا الْخَبَرُ ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ قَالُوهُ ذَمًّا ، وَلَمْ يَقُولُوهُ شَتْمًا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ كَانَ فِي ضَعْفِ الْإِسْلَامِ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي قُوَّتِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنِ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ قَالُوهُ اعْتِقَادًا لِلتَّعْظِيمِ ، وَهَذَا الشَّتْمُ اعْتِقَادًا لِلتَّحْقِيرِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَى قَوْلِهِمْ ، إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ، فَلَمْ يَنْتَقِضْ بِهِ عَهْدُهُمْ ، وَغَيْرُ مُقَرِّينَ عَلَى شَتْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَانْتَقَضَ بِهِ عَهْدُهُمْ .

بَابُ الْحُكْمِ فِي الْمُهَادَنِينَ وَالْمُعَاهَدِينَ وَمَا أُتْلِفَ مِنْ خَمْرِهِمْ وَخَنَازِيرِهِمْ وَمَا يَحِلُّ مِنْهُ وَمَا يُرَدُّ

بَابُ الْحُكْمِ فِي الْمُهَادَنِينَ وَالْمُعَاهَدِينَ وَمَا أُتْلِفَ مِنْ خَمْرِهِمْ وَخَنَازِيرِهِمْ وَمَا يَحِلُّ مِنْهُ وَمَا يُرَدُّ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " لَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالسِّيَرِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَزَلَ الْمَدِينَةَ وَادَعَ يَهُودَ كَافَّةً عَلَى غَيْرِ جِزْيَةٍ ، وَأَنَّ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ، إِنَّمَا نَزَلَتْ فِيهِمْ وَلَمْ يُقَرُّوا أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمُ الْحُكْمُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ زَنَيَا ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ الْآيَةَ ( قَالَ : ) وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ الْخِيَارُ فِي أَحَدٍ مِنَ الْمُعَاهَدِينَ الَذِينَ يُجْرَى عَلَيْهِمُ الْحُكْمُ إِذَا جَاءُوهُ فِي حَدٍّ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَهُ لِمَا وَصَفْتُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُمْ صَاغِرُونَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : هَذَا أَشْبَهُ مِنْ قَوْلِهِ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ لَا يُحَدُّونَ وَأَرْفَعُهُمْ إِلَى أَهْلِ دِينِهِمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى . وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ خَالَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الْأَمَانِ صِنْفَانِ : أَهْلُ ذِمَّةٍ وَأَهْلُ عَهْدٍ ، فَأَمَّا أَهْلُ الْعَهْدِ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا ، فَحَاكِمُنَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ، وَبَيْنَ أَنْ يَمْتَنِعَ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [ الْمَائِدَةِ : 42 ] . فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ وَادْعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةَ قَبْلَ فَرْضِ الْجِزْيَةِ ، فَكَانُوا أَهْلَ عَهْدٍ لَا ذِمَّةَ لَهُمْ ، وَاخْتُلِفَ فِيهَا هَلْ نَزَلَتْ عَامَّةً أَوْ عَلَى سَبَبٍ ، فَالَّذِي عَلَيْهِ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهَا نَزَلَتْ عَامَّةً : لِغَيْرِ سَبَبٍ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ زَنَيَا ، فَكَانَ سَبَبُهَا خَاصًّا وَحُكْمُهَا عَامًّا ، فَإِنْ حَكَّمَا حَاكِمَنَا بَيْنَهُمْ كَانُوا مُخَيَّرِينَ بَيْنَ الْتِزَامِهِ ، وَبَيْنَ رَدِّهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَجَمَ الْيَهُودِيَّيْنِ الزَّانِيَيْنِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمَا : لِأَنَّهُمَا أَنْكَرَا الرَّجْمَ . قِيلَ لَهُمْ : كَانَ الْإِنْكَارُ لِوُجُوبِ الرَّجْمِ فِي الشَّرْعِ ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ امْتِنَاعًا مِنَ الْتِزَامِ حُكْمِهِ . وَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ تحاكمهم إلى المسلمين ، فَفِي وُجُوبِ الْحُكْمِ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ كَأَهْلِ الْعَهْدِ يَكُونُ حَاكِمُنَا فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ مُخَيَّرًا ، وَهُمْ فِي

الْتِزَامِهِ إِذَا حَكَمَ بَيْنَهُمْ مُخَيَّرِينَ : لِعُمُومِ الْآيَةِ ، لِاشْتِرَاكِ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْمُخَالَفَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ اخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ : أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى حَاكِمِنَا أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ، وَيَجِبُ إِذَا حَكَمَ أَنْ يَلْتَزِمُوا حُكْمَهُ عَلَيْهِمْ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [ التَّوْبَةِ : 29 ] . وَالصَّغَارُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ : وَلِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا بِالذِّمَّةِ تَبَعًا لِلْمُسْلِمِينَ فَجَرَتْ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُهُمْ . فَإِنْ كَانَ التَّحَاكُمُ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَمُعَاهَدٍ ، أَوْ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ ، وَجَبَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْلِمُ طَالِبًا أَوْ مَطْلُوبًا : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدْعُو إِلَى دِينِهِ ، وَدِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ الْحَقُّ الْمُطَاعُ . وَلَوْ كَانَ التَّحَاكُمُ بَيْنَ ذِمِّيٍّ وَمُعَاهَدٍ لَمْ يَجُزْ قَوْلًا وَاحِدًا تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْإِسْقَاطِ . وَلَوْ كَانَ بَيْنَ ذِمِّيَّيْنِ مِنْ دِينَيْنِ كَيَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ الحكم في المهادنين والمعاهدين فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ : لِأَنَّ جَمِيعَ الْكُفْرِ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ ، فَيَكُونُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّهُ يَجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا قَوْلًا وَاحِدًا ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمَا الْتِزَامُهُ : لِأَنَّ اخْتِلَافَ مُعْتَقَدِهِمَا يُوجِبُ قَطْعَ التَّنَازُعِ بَيْنَهُمَا بِالْحَقِّ . فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُتَحَاكِمَانِ مِنْ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى مَذْهَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ : أَحَدُهُمَا نَسْطُورِيٌّ ، وَالْآخَرُ يَعْقُوبِيٌّ ، فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَى أَصْلِ الدِّينِ ، وَهُوَ وَاحِدٌ ، فَصَارَا فِيهِ كَالْمَذْهَبِ الْوَاحِدِ : لِأَنَّ دِينَهُمَا وَاحِدٌ . فَلَوْ قَلَّدَ الْإِمَامُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ حَاكِمًا مِنْهُمْ كَانَ حُكْمُهُ غَيْرَ لَازِمٍ لَهُمْ ، وَكَانَ فِيهِ كَالْمُتَوَسِّطِ بَيْنَهُمْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَنْفُذُ حُكْمُهُ عَلَيْهِمْ : لِأَنَّهُمْ يَلْتَزِمُونَ أَحْكَامَ شَرْعِهِمْ ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ صِحَّةَ الْمُعْتَقَدِ شَرْطٌ فِي نُفُوذِ الْحُكْمِ ، وَمُعْتَقَدُهُ بَاطِلٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ صِحَّةَ الْحُكْمِ شَرْطٌ فِي نُفُوذِهِ ، وَحُكْمُهُمْ بَاطِلٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَمَا كَانُوا يَدِينُونَ بِهِ فَلَا يَجُوزُ حُكْمُنَا عَلَيْهِمْ بِإِبْطَالِهِ الحكم بين المهادنين ، وَمَا أَحْدَثُوا مِمَّا لَيَسَ بِجَائِزٍ فِي دِينِهِمْ وَلَهُ حُكْمٌ عِنْدَنَا أُمْضِيَ عَلَيْهِمْ ، قَالَ : وَلَا يَكْشِفُونَ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا اسْتَحَلُّوهُ مِمَّا لَمْ يَكُنْ ضَرَرًا عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ أَوْ مُسْتَأَمَنٍ غَيْرِهِمْ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ مَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ فِي بِلَادِنَا مِنْ عَقْدٍ وَأَحْكَامٍ يَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ :

أَحَدُهَا : مَا كَانَ جَائِزًا فِي شَرْعِهِمْ وَشَرْعِنَا ، فَهُمْ مُقَرُّونَ عَلَيْهِ فِي دِينِهِمْ إِذَا تَرَافَعُوا إِلَيْنَا فِيهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا كَانَ بَاطِلًا فِي شَرْعِهِمْ وَشَرْعِنَا ، فَهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنْهُ إِذَا ظَهَرَ لَنَا : لِأَنَّهُمْ أُقِرُّوا فِي دَارِنَا عَلَى مُقْتَضَى شَرْعِهِمْ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا كَانَ جَائِزًا فِي شَرْعِنَا بَاطِلًا فِي شَرْعِهِمْ ، فَيُقَرُّونَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ فِيهِ عَلَى حَقٍّ ، وَفِيمَا عَدَاهُ بَاطِلٌ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَا كَانَ بَاطِلًا فِي شَرْعِنَا جَائِزًا فِي شَرْعِهِمْ ، فَإِنْ تَحَاكَمُوا فِيهِ إِلَيْنَا أَبْطَلْنَاهُ ، وَإِنْ لَمْ يَتَحَاكَمُوا فِيهِ إِلَيْنَا تَرَكْنَاهُ إِنْ أَخْفَوْهُ ، فَإِنْ أَظْهَرُوهُ لَنَا فَهُوَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِالْمُنْكَرَاتِ الظَّاهِرَةِ ، كَالْمَنَاكِحِ الْفَاسِدَةِ وَالْبُيُوعِ الْبَاطِلَةِ ، فَيُقَرُّونَ عَلَيْهِمَا ، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ الظَّاهِرَةِ ، كَالتَّظَاهُرِ بِنِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ ، وَالْمُجَاهَرَةِ بِابْتِيَاعِ الْخُمُورِ ، وَالْخَنَازِيرِ ، فَيُمْنَعُونَ ، وَيُعَزَّرُونَ عَلَيْهَا : لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ تَمْنَعُ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ بِالْمُنْكَرَاتِ . وَفِي نَسْخِ عُقُودِهِـمْ عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَتَحَاكَمُوا فِيهَا إِلَيْنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تُفْسَخُ عَلَيْهِمْ : لِأَنَّ الْمُجَاهَرَةَ ظُهُورُ مُنْكَرٍ مِنْهُمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا لَا تُفْسَخُ عَلَيْهِمْ ، وَيُتْرَكُونَ فِي عَقْدِهَا عَلَى مَا يَرَوْنَهُ فِي دِينِهِمْ : لِأَنَّ تَجَاهُرَهُمْ بِالْكُفْرِ الَّذِي يُقَرُّونَ عَلَيْهِ أَعْظَمُ . فَأَمَّا مَا تَعَلَّقَ بِأَفْعَالِهِمْ مِنْ دُخُولِ ضَرَرٍ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ مِنْ غَيْرِهِمْ ، فَيُمْنَعُونَ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ دِينًا : لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ إِبَاحَةَ دِمَاءِ مَنْ خَالَفَهُمْ ، وَأَمْوَالِهِمْ ، وَلَا يُقَرُّونَ عَلَى اسْتِبَاحَتِهَا فَكَذَا كُلُّ مَضَرَّةٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِنْ جَاءَتِ امْرَأَةُ رَجُلٍ مِنْهُمْ تَسْتَعِدِي بِأَنَّهُ طَلَّقَهَا ، أَوْ آلَى مِنْهَا أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا ، حَكَمْتُ عَلَيْهِ حُكْمِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَأَمَرْتُهُ فِي الظِّهَارِ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً ، كَمَا يُؤَدِّي الْوَاجِبَ مِنْ حَدٍّ وَجُرْحٍ وَأَرْشٍ ، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ عَنْهُ ، وَأُنْفِذُ عِتْقَهُ ، وَلَا أَفْسَخُ نِكَاحَهُ : لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَفَا عَنْ عَقْدِ مَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَأْنَفَ ، وَرَدَّ مَا جَاوَزَ الْعَدَدَ ، إِلَّا أَنْ يَتَحَاكَمُوا وَهِيَ فِي عِدَّةٍ فَنَفْسَخُهُ ، وَهَكَذَا كُلُّ مَا قُبِضَ مِنْ رِبًا ، أَوْ ثَمَنِ خَمْرٍ ، أَوْ خَنْزِيرٍ ، ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ أَحَدُهُمَا عُفِيَ عَنْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ مَا اسْتَعْدَتْ فِيهِ عَلَى زَوْجِهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَحْظُورَاتِ دِينِهِمْ أَوْ مِنْ مُبَاحَاتِهِ .

فَإِنْ كَانَ مِنْ مَحْظُورَاتِ دِينِهِمِ الْمُنْكَرَةِ وَجَبَ عَلَى حَاكِمِنَا أَنْ يُعَدِّيَهَا عَلَيْهِ : لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ تَمْنَعُ مِنْ إِقْرَارِ مَا يُتَّفَقُ عَلَى إِنْكَارِهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ مُبَاحَاتِ دِينِهِمْ ، فَفِي وُجُوبِ إِعْدَائِهَا عَلَيْهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَجُوزُ ، وَلَا يَجِبُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَجِبُ ، وَهُوَ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي جَرَيَانِ أَحْكَامِنَا عَلَيْهِمْ . فَإِنْ أَعْدَاهَا عَلَيْهِ وُجُوبًا أَوْ جَوَازًا لَمْ يَحْكُمْ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِمَا يُوجِبُهُ دِينُ الْإِسْلَامِ ، وَلَا يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا بِأَحْكَامِهِمْ فِي دِينِهِمْ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [ الْمَائِدَةِ : 42 ] . فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ لَمْ تَجُزْ لَهُ الرَّجْعَةُ فِي الْعِدَّةِ إِذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ ، وَأُحَرِّمُهَا عَلَيْهِ بَعْدَ الثَّلَاثِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي إِيلَاءٍ أَصِلُهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ أُلْزِمُهُ الْفَيْءَ أَوِ الطَّلَاقَ . وَإِنْ كَانَ فِي ظِهَارٍ أُحَرِّمُهَا عَلَيْهِ بَعْدَ الْعَوْدِ حَتَّى يُكَفِّرَ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصُومَ فِيهَا حَتَّى يُسْلِمَ ، وَفِي جَوَازِ إِطْعَامِهِ فِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ : لِأَنَّهُ إِطْعَامٌ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنِ الصِّيَامِ . وَإِنْ كَانَ فِي عَقْدِ نِكَاحٍ رَاعَاهُ ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ أُبْطِلُ نِكَاحَهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِلُّ لَهُ لَمْ يَكْشِفْ عَنْهُ عَقْدُ النِّكَاحِ ، وَحُكِمَ بَيْنَهُمَا بِإِمْضَاءِ الزَّوْجِيَّةِ ، كَمَا يُقَرُّونَ عَلَيْهِ إِذَا أَسْلَمُوا . وَإِنْ كَانَ فِي مَهْرٍ تَقَابَضَاهُ : أَمْضَاهُ حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَابَضَاهُ لَمْ يُحْكَمْ بِقَبْضِهِ ، وَلَا بِقِيمَتِهِ وَحُكِمَ لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَحْكَامِ ، وَكَذَلِكَ فِي اسْتِعْدَاءِ غَيْرِ الزَّوْجَيْنِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَمَنْ أَرَاقَ لَهُمْ خَمْرًا ، أَوْ قَتَلَ لَهُمْ خِنْزِيرًا لَمْ يَضْمَنْ المعاهد أو المستأمن : لِأَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ ، وَلَا ثَمَنَ لِمُحَرَّمٍ ، فَإِنْ قِيلَ : فَأَنْتَ تُقِرُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ ! قِيلَ نَعَمْ ، وَعَلَى الشِّرْكِ بِاللَّهِ ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، فَهُوَ حَرَامٌ لَا ثَمَنَ لَهُ ، وَإِنِ اسْتَحَلُّوهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ " الْغَصْبِ " وَذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ أَرَاقَ عَلَى ذِمِّيٍّ خَمْرًا ، أَوْ قَتَلَ لَهُ خِنْزِيرًا لَمْ يَضْمَنْ ، سَوَاءٌ كَانَ مُتْلِفُهُ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْلِمًا . وَأَوْجَبَ أَبُو حَنِيفَةَ ضَمَانَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ ، وَأَنَّ

مَا لَمْ يَضْمَنْهُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ لَمْ يُضْمَنْ فِي حَقِّ الْمُشْرِكِ كَالْمَيْتَةِ . وَهَكَذَا لَوْ أَرَاقَ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ نَبِيذًا لَمْ يَضْمَنْهُ عِنْدَنَا : لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلنَّبِيذِ ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ ، كَمَا لَمْ يَكُنْ لِلْخَمْرِ قِيمَةٌ ، وَإِنْ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ .


مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِذَا كُسِرَ لَهُمْ صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ غُرْمٌ المعاهد أو المستأمن ، وَإِنْ كَانَ مِنْ عُودٍ ، وَكَانَ إِذَا فُرِّقَ صَلُحَ لِغَيْرِ الصَلِيبِ فَمَا نَقَصَ الْكَسْرُ الْعُودَ ، وَكَذَلِكَ الطُّنْبُورُ وَالْمِزْمَارُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : لِأَنَّ شَكْلَ الصَّلِيبِ مَوْضُوعٌ عَلَى زُورٍ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ جَعَلُوهُ شَبَهًا بِمَا ادَّعَوْهُ مَنْ صَلْبِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِذَا كُسِرَ صَلِيبُهُمْ ، فَإِنْ كَانَ مَنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ مَا لَا يُؤَثِّرُ كَسْرُهُ فِي قِيمَةِ جِنْسِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ بِالْكَسْرِ : لِأَنَّهُ تَأْثِيرُ الْكَسْرِ فِيهِ إِزَالَةُ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ . وَسَوَاءٌ كَانَ كَاسِرُهُ مُسْلِمًا أَوْ نَصْرَانِيًّا . وَإِنْ كَانَ الصَّلِيبُ مِنْ عُودٍ أَوْ خَشَبٍ يُؤَثِّرُ كَسْرُهُ فِي قِيمَتِهِ ، فَإِنْ فَصَّلَهُ ، وَلَمْ يَتَعَدَّ تَفْصِيلَهُ إِلَى الْكَسْرِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ تَعَدَّى تَفْصِيلَهُ إِلَى الْكَسْرِ نُظِرَ فِيهِ . فَإِنْ كَانَ فِي شَبَهِهِ لَوْ فُصِّلَ لَمْ يَصْلُحْ لِغَيْرِ الصَّلِيبِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ مُفَصَّلًا لِغَيْرِ الصَّلِيبِ ضَمِنَ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ مُفَصَّلًا ، وَمَكْسُورًا . وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الطَّنَابِيرِ وَالْمَزَامِيرِ إِذَا فُصِلَتْ ، وَلَمْ تُكْسَرْ ، فَلَا ضَمَانَ فِيهَا ، وَإِنْ كُسِرَتْ فَإِنْ كَانَ خَشَبُهَا لَا يَصْلُحُ بَعْدَ التَّفْصِيلِ لِغَيْرِهَا لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ لِغَيْرِهَا ، ضَمِنَ مَا بَيْنَ قِيمَتِهَا مُفَصَّلَةً وَمَكْسُورَةً . فَأَمَّا أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِذَا كَسَرَهَا عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَى مُسْلِمٍ ، فَفِي غُرْمِ مَا نَقَصَ بِكَسْرِهَا مِنَ الْعَمَلِ وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي إِبَاحَةِ اقْتِنَائِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِعْمَالٍ . فَإِنْ قِيلَ بِإِبَاحَتِهِ ضَمِنَ نَقْصَ الْعَمَلِ ، وَإِنْ قِيلَ بِحَظْرِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ ، وَكَانَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ يُخْرِجُ كَسْرَ الصَّلِيبِ مِنَ الذَّهَبِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ . وَهُوَ خَطَأٌ : لِأَنَّ ادِّخَارَ الصَّلِيبِ مَحْظُورٌ بِاتِّفَاقٍ ، وَادِّخَارَ الْأَوَانِي عَلَى اخْتِلَافٍ ، فَلَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَعَ اخْتِلَافِ حُكْمِهِمَا .

يَجُوزُ لِلنَّصْرَانِيِّ أَنْ يُقَارِضَ الْمُسْلِمَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَيَجُوزُ لِلنَّصْرَانِيِّ أَنْ يُقَارِضَ الْمُسْلِمَ ، وَأَكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُقَارِضَ النَّصْرَانِيَّ أَوْ يُشَارِكَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ الْمُسْلِمُ مِنَ النَّصْرَانِيِّ مَالًا قِرَاضًا ،

وَلَا يُكْرَهُ لَهُ : لِأَنَّ عُقُودَ الْمُسْلِمِ تَتَوَجَّهُ إِلَى الْمُبَاحِ ، وَيُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى النَّصْرَانِيِّ مَالًا قِرَاضًا : لِأَنَّهُ رُبَّمَا صَرَفَهُ فِي مَحْظُورَاتِ الْإِسْلَامِ مِنَ الزِّنَا وَأَثْمَانِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ ، وَلَا يَبْطُلُ الْقِرَاضُ تَغْلِيبًا لِحَمْلِهِ عَلَى الْمُبَاحِ ، فَإِنْ صَرَفَهُ النَّصْرَانِيُّ فِي مَحْظُورٍ مِنْ أَثْمَانِ خُمُورٍ ، وَخَنَازِيرَ فَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ قَدْ صَرَّحَ لَهُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ ، كَانَ النَّصْرَانِيُّ ضَامِنًا لِمَا صَرَفَهُ فِي ثَمَنِهِ : لِحَظْرِهِ وَمُخَالَفَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ لَهُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ ، فَفِي ضَمَانِهِ لَهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُهُ لِمَا أَوْجَبَهُ عَقْدُ الْمُسْلِمِ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مُقْتَضَى شَرْعِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَضْمَنُهُ : لِجَوَازِهِ فِي دِينِ عَاقِدِهِ ، فَإِنْ رَبِحَ فِي الْخُمُورِ وَالْخِنْزِيرِ حَرُمَ ذَبْحُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَلِطْ بِأَصْلِ مَالِهِ حَلَّ لَهُ اسْتِرْجَاعُ مَالِهِ ، وَحَرُمَ عَلَيْهِ أَخْذُ رِبْحِهِ ، وَإِنِ اخْتَلَطَ رِبْحُهُ بِمَالِهِ حَرُمَ عَلَى الْمُسْلِمِ اسْتِرْجَاعُهُ ، وَفِي رُجُوعِهِ بِغُرْمِهِ عَلَى النَّصْرَانِيِّ وَجْهَانِ ، وَاخْتِلَافُ الْوَجْهَيْنِ فِي ضَمَانِهِ إِذَا صَرَفَهُ فِي ثَمَنِهِ . وَهَكَذَا يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُشَارِكَ النَّصْرَانِيَّ فِي مَالٍ يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّصَرُّفِ فِي جَمِيعِهِ ، وَلَا يُكْرَهُ اشْتِرَاكُهُمْ فِي مَالٍ لَا يَتَصَرَّفُ أَحَدُهُمَا فِيهِ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا : لِأَنَّ النَّصْرَانِيَّ إِذَا تَفَرَّدَ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ صَرَفَهُ فِي أَثْمَانِ الْمَحْظُورَاتِ ، وَإِذَا اجْتَمَعَ مَعَ الْمُسْلِمِ فِيهِ صَارَ مَمْنُوعًا مِنْهُ ، فَإِنْ تَفَرَّدَ النَّصْرَانِيُّ بِالتَّصَرُّفِ ، وَظَهَرَ الرِّبْحُ فِي الْمَالِ ، فَأَرَادَ الْمُسْلِمُ أَنْ يُقَاسِمَهُ عَلَيْهِ ، لَمْ يَخْلُ مَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْلَمَ حُصُولَهُ مِنْ حَلَالٍ ، فَيَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَأْخُذَ حَقَّهُ مِنَ الْمَالِ وَرِبْحِهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَعْلَمَ حُصُولَهُ مِنْ حَرَامٍ ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخَذُهُ ، فَأَمَّا الْمَالُ فَإِنْ لَمْ يَمْتَزِجْ رِبْحُهُ ، وَلَا عَادَ أَصْلُهُ مِنْ ثَمَنِهِ حَلَّ لَهُ أَخْذُ حَقِّهِ مِنْهُ ، وَإِنِ امْتَزَجَ بِرِبْحِهِ أَوْ عَادَ أَصْلُهُ مِنْ ثَمَنِهِ حَرُمَ عَلَيْهِ أَخْذُهُ ، وَفِي رُجُوعِهِ بِغُرْمِهِ عَلَى شَرِيكِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَشُكَّ فِي حُصُولِهِ هَلْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ مِنْ مَحْظُورٍ ، فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ بِالشَّكِّ حُكْمًا ، وَيُكْرَهُ لَهُ مَعَ الشَّكِّ وَرَعًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَأَكْرَهُ أَنْ يُكْرِيَ نَفْسَهُ مِنْ نَصْرَانِيٍّ وَلَا أَفْسَخُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا آجَرَ الْمُسْلِمُ نَفْسَهُ مِنْ نَصَرَانِيٍّ بِعَمَلٍ يَعْمَلُهُ لَهُ ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ الْإِجَارَةُ مَعْقُودَةً فِي ذِمَّتِهِ عَلَى عَمَلٍ مَوْصُوفٍ فِيهَا ، فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ ، وَحُصُولُ الْعَمَلِ فِي ذِمَّتِهِ كَحُصُولِ الْأَثْمَانِ وَالْقُرُوضِ فِيهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الْإِجَارَةُ مَعْقُودَةً عَلَى عَيْنِهِ ، فَقَدْ خَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى

قَوْلَيْنِ ، كَبَيْعِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ عَلَى نَصْرَانِيٍّ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِجَارَةَ بَاطِلَةٌ إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْإِجَارَةَ جَائِزَةٌ إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ . وَالصَّحِيحُ - عِنْدِي - أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ الْإِجَارَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ مَعْقُودَةً عَلَى عَمَلٍ يَعْمَلُهُ الْأَجِيرُ فِي يَدِ نَفْسِهِ لَا فِي يَدِ مُسْتَأْجِرِهِ ، وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ عَلَى مُوجَبِ عَقْدِهِ لَا عَلَى رَأْيِ مُسْتَأْجِرِهِ كَالْخِيَاطَةِ وَالنِّسَاجَةِ وَالصِّيَاغَةِ ، صَحَّتِ الْإِجَارَةُ ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْقُودَةً عَلَى تَصَرُّفِ الْأَجِيرِ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ عَنْ أَمْرِهِ كَالْخِدْمَةِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ فِي هَذَا مُسْتَذَلٌّ وَفِي الْأَوَّلِ مُصَانٌ . فَإِنْ قِيلَ بِبُطْلَانِ الْإِجَارَةِ كَانَ لِلْأَجِيرِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فِيمَا عَمِلَ ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ إِتْمَامُ مَا بَقِيَ . وَإِنْ قِيلَ بِصِحَّةِ الْإِجَارَةِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَعْمَلُهُ الْأَجِيرُ فِي يَدِ نَفْسِهِ أَخَذَ بِعَمَلِهِ ، وَإِنْ كَانَ يَعْمَلُهُ فِي يَدِ مُسْتَأْجِرِهِ ، وَبِأَمْرِهِ مُنِعَ مِنِ اسْتِذْلَالِهِ بِالْعَمَلِ ، وَأُوجِرَ الْأَجِيرُ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ ، وَدُفِعَتْ أُجْرَتُهُ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ ، لِيَسْتَأْجِرَ بِهَا إِنْ شَاءَ مَنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَجِيرًا لَهُ ، كَمَا يُبَاعُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ إِذَا ابْتَاعَهُ ، إِذَا صَحَّ بَيْعُهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِذَا اشْتَرَى النَّصْرَانِيُّ مُصْحَفًا أَوْ دَفْتَرًا فِيهِ أَحَادِيثُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَخْتُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْمُصْحَفُ فَمَمْنُوعٌ مِنْ بَيْعِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ : لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْمُصْحَفِ مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ أَيْدِيهِمْ ، فَإِذَا مُنِعُوا مِنْ مَسِّهِ تَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِ : كَانَ مَنْعُهُمْ مِنْ تَمَلَّكِهِ وَاسْتِبْذَالِهِ أَوْلَى . فَإِنْ بِيعَ عَلَى مُشْرِكٍ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِنْ كَانَ بَيْعُ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ عَلَى قَوْلَيْنِ : لِأَنَّ الْمُصْحَفَ لِتَحْرِيمِ مَسَّهِ أَغْلَظُ حُرْمَةً مِنَ الْعَبْدِ الَّذِي لَا يَحْرُمُ مَسُّهُ . فَأَمَّا أَحَادِيثُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ جَمَعَ الشَّافِعِيُّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُصْحَفِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْبَيْعِ ، وَإِنَّمَا يَسْتَوِيَانِ فِي الْمَنْعِ ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي الْبَيْعِ ، وَإِنَّمَا مُنِعُوا مِنِ ابْتِيَاعِ كُتِبِ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صِيَانَةً لَهَا مِنْ تَعَرُّضِهِمْ لِاسْتِبْذَالِهَا ، وَإِنْ جَازَ لَهُمْ مَسُّهَا ، فَإِنِ ابْتَاعُوهَا ، فَهِيَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فِيهَا سِيرَتُهُ وَصِفَتُهُ فَابْتِيَاعُهُمْ لَهَا جَائِزٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِيهَا كَلَامُهُ مِنْ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ ، وَأَحْكَامِهِ ، فَفِي الْبَيْعِ وَجْهَانِ :

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110