كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا أَنْ يَتَزَوَّجَ الْحُرُّ فِي الشِّرْكِ بِأَرْبَعِ إِمَاءٍ وَحُرَّةٍ خَامِسَةٍ ثُمَّ يُسْلِمِ الزَّوْجُ ، وَيَعْتَقُ الْإِمَاءُ فِي الشِّرْكِ ، ثُمَّ يُسْلِمْنَ فِي عِدَدِهِنَّ فَيَكُونُ نِكَاحُهُنَّ نِكَاحَ حَرَائِرَ ، وَلَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْأَرْبَعِ كُلِّهِنَّ : لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَالِهِنَّ عِنْدَ إِسْلَامِهِ وَإِسْلَامِهِنَّ وَمَا اجْتَمَعَا إِلَّا وَهُنَّ حَرَائِرُ ، فَلِذَلِكَ صَارَ نِكَاحُهُنَّ نِكَاحَ حَرَائِرَ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ بِالْخِيَارِ عِنْدَ إِسْلَامِ الْمُعْتَقَاتِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَخْتَارَ الْأَرْبَعَ فَيَصِحَّ اخْتِيَارُهُنَّ ، وَيَنْفَسِخَ بِهِ نِكَاحُ الْحُرَّةِ الْخَامِسَةِ إِنْ أَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ ، وَإِنْ لَمْ تُسْلِمِ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُوقَفَ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ انْتِظَارًا لِإِسْلَامِ الْحُرَّةِ الْخَامِسَةِ ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ اخْتَارَ مِنَ الْخَمْسِ أَرْبَعًا ، وَفَسَخَ نِكَاحَ الْخَامِسَةِ مِنْ أَيَّتِهِنَّ شَاءَ ، وَإِنْ لَمْ تُسْلِمِ الْحُرَّةُ ثَبَتَ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ الْمُعْتَقَاتِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَخْتَارَ مِنَ الْأَرْبَعِ ثَلَاثًا وَيُوقِفَ الرَّابِعَةَ عَلَى إِسْلَامِ الْحُرَّةِ ، فَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ ثَبَتَ نِكَاحُ الرَّابِعَةِ ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ كَانَ مُخَيَّرًا فِي اخْتِيَارِ أَيَّتِهِمَا شَاءَ وَفَارَقَ الْأُخْرَى .

فَصْلٌ : وَهَكَذَا لَوْ أَسْلَمَ الْإِمَاءُ قَبْلَ الزَّوْجِ وَأُعْتِقْنَ ثُمَّ أَسْلَمَ الزَّوْجُ بَعْدَ عِتْقِهِنَّ ، كَانَ نِكَاحُهُنَّ نِكَاحَ حَرَائِرَ ، وَلِأَنَّهُ لَمَا جُمِعَ إِسْلَامُهُ وَإِسْلَامُهُنَّ إِلَّا وَهُنَّ حَرَائِرُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَالْحُرَّةُ مُتَأَخِّرَةٌ ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ ، وَلَكِنْ لَوْ أَسْلَمَ قَبْلَهُ أَمَتَانِ وَأُعْتِقَتَا ، ثُمَّ أَسْلَمَ الزَّوْجُ ، وَأَعْتَقَ الْأَمَتَيْنِ الْمُشْرِكَتَيْنِ فِي الشِّرْكِ ، ثُمَّ أَسْلَمَتَا ، فَنِكَاحُ هَاتَيْنِ الْمُعْتَقَتَيْنِ فِي الشِّرْكِ - عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيِّ - يَحِلُّ لِرِقِّهِمَا عِنْدَ مُعْتِقِ الْمُسْلِمِينَ ، فَبَطَلَ نِكَاحُهُمَا بِالرِّقِّ لِعِتْقِ الْمُسْلِمِينَ ، فَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ يَكُونُ نِكَاحُ الْمُسْلِمِينَ بَائِنًا ، فَإِنْ أَسْلَمَتِ الْحُرَّةُ بَعْدَهَا فِي الْعِدَّةِ ثَبَتَ نِكَاحُهَا ، وَصِرْنَ ثَلَاثًا وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ بَطَلَ نِكَاحُهَا ، وَثَبَتَ نِكَاحُ الْمُعْتَقَتَيْنِ . فَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَرَاهُ صَحِيحًا ، فَنِكَاحُ الْمُعْتَقَتَيْنِ فِي الشِّرْكِ لَا يَبْطُلُ بِعِتْقِ الْمُسْلِمَتَيْنِ مِنْ قَبْلُ فَإِذَا أَسْلَمَتِ الْمُشْرِكَتَانِ بَعْدَ عِتْقِهِمَا فِي عِدَّتِهِمَا صِرْنَ أَرْبَعًا وَفِي الشِّرْكِ حُرَّةٌ خَامِسَةٌ ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ كَانَ عَبْدٌ عِنْدَهُ إِمَاءٌ وَحَرَائِرُ مُسْلِمَاتٌ أَوْ كِتَابِيَّاتٌ وَلَمْ يَخْتَرْنَ فِرَاقَهُ أَمْسَكَ اثْنَتَيْنِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ كَانَ عَبْدٌ عِنْدَهُ إِمَاءٌ وَحَرَائِرُ مُسْلِمَاتٌ أَوْ كِتَابِيَّاتٌ ، وَلَمْ يَخْتَرْنَ فِرَاقَهُ أَمْسَكَ اثْنَتَيْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ سِتَّ زَوْجَاتٍ ، مِنْهُنَّ : أَمَتَانِ وَثَنِيَّتَانِ ، وَحُرَّتَانِ وَثَنِيَّتَانِ ، وَحُرَّتَانِ كِتَابِيَّتَانِ ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَسْلَمَ مَعَهُ الْأَمَتَانِ الْوَثَنِيَّتَانِ وَالْحُرَّتَانِ الْوَثَنِيَّتَانِ ، وَبَقِيَ الْكِتَابِيَّتَانِ عَلَى دِينِهِمَا ، فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنَ السِّتِّ اثْنَتَيْنِ : لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَبِيحُ أَكْثَرَ مِنْهُمَا ، وَهُوَ فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهِمَا كَالْحُرِّ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ ، إِلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ : وَلَمْ يَخْتَرْنَ فِرَاقَهُ أَمْسَكَ اثْنَتَيْنِ ، أَمَّا الْأَمَتَانِ فَإِنْ أَعْتَقَهُمَا فَلَهُمَا الْخِيَارُ : لِأَنَّ الْأَمَةَ إِذَا أُعْتِقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ ما يطرأ من أحكام بإسلام الزوج

فَلَهَا الْخِيَارُ ، مُسْلِمًا كَانَ الْعَبْدُ أَوْ كَافِرًا ، وَإِنْ لَمْ يُعْتِقَا فَلَا خِيَارَ لَهُمَا : لِأَنَّهُمَا قَدْ سَاوَيَاهُ فِي نَقْصِهِ بِالرِّقِّ ، وَأَمَّا الْحَرَائِرُ فَفِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهُنَّ بِإِسْلَامِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُنَّ لِعِلْمِهِنَّ بِرِقِّهِ وَرِضَاهُنَّ مَعَ كَمَالِهِنَّ بِنَقْصِهِ ، فَلَمْ يَحْدُثْ لَهُنَّ بِالْإِسْلَامِ خِيَارٌ : لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يُؤَكِّدُ النِّكَاحَ وَلَا يُضْعِفُهُ ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَهُنَّ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ : لِأَنَّ الرِّقَّ فِي الْإِسْلَامِ نَقْصٌ ، وَفِي الْكُفْرِ لَيْسَ بِنَقْصٍ : لِإِطْلَاقِ تَصَرُّفِهِ فِي الْكُفْرِ ، وَثُبُوتِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ ، وَنَقْصِ أَحْكَامِهِ فِي طَلَاقِهِ وَنِكَاحِهِ وَحُدُودِهِ ، وَعَدَمِ مِلْكِهِ ، وَقَهْرِ السَّيِّدِ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ ، فَيَكُونُ الرِّقُّ فِي الْإِسْلَامِ نَقْصًا يَثْبُتُ لِلْحَرَائِرِ مِنْ زَوْجَاتِهِ الْخِيَارُ فِي إِسْلَامِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُنَّ فِي شِرْكِهِ ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْقَاسِمِ الدَّارَكِيِّ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ قِيلَ : لِلْحَرَائِرِ الْأَرْبَعَةِ الْخِيَارُ ، فَاخْتَرْنَ فَسْخَ نِكَاحِهِ ، ثَبَتَ نِكَاحُ الْأَمَتَيْنِ ، وَإِنْ قِيلَ : لَا خِيَارَ لَهُنَّ ، أَوْ قِيلَ : لَهُنَّ الْخِيَارُ ، فَاخْتَرْنَ الْمُقَامَ عَلَى نِكَاحِهِ ، كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ - وَهُنَّ سِتٌّ - اثْنَتَيْنِ مِنْ أَيِّهِنَّ شَاءَ : إِمَّا أَنْ يَخْتَارَ الْحُرَّتَيْنِ الْمُسْلِمَتَيْنِ ، أَوِ الْحُرَّتَيْنِ الْكِتَابِيَّتَيْنِ ، أَوِ الْأَمَتَيْنِ الْمُسْلِمَتَيْنِ ، أَوْ وَاحِدَةً مِنَ الْأَمَتَيْنِ ، وَوَاحِدَةً مِنَ الْحَرَائِرِ : لِأَنَّهُ عَبْدٌ يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أَمَتَيْنِ وَبَيْنَ أَمَةٍ وَحُرَّةٍ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ عَتَقْنَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ فَاخْتَرْنَ فِرَاقَهُ كَانَ ذَلِكَ لَهُنَّ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ عَتَقْنَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ فَاخْتَرْنَ فِرَاقَهُ الإماء قبل إسلام العبد كَانَ ذَلِكَ لَهُنَّ : لِأَنَّهُ لَهُنَّ بَعْدَ إِسْلَامِهِ وَعِدَدُهُنَّ عِدَدُ الْحَرَائِرِ فَيُحْصَيْنَ مِنْ حِينِ اخْتَرْنَ فِرَاقَهُ ، فَإِنِ اجْتَمَعَ إِسْلَامُهُ وَإِسْلَامُهُنَّ فِي الْعِدَّةِ فَعِدَدُهُنَّ عِدَدُ حَرَائِرَ مِنْ يَوْمِ اخْتَرْنَ فِرَاقَهُ وَإِلَّا فَعِدَدُهُنَّ عِدَدُ حَرَائِرَ مِنْ يَوْمِ أَسْلَمَ مُتَقَدِّمُ الْإِسْلَامِ مِنْهُمَا : لِأَنَّ الْفَسْخَ مِنْ يَوْمَئِذٍ ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَرَنَّ فِرَاقَهُ وَلَا الْمُقَامَ مَعَهُ خُيِّرْنَ إِذَا اجْتَمَعَ إِسْلَامُهُ وَإِسْلَامُهُنَّ مَعًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ بِأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ إِمَاءٍ وَدَخَلَ بِهِنَّ ، ثُمَّ أَسْلَمْنَ وَعَتَقْنَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ حكم ، فَلَهُنَّ أَنْ يَخْتَرْنَ فَسْخَ نِكَاحِهِ بِالْعِتْقِ ، وَإِنْ كُنَّ جَارِيَاتٍ فِي الْفَسْخِ بِتَقَدُّمِ الْإِسْلَامِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُنَّ جَارِيَاتٌ فِي فَسْخٍ ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَسْتَحِقَ مَعَهُ حُدُوثَ فَسْخٍ : لِأَنَّ الْفَسْخَ لَا يُنَافِي الْفَسْخَ لِاجْتِمَاعِهِمَا ، وَإِنَّمَا يُنَافِي الْمُقَامَ لِتَضَادِّهِمَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُنَّ يَسْتَفِدْنَ بِتَعْجِيلِ الْفَسْخِ قُصُورَ أَحَدِ الْعِدَّتَيْنِ : لِأَنَّهُنَّ لَوِ انْتَظَرْنَ إِسْلَامَ الزَّوْجِ لَاسْتَأْنَفَ الْعِدَّةَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ ، وَإِذَا قَدَّمْنَ الْفَسْخَ تَقَدَّمَتِ الْعِدَّةُ قَبْلَ إِسْلَامِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا أَغْنَى جَرَيَانُهُنَّ فِي الْفَسْخِ بِتَقَدُّمِ الْإِسْلَامِ عَنْ أَنْ يُحْدِثْنَ فَسْخًا بِحُدُوثِ الْعِتْقِ . قِيلَ : لَا يُغْنِي : لِأَنَّ الْفَسْخَ بِالْإِسْلَامِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ إِفْضَائِهِ إِلَى الْفُرْقَةِ إِنْ تَأَخَّرَ إِسْلَامُ الزَّوْجِ وَبَيْنَ إِفْضَائِهِ إِلَى ثُبُوتِ النِّكَاحِ إِنْ تَعَجَّلَ ، وَالْفَسْخُ بِالْعِتْقِ مُفْضٍ إِلَى الْفُرْقَةِ فِي الْحَالَيْنِ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا ، فَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ :

أَحَدُهَا : أَنْ يَخْتَرْنَ الْفَسْخَ ، فَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ ، فَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَدُهُنَّ فَقَدْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ ، وَبَانَ أَنَّهُنَّ غَيْرُ زَوْجَاتِهِ مِنْ يَوْمِ أَسْلَمْنَ ، فَلَمْ يَقَعْ فَسْخُهُنَّ بِالْعِتْقِ : لِأَنَّهُنَّ قَدِمْنَ قَبْلَهُ ، فَأَوَّلُ عِدَدِهِنَّ مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِهِنَّ ، وَقَدْ بَدَأْنَ بِالْعِدَّةِ وَهُنَّ إِمَاءٌ وَأَنْهَيْنَهَا وَهُنَّ حَرَائِرُ ، فَهَلْ يَعْتَدِدْنَ عِدَدَ إِمَاءٍ أَوْ عِدَدَ حَرَائِرَ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ - : يَعْتَدِدْنَ عِدَدَ إِمَاءٍ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ يَعْتَدِدْنَ عِدَدَ حَرَائِرَ : اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ ، وَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ فِي عِدَدِهِنَّ ، وَبَانَ أَنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي فَسْحِ نِكَاحِهِنَّ ، وَإِنَّهُنَّ اخْتَرْنَ الْفَسْخَ بِالْعِتْقِ وَهُنَّ زَوْجَاتٌ ، فَيَنْفَسِخُ نِكَاحُهُنَّ بِاخْتِيَارِ الْفَسْخِ وَيَعْتَدِدْنَ مِنْ وَقْتِ الْفَسْخِ عِدَدَ حَرَائِرَ قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّهُنَّ بَدَأْنَ وَهُنَّ حَرَائِرَ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ : وَهُوَ أَنْ يَخْتَرْنَ الْمُقَامَ عَلَى نِكَاحِهِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ أَيْضًا بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ ، فَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَدُهُنَّ العبد بعد عدة الحرائر وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِهِنَّ ، وَلَمْ يَكُنْ لِاخْتِيَارِهِنَّ الْمُقَامَ تَأْثِيرٌ ، وَفِي عِدَدِهِنَّ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : عِدَدُ إِمَاءٍ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ . وَالثَّانِي : عِدَدُ حَرَائِرَ اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ . وَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ فِي عِدَدِهِنَّ ، بَانَ أَنَّهُنَّ زَوْجَاتٌ ، وَأَنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي نِكَاحِهِنَّ ، وَقَدِ اخْتَرْنَ الْمُقَامَ فِي وَقْتٍ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ اخْتِيَارُ الْمُقَامِ ، فَهَلْ يُؤَثِّرُ حُكْمُهُ بَعْدَ إِسْلَامِ الزَّوْجِ وَيَسْقُطُ بِهِ خِيَارُ الْفَسْخِ أَمْ لَا ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الزَّوْجِ إِذَا اخْتَارَ وَاحِدَةً مِنَ الْإِمَاءِ الْمُسْلِمَاتِ مَعَهُ ، وَفِي الشِّرْكِ حُرَّةٌ مُنْتَظَرَةٌ ، فَلَمْ تُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا ، هَلْ يَثْبُتُ حُكْمُ اخْتِيَارِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ ، كَذَلِكَ هَاهُنَا هَلْ يَثْبُتُ حُكْمُ اخْتِيَارِهِنَّ الْمُقَامَ أَمْ لَا ، عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ يَثْبُتُ ، وَيَبْطُلُ بِهِ خِيَارُ الْفَسْخِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ الْأَصَحُّ - : أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ فِي وَقْتِهِ فَبَطَلَ ، وَلَهُنَّ خِيَارُ الْفَسْخِ بَعْدَ إِسْلَامِ الزَّوْجِ ، فَإِنِ اخْتَرْنَ الْفَسْخَ اسْتَأْنَفْنَ عِدَدَ حَرَائِرَ مِنْ وَقْتِ الْفَسْخِ ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَرْنَهُ كُنَّ زَوْجَاتٍ ، وَهُنَّ أَرْبَعٌ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ إِلَّا اثْنَتَيْنِ فَيَصِيرُ لَهُ بِالْخِيَارِ فِي إِمْسَاكِ اثْنَتَيْنِ وَفَسْخِ نِكَاحِ اثْنَتَيْنِ يَسْتَأْنِفَانِ مِنْ وَقْتِ الْفَسْخِ عِدَدَ حَرَائِرَ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ : وَهُوَ أَنْ يُمْسِكَهُ عَنِ اخْتِيَارِ فَسْخٍ أَوْ مُقَامٍ فَهُنَّ إِذَا أَسْلَمَ الزَّوْجُ عَلَى حَقِّهِنَّ مِنْ خِيَارِ الْفَسْخِ ، لَا يَبْطُلُ بِإِمْسَاكِهِنَّ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُنَّ كُنَّ يَتَوَقَّعْنَ الْفَسْخَ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ فَلَمْ يُنَافِ وُقُوعَ الْفَسْخِ بِاخْتِيَارٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ خِيَارَهُنَّ قَبْلَ إِسْلَامِ الزَّوْجِ مَظْنُونٌ ، وَبَعْدَ إِسْلَامِهِ مُتَحَقِّقٌ فَجَازَ أَنْ يُؤَخِّرَ بِهِ مِنْ وَقْتِ الظَّنِّ إِلَى وَقْتِ الْيَقِينِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ إِسْلَامُ الزَّوْجِ ، فَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ

حَتَّى انْقَضَتْ عِدَدُهُنَّ بَانَ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ وَبَطَلَ خِيَارُ الْفَسْخِ بِالْعِتْقِ ، وَفِي عِدَدِهِنَّ مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِهِنَّ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : عِدَدُ إِمَاءٍ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ . وَالثَّانِي : عِدَدُ حَرَائِرَ اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ ، وَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ فِي عِدَدِهِنَّ فَهُنَّ زَوْجَاتٌ ، وَلَا تَأْثِيرَ لِاخْتِلَافِ الدِّينِ فِي نِكَاحِهِنَّ ، وَلَهُنَّ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ بِالْعِتْقِ ، فَإِنِ اخْتَرْنَ الْفَسْخَ اسْتَأْنَفْنَ فِي وَقْتِ الْفَسْخِ عِدَدَ حَرَائِرَ ، وَإِنِ اخْتَرْنَ الْمُقَامَ كَانَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ اثْنَتَيْنِ ، وَيَفْسَخَ نِكَاحَ اثْنَتَيْنِ يَسْتَأْنِفَانِ مِنْ وَقْتِ الْفَسْخِ عِدَدَ حَرَائِرَ .

مَسْأَلَةٌ إِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ إِسْلَامُهُنَّ قَبْلَ إِسْلَامِهِ فَاخْتَرْنَ فِرَاقَهُ أَوِ الْمُقَامَ مَعَهُ ثُمَّ أَسْلَمْنَ خُيِّرْنَ حِينَ يُسْلِمْنَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ إِسْلَامُهُنَّ قَبْلَ إِسْلَامِهِ فَاخْتَرْنَ فِرَاقَهُ أَوِ الْمُقَامَ مَعَهُ ثُمَّ أَسْلَمْنَ ، خُيِّرْنَ حِينَ يُسْلِمْنَ : لِأَنَّهُنَّ اخْتَرْنَ وَلَا خَيَارَ لَهُنَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ بِأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ إِمَاءٍ وَدَخَلَ بِهِنَّ ثُمَّ أَسْلَمَ قَبْلَهُنَّ وَأَعْتَقَهُنَّ فِي شِرْكِهِنَّ ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَخْتَرْنَ فَسْخَ النِّكَاحِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَخْتَرْنَ الْمُقَامَ عَلَى النِّكَاحِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُمْسَكْنَ ، فَلَا يَخْتَرْنَ فَسْخًا وَلَا مُقَامًا . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يُعَجِّلْنَ فِي الشِّرْكِ فَسْخَ النِّكَاحِ ، فَقَدْ نَقَلَ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : " فَاخْتَرْنَ فِرَاقَهُ ، أَوِ الْمُقَامَ مَعَهُ ، ثُمَّ أَسْلَمْنَ خُيِّرْنَ حِينَ يُسْلِمْنَ " فَجَمَعَ بَيْنَ اخْتِيَارِ الْفُرْقَةِ ، وَاخْتِيَارِ الْمُقَامِ فِي إِبْطَالِ حُكْمِهِمَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ ، فَدَلَّ الظَّاهِرُ عَلَى أَنْ لَيْسَ لَهُنَّ أَنْ يَخْتَرْنَ فَسْخَ النِّكَاحِ قَبْلَ إِسْلَامِهِنَّ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ : أَنَّ الْجَوَابَ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَأَنَّهُنَّ إِذَا أُعْتِقْنَ فِي الشِّرْكِ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ اخْتِيَارُ الْفَسْخِ حَتَّى يَجْتَمِعَ إِسْلَامُهُنَّ مَعَ إِسْلَامِ الزَّوْجِ ، وَلَوْ أُعْتِقْنَ بَعْدَ تَقَدُّمِ إِسْلَامِهِنَّ كَانَ لَهُنَّ اخْتِيَارُ الْفَسْخِ قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَ إِسْلَامُهُنَّ مَعَ إِسْلَامِ الزَّوْجِ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ إِذَا تَقَدَّمَ إِسْلَامُهُنَّ لَمْ يَقْدِرْنَ عَلَى تَعْجِيلِ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ ، فَكَانَ لَهُمْ تَعْجِيلُ الْفَسْخِ لِيَسْتَفِدْنَ قُصُورَ إِحْدَى الْعِدَّتَيْنِ ، وَإِذَا تَقَدَّمَ إِسْلَامُ الزَّوْجِ قَدَرْنَ بِتَعْجِيلِ إِسْلَامِهِنَّ عَلَى اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ ، فَلَمْ يَسْتَفِدْنَ بِتَعْجِيلِ الْفَسْخِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مَا لَا يَقْدِرْنَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ اخْتِيَارُهُنَّ الْفَسْخَ قَبْلَ إِسْلَامِهِنَّ بِإِطْلَاقٍ ، وَلَهُنَّ إِذَا أَسْلَمْنَ فِي عِدَدِهِنَّ يَخْتَرْنَ الْفَسْخَ أَوِ الْمُقَامَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا - : أَنَّهُنَّ يَمْلِكْنَ فِي الشِّرْكِ اخْتِيَارَ الْفَسْخِ ، كَمَا مَلَكْنَهُ فِي الْإِسْلَامِ : لِأَنَّهُنَّ قَدْ مَلَكْنَ بِالْعِتْقِ اخْتِيَارَ الْفَسْخِ ، فَكَانَ تَقْدِيمُهُ - وَهُنَّ جَارِيَاتٌ - فِي الْفَسْخِ أَوْلَى ، وَتَأْخِيرُهُ إِلَى خُرُوجِهِنَّ مِنَ الْفَسْخِ : لِأَنَّ الْفَسْخَ لَا يُنَافِي الْفَسْخَ ، وَلِمَنْ قَالَ بِهَذَا الْوَجْهِ ، فِيمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ غَلَطٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ فِي رِوَايَتِهِ أَوْ مِنَ الْكَاتِبِ فِي نَقْلِهِ : لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ ذَكَرَ

هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا نَقَلَهُ الرَّبِيعُ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " فَقَالَ : وَلَوِ اعْتِقْنَ قَبْلَ إِسْلَامِهِنَّ ، فَاخْتَرْنَ الْمُقَامَ مَعَهُ ثُمَّ أَسْلَمْنَ ، خُيِّرْنَ حِينَ يُسْلِمْنَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ إِذَا اخْتَرْنَ فِرَاقَهُ فِيهَا ، وَإِنَّمَا غَلِطَ الْمُزَنِيُّ أَوِ الْكَاتِبُ فِي النَّقْلِ ، فَقَالَ : فَاخْتَرْنَ فِرَاقَهُ ، أَوِ الْمُقَامَ مَعَهُ ، وَهَذَا تَأْوِيلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ . وَالثَّانِي : أَنَّ النَّقْلَ صَحِيحٌ ، وَأَنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَ اخْتِيَارَ الْفُرْقَةِ وَاخْتِيَارَ الْمُقَامِ ، ثُمَّ عَطَفَ بِالْجَوَابِ عَلَى اخْتِيَارِ الْمُقَامِ دُونَ الْفُرْقَةِ : لِأَنَّهُ قَدْ قَدَّمَ حُكْمَ اخْتِيَارِهِنَّ لِلْفُرْقَةِ ، وَأَفْرَدَ هَاهُنَا حُكْمَ اخْتِيَارِهِنَّ لِلْمُقَامِ ، وَمِنْ عَادَةِ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَيَعْطِفَ بِالْجَوَابِ الْمُرْسَلِ عَلَى أَحَدِهِمَا ، وَيَجْعَلَ جَوَابَ الْأُخْرَى مَحْمُولًا عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَوْ تَقَدَّمَ مِنْ جَوَابِهِ ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي كِتَابِ " الْإِفْصَاحِ " فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ اخْتِيَارُهُنَّ الْفَسْخَ مُعْتَبَرًا بِإِسْلَامِهِنَّ ، فَإِنْ أَسْلَمْنَ فِي عِدَدِهِنَّ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِفَسْخِهِنَّ ، وَيَسْتَأْنِفْنَ عِدَدَ حَرَائِرَ مِنْ وَقْتِ فَسْخِهِنَّ ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْنَ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَدُهُنَّ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ ، وَبَطَلَ حُكْمُ الْفَسْخِ بِالْعِتْقِ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ قَبْلَهُ ، وَفِي عِدَدِهِنَّ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : عِدَدُ إِمَاءٍ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ . وَالثَّانِي : عِدَدُ حَرَائِرَ اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَخْتَرْنَ الْمُقَامَ مَعَهُ قَبْلَ إِسْلَامِهِنَّ ، فَفِي هَذَا الِاخْتِيَارِ وَجْهَانِ ذَكَرْنَاهُمَا : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَغْوٌ لَا حُكْمَ لَهُ : لِأَنَّهُنَّ جَارِيَاتٌ فِي فَسْخٍ يُنَافِي اخْتِيَارَ الْمُقَامِ فَبَطَلَ حُكْمُهُ : تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْفَسْخِ ، وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ هَاهُنَا ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَسْلَمْنَ بَعْدَ عِدَدِهِنَّ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ ، وَإِنْ أَسْلَمْنَ فِي عِدَدِهِنَّ كَانَ لَهُنَّ الْخِيَارُ فِي الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ اخْتِيَارَ الْمُقَامِ قَدْ أَبْطَلَ حَقَّهُنَّ فِي الْفَسْخِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ ، وَيَكُونُ مَوْقُوفَ الْحُكْمِ عَلَى إِمْضَائِهِ فِي زَمَانِهِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يُسْلِمْنَ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَدُهُنَّ بَانَ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ ، وَإِنْ أَسْلَمْنَ فِي عِدَدِهِنَّ سَقَطَ حَقُّهُنَّ مِنِ اخْتِيَارِ الْفَسْخِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنِ اخْتِيَارِ الْمُقَامِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يُمْسَكْنَ فِي الشِّرْكِ ، فَلَا يَخْتَرْنَ بَعْدَ الْعِتْقِ مُقَامًا وَلَا فَسْخًا ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ لَهُنَّ إِذَا أَسْلَمْنَ أَنْ يَخْتَرْنَ الْفَسْخَ ، وَلَا يَكُونُ إِمْسَاكُهُنَّ عَنْهُ إِسْقَاطًا لِحَقِّهِنَّ مِنْهُ : لِأَنَّ اخْتِيَارَهُنَّ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مَوْقُوفٌ وَبَعْدَ الْإِسْلَامِ نَافِذٌ ، فَجَازَ تَأْخِيرُهُ عَنْ زَمَانِ الْوَقْفِ إِلَى زَمَانِ النُّفُوذِ ، وَوَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَجَعَلَ إِمْسَاكَهُنَّ عَنْهُ إِسْقَاطًا لِحَقِّهِنَّ مِنْهُ ، قَالَ : لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الشِّرْكِ هَدَرٌ ، وَالْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّهُ لَوْ أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ هَدَرًا لَأَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ هَدَرًا ، وَلَمَا لَزِمَ فِي الْإِسْلَامِ حُكْمُ عَقْدٍ تَقَدَّمَ فِي الشِّرْكِ . وَفِي فَسَادِ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ مَا أَفْضَى إِلَيْهِ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لَهُنَّ الْخِيَارَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ ، فَالْجَوَابُ فِيهِ إِنِ اخْتَرْنَ الْفَسْخَ أَوِ الْمُقَامَ عَلَى مَا مَضَى .



مَسْأَلَةٌ لَوِ اجْتَمَعَ إِسْلَامُهُنَّ وَإِسْلَامُهُ وَهُنَّ إِمَاءٌ ثُمَّ أُعْتِقْنَ مِنْ سَاعَتِهِنَّ ثُمَّ اخْتَرْنَ فِرَاقَهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُنَّ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوِ اجْتَمَعَ إِسْلَامُهُنَّ وَإِسْلَامُهُ - وَهُنَّ إِمَاءٌ - ثُمَّ أُعْتِقْنَ مِنْ سَاعَتِهِنَّ ، ثُمَّ اخْتَرْنَ فِرَاقَهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُنَّ إِذَا أَتَى عَلَيْهِنَّ أَقَلُّ أَوْقَاتِ الدُّنْيَا ، وَإِسْلَامُهُنَّ وَإِسْلَامُهُ مُجْتَمِعٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ بِأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ إِمَاءٍ ، وَأَسْلَمَ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ ، ثُمَّ أُعْتِقَ الْإِمَاءَ ، فَلَهُنَّ الْخِيَارُ بِالْعِتْقِ بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ ، وَفِي مُدَّةِ خِيَارِهِنَّ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا - وَهُوَ أَصَحُّ - : أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ مُعْتَبَرٌ بِالْإِمْكَانِ فَمَتَى أَمْكَنَهُنَّ تَعْجِيلَ الْفَسْخِ ، فَأَخَّرْنَهُ بَعْدَ الْمَكِنَةِ زَمَانًا ، وَإِنْ قَلَّ بَطَلَ خِيَارُهُنَّ : لِأَنَّهُ خِيَارٌ اسْتَحَقَّتْهُ لِنَقْصِ الزَّوْجِ بِالرِّقِّ عَمَّا حَدَثَ مِنْ كَمَالِهِنَّ بِالْحُرِّيَّةِ ، فَجَرَى مَجْرَى خِيَارِ الرَّدِّ بِالْعُيُوبِ وَاسْتِحْقَاقِهِ عَلَى الْفَوْرِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ مُمْتَدُّ الزَّمَانِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَالْخِيَارِ فِي الْمُصَرَّاةِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ بَاقٍ لَهُنَّ ، وَإِنْ تَطَاوَلَ بِهِنَّ الزَّمَانُ مَا لَمْ تُمَكَّنَّ مِنْ أَنْفُسِهِنَّ أَوْ يُصَرِّحْنَ بِالرِّضَا : اعْتِبَارًا بِأَنَّ مَا لَا يُخَالِفُ حَالَهُنَّ فِي الْفَسْخِ فَهُنَّ بَاقِيَاتٌ عَلَى حُكْمِهِ . فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ ، فَإِنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْخِيَارِ عَلَى الْفَوْرِ بِثَلَاثَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : أَنْ حُكِيَ عَنْهُ بِخِلَافٍ ، فَقَالَ : قَطَعَ فِي كِتَابَيْنِ بِأَنَّ لَهَا الْخِيَارَ ، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ لَيْسَ بِشَيْءٍ : لِأَنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ مُخْتَلِفٌ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَصَحَّ أَقَاوِيلِهِ عِنْدَهُ . وَالْفَصْلُ الثَّانِي : احْتَجَّ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ عَلَى التَّرَاخِي دُونَ الْفَوْرِ ، بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ : وَإِنْ أَصَابَهَا ، فَادَّعَتْ أَنَّهَا كَانَتْ عَلَى حَقِّهَا ، وَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَدَّعِيَ الْجَهَالَةَ بِالْعِتْقِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَدَّعِيَ الْجَهَالَةَ بِالْحُكْمِ . فَأَمَّا إِذَا ادَّعَتِ الْجَهَالَةَ بِالْعِتْقِ ، أَوْ قَالَتْ : مَكَّنْتُهُ مِنْ نَفْسِي وَلَمْ أَعْلَمْ بِعِتْقِي ، فَإِنْ عُلِمَ صِدْقُهَا قُبِلَ قَوْلُهَا ، وَإِنْ عُلِمَ كَذِبُهَا ، رُدَّ قَوْلُهَا ، وَإِنْ جُوِّزَ الْأَمْرَانِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا إِنْ كَذَبَتْ وَهِيَ عَلَى حَقِّهَا مِنَ الْخِيَارِ ، وَأَمَّا إِذَا ادَّعَتِ الْجَهَالَةَ بِالْحُكْمِ بِأَنْ قَالَتْ : مَكَّنْتُهُ مِنْ نَفْسِي مَعَ الْعِلْمِ بِعِتْقِي وَلَكِنْ لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ لِيَ الْخِيَارَ إِذَا أُعْتِقْتُ ، وَأَمْكَنَ مَا قَالَتْ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهَا ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ : لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يُمْكِنُهَا أَنْ تَسْتَعْلِمَ ، كَمَا لَا خِيَارَ فِي رَدِّ الْعَيْبِ إِذَا أَمْسَكَتْ عَنْهُ جَهْلًا بِاسْتِحْقَاقِ رَدِّهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَهَا الْخِيَارُ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَخْفَى إِلَّا عَلَى خَوَاصِّ النَّاسِ ، وَلَيْسَ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ الَّذِي يَعْرِفُهُ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ ، وَفِي هَذَا التَّفْصِيلِ جَوَابٌ عَلَى احْتِجَاجِ الْمُزَنِيِّ بِهِ . وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ : أَنْ عَارَضَ الشَّافِعِيَّ فِي عِبَارَتِهِ ، وَهِيَ قَوْلُهُ : " لَمْ يَكُنْ لَهَا الْخِيَارُ إِذَا أَثْنَى عَلَيْهِنَّ أَقَلَّ أَوْقَاتِ الدُّنْيَا " فَأَفْسَدَ هَذِهِ الْعَبَّارَةَ ، وَأَحَالَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ : إِنَّ عَلَى السُّلْطَانِ أَنْ لَا يُؤَجِّلَهَا أَكْثَرَ مِنْ مُقَامِهَا ، فَكَمْ يَمُرُّ بِهَا مِنْ أَوْقَاتِ الدُّنْيَا مِنْ حِينِ أُعْتِقَتْ إِلَى أَنْ جَاءَتْ إِلَى السُّلْطَانِ ، وَقَدْ يَبْعُدُ ذَلِكَ وَيَقْرُبُ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى اخْتِيَارِ الْفَسْخِ إِلَّا بِكَلَامٍ يَجْمَعُ حُرُوفًا ، كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا فِي وَقْتٍ غَيْرِ وَقْتِ الْآخَرِ ، وَفِي هَذَا إِبْطَالُ الْخِيَارِ ، وَهَذَا اعْتِرَاضٌ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ لِلْكَلَامِ عُرْفًا إِذَا تُقُدِّرَ اسْتِعْمَالُ حَقِيقَتِهِ ، كَانَ مَحْمُولًا عَلَيْهِ ، وَصَارَ مَخْرَجُهُ مَخْرَجَ الْمُبَالَغَةِ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَبِي جَهْمٍ : " لَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ " ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا أَحَدٌ يُمْكِنُهُ إِلَّا أَنْ يَضَعَ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ فِي أَوْقَاتِ نَوْمِهِ وَاسْتِرَاحَتِهِ ، لَكِنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ : لِأَنَّهُ الْأَغْلَبُ مِنْ أَحْوَالِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ أَقَلَّ أَوْقَاتِ الدُّنْيَا بِقَدْرِ زَمَانِ الْمَكِنَةِ ، وَشُرُوطِ الطَّلَبِ ، وَيَكُونُ مُرَادُهُ بِأَقَلِّهَا هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يُمْكِنُهَا فِيهِ الِاخْتِيَارُ فَيُمْسِكُ فِيهِ عَنِ الِاخْتِيَارِ . فَأَمَّا مُرَادُ الْمُزَنِيِّ بِكَلَامِهِ هَذَا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ إِثْبَاتَ الْخِيَارِ عَلَى التَّرَاخِي ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِنْهُ اخْتِيَارُ الْأُخَرِ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّ اخْتِيَارَ الْفَسْخِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى حُكْمٍ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ مَذْهَبًا اخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ ، وَلَيْسَ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ يَكُونُ فِيمَا ثَبَتَ بِاجْتِهَادٍ ، وَهَذَا ثَابِتُ النَّصِّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ خِيَارٌ نَقَصَ ، فَجَرَى خِيَارُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ .

مَسْأَلَةٌ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عِتْقُهُ وَهُنَّ مَعًا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عِتْقُهُ وَهُنَّ مَعًا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ هَذَا عِنْدِي بِشَيْءٍ قَدْ قَطَعَ فِي كِتَابَيْنِ بِأَنَّ لَهَا الْخِيَارَ لَوْ أَصَابَهَا فَادَّعَتِ الْجَهَالَةَ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : إِنَّ عَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يُؤَجِّلَهَا أَكْثَرَ مُقَامِهَا فَكَمْ يَمُرُّ بِهَا مِنْ أَوْقَاتِ الدُّنْيَا مِنْ حِينَ أُعْتِقَتْ إِلَى أَنْ جَاءَتْ إِلَى السُّلْطَانِ ، وَقَدْ يَبْعُدُ ذَلِكَ وَيَقْرُبُ إِلَى أَنْ يُفْهَمَ عَنْهَا مَا تَقُولُ ثُمَّ إِلَى انْقِضَاءِ أَجَلِ مُقَامِهَا ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى ، فَكَيْفَ يَبْطُلُ خِيَارُ إِمَاءٍ يُعْتَقْنَ إِذَا أَتَى عَلَيْهِنَّ أَقَلُّ أَوْقَاتِ الدُّنْيَا وَإِسْلَامُهُنَّ وَإِسْلَامُ الزَّوْجِ مُجْتَمَعٌ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا قَدَرْنَ إِذَا أُعْتِقْنَ تَحْتَ عَبْدٍ أَنْ يَخْتَرْنَ بِحَالٍ : لِأَنَّهُنَّ لَا يَقْدِرْنَ يَخْتَرْنَ إِلَّا بِحُرُوفٍ ، وَكُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا فِي وَقْتٍ غَيْرِ وَقْتِ الْآخَرِ ، وَفِي ذَلِكَ إِبْطِالُ الْخِيَارِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ بِأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ إِمَاءٍ وَأَسْلَمَ ، وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ ثُمَّ أُعْتِقْنَ وَالزَّوْجُ مَعًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :

إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ لِسَيِّدٍ وَاحِدٍ فَيُعْتِقُهُمْ جَمِيعًا بِلَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا لِجَمَاعَةٍ فَيُوَكِّلُوا جَمِيعًا وَاحِدًا فَيُعْتِقُهُمُ الْوَكِيلُ بِلَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِمَّا أَنْ يُعَلِّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ سَادَاتِهِمْ عِتْقَ مَنْ يَمْلِكُهُ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ ، كَأَنَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَالَ : إِذَا أَهَلَّ الْمُحَرَّمُ فَأَنْتَ حُرٌّ ، فَيَكُونُ إِهْلَالُ الْمُحَرَّمِ مُوجِبًا لِعِتْقِ جَمِيعِهِمْ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِذَا كَانَ كَذَا وَأُعْتِقَ الزَّوْجُ وَهُنَّ مَعًا ، فَلَا خِيَارَ لَهُنَّ : لِاسْتِوَائِهِنَّ مَعَ الزَّوْجِ فِي حَالِ الرِّقِّ بِالنَّقْصِ ، وَفِي حَالِ الْكَمَالِ بِالْعِتْقِ ، فَلَمْ يُفَضَّلْنَ عَلَيْهِ فِي حَالٍ يَثْبُتُ لَهُنَّ فِيهَا خِيَارٌ ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ : " وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عِتْقُهُ وَهُنَّ مَعًا " يَعْنِي فِي سُقُوطِ الْخِيَارِ عَلَى مَا عَلِمْتَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فِيمَنْ أَمْسَكَتْ عَنِ الْخِيَارِ حَتَّى مَضَى أَقَلُّ أَوْقَاتِ الدُّنْيَا إِلَّا أَنَّ فِي ذَلِكَ سَقَطَ بَعْدَ أَنْ وَجَبَ ، وَفِي هَذَا لَمْ يَجِبْ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أُعْتِقَ الْإِمَاءُ قَبْلَ الزَّوْجِ ، وَلَمْ يَخْتَرْنَ الْفَسْخَ حَتَّى أُعْتِقَ الزَّوْجُ ، إِمَّا لِأَنَّهُنَّ لَمْ يَعْلَمْنَ بِعِتْقِهِنَّ حَتَّى أُعْتِقَ الزَّوْجُ ثُمَّ عَلِمْنَ ، وَإِمَّا لِأَنَّهُنَّ عَلِمْنَ . وَقِيلَ : إِنَّ خِيَارَهُنَّ عَلَى التَّرَاخِي دُونَ الْفَوْرِ فَلَمْ يُعَجِّلْنَ الْخِيَارَ حَتَّى أُعْتِقَ الزَّوْجُ ، وَفِي خِيَارِهِنَّ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ سَقَطَ وَالسُّقُوطُ مُوجِبُهُ مِنَ النَّقْصِ وَحُصُولِ التَّكَافُؤِ بِالْعِتْقِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ بَاقٍ بِحَالِهِ ، وَلَهُنَّ الْخِيَارُ بَعْدَ عِتْقِهِ : لِأَنَّ مَا اسْتَقَرَّ وُجُوبُهُ اسْتُحِقَّ اسْتِيفَاؤُهُ .

مَسْأَلَةٌ لَوِ اجْتَمَعَ إِسْلَامُهُ وَإِسْلَامُ حُرَّتَيْنِ فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ عَتَقَ ثُمَّ أَسْلَمَتِ اثْنَتَانِ فِي الْعِدَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ إِلَّا اثْنَتَيْنِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوِ اجْتَمَعَ إِسْلَامُهُ وَإِسْلَامُ حُرَّتَيْنِ فِي الْعِدَّةِ ، ثُمَّ عَتَقَ ، ثُمَّ أَسْلَمَتِ اثْنَتَانِ فِي الْعِدَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ إِلَّا اثْنَتَيْنِ مِنْ أَيِّ الْأَرْبَعِ شَاءَ لَا يَثْبُتُ لَهُ بِعَقْدِ الْعُبُودِيَّةِ إِلَّا اثْنَتَانِ ، وَيَنْكِحُ تَمَامَ أَرْبَعٍ إِنْ شَاءَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ بِأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ حَرَائِرَ ثُمَّ أَسْلَمَ ، وَأُعْتِقْنَ ، فَلَهُنَّ إِذَا أَسْلَمْنَ بَعْدَهُ فِي عِدَدِهِنَّ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يُسْلِمْنَ قَبْلَ عِتْقِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُسْلِمْنَ بَعْدَ عِتْقِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُسْلِمَ بَعْضُهُنَّ قَبْلَ عِتْقِهِ ، وَبَعْضُهُنَّ بَعْدَ عِتْقِهِ . فَإِنْ أَسْلَمْنَ قَبْلَ عِتْقِهِ ، وَهُوَ عَبْدٌ ثُمَّ أُعْتِقَ ، لَهُ أَنْ يُمْسِكَ مِنْهُنَّ إِلَّا اثْنَتَيْنِ : لِأَنَّهُنَّ أَسْلَمْنَ وَهُوَ عَبْدٌ لَا يَسْتَبِيحُ مِنْهُنَّ إِلَّا اثْنَتَيْنِ ، فَاسْتَقَرَّ الْحُكْمُ بِاجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ ، فَلَمْ يُغَيِّرْهُ مَا حَدَثَ بَعْدَهُ كَمَنِ اجْتَمَعَ إِسْلَامُهُ وَإِسْلَامُ أَمَةٍ ، وَهُوَ مُوسِرٌ ثُمَّ أَعْسَرَ ، أَوْ كَانَ مُعْسِرًا ثُمَّ أَيْسَرَ ، فَإِنَّ حُكْمَهُ مُعْتَبَرٌ بِاجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ فِي يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ ، وَلَا يُغَيِّرُهُ مَا حَدَثَ بَعْدَهُ مِنْ يَسَارٍ بَعْدِ إِعْسَارٍ أَوْ إِعْسَارٍ بَعْدَ يَسَارٍ ، كَذَلِكَ هَذَا ، وَإِنْ أُعْتِقَ الزَّوْجُ ثُمَّ أَسْلَمْنَ بَعْدَ عِتْقِهِ ، فَلَهُ إِمْسَاكُ الْأَرْبَعِ كُلِّهِنَّ : لِأَنَّهُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ حُرٌّ تَحِلُّ لَهُ أَرْبَعٌ ، فَجَازَ لَهُ إِمْسَاكُ الْأَرْبَعِ ، وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْضُهُنَّ قَبْلَ عِتْقِهِ وَأَسْلَمَ بِعَضُّهُنَّ بَعْدَ عِتْقِهِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يُسْتَكْمَلَ إِسْلَامُ مَنْ يَحِلُّ لَهُ فِي الرِّقِّ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يُسْتَكْمَلَ ، فَإِنِ اسْتُكْمِلَ - وَذَلِكَ بِأَنْ يُسْلِمَ قَبْلَ عِتْقِهِ اثْنَتَانِ وَبَعْدَ عِتْقِهِ اثْنَتَانِ - فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ مِنْهُنَّ إِلَّا اثْنَتَيْنِ ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ جَمِيعُهُنَّ قَبْلَ عِتْقِهِ : لِأَنَّهُ لَمَّا اجْتَمَعَ إِسْلَامُهُ وَإِسْلَامُ اثْنَتَيْنِ فِي الْعُبُودِيَّةِ ، فَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ مِنْ عِدَدِ الْمَنْكُوحَاتِ فِي الْعُبُودِيَّةِ ، وَصَارَ حُرًّا مِنَ الزِّيَادَةِ ، مَمْنُوعًا ، فَاسْتَقَرَّ حُكْمُ الْمَنْعِ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَكْمِلِ الْعَدَدَ قَبْلَ عِتْقِهِ ، بَلْ أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ قَبْلَ الْعِتْقِ وَثَلَاثٌ بَعْدَهُ ، فَالَّذِي يَقْتَضِيهِ حُكْمُ التَّعْلِيلِ أَنْ يَجُوزَ لَهُ إِمْسَاكُ الْأَرْبَعِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ حَقَّهُ فِي الْعُبُودِيَّةِ ، حَتَّى بِحُدُوثِ الْحُرِّيَّةِ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ أَسْلَمْنَ بَعْدَهَا ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ احْتِمَالٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ مِنْهُنَّ إِلَى بَعْضِ حَقِّهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُنَّ إِلَّا بَاقِيَةٌ ، وَهِيَ وَاحِدَةٌ ، فَلَا يُمْسِكُ مِنْهُنَّ إِلَّا اثْنَتَيْنِ ، ثُمَّ هَكَذَا لَوْ تَقَدَّمَ إِسْلَامُهُنَّ عَلَيْهِ ثُمَّ أُعْتِقَ ، اعْتُبِرَ حَالُ عِتْقِهِ ، فَإِنْ أُعْتِقَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ أَمْسَكَ الْأَرْبَعَ ، وَإِنْ أُعْتِقَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ أَمْسَكَ اثْنَتَيْنِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فَإِنْ جَوَّزْنَا لَهُ إِمْسَاكَ الْأَرْبَعِ فَلَا خِيَارَ لَهُ كَمَا لَا خِيَارَ لِلْحُرِّ إِذَا أَسْلَمَ مَعَ أَرْبَعٍ ، وَإِنْ مَنَعْنَاهُ إِلَّا مِنِ اثْنَتَيْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَهُمَا مِنَ الْأَرْبَعِ ، وَسَوَاءٌ اخْتَارَ مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ عِتْقِهِ أَوْ بَعْدَهُ ، وَيَنْفَسِخُ بِاخْتِيَارِهِمَا نِكَاحُ الْبَاقِينَ ، وَهَكَذَا لَوْ فَسَخَ نِكَاحَ اثْنَتَيْنِ ثَبَّتَ نِكَاحُهُمَا اخْتِيَارَ الْبَاقِينَ ، فَإِذَا اخْتَارَ اثْنَتَيْنِ ، وَفَسَخَ نِكَاحَ اثْنَتَيْنِ ما يطرأ من أحكام بإسلام الزوج فَلَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْعَقْدَ عَلَيْهِمَا : لِأَنَّهُ حُرٌّ يَسْتَبِيحُ نِكَاحَ أَرْبَعٍ ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهِمَا فِي الْعِدَّةِ : لِأَنَّهُمَا مِنْهُ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ أَسْلَمَ وَأَسْلَمَ مَعَهُ أَرْبَعٌ فَقَالَ قَدْ فَسَخْتُ نِكَاحَهُنَّ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ أَسْلَمَ وَأَسْلَمَ مَعَهُ أَرْبَعٌ ، فَقَالَ : قَدْ فَسَخْتُ نِكَاحَهُنَّ ، سُئِلَ : فَإِنْ أَرَادَ طَلَاقًا ، فَهُوَ مَا أَرَادَ ، وَإِنْ أَرَادَ حِلَّهُ بِلَا طَلَاقٍ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا وَأُحْلِفَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا قَالَ لِأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ أَسْلَمْنَ مَعَهُ قَدْ فَسَخْتُ نِكَاحَهُنَّ ، سُئِلَ : فَإِنْ أَرَادَ بِالْفَسْخِ لَا حَسْمًا لَهُ ، فَإِنْ قَالَ : أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ ، قُبِلَ مِنْهُ : لِأَنَّ الْفَسْخَ كِتَابَةٌ فِيهِ ، وَهُنَّ زَوْجَاتٌ يَقَعُ عَلَيْهِنَّ الطَّلَاقُ ، وَيَكُونُ إِيقَاعُهُ لِلطَّلَاقِ عَلَيْهِنَّ تَحْقِيقًا لِثُبُوتِ نِكَاحِهِنَّ ، فَإِنْ أَكْذَبْنَهُ فِي إِرَادَةِ الطَّلَاقِ ، فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَنْهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ، وَإِنْ قَالَ : أَرَدْتُ بِالْفَسْخِ حَلَّ النِّكَاحِ وَرَفْعَ الْعِقْدِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ ، كَمَا يُفْسَخُ نِكَاحُ مَنْ زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، وَهُنَّ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ : لِأَنَّ الْفَسْخَ يَقَعُ عَلَى مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ إِمْسَاكُهَا ، وَيَجُوزُ لَهُ إِمْسَاكُ الْأَرْبَعِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْسَخَ نِكَاحَهُنَّ ، فَإِنْ أَكْذَبْنَهُ وَقُلْنَ : أَرَادَ بِالْفَسْخِ الطَّلَاقَ ، أُحْلِفَ بِاللَّهِ تَعَالَى مَا أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ ، فَإِنْ نَكَلَ ، حُلِّفْنَ وَطُلِّقْنَ ، وَإِنْ قَالَ : أَرَدْتُ بِالْفَسْخِ طَلَاقَ اثْنَتَيْنِ وَحَلَّ نِكَاحِ اثْنَتَيْنِ ، وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَى مَنْ أَرَادَهُمَا بِالْفَسْخِ ، وَلَهُمَا إِحْلَافُهُ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ وَاحِدًا ، وَيَخْتَلِفُ حُكْمُهُ فِيهِنَّ بِاخْتِلَافِ النِّيَّةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ كُنَّ خَمْسًا فَأَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ فِي الْعِدَّةِ فَقَالَ قَدِ اخْتَرْتُ حَبْسَهَا حَتَّى قَالَ ذَلِكَ لِأَرْبَعٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ كُنَّ خَمْسًا فَأَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ فِي الْعِدَّةِ ، فَقَالَ : قَدِ اخْتَرْتُ حَبْسَهَا حَتَّى قَالَ ذَلِكَ لِأَرْبَعٍ ، ثَبَتَ نِكَاحُهُنَّ بِاخْتِيَارِهِ ، وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْبَوَاقِي " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا تَزَوَّجَ الْمُشْرِكُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ كَأَنَّهُ تَزَوَّجَ ثَمَانِيَ زَوْجَاتٍ ثُمَّ أَسْلَمَ ، وَأَسْلَمَ مَعَهُ مِنْهُنَّ أَرْبَعٌ ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ ذَكَرْنَاهَا :

أَحَدُهَا : أَنَّ الْخِيَارَ لِلْأَرْبَعِ الْمُسْلِمَاتِ فَيَنْفَسِخُ بِاخْتِيَارِهِ لَهُنَّ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ الْمُشْرِكَاتِ سَوَاءٌ أَسْلَمْنَ فِي عِدَدِهِنَّ أَمْ لَا ؟ وَهَذَا لَوْ فَسَخَ نِكَاحَ الْأَرْبَعِ الْمُتَأَخِّرَاتِ كَانَ اخْتِيَارَ النِّكَاحِ لِلْأَرْبَعِ الْمُسْلِمَاتِ : لَأَنَّ الِاخْتِيَارَ وَالْفَسْخَ يَتَقَابَلَا ، فَكَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَلِيلٌ عَلَى الْآخَرِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُمْسِكَ عَنِ اخْتِيَارِ الْأَرْبَعِ الْمُسْلِمَاتِ : انْتِظَارًا لِإِسْلَامِ الْأَرْبَعِ الْمُشْرِكَاتِ ، فَيَكُونُ لَهُ ذَلِكَ ، فَإِنْ لَمْ يُسْلِمْنَ حَتَّى مَضَتْ عِدَدُهُنَّ ، ثَبَتَ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ الْمُتَقَدِّمَاتِ ، وَإِنْ أَسْلَمْنَ فِي عِدَدِهِنَّ ، كَانَ لَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى أَرْبَعٍ مِنْ أَيَّتِهِنَّ شَاءَ : إِمَّا الْأَرْبَعِ الْمُتَقَدِّمَاتِ ، وَإِمَّا الْأَرْبَعِ الْمُتَأَخِّرَاتِ ، وَإِمَّا عَلَى بَعْضِ الْمُتَقَدِّمَاتِ ، وَيَسْتَكْمِلُ أَرْبَعًا مِنَ الْمُتَأَخِّرَاتِ ، فَلَوْ مَاتَ الْأَرْبَعُ الْمُتَقَدِّمَاتُ ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْأَرْبَعُ الْمُتَأَخِّرَاتُ ، كَانَ خِيَارُهُ بَاقٍ فِي الْمَوْتَى كَبَقَائِهِ فِي الْأَحْيَاءِ : لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ لَهُنَّ إِبَانَةٌ عَنْ تَقَدُّمِ نِكَاحِهِنَّ ، فَإِنِ اخْتَارَ الْأَرْبَعَ الْمَوْتَى ، انْفَسَخَ نِكَاحُ الْأَحْيَاءِ ، وَكَانَ لَهُ الْمِيرَاثُ مِنَ الْمَوْتَى وَمُتْنَ فِي زَوْجِيَّتِهِ ، وَإِنِ اخْتَارَ الْأَرْبَعَ الْأَحْيَاءَ ، ثَبَتَ نِكَاحُهُنَّ ، وَبَانَ بِهِ فَسْخُ نِكَاحِ الْأَرْبَعِ الْمَوْتَى ، وَإِنَّهُنَّ مُتْنَ أَجْنَبِيَّاتٍ فَلَمْ يَرِثْهُنَّ ، وَإِنِ اخْتَارَ بَعْضَ الْأَحْيَاءِ وَبَعْضَ الْمَوْتَى فَعَلَى مَا مَضَى . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَخْتَارَ الزَّوْجُ عِنْدَ إِسْلَامِ الْأَرْبَعِ مَعَهُ بَعْضَهُنَّ ، وَيَنْتَظِرَ إِسْلَامَ الْبَاقِيَاتِ ، كَأَنَّهُ اخْتَارَ مِنَ الْأَرْبَعِ اثْنَتَيْنِ وَتَوَقَّفَ عَنِ الِاثْنَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ : انْتِظَارًا لِإِسْلَامِ الْأَرْبَعِ الْمُتَأَخِّرَاتِ ، فَثَبَتَ نِكَاحُ الِاثْنَتَيْنِ الْمُخْتَارَتَيْنِ ، فَإِذَا أَسْلَمَ الْأَرْبَعُ الْمُتَأَخِّرَاتُ كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنَ الْجَمِيعِ - وَهُنَّ سِتٌّ - اثْنَتَيْنِ تَمَامَ أَرْبَعٍ مِنْ أَيَّتِهِنَّ شَاءَ ، وَيَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ الْبَاقِيَاتِ . فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ ، فَمَسْأَلَةُ الْكِتَابِ أَنْ يَقُولَ - وَقَدْ أَسْلَمَ مَعَهُ مِنَ الثَّمَانِي وَاحِدَةٌ - : قَدِ اخْتَرْتُهَا ، ثُمَّ تُسْلِمُ ثَانِيَةٌ فَيَقُولُ : قَدِ اخْتَرْتُهَا ، ثُمَّ تُسْلِمُ ثَالِثَةٌ فَيَخْتَارُهَا ، ثُمَّ تُسْلِمُ رَابِعَةٌ فَيَخْتَارُهَا ، فَقَدْ ثَبَتَ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ الْمُسْلِمَاتِ لِاخْتِيَارِ كُلِّ وَاحِدَةٍ بَعْدَ إِسْلَامِهَا ، وَانْفَسَخَ بِهِ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ الْمُتَأَخِّرَاتِ ثُمَّ تُرَاعَى أَحْوَالُهُنَّ ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْنَ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَدُهُنَّ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِ الزَّوْجِ ، وَإِنْ أَسْلَمْنَ فِي عِدَدِهِنَّ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِالِاخْتِيَارِ وَاسْتَأْنَفْنَ الْعِدَّةَ مِنْ وَقْتِ اخْتِيَارِهِ الرَّابِعَةَ : لِأَنَّ بِاخْتِيَارِهَا مِمَّنْ سِوَاهَا ، فَلَا يَكُونُ الْفَسْخُ طَلَاقًا سَوَاءٌ وَقَعَ بِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ أَوْ بِالِاخْتِيَارِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ وَقَعَ الْفَسْخُ بِإِسْلَامِ الزَّوْجَةِ ، وَتَأَخَّرَ الزَّوْجُ كَانَ طَلَاقًا ، وَإِنْ وَقَعَ الْفَسْخُ بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ وَتَأَخَّرَ إِسْلَامُ الزَّوْجَةِ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا . وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ خَطَأٌ : لِأَنَّ مَا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ فِيهِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا كَسَائِرِ الْفُسُوخِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ : كُلَّمَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ مِنْكُنَّ فَقَدِ اخْتَرْتُ فَسْخَ نِكَاحِهَا لَمْ يَكُنْ هَذَا شَيْئًا إِلَّا أَنْ يُرِيدَ طَلَاقًا ، فَإِنِ اخْتَارَ إِمْسَاكَ أَرْبَعٍ فَقَدِ انْفَسَخَ نِكَاحُ مَنْ زَادَ عَلَيْهِنَّ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : الْقِيَاسُ عِنْدِي عَلَى قَوْلِهِ أَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ فَقَذَفَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ أَوْ ظَاهَرَ أَوْ آلَى كَانَ ذَلِكَ مَوْقُوفًا ، فَإِنِ اخْتَارَهَا كَانَ عَلَيْهِ فِيهَا مَا عَلَيْهِ فِي الزَّوْجَاتِ ، وَإِنْ فَسَخَ نِكَاحَهَا سَقَطَ عَنْهُ الظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ ، وَجُلِدَ بِقَذْفِهَا " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي مُشْرِكٍ تَزَوَّجَ بِثَمَانِي زَوْجَاتٍ ثُمَّ أَسْلَمَ قَبْلَهُنَّ فَيَتَعَلَّقُ بِهَا ثَلَاثَةُ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقُولَ لِنِسَائِهِ كُلَّمَا أَسْلَمَتْ مِنْكُنَّ فَقَدِ اخْتَرْتُ إِمْسَاكَهَا ، فَهَذَا لَا يَصِحُّ لِمَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ اخْتِيَارٌ مُعَلَّقٌ بِصِفَةٍ ، وَالِاخْتِيَارُ لِلنِّكَاحِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّقَ بِصِفَةٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ اخْتِيَارٌ لِمُبْهَمَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ ، وَالِاخْتِيَارُ لَا يَصِحُّ إِلَّا لِمُعَيَّنَةٍ كَالنِّكَاحِ . وَالْفَصْلُ الثَّانِي : أَنْ يَقُولَ لَهُنَّ : كُلَّمَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ ، فَقَدْ فَسَخْتُ نِكَاحَهَا ، فَهَذَا لَا يَصِحُّ لِمَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ فَسْخٌ مُعَلَّقٌ بِصِفَةٍ وَلَا يَجُوزُ تَعَلُّقُ الْفَسْخِ بِالصِّفَاتِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ فَسْخٌ قَبْلَ وَقْتِ الْفَسْخِ : لِأَنَّهُ يُسْتَحَقُّ فَسْخُ مَنْ زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ لَا يُسْلِمَ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ ، فَلَا يُسْتَحَقُّ فِيهِ فَسْخُ نِكَاحِهِنَّ . وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ : أَنْ يَقُولَ لَهُنَّ : كُلَّمَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ فَقَدْ طَلَّقْتُهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَصِحُّ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِصِفَةٍ ، فَإِذَا أَسْلَمَ مِنْهُنَّ أَرْبَعٌ طُلِّقْنَ ، وَكَانَ ذَلِكَ اخْتِيَارًا لَهُنَّ : لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ عَلَى زَوْجَةٍ ، وَيَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ الْبَاقِيَاتِ : لِأَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْمُتَقَدِّمَاتِ قَدْ يَتَضَمَّنُ اخْتِيَارَهُنَّ ، فَصَارَ فَسْخًا لِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ : لِأَنَّهُ قَالَ : " وَلَوْ قَالَ : كُلَّمَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ فَقَدِ اخْتَرْتُ فَسْخَ نِكَاحِهَا لَمْ يَكُنْ هَذَا شَيْئًا إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ طَلَاقَهَا ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : كُلَّمَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ ، فَقَدْ طَلَّقْتُهَا صَحَّ طَلَاقُهَا . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَسْخِ فِي أَنْ لَا يَجُوزَ تَعْلِيقُهُ بِصِفَةٍ ، وَبَيْنَ الطَّلَاقِ فِي أَنَّ جَوَازَ تَعْلِيقِهِ بِالصِّفَةِ أَنَّ الْفَسْخَ مَوْضُوعٌ لِتَمْيِيزِ الزَّوْجَةِ عَنِ الزَّوْجَةِ فَلَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُهُ بِالصِّفَةِ لِعَدَمِ التَّمْيِيزِ الْمَقْصُودِ فِيهِ ، وَالطَّلَاقُ حَلَّ لِنِكَاحِ الزَّوْجَةِ فَجَازَ تَعَلُّقُهُ بِالصِّفَةِ لِوُجُودِ حِلِّ النِّكَاحِ بِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَطَائِفَةٍ مَعَهُ - : أَنَّ قَوْلَهُ لِلثَّمَانِي الْمُشْرِكَاتِ كُلَّمَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ فَهِيَ طَالِقٌ ، لَا يَصِحُّ : لِأَنَّ الطَّلَاقَ ، وَإِنْ جَازَ تَعَلُّقُهُ بِالصِّفَةِ ، فَهَذَا الطَّلَاقُ هَاهُنَا لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِالصِّفَةِ : لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ اخْتِيَارًا أَوْ فِرَاقًا ، وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الِاخْتِيَارِ بِالصِّفَةِ ، كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ الَّذِي قَدْ تَضَمَّنَ اخْتِيَارَ الصِّفَةِ ، وَيَتَأَوَّلُ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا بِتَأْوِيلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ : " كُلَّمَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ فَقَدِ اخْتَرْتُ فَسْخَ نِكَاحِهَا ، لَمْ يَكُنْ هَذَا شَيْئًا إِلَّا أَنْ يُرِيدَ طَلَاقَهَا " فَيَصِحُّ ، وَيَقَعُ الطَّلَاقُ ، إِذَا كَانَ زَوْجَاتُهُ فِي الشِّرْكِ أَرْبَعًا لَا يَزِدْنَ عَلَيْهَا ، فَيَقَعُ طَلَاقُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ إِذَا أَسْلَمَتْ : لِأَنَّهُ طَلَاقٌ مَحْضٌ لَا يَتَضَمَّنُ اخْتِيَارًا فَجَازَ تَعْلِيقُهُ بِالصِّفَةِ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : أَنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ حِكَايَةٌ عَنْ حَالِ الزَّوْجِ ، وَلَيْسَ مِنْ لَفْظِ الزَّوْجِ ،

وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ : " كُلَّمَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ " أَنَّ الزَّوْجَ قَالَ عِنْدَ إِسْلَامِ كُلِّ وَاحِدَةٍ : قَدْ فَسَخْتُ نِكَاحَهَا ، يُرِيدُ الطَّلَاقَ ، طُلِّقَتْ : لِأَنَّهُ لَوِ اخْتَارَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ ، صَحَّ فَصَحَّ أَنْ يُطَلِّقَهَا ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَسْلَمَ مَعَهُ الثَّمَانِي كُلُّهُنَّ ، فَقَالَ لَهُنَّ : أَيَّتُكُنَّ دَخَلَتِ الدَّارَ فَقَدْ فَسَخْتُ نِكَاحَهَا : لِأَنَّهُ فَسْخٌ بِصِفَةٍ ، وَلَوْ قَالَ : أَيَّتُكُنَّ دَخَلَتِ الدَّارَ فَهِيَ طَالِقٌ ، كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَصِحُّ : لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ اخْتِيَارًا بِصِفَةٍ . وَالثَّانِي : يَصِحُّ : تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الطَّلَاقِ . فَإِذَا دَخَلَهَا أَرْبَعٌ طُلِّقْنَ ، وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْبَاقِيَاتِ ، فَيَصِيرُ الطَّلَاقُ مُعَلَّقًا بِهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : اخْتِيَارُ الْمُطَلَّقَاتِ . وَالثَّانِي : فِرَاقُهُنَّ . وَالثَّالِثُ : فَسْخُ نِكَاحِ مَنْ عَدَاهُنَّ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ دَخَلَ الثَّمَانِي الدَّارَ كُلُّهُنَّ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، لَمْ يَتَقَدَّمْ بِعَضُّهُنَّ بَعْضًا ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَى الزَّوْجَاتِ الْأَرْبَعِ مِنْهُنَّ وَجْهًا وَاحِدًا : لِأَنَّهُ طَلَاقٌ لَا يَتَضَمَّنُ الِاخْتِيَارَ . وَقِيلَ لَهُ : اخْتَرْ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ ، فَإِذَا اخْتَارَهُنَّ تَعَيَّنَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِيهِنَّ ، وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْبَاقِيَاتِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ أَسْلَمْنَ مَعَهُ ، فَقَالَ : لَا أَخْتَارُ امتنع عن اختيار من تكون زوجته ، حُبِسَ حَتَّى يَخْتَارَ ، وَأَنْفَقَ عَلَيْهِنَّ مِنْ مَالِهِ : لِأَنَّهُ مَانِعٌ لَهُنَّ بِعَقْدٍ مُتَقَدَّمٍ ، وَلَا يُطَلِّقُ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ كَمَا يُطَلِّقُ عَلَى الْمُولِي ، فَإِنِ امْتَنَعَ مَعَ الْحَبْسِ ، عُزِّرَ وَحُبِسَ حَتَى يَخْتَارَ ، وَإِنْ مَاتَ ، أَمَرْنَاهُنَّ أَنْ يَعْتَدِدْنَ الْآخَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ ، أَوْ مِنْ ثَلَاثِ حِيَضٍ ، وَيُوقَفُ لَهُنَّ الْمِيرَاثُ حَتَّى يَصْطَلِحْنَ فِيهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي مُشْرِكٍ أَسْلَمَ وَأَسْلَمَ مَعَهُ ثَمَانِي زَوْجَاتٍ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا : لِئَلَّا يَصِيرَ جَامِعًا بَيْنَ ثَمَانٍ ، فَإِنْ تَوَقَّفَ عَنِ الِاخْتِيَارِ ، سَأَلَهُ الْحَاكِمُ عَنْ تَوَقُّفِهِ وَأَمَرَهُ بِتَعْجِيلِ اخْتِيَارِهِ : لِأَنْ لَا يَسْتَدِيمَ مَا حَظَرَهُ الشَّرْعُ فِي الْجَمْعِ ، فَإِنْ سَأَلَ إِنْظَارَهُ لِيُفَكِّرَ فِي اخْتِيَارِهِ وَيَرْتَئِيَ فِي أَحَظِّهِنَّ لَهُ ، أَنْظَرَهُ مَا قَلَّ مَنِ الزَّمَانِ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ فِكْرُهُ ، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ بِإِنْظَارِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ، كَالْإِنْظَارِ لِلْمُولِي وَالْمُرْتَدِّ ، فَإِذَا اخْتَارَ بَعْدَ الْإِنْظَارِ ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَخْتَارَ أَرْبَعًا ، فَيَكُونُ اخْتِيَارُهُ لَهُنَّ فَسْخًا لِمَنْ عَدَاهُنَّ ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ نِكَاحَ أَرْبَعٍ ، فَيَكُونُ فَسْخُهُ اخْتِيَارًا لِنِكَاحِ مَنْ عَدَاهُنَّ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَاقِيَاتُ بَعْدَ فَسْخِ نِكَاحِ الْأَرْبَعِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ كَأَنَّهُنَّ عَشْرٌ ، فَيَحْتَاجُ بَعْدَ فَسْخِ الْأَرْبَعِ أَنْ يَخْتَارَ مِنَ السِّتِّ أَرْبَعًا ، أَوْ يَفْسَخَ مِنْهُنَّ نِكَاحَ اثْنَيْنِ ، فَيَثْبُتُ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ . وَاخْتِيَارُهُ وَفَسْخُهُ بِالْقَوْلِ ، فَاخْتِيَارُهُ قَوْلًا أَنْ يَقُولَ : قَدِ اخْتَرْتُ نِكَاحَهَا ، أَوْ قَدِ اخْتَرْتُ إِمْسَاكَهَا ، أَوْ قَدِ اخْتَرْتُ حَبْسَهَا ، فَإِنْ قَالَ : قَدِ اخْتَرْتُهَا ، صَحَّ ، فَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : قَدْ أَمْسَكْتُهَا : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [ الْبَقَرَةِ : 229 ] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغَيْلَانَ : " أَمْسِكْ أَرْبَعًا " وَإِنْ قَالَ : قَدْ حَبَسْتُهَا لَمْ يَصِحَّ اخْتِيَارُهُ : لِاحْتِمَالِهِ ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَأْتِ بِهِ ، وَإِنْ قَالَ : قَدْ رَدَتُّهَا لَمْ يَصِحَّ اخْتِيَارُهَا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ

رَدَّهَا إِلَى أَهْلِهَا ، أَوْ رَدَّهَا إِلَى نَفْسِهِ ، فَلَوْ أَرَادَ بِهِ الِاخْتِيَارَ لَمْ يَصِحَّ : لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ يَجْرِي مَجْرَى عَقْدِ النِّكَاحِ الَّذِي لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالتَّصْرِيحِ دُونَ الْكِنَايَةِ . وَفَسْخُهُ قَوْلَانِ : أَنْ يَقُولَ : قَدْ فَسَخْتُ نِكَاحَهَا ، أَوْ قَدْ رَفَعْتُ نِكَاحَهَا ، أَوْ قَدْ أَنْزَلْتُ نِكَاحَهَا ، فَكُلُّ ذَلِكَ فَسْخٌ صَرِيحٌ : لِأَنَّهَا أَلْفَاظٌ مُشْتَرَكَةُ الْمَعَانِي ، وَلَوْ قَالَ قَدْ صَرَفْتُهَا أَوْ أَبْعَدْتُهَا كَانَ كِنَايَةً يَرْجِعُ إِلَى إِرَادَتِهِ فِيهِ ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْفَسْخَ صَحَّ : لِأَنَّ الْفَسْخَ يَجْرِي مَجْرَى الطَّلَاقِ الَّذِي صَحَّ بِالتَّصْرِيحِ وَبِالْكِنَايَةِ ، فَلَوْ قَالَ قَدْ حَرَّمْتُهَا كَانَ كِنَايَةً يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ ، وَيَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ كَانَ اخْتِيَارًا ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْفَسْخَ كَانَ فَسْخًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا ، وَهَلْ يَكُونُ فَسْخًا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ فَسْخًا : لِأَنَّ الْمَفْسُوخَ نِكَاحُهَا مُحَرَّمَةٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَكُونُ فَسْخًا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْكِنَايَةَ إِذَا تَجَرَّدَتْ عَنْ نِيَّةٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حُكْمٌ في الطلاق . وَالثَّانِي : أَنَّهُ حُكْمٌ ثَبَتَ بَعْدَ الْفَسْخِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَتَقَدَّمَهُ مَا يَقَعُ بِهِ الْفَسْخُ ، فَلَوْ قَالَ : قَدْ فَارَقْتُهَا كَانَ فَسْخًا ، وَلَوْ قَالَ : قَدْ طَلَّقْتُهَا كَانَ اخْتِيَارًا . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا - وَإِنْ كَانَا صَرِيحَيْنِ فِي طَلَاقِ الزَّوْجَاتِ - أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى زَوْجَةٍ ، فَلِذَلِكَ جَعَلْنَهُ اخْتِيَارًا ، وَالْفِرَاقُ قَدْ يَقَعُ عَلَى زَوْجَتِهِ ، فَيَكُونُ طَلَاقًا ، وَعَلَى غَيْرِ زَوْجَتِهِ ، فَيَكُونُ إِبْعَادًا ، فَلِذَلِكَ جُعِلَ فَسْخًا ، فَلَوْ قَالَ : أَرَدْتُ بِالْفِرَاقِ الطَّلَاقَ ، قُبِلَ مِنْهُ وَصَارَ اخْتِيَارًا وَطَلَاقًا ، وَلَوْ قَالَ : أَرَدْتُ بِالطَّلَاقِ الْفَسْخَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ : لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى زِوَجَتِهِ ، وَالْفَسْخَ لَا يَكُونُ هَاهُنَا إِلَّا بِغَيْرِ زَوْجَتِهِ ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ : قَدْ سَرَّحْتُهَا ، كَانَ كَالْفِرَاقِ فَسْخًا : لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِمَعْنَاهُ ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ صَارَ اخْتِيَارًا كَالْفِرَاقِ ، فَأَمَّا إِذَا ظَاهَرَ مِنْهَا ، أَوْ آلَى ، لَمْ تَكُنِ اخْتِيَارًا وَلَا فَسْخًا : لِأَنَّ الظِّهَارَ وَالْإِيلَاءَ قَدْ تُخَاطَبُ بِهِ الزَّوْجَةُ وَغَيْرُ الزَّوْجَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِرْ حُكْمُهَا إِلَّا فِي زَوْجَتِهِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الظِّهَارُ فِي الْحَالِ اخْتِيَارًا وَلَا فَسْخًا ، نَظَرَ فِي الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا وَآلَى : فَإِنِ اخْتَارَ فَسْخَ نِكَاحِهَا سَقَطَ حُكْمُ ظِهَارِهِ وَإِيلَائِهِ ، وَإِنِ اخْتَارَ جِنْسَ نِكَاحِهَا ثَبَتَ ظِهَارُهُ وَإِيلَاؤُهُ مِنْهَا : لِأَنَّهَا كَانَتْ زَوْجَتَهُ وَقْتَ ظِهَارِهِ وَإِيلَائِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا وَطِئَ مِنَ الثَّمَانِي الْمَوْقُوفَاتِ عَلَى اخْتِيَارِهِ وَفَسْخِهِ أَرْبَعًا ، فَهَلْ يَكُونُ وَطْؤُهُ اخْتِيَارًا لَهُنَّ ما يطرأ من أحكام بإسلام الزوج كَمَا يَكُونُ وَطْءُ الْبَائِعِ لِلْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ فِي خِيَارِ الثَّلَاثِ : اخْتِيَارًا لِفَسْخِ الْبَيْعِ ، فَعَلَى هَذَا قَدْ ثَبَتَ بِوَطْئِهِنَّ اخْتِيَارُ نِكَاحِهِنَّ وَانْفَسَخَ بِهِ نِكَاحُ مَنْ عَدَاهُنَّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ اخْتِيَارًا : لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ يَجْرِي مَجْرَى عَقْدِ النِّكَاحِ ، وَالنِّكَاحُ لَا يُعْقَدُ إِلَّا بِالْقَوْلِ دُونَ الْفِعْلِ ، كَذَلِكَ الِاخْتِيَارُ وَخَالَفَ الْفَسْخُ فِي الْبَيْعِ : لِأَنَّهُ اسْتِفَادَةُ مِلْكٍ وَالْأَمْلَاكُ قَدْ تُسْتَفَادُ بِالْمِلْكِ كَالسَّبْيِ ، وَبِالْقَوْلِ كَالْبَيْعِ ، فَجَازَ أَنْ يُسْتَفَادَ مِلْكُهُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَى خِيَارِهِ فِي اخْتِيَارِهِ مَنْ شَاءَ مِنَ الْمَوْطُوءَاتِ وَغَيْرِهِنَّ ، فَإِنِ اخْتَارَ إِمْسَاكَ الْمَوْطُوءَاتِ ثَبَتَ نِكَاحُهُنَّ ، وَكَانَتْ إِصَابَتُهُ لَهُنَّ إِصَابَةً فِي زَوْجِيَّةٍ ، فَلَا يَجِبُ بِهَا لَهُنَّ مَهْرٌ ، وَلَا

يَجِبُ بِهَا عَلَيْهِنَّ عِدَّةٌ ، وَإِنِ اخْتَارَ إِمْسَاكَ غَيْرِ الْمَوْطُوءَاتِ ثَبَتَ نِكَاحُهُنَّ بِالِاخْتِيَارِ ما يطرأ من أحكام بإسلام الزوج ، وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْمَوْطُوءَاتِ ، وَكَانَتْ إِصَابَتُهُ لَهُنَّ إِصَابَةَ شُبْهَةٍ لِأَجْنَبِيَّاتٍ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ ، وَعَلَيْهِ لَهُنَّ مُهُورُ أَمْثَالِهِنَّ ، وَعَلَيْهِنَّ الْعِدَّةُ ، وَتَكُونُ عِدَّةُ الْفَسْخِ وَالْإِصَابَةِ مَعًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ ، وَهُوَ الْفَسْخُ : لِأَنَّهُ بَعْدَ الْوَطْءِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَاهُ مِنْ حُكْمِ اخْتِيَارِهِ وَفَسْخِهِ ، فَأَقَامَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُمَا ، فَلَمْ يَخْتَرْ وَلَمْ يَفْسَخْ ، حَبَسَهُ السُّلْطَانُ : تَأْدِيبًا لِمُقَامِهِ عَلَى مَعْصِيَةٍ ، وَلِامْتِنَاعِهِ مِنْ حَقٍّ ، وَلِإِضْرَارِهِ بِمَوْقُوفَاتٍ عَلَى اخْتِيَارِهِ ، فَإِنْ أَقَامَ عَلَى الِامْتِنَاعِ بَعْدَ حَبْسِهِ عَزَّرَهُ ضَرْبًا بَعْدَ أَنْ عَزَّرَهُ حَبْسًا ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَارَ السُّلْطَانُ عَلَيْهِ أَوْ يَفْسَخَ ، وَإِنْ جَازَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ أَنْ يُطَلِّقَ عَلَى الْمُولِي إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الِاخْتِيَارَ كَالْعَقْدِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْقَدَ عَلَيْهِ جَبْرًا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَارَ عَلَيْهِ جَبْرًا ، وَالطَّلَاقُ كَالْفَسْخِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُفْسَخَ عَلَيْهِ جَبْرًا ، فَجَازَ أَنْ يُطَلَّقَ عَلَيْهِ جَبْرًا . وَالثَّانِي : أَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْإِيلَاءِ مُعَيَّنٌ لَا يَقِفُ عَلَى الشُّهُودِ ، فَجَازَ إِيقَاعُهُ عَلَيْهِ جَبْرًا ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا أُطِيلُ حَبْسُهُ وَتَعْزِيرُهُ حَتَّى يُجِيبَ إِلَى الِاخْتِيَارِ وَالْفَسْخِ بِنَفْسِهِ .

فَصْلٌ : ثُمَّ لَهُنَّ فِي زَمَانِ حَبْسِهِ وَوَقْفِهِنَّ عَلَى اخْتِيَارِهِ وَفَسْخِهِ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى : لِأَنَّهُنَّ مَوْقُوفَاتٌ عَلَيْهِ بِنِكَاحٍ سَابِقٍ ، فَكَانَ أَسْوَأُ أَحْوَالِهِنَّ أَنْ يُجْرِينَ مَجْرَى الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ فِي زَمَانِ عِدَّتِهَا فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لَهَا ، فَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ سَقَطَتْ نَفَقَاتُهُنَّ لِزَوَالِ مَا أَوْجَبَ النَّفَقَةَ مِنْ وَقْتِ نِكَاحِهِنَّ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَارَ الْوَارِثُ بَعْدَ مَوْتِهِ : لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ لَا يَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوقِعَهُ الْحَاكِمُ جَبْرًا ، وَتَعَلَّقَ بِمَوْتِهِ فَصْلَانِ : أَحَدُهُمَا : فِي الْعِدَّةِ . وَالثَّانِي : فِي الْمِيرَاثِ . فَأَمَّا الْعِدَّةُ : فَفِيهَا أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ يَلْزَمُهُنَّ الْوَفَاةُ ، وَفِيهِنَّ أَرْبَعٌ مُفَارَقَاتٌ يَلْزَمُهُنَّ عِدَّةُ الِاسْتِبْرَاءِ مِنْ وَطْءٍ لَيْسَ يَتَمَيَّزُ الزَّوْجَاتُ عَنْ غَيْرِهِنَّ ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُنَّ فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ . إِمَّا أَنْ يَكُنَّ مِنْ ذَوَاتِ الْحَمْلِ ، أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ ، أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ ، فَإِنْ كُنَّ حَوَامِلَ اعْتَدَدْنَ بِوَضْعِهِ ، وَقَدِ اسْتَوَتْ فِيهِ عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَعِدَّةُ الِاسْتِبْرَاءِ ، وَإِنْ كُنَّ مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ : لِصِغَرٍ أَوْ إِيَاسٍ ، فَعِدَّةُ الْوَفَاةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ، وَعِدَّةُ الْآيِسَةِ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ ، فَتَعْتَدُّ كُلُّ وَاحِدَةٍ بِأَطْوَلِ الْعِدَّتَيْنِ ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ، وَإِنْ كُنَّ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَعِدَّةُ الْوَفَاةِ فِيهِنَّ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ، وَعِدَّةُ الِاسْتِبْرَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ ، فَتَعْتَدُّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ، أَوْ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ : لِتَكُونَ مُسْتَبْرِئَةً لِنَفْسِهَا بِيَقِينٍ ، فَإِنْ مَضَتْ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا اسْتَكْمَلَتْ تَمَامَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا : لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً ، أَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ، قَبْلَ أَقْرَاءٍ اسْتَكْمَلَتْ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ مُسْتَبْرَأَةً مِنْ غَيْرِ زَوْجِيَّةٍ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمِيرَاثُ فَيُوقَفُ لَهُنَّ إِنْ لَمْ يُحْجَبْنَ الرُّبُعُ ، وَإِنْ حُجِبْنَ الثُّمُنُ ما يطرأ من أحكام بإسلام الزوج : لِأَنَّ فِيهِنَّ

أَرْبَعَ زَوْجَاتٍ وَارِثَاتٍ ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنَّ فَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى صُلْحِهِنَّ ، فَإِنِ اصْطَلَحْنَ عَلَيْهِ مُتَسَاوِيَاتٍ ، أَوْ مُتَفَاضِلَاتٍ ، أَوْ عَلَى تَعْيِينٍ ، أَرْبَعٌ مِنْهُنَّ يَقْتَسِمْنَهُ ، وَتَحْرُمُ الْبَاقِيَاتُ ، جَازَ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِنَّ مَحْجُورٌ عَلَيْهَا لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " : فَلَيْسَ لِوَلِيِّهَا أَنْ يُصَالِحَ عَنْهَا بِأَقَلَّ مِنْ نِصْفِ مِيرَاثِ زَوْجَتِهِ ، وَهُوَ ثَمَنُ الْمَوْقُوفِ لَهُنَّ مِنْ رُبُعٍ أَوْ ثُمُنٍ : لِأَنَّهُنَّ لَمَّا كُنَّ ثَمَانِيًا مُتَسَاوِيَاتِ الْأَحْوَالِ ، كَانَ الظَّاهِرُ مِنْ وَقْفِ ذَلِكَ عَلَيْهِنَّ يُسَاوِيهُنَّ فِيهِ ، وَأَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَمَنُ الْوَقْفِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَالِحَ الْوَلِيُّ عَلَى أَقَلَّ مِنْ مُقْتَضَى الْوَقْفِ ، فَلَوْ كَانَ وَقْفُ مِيرَاثِهِنَّ عَلَى حَالِهِ ، فَجَاءَتْ وَاحِدَةٌ تَطْلُبُ مِنَ الْمَوْقُوفِ شَيْئًا لَمْ تُعْطَ : لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ أَجْنَبِيَّةً ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَاءَ مِنْهُنَّ اثْنَتَانِ ، أَوْ ثَلَاثٌ ، أَوْ أَرْبَعٌ : لِجَوَازِ أَنْ يَكُنَّ الْأَرْبَعُ كُلُّهُنَّ أَجَانِبَ وَالْبَاقِيَاتُ زَوْجَاتٍ ، فَإِنْ جَاءَ مِنْهُنَّ خَمْسٌ تَحَقَّقْنَا حِينَئِذٍ أَنَّ مِنْهُنَّ زَوْجَتَهُ فَدَفَعْنَا إِلَيْهِنَّ إِذَا طَلَبْنَ بِعَيْنِ مَالِهِنَّ ، وَهُوَ رُبُعُ الْمَوْقُوفِ مِنْ رُبُعٍ أَوْ ثُمُنٍ ، يُدْفَعُ ذَلِكَ إِلَيْهِنَّ بِشَرْطِ الرِّضَا بِهِ عَنْ حَقِّهِنَّ ، فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - : أَنَّهُ لَا يُدْفَعُ ذَلِكَ إِلَيْهِنَّ إِلَّا عَلَى شَرْطِ الرِّضَا بِهِ عَنْ حَقِّهِنَّ ، وَإِلَّا مُنِعْنَ مِنْهُ حَتَّى يَتَرَاضَى جَمِيعُهُنَّ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا دُفِعَ ذَلِكَ إِلَيْهِنَّ ، عَلَى هَذَا الشَّرْطِ وَجَبَ دَفْعُ الْبَاقِي مِنَ الْمِيرَاثِ الْمَوْقُوفِ ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ إِلَّا الثَّلَاثَ الْبَاقِيَاتِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ عَلَيْهِنَّ فِي الدَّفْعِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْبَاقِي مِنْ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ مِيرَاثِهِنَّ مَوْقُوفًا عَلَى جَمِيعِهِنَّ ، وَلَا يَدْفَعُ إِلَى الثَّلَاثِ الْبَاقِيَاتِ وَالْأَوَّلُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ أَصَحُّ : لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بَعْضُهُنَّ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَوْقُوفِ عَلَى جَمِيعِهِنَّ إِلَّا عَنْ تَرَاضٍ وَاصْطِلَاحٍ ، فَلَوْ كَانَ الْمُطَالَبَاتُ مِنْهُنَّ سِتًّا دَفَعَ إِلَيْهِنَّ نِصْفَ الْمَوْقُوفِ مِنْ مِيرَاثِهِنَّ : لِأَنَّ فِيهِنَّ زَوْجَتَيْنِ ، وَكَانَ النِّصْفُ الْبَاقِي عَلَى الْوَجْهَيْنِ ، وَلَوْ كَانَ فِيهِنَّ سَبْعٌ دَفَعَ إِلَيْهِنَّ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْمَوْقُوفِ : لِأَنَّ فِيهِنَّ ثَلَاثَ زَوْجَاتٍ ، وَكَانَ الرُّبُعُ الْبَاقِي عَلَى الْوَجْهَيْنِ ، وَلَوْ كَانَ الثَّمَانُ كُلُّهُنَّ يَطْلُبْنَ ، دَفَعَ إِلَيْهِنَّ جَمِيعَ مِيرَاثِهِنَّ : لِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِنَّ ، وَلَيْسَ فِيهِ حَقٌّ لَهُنَّ .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَسْلَمَ الْمُشْرِكُ عَنْ ثَمَانِ زَوْجَاتٍ مُشْرِكَاتٍ : أَرْبَعٌ مِنْهُنَّ وَثَنِيَّاتٌ أَسْلَمْنَ مَعَهُ ، وَأَرْبَعٌ كِتَابِيَّاتٍ بَقِينَ عَلَى دِينِهِنَّ ، كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَخْتَارَ إِمْسَاكَ الْأَرْبَعِ الْكِتَابِيَّاتِ ، فَإِنْ مَاتَ عَنْهُنَّ لَمْ تَرِثْنَهُ ، وَبَيْنَ أَنْ يَخْتَارَ بَعْضَ الْمُسْلِمَاتِ وَبَعْضَ الْكِتَابِيَّاتِ ، فَإِنْ مَاتَ وَرِثَهُ الْمُسْلِمَاتُ دُونَ الْكِتَابِيَّاتِ ، فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ اخْتِيَارِ أَرْبَعٍ مِنْهُنَّ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُوقَفُ مِيرَاثُهُنَّ مِنْ تَرِكَتِهِ أَمْ لَا ، عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الدَّارَكِيِّ - : لَا تُوقَفُ لَهُنَّ شَيْئًا : لِأَنَّنَا نُوقِفُ مَا تَحَقَّقْنَا اسْتِحْقَاقَهُ ، وَجَهِلْنَا مُسْتَحَقَّهُ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجَاتُ مِنْهُنَّ الذِّمِّيَّاتِ ، فَلَا يَرِثْنَ ، فَلِذَلِكَ لَمْ نُوقِفُ مِيرَاثَ الزَّوْجَاتِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُوقَفُ مِيرَاثُ الزَّوْجَاتِ : لِأَنَّ لِبَاقِي الْوَرَثَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ نَدْفَعَ إِلَيْهِمْ إِلَّا

مَا تَحَقَّقْنَا اسْتِحْقَاقَهُمْ لَهُ ، فَلَا يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ مَشْكُوكًا فِيهِ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ زَوْجَاتُهُ مِنْهُنَّ الْمُسْلِمَاتُ فَلَا يَكُونُ لِبَاقِي الْوَرَثَةِ فِي مِيرَاثِهِنَّ حُقٌّ ، فَلِذَلِكَ كَانَ مَوْقُوفًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ وَثَنِيَّةٌ ، ثُمَّ تَزَوَّجَ أُخْتَهَا ، أَوْ أَرْبَعًا سِوَاهَا فِي عِدَّتِهَا ، فَالنِّكَاحُ مَفْسُوخٌ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ أَنَّ النِّكَاحَ مَوْقُوفٌ ، كَمَا جَعَلَ نِكَاحَ مَنْ لَمْ تُسْلِمْ مَوْقُوفًا ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ عُلِمَ أَنَّهَا لَمْ تَزَلِ امْرَأَتَهُ ، وَإِنِ انْقَضَتْ قَبْلَ أَنْ تُسْلِمَ عُلِمَ أَنَّهُ لَا امْرَأَةَ لَهُ ، فَيَصِحُّ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ لِأَنَّهُ عَقْدُهُنَّ وَلَا امْرَأَةَ لَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا أَسْلَمَ الْمُشْرِكُ عَنْ زَوْجَةٍ وَثَنِيَّةٍ هِيَ جَارِيَةٌ فِي عِدَّتِهَا فِي الشِّرْكِ فَنَكَحَ أُخْتَهَا ، أَوْ خَالَتَهَا ، أَوْ عَمَّتَهَا ، أَوْ أَرْبَعًا سِوَاهَا ، كَانَ نِكَاحُهُ بَاطِلًا . وَقَالَ الْمُزَنِيُّ : يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إِسْلَامِ الْوَثَنِيَّةِ ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ بَطَلَ عَقْدُهُ عَلَى أُخْتِهَا وَعَلَى أَرْبَعٍ سِوَاهَا : لِعِلْمِنَا أَنَّهَا كَانَتْ زَوْجَةً ، وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَّتْ عِدَّتُهَا صَحَّ عَقْدُهُ عَلَى أُخْتِهَا وَعَلَى أَرْبَعٍ سِوَاهَا : لِعِلْمِنَا أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ زَوْجَةً . قَالَ : لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ نِكَاحُ الْوَثَنِيَّةِ مَوْقُوفًا ، جَازَ أَنْ يَكُونَ نِكَاحُ أُخْتِهَا مَوْقُوفًا . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ إِذَا لَمْ يَقَعْ نَاجِزًا لَمْ يَقَعْ مَوْقُوفًا ، وَكَانَ بَاطِلًا ، وَالْعَقْدُ عَلَى أُخْتِ زَوْجَتِهِ الْوَثَنِيَّةِ لَيْسَ بِنِكَاحٍ ، فَبَطَلَ وَلَمْ يَكُنْ مَوْقُوفًا ، أَلَّا تَرَاهُ لَوْ نَكَحَ مُرْتَدَّةً لِيَكُونَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا مَوْقُوفًا عَلَى إِسْلَامِهَا لَمْ يَجُزْ ، وَكَانَ بَاطِلًا : لِأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ نَاجِزًا : وَلِأَنَّهُ لَوْ نَكَحَ أُخْتَ زَوْجَتِهِ الْمُرْتَدَّةِ كَانَ بَاطِلًا ، وَلَمْ يَكُنْ مَوْقُوفًا عَلَى إِسْلَامِهَا كَذَلِكَ إِذَا نَكَحَ أُخْتَ زَوْجَتِهِ الْوَثَنِيَّةِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ نَكَحَ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا ، فَكَانَ نِكَاحُهَا بَاطِلًا ، كَنِكَاحِ الْمُرْتَدَّةِ وَالْوَثَنِيَّةِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِوَقْفِ نِكَاحِ الْمُشْرِكِ فَفَاسِدٌ : لِأَنَّ حِلَّ النِّكَاحِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا ، وَعَقْدَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ وَاسْتَدَامَتِهِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ نَكَحَ مُحَرَّمَةً أَوْ مُعْتَدَّةً ، بَطَلَ نِكَاحُهَا لِوُجُودِ الْمَنْعِ فِي ابْتِدَائِهِ ، وَلَوْ طَرَأَتِ الْعِدَّةُ أَوِ الْإِحْرَامُ عَلَيْهَا بَعْدَ نِكَاحِهَا لَمْ يَمْنَعْ مَنِ اسْتَدَامَتِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَسْلَمَتِ الزَّوْجَةُ قَبْلَ الزَّوْجِ ، فَنَكَحَ الزَّوْجُ فِي الشِّرْكِ أُخْتَهَا أَوْ خَالَتَهَا ، صَحَّ النِّكَاحُ وَإِنْ كَانَتِ الْأُخْتُ الْمُسْلِمَةُ فِي الْعِدَّةِ : لِأَنَّ مَنَاكِحَ الشِّرْكِ مَعْفُوٌّ عَنْهَا ، فَإِنْ أَسْلَمَ وَأَسْلَمَتْ مَعَهُ الْمَنْكُوحَةُ فِي الشِّرْكِ وَأُخْتُهَا بَاقِيَةٌ فِي الْعِدَّةِ ، صَارَ كَالْمُشْرِكِ إِذَا أَسْلَمَ مَعَ أُخْتَيْنِ ، فَيَكُونُ بِالْخِيَارِ فِي إِمْسَاكِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَوِ الْمُتَأَخِّرَةِ ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّهُ يُمْسِكُ الْمُتَقَدِّمَةَ ، وَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْمُتَأَخِّرَةِ : لِأَنَّ نِكَاحَهَا ثَبَتَ بِالْإِسْلَامِ مِنْ نِكَاحِ الْمُتَأَخِّرَةِ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٌ : لِأَنَّ نِكَاحَ الزَّوْجِ لَهُمَا مَعًا فِي الشِّرْكِ ، فَصَارَ حُكْمُ نِكَاحِهِ لِلثَّانِيَةِ بَعْدَ إِسْلَامِ الْأُولَى كَحُكْمِ نِكَاحِهِ لَهَا مَعَ شِرْكِ الْأُولَى ، اعْتِبَارًا بِالْمُتَعَاقِدَيْنِ دُونَ غَيْرِهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ أَسْلَمَتْ قَبْلَهُ ثُمَّ أَسْلَمَ فِي الْعِدَّةِ أَوْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ ، فَلَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا : لِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ عَلَيْهِ مَتَى شَاءَ أَنْ يُسْلِمَ كَانَا عَلَى النِّكَاحِ .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي زَوْجَيْنِ مُشْرِكَيْنِ أَسْلَمَتِ الزَّوْجَةُ مِنْهُمَا بَعْدَ الدُّخُولِ ، فَلَهَا النَّفَقَةُ فِي زَمَانِ عِدَّتِهَا ، أَسْلَمَ الزَّوْجُ أَوْ تَأَخَّرَ : لِمَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِسْلَامَ فَرْضٌ مُضَيَّقُ الْوَقْتِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِهِ نَفَقَتُهَا ، وَإِنَّ مُنِعَ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ الْمَفْرُوضَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ إِسْلَامَهَا الْمَانِعَ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا يَقْدِرُ الزَّوْجُ عَلَى تَلَافِيهِ بِإِسْلَامِهِ فِي عِدَّتِهَا ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِهِ نَفَقَتُهَا كَالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ ، وَحَكَى أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا : لِأَنَّهَا مَنَعَتْهُ نَفْسَهَا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا ، فَاقْتَضَى أَنْ تَسْقُطَ بِهِ نَفَقَتُهَا وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ طَائِعَةً كَالْحَجِّ ، وَهَذَا الْقَوْلُ إِنْ حَكَاهُ نَقْلًا فَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَإِنْ كَانَ تَخْرِيجًا فَهُوَ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحَجَّ مُوَسَّعُ الْوَقْتِ : لِأَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي وَالْإِسْلَامُ مُضَيَّقُ الْوَقْتِ : لِأَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ ، فَصَارَتْ بِالْإِسْلَامِ فَاعِلَةً مَا لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ ، وَبِالْحَجِّ فَاعِلَةً مَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ تَحْرِيمَهَا بِالْحَجِّ لَا يُمْكِنُهُ تَلَافِيهِ ، وَتَحْرِيمَهَا بِالْإِسْلَامِ يُمْكِنُهُ تَلَافِيهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ كَانَ هُوَ الْمُسْلِمُ لَمْ يَكُنْ لَهَا نَفَقَةٌ فِي أَيَّامِ كُفْرِهَا : لِأَنَّهَا الْمَانِعَةُ لِنَفْسِهَا مِنْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا أَنْ يُسْلِمَ الزَّوْجُ قَبْلَهَا ، فَإِنَّ تَأَخَّرَ إِسْلَامُهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا : لِأَنَّهَا بِالتَّأَخُّرِ عَنِ الْإِسْلَامِ كَالْمُرْتَدَّةِ وَالنَّاشِزِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَالْمَنْعُ مِنْ جِهَتِهِ لَا مِنْ جِهَتِهَا ، فَهَلَّا كَانَتْ لَهَا النَّفَقَةُ كَمَا لَوْ رَجَعَ ؟ قِيلَ : قَدْ كَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ أَنْ يَلْتَزِمَ لِهَذَا التَّعْلِيلِ قَوْلًا آخَرَ : إِنَّ لَهَا النَّفَقَةَ إِمَّا نَقْلًا وَإِمَّا تَخْرِيجًا ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ : لِأَنَّ الْإِسْلَامَ فَرْضٌ مُضَيَّقُ الْوَقْتِ بِخِلَافِ الْحَجِّ ، ثُمَّ هُوَ مَنْعٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَلَافِيهِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ كَوْنُهُ مِنْ جِهَتِهِ أَنْ يُسْقِطَ بِهِ النَّفَقَةَ كَالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ ، وَلَوْ أَسْلَمَتِ الزَّوْجَةُ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَجَبَتْ نَفَقَتُهَا بَعْدَ إِسْلَامِهَا : لِاسْتِقْرَارِ الزَّوْجِيَّةِ ، وُعَوْدِ الْإِبَاحَةِ وَهَلْ لَهَا نَفَقَةُ الْمُدَّةِ الْبَاقِيَةِ فِي شِرْكِهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ - : لَهَا النَّفَقَةُ : لِأَنَّهَا كَانَتْ زَوْجَةً فِيمَا لَمْ يَزَلْ ، وَبِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ ، وَبِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ الْقَدِيمِ أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ بِالْعَقْدِ وَتُسْتَحَقُّ بِالتَّمْكِينِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ - : لَا نَفَقَةَ لَهَا : لِأَنَّ مُدَّةَ التَّأَخُّرِ كَالنُّشُوزِ وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَةٌ ، وَبِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ ، أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ بِالْعَقْدِ وَالتَّمْكِيِنِ مِنْهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوِ اخْتَلَفَا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَهُوَ اخْتِلَافٌ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ ، وَلِإِطْلَاقِهِ تَفْصِيلٌ ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَخْتَلِفَا بَعْدَ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ فِي أَيِّهِمَا تَقَدَّمَ بِالْإِسْلَامِ ما يطرأ من أحكام بإسلام الزوج ، فَيَقُولُ الزَّوْجُ : أَسْلَمْتُ

قَبْلَكِ وَأَسْلَمْتِ بَعْدِي ، وَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُكِ فَلَا نَفَقَةَ لَكِ ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ : بَلْ أَسْلَمْتُ أَنَا قَبِلَكَ وَأَسْلَمْتَ بَعْدِي ، وَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتِي ، فَلِيَ النَّفَقَةُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مُدَّعِيَةٌ ، وَهُوَ مُنْكِرٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْعَقْدَ ارْتَفَعَ بِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ ، فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ سُقُوطَ النَّفَقَةِ بِارْتِفَاعِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَخْتَلِفَا مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ وَاجْتِمَاعِهِمَا فِي الْإِسْلَامِ فِيهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَفِي الْمُرَادِ بِاخْتِلَافِهِمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ثَلَاثُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَقُولَ الزَّوْجَةُ : أَسْلَمْتُ قَبْلَكَ وَأَسْلَمَتَ بَعْدِي فِي الْعِدَّةِ ، فَلِيَ النَّفَقَةُ ، وَيَقُولُ الزَّوْجُ : بَلْ أَسْلَمْتُ أَنَا قَبْلَكِ وَأَنْتِ بَعْدِي ، فَلَا نَفَقَةَ لَكِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا : لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَمْرَيْنِ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : أَنْ يَخْتَلِفَا فَتَقُولُ أَسْلَمْتُ قَبْلَكَ بِشَهْرٍ ، فَلِيَ عَلَيْكَ نَفَقَةُ شَهْرٍ ، وَيَقُولُ الزَّوْجُ : بَلْ أَسْلَمْتِ قَبْلِي بِيَوْمٍ ، فَلَكِ نَفَقَةُ يَوْمٍ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ لِمَا ذَكَرْنَا . وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ : أَنْ يَخْتَلِفَا فَتَقُولُ الزَّوْجَةُ لِي مُذْ أَسْلَمْتُ بَعْدَكَ شَهْرٌ فَلِي نَفَقَةُ شَهْرٍ ، وَيَقُولُ الزَّوْجُ : لَكِ مُذْ أَسْلَمْتِ بَعْدِي يَوْمٌ فَلَكِ نَفَقَةُ يَوْمٍ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَيْسَ لَهَا إِلَّا نَفَقَةُ يَوْمٍ وَاحِدٍ : لِمَا ذَكَرْنَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ الدُّخُولِ ما يطرأ من أحكام بإسلام الزوج ، فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ إِنْ كَانَ حَلَالًا ، وَنِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا إِنْ كَانَ حَرَامًا ، وَمُتْعَةٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ فَرَضَ لَهَا : لِأَنَّ فَسْخَ النِّكَاحِ مِنْ قِبَلِهِ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ أَسْلَمَتْ قَبْلَهُ ، فَلَا شَيْءَ لَهَا مِنْ صِدَاقٍ وَلَا غَيْرِهِ : لِأَنَّ الْفَسْخَ مِنْ قِبَلَهَا ( قَالَ ) وَلَوْ أَسْلَمَا مَعًا فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : لِأَنَّهُ قَدَّمَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، ثُمَّ ذَكَرَ هَاهُنَا حُكْمَ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَقَدَّمَ إِسْلَامُ الزَّوْجِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَتَقَدَّمَ إِسْلَامُ الزَّوْجَةِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُسْلِمَا مَعًا ، فَإِنْ تَقَدَّمَ إِسْلَامُ الزَّوْجِ قبل الدخول فَقَدْ بَطَلَ النِّكَاحُ : لِأَنَّ مَا أَفْضَى إِلَى الْفُرْقَةِ أَوْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَعَتْ بِهِ الْبَيْنُونَةُ كَالرِّدَّةِ وَالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ ، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهِ : لِعَدَمِ الدُّخُولِ بِهَا ، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا : لِسُقُوطِ الْعِدَّةِ عَنْهَا ، فَأَمَّا الصَّدَاقُ فَلَهَا نِصْفُهُ : لِأَنَّ الْفَسْخَ مِنْ قِبَلِهِ بِسَبَبٍ لَا تَقْدِرُ الزَّوْجَةُ عَلَى تَلَافِيهِ فَأَشْبَهَ الطَّلَاقَ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهَا تَلَافِيهِ بِأَنْ تُسْلِمَ مَعَهُ ، قِيلَ : هَذَا يَشُقُّ فَلَمْ يُعْتَبَرْ ، وَرُبَّمَا تَقَدَّمَ إِسْلَامُهُ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ ، وَإِذَا كَانَ لَهَا الصَّدَاقُ لَمْ تَخْلُ حَالُهُ فِي الْعَقْدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ سَمَّى فِيهِ مَهْرَ حَلَالٍ لَهَا نَصِفُهُ .

وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَدْ سَمَّى فِيهِ مَهْرَ حَرَامٍ فَلَهَا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا يُسَمَّى فِيهِ مَهْرٌ فَلَهَا مَنْعُهُ كَالطَّلَاقِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ . وَإِنْ تَقَدَّمَ إِسْلَامُ الزَّوْجَةِ قبل الدخول فَقَدْ بَطَلَ النِّكَاحُ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلَا مَهْرَ لَهَا : لِأَنَّ الْفَسْخَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا ، وَلَمْ يَقْدِرِ الزَّوْجُ عَلَى تَلَافِيهِ فَسَقَطَ مَهْرُهَا . فَإِنْ قِيلَ : يَقْدِرُ عَلَى تَلَافِيهِ بِإِسْلَامِهِ مَعَهَا كَانَ الْجَوَابُ مَا مَضَى ، وَخَالَفَ وُجُوبَ النَّفَقَةِ لَهَا إِذَا تَقَدَّمَ إِسْلَامُهَا بَعْدَ دُخُولٍ : لِأَنَّهُ مَنْعٌ يَقْدِرُ الزَّوْجُ عَلَى تَلَافِيهِ ، وَإِنْ أَسْلَمَا مَعًا فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ : لِأَنَّ الْفُرْقَةَ تَقَعُ بِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ دِينَاهُمَا إِذَا اجْتَمَعَا عَلَى الْإِسْلَامِ مَعًا : لِأَنَّهُمَا كَانَا فِي الشِّرْكِ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ ، فَصَارَ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ ، فَلِذَلِكَ كَانَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا ثَابِتًا .


مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ قَالَ أَسْلَمَ أَحَدُنَا قَبْلَ صَاحِبِهِ الزوج ، فَالنِّكَاحُ مَفْسُوخٌ وَلَا نِصْفَ مَهْرٍ حَتَّى يُعْلَمَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا أَنْ يُسْلِمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَيُسْلِمَ الْآخَرُ بَعْدَهُ ، وَيُشْكَلُ عَلَيْهِمَا أَيُّهُمَا تَقَدَّمَ بِالْإِسْلَامِ ، فَالنِّكَاحُ قَدْ بَطَلَ : لِاسْتِوَاءِ بُطْلَانِهِ إِنْ تَقَدَّمَ إِسْلَامُ الزَّوْجِ أَوْ تَقَدَّمَ إِسْلَامُ الزَّوْجَةِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْإِشْكَالِ تَأْثِيرٌ ، فَأَمَّا الْمَهْرُ فَلَهُ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ قَدْ قَبَضَتْهُ فِي الشِّرْكِ . وَالثَّانِي : لَمْ تَقْبِضْهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَبَضَتْهُ ، فَلَا مُطَالَبَةَ لَهَا بِشَيْءٍ مِنْهُ : لِأَنَّهَا تَشُكُّ فِي اسْتِحْقَاقِهِ : لِأَنَّهُ إِنْ أَسْلَمَ قَبْلَهَا اسْتَحَقَّتْ نِصْفَهُ ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ قَبْلَهُ لَمْ تَسْتَحِقَّ شَيْئًا مِنْهُ ، وَمَنْ شَكَّ فِي اسْتِحْقَاقِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ كَمَنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ فَشَكَّ فِي قَبْضِهِ ، وَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ قَدْ قَبَضَتْ مِنْهُ جَمِيعَ الْمَهْرِ ، فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِهِ : لِأَنَّهُ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ يَسْتَحِقُّهُ بِيَقِينٍ ، فَأَمَّا الْآخَرُ فَلَا رُجُوعَ لَهُ بِهِ : لِأَنَّهُ شَاكٌّ فِي اسْتِحْقَاقِهِ : لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَسْلَمَ قَبْلَهَا فَلَا يَسْتَحِقُّهُ أَوْ أَسْلَمَتْ قَبْلَهُ فَيَسْتَحِقُّهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ تَدَاعَيَا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا : لِأَنَّ الْعَقْدَ ثَابِتٌ فَلَا يَبْطُلُ نِصْفُ الْمَهْرِ إِلَّا بِأَنْ تُسْلِمَ قَبْلَهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا أَنْ يُسْلِمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ صَاحِبِهِ ، وَلَا دُخُولَ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ يَخْتَلِفَانِ أَيُّهُمَا تَقَدَّمَ إِسْلَامُهُ فَيَقُولُ الزَّوْجُ : أَنْتِ قَدْ تَقَدَّمْتِ بِالْإِسْلَامِ ، فَلَا مَهْرَ لَكِ ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ : بَلْ أَنْتَ تَقَدَّمْتَ بِالْإِسْلَامِ ، فَلِيَ نِصْفُ الْمَهْرِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا أَنَّ الزَّوْجَ تَقَدَّمَ بِالْإِسْلَامِ عَلَيْهَا ، وَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ : لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَهْرِ اسْتِحْقَاقُهُ بِالْعَقْدِ ، فَلَمْ يُقْبَلْ دَعْوَى الزَّوْجِ فِي إِسْقَاطِهِ ، كَمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَادَّعَى دَفْعَهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ : اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ فِي ثُبُوتِهِ وَعُدُولًا عَنْ دَعْوَى إِسْقَاطِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ قَالَتْ : أَسْلَمَ أَحَدُنَا قَبْلَ الْأَخَرِ ، وَقَالَ هُوَ : مَعًا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ

يَمِينِهِ ، وَلَا تُصَدَّقُ عَلَى فَسْخِ النِّكَاحِ ، وَفِيهَا قَوْلٌ آخَرُ : أَنَّ النِّكَاحَ مَفْسُوخٌ حَتَى يَتَصَادَقَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ أَنْ لَا يَنْفَسِخَ النِّكَاحُ بِقَوْلِهَا كَمَا لَمْ يَنْفَسِخْ نِصْفُ الْمَهْرِ بِقَوْلِهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَقَدْ قَالَ لَوْ كَانَ دَخَلَ بِهَا ، فَقَالَتْ : انْقَضَتْ عِدَّتِي قَبْلَ إِسْلَامِكَ ، وَقَالَ : بَلْ بَعْدُ ، فَلَا تُصَدَّقُ عَلَى فَسْخِ مَا ثَبَتَ لَهُ مِنَ النِّكَاحِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : فِي زَوْجَيْنِ أَسْلَمَا قَبْلَ الدُّخُولِ ثُمَّ اخْتَلَفَا ، فَقَالَ الزَّوْجُ : أَسْلَمْنَا مَعًا فَنَحْنُ عَلَى النِّكَاحِ ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ : لَا بَلْ أَحَدُنَا قَبْلَ صَاحِبِهِ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَنَا ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهَا - وَهُوَ اخْتِيَارُ ( الْمُزَنِيِّ ) - : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي بَقَاءِ النِّكَاحِ مَعَ يَمِينِهِ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَصْلَ ثُبُوتُهُ ، فَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَى إِسْقَاطِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الزَّوْجَيْنِ لَوِ اخْتَلَفَا بَعْدَ الدُّخُولِ ، فَقَالَ الزَّوْجُ : اجْتَمَعَ إِسْلَامُنَا فِي الْعِدَّةِ فَنَحْنُ عَلَى النِّكَاحِ وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ : اجْتَمَعَ إِسْلَامُنَا بَعْدَ الْعِدَّةِ ، لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ فِي بَقَاءِ النِّكَاحِ : اعْتِبَارًا بِثُبُوتِ أَصْلِهِ ، كَذَلِكَ إِذَا كَانَ اخْتِلَافُهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا : لِأَنَّ الدَّعْوَى إِذَا تَعَارَضَتْ ، وَكَانَ الظَّاهِرُ مَعَ أَحَدِهِمَا غُلِّبَ دَعْوَى مَنْ سَاعَدَهُ الظَّاهِرُ كَالْمُتَدَاعِيَيْنِ دَارًا وَهِيَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا لَمَّا كَانَ الظَّاهِرُ مُسَاعِدًا لِصَاحِبِ الْيَدِ مِنْهُمَا غُلِّبَتْ دَعْوَاهُ كَذَلِكَ هَاهُنَا تَسَاوِي دَعْوَاهُمَا ، وَالظَّاهِرُ مُسَاعِدٌ لِلُزُوجَةِ مِنْهُمَا ، وَلِأَنَّ اجْتِمَاعَ إِسْلَامِهِمَا حَتَّى لَا يَسْبِقَ لَفْظُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ بِحَرْفٍ مُتَعَذِّرٌ فِي الْغَالِبِ وَاخْتِلَافَهُمَا فِيهِ هُوَ الْأَظْهَرُ الْأَغْلَبُ ، فَوَجَبَ أَنَّ يُغَلَّبَ فِيهِ قَوْلُ مَنْ سَاعَدَهُ هَذَا الظَّاهِرُ وَهِيَ الزَّوْجَةُ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ ، عُدُولًا عَنِ الْأَصْلِ بِظَاهِرٍ هُوَ أَخَصُّ ، وَهَذَا بِخِلَافِ تَنَازُعِهِمَا فِي الْمَهْرِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا فِيهِ ظَاهِرٌ يُعْدَلُ بِهِ عَنِ الْأَصْلِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ حُكْمُ الْأَصْلِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا بَعْدَ الدُّخُولِ فَقَالَتِ الزَّوْجَةُ : أَسْلَمْتَ أَيُّهَا الزَّوْجُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِي فَلَا نِكَاحَ بَيْنِنَا ، وَقَالَ الزَّوْجُ : بَلْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِكِ فَنَحْنُ عَلَى النِّكَاحِ ، فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ : اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ فِي ثُبُوتِ النِّكَاحِ ، وَنَصَّ فِي مَسْأَلَتَيْنِ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجَةِ فِي بُطْلَانِ النِّكَاحِ بِخِلَافِ هَذَا : إِحْدَاهُمَا : الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ ، إِذَا قَالَ الزَّوْجُ : رَاجَعْتُكِ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِكِ فَنَحْنُ عَلَى النِّكَاحِ ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ : بَلِ انْقَضَتْ عِدَّتِي قَبْلَ رَجْعَتِكَ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَنَا ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا ، وَلَا رَجْعَةَ . وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إِذَا ارْتَدَّ الزَّوْجُ الْمُسْلِمُ بَعْدَ الدُّخُولِ ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ ، وَاخْتَلَفَا ، فَقَالَ الزَّوْجُ : أَسْلَمْتُ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِكِ فَنَحْنُ عَلَى النِّكَاحِ ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ بَلِ انْقَضَتْ عِدَّتِي قَبْلَ إِسْلَامِكَ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَنَا .

قَالَ الشَّافِعِيُّ : الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا ، فَجَعَلَ فِي مَسْأَلَةِ الرَّجْعَةِ وَالرِّدَّةِ الْقَوْلَ قَوْلَ الزَّوْجَةِ فِي رَفْعِ النِّكَاحِ ، وَجَعَلَ فِي إِسْلَامِ الْمُشْرِكِينَ الْقَوْلَ قَوْلَ الزَّوْجِ فِي بَقَاءِ النِّكَاحِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ عَلَى ثَلَاثَةِ طُرُقٍ : أَحَدُهَا : أَنْ نَقَلُوا جَوَابَهُ فِي الرَّجْعَةِ وَالرِّدَّةِ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي حَقِّ الزَّوْجَيْنِ ، وَجَوَابَهُ فِي إِسْلَامِ الزَّوْجَيْنِ إِلَى الرَّجْعَةِ وَالرِّدَّةِ ، وَخَرَّجُوا الْمَسَائِلَ الثَّلَاثَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي بَقَاءِ النِّكَاحِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي إِسْلَامِ الزَّوْجَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجَةِ فِي رَفْعِ النِّكَاحِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الرَّجْعَةِ وَالرِّدَّةِ ، وَلَعَلَّ هَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ ، وَأَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ . وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ : الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ فِي رَفْعِ النِّكَاحِ إِذَا بَدَأَتْ فَأَخْبَرَتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا قَبْلَ رَجْعَةِ الزَّوْجِ وَإِسْلَامِهِ فَادَّعَى الزَّوْجُ تَقَدُّمَ رَجْعَتِهِ وَإِسْلَامِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي جَعَلَ فِيهِ الْقَوْلَ قَوْلَ الزَّوْجِ فِي بَقَاءِ النِّكَاحِ إِذَا بَدَأَ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ رَاجَعَ وَأَسْلَمَ فِي الْعِدَّةِ ، فَادَّعَتِ الزَّوْجَةُ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَالرَّجْعَةِ : لِأَنَّ قَوْلَ مَنْ سَبَقَ مِنْهُمَا مَقْبُولٌ فَلَمْ يَبْطُلْ بِمَا حَدَثَ بَعْدَهُ مِنْ دَعْوَى . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ . وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ : بَلْ هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنِ اتَّفَقَا عَلَى صِدْقِهِ فِي زَمَانِ مَا ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ . مِثَالُهُ : أَنْ تَقُولَ الزَّوْجَةُ : انْقَضَتْ عِدَّتِي فِي رَمَضَانَ وَأَسْلَمْتَ أَنْتَ أَوْ رَاجَعْتَ فِي شَوَّالٍ ، فَقَالَ : بَلْ أَسْلَمْتُ وَرَاجَعْتُ فِي شَعْبَانَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ : لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى زَمَانِ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ، وَاخْتِلَافِهِمَا فِي رَجْعَةِ الزَّوْجِ وَإِسْلَامِهِ ، وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ : لَعَمْرِي أَنَّنِي أَسْلَمْتُ وَرَاجَعْتُ فِي شَوَّالٍ ، لَكِنِ انْقَضَتْ عِدَّتُكِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الزَّوْجِ : لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى زَمَانِ إِسْلَامِهِ وَرَجْعَتِهِ فِي زَمَانِ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ ، فَإِنْ جُعِلَ الْقَوْلُ فِيهِنَّ قَوْلَ الزَّوْجَةِ فِي رَفْعِ النِّكَاحِ لَمْ يَكُنْ لَهَا - احْتَجَّ بِهِ الْمُزَنِيُّ فِي نُصْرَةِ قَوْلِهِ وَصِحَّةِ اخْتِيَارِهِ - وَجْهٌ ، وَإِنْ جُعِلَ الْقَوْلُ فِيهِنَّ قَوْلَ الزَّوْجِ فِي بَقَاءِ النِّكَاحِ تَوَجَّهَ لَهُ الِاحْتِجَاجُ بِهِنَّ ، وَكَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُنَّ فِي أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي بَقَاءِ النِّكَاحِ ، وَبَيْنَ مَسْأَلَتِنَا فِي أَنَّ الْقَوْلَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ قَوْلُ الزَّوْجَةِ فِي رَفْعِ النِّكَاحِ ، وَأَنَّ الدَّعْوَى فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ مُتَقَابِلَةٌ ، وَلَيْسَ مَعَ أَحَدِهِمَا ظَاهِرٌ ، فَاعْتُبِرَ حُكْمُ الْأَصْلِ ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا مَعَ أَحَدِهِمَا ظَاهِرٌ فَاعْتُبِرَ حُكْمُ الظَّاهِرِ دُونَ الْأَصْلِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا قَالَتِ الزَّوْجَةُ أَسْلَمْنَا مَعًا فَنَحْنُ عَلَى النِّكَاحِ ، وَقَالَ الزَّوْجُ : بَلْ أَسْلَمَ أَحَدُنَا قَبْلَ صَاحِبِهِ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَنَا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي رَفْعِ النِّكَاحِ بِلَا يَمِينٍ : لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِالْفُرْقَةِ ، وَإِقْرَارُهُ بِهَا يَلْزَمُهُ وَلَوْ رَجَعَ عَنْهَا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ، وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي سُقُوطِ نِصْفِ الْمَهْرِ : لِأَنَّ الْأَصْلَ ثُبُوتُهُ .



فَصْلٌ : وَإِذَا أَسْلَمَ الزَّوْجُ بَعْدَ الدُّخُولِ ثُمَّ أَسْلَمَتِ الزَّوْجَةُ فِي عِدَّتِهَا ، وَقَدِ ارْتَدَّ الزَّوْجُ عَنِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ فِي الْعِدَّةِ : لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِالرِّدَّةِ مِنْ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ ، فَيَكُونُ نِكَاحُ الشِّرْكِ بَيْنَهُمَا ثَابِتًا بِإِسْلَامِهِمَا فِي الْعِدَّةِ ، وَيَسْتَأْنِفُ حُكْمَ الْفُرْقَةِ بِالرِّدَّةِ مِنْ وَقْتِ رِدَّتِهِ ، فَإِنَّ عَادَ مِنْهَا إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ بَعْدَ الرِّدَّةِ زَمَانُ الْعِدَّةِ كَانَا عَلَى النِّكَاحِ ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ بَطَلَ النِّكَاحُ بِرِدَّتِهِ ، فَلَوْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ الْمُشْرِكُ وَأَسْلَمَ بَعْدَهُ خَمْسٌ ، وَقَدِ ارْتَدَّ الزَّوْجُ عَنِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ فِي حَالِ رِدَّتِهِ أَحَدًا : لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ يَجْرِي مَجْرَى ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَارَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ نَكَحَهَا فِي الشِّرْكِ بُمْتَعَةٍ أَوْ عَلَى خَيَارٍ ثم أسلما انْفَسَخَ نِكَاحُهَا : لِأَنَّهُ لَمْ يَنْكِحْهَا عَلَى الْأَبَدِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا نَكَحَ فِي الشِّرْكِ نِكَاحَ مُتْعَةٍ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : أَمْتِعِينِي نَفْسَكِ سَنَةً ، فَهُوَ نِكَاحٌ إِلَى سَنَةٍ ، فَإِذَا أَسْلَمَا عَلَيْهِ فَلَا نِكَاحَ بَيْنِهِمَا : لِأَنَّهُمَا إِنْ أَسْلَمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَلَا نِكَاحَ ، وَإِنْ أَسْلَمَا قَبْلَ انْقِضَائِهَا فَلَمْ يَعْتَقِدَا تَأْبِيدَهُ ، وَالنِّكَاحُ مَا تَأَبَّدَ . وَأَمَّا إِذَا نَكَحَهَا بِخِيَارٍ ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ مُؤَبَّدًا ، فَالنِّكَاحُ إِذَا أَسْلَمَا عَلَيْهِ بَاطِلٌ : لِأَنَّهُمَا لَمْ يَعْتَقِدَا لُزُومَهُ : وَالنِّكَاحُ مَا لَزِمَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ مُؤَقَّتًا ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُسْلِمَا وَمُدَّةُ الْخِيَارِ بَاقِيَةٌ ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ لِمَا ذَكَرْنَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُسْلِمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْخِيَارِ ، فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ : لِأَنَّ مَا انْقَضَى مُدَّةُ خِيَارِهِ صَارَ مُعْتَقَدَ اللُّزُومِ . وَأَمَّا إِنْ نَكَحَهَا فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَا ، فَإِنْ كَانَتِ الْعِدَّةُ وَقْتَ إِسْلَامِهِمَا بَاقِيَةً ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ : لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْعَقْدَ عَلَيْهَا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقِيمَ عَلَى نِكَاحِهَا ، وَإِنْ كَانَتِ الْعِدَّةُ قَدِ انْقَضَتْ وَقْتَ إِسْلَامِهِمَا ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ : لِأَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَنْقَضِي إِذَا كَانَتْ تَحْتَ زَوْجٍ فَصَارَتْ مُسْلِمَةً مَعَ بَقَاءِ الْعِدَّةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ : لِأَنَّ مَنَاكِحَ الشِّرْكِ مَعْفُوٌّ عَنْهَا ، وَإِذَا أَسْلَمَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْعِدَّةِ فَقَدِ اسْتَهْلَكَتْهَا عَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فِي الشِّرْكِ فَسَقَطَ حُكْمُهَا ، وَإِذَا كَانَتِ الْمُدَّةُ بَاقِيَةً لَمْ تَسْتَهْلِكْ مَا بَقِيَ مِنْهَا فَافْتَرَقَا . فَأَمَّا إِذَا قَهَرَ الْمُشْرِكُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُشْرِكَةً عَلَى نَفْسِهَا ، فَزَنَا بِهَا ، ثُمَّ اسْلَمَا ، فَإِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِي دِينِهِمْ أَنَّ الْقَهْرَ عَلَى النَّفْسِ نِكَاحٌ مُسْتَدَامٌ ، صَارَ ذَلِكَ مِنْ عُقُودِ مَنَاكِحِهِمُ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا ، فَيُحْكَمُ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَعْتَقِدُونَهُ فِي دِينِهِمْ نِكَاحًا ، فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا إِذَا أَسْلَمَا .

بَابُ الْخِلَافِ فِي إِمْسَاكِ الْأَوَاخِرِ

بَابُ الْخِلَافِ فِي إِمْسَاكِ الْأَوَاخِرِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَاحْتَجَجْتُ عَلَى مَنْ يُبْطِلُ الْأَوَاخِرَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ الدَّيْلَمِيِّ وَعِنْدَهُ أُخْتَانِ : اخْتَرْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ وَفَارِقِ الْأُخْرَى وَبِمَا قَالَ لِنَوْفَلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَتَخْيِيرِهِ غَيْلَانَ ، فَلَوْ كَانَ الْأَوَاخِرُ حَرَامًا مَا خَيَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقُلْتُ لَهُ : أَحْسَنُ حَالَةٍ أَنْ يَعْقِدُوهُ بِشَهَادَةِ أَهْلِ الْأَوْثَانِ ، قُلْتُ : وَيُرْوَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْكِحُونَ فِي الْعِدَّةِ وَبِغَيْرِ شُهُودٍ ، قَالَ : أَجَلْ ، قُلْتُ : وَهَذَا كُلُّهُ فَاسِدٌ فِي الْإِسْلَامِ ، قَالَ : أَجَلْ ، قُلْتُ : فَلَمَّا لَمْ يَسْأَلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْعَقْدِ ، كَانَ عَفْوًا لِفَوْتِهِ ، كَمَا حَكَمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَفْوِ الرِّبَا إِذَا فَاتَ بِقَبْضِهِ وَرَدِّ مَا بَقِيَ : لِأَنَّ الْإِسْلَامَ أَدْرَكَهُ ، كَمَا رَدَّ مَا جَاوَزَ أَرْبَعًا : لِأَنَّ الْإِسْلَامَ أَدْرَكَهُنَّ مَعَهُ ، وَالْعُقُدُ كُلُّهَا لَوِ ابْتَدَأَتْ فِي الْإِسْلَامِ فَاسِدَةً ، فَكَيْفَ نَظَرْتَ إِلَى فَسَادِهَا مَرَّةً وَلَمْ تَنْظُرْ أُخْرَى ، فَرَجَعَ بَعْضُ أَصْحَابِهِمْ ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : مَا عَلِمْتُ أَحَدًا احْتَجَّ بِأَحْسَنَ مِمَّا احْتَجَجْتَ بِهِ ، وَلَقَدْ خَالَفْتُ أَصْحَابِي فِيهِ مُنْذُ زَمَانٍ ، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ عَلَى حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِيَاسُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : قَدْ مَضَى ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْمُشْرِكَ إِذَا أَسْلَمَ مَعَ أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إِمْسَاكِ الْأَوَائِلِ وَالْأَوَاخِرِ ، بِخِلَافِ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ إِمْسَاكِ الْأَوَائِلِ دُونَ الْأَوَاخِرِ : احْتِجَاجًا بِمَا مَضَى ، فَحَكَى الشَّافِعِيُّ مُنَاظَرَتَهُ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَلَى ذَلِكَ ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ، وَعَدَلَ عَنْ قَوْلِ صَاحِبَيْهِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَاحْتِجَاجُهُ فِي ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَاهُ ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِعَادَتِهِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

بَابُ ارْتِدَادِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ هُمَا ، وَمِنْ شِرْكٍ إِلَى شِرْكٍ

بَابُ ارْتِدَادِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ هُمَا ، وَمِنْ شِرْكٍ إِلَى شِرْكٍ ، مِنْ كِتَابِ جَامِعِ الْخِطْبَةِ ، وَمِنْ كِتَابِ الْمُرْتَدِّ ، وَمِنْ كِتَابِ مَا يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَإِذَا ارْتَدَّا أَوْ أَحَدُهُمَا مُنِعَا الْوَطْءَ ، فَإِنِ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ قَبْلَ اجْتِمَاعِ إِسَلَامِهِمَا انْفَسَخَ النِّكَاحُ ، وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا إِنْ أَصَابَهَا فِي الرِّدَّةِ فَإِنِ اجْتَمَعَ إِسْلَامُهُمَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا الْفَصْلُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ . إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَرْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ . وَالثَّانِيَةُ : أَنْ يَرْتَدَّا مَعًا . فَإِذَا ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُكَوْنَ قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَالنِّكَاحُ قَدْ بَطَلَ بِرِدَّةِ أَحَدِهِمَا ، وَهُوَ إِجْمَاعٌ : لِأَنَّ مَا أَثَّرَ فِي الْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَيَّتُهَا كَالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ ، وَلِذَلِكَ أَبْطَلْنَا نِكَاحَ الزَّوْجَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَإِذَا بَطَلَ النِّكَاحُ بِرِدَّةِ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الدُّخُولِ نَظَرَ فِي الْمُرْتَدِّ مِنْهُمَا ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الزَّوْجَ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ : لِأَنَّ الْفَسْخَ مَنْ قِبَلِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ هِيَ الزَّوْجَةُ فَلَا مَهْرَ لَهَا : لِأَنَّ الْفَسْخَ مَنْ قِبَلِهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ رِدَّةُ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الدُّخُولِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي النِّكَاحِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، فَإِنْ أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ مِنْهُمَا قَبْلَ انْقِضَائِهَا العدة كَانَا عَلَى النِّكَاحِ ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ بَطَلَ النِّكَاحُ . وَقَالَ مَالِكٌ : يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ عَلَى الْمُرْتَدِّ مِنْهُمَا ، فَإِنْ عَادَ إِلَيْهِ كَانَا عَلَى النِّكَاحِ ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ بَطَلَ النِّكَاحُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : قَدْ بَطَلَ النِّكَاحُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ مِنْ غَيْرِ وَقْفٍ : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ ارْتِدَادَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ مُوجِبٌ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ فِي الْحَالِ قِيَاسًا عَلَى مَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَسْخُ النِّكَاحِ يَسْتَوِي فِيهِ مَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَبِعَدَهُ كَالرَّضَاعِ ، وَاسْتِبْرَاءِ الزَّوْجَةِ ، وَوَطْءِ أُمِّهَا بِشُبْهَةٍ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ بَعْدَ الْإِصَابَةِ لَا يُوجِبُ تَعْجِيلَ الْفُرْقَةِ : قِيَاسًا عَلَى إِسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ ، وَلِأَنَّهَا رِدَّةٌ طَارِئَةٌ عَلَى نِكَاحِ مَدْخُولٍ بِهَا ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَبْيِنَ : قِيَاسًا عَلَى ارْتِدَادِهِمَا مَعًا .

فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى مَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَهُوَ أَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا ، فَلِذَلِكَ تَعَجَّلَ فِرَاقُهَا ، وَالْمَدْخُولُ بِهَا عَلَيْهَا الْعِدَّةُ ، فَلِذَلِكَ تَعَلَّقَ بِانْقِضَائِهَا وُقُوعُ فِرَاقِهَا كَالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ يُتَعَجَّلُ بِهِ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا ، وَيَتَأَجَّلُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الرَّضَاعِ مَعَ فَسَادِهِ بِإِسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ ، فَهُوَ أَنَّ تَحْرِيمَ الرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةَ يَتَأَبَّدُ ، وَتَحْرِيمَ الرِّدَّةِ قَدْ يَرْتَفِعُ فَلِذَلِكَ مَا افْتَرَقَا .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : وَهُوَ أَنْ يَرْتَدَّ الزَّوْجَانِ مَعًا ، فَهُوَ كَارْتِدَادِ أَحَدِهِمَا إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بَطَلَ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ وَقَفَ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا ارْتَدَّا مَعًا كَانَ عَلَى النِّكَاحِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ أَهْلَ الرِّدَّةِ حِينَ أَسْلَمُوا أَقَرَّهُمْ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى مَنَاكِحِهِمْ ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ فِيهِمُ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ وَلَا حَالَ الدُّخُولِ : لِاجْتِمَاعِ الزَّوْجَيْنِ مِنْهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالرِّدَّةِ . قَالَ : وَلِأَنَّهُ انْتِقَالٌ إِلَى دِينٍ وَاحِدٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُوقِعَ الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا : قِيَاسًا عَلَى إِسْلَامِ الْمُشْرِكِينَ . قَالَ : وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي ارْتِدَادِهِمَا أَنْ لَا يُقَرَّا عَلَى دِينِهِمَا ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ نِكَاحِهِمَا كَالْوَثَنِيَّيْنِ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّهَا رِدَّةٌ طَارِئَةٌ عَلَى نِكَاحٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا وُقُوعُ الْفُرْقَةِ : قِيَاسًا عَلَى رِدَّةِ أَحَدِهِمَا ، وَلِأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِرِدَّةِ أَحَدِهِمَا لَمْ يَزُلْ بِرِدَّتِهَا قِيَاسًا عَلَى اسْتِبَاحَةِ الْمَالِ وَالدَّمِ وَإِحْبَاطِ الْعَمَلِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْنَى وَقَعَتْ بِهِ الْفُرْقَةُ إِذَا وُجِدَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَقَعَتْ بِهِ الْفُرْقَةُ إِذَا وُجِدَ مِنْهُمَا كَالْمَوْتِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ إِقْرَارِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِأَهْلِ الرِّدَّةِ عَلَى مَنَاكِحِهِمْ ، فَلِأَنَّهُمْ أَسْلَمُوا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا . قِيلَ : قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُنَّ مَدْخُولًا بِهِنَّ ، أَوْ لَمْ يَتَمَيَّزْنَ فَأَجْرَى عَلَيْهِنَّ حُكْمَ الْأَغْلَبِ ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنِ اجْتَمَعَا فِي الرِّدَّةِ أَوْ لَمْ يَجْتَمِعَا ، وَإِنَّ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا ، فَيَكُونُ جَوَابُهُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكَيْنِ إِذَا أَسْلَمَا بِعِلَّةِ انْتِقَالِهِمَا إِلَى دِينٍ وَاحِدٍ ، فَهُوَ انْتِقَاضُهُ بِالْمُسْلِمِ إِذَا تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً ثُمَّ تَنَصَّرَ قَدِ اجْتَمَعَا عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ ، وَالْفُرْقَةُ وَاقِعَةٌ بَيْنَهُمَا ، عَلَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَدْ وَافَقَنَا أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَا عَلَى الرِّدَّةِ مِنَ الْإِصَابَةِ ، كَمَا لَوِ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا حَتَّى يَجْتَمِعَا عَلَى الْإِسْلَامِ ما يطرأ من أحكام بإسلام الزوجين . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِاجْتِمَاعِ الْوَثَنِيَّيْنِ ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْوَثَنِيَّيْنِ لَا يُمْنَعَانِ مِنَ

الْإِصَابَةِ فَجَازَ إِقْرَارُهُمَا عَلَى النِّكَاحِ ، وَالْمُرْتَدَّانِ يُمْنَعَانِ مِنَ الْإِصَابَةِ فَلَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهُمَا عَلَى النِّكَاحِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى الرِّدَّةِ فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا كَارْتِدَادِ أَحَدِهِمَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا إِذَا ارْتَدَّا مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالِ ردة الزوجين ، وَفِي الْمَهْرِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُغَلَّبُ فِيهِ رِدَّةُ الزَّوْجِ : لِأَنَّهُ أَقْوَى الْمُتَنَاكِحَيْنِ حَالًا ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ كَمَا لَوْ تَفَرَّدَ بِالرِّدَّةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُغَلَّبُ فِيهِ رِدَّةُ الزَّوْجَةِ : لِأَنَّ الْمَهْرَ حَقٌّ لَهَا ، فَكَانَ أَوْلَى الْأَمْرَيْنِ أَنْ يُغَلَّبَ فِيهِ رَدَّتُهَا ، فَعَلَى هَذَا لَا مَهْرَ لَهَا كَمَا لَوْ تَفَرَّدَتْ بِالرِّدَّةِ . وَخَرَّجَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِيهِ وَجْهًا ثَالِثًا : أَنَّ لَهَا رُبُعَ الْمَهْرِ : لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْفَسْخِ فَسَقَطَ مِنَ النِّصْفِ نِصْفُهُ : لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ رِدَّةِ الزَّوْجِ ، وَإِنْ كَانَ ارْتِدَادُهُمَا بَعْدَ الدُّخُولِ ، فَالْمَهْرُ قَدِ اسْتَقَرَّ بِالْإِصَابَةِ الزوجين ، وَلَهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعُودَا جَمِيعًا إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، فَيَكُونَا عَلَى النِّكَاحِ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَعُودَا مَعًا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَعُودَ الزَّوْجُ إِلَى الْإِسْلَامِ دُونَهَا ، فَلَا نِكَاحَ . وَالرَّابِعُ : أَنَّ تَعُودَ الزَّوْجَةُ دُونَهُ ، فَلَا نِكَاحَ .

فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ الْإِصَابَةُ فِي الرِّدَّةِ سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ الْمُرْتَدَّ أَوِ الزَّوْجَةُ ، فَإِنْ أَصَابَهَا فِي الرِّدَّةِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ أي الزوج زوجته : لِأَنَّ بَقَاءَ أَحْكَامِ النِّكَاحِ شُبْهَةٌ فِي إِدْرَاءِ الْحَدِّ ، وَعَلَيْهِ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ ، فَإِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا ، فَاسْتَقَرَّ الْمَهْرُ ، عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ مِنْ إِصَابَتِهِ لِلِاسْتِبْرَاءِ ، وَيَكُونُ الْبَاقِي مِنْ عِدَّةِ الرِّدَّةِ مَحْسُوبًا مِنَ الْعِدَّتَيْنِ . مِثَالُهُ : أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَهَا بَعْدَ قُرْءٍ مِنْ رِدَّتِهَا ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ مَنْ وَقْتِ الْإِصَابَةِ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ ، مِنْهَا قُرْءَانِ مِنْ عِدَّتِيِ الرِّدَّةِ وَالْإِصَابَةِ ، وَقُرْءٌ مُخْتَصٌّ بَعْدَ الْإِصَابَةِ وَإِسْلَامُهَا الَّذِي يَجْتَمِعَانِ بِهِ عَلَى النِّكَاحِ أَنْ يَكُونَ فِي عِدَّةِ الرِّدَّةِ دُونَ عِدَّةِ الْإِصَابَةِ ، فَإِنْ عَادَ الْمُرْتَدُّ مِنْهُمَا إِلَى الْإِسْلَامِ فِي الْبَاقِي مِنْ عِدَّةِ الرِّدَّةِ كَانَا عَلَى النِّكَاحِ ، فَأَمَّا الْمَهْرُ ، فَالَّذِي وَجَبَ بِالْإِصَابَةِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : مَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِهِ بِالْإِسْلَامِ ، وَقَالَ فِي الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ : إِذَا أَصَابَهَا الزَّوْجُ فِي الْعِدَّةِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ ثُمَّ رَاجَعَهَا بَعْدَ الْإِصَابَةِ ، أَنَّ الْمُهْرَ لَا يَسْقُطُ بِالرَّجْعَةِ ، وَرَجْعَةُ الْمُطَلَّقَةِ كَإِسْلَامِ الْمُرْتَدَّةِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ جَوَابِهِ عَلَى طَرِيقَيْنِ : أَحَدُهُمَا : نَقْلُ جَوَابِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى ، وَتَخْرِيجُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : سُقُوطُ مَهْرِهَا بِعَوْدِ الْمُرْتَدَّةِ إِلَى الْإِسْلَامِ ، وَرَجْعَةِ الْمُطَلَّقَةِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُرْتَدَّةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ مَهْرَهَا ثَابِتٌ لَا يَسْقُطُ بِإِسْلَامِ الْمُرْتَدَّةِ وَلَا بِرَجْعَةِ الْمُطَلَّقَةِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُطَلَّقَةِ .

وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ : حَمْلُ الْجَوَابِ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ، فَيَسْقُطُ مَهْرُ الْمُرْتَدَّةِ بِالْإِسْلَامِ ، وَلَا يَسْقُطُ مَهْرُ الْمُطَلَّقَةِ بِالرَّجْعَةِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ ثَلْمَ الرِّدَّةِ قَدِ ارْتَفَعَ بِالْإِسْلَامِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لِلرِّدَّةِ تَأْثِيرٌ بِعَوْدِهَا إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ نِكَاحٍ وَإِبَاحَةٍ ، وَثَلْمَ الْمُطَلَّقَةِ لَمْ يَرْتَفِعْ جَمِيعُهُ بِالرَّجْعَةِ ، وَإِنَّمَا ارْتَفَعَ بِهَا التَّحْرِيمُ دُونَ الطَّلَاقِ ، فَكَانَ تَأْثِيرُهُ بَاقِيًا فَبَقِيَ مَا وَجَبَ فِيهِ مِنَ الْمَهْرِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ هَرَبَ مُرْتَدًّا ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مُسْلِمًا ، وَادَّعَى أَنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَهَا ، فَأَنْكَرَتْ الزوج ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهِا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ مَضَتْ فِي الِانْفِصَالِ عَمَّا أَوْرَدَهُ الْمُزَنِيُّ فِي اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ فِي إِسْلَامِهِمَا ، وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَصْحَابِنَا فِي الْمُرْتَدِّ إِذَا عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ ، وَقَالَ : أَسْلَمْتُ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِكِ ، وَقَالَتْ : بَعْدَهَا ، وَفِي الرَّجْعِيَّةِ إِذَا قَالَ الزَّوْجُ : رَاجَعْتُكِ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِكِ ، وَقَالَتْ : بَعْدَهَا عَلَى ثَلَاثَةِ طُرُقٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ . أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجَةِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ : لِأَنَّ قَوْلَهَا فِي عِدَّتِهَا مَقْبُولٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ : لِأَنَّ قَوْلَهُ فِيمَا نَقَلَهُ مِنْ إِسْلَامٍ وَرَجْعَةٍ مَقْبُولٌ . وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنِ اتُّفِقَ عَلَى صِدْقِهِ فِيهِمَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى الْمِثَالِ الَّذِي بَيَّنَاهُ . وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ سَبَقَ مِنْهُمَا بِالدَّعْوَى .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، فَارْتَدَتْ فَلَا مَهْرَ لَهَا : لِأَنَّ الْفَسْخَ مِنْ قِبَلِهَا ، وَإِنِ ارْتَدَّ فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ : لِأَنَّ الْفَسْخَ مِنْ قِبَلِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ، وَذَكَرْنَا أَنَّ ارْتِدَادَ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الدُّخُولِ الزوجين مُوجِبٌ لِفَسْخِ النِّكَاحِ ، وَأَنَّ الْمُرْتَدَّ إِنْ كَانَ هُوَ الزَّوْجُ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ ، وَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ فَلَا مَهْرَ لَهَا ، فَرْقًا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهِ أَوْ قِبَلِهَا ، وَأَنَّهُمَا إِنِ ارْتَدَّا مَعًا كَانَ فِي الْمَهْرِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ الزوجين : أَحَدُهَا : لَهَا نَصِفُهُ : تَغْلِيبًا لِرِدَّةِ الزَّوْجِ . وَالثَّانِي : لَا شَيْءَ لَهَا : تَغْلِيبًا لِرِدَّتِهَا . وَالثَّالِثُ : لَهَا رُبُعُهُ : لِاشْتِرَاكِهِمَا فِيهَا . قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ كَانَتْ تَحْتَهُ نَصْرَانِيَّةٌ فَتَمَجَّسَتْ أَوْ تَزَنْدَقَتْ ، فَكَالْمُسْلِمَةِ تَرْتَدُّ ( وَقَالَ ) فِي كِتَابِ الْمُرْتَدِّ حَتَى تَرْجِعَ إِلَى الَّذِي حَلَّتْ بِهِ مِنْ يَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَقْسَامِ وَالْأَحْكَامِ ، وَأَنَّ الزَّوْجَةَ النَّصْرَانِيَّةَ إِذَا تَزَنْدَقَتْ لَمْ تُقَرَّ ، وَفِيمَا تُؤْخَذُ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ :

أَحَدُهَا : الْإِسْلَامُ لَا غَيْرَ . وَالثَّانِي : الْإِسْلَامُ ، فَإِنْ أَبَتْ فَدِينُهَا الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ . وَالثَّالِثُ : الْإِسْلَامُ ، فَإِنْ أَبَتْ فَدِينٌ يُقِرُّ عَلَيْهِ أَهْلُهُ مِنْ أَدْيَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ . وَلَوْ كَانَتْ نَصْرَانِيَّةً فَتَهَوَّدَتْ الزوجة كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تُقَرُّ . وَالثَّانِي : لَا تُقَرُّ . وَفِيمَا تُؤْخَذُ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : الْإِسْلَامُ لَا غَيْرَ . وَالثَّانِي : الْإِسْلَامُ ، فَإِنْ أَبَتْ فَدِينُهَا الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ . وَذَكَرْنَا مَا تَعَلَّقَ بِذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَنْ دَانَ دِينَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنَ الْعَرَبِ أَوِ الْعَجَمِ غَيْرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ وَمَا يَحْرُمُ مِنْهُ أَوْ يَحِلُّ كَأَهْلِ الْأَوْثَانِ ( وَقَالَ ) فِي كِتَابِ مَا يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ : مَنِ ارْتَدَتْ مِنْ يَهُودِيَّةٍ إِلَى نَصْرَانِيَّةٍ ، أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ إِلَى يَهُودِيَّةٍ ، حَلَّ نِكَاحُهَا : لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ الَّذِي خَرَجَتْ إِلَيْهِ حَلَّ نِكَاحُهَا ( وَقَالَ ) فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ : لَا يُنْكَحُ مَنِ ارْتَدَّ عَنْ أَصْلِ دِينِ آبَائِهِ : لِأَنَّهُمْ بَدَّلُوا بِغَيْرِهِ الْإِسْلَامَ ، فَخَالَفُوا حَالَهُمْ عَمَّا أُذِنَ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ عَلَيْهِ ، وَأُبِيحَ مِنْ طَعَامِهِمْ وَنِسَائِهِمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ، وَذَكَرْنَا أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مُقَرُّونَ عَلَى دِينِهِمْ ، وَيَحِلُّ نِكَاحُ نِسَائِهِمْ ، وَمَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمَا مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَسَائِرِ الْأُمَمِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : قَبْلَ التَّبْدِيلِ ، وَبَعْدَهُ ، مِمَّنْ دَخَلَ فِيهِ قَبْلَ تَبْدِيلِ أَهْلِهِ كَالرُّومِ ، كَانَ عَلَى حُكْمَيْنِ فِيهِ ، تُقْبَلُ جِزْيَتُهُمْ ، وَتُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ ، وَتُؤَكَلُ ذَبَائِحُهُمْ . وَمَنْ دَخَلَ فِيهِ بَعْدَ تَبْدِيلِ أَهْلِهِ كَانَ فِي حُكْمِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ لَا تُقْبَلُ جِزْيَتُهُمْ ، وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ ، وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ ، فَإِنْ بَدَّلَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ مِمَّنْ دَخَلَ فِي دِينِ مَنْ بَدَّلَ لَمْ تُقَرَّ ، وَمَنْ دَخَلَ فِي دِينٍ لَمْ يُبَدَّلْ أُقِرَّ ، وَحَلَّ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحُ نِسَائِهِمْ ، وَإِنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ قَوْمٌ أَشْكَلَتْ عَلَيْنَا أَحْوَالُهُمْ هَلْ دَخَلُوا فِيهِ قَبْلَ التَّبْدِيلِ أَوْ بَعْدَهُ ، أَوْ هَلْ دَخَلُوا فِيهِ مَعَ مَنْ بَدَّلَ أَوْ مَعَ مَنْ لَمْ يُبَدِّلْ كَانُوا فِي حُكْمِ الْمَجُوسِ يُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ حَقْنًا لِدِمَائِهِمْ ، وَلَا تُؤَكِّلُ ذَبَائِحُهُمْ ، وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ .

فَصْلٌ : وَلَيْسَ لِلْمُرْتَدِّ أَنْ يَسْتَأْنِفَ عَقْدَ نِكَاحٍ فِي الرِّدَّةِ عَلَى مُسْلِمَةٍ وَلَا مُرْتَدَّةٍ ، فَإِنْ عَقَدَ فِيهِ نِكَاحًا كَانَ فَاسِدًا سَوَاءً تَعَجَّلَ إِسْلَامَهُ فِيهِ أَوْ تَأَخَّرَ : لِأَنَّ رِدَّتَهُ تُبْطِلُ نِكَاحًا ثَابِتًا المرتد ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ

يُثْبِتَ نِكَاحًا مُسْتَأْنَفًا ، إِلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي مَوْضِعٍ تُطَلَّقُ عَلَيْهِ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : لَا تُطَلَّقُ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ فِيهِ ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُ لَا تُطَلَّقُ يَعْنِي وَاجِبًا ، وَقَوْلُهُ تُطَلَّقُ اسْتِحْبَابًا . وَالثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ لَا تُطَلَّقُ إِنْ نَكَحَ مُسْلِمَةً ، وَتُطَلَّقُ إِذَا نَكَحَ مُرْتَدَّةً ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ طَلَاقِ الشِّرْكِ

بَابُ طَلَاقِ الشِّرْكِ حكمه قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَإِذْ أَثْبَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِكَاحَ الشِّرْكِ ، وَأَقَرَّ أَهْلَهُ عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ ، لَمْ يَجُزْ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ طَلَاقُ الشِّرْكِ : لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَثْبُتُ بِثُبُوتِ النِّكَاحِ وَيَسْقُطُ بِسُقُوطِهِ ، فَإِنْ أَسْلَمَا ، وَقَدْ طَلَّقَهَا فِي الشِّرْكِ ثَلَاثًا ، لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا غَيْرُهُ فِي الشِّرْكِ حَلَّتْ لَهُ ، وَلِمُسْلِمٍ لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، نِكَاحُ الشِّرْكِ حكمه صَحِيحٌ ، وَالْإِقْرَارُ عَلَيْهِ جَائِزٌ ، وَطَلَاقُ الشِّرْكِ وَاقِعٌ ، وَحُكْمُ الْفُرْقَةِ ثَابِتٌ . وَقَالَ مَالِكٌ : مَنَاكِحُهُمْ بَاطِلَةٌ ، وَإِنْ أُقِرُّوا عَلَيْهَا ، وَطَلَاقُهُمْ غَيْرُ وَاقِعٍ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِ مَنَاكِحِهِمْ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اتَّقَوْا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّمَا مَلَكْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى يَعْنِي بِكِتَابِ اللَّهِ وَدِينِ الْإِسْلَامِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ إِلْقَاءَ الثَّوْبِ عَلَى الْمَرْأَةِ نِكَاحًا ، وَقَهْرَهَا عَلَى نَفْسِهَا نِكَاحًا ، وَالْمُبَادَلَةَ بِالنِّسَاءِ نِكَاحًا ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَرْدُودٌ بِالشَّرْعِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِحَّ فِي الْإِسْلَامِ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ طَلَاقَهُمْ لَا يَقَعُ وَلَا يَلْزَمُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [ الْأَنْفَالِ : 38 ] . فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ مَغْفُورًا ، قَالَ : وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ الظِّهَارَ طَلَاقًا مُؤَبَّدًا ، وَقَدْ أَبْطَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَغَيَّرَ حُكْمَهُ . وَدَلِيلُنَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ إِلَيْهِمْ مَنَاكِحَ نِسَائِهِمْ ، فَقَالَ فِي امْرَأَةِ أَبِي لَهَبٍ : وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [ الْمَسَدِ : 4 ] . وَفِي امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ : وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ [ الْقَصَصِ : 9 ] . وَالْإِضَافَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ مُقْتَضِيَةٌ لِلتَّمْلِيكِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ ، وَكَانَتْ مَنَاكِحُ آبَائِهِ فِي الشِّرْكِ تَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا ، وَوُقُوعُ الْفَرْقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّفَّاحِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا ، وَلَا يَرْجُمُ إِلَّا مُحَصَّنًا بِنِكَاحٍ ، وَلِأَنَّهَا مَنَاكِحُ يُقَرُّ عَلَيْهَا أَهْلُهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ بِصِحَّتِهَا قِيَاسًا عَلَى مَنَاكِحِ الْمُسْلِمِينَ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْخَبَرِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ : اسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ أَيْ بِإِبَاحَةِ اللَّهِ ، وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى مَنَاكِحَهُمْ بِإِقْرَارِهِمْ عَلَيْهَا .

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ مِنَ الْمَنَاكِحِ بَيْنَهُمْ مَا لَا نَرَاهُ فَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَعْرِفُ اخْتِلَافَ آبَائِهِمْ فِيهِ ، فَلَمْ يَكْشِفْ عَنْهُ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [ الْأَنْفَالِ : 38 ] . فَيَعْنِي مِنَ الْآثَامِ دُونَ الْأَحْكَامِ ، وَأَمَّا الظِّهَارُ فَبِالْفَسْخِ أَبْطَلَ حُكْمَهُ ، وَحُكْمُهُ بِالطَّلَاقِ مُقَرٌّ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ عُقُودِهِمْ ، وَمَنَاكِحِهِمْ أهل الشرك ، وَالْعَفْوُ عَمَّا اخْتَلَّ مِنْ شُرُوطِهَا ، وَأَنَّهُمْ مَأْخُوذُونَ بِمَا أَوْقَعُوهُ فِيهَا مِنْ طَلَاقٍ وَظِهَارٍ وَإِيلَاءٍ اعْتُبِرَ حَالُ طَلَاقِهِ ، فَإِنْ كَانَ صَرِيحًا عِنْدَهُمْ أَجْرَيْتُ عَلَيْهِ حُكْمَ الصَّرِيحِ سَوَاءٌ كَانَ عِنْدَنَا صَرِيحًا أَوْ كِنَايَةً : لِأَنَّنَا نَعْتَبِرُ عُقُودَهُمْ فِي شِرْكِهِمْ بِمُعْتَقَدِهِمْ ، كَذَلِكَ حُكْمُ طَلَاقِهِمْ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نَظَرْتَ : فَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا فَرَاجِعٌ فِي الْعِدَّةِ غير المسلم صَحَّتْ رَجْعَتُهُ كَمَا صَحَّ نِكَاحُهُ ، وَكَانَتْ مَعَهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ الطَّلَاقِ ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدَةً بَقِيَتْ مَعَهُ عَلَى اثْنَتَيْنِ ، وَإِنْ كَانَتِ اثْنَتَيْنِ بَقِيَتْ مَعَهُ عَلَى وَاحِدَةٍ ، وَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْهَا فِي الْعِدَّةِ حَتَّى أَسْلَمَا ، فَإِنْ كَانَتْ عِدَّةُ الطَّلَاقِ قَدِ انْعَقَدَتْ فِي الشِّرْكِ أَوْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَقَبْلَ الرَّجْعَةِ هل تبين منه ؟ ، بَانَتْ مِنْهُ ، وَجَازَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْعَقْدَ عَلَيْهَا ، فَيَكُونُ عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ الطَّلَاقِ ، وَإِنْ كَانَتِ الْعِدَّةُ بَاقِيَةً ، فَلَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ ، وَتَكُونُ مَعَهُ عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ الطَّلَاقِ ، وَإِنْ كَانَ طَلَاقُهُ لَهَا فِي الشِّرْكِ ثَلَاثًا هل تحرم عليه ؟ فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ، فَلَوْ كَانَتْ قَدْ نَكَحَتْ فِي الشِّرْكِ زَوْجًا غَيْرَهُ حَلَّتْ لَهُ إِذَا أَسْلَمَ ، فَلَوْ عَادَ فَنَكَحَهَا فِي الشِّرْكِ قَبْلَ زَوْجٍ ، وَقَدْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ، كَانَ نِكَاحُهَا إِذَا أَسْلَمَ بَاطِلًا ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَرَّ عَلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيِسَ لَوْ نَكَحَهَا فِي الْعِدَّةِ غير المسلم ثُمَّ أَسْلَمَا بَعْدَهَا أُقِرَّ ؟ فَهَلَّا إِذَا نَكَحَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا قَبْلَ زَوْجٍ أُقِرَّ ؟ قِيلَ : لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْمُعْتَدَّةِ قَدْ زَالَ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْعَقْدَ عَلَيْهَا ، فَجَازَ أَنْ تُقَرَّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ نِكَاحِهَا وَتَحْرِيمِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لَمْ يَزُلْ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْعَقْدَ عَلَيْهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُقَرَّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ نِكَاحِهَا وَتَحْرِيمُ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِيمَا يُؤْخَذُ بِهِ مِنْ حُكْمِ ظِهَارِهِ وَإِيلَائِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ عَقْدِ نِكَاحِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُهُورِهِمْ

عُقْدَةُ نِكَاحِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُهُورُهُمْ كَأَهْلِ الْحَرْبِ

بَابُ عَقْدِ نِكَاحِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُهُورِهِمْ مِنَ الْجَامِعِ وَغَيْرِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَعُقْدَةُ نِكَاحِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُهُورُهُمْ كَأَهْلِ الْحَرْبِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، لَا اعْتِرَاضَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي مَنَاكِحِهِمْ ، وَإِنْ كَانُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَهِيَ عُقُودٌ إِذَا أَسْلَمُوا لِمَا فِي تَتَبُّعِ مَنَاكِحِهِمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ مِنَ التَّنْفِيرِ عَنْهُ ، فَلَوْ نَكَحَ أَحَدُهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ خَمْسًا أَوْ جَمَعَ بَيْنَ أُخْتَيْنِ ، أَوْ نَكَحَ مَجُوسِيٌّ أُمَّهُ وَبِنْتَهُ ، وَلَمْ يُعَارَضُوا وَهُمْ كَأَهْلِ الْحَرْبِ إِذَا أَسْلَمُوا ، فَمَا جَازَ إِنْ لَمْ يَسْتَأْنِفُوهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أُقِرُّوا عَلَيْهِ ، وَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَأْنِفُوهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَمْ يُقَرُّوا عَلَيْهِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانُوا لَهُمْ ذِمَّةٌ وَأَحْكَامُنَا عَلَيْهِ جَارِيَةٌ إِلَّا فِي شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ ، فَإِنَّ الْحَرْبِيَّ إِذَا قَهَرَ حَرْبِيَّةً عَلَى نَفْسِهَا وَرَآهُ نِكَاحًا ، أُقِرَّ عَلَيْهِ إِذَا أَسْلَمَا ، وَلَا يُقَرُّ ذِمِّيٌّ عَلَى قَهْرِ ذِمِّيَّةٍ إِذَا أَسْلَمَا : لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ تَمْنَعُ مِنَ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ ، وَدَارَ الْحَرْبِ تُبِيحُهُ ، فَافْتَرَقَا لِافْتِرَاقِ حُكْمِ الدَّارَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَعْتَقِدَا نِكَاحًا لَا يَجُوزُ فِي دِينِهِمْ كَيَهُودِيٍّ نَكَحَ أُمَّهُ أَوْ بِنْتَهُ ، فَلَا يُقَرُّوا عَلَيْهِ : لِأَنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنْهُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ وَدِينِهِمْ ، وَلَوْ فَعَلَهُ الْمَجُوسِيُّ أُقِرَّ : لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَمْنُوعِينَ مِنْهُ فِي دِينِهِمْ ، فَأَمَّا مُهُورُهُمْ فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِمْ فِيهَا ، حَلَالًا كَانَتْ أَمْ حَرَامًا ، فَإِنْ تَقَابَضُوهَا وَهِيَ حَرَامٌ بَرِئَ مِنْهَا الْأَزْوَاجُ ، وَإِنْ بَقِيَتْ فِي ذِمَّتِهِمْ حَتَّى أَسْلَمُوا المهور المحرمة لأهل الشرك أَلْزَمَهُمْ بَدَلًا مِنْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ ، وَإِنْ تَقَابَضُوا بَعْضَهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَقِيَ بَعْضَهَا بَعْدَهُ لَزِمَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ بِقِسْطِ مَا بَقِيَ مِنْهَا .

مَسْأَلَةٌ إِنْ نَكَحَ نَصْرَانِيٌّ وَثَنِيَّةً أَوْ مَجُوسِيَّةً أَوْ نَكَحَ وَثَنِيٌّ نَصْرَانِيَّةً أَوْ مَجُوسِيَّةً لَمْ أَفْسَخْ مِنْهُ شَيْئًا إِذَا أَسْلَمُوا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ نَكَحَ نَصْرَانِيٌّ وَثَنِيَّةً أَوْ مَجُوسِيَّةً ، أَوْ نَكَحَ وَثَنِيٌّ نَصْرَانِيَّةً أَوْ مَجُوسِيَّةً ، لَمْ أَفْسَخْ مِنْهُ شَيْئًا إِذَا أَسْلَمُوا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا نَكَحَ كِتَابِيٌّ كِتَابِيَّةً ، وَتَحَاكَمَا إِلَيْنَا أُقِرَّا عَلَى النِّكَاحِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَا أَوْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ مِنْهُمَا ، كَانَا عَلَى النِّكَاحِ : لَأَنَّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَ كِتَابِيَّةٍ فَجَازَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى نِكَاحِ كِتَابِيَّةٍ ، وَلَوْ أَسْلَمَتِ الزَّوْجَةُ دُونَهُ لَمْ يُقَرَّ عَلَى نِكَاحِهَا ، وَكَانَ مَوْقُوفًا عَلَى تَقَضِّي الْعِدَّةُ . وَأَمَّا الْوَثَنِيُّ إِذَا نَكَحَ وَثَنِيَّةً إذا أَسْلَمَ أحدهما هل يُقَرَّ عَلَى النِّكَاحِ ؟ ، فَأَيُّهُمَا أَسْلَمَ لَمْ يُقَرَّ عَلَى النِّكَاحِ ، وَكَانَ مَوْقُوفًا عَلَى تَقَضِّي الْعِدَّةُ ، وَإِنْ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا فِي الْأَحْكَامِ أَقْرَرْنَاهُمْ عَلَيْهَا ، فَأَمَّا إِذَا نَكَحَ وَثَنِيٌّ كِتَابِيَّةً إذا أَسْلَمَا أو أحدهما هل يُقَرَّا عَلَى النِّكَاحِ ؟ ، فَإِنْ أَسْلَمَا

أُقِرَّا عَلَى النِّكَاحِ ، وَإِنَّ أَسْلَمَ الزَّوْجُ أُقِرَّ عَلَى النِّكَاحِ ، وَإِنْ أَسْلَمَتِ الزَّوْجَةُ كَانَ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ . وَلَوْ نَكَحَ كِتَابِيٌّ وَثَنِيَّةً إذا أَسْلَمَا أو أحدهما هل يُقَرَّا عَلَى النِّكَاحِ ؟ ، فَأَيُّهُمَا أَسْلَمَ كَانَ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، وَإِنْ تَحَاكَمَا إِلَيْنَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّنَا نُمْضِي نِكَاحَهُمَا وَلَا يُفْسَخُ عَلَيْهِمَا . وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ : يُفْسَخُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ أَنْ يُحْكَمَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِ : وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [ الْمَائِدَةِ : 49 ] ، وَالْوَثَنِيَّةُ لَا تَحِلُّ لِمُسْلِمٍ ، فَكَذَلِكَ لَا تَحِلُّ لِكِتَابِيٍّ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ تَنَوَّعَ وَاخْتَلَفَ ، أَلَّا تَرَى أَنَّنَا نَحْكُمُ بِالتَّوَارُثِ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ إِقْرَارُهُمَا عَلَى هَذَا النِّكَاحِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ ، فَأَوْلَى أَنْ يُقَرَّا عَلَيْهِ فِي حَالِ الْكُفْرِ .

مَسْأَلَةٌ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَةُ مَنْ وُلِدَ مِنْ وَثَنِيٍّ وَنَصْرَانِيَّةٍ وَلَا مِنْ نَصْرَانِيٍّ وَوَثَنِيَّةٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا تَحِلُّ ذَبِيحَةُ مَنْ وُلِدَ مِنْ وَثَنِيٍّ وَنَصْرَانِيَّةٍ ، وَلَا مِنْ نَصْرَانِيٍّ وَوَثَنِيَّةٍ ، وَلَا يَحِلُّ نِكَاحُ ابْنَتِهِمَا : لِأَنَّهَا لَيْسَتْ كِتَابِيَّةً خَالِصَةً ( وَقَالَ ) فِي كِتَابٍ آخَرَ : إِنْ كَانَ أَبُوهَا نَصْرَانِيًا حَلَّتْ ، وَإِنْ كَانَ وَثَنِيًّا لَمْ تَحِلَّ : لِأَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى النَّسَبِ ، وَلَيْسَتْ كَالصَّغِيرَةِ يُسْلِمُ أَحَدُ أَبَوَيْهَا : لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَشْرَكُهُ الشِّرْكُ ، وَالشِّرْكُ يَشْرَكُهُ الشِّرْكُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَحِلُّ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحُ نِسَائِهِمْ أهل الكتاب والمجوس وعبدة الأوثان ، وَأَنَّ الْمَجُوسَ وَعَبَدَةَ الْأَوْثَانِ لَا يَحِلُّ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ وَلَا نِكَاحُ نِسَائِهِمْ ، فَأَمَّا الْمَوْلُودُ مِنْ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ إِذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ كِتَابِيًّا ، وَالْآخَرُ وَثَنِيًّا حكم أكل ذبيحته ومناكحته ، فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْأَبُ وَثَنِيًّا ، وَالْأُمُّ كِتَابِيَّةً يَهُودِيَّةً أَوْ نَصْرَانِيَّةً ، فَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَكْلُ ذَبِيحَةِ هَذَا الْوَلَدِ ، وَلَا يُنْكَحُ إِنْ كَانَ امْرَأَةً : تَغْلِيبًا لِحُكْمِ أَبِيهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَحِلُّ نِكَاحُهُ وَأَكْلُ ذَبِيحَتِهِ : تَغْلِيبًا لِحَقِّ أَبَوَيْهِ حُكْمًا ، اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ ، كَمَا تُنْتَجُ الْإِبِلُ مِنْ بَهِيمَةٍ جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ ، فَلَمْ يَنْقُلْهُ عَنِ الْفِطْرَةِ وَتَخْفِيفِ الْحُكْمِ إِلَى أَغْلَظِهِمَا إِلَّا بِاجْتِمَاعِ أَبَوَيْهِ عَلَى تَغْلِيظِ الْحُكْمِ ، وَلِأَنَّ أَحَدَ أَبَوَيْهِ مُسْتَبَاحُ الذَّبِيحَةِ وَالنِّكَاحِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَلَى حُكْمِهِ قِيَاسًا عَلَى مَنْ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمٌ . وَدَلِيلُنَا : عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [ الْبَقَرَةِ : 221 ] . وَهَذَا الْوَلَدُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُشْرِكِ ، وَلِأَنَّهَا كَافِرَةٌ فَتُنْسَبُ إِلَى كَافِرٍ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ وَلَا نِكَاحُهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَحِلَّ ذَبِيحَتُهَا وَلَا نِكَاحُهَا .

أَصْلُهَا : إِذَا كَانَ أَبَوَاهَا وَثَنِيَّيْنِ ، وَلِأَنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ فِي هَذَا الْوَلَدِ مُوجِبُ حَظْرٍ وَإِبَاحَةٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يُغَلَّبَ حُكْمُ الْحَظْرِ عَلَى حُكْمِ الْإِبَاحَةِ : قِيَاسًا عَلَى الْمُتَوَلِّدِ مِنْ بَيْنِ مَأْكُولٍ وَغَيْرِ مَأْكُولٍ ، وَلَا يَنْتَقِضُ بِالْوَلَدِ إِذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمًا وَالْآخَرُ كَافِرًا : لِأَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ فِي الْوَلَدِ حُكْمُ الْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى فَثَبَتَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ ، وَسَقَطَ حُكْمُ الشِّرْكِ ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ : " لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَشْرِكُهُ الشِّرْكُ ، وَالشِّرْكَ يَشْرِكُهُ الشِّرْكُ " يَعْنِي أَنَّهُ قَدْ يَجْتَمِعُ شِرْكَانِ ، وَلَا يَجْتَمِعُ شِرْكٌ وَإِسْلَامٌ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا التَّعْلِيلِ ، هَلْ أَرَادَ الشَّافِعِيُّ أَبَا حَنِيفَةَ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَأَرَادَ بِهِ مَالِكًا فِي أَنَّ إِسْلَامَ الْأُمِّ لَا يَكُونُ إِسْلَامًا لِلْوَلَدِ عَلَى وَجْهَيْنِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ اجْتِمَاعُ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْكُفْرِ يَقْتَضِي تَكْفِيرَ الْوَلَدِ ، وَانْفِرَادُ أَحَدِهِمَا لَا يَقْتَضِيهِ فَلَمْ يَكُنْ دَلِيلًا فِي هَذَا الْوَضْعِ : لِأَنَّ أَبَوَيْهِ قَدِ اجْتَمَعَا عَلَى الْكُفْرِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى مَنْ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمٌ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ اجْتِمَاعَ الشِّرْكِ وَالْإِسْلَامِ يُوجِبُ فِيهِ حُكْمَ تَغْلِيبِ الْإِسْلَامِ : لِأَنَّهُمَا يَتَنَافَيَانِ فَغُلِّبَ أَقْوَاهُمَا ، وَالشِّرْكَانِ لَا يَتَنَافَيَانِ فَغُلِّبَ أَغْلَظُهُمَا .

فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنَّ يَكُونَ أَبُ هَذَا الْوَلَدِ كِتَابِيًّا يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا ، وَأُمُّهُ وَثَنِيَّةً أَوْ مَجُوسِيَّةً حكم أكل ذبيحته ومناكحته ، فَفِي إِبَاحَةِ نِكَاحِهِ وَأَكْلِ ذَبِيحَتِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَحْرُمُ نِكَاحُهُ وَذَبِيحَتُهُ : لِاجْتِمَاعِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُغَلَّبَ حُكْمُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ ، كَالْمُتَوَلِّدِ مِنْ بَيْنِ مَأْكُولٍ وَغَيْرِ مَأْكُولٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي - وَهُوَ أَصَحُّ - : أَنَّهُ يَحِلُّ نِكَاحُهُ وَذَبِيحَتُهُ : لِاجْتِمَاعِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فِيهِ : لِأَنَّ الدِّينَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَا جَازَ اجْتِمَاعُهُمَا ، فَأَغْلَبُهُمَا مَا كَانَ تَابِعًا لِلنَّسَبِ الْمُضَافَ إِلَى الْأَبِ دُونَ الْأُمِّ كَالْحُرِّيَّةِ ، كَذَلِكَ النِّكَاحُ وَالذَّبِيحَةُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَحُكْمُ الْوَلَدِ الْحَادِثِ مِنْ بَيْنِ أَبَوَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الْحُكْمِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مُلْحَقًا بِحُكْمِ أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ ، وَذَلِكَ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : النَّسَبُ يَكُونُ مُلْحَقًا بِأَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ . وَالثَّانِي : فِي الْحُرِّيَّةِ ، فَإِنَّ وَلَدَ الْحُرِّ مَنْ أَمَةٍ كَأَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ . وَالثَّالِثُ : فِي الْوَلَاءِ ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ عَلَى الْأَبَوَيْنِ وَلَاءٌ مِنْ جِهَتَيْنِ ، كَانَ الْوَلَدُ دَاخِلًا فِي وَلَاءِ الْأَبِ دُونَ الْأُمِّ . وَالرَّابِعُ : فِي الْحُرِّيَّةِ ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْأَبُ مَنْ قَوْمٍ لَهُمْ حُرِّيَّةٌ ، وَالْأُمُّ مِنْ آخَرِينَ لَهُمْ حُرِّيَّةٌ أُخْرَى ، فَإِنَّ حُرِّيَّةَ الْوَلَدِ حُرِّيَّةُ أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ .

وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُلْحَقًا بِحُكْمِ أُمِّهِ دُونَ أَبِيهِ وَذَلِكَ فِي شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَلَدُ الْمَنْكُوحَةِ تَابِعٌ لِأُمِّهِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ دُونَ أَبِيهِ ، فَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ حُرَّةً كَانَ حُرًّا وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ عَبْدًا ، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ مَمْلُوكَةً كَانَ عَبْدًا وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ حُرًّا . وَالثَّانِي : فِي الْمِلْكِ ، فَإِنَّ وَلَدَ الْمَمْلُوكَيْنِ تَبَعٌ لِأُمِّهِ وَمَمْلُوكٌ لِسَيِّدِهِمَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مُلْحَقًا بِأَفْضَلِ أَبَوَيْهِ حَالًا وَأَغْلَظِهِمَا حُكْمًا ، وَذَلِكَ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ فِي الْإِسْلَامِ يَلْحَقُ بِالْمُسْلِمِ مِنْهُمَا أَبًا كَانَ أَوْ أُمًّا . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ ، وَهُوَ فِي إِبَاحَتِهِ الذَّبِيحَةَ وَالنِّكَاحَ ، فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ أَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالْأَبِ . وَالثَّانِي : مُلْحَقٌ بِأَغْلَظِهِمَا حُكْمًا .

مَسْأَلَةٌ لَوْ تَحَاكَمُوا إِلَي المسلمين وَجَبَ أَنْ نَحْكُمَ بَيْنَهُمْ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا أهل الذمة ، وَجَبَ أَنْ نَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ، كَانَ الزَّوْجُ الْجَائِي أَوِ الزَّوْجَةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْمُقِيمُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْكُفَّارِ فَضَرْبَانِ : أَهْلُ الذِّمَّةِ ، وَأَهْلُ الْعَهْدِ . فَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ تعريفهم : فَهُمْ بَاذِلُو الْحُرِّيَّةِ لَهُمْ ذِمَّةٌ مُؤَبَّدَةٌ يَلْزَمُنَا فِي حَقِّ الذِّمَّةِ أَنْ نَمْنَعَ عَنْهُمْ مَنْ أَرَادَهُمْ مِمَّنْ جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمِمَّنْ لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِ أَحْكَامُنَا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ . وَأَمَّا أَهْلُ الْعَهْدِ تعريفهم : فَهُمُ الْمُسْتَأْمَنُونَ الَّذِينَ لَهُمْ أَمَانٌ إِلَى مُدَّةٍ يَلْزَمُنَا أَنْ نَمْنَعَ مَنْ أَرَادَهُمْ مِمَّنْ جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَلَا يَلْزَمُنَا أَنْ نَمْنَعَ مَنْ أَرَادَهُمْ مَنْ لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِ أَحْكَامُنَا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ، وَقَدْ عَبَّرَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوَاضِعَ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْمُعَاهَدِينَ : لِأَنَّ ذِمَّتَهُمْ عَهْدٌ ، وَإِنْ كَانُوا بِاسْمِ الذِّمَّةِ أَخَصَّ . فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَتَرَافَعِ الْفَرِيقَانِ فِي أَحْكَامِهِمْ إِلَيْنَا لَمْ نَدْعُهُمْ إِلَيْهَا ، وَلَمْ نَعْتَرِضْ عَلَيْهِمْ فِيهَا ، وَإِنْ تَرَافَعُوا إِلَيْنَا نُظِرَ فِيهِمْ : فَإِنْ كَانُوا مُعَاهَدِينَ لَهُمْ أَمَانٌ إِلَى مُدَّةٍ لَمْ يَلْزَمْنَا أَنْ نَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ، وَلَمْ يَلْزَمْهُمُ الْتِزَامُ حُكْمِنَا ، وَكَانَ حَاكِمُنَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَحْكُمَ ، وَهُمْ إِذَا حُكِمَ عَلَيْهِمْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَلْتَزِمُوا حُكْمَهُ ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَلْتَزِمُوهُ ، وَإِنْ جَاءَ أَحَدُهُمْ مُسْتَعْدِيًا لَمْ يَلْزَمِ الْمُسْتَعْدَى عَلَيْهِ أَنْ يَحْضُرَ ، وَلَا يَلْزَمُ الْحَاكِمُ أَنْ يُعْدِيَهُ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ [ الْمَائِدَةِ : 42 ] الْآيَةَ ، فَخَيَّرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ ، وَلِأَنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَمْنَعَ عَنْهُمْ أَنْفُسَنَا ، وَلَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نَمْنَعَ عَنْهُمْ غَيْرَنَا ، سَوَاءٌ كَانَ التَّحَاكُمُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّينَ : لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِي شِرْكِهِمْ أَعَظُمُ ، وَقَدْ أَقَرُّوا عَلَيْهِ ، وَسَوَاءٌ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ أَوْ غَيْرَ أَهْلِ كِتَابٍ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا ، فَلَيْسَتِ الذِّمَّةُ الْمُؤَبَّدَةُ إِلَّا لِأَهْلِ الْكِتَابِ ، فَإِنْ لَمْ يَتَرَافَعُوا إِلَيْنَا فِي أَحْكَامِهِمْ تُرِكُوا ، وَإِنْ تَرَافَعُوا فِيهَا إِلَيْنَا ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ دِينٍ وَاحِدٍ ، فَفِي وُجُوبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ - : أَنَّهُ لَا يَجِبُ ، وَالْحَاكِمُ مُخَيَّرٌ فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ ، وَهُوَ إِذَا حَكَمَ عَلَيْهِمْ مُخَيَّرُونَ فِي الْتِزَامِ حُكْمِهِ ، اعْتِبَارًا بِأَهْلِ الْعَهْدِ : لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ - : أَنَّ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ وَاجِبٌ ، فَيَلْزَمُ الْحَاكِمُ إِذَا تَرَافَعُوا إِلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ، وَعَلَيْهِمْ إِذَا حَكَمَ أَنْ يَلْتَزِمُوا حُكْمَهُ ، وَإِذَا اسْتَعْدَى أَحَدُهُمْ عَلَى الْآخَرِ أهل الذمة وَجَبَ أَنْ يُعْدِيَهُ الْحَاكِمُ ، وَأَنْ يُحْضِرَ الْمُسْتَعْدَى عَلَيْهِ ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الْحُضُورِ أَجْبَرَهُ وَعَزَّرَهُ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ [ الْمَائِدَةِ : 49 ] . وَهَذَا أَمْرٌ ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [ التَّوْبَةِ : 29 ] . قَالَ أَصْحَابُنَا : وَالصَّغَارُ أَنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا ، فَلَوْ لَمْ يَلْزَمْهُمْ حُكْمُهُ لَامْتَنَعُوا مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ ، وَلِأَنَّنَا نُجْرِيهِمْ بِالدَّفْعِ عَنْهُمْ مِنَّا وَمِنْ غَيْرِنَا مَجْرَى الْمُسْلِمِينَ ، فَوَجَبَ أَنْ نَدْفَعَ عَنْهُمْ بِالْحُكْمِ بَيْنَهُمْ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ لَهُمْ كَمَا نَحْكُمُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَبِهَذَا نُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُعَادِينَ ، لَا يَلْزَمُنَا أَنْ نَدْفَعَ عَنْهُمْ غَيْرَنَا ، فَلَمْ يَلْزَمْنَا أَنْ نَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ، وَلَا أَنْ نَدْفَعَ بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ . فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلَمْ يَعْمَلْ بِوَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَقَالَ : لَا يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ إِلَّا أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى الرِّضَا بِحُكْمِ الْإِمَامِ ، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الْحَاكِمَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ الْمُتَرَافِعِينَ إِلَيْهِ ، وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَلْتَزِمُوا حُكْمَهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ بَيْنَ ذِمِّيَيْنِ مِنْ دِينَيْنِ كَيَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ تَحَاكَمَا إِلَيْنَا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِمْ : فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يُخَرِّجُ وُجُوبَ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ ، كَمَا لَوْ كَانَا عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ : لَأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ . وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا : أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا قَوْلًا وَاحِدًا . وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ دِينٍ وَاحِدٍ أَوْ دِينَيْنِ : أَنَّهُمَا إِذَا كَانَا مِنْ دِينٍ وَاحِدٍ فَلَمْ يَحْكُمْ ، كَانَ لَهُمْ حَاكِمٌ وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ، فَأَمْكَنَ وُصُولُهُمْ إِلَى الْحَقِّ مِنْهُ ، وَإِذَا كَانَا عَلَى دِينَيْنِ ، اخْتَلَفَا فِي الْحَكَمِ إِنْ لَمْ يَحْكُمْ بَيْنَهُمَا حَاكِمُنَا ، فَدَعَا النَّصْرَانِيُّ إِلَى حَاكِمِ النَّصَارَى ، وَدَعَا الْيَهُودِيُّ إِلَى حَاكِمِ الْيَهُودِ ، فَتَعَذَّرَ وُصُولُ الْحَقِّ إِلَّا بِحَاكِمِنَا ، فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ ، فَهِيَ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، فَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا عَلَى قَوْلَيْنِ كَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَجِبُ قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّهُ لَا مُطَالِبَ بِهَا غَيْرُ الْحَاكِمِ ، وَلَيْسَتْ كَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الَّتِي لَهَا خَصْمٌ يَطْلُبُ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهَا لَا تَجُبْ قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِي شِرْكِهِمْ أَعْظَمُ ، وَقَدْ أَقَرُّوا عَلَيْهِ ، فَكَذَلِكَ مَا سِوَاهُ مِنْ حُقُوقِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ : لِأَنَّهُمْ فِيهَا مُتَشَاجِرُونَ مُتَظَالِمُونَ ، وَدَارُ الْإِسْلَامِ تَمْنَعُ مِنَ التَّظَالُمِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَانَ التَّحَاكُمُ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ وَمُعَاهَدٍ ، وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ قَوْلًا وَاحِدًا سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْلِمُ طَالِبًا أَوْ مَطْلُوبًا : لِأَنَّهُمَا يَتَجَاذَبَانِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ أَغَلَبَ لِرِوَايَةِ عَائِذِ بْنِ عُمَرَ الْمُزَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى وَلَوْ كَانَ التَّحَاكُمُ بَيْنَ ذِمِّيٍّ وَمُعَاهَدٍ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ تَغْلِيبًا لِأَوْكَدِهِمَا حُرْمَةً كَمَا لَوْ كَانَتْ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَمُعَاهَدٍ ، حَكَمَ بَيْنَهُمَا قَوْلًا وَاحِدًا تَغْلِيبًا لِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ الَّتِي هِيَ أَوْكَدُ .

فَصْلٌ : ثُمَّ إِذَا حَكَمَ حَاكِمُنَا بَيْنَ ذِمِّيَيْنِ أَوْ مُعَاهَدَيْنِ فبم يحكم بينهما ؟ لَمْ يَحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالتَّوْرَاةِ إِنَّ كَانَا يَهُودِيَّيْنِ ، وَلَا بِالْإِنْجِيلِ إِنْ كَانَا نَصْرَانِيَّيْنِ ، وَلَمْ يَحْكُمْ إِلَّا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [ الْمَائِدَةِ : 49 ] أَيْ يَفْتِنُونَكَ بِتَوْرَاتِهِمْ وَإِنْجِيلِهِمْ عَمَّا أُنْزِلَ عَلَيْكَ مِنَ الْقُرْآنِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [ الْمَائِدَةِ : 44 ] . فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ لَا يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بِكِتَابِهِمْ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ : إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا [ الْمَائِدَةِ : 44 ] . وَقَدْ أَحْضَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّوْرَاةَ حِينَ رَجَمَ الْيَهُودِيَّيْنِ حَتَّى رَجَمَهُمَا : لِمَا فِيهَا مِنَ الرَّجْمِ . قِيلَ : أَمَّا الْآيَةُ فَتَضَمَّنَتْ صِفَةَ التَّوْرَاةِ عَلَى مَا كَانَتْ مِنَ الْهُدَى وَالنُّورِ ، وَأَنَّهُ كَانَ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ، وَكَذَا كَانَ حَالُهَا ثُمَّ غُيِّرَتْ حِينَ بَدَّلَ أَهْلُهَا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [ الْأَنْعَامِ : 91 ] . وَمَعَ تَغْيِرِهِمْ لَهَا وَتَبْدِيلِهِمْ فِيهَا لَا يَتَمَيَّزُ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ فَوَجَبَ الْعُدُولُ عَنْهَا ، وَأَمَّا إِحْضَارُهُ التَّوْرَاةَ عِنْدَ رَجْمِ الْيَهُودِيَّيْنِ ، فَلِأَنَّهُ حِينَ حَكَمَ عَلَيْهِمَا بِالرَّجْمِ أَخْبَرَ الْيَهُودَ أَنَّهُ فِي التَّوْرَاةِ ، فَأَنْكَرُوهُ ، فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهَا لِتَكْذِيبِهِمْ ، فَلَمَّا حَضَرَتْ تَرَكَ ابْنُ صُورِيَا - وَهُوَ أَحَدُ أَحْبَارِهِمْ - يَدَهُ عَلَى ذِكْرِ الرَّجْمِ ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَفْعِ يَدِهِ ، فَإِذَا آيَةُ الرَّجْمِ تَلُوحُ ، فَكَانَ إِحْضَارُهَا رَدًّا لِإِنْكَارِهِمْ وَإِظْهَارًا لِتَكْذِيبِهِمْ ، لَا لِأَنْ يَحْكُمَ بِهَا عَلَيْهِمْ : لِأَنَّهُ قَدْ حَكَمَ بِالرَّجْمِ قَبْلَ حُضُورِهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُكْمٌ مَضَى لَمْ يُزَوِّجْهُمْ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشُهُودٍ مُسْلِمِينَ ،

فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا قَرِيبٌ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ لِأَنَّ تَزْوِيجَهُ حُكْمٌ عَلَيْهَا ، فَإِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا بَعْدَ النِّكَاحِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ ابْتَدَاؤُهُ فِي الْإِسْلَامِ أَجَزْنَاهُ : لِأَنَّ عَقْدَهُ قَدْ مَضَى فِي الشِّرْكِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ الْحُكْمِ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ جَوَازِهِ ، فَإِذَا تَرَافَعَ زَوْجَانِ فِي عَقْدِ نِكَاحٍ من أَهْلِ الذِّمَّةِ فَهُوَ كَتَرَافُعِهِمَا فِي غَيْرِهِ مِنْ عُقُودِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَاتِ ، وَإِنَّمَا خَصَّ الشَّافِعِيُّ تَرَافُعَهُمَا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ : لِأَنَّهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ ، وَلِأَنَّ فُرُوعَهُ أَكْثَرُ ، فَإِذَا تَرَافَعَا فِيهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَرَافَعَا فِي اسْتِدَامَةِ عَقْدٍ قَدْ مَضَى ، فَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَكْشِفَ عَنْ حَالِ الْعَقْدِ ، وَلَا يَعْتَبِرَ فِيهِ شُرُوطَ الْإِسْلَامِ ، وَيَنْظُرَ : فَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ مِمَّنْ تَجُوزُ لَهُ عِنْدَ التَّحَاكُمِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْعَقْدَ عَلَيْهَا ، جَازَ أَنْ يُقِرَّهُمَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَقْدِهَا ، سَوَاءٌ كَانَ بَوْلِيٍّ أَوْ شُهُودٍ أَمْ لَا ، إِذَا رَأَوْا مَا عَقَدُوهُ نِكَاحًا فِي دِينِهِمْ ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْعَقْدَ عَلَيْهَا عِنْدَ التَّرَافُعِ إِلَيْنَا : لِكَوْنِهَا فِي ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَالْمُحَرَّمَاتِ ، أَوْ بَقِيَّةِ عِدَّةٍ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ حُكِمَ بِإِبْطَالِ النِّكَاحِ ، وَيَكُونُ حَالُهَا عِنْدَ التَّرَافُعِ إِلَى الْحَاكِمِ كَحَالِهِمَا لَوْ أَسْلَمَا ، فَمَا جَازَ إِقْرَارُهَا عَلَيْهِ مِنَ النِّكَاحِ بَعْدَ إِسْلَامِهَا ، جَازَ إِقْرَارُهُمَا عَلَيْهِ عِنْدَ تَرَافُعِهِمَا إِلَى حَاكِمِنَا ، وَمَا لَمْ يَجُزِ الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ ، لَمْ يَجُزِ الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ عِنْدَ التَّرَافُعِ إِلَى الْحَاكِمِ .

فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَتَرَافَعَا إِلَى حَاكِمِنَا فِي ابْتِدَاءِ عَقْدٍ يَسْتَأْنِفُهُ بَيْنَهُمَا أَهْلِ الذِّمَّةِ في عقد النكاح ، فَعَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَعْقِدَهُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْإِسْلَامِ بَوْلِيٍّ وَشُهُودٍ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ [ الْمَائِدَةِ : 49 ] . وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يَمْضِيَ فِي مَنَاكِحِهِمْ فِي الشِّرْكِ ، وَإِنْ لَمْ تُكْنَ عَلَى شُرُوطِ الْإِسْلَامِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْنِفَهَا فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا عَلَى شُرُوطِهِ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [ الْأَنْفَالِ : 38 ] . وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ مَنَاكِحِهِمْ فِي الشِّرْكِ عَلَى شُرُوطِ الْإِسْلَامِ وَرَدِّهَا إِذَا خَالَفَتْهُ تَنْفِيرًا لَهُمْ مِنَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ ، وَلَيْسَ فِيمَا اسْتَأْنَفُوهُ لِرِضَاهُمْ بِهِ تَنْفِيرًا لَهُمْ مِنْهُ . فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَاهُ فَوَلِيُّهَا فِي النِّكَاحِ المرأة في نكاح أَهْلِ الذِّمَّةِ أَقْرَبُ عَصَبَتِهَا مِنَ الْكُفَّارِ ، وَلِأَنَّ وَلِيَّ الْكَافِرَةِ كَافِرٌ ، وَيُرَاعَى أَنْ يَكُونَ عَدْلًا فِي دِينِهِ ، فَإِنْ كَانَ فَاسِقًا فِيهِ كَانَ كَفِسْقِ الْوَلِيِّ الْمُسْلِمِ يُعْدَلُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ الْعُدُولِ ، فَإِنْ عُدِمَ أَوْلِيَائُهَا مِنَ الْعَصَبَةِ وَالْمُعْتَقِينَ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ وَلَا يَمْنَعُهُ الْإِسْلَامُ مِنْ تَزْوِيجِهَا ، وَإِنْ مَنَعَ مِنْهَا إِسْلَامُ عَصَبَتِهَا : لِأَنَّ تَزْوِيجَهَا حُكْمٌ فِيهِ عَلَيْهَا . فَأَمَّا الشُّهُودُ فِي نِكَاحِهَا المرأة في نكاح أَهْلِ الذِّمَّةِ ، فَلَا يَصِحُّ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ . وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ عَقْدَ نِكَاحِهَا بِشُهُودٍ كُفَّارٍ كَمَا جَازَ بِوَلِيٍّ كَافِرٍ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا نِكَاحَ إِلَّا بَوْلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ في نكاح أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنَّ الْوَلِيَّ يُرَادُ لِطَلَبِ الْحَظِّ لَهَا لِلْمُوَالَاةِ الَّتِي بَيَّنَهَا ، وَالْكَافِرُ الْمُشَارِكُ لَهَا فِي الْكُفْرِ أَقْوَى مُوَالَاةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَكَانَ الْكَافِرُ أَحَقَّ بِوِلَايَةِ نِكَاحِهَا مِنَ الْمُسْلِمِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الشُّهُودُ : لِأَنَّهُمْ يُرَادُونَ لِإِثْبَاتِ الْفِرَاشِ ، وَإِلْحَاقِ النَّسَبِ وَلَا يَثْبُتُ

ذَلِكَ إِلَّا بِالْمُسْلِمِينَ ، فَكَانُوا أَخَصَّ بِالشَّهَادَةِ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِمْ ، وَهَذَا حُكْمُ إِذْنِهَا إِذَا كَانَتْ ثَيِّبًا بِالنُّطْقِ ، وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا بِالصَّمْتِ ، وَلَا يَعْقِدُهُ إِلَّا بِصَدَاقٍ حَلَالٍ ، وَإِنْ كَانُوا يَرَوْنَ فِي دِينِهِمْ عَقْدَهُ بِالْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ . وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ كِتَابِيٌّ عَلَى وَثَنِيَّةٍ ، أَوْ وَثَنِيٌّ عَلَى كِتَابِيَّةٍ هل يجوز ؟ أَوْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ - : لَا يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَعْقِدَ عَلَى وَثَنِيَّةٍ ، وَلَا لِوَثَنِيٍّ أَنْ يَعْقِدَ عَلَى مُسْلِمَةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - : يَجُوزُ : لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلُّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَكَذَلِكَ مَا قَبَضَتْ مِنْ مَهْرٍ حَرَامٍ ، وَلَوْ قَبَضَتْ نِصْفَهُ فِي الشِّرْكِ حَرَامًا ثُمَّ أَسْلَمَا ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا تَرَافَعَ الزَّوْجَانِ فِي صَدَاقِ نِكَاحٍ عُقِدَ لَهُ فِي الشِّرْكِ ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ حَلَالًا مَعْلُومًا فَيَحْكُمُ عَلَى الزَّوْجِ لَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَا عَلَيْهِ ، وَلَا يُلْزَمُ الزَّوْجُ غَيْرَهُ ، فَإِنْ أَقْبَضَهَا فِي الشِّرْكِ بَرِئَ مِنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يُقْبِضْهَا أَخَذَتْهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَوْ عِنْدَ التَّرَافُعِ إِلَى الْحَاكِمِ بَعْدَ بَقَائِهَا عَلَى الشِّرْكِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ حَرَامًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا فِي الْإِسْلَامِ ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَقَاضَاهُ فِي الشِّرْكِ قَبْلَ التَّرَافُعِ إِلَى الْحَاكِمِ فَقَدْ بَرِئَ الزَّوْجُ مِنْهُ : لِأَنَّ مَا فَعَلَاهُ فِي الشِّرْكِ عَفْوٌ لَا يَتَعَقَّبُ بِنَقْضٍ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا [ الْبَقَرَةِ : 278 ] . فَجَعَلَ مَا مَضَى عَفْوًا ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ بَاقِيًا لَمْ يَتَقَابَضَاهُ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِإِقْبَاضِهِ سَوَاءٌ تَرَافَعَا وَهُمَا عَلَى الشِّرْكِ أَوْ قَدْ أَسْلَمَا ، وَيَحْكُمُ لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ دُونَ الْقِيمَةِ : لِأَنَّ الْخَمْرَ لَا قِيمَةَ لَهُ ، وَكَذَلِكَ الْخِنْزِيرُ وَسَائِرُ الْمُحَرَّمَاتِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ الصَّدَاقُ مُعَيَّنًا حُكِمَ لَهَا بِهِ سَوَاءٌ أَسْلَمَا أَمْ لَا ، وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ ، فَإِنْ كَانَا عَلَى الشِّرْكِ حُكِمَ لَهَا بِمِثْلِ الْخَمْرِ ، وَإِنْ كَانَا قَدْ أَسْلَمَا حُكِمَ لَهَا بِقِيمَةِ الْخَمْرِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي غَاصِبِ الدَّارِ ، وَفِيهَا خَمْرٌ إِذَا اسْتَهْلَكَهَا ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَتَقَابَضَا بَعْضَهُ فِي الشِّرْكِ ، وَيَبْقَى بَعْضُهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَوْ بَعْدَ التَّرَافُعِ إِلَى الْحَاكِمِ ، فَيَبْرَأُ الزَّوْجُ مِنْ قَدْرِ مَا أَقْبَضَ فِي الشِّرْكِ وَيَحْكُمُ لَهَا مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ بِقِسْطِ مَا بَقِيَ

مِنْهُ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَحْكُمُ لَهَا بِقِيمَةِ مَا بَقِيَ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَصْلِهِ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى لِمَا قَدَّمْنَاهُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الصَّدَاقِ الْحَرَامِ الْمَقْبُوضِ بَعْضُهُ قبل إسلام الزوجين مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ جِنْسًا أَوْ أَجْنَاسًا ، فَإِنْ كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا كَأَنَّهُ أَصْدَقَهَا عَشَرَةَ أَزْقَاقٍ مِنْ خَمْرٍ ثُمَّ تَرَافَعَا أَوْ أَسْلَمَا وَقَدْ أَقْبَضَهَا خَمْسَةَ أَزْقَاقٍ وَبَقِيَتْ خَمْسَةٌ ، فَفِيهَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُرَاعِي عَدَدَ الْأَزْقَاقِ دُونَ كَيْلِهَا ، فَتَكُونُ الْخَمْسَةُ مِنَ الْعَشَرَةِ نِصْفَهَا ، وَإِنِ اخْتَلَفَ كَيْلُهَا فَيَسْقُطُ عَنْهُ مِنَ الْمَهْرِ نِصْفُهُ ، وَيَبْقَى عَلَيْهِ نِصْفُهُ فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ . وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُرَاعِي كَيْلَهَا دُونَ عَدَدِهَا فَيَنْظُرُ كَيْلَ الْخَمْسَةِ الْمَقْبُوضَةِ مِنْ جُمْلَةِ كَيْلِ الْعَشَرَةِ ، فَإِنْ كَانَ ثُلُثُهَا فِي الْكَيْلِ وَنِصْفُهَا فِي الْعَدَدِ بَرِئَ مِنْ ثُلُثِ الْمَهْرِ ، وَلَزِمَ ثُلُثَا مَهْرِ الْمِثْلِ . وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَصْدَقَهَا عَشَرَةَ خَنَازِيرَ وَأَقْبَضَهَا مِنَ الْعَشَرَةِ سِتَّةَ خَنَازِيرَ ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ - : أَنَّكَ تُرَاعِي الْعَدَدَ فَتَكُونُ السِّتَّةُ مِنَ الْعَشَرَةِ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِهَا سَوَاءٌ اخْتَلَفَتْ فِي الصِّغَرِ أَوِ الْكِبَرِ أَوْ لَمْ تَخْتَلِفْ فَيَبْرَأُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ الصَّدَاقِ ، وَيُطَالَبُ بِخُمْسَيْ مَهْرِ الْمِثْلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ - : أَنَّكَ تُرَاعِيهَا فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ ، وَكَانَ الْكَبِيرُ مِنْهَا يَعْدِلُ صَغِيرَيْنِ ، وَقَدْ قَبَضَ فِي السِّتَّةِ كَبِيرَيْنِ وَأَرْبَعَةً صِغَارًا ، فَكَانَتِ الْأَرْبَعَةُ تُعَادِلُ كَبِيرَيْنِ فَصَارَتِ السِّتَّةُ أَرْبَعَةً كِبَارًا ، وَالْأَرْبَعَةُ مِنَ الْعَشَرَةِ خُمْسَاهَا فَيَبْرَأُ مِنْ خُمْسَيِ الصَّدَاقِ ، وَتَرْجِعُ عَلَيْهِ بِثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ مَهْرِ الْمِثْلِ ، وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً كَأَنَّهُ أَصْدَقَهَا خَمْسَةَ أَزْقَاقٍ خَمْرًا وَعَشَرَةَ خَنَازِيرَ وَخَمْسَةَ عَشَرَ كَلْبًا ثُمَّ تَرَافَعَا أَوْ أَسْلَمَا ، وَقَدْ أَقْبَضَهَا خَمْسَةَ أَزْقَاقٍ خَمْرًا وَبَقِيَتِ الْخَنَازِيرُ كُلُّهَا وَالْكِلَابُ بِأَسْرِهَا ، فَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّكَ تَعْتَبِرُ عَدَدَ الْجَمِيعِ فَيَكُونُ الْمَقْبُوضُ خَمْسَةً مِنْ ثَلَاثِينَ وَهُوَ سُدُسُهَا ، فَيُسْقَطُ عَنْهُ سُدُسُ الصَّدَاقِ وَيُؤْخَذُ بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ مَهْرِ الْمِثْلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّكَ تَعْتَبِرُ عَدَدَ أَجْنَاسٍ ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ ، وَالْمَقْبُوضُ أَحَدُهَا فَتُسْقِطُ عَنْهُ ثُلُثَ الصَّدَاقِ ، وَيُؤْخَذُ بِثُلْثَيْ مَهْرِ الْمِثْلِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ - : أَنَّكَ تَعْتَبِرُ قِيمَةَ الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ ، وَتَنْظُرُ قِيمَةَ الْمَقْبُوضِ فَتُسْقِطُهُ مِنْهُ ، فَيَبْرَأُ بِقِسْطِهِ مِنَ الصَّدَاقِ ، وَيُؤْخَذُ بِقِسْطِ الْبَاقِي مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ . قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ : وَقَدْ يَجُوزُ فِي الشَّرْعِ أَنْ يُعْتَبَرَ قِيمَةُ مَا لَا يَحِلُّ بَيْعُهُ وَلَا قِيمَةَ لَهُ ، كَمَا يُعْتَبَرُ فِي حُكُومَةِ مَا لَا يَتَقَدَّرُ مِنْ جِرَاحِ الْحُرِّ قِيمَتُهُ لَوْ كَانَ عَبْدًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْحُرِّ ثَمَنًا وَلَا قِيمَةً ،

كَذَلِكَ الْخُمُورُ وَالْخَنَازِيرُ وَالْكِلَابُ ، وَلَوْ كَانَ الْمَقْبُوضُ مِنَ الثَّلَاثَةِ جِنْسًا آخَرَ غَيْرَ الْخَمْرِ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ فَاعْتَبِرْ بِهِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

مَسْأَلَةٌ النَّصْرَانِيُّ فِي إِنْكَاحِ ابْنَتِهِ وَابْنِهِ الصَّغِيرَيْنِ كَالْمُسْلِمِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَالنَّصْرَانِيُّ فِي إِنْكَاحِ ابْنَتِهِ وَابْنِهِ الصَّغِيرَيْنِ كَالْمُسْلِمِ في الولاية " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : لِأَنَّنَا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ وَلِيَّ الْكَافِرَةِ كَافِرٌ ، فَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَهُ الصَّغِيرَةَ إِذَا كَانَتْ بِكْرًا وَلَا يُزَوِّجُهَا إِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا كَالْمُسْلِمِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَهُ الْكُبْرَى بِكْرًا بِغَيْرِ إِذْنٍ ، وَثَيِّبًا بِإِذْنٍ ، وَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ ، وَلَيْسَ لَهُ تَزْوِيجُ الْكَبِيرَةِ ، كَمَا نَقُولُهُ فِي الْأَبِ الْمُسْلِمِ فِي بِنْتِهِ وَابْنَةِ الْمُسْلِمِينَ ، فَأَمَّا وِلَايَةُ الْكَافِرِ عَلَى أَمْوَالِ الصِّغَارِ مِنْ أَوْلَادِهِ فَمَا لَمْ يُرْفَعْ إِلَيْنَا أُقِرُّوا عَلَيْهَا ، فَإِذَا رُفِعَ إِلَيْنَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْتَمَنَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ ، وَتُرَدُّ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِمْ فِيهَا إِلَى الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ الْوِلَايَةِ فِي النِّكَاحِ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِوِلَايَةِ الْأَمْوَالِ الْأَمَانَةُ وَهِيَ فِي الْمُسْلِمِينَ أَقْوَى ، وَالْمَقْصُودَ بِوِلَايَةِ النِّكَاحِ الْمُوَالَاةُ ، وَهِيَ فِي الْكَافِرِ لِلْكَافِرِ أَقْوَى ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ إِتْيَانِ الْحَائِضِ

بَابُ إِتْيَانِ الْحَائِضِ ، وَوَطْءِ اثْنَتَيْنِ قَبْلَ الْغُسْلِ ، مِنْ هَذَا وَمِنْ كِتَابِ عِشْرَةِ النِّسَاءِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : " أَمَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِاعْتِزَالِ الْحُيَّضِ ، فَاسْتَدْلَلْنَا بِالسُّنَّةِ عَلَى مَا أَرَادَ ، فَقُلْنَا تَشُدُّ إِزَارَهَا عَلَى أَسْفَلِهَا وَيُبَاشِرُهَا فَوْقَ إِزَارِهَا حَتَّى يَطْهُرْنَ حَتَّى يَنْقَطِعَ الدَّمُ وَتَرَى الطُّهْرَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا وَطْءُ الْحَائِضِ فِي الْفَرْجِ حكمه فَحَرَامٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [ الْبَقَرَةِ : 222 ] . وَفِي هَذَا الْمَحِيضِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ دَمَ الْحَيْضِ . وَالثَّانِي : زَمَانَ الْحَيْضِ . وَالثَّالِثُ : مَكَانَ الْحَيْضِ . ثُمَّ قَالَ : وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [ الْبَقَرَةِ : 222 ] أَيْ يَنْقَطِعَ دَمُهُنَّ . فَإِذَا تَطَهَّرْنَ ، فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : فَإِذَا انْقَطَعَ دَمُهُنَّ . وَهَذَا تَأْوِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالثَّانِي : فَإِذَا تَطَهَّرْنَ بِالْمَاءِ . وَهَذَا تَأْوِيلُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ . فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [ الْبَقَرَةِ : 222 ] ، فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : فِي الْقُبُلِ الَّذِي نَهَى عَنْهُ فِي حَالِ الْحَيْضِ . وَهَذَا تَأْوِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي : مِنْ قِبَلِ طُهْرِهِنَّ لَا مِنْ قِبَلِ حَيْضِهِنَّ . وَهَذَا تَأْوِيلُ عِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ ، فَصَارَ تَحْرِيمُ وَطْءِ الْحَائِضِ فِي الْقُبُلِ نَصًّا وَإِجْمَاعًا : لِأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ فِيهِ خِلَافُ أَحَدٍ ، فَلَوِ اسْتَحَلَّ رَجُلٌ وَطْءَ حَائِضٍ مَعَ عِلْمِهِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ كَانَ كَافِرًا ، وَلَوْ فَعَلَهُ مَعَ الْعِلْمِ بِتَحْرِيمِهِ كَانَ فَاسِقًا .



فَصْلٌ : فَأَمَّا الِاسْتِمْتَاعُ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ من الحائض ، حكمه وحدُّه . مِنْهَا ، فَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِمَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَدُونَ الرُّكْبَةِ : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَسْتَمْتِعُ مِنَ الْحَائِضِ بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ . وَأَمَّا الِاسْتِمْتَاعُ بِمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ إِذَا عَدَلَ عَنِ الْفَرْجَيْنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ حَرَامٌ . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاحَ الِاسْتِمْتَاعَ مِنْهَا بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ ، وَمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ هُوَ مِمَّا تَحْتَ الْإِزَارِ وَلَيْسَ مِمَّا فَوْقَهُ ، فَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مُبَاحٌ . وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَمِنْ أَصْحَابِنَا : أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : لِأَنَّ تَحْرِيمَ وَطْءِ الْحَائِضِ لِأَجْلِ الْأَذَى ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى مَكَانِ الْأَذَى وَهُوَ الْفَرْجُ دُونَ غَيْرِهِ . وَرُوِيَ أَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إِذَا تَوَقَّى الْجُحْرَيْنِ فَلَا بَأْسَ ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَسْتَمْتِعُ مِنَ الْحَائِضِ بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ مَحْمُولًا عَلَى مَا دُونُ الْفَرْجِ ، وَيَكُونُ الْإِزَارُ كِنَايَةً عَنِ الْفَرْجِ : لِأَنَّهُ مَحَلَّ الْإِزَارِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ . قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا شَدُّوا مَآزِرَهُمْ دُونَ النِّسَاءِ وَلَوْ بَاتَتْ بِأَطْهَارِ أَيْ شَدُّوا فُرُوجَهُمْ . وَخَرَّجَ أَبُو الْفَيَّاضِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَجْهًا ثَالِثًا : أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَاهِرًا لِنَفْسِهِ يَأْمَنُ أَنْ تَغْلِبَهُ الشَّهْوَةُ فَيَطَأُ فِي الْفَرْجِ ، جَازَ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِمَا دَوَّنَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَأْمَنْ نَفْسَهُ أَنْ تَغْلِبَهُ الشَّهْوَةُ فَيَطَأُ فِي الْفَرْجِ ، حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِمَا دُونَهُ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ الْإِزَارِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِذَا تَطَهَّرْنَ ، يَعْنِي - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - الطَّهَارَةَ الَّتِي تَحِلُّ بِهَا الصَّلَاةُ : الْغُسْلَ أَوِ التَّيَمُّمَ ( قَالَ ) وَفِي تَحْرِيمِهَا لِأَذَى الْمَحِيضِ كَالدَّلَالَةِ عَلَى تَحْرِيمِ الدُّبُرِ : لِأَنَّ أَذَاهُ لَا يَنْقَطِعُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا مَا دَامَ الْحَيْضُ بَاقِيًا فَوَطِئَهَا فِي الْفَرْجِ عَلَى تَحْرِيمِهِ ، فَإِذَا انْقَطَعَ دَمُ حَيْضِهَا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ وَطْأَهَا بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ عَلَى تَحْرِيمِهِ حَتَّى تَغْتَسِلَ أَوْ تَتَيَمَّمَ إِنَّ كَانَتْ عَادِمَةً لِلْمَاءِ . وَقَالَ طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ : وَطْؤُهَا حَرَامٌ حَتَّى تَتَوَضَّأَ فَتَحِلُّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : قَدْ حَلَّ وَطْئُهَا إِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ وَلَمْ تَتَوَضَّأْ ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ بِمَا أَغْنَى .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ وَطِئَ فِي الدَّمِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى وَلَا يَعُودُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا وَطِئَ الْحَائِضُ فِي قُبُلِهَا حكمه وكفارته فَقَدْ أَثِمَ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ تَعَالَى وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : عَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : عَلَيْهِ عِتْقُ نَسَمَةٍ ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِينَارٍ إِنْ وَطِئَ فِي الدَّمِ ، وَنِصْفِ دِينَارٍ إِنْ وَطِئَ قَبْلَ الْغُسْلِ . وَبِهِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ : اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنْ وَطِئَ فِي الدَّمِ فَعَلَيْهِ دِينَارٌ ، وَإِنْ وَطِئَ قَبْلَ الْغُسْلِ فَنِصْفُ دِينَارٍ " . وَرُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ لِلشَّافِعِيِّ ، وَكَانَ إِسْنَادُهُ ضَعِيفًا . قَالَ : إِنْ صَحَّ قُلْتُ بِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ صَحَّ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ مَعَ الصِّحَّةِ هَلْ يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الْإِيجَابِ أَوْ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ - : أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الْإِيجَابِ أَوْ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : اعْتِبَارًا بِظَاهِرِهِ ، وَقَدْ حَكَى الرَّبِيعُ عَنِ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهُ قَالَ : مَا وَرَدَ مِنْ سُنَّةِ الرَّسُولِ بِخِلَافِ مَذْهَبِي ، فَاتْرُكُوا لَهُ مَذْهَبِي ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَذْهَبِي ، وَقَدْ فَعَلَ أَصْحَابُنَا مِثْلَ ذَلِكَ فِي التَّصْوِيبِ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجِ - : أَنَّهُ يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْوُجُوبِ : لِأَنَّ الزِّنَا وَالْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ هل فيه كفارة ؟ أَغْلَظُ تَحْرِيمًا ، وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ ، فَلِأَنْ لَا يَكُونَ فِي وَطْءِ الْحَائِضِ كَفَّارَةٌ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ كَفَّارَةَ الْوَطْءِ إِنَّمَا تَجِبُ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ إِفْسَادِهِ عِبَادَةً كَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ ، وَلَيْسَ فِيهِ كَفَّارَةٌ إِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ إِفْسَادُ عِبَادَةٍ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَأَيْتُ فِي مَنَامِي كَأَنَّنِي أَبُولُ الدَّمَ ، فَقَالَ : لَعَلَّكَ تَطَأُ امْرَأَتَكَ حَائِضًا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : اسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَلَا تَعُدْ ، وَلَمْ يُلْزِمْهُ كَفَّارَةً ، فَأَمَّا الْمُسْتَحَاضَةُ فَلَا يَحْرُمْ وَطْئُهَا : لِأَنَّهَا كَالطَّاهِرَةِ فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ ، وَلِأَنَّ دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ رَقِيقٌ وَهُوَ دَمُ عِرْقٍ قَلِيلِ الْأَذَى ، وَلَيْسَ كَدَمِ الْحَيْضِ فِي ثِخَنِهِ وَنَتَنِهِ وَآذَاهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ كَانَ لَهُ إِمَاءٌ ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْتِيَهُنَّ مَعًا قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ ، وَلَوْ تَوَضَّأَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ ، وَأُحِبُّ لَوْ غَسَلَ فَرْجَهُ قَبْلَ إِتْيَانِ الَّتِي بَعْدَهَا ، وَلَوْ كُنَّ حَرَائِرَ فَحَلَلْنَهُ فَكَذَلِكَ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فَأَمَّا الْإِمَاءُ ، فَلَا قَسْمَ لَهُنَّ عَلَى السَّيِّدِ ، فَإِذَا أَرَادَ وَطْئَهُنَّ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ الإماء جَازَ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْتَسِلَ بَعْدَ وَطْءِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ : لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْجِيلِ فَرْضٍ ، وَتَكْرَارٍ ، وَطَاعَةٍ ، وَنَشَاطِ نَفْسٍ ، فَإِنْ لَمْ يَغْتَسِلْ تَوَضَّأَ عِنْدَ وَطْءِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ . وَأَنْكَرَ أَبُو دَاوُدَ مَا أَمَرَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْوُضُوءِ : لِأَنَّهُ مَعَ بَقَاءِ الْجَنَابَةِ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِي الطِّهَارَةِ ، وَمَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ كَانَ فِعْلُهُ عَبَثًا ، وَهَذَا إِنْكَارٌ مُسْتَقْبَحٌ وَقَوْلٌ مُسْتَرْذَلٌ ، وَاعْتِرَاضٌ عَلَى السُّنَّةِ . رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتَوَضَّأْ ، وَقَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : " وَإِذَا جَامَعْتَ ثُمَّ أَرَدْتَ الْمُعَاوَدَةَ فَتَوَضَّأْ " . وَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيَرْقُدُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، إِذَا تَوَضَّأَ فَأَمَرَ بِالْوُضُوءِ ، وَإِنْ لَمْ يَرْفَعْ حَدَثًا ، فَإِنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ عِنْدَ وَطْءِ كُلِّ وَاحِدَةٍ ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْسِلَ ذَكَرَهُ بَعْدَ وَطْئِهَا : لِأَنَّهُ مَأْثُورٌ وَمَسْنُونٌ ، وَلِأَنَّ فِيهِ نَشَاطَ النَّفْسِ ، وَنُهُوضًا لِلشَّهْوَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَغْتَسِلْ وَلَا تَوَضَّأَ وَلَا غَسَلَ ذَكَرَهُ ، وَوَطَأَ جَمِيعَهُنَّ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى أَتَى جَمِيعَهُنَّ ، جَازَ ، وَاغْتَسَلَ لَهُنَّ غُسْلًا وَاحِدًا . وَرَوَى حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ ذَاتَ لَيْلَةٍ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ ، وَرَوَى : وَكُنَّ يَوْمَئِذٍ تِسْعًا وَلِأَنَّ الْغُسْلَ تَدَاخَلَ كَالْحَدَثِ وَيُكْرَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ وَطْءِ وَاحِدَةٍ إِلَى وَطْءِ أُخْرَى ، وَيَصْبِرُ حَتَّى تَسْكُنَ نَفْسُهُ ، وَتَقْوَى شَهْوَتُهُ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْفَهَرِ ، وَالْفَهَرُ هُوَ إِذَا وَطِئَ الْمَرْأَةَ انْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى أُخْرَى ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَطَأَ بِحَيْثُ يُرَى أَوْ يُحَسُّ بِهِ حكمه : فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْوَجْسِ ، وَهُوَ : أَنَّ يَطَأَ بِحَيْثُ يُسْمَعُ حِسُّهُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْحَرَائِرُ القسم بينهن ، فَالْقَسْمُ بَيْنَهُنَّ وَاجِبٌ إِذَا طَلَبْنَهُ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَطَأَهُنَّ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّهُ لِإِحْدَاهُنَّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَطَأَ غَيْرَهَا فِي يَوْمِهَا إِلَّا أَنْ يُحْلِلْنَهُ ، فَإِذَا أَحْلَلْنَهُ سَقَطَ قَسْمُهُنَّ ، وَجَازَ أَنْ يَطَأَهُنَّ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ كَالْإِمَاءِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ

بَابُ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ حكمه ، مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَمِنْ كِتَابِ عِشْرَةِ النِّسَاءِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : " ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ إِلَى إِحْلَالِهِ ، وَآخَرُونَ إِلَى تَحْرِيمِهِ ، وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ حَدِيثِ ثَابِتٍ أَنَّ الْيَهُودَ كَانَتْ تَقُولُ مَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ فِي قُبُلِهَا مِنْ دُبُرِهَا جَاءَ وَلَدُهُ أَحْوَلَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فِي أَيِّ الْخَرِبَتَيْنِ ، وْفِي أَيِّ الْخَرَزَتَيْنِ ، أَوْ فِي أَيِّ الْخُصْفَتَيْنِ ، أَمِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا فَنَعَمْ ، أَمْ مِنْ دُبُرِهَا فِي دُبُرِهَا فَلَا ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحِي مِنَ الْحَقِّ ، لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) فَلَسْتُ أُرَخِّصُ فِيهِ بَلْ أَنْهَى عَنْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ ، وَمَا عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ الفضلاء وَجُمْهُورُ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَطْءَ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ أَنَّ وَطْءَ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ حَرَامٌ . وَحُكِيَ عَنْ نَافِعٍ ، وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ مُبَاحٌ ، وَرَوَاهُ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ . وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِيهِ عَنْ مَالِكٍ ، فَرَوَى عَنْهُ أَهْلُ الْمَغْرِبِ أَنَّهُ أَبَاحَهُ فِي كِتَابِ السِّيرَةِ . وَقَالَ أَبُو مُصْعَبٍ : سَأَلَتْهُ عَنْهُ ، فَأَبَاحَهُ . وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : قَالَ مَالِكٌ : مَا أَدْرَكْتُ أَحَدًا أَقْتَدِي بِهِ فِي دِينِي يَشُكُّ فِي أَنَّهُ حَلَالٌ ، وَأَنْكَرَ أَهْلُ الْعِرَاقِ ذَلِكَ عَنْهُ ، وَرَوَوْا عَنْهُ تَحْرِيمَهُ ، لَمَّا انْتَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ حَكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ فِي إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ حَدِيثٌ ثَابِتٌ ، وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي جَوَازُهُ ، يُرِيدُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ بِذَلِكَ نُصْرَةَ مَالِكٍ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّبِيعُ ، فَقَالَ : كَذَبَ ، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ فِي سِتَّةِ كُتُبٍ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى إِبَاحَتِهِ بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّ رَجُلًا أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا ، فَوَجَدَ فِي ذَلِكَ وَجْدًا شَدِيدًا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [ الْبَقَرَةِ : 223 ] . وَقَالَ تَعَالَى : أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ [ الشُّعَرَاءِ : 165 ، 166 ] . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَبَاحَ مِنَ الْأَزْوَاجِ مِثْلَ مَا حَظَرَ مِنَ الذُّكْرَانِ ، وَقَالَ تَعَالَى : هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [ الْبَقَرَةِ : 187 ] فَدَلَّ

عَلَى أَنَّ جَمِيعَهُنَّ لِبَاسٌ يُسْتَمْتَعُ بِهِ عَلَى عُمُومِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَوِ اسْتَثْنَاهُ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ فَسَدَ ، وَلَوْ أَوْقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقَ سَرَى إِلَى الْبَاقِي ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالِاسْتِمْتَاعِ ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْفَرْجَيْنِ فَجَازَ إِتْيَانُهُ كَالْقُبُلِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا سَاوَى الْقُبُلَ فِي كَمَالِ الْمَهْرِ ، وَتَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ ، وَوُجُوبِ الْحَدِّ ، سَاوَاهُ فِي الْإِبَاحَةِ . " وَدَلِيلُنَا " : قَوْلُهُ تَعَالَى : وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [ الْبَقَرَةِ : 222 ] . فَحَرَّمَ الْوَطْءَ فِي الْحَيْضِ : لِأَجْلِ الْأَذَى ، فَكَانَ الدُّبُرُ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ : لِأَنَّهُ أَعْظَمُ أَذًى ، ثُمَّ قَالَ : فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [ الْبَقَرَةِ : 222 ] . يَعْنِي فِي الْقُبُلِ ، فَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ إِتْيَانِهَا فِي الدُّبُرِ . وَرَوَى مُسْلِمُ بْنُ سَلَّامٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ طَلْقٍ أَنْ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " إِنَّا نَكُونُ بِالْفَلَاةِ ، فَنَجِدُ الرُّوَيْحَةَ وَالْمَاءُ قَلِيلٌ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذَا فَسَا أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ ، وَخَطَبَ النَّاسَ ، فَقَالَ : لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَعْجَازِهِنَّ ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِ مِنَ الْحَقِّ . وَرَوَى سَهْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِ مِنَ الْحَقِّ ، لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي حُشُوشِهِنَّ . وَرَوَى حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هَرَمِيٍّ عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحِي مِنَ الْحَقِّ ، لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ . قَالَ : مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا . وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جِدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ فَقَالَ : إِنَّهَا اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرَى . وَرَوَى يُوسُفُ بْنُ مَاهَكَ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَتْ : أَتَتِ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : إِنْ زَوَّجَهَا يَأْتِيهَا وَهِيَ مُدْبِرَةٌ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا بَأْسَ إِذَا كَانَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ .

وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ الْيَهُودَ كَانَتْ تَقُولُ : مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي قُبُلِهَا مِنْ دُبُرِهَا جَاءَ وَلَدُهُ أَحْوَلَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [ الْبَقَرَةِ : 223 ] . وَأَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فِي أَيِّ الْخَرِبَتَيْنِ ، أَوْ فِي الْخَرَزَتَيْنِ ، أَوْ فِي أَيِّ الْخُصْفَتَيْنِ ، أَمِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا فَنَعَمْ ، أَمْ مِنْ دُبُرِهَا فِي دُبُرِهَا فَلَا ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحِي مِنَ الْحَقِّ ، لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ ، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ ، أَمَّا عَلِيٌّ سُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ : أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ [ الْأَعْرَافِ : 80 ] . وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْهُ فَقَالَ : هَذَا يَسْأَلُنِي عَنِ الْكُفْرِ ، وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ فَغَلَّظَا فِيهِ وَحَرَّمَاهُ ، وَلَيْسَ لِمَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَصَارَ إِجْمَاعًا . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ خَالَفَهُمُ ابْنُ عُمَرَ ، قِيلَ : قَدْ رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ سَالِمٌ خِلَافَهُ ، وَأَنْكَرَ عَلَى نَافِعٍ مَا رَوَاهُ عَنْهُ ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عُثْمَانَ لِنَافِعٍ : أَنْتَ رَجُلٌ أَعْجَمِيٌّ ، إِنَّمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ : مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا ، فَصَحَّفْتَ وَقُلْتَ : فِي دُبُرِهَا ، فَأَهْلَكْتَ النِّسَاءَ . وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ أَنَّهُ إِتْيَانٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا كَاللِّوَاطِ ، وَلِأَنَّهُ أَذًى مُعْتَادٌ فَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ الْإِصَابَةُ فِيهِ كَالْحَيْضِ ، وَلَا يَدْخُلَ عَلَيْهِ وَطْءُ الْمُسْتَحَاضَةِ : لِأَنَّهُ نَادِرٌ . فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَقَدْ رَوَى جَابِرٌ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا مَا ذَكَرَتْهُ الْيَهُودُ : أَنَّ مَنْ أَتَى امْرَأَةً مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا جَاءَ وَلَدُهُ أَحْوَلَ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَهِمَ ابْنُ عُمَرَ فِي ذَلِكَ ، إِنَّمَا نَزَلَتْ فِيمَنْ وَطَءَ فِي الْفَرْجِ مِنْ خَلْفِهَا ، وَحُكِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسُوا يَوْمًا مَعَ قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ إِنِّي لَآتِي امْرَأَتِي وَهِيَ مُضْطَجِعَةٌ ، وَيَقُولُ الْآخَرُ إِنِّي لَآتِيهَا وَهِيَ قَائِمَةٌ ، وَيَقُولُ الْآخَرُ إِنِّي لَآتِيهَا وَهِيَ عَلَى جَنْبِهَا ، وَيَقُولُ الْآخَرُ إِنِّي لَآتِيهَا وَهِيَ بَارِكَةٌ ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ : مَا أَنْتُمْ إِلَّا أَمْثَالُ الْبَهَائِمِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ : حَرْثٌ لَكُمْ وَالْحَرْثُ هُوَ مِنْ مُزْدَرَعِ الْأَوْلَادِ فِي الْقُبُلِ ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ تَوَجَّهَتْ إِلَيْهِ دُونَ الدُّبُرِ الَّذِي لَيْسَ بِمَوْضِعِ حَرْثٍ ، وَلَا مِنْ مُزْدَرِعٍ لِذَلِكَ . وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ [ الشُّعَرَاءِ : 165 ، 166 ] فَمَعْنَاهُ أَتَأْتُونَ الْمَحْظُورَ مِنَ الذُّكْرَانِ ، وَتَذَرُوَنَ الْمُبَاحَ مِنْ فُرُوجِ النِّسَاءِ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ [ الْبَقَرَةِ : 187 ] . فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللِّبَاسَ السَّكَنُ كَقَوْلِهِ : وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا [ الْفَرْقَانِ : 47 ] أَيْ سَكَنًا .

وَالثَّانِي : أَنْ بَعْضَهُمْ يَسْتُرُ بَعْضًا كَاللِّبَاسِ ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ عَلَى التَّأْوِيلَيْنِ دَلِيلٌ لَهُمْ . وَأَمَّا فَسَادُ الْعَقْدِ بِاسْتِثْنَائِهِ وَسَرَائِهِ الطَّلَاقُ بِهِ فَقَدْ يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِاسْتِثْنَاءِ كُلِّ عُضْوٍ لَا يَصِحُّ الِاسْتِمْتَاعُ بِهِ مِنْ فُؤَادِهَا وَكَبِدِهَا ، وَيَسْرِي مِنْهُ الطَّلَاقُ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهَا وَلَا يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِ ، فَكَذَلِكَ الدُّبُرُ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْقُبُلِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُ لَا أَذَى فِيهِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ كَمَالِ الْمَهْرِ ، وَتَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِمُبَاحِ الْوَطْءِ دُونَ مَحْظُورِهِ أَلَا تَرَاهُ يَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ فِي الْحَيْضِ ، وَالْإِحْرَامِ وَالصِّيَامِ ، وَإِنَّ كَانَ مَحْظُورًا فَكَذَلِكَ فِي هَذَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَأَمَّا التَّلَذُّذُ بِغَيْرِ إِيلَاجٍ بَيْنَ الْإِلْيَتَيْنِ في الاستمتاع بالحائض فَلَا بَأْسَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ [ الْمُؤْمِنُونَ : 5 ، 6 ] الْآيَةَ ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا فَنَعَمْ ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِ مِنَ الْحَقِّ فَدَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ التَّلَذُّذِ بِمَا بَيْنَ الْإِلْيَتَيْنِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا عَزْلُ الْمَنِيِّ عَنِ الْفَرْجِ عِنْدَ الْوَطْءِ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ فِي الْإِمَاءِ جَازَ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِهِنَّ فِيهِ : لِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نُصِيبُ السَّبَايَا ، وَنُحِبُّ الْأَثْمَانَ أَفَنَعْزِلُ عَنْهُنَّ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا قَضَى خَلْقَ نَسْمَةٍ خَلَقَهَا فَإِنْ شِئْتُمْ فَاعْزِلُوا " ، وَلِأَنَّ فِي الْعَزْلِ عَنْهَا اسْتِبْقَاءً لِرِقِّهَا ، وَامْتِنَاعًا مِنَ الْإِفْضَاءِ إِلَى عِتْقِهَا ، فَجَازَ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ تَدْبِيرِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَعْزِلَ عَنْهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْحَقَّ فِي وَلَدِ الْحُرَّةِ مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُمَا وَفِي وَلَدِ الْأَمَةِ يَخْتَصُّ السَّيِّدَ دُونَهَا .

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي حُكْمِ الِاسْتِمْنَاءِ بِالْيَدِ ] فَأَمَّا الِاسْتِمْنَاءُ بِالْيَدِ حكمه وَهُوَ اسْتِدْعَاءُ الْمَنِيِّ بِالْيَدِ ، فَهُوَ مَحْظُورٌ ، وَقَدْ حَكَى الشَّافِعِيُّ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ إِبَاحَتَهُ ، وَأَبَاحَهُ قَوْمٌ فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ . وَهُوَ خَطَأٌ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ [ الْمُؤْمِنُونَ 5 ، 6 ] الْآيَةَ ، فَحَظَرَ مَا سِوَى الزَّوْجَاتِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ ، وَجَعَلَ مُبْتَغِي مَا عَدَاهُ عَادِيًا مُتَعَدِّيًا ، لِقَوْلِهِ : فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [ الْمُؤْمِنُونَ : 7 ] . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَعَنَ اللَّهُ النَّاكِحَ يَدَهُ ، وَلِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى تَرْكِ النِّكَاحِ ، وَانْقِطَاعِ النَّسْلِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا كَاللِّوَاطِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ أَصَابَهَا فِي الدُّبُرِ ، لَمْ يُحْصِنْهَا " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . لِأَنَّ الْإِحْصَانَ كَمَالٌ ، فَلَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِوَطْءٍ كَامِلٍ وَهُوَ الْقُبُلُ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَحَصَّنْ بِوَطْءِ الْإِمَاءِ ، وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا اعْتِبَارًا بِأَكْمَلِهِ فِي الْحَرَائِرِ كَانَ بِأَنْ لَا يَتَحَصَّنَ بِالْوَطْءِ الْمُحَرَّمِ فِي الدُّبُرِ أَوْلَى ، وَجُمْلَةُ أَحْكَامِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : مَا يَخْتَصُّ بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ ، لَا يَثْبُتُ بِالْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ . وَالثَّانِي : إِحْلَالُهَا دُونَ الدُّبُرِ ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : الْإِحْصَانُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ ، وَلَا يَثْبُتُ بِالْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ . وَالثَّانِي : إِحْلَالُهَا لِلزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ دُونَ الدُّبُرِ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا حَتَّى تَذُوقَ عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا وَالْعُسَيْلَةُ فِي الْقُبُلِ . وَالثَّالِثُ : سُقُوطُ حُكْمِ الْعُنَّةِ ، لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ دُونَ الدُّبُرِ : لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْمَوْطُوءَةِ فَاخْتَصَّ بِالْفَرْجِ الْمُبَاحِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : يَسْتَوِي فِيهِ الْوَطْءُ فِي الْقُبُلِ وَالْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ ، وَهِيَ سَبْعَةُ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : وُجُوبُ الْغُسْلِ بِالْإِيلَاجِ عَلَيْهِمَا . وَالثَّانِي : وُجُوبُ الْحَدِّ بِالزِّنَا فِي الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ جَمِيعًا . وَالثَّالِثُ : كَمَالُ الْمَهْرِ وَوُجُوبُهُ بِالشُّبْهَةِ كَوُجُوبِهِ بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ . وَالرَّابِعُ : وُجُوبُ الْعِدَّةِ مِنْهُ كَوُجُوبِهَا بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ . وَالْخَامِسُ : تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ وَيَثْبُتُ بِهِ كَثُبُوتِهِ بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ . وَالسَّادِسُ : فَسَادُ الْعِبَادَاتِ مِنَ الْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَالِاعْتِكَافِ يَتَعَلَّقُ بِهِ كَتَعَلُّقِهَا بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ . وَالسَّابِعُ : وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِإِفْسَادِ الْحَجِّ وَالصِّيَامِ يَتَعَلَّقُ بِهِ كَتَعَلُّقِهَا بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : مَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : الْفَيْئَةُ فِي الْإِيلَاءِ بما تكون ، فِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا تَكُونَ إِلَّا بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ دُونَ الدُّبُرِ : لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ فَتَعَلَّقَتْ بِالْوَطْءِ الْمُسْتَبَاحِ بِالْعَقْدِ ، وَهُوَ الْقُبُلُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَكُونُ بِالْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِهِ حَانِثًا ، وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ، فَصَارَ بِهِ فَائِيًّا . وَالثَّانِي : الْعِدَّةُ مِنَ الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ ، فَإِنْ كَانَ فِي عَقْدِ نِكَاحٍ وَجَبَتْ بِهِ الْعِدَّةُ كَوُجُوبِهَا بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ : لِأَنَّ الْعِدَّةَ فِي النِّكَاحِ قَدْ تَجِبُ بِغَيْرِ وَطْءٍ ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ تَجِبَ بِالْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ ، وَإِنْ كَانَ بِسَبَبِهِ فَفِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ فِيهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : تَجِبُ كَوُجُوبِهَا فِي النِّكَاحِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ - : لَا تَجِبُ : لِأَنَّهَا فِي الشُّبْهَةِ تَكُونُ اسْتِبْرَاءً مَحْضًا حِفْظًا لِلنَّسَبِ ، وَاسْتِبْرَاءً لِلرَّحِمِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُخْتَصٌّ بِالْقُبُلِ دُونَ الدُّبُرِ . وَالثَّالِثُ : لُحُوقُ النَّسَبِ مِنَ الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ ، وَإِنْ كَانَ فِي عَقْدِ نِكَاحٍ لَحِقَ ، وِإِنْ كَانَ فِي شُبْهَةٍ فَفِي لُحُوقِ النَّسَبِ بِهِ وَجْهَانِ ، وَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِ الْعِدَّةِ مِنْهُ كَانَ النَّسَبُ لَاحِقًا ، وَإِنْ قِيلَ لَا تَجِبُ الْعِدَّةُ مِنْهُ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ النَّسَبُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيَنْهَاهُ الْإِمَامُ ، فَإِنْ عَادَ عَزَّرَهُ ، فَإِنْ كَانَ فِي زِنًا حَدَّهُ ، وَإِنْ كَانَ غَاصِبًا أَغْرَمَهُ الْمَهْرَ وَأَفْسَدَ حَجَّهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا فَاعِلُ ذَلِكَ فِي زَوْجَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ الوطء فِي الدُّبُرِ ، فَإِنَّهُ يُنْهَى وَيُكَفُّ : لِإِقْدَامِهِ عَلَى حَرَامٍ وَارْتِكَابِهِ لِمَحْظُورٍ ، وَلَا يُعَاجَلُ فِي أَوَّلِ فِعْلِهِ بِأَكْثَرَ مِنَ النَّهْيِ فَيُنْهَى الزَّوْجُ مِنَ الْفِعْلِ ، وَتُنْهَى الزَّوْجَةُ مِنَ التَّمْكِينِ ، فَإِنْ عَاوَدَا ذَلِكَ بَعْدَ النَّهْيِ ، عُذِّرَا تَأْدِيبًا وَزَجْرًا ، وَلَا حَدَّ فِيهِ لِأَجْلِ الزَّوْجِيَّةِ . فَأَمَّا فَاعِلُهُ زِنًا وطء الرجل غير زَوْجَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ فِي الدُّبُرِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَهُوَ حَدُّ اللِّوَاطِ ، وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : كَحَدِّ الزِّنَا : جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ إِنْ كَانَ بِكْرًا ، أَوِ الرَّجْمُ إِنْ كَانَ ثَيِّبًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : الْقَتْلُ بِكْرًا كَانَ أَوْ ثَيِّبًا . وَأَمَّا الْمَفْعُولُ بِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً فَعَلَيْهَا حَدُّ اللِّوَاطِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَلَيْسَ فِي اللِّوَاطِ مَهْرٌ فَكَيْفَ وَجَبَ لِهَذِهِ مَهْرٌ ، وَالْفِعْلُ مَعَهَا كَاللِّوَاطِ . قِيلَ : لِأَنَّ النِّسَاءَ جِنْسٌ يَجِبُ فِي التَّلَذُّذِ بِهِنَّ مَهْرٌ ، فَوَجَبَ لَهُنَّ الْمَهْرُ ، وَالذُّكْرَانُ جِنْسٌ يُخَالِفُونَ النِّسَاءَ فِيهِ فَلَمْ يَجِبْ لَهُمْ مَهْرٌ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

بَابُ الشِّغَارِ

بَابُ الشِّغَارِ تعريفه وصفته وحكمه ، وَمَا دَخَلَ فِيهِ ، مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَإِذَا أَنْكَحَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ ، أَوِ الْمَرْأَةَ يَلِي أَمْرَهَا الرَّجُلَ عَلَى أَنْ يُنْكِحَهُ ابْنَتَهُ ، أَوِ الْمَرْأَةَ يَلِي أَمْرَهَا عَلَى أَنَّ صَدَاقَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بُضْعُ الْأُخْرَى وَلَمْ يُسَمَّ لِكِلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَدَاقًا ، فَهَذَا الشِّغَارُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ مَفْسُوخٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا الشِّغَارُ فِي اللُّغَةِ فَهُوَ الْخُلُوُّ ، يُقَالُ : بَلَدٌ شَاغِرٌ إِذَا خَلَا مِنْ سُلْطَانٍ ، وَأَمْرٌ شَاغِرٌ إِذَا خَلَا مِنْ مُدَبِّرٍ . أَصْلُهُ : مَأْخُوذٌ مِنْ شُغُورِ الْكَلْبِ ، يُقَالُ : قَدْ شَغَرَ الْكَلْبُ إِذَا رَفَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ لِلْبَوْلِ لِخُلُوِّ الْأَرْضِ مِنْهَا . وَحَكَى الْجَاحِظُ أَنَّ شُغُورَ الْكَلْبِ عَلَامَةُ بُلُوغِهِ ، وَأَنَّهُ يَبْلُغُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ عُمُرِهِ ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ . حَتَّى تَوْفَا السِّتَّةَ الشُّهُورَا مِنْ عُمُرِهِ وَبَلَغَ الشُّغُورَا هَذَا قَوْلُ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ ، وَالْأَصْمَعِيِّ ، وَأَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ . وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ : سُمِّيَ الشِّغَارُ شِغَارًا : لِقُبْحِهِ ، وَمِنْهُ شُغُورُ الْكَلْبِ : لِقُبْحِ مَنْظَرِهِ إِذَا بَالَ مَعَ رَفْعِ رِجْلِهِ . وَقَالَ ثَعْلَبٌ : الشِّغَارُ الرَّفْعُ ، وَمِنْهُ شُغُورُ الْكَلْبِ . وَالْأَصْلُ فِي الشِّغَارِ مَا رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشِّغَارِ . وَرَوَى حُمَيْدٌ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ وَلَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ . وَالشِّغَارُ ، مَا وَصَفَهُ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِ الرَّجُلِ : قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي أَوْ وَلِيَّتِي ، عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ أَوْ وَلِيَّتَكَ ، عَلَى أَنْ تَضَعَ كُلُّ وَاحِدةٍ مِنْهُمَا صَدَاقَ

الْأُخْرَى ، أَوْ يَقُولُ : عَلَى أَنَّ صَدَاقَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بُضْعُ الْأُخْرَى ، فَهَذَا هُوَ الشَّغَارُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الشِّغَارِ . وَالشِّغَارُ : أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ الرَّجُلَ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الرَّجُلُ الْآخَرُ ابْنَتَهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ . وَالْحَدِيثُ الثَّانِي : رَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ . وَالشِّغَارُ أَنْ يَبْذُلَ الرَّجُلُ أُخْتَهُ بِأُخْتِهِ . وَهَذَا التَّفْسِيرُ مِنَ الرَّاوِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ نَصٌّ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ نَفْسِهِ ، فَهُوَ لِعِلْمِهِ بِمَخْرَجِ الْخِطَابِ وَمُشَاهَدَةِ الْحَالِ أَعْرَفُ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ نِكَاحَ الشِّغَارِ مَا وَصَفْنَا ، فَعَقْدُ النِّكَاحِ فِيهِ بَاطِلٌ . وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا جَعَلَ النَّهْيَ فِيهِ مُتَوَجِّهًا إِلَى الصَّدَاقِ ، وَعِنْدَهُ أَنَّ فَسَادَ الصَّدَاقِ مُوجِبٌ لِفَسَادِ النِّكَاحِ ، وَعِنْدَنَا أَنَّ النَّهْيَ فِيهِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى النِّكَاحِ دُونَ الصَّدَاقِ ، وَأَنَّ فَسَادَ الصَّدَاقِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ النِّكَاحِ ، فَصَارَ مَالِكٌ مُوَافِقًا فِي الْحُكْمِ مُخَالِفًا فِي مَعْنَى النَّهْيِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : نِكَاحٌ الشِّغَارُ جَائِزٌ ، وَالنَّهْيُ فِيهِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الصَّدَاقِ دُونَ النِّكَاحِ ، وَفَسَادُ الصَّدَاقِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ النِّكَاحِ ، فَصَارَ مُخَالِفًا لِمَالِكٍ فِي الْحُكْمِ مُوَافِقًا لَهُ فِي مَعْنَى النَّهْيِ . وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النَّهْيَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الصَّدَاقِ : لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا : قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا ، وَإِنَّمَا أَبْطِلَهُ إِذَا قَالَ : عَلَى أَنَّ صَدَاقَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بُضْعُ الْأُخْرَى ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ تَوَجَّهَ إِلَى الصَّدَاقِ ، وَفَسَادُهُ لَا يُوجِبُ فَسَادَ النِّكَاحِ ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقٍ مِنْ خَمْرٍ ، أَوْ خِنْزِيرٍ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ : قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنَّ صَدَاقَهَا طَلَاقُ امْرَأَتِكَ صَحَّ النِّكَاحُ ، وَإِنْ جَعَلَ الصَّدَاقَ بُضْعَ زَوْجَتِهِ ، فَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا ، قَالُوا : وَلِأَنَّكُمْ جَوَّزْتُمُ النِّكَاحَ إِذَا سَمَّى لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا صَدَاقًا فَكَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّيهِ : لِأَنَّ تَرْكَ الصَّدَاقِ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ لَا يُوجِبُ فَسَادَهُ ، كَمَا أَنَّ ذِكْرَهُ فَيَ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ لَا يُوجِبُ صِحَّتَهُ . وَدَلِيلُنَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالنَّهْيُ عِنْدَنَا يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَا لَمْ يَصْرِفْ عَنْهُ دَلِيلٌ . فَإِنْ قَالُوا : قَدْ فَسَدَ بِالنَّهْيِ مَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِ وَهُوَ الصَّدَاقُ دُونَ النِّكَاحِ ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّهْيَ تَوَجَّهَ إِلَى النِّكَاحِ : لِمَا رَوَاهُ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُجْمِلُ عَلَى عُمُومِ الْأَمْرَيْنِ . فَإِنْ قَالُوا : إِنَّمَا سُمِّيَ شِغَارًا لِخُلُوِّهِ مِنْ صَدَاقٍ ، وَنَحْنُ لَا نُخَلِّيهِ : لِأَنَّنَا نُوجِبُ فِيهِ صَدَاقَ الْمِثْلِ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ شِغَارًا . قِيلَ : هَذَا فَاسِدٌ : لِأَنَّهُ لَيْسَ يَمْنَعُ مَا أَوْجَبْتُمُوهُ مِنَ الصَّدَاقِ بَعْدَ الْعَقْدِ مِنْ أَنْ يَكُونَ نِكَاحُ الشِّغَارِ وَقْتَ الْعَقْدِ قَدْ تَوَجَّهَ النَّهْيُ إِلَيْهِ فَاقْتَضَى فَسَادَهُ . وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ ، مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ : أَنَّهُ عَقْدٌ فِيهِ مَثْنَوِيَّةٌ ، وَمَعْنَاهُ : أَنَّهُ مَلَكَ الزَّوْجُ بُضْعَ بِنْتِهِ بِالنِّكَاحِ أَوِ ارْتَجَعَهُ مِنْهُ بِأَنْ جَعْلَهُ مَلِكًا لِبِنْتِ الزَّوْجِ بِالصَّدَاقِ ، وَهَذَا مُوجِبٌ لِفَسَادِ النِّكَاحِ ، كَمَا لَوْ قَالَ : زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنَّ يَكُونَ بُضْعُهَا مِلْكًا لِفُلَانٍ ، كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا بِالْإِجْمَاعِ ، كَذَلِكَ هَذَا بِالْحِجَاجِ ، وَتَحْرِيرُهُ : أَنَّهُ جَعَلَ الْمَقْصُودَ لِغَيْرِ الْمَعْقُودِ لَهُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ قِيَاسًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِ : زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ يَكُونَ بُضْعَهَا لِفُلَانٍ ، وَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَعْقُودًا بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا ، كَمَا لَوْ زَوَّجَ بِنْتَهُ بِعَبْدٍ عَلَى أَنْ تَكُونَ رَقَبَتُهُ صَدَاقَهَا ، وَلِأَنَّ الْعَيْنَ الْوَاحِدَةَ إِذَا جُعِلَتْ عِوَضًا وَمُعَوَّضًا ، فَإِذَا بَطَلَ أَنْ تَكُونَ عِوَضًا بَطَلَ أَنْ تَكُونَ مُعَوَّضًا كَالثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ فِي الْبَيْعِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : قَدْ بِعْتُكَ عَبْدِي بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا لِبَيْعِ دَارِكَ عَلَيَّ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْفَسَادَ فِي الصَّدَاقِ : لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ : قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ ، كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا ، فَهُوَ أَنَّ الْفَسَادَ إِنَّمَا كَانَ فِي الشِّغَارِ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْبُضْعِ ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يَكُونُ فِي الْبُضْعِ اشْتِرَاكٌ فَصَحَّ ، أَلَّا تَرَاهُ لَوْ قَالَ : زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ ، عَلَى أَنَّ بُضْعَ بِنْتِي صَدَاقٌ لِبِنْتِكَ ، بَطَلَ نِكَاحُ بِنْتِهِ : لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي بُضْعِهَا اشْتِرَاكًا ، وَلَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُ الْأُخْرَى : لِأَنَّهُ لَمْ يُحْصُلْ فِي بُضْعِهَا اشْتِرَاكًا . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَ صَدَاقَ بِنْتِهِ طَلَاقَ زَوْجَتِهِ صَحَّ ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّهُ فَسَادٌ اخْتَصَّ بِالْمَهْرِ وَلَمْ يَحْصُلْ فِي الْبُضْعِ تَشْرِيكٌ ، فَلِذَلِكَ صَحَّ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ الْآخَرُ فَسَنَذْكُرُ مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي حُكْمِهِ مَا يَكُونُ جَوَابًا ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ سَمَّى لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا صَدَاقًا فَلَيْسَ بِالشِّغَارِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، وَالنِّكَاحُ ثَابِتٌ ، وَالْمَهْرُ فَاسِدٌ ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَنِصْفُ مَهْرٍ إِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ ثَبَتَ النِّكَاحُ بِلَا مَهْرٍ ، قِيلَ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَازَهُ فِي كِتَابِهِ ، فَأَجَزْنَاهُ ، وَالنِّسَاءُ مُحَرَّمَاتُ الْفُرُوجِ إِلَّا بِمَا أَحَلَّهُنَّ اللَّهُ بِهِ ، فَلَمَّا نَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ ، لَمْ أُحِلَّ مُحَرَّمًا بِمُحَرَّمٍ ، وَبِهَذَا قُلْنَا فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَالْمُحَرِّمِ ( قَالَ ) وَقُلْتُ لِبَعْضِ النَّاسِ : أَجَزْتَ نِكَاحَ الشِّغَارِ ، وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَرَدَدْتَ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،

وَهَذَا تَحَكُّمٌ ، أَرَأَيْتَ إِنْ عُورِضْتَ ، فَقِيلَ لَكَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى خَالَتِهَا أَوْ عَلَى عَمَّتِهَا ، وَهَذَا اخْتِيَارٌ ، فَأَجِزْهُ ، فَقَالَ : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّ عَقْدَهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، قِيلَ : وَكَذَلِكَ عَقْدُ الشِّغَارِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشِّغَارِ ، إِنَمَا نَهَى عَنِ النِّكَاحِ نَفْسِهِ لَا عَنِ الصَّدَاقِ ، وَلَوْ كَانَ عَنِ الصَّدَاقِ لِكَانَ النِّكَاحُ ثَابِتًا ، وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صُورَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : صُورَتُهَا أَنْ تَقُولَ : قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ ، عَلَى أَنَّ صَدَاقَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بُضْعُ الْأُخْرَى وَمِائَةُ دِرْهَمٍ ، فَيَصِحُّ النِّكَاحَانِ اعْتِبَارًا بِالِاسْمِ ، وَأَنَّهُ لَا يُسَمَّى مَعَ الْمَهْرِ مَذْكُورًا شِغَارًا خَالِيًا ، وَيَكُونُ لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَهْرُ مِثْلِهَا لِفَسَادِ الصَّدَاقِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ شِغَارٌ ، يَفْسُدُ فِيهِ النِّكَاحَانِ ، اعْتِبَارًا بِالْمَعْنَى ، وَهُوَ التَّشْرِيكُ فِي الْبُضْعِ ، وَهُوَ أَنَّ صُورَةَ مَسْأَلَةِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الَّتِي لَمْ يَجْعَلْهَا شِغَارًا أَنْ يَقُولَ : قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى صَدَاقِ مِائَةٍ عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتُكَ عَلَى صَدَاقِ مِائَةٍ ، فَالنِّكَاحَانِ جَائِزَانِ : لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرِكْ فِي الْبُضْعِ ، وَلَا جَعَلَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَعْقُودًا بِهِ ، وَيَبْطُلُ الصَّدَاقَانِ : لِأَنَّ فَسَادَ الشَّرْطِ رَاجِعٌ إِلَيْهِ فَأَسْقَطَ فِيهِ مَا قَابَلَهُ وَهُوَ مَجْهُولٌ فَصَارَ بَاقِيهِ مَجْهُولًا ، وَالصَّدَاقُ الْمَجْهُولُ يُبْطَلُ وَلَا يَبْطُلُ بِهِ النِّكَاحُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ الَّذِي يَبْطُلُ بِبُطْلَانِ الثَّمَنِ ، فَلَوْ قَالَ : قَدْ زَوَّجَتُكَ بِنْتِي بِصَدَاقِ أَلْفٍ عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ بِصَدَاقِ أَلْفٍ عَلَى أَنَّ بُضْعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا بُضْعُ الْأُخْرَى ، صَحَّ النِّكَاحَانِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، وَلَمْ يَكُنْ شِغَارًا : لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ تَسْمِيَةِ الصَّدَاقِ ، وَبَطَلَ النِّكَاحَانِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي ، وَكَانَ شِغَارًا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشْرِيكِ فِي الْبُضْعِ ، وَلَوْ قَالَ : زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ ، صَحَّ النِّكَاحَانِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا ، وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرُ مِثْلِهَا ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ شَرْطٌ يَعُودُ فَسَادُهُ إِلَى الْمَهْرِ الْمُسْتَحَقِّ ، وَلَوْ قَالَ : زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ عَلَى أَنَّ بُضْعَ بِنْتِي صَدَاقُ بِنْتِكَ ، بَطَلَ نِكَاحُ بِنْتِهِ : لِأَنَّهُ جَعَلَ بُضْعَهَا مُشْتَرَكًا ، وَصَحَّ نِكَاحُهُ عَلَى بِنْتِ صَاحِبِهِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ بُضْعَهَا مُشْتَرَكًا ، وَلَوْ قَالَ : عَلَيَّ أَنَّ صَدَاقَ بِنْتِي بُضْعُ بِنْتِكَ ، صَحَّ نِكَاحُ بِنْتِهِ ، وَبَطَلَ نِكَاحُهُ لِبِنْتِ صَاحِبِهِ : لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي بُضْعِهَا لَا فِي بُضْعِ بِنْتِهِ ، فَتَأَمَّلْهُ تَجِدْهُ مُسْتَمِرَّ التَّعْلِيلِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِرَجُلٍ : إِنْ جِئْتَنِي بِكَذَا أَوْ كَذَا إِلَى أَجَلٍ يُسَمِّيهِ فَقَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي ، فَجَاءَهُ بِهِ فِي أَجَلِهِ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ ، وَأَجَازَهُ مَالِكٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ إِذَا أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ : اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [ الْمَائِدَةِ : 1 ] . وَهَذَا خَطَأٌ : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

مَنْ أَدْخَلَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ وَلِأَنَّهُ نِكَاحٌ مُسَلَّمٌ عُلِّقَ بِمَجِيءِ صِفَةٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ كَقَوْلِهِ : قَدْ زَوَّجَتْكُمَا إِذَا جَاءَ الْمَطَرُ ، وَلِأَنَّ عُقُودَ الْمُعَاوَضَاتِ لَا تَتَعَلَّقُ بِمَجِيءِ الصِّفَاتِ كَالْبُيُوعِ . فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [ الْمَائِدَةِ : 1 ] فَلَيْسَ هَذَا عَقْدٌ فَيَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَالْمُحَلِّلِ

بَابُ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ ، وَالْمُحَلِّلِ ، مِنَ الْجَامِعِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ ، وَمِنَ الْإِمْلَاءِ عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ ، وَمِنِ اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ ، عَنْ أَبِيهِمَا ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَأَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ ( قَالَ ) وَإِنْ كَانَ حَدِيثُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ ثَابِتًا فَهُوَ مُبَيِّنٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَلَّ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ ثُمَّ قَالَ " هِيَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " ( قَالَ ) وَفِي الْقَرْآنِ وَالسُّنَّةِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْمُتْعَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ فَلَمْ يُحَرِّمْهُنَ اللَّهُ عَلَى الْأَزْوَاجِ إِلَّا بِالطَّلَاقِ ، وَقَالَ تَعَالَى : فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ ، وَقَالَ تَعَالَى : وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ فَجَعَلَ إِلَى الْأَزْوَاجِ فُرْقَةَ مَنْ عَقَدُوا عَلَيْهِ النِّكَاحَ مَعَ أَحْكَامِ مَا بَيْنَ الْأَزْوَاجِ ، فَكَانَ بَيِّنًا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ مَنْسُوخٌ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ : لِأَنَّهُ إِلَى مُدَّةٍ ، ثُمَّ نَجِدُهُ يَنْفَسِخُ بِلَا إِحْدَاثِ طَلَاقٍ فِيهِ ، وَلَا فِيهِ أَحْكَامُ الْأَزْوَاجِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : نِكَاحُ الْمُتْعَةِ حَرَامٌ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِلْمَرْأَةِ : أَمْتِعِينِي نَفْسَكِ شَهْرًا ، أَوْ مَوْسِمَ الْحَجِّ ، أَوْ مَا أَقَمْتُ فِي الْبَلَدِ ، أَوْ يَذْكُرَ ذَلِكَ بِلَفْظِ النِّكَاحِ أَوِ التَّزْوِيجِ لَهَا ، أَوْ لِوَلِيِّهَا بَعْدَ أَنْ يُقَدِّرَهُ بِمُدَّةٍ ، إِمَّا مَعْلُومَةً أَوْ مَجْهُولَةً ، فَهُوَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ صورته الْحَرَامُ . وَهُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَالتَّابِعِينَ ، وِالْفُقَهَاءِ ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، وَابْنِ جُرَيْجٍ ، وَالْإِمَامِيَّةِ رَأْيُهُمْ فِيهِ جَوَازًا : اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [ النِّسَاءِ : 3 ] . فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْمُتْعَةِ الْمُقَدَّرَةِ وَالنِّكَاحِ الْمُؤَبَّدِ ، وَقَالَ تَعَالَى : فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [ النِّسَاءِ : 24 ] . وَهَذَا أَبْلَغُ فِي النَّصِّ . وَرَوَى سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ أَنَّ مُنَادِيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَقُولُ : إِنِ اللَّهَ قَدْ آذَنَ لَكُمْ فَاسْتَمْتِعُوا . وَهَذَا نَصٌّ . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخُطَّابِ أَنَّهُ قَالَ : مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا أَنْهَى عَنْهُمَا وَأُعَاقِبُ عَلَيْهِمَا : مُتْعَةُ النِّسَاءِ ، وَمُتْعَةُ الْحَجِّ . فَأَخْبَرَ بِإِبَاحَتِهِمَا عَلَى عَهْدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا ثَبَتَ إِبَاحَتُهُ بِالشَّرْعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَحْرِيمُهُ بِالِاجْتِهَادِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مَنْفَعَةٍ ، فَصَحَّ تَقْدِيرُهُ بِمُدَّةٍ كَالْإِجَارَةِ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ إِبَاحَتُهَا بِالْإِجْمَاعِ فَلَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُ إِلَى التَّحْرِيمِ إِلَّا بِالْإِجْمَاعِ .

وَدَلِيلُنَا : قَوْلَيِ اللَّهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [ الْمُؤْمِنُونَ : 5 ، 6 ] وَلَيْسَتْ هَذِهِ زَوْجَتَهُ ، وَلَا مِلْكَ يَمِينٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَلُومًا ، ثُمَّ قَالَ : فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [ الْمُؤْمِنُونَ : 7 ] . فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَادِيًا . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَّةِ مَعَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ ، مَا رَوَاهُ أَبُو ضَمْرَةَ ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَدِمْتُ مَكَّةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ : " اسْتَمْتِعُوا مِنْ هَؤُلَاءِ النِّسَاءِ " ، وَالِاسْتِمْتَاعُ يَوْمَئِذٍ عِنْدَنَا النِّكَاحُ ، فَكَلَّمَ النِّسَاءَ مَنْ كَلَّمَهُنَّ فَقُلْنَ لَا يَنْكِحُ الْأَنْبِيَاءُ ، وَنَبِيُّكُمْ أَجَلُّ . فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : اضْرِبُوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُنَّ أَجَلًا ، فَخَرَجْتُ أَنَا وَابْنُ عَمٍّ لِي عَلَيْهِ بُرْدٌ ، وَعَلَيَّ بُرْدٌ ، وَبُرْدُهُ أَجْوَدُ مِنْ بُرْدِي ، وَأَنَا أَشَبُّ مِنْهُ فَأَتَيْنَا امْرَأَةً فَأَعْجَبَهَا بُرْدَهُ وَأَعْجَبَهَا شَبَابِي ، فَقَالَتْ : بُرْدٌ كَبُرْدٍ فَكَانَ الْأَجَلُ بَيْنِي وَبَيْنَهَا عَشْرًا ، فَبِتُّ عِنْدَهَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ ، ثُمَّ غَدَوْتُ ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمَقَامِ وَالرُّكْنِ يَخْطُبُ النَّاسَ ، فَقَالَ : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنْ هَؤُلَاءِ النِّسَاءِ ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ وَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ ، فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا ، وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا " . وَرَوَى ابْنُ أَبِي لَهِيعَةَ ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَيُّوبَ ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ عَامِرٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُتْعَةِ ، وَقَالَ : إِنَّمَا كَانَتْ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ ، فَلَمَّا أُنْزِلَ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعِدَّةُ وَالْمِيرَاثُ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ نُسِخَتْ . وَرَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاحَ الْمُتْعَةَ ثَلَاثًا ثُمَّ حَرَّمَهَا . وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ ، وَعَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ وَمَا كُنَّا مُسَافِحِينَ . وَرَوَى عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ ، عَنْ سَعِيدٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، فَنَزَلْنَا عِنْدَ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ ، فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَصَابِيحَ وَنِسَاءً يَبْكِينَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : حَرَّمَ الْمُتْعَةَ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعِدَّةُ وَالْمِيرَاثُ .

وَحُكِيَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ دَخَلَ عَلَى الْمَأْمُونِ ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَحْلَلْتَ الْمُتْعَةَ ، وَقَدْ حَرَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ الْمَأْمُونُ : يَا يَحْيَى إِنَّ تَحْرِيمَ الْمُتْعَةِ حَدِيثٌ رَوَاهُ الرَّبِيعُ بْنُ سَبْرَةَ أَعْرَابِيٌّ يَبُولُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَلَا أَقُولُ بِهِ ، فَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَاهُنَا حَدِيثٌ آخَرُ . فَقَالَ : هَاتِهِ يَا يَحْيَى ، فَقَالَ : حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ ، فَقَالَ الْمَأْمُونُ : لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ مَنْ : قَالَ يَحْيَى : عَنْ مَالِكٍ ، فَقَالَ الْمَأْمُونُ : كَانَ أَبِي يُبَجِّلُهُ ، هَيَّا ، فَقَالَ يَحْيَى : عَنِ الزُّهْرِيِّ ، فَقَالَ الْمَأْمُونُ : كَانَ ثِقَةً فِي حَدِيثِهِ ، وَلَكِنْ كَانَ يَعْمَلُ لِبَنِي أُمَيَّةَ هَيَّا ، فَقَالَ يَحْيَى : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ ابْنِيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ ، قَالَ : فَفَكَّرَ الْمَأْمُونُ سَاعَةً ، ثُمَّ قَالَ : كَانَ أَحَدُهُمَا يَقُولُ بِالْوَعِيدِ ، وَالْآخَرُ بِالْإِرْجَاءِ ، ( هَيَّا ) قَالَ يَحْيَى : عَنْ أَبِيهِمَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ ، قَالَ : هَيَّا ، قَالَ يَحْيَى : عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، قَالَ : هَيَّا ، قَالَ يَحْيَى : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَامَ خَيْبَرَ عَنِ الْمُتْعَةِ ، وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ ، فَقَالَ الْمَأْمُونُ : يَا غُلَامُ ارْكَبْ ، فَنَادِ أَنَّ الْمُتْعَةَ حَرَامٌ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُضْطَرِبَةٌ يُخَالِفُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، لِأَنَّهُ رُوِيَ فِي بَعْضِهِمَا أَنَّهُ حَرَّمَهَا عَامَ خَيْبَرَ ، وَرُوِيَ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ حَرَّمَهَا عَامَ الْفَتْحِ بِمَكَّةَ ، وَرُوِيَ فِي بَعْضِهَا عَنْهُ حَرَّمَهَا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، وَرُوِيَ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ حَرَّمَهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، وَبَيْنَ كُلِّ وَقْتٍ وَوَقْتٍ زَمَانٌ مُمْتَدٌّ ، فَفِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ تَحْرِيمٌ كَرَّرَهُ فِي مَوَاضِعَ لِيَكُونَ أَظْهَرَ وَأَنْشَرَ حَتَّى يَعْلَمَهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ عَلِمَهُ : لِأَنَّهُ قَدْ يَحْضُرُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مَنْ لَمْ يَحْضُرْ مَعَهُ فِي غَيْرِهِ ، فَكَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي التَّحْرِيمِ وَأَوْكَدَ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهَا كَانَتْ حَلَالًا ، فَحُرِّمَتْ عَامَ خَيْبَرَ ، ثُمَّ أَبَاحَهَا بَعْدَ ذَلِكَ : لِمَصْلَحَةٍ عَلِمَهَا ، ثُمَّ حَرَّمَهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهَا : " وَهِيَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَا كَانَ مِنَ التَّحْرِيمِ الْمُتَقَدِّمِ مُوَقَّتٌ تَعَقَّبَتْهُ إِبَاحَةٌ ، وَهَذَا تَحْرِيمٌ مُؤَبَّدٌ لَا تَتَعَقَّبُهُ إِبَاحَةٌ ، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَعَلِيٍّ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ . قَالَ ابْنُ عُمَرَ : لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا السِّفَاحَ نَفْسَهُ . وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ : الْمُتْعَةُ هِيَ الزِّنَا الصَّرِيحُ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ خَالَفَهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمَعَ خِلَافِهِ لَا يَكُونُ الْإِجْمَاعُ ، قِيلَ : قَدْ رَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ إِبَاحَتِهَا ، وَأَظْهَرَ تَحْرِيمَهَا ، وَنَاظَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَلَيْهَا مُنَاظَرَةً مَشْهُورَةً ، وَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ : أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ ، قَالَ : وَمَا هُوَ يَا عُرْوَةُ ، قَالَ : تُفْتِي بِإِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ يَنْهَيَانِ عَنْهَا ، فَقَالَ : عَجِبْتُ مِنْكَ ، أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُخْبِرُنِي عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ : إِنَّهُمَا أَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ مِنْكَ فَسَكَتَ .

وَرَوَى الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ : أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ ، فَقَالَ : هَلْ لَكَ فِيمَا صَنَعَتْ نَفْسُكَ فِي الْمُتْعَةِ حَتَّى صَارَتْ بِهِ الرِّكَابُ ، وَقَالَ الشَّاعِرُ : أَقُولُ لِلشَّيْخِ لَمَّا طَالَ مَجْلِسُهُ يَا صَاحِ هَلْ لَكَ فِي فُتْيَا ابْنِ عَبَّاسْ يَا صَاحِ هَلْ لَكَ فِي بَيْضَاءَ بَهْكَنَةٍ تَكُونُ مَثْوَاكَ حَتَى يُصْدِرَ النَّاسْ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا إِلَى هَذَا ذَهَبْتُ ، وَقَامَ يَوْمَ عَرَفَةَ ، فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّهَا وَاللَّهِ لَا تَحِلُّ لَكُمْ إِلَّا مَا تَحِلُّ لَكُمُ الْمَيَّتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ، يَعْنِي إِذَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهَا ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهَا فَصَارَ الْإِجْمَاعُ بِرُجُوعِهِ مُنْعَقِدًا وَالْخِلَافُ بِهِ مُرْتَفِعًا ، وَانْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ ظُهُورِ الْخِلَافِ أَوْكَدُ : لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حُجَّةٍ قَاطِعَةٍ وَدَلِيلٍ قَاهِرٍ . وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّهُ حَلَّ عَقْدٌ جَازَ مُطْلَقًا ، فَبَطَلَ مُؤَقَّتًا كَالْبَيْعِ طَرْدًا وَالْإِجَارَةِ عَكْسًا ، وَلِأَنَّ لِلنِّكَاحِ أَحْكَامًا تَتَعَلَّقُ بِصِحَّتِهَا ، وَيَنْتَفِي عَنْ فَاسِدِهَا ، وَهِيَ الطَّلَاقُ وَالظِّهَارُ ، وَالْعِدَّةُ وَالْمِيرَاثُ ، فَلَمَّا انْتَفَتْ عَنِ الْمُتْعَةِ هَذِهِ الْأَحْكَامُ دَلَّ عَلَى فَسَادِهِ كَسَائِرِ الْمَنَاكِحِ الْفَاسِدَةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [ النِّسَاءِ : 3 ] فَهُوَ أَنَّ الْمُتْعَةَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي النِّكَاحِ : لِأَنَّ اسْمَ النِّكَاحِ يَنْطَلِقُ عَلَى مَا اخْتَصَّ بِالدَّوَامِ : لِذَلِكَ قِيلَ : قَدِ اسْتَنْكَحَهُ الْمَدَى لِمَنْ دَامَ بِهِ ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْمُتْعَةُ الْمُؤَقَّتَةُ ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ عَامًّا لَخُصَّ بِمَا ذَكَرْنَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [ النِّسَاءِ : 24 ] فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ مَسْعُودٍ رَوَيَا أَنَّهَا نُسِخَتْ بِالطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ وَالْمِيرَاثِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ فِي النِّكَاحِ ، وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى يَعْنِي بِهِ الْمَهْرَ دُونَ الْعَقْدِ . وَأَمَّا حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ ، فَالْإِبَاحَةُ فِيهِ مَنْسُوخَةٌ بِمَا رَوَيْنَاهُ مِنَ التَّحْرِيمِ الْوَارِدِ بَعْدَهُ . وَأَمَّا تَفَرُّدُ عُمَرَ بِالنَّهْيِ عَنْهَا فَمَا تَفَرَّدَ بِهِ ، وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ ، وَإِنَّمَا كَانَ إِمَامًا فَاخْتَصَّ بِالْإِعْلَانِ وَالتَّأْدِيبِ ، وَلَمْ يَكُنْ بِالَّذِي يُقْدِمُ عَلَى تَحْرِيمٍ بِغَيْرِ دَلِيلٍ ، وَلَكَانُوا قَدْ أَقْدَمُوا عَلَيْهِ يُمْسِكُونَ عَنْهُ ، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ : لَا تُغَالُوا فِي صَدَقَاتِ النِّسَاءِ ، فَلَوْ كَانَتْ تَكْرُمَةً لَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَاكُمْ بِهَا ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ : أَعْطَانَا اللَّهُ وَيَمْنَعُنَا ابْنُ الْخَطَّابِ ، فَقَالَ عُمْرُ : وَأَيْنَ أَعْطَاكُنَّ ؟ فَقَالَتْ : بِقَوْلِهِ : وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا [ النِّسَاءِ : 20 ] فَقَالَ عُمَرُ : كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ حَتَّى امْرَأَةٌ .

وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ يَوْمًا عَلَى الْمِنْبَرِ : أَيُّهَا النَّاسُ اسْتَمِعُوا ، فَقَالَ سَلْمَانُ : لَا نَسْمَعُ ، فَقَالَ عُمْرُ : وَلِمَ ذَاكَ ؟ فَقَالَ سَلْمَانُ : لِأَنَّ الثِّيَابَ لَمَّا قَدِمَتْ مِنَ الْعِرَاقِ ، وَفَرَّقْتَهَا عَلَيْنَا ثَوْبًا وَأَخَذْتَ ثَوْبَيْنِ لِنَفْسِكَ ، فَقَالَ عُمَرُ : أَمَّا هَذَا فَثَوْبِي ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَعَرْتُهُ مِنِ ابْنِي ، ثُمَّ دَعَا ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ ، وَقَالَ : أَيْنَ ثَوْبُكَ ؟ فَقَالَ : هُوَ عَلَيْكَ ، فَقَالَ سَلْمَانُ : قُلِ الْآنَ مَا شِئْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَكَيْفَ يَجُوزُ مَعَ اعْتِرَاضِهِمْ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ أَنْ يُمْسِكُوا عَنْهُ فِي تَحْرِيمِ مَا قَدْ أَحَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَا يُنْكِرُونَهُ لَوْلَا اعْتِرَافُهُمْ بِصِحَّتِهِ وَوِفَاقُهُمْ عَلَى تَحْرِيمِهِ فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ ، أَنَّهُمَا قَالَا : سَمِعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِلُّ الْمُتْعَةَ ، وَسَمِعْنَا عُمَرَ يَنْهَى عَنْهَا ، فَتَبِعْنَا عُمَرَ ، قِيلِ مَعْنَاهُ : تَبِعْنَا عُمَرَ ، فِيمَا رَوَاهُ مِنَ التَّحْرِيمِ : لِأَنَّهُ رَوَى لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاحَ الْمُتْعَةَ ثَلَاثًا ثُمَّ حَرَّمَهَا ، فَكَيْفَ يَجُوزُ لَوْلَا مَا ذَكَرْنَا أَنْ يُضَافَ إِلَى جَابِرٍ وَأَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُمَا خَالَفَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَبِعَا عُمَرَ ، وَلَوْ تَبِعَاهُ لَمَا تَبِعَهُ غَيْرُهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْإِجَارَةِ فَالْمَعْنَى فِيهِمَا : أَنَّهَا لَا تَصِحُّ مُؤَبَّدَةً ، فَصَحَّتْ مُؤَقَّتَةً ، وَالنِّكَاحُ لَمَّا صَحَّ مُؤَبَّدًا لَمْ يَصِحَّ مُوَقَّتًا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمَا بِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ إِبَاحَتُهَا بِالْإِجْمَاعِ ، فَلَمْ يُعْدَلْ إِلَى تَحْرِيمِهَا إِلَّا بِالْإِجْمَاعِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَا ثَبَتَ بِهِ إِبَاحَتُهَا هُوَ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ تَحْرِيمُهَا ، فَإِنْ كَانَ دَلِيلًا فِي الْإِبَاحَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا فِي التَّحْرِيمِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْإِبَاحَةَ الثَّابِتَةَ بِالْإِجْمَاعِ هِيَ إِبَاحَةٌ مُؤَقَّتَةٌ تَعَقَّبَهَا نَسْخٌ ، وَهُمْ يَدَّعُونَ إِبَاحَةً مُؤَبَّدَةً لَمْ يَتَعَقَّبْهَا نَسْخٌ ، فَلَمْ يَكُنْ فِيمَا قَالُوهُ إِجْمَاعٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ تَحْرِيمِ الْمُتْعَةِ الآثار المترتبة على نكاح المتعة ، فَلَا حَدَّ فِيهَا لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ ، وَيُعَزَّرَانِ أَدَبًا إِنْ عَلِمَا بِالتَّحْرِيمِ ، وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا بِالْإِصَابَةِ دُونَ الْمُسَمَّى وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ ، وَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَحِقَ بِالْوَطْءِ : لِأَنَّهَا صَارَتْ بِإِصَابَةِ الشُّبْهَةِ فِرَاشًا ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ : لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا نِكَاحٌ يُلْزِمُ ، وَيَثْبُتُ بِهَذِهِ الْإِصَابَةِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

مَسْأَلَةٌ : وَنِكَاحُ الْمُحَلِّلِ صوره وأحكامه بَاطِلٌ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي امْرَأَةٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا ، حَرُمَتْ بِهِنَّ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ ، فَنَكَحَتْ بَعْدَهُ زَوْجًا : لِيُحِلَّهَا لِلْأَوَّلِ فَيَرْجِعُ إِلَى نِكَاحِهَا ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْتَرِطَا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَحَلَّهَا بِإِصَابَةٍ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ ، فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا ، فَهَذَا نِكَاحٌ بَاطِلٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : النِّكَاحُ صَحِيحٌ ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ .

وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِهِ مَا رَوَاهُ الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ عَنْ عَلِيٍّ ، وَرَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ كُلُّهُمْ بِرِوَايَتِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ . وَرَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ ؟ قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : هُوَ الْمُحَلِّلُ وَالْمُحَلَّلُ لَهُ ، وَلِأَنَّهُ نِكَاحٌ عَلَى شَرْطٍ إِلَى مُدَّةٍ ، فَكَانَ أَغْلَظَ فَسَادٍ مِنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : جَهَالَةُ مُدَّتِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْإِصَابَةَ فِيهِ مَشْرُوطَةٌ لِغَيْرِهِ ، فَكَانَ بِالْفَسَادِ أَخَصَّ ، وَلِأَنَّهُ نِكَاحٌ شُرِطَ فِيهِ انْقِطَاعُهُ قَبْلَ غَايَتِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا . أَصْلُهُ : إِذَا تَزَوَّجَهَا شَهْرًا ، أَوْ حَتَّى يَطَأَ أَوْ يُبَاشِرَ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَيَشْتَرِطَ فِي الْعَقْدِ أَنَّهُ إِذَا أَحَلَّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ طَلَّقَهَا ، فَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ " وَالْإِمْلَاءِ " - : أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا نكاح المحلل كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا ، وَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ، كَذَلِكَ إِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ النِّكَاحُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي - نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ مِنَ " الْأُمِّ " وَهُوَ الْأَصَحُّ - : أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ : لِأَنَّهُ بِاشْتِرَاطِ الطَّلَاقِ مُؤَقَّتٌ ، وَالنِّكَاحُ مَا تَأَبَّدَ ، وَلَمْ يَتَوَقَّفْ ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَرَّقْنَا بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا فَيَصِحُّ : لِأَنَّهُ مُؤَبَّدٌ ، وَإِذَا شَرَطَ أَنْ يُطَلِّقَهَا لَمْ يَصِحَّ : لِأَنَّهُ مُؤَقَّتٌ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَقْدِ ، وَيَتَزَوَّجَهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، لَكِنَّهُ يَنْوِي وَيَعْتَقِدُهُ ، فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ : لِخُلُوِّ عَقْدِهِ مِنْ شَرْطٍ يُفْسِدُهُ ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ : لِأَنَّهُ نَوَى فِيهِ مَا لَوْ أَظْهَرُهُ أَفْسَدَهُ ، وَلَا يَفْسُدُ بِالنِّيَّةِ : لِأَنَّهُ قَدْ يَنْوِي مَا لَا يَفْعَلُ وَيَفْعَلُ مَا لَا يَنْوِي ، وَأَبْطَلَهُ مَالِكٌ ، وَقَالَ : هُوَ نِكَاحُ مُحَلِّلٍ ، وَحَكَى أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ اسْتَحَبَّهُ : لِأَنَّهُ قَدْ تَصِيرُ لِلْأَوَّلِ بِإِحْلَالِهَا لَهُ . وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ خَطَأٌ ، بَلْ هُوَ صَحِيحٌ بِخِلَافِ قَوْلِ مَالِكٍ ، وَمَكْرُوهٌ بِخِلَافِ اسْتِحْبَابِ أَبِي حَنِيفَةَ ، لِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ : أَنَّ امْرَأَةً طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا ، وَكَانَ يَقْعُدُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ أَعْرَابِيٌّ مِسْكِينٌ فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ ، فَقَالَتْ لَهُ : هَلْ لَكَ فِي امْرَأَةٍ تَنْكِحُهَا فَتَبِيتُ مَعَهَا اللَّيْلَةَ ، فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَارَقْتَهَا قَالَ : نَعَمْ ، وَمَضَى فَتَزَوَّجَهَا ، وَبَاتَ مَعَهَا لَيْلَةً ، فَقَالَتْ لَهُ : سَيَقُولُونَ لَكَ

إِذَا أَصْبَحْتَ فَارِقْهَا ، لَا تَفْعَلْ ، فَإِنِّي مُقِيمَةٌ لَكَ مَا تَرَى ، وَاذْهَبْ إِلَى عُمَرَ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَوْهُ وَأَتَوْهَا ، فَقَالَتْ لَهُمْ : كَلِّمُوهُ ، فَأَنْتُمْ آتَيْتُمْ بِهِ ، فَقَالُوا لَهُ : فَارِقْهَا ، فَقَالَ : لَا أَفْعَلُ ، أَمْضَى إِلَى عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ ، فَقَالَ لَهُ : الْزَمْ زَوْجَتَكَ ، فَإِنْ رَابُوكَ بِرِيبَةٍ فَائْتِنِي ، وَبَعَثَ عُمَرُ إِلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي مَشَتْ لِذَلِكَ فَنَكَّلَ بِهَا ، وَكَانَ الْأَعْرَابِيُّ يَغْدُو وَيَرُوحُ إِلَى عُمَرَ فِي حُلَّةٍ ، فَيَقُولُ لَهُ عُمَرُ : الْحَمْدُ اللَّهِ الَّذِي كَسَاكَ يَا ذَا الرُّقْعَتَيْنِ حُلَّةً تَغْدُو فِيهَا وَتَرُوحُ . فَقَدْ أَمْضَى عُمْرُ النِّكَاحَ : فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ مَالِكٍ فِي فَسَادِهِ ، وَنَكَّلَ عُمَرُ بِالْمَرْأَةِ الَّتِي مَشَتْ فِيهِ فَدَلَّ عَلَى كَرَاهَتِهِ ، وَفَسَادِ مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنِ اسْتِحْبَابِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَقْسَامِ نِكَاحِ الْمَحَلِّلِ أحكامه ، فَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّتِهِ تَعَلَّقَ بِهِ أَحْكَامُ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ مِنْ ثُبُوتِ الْحَصَانَةِ ، وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ ، وَأَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا فِيهِ بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الطَّلَاقِ ، فَإِنْ طَلَّقَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ التَّامَّةِ فَقَدْ أَحَلَّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ ، فَأَمَّا الْمَهْرُ ، فَإِنْ لَمْ يَتَضَمَّنِ الْعَقْدُ شَرْطًا يُؤَثِّرُ فِيهِ فَالْمُسَمَّى هُوَ الْمُسْتَحَقُّ ، وَإِنْ تَضَمَّنَ شَرْطًا يُؤَثِّرُ فِيهِ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ مَهْرَ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى ، وَإِنْ قُلْنَا بِفَسَادِ الْعَقْدِ ، وَإِنَّهُ بَاطِلٌ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِيهِ لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ لَكِنْ يُعَزَّرُ لِإِقْدَامِهِ عَلَى مَنْهِيٍّ عَنْهُ ، وَلَا يَثْبُتُ بِالْإِصَابَةِ فِيهِ حَصَانَةٌ ، وَلَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ نَفَقَةٌ ، وَيَجِبُ فِيهِ بِالْإِصَابَةِ مَهْرُ الْمِثْلِ . وَهَلْ يُحِلُّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ إِذَا ذَاقَتْ عُسَيْلَتَهُ وَذَاقَ عُسَيْلَتَهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ - : أَنَّهُ يُحِلُّهَا لِلْأَوَّلِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَعْلِيلِهِ : فَقَالَ بَعْضُهُمْ : ذَوْقُ الْعُسَيْلَةِ فِي شُبْهَةِ النِّكَاحِ تَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الصَّحِيحِ مِنَ النِّكَاحِ . وَقَالَ آخَرُونَ : اخْتِصَاصُهُ بِاسْمِ الْمُحَلِّلِ مُوجِبٌ لِاخْتِصَاصِهِ بِحُكْمِ التَّعْلِيلِ . فَعَلَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ تَحِلُّ بِالْإِصَابَةِ فِي كُلِّ نِكَاحٍ فَاسِدٍ مِنْ شِغَارٍ وَمُتْعَةٍ وَبِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ ، وَعَلَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي : لَا تَحِلُّ بِغَيْرِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ مِنْ سَائِرِ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي - وَهُوَ الْجَدِيدُ الصَّحِيحُ - : أَنَّهُ لَا يُحِلُّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ لَا فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ ، وَلَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ ، حَتَّى يَكُونَ نِكَاحًا صَحِيحًا ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [ الْبَقَرَةِ : 230 ] وَهَذَا لَيْسَ بِزَوْجٍ ، وَلِأَنَّ كُلَّ إِصَابَةٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا إِحْصَانٌ لَمْ يَتَعَلَّقْ فِيهَا إِحْلَالُ الزَّوْجِ كَالْإِصَابَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ .

بَابُ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ

بَابُ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ نُبَيْهِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ عُثَمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ رُوِّينَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكَحَ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، وَهُوَ مُحْرِمٌ ، قُلْتُ رِوَايَةُ عُثْمَانَ ثَابِتَةٌ ، وَيَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ ابْنُ أُخْتِهَا ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ عَتِيقُهَا أَوِ ابْنُ عَتِيقِهَا ، يَقُولَانِ : نَكَحَهَا وَهُوَ حَلَالٌ ، وَثَالِثٌ وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَيَنْفَرِدُ عَلَيْكَ حَدِيثُ عُثْمَانَ الثَّابِتُ ، وَقُلْتُ : أَلَيْسَ أَعْطَيْتَنِي أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرْتَ فِيمَا فَعَلَ أَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ فَأَخَذْتَ بِهِ ، وَتَرَكْتَ الَّذِي يُخَالِفُهُ ؟ قَالَ : بَلَى ، قُلْتُ : فَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَيَزِيدُ بْنُ ثَابِتٍ يَرُدَّانِ نِكَاحَ الْمُحْرِمِ ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ ، وَلَا أَعْلَمُ لَهُمَا مُخَالِفًا ، فَلِمَ لَا قُلْتَ بِهِ ؟ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) فَإِنْ كَانَ الْمُحْرِمُ حَاجًّا ، فَحَتَّى يَرْمِيَ وَيَحْلِقَ وَيَطُوفَ بِالْبَيْتِ يَوْمَ النَّحْرِ أَوْ بَعْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا فَحَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَيَسْعَى وَيَحْلِقَ ، فَإِنْ نَكَحَ قَبْلَ ذَلِكَ فَمَفْسُوخٌ وَالرَّجْعَةُ وَالشَّهَادَةُ عَلَى النِّكَاحِ لَيْسَا بِنِكَاحٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الْحَجِّ أَنَّ نِكَاحَ الْمُحْرِمِ لَا يَجُوزُ ، وَدَلَّلْنَا عَلَيْهِ وَذَكَرْنَا مَنْ خَالَفَنَا فِيهِ ، وَنَحْنُ الْآنَ نُشِيرُ إِلَيْهِ ، مَتَى عُقِدَ النِّكَاحُ وَالزَّوْجُ أَوِ الزَّوْجَةُ أَوِ الْوَلِيُّ مُحْرِمٌ ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ . وَقَالَ مَالِكٌ : صَحِيحٌ ، وَيُفْسَخُ بِطَلْقِةٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : نِكَاحُهُ جَائِزٌ ، وَلَا يَلْزَمُ فَسْخَهُ : اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكَحَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ . وَبِرِوَايَةِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ الْبُضْعُ ، فَلَمْ يَمْنَعِ الْإِحْرَامُ مِنْهُ كَالرَّجْعَةِ وَشِرَاءِ الْإِمَاءِ . وَدَلِيلُنَا : رِوَايَةُ عُثْمَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ . وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : لَا يَخْطُبُ الْمُحْرِمُ وَلَا يَتَزَوَّجُ . وَرَوَى مَطَرٌ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ : مَنْ تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ نَزَعْنَا مِنْهُ امْرَأَتَهُ ، وَلَمْ يَجُزْ نِكَاحُهُ .

وَرَوَى أَبُو غَطْفَانَ عَنْ أَبِيهِ أَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَرَّقَ بَيْنَ مُحْرِمَيْنِ تَزَوَّجَا . وَرَوَى قُدَامَةُ بْنُ مُوسَى ، عَنْ شَوْذَبٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ ، فَفَرَّقَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بَيْنَهُمَا ، فَلَمَّا رُوِيَ عَنْهُمُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ، وَلَا يَسُوغُ ذَلِكَ فِي عَقْدٍ يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ ، دَلَّ عَلَى أَنَّ النَّصَّ فِيهِ ثَابِتٌ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى ثَابِتٌ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ الْإِحْرَامُ كَالْوَطْءِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ ، فَقَدْ رَوَى مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ ، عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا وَهُمَا حَلَالَانِ . وَرَوَى رَبِيعَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ حَلَالًا ، وَبَنَى بِهَا حَلَالًا ، وَكُنْتُ أَنَا الرَّسُولُ بَيْنَهُمَا . وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ ، فَضَعِيفٌ لَا أَصْلَ لَهُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ ، وَإِنْ صَحَّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ ، عَلَى أَنَّ أَبَا الطِّيِّبِ ابْنَ سَلَمَةَ جَعَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصًا بِالنِّكَاحِ فِي الْإِحْرَامِ . وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى شِرَاءِ الْإِمَاءِ ، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الِاسْتِمْتَاعَ ، لِجَوَازِ شِرَاءِ الْمُعْتَدَّةِ وَذَاتِ الْمَحْرَمِ ، وَكَذَلِكَ الْمُحْرِمَةُ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ الِاسْتِمْتَاعُ ، إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ مُعْتَدَّةً وَلَا ذَاتَ مَحْرَمٍ وَكَذَلِكَ الْمُحْرِمَةُ . فَأَمَّا الرَّجْعَةُ فَتَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ : لِأَنَّهَا سَدُّ ثَلْمٍ فِي الْعَقْدِ وَرَفْعُ تَحْرِيمٍ طَرَأَ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَتْ عَقْدًا مُبْتَدَأً ، فَجَازَتْ فِي الْإِحْرَامِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ يُرَاجِعُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْكِحَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، اعْتِبَارًا بِهَذَا الْمَعْنَى .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا أَنَّ نِكَاحَ الْمُحْرِمِ بَاطِلٌ ، فَمَتَى كَانَ الزَّوْجُ مُحْرِمًا ، فَوَكَّلَ حَلَالًا فِي الْعَقْدِ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا : لِأَنَّهُ نِكَاحٌ لِمُحْرِمٍ ، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ حَلَالًا فَوَكَّلَ مُحْرِمًا في عقد النكاح كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا : لِأَنَّهُ نِكَاحٌ عَقَدَهُ مُحْرِمٌ ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْوَلِيُّ مُحْرِمًا ، فَوَكَّلَ حَلَالًا أَوْ كَانَ حَلَالًا فَوَكَّلَ مُحْرِمًا ، كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا . فَأَمَّا الْحَاكِمُ إِذَا كَانَ مُحْرِمًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ مُسْلِمَةً . وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ كَافِرَةً أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ كَالْمُسْلِمَةِ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّهُ لَا يُزَوِّجُهَا بِوِلَايَةٍ ، وَإِنَّمَا يُزَوِّجُهَا لِحُكْمٍ فَجَرَى مَجْرَى سَائِرِ أَحْكَامِهِ فِي إِحْرَامِهِ .

فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْإِمَامُ مُحْرِمًا هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ أَمْ لَا ؟ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ ، وَلَا يُزَوِّجَ . وَهَلْ يَجُوزُ لِخُلَفَائِهِ مِنَ الْقُضَاةِ الْمُحِلِّينَ خلفاء الإمام هَلْ يَجُوزُ لَهم أَنْ يُزَوِّجوا أَمْ لَا ؟ أَنْ يُزَوِّجُوا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجُوا ، كَوُكَلَاءِ الْمُحْرِمِ . وَالْوَجْهِ الثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجُوا : لِعُمُومِ وَلَايَاتِهِمْ وَنُفُوذِ أَحْكَامِهِمْ ، فَخَالَفُوا الْوُكَلَاءَ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْخَطِيبِ فِي عَقْدٍ فَالنِّكَاحِ جَائِزٍ : لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ بِغَيْرِ خِطْبَةٍ ، وَلَوْ كَانَ الشُّهُودُ مُحْرِمِينَ حكم عقد النكاح ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ - : أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ : لِأَنَّ الشُّهُودَ شَرْطٌ فِي الْعَقْدِ كَالْوَلِيِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - : أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ : لِأَنَّ الشُّهُودَ غَيْرُ مَعْنِيِّينَ فِي النِّكَاحِ ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِمْ شُرُوطُ مَنْ يَتَعَيَّنُ فِي النِّكَاحِ ، أَلَّا تَرَى أَنَّ نِكَاحَ الْكَافِرَةِ إِذَا عَقَدْنَاهُ لَمْ يَصِحَّ إِلَّا بِوَلِيٍّ كَافِرٍ وَشُهُودٍ مُسْلِمِينَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

الْعَيْبُ فِي الْمَنْكُوحَةِ

الْعَيْبُ فِي الْمَنْكُوحَةِ ، مِنْ كِتَابِ نِكَاحِ الْجَدِيدِ ، وَمِنَ النِّكَاحِ الْقَدِيمِ ، وَمِنَ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ ، إِمْلَاءً عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : أَخْبَرَنَا مَالِكُ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ : قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ، وَبِهَا جُنُونٌ أَوْ جُذَامٌ أَوْ بَرَصٌ ، فَمَسَّهَا ، فَلَهَا صَدَاقُهَا ، وَذَلِكَ لِزَوْجِهَا غُرْمٌ عَلَى وَلِيِّهَا ، وَقَالَ أَبُو الشَّعْثَاءِ : أَرْبَعٌ لَا يَجُزْنَ فِي النِّكَاحِ إِلَّا أَنْ تُسْمَى : الْجُنُونُ ، وَالْجُذَامُ ، وَالْبَرَصُ ، وَالْقَرَنُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ النِّكَاحَ يُفْسَخُ بِالْعُيُوبِ ، وَالْعُيُوبُ الَّتِي يُفْسَخُ بِهَا النِّكَاحُ تُسْتَحَقُّ مِنَ الْجِهَتَيْنِ فَيَسْتَحِقُّهَا الزَّوْجُ إِذَا وُجِدَتْ بِالزَّوْجَةِ الْعُيُوبُ الَّتِي يُفْسَخُ بِهَا النِّكَاحُ ، وَهِيَ خَمْسَةُ عُيُوبٍ : الْجُنُونُ ، وَالْجُذَامُ ، وَالْبَرَصُ ، وَالْقَرَنُ وَالرَّتْقُ ، وَتَسْتَحِقُّهَا الزَّوْجَةُ إِذَا وَجَدَتْهَا بِالزَّوْجِ الْعُيُوبُ الَّتِي يُفْسَخُ بِهَا النِّكَاحُ ، وَهِيَ خَمْسَةٌ : الْجُنُونُ وَالْجُذَامُ وَالْبَرَصُ وَالْجَبُّ وَالْعُنَّةُ ، فَيَشْتَرِكَانِ فِي الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ ، وَتَخْتَصُّ الزَّوْجَةُ بِالْقَرَنِ وَالرَّتْقِ ، وَيَخْتَصُّ الزَّوْجُ بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ ، وَلَا يُفْسَخُ نِكَاحُهُمَا بِغَيْرِ هَذِهِ الْعُيُوبِ ، مِنْ عَمَى أَوْ زَمَانَةٍ أَوْ قُبْحٍ أَوْ غَيْرِهِ . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمْرُ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ . وَمِنَ التَّابِعِينَ : أَبُو الشَّعْثَاءِ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ : الْأَوْزَاعِيُّ ، وَمَالِكٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَفْسَخَ النِّكَاحَ بِشَيْءٍ مِنَ الْعُيُوبِ ، وَلَا لِلْمَرْأَةِ أَنَّ تَفْسَخَ إِلَّا بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ دُونَ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ ، وَبِأَنْ لَا يُفْسَخَ النِّكَاحُ بِعَيْبٍ . قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ، وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ : لِلزَّوْجَةِ أَنَّ تَفْسَخَ بِهَذِهِ الْعُيُوبِ فِي الزَّوْجِ ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَفْسَخَ بِهَا : لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِيَدِهِ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي النِّكَاحِ هُوَ الِاسْتِبَاحَةُ ، وَلَيْسَ فِي الِاسْتِبَاحَةِ عَيْبٌ ، وَإِنَّمَا الْعَيْبُ فِي الْمُسْتَبِيحَةِ فَلَمْ يَشْتَبِهْ خِيَارُ إِسْلَامِهِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، قَالَ : وَلِأَنَّهُ عَيْبٌ فِي الْمَنْكُوحَةِ فَلَمْ يُفْسَخْ نِكَاحُهَا قِيَاسًا عَلَى مَا سِوَى الْعُيُوبِ الْخَمْسَةِ ، قَالَ : وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ لَمْ يُفْسَخْ بِنُقْصَانِ الْأَجْزَاءِ لَمْ يُفْسَخْ بِتَغَيُّرِ الصِّفَاتِ كَالْهِبَةِ طَرْدًا وَالْبُيُوعِ عَكْسًا . قَالَ : وَلِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ إِنْ جَرَى مَجْرَى عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبُيُوعِ وَجَبَ أَنْ يُفْسَخَ بِكُلِّ عَيْبٍ ، وَإِنْ جَرَى مَجْرَى غَيْرِهَا مِنْ عُقُودِ الْهِبَاتِ وَالصِّلَاتِ وَجَبَ أَنْ لَا يُفْسَخَ بِعَيْبٍ ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنْ لَا يُفْسَخَ بِكُلِّ الْعُيُوبِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفْسَخُ بِشَيْءٍ مِنَ الْعُيُوبِ .

وَدَلِيلُنَا : مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ ، فَوَجَدَ بِكَشْحِهَا بَيَاضًا فَرَدَّهَا ، وَقَالَ : دَلَّسْتُمْ عَلَيَّ . وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ هُوَ أَنَّهُ لَمَّا نَقَلَ الْعَيْبَ وَالرَّدَّ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ لِأَجْلِ الْعَيْبِ . فَإِنْ قِيلَ : فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ طَلَّقَهَا لِأَجْلِ الْعَيْبِ كَالَّتِي قَالَتْ لَهُ حِينَ تَزَوَّجَهَا : أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ ، فَقَالَ : لَقَدِ اسْتَعَذْتِي بِمُعَاذٍ فَالْحَقِي بِأَهْلِكِ ، فَكَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا مِنْهُ : لِأَجْلِ اسْتِعَاذَتِهَا مِنْهُ ، قِيلَ : لَا يَصِحُّ هَذَا التَّأْوِيلُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِأَنَّهُ خَالَفَ الظَّاهِرَ : لِأَنَّ نَقْلَ الْحُكْمِ مَعَ السَّبَبِ يَقْتَضِي تَعَلُّقَهُ بِهِ كَتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ ، وَالطَّلَاقُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْبِ كَتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ ، وَإِنْ كَانَ دَاعِيًا إِلَيْهِ فَلَمْ يَصِحَّ حَمْلُهُ عَلَيْهِ ، وَخَالَفَ حَالُ طَلَاقِهِ لِلْمُسْتَعِيذَةِ : لِأَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ لَيْسَتْ عَيْبًا يُوجِبُ الرَّدَّ ، فَعَدَلَ بِهِ إِلَى الطَّلَاقِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الرَّدَّ صَرِيحٌ فِي الْفَسْخِ ، وَكِنَايَةٌ فِي الطَّلَاقِ ، وَحُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى مَا هُوَ صَرِيحٌ فِيهِ . وَرَوَى أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اجْتَنِبُوا مِنَ النِّكَاحِ أَرْبَعَةً : الْجُنُونُ ، وَالْجُذَامُ ، وَالْبَرَصُ ، وَالْقَرَنُ فَدَلَّ تَخْصِيصُهُ لِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ عُيُوبِ النِّكَاحِ عَلَى اخْتِصَاصِهَا بِالْفَسْخِ . وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ : هُوَ أَنَّهُ عَيْبٌ يَمْنَعُ غَالِبَ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ ، فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ خِيَارَ الْفَسْخِ كَالْجَبِّ ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الصِّغَرُ وَالْمَرَضُ : لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِعَيْبٍ ، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ الَّذِي يَلْزَمُ مِنَ الْجِهَتَيْنِ إِذَا احْتَمَلَ الْفَسْخَ وَجَبَ أَنْ يَجْرِيَ الْفَسْخُ فِي جِنْسِ الْعَقْدِ ، وَلِأَنَّهُ عَيْبٌ مَقْصُودٌ بِعَقْدِ النِّكَاحِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْفَسْخَ كَالْعَيْبِ فِي الصَّدَاقِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ رَدَّ عِوَضٍ مَلَكَ عَلَيْهِ رَدَّ الْمُعَوَّضَ كَالثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ فِي الْبَيْعِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الِاسْتِبَاحَةُ ، وَلَيْسَ فِيهَا عَيْبٌ ، فَهُوَ أَنَّ هَذَا فَاسِدٌ : لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الِاسْتِمْتَاعُ الْمُسْتَبَاحُ ، وَهَذِهِ عُيُوبٌ فِيهِ كَمَا أَنَّ زَمَانَةَ الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجِرِ عَيْبٌ فِي مَنَافِعِهِ فَاسْتَحَقَّ بِهَا الْفَسْخَ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَا سِوَى الْخَمْسَةِ مِنَ الْعُيُوبِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ تِلْكَ الْعُيُوبَ لَا تَمْنَعُ مَقْصُودَ الْعَقْدِ ، وَلَا تُنَفِّرُ النُّفُوسَ مِنْهَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَذِهِ الْخَمْسَةُ : لِأَنَّهَا إِمَّا مَانِعَةً مِنَ الْمَقْصُودِ ، أَوْ مُنَفِّرَةً لِلنُّفُوسِ فَافْتَرَقَا . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْهِبَةِ بِعِلَّةِ أَنَّهَا لَا تُفْسَخُ بِنُقْصَانِ الْأَجْزَاءِ فَهَذَا الْوَصْفُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ : لِأَنَّهُ يُسْتَحَقُّ بِالْجَبِّ ، وَهُوَ نُقْصَانُ جُزْءٍ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْهِبَةِ ، أَنَّهُ لَا عِوَضَ فِيهَا فَيَلْحَقَهُ ضَرَرٌ

بِالْعَيْبِ ، وَالنِّكَاحُ بِخِلَافِهِ ، وَعَلَى أَنَّ فَسْخَهُ بِالْعَنَتِ وَهُوَ يُعْتَبَرُ صِفَةً تَمْنَعُ مِنِ اطِّرَادِ هَذَا التَّعْلِيلِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُفْسَخَ بِكُلِّ الْعُيُوبِ كَالْبُيُوعِ أَوْ لَا يُفْسَخُ الشَّيْءُ مِنْهَا كَالْهِبَاتِ . فَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّهُ بِالْبُيُوعِ أَخَصُّ : لِأَنَّهُمَا عَقْدَا مُعَاوَضَةٍ غَيْرَ أَنَّ جَمِيعَ الْعُيُوبِ تُؤَثِّرُ فِي نُقْصَانِ الثَّمَنِ فَاسْتُحِقَّ بِجَمِيعِهَا الْفَسْخُ ، وَلَيْسَ كُلُّ الْعُيُوبِ تُؤَثِّرُ فِي نُقْصَانِ الِاسْتِمْتَاعِ ، فَلَمَّ يُتْسَحَقَّ بِجَمِيعِهَا الْفَسْخُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " الْقَرَنُ الْمَانِعُ لِلْجِمَاعِ : لِأَنَّهَا فِي غَيْرِ مَعْنَى النِّسَاءِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْعُيُوبِ الَّتِي يُفْسَخُ بِهَا عَقْدُ النِّكَاحِ وَأَجْنَاسُهَا سَبْعَةٌ : اثْنَانِ يَخْتَصُّ بِهِمَا الرَّجُلُ ، وَهُمَا : الْجَبُّ وَالْعُنَّةُ ، وَاثْنَانِ تَخْتَصُّ بِهِمَا النِّسَاءُ ، وَهُمَا : الرَّتْقُ ، وَالْقَرَنُ ، وَثَلَاثَةٌ يَشْتَرِكُ فِيهَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَهِيَ : الْجُنُونُ ، وَالْجُذَامُ ، وَالْبَرَصُ . فَأَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِهِ الرِّجَالُ من الْعُيُوبِ الَّتِي يُفْسَخُ بِهَا عَقْدُ النِّكَاحِ مِنَ الْعُنَّةِ فَلَهُ بَابٌ يَأْتِي . وَأَمَّا الْجَبُّ : فَهُوَ قَطْعُ الذَّكَرِ ، فَإِنْ كَانَ جَمِيعُهُ مَقْطُوعًا فَلَهَا الْخِيَارُ : لِأَنَّهُ أَدْوَمُ ضَرَرًا مِنَ الْعُنَّةِ الَّتِي يُرْجَى زَوَالُهَا ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الذَّكَرِ مَقْطُوعًا نُظِرَ فِي بَاقِيهِ ، فَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِيلَاجِهِ إِمَّا لِضَعْفِهِ أَوْ لِصِغَرِهِ فَلَهَا الْخِيَارُ ، وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إِيلَاجِهِ فَفِي خِيَارِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ الصَّحِيحُ - : أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهَا : لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى صِغَرِ الذَّكَرِ الَّذِي لَا خِيَارَ فِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَهَا الْخِيَارُ : لِأَنَّهُ نَقْصٌ لَا تَكْمُلُ بِهِ الْإِصَابَةُ . وَأَمَّا الْخِصَاءُ : وَهِيَ قَطْعُ الْأُنْثَيَيْنِ مَعَ بَقَاءِ الذَّكَرِ ، فَفِي كَوْنِهِ عَيْبًا يُوجِبُ خِيَارَهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ بِعَيْبٍ ، وَلَا خِيَارَ لَهَا فِيهِ : لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْإِيلَاجِ ، وَأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ أَمْتَعَ إِصَابَةً . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ عَيْبٌ ، وَلَهَا الْخِيَارُ : لِأَنَّهُ نَقْصٌ يُعْدَمُ مَعَهُ النَّسْلُ . وَلَوْ كَانَ خُنْثَى لَهُ فَرْجٌ زَائِدٌ ، أَوْ كَانَتْ خُنْثَى لَهَا ذَكَرٌ زَائِدٌ ، فَفِي كَوْنِهِ عَيْبًا يُوجِبُ الْخِيَارَ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ بِعَيْبٍ : لِأَنَّهَا زِيَادَةُ عُضْوٍ ، فَأَشْبَهَ الْإِصْبَعَ الزَّائِدَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ عَيْبٌ : لِأَنَّهُ نَقْصٌ يُعَافُّ . فَأَمَّا مَا تَخْتَصُّ بِهِ الْمَرْأَةُ من الْعُيُوبِ الَّتِي يُفْسَخُ بِهَا عَقْدُ النِّكَاحِ مِنَ الْقَرَنِ وَالرَّتْقِ : فَالْقَرَنُ : هُوَ عَظَمٌ يَعْتَرِضُ الرَّحِمِ يَمْنَعُ مِنَ الْإِصَابَةِ ، وَالرَّتْقُ : لَحْمٌ يَسُدُّ مَدْخَلَ الذَّكَرِ فَلَا تُمْكِنَ مَعَهُ الْإِصَابَةُ ، وَلَهُ الْخِيَارُ فِيهِمَا ، وَلَا يُمْكِنُهَا شَقُّ الْقَرَنِ ، وَيُمْكِنُهَا شَقُّ الرَّتْقِ إِلَّا أَنَّهَا لَا

تَخَيُّرُ بِشِقِّهِ : لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَيْهَا ، فَإِنَّ شَقَّتْهُ بَعْدَ فَسْخِ الزَّوْجِ لَمْ يُؤَثِّرْ بَعْدَ وُقُوعِ الْفَسْخِ ، وَإِنْ شَقَّتْهُ قَبْلَ فَسْخِهِ فَفِي خِيَارِ الزَّوْجِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ الْخِيَارُ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ . وَالثَّانِي : لَا خِيَارَ لَهُ اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ . فَأَمَّا الْإِفْضَاءُ : وَهُوَ أَنْ يَنْخَرِقَ الْحَاجِزُ الَّذِي بَيْنَ مَدْخَلِ الذَّكَرِ وَمَخْرَجِ الْبَوْلِ فَتَصِيرُ مُغَطَّاةً ، فَلَا خِيَارَ فِيهِ : لِإِمْكَانِ الْإِصَابَةِ التَّامَّةِ مَعَهُ . فَلَوْ كَانَتْ عَاقِرًا لَا تَلِدُ ، أَوْ كَانَ الزَّوْجُ عَقِيمًا لَا يُولَدُ لَهُ فَلَا خِيَارَ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا : لِأَنَّهُ مَظْنُونٌ ، وَرُبَّمَا زَالَ بِتَنَقُّلِ الْأَمْنَيْنِ . فَأَمَّا الْعَفْلَاءُ : فَفِي الْعَفَلَةِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَحْمٌ مُسْتَدِيرٌ يَنْبُتُ فِي الرَّحِمِ بَعْدَ ذَهَابِ الْعُذْرَةِ ، وَلَا يَنْبُتُ مَعَ الْبَكَارَةِ . وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : أَنَّهُ وَرَمٌ يَكُونُ فِي اللَّحْمَةِ الَّتِي فِي قُبُلِ الْمَرْأَةِ ، يَضِيقُ بِهِ فَرْجُهَا حَتَّى لَا يَنْفُذَ فِيهِ الذَّكَرُ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ مَبَادِئُ الرَّتْقِ ، وَهُوَ لَحْمٌ يَزِيدُ فِي الْفَرْجِ حَتَّى يَصِيرَ رَتْقًا ، فَيُسَدُّ بِهِ الْفَرْجُ فَلَا يَنْفُذُ فِيهِ الذَّكَرُ ، فَإِنْ كَانَ الْعَقْلُ يُكْمِلُ مَعَهُ الِاسْتِمْتَاعَ التَّامَّ ، فَلَا خِيَارَ فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يُكْمِلْ مَعَهُ الِاسْتِمْتَاعَ : لِضِيقِ الْفَرْجِ أَوِ انْسِدَادِهِ حَتَّى لَا يُمْكِنَ إِيلَاجُ الذَّكَرِ ، فَفِيهِ الْخِيَارُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْعُيُوبُ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وأثرها في النكاح وَهِيَ ثَلَاثَةٌ : أَحَدُهَا : الْجُنُونُ ، وَهُوَ زَوَالُ الْعَقْلِ الَّذِي يَكُونُ مَعَهُ تَأْدِيَةُ حَقٍّ سَوَاءٌ خِيفَ مِنْهُ أَمْ لَا ، وَهُوَ ضَرْبَانِ : مُطْبِقٌ لَا يَتَخَلَّلُهُ إِفَاقَةٌ ، وَغَيْرُ مُطْبِقٍ يَتَخَلَّلُهُ إِفَاقَةٌ فَيُجَنُّ تَارَةً وَيَفِيقُ أُخْرَى ، وَكِلَاهُمَا سَوَاءٌ ، وَفِيهِمَا الْخِيَارُ سَوَاءٌ قَلَّ زَمَانُ الْجُنُونِ أَوْ كَثُرَ : لِأَنَّ قَلِيلَهُ يَمْنَعُ مِنْ تَأْدِيَةِ الْحَقِّ فِي زَمَانِهِ ، وَلِأَنَّ قَلِيلُهُ كَثِيرًا ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِالزَّوْجِ أَوْ بِالزَّوْجَةِ . فَأَمَّا الْإِغْمَاءُ : فَهُوَ زَوَالُ الْعَقْلِ بِمَرَضٍ ، فَلَا خِيَارَ فِيهِ كَالْمَرَضِ ، وَأَنَّهُ عَارِضٌ يُرْجَى زَوَالُهُ ، وَأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ حُدُوثُ مِثْلِهِ بِالْأَنْبِيَاءِ الَّذِي لَا يَحْدُثُ بِهِمْ جُنُونٌ ، فَإِنْ زَالَ الْمَرَضُ فَلَمْ يَزَلْ مَعَهُ الْإِغْمَاءُ صَارَ حِينَئِذٍ جُنُونًا يَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ . وَأَمَّا الْبَلَهُ : فَهُوَ غَلَبَةُ السَّلَامَةِ فَيَكُونُ الْأَبْلَهُ سَلِيمَ الصَّدْرِ ضَعِيفَ الْعَزْمِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا بُلْهًا " ، يَعْنِي الَّذِينَ غَلَبَتِ السَّلَامَةُ عَلَى صُدُورِهِمْ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : وَلَقَدْ لَهَوْتُ بِطِفْلَةٍ مَيَّالَةٍ بَلْهَاءَ تُطْلِعُنِي عَلَى أَسْرَارِهَا

فَلَا خِيَارَ فِي الْبَلَهِ : لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ كَامِلٌ ، وَكَذَلِكَ لَا خِيَارَ فِي الْحُمْقِ وَقِلَّةِ الضَّبْطِ : لِكَمَالِ الِاسْتِمْتَاعِ مَعَهُمَا ، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ تَدْبِيرِ الْمَنْزِلِ وَتَرْبِيَةِ الْوَلَدِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تَسْتَرْضِعُوا الْحَمْقَى فَإِنَّ صُحْبَتَهَا بَلَاءٌ وَوَلَدَهَا ضَيَاعٌ " .

فَصْلٌ : وَالثَّانِي مِنْ عُيُوبِهِمَا : الْجُذَامُ صفته وأثره في النكاح وَهُوَ عَفَنٌ يَكُونُ فِي الْأَطْرَافِ وَالْأَنْفِ يَسْرِي فِيهِمَا حَتَّى يَسْقُطَ فَتُبْطِلُ ، وَرُبَّمَا سَرَى إِلَى النَّسْلِ وَتَعَدَّى إِلَى الْخَلِيطِ ، وَالنَّفْسُ تَعَافُّهُ وَتَنْفُرُ مِنْهُ ، فَلَا يَسْمَحُ بِالْمُخَالَطَةِ وَلَا تُحَبِّبُ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ ، وَقَدْ رَوَى سَعِيدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِرُّوا مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكُمْ مِنَ الْأَسَدِ . وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُبَايِعَهُ ، فَمَدَّ يَدًا جَذْمَاءَ ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَضَ يَدَهُ وَلَمْ يُصَافِحْهُ ، وَقَالَ : اذْهَبْ فَقَدْ بَايَعْنَاكَ ، فَفِي الْجُذَامِ الْخِيَارُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا : لِأَنَّ قَلِيلُهُ يَصِيرُ كَثِيرًا ، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ . فَأَمَّا الزَّعَرُ صفته وأثره في النكاح : فَهُوَ مِنْ مَبَادِئَ الْجُذَامِ ، وَرُبَّمَا بَرِئَ وَلَمْ يَصِرْ جُذَامًا ، وَيَقَعُ فِي الْحَاجِبَيْنِ فَيُنَاثِرُ بِهِ الشَّعَرُ ، وَفِي الْأَنْفِ فَيَتَغَيَّرُ بِهِ الْجِلْدُ ، وَلَا خِيَارَ فِيهِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجُذَامٍ عَادِيٍّ وَلَا النُّفُوسُ مِنْهُ نَافِرَةً ، فَلَوِ اخْتَلَفَا فِيهِ فَادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّ بِهَا جُذَامًا ، وَقَالَتْ : بَلْ هُوَ زَعَرٌ وَقَفَ عَلَيْهِ عَدْلَانِ مِنْ عُلَمَاءِ الطِّبِّ ، فَإِنْ قَالَا : هُوَ جُذَامٌ ثَبَتَ فِيهِ الْخِيَارُ ، وَإِنْ قَالَا : زَعَرٌ فَلَا خِيَارَ فِيهِ ، وَإِنْ أُشْكِلَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا أَنَّهُ زَعَرٌ وَلَا خِيَارَ فِيهِ : لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْخِيَارِ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ مَا يُوجِبُهُ .

فَصْلٌ : وَالثَّالِثُ مِنْ عُيُوبِهِمَا : الْبَرَصُ صفته وأثره في النكاح : وَهُوَ حُدُوثُ بَيَاضٍ فِي الْجِلْدِ يَذْهَبُ مَعَهُ دَمُ الْجِلْدِ وَمَا تَحْتَهُ مِنَ اللَّحْمِ وَفِيهِ عَدْوَى إِلَى النَّسْلِ وَالْمُخَالِطِينَ ، وَتَعَافَّهُ النُّفُوسُ وَتَنْفِرُ مِنْهُ ، فَلَا يَكْمُلُ مَعَهُ الِاسْتِمْتَاعُ ، وَلِذَلِكَ رَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِكَاحَ امْرَأَةٍ وَجَدَ بِكَشْحِهَا بَيَاضًا ، وَفِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ الْخِيَارُ : لِأَنَّ قَلِيلَهُ يَصِيرُ كَثِيرًا ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِالزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ . فَأَمَّا الْبَهَقُ : فَتَغَيُّرُ لَوْنِ الْجِلْدِ ، وَلَا يَذْهَبُ بِدَمِهِ وَيَزُولُ ، وَلَا تَنْفِرُ مِنْهُ النُّفُوسُ ، فَلَا خِيَارَ فِيهِ ، فَلَوِ اخْتَلَفَا فَقَالَ الزَّوْجُ : هَذَا الْبَيَاضُ بَرَصٌ وَلِي الْخِيَارُ ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ : بَلْ هُوَ بَهَقٌ فَلَا خِيَارَ ، وَقَفَ عَلَيْهِ عَدْلَانِ مِنْ عُلَمَاءِ الطِّبِّ ، وَعَمِلَ عَلَى قَوْلِهِمَا فِيهِ ، فَإِنْ أُشَكِلَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا أَنَّهُ بَهَقٌ وَلَا خِيَارَ فِيهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ جَعَلَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجُذَامِ وَالْبَرَصِ عَدْوَى ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الطَّبَائِعِ ، وَقَدْ كَذَّبَهُ الشَّرْعُ وَمَنَعَ مِنْهُ ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ . فَقِيلَ لَهُ : أَمَا تَرَى النُّكْتَةَ مِنَ الْجَرَبِ فِي شَفْرِ الْبَعِيرِ فَتَعْدُوا إِلَى سَائِرِهِ وَإِلَى غَيْرِهِ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ " ، أَيْ إِذَا كَانَ الْأَوَّلُ بِغَيْرِ عَدْوَى كَانَ مَا بَعْدَهُ ، وَفِي غَيْرِهِ بِغَيْرِ عَدْوَى .

قِيلَ : إِنَّمَا مَنْعُ الشَّرْعِ مِنْ أَنَّ الطَّبِيعَةَ هِيَ الَّتِي تُحْدِثُ الْعَدْوَى كَمَا يَزْعُمُ الطِّبُّ ، وَلَا يَمْنَعُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ فِيهَا الْعَدْوَى كَمَا جَعَلَ فِي النَّارِ الْإِحْرَاقَ ، وَفِي الطَّعَامِ الشِّبَعَ ، وَفِي الْمَاءِ الرِّيَّ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ ذُو عَاهَةٍ عَلَى مُصِحٍّ ، وَامْتَنَعَ مِنْ مُبَايَعَةِ الْأَجْذَامِ . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ تَوَجَّهَ إِلَى الشَّامِ ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى سَرْغَ تَلَقَّاهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ وَأَخْبَرُوهُ بِحُدُوثِ الطَّاعُونِ بِالشَّامِ ، فَتَوَقَّفَ عَنِ الْمَسِيرِ وَشَاوَرَ الْمُهَاجِرِينَ فِي الْمَسِيرِ أَوِ الرُّجُوعِ فَاخْتَلَفُوا ، وَشَاوَرَ الْأَنْصَارَ فَاخْتَلَفُوا ، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ غَائِبًا عَنْهُمْ فَحَضَرَ فَشَاوَرَهُ عُمَرُ ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : إِنَّ عِنْدِي فِي هَذَا عِلْمًا ، قَالَ عُمْرُ : مَا هُوَ ؟ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ فِي وَادٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ ، وَإِذَا وَقَعَ وَأَنْتُمْ فِيهِ فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهُ ، فَحَمِدَ عُمَرُ اللَّهَ تَعَالَى وَرَجَعَ وَرَجَعَ النَّاسُ مَعَهُ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " لَبَنُ الْحَمْقَى يُعْدِي " . فَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ " فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ رَدُّ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ إِلَّا مِنْ عَدْوَى الْأَوَّلِ ، وَلَوْلَاهُ مَا جَرِبَتْ ، وَقَالَ : " مِنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ " أَيْ إِذَا كَانَ الْأَوَّلُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، يَعْنِي عَدْوَى كَانَ مَا بَعْدَهُ مِنْهُ . فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ أَضَافَ الشَّافِعِيُّ الْعَدْوَى إِلَى الْجُذَامِ وَالْبَرَصِ ، وَلَمْ يُضِفْهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى . قِيلَ : عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ وَالتَّوَسُّعِ فِي الْعِبَارَةِ كَمَا يُقَالُ : طَالَتِ النَّخْلَةُ ، وَقَصُرَ اللَّيْلُ ، وَأَثْمَرَتِ الشَّجَرَةُ ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَحْكَامِ الْعُيُوبِ فَوَجَدَ الزَّوْجُ بِالزَّوْجَةِ قَلِيلًا مِنْ بَرَصٍ أَوْ جُذَامٍ عَرَضَ بِهِ فَانْتَشَرَ وَزَادَ حَتَّى صَارَ كَثِيرًا لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ : لِأَنَّ الرَّاضِي بِقَلِيلِهِ رَاضٍ بِكَثِيرِهِ ، وَلِأَنَّ قَلِيلَهُ فِي الْغَالِبِ يَصِيرُ كَثِيرًا ، وَلَوْ ظَهَرَ بِهَا بَرَصٌ فِي غَيْرِ الْمَكَانِ الْأَوَّلِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الثَّانِي أَقْبَحَ مَنْظَرًا مِنَ الْأَوَّلِ كَأَنَّهُ كَانَ الْأَوَّلُ فِي فَخْذِهَا وَحَدَثَ الثَّانِي فِي وَجْهِهَا ، فَلَهُ الْخِيَارُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي " الْإِمْلَاءِ " : لِأَنَّ النَّفْسَ مِنَ الثَّانِي أَشَدُّ نُفُورًا مِنَ الْأَوَّلِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْأَوَّلِ فِي الْقُبْحِ ، كَأَنَّهُ كَانَ الْأَوَّلُ فِي يَدِهَا الْيُمْنَى وَالثَّانِي فِي يَدِهَا الْيُسْرَى ، فَفِيهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : لَهُ الْخِيَارُ : لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي غَيْرِ مَكَانِ الْأَوَّلِ كَانَ عَيْبًا غَيْرَ الْأَوَّلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا خِيَارَ : لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ كَالْمُتَّصِلِ ، فَلَوْ رَضِيَ بِبَرَصِهَا ، فَظَهَرَ بِهَا جُذَامٌ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ بِالْجُذَامِ دُونَ الْبَرَصِ : لِأَنَّهُ قَدْ تَأْنَفُ نَفْسُهُ الْجُذَامَ ، وَلَا تَعَافُّ الْبَرَصَ ، وَلَوْ كَانَ بِهَا جُذَامٌ أَوْ بَرَصٌ فَلَمْ يَخْتَرْ فَسْخَ نِكَاحِهَا حَتَّى زَالَ وَبَرِئَ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَزُولَ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهِ ، فَلَا خِيَارَ بِعَدَمِ مَا يُوجِبُهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَزُولَ بَعْدَ عِلْمِهِ وَقَبْلَ فَسْخِهِ بِعُذْرٍ آخَرَ عَنْهُ ، فَفِي خِيَارِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ الْخِيَارُ : اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ . وَالثَّانِي : لَا خِيَارَ لَهُ : اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ . فَلَوْ وَجَدَ الزَّوْجُ بِهَا عَيْبًا وَوَجَدَتْ بِالزَّوْجِ عَيْبًا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَخْتَلِفَ الْعَيْبَانِ ، فَيَكُونُ عَيْبُ أَحَدِهِمَا جُذَامًا وَعَيْبُ الْآخَرِ بَرَصًا ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ الْخِيَارُ بِعَيْبِ صَاحِبِهِ : لِأَنَّ الْمَجْذُومَ قَدْ يَعَافُّ الْأَبْرَصَ ، وَالْأَبْرَصُ قَدْ يَعَافُّ الْمَجْذُومَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَتَسَاوَى الْعَيْبَانِ ، فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَرَصٌ أَوْ جُذَامٌ ، فَفِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا خِيَارَ لِتَكَافُئِهِمَا ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِنَقْصِ أَحَدِهِمَا عَنْ حَالَةِ صَاحِبِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارَ : لِأَنَّهُ قَدْ يَعَافُّ مِنْ غَيْرِهِ مَا لَا يَعَافُّهُ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ بُصَاقٍ وَمُخَاطٍ وَأَذًى ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنِ اخْتَارَ فِرَاقَهَا قَبْلَ الْمَسِيسِ الزَّوْجُ يجد بِالزَّوْجَةِ بَرَصاً أَوْ جُذَاماً فَلَا نِصْفَ مَهْرٍ وَلَا مُتْعَةَ ، وَإِنِ اخْتَارَ فِرَاقَهَا بَعْدَ الْمَسِيسِ فَصَدَّقَتْهُ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ الزَّوْجُ يجد بِالزَّوْجَةِ بَرَصاً أَوْ جُذَاماً فَلَهُ ذَلِكَ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا بِالْمَسِيسِ وَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ فِي عِدَّتِهَا وَلَا سُكْنَى وَلَا يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ عَلَيْهَا وَلَا عَلَى وَلِيِّهَا : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الَّتِي نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا : فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ، فَإِنْ مَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا ، وَلَمْ يَرُدَّهُ بِهِ عَلَيْهَا وَهِيَ الَّتِي غَرَّتْهُ فَهُوَ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ الَّذِي لِلزَّوْجِ فِيهِ الْخِيَارُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ لِلْمَرْأَةِ ، وَإِذَا كَانَ لَهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَغْرَمَهُ وَلِيُّهَا ، وَقَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الَّتِي نُكِحَتْ فِي عِدَّتِهَا أَنَّ لَهَا الْمَهْرَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا فُسِخَ النِّكَاحُ بِأَحَدِ الْعُيُوبِ فِي أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا مَهْرَ لَهَا وَلَا مُتْعَةَ ، سَوَاءٌ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110