كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

[ الْقَوْلُ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ ] . وَيَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ حكمه . وَفِي جَوَازِ تَخْصِيصِهِ بِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ حكم تخصيص العموم وَجْهَانِ . فَإِذَا عَدِمَ الْمُجْتَهِدُ أَدِلَّةَ التَّخْصِيصِ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْعُمُومِ عَلَى الْعُمُومِ . فَإِذَا خُصَّ الْعُمُومُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحَدِ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ جَازَ الْقِيَاسُ عَلَى الْمَخْصُوصِ مِنَ الْعُمُومِ وَلَمْ يَجُزِ الْقِيَاسُ عَلَى الْبَاقِي مِنَ الْعُمُومِ . مِثَالُهُ : أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [ الْمَائِدَةِ : ] . لَمَّا خَصَّ مِنْهُ مَنْ سَرَقَ مِنْ ثَمَرٍ أَوْ كَثَرٍ فِي سُقُوطِ الْقَطْعِ عَنْهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ نَقِيسَ عَلَى قَطْعِ السَّارِقِ قَطْعَ مَنْ لَيْسَ بِسَارِقٍ ، وَجَازَ أَنْ نَقِيسَ عَلَى سَارِقِ الثَّمَرِ وَالْكَثَرِ سَارِقَ غَيْرِ الثَّمَرِ وَالْكَثَرِ فِي سُقُوطِ الْقَطْعِ عَنْهُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْعُمُومَ لَمَّا ضَعُفَ حُكْمُهُ عَنِ اسْتِيفَاءِ اسْمِهِ ضَعُفَ مَعْنَاهُ عَنِ اجْتِذَابِ غَيْرِهِ ، وَالْمَخْصُوصُ لَمَّا قَوِيَ حُكْمُهُ عَلَى اسْتِيفَاءِ اسْمِهِ قَوِيَ مَعْنَاهُ عَلَى اجْتِذَابِ غَيْرِهِ . وَلِذَلِكَ قَاسَ الشَّافِعِيُّ عَلَى جَزَاءِ الصَّيْدِ فِي تَحْرِيمِ أَكْلِهِ وَهُوَ مَخْصُوصُ تَحْرِيمِ هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَلَمْ يَقِسْهُ عَلَى بَقِيَّةِ الْعُمُومِ فِي الْإِبَاحَةِ .

فَصْلٌ الْقِسْمُ الثَّانِي الْمُفَسَّرُ وَالْمُجْمَلُ

فَصْلٌ : [ الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ الْمُفَسَّرُ وَالْمُجْمَلُ ] . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ الْمُفَسَّرُ وَالْمُجْمَلُ فَالْمُفَسَّرُ تعريفه هُوَ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْهُ الْمُرَادُ بِهِ . وَالْمُجْمَلُ تعريفه هُوَ مَا لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ الْمُرَادُ بِهِ . وَمِثْلُهُ فِي الْكِتَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [ الْأَنْعَامِ : ] . وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [ الْبَقَرَةِ : النِّسَاءِ : ، النُّورِ : الْمُزَّمِّلِ : ] . وَمِثْلُهُ فِي السُّنَّةِ : قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ " . فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ جَازَ خِطَابُهُمْ بِمَا لَا يَفْهَمُونَهُ مِنَ الْمُجْمَلِ ؟ قِيلَ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِيَكُونَ إِجْمَالُهُ تَوْطِئَةً لِلنُّفُوسِ عَلَى قَبُولِ مَا يَتَعَقَّبُهُ مِنَ الْبَيَانِ فَإِنَّهُ لَوْ بَدَأَ فِي تَكْلِيفِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ بِبَيَانِهِمَا جَازَ أَنْ تَنْفِرَ النُّفُوسُ مِنْهُمَا وَلَا تَنْفِرُ مِنْ إِجْمَالِهِمَا . وَالثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مِنَ الْأَحْكَامِ جَلِيًّا ، وَجَعَلَ مِنْهَا خَفِيًّا : لِيَتَفَاضَلَ النَّاسُ

فِي الْعِلْمِ بِهَا ، وَيُثَابُوا عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ لَهَا . كَذَلِكَ جَعَلَ مِنْهَا مُفَسَّرًا جَلِيًّا ، وَجَعَلَ مِنْهَا مُجْمَلًا خَفِيًّا . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمُجْمَلُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقَعَ الْإِجْمَالُ فِي الِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَقَعَ الْإِجْمَالُ فِي الْحُكْمِ الْمُبْهَمِ . فَأَمَّا الْإِجْمَالُ فِي الِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ القسم الاول من الاجمال فَمِثْلُ الْقَرْءِ يَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ، وَالشَّفَقُ يَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ ، وَالَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ يَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَبِ وَالزَّوْجِ . فَإِنِ اقْتَرَنَ بِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ أُخِذَ بِهِ ، وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَاقْتَرَنَ بِهِ عُرْفٌ عَمِلَ عَلَيْهِ . وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَعُرْفٍ وَجَبَ الِاجْتِهَادُ فِي الْمُرَادِ مِنْهُمَا وَكَانَ مِنْ خَفِيِّ الْأَحْكَامِ الَّتِي وُكِّلَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا إِلَى الِاسْتِنْبَاطِ فَصَارَ دَاخِلًا فِي الْمُجْمَلِ لِخَفَائِهِ وَخَارِجًا مِنْهُ لِإِمْكَانِ اسْتِنْبَاطِهِ . وَأَمَّا الْإِجْمَالُ فِي الْحُكْمِ الْمُبْهَمِ القسم الثاني من اقسام الاجمال : فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَ إِجْمَالُهُ فِي لَفْظِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [ الْبَقَرَةِ : - النِّسَاءِ : - النُّورِ : - الْمُزَّمِّلِ : ] . وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [ الْأَنْعَامِ : ] . وَالثَّانِي : مَا كَانَ إِجْمَالُهُ بِغَيْرِهِ . مِثَالُهُ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [ الْبَقَرَةِ : ] . وَالرِّبَا صِنْفٌ مِنَ الْبُيُوعِ صَارَ بِهِ الْبَاقِي مِنَ الْبُيُوعِ مُجْمَلًا عَلَى قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا ، وَإِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ عُمُومٌ خُصَّ مِنْهُ الرِّبَا . وَمِثَالُهُ مِنَ السُّنَّةِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " الصُّلْحُ جَائِزٌ إِلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا " وَكِلَا الضَّرْبَيْنِ مُجْمَلٌ يَفْتَقِرُ إِلَى بَيَانٍ يُفْهَمُ بِهِ الْمُرَادُ . فَإِنْ قِيلَ : أَفَيَلْزَمُ التَّعَبُّدُ بِهِ قَبْلَ بَيَانِهِ ؟ قِيلَ : نَعَمْ ، قَدْ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ وَقَالَ لَهُ : ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقًّا يُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَيُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ ، فَتَعَبَّدَهُمْ بِالْتِزَامِ الزَّكَاةِ قَبْلَ بَيَانِهَا . وَفِي كَيْفِيَّةِ تَعَبُّدِهِمْ بِالْتِزَامِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ يَتَعَبَّدُونَ قَبْلَ الْبَيَانِ بِالْتِزَامِهِ مُجْمَلًا وَبَعْدَ الْبَيَانِ بِالْتِزَامِهِ مُفَسَّرًا . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْبَيَانُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُجْمَلِ وَهُوَ ضَرْبَانِ :

أَحَدُهُمَا : مَا وُكِّلَ الْعُلَمَاءُ إِلَى اجْتِهَادِهِمْ فِي بَيَانِهِ مِنْ غَيْرِ سَمْعٍ يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ : مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى : حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ [ التَّوْبَةِ : ] . فَلَمْ يَرِدْ سَمْعٌ بِبَيَانِ أَقَلِّ الْجِزْيَةِ حَتَّى اجْتَهَدَ الْعُلَمَاءُ فِي أَقَلِّهَا . وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [ الْجُمُعَةِ : ] . فَأُجْمِلَ ذِكْرُ الْعَدَدِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ حَتَّى اجْتَهَدَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ . وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [ الطَّلَاقِ : ] . فَأُجْمِلَ قَدْرُ النَّفَقَةِ فِي أَقَلِّهَا وَأَوْسَطِهَا وَأَكْثَرِهَا حَتَّى اجْتَهَدَ الْعُلَمَاءُ فِي تَقْدِيرِهَا فَهَذَا وَنَظَائِرُهُ مِنَ الْمُجْمَلِ الَّذِي لَا يَفْتَقِرُ إِلَى بَيَانِ السَّمْعِ ، فَبَيَانُهُ سَاقِطٌ عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ أُصُولِ الْأَدِلَّةِ الْمَشْهُورَةِ ، سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْكَلَالَةِ فَقَالَ : " تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ " فَوَكَلَهُ إِلَى الِاجْتِهَادِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْبَيَانِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْبَيَانِ الصَّادِرِ عَنْ الِاجْتِهَادِ هَلْ يُؤْخَذُ قِيَاسًا أَوْ تَنْبِيهًا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُؤْخَذُ تَنْبِيهًا مِنْ لَفْظِ الْمُجْمَلِ وَشَوَاهِدِ أَحْوَالِهِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعُمَرَ فِي الْكَلَالَةِ : " تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ " فَرَدَّهُ إِلَيْهَا لِيَسْتَدِلَّ بِمَا تَضَمَّنَهَا مِنْ تَنْبِيهٍ وَشَوَاهِدِ حَالٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ قِيَاسًا عَلَى مَا اسْتَقَرَّ بَيَانُهُ مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ لِأَنَّ عُمَرَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قُبْلَةِ الصَّائِمِ فَقَالَ : أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ فَجَعَلَ الْقُبْلَةَ بِغَيْرِ إِنْزَالٍ كَالْمَضْمَضَةِ بِلَا ازْدِرَادٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي مِنَ الْمُجْمَلِ : مَا يَفْتَقِرُ بَيَانُهُ إِلَى السَّمْعِ ، كَقَوْلِهِ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [ الْبَقَرَةِ : ] . لَا يُوصَلُ إِلَى بَيَانِهِ إِلَّا مِنْ نَصٍّ مَسْمُوعٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ . فَعَلَى هَذَا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ بَيَانُهُ وَبَيَانُ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ عَنْ وَقْتِ نُزُولِهِ إِلَى وَقْتِ تَنْفِيذِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ حكم تأخيره أَمْ لَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : يَجُوزُ أَنْ يُؤَخَّرَ بَيَانُ الْعُمُومِ وَالْمُجْمَلِ عَنْ وَقْتِ النُّزُولِ إِلَى وَقْتِ التَّنْفِيذِ وَالِاسْتِعْمَالِ ، لِأَنَّ مُعَاذًا أَخَّرَ بَيَانَ الزَّكَاةِ لِأَهْلِ الْيَمَنِ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي أَخَذَهَا مِنْهُمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ وَالْعُمُومِ عَنْ وَقْتِ النُّزُولِ إِلَى وَقْتِ التَّنْفِيذِ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى الْبَيَانِ وَلِيَحْتَرِزَ بِتَعْجِيلِهِ مِنِ اخْتِرَامِ الْمَنِيَّةِ لِلرَّسُولِ الْمُبِينِ وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْعُمُومِ : لِأَنَّهُ قَبْلَ الْبَيَانِ مَفْهُومٌ ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ : لِأَنَّهُ قَبْلَ الْبَيَانِ غَيْرُ مَفْهُومٍ .

فَصْلٌ الْقِسْمُ الثَّالِثُ بَيَانُ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ

فَصْلٌ : [ الْقِسْمُ الثَّالِثُ : بَيَانُ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ ] . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثِ وَهُوَ الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ معناهما : فَهُوَ أَنْ يَرِدَ الْخِطَابُ مُقَيَّدًا بِحَالٍ أَوْ وَصْفٍ أَوْ شَرْطٍ ثُمَّ يَرِدُ مِنْ جِنْسِهِ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِوَصْفٍ وَلَا شَرْطٍ . وَالْكَلَامُ فِيهِ مُشْتَمِلٌ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي الْمُقَيَّدِ هَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مَقْصُورًا عَلَى الشَّرْطِ الْمُقَيَّدِ بِهِ أَمْ لَا ؟ وَالثَّانِي : فِي الْمُطْلَقِ هَلْ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى حُكْمِ الْمُقَيَّدِ مَنْ جِنْسِهِ أَمْ لَا ؟ فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الْمُقَيَّدِ بِالشَّرْطِ : فَهُوَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَ تَقْيِيدُهُ بِالْوَصْفِ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ حُكْمِهِ ، فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ وَيَنْتَفِي بِعَدَمِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ إِلَى قَوْلِهِ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [ الْمَائِدَةِ : ] . فَكَانَ تَقْيِيدُ التَّيَمُّمِ بِالْمَرَضِ وَالسِّفَرِ شَرْطًا فِي إِبَاحَتِهِ وَكَقَوْلِهِ فِي كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ [ الْمَائِدَةِ : ] . فَكَانَ الْعَدَمُ شَرَطًا فِي جَوَازِ الصِّيَامِ إِلَى نَظَائِرِهِ وَهَذَا الْقِسْمُ فِيمَا كَانَ مَعْنَاهُ خَاصًّا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا لَا يَكُونُ الْوَصْفُ الْمُقَيَّدُ شَرْطًا فِي حُكْمِ الْأَصْلِ وَيَعُمُّ حُكْمُهُ مَعَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَعَدَمِهِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ [ النِّسَاءِ : ] . وَلَيْسَ الْخَوْفُ شَرْطًا فِي جَوَازِ الْقَصْرِ لِجَوَازِهِ مَعَ الْأَمْنِ وَكَقَوْلِهِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [ الْمَائِدَةِ : ] . وَلَيْسَ الْعَمْدُ شَرْطًا فِي وُجُوبِهِ لِوُجُوبِهِ عَلَى الْخَاطِئِ وَالْعَامِدِ وَكَقَوْلِهِ فِي تَحْرِيمِ الْمَنَاكِحِ : وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ [ النِّسَاءِ : ] . وَلَيْسَ كَوْنُهَا فِي الْحِجْرِ شَرْطًا فِي الْحَظْرِ لِتَحْرِيمِهَا فِي الْحَالَيْنِ . وَهَذَا الْقِسْمُ فِيمَا كَانَ مَعْنَاهُ عَامًّا . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْمُقَيَّدِ . فَإِنْ كَانَ خَاصًّا كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ ثَبَتَ حُكْمُ التَّقْيِيدِ . وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ عَامًّا كَالْقِسْمِ الثَّانِي سَقَطَ حُكْمُ التَّقْيِيدِ . وَأَنْكَرَ أَهْلُ الظَّاهِرِ وَمِنْهُمْ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ هَذَا الْقِسْمَ وَأَجْرَوْا جَمِيعَ الْمُقَيَّدِ عَلَى تَقْيِيدِهِ وَجَعَلُوهُ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ حُكْمِهِ يَثْبُتُ بِوُجُودِهِ وَيَسْقُطُ بِعَدَمِهِ .

وَلَمْ يَعْتَبِرُوا مَعْنَى الْأَصْلِ فِي عُمُومٍ وَلَا خُصُوصٍ ، لِاعْتِمَادِهِمْ عَلَى الْمَنْصُوصِ دُونَ الْمَعَانِي . وَلِأَنَّ النَّصَّ لَا يُرْفَعُ بِالتَّعْلِيلِ ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ نَسْخًا بِهَا : وَلِأَنَّهُ لَوْ سَقَطَ حُكْمُ هَذَا التَّقْيِيدِ الْمَشْرُوطِ لَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ حُكْمُ أَصْلِهِ . وَلَوِ اسْتَقَرَّ أَصْلُ هَذَا لَسَقَطَتْ أَحْكَامُ النُّصُوصِ كُلُّهَا . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مَدْفُوعٌ بِنَصِّ الْكِتَابِ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ [ الْإِسْرَاءِ : ] . وَلَيْسَ يُسْتَبَاحُ قَتْلُهُمْ مَعَ أَمْنِ الْإِمْلَاقِ كَمَا لَا يُسْتَبَاحُ مَعَ وُجُودِهِ . وَقَالَ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [ النُّورِ : ] . وَلَا يَجُوزُ إِكْرَاهُهُنَّ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُرِدْنَ تُحَصُّنًا . وَقَالَ تَعَالَى إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [ التَّوْبَةِ : ] . وَهُوَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَظْلِمَ فِيهِنَّ وَلَا فِي غَيْرِهِنَّ . فَلَمَّا سَقَطَ حُكْمُ التَّقْيِيدِ فِي هَذَا وَلَمْ يَصِرْ نَسْخًا جَازَ أَنْ يَسْقُطَ فِي غَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ نَسْخًا ، فَإِنْ خُصَّ هَذَا بِدَلِيلٍ فَقَدْ جَعَلُوا لِلدَّلِيلِ تَأْثِيرًا فِي إِسْقَاطِ التَّقْيِيدِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ . فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا سَقَطَ حُكْمُ التَّقْيِيدِ صَارَ لَغْوًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ . قِيلَ : يَحْتَمِلُ ذِكْرُ التَّقْيِيدِ مَعَ سُقُوطِ حُكْمِهِ أُمُورًا مِنْهَا : أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ مَأْخُوذًا مِنْ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ بِهِ لِيَسْتَعْمِلَهُ الْمُجْتَهِدُ فِيمَا لَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصًّا فَإِنَّ أَكْثَرَ الْحَوَادِثِ غَيْرُ نُصُوصٍ . وَمِنْهَا : أَنْ يَكُونَ التَّقْيِيدُ تَنْبِيهًا عَلَى غَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [ آلِ عِمْرَانَ : ] . فَنَبَّهَ بِالْقِنْطَارِ عَلَى الْكَثِيرِ وَنَبَّهَ بِالدِّينَارِ عَلَى الْقَلِيلِ ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِيهِمَا سَوَاءً . وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ هُوَ الْأَغْلَبَ مِنْ أَحْوَالِ مَا قُيِّدَ بِهِ ، فَيَذْكُرُهُ لِغَلَبَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَإِنْ كَانَتْ مُفَادَاةُ الزَّوْجَيْنِ تَجُوزُ مَعَ وُجُودِ الْخَوْفِ وَعَدَمِهِ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنَ الْمُفَادَاةِ أَنْ تَكُونَ مَعَ الْخَوْفِ .

وَإِذَا احْتُمِلَ هَذِهِ الْأُمُورُ وَغَيْرُهَا صَارَ وُجُودُ التَّقْيِيدِ مُقَيَّدًا مَعَ سُقُوطِ حُكْمِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَغْوًا . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ النَّظَرُ فِي كُلِّ مُقَيَّدٍ . فَإِنْ ظَهَرَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَأْثِيرِهِ سَقَطَ حُكْمُ التَّقْيِيدِ وَجَازَ فِي عُمُومِ حُكْمِهِ كَالْمُطْلَقِ . وَإِنْ عُدِمَ الدَّلِيلُ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى تَقْيِيدِهِ وَجُعِلَ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ حُكْمِهِ فَهَذَا حُكْمُ الْمُقَيَّدِ . [ وَالْفَصْلُ الثَّانِي ] . وَأَمَّا حُكْمُ الْمُطْلَقِ الْوَارِدُ مِنْ جِنْسِ الْمُقَيَّدِ إِذَا جُعِلَ التَّقْيِيدُ شَرْطًا فِي الْمُقَيَّدِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ حَمْلِهِ عَلَى إِطْلَاقِهِ أَوْ عَلَى مَا قُيِّدَ مِنْ جِنْسِهِ . فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ مِنْ جِنْسِهِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى حَمْلِهِ عَلَى إِطْلَاقِهِ كَمَا حُمِلَ إِطْلَاقُ الشَّهَادَةِ فِي الدُّيُونِ وَالْعُقُودِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] . عَلَى الشَّهَادَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِالْعَدَالَةِ فِي الرَّجْعَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [ الطَّلَاقِ : ] . فَصَارَتِ الْعَدَالَةُ شَرْطًا فِي كُلِّ شَهَادَةٍ . وَلِاعْتِقَادِ الشَّافِعِيِّ لِهَذَا الْمَذْهَبِ مَا حَمَلَ إِطْلَاقَ الْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ وَالظِّهَارِ عَلَى الْعِتْقِ الْمُقَيَّدِ بِالْإِيمَانِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ، وَجَعَلَ الْإِيمَانَ شَرْطًا فِي عِتْقِ جَمِيعِ الْكَفَّارَاتِ . وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَى إِطْلَاقِهِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى حَمْلِهِ عَلَى الْمُقَيَّدِ مِنْ جِنْسِهِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَجْعَلِ الْعِتْقَ فِيمَا عَدَا كَفَّارَةَ الْقَتْلِ مَشْرُوطًا بِالْإِيمَانِ حَمْلًا عَلَى إِطْلَاقِهِ . وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ أَقَلَّ حُكْمِ الْمُطْلَقِ بَعْدَ الْمُقَيَّدِ مِنْ جِنْسِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ . فَإِنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى إِطْلَاقِهِ أُطْلِقَ . وَإِنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى تَقْيِيدِهِ قُيِّدَ . وَإِنْ لَمْ يَقُمْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَلِيلٌ صَارَ كَالَّذِي لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ فَيَعْدِلُ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَالِاجْتِهَادِ فِي اسْتِنْبَاطِ الْمَعَانِي . وَيَصِيرُ احْتِمَالُهُ لِلْأَمْرَيْنِ مُبْطِلًا لِحُكْمِ النَّصِّ فِيهِ . وَهَذَا قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى وَقْفِ الْعُمُومِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى تَخْصِيصٍ أَوْ عُمُومٍ . وَهَذَا أَفْسَدُ الْمَذَاهِبِ ، لِأَنَّ النُّصُوصَ الْمُحْتَمَلَةَ يَكُونُ الِاجْتِهَادُ عَائِدًا إِلَيْهَا وَلَا

يَعْدِلُ بِالِاحْتِمَالِ إِلَى غَيْرِهَا لِيَكُونَ حُكْمُ النَّصِّ ثَابِتًا بِمَا يُؤَدِّي الِاجْتِهَادُ إِلَيْهِ مِنْ نَفْيِ الِاحْتِمَالِ عَنْهُ وَتَعْيِينِ الْمُرَادِ بِهِ . وَالَّذِي عِنْدِي وَأَرَاهُ أَوْلَى الْمَذَاهِبِ فِي الْمُطْلَقِ أَنْ يَعْتَبِرَ غِلَظَ حُكْمِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ . فَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْمُطْلَقِ أَغْلَظَ حُمِلَ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَلَمْ يُقَيَّدْ إِلَّا بِدَلِيلٍ . وَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْمُقَيَّدِ أَغْلَظَ حُمِلَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى إِطْلَاقِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ ، لِأَنَّ التَّغْلِيظَ إِلْزَامٌ وَمَا تَضَمَّنُهُ الْإِلْزَامُ لَمْ يَسْقُطِ الْتِزَامُهُ بِالِاحْتِمَالِ . وَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا وَوَجَبَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلًا فِي إِطْلَاقِ الصِّفَةِ وَلَا يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا فِي إِطْلَاقِ الْأَصْلِ . مِثَالُهُ . أَنَّ مَسْحَ الْيَدَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ مُطْلَقٌ وَفِي الْوُضُوءِ تَقَيَّدَ بِالْمِرْفَقَيْنِ فَحُمِلَ إِطْلَاقُهُمَا فِي التَّيَمُّمِ عَلَى تَقْيِيدِهِمَا فِي الْوُضُوءِ بِالْمِرْفَقَيْنِ وَأُطْلِقَ ذِكْرُ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ وَذُكِرَا فِي الْوُضُوءِ فَلَمْ يُحْمَلْ تَرْكُ ذِكْرِهِمَا فِي التَّيَمُّمِ عَلَى إِثْبَاتِ ذِكْرِهِمَا فِي الْوُضُوءِ ، لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَرَافِقِ صِفَةٌ ، وَذِكْرَ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ أَصْلٌ . وَذَهَبَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ الْمُطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي الصِّفَةِ وَالْأَصْلِ مَعًا ، وَجَعَلَ إِطْلَاقَ ذِكْرِ الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ مَحْمُولًا عَلَى ذِكْرِ الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ، وَأَوْجَبَ فِيهِمَا إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا ، كَمَا حَمَلَ إِطْلَاقَ الْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ عَلَى تَقْيِيدِهِ بِالْأَيْمَانِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ . وَفِي هَذَا إِثْبَاتُ أَصْلٍ بِغَيْرِ أَصْلٍ . فَإِذَا ثَبَتَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ ، أَوْ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ ؟ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ ، أَوْ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ لِأَنَّهُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ مَوْضُوعٌ لِهَذَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِالشَّرْعِ الْمُسْتَقِرِّ عَلَى اسْتِنْبَاطِ الْمَعَانِي ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تُؤْخَذُ إِلَّا شَرْعًا مَنْ نَمَقٍ أَوْ قِيَاسٍ . وَإِذَا وَرَدَ مُقَيِّدَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ بِشَرْطَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَأُطْلِقَ ثَالِثٌ مِنْ جِنْسِهِمَا وَجَبَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَلَمْ يَجِبْ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِ الْمُقَيَّدَيْنَ لِأَنَّهُ لَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْآخَرِ ، وَحَمْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُقَيَّدِينَ عَلَى تَقْيِيدِهِ . وَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى تَقْيِيدِ نَظِيرِهِ فَيُنْظَرُ فِي صِفَتَيِ التَّقْيِيدِ فِيهِمَا . فَإِنْ تَنَافَى الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَمْ يُحْمَلْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَاخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصِفَتِهِ الَّتِي قُيِّدَ بِهَا ، وَذَلِكَ مِثْلُ تَقْيِيدِ صَوْمِ الظِّهَارِ بِالتَّتَابُعِ ، وَتَقْيِيدِ صَوْمِ التَّمَتُّعِ

بِالتَّفْرِقَةِ ، وَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّتَابُعِ وَالتَّفْرِقَةِ فَيُخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِصِفَتِهِ . وَإِنْ أُمْكِنَ اجْتِمَاعُ الصِّفَتَيْنِ وَلَمْ يَتَنَافَيَا فَفِي حَمْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى تَقْيِيدِ نَظِيرِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُحْمَلُ إِلَّا عَلَى مَا قُيِّدَ بِهِ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمُطْلَقَ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيِّدِ إِلَّا بِدَلِيلٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُحْمَلُ عَلَى تَقْيِيدِهِ وَتَقْيِيدِ نَظِيرِهِ فَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقَيَّدًا بِالصِّفَتَيْنِ إِذَا قِيلَ بِجَوَازِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ . فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ مَا أُطْلِقَ مِنْ جِنْسِهِمَا عَلَى تَقْيِيدِهِمَا مَعًا وَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ النُّصُوصِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَجَانِسَةِ مُقَيَّدًا بِشَرْطَيْنِ .

فَصْلٌ الْقِسْمُ الرَّابِعُ الْإِثْبَاتُ وَالنَّفْيُ

فَصْلٌ : [ الْقِسْمُ الرَّابِعُ الْإِثْبَاتُ وَالنَّفْيُ ] . وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ الْإِثْبَاتُ وَالنَّفْيُ : فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : إِثْبَاتُ تَجَرَّدَ عَنْ نَفْيٍ . وَالثَّانِي : نَفْيُ تَجَرَّدَ عَنْ إِثْبَاتٍ . وَالثَّالِثُ : مَا اجْتَمَعَ فِيهِ نَفْيٌ وَإِثْبَاتٌ . [ الْقَوْلُ فِي الْإِثْبَاتِ الْمُتَجَرِّدِ عَنِ النَّفْيِ ] . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : فِي الْإِثْبَاتِ إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ نَفْيٍ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقْتَرِنَ بِحَرْفِ التَّحْقِيقِ فَيَكُونُ إِثْبَاتُهُ نَفْيًا لِمَا عَدَاهُ كَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ " ، وَكَقَوْلِهِ : " وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ " فَيَكُونُ إِثْبَاتُ الْعَمَلِ بِالنِّيَّةِ مُوجِبًا لِنَفْيهِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ ، وَإِثْبَاتُ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتِقِ مُوجِبًا لِنَفْيِهِ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ . وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْإِثْبَاتُ جَوَابًا أَوِ ابْتِدَاءً . لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي النَّفْيِ بِهِ هَلْ هُوَ بِلَفْظِ النُّطْقِ أَوْ بِدَلِيلِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الَّذِي أَوْجَبَ النَّفْيَ بَعْدَ الْإِثْبَاتِ هُوَ دَلِيلُ اللَّفْظِ دُونَ اللَّفْظِ فَيَكُونُ دَلِيلُ الْخِطَابِ هُوَ الْمُوجِبُ لِلنَّفْيِ : لِأَنَّهَا لَفْظَةُ تَحْقِيقٍ فَجَرَتْ مَجْرَى التَّأْكِيدِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا أَوْجَبَتِ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ بِنَفْسِ اللَّفْظِ ، لِأَنَّ لَفْظَةَ " إِنَّمَا " مَوْضُوعَةٌ فِي اللُّغَةِ لِإِثْبَاتِ مَا اتَّصَلَ بِهَا وَنَفْيِ مَا انْفَصَلَ عَنْهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَتَجَرَّدَ الْإِثْبَاتُ عَنْ حَرْفِ التَّحْقِيقِ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ " وَكَقَوْلِهِ " الْقَطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ " فَلِمَخْرَجِهِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِسَائِلٍ عَنِ الزَّكَاةِ فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ فَقَالَ : " فِي سَائِمَةِ

الْغَنَمِ زَكَاةٌ " وَلِسَائِلٍ عَنِ الْقَطْعِ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَقَالَ : " الْقُطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ " فَلَا يَكُونُ هَذَا الْإِثْبَاتُ نَفْيًا لِمَا عَدَاهُ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ بَيَانُ السُّؤَالِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَبْدَأَ بِهِ الرَّسُولُ فَيَقُولُ مُبْتَدِئًا : وَفِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ وَ " الْقَطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ " فَيَكُونُ هَذَا الْإِثْبَاتُ نَفْيًا لِمَا عَدَاهُ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ وَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ فِي أَقَلَّ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِتَخْصِيصٍ هَذَا بِالذِّكْرِ مِنْ مُوجِبٍ فَلِمَا خَرَجَ عَنِ الْجَوَابِ ثَبَتَ وُرُودُهُ لِلْبَيَانِ . هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَقَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ . وَذَهَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ إِلَى أَنَّ حُكْمَ مَا عَدَا الْإِثْبَاتَ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الِاحْتِمَالِ . وَهَذَا فَاسِدٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ . وَإِذَا انْتَفَى حُكْمُ الْإِثْبَاتِ عَمَّا عَدَاهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُوجِبِ نَفْيِهِ عَنْهُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَوْجَبَهُ لِسَانُ الْعَرَبِ لُغَةً . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : بَلْ أَوْجَبَهُ دَلِيلُ الْخِطَابِ شَرْعًا . [ الْقَوْلُ فِي النَّفْيِ الْمُتَجَرِّدِ عَنِ الْإِثْبَاتِ ] : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : فِي النَّفْيِ إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ إِثْبَاتٍ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِسُؤَالٍ فَلَا يَكُونُ النَّفْيُ مُوجِبًا لِإِثْبَاتِ مَا عَدَاهُ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ " لَا يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ بِالثَّالِثَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَبْتَدِئَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَقُولُ : " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ " فَدَلَّ عَلَى قَبُولِهَا بِالطَّهُورِ وَيَكُونُ نَفْيُ الْحُكْمِ عَنْ تِلْكَ الصِّفَةِ مُوجِبًا لِإِثْبَاتِهِ عِنْدَ عَدَمِهَا . وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَيَحْتَمِلُ قَوْلُ مَنْ جَعَلَ مَا عَدَا الْإِثْبَاتَ مَوْقُوفًا أَنْ يَجْعَلَ مَا عَدَا النَّفْيَ مَوْقُوفًا . وَإِذَا كَانَ حُكْمُ النَّفْيِ مُطْلَقًا يَحْتَمِلُ نَفْيَ الْجَوَازِ وَنَفْيَ الْكَمَالِ حُمِلَ عَلَى نَفْيِ الْجَوَازِ لِعُمُومِهِ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ " فَكَانَ هَذَا النَّفْيُ مَانِعًا مِنْ أَجْزَائِهَا . فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ حُمِلَ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ " لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلَّا فِي مَسْجِدِهِ " لَمَّا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَجْزَائِهَا حُمِلَ عَلَى نَفْيِ كَمَالِهَا .

وَيَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ قَالَ بِوَقْفِ الْمُحْتَمَلِ بِجَعْلِ هَذَا مَوْقُوفًا لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ . [ الْقَوْلُ فِيمَا اجْتَمَعَ فِيهِ نَفْيٌ وَإِثْبَاتٌ ] : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ الْجَامِعُ لِلنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَيَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ : أَحَدُهُمَا : الِاسْتِثْنَاءُ . وَالثَّانِي : الشَّرْطُ . وَالثَّالِثُ : الْغَايَةُ . [ النَّوْعُ الْأَوَّلُ : الِاسْتِثْنَاءُ ] : فَأَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ : فَالْمُعْتَبَرُ فِي ثُبُوتِ حُكْمِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَصْلٍ يَبْقَى مِنْهُ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْضُهُ وَإِنْ قَلَّ ، وَإِنْ رُفِعَ جَمِيعُهُ لَمْ يَصِحَّ ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ نَسْخًا ، وَيَثْبُتُ حُكْمُ الْأَصْلِ وَيَبْطُلُ حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ لِيَصِحَّ بِهِ خُرُوجُ بَعْضِهِ . فَإِنْ عَادَ إِلَى غَيْرِ جِنْسِهِ صَحَّ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ . وَأَجَازَ قَوْمٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى . وَأَبْطَلَهُ آخَرُونَ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى . وَبَيَانُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي جَوَازِهِ فِي الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ هُوَ كَقَوْلِهِ : لَهُ عَلِيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إِلَّا دِينَارًا فَلَا يُجْعَلُ لَفْظُ الدِّينَارِ اسْتِثْنَاءً مِنْ لَفْظِ الدَّرَاهِمِ لِأَنَّهُ لَا يُجَانِسُهَا وَإِنَّمَا تُجْعَلُ قِيمَتُهُ مُسْتَثْنَاةً مِنَ الدَّرَاهِمِ ، لِأَنَّهُ لَا يُنَافِيهَا ؛ فَصَارَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَتَعَلَّقَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ ضِدَّ حُكْمِ الْأَصْلِ فَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ إِثْبَاتًا صَارَ الِاسْتِثْنَاءُ نَفْيًا ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ نَفْيًا صَارَ الِاسْتِثْنَاءُ إِثْبَاتًا . وَإِنْ عَادَ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى جُمَلٍ مَذْكُورَةٍ تَقَدَّمَتْهُ يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ إِلَى جَمِيعِهَا وَيُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ إِلَى بَعْضِهَا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى جَمِيعِهَا مَا لَمْ يَخُصَّهُ دَلِيلٌ كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ : إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [ الْمَائِدَةِ : ] . فَكَانَ ذَلِكَ رَاجِعًا إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ وَالْقَطْعِ وَالنَّفْيِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَرْجِعُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ إِلَّا أَنْ يَعُمَّهُ دَلِيلٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [ النِّسَاءِ : ] . فَرَجَعَ ذَلِكَ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ الدِّيَةُ دُونَ الْكَفَّارَةِ . وَكَذَلِكَ مَا اخْتَلَفَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا

[ النُّورِ : - ] . أَنَّ التَّوْبَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَرْجِعُ إِلَى الْفِسْقِ وَحْدَهُ ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَرْجِعُ إِلَى الْفِسْقِ وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ اعْتِبَارًا بِالْعُمُومِ . وَلَا تَرْجِعُ عِنْدَهُمَا جَمِيعًا إِلَى الْجَلْدِ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا فِي التَّعْلِيلِ . فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِبُعْدِهِ عَنْ أَقْرَبِ مَذْكُورٍ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِخُرُوجِهِ بِدَلِيلٍ : وَهُوَ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الَّتِي لَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ . وَلِذَلِكَ لَمْ يَجْعَلْ قَوْلَهُ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [ النِّسَاءِ : ] . عَائِدًا إِلَى الْكَفَّارَةِ : لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي لَا تَسْقُطُ بِالْعَفْوِ وَجَعَلَهُ عَائِدًا إِلَى الدِّيَةِ لِسُقُوطِهَا بِالْعَفْوِ . [

فَصْلٌ : النَّوْعُ الثَّانِي : الشَّرْطُ ] . وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي وَهُوَ الشَّرْطُ تعريفه : وَالشَّرْطُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْعَلَامَةُ وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا [ مُحَمَّدٍ : ] . أَيْ عَلَامَاتِهَا وَلِذَلِكَ سُمِّيَ صَاحِبَ الشَّرْطِ لِتَمَيُّزِهِ بِعَلَامَتِهِ . وَالشَّرْطُ فِي الشَّرْعِ : هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي عُلِّقَ بِهِ الْحُكْمُ لِأَنَّهُ عَلَامَةٌ لِوُجُوبِهِ . فَإِذَا عُلِّقَ الْحُكْمُ بِشَرْطٍ ثَبَتَ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ وَانْتَفَى بِعَدَمِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [ الْبَقَرَةِ : ] . فَيَتَعَلَّقُ بِهِ إِثْبَاتٌ وَنَفْيٌ فَيَجْرِي مَجْرَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ وَجْهٍ وَإِنْ خَالَفَهُ مِنْ وَجْهٍ . فَوَجْهُ اجْتِمَاعِهِمَا أَنَّهُ قَدْ يُثْبِتُ حُكْمًا وَيَنْفِي حُكْمًا . وَوَجْهُ افْتِرَاقِهِمَا : أَنَّ الشَّرْطَ يُثْبِتُ الْحُكْمَ فِي حَالِ وُجُودِهِ وَيَنْفِيهِ فِي حَالِ عَدَمِهِ ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَجْمَعُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ . وَرُبَّمَا قُيِّدَ الْحُكْمُ بِشَرْطٍ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِهِ وَعَدَمِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ إِثْبَاتٌ وَلَا نَفْيٌ . وَيَصْرِفُهُ الدَّلِيلُ عَمَّا وُضِعَ لَهُ مِنَ الْحَقِيقَةِ إِلَى مَا قَصَدَ بِهِ مِنَ الْمَجَازِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ [ الطَّلَاقِ : ] . وَحَقُّهَا فِي الْعِدَّةِ مَعَ وُجُودِ الرِّيبَةِ وَعَدَمِهَا سَوَاءٌ . فَإِنْ تَجَرَّدَ الشَّرْطُ عَنْ دَلِيلٍ حُمِلَ عَلَى مُوجَبِهِ فِي النَّفْيِ الْإِثْبَاتُ .

فَإِنْ عُلِّقَ الشَّرْطُ بِجُمَلٍ مَذْكُورَةٍ عَادَ إِلَى جَمِيعِهَا مَا لَمْ يَخُصَّهُ دَلِيلٌ كَالِاسْتِثْنَاءِ . وَجَعَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَائِدًا إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ [ الْمَائِدَةِ : ] . يَعُودُ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ وَلَا يَعُودُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ مِنْ تَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ .

فَصْلٌ : [ النَّوْعُ الثَّالِثُ : الْغَايَةُ ] . وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْغَايَةُ : فَهِيَ حَدٌّ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ قَبْلَهَا وَانْتِفَائِهِ بَعْدَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [ الْبَقَرَةِ : ] . فَكَانَ الْفَجْرُ حَدًّا لِإِبَاحَةِ الْأَكْلِ قَبْلَهُ وَتَحْرِيمِهِ بَعْدَهُ ، فَتَعَلَّقَ بِالْغَايَةِ إِثْبَاتٌ وَنَفْيٌ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ ، غَيْرَ أَنَّ الشَّرْطَ مُوجِبٌ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ بَعْدَهُ ، وَلِانْتِفَائِهِ قَبْلَهُ ، وَالْغَايَةُ مُوجِبَةٌ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ قَبْلَهَا وَلِانْتِفَائِهِ بَعْدَهَا . فَإِنِ اقْتَرَنَ بِالْغَايَةِ شَرْطٌ تَعَلَّقَ الْإِثْبَاتُ بِهِمَا وَالنَّفْيُ بِأَحَدِهِمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَهَذَا غَايَةٌ ، ثُمَّ قَالَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ وَهَذَا شَرْطٌ فَتَعَلَّقَ حُكْمُ الْإِثْبَاتِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ بَعْدَ الْغَايَةِ ، فَلَا يُسْتَبَاحُ وَطْؤُهُنَّ إِلَّا بِالْغُسْلِ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ ، وَتَنْتَفِي الِاسْتِبَاحَةُ بِعَدَمِهَا أَوْ عَدَمِ أَحَدِهِمَا مِنْ غَايَةٍ أَوْ شَرْطٍ .

فَصْلٌ الْقِسْمُ الْخَامِسُ الْمُحْكَمُ وَالْمُتَشَابِهُ

فَصْلٌ : [ الْقِسْمُ الْخَامِسُ : الْمُحْكَمُ وَالْمُتَشَابِهُ ] . وَأَمَّا الْقِسْمُ الْخَامِسُ وَهُوَ الْمُحْكَمُ وَالْمُتَشَابِهُ : فَأَصْلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [ آلِ عِمْرَانَ : ] . الْآيَةَ . وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ معناهما عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْمُحْكَمَ النَّاسِخُ وَالْمُتَشَابِهَ الْمَنْسُوخُ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُحْكَمَ الْفَرَائِضُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ ، وَالْمُتَشَابِهَ الْقَصَصُ وَالْأَمْثَالُ وَهُوَ قَوْلٌ مَأْثُورٌ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْمُحْكَمَ الَّذِي لَمْ تَتَكَرَّرْ أَلْفَاظُهُ وَالْمُتَشَابِهَ الَّذِي تَكَرَّرَتْ أَلْفَاظُهُ وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ . وَالرَّابِعُ : أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا عَلِمَ الْعُلَمَاءُ تَأْوِيلَهُ وَفَهِمُوا مَعْنَاهُ ، وَالْمُتَشَابِهَ مَا لَمْ يَكُنْ

لَهُمْ إِلَى عِلْمِهِ سَبِيلٌ ، مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ : كَقِيَامِ السَّاعَةِ ، وَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا ، وَنُزُولِ عِيسَى ، وَغَيْرِهِ ، وَهَذَا قَوْلُ جَابِرٍ . وَالْخَامِسُ : أَنَّ الْمُحْكَمَ : مَا أَحْكَمَ اللَّهُ بَيَانَ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ ، فَلَمْ تُشْتَبَهْ مَعَانِيهِ وَالْمُتَشَابِهَ : مَا اشْتُبِهَتْ مَعَانِيهِ ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ . وَالسَّادِسُ : أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا لَمْ يَحْتَمِلْ مِنَ التَّأْوِيلِ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا ، وَالْمُتَشَابِهَ مَا احْتَمَلَ مِنَ التَّأْوِيلِ أَوْجُهًا ، وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ . وَالسَّابِعُ : أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا قَامَ بِنَفْسِهِ ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى اسْتِدْلَالٍ ، وَالْمُتَشَابِهَ مَا لَمْ يَقُمْ بِنَفْسِهِ وَاحْتَاجَ إِلَى اسْتِدْلَالٍ ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ . وَالثَّامِنُ : أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا كَانَتْ مَعَانِي أَحْكَامِهِ مَعْقُولَةً وَالْمُتَشَابِهَ مَا كَانَتْ مَعَانِي أَحْكَامِهِ غَيْرَ مَعْقُولَةٍ كَأَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ ، وَاخْتِصَاصِ الصِّيَامِ بِشَهْرِ رَمَضَانَ دُونَ شَعْبَانَ . وَهَذَا مُحْتَمَلٌ . وَفِي قَوْلِهِ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [ آلِ عِمْرَانَ : ] . ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ أَرَادَ الْآيَ الَّتِي فِيهَا الْفَرَائِضُ وَالْحُدُودُ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ الْمَقْصُودِ وَهَذَا قَوْلُ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ فَوَاتِحَ السُّوَرِ الَّتِي يُسْتَخْرَجُ مِنْهَا الْقُرْآنُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي فَاخِتَةَ . وَالثَّالِثُ : أَرَادَ أَنَّهُ مَعْقُولُ الْمَعَانِي : لِأَنَّهُ يَتَفَرَّعُ عَنْهُ مَا يُشَارِكُهُ فِي مَعْنَاهُ فَيَصِيرُ الْأَصْلُ لِفُرُوعِهِ كَالْأُمِّ لِحُدُوثِهَا عَنْهُ فَلِذَلِكَ سَمَّاهُ أُمَّ الْكِتَابِ . وَهَذَا مُحْتَمَلٌ . فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ [ آلِ عِمْرَانَ : ] . فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : شَكٌّ قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالثَّانِي : مَيْلٌ . فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الْأَجَلُ الَّذِي أَرَادَتِ الْيَهُودُ أَنْ تَعْرِفَهُ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي الْقُرْآنِ مِنِ انْقِضَاءِ مُدَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحِسَابِ الْجُمَلِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَعْرِفَةُ عَوَاقِبِ الْقُرْآنِ فِي الْعِلْمِ بِوُرُودِ النَّسْخِ قَبْلَ وَقْتِهِ . ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ الشِّرْكُ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ اللَّبْسُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ إِفْسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ . وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ التَّأْوِيلَ التَّفْسِيرُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ الْعَاقِبَةُ الْمُنْتَظَرَةُ . وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : تَأْوِيلُ جَمِيعِ الْمُتَشَابِهِ ، لِأَنَّ فِيهِ مَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ وَفِيهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [ الْأَعْرَافِ : ] . يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ تَأْوِيلَهُ وَقْتُ حُلُولِهِ ، وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ . وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَعْنِي الثَّابِتِينَ فِيهِ ، وَالْعَامِلِينَ بِهِ . وَالثَّانِي : يَعْنِي الْمُسْتَنْبِطِينَ لَهُ ، وَالْعَالِمِينَ بِهِ . وَفِيهِمْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ ؛ وَتَقْدِيرُهُ : أَنَّ الَّذِي يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ جَمِيعًا رَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : أَنَا مِمَّنْ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ خَارِجُونَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ : وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ : وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ . كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عِلْمُ ذَلِكَ عِنْدَ رَبِّنَا . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا فَصَّلَهُ اللَّهُ مِنَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا . وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى كِتَابَهُ مُحْكَمًا وَمُتَشَابِهًا اسْتِدْعَاءً لِلنَّظَرِ مِنْ غَيْرِ اتِّكَالٍ عَلَى الْخَبَرِ لِيَتَبَيَّنَ التَّفَاضُلُ وَيَسْتَجْزِلَ الثَّوَابُ

وَقَدْ رَوَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " الْقُرْآنُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَجْزَاءٍ : " حَلَالٌ فَاتَّبِعْهُ ، وَحَرَامٌ فَاجْتَنِبْهُ ، وَمُتَشَابِهٌ يُشْكَلُ عَلَيْكَ فَكِلْهُ إِلَى عَالِمِهِ " . وَإِذَا وَضَحَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَمَا تَضَمَّنَهُ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْأَعْلَامِ يَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مُحْكَمٌ فِي أَحْوَالِهِ . وَالثَّانِي : مُتَشَابِهٌ فِي أَحْوَالِهِ . وَالثَّالِثُ : مُتَشَابِهٌ فِي حَالٍ وَمُحْكَمٌ فِي حَالٍ . وَالرَّابِعُ : مُحْكَمٌ مِنْ وَجْهٍ وَمُتَشَابِهٌ مِنْ وَجْهٍ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْمُحْكَمُ فِي الْأَحْوَالِ أنواعه فَضَرْبَانِ : مَفْهُومٌ ، وَمَعْقُولٌ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَفْهُومَ مَا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى فِكْرٍ ، وَالْمَعْقُولُ مَا احْتَاجَ إِلَى فِكْرٍ . وَالْمَفْهُومُ : ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا فُهِمَ صَرِيحُ لَفْظِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي تَحْرِيمِ الْمَنَاكِحِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ [ النِّسَاءِ : ] . الْآيَةَ . وَالثَّانِي : مَا فُهِمَ بِمَخْرَجِ خِطَابِهِ مِثْلِ قَوْلِهِ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْقِمَارِ : إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [ الْمَائِدَةِ : ] . فَدَلَّ وَضْعُ الْخِطَابِ عَلَى تَحْرِيمِهِ . وَالْمَعْقُولُ : ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا عُلِمَ بِالتَّنْبِيهِ كَقَوْلِهِ : وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ [ النِّسَاءِ : ] . بِثُلُثِ الْأُمِّ عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ لِلْأَبِ . وَالثَّانِي : مَا عُلِمَ بِالِاسْتِدْلَالِ : مِثْلُ تَقْدِيرِ أَقَلِّ الْحَمْلِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ بِقَوْلِهِ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا [ الْأَحْقَافِ : ] . دَلَّ بِقَوْلِهِ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [ الْبَقَرَةِ : ] . عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ ثَلَاثِينَ شَهْرًا هُوَ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ . فَهَذِهِ الضُّرُوبُ الْأَرْبَعَةُ وَنَظَائِرُهَا مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مُتَشَابِهَةٍ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ الْمُتَشَابِهُ فِي الْأَحْوَالِ أنواعه : فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا تَلَوَّحَتْ فِيهِ إِشَارَةٌ يُحْتَمَلُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا كَقَوْلِهِ فِي الْكَلَالَةِ : وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [ النِّسَاءِ : ] . فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْكَلَالَةِ . فَقَالَ : تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ " يَعْنِي قَوْلَهُ : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ [ النِّسَاءِ : ] . . . الْآيَةَ

فَسَمَّاهَا آيَةَ الصَّيْفِ ، لِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الصَّيْفِ فَلَمْ يَزِدْهُ فِي الْبَيَانِ عَنِ الرَّدِّ إِلَى الْإِشَارَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا تَجَرَّدَ عَنْ إِشَارَةٍ كَالْحُرُوفِ الْمُفْرَدَةِ فِي الْقُرْآنِ مِثْلُ آلم وَ كهيعص ، [ مَرْيَمَ : ] . حم عسق [ الشُّورَى : ] . فَكَانَتْ عَلَى احْتِمَالِ مُشْتَبِهَةٍ غَيْرَ أَنَّ الْمُرَادَ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ خَفِيٌّ وَفِي هَذَا الضَّرْبِ مُبْهَمٌ وَكِلَاهُمَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ الْمُتَشَابِهُ فِي حَالٍ وَالْمُحْكَمُ فِي حَالٍ أنواعه : فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : الْعُمُومُ إِذَا خُصَّ . وَالثَّانِي : الْمُجْمَلُ إِذَا فُسِّرَ ، هُمَا قَبْلَ الْبَيَانِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ ، وَبَعْدَ الْبَيَانِ مِنَ الْمُحْكَمِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : وَهُوَ الْمُحْكَمُ مِنْ وَجْهٍ وَالْمُتَشَابِهُ مِنْ وَجْهٍ : فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْمُتَشَابِهُ فِي الْمُوجَبِ ، وَالْمُحْكَمُ فِي الْوَاجِبِ ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ " [ الْأَنْعَامِ : ، الْإِسْرَاءِ : ] . فَالْحَقُّ هُوَ السَّبَبُ الْمُوجَبُ وَهُوَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ ، وَإِبَاحَةُ الْقَتْلِ هُوَ الْوَاجِبُ وَهُوَ مِنَ الْمُحْكَمِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمُحْكَمُ فِي الْمُوجَبِ وَالْمُتَشَابِهُ فِي الْوَاجِبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [ الْأَنْعَامِ : ] . وَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ هُوَ اسْتِحْصَادُ الزَّرْعِ وَهُوَ مِنَ الْمُحْكَمِ وَالْحَقُّ الْمُؤَدَّى هُوَ الْوَاجِبُ وَهُوَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ . فَهَذَانِ الضَّرْبَانِ وَنَظَائِرُهُمَا هُوَ الْمُحْكَمُ مِنْ وَجْهٍ وَالْمُتَشَابِهُ مَنْ وَجْهٍ ثُمَّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ تُعْتَبَرُ جَمِيعُ النُّصُوصِ .

فَصْلٌ الْقِسْمُ السَّادِسُ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ

فَصْلٌ : [ الْقِسْمُ السَّادِسُ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ ] . وَأَمَّا الْقِسْمُ السَّادِسُ وَهُوَ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ . تعريفه فَالنَّسْخُ هُوَ رَفْعُ مَا ثَبَتَ حُكْمُهُ فِي الشَّرْعِ دُونَ الْعَقْلِ ، لِأَنَّ وَاجِبَاتِ الْعُقُولِ لَا يَجُوزُ نَسْخُهَا بِشَرْعٍ وَلَا عَقْلٍ . فَالنَّسْخُ مُخْتَصٌّ بِالْأَحْكَامِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي دُونَ الْأَخْبَارِ ، لِأَنَّ نَسْخَ الْخَبَرِ مُفْضٍ إِلَى دُخُولِ الْكَذِبِ فِي نَاسِخِهِ أَوْ مَنْسُوخِهِ ، وَنَسْخَ الْحُكْمِ إِنَّمَا هُوَ الْعِلْمُ بِانْقِضَاءِ مُدَّتِهِ . وَهُوَ مَأْخُوذٌ فِي اللُّغَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ نَسَخَ الْمَطَرُ الْأَثَرَ إِذَا أَزَالَهُ وَنَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ إِذَا زَالَ بِهَا فَسُمِّيَ فِي الشَّرْعِ نَسْخًا لِزَوَالِ الْحُكْمِ بِهِ كَمَا سُمِّيَ بِهِ نَسْخَ الْكِتَابِ لِإِزَالَةِ الْأَصْلِ بِإِثْبَاتِ فَرْعِهِ .

وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ فِي الْعَقْلِ وَلَا فِي الشَّرْعِ نَسْخُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِأَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ بِالْمَصَالِحِ . وَقَدْ تَخْتَلِفُ الْمَصَالِحُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ فَيَكُونُ الْمَنْسُوخُ مَصْلَحَةً فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي ، وَيَكُونُ النَّاسِخُ مَصْلَحَةً فِي الزَّمَانِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَصْلَحَةً فِي زَمَانِهِ وَحَسَنًا فِي وَقْتِهِ وَإِنْ تَضَادَّا . وَلَا يَكُونُ بَدَاءً وَرُجُوعًا فَيُسْتَقْبَحُ كَمَا زَعَمَ قَوْمٌ لِأَنَّ الْبَدَاءَ هُوَ الرُّجُوعُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ ، وَالنَّسْخُ هُوَ أَمْرٌ بِالشَّيْءِ فِي وَقْتٍ وَالنَّهْيُ فِي غَيْرِهِ فَافْتَرَقَا . فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنِ اخْتِصَاصِ النَّسْخِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ دُونَ الْعَقْلِيَّةِ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي دُونَ الْأَخْبَارِ ، فَالنَّسْخُ جَائِزٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلٌ لِأَحْكَامِ الشَّرْعِ فَإِذَا جَاءَتْ فِي الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ السُّنَّةِ كَانَ فِي السُّنَّةِ أَجْوَزَ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالنَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَشْتَمِلُ عَلَى تَفْصِيلِ بَيَانِهِ عَلَى سَبْعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا يَقَعُ فِيهِ النَّسْخُ . وَالثَّانِي : مَا يَقَعُ بِهِ النَّسْخُ . وَالثَّالِثُ : فِي أَحْكَامِ النَّسْخِ . وَالرَّابِعُ : فِي أَحْوَالِ النَّسْخِ . وَالْخَامِسُ : فِي زَمَانِ النَّسْخِ . وَالسَّادِسُ : فِي دَلَائِلِ النَّسْخِ . وَالسَّابِعُ : فِي الْفَرْقِ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ .

الْقَوْلُ [ فِيمَا يَقَعُ فِيهِ النَّسْخُ ] : فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِيمَا يَقَعُ فِيهِ النَّسْخُ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي الشَّرْعِيَّةُ : فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهَا الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي الشَّرْعِيَّةُ وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً فَيَجُوزُ نَسْخُهَا ، وَإِنْ وَرَدَتْ بِلَفْظِ الْخَبَرِ . وَتَوَهَّمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَمَنَعَ مِنْ نَسْخِهَا إِذَا وَرَدَتْ بِلَفْظِ الْخَبَرِ اعْتِبَارًا بِالْأَخْبَارِ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ دُخُولِ النَّسْخِ فِيهَا . فَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : اخْتِصَاصُ الْأَخْبَارِ بِالْأَعْلَامِ وَاخْتِصَاصُ الْأَوَامِرِ بِالْإِلْزَامِ . وَالثَّانِي : اخْتِصَاصُ الْأَخْبَارِ بِالْمَاضِي وَالْأَوَامِرِ بِالْمُسْتَقْبَلِ وَلِمَا تَعَلَّقَ بِمَا وَرَدَ مِنَ

الْأَوَامِرِ بِلَفْظِ الْأَخْبَارِ أَحْكَامُ الْأَوَامِرِ دُونَ الْأَخْبَارِ ، وَمِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ، كَذَلِكَ فِي حُكْمِ النَّسْخِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَرِدَ الْأَمْرُ مُؤَكَّدًا بِالتَّأْبِيدِ فَفِي جَوَازِ نَسْخِهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ : لِأَنَّ صَرِيحَ التَّأْبِيدِ مَانِعٌ مِنِ احْتِمَالِ النَّسْخِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَكَأَنَّهُ أَشْبَهُ أَنَّ نَسْخَهُ جَائِزٌ ، لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ كَالْمُؤَكَّدِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ انْقِطَاعُ الْمُؤَبَّدِ بِالِاسْتِثْنَاءِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [ النُّورِ : ] . جَازَ انْقِطَاعُهُ نَاسِخٌ بِالْمُطْلَقِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مُقَدَّرًا بِمُدَّةٍ فَيَكُونُ انْقِضَاءُ الْمُدَّةِ مُوجِبًا لِارْتِفَاعِ الْأَمْرِ فَيَصِيرُ نَسْخًا بِغَيْرِ نَسْخٍ . فَإِنْ أُرِيدَ نَسْخُهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّتِهِ كَانَ فِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ : كَالْمُؤَبَّدِ .

[ الْقَوْلُ فِيمَا يَقَعُ بِهِ النَّسْخُ ] : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : فِيمَا يَقَعُ بِهِ النَّسْخُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِمِثْلِ الْمَنْسُوخِ فَيُنْسَخُ الْكِتَابُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةُ بِالسُّنَّةِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [ الْبَقَرَةِ : ] . وَفِي الْمُرَادِ بِنَسْخِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تَبْدِيلُهَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي : قَبْضُهَا قَالَهُ السُّدِّيُّ . وَفِي قَوْلِهِ " أَوْ نُنْسِهَا " وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : نَتْرُكُهَا فَلَا تُنْسَخُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي : نُؤَخِّرُهَا وَمِنْهُ بَيْعُ النَّسَاءِ . وَفِي هَذَا التَّأْخِيرِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : نُؤَخِّرُ نَسْخَهَا . وَالثَّانِي : نُؤَخِّرُ نُزُولَهَا . وَفِي قَوْلِهِ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بِخَيْرٍ مِنْهَا فِي الْمَنْفَعَةِ إِمَّا بِالتَّخْفِيفِ وَإِمَّا بِكَثْرَةِ الثَّوَابِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ ، وَمَعْنَاهُ : نَأْتِ مِنْهَا بِخَيْرٍ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ .

فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ . وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَلْ مَنَعَ مِنْهُ الْعَقْلُ أَوِ الشَّرْعُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَنَعَ مِنْهُ الْعَقْلُ ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنِ اعْتِرَاضِ الْمَأْمُورِ عَلَى الْأَمْرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : بَلْ مَنَعَ مِنْهُ الشَّرْعُ دُونَ الْعَقْلِ ، لِأَنَّ التَّفْوِيضَ إِلَى الْمَأْمُورِ لَا يَمْنَعُ مِنْ مُشَارَكَةِ الْأَمْرِ . وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ كَمَا نُسِخَتْ آيَةُ الْوَصَايَا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ " . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ [ النَّحْلِ : ] . وَقَوْلُهُ : قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ [ يُونُسَ : ] . وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " كَلَامِي لَا يَنْسَخُ كَلَامَ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ يَنْسَخُ كَلَامِي " ، وَكَلَامُ اللَّهِ يَنْسَخُ بَعْضُهُ بَعْضًا " وَهَذَا نَصٌّ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيٌّ . وَالَّذِي نَسَخَ آيَةَ الْوَصَايَا هُوَ آيَةُ الْمَوَارِيثِ فَكَانَتِ السُّنَّةُ بَيَانًا . وَأَمَّا نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ كَمَا لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : يَجُوزُ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ أَوْكَدُ مِنَ السُّنَّةِ وَخَرَّجَهُ قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعِيِّ مِنْ كَلَامٍ تَأَوَّلَهُ فِي الرِّسَالَةِ ، وَاسْتِشْهَادُهُ بِأَنَّ الْأَمْرَ أَنْفَذُ حُكْمًا مِنَ الْمَأْمُورِ وَاسْتِدْلَالًا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَخَ عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا عَقَدَهُ مَعَ قُرَيْشٍ فِي الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى رَدِّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ لَمَّا جَاءَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مُسْلِمَةً وَطَلَبَهَا أَخَوَاهَا مَنَعَهُ اللَّهُ مِنْ رَدِّهَا وَنَسَخَ عَلَيْهِ حُكْمَهُ بِقَوْلِهِ إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ [ الْمُمْتَحَنَةِ : ] . الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ فَدَلَّ هَذَا عَلَى جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي طَرِيقِ الْجَوَازِ وَالْمَنْعِ فِي الشَّرْعِ مَعَ جَوَازِهِ فِي الْعَقْلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا تُوجَدُ سُنَّةٌ إِلَّا وَلَهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَصْلٌ كَانَتِ السُّنَّةُ فِيهِ بَيَانًا

لِمُجْمَلِهِ ، فَإِذَا وَرَدَ الْكِتَابُ بِنَسْخِهَا كَانَ نَسْخًا لِمَا فِي الْكِتَابِ مِنْ أَصْلِهَا فَصَارَ ذَلِكَ نَسْخَ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوحِي إِلَى رَسُولِهِ بِمَا يُخْفِيهِ عَنْ أُمَّتِهِ ، فَإِذَا أَرَادَ نَسْخَ مَا سَنَّهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَمَهُ بِهِ حَتَّى يُظْهِرَ نَسْخَهُ ثُمَّ يَرِدُ الْكِتَابُ بِنَسْخِهِ تَأْكِيدًا لِنَسْخِ رَسُولِهِ فَصَارَ ذَلِكَ نَسْخَ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ نَسْخَ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ يَكُونُ أَمْرًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ بِالنَّسْخِ فَيَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْآمِرَ بِهِ وَالرَّسُولُ هُوَ النَّاسِخَ لَهُ فَصَارَ ذَلِكَ نَسْخَ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

[ الْقَوْلُ فِي أَحْكَامِ النَّسْخِ ] . فَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فِي أَحْكَامِ النَّسْخِ : فَهُوَ عَلَى خَمْسَةِ أَضْرُبٍ . أَحَدُهَا : مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَبَقِيَتْ تِلَاوَتُهُ ، وَالنَّاسِخُ بَاقِي الْحُكْمِ وَالتِّلَاوَةِ ، كَنَسْخِ الْعِدَّةِ حَوْلًا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَكَنَسْخِ آيَةِ الْوَصَايَا بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَتِلَاوَتُهُ وَالنَّاسِخُ بَاقِي الْحُكْمِ كَنَسْخِ صِيَامِ الْأَيَّامِ الْبِيضِ بِصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَنَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " أَوَّلُ مَا نُسِخَ بَابُ الصِّيَامِ الْأَوَّلِ وَاسْتِقْبَالُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ " . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَبَقِيَتْ تِلَاوَتُهُ وَنُسِخَتْ تِلَاوَةُ النَّاسِخِ وَبَقِيَ حُكْمُهُ : كَقَوْلِهِ فِي حَدِّ الزِّنَا وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [ النِّسَاءِ : ] . نَسَخَهُ قَوْلُهُ " الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ " قَالَ عُمَرُ : كُنَّا نَقْرَؤُهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْلَا أَنْ يُقَالَ : زَادَ عُمَرُ فِي الْمُصْحَفِ لَأَثْبَتُّهَا فِيهِ فَكَانَ الْمَنْسُوخُ مَرْفُوعَ الْحُكْمِ بَاقِيَ التِّلَاوَةِ وَالنَّاسِخُ مَرْفُوعَ التِّلَاوَةِ بَاقِيَ الْحُكْمِ . فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْسُوخُ نَاسِخًا ؟ فَفِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا كَانَ لِلْحُكْمِ دُونَ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمُ بَاقٍ وَإِنْ نُسِخَتِ التِّلَاوَةُ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّسْخُ بِهِ قَبْلَ نَسْخِ تِلَاوَتِهِ . وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ : مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَتِلَاوَتُهُ وَلَا يُعْلَمُ الَّذِي نَسَخَهُ كَالْمَرْوِيِّ أَنَّهُ كَانَ فِي الْقُرْآنِ " لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ لَابْتَغَى إِلَيْهِ ثَانِيًا وَلَوْ كَانَ لَهُ ثَانٍ لَابْتَغَى إِلَيْهِ ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ " وَكَالَّذِي رَوَاهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرَءُونَ " بَلِّغُوا إِخْوَانَنَا أَنَّنَا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا " وَمِثْلُ هَذَا

يَكُونُ رَافِعًا لَهُ فِي الْمَعْنَى وَلَا يَكُونُ نَسْخًا فِي الْحُكْمِ كَالَّذِي رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَامَ فِي اللَّيْلِ لِيَقْرَأَ سُورَةً فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا وَقَامَ آخَرُ لِيَقْرَأَهَا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ " رُفِعَتِ الْبَارِحَةَ " .

[ الْقَوْلُ فِي أَحْوَالِ النَّسْخِ ] : وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ فِي أَحْوَالِ النَّسْخِ : فَهُوَ عَلَى خَمْسَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : مَا نُسِخَ إِلَى مِثْلِهِ فِي الْخِفَّةِ وَالتَّغْلِيظِ كَنَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا نُسِخَ إِلَى مَا هُوَ أَغْلَظُ مِنْهُ كَنَسْخِ صِيَامِ الْأَيَّامِ الْبِيضِ بِصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَكَنَسْخِ الْحَبْسِ فِي الزِّنَا بِالرَّجْمِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : مَا نُسِخَ إِلَى مَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ كَنَسْخِ الْعِدَّةِ حَوْلًا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَكَنَسْخِ مُصَابَرَةِ الْوَاحِدِ لِعِشَرَةٍ فِي الْجِهَادِ بِمُصَابَرَتِهِ لِاثْنَيْنِ . وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ : مَا نُسِخَ إِلَى غَيْرِ بَدَلٍ كَنَسْخِ قِيَامِ اللَّيْلِ فِي قَوْلِهِ ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [ الْمُزَّمِّلِ : ] . بِقَوْلِهِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ [ الْإِسْرَاءِ : ] . فَنُسِخَ فَرْضُهُ بِغَيْرِ بَدَلٍ . وَالضَّرْبُ الْخَامِسُ : مَا نُسِخَ التَّخْيِيرُ فِيهِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ بِإِسْقَاطِ أَحَدِهِمَا وَانْحِتَامِ الْآخَرِ كَقَوْلِهِ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [ الْبَقَرَةِ : ] . فَكَانَ مُخَيِّرًا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بَيْنَ صِيَامِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ بِمُدٍّ فَنُسِخَ التَّخْيِيرُ بِانْحِتَامِ الصِّيَامِ بِقَوْلِهِ : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [ الْبَقَرَةِ : ] .

[ الْقَوْلُ فِي زَمَانِ النَّسْخِ ] . وَأَمَّا الْقِسْمُ الْخَامِسُ فِي زَمَانِ النَّسْخِ : فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : يَجُوزُ النَّسْخُ فِي أَحَدِهَا وَلَا يَجُوزُ فِي الْآخَرِ وَعَلَى خِلَافٍ فِي الثَّالِثِ . فْالضَّرْبُ الْأَوَّلُ : الَّذِي يَجُوزُ النَّسْخُ فِيهِ وَهُوَ بَعْدَ اعْتِقَادِ الْمَنْسُوخِ وَالْعَمَلِ بِهِ فَيَرِدُ النَّسْخُ بَعْدَ الْعَمَلِ بِالْمَنْسُوخِ فَهَذَا جَائِزٌ سَوَاءٌ عَمِلَ بِهِ جَمِيعُ النَّاسِ كَاسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ عَمِلَ بِهِ بَعْضُهُمْ كَفَرْضِ الصَّدَقَةِ فِي مُنَاجَاةِ الرَّسُولِ نُسِخَتْ بَعْدَ أَنْ عَمِلَ بِهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَحْدَهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : الَّذِي لَا يَجُوزُ النَّسْخُ فِيهِ فَهُوَ قَبْلَ اعْتِقَادِ الْمَنْسُوخِ وَالْعِلْمِ بِهِ فَلَا

يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ النَّسْخُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْمَنْسُوخِ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ النَّسْخِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْفَرْضِ لِيَخْرُجَ عَنِ الْبَدَاءِ إِلَى الْإِعْلَامِ بِالْمُدَّةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أُمَّتِهِ خَمْسِينَ صَلَاةً فَلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُ رَبَّهُ فِيهَا وَيَسْتَنْزِلُهُ حَتَّى اسْتَقَرَّ الْفَرْضُ عَلَى خَمْسٍ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْمَنْسُوخِ . قِيلَ : هَذَا إِنْ ثَبَتَ فَهُوَ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيرِ دُونَ النَّسْخِ : لِأَنَّ الْفَرْضَ يَسْتَقِرُّ بِنُفُوذِ الْأَمْرِ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ أَمْرٌ إِلَّا عِنْدَ اسْتِقْرَارِ الْخَمْسِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَهُوَ وُرُودُ النَّسْخِ بَعْدَ اعْتِقَادِ الْمَنْسُوخِ وَقَبْلَ الْعَمَلِ بِهِ وَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ بَعْدَ اعْتِقَادِهِ وَقَبْلَ الْعَمَلِ بِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ قَبْلَ الِاعْتِقَادِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ لِيَخْرُجَ مِنَ الْبَدَاءِ إِلَى النَّسْخِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ نَسْخُهُ بَعْدَ الِاعْتِقَادِ وَقَبْلَ الْعَمَلِ ، كَمَا يَجُوزُ نَسْخُهُ بَعْدَ الْعَمَلِ ، لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ ، فَكَانَ كَالنَّسْخِ بَعْدَ الْعَمَلِ ، وَيَكُونُ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ الِاعْتِقَادُ دُونَ الْعَمَلِ اخْتِبَارًا لِطَاعَتِهِمْ ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ ابْنِهِ ثُمَّ نَهَاهُ عَنْهُ قَبْلَ ذَبْحِهِ فَقَالَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [ الصَّافَّاتِ : ] . فَاخْتَبَرَ بِذَلِكَ طَاعَتَهُ وَنَهَاهُ بَعْدَ الِاعْتِقَادِ وَقَبْلَ الْفِعْلِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النَّسْخُ إِلَّا أَنْ يَمْضِيَ بَعْدَ الِاعْتِقَادِ زَمَانٌ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُعْمَلْ بِهِ لِاخْتِصَاصِ النَّسْخِ بِتَقْدِيرِ مُدَّةِ التَّكْلِيفِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ بِمُضِيِّ زَمَانِهِ . فَإِذَا اسْتَقَرَّ النَّسْخُ بِمَا بَيَّنَاهُ لَزِمَ فَرَضُهُ فِي الْحَالِ لِكُلِّ مَنْ عَلِمَ بِهِ مِنَ الْحَاضِرِينَ . وَأَمَّا فَرْضُهُ عَلَى الْغَائِبِينَ عَنْهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجِبُ فَرْضُهُ عَلَيْهِمْ فِي الْحَالِ كَالْحَاضِرِينَ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ إِلَّا بَعْدَ حِينٍ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَمَّهُمْ بِفَرْضِهِ وَلَمْ يَخُصَّ بِهِ حَاضِرًا مِنْ غَائِبٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ - أَشْبَهُ أَنَّ فَرْضَهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِهِ وَإِنْ تَقَدَّمَ فَرْضُهُ عَلَى غَيْرِهِمْ عَنْ عِلْمٍ كَمَا يَلْزَمُ الْحَاضِرِينَ فَرْضُهُ بَعْدَ إِبْلَاغِ الرَّسُولِ وَإِنْ تَقَدَّمَ فَرْضُهُ عَلَى الرَّسُولِ وَلِذَلِكَ اسْتَدَارَ أَهْلُ قُبَاءَ فِي صَلَاتِهِمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَتَحَوَّلُوا إِلَى الْكَعْبَةِ فَبَنَوْا عَلَى مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ عِلْمِهِمْ ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : كُنَّا نُخَابِرُ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَا نَرَى بِذَلِكَ بِأْسًا حَتَّى أَخْبَرَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْهَا فَانْتَهَيْنَا وَلَمْ يَتَرَاجَعُوا فِيمَا تَقَدَّمَ .

[ الْقَوْلُ فِي دَلَائِلِ النَّسْخِ ] : وَأَمَّا الْقِسْمُ السَّادِسُ فِي دَلَائِلِ النَّسْخِ : وَهُوَ أَنْ يَرِدَ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ حُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ : فَهُمَا ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُمْكِنَ اسْتِعْمَالُهُمَا وَلَا يَتَنَافَى اجْتِمَاعُهُمَا ، فَهُوَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَعَمَّ مِنَ الْآخَرِ لِعُمُومِ أَحَدِهِمَا وَخُصُوصِ الْآخَرِ ، فَيَقْضِي بِالْأَخَصِّ عَلَى الْأَعَمِّ فَيُسْتَثْنَى مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَقَالَ فِيمَنْ أَبَاحَ نِكَاحَهُنَّ : وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [ الْمَائِدَةِ : ] . فَقَضَى بِهَذِهِ عَلَى تِلْكَ فَصَارَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ إِلَّا الْكِتَابِيَّاتِ فَكَانَ عُمُومًا مَخْصُوصًا وَلَمْ يَكُنْ نَاسِخًا وَلَا مَنْسُوخًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَتَسَاوَى الِاثْنَانِ فِي جَوَازِ تَخْصِيصِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالْأُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [ النِّسَاءِ : ] . وَقَوْلُهُ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [ الْمُؤْمِنُونَ : - ] . فَجَازَ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَبَاحَهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ إِلَّا الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فَتَكَافَأَ فِي الْجَوَازِ بِخِلَافِ الضَّرْبِ الْمُتَقَدِّمِ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى دَلِيلٍ يُوجِبُ تَخْصِيصَ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى وَلِذَلِكَ قَالَ عُثْمَانُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ : أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا أُخْرَى وَالتَّحْرِيمُ أَوْلَى ، فَهَذَا فِيمَا أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُ الْحُكْمَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِيهِ . وَأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى التَّخْصِيصِ دُونَ النَّسْخِ إِلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى النَّسْخِ ، فَيَعْدِلُ بِالدَّلِيلِ عَنِ اسْتِعْمَالِ التَّخْصِيصِ إِلَى النَّسْخِ كَآيَةِ الْوَصَايَا وَآيَةِ الْمَوَارِيثِ ، قَدْ كَانَ يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُمَا مِنْ غَيْرِ نَسْخٍ لَكِنْ رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا نَسَخَتْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ آيَةَ الْوَصَايَا فَعُدِلَ عَنِ اسْتِعْمَالِ التَّخْصِيصِ إِلَى النَّسْخِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَتَنَافَى الْحُكْمَانِ لَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُمَا فَيُعْلَمُ مَعَ التَّنَافِي أَنَّ أَحَدَهُمَا نَاسِخٌ لِلْآخَرِ فَيَرْجِعُ إِلَى دَلَائِلِ النَّسْخِ فَيُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ . وَهِيَ خَمْسُ دَلَائِلَ مُتَرَتِّبَةٍ يَتَقَدَّمُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ . فَأَوَّلُهَا : أَنْ يَتَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا وَيَتَأَخَّرَ الْآخَرُ فَيُعْلَمُ أَنَّ الْمُتَأَخِّرَ نَاسِخٌ لِلْمُتَقَدِّمِ ، فَإِنْ قِيلَ فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْعِدَّةِ : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [ الْبَقَرَةِ : ] . نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَهُوَ غَيْرُ مُتَقَدِّمٍ عَلَيْهِ . قِيلَ هُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ فِي التِّلَاوَةِ وَمُتَأَخِّرٌ عَنْهُ فِي التَّنْزِيلِ وَقَدْ عُدِلَ بِتَرْتِيبِ التِّلَاوَةِ عَنْ تَرْتِيبِ التَّنْزِيلِ بِحَسَبِ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ لِلْمَصْلَحَةِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِمَا

فَقَدْ قِيلَ : إِنَّ آخِرَ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ . وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ سُورَةُ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ فِي الْمُفَصَّلِ . وَالنَّسْخُ إِنَّمَا يَتَأَخَّرُ وَيَخْتَصُّ بِالْمُتَأَخِّرِ فِي التَّنْزِيلِ دُونَ التِّلَاوَةِ . وَإِنْ أَشْكَلَ الْمُتَقَدِّمُ وَالْمُتَأَخِّرُ وَجَازَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مُتَقَدِّمًا أَوْ مُتَأَخِّرًا عَدَلَ إِلَى الدَّلِيلِ الثَّانِي : وَهُوَ بَيَانُ الرَّسُولِ : فَإِنْ ثَبَتَ عَنْهُ بَيَانُ النَّاسِخِ مِنَ الْمَنْسُوخِ عَمِلَ عَلَيْهِ وَكَانَتِ السُّنَّةُ مُبَيِّنَةً لَهُ وَلَمْ تَكُنْ نَاسِخَةً . وَإِنْ عُدِمَ بَيَانُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَدَلَ إِلَى الدَّلِيلِ الثَّالِثِ وَهُوَ الْإِجْمَاعُ فَإِنِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَعْيِينِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ عَمِلَ عَلَيْهِ وَكَانَ الْإِجْمَاعُ مُبَيِّنًا وَلَمْ يَكُنْ نَاسِخًا . وَإِنْ عَدَمَ الْإِجْمَاعَ عَدَلَ إِلَى الدَّلِيلِ الرَّابِعِ وَهُوَ الِاسْتِعْمَالُ فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْتَعْمَلًا وَالْآخَرُ مَتْرُوكًا كَانَ الْمُسْتَعْمَلُ نَاسِخًا وَالْمَتْرُوكُ مَنْسُوخًا . فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الِاسْتِعْمَالِ بَيَانٌ إِمَّا لِاشْتِبَاهِهِ أَوْ لِاشْتِرَاكِهِ عَدَلَ إِلَى الدَّلِيلِ الْخَامِسِ : وَهُوَ التَّرْجِيحُ بِشَوَاهِدِ الْأُصُولِ وَتَطَلُّبِ الْأَدِلَّةَ وَكَانَتْ غَايَةُ الْعَمَلِ بِهِ . وَسَمِعْتُ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ إِنَّ كُلَّ آيَةٍ مَنْسُوخَةٍ فَفِي ضِمْنِ تِلَاوَتِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَهَا لَيْسَ بِثَابِتٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، مِثْلُ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي حَدِّ الزِّنَا : فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [ النِّسَاءِ : ] . دَلَّ قَوْلُهُ : أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا أَنَّ حُكْمَهَا لَا يَدُومُ فَنَسَخَتْهَا آيَةُ النُّورِ فِي قَوْلِهِ : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [ النُّورِ : ] . وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " خُذُوا عَنِّي ، خُذُوا عَنِّي ، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا : الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ " وَهَذَا الَّذِي ادَّعَاهُ هَذَا الْقَائِلُ يَبْعُدُ أَنْ يُوجَدَ فِي كُلِّ آيَةٍ مَنْسُوخَةٍ ، لَكِنَّهُ مُعْتَقِدٌ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ تَكُونُ نَسْخًا فَيَجْعَلُ ذَلِكَ فِي شَوَاهِدِ الْمَنْسُوخِ ، وَلَيْسَتِ الزِّيَادَةُ عِنْدَنَا عَلَى النَّصِّ نَسْخًا .

[ الْقَوْلُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ ] . وَأَمَّا الْقِسْمُ السَّابِعُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ : فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقْتَرِنًا بِهِ وَمُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ وَمُتَأَخِّرًا عَنْهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمَنْسُوخِ وَلَا مُقْتَرِنًا بِهِ ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ . وَالْفَرْقُ الثَّانِي : أَنَّ التَّخْصِيصَ بَيَانُ مَا أُرِيدَ بِالْعُمُومِ ، وَالنَّسْخُ بَيَانُ مَا لَمْ يُرَدْ بِالْمَنْسُوخِ .

وَالْفَرْقُ الثَّالِثُ : أَنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ جِنْسِهِ فَيَخُصُّ عُمُومَ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ ، وَلَا يَجُوزُ فِي النَّسْخِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مِنْ جِنْسِ الْمَنْسُوخِ فَيُنْسَخُ الْكِتَابُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةُ بِالسُّنَّةِ . وَالْفَرْقُ الرَّابِعُ : أَنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَحْكَامِ وَالْأَخْبَارِ ، وَالنَّسْخَ مُخْتَصٌّ بِالْأَحْكَامِ دُونَ الْأَخْبَارِ . وَالْفَرْقُ الْخَامِسُ : أَنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ ، وَالنَّسْخَ يَكُونُ عَلَى التَّرَاخِي فَهَذَا بَيَانُ الْأَقْسَامِ السَّبْعَةِ مِنْ أَحْكَامِ الْأَصْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْكِتَابُ .

فَصْلٌ السُّنَّةُ

الْقَوْلُ فِي حُجِّيَّةِ السُّنَّةِ

فَصْلٌ : [ الْمَصْدَرُ الثَّانِي - السُّنَّةُ ] . وَأَمَّا الْأَصْلُ الثَّانِي مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ فَهُوَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَتَمَ بِرَسُولِهِ النُّبُوَّةَ ، وَكَمَّلَ بِهِ الشَّرِيعَةَ ، وَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَيَانَ مَا أَخْفَاهُ مِنْ مُجْمَلٍ أَوْ مُتَشَابِهٍ ، وَإِظْهَارَ مَا يُشَرِّعُهُ مِنْ أَحْكَامٍ وَمَصَالِحٍ فَقَالَ تَعَالَى : وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [ النَّحْلِ : ] . [ الْقَوْلُ فِي حُجِّيَّةِ السُّنَّةِ ] . وَلَمَّا جَعَلَهُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ أَوْجَبَ عَلَى النَّاسِ طَاعَتَهُ فِي قَبُولِ مَا شَرَعَهُ لَهُمْ وَامْتِثَالِ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ حكم طاعة الرسول فَقَالَ تَعَالَى : وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [ الْحَشْرِ : ] . وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ لِأُمَّتِهِ أَمْرَيْنِ النبي محمد صلى الله عليه وسلم : أَحَدُهُمَا : الْبَيَانُ . وَالثَّانِي : الْبَلَاغُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [ الْمَائِدَةِ : ] . وَأَوْجَبَ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أُمَّتِهِ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : طَاعَتَهُ فِي قَبُولِ قَوْلِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُبَلِّغُوا عَنْهُ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " بَلِّغُوا عَنِّي وَلَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ " . وَلَمَّا كَانَ الرَّسُولُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُبَلِّغَ جَمِيعَ النَّاسِ لِلْعَجْزِ عَنْهُ اقْتَصَرَ عَلَى إِبْلَاغِ مَنْ حَضَرَ لِيَنْقُلَهُ الْحَاضِرُ إِلَى الْغَائِبِ . وَلَمَّا لَمْ يَبْقَ فِيهِمْ إِلَى الْأَبَدِ فَكُلُّ مَنْ يَأْتِي فِي عَصْرٍ بَعْدَ عَصْرٍ يَأْخُذُونَ عَمَّنْ

تَقَدَّمَهُمْ مِنْ عَصْرٍ وَيَنْقُلُونَ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ عَصْرٍ لِيَنْقُلَ عَنْهُ كُلُّ سَلَفٍ إِلَى خَلَفِهِ فَيَسْتَدِيمُ عَلَى الْأَبَدِ نَقْلُ سُنَّتِهِ وَيُعْلَمُ جَمِيعُ مَا يَأْتِي لِشَرَائِعِهِ . فَصَارَ نَقْلُ الْأَخْبَارِ عَنْهُ وَاجِبًا عَلَى أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ وَقَبُولُهَا وَاجِبًا فِي كُلِّ عَصْرٍ . فَلِذَلِكَ صَارَتِ الْأَخْبَارُ عَنْهُ ، أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ .

الْقَوْلُ فِي بَيَانِ الْأَخْبَارِ

[ الْقَوْلُ فِي بَيَانِ الْأَخْبَارِ ] . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَخْبَارُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَخْبَارُ اسْتِفَاضَةٍ ، وَأَخْبَارُ تَوَاتُرٍ ، وَأَخْبَارُ آحَادٍ . [ الْخَبَرُ الْمُسْتَفِيضُ تعريفه ] . فَأَمَّا أَخْبَارُ الِاسْتِفَاضَةِ : فَهُوَ أَنْ تَبْدُوَ مُنْتَشِرَةً مِنَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ وَيَتَحَقَّقُهَا الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ فَلَا يَخْتَلِفُ فِيهَا مُخْبِرٌ وَلَا يَتَشَكَّكُ فِيهَا سَامِعٌ وَيَكُونُ انْتِشَارُهَا فِي ابْتِدَائِهَا كَانْتِشَارِهَا فِي آخِرِهَا وَهَذَا أَقْوَى الْأَخْبَارِ حَالًا وَأَثْبَتُهَا حُكْمًا . أَخْبَارُ التَّوَاتُرِ تعريفها وَأَمَّا أَخْبَارُ التَّوَاتُرِ : فَهُوَ مَا ابْتَدَأَ بِهِ الْوَاحِدُ بَعْدَ الْوَاحِدِ حَتَّى يَكْثُرَ عَدَدُهُمْ وَيَبْلُغُوا قَدْرًا يَنْتَفِي عَنْ مِثْلِهِ التَّوَاطُؤُ وَالْغَلَطُ وَلَا يَعْتَرِضُ فِي خَبَرِهِمْ تَشَكُّكٌ وَلَا ارْتِيَابٌ فَيَكُونُ فِي أَوَّلِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَفِي آخِرِهِ مِنْ أَخْبَارِ التَّوَاتُرِ فَيَصِيرُ مُخَالِفًا لِخَبَرِ الِاسْتِفَاضَةِ فِي أَوَّلِهِ مُوَافِقًا لَهُ فِي آخِرِهِ [ الْفَرْقُ بَيْنَ الِاسْتِفَاضَةِ وَالتَّوَاتُرِ ] . وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ خَبَرِ الِاسْتِفَاضَةِ وَخَبَرِ التَّوَاتُرِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : مَا ذَكَرْنَاهُ مِنِ اخْتِلَافِهِمَا فِي الِابْتِدَاءِ وَاتِّفَاقِهِمَا فِي الِانْتِهَاءِ . وَالثَّانِي : أَنَّ أَخْبَارَ الِاسْتِفَاضَةَ لَا يُرَاعَى فِيهَا عَدَالَةُ الْمُخْبِرِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ أَخْبَارَ الِاسْتِفَاضَةِ تَنْتَشِرُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِرِوَايَتِهَا ، وَأَخْبَارَ التَّوَاتُرِ مَا انْتَشَرَتْ عَنْ قَصْدٍ لِرِوَايَتِهَا . ثُمَّ يَسْتَوِي الْخَبَرَانِ فِي انْتِفَاءِ التَّشَكُّكِ عَنْهُمَا وَوُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِمَا وَلَيْسَ الْعَدَدُ فِيهِمَا مَحْصُورًا لِتَكُونَ أَنْفَى لِلِارْتِيَابِ وَأَمْنَعَ مِنَ التَّصَنُّعِ ، وَإِنَّمَا الشَّرْطُ فِيهِمَا أَنْ يَنْتَفِيَ عَنِ الْمُخْبِرِينَ بِهِمَا لِجَوَازِ التَّوَاطُؤِ عَلَى الْكَذِبِ وَيَمْتَنِعُ اتِّفَاقُهُمْ فِي السَّهْوِ وَالْغَلَطِ حَتَّى يَزُولَ الشَّكُّ وَيَحْصُلَ الْيَقِينُ ، ثُمَّ تَنْتَهِي إِلَى عَصْرٍ بَعْدَ عَصْرٍ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ وَالْمُسْتَفِيضُ مِنْ أَخْبَارِ السُّنَّةِ مِثْلُ أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَالْمُتَوَاتِرُ مِنْهَا مِثْلُ نُصُبِ الزَّكَوَاتِ . فَإِنْ قِيلَ فَقَدِ اسْتَفَاضَ فِي النَّصَارَى قَتْلُ الْمَسِيحِ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ بِكَذِبِهِمْ ، قِيلَ إِنَّمَا اسْتَفَاضَ خَبَرُ قَتْلِهِ عَنْ أَرْبَعَةٍ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ شَاهَدُوا قَتْلَهُ ، قِيلَ : إِنَّهُمْ مَتَّى وَلُوقَا وَمَارِيقَسَ وَيُوحَنَّا

وَهُمْ عَدَدٌ يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمُ التَّوَاطُؤُ وَالْغَلَطُ ثُمَّ اسْتَفَاضَ عَنْهُمُ الْخَبَرُ فَصَارَ أَصْلُهُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَانْتِشَارُهُ مِنْ أَخْبَارِ الِاسْتِفَاضَةِ

الْقَوْلُ فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ

[ الْقَوْلُ فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ ] . وَأَمَّا أَخْبَارُ الْآحَادِ تعريفها فَهُوَ مَا أَخْبَرَ الْوَاحِدُ وَالْعَدَدُ الْقَلِيلُ الَّذِي يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمُ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ ، أَوْ الِاتِّفَاقِ فِي السَّهْوِ ، وَالْغَلَطِ ، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ . وَالثَّانِي : أَخْبَارُ الشَّهَادَاتِ . وَالثَّالِثُ : أَخْبَارُ السُّنَنِ وَالدِّيَانَاتِ . فَأَمَّا أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ العدالة في راويها : فَلَا تُرَاعَى فِيهَا عَدَالَةُ الْمُخْبِرِ وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِيهَا سُكُونُ النَّفْسِ إِلَى خَبَرِهِ فَتُقْبَلُ مِنْ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَمُسْلِمٍ وَكَافِرٍ وَصَغِيرٍ وَبَالِغٍ ، فَإِذَا قَالَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ هَذِهِ هَدِيَّةُ فُلَانٍ إِلَيْكَ جَازَ أَنْ تَعْمَلَ عَلَى قَوْلِهِ ، وَفِي الدُّخُولِ لِأَنَّهُ فِي الْعُرْفِ مَقْبُولٌ وَإِنَّمَا لَمْ تُعْتَبَرْ فِي هَذَا الْخَبَرِ عَدَالَةُ الْمُخْبِرِ لِأَنَّ الْعُرْفَ جَازَ بِاسْتِنَابَةِ أَهْلِ الْبِذْلَةِ فِيهِ ، وَمَنْ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الصِّيَانَةِ وَذَلِكَ مُنَافٍ لِشُرُوطِ الْعَدَالَةِ فَلِذَلِكَ سَقَطَ اعْتِبَارُهَا فِيهِمْ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَأَمَّا أَخْبَارُ الشَّهَادَاتِ اشتراط العدالة فَيُعْتَبَرُ فِيهَا شَرْطَانِ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِمَا وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِمَا : أَحَدُهُمَا : الْعَدَالَةُ : لِأَنَّ الْمُنْتَدَبَ لَهَا أَهْلُ الصِّيَانَةِ فَوَجَبَ أَنْ تُعْتَبَرَ فِيهِمُ الْعَدَالَةُ لِيَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالصِّيَانَةِ . وَالثَّانِي : الْعَدَدُ بِحَسْبِ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ : وَأَكْثَرُهُ أَرْبَعَةٌ فِي الزِّنَا وَأَقَلُّهُ اثْنَانِ فِي الْأَمْوَالِ فَصَارَتِ الشَّهَادَةُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَغْلَظَ مِنْ أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ ، وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ . وَأَمَّا أَخْبَارُ السُّنَنِ وَالْعِبَادَاتِ فَمُخْتَلَفٌ فِي قَبُولِ الْآحَادِ فِيهَا . فَمَنَعَ مِنْهَا قَوْمٌ كَالْأَصَمِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ وَعَدَلُوا عَنْهَا إِلَى غَيْرِهِ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ ، لِأَنَّهَا لَا تُوجِبُ الْعِلْمَ فَلَمْ تُوجِبِ الْعَمَلَ ، وَوَقَّفَهَا آخَرُونَ عَلَى مَا يُعَضِّدُهَا مِنَ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا . وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى قَبُولِهَا وَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهَا ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ [ التَّوْبَةِ : ] . الْآيَةَ : فَلَوْ لَمْ تَلْزَمِ الْحُجَّةُ بِالْآحَادِ النَّافِرَةِ لَأَمَرَ فِيهِ بِالتَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَنَقْلَ إِلَيْهِمُ السُّنَنَ وَعَلَّمَهُمُ الْعِبَادَاتِ وَنُصُبَ الزَّكَوَاتِ

وَأَوْضَحَ لَهُمُ الْأَحْكَامَ فَالْتَزَمُوهَا بِخَبَرِهِ ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عَصْرِهِ مَا عَدَلُوا إِلَيْهِ فِيهَا وَلَا طَلَبُوا مَعَ مُعَاذٍ زِيَادَةً عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرْضُ الْإِبْلَاغِ بِذِكْرِ الْآحَادِ لَزِمَ فِيهَا قَبُولُ أَخْبَارِ الْآحَادِ من أدلته ، وَلَوْ لَزِمَ فِيهَا الْعَدَدُ الْمُتَوَاتِرُ لَأَدَّاهَا إِلَى الْعَدَدِ الْمُتَوَاتِرِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلْمُسْتَفْتِي أَنْ يَعْمَلَ عَلَى فُتْيَا الْمُفْتِي جَازَ لِلْمُسْتَخْبِرِ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى رِوَايَةِ الْمُخْبِرِ : لِأَنَّهُمَا فِي أَحْكَامِ الدِّينِ عَلَى سَوَاءٍ . [ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ] . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ حُجَّةٌ تُوجِبُ الْعَمَلَ بِهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَا . فَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ إِلَى أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ إِلَّا مِنِ اثْنَيْنِ عَلَى اثْنَيْنِ حَتَّى تَتَّصِلَ بِالرَّسُولِ كَأَقَلِّ الشَّهَادَاتِ . وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ إِلَّا مِنْ أَرْبَعَةٍ عَنْ أَرْبَعَةٍ كَأَكْثَرِ الشَّهَادَاتِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْعَدَدَ فِيهَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ، وَأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا وَاحِدٌ ، وَقَدْ عَمِلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ وَأَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ ، وَعَمِلَ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ مَعَ انْتِشَارِهِ وَاشْتِهَارِهِ وَلِأَنَّ مَا يَجُوزُ فِي الْوَاحِدِ مِنْ الِاحْتِمَالِ يَجُوزُ فِي الِاثْنَيْنِ وَالْأَرْبَعَةِ ، وَلَيْسَ اعْتِبَارُ أَخْبَارِ السُّنَنِ بِالشَّهَادَةِ بِأَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِهَا بِأَخْبَارِ الْمُعَامَلَةِ ، لِأَنَّهَا وَاسِطَةٌ بَيْنَهُمَا فَاعْتُبِرَ فِيهَا الْعَدَالَةُ كَالشَّهَادَةِ ، وَقُبِلَ فِيهَا خَبَرُ الْوَاحِدِ كَالْمُعَامَلَةِ . [ الْقَوْلُ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ إِذَا عَارَضَهُ أَصْلٌ ] . وَإِذَا ثَبَتَ قَبُولُهَا مِنَ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِمَا تَضَمَّنَهَا مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ الْعَقْلُ . وَامْتَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ الْعَمَلِ بِهَا إِذَا خَالَفَتِ الْأُصُولَ وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْمَلْ بِخَبَرِ الْمُصَرَّاةِ . وَمَنَعَ مَالِكٌ مِنَ الْعَمَلِ بِهَا ، إِذَا خَالَفَتْ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْمَلْ عَلَى خِيَارِ الْمَجْلِسِ فِي الْبَيْعِ وَهُوَ الرَّاوِي لَهُ . وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ فَاسِدٌ : لِأَنَّ الْخَبَرَ أَصْلٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُدْفَعَ بِأَصْلٍ ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُدْفَعَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ وَإِنْ أَوْجَبَ الْعَمَلَ فَغَيْرُ مُوجِبٍ لِلْعِلْمِ الْبَاطِنِ بِخِلَافِ الْمُسْتَفِيضِ وَالْمُتَوَاتِرِ .

وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُوجِبُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُوجِبُهُ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْعِلْمِ مِنْ نَتَائِجِ بَاطِنِهِ فَلَمْ يَفْتَرِقَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُوجِبُهُ لِأَنَّ سُكُونَ النَّفْسِ إِلَيْهِ مُوجِبٌ لَهُ وَلَوْلَاهُ لَكَانَ ظَنًّا .

فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي أَحْوَالِ الرُّوَاةِ

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَاهُ فَالْكَلَامُ فِي السُّنَنِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي أَحْوَالِ الرُّوَاةِ النَّاقِلِينَ لَهَا . وَالثَّانِي : الْمُتُونُ الْمَعْمُولُ عَلَيْهَا . [ الْقَوْلُ فِي أَحْوَالِ الرُّوَاةِ ] . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الرُّوَاةِ فَيَشْتَمِلُ الْكَلَامُ فِيهِ عَلَى خَمْسَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : فِي صِفَاتِ الرَّاوِي . وَالثَّانِي : فِي شُرُوطِ التَّحَمُّلِ . وَالثَّالِثُ : فِي صِفَةِ الْأَدَاءِ . وَالرَّابِعُ : فِي أَحْوَالِ الْإِسْنَادِ . وَالْخَامِسُ : فِي نَقْلِ السَّمَاعِ . [ الْقَوْلُ فِي صِفَاتِ الرَّاوِي ] . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : فِي صِفَاتِ الرَّاوِي : فَيُعْتَبَرُ فِيهِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : الْبُلُوغُ : فَإِنَّ الصَّغِيرَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الدِّينِ فِي خَبَرٍ وَلَا فُتْيَا ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُرِ عَلَى قَوْلِهِ حُكْمٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : الْعَقْلُ الْمُوقَظُ : وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْعَقْلِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ حَتَّى يَنْضَمَّ إِلَيْهِ التَّيَقُّظُ وَالتَّحَفُّظُ فَيُفَرِّقُ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ لِيَصِحَّ تَمْيِيزُهُ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : الْعَدَالَةُ فِي الدِّينِ لِأَنَّ الْفَاسِقَ مَرْدُودُ الْقَوْلِ فِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا " [ الْحُجُرَاتِ : ] . وَلِأَنَّ النَّفْسَ لَا تَثِقُ بِخَبَرِهِ كَمَا لَا تَثِقُ بِشَهَادَتِهِ . وَلَا يُرَدُّ خَبَرُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ مَا لَمْ يُكَفِّرُوا غَيْرَهُمْ وَيُظْهِرُوا عِنَادَهُمْ . قَدِ اتُّهِمَ بِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ التَّابِعِينَ فَمَا رُدَّتْ أَخْبَارُهُمْ ، وَشَدَّدَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ فَمَنَعَ مِنْ قَبُولِ خَبَرِ مَنْ لَا يُوَافِقُهُ عَلَى مَذْهَبِهِ وَهَذَا مُفْضٍ إِلَى إِطْرَاحِ أَكْثَرِ السُّنَنِ . وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ مَأْمُونَ الزَّلَلِ شَدِيدَ الْيَقَظَةِ بَعِيدًا مِنَ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ حَتَّى لَا يَشْتَبِهَ عَلَيْهِ الْكَذِبُ بِالصِّدْقِ .

وَيَكُونُ عَلَى ثِقَةٍ بِهِ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ : أَنَّهُ قَالَ : لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ سَبْعِينَ شَيْخًا أَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ بِأَدْعِيَتِهِمْ لَا أَرْوِي عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ حَدِيثًا ، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ سَلَامَةٍ لَا تُؤْمَنُ غَفْلَتُهُمْ وَإِنْ قَوِيَتْ دِيَانَتُهُمْ . وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ إِذَا كَانَ ضَابِطًا قَدْ قِيلَ الْمَصْدَرُ الْأَوَّلُ رِوَايَاتُ الْأَعْرَابِ وَأَهْلِ الْبَوَادِي ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ " . وَهَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ تُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ كَاعْتِبَارِهَا فِي الْخَبَرِ [ الْقَوْلُ فِي خَبَرِ الْأَعْمَى وَالْعَبْدِ ] . وَيُقْبَلُ خَبَرُ الْأَعْمَى وَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ ، وَيُقْبَلُ خَبَرُ الْعَبْدِ وَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ . لِأَنَّ الْخَبَرَ لِاخْتِصَاصِهِ بِالدِّينِ تُعْتَبَرُ فِيهِ شُرُوطُ الْمُفْتِي وَلَا تُعْتَبَرُ فِيهِ شُرُوطُ الشَّاهِدِ وَفُتْيَا الْأَعْمَى وَالْعَبْدِ مَقْبُولَةٌ كَذَلِكَ خَبَرُهُمَا . [ الْقَوْلُ فِي أَخْبَارِ النِّسَاءِ ] : وَتُقْبَلُ أَخْبَارُ النِّسَاءِ حكمها من ناحية القبول والرد . وَامْتَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ قَبُولِ أَخْبَارِ النِّسَاءِ فِي الدِّينِ إِلَّا أَخْبَارَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ . وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَوْ كَانَ نَقْصُ الْأُنُوثَةِ مَانِعًا لَعَمَّ . وَالثَّانِي : أَنَّ قَبُولَ قَوْلِهِنَّ فِي الْفُتْيَا يُوجِبُ قَبُولَهُ فِي الْأَخْبَارِ لِأَنَّ الْفُتْيَا أَغْلَظُ شُرُوطًا .

فَصْلٌ : الْقَوْلُ فِي شُرُوطِ التَّحَمُّلِ وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي شُرُوطِ التَّحَمُّلِ : فَلِلْمُسْتَمِعِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَسْمَعَ مِنْ لَفْظِ الْمُحَدِّثِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَقْرَأَهُ عَلَى الْمُحَدِّثِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُجِيزَهُ الْمُحَدِّثُ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يُكَاتِبَهُ بِهِ الْمُحَدِّثُ . فَأَمَّا الْحَالَةُ الْأُولَى فِي سَمَاعِهِ مِنْ لَفْظِ الْمُحَدِّثِ فَيَصِحُّ تَحَمُّلُهُ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ عَنْ قَصْدٍ وَاسْتِرْعَاءٍ أَوْ كَانَ بِاتِّفَاقٍ وَمُذَاكَرَةٍ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ .

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ أَعْمَى أَوْ أَصَمَّ وَلَا يَصِحُّ السَّمَاعُ إِنْ كَانَ الْمُتَحَمِّلُ أَصَمَّ وَيَصِحُّ إِنْ كَانَ أَعْمَى . وَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ فِي قِرَاءَةِ الْمُسْتَمِعِ عَلَى الْمُحَدِّثِ فَيَصِحُّ تَحَمُّلُهُ كَمَا لَوْ قَرَأَهُ الْمُحَدِّثُ ، وَهَكَذَا لَوْ قَرَأَهُ غَيْرُ الْمُسْتَمِعِ عَلَى الْمُحَدِّثِ كَانَ كَمَا لَوْ قَرَأَهُ الْمُسْتَمِعُ . وَمِنْ شَرْطِ صِحَّةِ السَّمَاعِ فِي هَذَا شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ سَمِيعًا وَإِنْ كَانَ أَصَمَّ لَمْ يَصِحَّ . وَالثَّانِي : أَنْ يَعْتَرِفَ الْمُحَدِّثُ بِصِحَّةِ مَا قَرَأَهُ عَلَيْهِ . وَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : الْإِجَازَةُ فَلَا يَصِحُّ التَّحَمُّلُ بِالْإِجَازَةِ . وَأَجَازَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ ، وَاعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ فِي صِحَّةِ الْإِجَازَةِ أَنْ يُسَلِّمَ الْمُحَدِّثُ الْكِتَابَ مِنْ يَدِهِ عِنْدَ إِجَازَتِهِ فَيَصِحُّ التَّحَمُّلُ إِذَا قَالَ قَدْ أَجَزْتُكَ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ ، وَلَا يَصِحُّ إِنْ لَمْ يُسَلِّمِ الْكِتَابَ . وَكُلُّ هَذَا لَا يَصِحُّ فِيهِ التَّحَمُّلُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، وَلَوْ صَحَّتِ الْإِجَازَةُ بَطَلَتِ الرِّحْلَةُ وَقَدْ يَتَدَلَّسُ فِي الْإِجَازَةِ الْفَاسِدُ بِالصَّحِيحِ . وَالْمَجْهُولُ بِالْمَعْرُوفِ . وَأَمَّا الْحَالُ الرَّابِعَةُ : فِي مُكَاتَبَةِ الْمُحَدِّثِ بِالْحَدِيثِ فَلَا يَصِحُّ فِيهَا التَّحَمُّلُ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى عُمَّالِهِ بِالسُّنَنِ وَالْأَحْكَامِ كُتُبًا عَمِلُوا عَلَيْهَا وَأَخَذَ النَّاسُ بِهَا . مِنْهَا كِتَابُهُ إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي الدِّيَاتِ ، وَالصَّحِيفَةُ الَّتِي أَخَذَهَا أَبُو بَكْرٍ مِنْ قِرَابِ سَيْفِهِ فِي نُصُبِ الزَّكَاةِ ، قِيلَ : قَدْ كَانَتْ تَرِدُ مَعَ رُسُلٍ يُعَوَّلُ عَلَى خَبَرِهِمْ بِهَا . وَيَصِحُّ سَمَاعُ غَيْرِ الْبَالِغِ إِذَا كَانَ مُمَيِّزًا ؛ قَدْ سَمِعَ ابْنُ أَبِي بَكْرٍ وَكَانَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ حِينَ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ سَمِعَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَبْلَ بُلُوغِهِ فَقَبِلَ النَّاسُ رِوَايَتَهُمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ . وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُسْتَمِعُ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ أَوْ فَاسِقًا ثُمَّ اعْتَدَلَ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ التَّحَمُّلِ هُوَ صِحَّةُ التَّمْيِيزِ وَحْدَهُ .

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي صِفَةِ الْأَدَاءِ ] : فَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي صِفَةِ الْأَدَاءِ : فَيُعْتَبَرُ فِي الْمُحَدِّثِ إِذَا رَوَى بَعْدَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ شُرُوطِ التَّحَمُّلِ شَرْطَانِ : أَحَدُهُمَا : بِذِكْرِ إِسْنَادِهِ . وَالثَّانِي : التَّحَرِّي فِي لَفْظِ مَتْنِهِ .

وَلَهُ حَالَتَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُحَدِّثَ مِنْ حِفْظِهِ فَيَصِحُّ السَّمَاعُ مِنْهُ إِذَا وَثِقَ بِحِفْظِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُحَدِّثَ مِنْ كِتَابِهِ . فَإِنْ كَانَ أَعْمَى لَمْ تَصِحَّ رِوَايَتُهُ مِنْ كِتَابِهِ ، لِأَنَّ الْكُتُبَ قَدْ تَشْتَبِهُ عَلَيْهِ . وَإِنْ كَانَ بَصِيرًا صَحَّ أَنْ يَرْوِيَ مِنْ كِتَابِهِ بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ وَاثِقًا بِكِتَابِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِوَقْتِ سَمَاعِهِ . فَإِنْ أَخَلَّ بِأَحَدِهِمَا لَمْ تَصِحَّ رِوَايَتُهُ وَإِنْ جَمْعَهُمَا صَحَّتْ . وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَرْوِيَ إِلَّا مِنْ حِفْظِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ إِلَّا مِنْ حِفْظِهِ . وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ " وَلَوْ لَمْ يَصِحَّ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ لَكَانَ الْأَمْرُ بِتَقْيِيدِهِ عَيْنًا . وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النِّسْيَانَ فَقَالَ لَهُ : " حَرِّكْ يَدَكَ - أَيِ اكْتُبْ - حَتَّى تَرْجِعَ إِذَا نَسِيتَ إِلَى مَا كَتَبْتَ " وَقَدْ كَتَبَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَتَّى جَمَعَ الْقُرْآنَ عِدَّةَ مَصَاحِفَ وَأَنْفَذَهَا إِلَى الْأَمْصَارِ فَحَفِظَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا الْقُرْآنَ . [ الْقَوْلُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالْحَدِيثِ ] : وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالْحَدِيثِ : أَنَّ الشَّهَادَةَ يَفْتَرِقُ فِيهَا حَالُ الشَّاهِدِ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَتَغَلَّظَتْ بِالْحِفْظِ ، كَمَا تَغَلَّظَتْ بِالْعَدَدِ ، وَالْحَدِيثُ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُحَدِّثُ وَالْمُسْتَمِعُ فَتَخَفَّفَتْ بِالْكِتَابِ كَمَا تَخَفَّفَتْ فِي الْعَدَدِ . وَقَدْ صَارَتِ الرِّوَايَةُ فِي عَصْرِنَا مِنَ الْكِتَابِ أَثْبَتَ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مِنَ الْحِفْظِ لِمَا يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ مِنْ شَوَاهِدِ الْأُصُولِ فِي صِحَّةِ السَّمَاعِ . وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ الْمُحَدِّثُ فِي رِوَايَتِهِ : " حَدَّثَنَا " وَ " أَخْبَرَنَا " وَهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ غَيْرَ أَنَّ الْأَوْلَى فِي عُرْفِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ إِنْ سَمِعَ مِنْ لَفْظِ الْمُحَدِّثِ أَنْ يَقُولَ : " حَدَّثَنَا " وَإِنْ قَرَأَهُ عَلَى الْمُحَدِّثِ أَنْ يَقُولَ : " أَخْبَرَنَا " وَإِنْ سَمِعَ وَحْدَهُ قَالَ : " حَدَّثَنِي " وَ " أَخْبَرَنِي " وَإِنْ سَمِعَ مَعَ جَمَاعَةٍ قَالَ : " حَدَّثَنَا " وَ " أَخْبَرَنَا " لِتَكُونَ هَذِهِ الْفُرُوقُ تَذْكِيرًا بِأَحْوَالِ السَّمَاعِ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْحُكْمِ سَوَاءً .

وَيَجُوزُ أَنْ تُقْبَلَ رِوَايَةُ الْمُحَدِّثِ فِيمَا يَعُودُ إِلَيْهِ نَفْعُهُ وَلَا يَجُوزُ فِي الشَّهَادَةِ أَنْ يَجُرَّ بِهَا نَفْعًا ، لِاشْتِرَاكِ النَّاسِ فِي السُّنَنِ وَالدِّيَانَاتِ وَافْتِرَاقِهِمْ فِي الشَّهَادَاتِ . [ الْقَوْلُ فِي إِنْكَارِ الرَّاوِي وَنِسْيَانِهِ لِلْحَدِيثِ ] : وَإِذَا أَسْنَدَ الرَّاوِي حَدِيثَهُ عَنْ رَجُلٍ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ الرَّجُلُ الْحَدِيثَ أَوْ نَسِيَهُ لَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّةِ الرِّوَايَةِ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُحَدِّثِ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنِ الْمُسْتَمِعِ إِنْ أَنْكَرَهُ ، وَيَجُوزَ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْهُ إِنْ نَسِيَهُ ، قَدْ رَوَى رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ ثُمَّ نَسِيَ سُهَيْلٌ الْحَدِيثَ فَأَخْبَرَهُ بِهِ رَبِيعَةُ فَصَارَ سُهَيْلٌ يَقُولُ أَخْبَرَنِي رَبِيعَةُ عَنِّي أَنَّنِي حَدَّثْتُهُ عَنْ أَبِي ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ . [ عَمَلُ الرَّاوِي بِخِلَافِ رِوَايَتِهِ ] : وَإِذَا عَمِلَ الرَّاوِي بِغَيْرِ رِوَايَتِهِ لَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّةِ الرِّوَايَةِ قَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ : غَسْلُ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا وَأَفْتَى بِغَسْلِهِ ثَلَاثًا فَعَمِلُوا عَلَى رِوَايَتِهِ دُونَ فُتْيَاهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَسِيَ الرِّوَايَةَ فَأَفْتَى بِغَيْرِهَا وَرِوَايَتُهُ حُجَّةٌ وَفُتْيَاهُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ . [ الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ ] . فَأَمَّا تَفْسِيرُ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ؛ فَإِنْ كَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ سَمِعُوا لَفْظَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَاهَدُوا مَخْرَجَ كَلَامِهِ كَانَ الْحَدِيثُ مَحْمُولًا عَلَى تَفْسِيرِهِ كَمَا فَسَّرَ ابْنُ عُمَرَ مَا رَوَاهُ مِنِ افْتِرَاقِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ أَنَّهُ التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ دُونَ الْكَلَامِ : فَحُمِلَ عَلَى تَفْسِيرِهِ . وَإِنْ كَانَ هَذَا الْمُحَدِّثُ مِنْ دُونِ الصَّحَابَةِ لَمْ يَكُنْ تَفْسِيرُهُ حُجَّةً : لِأَنَّهُ وَغَيْرَهُ فِيهِ سَوَاءٌ .

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي أَحْوَالِ الْإِسْنَادِ ] . وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي أَحْوَالِ الْإِسْنَادِ فَصِحَّتُهُ مُعْتَبَرَةٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ . أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْإِسْنَادُ مُتَّصِلًا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا أَوْ مُنْقَطِعًا لَمْ يَصِحَّ . وَالْمُرْسَلُ : أَنْ يَرْوِيَهُ التَّابِعِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ لَمْ يُشَاهِدْهُ وَلَا يَرْوِيهِ عَنْ صَحَابِيٍّ شَاهَدَهُ . وَالْمُنْقَطِعُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الرَّاوِيَيْنِ رَجُلٌ لَمْ يُذْكَرْ . فَأَمَّا الْمُنْقَطِعُ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ بِوِفَاقِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَأَمَّا الْمُرْسَلُ فَهُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حُجَّةٌ وَرُبَّمَا جَعَلَهُ أَقْوَى مِنَ الْمُسْنَدِ لِثِقَةِ التَّابِعِيِّ بِصِحَّتِهِ فِي إِرْسَالِهِ . وَلَيْسَ الْمُرْسَلُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ حُجَّةً وَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ إِذَا انْفَرَدَ ، حَتَّى يُسَمَّى

رَاوِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَهُ عَنْ مِثْلِهِ مِنَ التَّابِعِينَ وَيَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَهُ عَنْ مَنْ لَا يُوثَقُ بِصِحَّتِهِ . وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : " مُرْسَلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عِنْدَنَا حَسَنٌ " وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَهُ لِمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ شَوَاهِدِ صِحَّتِهِ ، لِأَنَّهُ مَا أَرْسَلَ حَدِيثًا إِلَّا وَقَدْ وُجِدَ مُسْنَدًا عَنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ . وَأَمَّا رِوَايَاتُ الصَّحَابَةِ فَلَا مُرْسَلَ فِيهَا : لِأَنَّهُ إِنْ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا شُبْهَةَ فِي صِحَّتِهِ . وَإِنْ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَنْ سَمَاعِهِ مِنْهُ . وَإِنْ سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَلَيْسَ يَرْوِيهِ إِلَّا عَنْ مِثْلِهِ : لِأَنَّ صَحَابَةَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَحْكُومٌ بِعَدَالَتِهِمْ وَجَمِيعَهُمْ مَقْبُولُ الرِّوَايَةِ عَنْهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ " وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : " لَيْسَ كُلُّ مَا حَدَّثْتُكُمْ بِهِ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنْ سَمِعْتُ وَحَدَّثَنِي بِهِ أَصْحَابُهُ " وَأَجْرَى أَهْلُ الْعِلْمِ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُسْنَدِ دُونَ الْمُرْسَلِ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ عَنْ مُسَمًّى مَشْهُورٍ بِمَا سُمِّيَ بِهِ : حَتَّى لَا يَقَعَ التَّدْلِيسُ فِي اسْمِهِ فَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ وَقَالَ : أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ أَوْ مَنْ لَا أَتَّهِمُ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً فِي صِحَّةِ النَّقْلِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَثِقُ بِهِ وَيَكُونُ مَجْرُوحًا عِنْدَ غَيْرِهِ . فَإِنْ قِيلَ : قَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَادِيثَ رَوَاهَا أَخْبَرَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ ، وَأَخْبَرَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ قِيلَ قَدِ اشْتَهَرَ مَنْ عَنَاهُ بِهَذَا وَأَنَّهُ أَرَادَ بِمَنْ يَثِقُ بِهِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ فَصَارَ كَالتَّسْمِيَةِ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُصَرِّحَ بِاسْمِهِ لَكِنَّهُ رُبَّمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ وَقْتَ الْحَدِيثِ اسْمُ الرَّاوِي وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْ عَدَدٍ ثِقَاةٍ فَيَتَخَرَّجُ أَنْ يُسَمِّيَ مَنْ لَا يَقْطَعُ بِصِحَّتِهِ فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى مَا لَا جَرْحَ فِيهِ فَقَالَ أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ ، فَلَا وَجْهَ لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مَعَ ظُهُورِ الْعُذْرِ فِيهِ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يَعْرِفَ عَدَالَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الرُّوَاةِ حَتَّى يَتَّصِلَ ذَلِكَ بِالصَّحَابَةِ . وَلَيْسَتْ رِوَايَةُ الْعَدْلِ عَنْ غَيْرِهِ دَلِيلًا عَلَى عَدَالَتِهِ ، قَدْ يَرْوِي الْعَدْلُ عَنْ عَدْلٍ أَوْ غَيْرِ عَدْلٍ ؛ هَذَا الشَّعْبِيُّ يَقُولُ فِي رِوَايَتِهِ : " حَدَّثَنِي الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ وَكَانَ وَاللَّهِ كَذَّابًا " . فَإِنْ قِيلَ أَفَيَجُوزُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْ غَيْرِ عَدْلٍ حكم الرواية ، قِيلَ يَجُوزُ فِي الْمَشَاهِيرِ وَلَا يَجُوزُ فِي الْمَنَاكِيرِ . وَيَجُوزُ أَنْ يَرْوِيَ الْمُتَقَدِّمُ عَنِ الْمُتَأَخِّرِ ، قَدْ رَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ خَالِدٍ الْحِذَاءِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ حَدِيثَ الْقُرْعَةِ ، وَسَمِعَ إِبْرَاهِيمُ عَنِ الْأَعْمَشِ حَدِيثَ قِيَامِ الْمَأْمُومِ عَنْ يَمِينِ

الْإِمَامِ . وَإِنْ كَانَتْ عَدَالَةُ الرُّوَاةِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ . أَحَدُهَا : أَنْ تُعْلَمَ عَدَالَتُهُمْ فَيُحْكَمُ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُعْلَمَ جَرْحُهُمْ أَوْ جَرْحُ أَحَدِهِمْ فَلَا يُحْكَمُ بِصِحَّتِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ تُجْهَلَ أَحْوَالُهُمْ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ رِوَايَتَهُمْ مَقْبُولَةٌ مَا لَمْ يُعْلَمِ الْجَرْحُ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تُقْبَلُ مَا لَمْ يُعْلَمِ التَّعْدِيلُ ، فَيُكْشَفُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ . فَإِنْ شَهِدَ قَوْمٌ بِعَدَالَتِهِمْ وَشَهِدَ قَوْمٌ بِجَرْحِهِمْ حُكِمَ بِالْجَرْحِ دُونَ التَّعْدِيلِ . وَلَا يُقْبَلُ الْجَرْحُ حَتَّى يُذْكَرَ مَا صَارَ بِهِ مَجْرُوحًا . فَإِنْ وَجَدُوهُ قَدْ كَذَبَ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ وَجَبَ إِسْقَاطُ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَحَادِيثِهِ وَوَجَبَ نَقْضُ مَا عُمِلَ بِهِ مِنْهَا ، وَإِنْ لَمْ يُنْقَضِ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ مَنْ حَدَثَ فِسْقُهُ لِأَنَّ الْحَدِيثَ حُجَّةٌ لَازِمَةٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ ، وَفِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ فَكَانَ حُكْمُهُ أَغْلَظَ مِنَ الشَّهَادَةِ الْخَاصَّةِ . وَفِي تَعْدِيلِ الرَّاوِي وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْخَبَرِ ، لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْأَخْبَارِ فَعَلَى هَذَا يُقْبَلُ فِي عَدَالَتِهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقْبَلَ فِيهِ خَبَرُ الْمُحَدِّثِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الشَّهَادَةِ ، لِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَى غَائِبٍ فَعَلَى هَذَا لَا يُقْبَلُ فِي تَعْدِيلِهِ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدَيْنِ . وَفِي جَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ أَحَدَهُمَا وَجْهَانِ ، كَمَا لَوْ عَدَلَ شُهُودُ الْفَرْعِ لِشُهُودِ الْأَصْلِ . فَأَمَّا الْجَرْحُ فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدَيْنِ ، لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى بَاطِنٍ مَغِيبٍ . فَأَمَّا الصَّحَابَةُ فَلَيْسَ يُعْتَبَرُ فِيهِمْ إِلَّا صِحَّةُ صُحْبَتِهِمْ وَإِذَا صَحَّتِ الصُّحْبَةُ قُبِلَتْ أَحَادِيثُهُمْ إِذَا خَرَجُوا عَمَّنِ اشْتُهِرَ بِالنِّفَاقِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَارَ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ رَضِيَ عَنْهُمْ وَوَصَفَهُمْ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ بَيْنَهُمْ فَقَالَ تَعَالَى رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [ الْفَتْحِ : ] . [ الْقَوْلُ فِيمَنْ عُرِفَ مِنَ الرُّوَاةِ بِالتَّدْلِيسِ ] . وَأَمَّا مَنْ عُرِفَ مِنَ الرُّوَاةِ بِالتَّدْلِيسِ فَصِنْفَانِ : أَحَدُهُمَا : مَنْ عُرِفَ بِتَدْلِيسِ مُتُونِ الْأَحَادِيثِ فَهَذَا مُطْرَحُ الْأَحَادِيثِ مَجْرُوحُ الْعَدَالَةِ وَهُوَ مِمَّنْ يُحَرِّفُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ فَكَانَ بِالتَّكْذِيبِ أَحَقَّ .

وَالصِّنْفُ الثَّانِي : مَنْ عُرِفَ مِنْهُ تَدْلِيسُ الرُّوَاةِ مَعَ صِدْقِهِ فِي الْمُتُونِ فَقَدْ حُكِيَ أَنَّ شُرَيْحًا وَهُشَيْمًا وَالْأَعْمَشَ كَانُوا مُدَلِّسِينَ ، وَقِيلَ إِنَّ التَّدْلِيسَ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ أَشْهَرُ مِنْهُ فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَاتُّهِمَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ بِالتَّدْلِيسِ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ مَنْ حَدَّثَكَ بِهَذَا فَقَالَ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرٍو فَأَعَلَّهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ لِأَجْلِ هَذَا وَنَسَبَهُ إِلَى التَّدْلِيسِ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً عَدْلًا . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ التَّدْلِيسِ فِي أَسْمَاءِ الرُّوَاةِ مِنْ إِحْدَى حَالَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ فِي إِبْدَالِ الْأَسْمَاءِ بِغَيْرِهَا فَيَعْدِلُ عَنِ اسْمِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ يُسَمِّيهِ بِعُمَرَ بْنِ بَكْرٍ ؛ لِنُزُولِ مَنْ عَدَلَ عَنِ اسْمِهِ وَارْتِفَاعِ مَنْ عَدَلَ إِلَى اسْمِهِ فَهَذَا كَذِبٌ يُرَدُّ بِهِ حَدِيثُهُ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ التَّدْلِيسُ فِي اطِّرَاحِ اسْمِ الرَّاوِي الْأَقْرَبِ وَإِضَافَةِ الْحَدِيثِ إِلَى مَنْ هُوَ أَبْعَدُ كَالَّذِي حُكِيَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فِي حَدِيثِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَبَيْنَهُمَا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ رِجَالٌ وَإِنْ سُمِعَ مِنْهُ فِي أَكْثَرِهَا فَلَا يَكُونُ بِهَذَا التَّدْلِيسِ مَجْرُوحًا وَلَكِنْ لَا يُقْبَلُ حَدِيثُهُ إِذَا رَوَى عَنْ فُلَانٍ حَتَّى يَقُولَ " حَدَّثَنِي " أَوْ " أَخْبَرَنِي " لِأَنَّ إِطْلَاقَهُ يَحْتَمِلُ التَّدْلِيسَ فَإِذَا قَالَ حَدَّثَنِي أَوْ أَخْبَرَنِي ارْتَفَعَ احْتِمَالُ التَّدْلِيسِ فَقُبِلَ حَدِيثُهُ . وَشَدَّدَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ حَالَ الْمُدَلِّسِ فَلَمْ يَقْبَلْ حَدِيثَهُ حَتَّى يَقُولَ سَمِعْتُ وَلَا يَقْبَلُهُ إِذَا قَالَ " حَدَّثَنِي " وَ " أَخْبَرَنِي " . كَمَا لَا يَقْبَلُهُ إِذَا رَوَى عَنْ فُلَانٍ . وَلَوْ كَانَ مَوْثُوقًا بِأَنَّهُ لَا يُدَلِّسُ سُمِعَتْ رِوَايَتُهُ عَنْ فُلَانٍ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ " حَدَّثَنِي " أَوْ " أَخْبَرَنِي " كَمَا لَا تُقْبَلُ مِنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ .

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي أَحْوَالِ نَقْلِ السَّمَاعِ ] . وَأَمَّا الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي نَقْلِ السَّمَاعِ : فَلِلرَّاوِي فِي نَقْلِ سَمَاعِهِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَرْوِيَ مَا سَمِعَهُ بِأَلْفَاظِهِ وَعَلَى صِيغَتِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَرْوِيَ مَعْنَاهُ بِغَيْرِ لَفْظِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُنْقِصَ مِنْهُ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ . فَأَمَّا الْحَالُ الْأُولَى فِي رِوَايَتِهِ لِلَفْظِ الْحَدِيثِ عَلَى صِيغَتِهِ فَلَا يَخْلُو مَصْدَرُهُ مِنَ الرَّسُولِ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءً أَوْ جَوَابًا . فَانْ كَانَ ابْتِدَاءً وَحَكَاهُ بَعْدَ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِيهِ كَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الْوُضُوءُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ " .

وَإِنْ كَانَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ السُّؤَالِ كَمَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ التَّوَضُّؤِ بِمَاءِ الْبَحْرِ فَقَالَ : " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ " فَالرَّاوِي فِيهِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ ذِكْرِ السُّؤَالِ وَبَيْنَ تَرْكِهِ ، وَإِنْ كَانَ ذِكْرُهُ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَفْتَقِرَ الْجَوَابُ إِلَى ذِكْرِ السُّؤَالِ كَمَا سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فَقَالَ : " أَيَنْقُصُ إِذَا يَبِسَ ؟ قِيلَ : نَعَمْ . قَالَ : " فَلَا إِذَنْ " . فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى رِوَايَةِ الْجَوَابِ حَتَّى يَذْكُرَ السُّؤَالَ : لِأَنَّ قَوْلَهُ " فَلَا إِذَنْ لَا يُفْهَمُ إِلَّا بِذِكْرِ السُّؤَالِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ الْجَوَابِ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ فَإِذَا نُقِلَ السُّؤَالُ نُفِيَ أَحَدُ الِاحْتِمَالَيْنِ كَمَا سُئِلَ عَنِ الشَّاةِ تُذْبَحُ فَيُوجَدُ فِي جَوْفِهَا جَنِينٌ مَيِّتٌ أَفَيُؤْكَلُ ؟ فَقَالَ : " ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهُ " لَوْ قَالَهُ ابْتِدَاءً لَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ ذَكَاتُهُ مِثْلَ ذَكَاةِ أُمِّهِ . وَاحْتَمَلَ أَنْ يُسْتَبَاحَ بِذَكَاةِ أُمِّهِ ، وَإِذَا ذُكِرَ السُّؤَالُ صَارَ الْجَوَابُ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهُ يُسْتَبَاحُ بِذَكَاةِ أُمِّهِ فَيَكُونُ الْإِخْلَالُ بِذِكْرِ السُّؤَالِ تَقْصِيرًا فِي الْبَيَانِ يُكْرَهُ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ . وَيَسْتَوِي فِي هَذَا مَنْ هُوَ أَصْلُ الْخَبَرِ كَالصَّحَابِيِّ وَمَنْ قَدْ تَفَرَّعَ عَلَيْهِ مِنَ التَّابِعِينَ وَمَنْ دُونَهُمْ . [ رِوَايَةُ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى ] . وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَرْوِيَ مَعْنَى الْحَدِيثِ بِغَيْرِ لَفْظِهِ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي كَقَوْلِهِ : " لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ " فَيُرْوَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ وَكَقَوْلِهِ : اقْتُلُوا الْأَسْوَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ فَرُوِيَ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ الْأَسْوَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ فَهَذَا جَائِزٌ ، لِأَنَّ " افْعَلْ " أَمْرٌ وَ " لَا تَفْعَلْ " نَهْيٌ ؛ فَاسْتَوَيَا فِي الْخَبَرِ وَكَانَ الرَّاوِي فِيهِمَا مُخَيَّرًا . وَيَسْتَوِي فِي هَذَا التَّخَيُّرِ مَنْ كَانَ أَصْلُ الْخَبَرِ كَالصَّحَابَةِ وَمَنْ صَارَ فَرْعًا فِيهِ كَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ . الضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِي نَقْلِ كَلَامٍ قَالَهُ بِأَلْفَاظٍ وَيَكُونُ الْكَلَامُ مُحْتَمِلَ الْأَلْفَاظِ أَوْ خَفِيَّ الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ " لَا طَلَاقَ فِي إِغْلَاقٍ " .

فَوَاجِبٌ عَلَى الرَّاوِي أَنْ يَنْقُلَهُ بِلَفْظِهِ ، وَلَا يُعَبِّرَ عَنْهُ بِغَيْرِهِ لِيَكُونَ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الِاحْتِمَالِ وَالْخَفَاءِ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ مُحْتَمَلًا وَلَا خَفِيًّا إِلَّا لِمَصْلَحَةٍ وَلْيَكِلِ اسْتِنْبَاطَهُ إِلَى الْعُلَمَاءِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى جَلِيًّا غَيْرَ مُحْتَمَلٍ كَقَوْلِهِ : الْخَيْرُ كَثِيرٌ وَقَلِيلٌ فَاعِلُهُ فَلَا يَجُوزُ لِمَنْ يَسْمَعُ كَلَامَهُ مِنَ التَّابِعِيِنَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يُورِدَ الْمَعْنَى بِغَيْرِ لَفْظِهِ حَتَّى يَنْقُلَ اللَّفْظَ عَلَى صِيغَتِهِ فَيُورِدَ الْمَعْنَى بِأَلْفَاظِهِ . وَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ شَاهَدَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَعَرِفَ مَخْرَجَ كَلَامِهِ أَنْ يُورِدَ الْمَعْنَى بِغَيْرِ لَفْظِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : اخْتَلَفَ فِيهِمَا أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ مِنَ التَّابِعِينَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِفَحْوَاهُ مِنْ غَيْرِهِ . وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ يَحْفَظُ اللَّفْظَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْوِيَهُ بِغَيْرِ أَلْفَاظِهِ لِأَنَّ فِي كَلَامِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْفَصَاحَةِ مَالَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ غَيْرِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُحَفَظِ اللَّفْظُ جَازَ أَنْ يُورِدَ مَعْنَاهُ بِغَيْرِ لَفْظِهِ ، لِأَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ تَحَمَّلَ أَمْرَيْنِ : اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى : فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِمَا لَزِمَهُ أَدَاؤُهُمَا وَإِنْ عَجَزَ عَنِ اللَّفْظِ وَقَدَرَ عَلَى الْمَعْنَى لَزِمَهُ أَدَاؤُهُ لِئَلَّا يَكُونَ مُقَصِّرًا فِي نَقْلِ مَا تَحَمَّلَ فَرُبَّمَا تَعَلَّقَ بِالْمَعْنَى مِنَ الْأَحْكَامِ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكْتُمَهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُنْقِصَ مِنْ أَلْفَاظِ الْخَبَرِ : فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ . أَحَدُهَا : أَنْ يَصِيرَ الْبَاقِي مِنْهُ مَبْتُورًا لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ لِيُتِمَّ فَائِدَةَ الْخَبَرِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي مَفْهُومًا لَكِنْ يَكُونُ ذِكْرُ الْمَتْرُوكِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْحُكْمِ فِي الْمَذْكُورِ مِثْلُ قَوْلِهِ لِأَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ . وَقَدْ ضَحَّى قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يَقْضِيهِ إِلَّا جَذَعَةً مِنَ الْمَعْزِ فَقَالَ " تَجْزِيكَ وَلَا تَجْزِي أَحَدًا بَعْدَكَ " فَلَوْ رَوَى النَّاقِلُ أَنَّهُ قَالَ : تَجْزِيكَ لَكَانَ مَفْهُومًا يَقْتَضِي أَنْ تَجْزِيَ جَمِيعَ النَّاسِ فَلَمَّا قَالَ : " وَلَا تَجْزِي أَحَدًا بَعْدَكَ " دَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِ أَبِي بُرْدَةَ بِهَذَا الْحُكْمِ . فَلَزِمَ الرَّاوِي فِي مِثْلِ هَذَا الْخَبَرِ أَنْ يَرْوِيَ بَاقِيَ قَوْلِهِ ، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ مَفْهُومًا .

وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي مِنْهُ مَفْهُومَ الْمَعْنَى وَمُسْتَقِلَّ الْحُكْمِ كَقَوْلِهِ فِي الْبَحْرِ : " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ " فَيَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ فِي الرِّوَايَةِ عَلَى أَحَدِهِمَا فَيَرْوِي " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ " أَوْ يَرْوِي " هُوَ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ " لِأَنَّهُمَا حُكْمَانِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الرِّوَايَةِ إِلَّا أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَرْضُ الْإِبْلَاغِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ أَدَاءُ مَا تَحَمَّلَ كَالشَّاهِدِ . وَأَمَّا الْحَالُ الرَّابِعَةُ : وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي الْخَبَرِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ شَرْحًا لِلْحَالِ كَمَا نَهَى عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ وَأَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ يَزِيدُ فِيهِ ذِكْرَ السَّبَبِ الَّذِي دَعَاهُ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ : فَيَصِحُّ هَذَا مِنَ الصَّحَابِيِّ لِأَنَّهُ قَدْ شَاهَدَ الْحَالَ وَلَا يَصِحُّ مِنَ التَّابِعِيِّ ، لِأَنَّهُ لَمْ يُشَاهِدْهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ تَفْسِيرًا لِمَعْنَى الْكَلَامِ كَنَهْيِهِ عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ فَيَجُوزُ لِلرَّاوِي مِنْ صَحَابِيٍّ وَتَابِعِيٍّ أَنْ يُفَسِّرَ مَعْنَاهُمَا فِي رِوَايَتِهِ ، فَتَصِيرُ الزِّيَادَةُ تَفْسِيرًا فَيَجُوزُ ، لَكِنْ إِنْ فَسَّرَهَا الصَّحَابِيُّ . لَزِمَ قَبُولُ تَفْسِيرِهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ ، وَإِنْ فَسَّرَهَا التَّابِعِيُّ لَمْ يَلْزَمْ قَبُولُ تَفْسِيرِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنَّ تَخْرُجَ الزِّيَادَةُ عَنْ شَرْحِ السَّبَبِ وَتَفْسِيرِ الْمَعْنَى فَمَا هِيَ إِلَّا كَذِبٌ يَسِيرٌ قَدْ نَزَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ صَحَابَةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ قَالَ " مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ " . فَهَذَا الْكَلَامُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ أَحْكَامِ الرُّوَاةِ النَّاقِلِينَ لِلسُّنَّةِ .

فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي أَحْكَامِ الْمُتُونِ الْمَنْقُولَةِ أَوِ السُّنَنِ الْمَرْوِيَّةِ

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي أَحْكَامِ الْمُتُونِ الْمَنْقُولَةِ أَوِ السُّنَنِ الْمَرْوِيَّةِ ] . وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي مِنَ الْأَصْلِ فِي أَحْكَامِ الْمُتُونِ الْمَنْقُولَةِ أَوِ السُّنَنِ الْمَرْوِيَّةِ : فَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَقْسَامِ السِّتَّةِ وَهِيَ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ ، وَالْمُفَسَّرُ وَالْمُجْمَلُ ، وَالْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ ، وَالْإِثْبَاتُ وَالنَّفْيُ ، وَالْمُحْكَمُ ، وَالْمُتَشَابِهُ ، وَالنَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ ، فَمِثْلُهَا مَوْجُودٌ فِي السُّنَّةِ ، وَأَحْكَامُهَا فِي السُّنَّةِ عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ مِنْ أَحْكَامِهَا فِي الْكِتَابِ . تَخْتَصُّ السُّنَّةُ بِأُصُولٍ تَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا تُؤْخَذُ مِنْهُ السُّنَّةُ . وَالثَّانِي : مَا يَجِبُ بَيَانُهُ بِالسُّنَّةِ . وَالثَّالِثُ : مَا يَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهِ مِنَ السُّنَّةِ .

[ الْقَوْلُ فِي مَصَادِرِ السُّنَّةِ ] : فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوْلُ فَمَا تُؤْخَذُ مِنْهُ السُّنَّةُ فَهُوَ مَأْخُوذٌ عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : مِنْ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَإِقْرَارِهِ . [ أَقْوَالُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ] : فَأَمَّا أَقْوَالُهُ : فَمُطَاعٌ فِيهَا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [ النِّسَاءِ : ] . وَهِيَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ : أَمْرٌ ، وَنَهْيٌ ، وَخَبَرٌ ، وَاسْتِخْبَارٌ ، فَيُطَاعُ فِي أَوَامِرِهِ ، وَيُتَّبَعُ فِي نَوَاهِيهِ ، وَيُصَدَّقُ فِي خَبَرِهِ ، وَيُجَابُ عَلَى اسْتِخْبَارِهِ . ثُمَّ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا ابْتَدَأَهُ . وَالثَّانِي : مَا كَانَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ . فَأَمَّا الْمُبْتَدَأُ مِنْ أَقْوَالِهِ فَيَشْتَمِلُ عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ : عِبَادَاتٍ ، وَمُعَامَلَاتٍ ، وَتَرْغِيبٍ ، وَتَرْهِيبٍ ، وَتَأْدِيبٍ . فَأَمَّا الْعِبَادَاتُ فَتَتَرَدَّدُ بَيْنَ وُجُوبٍ وَنَدْبٍ . وَأَمَّا الْمُعَامَلَاتُ فَتَتَرَدَّدُ بَيْنَ إِبَاحَةٍ وَحَظْرٍ . وَأَمَّا التَّرْغِيبُ بِالثَّوَابِ فَدَاعٍ إِلَى الطَّاعَةِ . وَأَمَّا التَّرْهِيبُ بِالْعِقَابِ فَزَاجِرٌ عَنِ الْمَعْصِيَةِ . وَأَمَّا التَّأْدِيبُ فَبَاعِثٌ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالْأُلْفَةِ . وَبِهَذَا تَتِمُّ مَصَالِحُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا . وَأَمَّا مَا كَانَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ : فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا قَابَلَ السُّؤَالَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ وَلَمْ يُنْقِصْ مِنْهُ كَمَا سُئِلَ عَنْ الِاسْتِطَاعَةِ فِي الْحَجِّ فَقَالَ : " زَادٌ وَرَاحِلَةٌ " وَهَذَا حَدُّ الْجَوَابِ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ أَزْيَدَ مِنَ السُّؤَالِ كَمَا سُئِلَ عَنْ مَاءِ الْبَحْرِ فَقَالَ هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ " . فَتَكُونُ الزِّيَادَةُ عَلَى السُّؤَالِ بَيَانَ شَرْعٍ مُبْتَدَأٍ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ أَنْقَصَ مِنَ السُّؤَالِ فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : إِحْدَاهَا : أَنْ يَكُونَ نُقْصَانُ الْجَوَابِ لِخَطَأِ السَّائِلِ فِي السُّؤَالِ كَمَا سُئِلَ عَمَّا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ فَقَالَ : لَا يَلْبَسُ قَمِيصًا وَلَا عِمَامَةً .

وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ فِي كِتَابِ اللَّهِ بَيَانٌ لِبَقِيَّةِ السُّؤَالِ كَمَا يَسْأَلُهُ عُمَرُ عَنِ الْكَلَالَةِ فَقَالَ : " تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ " . وَالثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِ الْجَوَابِ تَنْبِيهٌ عَلَى بَقِيَّةِ الْجَوَابِ كَمَا سَأَلَهُ . عُمَرُ عَنْ قُبْلَةِ الصَّائِمِ فَقَالَ " أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ ؟ " . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَكُونَ لِتَوَقُّفٍ عَنْهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدِّيَانَاتِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِتْمَامُ الْجَوَابِ ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِالدِّيَانَاتِ لَزِمَهُ إِتْمَامُ الْجَوَابِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِظْهَارِ دِينِ اللَّهِ فِيهِ ، وَلَيْسَ يَتَوَقَّفُ إِلَّا لِيَتَوَقَّعَ أَمْرَ اللَّهِ وَبَيَانَهُ كَمَا سَأَلَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ عَنِ الْحَيْضِ فَتَوَقَّفَ حَتَّى نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى [ الْبَقَرَةِ ] .

[ أَفْعَالُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ] . وَأَمَّا أَفْعَالُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّيَانَاتِ كَمَأْكَلِهِ وَمَشْرَبِهِ وَمَلْبَسِهِ وَمَنَامِهِ فَيَدُلُّ فِعْلُهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ دُونَ الْوُجُوبِ ، لِأَنَّ أَفْعَالَهُ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْحَسَنِ وَالْجَائِزِ وَلَا يَفْعَلُ مَا يَقْبُحُ فِي الْعَقْلِ أَوْ يُكْرَهُ فِي الشَّرْعِ ، فَيَكُونُ التَّأَسِّي بِهِ أَبْرَكَ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لَهُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [ الْأَحْزَابِ : ] . إِلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْإِبَاحَةِ كَمَا خَصَّ فِي الْمُنَاكِحِ بِمَا حَظَّرَهُ عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ فِيهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا اخْتَصَّ بِالدِّيَانَاتِ فَلَهُ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : إِحْدَاهَا : أَنْ يَأْمُرَ بِاتِّبَاعِهِ فِيهَا كَمَا قَالَ " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وَقَالَ فِي الْحَجِّ : خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ فَيَكُونُ اتِّبَاعُهُ فِيهَا فَرْضًا لِاقْتِرَانِ أَمْرِهِ بِفِعْلِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَنْهَى عَنِ اتِّبَاعِهِ فِيهَا كَمَا نَهَى عَنِ الْوِصَالِ فِي الصِّيَامِ فَانْتَهَى النَّاسُ ثُمَّ وَاصَلَ فَوَاصَلُوا فَقَالَ : " أَمَا إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُ عَنِ الْوِصَالِ " فَقَالُوا : رَأَيْنَاكَ وَاصَلْتَ فَوَاصَلْنَا فَقَالَ : إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى " فَلَا يَجِبُ عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ فِيهِ لِنَهْيِهِ عَنْهُ . وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : مَا كَانَ لَهُ مُبَاحًا وَعَلَيْنَا مَحْظُورًا كَالْمَنَاكِحِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا كَانَ لَهُ مُسْتَحَبًّا وَلَنَا مَكْرُوهًا كَالْوِصَالِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : مَا كَانَ عَلَيْهِ فَرْضًا وَعَلَيْنَا نَدْبًا كَمَا قَالَ : " فُرِضَ عَلَيَّ السِّوَاكُ وَلَمْ يُفْرَضْ عَلَيْكُمْ " . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ تَتَجَرَّدَ أَفْعَالُهُ عَنْ أَنْ يَأْمُرَ بِهَا أَوْ يَنْهَى عَنْهَا ، فَاتِّبَاعُهُ فِيهَا نَدْبٌ ، وَاخْتُلِفَ فِيهَا هَلْ تَكُونُ فَرْضًا أَوْ مُسْتَحَبَّةً ؟ فِيهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَتْ بِفَرْضٍ إِلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا أَمْرٌ لِأَنَّهُ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَسِرُّ بِكَثِيرٍ مِنْ أَفْعَالِهِ وَلَوْ كَانَ اتِّبَاعُهُ فِيهَا فَرْضًا لَأَظْهَرَهَا كَمَا أَظْهَرَ أَقْوَالَهُ لِيَكُونَ الْبَلَاغُ بِهِمَا عَامًّا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ اتِّبَاعَهُ فِيهَا فَرْضٌ مَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [ النُّورِ : ] . وَالْأَمْرُ يَنْطَلِقُ عَلَى الْفِعْلِ كَانْطِلَاقِهِ عَلَى الْقَوْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [ هُودٍ : ] . أَيْ فِعْلَ فِرْعَوْنَ وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : لَهَا أَمْرُهَا حَتَّى إِذَا مَا تَبَوَّأَتْ بِإِخْفَافِهَا بِتْنَا نُبَوِّئُ مَضْجَعًا يَعْنِي بِالْأَمْرِ أَفْعَالَ الْإِبِلِ فِي سَيْرِهَا . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَرْسَلَ امْرَأَةً إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لِيَسْأَلَهَا عَنْ قُبْلَةِ الصَّائِمِ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَبَّلَ وَهُوَ صَائِمٌ . فَقَالَ الرَّجُلُ : لَسْنَا كَرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ . وَأَعَادَ زَوْجَتَهُ لِتَسْأَلَ فَذَكَرَتْ أُمُّ سَلَمَةَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : هَلَّا أَنْبَأْتِهَا فَقَالَتْ قَدْ فَعَلْتُ . فَقَالَتْ : لَسْنَا كَرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِحُدُودِهِ " . فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ فِي أَفْعَالِهِ .

[ إِقْرَارُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ] : وَأَمَّا إِقْرَارُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّاسَ عَلَى مَا أَمَرَهُمْ عَلَيْهِ مِنْ بِيَاعَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ وَمَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ وَمَلْبُوسٍ وَآنِيَةٍ وَمَقَاعِدَ فِي الْأَسْوَاقِ فَجَمِيعُهَا فِي الشَّرْعِ مُبَاحٌ . لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَسْتَجِيزُ أَنْ يُقِرَّ النَّاسَ عَلَى مُنْكَرٍ مَحْظُورٍ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ " النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ [ الْأَعْرَافِ : ] . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا أَقَرَّ عَلَيْهِ خَارِجٌ عَنِ الْمُنْكَرِ وَدَاخِلٌ فِي الْمَعْرُوفِ . وَاخْتُلِفَ فِي حُكْمِ الِاسْتِبَاحَةِ لِذَلِكَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مُسْتَبَاحَةٌ بِالْعُرْفِ الْمُتَقَدِّمِ دُونَ الشَّرْعِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا مُسْتَبَاحَةٌ بِالشَّرْعِ حَتَّى أَقَرُّوا عَلَيْهَا .

وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ فِي أُصُولِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ مَجِيءِ الشَّرْعِ هَلْ كَانَتْ عَلَى الْإِبَاحَةِ حَتَّى حَظَرَهَا الشَّرْعُ أَوْ كَانَتْ عَلَى الْحَظْرِ حَتَّى أَبَاحَهَا الشَّرْعُ .

فَصْلٌ مَا يَجِبُ بَيَانُهُ بِالسُّنَّةِ

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فِيمَا يَجِبُ بَيَانُهُ بِالسُّنَّةِ : فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : مَا لَزِمَهُ بَيَانُهُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ عِبَادِهِ فِيمَا يَجِبُ بَيَانُهُ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ بَيَانُ مَا أَجْمَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ، وَالرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَأْخُوذٌ بَيَانُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ لِيُقَامَ بِحَقِّهِ فِيهَا وَمَأْخُوذٌ بِبَيَانِهِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لِيَعْلَمُوا مَا كُلِّفُوا مِنْهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا لَزِمَ الرَّسُولَ بَيَانُهُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ عِبَادِهِ فِيمَا يَجِبُ بَيَانُهُ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ يَلْزَمُ بَيَانُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ لِاسْتِثْنَائِهِ لَهُ وَلَا يَلْزَمُهُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لِأَنَّهُمْ عَلَى الْعُمُومِ مَا لَمْ يَنْقُلُوا عَنْهُ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : مَا لَزِمَهُ بَيَانُهُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ بَيَانُهُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ فِيمَا يَجِبُ بَيَانُهُ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ مَا يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ بِفِعْلِهِ وَلَا يَجِبُ الْعِقَابَ بِتَرْكِهِ كَنَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ وَأَفْعَالِ الْقُرْبِ يَلْزَمُ بَيَانُهَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ خَاصَّةً لِاخْتِصَاصِهِمْ بِهَا . وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ : مَا اخْتُلِفَ فِيهِ وَهُوَ مَا اسْتَأْنَفَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَانَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِيمَا يَجِبُ بَيَانُهُ بِالسُّنَّةِ كَالْحُكْمِ بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ وَالْقَضَاءِ بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَإِعْطَاءِ السَّلَبِ لِلْقَاتِلِ وَأَنْ لَا مِيرَاثَ لِلْقَاتِلِ وَأَنْ لَا وَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ وَأَنْ لَا يُجْمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ فَيَلْزَمُ الرَّسُولَ بَيَانُهُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ : لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَهُمْ إِلَى الْعِلْمِ بِهَا إِلَّا مِنْهُ . وَفِي لُزُومِ بَيَانِهَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ هَلْ لِلرَّسُولِ أَنْ يَحْكُمَ فِيهَا بِاجْتِهَادِهِ أَمْ لَا ؟ حقوق الله تعالى عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لِلرَّسُولِ أَنْ يَحْكُمَ بِاجْتِهَادِهِ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ فَضِيلَةٌ فَكَانَ الْأَنْبِيَاءُ بِهَا أَحَقَّ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [ الْأَنْبِيَاءِ : - ] . وَلَوْ حَكَمَ دَاوُدُ بِأَمْرِ اللَّهِ لَمْ يَنْقُضْ حُكْمَهُ عَلَيْهِ ، وَقَدْ صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَحَكَمَ بِرَدِّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ رِجَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى حُكْمَهُ فِيمَنْ أَسْلَمَ مِنَ النِّسَاءِ حِينَ جَاءَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مُسْلِمَةً فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ حَكَمَ فِي ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ هَذَا الْبَيَانُ لَازِمًا لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ دُونَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَيْسَ لِلرَّسُولِ أَنْ يَجْتَهِدَ وَتَكُونُ أَحْكَامُهُ مَوْقُوفَةً عَلَى أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى إِمَّا مِنْ قُرْآنٍ أَوْ وَحْيٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى

[ النَّجْمِ : - ] : وَلِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُسَوَّغُ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ . وَأَوَامِرُ اللَّهِ تَعَالَى نَصٌّ ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ هَذَا الْبَيَانُ لَازِمًا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ عِبَادِهِ . وَالْأَصَحُّ عِنْدِي مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي اجْتِهَادِ الرَّسُولِ أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادُهُ مُعْتَبَرًا بِالْحُكْمِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُشَارِكُ فِيهِ أُمَّتَهُ كَنَهْيِهِ عَنِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ وَكَنَهْيِهِ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِيهِ حَتَّى يَأْخُذَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَحْيِهِ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِابْنِ مَسْعُودٍ : " إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَإِنَّ مِمَّا يُحْدِثُ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ " . وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا تُشَارِكُهُ فِيهِ أُمَّتُهُ : كَقَوْلِهِ : " لَا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ " وَكَحَدِّهِ لِشَارِبِ الْخَمْرِ ، جَازَ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ بِرَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ هِيَ إِلْزَامٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ لِمَأْمُورٍ فَمَا دَخَلَ فِيهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ وَمَا لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ آمِرًا بِهِ ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ غَيْرُ الْآمِرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصَوَابِ مَا ذَكَرْتُهُ .

فَصْلٌ مَا يَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهِ مِنَ السُّنَّةِ

فَصْلٌ : مَا يَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهِ مِنَ السُّنَّةِ وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فِيمَا يَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهِ مِنَ السُّنَّةِ : فَأَقُولُ إِنَّ السُّنَّةَ إِذَا جَاءَتْ بِحُكْمٍ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَتَفَرَّدَ السُّنَّةُ بِذَلِكَ الْحُكْمِ ، أَوْ يَقْتَرِنَ بِهَا فِيهِ أَصْلٌ آخَرُ . [ الْقَوْلُ فِي السُّنَّةِ إِذَا انْفَرَدَتْ العمل بالحكم ] : فَإِنِ انْفَرَدَتْ بِذَلِكَ الْحُكْمِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهَا فِي الْتِزَامِ ذَلِكَ الْحُكْمِ : لِأَنَّهَا أَصْلٌ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ سَوَاءٌ وَافَقَهَا الْقِيَاسُ أَوْ خَالَفَهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنْ خَالَفَتِ الْقِيَاسَ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ كَانَ الْعَمَلُ عَلَى الْقِيَاسِ أَوْلَى مِنَ الْأَخْذِ بِالسُّنَّةِ . وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ الْقِيَاسَ فَرْعُ السُّنَّةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَافِعًا لِلسُّنَّةِ . وَإِنِ اقْتَرَنَ بِالسُّنَّةِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ أَصْلٌ آخَرُ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : كِتَابُ اللَّهِ وَالضَّرْبُ الثَّانِي : سُنَّةٌ أُخْرَى . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : إِجْمَاعٌ . الضَّرْبُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَقْتَرِنَ بِالسُّنَّةِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ كِتَابُ اللَّهِ فَلَا يَخْلُو الْكُتَّابُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِحُكْمِ السُّنَّةِ ، أَوْ مُنَافِيًا لَهُ . فَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا صَارَ ذَلِكَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِأَصْلَيْنِ هُمَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَنُظِرَ فِيهِمَا فَإِنْ تَقَدَّمَتِ السُّنَّةُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ كَانَ وُجُوبُهُ بِالسُّنَّةِ ، وَالْكِتَابُ مُؤَكِّدٌ ، وَإِنْ تَقَدَّمَ الْكِتَابُ بِهِ عَلَى السُّنَّةِ كَانَ وُجُوبُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةُ مُؤَكِّدَةٌ .

وَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ مُنَافِيًا لِلسُّنَّةِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ فَأَثْبَتَهُ أَحَدُهُمَا وَنَفَاهُ الْآخَرُ ، فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَقَدَّمَ الْكِتَابُ فَيَكُونُ الْعَمَلُ عَلَى الْكِتَابِ دُونَ السُّنَّةِ لِأَنَّ الْكِتَابَ لَا يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَتَقَدَّمَ السُّنَّةُ عَلَى الْكِتَابِ فَيَكُونُ الْعَمَلُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بِالسُّنَّةِ دُونَ الْكِتَابِ ، لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ السُّنَّةَ لَا تُنْسَخُ بِالْكِتَابِ . وَعَلَى مَذْهَبِ مَنْ أَجَازَ نَسْخَ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ مِنْ أَصْحَابِهِ كَابْنِ سُرَيْجٍ وَغَيْرِهِ يَكُونُ الْعَمَلُ عَلَى الْكِتَابِ دُونَ السُّنَّةِ وَتَكُونُ السُّنَّةُ مَنْسُوخَةً بِالْكِتَابِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَرِدَا مَوْرِدًا وَاحِدًا وَلَا يَتَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ ، فِي الْمَأْخُوذِ بِهِ مِنْهُمَا ، عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : يُؤْخَذُ فِيهِ بِكِتَابِ اللَّهِ ، لِأَنَّهُ أَصْلُ السُّنَّةِ ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " مَا أَتَاكُمْ عَنِّي فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ وَافَقَهُ فَاعْمَلُوا بِهِ وَإِنْ خَالَفَهُ فَاتْرُكُوهُ " . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : أَنْ يُؤْخَذَ فِيهِ بِحُكْمِ السُّنَّةِ لِاخْتِصَاصِهَا بِالْبَيَانِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [ الْحَشْرِ : ] . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : يَجِبُ التَّوَقُّفُ عَنْهُمَا ، حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ ، عَلَى ثُبُوتِ أَحَدِهِمَا . وَالصَّحِيحُ عِنْدِي : أَنْ يُنْظَرَ فِي حُكْمِ السُّنَّةِ فَإِنْ كَانَ تَخْصِيصًا عُمِلَ عَلَى السُّنَّةِ دُونَ الْكِتَابِ ، لِأَنَّ عُمُومَ الْكِتَابِ مَخْصُوصٌ بِالسُّنَّةِ ، وَإِنْ كَانَ نَسْخًا عُمِلَ عَلَى الْكِتَابِ دُونَ السُّنَّةِ لِأَنَّ الْكِتَابَ لَا يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ . وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي فِي مُقَابَلَةِ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ : فَإِنِ اتَّفَقَا وَكَانَ الْفِعْلُ فِيهِمَا مُوَافِقًا لِقَوْلٍ تَأَكَّدَ الْحُكْمُ بِاجْتِمَاعِهِمَا فِيهِ ، وَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ ، وَإِنْ تَنَافَيَا فِيهِ وَكَانَ الْفِعْلُ فِي السُّنَّةِ مُخَالِفًا لِلْقَوْلِ . مِثْلُ أَنْ يَرِدَ عَنِ الرَّسُولِ قَوْلٌ فَيُعْمَلُ بِخِلَافِهِ ، وَالْأَحْكَامُ قَدْ تُؤْخَذُ مِنْ فِعْلِهِ كَمَا تُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُمْكِنَ اسْتِعْمَالُهُمَا عَلَى مَا لَا يَتَنَافَيَانِ ، مِثْلُ نَهْيِهِ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَ الْعَصْرِ فَحُمِلَ نَهْيُهُ عَنِ الصَّلَاةِ الَّتِي لَا سَبَبَ لَهَا ، وَحُمِلَ فِعْلُهُ عَلَى الصَّلَاةِ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا وَيُحْمَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى مَا يُوجِبُهُ اسْتِعْمَالُهُمَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ الْفِعْلِ ، كَمَا بَيَّنَ اخْتِصَاصَهُ

بِالْوِصَالِ فِي الصِّيَامِ بَعْدَ نَهْيِهِ عَنْهُ ، فَيُؤْخَذُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ ، وَيُعْدَلُ عَنْ خُصُوصِ فِعْلِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ لَا يُمْكِنَ اسْتِعْمَالُهُمَا وَلَا تَبَيُّنُ اخْتِصَاصِهِ بِأَحَدِهِمَا فَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ التَّأَخُّرُ مِنْهُمَا نَاسِخًا لِلْمُتَقَدِّمِ . وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْقَوْلَ لَا يُنْسَخُ إِلَّا بِالْقَوْلِ ، وَالْفِعْلَ لَا يَنْسَخُ إِلَّا بِالْفِعْلِ . وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ إِلَى جَوَازِ نَسْخِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سُنَّةٌ يُؤْخَذُ بِهَا . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي السَّارِقِ " فَإِنْ عَادَ فِي الْخَامِسَةِ فَاقْتُلُوهُ . ثُمَّ رَفَعَ إِلَيْهِ فِي الْخَامِسَةِ فَلَمْ يَقْتُلْهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ مَنْسُوخٌ وَقَالَ : " الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ " ثُمَّ رَجَمَ مَاعِزًا وَلَمْ يَجْلِدْهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَلْدَ مَنْسُوخٌ ، وَقَالَ فِي الْإِمَامِ : " وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعِينَ " ثُمَّ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ قَاعِدًا وَصَلَّوْا خَلْفَهُ قِيَاسًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقُعُودَ مَنْسُوخٌ فِعْلُ مَذْهَبِ مَنْ جَوَّزَ نَسْخَ الْقَوْلِ بِالْفِعْلِ جَعَلَ فِعْلَهُ الْمُتَأَخِّرَ نَاسِخًا لِقَوْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ . وَعَلَى الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْقَوْلَ لَا يُنْسَخُ بِالْفِعْلِ ، لَكِنْ يَسْتَدِلُّ بِفِعْلِهِ الْمُخَالِفِ لِقَوْلِهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ عَلَى فِعْلِهِ قَوْلٌ نَسَخَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ ثُمَّ وَرَدَ فِعْلُهُ الْمُخَالِفُ بَعْدَ قَوْلِهِ النَّاسِخِ فَاقْتَصَرَ النَّاسُ عَلَى نَقْلِ الْفِعْلِ دُونَ الْقَوْلِ لِظُهُورِ النَّسْخِ فِيهِ . فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْمُتَقَدِّمَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِ عَدَلَ عَنْهُمَا إِلَى عَمَلِ الصَّحَابَةِ بِأَحَدِهِمَا فَكَانَ عَمَلُهُمْ بِأَحَدِهِمَا دَلِيلًا عَلَى نَسْخِ الْآخَرِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَمَلِ بَيَانٌ وَجَبَ التَّوَقُّفُ عَنْهُمَا حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ أَحَدِهِمَا . وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ : فِي مُقَابَلَةِ السُّنَّةِ بِالْإِجْمَاعِ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ فِي الْعَمَلِ بِهَا كَمَا قَالَ : " لَا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ " " وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ " وَنَهَى عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا وَأَجْمَعُوا عَلَى الْعَمَلِ بِهَذِهِ السُّنَنِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعُ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ النَّقْلِ فَيَصِيرُ هَذَا الْخَبَرُ فِي حُكْمِ الْمُتَوَاتِرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَوَاتِرًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدًا عَلَى خِلَافِ السُّنَّةِ فَتَدُلُّ مُخَالَفَةُ الْإِجْمَاعِ لِلسُّنَّةِ عَلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ أَوْ نَقْلُهَا غَيْرُ صَحِيحٍ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُوجِبًا لِتَرْكِ السُّنَّةِ وَالْعَمَلِ عَلَى الْإِجْمَاعِ .

وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَعْمَلَ بِهَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَيَتْرُكُهَا بَعْضُهُمْ ، فَالْعَمَلُ بِالسُّنَّةِ وَاجِبٌ وَإِنْ تَرَكَهَا بَعْضُهُمْ لِأَنَّ التَّارِكَ لَهَا مَحْجُوجٌ بِهَا . وَإِذَا رُوِيَتْ سُنَّةٌ لِمَنْ غَابَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَمِلَ بِهَا ثُمَّ لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَلْزَمُهُ سُؤَالُهُ عَنْهَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُهُ سُؤَالُهُ عَنْهَا لِيَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَلْزَمُهُ السُّؤَالُ وَيَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا عَلَى الْخَبَرِ ، لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ السُّؤَالُ إِذَا حَضَرَ لَلَزِمَتْهُ الْهِجْرَةُ إِذَا غَابَ . وَالصَّحِيحُ عِنْدِي : أَنَّ وُجُوبَ السُّؤَالِ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ السُّنَّةِ فَإِنْ كَانَتْ تَغْلِيظًا لَمْ يَلْزَمِ السُّؤَالُ عَنْهَا وَإِنْ كَانَتْ تَرْخِيصًا لَزِمَهُ السُّؤَالُ عَنْهَا لِأَنَّ التَّغْلِيظَ الْتِزَامٌ وَالتَّرْخِيصُ إِسْقَاطٌ . وَإِذَا ظَفِرَ الْإِنْسَانُ بِرَاوِي حَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَعَلَّقُ بِالسُّنَنِ وَالْأَحْكَامِ فَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَامَّةِ الْمُقَلِّدِينَ لَمْ يَلْزَمْهُ سَمَاعُ الْحَدِيثِ ، لِأَنَّ فَرْضَهُ السُّؤَالَ عِنْدَ نُزُولِ الْحَوَادِثِ بِهِ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْخَاصَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ لَزِمَهُ سَمَاعُ الْحَدِيثِ لِيَكُونَ أَصْلًا فِي اجْتِهَادِهِ ، وَنَقْلُ السُّنَنِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ . فَإِذَا نَقَلَهَا مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ سَقَطَ فَرْضُهَا عَنِ الْبَاقِينَ وَإِذَا قَصَّرَ نَاقِلُوهَا عَنِ الْكِفَايَةِ خَرَجُوا أَجْمَعِينَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ . وَالَّذِي يَدْخُلُ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ مَنْ قُبِلَتْ مِنْهُ الرِّوَايَةُ ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِمْ مَنْ لَمْ تُقْبَلْ رِوَايَتُهُ . وَعَلَى مُتَحَمِّلِ السُّنَّةِ أَنْ يَرْوِيَهَا إِذَا سُئِلَ عَنْهَا وَلَا يَلْزَمُهُ رِوَايَتُهَا إِذَا لَمْ يُسْأَلْ عَنْهَا إِلَّا أَنْ يَجِدَ النَّاسَ عَلَى خِلَافِهَا فَيَلْزَمُهُ رِوَايَتُهَا لِيَعْمَلُوا بِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ الْإِجْمَاعُ

فَصْلٌ : [ ثَالِثًا - الْإِجْمَاعُ ] . وَأَمَّا الْأَصْلُ الثَّالِثُ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ - وَهُوَ الْإِجْمَاعُ تعريفه - فَالْإِجْمَاعُ هُوَ أَنْ يَسْتَفِيضَ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ جِهَةِ دَلَائِلِ الْأَحْكَامِ وَطُرُقِ الِاسْتِنْبَاطِ عَلَى قَوْلٍ فِي حُكْمٍ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ أَهْلُ عَصْرِهِمْ وَتَكُونُ اسْتِفَاضَتُهُ عِنْدَ أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بَعْدَ عَصْرِهِمْ فَتُعْتَبَرُ الِاسْتِفَاضَةُ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَفِي أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَكُونُ لِقَوْلِ مَنْ جُرِحَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ تَأْثِيرٌ فِي وِفَاقٍ أَوْ خِلَافٍ فَهَذَا حَدُّ الْإِجْمَاعِ . وَهُوَ حُجَّةٌ فِي الْأَحْكَامِ . وَقَدْ أَنْكَرَ قَوْمٌ إِمْكَانَ الْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ دَلِيلًا ، وَأَنْكَرَ قَوْمٌ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا وَإِنْ أَمْكَنَ .

وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ فَاسِدٌ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ [ لُقْمَانَ : ] : فَدَلَّ أَمْرُهُ بِاتِّبَاعِهِمْ عَلَى إِمْكَانِ اتِّفَاقِهِمْ وَوُجُوبِ إِجْمَاعِهِمْ ، ثُمَّ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُخَالَفَتِهِمْ فَقَالَ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى [ النِّسَاءِ : ] الْآيَةَ . فَصَارَ خِلَافُهُمْ مَحْظُورًا ، أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [ آلِ عِمْرَانَ : ] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " الْأُمَّةُ الْمُجْتَمِعَةُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ شَذَّ عَنْهَا " ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَجْتَمِعُونَ إِلَّا عَلَى حَقٍّ فَقَالَ : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ " [ آلِ عِمْرَانَ : ] . الْآيَةَ ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ " . ثُمَّ جَعَلَ أَهْلَ كُلِّ عَصْرٍ حُجَّةً عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأَعْصَارِ لِيَسْتَدِيمَ الْإِبْلَاغُ فَقَالَ تَعَالَى : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَجَعَلَ الرَّسُولَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ ، وَجَعَلَهُمْ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ . وَرَوَى مُعَاذُ بْنُ رِفَاعَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُذْرِيِّ قَالَ : قَالَ : رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ " ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِجْمَاعَ هَذِهِ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أُمَّةِ كُلِّ نَبِيٍّ هَلْ يَكُونُ إِجْمَاعُهُمْ حُجَّةً أَمْ لَا ؟ فَذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ إِجْمَاعَ غَيْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَا يَكُونُ حُجَّةً . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِكَذِبِ الْفَرِيقَيْنِ . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ : يَكُونُ حُجَّةً عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ مَنْ أُمَّتِهِمْ ، لِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِشَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ فِي عَصْرٍ بَعْدَ عَصْرٍ مَا لَمْ يَرِدْ نَسْخُهَا . فَأَمَّا إِجْمَاعُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى كَذِبِهِمْ فِي قَتْلِ عِيسَى فَإِنَّمَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى نَقْلِ الْقَتْلِ الْمَأْخُوذِ عَنْ آحَادٍ تَعْتَرِضُهُمُ الشُّبْهَةُ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَطَرَّقَ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى النَّقْلِ حَقٌّ وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ بَاطِلًا . فَصَارَ الْمُتَعَلِّقُ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى مَا أَوْضَحْنَاهُ أَرْبَعَةَ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : إِمْكَانُ وَجُودِهِ . وَالثَّانِي : لُزُومُ حُجَّتِهِ .

وَالثَّالِثُ : اشْتِمَالُهُ عَلَى الْحَقِّ . وَالرَّابِعُ : وَجُوبُهُ فِي كُلِّ عَصْرٍ .

فَصْلٌ : فَإِذَا اسْتَقَرَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ وَأَحْكَامِهِ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : مَا يَنْعَقِدُ عَنْهُ الْإِجْمَاعُ . وَالثَّانِي : مَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْإِجْمَاعُ . وَالثَّالِثُ : مَا يَسْتَقِرُّ بِهِ الْإِجْمَاعُ . وَالرَّابِعُ : فِي مُعَارَضَةِ الِاخْتِلَافِ وَالْإِجْمَاعِ .

الْقَوْلُ فِيمَا يَنْعَقِدُ عَنْهُ الْإِجْمَاعُ

[ الْقَوْلُ فِيمَا يَنْعَقِدُ عَنْهُ الْإِجْمَاعُ ] : فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِيمَا يَنْعَقِدُ عَنْهُ الْإِجْمَاعُ : فَهُوَ يَنْعَقِدُ عَنْ دَلِيلٍ أَوْجَبَ اتِّفَاقَهُمْ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَا لَا مُوجِبَ لَهُ يَتَعَذَّرُ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ . وَالدَّلِيلُ الدَّاعِي إِلَيْهِ قَدْ يَكُونُ مِنْ سَبْعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَنْعَقِدَ عَنْ تَنْبِيهٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ ابْنَ الِابْنِ فِي الْمِيرَاثِ كَالِابْنِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَنْعَقِدَ عَنِ اسْتِنْبَاطٍ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَوْرِيثِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجَدَّتَيْنِ السُّدُسَ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَنْعَقِدَ عَنْ الِاسْتِفَاضَةِ وَالِانْتِشَارِ ، كَالْإِجْمَاعِ عَلَى أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَتَرْتِيبِهَا فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَنْعَقِدَ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ كَالْإِجْمَاعِ عَلَى نُصُبِ الزَّكَوَاتِ . وَالْخَامِسُ : أَنْ يَنْعَقِدَ عَنِ الْمُنَاظَرَةِ وَالْجِدَالِ ، كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى قَتْلِ مَانِعِي الزَّكَاةِ . وَالسَّادِسُ : أَنْ يَنْعَقِدَ عَنْ تَوْقِيفٍ ، كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ تُسْقِطُ فَرْضَ الظُّهْرِ . وَالسَّابِعُ : أَنْ يَنْعَقِدَ عَنِ اسْتِدْلَالٍ وَقِيَاسٍ ، كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْجَوَامِيسَ فِي الزَّكَاةِ كَالْبَقَرِ . فَإِنْ تَجَرَّدَ الْإِجْمَاعُ عَنْ دَلِيلٍ يَدْعُو إِلَيْهِ إِذَا وُجِدَ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي صِحَّتِهِ وَجَوَازِ انْعِقَادِهِ . فَذَهَبَ شَاذٌّ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى جَوَازِهِ ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " مَا رَآهُ

الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ " وَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ الْإِلْهَامَ دَلِيلًا . وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ إِلَّا بِدَلِيلٍ لِأَمْرَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِثْبَاتَ الشَّرْعِ دَلِيلٌ لَا يَجُوزُ . وَالثَّانِي : أَنَّ اتِّفَاقَ الْكَافَّةِ بِغَيْرِ سَبَبٍ لَا يُوجَدُ . وَإِذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَنْ أَحَدِ أَدِلَّتِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْقَطْعِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِصِحَّتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِجْمَاعَ مَعْصُومٌ يُقْطَعُ بِصِحَّتِهِ لِيَصِحَّ قِيَامُ الْحُجَّةِ بِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْإِجْمَاعَ غَيْرُ مَعْصُومٍ مِنَ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ اعْتِبَارًا بِأَهْلِهِ فِي نَفْيِ الْعِصْمَةِ عَنْ آحَادِهِمْ فَكَذَلِكَ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ ، وَلَا يَكُونُ قِيَامُ الْحُجَّةِ بِهِ مُوَجِبًا لِعِصْمَتِهِ كَمَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْصُومٍ .

فَصْلٌ الْقَوْلُ فِيمَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْإِجْمَاعُ

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِيمَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْإِجْمَاعُ ] : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِيمَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْإِجْمَاعُ : فَانْعِقَادُهُ مُعْتَبَرٌ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ قَوْلُ الْخَاصَّةِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ دُونَ الْعَامَّةِ شروط صحة الإجماع لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ [ آلِ عِمْرَانَ : ] . فَخَصَّ أَهْلَ الْعِلْمِ دُونَ الْعَامَّةِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ وَكَذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ " وَقَدْ خَالَفَ أَبُو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي أَنَّ الْبَرَدَ لَا يُفْطِرُ الصَّائِمَ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ فَرَدُّوا قَوْلَهُ وَلَمْ يَعْتَدُّوا خِلَافَهُ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ عُلَمَائِهِمْ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَوْلُ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ كُلِّهِمْ شروط صحة الإجماع . وَقَالَ مَالِكٌ : الْإِجْمَاعُ مُعْتَبَرٌ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ . وَلَا يَنْتَقِضُ إِجْمَاعُهُمْ ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ ، لِنُزُولِ الْوَحْيِ فِيهِمْ ، وَقَبْضِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمْ ، وَانْتِشَارِ الْعِلْمِ عَنْهُمْ ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " إِنَّ الْعِلْمَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا " .

وَلِذَلِكَ لَمْ يُجْعَلْ خِلَافُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بَعْدَ خُرُوجِهِ إِلَى الْكُوفَةِ فِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ حَتَّى قَالَ عَلَى مِنْبَرِهَا " اجْتَمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ عَلَى أَنَّ بَيْعَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ لَا يَجُوزُ وَقَدْ رَأَيْتُ أَنَّ بَيْعَهُنَّ جَائِزٌ " خِلَافًا وَجُعِلَ تَحْرِيمُ بَيْعِهِنَّ إِجْمَاعًا . وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ : لِأَنَّ الْأَحْكَامَ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا مِنَ الْأَمْكِنَةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [ النِّسَاءِ : ] . وَلَمْ يَأْمُرْ بِرَدِّهِ إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، فَكَانَ الْعِلْمُ بِأَهْلِهِ لَا بِمَكَانِهِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ " وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - خَرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الشَّامِ فِي طَلَبِ حَدِيثٍ عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَتَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ يَسْأَلُونَهُ عَمَّا عِنْدَهُ مِنْ دِيَةِ الْأَسْنَانِ : وَلِأَنَّ مَكَّةَ مَهْبِطُ الْقُرْآنِ وَمَقَامُ الرَّسُولِ بِهَا أَكْثَرُ ، وَلَا يَتَمَيَّزُ أَهْلُهَا فِي الْعِلْمِ ، فَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أَحَقَّ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ لَا يَظْهَرَ مِنْ أَحَدِهِمْ خِلَافٌ فِيهِ شروط صحة الإجماع . وَإِنْ تَظَاهَرَ أَحَدُهُمْ بِالْخِلَافِ فَلَهُ حَالَتَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَدْفَعَ خِلَافَهُ نَصٌّ فَيَكُونُ خِلَافُهُ مُرْتَفِعًا وَالْإِجْمَاعُ بِغَيْرِهِ مُنْعَقِدًا كَمَا خَالَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ الصَّحَابَةَ فِي الْفَاتِحَةِ وَالْمَعُوذَتَيْنِ وَلَمْ يَجْعَلْهُنَّ مِنَ الْقُرْآنِ فَلَمْ يَعْتَدُّوا بِخِلَافِهِ لِوُجُودِ النَّصِّ وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُنَّ مِنَ الْقُرْآنِ وَخَالَفَهُمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ فِي الْقُنُوتِ الْمُسَمَّى بِسُورَتَيِ أُبَيٍّ حِينَ جَعَلَهُمَا مِنَ الْقُرْآنِ فَلَمْ يَعْتَدُّوا بِخِلَافِهِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنَ الْقُرْآنِ ، وَكَمَا ذَهَبَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ الصَّوْمِ إِسْفَارُ الصُّبْحِ فَلَمْ يَعْتَدُّوا بِخِلَافِهِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ . الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يَدْفَعَ قَوْلَ الْمُخَالِفِ نَصٌّ فَيَكُونُ خِلَافُهُ مَانِعًا مِنِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَكَابِرِ أَهْلِ الْعَصْرِ أَوْ مِنْ أَصْغَرِهِمْ سِنًّا ، كَمَا خَالَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ فِي الْعَوْلِ فَقَالَ : " مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ " فَصَارَ خِلَافُهُ خِلَافًا ، وَالْإِجْمَاعُ بِخِلَافِهِ مُرْتَفِعًا . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : خِلَافُ الْوَاحِدِ لَا يَنْقُضُ الْإِجْمَاعَ وَيَكُونُ مَحْجُوجًا بِمَنْ عَدَاهُ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ، قَدْ خَالَفَ أَبُو بَكْرٍ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ ثُمَّ بَانَ أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ [ الْبَقَرَةِ : ] .

وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ : أَنْ يَنْتَشِرَ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الْعَصْرِ فَيَكُونُوا فِيهِ بَيْنَ مُعْتَرِفٍ بِهِ أَوْ رَاضٍ بِهِ . فَإِنِ انْتَشَرَ فِيهِمْ وَأَمْسَكُوا عَنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُمُ اعْتِرَافٌ أَوْ رِضًى فَهُوَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْصَارِ . فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ فَلَا يَكُونُ انْتِشَارُ قَوْلِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ مَعَ إِمْسَاكِ غَيْرِهِ إِجْمَاعًا وَلَا حُجَّةً ، لِأَنَّهُمْ قَدْ يُعْرِضُونَ عَمًّا لَا يَتَعَيَّنُ فَرْضُهُ عَلَيْهِمْ . وَإِنْ كَانَ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ الَّذِي قَدْ خَصَّهُ اللَّهُ بِفَضْلِ أَهْلِهِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ " وَقَالَ : " خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ مِنْ يَلِيهِمْ " . فَإِذَا قَالَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ قَوْلًا أَوْ حَكَمَ بِهِ فَأَمْسَكَ الْبَاقُونَ عَنْهُ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فِيمَا يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ ، كَإِرَاقَةِ دَمٍ ، أَوِ اسْتِبَاحَةِ فَرْجٍ ، فَيَكُونُ إِجْمَاعًا : لِأَنَّهُمْ لَوِ اعْتَقَدُوا خِلَافَهُ لَأَنْكَرُوهُ ، إِذْ لَا يَصِحُّ مِنْهُمْ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى إِقْرَارِ مُنْكَرٍ . وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ كَانَ حُجَّةً لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَخْرُجُ عَنْ غَيْرِهِمْ . وَفِي كَوْنِهِ إِجْمَاعًا يَمْنَعُ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ إِجْمَاعًا لَا يُسَوَّغُ مَعَهُ الِاجْتِهَادُ لِأَنَّ عَدَمَ الْخِلَافِ مَعَ الِانْتِشَارِ يَمْنَعُ مِنْ إِثْبَاتِ الْخِلَافِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَكُونُ إِجْمَاعًا وَالِاجْتِهَادَ مَعَهُ جَائِزٌ : لِأَنَّ مَنْ نَسَبَ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلًا أَوِ اعْتِقَادًا فَقَدِ افْتَرَى عَلَيْهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ حُكْمًا أَوْ فُتْيَا . وَفَرَّقَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ بَيْنَهُمَا فَجَعَلَهُ إِجْمَاعًا إِنْ كَانَ فُتْيَا ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ إِجْمَاعًا إِنْ كَانَ حُكْمًا لِجَوَازِ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْمُفْتِي . وَتَرَكَ الِاعْتِرَاضَ عَلَى الْحَاكِمِ لِمَا فِيهِ مِنْ شَقِّ الْعَصَا . وَعَكَسَهُ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا فَجَعَلَهُ إِجْمَاعًا إِنْ كَانَ حُكْمًا وَلَمْ يَجْعَلْهُ إِجْمَاعًا إِنْ كَانَ فُتْيَا : لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَغْلَبِ يَكُونُ عَنِ الْمُشَاوَرَةِ وَفِي الْفُتْيَا عَنِ اسْتِبْدَادٍ . وَكِلَا الْفَرْقَيْنِ فَاسِدٌ لِاشْتِرَاكِ الْحُكْمِ وَالْفُتْيَا فِي وُجُوبِ الِاجْتِهَادِ . وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَنْتَشِرْ قَوْلُ الْوَاحِدِ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي جَمِيعِهِمْ وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ خِلَافٌ مِنْ أَحَدِهِمْ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الْقَوْلُ إِجْمَاعًا ، لِأَنَّهُمْ مَا عَرَفُوهُ ، فَيَرْضُوا بِهِ أَوْ يُنْكِرُوهُ .

فَأَمَّا كَوْنُهُ حُجَّةً تُلْزِمُ الْعَمَلَ بِهَا الإجماع فَمُعْتَبَرٌ بِمَا يُوَافِقُهُ مِنْ قِيَاسٍ أَوْ يُخَالِفُهُ . وَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ مُوَافِقًا لِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ فَيَكُونُ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةً بِالْقِيَاسِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ مُخَالِفًا لِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ فَالْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ قِيَاسٍ جَلِيٍّ أَوْ خَفِيٍّ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ مَعَ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ قِيَاسٌ جَلِيٌّ وَيُخَالِفُهُ قِيَاسٌ خَفِيٌّ فَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ مَعَ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ أَوْلَى . وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَكُونَ مَعَ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ قِيَاسٌ خَفِيٌّ وَيُخَالِفُهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ : فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ : أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ مَعَ الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ أَوْلَى وَأَلْزَمُ مِنَ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَهْدَى إِلَى الْحَقِّ . ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ فِي الْجَدِيدِ وَجَعَلَ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ أَوْلَى بِالْعَمَلِ مِنْ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ مَعَ الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ لِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يَتَحَاجُّونَ بِالْقِيَاسِ حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " أَلَا لَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ ابْنًا وَلَا يَجْعَلُ أَبَ الْأَبِ أَبًا " ، وَإِذَا لَزِمَهُمُ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ كَانَ لِغَيْرِهِمْ أَلْزَمَ .

فَصْلٌ مَا يَسْتَقِرُّ بِهِ الْإِجْمَاعُ

فَصْلٌ : مَا يَسْتَقِرُّ بِهِ الْإِجْمَاعُ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِيمَا يَسْتَقِرُّ بِهِ الْإِجْمَاعُ : فَمُعْتَبَرٌ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : الْعِلْمُ بِاتِّفَاقِهِمْ عَلَيْهِ سَوَاءٌ اقْتَرَنَ بِقَوْلِهِمْ عَمَلٌ أَوْ لَمْ يَقْتَرِنْ ما يستقر به الإجماع . وَمَنَعَ بَعْضُ النَّاسِ مِنِ اسْتِقْرَارِ الْإِجْمَاعِ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهِ عَمَلٌ لِأَنَّ الْعَمَلَ تَحْقِيقُ الْقَوْلِ . وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ : لِأَنَّ حُجَجَ الْأَقْوَالِ أَوْكَدُ مِنْ حُجَجِ الْأَفْعَالِ ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا انْفَرَدَ حُجَّةً فَلَمْ يَلْزَمِ اجْتِمَاعُهُمَا إِذَا لَمْ يَخْتَلِفَا . فَإِنْ تَجَرَّدَ الْإِجْمَاعُ فِي الْقَوْلِ عَنْ عَمَلٍ يُخَالِفُهُ أَوْ يُوَافِقُهُ كَانَ الْقَوْلُ إِجْمَاعًا . وَإِنْ تَجَرَّدَ الْإِجْمَاعُ فِي الْعَمَلِ عَنْ قَوْلٍ يُوَافِقُهُ أَوْ يُخَالِفُهُ كَانَ الْعَمَلُ إِجْمَاعًا . فَإِنْ أَجْمَعُوا عَلَى الْقَوْلِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَمَلِ بَطَلَ الْإِجْمَاعُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْعَمَلِ تَأْوِيلٌ . وَإِنْ أَجْمَعُوا عَلَى الْعَمَلِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَوْلِ بَطَلَ الْإِجْمَاعُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْقَوْلِ تَأْوِيلٌ لِمَا يَلْزَمُ مِنِ اتِّفَاقِهِمْ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ .

فَإِنْ جُهِلَ الِاتِّفَاقُ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْإِجْمَاعُ لَمْ يَثْبُتْ بِذَلِكَ إِجْمَاعٌ وَلَا خِلَافٌ لِتَرَدُّدِهِمَا بَيْنَ اتِّفَاقٍ يَكُونُ إِجْمَاعًا وَافْتِرَاقٍ يَكُونُ خِلَافًا فَلِذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ إِجْمَاعٌ وَلَا خِلَافٌ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَسْتَدِيمُوا مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِجْمَاعِ وَلَا يَحْدُثُ مِنْ أَحَدِهِمْ خِلَافٌ ما يستقر به الإجماع . فَإِنْ خَالَفَهُمُ الْوَاحِدُ بَعْدَ إِجْمَاعِهِ مَعَهُمْ انعقاد الإجماع بَطَلَ الْإِجْمَاعُ وَشَاعَ الْخِلَافُ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَحْدُثَ إِجْمَاعُهُمْ بَعْدَ الْخِلَافِ جَازَ أَنْ يَحْدُثَ خِلَافُهُمْ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ ، هَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ خَالَفَ فِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ بَعْدَ إِجْمَاعِهِ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى أَنَّ بَيْعَهُنَّ لَا يَجُوزُ فَبَطَلَ بِخِلَافِهِ الْإِجْمَاعُ فِي تَحْرِيمِ بَيْعِهِنَّ ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ عَلِيًّا رَجَعَ بَعْدَ خِلَافِهِ حِينَ قَالَ لَهُ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ : " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ : إِنَّ رَأْيَكَ مَعَ الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ رَأْيِكَ وَحْدَكَ " . فَإِنْ كَانَ هَذَا الرُّجُوعُ صَحِيحًا كَانَ تَحْرِيمُ بَيْعِهِنَّ إِجْمَاعًا . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يَنْقَرِضَ عَصْرُهُمْ حَتَّى يُؤْمَنَ حُدُوثُ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ ما يستقر به الإجماع فَإِنَّ بَقَاءَ الْعَصْرِ رُبَّمَا أَحْدَثَ مِنْ بَعْضِهِمْ خِلَافًا كَمَا خَالَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ فِي الْعَوْلِ بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ فَقِيلَ لَهُ : أَلَا قُلْتَهُ فِي أَيَّامِهِ فَقَالَ هِبْتُهُ وَكَانَ امْرَءًا مَهِيبًا . وَلَيْسَ يُعْتَبَرُ فِي انْقِرَاضِ الْعَصْرِ مَوْتُ جَمِيعِ أَهْلِهِ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ يَضِيقُ وَلَا يَنْحَصِرُ وَقَدْ تَتَدَاخَلُ الْأَعْصَارُ وَيَتَدَرَّجُ النَّاسُ مِنْ حَالٍ بَعْدَ حَالٍ وَيَخْتَلِفُونَ فِي الْأَعْمَارِ وَالْآجَالِ . وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ فِي انْقِرَاضِهِ انقراض العصر أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى الْعَصْرِ الثَّانِي غَيْرُ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَنْقَرِضَ فِيهِمْ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ ، قَدْ عَاشَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى إِلَى عَصْرِ التَّابِعِينَ فَطَاوَلُوهُمْ فَجَمَعُوا بَيْنَ عَصْرَيْنِ فَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى بَقَاءِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ بِهِمْ . وَإِذَا كَانَ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ شَرْطًا فِي اسْتِقْرَارِ الْإِجْمَاعِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا إِتْلَافٌ وَاسْتِهْلَاكٌ ، وَلَا يَسْتَقِرُّ إِجْمَاعُهُمْ فِيهَا إِلَّا بِانْقِرَاضِهِمْ عَلَيْهَا . فَأَمَّا الْأَحْكَامُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا إِتْلَافٌ وَاسْتِهْلَاكٌ لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ كَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ وَاسْتِبَاحَةِ الْفُرُوجِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي انْقِرَاضِ الْعَصْرِ هَلْ يَكُونُ شَرْطًا فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ شَرْطًا فِيهِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَكُونُ شَرْطًا ، وَالْإِجْمَاعُ مُسْتَقِرٌّ بِالِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يُحْدِثَ خِلَافًا فِيهِ ، لِأَنَّهُمْ فِي عَظَائِمِ الْأُمُورِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى الْإِجْمَاعِ عَلَيْهَا إِلَّا بَعْدَ وُضُوحِ الْحَقِّ فِيهَا كَمَا أَجْمَعُوا مَعَ أَبِي بَكْرٍ عَلَى قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ ، وَفِيهِ إِرَاقَةُ الدِّمَاءِ فَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمْ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ وَمَا سُفِكَ فِيهِ مِنَ الدِّمَاءِ أَنْ يُخَالِفَ فِيهِ ، لِأَنَّهُ يَجْعَلُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِجْمَاعِهِمْ مُنْكَرًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَجْتَمِعَ الْأُمَّةُ عَلَى مُنْكَرٍ . الشَّرْطُ الرَّابِعُ : أَنْ لَا يَلْحَقَ بِالْعَصْرِ الْأَوَّلِ مَنْ يُنَازِعُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي ما يستقر به الإجماع . فَإِنْ لَحِقَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ بَعْضَ التَّابِعِينَ فَخَالَفَهُمْ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : هَلْ يَمْنَعُ خِلَافُهُ مِنِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ لَا يَرْتَفِعُ بِخِلَافِهِ ، لِأَنَّهُمْ بِمُشَاهَدَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْفَظُ لِشَرِيعَتِهِ وَقَدْ أَنْكَرَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَلَى أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُنَازَعَتَهُ الصَّحَابَةَ وَقَالَتْ : أَرَاكَ كَالْفَرُّوجِ إِذَا اجْتَمَعَ مَعَ الدِّيكِ صَايَحَهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ خِلَافَهُ يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ : لِأَنَّ صِغَرَ السِّنِّ لَا يَمْنَعُ مِنْ نُفُوذِ الْقَوْلِ كَمَا خَالَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي صِغَرِ سِنِّهِ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ ، وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ : اعْرَفِ الْحَقَّ تَعْرِفْ أَهْلَهُ . فَإِذَا اسْتَقَرَّ الْإِجْمَاعُ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْعَصْرِ حُجَّةً عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَعْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ وَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى أَهْلِ عَصْرِهِ لِعَدَمِ اسْتِقْرَارِهِ فِيهِ ، فَيَكُونُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ حُجَّةً عَلَى التَّابِعِينَ ، وَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الصَّحَابَةِ ، وَإِجْمَاعُ التَّابِعِينَ حُجَّةٌ عَلَى تَابِعِي التَّابِعِينَ ، وَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى التَّابِعِينَ وَهَذَا حُكْمُ الْإِجْمَاعِ فِي كُلِّ عَصْرٍ يَأْتِي مَا بَقِيَتِ الْأَرْضُ وَمَنْ عَلَيْهَا . وَقَالَ دَاوُدُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ : الْإِجْمَاعُ اللَّازِمُ يَخْتَصُّ بِعَصْرِ الصَّحَابَةِ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِنُزُولِ الْوَحْيِ فِيهِمْ ، وَلَا يَلْزَمُ إِجْمَاعُ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ . وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ وُضُوحَ الْحَقِّ مُسْتَدِيمٌ فِي كُلِّ عَصْرٍ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَصْرٌ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ ، وَلَوْ لَمْ يَلْزَمْ إِجْمَاعُهُمْ لَخَرَجَ الْحَقُّ عَنْهُمْ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ مَحْجُوجِينَ بِنَقْلِ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا مَحْجُوجِينَ بِإِجْمَاعِ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ لِيَكُونَ الشَّرْعُ مَحْرُوسًا بِهِمْ مِنَ الزَّلَلِ وَالْخَطَأِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهَا مَنْ نَاوَأَهَا " .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي مُعَارَضَةِ الِاخْتِلَافِ وَالْإِجْمَاعِ : فَيَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَحْدُثَ الْخِلَافُ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْإِجْمَاعِ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ ، مِثْلُ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ثُمَّ يَحْدُثُ مِنْ أَحَدِهِمْ خِلَافٌ ، فَهَذَا الْخِلَافُ الْحَادِثُ مَانِعٌ مِنِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ ، كَمَا أَظْهَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ خِلَافَهُ فِي الْعَوْلِ بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ وَارْتَفَعَ بِخِلَافِهِ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ فِي الْعَوْلِ وَكَالَّذِي رَجَعَ عَنْهُ عَلِيٌّ فِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فَارْتَفَعَ بِرُجُوعِهِ الْإِجْمَاعُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَحْدُثَ الْإِجْمَاعُ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْخِلَافِ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ ، فَهَذَا الْإِجْمَاعُ الْحَادِثُ يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ كَاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي قَتْلِ مَانِعِي الزَّكَاةِ ثُمَّ وَافَقُوا أَبَا بَكْرٍ عَلَيْهِ بَعْدَ تَقَدُّمِ خِلَافِهِمْ لَهُ ، فَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ بِالْإِجْمَاعِ . وَفِي هَذَا الْإِجْمَاعِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَوْكَدُ مِنْ إِجْمَاعٍ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ خِلَافٌ ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى ظُهُورِ الْحَقِّ بَعْدَ الْتِبَاسٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُمَا سَوَاءٌ : لِأَنَّ الْحَقَّ مُقْتَرِنٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَحْدُثَ الْخِلَافُ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْإِجْمَاعِ فِي عَصْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَخِلَافِ التَّابِعِينَ لَهُمْ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُخَالِفُوهُمْ مَعَ اتِّفَاقِ الْأُصُولِ فِي الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ ، فَهَذَا الْخِلَافُ الْحَادِثُ مُطَّرِحٌ وَالْإِجْمَاعُ الْمُتَقَدِّمُ مُنْعَقِدٌ ، لِأَنَّ حُجَّةَ الْإِجْمَاعِ قَاهِرَةٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَحْدُثَ فِي الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ صِفَةٌ زَائِدَةٌ أَوْ نَاقِصَةٌ فَيَحْدُثُ الْخِلَافُ فِيهَا بِحُدُوثِ مَا اخْتَلَفَ مِنْ صِفَاتِهَا فَيَكُونُ الْإِجْمَاعُ فِي الصِّفَاتِ مُنْعَقِدًا وَحُدُوثُ الِاخْتِلَافِ فِي الصِّفَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ سَائِغًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ . وَذَهَبَ دَاوُدُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ إِلَى اسْتِصْحَابِ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ العمل به فَإِنَّ اخْتِلَافَ الصِّفَاتِ الْحَادِثَةِ لَا يُبِيحُ اخْتِلَافَ الْحُكْمِ فِيهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ ، وَجَعَلُوا اسْتِصْحَابَ الْحَالِ حُجَّةً فِي الْأَحْكَامِ ، وَمِثَالُ هَذَا أَنْ يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى إِبْطَالِ التَّيَمُّمِ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِذَا رَأَوْهُ فِي الصَّلَاةِ أَبْطَلُوا تَيَمُّمِهِ اسْتِصْحَابًا لِبُطْلَانِهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَهُمَا بِقِيَاسٍ كَمَا لَوِ اسْتَيْقَنَ الطُّهْرَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ وَجَبَّ أَنْ يَسْتَصْحِبَ حُكْمَ الْيَقِينِ وَيَلْغِيَ حُكْمَ الشَّكِّ . وَهَذَا فَاسِدٌ ، وَلِكُلِّ حَالٍ تَجَدَّدَتْ حُكْمٌ تَوَقَّفَ عَلَى الدَّلِيلِ ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا ، وَيَكُونُ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً فِي الْحَالِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا ، وَلَا

يَكُونُ حُجَّةً فِي غَيْرِهَا ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ مُوجِبًا لِاسْتِصْحَابِ حُكْمِهِ ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ أَصْلٌ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ ، فَيَكُونُ الْقِيَاسُ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ اسْتِصْحَابَ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ ، لَا الْإِجْمَاعَ . وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ : لِأَنَّهُ لَمَّا سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِيمَا عَدَا حَالَةَ الْإِجْمَاعِ وَلَمْ يَسُغِ الِاجْتِهَادُ فِي حَالَةِ الْإِجْمَاعِ دَلَّ عَلَى افْتِرَاقِهِمَا فِيهِ ، وَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يُسَاوِيَهُ فِي حُكْمٍ . فَأَمَّا حَمْلُ الطَّهَارَةِ عَلَى الْيَقِينِ فَلِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَنْصِبْ عَلَيْهَا دَلِيلًا . وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ اسْتِصْحَابَ الْحَالِ إِنْ لَمْ يُعَارِضْهُ دَلِيلٌ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ دَلِيلًا . وَقَوْلُهُ مَدْفُوعٌ بِمَا ذَكَرْنَا . وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا : إِذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الِاجْتِهَادِ فِي حُكْمٍ فَأَثْبَتَهُ بَعْضُهُمْ وَنَفَاهُ بَعْضُهُمْ : قَالَ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ : لَا دَلِيلَ عَلَى النَّافِي وَيَجِبُ الدَّلِيلُ عَلَى الْمُثْبِتِ اسْتِصْحَابًا لِحُكْمِ الْأَصْلِ فِي النَّفْيِ كَمَا تَجِبُ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي دُونَ الْمُنْكِرِ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الدَّلِيلَ يَجِبُ عَلَى النَّافِي كَوُجُوبِهِ عَلَى الْمُثْبِتِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ نَفِيُ الْحُكْمِ إِلَّا بِدَلِيلٍ كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ إِثْبَاتُهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَصَّبَ عَلَى الْأَحْكَامِ أَدِلَّةَ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ . وَالنَّافِي لِلْحُكْمِ مُثْبِتٌ لِضِدِّهِ فَلَمْ يَجُزْ نَفْيُهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ كَمَا لَمْ يَجُزْ لَهُ إِثْبَاتُهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ . فَأَمَّا وُجُوبُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي دُونَ الْمُنْكِرِ فَلِأَنَّ يَمِينَ الْمُنْكِرِ كَبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي فَصَارَا مُجْتَمِعَيْنِ عَلَى الْبَيِّنَةِ . وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي صِفَتِهِمَا . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَحْدُثَ الْإِجْمَاعُ بَعْدَ الْخِلَافِ فِي عَصْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، كَاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي حُكْمٍ عَلَى قَوْلَيْنِ فَيُجْمِعُ التَّابِعُونَ عَلَى أَحَدِهِمَا ، فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّ حُكْمَ الِاخْتِلَافِ ثَابِتٌ ، وَأَنَّ مَا تَعَقَّبَهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ ، لِأَنَّ انْقِرَاضَ الصَّحَابَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي حُكْمِ إِجْمَاعٍ مِنْهُمْ عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ . وَفِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ إِبْطَالِ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ فَصَارَ فِي إِثْبَاتِ إِجْمَاعِ التَّابِعِينَ إِبْطَالُ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يَجُزْ . وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ الْمُحَاسَبِيُّ وَتَابَعَهُ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ قَدْ زَالَ حُكْمُ الِاخْتِلَافِ بِمَا تَعَقَّبَهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ كَمَا يَزُولُ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ إِذَا تَعَقَّبَهُ إِجْمَاعُهُمْ . وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِانْقِرَاضِهِمْ فَلِذَلِكَ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ انْقِرَاضِهِمْ عَلَى اخْتِلَافٍ أَوْ إِجْمَاعٍ .

فَعَلَى هَذَا لَوِ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي حُكْمٍ لَمْ يَتَعَدَّوْهُ إِلَى ثَالِثٍ صَارَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى إِبْطَالِ مَا عَدَا الْقَوْلَيْنِ فَلَمْ يَجُزْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ إِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ . مِثَالُهُ أَنَّ الصَّحَابَةَ انْقَرَضُوا عَلَى قَوْلَيْنِ فِي ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْمِيرَاثِ ، وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الْأَخَ مِنَ الْأُمِّ مِنْهُمَا أَحَقُّ بِالْمِيرَاثِ فَخَالَفَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَجَعَلَ ابْنَ الْعَمِّ الَّذِي لَيْسَ بِأَخٍ لِأُمٍّ أَحَقَّ بِالْمِيرَاثِ فَخَالَفَهُمْ فِي الْقَوْلَيْنِ بِإِحْدَاثِ قَوْلٍ ثَالِثٍ فَذَهَبَ بَعْضُ مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَى الْعِلْمِ إِلَى تَسْوِيغِ هَذَا : لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ مُوجِبٌ لِتَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ . وَهَذَا فَاسِدٌ : لِأَنَّ فِي انْقِرَاضِ الصَّحَابَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى إِبْطَالِ مَا خَرَجَ عَنِ الْقَوْلَيْنِ ، وَأَنَّ الْحَقَّ فِي أَحَدِهِمَا ، فَلَمْ يَجُزْ لِلتَّابِعِيِّ أَنْ يُبْطِلَ مَا انْعَقَدَ إِجْمَاعُهُمْ عَلَيْهِ فَهَذَا حُكْمُ الْإِجْمَاعِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ . وَهُوَ مِنْ دَلَائِلِ السَّمْعِ . وَيَجُوزُ نَقْلُهُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَوْكَدَ مِنْ سُنَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . فَإِنْ نَقَلَ الرَّاوِي أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى كَذَا فَقَطَعَ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَيْهِ قُبِلَ مِنْهُ وَأُثْبِتَ الْإِجْمَاعُ بِقَوْلِهِ سَوَاءٌ كَانَ الرَّاوِي مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ أَوْ لَمْ يَكُنْ . فَإِنْ قَالَ الرَّاوِي لَمْ أَعْرِفْ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافًا فِيهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَلَا مِمَّنْ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ لَمْ يَثْبُتِ الْإِجْمَاعُ بِرِوَايَتِهِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ثُبُوتِهِ بِهَا إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالتَّقَدُّمِ فِي الْعِلْمِ بِالْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ فَأَثْبَتَ بَعْضُهُمُ الْإِجْمَاعَ بِهَا وَجَعَلَ نَفْيَ الِاخْتِلَافِ إِثْبَاتًا لِلْإِجْمَاعِ ، وَامْتَنَعَ آخَرُونَ مِنْ إِثْبَاتِ الْإِجْمَاعِ بِهَذَا النَّفْيِ وَلِكِلَا الْقَوْلَيْنِ تَوْجِيهٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

فَصْلٌ الْقِيَاسُ

الِاجْتِهَادُ

فَصْلٌ : [ رَابِعًا - الْقِيَاسُ ] . فَأَمَّا الْأَصْلُ الرَّابِعُ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ وَهُوَ الْقِيَاسُ فَلَهُ مُقَدِّمَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : الِاجْتِهَادُ . وَالثَّانِيَةُ : الِاسْتِنْبَاطُ . الِاجْتِهَادُ فَأَمَّا الِاجْتِهَادُ : فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ إِجْهَادِ النَّفْسِ وَكَدِّهَا فِي طَلَبِ الْمُرَادِ بِهِ . كَمَا أَنَّ جِهَادَ الْعَدُوِّ مِنْ إِجْهَادِ النَّفْسِ فِي قَهْرِ الْعَدُوِّ ، وَالِاجْتِهَادُ هُوَ طَلَبُ الصَّوَابِ بِالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ .

وَزَعَمَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ هُوَ الْقِيَاسُ وَنَسَبَهُ إِلَى الشَّافِعِيِّ مِنْ كَلَامٍ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ . وَالَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْكِتَابِ : أَنَّ مَعْنَى الِاجْتِهَادِ مَعْنَى الْقِيَاسِ . يُرِيدُ بِهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى حُكْمٍ غَيْرِ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ : أَنَّ الِاجْتِهَادَ هُوَ مَا وَصَفْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ طَلَبُ الصَّوَابِ بِالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ ، وَالْقِيَاسُ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي عِلَّةِ الْأَصْلِ ، فَافْتَرَقَا ، غَيْرَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادٍ ، وَقَدْ لَا يَفْتَقِرُ الِاجْتِهَادُ إِلَى الْقِيَاسِ عَلَى مَا سَنُوَضِّحُهُ فَلِذَلِكَ جَعَلْنَا الِاجْتِهَادَ مُقَدِّمَةً لِلْقِيَاسِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ لَهُ أَصْلٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ : " بِمَ تَحْكُمُ ؟ قَالَ : بِكِتَابِ اللَّهِ قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ ؟ قَالَ : بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ . قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ ؟ قَالَ أَجْتَهِدُ رَأْيِي . فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ أَصْلٌ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْكَلَامُ فِي الِاجْتِهَادِ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : فِيمَنْ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ . الثَّانِي : فِي وُجُوهِ الِاجْتِهَادِ . وَالثَّالِثُ : فِيمَا يَجِبُ بِالِاجْتِهَادِ . وَالرَّابِعُ : فِي حُكْمِ الِاجْتِهَادِ .

مَنْ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ

[ مَنْ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ ] : فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : فِيمَنْ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مُجْتَهِدٌ فِي عُمُومِ الْأَحْكَامِ . وَالثَّانِي : مُجْتَهِدٌ فِي مَخْصُوصٍ مِنْهَا . الْمُجْتَهِدُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ : فَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ ، فَالْمُعْتَبَرُ فِي جَوَازِ اجْتِهَادِهِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : إِشْرَافُهُ عَلَى نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ شروط المجتهد فَإِنْ قَصَّرَ فِي أَحَدِهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْتَهِدَ . وَالثَّانِي : عِلْمُهُ بِوُجُوهِ النُّصُوصِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَالْمُفَسَّرِ وَالْمُجْمَلِ

وَالْمُقَيَّدِ وَالْمُطْلَقِ شروط المجتهد عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَبْلُ فَإِنْ قَصَّرَ فِيهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْتَهِدَ . وَالثَّالِثُ : الْفِطْنَةُ وَالذَّكَاءُ شروط المجتهد لِيَصِلَا بِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ مِنْ أَمَارَاتِ الْمَنْطُوقِ بِهِ فَإِنْ قُلْتَ : فِيهِ الْفِطْنَةُ وَالذَّكَاءُ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ الِاجْتِهَادُ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَمَوْضُوعِ خِطَابِهِمْ وَمَعَانِي كَلَامِهِمْ شروط المجتهد . لِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَهُمَا أَصْلُ الشَّرِيعَةِ وَرَدَا بِلِسَانِ الْعَرَبِ . أَمَّا الْكِتَابُ مَعَ ظُهُورِ لِسَانِهِمْ فِيهِ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ " إِلَى قَوْلِهِ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [ الشُّعَرَاءِ : : ] . وَلَمْ يَقُلْ هَذَا عَلَى وَجْهِ الْإِخْبَارِ بِهِ ، لِأَنَّهُ مُشَاهَدٌ . وَالْمُرَادُ بِهِ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَنْقُلَ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ أَلْسِنَةِ الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفَةِ إِبْطَالًا لِمَنْ جَوَّزَ ذَاكَ فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَجَمِ شَيْءٌ وَإِنِ اتَّفَقَ لِسَانُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ ، إِبْطَالًا لِقَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ أَلْفَاظًا أَعْجَمِيَّةً كَالسُّنْدُسِ ، وَالْإِسْتَبْرَقِ ، وَالْقِسْطَاسِ . وَأَمَّا السُّنَّةُ فِي وُرُودِهَا بِلِسَانِ الْعَرَبِ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ [ إِبْرَاهِيمَ : ] . وَلِأَنَّ الْعَرَبَ أَوَّلُ مَنْ أُنْذِرَ بِالْقُرْآنِ وَدَعُوا إِلَى الْإِسْلَامِ وَكُلِّفُوا الْفُرُوضَ وَالْأَحْكَامَ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ كَانَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَبْعُوثًا إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَبْعُوثًا بِلِسَانِهِمْ وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَبْعُوثٌ إِلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ فَلِمَ صَارَ مَبْعُوثًا بِلِسَانِ بَعْضِهِمْ ؟ قِيلَ لَا تَخْلُو رِسَالَتُهُ إِلَيْهِمْ مِنْ أَنْ تَكُونَ بِجَمِيعِ أَلْسِنَتِهِمْ وَهَذَا خَارِجٌ عَنِ الْعُرْفِ الْمُسْتَطَاعِ أَنْ يَرِدَ كُلُّ فَرْضٍ فِي الْقُرْآنِ مُكَرَّرًا بِكُلِّ لِسَانٍ . وَإِذَا خَرَجَ عَنْ هَذَا وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِأَحَدِ الْأَلْسُنِ كَانَ لِسَانُ الْعَرَبِ بِهِ أَحَقَّ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ أَوَّلُ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ لِسَانَهُمْ أَوْسَعُ وَكَلَامَهُمْ أَفْصَحُ . وَالثَّالِثُ : لِفَضْلِ الْمَتْبُوعِ عَلَى التَّابِعِ ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَبِيُّ النَّسَبِ وَالدَّارِ وَاللِّسَانِ وَهُوَ أَفْضَلُ مَتْبُوعٍ فَكَانَ لِسَانُهُ مَتْبُوعًا أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا .

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَعْرِفَةُ لِسَانِ الْعَرَبِ فَرْضًا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مِنْ مُجْتَهِدٍ وَغَيْرِ مُجْتَهِدٍ . إِلَّا أَنَّ غَيْرَ الْمُجْتَهِدِ يَلْزَمُهُ مِنْ فَرْضِهِ مَا اخْتَصَّ بِتَكْلِيفِهِ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ وَمَا تَتَضَمَّنُ الصَّلَاةُ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَالْأَذْكَارِ وَلَا يَلْزَمُهُ مَعْرِفَةُ مَا عَدَاهُ إِلَّا بِحَسَبِ مَا يَتَدَرَّجُ إِلَيْهِ فِي نَوَازِلِهِ وَأَحْكَامِهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ " عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ مَا بَلَغَهُ جُهْدُهُ فِي أَدَاءِ فَرْضِهِ كَمَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الصَّلَاةَ وَالْأَذْكَارَ " . وَأَسْقَطَ أَبُو حَنِيفَةَ مَعْرِفَةَ لِسَانِ الْعَرَبِ فِي حُقُوقِ الْمُكَلَّفِينَ ، لِأَنَّهُ يُبِيحُ الْقِرَاءَةَ وَالْأَذْكَارَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ . فَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَيَلْزَمُهُ فِي حُقُوقِ الِاجْتِهَادِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِلِسَانِ الْعَرَبِ . فَإِنْ قِيلَ : فَلِسَانُ الْعَرَبِ لَا يُحِيطُ بِعِلْمِ جَمِيعِهِ وَاحِدٌ مِنَ الْعَرَبِ فَكَيْفَ يَلْزَمُ الْمُجْتَهِدَ أَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِلِسَانِ الْعَرَبِ . قِيلَ : لِسَانُ الْعَرَبِ وَإِنْ لَمْ يُحِطْ بِهِ وَاحِدٌ مِنَ الْعَرَبِ فَإِنَّهُ يُحِيطُ بِهِ جَمِيعُ الْعَرَبِ ، وَالَّذِي يَلْزَمُ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِأَكْثَرِهِ لِيَرْجِعَ فِيمَا عَزَبَ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ ، إِنَّ جَمِيعَ السُّنَّةِ لَا يُحِيطُ بِهَا وَاحِدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَإِنَّمَا يُحِيطُ بِهَا جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ . وَإِذَا كَانَ الْمُجْتَهِدُ مُحِيطًا بِأَكْثَرِهَا صَحَّ اجْتِهَادُهُ لِيَرْجِعَ فِيمَا عَزَبَ عَنْهُ إِلَى مَنْ عَلِمَ بِهِ . فَإِذَا تَكَامَلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ فِي الْمُجْتَهِدِ صَحَّ اجْتِهَادُهُ . فَإِنْ قَصَدَ بِالِاجْتِهَادِ الْعِلْمَ صَحَّ اجْتِهَادُهُ ، وَلَمْ تَكُنِ الْعَدَالَةُ شَرْطًا فِيهِ . وَإِنْ قَصَدَ بِهِ الْحُكْمَ أَوِ الْفُتْيَا الاجتهاد كَانَتِ الْعَدَالَةُ شَرْطًا فِي نُفُوذِ حُكْمِهِ وَقَبُولِ فُتْيَاهُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ اجْتِهَادِهِ . [ الْمُجْتَهِدُ فِي حُكْمٍ خَاصٍّ صحة اجتهاده ] : وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فِي حُكْمٍ خَاصٍّ فَصِحَّةُ اجْتِهَادِهِ مُعْتَبَرَةٌ بِمَا يَجْتَهِدُ فِيهِ . فَإِنْ كَانَ اجْتِهَادُهُ فِي الْقِبْلَةِ إِذَا خَفِيَتْ عَلَيْهِ كَانَ الشَّرْطُ فِي صِحَّةِ اجْتِهَادِهِ صِحَّةَ الْبَصَرِ وَمَعْرِفَةَ دَلَائِلِ الْقِبْلَةِ . وَإِنْ كَانَ اجْتِهَادُهُ فِي الْعَدَالَةِ وَالْجَرْحِ كَانَتْ صِحَّةُ اجْتِهَادِهِ مُعْتَبَرَةً بِأَسْبَابِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَمَا يُرَاعِي مِنْ غَلَبَةِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فِي الصَّغَائِرِ وَتَغْلِيبِ الْحُكْمِ فِي الْكَبَائِرِ .

وَإِنْ كَانَ اجْتِهَادُهُ فِي الْمِثْلِ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ كَانَتْ صِحَّةُ اجْتِهَادِهِ فِيهِ مُعْتَبَرَةً بِمَعْرِفَةِ الْأَشْبَاهِ فِي ذِي الْمِثْلِ وَمَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ فِي غَيْرِ ذِي الْمِثْلِ ثُمَّ عَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةِ فِيمَا عَدَاهُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا اسْتَقَرَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ شُرُوطِ الِاجْتِهَادِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْمُجْتَهِدِ تَعَلَّقَ بِهِ فَصْلَانِ : أَحَدُهُمَا : جَوَازُ اجْتِهَادِ الْأَنْبِيَاءِ . وَالثَّانِي : جَوَازُ الِاجْتِهَادِ فِي زَمَانِ الْأَنْبِيَاءِ . [ جَوَازُ اجْتِهَادِ الْأَنْبِيَاءِ ] : فَأَمَّا اجْتِهَادُ الْأَنْبِيَاءِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ . فَذَهَبَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَجْتَهِدُوا وَلَا لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَجْتَهِدَ لِقُدْرَتِهِمْ عَلَى النَّصِّ بِنُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِمْ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [ النَّجْمِ : - ] . وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَقَّفَ فِي إِحْرَامِهِ وَلَمْ يَجْتَهِدْ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَتَوَقَّفَ فِي اللِّعَانِ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ . وَتَوَقَّفَ فِي مِيرَاثِ الْخَالَةِ وَالْعَمَّةِ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِأَنْ لَا مِيرَاثَ لَهُمَا . وَلَوْ سَاغَ لَهُ الِاجْتِهَادُ لَسَارَعَ إِلَيْهِ وَلَمْ يَتَوَقَّفْ . وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَجْتَهِدُوا لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [ الْأَنْبِيَاءِ : - ] . وَلَوْ لَمْ يَكُنِ اجْتِهَادُ الْأَنْبِيَاءِ سَائِغًا وَكَانَ جَمِيعُ أَحْكَامِهِمْ نَصًّا لَمَا أَخْطَأَ دَاوُدُ وَلَا أَصَابَ سُلَيْمَانُ . وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِ اجْتَهَدَ فِي أَسْرَى بَدْرٍ وَفِيمَنِ اشْتَرَطَ رَدَّهُ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ . فَأَمَّا تَوَقُّفُهُ فِي اللِّعَانِ وَفِي مِيرَاثِ الْخَالَةِ وَالْعَمَّةِ فَلِيَعْلَمَ هَلْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ نَصٌّ فَلَا يَجْتَهِدُ أَوْ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ فَيَجْتَهِدُ ، وَلِأَنَّ جَوَازَ الِاجْتِهَادِ فَضِيلَةٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُدْفَعَ عَنْهَا الْأَنْبِيَاءُ وَإِنَّمَا الْوَحْيُ بِحَسَبِ الْأَصْلَحِ . فَإِذَا صَحَّ اجْتِهَادُهُ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِهِ وَجَوَازِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ جَائِزٌ ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ، لِأَنَّ لِلْأَحْكَامِ أَصْلًا هُوَ الْكِتَابُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ سُنَّتِهِ إِذَا خَلَا الْكِتَابُ مِنْهَا . وَعِنْدِي أَنَّ الْأَصَحَّ مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادُهُ وَاجِبًا عَلَيْهِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، وَجَائِزًا لَهُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، لِأَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إِلَى حُقُوقِهِمْ إِلَّا بِاجْتِهَادِهِ ، فَلَزِمَهُ وَإِنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ الِاجْتِهَادَ فِي حُقُوقِهِ أَمَرَهُ .

ثُمَّ إِذَا اجْتَهَدَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَسْتَبِيحُ الِاجْتِهَادَ بِرَأْيِهِ أَوْ يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى دَلَائِلِ الْكِتَابِ إجتهاد الأنبياء ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَرْجِعُ فِي اجْتِهَادِهِ إِلَى الْكِتَابِ ، لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَعَانِي مَا خَفِيَ مِنْهُ مِنْ جَمِيعِ أُمَّتِهِ ، فَكَانَ اجْتِهَادُهُ بَيَانًا وَإِيضَاحًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ بِرَأْيِهِ وَلَا يَرْجِعَ إِلَى أَصْلٍ مِنَ الْكِتَابِ ، لِأَنَّ سُنَّتَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ مِثْلُ الْكِتَابِ قَدْ نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهَا ، فَقَالَ : وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [ الْحَشْرِ : ] . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ " إِنَّمَا أَجْتَهِدُ رَأْيِي فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ فِيهِ شَيْءٌ " . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي عِصْمَةِ اجْتِهَادِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْخَطَأِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ فِي اجْتِهَادِهِمْ مِنَ الْخَطَأِ لِتَسْكُنَ النَّفْسُ إِلَى الْتِزَامِ أَوَامِرِهِمْ بِانْتِفَاءِ الْخَطَأِ عَنِ اجْتِهَادِهِمْ . وَهَذَا مُقْتَضَى الْوَجْهِ الَّذِي يُقَالُ فِيهِ أَنَّهُمْ لَا يَجْتَهِدُونَ إِلَّا عَنْ دَلِيلٍ مِنْ نَصٍّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُمْ غَيْرُ مَعْصُومِينَ مِنَ الْخَطَأِ فِيهِ لِوُجُودِهِ مِنْهُمْ لَكِنْ لَا يُقِرُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ لِيَزُولَ الِارْتِيَابُ بِهِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ مُقِرًّا عَلَيْهِ ، لِأَنَّ دَاوُدَ قَدْ أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ فَاسْتَدْرَكَهُ اللَّهُ بِإِصَابَةِ سُلَيْمَانَ ، وَاجْتَهَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَسْرَى بَدْرٍ بَعْدَ مُشَاوَرَةِ أَبَى بَكْرٍ وَعُمَرَ ، وَأَخَذَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ فَأَنْكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [ الْأَنْفَالِ : ] . وَهَذَا مُقْتَضَى الْوَجْهِ الَّذِي يُقَالُ فِيهِ إِنَّهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدُوا بِالرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ بِنَصٍّ . وَذَهَبَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى أَنَّ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْصُومُ الِاجْتِهَادِ مِنَ الْخَطَأِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ، لِأَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ يَسْتَدْرِكُ خَطَأَهُ لِانْخِتَامِ النُّبُوَّةِ بِهِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ بُعِثَ بَعْدَهُ مَنْ يَسْتَدْرِكُ خَطَأَهُ . وَهَذَا الْقَوْلُ لَا وَجْهَ لَهُ ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرُ مُقَرِّينَ عَلَى الْخَطَأِ فِي وَقْتِ التَّنْفِيذِ وَلَا يُمْهَلُونَ فِيهِ عَلَى التَّرَاخِي حَتَّى يَسْتَدْرِكَهُ نَبِيٌّ بَعْدَ نَبِيٍّ فَاسْتَوَى فِيهِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ . فَهَذَا حُكْمُ اجْتِهَادِهِمْ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ . فَأَمَّا أُمُورُ الدُّنْيَا فَيَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فِيهَا الْخَطَأُ وَالسَّهْوُ رُوِيَ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ ضَجَّةً بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قِيلَ : إِنَّهُمْ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ . فَقَالَ : وَمَا يَنْفَعُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوهُ لَمْ يَضُرَّهُمْ فَبَلَغَهُمْ ذَلِكَ فَتَرَكُوهُ فَقَلَّ حَمْلُ النَّخْلِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَرَدُّوهُ إِلَيَّ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِ " .

فَصْلٌ : جَوَازُ الِاجْتِهَادِ فِي زَمَنِ الْأَنْبِيَاءِ : وَأَمَّا جَوَازُ اجْتِهَادِ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ فِي زَمَانِ الْأَنْبِيَاءِ كَاجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ غَائِبًا عَنْ مَدِينَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى سُؤَالِهِ فِي وَقْتِهِ فَلَهُ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ لَهُ وِلَايَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَعَلِيٍّ وَمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُمَا إِلَى الْيَمَنِ دَاعِيَيْنِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَحَاكِمَيْنِ بَيْنَ الْخُصُومِ وَوَالِيَيْنِ عَلَى الصَّدَقَاتِ ، فَيَجُوزُ اجْتِهَادُ ذِي الْوِلَايَةِ فِي عَصْرِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ مُعَاذًا أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاجْتِهَادِ رَأْيِهِ فَاسْتَصْوَبَهُ وَحَمِدَهُ . وَسَوَاءٌ اجْتَهَدَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَوْ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ إِذَا قَدِمَ عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يَسْأَلَهُ عَمَّا اجْتَهَدَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ سُؤَالُهُ مُسْتَحَبًّا ، وَيَكُونُ مَا اجْتَهَدَ فِيهِ أَثَرًا مَتْبُوعًا مَا لَمْ يَرِدْ عَنِ الرَّسُولِ خِلَافُهُ كَمَا اتَّبَعَ مُعَاذٌ فِي قَوْلِهِ : " أَيُّمَا رَجُلٍ انْتَقَلَ مِنْ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ إِلَى غَيْرِ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ فَعُشْرُهُ وَصَدَقَتُهُ فِي مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ " وَالْمِخْلَافُ الْقَرْيَةُ . وَإِنَّمَا اخْتَصَّ الْمَوْلَى بِذَلِكَ ، لِأَنَّ فِي الْوِلَايَةِ إِذْنًا بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا تَضَمَّنَهَا . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُجْتَهِدِ وِلَايَةٌ فَلَهُ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَظْفَرَ بِأَصْلٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ فَيَجُوزُ اجْتِهَادُهُ فِي الرُّجُوعِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالظَّاهِرِ مِنْهُمَا وَلَا يَلْزَمُهُ إِذَا قَدِمَ عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يَسْأَلَهُ عَمَّا اجْتَهَدَ فِيهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ بِأَصْلٍ لَازِمٍ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَعْدَمَ أَصْلًا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ . فَأَمَّا اجْتِهَادُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ : فَإِنْ كَانَ فِيمَا يُخَافُ فَوَاتُهُ جَازَ اجْتِهَادُهُ فِيهِ وَعَلَيْهِ إِذَا قَدِمَ عَلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْهُ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَيْهِ لِأَجْلِ السُّؤَالِ . وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُخَافُ فَوَاتُهُ فَفِي جَوَازِ اجْتِهَادِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يُشَرِّعَ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ لِيَعْمَلَ بِمَا كُلِّفَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَيَعْمَلَ بِاجْتِهَادِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ الْبَيْضَاءِ " . فَعَلَى هَذَا فِي جَوَازِ تَقْلِيدِهِ فِي اجْتِهَادِهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ أَنْ يُقَلِّدَ فِيهِ لِوُجُودِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ الْمُجْتَهِدَ إِذَا قَدِمَ عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يَسْأَلَهُ عَمَّا اجْتَهَدَ فِيهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ حَتَّى يَسْأَلَ إِنْ حَضَرَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يُقَلِّدَهُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ الْعَالِمَ وَإِنْ وُجِدَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ الْمُجْتَهِدَ إِذَا قَدِمَ عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يَسْأَلَهُ عَمَّا اجْتَهَدَ فِيهِ لِئَلَّا يَصِيرَ مُشَرِّعًا بِغَيْرِ أَصْلٍ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ حَاضِرًا فِي مَدِينَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَائِبًا عَنْ مَجْلِسِهِ . فَإِنْ رَجَعَ فِي اجْتِهَادِهِ إِلَى أَصْلٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ صَحَّ وَجَازَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ وَيُفْتِيَ ، قَدْ سَأَلَ الْعَجْلَانِيُّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ " بِالْمَدِينَةِ " عَنْ قَذْفِ امْرَأَتِهِ بَيْنَ أَسْمَاءَ فَفَالَ لَهُ : حَدٌّ فِي جَنْبِكَ إِنْ لَمْ تَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ، ثُمَّ سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِمَا قِيلَ لَهُ فَتَوَقَّفَ حَتَّى نَزَلَتْ عَلَيْهِ آيَةُ اللِّعَانِ ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى الْعَجْلَانِي سُؤَالَ غَيْرِهِ ، وَلَا أُنْكِرُ عَلَى مَنْ أَجَابَهُ مَعَ حُضُورِهِ . وَإِنْ لَمْ يَرْجِعِ الْمُجْتَهِدُ إِلَى أَصْلٍ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ فَقَدَ جَوَّزَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا اجْتِهَادَهُ وَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ . وَلَا يُعْجِبُنِي وَاحِدٌ مِنَ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ . وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ يَصِحُّ اجْتِهَادُهُ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَلَا يَصِحُّ اجْتِهَادُهُ فِي الْعِبَادَاتِ لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ تَكْلِيفٌ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْأَوَامِرِ بِهَا وَالْمُعَامَلَاتِ تَخْفِيفٌ تُعْتَبَرُ النَّوَاهِي عَنْهَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ حَاضِرًا فِي مَجْلِسِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاجْتِهَادُهُ مُعْتَبَرٌ بِأَمْرِ الرَّسُولِ . فَإِنْ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِاجْتِهَادِ صَحَّ اجْتِهَادُهُ كَمَا حَكَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَحَكَمَ بِقَتْلِ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسُ وَاسْتِرْقَاقِ مَنْ لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا حُكْمٌ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ . وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالِاجْتِهَادِ لَمْ يَصِحَّ اجْتِهَادُهُ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ بِهِ فَيُقِرُّهُ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ بِإِقْرَارِهِ عَلَيْهِ صَحِيحًا كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَلَبِ الْقَتِيلِ وَقَدْ حَصَلَ مَعَ غَيْرِ قَاتِلِهِ : " لَا هَاءَ اللَّهِ إِذًا تَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَيُعْطِيكَ سَلَبَهُ " . فَأَقَرَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَصَحَّ اجْتِهَادُهُ حِينَ أَقَرَّهُ عَلَيْهِ . وَقَدِ اضْطَرَبَتْ أَجْوِبَةُ أَصْحَابِنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي مَا ذَكَرْنَاهُ .

فَصْلٌ وُجُوهُ الِاجْتِهَادِ

فَصْلٌ : [ وُجُوهُ الِاجْتِهَادِ ] : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي وُجُوهِ الِاجْتِهَادِ فَهُوَ لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَيَانُ حُكْمِهِ ، فَقَدْ قِيلَ إِنَّ الَّذِي تَضَمَّنَهُ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْأَحْكَامِ مُشْتَمِلٌ عَلَى نَحْوِ خَمْسِمِائَةِ آيَةٍ ، وَالَّذِي تَضَمَّنَتْهُ السُّنَّةُ نَحْوَ خَمْسِمِائَةِ حَدِيثٍ ، وَنَوَازِلُ الْأَحْكَامِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى وَلَا تَقِفُ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأُمَّةُ مُضَاعَةً لَا تَرْجِعُ إِلَى أَصْلٍ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ تُوصِلُهُمْ إِلَى الْعِلْمِ بِأَحْكَامِ النَّوَازِلِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [ الْمَائِدَةِ : ] ، وَرَوَى الْمُطَّلِبُ بْنُ حَنْطَبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " مَا تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا أَمَرَكُمْ بِهِ إِلَّا وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَلَا تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِلَّا وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ " . فَدَلَّتِ الْآيَةُ فِي إِكْمَالِ الدِّينِ وَدَلَّ الْخَبَرُ فِي اسْتِيفَاءِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي ، عَلَى أَنَّ لِلْأَحْكَامِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا أُصُولًا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ مَا أُغْفِلَ بَيَانُهُ فِيهِمَا وَهُوَ الِاجْتِهَادُ فِيمَا تَضَمَّنَهَا مِنَ الْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ ، وَاسْتِخْرَاجِ مَا تَضَمَّنَهَا مِنَ الْمَعَانِي الْمُسْتَنْبَطَةِ لِيَكُونَ الدِّينُ قَدْ كَمُلَ وَالْأَحْكَامُ قَدْ وَضُحَتْ ، فَإِنَّ النُّصُوصَ عَلَى الْحَوَادِثِ مَعْدُولٌ عَنِ اسْتِيعَابِهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ شَاقٌّ فِي الْإِحَاطَةِ بِجَمِيعِهِ . وَالثَّانِي : لِيَتَفَاضَلَ الْعُلَمَاءُ فِي اسْتِنْبَاطِهِ . فَصَحَّ بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ أَنْ يَكُونَ الِاجْتِهَادُ فِي الشَّرْعِ أَصْلًا يَسْتَخْرِجُ بِهِ حُكْمَ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ وَلَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ إِجْمَاعٌ . وَإِذْ قَدْ مَضَى الِاجْتِهَادُ فِي أَعْصَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَجَبَ أَنْ يُوَضَّحَ اجْتِهَادُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا بَعْدَهُمْ ( الأنبياء ) ، وَهُوَ يَنْقَسِمُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا كَانَ حُكْمُ الِاجْتِهَادِ مُسْتَخْرَجًا مِنْ مَعْنَى النَّصِّ طرق الإجتهاد كَاسْتِخْرَاجِ عِلَّةِ الرِّبَا مِنَ الْبُرِّ فَهَذَا صَحِيحٌ غَيْرُ مَدْفُوعٍ عَنْهُ عِنْدَ جَمِيعِ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا كَانَ مُسْتَخْرَجًا مِنْ شَبَهِ النَّصِّ طرق الإجتهاد كَالْعَبْدِ فِي ثُبُوتِ تَمَلُّكِهِ لِتَرَدُّدِ شَبَهِهِ بِالْحُرِّ فِي أَنَّهُ يُمَلَّكُ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ وَشُبْهَةُ الْبَهِيمَةِ فِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ ، لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ ، وَهَذَا صَحِيحٌ وَلَيْسَ بِمَدْفُوعٍ عَنْهُ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِالْقِيَاسِ ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ ، غَيْرَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِالْقِيَاسِ جَعَلَهُ دَاخِلًا فِي عُمُومِ أَحَدِ الشَّبَهَيْنِ ، وَمَنْ قَالَ بِالْقِيَاسِ جَعَلَهُ مُلْحَقًا بِأَحَدِ الشَّبَهَيْنِ . الْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا كَانَ مُسْتَخْرَجًا مِنْ عُمُومِ النَّصِّ طرق الإجتهاد كَالَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ فِي قَوْلِهِ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ [ الْبَقَرَةِ : ] . يَعُمُّ الْأَبَ وَالزَّوْجَ ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَحَدُهُمَا ، وَهَذَا صَحِيحٌ يُوصَلُ إِلَيْهِ بِالتَّرْجِيحِ .

وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَا كَانَ مُسْتَخْرَجًا مِنْ إِجْمَالِ النَّصِّ طرق الإجتهاد كَقَوْلِهِ فِي مُتْعَةِ الطَّلَاقِ : وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [ الْبَقَرَةِ : ] . فَصَحَّ الِاجْتِهَادُ فِي إِجْمَالِ قَدْرِ الْمُتْعَةِ بِاعْتِبَارِ حَالِ الزَّوْجَيْنِ . وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ : مَا كَانَ مُسْتَخْرَجًا مِنْ أَحْوَالِ النَّصِّ طرق الإجتهاد كَقَوْلِهِ فِي مُتْعَةِ الْحَجِّ : فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] . فَأَطْلَقَ صِيَامَ الثَّلَاثَةِ فِي الْحَجِّ ، فَاحْتُمِلَ قَبْلَ عَرَفَةِ وَبَعْدَهَا وَأَطْلَقَ صِيَامَ السَّبْعَةِ إِذَا رَجَعَ فَاحْتُمِلَ إِذَا رَجَعَ فِي طَرِيقِهِ وَإِذَا رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ فَصَحَّ الِاجْتِهَادُ فِي تَغْلِيبِ إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ . الْقِسْمُ السَّادِسُ : مَا كَانَ مُسْتَخْرَجًا مِنْ دَلَائِلِ النَّصِّ طرق الإجتهاد : كَقَوْلِهِ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ : لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ [ الطَّلَاقِ : ] . الْآيَةَ فَاسْتَدْلَلْنَا عَلَى تَقْدِيرِ نَفَقَةِ الْمُوسِرِ بِمُدَّيْنِ بِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّانِ . وَاسْتَدْلَلْنَا عَلَى تَقْدِيرِ نَفَقَةِ الْمُعْسَرِ بِمُدٍّ بِأَقَلِّ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي كَفَّارَةِ الْوَطْءِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا . وَالْقِسْمُ السَّابِعُ : مَا كَانَ مُسْتَخْرَجًا مِنْ أَمَارَاتِ النَّصِّ طرق الإجتهاد كَاسْتِخْرَاجِ دَلَائِلِ الْقِبْلَةِ فِيمَنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ : وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [ النَّحْلِ : ] . فَصَحَّ الِاجْتِهَادُ فِي الْقِبْلَةِ بِالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا مِنْ هُبُوبِ الرِّيَاحِ وَمَطَالِعِ النُّجُومِ . وَالْقِسْمُ الثَّامِنُ : مَا كَانَ مُسْتَخْرَجًا مِنْ غَيْرِ نَصٍّ وَلَا أَصْلٍ طرق الإجتهاد فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَصِحُّ الِاجْتِهَادُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِأَصْلٍ : لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الشَّرْعِ إِلَى غَيْرِ أَصْلٍ ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ الْقَوْلَ بِالِاسْتِحْسَانِ : لِأَنَّهُ تَغْلِيبُ ظَنٍّ بِغَيْرِ أَصْلٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَصِحُّ الِاجْتِهَادُ بِهِ : لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي الشَّرْعِ أَصْلٌ فَجَازَ أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْ أَصْلٍ ، وَقَدِ اجْتَهَدَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّعْزِيرِ عَلَى مَا دُونَ الْحُدُودِ بِآرَائِهِمْ فِي أَصْلِهِ مِنْ ضَرْبٍ وَحَبْسٍ ، وَفِي تَقْدِيرِهِ بِعَشْرِ جَلْدَاتٍ فِي حَالٍ ، وَبِعِشْرِينَ فِي أُخْرَى ، وَبِثَلَاثِينَ فِي أُخْرَى ، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَقَادِيرِ أَصْلٌ مَشْرُوعٌ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاجْتِهَادِ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ وَبَيْنَ الِاسْتِحْسَانِ : أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ وَالِاجْتِهَادُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ يُسْتَعْمَلُ مَعَ عَدَمِ الْقِيَاسِ .

فَصْلٌ مَا يَجِبُ فِي الِاجْتِهَادِ

فَصْلٌ : [ مَا يَجِبُ فِي الِاجْتِهَادِ ] : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِيمَا يَجِبُ فِي الِاجْتِهَادِ : فَالَّذِي يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَقْصِدَ

بِاجْتِهَادِهِ طَلَبَ الْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِصَابَةَ الْعَيْنِ الَّتِي يَجْتَهِدُ فِيهَا هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مِنْ مَذْهَبِهِ . وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْصِدَ بِاجْتِهَادِهِ طَلَبَ الْحَقِّ عِنْدَ نَفْسِهِ ، لِأَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالنُّصُوصِ . وَالَّذِي هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْصِدَ طَلَبَ الْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْحَقَّ مَا كَانَ عِنْدَهُ حَقًّا لَا عِنْدَ غَيْرِهِ . وَعَلَى كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَصَّلَ بِاجْتِهَادِهِ إِلَى طَلَبِ الْحَقِّ وَإِصَابَةِ الْعَيْنِ فَيَجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ . وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ : إِنَّ الَّذِي عَلَى الْمُجْتَهِدِ هُوَ الِاجْتِهَادُ لِيَعْمَلَ بِمَا يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَيَجْعَلُونَ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادَ وَلَا يَجْعَلُونَ عَلَيْهِ طَلَبَ الْحَقِّ بِالِاجْتِهَادِ . وَيُقَالُ إِنَّهُ مَذْهَبٌ أَبِي يُوسُفَ . فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيُقَالُ : إِنَّ مَذْهَبَهُ فِيهِ مُخْتَلِفٌ يَجْعَلُ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ طَلَبَ الْحَقِّ بِالِاجْتِهَادِ كَقَوْلِنَا ، وَيَجْعَلُ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ الِاجْتِهَادَ لِيَعْمَلَ بِمَا يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ . وَقَدِ اخْتَلَطَتْ مَذَاهِبُ النَّاسِ فِي هَذَا حَتَّى الْتَبَسَتْ وَاشْتَبَهَتْ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادَ وَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ طَلَبَ الْحَقِّ بِالِاجْتِهَادِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَنْ جَعَلَ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادَ بِغَيْرِ أَصْلٍ بِأَنَّ مَا أَخْفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا طَرِيقَ لَنَا إِلَى إِظْهَارِهِ وَفِي الْتِزَامِهِ تَكْلِيفُ مَا خَرَجَ عَنْ الِاسْتِطَاعَةِ كَإِحْيَاءِ الْأَجْسَامِ وَقَلْبِ الْأَعْيَانِ . وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ اسْتِدْلَالٌ وَالْحُكْمُ هُوَ الْحَقُّ الْمَطْلُوبُ بِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَصَّ الْوُجُوبُ بِالِاسْتِدْلَالِ دُونَ الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ ، لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ مَقْصُودٌ بِمَدْلُولٍ عَلَيْهِ وَقَدْ نَصَّبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَا أَخْفَاهُ أَمَارَاتٍ تُوصِلُ إِلَيْهِ فَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ الِاسْتِطَاعَةِ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِ الِاجْتِهَادِ

فَصْلٌ : [ فِي حُكْمِ الِاجْتِهَادِ ] : وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي حِكَمِ الِاجْتِهَادِ فَلَيْسَ يَخْلُو حَالُ حُكْمِ الْمُجْتَهِدِ فِيهِ مِنْ أَنْ تَتَّفِقَ عَلَيْهِ أَقَاوِيلُ الْمُجْتَهِدِينَ أَوْ تَخْتَلِفُ . فَإِنِ اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ أَقَاوِيلُهُمْ صَارَ إِجْمَاعًا تَعَيَّنَ فِيهِ الْحَقُّ وَسَقَطَ فِيهِ الِاجْتِهَادُ مِنْ بَعْدِهِ كَسُقُوطِ الِاجْتِهَادِ مَعَ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ بَعْدَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ . وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ أَقَاوِيلُ الْمُجْتَهِدِينَ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ فِي أُصُولِ التَّوْحِيدِ وَصِفَاتِ الذَّاتِ ، فَالْحَقُّ فِيهَا وَاحِدٌ وَهُوَ الَّذِي كُلِّفَ الْعِبَادُ طَلَبَهُ ، وَمَا عَدَاهُ بَاطِلٌ فَمَنْ أَصَابَهُ فَقَدْ أَصَابَ عِنْدَ اللَّهِ وَأَصَابَ فِي الْحَقِّ وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَقَدْ أَخْطَأَ عِنْدَ اللَّهِ وَأَخْطَأَ فِي الْحَقِّ . وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ . وَشَذَّ عَنْهُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ فَجَعَلَ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ . وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا خَطَأٌ فَاحِشٌ ، لِأَنَّ أُصُولَ التَّوْحِيدِ وَصِفَاتِ الذَّاتِ لَا تَخْتَلِفُ فَلَمْ يَصِحَّ تَجْوِيزُ الِاخْتِلَافِ فِيهَا ، وَأَحْكَامُ الشَّرْعِ قَدْ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ فِي الْأَعْيَانِ وَالْأَزْمَانِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ مُسَوَّغًا فِيهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مِنِ اخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ : أَنْ يَكُونَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ كَاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي أَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَفِي مُقَاسَمَةِ الْإِخْوَةِ لِلْجَدِّ وَفِي تَوْرِيثِ الْجَدَّةِ وَابْنُهَا حَيٌّ وَفِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ . فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ وَالْمُتَكَلِّمُونَ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ : فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي جَمِيعِهَا ، وَأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِيهَا مُصِيبٌ عِنْدَ اللَّهِ وَمُصِيبٌ فِي الْحُكْمِ : لِأَنَّ جَوَازَ اخْتِلَافِ الْجَمِيعِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْجَمِيعِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي أَحَدِهَا وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَنَا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ مُتَعَيِّنٌ : لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ فِي الزَّمَانِ الْوَاحِدِ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ حَلَالًا وَحَرَامًا : لِأَنَّ مَا حَلَّ لِشَخْصٍ فِي حَالٍ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِتَنَافِيهِ وَتَنَاقُضِهِ ، وَلِأَنَّ الْمُخْتَلِفِينَ فِي اجْتِهَادِهِمْ فِي الْقِبْلَةِ إِلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِبْلَةَ فِي الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ . وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ فِي أَحَدِهَا وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ : هَلْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِيهَا مُصِيبٌ أَمْ لَا . فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا ظَهَرَ مِنْهُ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ أَنَّ الْمُصِيبَ مِنْهَا وَاحِدٌ ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ وَإِنَّ جَمِيعَهُمْ مُخْطِئٌ إِلَّا ذَلِكَ الْوَاحِدَ ، فَمَنْ أَصَابَ الْحَقَّ فَقَدْ أَصَابَ عِنْدَ اللَّهِ وَأَصَابَ فِي الْحُكْمِ ، وَمَنْ أَخْطَأَ الْحَقَّ فَقَدْ أَخْطَأَ عِنْدَ اللَّهِ ، وَأَخْطَأَ فِي الْحُكْمِ . وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ : لِأَنَّ الْحَقَّ لَمَّا كَانَ فِي وَاحِدٍ لَمْ يَكُنِ الْمُصِيبُ إِلَّا وَاحِدًا . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ : كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي

وَاحِدٍ فَمِنْ أَصَابَهُ فَقَدْ أَصَابَ عِنْدَ اللَّهِ وَأَصَابَ فِي الْحُكْمِ . وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَقَدْ أَخْطَأَ عِنْدَ اللَّهِ وَأَصَابَ فِي الْحُكْمِ . وَقَدْ حَكَى هَذَا الْقَوْلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ بَعْضُ أَصْحَابِهِ ، لِأَنَّ لَهُ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ فِي الْقِبْلَةِ قَوْلَيْنِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهُ وَخَرَّجَهُ قَوْلًا ثَانِيًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ . وَقِيلَ : إِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا مُخْتَلِفٌ فَيَجْعَلُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَيَجْعَلُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُخْطِئًا إِلَّا وَاحِدًا ، لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ كَقَوْلِنَا . وَلَوْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا مَا أَخْطَأَ مُجْتَهِدٌ ، وَقَدْ نَسَبَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ دَاوُدَ إِلَى الْخَطَأِ وَسُلَيْمَانَ إِلَى الْإِصَابَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ " فَنَسَبَهُ إِلَى الْخَطَأِ وَإِنْ جَعَلَ لَهُ أَجْرًا . فَإِنْ قِيلَ : فَلَوِ اخْتَلَفَا فِي الْإِصَابَةِ لَمَا شُورِكَ بَيْنَهُمَا فِي الْأَجْرِ . قِيلَ : وَلَوِ اتَّفَقَا فِي الْإِصَابَةِ لَمَا فُوضِلَ بَيْنَهُمَا فِي الْأَجْرِ . وَقَدْ خَطَّأَ الصَّحَابَةُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ : فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " أَلَا لَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ ابْنًا وَلَا يَجْعَلُ أَبَا الْأَبِ أَبًا " وَقَالَ فِي الْعَوْلِ " مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ، وَالَّذِي أَحْصَى رَمْلَ عَالَجَ عَدًّا مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي الْمَالِ نِصْفَيْنِ وَثُلُثًا ، هَذَانِ النِّصْفَانِ قَدْ ذَهَبَا بِالْمَالِ فَأَيْنَ الثُّلُثُ " وَقَالَ عَلِيٌّ لِعُمَرَ فِي الْمُجْهِضَةِ حِينَ قَالَ لَهُ عُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ : لَا شَيْءَ عَلَيْكَ إِنَّمَا أَنْتَ مُعَلَّمٌ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ : إِنْ كَانَا مَا اجْتَهَدَا فَقَدْ غَشَّا وَإِنْ كَانَا قَدِ اجْتَهَدَا فَقَدْ أَخْطَأَ فَعَلَيْكَ الدِّيَةُ فَلَمْ يُنْكِرُوا خَطَأَ الْمُجْتَهِدِ . فَإِنْ قِيلَ : لَمَّا اسْتَجَازُوا أَنْ يُوَلُّوا مَنْ خَالَفَهُمْ فِي الِاجْتِهَادِ دَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ ، وَلَوْ كَانَ مُخْطِئًا لَمَا اسْتَجَازُوا تَوْلِيَةَ مُخَالِفٍ ، قِيلَ قَدْ أَنْكَرَ عَلِيٌّ عَلَى شُرَيْحٍ حِينَ خَالَفَهُ فِي ابْنَيْ عَمِّ أَحَدِهِمَا أَخٍ لِأُمٍّ ، وَقَالَ : عَلِيٌّ بِالْعَبْدِ الْأَبْطَرِ وَعَزَلَهُ عَنِ الْقَضَاءِ . عَلَى أَنَّ نُفُوذَ الِاجْتِهَادِ عَيْنُ الْحُكْمِ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَيْهِ وَقْتَ الْحُكْمِ . وَلِأَنَّ تَصْوِيبَ كُلِّ الْمُجْتَهِدِينَ يُؤَدِّي إِلَى تَصْوِيبِ مَنْ نَفَى تَصْوِيبَ الْمُجْتَهِدِينَ فَصَارَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنَ التَّصْوِيبِ رَاجِعًا عَلَيْهِ فِي إِبْطَالِ التَّصْوِيبِ . فَإِذَا صَحَّ أَنَّ جَمِيعَهُمْ مُخْطِئٌ فِي الِاجْتِهَادِ إِلَّا وَاحِدًا هُوَ الْمُصِيبُ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَعَيَّنٍ فَالْمُصِيبُ مِنْهُمْ مَأْجُورٌ عَلَى الِاجْتِهَادِ وَعَلَى الصَّوَابِ ، وَأَمَّا الْمُخْطِئُ فَغَيْرُ مَأْجُورٍ عَلَى الْخَطَأِ . وَاخْتُلِفَ فِي أَجْرِهِ عَلَى الِاجْتِهَادِ : فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَأْجُورٌ عَلَيْهِ وَإِنْ أَخْطَأَ فِيهِ لِقَصْدِ الصَّوَابِ وَإِنْ لَمْ يَظْفَرْ بِهِ . وَقَالَ الْأَصَمُّ وَابْنُ عُلَيَّةَ هُوَ مَأْثُومٌ عَلَى الِاجْتِهَادِ لِخَطَئِهِ فِيهِ .

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ : لَيْسَ بِمَأْجُورٍ عَلَيْهِ وَلَا مَأْثُومٍ فِيهِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ " . وَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيُّ لِأَجْلِ هَذَا يَقُولُ : إِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَيَ أَنَّهُ أَدَّى مَا كُلِّفَ مِنْ الِاجْتِهَادِ ، مُخْطِئٌ لِلْحُكْمِ الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا وَاحِدًا . وَلَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ كُلِّفَ الِاجْتِهَادَ الْمُؤَدِّي إِلَى الصَّوَابِ وَلَمْ يُكَلَّفْ الِاجْتِهَادَ الْمُؤَدِّي إِلَى الْخَطَأِ ، وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ بِنِيَّتِهِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَبِمَا تَكَلَّفُهُ مِنْ الِاجْتِهَادِ الَّذِي اعْتَقَدَ أَنَّهُ حَقٌّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَقٍّ . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " نِيَّةُ الْمَرْءِ مِنْ خَيْرٍ مِنْ عَمَلِهِ " . وَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ نِيَّتَهُ فِي الِاجْتِهَادِ خَيْرٌ مِنْ خَطَئِهِ فِي الِاجْتِهَادِ . وَالثَّانِي : يَعْنِي أَنَّ نِيَّتَهُ خَيْرٌ مِنْ خَيِّرَاتِ عَمَلِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ النِّيَّةَ أَوْسَعُ مِنَ الْعَمَلِ : لِأَنَّهَا تَسْبِقُ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ فَيُعَجِّلُ الثَّوَابَ عَلَيْهَا .

فَصْلٌ الِاسْتِنْبَاطُ

فَصْلٌ : [ الِاسْتِنْبَاطُ ] . وَأَمَّا الِاسْتِنْبَاطُ : وَهُوَ الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مُقَدِّمَتَيِ الْقِيَاسِ فَهُوَ مِنْ نَتَائِجِ الِاجْتِهَادِ فَكَانَ فَرْعًا لَهُ وَأَصْلًا لِلْقِيَاسِ : لِأَنَّ الْوُصُولَ إِلَى اسْتِنْبَاطِ الْمَعَانِي تِلْوَ الِاجْتِهَادِ فِي الدَّلَائِلِ ، وَصِحَّةُ الْقِيَاسِ تَكُونُ بَعْدَ اسْتِنْبَاطِ الْمَعَانِي ، فَلِذَلِكَ صَارَ الِاسْتِنْبَاطُ فَرْعًا لِلِاجْتِهَادِ وَأَصْلًا لِلْقِيَاسِ . وَالِاسْتِنْبَاطُ مُخْتَصٌّ بِاسْتِخْرَاجِ الْمَعَانِي مِنْ أَلْفَاظِ النُّصُوصِ ، مَأْخُوذٌ مِنِ اسْتِنْبَاطِ الْمَاءِ الَّذِي اسْتُخْرِجَ مِنْ مَعْدِنِهِ ، وَمِنْهُ سُمِّي النَّبَطُ لِاسْتِنْبَاطِهِمُ الْمَاءَ بِالِاسْتِخْرَاجِ لَهُ مِنْ مَعَادِنِهِ . وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْأَحْكَامِ أَعْلَامًا هِيَ أَسْمَاءٌ وَمَعَانٍ . فَالْأَسْمَاءُ أَلْفَاظٌ ظَاهِرَةٌ تُعْرَفُ بِالْبَدِيهَةِ . وَالْمَعَانِي عِلَلٌ بَاطِنَةٌ تُعْرَفُ بِالِاسْتِنْبَاطِ . فَيَكُونُ الْحُكْمُ بِالِاسْمِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ وَبِالْمَعْنَى مُتَعَدِّيًا عَنْهُ ، فَصَارَ مَعْنَى الِاسْمِ أَحَقَّ بِالْحُكْمِ مِنْ الِاسْمِ ، لِعُمُومِ الْمَعْنَى بِالتَّعَدِّي ، وَخُصُوصِ الِاسْمِ بِالْوُقُوفِ . وَلَئِنْ كَانَتِ الْمَعَانِي تَابِعَةً لِلْأَسْمَاءِ ، لِأَنَّهَا مُسْتَوْدَعَةٌ فِيهَا فَالْأَسْمَاءُ تَابِعَةٌ لِمَعَانِيهَا

لِتَعَدِّيهَا إِلَى غَيْرِهَا ، فَإِنْ تَوَزَّعْنَا فِي تَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ بِالْمَعَانِي كَانَ يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ كَافِيًا . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مَعَانِي الْأَحْكَامِ بِالِاجْتِهَادِ لِيُعْلَمَ بِالْقِيَاسِ حُكْمُ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ مِنْ مَعَانِي مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ ، فَمَا وُجِدَ فِيهِ مَعْنَى النَّصِّ شَارَكَهُ فِي حُكْمِهِ قِيَاسًا ، وَمَا عُدِمَ فِيهِ مَعْنَى النَّصِّ خَالَفَهُ فِي حُكْمِهِ عَكْسًا فَيَكُونُ الْقِيَاسُ مُوجِبًا لِحُكْمِ الْإِثْبَاتِ فِي الطَّرْدِ وَحُكْمِ النَّفْيِ فِي الْعَكْسِ . وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَهُ مُوجِبًا لِحُكْمِ الطَّرْدِ فِي الْإِثْبَاتِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مُوجِبًا لِحُكْمِ الْعَكْسِ فِي النَّفْيِ ، وَهُوَ قَوْلُ مَنِ اعْتَبَرَ صِحَّةَ الْعِلَّةِ بِالطَّرْدِ دُونَ الْعَكْسِ وَذَاكَ قَوْلُ مَنِ اعْتَبَرَ صِحَّتَهَا بِالطَّرْدِ وَالْعَكْسِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعَانِي وَالْعِلَلِ : أَنَّ الْمَعْنَى مَا وَجَبَ بِهِ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ حَتَّى تَعَدَّى إِلَى الْفَرْعِ . وَالْعِلَّةُ اجْتِذَابُ حُكْمِ الْأَصْلِ إِلَى الْفَرْعِ . فَصَارَ الْمَعْنَى مَا ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ الْأَصْلِ ، وَالْعِلَّةُ مَا ثَبَتَ بِهَا حُكْمُ الْفَرْعِ . ثُمَّ هُمَا بَعْدَ هَذَا الْفَرْقِ يَجْتَمِعَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ : فَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي الِاجْتِمَاعِ . فَأَحَدُهُمَا : أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ مَوْجُودٌ فِي الْمَعْنَى وَالْعِلَّةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَعْنَى وَالْعِلَّةَ مَوْجُودَانِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ . وَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي الِافْتِرَاقِ . فَأَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعِلَّةَ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْمَعْنَى وَلَيْسَ الْمَعْنَى مُسْتَنْبَطًا مِنَ الْعِلَّةِ لِتَقَدُّمِ الْمَعْنَى وَحُدُوثِ الْعِلَّةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْعِلَّةَ قَدْ تَشْتَمِلُ عَلَى مَعَانٍ وَالْمَعَانِي لَا تَشْتَمِلُ عَلَى عِلَلٍ ، لِأَنَّ الطَّعْمَ وَالْجِنْسَ مَعْنَيَانِ وَهُمَا عِلَّةُ الرِّبَا . وَقَدْ أَلِفَ الْفُقَهَاءُ أَنْ يُعَبِّرُوا عَنِ الْمَعْنَى بِالْعِلَّةِ وَعَنِ الْعِلَّةِ بِالْمَعْنَى وَلَا يُوقِعُوا بَيْنَهُمَا فَرْقًا إِمَّا اتِّسَاعًا وَإِمَّا اسْتِرْسَالًا . وَالتَّحْقِيقُ فِيهِمَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا . فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَجَبَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ فِي اسْتِنْبَاطِ الْمَعَانِي وَالْعِلَلِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ تُعْتَبَرُ بِهَا صِحَّتُهُمَا ثُمَّ تَخْتَصُّ الْعِلَلُ دُونَ الْمَعَانِي بِشَرْطَيْنِ مُخْتَلَفٌ فِيهِمَا . [ شُرُوطُ صِحَّةِ الْمَعَانِي وَالْعِلَلِ ] : فَأَمَّا الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي صِحَّتِهِمَا :

فَأَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مُؤَثِّرًا فِي الْحُكْمِ شروط علة الحكم ، فَإِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَعْنًى لِلْحُكْمِ وَلَا عِلَّةَ لَهُ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَرْجُمْ مَاعِزًا لِاسْمِهِ وَلَا لِهَيْئَةِ جِسْمِهِ ، وَلَكِنْ رَجَمَهُ لِلزِّنَا فَصَارَ الزِّنَا عِلَّةَ الرَّجْمِ ، كَمَا أَثْبَتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرِّبَا فِي الْبُرِّ لَيْسَ لِأَنَّهُ مَزْرُوعٌ وَلَكِنْ لِأَنَّهُ مَطْعُومٌ فَكَانَ الطَّعْمُ عِلَّةَ الرِّبَا دُونَ الزَّرْعِ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يُسَلِّمَ الْمَعْنَى وَالْعِلَّةَ عَلَى الْأُصُولِ وَلَا يَرُدُّهُمَا نَصٌّ وَلَا إِجْمَاعٌ شروط علة الحكم : لِأَنَّ الْقِيَاسَ فَرْعٌ لَهُمَا يُسْتَعْمَلُ عِنْدَ عَدَمِهِمَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ رَافِعًا لَهُمَا ، فَإِذَا رَدَّهُ أَحَدُهُمَا بَطَلَ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ لَا يُعَارِضَهُمَا مِنَ الْمَعَانِي وَالْعِلَلِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُمَا شروط علة الحكم فَإِنَّ الْأَقْوَى أَحَقُّ بِالْحُكْمِ مِنَ الْأَضْعَفِ كَمَا أَنَّ النَّصَّ أَحَقُّ بِالْحُكْمِ مِنَ الْقِيَاسِ ، وَمَا أَدَّى إِلَى إِبْطَالِ الْأَقْوَى فَهُوَ الْبَاطِلُ بِالْأَقْوَى . وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ : أَنْ يَطَّرِدَ الْمَعْنَى وَالْعِلَّةُ شروط علة الحكم فَيُوجَدُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِمَا فَيَسْلَمَا مِنْ نَقْضٍ أَوْ كَسْرٍ . فَإِنْ عَارَضَهُمَا نَقْضٌ أَوْ كَسْرٌ فَعُدِمَ الْحُكْمُ مَعَ وُجُودِهِمَا فَسَدَ الْمَعْنَى وَبَطَلَتِ الْعِلَّةُ ، لِأَنَّ فَسَادَ الْعِلَّةِ يَرْفَعُهَا ، وَفَسَادَ الْمَعْنَى لَا يَرْفَعُهُ ، لِأَنَّ الْمَعْنَى لَازِمٌ وَالْعِلَّةَ طَارِئَةٌ : لِأَنَّ الْكَيْلَ إِذَا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةَ الرِّبَا فِي الْبُرِّ لَمْ يَبْطُلْ أَنْ يَكُونَ الْكَيْلُ بَاقِيًا فِي الْبُرِّ فَيَصِيرُ التَّعْلِيلُ بَاطِلًا وَالْمَعْنَى بَاقِيًا . وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْمَعَانِي وَالْعِلَلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ لِيَسْلَمَ مِنَ النَّقْضِ الْمُعْتَرَضِ وَيَكُونُ دُخُولُ النَّقْضِ عَلَيْهِمَا بِارْتِفَاعِ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِهِمَا دَلِيلًا عَلَى فَسَادِهَا . فَأَمَّا الْعِلَلُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ تَخْصِيصِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا اعْتِبَارًا بِالْعِلَلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا : لِأَنَّهَا لَفْظٌ مَنْطُوقٌ بِهِ فَجَرَى مَجْرَى تَخْصِيصِ الْعُمُومِ ، كَمَا عَلَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَنْعَ مِنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ : لِأَنَّهُ يَنْقُصُ إِذَا يَبِسَ ، وَجَوَّزَ بَيْعَ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ فِي الْعَرَايَا وَإِنْ نَقَصَ إِذَا يَبِسَ . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ جَوَّزَ تَخْصِيصَ الْعِلَلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ وَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا وَلَا يُفَسِّرُهَا بِمُعَارَضَةِ النَّقْضِ ، لِخُرُوجِهِ مِنْهَا بِالتَّخْصِيصِ ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ كَانَ تَخْصِيصُ الْعِلَلَ أَوْلَى : لِأَنَّهَا قَدْ تُسْتَنْبَطُ مِنْ عُمُومٍ مَخْصُوصٍ هِيَ لَهُ فَرْعٌ وَهُوَ لَهَا أَصْلٌ . وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ سَلَامَةُ الطَّرْدِ مُعْتَبَرًا فِي الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا

فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ ، لِأَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ لَا تَخْرُجُ عَنْ قَضِيَّةِ الْعَقْلِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْعِلَّةَ إِذَا عَارَضَهَا نَقْضٌ لَمْ يَكُنِ التَّعْلِيلُ بِالْمُنْتَقِضِ أَوْلَى مِنَ التَّعْلِيلِ بِالنَّاقِضِ : فَتَعَارَضَا بِهَذِهِ الْمُقَابَلَةِ ، فَوَجَبَ الْعُدُولُ عَنْهَا إِلَى مَا لَا تَعَارُضَ فِيهِ . فَإِذَا تَكَامَلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ فِي الْمَعَانِي وَالْعِلَلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ صَحَّتِ الْمَعَانِي بِهَا . وَكَانَ صِحَّةُ التَّعْلِيلِ بَعْدَهَا مُخْتَلَفًا فِيهِ لِاخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي شَرْطَيْنِ هَلْ يُعْتَبَرَانِ فِي تَصْحِيحِ الْعِلَلِ أَمْ لَا ؟ : أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ : عَكْسُ الْعِلَّةِ هَلْ يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي صِحَّتِهِمَا كَمَا اعْتُبِرَ فِي صِحَّتِهَا الطَّرْدُ من شروط تصحيح العلل ؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَطَائِفَةٌ مَعَهُ : أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا صِحَّةُ الْعَكْسِ ، وَأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ الْحُكْمُ بِوُجُودِهَا صَحَّتْ وَإِنْ لَمْ يَرْتَفِعْ بِعَدَمِهَا ، لِأَنَّ الْمَقْصِدَ بِهَا إِثْبَاتُ الْحُكْمِ دُونَ نَفْيِهِ وَكَمَا يَصِحُّ الْمَعْنَى إِذَا طُرِدَ وَلَمْ يَنْعَكِسْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ صِحَّةَ الْعَكْسِ مُعْتَبَرٌ فِيهَا ، فَإِذَا ثَبَتَ الْحُكْمُ بِوُجُودِهَا وَلَمْ يَرْتَفِعْ بِعَدَمِهَا فَسَدَتِ الْعِلَّةُ ، وَإِنْ لَمْ يَفْسَدِ الْمَعْنَى : لِأَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ مُعْتَبَرَةٌ بِعِلَلِ الْعَقْلِ فِي الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ ، وَلِأَنَّ عَدَمَ التَّأْثِيرِ فِي ارْتِفَاعِهَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّأْثِيرِ فِي وُجُودِهَا ، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعْنَى وَالْعِلَّةِ فِي اعْتِبَارِ الْعَكْسِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : الْمُخْتَلَفُ فِيهِ وُقُوفُ الْعِلَّةِ عَلَى حُكْمِ النَّصِّ وَعَدَمُ تَأْثِيرِهَا فِيمَا عَدَاهُ من شروط تصحيح العلل ، كَوُقُوفِ عِلَّةِ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَلَيْهِمَا تَعْلِيلًا بِأَنَّهُمَا أَثْمَانٌ وَقِيمَةٌ وَهُوَ مَعْنًى لِثُبُوتِ الرِّبَا فِيهِمَا . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ تَكُونُ عِلَّةً لِثُبُوتِ الرِّبَا فِيهِمَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي أُصُولِهِ : لَا تَكُونُ عِلَّةً : لِأَنَّ الْعِلَّةَ مَا جَذَبَتْ حُكْمَ الْأَصْلِ إِلَى فُرُوعِهِ ، وَيَجْعَلُ ثُبُوتَ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالِاسْمِ دُونَ الْمَعْنَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا عِلَّةٌ وَإِنْ لَمْ تَتَعَدَّ عَنْ حُكْمِ الْأَصْلِ ، لِأَنَّ وُقُوفَهَا يُوجِبُ نَفْيَ حُكْمِ الْأَصْلِ عَنْ غَيْرِهِ وَكَمَا أَوْجَبَ تَعَدِّيَهَا ثُبُوتَ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي غَيْرِهِ فَصَارَ وُقُوفُهَا مُؤَثِّرًا فِي النَّفْيِ كَمَا كَانَ تَعَدِّيهَا مُؤَثِّرًا فِي الْإِثْبَاتِ فَاسْتُفِيدَ بِوُقُوفِهَا وَتَعَدِّيهَا حُكْمٌ غَيْرُ الْأَصْلِ . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ثُبُوتُ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْمَعْنَى دُونَ الِاسْمِ . فَصَارَتْ صِحَّةُ الْمَعَانِي مُعْتَبَرَةً بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ ، وَفِي صِحَّةِ الْعِلَلِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : تُعْتَبَرُ صِحَّتُهَا بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ كَالْمَعَانِي . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تُعْتَبَرُ صِحَّتُهَا بِسِتَّةِ شُرُوطٍ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ فَرْقٍ بَيْنَ الْمَعَانِي وَالْعِلَلِ .

فَصْلٌ : [ إِثْبَاتُ الْعِلَّةِ بِالِاسْتِنْبَاطِ وَطُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ ] . فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي صِحَّةِ الْمَعَانِي وَالْعِلَلِ وَجَبَ عَلَى الْمُسْتَنْبِطِ أَنْ يَعْتَبِرَ بِهَا حُكْمَ الْأَصْلِ فِي الْكَشْفِ عَنْ مَعَانِيهِ . فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِيهَا مَا يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ كَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَنُصُبِ الزَّكَوَاتِ عَلِمَ أَنَّ مَعَانِيَهُ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ وَأَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا مَقْصُورٌ عَلَى النَّصِّ وَمُعْتَبَرٌ بِالِاسْمِ . وَإِنْ وَجَدَ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ مَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي الْحُكْمِ سَيَّرَ جَمِيعَ مَعَانِيهِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ لِيَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ مُعْتَبَرًا بِأَقْوَى مَعَانِيهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَخْلُ مَعَانِي الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِجَمِيعِهَا أَوْ بِبَعْضِهَا : - فَإِنْ تَعَلَّقَ الْحُكْمِ بِجَمِيعِ مَعَانِي الْأَصْلِ كَالرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَهِيَ الْعِلَّةُ الْوَاقِفَةُ ، وَهَلْ يَكُونُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ بِالْمَعْنَى أَوْ بِالِاسْمِ ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ : وَإِنْ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِبَعْضِ مَعَانِيهِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَصِحَّ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِأَحَدِ مَعَانِيهِ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَصِحَّ . فَإِنْ صَحَّ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِأَحَدِهَا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَسْلَمَ مِنْ مُعَارَضَتِهِ بِمَعْنًى آخَرَ ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِذَلِكَ الْمَعْنَى ، وَيَصِيرُ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ عِلَّةً فِي حُكْمِ الْفَرْعِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَتَعَارَضَ مَعَانِي الْأَصْلِ فِي جَوَازِ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَتَّفِقَ أَحْكَامُهَا فِي الْفُرُوعِ فَيُوجِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِثْلَ مَا يُوجِبُهُ غَيْرُهُ فَيَكُونُ الْمُسْتَنْبِطُ مُخَيَّرًا بَيْنَ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِأَيِّهَا شَاءَ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُثْبِتَ حُكْمَ الْأَصْلِ بِأَيِّ دَلَالَةٍ شَاءَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَخْتَلِفَ أَحْكَامُ الْمَعَانِي فِي الْفُرُوعِ ، فَيُوجِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرَ مَا يُوجِبُهُ الْآخَرُ ، كَتَعْلِيلِ الرِّبَا فِي الْبُرِّ بِأَنَّهُ مُقْتَاتٌ ، وَبِأَنَّهُ مَأْكُولٌ ، وَبِأَنَّهُ مَكِيلٌ ،

وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي فُرُوعٌ يَجْتَذِبُهَا لَيْسَتْ فِي غَيْرِهِ . فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ أَحَدُهَا دَاخِلًا فِي الْآخَرِ ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ مُعْتَبَرًا بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ دُونَ الْأَخَصِّ ، كَتَعْلِيلِ الرِّبَا فِي الْبُرِّ بِأَنَّهُ مُقْتَاتٌ ، وَتَعْلِيلِهِ بِأَنَّهُ مَأْكُولٌ ، وَالْقُوتُ يَدْخُلُ فِي الْمَأْكُولِ ، فَكَانَ تَعْلِيلُهُ بِالْأَكْلِ أَوْلَى مِنْ تَعْلِيلِهِ بِالْقُوتِ ، لِعُمُومِ الْأَكْلِ وَخُصُوصِ الْقُوتِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَدْخُلَ أَحَدُهُمَا فِي الثَّانِي : كَالتَّعْلِيلِ بِالْأَكْلِ وَالتَّعْلِيلِ بِالْكَيْلِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ أَكْثَرَ فُرُوعًا مِنَ الْآخَرِ فَيَكُونُ أَكْثَرُهُمَا فُرُوعًا أَوْلَى وَتَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِهِ أَحَقُّ لِكَثْرَةِ بَيَانِهِ بِكَثْرَةِ فُرُوعِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَتَقَارَبَ فَرَوْعُهُمَا ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ شَوَاهِدُ أَكْثَرِ الْأُصُولِ مَعَ أَحَدِهِمَا وَشَوَاهِدُ أَقَلِّهَا مَعَ الْآخَرِ فَيَكُونُ أَكْثَرُهُمَا شَوَاهِدَ أَوْلَى ، وَتَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِهِ أَحَقُّ ، لِقُوَّتِهِ بِكَثْرَةِ شَوَاهِدِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَتَسَاوَى شَوَاهِدُ الْأُصُولِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ ، فَيَتَعَلَّقُ حُكْمُ الْأَصْلِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ ، وَيَكُونُ اجْتِمَاعُهُمَا مَعًا عِلَّةً فِي فُرُوعِ الْأَصْلِ ، لِقُوَّةِ الْعِلَّةِ بِاجْتِمَاعِهِمَا وَاسْتِيعَابِهِمَا لِفُرُوعِهِمَا . فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَصِحَّ تَعْلِيقُ حُكْمِ الْأَصْلِ بِأَحَدِ مَعَانِيهِ لِدُخُولِ الْكَسْرِ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَضُمَّ إِلَيْهِ مَعْنًى آخَرَ مِنْ مَعَانِي الْأَصْلِ فَيَجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ . فَإِنْ سَلِمَا بِالِاجْتِمَاعِ مِنْ كَسْرٍ يَدْخُلُ عَلَيْهِمَا صَارَا جَمِيعًا مَعْنَى الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ وَعِلَّةَ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ . وَإِنْ لَمْ يَسْلَمِ الْمَعْنِيَانِ مِنْ كَسْرٍ ضَمَمْتَ إِلَيْهِمَا مَعْنًى ثَالِثًا . فَإِنْ سَلِمَتِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ صَارَ جَمِيعُهَا مَعْنَى الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ وَعِلَّةُ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ . وَإِنْ لَمْ تَسْلَمِ الثَّلَاثَةُ مِنْ كَسْرٍ ضَمَمْتَ إِلَيْهَا رَابِعًا . فَإِنْ لَمْ تَسْلَمْ ضَمَمْتَ إِلَيْهَا خَامِسًا كَذَلِكَ أَبَدًا حَتَّى تَجْمَعَ بَيْنَ مَعَانِي الْأَصْلِ فَيَتَبَيَّنَ بِاجْتِمَاعِ مَعَانِيهِ وُقُوفُ حُكْمِهِ وَعَدَمُ تَعَدِّيهِ . وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِمَا لَمْ تَتَعَدَّ مَعَانِيهِ وَأَبْطَلَ بِهِ الْعِلَّةَ الْوَاقِفَةَ .

وَحَصَرَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ مَعَانِي الْعِلَّةِ وَمَنَعَ مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْصَافٍ ، وَفِيمَا قَدَّمْنَاهُ بَيَانٌ وَبُرْهَانٌ . فَأَمَّا إِنْ تَعَارَضَ التَّعْلِيقُ بِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَالْآخَرُ مُسْتَنْبَطٌ كَانَ مَعْنَى النَّصِّ أَوْلَى مِنْ مَعْنَى الِاسْتِنْبَاطِ كَمَا يَكُونُ الْحُكْمُ بِالنَّصِّ أَوْلَى مِنَ الْحُكْمِ بِالِاجْتِهَادِ . وَذَلِكَ مِثْلُ تَعْلِيلِ مَالِ الْفَيْءِ قَالَ تَعَالَى : كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ [ الْحَشْرِ : ] . وَتَعْلِيلُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ بِقَوْلِهِ : إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ [ الْمَائِدَةِ : ] . الْآيَةَ وَكَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَحْرِيمِ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِي بَعْدَ ثَلَاثٍ : " إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لِأَجْلِ الدَّافَّةِ " وَكَمَا عَلَّلَ بَيْعَ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ بِأَنْ قَالَ حِينَ سُئِلَ عَنْهُ : " أَيَنْقُصُ إِذَا يَبِسَ قِيلَ : نَعَمْ قَالَ : فَلَا إِذَنْ " . فَهَذَا التَّعْلِيلُ كُلُّهُ عَنْ نُصُوصٍ لَا يَجُوزُ أَنْ تُدْفَعَ بِعِلَلٍ مُسْتَنْبَطَةٍ .

فَصْلٌ تَعْرِيفُ الْقِيَاسِ

فَصْلٌ : تَعْرِيفُ الْقِيَاسِ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مُقَدِّمَتَيِ الْقِيَاسِ مِنَ الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِنْبَاطِ فَالْقِيَاسُ مَوْضُوعٌ لِطَلَبِ أَحْكَامِ الْفُرُوعِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا مِنَ الْأُصُولِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا بِالْعِلَلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ مَعَانِيهَا : لِيَلْحَقَ كُلُّ فَرْعٍ بِأَصْلِهِ : حَتَّى يُشْرِكَهُ فِي حُكْمِهِ ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِالْعِلَّةِ فَصَارَ الْقِيَاسُ إِلْحَاقَ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ بِالْعِلَّةِ الْجَامِعَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ . وَفِيمَا أُخِذَ مِنْهُ اسْمُ الْقِيَاسِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَأْخُوذٌ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْمُمَاثَلَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ : هَذَا قِيَاسُ هَذَا أَيْ مِثْلُهُ : لِأَنَّ الْقِيَاسَ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ فِي الْحُكْمِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مَأْخُوذٌ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْإِصَابَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ : قِسْتُ الشَّيْءَ إِذَا أَصَبْتُهُ ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ يُصِيبُ بِهِ الْحُكْمَ .

حُجِّيَّةُ الْقِيَاسِ

حُجِّيَّةُ الْقِيَاسِ : وَالْقِيَاسُ : أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ وَحُجَّةٌ تُسْتَخْرَجُ بِهَا أَحْكَامُ الْفُرُوعِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا ، يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ عِنْدَ عَدَمِ النُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ ، وَالنُّصُوصُ فِي الْأَحْكَامِ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَعَانِيهَا إِذَا عَقِلَتْ وَبِالْأَسْمَاءِ إِذَا جَهِلَتْ ، وَيَكُونُ اخْتِلَافُهَا عَلَى حَسَبِ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ بِهَا . وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي طَرِيقِ إِثْبَاتِهِ فَأَثْبَتَهُ أَكْثَرُهُمْ دَلِيلًا ، وَأَثْبَتَهُ شَاذٌّ مِنْهُمْ دَلِيلًا بِالْعَقْلِ . وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى إِبْطَالِ الْقِيَاسِ ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ فِي الشَّرْعِ ، وَلَا

يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى حُكْمٍ فِي فَرْعٍ ، وَأَنَّ الْأَحْكَامَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَسْمَاءِ دُونَ الْمَعَانِي . وَهَذَا قَوْلُ النَّظَّامِ وَدَاوُدَ وَالْقَاسَانِيِّ وَالْمَغْرِبِيِّ وَالنَّهْرُبِينِيِّ وَالشِّيعَةِ . وَاخْتَلَفُوا فِي طَرِيقِ نَفْيِهِ . فَنَفَاهُ بَعْضُهُمْ بِالْعَقْلِ . وَنَفَاهُ بَعْضُهُمْ بِالشَّرْعِ . وَنَفَاهُ دَاوُدُ بِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِهِ وَلَوْ وَرَدَ بِهِ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا فِيهِ . وَهَذَا خِلَافٌ حَدَثَ مِنْهُمْ فِي نَفْيِهِ بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَ بِإِثْبَاتِهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ اسْتِدْلَالًا مِنْ وَجْهَيْنِ : ظَاهِرٍ مَنْقُولٍ وَمَعْنًى مَعْقُولٍ . فَأَمَّا الظَّاهِرُ : فَمِنْ وَجْهَيْنِ : الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . فَأَمَّا الْكِتَابُ : فَقَوْلُهُ تَعَالَى : فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ [ الْحَشْرِ : ] . وَفِي الِاعْتِبَارِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعُبُورِ ، وَهُوَ تَجَاوُزُ الْمَذْكُورِ إِلَى غَيْرِ الْمَذْكُورِ ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعِبْرَةِ : وَهِيَ اعْتِبَارُ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ وَمِنْهُ عِبْرَةُ الْخَرَاجِ أَنْ يُقَاسَ خَرَاجُ عَامٍ بِخَرَاجِ غَيْرِهِ فِي الْمُمَاثَلَةِ . وَفِي كِلَا الْوَجْهَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى الْقِيَاسِ ، لِأَنَّهُ أَمَرَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالشَّيْءِ عَلَى نَظِيرِهِ وَبِالشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ . وَقَالَ تَعَالَى : " وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ : [ يس : - ] . فَجَعَلَ خَلْقَ الْأَشْيَاءِ دَلِيلًا عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى ، وَهَذَا قِيَاسٌ يَسْتَمِرُّ فِي قَضَايَا الْعُقُولِ ، وَلَوْلَا الْقِيَاسُ مَا صَارَ دَلِيلًا . . وَقَالَ تَعَالَى : ، ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ [ الرُّومِ : ] . فَجَعَلَ عَبِيدَنَا لَمَّا لَمْ يُشَارِكُونَا فِي أَمْلَاكِنَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَا خَلَقَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي عِبَادَتِهِ ، وَبِقِيَاسِ الْعَقْلِ صَارَ هَذَا دَلِيلًا . وَقَالَ تَعَالَى : وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [ النِّسَاءِ : ] .

فَأُولُو الْأَمْرِ هُمُ الْعُلَمَاءُ وَالِاسْتِنْبَاطُ هُوَ الْقِيَاسُ ، فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَالنَّصِّ فِي إِثْبَاتِهِ . وَقَالَ تَعَالَى : مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [ الْأَنْعَامِ : ] . وَقَالَ : تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [ النَّحْلِ : ] . فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَيْسَ مِنْ حَادِثَةٍ إِلَّا وَلِلَّهِ فِيهَا حُكْمٌ قَدْ بَيَّنَهُ مِنْ تَحْلِيلٍ أَوْ تَحْرِيمٍ وَأَمْرٍ وَنَهْيٍ . وَقَدْ تَجِدُ أَكْثَرَ الْحَوَادِثِ غَيْرَ مَنْصُوصٍ عَلَى أَحْكَامِهَا ، وَالْمَسْكُوتُ عَنْهُ أَكْثَرُ مِنَ الْمَذْكُورِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا أَخْفَاهُ مُسْتَنْبَطٌ مِمَّا أَبْدَاهُ وَأَنَّ الْجَلِيَّ دَلِيلٌ عَلَى الْخَفِيِّ لِنَصِّ الْكِتَابِ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَمَا فُرِّطَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَتَكْمُلُ بِقِيَاسِ السَّمْعِ أَحْكَامُ الدِّينِ كَمَا كَمُلَ بِقِيَاسِ الْعَقْلِ أَحْكَامُ الدُّنْيَا . وَأَمَّا السُّنَّةُ : فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ حِينَ قَلَّدَهُ قَضَاءَ الْيَمَنِ : " بِمَ تَحْكُمُ ؟ قَالَ : بِكِتَابِ اللَّهِ ، قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ ؟ قَالَ : بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ ؟ قَالَ : أَجْتَهِدُ رَأْيِي قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ " . فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ وَأَنَّ كُلَّ الْأَحْكَامِ لَيْسَتْ مَأْخُوذَةً عَنْ نَصٍّ فَصَارَ الْقِيَاسُ أَصْلًا بِالنَّصِّ . فَإِنْ قِيلَ : فَالْقِيَاسُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ ، وَهَذَا خَبَرٌ وَاحِدٌ لَا تَثْبُتُ بِهِ الْأُصُولُ الشَّرْعِيَّةُ ؟ قِيلَ : قَدْ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ فَجَرَى مَجْرَى التَّوَاتُرِ . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِينَ سَأَلَهُ عَنْ قُبْلَةِ الصَّائِمِ : " أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ ؟ " فَجَعَلَ الْقُبْلَةَ بِغَيْرِ إِنْزَالٍ قِيَاسًا عَلَى الْمَضْمَضَةِ بِغَيْرِ ازْدِرَادٍ . وَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي أَوْلَادًا بِيضًا وَفِيهِمْ أَسْوَدَ فَمَا بَالُهُ مِنْ بَيْنِهِمْ ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - : " أَلَكَ إِبِلٌ عُبْسٌ ؟ يَعْنِي بِيضًا فَقَالَ : نَعَمْ فَقَالَ : فَهَلْ فِيهَا مَنْ أَوْرَقَ ؟ قَالَ : نَعَمَ قَالَ : فَمَنْ بَالُهُ مِنْ بَيْنِهِمْ ؟ قَالَ : لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَهُ قَالَ : لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَ هَذَا " فَاعْتَبَرَ اخْتِلَافَ أَلْوَانِ أَوْلَادِهِ بِاخْتِلَافِ أَلْوَانِ نِتَاجِهِ فَقَاسَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ . وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَمَ مَاعِزًا حِينَ زَنَا لَعَلَّهُ دَلِيلًا عَلَى رَجْمِ غَيْرِهِ مِنَ الزِّنَا قِيَاسًا عَلَيْهِ . وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي بَيْعِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ : أَيَنْقُصُ إِذَا يَبِسَ ؟ قِيلَ نَعَمْ قَالَ : فَلَا إِذَنْ . وَقِيلَ لَهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ الْأَبْيَضَ بْنَ حَمَّالٍ مِلْحَ مَأْرَبٍ : أَنَّهُ كَالْمَاءِ الْعِيدِ قَالَ : " فَلَا إِذَنْ " . فَعَلَّلَ الْأَحْكَامَ بِالْمَعَانِي . وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ أَجْمَعَتْ عَلَى الْقِيَاسِ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمْ فِي تَوْرِيثِ الْإِخْوَةِ مَعَ الْجَدِّ

فَجَعَلَهُ مَنْ أَسْقَطَ بِهِ مِيرَاثَ الْإِخْوَةِ كَالْأَبِ فِي إِسْقَاطِهِمُ اعْتِبَارًا بِأَنَّ ابْنَ الِابْنِ كَالِابْنِ فِي إِسْقَاطِهِمْ وَجَعَلَهُ مَنْ وَرَّثَ الْإِخْوَةَ مَعَهُ كَالْأَبِ لَا يَسْقُطُ بِنِسْوَةٍ وَشَبَّهَهُ بِشَجَرَةٍ ذَاتِ أَغْصَانٍ وَبَوَادٍ سَالَ مِنْهُ شِعْبَانُ وَجَعَلَهُ قِيَاسًا مُعْتَبَرًا فِيهِ . وَأَوْجَبُوا نَفَقَةَ الْأَبِ فِي حَالِ عَجْزِهِ قِيَاسًا عَلَى نَفَقَةِ الِابْنِ " . وَكَتَبَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَهْدَهُ عَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ : " الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا تَلَجْلَجَ فِي صَدْرِكَ لَيْسَ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ ، فَاعْرِفِ الْأَمْثَالَ وَالْأَشْبَاهَ ، وَقِسِ الْأُمُورَ بِنَظَائِرِهَا " . وَانْتَشَرَ هَذَا الْعَهْدُ فِي الصَّحَابَةِ فَمَا أَنْكَرَهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ قَوْلًا وَعَمَلًا ، وَهُمُ الْقُدْوَةُ الْمُتَّبَعُونَ ، وَالنَّقَلَةُ الْمُطَاعُونَ ، نَأْخُذُ عَنْهُمْ مَا تَحَمَّلُوهُ ، وَنَقْتَدِي بِهِمْ فِيمَا فَعَلُوهُ ، وَقَدِ اجْتَهَدُوا وَقَاسَوْا . وَلَوْ كَانَتِ الْأَحْكَامُ نُصُوصًا كُلُّهَا لَنَقَلُوهَا وَعَدَلُوا عَنْ الِاجْتِهَادِ فِيهَا ، كَمَا عَدَلُوا عَنِ اجْتِهَادِهِمْ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ ، حِينَ رَوَى حَمَلُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ وَأَمَةٍ " وَعَدَلُوا عَنِ الْمُخَابَرَةِ حِينَ رَوَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ النَّهْيَ عَنْهَا ، لَيْسَ يَدْفَعُ مِثْلَ هَذَا الْحِجَاجِ إِلَّا بِبُهْتٍ أَوْ عِنَادٍ . [ أَدِلَّةُ الْقَائِلِينَ بِحُجِّيَّةِ الْقِيَاسِ ] : فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ فَمِنْهَا : أَنَّ النَّصَّ لَمْ يُحِطْ بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَلَا يَخْلُو مَا عَدَا أَحْكَامَ النُّصُوصِ مِنَ الْفُرُوعِ وَالْحَوَادِثِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهَا حُكْمٌ أَوْ لَا يَكُونَ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : لَا حُكْمَ لَهُ فِيهَا وَقَدْ قَالَ : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [ الْمَائِدَةِ : ] . وَإِذَا كَانَ لَهُ فِيهَا حُكْمٌ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا . فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا : لِأَنَّ الْتِزَامَ الْمَجْهُولِ مُمْتَنِعٌ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ ضِدَّيْنِ . وَإِذَا كَانَ مَعْلُومًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ جَمِيعُهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ ، لِأَنَّ فِيهَا مَحْظُورًا ، وَلَا عَلَى الْحَظْرِ ، لِأَنَّ فِيهَا مُبَاحًا . وَلَا يَتَمَيَّزُ الْمُبَاحُ وَالْمَحْظُورُ إِلَّا بِدَلِيلٍ . وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ النَّصِّ دَلِيلٌ . وَلَيْسَ بَعْدَ النَّصِّ إِلَّا الْقِيَاسُ عَلَى النَّصِّ . فَإِنْ مَنَعُوا أَنْ تَخْتَلِفَ أَحْكَامُ مَا عَدَا النَّصَّ ، وَحَمَلُوا جَمِيعَهَا عَلَى الْحَظْرِ عِنْدَ عَدَمِ

السَّمْعِ أَوْ عَلَى الْإِبَاحَةِ بَطَلَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ قَدْ حَكَمُوا فِيهَا بِغَيْرِ نَصٍّ وَهُمْ يَمْنَعُونَ مِنْهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يُقَالَ لَهُمْ أَرَأَيْتُمْ مَنْ غَابَ عَنِ الْقِبْلَةِ وَخَفِيَتْ عَلَيْهِ جِهَتُهَا هَلْ يُحْمَلُ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ وَفِي اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ عَلَى الْإِبَاحَةِ أَوِ الْحَظْرِ . فَإِنِ ارْتَكَبُوهُ أَبْطَلُوا بِهِ فَرْضَ الصَّلَاةِ . وَإِنِ امْتَنَعُوا مِنْهُ بَطَلَ أَصْلُهُمْ وَقِيلَ لَهُمْ : أَيُصَلِّي إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ بِنَصٍّ أَوِ اسْتِدْلَالٍ . فَإِنْ قَالُوا بِنَصٍّ بَهَتُوا وَلَمْ يَجِدُّوا . وَإِنْ قَالُوا بِاسْتِدْلَالٍ ثَبَتَ جَوَازُ الْحُكْمِ بِالِاسْتِدْلَالِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ . وَهَذَا لَوْ جُعِلَ دَلِيلًا لَكَانَ مُقْنِعًا . وَدَلِيلٌ آخَرُ : هُوَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَقَرَّ فِي فِطَرِ الْعُقُولِ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِالشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ ، وَيُجْمَعَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ فِي الشَّبَهِ ، وَيُسَوَّى بَيْنَ الْمُتَّفِقَيْنِ فِي الْمَعْنَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي قَضَايَا السَّمْعِ اسْتِدْلَالٌ بِالشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ فِي الشَّبَهِ وَالْمُتَّفِقَيْنِ فِي الْمَعْنَى اسْتِدْلَالًا بِالْعَقْلِ وَالسَّمْعِ . فَأَمَّا الْعَقْلُ فَشَوَاهِدُهُ وَاضِحَةٌ . وَأَمَّا السَّمْعُ فَقَدِ اسْتَقَرَّ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ فِي الْقِبْلَةِ بِقَوْلِهِ : الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [ الْبَقَرَةِ : و ] . وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُشْتَبِهَيْنِ فِي الْمُمَاثَلَةِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ بِقَوْلِهِ : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [ الْمَائِدَةِ : ] . وَفِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَّفِقَيْنِ فِي الْمَعْنَى لِاعْتِبَارِ الرِّقِّ فِي حَدِّ الْعَبْدِ بِالزِّنَا بِحَدِّ الْأَمَةِ بِقَوْلِهِ : فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [ النِّسَاءِ : ] . فَإِنْ مَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ بِأَنَّ أَحْكَامَ الْعَقْلِ مُتَّفِقَةٌ وَأَحْكَامَ السَّمْعِ مُخْتَلِفَةٌ فَلَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ . قِيلَ : نَحْنُ نَقِيسُ عَلَى أَحْكَامِ السَّمْعِ مَا وَافَقَهَا كَمَا نَقِيسُ عَلَى أَحْكَامِ الْعَقْلِ مَا وَافَقَهَا فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلًا لِفُرُوعِهِ فِي الْمُمَاثَلَةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ فَرَّقَ السَّمْعُ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ وَجَمَعَ بَيْنَ مُفْتَرِقَيْنِ وَهَذَا فِي أَحْكَامِ الْعُقُولِ مُمْتَنِعٌ . قِيلَ : الْقِيَاسُ مُسْتَعْمَلٌ عِنْدَ عَدَمِ السَّمْعِ وَإِذَا وَرَدَ السَّمْعُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ مُفْتَرِقَيْنِ ، وَبِالْفَرْقِ بَيْنَ مُجْتَمِعَيْنِ ، عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ فِيهِ ، وَإِذَا عُدِمَ السَّمْعُ فِي الْأَمْثَالِ وَالْأَشْبَاهِ عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُخَالِفْ بَيْنَ أَحْكَامِهَا ، وَاسْتَعْمَلْنَا

الْقِيَاسَ فِيهَا وَيَكُونُ خُرُوجُهَا عَنِ السَّمْعِ دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ الْجَمْعِ فَتَصِيرُ بِالسَّمْعِ مُخْتَلِفَةً وَبِعَدَمِهِ مُتَّفِقَةً . فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ فِي إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ وَإِنْ حُذِفْتَ أَكْثَرُهَا . [ أَدِلَّةُ مَنْ نَفَى الْقِيَاسَ ] : وَاسْتَدَلَّ نُفَاةُ الْقِيَاسِ بِظَوَاهِرَ وَمَعَانٍ : فَأَمَّا الظَّاهِرُ : فَمِنْ كِتَابٍ وَسُنَّةٍ . فَأَمَّا الْكِتَابُ : فَاسْتَدَلُّوا مِنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [ النِّسَاءِ : ] . وَهَذَا نَفْيٌ لِلْقِيَاسِ . وَقَالَ تَعَالَى : وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [ الْإِسْرَاءِ : ] ، وَهَذِهِ صِفَةُ الْقَائِسِ . وَقَالَ تَعَالَى : وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [ النَّجْمِ : - ] . وَلَيْسَ الْقِيَاسُ مِنَ الْوَحْيِ . وَقَالَ تَعَالَى : وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ وَالْقَائِسُ مُفْتَرٍ . وَقَالَ تَعَالَى : قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [ يُونُسَ : ] . ؟ وَالْقَائِسُ يُحِلُّ وَيُحَرِّمُ فَصَارَ مُفْتَرِيًا . وَهَذِهِ الْآيُ الْخَمْسُ أَقْوَى دَلِيلٍ اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ ظَاهِرِ الْكِتَابِ وَإِنْ أَكْثَرُوا . وَالْجَوَابُ عَنْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُعَادَ عَلَيْهِمْ فِيمَا حَكَمُوا بِهِ مِنْ نَفْيِ الْقِيَاسِ فَيُقَالُ لَهُمْ : قَدْ نَفَيْتُمُوهُ بِمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ، وَمَا لَمْ يَنْزِلْ بِهِ وَحْيٌ ، وَبِمَا لَمْ تَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ فَتَسَاوَى الِاسْتِدْلَالُ بِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْقَائِسَ لَا يُحِلُّ وَلَا يُحَرِّمُ وَإِنَّمَا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَحَرَّمَهُ ، فَلَيْسَ يَحْكُمُ إِلَّا عَنْ وَاجِبَاتِ النُّصُوصِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالسُّنَّةِ : فَمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِمَوْتِ الْعُلَمَاءِ فَإِذَا مَاتُوا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا " .

وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " إِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِحُكْمِهِمْ بِآرَائِهِمْ فَإِنَّهُ مَا زَالَ أَمْرُهُمْ صَالِحًا حَتَّى حَدَّثَ فِيهِمْ أَوْلَادُ السَّبَايَا فَقَاسُوا الْأُمُورَ بِآرَائِهِمْ فَضَّلُوا وَأَضَلُّوا " قَالُوا : وَهَذَا نَصٌّ . وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي نَيِّفًا وَسَبْعِينَ فِرْقَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً الَّذِينَ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِآرَائِهِمْ " . وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِذَا حَكَمْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِي . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الثَّلَاثَةُ أَقْوَى مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ السُّنَّةِ وَإِنْ أَكْثَرُوا . وَالْجَوَابُ عَنْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَنْ قَاسَ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي ثَقِيفٍ : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [ الْبَقَرَةِ : ] . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي إِبْلِيسَ : أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ! [ الْأَعْرَافِ : ] . وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ : لَأَوَّلُ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ يَعْنِي مَنْ دَفَعَ النَّصَّ بِالْقِيَاسِ وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الشَّعْبِيُّ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : " إِيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءُ السُّنَنِ أَعْيَتْهُمُ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا فَقَالُوا بِالرَّأْيِ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا " رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ ، فَدَلَّ هَذَا مِنْ قَوْلٍ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَسْتَعْمِلُوا الْقِيَاسَ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ وَإِمَّا أَنْ يَعْمَلُوا بِالرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ ضَلَالٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَنْ حَكَمَ بِرَأْيِهِ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ مِنْ نَصٍّ كَالِاسْتِحْسَانِ وَاتِّبَاعِ الرَّأْيِ وَهَذَا مَذْمُومٌ ، وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّعْبِيُّ : لَعَنَ اللَّهُ الرَّأْيِيَّةَ يَعْنِي الَّذِينَ يَقُولُونَ بِآرَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ مَشْرُوعٍ .

وَأَمَّا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ الْمَعَانِي فَأَظْهَرُهَا مَعْنَيَانِ : أَحَدُهُمَا : إِنْ قَالُوا : قَدِ اسْتَقَرَّ فِي فِطَرِ الْعُقُولِ أَنَّ الْعُلُومَ الْمُدْرَكَةَ بِالْحَوَاسِّ يُعْلَمُ خَفِيُّهَا بِمَا يُعْلَمُ بِهِ جَلِيُّهَا ، فَمَا أُدْرِكَ جَلِيُّهُ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ لَمْ يُدْرَكْ خَفِيُّهُ إِلَّا بِهَا وَمَا أُدْرِكَ جَلِيُّهُ بِحَاسَّةِ السَّمْعِ لَمْ يُدْرَكْ خَفِيُّهُ إِلَّا بِهَا . فَوَجَبَ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ إِذَا أُدْرِكَ جَلِيُّهَا بِالسَّمْعِ أَنْ يَكُونَ خَفِيُّهَا مُدْرَكًا بِالسَّمْعِ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ ، لِأَنَّهُمُ اعْتَبَرُوا أَحْكَامَ السَّمْعِ بِأَحْكَامِ الْحِسِّ ، فَأَثْبَتُوا بِالْقِيَاسِ نَفْيَ الْقِيَاسِ ، وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ . وَالثَّانِي : أَنَّنَا نَجْمَعُ بَيْنَ أَحْكَامِ السَّمْعِ ، وَأَحْكَامِ الْحِسِّ فَنَجْعَلُ خَفِيَّهَا مَأْخُوذًا مِنْ خَفِيِّ السَّمْعِ كَمَا كَانَ جَلِيُّهَا مَأْخُوذًا مِنْ جَلِيِّ السَّمْعِ ، فَصَارَا مِثْلَيْنِ . وَالْمَعْنَى الثَّانِي : إِنْ قَالُوا : لَوْ كَانَتِ الْأَحْكَامُ مَعْلُومَةً لَمْ يَجُزْ أَنْ تُوجَدَ الْعِلَلُ إِلَّا مَعَ وُجُودِ أَحْكَامِهَا ، كَمَا لَا تُوجَدُ الْعِلَلُ الْمَعْقُولَةُ إِلَّا مَعَ وُجُودِ أَحْكَامِهَا ، كَالْحَيِّ إِذَا ذُبِحَ فَمَاتَ ، لَمَّا كَانَ الذَّبْحُ عِلَّةَ الْمَوْتِ لَمْ يُوجَدِ الذَّبْحُ إِلَّا مَعَ الْمَوْتِ ، فَلَوْ كَانَتْ شِدَّةُ الْخَمْرِ عِلَّةً فِي تَحْرِيمِهِ لَوَجَبَ أَنْ لَا تُوجَدَ الشِّدَّةُ فِي وَقْتٍ إِلَّا وَالتَّحْرِيمُ مُتَعَلِّقٌ بِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَقَدْ كَانَتِ الشِّدَّةُ مَوْجُودَةً فِيهَا وَهِيَ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ ، فَإِذَا حُرِّمَتِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُهَا مَعْلُولًا بِالشِّدَّةِ ، وَتَعَلَّقَ التَّحْرِيمُ بِالِاسْمِ دُونَ الْعِلَّةِ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ فِي تَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ بِالْأَسْمَاءِ ، فَقَدْ تَعَلَّقَ بِهَا التَّحْلِيلُ فِي حَالٍ وَالتَّحْرِيمُ فِي أُخْرَى ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْأَحْكَامِ أَعْلَامًا هِيَ أَسْمَاءٌ وَمَعَانٍ ، فَلَمَّا لَمْ يَتَوَجَّهْ هَذَا الِاعْتِرَاضُ عَلَى الْأَسْمَاءِ لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَى الْمَعَانِي ، وَجَازَ أَنْ تُجْعَلَ الْمَعَانِي عَلَمًا لِلتَّحْلِيلِ فِي حَالٍ وَلِلتَّحْرِيمِ فِي أُخْرَى ، كَمَا جَازَ أَنْ تُجْعَلَ الْأَسْمَاءُ عَلَمًا لِلتَّحْلِيلِ فِي حَالٍ وَلِلتَّحْرِيمِ فِي أُخْرَى ، فَلِمَ أَبْطَلُوا بِهَذَا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَمًا لِلتَّحْرِيمِ وَلَمْ يُبْطِلُوا أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ عَلَمًا لِلتَّحْرِيمِ ؟ وَالثَّانِي : أَنَّ عِلَلَ الْعَقْلِ مُوجِبَةٌ لِأَعْيَانِهَا فَكَانَتْ أَحْكَامُهَا لَازِمَةً لِعِلَلِهَا ، وَأَحْكَامُ السَّمْعِ طَارِئَةً حَدَثَتْ عِلَلُهَا بِحُدُوثِهَا ، فَاخْتَلَفَتْ عِلَلُ الْعَقْلِ ، وَعِلَلُ السَّمْعِ لِاخْتِلَافِ مَعْلُولِهِمَا فِي أَوَائِلِهِمَا ، وَقَدِ اسْتَقَرَّتِ الْآنَ أَحْكَامُ السَّمْعِ بِارْتِفَاعِ النَّسْخِ فَسَاوَتْ أَحْكَامَ الْعَقْلِ فِي الْأَوَاخِرِ وَإِنْ خَالَفَتْهَا فِي الْأَوَائِلِ ، فَصَارَتْ أَحْكَامُ السَّمْعِ غَيْرَ مُفَارِقَةٍ لِعِلَلِهَا كَمَا كَانَتْ أَحْكَامُ الْعَقْلِ غَيْرَ مُفَارِقَةٍ لَهَا .

فَصْلٌ : [ الْقِيَاسُ وَالنَّصُّ ] : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقِيَاسَ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ تُسْتَخْرَجُ بِهِ أَحْكَامُ الْفُرُوعِ مِنَ النُّصُوصِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110