كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

فَلَمْ يَكُنْ قَصْرُ الْمَغْرِبِ ، لِأَنَّ نِصْفَهَا رَكْعَةٌ وَنِصْفُ رَكْعَةٍ ، وَرَكْعَةٌ وَنِصْفٌ لَا تَكُونُ صَلَاةً ، فَإِنْ أُضِيفَ إِلَيْهَا نِصْفُ رَكْعَةٍ صَارَتْ شَفْعًا . وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى رَكْعَةٍ لَمْ يَكُنْ شَطْرُ الْمَغْرِبِ . فَأَمَّا الصُّبْحُ فَلَمْ يَجُزْ قَصْرُهَا إِلَى رَكْعَةٍ لِأَنَّهَا مَقْصُورَةٌ ، وَالْمَقْصُورُ لَا يُقْصَرُ . وَإِنَّمَا يَصِحُّ قَصْرُ الرُّبَاعِيَّاتِ لِإِمْكَانِ تَنْصِيفِهَا بِالْقَصْرِ بَعْدَ إِتْمَامِهَا ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِي أَيَّامِ رَمَضَانَ فِي سَفَرِهِ وَيَقْضِيَ . فَإِنْ صَامَ فِيهِ أَجْزَأَهُ ، وَقَدْ صَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ فِي سَفَرٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ كُلُّ مَنْ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ فِي سَفَرِهِ جَازَ لَهُ الْفِطْرُ فِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَلِمَا رَوَى حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيُّ قَالَ : كُنْتُ رَجُلًا أَسْرُدُ الصَّوْمَ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَصُومُ فِي سَفَرِي أَوْ أُفْطِرُ ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنْ شِئْتَ فَصُمْ ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ . فَإِنْ أَفْطَرَ فِي سَفَرِهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَإِنْ صَامَ فِيهِ أَجْزَأَهُ ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ لَا يَصِحُّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ ، فَإِنْ صَامَ [ فِيهِ ] لَمْ يُجْزِهِ ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الصَّوْمُ بِرًّا لَمْ يُجْزِهِ عَنْ فَرْضِهِ لِأَنَّ الصَّوْمَ قُرْبَةٌ . وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ فَلَمَّا كَانَ عَلَى الْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ الْقَضَاءُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى الصَّائِمِ فِي السَّفَرِ الْقَضَاءُ : لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَّهَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ : إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ .

وَلِقَوْلِ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرِهِ يَصُومُ وَيُتِمُّ وَيَقْصُرُ . وَلِحَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، وَلِأَنَّ الْفِطْرَ رُخْصَةٌ ، وَالصَّوْمَ عَزِيمَةٌ ، وَفِعْلُ الْعَزِيمَةِ أَوْلَى مِنَ الْأَخْذِ بِالرُّخْصَةِ ، وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ أَوْلَى مِنَ الْفِطْرِ ، وَأَفْضَلُ : لِأَنَّ الْفِطْرَ مَضْمُونٌ بِالْقَضَاءِ ، وَفَوَاتُهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ ، فَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ " . فَهَذَا وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَرَّ بِرَجُلٍ ، وَقَدْ أَحْدَقَ بِهِ النَّاسُ ، فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ مُسَافِرٌ ، قَدْ أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ " . وَعِنْدَنَا أَنَّ مَنْ أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ في السفر فَفِطْرُهُ أَوْلَى بِهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ " ، فَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ لَمْ يَرَ الْفِطْرَ فِي السَّفَرِ جَائِزًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ نَوَى السَّفَرَ فَلَا يَقْصُرُ حَتَّى يُفَارِقَ الْمَنَازِلَ إِنْ كَانَ حَضَرِيًّا ، وَيُفَارِقُ مَوْضِعَهُ إِنْ كَانَ بَدَوِيًّا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ . إِذَا نَوَى سَفَرًا يَقْصُرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةَ ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ فِي بَلَدِهِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ قَبْلَ إِنْشَاءِ السَّفَرِ ، وَهُوَ قَوْلُ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ . قَالَ عَطَاءٌ ، وَالْأَسْوَدُ ، وَالْحَارِثُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ : إِذَا نَوَى السَّفَرَ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ فِي مَنْزِلِهِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ . قَالُوا : لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ مُقِيمًا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ ، وَهَذَا خَطَأٌ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ [ النِّسَاءِ : ] . فَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَصْرَ لِلضَّارِبِ فِي الْأَرْضِ ، وَالْمُقِيمُ لَا يُسَمَّى ضَارِبًا . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ ، فَأَتَمَّ ، وَصَلَّى الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَقَصَرَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمَ النِّيَّةَ لِسَفَرِهِ قَبْلَ الزَّوَالِ ، ثُمَّ أَتَمَّ الظُّهْرَ لِأَنَّهُ صَلَّاهَا قَبْلَ خُرُوجِهِ . وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ إِذَا دَخَلَ بُنْيَانَ بَلَدِهِ عِنْدَ قُدُومِهِ مِنْ سَفَرِهِ إِجْمَاعًا وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ الْقَصْرُ فِي ابْتِدَاءِ خُرُوجِهِ قَبْلَ مُفَارَقَةِ بُنْيَانِ بَلَدِهِ حِجَاجًا .

وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ ، وَالسَّفَرُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَسْفَارِ ، وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنِ الْوَطَنِ ، وَقِيلَ : بَلْ سُمِّيَ سَفَرًا لِأَنَّهُ يُسْفِرُ عَنْ أَخْلَاقِ السَّفَرِ ، وَالْمُقِيمُ فِي بَلَدِهِ وَإِنْ خَرَجَ عَنْ مَنْزِلِهِ لَا يُسَمَّى مُسَافِرًا : لِأَنَّ الْمُقِيمَ قَدْ يَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ لِلتَّصَرُّفِ فِي أَشْغَالِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ سَفَرًا ، فَكَذَلِكَ إِذَا انْتَقَلَ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيِ الْبَلَدِ إِلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ ضابط السفر لَمْ يُسَمَّ مُسَافِرًا ، لِأَنَّهُ قَدْ نُسِبَ إِلَى الْبَلَدِ بِالْمُقَامِ فِي الطَّرَفِ الَّذِي انْتَقَلَ إِلَيْهِ كَمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ بِالْمُقَامِ فِي الطَّرَفِ الَّذِي انْتَقَلَ عَنْهُ ، وَإِذَا لَمْ يَنْطَلِقِ اسْمُ السَّفَرِ عَلَيْهِ قَبْلَ مُفَارَقَةِ بَلَدِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ لِعَدَمِ الشَّرْطِ الْمُبِيحِ لَهُ . فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ قَدْ يَصِيرُ مُقِيمًا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ ، فَغَلَطٌ بَلْ هُمَا مُتَّفِقَانِ فِي الْمَعْنَى ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِقَامَةِ مِنَ الْفِعْلِ مِعَ النِّيَّةِ ، وَهُوَ اللُّبْثُ : لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ سَائِرًا مَاشِيًا ، أَوْ رَاكِبًا ، أَوْ فِي سَفِينَةٍ ، وَنَوَى الْإِقَامَةَ صلاة المسافر كَانَتِ النِّيَّةُ لَغْوًا ، وَجَازَ لَهُ الْقَصْرُ حَتَّى يَنْوِيَ الْإِقَامَةَ مَعَ اللُّبْثِ ، فَكَذَلِكَ فِي السَّفَرِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ قَبْلَ مُفَارَقَةِ بَلَدِهِ ، فَإِنْ كَانَ بَلَدُهُ ذَا سُورٍ فَفَارَقَ سُورَهُ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سُورٌ فَفَارَقَ آخِرَ بُنْيَانِهِ ، وَإِنْ قَلَّ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ : إِنْ كَانَ سَفَرُهُ نَهَارًا لَمْ يَقْصُرْ حَتَّى يَدْخُلَ اللَّيْلُ ، وَإِنْ كَانَ لَيْلًا لَمْ يَقْصُرْ حَتَّى يَدْخُلَ النَّهَارُ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ مَعْ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، مَا رُوِيَ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ بِالْعَقِيقِ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ ، وَيَقْصُرُ بِذِي طُوًى إِذَا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ . فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْقَصْرِ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبُنْيَانِ للحضري فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُسَافِرِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَضَرِيًّا ، أَوْ بَدَوِيًّا . فَأَمَّا الْحَضَرِيُّ فَإِنْ كَانَ يَسْكُنُ بَلَدًا ، أَوْ قَرْيَةً لَمْ يَقْصُرْ إِلَّا بَعْدَ مُفَارَقَةِ بُنْيَانِهِ وَالْخُرُوجِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ اتِّصَالِ الْبُنْيَانِ بِالْعُمْرَانِ وَبَيْنَ اتِّصَالِهِ بِالْخَرَابِ لِأَنَّ بَيْنَ جَامِعِ الْبَصْرَةِ ، وَمِرْبَدِهَا وَالْعَقِيقِ خَرَابَاتٍ دَارِسَةً قَدْ غَطَّى سِرْبَهَا وَكُلَّ مَنْ حَوَاهُ سُورُهَا مُقِيمٌ بِالْبَصْرَةِ وَمَنْسُوبٌ إِلَيْهَا . فَإِذَا خَرَجَ مِنْ سُورِ الْبَلَدِ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ . وَإِنِ اتَّصَلَ سُورُ الْبَلَدِ بِبُنْيَانِ الْبَسَاتِينِ كَمَنْ خَرَجَ مِنَ الْبَصْرَةِ مِنْ دَرْبِ سُلَيْمَانَ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ ، وَإِنْ كَانَتْ بُنْيَانُ الْبَسَاتِينِ مُتَّصِلًا بِالسُّورِ ،

لِأَنَّ هَذِهِ الْبُنْيَانَ لَمْ تُبْنَ لِلِاسْتِيطَانِ ، وَإِنَّمَا بُنِيَتْ لِلِانْتِفَاعِ ، وَالِارْتِفَاقِ فَهِيَ كَـ " أَرْضِ الْبَسَاتِينِ " ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُقِيمًا إِذَا كَانَ فِي بُنْيَانٍ يَلْبَثُ فِيهِ لِلِاسْتِيطَانِ أَهْلُ الْبَلَدِ . فَأَمَّا إِذَا كَانَ فِي قَرْيَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِقَرْيَةٍ أُخْرَى المسافر . فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ انْفِصَالٌ ، وَلَوْ كَذِرَاعٍ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ إِذَا فَارَقَ بُنْيَانَ قَرْيَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا انْفِصَالٌ ، وَاتَّصَلَ بُنْيَانُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ حَتَّى يُفَارِقَ مَنَازِلَ الْقَرْيَتَيْنِ ، لِأَنَّهُمَا بِالِاتِّصَالِ كَالْبَلَدِ الْجَامِعِ لِقَبِيلَتَيْنِ . فَأَمَّا أَهْلُ الْبَسَاتِينِ ، وَمَكَانِ الْقُصُورِ كَسَاكِنِي دِجْلَةَ ، وَالْبَصْرَةِ ، وَأَنْهَارِهَا الَّذِينَ لَا يَجْمَعُهُمْ بَلَدٌ ، وَلَا تَضُمُّهُمْ قَرْيَةٌ حكم قصرهم للصلاة ، وَإِنَّمَا يَسْتَوْطِنُونَ قُصُورَ الْبَسَاتِينِ فَلَهُمُ الْقَصْرُ إِذَا فَارَقُوا الْمَوْضِعَ الْمَعْرُوفَ بَيْنَهُمْ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْبَدَوِيُّ بداية القصر بالنسبة له فَلَهُ حَالَانِ . أَحَدُهُمَا : فِي صَحْرَاءَ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِي وَادٍ ، فَإِنْ كَانَ فِي صَحْرَاءَ اعْتُبِرَتْ حَالُ الْخِيَمِ ، فَإِنْ كَانَتْ حَيًّا وَاحِدًا وَبَطْنًا مُنْفَرِدًا لَمْ يَقْصُرْ حَتَّى يُفَارِقَ جَمِيعَ خِيَامِ الْحَيِّ ، سَوَاءٌ اجْتَمَعَتْ أَوْ تَفَرَّقَتْ ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْحَيِّ دَارٌ لِأَهْلِهِ ، وَإِنْ كَانَتِ الْخِيَمُ أَحْيَاءً مُخْتَلِفَةً وَبُطُونًا مُتَفَرِّقَةً ، فَإِنْ تَمَيَّزَتْ خِيَمُهُمْ ، فَكَانَ لِكُلِّ بَطْنٍ مِنْهُمْ حَيٌّ مُنْفَرِدٌ ، وَخِيَامٌ مُتَمَيِّزَةٌ ، قَصَرَ إِذَا فَارَقَ خِيَامَ قَوْمِهِ ، وَبُيُوتَ حَيِّهِ ، وَإِنِ اخْتَلَطَتِ الْبُطُونُ ، وَلَمْ تَتَمَيَّزِ الْخِيَامُ لَمْ يَقْصُرْ حَتَّى يُفَارِقَ الْخِيَامَ كُلَّهَا فَإِذَا فَارَقَهَا قَصَرَ حِينَئِذٍ كَمَا قُلْنَا فِي الْقَرْيَتَيْنِ إِذَا اتَّصَلَتَا . فَإِنْ كَانَ فِي وَادٍ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْلُكَ طُولَهُ قَصَرَ إِذَا فَارَقَ خِيَامَ قَوْمِهِ كَالصَّحْرَاءِ ، وَأَنْ يَسْلُكَ عَرْضَهُ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَمْ يَقْصُرْ حَتَّى يَقْطَعَ عَرْضَ الْوَادِي ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَ الْجَوَابَ فِي ظَاهِرِهِ ، وَمَنَعَهُ مِنَ الْقَصْرِ حَتَّى يَقْطَعَ عَرْضَ الْوَادِي ، وَإِنْ فَارَقَ خِيَامَ قَوْمِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ ، وَتَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ قَالَ : لِأَنَّ عَرْضَ الْوَادِي دَارٌ لَهُمْ ، أَوْ كَالدَّارِ لَهُمْ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : يَقْصُرُ إِذَا فَارَقَ خِيَامَ قَوْمِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ ، وَحَمَلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ حَتَّى يَقْطَعَ عَرْضَ الْوَادِي : إِذَا كَانَتْ خِيَامُ قَوْمِهِ مُتَّصِلَةً بِعَرْضِهِ .

فَصْلٌ : إِذَا فَارَقَ الْمُسَافِرُ بُنْيَانَ بَلَدِهِ ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مَنْزِلِهِ لِحَاجَةٍ حكم قصره للصلاة ذَكَرَهَا ، أَوْ أَمْرٍ عَرَضِيٍّ ، وَأَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ فِي مَنْزِلِهِ أَوْ بَلَدِهِ حَتَّى يُفَارِقَ آخِرَ بُنْيَانِهِ لِأَنَّهُ اسْتَقَرَّ بِرُجُوعِهِ فِي دَارِ إِقَامَتِهِ ، فَلَوْ سَافَرَ مِنَ الْبَصْرَةِ ، وَهِيَ وَطَنُهُ إِلَى الْكُوفَةِ يَنْوِي الْمُقَامَ بِهَا فَحِينَ قَرُبَ مِنَ الْكُوفَةِ بَدَا لَهُ مِنَ الْمُقَامِ شَيْءٌ ، وَأَرَادَ الِاجْتِيَازَ فِيهَا إِلَى بَلَدٍ آخَرَ جَازَ أَنْ يَقْصُرَ بِالْكُوفَةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لَهُ دَارُ إِقَامَةٍ ، فَلَوْ رَجَعَ إِلَى الْبَصْرَةِ ، وَهِيَ وَطَنُهُ يُرِيدُ الِاجْتِيَازَ فِيهَا إِلَى بَلَدٍ آخَرَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ بِالْبَصْرَةِ ، وَإِنْ كَانَ غَيَّرَ الْمُقَامَ فِيهَا : لِأَنَّهَا دَارُ إِقَامَتِهِ . فَأَمَّا إِذَا خَرَجَ مِنْ بَلَدِهِ بِنِيَّةِ الْحَجِّ ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فِي سَفَرِهِ مِنَ التَّوَجُّهِ فِي حَجِّهِ صلاة المسافر لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ

يَقْصُرَ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي عَيَّنَ النِّيَّةَ فِيهِ حَتَّى يُفَارِقَهُ لِأَنَّهُ بِتَغَيُّرِ النِّيَّةِ صَارَ مُقِيمًا ، وَالْمُقِيمُ إِذَا نَوَى السَّفَرَ صلاة المسافر لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ إِلَّا بَعْدَ مُفَارَقَةِ مَوْضِعِهِ ، فَإِذَا فَارَقَ مَوْضِعَهُ وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَلَدِهِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ جَازَ أَنْ يَقْصُرَ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ نَوَى السَّفَرَ ، فَأَقَامَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ أَتَمَّ الصَّلَاةَ ، وَاحْتَجَّ فِيمَنْ أَقَامَ أَرْبَعَةً يُتِمُّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يُقِيمُ الْمُهَاجِرُ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا وَبِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ بِمِنًى ثَلَاثًا يَقْصُرُ ، وَقَدِمَ مَكَّةَ ، فَأَقَامَ قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى عَرَفَةَ ثَلَاثًا يَقْصُرُ ، وَلَمْ يَحْسِبِ الْيَوْمَ الَّذِي قَدِمَ فِيهِ : لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِ سَائِرًا ، وَلَا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ الَّذِي خَرَجَ فِيهِ سَائِرًا ، وَأَنَّ عُمَرَ أَجْلَى أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنَ الْحِجَازِ ، وَضَرَبَ لِمَنْ يَقْدَمُ مِنْهُمْ تَاجِرًا مُقَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، فَأَشْبَهَ مَا وَصَفْتُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُقَامَ السَّفَرِ ، وَمَا جَاوَزَهُ مُقَامَ الْإِقَامَةِ ، وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ : مَنْ أَقَامَ أَرْبَعًا أَتَمَّ . وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ : إِقَامَةَ أَرْبَعٍ أَتَمَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . وَأَمَّا الْمُسَافِرُ إِذَا قَصَدَ بَلَدًا ، وَكَانَ الْبَلَدُ غَايَةَ سَفَرٍ قصره للصلاة ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ مَتَى دَخَلَ ذَلِكَ الْبَلَدَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ لِأَنَّ سَفَرَهُ قَدِ انْقَطَعَ بِدُخُولِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْمُقَامَ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ إِنِ اسْتَطَابَ بَلَدًا فِي طَرِيقِهِ فَنَوَى الِاسْتِيطَانَ فِيهِ حكم قصره لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَنْتَهِ سَفَرُهُ ، وَلَا نَوَى الِاسْتِيطَانَ فِيهِ لَكِنْ نَوَى أَنْ يُقِيمَ فِيهِ مُدَّةً صلاة المسافر ، فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمُدَّةُ دُونَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ ، وَإِنْ نَوَى مُقَامَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سِوَى الْيَوْمِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ صلاة المسافر ، وَالْيَوْمِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَقْصُرُ إِلَّا أَنْ يَجْمَعَ مُقَامَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ الرَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ، وَخَرَجَ مِنْهَا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ ، وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّامِنُ ، وَكَانَ يَقْصُرُ بِمَكَّةَ . فَعُلِمَ أَنَّ الْأَرْبَعَةَ لَيْسَتْ حَدًّا لِمُدَّةِ الْإِقَامَةِ . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ تَحْدِيدٌ لِمُدَّةِ الْإِقَامَةِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا إِتْمَامُ الصَّلَاةِ ، وَلَا يُصَارُ إِلَيْهَا إِلَّا بِالتَّوْقِيفِ ، وَالْإِجْمَاعِ ، وَالتَّوْقِيفُ مَعْدُومٌ ، وَالْإِجْمَاعُ حَاصِلٌ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَمَا دُونَهُ مُخْتَلِفٌ فَلَمْ يَجْعَلْهُ مُدَّةً لِلْإِقَامَةِ قَالُوا : وَلِأَنَّهَا مُدَّةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا إِلْزَامُ الصَّلَاةِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَقَلُّهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا قِيَاسًا عَلَى أَقَلِّ الطُّهْرِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ

[ النِّسَاءِ : ] . فَأَبَاحَ الْقَصْرَ بِشَرْطِ الضَّرْبِ ، وَالْعَازِمُ عَلَى إِقَامَةِ أَرْبَعَةٍ غَيْرُ ضَارِبٍ فِي الْأَرْضِ ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَسْتَبِيحَ الْقَصْرَ ، وَلِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ مُدَّةُ الْإِقَامَةِ ، وَمَا دُونَهَا مُدَّةُ السَّفَرِ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حِينَ أَوْجَبَ الْهِجْرَةَ حَرَّمَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ الْمُقَامَ بِمَكَّةَ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يُقِيمُ الْمُهَاجِرُ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا ، فَاسْتَثْنَى الثَّلَاثَ ، وَجَعَلَهَا مُدَّةَ السَّفَرِ ، فَعُلِمَ أَنَّ مَا زَادَ عَلَيْهَا مُدَّةُ الْإِقَامَةِ ، وَأَجْلَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَهْلَ الذِّمَّةِ عَنِ الْحِجَازِ ، وَجَعَلَ لِمَنْ قَدِمَ مِنْهُمْ تَاجِرًا مُقَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، فَدَلَّتِ السُّنَّةُ ، وَالْأَثَرُ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ حَدُّ السَّفَرِ ، وَمَا فَوْقَهَا حَدُّ الْإِقَامَةِ ، وَلِأَنَّهَا أَيَّامٌ لَا يَسْتَوْعِبُهَا الْمُسَافِرُ بِالْمَسْحِ الْوَاحِدِ فَلَمْ يَجُزِ الْقَصْرُ إِذَا أَقَامَهَا كَالْخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَلِأَنَّهَا أَيَّامٌ تَزِيدُ عَلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا مُسَافِرًا ، وَلَا عَازِمًا كَالْخَمْسَةَ عَشَرَ ، وَلِأَنَّهَا مُدَّةٌ لَا يَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ أَنْ يُقِيمَهَا فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَصَارَتْ كَالشَّهْرِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ . فَغَيْرُ حُجَّةٍ لِأَنَّا نُجِيزُ الْقَصْرَ أَرْبَعًا ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصَرَ ثَلَاثًا سِوَى يَوْمِ دُخُولِهِ وَيَوْمِ خُرُوجِهِ ، فَبَطَلَ اسْتِدْلَالُهُمْ بِهِ . أَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ تَحْدِيدَ مُدَّةِ الْقَصْرِ لَا يُصَارُ إِلَيْهَا إِلَّا بِتَوَقُّفٍ ، أَوْ إِجْمَاعٍ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي الْمُسَافِرِ إِلَى كَمْ يَقْصُرُ ؟ وَإِجْمَاعُنَا وَإِيَّاهُمْ مُنْعَقِدٌ عَلَى جَوَازِهِ فِي الْأَرْبَعِ وَالْخِلَافِ مِنْهُ ، وَفِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا فَلَمْ يَجُزِ الْقَصْرُ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا إِلَّا بِتَوْقِيفٍ ، أَوْ إِجْمَاعٍ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ مَعَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ تَوْقِيفًا . وَهُوَ قَوْلُهُ : " يُقِيمُ الْمُهَاجِرُ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا " . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى أَقَلِّ الطُّهْرِ ، فَلَا يَصِحُّ ، لِأَنَّ أَقَلَّ الطُّهْرِ دُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَهُوَ أَنْ تَطْهُرَ مِنْ حَيْضِهَا ، ثُمَّ تَضَعُ حَمْلَهَا بَعْدَ يَوْمٍ ، وَتَرَى دَمَ النِّفَاسِ ، فَيَكُونُ طُهْرُهَا الْيَوْمَ الَّذِي بَيْنَ حَيْضِهَا وَوَضْعِهَا ، وَإِنَّمَا أَقَلُّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا إِذَا كَانَ بَيْنَ حَيْضَيْنِ عَلَى إِلْزَامِ الصَّلَاةِ ، وَإِتْمَامِهَا ، لَا يَتَعَلَّقُ بِمُدَّةٍ ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَزْمِ عَلَى أَنْ لَا يُعَدَّ . وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَكُلُّ مَنْ نَوَى مُقَامَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ كَوَامِلَ سِوَى يَوْمِ دُخُولِهِ ، وَيَوْمِ خُرُوجِهِ مدة الإقامة التي تقطع القصر فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ إِتْمَامُ الصَّلَاةِ ، وَإِنَّمَا يُحْسَبُ عَلَيْهِ يَوْمُ دُخُولِهِ ، وَيَوْمُ خُرُوجِهِ لِأَنَّ السَّفَرَ يَجْمَعُ السَّيْرَ ، وَالنُّزُولَ ، وَالتِّرْحَالَ ، فَلَمْ يُحْسَبْ عَلَيْهِ يَوْمُ دُخُولِهِ : لِأَنَّهُ فِيهِ نَازِلٌ ، وَلَا يَوْمُ خُرُوجِهِ لِأَنَّهُ فِيهِ رَاحِلٌ ، وَلِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَا يَتَّصِلُ مَسِيرُهُ فِي جَمِيعِ يَوْمِهِ ، وَإِنَّمَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِالسَّيْرِ فِي بَعْضِهِ ، وَالْمُنَاخُ وَالِاسْتِرَاحَةُ فِي بَعْضِهِ ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يُحْتَسَبْ يَوْمُ دُخُولِهِ ، وَيَوْمُ خُرُوجِهِ لِوُجُودِ السَّيْرِ فِي بَعْضِهِ ، فَلَوْ دَخَلَ الْبَلَدَ لَيْلًا ، وَنَوَى مُقَامَ أَرْبَعَةٍ ، فَقَدْ حَكَى أَبُو حَامِدٍ ، عَنِ الدَّارِكِيِّ أَنَّهُ لَا

يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ لَيْلَةُ دُخُولِهِ ، وَلَا الْيَوْمُ الَّذِي بَعْدَهَا ، وَإِنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ فِي " الْأُمِّ " عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : وَإِذَا نَوَى مُقَامَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا أَتَمَّ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّيْلَةَ تَابِعَةٌ لِيَوْمِهَا ، وَالْيَوْمَ تَابِعٌ لَهَا ، فَلَمَّا لَمْ يَحْتَسِبْ لَيْلَةَ الدُّخُولِ لِوُجُودِ السَّيْرِ فِي بَعْضِهَا لَمْ يَحْتَسِبِ الْيَوْمَ الَّذِي بَعْدَهَا لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِذَا جَاوَزَ أَرْبَعًا لِحَاجَةٍ ، أَوْ مَرَضٍ ، وَهُوَ عَازِمٌ عَلَى الْخُرُوجِ أَتَمَّ ، وَإِنْ قَصَرَ أَعَادَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي خَوْفٍ ، أَوْ حَرْبٍ فَيَقْصُرُ قَصْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ لِحَرْبِ هَوَازِنَ سَبْعَ عَشْرَةَ ، أَوْ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ . ( وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ ) : إِنْ أَقَامَ عَلَى شَيْءٍ يَنْجَحُ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ أَنَّهُ لَا يَزَالُ يَقْصُرُ مَا لَمْ يَجْمَعْ مُكْثًا ، أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ سَبْعَ عَشْرَةَ ، أَوْ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ يَقْصُرُ حَتَّى خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : وَمَشْهُورٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَقَامَ بِأَذَرْبِيجَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَقْصُرُ يَقُولُ : أَخْرُجُ الْيَوْمَ وَأَخْرُجُ غَدًا . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : فَإِذَا قَصَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرْبِهِ سَبْعَ عَشْرَةَ ، أَوْ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ ، ثُمَّ ابْنُ عُمَرَ ، وَلَا عَزْمَ عَلَى وَقْتِ إِقَامَةٍ ، فَالْحَرْبُ وَغَيْرُهَا سَوَاءٌ عِنْدِي فِي الْقِيَاسِ وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَوْ قَالَهُ قَائِلٌ كَانَ مَذْهَبًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا دَخَلَ الْمُسَافِرُ بَلَدًا ، أَوْ قَرْيَةً ، أَوْ نَزَلَ أَرْضًا ، أَوْ قَبِيلَةً ، وَلَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ بَلْ كَانَ يَنْتَظِرُ حَالًا يَرْجُوهَا ، أَوْ حَاجَةً يُنْجِزُهَا ، ثُمَّ يَخْرُجُ ، وَكَانَ يَرْجُو حُصُولَهَا فِي قَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ ، فَهَذَا لَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُحَارِبًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُحَارِبٍ : فَإِنْ كَانَ مُحَارِبًا يَنْتَظِرُ أَنْ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ، وَيَخْرُجَ حق القصر له فَلَهُ أَنْ يَقْصُرَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ لِحَرْبِ هَوَازِنَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ . فَإِذَا جَاوَزَ ذَلِكَ فَفِي جَوَازِ الْقَصْرِ قَوْلَانِ : نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي " الْإِمْلَاءِ " : أَحَدُهُمَا : يَقْصُرُ مَا دَامَتِ الْحَرْبُ قَائِمَةً ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا قَصَرَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ لِبَقَاءِ الْحَرْبِ ، وَلِأَنَّهُ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ ، أَمَّا ابْنُ عُمَرَ ، فَأَقَامَ بِأَذْرَبِيجَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ ، وَأَمَّا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَقَامَ بِنَيْسَابُورَ سَنَتَيْنِ يَقْصُرُ ، وَأَمَّا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ فَأَقَامَ بِفَارِسَ سَنَتَيْنِ

وَقَصَرَ ، وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ ، فَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ : إِنَّا نَكُونُ عَلَى حَرْبٍ ، فَيَكْثُرُ مُقَامُنَا ، أَفَنَقْصُرُ ؟ فَقَالَ : اقْصُرْ ، وَإِنْ بَقِيتَ عَشْرَ سِنِينَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَقْصُرُ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا : لِأَنَّ إِتْمَامَ الصَّلَاةِ عَزِيمَةٌ ، وَالْقَصْرَ رُخْصَةٌ فِي السَّفَرِ ، وَالْمُقِيمُ غَيْرُ مُسَافِرٍ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ إِلَّا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي قَامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهَا فَكَانَ مَا سِوَاهَا عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ فِي وُجُوبِ الْإِتْمَامِ ، وَإِنَّمَا قَصَرَ ابْنُ عُمَرَ بِأَذْرَبِيجَانَ : لِأَنَّهُ إِقْلِيمٌ يَجْمَعُ بُلْدَانًا شَتَّى وَقُرًى مُخْتَلِفَةً كَالْعِرَاقِ ، فَكَانَ يَنْتَقِلُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ ، وَمِنْ قَرْيَةٍ إِلَى قَرْيَةٍ ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ يَقْصُرُ ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْمُحَارِبِ إِذَا لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ صلاة المسافر ، فَأَمَّا إِنْ نَوَى فِي الْحَرْبِ إِقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ صلاة المسافر فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَصَحُّهُمَا : لَا يَقْصُرُ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ : لِأَنَّهَا مُدَّةُ الْإِقَامَةِ ، وَقَدْ نَوَاهَا ، وَصَارَ بِهَا مُقِيمًا ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَقْصُرَ إِذَا كَانَ مُقِيمًا ، لِأَنَّهُ مُحَارِبٌ لَجَازَ لِلْمُسْتَوْطِنِ فِي بَلَدِهِ أَنْ يَقْصُرَ إِذَا كَانَ مُحَارِبًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَقْصُرُ : لِأَنَّ أَعْذَارَ الْحَرْبِ تُخَالِفُ مَا سِوَاهَا ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَقْصُرُ إِلَى سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا المسافر المحارب . وَالثَّانِي : يَقْصُرُ مَا دَامَتِ الْحَرْبُ قَائِمَةً . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يَكُونَ مُحَارِبًا ، وَإِنَّمَا يَنْتَظِرُ بِمُقَامِهِ خُرُوجَ قَافِلَةٍ تِجَارِيَّةٍ ، أَوْ بَيْعَ مَتَاعٍ ، أَوْ زَوَالَ مَرَضٍ ، ثُمَّ يَخْرُجُ ، فَهَذَا يَقْصُرُ تَمَامَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ كَوَامِلَ سِوَى يَوْمِ دُخُولِهِ . وَإِنَّمَا قُلْنَا يَقْصُرُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ لِأَنَّ الْإِتْمَامَ لَا يَجِبُ إِلَّا بِالْعَزْمِ عَلَى الْإِقَامَةِ ، أَوْ بِوُجُودِ فِعْلِ الْإِقَامَةِ . فَإِذَا لَمْ يَعْزِمْ عَلَى الْإِقَامَةِ قَصَرَ إِلَّا أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ فِعْلُ الْإِقَامَةِ ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ . وَإِذَا أَكْمَلَهَا سِوَى يَوْمِ دُخُولِهِ فَهَلْ يَقْصُرُ أَمْ لَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ : مِنْهَا قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ : وَقَوْلٌ ثَالِثٌ مُخَرَّجٌ . أَحَدُ الْأَقَاوِيلِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ : لِأَنَّ فِعْلَ الْإِقَامَةِ آكَدُ مِنَ الْعَزْمِ عَلَى الْمُقَامِ لِأَنَّ الْفِعْلَ إِذَا وُجِدَ تَحَقَّقَ ، وَقَدْ يَعْزِمُ عَلَى الْمُقَامِ ، وَلَا يَصِيرُ مُقِيمًا ، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ بِالْعَزْمِ عَلَى إِقَامَةِ أَرْبَعٍ يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ كَانَ بِإِقَامَةِ أَرْبَعَةٍ أَوْلَى أَنْ يَلْزَمَهُ الْإِتْمَامُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي " الْإِمْلَاءِ " : يَقْصُرُ إِلَى سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصَرَ هَذِهِ الْمُدَّةَ تَوَقُّعًا لِانْجِلَاءِ الْحَرْبِ عِنْدَ اشْتِغَالِهِ بِهَا . وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي غَيْرِ الْمُحَارِبِ إِذَا تَوَقَّعَ إِنْجَازَ أَمْرِهِ وَتَقَضِّيَ أَشْغَالِهِ .

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : وَهُوَ تَخْرِيجُ الْمُزَنِيِّ : لَهُ أَنْ يَقْصُرَ مَا كَانَ مُقِيمًا عَلَى تَنْجِيزِ أَمْرِهِ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قِيَاسًا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُحَارِبِ بِعِلَّةٍ أَنَّهُ مُسَافِرٌ عَازِمًا عَلَى الرَّحِيلِ عِنْدَ تَنْجِيزِ أَمْرِهِ فَجَازَ لَهُ الْقَصْرُ كَـ " الْمُحَارِبِ " ، أَوْ قِيَاسًا عَلَى مَا دُونَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ . فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْمُقِيمِ لِعُذْرٍ يَرْجُو زَوَالَهُ صلاة المسافر . فَأَمَّا إِذَا أَقَامَ غَيْرَ مُحَارِبٍ ، وَلَا مَشْغُولٍ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فِي إِقَامَةٍ ، وَلَا رَحِيلٍ فَهَذَا يَقْصُرُ تَمَامَ أَرْبَعٍ ، ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ إِقَامَتَهُ بَعْدَ أَرْبَعٍ أَوْكَدُ مِنْ عَزْمِهِ عَلَى مُقَامِ أَرْبَعٍ لِأَنَّهُ قَدْ حَقَّقَ ذَلِكَ بِفِعْلِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا مَرَّ الْمُسَافِرُ فِي طَرِيقِهِ بِبَلَدٍ لَهُ فِيهَا دَارٌ ، أَوْ مَالٌ ، أَوْ ذُو قَرَابَةٍ صلاة المسافر جَازَ لَهُ الْقَصْرُ فِيهِ ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصَرَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مُدَّةَ مُقَامِهِ بِمَكَّةَ ، وَمَعَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ ، وَلَهُمْ بِمَكَّةَ دُورٌ ، وَمَالٌ ، وَقَرَابَةٌ ، فَإِنْ دَخَلَ بَلَدًا ، أَوْ نَوَى إِنْ لَقِيَ فُلَانًا أَنْ يُقِيمَ فِيهِ شَهْرًا صلاة المسافر ، فَإِنْ لَقِيَهُ قَبْلَ أَرْبَعَةٍ صَارَ مُقِيمًا وَوَجَبَ عَلَيْهِ إِتْمَامُ الصَّلَاةِ لِأَنَّ سَفَرَهُ قَدِ انْتَهَى بِلِقَائِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ بَعْدَ انْتِهَاءِ سَفَرِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَلْقَهُ وَلَا رَآهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَهَا تَمَامَ أَرْبَعَةٍ ، ثُمَّ يُتِمُّ فِيمَا بَعْدُ . وَلَوْ سَافَرَ فِي ضَالَّةٍ لَهُ ، أَوْ عَبْدٍ آبِقٍ لِيَرْجِعَ أَيْنَ وَجَدَهُ ، فَبَلَغَ غَايَةً تُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ فِي سَفَرِهِ بُلُوغَ هَذِهِ الْغَايَةِ ، وَإِنَّمَا عَلَّقَهُ بِوُجُودِ الضَّالَّةِ ، وَجَعَلَ مَوْضِعَ وُجُودِهَا غَايَةَ سَفَرِهِ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَجِدَهَا مَعَ السَّاعَاتِ ، فَصَارَ كَمَنْ سَافَرَ إِلَى مَكَانٍ لَا يُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ ، فَإِذَا وَجَدَ ضَالَّتَهُ وَأَرَادَ الرُّجُوعَ إِلَى بَلَدِهِ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ إِذَا أَخَذَ فِي الرُّجُوعِ ، وَكَانَتِ الْمَسَافَةُ يُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ حِينَ سَافَرَ فِي طَلَبِ ضَالَّتِهِ ، وَرَدِّ آبِقِهِ نَوَى الْقَصْرَ إِلَى بَلَدٍ تُقْصَرُ إِلَى مِثْلِهِ الصَّلَاةُ كَانَ لَهُ الْقَصْرُ ، فَإِنْ وَجَدَ ضَالَّتَهُ فِي الطَّرِيقِ وَعَزَمَ عَلَى الرُّجُوعِ كَانَ كَالْمُسَافِرِ إِذَا بَدَا لَهُ فِي طَرِيقِهِ مِنْ إِتْمَامِ سَفَرِهِ . فَلَوْ كَانَ سَائِرًا فِي الْبَحْرِ فَمَنَعَتْهُ الرِّيحُ مِنَ الْخُطُوفِ ، وَالسَّيْرِ حَتَّى رَسَتِ السَّفِينَةُ مَكَانَهَا قصر المسافر فى تجارة ، أَوْ أَقَامَتِ انْتِظَارَ السُّكُونِ لِلرِّيحِ وَإِمْكَانَ السَّيْرِ ، فَهَذَا فِي حُكْمِ التَّاجِرِ إِذَا أَقَامَ لِبَيْعِ مَتَاعِهِ ، أَوْ إِنْجَازِهِ أَمْرَهُ ، فَلَهُ أَنْ يَقْصُرَ تَمَامَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ كَوَامِلَ ، وَفِيمَا بَعْدَ الْأَرْبَعِ عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ . وَإِنِ اسْتَقَامَتْ لَهُمُ الرِّيحُ فَسَارَتِ السَّفِينَةُ عَلَى مَكَانِهَا جَازَ لَهُ الْقَصْرُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ سَيْرِهَا ، فَإِنْ رَجَعَتِ الرِّيحُ فَرَكَدَتْ إِلَى مَوْضِعِهَا الْأَوَّلِ قَصَرَ تَمَامَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ، ثُمَّ فِيمَا بَعْدُ عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ : لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَحْبِسَهَا الرِّيحُ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ أَوْ فِي غَيْرِهِ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ فِي " الْأُمِّ " .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ خَرَجَ فِي آخِرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ قَصَرَ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْوَقْتِ لَمْ يَقْصُرْ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ أَنْ يُتِمَّ ، لِأَنَّهُ يَقُولُ إِنْ أَمْكَنَتِ الْمَرْأَةَ الصَّلَاةُ فَلَمْ تُصَلِّ حَتَّى حَاضَتْ ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهَا لَزِمَتْهَا ، وَإِنْ لَمْ تُمْكِنْ لَمْ تَلْزَمْهَا ، فَكَذَلِكَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُهَا

وَهُوَ مُقِيمٌ لَزِمَتْهُ صَلَاةُ مُقِيمٍ ، وَإِنَّمَا تَجِبُ عِنْدَهُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ ، وَالْإِمْكَانِ ، وَإِنَّمَا وَسِعَ لَهُ التَّأْخِيرُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا الرَّجُلُ الْمُقِيمُ لَا يَخْلُو حَالُ سَفَرِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : إِمَّا أَنْ يُسَافِرَ قَبْلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ ، أَوْ يُسَافِرَ بَعْدَ الْوَقْتِ ، أَوْ يُسَافِرَ فِي الْوَقْتِ ، فَإِنْ سَافَرَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ فِي سَفَرِهِ فَلَهُ قَصْرُ تِلْكَ الصَّلَاةِ إِجْمَاعًا ، وَإِنْ سَافَرَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَجَبَ عَلَيْهِ إِتْمَامُ تِلْكَ الصَّلَاةِ فِي سَفَرِهِ فَلَهُ قَصْرُ تِلْكَ الصَّلَاةِ إِجْمَاعًا ، وَإِنْ سَافَرَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَجَبَ عَلَيْهِ إِتْمَامُ تِلْكَ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْصُرَهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ . وَإِنْ سَافَرَ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُسَافِرَ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَقَبْلَ إِمْكَانِ أَدَائِهَا فَلَهُ أَنْ يَقْصُرَهَا فِي سَفَرِهِ . لَا خِلَافَ بَيْنِ أَصْحَابِنَا إِلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يَحْيَى الْبَلْخِيِّ . وَإِنَّمَا جَازَ لَهُ الْقَصْرُ ؟ لِأَنَّهُ أَدَّى الصَّلَاةَ فِي وَقْتِهَا مُسَافِرًا فَجَازَ لَهُ الْقَصْرُ قِيَاسًا عَلَى مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ فِي سَفَرِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُسَافِرَ وَقَدْ مَضَى مِنَ الْوَقْتِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ ، مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَكَافَّةِ أَصْحَابِنَا : لَهُ أَنْ يَقْصُرَهَا ، وَلَا يَلْزَمُهُ إِتْمَامُهَا ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ : عَلَيْهِ إِتْمَامُهَا ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ قَصْرُهَا تَعَلُّقًا بِشَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِدُخُولِ الْوَقْتِ ، وَإِمْكَانِ الْأَدَاءِ ، فَإِذَا أَمْكَنَهُ الْأَدَاءُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَهُوَ مُقِيمٌ ، فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ تَامَّةً ، وَإِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ تَامَّةً لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَالَ : الْحَيْضُ أَقْوَى فِي إِسْقَاطِ الصَّلَاةِ مِنَ السَّفَرِ : لِأَنَّهُ يُسْقِطُ الصَّلَاةَ بِأَسْرِهَا ، وَالسَّفَرَ يُسْقِطُ شَطْرَهَا ، فَلَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ الْحَيْضَ إِذَا طَرَأَ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ ، وَإِمْكَانِ الْأَدَاءِ وَجَبَتِ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا ، وَلَمْ يَكُنِ الْحَيْضُ مُغَيِّرًا لِحُكْمِهَا ، كَانَ حُدُوثُ السَّفَرِ بَعْدَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ أَوْلَى أَنْ لَا يُغَيِّرَ حُكْمَ الصَّلَاةِ . وَهَذَا خَطَأٌ وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ [ النِّسَاءِ : ] . وَلِأَنَّهُ سَافَرَ يَحِلُّ لِمِثْلِهِ الْقَصْرُ فَوَجَبَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُؤَدِّيًا لِلصَّلَاةِ أَنْ يَجُوزَ لَهُ قَصْرُهَا ، أَصْلُهُ إِذَا سَافَرَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الصَّلَاةِ أَوَّلَ الْوَقْتِ ، وَاسْتِقْرَارَ وُجُوبِهَا بِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ ، وَقَدْرِ الصَّلَاةِ ، وَكَيْفِيَّةِ أَدَائِهَا مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْأَدَاءِ . أَلَا تَرَى لَوْ زَالَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَبْدٍ ، أَوْ مَرِيضٍ صلاة الجمعة كَانَ فَرْضُهُمَا الظُّهْرُ أَرْبَعًا ، فَإِنْ عَتَقَ الْعَبْدُ ، وَبَرَأَ الْمَرِيضُ ، وَالْوَقْتُ بَاقٍ لَزِمَهُمَا الْجُمُعَةُ ، وَلَوْ دَخَلَ الْوَقْتُ ، وَهُوَ صَحِيحٌ كَانَ فَرْضُهُ الْجُمُعَةَ ، فَإِنْ مَرِضَ فِي الْوَقْتِ قَبْلَ حُضُورِ الْجُمُعَةِ كَانَ فَرْضُهُ الظُّهْرَ أَرْبَعًا اعْتِبَارًا

بِحَالِ الْأَدَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَعًا ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي حَالِ أَدَائِهَا مُسَافِرًا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ مُقِيمٌ ، وَفِي هَذَا جَوَابٌ لِمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ وُجُوبِ الصَّلَاةِ ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْحَيْضِ فَغَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّ الْحَيْضَ إِذَا طَرَأَ مَنَعَ مِنَ الْأَدَاءِ ، وَإِذَا طَهُرَتْ وَجَبَ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ ، وَالسَّفَرُ إِذَا طَرَأَ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْأَدَاءِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْقَصْرِ لِوُجُودِ الْأَدَاءِ ، وَعَدَمِ الْقَضَاءِ فَافْتَرَقَا . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يُسَافِرَ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ قَدْرُ أَدَائِهَا ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ جَوَازُ قَصْرِهَا ، وَقَالَ : أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ : يُتِمُّ ، وَلَا يَقْصُرُ : لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ لِيَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّمَامُ وَفَارَقَ أَوَّلَ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ ، وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لِفَرْقِهِ بَيْنَ أَوَّلِ الْوَقْتِ ، وَآخِرِهِ مَعَ وُجُودِ الْأَدَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَجْهٌ . وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ : أَنْ يُسَافِرَ فِي آخِرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَقَدْ بَقِيَ مِنْهُ مِقْدَارُ رَكْعَةٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي كُتُبِهِ وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ يُتِمُّ الصَّلَاةَ ، وَلَا يَقْصُرُهَا لِعَدَمِ الْأَدَاءِ فِي جَمِيعِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ . وَبِهِ قَالَ : يَجُوزُ قَصْرُهَا ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ تَجِبُ بِآخِرِ الْوَقْتِ فِي أَصْحَابِ الْعُذْرِ ، وَالضَّرُورَاتِ كَوُجُوبِهَا فِي أَوَّلِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَوِيَا فِي جَوَازِ الْقَصْرِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْقَصْرَ مَعَ الْإِحْرَامِ ، فَإِنْ أَحْرَمَ وَلَمْ يَنْوِ الْقَصْرَ كَانَ عَلَى أَصْلِ فَرْضِهِ أَرْبَعٌ ، وَلَوْ كَانَ فَرْضُهَا رَكْعَتَيْنِ مَا صَلَّى مُسَافِرٌ خَلْفَ مُقِيمٍ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : لَيْسَ هَذَا بِحُجَّةٍ ، وَكَيْفَ يَكُونُ حُجَّةً وَهُوَ يُجِيزُ صَلَاةَ فَرِيضَةٍ خَلْفَ نَافِلَةٍ ، وَلَيْسَتِ النَّافِلَةُ فَرِيضَةً ، وَلَا بَعْضَ فَرِيضَةٍ ، وَرَكْعَتَا الْمَسَافِرِ فَرْضٌ ، وَفِي الْأَرْبَعِ مِثْلُ الرَّكْعَتَيْنِ فَرْضٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَجُوزُ قَصْرُ الصَّلَاةِ إِلَّا بِثَلَاثِ شَرَائِطَ ، السَّفَرُ لِأَنَّ الْحَاضِرَ لَا يُمَصِّرُ ، وَأَنْ يَكُونَ مُؤَدِّيًا لِلصَّلَاةِ لَا قَاضِيًا ، وَأَنْ يَنْوِيَ الْقَصْرَ مَعَ الْإِحْرَامِ ، فَمَنْ أَخَلَّ بِشَرْطٍ مِنْهَا أَوْ لَمْ يَنْوِ الْقَصْرَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ . وَقَالَ الْمُزْنِيُّ : الْقَصْرُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ مَعَ الْإِحْرَامِ بَلْ إِذَا أَطْلَقَ النِّيَّةَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ نَاوِيًا لِلْقَصْرِ محل نية صلاة المسافر مَعَ سَلَامِهِ جَازَ ، وَإِنْ سَلَّمَ غَيْرُنَا ، وَكَانَ كَمَنْ سَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ مَعَ أَوَّلِ الْعِبَادَةِ ، أَلَا تَرَى لَوْ نَوَى الطَّهَارَةَ عَنْ غَسْلِ وَجْهِهِ كَانَ لَهُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يُقَدِّمِ النِّيَّةَ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ غَلَطٌ لِأَنَّا مُتَّفِقُونَ عَلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي مَحَلِّهَا ، وَكُلُّ صَلَاةٍ افْتَقَرَتْ إِلَى النِّيَّةِ فَإِنَّ مَحَلَّ تِلْكَ النِّيَّةِ فِيهَا الْإِحْرَامُ ، قِيَاسًا عَلَى نِيَّةِ

الصَّلَاةِ ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَقْصُورَةٌ مِنْ أَرْبَعٍ إِلَى رَكْعَتَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ فِي انْتِهَائِهَا مَوْجُودًا ، وَابْتِدَائِهَا كَالْجُمُعَةِ .

فَصْلٌ : إِذَا أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ يَنْوِي الْإِتْمَامَ صلاة المسافر لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ ، وَلَزِمَهُ الْإِتْمَامُ ، وَقَالَ الْمَغْرِبِيُّ : يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ ، وَإِنْ نَوَى التَّمَامَ ، قَالَ : لِأَنَّ السَّفَرَ يَتَعَلَّقُ بِهِ رُخْصَةُ الْقَصْرِ ، وَالْفِطْرِ ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يُفْطِرَ فِيهِ وَإِنْ نَوَى الصِّيَامَ جَازَ أَنْ يَقْصُرَ فِيهِ ، وَإِنْ نَوَى الْإِتْمَامَ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِ ، وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ إِجْمَاعَ الْفُقَهَاءِ هُوَ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِصَلَاةِ الْحَضَرِ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ صَرْفُهَا إِلَى صَلَاةِ السَّفَرِ . أَصْلُهُ إِذَا أَحْرَمَ وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ صَارَ مُسَافِرًا بِسَيْرِ السَّفِينَةِ ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الصَّوْمِ فَلَا يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا : لِأَنَّ الْفِطْرَ مَضْمُونٌ بِالْقَضَاءِ ، فَلَمْ يَتَحَتَّمْ عَلَيْهِ الصَّوْمُ بِدُخُولِهِ فِيهِ ، وَالْقَصْرُ لَا يُضَمَّنُ بِالْقَضَاءِ ، فَتَحَتَّمَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ بِدُخُولِهِ فِيهِ ، فَلَوْ أَحْرَمَ نَاوِيًا لِلْقَصْرِ ، ثُمَّ نَوَى الْإِتْمَامَ لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ ، لِأَنَّ نِيَّةَ الْإِتْمَامِ قَدْ رَفَعَتِ حُكْمَ الرُّخْصَةِ ، فَلَوْ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ ، ثُمَّ شَكَّ هَلْ دَخَلَ فِيهَا بِنِيَّةِ الْقَصْرِ ، أَوِ الْإِتْمَامِ لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ ، لِأَنَّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الصَّلَاةِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الزِّيَادَةِ ، وَالنُّقْصَانِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْأَخْذُ بِالْأَكْثَرِ كَمَا لَوْ شَكَّ هَلْ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاتِهِ رَكْعَةٌ ، أَوْ رَكْعَتَانِ ، فَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنَ الصَّلَاةِ أَنَّهُ كَانَ قَدْ دَخَلَ فِيهَا بِنِيَّةِ الْقَصْرِ لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ : لِأَنَّهُ بِالشَّكِّ قَدْ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ ، وَمَنْ لَزِمَهُ إِتْمَامُ صَلَاةٍ هُوَ فِيهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ قَصْرُهَا .


مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنْ نَسِيَ صَلَاةً فِي سَفَرٍ ، فَذَكَرَهَا فِي حَضَرٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا صَلَاةَ حَضَرٍ ، لِأَنَّ عِلَّةَ الْقَصْرِ هِيَ النَّيَّةُ ، وَالسَّفَرُ ، فَإِذَا ذَهَبَتِ الْعِلَّةُ ذَهَبَ الْقَصْرُ ، وَإِذَا نَسِيَ صَلَاةً حَضَرٍ فَذَكَرَهَا فِي سَفَرٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا أَرْبَعًا : لِأَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ أَرْبَعٌ ، فَلَا يُجْزِئُهُ أَقَلُّ مِنْهَا ، وَإِنَّمَا أَرْخَصَ لَهُ فِي الْقَصْرِ مَا دَامَ وَقْتُ الصَّلَاةِ قَائِمًا وَهُوَ مُسَافِرٌ ، فَإِذَا زَالَ وَقْتُهَا ذَهَبَتِ الرُّخْصَةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ . وَهَذَا الْفَصْلُ يَشْمَلُ أَرْبَعَ مَسَائِلَ : أَحَدُهَا : أَنْ يَنْسَى صَلَاةً ، ثُمَّ يَذْكُرُهَا فِي حَضَرٍ فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ : يَقْصُرُهَا إِنْ شَاءَ . وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا ، وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا " ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ تُؤَدَّى وَتُقْصَرُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَضَاؤُهَا مِثْلَ أَدَائِهَا ، أَصْلُهُ إِذَا نَسِيَهَا فِي الْحَضَرِ وَذَكَرَهَا فِي السَّفَرِ فَإِنَّهُ يَقْضِيهَا تَامَّةً : لِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ تَامَّةً . وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ بَدَلٌ ، وَالْأَبْدَالُ فِي الْأُصُولِ مِثْلُ مُبْدَلَاتِهَا ، أَوْ أَخَفُّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي " الْأُمِّ " ، وَ " الْإِمْلَاءِ " : عَلَيْهِ إِتْمَامُهَا

وَالْجَمْعُ فِي السَّفَرِ أَرْبَعَةٌ ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ ، لِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَرْدُودَةٌ إِلَى رَكْعَتَيْنِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا كَالْجُمُعَةِ ، وَلِأَنَّ الْعُذْرَ الْمُغَيِّرَ لِلْفَرْضِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مَعَ وُجُودِهِ كَالْمَرَضِ ، وَلِأَنَّهُ مُقِيمٌ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ مُسَافِرٍ . أَصْلُهُ إِذَا نَوَى الْإِقَامَةَ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ ، وَلِأَنَّ الْمُسَافِرَ إِنَّمَا جُوِّزَ لَهُ الْقَصْرُ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي التَّمَامِ ، فَإِذَا صَارَ مُقِيمًا فَقَدْ زَالَتِ الْمَشَقَّةُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَزُولَ التَّخْفِيفُ كَالْمُضْطَرِّ لَمَّا جُوِّزَ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ حَرُمَ عَلَيْهِ أَكْلُهَا عِنْدَ زَوَالِ الضَّرُورَةِ كَـ " الْمُتَيَمِّمِ " ، وَلِأَنَّ السَّفَرَ يُبِيحُ قَصْرَ الصَّلَاةِ إِلَى شَطْرِهَا كَمَا يُبِيحُ بِالتَّيَمُّمِ قَصْرَ الطَّهَارَةِ إِلَى شَطْرِهَا . فَلَمَّا لَمْ يُسْتَبَحْ تَيَمُّمُ السَّفَرِ بَعْدَ انْقِضَاءِ السَّفَرِ لَمْ يُسْتَبَحْ قَضَاءُ السَّفَرِ بَعْدَ انْقِضَاءِ السَّفَرِ . وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تَفُوتَهُ فِي سَفَرٍ ، ثُمَّ يَذْكُرُهَا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا فِي السَّفَرِ ، فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ ، وَالْإِمْلَاءِ : لَهُ قَصْرُهَا إِنْ شَاءَ وَهُوَ أَصَحُّ ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الِاعْتِبَارُ إِمَّا بِحَالِ الْوُجُوبِ أَوْ بِحَالِ الْأَدَاءِ ، وَأَيُّهُمَا كَانَ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ فِي الْحَالَيْنِ مَعًا ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ تُؤَدَّى ، وَتُقْصَرُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَضَاؤُهَا مِثْلَ أَدَائِهَا ، أَصْلُهُ مَا ذَكَرْنَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ عَلَيْهِ إِتْمَامُهَا أَرْبَعًا : لِأَنَّهَا صَلَاةٌ تُفْعَلُ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا قَضَاءً ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ قَصْرُهَا ، أَصْلُهُ إِذَا نَسِيَهَا فِي الْحَضَرِ ، ثُمَّ ذَكَرَهَا فِي السَّفَرِ ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا ، لِأَنَّ وَقْتَ الْجَمْعِ وَقْتٌ لَهُمَا مَعًا ، فَلِذَلِكَ جَازَ قَصْرُهَا ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَرْدُودَةٌ إِلَى رَكْعَتَيْنِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا كَالْجُمُعَةِ . وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَنْسَى صَلَاةً فِي حَضَرٍ ثُمَّ يَذْكُرُهَا فِي حَضَرٍ فَلَا خِلَافَ أَنَّ عَلَيْهِ إِتْمَامَهَا ، وَإِنْ سَافَرَ فِيمَا بَعْدُ ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الْوُجُوبِ فَهُوَ فِيهِ حَاضِرٌ ، وَإِنْ كَانَ بِحَالِ الْأَدَاءِ فَهُوَ فِيهِ حَاضِرٌ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِحَالَةٍ حَادِثَةٍ فِيمَا بَعْدُ . وَالْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَنْسَى صَلَاةً فِي حَضَرٍ ، ثُمَّ يَذْكُرُهَا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا فِي السَّفَرِ ، فَعَلَيْهِ إِتْمَامُهَا أَرْبَعًا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَغْلَطُ فَيُجِيزُ لَهُ قَصْرَهَا اعْتِبَارًا بِحَالِ الْأَدَاءِ . وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ قَدِ اسْتَقَرَّ عَلَيْهَا ، فَرَضَهَا أَرْبَعًا بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَمْ يَجُزْ لْهُ قَصْرُهَا وَقْتَ الْقَضَاءِ ، كَمَا أَنَّ مَنْ نَسِيَ ظُهْرَ الْخَمِيسِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْضِيَهَا بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ .

فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي " الْإِمْلَاءِ " : وَإِذَا نَسِيَ الظُّهْرَ فِي الْحَضَرِ فَلَمْ يَذْكُرْهَا حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ وَذَكَرَ فِي سَفَرِهِ ، ثُمَّ سَافَرَ وَذَكَرَ فِي سَفَرِهِ أَنَّهُ نَسِيَ الظُّهْرَ ، وَوَقْتُ الْعَصْرِ بَاقٍ لَمْ يَجُزْ لْهُ قَصْرُ الظُّهْرِ ، لِأَنَّ وَقْتَهَا قَدْ فَاتَ فِي الْحَضَرِ ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَهُوَ حَاضِرٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْصُرَهَا إِذَا سَافَرَ ، قَالَ : وَإِنْ نَسِيَ الظُّهْرَ فِي السَّفَرِ حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ صَارَ حَاضِرًا فَذَكَرَ فِي الْحَضَرِ أَنَّهُ نَسِيَ الظُّهْرَ

فَذَكَرَ فِي الْحَضَرِ أَنَّهُ نَسِيَ الظُّهْرَ وَوَقْتُ الْعَصْرِ بَعْدُ بَاقٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْصُرَ الظُّهْرَ ، قَالَ : لِأَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ فِي السَّفَرِ وَقْتُ الْعَصْرِ وَالظُّهْرِ جَمِيعًا ، فَإِذَا ذَكَرَهَا فِي وَقْتِ الْعَصْرِ ، وَهُوَ حَاضِرٌ كَانَ كَمَا ذَكَرَهَا فِي وَقْتِهَا وَهُوَ حَاضِرٌ ، فَصَلَّى أَرْبَعًا صَلَاةَ حَضَرٍ ، لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ لَا قَاضٍ ، فَلَوْ نَسِيَ صَلَاةَ ظُهْرٍ لَا يَدْرِي : أَصَلَاةُ سَفَرٍ ، أَمْ صَلَاةُ حَضَرٍ ؟ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا صَلَاةَ حَضَرٍ لِيَكُونَ عَلَى يَقِينٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنْ أَحْرَمَ يَنْوِي الْقَصْرَ ، ثُمَّ نَوَى الْمُقَامَ أَتَمَّهَا أَرْبَعًا ، وَمَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمَسَافِرِينَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ بِنِيَّةِ الْقَصْرِ ، ثُمَّ نَوَى الْمُقَامَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ إِتْمَامَ الصَّلَاةِ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ قَصْرُهَا . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى التَّمَامِ بِنِيَّةِ الْقَصْرِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ صَلَّى رَكْعَةً ضَمَّ إِلَيْهَا أُخْرَى ، وَكَانَتْ نَافِلَةً ، ثُمَّ اسْتَفْتَحَ صَلَاةَ الْإِقَامَةِ أَرْبَعًا ، وَهَذَا غَلَطٌ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ صَلَاتِهِ وَوُجُوبُ إِتْمَامِهَا أَرْبَعًا أَنَّ الْقَصْرَ رُخْصَةٌ سَبَبُهَا السَّفَرُ ، فَوَجَبَ إِذَا زَالَ سَبَبُهَا ، وَهُوَ السَّفَرُ أَنْ تَزُولَ رُخْصَةُ الْقَصْرِ ، كَالْمَرِيضِ يُصَلِّي قَاعِدًا لِعَجْزِهِ ، ثُمَّ يَلْزَمُهُ الْقِيَامُ لِزَوَالِ مَرَضِهِ ، وَكَالْأَمَةِ تُصَلِّي مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ لِرِقِّهَا ، ثُمَّ يَلْزَمُهَا تَغْطِيَةُ رَأْسِهَا لِعِتْقِهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا قُلْتُمْ إِنَّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَصْرًا اعْتِبَارًا بِحَالِ الْإِحْرَامِ كَالْمُتَيَمِّمِ إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ ، قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا يَمْنَعُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ حُكْمِهِمَا ، وَهُوَ أَنَّ خُرُوجَ الْمُتَيَمِّمِ مِنْ صَلَاتِهِ لِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ يَبْطُلُ عَلَيْهِ مَا مَضَى فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ ، وَمَنْ نَوَى الْإِقَامَةَ إِذَا أَتَمَّ لَمْ يَبْطُلْ عَلَيْهِ مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ ، فَجَازَ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّمَامُ ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ تَتِمُّ ، وَتُقْصَرُ فَوَجَبَ إِذَا زَالَ سَبَبُ قَصْرِهَا أَنْ يَلْزَمَهُ الْبِنَاءُ عَلَى التَّمَامِ . أَصْلُهُ إِذَا أَحْرَمَ الْجُمُعَةَ ، ثُمَّ خَرَجَ وَقْتُهَا . وَالْفَصْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا صَلَّى خَلْفَ مُقِيمٍ وَجَبَ عَلَى الْمُسَافِرِ أَنْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ أَرْبَعًا ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ . وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَطَاوُسٍ : أَنَّ الْمُسَافِرَ يَقْصُرُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ التَّمَامُ بِصَلَاتِهِ خَلْفَ مُقِيمٍ . لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَى الْمُسَافِرِ أَنْ يُتِمَّ إِذَا صَلَّى خَلْفَ مُقِيمٍ اعْتِبَارًا بِحَالِ إِمَامِهِ لَجَازَ لِلْمُقِيمِ أَنْ يَقْصُرَ إِذَا صَلَّى خَلْفَ مُسَافِرٍ اعْتِبَارًا بِحَالِ إِمَامِهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لِلْمُقِيمِ أَنْ يَقْصُرَ الصَّلَاةَ خَلْفَ الْمُسَافِرِ اعْتِبَارًا بِحَالِ نَفْسِهِ وَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ الْمُسَافِرَ أَنْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ خَلْفَ الْمُقِيمِ اعْتِبَارًا بِحَالِ نَفْسِهِ ، وَلِأَنَّهُ مُؤَدٍّ لِلصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ فَجَازَ أَنْ يَقْصُرَهَا كَالْمُنْفَرِدِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا ، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا .

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إِنْ صَلَّيْنَا مَعَكُمْ صَلَّيْنَا أَرْبَعًا وَإِنْ صَلَّيْنَا فِي بُيُوتِنَا صَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ ذَلِكَ سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلِأَنَّهُ مُؤْتَمٌّ بِمُقِيمٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّمَامُ كَمَنْ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الظُّهْرَ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : لَوْ وَجَبَ عَلَى الْمُسَافِرِ أَنْ يُتِمَّ خَلْفَ الْمُقِيمِ لَجَازَ لِلْمُقِيمِ أَنْ يَقْصُرَ خَلْفَ الْمُسَافِرِ . فَهُوَ أَنْ يُقَالَ : الْإِتْمَامُ عَزِيمَةٌ ، وَالْقَصْرُ رُخْصَةٌ عَلَى صِفَتِهِ فَلَمْ يَجُزْ لِلْمُقِيمِ تَرْكُ الْعَزِيمَةِ ، وَالْأَخْذُ بِالرُّخْصَةِ تَبَعًا لِإِمَامِهِ وَوَجَبَ عَلَى الْمُسَافِرِ تَرْكُ الرُّخْصَةِ ، وَالْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ تَبَعًا لِإِمَامِهِ عِنْدَ عَدَمِ الصِّفَةِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُنْفَرِدِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُؤْتَمٍّ بِمُتَمِّمٍ ، فَلِذَلِكَ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَصْلَيْنِ فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي مُسَافِرٍ صَلَّى خَلْفَ مُسَافِرٍ ، وَاسْتَفْتَحَا الصَّلَاةَ جَمِيعًا بِنِيَّةِ الْقَصْرِ ، ثُمَّ إِنَّ الْإِمَامَ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي حَالِ صَلَاتِهِ حكم المأمومين ، فَعَلَى الْإِمَامِ ، وَعَلَى مَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمَأْمُومِينَ أَنْ يُتِمُّوا الصَّلَاةَ أَرْبَعًا ، وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَلْزَمُ الْمَأْمُومِينَ أَنْ يُتِمُّوا لِأَنَّ صَلَاتَهُمْ قَدِ انْعَقَدَتْ مَقْصُورَةً خَلْفَ مُسَافِرٍ فَلَمْ يَتَغَيَّرْ فَرْضُهُمْ بِنِيَّةِ إِمَامِهِمْ . وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ . وَلِأَنَّهُ مُؤْتَمٌّ بِمُتَمِّمٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّمَامُ ، أَصْلُهُ إِذَا أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ خَلْفَ مُقِيمٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ أَحْرَمَ فِي مَرْكَبٍ ، ثُمَّ نَوَى السَّفَرَ حكم القصر لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ نَزَلَ فِي مَرْكَبٍ فِي بَلَدِ إِقَامَتِهِ ، وَالْمَرْكَبُ وَاقِفًا قَدْ تَهَيَّأَ لِلسَّفَرِ ، وَأَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ ، ثُمَّ خُطِفَ الْمَرْكَبُ ، وَسَارَ فَصَارَ الرَّاكِبُ مُسَافِرًا فِي حَالِ صَلَاتِهِ فَعَلَيْهِ إِتْمَامُ الصَّلَاةِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَصْرُهَا ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ كَافَّةً إِلَّا مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ ، فَجَوَّزَ لَهُ الْقَصْرَ وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ تَخْتَلِفُ بِالْحَضَرِ ، وَالسَّفَرِ ، فَوَجَبَ إِذَا اجْتَمَعَ فِيهَا الْحَضَرُ وَالسَّفَرُ أَنْ يَغْلِبَ حُكْمُ الْحَضَرِ ، أَصْلُهُ إِذَا أَنْشَأَ صَوْمًا فِي الْحَضَرِ ثُمَّ سَافَرَ ، وَلِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ فِي الصَّلَاةِ حُكْمُ الْإِقَامَةِ وَالسَّفَرِ وَجَبَ الْأَخْذُ بِالْأَكْثَرِ كَمَا لَوْ شَكَّ هَلْ صَلَّى ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا ؟ . لَيْسَ لِرَاكِبِ السَّفِينَةِ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرِيضَةَ قَاعِدًا ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقِيَامِ لِكَثْرَةِ الزِّحَامِ صَلَّى قَاعِدًا لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ ، وَأَعَادَ إِذَا قَدَرَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَتِ السَّفِينَةُ مَرْبُوطَةً لَمْ تَجُزِ الْفَرِيضَةُ إِلَّا قَائِمًا ، وَإِنْ كَانَتْ سَائِرَةً أَجْزَأْتُهُ الْفَرِيضَةُ قَاعِدًا تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : صَلَاةُ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ فَجَوَّزَ

فِي الظَّاهِرِ صَلَاةَ الْقَاعِدِ ، وَجَعَلَ الْقِيَامَ أَفْضَلَ مِنْهُ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ سَائِرَةً ، فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ ، وَفَرْضُ الْقِيَامِ يَسْقُطُ بِزَوَالِ حَالِ الِاسْتِقْرَارِ ، كَالرَّاكِبِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ يُصَلِّي رَاكِبًا وَيَجْزِيهِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَهُ فَرْضُ الْقِيَامِ فِي غَيْرِ السَّفِينَةِ لَزِمَهُ فَرْضُ الْقِيَامِ فِي السَّفِينَةِ ، أَصْلُهُ إِذَا صَلَّى فِي سَفِينَةٍ مَرْبُوطَةٍ ، وَلِأَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ فِي السَّفِينَةِ كَالرُّكُوعِ ، وَالسُّجُودِ ، وَالْقِرَاءَةِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْخَبَرِ فَمَحْمُولٌ عَلَى النَّافِلَةِ ، لِأَنَّ صَلَاةَ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ ، فَأَمَّا الْفَرِيضَةُ فَلَا ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا أَجْزَأَهُ كَالْقَائِمِ فِي الْأَجْرِ سَوَاءً . وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ كَالْخَائِفِ ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْخَوْفَ عُذْرٌ طَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ غَيْرِهِ دُونَ أَنْ يُنْسَبَ الْخَوْفُ إِلَى فِعْلِهِ ، وَرُكُوبُ السَّفِينَةِ مِنْ فِعْلِهِ ، وَالْعُذْرُ الدَّاخِلُ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِهِ ، فَلَمَّا افْتَرَقَا فِي الْمَعْنَى افْتَرَقَا فِي الْإِعَادَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنْ أَحْرَمَ خَلْفَ مُقِيمٍ ، أَوْ خَلْفَ مَنْ لَا يَدْرِي فَأَحْدَثَ الْإِمَامُ صلاة المسافر كَانَ عَلَى الْمُسَافِرِ أَنْ يُتِمَّ أَرْبَعًا ، وَإِنْ أَحْدَثَ إِمَامٌ مُسَافِرٌ بِمُسَافِرِينَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ، فَإِنْ عَلِمَ الْمَأْمُومُ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِلَّا رَكْعَتَانِ وَإِنْ شَكَّ لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا أَرْبَعٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ خَلْفَ مُقِيمٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ سَوَاءٌ أَدْرَكَ مَعَهُ جَمْعَ الصَّلَاةِ ، أَوْ أَدْرَكَ قَدْرَ الْإِحْرَامِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً أَتَمَّ ، وَإِنْ أَدْرَكَ دُونَ الرَّكْعَةِ قَصَرَ ، قَالَ : لِأَنَّهُ أَدْرَكَ مَعَهُ مَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ التَّمَامُ كَالْجُمُعَةِ . وَهَذَا خَطَأٌ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ : أَنَّهُ مُؤْتَمٌّ بِمُتَمِّمٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّمَامُ ، أَصْلُهُ إِذَا أَدْرَكَ مَعَهُ رَكْعَةً ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْنًى إِذَا طَرَأَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ لَزِمَهُ التَّمَامُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ إِذَا طَرَأَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّمَامُ . أَصْلُهُ : إِذَا نَوَى الْإِقَامَةَ ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْجُمُعَةِ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي إِدْرَاكِ الْجُمُعَةِ انْتِقَالًا مِنَ الْكَمَالِ إِلَى النُّقْصَانِ ، وَهُوَ رَكْعَتَانِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ ظُهْرًا أَرْبَعًا ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ إِدْرَاكٌ كَامِلٌ ، وَهُوَ رَكْعَةٌ ، وَفِي التَّمَامِ انْتِقَالٌ مِنَ النُّقْصَانِ إِلَى التَّمَامِ ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ إِلْزَامُ الصَّلَاةِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ إِدْرَاكُ جُزْءٍ ، وَإِنْ قَلَّ كَإِدْرَاكِ الْوَقْتِ لَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ إِلْزَامُ الصَّلَاةِ اعْتُبِرَ فِيهِ إِدْرَاكُ جُزْءٍ ، وَإِنْ قَلَّ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَى الْمُسَافِرِ خَلْفَ الْمُقِيمِ أَنْ يُتِمَّ فَلَيْسَ يَخْلُو حَالُ الْمُسَافِرِ إِذَا أَتَمَّ بِرَجُلٍ مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ :

[ الْأَوَّلُ ] إِمَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مُقِيمٌ . [ وَالثَّانِي ] أَوْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مُقِيمٌ . الثَّالِثُ : أَوْ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُسَافِرٌ . الرَّابِعُ : أَوْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مُسَافِرٌ . فَإِنْ عَلِمَهُ مُقِيمًا كَانَ عَلَيْهِ التَّمَامُ لِمَا ذَكَرْنَا . وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مُقِيمٌ كَأَنْ رَآهُ مُسَافِرًا ، أَوْ عَلَيْهِ لِبَاسُ الْحَضَرِ فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ مُقِيمٌ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ سَوَاءٌ كَانَ الْإِمَامُ مُقِيمًا ، أَوْ مُسَافِرًا بِقَصْرٍ ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ ظَاهِرُ أَمْرِهِ الْإِقَامَةَ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ بِنِيَّةِ التَّمَامِ ، وَالصَّلَاةُ إِذَا انْعَقَدَتْ تَامَّةً لَمْ يَجُزْ قَصْرُهَا . وَإِنْ عَلِمَهُ مُسَافِرًا ، أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مُسَافِرٌ بِأَنْ رَآهُ حَاضِرًا ، وَعَلَيْهِ ثِيَابُ السَّفَرِ ، فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ مُسَافِرٌ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا ، فَيَجُوزُ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ أَنْ يَنْوِيَ السَّفَرَ ، أَوِ الْقَصْرَ قَطْعًا ، أَوْ يَقُولَ : إِنْ قَصَرَ إِمَامِي قَصَرْتُ ، فَإِذَا نَوَى أَحَدٌ هَذَيْنِ ، ثُمَّ وَجَدَ إِمَامَهُ مُتِمًّا فَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ ، وَإِنْ وَجَدَهُ قَدْ قَصَرَ جَازَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ ظَاهِرُ حَالِ الْإِمَامِ فِي هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ أَنَّهُ مُسَافِرٌ كَانَ دَاخِلًا عَلَى جَوَازِ الْقَصْرِ بِالِاسْتِدْلَالِ ، وَالظَّاهِرِ ، وَمَنْ دَخَلَ عَلَى جَوَازِ الْقَصْرِ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالظَّاهِرِ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ كَمَا لَوْ دَخَلَ بِالْعِلْمِ ، لِأَنَّ الْوُصُولَ إِلَى مَعْرِفَةِ حَالِهِ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مُقِيمٌ فَيَلْزَمُهُ التَّمَامُ ، وَإِنْ بَانَ مُسَافِرًا لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى جَوَازِ الْقَصْرِ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالظَّاهِرِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَهُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فِي لَيْلَةِ الشَّكِّ امْرَأَةٌ ، أَوْ عَبْدٌ فَنَوَى صِيَامَهُ ، ثُمَّ صَحَّ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ لِدُخُولِهِ فِيهِ بِاسْتِدْلَالٍ ، وَلَوْ صَامَهُ بِغَيْرِ اسْتِدْلَالٍ لَمْ يُجْزِهِ .

مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ

فَصْلٌ : [ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ ] . فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ الْأَئِمَّةِ فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي مُسَافِرٍ صَلَّى خَلْفَ مُسَافِرٍ ، ثُمَّ أَحْدَثَ الْإِمَامُ قَبْلَ تَمَامِ الصَّلَاةِ ، فَلَا تَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا بِالْعِلْمِ ، أَوْ يَغْلِبُهُ الظَّنُّ ، وَإِمَّا أَنَّ يَكُونَ مَجْهُولَ الْحَالِ فَلَيْسَ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ إِقَامَتُهُ مِنْ سَفَرِهِ ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْإِمَامُ مُقِيمًا ، أَوْ مَجْهُولَ الْحَالِ ، فَعَلَى الْمَأْمُومِ أَنْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعًا ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مُسَافِرًا ، فَإِنْ عَلِمَ الْمَأْمُومُ أَنَّ الْإِمَامَ نَوَى التَّمَامَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ نَوَى الْقَصْرَ جَازَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ ، وَطَرِيقُ الْعِلْمِ بِحَالِهِ أَنْ يُخْبِرَهُ إِمَّا قَبْلَ إِحْرَامِهِ ، أَوْ بَعْدَ حَدَثِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ هَلْ نَوَى الْقَصْرَ أَوِ التَّمَامَ إمام القاصر ؟ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَمَنْصُوصُهُ : أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ . وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْأَصْحَابِ ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ إِمَامِهِ الْمُسَافِرِ أَنَّهُ قَدْ نَوَى الْقَصْرَ ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِظَاهِرِ حَالِهِ وَيَقْصُرَ . قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ : وَلَوْ كَانَ الْمُحْدِثُ هُوَ الْمَأْمُومَ ، وَلَمْ يَعْلَمْ حَالَ إِمَامِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ .

قَالَ : وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يُحْدِثَ الْمَأْمُومُ فَيَلْزَمُهُ التَّمَامُ وَبَيْنَ أَنْ يُحْدِثَ الْإِمَامُ فَلَا يَلْزَمُهُ التَّمَامُ ، أَنَّ الْإِمَامَ فَعَلَ فِعْلًا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى إِتْمَامِهِ مِنْ قَصْرِهِ ، وَهُوَ مَا يَظْهَرُ مِنْ حَالِهِ عِنْدَ مَلَامِهِ ، فَإِذَا أَحْدَثَ الْمَأْمُومُ ، وَهُوَ شَاكٌّ فِي إِمَامِهِ لَزِمَهُ التَّمَامُ لِوُجُودِ مَا يَكُونُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ ، وَإِذَا أَحْدَثَ الْإِمَامُ لَمْ يَكُنِ الِاسْتِدْلَالُ بِفِعْلِهِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ ، وَكَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِ حَالِهِ ، وَهُوَ السَّفَرُ ، فَجَازَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ خَطَأٌ ، وَالتَّمَامُ عَلَى الْمَأْمُومِ وَاجِبٌ فِي كِلَا الْمَسْأَلَتَيْنِ : لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَوَى الْإِتْمَامَ فَلَا يُجْزِئُهُ الْقَصْرُ ، وَيَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ ، وَبِالشَّكِّ لَا يَسْتَبِيحُ الْقَصْرَ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْإِتْمَامُ كَمَنْ شَكَّ هَلْ نَوَى الْقَصْرَ أَمْ لَا ؟ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَإِنْ رَعَفَ وَخَلْفَهُ مُسَافِرُونَ وَمُقِيمُونَ فَقَدَّمَ مُقِيمًا كَانَ عَلَى جَمِيعِهِمْ ، وَعَلَى الرَّاعِفِ أَنْ يُصَلُّوا أَرْبَعًا : لِأَنَّهُ لَمْ يُكْمِلْ وَاحِدٌ مِنْهُمُ الصَّلَاةَ حَتَّى كَانَ فِيهَا فِي صَلَاةِ مُقِيمٍ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : هَذَا غَلَطُ الرَّاعِفِ يَبْتَدِئُ وَلَمْ يَأْتَمَّ بِمُقِيمٍ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْمُسَافِرِ إِتْمَامٌ ، وَلَوْ صَلَّى الْمُسْتَخْلَفُ بَعْدَ حَدَثِهِ أَرْبَعَا لَمْ يُصَلِّ هُوَ إِلَّا رَكْعَتَانِ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ لَمْ يَأْتَمَّ بِمُقِيمٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي مُسَافِرٍ صَلَّى بِمُسَافِرِينَ وَمُقِيمِينَ فَرَعَفَ فِي تَضَاعِيفِ صَلَاتِهِ ، وَقَبْلَ سَلَامِهِ ، فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَالْإِمْلَاءِ أَنَّ صَلَاتَهُ لَا تَبْطُلُ بِالرُّعَافِ ، وَإِنْ غَسَلَ رُعَافَهُ ، وَعَادَ قَرِيبًا بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - قَدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ بِالرُّعَافِ فَعَلَى هَذَا لَهُمْ حَالَانِ : حَالٌ يَسْتَخْلِفُ عَلَيْهِمْ مَنْ يُصَلِّي بِهِمْ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِمْ . وَحَالٌ يُتِمُّوا الصَّلَاةَ لِأَنْفُسِهِمْ ، فَإِنْ صَلَّوْا لِأَنْفُسِهِمْ صَلَّى الْمُقِيمُونَ أَرْبَعًا ، وَالْمُسَافِرُونَ رَكْعَتَيْنِ إِنْ شَاءُوا الْقَصْرَ ، وَكَانَ الْإِمَامُ الرَّاعِفُ بِالْخِيَارِ إِذَا اسْتَأْنَفَ الصَّلَاةَ بَيْنَ أَنْ يُتِمَّ ، أَوْ يَقْصُرَ . وَإِنْ صَلَّوْا بِإِمَامٍ مُسْتَخْلَفٍ فَلَهُ حَالَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنْ يَسْتَخْلِفَهُ الْإِمَامُ الرَّاعِفُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَسْتَخْلِفُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ ، فَإِنِ اسْتَخْلَفَهُ الْإِمَامُ الرَّاعِفُ استخلف مسافرا لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا ، أَوْ مُقِيمًا ، فَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا ، وَنَوَى الْقَصْرَ صَلَّى هُوَ وَمَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمُسَافِرِينَ رَكْعَتَيْنِ ، وَصَلَّى الْمُقِيمُونَ أَرْبَعًا ، وَكَانَ لِلْإِمَامِ الرَّاعِفِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ إِنْ شَاءَ الْقَصْرَ ، وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا وَجَبَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمُقِيمِينَ ، وَالْمُسَافِرِينَ أَنْ يُصَلُّوا أَرْبَعًا لِائْتِمَامِهِمْ بِمُقِيمٍ ، فَأَمَّا الْإِمَامُ الرَّاعِفُ : فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعًا . قَالَ الْمُزَنِيُّ : هَذَا غَلَطٌ يَجِبُ أَنْ يَلْزَمَهُ الْإِتْمَامُ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ لَمْ يَدْخُلْ فِي صَلَاةِ مُقِيمٍ . فَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ .

أَحَدُهَا : وَهُوَ جَوَابُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَضْمُونَةٌ عَلَى أَنَّ الرَّاعِفَ حِينَ غَسَلَ رُعَافَهُ رَجَعَ فَأَحْرَمَ خَلْفَ الْمُقِيمِ فَلَزِمَهُ الْإِتْمَامُ . وَلَوْ لَمْ يَرْجِعْ ، وَصَلَّى لِنَفْسِهِ مُنْفَرِدًا جَازَ لَهُ الْقَصْرُ كَمَا قَالَ الْمُزَنِيُّ . قَالَ : وَتَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ عَلَى هَذَا ، وَهُوَ قَوْلُهُ : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ يُكْمِلِ الصَّلَاةَ حَتَّى حَمَلَ فِيهَا فِي صَلَاةِ مُقِيمٍ . فَهَذَا جَوَابٌ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : وَهُوَ جَوَابُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ الشَّافِعِيَّ إِنَّمَا لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ : إِنَّ الرُّعَافَ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ ، فَإِذَا اسْتَخْلَفَ مُقِيمًا فِي صَلَاةٍ هُوَ فِيهَا لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ لِأَنَّهُ صَارَ مُؤْتَمًّا بِمُتَمِّمٍ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ . وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ : وَهُوَ جَوَابُ بَعْضِهِمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا ، سَوَاءٌ عَادَ فَدَخَلَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ ، أَمْ لَا ، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ ، لِأَنَّهُ أَصْلٌ ، وَالْإِمَامُ الْمُسْتَخْلَفُ فَرْعُهُ ، وَالْفَرْعُ لَا يَكُونُ أَوْكَدَ حَالًا مِنْ أَصْلِهِ ، فَلَمَّا وَجَبَ عَلَى الْفَرْعِ الْإِتْمَامُ كَانَ الْأَصْلُ بِهِ أَوْلَى . وَإِذَا كَانَ الرَّاعِفُ قَدِ اسْتَخْلَفَهُ الْقَوْمُ مَكَانَهُ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْجَوَابَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ اسْتِخْلَافِ الرَّاعِفِ لَهُ سَوَاءٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الرَّاعِفَ إِذَا لَمْ يَسْتَخْلِفْهُ فَلَهُ أَنْ يَقْصُرَ بِكُلِّ حَالٍ ، أَعْنِي الرَّاعِفَ : لِأَنَّ الْمُسْتَخْلَفَ ، وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا فَلَيْسَ بِفَرْعٍ لِلرَّاعِفِ فَيَلْزَمُهُ حُكْمُ صَلَاتِهِ فِي الْإِتْمَامِ ، فَعَلَى هَذَا لَوِ اسْتَخْلَفَ الْمُقِيمُونَ مُقِيمًا ، وَالْمُسَافِرُونَ مُسَافِرًا جَازَ وَصَلَّى الْمُقِيمُونَ مَعَ إِمَامِهِمْ أَرْبَعًا ، وَصَلَّى الْمُسَافِرُونَ مَعَ إِمَامِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ، وَكَذَلِكَ لَوِ افْتَرَقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ ، وَأَكْثَرَ وَقَدَّمَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ إِمَامًا جَازَ ، وَلَوْ كَانَ إِمَامُهُمْ قَبْلَ الْحَدَثِ وَاحِدًا إِذَا قِيلَ بِجَوَازِ الِاسْتِخْلَافِ . نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ .

فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ صَلَاةِ الْخَوْفِ : " وَإِذَا صَلَّى الْإِمَامُ بِطَائِفَةٍ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ ، ثُمَّ أَحْدَثَ فَاسْتَخْلَفَ مُقِيمًا لَمْ يَحْضُرِ الرَّكْعَةَ أَتَمَّتِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى ، وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ أَرْبَعًا ، فَإِنْ قِيلَ : فَلَمْ أُلْزِمِ الطَّائِفَةَ الْأُولَى الْإِتْمَامَ وَقَدْ فَارَقَتِ الْإِمَامَ وَخَرَجَتْ مِنْ صَلَاتِهِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ . قِيلَ : الْمَسْأَلَةُ مُصَوَّرَةٌ فِي الْإِمَامِ إِذَا أَحْدَثَ قَبْلَ الِاعْتِدَالِ ، وَالطَّائِفَةُ الْأُولَى مَعَهُ لِأَنَّهُمْ يُفَارِقُونَهُ بَعْدَ الِاعْتِدَالِ فَلِذَلِكَ لَزِمَهُمُ الْإِتْمَامُ لِحُصُولِهِمْ خَلْفَ مُقِيمٍ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ حَدَثُهُ بَعْدَ الِاعْتِدَالِ لَمْ يَلْزَمِ الطَّائِفَةَ الْأُولَى لِخُرُوجِهِمْ مِنْ إِمَامَتِهِ .

فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْإِمْلَاءِ : وَإِذَا دَخَلَ الْمُسَافِرُ بَلَدًا ، وَصَلَّى صَلَاةَ السَّفَرِ خَلْفَ إِمَامٍ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ لَزِمَ الْمُسَافِرَ أَنْ يُتِمَّ أَرْبَعًا ، قَالَ : لِأَنَّهُ صَلَّى خَلْفَ مُقِيمٍ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ وَإِنْ كَانَتْ مَقْصُورَةً فَهِيَ فَرْضُ الْإِقَامَةِ ، وَالْإِمَامُ فِيهَا مُقِيمٌ . فَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ لَوْ صَلَّى

الْمُسَافِرُ الظُّهْرَ خَلْفَ إِمَامٍ مُقِيمٍ يُصَلِّي الصُّبْحَ لَمْ يَجُزْ لِلْمُسَافِرِ الْقَصْرُ ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ أَرْبَعًا : لِأَنَّهُ حَصَلَ مُؤْتَمًّا بِمُقِيمٍ .

فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْإِمْلَاءِ : وَإِذَا اسْتَفْتَحَ بِنِيَّةِ التَّمَامِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا عَلَى نَفْسِهِ ، وَوَقْتُ الصَّلَاةِ بَاقٍ لَزِمَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَهَا تَامَّةً وَلَا يَجُوزَ لَهُ قَصْرُهَا لِأَنَّ إِتْمَامَهَا قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ إِتْمَامُهَا بِفَوَاتِ الْوَقْتِ ، وَلَكِنْ لَوِ افْتَتَحَهَا بِنِيَّةِ التَّمَامِ ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِهَا مُحْدِثًا جَازَ إِذَا اسْتَأْنَفَهَا أَنْ يَقْصُرَ : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْعَقِدْ إِحْرَامُهُ مَعَ الْحَدَثِ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ إِتْمَامُهَا بِالْفِعْلِ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمَّا وَقَعَ بَاطِلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمٌ فَصَارَ كَمَنْ نَوَى الْإِتْمَامَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنَ الْقَصْرِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ .

فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ : وَإِذَا أَحْرَمَ مُسَافِرٌ بِمُسَافِرٍ ، وَنَوَيَا جَمِيعًا الْقَصْرَ ، ثُمَّ سَهَا الْإِمَامُ فَصَلَّى أَرْبَعًا سَاهِيًا يَظُنُّهَا رَكْعَتَيْنِ كَانَ عَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ ، لِأَنَّ فَرْضَهُ رَكْعَتَانِ ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِمَا سَهْوٌ ، وَلَوْ ذَكَرَ سَهْوَهُ فِي الثَّالِثَةِ أَتَى بِسُجُودِ السَّهْوِ ، وَسَلَّمَ ، وَوَجَبَ عَلَى الْمَأْمُومِ أَنْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ أَرْبَعًا : لِأَنَّ إِتْمَامَهَا قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِاعْتِقَادِهِ أَنَّ إِمَامَهُ قَدْ نَوَى الْإِتْمَامَ ، وَإِنْ عَلِمَ الْمَأْمُومُ أَنَّ الْإِمَامَ قَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ سَاهِيًا صلاة المسافر لَمْ يَتْبَعْهُ ، فَإِنْ تَبِعَهُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ كَمَنْ تَبِعَ إِمَامًا قَامَ إِلَى خَامِسَةٍ " .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا كَانَ لَهُ طَرِيقَانِ يَقْصُرُ فِي أَحَدِهِمَا ، وَلَا يَقْصُرُ فِي الْآخَرِ ، فَإِنْ سَلَكَ الْأَبْعَدَ لِخَوْفٍ ، أَوْ حُزُونَةٍ فِي الْأَقْرَبِ قَصَرَ ، وَإِلَّا لَمْ يَقْصُرْ ، وَفِي الْإِمْلَاءِ إِنْ سَلَكَ الْأَبْعَدَ قَصَرَ " . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : " وَهَذَا عِنْدِي أَقْيَسُ لِأَنَّهُ سَفَرٌ مُبَاحٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَرَادَ قَصْدَ بَلَدٍ لَهُ إِلَيْهِ طَرِيقَانِ ، أَحَدُهُمَا قَرِيبُ الْمَسَافَةِ لَا يُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ ، وَالْآخَرُ بَعِيدُ الْمَسَافَةِ يَقْصُرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ فَإِنْ سَلَكَ الْأَقْصَرَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ لِقُرْبِ مَسَافَتِهِ ، وَإِنْ سَلَكَ الْأَبْعَدَ فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَسْلُكَهُ لِعُذْرٍ ، أَوْ غَرَضٍ ، مِثْلُ عَدُوٍّ فِي الْأَقْرَبِ يَخَافُهُ عَلَى نَفْسِهِ ، أَوْ لِصٍّ يَخَافُهُ عَلَى مَالِهِ ، أَوْ طَالِبِ خِفَارَةٍ ، أَوْ سُلُوكِ عَقَبَةٍ شَدِيدَةٍ ، أَوْ يَخَافُ قِلَّةَ مَاءٍ ، أَوْ مَرْعًى ، أَوْ يَكُونُ لَهُ فِي الْأَبْعَدِ غَرَضٌ كَزِيَارَةِ قَرَابَةٍ ، أَوْ قَضَاءِ حَاجَةٍ ، أَوْ يَعْرِفُ خَيْرَ مَتَاعٍ ، فَهَذَا يَقْصُرُ فِي سُلُوكِ الْأَبْعَدِ إِنْ شَاءَ لَا يَخْتَلِفُ كَمَنْ لَا طَرِيقَ لَهُ سِوَاهُ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ فِي الْأَقْرَبِ عُذْرٌ ، وَلَا فِي الْأَبْعَدِ غَرَضٌ ، فَفِي جَوَازِ قَصْرِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ : يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ [ النِّسَاءِ : ] . وَلِأَنَّهَا مَسَافَةٌ يُقْصِرُ مِثْلُهَا الصَّلَاةَ فَجَازَ أَنْ يَقْصُرَ .

أَصْلُهُ : إِذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ ، أَوْ غَرَضٌ ، وَلِأَنَّ صِحَّةَ الْأَغْرَاضِ ، وَحُدُوثَ الْأَعْذَارِ لَا تُعْتَبَرُ فِي الْأَسْفَارِ إِذَا كَانَتْ مُبَاحَةً ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ سَافَرَ لِلنُّزْهَةِ ، وَالشَّهْوَةِ ، وَاخْتَارَ لَذَّةَ قَلْبِهِ ، وَطَلَبَ مُرَادِهِ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعْذُورًا كَذَلِكَ هَذَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ فِي سُلُوكِ الْأَبْعَدِ ، لِأَنَّ الْبَلَدَ الَّذِي قَصَدَهُ فِي حُكْمِ الْإِقَامَةِ لِقُرْبِ الْمَسَافَةِ ، وَإِذَا سَلَكَ الْأَبْعَدَ صَارَ كَأَنَّهُ قَدْ طَوَّلَ الْمَسَافَةَ لِأَجْلِ الْقَصْرِ ، وَتَطَوُّلُ الْمَسَافَةِ لِأَجْلِ الْقَصْرِ يَمْنَعُ مِنَ الْقَصْرِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ مَسَافَةً لَا يُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةَ فِي مُدَّةٍ تَقْصُرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ ، وَهُوَ أَنْ يَقْطَعَ عَشَرَةَ أَمْيَالٍ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ ، فَكَذَلِكَ إِذَا سَافَرَ إِلَى بَلَدٍ لَا يَقْصُرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةَ فِي طَرِيقٍ يَقْصُرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَيْسَ لِأَحَدٍ سَافَرَ فِي مَعْصِيَةٍ صلاة المسافر أَنْ يَقْصُرَ ، وَلَا يَمْسَحَ مَسْحَ الْمُسَافِرِ ، فَإِنْ فَعَلَ أَعَادَ وَلَا تَخْفِيفَ عَلَى مَنْ سَفَرُهُ فِي مَعْصِيَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا سَافَرَ مُنْشِئًا لِسَفَرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ كَقَطْعِ الطَّرِيقِ ، وَإِخَافَةِ السَّبِيلِ ، وَالسَّعْيِ بِالْفَسَادِ ، أَوْ خَرَجَ بَاغِيًا عَلَى مُسْلِمٍ ، أَوْ مُعَاهَدٍ ، أَوْ أَبَقًا مِنْ شِدَّةٍ ، أَوْ هَارِبًا مِنْ حَقٍّ لَزِمَهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى بَذْلِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَرَخَّصَ بِشَيْءٍ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ بِحَالٍ . قَالَ : لَا يَقْصُرُ مِنْ صَلَاتِهِ ، وَلَا يُفْطِرُ فِي صِيَامِهِ ، وَلَا يَمْسَحُ ثَلَاثًا عَلَى خُفِّهِ ، وَلَا يَتَنَفَّلُ عَلَى الرَّاحِلَةِ حَيْثُ مَا تَوَجَّهَتْ ، وَلَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ إِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ . وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَأَحْمَدُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالْمُزَنِيُّ : الْعَاصِي فِي سَفَرِهِ كَالطَّائِعِ فِي اسْتِبَاحَةِ الرُّخَصِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ [ النِّسَاءِ : ] . فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ هَارِبٍ مِنْ طَائِعٍ ، أَوْ عَاصٍ ، وَلِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ شَطْرَ الصَّلَاةِ قَالُوا : وَلِأَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ جَازَ الِاقْتِصَارُ فِيهَا عَلَى رَكْعَتَيْنِ اسْتَوَى فِي فِعْلِهَا الطَّائِعُ ، وَالْعَاصِي كَالْجُمُعَةِ ، وَالصُّبْحِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ لِلْمُقِيمِ رُخْصَةً وَلِلْمُسَافِرِ رُخْصَةً فَلَوْ مَنَعَتِ الْمَعْصِيَةُ مِنْ رُخْصَةِ الْمُسَافِرِ لَمَنَعَتْ مِنْ رُخْصَةِ الْمُقِيمِ ، فَلَمَّا جَازَ لِلْمُقِيمِ أَنْ يَتَرَخَّصَ أَيْضًا ، وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا ، جَازَ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَتَرَخَّصَ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا ، وَقَالُوا : وَلِأَنَّهُ لَوْ أَنْشَأَ سَفَرًا فِي طَاعَةٍ مِنْ حَجٍّ ، أَوْ جِهَادٍ ، ثُمَّ جَعَلَهُ مَعْصِيَةً لِسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ جَازَ أَنْ يَسْتَبِيحَ رُخَصَ السَّفَرِ ، كَذَلِكَ إِذَا أَنْشَأَ سَفَرَهُ عَاصِيًا . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنْ يَقُولَ : لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ فَجَازَ أَنْ يَسْتَبِيحَ الرُّخَصَ مَعَ الْمَعْصِيَةِ كَمَا لَوْ طَرَأَتِ الْمَعْصِيَةُ فِي سَفَرِهِ قَالُوا : وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلْعَاصِي أَنْ يَتَيَمَّمَ فِي سَفَرِهِ إِجْمَاعًا ، وَلَمْ تَمْنَعْهُ الْمَعْصِيَةُ مِنَ التَّيَمُّمِ كَذَلِكَ لَا تَمْنَعُهُ مِنْ سَائِرِ الرُّخَصِ كَالْقَصْرِ وَغَيْرِهِ .

قَالُوا : وَلِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَوْ مَنَعَتْهُ مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فِي سَفَرِهِ لَاسْتَبَاحَ بِالْمَعْصِيَةِ قَتْلَ نَفْسِهِ : لِأَنَّهُ إِذَا امْتَنَعَ مِنْ أَكْلِهَا أَفْضَى بِهِ الْجُوعُ إِلَى التَّلَفِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [ النِّسَاءِ : ] . وَلِأَنَّ مَعْصِيَتَهُ لَمَّا لَمْ تُبِحْ لَهُ قَتْلَ غَيْرِهِ لَمْ تُبِحْ لَهُ قَتْلَ نَفْسِهِ . وَالدَّلَالَةَ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [ الْمَائِدَةِ : ] . فَأَطْلَقَ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ عُمُومًا ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ جُمْلَةِ التَّحْرِيمِ مُضْطَرًّا لَيْسَ بِعَاصٍ فَقَالَ تَعَالَى : فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ [ الْمَائِدَةِ : ] . أَيْ غَيْرَ مُرْتَكِبٍ لِمَعْصِيَةٍ ، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَاصِي الْمُضْطَرُّ كَالطَّائِعِ الَّذِي لَيْسَ بِمُضْطَرٍّ فِي تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ عَلَيْهِمَا لِعُمُومِ التَّحْرِيمِ . وَقَالَ سُبْحَانَهُ : إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ الْبَقَرَةِ : ] . فَحَرَّمَ الْمَيْتَةَ تَحْرِيمًا عَامًّا ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُ مُضْطَرًّا غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : غَيْرُ بَاغٍ عَلَى الْإِمَامِ ، وَلَا عَادٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ [ الْمَائِدَةِ : ] . أَيْ : غَيْرَ مُرْتَكِبٍ لِتَنَاوُلِ مَا زَادَ عَلَى سَدِّ رَمَقِهِ ، وَبِقَوْلِهِ : " غَيْرَ بَاغٍ " أَيْ غَيْرَ طَالِبٍ لِأَكْلِ مَا لَا حَاجَةَ لَهُ إِلَيْهِ ، وَبِقَوْلِهِ : وَلَا عَادٍ ، أَيْ : لَا مُتَعَمِّدٍ فِيهَا بَعْدَ سَدِّ رَمَقِهِ . قِيلَ عَنْ هَذَا جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : اسْتِعْمَالُهُ فِي الْأَمْرَيْنِ ، وَحَمْلٌ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : وَهُوَ الْمَرْضِيُّ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الْمَيْتَةَ لِمُضْطَرٍّ غَيْرِ بَاغٍ ، وَلَا عَادٍ ، فَلَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى مَنْ زَادَ عَلَى سَدِّ رَمَقِهِ ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ ، وَالْإِبَاحَةُ لِمُضْطَرٍّ عَلَى حَقٍّ ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا عَدَمُ الْمَعْصِيَةِ . وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا : هُوَ أَنَّ رُخَصَ السَّفَرِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالسَّفَرِ ، وَمَنُوطَةٌ بِهِ ، فَلَمَّا كَانَ سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ مَمْنُوعًا مِنْهُ لِأَجْلِ الْمَعْصِيَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنَ الرُّخَصِ مَمْنُوعًا مِنْهُ لِأَجْلِ الْمَعْصِيَةِ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا بَاطِلٌ بِمَا إِذَا جَرَحَ نَفْسَهُ فَعَجَّزَهُ عَنِ الْقِيَامِ ، يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا ، وَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ مَعْصِيَةً ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إِذَا ضَرَبَتْ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْ مَا فِيهِ صلاة النفساء ، فَإِنَّهُ تَسْقُطُ عَنْهَا الصَّلَاةُ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ وَإِنْ كَانَ الضَّرْبُ مَعْصِيَةً ، قُلْنَا : جَوَازُ الْقُعُودِ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ ، وَالْعَجْزُ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مَعْصِيَةٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ مُتَوَلِّدٌ عَنِ الضَّرْبِ الَّذِي هُوَ مَعْصِيَةٌ ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ إِنَّمَا تَسْقُطُ بِوُجُودِ النِّفَاسِ وَلَيْسَ النِّفَاسُ مَعْصِيَةٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ مُتَوَلِّدٌ عَنِ الْإِسْقَاطِ الْحَادِثِ عَنْ سَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ ، فَلِذَلِكَ مَا جَوَّزْنَاهُ ، وَسَبَبُ هَذِهِ الرُّخَصِ هُوَ السَّفَرُ لَا غَيْرَ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ

مَعْصِيَةٌ لِأَنَّ السَّفَرَ حَرَكَاتُهُ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا مُعَاقِبٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْلِبَ التَّخْفِيفَ وَالرُّخْصَ ، وَلِأَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّفَرِ مِنْ رُخْصَةِ تَخْفِيفٍ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِيهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ مَعُونَةً لَهُمْ وَقُوَّةً عَلَى سَفَرِهِمْ ، وَالْعَاصِي لَا يَسْتَحِقُّ الْمَعُونَةَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَبِيحَ الرُّخْصَةَ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ مَانِعًا مِنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ لِأَجْلِ الْمَعْصِيَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنْ سَائِرِ الرُّخَصِ لِأَجْلِ الْمَعْصِيَةِ ، وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ السَّبَبَ الْمَحْظُورَ لَا يُسْقِطُ شَيْئًا مِنْ فَرْضِ الصَّلَاةِ كَالْخَوْفِ بِالْقِتَالِ الْمَحْظُورِ لَا يُبِيحُ صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ ، وَلِأَنَّ الرُّخَصَ إِذَا اسْتُبِيحَتْ بِشَرْطٍ ، وَكَانَ الشَّرْطُ مَرْدُودًا بِالشَّرْعِ صَارَ مَفْقُودًا كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لَمَّا شُرِطَ فِي عُودِهَا إِلَى الْأَوَّلِ نِكَاحُ زَوْجٍ ثَانٍ ، ثُمَّ كَانَ نِكَاحُ الزَّوْجِ الثَّانِي لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِفَسَادِهِ كَانَ وَجُودُهُ كَعَدَمِهِ فِي تَحْرِيمِهَا عَلَى الْأَوَّلِ ، كَذَلِكَ الْقَصْرُ لَمَّا كَانَ مَشْرُوطًا بِالسَّفَرِ وَكَانَ سَفَرُهُ لِمَعْصِيَةٍ مَرْدُودًا بِالشَّرْعِ صَارَ كَالْمَعْدُومِ ، وَإِذَا عُدِمَ السَّفَرُ حُرِّمَتِ الرُّخْصَةُ . فَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِالْآيَةِ وَالْخَبَرِ فَأَدِلَّتُنَا مُخَصَّصَةٌ لَهُمَا ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجُمُعَةِ وَالصُّبْحِ فَوَصْفُ الْعِلَّةِ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْأَصْلِ عِنْدَنَا ، وَفِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ عِنْدَهُمْ ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْجُمُعَةِ وَفِي الصُّبْحِ أَنَّ الِاقْتِصَارَ فِيهِمَا عَلَى رَكْعَتَيْنِ لَا يَخْتَصُّ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ فَلَا يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ طَاعَتِهِ ، وَمَعْصِيَتِهِ ، وَلَمَّا كَانَتْ رُخَصُ السَّفَرِ بِسَبَبٍ حَادِثٍ مِنْ جِهَتِهِ ، وَهُوَ السَّفَرُ وَقَعَ الْفَرْقُ فِيهِ بَيْنَ طَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ فَاسْتَبَاحَ الرُّخْصَ مَعَ الطَّاعَةِ وَمَنَعَ مِنْهَا مَعَ الْمَعْصِيَةِ ، وَأَمَّا جَمْعُهُمْ بَيْنَ مَعْصِيَةِ الْمُقِيمِ ، وَالْمُسَافِرِ فِي جَوَازِ اسْتِبَاحَةِ الرُّخَصِ ، فَقَدْ كَانَ أَبُو سَعِيدٍ الِاصْطَخْرِيُّ يَمْنَعُ الْمُقِيمَ مِنْهَا كَمَا يَمْنَعُ الْمُسَافِرَ وَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي حَظْرِ الرُّخَصِ عَلَيْهِمَا ، فَعَلَى هَذَا بَطَلَ اسْتِدْلَالُهُمْ بِهِ ، وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الْمُقِيمَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَرَخَّصَ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْإِقَامَةَ نَفْسَهَا لَيْسَتْ مَعْصِيَةً : لِأَنَّهَا كَفٌّ وَإِنَّمَا الْفِعْلُ الَّذِي تُوقِعُهُ فِي الْإِقَامَةِ مَعْصِيَةٌ ، فَلَمَّا لَمْ تَكُنِ الْإِقَامَةُ مَعْصِيَةً لَمْ تَمْنَعِ الرُّخَصَ ، وَالسَّفَرَ فِي نَفْسِهِ مَعْصِيَةٌ ، لِأَنَّهُ فِعْلٌ ، وَحَرَكَةٌ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْمَعَاصِي فَكَانَتْ مَعْصِيَةً ، وَإِذَا كَانَ السَّفَرُ مَعْصِيَةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبِيحَ الرُّخَصَ . فَإِنْ قِيلَ : قَدْ تَكُونُ نَفْسُ الْإِقَامَةِ مَعْصِيَةً وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ الْإِقَامَةَ لِزِنًا ، أَوْ قَتْلِ إِنْسَانٍ . قِيلَ : لَا تَكُونُ الْإِقَامَةُ مَعْصِيَةً ، وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْفِعْلِ ، وَمَا نَوَاهُ مِنَ الرِّقِّ ، وَالْقَتْلِ ، أَلَا تَرَاهُ يُعَاقَبُ عَلَى عَزْمِهِ ، وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى نِيَّةِ مُقَامِهِ ، وَالسَّفَرُ حَرَكَاتٌ هُوَ عَلَيْهَا مُعَاقِبٌ ، فَعُلِمَ أَنَّ السَّفَرَ مَعْصِيَةٌ ، وَالْإِقَامَةَ لَيْسَتْ بِمَعْصِيَةٍ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّنْ أَحْدَثَ الْمَعْصِيَةَ فِي سَفَرِهِ ، وَقَدْ أَنْشَأَهُ طَائِعًا فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ نَصٌّ ، وَلِأَصْحَابِنَا فِيهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الدَّارِكِيِّ وَعَزَاهُ لِأَصْحَابِنَا : لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَرَخَّصَ كَالْمُنْشِئِ لِسَفَرِهِ فِي مَعْصِيَةٍ فَعَلَى هَذَا سَقَطَ اسْتِدْلَالُهُمْ بِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا : يَجُوزُ أَنْ يَتَرَخَّصَ لِأَنَّ الَّذِي جَلَبَ لَهُ هَذِهِ الرُّخَصُ إِحْدَاثُ السَّفَرِ ، وَإِحْدَاثُهُ لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا إِحْدَاثُهُ مَعْصِيَةٌ فَافْتَرَقَا فِي اسْتِبَاحَةِ الرُّخَصِ . وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّيَمُّمِ فَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُنَا فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ ، وَلَكِنْ هَلْ يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُعِيدُ ، فَعَلَى هَذَا لَا تَخْفِيفَ . وَالثَّانِي : لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الرُّخَصِ أَنَّ الرُّخْصَ يُخَيَّرُ بَيْنَ فِعْلِهَا وَتَرْكِهَا ، وَالتَّيَمُّمُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ تَرْكِهِ ، وَفِعْلِهِ ، وَإِنْ تَرَكَهُ كَانَ عَاصِيًا بِتَرْكِهِ ، وَلَوْ تَرَكَ الرُّخْصَةَ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا بِتَرْكِهَا فَافْتَرَقَا . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ فِي مَنْعِ الْمُضْطَرِّ الْعَاصِي مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ إِتْلَافَ نَفْسِهِ ، وَحِرَاسَةُ نَفْسِهِ وَاجِبٌ ، قُلْنَا : إِذَا اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِهَا وَهُوَ عَاصٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَكْلُهَا لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ إِلَّا بَعْدَ إِحْدَاثِ التَّوْبَةِ ، كَمَا أَنَّ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتَ الصَّلَاةِ ، وَهُوَ مُحْدِثٌ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُ الصَّلَاةِ ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهَا مُحْدِثًا إِلَّا بَعْدَ الطَّهَارَةِ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهَا كَمَا أَنَّ الْمُضْطَرَّ الْعَاصِيَ قَادِرٌ عَلَى التَّوْبَةِ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَاصِيَ مَمْنُوعٌ فِي سَفَرِهِ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ كُلِّهَا ، فَفِي جَوَازِ مَسْحِهِ عَلَى خُفِّهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ ، وَالْمَسْحُ يَوْمًا وَلَيْلَةً رُخْصَةٌ لِلْمُقِيمِ ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ أَصْلًا ، لِأَنَّهُ عَاصٍ فِي سَفَرِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَرَخَّصَ . وَلَيْسَ مِنْ حَيْثُ كَانَ لِلْمُقِيمِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ ، وَهُوَ مُقِيمٌ ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَأْكُلُهَا مُسَافِرًا عَاصِيًا بِسَفَرِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنْ صَلَّى مُسَافِرٌ بِمُقِيمِينَ ، وَمُسَافِرِينَ فَإِنَّهُ يُصَلِّي ، وَالْمُسَافِرُونَ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ يُسَلِّمُ بِهِمْ ، وَأَمَرَ الْمُقِيمِينَ أَنْ يُتِمُّوا أَرْبَعًا وَكُلُّ مُسَافِرٍ فَلَهُ أَنْ يُتِمَّ ، وَإِنُّمَا رَخَّصَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ الصَّلَاةَ إِنْ شَاءَ ، فَإِنْ أَتَمَّ فَلَهُ الْإِتْمَامُ ، وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يُتِمُّ الصَّلَاةَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ .

إِذَا اجْتَمَعَ مُسَافِرُونَ وَمُقِيمُونَ فَأَرَادُوا الصَّلَاةَ جَمَاعَةً أولاهم بالإمامة فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ إِمَامُ الْوَقْتِ أَوْ سُلْطَانُ الْبَلَدِ فَهُوَ أَوْلَاهُمْ بِالْإِمَامَةِ مُقِيمًا كَانَ أَوْ مُسَافِرًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ إِمَامٌ وَلَا سُلْطَانٌ ، وَاسْتَوَوْا فِي الْفِقْهِ ، وَالْقِرَاءَةِ فَإِمَامَةُ الْمُقِيمِ أَوْلَى لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ ، وَالْإِتْمَامُ أَفْضَلُ . وَالثَّانِي : لِأَنَّهُ يَسْتَوِي مَنْ خَلْفَهُ فَيَكُونُ فَرَاغُهُمْ عَلَى سَوَاءٍ ، فَلِهَذَيْنِ كَانَتْ إِمَامَةُ الْمُقِيمِ أَوْلَى ، فَإِنْ قَدَّمُوا مُسَافِرًا جَازَ ، وَإِنْ كَانَ الْمُقِيمُ أَوْلَى ، وَهَلْ تُكْرَهُ إِمَامَتُهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ لَهُمْ لِخُرُوجِهِ مِنَ الصَّلَاةِ قَبْلَهُمْ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ لَا يُكْرَهُ لَهُمْ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ بِخِلَافِ الْمُقِيمِ فِي إِبَاحَةِ الرُّخْصَةِ ، وَلَيْسَ اسْتِبَاحَةُ الرُّخْصَةِ نَقْصًا فِيهِ ، فَإِذَا أَمَّهُمْ صَلَّى ، وَمَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمُسَافِرِينَ رَكْعَتَيْنِ إِنْ أَحَبُّوا الْقَصْرَ وَوَجَبَ عَلَى مَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمُقِيمِينَ أَنْ يُتِمُّوا الصَّلَاةَ أَرْبَعًا ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْصُرُوا لِأَنَّ فَرْضَهُمُ الْإِتْمَامُ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِقَوْمٍ ، ثُمَّ قَالَ : أَتِمُّوا يَا أَهْلَ مَكَّةَ . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ صَلَّى بِقَوْمٍ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ أَتِمُّوا أَيُّهَا الْمُقِيمُونَ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ . وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُثْمَانَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، اخْتِيرَ أَنْ يَأْمُرَ الْمُقِيمِينَ بِإِتْمَامِ الصَّلَاةِ أَرْبَعًا ، فَلَوْ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ قَبْلَ إِحْرَامِهِمْ كَانَ أَوْلَى لِأَنَّهُ رُبَّمَا جَهِلَ بَعْضُهُمْ فَسَلَّمَ بِسَلَامِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ ، فَإِذَا أَرَادَ الْمُقِيمُونَ إِتْمَامَ صَلَاتِهِمْ أَرْبَعًا بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ فَاسْتَخْلَفَ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ وَاحِدًا مِنْهُمْ لِيُتِمَّ بِهِمْ ، أَوْ قَدَّمُوا أَحَدَهُمْ ، وَقِيلَ بِجَوَازِ الِاسْتِخْلَافِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ فَفِي جَوَازِ هَذَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ إِذَا خَرَجَ مِنْهَا قَبْلَ تَمَامِ صَلَاتِهِ جَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ إِذَا خَرَجَ مِنْهَا قَبْلَ تَمَامِ صَلَاتِهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ الِاسْتِخْلَافُ عَلَيْهِمْ وَيُتِمُّونَ الصَّلَاةَ فُرَادَى : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَافَى مَعَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَقَدْ صَلَّى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالنَّاسِ رَكْعَةً فَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَةً ، فَلَمَّا فَرَغَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَتَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَؤُمَّ الْمُغِيرَةَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِخْلَافَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ غَيْرُ جَائِزٍ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ جَوَازِ الِاسْتِخْلَافِ قَبْلَ فَرَاغِ

الْإِمَامِ هُوَ أَنَّ كَمَالَ الْجَمَاعَةِ لَمْ يَحْصُلْ بِخُرُوجِ الْإِمَامِ قَبْلَ الْفَرَاغِ فَجَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ لِتَكْمُلَ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ ، وَإِذَا خَرَجَ مِنْهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ فَقَدْ حَصَلَ لَهُمْ كَمَالُ الْجَمَاعَةِ فَلَمْ يَجُزِ الِاسْتِخْلَافُ بَعْدَ الْكَمَالِ ، فَأَمَّا جَوَازُ إِتْمَامِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ فَالْكَلَامُ فِيهِ مَعَ الْمُخَالِفِ قَدْ تَقَدَّمَ . فَأَمَّا صَلَاةُ النَّافِلَةِ فِي السَّفَرِ فَمُسْتَحَبَّةٌ ، وَغَيْرُ مَكْرُوهَةٍ ، وَقَدْ حَكَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ شَاذٍّ مِنَ الْفُقَهَاءِ كَرَاهَتَهَا لِأَنَّهُ لَمَّا رَخَّصَ لِلْمُسَافِرِ فِي تَرْكِ بَعْضِ الْفَرْضِ مَنَعَ مِنَ النَّفْلِ وَهَذَا غَلَطٌ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَنَفَّلُ عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ : لِأَنَّ مَسْنُونَاتِ السَّفَرِ ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ يَتَخَلَّلُهَا ، وَضَرْبٌ يَتَعَقَّبُهَا ، فَلَمَّا جَازَ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَأْتِيَ بِالْمَسْنُونِ فِي حَالِ فَرْضِهِ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالْقُنُوتِ وَغَيْرِهِ جَازَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْمَسْنُونِ عُقَيْبَ فَرْضِهِ .

مَسْأَلَةٌ : وَاحْتَجَّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ بِأَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ فِي سَفَرِهِ إِلَى تَبُوكَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ جَمِيعًا وَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ ، وَالْعِشَاءِ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ ، وَأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ : أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ ؟ كَانَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وَقْتِ الزَّوَالِ ، وَإِذَا سَافَرَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَصْرِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَأَحْسَبُهُ فِي الْمَغْرِبِ ، وَالْعِشَاءِ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَهَكَذَا فَعَلَ بِعَرَفَةَ أَنَّهُ أَرْفَقُ بِهِ تَقْدِيمُ الْعَصْرِ لِيَتَّصِلَ لَهُ الدُّعَاءُ ، وَأَرْفَقُ بِهِ بِالْمُزْدَلِفَةِ تَأْخِيرُ الْمَغْرِبِ لِيَتَّصِلَ لَهُ السَّفَرُ ، فَلَا يَنْقَطِعَ بِالنُّزُولِ لِلْمَغْرِبِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ ، فَدَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ الْقَصْرُ فَلَهُ الْجَمْعُ كَمَا وَصَفْتُ ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وقت الجمع بين الصلاتين فِي أَيِّ الْوَقْتَيْنِ شَاءَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا سَافَرَ الرَّجُلُ سَفَرًا تُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ ، وَالْعَصْرِ فِي وَقْتِ أَيِّهِمَا شَاءَ ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ ، وَالْعِشَاءِ والجمع بينهما في السفر فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجْمَعُ إِلَّا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِعَرَفَاتٍ ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ فِي وَقْتِ عِشَاءِ الْآخِرَةِ بِمُزْدَلِفَةَ مُسَافِرًا كَانَ أَوْ مُقِيمًا حَاضِرًا ، وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [ النِّسَاءِ : ] . فَأَوْجَبَ فِعْلَهَا فِي أَوْقَاتِهَا وَمَنَعَ مِنْ تَأْخِيرِهَا ، وَتَقْدِيمِهَا ، وَالْجَمْعِ تَأْخِيرٍ ، أَوْ تَقْدِيمٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْهُ ، وَرِوَايَةُ قَتَادَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا تَفْرِيطَ فِي النَّوْمِ إِنَّمَا التَّفْرِيطُ أَنْ تُؤَخِّرَ صَلَاةً حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ صَلَاةٍ أُخْرَى فَأَخْبَرَ أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ إِلَى غَيْرِ وَقْتِهَا تَفْرِيطٌ . قَالَ : وَلِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ لَا يَجُوزُ لِلْمُقِيمِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَعَ زَوَالِ الْعُذْرِ ، فَيَجِبُ أَنْ لَا

يَجُوزَ لِلْمُسَافِرِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِالسَّفَرِ كَالْعَصْرِ مَعَ الْمَغْرِبِ ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَدِهَا كَالصُّبْحِ . قَالَ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ قَالَ : الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنَ الْكَبَائِرِ . قَالَ : وَعُمَرُ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ فِيمَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ أَوْ يَسُوغُ فِي الِاجْتِهَادِ مَعَ مُشَاهَدَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَسْفَارِهِ ، وَمَعْرِفَتِهِ بِأَحْوَالِ صَلَاتِهِ رَأْيًا وَاجْتِهَادًا ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ إِمَّا تَوْقِيفًا ، أَوْ إِجْمَاعًا ، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ خَطَأٌ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ : كَانَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الزَّوَالِ ، أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَصْرِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ . وَرَوَى اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ : غَرَبَتِ الشَّمْسُ ، وَنَحْنُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، فَسَارَ ، فَلَمَّا أَمْسَى قُلْنَا الصَّلَاةَ ، فَسَارَ حَتَّى غَابَ الشَّفَقُ ، وَتَصَوَّبَتِ النُّجُومُ ، ثُمَّ نَزَلَ وَجَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ ، وَالْعِشَاءِ ، وَقَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ يُصَلِّي صَلَاتِي هَذِهِ وَيَقُولُ : يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ لَيْلٍ أَيْ بَعْدَ مُضِيِّ هَوِيٍّ مِنَ اللَّيْلِ . وَلِأَنَّهُ سَفَرٌ يَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ ، فَجَازَ فِيهِ الْجَمْعُ كَالْحَجِّ ، وَلِأَنَّ كُلَّ رُخْصَةٍ جَازَتْ فِي سَفَرِ الْحَجِّ جَازَتْ فِي السَّفَرِ الْمُبَاحِ كَـ " الْقَصْرِ " لِأَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ أَوْكَدُ مِنْ وَقْتِهَا ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِلسَّفَرِ تَأْثِيرٌ فِي تَرْكِ بَعْضِ الصَّلَاةِ فَلَأَنْ يَكُونَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي تَرْكِ الْوَقْتِ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ الْعِبَادَةَ قَدْ تَتَحَتَّمُ فِي الْحَضَرِ فِي وَقْتٍ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنْهُ ، ثُمَّ يَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُهَا فِي السَّفَرِ ، يُبَيِّنُ ذَلِكَ تَرْكُ الْوَقْتِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ ، وَهُوَ الْفِطْرُ كَذَلِكَ الصَّلَاةُ ، وَإِنْ تَحَتَّمَ وَقْتُهَا فِي الْحَضَرِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجُوزَ تَأْخِيرُهَا عَنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي السَّفَرِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [ النِّسَاءِ : ] ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّ وَقْتَ الْجَمْعِ يَكُونُ وَقْتًا لَهُمَا ، أَلَا تَرَاهُ يَكُونُ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا . وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ ، فَخَبَرُنَا خَاصٌّ إِذِ الْوَصْفُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ ، لِأَنَّ الْمُقِيمَ قَدْ يَجْمَعُ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصُّبْحِ ، وَالْعَصْرِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْوَصْفَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِأَنَّ الْمُقِيمَ قَدْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا .

وَالثَّانِي : أَنَّ خِلَافَنَا فِي السَّفَرِ هَلْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْجَمْعِ أَمْ لَا ؟ وَكَيْفِيَّةُ الْجَمْعِ فَرْعٌ لَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَدَّ الْأَصْلُ إِلَى فَرْعِهِ ، عَلَى أَنَّ الرُّخْصَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالصَّلَاةِ لِأَجْلِ السَّفَرِ رُخْصَتَانِ : الْقَصْرُ ، وَالْجَمْعُ ، فَلَمَّا اخْتَصَّ بِالْقَصْرِ بَعْضُ الصَّلَاةِ دُونَ بَعْضٍ كَذَلِكَ الرُّخْصَةُ الْأُولَى ، وَهِيَ الْجَمْعُ ، ثُمَّ نَقُولُ : إِنَّ الْمَعْنَى فِي الْعَصْرِ ، وَالْمَغْرِبِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ جَمْعُهَا إِلَى غَيْرِهَا ، فَلَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ، وَكَذَلِكَ الصُّبْحُ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُجْمَعَ إِلَى غَيْرِهَا : لِأَنَّ الَّتِي قَبْلَهَا الْعِشَاءُ ، وَهِيَ تُجْمَعُ إِلَى الْمَغْرِبِ ، وَالَّتِي بَعْدَهَا الظُّهْرُ وَهِيَ تُجْمَعُ إِلَى الْعَصْرِ ، فَأَمَّا مَا رَوَاهُ عَنْ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ قَالَ : الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مِنَ الْكَبَائِرِ . فَهَذَا غَيْرُ ثَابِتٍ ، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِغَيْرِ عُذْرٍ مِنَ الْكَبَائِرِ . وَالسَّفَرُ عُذْرٌ ، فَكَيْفَ يَصِحُّ مَا رَوَوْهُ عَنْ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَحَدِيثُ الْجَمْعِ مُسْتَفِيضٌ فِي الصَّحَابَةِ بِرِوَايَةِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَدْفَعُونَهُ وَلَا يُنْكِرُونَهُ حَتَّى رَوَاهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ؟ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الثَّابِتَ عَنْ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، مَا رَوَيْنَاهُ . فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ الْجَمْعِ فِي سَفَرِ الْقَصْرِ فَفِي جَوَازِهِ فِي قَصِيرِ السَّفَرِ وَجْهَانِ : أَصَحُّهُمَا : وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ لَا يَجْمَعُ ، لِأَنَّهُ سَفَرٌ لَا يَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ ، فَلَمْ يَجُزْ فِيهِ الْجَمْعُ كَسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ تَخْرِيجُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا فِي الْقَدِيمِ ، يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ فِي قَصِيرِ السَّفَرِ كَجَوَازِهِ فِي طَوِيلِهِ ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا يَمْنَعُ مِنْ تَخْرِيجِ هَذَا الْقَوْلِ . فَإِنْ صَحَّ فَوَجْهُهُ أَنْ يُقَالَ : لَمَّا جَازَ الْجَمْعُ فِي الْحَضَرِ بِالْعُذْرِ كَجَوَازِهِ بِالسَّفَرِ اقْتَضَى أَنْ لَا يَقَعَ الْفَرْقُ فِيهِ بَيْنَ طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ كَالتَّيَمُّمِ ، وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا يُؤَخِّرُ الْأُولَى عَنْ وَقْتِهَا إِلَّا بِنِيَّةِ الْجَمْعِ وَإِنْ صَلَّى الْأُولَى فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا وَلَمْ يَنْوِ مَعَ التَّسْلِيمِ الْجَمْعَ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْجَمْعُ فَإِنْ نَوَى مَعَ التَّسْلِيمِ الْجَمْعَ كَانَ لَهُ الْجَمْعُ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : هَذَا عِنْدِي أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ فِي الْجَمْعِ فِي الْمَطَرِ فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَاتِ بَيْنَ الظُّهْرِ ، وَالْعَصْرِ ، وَالْمَغْرِبِ ، وَالْعِشَاءِ لَا يَجْمَعُ إِلَّا مَنِ افْتَتَحَ الْأُولَى بِنِيَّةِ الْجَمْعِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا أَرَادَ الْمُسَافِرُ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ التخيير في البدء والتاخير فيهما فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ إِلَى وَقْتِ الْعِشَاءِ ، وَإِنْ شَاءَ قَدَّمَ الْعَصْرَ إِلَى وَقْتِ الظُّهْرِ ، وَالْعِشَاءِ إِلَى وَقْتِ الْمَغْرِبِ . فَإِذَا أَرَادَ تَأْخِيرَ الْأُولَى مِنْهُمَا إِلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ لَمْ يَجُزْ لَهُ تَأْخِيرُهُ إِلَّا بِنِيَّةِ الْجَمْعِ ، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ : لِأَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا قَدْ يَكُونُ تَارَةً مَعْصِيَةً ، وَهُوَ أَنْ يُؤَخِّرَهَا عَامِدًا لِغَيْرِ جَمْعٍ ، وَقَدْ يَكُونُ تَارَةً مُبَاحًا وَهُوَ أَنْ يُؤَخِّرَهَا لِلْجَمْعِ

وَصُورَةُ التَّأْخِيرَيْنِ سَوَاءٌ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ نِيَّةِ الْجَمْعِ مَعَ التَّأْخِيرِ لِيُمَيِّزَ بَيْنَ تَأْخِيرِ الْمَعْصِيَةِ ، وَغَيْرِ الْمَعْصِيَةِ ، فَإِذَا نَوَى الْجَمْعَ بِتَأْخِيرِ الظُّهْرِ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ قَدَّمَ الظُّهْرَ فَصَلَّاهَا أَوَّلًا ، ثُمَّ الْعَصْرَ بَعْدَهَا ، وَلَمْ يَتَنَفَّلْ بَيْنَهُمَا بَلْ يَأْتِي بِالْعَصْرِ عَقِبَ الظُّهْرِ مِنْ غَيْرِ تَطَاوُلٍ ، وَلَا فَصْلٍ ، فَإِذَا أَتَى بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ أَعْنِي تَقْدِيمَ الظُّهْرِ وَقُرْبَ الزَّمَانِ شرطي الجمع بين الظهر والعصر صَحَّ لَهُ الْجَمْعُ وَكَانَ مُؤَدِّيًا لِكِلَا الصَّلَاتَيْنِ ، لِأَنَّ وَقْتَ الْجَمْعِ وَقْتُ الصَّلَاتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ . وَإِنْ أَخَلَّ بِأَحَدِ الشَّرْطَيْنِ وَهُوَ قُرْبُ الزَّمَانِ فَصَلَّى الظُّهْرَ أَرْبَعًا ، ثُمَّ تَنَفَّلَ ، أَوْ صَبَرَ زَمَنًا طَوِيلًا ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ لَمْ يَكُنْ جَامِعًا بَيْنَهُمَا ، وَكَانَ قَاضِيًا لِلظُّهْرِ مُؤَدِّيًا لِلْعَصْرِ ، وَلَا يَكُونُ بِذَلِكَ عَاصِيًا : لِأَنَّهُ قَدْ صَلَّى الْعَصْرَ فِي وَقْتِهَا ، وَالظُّهْرُ قَدْ كَانَ لَهُ تَأْخِيرُهَا ، وَإِنْ كَانَ إِخْلَالُهُ بِالشَّرْطِ الْآخَرِ : وَهُوَ أَنْ يُقَدِّمَ الْعَصْرَ أَوَّلًا ، ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ بَعْدَهَا الجمع بين الصلاتين فَلَا يَكُونُ جَامِعًا بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ ، وَيُجْزِئُهُ الصَّلَاتَيْنِ مَعًا . ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ صَلَّى الظُّهْرَ عُقَيْبَ الْعَصْرِ مِنْ غَيْرِ تَطَاوُلٍ الجمع بين الصلاتين لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ نَسِيَ صَلَاةَ الظُّهْرِ ، ثُمَّ ذَكَرَهَا وَقَدْ دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ ، الْأَوْلَى أَنْ يُقَدِّمَ صَلَاةَ الظُّهْرِ ، وَجَائِزٌ أَنْ يُقَدِّمَ صَلَاةَ الْعَصْرِ ، وَإِنْ تَطَاوَلَ الزَّمَانُ كَأَنَّهُ صَلَّى الْعَصْرَ ، ثُمَّ صَبَرَ زَمَانًا طَوِيلًا ، ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ الجمع بين الصلاتين فَهَذَا عَاصٍ لِتَأْخِيرِ الظُّهْرَ بَعْدَ الْعَصْرِ إِذَا تَطَاوَلَ الزَّمَانُ : لِأَنَّ لَهُ تَأْخِيرَهَا إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ بِنِيَّةِ الْجَمْعِ ، وَيَجُوزُ لَهُ تَقْدِيمُ الْعَصْرِ عَلَيْهَا إِذَا تَرَكَ الْجَمْعَ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُهَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ ، فَإِنْ أَخَّرَهَا كَانَ عَاصِيًا ، وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ يَكُونُ الْجَوَابُ مِنْ إِخْلَالِهِ بِالشَّرْطَيْنِ مَعًا فَهَذَا الْكَلَامُ فِي تَأْخِيرِ الظُّهْرِ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ ، وَكَذَلِكَ الْمَغْرِبُ إِلَى وَقْتِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ تَقْدِيمَ الْعَصْرِ إِلَى وَقْتِ الظُّهْرِ الجمع بين الصلاتين فَلَا يَصِحُّ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِثَلَاثِ شَرَائِطَ : أَحَدُهَا : تَقْدِيمُ صَلَاةِ الظُّهْرِ أَوَّلًا ، ثُمَّ يَفْعَلُ الْعَصْرَ بَعْدَهَا لِأَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِلْعَصْرِ لَا فِي الْأَدَاءِ ، وَلَا فِي الْقَضَاءِ ، وَإِنَّمَا تَقْدِيمُ الْعَصْرِ إِلَى وَقْتِ الظُّهْرِ فِي الْجَمْعِ تَبَعًا لَهَا ، فَإِنْ قَدَّمَ الْعَصْرَ عَلَى الظُّهْرِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاةُ الظُّهْرِ ، وَلَمْ تُجْزِهِ صَلَاةُ الْعَصْرِ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْجَمْعِ يَمْنَعُ مِنْ تَقْدِيمِ الصَّلَاةِ عَلَى وَقْتِهَا . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَنْوِيَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي الْأُولَى مِنْهُمَا . وَقَالَ الْمُزَنِيُّ : هَذَا الشَّرْطُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَالنِّيَّةُ فِي الْجَمْعِ بين الصلاتين في السفر غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ قُرْبُ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا ، قَالَ : لِأَنَّ السَّفَرَ يَرْفَعُ نِيَّةَ الْجَمْعِ ، وَيَقْطَعُ حُكْمَ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَكُنْ لِتَقْدِيمِ النِّيَّةِ وَجْهًا يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ ، قَالَ : وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ مَعَ كَوْنِهِ جَبْرًا لِلصَّلَاةِ لَوْ سَهَا عَنِ الْإِتْيَانِ بِهِ قَبْلَ السَّلَامِ كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ قُرْبَ الْفَصْلِ ، وَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى تَقْدِيمِ النِّيَّةِ قَبْلَ السَّلَامِ ، فَلَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ أَوْلَى .

وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ غَلَطٌ : وَنِيَّةُ الْجَمْعِ فِي الصَّلَاةِ الْأُولَى وَاجِبَةٌ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ هُوَ أَنَّ الصَّلَاتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ ، بِدَلَالَةِ أَنَّهُ إِذَا طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا لَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ ، وَالصَّلَاةُ الْوَاحِدَةُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ النِّيَّةِ فِي ابْتِدَائِهَا ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا مَعَ إِمْكَانِ فِعْلِهَا فِي الْحَالِ إِلَّا بِنِيَّةِ الْجَمْعِ كَانَ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا مَعَ تَعَذُّرِ فِعْلِهَا أَوْلَى بِإِيجَابِ نِيَّةِ الْجَمْعِ لَهَا . وَإِنْ شِئْتَ حَرَّرْتَ ذَلِكَ قِيَاسًا فَقُلْتَ : لِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ مَجْمُوعَتَانِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا فَوَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ إِلَّا بِنِيَّةِ الْجَمْعِ . أَصْلُهُ : إِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا . فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ رَفْعِ نِيَّةِ الْجَمْعِ ، وَانْقِطَاعِ حُكْمِ الصَّلَاةِ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا فَدَعْوَى غَيْرُ مَدْلُولٍ عَلَيْهَا ، وَلَا مُوَافَقٍ عَلَى صِحَّتِهَا ، إِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَتَعَقَّبْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا أَوْ يُشَارِكُهَا فِي حُكْمِهَا ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ نَسِيَ مِنْ أَرْكَانِهَا رُكْنًا مِنْ رُكُوعٍ ، وَسُجُودٍ أَتَى بِهِ ، وَلَمْ يَكُنِ السَّلَامُ رَافِعًا لِحُكْمِهِ . كَذَلِكَ أَيْضًا لَا يَكُونُ السَّلَامُ رَافِعًا لِنِيَّةِ الْجَمْعِ ، وَأَمَّا سُجُودُ السَّهْوِ فَإِنَّمَا لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى النِّيَّةِ : لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِالنِّيَّةِ مَعَ الْإِحْرَامِ ، لِأَنَّهُ يَنْوِي الصَّلَاةَ بِفُرُوضِهَا ، وَمَسْنُونِهَا ، وَسُجُودُ السَّهْوِ يَدُلُّ عَلَى الْمَسْنُونِ ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى نِيَّةٍ مُجَرَّدَةٍ ، لِأَنَّ نِيَّةَ الصَّلَاةِ قَدْ تَضَمَّنَتْهُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ نِيَّةَ الْجَمْعِ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبَةٌ فَفِي مَحَلِّهَا محل النية في الجمع بين الصلاتين في السفر قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ : أَحَدُهُمَا : مَعَ الْإِحْرَامِ ، فَإِنْ نَوَى الْجَمْعَ بَعْدَ إِحْرَامِهِ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ رُخْصَتَانِ : قَصْرٌ وَجَمْعٌ ، فَلَمَّا لَمْ تُجْزِئْهُ نِيَّةُ الْقَصْرِ إِلَّا مَعَ الْإِحْرَامِ لَمْ تُجْزِ نِيَّةُ الْجَمْعِ إِلَّا مَعَ الْإِحْرَامِ ، وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنْ يَقُولَ : لِأَنَّهَا رُخْصَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ ، فَافْتَقَرَتْ إِلَى النِّيَّةِ مَعَ الْإِحْرَامِ كَالْقَصْرِ ، وَلِأَنَّ الْجَمْعَ جَمْعَانِ ، جَمْعٌ هُوَ تَأْخِيرُ الْأُولَى إِلَى الثَّانِيَةِ ، وَجَمْعٌ هُوَ تَقْدِيمُ الثَّانِيَةِ إِلَى الْأُولَى ، فَلَمَّا وَجَبَتْ نِيَّةُ أَحَدِ الْجَمْعَيْنِ مَعَ التَّأْخِيرِ اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ نِيَّةُ الْجَمْعِ الثَّانِي مَعَ التَّقْدِيمِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ إِنْ نَوَى بَعْدَ إِحْرَامِهِ وَقَبْلَ سَلَامِهِ أَجْزَأَهُ ، لِأَنَّ الْجَمْعَ هُوَ الضَّمُّ وَالْمُتَابَعَةُ ، وَوَقْتُ الضَّمِّ حَالُ السَّلَامِ ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَنْوِيَ الْجَمْعَ فِي غَيْرِ وَقْتِ الضَّمِّ وَهُوَ وَقْتُ الْإِحْرَامِ ، كَانَ يُجْزِئُهُ إِذَا نَوَى الْجَمْعَ فِي وَقْتِ الضَّمِّ ، وَحِينَ الْفَرَاغِ أَوْلَى . وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ إِذَا نَوَى بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْأُولَى ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَقْتِ الضَّمِّ لِيَقْضِيَ الْأُولَى بِالْفَرَاغِ مِنْهَا ، فَلَا يَكُونُ جَامِعًا بَيْنَهُمَا ، فَهَذَا تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَحَلِّ النِّيَّةِ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : الِاتِّصَالُ وَالْمُوَالَاةُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَرَاخَى فِعْلُ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا عَنْ فِعْلِ الْأُولَى لِيَصِحَّ الضَّمُّ ، وَالْمُتَابَعَةُ ، وَإِنْ تَرَاخَى فِعْلُ الثَّانِيَةِ ، أَوْ تَطَاوَلَ ، أَوْ تَنَفَّلَ بَيْنَهُمَا ، أَوْ أَذَّنَ بَطَلَ الْجَمْعُ ، وَأَجْزَأَتْهُ الْأُولَى ، وَلَمْ تُجْزِهِ الثَّانِيَةُ ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ تَأْخِيرُهَا إِلَى وَقْتِهَا ، وَلَكِنْ لَوْ أَقَامَ بَيْنَهُمَا

جَازَ لَأَنَّ الْإِقَامَةَ عَمَلٌ يَسِيرٌ ، فَلَوْ كَانَ مُتَيَمِّمًا وَجَبَ عَلَيْهِ طَلَبُ الْمَاءِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْأُولَى ، فَإِنْ قَرُبَ عَلَيْهِ زَمَانُ الطَّلَبِ جَازَ لَهُ الْجَمْعُ ، وَإِنْ تَطَاوَلَ بَطَلَ الْجَمْعُ .

مَسْأَلَةٌ : وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بِالْمَدِينَةِ فِي غَيْرِ خَوْفٍ ، وَلَا سَفَرٍ . قَالَ مَالِكٌ : أَرَى ذَلِكَ فِي مَطَرٍ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَالسُّنَّةُ فِي الْمَطَرِ كَالسُّنَّةِ فِي السَّفَرِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : وَالْقِيَاسُ عِنْدِي إِنْ سَلَّمَ ، وَلَمْ يَنْوِ الْجَمْعَ ، فَجَمَعَ فِي قُرْبِ مَا سَلَّمَ بِقَدْرِ مَا لَوْ أَرَادَ الْجَمْعَ كَانَ ذَلِكَ فَصْلًا قَرِيبًا بَيْنَهُمَا أَنَّ لَهُ الْجَمْعَ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ جَمْعُ الصَّلَاتَيْنِ إِلَّا وَبَيْنَهُمَا انْفِصَالٌ ، فَكَذَلِكَ كُلُّ جَمْعٍ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ سَهَا فَسَلَّمِ مِنَ اثْنَتَيْنِ فَلَمْ يُطِلْ فَصَلَ مَا بَيْنَهُمَا أَنَّهُ يُتِمُّ كَمَا أَتَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَدْ فَصَلَ ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَطْعًا لِاتِّصَالِ الصَّلَاةِ فِي الْحُكْمِ ، فَكَذَلِكَ عِنْدِي إِيصَالُ جَمْعِ الصَّلَاتَيْنِ أَنْ لَا يَكُونَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِمِقْدَارِ مَا لَا يَطُولُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْحَضَرِ فِي حَالِ الْمَطَرِ جَائِزٌ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْجَمْعُ فِي الْحَضَرِ غَيْرُ جَائِزٍ تَعَلُّقًا بِمَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى بُطْلَانِ الْجَمْعِ فِي السَّفَرِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِهِ فِي الْحَضَرِ : رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الظُّهْرِ ، وَالْعَصْرِ ، وَالْمَغْرِبِ ، وَالْعِشَاءِ جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ ، وَلَا سَفَرٍ قَالَ مَالِكٌ : أَرَى ذَلِكَ فِي الْمَطَرِ . وَرَوَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الظُّهْرِ ، وَالْعَصْرِ فِي الْحَضَرِ فِي الْمَطَرِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ جَمَعَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ ، وَلَا سَفَرٍ ، وَلَا مَطَرٍ . قِيلَ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَلَّى الْأُولَى فِي آخِرِ أَوْقَاتِهَا ، وَصَلَّى الثَّانِيَةَ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِهَا . فَاتَّصَلَ فِعْلُهُمَا فِي وَقْتَيْهِمَا جَمِيعًا ، فَقِيلَ : جَمَعَ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا التَّأْوِيلُ يَرْجِعُ عَلَيْكُمْ فِيمَا رَوَيْتُمْ مِنْ جَمْعِهِ فِي الْمَطَرِ ، قِيلَ : لَا يَصِحُّ هَذَا التَّأْوِيلُ لِمَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ مِنَ الْجَمْعِ فِي الْمَطَرِ لِمَا رُوِيَ مِنْ نَقْلِ السَّبَبِ فِي جَوَازِ جَمْعِهِ ، وَهُوَ الْمَطَرُ ، وَالْمَطَرُ لَا يَخْتَصُّ بِجَوَازِ فِعْلِ الْأُولَى فِي آخِرِ وَقْتِهَا وَالثَّانِيَةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا ، بَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْمَطَرِ ، وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ سَاغَ لَنَا فِي رِوَايَتِهِمْ : لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْجَمْعِ فِي الْحَضَرِ فِي غَيْرِ الْمَطَرِ فَتَأَوَّلْنَا بِهَذَا اسْتِعْمَالًا لِلرِّوَايَةِ ، وَلِيُسْرِ الْإِجْمَاعِ مَانِعًا مِنْ

جَوَازِ الْجَمْعِ فِي الْمَطَرِ ، فَلَمْ يَسُغِ اسْتِعْمَالُ هَذَا التَّأْوِيلِ فِي رِوَايَتِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِ الرَّاوِي : وَلَا مَطَرٍ . أَبَى لَا يُصِيبُهُ الْمَطَرُ لِكَوْنِهِ مُسْتَظِلًّا تَحْتَ سَقْفٍ . فَإِذَا وَضَحَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جَوَازِ الْجَمْعِ فِي الْمَطَرِ : فَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي الْمَطَرِ بَيْنَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ، وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ لِإِدْرَاكِ الْمَشَقَّةِ فِي مَطَرِ اللَّيْلِ ، وَعَدَمِهَا فِي مَطَرِ النَّهَارِ ، وَهَذَا غَلَطٌ ، يُوَضِّحُهُ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الْحَضَرِ ، وَفِي الْمَطَرِ ، وَلِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي السَّفَرِ ، فَجَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْحَضَرِ كَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ، جَازَ لَهُ تَقْدِيمُ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا إِلَى وَقْتِ الْأُولَى بِأَرْبَعِ شَرَائِطَ الجمع بين الصلاتين في المطر : مِنْهَا الثَّلَاثَةُ الْمَاضِيَةُ فِي جَمْعِ السَّفَرِ ، وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ : اسْتِدَامَةُ الْمَطَرِ وَقْتَ إِحْرَامِهِ بِالْأُولَى إِلَى دُخُولِهِ فِي الثَّانِيَةِ ، فَإِنِ انْقَطَعَ الْمَطَرُ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الثَّانِيَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا ، فَلَوْ أَحْرَمَ بِالْأُولَى ، وَلَا مَطَرَ ، ثُمَّ جَاءَ الْمَطَرُ فِي تَضَاعِيفِهَا قُبَيْلَ خُرُوجِهِ مِنْهَا ، وَاسْتَدَامَ ذَلِكَ إِلَى وَقْتِ الْخُرُوجِ مِنْهَا ، وَأَمْكَنَهُ الدُّخُولُ فِي الثَّانِيَةِ مَعَ بَقَاءِ الْمَطَرِ ، فَفِي جَوَازِ الْجَمْعِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى جَوَازِ نِيَّةِ الْجَمْعِ فِي حَالِ الصَّلَاةِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لِوُجُودِ الْعُذْرِ حَالَ الْجَمْعِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، لِأَنَّهُ شَرَعَ فِيهَا وَهُوَ مِنْ أَهْلِ غَيْرِ الْجَمْعِ ، وَلَكِنْ لَوِ افْتَتَحَ الْأُولَى ، وَالْمَطَرُ قَائِمٌ ، ثُمَّ انْقَطَعَ فِي خِلَالِهَا ، ثُمَّ اتَّصَلَ إِلَى أَنْ دَخَلَ فِي الثَّانِيَةِ صَحَّ لَهُ الْجَمْعُ لِوُجُودِ الْعُذْرِ فِي الطَّرَفَيْنِ ، فَهَذَا إِذَا أَرَادَ تَقْدِيمَ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا إِلَى وَقْتِ الْأُولَى . فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ تَأْخِيرَ الْأُولَى مِنْهُمَا إِلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ الجمع بين الصلاتين في المطر ، فَفِي جَوَازِ ذَلِكَ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ : يَجُوزُ ، لِأَنَّ كُلَّ مَعْنَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ الْأُولَى مِنْهُمَا جُوِّزَ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ كَالسَّفَرِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " : لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا لِأَنَّ الْجَمْعَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالنِّيَّةِ مَعَ وُجُودِ الْعُذْرِ فِي حَالِ الْجَمْعِ ، وَهُوَ عِنْدَ شُرُوعِهِ فِي الثَّانِيَةِ ، وَهُوَ يَتَيَقَّنُ بَقَاءَ الْمَطَرِ إِلَى وَقْتِ الْجَمْعِ ، لِأَنَّ انْقِطَاعَهُ لَيْسَ إِلَى اخْتِيَارِهِ ، فَجَازَ تَأْخِيرُ الْأُولَى إِلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ فِي السَّفَرِ وَلَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهَا فِي الْمَطَرِ .

فَصْلٌ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِأَجْلِ الْمَطَرِ في المنزل فِي الْمَسْجِدِ ، فَأَمَّا إِذَا

أَرَادَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي مَنْزِلِهِ ، أَوْ فِي الْمَسْجِدِ وَكَانَ بَيْنَهُمَا سَابَاطٌ يَرْفَعُ عَنْهُ أَذَى الْمَطَرِ فَفِي جَوَازِ ذَلِكَ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي " الْإِمْلَاءِ " : يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ فِي جَمَاعَةٍ ، وَفُرَادَى لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْمَطَرِ ، وَقَدْ كَانَ مَنْزِلُهُ فِي الْمَسْجِدِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " : لَا يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ لَا فِي جَمَاعَةٍ ، وَلَا مُنْفَرِدًا : لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا يَجُوزُ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ ، وَمَا يَلْحَقُهُ مِنْ أَذَى الْمَطَرِ ، وَإِذَا عَدِمَ هَذَا الْمَعْنَى امْتَنَعَ جَوَازُ الْجَمْعِ ، وَمَا رُوِيَ مِنْ جَمْعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَعَلَّهُ كَانَ وَهُوَ فِي غَيْرِ مَنْزِلِ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ مَنْزِلُ جَمِيعِ نِسَائِهِ فِي الْمَسْجِدِ ، وَإِنَّمَا كَانَ مَنْزِلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَحْدَهَا فِيهِ .
فَصْلٌ : لَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِ الْمَطَرِ ، وَكَثِيرِهِ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ إِذَا كَانَ قَلِيلُهُ يَبُلُّ الثَّوْبَ لِحُصُولِ الْأَذَى بِهِ ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَبُلَّ الثَّوْبَ لِقِلَّتِهِ كَالطَّلِّ ، وَالرَّذَاذِ لَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ لِعَدَمِ الْأَذَى بِهِ ، وَأَمَّا الْجَمْعُ فِي الثَّلْجِ ، فَإِنْ كَانَ يَذُوبُ مَعَ سُقُوطِهِ جَازَ كَالْمَطَرِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَذُوبُ لَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ ، لِأَنَّهُ كَالْغُبَارِ ، وَأَمَّا الْبَرَدُ فَقَلَّ مَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ الْمَطَرِ الَّذِي يَبُلُّ الثَّوْبَ وَإِنْ قَلَّ ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ جَازَ لَهُ الْجَمْعُ . بَلْ هُوَ بِجَوَازِ الْجَمْعِ أَوْلَى لِأَنَّ الْأَذَى بِهِ أَعْظَمُ . فَأَمَّا الْجَمْعُ فِي الزَّلَازِلِ ، وَالرِّيَاحِ الْعَاصِفَةِ ، وَالظُّلْمَةِ الْمُدْلَهِمَّةِ فَغَيْرُ جَائِزٍ ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَتْمَةِ ، وَالْأَمْرَاضِ ، وَالْخَوْفِ الْعَامِّ لِوُجُودُ كُلِّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ جَمَعَ فِي شَيْءٍ غَيْرِ الْمَطَرِ ، وَأَمَّا الْوَحْلُ فَقَدَ جَوَّزَ مَالِكٌ الْجَمْعَ فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَطَرٌ ، وَعِنْدَنَا الْجَمْعُ لِأَجْلِ الْوَحْلِ لَا يَجُوزُ : لِأَنَّ عُذْرَ الْمَطَرِ يُؤْذِي مِنْ جِهَتَيْنِ : مِنْ أَعْلَى ، وَمِنْ أَسْفَلَ ، وَالْوَحْلُ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَالرُّخْصَةُ إِذَا أُبِيحَتْ لِمَعْنَيَيْنِ لَمْ يَجُزْ تَعَلُّقُهَا بِأَحَدِهِمَا ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
_____كِتَابُ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَمْرِهَا_____

الْجُمُعَةُ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ

كِتَابُ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَمْرِهَا مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحْمَدٍ قَالَ : حَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْخَطْمِيُّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا مِنْ بَنِي وَائِلٍ يَقُولُ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِلَّا امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَمْلُوكًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . الْجُمُعَةُ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ، وَقَالَ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [ الْجُمُعَةِ : ] . فَأَوْجَبَ السَّعْيَ إِلَيْهَا ، وَأَوْجَبَ تَرْكَ الْبَيْعِ لِأَجْلِهَا ، ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الذَّمِّ لِمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا : وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [ الْجُمُعَةِ : ] . وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ رَبَاحَ بْنَ رَبِيعَةَ بْنِ صَيْفِيٍّ ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي أَكْثَمَ بْنِ صَيْفِيٍّ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لِلْيَهُودِ يَوْمٌ ، وَلِلنَّصَارَى يَوْمٌ ، فَلَوْ كَانَ لَنَا يَوْمٌ ، فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْجُمُعَةِ . وَقَالَ سُبْحَانَهُ عَلَى سَبِيلِ " الْقَسَمِ " فِي سُورَةِ الْبُرُوجِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ [ الْبُرُوجِ : ] . قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ : الشَّاهِدُ : الْجُمُعَةُ ، وَالْمَشْهُودُ : يَوْمُ عَرَفَةَ ، وَقَدْ رَوَاهُ عَطَاءٌ ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَهَذَا دَلِيلُ الْكِتَابِ .

وَأَمَّا السُّنَّةُ ، فَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا ، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ ، فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي ضَلَّ عَنْهُمْ ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ ، النَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ ، فَالْيَوْمُ لَنَا ، وَلِلْيَهُودِ غَدًا ، وَلِلنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ . وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ : تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ ، عَزَ وَجَلَّ ، قَبْلَ أَنْ تَمُوتُوا ، وَبَادِرُوا إِلَى رَبِّكُمْ سُبْحَانَهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْجُمُعَةَ فِي عَامِي هَذَا ، فِي شَهْرِي هَذَا ، فِي سَاعَتِي هَذِهِ ، فَرِيضَةً مَكْتُوبَةً ، فَمَنْ تَرَكَهَا فِي حَيَاتِي أَوْ بَعْدَ مَمَاتِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ جُحُودًا بِهَا ، وَاسْتِخْفَافًا بِحَقِّهَا ، فَلَا جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ شَمْلًا ، وَلَا بَارَكَ لَهُ فِي أَمْرِهِ ، أَلَا لَا صَلَاةَ لَهُ ، أَلَا لَا صَوْمَ لَهُ ، أَلَا لَا حَجَّ لَهُ ، أَلَا لَا زَكَاةَ لَهُ ، أَلَا لَا صَدَقَةَ لَهُ ، أَلَا وَلَا بِرَّ لَهُ ، فَمَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ . وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ ، إِلَّا مَرِيضًا ، أَوْ مُسَافِرًا ، أَوِ امْرَأَةً ، أَوْ صَبِيًّا ، أَوْ مَمْلُوكًا . وَرَوَى أَبُو الْجَعْدِ الضَّمْرِيُّ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا يَتْرُكُ الْجُمُعَةَ رَجُلٌ ثَلَاثًا تَهَاوُنًا بِهَا إِلَّا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ . وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلَاثًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ نَبَذَ الْإِسْلَامَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ . وَكَانَ ابْتِدَاءُ أَمْرِ الْجُمُعَةِ مَا حَكَاهُ أَهْلُ السِّيَرِ ، وَنَقَلَهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ ، أَنَّ رَسُولَ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَنَفَذَ إِلَيْهَا وَهُوَ بِمَكَةَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ أَمِيرًا عَلَيْهَا ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقِيمَ الْجُمُعَةَ ، وَكَانَ يُدْعَى الْقَارِئَ ، فَخَرَجَ مُصْعَبٌ مِنْ مَكَّةَ حَتَى وَرَدَ الْمَدِينَةَ ، فَنَزَلَ عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ ، وَكَانَ مِنَ النُّقَبَاءِ فَأَخْبَرَهُ بِأَمْرِ الْجُمُعَةِ وَأَحَبَّ مُصْعَبٌ أَنْ يُشَرِّفَ أَسْعَدَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَلَّى الصَّلَوَاتِ بِنَفْسِهِ ، فَصَلَّى أَسْعَدُ بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ ، فَيَ حَيِّ بَنِي بَيَاضَةَ بِأَمْرِ مُصْعِبٍ " وَكَانَتْ أَوَّلَ جُمْعَةٍ صُلِّيَتْ فِي الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ أَمَرَ مُصْعَبًا بِإِقَامَتِهَا بِالْمَدِينَةِ ، وَلَمْ يُصَلِّهَا هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِمَكَّةَ ؟ قِيلَ : يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قِلَّةُ أَصْحَابِهِ عَنِ الْعَدَدِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمْعَةُ : لِأَنَّهُمْ كَانُوا دُونَ الْأَرْبَعِينَ حَتَّى تَمُّوا بِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَالثَّانِي : وَكَأَنَّهُ أَشْهَرُ أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْجُمْعَةِ إِظْهَارُهَا وَانْتِشَارُ أَمْرِهَا ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَائِفًا مِنْ قُرَيْشٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى مُجَاهَرَتِهِمْ بِهَا ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُصَلِّهَا ، عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْعَةُ ، قَبْلَ الْهِجْرَةِ ، لَمْ تُفْرَضْ عَلَى الْأَعْيَانِ ، ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَى الْأَعْيَانِ بَعْدَ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لِأَنَّ جَابِرًا سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَلَى مِنْبَرِهِ بِالْمَدِينَةِ إِنَّ اللَّهَ ، عَزَ وَجَلَّ ، فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْجُمُعَةَ فِي عَامِي هَذَا ، فِي شَهْرِي هَذَا ، فِي سَاعَتِي هَذِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجُمْعَةَ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ . وَقَدْ كَانَ يَوْمُ الْجُمْعَةِ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَرُوبَةَ ، قَالَ الشَّاعِرُ : نَفْسِي الْفِدَاءِ لِأَقْوَامٍ هُمُ خَلَطُوا يَوْمَ الْعَرُوبَةِ أَوْرَادًا بِأَوْرَادِ وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْأَحَدَ أَوَّلَ ، وَالْإِثْنَيْنِ أَهْوَنَ ، وَالثُّلَاثَاءَ جُبَارًا ، وَالْأَرْبِعَاءَ دُبَارًا ، وَالْخَمِيسَ مُؤْنِسًا ، وَالْجُمْعَةَ عَرُوبَةَ . قَالَ الشَّاعِرُ : أُؤَمِّلُ أَنْ أَعِيشَ وَإِنَّ يَوْمِي بِأَوَّلَ أَوْ بِأَهْوَنَ أَوْ جُبَارِ أَوِ التَّالِي دُبَارَ فَإِنْ أَفُتْهُ فَمُؤْنِسَ أَوْ عَرُوبَةَ أَوْ شِيَارِ

فَصْلٌ وُجُوبُ الْجُمْعَةَ مُعْتَبَرٌ بِسَبْعِ شَرَائِطَ

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْجُمْعَةَ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ ، فَوُجُوبُهَا مُعْتَبَرٌ بِسَبْعِ شَرَائِطَ ، وَهِيَ الْبُلُوغُ ، وَالذُّكُورِيَّةُ ، وَالْعَقْلُ ، وَالْحُرِّيَّةُ ، وَالْإِسْلَامُ ، وَالصِّحَّةُ ، وَالِاسْتِيطَانُ ، فَهَذِهِ سَبْعُ

شَرَائِطَ تُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ الْجُمْعَةِ اثْنَانِ مِنْهُمَا شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْجُمْعَةِ وَجَوَازِهَا ، وَالْخَمْسَةُ الْبَاقِيَةُ شَرْطٌ فِي وُجُوبِهَا دُونَ جَوَازِهَا . فَأَمَّا الشَّرْطَانِ اللَّذَانِ هُمَا شَرْطٌ فِي وُجُوبِهَا وَجَوَازِهَا فِيهِمَا : الْعَقْلُ وَالْإِسْلَامُ : لِأَنَّ فَقْدَ الْعَقْلِ يُمْنَعُ مِنَ التَّكَلُّفِ ، وَعَدَمَ الْإِسْلَامِ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْعَمَلِ . ثُمَّ النَّاسُ فِي الْجُمْعَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ : ضَرْبٌ تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجُمْعَةُ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ ، وَضَرْبٌ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ وَتَنْعَقِدُ بِهِمْ ، وَضَرْبٌ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ . فَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِي تَجِبُ عَلَيْهِمْ ، وَيَلْزَمُهُمْ إِتْيَانُهَا ، وَتَنْعَقِدُ بِهِمْ إِذَا حَضَرُوا فَهُمُ : الَّذِينَ قَدْ وُجِدَتْ فِيهِمُ الشَّرَائِطُ السَّبْعَةُ . وَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِي تَجِبُ عَلَيْهِمْ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ فَهُمُ : الْمُقِيمُونَ فِي غَيْرِ أَوْطَانِهِمْ ، كَرَجُلٍ دَخَلَ بِالْبَصْرَةِ فَنَوَى أَنْ يُقِيمَ فِيهَا سَنَةً لِطَلَبِ عِلْمٍ ، أَوْ تِجَارَةٍ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى وَطَنِهِ ، فَهَؤُلَاءِ تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجُمْعَةُ لِمُقَامِهِمْ ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي انْعِقَادِ الْجُمْعَةِ بِهِمْ فَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمْعَةُ ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ انْعَقَدَتْ بِهِ الْجُمْعَةُ كَالْمُسْتَوْطِنِ . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجُمْعَةُ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَجَّ حِجَّةَ الْوَدَاعِ ، وَأَقَامَ يَوْمَ عَرَفَةَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ ، فَلَمْ يُصَلِّ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُمْعَةَ ، وَلَا أَمَرَ بِهَا أَهْلَ مَكَّةَ . وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَمُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ اجْتَمَعَا عِنْدَ الرَّشِيدِ ، فَسَأَلَ الرَّشِيدُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ ، هَلْ كَانَتْ جُمْعَةً أَوْ ظُهْرًا ؟ فَقَالَ : جُمْعَةٌ : لِأَنَّهُ خَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ ، وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ جُمْعَةٍ لَأَخَّرَ الْخُطْبَةَ . ثُمَّ سَأَلَ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَقَالَ : كَانَتْ ظُهْرًا : لِأَنَّهُ أَسَرَّ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ ، وَلَوْ كَانَتْ جُمْعَةً لَجَهَرَ ، فَقَالَ الرَّشِيدُ : صَدَقْتَ . وَقَدْ نُقِلَتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ عَنْ مَالِكٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ . وَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِينَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ وَتَنْعَقِدُ بِهِمْ فَهُمُ : الْمَرْضَى ، وَإِنَّمَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي حُضُورِهَا ، وَانْعَقَدَتْ بِهِمُ الْجُمْعَةُ إِذَا حَضَرُوهَا لِزَوَالِ عُذْرِهِمْ . وَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِينَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ حُضُورُهَا وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ إِذَا حَضَرُوا فَهُمْ ثَلَاثَةُ

أَصْنَافٍ : النِّسَاءُ ، وَالْعَبِيدُ ، وَالْمُسَافِرُونَ ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَثْنَاهُمْ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ ، فِي أَنَّهَا لَمْ تَنْعَقِدْ بِهِمْ إِذَا حَضَرُوهَا خِلَافَ الْمَرِيضِ : لِبَقَاءِ أَعْذَارِهِمْ وَإِنْ حَضَرُوهَا ، وَهُوَ الْأُنُوثَةُ وَالرِّقُّ ، وَالسَّفَرُ ، وَزَوَالِ عُذْرِ الْمَرِيضِ إِذَا حَضَرَ .

أَهْلُ الْبَلَدِ عَلَيْهِمُ الْجُمْعَةُ وَلَا اعْتِبَارَ بِسَمَاعِهِمُ النِّدَاءَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَتَجِبُ الْجُمْعَةُ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ وَإِنْ كَثُرَ أَهْلُهُ حَتَى لَا يَسْمَعَ أَكْثَرُهُمُ النِّدَاءَ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ الْجَامِعِ وَعَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ خَارِجًا مِنَ الْمِصْرِ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ وَكَانَ الْمُنَادِي صَيِّتًا وَكَانَ لَيْسَ بِأَصَمَّ مُسْتَمِعًا وَالْأَصْوَاتُ هَادِئَةٌ وَالرِّيحُ سَاكِنَةٌ ، وَلَوْ قُلْنَا حَتَى يَسْمَعَ جَمِيعُهُمْ مَا كَانَ عَلَى الْأَصَمِّ جُمْعَةٌ وَلَكِنْ إِذَا كَانَ لَهُمُ السَّبِيلُ إِلَى عِلْمِ النِّدَاءِ بِمَنْ يَسْمَعُهُ مِنْهُمْ فَعَلَيْهِمُ الْجُمْعَةُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ الْآيَةَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . أَمَّا أَهْلُ الْبَلَدِ فَعَلَيْهِمُ الْجُمْعَةُ وَلَا اعْتِبَارَ بِسَمَاعِهِمُ النِّدَاءَ : لِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ مِنَ الْبَلَدِ مَوْضِعٌ لِلنِّدَاءِ ، وَمَحَلٌّ لِإِقَامَةِ الْجُمْعَةِ فِيهِ ، وَلَيْسَ لَهَا اخْتِصَاصٌ بِمَوْضِعٍ دُونَ مَوْضِعٍ : فَلِأَجْلِ ذَلِكَ سَقَطَ اعْتِبَارُ النِّدَاءِ ، وَوَجَبَ عَلَى جَمِيعِهِمْ حُضُورُ الْجُمْعَةِ وَإِنْ كَثُرُوا . وَأَمَّا مَنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ فَعَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ : [ الْأَوَّلُ ] ضَرْبٌ تَلْزَمُهُمُ الْجُمْعَةُ بِأَنْفُسِهِمْ فَحَسْبُ ، [ الثَّانِي ] وَضَرْبٌ لَا تَلْزَمُهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَتَلْزَمُهُمْ بِغَيْرِهِمْ . [ الثَّالِثُ ] وَضَرْبٌ لَا تَلْزَمُهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَا بِغَيْرِهِمْ . فَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِينَ تَلْزَمُهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ : فَهُمْ أَهْلُ قَرْيَةٍ مُسْتَوْطِنُونَ ، فِيهَا أَرْبَعُونَ رَجُلًا أَحْرَارًا بَالِغِينَ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمْعَةُ ، فَهَؤُلَاءِ عَلَيْهِمْ إِقَامَتُهَا ، وَسَوَاءٌ قَرُبُوا مِنَ الْمِصْرِ أَوْ بَعُدُوا سَمِعُوا النِّدَاءَ أَوْ لَمْ يَسْمَعُوا : لِأَنَّ شَرَائِطَ الْجُمْعَةِ قَدْ كَمُلَتْ فِيهِمْ ، فَإِنْ تَرَكُوا إِقَامَتَهَا فِي مَوْضِعِهِمْ ، وَقَصَدُوا الْبَلَدَ فَصَلُّوا الْجُمْعَةَ مَعَ أَهْلِهِ فَقَدْ أَسَاءُوا بِتَرْكِ إِقَامَتِهَا فِي مَوْضِعِهِمْ وَأَجْزَأَهُمْ ذَلِكَ : لِأَنَّهُمْ قَدْ أَتَوْا بِالصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِمْ . وَأَمَّا الَّذِينَ لَا تَلْزَمُهُمُ الْجُمْعَةُ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَا بِغَيْرِهِمْ : فَهُوَ أَنْ يَكُونُوا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ ، عَلَى مَسَافَةٍ لَا يَبْلُغُهُمْ سَمَاعُ النِّدَاءِ ، فَلَا تَلْزَمُهُمْ إِقَامَتُهَا بِأَنْفُسِهِمْ لِنُقْصِهِمْ عَنِ الْأَرْبَعِينَ ، وَلَا بِغَيْرِهِمْ ، لِأَنَّ نِدَاءَ الْجُمْعَةِ لَا يَبْلُغُهُمْ . وَأَمَّا الَّذِينَ لَا تَلْزَمُهُمْ إِقَامَتُهَا بِأَنْفُسِهِمْ وَتَلْزَمُهُمْ بِغَيْرِهِمْ : فَهُوَ أَنْ يَكُونُوا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ ، عَلَى مَسَافَةٍ يَسْمَعُونَ نِدَاءَ الْجُمْعَةِ مِنَ الْمِصْرِ ، فَهَؤُلَاءِ تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجُمْعَةُ ، وَيَلْزَمُهُمْ إِتْيَانُهَا فِي الْمِصْرِ ، وَاعْتِبَارُ سَمَاعِ النِّدَاءِ بِأَنْ تَكُونَ الرِّيحُ سَاكِنَةً ، وَالْأَصْوَاتُ هَادِئَةً ، وَيَقِفَ الْمُؤَذِّنُ فِي طَرَفِ الْبَلَدِ أَوْ عَلَى سُورَةٍ مِنْ جَانِبِهِ ، وَيَكُونَ صَيِّتًا وَلَا يَكُونَ الْمُسْتَمِعُ أَصَمَّ ، فَإِذَا سَمِعُوا

النِّدَاءَ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ فَقَدْ لَزِمَهُمْ حُضُورُ الْجُمْعَةِ . هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : إِنْ كَانُوا إِذَا صَلَّوُا الْجُمْعَةَ فِي الْمِصْرِ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَأْوُوا بِاللَّيْلِ فِي مَنَازِلِهِمْ لَزِمَتْهُمُ الْجُمْعَةُ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ لَا يَأْوُوا لَيْلًا فِي مَنَازِلِهِمْ فَلَا جُمْعَةَ عَلَيْهِمْ . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ . وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : إِنْ كَانُوا عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ لَزِمَتْهُمُ الْجُمْعَةُ ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى أَكْثَرَ لَمْ تَلْزَمْهُمْ . وَقَالَ رَبِيعَةُ : إِنْ كَانُوا عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ لَزِمَتْهُمُ الْجُمْعَةُ ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى أَكْثَرَ لَمْ تَلْزَمْهُمْ ، وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ : إِنْ كَانُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ لَزِمَتْهُمُ الْجُمْعَةُ ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى أَكْثَرَ لَمْ تَلْزَمْهُمْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا جُمْعَةَ عَلَى مَنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ بِحَالٍ قَرُبَ أَوْ بَعُدَ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا جُمْعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إِلَّا عَلَى أَهْلِ مِصْرٍ جَامِعٍ فَنَفَى وُجُوبَ الْجُمْعَةِ عَمَّنْ كَانَ فِي غَيْرِ مِصْرٍ جَامِعٍ ، قَالَ : وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقِيمُ الْجُمْعَةَ بِالْمَدِينَةِ فَلَا يَدْعُو أَهْلَ الْعَوَالِي وَالسَّوَادِ ، وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِهَا ، قَالَ : وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ لَا تَجِبُ فِيهِ صَلَاةُ الْجُمْعَةِ لَا تَجِبُ عَلَى أَهْلِهِ الْجُمْعَةُ ، قِيَاسًا عَلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعِ النِّدَاءَ . قَالَ : وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ سَمَاعُ النِّدَاءِ فِي الْبَلَدِ شَرْطًا فِي وُجُوبِ الْجُمْعَةِ لِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعُوهُ ، وَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ الِاعْتِبَارُ بِهِ فِيمَنْ خَارِجُ الْبَلَدِ ، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجُمْعَةُ وَإِنْ سَمِعُوهُ ، قَالَ : وَلِأَنَّ مَا قَرُبَ مِنَ الْبَلَدِ فِي حُكْمِ مَا بَعُدَ عَنْهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَوَى السَّفَرَ ، وَفَارَقَ بُنْيَانَ الْبَلَدِ ، جَازَ لَهُ الْقَصْرُ وَالْمَسْحُ ثَلَاثًا كَمَا لَوْ بَعُدَ عَنْهُ ، فَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الْجُمْعَةُ عَلَى مَنْ بَعُدَ لَمْ تَجِبْ عَلَى مَنْ قَرُبَ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا وَفَسَادِ قَوْلِهِ : قَوْلُهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [ الْجُمْعَةِ : ] . فَكَانَ عُمُومُ الظَّاهِرِ يَقْتَضِي إِيجَابَ السَّعْيِ إِلَيْهَا عِنْدَ سَمَاعِ النِّدَاءِ : لِأَنَّهُ جَعَلَ النِّدَاءَ عَلَمًا لَهَا ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ عُمُومُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِلَّا امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَمْلُوكًا . فَاسْتَثْنَى بَعْدَ عُمُومِ الْإِيجَابِ مَنْ لَا تَلْزَمُهُ الْجُمْعَةُ مِنَ الْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ ، وَالْمَمْلُوكِ ، فَدَخَلَ مَنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ فِي عُمُومِ الْإِيجَابِ ، وَلَمْ يَدْخُلْ خُصُوصَ الِاسْتِثْنَاءِ ، وَالِاعْتِمَادُ عَلَى هَذِهِ الدَّلَالَةِ جَيِّدٌ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا رَوَى قَبِيصَةُ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الطَّائِفِيِّ

عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ نُبَيْهٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هَارُونَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : تَجِبُ الْجُمْعَةُ عَلَى كُلِّ مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ وَهَذَا نَصٌّ فِيمَنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ : لِأَنَّ سَمَاعَ النِّدَاءِ اعتباره في الجمعة فِي أَهْلِ الْمِصْرِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ، فَإِنْ قِيلَ : الْخَبَرُ مَوْقُوفٌ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، غَيْرُ مُسْنَدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قُلْنَا : أَبُو دَاوُدَ رَوَاهُ عَنْ سُفْيَانَ مَوْقُوفًا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَقَدْ أَسْنَدَهُ قَبِيصَةُ وَهُوَ ثِقَةٌ ، وَالْخَبَرُ عِنْدَنَا إِذَا رَوَاهُ رَاوٍ تَارَةً مَوْقُوفًا وَتَارَةً مُسْنَدًا ، حُمِلَ الْمَوْقُوفُ عَلَى فَتْوَاهُ وَحُمِلَ الْمُسْنَدُ عَلَى رِوَايَتِهِ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَسْمَعُونَ النِّدَاءَ فَلَا يَحْضُرُونَ الْجُمْعَةَ أَوْ لَيَطْبَعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قُلُوبِهِمْ وَلِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ خَالَفَ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ : الِاعْتِبَارُ بِسَمَاعِ النِّدَاءِ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَنَسٌ قَالُوا إِنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْإِيوَاءِ إِلَى الْوَطَنِ . وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُمْ غَيْرُ هَذَا . وَالصَّحَابَةُ إِذَا أَجْمَعَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَسْأَلَةٍ فَإِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ مُحَرَّمٌ ، كَمَا إِذَا أَجْمَعُوا عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ كَانَ إِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَانٍ مُحَرَّمًا ، وَلِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ سَمَاعِ النِّدَاءِ مَعَ ارْتِفَاعِ الْعَوَارِضِ ، فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ الْجُمْعَةُ كَأَهْلِ الْمِصْرِ ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ فَلَمْ يُخْتَصَّ بِهَا أَهْلُ الْأَمْصَارِ كَالظُّهْرِ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ عَلَى الْبَدَنِ شَرْطٌ فِيهَا الْحُرِّيَّةُ ، فَجَازَ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهَا قَطْعُ مَسَافَةٍ كَالْحَجِّ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ " لَا جُمُعَةَ إِلَّا عَلَى أَهْلِ مِصْرٍ جَامِعٍ " فَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَمَوْقُوفٌ عَلَيْهِ ، وَلَوْ صَحَّ مُسْنَدًا لَحُمِلَ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعِ النِّدَاءَ ، وَخُصَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الْجُمُعَةُ عَلَى كُلِّ مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ " لِأَنَّهُ عَامٌّ ، وَهَذَا خَاصٌّ مِنْهُ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ أَهْلَ الْعَوَالِي وَالسَّوَادِ بِهَا فَبُهْتٌ مَعَ نَصِّ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى : وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَهُمْ بِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [ الْجُمُعَةِ : ] . وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَدَبَهُمْ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ فَالْمَعْنَى فِي أَصْلِهِ : أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ شِعَارُ الْجُمْعَةِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَمَّا بَطَلَ اعْتِبَارُ النِّدَاءِ في وجوب الجمعة فِي الْبَلَدِ بَطَلَ اعْتِبَارُهُ خَارِجَ الْبَلَدِ وَهُوَ نِدَاءُ الْجَامِعِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي أَهْلِ الْبَلَدِ وَلَا فِي الْخَارِجِينَ عَنْهُ ، وَالنِّدَاءُ الَّذِي اعْتَبَرْنَاهُ خَارِجَ الْبَلَدِ اعْتَبَرْنَاهُ فِي الْبَلَدِ وَهُوَ النِّدَاءُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهُ فَاسْتَوَيَا .

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ مَا قَرُبَ مِنَ الْبَلَدِ فِي حُكْمِ مَا بَعُدَ عَنْهُ ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّهُ لَوْ نَوَى سَفَرَ مَا قَرُبَ لَمْ يَقْصُرْ ، وَلَوْ نَوَى سَفَرَ مَا بَعُدَ جَازَ أَنْ يَقْصُرَ ، فَعُلِمَ أَنَّ حُكْمَ مَا قَرُبَ قَدْ يُخَالِفُ حُكْمَ مَا بَعُدَ . فَإِذَا صَحَّ مَا ذَكَرْنَاهُ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى جَمِيعِ مَنْ خَالَفَنَا .

فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " : " وَإِذَا خَرِبَ الْبَلَدُ ، وَتَهَدَّمَ بُنْيَانُهُ ، وَبَقِيَ فِيهِ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمْعَةُ ، وَهُمْ مُقِيمُونَ عَلَى عِمَارَةٍ مَا خَرِبَ ، وَبِنَاءِ مَا انْهَدَمَ ، لَزِمَتْهُمُ الْجُمْعَةُ ، لِأَنَّهُمْ مُسْتَوْطِنُونَ " .

فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَإِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ دُونَ الْأَرْبَعِينَ وَفِي الْقَرْيَةِ أَرْبَعُونَ مِمَّنْ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمْعَةُ ، وَكَانَ يَبْلُغُ أَهْلَ الْبَلَدِ النِّدَاءُ ، لَزِمَهُمُ السَّعْيُ إِلَى الْقَرْيَةِ ، لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِسَمَاعِ النِّدَاءِ ، فَلَوْ كَانَ فِي الْبَلَدِ دُونَ الْأَرْبَعِينَ ، وَفِي الْقَرْيَةِ دُونَ الْأَرْبَعِينَ وَكَانُوا إِذَا اجْتَمَعُوا أَرْبَعِينَ فَصَاعِدًا ، لَمْ تَلْزَمْهُمُ الْجُمْعَةُ ، لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ إِذَا سَعَى إِلَى الْآخَرِينَ خَرَجُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُسْتَوْطِنِينَ ، فَلَمْ يَصِحَّ انْعِقَادُ الْجُمْعَةِ بِهِمْ .

الْمَكَانِ الَّذِي تَنْعَقِدُ فِيهِ الْجُمْعَةُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَتْ قَرْيَةً مُجْتَمِعَةَ الْبِنَاءِ وَالْمَنَازِلِ وَكَانَ أَهْلُهَا لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا شِتَاءً وَلَا صَيْفًا إِلَّا ظَعْنَ حَاجَةٍ وَكَانَ أَهْلُهَا أَرْبَعِينَ رَجُلًا حُرًّا بَالِغًا غَيْرَ مَغْلُوبٍ عَلَى عَقْلِهِ ، وَجَبَتْ عَلَيْهِمُ الْجُمُعَةُ وَاحْتَجَّ بِمَا لَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ جَمَعَ بِأَرْبَعِينَ رَجُلًا وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ : كُلُّ قَرْيَةٍ فِيهَا أَرْبَعُونَ رَجُلًا فَعَلَيْهِمُ الْجُمُعَةُ وَمِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي الْمَكَانِ الَّذِي تَنْعَقِدُ فِيهِ الْجُمْعَةُ ، وَالثَّانِي : فِي الْعَدَدِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمْعَةُ . فَأَمَّا الْمَكَانُ : فَمَذْهَبُنَا أَنَّهَا تَنْعَقِدُ فِي الْأَمْصَارِ ، وَالْقُرَى إِذَا كَانَتِ الْقَرْيَةُ مُجْتَمِعَةَ الْبِنَاءِ ، وَكَانَ لَهَا عَدَدٌ تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمْعَةُ ، وَهُمْ أَرْبَعُونَ لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا شِتَاءً وَلَا صَيْفًا إِلَّا ظَعْنَ حَاجَةٍ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَجِبِ الْجُمْعَةُ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى ، وَلَا تَصِحُّ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ فِيهَا ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِصْرًا جَامِعًا ، فَيَلْزَمُهُمْ إِقَامَتُهَا . وَحَدُّ الْمِصْرِ عِنْدَهُ : أَنْ يَكُونَ فِيهِ إِمَامٌ يُقِيمُ الْحُدُودَ ، وَقَاضٍ يُنَفِّذُ الْأَحْكَامَ ، وَجَامِعٌ وَمِنْبَرٌ ، وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَمِنْ نَصِّ قَوْلِهِ اسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إِلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ قَالُوا : وَلِأَنَّ فَرْضَ الْجُمْعَةِ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ وَالْقُرَى مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى ، وَمَا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَيِّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانًا خَاصًّا ، بَلْ يُشَرِّعُهُ شَرْعًا عَامًّا ، وَلَا يُنْقَلُ آحَادًا بَلْ يُنْقَلُ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا ، وَذَلِكَ مَعْدُومٌ .

قَالُوا : وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ لَا تُقَامُ فِيهِ الْحُدُودُ فِي الْغَالِبِ . فَوَجَبَ أَلَّا تَصِحَّ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ فِيهِ ، كَالْمَفَاوِزِ وَالْبَوَادِي . وَدَلِيلُنَا مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الظَّوَاهِرِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : جَمِّعُوا حَيْثُ كُنْتُمْ وَلَمْ يَخُصَّ بَلَدًا مِنْ قَرْيَةٍ ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى قَرْيَةٍ مُزَنِيَّةٍ أَنْ يُصَلُّوا الْجُمْعَةَ وَالْعِيدَيْنِ وَرُوِيَ أَنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ صَلَّى أَوَّلَ جُمْعَةٍ فِي الْإِسْلَامِ بِالْمَدِينَةِ ، فِي حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ ، بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ الْخَضَمَاتُ وَلَمْ يَكُنْ مِصْرًا ، وَكَانُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أَوَّلَ جُمْعَةٍ جُمِّعَتْ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْمَدِينَةِ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْبَحْرِينِ تُسَمَّى جُوَاثَا وَلِأَنَّهَا إِقَامَةُ صَلَاةٍ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ شَرْطِهَا الْمِصْرُ ، كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ ، وَلِأَنَّهَا مَعْقِلٌ يَسْتَوْطِنُهُ عَدَدٌ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمْعَةُ ، فَجَازَ أَنْ يُقِيمُوا الْجُمْعَةَ قِيَاسًا عَلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ . الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إِلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَلَى وَهَاءٍ فِي إِسْنَادِهِ ثُمَّ لَا يَصِحُّ لِأَبِي حَنِيفَةَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ ، لِأَنَّهُ يَقُولُ : لَوْ أَنَّ إِمَامًا أَقَامَ الْحُدُودَ ، وَقَاضِيًّا نَفَّذَ الْأَحْكَامَ فِي قَرْيَةٍ وَجَبَ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ فِيهَا ، وَلَوْ خَرَجَ عَنِ الْمِصْرِ الْإِمَامُ وَالْقَاضِي وَلَمْ يَسْتَخْلِفَا ، لَمْ تَلْزَمْهُمْ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ ، فَلَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى ظَاهِرِ الْخَبَرِ فِي اعْتِبَارِ الْمِصْرِ ، وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ دَلَالَةٌ ثُمَّ يَسْتَعْمِلَهُ ، فَنَقُولُ : لَا جُمْعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إِلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ الْعَدَدَ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمْعَةُ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ مَا يَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ عَامًّا ، وَلَا يَرِدُ بِهِ النَّقْلُ آحَادًا ، فَيُقَالُ لَهُمْ يَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ خَاصًّا ، وَيَرِدُ النَّقْلُ بِهِ آحَادًا ، فَلَمْ نُسَلِّمْ لَكُمْ هَذِهِ الدَّلَالَةَ ، عَلَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ عَامًّا إِذَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَمْ يَرِدْ لَهُ فِي الْكِتَابِ ذِكْرٌ وَلَا بَيَانُ حُكْمٍ ، وَقَدْ وَرَدَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى بِإِيجَابِ الْجُمْعَةِ ، فَلَا يَلْزَمُهُمْ عَلَى مَذْهَبِهِمْ أَنْ يَكُونَ بَيَانُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامًّا ، عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَمَّ الْبَيَانَ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِنْبَرِهِ : اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْجُمُعَةَ فِي عَامِي هَذَا فِي شَهْرِي هَذَا ، فِي سَاعَتِي هَذِهِ ، فَرِيضَةً مَكْتُوبَةً وَلَيْسَ فِي الْبَيَانِ أَعَمُّ مِنْ هَذَا . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْبَوَادِي : فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُمْ غَيْرُ مُسْتَوْطِنِينَ . فَإِذَا ثَبَتَ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ فِي الْقُرَى إِذَا اسْتَوْطَنَهَا عَدَدٌ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمْعَةُ وَكَانُوا مُجْتَمِعِي الْمُنَازِلِ اعْتُبِرَتْ حَالُ مَنَازِلِهِمْ : فَإِنْ كَانَتْ مَبْنِيَّةً بِالْآجُرِّ وَالْجَصِّ أَوْ بِاللَّبِنِ وَالطِّينِ ، أَوْ بِالْخَشَبِ الْوَثِيقِ ، فَعَلَيْهِمْ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ خِيَامًا أَوْ بُيُوتَ شَعْرٍ ، أَوْ مِنْ سَعَفٍ ، أَوْ

قَصَبٍ ، فَلَا جُمْعَةَ عَلَيْهِمْ ، لِأَنَّ هَذِهِ الْمَنَازِلَ لَيْسَتْ أَوْطَانًا ثَابِتَةً ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانُوا أَهْلَ مُنَازِلَ مُتَفَرِّقَةٍ وَبُنْيَانٍ مُتَبَاعِدَةٍ غَيْرِ مُجْتَمِعَةٍ ، وَلَا مُتَّصِلَةٍ ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ فِي حُكْمِ الْمُقِيمِينَ ، لَا الْمُسْتَوْطِنِينَ ، لِأَنَّ الْأَوْطَانَ مَا اجْتَمَعَتْ ، وَالْجُمْعَةَ لَا تَنْعَقِدُ بِالْمُقِيمِ حَتَّى يَكُونَ مُسْتَوْطِنًا .

الْعَدَدُ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمْعَةُ

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْعَدَدُ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمْعَةُ فَأَرْبَعُونَ رَجُلًا مَعَ الْإِمَامِ عَلَى الْأَوْصَافِ الْمُتَقَدِّمَةِ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ ، وَرَبِيعَةُ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : تَنْعَقِدُ بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا ، لِأَنَّ الْعَدَدَ الَّذِي بَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ انْفِضَاضِ النَّاسِ عَنْهُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا ، فَصَلَّى بِهِمُ الْجُمْعَةَ ، عَلَى مَا رَوَاهُ جَابِرٌ وَفِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : تَنْعَقِدُ بِأَرْبَعَةٍ أَوْ ثَلَاثَةٍ . وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، وَالْمُزَنِيُّ ، لِأَنَّهَا جَمَاعَةٌ وَاجِبَةٌ ، فَافْتَقَرَتْ إِلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ ، وَإِمَامٌ يُجَمِّعُ بِهِمْ ، فَصَارُوا أَرْبَعَةً ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ : تَنْعَقِدُ بِثَلَاثَةٍ : إِمَامٌ وَاثْنَانِ ، لِأَنَّهُمْ أَقَلُّ الْجَمْعِ مَعَ الْإِمَامِ ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَأَبُو ثَوْرٍ : تَنْعَقِدُ بِاثْنَيْنِ إِمَامٍ لِآخَرَ ، كَمَا تَنْعَقِدُ بِهِمَا صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا حَدَّ فِي عَدَدِهِمْ مُعْتَبَرٌ ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ بِأَوْطَانِهِمْ ، فَإِذَا كَانَتْ قَرْيَةً مُجْتَمِعَةَ الْمَنَازِلِ ، لَهَا أَزِقَّةٌ ، وَفِيهَا أَسْوَاقٌ وَمَسْجِدٌ ، فَعَلَيْهِمُ الْجُمْعَةُ ، قَلُّوا أَوْ كَثُرُوا ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ فِعْلُهَا فِي غَيْرِ الْأَوْطَانِ وَإِنْ كَانَ الْعَدَدُ مَوْجُودًا عُلِمَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْأَوْطَانِ . فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَذَاهِبِ مَنْ خَالَفَنَا فِي عَدَدِهِمْ ، وَتَعْلِيلُ مَذْهَبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، ثُمَّ اسْتَدَلُّوا جَمِيعًا عَلَى إِبْطَالِ مَذْهَبِنَا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : تَجِبُ الْجُمْعَةُ فِي جَمَاعَةٍ وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَالدِّلَالَةُ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ : مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : كُنْتُ قَائِدَ أَبِي بَعْدَ ذَهَابِ بَصَرِهِ ، فَكَانَ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ قَالَ : رَحِمَ اللَّهُ أَبَا أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ فَقُلْتُ : يَا أَبَتِ إِنَّكَ تَتَرَحَّمُ عَلَى أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ إِذَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ فَقَالَ : نَعَمْ ، إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ صَلَّى بِنَا الْجُمْعَةَ فِي حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ ، فِي نَقِيعٍ يُقَالُ لَهُ : نَقِيعُ الْخَضَمَاتِ ، فَقُلْتُ : كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ : كُنَّا أَرْبَعِينَ رَجُلًا . وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَا : هُوَ أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ قَدْ كَانَ وَرَدَ الْمَدِينَةَ قَبْلَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ ، وَكَانَ فِي الْمُسْلِمِينَ قِلَّةٌ ، فَلَمَّا اسْتَكْمَلُوا أَرْبَعِينَ أَمَرَ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ فَصَلَّى بِهِمُ الْجُمْعَةَ عَلَى مَا بَيَّنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَعُلِمَ أَنَّ تَأْخِيرَهَا إِنَّمَا كَانَ انْتِظَارًا لِاسْتِكْمَالِ هَذَا الْعَدَدِ ، وَأَنَّهُ شَرْطٌ فِي انْعِقَادِهَا ، لِأَنَّ فَرْضَهَا قَدْ كَانَ نَزَلَ بِمَكَّةَ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا الْحَدِيثُ مُضْطَرِبٌ ، لَا يَصِحُّ لَكُمْ الِاحْتِجَاجُ بِهِ ، لِأَنَّهُ يُرْوَى

تَارَةً أَنَّ مُصْعَبًا صَلَّى بِالنَّاسِ ، وَيُرْوَى تَارَةً أُخْرَى أَنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ صَلَّى بِهِمْ ، وَرُوِيَ تَارَةً بِالْمَدِينَةِ ، وَتَارَةً بِبَنِي بَيَاضَةَ ، فَلِأَجْلِ اضْطِرَابِهِ وَاخْتِلَافِ رِوَايَتِهِ لَمْ يَصِحَّ لَكُمْ الِاحْتِجَاجُ بِهِ ، قِيلَ : الْحَدِيثُ صَحِيحٌ لَا اضْطِرَابَ فِيهِ ، لِأَنَّ مُصْعَبًا كَانَ الْآمِرَ بِهَا ، وَأَسْعَدُ الْفَاعِلَ لَهَا ، فَمَنْ نَسَبَهَا إِلَى مُصْعَبٍ فَلِأَجْلِ أَمْرِهِ ، وَمَنْ نَسَبَهَا إِلَى أَسْعَدَ فَلِأَجْلِ فِعْلِهِ ، وَمَنْ رَوَى بِبَنِي بَيَاضَةَ فَعَيَّنَ مَوْضِعَ فِعْلِهَا ، وَمَنْ رَوَى بِالْمَدِينَةِ فَنَقَلَ أَشْهَرَ مَوَاضِعِهَا ، لِأَنَّ بَنِي بَيَاضَةَ مِنْ سَوَادِ الْمَدِينَةِ . وَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ غَلِطَ عَلَى الشَّافِعِيِّ ، وَغَلِطَ أَصْحَابُنَا عَلَى الْمُزَنِيِّ ، فَأَمَّا غَلَطُ الْمُزَنِيِّ عَلَى الشَّافِعِيِّ : فَهُوَ قَوْلُهُ : وَاحْتَجَّ بِمَا لَا يُثْبِتُهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ جَمَّعَ بِأَرْبَعِينَ ، وَهَذَا لَعَمْرِي حَدِيثٌ ضَعِيفٌ ، ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَحْتَجَّ بِهِ ، وَإِنَّمَا احْتَجَّ بِحَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ هَذَا الْمُقَدَّمِ . وَأَمَّا غَلَطُ أَصْحَابِنَا عَلَى الْمُزَنِيِّ فَهُوَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ أَرَادَ بِالْحَدِيثِ حَدِيثَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، لِأَنَّ مُحَمَّدًا كَانَ ضَعِيفًا ، طَعَنَ فِيهِ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ فَقَالُوا : الْحَدِيثُ صَحِيحٌ ، وَإِنْ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ضَعِيفًا ، لِأَنَّ أَبَا دَاوُدَ قَدْ نَقَلَهُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَدْ أَتْقَنَهُ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ جِهَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ . فَلَمْ يَكُنْ ضَعْفُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَادِحًا فِي صِحَّتِهِ ، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُمْ عَلَى الْمُزَنِيِّ ، حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّهُ أَشَارَ بِضَعِيفِ الْحَدِيثِ إِلَى حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، وَغَلِطَ الْمُزَنِيُّ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ . ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ : مَا رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ طَرِيفٍ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِذَا اجْتَمَعَ أَرْبَعُونَ رَجُلًا فَعَلَيْهِمُ الْجُمُعَةُ وَسَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ يَتَوَاضَعُونَ الْحَدِيثَ وَلِأَنَّ فَرْضَ الْجُمْعَةِ قَدْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ظُهْرًا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ، ثُمَّ نُقِلَ الْفَرْضُ إِلَى رَكْعَتَيْنِ عَلَى شَرَائِطَ وَأَوْصَافٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْسَخَ الظُّهْرُ ، وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ شَرْعًا ثَابِتًا لَمْ يَجُزْ الِانْتِقَالُ عَنْهُ إِلَّا بِدَلَالَةِ التَّوْقِيفِ أَوِ الْإِجْمَاعِ ، وَلَا تَوْقِيفَ مَعَهُمْ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ وَلَا إِجْمَاعَ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَرْضُهُ الظُّهْرَ ، وَلِأَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ فِي الْجُمْعَةِ إِجْمَاعًا ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ بِوَاحِدٍ ، وَإِذَا كَانَ الْعَدَدُ شَرْطًا مُعْتَبَرًا ، وَلَيْسَ لِبَعْضِ الْأَعْدَادِ مَزِيَّةٌ عَلَى بَعْضٍ ، كَانَ مَا اعْتَبَرْنَا مِنْ عَدَدِ الْأَرْبَعِينَ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ

مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي تَعْلِيقِ الْحُكْمِ ، وَمَا دُونَهُ مِنَ الْأَعْدَادِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ عَدَدٌ قَدْ وُجِدَ فِي الشَّرْعِ جُمْعَةٌ انْعَقَدَتْ بِهِ ، وَهُوَ حَدِيثُ أَسْعَدَ وَلَمْ يُوجَدْ فِي الشَّرْعِ جُمْعَةٌ انْعَقَدَتْ بِأَرْبَعَةٍ ، فَكَانَ الْعَدَدُ الَّذِي طَابَقَ الشَّرْعَ أَوْلَى ، وَبِهَذَا يَبْطُلُ مَا اعْتَلُّوا بِهِ لِمَذْهَبِهِمْ . ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى فَسَادِ مَا اعْتَبَرَهُ مِنَ الْعَدَدِ : أَنْ يُقَالَ : إِنَّهُ عَدَدٌ لَا تُبْنَى لَهُمُ الْأَوْطَانُ غَالِبًا ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَنْعَقِدَ بِهِمُ الْجُمْعَةُ كَالْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ . فَأَمَّا مَا اعْتَبَرَهُ مَالِكٌ فِي الْأَوْطَانِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْأَوْطَانَ وَالْعَدَدَ شَرْطَانِ مُعْتَبَرَانِ ، فَلَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ، عَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ الْعَدَدِ أَوْلَى ، لِأَنَّهُ مَعْنًى يَخْتَصُّ بِمَنْ وَجَبَ الْفَرْضُ عَلَيْهِ . فَأَمَّا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَجِبُ الْجُمُعَةُ فِي جَمَاعَةٍ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ ، لِأَنَّنَا نُوجِبُهَا فِي جَمَاعَةٍ ، وَلَكِنِ اخْتَلَفْنَا فِي عَدَدِهَا ، وَالْخَبَرُ لَا يَقْضِي عَلَى أَحَدِ الْأَعْدَادِ دُونَ غَيْرِهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ لَهُمْ الِاحْتِجَاجُ بِهِ . وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا حِينَ انْفَضَّ عَنْهُ أَصْحَابُهُ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ ، لِأَنَّ انْفِضَاضَهُمْ كَانَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ . وَقَدْ كَانَتِ انْعَقَدَتْ بِأَرْبَعِينَ ، وَاسْتِدَامَةُ الْعَدَدِ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى نَذْكُرُهَا فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْخُطْبَتَانِ وَاجِبَتَانِ وَشَرَائِطُ الْجُمْعَةِ مُعْتَبَرَةٌ فِيهِمَا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ خَطَبَ بِهِمْ وَهُمْ أَرْبَعُونَ ثُمَّ انْفَضُّوا عَنْهُ ، ثُمَّ رَجَعُوا مَكَانَهُمْ صَلَّوْا صَلَاةَ الْجُمُعَةِ وَإِنْ لَمْ يَعُودُوا حَتَّى تَبَاعَدَ أَحْبَبْتُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْخُطْبَةَ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ صَلَّاهَا بِهِمْ ظُهْرًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . وَأَمَّا الْخُطْبَتَانِ فَوَاجِبَتَانِ ، وَشَرَائِطُ الْجُمْعَةِ مُعْتَبَرَةٌ فِيهِمَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْطُبَهُمَا إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ ، إِذَا حَضَرَهَا أَرْبَعُونَ فَصَاعِدًا ، وَوَجَبَ أَنَّ الْخُطْبَةَ أَرْبَعُ كَلِمَاتٍ ، نَذْكُرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا وَمَا سِوَاهُنَّ مِنْ سُنَنِهَا . فَإِنْ خَطَبَ فَأَتَى بِوَاجِبَاتِ الْخُطْبَةِ أَوْ بَعْضِهَا ، وَالْعَدَدُ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِينَ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمُ الْجُمْعَةَ ، وَإِنْ كَانُوا عِنْدَ إِحْرَامِهِ أَرْبَعِينَ ، حَتَّى يَبْتَدِئَ الْخُطْبَةَ عَلَى أَرْبَعِينَ ، وَيُحْرِمُ بِالصَّلَاةِ مِعِ أَرْبَعِينَ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ الْعَدَدُ مُعْتَبَرًا فِي الْخُطْبَةِ ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي الصَّلَاةِ ، تَعَلُّقًا بِأَنَّ الْأَذْكَارَ الَّتِي تَتَقَدَّمُ الصَّلَاةَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الِاجْتِمَاعُ كَالْأَذَانِ ، وَهَذَا خَطَأٌ . وَدَلِيلُنَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ بِحَضْرَةِ أَصْحَابِهِ ، وَقَالَ : " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي " : وَلِأَنَّ كُلَّ مَنِ افْتَقَرَ إِلَى حُضُورِهِ فِي الصَّلَاةِ افْتَقَرَ إِلَى حُضُورِهِ فِي الْخُطْبَةِ كَالْإِمَامِ ، وَلِأَنَّهَا أَذْكَارٌ

مِنْ شَرَائِطِ الْجُمْعَةِ ، فَوَجَبَ إِذَا اخْتَصَّ بِهَا الْإِمَامُ أَنْ لَا يَنْفَرِدَ بِهَا عَنِ الْعَدَدِ كَالْقِرَاءَةِ ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ خَالَفَتِ الْأَذَانَ ، لِأَنَّهُ إِعْلَامٌ ، فَجَازَ تَقَدُّمُهُ قَبْلَ حُضُورِ الْعَدَدِ ، لِحُصُولِ الْإِعْلَامِ بِهِ ، وَالْخُطْبَةُ عِظَةٌ ، فَلَمْ يَجُزْ تَقَدُّمُهَا قَبْلَ حُضُورِ الْعَدَدِ ، لِعَدَمِ الِاتِّعَاظِ بِهَا . فَصْلٌ : فَإِذَا وَضَحَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ ، فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ : أَنْ يَخْطُبَ بِهِمْ وَهُمْ أَرْبَعُونَ فَصَاعِدًا ، ثُمَّ يَنْفَضُّوا عَنْهُ ، لِعَارِضٍ الجمعة مِنْ فِتْنَةٍ أَوْ غَيْرِهَا ، فَلَهُمْ حَالَانِ : حَالٌ : يَعُودُونَ بَعْدَ انْفِضَاضِهِمْ . وَحَالٌ : لَا يَعُودُونَ ، فَإِنْ لَمْ يَعُودُوا صَلَّى الْإِمَامُ ظُهْرًا أَرْبَعًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ عَادَ مِنْهُمْ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِينَ صَلَّى بِهِمْ ظُهْرًا ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمُ الْجُمْعَةَ : لِأَنَّ الْجُمْعَةَ لَا يَصِحُّ انْعِقَادُهَا بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ ، وَإِنْ عَادُوا جَمِيعًا ، أَوْ عَادَ مِنْهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا ، فَلَهُمْ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعُودُوا بَعْدَ زَمَانٍ قَرِيبٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَعُودُوا بَعْدَ زَمَانٍ بَعِيدٍ . فَإِنْ قَرُبَ زَمَانُ عَوْدَتِهِمْ بَنَى عَلَى مَا مَضَى ، وَصَلَّى بِهِمْ جُمْعَةً ، وَلَمْ يَكُنِ الْفَصْلُ الْيَسِيرُ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْبِنَاءِ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُوقِعَ فِي خُطْبَتِهِ فَصْلٌ يَسِيرٌ فَإِنَّهُ كَلَّمَ سُلَيْكًا وَقَتَلَةَ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ . ثُمَّ بَنَى ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِلْفَصْلِ الْيَسِيرِ حُكْمًا ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْفَصْلُ الْيَسِيرُ فِي الصَّلَاةِ مَانِعًا مِنَ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا ، كَانَ فِي الْخُطْبَةِ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْ جَوَازِ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا . فَأَمَّا إِنْ بَعُدَ زَمَانُ عَوْدَتِهِمْ ، اعْتُبِرَتْ مَا مَضَى مِنْ وَاجِبَاتِ الْخُطْبَةِ ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ مَضَى جَمِيعُ الْوَاجِبَاتِ ، أَوْ قَدْ مَضَى بَعْضُهَا ، وَبَقِيَ بَعْضُهَا . فَإِنْ مَضَى بَعْضُ وَاجِبَاتِهَا : فَغَرَضُ الْخُطْبَةِ بَاقٍ : لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى مَا مَضَى : لِأَنَّ بُعْدَ الزَّمَانِ قَدْ أَبْطَلَهُ كَالصَّلَاةِ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ خُطْبَتَيْنِ ، وَيُصَلِّيَ الْجُمْعَةَ رَكْعَتَيْنِ ، إِذَا كَانَ الْوَقْتُ مُتَّسِعًا ، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ وَإِنْ مَضَى جَمِيعُ وَاجِبَاتِهَا : فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَحْبَبْتُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْخُطْبَةَ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ صَلَّى بِهِمْ ظُهْرًا أَرْبَعًا . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ أَصَحُّهَا وَأَوْلَاهَا أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ عَلَى ظَاهِرِهِ ، فَيَخْطُبُ اسْتِحْبَابًا لَا وَاجِبًا : لِأَنَّ فَرْضَ الْخُطْبَةِ قَدْ أَقَامَهُ مَرَّةً ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ إِقَامَتُهُ ثَانِيَةً ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَخْطُبْ صَلَّاهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا : لِأَنَّ الْخُطْبَةَ شَرْطٌ فِي إِقَامَةِ الْجُمْعَةِ فَإِذَا لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِئْنَافُ الْخُطْبَةِ لِإِتْيَانِهِ بِهَا ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى الْخُطْبَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِبُعْدِ زَمَانِهَا ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا وَإِنِ اسْتَأْنَفَ الْخُطْبَةَ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمْعَةَ رَكْعَتَيْنِ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَهَا أَرْبَعًا

وَإِنَّمَا لَزِمَهُ الْجُمْعَةُ لِوُجُودِ شَرَائِطِهَا ، وَهِيَ الْخُطْبَةُ مَعَ بَقَاءِ الْوَقْتِ وَكَمَالِ الْعَدَدِ ، فَهَذَا أَحَدُ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ يَخْطُبُ وَاجِبًا لَا اسْتِحْبَابًا وَيُصَلِّي الْجُمْعَةَ لَا ظُهْرًا : لِأَنَّ الْوَقْتَ بَاقٍ ، وَالْعَدَدَ مَوْجُودٌ ، قَالَ : وَقَدْ أَخْطَأَ الْمُزَنِيُّ فِي نَقْلِهِ عَنِ الشَّافِعِيِّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ : " أَحْبَبْتُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْخُطْبَةَ " . وَإِنَّمَا أَوْجَبْتُ وَيُصَلِّي بِهِمْ جُمْعَةً ، قَالَ : وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ : " فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ صَلَّى بِهِمْ ظُهْرًا أَرْبَعًا " أَرَادَ بِهِ : إِنْ لَمْ يَعْقِدْ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ وَهَذَا الْمَذْهَبُ وَإِنْ كَانَ لَهُ وَجْهٌ ، فَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ مِنْهُ ، وَقَدْ أَخْطَأَ فِي تَخْطِئَتِهِ الْمُزَنِيَّ ؛ لِأَنَّ الرَّبِيعَ هَكَذَا نَقَلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : أَحْبَبْتُ ، وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ أَحَدٌ " أَوْجَبْتُ " ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُزَنِيَّ لَمْ يُخْطِئْ فِي نَقْلِهِ ، وَإِنَّمَا أَخْطَأَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي تَأْوِيلِهِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْعُذْرُ بَاقِيًا خَطَبَ اسْتِحْبَابًا ، وَإِنْ زَالَ الْعُذْرُ خَطَبَ وَاجِبًا ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَا وَجْهَ لَهُ : لِأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ عُذْرًا فِي سُقُوطِ الْخُطْبَةِ ابْتِدَاءً لَمْ يَكُنْ عُذْرًا فِي سُقُوطِهَا انْتِهَاءً .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَإِنِ انْفَضُّوا بَعْدَ إِحْرَامِهِ بِهِمْ فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا إِنْ بَقِيَ مَعَهُ اثْنَانِ حَتَى تَكُونَ صَلَاتُهُ صَلَاةَ جَمَاعَةٍ أَجْزَأَتْهُمُ الْجُمُعَةُ . وَالْقَوْلُ الْآخَرُ : لَا تُجْزِئُهُمْ بِحَالٍ حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ تَكْمُلُ بِهِمُ الصَّلَاةُ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : قُلْتُ أَنَا : لَيْسَ لِقَوْلِهِ إِنْ بَقِيَ مَعَهُ اثْنَانِ أَجْزَأَتْهُمُ الْجُمُعَةُ مَعْنًى ؛ لِأَنَّهُ مَعَ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ فِي الِاسْتِقْبَالِ فِي مَعْنَى الْمُنْفَرِدِ فِي الْجُمُعَةِ وَلَا جَمَاعَةَ تَجِبُ بِهِمُ الْجُمُعَةُ عِنْدَهُ أَقَلُّ مِنَ الْأَرْبَعِينَ ، فَلَوْ جَازَتْ بِاثْنَيْنِ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِأَرْبَعِينَ جَازَتْ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْأَرْبَعِينَ ، فَلَيْسَ لِهَذَا وَجْهٌ فِي مَعَنَاهُ هَذَا وَالَّذِي هُوَ أَشْبَهُ بِهِ إِنْ كَانَ صَلَّى رَكْعَةً ثُمَّ انْفَضُّوا صَلَى أُخْرَى مُنْفَرِدًا كَمَا لَوْ أَدْرَكَ مَعَهُ رَجُلٌ رَكْعَةً صَلَّى أُخْرَى مُنْفَرِدًا وَلَا جُمُعَةَ لَهُ إِلَّا بِهِمْ وَلَا لَهُمْ إِلَّا بِهِ ، فَأَدَاؤُهُ رَكْعَةً بِهِمْ كَأَدَائِهِمْ رَكْعَةً بِهِ عِنْدِي فِي الْقِيَاسِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَوْ صَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ أَحْدَثَ في صلاة الجمعة بَنَوْا وُحْدَانًا رَكْعَةً وَأَجْزَأَتْهُمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : أَنْ يُحْرِمَ الْإِمَامُ بِصَلَاةِ الْجُمْعَةِ مَعَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا فَصَاعِدًا ، ثُمَّ يَنْفَضُّونَ عَنْهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ ، لِعَارِضٍ مِنْ فِتْنَةٍ أَوْ غَيْرِهَا ، بَعْدَ سَلَامَةِ الْخُطْبَةِ ، فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ فِي افْتِتَاحِهَا وَاسْتَدَامَتِهَا ، فَمَتَى نَقَصَ مِنَ الْأَرْبَعِينَ وَاحِدٌ بَنَى عَلَى الظُّهْرِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ فِي افْتِتَاحِهَا ، فَإِنْ بَقِيَ مَعَهُ بَعْدَ انْفِضَاضِهِمُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا بَنَى عَلَى الْجُمْعَةِ . وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " ، وَنَقَلَهُمَا الْمُزَنِيُّ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ .

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ : أَنَّهُ إِنْ بَقِيَ مَعَهُ بَعْدَ انْعِقَادِهَا بِالْأَرْبَعِينَ وَاحِدٌ بَنَى عَلَى الْجُمْعَةِ ، وَإِنْ بَقِيَ وَحْدَهُ صَلَّى ظُهْرًا أَرْبَعًا . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ فِي افْتِتَاحِهَا وَاسْتَدَامَتِهَا وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ وَأَوْلَاهَا فَوَجْهُهُ : شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ اخْتَصَّ بِالْجُمْعَةِ فِي افْتِتَاحِهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ اسْتَدَامَتُهُ إِلَى إِثْبَاتِهَا ، كَسَائِرِ الشُّرُوطِ مِنَ الْوَقْتِ وَالِاسْتِيطَانِ وَغَيْرِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ خُطْبَةَ الْجُمْعَةِ أَخَفُّ حُكْمًا مِنْ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ : لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمْعَةَ مَنْ لَمْ يَسْمَعِ الْخُطْبَةَ ، فَلَمَّا كَانَ الْعَدَدُ شَرْطًا فِي اسْتِدَامَةِ الْخُطْبَةِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي اسْتِدَامَةِ الْجُمْعَةِ . فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ فِي افْتِتَاحِهَا دُونَ اسْتَدَامَتِهَا وَمَتَى بَقِيَ مَعَهُ اثْنَانِ جَازَ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْجُمْعَةِ فَوَجْهُهُ : تَقْدِيمُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْعَدَدَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي اسْتَدَامَتِهَا ، ثُمَّ الدَّلَالَةُ عَلَى اعْتِبَارِ الِاثْنَيْنِ . فَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْعَدَدَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الِاسْتِدَامَةِ فَهُوَ : أَنَّ الْإِمَامَ لَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ ضَبْطُهُ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَجْزَائِهِ ، وَهُوَ إِذَا أَحْرَمَ لَمْ يُمْكِنْهُ الِاحْتِرَازُ مِنَ انْفِضَاضِهِمْ ، وَيُمْكِنُهُ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ : فَلِذَلِكَ كَانَ الْعَدَدُ شَرْطًا فِي افْتِتَاحِهَا ، لِعَدَمِ الْمَشَقَّةِ فِي اعْتِبَارِهِ وَلَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي الِاسْتِدَامَةِ لِإِدْرَاكِ الْمَشَقَّةِ فِيهِ ، وَتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ ، فَشَابَهَ النِّيَّةَ لَمَّا لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ اعْتِبَارُهَا مَعَ الْإِحْرَامِ كَانَ مُؤْخَذًا بِهَا ، وَلَمَّا شَقَّ عَلَيْهِ اسْتَدَامَتُهَا فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ ، لِأَنَّهَا قَدْ تَعْزُبُ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مُؤَاخَذًا بِهَا إِذَا عَزَبَتْ فِي أَثْنَائِهَا ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى فَارَقَ الْوَقْتَ ، لِأَنَّ اعْتِبَارَ اسْتَدَامَتِهِ يُمْكِنُ ، وَلِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ شَرْطًا فِي ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ دُونَ اسْتَدَامَتِهَا وَإِثْبَاتِهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ شَرْطٌ فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي اسْتَدَامَتِهَا ، كَذَلِكَ الْعَدَدُ فِي الْجُمْعَةِ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَدَدَ الْمُعْتَبَرَ فِي افْتِتَاحِهَا لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي اسْتَدَامَتِهَا فَالدَّلَالَةُ عَلَى اعْتِبَارِ الِاثْنَيْنِ ، وَجَوَازِ إِتْمَامِ الْجُمْعَةِ بِهَا هُوَ : أَنَّ الْجُمْعَةَ تَفْتَقِرُ إِلَى الْجَمَاعَةِ ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ الْكَامِلِ ثَلَاثَةٌ . وَإِذَا قِيلَ إِنَّهُ مَتَى بَقِيَ مَعَهُ وَاحِدٌ جَازَ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى الْجُمْعَةِ فَوَجْهُهُ : أَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ الْمُعْتَبَرُ فِي افْتِتَاحِهَا شَرْطًا فِي اسْتَدَامَتِهَا ، وَافْتَقَرَتْ إِلَى الْجَمَاعَةِ ، كَانَ أَقَلُّهَا فِي الشَّرْعِ اثْنَيْنِ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ .

فَعَلَى هَذَا هَلْ يُعْتَبَرُ فِي الْوَاحِدِ أَوِ الِاثْنَيْنِ وَصْفُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ حُرًّا ، بَالِغًا ، مُقِيمًا . فَإِنْ كَانَ عَبْدًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ مُسَافِرًا أَوِ امْرَأَةً بَنَى عَلَى الظُّهْرِ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَدَدٌ مُعْتَبَرٌ فِي صَلَاةِ الْجُمْعَةِ : فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ أَوْصَافُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ كَالْأَرْبَعِينَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَلْزَمُ اعْتِبَارُ هَذَا الْوَصْفِ ، وَمَتَى كَانَ الْبَاقِي عَبْدًا أَوِ امْرَأَةً أَوْ مُسَافِرًا جَازَ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى الْجُمْعَةِ : لِأَنَّهُ لَمَّا عَدَلَ بِهِ عَنْ حُكْمِ الْعَدَدِ الْمُعْتَبَرِ فِي افْتِتَاحِ الْجُمْعَةِ إِلَى الْعَدَدِ الْمُعْتَبَرِ فِي صِحَّةِ الْجَمَاعَةِ لَمْ يَعْتَبِرْ وَصْفَ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ ، وَاعْتَبَرَ حَالَ مَنْ تَصِحُّ بِهِ الْجَمَاعَةُ . فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ خَرَّجَ قَوْلًا رَابِعًا : أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْإِمَامُ قَدْ أَدْرَكَ مَعَهُمْ رَكْعَةً بَنَى عَلَى الْجُمْعَةِ ، وَإِنْ أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ بَنَى عَلَى الظُّهْرِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَثْبَتَهُ ، وَعَدَّهُ قَوْلًا رَابِعًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ ، وَامْتَنَعَ مِنْ تَخْرِيجِهِ قَوْلًا رَابِعًا ، فَمَنْ أَثْبَتَهُ فَوَجْهُهُ : أَنَّ الْجُمْعَةَ لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا بِإِمَامٍ وَمَأْمُومٍ ، فَلَمَّا جَازَ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْجُمْعَةِ إِذَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً ، جَازِ لِلْإِمَامِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْجُمْعَةِ إِذَا أَدْرَكَ مَعَ الْمَأْمُومِينَ رَكْعَةً . وَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا الْقَوْلَ وَامْتَنَعَ مِنْ تَخْرِيجِهِ انْفَصَلَ عَنْ هَذَا ، وَفَرَّقَ بَيْنَ حَالِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ ، وَقَالَ : إِنَّمَا جَازَ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْجُمْعَةِ بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ مَعَ الْإِمَامِ لِانْعِقَادِ الْجُمْعَةِ وَحُصُولِهَا لِلْإِمَامِ ، فَكَانَ تَابِعًا لِمَنْ كَمُلَتْ بِهِ ، وَلَمْ يَجُزْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْجُمْعَةِ بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ مَعَ الْمَأْمُومِينَ : لِأَنَّهَا تَكْمُلُ بِعَدَدٍ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ تَابِعًا ، وَلَا صِحَّةَ لَهُمْ فَتَصِحُّ لَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ رَكَعَ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ زُحِمَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى السُّجُودِ حَتَى قَضَى الْإِمَامُ سُجُودَهُ تَبِعَ الْإِمَامَ إِذَا قَامَ وَاعْتَدَّ بِهَا ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْأُولَى فَلَمْ يُمْكِنْهُ السُّجُودُ حَتَّى يَرْكَعَ الْإِمَامُ فِي الثَّانِيَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْجُدَ لِلرَّكْعَةِ الْأُولَى إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ مِنْ إِمَامَتِهِ لِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا سَجَدُوا لِلْعُذْرِ قَبْلَ رُكُوعِ الثَّانِيَةِ فَيَرْكَعُ مَعَهُ فِي الثَّانِيَةِ وَتَسْقُطُ الْأُخْرَى ، وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ : فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا لَا يَتْبَعُهُ وَلَوْ رَكَعَ حَتَّى يَفْرُغَ مِمَّا بَقِيَ عَلَيْهِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِنْ قَضَى مَا فَاتَ لَمْ يَعْتَدَّ بِهِ وَتَبِعَهُ فِيمَا سِوَاهُ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : قُلْتُ أَنَا : الْأَوَّلُ عِنْدِي أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ قِيَاسًا عَلَى أَنَّ السُّجُودَ إِنَّمَا يُحْسَبُ لَهُ إِذَا جَاءَ وَالْإِمَامُ يُصَلِّي بِإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ وَيَسْقُطُ بِسُقُوطِ إِدْرَاكِ الرُّكُوعِ ، وَقَدْ قَالَ إِنْ سَهَا عَنْ رَكْعَةٍ رَكَعَ الثَّانِيَةَ مَعَهُ ثُمَّ قَضَى الَّتِي سَهَا عَنْهَا وَفِي هَذَا مِنْ قَوْلِهِ لِأَحَدِ قَوْلَيْهِ دَلِيلٌ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ : فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ مَعَ الْإِمَامِ بِصَلَاةٍ الْجُمْعَةِ ، وَرَكَعَ بِرُكُوعِهِ ، ثُمَّ زُحِمَ عَنِ السُّجُودِ مَعَهُ ، فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُمْكِنَهُ السُّجُودُ عَلَى ظَهْرِ إِنْسَانٍ الزحام في الجمعة ، فَيَلْزَمُهُ السُّجُودُ عَلَيْهِ ، نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ . لِمَا وَرَدَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : إِذَا زُحِمَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَسْجُدْ عَلَى ظَهْرِ آخَرَ ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ ، وَلِأَنَّ صِفَةَ السُّجُودِ فِي الْأَدَاءِ مُعْتَبَرَةٌ بِالْإِمْكَانِ كَالْمَرِيضِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يُمْكِنَهُ السُّجُودُ عَلَى ظَهْرِ إِنْسَانٍ حَتَّى يَرْفَعَ الْإِمَامُ مِنْ سُجُودِهِ الزحام في الجمعة فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَتَى سَجَدَ أَدْرَكَ رُكُوعَ الثَّانِيَةِ مِعِ الْإِمَامِ ، فَهَذَا عَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ أَوَّلًا ، ثُمَّ يَرْكَعَ مَعَ الْإِمَامِ ، سَوَاءٌ أَدْرَكَهُ قَائِمًا فِي الثَّانِيَةِ ، أَوْ رَاكِعًا فِيهَا : لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِ مُفَارَقَةُ الْإِمَامِ فِي أَفْعَالِهِ ، وَإِنَّمَا أُخِذَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ فِيهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِينَ حَرَسُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ بِعُسْفَانَ سَجَدُوا بَعْدَ قِيَامِهِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَهْمَا أَسْبَقْتُكُمْ بِهِ إِذَا رَكَعْتُ تُدْرِكُونِي إِذَا رَفَعْتُ ؛ لِأَنَّنِي بَدَّنْتُ أَيْ كَبِرْتُ . فَإِذَا سَجَدَ نُظِرَ فِي حَالِهِ : فَإِنْ أَدْرَكَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ فِي الثَّانِيَةِ ، وَالرُّكُوعَ مَعَ الْإِمَامِ قَبْلَ رَفْعِهِ مِنْهُ ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ . وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ : فَإِنْ قِيلَ لَيْسَ عَلَى الْمَأْمُومِ أَنْ يَقْرَأَ خَلْفَ إِمَامِهِ فَقَدْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ أَيْضًا ، وَإِنْ قِيلَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ خَلْفَ إِمَامِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَصَحُّهُمَا يُجْزِئُهُ ، وَيَصِيرُ بِمَثَابَةِ مَنْ أَدْرَكَ إِمَامَهُ رَاكِعًا فَيَحْتَمِلُ عَنْهُ الْقِرَاءَةَ فِيهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُجْزِئُهُ : لِأَنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ مَحَلَّ الْقِرَاءَةِ ، فَصَارَ كَالنَّاسِي . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَتَى سَجَدَ فَاتَهُ رُكُوعُ الثَّانِيَةِ مَعَ الْإِمَامِ ، فَهَلْ يَأْتِي بِالسُّجُودِ أَوْ يَتْبَعُ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي " الْإِمْلَاءِ " وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَأْتِي بِالسُّجُودِ الَّذِي عَلَيْهِ مِنَ الْأُولَى ، وَلَا يَتْبَعُ الْإِمَامَ فِي رُكُوعِ الثَّانِيَةِ وَوَجْهُ هَذَا : قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا صَلَاةَ لِمَنْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا "

فَأَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ ، وَاتِّبَاعُهُ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ ، وَقَدْ فَعَلَ السُّجُودَ ، فَوَجَبَ أَنْ يَتْبَعَهُ فِيهِ ، فَيَأْتِيَ بِهِ : وَلِأَنَّ فِي اتِّبَاعِ الْإِمَامِ مُوَالَاةً بَيْنِ رُكُوعَيْنِ ، وَإِيقَاعَ زِيَادَةٍ فِي الصَّلَاةِ لَا يُعْتَدُّ بِهَا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتْبَعَهُ ، وَلَزِمَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا فَاتَهُ ، وَلِأَنَّهُ إِذَا اشْتَغَلَ بِقَضَاءِ مَا عَلَيْهِ فَقَدِ انْتَقَلَ مِنْ فَرْضٍ إِلَى فَرْضٍ ، وَهُوَ مِنَ الرُّكُوعِ إِلَى السُّجُودِ ، وَإِذَا اشْتَغَلَ بِاتِّبَاعِ الْإِمَامِ فَقَدِ انْتَقَلَ مِنْ فَرْضٍ إِلَى مَا لَيْسَ بِفَرْضٍ ، وَلَا نَفْلٍ ، وَهُوَ الرُّكُوعُ الثَّانِي . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ : أَنَّهُ يَتْبَعُ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ وَلَا يَشْتَغِلُ بِالسُّجُودِ وَوَجْهُ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ فَمَنَعَ مِنْ مُخَالَفَتِهِ فِي أَفْعَالِهِ الظَّاهِرَةِ ، وَفِي اشْتِغَالِهِ بِالسُّجُودِ مُخَالَفَةٌ فِي أَفْعَالِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْهُ ، وَلِأَنَّ تَرْتِيبَ الصَّلَاةِ قَدْ سَقَطَ خَلْفَ الْإِمَامِ بِوُجُوبِ اتِّبَاعِهِ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ أَدْرَكَهُ سَاجِدًا أَوْ مُتَشَهِّدًا أَحْرَمَ وَتَبِعَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فَرْضِهِ عَقِبَ الْإِحْرَامِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا ، فَكَذَا أَيْضًا يَلْزَمُهُ اتِّبَاعُهُ فِي الرُّكُوعِ وَإِنْ فَاتَهُ السُّجُودُ : وَلِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَوْ لَهَا عَنِ السُّجُودِ وَسَهَا حَتَّى رَكَعَ الْإِمَامُ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَهُ فِيهِ ، وَلَا يَشْتَغِلَ بِالسُّجُودِ ، فَكَذَلِكَ لَوْ أَدْرَكَهُ بِزِحَامٍ ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا ، مَعَ كَوْنِهِ مَعْذُورًا فِيهِمَا . فَصْلٌ : وَإِذَا قُلْنَا : عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا فَاتَهُ مِنَ السُّجُودِ فَسَجَدَ نُظِرَ فِي حَالِهِ : فَإِنَّ سَجَدَ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ : فَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ رَكْعَةٌ يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ ، وَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ ثَانِيَةٍ ، وَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ . وَإِنْ سَجَدَ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ أَوْ شَكَّ لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ ، وَأَتَمَّهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا . وَإِذَا قُلْنَا عَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ فَتَبِعَ وَرَكَعَ مَعَهُ وَسَجَدَ : فَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ رَكْعَةٌ ، وَهَلْ هِيَ الثَّانِيَةُ بِكَمَالِهَا أَمِ الْأَوْلَى مَجْبُورَةٌ بِسُجُودِ الثَّانِيَةِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ هَا هُنَا أَنَّهَا الثَّانِيَةُ بِكَمَالِهَا دُونَ الْأُولَى : لِتَكُونَ الرَّكْعَةُ مُرَتَّبَةً لَا يَتَخَلَّلُهَا رُكُوعٌ مَقْصُودٌ وَلَا يُعْتَدُّ بِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي سُجُودِ السَّهْوِ أَنَّهَا الْأُولَى مَجْبُورَةٌ بِسُجُودِ الثَّانِيَةِ : لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ فِي الْأَوْلَى قَدْ كَانَ مُعْتَدًّا بِهِ قَبْلَ زِحَامِهِ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ أَتَى فِي الْأَوْلَى بِقِيَامٍ وَقِرَاءَةٍ لَمْ يَأْتِ بِهِمَا فِي الثَّانِيَةِ ، فَكَانَتِ الْأُولَى أَوْلَى فِي الِاعْتِدَادِ بِهَا مِنَ الثَّانِيَةِ . فَإِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ : إِنَّهَا الرَّكْعَةُ الثَّانِيَةُ بِكَمَالِهَا ، فَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ رَكْعَةٌ يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ ، فَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ ، وَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ . وَإِذَا قِيلَ إِنَّهَا الْأُولَى مَجْبُورَةٌ بِسُجُودِ الثَّانِيَةِ فَهَلْ يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْجُمْعَةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْجُمْعَةَ .

فَعَلَى هَذَا يَأْتِي بِرَكْعَةٍ أُخْرَى ، وَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا يُدْرِكُ الْجُمْعَةَ بِرَكْعَةٍ مُلَفَّقَةٍ مِنْ رَكْعَتَيْنِ ، وَإِنَّمَا يُدْرِكُهَا بِرَكْعَةٍ كَامِلَةٍ غَيْرِ مُلَفَّقَةٍ : لِأَنَّ الْجُمْعَةَ كَامِلَةُ الْأَوْصَافِ ، فَاعْتُبِرَ فِي إِدْرَاكِهَا رَكْعَةٌ كَامِلَةٌ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ ، وَتَكُونُ ظُهْرًا فِي وَقْتِ الْجُمْعَةِ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ مَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي وَقْتِ الْجُمْعَةِ مَعْذُورًا جَازَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ فَعَلَى قَوْلَيْنِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الزِّحَامِ هَلْ هُوَ مَعْذُورٌ بِهِ أَمْ لَا ؟ في صلاة الجمعة عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَعْذُورٌ بِهِ ، فَعَلَى هَذَا يُتِمُّ صَلَاتَهُ ظُهْرًا أَرْبَعًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِيَ : أَنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ بِهِ : لِأَنَّ أَعْذَارَ الْجُمْعَةِ أَمْرَاضٌ مَانِعَةٌ ، وَلَيْسَ الزِّحَامُ مِنْهَا ، فَعَلَى هَذَا فِي صَلَاتِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْقَدِيمُ جَائِزَةٌ ، وَيَبْنِي عَلَى الظُّهْرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ . وَالثَّانِي : وَهُوَ الْجَدِيدُ بَاطِلَةٌ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا . فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ أَمَرْنَاهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ السُّجُودِ فَخَالَفَ وَتَبَعِ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِفَرْضِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِهِ . فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِفَرْضِهِ وَأَنَّ مَا فَعَلَهُ مَعَ الْإِمَامِ لَا يَجُوزُ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ : لِإِخْلَالِهِ بِرُكْنٍ مِنْ صَلَاتِهِ عَامِدًا ، ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْإِحْرَامَ وَرَاءَ الْإِمَامِ : فَإِنْ أَدْرَكَهُ رَاكِعًا وَسَجَدَ مَعَهُ فَقَدْ أَدْرَكَ رَكْعَةً يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ ، فَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ أُخْرَى وَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ . فَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهُ رَاكِعًا وَأَدْرَكَهُ سَاجِدًا أَوْ مُتَشَهِّدًا لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ ، وَصَلَّاهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا . وَإِنْ كَانَ قَدْ تَبِعَ الْإِمَامَ جَاهِلًا بِالْحُكْمِ مُقَدِّرًا جَوَازَ ذَلِكَ أَلْغَى هَذَا الرُّكُوعَ ، وَلَمْ يَعْتَدَّ بِهِ : لِأَنَّ فَرْضَهُ السُّجُودُ ، وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ بِهِ : لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ مِنْ جِنْسِهَا عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ ، فَإِذَا سَجَدَ مَعَهُ احْتُسِبَ لَهُ بِهَذَا السُّجُودِ ، وَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ رَكْعَةٌ مُلَفَّقَةٌ بِرُكُوعٍ مِنَ الْأُولَى وَسُجُودٍ مِنَ الثَّانِيَةِ ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ ، وَيَكُونُ الْجَوَابُ فِيهِ عَلَى مَا مَضَى فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ . فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ أَمَرْنَاهُ بِاتِّبَاعِ الْإِمَامِ فِي الرُّكُوعِ ، فَخَالَفَ وَاشْتَغَلَ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ مِنَ السُّجُودِ ، لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِفَرْضِهِ أَوْ عَالِمًا بِهِ . فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِأَنَّ فَرْضَهُ اتِّبَاعُ الْإِمَامِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ : لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ ، وَلَمْ يُعْتَدَّ بِمَا فَعَلَهُ مِنَ السُّجُودِ ، وَتَبِعَ الْإِمَامَ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الصَّلَاةِ ، فَإِذَا تَبِعَهُ نُظِرَ فِيمَا أَدْرَكَهُ مَعَهُ ، فَلَا يَخْلُو فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُدْرِكَهُ رَاكِعًا فَيَرْكَعَ مَعَهُ وَيَسْجُدَ ، فَهَذَا يَكُونُ كَمَنْ أُمِرَ بِاتِّبَاعِ الْإِمَامِ فَتَبِعَهُ ،

فَتَحْصُلُ لَهُ رَكْعَةٌ ، وَلَا يُحْتَسَبُ لَهُ السُّجُودُ الَّذِي فَعَلَهُ ، ثُمَّ هَلْ تَكُونُ هَذِهِ الرَّكْعَةُ الثَّانِيَةَ بِكَمَالِهَا أَوِ الْأُولَى مَجْبُورَةً بِسُجُودِ الثَّانِيَةِ ؟ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا الثَّانِيَةُ ، فَعَلَى هَذَا يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا الْأُولَى مَجْبُورَةٌ بِسُجُودِ الثَّانِيَةِ ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ أَمْ لَا ؟ عَلَى الْوَجْهَيْنِ . ثُمَّ الْجَوَابُ فِيهِ عَلَى تَرْتِيبِ مَا مَضَى . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُدْرِكَهُ فِي السُّجُودِ فَيَسْجُدَ مَعَهُ : فَهَذَا تَحْصُلُ لَهُ الرَّكْعَةُ الْأُولَى مَجْبُورَةً بِالثَّانِيَةِ وَجْهًا وَاحِدًا ، ثُمَّ هَلْ يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ لَا يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ ، وَيَكُونُ الْجَوَابُ فِيهِ عَلَى مَا مَضَى . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُدْرِكَهُ بَعْدَ السُّجُودِ مُتَشَهِّدًا ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَهُ فِي التَّشَهُّدِ ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ فَقَدْ بَقِيَ مِنَ الرَّكْعَةِ سَجْدَتَانِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَهُمَا بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ ، وَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ رَكْعَةٌ ، أَدْرَكَ بَعْضَهَا مَعَ الْإِمَامِ ، فَهَذَا غَيْرُ مُدْرِكٍ لِلْجُمْعَةِ وَجْهًا وَاحِدًا ، وَهَلْ يَبْنِي عَلَى الظُّهْرِ أَوْ يَسْتَأْنِفُهَا ؟ عَلَى مَا مَضَى فِي الْجَوَابِ وَالتَّفْصِيلِ . فَأَمَّا إِذَا اشْتَغَلَ بِالسُّجُودِ عَالِمًا أَنَّ فَرْضَهُ اتِّبَاعُ الْإِمَامِ فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ إِخْرَاجَ نَفْسِهِ مِنْ إِمَامَتِهِ ، وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا عَلَى الِائْتِمَامِ بِهِ . فَإِنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى الِائْتِمَامِ بِهِ : فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ : لِمَا عَمَدَهُ مِنْ فِعْلِ مَا لَيَسَ مِنْهَا ، ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْإِحْرَامَ بِالصَّلَاةِ ، فَإِنِ اسْتَأْنَفَهُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ صَلَّى ظُهْرًا أَرْبَعًا وَإِنْ أَحْرَمَ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ ، وَنَوَى الِائْتِمَامَ بِهِ فَإِنْ أَدْرَكَهُ فِي الرُّكُوعِ فَقَدْ أَدْرَكَ مَعَهُ رَكْعَةً يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ وَجْهًا وَاحِدًا : لِأَنَّهَا رَكْعَةٌ غَيْرُ مُلَفَّقَةٍ ، وَإِنْ أَدْرَكَهُ بَعْدَ رَفْعِهِ مِنَ الرُّكُوعِ بَنَى عَلَى الظُّهْرِ قَوْلًا وَاحِدًا . وَإِنْ قَصَدَ إِخْرَاجَ نَفْسِهِ مِنْ إِمَامَتِهِ : فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ غَيْرِ الزِّحَامِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ ، وَيَبْنِي عَلَى الظُّهْرِ ، وَيُجْزِئُهُ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ غَيْرُ الزِّحَامِ فَهَلْ يَكُونُ الزِّحَامُ عُذْرًا لَهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ عُذْرًا لَهُ ، فَعَلَى هَذَا صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ ، وَيُتِمُّهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا . وَالْوَجْهَ الثَّانِيَ : أَنَّهُ لَيْسَ بِعُذْرٍ ، فَعَلَى هَذَا قَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيمَنْ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ صَلَاةِ إِمَامِهِ غَيْرَ مَعْذُورٍ ، فَلَهُ فِي صَلَاتِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلَةٌ ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ صَلَاتَهُ ظُهْرًا أَرْبَعًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : جَائِزَةٌ ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ هَذَا مُصَلِّيًا لِلظُّهْرِ فِي وَقْتِ الْجُمْعَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ، فَيَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي وَقْتِ الْجُمْعَةِ غَيْرَ مَعْذُورٍ : أَحَدُهُمَا :

وَهُوَ الْقَدِيمُ ، صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ ، وَيُتِمُّهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الْجَدِيدُ ، صَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا زُحِمَ عَنِ السُّجُودِ فِي الْأُولَى ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى السُّجُودِ حَتَّى سَجَدَ الْإِمَامُ فِي الثَّانِيَةِ : فَهَذَا يَتْبَعُهُ فِي السُّجُودِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَيَكُونُ لَهُ رَكْعَةٌ مُلَفَّقَةٌ بِرُكُوعٍ مِنَ الْأُولَى وَسُجُودٍ مِنَ الثَّانِيَةِ ، فَيَكُونُ الْجَوَابُ عَلَى مَا مَضَى . فَإِنْ أَحْرَمَ مَعَهُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى ، فَزُحِمَ عَنِ الرُّكُوعِ فِيهَا مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى رَكَعَ فِي الثَّانِيَةِ : فَهَذَا يَتْبَعُهُ فِي رُكُوعِ الثَّانِيَةِ ، وَيَسْجُدُ مَعَهُ ، وَتَحْصُلُ لَهُ رَكْعَةٌ ، وَهِيَ الثَّانِيَةُ بِكَمَالِهَا وَجْهًا وَاحِدًا فَيَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ بِهَا ، وَلَيْسَ هَذَا أَسْوَأَ حَالًا مِمَّنْ أَدْرَكَ الْإِحْرَامَ مَعَهُ فِي رُكُوعِ الثَّانِيَةِ . فَلَوْ أَدْرَكَهُ رَاكِعًا فِي الثَّانِيَةِ فَرَكَعَ مَعَهُ ، ثُمَّ زُحِمَ عَنِ السُّجُودِ فِيهَا حَتَّى جَلَسَ الْإِمَامُ مُتَشَهِّدًا : فَهَذَا يَشْتَغِلُ بِفِعْلِ السُّجُودِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَلَا يَتْبَعُ الْإِمَامَ فِي التَّشَهُّدِ ، فَإِنْ سَجَدَ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ بَنَى عَلَى الظُّهْرِ . وَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِيَارِهِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ : فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ : اخْتِيَارُهُ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : اخْتِيَارُهُ اتِّبَاعُ الْإِمَامِ . وَكَلَامُهُ مُحْتَمَلٌ . وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنْ أَحْدَثَ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَقَدْ كَانَ دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ قَبْلَ حَدَثِهِ : فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَدْرَكَ مَعَهُ التَّكْبِيرَةَ صَلَّاهَا ظُهْرًا : لِأَنَّهُ صَارَ مُبْتَدِئًا . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : قُلْتُ أَنَا : يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إِذَا كَانَ إِحْرَامُهُ بَعْدَ حَدَثِ الْإِمَامِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : مُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَصْلُهَا : جَوَازُ الِاسْتِخْلَافِ فِي الصَّلَاةِ ، وَصِحَّةُ أَدَائِهَا بِإِمَامَيْنِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِإِمَامَيْنِ ، وَلَا أَنْ يَخْطُبَ إِمَامٌ وَيُصَلِّيَ غَيْرُهُ ، وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ ، وَوَجْهُهُ : مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِأَصْحَابِهِ ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ جُنُبٌ ، فَانْصَرَفَ وَاغْتَسَلَ ، وَرَجَعَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً ، وَلَمْ يَسْتَخْلِفْ ، وَلِأَنَّ الْمَأْمُومِينَ لَوْ أَدْرَكُوا الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ مَعَ الْإِمَامِ مِنْ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ ثُمَّ سَلَّمَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَيْهِمْ مَنْ يُتِمُّ بِهِمْ ، وَلَا جَازَ لَهُمْ أَنْ يَسْتَخْلِفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِجْمَاعًا ، بَلْ يُتِمُّونَ فُرَادَى ، كَذَلِكَ إِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ مِنْ خِلَالِهَا ، وَفِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ ، وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنْ يُقَالَ : لِأَنَّهُ إِمَامٌ اسْتُخْلِفَ عَلَى مَأْمُومِيهِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ ، أَصْلُهُ مَا ذَكَرْنَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَجُوزُ الِاسْتِخْلَافُ فِي الصَّلَاةِ ، وَيَجُوزُ أَدَاؤُهَا بِإِمَامَيْنِ ، وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ وَوَجْهُهُ : مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فِي مَرَضِهِ : لِيُصَلِّيَ

بِالنَّاسِ ، فَأَحْرَمَ بِهِمْ ، ثُمَّ وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِفَّةً فَخَرَجَ ، وَوَقَفَ عَلَى يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَصَلَّى بِالنَّاسِ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِمْ ، فَصَارَ أَبُو بَكْرٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، مَأْمُومًا بَعْدَ أَنْ كَانَ إِمَامًا . فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ بِإِمَامَيْنِ ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِإِمَامٍ وَمَأْمُومٍ ، ثُمَّ تَقَرَّرَ أَنَّ حُكْمَ الْجَمَاعَةِ لَا يَتَغَيَّرُ بِبَدَلِ الْمَأْمُومِ ، كَذَلِكَ لَا يَتَغَيَّرُ بِبَدَلِ الْإِمَامِ ، وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنْ يُقَالَ : لِأَنَّهُ شَخْصٌ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْجَمَاعَةِ ، فَجَازَ أَنْ يَتَبَدَّلَ فِي الصَّلَاةِ كَالْمَأْمُومِ ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجُوزُ أَنْ يَخْطُبَ إِمَامٌ وَيُصَلِّيَ غَيْرُهُ إِذَا كَانَ مَنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ أَوْ عَهِدَ الْوَاجِبَ مِنْهَا ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَشْهَدِ الْخُطْبَةَ فَلَا يَجُوزُ اسْتِخْلَافُهُ فِيهَا ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : يَجُوزُ اسْتِخْلَافُ مَنْ لَمْ يَشْهَدِ الْخُطْبَةَ كَمَا لَوْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ صلاة الجمعة جَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ أَحْرَمَ قَبِلَ حَدَثِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ، لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ إِلَّا مَنِ اتَّصَلَ عَمَلُهُ بِعَمَلِهِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا مَنْ أَحْرَمَ قَبِلَ حَدَثِهِ ، وَمَنْ لَمْ يَشْهَدِ الْخُطْبَةَ لَمْ يَتَّصِلْ عَمَلُهُ بِعَمَلِهِ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى جَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ الْمُحْدِثُ فِي الصَّلَاةِ مَنْ أَحْرَمَ قَبِلَ حَدَثِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ شَهِدَ الْخِطْبَةَ : لِاتِّصَالِ الْعَمَلَيْنِ ، فَكَانَ فَرْقًا بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي جَوَازِ الصَّلَاةِ بِإِمَامَيْنِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الصَّلَاةِ الَّتِي أَحْدَثَ الْإِمَامُ فِيهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ أَوْ غَيْرَهَا فَإِنْ كَانَتْ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ : وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الِاسْتِخْلَافَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ . لَمْ يَخْلُ حَدَثُ الْإِمَامِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَوْ فِي الثَّانِيَةِ . فَإِنْ كَانَ حَدَثُهُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى : بَنَوْا عَلَى الظُّهْرِ ، لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِنَا . وَإِنْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ : فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ يَبْنُونَ عَلَى الظُّهْرِ ، لِإِخْلَالِهِمْ بِاسْتِدَامَةِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْجُمْعَةِ ، وَعَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الِانْفِضَاضِ يَبْنُونَ عَلَى الْجُمْعَةِ . فَإِذَا قُلْنَا : يَجُوزُ الِاسْتِخْلَافُ فِي الصَّلَاةِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ أَحْرَمَ بَعْدَ حَدَثِهِ لَا يَخْتَلِفُ : لِأَنَّهُ لَمْ يُعَلِّقْ صَلَاتَهُ بِصَلَاتِهِ ، وَإِنَّمَا يَسْتَخْلِفُ مَنْ أَحْرَمَ قَبْلَ حَدَثِهِ ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَدَثُ الْإِمَامِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَوْ فِي الثَّانِيَةِ . فَإِنْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى حدث الإمام في الجمعة : جَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ أَحْرَمَ قَبْلَ حَدَثِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ قَدْ أَدْرَكَ مَعَهُ الْإِحْرَامَ أَوِ الرُّكُوعَ ، وَيَبْنِي هَذَا الْإِمَامُ الْمُسْتَخْلَفُ . وَمَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمَأْمُومِينَ عَلَى الْجُمْعَةِ . فَإِنْ كَانَ حَدَثُهُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ في صلاة الجمعة : لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَدَثُهُ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ . فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الرُّكُوعِ : جَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ أَحْرَمَ قَبْلَ حَدَثِهِ ، سَوَاءٌ أَدْرَكَ مَعَهُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى أَمْ لَا ، وَيَبْنِي هُوَ وَمَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمَأْمُومِينَ عَلَى الْجُمْعَةِ : لِأَنَّهُ قَدْ يُدْرِكُ مَعَهُمْ مِنْهَا رَكْعَةً . وَإِنْ أَحْدَثَ بَعْدَ الرُّكُوعِ مِنَ الثَّانِيَةِ : فَإِنِ اسْتَخْلَفَ مَنْ أَدْرَكَ مَعَهُ

الرَّكْعَةَ الْأُولَى أَوْ أَدْرَكَ مَعَهُ الرُّكُوعَ مِنَ الثَّانِيَةِ جَازَ ، وَبَنَى هَذَا الْمُسْتَخْلَفُ وَمَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمَأْمُومِينَ عَلَى الْجُمْعَةِ . وَإِنِ اسْتَخْلَفَ مَنْ أَحْرَمَ مَعَهُ بَعْدَ رُكُوعِهِ فِي الثَّانِيَةِ وَقَبْلَ حَدَثِهِ : فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ اسْتِخْلَافِهِ فَقَالَ بَعْضُ الْبَغْدَادِيِّينَ : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ . وَقَالَ آخَرُونَ : وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ إِنَّ اسْتِخْلَافَهُ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ مَعَهُ رُكُوعَ الثَّانِيَةِ . وَلَعَلَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ خَلْفَ الصَّبِيِّ الَّذِي تَصِحُّ لَهُ الْجُمْعَةُ . وَإِذَا اسْتَخْلَفَهُ بَنَى هَذَا الْإِمَامُ عَلَى الظُّهْرِ ، وَيُتِمُّ صَلَاتَهُ أَرْبَعًا ، وَبَنَى الْمَأْمُومُونَ عَلَى الْجُمْعَةِ ، وَكَانُوا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَنْتَظِرُوهُ لِتَكْمُلَ صَلَاتُهُ ثُمَّ يُسَلِّمُ بِهِمْ ، وَبَيْنَ أَنْ يُقَدِّمُوا رَجُلًا يُسَلِّمُ بِهِمْ ، وَبَيْنَ أَنْ يُسَلِّمُوا لِأَنْفُسِهِمْ . فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ فَرْضًا غَيْرَ الْجُمْعَةِ : جَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِيهَا مَنْ أَحْرَمَ بَعْدَ حَدَثِهِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمْعَةِ : أَنَّهُ لَمَّا صَحَّ أَدَاءُ الْفَرْضِ مُنْفَرِدًا صَحَّ اسْتِخْلَافُهُ مَنْ لَمْ يُعَلِّقْ صَلَاتَهُ بِصَلَاتِهِ ، وَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ أَدَاءُ الْفَرْضِ مُنْفَرِدًا لَمْ يَصِحَّ اسْتِخْلَافُهُ مَنْ لَمْ يُعَلِّقْ صَلَاتَهُ بِصَلَاتِهِ . فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا نُظِرَ فِي حَدَثِ الْإِمَامِ : فَإِنْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ فِيهَا : فَاسْتَخْلَفَ مَنْ أَحْرَمَ قَبْلَ حَدَثِهِ أَوْ بَعْدَهُ جَازَ . وَإِنْ كَانَ حَدَثُهُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ أَوْ بَعْدَ رُكُوعِهِ فِي الْأُولَى : فَإِنِ اسْتَخْلَفَ مَنْ أَحْرَمَ بَعْدَ حَدَثِهِ لَمْ يَجُزْ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ أَحْرَمَ بَعْدَ حَدَثِهِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَيَجُوزُ وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَلَا يَجُوزُ هُوَ : أَنَّ هَذَا الْمُحْرِمَ بَعْدَ حَدَثِهِ يَبْنِي عَلَى صَلَاةِ نَفْسِهِ لَا عَلَى صَلَاةِ الْأَوَّلِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَقَدِ اتَّفَقَ فِعْلُهُ وَفِعْلُ الْإِمَامِ الْمُحْدِثِ فَجَازَ اسْتِخْلَافُهُ ، وَإِذَا كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَبَنَى عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ خَالَفَ فِعْلَ الْإِمَامِ الْمُحْدِثِ : لِأَنَّهَا لَهُ أُولَى ، فَلِذَلِكَ لَمْ نُجِزْهُ . أَوْ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ قَبْلَ حَدَثِهِ بَنَى عَلَى صَلَاةِ الْمُحْدِثِ فَجَلَسَ فِي مَوْضِعِ جُلُوسِهِ وَقَامَ فِي مَوْضِعِ قِيَامِهِ فَجَازَ اسْتِخْلَافُهُ .

فَصْلٌ : إِذَا صَلَّى الْإِمَامُ الْجُمْعَةَ بِأَصْحَابِهِ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ سَلَامِهِ أَنَّهُ جُنُبٌ نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ خَلْفَهُ أَرْبَعُونَ فَصَلَّوْا أَجْزَأَتْهُمُ الصَّلَاةُ ، وَأَعَادَ الْإِمَامُ صَلَاتَهُ ظُهْرًا ، وَفِيهَا وَجْهٌ آخَرُ : أَنَّهُ لَا تُجْزِئُهُمْ . فَإِنْ كَانُوا مَعَ الْإِمَامِ أَرْبَعِينَ لَمْ تُجْزِهِمُ الصَّلَاةُ وَجْهًا وَاحِدًا : لِأَنَّهَا لَمْ تَنْعَقِدْ ، وَاسْتَأْنَفُوا الْجُمْعَةَ : لِأَنَّ فَرْضَهُمْ لَمْ يَسْقُطْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا جُمُعَةَ عَلَى مُسَافِرٍ وَلَا عَبْدٍ وَلَا امْرَأَةٍ وَلَا مَرِيضٍ وَلَا مَنْ لَهُ عُذْرٌ وَإِنْ حَضَرُوهَا أَجْزَأَتْهُمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَإِنَّمَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمُ الْجُمْعَةُ لِرِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ كَانَ يُؤِمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمْعَةُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ إِلَّا امْرَأَةً أَوْ مُسَافِرًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَمْلُوكًا . ثُمَّ مَنْ لَا جُمْعَةَ عَلَيْهِ ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ إِذَا حَضَرُوهَا : وَهُمُ الصِّبْيَانُ ، وَالنِّسَاءُ ، وَالْمُسَافِرُونَ ، وَمَنْ فِيهِمُ الرِّقُّ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِمْ إِذَا حَضَرُوا لِبَقَاءِ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ سَقَطَتْ عَنْهُمُ الْجُمْعَةُ وَهُوَ : الرِّقُّ ، وَالْأُنُوثِيَّةُ ، وَالسَّفَرُ فَإِنْ صَلَّوُا الْجُمْعَةَ سَقَطَ فَرْضُهُمْ : لِأَنَّ الْمَعْذُورَ إِذَا أَتَى بِفَرْضِ غَيْرِ الْمَعْذُورِ أُسْقِطَ فَرْضُهُ ، كَالْمُسَافِرِ إِذَا أَتَمَّ الصَّلَاةَ وَصَامَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَنْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ بِحُضُورِهَا وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا ، بِالتَّأْخِيرِ عَنْهَا : وَهُوَ الْمَرِيضُ ، وَمَنْ لَهُ عُذْرٌ بِإِطْفَاءِ حَرِيقٍ ، أَوْ إِحْفَاظِ مَالٍ ، أَوْ خَوْفٍ مِنْ سُلْطَانٍ ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ فِعْلُهَا عَلَيْهِمْ إِذَا حَضَرُوا لِزَوَالِ أَعْذَارِهِمْ .

الْمُتَأَخِّرُونَ عَنْ حُضُورِ الْجُمْعَةِ ضَرْبَانِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا أُحِبُّ لِمَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ بِالْعُذْرِ أَنْ يُصَلِّيَ حَتَّى يَتَأَخَّرَ انْصِرَافُ الْإِمَامِ ثُمَّ يُصَلِّي جَمَاعَةً فَمَنْ صَلَّى مِنَ الَّذِينَ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الْإِمَامِ أَجْزَأَتْهُمْ وَإِنْ صَلَّى مَنْ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَعَادَهَا ظُهْرًا بَعْدَ الْإِمَامِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . الْمُتَأَخِّرُونَ عَنْ حُضُورِ الْجُمْعَةِ ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ تَأَخَّرُوا عَنْهَا لِعُذْرٍ . وَضَرْبٌ تَأَخَّرُوا عَنْهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ . فَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ عَنْهَا لِعُذْرٍ فَضَرْبَانِ : ضَرْبٌ يُرْجَى زَوَالُ أَعْذَارِهِمْ : كَالْعَبْدِ الَّذِي يُرْجَى زَوَالُ رِقِّهِ ، وَالْمُسَافِرِ الَّذِي يُرْجَى زَوَالُ سَفَرِهِ ، وَالْمَرِيضِ الَّذِي يُرْجَى زَوَالُ مَرَضِهِ ، فَيُخْتَارُ لَهُمْ أَنْ لَا يُصَلُّوا الظُّهْرَ إِلَّا بَعْدَ انْصِرَافِ الْإِمَامِ مِنْ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ : لِأَنَّهُ رُبَّمَا زَالَتْ أَعْذَارُهُمْ فَحَضَرُوهَا ، فَإِنْ صَلَّوُا الظُّهْرَ قَبْلَ انْصِرَافِ الْإِمَامِ أَجْزَأَهُمْ ، فَلَوْ زَالَتْ أَعْذَارُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَالْجُمْعَةُ قَائِمَةٌ لَمْ يَلْزَمْهُمْ حُضُورُهَا . وَضَرْبٌ لَا يُرْجَى زَوَالُ أَعْذَارِهِمْ : كَالنِّسَاءِ لَا يُرْجَى لَهُنَّ زَوَالُ الْأُنُوثِيَّةِ ، فَيُخْتَارُ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا الظُّهْرَ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا ، وَلَا يَنْتَظِرُوا انْصِرَافَ الْإِمَامِ ، لِيُدْرِكُوا فَضِيلَةَ الْوَقْتِ . وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ عَنْهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ : فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا الظُّهْرَ قَبْلَ انْصِرَافِ الْإِمَامِ مِنْ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ : لِأَنَّ فَرْضَهُمُ الْجُمْعَةَ لَا الظُّهْرَ ، فَإِنْ صَلَّوُا الظُّهْرَ بَعْدَ انْصِرَافِ الْإِمَامِ أَجْزَأَهُمْ

ذَلِكَ قَضَاءً عَنْ فَرْضِهِمْ ، وَإِنْ صَلَّوُا الظُّهْرَ قَبْلَ انْصِرَافِ الْإِمَامِ : فَإِنْ قَدَرُوا عَلَى حُضُورِ الْجُمْعَةِ لَزِمَهُمْ حُضُورُهَا : لِبَقَاءِ فَرْضِهِمْ ، وَإِنْ فَاتَهُمْ حُضُورُهَا فَهَلْ تُجْزِئُهُمْ صَلَاةُ الظُّهْرِ الَّتِي صَلَّوْهَا قَبْلَ انْصِرَافِ الْإِمَامِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ : تُجْزِئُهُمْ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ : لَا تُجْزِئُهُمْ ، وَعَلَيْهِمْ أَنْ يُعِيدُوا ظُهْرًا بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مُخَرَّجَانِ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فِي صَلَاةِ الْجُمْعَةِ هَلْ هِيَ ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ بِشَرَائِطَ أَوْ هِيَ فَرْضٌ مَشْرُوعٌ بِذَاتِهِ : فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ وَهُوَ الْقَدِيمُ : إِنَّهَا ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ بِشَرَائِطَ ، بِدَلَالَةِ أَنَّ مَنْ فَاتَهُ الْجُمْعَةُ قَضَاهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا ، وَلَوْ كَانَتْ فَرْضًا بِذَاتِهِ قَضَاهَا جُمْعَةً كَالْأَدَاءِ ، فَعَلَى هَذَا تُجْزِئُهُ صَلَاةُ الظُّهْرِ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ الْجَدِيدُ : إِنَّ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ فَرْضٌ مَشْرُوعٌ بِذَاتِهِ ، وَلَيْسَتْ بَدَلًا مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ : لِأَنَّ الْإِبْدَالَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : بَدَلٌ مُرَتَّبٌ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ إِلَيْهِ إِلَّا بِالْعَجْزِ عَنِ الْمُبْدَلِ كَالتَّيَمُّمِ وَالرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ ، وَبَدَلٌ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَصْلِ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ ، فَلَوْ كَانَتِ الْجُمْعَةُ بَدَلًا مِنَ الظُّهْرِ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا بِتَرْكِهَا إِلَى الظُّهْرِ ، وَلَكَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَهُمَا ، فَعَلَى هَذَا لَا تُجْزِئُهُ صَلَاةُ الظُّهْرِ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ .

فَصْلٌ : إِذَا صَلَّى الْمَعْذُورُ ظُهْرًا قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ جَازَ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي جَمَاعَةٍ ، وَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا لَهُ ، لَكِنْ تُكْرَهُ لَهُ الْمُظَاهَرَةُ بِفِعْلِ الْجَمَاعَةِ خَوْفَ التُّهْمَةِ ، سَوَاءٌ كَانَ عُذْرُهُ ظَاهِرًا كَالسَّفَرِ وَالرِّقِّ ، أَوْ كَانَ بَاطِنًا كَالْمَرَضِ وَالْخَوْفِ ، وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يُصَلِّيَ جَمَاعَةً ظَاهِرًا وَبَاطِنًا .

حُضُورُ الْجُمْعَةِ يَسْقُطُ بِالْعُذْرِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَمَنْ مَرِضَ لَهُ وَلَدٌ أَوْ وَالِدٌ فَرَآهُ مَنْزُولًا بِهِ أَوْ خَافَ فَوْتَ نَفْسِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَدَعَ الْجُمُعَةَ ، وَكَذَلِكَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذُو قَرَابَةٍ وَكَانَ ضَائِعًا لَا قَيِّمَ لَهُ غَيْرُهُ أَوْ لَهُ قَيَّمٌ غَيْرُهُ لَهُ شُغْلٌ عَنْهُ فِي وَقْتِ الْجُمُعَةِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَدَعَ لَهُ الْجُمْعَةَ ، تَرَكَهَا ابْنُ عُمَرَ لِمَنْزُولٍ بِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . : حُضُورُ الْجُمْعَةِ يَسْقُطُ بِالْعُذْرِ : لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ . وَالْعُذْرِ ضَرْبَانِ : عَامٌّ ، وَخَاصٌّ . فَأَمَّا الْعَامُّ : فَكَالْأَمْطَارِ ، وَخَوْفِ الْفِتَنِ ، وَحَذَرِ السُّلْطَانِ . وَأَمَّا الْخَاصُّ : فَكَالْخَوْفِ مِنْ ظُلْمِ ذِي يَدٍ قَوِيَّةٍ مِنْ سُلْطَانٍ أَوْ غَيْرِهِ ، أَوْ يَخَافُ تَلَفَ مَالٍ هُوَ مُقِيمٌ عَلَى حِفْظِهِ ترك الجمعة لعذر ، أَوْ يَخَافُ مَوْتَ مَنْزُولٍ بِهِ ، مِنْ ذِي نَسَبٍ أَوْ سَبَبٍ أَوْ مَوَدَّةٍ ، وَسَوَاءٌ كَانَ لَهُ قَيِّمٌ أَمْ لَا ، قَدْ رُوِيَ عَنْ

عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِمُّ لِلْجُمْعَةِ فَاسْتُخْرِجَ عَلَى سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ ، فَتَرَكَ الْجُمْعَةَ وَذَهَبَ إِلَى سَعِيدٍ . فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْزُولًا بِهِ ، وَكَانَ مَرِيضًا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَرَضُ شَدِيدًا مُخَوِّفًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ ، وَإِنْ كَانَ مَرَضًا شَدِيدًا فَإِنْ كَانَ وَالِدًا أَوْ وَلَدًا كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ عَنِ الْجُمْعَةِ ، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ قَيِّمٌ أَمْ لَا : لِاخْتِصَاصِ الْوَلَدِ بِفَضْلِ الْبِرِّ ، وَالْوَالِدِ بِفَضْلِ الْحُنُوِّ . وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَيِّمٌ بِأَمْرِهِ كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي تَرْكِ الْجُمْعَةِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ قَيِّمٌ سِوَاهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحُضُورُ . فَأَمَّا إِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَقٌّ ثَابِتٌ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ كَالْأَمْوَالِ : فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَدَائِهِ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا ، وَكَانَ بِالتَّأْخِيرِ عَاصِيًا ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بِهِ وَخَافَ مِنْ يَدِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَمَقَالِهِ كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ عَنْهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ عَلَى يَدِهِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ ، وَلَا الصُّلْحُ عَلَيْهِ ، كَحَدِّ الزِّنَا ، وَقَطْعِ السَّرِقَةِ ، فَلَيْسَ ذَلِكَ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ ، وَعَلَيْهِ الْحُضُورُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ ، وَالصُّلْحُ عَلَيْهِ ، وَالْمُفَادَاةُ بِالْمَالِ ، فَهَذَا عُذْرٌ فِي التَّأْخِيرِ ، لِيَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى مَالٍ . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ : أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ عَنِ الْجَمَاعَةِ كَانَ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ عَنِ الْجُمْعَةِ .

مَنْ أَرَادَ إِنْشَاءَ السَّفَرِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَمَنْ طَلَعَ لَهُ الْفَجْرُ فَلَا يُسَافِرْ حَتَى يُصَلِّيَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . فَمَنْ أَرَادَ إِنْشَاءَ السَّفَرِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : حَالَانِ يَجُوزُ لَهُ إِنْشَاءُ السَّفَرِ فِيهِمَا ، وَحَالٌ لَا يَجُوزُ لَهُ إِنْشَاءُ السَّفَرِ فِيهَا ، وَحَالٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا . فَأَمَّا الْحَالَانِ فِي جَوَازِ السَّفَرِ : فَأَحَدُهُمَا : قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْيَوْمِ . وَالثَّانِيَةُ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ لِيَقْضِيَ الْفَرْضَ ، فَإِذَا بَدَأَ بِإِنْشَاءِ السَّفَرِ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ جَازَ . وَأَمَّا الْحَالُ الَّتِي لَا يَجُوزُ لَهُ إِنْشَاءُ السَّفَرِ فِيهَا : فَهِيَ مِنْ وَقْتِ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ يَفُوتَ إِدْرَاكُ الْجُمْعَةِ ، لِتَعَيُّنِ فَرْضِهَا ، وَإِمْكَانِ فِعْلِهَا .

وَأَمَّا الْحَالُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا : فَهِيَ مِنْ بَعْدِ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى زَوَالِ الشَّمْسِ ، فَفِي جَوَازِ إِنْشَاءِ السَّفَرِ فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَكْثَرُ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ يُجَوِّزُ أَنْ يَبْتَدِئَ فِيهِ السَّفَرَ ، لِرِوَايَةِ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَهَّزَ جَيْشَ مَؤْتَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَأَذِنَ لَهُمْ فِي الْخُرُوجِ قَبْلَ الصَّلَاةِ ، فَتَأَخَّرَ عَنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ لِلصَّلَاةِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا الَّذِي أَخَّرَكَ عَنْهُمْ ؟ قَالَ : صَلَاةُ الْجُمُعَةِ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : غَزْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، عَزَّ وَجَلَّ ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ، فَرَاحَ مُنْطَلِقًا . وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَافَرَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا بِهَيْئَةِ السَّفَرِ وَهُوَ يَقُولُ : لَوْلَا الْجُمْعَةُ لَسَافَرْتُ . فَقَالَ : اخْرُجْ ، فَإِنَّ الْجُمْعَةَ لَا تَمْنَعُ مِنَ السَّفَرِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَائِشَةُ وَابْنُ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ : لَا يَجُوزُ لَهُ إِنْشَاءُ السَّفَرِ فِيهِ حَتَّى يُصَلِّيَ الْجُمْعَةَ : لِأَنَّ هَذَا زَمَانٌ قَدْ يَتَعَلَّقُ حُكْمُ السَّعْيِ فِيهِ لِمَنْ بَعُدَتْ دَارُهُ عَنِ الْمَسْجِدِ فِي الْمِصْرِ أَوْ مَا قَارَبَهُ إِذَا كَانَ لَا يُدْرِكُ الْجُمْعَةَ إِلَّا بِالسَّعْيِ فِيهِ ، فَكَانَ حُكْمُ هَذَا الزَّمَانِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى وَقْتِ الزَّوَالِ كَحُكْمِ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ فِي وُجُوبِ السَّعْيِ فِيهِمَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُهُمَا فِي تَحْرِيمِ السَّفَرِ فِيهِمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْغُسْلِ لِلْجُمْعَةِ وَالْخُطْبَةِ وَمَا يَجِبُ فِي صَلَاةِ الْجُمْعَةِ

بَابُ الْغُسْلِ لِلْجُمْعَةِ وَالْخُطْبَةِ وَمَا يَجِبُ فِي صَلَاةِ الْجُمْعَةِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالسُّنَّةُ أَنْ يَغْتَسِلَ لِلْجُمُعَةِ كُلُّ مُحْتَلِمٍ وَمَنِ اغْتَسَلَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَجْزَأَهُ ، وَمَنْ تَرَكَ الْغُسْلَ لَمْ يُعِدْ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ تَوَضَّأَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذَا كَمَا قَالَ . غُسْلُ الْجُمْعَةِ سُنَّةٌ مُخْتَارَةٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ غَسَلَ وَاغْتَسَلَ ، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ ، وَشَهِدِ الْخُطْبَةَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ . وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَسَلَ وَاغْتَسَلَ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : غَسَلَ أَعْضَاءَ وُضُوئِهِ ، اغْتَسَلَ فِي جَمِيعِ بَدَنِهِ ، . وَالثَّانِي : غَسَّلَ زَوْجَتَهُ لِمُبَاشَرَتِهَا ، وَاغْتَسَلَ هُوَ لِنَفْسِهِ . وَزَمَانُ الْغُسْلِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى رَوَاحِهِ إِلَى الْجُمْعَةِ ، وَوَقْتُ الرَّوَاحِ أَفْضَلُ ، وَقَبْلَهُ يُجْزِئُ ، وَقَبْلَ الْفَجْرِ لَا يُجْزِئُ . وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ فِي كِتَابِ " الطَّهَارَةِ " وَذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِيهِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَجَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ ، فَقَدِ انْقَطَعَ الرُّكُوعُ فَلَا يَرْكَعُ أَحَدٌ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ رَكَعَ فَيَرْكَعَ . وَرُوِيَ أَنْ سُلَيْكًا الْغَطَفَانِيَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنَّبِيُّ صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ يَخْطُبُ فَقَالَ لَهُ : " أَرَكَعْتَ ؟ " قَالَ : لَا . قَالَ : " فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَأَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَكَعَهُمَا وَمَرْوَانُ يَخْطُبُ وَقَالَ : مَا كُنْتُ لِأَدَعَهُمَا بَعْدَ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَجُمْلَةٌ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَقْتُ الْجُمْعَةِ . وَالثَّانِيَةِ : جَوَازُ التَّنَفُّلِ فِيهِ .

فَأَمَّا وَقْتُ الْجُمْعَةِ فَهُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ سَوَاءً : مِنْ بَعْدِ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ ، فَإِنْ صَلَّاهَا قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ خُطِبَ لَهَا أَوْ أُذِّنَ لَمْ يُجْزِهِ ، وَأَعَادَ ذَلِكَ بَعْدَ الزَّوَالِ ، وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : أَنَّ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ جَائِزَةٌ . اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَاهُ إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْجُمْعَةَ فَيَنْصَرِفُ وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ فَيْءٌ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ : رِوَايَةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَرَوَى الْمُطَلِّبُ بْنُ حَنْطَبٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ وَقَدْ فَاءَ فَيْءُ الْحِيطَانِ ذِرَاعًا أَوْ أَكْثَرَ . وَلِأَنَّهَا ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزُ فِعْلُهَا إِلَّا فِي وَقْتٍ يَجُوزُ فِيهِ فِعْلُ الْإِتْمَامِ ، قِيَاسًا عَلَى صَلَاةِ السَّفَرِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ : فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الشَّمْسَ تَزُولُ فِي الصَّيْفِ بِالْحِجَازِ وَلَيْسَ لِلشَّمْسِ فِي الْحِيطَانِ ظِلٌّ ، وَإِنْ كَانَ فَهُوَ شَيْءٌ يَسِيرٌ . فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ " فَصَحِيحٌ ، وَأَرَادَ بِهِ الْأَذَانَ الثَّانِيَ الَّذِي يَجِبُ بِهِ السَّعْيُ وَيَحْرُمُ عِنْدَهُ الْبَيْعُ ، وَفِيهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [ سُورَةِ الْجُمْعَةِ ] . فَأَمَّا الْأَذَانُ الْأَوَّلُ فَهُوَ مُحْدَثٌ ، لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَاخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ مَنْ أَحْدَثَهُ وَأَمَرَ بِهِ : فَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ الْيَمَانِيِّ وَالسَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَمَرَ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، حِينَ كَثُرَ النَّاسُ فِي أَيَّامِهِ وَحَكَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ عُثْمَانُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ بِهِ ، وَقَالَ : أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ مُعَاوِيَةُ . فَاتْرُكْهُ لَا بَأْسَ .



فَصْلٌ : فَأَمَّا جَوَازُ التَّنَفُّلِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ : فَمَا لَمْ يَظْهَرِ الْإِمَامُ وَيَجْلِسْ عَلَى الْمِنْبَرِ التَّنَفُّلِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ ، فَمُسْتَحَبٌّ لِمَنِ ابْتَدَأَ دُخُولَ الْمَسْجِدِ ، وَلِمَنْ كَانَ مُقِيمًا فِيهِ أَنْ يَتَنَفَّلَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ . فَأَمَّا إِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ التَّنَفُّلِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ فَقَدْ حَرُمَ عَلَى مَنْ فِي الْمَسْجِدِ أَنْ يَبْتَدِئَ بِصَلَاةِ النَّافِلَةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ خَفَّفَهَا وَجَلَسَ ، وَهَذَا إِجْمَاعٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا [ الْأَعْرَافِ ] فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْخُطْبَةِ ، فَسَمَّى الْخُطْبَةَ قُرْآنًا ، لِمَا يَتَضَمَّنُهَا مِنَ الْقُرْآنِ . فَأَمَّا مَنِ ابْتَدَأَ دُخُولَ الْمَسْجِدِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَالْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَالسُّنَّةُ عِنْدَنَا أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ ، وَلَا يَزِيدَ عَلَيْهِمَا تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ فِيمَنْ يَجْلِسُ مِنْهُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْكَعَ وَالْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا [ الْأَعْرَافِ : ] . وَالصَّلَاةُ تُضَادُّ الْإِنْصَاتَ ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ دَخَلَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلَا صَلَاةَ وَلَا كَلَامَ حَتَّى يَفْرُغَ . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَمْنَعُ مِنَ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْهُ كَالْكَلَامِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ حَضَرَ الْخُطْبَةَ كَانَ مَمْنُوعًا مِنَ الصَّلَاةِ كَالْجَالِسِ إِذَا أَتَى بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ . وَدَلِيلُنَا : مَا رَوَى أَبُو ذَرٍّ قَالَ : دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ بَيْنَ كَتِفَيَّ وَقَالَ لِي : " إِنَّ لِكُلِ شَيْءٍ تَحِيَّةً ، وَتَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ أَنْ تُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ إِذَا دَخَلْتَ ، قُمْ فَصَلِّ فَكَانَ هَذَا عَلَى عُمُومِهِ . وَرَوَى أَبُو سُفْيَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ سُلَيْكًا الْغَطَفَانِيَّ دَخَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ ، فَجَلَسَ فَقَالَ لَهُ : قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ تَجَوَّزْ فِيهِمَا . وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمْعَةِ ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلَا يَقْعُدْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ثُمَّ يَجْلِسْ . وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ دَخَلَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَمَرْوَانُ يَخْطُبُ ، فَقَامَ لِيَرْكَعَ ، فَقَامَ إِلَيْهِ

الْأَحْرَاسُ ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ قَائِمًا ، فَلَمَّا فَرَغَ قِيلَ لَهُ : إِنَّ الْقَوْمَ هَمُّوا بِكَ ، فَقَالَ : مَا كُنْتُ لِأَدَعَهُمَا بَعْدَ شَيْءٍ رَأَيْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : وَمَا رَأَيْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ : دَخَلَ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ ، وَعَلَيْهِ هَيْئَةٌ بَذَّةٌ ، وَقَدِ اسْتَتَرَ بِخِرْقَةٍ ، فَقَالَ : قُمْ فَارْكَعْ ، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ : تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ ، فَأَلْقَوُا الثِّيَابَ ، فَأَعْطَاهُ مِنْهَا ثَوْبَيْنِ ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ حَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ ، فَتَصَدَّقَ الرَّجُلُ بِأَحَدِ ثَوْبَيْهِ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَ : أَلَا تَرَوْنَ إِلَى هَذَا . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا أَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ لِيَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ إِذَا رَأَوْهُ . قِيلَ : هَذَا فَاسِدٌ بِفِعْلِ رَاوِي الْحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ ، وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالصَّدَقَةِ لَا يُبِيحُ فِعْلَ الْمَحْظُورِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ فَمَخْصُوصٌ ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَمَجْهُولٌ ، وَإِنْ صَحَّ كَانَ مَخْصُوصًا . وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْجَالِسِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الدَّاخِلَ يَأْتِي بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ فِي الْخُطْبَةِ الْأَوْلَى أَوِ الثَّانِيَةِ ، فَإِذَا دَخَلَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنَ الْخُطْبَتَيْنِ وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْكَعَ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَيُنْصِتُ النَّاسُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . لَيْسَ يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ فِي الْإِنْصَاتِ لخطبة الجمعة أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي وُجُوبِهِ ، فَلَهُ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ الْإِنْصَاتَ وَاجِبٌ ، فَمَنْ تَكَلَّمَ عَامِدًا كَانَ عَاصِيًا ، وَمَنْ تَكَلَّمَ جَاهِلًا كَانَ لَاغِيًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا [ الْأَعْرَافِ ] . وَرِوَايَةُ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتُ . وَلِمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ قَالَ صَهْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ فَقَدْ لَغَا ، وَمَنْ لَغَا فَلَا جُمْعَةَ لَهُ .

وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ دَخَلَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَجَلَسَ إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، فَكَلَّمَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ ، فَظَنَّ أَنَّهُ عَنْ مَوْجِدَةٍ ، فَلَمَّا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ قَالَ : مَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : إِنْ تَكَلَّمْتَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلَا جُمْعَةَ لَكَ ، فَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِهِ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : صَدَقَ أُبَيٌّ ، أَوْ قَالَ أَطِعْ أُبَيًّا . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ تَكَلَّمَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ كَانَ كَالْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ، وَمَنْ قَالَ : أَنْصِتْ فَلَا جُمُعَةَ لَهُ وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ عَلَى الْخَاطِبِ إِظْهَارُهَا إِلَّا وَتَعَلَقَّ عَلَيْهِمْ وُجُوبُ اسْتِمَاعِهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا حَظَرَ عَلَى الشَّاهِدِ كِتْمَانَ الشَّهَادَةِ كَانَ ذَلِكَ عِلْمًا عَلَى إِيجَابِ اسْتِمَاعِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ الْإِنْصَاتَ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَّمَ سُلَيْكًا وَلَوْ حَرُمَ عَلَيْهِ الْكَلَامُ لَمْ يَتَكَلَّمْ ، وَإِذَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ الْكَلَامُ خَاطِبًا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمَأْمُومِ الْإِنْصَاتُ مُسْتَمِعًا ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ لِجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى أَبِي الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ وَكَانَ أَلَّبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ وَأَمَرَهُمْ بِقَتْلِهِ ، فَرَجَعُوا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ ، فَلَمَّا رَآهُمْ مُقْبِلِينَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَفْلَحَتِ الْوُجُوهُ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَوَجْهُكَ أَفْلَحُ . فَقَالَ : أَقَتَلْتُمُوهُ ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، فَقَالَ : أَرُونِي سَيْفَهُ ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ ، وَقَالَ : هَذَا طَعَامُهُ فِي ذُبَابِهِ . وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا قَامَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَقَالَ : مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَعْدَدْتَ لِقِيَامِ السَّاعَةِ ؟ فَقَالَ : لَا شَيْءَ وَاللَّهِ ، غَيْرَ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسِلْمِ : أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ . وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْإِنْصَاتُ لَهَا وَاجِبًا لَكَانَ إِبْلَاغُهَا بِرَفْعِ الصَّوْتِ بِهَا وَاجِبًا ، فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْإِمَامِ إِبْلَاغُهَا ، لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمَأْمُومِينَ الْإِنْصَاتُ لَهَا ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا يُفْسِدُهَا الْكَلَامُ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُحَرَّمَ فِيهَا الْكَلَامُ كَالطَّوَافِ وَالصِّيَامِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَأَوَّلُ زَمَانِ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ إِذَا ابْتَدَأَ الْإِمَامُ بِالْخُطْبَةِ ، بِخِلَافِ الرُّكُوعِ الَّذِي يَحْرُمُ عِنْدَ ظُهُورِ الْإِمَامِ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَحْرُمُ الْكَلَامُ عِنْدَ ظُهُورِ الْإِمَامِ كَالرُّكُوعِ . قَالَ : لِأَنَّ الصَّلَاةَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ ، وَالْكَلَامُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ وَلَا طَاعَةٍ ، فَإِذَا حَرُمَ الرُّكُوعُ عِنْدَ ظُهُورِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ كَانَ تَحْرِيمُ الْكَلَامِ عِنْدَ ظُهُورِهِ أَوْلَى . وَدَلِيلُنَا : إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، الْمَنْقُولُ مِنْ وَجْهَيْنِ : قَوْلٌ وَفِعْلٌ أَمَّا الْفِعْلُ : فَمَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْكَعُونَ حَتَّى يَصْعَدَ عُمَرُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، الْمِنْبَرَ ، فَإِذَا صَعِدَ قَطَعُوا الرُّكُوعَ ، وَيَتَكَلَّمُونَ حَتَّى يَبْتَدِئَ بِالْخُطْبَةِ فَإِذَا ابْتَدَأَ بِهَا قَطَعُوا الْكَلَامَ . وَأَمَّا الْقَوْلُ : فَمَا رُوِيَ عَنْهُمْ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، أَنَّهُمْ قَالُوا : إِذَا أَخَذَ الْإِمَامُ فِي الْكَلَامِ حَرُمَ الْكَلَامُ ، وَلِأَنَّ الرُّكُوعَ لَا يُمْكِنُ قَطْعُهُ مَعَ الْخُطْبَةِ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِهِ ، فَقَدَّمَ تَحْرِيمَ الرُّكُوعِ لِيَكُونَ مَا بَيْنَ ظُهُورِ الْإِمَامِ وَخُطْبَتِهِ زَمَانُ تَمَامِ الرُّكُوعِ ، وَالْكَلَامُ يُمْكِنُ قَطْعُهُ مَعَ الْخُطْبَةِ ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ تَحْرِيمُهُ إِلَى زَمَانٍ يَتَقَدَّمُ الْخُطْبَةَ . وَلَا فَرْقَ فِي تَحْرِيمِ الْكَلَامِ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ ، وَالْأَصَمِّ وَالسَّمِيعِ ، كُلُّهُمْ فِي الْإِنْصَاتِ سَوَاءٌ ، وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ : أَنْصِتُوا فَإِنَّ حَظَّ الْمُنْصِتِ الَّذِي لَمْ يَسْمَعْ كَحَظِّ الْمُنْصِتِ السَّامِعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَخْطُبُ الْإِمَامُ قَائِمًا خُطْبَتَيْنِ ، يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا جَلْسَةً خَفِيفَةً ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا فَيَخْطُبُ جَالِسًا وَلَا بَأْسَ بِالْكَلَامِ مَا لَمْ يَخْطُبْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . خُطْبَةُ الْجُمْعَةِ حكمها وَاجِبَةٌ ، وَهِيَ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا ، لَا يَصِحُّ أَدَاءُ الْجُمْعَةِ إِلَّا بِهَا ، فَهُوَ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ كَافَّةً إِلَّا الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ فَإِنَّهُ شَذَّ عَنِ الْإِجْمَاعِ وَقَالَ : إِنَّهَا لَيْسَتْ وَاجِبَةً ، لِأَنَّ الْجُمْعَةَ قَدْ تَصِحُّ لِمَنْ لَمْ يَحْضُرِ الْخُطْبَةَ ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمْ يَصِحَّ إِدْرَاكُ الْجُمْعَةِ إِلَّا بِهَا . وَهَذَا خَطَأٌ ، وَيُوَضِّحُهُ إِجْمَاعُ مَنْ قَبْلَ الْحَسَنِ وَبَعْدَهُ ، وَقَالَ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [ الْجُمْعَةِ : ] . فَكَانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَمْرَهُ بِالسَّعْيِ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ يَتَضَمَّنُ الْخُطْبَةَ وَالصَّلَاةَ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِهَا وَاجِبًا . وَالثَّانِي : أَنَّ الذِّكْرَ مُجْمَلٌ ، يَفْتَقِرُ إِلَى بَيَانٍ ، وَقَدْ بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ : بِأَنْ خَطَبَ خُطْبَتَيْنِ ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إِنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَتَعَلَّقَ إِدْرَاكُ الْجُمْعَةِ بِحُضُورِهَا فَغَيْرُ صَحِيحٍ ، لَأَنَّ

الرَّكْعَتَيْنِ وَاجَبَتَانِ بِإِجْمَاعٍ ، ثُمَّ لَا يَتَعَلَّقُ إِدْرَاكُ الْجُمْعَةِ بِهَا ، لَوْ أَدْرَكَ رَكْعَةً صَحَّتْ لَهُ الْجُمْعَةُ ، فَكَذَلِكَ الْخُطْبَةُ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْخُطْبَةِ فَوُجُوبُهَا يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلٌ يَأْتِي ذِكْرُهُ وَتَفْصِيلُهُ . وَالثَّانِي : فِعْلٌ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : قِيَامٌ فِي الْأُولَى ، وَجِلْسَةٌ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا ، وَقِيَامٌ فِي الثَّانِيَةِ إِلَى انْقِضَائِهَا ، فَإِنْ تَرَكَ الْقِيَامَ فِي الْأُولَى أَوْ فِي الثَّانِيَةِ ، أَوْ تَرَكَ الْجَلْسَةَ بَيْنَهُمَا ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ جُمْعَةً . قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : فَلَوْ أَتَى بِالْقِيَامَيْنِ وَلَمْ يَجْلِسْ وَسَكَتَ لَمْ تُجْزِهِمُ الْجُمْعَةُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَفْتَقِرُ الْخُطْبَةُ إِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقِيَامَيْنِ وَالْجُلُوسِ ، وَكَيْفَ مَا خَطَبَ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا أَجْزَأَهُ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ : بِأَنَّهُ ذِكْرٌ لِلصَّلَاةِ يَتَقَدَّمُهَا ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ شَرْطِهِ الْقِيَامُ كَالْأَذَانِ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَلْسَةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ بِأَنْ قَالَ : الْخُطْبَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى جَلْسَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : مُتَقَدِّمَةٌ وَالثَّانِيَةُ مُتَوَسِّطَةٌ ، فَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الْأُولَى مِنْهُمَا لَمْ تَجِبِ الثَّانِيَةُ . وَهَذَا خَطَأٌ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا [ الْجُمْعَةِ : ] . قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمُ انْفَضُّوا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَالِ قِيَامِهِ فِي الْخُطْبَةِ . فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْقِيَامُ وَاجِبًا فِيهِمَا ، لِيَسْتَحِقُّوا الَّذِي بِتَرْكِهِ فِيهِ ، وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ الْخُطْبَتَيْنِ قَائِمًا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجَلْسَةٍ . وَرَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ قَائِمًا ، ثُمَّ يَجْلِسُ ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ قَائِمًا ، وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ قَاعِدًا فَقَدْ كَذَبَ ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ صَلَاةٍ وَلِأَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ أُقِيمَتَا مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ ، وَالْقِيَامُ مِنْ شَرْطِ الصَّلَاةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِ الْخُطْبَةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْأَذَانِ : فَالْمَعْنَى : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لَمْ يَكُنْ الْقِيَامُ فِيهِ وَاجِبًا ، وَلَمَّا وَجَبَتِ الْخُطْبَةُ وَجَبَ الْقِيَامُ فِيهَا . وَأَمَّا جَمْعُهُ بَيْنَ الْجَلْسَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ يُوجِبُ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ ، وَأَبُو

حَنِيفَةَ يُسْقِطُ وُجُوبَهُمَا مَعًا ، وَالصَّحِيحُ وُجُوبُ الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى ، لِأَنَّ الْأُولَى لَيْسَتْ مِنَ الْخُطْبَةِ ، وَإِنَّمَا هِيَ جِلْسَةُ اسْتِرَاحَةٍ ، وَالثَّانِيَةُ مِنَ الْخُطْبَةِ وَأُزِيدَتْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْقِيَامِ ، فَكَانَتْ وَاجِبَةً كَالْجَلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ . وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ غَيْرُهُ ، وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ غَيْرُهُ .

فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا عَاجِزًا عَنِ الْقِيَامِ خَطَبَ جَالِسًا ، وَفَصَلَ بَيْنَهُمَا بِسَكْتَةٍ بَدَلًا مِنَ الْجَلْسَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْكُتْ وَوَصَلَ الثَّانِيَةَ جَالِسًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ السَّكْتَةَ وَاجِبَةٌ ، لِكَوْنِهَا بَدَلًا مِنْ جَلْسَةٍ وَاجِبَةٍ ، وَمَنْ أَخَلَّ بِوَاجِبٍ فِي خُطْبَتِهِ لَمْ تُجْزِ الْجُمْعَةُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَخَلَّلَ كَلَامَهُ سَكَتَاتٌ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ ، فَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ فَخَطَبَ قَاعِدًا لَمْ تُجْزِهِ وَإِيَّاهُمْ إِذَا عَلِمُوا بِحَالِهِ . فَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِحَالِهِ أَجْزَأَتْهُمْ دُونَهُ . فَلَوْ خَطَبَ جَالِسًا وَذَكَرَ مَرَضًا يُعْجِزُهُ عَنِ الْقِيَامِ فَقَوْلُهُ مَقْبُولٌ ، وَهُوَ عَلَى نَفْسِهِ مَأْمُونٌ ، وَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا مَعَهُ الْجُمْعَةَ إِلَّا أَنْ يَعْلَمُوهُ قَادِرًا ، وَيَعْتَقِدُوا خِلَافَ قَوْلِهِ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمُ اتِّبَاعُهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُحَوِّلُ النَّاسُ وُجُوهَهُمْ إِلَى الْإِمَامِ ، وَيَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ سماع الخطبة " . وَهَذَا صَحِيحٌ . وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا ذَلِكَ لِمَنْ قَرُبَ مِنْهُ أَوْ بَعُدَ عَنْهُ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ ؛ وَلِأَنَّهُ مُقْبِلٌ عَلَيْهِمْ ، فَكَانَ مِنَ الْأَدَبِ إِقْبَالُهُمْ عَلَيْهِ ؛ وَلِأَنَّ مَقْصُودَ الْخُطْبَةِ الْمَوْعِظَةُ وَالْوَصِيَّةُ ، وَفِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ فَوَاتُ هَذَا الْمَعْنَى . وَيُخْتَارُ لِلْمُسْتَمِعِ أَنْ يَجْلِسَ مُحْتَبِيًا سماع الخطبة .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَإِذَا فَرَغَ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِي الْأُولَى بِأُمِّ الْقُرْآنِ يَبْتَدِئُهَا بِـ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيِمِ " وَبِسُورَةِ الْجُمُعَةِ ، وَيَقْرَأُ فِي الثَّانِيَةِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ ، وَإِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ " ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَجْهَرُ الْإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ وَلَا يَقْرَأُ مَنْ خَلْفَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ رَكْعَتَانِ مَفْرُوضَتَانِ لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِمَا ، وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهُمَا ، لِلْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ ، وَالْفِعْلِ الْمَحْكِيِّ ، وَالْإِجْمَاعِ الْعَامِّ . وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْأُولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ بِسُورَةِ الْجُمْعَةِ ، وَفِي الثَّانِيَةِ إِذَا جَاءَكَ

الْمُنَافِقُونَ ، لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِذَلِكَ ، وَلِأَخْذِ الصَّحَابَةِ بِهِ ؛ وَلِأَنَّ فِي الْأُولَى تَرْغِيبًا لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَفِي الثَّانِيَةِ تَحْذِيرًا لِلْمُنَافِقِينَ . فَإِذَا قَرَأَ فِي الْأُولَى بِسَبِّحْ ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِالْغَاشِيَةِ جَازَ ، وَقَدْ رَوَى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ بِهِمَا فِي الْجُمْعَةِ وَالْعِيدَيْنِ . وَالْأُولَى أَوْلَى ، وَبِمَا قَرَأَ جَازَ . قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا أُحِبُّ أَنْ يُخَالِفَ تَرْتِيبَ الْمُصْحَفِ فِيمَا يَقْرَؤُهُ مِنَ السُّورَتَيْنِ . وَيَجْهَرُ الْإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ يوم الجمعة ، لِمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ إِلَّا الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مَوْقُوفًا . فَأَمَّا الْمَأْمُومُونَ فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِيهِمْ : أَنَّهُمْ يُنْصِتُونَ وَلَا يَقْرَءُونَ وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الْجَدِيدُ أَنَّهُمْ يَقْرَءُونَ الْفَاتِحَةَ لَا غَيْرَ وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " مَتَى دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ الْإِمَامُ مِنَ الْجُمُعَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّهَا ظُهْرًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ . إِذَا أَحْرَمَ الْإِمَامُ بِصَلَاةِ الْجُمْعَةِ فِي وَقْتِهَا ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الْعَصْرِ قَبْلَ سَلَامِهِ مِنْهَا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُتِمَّهَا جُمْعَةً ، لَكِنْ يُتِمُّهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا بِتَحْرِيمِ الْجُمْعَةِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ يَجُوزُ أَنْ يُتِمَّهَا جُمْعَةً إِذَا دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْنِفَهَا فِيهِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ يَجُوزُ أَنْ يُتِمَّهَا جُمْعَةً ، وَيَجُوزَ أَنْ يَسْتَأْنِفَهَا فِيهِ . وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ قَدْ بَطَلَتِ الصَّلَاةُ بِدُخُولِ وَقْتِ الْعَصْرِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتِمَّهَا ظُهْرًا وَلَا جُمْعَةً . فَصْلٌ : فَأَمَّا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا . قَالَ : وَلِأَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ كَمَا أَنَّ الْوَقْتَ شَرْطٌ ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَأْتِيَ بِبَعْضِ الْجُمْعَةِ مَعَ الْعَدَدِ وَبَاقِيهَا بِلَا عَدَدٍ جَازَ أَنْ يَأْتِيَ بِبَعْضِهَا فِي الْوَقْتِ وَبِبَاقِيهَا فِي خَارِجِ الْوَقْتِ . وَالدَّلَالَةُ

عَلَيْهِ : هُوَ أَنَّهُ وَقْتٌ يَحِلُّ فِيهِ أَدَاءُ الْعَصْرِ بِكُلِّ حَالٍ فَلَمْ يَجُزْ أَدَاءُ الْجُمْعَةِ فِيهِ ، أَصْلُهُ : إِذَا أَرَادَ اسْتِئْنَافَ الْجُمْعَةِ فِيهِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ لَمْ يَصِحَّ فِيهِ كُلُّ الْجُمْعَةِ لَمْ يَصْحَّ فِيهِ جُزْءٌ مِنْهَا ، قِيَاسًا عَلَى الزَّوَالِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ : فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْجُمْعَةِ ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْعَدَدِ : فَإِنْ قَاسَهُ عَلَى الْمَأْمُومِ إِذَا أَدْرَكَ رَكْعَةً فَإِنَّمَا جَازَ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى الْجُمْعَةِ لِأَدَاءِ الْجُمْعَةِ بِالْعَدَدِ الْكَامِلِ ، فَكَانَ بَالِغًا لَهُمَا ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَمْ يُؤَدِّ الْجُمْعَةَ فِي وَقْتِهَا ، فَلَمْ يَجُزِ الْبِنَاءُ عَلَيْهَا ، وَإِنْ قَاسَهُ عَلَى الْإِمَامِ قُلْنَا : فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَبْنِي عَلَى الظُّهْرِ ، فَعَلَى هَذَا قَدِ اسْتَوَيَا . وَالثَّانِي : يَبْنِي عَلَى الْجُمْعَةِ ، فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الِاحْتِرَازَ مِنَ انْفِضَاضِ الْعَدَدِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلَمْ يَكُنْ مُفَرِّطًا فِي فَوَاتِهِ ، فَجَازَ أَنْ يُتِمَّهَا جُمْعَةً ، وَالِاحْتِرَازُ مِنْ خُرُوجِ الْوَقْتِ مُمْكِنٌ ، فَكَانَ مُفَرِّطًا فِي فَوَاتِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُتِمَّهَا جُمْعَةً . فَصْلٌ : فَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ يَبْنِي ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنْ وَقْتَ الظُّهْرِ مُمَازِجٌ لِوَقْتِ الْعَصْرِ ، فَلِذَلِكَ جَوَّزَ اسْتِئْنَافَ الْجُمْعَةِ فِيهِ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ ، فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ مِنْ نَصِّ قَوْلِهِ بِأَنْ قَالَ : بِأَنَّهَا تَحْرِيمَةٌ أَوْجَبَتِ الْجُمْعَةَ ، فَلَمْ يَجُزْ بِنَاءُ الظُّهْرِ عَلَيْهَا ، أَصْلُهُ إِذَا كَانَ الْوَقْتُ بَاقِيًا ، قَالَ : وَلِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ ، لَيْسَتْ إِحْدَاهُمَا هِيَ الْأُخْرَى وَلَا بَعْضُهَا ، بِدَلَالَةِ أَنَّ الْجُمْعَةَ يُجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا ، وَتُخْتَصُّ بِشَرَائِطَ لَا يُخْتَصُّ الظُّهْرُ بِهَا ، وَإِذَا صَحَّ أَنَّهُمَا صَلَاتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ لَمْ يَجُزْ بِنَاءُ أَحَدِهِمَا عَلَى تَحْرِيمَةِ الْأُخْرَى ، كَالصُّبْحِ وَالظُّهْرِ . وَهَذَا خَطَأٌ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ : أَنَّهُمَا صَلَاتَانِ يَسْقُطُ فَرْضُ أَحَدِهِمَا بِفِعْلِ الْأُخْرَى ، فَجَازَ أَنْ يُبْنَى التَّمَامُ مِنْهُمَا عَلَى الْمَقْصُورِ ، أَصْلُهُ إِذَا أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ مُسَافِرًا ثُمَّ صَلَّى مُقِيمًا ، وَلِأَنَّ الْجُمْعَةَ ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ بِشَرَائِطَ فَوَجَبَ إِذَا انْخَرَمَ بَعْضُ شَرَائِطِهَا أَنْ لَا تَبْطُلَ ، وَتَعُودَ إِلَى حُكْمِ أَصْلِهَا أَرْبَعًا ، كَمَا أَنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ إِذَا انْخَرَمَ بَعْضُ شَرَائِطِهَا لَمْ تَبْطُلْ ، وَعَادَتْ إِلَى حُكْمِ أَصْلِهَا أَرْبَعًا ، وَلِأَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ كَمَا أَنَّ الْوَقْتَ شَرْطٌ ، فَلَمَّا لَمْ تَبْطُلِ الْجُمْعَةُ بِفَقْدِ أَحَدِهِمَا ، وَهُوَ الْعَدَدُ إِذَا نَقَصَ ، لَمْ تَبْطُلْ بِفَقْدِ الْآخَرِ ، وَهُوَ الْوَقْتُ إِذَا خَرَجَ ، وَإِذَا لَمْ تَبْطُلْ لَمْ يَصِحَّ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى الْجُمْعَةِ : لِأَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْوَقْتِ قَضَاءٌ ، وَالْجُمْعَةُ لَا تُقْضَى . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ إِذَا كَانَ الْوَقْتُ بَاقِيًا : فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِئْنَافُ الْجُمْعَةِ فِيهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الظُّهْرِ ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزِ اسْتِئْنَافُ الْجُمْعَةِ بَعْدَ الْوَقْتِ جَازَ الْبِنَاءُ عَلَى الظُّهْرِ .

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُمَا صَلَاتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ : فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَانِعٍ مِنْ بِنَاءِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْأُخْرَى كَصَلَاةِ السَّفَرِ .

فَصْلٌ : إِذَا شَكَّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ هَلْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الْعَصْرِ أَمْ لَا ؟ صلاة الجمعة بَنَى عَلَى الْجُمْعَةِ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْيَقِينِ . وَلَوْ طَرَأَ الشَّكُّ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا لَمْ تَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ ، كَمَنْ تَيَقَّنَ الطُّهْرَ ثُمَّ شَكَّ فِي الْحَدَثِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَمَنْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً بِسَجْدَتَيْنِ أَتَمَّهَا جُمُعَةً وَإِنْ تَرَكَ سَجْدَةً فَلَمْ يَدْرِ أَمِنَ الَّتِي أَدْرَكَ أَمِ الْأُخْرَى حَسَبَهَا رَكْعَةً وَأَتَمَّهَا ظُهْرًا : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصَّلَاةِ رَكْعَةً فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ إِنْ لَمْ تَفُتْهُ وَمَنْ لَمْ تَفُتْهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَأَقَلُّهَا رَكْعَةٌ بِسَجْدَتَيْهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . قَالَ : إِذَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ فَقَدْ أَدْرَكَ بِهَا الْجُمْعَةَ فَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ أُخْرَى وَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ ، وَإِنْ أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ من الجمعة لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ ، وَأَتَمَّهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا ، هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ ، وَزُفَرُ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ . وَذُكِرَ عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَمَكْحُولٍ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ إِلَّا بِإِدْرَاكِ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ بِدُونِ الرَّكْعَةِ ، حَتَّى لَوْ أَدْرَكَ مَعَهُ الْإِحْرَامَ قَبْلَ سَلَامِهِ بَنَى عَلَى الْجُمْعَةِ ، وَبِهِ قَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا . فَوَجَبَ أَنْ يَقْضِيَ مَا فَاتَهُ لِحُصُولِ مَا أَدْرَكَهُ . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي حَالٍ هُوَ فِيهَا بَاقٍ عَلَى الْجُمْعَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُدْرِكًا لَهَا كَالرَّكْعَةِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ تَعَيَّنَ فَرْضُهُ بِالْإِتْمَامِ فَإِنَّ إِدْرَاكَ آخِرِ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ كَإِدْرَاكِ أَوَّلِهَا ، أَصْلُهُ الْمُسَافِرُ خَلْفَ الْمُقِيمِ يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ بِإِدْرَاكِ آخِرِ الصَّلَاةِ ، كَمَا يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ بَادَرَاكِ أَوَّلِهَا . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ : مَا رَوَاهُ يَاسِينُ بْنُ مُعَاذٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي

هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْجُمُعَةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ وَمَنْ أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْهَا صَلَّاهَا ظُهْرًا . وَرَوَى ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ رَكْعَتَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً فَلْيُضِفْ إِلَيْهَا أُخْرَى ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ رَكْعَةً فَلْيُصَلِّ أَرْبَعًا وَلِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مِنَ الْجُمْعَةِ مَا يُعْتَدُّ بِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ ، أَصْلُهُ الْإِمَامُ إِذَا انْفَضُّوا عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَةً . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِنَا - : يَبْنِي عَلَى الظُّهْرِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا " فَهُوَ أَنْ يُقَالَ وَقَدْ رُوِيَ : " وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا " . فَإِنْ كَانَ الْقَضَاءُ حُجَّةً عَلَيْنَا فَالتَّمَامُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ ، فَيَسْقُطَانِ جَمِيعًا ، أَوْ يُسْتَعْمَلَانِ مَعًا ، فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَاقْضُوا " إِذَا أَدْرَكُوا رَكْعَةً ، وَ " أَتِمُّوا " إِذَا أَدْرَكُوا دُونَ الرَّكْعَةِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرَّكْعَةِ : فَالْمَعْنَى فِي إِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ : أَنَّهَا مِمَّا يُعْتَدُّ بِهِ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى صَلَاةِ الْمُسَافِرِ خَلْفَ الْمُقِيمِ فَفِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ التَّمَامَ خَلْفَ لِلْمُقِيمِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْجَمَاعَةِ ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ إِدْرَاكُ مَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي جَمَاعَةٍ ، وَالْجُمْعَةُ مِنْ شَرْطِهَا الْجَمَاعَةُ ، فَاعْتُبِرَ فِي إِدْرَاكِهَا إِدْرَاكُ مَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي جَمَاعَةٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُسَافِرَ خَلْفَ الْمُقِيمِ يَنْتَقِلُ مِنْ إِسْقَاطٍ إِلَى إِيجَابٍ ، وَمِنْ نُقْصَانٍ إِلَى كَمَالٍ ، فَكَانَ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ فِي الْإِدْرَاكِ سَوَاءً ، كَإِدْرَاكِ آخِرِ الْوَقْتِ ، وَفِي الْجُمْعَةِ يَنْتَقِلُ مِنْ إِيجَابٍ إِلَى إِسْقَاطٍ ، وَمِنْ كَمَالٍ إِلَى نُقْصَانٍ ، فَلَمْ يَنْتَقِلْ إِلَّا بِشَيْءٍ كَامِلٍ فَسَقَطَ مَا قَالُوهُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ إِدْرَاكَ الْجُمْعَةِ يَكُونُ بِرَكْعَةٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُدْرِكَهُ قَارِئًا فِي قِيَامِ الثَّانِيَةِ أَوْ رَاكِعًا فِيهَا ، فِي أَنَّهُ يَكُونُ مُدْرِكًا لِرَكْعَةٍ يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ . فَأَمَّا إِنْ أَدْرَكَهُ رَافِعًا مِنْ رُكُوعِ الثَّانِيَةِ في صلاة الجمعة فَهُوَ غَيْرُ مُدْرِكٍ لِلْجُمْعَةِ ، وَلَا يُعْتَدُّ لَهُ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ صَلَّى ظُهْرًا أَرْبَعًا . فَلَوْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مَعَ الْإِمَامِ ، وَقَامَ فَأَتَى بِرَكْعَةٍ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ ، ثُمَّ تَيَقَّنَ أَنَّهُ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَرَكَهَا مِنَ الثَّانِيَةِ أَتَى بِهَا ، وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ ، وَسَلَّمَ مِنْ جُمْعَةٍ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَرَكَهَا مِنَ الْأُولَى ، كَانَتِ الْأُولَى مَجْبُورَةً بِسَجْدَةٍ مِنَ الثَّانِيَةِ ، وَتُبْطُلُ الثَّانِيَةُ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ تَمَامَ أَرْبَعٍ ، وَيَسْجُدَ لِلسَّهْوِ وَيُسَلِّمَ مِنْ ظُهْرٍ . وَإِنْ شَكَّ هَلْ تَرَكَهَا مِنَ الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةِ ؟ عَمِلَ عَلَى أَسْوَأِ أَحْوَالِهِ ، وَأَسْوَأُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَهَا مِنَ الْأُولَى ، فَيَجْبُرَهَا بِالثَّانِيَةِ ، وَيَبْنِيَ عَلَى الظُّهْرِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَحُكِيَ فِي أَدَاءِ الْخُطْبَةِ اسْتِوَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي تَلِي الْمُسْتَرَاحَ قَائِمًا ثُمَّ سَلَّمَ وَجَلَسَ عَلَى الْمُسْتَرَاحِ حَتَّى فَرَغَ الْمُؤَذِّنُونَ ثُمَّ قَامَ ، فَخَطَبَ الْأُولَى ، ثُمَّ جَلَسَ ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ الثَّانِيَةَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . يُخْتَارُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْتِيَ الْجُمْعَةَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الصَّلَاةُ ، وَلَا يُبَكِّرَ ، اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَاقْتِدَاءً بِالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَيَدْخُلَ الْمَسْجِدَ مَنْ أَقْرَبِ أَبْوَابِهِ إِلَى الْمِنْبَرِ ، فَإِذَا دَخَلَ تَوَجَّهَ نَحْوَ مِنْبَرِهِ مِنْ غَيْرِ رُكُوعٍ وَلَا تَنَفُّلٍ ، وَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ الْمِنْبَرُ مِنَ الْقِبْلَةِ عَلَى يَمِينِ مُسْتَقْبِلِهَا وَيَسَارِ مُسْتَدْبِرِهَا ، فَإِذَا انْتَهَى إِلَيْهِ رَقِيَ خَاشِعًا مُسْتَكِينًا ، غَيْرَ عَجِلٍ وَلَا مُبَادِرٍ ، فَإِنْ كَانَ الْمِنْبَرُ صَغِيرًا وَقَفَ مِنْهُ عَلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي تَلِي الْمُسْتَرَاحَ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا وَقَفَ عَلَى الدَّرَجَةِ السَّابِقَةِ ، وَقَدْ كَانَ مِنْبَرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ دَرَجٍ فَكَانَ يَقِفُ مِنْهُ عَلَى الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ الَّتِي تَلِي الْمُسْتَرَاحَ ، ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، كَانَ يَقِفُ عَلَى الثَّانِيَةِ ، دُونَ مَوْقِفِ رَسُولِ اللَّهِ بِدَرَجَةٍ ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَوَقَفَ عَلَى الْأُولَى دُونَ مَوْقِفِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، بِدَرَجَةٍ ، ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَصَعِدَ إِلَى الثَّانِيَةِ وَوَقَفَ عَلَيْهَا ، وَهُوَ مَوْقِفُ أَبِي بَكْرٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، ثُمَّ جَاءَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَرَجَعَ إِلَى الثَّالِثَةِ فَوَقَفَ عَلَيْهَا ، وَهِيَ مَوْقِفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ثُمَّ إِنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمَ قَلَعَ الْمِنْبَرَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ وَزَادَ فِيهِ سِتَّ دَرَجٍ ، فَصَارَ عَدَدُ دَرَجِهِ تِسْعًا ، وَكَانَ الْخُلَفَاءُ يَرْتَقُونَ إِلَى الدَّرَجَةِ السَّابِعَةِ : السِّتَّةُ الَّتِي زَادَهَا مَرْوَانُ وَالسَّابِعَةُ هِيَ أَوَّلُ مَرَاتِبِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ . وَأَيْنَ وَقَفَ مِنَ الْمِنْبَرِ جَازَ ، فَإِذَا انْتَهَى الْإِمَامُ إِلَى مَوْقِفِهِ اسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ ، وَاسْتَقْبَلَ النَّاسَ ، وَسَلَّمَ قَائِمًا ، ثُمَّ جَلَسَ . وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : السَّلَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ غَيْرُ مَسْنُونٍ . وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِرِوَايَةِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَنَا مِنَ الْمِنْبَرِ سَلَّمَ ، ثُمَّ صَعِدَ وَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّاسِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ جَلَسَ ، فَإِذَا جَلَسَ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُونَ فِي الْأَذَانِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : وَأُحِبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ وَاحِدٌ ، فَإِذَا أَذَّنَ جَمَاعَةٌ لصلاة الجمعة جَازَ . وَهَذِهِ الْجَلْسَةُ مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً . وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ : أَنَّهُ أَوْجَبَهَا .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110