كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

مَاتَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ مُعْسِرًا لَمْ يَبْرَأِ الضَّامِنُ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ لَازِمٌ لِلْمَضْمُونِ عَنْهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِمَوْتِهِ مُعْسِرًا . وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ضَمَانَ دَيْنِ الْمَيِّتِ جَائِزٌ مَعَ إِعْسَارِهِ فَمَا رُوِّينَا عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُمَا ضَمِنَا دَيْنَ مَيِّتَيْنَ امْتَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى جَنَائِزِهِمَا لِأَنَّهُمَا لَمْ يَتْرُكَا وَفَاءً ، وَلَوْ تَرَكَا وَفَاءً لَمْ يَمْتَنِعْ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمَا بَلْ قَدْ كَانَ الَّذِي ضَمِنَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ فَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ يَسْقُطُ عَنْهُ بِالْمَوْتِ لَمْ يَمْتَنِعْ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ ، وَلِأَخْبَرَ بِإِبْطَالِ الضَّمَانِ عَنْهُمَا وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ ضَمَانُ دَيْنِهِ مَعَ يَسَارِهِ صَحَّ ضَمَانُ دَيْنِهِ مَعَ إِعْسَارِهِ كَالْحَيِّ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ ضَمَانُ دَيْنِهِ إِذَا كَانَ حَيًّا صَحَّ ضَمَانُ دَيْنِهِ إِذَا كَانَ مَيِّتًا ، كَالْمُوسِرِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي ضَمَانِ الدَّيْنِ عَنِ الْحَيِّ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي ضَمَانِ الدَّيْنِ عَنِ الْمَيِّتِ ، أَصْلُهُ وُجُودُ عَيْنِ الْمَالِ الْمَضْمُونِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا لَمْ يَكُنِ الْيَسَارُ بِهِ شَرْطًا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِدَيْنِ الْمَيِّتِ الْمُعْسِرِ مَحَلٌّ فَهُوَ أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ يَدْفَعُهُ إِجْمَاعٌ لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا أَنَّ الْمَيِّتَ يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى يَوْمَ يَلْقَاهُ بِوُجُوبِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ وَيَسْتَحِقُّ صَاحِبُ الدَّيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِوَضًا بِهِ ، وَلَوْ كَانَ قَدْ سَقَطَ لَمَا اسْتُحِقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَإِذَا كَانَ الْإِجْمَاعُ عَلَى هَذَا حَاصِلًا كَانَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ فَاسِدًا .

فَصْلٌ : لَا يَخْلُو حَالُ الدَّيْنِ الْمَضْمُونِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا ، فَإِنْ كَانَ حَالًّا جَازَ أَنْ يَضْمَنَهُ الضَّامِنُ حَالًّا ، وَجَازَ أَنْ يَضْمَنَهُ مُؤَجَّلًا فَلَا يُسْتَحَقُّ مُطَالَبَةُ الضَّامِنِ إِلَّا عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ الَّذِي ضَمِنَهُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الضَّمَانِ إِلَّا بِاشْتِرَاطِ الْأَجَلِ وَيُطَالَبُ بِهِ الْمَضْمُونُ عَنْهُ حَالًّا وَهَذَا بِخِلَافِ الْحَوَالَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ مُؤَجَّلَةً فِي حَالٍّ ، وَلَا حَالَّةً فِي مُؤَجَّلٍ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ تُوجِبُ تَحَوُّلَ الْحَقِّ عَلَى مِثْلِ صِفَتِهِ ، وَالضَّمَانُ وَثِيقَةٌ بِالْحَقِّ عَلَى مَا عُقِدَ بِهِ . وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا جَازَ أَنْ يَضْمَنَهُ الضَّامِنُ إِلَى أَجَلِهِ وَجَازَ أَنْ يَضْمَنَهُ حَالًّا ، وَلَا يُجْبَرُ الضَّامِنُ عَلَى التَّعْجِيلِ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي ضَمَانِهِ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يُؤْخَذُ الضَّامِنُ بِتَعْجِيلِ مَا ضَمِنَهُ لِأَجْلِ شَرْطِهِ وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ حَالَ الضَّامِنِ أَضْعَفُ مِنْ حَالِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ فَلَمَّا لَمْ يَلْزَمُ الْمَضْمُونَ عَنْهُ تَعْجِيلُ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ إِنْ أَلْزَمَهُ نَفْسَهُ فَالضَّامِنُ أَوْلَى أَلَّا يَلْزَمَهُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ قِيلَ لِلضَّامِنِ الْأَوْلَى لَكَ أَنْ تُعَجِّلَ مَا ضَمِنْتَ لِتَفِيَ بِشَرْطِكَ ، فَإِذَا أَبَيْتَ إِلَّا الْأَجَلَ الْمُسْتَحَقَّ لَمْ تُجْبَرْ عَلَيْهِ ، وَيَكُونُ اشْتِرَاطُكَ التَّعْجِيلَ زِيَادَةَ تَطَوُّعٍ مِنْكَ لَا تُلْزِمُكَ إِلَّا بِالْقَبْضِ . فَلَوْ أَطْلَقَ الضَّامِنُ تَعْجِيلَ مَا ضَمِنَهُ أَوْ تَأْجِيلَهُ لَزِمَهُ الضَّمَانُ عَلَى صِفَةِ الدَّيْنِ فِي الْحُلُولِ

وَالْأَجَلِ ، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا لَزِمَهُ ضَمَانُهُ حَالًّا ، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا لَزِمَهُ ضَمَانُهُ مُؤَجَّلًا . فَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا فَضَمِنَهُ إِلَى أَجَلِهِ أَوْ أَطْلَقَ فَلَزِمَهُ الضَّمَانُ إِلَى أَجَلِهِ ثُمَّ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْأَجَلُ حَلَّ دَيْنُهُ بِمَوْتِهِ ؛ لِأَنَّ الدُّيُونَ الْمُؤَجَّلَةَ تَحِلُّ بِالْمَوْتِ عِنْدَ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ إِلَّا طَاوُسًا وَالزُّهْرِيَّ لِمَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ . وَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِمَوْتِهِ كَانَ عَلَى الضَّامِنِ إِلَى أَجَلِهِ لَا يَحِلُّ عَلَيْهِ بِحُلُولِهِ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ ، وَلِلْمَضْمُونِ لَهُ مُطَالَبَةُ الضَّامِنِ عِنْدَ حُلُولِ أَجَلِهِ وَمُطَالَبَةِ وَرَثَةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ حَالًّا مِنْ تَرَكْتِهِ فَلَوْ مَاتَ الضَّامِنُ حَلَّ مَا عَلَيْهِ وَكَانَ لِلْمَضْمُونِ لَهُ أَنْ يَتَعَجَّلَ أَخْذَهُ مِنْ تَرَكْتِهِ وَهُوَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ إِلَى أَجَلِهِ فَلَوْ تَعَجَّلَ الْمَضْمُونُ لَهُ ذَلِكَ مِنْ تَرِكَةِ الضَّامِنِ لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يَرْجِعُوا بِهِ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ إِلَّا عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ ؛ لِأَنَّ إِذْنَهُ فِي الضَّمَانِ إِنَّمَا كَانَ عَلَى شَرْطِ أَلَّا يَرْجِعَ بِهِ إِلَّا عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ .

فَصْلٌ : لَا يَخْلُو حَالُ الْآجَالِ الَّتِي انْعَقَدَ الضَّمَانُ إِلَيْهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا تَعَيَّنَ وَقْتُهَا وَلَمْ يَخْتَلِفْ الآجال في الضمان كَشُهُورِ الْأَهِلَّةِ وَالسِّنِينَ الْهِلَالِيَّةِ فَالضَّمَانُ إِلَيْهَا جَائِزٌ ، وَكَذَلِكَ تَأْجِيلُ الْأَثْمَانِ إِلَيْهَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا عُرِفَتْ جُمْلَتُهَا وَلَمْ يَتَعَيَّنْ وَقْتُهَا الآجال في الضمان ، كَالنَّيْرُوزِ وَالْمَهْرَجَانِ وَفِصْحِ النَّصَارَى فَتَأْجِيلُ الْأَثْمَانِ إِلَيْهِ لَا يَجُوزُ . وَفِي جَوَازِ تَأْجِيلِ الضَّمَانِ إِلَيْهِ قَوْلَانِ ، حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا جُهِلَ وَقْتُهَا وَلَمْ يُعْرَفْ جُمْلَتُهَا الآجال في الضمان كَمَجِيءِ الْمَطَرِ وَهُجُومِ الْبَرْدِ وَخُرُوجِ الْحَاجِّ وَقُدُومِ الْغُزَاةِ ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هَذَا كُلُّهُ أَجَلًا فِي الْأَثْمَانِ وَلَا فِي الضَّمَانِ ، فَإِنْ شُرِطَ فِي الْأَثْمَانِ بَطَلَ الْعَقْدُ وَإِنْ شُرِطَ فِي الضَّمَانِ فَفِي بُطْلَانِهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الضَّمَانِ إِذَا شُرِطَ فِيهِ خِيَارُ الثَّلَاثِ بَطَلَ الْخِيَارُ وَفِي بُطْلَانِ الضَّمَانِ قَوْلَانِ . وَأَمَّا الْأَجَلُ إِلَى الْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَالْجُزَازِ فَضَرْبَانِ الآجال في الضمان : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُرَادَ بِهِ فِعْلُ الْآدَمِيِّينَ لَهُ فَبَاطِلٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَجَلًا فِي الْأَثْمَانِ وَلَا فِي الضَّمَانِ ، كَالْعَطَاءِ وَخُرُوجِ الْحَاجِّ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُرَادَ زَمَانُهُ الَّذِي يَصْلُحُ فِيهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ : فَهَذَا مِنَ الْقِسْمِ الَّذِي عُرِفَتْ جُمْلَتُهُ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ وَقْتُهُ وَلَا يَصِحُّ تَأْجِيلُ الْأَثْمَانِ إِلَيْهِ ، وَفِي جَوَازِ تَأْجِيلِ الضَّمَانِ إِلَيْهِ قَوْلَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ وَلَا تَجُوزُ كَفَالَةُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ بِالتَّجَارَةِ لِأَنَّ هَذَا اسْتِهْلَاكٌ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا تَجُوزُ كَفَالَةُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ بِالتَّجَارَةِ لِأَنَّ هَذَا اسْتِهْلَاكٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ ضَمَانَ الْعَبْدِ وَالضَّمَانَ عَنْهُ يَنْقَسِمُ إِلَى خَمْسَةِ فُصُولٍ ، فَالْفَصْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ أَنْ يَضْمَنَ الْعَبْدُ عَنْ رَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ مَالًا لِرَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَبْدِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ فِي التِّجَارَةِ . فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ فَلَا يَخْلُو ضَمَانُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، فَإِنْ ضَمِنَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ صَحَّ ضَمَانُهُ ، وَكَانَ فِي ذِمَّتِهِ يُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهِ ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي إِفْصَاحِهِ : إِنَّ ضَمَانَهُ إِذَا كَانَ عَنْ إِذْنِ السَّيِّدِ فِي كَسْبِهِ كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فِي التَّزْوِيجِ كَانَ الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ فِي كَسْبِهِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ إِذْنَ السَّيِّدِ لَهُ بِالضَّمَانِ إِنَّمَا هُوَ إِذْنٌ بِالْمُعَامَلَةِ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ بِالْمُبَايَعَةِ ، ثُمَّ لَوِ ابْتَاعَ الْعَبْدُ مَالًا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ كَانَ الثَّمَنُ فِي ذِمَّتِهِ دُونَ كَسْبِهِ ، وَإِنْ كَانَ عَنْ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَكَذَا الضَّمَانُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذْنُهُ بِالتَّزْوِيجِ : لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ لَا يَحْصُلُ لَهُ إِلَّا بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ فَيَتَعَلَّقُ ذَلِكَ بِالْكَسْبِ . وَإِنْ كَانَ ضَمَانُ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ وبإذنه فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا هُوَ مَحْكِيٌّ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّ ضَمَانَهُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الضَّمَانَ عَقْدٌ فَبَطَلَ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ كَالْبَيْعِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ ضَمَانَهُ صَحِيحٌ ، وَيَتَعَلَّقُ الضَّمَانُ بِذِمَّتِهِ يُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَجْهًا وَاحِدًا لِأَنَّ إِذْنَ السَّيِّدِ يُعْتَبَرُ فِيمَا يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ فِيهِ ، وَمَا تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ مِنَ الضَّمَانِ لَا يَدْخُلُ عَلَى السَّيِّدِ فِيهِ ضَرَرٌ فَجَازَ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَضْمَنَ فِي ذِمَّتِهِ أَوْ فِي مَالِ التِّجَارَةِ فَإِنْ ضَمِنَ فِي ذِمَّتِهِ كَانَ عَلَى مَا مَضَى إِنْ كَانَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ صَحَّ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : وَإِنْ ضَمِنَ فِي مَالِ التِّجَارَةِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَضَمَانُهُ بَاطِلٌ لَا يَخْتَلِفُ ؛ لِأَنَّ مَا بِيَدِهِ مَرْصَدٌ لِلرِّبْحِ وَالزِّيَادَةِ وَهَذَا اسْتِهْلَاكٌ . وَإِنْ ضَمِنَ فِي مَالِ التِّجَارَةِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ( ضمان العبد ) فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فِيمَا بِيَدِهِ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ صَحَّ ضَمَانُهُ ، وَيُؤَدِّي مَا بِيَدِهِ فِيهِ إِنْ وَفَّى بِضَمَانِهِ ، وَإِلَّا كَانَ الْبَاقِي مِنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ كَسْبِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكْتَسِبْ حَتَّى عَتَقَ أَدَّاهُ بَعْدَ عِتْقِهِ . فَإِنْ قِيلَ فَالْحُرُّ إِنْ ضَمِنَ مَالًا عَيَّنَهُ بِيَدِهِ مَا حُكْمُهُ ؟ قُلْنَا يَكُونُ الضَّمَانُ بَاطِلًا لِأَنَّ الضَّمَانَ

مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا فِي مَحَلٍّ يُؤْمَنُ تَلَفُهُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبْدِ أَنَّ التَّعْيِينَ فِيمَا بِيَدِ الْعَبْدِ إِنَّمَا يُصْرَفُ إِلَى الْأَدَاءِ دُونَ الضَّمَانِ : لِأَنَّ الضَّمَانَ مُتَعَلِّقٌ بِذِمَّتِهِ فَصَحَّ وَالتَّعْيِينَ فِي الْحُرِّ انْصَرَفَ إِلَى الضَّمَانِ فَبَطَلَ . وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فِيمَا بِيَدِهِ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ فَهَلْ يَصِيرُ الْعَبْدُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِي الْمَالِ الَّذِي بِيَدِهِ لِأَجْلِ دُيُونِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ : أَحَدُهُمَا : لَا حَجْرَ عَلَيْهِ فِيمَا بِيَدِهِ إِلَّا لِسَيِّدِهِ لِكَوْنِ ذَلِكَ عَلَى مِلْكِهِ وَهُوَ فِي حَقِّ مَنْ سِوَى السَّيِّدِ كَالْحُرِّ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ مَا لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ وَلَوْ كَانَ السَّيِّدُ أَذِنَ لَهُ فِي هِبَةِ الْمَالِ صَحَّتْ هِبَتُهُ ؛ لِأَنَّ إِذْنَ السَّيِّدِ يَدْفَعُ حَجْرَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ لِمَنْ سِوَاهُ حَجْرٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْعَبْدَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِيمَا بِيَدِهِ بِدَيْنِ غُرَمَائِهِ كَمَا كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِي حَقِّ سَيِّدِهِ لِأَنَّ الْعَبْدَ يُعَامَلُ بِمَا فِي يَدِهِ لِضَعْفِ ذِمَّتِهِ بِخِلَافِ الْحَجْرِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يُدْخِلُ الضَّرَرَ عَلَى غُرَمَائِهِ بِهِبَةٍ وَلَا غَيْرِهَا ، وَإِنْ كَانَ عَنْ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَعَلَى هَذَا فِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ لِأَنَّهُ صَرَفَهُ إِلَى جِهَةٍ لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ ضَمَانَهُ جَائِزٌ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْمَالِ وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْأَدَاءُ فَعَلَى هَذَا فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَكُونُ فِيمَا اكْتَسَبَهُ بَعْدَ الضَّمَانِ ، وَفِيمَا فَضَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْمَالِ الَّذِي كَانَ بِيَدِهِ قَبْلَ الضَّمَانِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِي ذِمَّتِهِ يُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهِ .

فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الثَّانِي هُوَ أَنْ يُضَمِنَ الْعَبْدُ مَالًا عَنْ سَيِّدِهِ لِأَجْنَبِيٍّ ، فَيَصِحُّ ضَمَانُهُ إِذَا كَانَ بِأَمْرِ سَيِّدِهِ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَلْزَمُهُ دَيْنُهُ كَالْحُرِّ ، فَصَارَ ضَمَانُهُ عَنْ سَيِّدِهِ كَضَمَانِ غَيْرِهِ ، وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُجْبِرَ عَبْدَهُ عَلَى الضَّمَانِ عَنْهُ لِأَنَّ الضَّمَانَ عَقْدٌ لَا يَصِحُّ مَعَ الْإِجْبَارِ فَإِذَا أَدَّى الْعَبْدُ عَنْ سَيِّدِهِ مَالَ ضَمَانِهِ فِي حَالِ رِقِّهِ لَمْ يُسْتَحَقَّ عَلَى سَيِّدِهِ الرُّجُوعُ بِهِ ضمان العبد ؛ لِأَنَّ مَا بِيَدِ الْعَبْدِ مِلْكٌ لِسَيِّدِهِ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَجِبَ لَهُ فِي ذِمَّةِ سَيِّدِهِ مَالٌ ، وَإِنْ أَدَّاهُ عَنِ السَّيِّدِ بَعْدَ عِتْقِهِ فَفِي رُجُوعِهِ بِذَلِكَ عَلَى سَيِّدِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى سَيِّدِهِ بِمَا أَدَّى عَنْهُ بَعْدَ عِتْقِهِ : لِأَنَّهُ أَدَّاهُ فِي حَالٍ يَصِحُّ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ فِي ذِمَّةِ سَيِّدِهِ دَيْنٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي قَالَهُ أَبُو حَامِدٌ الْمَرْوَزِيُّ فِي جَامِعِهِ : لَا رُجُوعَ لَهُ بِذَلِكَ عَلَى سَيِّدِهِ لِأَنَّهُ قَدْ

كَانَ ضِمْنَهُ عَنْهُ فِي حَالٍ لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقٌّ فِي ذِمَّةِ سَيِّدِهِ ، فَاعْتَبَرَ أَبُو حَامِدٍ حَالَ الضَّمَانِ وَأَبُو الْعَبَّاسِ حَالَ الْأَدَاءِ .

فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ هُوَ أَنْ يَضْمَنَ الْعَبْدُ مَالًا لِسَيِّدِهِ عَنْ أَجْنَبِيٍّ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ ضَمَانَهُ بَاطِلٌ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ مَالٌ ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ ضَمَانُهُ لِسَيِّدِهِ جَائِزٌ لِأَنَّ السَّيِّدَ إِنَّمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ مَالٌ : لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الرَّقَبَةَ ، وَيَصِحُّ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ مَالٌ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الذِّمَّةَ ثُمَّ لَا يَكُونُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُطَالِبَ عَبْدَهُ بِالضَّمَانِ إِلَّا بَعْدَ عِتْقِهِ ، فَإِنْ كَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ يَقُولُ فِي مُبَايَعَةِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ مِثْلَ مَا يَقُولُ فِي الضَّمَانِ فَقَدْ جَرَى عَلَى الْقِيَاسِ وَكَانَ لِقَوْلِهِ وَجْهٌ ، وَإِنْ كَانَ يَمْنَعُ مِنْ مُبَايَعَتِهِ فَقَدْ نَاقَضَ وَفَسَدَ مَذْهَبُهُ ، وَلَسْتُ أَعْرِفُ عَنْهُ فِي الْبَيْعِ نَصًّا إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْهُ مِنْ تَجْوِيزِهِ بَيْعَ السَّيِّدِ عَبْدَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَصِيرُ الْعَبْدُ بِابْتِيَاعِ نَفْسِهِ حُرًّا ، وَيُؤَدِّي عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ ، وَمَنَعَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ بَيْعِ السَّيِّدِ عَبْدَهُ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ عَلَيْهِ غَيْرَ نَفْسِهِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو الْعَبَّاسِ تَرَكَ الْقِيَاسَ وَتَخَيَّرَ الْأَمْرَيْنِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ بَيْعَ نَفْسِهِ عَلَيْهِ مُفْضٍ إِلَى عِتْقِهِ فَجَازِ ، وَبَيْعَ غَيْرِ نَفْسِهِ عَلَيْهِ لَا يُفْضِي إِلَى عِتْقِهِ فَلَمْ يَجُزْ لِفَقْدِ مَزِيَّةِ الْعِتْقِ .

فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنْ يَضْمَنَ السَّيِّدُ عَنْ عَبْدِهِ مَالًا لِأَجْنَبِيٍّ ، فَيَجُوزُ ضَمَانُهُ عَنْهُ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَلْزَمُهُ الدَّيْنُ كَمَا لَزِمَ الْحُرَّ وَالْعَبْدَ لَا يَلْزَمُهُ دَيْنُ عَبْدِهِ فَجَازَ أَنْ يَلْتَزِمَهُ بِضَمَانِهِ ، فَإِنْ أَدَّاهُ السَّيِّدُ عَنْ عَبْدِهِ قَبْلَ عِتْقِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَدَّاهُ بَعْدَ عِتْقِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ : يَرْجِعُ بِهِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْأَدَاءِ . وَالثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِوَقْتِ الضَّمَانِ .

فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الْخَامِسُ أَنْ يَضْمَنَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ مَالًا عَلَى أَجْنَبِيٍّ حكمه إن كان على العبد دين أو لا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَبْدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِنْ تِجَارَةٍ مَأْذُونًا فِيهَا أَمْ لَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَالضَّمَانُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ مَالَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ فَصَارَ ضَمَانُ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ كَضَمَانِهِ لِنَفْسِهِ فَبَطَلَ . وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَفِي ضَمَانِ السَّيِّدِ لَهُ وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي غُرَمَاءِ الْعَبْدِ هَلْ يَسْتَحِقُّونَ حَجْرًا عَلَيْهِ بِدُيُونِهِمْ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قِيلَ لَا حَجْرَ لَهُمْ عَلَيْهِ فَضَمَانُ السَّيِّدِ لَهُ بَاطِلٌ ، وَإِنْ قِيلَ لَهُمْ حَجْرٌ عَلَيْهِ فَضَمَانُ السَّيِّدِ لَهُ جَائِزٌ . فَإِنْ قَضَى الْعَبْدُ دَيْنَهُ بَرِئَ السَّيِّدُ مِنْ ضَمَانِهِ إِلَّا أَنْ يَقْضِيَهُ الْعَبْدُ بَعْدَ عِتْقِهِ فَلَا يَبْرَأَ السَّيِّدُ مِنْ ضَمَانِهِ وَعَلَيْهِ أَدَاءُ ذَلِكَ إِلَى الْعَبْدِ بَعْدَ عِتْقِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَكَذَلِكَ ضَمَانُ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ ضمانهما فِي عَقْدَيْهِمَا كَالْعَبْدِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الرِّقِّ فَضَمَانُهُمَا وَالضَّمَانُ عَنْهُمَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعَبْدِ فِي ضَمَانِهِ وَالضَّمَانِ عَنْهُ ، فَأَمَّا ضَمَانُ الْمُكَاتَبِ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَضْمَنَ فِي ذِمَّتِهِ فَضَمَانُهُ جَائِزٌ بِإِذْنِ السَّيِّدِ وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ أَمْلَكُ لِذِمَّتِهِ مِنَ الْعَبْدِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَضْمَنَ فِيمَا بِيَدِهِ ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَضَمَانُهُ بَاطِلٌ ، وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ جَائِزٌ كَالْعَبْدِ ، وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ لِأَنَّ حَقَّ السَّيِّدِ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ لِأَجْلِ كِتَابَتِهِ فَلَمْ يَكُنْ إِذْنُهُ فِي غَيْرِ الْكِتَابَةِ مُؤَثِّرًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ ضَمِنَ عَنْ مُكَاتَبٍ أَوْ مَالًا فِي يَدَيْ وَصِيٍّ أَوْ مُقَارِضٍ وَضَمِنَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ نَفْسِهِ فَالضَّمَانُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بَاطَلٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الضَّمَانَ لَا يَصِحُّ إِلَّا لَمَّا كَانَ مَضْمُونًا فِي الذِّمَّةِ فَأَمَّا مَا عَلَى الْمُكَاتَبِ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ فَلَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ لِلْمُكَاتَبِ لِأَنَّ لَهُ تَعْجِيزَ نَفْسِهِ وَإِسْقَاطَ مَالِ الْكِتَابَةِ ، فَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ غَيْرَ لَازِمٍ فَضَمَانُهُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ غَيْرَ لَازِمٍ ، وَكَذَا الْأَمْوَالُ الَّتِي فِي يَدِ مَنْ لَا يَضْمَنُهَا كَمَالِ الشِّرْكِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْوَدِيعَةِ وَمَا فِي يَدِ الْأَوْصِيَاءِ وَالْأُمَنَاءِ لَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ إِلَّا أَنْ يَضْمَنُوهُ بِالِاسْتِهْلَاكِ فَيَسْتَقِرَّ ضَمَانُ بَدَلِهِ فِي ذِمَمِهِمْ فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ ضَمَانُهُ عَنْهُمْ . فَأَمَّا الْأَعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ كَالْمَغْصُوبِ وَالْعَوَارِي فَيَصِحُّ ضَمَانُ بَدَلِهَا بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهَا ، فَأَمَّا ضَمَانُ أَعْيَانِهَا مَعَ بَقَائِهَا فَلَا يَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَجَوَّزَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ .

مَسْأَلَةٌ ضَمَانُ الْمَرْأَةِ كَالرَّجُلِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَضَمَانُ الْمَرْأَةِ كَالرَّجُلِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ عَقْدُ وَثِيقَةٍ فَيَصِحُّ مِنَ الْمَرْأَةِ كَالرَّهْنِ وَلِأَنَّهُ يُوجِبُ ثُبُوتَ مَالٍ فِي الذِّمَّةِ كَالْبَيْعِ وَيَجُوزُ ضَمَانُ الْمَرْأَةِ بِإِذْنِ زَوْجِهَا وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ ، وَأَنْ تَضْمَنَ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا وَالزَّوْجُ لِامْرَأَتِهِ وَالْأَبُ لِابْنِهِ وَالِابْنُ لِأَبِيهِ كَمَا يَصِحُّ بَيْنَ الْأَجْنَبِيَّيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَجُوزُ ضَمَانُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ وَلَا مَجْنُونٍ وَلَا مُبَرْسَمٍ يَهْذِي وَلَا مُغْمًى عَلَيْهِ وَلَا أَخْرَسَ لَا يَعْقِلُ ، وَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ الْإِشَارَةَ وَالْكِتَابَ فَضَمِنَ لَزِمَهُ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، ضَمَانُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يَصِحُّ لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُمَا وَكَذَلِكَ الْمُبَرْسَمُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ ضَمَانُهُمَا لِزَوَالِ عَقْلِهِمَا ، فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ قَالَ الْمُزَنِيُّ " وَلَا مُبَرْسَمٍ يَهْذِي " ؟ أَيَكُونُ الْهَذَيَانُ شَرْطٌ فِي بُطْلَانِ ضَمَانِهِ ؟ قُلْنَا لَا اعْتِبَارَ بِالْهَذَيَانِ فَمَتَى كَانَ الْمُبَرْسَمُ ذَابِلَ الْعَقْلِ بَطَلَ ضَمَانُهُ وَسَائِرُ عُقُودِهِ سَوَاءٌ كَانَ يَهْذِي أَمْ لَا ، وَلِأَصْحَابِنَا عَنْ قَوْلِهِ يَهْذِي جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا زِيَادَةٌ ذَكَرَهَا الْمُزَنِيُّ لَغْوًا . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ لَهَا فَائِدَةً ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُبَرْسَمَ يَهْذِي فِي أَوَّلِ بِرْسَامِهِ مَعَ قُوَّةِ جِسْمِهِ فَإِذَا تَطَاوَلَ بِهِ أَضْعَفَ جِسْمَهُ فَلَمْ يَهْذِ ، فَأُبْطِلَ ضَمَانُهُ فِي الْحَالِ الَّتِي يَهْذِي فِيهَا لِيُنَبِّهَ عَلَى بُطْلَانِ ضَمَانِهِ فِي الْحَالَةِ الَّتِي هِيَ أَغْلَظُ مِنْهَا وَهِيَ الْحَالَةُ الَّتِي لَا يَهْذِي فِيهَا . فَأَمَّا الْأَخْرَسُ ضمانه هل يصح بالإشارة فَإِنْ كَانَ لَا يَعْقِلُ الْإِشَارَةَ بَطَلَ ضَمَانُهُ وَسَائِرُ عُقُودِهِ ، وَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ الْإِشَارَةَ وَالْكِتَابَةَ فَضَمِنَ بِكِتَابَتِهِ وَإِشَارَتِهِ صَحَّ وَكَذَلِكَ سَائِرُ عُقُودِهِ ، وَإِنْ ضَمِنَ بِإِشَارَتِهِ دُونَ كِتَابَتِهِ صَحَّ ضَمَانُهُ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ أُقِيمَتْ فِيهِ مَقَامَ نُطْقِهِ . وَإِنْ ضَمِنَ بِكِتَابَتِهِ دُونَ إِشَارَتِهِ لَمْ يَصِحَّ ضَمَانُهُ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْكِتَابَةِ لَمْ يَقُمْ فِيهِ مَقَامَ النُّطْقِ لِاحْتِمَالِهَا حَتَّى تَنْضَمَّ إِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فَيَزُولَ إِلَيْهِ احْتِمَالُهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَرِيضُ فَضَمَانُهُ مُعْتَبَرٌ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ لِأَنَّهُ تَطَوُّعٌ ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِتَرِكَتِهِ بَطَلَ ضَمَانُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَكَانَ قَدْرُ ضَمَانِهِ خَارِجًا مِنْ ثُلُثِهِ صَحَّ ضَمَانُهُ ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ مَا ضَمِنَهُ خَارِجًا مِنْ ثُلْثِهِ صَحَّ مِنْ ضَمَانِهِ قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ ، وَبَطَلَ مِنْهُ مَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ الثُّلُثُ ، فَلَوْ ضَمِنَ مَالًا فِي مَرَضِهِ ثُمَّ أَقَرَّ بَعْدَ ضَمَانِهِ بِدَيْنٍ يُحِيطُ بِتَرِكَتِهِ فَإِنَّ الدَّيْنَ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ أَحَقُّ بِمَا نَزَلَ مِنَ الضَّمَانِ لِأَنَّ الدَّيْنَ وَاجِبٌ وَالضَّمَانَ تُطَوُّعٌ ، وَلَا يُؤَثِّرُ تَأْخِيرُ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ تَقَدَّمَ الْإِقْرَارُ أَوْ تَأَخَّرَ ، فَلَوْ ضَمِنَ مَالًا لِلْوَرَثَةِ بَطَلَ الضَّمَانُ وَإِنِ احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ لِأَنَّ ضَمَانَهُ وَصِيَّةٌ لَا تَصِحُّ لِوَارِثٍ ، فَلَوْ ضَمِنَ فِي مَرَضِهِ مَالًا وَأَدَّاهُ فِي مَرَضِهِ وَمَاتَ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ فَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يَرْجِعُوا بِجَمِيعِ الْمَالِ إِنْ كَانَ الْمَضْمُونُ لَهُ وَارِثًا وَبِثُلُثَيْهِ إِنْ كَانَ الْمَضْمُونُ لَهُ أَجْنَبِيًّا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ حكم ضمانه فَضَمَانُهُ بَاطِلٌ لِبُطْلَانِ عُقُودِهِ ، وَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ حكم ضمانه فَضَمَانُهُ صَحِيحٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا وَلَا يُشَارِكُ الْمَضْمُونُ لَهُ الْغُرَمَاءَ لِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّهُ بِالضَّمَانِ مُسْتَحْدَثٌ بَعْدَ الْحَجْرِ ، وَيَكُونُ مَالُ الضَّمَانِ فِيمَا يَسْتَفِيدُهُ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا السَّكْرَانُ ضمانه فَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ مِنْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ فَضَمَانُهُ بَاطِلٌ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ عَنْ مَعْصِيَةٍ فَضَمَانُهُ جَائِزٌ كَطَلَاقِهِ ، وَيَجِيءُ تَخْرِيجُ قَوْلٍ آخَرَ مِنَ الْقَدِيمِ أَنَّ ضَمَانَهُ بَاطِلٌ إِذَا قِيلَ عَلَى الْقَدِيمِ إِنَّ طَلَاقَهُ غَيْرُ وَاقِعٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ ضَعَّفَ الشَّافِعِيُّ كَفَالَةَ الْوَجْهِ فِي مَوْضِعٍ وَأَجَازَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَّا فِي الْحُدُودِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ : " وَضَعَّفَ الشَّافِعِيُّ كَفَالَةَ الْوَجْهِ فِي مَوْضِعٍ وَأَجَازَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَّا فِي الْحُدُودِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَلَمَّا مَضَى ضَمَانُ الْأَمْوَالِ عَقَّبَهُ الْمُزَنِيُّ بِكَفَالَةِ الْأَبْدَانِ ، فَإِذَا تَكَفَّلَ رَجُلٌ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَكْفُولِ مُطَالَبَةٌ بِحَقٍّ فَالْكَفَالَةُ بَاطِلَةٌ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ مَا يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِهِ فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي ثَلَاثَةِ كُتُبٍ عَلَى جَوَازِهَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَفِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ وَالْمَوَاهِبِ ، وَفِي كِتَابِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ بَعْدَ أَنْ نَصَّ عَلَى جَوَازِهَا ، غَيْرَ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ ضَعِيفَةٌ ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : وَلَا يَكْفُلُ رَجُلٌ فِي حَدٍّ وَلَا لِعَانٍ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِاخْتِلَافِ مَا حَكَيْنَا عَنْهُ فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ يَقُولُونَ : الْكَفَالَةُ فِي الْحُدُودِ بَاطِلَةٌ وَفِي الْأَمْوَالِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : جَائِزَةٌ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ بِالْمَدِينَةِ ، وَدَلِيلُ جَوَازِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ [ يُوسُفَ : 66 ] وَالْمَوْثِقُ الْكَفِيلُ فَامْتَنَعَ يَعْقُوبُ مِنْ إِرْسَالِ وَلَدِهِ مَعَ إِخْوَتِهِ إِلَّا بِكَفِيلٍ يَكْفُلُ بِهِ ، وَرُوِيَ أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ تَكَفَّلَ بِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ عَامَ الْفَتْحِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَذَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ حِينَ تَوَقَّفَ عَنْ بَيْعَتِهِ فَكَفَلَتْ بِهِ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عَلِيٍّ لِأَنَّهَا كَانَتْ زَوْجَةَ عُمَرَ ، وَقِيلَ بَلْ كَفَلَتْ بِهِ أُخْتُهُ حَفْصَةُ ، وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ : إِنِّي مَرَرْتُ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَوَّاحَةَ وَهُوَ يُؤَذِّنُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ رَسُولُ اللَّهِ فَكَذَّبْتُ سَمْعِي وَوَقَفْتُ حَتَّى سَمِعْتُ أَهْلَ الْمَسْجِدِ يَضِجُّونَ بِهِ فَبَعَثَ ابْنُ مَسْعُودٍ إِلَى ابْنِ النَّوَّاحَةِ فَدَعَاهُ وَأَصْحَابَهُ فَقَالَ : مَا صَنَعْتَ بِالْقُرْآنِ الَّذِي كُنْتَ تَتْلُوهُ ؟ قَالَ : كُنْتُ أَتَّقِيكُمْ بِهِ فَأَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ وَاسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ فِي أَصْحَابِهِ فَقَالُوا يُسْتَتَابُونَ وَيُكْفَلُونَ ، فَاسْتَتَابَهُمْ فَتَابُوا وَكَفَلَهُمْ عَنْ عَشَائِرِهِمْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ مُنْعَقِدٌ بِجَوَازِ الْكَفَالَةِ حكمها ومشروعيتها . وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ ضَمَانُ مَا فِي الذِّمَّةِ جَازَ ضَمَانُ ذِي الذِّمَّةِ ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ ضَمَانِ الْحَقِّ وَبَيْنَ ضَمَانِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ ، وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ كَالْإِجَارَةِ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقَدَ عَلَى عَيْنٍ لِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْهَا فَلَمَّا جَازَتِ الْإِجَارَةُ وَجَبَ أَنْ تَجُوزَ الْكَفَالَةُ حكمها في الأموال ، وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْأَمْوَالِ إِنَّمَا كَانَ

لِمَا فِيهِ مِنَ الرِّفْقِ وَالتَّوْسِعَةِ فَكَذَا كَفَالَةُ النُّفُوسِ لِمَا فِيهَا مِنَ الرِّفْقِ وَالتَّوْسِعَةِ ، وَهُوَ أَنْ يَرْتَفِقَ الْمَكْفُولُ بِهِ فِي الْإِطْلَاقِ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ طَلَبُ الْحَقِّ وَيَسْتَوْثِقَ الْمَكْفُولُ لَهُ فَيَسْهُلَ عَلَيْهِ الْتِمَاسُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِنَّ كَفَالَةَ النُّفُوسِ بَاطِلَةٌ ، وَدَلِيلُ بُطْلَانِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ [ يُوسُفَ : 79 ] فَكَانَ قَوْلُهُ " مَعَاذَ اللَّهِ " إِنْكَارًا لِلْكَفَالَةِ أَنْ تَجُوزَ حِينَ سَأَلَهُ إِخْوَتُهُ أَنْ يَأْخُذَ أَحَدَهُمْ كَفِيلًا مِمَّنْ وَجَدَ مَتَاعَهُ عِنْدَهُ ، وَلِأَنَّ مَا لَا يُضْمَنُ بِالْيَدِ لَا يُضْمَنُ بِالْعَقْدِ كَالْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ وَلِأَنَّهُ عَقْدُ ضَمَانٍ لَا يُسْتَحَقُّ عَلَى الضَّامِنِ الْمُطَالَبَةُ بِمُقْتَضَاهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَضَمَانِ الْقِصَاصِ . وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَصِحَّ أَخْذُهُ بِمَقْصُودِ الْعَقْدِ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ ذَلِكَ الْعَقْدُ كَبَيْعِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَلِأَنَّهُ ضَمَانٌ عُيِّنَ فِي الذِّمَّةِ ، فَوَجَبَ أَلَّا يَصِحَّ كَالْمُسَلَّمِ فِي الْأَعْيَانِ ، وَلِأَنَّهَا كَفَالَةٌ لَا تَصِحُّ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَكْفُولِ بِهِ فَوَجَبَ أَلَّا تَصِحَّ بِإِذْنِهِ ، أَصْلُهُ إِذَا كَفَلَ بِالشُّهُودِ لِيُحْضِرَهُمْ لِلْأَدَاءِ وَلِأَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ مِنَ الْحَقِّ وَحَبْسُهُ إِنْ حُبِسَ لِيَخْرُجَ مِنَ الْحَقِّ فَلِأَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الْكَفِيلِ تَسْلِيمُ الْمَكْفُولِ بِهِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَلْزَمُ الْمَضْمُونَ عَنْهُ فَأَوْلَى أَلَّا يَلْزَمَ الضَّامِنَ وَلِأَنَّهُ إِنِ اسْتَحَقَّ إِحْضَارَهُ مَجْلِسَ الْحُكْمِ فَهُوَ عَلَى الْحَاكِمِ أَوْجَبُ ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ الْحَاكِمُ فَالْكَفِيلُ عَنْهُ أَعْجَزُ فَهَذَا تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ وَهِيَ طَرِيقَةُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ أَصْحَابِنَا . وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَطَائِفَةٌ مِنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا يَقُولُونَ الْكَفَالَةُ بِالنُّفُوسِ جَائِزَةٌ فِي الْأَمْوَالِ قَوْلًا وَاحِدًا وَفِي الْحُدُودِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : جَائِزَةٌ كَالْأَمْوَالِ . وَالثَّانِي : بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَا مَعْنَى لِلتَّوَثُّقِ فِيهَا بِالْكَفَالَاتِ ، وَسَوَاءٌ فِي الْحُدُودِ مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَالْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ أَوْ مَا كَانَ لِلَّهِ كَالْخَمْرِ وَالزِّنَا ، وَتَأَوَّلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ " غَيْرَ أَنَّهَا ضَعِيفَةٌ " يَعْنِي غَيْرَ أَنَّ الْقِيَاسَ فِيهَا ضَعِيفٌ لَكِنْ لَمَّا اقْتَرَنَ بِهِ السُّنَّةُ وَالْأَثَرُ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ لَا أَنَّ ذَلِكَ قَوْلٌ ثَانٍ فِي إِبْطَالِهَا كَمَا قَالَ فِي النَّائِمِ قَاعِدًا لَوْ صِرْنَا إِلَى النَّظَرِ تَوَضَّأْ بِأَيِّ حَالَاتِهِ كَانَ ، فَأَسْقَطَ النَّظَرَ لِلْخَبَرِ فَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِيهِ وَكَمَا قَالَ فِي الْقَدِيمِ آذَانُ الصُّبْحِ قَبْلَ الْوَقْتِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقِيَاسٍ لَكِنِ اتَّبَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلَا يَكْفُلُ رَجُلٌ فِي حَدٍّ وَلَا لِعَانٍ فَمَنْ أَبْطَلَ الْكَفَالَةَ فِي الْحُدُودِ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَمَنْ جَوَّزَهَا فِي الْحُدُودِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ تَأَوَّلَ ذَلِكَ عَلَى إِبْطَالِ الْكَفَالَةِ بِنَفْسِ الْحَدِّ وَاللِّعَانِ لَا بِنَفْسِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَاللِّعَانُ .



فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا وَقُلْنَا بِجَوَازِ الْكَفَالَةِ حكمها و شروطها عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ فَصِحَّتُهَا مُعْتَبَرَةٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْمَكْفُولِ بِهِ من شروط الكفيل كَمَا يَلْزَمُهُ مَعْرِفَةُ الْمَالِ الْمَضْمُونِ لِيَعْلَمَ مَنْ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ بِالْكَفَالَةِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ ، وَهَلْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْمَكْفُولِ لَهُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ كَالْمَضْمُونِ لَهُ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمَكْفُولِ بِهِ حَقٌّ يُسْتَحَقُّ مُطَالَبَتُهُ بِهِ ، وَهَلْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِحَقِّهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْكَفِيلِ بِقَدْرِ مَا عَلَى الْمَكْفُولِ بِهِ مِنَ الدَّيْنِ لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ مَوْتَ الْمَكْفُولِ بِهِ يُوجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ غُرْمَ الدَّيْنِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَعْرِفَةَ الْكَفِيلِ بِقَدْرِ الدَّيْنِ لَا تَلْزَمُ وَأَنَّ جَهَالَتَهُ بِهِ لَا تَضُرُّ لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ مَوْتَ الْمَكْفُولِ بِهِ لَا يُوجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ غُرْمَ الدَّيْنِ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ الْكَفَالَةُ عَنْ أَمْرِ الْمَكْفُولِ بِهِ وَإِذْنِهِ من شروط الكفالة ، فَإِنْ كَفَلَ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ لَمْ تَصِحَّ ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَكْفُولِ بِهِ كَمَا يَصِحُّ الضَّمَانُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكَفَالَةِ وَالضَّمَانِ أَنَّ الضَّمَانَ يُوجِبُ غُرْمَ مَالٍ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنَ الضَّامِنِ دُونَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ ، وَالْكَفَالَةُ تُوجِبُ تَسْلِيمَ نَفْسٍ وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِتَمْكِينِ الْمَكْفُولِ بِهِ . فَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهُمَا قَدْ تَلْزَمُهُمَا حُقُوقُ الْأَمْوَالِ فَصَحَّتِ الْكَفَالَةُ بِهِمَا ، وَعَلَى الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا تَصِحُّ لِأَنَّ أَمْرَهُمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ فَلَوْ أَمَرَهُ الِابْنُ بِالْكَفَالَةِ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْأَبِ سُؤَالٌ وَطَلَبٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ الْكَفَالَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الشُّرُوطِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى بَيَانِ اللَّفْظِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْكَفَالَةُ وَذَلِكَ أَنْ تَقُولَ كَفَلْتُ لَكَ بِنَفْسِ فُلَانٍ وَهَذَا عُرْفُ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَوْ تَقُولَ كَفَلْتُ لَكَ بِوَجْهِ فُلَانٍ وَهَذَا عُرْفُ أَهْلِ الْحِجَازِ ، وَفِي مَعْنَى الْأَوَّلِ أَنْ تَقُولَ كَفَلْتُ بِرُوحِ فُلَانٍ ، وَفِي مَعْنَى الثَّانِي أَنْ تَقُولَ كَفَلْتُ لَكَ بِرَأْسِ فُلَانٍ فَتَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهَذَا كُلِّهِ . وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : كَفَلْتُ لَكَ بِجِسْمِ فُلَانٍ ، أَوْ بِبَدَنِ فُلَانٍ صَحَّتِ الْكَفَالَةُ ، فَأَمَّا إِذَا ذَكَرَ فِي الْكَفَالَةِ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْعُضْوُ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْجُمْلَةِ كَقَوْلِهِ كَفَلْتُ لَكَ بِعَيْنِ فُلَانٍ

صَحَّتِ الْكَفَالَةُ كَمَا لَوْ قَالَ كَفَلْتُ لَكَ بِوَجْهِ فُلَانٍ ، فَإِنْ كَانَ الْعُضْوُ مِمَّا لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْجُمْلَةِ يُنْظَرُ ، فَإِنْ كَانَ لَا يَحْيَى بِفَقْدِهِ مِثْلَ الْكَبِدِ وَالْفُؤَادِ ، فَإِذَا قَالَ : كَفَلْتُ لَكَ بِكَبِدِ فُلَانٍ أَوْ فُؤَادِ فُلَانٍ صَحَّتِ الْكَفَالَةُ وَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ بِنَفْسِ فُلَانٍ ، وَإِنْ كَانَ الْعُضْوُ مِمَّا يَحْيَى مَعَ فَقْدِهِ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ ، فَإِذَا قَالَ : كَفَلْتُ لَكَ بِيَدِ فُلَانٍ أَوْ بِرِجْلِ فُلَانٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ : أَحَدُهُمَا : يَصِحُّ كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ . وَالثَّانِي : لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ قَدْ يَفْقِدُ ذَلِكَ الْعُضْوَ الَّذِي عُيِّنَ فِي الْكَفَالَةِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْحَقِّ . فَأَمَّا إِذَا قَالَ كَفَلْتُ لَكَ بِنِصْفِ فُلَانٍ أَوْ بِثُلُثِ فُلَانٍ أَوْ بِجُزْءٍ مِنْهُ صَحَّتِ الْكَفَالَةُ لِأَنَّ الْجُزْءَ الشَّائِعَ فِيهِ لَا يَنْفَصِلُ مِنْهُ فَكَانَ أَقْوَى فِي الْحُكْمِ مِنْ أَعْضَائِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ بَيَانِ لَفْظِ الْكَفَالَةِ فَلَا فَرْقَ فِي صِحَّةِ الْكَفَالَةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ بِهِ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا أَوْ مَحْبُوسًا لِأَنَّ تَعَسُّرَ إِحْضَارِهِ بِالْحَبْسِ وَالْغَيْبَةِ جَارٍ مَجْرَى إِعْسَارِ الضَّامِنِ بِالْمَالِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ إِعْسَارَ الضَّامِنِ بِالْمَالِ الَّذِي ضَمِنَهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ ضَمَانِهِ فَكَذَا تَعَذُّرُ إِحْضَارِ الْمَكْفُولِ بِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الْكَفَالَةِ إطلاقها أو تقييدها بوقت مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ أَوْ مُطْلَقَةً ، فَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً اسْتَحَقَّ مُطَالَبَةَ الْكَفِيلِ عَاجِلًا فِي الْمَكَانِ الَّذِي تَكَفَّلَ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ فَتَقْيِيدُهَا بِالزَّمَانِ أَنْ تَقُولَ عَلَى أَنَّنِي أُسَلِّمُهُ إِلَيْكَ بَعْدَ شَهْرٍ ، فَلَا يَسْتَحِقُّ مُطَالَبَتَهُ قَبْلَ مُضِيِّ الشَّهْرِ ، وَتَقْيِيدُهَا بِالْمَكَانِ أَنْ تَقُولَ عَلَى أَنَّنِي أُسَلِّمُهُ إِلَيْكَ بِالْبَصْرَةِ ، أَوْ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ فَلَا يَسْتَحِقُّ مُطَالَبَتَهُ بِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، فَإِنْ سَلَّمَهُ الْكَفِيلُ قَبْلَ الشَّهْرِ فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ الَّذِي عَلَيْهِ مُؤَجَّلًا لَا يَحِلُّ قَبْلَ الشَّهْرِ أَوْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ غَائِبَةٌ لَا تَحْضُرُ قَبْلَ شَهْرٍ لَمْ يَبْرَأْ بِتَسْلِيمِهِ إِلَّا عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ ، وَإِنْ كَانَ دَيْنُهُ حَالًّا وَبَيِّنَتُهُ حَاضِرَةً بَرِئَ بِتَسْلِيمِهِ فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِتَأْخِيرِهِ شَيْئًا ، وَهَكَذَا لَوْ كَفَلَ بِهِ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَهُ بِالْبَصْرَةِ فَسَلَّمَهُ فِي غَيْرِهَا ، فَإِنْ كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي سَلَّمَهُ مِنْ يَدٍّ غَالِبَةٍ أَوْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِالْبَصْرَةِ وَفِي حَمْلِهِ إِلَى الْبَصْرَةِ مَئُونَةٌ لَمْ يَبْرَأْ بِتَسْلِيمِهِ إِلَّا بِالْبَصْرَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَكَانُ آمِنًا وَالْبَيِّنَةُ حَاضِرَةً وَاسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مُمْكِنًا بَرِئَ بِتَسْلِيمِهِ : لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِحَمْلِهِ إِلَى الْبَصْرَةِ شَيْئًا فَلَوْ كَفَلَ بِهِ إِلَى وَقْتٍ فَمَضَى الْوَقْتُ وَلَمْ يَأْتِ بِهِ فَإِنْ كَانَ الْمَكْفُولُ بِهِ حَاضِرًا مَقْدُورًا عَلَيْهِ حُبِسَ الْكَفِيلُ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُعْسِرِ يَجِبُ إِنْظَارُهُ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ حَبْسُهُ كَمَا لَا يَجُوزُ حَبْسُ مِنْ أُعْسِرَ بِالدَّيْنِ حَتَّى يُوسِرَ ، فَلَوْ سَلَّمَ الْمَكْفُولُ بِهِ نَفْسَهُ بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ كَفَالَتِهِ ، فَإِنْ أَبَى الْمَكْفُولُ لَهُ أَنْ يَقْبَلَهُ أَشْهَدَ الْمَكْفُولُ بِهِ الدَّافِعَ لِنَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ نَفْسَهُ فِي كَفَالَةِ فُلَانٍ وَبَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْهَا ، وَهَكَذَا لَوْ أَحْضَرَهُ الْكَفِيلُ فَأَبَى الْمَكْفُولُ لَهُ أَنْ يَقْبَلَهُ أَشْهَدَ الْكَفِيلُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَأَبْرَأَهُ الْحَاكِمُ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَعَدْلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ أَبْرَأْ نَفْسَهُ مِنَ الْكَفَالَةِ بَرِئَ .



فَصْلٌ : فَلَوْ مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ ما حكم الكفالة ؟ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى الْكَفِيلِ ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو الْعَبَّاسِ قَدْ وَجَبَ عَلَى الْكَفِيلِ مَا عَلَى الْمَكْفُولِ بِهِ مِنَ الْحَقِّ ، وَهَكَذَا يَقُولَانِ إِذَا تَطَاوَلَتْ غَيْبَتُهُ وَلَمْ يَعْرِفْ مَوْضِعَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكَفَالَةِ التَّوْثِيقُ فِي الدَّيْنِ الْمُسْتَحَقِّ ، فَلَوْ كَانَ مَوْتُ الْمَكْفُولِ بِهِ لَا يُوجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ غُرْمًا لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ الْكَفَالَةِ . وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْحَقَّ لَمْ يَضْمَنْهُ وَالْمَكْفُولُ بِهِ قَدْ مَاتَ فَلَيْسَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، وَلَوْ جَازَ إِذَا كَفَلَ بِالنَّفْسِ أَنْ يَضْمَنَ الْمَالَ لَجَازَ إِذَا ضَمِنَ الْمَالَ أَنْ يَصِيرَ كَفِيلًا وَلَكِنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَخْتَصُّ بِحُكْمِهِ ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنْ لَا شَيْءَ عَلَى الْكَفِيلِ نَظَرْنَا فَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ إِحْضَارُ الْمَيِّتِ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ فَقَدْ بَطَلَتِ الْكَفَالَةُ بِمَوْتِهِ ، وَإِنْ لَزِمَ إِحْضَارُهُ مَجْلِسَ الْحُكْمِ لِأَنَّ عَلَيْهِ بَيِّنَةً تَشْهَدُ عَلَى عَيْنِهِ وَلَا تُعْرَفُ وَلَا يُعْرَفُ اسْمُهُ وَلَا نَسَبُهُ فَلَا بَأْسَ بِإِحْضَارِ الْمَيِّتِ مَجْلِسَ الْحُكْمِ أَوْ يَحْضُرُ الْحَاكِمُ إِلَى مَوْضِعِ الْمَيِّتِ يَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ عَلَى عَيْنِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي الْكَفَالَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاقِيَةٌ لَا تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ وَيُؤْخَذُ الْكَفِيلُ بِإِحْضَارِ الْمَيِّتِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : قَدْ بَطَلَتِ الْكَفَالَةُ بِالْمَوْتِ لِأَنَّ الْمَيِّتَ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ لِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْكِفْلِ .

فَصْلٌ : فَلَوْ مَاتَ الْكَفِيلُ ما حكم الكفالة ؟ فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْكَفَالَةَ قَدْ بَطَلَتْ وَلَا يَسْتَحِقُّ مُطَالَبَةَ الْوَارِثِ بِشَيْءٍ وَيَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنْ لَا تَبْطُلَ الْكَفَالَةُ لِأَنَّهَا عَلَى مَذْهَبِهِ قَدْ تُفْضِي إِلَى مَالٍ يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ لَكِنْ لَمْ أَجِدْ نَصًّا فِيهِ ، وَلَكِنْ لَوْ مَاتَ الْمَكْفُولُ لَهُ ما حكم الكفالة ؟ كَانَتِ الْكَفَالَةُ عَلَى حَالِهَا لَا تَبْطُلُ عَلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ وَيَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْمَكْفُولِ بِهِ . فَلَوْ كَانَ الْمَكْفُولُ لَهُ حِينَ مَاتَ خَلَّفَ وَرَثَةً وَغُرَمَاءَ فَوَصَّى بِإِخْرَاجِ ثُلُثِهِ إِلَى وَصِيٍّ فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَى الْمَكْفُولِ بِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمَالِ كَانَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْكَفَالَةِ الْوَارِثَ وَحْدَهُ دُونَ الْغُرَمَاءِ وَأَهْلِ الْوَصَايَا ، وَإِنْ كَانَ مَالًا لَمْ يَبْرَأِ الْكَفِيلُ إِلَّا بِتَسْلِيمِ الْمَكْفُولِ بِهِ إِلَى الْوَرَثَةِ وَالْغُرَمَاءِ وَالْوَصِيِّ وَكَذَا الْمَالُ الْمَضْمُونُ ، فَإِنْ سَلَّمَهُ إِلَى الْوَرَثَةِ دُونَ الْغُرَمَاءِ وَالْوَصِيِّ أَوْ إِلَى الْغُرَمَاءِ دُونَ الْوَرَثَةِ وَالْوَصِيِّ أَوْ إِلَى الْوَصِيِّ دُونَ الْوَرَثَةِ لَمْ يَبْرَأْ مِنَ الْكَفَالَةِ وَلَكِنْ لَوْ سَلَّمَهُ إِلَى الْوَرَثَةِ وَالْغُرَمَاءِ وَأَهْلِ الْوَصَايَا دُونَ الْوَصِيِّ فَفِي بَرَاءَتِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ : أَحَدُهُمَا : يَبْرَأُ لِأَنَّهُ سَلَّمَهُ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ وَإِنَّمَا الْوَصِيُّ نَائِبٌ وَوَسِيطٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَبْرَأُ حَتَّى يَكُونَ الْوَصِيُّ فِي جُمْلَةِ مَنْ تَسَلَّمَهُ لِأَنَّ لِلْوَصِيِّ وِلَايَةً عَلَى أَهْلِ الْوَصَايَا فَصَارَ كَوَلِيِّ الطِّفْلِ وَالْمَجْنُونِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ كَفَلْتُ لَكَ بِنَفْسِ فُلَانٍ ، فَإِنْ مَاتَ فَأَنَا ضَامِنٌ لِمَا عَلَيْهِ صَحَّتِ الْكَفَالَةُ

وَبَطَلَ الضَّمَانُ لِأَنَّهَا مُعَلَّقَةٌ بِشَرْطٍ ، وَلَوْ قَالَ : كَفَلْتُ لَكَ بِنَفْسِ فُلَانٍ عَلَى أَنَّهُ إِنْ مَاتَ فَأَنَا ضَامِنٌ لِمَا عَلَيْهِ بَطَلَتِ الْكَفَالَةُ وَالضَّمَانُ بعض الصيغ التي يتعلق بطلان وصحة الكفالة مَعًا لِأَنَّهُ جَعَلَ الضَّمَانَ الْفَاسِدَ مَشْرُوطًا فِي الْكَفَالَةِ فَبَطَلَا جَمِيعًا ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ : كَفَلْتُ لَكَ بِنَفْسِ فُلَانٍ وَضَمِنْتُ لَكَ مَا عَلَيْهِ وَهُوَ مَعْلُومٌ فَهَذِهِ كَفَالَةٌ صَحِيحَةٌ وَضَمَانٌ صَحِيحٌ ، وَبِالْعَكْسِ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنْ يَقُولَ : قَدْ ضَمِنْتُ لَكَ عَنْ فُلَانٍ أَلْفًا فَإِنْ لَمْ أُؤَدِّهَا فَأَنَا كَفِيلٌ بِنَفْسِهِ صَحَّ الضَّمَانُ وَبَطَلَتِ الْكَفَالَةُ ، وَلَوْ قَالَ : ضَمِنْتُ لَكَ عَنْهُ أَلْفًا عَلَى أَنَّنِي إِنْ لَمْ أُؤَدِّهَا فَأَنَا كَفِيلٌ بِنَفْسِهِ بَطَلَ الضَّمَانُ وَالْكَفَالَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَلَوْ كَفَلَ رَجُلٌ بِرَجُلٍ لِرَجُلَيْنِ فَسَلَّمَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا لَمْ يَبْرَأْ مِنْ حَقِّ الْآخَرِ وَبَرِئَ مِنْ حَقِّ مَنْ تَسَلَّمَهُ مِنْهُ وَكَانَ الِاتِّفَاقُ عَلَى حَقِّ مُطَالَبَةِ الْكَفِيلِ بِهِ . وَلَوْ كَفَلَ رَجُلَانِ بِرَجُلٍ مُجْتَمِعَيْنِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْمَكْفُولُ بِهِ مُطَالَبَةَ أَحَدِهِمَا بِالْمَكْفُولِ بِهِ وَكَانَ لَهُ مُطَالَبَتُهُمَا جَمِيعًا ، فَإِنْ سَلَّمَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا بَرِئَا مِنْهُ جَمِيعًا .

فَصْلٌ : وَلَكِنْ لَوْ كَفَلَ رَجُلٌ بِرَجُلٍ ثُمَّ كَفَلَ بِهِ ثَانٍ ثُمَّ كَفَلَ بِهِ ثَالِثٌ كَانَ لِلْمَكْفُولِ لَهُ مُطَالَبَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْكُفَلَاءِ عَلَى انْفِرَادٍ ، فَإِذَا سَلَّمَهُ أَحَدُهُمْ لَمْ يَبْرَأِ الْآخَرَانِ مِنْ كَفَالَتِهِ : بِخِلَافِ الضَّمَانِ إِذَا سَلَّمَ أَحَدُ الضُّمَنَاءِ الْمَالَ ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ أَحَدِهِمُ الْمَالَ يُبَرِّئُ الْمَضْمُونَ عَنْهُ مِنَ الْحَقِّ فَبَرِئَ بَاقِي الضُّمَنَاءِ ، وَتَسْلِيمُ أَحَدِ الْكُفَلَاءِ الْمَكْفُولَ بِهِ لَا يُبَرِّئُهُ مِنَ الْحَقِّ فَلَمْ يَبْرَأْ بَاقِي الْكُفَلَاءِ . فَلَوْ كَفَلَ رَجُلٌ بِرَجُلٍ ثُمَّ كَفَلَ بِالْكَفِيلِ آخَرُ ثُمَّ كَفَلَ بِالْكَفِيلِ الثَّانِي كَفِيلٌ ثَالِثٌ جَازَ وَكَانَ لِلْمَكْفُولِ لَهُ مُطَالَبَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَنْ تَكَفَّلَ بِهِ ، فَلَوْ مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ الْأَوَّلُ بَرِئُوا جَمِيعًا ، وَلَوْ مَاتَ الثَّانِي بَرِئَ مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْكُفَلَاءِ ، وَلَوْ مَاتَ الثَّالِثُ بَرِئَ مَنْ بَعْدَهُ وَلَمْ يَبْرَأْ مَنْ قَبْلَهُ كَمَا قُلْنَا فِي بَرَاءَةِ الضُّمَنَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

فَصْلٌ : أَخْذُ السَّفَاتِجِ بِالْمَالِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ بِدَيْنٍ ثَابِتٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بِقَرْضٍ حَادِثٍ . فَأَمَّا الدَّيْنُ الثَّابِتُ إِذَا سَأَلَ صَاحِبُهُ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ بِهِ سُفْتَجَةً إِلَى بَلَدٍ آخَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ ، فَلَوِ اتَّفَقَا عَلَى كَتْبِ سُفْتَجَةٍ جَازَ . وَأَمَّا الْقَرْضُ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا فِيهِ كَتْبُ السُّفْتَجَةِ ، إِمَّا مِنْ جِهَةِ الْمُقْرِضِ فَيَقُولُ هُوَ ذَا أَقْرَضْتُكَ لِتَكْتُبَ لِي بِهِ سُفْتَجَةً إِلَى بَلَدِ كَذَا ، أَوْ مِنْ جِهَةِ الْمُقْتَرِضِ فَيَقُولُ : هُوَ ذَا أَقْتَرِضُ مِنْكَ لِأَكْتُبَ لَكَ فِي سُفْتَجَةٍ إِلَى بَلَدِ كَذَا فَهَذَا قَرْضٌ بَاطِلٌ لَا يَصِحُّ أَخْذُ السُّفْتَجَةِ بِهِ لِأَنَّهُ قَرْضٌ جَرَّ مَنْفَعَةً .

وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَرْضًا مُطْلَقًا ثُمَّ يَتَّفِقَانِ عَلَى كَتْبِ سُفْتَجَةٍ فَيَجُوزُ هَذَا كَالدَّيْنِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ السُّفْتَجَةِ بِالدَّيْنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ الْحَوَالَةِ أَوْ بِلَفْظِ الْأَمْرِ وَالرِّسَالَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ بِلَفْظِ الْحَوَالَةِ فَإِذَا وَرَدَتِ السُّفْتَجَةُ إِلَى الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ لَزِمَهُ أَدَاؤُهَا بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْتَرِفَ بِدَيْنِ الْمَكَاتِبِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَعْتَرِفَ بِدَيْنِ الْمَكْتُوبِ لَهُ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَعْتَرِفَ بِأَنَّهُ كِتَابُ الْمُحِيلِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَعْتَرِفَ أَنَّهُ كَتَبَهُ مُرِيدًا أَنَّهُ الْحَوَالَةُ فَإِذَا اعْتَرَفَ بِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ لَزِمَهُ أَدَاءُ مَا فِي السُّفْتَجَةِ مِنَ الدَّيْنِ ، سَوَاءٌ ضَمِنَهُ لَفْظًا أَمْ لَا ، وَإِنِ اعْتَرَفَ بِدَيْنِ الْكَاتِبِ وَأَنْكَرَ دَيْنَ الْمَكْتُوبِ لَهُ أَوِ اعْتَرَفَ بِدَيْنِهِمَا وَأَنْكَرَ الْكِتَابَ لَمْ تَلْزَمْهُ الْحَوَالَةُ . وَلَوِ اعْتَرَفَ بِدَيْنِهِمَا وَبِالْكِتَابَةِ وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمَكَاتِبُ أَرَادَ بِهِ الْحَوَالَةَ المكاتب والمكتوب له فَالْمَذْهَبُ الَّذِي يُوجِبُهُ الْقِيَاسُ أَنَّ الْحَوَالَةَ لَا تَلْزَمُهُ . وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : مَتَى اعْتَرَفَ بِالْكِتَابِ وَالدَّيْنِ لَزِمَتْهُ الْحَوَالَةُ وَإِنْ أَنْكَرَ الْإِرَادَةَ اعْتِمَادًا عَلَى الْعُرْفِ وَأَنَّ الْوُصُولَ إِلَى الْإِرَادَةِ مُتَعَذِّرٌ ، فَلَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِالْكِتَابِ لَكِنْ أَجَابَ إِلَى دَفْعِ الْمَالِ لِيَكُونَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ إِلَى أَنْ تَصِحَّ الْحَوَالَةُ جَازَ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ لَهُ اسْتِرْجَاعُ الْمَالِ مِنْهُ قَبْلَ صِحَّةِ الْحَوَالَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِالشَّرْطِ ، وَأَنَّ لَهُ اسْتِرْجَاعَهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِبُطْلَانِ الْحَوَالَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ يَجُوزُ لَهُ اسْتِرْجَاعُ الْمَالِ مِنْهُ مَتَى شَاءَ مَا لَمْ تَثْبُتْ صِحَّةُ الْحَوَالَةِ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا بَعْدَ صِحَّةِ الْحَوَالَةِ . أَمَّا إِذَا كَانَتِ السُّفْتَجَةُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ وَالرِّسَالَةِ لَمْ تَلْزَمِ الْمَكْتُوبَ إِلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَضْمَنَهَا لَفْظًا سَوَاءٌ اعْتَرَفَ بِالْكِتَابِ وَالدَّيْنِ أَمْ لَا ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إِذَا قَرَأَهَا وَتَرَكَهَا تَرْكَ رِضًا لَزِمَتْهُ ، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ : إِذَا أَثْبَتَهَا فِي حِسَابِهِ لَزِمَتْهُ . وَكُلُّ هَذَا عِنْدَنَا لَا يَلْزَمُ بِهِ السُّفْتَجَةُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَتَبَ عَلَى ظَهْرِهَا أَنَّهَا صَحِيحَةٌ قَدْ قَبِلْتُهَا ، حَتَّى يَضْمَنَهَا لَفْظًا ثُمَّ لَا تَلْزَمُ الْكَاتِبَ إِلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِهَا لَفَظًا فَلَا تَلْزَمُهُ بِاعْتِرَافِهِ بِالْخَطِّ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : إِنِ اعْتَرَفَ بِالْخَطِّ لَزِمَهُ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَكْتُوبَ إِلَيْهِ إِنِ اعْتَرَفَ بِالْخَطِّ فِي الْحَوَالَةِ لَزِمَتْهُ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي الْمَوْضِعَيْنِ . آخَرُ كِتَابِ الضَّمَانِ بِحَمْدِ اللَّهِ وَمَنِّهِ وَتَوْفِيقِهِ .
_____كِتَابُ الشَّرِكَةِ _____

الْأَصْلُ فِي إِحْلَالِ الشَّرِكَةِ وَإِبَاحَتِهَا

كِتَابُ الشَّرِكَةِ تَحَرَّيْتُ فِيهَا مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " الشَّرِكَةُ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا الْغَنِيمَةُ أَزَالَ اللَّهُ عَزَ وَجَلَّ مِلْكَ الْمُشْرِكِينَ عَنْ خَيْبَرَ فَمَلَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَكَانُوا فِيهِ شُرَكَاءَ فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَةَ أَجْزَاءٍ ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهَا فَأَخْرَجَ مِنْهَا خُمُسَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِأَهْلِهِ وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهَا لِأَهْلِهَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى قَسْمِ الْأَمْوَالِ وَالضَّرْبِ عَلَيْهَا بِالسِّهَامِ وَمِنْهَا الْمَوَارِيثُ وَمِنْهَا الشَّرِكَةُ فِي الْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ فِي قَوْلِهِ وَمِنْهَا التِّجَارَاتُ وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ الْقَسْمُ إِذَا كَانَ مِمَّا يُقْسَمُ وَطَلَبَهُ الشَّرِيكُ وَمِنْهَا الشَّرِكَةُ فِي الصَّدَقَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي قَوْلِهِ وَهِيَ الْأَحْبَاسُ وَلَا وَجْهَ لِقَسْمِهَا فِي رِقَابِهَا لِارْتِفَاعِ الْمِلْكِ عَنْهَا ، فَإِنْ تَرَاضَوْا مِنَ السُّكْنَى سَنَةً بِسَنَةٍ فَلَا بَأْسَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْأَصْلُ فِي إِحْلَالِ الشَّرِكَةِ وَإِبَاحَتِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [ الْأَنْفَالِ : 41 ] فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى خُمُسَ الْغَنَائِمِ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ أَهْلِ الْخُمُسِ وَجَعَلَ الْبَاقِيَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْغَانِمِينَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَ الْمَالَ إِلَيْهِمْ وَبَيَّنَ الْخُمُسَ لِأَهْلِهِ عُلِمَ أَنَّ الْبَاقِيَ لَهُمْ كَمَا قَالَ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ [ النِّسَاءِ : 11 ] دَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الثُّلُثِ لِلْأَبِ ، وَقَالَ تَعَالَى : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [ النِّسَاءِ : 11 ] فَجَعَلَ التَّرِكَةَ شَرِكَةً بَيْنَ الْوَرَثَةِ . وَقَالَ تَعَالَى : إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [ التَّوْبَةِ : 60 ] الْآيَةَ فَجَعَلَ أَهْلَ السِّهَامِ شُرَكَاءَ فِي الصَّدَقَاتِ ، وَقَالَ تَعَالَى : وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [ ص : 24 ] يَعْنِي الشُّرَكَاءَ . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ السَّائِبِ بْنِ أَبِي السَّائِبِ وَكَانَ يُشَارِكُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ : فَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ : مَرْحَبًا بِأَخِي لَا يُدَارِي وَلَا يُمَارِي

، ثَمَّ قَالَ : كَمْ يَا سَائِبُ كُنْتَ تَعْمَلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَعْمَالًا لَا تُقْبَلُ مِنْكَ وَهِيَ الْيَوْمَ تُقْبَلُ ، وَكَانَ ذَا سَلَفٍ وَصَدَقَةٍ . وَرَوَى إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ قَيْسَ بْنَ السَّائِبِ قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ شَرِيكِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ خَيْرَ شَرِيكٍ لَا يُدَارِي وَلَا يُمَارِي . وَرَوَى أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ، فَإِنْ خَانَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا . وَرَوَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ يَدُ اللَّهِ عَلَى الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَتَخَاوَنَا . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِكَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فِي سِهَامِ خَيْبَرَ وَفِي الْأَزْوَادِ فِي السَّفَرِ ، وَاشْتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ فِي أَزْوَادِهِمْ يَخْلِطُونَهَا فِي سَفَرِهِمْ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الشَّرِكَةِ فَقَدْ يَنْقَسِمُ مَا تَكُونُ فِيهِ الشَّرِكَةُ أَقْسَامًا أَرْبَعَةً : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ فِي الرِّقَابِ وَالْمَنَافِعِ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ فِي الرِّقَابِ دُونَ الْمَنَافِعِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ فِي الْمَنَافِعِ دُونَ الرِّقَابِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ تَكُونَ فِي حُقُوقِ الرِّقَابِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الشَّرِكَةُ فِي الرِّقَابِ وَالْمَنَافِعِ معناها فَهُوَ أَنْ يَمْلِكَ الِاثْنَانِ أَوِ الْجَمَاعَةُ دَارًا أَوْ أَرْضًا أَوْ حَيَوَانًا أَوْ عَرْضًا بِابْتِيَاعٍ أَوْ مِيرَاثٍ أَوْ مَغْنَمٍ أَوْ هِبَةٍ فَيَكُونَا شَرِيكَيْنِ فِي رَقَبَةِ الشَّيْءِ أَوْ مَنْفَعَتِهِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الشَّرِكَةُ فِي الرِّقَابِ دُونَ الْمَنَافِعِ معناها فَهُوَ أَنْ يُوصِيَ رَجُلٌ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ أَوْ سُكْنَى دَارِهِ أَوْ غَلَّةِ بُسْتَانِهِ لِرَجُلٍ فَيَكُونَ الْمُوصَى لَهُ الْمَنْفَعَةَ ، وَيَكُونَ الْوَرَثَةُ شُرَكَاءَ فِي الرَّقَبَةِ .

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الشَّرِكَةُ فِي الْمَنَافِعِ دُونَ الرِّقَابِ فَأَمَّا الْمَنَافِعُ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ مَمْلُوكَةً مِنْ عَيْنٍ مَمْلُوكَةٍ كَالرَّجُلَيْنِ إِذَا اسْتَأْجَرَا دَارًا أَوْ أَرْضًا فَهُمَا شَرِيكَانِ فِي مَنَافِعِهَا دُونَ رِقَابِهَا ، وَالْوَقْفُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ يَكُونُ أَرْبَابُهُ شُرَكَاءَ فِي مَنَافِعِهِ دُونَ رَقَبَتِهِ إِنْ قِيلَ : إِنَّ رَقَبَةَ الْوَقْفِ لَا تُمْلَكُ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ رَقَبَةَ الْوَقْفِ مَمْلُوكَةٌ كَانَ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ يَكُونُ أَرْبَابُهُ شُرَكَاءَ فِي مَنَافِعِهِ دُونَ رَقَبَتِهِ وَإِنْ قِيلَ إِنَّ رَقَبَةَ الْوَقْفِ لَا يُمْلَكُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ مُبَاحَةً مِنْ عَيْنٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ بِالدُّهْنِ النَّجَسِ وَالرَّوْثِ وَالسَّمَادِ فَهَذَا غَيْرُ مَمْلُوكٍ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ أَوْلَى بِهِ لِثُبُوتِ يَدِهِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ إِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِهِ ، وَإِنَّمَا لَمْ تُمْلَكِ الْمَنْفَعَةُ وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهَا فَيَكُونَ الشُّرَكَاءُ فِي هَذَا النَّوْعِ شُرَكَاءَ فِي إِبَاحَةِ مَنَافِعِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : مَا كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ مَأْخُوذَةً مِنْ عَيْنٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمَنْفَعَةِ مِنْهُ هَلْ تَكُونُ مَمْلُوكَةً أَوْ مُبَاحَةً وَهِيَ مَنْفَعَةُ الْكَلْبِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ ، فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاوَضَ عَلَيْهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مَمْلُوكَةٌ وَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ وَيَجُوزُ أَنْ يُعَاوَضَ عَلَيْهَا ، وَهَذَا مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي جَوَازِ إِجَارَةِ الْكَلْبِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الشَّرِكَةُ فِي حُقُوقِ رِقَابٍ وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي الرَّقَبَةِ مُفْضِيًا لِلتَّمْلِيكِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُفْضِيَ إِلَى الِاسْتِهْلَاكِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُفْضِيَ إِلَى التَّأْدِيبِ . فَأَمَّا الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الشَّرِكَةُ فِيمَا يُسْتَحَقُّ بِهِ تَمَلُّكُ رِقَابٍ فَكَالشُّفْعَةِ يُسْتَحَقُّ بِهَا مِلْكُ مَا وَجَبَ فِيهِ الشُّفْعَةُ . وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الشَّرِكَةُ فِيمَا يُسْتَحَقُّ بِهِ اسْتِهْلَاكُ رِقَابٍ فَكَالْقِصَاصِ يَجِبُ بِتَنَاوُلِهِ إِتْلَافُ مَا وَجَبَ فِيهِ الْقِصَاصُ . وَأَمَّا الثَّالِثُ أَنْ تَكُونَ الشَّرِكَةُ فِيمَا يُسْتَحَقُّ بِهِ تَأْدِيبُ رِقَابٍ كَحَدِّ الْقَذْفِ يَجِبُ بِهِ تَأْدِيبُ مَنْ كَانَ مِنْهُ الْقَذْفُ .

فَصْلٌ : ثُمَّ إِنَّ الْمُزَنِيَّ ذَكَرَ أَحْوَالَ الْقِسْمَةِ فِي الْأَمْوَالِ الْمُشْتَرَكَةِ ، وَجُمْلَةُ الْأَمْوَالِ الْمُشْتَرَكَةِ أَنَّهَا اقْتِسَامُ الشَّرِكَةِ بِهَا عَلَى أَصْنَافٍ أَرْبَعَةٍ :

أَحَدُهَا : مَا تَصِحُّ فِيهِ الْقِسْمَةُ صُلْحًا وَجَبْرًا ، وَهُوَ مَا تَسَاوَتْ أَجْزَاؤُهُ مِنَ الدُّورِ وَالْأَرَضِينَ وَالْأَدْهَانِ وَالْحُبُوبِ . وَالثَّانِي : مَا لَا تَصِحُّ فِيهِ الْقِسْمَةُ صُلْحًا وَلَا جَبْرًا كَاللُّؤْلُؤِ وَالْجَوَاهِرِ لِمَا فِيهَا مِنَ اخْتِلَافِ قِيمَتِهِ وَاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهِ . وَالثَّالِثُ : مَا تَصِحُّ فِيهِ الْقِسْمَةُ صُلْحًا وَلَا تَصِحُّ جَبْرًا الْأَرْضُ وَالْعَقَارُ إِذَا اخْتَلَفَتْ قِيمَةُ أَمَاكِنِهِ وَدَخَلَ الرَّدُّ فِي قِسْمَتِهِ فَإِنْ تَرَاضَى الشَّرِيكَانِ فِي هَذَا النَّوْعِ الَّذِي يَدْخُلُهُ الرَّدُّ عَلَى إِدْخَالِ الْقُرْعَةِ وَأَخْذِ مَا خَرَجَ بِهَا فَهَلْ يَلْزَمُهُمَا ذَلِكَ إِذَا خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ أَمْ يَكُونَا عَلَى خِيَارِهِمَا ، عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَهَكَذَا لَوِ اسْتَقَرَّتِ الْقِيمَةُ عَلَى فَصْلِ مِسَاحَةِ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْقُرْعَةِ فِي الْتِزَامِ مَا خَرَجَ بِهَا وَيَكُونَا بَعْدَ خُرُوجِ الْقُرْعَةِ عَلَى خِيَارِهِمَا قَبْلَ الْقُرْعَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَدْ لَزِمَهُمَا ذَلِكَ لِمَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَا تَصِحُّ فِيهِ الْقِسْمَةُ صُلْحًا ، وَفِي دُخُولِ الْقِسْمَةِ فِيهِ جَبْرًا قَوْلَانِ ، وَذَلِكَ مَا تَسَاوَتْ أَجْزَاؤُهُ وَتَمَاثَلَتْ قِيمَتُهُ مِنَ الثِّيَابِ وَالْعَبِيدِ إِنْ تَرَاضَوْا بِالْقِسْمَةِ عَلَيْهِ جَازَ ، وَإِنْ طَلَبَهَا أَحَدُهُمَا فَهَلْ يُجْبَرُ الْآخَرُ عَلَيْهَا فِيهِ قَوْلَانِ . فَأَمَّا الْوَقْفُ فَإِنْ كَانَ فِي الشَّرِكَةِ وَقْفٌ لَمْ يَجُزْ قِسْمَتُهُ بَيْنَ أَرْبَابِهِ سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ رَقَبَةَ الْوَقْفِ مِلْكٌ لِلَّهِ أَوْ عَلَى مِلْكِهِمْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِلْكًا لِلَّهِ فَقِسْمَةُ مَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِمْ لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ كَانَ مِلْكًا لَهُمْ فَهُمْ إِنَّمَا يَمْلِكُوهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِمْ ثُمَّ يَمْلِكُهُ الْبَطْنُ الثَّانِي بَعْدَهُمْ وَالْقِسْمَةُ مَا تَأَبَّدَتْ وَالتَّأْبِيدُ لَا يَسْتَحِقُّونَهُ . فَأَمَّا إِنْ كَانَ بَعْضُ الشَّيْءِ وَقْفًا وَبَعْضُهُ مِلْكًا فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ لَمْ تَجُزْ قِسْمَتُهُ ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا إِقْرَارٌ جَازَتْ قِسْمَتُهُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَالشَّرِكَةُ تَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ عَنْ عَقْدٍ وَاخْتِيَارٍ الشركة . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ عَنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَاخْتِيَارٍ الشركة ، فَأَمَّا مَا كَانَ عَنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَاخْتِيَارٍ فَالشُّرَكَاءُ فِي الْمَوَارِيثِ وَالْمَغَانِمِ وَالْأَوْقَافِ ، وَأَمَّا مَا كَانَ عَنْ عَقْدٍ وَاخْتِيَارٍ فَسَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ عَلَى أَقْسَامِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالَّذِي يُشْبِهُ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ فِي الْعَرْضِ وَلَا فِيمَا يَرْجِعُ فِي حَالِ الْمُفَاصَلَةِ إِلَى الْقِيمَةِ لِتَغَيُّرِ الْقِيَمِ ، وَلَا أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا عَرْضًا وَالْآخَرُ دَنَانِيرَ ، وَلَا تَجُوزُ إِلَّا بِمَالٍ وَاحِدٍ بِالدَّنَانِيرِ أَوْ بِالدَّرَاهِمِ ، فَإِنْ أَرَادَا أَنْ يَشْتَرِكَا وَلَمْ يُمْكِنْهُمَا إِلَّا عَرْضٌ فَإِنَّ الْمَخْرَجَ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يَبِيعَ أَحَدُهُمَا نِصْفَ عَرْضِهِ بِنِصْفِ عَرْضِ صَاحِبِهِ وَيَتَقَابَضَانِ فَيَصِيرَ جَمِيعُ الْعَرْضَيْنِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنَ وَيَكُونَا فِيهِ شَرِيكَيْنِ إِنْ بَاعَا أَوْ حَبَسَا

أَوْ عَارَضَا لَا فْضَلَ فِي ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنْهُمَا ( قَالَ ) وَشَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَجُوزُ بِحَالٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ - وَهَذَا كَمَا قَالَ - : اعْلَمْ أَنَّ مَا كَانَ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ عَنْ عَقْدٍ وَاخْتِيَارٍ عَلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : شَرِكَةُ الْعِنَانِ . وَالثَّانِي : شَرِكَةُ الْعُرُوضِ . وَالثَّالِثُ : شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ . وَالرَّابِعُ : شَرِكَةُ الْمُفَاضَلَةِ . وَالْخَامِسُ : شَرِكَةُ الْجَاهِ . وَالسَّادِسُ : شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ شَرِكَةُ الْعِنَانِ معناها فَهِيَ : أَنْ يُخْرِجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالًا مِثْلَ مَالِ صَاحِبِهِ وَيَخْلِطَاهُ فَلَا يَتَمَيَّزُ وَيَأْذَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ أَنْ يَتَّجِرَ بِالْمَالِ فِيمَا رَأَى مِنْ صُنُوفِ الْأَمْتِعَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ وَالْخُسْرَانُ كَذَلِكَ فَهَذِهِ أَصَحُّ الشِّرْكِ ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ لِمَا سُمِّيَتْ شَرِكَةَ الْعِنَانَ ، قَالَ قَوْمٌ : لِأَنَّهُمَا قَدِ اسْتَوَيَا فِي الْمَالِ مَأْخُوذًا مِنَ اسْتِوَاءِ عِنَانِ الْفَرَسَيْنِ إِذَا تَسَابَقَا ، وَقَالَ آخَرُونَ : إِنَّمَا سُمِّيَتْ شَرِكَةَ الْعِنَانِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ جَعَلَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَتَّجِرَ فِيمَا عَنَّ لَهُ أَيْ عَرَضَ . وَقَالَ آخَرُونَ : إِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي جَمِيعِ الْمَالِ كَمَا يَمْلِكُ عِنَانَ فَرَسِهِ فَيَصْرِفُهُ كَيْفَ يَشَاءُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ شَرِكَةُ الْعُرُوضِ معناها وحكمها فَهُوَ أَنْ يُخْرِجَ هَذَا مَتَاعًا فَيُقَيِّمَهُ وَيُخْرِجَ هَذَا مَتَاعًا فَيُقَيِّمَهُ ثُمَّ يَشْتَرِكَانِ بِالْقِيمَتَيْنِ لِيَكُونَ الْمَتَاعَانِ بَيْنَهُمَا إِنْ رَبِحَا فِيهِ كَانَ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ خَسِرَا فِيهِ كَانَ الْخُسْرَانُ عَلَيْهِمَا فَهَذِهِ شَرِكَةٌ بَاطِلَةٌ سَوَاءٌ كَانَ الْعَرْضَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ جِنْسَيْنِ لِأَمْرَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ يَزِيدُ قِيمَةُ الْعَرْضِ الْوَاحِدِ فَيَأْخُذُ الشَّرِيكُ مِنْ رِبْحِهِ قِسْطًا ، وَيَنْقُصُ فَيَلْتَزِمُ مِنْ خُسْرَانِهِ قِسْطًا وَلَمْ يَمْلِكْ مِنْهُ شَيْئًا . وَالثَّانِي : أَنَّهُمَا إِنْ أَرَادَا رَدَّ قِيمَتِهِ عِنْدَ فَصْلِ الشَّرِكَةِ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَزِيدَ قِيمَتُهُ زِيَادَةً تَسْتَوْعِبُ الرِّبْحَ كُلَّهُ ، وَإِنْ أَرَادَا رَدَّ قِيمَتِهِ فَهِيَ غَيْرُ مَا اشْتَرَكَا فِيهِ فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ بُطْلَانِ شَرِكَةِ الْعُرُوضِ فَلِابْنِ أَبِي لَيْلَى كَلَامٌ ، فَقَدْ ذَكَرَ الْمُزَنِيُّ فِي صِحَّةِ الشَّرِكَةِ فِيهَا طَرِيقًا ، وَذَكَرَ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِنَا طَرِيقًا ثَانِيًا ، وَذَكَرَ الْبَصْرِيُّونَ طَرِيقًا ثَالِثًا . فَأَمَّا طَرِيقَةُ الْمُزَنِيِّ : فَهُوَ أَنْ يَبِيعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ عَرْضِهِ بِنِصْفِ عَرْضِ صَاحِبِهِ وَيَتَقَابَضَاهُ فَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَرْضَيْنِ شَرِكَةً بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ثُمَّ يَأْذَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فِي التِّجَارَةِ فَهَذِهِ طَرِيقَةُ صِحَّةِ الشَّرِكَةِ فِي الْعُرُوضِ إِذَا لَمْ يَتَبَايَعَا عَلَى شَرْطِ الشَّرِكَةِ . وَأَمَّا طَرِيقَةُ الْبَغْدَادِيِّينَ فَهِيَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي شِرَاءِ مَتَاعٍ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِمَا ثُمَّ يَدْفَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَرْضًا بِمَا عَلَيْهِ مِنْ ثَمَنِ الْمَتَاعِ ، وَهَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ طَرِيقَةً إِلَى صِحَّةِ الشَّرِكَةِ فَلَيْسَتْ شَرِكَةً فِي الْعُرُوضِ وَإِنَّمَا هِيَ شَرِكَةٌ فِي الْمَتَاعِ بِثَمَنٍ فِي الذِّمَّةِ فَإِنَّ الْعَرْضَ عِوَضٌ فِيهِ . وَأَمَّا طَرِيقَةُ الْبَصْرِيِّينَ : فَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ عَرْضِ صَاحِبِهِ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ يَتَقَابَضَانِ الثَّمَنَ أَوْ يَتَبَادَلَانِهِ ، فَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَرْضَيْنِ شَرِكَةً بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَهَذِهِ مُزَنِيَّةٌ مِنْ طَرِيقَةِ الْمُزَنِيِّ فَتَصِحُّ الشَّرِكَةُ فِي الْعُرُوضِ فِي هَذِهِ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ ، وَلَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا إِذَا اشْتَرَكَا فِي الْعُرُوضِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنِ الْمُزَنِيِّ هَلْ يُفْتَقَرُ إِلَى الْعِلْمِ بِقِيمَةِ الْعَرْضَيْنِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا يَفْتَقِرَانِ إِلَى الْعِلْمِ بِالْقِيمَةِ لِيَعْلَمَا مَا يَحْصُلُ لَهُمَا مِنْ فَضْلٍ أَوْ يَرْجِعُ عَلَيْهِمَا مِنْ عَجْزٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُمَا لَا يَفْتَقِرَانِ إِلَى الْعِلْمِ بِقِيمَةِ الْعَرْضَيْنِ لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَسَاوَيَا فِي مِلْكِهِ تَسَاوَيَا فِي رِبْحِهِ فَلَمْ يَكُنْ بِهِمَا حَاجَةٌ إِلَى تَمْيِيزِ الرِّبْحِ مِنَ الْأَصْلِ . فَأَمَّا عَلَى الطَّرِيقَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ فَلَا يَلْزَمُ ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ هُوَ الثَّمَنُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ بِهِ فَهَذَا فِيمَا لَا يَتَمَاثَلُ أَجْزَاؤُهُ ، فَأَمَّا الَّذِي يَتَمَاثَلُ أَجْزَاؤُهُ وَلَا يَخْتَلِفُ مِثْلُ الْحُبُوبِ وَالْأَدْهَانِ الْمُتَّفِقَةِ فِي النَّوْعِ وَالصِّفَةِ إِذَا أَخْرَجَ أَحَدُهُمَا قَدْرًا فِيهَا كَأَنْ أَخْرَجَ كَذَا مِنْ حِنْطَةٍ عَلَى صِفَةٍ وَأَخْرَجَ الْآخَرُ كَذَا مِنْ حِنْطَةٍ عَلَى مِثْلِ تِلْكَ الصِّفَةِ وَخَلَطَاهَا لِيَكُونَ شَرِكَةً بَيْنَهُمَا وَيَرُدَّانِ مِثْلَهُ عِنْدَ الْمُفَاضَلَةِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا شَرِكَةٌ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ مُعَرَّضٌ لِزِيَادَةِ الْقِيمَةِ وَنَقْصِهَا كَالْعُرُوضِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا : أَنَّهَا شَرِكَةٌ جَائِزَةٌ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَتَمَيَّزُ عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ وَيُمْكِنُ الرُّجُوعُ إِلَى مِثْلِهِ عِنْدَ الِانْفِصَالِ فَأَشْبَهَهُ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ ، وَزِيَادَةُ السِّعْرِ تَرْجِعُ إِلَيْهَا وَنَقْصُهُ يَعُودُ عَلَيْهَا ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَعْلَى قِيمَةً مِنَ الْآخَرِ وَيُخَالِفُهُ فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ لَمْ تَجُزِ الشَّرِكَةُ بِهِ وَجْهًا وَاحِدًا لِتَمَيُّزِهِ إِذَا خُلِطَ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ معناها وحكمها فَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي النَّاضِّ مِنْ أَمْوَالِهَا كُلِّهِ دُونَ الْعُرُوضِ لِيَرُدَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ نِصْفَ كَسْبِهِ مِنَ الْمَالِ وَغَيْرِهِ ، فَهَذِهِ شَرِكَةٌ بَاطِلَةٌ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى : لَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا يَكُونُ بَاطِلًا إِنْ لَمْ تَكُنْ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ بَاطِلَةً . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ إِنَّ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ جَائِزَةٌ إِذَا اسْتَوَى الْمَالَانِ وَكَانَا مُسْلِمَيْنِ وَيَدْخُلُ فِيهَا جَمِيعُ الْكَسْبِ إِلَّا الْمِيرَاثَ وَيَلْزَمُ فِيهَا غُرْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا إِلَّا الْجِنَايَةَ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [ الْمَائِدَةِ : 1 ] وَهَذَا عَقْدٌ فَلَزِمَهُمَا بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْوَفَاءُ بِهِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُ قَالَ الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُمَا مَا شَرَطَاهُ قَالَ : وَلِأَنَّهُ نَوْعُ شَرِكَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا مَا يَصِحُّ كَشَرِكَةِ الْعِنَانِ ، وَلِأَنَّ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ أَعَمُّ مِنْ شَرِكَةِ الْعِنَانِ فَعُمُومُ الشَّرِكَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ شَرِكَةَ الْعِنَانِ قَدْ تَكُونُ خَاصَّةً فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ وَتَكُونُ تَارَةً عَامَّةً إِذَا تَشَارَطَا التِّجَارَةَ فِي كُلِّ نَوْعٍ ، فَلَمَّا جَازَتْ فِي حَالِ عُمُومِهَا كَجَوَازِهَا فِي حَالِ خُصُوصِهَا كَذَلِكَ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ تَجُوزُ وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً كَجَوَازِ غَيْرِهَا مِنَ الشِّرَكِ الْخَاصَّةِ ، وَلِأَنَّ الرِّبْحَ فِي الْأَمْوَالِ قَدْ يُقَابِلُ الْمَالَ تَارَةً كَالشَّرِكَةِ وَقَدْ يُقَابِلُ الْعَمَلَ تَارَةً كَالْمُضَارَبَةِ ، وَالرِّبْحُ فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُقَابِلًا لِلْمَالِ أَوْ لِلْعَمَلِ وَلِأَيِّهِمَا قَابَلَ وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ . وَدَلِيلُنَا نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْغَرَرِ ، وَلَا غَرَرَ أَعْظَمُ مِنَ الْمُفَاوَضَةِ فِيمَا يَدْخُلُ كَسْبًا أَوْ يَخْرُجُ غُرْمًا لِأَنَّهَا شَرِكَةٌ لَا تَصِحُّ مَعَ تَفَاضُلِ الْمَالِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ مَعَ تَسَاوِي أَصْلِهِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُكَاتَبًا أَوْ ذِمِّيًّا ، وَلِأَنَّ كُلَّ شَرِكَةٍ لَا تَصِحُّ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ وَالْحُرِّ وَالْمُكَاتَبِ لَا تَصِحُّ بَيْنَ الْحُرَّيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ ، أَصْلُهُ إِذَا تَفَاضَلَا فِي الْمَالِ ؛ وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَتَفَرَّعْ عَنْ أَصْلٍ تَنَاوَلَهُ عَقْدُ الشَّرِكَةِ لَمْ تَصِحَّ فِيهِ الشَّرِكَةُ كَالْمِيرَاثِ ، وَلِأَنَّهَا شَرِكَةٌ لَا تَصِحُّ مَعَ مُخْتَلِفَيِ الدِّينَيْنِ فَلَمْ تَصِحَّ مَعَ مُتَّفِقَيِ الدِّينَيْنِ كَشَرِكَةِ الْعُرُوضِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فَهُوَ أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِنَهْيِهِ عَنِ الْغَرَرِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى شَرِكَةِ الْعِنَانِ فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِاشْتِرَاكِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَاءِ

إِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ جَمَلٌ وَلِلْآخَرِ سِقَاءٌ وَالثَّالِثُ عَامِلٌ بِيَدَيْهِ لِيَكُونُوا شُرَكَاءَ فِي الْكَسْبِ فَهُوَ نَوْعُ شَرِكَةٍ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَصِحُّ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي شَرِكَةِ الْعِنَانِ جَوَازُهَا بَيْنَ مُخْتَلِفَيِ الدِّينَيْنِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ عُمُومَهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهَا ، فَهُوَ أَنَّنَا لَمْ نَمْنَعْ مِنْهَا لِعُمُومِهَا وَإِنَّمَا مَنَعْنَا مِنْهَا لِدُخُولِ الْغَرَرِ فِيهَا ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الرِّبْحَ قَدْ يُقَابِلُ الْمَالَ تَارَةً وَالْعَمَلَ أُخْرَى فَهُوَ أَنَّهُ يَصِحُّ إِذِ انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَقْدٍ ، فَأَمَّا إِذَا اجْتَمَعَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَلَا ، وَهَاهُنَا وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَبَطَلَ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ شَرِكَةُ الْمُفَاضَلَةِ معناها وحكمها وَهُوَ أَنْ يَتَفَاضَلَا فِي الْمَالِ وَيَتَسَاوَيَا فِي الرِّبْحِ أَوْ يَتَسَاوَيَا فِي الْمَالِ وَيَتَفَاضَلَا فِي الرِّبْحِ فَهَذِهِ شَرِكَةٌ بَاطِلَةٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هِيَ شَرِكَةٌ جَائِزَةٌ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنُونُ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ قَالَ : وَلِأَنَّ عَقْدَ الشَّرِكَةِ كَالْمُضَارَبَةِ ، وَلِأَنَّ الْعَمَلَ فِي الْمُضَارَبَةِ بِمَنْزِلَةِ مَالِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الشَّرِكَةِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مُقَابَلَةِ جُزْءٍ مِنَ الرِّبْحِ فَلَمَّا جَازَ فِي الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَشْتَرِطَ أَحَدُهُمَا مِنَ الرِّبْحِ أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ كَذَلِكَ فِي الشَّرِكَةِ ، وَلِأَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ قَدْ يَكُونُ أَكْثَرَ عَمَلًا فَيَسْتَحِقُّ مَعَ قِلَّةِ مَالِهِ لِأَجْلِ عَمَلِهِ أَكْثَرَ رِبْحًا . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ التَّفَاضُلَ فِي الْمَالِ يَمْنَعُ مِنَ التَّسَاوِي فِي الرِّبْحِ ، أَصْلُهُ إِذَا أَطْلَقَا الْعَقْدَ . وَلِأَنَّ الشَّرِكَةَ قَدْ تُفْضِي إِلَى الرِّبْحِ تَارَةً وَإِلَى الْخُسْرَانِ تَارَةً أُخْرَى فَلَمَّا كَانَ الْخُسْرَانُ يُقَسَّطُ عَلَى الْمَالِ وَلَا يَتَغَيَّرُ بِالشَّرْطِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الرِّبْحِ مِثْلُهُ يَتَقَسَّطُ عَلَى الْمَالِ وَلَا يَتَغَيَّرُ بِالشَّرْطِ وَقَدْ يَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الرِّبْحَ أَحَدُ مُوجِبَيِ الْعَقْدِ فَوَجَبَ إِذَا كَانَ شَرْطُهُ مُخَالِفًا لِمُطْلَقِهِ أَنْ يَبْطُلَ الْعَقْدُ كَالْخُسْرَانِ . وَالثَّانِي : أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ لَوْ كَانَ فِي الْخُسْرَانِ بَطَلَ بِهِ الْعَقْدُ وَوَجَبَ إِذَا كَانَ فِي الرِّبْحِ أَنْ يَبْطُلَ بِهِ الْعَقْدُ ، أَصْلُهُ إِذَا شَرَطَ بَيْنَهُمَا الْأَجْنَبِيُّ وَلِأَنَّهُ نَمَاءُ مَالٍ مُودَعٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُقَسَّطًا عَلَى تَفَاضُلِ الْمَالِ كَالْمَاشِيَةِ وَالثَّمَرَةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ فَقَدْ قَالَ فِيهِ إِلَّا شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْمُضَارَبَةِ فَالْمَعْنَى فِي الْمُضَارَبَةِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ إِطْلَاقُهَا يَقْتَضِي تَسَاوِيَهَا فِي الرِّبْحِ جَازَ أَنْ يَتَشَارَطَا التَّفَاضُلَ فِي الرِّبْحِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الشَّرِكَةُ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ عَمَلَ أَحَدِهِمَا قَدْ يَكُونُ أَكْثَرَ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ : لِأَنَّ الْعَمَلَ فِي الشَّرِكَةِ لَا يُقَابِلُ شَيْئًا مِنَ الرِّبْحِ أَلَا تَرَى

أَنَّهُمَا لَوْ أَطْلَقَا الشَّرِكَةَ لَمْ يَتَقَسَّطِ الرِّبْحُ عَلَى الْعَمَلِ وَلَا اسْتَحَقَّ عِوَضًا فِيهِ فَبَطَلَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا فَشَرِكَةُ الْمُفَاضَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْمَالَيْنِ وَيَتَفَاضَلَا فِي الرِّبْحَيْنِ ، مِثَالُهُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَهَذِهِ شَرِكَةٌ بَاطِلَةٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَتَفَاضَلَا فِي الْمَالَيْنِ وَيَتَسَاوَيَا فِي الرِّبْحَيْنِ مِثَالُهُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَهُوَ شَرِكَةٌ بَاطِلَةٌ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَتَفَاضَلَا فِي الْمَالَيْنِ وَيَتَفَاضَلَا بِحَسْبِهِ فِي الرِّبْحَيْنِ ، مِثَالُهُ : أَنْ يَكُونَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا لِأَحَدِهِمَا ثُلُثَانِ وَلِلْآخَرِ ثُلْثُهُ ، وَيَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا لِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ ثُلُثَاهُ ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثُلُثُهُ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ جَوَازُ هَذِهِ الشَّرِكَةِ لِأَنَّ الرِّبْحَ فِيهَا مُقَسَّطٌ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ ذَهَبَ إِلَى بُطْلَانِهَا حَتَّى يَتَسَاوَى الشَّرِيكَانِ فِي رَأْسِ الْمَالِ ، وَتَعَلَّقَ بِقَوْلِ الْمُزَنِيِّ وَالشَّرِكَةُ الصَّحِيحَةُ أَنْ يُخْرِجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِثْلَ دَنَانِيرِ صَاحِبِهِ وَيَخْلِطَانِهَا فَيَكُونَانِ فِيهَا شَرِيكَيْنِ فَجُعِلَ قَوْلُهُ مِثْلَ دَنَانِيرِ صَاحِبِهِ مَحْمُولًا عَلَى مِثْلِهَا فِي الْقَدْرِ وَهَذَا تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ لِأَنَّ مُرَادَهُ بِالْمِثْلِ إِنَّمَا هُوَ الْمِثْلُ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ دُونَ الْعَقْدِ وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ شَرِكَةُ الْمُفَاضَلَةِ فِي الضَّرْبَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَهَلْ يَكُونُ شَرْطُ التَّفَاضُلِ فِيهَا مُوجِبًا لِبُطْلَانِ الشَّرِكَةِ بِمَعْنَى بُطْلَانِ الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ بِالْمَالِ الْمُشْتَرَكِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ بَطَلَ الْإِذْنُ لِبُطْلَانِ الشَّرْطِ فِيهِ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي جَمِيعِ الْمَالِ ، فَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ كَانَ كَمَنْ تَصَرَّفَ فِي مَالٍ مُشْتَرَكٍ عَنْ شَرِكَةٍ فَاسِدَةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ اشْتِرَاطَ التَّفَاضُلِ بِالشَّرْطِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْإِذْنِ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَّجِرَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ الْمَالِ وَيَكُونُ الرِّبْحُ مَقْسُومًا بِالْحِصَصِ ، فَلَوْ كَانَ ثُلُثُ الْمَالِ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ وَثُلُثَاهُ لِلْآخَرِ فَشَرَطَا أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عَلَى أَنْ يَنْفَرِدَ بِالتِّجَارَةِ صَاحِبُ الثُّلُثِ وَحْدَهُ جَازَ وَكَانَتْ هَذِهِ شَرِكَةَ مُضَارَبَةٍ بِالْبَدَنِ لِأَنَّ الْعَامِلَ يَأْخُذُ الثُّلُثَ بِمُلْكِهِ وَتَمَامَ النِّصْفِ بِعَمَلِهِ وَخَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْمُفَاضَلَةِ إِلَى حُكْمِ الْمُضَارَبَةِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الْخَامِسُ وَهُوَ شَرِكَةُ الْجَاهِ وَتُسَمَّى شَرِكَةَ الْوُجُوهِ معناها وحكمها فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ ذَا جَاهٍ فَيَقُولَانِ عَلَى جَاهِنَا وَنَشْتَرِي مَتَاعًا وَالرِّبْحُ بَيْنَنَا فَهَذِهِ شَرِكَةُ الْجَاهِ وَتُسَمَّى شَرِكَةَ الْوُجُوهِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَ شَرِكَةَ الْجَاهِ مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ إِذَا كَانَ الْجَاهُ لِأَحَدِهِمَا ، وَشَرِكَةَ الْوُجُوهِ إِذَا كَانَ الْجَاهُ لَهُمَا ، وَهَذَا خِلَافٌ فِي الْعِبَارَةِ وَالْحُكْمُ فِيهَا سَوَاءٌ وَهِيَ شَرِكَةٌ بَاطِلَةٌ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هِيَ شَرِكَةٌ جَائِزَةٌ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهَا نَوْعُ شَرِكَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا مَا يَصِحُّ كَشَرِكَةِ الْعِنَانِ .

وَدَلِيلُنَا أَنَّهَا شَرِكَةٌ فِي غَيْرِ مَالٍ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ بَاطِلَةً كَالشَّرِكَةِ فِي الِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِشَاشِ عَلَى أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ وَسَنَذْكُرُ الْحِجَاجَ فِيهَا ، وَقَدْ مَضَى الْجَوَابُ عَنِ الْقِيَاسِ عَلَى شَرِكَةِ الْعِنَانِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ شَرِكَةَ الْجَاهِ لَا تَصِحُّ فَلَا يَخْلُو حَالُ مُشْتَرِي الْمَتَاعِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَشْتَرِيَ لِصَاحِبِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَشْتَرِيَهُ بَيْنَهُمَا فَإِنِ اشْتَرَاهُ بِنَفْسِهِ صَحَّ شِرَاؤُهُ وَصَارَ مِلْكًا لَهُ إِنْ رَبِحَ فَالرِّبْحُ لَهُ وَإِنْ خَسِرَ فَالْخُسْرَانُ عَلَيْهِ وَلَا شَيْءَ لِلْآخَرِ فِي رِبْحِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي خُسْرَانِهِ ، وَإِنِ اشْتَرَاهُ كُلَّهُ لِصَاحِبِهِ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَذِنَ لَهُ فِي شِرَاءِ نِصْفِهِ وَيَكُونُ الشِّرَاءُ لَازِمًا لَهُ فِي النِّصْفِ الزَّائِدِ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي أُذِنَ فِيهِ ، فَأَمَّا النِّصْفُ الْمَأْذُونُ فِيهِ فَيَلْزَمُ الْأَمْرُ عَلَى شُرُوطِهِ الَّتِي نَذْكُرُهَا وَلَا يَخْرُجُ عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ : لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لَمْ تَخْتَلِفْ فِي الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ ، وَإِنِ اشْتَرَاهُ بَيْنَهُمَا فَهُوَ فِي النِّصْفِ مُشْتَرٍ لِنَفْسِهِ فَلَزِمَهُ ذَلِكَ وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ فِي حُكْمِ الْمُشْتَرِي لِمُوَكِّلِهِ فَيَصِحُّ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ وَصَفَ لَهُ النَّوْعَ الَّذِي يَتَّجِرُ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ نَوْعًا أَوْ أَنْوَاعًا لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي شِرَاءِ مَا لَمْ يُوصَفْ بَاطِلٌ . وَالثَّانِي : أَنْ يُقَدِّرَ لَهُ الْمَالَ الَّذِي يَشْتَرِي بِهِ ؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يُقَدِّرْهُ فَلَا نِهَايَةَ لَهُ بِخِلَافِ شَرِكَةِ الْمَالِ وَالْمُضَارَبَةِ الْمُقَدَّرَتَانِ بِالْمَالِ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَقْدِيرِهِمَا بِالذِّكْرِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَنْوِيَ فِي عَقْدِ الشِّرَاءِ أَنَّهُ لَهُ وَلِصَاحِبِهِ : لِأَنَّ مِلْكَ الْمَبِيعِ لَا يَنْتَقِلُ عَنِ الْمُشْتَرِي إِلَى مُوَكِّلِهِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ سَوَاءٌ كَانَ الْمَأْذُونُ فِي ابْتِيَاعِهِ مُعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ لَمْ يَصِحَّ الشِّرَاءُ لِلْمُوَكِّلِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ ، وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا كَقَوْلِهِ اشْتَرِ هَذَا الْعَبْدَ صَحَّ الشِّرَاءُ لِلْمُوكِّلِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ وَهَذَا فَرْقٌ يُوجِبُ الْقِيَاسَ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا إِلَّا أَنَّهُ اشْتَرَى لِغَيْرِ الْعَاقِدِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مِنْ شُرُوطِهِ النِّيَّةُ ، أَصْلُهُ مَا كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ ، وَأَمَّا مَا يَشْتَرِيهِ الْمُضَارِبُ وَالشَّرِيكُ فَيَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ فِي أَنَّهُ فِي حَالِ الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ فَإِذَا صَحَّ الشِّرَاءُ لَهُمَا عَلَى الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ كَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَالْخُسْرَانُ إِنْ كَانَ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ ، ثُمَّ لِلْمُشْتَرِي عَلَى شَرِيكِهِ نِصْفُ أُجْرَةِ مِثْلِهِ فِيمَا اشْتَرَى وَبَاعَ لِأَنَّهُ عُمِلَ فِي مَالِهِ وَمَالِ غَيْرِهِ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ شَرِكَةٍ فَاسِدَةٍ إِذَا حَصَلَ الرِّبْحُ فِيهَا بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ وَكَانَ الْعَمَلُ لَهُمَا رَجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ أُجْرَةِ مِثْلِهِ ، فَإِنْ تَسَاوَيَا تَقَاصَّا وَإِنْ تَفَاضَلَا تَرَادَّا الْفَضْلَ وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ لِأَحَدِهِمَا كَانَ لِلْعَامِلِ عَلَى الْآخَرِ نِصْفُ أُجْرَةِ مِثْلِهِ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ أُجْرَةٌ فِي عَمَلِهِ لِأَنَّ الْعَمَلَ فِي الشَّرِكَةِ لَا يُقَابِلُ شَيْئًا مِنَ الرِّبْحِ فَلَمْ يَكُنْ لِوُجُودِهِ تَأْثِيرٌ وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ حُكْمَ الشَّرِكَةِ إِذَا زَالَ بِفَسَادِهَا غَلَبَ فِيهَا حُكْمُ الْوَكَالَةِ عَلَى عِوَضٍ فَاسِدٍ وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِأُجْرَةِ الْمِثْلِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ السَّادِسُ وَهُوَ شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ معناها وحكمها : وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَ صَانِعَانِ لِيَعْمَلَا بِأَبْدَانِهِمَا وَيَشْتَرِكَانِ فِي كَسْبِهِمَا فَهَذِهِ شَرِكَةٌ بَاطِلَةٌ وَقَالَ مَالِكٌ : تَجُوزُ إِذَا كَانَا مُتَّفِقَيِ الصَّنْعَةِ وَلَا تَجُوزُ إِذَا كَانَا مُخْتَلِفَيِ الصَّنْعَةِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَجُوزُ مَعَ اتِّفَاقِ الصَّنْعَةِ وَاخْتِلَافِهَا وَلَا تَجُوزُ فِي الْأَعْيَانِ الْمُسْتَفَادَةِ بِالْعَمَلِ كَالِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِطَابِ . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : تَجُوزُ فِي كُلِّ ذَلِكَ حَتَّى فِي الِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِشَاشِ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمُ اشْتَرَكُوا فِيمَا يَغْنَمُونَهُ يَوْمَ بَدْرٍ ، فَغَنِمَ سَعْدٌ بَعِيرَيْنِ وَقِيلَ بَلْ أَسَرَ أَسِيرَيْنِ وَلَمْ يَغْنَمِ الْآخَرَانِ شَيْئًا وَاقْتَسَمُوا هَذِهِ الشَّرِكَةَ فِي الْأَبْدَانِ لَا فِي الْأَمْوَالِ ، وَقَالُوا وَلِأَنَّ النَّاسَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى وَقْتِنَا هَذَا يَتَشَارَكُونَ بِأَبْدَانِهِمْ فَلَا يَتَنَاكَرُونَهُ وَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِمْ فَصَارَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ ، وَلِأَنَّهُ نَوْعُ شَرِكَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا مَا يَصِحُّ كَشَرِكَةِ الْأَمْوَالِ ، وَلِأَنَّ عَمَلَ الْبَدَنِ أَصْلًا قَدْ يُسْتَفَادُ بِهِ الْمَالُ إِذَا انْفَرَدَ وَالْمَالُ فَرْعٌ عَلَيْهِ لَا يُسْتَفَادُ بِهِ النَّمَاءُ إِلَّا مَعَ الْعَمَلِ فَلَمَّا صَحَّتِ الشَّرِكَةُ فِي الْأَمْوَالِ فَأَوْلَى أَنْ تَصِحَّ فِي أَعْمَالِ الْأَبْدَانِ ، وَلِأَنَّ الْعَامِلَ فِي الْقِرَاضِ شَرِيكٌ بِبَدَنِهِ فِي مَالٍ غَيْرِ مُمَاثِلٍ لِعَمَلِهِ فَكَانَتِ الشَّرِكَةُ فِي أَعْمَالِ الْأَبْدَانِ الْمُمَاثِلَةِ أَوْلَى . وَدَلِيلُنَا نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْغَرَرِ ، وَشَرِكَةُ الْأَبْدَانِ غَرَرٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْمَلُ أَحَدُهُمَا وَلَا يَعْمَلُ الْآخَرُ ، وَقَدْ يَعْمَلُ أَحَدُهُمَا أَقَلَّ مِنَ الْآخَرِ وَلِأَنَّهَا شَرِكَةٌ عَرِيَتْ عَنْ مُشْتَرِكٍ فِي الْحَالِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ بَاطِلَةً ، أَصْلُهُ إِذَا اشْتَرَكَا فِيمَا يَسْتَوْهِبَانِهِ . وَلِأَنَّهَا شَرِكَةٌ فِي مَنَافِعِ أَعْيَانٍ مُتَمَيِّزَةٍ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ بَاطِلَةً إِذَا اشْتَرَكَا فِي بَعِيرَيْنِ لَا يُؤَجِّرَاهُمَا وَيَشْتَرِكَا فِي أُجْرَتِهِمَا : وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ هُوَ الْعَمَلُ كَمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرِكَةِ الْأَمْوَالِ هُوَ الْمَالُ فَلَمَّا كَانَتِ الْجَهَالَةُ بِقَدْرِ الْمَالِ فَوَجَبَ فَسَادُ الشَّرِكَةِ وَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْجَهَالَةُ بِالْعَمَلِ تُوجِبُ فَسَادَ الشَّرِكَةِ ، وَالْعَمَلُ مَجْهُولٌ بِكُلِّ حَالٍ لِأَنَّ مَا يَعْمَلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرَ مُقَدَّرٍ ، وَقَدْ يَمْرَضُ فَلَا يَعْمَلُ ، وَيَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : هُوَ أَنَّ وُقُوعَ الْجَهَالَةِ بِحِصَّةِ كُلٍّ مِنْهُمَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الشَّرِكَةِ كَمَا لَوْ خَلَطَا مَالَيْنِ لَا يَعْرِفَانِ قَدْرَهُمَا . وَالثَّانِي : هُوَ أَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ لَوْ كَانَتْ فِي الْأَمْوَالِ بَطَلَتْ بِالْجَهَالَةِ فَوَجَبَ إِذَا كَانَتْ فِي الْأَعْمَالِ أَنْ تَبْطُلَ بِالْجَهَالَةِ ، أَصْلُهُ إِذَا قَالَ قَدِ اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَبْنِيَ لِي عَلَى أَلَّا أَضْبُعَ لَكَ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ فِي اشْتِرَاكِ سَعْدٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَمَّارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِيمَا يَغْنَمُونَ فَهُوَ أَنَّ حُكْمَ الْغَنِيمَةِ أَنَّ الشَّرِكَةَ فِيهَا وَاقِعَةٌ بِالْعَمَلِ دُونَ الشَّرْطِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْغَانِمِينِ شَرْطٌ كَانَتْ غَنِيمَةُ أَحَدِهِمْ شَرِكَةً بَيْنَهُمْ .

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْإِجْمَاعِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَقْوَالِ لَا مِنَ الْأَفْعَالِ . كَمَا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمْ يَجْعَلْ إِجْمَاعَ النَّاسِ عَلَى أَخْذِ أُجْرَةِ التَّعْلِيمِ فِي الْكَتَاتِيبِ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ فِي تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى شَرِكَةِ الْعِنَانِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ قَبْلُ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ الْعَمَلَ فِي الْكَسْبِ أَصْلٌ وَالْمَالَ فَرْعٌ فَلَمَّا جَازَتِ الشَّرِكَةُ فِي الْفَرْعِ فَأَوْلَى أَنْ تَجُوزَ فِي الْأَصْلِ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ إِنَّمَا بَطَلَتْ لِجَهَالَةِ الْعَمَلِ وَهَذَا مُعْتَبَرٌ فِي شَرِكَةِ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهَا بَطَلَتْ بِجَهَالَةِ الْمَالِ فَاسْتَوَيَا ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْقِرَاضِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْعَمَلَ فِيهِ تَبَعٌ لِلْمَالِ وَجَهَالَةُ الْبَيْعِ لَا تَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ إِذَا كَانَ الْأَصْلُ مَعْلُومًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ لِأَنَّ الْعَمَلَ فِيهَا هُوَ الْأَصْلُ الْمَقْصُودُ فَبَطَلَتْ بِكَوْنِ الْعَمَلِ مَجْهُولًا ، فَإِذَا ثَبَتَ فَسَادُ شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عَمَلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَمَيِّزًا أَوْ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ ، فَإِنْ كَانَ مُتَمَيِّزًا اخْتُصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأُجْرَةِ عَمَلِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ كَانَ مَا حَصَلَ لَهُمَا مِنَ الْكَسْبِ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا عَلَى قُدُورِ أُجُورِ أَمْثَالِهِمَا فَيُصْرَفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْكَسْبِ بِقِسْطِهِ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِهِ .

فَصْلٌ : فَلَوِ اشْتَرَكَ رَجُلَانِ فِي اصْطِيَادِ صَيْدٍ لَمْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ وَمَلَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا انْفَرَدَ بِهِ مِنْ صَيْدِهِ . فَلَوِ اجْتَمَعَا عَلَى صَيْدٍ مَلَكَاهُ جَمِيعًا شركة الأعمال لِاسْتِوَاءِ أَيْدِيهِمَا عَلَيْهِ وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ نِصْفُ أُجْرَةِ مِثْلِهِ ، فَيَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ إِنْ كَانَ وَإِلَّا تَقَاصَّا لِأَنَّ ذَلِكَ مَمْلُوكٌ عَنْ شَرِكَةٍ فَاسِدَةٍ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَنْ عَقْدِ شَرِكَةٍ مَلَكَاهُ وَلَا أُجْرَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ ، وَهَكَذَا لَوْ وَضَعَا شَبَكَةً أَوْ شِرْكًا بَيْنَهُمَا فَوَقَعَ فِيهِ صَيْدٌ مَلَكَاهُ مَعًا وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ نِصْفُ أُجْرَةِ نِصْفِ حِصَّتِهِ مِنَ الشَّبَكَةِ وَذَلِكَ أُجْرَةُ رُبْعِ الشَّبَكَةِ ، فَلَوْ وُكِّلَ رَجُلَانِ فِي اصْطِيَادِ صَيْدٍ أَوِ احْتِشَاشِ حَشِيشٍ جَازَ وَمَلَكَ الْمُوَكِّلُ مَا حُصِّلَ مِنَ الصَّيْدِ وَالْحَشِيشِ بِفِعْلِ الْوَكِيلِ ، وَهَكَذَا لَوِ اسْتَأْجَرَ فِي اصْطِيَادِ صَيْدٍ مَلَكَهُ الْمُسْتَأْجِرُ بِإِجَارَتِهِ وَفَعَلَ فَعَلَيْهِ لِلْأَجِيرِ أُجْرَتُهُ الْمُسَمَّاةُ وَهَكَذَا لَوِ اسْتَأْجَرَهُمْ لِإِحْيَاءِ مَوَاتٍ صَحَّتِ الْإِجَارَةُ وَكَانَ لِلْأُجَرَاءِ فِيمَا أَحْيَوْهُ الْأُجْرَةُ ، وَمَلَكَ الْمُسْتَأْجِرُ الْأَرْضَ بِإِحْيَاءِ الْأَجِيرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ لِلْأَجِيرِ مِلْكٌ يَنْتَقِلُ عَنْهُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا اشْتَرَكَ أَرْبَعَةٌ فِي زِرَاعَةِ أَرْضٍ عَلَى أَنْ تَكُونَ مِنْ أَحَدِهِمُ الْأَرْضُ ، وَمِنَ الْآخَرِ الْبَذْرُ ، وَمِنَ الْآخَرِ بَقَرُ الْحَرْثِ وَمِنَ الْآخَرِ الْعَمَلُ كَانَتْ شَرِكَةً فَاسِدَةً لِأَنَّ الشَّرِكَةَ إِنَّمَا تَصِحُّ فِيمَا لَا يَتَمَيَّزُ إِذَا خُلِطَ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الزَّرْعُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ أُجْرَةُ مِثْلِ الْأَرْضِ وَالْبَقَرِ لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَى عِوَضٍ فَاسِدٍ .

فَصْلٌ : فَلَوِ اشْتَرَكَ أَرْبَعَةٌ فِي طَحْنِ حِنْطَةٍ لِرَجُلٍ بِأُجْرَةٍ مُسَمَّاةٍ ، عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَدِهِمُ الرَّحَا وَمِنَ الْآخَرِ الْبَغْلُ وَمِنَ الْآخَرِ الْبَيْتُ وَمِنَ الْآخَرِ الْعَمَلُ ، فَالْإِجَارَةُ صَحِيحَةٌ لِأَنَّهَا فِي ذِمَمِهِمْ وَالشَّرِكَةُ فَاسِدَةٌ ، فَإِذَا طَحَنُوا فَالْأُجْرَةُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَرْبَعَةِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى

أَصْحَابِهِ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ أُجْرَةِ مَا كَانَ مِنْ جِهَتِهِ ، فَيَرْجِعُ صَاحِبُ الرَّحَى عَلَى الثَّلَاثَةِ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ رَحَاهُ ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ بِالرُّبُعِ ، وَالرُّبُعُ الْآخَرُ يُقَسَّطُ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ هَكَذَا وَصَاحِبُ الْبَغْلِ ، وَصَاحِبُ الْبَيْتِ ، وَصَاحِبُ الْعَمَلِ ، وَلَوْ تَوَلَّى أَحَدُهُمُ الْإِجَارَةَ لِنَفْسِهِ كَانَتِ الْأُجْرَةُ كُلُّهَا لَهُ وَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَمِيعُ أُجْرَةِ مَا كَانَ مِنْ جِهَتِهِ .

فَصْلٌ : وَلَوِ اشْتَرَكَ ثَلَاثَةٌ فِي اسْتِقَاءٍ وَبَيْعِهِ ، لِيَكُونَ مِنْ أَحَدِهِمُ الْبَعِيرُ ، وَمِنَ الْآخَرِ السِّقَاءُ ، وَالْآخَرُ عَامِلٌ بِبَدَنِهِ فِي سَقْيِ الْمَاءِ فَرَوَى الرَّبِيعُ أَنَّ ثَمَنَ الْمَاءِ يَكُونُ لِصَاحِبِهِ الْآخِذِ لَهُ وَعَلَيْهِ لِصَاحِبِ الْبَعِيرِ وَالسِّقَاءِ أُجْرَةُ مِثْلِ الْبَعِيرِ وَالسِّقَاءِ ، وَرَوَى أَبُو عَلِيٍّ الْبُوَيْطِيُّ أَنَّ ثَمَنَ الْمَاءِ يَكُونُ بَيْنَهُمْ عَلَى الشَّرِكَةِ أَثْلَاثًا وَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ عَلَى صَاحِبِهِ ثُلُثَا أُجْرَةِ مَا كَانَ مِنْ جِهَتِهِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخْرِجُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ثَمَنَ الْمَاءِ يَكُونُ لِصَاحِبِهِ الْآخِذِ لَهُ كَالشُّرَكَاءِ فِي الزَّرْعِ يَكُونُ الزَّرْعُ بَيْنَهُمْ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا عَلَى أَصْلِ الشَّرِكَةِ لِأَنَّ الْمَاءَ يَصِيرُ كَرَأْسِ مَالٍ تَسَاوَوْا فِيهِ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا اخْتِلَافُ النَّقْلَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَرِوَايَةُ الرَّبِيعِ أَنَّ ثَمَنَ الْمَاءِ لِآخِذِهِ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ بِالْآخِذِ لِنَفْسِهِ ، وَرِوَايَةُ الْبُوَيْطِيِّ أَنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا عَلَى الشَّرِكَةِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الْآخِذَ لِلشَّرِكَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالشَّرِكَةُ الصَّحِيحَةُ أَنْ يُخْرِجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَنَانِيرَ مِثْلَ دَنَانِيرِ صَاحِبِهِ وَيَخْلِطَاهُمَا فَيَكُونَانِ فِيهَا شَرِيكَيْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّرِكَةَ إِنَّمَا تَصِحُّ فِيمَا يَتَخَلَّطُ فَلَا يَتَمَيَّزُ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ دَرَاهِمَ وَالْآخَرُ دَنَانِيرَ ، وَلَا يُخْرِجُ أَحَدُهُمَا دَنَانِيرَ مَغْرِبِيَّةً وَالْآخَرُ دَنَانِيرَ مَشْرِقِيَّةً ، وَلَا أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا دَنَانِيرَ صِحَاحًا وَالْآخَرُ دَرَاهِمَ مُكَسَّرَةً ، وَلَا أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا دَرَاهِمَ عَلَى ضَرْبِ سِكَّةٍ وَنَقْشٍ يُخَالِفُهَا دَرَاهِمُ الْآخَرِ فِي السِّكَّةِ وَالنَّقْشِ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ يَتَمَيَّزُ بَعْدَ خَلْطِهِ ، وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ الشَّرِكَةَ فِي هَذَا كُلِّهِ لِأَنَّهُ مَالٌ نَاضٌّ فَلَمْ يُؤَثِّرِ اخْتِلَافُ أَوْصَافِهِ فِي الشَّرِكَةِ بِهِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ مَا يَتَمَيَّزُ بَعْدَ خَلْطِهِ لَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ بِهِ كَالْعُرُوضِ فَعَلَى هَذَا لَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ بِالنِّقَادِ وَالسَّبَائِكِ لِتَمَيُّزِهَا وَأَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى الْعُرُوضِ لِمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا مِنْ زِيَادَةِ السِّعْرِ وَنَقْصِهِ حَتَّى تَكُونَ الشَّرِكَةُ فِي دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ مُتَّفِقَةٍ فِي النَّوْعِ وَالصِّفَةِ ، لَا يُخَالِفُ أَحَدُهَا الْأُخْرَى بِصِفَةٍ تَتَمَيَّزُ بِهَا ، فَإِذَا حَصَلَ وَكَانَ مَالُهَا مُشْتَبِهًا لَا يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ فَمِنْ تَمَامِ الشَّرِكَةِ

أَنْ يَخْلِطَا الْمَالَيْنِ وَمَا لَمْ يَخْلِطَاهُ فَهُمَا غَيْرُ شَرِيكَيْنِ فِيهِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَصِحُّ الشَّرِكَةُ وَإِنْ كَانَ مَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا مَعَهُ فِي كِيسٍ وَيَشْتَرِيَانِ مَعًا وَيَدْفَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ دَرَاهِمِهِ ثَمَنَ حِصَّتِهِ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ إِنَّمَا هُوَ وَعْدٌ بِالشَّرِكَةِ ثُمَّ يَسْتَقِرُّ بِالشِّرَاءِ وَدَفْعِ الثَّمَنِ ، فَأَمَّا أَنْ تَكُونَ الشَّرِكَةُ فِي الْمَالِ فَلِأَنَّ الشَّرِكَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الِاشْتِرَاكِ وَالِاخْتِلَاطِ وَمَعَ تَمْيِيزِ الْمَالَيْنِ فَلَا تَكُونُ شَرِكَةٌ وَلَا خُلْطَةٌ .

فَصْلٌ : إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنًا فَقَالَ صَاحِبُ الدَّيْنِ لِمَنْ هِيَ عَلَيْهِ اجْعَلِ الدَّيْنَ الَّذِي لِي عَلَيْكَ شَرِكَةً بَيْنِي وَبَيْنَكَ تُخْرِجُ مِنْ مَالِكَ أَلْفًا بِإِزَائِهَا وَتَتَّجِرُ بِالْأَلْفَيْنِ لِيَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَنَا نِصْفَيْنِ لَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الشَّرِكَةُ لِأَنَّهَا شَرِكَةٌ بِدَيْنٍ ، وَشَرِكَةُ الدَّيْنِ فَاسِدَةٌ حَتَّى يَقْبِضَ صَاحِبُ الدَّيْنِ مَالَهُ وَيُخْرِجَ الْآخَرُ مِثْلَهُ وَيَخْلِطَاهُ فَيَصِيرَا حِينَئِذٍ شَرِيكَيْنِ فَتَصِحُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنِ اشْتَرَيَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ أَحَدُهُمَا دُونَ صَاحِبِهِ ، فَإِنْ جَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ أَنْ يَتَّجِرَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَا رَأَى مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ قَامَ فِي ذَلِكَ مَقَامَ صَاحِبِهِ فَمَا رَبِحَا أَوْ خَسِرَا فَلَهُمَا وَعَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا خَلَطَ الشَّرِيكَانِ مَالَ الشَّرِكَةِ لَمْ يَجُزْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي جَمِيعِهِ وَيَتَّجِرَ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : إِذَا خَلَطَاهُ عَلَى الشَّرِكَةِ أَوِ ابْتَاعَا مَتَاعًا لِلشَّرِكَةِ جَازَ أَنْ يَتَصَرَّفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَمِيعِهِ وَلَمْ يَحْتَجْ لِلْإِذْنِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِي مَوْضُوعِ اللَّفْظِ وَمَقْصُودِ الشَّرِكَةِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ خَلْطَ الْمَالِ لَا يُفِيدُ أَكْثَرَ مِنَ الشَّرِكَةِ فِيهِ ، وَحُدُوثُ الشَّرِكَةِ فِي الْمَالِ لَا يُوجِبُ التَّصَرُّفَ فِي جَمِيعِهِ كَمَا لَوْ وَرِثَا مَالًا أَوِ اسْتَوْهَبَاهُ ، وَلِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِحَقِّ النِّيَابَةِ إِنَّمَا يَكُونُ وَكَالَةً ، وَالْوَكَالَةُ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِلَفْظٍ صَرِيحٍ كَمَا لَوْ أَرَادَ التَّصَرُّفَ فِي مَالٍ غَيْرِ مُشْتَرَكٍ ، وَاسْتِشْهَادُ أَبِي الْعَبَّاسِ بِالْعُرْفِ بَاطِلٌ ، لِأَنَّ الشَّرِكَةَ عَقْدٌ وَالْعُقُودُ لَا يُقْتَنَعُ فِيهَا بِالْعُرْفِ دُونَ التَّصْرِيحِ بِاللَّفْظِ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَعَقْدُ الشَّرِكَةِ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْوَكَالَةِ فِي تَصَرُّفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَالِ صَاحِبِهِ وَحُكْمُ الْمِلْكِ فِي تَصَرُّفِهِ فِي مَالِ نَفْسِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَأْذَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فِي التَّصَرُّفِ وَالتِّجَارَةِ فَتَصِحُّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التِّجَارَةُ فِي جَمِيعِ الْمَالِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ثُمَّ الْإِذْنُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ إِذْنًا عَامًّا فِيمَا رَأَى مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ وَصُنُوفِ الْأَمْتِعَةِ فَيَقْتَصِرُ بِالْإِذْنِ عَلَى خُصُوصِهِ ثُمَّ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ خُصُوصِ الْإِذْنِ وَعُمُومِهِ أَنْ يُسَافِرَ بِالْمَالِ إِلَّا

بِصَرِيحِ الْإِذْنِ لِمَا فِي السَّفَرِ مِنَ التَّغْرِيرِ بِهِ وَلَا أَنْ يُشَارِكَ غَيْرَهُ فِيهِ وَلَا أَنْ يُضَارِبَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ مُجَاوَزَةِ إِذْنِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ النَّسِيئَةَ لِأَنَّ فِيهِ مُخَالَفَةً لِمُطْلَقِ إِذْنِهِ ، وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ ذَلِكَ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّ أَحْكَامَ الْوَكِيلِ فِيهِ مُعْتَبَرَةٌ وَتَصَرُّفَ الْوَكِيلِ مَقْصُورٌ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْإِذْنُ الصَّرِيحُ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يَأْذَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فِي التَّصَرُّفِ فَيَنْتَفِي عَنِ الشَّرِكَةِ حُكْمُ الْوَكَالَةِ وَيَصِيرُ تَصَرُّفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُورًا عَلَى حِصَّتِهِ عَلَى حَسَبِ مَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَأْذَنَ أَحَدُهُمَا فِي التَّصَرُّفِ وَلَا يَأْذَنَ الْآخَرُ فَيَكُونُ لِلْمَأْذُونِ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي جَمِيعِ الْمَالِ عَلَى حَسَبِ عُمُومِ الْإِذْنِ وَخُصُوصِهِ ، وَلَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يَتَصَرَّفَ إِلَّا فِي قَدْرِ حِصَّتِهِ ، كَمَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فَصَارَ مَجْمُوعُ مَا شَرَحْنَا أَنَّ عَقْدَ الشَّرِكَةِ يَنْتَظِمُ عَلَى ثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : اتِّفَاقُ الْمَالَيْنِ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ . وَالثَّانِي : خَلْطُ الْمَالَيْنِ حَتَّى لَا يَتَمَيَّزَ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ . وَالثَّالِثُ : الْإِذْنُ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا بِيعَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ عَرْضٌ عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ إِنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ قَبَضَ مِنَ الْمُشْتَرِي حِصَّتَهُ مِنَ الْأَلْفِ وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ وَكَانَ لَقَابِضِهَا أَنْ يَخْتَصَّ بِهَا وَيَبْطُلَ مِنَ الشَّرِكَةِ بِقَدْرِهَا ، وَيَجُوزُ لِلشَّرِيكِ الْآخَرِ أَنْ يُطَالِبَ الْمُشْتَرِيَ بِحِصَّتِهِ وَهُوَ مَا بَقِيَ مِنَ الثَّمَنِ ، فَإِنْ أُعْسِرَ فَلَا رُجُوعَ لِهَذَا الشَّرِيكِ عَلَى شَرِيكِهِ الْقَابِضِ أَوَّلًا بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ قَبَضَهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِقَبْضِ شَيْءٍ مِنْ حَقِّهِ إِلَّا وَلِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ ، فَلَوْ قَبَضَ شَيْئًا رَجَعَ عَلَيْهِ الشَّرِيكُ بِنِصْفِهِ ، وَلَوْ كَانَ الشَّرِيكُ الْقَابِضُ وَهَبَ مَا قَبَضَهُ لَمْ يَكُنْ لِلشَّرِيكِ الْآخَرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ بِشَيْءٍ ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ بَاقِيًا فِي يَدِهِ وَرَجَعَ عَلَى الشَّرِيكِ الْوَاهِبِ بِمِثْلِ حِصَّتِهِ فِيمَا قَبَضَهُ ، وَكُلُّ هَذَا عِنْدَنَا فَاسِدٌ وَالْقَابِضٌ مَلَكَ لِمَا قَبَضَهُ إِذَا كَانَ قَابِضًا لَهُ مِنْ حِصَّتِهِ ، وَلَيْسَ لِشَرِيكِهِ عَلَيْهِ حَجْرٌ وَمَا فِي الذِّمَّةِ مَوْكُولٌ إِلَى خِيَارِ ذِي الذِّمَّةِ فِي تَقْدِيمِ مَنْ شَاءَ لِحَقِّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ مَتَى فَسَخَ أَحَدُهُمَا الشَّرِكَةَ انْفَسَخَتْ وَلَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ وَلَا يَبِيعَ حَتَّى يَقْسِمَا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَتَى فَسَخَ أَحَدُهُمَا الشَّرِكَةَ انْفَسَخَتْ وَلَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ وَلَا يَبِيعَ حَتَّى يَقْسِمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَقْدَ الشَّرِكَةِ يَجْرِي عَلَيْهِ فِي تَصَرُّفِ كُلِّ

وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ شَرِيكِهِ حُكْمُ الْوَكَالَةِ فَيَصِيرُ عَقْدُ الشَّرِكَةِ فسخه مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ دُونَ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ ، فَإِذَا فَسَخَ أَحَدُهُمَا الشَّرِكَةَ انْفَسَخَتْ لِأَنَّ الْعُقُودَ الْجَائِزَةَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَسْخُهَا ، وَمَعْنَى قَوْلِنَا أَنَّ الشَّرِكَةَ قَدِ انْفَسَخَتْ بِمَعْنَى أَنَّ الْإِذْنَ بِالتَّصَرُّفِ قَدْ بَطَلَ : لِأَنَّ الْمَالَ الْمُشْتَرَكَ قَدْ تَمَيَّزَ : لِأَنَّ تَمْيِيزَ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْقِسْمَةِ وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي جَمِيعِ الْمَالِ بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي قَدْرِ حَقِّهِ عَلَى الْإِشَاعَةِ كَمَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الْمُشَاعِ . فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ لِلْمَضَارِبِ إِذَا فُسِخَتْ عَلَيْهِ الْمُضَارَبَةُ جَازَ لَهُ الْبَيْعُ بَعْدَ الْفَسْخِ فَهَلَّا جَازَ لِلشَّرِيكِ ذَلِكَ ؟ قُلْنَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنْ حَقَّ الْمُضَارِبِ فِي الرِّبْحِ وَذَلِكَ لَا يُعَلَمُ إِلَّا بِالْبَيْعِ فَجَازَ أَنْ يَبِيعَ بَعْدَ الْفَسْخِ لِيَعْلَمَ قَدْرَ حَقِّهِ مِنَ الرِّبْحِ ، وَالشَّرِيكُ حَقُّهُ فِي عَيْنِ الْمَالِ مَعْلُومٌ قَبْلَ الْبَيْعِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَ بَعْدَ الْفَسْخِ .

فَصْلٌ : إِذَا كَانَ لِلشَّرِيكَيْنِ بَعْدَ فَسْخِ الشَّرِكَةِ دُيُونٌ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ فِي ذِمَمٍ شَتَّى فَاقْتَسَمَ الشَّرِيكَانِ فِي الدُّيُونِ ، وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحِصَّتِهِ فِيهَا بَعْضَ الْمُتَعَامِلِينَ لَمْ يَجُزْ وَكَانَتْ قِسْمَةً بَاطِلَةً ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إِنَّمَا تَصِحُّ فِي الْأَعْيَانِ دُونَ الذِّمَمِ وَاخْتَارَ ذَلِكَ الْحَسَنُ وَإِسْحَاقُ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَيَكُونُ مَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيْنَهُمَا عَلَى أَصْلِ الشَّرِكَةِ ، فَإِذَا نَقَصَ شَيْءٌ مِنْهُ اقْتَسَمَاهُ إِلَّا أَنْ يُقَدِّمَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَحَدَهُمَا بِحَقِّهِ فَيَصِحُّ مَا لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ بِدُيُونِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ إِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا انْفَسَخَتِ الشَّرِكَةُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا انْفَسَخَتِ الشَّرِكَةُ وَقَاسَمَ وَصِيُّ الْمَيِّتِ شَرِيكَهُ ، فَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ بَالِغًا رَشِيدًا فَأَحَبَّ أَنْ يُقِيمَ عَلَى مِثْلِ شَرِكَتِهِ كَأَبِيهِ فَجَائِزٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ ، إِذَا مَاتَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ انْفَسَخَتِ الشَّرِكَةُ بِمَعْنَى بَطَلَ الْإِذْنُ بِالتَّصَرُّفِ لِأَنَّ الْعُقُودَ الْجَائِزَةَ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ كَالْوَكَالَةِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمُتَوَفَّى دُيُونٌ وَوَصَايَا أَوْ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ دُيُونٌ وَلَا وَصَايَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دُيُونٌ وَلَا وَصَايَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَارِثِ مِنْ أَنْ يَكُونَ جَائِزَ الْأَمْرِ أَوْ غَيْرَ جَائِزٍ ، فَإِنْ كَانَ جَائِزَ الْأَمْرِ بِالْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : إِمَّا أَنْ يُقَاسِمَ عَلَيْهَا فَتَمْتَازُ حِصَّتُهُ فَيَتَصَرَّفُ فِيهَا ، وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَ الْمَالَ مُشْتَرَكًا عَلَى حَالِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْذَنَ لِلشَّرِيكِ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ ، وَإِمَّا أَنْ يُقِيمَ عَلَى الشَّرِكَةِ وَيَأْذَنَ لِلشَّرِيكِ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ فَيَصِيرُ شَرِيكًا كَمَا كَانَ شَرِيكًا لِمُوَرِّثِهِ ، فَأَيُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَعَلَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ ، سَوَاءٌ فِيهِ كَانَ فِيهِ الْحَظُّ أَوْ فِي غَيْرِهِ لِأَنَّ مَنْ جَازَ أَمْرُهُ نَفَذَتْ عُقُودُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا حَظٌّ لَهُ ، وَيُخْتَارُ لِهَذَا الْوَارِثِ إِذَا أَحَبَّ الْمَقَامَ عَلَى الشَّرِكَةِ أَنْ يَعْلَمَ قَدْرَ الْمَالِ الَّذِي وَرِثَهُ عَنْ مَيِّتِهِ قَبْلَ الْإِذْنِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ خَوْفًا مِنْ ظُهُورِ دَيْنٍ يَتَعَلَّقُ بِالشَّرِكَةِ فَيَعْلَمُ قَدْرَهُ

لِيَمْتَازَ عَمَّا مَلَكَهُ الْوَارِثُ مِنْ رِبْحِهَا الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِالَّذِي لَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ جَازَ لِأَنَّ التَّخَوُّفَ مِنْ ظُهُورِ الدَّيْنِ مُلْغًى بِاعْتِبَارِ " الْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ " . فَإِنْ قِيلَ الشَّرِكَةُ عَقْدٌ فَكَيْفَ يَصِحُّ مَعَ الْجَهْلِ بِقَدْرِ الْمَالِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ؟ قِيلَ : إِنَّمَا يَلْزَمُ الْعِلْمُ بِقَدْرِ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَالِ مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ رُبُعٍ وَلَا يَلْزَمُ مَعْرِفَةُ وَزْنِهِ ، أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ اشْتَرَكَا وَوَضَعَ أَحَدُهُمَا دَرَاهِمَ فِي كِفَّةِ مِيزَانٍ ، وَوَضَعَ الْآخَرُ بِإِزَائِهَا وَاشْتَرَكَا بِهَا ، وَاتَّجَرَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَا وَزْنَهَا صَحَّتِ الشَّرِكَةُ لِلْعِلْمِ بِحِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْجُمْلَةِ كَذَلِكَ الْوَارِثُ فِي التَّرِكَةِ .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ غَيْرَ جَائِزِ التَّصَرُّفِ إِمَّا بِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ سَفَهٍ فَلِوَلِيِّهِ أَنْ يَفْعَلَ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ أَحَظَّ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ لِلْوَارِثِ ، فَإِنْ كَانَ أَحَظُّ الْأُمُورِ لَهُ الْمُقَاسَمَةَ عَلَيْهَا قَاسَمَ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَدِيمَ الشَّرِكَةَ ، وَإِنْ كَانَ أَحَظُّهَا لَهُ أَنْ يَأْذَنَ بِالتَّصَرُّفِ أَذِنَ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَاسِمَ ، وَإِنْ كَانَ أَحَظُّهَا لَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الِاشْتِرَاكِ بِالْمَالِ مِنْ غَيْرِ قِسْمَةٍ وَلَا إِذْنٍ بِالتَّصَرُّفِ فَعَلَ ، فَإِنْ عَدَلَ عَنِ الْأَحَظِّ إِلَى مَا لَيْسَ فِيهِ حَظٌّ كَانَ فِعْلُهُ مَرْدُودًا . فَأَمَّا إِنْ كَانَ عَلَى الْمُتَوَفَّى دَيْنٌ فَلَيْسَ لِلْوَارِثِ الرَّشِيدِ وَلَا لِوَلِيِّ مَنْ لَيْسَ بِرَشِيدٍ أَنْ يَأْذَنَ لِلشَّرِيكِ بِالتَّصَرُّفِ فِي الشَّرِكَةِ إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ كُلِّهِ سَوَاءٌ كَانَ فِيمَا سِوَى الشَّرِكَةِ وَفَّى بِالدَّيْنِ أَمْ لَا ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُتَعَلِّقٌ بِجَمِيعِ التَّرِكَةِ وَلَيْسَ لِلْوَارِثِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ جَمِيعِ الدَّيْنِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَوَفَّى قَدْ وَصَّى بِوَصِيَّةٍ فِي تَرِكَتِهِ فَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُعَيَّنَةً فِي شَيْءٍ مِنَ التَّرِكَةِ غَيْرِ الدَّيْنِ جَازَ لِلْوَارِثِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي التَّرِكَةِ وَيَأْذَنَ لِلشَّرِيكِ بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا قَبْلَ وُصُولِ الْوَصِيَّةِ إِلَى أَرْبَابِهَا لِأَنَّ الْعَيْنَ الْمُوصَى بِهَا إِنْ بَقِيَتْ فَهِيَ الْمُسْتَحَقَّةُ فِي الْوَصِيَّةِ وَإِنْ تَلِفَتْ فَالْوَصِيَّةُ قَدْ بَطَلَتْ بِخِلَافِ الدَّيْنِ الَّذِي لَوْ بَقِيَ يَسِيرٌ مِنَ التَّرِكَةِ صُرِفَ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ شَائِعٍ فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى لَهُ مُعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ ، فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا صَارَ بِقَبُولِ الْوَصِيَّةِ شَرِيكًا فِي مَالِ الشَّرِكَةِ وَكَانَ لَهُ وَلِلْوَارِثِ الْخِيَارُ فِي الْمُقَاسَمَةِ أَوِ الْمُقَامِ عَلَى الشَّرِكَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَعَلَى الْوَارِثِ مُقَاسَمَةُ الشَّرِيكِ لِيُوصِلَ حِصَّةَ الشَّرِيكِ إِلَى مَنْ تَتَنَاوَلُهُمُ الْوَصِيَّةُ .

فَصْلٌ : وَلَوْ جُنَّ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ بَطَلَتِ الشَّرِكَةُ وَفَعَلَ الْوَلِيُّ أَحَظَّ الْأُمُورِ لَهُ مِنَ الْقِسْمَةِ أَوِ الْمَقَامِ عَلَى الشَّرِكَةِ لِأَنَّ الْعُقُودَ الْجَائِزَةَ تَبْطُلُ بِالْحَجْرِ ، فَأَمَّا الْإِغْمَاءُ فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَمْ يَسْقُطْ مَعَهُ فَرْضُ عِبَادَةٍ كَانْتِ الشَّرِكَةُ عَلَى حَالِهَا لِأَنَّهُ فَرْضٌ قَدْ يَطْرَأُ كَثِيرًا ، وَإِنْ كَثُرَ الْإِغْمَاءُ حَتَّى أَسْقَطَ فَرْضَ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ وَرَدَ وَقْتُهَا بَطَلَتِ الشَّرِكَةُ .

مَسْأَلَةٌ لَوِ اشْتَرَيَا عَبْدًا وَقَبَضَاهُ فَأَصَابَا بِهِ عَيْبًا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوِ اشْتَرَيَا عَبْدًا وَقَبَضَاهُ فَأَصَابَا بِهِ عَيْبًا فَأَرَادَ

أَحَدُهُمَا الرَّدَّ وَالْآخَرُ الْإِمْسَاكَ الشريكان ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) ذَلِكَ جَائِزٌ لِأَنَّ مَعْقُولًا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اشْتَرَى نِصْفَهُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَذَكَرْنَا أَنَّ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْعَبْدِ إِذَا بَاعَاهُ صَفْقَةً مِنْ رَجُلٍ فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَلَهُ رَدُّ جَمِيعِهِ عَلَيْهِمَا وَلَهُ رَدُّ نَصِفِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا وَهَذَا مِمَّا وَافَقَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ ، فَأَمَّا إِنِ اشْتَرَى الرَّجُلَانِ عَبْدًا بَيْنَهُمَا صَفْقَةً مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ وَجَدَاهُ مَعِيبًا فَلَهُمَا رَدُّ جَمِيعِهِ عَلَى بَائِعِهِ وَلِأَحَدِهِمَا رَدُّ نِصْفِهِ دُونَ شَرِيكِهِ ، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إِلَّا مَعَ شَرِيكِهِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَانَ أَحَدُ الْمُشْتَرِيَيْنِ قَدِ انْفَرَدَ بِعَقْدِ الشِّرَاءِ بِوَكَالَةِ صَاحِبِهِ ثُمَّ وَجَدَاهُ مَعِيبًا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُتَوَلِّي لِلشِّرَاءِ حِينَ الْعَقْدِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ ذَكَرَ لِلْبَائِعِ أَنَّهُ يَشْتَرِيهِ شَرِكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِرَدِّ النِّصْفِ حَتَّى يَرُدَّ جَمِيعَهُ أَوْ يُمْسِكَا جَمِيعَهُ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ وَاحِدٌ فَكَانَتِ الصَّفْقَةُ وَاحِدَةً وَإِنْ ذُكِرَ أَنَّ الشِّرَاءَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ فَهَلْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِالرَّدِّ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ كَالْمُبَاشَرَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى الرَّدِّ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ بِخِلَافِ الْمُبَاشَرَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ الْمَذْكُورُ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالشِّرَاءِ كَانَتِ الصَّفْقَةُ كُلُّهَا لَازِمَةً لِمُتَوَلِّي الشِّرَاءِ وَلَوْ كَانَتْ صَفْقَتَيْنِ لَتَفَرَّقَتْ .

فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَوَكَّلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فِي الْبَيْعِ فَبَاعَهُ ، ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَيْبًا فَأَرَادَ رَدَّ نِصْفِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا نُظِرَ فَإِنْ كَانَ مُتَوَلِّيَ الْبَيْعِ ذَكَرَ لِلْمُشْتَرِي أَنَّهُ شَرِيكٌ فَلَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِرَدِّ نِصْفِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ لَهُ أَنَّهُ شَرِيكُهُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَ الصَّفْقَةَ بِرَدِّ النِّصْفِ حَتَّى يَرُدَّ جَمِيعَهُ إِنْ شَاءَ لِأَنَّ مُتَوَلِّي الْعَقْدِ وَاحِدٌ فَصَارَتِ الصَّفْقَةُ بِهِ وَاحِدَةً . وَالثَّانِي : لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِرَدِّ النِّصْفِ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ لِأَنَّ افْتِرَاقَ الْمِلْكِ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ يُوجِبُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ الْإِذْنَ لَتَفَرَّقَتِ الصَّفْقَةُ وَصَحَّ الْعَقْدُ فِي حِصَّةِ الْمُتَوَلِّي لِلْعَقْدِ دُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْإِذْنُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَبْدٌ رُومِيٌّ وَلِآخَرَ عَبْدٌ تُرْكِيٌّ فَوَكَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَيْدًا فِي بَيْعِ عَبْدِهِ فَبَاعَ الْوَكِيلُ الْعَبْدَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً لِرَجُلٍ بِأَلْفٍ وَلَمْ يُمَيِّزْ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي مَنْ تَزَوَّجَ أَرْبَعَةَ نِسْوَةٍ فِي عَقْدٍ عَلَى صَدَاقٍ بِأَلْفٍ وَلَمْ يَذْكُرْ قِسْطَ مَهْرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ

مِنْهُنَّ قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الصَّدَاقَ بَاطِلٌ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَهْرُ مِثْلِهَا ، وَالثَّانِي أَنَّهُ جَائِزٌ وَتُقَسَّطُ الْأَلْفُ بَيْنَهُنَّ عَلَى قَدْرِ مُهُورِ أَمْثَالِهِنَّ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ فَكَانَ ابْنُ سُرَيْجٍ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا ، وَيُخَرَّجُ بَيْعُ الْعَبْدَيْنِ بِالثَّمَنِ الْوَاحِدِ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالصَّدَاقِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْبَيْعَ فِيهَا بَاطِلٌ لِلْجَهْلِ بِثَمَنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا . وَالثَّانِي : جَائِزٌ وَيُقَسَّطُ الْأَلْفُ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدَيْنِ لِأَنَّ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ يَصِيرُ مَعْلُومًا بَعْدَ الْعَقْدِ وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يُبْطِلُ بَيْعَ الْعَبْدَيْنِ لِلرَّجُلَيْنِ بِالثَّمَنِ الْوَاحِدِ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ لِلصَّدَاقِ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الصَّدَاقَ بَيْعٌ لِعَقْدِ النِّكَاحِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لِلِاجْتِمَاعِ تَأْثِيرٌ فِي فَسَادِهِ فَكَانَ الصَّدَاقُ بِمَثَابَتِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَيْعُ لِأَنَّ الثَّمَنَ فِيهِ هُوَ الْمَقْصُودُ وَالْجَهَالَةُ بِهِ تَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهِ ، فَإِذَا قِيلَ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَخْرِيجِ ابْنِ سُرَيْجٍ كَانَتِ الْأَلْفُ مُقَسَّطَةً عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدَيْنِ وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْمَجْمُوعُ فِي الْعَقْدِ عَبْدًا أَوْ ثَوْبًا فَيَتَصَرَّفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَائِعَيْنِ فِي الْأَلْفِ بِالْقِسْطِ مِنْ قِيمَةِ عَبْدِهِ ، وَإِذَا قُلْنَا إِنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ فَإِنْ صَدَّقَ الْمُشْتَرِي عَلَى ذَلِكَ أَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ اسْتَرْجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدَهُ ، وَلَوْ أَنْكَرَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَكُونَ الْعَبْدَيْنِ إِلَّا لِمَنْ بَاعَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْبَائِعِ بَعْدَ الْبَيْعِ أَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِلْمَبِيعِ غَيْرُ مَقْبُولٍ ، فَإِذَا حَلَفَ الْمُشْتَرِي كَانَ الْبَيْعُ فِي الظَّاهِرِ صَحِيحًا وَإِنْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ فَاسِدًا ثُمَّ قَدْ أُحِيلَ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَالِكَيْنِ وَبَيْنَ عَبْدِهِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ قِيمَتَهُ ، فَإِنْ كَانَتِ الْأَلْفُ بِإِزَاءِ قِيمَةِ الْعَبْدَيْنِ اقْتَسَمَاهَا عَلَى الْقِيمَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ فَهِيَ مُقَسَّطَةٌ بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا فِي الزِّيَادَةِ حَقٌّ وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي اسْتِرْجَاعُهَا لِاعْتِرَافِهِ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ وَأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ عَلَيْهِ فِي ثَمَنِ الْعَبْدَيْنِ وَلَكِنْ تُقَدَّرُ فِي يَدِ الْبَائِعَيْنِ وَتُدْفَعُ إِلَى الْحَاكِمِ لِيَحْفَظَهَا إِلَى أَنْ يَقَعَ التَّصَادُقُ أَوْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ لَوِ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ كَانَ مَا اشْتَرَى لَهُ دُونَ صَاحِبِهِ

مَسْأَلَةٌ : ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوِ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ كَانَ مَا اشْتَرَى لَهُ دُونَ صَاحِبِهِ ، وَلَوْ أَجَازَهُ شَرِيكُهُ مَا جَازَ الشريكان لِأَنَّ شِرَاءَهُ كَانَ عَلَى غَيْرِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّرِيكَ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ جَارٍ مَجْرَى الْوَكِيلِ ، وَالْغَبْنُ الْيَسِيرُ الَّذِي جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ أَنْ يَتَغَابَنُوا بِمِثْلِهِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ فِي عَقْدِهِ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ مِنْهُ مُتَعَذِّرٌ ، فَأَمَّا مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ فَغَيْرُ مَعْفُوٍّ عَنْهُ فِي بَيْعِ الْوَكِيلِ وَالشَّرِيكِ وَكُلِّ نَائِبٍ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ وَصِيٍّ وَأَمِينٍ فَإِذَا اشْتَرَى الشَّرِيكُ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ لَمْ يَخْلُ الشِّرَاءُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ الْمَالِ أَوْ فِي ذِمَّتِهِ ، فَإِنْ كَانَ الشِّرَاءُ فِي ذِمَّتِهِ كَانَ لَازِمًا لَهُ دُونَ شَرِيكِهِ ، وَإِنْ كَانَ الشِّرَاءُ بِغَيْرِ الْمَالِ كَانَ الشِّرَاءُ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ بَاطِلًا لِخُرُوجِهِ عَنْ مُوجِبِ الْإِذْنِ سَوَاءٌ أَجَازَهُ الشَّرِيكُ أَوْ

لَمْ يُجِزْهُ لِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا وَقَعَ فَاسِدًا لَمْ يَصِحَّ بِالْإِجَازَةِ ، فَأَمَّا الشِّرَاءُ فِي حِصَّةِ الْعَاقِدِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ وَالشَّرِكَةُ فِي الْمَالِ عَلَى حَالِهَا . وَالثَّانِي : جَائِزٌ ، فَعَلَى هَذَا تَبْطُلُ الشَّرِكَةُ فِي قَدْرِ ثَمَنِ النِّصْفِ لِيُمَيِّزَهُ عَنِ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ وَتَكُونُ الشَّرِكَةُ فِيمَا سِوَاهُ بَاقِيَةً .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا بَاعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ شَيْئًا مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ كَانَ الْبَيْعُ فِي حِصَّةِ الشَّرِيكِ الْآخَرِ بَاطِلًا لَا تَصِحُّ بِإِجَازَتِهِ ، وَهَلْ يَبْطُلُ فِي حِصَّةِ الْبَائِعِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ بَطَلَتْ وَالشَّرِكَةُ فِيهِ عَلَى حَالِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ فِي حِصَّتِهِ وَتَبْطُلُ الشَّرِكَةُ فِيهَا لَا غَيْرَ وَلَا يَكُونُ الشَّرِيكُ ضَامِنًا لِحِصَّةِ شَرِيكِهِ بِالْعَقْدِ ، فَإِنْ سَلَّمَ ضَمِنَهَا بِالتَّسْلِيمِ ، وَلَوْ كَانَ مُودَعًا فَبَاعَ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ : ضَمِنَ بِالْعَقْدِ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمُودَعَ غَيْرُ مَأْذُونٍ لَهُ فِي الْبَيْعِ فَلَمْ يُعْتَدَّ بِهِ فَكَانَ بَيْعُهُ تَعَدِّيًا ، وَهَذَا عِنْدِي لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الشَّرِيكَ غَيْرُ مَأْذُونٍ لَهُ فِي بَيْعِ الْغَيْبَةِ كَالْمُودَعِ وَلَوْ كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ لَزِمَ الْمَالِكَ فَصَارَ هُوَ وَالْمُودَعُ سَوَاءً فِي أَنْ لَا يَلْزَمَهُمَا الضَّمَانُ عِنْدِي إِلَّا بِالتَّسْلِيمِ لِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ يَرْفَعُ حُكْمَ لَفْظِهِ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي ضَمَانِهَا بِالتَّغَلُّبِ لَا بِالْعَقْدِ وَالْمُودَعُ يَضْمَنُ بِإِخْرَاجِهَا مِنَ الْحِرْزِ لِتَغْلِيبِ الْمُشْتَرِي لَهَا وَالشَّرِيكُ لَا يَضْمَنُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ أَيُّهُمَا ادَّعَى فِي يَدَيْ صَاحِبِهِ مِنْ شَرِكَتِهِمَا شَيْئًا فَهُوَ مُدَّعٍ وَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ وَعَلَى صَاحِبِهِ الْيَمِينُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَيُّهُمَا ادَّعَى فِي يَدَيْ صَاحِبِهِ مِنْ شَرِكَتِهِمَا شَيْئًا فَهُوَ مُدَّعٍ وَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ وَعَلَى صَاحِبِهِ الْيَمِينُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا كَانَ فِي يَدِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مَالٌ وَادَّعَى صَاحِبُهُ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ مِنْ هَذَا الْمَالِ هُوَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ وَادَّعَاهُ صَاحِبُ الْيَدِ مِلْكًا لِنَفْسِهِ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ مَعَ يَمِينِهِ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً لِأَنَّ الشَّرِكَةَ لَا تَرْفَعُ حُكْمَ الْيَدِ فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ بِهَا وَهَكَذَا لَوِ اشْتَرَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ عَبْدًا فِي ثَمَنِهِ غَبَطَهُ فَادَّعَى الشَّرِيكُ الْآخَرُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ فِي الشَّرِكَةِ وَادَّعَى مُشْتَرِيهِ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ لَا فِي الشَّرِكَةِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُتَوَلِّي الشِّرَاءِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ شَرِيكًا لِغَيْرِهِ ، وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدًا حَدَثَ بِهِ نَقْصٌ فَذَكَرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ فِي الشَّرِكَةِ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي اشْتَرَاهُ إِلَّا لِنَفْسِهِ ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ وَيَكُونُ الْعَبْدُ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ أَيُّهُمَا ادَّعَى خِيَانَةَ صَاحِبِهِ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَيُّهُمَا ادَّعَى خِيَانَةَ صَاحِبِهِ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ الشريكان " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا دَعْوَاهُ الْخِيَانَةَ فَغَيْرُ مُقْنِعَةٍ حَتَّى يَصِفَهَا بِمَا يَصِيرُ خَائِنًا بِهَا ثُمَّ يَذْكُرُ

قَدْرَهَا فَتَتِمُّ دَعْوَاهُمَا ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ مُدَّعِي الْخِيَانَةِ بَيِّنَةً بِمَا يَدَّعِيهِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَلِأَنَّهُ بَرِيءُ الذِّمَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ أَيُّهُمَا زَعَمَ أَنَّ الْمَالَ قَدْ تَلِفَ فَهُوَ أَمِينٌ وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَيُّهُمَا زَعَمَ أَنَّ الْمَالَ قَدْ تَلِفَ فَهُوَ أَمِينٌ وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ الشريكان " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : بِسَبَبِ وَصْفِهِ أَوْ لَمْ يَصِفْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ إِذَا كَانَ مَا ادَّعَاهُ مِنَ التَّلَفِ مُمْكِنًا لِأَنَّهُ أَمِينٌ فَشَابَهَ الْمُودَعَ وَالْوَكِيلَ ، فَإِنْ ذَكَرَ تَلَفَهُ فِي يَوْمٍ مِنْ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ وَحَلَفَ عَلَيْهِ ثُمَّ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَا ذَلِكَ الْمَالَ فِي يَدِهِ بِعَيْنِهِ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي ادَّعَى تَلَفَهُ فِيهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ يَمِينَهُ السَّالِفَةَ قَدْ بَطَلَتْ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ الْحَادِثَةِ وَيُلْزَمُ غُرْمَ الْمَالِ الْمَشْهُودِ بِهِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الْعَادِلَةَ أَوْلَى مِنْ يَمِينِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَبِهِ قَالَ أَبُو الْفَيَّاضِ أَنَّ يَمِينَهُ لَا تَبْطُلُ وَلَكِنْ يُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَإِنْ ذَكَرَهُ مَعَ يَمِينِهِ الْمَاضِيَةِ لَمْ يَغْرَمْ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ غُرِّمَ ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يُغَرَّمُ بِالْبَيِّنَةِ وَلَا يُسْأَلُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا اشْتَرَى الشَّرِيكَانِ سِلْعَةً وَقَبَضَاهَا فَتَلِفَتَ كَانَ التَّلَفُ مِنْ مَالِهِمَا ، وَالثَّمَنُ دَيْنٌ عَلَيْهِمَا ، فَإِنْ دَفَعَا الثَّمَنَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ بَطَلَتِ الشَّرِكَةُ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ الْمَدْفُوعِ مِنْ ثَمَنِهَا ، وَلَوْ تَلِفَ الثَّمَنُ أَيْضًا مِنْهُمَا قَبْلَ دَفْعِهِ فِي ثَمَنِ السِّلْعَةِ التَّالِفَةِ كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِمَا وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحِصَّتِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا عَنْ صَاحِبِهِ ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَدْ تَوَلَّى الشِّرَاءَ دُونَ صَاحِبِهِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ لِتَفَرُّدِهِ بِالْعَقْدِ ، فَإِذَا أَخَذَهُ مِنْهُ نُظِرَ فَإِنْ أَدَّاهُ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ جَازَ وَلَا رُجُوعَ وَإِنْ أَدَّاهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ نُظِرَ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَنِضَّ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ مَا يُؤَدِّي فِي ذَلِكَ الثَّمَنَ ، كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ مِنْهُ وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ وُجُودِهِ نَاضًّا فِي مَالِ الشَّرِكَةِ فَفِي رُجُوعِهِ عَلَى شَرِيكِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالنِّصْفِ مِنْهُ لِأَنَّهُ مِنْ مُوجِبَاتِ الشَّرِكَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ لِأَنَّ مُوجِبَ الشَّرِكَةِ أَنْ يُؤَدِّيَهُ مِنْ مَالِهَا فَصَارَ عُدُولُهُ عَنْهُ إِلَى مَالِ نَفْسِهِ تَطَوُّعًا مِنْهُ فَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى شَرِيكِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَمَرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بِبَيْعِهِ فَبَاعَهُ مِنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ الشَّرِيكُ الَّذِي لَمْ يَبِعْ أَنَّ الْبَائِعَ قَدْ قَبَضَ الثَّمَنَ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْبَائِعُ وَادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَبْرَأُ مِنْ نِصْفِ الثَّمَنِ وَهُوَ حِصَّةُ الْمُقِرِّ وَيَأْخُذُ الْبَائِعُ نِصْفَ الثَّمَنِ مِنَ الْمُشْتَرِي فَيُسَلَّمَ لَهُ وَيَحْلِفُ لِشَرِيكِهِ مَا قَبَضَ مَا ادَّعَى فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ صَاحِبُهُ وَاسْتَحَقَّ الدَّعْوَى " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي عَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ أَذِنَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ فِي بَيْعِهِ فَبَاعَهُ الْمَأْذُونُ لَهُ عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ إِنَّ الْمُشْتَرِيَ ادَّعَى عَلَى الْبَائِعِ أَنَّهُ سَلَّمَ إِلَيْهِ الْأَلْفَ الثَّمَنَ وَأَنْكَرَهَا الْبَائِعُ وَصَدَّقَهُ عَلَيْهَا الشَّرِيكُ الَّذِي لَمْ يَبِعْ فَقَدْ بَرِئَ الْمُشْتَرِي بِتَصْدِيقِ الشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يَبِعْ مِنْ حِصَّتِهِ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِقَبْضِ وَكِيلِهِ لَهَا ثُمَّ الْقَوْلُ قَوْلُ الشَّرِيكِ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ فَإِذَا حَلَفَ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِحِصَّتِهِ وَهِيَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ يَخْتَصُّ بِهَا وَيَحْلِفُ لِشَرِيكِهِ بِاللَّهِ أَنَّهُ مَا قَبَضَ حِصَّتَهُ مِنَ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ قَوْلَ الشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يَبِعْ قَدْ تَضَمَّنَ إِقْرَارًا عَلَى نَفْسِهِ وَدَعْوَى عَلَى شَرِيكِهِ ، فَكَانَ إِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ مَقْبُولًا فِي بَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي فِي حَقِّهِ ، وَادِّعَاؤُهُ عَلَى شَرِيكِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِحِصَّتِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : مَا قَبَضَهُ الْبَائِعُ بَعْدَ يَمِينِهِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَقْسُومًا بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا لَمْ يَقْتَسِمَا عَلَيْهِ ، قِيلَ : مَا قَبَضَهُ الْبَائِعُ حَقٌّ لَهُ لَا يَجُوزُ لِشَرِيكِهِ أَنْ يُقَاسِمَهُ عَلَيْهِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَقُولُ : الْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّ الَّذِي لَمْ يَبِعْ بِتَصْدِيقِ الْمُشْتَرِي مُقِرٌّ بِأَنَّ الْبَائِعَ ظَالِمٌ فِيمَا يَأْخُذُهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيمَا يُقِرُّ بِأَنَّهُ ظَالِمٌ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ ، وَكَانَ أَبُو الْفَيَّاضِ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ يَقُولُونَ : الْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّ الَّذِي لَمْ يَبِعْ لَمَّا أَبْرَأَ الْمُشْتَرِيَ بِتَصْدِيقِهِ صَارَ كَالْقَابِضِ لِحَقِّهِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ فَسْخًا لِلشَّرِكَةِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ فِي الْمَقْبُوضِ حَقٌّ يُقَاسِمُ عَلَيْهِ فَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَقَامَ عَلَى الْبَائِعِ بَيِّنَةً بِدَفْعِ الثَّمَنِ إِلَيْهِ بَرِئَ مِنْ جَمِيعِهِ بِالْبَيِّنَةِ وَكَانَ لِلشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يَبِعْ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِحِصَّتِهِ بِبَيِّنَةِ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ اسْتِئْنَافِ لَهَا لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِهَا عَلَى الْبَائِعِ قَبْضُ الثَّمَنِ كُلِّهِ فَلَوْ شَهِدَ عَلَى الْبَائِعِ شَرِيكُهُ الَّذِي لَمْ يَبِعْ لِيَحْلِفَ الْمُشْتَرِي مَعَهُ فَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي تَبْعِيضِ الشَّهَادَةِ إِذَا رُدَّ بَعْضُهَا هَلْ يُوجِبُ ذَلِكَ رَدَّ بَاقِيهَا لِأَنَّ شَهَادَتَهُ مَرْدُودَةٌ فِي حِصَّةِ نَفْسِهِ ؟ فَلَوْ عَدِمَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ وَنَكِلَ الْبَائِعُ عَنِ الْيَمِينِ فَرُدَّتْ عَلَى الْمُشْتَرِي فَحَلَفَ بَرِئَ مِنَ الثَّمَنِ كُلِّهِ وَكَانَ لِلَّذِي لَمْ يَبِعْ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِحِصَّتِهِ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ لِأَنَّ الْيَمِينَ بَعْدَ النُّكُولِ إِمَّا أَنْ تَجْرِيَ مَجْرَى الْبَيِّنَةِ أَوْ مَجْرَى الْإِقْرَارِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُثْبِتُ الرُّجُوعَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ كَانَ الشَّرِيكُ الَّذِي بَاعَ هُوَ الَّذِي أَقَرَّ بِأَنَّ شَرِيكَهُ الَّذِي لَمْ يَبِعْ قَبَضَ مِنَ الْمُشْتَرِي جَمِيعَ الثَّمَنِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الَّذِي لَمْ يَبِعْ وَادَّعَى ذَلِكَ الْمُشْتَرِي فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَبْرَأُ مِنْ نِصْفِ الثَّمَنِ بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ أَنَّ شَرِيكَهُ قَدْ قَبَضَ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ أَمِينٌ وَيَرْجِعُ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالنِّصْفِ الْبَاقِي فَيُشَارِكُهُ فِيهِ صَاحِبُهُ لِأَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ عَلَى حِصَّةٍ مِنَ الشَّرِكَةِ تُسَلَّمُ إِلَيْهِ إِنَّمَا يُصَدَّقُ فِي أَنْ لَا يَضْمَنَ شَيْئًا لِصَاحِبِهِ ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ فِي يَدَيْهِ بَعْضُ مَالٍ بَيْنَهُمَا فَيَدَّعِيَ عَلَى شَرِيكَهِ مُقَاسَمَةً يَمْلِكُ بِهَا هَذَا الْبَعْضَ خَاصَّةً فَلَا يَجُوزُ وَيَحْلِفُ لِشَرِيكِهِ فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ شَرِيكُهُ وَاسْتَحَقَّ دَعْوَاهُ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا كَالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ إِذَا بَاعَهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ إِلَّا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَدَّعِي تَسْلِيمَ الثَّمَنِ إِلَى الشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يَبِعْ وَيُصَدِّقُهُ عَلَيْهِ الشَّرِيكُ الَّذِي بَاعَ وَيُنْكِرُ مَنْ لَمْ يَبِعْ ، هَلْ يَكُونُ مَأْذُونًا لَهُ إِذْنَ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِصَاحِبِهِ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ إِذْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فَالْجَوَابُ فِيهِ مَا مَضَى فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ بَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي مِنْ نِصْفِ الثَّمَنِ بِتَصْدِيقِ الْبَائِعِ أَنَّ شَرِيكَهُ النَّائِبَ عَنْهُ قَبَضَ الثَّمَنَ مِنْهُ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ لَمْ يَبِعْ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ أَنَّهُ مَا قَبَضَ وَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِحِصَّتِهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ قَبْلُ سَوَاءٌ . وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ فِي الْقَبْضِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ ثُمَّ لَا يَبْرَأُ الْمُشْتَرِي مِنْ شَيْءٍ لِأَنَّ الْبَائِعَ وَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى تَسْلِيمِ حَقِّهِ إِلَى شَرِيكِهِ فَقَدْ سَلَّمَهُ إِلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ ثُمَّ قَدْ بَطَلَتْ وَكَالَةُ الْبَائِعِ فِي حَقِّ الَّذِي لَمْ يَبِعْ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ يَتَضَمَّنُ إِبْطَالَ وَكَالَتِهِ فِيهِ وَعَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَسُوقَ إِلَيْهِمَا أَلْفًا ، خَمْسَمِائَةٍ إِلَى الْبَائِعِ وَخَمْسَمِائَةٍ إِلَى الَّذِي لَمْ يَبِعْ ، فَإِنِ ابْتَدَأَ وَدَفَعَ إِلَى الَّذِي لَمْ يَبِعْ خَمْسَمِائَةٍ لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهَا لِأَنَّهُ يُقِرُّ بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَظْلُومٌ بِهَا ، وَإِنْ بَدَأَ الْمُشْتَرِي وَدَفَعَ إِلَى الْبَائِعِ خَمْسَمِائَةٍ كَانَ لِلَّذِي لَمْ يَبِعْ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهَا إِنْ شَاءَ وَلَهُ أَنْ لَا يُشَارِكَهُ فِيهَا وَيَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِكُلِّ حِصَّتِهِ إِنْ شَاءَ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي كَانَ لَهُ ذَلِكَ ، وَيَكُونُ الْمُشْتَرِي دَافِعًا الْأَلْفَ ، خَمْسَمِائَةٍ مِنْهَا إِلَى الْبَائِعِ وَخَمْسَمِائَةٍ إِلَى الَّذِي لَمْ يَبِعْ ، وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يُشَارِكَهُ الْبَائِعُ فِيمَا أَخَذَ فَذَلِكَ لَهُ لِأَنَّ الْمَالَ مُشْتَرَكٌ لَمْ يَقْتَسِمَا عَلَيْهِ وَالْبَائِعُ غَيْرُ مُصَدَّقٍ عَلَى شَرِيكِهِ فِي إِبْطَالِ الشَّرِكَةِ فِيهِ ، فَإِذَا أَخَذَ مِنَ الْبَائِعِ نِصْفَ مَا أَخَذَهُ وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنَ الْمُشْتَرِي تَمَامَ حَقِّهِ وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ تَمَامَ خَمْسِمِائَةٍ وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ بَعْدَ رُجُوعِ شَرِيكِهِ عَلَيْهِ بِنِصْفِ مَا أَخَذَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِهِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِاسْتِيفَاءِ مَا عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِحُكْمٍ ، فَيَصِيرُ الْمُشْتَرِي غَارِمًا لِسَبْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ مِنْهَا خَمْسُمِائَةٍ دَفَعَهَا إِلَى الْبَائِعِ فَشَارَكَهُ فِيهَا الَّذِي لَمْ يَبِعْ ، وَمِائَتَانِ وَخَمْسُونَ دَفَعَهَا إِلَى الَّذِي لَمْ يَبِعْ ، فَلَوْ أَرَادَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَشْهِدَ بِالْبَائِعِ عَلَى الَّذِي لَمْ يَبِعْ كَانَتْ شَهَادَتُهُ مَرْدُودَةً عَلَيْهِ لِأَنَّهُ فِيهَا مُتَّهَمٌ بِمَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ رُجُوعِ شَرِيكِهِ عَلَيْهِ بِمَا يَأْخُذُهُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ نَقَلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِنْ صَدَّقَ الْبَائِعَ فِي دَفْعِ الْأَلْفِ إِلَى الَّذِي لَمْ يَبِعْ أَنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ كَالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نَقْلِهِ عَنْ هَذَا الْجَوَابِ فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَنْسُبُهُ إِلَى الْغَلَطِ وَأَنَّهُ نَقَلَ جَوَابَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِيهَا لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ إِقْرَارَ الْوَكِيلِ عَلَى مُوَكِّلِهِ مَقْبُولٌ وَلَا يَجِيءُ هَذَا الْجَوَابُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ إِقْرَارَ الْوَكِيلِ عَلَى مُوَكِّلِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فَكَانَ ذَلِكَ غَلَطًا مِنَ الْمُزَنِيِّ وَسَهْوًا . وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : النَّقْلُ صَحِيحٌ وَالْجَوَابُ مُسْتَقِيمٌ وَتَأْوِيلُهُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَبْرَأُ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ فِي

مُطَالَبَةِ الْبَائِعِ بِهَا لِبُطْلَانِ وَكَالَتِهِ فِيهَا وَلَا يَبْرَأُ مِنْهَا فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَبِعْ فَكَانَ جَوَابُهُ فِي بَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي مَحْمُولًا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ ، وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّ نَقْلَ الْمُزَنِيِّ صَحِيحٌ وَأَنَّ بَرَاءَةَ الْمُشْتَرِي مِنَ النِّصْفِ بَرَاءَةٌ تَامَّةٌ ، غَيْرَ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْمُزَنِيِّ مَحْمُولَةٌ عَلَى الشَّرِيكَيْنِ الْمَأْذُونِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ فَيَبْرَأُ الْمُشْتَرِي بِإِقْرَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ بِالْقَبْضِ سَوَاءٌ كَانَ بَائِعًا أَوْ غَيْرَ بَائِعٍ ، فَإِنْ أَمْكَنَ حَمْلُ جَوَابِهِ عَلَى الصِّحَّةِ فَلَا وِجْهَةَ لِتَخْطِئَتِهِ فِيهِ كَمَا فَعَلَ أَبُو إِسْحَاقَ ، وَإِنْ أَمْكَنَ إِبْرَاءُ الْمُشْتَرِي مِنْهَا فَلَا وَجْهَ لِحَمْلِهِ عَلَى إِبْطَالِ الْوَكَالَةِ فِيهَا كَمَا نَقَلَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَغَصَبَ رَجُلٌ حِصَّةَ أَحَدِهِمَا ثُمَّ إِنَّ الْغَاصِبَ وَالشَّرِيكَ الْآخَرَ بَاعَا الْعَبْدَ مِنْ رَجُلٍ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ الْبَائِعِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْغَاصِبِ ، وَلَوْ أَجَازَهُ الْمَغْصُوبُ لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِتَجْدِيدِ بَيْعٍ فِي مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا كَانَ عَبْدٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ نَفْسَيْنِ غَصَبَ رَجُلٌ حِصَّةَ أَحَدِهِمَا ثُمَّ اتَّفَقَ الْغَاصِبُ وَالشَّرِيكُ الْآخَرُ عَلَى بَيْعِ الْعَبْدِ صَفْقَةً عَلَى رَجُلٍ كَانَ الْبَيْعُ فِي الْحِصَّةِ الْمَغْصُوبَةِ بَاطِلًا لِأَنَّهُ بَاعَهَا فِيمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ بَيْعَهَا بِمِلْكٍ وَلَا نِيَابَةٍ ، فَلَوْ أَجَازَهَا الْمَالِكُ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ فِيهَا إِلَّا بِتَجْدِيدِ عَقْدٍ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا وَقَعَ فَاسِدًا لَمْ يَصِحَّ إِلَّا بِالْإِجَازَةِ ، وَأَمَّا الْبَيْعُ فِي حِصَّةِ الشَّرِيكِ الْآخَرِ فَجَائِزٌ قَوْلًا وَاحِدًا وَلَا يَخْرُجُ عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ لِأَنَّ الْعَقْدَ مِنَ الِاثْنَيْنِ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ بَيْنَ الْمُنْفَرِدَيْنِ ، وَإِذَا انْفَرَدَ الْعَقْدُ لَمْ يَكُنْ فَسَادُ أَحَدِهِمَا مُوجِبًا لِفَسَادِ الْآخَرِ وَلَكِنْ لَوْ أَنَّ الْغَاصِبَ وَكَّلَ الشَّرِيكَ فِي بَيْعِهِ فَانْفَرَدَ الشَّرِيكُ فِي بَيْعِهِ أَوْ كَانَ الشَّرِيكُ قَدْ وَكَّلَ الْغَاصِبَ فِي بَيْعِ حِصَّتِهِ فَانْفَرَدَ الْغَاصِبُ بِبَيْعِ جَمِيعِهِ كَانَ الْبَيْعُ فِي الْحِصَّةِ الْمَغْصُوبَةِ بَاطِلًا ، وَهَلْ يَبْطُلُ فِي حِصَّةِ الشَّرِيكِ الْمَمْلُوكَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
_____كِتَابُ الْوَكَالَةِ _____

الْأَصْلُ فِي جَوَازِ الْوَكَالَةِ

كِتَابُ الْوَكَالَةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا الْآيَةَ فَأَمَرَ بِحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْهُمُ الرُّشْدُ وَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْبُلُوغِ مُصْلِحًا لِمَالِهِ عَدْلًا فِي دَيْنِهِ ، وَقَالَ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَوَلِيُّهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ الْقَيِّمُ بِمَالِهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) فَإِذَا جَازَ أَنْ يَقُومَ بِمَالِهِ بِتَوْصِيَةِ أَبِيهِ بِذَلِكَ إِلَيْهِ ، وَأَبُوهُ غَيْرُ مَالِكٍ كَانَ أَنْ يَقُومَ فِيهِ بِتَوْكِيلِ مَالِكِهِ أَجْوَزَ وَقَدْ وَكَّلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَقِيلًا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ هَذَا عَقِيلٌ مَا قُضِيَ عَلَيْهِ فَعَلَيَّ وَمَا قُضِيَ لَهُ فَلِي ، ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَلَا أَحْسَبُهُ كَانَ يُوَكِّلُهُ إِلَّا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخِطَابِ وَلَعَلَّهُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَوَكَّلَ أَيْضًا عَنْهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلِيٌّ حَاضِرٌ فَقَبِلَ ذَلِكَ عُثْمَانُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ الْوَكَالَةِ مشروعيتها الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْوِفَاقُ وَالْعِبْرَةُ ، فَأَمَّا الْكِتَابُ فَهُوَ مَا اسْتَشْهَدَ بِهِ الْمُزَنِيُّ مِنَ الْآيَتَيْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَابْتَلُوا الْيَتَامَى [ النِّسَاءِ : 6 ] . وَالثَّانِيَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ [ الْبَقَرَةِ : 282 ] وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهَا أَنَّهُ لَمَّا جَازَ نَظَرُ الْأَوْلِيَاءِ وَنَظَرُهُمْ إِنَّمَا يَكُونُ بِتَوْصِيَةِ أَبٍ أَوْ تَوْلِيَةِ حَاكِمٍ وَهُمَا لَا يَمْلِكَانِ كَانَ تَوْكِيلُ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ أَجْوَزَ . وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ [ الْكَهْفِ : 19 ] فَلَمَّا أَضَافَ الْوَرِقَ إِلَى جَمِيعِهِمْ وَجَعَلَ لَهُمُ اسْتِنَابَةَ أَحَدِهِمْ دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ وَصِحَّةِ الِاسْتِنَابَةِ ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا [ الْكَهْفِ : 19 ] ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا أَكْثَرُ طَعَامًا وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا أَحَلُّ طَعَامًا وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ .

وَالثَّالِثُ : أَنَّهَا خَيْرٌ طَعَامًا وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ . وَفِي قَوْلِهِ فَلْيَتَلَطَّفْ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : فَلْيَسْتَرْخِصْ . وَالثَّانِي : وَلِيَتَلَطَّفَ فِي إِخْفَاءِ أَمْرِكُمْ فَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا . وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ يُوسُفَ لِلْعَزِيزِ : اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [ يُوسُفَ : 55 ] أَيْ وَكِّلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ . وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا [ النِّسَاءِ : ] وَالْحَكَمُ وَكِيلٌ . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَاهُ قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا نَكَحَ الْوَلِيَّانِ فَالْأَوَّلُ أَحَقُّ وَإِذَا بَاعَ الْمُجِيزَانِ فَالْأَوَّلُ أَحَقُّ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ فِي النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ جَائِزَةٌ ، وَرَوَى شَبِيبُ بْنُ عُرْوَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ قَالَ أَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينَارًا لِيَشْتَرِيَ بِهِ أُضْحِيَّةً فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ وَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ وَأَتَاهُ بِشَاةٍ وَدِينَارٍ فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ فَكَانَ لَوِ اشْتَرَى تُرَابًا لَرَبِحَ فِيهِ . وَرَوَى أَبُو الْحَصِينِ عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مَعَهُ بِدِينَارٍ لِيَشْتَرِيَ لَهُ أُضْحِيَّةً فَاشْتَرَاهَا بِدِينَارٍ وَبَاعَهَا بِدِينَارَيْنِ فَرَجَعَ فَاشْتَرَى أُضْحِيَّةً بِدِينَارٍ وَجَاءَ بِدِينَارٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَصَدَّقَ بِهِ وَدَعَا لَهُ أَنْ يُبَارَكَ لَهُ فِي تِجَارَتِهِ . وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : أَرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُلْتُ : إِنِّي أُرِيدُ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ فَقَالَ : إِذَا أَتَيْتَ وَكِيلِي فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا فَإِنِ ابْتَغَى مِنْكَ آيَةً فَضَعْ يَدَكَ عَلَى تَرْقُوَتِهِ .

وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَّلَ أَبَا رَافِعٍ فِي تَزْوِيجِ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ ، وَوَكَّلَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ فِي تَزْوِيجِ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ . وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَّلَ أَخَاهُ عَقِيلًا وَقَالَ إِنَّ لِلْخُصُومَاتِ قُحَمًا وَإِنَّهَا لَتَخْلُفُ ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُهَا وَإِنِّي إِنْ حَضَرْتُ خِفْتُ أَنْ أَغْضَبَ وَإِنْ غَضِبْتُ خِفْتُ أَلَّا أَقُولَ حَقًّا وَقَدْ وَكَّلْتُ أَخِي عَقِيلًا فَمَا قُضِيَ عَلَيْهِ فَعَلَيَّ وَمَا قُضِيَ لَهُ فَلِي . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا أَحْسَبُهُ كَانَ تَوْكِيلُهُ إِلَّا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَلَعَلَّ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ . وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَّلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ عِنْدَ عُثْمَانَ لَمَّا كَبُرَ عَقِيلٌ فِي شِرْبٍ كَانَ يُنَازِعُ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ فَرَكِبَ عُثْمَانُ فِي نَفَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَا يَتَحَاكَمَانِ فِيهِ حَتَّى أَصْلَحَ بَيْنَهُمَا فِي الشِّرْبِ فَصَارَ هَذَا إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ . وَلِأَنَّ الْوَكَالَةَ مَعُونَةٌ إِمَّا لِمَنْ أَحَبَّ صِيَانَةَ نَفْسِهِ عَنِ الْبِذْلَةِ فِيهَا وَإِمَّا لِمَنْ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ بِهَا وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مُبَاحٌ وَحَاجَةُ النَّاسِ إِلَيْهِ أَشَدُّ مَاسَّةً .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْوَكَالَةِ تعريفها فَالْوَكَالَةُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ يَنْطَلِقُ عَلَى الْحِفْظِ وَالْمُرَاعَاةِ لِمَا عَلَى الْوَكِيلِ مِنْ حِفْظِ ما وُكِّلَ فِيهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا [ النِّسَاءِ : 109 ] أَيْ حَفِيظًا . وَقَالَ تَعَالَى : حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [ آلِ عِمْرَانَ : 173 ] أَيِ الْحَفِيظُ . وَلِأَنَّ الْوَكَالَةَ فِي الشَّرْعِ إِنَّمَا هِيَ إِقَامَةُ الْوَكِيلِ مَقَامَ مُوَكِّلِهِ فِي الْعَمَلِ الْمَأْذُونِ فِيهِ .

مَسْأَلَةٌ لِلنَّاسِ أَنْ يُوَكِّلُوا فِي أَمْوَالِهِمْ وَطَلَبِ حُقُوقِهِمْ وَخُصُومَاتِهِمْ وَيُوصُوا بِتَرِكَاتِهِمْ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَلِلنَّاسِ أَنْ يُوَكِّلُوا فِي أَمْوَالِهِمْ وَطَلَبِ حُقُوقِهِمْ وَخُصُومَاتِهِمْ وَيُوصُوا بِتَرِكَاتِهِمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَجُمْلَةُ الْوَكَالَةِ أَنَّهَا لَا تَتِمُّ إِلَّا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : بِمُوَكِّلٍ ، وَوَكِيلٍ ، وَمُوَكَّلٍ فِيهِ أركان الوكالة . فَبَدَأَ الْمُزَنِيُّ بِمَا يَصِحُّ فِيهِ التَّوَكُّلُ ، فَيَبْدَأُ بِتَفْضِيلِهِ ، ثُمَّ يَذْكُرُ الْفَصْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ بَعْدَهُ ، حَيْثُ ذَكَرَ .

وَجُمْلَةُ الْأَعْمَالِ أَنَّهَا تَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ يَجُوزُ فِيهِ التَّوْكِيلُ مَعَ الْعَجْزِ وَالْقُدْرَةِ . وَقِسْمٌ لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهِ مَعَ الْعَجْزِ وَالْقُدْرَةِ . وَقِسْمٌ يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهِ مَعَ الْعَجْزِ وَلَا يَجُوزُ مَعَ الْقُدْرَةِ . وَقِسْمٌ لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهِ مَعَ الْقُدْرَةِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ التَّوْكِيلِ فِيهِ مَعَ الْعَجْزِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ، وَهُوَ مَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهِ مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ فَهُوَ مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ ، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْأَمْوَالِ . فَأَمَّا حُقُوقُ الْأَمْوَالِ فَمِنْهَا مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي إِخْرَاجِهَا وَتَفْرِقَتِهَا . وَمِنْهَا مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَتَارَةً تَكُونُ عَقْدًا كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَتَارَةً تَكُونُ نَقْدًا كَالْقَرْضِ وَالْحَوَالَةِ وَتَارَةً يَكُونُ رِفْقًا كَالْعَارِيَّةِ وَالْوَدِيعَةِ ، وَتَارَةً يَكُونُ تَرْكًا كَالْإِبْرَاءِ وَالْمُسَامَحَةِ ، وَتَارَةً يَكُونُ أَخْذًا كَالْقَبْضِ وَالْمُطَالَبَةِ وَتَارَةً يَكُونُ فَضْلًا كَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَتَارَةً يَكُونُ عَمَلًا كَالْبِنَاءِ وَالْعِمَارَةِ فَحُقُوقُ الْأَمْوَالِ تَتَنَوَّعُ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ السَّبْعِ وَالتَّوْكِيلُ فِي جَمِيعِهَا جَائِزٌ . وَأَمَّا مَا يَجْرِي مَجْرَى الْأَمْوَالِ فَتَارَةً يَكُونُ عَقْدًا كَالنِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ وَتَارَةً يَكُونُ حَلًّا كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ ، وَتَارَةً يَكُونُ اسْتِيثَاقًا كَإِثْبَاتِ الْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ وَالدَّعَاوَى وَالْمُخَاصَمَاتِ فَهَذَا كُلُّهُ يَجُوزُ فِيهِ التَّوْكِيلُ إِلَّا اسْتِيفَاءَ الْحُدُودِ وَإِثْبَاتَهَا عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ مَا لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهِ مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ فَهُوَ مَا كَانَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي وُضِعَتْ إِخْلَاصًا كَالصَّلَاةِ أَوْ زَجْرًا كَالْأَيْمَانِ وَاللِّعَانِ . فَأَمَّا الطَّهَارَةُ فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ يَجُوزُ فِيهِ التَّوْكِيلُ وَالنِّيَابَةُ وَهُوَ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ . وَقِسْمٌ لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّوْكِيلُ وَهُوَ رَفْعُ الْحَدَثِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْإِخْلَاصُ وَالْعَمَلُ بِالنِّيَّةِ ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أُمِرَ عَلَى أَعْضَاءِ رَجُلٍ بِأَمْرٍ وَنَوَى الْمَغْسُولُ أَعْضَاؤُهُ الطَّهَارَةَ لِلصَّلَاةِ جَازَ وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ وَكَالَةً وَكَانَتْ مَعُونَةً كَمَا يُعَاوِنُهُ بِاسْتِقَاءِ الْمَاءِ وَبِإِعَارَةِ ثَوْبٍ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنَ الطَّهَارَةِ مَا سَقَطَ فَرْضُهُ بِفِعْلِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ وَكَالَةً وَهُوَ غُسْلُ الْمَيِّتِ وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ . فَإِذَا فَعَلَهُ أَحَدُهُمْ أَسْقَطَ بِهِ الْفَرْضَ عَنْ غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا . وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ اخْتِيَارُ

الزَّوْجَاتِ فِي مَنْ أَسْلَمَ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَا تَصِحُّ فِيهِ الْوَكَالَةُ لِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى شَهَوَاتِ النُّفُوسِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ مَا يَجُوزُ فِيهِ التَّوْكِيلُ مَعَ الْعَجْزِ وَلَا يَجُوزُ مَعَ الْقُدْرَةِ وَهُوَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَقَدْ مَضَى مِنْ حُكْمِ النِّيَابَةِ فِيهِمَا مَا يُغْنِي عَنْ زِيَادَةٍ فِيهِ وَيَكُونُ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ يَفْعَلُهَا النَّائِبُ تَبَعًا لِأَرْكَانِ الْحَجِّ وَإِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ مِمَّا لَا تَصِحُّ فِيهَا النِّيَابَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ مَا لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ مَعَ الْقُدْرَةِ ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي جَوَازِ التَّوْكِيلِ فِيهِ مَعَ الْعَجْزِ فَهُوَ الصِّيَامُ فَإِنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْفَرْضُ حَيًّا لَمْ يَجُزِ الصِّيَامُ عَنْهُ ، سَوَاءٌ كَانَ عَاجِزًا أَوْ مُطِيقًا ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا كَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ فِي الْقَدِيمِ : يَجُوزُ الصِّيَامُ عَنْهُ لِخَبَرٍ رُوِيَ فِيهِ وَرَجَعَ عَنْهُ فِي الْجَدِيدِ ، وَمَنَعَ مِنَ الصِّيَامِ عَنْهُ لِضَعْفِ الْخَبَرِ وَاحْتِمَالِ التَّأْوِيلِ فِيهِ إِنْ صَحَّ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَلَا بُدَّ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ شروطها مِنْ لَفْظٍ تَنْعَقِدُ بِهِ الْوَكَالَةُ وَأَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لِذِكْرِ مَا وَقَعَتْ فِيهِ الْوَكَالَةُ ثُمَّ قَبُولُ الْوَكَالَةِ فَتَتِمُّ الْوَكَالَةُ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ شَرْطَانِ مِنْهَا مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ وَهُمَا : اللَّفْظُ بِالْوَكَالَةِ وَذِكْرُ الْمُوَكَّلِ فِيهِ . وَالثَّالِثُ : مِنْ جِهَةِ الْوَكِيلِ وَهُوَ الْقَبُولُ . فَأَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ وَهُوَ لَفْظُ الْعَقْدِ صيغة الوكالة فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ هُوَ صَرِيحُ الْعَقْدِ . وَقِسْمٌ هُوَ مَقْصُودُ الْعَقْدِ . وَقِسْمٌ يَخْرُجُ مِنَ الْأَمْرَيْنِ فَلَا يَكُونُ صَرِيحًا وَلَا مَقْصُودًا . فَأَمَّا صَرِيحُ الْعَقْدِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَدْ وَكَّلْتُكَ وَأَنْتَ وَكِيلِي أَوْ قَدْ جَعَلْتُكَ لِي وَكِيلًا فَيَصِحُّ عَقْدُ الْوَكَالَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ لِكَوْنِهِ صَرِيحًا فِيهِ لِمَفْهُومِ الْمُرَادِ بِهِ . وَأَمَّا مَقْصُودُ الْعَقْدِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَدْ أَقَمْتُكَ مَقَامِي أَوْ قَدْ جَعَلْتُكَ نَائِبًا عَنِّي فَيَصِحُّ عَقْدُ الْوَكَالَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ أَيْضًا لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِاللَّفْظِ وَالصَّرِيحُ فِيهَا فَكَانَ أَحَقَّ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ قَدِ اسْتَنَبْتُكَ صَحَّ الْعَقْدُ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ نِيَابَةٌ ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ سَأُوَكِّلُكَ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ وَهَكَذَا لَوْ قَالَ أُوَكِّلُكَ لِأَنَّهُ مَوْعِدٌ . وَأَمَّا الْخَارِجُ عَنِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ صَرِيحٍ وَمَقْصُودٍ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : قَدْ عَوَّلْتُ عَلَيْكَ فَلَا يَصِحُّ عَقْدُ الْوَكَالَةِ لِاحْتِمَالِهِ أَنْ يَكُونَ مُعَوَّلًا عَلَى رَأْيِهِ أَوْ مَعُونَتِهِ أَوْ نِيَابَتِهِ .

وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : قَدِ اعْتَمَدْتُ عَلَيْكَ أَوِ اسْتَكْفَيْتُ إِلَى مَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُحْتَمِلَةِ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ بِهَا إِلَّا أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهَا أَحَدُ أَلْفَاظِ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَيَصِحَّ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي : وَهُوَ ذِكْرُ مَا وُكِّلَ فِيهِ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ يَكُونُ عَامًّا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا . وَقِسْمٌ يَكُونُ خَاصًّا فِي حَالٍ بِعَيْنِهَا . وَقِسْمٌ يَكُونُ عَامًّا فِي وَجْهٍ وَخَاصًّا فِي وَجْهٍ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ الْعَامُّ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ : قَدْ وَكَّلْتُكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ أَوْ قَدْ وَكَّلْتُكَ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ أَوْ قَدْ وَكَّلْتُكَ فِي فِعْلِ مَا رَأَيْتَهُ صَلَاحًا فِي مَالِي . فَهَذِهِ وَكَالَةٌ بَاطِلَةٌ لِلْجَهْلِ بِهَا ، وَمُضَادَّةُ الِاحْتِمَالِ فِيهَا لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَمِلُ التَّوْكِيلَ فِي حِفْظِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَيَحْتَمِلُ بَيْعَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَهُمَا ضِدَّانِ مُتَبَايِنَانِ فَبَطَلَتِ الْوَكَالَةُ مِنْ أَجْلِهِ ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ الْخَاصُّ فِي حَالٍ بِعَيْنِهَا فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ : قَدْ وَكَّلْتُكَ فِي بَيْعِ هَذَا الْعَبْدِ أَوْ فِي شِرَاءِ هَذِهِ الدَّارِ أَوْ فِي اقْتِضَاءِ هَذَا الدَّيْنِ أَوْ فِي تَثْبِيتِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ أَوْ فِي مُخَاصَمَةِ هَذَا الْمُدَّعِي فَتَصِحُّ الْوَكَالَةُ خُصُوصًا فِي الْمَأْذُونِ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَهَذَا مَا وَافَقَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَإِنْ خَالَفَ فِي الْوَصِيَّةِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَجْعَلُ الْوَصِيَّ فِي شَيْءٍ وَصِيًّا فِي كُلِّ شَيْءٍ ، وَلَا يَجْعَلُ الْوَكِيلَ فِي شَيْءٍ وَكِيلًا فِي كُلِّ شَيْءٍ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي أَنَّ عَمَلَهُمَا مَقْصُورٌ عَلَى الْمَأْذُونِ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ الْعَامُّ مِنْ وَجْهٍ الْخَاصُّ مِنْ وَجْهٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ خُصُوصُهُ بِجَعْلِ الْعُمُومِ مَعْلُومًا فَتَصِحُّ فِيهِ الْوَكَالَةُ كَقَوْلِهِ قَدْ وَكَّلْتُكَ فِي بَيْعِ كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ مِنْ مَالِي لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْبَيْعِ قَدْ جَعَلَ الْمُرَادَ بِعُمُومِ مَالِهِ مَعْلُومًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَصِيرَ الْعُمُومُ بِمَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّخْصِيصِ مَعْلُومًا فَالْوَكَالَةُ فِيهِ بَاطِلَةٌ كَقَوْلِهِ قَدْ وَكَّلْتُكَ فِي شِرَى مَا رَأَيْتَ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ مِنْ مَالِي لِأَنَّ جِنْسَ مَا يَشْتَرِيهِ بِمَالِهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا فَبَطَلَتِ الْوَكَالَةُ فِيهِ . وَهَكَذَا لَوْ قَالَ اشْتَرِ لِي بِهَذَا الْأَلْفِ مَا رَأَيْتَ مِنَ الْعُرُوضِ أَوْ مَا عَلِمْتَ فِيهِ حَظًّا مِنَ الْإِبْرَاءِ حكم الوكاله كَانَتِ الْوَكَالَةُ فِيهِ بَاطِلَةً إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ طَلَبَ الرِّبْحِ دُونَ التَّمْلِيكِ فَيَجُوزُ كَالْمُضَارَبَاتِ ، فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ لَوْ دَفَعَ فِي الْمُضَارَبَةِ مَالًا يَشْتَرِي بِهِ الْعَامِلُ مَا رَأَى فِيهِ صَلَاحًا جَازَ ، فَهَلَّا جَازَ مِثْلُهُ فِي الْوَكَالَةِ ؟ قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْمُضَارَبَةِ طَلَبُ الرِّبْحِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ اخْتِلَافُ الْأَجْنَاسِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ مَعْلُومًا فَصَحَّ . وَالْمَقْصُودُ فِي الْوَكَالَةِ تَمَلُّكُكَ الْعَيْنَ الْمُشْتَرَاةَ ، وَإِطْلَاقُ ذَلِكَ مَعَ اخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ لَا يَجْعَلُ الْمَقْصُودَ مِنْهَا مَعْلُومًا

فَبَطَلَ ، فَعَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ يَكُونُ جَوَابُ مَا تَضَمَّنَهُ الْمُوَكِّلُ فَاعْتَبَرَهُ بِهَا يَتَقَرَّرُ لِكُلِّ الْحُكْمِ فِيهِ فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لَهُ : قَدْ وَكَّلْتُكَ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ لَمْ يَصِحَّ حَتَّى يَصِفَهُ بِمَا يَتَمَيَّزُ لِلْوَكِيلِ مُرَادُهُ فِي الْعَبْدِ مِنْ ذِكْرِ جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ صِفَتِهِ الْمُسْتَحَقَّةِ فِي السِّلْمِ لِأَنَّهُ يُضَيِّقُ عَلَى النَّاسِ فَلَوْ قَالَ لَهُ قَدْ وَكَّلْتُكَ فِي شِرَاءِ مَنْ رَأَيْتَ مِنَ الْعَبِيدِ أَوْ فِي شِرَاءِ مَا رَأَيْتَ مِنَ الْخَيْلِ حكمه فى الوكاله لَمْ يَجُزْ لِاخْتِلَافِ الْعَبِيدِ وَالْخَيْلِ وَجَهْلِ الْوَكِيلِ بِالْمَقْصُودِ مِنْهَا وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : بِعْ مَنْ رَأَيْتَ مِنْ عَبِيدِي أَوْ بِعْ مَا رَأَيْتَ مِنْ خَيْلِي لَمْ يَجُزْ سَوَاءٌ ذَكَرَ الْعَدَدَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ حَتَّى يَتَمَيَّزَ الْمَبِيعُ وَالْمُشْتَرَى مِنْ غَيْرِهِ بِصِفَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَهُ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ أَوْ ثَوْبٍ وَإِنْ لَمْ يُشِرْ إِلَى صِفَاتِهِ اعْتِمَادًا عَلَى رَأْيِ وَكِيلِهِ الْمُوَكَّلِ ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ عَقْدُ الْوَكَالَةِ وَبَيَانُ الْوَكِيلِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهِ عَلَى الْفَوْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ وَهُوَ قَبُولُ الْوَكِيلِ فَهُوَ عَلَى التَّرَاخِي مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ زَمَانُ الْعَمَلِ الَّذِي وَكَّلَ فِيهِ ، فَإِنْ تَعَيَّنَ زَمَانُهُ وَخِيفَ فَوَاتُهُ كَانَ قَبُولُ الْوَكَالَةِ عَلَى الْفَوْرِ وَكَذَلِكَ لَوْ عَرَضَهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ عِنْدَ ثُبُوتِهَا عِنْدَهُ صَارَ قَبُولُهَا عَلَى الْفَوْرِ أَيْضًا وَقَبُولُهَا فِيمَا سِوَى هَذَيْنِ عَلَى التَّرَاخِي . وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ : قَبُولُ الْوَكَالَةِ عَلَى الْفَوْرِ لِأَنَّهَا عَقْدٌ فَجَرَتْ مَجْرَى سَائِرِ الْعُقُودِ . وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْوَكَالَةَ لَهُ إِذْنٌ بِالتَّصَرُّفِ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَعْجِيلِ الْقَبُولِ كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْوَكَالَةَ نِيَابَةٌ كَالْوَصِيَّةِ ثُمَّ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْقَبُولُ فِي الْوَصِيَّةِ عَلَى التَّرَاخِي وَكَذَلِكَ الْوَكَالَةُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَوْ وَكَّلَهُ بِمُكَاتَبَةٍ جَازَ لَوْ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِحَّةُ الْكِتَابِ أَنْ يَكُونَ قَبُولُهُ عَلَى التَّرَاخِي فَكَذَلِكَ فِي الْمُشَافَهَةِ . فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذِهِ الشُّرُوطَ فَقَدْ تَمَّتِ الْوَكَالَةُ سَوَاءٌ أَشَهِدَ الْمُوَكِّلُ عَلَى نَفْسِهِ بِهَا أَمْ لَا : لِأَنَّ الشَّهَادَةَ إِنَّمَا هِيَ حُجَّةٌ فِي ثُبُوتِ وَكَالَتِهِ وَلَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّتِهَا . فَلَوْ كَانَ الْوَكِيلُ غَائِبًا فِي وَقْتَ الْوَكَالَةِ ، فَشَهِدَ بِوَكَالَتِهِ شَاهِدَانِ عِنْدَ الْحَاكِمِ فَإِنْ صَدَّقَهَا جَازَ لَهُ قَبُولُهَا وَالْعَمَلُ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فِي نَفْسِهِ صِدْقُهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا وَلَيْسَ قَبُولُ الْحَاكِمِ لَهَا بِمُغْنٍ عَنْ تَصْدِيقِهِ . وَلَوْ رَدَّهَا الْحَاكِمُ لِمَعْنًى أَوْجَبَ رَدَّ شَهَادَتِهِمَا وَوَقَعَ فِي نَفْسِ الْوَكِيلِ صِدْقُهُمَا جَازَ لَهُ

قَبُولُهَا وَالْعَمَلُ بِهَا وَلَيْسَ رَدُّ الْحَاكِمِ لَهَا بِمَانِعٍ مِنْ عَمَلِ الْوَكِيلِ بِقَوْلِهِمَا لِأَنَّ قَوْلَهُمَا عِنْدَهُ خَبَرٌ وَعِنْدَ الْحَاكِمِ شَهَادَةٌ . فَإِذَا سَأَلَ الْوَكِيلُ مُوَكِّلَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِوَكَالَتِهِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَتِ الْوَكَالَةُ فِيمَا إِذَا جَحَدَهَا الْمُوَكِّلُ تَعَلَّقَ بِالْوَكِيلِ فِيهَا زَائِدَةُ ضَمَانٍ كَالْبَيْعِ إِنْ لَزِمَهُ الْمُوَكِّلُ لَزِمَهُ الْوَكِيلُ ، ضَمَانُ مَا أُقْبِضَ مِنَ الْمَبِيعِ أَوْ كَالشِّرَى إِنْ جَحَدَهُ الْمُوَكِّلُ لَزِمَ الْوَكِيلَ ، الْمُشْتَرِي أَوْ كَفِيلُ الْأَمْوَالِ يَلْزَمُهُ مَعَ الْجُحُودِ الضَّمَانُ ، أَوْ كَقَضَاءِ الدُّيُونِ يَلْزَمُهُ مَعَ الْجُحُودِ غُرْمُ مَا قَضَى فَوَاجِبٌ عَلَى الْمُوَكِّلِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى الْوَكِيلِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْوَكَالَةِ . وَإِنْ كَانَتِ الْوَكَالَةُ فِيمَا إِنْ جَحَدَهُ الْمُوَكِّلُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْوَكِيلِ فِيهَا ضَمَانٌ كَالْوَكَالَةِ فِي إِثْبَاتِ الْحُقُوقِ وَالْمُطَالَبَةِ بِالشُّفْعَةِ وَمُقَاسَمَةِ الشُّرَكَاءِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُوَكِّلِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْوَكَالَةِ ثُمَّ لَا يَجُوزُ عَقْدُ الْوَكَالَةِ عَلَى أَجَلٍ أَوْ شَرْطٍ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْوَكَالَةِ بِالشُّرُوطِ وَالْآجَالِ فَاسِدَةٌ . فَإِذَا قَالَ : إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَقَدْ وَكَّلْتُكَ فِي بَيْعِ دَارِي كَانَتِ الْوَكَالَةُ بَاطِلَةً لِعَقْدِهَا إِلَى أَجَلٍ ، وَلَوْ قَالَ قَدْ وَكَّلْتُكَ فِي بَيْعِ دَارِي إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ جَازَ : لِأَنَّهُ عَجَّلَ عَقْدَ الْوَكَالَةِ وَإِنَّمَا جَعَلَ رَأْسَ الشَّهْرِ مَحَلًّا لِوَقْتِ الْبَيْعِ . وَهَكَذَا لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَتْ زَيْنَبُ فَقَدْ وَكَّلْتُكَ فِي طَلَاقِهَا لَمْ يَجُزْ ، وَلَوْ قَالَ وَكَّلْتُكَ فِي طَلَاقِ زَيْنَبَ إِنْ شَاءَتْ جَازَ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَاهُ فَقَدْ يَنْقَسِمُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْوَكَالَةُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا كَانَ عَمَلُ الْوَكِيلِ فِيهِ مَقْصُورًا عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الْوَكَالَةُ دُونَ مَقْصُودِهِ ، وَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ وَاجِبًا عَلَى الْمُوَكِّلِ كَالتَّوْكِيلِ فِي إِثْبَاتِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ فَلَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْحَدَّ وَالْقِصَاصَ بَعْدَ إِثْبَاتِهِ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَهُ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى مُوَكِّلِهِ . وَهَكَذَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِدَيْنٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْضُهُ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ وَإِنْ وَكُلَّهُ فِي الْمُخَاصَمَةِ فِي دَارٍ يَدَّعِيهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبَضُهَا وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي إِثْبَاتِ مَنْفَعَةٍ يَسْتَحِقُّهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ انْتِزَاعُهَا وَكَانَ عَمَلُ الْوَكِيلِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا مَقْصُورًا عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْإِذْنُ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي مَا كَانَ عَمَلُ الْوَكِيلِ فِيهِ مُتَجَاوِزًا إِلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الْوَكَالَةُ مِنْ مَقْصُودِهِ وَهُوَ مَا كَانَ مَقْصُودُهُ وَاجِبًا عَلَى الْمُوَكِّلِ كَالتَّوْكِيلِ فِي بَيْعٍ أَوْ شِرًى فَلَهُ إِذَا عَقَدَ الْبَيْعَ أَنْ يُسَلِّمَ الْمَبِيعَ وَيَتَسَلَّمَ الثَّمَنَ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ لَهُ الْمُوَكِّلُ بِهِ لِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ أَوْجَبَ عَلَيْهِ تَسْلِيمَ مَا بَاعَهُ وَهُوَ مَنْدُوبٌ إِلَى أَنْ لَا يُسَلِّمَ الْمَبِيعَ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ ثَمَنِهِ فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَتَجَاوَزَ مَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ إِلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَقَبْضِ ثَمَنِهِ . وَهَكَذَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي شِرَى سِلْعَةً جَازَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا وَيَدْفَعَ ثَمَنَهَا لِأَنَّ عَقْدَ الشِّرَى قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ دَفْعَ الثَّمَنِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ إِلَى أَنْ لَا يَدْفَعَ الثَّمَنَ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ الْمَبِيعِ .

فَإِنْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعٍ عَلَى أَنْ لَا يَقْبِضَ الثَّمَنَ مِنَ الْمُشْتَرِي صَحَّتِ الْوَكَالَةُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْضُ الثَّمَنِ . وَلَوْ وَكَّلَهُ فِيهِ عَلَى أَنْ لَا يُسَلِّمَ الْمَبِيعَ الوكالة في البيع كَانَ فِي الْوَكَالَةِ وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي إِفْصَاحِهِ : أَحَدُهُمَا : تَصِحُّ الْوَكَالَةُ كَمَا لَوْ نَهَاهُ عَنْ قَبْضِ الثَّمَنِ فَإِذَا أُخِذَ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ أَخَذَ بِهِ الْمُوَكِّلُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْوَكَالَةَ بَاطِلَةٌ لِأَنَّ إِقْبَاضَ الْمَبِيعِ مِنْ لَوَازِمِ الْبَيْعِ فَإِذَا نَهَاهُ عَنْهُ بَطَلَ التَّوْكِيلُ فِي سَبَبِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا اخْتَلَفَ الْمَذْهَبُ فِيهِ هَلْ يَكُونُ عَمَلُ الْوَكِيلِ مَقْصُورًا عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْإِذْنُ أَوْ تَجُوزُ لَهُ الْمُجَاوَزَةُ إِلَى مَا أَدَّى إِلَيْهِ ، وَهُوَ مَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ عَمَلِ الْمَأْذُونِ فِيهِ إِلَّا بِهِ كَالْوَكَالَةِ فِي مُقَاسَمَةٍ فِي دَارٍ وَقَبْضِ الْحِصَّةِ مِنْهَا إِذَا جَحَدَ الشَّرِيكُ هَلْ يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ الْمُخَاصَمَةُ فِيهَا وَإِثْبَاتُ الْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ عَلَيْهَا ؟ وَكَالْوَكَالَةِ فِي قَبْضِ دَيْنٍ إِذَا جَحَدَهُ الْمَطْلُوبُ هَلْ يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ مُخَاصَمَتُهُ وَإِثْبَاتُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ تَخْرِيجًا : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَيَكُونُ مَقْصُودُ الْعَمَلِ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ صَرِيحُ الْإِذْنِ لِأَنَّ مَا يُجَاوِزُهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِيهِ فَشَابَهَ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَى الْعَمَلِ الْمَأْذُونِ فِيهِ إِلَّا بِهِ فَصَارَ بِوَاجِبَاتِهِ أَشْبَهَ كَالْقِسْمِ الثَّانِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ لَا ضَمَانَ عَلَى الْوُكَلَاءِ إِلَّا أَنْ يَتَعَدَّوْا فَيَضْمَنُوا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوُكَلَاءِ وَلَا عَلَى الْأَوْصِيَاءِ وَلَا عَلَى الْمُودَعِينَ وَلَا عَلَى الْمُقَارِضِينَ إِلَّا أَنْ يَتَعَدَّوْا فَيَضْمَنُوا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، الْأَيْدِي فِي أَمْوَالِ الْغَيْرِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : يَدٌ ضَامِنَةٌ وَيَدٌ أَمِينَةٌ وَيَدٌ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهَا هَلْ هِيَ ضَامِنَةٌ أَوْ أَمِينَةٌ ؟ . فَأَمَّا الْيَدُ الضَّامِنَةُ فَيَدُ الْغَاصِبِ وَالْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسَاوِمِ وَالْمُشْتَرِي وَالْمُسْتَقْرِضِ ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَلْزَمُهُمْ ضَمَانُ مَا هَلَكَ بِأَيْدِيهِمْ وَإِنْ كَانَ هَلَاكُهُ بِغَيْرِ تَعَدِّيهِمْ لِأَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ مُتَعَدٍّ بِيَدِهِ أَوْ مُعَارِضٍ عَلَى مَا فِي يَدِهِ . وَأَمَّا الْيَدُ الْأَمِينَةُ فِيهِ الْوَكِيلُ وَالْمَضَارِبُ وَالشَّرِيكُ وَالْمُودَعُ وَالْمُسْتَأْجِرُ وَالْمُرْتَهِنُ فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يَتَعَدَّوْا وَيُفْرِطُوا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مُتَعَدٍّ بِيَدِهِ وَلَا مُعَاوِضٌ عَلَى غَيْرٍ ، وَأَمَّا الْيَدُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا فَيَدُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ إِذَا هَلَكَ بِيَدِهِ مَا اسْتُؤْجِرَ عَلَى عَمَلِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ فِيهِ وَلَا تَعَدٍّ عَلَيْهِ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا يَدٌ ضَامِنَةٌ يَلْزَمُهَا ضَمَانُ مَا هَلَكَ فِيهَا كَالْمُسْتَعِيرِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا يَدٌ أَمِينَةٌ لَا ضَمَانَ فِيمَا هَلَكَ فِيهَا كَالْمُودَعِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْوَكِيلُ أَمِينٌ فِيمَا بِيَدِهِ لِمُوَكِّلِهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِنْ هَلَكَ لِأَمْرَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُوَكِّلَ قَدْ أَقَامَهُ فِيهِ مَقَامَ نَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَلْتَزِمُ ضَمَانَ مَا بِيَدِهِ فَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ الَّذِي هُوَ بِمَثَابَتِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْوَكَالَةَ عَقْدُ إِرْفَاقٍ وَمَعُونَةٍ ، وَفِي تَعَلُّقِ الضَّمَانِ بِهَا مَا يَخْرُجُ عَنْ مَقْصُودِ الْإِرْفَاقِ وَالْمَعُونَةِ فِيهَا . وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْوَكَالَةُ بَعِوَضٍ أَوْ غَيْرِ عِوَضٍ فَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ يَقُولُ : إِذَا كَانَتْ بَعِوَضٍ جَرَتْ مَجْرَى الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ فَيَكُونُ وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهَا إِذَا خَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ الْإِجَارَةِ فِي اللُّزُومِ خَرَجَتْ عَنْ حُكْمِهَا فِي الضَّمَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ التَّوْكِيلُ مِنْ كُلِّ مُوَكِّلٍ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ تَخْرُجُ أَوْ لَا تَخْرُجُ بِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالتَّوْكِيلُ مِنْ كُلِّ مُوَكِّلٍ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ تَخْرُجُ أَوْ لَا تَخْرُجُ بِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي الْخِلَافِ الْمُتَعَلِّقِ بِهَا . وَالثَّانِي : فِي شَرْحِ الْمَذْهَبِ فِيهَا . فَأَمَّا الْخِلَافُ الْمُتَعَلِّقُ بِهَا فَتَقْدِيمُهُ أَوْلَى لِيَتَمَهَّدَ عَلَيْهِ الْمَذْهَبُ مَشْرُوحًا وَالْخِلَافُ فِيهَا فِي فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَرْأَةَ يَجُوزُ أَنْ تُوَكِّلَ فِي الْمُخَاصَمَةِ خَفِرَةً كَانَتْ أَوْ بَرْزَةً ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ لِلْخَفِرَةِ الَّتِي لَا تَبْرُزُ أَنْ تُوَكِّلَ وَلَا يَجُوزُ لِلْبَرْزَةِ الَّتِي تَظْهَرُ لِلنَّاسِ أَنْ تُوَكِّلَ . وَالثَّانِي : أَنَّ الرَّجُلَ يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ فِي الْمُخَاصَمَةِ حَاضِرًا كَانَ أَوْ غَائِبًا ، مَعْذُورًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ لِلْغَائِبِ وَالْحَاضِرِ الْمَعْذُورِ أَنْ يُوَكِّلَ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاضِرِ غَيْرِ الْمَعْذُورِ أَنْ يُوَكِّلَ . وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهَا لِتَقَارُبِ الْخِلَافِ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ [ النُّورِ : 48 ] وَمَنِ امْتَنَعَ عَنِ الْحُضُورِ بِالْوَكَالَةِ كَانَ مُعْرِضًا عَنِ الْإِجَابَةِ . وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ فِي عَهْدِهِ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ : آسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهِكَ وَعَدْلِكَ وَمَجْلِسِكَ ، وَفِي مُقَابَلَةِ الْخَصْمِ بِالْوَكِيلِ عَدَمُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ وَلِأَنَّ حُضُورَ الْخَصْمِ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْمُدَّعِي بِدَلَالَةِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ مُلَازَمَةٍ لِلْخُصُومَةِ وَمَنْعِهِ مِنَ اشْتِغَالِهِ ، وَفِي امْتِنَاعِهِ عَنِ الْحُضُورِ بِالتَّوْكِيلِ إِسْقَاطٌ لِحَقِّ الْمُدَّعِي مِنَ الْحُضُورِ وَلِأَنَّ جَوَابَ الدَّعْوَى مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَقَدْ يَكُونُ الْجَوَابُ تَارَةً إِقْرَارًا وَتَارَةً

إِنْكَارًا وَالْوَكِيلُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْإِنْكَارِ دُونَ الْإِقْرَارِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْطُلَ بِالتَّوْكِيلِ حَقُّهُ فِي أَحَدِ الْجَوَابَيْنِ ، وَمَا قَدْ يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْيَمِينِ الَّتِي لَا يَنُوبُ الْوَكِيلُ عَنْهُ فِيهَا ، وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ فَرْعٌ لِمُوَكِّلِهِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ هِيَ فَرْعٌ عَلَى شُهُودِ الْأَصْلِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْمَعَ شُهُودَ الْفَرْعِ إِلَّا بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ شُهُودِ الْأَصْلِ وَجَبَ أَلَّا يَقْتَنِعَ بِالْوَكِيلِ إِلَّا بَعْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْمُوَكِّلِ . وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ نَائِبٌ عَنْ مُوَكِّلِهِ كَالْوَصِيِّ وَالْوَلِيِّ عَلَى الْيَتِيمِ فَلَمَّا ثَبَتَتِ الْوَلَايَةُ لِعَجْزِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ تَصِحَّ الْوَكَالَةُ لِعَجْزِ الْمُوَكِّلِ . وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَمِعَ دَعْوَى حُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ عَلَى يَهُودِ خَيْبَرَ أَنَّهُمْ قَتَلُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ نِيَابَةً عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ وَوَلِيُّهُ كَانَ حَاضِرًا فَمَا أَنْكَرَ دَعْوَاهُمْ لَهُ مَعَ حُضُورِهِ فَلَوْ كَانَتْ وَكَالَةُ الْحَاضِرِ غَيْرَ جَائِزَةٍ لِأَنْكَرَهَا حَتَّى يَبْتَدِئَ الْوَلِيُّ بِهَا ، أَلَا تَرَاهُ أَنْكَرَ عَلَى مُحَيِّصَةَ حِينَ ابْتَدَأَ بِالْكَلَامِ قَبِلَ حُوَيِّصَةَ وَقَالَ لَهُ كَبِّرْ كَبِّرْ وَلَيْسَ تَقْدِيمُ الْأَكْبَرِ بِوَاجِبٍ وَإِنَّمَا هُوَ أَدَبٌ فَكَيْفَ يَكُفُّ عَنْ إِنْكَارِ مَا هُوَ وَاجِبٌ ؟ وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَكَّلَ عَقِيلًا أَخَاهُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَلَعَلَّهُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَلِيٌّ كَانَ حَاضِرًا وَوَكَّلَ أَيْضًا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ حِينَ أَسَنَّ عَقِيلٌ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَكَانَ عَلِيٌّ حَاضِرًا فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ إِجْمَاعًا عَلَى وَكَالَةِ الْحَاضِرِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ تَوْكِيلُهُ إِذَا كَانَ غَائِبًا أَوْ مَرِيضًا صَحَّ تَوْكِيلُهُ وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا صَحِيحًا كَالتَّوْكِيلِ فِي الْعُقُودِ وَاسْتِخْرَاجِ الدُّيُونِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ تَوْكِيلُهُ فِي الْعُقُودِ مَعَ الْغَيْبَةِ صَحَّ تَوْكِيلُهُ مَعَ الْحُضُورِ كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَلِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ لَا يَخْتَلِفُ بِمَرَضِ الْعَاقِدِ وَصِحَّتِهِ وَحُضُورِهِ وَغَيْبَتِهِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ ، وَلِأَنَّ مَقْصُودَ الْوَكَالَةِ إِنَّمَا هُوَ مَعُونَةُ مَنْ كَانَ ضَعِيفًا أَوْ صِيَانَةُ مَنْ كَانَ مَهِيبًا وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي غَيْرِ الْمَعْذُورِ كَوُجُودِهِ فِي الْمَعْذُورِ . فَأَمَّا جَوَابُهُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَنْ وَكَّلَ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ مُعْرِضًا عَنِ الْإِجَابَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ دَعَا إِلَى الدَّيْنِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَصِحُّ فِيهِ التَّوْكِيلُ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ عَمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْوَكَالَةَ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ إِبْطَالُ التَّسَاوِي . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ حُضُورَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ الْمُدَّعِي فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَوْ خَرَجَ مِنَ الدَّعْوَى بِغَيْرِ حُضُورٍ سَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ عَنْهُ وَلَوْ حَضَرَ مِنْ غَيْرِ

خُرُوجٍ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ فَثَبَتَ أَنَّ حَقَّ الْمُدَّعِي فِي الْخُرُوجِ فِي الدَّعْوَى لَا فِي حُضُورِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ وَلَا لِلْمُدَّعِي قَطْعُهُ عَنِ اشْتِغَالِهِ إِذَا خَرَجَ مِنَ الدَّعْوَى أَوْ وَكَّلَ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ الْجَوَابَ قَدْ يَكُونُ إِقْرَارًا فَهُوَ مَنْ تَخَرَّجَ فِي دَيْنِهِ بِالْإِقْرَارِ مَعَ حُضُورِهِ كَانَ مُتَخَرِّجًا بِالْخُرُوجِ مِنَ الْحَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ فَهُوَ جَمْعٌ بِغَيْرِ مَعْنًى ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْمَعَ شُهُودَ الْفَرْعِ بِرِضَا الْخَصْمِ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى شُهُودِ الْأَصْلِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَسْمَعَ مِنَ الْوَكِيلِ بِرِضَا الْخَصْمِ مَعَ زَوَالِ الْعُذْرِ دَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ الضَّرُورَةِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِالضَّرُورَةِ فِي الْوَكَالَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ إِلَّا بَعْدَ الْكَشْفِ عَنْ أَحْوَالِ الشُّهُودِ فَمَا لَمْ يُضْطَرَّ إِلَيْهَا لَمْ يُكَلَّفْ سَمَاعَهَا . وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ مِنَ الْخَصْمِ وَلَا يَكْشِفُ عَنْ حَالِهِ فَجَازَ سَمَاعُهُ مِمَّنْ لَمْ يُضْطَرُّ إِلَى السَّمَاعِ مِنْهُ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْوَصِيِّ وَالْوَلِيِّ فَذَلِكَ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ مَنْ لَمْ يَخْتَرْهُ فَلَمْ يَجُزْ إِلَّا مَعَ الضَّرُورَةِ ، وَالْوَكِيلُ نَائِبٌ عَنْ مَنِ اخْتَارَهُ فَجَازَ ارْتِفَاعُ الضَّرُورَةِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْوَكَالَةِ مِنَ الْمَرْأَةِ الْبَرْزَةِ وَغَيْرِ الْبَرْزَةِ وَمِنَ الرَّجُلِ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِ الْمَعْذُورِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَنْ يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ . وَالثَّانِي : مَنْ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَكَّلَ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ مَنْ يَجُوزُ أَنْ يُوَكَّلَ فَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ تَصَرُّفُهُ فِي شَيْءٍ تَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ انْقَسَمَتْ أَحْوَالُ النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُمْ عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا أقسام الموكلين وَهُمْ مَنْ كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا حُرًّا رَشِيدًا فَتَصَرُّفُهُمْ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا جَائِزٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يُوَكِّلُوا إِذَا كَانَ تَصَرُّفُهُمْ تَصَرُّفَ مِلْكٍ لَا نِيَابَةٍ . فَأَمَّا الْمُتَصَرِّفُ فِيهِ بِنِيَابَةٍ عَنْ غَيْرِهِ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفُهُ بِإِذْنِ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ كَالْوَكِيلِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ عَنْ نَفْسِهِ فِيمَا وُكِّلَ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْ مُوَكِّلِهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ تَقْسِيمِ الْأَحْوَالِ فِيهِ .

وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفُهُ بِغَيْرِ إِذْنِ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ كَالْوَصِيِّ وَوَلِيِّ الْيَتِيمِ وَأَبِ الطِّفْلِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ عَنْ نَفْسِهِ إِنْ شَاءَ فَكِلَا الْأَمْرَيْنِ جَائِزٌ فَهَذَا قِسْمٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَنْ لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُمْ عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَهُمُ الصِّبْيَانُ وَالْمَجَانِينُ فَلَا يَجُوزُ تَوْكِيلُهُمْ وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِوَلِيِّهِمْ أَنْ يُوَكِّلَ عَنْهُمْ ، فَلَوْ أَنَّ صَبِيًّا وَكَّلَ ثُمَّ بَلَغَ أَوْ مَجْنُونًا وَكَّلَ ثُمَّ أَفَاقَ كَانَتِ الْوَكَالَةُ بَاطِلَةً لِفَسَادِ وُقُوعِهَا فَلَمْ يَصِحَّ لِجَوَازِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ بَعْدُ . فَأَمَّا الْعَاقِلُ إِذَا وَكَّلَ عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ جُنَّ بَعْدَ تَوْكِيلِهِ فما الحكم فَلَهُ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَطُولَ بِهِ الْجُنُونُ حَتَّى يَصِيرَ إِلَى حَالٍ يُوَلَّى عَلَيْهِ فَالْوَكَالَةُ قَدْ بَطَلَتْ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ بِالْجُنُونِ بَاطِلَ التَّصَرُّفِ كَانَ تَصَرُّفُ مَنْ تَوَكَّلَ مِنْ جِهَتِهِ أَبْطَلَ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يَطُولَ بِهِ الْجُنُونُ حَتَّى يُفِيقَ مِنْهُ سَرِيعًا قَبْلَ أَنْ يُوَلَّى عَلَيْهِ فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بُطْلَانُ الْوَكَالَةِ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا وَسَوَاءٌ صَارَ مَأْلُوفًا أَوْ غَيْرَ مَأْلُوفٍ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ الْوَكَالَةُ صَحِيحَةٌ لَا تَبْطُلُ لَا سِيَّمَا إِذَا صَارَ مَأْلُوفًا لِأَنَّ قُصُورَ مُدَّتِهِ وَسُرْعَةَ إِفَاقَتِهِ تَجْعَلُهُ عَفْوًا كَأَوْقَاتِ النَّوْمِ لِانْتِفَاءِ الْخَوْفِ عَنْهُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَنْ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ عَلَى حَالٍ دُونَ حَالٍ وَفِي شَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ ، السَّفِيهُ وَالْمُفْلِسُ وَالْعَبْدُ . فَأَمَّا السَّفِيهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ وَالرَّجْعَةِ وَقَبُولِ الْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ ، وَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِيمَا سِوَاهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ . وَأَمَّا الْمُفْلِسُ فَيَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِيمَا سِوَى الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ لِأَنَّ حَجْرَ الْمُفْلِسِ إِنَّمَا تَنَاوَلَ مَا بِيَدِهِ مِنَ الْمَالِ دُونَ غَيْرِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ فِي الْمَالِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِيهِ لِبُطْلَانِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ وَيَجُوزُ أَنْ يُوَكَّلَ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ عَقْدِ بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ . وَأَمَّا الْعَبْدُ فَتَصَرُّفُهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا لَا يَفْتَقِرُ فِيهِ إِلَى إِذْنِ السَّيِّدِ كَالطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ وَالرَّجْعَةِ وَقَبُولِ الْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ إِنْ بَاعَهُ السَّيِّدُ لَمْ تَبْطُلِ الْوَكَالَةُ وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِ السَّيِّدِ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا يَصِيرُ فِيهِ بِالْإِذْنِ مُتَصَرِّفًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ دُونَ سَيِّدِهِ كَالنِّكَاحِ ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ عَنْ نَفْسِهِ إِذَا أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فِيهِ ، فَلَوْ بَاعَهُ السَّيِّدُ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ لِانْتِقَالِ الْحَقِّ إِلَى غَيْرِهِ ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ لَمْ تَبْطُلِ الْوَكَالَةُ لِانْتِقَالِ الْحَقِّ إِلَى نَفْسِهِ .

وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا يَكُونُ بِالْإِذْنِ مُتَصَرِّفًا فِي حَقِّ مُسْتَنِيبِهِ كَالْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَيَكُونُ فِي التِّجَارَةِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِيهَا بِمَثَابَةِ الْوَكِيلِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ فِيمَا يَقْدِرُ عَلَى التَّفَرُّدِ بِهِ إِلَّا بِصَرِيحِ إِذْنٍ مِنْ سَيِّدِهِ . فَإِنْ وَكَلَّهُ بِإِذْنِ السَّيِّدِ العبد صَحَّ التَّوْكِيلُ ، فَلَوْ بَاعَهُ السَّيِّدُ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَهُ لِأَنَّهَا وَكَالَةٌ فِي نَفْسِهِ وَحَقِّ السَّيِّدِ . فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ وَغَيْرِ إِذْنِهِ لِجَوَازِ تَصَرُّفِهِ بِإِذْنٍ وَغَيْرِ إِذْنٍ . فَلَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا ، فَعَجَزَ الْمُكَاتَبُ وَصَارَ رَقِيقًا بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ لِأَنَّهَا وَكَالَةٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، فَلَوْ أَدَّى وَعَتَقَ كَانَتِ الْوَكَالَةُ عَلَى حَالِهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِصَاصِهَا بِحُقِّ نَفْسِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي وَهُوَ فِي مَنْ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِغَيْرِهِ فَيَصِيرَ وَكِيلًا فَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ التَّصَرُّفَ فِي شَيْءٍ تَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ جَازَ أَنْ يَكُونَ وَكِيلَ غَيْرِهِ فِيهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَحْوَالُ النَّاسِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَنْ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِي عُمُومِ الْأَحْوَالِ وَهُوَ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ الْحُرُّ الرَّشِيدُ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَكَّلَ فِي كُلِّ مَا تَصِحُّ فِيهِ الْوَكَالَةُ . فَأَمَّا الْفَاسِقُ فَتَصِحُّ وَكَالَتُهُ فِيمَا لَا وِلَايَةَ فِيهِ . فَأَمَّا مَا فِيهِ وِلَايَةٌ فَضَرْبَانِ : ضَرْبٌ تَكُونُ وِلَايَتُهُ عَلَى غَيْرِ الْإِذْنِ فِيمَا عَلَيْهِ ، كوَلِيِّ الْيَتِيمِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا لَهُ وَلَا قَيِّمًا عَلَيْهِ . وَضَرْبٌ تَكُونُ وِلَايَتُهُ عَلَى الْإِذْنِ كَالنِّكَاحِ فَإِنْ كَانَ التَّوْكِيلُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ فَاسِقًا لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى وَلَايَةٍ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا هِيَ نِيَابَةٌ عَنْهُ . وَإِنْ كَانَ التَّوْكِيلُ مِنْ جِهَةِ وَلِيِّ الزَّوْجَةِ فَفِي جَوَازِ تَوْكِيلِهِ الْفَاسِقَ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ تَوْكِيلُهُ لِمَا فِيهِ فِي الْوَلَايَةِ الَّتِي يُنَافِيهَا الْفِسْقُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ تَوْكِيلُهُ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ وَلَيْسَ بِمُطْلَقِ الْوَلَايَةِ . فَأَمَّا الْكَافِرُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَكَّلَ فِيمَا فِيهِ وِلَايَةٌ عَلَى مُسْلِمٍ وَلَا فِي نِكَاحِ مُسْلِمٍ لَا مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ لِأَنَّ نِكَاحَ الْمُسْلِمِ لَا يَنْعَقِدُ بِكَافِرٍ بِحَالٍ . وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي نِكَاحِ كَافِرٍ . وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي طَلَاقِ مُسْلِمٍ ؟ الكافر عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ طَلَاقَ مُسْلِمَةٍ .

وَالْقِسْمُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِي عُمُومِ الْأَحْوَالِ وَهُوَ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَوَكَّلَا لِأَحَدٍ فَمَنْ وَكَّلَهُمَا كَانَتِ الْوَكَالَةُ بَاطِلَةً ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَكَّلَ عَاقِلًا ثُمَّ جُنَّ الْوَكِيلُ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي جُنُونِ الْمُوَكِّلِ إِنِ اسْتَدَامَ بِهِ إِلَى حَالٍ يَصِيرُ مُوَلًّى عَلَيْهِ بَطَلَ تَوْكِيلُهُ ، وَإِنْ أَفَاقَ مِنْهُ قَرِيبًا بَطَلَتْ وَكَالَتُهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَجَازَتْ عَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَنْ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُمْ فِي شَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ وَهُمْ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَنْ مُنِعَ التَّصَرُّفَ لِحَقِّ نَفْسِهِ كَالسَّفِيهِ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَكَّلَ فِيمَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ مِنَ الطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَكَّلَ فِيمَا لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا بَطَلَتْ عُقُودُهُ بِالسَّفَهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَانَ أَوْلَى أَنْ تَبْطُلَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَنْ مَنَعَ مِنْ إِطْلَاقِ التَّصَرُّفِ لِحَقِّ غَيْرِهِ كَالْعَبْدِ الْمَمْنُوعِ مِنَ التَّصَرُّفِ هل له أن يكون وكيلا لِحَقِّ سَيِّدِهِ لَا لِعَدَمِ رُشْدِهِ فَلِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِغَيْرِهِ فِيمَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ وَمَا لَا يَجُوزُ لِمَا فِي تَشَاغُلِهِ بِالْوَكَالَةِ فِي تَفْوِيتِ مَنَافِعِ السَّيِّدِ ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ جَازَ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِسَيِّدِهِ وَغَيْرِ سَيِّدِهِ ، ثُمَّ لَا يَخْلُو مَا يُوَكَّلُ فِيهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْوِلَايَاتِ كَعُقُودِ الْبِيَاعَاتِ وَالْإِجَازَةِ وَالدَّعْوَى وَالْمُخَاصَمَاتِ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَكَّلَ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا مِنْ مَعَانِي الْوِلَايَاتِ فَإِنْ كَانَتْ عَلَى غَيْرِ الْمُوَكِّلِ كَالْوِلَايَةِ عَلَى طِفْلٍ أَوْ فِي مَالِ يَتِيمٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِيهِ ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْمُوَكِّلِ كَالنِّكَاحِ فَإِنْ تَوَكَّلَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ صَحَّ ، وَإِنْ تَوَكَّلَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ ، فَلَوْ تَوَكَّلَ الْعَبْدُ فِيمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِيهِ ثُمَّ بَاعَهُ السَّيِّدُ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ لِمَا قَدْ مَلَكَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ مَنَافِعِهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَدْ تَوَكَّلَ لِسَيِّدِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ فَإِنْ جَدَّدَ لَهُ الْمُشْتَرِي إِذْنًا بِالْوَكَالَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَهَلْ يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ إِذْنٍ مِنَ الْمُوَكِّلِ أَمْ لَا ؟ العبد عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ إِذْنِهِ وَيَصِيرُ عَلَى وَكَالَتِهِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إِذْنِ مُوَكِّلِهِ إِذَا جَدَّدَ لَهُ الْمُشْتَرِي إِذْنًا بِالْوَكَالَةِ لِأَنَّ مَنْعَهُ مِنَ الْوَكَالَةِ إِنَّمَا كَانَ لِحَقِّ الْمُشْتَرِي فَارْتَفَعْ بِحُدُوثِ إِذْنِهِ وَحْدَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ الْوَكَالَةَ قَدْ بَطَلَتْ فَلَا تَصِحُّ إِلَّا بِتَجْدِيدِ إِذْنٍ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ لِأَنَّ إِبْطَالَهَا قَدْ رَفَعَ أَسْبَابَهَا كَمَا أَنَّ الْعَقْدَ إِذَا بَطَلَ لَمْ يَصِحَّ بِالْإِجَازَةِ حَتَّى يَبْتَدِئَ عَقْدًا صَحِيحًا . فَأَمَّا إِنْ أَعْتَقَهُ السَّيِّدُ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا لِسَيِّدِهِ أَوْ غَيْرِ سَيِّدِهِ فَإِنْ كَانَ وَكِيلًا لِغَيْرِ سَيِّدِهِ لَمْ تَبْطُلِ الْوَكَالَةُ بِعِتْقِهِ وَإِنْ كَانَ وَكِيلًا لِسَيِّدِهِ فَفِي بُطْلَانِ الْوَكَالَةِ بِعِتْقِهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا تَثْبُتُ وَكَالَةُ غَيْرِهِ .

وَالثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ تَبْطُلُ وَكَالَتُهُ لِأَنَّهَا مِنْ جِهَةِ السَّيِّدِ أَمْرٌ فَبَطَلَتْ كَسَائِرِ أَوَامِرِهِ الَّتِي تَبْطُلُ بِعِتْقِهِ . فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَجُوزُ أَنْ تَتَوَكَّلَ لِزَوْجِهَا ، فَأَمَّا غَيْرُ زَوْجِهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَوَكَّلَ إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا لِمَا قَدْ مَلَكَهُ الزَّوْجُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا وَأَنَّ لَهُ مَنْعَهَا مِنَ الْخُرُوجِ لِتَصَرُّفِهَا . وَإِنَّ وَكَّلَهَا الزَّوْجُ أَوْ غَيْرُهُ المرأة جَازَ فِيمَا سِوَى النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ . فَإِنْ وُكِّلَتْ فِي النِّكَاحِ وكالة المرأة كَانَ بَاطِلًا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَمْلِكُ عَقْدَ النِّكَاحِ . وَإِنْ وُكِّلَتْ فِي الطَّلَاقِ وكالة المرأة كَانَ فِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلَةٌ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ . وَالثَّانِي : جَائِزَةٌ لِأَنَّهَا لَوْ مَلَكَتْ طَلَاقَ نَفْسِهَا صَحَّ فَجَازَ أَنْ تَتَوَكَّلَ فِي طَلَاقِ غَيْرِهَا ، فَلَوْ وَكَّلَتْ ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ كَانَتِ الْوَكَالَةُ عَلَى حَالِهَا سَوَاءٌ تَوَكَّلَتْ لِلزَّوْجِ أَوْ لِغَيْرِهِ لِأَنَّهَا وَكَالَةٌ وَلَيْسَتْ أَمْرًا يَلْزَمُ امْتِثَالُهُ كَالسَّيِّدِ مَعَ عَبْدِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " حَضَرَ خَصْمٌ أَوْ لَمْ يَحْضُرْ جَائِزٌ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) لَيْسَ الْخَصْمُ مِنَ الْوَكَالَةِ بِسَبِيلٍ وَقَدْ يُقْضَى لِلْخَصْمِ عَلَى الْمُوَكِّلِ فَيَكُونُ حَقًّا يَثْبُتُ لَهُ بِالتَّوْكِيلِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، يَجُوزُ ثُبُوتُ الْوَكَالَةِ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ غَائِبًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَصِحُّ ثُبُوتُ الْوَكَالَةِ عَلَى خَصْمٍ غَائِبٍ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا أَوْ يُرِيدُ سَفَرًا أَوْ يُقِرُّ بِهَا الْمُوَكِّلُ عِنْدَ الْحَاكِمِ ، فَأَمَّا بِالْبَيِّنَةِ فَلَا يَسْمَعُهَا إِلَّا بِحُضُورِ خَصْمٍ وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً صَحَّ ثُبُوتُهَا بِحُضُورِ أَحَدِهِمْ ، وَجَعَلَ امْتِنَاعَهُ فِي ثُبُوتِ الْوَكَالَةِ عَلَى غَيْرِ خَصْمٍ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ وَفِي إِثْبَاتِ الْوَكَالَةِ عَلَيْهِ قَضَاءٌ عَلَى غَائِبٍ . وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِ مَعَ مُخَالَفَتِنَا لِلْأَصْلِ الَّذِي عَلَيْهِ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَّلَ عَقِيلًا وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ تَوْكِيلِهِ إِيَّاهُمَا خَصْمٌ وَهَذِهِ حَالٌ مَشْهُورَةٌ فِي الصَّحَابَةِ وَكُلٌّ أَقَرَّ عَلَيْهَا وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهَا . وَلِأَنَّهُ مُوَكَّلٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ حُضُورُ الْخَصْمِ كَالْوَكَالَةِ فِي اسْتِخْرَاجِ الدُّيُونِ وَلِأَنَّ مَا يُشْتَرَطُ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ عِنْدَ مَرَضِ الْمُوَكِّلِ وَسَفَرِهِ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ عِنْدَ حُضُورِهِ وَمَغِيبِهِ كَالشَّهَادَةِ طَرْدًا وَالْقَوْلِ عَكْسًا وَلِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ فَوَجَبَ أَنْ يَتِمَّ بِالْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ كَالتَّوْكِيلِ فِي الْعُقُودِ وَلِأَنَّ مَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْوَكَالَةُ فِي الْعُقُودِ تَنْعَقِدُ بِهِ الْوَكَالَةُ فِي مُطَالَبَةِ الْخُصُومِ كَوَكَالَةِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ . وَلِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ رِضَا الْخَصْمِ فَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ حُضُورُهُ . وَأَصْلُهُ إِذَا أَقَرَّ بِالْوَكَالَةِ أَوْ وُكِّلَ عَنْهُ حَاكِمٌ وَلِأَنَّهُ مُسْتَعَانٌ بِهِ فِي الْخُصُومَةِ فَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ حُضُورُ الْخَصْمِ كَإِشْهَادِ الشُّهُودِ .

فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى غَائِبٍ فَهُوَ أَنَّهَا دَعْوَى مَدْفُوعَةٌ ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ حَقٌّ لِلْمُوَكِّلِ وَعَلَيْهِ وَلَيْسَ لِلْخَصْمِ فِيهَا حَقٌّ ، وَلَا عَلَيْهِ فِيهَا حَقٌّ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُ بِحُضُورِ الْوَكَالَةِ حَقٌّ ، وَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ حَقٌّ ، وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَيْسَ الْخَصْمُ مِنَ الْوَكَالَةِ بِسَبِيلٍ . فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : وَقَدْ يُقْضَى لِلْخَصْمِ عَلَى الْمُوَكِّلِ فَيَكُونُ حَقًّا ثَبَتَ لَهُ بِالتَّوْكِيلِ فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْخَصْمَ لَوِ ادَّعَى الْبَرَاءَةَ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ عِنْدَ مُطَالَبَةِ الْوَكِيلِ لَهُ بِالتَّوْكِيلِ سُمِعَتْ بَيِّنَةُ الْخَصْمِ بِالْبَرَاءَةِ إِلَى الْمُوَكِّلِ مِنْ حَقِّهِ وَلَوْلَا الْوَكَالَةُ الَّتِي اسْتَحَقَّ الْوَكِيلُ بِهَا الْمُطَالَبَةَ لَمَا أَمْكَنَ الْخَصْمَ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ بِالْبَرَاءَةِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَكَالَةَ فِي الْخُصُومَةِ يَصِحُّ ثُبُوتُهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ وَغَائِبٍ وَمِنْ مُوَكِّلٍ حَاضِرٍ وَكَاتِبٍ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُوَكِّلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا مَعَ وَكِيلِهِ عِنْدَ الدَّعْوَى وَالْمُطَالَبَةِ أَمْ لَا ، فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا جَازَ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْمَعَ الدَّعْوَى مِنْ وَكِيلِهِ عَلَى الْخَصْمِ مَعَ حُضُورِهِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي مَعَ حُضُورِ الْمُوَكِّلِ أَنْ يَسْمَعَ دَعْوَى الْوَكِيلِ وَمُخَاصَمَتَهُ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْوَكَالَةِ أَنَّهَا مَعُونَةُ الْعَاجِزِ وَصِيَانَةُ الْمَهِيبِ ، فَاسْتَوَى حَالُهُ مَعَ حُضُورِهِ وَمَغِيبِهِ ، وَلِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ بَيَّنَ فِي الْوَكَالَةِ أَنَّهَا تُقَارِبُ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ : إِنَّ الْخُصُومَاتِ تَحْمِلُ وَإِنَّهَا لَتَخْلُفُ . وَإِذَا صَحَّ سَمَاعُ الدَّعْوَى مِنْ وَكِيلِهِ مَعَ حُضُورِهِ فَسَوَاءٌ عَرَّفَهُ الْقَاضِي بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ أَمْ لَا . وَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ غَائِبًا عَنِ الدَّعْوَى فَلَا يَخْلُو ثُبُوتُ الْوَكَالَةِ عِنْدَ الْقَاضِي مِنْ أَنْ يَكُونَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِإِقْرَارٍ . فَإِنْ كَانَ ثُبُوتُهَا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِهَا لَمْ يُحْكَمْ بِشَهَادَتِهِمْ حَتَّى يَشْهَدُوا بِمَعْرِفَتِهِ عَلَى اسْمِهِ وَنَسَبِهِ ، فَحِينَئِذٍ يُحْكَمُ بِصِحَّةِ وَكَالَتِهِ . وَإِنْ كَانَ ثُبُوتُهَا بِإِقْرَارِ الْمُوَكِّلِ بِهَا فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي يَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ وَاسْمِهِ وَنَسَبِهِ صَحَّتِ الْوَكَالَةُ مِنْهُ وَثَبَتَتْ بِإِقْرَارِهِ عِنْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُهُ لَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ عَلَى اسْمِهِ وَنَسَبِهِ لِئَلَّا يَدَّعِيَ نَسَبَ غَيْرِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عِنْدَ حَاكِمٍ دَعْوَى عَلَى رَجُلٍ حكم الوكاله من المدعى عليه فَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَحْضُرَ مَعَهُ مَجْلِسَ الْحُكْمِ وَبَيْنَ أَنْ يُوَكِّلَ عَنْ نَفْسِهِ وَكِيلًا يَحْضُرُ مَعَ الْمُدَّعِي فَيَقُومُ حُضُورُ وَكِيلِهِ مَقَامَ حُضُورِهِ ، كَمَا كَانَ الْمُدَّعِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُدْعَى بِنَفْسِهِ وَبَيْنَ أَنْ يُوَكِّلَ عَنْ نَفْسِهِ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ فِي الدَّعْوَى ، فَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً وَجَبَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِ مِنْ حَقِّهِ إِمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِاسْتِنَابَةِ وَكِيلِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً وَسَأَلَ إِحْلَافَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَجَبَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ حُضُورُ مَجْلِسِ الْحُكْمِ لِلْيَمِينِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَنُوبُ عَنْهُ فِيهَا .



فَصْلٌ : فَإِذَا وَكَّلَ الْمُدَّعِي رَجُلًا بِطَلَبِ دَيْنٍ قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ فَادَّعَى الْمَطْلُوبُ أَنَّ الْمُوَكِّلَ قَدْ أَبْرَأَهُ وَاسْتَوْفَاهُ وَأَرَادَ يَمِينَهُ ، قِيلَ لَهُ : إِنَّهُ مَا ثَبَتَ عَلَيْكَ ثُمَّ اطْلُبْهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْيَمِينِ إِذَا وَجَدْتَهُ وَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَحْبِسَ مَا ثَبَتَ عَلَيْكَ مِنَ الْحَقِّ بِمَا اسْتَحْدَثْتَهُ مِنَ الدَّعْوَى . فَإِنْ سَأَلَ إِحْلَافَ الْمُدَّعِي بِاللَّهِ لَقَدْ شَهِدَ شُهُودُهُ بِحَقٍّ لَمْ يَحْلِفْ عَلَى ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ جَرْحِ الشُّهُودِ ، وَلِأَنَّ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْبَرَاءَةِ وَالِاسْتِيفَاءِ لَا يُنَافِي صِحَّةَ الشَّهَادَةِ وَلَكِنْ يَحْلِفُ بِحَسْبَ مَا ادَّعَاهُ الْمَطْلُوبُ مِنَ الْبَرَاءَةِ وَالِاسْتِيفَاءِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَنَّهُ وَكِيلُ فُلَانٍ الْغَائِبِ عَلَيْهِ فَصَدَّقَهُ الْخَصْمُ عَلَى الْوَكَالَةِ وَلَمْ يُقِمْ بِهَا بَيِّنَةً فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُدَّعِي لِلْوَكَالَةِ مِنْ أَمْرَيْنِ : أَنْ يَدَّعِيَ الْوَكَالَةَ فِي الْمُخَاصَمَةِ أَوْ يَدَّعِيَ الْوَكَالَةَ فِي قَبْضِ مَالٍ . فَإِنِ ادَّعَى الْوَكَالَةَ فِي قَبْضِ مَالٍ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ وَإِنْ صَدَّقَهُ الْخَصْمُ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْخَصْمِ دَفْعُ الْمَالِ إِلَيْهِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا . قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ الْمَالُ عَيْنًا لَمْ يَلْزَمْهُ دَفْعُهُ وَإِنْ كَانَ دَيْنًا لَزِمَهُ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مَعَ الْمُزَنِيِّ فِي مَوْضِعِهِ . وَإِنِ ادَّعَى الْوَكَالَةَ فِي الْمُخَاصَمَةِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُمَا وَيَسْمَعُ تَخَاصُمَهُمَا لِأَنَّ إِقْرَارَ الْوَكِيلِ عَلَى مُوَكِّلِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فَلَمْ يَكُنْ إِضْرَارًا بِهِ . وَإِنَّمَا هُوَ إِقَامَةُ بَيِّنَةٍ عَلَى الْمَطْلُوبِ يَجُوزُ مَعَ حُضُورِ الْمُوَكِّلِ وَغَيْبَتِهِ .

فَصْلٌ : وَإِنِ اجْتَمَعَ الْخَصْمَانِ عَلَى أَنْ وَكَّلَا رَجُلًا وَاحِدًا وَكَانَ تَوْكِيلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مُخَاصَمَةِ صَاحِبِهِ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَمْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ جَازَ ، وَإِنْ كَانَ فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُثْبِتُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُجَّةَ صَاحِبِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ وَكِيلًا فِي تَحْقِيقِ قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ مَا يُنَافِيهِ فَيُعَارِضُ بَعْضُ قَوْلِهِ بَعْضًا ، وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ مُخَاصِمَ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ يَقُومُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامَ نَفْسِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَوْكَلَ الرَّجُلُ رَجُلًا فِي مُخَاصَمَةِ رَجُلٍ عِنْدَ قَاضٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ ، وَلَا لَهُ إِنْ عُزِلَ الْقَاضِي أَنْ يُخَاصِمَهُ عِنْدَ الْمُوَلَّى مَكَانَهُ . وَلَوْ أَطْلَقَ ذِكْرَ الْقَاضِي وَلَمْ يُعَيِّنْهُ جَازَ أَنْ يُخَاصِمَ عِنْدَ مَنْ صَلُحَ أَنْ يَنْظُرَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْقُضَاةِ .

فَلَوْ وَكَّلَهُ فِي مُخَاصَمَةِ كُلِّ خَصْمٍ يَحْدُثُ لَهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهَا وَكَالَةٌ بَاطِلَةٌ لِمَا يَتَضَمَّنُهَا مِنَ الْجَهَالَةِ بِالْمُوَكَّلِ فِيهِ وَأَنَّهَا عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ فِي الْحَالِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَنَّهَا وَكَالَةٌ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ فَلَمْ تَبْطُلْ بِالْجَهَالَةِ ، وَلِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِنْ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِالْحَادِثِ الْمَجْهُولِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ الْمُوَكِّلُ لِوَكِيلِهِ : قَدْ وَكَّلْتُكَ فِي اسْتِيفَاءِ مَالِي عَلَى زَيْدٍ فَمَاتَ زَيْدٌ جَازَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ مِنْ وَارِثِهِ . فَلَوْ قَالَ : قَدْ وَكَّلْتُكَ فِي اسْتِيفَاءِ مَالِي مِنْ زَيْدٍ فَمَاتَ زَيْدٌ لَمْ يَجُزْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ مِنْ وَارِثِهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِاسْتِيفَائِهِ مِنْ مَا عَلَى زَيْدٍ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْمَالِ فَجَازَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ مِنْ وَرَثَتِهِ ، وَالْأَمْرَ بِاسْتِيفَائِهِ مِنْ زَيْدٍ مُتَوَجِّهٌ إِلَى زَيْدٍ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُسْتَوْفَى مِنْهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ مِنْ غَيْرِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ وَكَّلَهُ بِخُصُومَةٍ فَإِنْ شَاءَ قَبِلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ، فَإِنْ قَبِلَ فَإِنْ شَاءَ فَسَخَ وَإِنْ شَاءَ ثَبَتَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَعَقْدُ الْوَكَالَةِ إِرْفَاقٌ وَمَعُونَةٌ فِي الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ دُونَ اللَّازِمَةِ لِأَنَّ مَا لَزِمَ مِنْ عُقُودِ الْمَنَافِعِ افْتَقَرَ إِلَى مُدَّةٍ يَلْزَمُ الْعَقْدُ إِلَيْهَا ، وَصِفَةُ الْعَمَلِ الَّذِي يَسْتَوْفِي بِهَا كَالْإِجَارَةِ فَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ تَقْرِيرُهَا بِمُدَّةِ الِاسْتِيفَاءِ مَا تَضَمَّنَهَا مِنْ صِفَةٍ دَلَّ عَلَى جَوَازِهَا دُونَ لُزُومِهَا ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ تَطَوُّعًا أَوْ بِعِوَضٍ ، إِلَّا أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ تَطَوُّعًا فَهِيَ مَعُونَةٌ مَحْضَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ بَعِوَضٍ فَهِيَ فِي مَعْنَى الْجَعَالَةِ . وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا فَالْوَكِيلُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ قَبُولِ الْوَكَالَةِ وَرَدِّهَا . وَقَبُولُهُ إِنْ قَبِلَ عَلَى التَّرَاخِي دُونَ الْفَوْرِ عَلَى مَا مَضَى ، فَإِذَا قَبِلَهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ ثَبَتَ عَلَى الْوَكَالَةِ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَهَا ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي الْمُخَاصَمَةِ وَالْعَمَلِ أَوْ بَعْدَهُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُوَكِّلُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ كَانَ فِي رُجُوعِهِ إِضْرَارٌ بِالْمُوَكِّلِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ إِلَّا بِحُضُورِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِضْرَارٌ جَازَ لَهُ الرُّجُوعُ بِغَيْرِ حُضُورِهِ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا شَرَعَ فِي الْخُصُومَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ إِلَّا بِحُضُورِ الْمُوَكِّلِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ شُرُوعَ الْوَكِيلِ فِي الْمُخَاصَمَةِ حَقٌّ لِلْمُوَكِّلِ ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ إِلَّا إِلَى مُسْتَحِقِّهِ كَالْوَدِيعَةِ لَيْسَ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِدَامَتُهَا أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا إِلَّا إِلَى مُسْتَوْدَعِهِ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ رِضَاهُ مُعْتَبَرًا فِي دَفْعِ الْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ حُضُورُهُ مُعْتَبَرًا فِي رَفْعِهِ كَالْمُطَلَّقَةِ طَرْدًا وَكَالْإِقَالَةِ عَكْسًا وَكَانَ كُلُّ مَنْ صَحَّ مِنْهُ فَسْخُ الْوَكَالَةِ بِحُضُورِ صَاحِبِهِ صَحَّ مِنْهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِفَسْخِهَا كَالْمُوَكِّلِ وَلِأَنَّهُ عَقْدُ وَكَالَةٍ يَصِحُّ مِنَ الْمُوَكِّلِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِفَسْخِهِ فَصَحَّ مِنَ الْوَكِيلِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِفَسْخِهِ كَالْوَكَالَةِ الَّتِي لَمْ يَشْرَعِ الْوَكِيلُ فِي الْمُخَاصَمَةِ فِيهَا . وَلِأَنَّ عَقْدَ الْوَكَالَةِ لَا يَنْفَكُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَالْعُقُودِ اللَّازِمَةِ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُفْسَخَ إِلَّا بِرِضَا صَاحِبِهِ كَالْبَيْعِ أَوْ يَكُونَ كَالْعُقُودِ الْجَائِزَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِفَسْخِهِ كَالْجَعَالَةِ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الرِّضَا فِيهِ مُعْتَبَرًا كَانَ التَّفَرُّدُ بِفَسْخِهِ جَائِزًا . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ فِي الْخُرُوجِ مِنْهُ إِلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ إِضَاعَةً لِحَقِّهِ كَالْوَدِيعَةِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَا يَضِيعُ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا حَقٌّ كَالْمُودَعِ الَّذِي بِيَدِهِ مَالٌ يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الْأَمَانَةِ فِيهِ بِرَدِّهِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ . وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى الْحَاكِمِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ ، وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ لَوْ كَانَ بِيَدِهِ مَالٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْفَسْخِ ، فَسَخَ الْوَكِيلُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ : إِنِّي قَدْ فَسَخْتُ الْوَكَالَةَ أَوْ خَرَجْتُ مِنْهَا ، سَوَاءٌ عَلِمَ الْمُوَكِّلُ بِالْفَسْخِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ لَمْ يَشْهَدْ . فَأَمَّا فَسْخُ الْمُوَكِّلِ للوكاله فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ إِنِّي قَدْ فَسَخْتُ الْوَكَالَةَ أَوْ عَزَلْتُ الْوَكِيلَ عَنْهَا أَوْ أَخْرَجْتُهُ مِنْهَا وَسَوَاءٌ أَعَلِمَ بِهِ الْوَكِيلَ أَمْ لَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْفَسْخُ إِلَّا بِقَوْلِهِ وَإِعْلَامِ الْوَكِيلِ بِفَسْخِهِ فَمَتَى لَمْ يَعْلَمُ فَهُوَ عَلَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ فِيمَا عَقَدَهُ الْمُوَكِّلُ لَهُ وَعَلَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عِلْمُهُ مُعْتَبَرًا فِي عَقْدِهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ مُعْتَبَرًا فِي حَلِّهَا . وَدَلِيلُ ذَلِكَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَقْيَسُ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عِلْمُ الْمُوَكِّلِ مُعْتَبَرًا فِي فَسْخِ الْوَكَالَةِ لَمْ يَكُنْ عِلْمُ الْوَكِيلِ مُعْتَبَرًا فِي فَسْخِ الْوَكَالَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ جَازَ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنَ رَفْعُهُ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ جَازَ لَهُ رَفْعُهُ بِغَيْرِ

عِلْمِهِ ، كَالنِّكَاحِ يَجُوزُ رَفْعُهُ بِالطَّلَاقِ بِغَيْرِ عِلْمِ الْمُطَلَّقَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ الْفَسْخِ بِحَالِ الْعَقْدِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فَسَادُهُ بِفَسْخِ الْوَكِيلِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ رِضَاهُ مُعْتَبَرًا كَانَ عِلْمُهُ مُعْتَبَرًا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْفَسْخُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ وَكِيلَيْنِ فِي الْخُصُومَةِ لَمْ يَسْمَعِ الْقَاضِي الْخُصُومَةَ إِلَّا مِنْهُمَا حَتَّى يُوَكِّلَهُمَا وَكِيلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمَا . فَلَوْ عَزَلَ الْمُوَكِّلُ أَحَدَهُمَا الوكيلين في الخصومة لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْخُصُومَةِ إِلَّا بِتَجْدِيدِ إِذْنِ التَّفَرُّدِ فِيهَا . فَلَوْ وَكَّلَهُمَا عَلَى الِاجْتِمَاعِ وَالِانْفِرَادِ ثُمَّ عَزَلَ أَحَدَهُمَا وَلَمْ يُعَيِّنْ الوكيلين في الخصومة فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى جَوَازِ تَصَرُّفِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ الْمَعْزُولُ بِعَيْنِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَمْنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَعْزُولَ بِعَيْنِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ رَجُلًا فِي دَعْوَى دَارٍ ثُمَّ عَزَلَهُ الْمُوَكِّلُ عَنْهَا شهادة الوكيل المعزول لموكله فَجَازَ الْوَكِيلُ لِيَشْهَدَ لِمُوَكِّلِهِ فَإِنْ كَانَتْ شَهَادَتُهُ بَعْدَ أَنْ خَاصَمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيهَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ : لِأَنَّهُ صَارَ فِيهَا خَصْمًا ، وَإِنْ كَانَتْ شَهَادَتُهُ قَبْلَ الْخُصُومَةِ فِيهَا فَفِي قَبُولِهِ شَهَادَتَهُ بِهَا قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ تَخْرِيجًا : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ لِأَنَّهُ بِعَقْدِ الْوَكَالَةِ قَدْ صَارَ خَصْمًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يُخَاصِمْ لَمْ يَصِرْ خَصْمًا . وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْجَوَابُ لَوِ ادَّعَى الْوَكِيلُ الدَّارَ لِنَفْسِهِ . فَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَنِ ادَّعَاهَا لِمُوَكِّلِهِ لَمْ يَجُزْ . وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدَّعْوَى وَبَعْدَ قَبُولِ الْوَكَالَةِ فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ ثَبَتَ وَأَقَرَّ عَلَى مَنْ وَكَّلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ إِقْرَارُهُ لِأَنَّهُ لَا يُوَكِّلُهُ بِالْإِقْرَارِ وَلَا بِالصُّلْحِ وَلَا بِالْإِبْرَاءِ وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا وَكَّلَهُ فِي الْمُخَاصَمَةِ فَأَقَرَّ عَلَى مُوَكِّلِهِ حكم الاقرار للوكيل لَمْ يَلْزَمْهُ إِقْرَارُهُ وَسَوَاءٌ أَقَرَّ عَلَيْهِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ أَوْ غَيْرِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ أَقَرَّ الْوَكِيلُ عَلَى مُوَكِّلِهِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ لَزِمَهُ إِقْرَارُهُ وَإِنْ أَقَرَّ عَلَيْهِ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إِقْرَارُهُ عَلَيْهِ لَازِمٌ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَغَيْرِهِ وَاسْتَدَلَّ عَلَى

لُزُومِ إِقْرَارِهِ لِمُوَكِّلِهِ بِقَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ وَكَّلَ أَخَاهُ عَقِيلًا : وَهَذَا عَقِيلٌ مَا قُضِيَ عَلَيْهِ فَعَلَيَّ وَمَا لَهُ فَلِي ، فَجَعَلَ الْقَضَاءَ عَلَى الْوَكِيلِ قَضَاءً عَلَى الْمُوَكِّلِ ، وَإِقْرَارُ الْوَكِيلِ يُوجِبُ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ عَلَى مُوَكِّلِهِ . وَلِأَنَّ فِي التَّوَكُّلِ بِالْمُخَاصَمَةِ إِذْنًا بِهَا وَبِمَا تَضَمَّنَهَا ، وَقَدْ يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ تَارَةً وَالْإِنْكَارَ تَارَةً فَصَارَ الْإِقْرَارُ مِنْ مُتَضَمَّنِ إِذْنِهِ فَلَزِمَهُ . وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ قَائِمٌ مُقَامَ مُوَكِّلِهِ فِي الْجَوَابِ ، وَالْجَوَابُ قَدْ يَكُونُ تَارَةً إِقْرَارًا وَتَارَةً إِنْكَارًا فَلَمَّا قَامَ إِنْكَارُهُ مَقَامَ إِنْكَارِ مُوَكِّلِهِ وَجَبَ أَنْ يَقُومَ إِقْرَارُهُ مَقَامَ إِقْرَارِ مُوَكِّلِهِ ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ أَحَدُ جَوَابَيِ الدَّعْوَى فَجَازَ أَنْ يَقُومَ فِيهِ مَقَامَ مُوَكِّلِهِ كَالْإِنْكَارِ وَلِأَنَّهُ مِمَّنْ يَمْلِكُ الْقَبْضَ فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكَ الْإِقْرَارَ بِالْقَبْضِ كَالْمُوَكِّلِ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ نُدِبَ لِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِسْقَاطُ الْحَقِّ كَالْوَصِيِّ . وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ الْوَكِيلُ مِنْ إِسْقَاطِ الْحَقِّ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ لَمْ يَلْزَمْهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ كَالْإِبْرَاءِ طَرْدًا وَالْقَبْضِ عَكْسًا ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَصِحَّ مِنَ الْوَكِيلِ الْإِبْرَاءُ مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِهِ كَالْجِنَايَةِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ مَعَ النَّهْيِ لَمْ يَصِحَّ إِقْرَارُهُ مَعَ التَّرْكِ كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَيْسَ بِقَضَاءٍ عَلَى الْوَكِيلِ بِإِقْرَارِهِ عَلَى مُوَكِّلِهِ فَلَمْ يَصِرْ ذَلِكَ لِمُوَكِّلِهِ . وَأَمَّا ادِّعَاؤُهُمْ أَنَّ الْمُخَاصَمَةَ تَتَضَمَّنُ إِقْرَارًا وَإِنْكَارًا فَغَيْرُ صَحِيحٍ بَلْ يَتَضَمَّنُ مِنْ جِهَةِ الْوَكِيلِ الْإِنْكَارَ لِمَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَعُونَةِ وَحِفْظِ الْحَقِّ وَمِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ الْإِقْرَارَ وَالْإِنْكَارَ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَمَّا قَامَ فِي الْإِنْكَارِ مُقَامَ مُوَكِّلِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْإِقْرَارِ بِمَثَابَتِهِ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ فِي الْإِنْكَارِ مَعُونَةً لِمُوَكِّلِهِ وَحِفْظًا لِحَقِّهِ فَصَحَّ مِنَ الْوَكِيلِ ، وَفِي الْإِقْرَارِ مَعُونَةٌ عَلَى مُوَكِّلِهِ وَإِسْقَاطٌ لِحَقِّهِ فَلَمْ يَصِحَّ مِنَ الْوَكِيلِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُوَكِّلِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ الْإِبْرَاءَ مَلَكَ الْإِقْرَارَ وَلَمَّا لَمْ يَمْلِكِ الْوَكِيلُ الْإِبْرَاءَ لَمْ يَمْلِكِ الْإِقْرَارَ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِقْرَارَ الْوَكِيلِ غَيْرُ لَازِمٍ لِمُوَكِّلِهِ فَقَدْ صَارَ بِالْإِقْرَارِ خَارِجًا عَنِ الْوَكَالَةِ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ ، فَأَمَّا إِبْرَاءُ الْوَكِيلِ فَغَيْرُ لَازِمٍ لِلْمُوَكِّلِ وَلَا يَصِيرُ خَارِجًا مِنَ الْوَكَالَةِ فِيمَا أَبْرَأَ مِنْهُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِبْرَاءِ وَالْإِقْرَارِ أَنَّ مَضْمُونَ إِقْرَارِهِ أَنَّ مُوَكِّلَهُ ظَالِمٌ فِي مُطَالَبَتِهِ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِمَا يُقِرُّ بِأَنَّهُ ظُلْمٌ ، وَلَيْسَ فِي إِبْرَائِهِ اعْتِرَافٌ بِظُلْمِ مُوَكِّلِهِ ، فَجَازَ أَنْ يُطَالِبَ ، فَلَوْ صَدَّقَ لِلْمُوَكِّلِ وَكِيلُهُ فِي إِقْرَارِهِ عَلَيْهِ صَارَ بِالتَّصْدِيقِ مُقِرًّا بِإِقْرَارِ الْوَكِيلِ ، فَلَوْ قَالَ الْمُوَكِّلُ : كُلُّ مَا أَقَرَّ بِهِ الْوَكِيلُ عَلَيَّ فَهُوَ صَادِقٌ فِيهِ لَمْ يَلْزَمْهُ مَا أَقَرَّ بِهِ الْوَكِيلُ لِلْجَهَالَةِ بِهِ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ مَا شَهِدَ بِهِ فُلَانٌ عَلَيَّ فَهُوَ صَادِقٌ فِيهِ وَلَازِمٌ لِي لَمْ يَلْزَمْهُ مَا شَهِدَ بِهِ فُلَانٌ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَدْلًا وَيَشْهَدَ مَعَهُ شَاهِدٌ آخَرُ فَيَصِيرَ بَيِّنَةً يَلْزَمُهُ مَا شَهِدَ عَنْهُ بِهِ صَدَقَ أَوْ كَذَبَ .

وَهَكَذَا لَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى مَا وَكَّلَ فِي الْمُطَالَبَةِ بِهِ لِأَنَّ الصُّلْحَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْعًا وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إِلَّا بِإِذْنِ مُوَكِّلِهِ أَوْ يَكُونَ إِبْرَاءً فَلَا يَصِحُّ وَلَمْ يَلْزَمْ إِقْرَارُ الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا وَكَّلَهُ فِي الْإِقْرَارِ عَنْهُ ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْقَدْرَ الَّذِي يُقِرُّ بِهِ وَيَصِفُهُ لَمْ يَصِحَّ التَّوْكِيلُ فِيهِ ، وَلَمْ يَكُنْ إِقْرَارُهُ لَازِمًا لِلْمُوَكِّلِ ، وَإِنْ ذَكَرَ قَدْرَهُ وَصِفَتَهُ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِيهِ وَلَا يَجُوزُ إِقْرَارُ الْوَكِيلِ بِهِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِقْرَارِ لَا يَكُونُ مِنَ الْآمِرِ إِقْرَارًا ، كَمَا لَمْ يَجْعَلْ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا أَمْرًا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَهُ أَمْرًا مِنْ عُمَرَ وَلَا يَكُونُ الْمَأْمُورُ إِلَّا خَبَرًا فَلَمْ يَلْزَمْ إِلَّا بِشَهَادَةِ آخَرَ مَعَهُ إِذَا كَانَا عَدْلَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ تَصِحُّ الْوَكَالَةُ فِيهِ وَيَلْزَمُ الْإِقْرَارُ بِهِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إِخْبَارٌ بِإِسْقَاطِ الْحَقِّ ، فَلَمَّا صَحَّتِ الْوَكَالَةُ بِإِسْقَاطِ الْحَقِّ بِالْإِبْرَاءِ كَانَ جَوَازُهَا فِي الْإِخْبَارِ بِسُقُوطِهِ أَوْلَى . وَلِأَنَّ فِعْلَ الْوَكِيلِ مَقْصُورٌ عَلَى إِذْنِ مُوَكِّلِهِ فَلَمَّا صَحَّ تَوْكِيلُهُ فِي الْإِنْكَارِ لِأَجْلِ إِذْنِهِ صَحَّ فِي الْإِقْرَارِ لِأَجْلِ إِذْنِهِ . فَعَلَى هَذَا هَلْ يَلْزَمُ الْإِقْرَارُ بِمُجَرَّدِ الْوَكَالَةِ فِيهِ أَمْ بِإِقْرَارِ الْوَكِيلِ بِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَصِيرُ الْإِقْرَارُ لَازِمًا بِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ بِهِ سَوَاءٌ أَقَرَّ بِهِ الْمُوَكِّلُ أَمْ لَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إِخْبَارٌ وَأَمْرُهُ يَتَضَمَّنُ الْإِخْبَارَ فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى مُوَكِّلِهِ بِمَا وَكَّلَهُ فِي الْإِقْرَارِ بِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَصِيرُ إِقْرَارًا لَازِمًا إِلَّا بِإِقْرَارِ الْوَكِيلِ بَعْدَ أَمْرِ الْمُوَكِّلِ : لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْأَمْرِ بِالْإِقْرَارِ لَا يَكُونُ إِقْرَارًا حَتَّى يَتَعَقَّبَهُ الْإِقْرَارُ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الْمُوَكِّلِ فِيمَا وَكَّلَهُ بِالْإِقْرَارِ لَهُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا وَكَّلَهُ فِي الْإِبْرَاءِ شروط الوكاله فى الابراء فَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْمُبْرَأَ وَلَا الْقَدْرَ الَّذِي يَقَعُ مِنْهُ الْإِبْرَاءُ لَمْ يَصِحَّ التَّوْكِيلُ فِيهِ ، وَإِنْ ذَكَرَ الْمُبْرَأَ وَالْقَدْرَ الَّذِي يُبْرَأُ مِنْهُ وَصِفَتَهُ صَحَّتِ الْوَكَالَةُ فِيهِ ، وَلَا يَقَعُ الْإِبْرَاءُ مِنْهُ بِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ بِهِ حَتَّى يَبْرَأَ مِنْهُ الْوَكِيلُ وَجْهًا وَاحِدًا : لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ إِسْقَاطٍ وَلَيْسَ بِإِخْبَارٍ كَالْإِقْرَارِ ، فَلَوْ وَكَّلَهُ فِي إِبْرَاءِ نَفْسِهِ مِنْ حَقِّ مُوَكِّلِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ مُبْرِئًا لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ : لِأَنَّهُ يَصِيرُ نَائِبًا لِنَفْسِهِ فِي دُيُونِ مُوَكِّلِهِ وَلِأَنَّ الْإِبْرَاءَ يَقْتَضِي مُبْرِئًا وَمُبْرَأً .

وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : أَنَّهُ يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ إِلَى زَوْجَتِهِ طَلَاقَ نَفْسِهَا . فَأَمَّا إِذَا وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ سِلْعَةٍ وَصَفَهَا بِثَمَنٍ مِنْ جُمْلَةِ دَيْنٍ لَهُ فِي ذِمَّةِ وَكِيلِهِ فَاشْتَرَى الْوَكِيلُ تِلْكَ السِّلْعَةَ لِمُوَكِّلِهِ بِثَمَنٍ وَزَنَهُ مِنْ جُمْلَةِ دَيْنِهِ صَحَّ وَبَرِئَ الْوَكِيلُ مِنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ فَإِنْ تَلِفَتِ السِّلْعَةُ فَهِيَ تَالِفَةٌ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلُ بَرِيءٌ مِنْ ثَمَنِهَا وَسَوَاءٌ كَانَ مَا وُكِّلَ فِي ابْتِيَاعِهِ مُعَيَّنًا أَوْ مَوْصُوفًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنْ كَانَ مُعَيَّنًا بَرِئَ مِنْ ثَمَنِهِ وَإِنْ تَلِفَ وَإِنْ كَانَ مَوْصُوفًا لَمْ يَبْرَأْ مِنْ ثَمَنِهِ إِذَا تَلِفَ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْوَكِيلَ مُقَرِّرٌ لِلثَّمَنِ عَنْ إِذْنِهِ فَاسْتَوَى حُكْمُ الْمَوْصُوفِ وَالْمُعَيَّنِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا وَكَّلَهُ فِي الصُّلْحِ ، فَإِنْ كَانَ صُلْحًا يَجْرِي مَجْرَى الْبَيْعِ جَازَ إِطْلَاقُ الْقَدْرِ فِيهِ وَكَانَ مُعْتَبَرًا بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ كَالتَّوْكِيلِ فِي الْبَيْعِ يَصِحُّ مَعَ إِطْلَاقِ الثَّمَنِ بِمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ الَّذِي لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ . وَإِنْ كَانَ صُلْحًا يَجْرِي مَجْرَى الْإِبْرَاءِ لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِذِكْرِ الْقَدْرِ الَّذِي يُصَالِحُ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِي الْإِبْرَاءِ إِلَّا بِذِكْرِ الْقَدْرِ الَّذِي يَبْرَأُ مِنْهُ . فَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَنْهُ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي تَوْكِيلِهِ لِإِبْرَاءِ نَفْسِهِ . فَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَهَبَ لِزَيْدٍ مَا رَأَى مِنْ أَمْوَالِهِ لَمْ يَجُزْ لِلْجَهْلِ بِهِ . فَلَوْ وَكَّلَهُ فِي هِبَةِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ مَعْلُومٍ مِنْ مَالِهِ كَانَ جَائِزًا . وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي هِبَةِ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ شئ معلوم كَانَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ وَكَّلَهُ بِطَلَبِ حَدٍّ لَهُ أَوْ قِصَاصٍ قُبِلَتِ الْوَكَالَةُ عَلَى تَثْبِيتِ الْبَيِّنَةِ فَإِذَا حَضَرَ الْحَدُّ أَوِ الْقِصَاصُ لَمْ أَحُدَّ وَلَمْ أُقِصَّ حَتَّى يَحْضُرَ الْمَحْدُودُ لَهُ وَالْمُقَصُّ لَهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ قَدْ يُقِرُّ لَهُ وَيُكَذِّبُ الْبَيِّنَةَ أَوْ يَعْفُو فَيُبْطِلُ الْحَدَّ وَالْقِصَاصَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْوَكَالَةَ عَلَى تَثْبِيتِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ جَائِزَةٌ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يَجُوزُ الْوَكَالَةُ فِي إِثْبَاتِ الْحُدُودِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا لَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ فِي اسْتِيفَائِهِ لَمْ تُجِزِ الْوَكَالَةَ فِي إِثْبَاتِهِ كَحُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ حَقُّ الْآدَمِيِّ يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهِ مَعَ حُضُورِ الْمُوَكِّلِ فَجَازَ مَعَ غَيْبَتِهِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ وَلِأَنَّ مَنْ جَازَ تَوْكِيلُهُ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ جَازَ تَوْكِيلُهُ فِي الْحُدُودِ كَالْحَاضِرِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْمَعْنَى فِيهَا إِدْرَاؤُهَا بِالشُّبَهَاتِ فَلَمْ يَجُزْ تَأْكِيدُهَا بِالتَّوْكِيلِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ .



فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْوَكَالَةِ فِي إِثْبَاتِ الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُوَكِّلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَنْهَاهُ فِي الْوَكَالَةِ عَنِ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ بَعْدَ إِثْبَاتِهِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُطْلِقَ ذِكْرَ الْإِثْبَاتِ وَلَا يَذْكُرَ الِاسْتِيفَاءَ بِالنَّهْيِ عَنْهُ الوكالة في الحد والقصاص وَلَا بِالْأَمْرِ بِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : يَجُوزُ لَهُ اسْتِيفَاؤُهُ مَا لَمْ يُنْهَ عَنْهُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ مُقْتَضَى الْإِثْبَاتِ فَجَازَ فِعْلُهُ مَعَ إِطْلَاقِ الْوَكَالَةِ كَالْمُوَكِّلِ فِي بَيْعٍ يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ فِيهِ أَنْ يَقْبِضَ ثَمَنَهُ بِإِطْلَاقِ الْإِذْنِ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ إِثْبَاتَ الْقِصَاصِ لَا يَقْتَضِي تَفْوِيتَهُ إِلَّا بِالِاسْتِيفَاءِ كَوَصِيِّ الْيَتِيمِ وَأَبِ الطِّفْلِ . وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مِنْ مُوجِبَاتِ إِثْبَاتِهِ لَكَانَ مِنْ شُرُوطِ وَكَالَتِهِ فَلَمَّا جَازَ لَهُ تَرْكُهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِعْلُهُ . فَأَمَّا الْبَيْعُ فَالْقَبْضُ مِنْ مُوجِبَاتِهِ وَلَوَازِمِهِ ، وَخَالَفَ حَالَ الِاسْتِيفَاءِ لِلْقِصَاصِ مَعَ مَا فِي الْقِصَاصِ مِنْ فَوَاتِ الِاسْتِدْرَاكِ .

فَصْلٌ : وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُوَكِّلَهُ فِي الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ بَعْدَ إِثْبَاتِهِ أي وكل الموكل الوكيل في الحد والقصاص ، فَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ حَاضِرًا عِنْدَ اسْتِيفَائِهِ صَحَّتِ الْوَكَالَةُ ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَقَالَ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ : وَلَوْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ فَتَنَحَّا بِهِ ثُمَّ عَفَا الْمُوَكِّلُ وَقَتَلَ الْوَكِيلُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ بِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَكْثَرُهُمْ يُخَرِّجُونَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ لِاخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ احْتِيَاطًا لِلدِّمَاءِ فِي فَوَاتِ اسْتِدْرَاكِهَا إِنْ حَدَثَ مِنَ الْمُوَكِّلِ عَفْوٌ عَنْهَا وَأَنَّهُ إِنْ حَضَرَ كَانَ أَرَقَّ قَلْبًا فِي الْعَفْوِ عَنْهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّهُمَا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِأَنَّ مَا صَحَّ فِيهِ التَّوْكِيلُ مَعَ حُضُورِ الْمُوَكِّلِ صَحَّ فِيهِ التَّوْكِيلُ مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ قِيَاسًا عَلَى تَثْبِيتِ الْقِصَاصِ ، وَلِأَنَّ مَا صَحَّ التَّوْكِيلُ فِي إِثْبَاتِهِ صَحَّ التَّوْكِيلُ فِي اسْتِيفَائِهِ كَالْأَمْوَالِ . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : إِنَّ التَّوْكِيلَ فِي اسْتِيفَائِهِ يَجُوزُ قَوْلًا وَاحِدًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَحَمَلَ مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ كَلَامِهِ هَاهُنَا عَلَى الْمَنْعِ إِذَا كَانَ التَّوْكِيلُ فِي إِثْبَاتِهِ وَحْدَهُ . وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ لَا يَجُوزُ قَوْلًا وَاحِدًا وَحَمَلُوا كَلَامَ الشَّافِعِيِّ فِي الْجِنَايَاتِ عَلَى جَوَازِهِ مَعَ حُضُورِ مُوَكِّلِهِ ، وَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فَتَنَحَّا بِهِ عَنْ قُرْبِ مُوَكِّلِهِ إِلَى حَيْثُ يَسْتَوْفِي لَهُ عَلَى بُعْدٍ مِنْهُ وَهُوَ شَاهِدُهُ ، فَيُمْكِنُ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالْحُضُورِ اسْتِدْرَاكُ عَفْوِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ لَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ إِلَيْهِ الْمُوَكِّلُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ إِلَيْهِ الْمُوَكِّلُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْوَكَالَةُ مِنَ الْعَمَلِ ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ يُمْكِنُهُ التَّفَرُّدُ بِعَمَلِهِ ، وَضَرْبٌ لَا يُمْكِنُهُ التَّفَرُّدُ بِعَمَلِهِ . فَأَمَّا مَا لَا يُمْكِنُهُ التَّفَرُّدُ بِعَمَلِهِ فَكَرَجُلٍ وُكِّلَ فِي نَقْلِ حُمُولَةٍ أَوْ فِي عِمَارَةِ ضَيْعَةٍ أَوْ بِنَاءٍ ، فَيَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ مَنْ يَعْمَلُ مَعَهُ مَا لَمْ يُنْهَ عَنْهُ صَرِيحًا ، وَيَكُونُ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ وَكِيلَيْنِ لِلْمُوَكِّلِ لَا يَنْعَزِلُ الثَّانِي بِعَزْلِ الْأَوَّلِ ، وَهَكَذَا لَوْ وُكِّلَ فِيمَا يُمْكِنُ الْوَاحِدُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ إِلَّا أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يُحْسِنُ عَمَلَهُ وَلَا يَعْرِفُ صُنْعَهُ كَرَجُلٍ وُكِّلَ فِي نِسَاجَةِ ثَوْبٍ وَهُوَ لَا يُحْسِنُ النَّسْجَ أَوْ فِي صِيَاغَةِ حُلِيٍّ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ وَيَسْتَنِيبَ فِي عَمَلِهِ وَيَكُونُ مَعْنَى تَوْكِيلِهِ فِيهِ وَهُوَ لَا يُحْسِنُ الصَّنْعَةَ اسْتِنَابَتَهُ فِي تَوْكِيلِ مَنْ يُحْسِنُهَا . وَهَكَذَا لَوْ وُكِّلَ فِيمَا لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِفِعْلِهِ ، وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُهُ كَرَجُلٍ وُكِّلَ فِي النِّدَاءِ عَلَى ثَوْبٍ وَلَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِالنِّدَاءِ أَوْ وُكِّلَ فِي غُسْلٍ وَلَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِالْغُسْلِ فَيَجُوزُ لَهُ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِيهِ أَنْ يُوَكِّلَ فِيمَا وُكِّلَ مَنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِهِ .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ مَا وُكِّلَ فِيهِ يُمْكِنُهُ التَّفَرُّدُ بِعَمَلِهِ ، وَعَادَتُهُ جَارِيَةٌ بِعَمَلِهِ كَرَجُلٍ وُكِّلَ فِي الْخُصُومَةِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا أَوْ وُكِّلَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ وَهُوَ مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ الْعَقْدُ أَوْ وُكِّلَ فِي اقْتِضَاءِ دَيْنٍ أَوْ مُقَاسَمَةِ خَلِيطٍ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْقِسْمَةِ وَأَصْحَابِ الِاقْتِضَاءِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُوَكِّلِ مَعَهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَنْهَاهُ فِي عَقْدِ وَكَالَتِهِ عَنْ تَوْكِيلِ غَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ مَعَ النَّهْيِ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ ، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ تَوْكِيلُهُ بَاطِلًا وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي عَقْدِ وَكَالَتِهِ فِي تَوْكِيلِ غَيْرِهِ وَاسْتِنَابَتِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُنَصِّبَهُ عَلَى تَوْكِيلِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ تَوْكِيلُ غَيْرِهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَنْ عَيَّنَ الْمُوَكِّلُ عَلَيْهِ أَمِينًا عَدْلًا أَوْ كَانَ خَائِنًا فَاسِقًا لِأَنَّ اخْتِيَارَ الْمُوَكِّلِ وَاقِعٌ عَلَيْهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يُنَصِّبَهُ عَلَى تَوْكِيلِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ ، وَيَقُولُ : قَدْ جَعَلْتُ إِلَيْكَ الْخِيَارَ فَوَكِّلْ مَنْ رَأَيْتَ فَعَلَى الْوَكِيلِ إِذَا أَرَادَ التَّوْكِيلَ أَنْ يَخْتَارَ ثِقَةً أَمِينًا كَافِيًا فِيمَا يُوَكَّلُ فِيهِ ، فَإِنْ وَكَّلَ خَائِنًا فَاسِقًا توكيل الوكيل غيره لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُرَى تَوْكِيلُ مِثْلِهِ ، فَلَوْ وَكَّلَ ثِقَةً أَمِينًا توكيل الوكيل غيره صَحَّ تَوْكِيلُهُ ، فَإِنْ حَدَثَ فِسْقُهُ وَطَرَأَتْ خِيَانَتُهُ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ عَزْلُهُ قَبْلَ اسْتِئْذَانِ الْمُوَكِّلِ فِي عَزْلِهِ أَمْ لَا ؟ وكيل الوكيل عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ لَهُ عَزْلُهُ إِلَّا بِتَوْكِيلِ غَيْرِهِ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ فِي عَزْلِهِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ لَهُ عَزْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْ مُوَكِّلَهُ لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْإِذْنِ يَقْتَضِي تَوْكِيلَ ثِقَةٍ عَدْلٍ . فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ إِذَا أَذِنَ لَهُ الْمُوَكِّلُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُوَكِّلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ أَنْ يَكُونَ تَوْكِيلُهُ عَنِ الْمُوكِّلِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْوَكِيلُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَكِيلَيْنِ لِلْمُوَكِّلِ فَإِنْ عُزِلَ الْأَوَّلُ كَانَ الثَّانِي عَلَى وَكَالَتِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ أَنْ يَكُونَ تَوْكِيلُهُ عَنِ الْوَكِيلِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْوَكِيلُ الثَّانِي وَكِيلًا لِلْوَكِيلِ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ عَزَلَ الْمُوَكِّلُ الْوَكِيلَ الْأَوَّلَ انْعَزَلَ الْوَكِيلُ الثَّانِي وَبَطَلَتْ وَكَالَتُهُ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ إِذْنُهُ فِي التَّوْكِيلِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَنِ الْمُوَكِّلِ أَوْ عَنِ الْوَكِيلِ ، فَيُنْظَرُ فِيهِ ، فَلَوْ كَانَ الْمُوَكِّلُ قَدْ عَيَّنَ لِلْوَكِيلِ عَلَى مَنْ يُوَكِّلُهُ كَانَ الثَّانِي الْمُعَيَّنُ وَكِيلًا لِلْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ فِي التَّعْيِينِ تَنْبِيهًا عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَكُونُ وَكِيلًا لِلْمُوَكِّلِ كَالْوَكِيلِ الْأَوَّلِ لَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ جَوَازَ تَوْكِيلِهِ مُعْتَبَرٌ بِإِذْنِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَكُونُ وَكِيلًا لِلْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَنْعَزِلُ الثَّانِي بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ : إِمَّا بِعَزْلِ الْأَوَّلِ ، وَإِمَّا بِعَزْلِ الْأَوَّلِ لَهُ ، وَإِمَّا بِعَزْلِ الْمُوَكِّلِ لَهُ . وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا يَنْعَزِلُ إِلَّا بِعَزْلِ الْمُوَكِّلِ وَحْدَهُ ، وَهَذَا إِذَا صَرَّحَ الْمُوَكِّلُ لِوَكِيلِهِ بِالتَّوْكِيلِ ، فَأَمَّا إِذَا عَرَضَ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ كَقَوْلِهِ قَدْ وَكَّلْتُكَ وَجَعَلْتُ إِلَيْكَ أَنْ تَعْمَلَ بِرَأْيِكَ أَوْ مَا صَنَعْتَ فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ فَهَلْ يَكُونُ مُطْلَقُ التَّفْوِيضِ يَقْتَضِي جَوَازَ التَّوْكِيلِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَقْتَضِيهِ وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ اعْتِبَارًا بِعُمُومِ التَّفْوِيضِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَقْتَضِيهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ التَّفْوِيضِ يَنْصَرِفُ إِلَى فِعْلِهِ لَا إِلَى فِعْلِ غَيْرِهِ .

فَصْلٌ : وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ تَكُونَ الْوَكَالَةُ مُطْلَقَةً لَا يَأْذَنُ لَهُ وَلَا يَنْهَاهُ عَنْهُ توكيل الوكيل غيره ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا أَقَامَهُ فِيهِ مَقَامَ نَفْسِهِ جَازَ لَهُ التَّوْكِيلُ فِيهِ كَمَا يَجُوزُ لِنَفْسِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَقْصُودَ بِوَكَالَتِهِ حُصُولُ الْعَمَلِ الَّذِي وُكِّلَ فِيهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ

وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَعِينَ فِيهِ بِغَيْرِهِ ، لِحُصُولِ الْعَمَلِ فِي الْحَالَيْنِ لِمُوَكِّلِهِ وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ فِعْلَ الْوَكِيلِ مُقْتَصِرٌ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْإِذْنُ مِنْ غَيْرِ مُجَاوَزَةٍ فِي التَّوْكِيلِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُوَكِّلَ يَسْكُنُ فِي عَمَلِهِ إِلَى أَمَانَةِ وَكَيْلِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ لَمْ يَسْكُنِ الْمُوَكِّلُ إِلَى أَمَانَتِهِ كَالْوَدِيعَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يُودِعَهَا عِنْدَ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَمْ يَرْضَ إِلَّا بِأَمَانَتِهِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ هَذَا أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فَلَعَمْرِي أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي فِعْلِ مَا وُكِّلَ فِيهِ لَا فِي غَيْرِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَهَبَ وَلَا يُبْرِئَ وَإِنْ كَانَ لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَهَبَ وَيُبْرِئَ : لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ فَكَذَلِكَ فِي التَّوْكِيلِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ بِأَنَّ الْغَرَضَ حُصُولُ الْعَمَلِ فَهُوَ كَذَلِكَ ، لَكِنْ قَدْ خَصَّهُ وَارْتَضَى أَمَانَتَهُ كَمَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا بِعَيْنِهِ لِعَمَلٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ غَيْرَهُ فِي عَمَلِهِ لِأَنَّ قَصْدَ الْمُسْتَأْجِرِ إِنَّمَا هُوَ حُصُولُ الْعَمَلِ مِنْ جِهَةِ الْأَجِيرِ وَفِعْلِهِ لَا بِفِعْلِ غَيْرِهِ كَذَلِكَ هَاهُنَا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْقَاضِي إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى عَمَلِهِ فما الحكم فَإِنْ نَهَاهُ الْإِمَامُ عَنِ الِاسْتِخْلَافِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ صَرِيحًا بِالِاسْتِخْلَافِ جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ ، فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ وَلَمْ يَنْهَهُ اعْتُبِرَ حَالُ عَمَلِهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْوَكَالَةِ ، فَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْعَمَلِ بَيْنَ أَهْلِ عَمَلِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ لِسَعَةِ عَمَلِهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي جَمِيعِ أَهْلِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى النَّظَرِ فِيهِ . وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِيمَا يَقْدِرُ عَلَى النَّظَرِ فِيهِ أَمْ لَا ؟ القاضى عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ لِتَمَكُّنِهِ وَقُدْرَتِهِ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِبَاقِي عَمَلِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ إِنْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ مَتَاعِهِ فَبَاعَهُ فَقَالَ الْوَكِيلُ قَدْ دَفَعْتُ إِلَيْكَ الثَّمَنَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ مَتَاعِهِ فَبَاعَهُ فَقَالَ الْوَكِيلُ قَدْ دَفَعْتُ إِلَيْكَ الثَّمَنَ فلمن يكون القول فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ الْوَكِيلُ عَلَى مُوَكِّلِهِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ الْوَكِيلِ ، وَقِسْمٌ لَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُهُ ، وَقِسْمٌ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي قَبُولِ قَوْلِهِ فِيهِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ مَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ الْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ فَهُوَ فِي رَدِّ مَا ائْتَمَنَهُ عَلَيْهِ . وَجُمْلَةُ الْأَيْدِي الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا ضَمَانٌ أَنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ صَاحِبِهَا فِي رَدِّ مَا مَعَهُ وَهُوَ مَنِ ائْتَمَنَهُ الْمَالِكُ عَلَى مَالِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَعُودُ فِي أَمَانَتِهِ كَالْمُودَعِ فَقَوْلُهُ فِي رَدِّ مَا بِيَدِهِ مِنَ الْوَدِيعَةِ عَلَى رَبِّهَا مَقْبُولٌ : لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَامَهُ فِيهَا مَقَامَ نَفْسِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا كَقَوْلِهِ عَلَى نَفْسِهِ .

وَالثَّانِي : مَنْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ أَمِينًا فِي رَدِّ مَا بِيَدِهِ وَهُوَ مَنْ يَدُهُ لِحَقِّ نَفْسِهِ كَالْمُرْتَهِنِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي رَدِّ الرَّهْنِ عَلَى رَاهِنِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْهُ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ . وَالثَّالِثُ : مَنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَبُولِ قَوْلِهِ عَلَى مُؤْتَمِنِهِ وَهُوَ مَنْ كَانَ نَائِبًا عَنِ الْمَالِكِ لَكِنْ لِنَفْعٍ يَعُودُ عَلَيْهِ فِي نِيَابَتِهِ كَالْعَامِلِ فِي الْقِرَاضِ وَالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ فَفِي قَبُولِ قَوْلِهِمْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُمْ مَقْبُولٌ فِي رَدِّ مَا بِأَيْدِيهِمْ لِنِيَابَتِهِمْ عَنِ الْمَالِكِ وَهُوَ أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ : أَنَّ قَوْلَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي رَدِّ مَا بِأَيْدِيهِمْ ؛ لِأَنَّ عَوْدَ النَّفْعِ إِلَيْهِمْ يَجْعَلُهُمْ كَالْمُتَصَرِّفِينَ فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمْ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ كَالْمُرْتَهِنِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا لِلْأَصْلِ فَالْوَكِيلُ إِنْ كَانَ مُتَطَوِّعًا فَقَوْلُهُ فِي رَدِّ مَا بِيَدِهِ مَقْبُولٌ عَلَى مُوَكِّلِهِ ، وَإِنْ كَانَ بِأُجْرَةٍ فَفِي قَبُولِ قَوْلِهِ وَجْهَانِ . فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِمَّا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ الْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ .


فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ مَا لَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ الْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ فَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ إِذْنًا فِي تَصَرُّفٍ كَقَوْلِ الْوَكِيلِ : أَمَرْتَنِي بِبَيْعِ كَذَا ، أَوْ بِإِعْطَاءِ زَيْدٍ كَذَا ، فَيُنْكِرُ الْمُوَكِّلُ ذَلِكَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ : لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى بِمَثَابَةِ مُدَّعِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ ، وَمُدَّعِي الْوَكَالَةِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ادِّعَائِهَا فَكَذَلِكَ مُدَّعِي الْإِذْنِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ادِّعَائِهِ . وَكَذَلِكَ إِذَا اتَّفَقَا عَلَى الْإِذْنِ وَاخْتَلَفَا فِي صِفَتِهِ ، كَقَوْلِ الْوَكِيلِ أَمَرْتَنِي بِإِعْطَاءِ زَيْدٍ أَلْفًا ، فَقَالَ : بَلْ أَمَرْتُكَ بِإِعْطَائِهِ ثَوْبًا ، وَكَقَوْلِهِ أَمَرْتَنِي بِبَيْعِ عَبْدِكَ بِأَلْفٍ ، فَقَالَ : لَا بَلْ أَمَرْتُكَ بِأَلْفَيْنِ ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ دَعْوَى الْوَكِيلِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ يُقِيمُهَا عَلَى ادِّعَائِهِ ، وَالْبَيِّنَةُ شَاهِدَانِ عَدْلَانِ لَا غَيْرَ ؛ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ فِي إِثْبَاتِ وَكَالَةٍ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي قَبُولِ قَوْلِ الْوَكِيلِ فِيهِ عَلَى مُوَكِّلِهِ ، فَهُوَ أَنْ يُوَكِّلَ فِي عَمَلِهِ فَيَدَّعِي الْوَكِيلُ إِيقَاعَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَيُنْكِرُهُ الْمُوَكِّلُ ، كَتَوْكِيلِهِ فِي بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ إِقْبَاضِ مَالٍ ، فَيُنْكِرُ الْمُوَكِّلُ ذَلِكَ مَعَ تَصْدِيقِ الْبَائِعِ وَالْمَنْكُوحَةِ وَالْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْمُطَلَّقَةِ وَالْقَابِضِ وَالْمُعْتَقِ فَفِيهِ قَوْلَانِ مَحْكِيَّانِ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَوَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ . فَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْقَوْلَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْوَكِيلُ بَيِّنَةً عَلَى مَا ادَّعَاهُ ، وَالْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ مُعْتَبَرَةٌ بِالْمَشْهُودِ فِيهِ مِنْ كَوْنِهِ مَالًا أَوْ غَيْرَ مَالٍ وَإِنَّمَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهَا عُقُودٌ فَلَمْ تَلْزَمْ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ قَوْلُ الْوَكِيلِ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمَّا أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ نَفَذَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ كَنُفُوذِ قَوْلِهِ عَلَى نَفْسِهِ ، فَهَذَانِ قَوْلَا الشَّافِعِيِّ الْمَحْكِيَّانِ عَنْهُ . وَأَمَّا وَجْهَا أَبِي الْعَبَّاسِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ بَعْدَ حِكَايَةِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَيْنِ ذَكَرَ احْتِمَالَهُمَا وَنَصَرَ تَوْجِيهَهُمَا . أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَا أَقَرَّ بِهِ الْوَكِيلُ يَتِمُّ بِهِ وَحْدَهُ كَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَالْإِبْرَاءِ كَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا فِيهِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَصِحُّ مِنَ الْوَكِيلِ فِي الْحَالِ صَحَّ إِقْرَارُهُ بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ ، وَمَا كَانَ بِخِلَافِهِ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ بِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ وَاعْتَمَدَ عَلَى نُصْرَتِهِ : أَنَّ مَا كَانَ الْإِقْرَارُ بِهِ كَإِيقَاعِهِ قُبِلَ قَولُهُ فِيهِ ، وَمَا كَانَ بِخِلَافِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِيهِ . وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ إِنَّمَا يَكُونُ لِلْقَوْلِ بِهِمَا وَجْهٌ إِذَا كَانَ الْوَكِيلُ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ بَاقِيًا عَلَى الْوَكَالَةِ فَأَمَّا مَعَ عَزْلِهِ عَنْهَا فَلَا وَجْهَ لِتَخْرِيجِهِمَا لِمَا يَقْتَضِيهِ تَعْلِيلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَاهُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَانَ الْجَوَابُ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ مَحْمُولًا عَلَيْهَا ، وَصُورَتُهَا فِي مَنْ أَمَرَ وَكِيلَهُ بِبَيْعِ مَتَاعِهِ وَقَبْضِ ثَمَنِهِ ، فَادَّعَى الْوَكِيلُ الْبَيْعَ وَقَبْضَ الثَّمَنِ وَتَسْلِيمَهُ إِلَى الْمُوَكِّلِ ، فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى الْبَيْعِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ قَبَضَهُ مِنْهُ كَانَ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَقْبُولًا عَلَيْهِ لَكِنْ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي الدَّفْعِ ، وَلَوْ صَدَّقَهُ عَلَى الْبَيْعِ وَأَنْكَرَ قَبْضَ الْوَكِيلِ الثَّمَنَ مِنَ الْمُشْتَرِي فَهُوَ عَلَى قَوْلَيْنِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْوَكِيلِ يَدَّعِي عَمَلًا يُنْكِرُهُ الْمُوَكِّلُ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فِي الْبَيْعِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ فَهُوَ عَلَى قَوْلَيْنِ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَمَرَ الرَّجُلُ وَكِيلَهُ بِشِرَى عَبْدٍ فَقَالَ الْوَكِيلُ : اشْتَرَيْتُهُ بِأَلْفٍ وَقَالَ الْمُوَكِّلُ بَلِ اشْتَرَيْتُهُ بِخَمْسِمِائَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَعَ يَمِينِهِ دُونَ الْمُوَكِّلِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَتِ الْأَلْفُ بِيَدِ الْوَكِيلِ لِمُوَكِّلِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَعَ يَمِينِهِ فِي شِرَى الْعَبْدِ بِالْأَلْفِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِيَدِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ . وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ قَوْلُ الْوَكِيلِ أَوْلَى فِي الْحَالَيْنِ لِقَبُولِ قَوْلِهِ فِي أَصْلِ الشِّرَى وَكَذَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي قَدْرِ أَصْلِ ثَمَنِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ إِنْ طَلَبَ مِنْهُ الثَّمَنَ فَمَنَعَهُ مِنْهُ فَقَدْ ضَمِنَهُ إِلَّا فِي حَالٍ لَا يُمْكِنُهُ فِيهِ دَفْعُهُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ طَلَبَ مِنْهُ الثَّمَنَ فَمَنَعَهُ مِنْهُ فَقَدْ ضَمِنَهُ إِلَّا فِي حَالٍ لَا يُمْكِنُهُ فِيهِ دَفْعُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا حَصُلَ مَعَ الْوَكِيلِ ثَمَنُ مَا بَاعَ لِمُوَكِّلِهِ فَطَلَبَهُ مِنْهُ فَمَنَعَهُ حال منع الوكيل ، فَلَا يَخْلُو حَالُ مَنْعِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ ، فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ كَحُدُوثٍ مَرَضٍ أَوْ خَوْفٍ يَمْنَعُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى مَوْضِعِ الثَّمَنِ أَوْ لِحُضُورِ فَرْضٍ مِنْ جُمُعَةٍ أَوْ

مَكْتُوبَةٍ قَدْ ضَاقَ وَقْتُهَا ، أَوْ لِضَيَاعِ مِفْتَاحٍ بِدِيَارِ غَيْرِهِ أَوْ لِمُلَازَمَةِ غَرِيمٍ لَهُ إِلَى مَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ ، فَهَذَا عُذْرٌ فِي تَأْخِيرِ الدَّفْعِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِنْ تَلِفَ قَبْلَ الدَّفْعِ . وَإِنْ مَنَعَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ صَارَ ضَامِنًا لَهُ فَإِنْ تَلِفَ كَانَ عَلَيْهِ غُرْمُهُ ، فَلَوْ مَنَعَهُ مِنْ دَفْعِهِ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِقَبْضِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ لَهُ ذَلِكَ وَيَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ الْإِشْهَادُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَبْضِ أَمْ لَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ الْإِشْهَادُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَبْضِ لِأَنَّ قَوْلَ الْوَكِيلِ مَقْبُولٌ فِي الدَّفْعِ ، فَعَلَى هَذَا يَصِيرُ بِالْمَنْعِ ضَامِنًا وَعَلَيْهِ الْغُرْمُ إِنْ تَلِفَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنَ الدَّفْعِ إِلَّا بِالْإِشْهَادِ لِيَسْلَمَ مِنَ الْيَمِينِ مَعَ الْإِكْذَابِ فَعَلَى هَذَا لَا يَصِيرُ بِالْمَنْعِ ضَامِنًا وَلَا غَرْمَ عَلَيْهِ إِنْ تَلِفَ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ إِنْ قَبَضَ الْمَالَ بِالْإِشْهَادِ لَمْ يَدْفَعْ إِلَّا بِالْإِشْهَادِ ، وَإِنْ قَبَضَ بِغَيْرِ إِشْهَادٍ لَزِمَهُ الدَّفْعُ بِغَيْرِ إِشْهَادٍ . فَأَمَّا مَنْ كَانَ غَيْرَ مَقْبُولِ الْقَوْلِ فِي الدَّفْعِ فَلَا يَلْزَمُهُ الدَّفْعُ إِلَّا بِالْإِشْهَادِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ ضَامِنًا كَالْغَاصِبِ وَالْمُسْتَعِيرِ أَوْ كَانَ غَيْرَ ضَامِنٍ كَالْمُرْتَهِنِ . فَأَمَّا الْمُضَارِبُ وَالْأَجِيرُ الْمُشْتَرِكُ فَإِنْ قُلْنَا بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ إِنَّ قَوْلَهُ فِي الدَّفْعِ غَيْرُ مَقْبُولٍ لَمْ يَلْزَمْهُمُ الدَّفْعُ إِلَّا بِالْإِشْهَادِ ، وَإِنْ قُلْنَا بِالصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِنَّ قَوْلَهُمْ فِي الدَّفْعِ مَقْبُولٌ فَفِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ لَهُمْ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا مَنَعَ الْوَكِيلُ مُوَكِّلَهُ مِنَ الثَّمَنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى دَفْعِهِ لَوْ كَانَ بَاقِيًا ، وَكَانَ الثَّمَنُ قَدْ هَلَكَ قَبْلَ مَنْعِهِ ، وَالْوَكِيلُ غَيْرُ عَالِمٍ بِهِ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ : أَنَّهُ ضَامِنٌ لِمَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْوَدِيعَةَ تُضْمَنُ بِاعْتِقَادِ الِامْتِنَاعِ مِنَ الرَّدِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِتَلَفِ ذَلِكَ قَبْلَ وُجُودِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ إِنْ أَمْكَنَهُ فَمَنَعَهُ ثُمَّ جَاءَ لِيُوصِّلَهُ إِلَيْهِ فَتَلِفَ ضَمِنَهُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ أَمْكَنَهُ فَمَنَعَهُ ثُمَّ جَاءَ لِيُوصِّلَهُ إِلَيْهِ فَتَلِفَ ضَمِنَهُ وَلَوْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْ دَفَعْتُهُ إِلَيْكَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا مَنَعَ الْوَكِيلُ مِنْ دَفْعِ الثَّمَنِ إِلَى مُوَكِّلِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَهُ فِي الْمَنْعِ صَارَ ضَامِنًا ، فَلَوْ حَمَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِيَدْفَعَهُ إِلَيْهِ فَتَلِفَ كَانَ عَلَيْهِ غُرْمُهُ لِأَنَّ مَا صَارَ مَضْمُونًا لَزِمَ غُرْمُهُ بِالتَّلَفِ ، فَلَوِ ادَّعَى بَعْدَ امْتِنَاعِهِ مِنَ الدَّفْعِ بِغَيْرِ عُذْرٍ أَنَّهُ قَدْ دَفَعَ الثَّمَنَ إِلَى مُوَكِّلِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ لِتَعَلُّقِ الضَّمَانِ بِذِمَّتِهِ ، فَلَوْ طَلَبَ الْإِشْهَادَ عَلَى مُوَكِّلِهِ بِالدَّفْعِ لَزِمَهُ ذَلِكَ ،

فَلَوْ أَبْرَأَهُ الْمُوَكِّلُ مِنَ الضَّمَانِ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ تَلَفِ الشَّيْءِ فِي يَدِهِ وَتَعَلُّقِ الْغُرْمِ بِذِمَّتِهِ صَحَّتِ الْبَرَاءَةُ ، وَإِنْ كَانَ مَعَ بَقَاءِ الشَّيْءِ الْمَضْمُونِ فِي يَدِ الْوَكِيلِ فَفِي صِحَّةِ الْبَرَاءَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تَصِحُّ كَالْإِبْرَاءِ مِمَّا تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ فَعَلَى هَذَا إِذَا ادَّعَى رَدَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُبِلَ مِنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْبَرَاءَةَ مِنْهُ لَا تَصِحُّ لِأَنَّهَا عَيْنٌ مَضْمُونَةٌ كَالْغَصْبِ لَا يَسْقُطُ ضَمَانُهُ بِالْإِبْرَاءِ مِنْهُ فَعَلَى هَذَا إِنِ ادَّعَى رَدَّهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ قَالَ صَاحِبُهُ لَهُ قَدْ طَلَبْتُهُ مِنْكَ فَمَنَعْتَنِي فَأَنْتَ ضَامِنٌ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَ صَاحِبُهُ لَهُ قَدْ طَلَبْتُهُ مِنْكَ فَمَنَعْتَنِي فَأَنْتَ ضَامِنٌ فَهُوَ مُدَّعٍ أَنَّ الْأَمَانَةَ تَحَوَّلَتْ مَضْمُونَةً وَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ وَعَلَى الْمُنْكِرِ الْيَمِينُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا مَنَعَهُ مِنْ دَفْعِ الثَّمَنِ إِلَيْهِ حَتَّى هَلَكَ ثُمَّ اخْتَلَفَا ، فَقَالَ الْوَكِيلُ : مَنَعْتُكَ مَعْذُورًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيَّ ، وَقَالَ الْمُوَكِّلُ : مَنَعَتْنِي غَيْرَ مَعْذُورٍ فَعَلَيْكَ الضَّمَانُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَعَ يَمِينِهِ إِذَا كَانَ مَا قَالَهُ مُمْكِنًا ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ عَلَى أَصْلِ أَمَانَتِهِ فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى الْمُوَكِّلِ عَلَيْهِ فِي انْتِقَالِهِ عَنِ الْأَمَانَةِ إِلَى الضَّمَانِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ قَالَ وَكَّلْتُكَ بِبَيْعِ مَتَاعِي وَقَبَضْتَهُ مِنِّي فَأَنْكَرَ ثُمَّ أَقَرَّ أَوْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ضَمِنَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَ وَكَّلْتُكَ بِبَيْعِ مَتَاعِي وَقَبَضْتَهُ مِنِّي فَأَنْكَرَ ثُمَّ أَقَرَّ أَوْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ضَمِنَ لِأَنَّهُ خَرَجَ بِالْجُحُودِ مِنَ الْأَمَانَاتِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ مَتَاعِهِ وَأَقْبَضَهُ إِيَّاهُ فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْوَكَالَةَ وَقَبْضَ الْمَتَاعِ فما الحكم فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ ، فَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً بِالْوَكَالَةِ وَقَبْضِ الْمَتَاعِ صَارَ ضَامِنًا لِأَنَّهُ خَرَجَ بِالْجُحُودِ عَنِ الْأَمَانَةِ فَصَارَ كَجَاحِدِ الْوَدِيعَةِ ، فَلَوِ ادَّعَى بَعْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ تَلَفَهَا أَوْ رَدَّهَا عَلَى مَالِكِهَا لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ ؛ لِأَنَّ مَنْ ضَمِنَ مَالًا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي ادِّعَاءِ الْبَرَاءَةِ مِنْهُ ، وَلِأَنَّهُ صَارَ بِالْإِنْكَارِ الْأَوَّلِ مُكَذِّبًا لِهَذِهِ الدَّعْوَى مِنْهُ . وَهَكَذَا لَوْ عَادَ بَعْدَ إِنْكَارِهِ فَأَقَرَّ بِقَبْضِ الْمَتَاعِ فَادَّعَى تَلَفَهُ أَوْ رَدَّهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ، وَكَانَ ضَامِنًا لَهُ لِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ بِقَبْضِهِ ، فَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِرَدِّهِ عَلَى مُوَكِّلِهِ أَوْ بِتَلَفِ ذَلِكَ فِي يَدِهِ قَبْلَ جُحُودِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا بَيِّنَةٌ مَرْدُودَةٌ لِأَنَّهُ قَدْ أَكْذَبَهَا بِسَابِقِ إِنْكَارِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيِّ وَحَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ أَنَّ بَيِّنَتَهُ مَقْبُولَةٌ لِتَقَدُّمِ مَا شَهِدَ بِهِ عَلَى الْجُحُودِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَ وَكَّلْتُكَ بِبَيْعِ مَتَاعِي فَبِعْتَهُ فَقَالَ مَا لَكَ عِنْدِي

شَيْءٌ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَقَالَ صَدَقُوا وَقَدْ دَفَعْتُ إِلَيْهِ ثَمَنَهُ فَهُوَ مُصَدَّقٌ لِأَنَّ مَنْ دَفَعَ شَيْئًا إِلَى أَهْلِهِ فَلَيْسَ هُوَ عِنْدَهُ وَلَمْ يُكَذِّبْ نَفْسَهُ فَهُوَ عَلَى أَصْلِ أَمَانَتِهِ وَتَصْدِيقِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ تَوْكِيلَهُ فِي مَتَاعٍ أَقْبَضَهُ إِيَّاهُ لِيَبِيعَهُ ، فَقَالَ الْوَكِيلُ : مَا لَكَ عِنْدِي شَيْءٌ أَوْ لَيْسَ لَكَ فِي يَدِي حَقٌّ ، فَهَذَا جَوَابٌ مُقْنِعٌ فِي الدَّعْوَى ، وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينٍ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ ، وَكُلُّ مَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ مَالًا فِي يَدَيْهِ وَذَكَرَ الْمُدَّعِي سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهِ كَالْوَدِيعَةِ وَالْغَصْبِ ، فَلِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُنْكِرًا أَنْ يُجِيبَ بِأَحَدِ جَوَابَيْنَ : إِمَّا أَنْ يَقُولَ : مَا أَخَذْتُ مِنْكَ هَذِهِ الْوَدِيعَةَ وَلَا غَصَبْتُكَ هَذَا الْمَالَ . وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ : مَا لَكَ قِبَلِي حَقٌّ . فَكِلَا الْجَوَابَيْنَ مُقْنِعٌ فِي إِنْكَارِ الدَّعْوَى وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ ، وَصِفَةُ إِحْلَافِهِ مُخْتَلِفَةٌ بِحَسْبَ اخْتِلَافِ الْجَوَابِ : فَإِنْ كَانَ جَوَابُهُ بِأَنْ قَالَ لَيْسَ لَكَ قِبَلِي حَقٌّ ، أُحْلِفَ عَلَى مَا أَجَابَ بِاللَّهِ أَنَّ مَا لَهُ قَبَلَهُ حَقٌّ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُحْلِفَهُ مَا أَخَذَ وَدِيعَتَهُ أَوْ مَا غَصَبَهُ : لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَلَّكَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْوَدِيعَةِ وَالْغَصْبِ بِهِبَةٍ أَوْ بَيْعٍ اسْتَوْفَى ثَمَنَهُ فَلَا يَكُونَ لَهُ قِبَلَهُ حَقٌّ وَيَحْنَثُ إِنْ حَلَفَ مَا اسْتَوْدَعَ وَلَا غَصَبَ . وَإِنْ كَانَ جَوَابُهُ أَنْ قَالَ : مَا غَصَبْتُكَ أَوْ قَالَ : مَا أَخَذْتُ وَدِيعَتَكَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِفَةِ إِحْلَافِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا لَهُ قِبَلَهُ حَقٌّ احْتِرَازًا مِمَّا ذَكَرْنَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَحْلِفَ عَلَى مَا أَجَابَ بِاللَّهِ مَا غَصَبَهُ وَلَا أَخَذَ وَدِيعَتَهُ لِأَنَّ تَرْكَهُ الِاحْتِرَازَ فِي جَوَابِهِ يَنْفِي التَّوَهُّمَ عَنْهُ فِيمَا ذَكَرْنَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ جَوَابَهُ بِمَا ذَكَرْنَا مُقْنِعٌ ، فَحَلَفَ ثُمَّ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِقَبْضِ الْمَالِ أَوْ عَادَ فَأَقَرَّ بِهِ ثُمَّ ادَّعَى تَلَفَهُ أَوْ رَدَّ ثَمَنِهِ الوكيل لَمْ يَضْمَنْ وَكَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا ادَّعَاهُ فِي الثَّانِي مُطَابِقٌ لِمَا أَجَابَ بِهِ فِي الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ مَنْ رَدَّ الشَّيْءَ عَلَى مَالِكِهِ فَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ فِي يَدِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي جَوَابِهِ الْأَوَّلِ تَكْذِيبُ الشُّهُودِ ، وَبِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ ، فَلَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ الْمَتَاعَ كَانَ فِي يَدِهِ بَعْدَ أَنْ أَجَابَ بِأَنْ لَا شَيْءَ لَكَ عِنْدِي صَارَ ضَامِنًا ، وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ أَوِ التَّلَفِ لِأَنَّ هَذَا الْجَوَابَ مِنْهُ مَعَ بَقَاءِ الشَّيْءِ فِي يَدِهِ كَذِبٌ وَجُحُودٌ فَصَارَ ضَامِنًا .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " وَإِنْ أَمَرَ الْمُوَكِّلُ الْوَكِيلَ أَنْ يَدْفَعَ مَالًا إِلَى رَجُلٍ فَادَّعَى أَنَّهُ دَفَعَهُ إِلَيْهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ وَاحْتَجَ الشَّافِعِيُّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَبِأَنَّ الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ دَفَعَهُ إِلَيْهِ لَيْسَ هُوَ الَّذِي ائْتَمَنَهُ عَلَى الْمَالِ كَمَا أَنَّ الْيَتَامَى لَيْسُوا الَّذِينَ ائْتَمَنُوهُ عَلَى الْمَالِ وَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ الْآيَةَ وَبِهَذَا فَرَّقَ بَيْنَ قَوْلِهِ لِمَنِ ائْتَمَنَهُ قَدْ دَفَعْتُهُ إِلَيْكَ يُقْبَلُ لِأَنَّهُ ائْتَمَنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ لِمَنْ لَمْ يَأْتَمِنْهُ عَلَيْهِ قَدْ دَفَعْتُهُ إِلَيْكَ فَلَا يُقْبَلُ لِأَنَّهُ الَّذِي لَيْسَ ائْتَمَنَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَمَرَ وَكِيلَهُ بِدَفْعِ مَالٍ إِلَى رَجُلٍ فَادَّعَى الْوَكِيلُ الدَّفْعَ وَأَنْكَرَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ الْقَبْضَ فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ إختلاف الوكيل والغريم في دفع الدين ، فَقَوْلُ الْوَكِيلِ فِي الدَّفْعِ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَوِ ادَّعَى دَفْعًا لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ ، فَوَكِيلُهُ فِي دَفْعِهِ أَوْلَى أَنْ لَا تُقْبَلَ دَعْوَاهُ ، وَيَكُونُ صَاحِبُ الدَّيْنِ عَلَى حَقِّهِ فِي مُطَالَبَةِ الْمُوَكِّلِ بِدَيْنِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْوَكِيلِ بِهِ . فَأَمَّا قَبُولُ قَوْلِ الْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُوَكِّلِ مِنْ أَنْ يُصَدِّقَهُ عَلَى الدَّفْعِ أَوْ يُكَذِّبَهُ ، فَإِنْ كَذَّبَهُ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنَ الدَّفْعِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ وَكَانَ ضَامِنًا لَهُ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ أَمِينًا لَهُ فَقَوْلُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الدَّفْعِ إِلَى غَيْرِهِ . أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَصِيَّ أَمِينٌ لِلْمُوصِي وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى الْيَتِيمِ فِي دَفْعِ مَالِهِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي دَفْعًا إِلَى غَيْرِ مَنِ ائْتَمَنَهُ وَلِذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِشْهَادِ عَلَى الْيَتِيمِ فِي دَفْعِهِ مَالَهُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ [ النِّسَاءِ : 6 ] لِأَنَّ غَيْرَ الْأَيْتَامِ ائْتَمَنُوهُمْ . وَقَالَ تَعَالَى فِي غَيْرِ الْأَوْصِيَاءِ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ [ الْبَقَرَةِ : 283 ] فَأَمَرَهُ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ مِنْ غَيْرِ إِشْهَادٍ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ فِي الدَّفْعِ غَيْرُ مَقْبُولٍ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ قَوْلَ الْوَصِيِّ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي دَفْعِ مَالِ الْيَتِيمِ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُؤْتَمَنًا ؛ لِأَنَّ الِائْتِمَانَ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ ، فَكَذَا قَوْلُ الْوَكِيلِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي دَفْعِ الْمَالِ إِلَى غَيْرِ مُوَكِّلِهِ وَإِنْ كَانَ مُؤْتَمَنًا : لِأَنَّهُ دَفَعَ إِلَى غَيْرِ مُؤْتَمَنِهِ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْتَمَنُ مُوصِيًا مَاتَ أَوْ مُوَكِّلًا بَاقِيًا . فَأَمَّا إِنْ صَدَّقَ الْمُوَكِّلُ وَكِيلَهُ فِي الدَّفْعِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُوَكِّلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا لِلدَّفْعِ أَوْ غَائِبًا عَنْهُ ، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا عَنْهُ فَالْوَكِيلُ ضَامِنٌ مَعَ تَصْدِيقِ الْمُوَكِّلِ كَمَا كَانَ ضَامِنًا مَعَ تَكْذِيبِهِ لِأَنَّهُ وَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى الدَّفْعِ فَقَدْ فَرَّطَ بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ بِالدَّفْعِ يَقْتَضِي دَفْعًا يُبْرِئُهُ

مِنَ الْمُطَالَبَةِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَعَ جَوَازِ الْجَحُودِ إِلَّا بِالْإِشْهَادِ فَصَارَ الْوَكِيلُ بِتُرْكِ الْإِشْهَادِ مُفَرِّطًا فَيَضْمَنُ بِهِ كَمَا يَضْمَنُ بِالْخِيَانَةِ . وَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ حَاضِرًا لِدَفْعِ الْوَكِيلِ فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْوَكِيلِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَالْإِشْهَادُ غَيْرُ لَازِمٍ لَهُ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ إِذَا حَضَرَ كَانَ هُوَ الْمُسْتَوْفِيَ الْمُسْتَوْثِقَ لِنَفْسِهِ بِالْإِشْهَادِ فَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْوَكِيلِ تَفْرِيطٌ يَضْمَنُ بِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَيَلْزَمُهُ فِي الدَّفْعِ الْإِشْهَادُ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ شُرُوطِهِ مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ كَانَ مِنْ شُرُوطِهِ مَعَ حُضُورِهِ ، وَلَيْسَ مَا أَنْفَقَ مِنْ حُضُورِ الْمُوَكِّلِ بِمُسْقِطٍ لِحَقِّ الِاسْتِيثَاقِ عَنِ الْوَكِيلِ .

فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُوعُ عَيْنًا مَضْمُونَةً فِي يَدِ الْمُوَكِّلِ إختلاف الوكيل والغريم في دفع الدين كَالْعَوَارِيِّ وَالْغُصُوبِ ، فَيَدَّعِي الْمَأْمُورُ بِالدَّفْعِ أَنَّهُ قَدْ دَفَعَهَا إِلَى رَبِّهَا وَيُنْكِرُ رَبُّهَا ذَلِكَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، وَقَوْلُ الْوَكِيلِ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الدَّفْعِ ، وَلِصَاحِبِ الْعَارِيَّةِ وَالْمَالِ الْمَغْصُوبِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنَ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ الَّذِي لَا يَرْجِعُ صَاحِبُهُ عَلَى الْوَكِيلِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ تَثْبُتُ لَهُ يَدٌ عَلَى عَيْنِ مَالٍ لِرَبِّ الدَّيْنِ ، وَقَدْ ثَبَتَ لِلْوَكِيلِ فِي رَدِّ الْعَارِيَّةِ وَالْغَصْبِ يَدٌ عَلَى عَيْنِ مَالِ رَبِّ الْعَارِيَّةِ وَالْغَصْبِ ، فَكَانَتْ يَدُ الْوَكِيلِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ كَالْمُوَكِّلِ ، فَإِنْ رَجَعَ رَبُّ الْعَارِيَّةِ بِالْغُرْمِ عَلَى الْمُوَكِّلِ رَجَعَ الْمُوَكِّلُ بِهِ عَلَى الْوَكِيلِ إِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ عَلَى الدَّفْعِ ، وَإِنْ صَدَّقَهُ وَكَانَ غَائِبًا عَنِ الدَّفْعِ رَجَعَ بِهِ أَيْضًا ، وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ . وَإِنْ رَجَعَ رَبُّ الْعَارِيَّةِ بِالْغُرْمِ عَلَى الْوَكِيلِ لَمْ يَرْجِعِ الْوَكِيلُ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ إِنْ كَذَّبَهُ وَلَا إِنْ صَدَّقَهُ وَكَانَ غَائِبًا . وَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ إِنْ كَانَ حَاضِرًا مَعَهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ .

فَصْلٌ : الْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَدِيعَةً فِي يَدِ الْمُوَكِّلِ فَلَا يَخْلُو حَالُ رَبِّ الْوَدِيعَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَذِنَ لِلْمُودَعِ أَنْ يُوَكِّلَ فِي رَدِّهَا وَإِمَّا لَا . فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي التَّوْكِيلِ فِي رَدِّ الْوَدِيعَةِ عَلَيْهِ ، فَقَوْلُ الْوَكِيلِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الرَّدِّ وَالْمُودَعُ ضَامِنٌ لِلْوَدِيعَةِ ، وَهَلْ يَكُونُ الْوَكِيلُ ضَامِنًا لَهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْوَكِيلِ فِي رَدِّ الْوَدِيعَةِ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِشْهَادُ عَلَى رَدِّهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ . وَإِنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ فِي رَدِّهَا الوديعة فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ :

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110