كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

أَحَدُهَا : أَنَّهُ مُتَظَاهِرٌ مِنْ أَرْبَعٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ كَمَا لَوْ ظَاهَرَ مِنْهُنَّ مُنْفَرِدَاتٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى فِي الطَّلَاقِ حُكْمُ الِاجْتِمَاعِ وَالِانْفِرَادِ فِي الرُّجُوعِ وَالرَّجْعَةِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ الظِّهَارِ فِي الِاجْتِمَاعِ وَالِانْفِرَادِ ، فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ : وَلِأَنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ أَوْجَبَتْ تَكْفِيرًا لِتَحْرِيمِهِ وَمَأْثَمِهِ فَلَمَّا تَضَاعَفَ مَأْثَمُهُ وَتَحْرِيمُهُ فِي الِاجْتِمَاعِ عَلَى الِانْفِرَادِ وَجَبَ أَنْ يَتَضَاعَفَ تَكْفِيرُهُ ، وَمِثْلُ هَذَينِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْقَذْفِ إِذَا جَمَعَ بَيْنَ عَدَدٍ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ : يُحَدُّ لِجَمِيعِهِمْ حَدًّا وَاحِدًا لِأَنَّ لَفْظَةَ الْقَذْفِ وَاحِدَةٌ وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ : يُحَدُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدًّا : لِأَنَّهُ مَقْذُوفٌ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ تَظَاهَرَ مِنْهَا مِرَارًا يُرِيدُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ ظِهَارًا غَيْرَ الْآخَرِ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ فَعَلَيْهِ بِكُلِّ تَظَاهُرٍ كَفَّارَةٌ كَمَا يَكُونُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ تَطْلِيقَةٍ تَطْلِيقَةٌ وَلَوْ قَالَهَا مُتَتَابِعًا فَقَالَ أَرَدْتُ ظِهَارًا وَاحِدًا فَهُوَ وَاحِدٌ كَمَا لَوْ تَابَعَ بِالطَّلَاقِ كَانَ كَطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الظِّهَارُ غَيْرُ مَحْصُورِ الْعَدَدِ وَلَيْسَ كَالطَّلَاقِ الْمَحْصُورِ بِثَلَاثٍ ، فَإِذَا ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ ثُمَّ كَرَّرَ الظِّهَارَ مِرَارًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : - أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُتَوَالِيًا فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : - أَحَدُهَا : أَنْ يُرِيدَ بِالتَّكْرَارِ التَّأْكِيدَ، فَيَكُونُ ظِهَارًا وَاحِدًا تَجِبُ فِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، فَالطَّلَاقُ إِذَا كَرَّرَهُ تَأْكِيدًا كَانَتْ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُرِيدَ بِهِ الِاسْتِئْنَافَ، فَيَكُونُ بِكُلِّ لَفْظَةٍ مِنْهَا مُظَاهِرًا فَإِنْ تَقَرَّرَتْ خَمْسَ مَرَّاتٍ كَانَ ظِهَارُهُ خَمْسًا وَلَوْ كَرَّرَ الطَّلَاقَ خَمْسًا لَمْ يَكُنْ إِلَّا ثَلَاثًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَصْرِ الطَّلَاقِ وَإِنْ سَأَلَ الظِّهَارَ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَقَدْ كَرَّرَ مِنْ ظِهَارِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ يَكُونُ مُظَاهِرًا خَمْسَ مَرَّاتٍ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ الظِّهَارُ الثَّانِي فِي زَمَانِ عَوْدِهِ مِنَ الظِّهَارِ الْأَوَّلِ وَلَا يَكُونُ مُظَاهِرًا فِي وَقْتِ الْعَوْدِ وَكَمَا لَا يَكُونُ عَائِدًا فِي وَقْتِ الظِّهَارِ فَيَصِيرُ الثَّانِي عَوْدًا وَالثَّالِثُ عَوْدًا ظِهَارًا ثَانِيًا وَالرَّابِعُ عَوْدًا فِي الثَّانِي الَّذِي كَانَ ثَالِثًا وَالْخَامِسُ ظِهَارًا ثَالِثًا وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ خَطَأٌ لِأَنَّ الْعَوْدَ بِالزَّمَانِ وَالظِّهَارَ بِالْقَوْلِ فَلَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ فِي مُضِيِّ زَمَانِ الْعَوْدِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مُمْسِكًا أَوْ مُتَكَلِّمًا، وَلَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ فِي كَلَامٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ظِهَارًا أَوْ خِطَابًا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَصَارَ مُظَاهِرًا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَعَلَى مَنْ خَالَفَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ ثَلَاثًا فَفِيمَا يَلْزَمُ مِنَ الْكَفَّارَةِ المظاهر اذا كرر الظهار قَوْلَانِ :

أَحَدُهُمَا : وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ : يَلْزَمُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَيَتَدَاخَلُ الْكَفَّارَاتُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ كَالْحُدُودِ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ مَا بَعْدَ الظِّهَارِ الْأَوَّلِ لَمْ يُفِدْ مِنَ التَّحْرِيمِ غَيْرَ مَا أَفَادَهُ الْأَوَّلُ فَلَمْ يُوجِبْ مِنَ الْكَفَّارَةِ غَيْرَ مَا أَوْجَبَهُ الْأَوَّلُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِكُلِّ ظِهَارٍ مِنْ ذَلِكَ كَفَّارَةٌ فَيَلْزَمُهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ خَمْسُ كَفَّارَاتٍ ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِمَا بَعْدَ الْأَوَّلِ كَثُبُوتِ الْأَوَّلِ اقْتَضَى أَنْ يُوجِبَ مِثْلَ مَا أَوْجَبَهُ الْأَوَّلُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُطْلِقَ تَكْرَارَ ظِهَارِهِ فَلَا يُرِيدُ بِهِ تَأْكِيدًا وَلَا اسْتِئْنَافًا، فَيَكُونُ ظِهَارًا وَاحِدًا لَا يَجِبُ فِيهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ حَمْلًا عَلَى التَّأْكِيدِ ، وَلَوْ أَطْلَقَ تَكْرَارَ الطَّلَاقِ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى التَّأْكِيدِ وَلَا يَلْزَمُ إِلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ كَالظِّهَارِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ فَيَلْزَمُهُ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ بِخِلَافِ الظِّهَارِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الطَّلَاقَ يَنْقُضُ الْمِلْكَ، فَكَانَ التَّكْرَارُ مُؤَثِّرًا فِيهِ، وَالظِّهَارُ لَا يَنْقُضُ الْمِلْكَ فَلَمْ يُؤَثِّرِ التَّكْرَارُ فِيهِ .

فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : تَكْرَارُ الظِّهَارِ مُتَفَرِّقًا ، كَأَنَّهُ ظَاهَرَ مِنْهَا فِي يَوْمٍ ثُمَّ أَعَادَ الظِّهَارَ مِنْ غَدِهِ ثُمَّ أَعَادَهُ مِنْ بَعْدِ غَدِهِ حكمه . فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَيْضًا : أَحَدُهَا : أَنْ يُرِيدَ بِهِ التَّأْكِيدَ فَيَكُونُ تَأْكِيدًا كَالْمُتَوَالِي وَلَا يَلْزَمُهُ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَلَوْ كَرَّرَ الطَّلَاقَ مُفَرَّقًا وَأَرَادَ بِهِ التَّأْكِيدَ لَمْ يَكُنْ تَأْكِيدًا بِخِلَافِ الْمُتَوَالِي . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الطَّلَاقَ مُزِيلٌ لِلْمِلْكِ فَرُوعِيَ الْوَلَاءُ فِي تَأْكِيدِهِ، وَالظِّهَارَ غَيْرُ مُزِيلٍ لِلْمِلْكِ فَلَمْ يُرَاعَ الْوَلَاءُ فِي تَأْكِيدِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُرِيدَ بِهِ الِاسْتِئْنَافَ، فَيَكُونُ اسْتِئْنَافًا يَسْتَوِي فِيهِ الطَّلَاقُ وَالظِّهَارُ، فَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَإِنْ كَانَ الظِّهَارُ التَّالِي بَعْدَ التَّكْفِيرِ عَنِ الظِّهَارِ الْأَوَّلِ لَزِمَهُ فِي الثَّانِي كَفَّارَةٌ ثَانِيَةٌ، وَكَذَلِكَ فِيمَا يَلِيهِ إِذَا كَفَّرَ عَمَّا قَبْلَهُ ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ تَكْفِيرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْقَدِيمُ يَلْزَمُهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ كُلِّهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الْجَدِيدُ : يَلْزَمُهُ فِي كُلِّ ظِهَارٍ مِنْهُ كَفَّارَةٌ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ لَا يَنْوِيَ تَأْكِيدًا وَلَا اسْتِئْنَافًا، فَيُنْظَرُ ؛ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ التَّكْفِيرِ عَنِ الْأَوَّلِ حُمِلَ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ عَنِ الْأَوَّلِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ كَالطَّلَاقِ، وَفِيمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْكَفَّارَةِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّأْكِيدِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا مَضَى .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَ إِذَا تَظَاهَرْتُ مِنْ فُلَانَةَ الْأَجْنَبِيَّةِ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَتَظَاهَرَ مِنَ الْأَجْنَبِيَّةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ظِهَارٌ كَمَا لَوْ طَلَّقَ أَجْنَبِيَّةً لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا عَلَّقَ ظِهَارَ زَوْجَتِهِ بِظِهَارِهِ مِنْ غَيْرِهَا كَقَوْلِهِ لَهَا : إِذَا تَظَاهَرْتُ مِنْ فُلَانَةَ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لَمْ يَخْلُ حَالُ تِلْكَ مِنْ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً أَوْ أَجْنَبِيَّةً ، فَإِنْ كَانَتْ زَوْجَةً لَهُ أُخْرَى كَرَجُلٍ لَهُ زَوْجَتَانِ حَفْصَةُ وَعَمْرَةُ . فَقَالَ : يَا حَفْصَةُ مَتَّى تَظَاهَرْتُ مِنْ عَمْرَةَ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَإِذَا تَظَاهَرَ مِنْ عَمْرَةَ صَحَّ ظِهَارُهُ مِنْهَا بِالْمُوَاجَهَةِ لِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ وَصَارَ مُظَاهِرًا مِنْ زَوْجَتِهِ حَفْصَةَ بِالصِّفَةِ، وَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ قَوْلًا وَاحِدًا . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا كَانَ عَلَيْهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ؛ كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الظِّهَارِ . قُلْنَا : لِأَنَّهُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مُظَاهِرٌ مِنْهُمَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَجَازَ أَنْ يَلْزَمَهُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مُظَاهِرٌ مِنْهُمَا بِكَلِمَتَيْنِ فَلَزِمَهُ لَهُمَا كَفَّارَتَانِ . وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْأُخْرَى أَجْنَبِيَّةً فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَذْكُرَهَا بِالِاسْمِ وَلَا يَصِفَهَا بِالْأَجْنَبِيَّةِ كَقَوْلِهِ : إِذَا تَظَاهَرْتُ مِنْ عَمْرَةَ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَعَمْرَةُ أَجْنَبِيَّةٌ فَلَمْ يَتَظَاهَرْ مِنْ عَمْرَةَ فَهُوَ غَيْرُ مُتَظَاهِرٍ مِنْ زَوْجَتِهِ حَفْصَةَ ، وَإِنْ تَظَاهَرَ مِنْ عَمْرَةَ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَتَظَاهَرَ مِنْهَا قَبْلَ نِكَاحِهَا أَوْ بَعْدَهُ ، فَإِنْ تَظَاهَرَ مِنْهَا بَعْدَ نِكَاحِهَا صَحَّ ظِهَارُهُ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ صَارَ مِنْهَا وَهِيَ زَوْجَتُهُ فَصَارَ مُظَاهِرًا مِنْ زَوْجَتِهِ بِالصِّفَةِ لِأَنَّهَا قَدْ وُجِدَتْ بِالظِّهَارِ الصَّحِيحِ فِي عَمْرَةَ ، وَإِنْ تَظَاهَرَ مِنْ عَمْرَةَ قَبْلَ نِكَاحِهَا كَانَ ظِهَارُهُ مِنْهَا فَاسِدًا ؛ لِأَنَّهُ يُصْبِحُ مِنْ غَيْرِ زَوْجَتِهِ ، وَإِذَا فَسَدَ ظِهَارُهُ مِنْهَا لَمْ يَصِرْ مُظَاهِرًا مِنْ زَوْجَتِهِ حَفْصَةَ لِأَنَّهُ جَعَلَ ظِهَارَهُ مِنْهَا مَشْرُوطًا بِظِهَارِهِ مِنْ عَمْرَةَ ، فَإِذَا فَسَدَ ظِهَارُ عَمْرَةَ عَدِمَ الشَّرْطَ الْمُعْتَبَرَ فِي ظِهَارِ حَفْصَةَ وَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ إِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ : إِذَا طَلَّقْتُ عَمْرَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ تُطَلَّقْ عَمْرَةُ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ وَلَا زَوْجَتُهُ ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ لِعَمْرَةَ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ لَيْسَ بِطَلَاقٍ، كَذَلِكَ الظِّهَارُ ، وَإِنَّمَا كَانَ هَكَذَا لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ إِذَا تَعَلَّقَ بِهَا فِي الشَّرْعِ أَحْكَامٌ كَانَ وُجُودُ الْأَحْكَامِ مَشْرُوطًا فِي صِحَّةِ الْأَسْمَاءِ ، وَعَدَمُهَا دَلِيلًا عَلَى فَسَادِ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ كَاسْمِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِمَا مَعَ الصِّحَّةِ وَيَزُولُ عَنْهُمَا بِالْفَسَادِ فَلَوْ قَالَ : أَرَدْتُ بِظِهَارِي مِنْ عَمْرَةَ الْأَجْنَبِيَّةِ لَفْظَ الظِّهَارِ فِي اللُّغَةِ دُونَ حُكْمِهِ فِي الشَّرْعِ يُحْمَلُ عَلَى

قَوْلِهِ وَصَارَ ظِهَارُهُ مِنْ عَمْرَةَ وَإِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً مُوجِبًا لِلظِّهَارِ مِنْ حَفْصَةَ بِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ التَّلَفُّظُ بِالِاسْمِ اللُّغَوِيِّ .

فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَصِفَهَا مَعَ ذِكْرِ الِاسْمِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ ظهار الرجل من زوجته بشرط ظهاره من الاجنبيه فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَخْرُجَ مَخْرَجَ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ : إِذَا تَظَاهَرْتُ مِنْ عَمْرَةَ أَجْنَبِيَّةً فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَقَدْ جَعَلَ كَوْنَهَا أَجْنَبِيَّةً شَرْطًا فِي ظِهَارِهِ مِنْهَا، لِأَنَّهُ حَذَفَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ الْمَوْضُوعَيْنِ لِلتَّعْرِيفِ وَنَصَبَ عَلَى الْحَالِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ : إِذَا تَظَاهَرْتُ مِنْ عَمْرَةَ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَمَتَى تَظَاهَرَ مِنْ عَمْرَةَ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ لَمْ يَصِرْ مُظَاهِرًا مِنْ زَوْجَتِهِ حَفْصَةَ لِأَنَّهُ مَتَى تَظَاهَرَ مِنْهَا بَعْدَ نِكَاحِهَا لَمْ تَكُنْ أَجْنَبِيَّةً وَقَدْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الظِّهَارِ مِنْهَا أَجْنَبِيَّةً فَصَارَ الشَّرْطُ فِي وُقُوعِ الظِّهَارِ عَلَى حَفْصَةَ مَعْدُومًا فِي الظِّهَارِ مِنْ عَمْرَةَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَخْرُجَ مَخْرَجَ التَّعْرِيفِ فَيَقُولُ : إِذَا تَظَاهَرْتُ مِنْ عَمْرَةَ الْأَجْنَبِيَّةِ فَأَنْتِ يَا حَفْصَةُ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ، فَإِنْ تَظَاهَرَ مِنْ عَمْرَةَ قَبْلَ نِكَاحِهَا لَمْ يَصِرْ مُظَاهِرًا لِفَسَادِ ظِهَارِهِ مِنْ عَمْرَةَ ، وَإِنْ تَظَاهَرَ مِنْ عَمْرَةَ ، صَحَّ ظِهَارُهُ مِنْهَا . وَهَلْ يَصِيرُ مُظَاهِرًا مِنْ حَفْصَةَ أَمْ لَا ؟ . عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا مِنْ حَفْصَةَ تَعْلِيلًا بِأَنَّ دُخُولَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي الْأَجْنَبِيَّةِ يَجْعَلُ هَذِهِ الصِّفَةَ فِيهَا شَرْطًا فَإِذَا تَظَاهَرَ مِنْهَا بَعْدَ نِكَاحِهَا لَمْ يُوجَدِ الشَّرْطُ فَلَمْ يَصِرْ مُظَاهِرًا مِنْ حَفْصَةَ ، تَعْلِيلًا بِأَنَّ دُخُولَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ لِلتَّعْرِيفِ دُونَ الشَّرْطِ ، وَأَصْلُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْأَيْمَانِ أَنْ يَقُولَ : وَاللَّهِ لَا " أَكَلْتُ هَذِهِ الْبُسْرَةَ فَأَكَلَهَا رُطَبًا وَلَا " كَلَّمْتُ هَذَا الصَّبِيَّ فَكَلَّمَهُ شَيْخًا فِي حِنْثِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَحْنَثُ تَعْلِيلًا بِإِجْرَائِهِ مَجْرَى الشَّرْطِ . وَالثَّانِي : لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ بِالتَّعْرِيفِ أَحَقُّ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ مَا يُوجِبُ عَلَى الْمُتَظَاهِرِ الْكَفَّارَةَ

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ

بَابُ مَا يُوجِبُ عَلَى الْمُتَظَاهِرِ الْكَفَّارَةَ مِنْ كِتَابَيِ الظِّهَارِ قَدِيمٍ وَجَدِيدٍ، وَمَا دَخَلَهُ مِنِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى والشَّافِعِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [ الْمُجَادَلَةِ : ] الْآيَةَ . قَالَ : وَالَّذِي عَقَلْتُ ممَا سَمِعْتُ فِي يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا الْآيَةَ أَنَّهُ إِذَا أَتَتْ عَلَى الْمُتَظَاهِرِ مُدَّةٌ بَعْدَ الْقَوْلِ بِالنَّهَارِ لَمْ يُحَرِّمْهَا بِالطَّلَاقِ الَّذِي تَحْرُمُ بِهِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ حكم كفارة الظهار كَأَنَّهُمْ يَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَمْسَكَ مَا حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ فَقَدْ عَادَ لِمَا قَالَ فَخَالَفَهُ فَأَحَلَّ مَا حَرَّمَ وَلَا أَعْلَمُ مَعْنًى أَوْلَى بِهِ مِنْ هَذَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهَا تَجِبُ بِلَفْظِ الظِّهَارِ مِنْ غَيْرِ عَوْدٍ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَا تَجِبُ بِالظِّهَارِ وَلَا بِالْعَوْدِ وَلَا يَسْتَقِرُّ ثُبُوتُهَا فِي الذِّمَّةِ وَإِنَّمَا هِيَ شَرْطٌ فِي الِاسْتِبَاحَةِ كَالطَّهَارَةِ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ لَيْسَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ وَإِنَّمَا هِيَ شَرْطٌ فِي فِعْلِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ وَطِئَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ لَمْ يَلْزَمْهُ الظِّهَارُ وَكَانَ شَرْطًا فِي اسْتِبَاحَةِ الْوَطْءِ الثَّانِي فَإِنْ وَطِئَ ثَانِيَةً لَمْ تَجِبْ وَكَانَ شَرْطًا فِي اسْتِبَاحَةِ الْوَطْءِ الثَّالِثِ كَذَلِكَ أَبَدًا . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهَا تَجِبُ بِالظِّهَارِ وَالْعَوْدِ وُجُوبًا مُسْتَقِرًّا . وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا فِي الْعَوْدِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعَوْدَ هُوَ أَنْ يُمْسِكَ عَنْ طَلَاقِهَا مُدَّةً يُمْكِنُهُ فِيهَا الطَّلَاقُ . وَالثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُدَ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّهُ إِعَادَةُ الظِّهَارِ ثَانِيَةً بَعْدَ أُولَى فَيَقُولُ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ . وَالرَّابِعُ : وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ وَطَاوُسٍ وَالزُّهْرِيِّ أَنَّهُ الْوَطْءُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا مُجَاهِدٌ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بِالظِّهَارِ وَحْدَهُ وَأَنَّ الْعَوْدَ فِيهِ

إِعَادَتُهُ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ تَقَدُّمِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِرِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ عُجْرَةَ عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ وَكَانَ بِهِ لَمَمٌ، وَكَانَ إِذَا أَخَذَهُ لَمَمُهُ ذَهَبَ لِيَخْرُجَ فَتَمْنَعُهُ فَيَقُولُ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، إِنْ لَمْ تُرْسِلِينِي لَأَجْلِدَنَّكِ مِائَةً، فَنَزَلَ فِيهِمَا قُرْآنُ الظِّهَارِ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا فَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ بِالْمُنْكَرِ الزُّورِ، وَالظِّهَارُ هُوَ الْمُنْكَرُ، وَالزُّورُ دُونَ الْعَوْدِ ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى عَنِ الظِّهَارِ فَكَانَ الْعَوْدُ فِيهِ هُوَ فِعْلُ الْمَنْهِيِّ كَمَا قَالَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ : وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ [ الْمَائِدَةِ : ] يَعْنِي إِلَى فِعْلِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَكَمَا قَالَ فِي الرِّبَا " عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ " فَإِنْ عَادَ يَعْنِي إِلَى ذَلِكَ الْمَنْهِيِّ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَلِأَنَّ الظِّهَارَ قَدْ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَنُقِلَ حُكْمُهُ إِلَى مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مُعْتَبَرًا بِلَفْظِهِ كَالطَّلَاقِ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [ الْمُجَادَلَةِ : ] فَجَعَلَ الْكَفَّارَةَ وَاجِبَةً بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الظِّهَارُ سبب وجوب الكفارة وَالْآخَرُ الْعَوْدُ سبب وجوب الكفارة فَاقْتَضَى أَنْ لَا تَجِبَ بِأَحَدِهِمَا . فَإِنْ قِيلَ : فَيُحْمَلُ عَلَى الْعَوْدِ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ تَقَدُّمِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ . قِيلَ : لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى هَذَا لَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي دُونَ الْمُسْتَقْبَلِ فَقَالَ تَعَالَى وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ وَفِي ذِكْرِهِ بِاللَّفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ هَذَا التَّأْوِيلِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى مَا ذَكَرُوهُ لَمَا لَزِمَتِ الْكَفَّارَةُ فِي الظِّهَارِ إِلَّا لِمَنْ جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَلَبَطَلَ حُكْمُهُ الْآنَ لِانْقِرَاضِ مَنْ أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَوْسَ بْنَ الصَّامِتِ وَسَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ بِالْكَفَّارَةِ عَنْ ظِهَارِهِمَا وَلَمْ يَسَلْهُمَا عَنْ ظِهَارِهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَوْ كَانَ شَرْطًا فِي الْوُجُوبِ لَسَأَلَهُمَا ، فَإِنْ قِيلَ : فَمَا سَأَلَهُمَا عَنِ الْعَوْدِ فَلَوْ كَانَ شَرْطًا فِي الْوُجُوبِ لَسَأَلَ قِيلَ : الْعَوْدُ الْإِمْسَاكُ عَنِ الطَّلَاقِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُمَا لَمْ يُطَلِّقَا، فَعُلِمَ بِذَلِكَ عَوْدُهُمَا . لِأَنَّ الظِّهَارَ وَالْإِيلَاءَ كَانَا طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَنُقِلَا فِي الشَّرْعِ إِلَى مُوجِبِ الْكَفَّارَةِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي الْإِيلَاءِ تَجِبُ بِشَرْطَيْنِ : الْيَمِينُ وَالْوَطْءُ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْكَفَّارَةُ فِي الظِّهَارِ بِشَرْطَيْنِ : الظِّهَارُ وَالْعَوْدُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ : فَهُوَ أَنْ لَيْسَ فِي تَكْرَارِ ظِهَارِهِ دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمِهِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا فَهُوَ أَنَّ قَوْلَ الزُّورِ مِنْ شُرُوطِ التَّحْرِيمِ، وَالْكَفَّارَةُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى مُعَلَّقَةٌ بِشَرْطَيْنِ : الظِّهَارُ وَالْعَوْدُ .

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : الْعَوْدُ فِعْلُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، فَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، بَلْ هُوَ الرُّجُوعُ ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ تَحْرِيمُ الظِّهَارِ ، وَالرُّجُوعُ فِيهِ أَنْ يُحَرِّمَهَا بِالطَّلَاقِ، فَكَانَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَا قُلْنَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالطَّلَاقِ : فَهُوَ أَنَّ الطَّلَاقَ مُطْلَقٌ، وَالظِّهَارَ مُقَيَّدٌ وَلَوْ جَازَ حَمْلُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ كَانَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِ الْمُقَيِّدِ عَلَى الْمُطْلَقِ وَإِذَا لَمْ يَجُزْ هَذَا كَانَ حَمْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مُوجِبِهِ أَوْلَى . فَصْلٌ : وَأَمَّا دَاوُدُ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَوْدَ معناه فى الظهار إِعَادَةُ الظِّهَارِ ثَانِيَةً بَعْدَ أُولَى بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَجِيءُ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْعَوْدَ إِلَى الشَّيْءِ هُوَ فِعْلُ مِثْلِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ [ الْأَنْعَامِ : ] يَعْنِي إِلَى مِثْلِ مَا نُهُوا عَنْهُ مِنَ الشِّرْكِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عَوْدُ الظِّهَارِ إِعَادَةَ مَثْلِهِ . وَالثَّانِي : قَالَ " لِمَا قَالُوا " فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْعَوْدُ قَوْلًا لَا إِمْسَاكًا كَمَا قُلْتُمْ وَلَا فِعْلًا كَمَا قَالَهُ غَيْرُكُمْ . وَأَمَّا الثَّالِثُ : فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْعَوْدَ إِلَى غَيْرِ الْقَوْلِ لَقَالَ " ثُمَّ يَعُودُونَ " كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ فَلَمَّا قَالَ " لِمَا قَالُوا " دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِعَادَةُ الْقَوْلِ ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ [ الْمُجَادَلَةِ : ] يَعْنِي مِنْ قَوْلِ النَّجْوَى . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ حَقِيقَةَ الْعَوْدِ فِي الْأَفْعَالِ دُونَ الْأَقْوَالِ ؛ يُقَالُ : عَادَ يَعُودُ عَوْدًا فِي الْفِعْلِ وَأَعَادَ يُعِيدُ إِعَادَةً فِي الْقَوْلِ ، فَلَوْ أَرَادَ إِعَادَةَ الْقَوْلِ لَقَالَ " ثُمَّ يُعِيدُونَ لِمَا قَالُوا " . وَالثَّانِي : أَنَّ إِعَادَةَ الْقَوْلِ مُحَالٌ كَإِعَادَةِ أَمْسِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَهَيَّأُ اجْتِمَاعُ زَمَانَيْنِ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إِضْمَارٍ ، فَدَاوُدُ يُضْمِرُ مِثْلَ مَا قَالُوا فِي التَّحْرِيمِ بِالْقَوْلِ، وَنَحْنُ نُضْمِرُ بَعْضَ مَا قَالُوهُ مِنَ التَّحْرِيمِ بِالْإِمْسَاكِ ، وَمَا قُلْنَاهُ مِنَ الْإِضْمَارِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ فِي الشَّيْءِ هُوَ الرُّجُوعُ عَنْهُ دُونَ الْمُقَامِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْعَوْدَ هُوَ مُفَارَقَةُ الْحَالِ الَّتِي هُوَ فِيهَا إِلَى حَالٍ كَانَ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [ الْإِسْرَاءِ : ] . وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : . . . . . . . . . . وَإِنْ عَادَ لِلْإِحْسَانِ فَالْعَوْدُ أَحْمَدُ

وَالْحَالُ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا : تَحْرِيمُ الظِّهَارِ ، وَالَّتِي كَانَ عَلَيْهَا : إِبَاحَةُ النِّكَاحِ ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ إِمْسَاكِهَا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِبَاحَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ إِعَادَةِ التَّحْرِيمِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَوْسَ بْنَ الصَّامِتِ وَسَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ بِالْكَفَّارَةِ عَنْ ظِهَارِهِمَا وَلَمْ يَسَلْهُمَا عَنْ إِعَادَتِهِ وَلَوْ كَانَ عَوْدُ الْقَوْلِ شَرْطًا لَسَأَلَ ، وَلِأَنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ مُعَلَّقَةٌ بِلَفْظٍ وَشَرْطٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ يُخَالِفُ اللَّفْظَ دُونَ إِعَادَتِهِ كَالْإِيلَاءِ وَسَائِرِ الْأَيْمَانِ ، وَلِأَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي تَلْزَمُ بِهِ الْأَحْكَامُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ كَالْأَيْمَانِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّ الْعَوْدَ فِي الشَّيْءِ هُوَ فِعْلُ مِثْلِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ حَقِيقَةَ الْعَوْدِ الِانْتِقَالُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ دُونَ الْمُقَامِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْعَوْدَ إِلَى مِثْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِبَاحَةِ دُونَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ التَّحْرِيمِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : أَنَّهُ وَصَفَ الْعَوْدَ بِالْقَوْلِ دُونَ الْفِعْلِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَوْدٌ إِلَى الْقَوْلِ بِنَقْضِهِ وَإِبْطَالِهِ لَا بِتَصْحِيحِهِ وَإِثْبَاتِهِ فَكَانَ مَا ذَكَرْنَا أَشْبَهَ . وَالثَّانِي : مَا ذَكَرَهُ الْأَخْفَشُ أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا لِأَنَّ قَوْلَهُ : ثُمَّ يَعُودُونَ كَلَامٌ تَامٌّ وَقَوْلَهُ لِمَا قَالُوا عَائِدٌ إِلَى تَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ وَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ " ثُمَّ يَعُودُونَ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ لِمَا قَالُوا " . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْعَوْدَ إِلَى غَيْرِ الْقَوْلِ لَقَالَ " ثُمَّ يَعُودُونَ فِيمَا قَالُوا " فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْعَوْدَ إِلَى الْقَوْلِ لَقَالَ " ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا " وَسَطٌ بَيْنَ الْحَقِيقَتَيْنِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يُحْمَلَ الْعَوْدُ عَلَى تَعَيُّنِ الْحَالِ الْجَامِعَةِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ شِيبَا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالًا

وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ هَا هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الْقَوْلِ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [ الْحِجْرِ : ] أَيِ الْمُتَيَقَّنُ ، وَكَقَوْلِهِمُ : اللَّهُ رَجَائِي وَأَمَلِي أَيْ مَرْجُويَ وَمُؤَمَّلِي ، وَالْقَوْلُ هُوَ التَّحْرِيمُ فَكَانَ الْعَوْدُ الرُّجُوعَ عَنْهُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَوْدَ هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ فى الظهار بِقَوْلِهِ تَعَالَى : ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا وَثُمَّ مَوْضُوعَةٌ فِي اللُّغَةِ لِلْمُهْلَةِ وَالتَّرَاخِي فَأَوْجَبَتْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الظِّهَارِ وَالْعَوْدِ زَمَانٌ لَيْسَ بِعَوْدٍ فَكَانَ حَمْلُ الْعَوْدِ عَلَى الْعَزْمِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الظِّهَارِ مُهْلَةٌ ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ خَوْلَةَ حِينَ شَكَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ أَوْسًا ظَاهَرَ مِنْهَا وَقَدْ عَزَمَ عَلَى وَطْئِهَا فَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ عَلَيْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْوَطْءِ هُوَ الْعَوْدُ ، وَلِأَنَّهُ بِالظِّهَارِ عَازِمٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْوَطْءِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْعَوْدُ فِيهِ الْعَزْمَ عَلَى فِعْلِ الْوَطْءِ لِأَنَّ الْعَوْدَ هُوَ الرُّجُوعُ عَنِ الشَّيْءِ إِلَى ضِدِّهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا وَالْعَوْدُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِعْلًا عِنْدَنَا أَوْ قَوْلًا عِنْدَ غَيْرِنَا ، وَلَيْسَ الْعَزْمُ قَوْلًا وَلَا فِعْلًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ عَوْدًا . وَلِأَنَّ أَوْسَ بْنَ الصَّامِتِ ظَاهَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ خَوْلَةَ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْكَفَّارَةِ وَلَمْ يَسَلْهُ عَنْ عَزْمِهِ عَلَى الْوَطْءِ وَلَوْ كَانَ الْعَزْمُ شَرْطًا لَسَأَلَهُ : فَإِنْ قِيلَ : فَقَدَ رُوِّينَا أَنَّ خَوْلَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ عَزَمَ عَلَى وَطْئِهَا فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مَا أَثْبَتَهَا أَحَدٌ مِنَ الرُّوَاةِ وَلَا مَا أَفْصَحَتْ بِهِ مِنَ الشَّكْوَى وَمَضَى هَذَا الذِّكْرُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْكَفَّارَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى أَوْسٍ دُونَهَا وَلَوْ كَانَ وُجُوبُهَا مُتَعَلِّقًا بِالْعَزْمِ لَكَانَ هُوَ مَسْؤُولًا عَنْهَا، وَلَمَا اكْتَفَى بِقَوْلِهَا دُونَهُ ، وَلِأَنَّهُ أَمْسَكَهَا زَوْجَةً بَعْدَ الظِّهَارِ مُدَّةً يَقْدِرُ فِيهَا عَلَى الطَّلَاقِ فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ كَالْعَازِمِ عَلَى الْوَطْءِ ، وَلِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ تَجِبُ بِلَفْظٍ وَشَرْطٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ مُخَالَفَةَ ذَلِكَ اللَّفْظِ كَالْأَيْمَانِ ، وَلِأَنَّ الْعَزْمَ وَحَدِيثَ النَّفْسِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُفِيَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا وَأَنَّ ذَلِكَ وَجَبَ لِلتَّرَاخِي وَالْمُهْلَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ثُمَّ قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى الْوَاوِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ [ يُونُسَ : ] ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا [ التَّوْبَةِ : ] ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [ الْبَلَدِ : ] لِأَنَّهَا مِنْ حُرُوفِ الصِّفَاتِ وَهِيَ تَتَعَاقَبُ . وَالثَّانِي : أَنَّنَا نَسْتَعْمِلُهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي التَّرَاخِي وَالْمُهْلَةِ لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ أَبَاحَ

الْإِمْسَاكَ وَالْوَطْءَ، وَالظِّهَارُ حَرَّمَهُمَا فَالْعَوْدُ هُوَ الرُّجُوعُ إِلَى إِبَاحَتِهَا فَصَارَ مُتَرَاخِيًا عَنِ الْأَوَّلِ . وَأَمَّا الْخَبَرُ : فَقَدْ مَضَى الْجَوَابُ عَنْهُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : أَنَّهُ بِالظِّهَارِ هُوَ عَازِمٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْوَطْءِ، وَهُوَ أَنَّهُ بِالظِّهَارِ مُحَرِّمٌ وَلَيْسَ بِعَازِمٍ عَلَى التَّحْرِيمِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَسَنُ وَطَاوُسٌ وَالزُّهْرِيُّ فَاسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ الْعَوْدَ الْوَطْءُ فى الظهار بِأَنَّ سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ وَطِئَ بَعْدَ ظِهَارِهِ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْكَفَّارَةِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ السَّبَبِ شَرْطًا فِي وُجُوبِ التَّكْفِيرِ ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ مَاعِزًا زَنَا فَرُجِمَ، وَسَرَقَ سَارِقٌ رِدَاءَ صَفْوَانَ فَقُطِعَ ، وَلِأَنَّ الظِّهَارَ وَالْإِيلَاءَ تَشَابَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي كَوْنِهِمَا طَلَاقًا وَفِي الْإِسْلَامِ فِي إِيجَابِهِمَا الْكَفَّارَةَ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي الْإِيلَاءِ تَجِبُ بِالْوَطْءِ فَكَذَلِكَ فِي الظِّهَارِ ، وَلِأَنَّهُ بِالظِّهَارِ مُحَرِّمٌ لِوَطْئِهَا فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْعَوْدُ فِيهِ مُخَالَفَتَهُ بِوَطْئِهَا . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُهَا مُعَلَّقًا بِالْمَسِيسِ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَوْسًا بِالْكَفَّارَةِ قَبْلَ وَطْئِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْتِزَامِهَا قَبْلَ وُجُوبِهَا ، وَلِأَنَّهُ أَمْسَكَهَا زَوْجَةً بَعْدَ الظِّهَارِ مُدَّةً يَقْصُرُ فِيهَا عَلَى الطَّلَاقِ فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ كَالْوَطْءِ، وَلِأَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْعَوْدِ مِنْ كَوْنِهِ إِمْسَاكًا عَنِ الطَّلَاقِ أَعَمُّ الْأَقْوَالِ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِهِ وَبِإِعَادَةِ الْقَوْلِ وَبِالْعَزْمِ عَلَى الْوَطْءِ وَبِالْوَطْءِ فَكَانَ أَوْلَى كَالْعِلَلِ يَكُونُ الْأَعَمُّ مِنْهَا أَوْلَى مِنَ الْأَخَصِّ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ أَمْرِهِ سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ بِالْكَفَّارَةِ بَعْدَ وَطْئِهِ وَهُوَ أَنَّ الْوَطْءَ تَالٍ لِلسَّبَبِ الْمَنْقُولِ وَهُوَ الظِّهَارُ فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ بِالتَّكْفِيرِ عَائِدًا إِلَيْهِمَا ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْأَوَّلِ مِنْهُمَا ، فَلَمَّا أَمَرَ أَوْسًا بِالْكَفَّارَةِ قَبْلَ وَطْئِهِ دَلَّ عَلَى تَعَلُّقِ وُجُوبِهَا بِمَا تَقَدَّمَ وَطْأَهُ مِنْ ظِهَارِهِ وَإِمْسَاكِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ التَّشْبِيهِ بِالْإِيلَاءِ فَالنَّصُّ الْوَارِدُ فِيهِمَا يَمْنَعُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْكَفَّارَةِ فِي الظِّهَارِ قَبْلَ الْوَطْءِ وَالْإِيلَاءِ بَعْدَهُ فَلَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْكَفَّارَةِ فِي الظِّهَارِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ مُخَالَفَةَ التَّحْرِيمِ تَكُونُ بِالْوَطْءِ وَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُخَالَفَةَ تَكُونُ بِالْإِمْسَاكِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ لَا تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَاعْتَبَرَ فِي الْأَمْرِ بِهَا الْإِصَابَةَ ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا تَجِبَ قَبْلَهَا ثُمَّ قَدَّمَهَا عَلَى الْإِصَابَةِ فَاقْتَضَى أَنْ لَا تَجِبَ بِهَا ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ الْمُتَعَلِّقَ بِسَبَبٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ وُجُودِ السَّبَبِ ، وَاقْتَضَى أَنْ لَا تَجِبَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالتَّكْفِيرِ قَبْلَهَا فَامْتَنَعَ بِهَذَا التَّنْزِيلِ أَنْ يَثْبُتَ فِي الذِّمَّةِ .

وَاسْتَدَلَّ عَلَى إِبْطَالِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعَوْدِ مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ دَلَائِلِ الْمُخَالِفِينَ لَنَا ، بِأَنَّ الْعَوْدَ لَوْ كَانَ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ طَلَاقِهَا بَعْدَ الظِّهَارِ لَوَجَبَ إِذَا ظَاهَرَ مِنَ الرَّجْعِيَّةِ أَنْ يَصِيرَ عَائِدًا إِنْ أَمْسَكَ عَنْ طَلَاقِهَا وَأَنْ لَا يَكُونَ مُظَاهِرًا لِمَا قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ طَلَاقِهَا قَالَ : وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ يَكُونُ مُظَاهِرًا وَلَا يَكُونُ عَائِدًا فَبَطَلَ ثُبُوتُ ظِهَارِهِ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ رَافِعًا وَبَطَلَ بِإِسْقَاطِ عَوْدِهِ أَنْ يَكُونَ الْإِمْسَاكُ عَوْدًا ، قَالَ : وَلِأَنَّ الْإِمْسَاكَ الإمساك في الظهار بَعْدَ الظِّهَارِ اسْتِصْحَابٌ لَهُ، وَالْمُسْتَصْحِبُ لِلشَّيْءِ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا لَهُ، وَالْمُخَالِفُ لِلشَّيْءِ لَا يَكُونُ عَائِدًا إِلَيْهِ فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْإِمْسَاكُ عَوْدًا ، قَالَ : وَلِأَنَّ الْعَوْدَ إِلَى الشَّيْءِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ لَهُ، وَالْمَحَلُّ لَا يَكُونُ مُفَارِقًا فَلَمْ يَصِرْ عَائِدًا . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى مُخَالِفِينَا قَوْلُهُ تَعَالَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ بِالظِّهَارِ وَالْعَوْدِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ شَرْطًا عَقَّبَهُ بِالْجَزَاءِ، وَالْجَزَاءُ إِذَا عُلِّقَ بِشَرْطٍ اقْتَضَى وَجُوبَهُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَوْسَ بْنَ الصَّامِتِ بِالْكَفَّارَةِ قَبْلَ وَطْئِهِ، وَأَمْرُهُ عَلَى الْوُجُوبِ فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْكَفَّارَةِ فِي الذِّمَّةِ قَبْلَ الْوَطْءِ وَبَعْدَهُ وَأَنْ لَيْسَ الْوَطْءُ شَرْطًا فِي الْوُجُوبِ ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِسَبَبٍ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ عِنْدَ وُجُودِ ذَلِكَ السَّبَبِ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ ، وَلِأَنَّهُ تَكْفِيرٌ بِعِتْقٍ فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ فِي الذِّمَّةِ قِيَاسًا عَلَى الْكَفَّارَةِ الْقَتْلِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِالْإِصَابَةِ ، فَهُوَ أَنَّهُ عَلَّقَهَا بِالْعَوْدِ بَعْدَ الظِّهَارِ وَمَنَعَ الْإِصَابَةَ قَبْلَهَا، فَبَطَلَ مَا فَهِمْتُهُ فِيهِ وَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنْ ظِهَارِ الرَّجْعِيَّةِ فَهُوَ أَنَّ الْعَوْدَ عِنْدَنَا هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ تَحْرِيمِهَا بَعْدَ الظِّهَارِ وَالرَّجْعِيَّةُ مُحَرَّمَةٌ فَلَمْ يَصِرْ بِتَرْكِ الطَّلَاقِ عَائِدًا ، وَالظِّهَارُ يَقَعُ عَلَيْهَا إِذَا كَانَتْ فِي حُكْمِ الزَّوْجِيَّةِ، وَالرَّجْعِيَّةُ تَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ الزَّوْجِيَّةِ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا الظِّهَارُ، فَلَمَّا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ الظِّهَارُ وَالْعَوْدُ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ فِي الرَّجْعَةِ حُكْمُ الظِّهَارِ دُونَ الْعَوْدِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إِنَّ الْمُسْتَدِيمَ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا وَالْمُخَالِفَ لَا يَكُونُ عَائِدًا ، فَهُوَ أَنَّهُ اسْتَدَامَ إِمْسَاكَهَا، وَالظِّهَارُ يَمْنَعُ مِنْهُ فَصَارَ مُخَالِفًا، وَالْمُخَالِفُ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى عَائِدًا ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ [ الْمُجَادَلَةِ : ] . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْعَوْدِ يَكُونُ بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ ، فَهُوَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْعَوْدُ قَبْلَ الْمُفَارَقَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [ يس : ] وَأَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَا قَبْلَ الظِّهَارِ فَصَارَ مُفَارِقًا، وَلَوْلَا مَا قَدَّمْنَاهُ مَعَ مَنْ تَقَدَّمَ لَكَانَ الْكَلَامُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ أَبْسَطَ وَأَطْوَلَ .

لَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلَمْ يَفْعَلْ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ أَوْ مَاتَتْ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلَمْ يَفْعَلْ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ أَوْ مَاتَتْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْكَفَّارَةَ إِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِالْعَوْدِ الزوج المظاهر وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِمْسَاكِهَا بَعْدَ الظِّهَارِ مُدَّةً يَقْدِرُ عَلَى تَحْرِيمِهَا بَعْدُ بِطَلَاقٍ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ بِمَا حَدَثَ بَعْدُ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ لِعَانٍ إِجْمَاعًا، وَلَا بِمَا حَدَثَ مِنْ قَوْلِهِ أَوْ قَوْلِهَا، وَقَالَ مَالِكٌ : إِذَا مَاتَ بَعْدَ الْعَوْدِ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ سَقَطَتِ الْكَفَّارَةُ عَنْهُ بَعْدَ وُجُوبِهَا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِالْعَزْمِ عَلَى الْوَطْءِ الصَّدَقَةُ فِي مُنَاجَاةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعَزْمِ عَلَى مُنَاجَاتِهِ ، ثُمَّ لَوْ وَجَبَتْ بِالْعَزْمِ سَقَطَتْ بِفَوْتِ الْمُنَاجَاةِ فَكَذَلِكَ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ مِنَ الْكَفَّارَاتِ لَمْ يَسْقُطْ بِغَيْرِ أَدَاءٍ كَسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ فَاتَ الْوَطْءُ بِالتَّحْرِيمِ لَمْ تَسْقُطْ بِهِ الْكَفَّارَةُ كَذَلِكَ إِذَا فَاتَ بِالْمَوْتِ ، فَأَمَّا صَدَقَةُ الْمُنَاجَاةِ للرسول فَمَنْسُوخَةُ الْحُكْمِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ أَصْلًا لِحُكْمٍ ثَابِتٍ ، عَلَى أَنَّ صَدَقَةَ الْمُنَاجَاةِ قَدْ كَانَ وُجُوبُهَا بِالْعَزْمِ عَلَى الْمُنَاجَاةِ مَوْقُوفًا عَلَى فِعْلِ الْمُنَاجَاةِ وَجَرَى تَقْدِيمُهَا مَجْرَى تَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَخَالَفَ عَوْدَ الظِّهَارِ لِاسْتِقْرَارِ الْوُجُوبِ بِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمَوْتِ بَعْدَ الظِّهَارِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ زَمَانِ الْعَوْدِ أَوْ بَعْدَهُ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ زَمَانِ الْعَوْدِ لَمْ تَسْقُطْ بِهِ الْكَفَّارَةُ عَلَى مَا قَدَّمْنَا ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ زَمَانِ الْعَوْدِ وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ عُقَيْبَ ظِهَارِهِ قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ زَمَانُ طَلَاقِهَا، أَوْ تَمُوتَ الزَّوْجَةُ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَا أَمْسَكَهَا بَعْدَ الظِّهَارِ وَلَا قَدَرَ عَلَى طَلَاقِهَا بِالْمَوْتِ . فَصْلٌ : وَأَمَّا إِذَا تَعَقَّبَ الظِّهَارَ رِدَّةٌ ، فَإِنْ كَانَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَعَتْ بِهَا الْفُرْقَةُ سَوَاءً كَانَتْ مِنْ جِهَتِهِ أَوْ مِنْ جِهَتِهَا وَقَامَتْ مُقَامَ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ فِي إِسْقَاطِ الْعَوْدِ ، وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ قَامَتْ مُقَامَ الطَّلَاقِ الثَّانِي الرَّجْعِيِّ فِي سُقُوطِ الْعَوْدِ ، وَكَانَ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ عَادَ الْمُرْتَدُّ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَانَا عَلَى النِّكَاحِ وَصَارَ عَائِدًا وَفِيمَا يَصِيرُ بِهِ عَائِدًا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَصِيرُ بِالْإِسْلَامِ عَائِدًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَمْضِيَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ زَمَانُ الْعَوْدِ ، وَإِنْ أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ عدة النكاح بَطَلَ النِّكَاحُ ، فَإِنِ اسْتَأْنَفَ نِكَاحَهُ فَفِي عَوْدِ الظِّهَارِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى ثُمَّ بِمَاذَا يَصِيرُ عَائِدًا وَجْهَانِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَلَوْ تَعَقَّبَ الظِّهَارَ جُنُونٌ أَوْ إِغْمَاءٌ لَمْ يَقْدِرِ الزَّوْجُ فِيهِ عَلَى الطَّلَاقِ صَارَ عَائِدًا ؛ لِأَنَّ الْجُنُونَ لَا يُحَرِّمُ بِخِلَافِ الرِّدَّةِ ، وَالْقَصْدُ فِي الْعَوْدِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ الْجُنُونُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا وَقَّتَ لِأَنْ يُؤَدِّيَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْمُمَاسَّةِ حَتَّى يُكَفِّرَ، وَكَانَ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ عُقُوبَةً مُكَفِّرَةً لِقَوْلِ الزُّورِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا تَحْرِيمُ وَطْئِهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ الظهار فَمَأْخُوذٌ مِنَ النَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَجَعَلَ الْوَطْءَ غَايَةً لِوَقْتِ التَّكْفِيرِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فَكَانَ هَذَا عُقُوبَةً مُكَفِّرَةً لِقَوْلِ الزُّورِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَثِمَ بِهِ فَكَفَّرَ عَنْ مَأْثَمِهِ ، فَلَوْ أَنَّهُ وَطِئَ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ الظهار كَانَ عَاصِيًا بِوَطْئِهِ كَمَعْصِيَتِهِ بِالْوَطْءِ فِي إِحْرَامٍ أَوْ حَيْضٍ وَلَا تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ عَنْهُ وَلَا تَتَضَاعَفُ عَلَيْهِ . قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَمُنْتَصِرُ بْنُ دُوسْتَ وَمُجَاهِدٌ تَتَضَاعَفُ عَلَيْهِ فَتَلْزَمُهُ كَفَّارَاتٌ . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالزُّهْرِيُّ تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ وَالْقِيَاسِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ الْبَيَاضِيَّ وَقَدْ وَطِئَ فِي ظِهَارِهِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ أَنْ يُكَفِّرَ كَفَّارَةً وَاحِدَةً، فَلَمْ يُسْقِطْهَا وَلَمْ يُضَعِّفْهَا فَكَانَ نَصًّا يُبْطِلُ بِهِ الْقَوْلَيْنِ . وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ عِبَارَةٌ مُؤَقَّتَةٌ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فَلَمْ يَكُنْ فَوَاتُ وَقْتِهَا مُبْطِلًا لَهَا وَلَا مُوجِبًا لِمُضَاعَفَتِهَا كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَصْلٌ : فَأَمَّا تَعْجِيلُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ قَبْلَ وُجُوبِهَا ، فَإِنْ كَانَ مُكَفِّرًا بِالصَّوْمِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ عِبَادَاتِ الْأَبْدَانِ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ الْوُجُوبِ ، وَإِنْ كَفَّرَ بِالْعِتْقِ أَوِ الْإِطْعَامِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الظِّهَارِ وَالْعَوْدِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْأَمْوَالِ إِذَا تَعَلَّقَ وُجُوبُهَا بِشَرْطَيْنِ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ وُجُودِ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الظِّهَارِ وَقَبْلَ الْعَوْدِ وَذَلِكَ بِأَنْ يُطَلِّقَهَا عُقَيْبَ ظِهَارِهِ ثُمَّ يُكَفِّرَ قَبْلَ مُرَاجَعَتِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا لِوُجُودِ أَحَدِ شُرُوطِهَا كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ بَعْدَ النِّصَابِ وَقَبْلَ الْحَوْلِ وَكَتَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ الْيَمِينِ وَقَبْلَ الْحِنْثِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا مَعَ وُجُودِ أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ ، لِأَنَّ الثَّانِيَ مِنْهُمَا مَحْظُورٌ فَصَارَ بِالتَّعْجِيلِ مُتَهَيِّأً لِارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ، وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي تَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ بِالْيَمِينِ قَبْلَ الْحِنْثِ إِذَا كَانَ الْحِنْثُ مَعْصِيَةً . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِذَا مُنِعَ الْجِمَاعَ أَحْبَبْتُ أَنْ يُمْنَعَ الْقُبَلَ وَالتَّلَذُّذَ احْتِيَاطًا، حَتَّى يُكَفِّرَ، فَإِنْ مَسَّ لَمْ تَبْطُلِ الْكَفَّارَةُ، كَمَا يُقَالُ لَهُ أَدِّ الصَّلَاةَ فِي وَقْتِ كَذَا وَقَبْلَ وَقْتِ كَذَا فَيَذْهَبُ الْوَقْتُ فَيُؤَدِّيهَا بَعْدَ الْوَقْتِ لِأَنَّهَا فَرْضُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا وَطْءُ الْمُظَاهِرِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ فَقَدْ ذَكَرْنَا تَحْرِيمَهُ بِالنَّصِّ

وَالْإِجْمَاعِ ، وَأَمَّا مَا سِوَاهُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ كَالْقُبْلَةِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالتَّلَذُّذِ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ فَفِي تَحْرِيمِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ هَا هُنَا وَفِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّ اجْتِنَابَهُ احْتِيَاطٌ وَفِعْلَهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ أَحْبَبْتُ أَنْ يُمْنَعَ الْقُبْلَةَ وَالتَّلَذُّذَ احْتِيَاطًا وَوَجْهُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا وَالْمَسُّ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَطْءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [ الْبَقَرَةِ : ] وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ فِي الْحَيْضِ وَالصَّوْمِ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ التَّلَذُّذِ بِمَا سِوَاهُ كَذَلِكَ فِي الظِّهَارِ لِبَقَاءِ النَّفْعِيَّةِ وَاسْتِبَاحَةِ الدَّوَاعِي مِنَ الطِّيبِ وَغَيْرِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّلَذُّذُ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْوَطْءُ فِي الْفَرْجِ ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْقَدِيمِ رَأَيْتُ أَنْ يُمْنَعَ الْقُبَلَ وَالتَّلَذُّذَ، وَكَانَ ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ، وَوَجْهُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا وَحَقِيقَةُ الْمَسِّ الْتِقَاءُ الْبَشْرَتَيْنِ وَلِأَنَّهُ بِالظِّهَارِ قَدْ جَعَلَ تَحْرِيمَهَا عَلَيْهِ كَتَحْرِيمِ أُمِّهِ، وَكُلُّ الِاسْتِمْتَاعِ بِأُمِّهِ حَرَامٌ وَكَذَلِكَ فِي الظِّهَارِ ، وَلِأَنَّهَا مُبَاشَرَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ تَحْرُمَ عَلَى الْمُظَاهِرِ كَالْوَطْءِ ، وَلِأَنَّهُ لَفْظٌ يُوقِعُ تَحْرِيمَهَا فِي الزَّوْجَةِ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنَ الْوَطْءِ وَتَوَابِعِهِ كَالْإِحْرَامِ وَالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَصَابَهَا وَقَدْ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ فِي لَيْلِ الصَّوْمِ الظهار لَمْ يُنْتَقَضْ صَوْمُهُ وَمَضَى عَلَى الْكَفَّارَةِ وَلَوْ كَانَ صَوْمُهُ يُنْتَقَضُ بِالْجِمَاعِ لَمْ تُجْزِئْهُ الْكَفَّارَةُ بَعْدَ الْجِمَاعِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا كَفَّرَ الْمُظَاهِرُ بِالصِّيَامِ لَزِمَهُ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَبْلَ الْوَطْءِ كَالْعِتْقِ وَهُوَ نَصٌّ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [ الْمُجَادَلَةِ : ] فَإِنْ وَطِئَ فِي نَهَارِ الصَّوْمِ عَامِدًا الظهار بَطَلَ صَوْمُهُ وَتَتَابُعُهُ وَاسْتَأْنَفَ صَوْمَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ بَعْدَ وَطْئِهِ ، وَإِنْ وَطِئَ فِي نَهَارِ الصَّوْمِ نَاسِيًا الظهار لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ وَلَا تَتَابُعُهُ ، وَإِنْ وَطِئَ فِي لَيْلِ الصَّوْمِ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا لَمْ يَبْطُلِ الصَّوْمُ وَلَا التَّتَابُعُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، يَبْطُلُ تَتَابُعُ الصَّوْمِ فِي الْوَطْءِ فِي اللَّيْلِ وَيَبْطُلُ بِوَطْئِهِ نَاسِيًا فِي النَّهَارِ ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا وَمِنْهَا دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْوَطْءِ فِيهِ وَقَبْلَهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَمَرَ بِصِيَامِ شَهْرَيْنِ لَيْسَ قَبْلَهُمَا مَسِيسٌ وَيُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِصَوْمِ شَهْرَيْنِ

لَيْسَ فِيهِمَا مَسِيسٌ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْعُدُولُ إِلَى مَا أَمْكَنَهُ وَإِنْ سَقَطَ عَنْهُ مَا لَمْ يُمْكِنْهُ لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَهُمَا مَعًا ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي شَهْرَيْ صِيَامِ الظِّهَارِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ التَّتَابُعُ كَالْوَطْءِ عَمْدًا بِالنَّهَارِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُ تَحْرِيمُ وَطْءٍ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ فَاسْتَوَى حُكْمُهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ كَالِاعْتِكَافِ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ أَنْ يَأْتِيَ بِصِيَامِ شَهْرَيْنِ لَيْسَ قَبْلَهُمَا وَلَا فِيهِمَا مَسِيسٌ وَهُوَ لَيْسَ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ وَطْئِهِ فَكَانَ الْبِنَاءُ أَقْرَبَ إِلَى الظَّاهِرِ مِنَ الِاسْتِئْنَافِ ، لِأَنَّ صَوْمَ شَهْرَيْنِ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْمَسِيسِ وَالْآخَرُ بَعْدَهُ أَقْرَبُ إِلَى الْوَاجِبِ مِنْ صَوْمِ شَهْرَيْنِ هُمَا جَمِيعًا بَعْدَ الْمَسِيسِ ، فَكَانَ اسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيِّ بِهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا مِنْ جِهَةِ النَّصِّ فَيَتَوَجَّهُ احْتِجَاجُ الْكَرْخِيِّ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَا ، وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ لَمْ يَبْطُلْ بِهِ الصَّوْمُ فَلَمْ يَبْطُلْ بِهِ التَّتَابُعُ كَوَطْءِ غَيْرِ الْمُظَاهِرِ مِنْهَا، وَكَالْوَطْءِ فِي لَيْلِ صِيَامِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ . فَإِنْ قِيلَ فَوَطْءُ الْمُظَاهِرِ مُحَرَّمٌ لَيْلًا وَنَهَارًا فَجَازَ أَنْ يَبْطُلَ بِهِ التَّتَابُعُ بِاللَّيْلِ كَمَا يَبْطُلُ بِهِ فِي النَّهَارِ كَتَحْرِيمِهِ فِيهِمَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَطْءُ فِي لَيْلِ الصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، وَلَا وَطْءُ غَيْرِ الْمُظَاهِرِ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ فَكَانَ التَّحْرِيمُ عِلَّةً فِي إِبْطَالِ التَّتَابُعِ فَلَمْ يَصِحَّ الْقِيَاسُ . قِيلَ : مَا لَمْ يَبْطُلِ التَّتَابُعُ بِمُبَاحِهِ لَمْ يَبْطُلْ بِمَحْظُورِهِ كَالزِّنَا وَمَا أُبْطِلَ التَّتَابُعُ بِمَحْظُورِهِ بَطَلَ بِمُبَاحِهِ ؛ كَالْأَكْلِ فِي نَهَارِ الصَّوْمِ لِشِدَّةِ الْمَجَاعَةِ خَوْفًا مِنَ التَّلَفِ يُبْطِلُ صَوْمَهُ وَتَتَابُعَهُ ، وَإِنْ فَعَلَ مُبَاحًا كَمَا لَوْ أَكَلَ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَفِعْلِ مَحْظُورٍ وَإِذَا بَطَلَ تَعْلِيلُهُ بِالْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ كَانَ تَعْلِيلُ التَّتَابُعِ بِصِحَّةِ الصَّوْمِ وَفَسَادِهِ أَوْلَى، فَصَحَّ الْقِيَاسُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَصْلَيْنِ . وَقِيَاسٌ ثَانٍ : هُوَ أَنَّهُ وَطْءٌ فِي أَثْنَاءِ تَكْفِيرٍ، فَجَازَ أَنْ لَا يَبْطُلَ بِهِ التَّكْفِيرُ كَالْإِطْعَامِ . وَقِيَاسٌ ثَالِثٌ : وَهُوَ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِمَا يُضَادُّ الصَّوْمَ إِذَا وَقَعَ لَيْلًا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي حُكْمِ الصَّوْمِ كَالْأَكْلِ . وَاسْتِدْلَالٌ رَابِعٌ : وَهُوَ أَنَّ هَذَا الصَّوْمَ مَشْرُوطٌ بِشَرْطَيْنِ : التَّتَابُعُ وَأَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْمَسِيسِ ، فَالتَّتَابُعُ صِفَةٌ فِي الْمُؤَدِّي، وَقَبْلَ الْمَسِيسِ صِفَةٌ فِي الْأَدَاءِ كَالصَّلَاةِ عُلِّقَتْ بِشَرْطَيْنِ : الْوَقْتُ وَالتَّرْتِيبُ، وَإِنْ ثَبَتَ الْفِعْلُ ثُمَّ كَانَ عَدَمُ الْوَقْتِ أَوْ بَعْضِهِ لَا يَسْقُطُ حُكْمُ التَّرْتِيبِ كَذَا الصَّوْمُ هَا هُنَا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ مِنَ الْآيَةِ بِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَهُوَ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الْوَطْءُ وَهُوَ فَاسِدٌ حَرَامٌ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ مِنْهَا بِأَنَّهُ يَقَدِرُ عَلَى صَوْمِ شَهْرَيْنِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مَسِيسٌ فَهُوَ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ فِي الْبِنَاءِ يَأْتِي بِأَحَدِ الشَّهْرَيْنِ قَبْلَ الْمَعْصِيَةِ وَبِالثَّانِي قَضَاءً بَعْدَ الْمَعْصِيَةِ .

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى وَطْءِ النَّهَارِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْوَطْءَ لَمَّا أَبْطَلَ الصَّوْمَ أَبْطَلَ التَّتَابُعَ، وَوَطْءُ اللَّيْلِ لَمَّا لَمْ يُبْطِلِ الصَّوْمَ لَمْ يُبْطِلِ التَّتَابُعَ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الِاعْتِكَافِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ وَطْءَ اللَّيْلِ صَادَقَ زَمَانَ الْعِبَادَةِ فَأَشْبَهَ وَطْءَ النَّهَارِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الصَّوْمِ : لِأَنَّ وَطْءَ اللَّيْلِ لَمْ يُصَادِفْ زَمَانَ الْعِبَادَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ تَظَاهَرَ وَأَتْبَعَ الظِّهَارَ طَلَاقًا تَحِلُّ فِيهِ قَبْلَ زَوْجٍ يَمْلِكُ الرَجْعَةَ أَوْ لَا يَمْلِكُهَا ثُمَّ رَاجَعَهَا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَلَوْ طَلَّقَهَا سَاعَةَ نَكَحَهَا ؛ لِأَنَّ مُرَاجَعَتَهُ إِيَّاهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ أَكْثَرُ مِنْ حَبْسِهَا بَعْدَ الظِّهَارِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا خِلَافُ أَصْلِهِ كُلُّ نِكَاحٍ جَدِيدٍ لَمْ يَعْمَلْ فِيهِ طَلَاقٌ وَلَا ظِهَارٌ إِلَّا جَدِيدٌ وَقَدْ قَالَ فِي هَذَا الْكِتَابِ لَوْ تَظَاهَرَ مِنْهَا ثُمَّ اتَّبَعَهَا طَلَاقًا لَا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ ثُمَّ نَكَحَهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ لِأَنَّ هَذَا مِلْكُ غَيْرِ الْأَوَّلِ الَّذِي كَانَ فِيهِ الظِّهَارُ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يُظَاهِرَ مِنْهَا فَيَعُودَ عَلَيْهِ الظِّهَارُ إِذَا نَكَحَهَا جَازَ ذَلِكَ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَزَوْجٍ غَيْرِهِ، وَهَكَذَا الْإِيلَاءُ قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا أَشْبَهُ بِأَصْلِهِ وَأَوْلَى بِقَوْلِهِ، وَالْقِيَاسُ أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ كَانَ فِي مِلْكٍ فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ زَالَ مَا فِيهِ مِنَ الْحُكْمِ، فَلَمَّا زَالَ ذَلِكَ النِّكَاحُ زَالَ مَا فِيهِ مِنَ الظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُظَاهِرَ إِذَا طَلَّقَ عُقَيْبَ ظِهَارِهِ لَمْ يَكُنْ عَائِدًا وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعَوْدَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِمْسَاكِهَا بَعْدَ الظِّهَارِ مُدَّةً يُمْكِنُهُ فِيهَا الطَّلَاقُ، وَهُوَ بِالطَّلَاقِ غَيْرُ مُمْسِكٍ، سَوَاءً كَانَ رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا ؛ لِأَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقَيْنِ مَعًا فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا فَرَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ فَالظِّهَارُ بِحَالِهِ وَيَصِيرُ عَائِدًا فِيهِ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ، وَبِمَاذَا يَصِيرُ عَائِدًا فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَالَهُ هَا هُنَا وَفِي كِتَابِ الْأُمِّ يَكُونُ عَائِدًا بِنَفْسِ الرَّجْعَةِ ، وَإِنِ أَتْبَعَ الرَّجْعَةَ طَلَاقًا لَمْ تَسْقُطِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ بِإِمْسَاكِهِ عَنِ الطَّلَاقِ عَائِدًا فَأَوْلَى أَنْ يَصِيرَ بِالرَّجْعَةِ الْمُنَافِيَةِ لِلطَّلَاقِ عَائِدًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ عَائِدًا بِالرَّجْعَةِ حَتَّى يَمْضِيَ بَعْدَهَا زَمَانُ الْعَوْدِ بِالْإِمْسَاكِ عَنِ الطَّلَاقِ مُدَّةً يَقْدِرُ فِيهَا عَلَى الطَّلَاقِ ، فَإِنِ أَتْبَعَ الرَّجْعَةَ طَلَاقًا لَمْ يَكُنْ عَائِدًا وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ تُرَادُ لِلرَّدِّ إِلَى الزَّوْجِيَّةِ، وَالْعَوْدُ هُوَ إِمْسَاكُهَا عَلَى الزَّوْجِيَّةِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الرَّجْعَةِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا فَلَمْ يُرَاجِعْ حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ الظهار سَقَطَ الظِّهَارُ فِي هَذَا النِّكَاحِ ، فَإِنْ نَكَحَهَا بِعَقْدٍ مُسْتَجَدٍّ كَانَ عَوْدُ الظِّهَارِ فِيهِ مُعْتَبَرًا بِالطَّلَاقِ الَّذِي

تَقَدَّمَهُ ، فَإِنْ كَانَ ثَلَاثًا فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ كُلِّهِ وَأَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ الظِّهَارَ لَا يَعُودُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : فِي الْقَدِيمِ أَنَّ الظِّهَارَ يَعُودُ ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الثَّلَاثِ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ كُلِّهِ وَأَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ الظِّهَارَ يَعُودُ ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فِي الْجَدِيدِ أَنَّ الظِّهَارَ لَا يَعُودُ وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الظِّهَارَ لَا يَعُودُ لَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ ، وَإِنْ قُلْنَا : بِعَوْدِ الظِّهَارِ فَبِمَاذَا يَصِيرُ عَائِدًا : فِيهِ وَجْهَانِ تَخَرَّجَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَصِيرُ عَائِدًا بِعَقْدِ النِّكَاحِ فَإِنِ اتَّبَعَ النِّكَاحَ طَلَاقًا لَمْ تَسْقُطِ الْكَفَّارَةُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَصِيرُ عَائِدًا بِمُضِيِّ زَمَانِ الْعَوْدِ بَعْدَ النِّكَاحِ وَإِنِ اتَّبَعَ النِّكَاحَ طَلَاقًا لَمْ تَجِبِ الْكَفَّارَةُ . فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ أَنْ لَا يَعُودَ الظِّهَارُ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " قَالَ وَلَوْ تَظَاهَرَ مِنْهَا ثَمَّ لَاعَنَهَا مَكَانَهُ بِلَا فَصْلٍ سَقَطَ الظِّهَارُ وَلَوْ كَانَ حَبَسَهَا قَدْرَ مَا يُمْكِنُهُ اللِّعَانُ فَلَمْ يُلَاعِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا لَاعَنَ الْمُظَاهِرُ بَعْدَ أَنْ مَضَى عَلَيْهِ زَمَانُ الْعَوْدِ فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِاللِّعَانِ كَمَا لَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِالْمَوْتِ وَإِنْ شَرَعَ فِي اللِّعَانِ قَبْلَ مُضِيِّ زَمَانِ الْعَوْدِ في الظهار فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ قَذَفَ بِالزِّنَا وَدَخَلَ فِي اللِّعَانِ، فَأَتَى بِالشَّهَادَاتِ وَبَقِيَتِ اللَّعْنَةُ الْخَامِسَةُ ، فَقَالَ لَهَا : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ عَقَبَهَا بِاللَّعْنَةِ الْخَامِسَةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّحْرِيمِ فَلَا يَكُونُ عَائِدًا لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْخَامِسَةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّحْرِيمِ أَغْلَظُ مِنْ تَحْرِيمِهَا بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ التَّحْرِيمَ الْمُؤَبَّدَ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَدْ قَذَفَهَا بِالزِّنَا ثُمَّ ظَاهَرَ مِنْهَا ثُمَّ عَقَبَهُ بِاللِّعَانِ فَأَخَذَ فِي الشَّهَادَاتِ الْأَرْبَعِ ثُمَّ بِاللَّعْنَةِ الْخَامِسَةِ فَفِي عَوْدِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَكُونُ عَائِدًا، فَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهَا لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ إِلَّا بِاللَّعْنَةِ الْخَامِسَةِ ، وَالشَّهَادَاتُ الْأَرْبَعُ لَا تُحَرِّمُ ، فَكَانَ أَخْذُهُ فِيهَا شُرُوعًا فِي غَيْرِ التَّحْرِيمِ فَلِذَلِكَ صَارَ عَائِدًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ عَائِدًا فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ تَحْرِيمَ اللِّعَانِ لَا يَقَعُ بِاللَّعْنَةِ الْخَامِسَةِ إِلَّا بَعْدَ الشَّهَادَاتِ

الْأَرْبَعِ فَصَارَ أَخْذُهُ فِيهَا شُرُوعًا فِي التَّحْرِيمِ، وَلِأَنَّهُ بِأَخْذِهِ فِي الشَّهَادَاتِ الْأَرْبَعِ كَالْمُطَوَّلِ شُرُوعُهُ فِي التَّحْرِيمِ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ سُقُوطَ الْعَوْدِ ، كَمَنْ قَالَ لَهَا بَعْدَ الْعَوْدِ أَنْتِ يَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ طَالِقٌ فَأَطَالَ ذِكْرَ الِاسْمِ بِالنَّسَبِ كَانَ كَمَنِ اقْتَصَرَ فَقَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي سُقُوطِ الْعَوْدِ كَذَلِكَ هَذَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُقَدِّمَ الظِّهَارَ ثُمَّ يَعْقُبُهُ بِالْقَذْفِ ثُمَّ يَعْقُبُهُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْحَاكِمِ وَالشُّرُوعِ فِي اللِّعَانِ ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَكُونُ عَائِدًا يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ قَذْفَهَا بِالزِّنَا لَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ التَّحْرِيمِ وَلَا مِنْ جُمْلَةِ اللِّعَانِ فَصَارَ عَائِدًا . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا لَا يَكُونُ عَائِدًا وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ تَعْلِيلًا بِأَنَّ اللِّعَانِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِقَذْفٍ، فَصَارَ الْقَذْفُ مِنْ أَسْبَابِ اللِّعَانِ ، وَكَذَلِكَ التَّوَجُّهُ إِلَى الْحَاكِمِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِاللِّعَانِ، وَزُعِمَ أَنَّهُ وُجِدَ لِلْمُزَنِيِّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ : وَسَوَاءٌ تَقَدَّمَ الظِّهَارُ الْقَذْفَ أَوْ تَقَدَّمَ الْقَذْفُ الظِّهَارَ ، وَقَدْ أَنْكَرَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ، فَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَوَاءً بَيْنَ مَنْ يُقَدِّمُ الظِّهَارَ عَلَى الْقَذْفِ وَبَيْنَ مَنْ يُقَدِّمُ الْقَذْفَ عَلَى الظِّهَارِ فِي ثُبُوتِ الْعَوْدِ لَا فِي سُقُوطِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " قَالَ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى : لَوْ تَظَاهَرَ مِنْهَا يَوْمًا فَلَمْ يُصِبْهَا حَتَّى انْقَضَى لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ كَمَا لَوْ آلَى فَسَقَطَتِ الْيَمِينُ سَقَطَ عَنْهُ حُكْمُ الْيَمِينِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ أَصْلُ قَوْلِهِ إِنَّ الْمُتَظَاهِرَ إِذَا حَبَسَ امْرَأَتَهُ مُدَّةً يُمْكِنُهُ الطَلَاقُ فَلَمْ يُطَلِّقْهَا فِيهَا فَقَدْ عَادَ وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَقَدْ حَبَسَهَا هَذَا بَعْدَ التَّظَاهُرِ يَوْمًا يُمْكِنُهُ الطَلَاقُ فِيهِ فَتَرَكَهُ فَعَادَ إِلَى اسْتِحْلَالِ مَا حَرُمَ فَالْكَفَّارَةُ لَازِمَةٌ لَهُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ وَكَذَا قَالَ لَوْ مَاتَ أَوْ مَاتَتْ بَعْدَ النَّهَارِ وَأَمْكَنَ الطَلَاقُ فَلَمْ يُطَلِّقْ الظهار فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الظِّهَارَ ضَرْبَانِ : مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ . فَالْمُطْلَقُ : أَنْ يَقُولَ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَلَا يَقْدُرُ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ ، وَالْعَوْدُ فِيهِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ إِمْسَاكِهَا بَعْدَ الظِّهَارِ مُدَّةً يَقْدِرُ فِيهَا عَلَى الطَّلَاقِ . فَأَمَّا الْمُقَيَّدُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً ، وَلَا يُطْلِقُهُ عَلَى التَّأْبِيدِ فَفِي كَوْنِهِ مُظَاهِرًا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الظِّهَارِ يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ كَالْأُمِّ فَإِذَا قَدَّرَهُ بِمُدَّةٍ يَخْرُجُ بِالتَّقْدِيرِ مِنْ حُكْمِ الظِّهَارِ وَصَارَ كَمَنْ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِمَنْ

حَرُمَتْ عَلَيْهِ فِي مُدَّةٍ وَلَا يَكُونُ مُظَاهِرًا جَمْعًا بَيْنَ تَأْقِيتِ الْمُدَّةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا فَعَلَى هَذَا لَا يُرَاعَى فِيهِ الْعَوْدُ لِسُقُوطِ الظِّهَارِ . فَأَمَّا الْكَفَّارَةُ : فَإِنْ لَمْ يَطَأْ حَتَّى مَضَتِ الْمُدَّةُ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ وَطِئَ فِي الْمُدَّةِ فَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ في الظهار : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عَلَى ظَاهِرِ مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَيَصِيرُ بِخُرُوجِهِ مِنَ الظِّهَارِ مُحَرِّمًا لَهَا بِغَيْرِ ظِهَارٍ فَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ كَالْإِيلَاءِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ، لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ لَفْظَ التَّحْرِيمِ مُوجِبٌ لِلْكَفَّارَةِ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْوَطْءِ، وَالْإِيلَاءُ يَمِينٌ وَهَذَا غَيْرُ حَالِفٍ ، وَيَكُونُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْإِيلَاءِ وَهَذَا الظِّهَارِ ، فَعَادَ جَوَابُهُ إِلَى الْإِيلَاءِ دُونَ الظِّهَارِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الطِّيبِ بْنِ سَلَمَةَ . فَصْلٌ : وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَكُونُ مُظَاهِرًا بِالْمُؤَقَّتِ كَمَا يَكُونُ مُظَاهِرًا بِالْمُطْلَقِ الْمُؤَبَّدِ وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ الظِّهَارَ كَالطَّلَاقِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ شَهْرًا صَارَ طَلَاقُهُ مُؤَبَّدًا كَذَلِكَ إِذَا ظَاهَرَ مِنْهَا شَهْرًا صَارَ مُؤَبَّدًا فَيَسْتَوِي تَقْدِيرُ الْمُدَّةِ وَتَأْبِيدُهَا فِي الظِّهَارِ كَمَا يَسْتَوِي فِي الطَّلَاقِ، فَيُفَرَّقُ بَيْنَ تَقْدِيرِ التَّحْرِيمِ وَتَأْبِيدِهِ فِي الْمُشَبَّهِ بِهَا فِي الظِّهَارِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْوَقْتَ إِذَا دَخَلَ فِي الظِّهَارِ وَقَدْ قَابَلَهُ التَّأْبِيدُ فِي الْمُشَبَّهِ بِهَا فَصَارَ مُظَاهِرًا لِتَحْقِيقِهِ التَّشْبِيهَ ، وَإِذَا دَخَلَ الْوَقْتُ فِي الْمُشَبَّهِ بِهَا لَمْ يَصِرْ مُظَاهِرًا لِأَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لِتَحْرِيمِ التَّشْبِيهِ، فَعَلَى هَذَا يَصِيرُ عَائِدًا بِأَنْ يَطَأَ فِي الْمُدَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَطَأْ حَتَّى انْقَضَتِ الْمُدَّةُ فَلَيْسَ بِعَائِدٍ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عَلَى ظَاهِرِ مَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ، فَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الظِّهَارِ الْمُطْلَقِ ، وَالْمُقَيَّدِ فِي الْعَوْدِ : فَيَكُونُ الْعَوْدُ فِي الظِّهَارِ الْمُطْلَقِ إِمْسَاكَهَا مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ، وَالظِّهَارِ الْمُقَيَّدِ وَطْأَهَا فِي مُدَّةِ الظِّهَارِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَوْدَيْنِ فِيهِمَا : أَنَّ لِلْمُقَيَّدِ غَايَةً فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْإِمْسَاكُ تَوَقُّعًا لِانْقِضَائِهَا ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِرْ عَوْدًا وَلَيْسَ لِلْمُطْلَقِ، فَكَانَ الْإِمْسَاكُ مُنَافِيًا لَهَا وَلِذَلِكَ صَارَ عَوْدًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ وَاخْتِيَارُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا أَنْ يَكُونَ عَائِدًا فِيهِ بِالْإِمْسَاكِ كَعَوْدِهِ فِي الظِّهَارِ الْمُطْلَقِ ؛ لِأَنَّ مَا أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي صِفَتِهَا بِالتَّقْيِيدِ وَالْإِطْلَاقِ كَسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ . وَأَجَابَ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ عَمَّا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ أَرَادَ عَقْدَ الظِّهَارِ بِالْوَطْءِ فِي مُدَّةٍ مُقَدَّرَةٍ كَأَنَّهُ قَالَ : إِنْ وَطِئْتُكِ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا فِيهِ لَمْ يَصِرْ مُظَاهِرًا فَلَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ وَإِنْ وَطِئَهَا صَارَ مُظَاهِرًا وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ إِذَا مَضَى عَلَيْهِ زَمَانُ الْعَوْدِ، وَإِنْ لَمْ يَطَأْ حَتَّى مَضَى لَمْ يَصِرْ مُظَاهِرًا فَلَمْ

تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ وَإِنَّمَا حَمَلَ ظَاهِرَ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى هَذَا الْإِضْمَارِ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ فِي عِلَّةِ الْعَوْدِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَوْ تَظَاهَرَ وَآلَى قِيلَ إِنْ وَطِئْتَ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ خَرَجْتَ مِنَ الْإِيلَاءِ وَأَثِمْتَ وَإِنِ انْقَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وُقِفْتَ، فَإِنْ قُلْتَ أَنَا أُعْتِقُ أَوْ أُطْعِمُ لَمْ نُمْهِلْكَ أَكْثَرَ مِمَّا يُمْكِنُكَ الْيَوْمَ، وَمَا أَشْبَهَهُ، وَإِنْ قُلْتَ أَصُومُ قِيلَ إِنَّمَا أُمِرْتَ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ بِأَنْ تَفِيءَ أَوْ تُطَلِّقَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ لَكَ سَنَةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا جَمَعَ بَيْنَ الظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ ثَبَتَ حُكْمُهُمَا، فَإِنْ قَدَّمَ الظِّهَارَ وَعَادَ فِيهِ ثُمَّ آلَى صَارَ بَعْدَ الظِّهَارِ مُولِيًا وَلَا يَمْنَعُ تَحْرِيمُ الظِّهَارِ مِنْ ثُبُوتِ الْإِيلَاءِ ؛ لِأَنَّهَا بَعْدَ الظِّهَارِ زَوْجَتُهُ وَإِنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ وَتَكُونُ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ مِنْ وَقْتِ يَمِينِهِ وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ بِالظِّهَارِ لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا سَبَبٌ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ كَتَحْرِيمِهَا بِإِحْرَامِهِ ، وَإِنْ قَدَّمَ الْإِيلَاءَ ثُمَّ عَقَبَهُ الظِّهَارَ ثَبَتَ ظِهَارُهُ وَصَارَ عَائِدًا فِيهِ، وَلَا يَمْنَعُ عَقْدُ الْيَمِينِ فِي الْإِيلَاءِ مِنْ ثُبُوتِ الظِّهَارِ بَعْدُ لِأَنَّهَا بَعْدَ الْإِيلَاءِ زَوْجَتُهُ كَهِيَ قَبْلُ، وَيَكُونُ زَمَانُ الظِّهَارِ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ كَمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ كَفَّرَ عَنْ ظِهَارِهِ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ بِعِتْقٍ أَوْ إِطْعَامٍ أَوْ صَوْمِ شَهْرَيْنِ أَجْزَأَهُ وَسَقَطَ بِالتَّكْفِيرِ حُكْمُ الظِّهَارِ وَصَارَ بَعْدَ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ كَمُولٍ غَيْرِ مُظَاهِرٍ ، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ عَنِ الظِّهَارِ حَتَّى انْقَضَتْ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ فَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَمْرَانِ مُتَنَافِيَانِ : أَحَدُهُمَا : مُوجِبٌ لِلْوَطْءِ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ وَهُوَ الْإِيلَاءُ . وَالثَّانِي : مَانِعٌ مِنَ الْوَطْءِ حَتَّى يُكَفِّرَ وَهُوَ الظِّهَارُ، فَإِنْ سَأَلَ أَنْ يُمْهَلَ فِي الْإِيلَاءِ حَتَّى يُكَفِّرَ عَنِ الظِّهَارِ نُظِرَ ؛ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُكَفِّرُ بِالْعِتْقِ أَوِ الْإِطْعَامِ أُمْهِلَ مُدَّةً يَقْدِرُ فِيهَا عَلَى الْعِتْقِ وَالْإِطْعَامِ كَالْيَوْمِ وَنَحْوِهِ ؛ لِأَنَّ زَمَانَهُ قَرِيبٌ يَجُوزُ الْإِنْظَارُ لِمِثْلِهِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُكَفِّرُ بِالصِّيَامِ لَمْ يُمْهَلْ ؛ لِأَنَّ صَوْمَ شَهْرَيْنِ إِذَا ضُمَّا إِلَى أَرْبَعَةِ التَّرَبُّصِ صَارَتِ الْمُدَّةُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَمُنِعَ مِنْهُ لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ وَطُولِبَ بِحُكْمِ الْإِيلَاءِ ، فَإِنْ طَلَّقَ فِيهِ خَرَجَ بِالطَّلَاقِ عَنْ حَقِّ الْإِيلَاءِ وَكَانَ عَلَى ظِهَارِهِ وَإِنْ أَرَادَ الْوَطْءَ فِيهِ أَفْتَيْنَاهُ بِأَنَّ الظِّهَارَ قَدْ حَرَّمَ عَلَيْهِ الْوَطْءَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ عَنْهُ . وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ مَنْعُ نَفْسِهَا مِنْهُ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ لاعن واظهار : أَحَدُهُمَا : لَا يَجِبُ عَلَيْهَا مَنْعُ نَفْسِهَا مِنْهُ وَعَلَيْهَا تَمْكِينُهُ مِنْ نَفْسِهَا إِذَا دَعَاهَا لِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ يَخْتَصُّ بِهِ دُونَهَا، فَعَلَى هَذَا إِنْ مَكَّنَتْهُ سَقَطَ حَقُّهَا فَكَانَ الْإِثْمُ عَلَيْهِ دُونَهَا ، وَإِنْ مَنَعَتْهُ سَقَطَتْ مُطَالَبَتُهَا كَمَا لَوْ مَنَعَتْهُ مِنْ غَيْرِ ظِهَارٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجِبُ عَلَيْهَا مَنْعُ نَفْسِهَا مِنْهُ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهَا تَمْكِينُهُ إِذَا دَعَاهَا ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ فَهُوَ عَائِدٌ عَلَيْهَا، وَيَخْتَصُّ بِهَا كَالرَّجْعَةِ فَصَارَ التَّحْرِيمُ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهَا فَعَلَى هَذَا لَا يَسْقُطُ حَقُّهَا مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِخِلَافِ الرَّجْعِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ جَارِيَةٌ فِي فَسْخٍ،

وَهَذِهِ بِالظِّهَارِ غَيْرُ جَارِيَةٍ فِي فَسْخٍ ، فَهَلْ يَتَحَتَّمُ بِتَحْرِيمِ الْوَطْءِ عَلَيْهِ طَلَاقُهَا وَيَتَعَيَّنُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ وَيَتَحَتَّمُ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَعَجَزَ عَنْ أَحَدِهِمَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْآخَرُ كَالْكَفَّارَاتِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ طَلَّقَ طَوْعًا وَإِلَّا طَلَّقَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ جَبْرًا قَوْلًا وَاحِدًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ لِأَنَّ عَجْزَهُ عَنِ الْوَطْءِ بِالتَّحْرِيمِ كَعَجْزِهِ عَنْهُ بِالْمَرَضِ ثُمَّ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ فِي الْمَرَضِ كَذَلِكَ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ مَعَ الظِّهَارِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الطَّلَاقِ وَبَيْنَ أَنْ يَفِيءَ بِالْإِيلَاءِ غَيْرَ مَعْذُورٍ ثُمَّ يُؤْخَذُ بِالتَّكْفِيرِ عَنْ ظِهَارِهِ وَلَا يُمْهَلُ فِيهِ مَعَ الْمُهْلَةِ مِنْهُ ، فَإِذَا كَفَّرَ زَالَ عُذْرُهُ وَلَزِمَهُ أَنْ يَفِيءَ بِالْإِصَابَةِ فَيْءَ مَعْذُورٍ كَالْمَرِيضِ إِذَا صَحَّ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ عِتْقِ الْمُؤْمِنَةِ فِي الظِّهَارِ

بَابُ عِتْقِ الْمُؤْمِنَةِ فِي الظِّهَارِ مِنْ كِتَابَيْنِ قَدِيمٍ وَجَدِيدٍ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الظِّهَارِ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ( قَالَ ) فَإِذَا كَانَ وَاجِدًا لَهَا أَوْ لِثَمَنِهَا لَمْ يُجْزِئْهُ غَيْرُهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْكَفَّارَةُ فِي الظِّهَارِ ذَاتُ أَبْدَالٍ مُرَتَّبَةٍ وَهِيَ عِتْقٌ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لِمَنِ اسْتَطَاعَ فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَهُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا إِلَى قَوْلِهِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا [ الْمُجَادَلَةِ : ، ] . فَإِذَا ثَبَتَ تَرْتِيبُ الْبَدَلِ لَمْ يَكُنِ الْعُدُولُ إِلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ ( عَدَمِ ) الْمُبْدَلِ . فَمَتَى كَانَ وَاجِدًا لِلرَّقَبَةِ أَعْتَقَ وَلَمْ يَصُمْ ، وَإِنْ كَانَ عَادِمًا لَهَا وَاجِدًا لِثَمَنِهَا كَانَ كَالْوَاجِدِ لَهَا فِي الْمَنْعِ مِنَ الصَّوْمِ في كفارة الظهار لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ وَالْقَادِرُ عَلَى الثَّمَنِ مَنْسُوبٌ إِلَى الْوُجُودِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ، فَكَانَ الْوَاجِدُ لِثَمَنِ الْمَاءِ فِي حُكْمِ الْوَاجِدِ لِلْمَاءِ . وَالثَّانِي : أَنَّ حُقُوقَ الْأَمْوَالِ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِالذِّمَمِ كَانَ الْوَاجِدُ لِأَثْمَانِهَا فِي حُكْمِ الْوَاجِدِ لَهَا فِي اسْتِحْقَاقِ فَرْضِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، فَكَانَ الْوَاجِدُ لِثَمَنِ الْهَدْيِ فِي حُكْمِ الْوَاجِدِ لِلْهَدْيِ فِي أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ الِانْتِقَالُ إِلَى الصَّوْمِ ، وَكَمَا تَقُولُ أَنَّ الْوَاجِدَ لِصَدَاقِ الْحُرَّةِ فِي حُكْمِ مَنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ فِي الزَّكَاةِ ابْنَةُ مَخَاضٍ وَهُوَ وَاجِدٌ لِثَمَنِهَا جَازَ لَهُ الِانْتِقَالُ إِلَى ابْنِ لَبُونٍ، وَلَمْ يَكُنِ الْوَاجِدُ لِثَمَنِهَا كَالْوَاجِدِ لَهَا . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فَإِنْ لَمْ تَكُنِ ابْنَةُ مَخَاضٍ فَابْنُ

لَبُونٍ ذَكَرٌ " فَرَاعَى وُجُودَ ابْنَةِ الْمَخَاضِ فِي الْمَالِ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ وُجِدَ شَرْطُ الْبَدَلِ فَجَازَ الْعُدُولُ إِلَيْهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي عِتْقِ الظِّهَارِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَلَمْ يُرَاعِ مَالًا دُونَ مَالٍ فَسَوَّيْنَا بَيْنَ الْعَيْنِ وَالثَّمَنِ . وَالثَّانِي : مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ زَكَاةَ الْمَالِ فِي الْعَيْنِ فَرَاعَيْنَا وُجُودَ الْعَيْنِ دُونَ الثَّمَنِ وَالْكَفَّارَةِ فِي الذِّمَّةِ فَسَوَّيْنَا بَيْنَ وُجُودِ الْعَيْنِ وَالثَّمَنِ . فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ وُجُودَ الثَّمَنِ كَوُجُودِ الرَّقَبَةِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الصَّوْمِ فَكَانَ مَا يَمْلِكُهُ مِنَ الثَّمَنِ غَائِبًا عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ الصَّوْمُ وَانْتَظَرَ بِالْعِتْقِ قُدُومَ مَالِهِ ، في كفارة الظهار وترتيبها وَلَوْ كَانَ مَا يَمْلِكُهُ الْمُتَمَتِّعُ مِنْ ثَمَنِ دَمِ الْهَدْيِ غَائِبًا عَنْهُ جَازَ لَهُ الصَّوْمُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَحِلَّ هَدْيِ الْمُتَمَتِّعِ مُعَيَّنٌ، فَرُوعِيَ وَجُودُهُ قَبْلَهُ فِي مِلْكِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ زَمَانَ الصَّوْمِ فِي التَّمَتُّعِ مُعَيَّنٌ، فَرُوعِيَ وُجُودُ الْهَدْيِ قَبْلَهُ ، وَزَمَانَ الصَّوْمِ فِي الظِّهَارِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَرُوعِيَ وُجُودُ الرَّقَبَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ . فَلَوْ وَجَدَ الْمُظَاهِرُ الثَّمَنَ وَلَمْ يَجِدِ الرَّقَبَةَ انْتَظَرَ وُجُودَهَا وَلَمْ يَصُمْ ، وَلَوْ وَجَدَ الْمُتَمَتِّعُ الثَّمَنَ وَلَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَنْتَظِرُ الْقُدْرَةَ عَلَى ابْتِيَاعِهَا وَلَا يَصُومُ كَالْمُتَظَاهِرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَعْدِلُ إِلَى الصَّوْمِ وَلَا يَنْتَظِرُ، بِخِلَافِ الْمُتَظَاهِرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَعْيِينِ زَمَانِ الصَّوْمِ فِيهِ وَعَدَمِ تَعْيِينِهِ فِي الظِّهَارِ ، فَلَوْ لَمْ يَجِدِ الْمُتَظَاهِرُ الرَّقَبَةَ إِلَّا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ الشِّرَاءُ وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الصَّوْمُ ، وَلَوْ لَمْ يَجِدِ الْمُتَمَتِّعُ الْهَدْيَ إِلَّا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الشِّرَاءُ، وَفِي إِجْزَاءِ الصَّوْمِ وَجْهَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَشَرَطَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي رَقَبَةِ الْقَتْلِ مُؤْمِنَةً كَمَا شَرَطَ الْعَدْلَ فِي الشَّهَادَةِ وَأَطْلَقَ الشُّهُودَ فِي مَوَاضِعَ، فَاسْتَدْلَلْنَا عَلَى أَنَّ مَا أَطْلَقَ عَلَى مَعْنَى مَا شَرَطَ، وَإِنَمَا رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَفَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى الصَّدَقَاتِ فَلَمْ تَجُزْ إِلَّا لِلْمُؤْمِنْينَ، فَكَذَلِكَ مَا فَرَضَ اللَّهُ مِنَ الرِّقَابِ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتِقَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ في العتق إِلَّا رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ عِتْقٍ فِي كُلِّ كَفَّارَةٍ، حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي عِتْقِ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا مُؤْمِنَةٌ ، وَبِمَذْهَبِهِ فِي الْكَفَّارَاتِ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تَجُوزُ فِي عِتْقِ الظِّهَارِ وَسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ سِوَى الْقَتْلِ عِتْقُ

الْكَافِرَةِ الْكِتَابِيَّةِ سِوَى الْوَثَنِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَعَطَاءٍ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَكَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِطْلَاقُهَا الْمُقْتَضِي مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الِاسْمُ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ اشْتِرَاطَ الْإِيمَانِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ تَكُونُ نَسْخًا، وَنَسْخُ الْقُرْآنِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْقُرْآنِ أَوْ بِأَخْبَارِ التَّوَاتُرِ، وَمِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ قَالُوا أَنَّهَا رَقَبَةٌ تَامَّةٌ فِي عِتْقِهَا قُرْبَةٌ فَوَجَبَ أَنْ تَجْرِيَ فِي كُلِّ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ كَالْمُؤْمِنَةِ، فَاحْتَرَزُوا فِي قَوْلِهِمْ تَامَّةً مِنْ ذَوَاتِ النَّقْص،ِ وَبِقَوْلِهِمْ فِي عِتْقِهَا قُرْبَةٌ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا قُرْبَةَ فِي عِتْقِهَا، قَالُوا وَلِأَنَّ الْكُفْرَ مَعْنًى يَجِبُ بِهِ الْقَتْلُ فَوَجَبَ أَلَّا يُمْنَعَ مِنَ الْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ كَعِتْقِ الْعَبْدِ الْقَاتِلِ، قَالُوا وَلِأَنَّ الْكُفْرَ مَعْصِيَةٌ فِي الدِّينِ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ أَنَّهَا جَزَاءٌ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ كَالْمُعْتِقِ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُهُ تَعَالَى فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ فِيهَا بِأَنَّ لِسَانَ الْعَرَبِ وَعُرْفَ خِطَابِهِمْ يَقْتَضِي حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ، فَحَمْلُ عُرْفِ الشَّرْعِ عَلَى مُقْتَضَى لِسَانِهِمْ وَقَدْ قَيَّدَ اللَّهُ تَعَالَى كَفَّارَةَ الْقَتْلِ بِالْإِيمَانِ، وَالْمُطْلَقُ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ مُطْلَقُهَا عَلَى مَا قُيِّدَ مِنْ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ كَمَا قَيَّدَ الشَّهَادَةَ بِالْعَدَالَةِ كَقَوْلِهِ : وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَطْلَقَهَا فِي قَوْلِهِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَحُمِلَ مِنْهُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ، كَذَلِكَ الْكَفَّارَةُ، فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى مُوَافَقَتِهِ فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِعُرْفِ اللِّسَانِ إِذَا جَمَعَ شَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا لَمْ يُحْمَلْ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُطْلَقِ إِلَّا أَصْلٌ وَاحِدٌ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَمْ يَجُزْ إِطْلَاقُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِعُرْفِ اللِّسَانِ إِلَّا بِدَلِيلٍ لَمْ يُوجِبْ حَمْلَهُ عَلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا أَصْلٌ فَاسِدٌ، وَطَرِيقُهُ غَيْرُ مُسْتَمِرٍّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْإِطْعَامَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَأَطْلَقَهُ، فَلَمْ يَحْمِلْ هَذَا الْمُطْلَقَ عَلَى ذَلِكَ الْمُقَيَّدِ فِي دُخُولِ الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ كَمَا دَخَلَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ شَرَطَ التَّتَابُعَ فِي صِيَامِ الظِّهَارِ وَأَطْلَقَهُ فِي صِيَامِ الْكَفَّارَةِ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوا إِطْلَاقَهُ عَلَى ذَلِكَ الْمُقَيَّدِ فِي اسْتِحْقَاقِ التَّتَابُعِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ فِي الْوُضُوءِ غَسْلَ أَرْبَعَةِ أَعْضَاءٍ وَاقْتَصَرَ فِي التَّيَمُّمِ مِنْهَا عَلَى عُضْوَيْنِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ إِطْلَاقَ التَّيَمُّمِ لَا يُحْمَلُ عَلَى تَقْيِيدِ الْوُضُوءِ فَيُسْتَحَقُّ فِيهِمَا تَطْهِيرُ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ .

وَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ مُسْتَمِرٌّ فَلَيْسَ يُفَسَّرُ بِمَا ذَكَرُوهُ، أَمَّا الْإِطْعَامُ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الِاعْتِرَاضُ بِهِ . وَالثَّانِي : لَا يَدْخُلُ وَلَا يَفْسُدُ بِهِ هَذَا الْأَصْلُ ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي الصِّفَةِ إِذَا كَانَ الْحُكْمُ وَاجِبًا . فَأَمَّا فِي إِثْبَاتِ أَصْلِ الْحُكْمِ فَلَا، وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ إِثْبَاتُ حُكْمٍ لَا صِفَةٍ . وَأَمَّا صِيَامُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَفِي اسْتِحْقَاقِ تَتَابُعِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مُسْتَحِقٌّ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الِاعْتِرَاضُ بِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ وَلَا يَفْسُدُ بِهِ الْأَصْلُ لِأَنَّنَا نَحْمِلُ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ إِذَا لَمْ يَتَنَازَعْهُ أَصْلَانِ ، وَالصَّوْمُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بَيْنَ أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُوجِبُ التَّتَابُعَ وَهُوَ صَوْمُ الظِّهَارِ . وَالثَّانِي : يُوجِبُ التَّفْرِقَةَ وَهُوَ صَوْمُ التَّمَتُّعِ وَلَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْآخَرِ فَتُرِكَ عَلَى إِطْلَاقِهِ فَكَانَ مُخَيَّرًا فِيهِ بَيْنَ تَتَابُعِهِ وَتَفْرِقَتِهِ كَمَا فُعِلَ مِثْلُهُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ لَمَّا أُطْلِقَ، وَهُوَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ حُمِلَ عَلَى إِطْلَاقِهِ فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ تَتَابُعِهِ وَتَفْرِقَتِهِ . وَأَمَّا التَّيَمُّمُ فَلَمْ يُحْمَلْ إِطْلَاقُهُ عَلَى تَقْيِيدِ الْوُضُوءِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِثْبَاتِ حُكْمٍ لَمْ يُذْكَرْ، وَحَمْلُ الْمُطْلَقِ إِنَّمَا يَخْتَصُّ بِالصِّفَةِ، وَلِذَلِكَ حَمَلْنَا إِطْلَاقَ الْيَدَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ عَلَى الْمَرَافِقِ لِتَقْيِيدِ ذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ، فَصَارَ الْأَصْلُ بِهِ مُسْتَمِرًّا ، وَخَالَفَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ الشَّافِعِيَّ وَسَائِرَ أَصْحَابِهِ فَقَالَ : أَحْمِلُ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى لَا بِمُوجِبِ اللِّسَانِ وَمُقْتَضَى اللُّغَةِ ، وَهَذَا لِقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَمَوْضُوعِ كَلَامِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ تَارَةً يُكَرِّرُونَ الْكَلِمَةَ لِلتَّأْكِيدِ، وَتَارَةً يَحْذِفُونَهَا لِلْإِيجَازِ، وَتَارَةً يُسْقِطُونَ بَعْضَهَا لِلتَّرْخِيمِ، وَتَارَةً يَتْرُكُونَ الصِّفَةَ إِذَا تَقَدَّمَ لَهَا ذِكْرٌ كَالشَّهَادَةِ، وَتَارَةً يُنَبَّهُ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، وَتَارَةً بِالْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى ، فَمَنْ عَرَفَ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ فِي كَلَامِهِمْ لَمْ يُنْكِرْ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ مِنْ طَرِيقِ اللِّسَانِ دُونَ الْمَعْنَى ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى فِي الْكَفَّارَةِ يُوجِبُهُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الشَّرِيدِ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَهُ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا رَقَبَةٌ أَفَتُجْزِئُ هَذِهِ عَنْهَا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَيْنَ رَبُّكِ ؟ فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ : مَنْ نَبِيُّكَ ؟ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ فَقَالَ : أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ وَرُوِيَ : فَإِنَّهَا تُجْزِيكَ فَكَانَ الدَّلِيلُ فِي هَذَا الْخَبَرِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : اعْتِبَارُ الْإِيمَانِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا لَمَا اعْتَبَرَهُ .

وَالثَّانِي : تَعْلِيقُهُ بِالْإِجْزَاءِ فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا اعْتَبَرَ الْإِيمَانَ وَعَلَّقَهُ بِالْإِجْزَاءِ لِأَنَّ فِي الرِّوَايَةِ أَنَّهُ قَالَ : عَلَيَّ رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ . رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى بِجَارِيَةٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أَفَأَعْتِقُ هَذِهِ فَقَالَ لَهَا : أَتَشْهَدِينَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّنِي رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ، قَالَ : تَصُومِينَ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ قَالَ : أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ وَقَالُوا هَذِهِ زِيَادَةٌ فَكَانَ الْأَخْذُ بِهَا أَوْلَى . وَعَنْ هَذَا جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الزِّيَادَةَ أَوْلَى إِذَا كَانَ الْخَبَرُ وَاحِدًا وَهَذَانِ خَبَرَانِ فِي قَضِيَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ : " عَلَيَّ رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ " لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الرِّقَابِ هل يشترط فيه الإسلام ؟ لَا يُجْزِئُ فِيهِ إِلَّا عِتْقُ الْمُؤْمِنَةِ فَصَارَ بِالدَّلَالَةِ عَلَيْهِ أَشْبَهَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ مِنْ نَذْرٍ وَلَا قَتْلٍ . وَيُدَلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى : أَنَّهُ تَكْفِيرٌ بِعِتْقٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِهِ الْإِيمَانُ كَالْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ عِتْقٍ لَا يُجْزِئُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ كَالْمَعْصِيَةِ، وَلِأَنَّهَا مَنْقُوصَةٌ بِالْكُفْرِ لَمْ تُجْزِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، فَلَا تُجْزِئُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ كَالْوَثَنِيَّةِ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ فِي أَمْوَالِنَا حُقُوقَ الزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ وَضْعُ الزَّكَاةِ إِلَّا فِي الْمُسْلِمِينَ دُونَ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَافَقَنَا عَلَيْهِ وَخَالَفَنَا فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ، كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَضْعُ الْكَفَّارَاتِ بِالْعِتْقِ إِلَّا فِي الْمُسْلِمِينَ دُونَ الْمُشْرِكِينَ . وَالثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ اسْتِرْقَاقَ الْمُشْرِكِينَ إِذْلَالًا وَصَغَارًا وَأَمَرَ بِالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ إِيجَابًا عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ بِرَفْعِ الذُّلِّ وَالِاسْتِرْقَاقِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ بِرَفْعِ اسْتِرْقَاقِهِ قُرْبَةً هُوَ الْمَأْذُونُ فِي اسْتِرْقَاقِهِ مَذَلَّةً . وَالثَّالِثُ : أَنَّ عِتْقَ الْكَفَّارَةِ ثَبَتَ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَالْكَافِرُ لَا يَتَأَبَّدُ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْقُضَ الْعَهْدَ وَيَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ يَسْبَأَ فَيَسْرِقَ، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ فِي عِتْقِ الْمُسْلِمِ فَلِذَلِكَ أَجْزَأَ عِتْقُ الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ مُتَأَبِّدٌ وَلَمْ يَجْزِ عِتْقُ الْكَافِرِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَأَبِّدٍ . فَأَمَّا الْآيَةُ فَالْجَوَابُ عَنْ تَعَلُّقِهِمْ بِعُمُومِ إِطْلَاقِهَا تَخْصِيصُهَا بِمَا ذَكَرْنَا وَالْجَوَابُ عَنْ تَعَلُّقِهِمْ مِنْهَا : بِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى حُكْمِ النَّصِّ بِدَلِيلٍ قَامَ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ نَسْخًا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ تَخْصِيصُ بَعْضِ مَا شَمِلَهُ الْعُمُومُ وَإِخْرَاجُ بَعْضِهِ فَصَارَ نَقْصًا لَا زِيَادَةً ، وَإِنَّمَا صَارَ تَخْصِيصًا لِأَمْرَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعُمُومَ يَقْتَضِي عِتْقَ الْكَافِرَةِ وَالْمُؤْمِنَةِ، وَاشْتِرَاطُ الْإِيمَانِ يَخْرُجُ مِنْهُ عِتْقُ الْكَافِرَةِ . وَالثَّانِي : جَوَازُ اسْتِثْنَاءِ الْكَافِرَةِ مِنْهُ فَنَقُولُ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لَا أَنْ تَكُونَ كَافِرَةً، فَبَانَ أَنَّهُ تَخْصِيصٌ وَلَيْسَ بِزِيَادَةٍ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنَةِ وَالْقَاتِلَةِ وَالْفَاسِقَةِ وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِمْ جَوَازُ عِتْقِهِمْ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَلِذَلِكَ أَجْزَأَ فِي الظِّهَارِ، وَالْكَافِرَةُ لَا تُجْزِئُ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَلَمْ تُجْزِئْ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَتْ أَعْجَمِيَّةً وَصَفَتِ الْإِسْلَامَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْأَعْجَمِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي اخْتِبَارِ إِيمَانِ السَّوْدَاءِ بِالْإِشَارَةِ وَكَانَتْ أَعْجَمِيَّةً، وَلِأَنَّ الْإِيمَانَ يَثْبُتُ بِاللَّفْظِ الْأَعْجَمِيِّ كَمَا يَثْبُتُ بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ ؛ لِأَنَّهُمَا يُعَبِّرَانِ عَنِ الِاعْتِقَادِ فَاسْتَوَيَا فِيهِ كَالْإِقْرَارِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ أَعْتَقَ صَبِيَّةً، أَحَدُ أَبَوَيْهَا مُؤْمِنٌ كفارة الظهار أَجْزَأَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِسْلَامُ الْأَبَوَيْنِ مَعًا فَهُوَ إِسْلَامٌ لِصِغَارِ أَوْلَادِهِمَا إِجْمَاعًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [ الطُّورِ : ] وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تَنَاتَجُ الْإِبِلُ مِنْ بَهِيمَةٍ جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّ مِنْ جَدْعَاءَ فَأَمَّا إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ يَكُونُ إِسْلَامًا لِصِغَارِ أَوْلَادِهِ أَمْ لَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا حَتَّى يُسْلِمَ أَبَوَاهُ مَعًا . وَالثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبِيهِ وَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أُمِّهِ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَبًا أَوْ أُمًّا وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ [ الطُّورِ : ] وَالْأَوْلَادُ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْأُمِّ كَمَا ( هُمْ ) مِنْ ذُرِّيَّةِ الْأَبِ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [ آلِ عِمْرَانَ : ] . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى قَوْلِهِ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى [ الْأَنْعَامِ : ، ] وَهُوَ وَلَدُ بِنْتٍ ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ فَجَعَلَهُ بِبَقَائِهَا عَلَى الْيَهُودِيَّةِ يَهُودِيًّا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ

بِانْفِرَادِ أَحَدِهِمَا يَهُودِيًّا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ فَإِذَا اخْتَلَفَ دِينُ الْأَبَوَيْنِ غَلَبَ دِينُ الْإِسْلَامِ لِعُلُوِّهِ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ ، وَلِأَنَّهَا لَوْ أَسْلَمَتْ وَالْوَلَدُ حَمْلٌ صَارَ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهَا، فَكَذَلِكَ إِذَا أَسْلَمَتْ بَعْدَ وَضْعِهِ وَقَبْلَ بُلُوغِهِ ، فَإِنْ قَالُوا : إِذَا كَانَ حَمْلًا وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِهَا يَجْرِي مَجْرَى أَبْعَاضِهَا فَلَمْ يَتَمَيَّزْ عَنْ جُمْلَتِهَا، فَإِذَا انْفَصَلَ تَمَيَّزَ وَيَخْتَصُّ بِحُكْمِهِ كَمَا يَتْبَعُهَا فِي الْبَيْعِ إِذَا كَانَ حَمْلًا وَلَا يَتْبَعُهَا إِذَا كَانَ مُنْفَصِلًا ، فَلَمَّا كَانَ بِإِتْبَاعِهِ فِي الدِّينِ يَصِحُّ بَعْدَ الِانْفِصَالِ وَقَبْلَهُ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ أَبَوَاهُ، وَإِتْبَاعُهُ فِي الْبَيْعِ لَا يَصِحُّ بَعْدَ الِانْفِصَالِ كَمَا لَوْ بِيعَ أَبَوَاهُ فَلَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ، وَلِأَنَّ الْبَعْضِيَّةَ فِي الْأُمِّ مُتَحَقِّقَةٌ وَفِي الْأَبِ مَظْنُونَةٌ فَلَمَّا صَارَ بِإِسْلَامِ الْأَبِ مُسْلِمًا فَأَوْلَى أَنْ يَصِيرَ بِإِسْلَامِ الْأُمِّ مُسْلِمًا . فَإِنْ قِيلَ : لِأَنَّهُ يَتْبَعُ أَبَاهُ فِي النَّسَبِ وَفِي الْحُرِّيَّةِ وَعَقْدِ الصُّلْحِ فَيَتْبَعُهُ فِي الْإِسْلَامِ بِخِلَافِ الْأُمِّ . قِيلَ : هَذَا الِاعْتِبَارُ يَفْسُدُ بِإِسْلَامِهَا وَهُوَ حَمْلٌ، ثُمَّ قَدْ يُعْتَبَرُ بِأُمِّهِ دُونَ أَبِيهِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ وَلَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لَهَا فَضْلُ مَزِيَّةٍ عَلَى الْأَبِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْبَعْضِيَّةِ كَذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا تَصِيرُ مُسْلِمَةً بِإِسْلَامِ الْأَبَوَيْنِ جَازَ عِتْقُهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ غير المسلمة . وَقَالَ أَحْمَدُ : لَا يَجُوزُ عِتْقُهَا إِلَّا بَعْدَ بُلُوغِهَا . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَجُوزُ عِتْقُهَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ تُصَلِّيَ وَتَصُومَ، بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَاسْتَدَلَّ أَحْمَدُ بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُقْبَلْ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ إِلَّا بَالِغٌ، لَمْ يُعْتَقْ فِي الْكَفَّارَةِ إِلَّا بَالِغٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ الصِّغَرَ كَالزَّمَانَةِ لِاسْتِيلَاءِ الْعَجْزِ عَلَيْهِ، وَعِتْقُ الزَّمِنِ لَا يُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ، كَذَلِكَ عِتْقُ الصَّغِيرِ . وَأَمَّا مَالِكٌ : فَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ إِسْلَامَهُ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ مَظْنُونٌ وَبَعْدَهُ مُتَحَقِّقٌ وَدَلِيلُنَا : عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ وَلَمْ يُفَرِّقْ، وَلِأَنَّهَا رَقَبَةٌ مُسْلِمَةٌ سَلِيمَةٌ فَجَازَ عِتْقُهَا كَالْكَبِيرَةِ، وَلِأَنَّ عِتْقَ الصَّغِيرِ أَطْوَلُ فِي الْحُرِّيَّةِ مُقَامًا فَكَانَتْ بِالْعِتْقِ أَوْلَى أَنْ يُفَكَّ مِنْ أَسْرِ الرِّقِّ مِنَ الْكَبِيرِ فَكَانَتْ بِالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ عِتْقَ الْكَفَّارَةِ مُوَاسَاةٌ، وَالصَّغِيرُ أَحَقُّ بِالْمُوَاسَاةِ مِنَ الْكَبِيرِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِدِيَةِ الْجَنِينِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : ظَاهِرٍ وَمَعْنًى : أَمَّا الظَّاهِرُ : فَهُوَ أَنَّ الشَّرْعَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي إِطْلَاقِ الرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَتَقْيِيدِهِ فِي الدِّيَةِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ .

وَأَمَّا الْمَعْنَى : فَهُوَ أَنَّهَا فِي الدِّيَةِ قِيمَةُ مُتْلَفٍ، فَلَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً، وَفِي الْكَفَّارَةِ مُوَاسَاةٌ فَجَازَ أَنْ تَكُونَ مَجْهُولَةً . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّ الصِّغَرَ كَالزَّمَانَةِ، فَهُوَ أَنَّ نَقْصَ الزَّمَانَةِ لَا يَزُولُ، وَنَقْصَ الصِّغَرِ يَزُولُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ مَالِكٍ إِنَّ إِسْلَامَهَا مَجْهُولٌ مَظْنُونٌ فَهُوَ أَنَّ إِسْلَامَ الصَّائِمِ الْمُصَلِّي مَظْنُونٌ لِجَوَازِ أَنْ يُبْطِنَ الرِّدَّةَ ، وَعَلَى أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَظْنُونًا فَهُوَ يُسَاوِي الْمُتَيَقَّنَ فِي الْقِصَاصِ إِذَا قَتَلَهُ مُسْلِمٌ فَكَذَلِكَ فِي الْكَفَّارَةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَوْ خَرْسَاءَ جِبِلِّيَّةٍ تَعْقِلُ الْإِشَارَةَ بِالْإِيمَانِ أَجْزَأَتْهُ، وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ لَا يُعْتِقَهَا إِلَّا أَنْ تَتَكَلَّمَ بِالْإِيمَانِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا الْأَخْرَسُ إِذَا حُكِمَ بِإِيمَانِهِ تَبَعًا لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ كفارة العتق فَعِتْقُهُ فِي الْكَفَّارَةِ جَائِزٌ وَلَا يَمْنَعُ خَرَسُهُ مِنْ إِجْزَاءِ عِتْقِهِ لِأَنَّهُ عَيْبٌ لَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ إِضْرَارًا بَيِّنًا . وَكَذَلِكَ الْأَصَمُّ فَإِنِ اجْتَمَعَ الْخَرَسُ وَالصَّمُّ لَمْ يَجُزْ فِي عِتْقِ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا مُضِرٌّ بِالْعَمَلِ إِضْرَارًا بَيِّنًا . فَأَمَّا الْخَرْسَاءُ الْجِبِلِّيَّةُ الَّتِي لَمْ تَتْبَعْ أَحَدَ أَبَوَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ فَإِذَا وَصَفَتِ الْإِسْلَامَ بِالْإِشَارَةِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَكَانَتْ مَفْهُومَةَ الْإِشَارَةِ صَحَّ إِسْلَامُهَا وَأَجْزَأَ عِتْقُهَا ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتَبَرَ إِسْلَامَ السَّوْدَاءِ بِالْإِشَارَةِ ، وَلِأَنَّ إِشَارَةَ الْخَرْسَاءِ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ تَقُومُ مَقَامَ النُّطْقِ فَكَذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ . فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ إِسْلَامَهَا مُعْتَبَرٌ بِالْإِشَارَةِ فَقَدْ نَقَلَ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ إِذَا أَعْتَقَهَا بَعْدَ الْإِشَارَةِ بِالْإِسْلَامِ أَجْزَأَتْهُ . وَرَوَى الرَّبِيعُ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " إِذَا أَشَارَتْ بِالْإِسْلَامِ، وَصلَّتْ جَازَ عِتْقُهَا، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا رَوَاهُ الرَّبِيعُ مِنْ صَلَاتِهَا بَعْدَ الْإِشَارَةِ هَلْ يَكُونُ شَرْطًا فِي جَوَازِ الْعِتْقِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَوْكِيدٌ وَلَيْسَتْ شَرْطًا عَلَى مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقْتَصَرَ مِنَ الْأَعْجَمِيَّةِ عَلَى الْإِشَارَةِ بِالْإِسْلَامِ دُونَ الصَّلَاةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ صَلَاةَ الْأَخْرَسِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ إِسْلَامِهِ بِالْإِشَارَةِ، وَحُمِلَ إِطْلَاقُ الْمُزَنِيِّ عَلَى تَفْسِيرِ الرَّبِيعِ ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ اسْتِدْلَالٌ يَخْتَصُّ بِالْأَخْرَسِ ، وَالصَّلَاةُ اشْتَرَكَ فِيهَا النَّاطِقُ وَالْأَخْرَسُ، فَإِذَا أَمْكَنَ اخْتِبَارُ إِسْلَامِهِ بِمَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ لَمْ يَجُزِ الِاخْتِصَارُ عَلَى مَا يُخْتَصُّ بِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ سُبِيَتْ صَبِيَّةٌ مَعَ أَبَوَيْهَا كَافِرَيْنِ فَعَقَلَتْ

وَوَصَفَتِ الْإِسْلَامَ وَصَلَّتْ، إِلَّا أَنَّهَا لَمْ تَبْلُغْ كفارة العتق ، لَمْ تُجْزِئْهُ حَتَّى تَصِفَ الْإِسْلَامَ بَعْدَ الْبُلُوغِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا إِذَا سُبِيَتِ الصَّبِيَّةُ أَوِ الصَّبِيُّ مَعَ أَبَوَيْهِمَا أَوْ مَعَ أَحَدِهِمَا فَلَا اعْتِبَارَ لِحُكْمِ السَّابِي وَهِيَ مُعْتَبَرَةُ الدِّينِ بِمَنْ سُبِيَ مَعَهَا مِنْ أَبَوَيْهَا ، وَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُ أَبَوَيْهَا الْمَسْبِيُّ مَعَهَا كَانَ إِسْلَامًا لَهَا وَأَجْزَأَ عِتْقُهَا فِي الْكَفَّارَةِ . وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَهِيَ عَلَى حُكْمِ الْكُفْرِ، سَوَاءً كَانَ السَّابِي لَهَا مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا ، فَإِنْ وَصَفَتِ الْإِسْلَامَ بَعْدَ بُلُوغِهَا حُكِمَ بِإِسْلَامِهَا وَجَازَ عِتْقُهَا ، وَإِنْ وَصَفَتِ الْإِسْلَامَ قَبْلَ بُلُوغِهَا وَصَلَّتْ، نُظِرَ ؛ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ تَمْيِيزِهَا وَعَقْلِهَا مَا تَقُولُ وَتَفْعَلُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِسْلَامًا مِنْهَا إِجْمَاعًا ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ التَّمْيِيزِ وَالْعَقْلِ فِيمَا تَقُولُ وَتَفْعَلُ كَالْمُرَاهِقَةِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ الْبَالِغِ إِسْلَامٌ كَمَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ ارْتِدَادٌ لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ . وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا : يَصِحُّ إِسْلَامُهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ إِذَا عَقَلَ مَا يَقُولُ وَمَيَّزَ مَا يَفْعَلُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَلَا تَصِحُّ مِنْهُ الرِّدَّةُ، وَفَرَّقَا بَيْنَهُمَا لِأَنَّ إِسْلَامَ غَيْرِ الْبَالِغِ يَصِحُّ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ، وَرِدَّةَ غَيْرِ الْبَالِغِ لَا تَصِحُّ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ فَلَا يَصِحُّ تَبَعُهُ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَاخْتَارَهُ الدَّارَكِيُّ أَنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا فِي الظَّاهِرِ، وَيَكُونُ إِسْلَامُهُ فِي الْبَاطِنِ مَوْقُوفًا عَلَى بُلُوغِهِ، فَإِنْ أَقَامَ عَلَى إِسْلَامِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ثَبَتَ إِسْلَامُهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَإِنْ أَظْهَرَ الشِّرْكَ لَمْ يُقْبَلْ فِي الظَّاهِرِ وَكَانَ مَقْبُولًا فِي الْبَاطِنِ . وَالْكَلَامُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَأْتِي مِنْ بَعْدُ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَعْتَقَهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ وَبَعْدَ وَصْفِهِ الْإِسْلَامَ لَمْ يُجْزِهِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَجْزَأَهُ عَلَى مَذْهَبِ الْإِصْطَخْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَكَانَ مَوْقُوفًا عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ فَإِنْ أَقَامَ عَلَى إِسْلَامِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ أَجْزَأَهُ عِتْقُهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ إِسْلَامُهُ ، ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ وَإِنْ أَظْهَرَ الشِّرْكَ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ قَدْ زَالَ إِسْلَامُهُ ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَصِفَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ أَجْزَأَهُ فِي الظَّاهِرِ وَلَمْ يُجْزِهِ فِي الْبَاطِنِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا سُبِيَ الطِّفْلُ دُونَ أَبَوَيْهِ كفارة العتق فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مُعْتَبِرٌ بِحُكْمِ سَابِيهِ، وَيَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهِ لِأَنَّ الطِّفْلَ تَبَعٌ لِغَيْرِهِ، فَإِذَا لَمْ يَتْبَعْ أَبَوَيْهِ لِانْفِرَادِهِ عَنْهُمَا صَارَ تَبَعًا لَسَابِيهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِمِلْكِهِ فَعَلَى هَذَا يُجْزِئُ عِتْقُهُ فِي الْكَفَّارَةِ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : لَا يَكُونُ تَبَعًا لِلسَّابِي ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْبَعْضِيَّةِ لَا يَنْقُلُ حُكْمَهُ إِلَى مَالِكِ الرِّقِّ كَالْمُشْتَرِي، فَعَلَى هَذَا لَا يُجْزِئُ عِتْقُهُ فِي الْكَفَّارَةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَوَصْفُهَا الْإِسْلَامَ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحْمَدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتَبْرَأَ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ، وَأُحِبُّ لَوِ امْتَحَنَهَا بِالْإِقْرَارِ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَمَا أَشْبَهَهُ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْمُعْتَبَرُ فِي وَصْفِ الْإِسْلَامِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : الْإِقْرَارُ بِالشَّهَادَتَيْنِ . وَالثَّانِي : الْبَرَاءَةُ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ . وَالثَّالِثُ : الِاعْتِبَارُ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ . فَأَمَّا الشَّهَادَتَانِ فَهُوَ قَوْلُهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَهَذَا شَرْطٌ فِي إِسْلَامِهِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهِ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَهُ عَلَى كُلِّ مِنْ أَخَذَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ . وَأَمَّا الْبَرَاءَةُ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ هَلْ هُوَ شَرْطٌ لَا يَصِحُّ الْإِسْلَامُ إِلَّا بِهِ أَمْ لَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ اسْتِحْبَابٌ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ وَاجِبٍ ؛ لِأَنَّ بَرَاءَتَهُ مِنْ سَائِرِ الْأَدْيَانِ مِنْ مُوجِبَاتِ الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي ثُبُوتِهِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ شَرْطٌ وَاجِبٌ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا إِلَّا بِهِ لِيَزُولَ الِاحْتِمَالُ عَنْ شَهَادَتِهِ ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ أَتَى فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُ عَنْ أُمُورٍ مِنْ مَعَالِمِ الدِّينِ فَأَخْبَرَهُ بِهَا فَقَالَ : أَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ مُحِقٌّ، فَقَالَ لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ : مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تُبَايِعُونِي فَقَالَ : نَخَافُ أَنْ يَقْتُلَنَا يَهُودُ ؛ لِأَنَّ دَاوُدَ دَعَا أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ النُّبُوَّةَ فِي وَلَدِهِ، فَلَمْ يُجْرِ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُكْمَ الْإِسْلَامِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِنُبُوَّتِهِ وَأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَشْهَدُ بِأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْرَأْ مِنْ دِينِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ شَرْطٌ فِي ثُبُوتِ الْإِسْلَامِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَرُّوذِيِّ أَنَّهُ شَرْطٌ فِي الْإِسْلَامِ لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ إِلَى إِسْمَاعِيلَ دُونَ إِسْحَاقَ وَهَذَا بَعْضُ قَوْلِ الْيَهُودِ ، وَفِي إِسْلَامِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيٍّ ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الطَّائِفَةِ الْأُولَى لَمْ يَصِحَّ إِسْلَامُهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ إِلَّا بِالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى صَحَّ إِسْلَامُهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَتَبَرَّأْ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالثَّوَابِ وَالْعَذَابِ فَكُلُّ ذَلِكَ اسْتِحْبَابٌ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ وَاجِبٍ ؛ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ بِصِدْقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى نُبُوَّتِهِ يَتَضَمَّنُ اعْتِرَافَهُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي جُمْلَةِ تَصْدِيقِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ مَا يُجْزِئُ مِنَ الرِّقَابِ وَمَا لَا يُجْزِئُ

بَابُ مَا يُجْزِئُ مِنَ الرِّقَابِ وَمَا لَا يُجْزِئُ في الكفارة مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " لَا يُجْزِئُ فِي رَقَبَةٍ وَاجِبَةٍ رَقَبَةٌ تُشْتَرَى بِشَرْطِ أَنْ تُعْتَقَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَضَعُ مِنْ ثَمَنِهَا " . قَالَ الْمَاوَردِيُّ : فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْعِتْقِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ . أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قِيَاسُ مَذْهَبِهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ؛ أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ، وَيُخَالَفُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي نُفُوذِ عِتْقِهِ مَعَ بُطْلَانِ بَيْعِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ وَالشَّرْطَ لَازِمٌ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ، وَيُؤْخَذُ بِعِتْقِهِ جَزَاءً بِالشَّرْطِ وَلَا يُجْزِيهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ لِاسْتِحْقَاقِهِ بِغَيْرِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : حَكَاهُ أَبُو ثَوْرٍ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى ، أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ وَالشَّرْطَ بَاطِلٌ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى عِتْقِهِ، لَكِنْ إِنِ امْتَنَعَ مِنْ عِتْقِهِ كَانَ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَعْتَقَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُجْزِئُ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عِتْقَهُ بِغَيْرِ الْكَفَّارَةِ، فَأَجْزَأَ عَنِ الْعِتْقِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْعَبِيدِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُجْزِئُ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الِاشْتِرَاطَ فِي عِتْقِهِ ثَابِتٌ فِي فَسْخِ الْبَائِعِ إِنْ لَمْ يُعْتِقْ فَصَارَ مُسْتَحَقًّا . وَالثَّانِي : أَنَّ الشَّرْطَ قَلَّ أَوْ كَثُرَ مِنْ ثَمَنِهِ فَصَارَ نَقْصًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَوْجِيهَ الْأَقَاوِيلِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يُجْزِئُ فِيهَا مُكَاتَبٌ أَدَّى مِنْ نُجُومِهِ شَيْئًا أَوْ لَمْ يُؤَدِّهِ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ بَيْعِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . عِتْقُ الْمُكَاتَبِ وَاقِعٌ وَلَا يُجْزِئُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ يُجْزِئُ عِتْقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ إِنْ لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا مِنْ نُجُومِهِ، وَلَا يُجْزِئُ إِنْ أَدَّاهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ وَاسْمُ الرَّقَبَةِ يَنْطَلِقُ عَلَى اسْمِ الْمُكَاتَبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَفِي الرِّقَابِ [ التَّوْبَةِ : ] وَهُمُ

الْمُكَاتَبُونَ، فَصَارَ دَاخِلًا فِي الْعُمُومِ فَأَجْزَأَ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَإِذَا كَانَ عَبْدًا أَجْزَأَ عِتْقُهُ كَسَائِرِ الْعَبِيدِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهَا رَقَبَةٌ سَلِيمَةٌ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ ثَمَنِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَ عِتْقُهَا عَنْ كَفَّارَتِهِ كَالْعَبْدِ الْقِنِّ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ الْإِجْزَاءِ عَنِ الْكَفَّارَةِ كَالْمَبِيعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُ عَقْدُ عِتْقٍ بِصِفَةٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْ تَعْجِيلِ عِتْقِهِ فِي الْكَفَّارَةِ كَالْعِتْقِ بِصِفَةٍ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لِاسْتِيفَاءِ حَقٍّ مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ الْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ كَالْمَرْهُونِ، قَالُوا : وَلِأَنَّ عِتْقَهُ يُوجِبُ فَسْخَ الْكِتَابَةِ قَبْلَ الْعِتْقِ فَصَارَ الْعِتْقُ وَاقِعًا بَعْدَ الْفَسْخِ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِجْزَاءِ فِي الْكَفَّارَةِ كَالْفَسْخِ بِالْعَجْزِ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ بَيْعِهِ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِئَ عِتْقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، كَالْمُؤَدِّي بَعْضَ نُجُومِهِ . فَإِنْ قِيلَ : الْمَعْنَى فِي الْمُؤَدِّي بَعْضَ نُجُومِهِ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إِلَى بَعْضِ بَدَلِ الْعِتْقِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِيمَنْ لَمْ يُؤَدِّهِ، قِيلَ : لَيْسَ لِهَذَا الْمَعْنَى تَأْثِيرٌ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْإِجْزَاءِ لِأَنَّهُ لَوْ أَدَّى بَعْضَ نُجُومِهِ ثُمَّ أَعْتَقَهُ بَعْدَ فَسْخِ الْكِتَابَةِ أَجْزَأَ فَلَا يَكُونُ لِعَدَمِ هَذَا الْمَعْنَى تَأْثِيرٌ فِي الْإِجْزَاءِ لِأَنَّ الْعُقُودَ الْمَانِعَةَ مِنْ إِجْزَاءِ عِتْقِهِ بَعْدَ الْأَدَاءِ هِيَ مَانِعَةٌ مِنْ إِجْزَاءِ عِتْقِهِ قَبْلَ الْأَدَاءِ كَالْبَيْعِ وَالصُّلْحِ ، وَلِأَنَّهُ سَبَبُ حُرِّيَّةٍ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ عِتْقِ الْكَفَّارَةِ كَاسْتِيلَادِ أُمِّ الْوَلَدِ . فَإِنْ قِيلَ : فَالْمَعْنَى فِي أُمِّ الْوَلَدِ اسْتِقْرَارُ سَبَبِ الْحُرِّيَّةِ فِيهَا وَلَيْسَ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ فِي الْمُكَاتَبِ مُسْتَقِرًّا، قِيلَ : اعْتِبَارُ هَذَا الْمَعْنَى يَفْسُدُ بِالْمُؤَدِّي بَعْضَ نُجُومِهِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ حُرِّيَّتِهِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ وَلَا يُجْزِئُ عَنِ الْكَفَّارَةِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ مَنَعَهُ مِنْ بَيْعِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ عِتْقِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ كَالْبَيْعِ . فَإِنْ قِيلَ : الْمَعْنَى فِي الْبَيْعِ أَنَّ عِتْقَهُ لَا يَقَعُ، وَالْمُكَاتَبُ عِتْقُهُ وَاقِعٌ، قِيلَ : لَيْسَ اخْتِلَافُهُمَا فِي وُقُوعِ الْعِتْقِ مَانِعًا مِنِ اسْتِوَائِهِمَا فِي عَدَمِ الْإِجْزَاءِ عَنِ الْكَفَّارَةِ كَالْمُؤَدِّي بَعْضَ نُجُومِهِ ، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَجُزْ تَكْفِيرُهُ بِوَلَدِ الْمُكَاتَبِ لَمْ يَجُزْ تَكْفِيرُهُ بِالْمُكَاتَبِ كَالْوَرَثَةِ ، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُكَفِّرَ بِهِ الْوَرَثَةُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُكَفِّرَ بِهِ الْمَوْرُوثُ كَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ ، وَلِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مُكَاتَبِهِ، كَمَا يُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي عَبْدِ غَيْرِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْمَنْعِ مِنَ الْإِجْزَاءِ بِهِمَا عَنْ كَفَّارَتِهِ ، وَلِأَنَّ سَائِرَ أَحْكَامِ الْمُكَاتَبِ مُتَسَاوِيَةٌ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَبَعْدَهُ كَالشَّهَادَةِ وَالْوِلَايَةِ وَالنَّسَبِ فَكَذَلِكَ فِي الْعِتْقِ عَنِ الْكَفَّارَةِ ، وَلِأَنَّ عِتْقَ الْمُكَاتَبِ إِبْرَاءٌ، وَإِبْرَاؤُهُ عِتْقٌ، وَعِتْقُهُ بِالْإِبْرَاءِ لَا يُجْزِئُ عَنِ الْكَفَّارَةِ فَكَذَلِكَ إِبْرَاؤُهُ بِالْعِتْقِ لَا يُجْزِئُ عَنِ الْكَفَّارَةِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنِ اسْتَحَقَّ شَيْئًا بِسَبَبٍ إِلَى أَجَلٍ كَانَ تَعْجِيلُهُ مُعْتَبَرًا بِاسْتِحْقَاقِهِ لِذَلِكَ السَّبَبِ ؛ كَتَعْجِيلِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ فَصَارَ تَعْجِيلُ الْعِتْقِ قَبْلَ أَدَاءِ الْكِتَابَةِ مُقَيَّدًا لِاسْتِحْقَاقِهِ بِالْكِتَابَةِ وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ إِجْزَائِهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ لَوْ أُعْتِقَ بِالْأَدَاءِ .

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ : فَهُوَ الْمَنْعُ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الرَّقَبَةِ عَلَى الْمُكَاتَبِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَمْلِكُ رَقَبَةً لَمْ يَحْنَثْ بِمِلْكِ الْمُكَاتَبِ، وَلَوْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الرَّقَبَةِ لَكَانَ مَخْصُوصًا بِمَا ذَكَرْنَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنْ لَا يُعْتقَ مِنْهُ بِقَدْرِ أَدَائِهِ لَا أَنَّهُ كَالْعَبْدِ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْعَبْدِ فَالْمَعْنَى فِيهِ جَوَازُ بَيْعِهِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِعِلَّةِ أَنَّهُ عَقْدٌ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ فَمُنْتَقِضٌ بِمَنْ أَدَّى بَعْضَ نُجُومِهِ، ثُمَّ الْمَعْنَى بِشَرْطِ الْخِيَارِ جَوَازُ تَصَرُّفِ الْبَائِعِ فِيهِ بِغَيْرِ الْعِتْقِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْعِتْقِ بِصِفَةٍ فَالْمَعْنَى فِيهِ جَوَازُ تَصَرُّفِهِ فِيهِ بِالْمَبِيعِ وَغَيْرِهِ وَتَمَلُّكِ أَكْسَابِهِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْمَرْهُونِ، فَلِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي عِتْقِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يَنْفَذُ عِتْقُهُ مُعْسِرًا كَانَ أَوْ مُوسِرًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَنْفَذُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا . وَالثَّالِثُ : يَنْفَذُ عِتْقُهُ مَعَ يَسَارِهِ وَلَا يَنْفَذُ مَعَ إِعْسَارِهِ فَإِنْ مُنِعَ مِنْ نُفُوذِ عِتْقِهِ بَطَلَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ ، وَإِنْ قِيلَ بِنُفُوذِ عِتْقِهِ كَانَ الْمَعْنَى فِيهِ بَقَاؤُهُ عَلَى مِلْكِهِ، وَيَمْلِكُ كَسْبَهُ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ ، وَلِأَنَّ الْمَرْهُونَ يَسْتَوِي حُكْمُ عِتْقِهِ بَعْدَ أَدَاءِ بَعْضِ الْحَقِّ وَقَبْلَهُ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَسْتَوِيَ عِتْقُ الْمُكَاتَبِ بَعْدَ أَدَاءِ بَعْضِ النُّجُومِ وَقَبْلَهُ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ عِتْقَهُ مُوجِبٌ لِتَقْدِيمِ الْفَسْخِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عِتْقَهُ ( إِبْرَاءٌ ) وَلَيْسَ بِفَسْخٍ فَلَمْ يَسْلَمِ الِاسْتِدْلَالُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ كَانَ فَسْخًا لَاسْتَوَى حُكْمُهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَبَعْدَهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يُجْزِئُ أُمُّ وَلَدٍ فِي قَوْلِ مَنْ لَا يَبِيعُهَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ لَا يُجِيزُ بَيْعَهَا وَلَهُ بِذَلِكَ كِتَابٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يُجْزِئُ عِتْقُ أُمِّ الْوَلَدِ عَنِ الْكَفَّارَةِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا . وَقَالَ دَاوُدُ يَجُوزُ بَيْعُهَا وَعِتْقُهَا عَنِ الْكَفَّارَةِ وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ : يَجُوزُ عِتْقُهَا عَنِ الْكَفَّارَةِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا . وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ فَاسِدٌ وَإِبْطَالُ بَيْعِهَا يَأْتِي مِنْ بَعْدُ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ عِتْقَهَا لَا يُجْزِئُ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ فِي غَيْرِ الْكَفَّارَةِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَارِيَةَ : أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا

أَيِ اسْتَحَقَّتْ عِتْقَهَا بِوَلَدِهَا لِأَنَّ تَجْوِيزَ عِتْقِهَا يَكُونُ بِمَوْتِهِ، وَعِتْقُ الْكَفَّارَةِ مَا اخْتَصَّ بِهَا وَلَا يُسْتَحَقُّ بِغَيْرِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ اسْتِيلَادَهَا نَقْصٌ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ قُتِلَتْ وَجَبَ عَلَى قَاتِلِهَا قِيمَتُهَا نَاقِصَةً بِالِاسْتِيلَادِ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ كَمَالُ الْقِيمَةِ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ نَقْصًا كَانَ كَالزَّمَانَةِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ عِتْقِ الْكَفَّارَةِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُدَبَّرُ فَيُجْزِئُ عِتْقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا يُجْزِيهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ كَأُمِّ الْوَلَدِ وَبَنَوْا ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِمْ فِي أَنَّ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ لَا يَجُوزُ إِلْحَاقًا بِأُمِّ الْوَلَدِ . وَعِنْدَنَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إِلْحَاقًا بِالْمُعْتَقِ بِصِفَةٍ، وَالْكَلَامُ عَلَى بَيْعِهِ يَأْتِي . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَعْتَقَ مَرْهُونًا أَوْ جَانِيًا فَأَدَّى الرَّهْنَ وَالْجِنَايَةَ أَجْزَأَهُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا عِتْقُ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ عَنِ الْكَفَّارَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهِ ثَلَاثَةَ أَقَاوِيلَ، قَدَّمْنَا تَوْجِيهَهَا فِي كِتَابِ الرَّهْنِ . أَحَدُهَا : أَنَّ عِتْقَهُ لَا يَصِحُّ مَعَ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ . وَالثَّانِي : يَصِحُّ مَعَ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ . وَالثَّالِثُ : يَصِحُّ مَعَ الْيَسَارِ وَلَا يَصِحُّ مَعَ الْإِعْسَارِ، فَإِنْ أُبْطِلَ الْعِتْقُ فَالْكَفَّارَةُ بَاقِيَةٌ وَالْعَبْدُ رَهْنٌ بِحَالِهِ، وَإِنْ صَحَّ الْعِتْقُ بَطَلَ الرَّهْنُ وَأَجْزَأَهُ عِتْقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ كَامِلُ الْمِلْكِ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ الْعِتْقَ، بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ وَيُؤْخَذُ مِنَ الرَّاهِنِ الْمُعْتِقِ قِيمَتُهُ، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ حَالًّا جَعَلْتَهُ قِصَاصًا وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَجْعَلَهَا رَهْنًا مَكَانَهُ أَوْ يَجْعَلَهَا قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ فَإِنْ أُعْسِرَ بِهَا أُنْظِرَ إِلَى مَعْسَرَتِهِ، ثُمَّ غُرِّمَ مِنْ بَعْدِ يَسَارِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ . فَصْلٌ : وَأَمَّا عِتْقُ الْعَبْدِ الْجَانِي عَنِ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ فَكَاكِهِ مِنَ الْجِنَايَةِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ يَنْفَذُ عِتْقُهُ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : لَا يَنْفَذُ عِتْقُهُ، فَقَدْ ذَكَرَ فِي نُفُوذِ عِتْقِهِ قَوْلَيْنِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَحَلِّ الْقَوْلَيْنِ عَلَى ثَلَاثِ طُرُقٍ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْقَوْلَانِ فِي جِنَايَةِ الْخَطَأِ ، فَأَمَّا جِنَايَةُ الْعَمْدِ فَيَنْفَذُ عِتْقُهُ قَوْلًا وَاحِدًا . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْقَوْلَانِ فِي جِنَايَةِ الْعَمْدِ فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ خَطَأً فَلَا يَنْفَذُ عِتْقُهُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْقَوْلَانِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ مَعًا، فَإِنْ سَوَّيْنَا بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ سَوَّيْنَا بَيْنَ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ ، وَإِنْ فَرَّقْنَا بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ فَفِي تَفْرِيقِنَا بَيْنَ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : لَا فَرْقَ بَيْنَ يَسَارِ السَّيِّدِ وَإِعْسَارِهِ إِلَّا فِي تَعْجِيلِ الْغُرْمِ بِالْيَسَارِ وَإِنْظَارِهِ بِالْإِعْسَارِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ فَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنْ كَانَ مُوسِرًا نَفَذَ عِتْقُهُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ ، فَإِذَا صَحَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَرْتِيبِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ وَفِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْعِتْقَ قَدْ نَفَذَ أَجَزْأَهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ ؛ لِأَنَّهُ عِتْقٌ لَا يُسْتَحَقُّ فِي غَيْرِ الْكَفَّارَةِ، وَكَانَ الْمُعْتِقُ ضَامِنًا لِأَرْشِ جِنَايَتِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ فَمَا دُونَ ضَمِنَ جَمِيعَهَا ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْرُ قِيمَتِهِ لَا غَيْرَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بِيعَ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنْ يَضْمَنَ أَرْشَ الْجِنَايَةِ كُلَّهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مُكِّنَ مِنْ بَيْعِهِ لَجَازَ أَنْ يُوجَدَ رَاغِبٌ يَشْتَرِيهِ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْعِتْقَ لَا يَنْفَذُ فِي الْحَالِ فَهَلْ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى أَدَاءِ الْأَرْشِ أَمْ لَا، عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، يَكُونُ مَوْقُوفًا، فَإِنْ أَدَّى السَّيِّدُ مَالَ الْجِنَايَةِ عُتِقَ حِينَئِذٍ وَأَجْزَأَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ، وَإِنْ بِيعَ فِيهَا بَطَلَ، وَكَذَلِكَ الْمَرْهُونُ، تَمَسُّكًا بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَإِنْ أَدَّى الرَّهْنَ وَالْجِنَايَةَ أَجْزَأَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا : أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَوْقُوفًا وَيَكُونُ بَاطِلًا مُرَاعَاةً ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ النَّاجِزَ لَا يُوقَفُ، وَالْمَوْقُوفُ مَا عُلِّقَ بِالصِّفَاتِ، وَهَذَا غَيْرُ مُعَلَّقٍ بِصِفَةٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا، وَحَمَلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ فَإِنْ أَدَّى أَجْزَأَهُ عَلَى إِجْزَاءِ الْأَدَاءِ دُونَ الْعِتْقِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَ ( قَالَ ) وَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ غَائِبًا فَهُوَ عَلَى غَيْرِ يَقِينٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لَا يَخْلُو حَالُ الْعَبْدِ الْغَائِبِ إِذَا أَعْتَقَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِحَيَاتِهِ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ بِهَا ، فَإِنْ عَلِمَ حَيَاتَهُ حِينَ أَعْتَقَهُ أَجْزَأَهُ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ بِالْغَيْبَةِ بِإِبَاقٍ أَوْ غَيْرِ إِبَاقٍ : لِأَنَّ الْعِتْقَ صَادَفَ مِلْكًا تَامًّا، وَمَنَافِعُ الْعَبْدِ فِي الْغَيْبَةِ كَامِلَةٌ، وَقَدْ مَلَكَهَا بِالْعِتْقِ بَعْدَ أَنْ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا بِالْإِبَاقِ، وَسَوَاءٌ عَلِمَ بِالْعِتْقِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي نُفُوذِ الْعِتْقِ، فَلَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي حُصُولِ الْإِجْزَاءِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِحَيَاتِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْلَمَ بِهَا بَعْدَ الْعِتْقِ فَيُجْزِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ مُصَادَفَتِهَا لِمِلْكٍ تَامٍّ .

وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَعْلَمَ بِحَيَاتِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَا هُنَا : فَهُوَ عَلَى غَيْرِ يَقِينٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ، فَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ عِتْقَهُ لَا يُجْزِيهِ، وَقَالَ فِي الزَّكَاةِ أَنَّ عَلَيْهِ زَكَاةَ فِطْرِهِ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ نَقَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَوَابَيْنَ إِلَى الْآخَرِ وَخَرَّجَ إِجْزَاءَ عِتْقِهِ وَوُجُوبَ زَكَاتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُجْزِئُ عِتْقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ وَتَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ لِأَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ حَيَاتِهِ وَفِي شَكٍّ مِنْ مَوْتِهِ، فَحَمَلَ الْأَمْرَيْنِ عَلَى يَقِينِ الْحَيَاةِ دُونَ الشَّكِّ فِي الْمَوْتِ . وَالْقَوْلُ الْآخَرُ : أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ عِتْقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَفَّارَةِ وُجُوبُهَا فِي ذِمَّتِهِ فَلَمْ تَسْقُطْ بِالشَّكِّ ، وَالْأَصْلُ فِي الزَّكَاةِ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْهَا فَلَمْ تَجِبْ بِالشَّكِّ . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، أَنَّهُ لَا تُجْزِيهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا وَتَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ حَيًّا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَصْلَ ارْتِهَانُ ذِمَّتِهِ بِالْكَفَّارَةِ بِالظِّهَارِ الْمُتَحَقَّقِ، وَارْتِهَانُهَا بِالزَّكَاةِ بِالْمِلْكِ الْمُتَحَقَّقِ، فَلَمْ تَسْقُطِ الْكَفَّارَةُ بِالْحَيَاةِ الْمَشْكُوكِ فِيهَا، وَلَا الزَّكَاةُ بِالْمَوْتِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ سُقُوطَ الْكَفَّارَةِ حَقٌّ لَهُ، وَوُجُوبَ الزَّكَاةِ حَقٌّ عَلَيْهِ، وَهُوَ لَوْ شَكَّ فِي حَقٍّ لَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْطَعَ بِاسْتِحْقَاقِهِ وَلَوْ شَكَّ فِي حَقٍّ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْطَعَ بِسُقُوطِهِ . فَصْلٌ : وَلَوْ أَعْتَقَ عَنْ كَفَّارَتِهِ عَبْدًا مَغْصُوبًا نَفَذَ عِتْقُهُ ؛ لِأَنَّهُ صَادَفَ مِلْكًا تَامًّا . قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ : وَلَمْ يُجْزِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْغَصْبِ مَسْلُوبُ الْمَنْفَعَةِ، فَأَشْبَهَ الزَّمِنَ فِي نُفُوذِ الْعِتْقِ وَعَدَمِ الْإِجْزَاءِ . وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ الْإِجْزَاءَ مُعْتَبَرٌ بِأَنْ يُنْظَرَ حَالُ الْعَبْدِ ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْ غَاصِبِهِ بِالْهَرَبِ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى سَيِّدِهِ أَجْزَأَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَنَافِعِ نَفْسِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخَلَاصِ وَالْهَرَبِ فَالْإِجْزَاءُ مَوْقُوفٌ ، فَإِنْ قَدَرَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْخَلَاصِ بِمَوْتِ الْغَاصِبِ أَوْ عَجْزِهِ أَجْزَأَهُ حِينَئِذٍ عَنِ الْكَفَّارَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخَلَاصِ حَتَّى مَاتَ لَمْ يُجْزِهِ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ إِجْزَاؤُهُ مَوْقُوفًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِتْقُهُ مَوْقُوفًا كَالْغَائِبِ إِذَا عُلِمَ بِحَيَاتِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ . فَصْلٌ : وَلَوْ أَعْتَقَ حَمْلَ جَارِيَةٍ لَهُ كفارة العتق عِتْقُ الْحَمْلِ دُونَ أُمِّهِ، وَلَمْ يُجْزِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ ؛ لِعِلَّتَيْنِ ذَكَرَهُمَا الشَّافِعِيُّ :

أَحَدُهُمَا : لِأَنَّهُ مَشْكُوكُ الْحَالِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ حَمْلًا صَحِيحًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ غَلَطًا أَوْ رِيحًا . وَالثَّانِيَةُ : أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ إِلَى الدُّنْيَا فَيَجْرِي عَلَيْهِ الْإِجْزَاءُ وَلِهَاتَيْنِ الْعِلَّتَيْنِ لَمْ نُوجِبْ عَلَيْهِ زَكَاةَ الْفِطْرِ ، فَلَوْ سَقَطَ الْحَمْلُ حَيًّا لَمْ يُجْزِهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَمْلِ إِذَا وُضِعَ وَبَيْنَ الْمَغْصُوبِ إِذَا خُلِّصَ أَنَّ الْمَنَافِعَ فِي الْمَغْصُوبِ مَوْجُودَةٌ وَإِنْ مُنِعَ مِنْهَا، وَفِي الْحَمْلِ مَعْدُومَةٌ ، وَلَوْ أَعْتَقَ الْأُمَّ عُتِقَتْ مَعَ حَمْلِهَا ، وَكَانَ الْإِجْزَاءُ مُخْتَصًّا بِعِتْقِ الْأُمِّ دُونَ الْحَمْلِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ عِتْقِ الْأُمِّ حَيْثُ سَرَى إِلَى حَمْلِهَا وَبَيْنَ عِتْقِ الْحَمْلِ حَيْثُ لَمْ يَسْرِ إِلَى أُمِّهِ أَنَّ الْحَمْلَ تَابِعٌ وَالْأُمَّ مَتْبُوعَةٌ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوِ اشْتَرَى مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ كفارة العتق لَمْ يُجْزِئْهُ لِأَنَّهُ عُتِقَ بِمِلْكِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الَّذِينَ يُعْتِقُونَ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ فَهُمُ الْوَالِدُونَ مِنَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ ، وَالْمَوْلُودُونَ مِنَ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ وَأَوْلَادِ الْبَنِينَ وَأَوْلَادِ الْبَنَاتِ، وَلَا يُعْتَقُ مَنْ عَدَا هَذَيْنِ الطَّرَفَيْنِ مِنَ الْأَقَارِبِ وَالْعَصَبَاتِ ، فَإِذَا اشْتَرَى أَحَدَ هَؤُلَاءِ بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ عَتَقُوا عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ وَلَمْ يُجْزِهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إِذَا اشْتَرَى أَحَدَهُمْ بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ أَجْزَأَهُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهَا رَقَبَةٌ سَلِيمَةٌ صَادَفَتْ نِيَّةَ الْحُرِيَّةِ بِسَبَبِ الْعِتْقِ، فَوَجَبَ أَنْ تُجْزِئَهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ كَالْعَبْدِ الْقِنِّ ، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ بِالْمِلْكِ أَقْوَى مِنَ الْعِتْقِ بِالْمُبَاشَرَةِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مُتَحَتِّمٌ، وَبِالْمُبَاشَرَةِ مُخَيَّرٌ، فَلَمَّا أَجْزَأَهُ عِتْقُ الْمُبَاشَرَةِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يُجْزِيَهِ عِتْقُ الْمِلْكِ ، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ بِالْمِلْكِ قُرْبَةٌ وَعِتْقَ الْكَفَّارَةِ قُرْبَةٌ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ فَكَانَ اجْتِمَاعُهُمَا أَوْلَى بِالْإِجْزَاءِ ، وَلِأَنَّ تَرَادُفَ الْقُرَبِ فِي الْمَحَلِّ الْوَاحِدِ لَا تَمْنَعُ مِنَ الْإِجْزَاءِ ؛ كَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ شَهْرًا بِصَوْمٍ فَاعْتَكَفَ شَهْرَ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ وَعَنْ نَذْرِهِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُحَرِّرَ عِتْقَ رَقَبَةٍ وَهَذَا عِتْقٌ بِغَيْرِ تَحْرِيرٍ فَلَمْ يُجْزِهِ لِإِخْلَالِهِ بِشَرْطِ الْعِتْقِ ، وَلِأَنَّهُ عِتْقٌ ثَبَتَ بِحَقِّ الِاسْتِيلَاءِ فَلَمْ يُجْزِهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ كَأُمِّ الْوَلَدِ ، وَلِأَنَّهُ عِتْقٌ مُسْتَحَقٌّ بِالْقَرَابَةِ فَلَمْ يُجْزِهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ كَمَا لَوْ مَلَكَهُ بِالْإِرْثِ فَنَوَى بِهِ الْكَفَّارَةَ مَعَ الْإِرْثِ، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ الْمُسْتَحَقَّ بِسَبَبٍ إِذَا صُرِفَ بِالنِّيَّةِ عَنْ ذِكْرِ السَّبَبِ إِلَى الْكَفَّارَةِ لَمْ يُجْزِهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : إِذَا دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ نَوَى قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ أَنْ يَصِيرَ بِدُخُولِهَا حُرًّا عَنْ كَفَّارَتِهِ لَمْ يُجْزِهِ ، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ تَكْفِيرٌ

فَلَمْ يَجُزْ صَرْفُهُ إِلَى الْوَالِدِ كَالطَّعَامِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ بِأَنَّهَا رَقَبَةٌ سَلِيمَةٌ كَالْعَبْدِ الْقِنِّ فَهُوَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ لَهُمْ أَنَّهَا رَقَبَةٌ سَلِيمَةٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْعِتْقِ كَمَا لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ، ثُمَّ يَنْتَقِضُ بِمَنْ قَالَ : إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ إِنْ مَلَكْتُ سَالِمًا أَنْ أُعْتِقَهُ فَمَلَكَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتِقَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ وَهُوَ سَلِيمٌ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْعَبْدِ الْقِنِّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَبْقِيَهُ فَجَازَ أَنْ يُعْتِقَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَبْقِيَ أَبَاهُ عَبْدًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتِقَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّ الْعِتْقَ بِالْمِلْكِ أَقْوَى مِنْهُ بِالْمُبَاشَرَةِ لِانْحِتَامِهِ فَهُوَ فَسَادُهُ بِأُمِّ الْوَلَدِ، ثُمَّ حَقُّ الْمُبَاشَرَةِ بِالْعِتْقِ أَقْوَى ؛ لِأَنَّهُ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إِلَى التَّطَوُّعِ إِنْ شَاءَ وَإِلَى الْوَاجِبِ إِنْ أَحَبَّ وَلَيْسَ كَالْعِتْقِ بِالْمِلْكِ الَّذِي لَا يَقِفُ عَلَى خِيَارِهِ فِي التَّطَوُّعِ فَلَمْ يَقِفْ عَلَى خِيَارِهِ فِي الْوُجُوبِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : إِنَّهُمَا قُرْبَتَانِ فَلَمْ يَتَنَافَيَا فَهُوَ فَسَادُهُ بِمَا ذَكَرْنَا فِيمَنْ نَذَرَ عِتْقَ سَالِمٍ إِنِ اشْتَرَاهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُكَفِّرَ بِهِ، وَإِنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ قُرْبَتَانِ ، وَمَا اسْتَشْهَدُوا بِهِ فِيمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِصَوْمٍ فَاعْتَكَفَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ بِأَنْ يَكُونَ صَوْمُهُ مُجْزِيًا عَنْ رَمَضَانَ دُونَ نَذْرِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَتْ زَوْجَتُهُ أَمَةً فَاشْتَرَاهَا بَطَلَ النِّكَاحُ بِالشِّرَاءِ فَإِنْ أَعْتَقَهَا عَنْ كَفَّارَتِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَظْهَرَ بِهَا حَمْلٌ أَوْ لَا يَظْهَرُ بِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ بِهَا أَجْزَأَهُ عِتْقُهَا عَنْ كَفَّارَتِهِ لِأَنَّهَا كَسَائِرِ رَقِيقِهِ ، وَإِنْ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَطِئَهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ أَوْ لَمْ يَطَأْ ، فَإِنْ لَمْ يَطَأْ بَعْدَ الشِّرَاءِ نَظَرَ ؛ فَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ أَلْحَقَ بِهِ الْوَلَدَ وَعَتَقَ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ، وَأَجْزَأَهُ عِتْقُ الْأُمِّ لِأَنَّهَا عُلِّقَتْ بِهِ مِنْ عَقْدِ نِكَاحٍ فَلَمْ تَصِرْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ . وَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ لَمْ يُلْحَقْ بِهِ، وَأَجْزَأَهُ عِتْقُ الْأُمِّ عَنْ كَفَّارَتِهِ وَعُتِقَ الْوَلَدُ بِعِتْقِ أُمِّهِ وَهُوَ حَمْلٌ . وَإِنْ كَانَ قَدْ وَطِئَهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ فَلَا يَخْلُو حَالُ وَضْعِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَضَعَهُ لِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مَنْ وَقْتِ الْوَطْءِ، فَيَكُونُ لَاحِقًا بِهِ مِنْ عَقْدِ نِكَاحٍ لَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ فَيُجْزِئُهُ عِتْقُ الْأُمِّ عَنْ كَفَّارَتِهِ وَيُعْتَقُ الْوَلَدُ بِالْمِلْكِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مَنْ وَقْتِ الْوَطْءِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ وَيُجْزِيهِ عِتْقُ الْأُمِّ عَنْ كَفَّارَتِهِ، وَيُعْتَقُ الْوَلَدُ تَبَعًا لِأُمِّهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَضَعَهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا بَعْدَ وَطْئِهِ فَيُلْحَقُ بِهِ عَنْ وَطْءٍ فِي مِلْكِهِ فَلَا يُجْزِيهِ عِتْقُ الْأُمِّ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَيَكُونُ الْوَلَدُ مَخْلُوقًا حُرًّا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ عَنْ ظِهَارِهِ وَهُوَ مُوسِرٌ أَجْزَأَ عَنْهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَعْتِقَ، وَلَا يُرَدُّ عِتْقُهُ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا عَتَقَ نِصْفَهُ، فَإِنْ أَفَادَ وَاشْتَرَى النِّصْفَ الثَّانِيَ وَأَعْتَقَهُ أَجْزَأَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَعْتَقَ الْمُكَفِّرَ عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ نَاوِيًا بِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بِقِيمَةِ حِصَّةِ شَرِيكِهِ عُتِقَ عَلَيْهِ جَمِيعُهُ، أَمَّا نَصِيبُهُ مِنْهُ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ، وَأَمَّا نَصِيبُ شَرِيكِهِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : يُعْتَقُ بِاللَّفْظِ أَيْضًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : بِاللَّفْظِ وَدَفْعِ الْقِيمَةِ مَعًا . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى، فَإِنْ دَفَعَ الْقِيمَةَ بَانَ عِتْقُهُ بِاللَّفْظِ، وَإِنْ لَمْ يَدْفَعِ الْقِيمَةَ لَمْ يُعْتَقْ، وَلِتَوْجِيهِ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ مَوْضِعٌ . فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلُ الثَّلَاثَةُ تَفَرَّعَ حُكْمُ الْعِتْقِ وَالْإِجْزَاءِ عَلَيْهَا ، فَإِذَا قُلْنَا : إِنَّ الْعِتْقَ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ وَاقِعٌ بِاللَّفْظِ، أَوْ قُلْنَا إِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى دَفْعِ الْقِيمَةِ، فَدَفَعَهَا وَعَتَقَ بِاللَّفْظِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عِتْقِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ الْوَاقِعِ بِاللَّفْظِ هَلْ هُوَ عِتْقُ مُبَاشَرَةٍ أَوْ عِتْقُ سِرَايَةٍ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عِتْقُ مُبَاشَرَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ نَصِيبُ نَفْسِهِ يُعْتَقُ بِالْمُبَاشَرَةِ لِوُقُوعِهِ بِاللَّفْظِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ عِتْقٌ بِالسَّرَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِنَصِيبِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ لِيَكُونَ الْمَتْبُوعُ مُتَقَدِّمًا . فَإِذَا صَحَّ هَذَانِ الْوَجْهَانِ نُظِرَ ؛ فَإِنْ نَوَى عِتْقَ جَمِيعِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ عِنْدَ لَفْظِهِ بِعِتْقِهِ أَجْزَأَهُ عِتْقُهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ مُسْتَقِرٌّ عَلَى أَنَّ الْمُعْتِقَ لِحِصَّتِهِ مِنْ غَيْرِ مُشْتَرِكٍ كَالْمُعْتِقِ لِجَمِيعِهِ إِذَا كَانَ مُوسِرًا ، وَإِنْ نَوَى عِتْقَ حِصَّتِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فِي حِصَّةِ شَرِيكِهِ فَقَدْ أَجْزَأَهُ عِتْقُ نَصِيبِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ لِوُجُودِ نِيَّتِهِ مَعَ التَّلَفُّظِ بِعِتْقِهِ، وَفِي إِجْزَاءِ مَا عُتِقَ عَلَيْهِ مِنْ حِصَّةِ شَرِيكِهِ وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ هَلْ يُعْتَقُ بِالْمُبَاشَرَةِ أَوْ بِالسَّرَايَةِ ، فَإِنْ قِيلَ يُعْتَقُ بِالْمُبَاشَرَةِ أَجْزَأَتْهُ نِيَّتُهُ فِي حِصَّتِهِ عَنِ النِّيَّةِ فِي حِصَّةِ شَرِيكِهِ . وَإِنْ قِيلَ يُعْتَقُ بِالسِّرَايَةِ لَمْ يُجْزِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَالِكًا لِجَمِيعِ الْعَبْدِ فَأَعْتَقَ نِصْفَهُ يَنْوِي بِنِصْفِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ عُتِقَ عَلَيْهِ جَمِيعُهُ وَأَجْزَأَهُ مِنْهُ النِّصْفُ الَّذِي نَوَاهُ وَفِي إِجْزَاءِ نِصْفِهِ الْبَاقِي وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُجْزِئُ وَيَكُونُ عِتْقَ مُبَاشَرَةٍ .

وَالثَّانِي : لَا يُجْزِئُ وَيَكُونُ عِتْقَ سِرَايَةٍ . فَصْلٌ : إِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّالِثِ : أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ إِلَّا بِاللَّفْظِ وَدَفْعِ الْقِيمَةِ فَإِذَا دَفَعَ الْقِيمَةَ عَتَقَ، وَكَانَ عِتْقًا بِالسِّرَايَةِ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا، وَتُعْتَقُ حِصَّتُهُ بِالْمُبَاشَرَةِ ، فَأَمَّا نِيَّةُ التَّكْفِيرِ فَمُعْتَبَرَةٌ فِي حِصَّتِهِ مَعَ التَّلَفُّظِ بِعِتْقِهِ وَفِي اعْتِبَارِهَا فِي حِصَّةِ شَرِيكِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : مَعَ دَفْعِ الْقِيمَةِ : لِأَنَّهُ وَقْتُ نُفُوذِ الْعِتْقِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَقْتُ اللَّفْظِ لِيَقْتَرِنَ بِسَبَبِ الْعِتْقِ وَلَا يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ فَلَا يُجْزِئُ كَمَا لَا يُجْزِئُ عِتْقُ الْوَالِدِ لِتَقَدُّمِ سَبَبِهِ عَلَى نِيَّتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَنْوِيَ مَعَ اللَّفْظِ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْعِتْقِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْوِيَ مَعَ دَفْعِ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ وَقْتُ نُفُوذِ الْعِتْقِ . وَأَرَى وَجْهًا رَابِعًا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ النِّيَّةِ مَعَ لَفْظِ الْعِتْقِ وَالنِّيَّةِ مَعَ دَفْعِ الْقِيمَةِ : لِأَنَّ الْعِتْقَ إِذَا وَقَعَ بِسَبَبَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَخْتَصَّ النِّيَّةُ بِأَحَدِهِمَا فَإِنْ نَوَى عِنْدَ أَحَدِهِمَا لَمْ يُجْزِهِ . فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا عُتِقَ نَصِيبُهُ مِنْهُ وَلَمْ يُعْتَقْ نَصِيبُ شَرِيكِهِ، وَأَجْزَاهُ عِتْقُ النِّصْفِ الَّذِي مَلَكَهُ، وَكَانَ الْبَاقِي مِنْهُ عَلَى رِقِّهِ، فَإِنْ بَقِيَ عَلَى إِعْسَارِهِ وَأَرَادَ أَنْ يُتِمَّ التَّكْفِيرَ بِالصِّيَامِ أَوِ الْإِطْعَامِ لَمْ يَجُزْ إِذَا أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدٍ أَنْ يَصُومَ شَهْرًا أَوْ يُطْعِمَ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا ؛ لِيَكُونَ نِصْفُ التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ وَنَصِفُهُ بِالصِّيَامِ أَوِ الْإِطْعَامِ ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَتَبَعَّضُ فِي جِنْسَيْنِ ، وَقِيلَ : عَلَيْكَ أَنْ تُكْمِلَ التَّكْفِيرَ بِالصِّيَامِ أَوِ الْإِطْعَامِ، فَتَصُومَ شَهْرَيْنِ أَوْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي نِصْفِ الْعِتْقِ الَّذِي قَدَّمَهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عِتْقٌ نَافِدٌ فِي التَّكْفِيرِ وَكَمَّلَهُ بِصَوْمِ شَهْرَيْنِ لِئَلَّا يَتَبَعَّضَ الصِّيَامُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَصِيرُ تَطَوُّعًا وَيَكُونُ التَّكْفِيرُ بِصَوْمِ الشَّهْرَيْنِ لِأَنَّ الصَّوْمَ كَفَّارَةٌ كَامِلَةٌ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهَا فَصَارَ مَا تَقَدَّمَهَا تَطَوُّعًا ، وَإِنْ أَيْسَرَ بَعْدَ إِعْسَارِهِ فَهَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْعِتْقِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَلْزَمُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْعِتْقِ إِذَا قِيلَ أَنَّ الْمُرَاعَى بِالْكَفَّارَةِ حَالُ الْوُجُوبِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَى مَا مَضَى . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَلْزَمُهُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْعِتْقِ إِذَا قِيلَ أَنَّ الْمُرَاعَى بِالْكَفَّارَةِ حَالُ الْأَدَاءِ، فَعَلَى هَذَا إِنِ اشْتَرَى نِصْفَهُ الَّذِي أَعْتَقَ نِصْفَهُ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ بِالشِّرَاءِ لِاسْتِقْرَارِ رِقِّهِ بَعْدَ مَا عَتَقَ مِنْهُ وَخَالَفَ حَالُ يَسَارِهِ وَقْتَ عِتْقِهِ، فَإِذَا أَعْتَقَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ أَجْزَأَهُ، وَقَدْ تَكَمَّلَ لَهُ عِتْقُ عَبْدٍ عَنْ كَفَّارَتِهِ فَأَجْزَأَهُ، وَإِنْ فَرَّقَ الْعِتْقَ، كَمَا يُجْزِئُ تَفْرِيقُ الطَّعَامِ . وَإِنِ اشْتَرَى نِصْفَ عَبْدٍ آخَرَ فَأَعْتَقَهُ حَتَّى يُكْمِلَ عِتْقَ رَقَبَةٍ مِنْ عَبْدَيْنِ فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : يُجْزِئُ لِكَمَالِ الْعِتْقِ الْمُسْتَحَقِّ وَإِنْ تَبَعَّضَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُجْزِئُ : لِأَنَّ فِي التَّبْعِيضِ نَقْصًا، وَعِتْقُ النَّاقِصِ غَيْرُ مُجْزِئٍ وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ : أَنَّهُ إِذَا أَعْتَقَ نِصْفَيْنِ مِنْ عَبْدَيْنِ بَاقِيهِمَا حُرٌّ أَجْزَأَهُ لِارْتِفَاعِ الضَّرَرِ عَنْهُمَا وَإِنْ كَانَ بَاقِيهِمَا مَمْلُوكًا لَمْ يُجْزِهِ لِدُخُولِ الضَّرَرِ عَلَيْهِمَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَعْتَقَهُ عَلَى أَنْ جَعَلَ لَهُ رَجُلٌ عَشْرَةَ دَنَانِيرَ لَمْ يُجْزِئْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : فِي رَجُلٍ عَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ عَنْ ظِهَارٍ، وَلَهُ عَبْدٌ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : أَعْتِقْ عَبْدَكَ هَذَا عَنْ ظِهَارِكَ عَلَى أَنَّ لَكَ عَلَيَّ عَشْرَةَ دَنَانِيرَ . فَلَا يَخْلُو حَالُهُ إِذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَنْ ظِهَارِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقُولَ قَدْ أَعْتَقْتُ عَبْدِي عَنْ ظِهَارِي عَلَى عَشْرَةِ دَنَانِيرَ لِي عَلَيْكَ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ عَنْ ظِهَارِهِ ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الظِّهَارِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا عَنْهُ، وَلَا يَكُونُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ الظِّهَارِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَهَذَا عِتْقٌ قَدْ جَعَلَهُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ الظِّهَارِ وَبَيْنَ أَخْذِ الْعِوَضِ عَنْهُ فَلَمْ يَخْلُصْ عَنِ الظِّهَارِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ عَنِ الظِّهَارِ، وَإِذَا لَمْ يُجْزِهِ عَنِ الظِّهَارِ صَارَ الْعِتْقُ وَاقِعًا عَنْ بَاذِلِ الْعِوَضِ وَعَلَيْهِ الْعَشْرَةُ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتِقَ صَرَفَ الْعِتْقَ إِلَى شَيْئَيْنِ إِلَى الظِّهَارِ وَإِلَى الْعِوَضِ فَإِذَا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ عَنِ الظِّهَارِ ثَبَتَ حُكْمُ الْآخَرِ وَهُوَ الْعِوَضُ فَصَارَ مُعْتِقًا عَبْدَ نَفْسِهِ بِعِوَضٍ عَلَى غَيْرِهِ فَوَقَعَ الْعِتْقُ عَنْ بَاذِلِ الْعِوَضِ، وَيَكُونُ لَهُ الْوَلَاءُ وَعَلَيْهِ مَا بَذَلَهُ مِنَ الْعِوَضِ، وَهُوَ الْعَشْرَةُ، قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ . فَصْلٌ : وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقُولَ الْمُعْتِقُ : قَدْ أَعْتَقْتُ عَبْدِي هَذَا عَنْ ظِهَارِي دُونَ عِوَضِكَ ، فَيُعْتَقُ عَنْ ظِهَارِهِ لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَهُ خَالِصًا عَنْهُ، وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى بَاذِلِ الْعِوَضِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رَدَّهُ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَقُولَ الْمُعْتِقُ : قَدْ أَعْتَقْتُ عَبْدِي هَذَا عَنْ ظِهَارِي وَيُمْسِكُ عَنْ ذِكْرِ الْعِوَضِ ، فَلَا يُصَرِّحُ بِإِثْبَاتِهِ وَلَا بِنَفْيهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُعْتِقَ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ وَخُرُوجِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلْبَاذِلِ لِلْبَذْلِ ، فَيُجْزِيهِ عِتْقُهُ عَنْ ظِهَارِهِ لَا يَخْتَلِفُ لِعِلَّتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : إِمْسَاكُهُ عَنْ ذِكْرِ الْعِوَضِ فِي عِتْقِهِ . وَالثَّانِيَةُ : خُرُوجُهُ عَنْ حُكْمِ الْجَوَابِ لِبُعْدِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُعْتِقَهُ فِي الْحَالِ عُقَيْبَ الْبَذْلِ فَفِيهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : يُجْزِيهِ عَنْ ظِهَارِهِ تَعْلِيلًا بِإِمْسَاكِهِ عَنْ ذِكْرِ الْعِوَضِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْبَاذِلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُجْزِيهِ عَنْ ظِهَارِهِ، وَيَكُونُ عَنِ الْبَاذِلِ وَعَلَيْهِ مَا بَذَلَ ؛ تَعْلِيلًا بِأَنَّ قُرْبَ الزَّمَانِ يُخْرِجُهُ مُخْرَجَ الْجَوَابِ فَصَارَ الْحُكْمُ مَصْرُوفًا إِلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَعْتَقَ عَنْهُ رَجُلٌ عَبْدًا بِغَيْرِ أَمْرِهِ كفارة العتق لَمْ يُجْزِئْهُ، وَالْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقُهُ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ بِأَمْرِهِ بِجُعْلٍ أَوْ غَيْرِهِ أَجْزَأَهُ وَالْوَلَاءُ لَهُ، وَهَذَا مِثْلُ شِرَاءِ مَقْبُوضٍ أَوْ هِبَةٍ مَقْبُوضَةٍ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) مَعْنَاهُ عِنْدِي أَنْ يُعْتِقَهُ عَنْهُ بِجُعْلٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ ؛ إِمَّا أَنْ يُعْتِقَهُ عَنْ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ ، فَإِنْ أَعْتَقَ عَنْ حَيٍّ لَمْ يَخْلُ عِتْقُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ الْمُعْتَقِ عَنْهُ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنٍ ، فَإِنْ أَعْتَقَهُ عَنْهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَانَ الْعِتْقُ وَاقِعًا عَنِ الْمُعْتِقِ دُونَ الْمُعَتَقِ عَنْهُ، سَوَاءٌ أَعْتَقَهُ عَنْهُ تَطَوُّعًا أَوْ عَنْ وَاجِبٍ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ أَعْتَقَهُ عَنْهُ تَطَوُّعًا لَمْ يُجْزِهِ، وَكَانَ الْعِتْقُ عَنِ الْمُعْتِقِ وَلَهُ الْوَلَاءُ ، فَإِنْ أَعْتَقَهُ عَنْ وَاجِبٍ جَازَ، وَكَانَ عَنِ الْمُعْتَقِ عَنْهُ وَلَهُ الْوَلَاءُ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَعْتَقَتْ عَبْدًا لَهَا عَنْ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَجَاءَ أَنْ يَنْفَعَهُ وَيَلْحَقَهُ ثَوَابُهُ ، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ الْوَاجِبَ كَالدَّيْنِ وَيَجُوزُ أَنْ يُقْضَى دَيْنُ الْحَيِّ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [ النَّجْمِ : ] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كِتَابُ اللَّهِ أَصْدَقُ وَشَرْطُهُ أَوْثَقُ وَالْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ . فَلَمْ يَجْعَلِ الْوَلَاءَ إِلَّا لِمُعْتِقٍ ، وَلِأَنَّ مَنْ أَعْتَقَ عَنْ نَفْسِهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لَمْ يُجْزِهِ، وَفِي عِتْقِ غَيْرِهِ عَنْهُ عِنْدَ عَدَمِ الْعِتْقِ مِنْهُ وَعَدَمِ النِّيَّةِ فَكَانَ بِأَنْ لَا يُجْزِيَهُ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ الْعِبَادَاتِ ضَرْبَانِ ؛ عَلَى بَدَنٍ وَفِي مَالٍ . فَأَمَّا عِبَادَاتُ الْأَبْدَانِ : كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ فَلَا تَصِحُّ فِيهَا النِّيَابَةُ بِحَالٍ ، وَأَمَّا عِبَادَاتُ الْأَمْوَالِ كَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ فَلَا تَصِحُّ فِيهَا النِّيَابَةُ بِغَيْرِ إِذَنٍ وَتَصِحُّ بِإِذْنٍ ، كَذَلِكَ الْعِتْقُ فِي الْكَفَّارَةِ عِبَادَةٌ فِي مَالٍ يَجِبُ أَنْ تَصِحَّ بِإِذْنٍ وَلَا تَصِحُّ بِغَيْرِ إِذْنٍ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ عِتْقِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ أَخِيهَا فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ تَطَوُّعٌ لِقَوْلِهَا رَجَاءَ أَنْ يَنْفَعَهُ وَيَلْحَقَهُ ثَوَابُهُ وَمَالِكٌ يَمْنَعُ مِنْ تَطَوُّعِ الْعِتْقِ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَلَوْ كَانَ عَنْ وَاجِبٍ لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ عَنْ إِذْنِهِ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بِوَصِيَّةٍ مِنْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ : فَهُوَ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ النِّيَّةُ وَلِذَلِكَ سَقَطَ بِالْإِبْرَاءِ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فِيهِ نِيَّةُ الْأَدَاءِ فَجَازَ لِعَدَمِ النِّيَّةِ فِيهِ أَنْ يُقْضَى عَنْهُ، وَالْعِتْقُ مُسْتَحَقٌّ فِيهِ النِّيَّةُ، فَلَمْ يَجُزْ مَعَ اسْتِحْقَاقِهَا أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ .

فَصْلٌ : وَإِنْ أُعْتِقَ عَنِ الْحَيِّ بِإِذْنِهِ كفارة العتق جَازَ وَكَانَ الْوَلَاءُ لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ سَوَاءً كَانَ الْعِتْقُ تَطَوُّعًا أَوْ وَاجِبًا، وَسَوَاءً أَعَتَقَ عَنْهُ بِجُعْلٍ أَوْ بِغَيْرِ جُعْلٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنْ أَعْتَقَهُ عَنْهُ بِجُعْلٍ جَازَ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ بِغَيْرِ جُعْلٍ لَمْ يَجُزِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَنْ جُعْلٍ فَهُوَ مَبِيعٌ، وَعِتْقُ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ يَجُوزُ ، وَإِذَا كَانَ بِغَيْرِ جُعْلٍ فَهُوَ هِبَةٌ، وَعِتْقُ الْمَوْهُوبِ قَبْلَ قَبْضِهِ لَا يَجُوزُ، وَلِأَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْهِبَةِ وَلَيْسَ بِالْعِتْقِ فِيهَا قَبْضًا ؛ لِأَنَّهُ بِتَسْلِيمِ الرَّقَبَةِ وَلَمْ يَحْصُلْ بِالْعِتْقِ تَسْلِيمٌ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ الْعِتْقَ فِي الشَّرْعِ قَدْ أُقِيمَ مُقَامَ الْقَبْضِ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنِ اشْتَرَى عَبْدًا لَوْ أَعْتَقَهُ فِي يَدِ بَائِعِهِ نَفَذَ عِتْقُهُ وَسَقَطَ عَنِ الْبَائِعِ ضَمَانُهُ، وَإِذَا كَانَ قَبْضًا فِي الْبَيْعِ صَارَ قَبْضًا فِي الْهِبَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي صِحَّةِ الْعِتْقِ . وَلِأَنَّ الْإِذْنَ فِي الْعِتْقِ يُحَصِّلُ اسْتِدْعَاءَ مُعَاوَضَةٍ تَفْتَقِرُ عِنْدَنَا إِلَى إِيجَابٍ وَقَبْضٍ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى إِيجَابٍ وَقَبُولٍ وَقَبْضٍ وَالْعِتْقُ قَائِمٌ مُقَامَ الْإِيجَابِ وَالْقَبْضِ عِنْدَنَا، وَقَائِمٌ مُقَامَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ عِنْدَهُمْ ، وَالْإِذْنُ فِي الْعِتْقِ بِغَيْرِ جُعْلٍ يُحَصِّلُ اسْتِدْعَاءَ هِبَةٍ يَفْتَقِرُ عِنْدَنَا إِلَى إِيجَابٍ وَقَبْضٍ وَعِنْدَهُمْ إِلَى إِيجَابٍ وَقَبُولٍ وَقَبْضٍ، وَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْعِتْقُ بَعْدَهَا قَائِمًا مُقَامَ الْإِيجَابِ وَالْقَبْضِ كَالْبَيْعِ ، وَفِي هَذَيْنِ الِاسْتِدْلَالَيْنِ انْفِصَالٌ عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنَ اسْتِدْلَالَيْنِ ، وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ إِذَا جَازَتْ بِفِعْلِ الْغَيْرِ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا بَدَلُ الْعِوَضِ كَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ ، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ مَعْنَاهُ عِنْدِي أَنْ يُعْتِقَهُ عَنْهُ بِجُعْلٍ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ مَعْنَاهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَهُوَ خَطَأٌ عَلَيْهِ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِإِبْطَالِهِ فِي قَوْلِهِ وَلَوْ أَعْتَقَهُ عَنْهُ بِأَمْرِهِ بِجُعْلٍ أَوْ غَيْرِهِ فَسَوَاءٌ فِي الْعِتْقِ عَنْهُ بِأَمْرِهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِجُعْلٍ أَوْ غَيْرِهِ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ فَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ . فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ جَوَازِ الْعِتْقِ عَنْهُ بِأَمْرِهِ بِجُعْلٍ أَوْ غَيْرِهِ ، فَإِنَّهُ بِالْجُعْلِ بَيْعٌ وَبِغَيْرِ الْجُعْلِ هِبَةٌ، فَهُوَ لَا يُعْتِقُهُ عَنْهُ إِلَّا وَقَدْ مَلَكَهُ ثُمَّ عَتَقَ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : مَتَى يَصِيرُ مَالِكًا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَتَبَيَّنُ بِالْعِتْقِ أَنَّهُ قَدْ كَانَ مَالِكًا لَهُ بِاسْتِدْعَاءِ الْعِتْقِ ثُمَّ عَتَقَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْمِلْكِ بِلَفْظِ الْعِتْقِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَمْلِكُهُ بِأَوَّلِ لَفْظِ الْعِتْقِ، وَيُعْتِقُ بِآخِرِ لَفْظِ الْعِتْقِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنْ يَقَعَ الْمِلْكُ وَالْعِتْقُ مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ بِلَفْظِ الْعِتْقِ فَمَنِ اشْتَرَى أَبَاهُ مَلَكَهُ وَعُتِقَ عَلَيْهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ . وَفِيهِ وَجْهٌ رَابِعٌ : قَالَهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ أَنَّهُ يَمْلِكُهُ بِلَفْظِ الْعِتْقِ وَيُعْتِقُ بَعْدَ

اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ ، [ وَكَذَلِكَ يَقُولُ فِيمَنِ اشْتَرَى أَبَاهُ أَنَّهُ يَمْلِكُهُ بِالشِّرَاءِ وَيُعْتِقُ عَلَيْهِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ ] . وَمِثَالُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافُ أَصْحَابِنَا فِيمَنْ دُعِيَ إِلَى أَكْلِ طَعَامٍ، مَتَى يَمْلِكُ مَا يَأْكُلُهُ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : يَمْلِكُ اللُّقْمَةَ إِذَا أَخَذَهَا بِيَدِهِ . وَالثَّانِي : إِذَا وَضَعَهَا فِي فَمِهِ . وَالثَّالِثُ : إِذَا ابْتَلَعَهَا ، فَإِذَا قُلْنَا : إِنَّهُ يَمْلِكُهَا إِذَا أَخَذَهَا بِيَدِهِ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُطْعِمَهَا غَيْرَهُ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَالِكَهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِي تَمَلُّكِهَا عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ كَالْعَارِيَةِ الَّتِي يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ مَنَافِعَهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعِيرَهَا غَيْرَهُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْعِتْقُ عَنِ الْمَيِّتِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ عَنْ وَصِيَّةٍ مِنْهُ، فَيَصِحُّ، سَوَاءً كَانَ تَطَوُّعًا أَوْ وَاجِبًا ؛ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ بِهِ تَقُومُ مُقَامَ مُبَاشَرَتِهِ لَهُ ، وَلَوْ بَاشَرَ عِتْقَ التَّطَوُّعِ صَحَّ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَوْصَى بِهِ يَجِبُ أَنْ يَصِحَّ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْعِتْقُ تَطَوُّعًا فَلَا يَصِحُّ عَنْهُ بِغَيْرِ وَصِيَّةٍ سَوَاءً كَانَ الْعِتْقُ مِنْ وَارِثٍ أَوْ غَيْرِ وَارِثٍ، وَوَقَعَ الْعِتْقُ عَنِ الْمَالِكِ الْمُعْتِقِ دُونَ الْمَيِّتِ الْمُعْتَقِ عَنْهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْعِتْقُ وَاجِبًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَجِبَ وُجُوبًا لَا تَخْيِيرَ فِيهِ كَالْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ، فَيَصِحُّ عَنِ الْمَيِّتِ بِوَصِيَّةٍ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَبِغَيْرِ وَصِيَّتِهِ مَنْ أَصْلِ تَرِكَتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهِ عَنْهُ وَارِثٌ أَوْ غَيْرُ وَارِثٍ بِأَمْرِهِ وَبِغَيْرِ أَمْرِهِ ، وَلِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ الْأَمْوَالِ فَأَشْبَهَ قَضَاءَ الدَّيْنِ وَيَكُونُ الْوَلَاءُ فِيهِ لِلْمَيِّتِ الْمُعْتَقِ عَنْهُ يَنْتَقِلُ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَى الْأَقْرَبِ مِنْ عَصَبَتِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِي الْعِتْقِ الْوَاجِبِ تَخْيِيرٌ ؛ مِثْلَ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ الَّتِي هُوَ مُخَيَّرٌ فِيهَا بَيْنَ الْعِتْقِ وَالْإِطْعَامِ وَالْكُسْوَةِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، فَيُنْظَرُ فِيهِ ؛ فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ الثَّلَاثَةِ قِيمَةً صَحَّ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَهَا قِيمَةً لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِنُقْصَانِهِ وَاجِبًا وَزِيَادَتِهِ تَطَوُّعًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِنْ مَالِ الْمُعْتِقِ فَفِي جَوَازِهِ عَنْهُ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : لَا يُجْزِئُ عَنْهُ وَيَكُونُ وَاقِعًا عَنِ الْمُعْتِقِ دُونَ الْمَيِّتِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتِقَ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُجْزِئُ عَنِ الْمَيِّتِ وَيَكُونُ لَهُ الْوَلَاءُ وَيَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى أَقْرَبِ عَصَبَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ عِتْقٌ وَاجِبٌ ، وَإِنْ وَقَعَ فِيهِ تَخْيِيرٌ لِسُقُوطِ الْوَاجِبِ بِهِ فَأَشْبَهَ مَا لَا تَخْيِيرَ فِيهِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَيْنِ عَنْ ظِهَارَيْنِ أَوْ ظِهَارٍ وَقَتْلٍ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْكَفَّارَتَيْنِ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ عَبْدًا تَامًّا ؛ نِصْفًا عَنْ وَاحِدَةٍ وَنِصْفًا عَنْ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ أُخْرَى نِصْفًا عَنْ وَاحِدَةٍ وَنِصْفًا عَنْ وَاحِدَةٍ فَكَمَلَ فِيهَا الْعِتْقُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : فِي رَجُلٍ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ إِمَّا مِنْ جِنْسَيْنِ، مِثْلَ كَفَّارَةِ قَتْلٍ وَكَفَّارَةِ ظِهَارٍ، أَوْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ؛ مِثْلَ كَفَّارَتَيْ قَتْلٍ أَوْ كَفَّارَتَيْ ظِهَارٍ، فَأَعْتَقَ عَنْهُمَا عَبْدَيْنِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُعْتِقَ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ بِعَيْنِهِ عَنْ إِحْدَى الْكَفَّارَتَيْنِ بِعَيْنِهَا، وَيُعْتِقَ الْعَبْدَ الْآخَرَ عَنِ الْكَفَّارَةِ الْأُخْرَى، فَهَذَا جَائِزٌ، وَيَكُونُ الْعِتْقُ فِيهِمَا عَلَى مَا عَيَّنَ وَنَوَى ، فَلَوْ أَرَادَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَنْقُلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَبْدَيْنِ إِلَى الْكَفَّارَةِ الْأُخْرَى لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ الْعِتْقُ نَافِذًا عَلَى التَّعْيِينِ الْأَوَّلِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُعْتِقَ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ عَنْ إِحْدَى الْكَفَّارَتَيْنِ لَا يُعَيِّنُهَا وَيُعْتِقَ الْعَبْدَ الْآخَرَ عَنِ الْكَفَّارَةِ الْأُخْرَى لَا يُعَيِّنُهَا فَيُجْزِيهِ أَيْضًا، سَوَاءً كَانَتِ الْكَفَّارَتَانِ عَنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ جِنْسَيْنِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنْ كَانَتَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَهُ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ ، وَإِنْ كَانَتَا مِنْ جِنْسَيْنِ لَمْ يُجْزِهِ حَتَّى يُعَيِّنَ اسْتِدْلَالًا : بِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَخْتَلِفُ فِي الْمُوجِبِ وَالْمُوجَبِ، فَافْتَقَرَتْ إِلَى التَّعْيِينِ كَالصَّلَاةِ، وَاخْتِلَافُهُمَا فِي الْمُوجِبِ أَنَّ إِحْدَاهُمَا عَنْ قَتْلٍ وَالْأُخْرَى عَنْ ظِهَارٍ وَاخْتِلَافُهُمَا فِي الْمُوجَبِ أَنَّ فِي إِحْدَاهُمَا إِطْعَامًا وَلَيْسَ فِي الْأُخْرَى إِطْعَامٌ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّهُ حَقٌّ يُؤَدَّى عَلَى وَجْهِ التَّكْفِيرِ، فَلَمْ يَلْزَمْ فِيهِ التَّعْيِينُ كَمَا لَوْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَتَيْنِ إِذَا اتَّفَقَتَا فِي الصُّورَةِ فَعَدَمُ التَّعْيِينِ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِجْزَاءِ كَالدِّمَاءِ فِي الْحَجِّ ، وَلِأَنَّ الْعِبَادَاتِ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا يَلْزَمُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِي الْمُخْتَلِفِ مِنْهُ وَالْمُؤْتَلِفِ، كَالصَّلَوَاتِ يَلْزَمُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِيمَا اخْتَلَفَ مِنْهَا كَالصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ، وَفِيمَا ائْتَلَفَ مِنْهَا كَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ . وَالثَّانِي : مَا لَا يَلْزَمُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِي الْمُخْتَلِفِ مِنْهُ وَالْمُؤْتَلِفِ ؛ كَالزَّكَوَاتِ، لَا يَلْزَمُ

تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِيمَا اخْتَلَفَ مِنْهَا كَمَنْ لَهُ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ مُهْرِيَّةٌ حَاضِرَةٌ، وَخَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ مُجَيْدِيَّةٌ غَائِبَةٌ فَأَخْرَجَ شَاتَيْنِ عَنْهُمَا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ أَجْزَأَ، كَمَا يُجْزِيهِ لَوْ كَانَتِ الْعَشْرُ مَنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ، فَلَمَّا لَمْ يَلْزَمُ فِي الْكَفَّارَةِ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِي الْمُؤْتَلِفِ لَمْ يَلْزَمْ تَعْيِينُهَا فِي الْمُخْتَلِفِ كَالزَّكَاةِ لِأَنَّهَا وَافَقَتْهَا فِي الْمُؤْتَلِفِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّهَا خَالَفَتْهَا فِي الْمُؤْتَلِفِ وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ تَعْيِينُهَا فِي الْجِنْسَيْنِ لَوَجَبَ إِذَا كَانَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ قَدْ شَكَّ فِيهَا ؛ هَلْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ عَنْ قَتْلٍ أَوْ ظِهَارٍ أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَيْنِ، كَمَا لَوْ شَكَّ هَلْ عَلَيْهِ ظُهْرٌ أَوْ عَصْرٌ يَقْضِي صَلَاتَيْنِ، وَقَدْ وَافَقَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا عِتْقُ عَبْدٍ وَاحِدٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ غَيْرُ وَاجِبٍ . فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ أَنْ يُعْتِقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَبْدَيْنِ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْكَفَّارَتَيْنِ فَيُعْتِقُ نِصْفَ سَالِمٍ عَنْ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَنِصْفَهُ عَنْ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَيُعْتِقُ نِصْفَ غَانِمٍ عَنْ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَنِصْفَهُ عَنْ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، فَهَذَا الْعِتْقُ مُجْزِئٌ عَنِ الْكَفَّارَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَعْتَقَ عَنْهُمَا عَبْدَيْنِ، لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ الْعِتْقُ مُبَعَّضًا عَلَى مَا يَرُدُّهُ أَوْ مُكَمِّلًا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ هَا هُنَا، أَنَّهُ يَكُونُ مُبَعَّضًا عَلَى مَا نَوَى ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ بِالتَّبْعِيضِ قَدْ كَمَلَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ أَنَّهُ يَكْمُلُ الْعِتْقُ فَيُجْعَلُ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ بِكَمَالِهِ عَنْ إِحْدَى الْكَفَّارَتَيْنِ وَالْعَبْدُ الْآخَرُ بِكَمَالِهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ الْأُخْرَى لِأَنَّ عِتْقَ بَعْضِ الْعَبْدِ يَسْرِي إِلَى جَمِيعِهِ فَلَمَّا امْتَنَعَ أَنْ يَتَبَعَّضَ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ امْتَنَعَ أَنْ يَتَبَعَّضَ فِي كَفَّارَتَيْنِ ، وَفَائِدَةُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِيمَنْ عَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ عَنْ كَفَّارَةٍ فَأَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدٍ وَنِصْفَ آخَرَ حَتَّى كَمَلَ عِتْقُ رَقَبَةٍ مِنْ عَبْدَيْنِ فَفِي إِجْزَائِهِمَا عَنْهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُجْزِيهِ إِذَا مُنِعَ مِنْ تَبْعِيضِ الْعِتْقِ هُنَاكَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُجْزِيهِ إِذَا جَوَّزُوا التَّبْعِيضَ هُنَاكَ . وَفِيهَا وَجْهٌ ثَالِثٌ : أَنَّهُ إِنْ أَعْتَقَ النِّصْفَ مِنْ عَبْدَيْنِ بَاقِيهِمَا حُرٌّ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ بَاقِيهِمَا مَمْلُوكًا لَمْ يُجْزِهِ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ بَاقِيهِمَا حُرًّا جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْأَحْرَارِ فَيُوجَدُ مَقْصُودُ الْعِتْقِ فِيهِمَا وَإِذَا كَانَ بَاقِيهِمَا مَمْلُوكًا جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْعَبِيدِ فَلَمْ يُوجَدْ مَقْصُودُ الْعِتْقِ فِيهَا . وَمِثَالُ ذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ : أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ شَاةٌ فِي خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ، فَيُخْرِجَ نِصْفَيْ شَاتَيْنِ ؛ نِصْفًا مِنْ شَاةٍ وَنِصْفًا مِنْ أُخْرَى، فَفِي إِجْزَائِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : يُجْزِيهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَخْرَجَ شَاةً .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُجْزِيهِ لِمَا أَدْخَلَ عَلَى الْفُقَرَاءِ مِنْ سُوءِ الْمُشَارَكَةِ حَتَّى يُخْرِجَ شَاةً كَامِلَةً . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : إِنْ كَانَ بَاقِي الشَّاتَيْنِ مِلْكًا لِلْفُقَرَاءِ أَجْزَأَهُ لِارْتِفَاعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِمْ لَمْ يُجْزِ ؛ لِدُخُولِ الضَّرَرِ عَلَيْهِمْ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَ مِمَّنْ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فَصَامَ شَهْرَيْنِ عَنْ إِحْدَاهُمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ وَكَذَلِكَ لَوْ صَامَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ عَنْهُمَا أَجْزَأَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا كَانَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ مِنْ جِنْسٍ أَوْ جِنْسَيْنِ ، فَإِنَّهُمَا عِنْدَنَا سَوَاءٌ فَلَهُ فِيهِمَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ فِيهِمَا وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى عِتْقِ رَقَبَتَيْنِ فَعَلَيْهِ عِتْقُهُمَا عَلَى مَا مَضَى مِنْ حُكْمِ عِتْقِهِ لَهُمَا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ فِيهِمَا بِأَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى عِتْقِ رَقَبَةٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ عَنْهُمَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَلَا يَخْلُو حَالُ صَوْمِهِ فِيهِمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَنْوِيَ صَوْمَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ عَنْ إِحْدَى الْكَفَّارَتَيْنِ بِعَيْنِهَا، وَيَصُومَ شَهْرَيْنِ آخَرَيْنِ عَنِ الْكَفَّارَةِ الْأُخْرَى بِعَيْنِهَا، فَهَذَا يُجْزِئُهُ وَقَدْ أَكَّدَ ذَلِكَ بِالتَّعْيِينِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ عَنْ إِحْدَى الْكَفَّارَتَيْنِ لَا يُعَيِّنُهَا، وَيَصُومَ شَهْرَيْنِ عَنِ الْأُخْرَى لَا يُعَيِّنُهَا، فَهَذَا يُجْزِيهِ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ غَيْرُ مُفِيدٍ فَلَمْ يَلْزَمْ، كَمَا أَنَّ النِّيَّةَ فِي الْوُضُوءِ لَا يَلْزَمُ فِيهَا تَعْيِينُ الْحَدَثِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ، ثُمَّ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْخِيَارِ فِي أَنْ يَتْرُكَ الصَّوْمَ عَلَى إِبْهَامِهِ أَوْ يُعَيِّنَهُ، وَسَوَاءً كَانَتِ الْكَفَّارَتَانِ مِنْ جِنْسٍ أَوْ جِنْسَيْنِ، وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ كَمَا خَالَفَ فِي الْعِتْقِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَسْرُدَ صَوْمَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مُتَوَالِيَةٍ عَنْهُمَا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ فَهَذَا يُجْزِيهِ، وَقَدْ زَادَ بِأَنَّهُ تَابَعَ بَيْنَ صَوْمِ الْكَفَّارَتَيْنِ، وَيَكُونُ شَهْرَانِ مُتَوَالِيَانِ عَنْ إِحْدَى الْكَفَّارَتَيْنِ وَشَهْرَانِ مُتَوَالِيَانِ عَنِ الْكَفَّارَةِ الْأُخْرَى . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ عَنِ الْكَفَّارَتَيْنِ وَشَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ عَنِ الْكَفَّارَتَيْنِ، فَلَا يُجْزِيهِ الصَّوْمُ عَنْ وَاحِدَةٍ مِنَ الْكَفَّارَتَيْنِ بِخِلَافِ الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّ تَتَابُعَ الشَّهْرَيْنِ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ مُسْتَحَقٌّ، وَقَدْ صَارَ بِالتَّبْعِيضِ مُفَرِّقًا . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ فِي إِحْدَى الْكَفَّارَتَيْنِ وَمِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ فِي الْكَفَّارَةِ الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِلَّا رَقَبَةً وَاحِدَةً، فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ بِالْعِتْقِ عَنْ إِحْدَى الْكَفَّارَتَيْنِ شَاءَ، سَوَاءً بَدَأَ بِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ وُجُوبُهُ مِنْهُمَا أَوْ فِيمَا تَأَخَّرَ ، ثُمَّ يَصُومُ بَعْدَ ذَلِكَ شَهْرَيْنِ

مُتَتَابِعَيْنِ عَنِ الْكَفَّارَةِ الْأُخْرَى ، وَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ بِالْعِتْقِ عَنْ إِحْدَاهُمَا لَا يُعَيِّنُهَا، ثُمَّ بِالصَّوْمِ عَنِ الْأُخْرَى لَا يُعَيِّنُهَا، كَمَا لَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ فِيهِمَا أَوْ مِنْ أَهْلِ الصَّوْمِ فِيهِمَا ، فَلَوْ بَدَأَ بِالصَّوْمِ ثُمَّ أَعْتَقَ أَجْزَأَهُ الْعِتْقُ وَلَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ ؛ لِأَنَّهُ صَامَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْعِتْقِ ، وَلَوْ جَعَلَ الْعِتْقَ عَنِ الْكَفَّارَتَيْنِ مَعًا وَالصَّوْمَ عَنْهُمَا مَعًا تَكْمِيلًا لِكُلِّ كَفَّارَةٍ مِنْ جِنْسَيْنِ لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ عَنْ وَاحِدَةٍ مِنَ الْكَفَّارَتَيْنِ وَأَجْزَأَهُ الْعِتْقُ، وَفِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى مَا مَضَى : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَسْتَكْمِلُ الْعِتْقَ فِي إِحْدَاهُمَا، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ صَوْمَ شَهْرَيْنِ لِلْأُخْرَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَلَى مَا نَوَى مِنَ التَّبْعِيضِ فَلَا يَتَكَمَّلُ ، فَإِنْ أَيْسَرَ بِإِكْمَالِ الْعِتْقِ أَوِ اسْتَدَانَ حَتَّى أَعْتَقَ عَبْدًا آخَرَ عَنِ الْكَفَّارَتَيْنِ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى إِعْسَارِهِ وَأَرَادَ أَنْ يُكْمِلَ الْكَفَّارَةَ بِالصَّوْمِ لَمْ يُجْزِهِ أَنْ يَصُومَ عَنْ نِصْفِ كُلِّ كَفَّارَةٍ شَهْرًا ؛ لِأَنَّ تَبْعِيضَ الصِّيَامِ فِي الْكَفَّارَةِ غَيْرُ مُجْزِئٍ وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَيَصُومُ لَهُمَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَكُونُ مَا قَدَّمَهُ مِنَ الْعِتْقِ مُؤَثِّرًا فِي التَّكْفِيرِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ تَكْمِيلِ الصِّيَامِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُؤَثِّرُ فِيهِ لِتَقَدُّمِ النِّيَّةِ عَنْهُ وَإِنَّمَا يَكْمُلُ الصِّيَامُ جَبْرًا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ فَأَعْتَقَ رَقَبَةً لَيْسَ لَهُ غَيْرُهَا وَصَامَ شَهْرَيْنِ ثُمَّ مَرِضَ فَأَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا يَنْوِي بِجَمِيعِ هَذِهِ الْكَفَّارَاتِ النِّهَارِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ نِيَّتَهُ فِي كُلِّ كَفَّارَةٍ بِأَنَّهَا لَزِمَتْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ إِمَّا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ أَجْنَاسٍ، فَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ فِي وَاحِدَةٍ وَمِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ فِي ثَانِيَةٍ وَمِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ فِي ثَالِثَةٍ عَلَى مَا بَيَّنَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ بِالْعِتْقِ عَنْ أَحَدِهَا، إِمَّا بِعَيْنِهَا أَوْ مُبْهَمَةً ، وَإِنَّمَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ بَعْدَ الْعِتْقِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، وَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْإِطْعَامُ بَعْدَ الصَّوْمِ لِأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ قَدَّمَ الْإِطْعَامَ ثُمَّ الصِّيَامَ ثُمَّ الْعِتْقَ أَجْزَأَهُ الْعِتْقُ وَحْدَهُ وَاسْتَأْنَفَ الصَّوْمَ بَعْدَهُ ثُمَّ الْإِطْعَامَ بَعْدَ الصَّوْمِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرْجِعَ الطَّعَامَ الَّذِي قَدَّمَهُ لِعَدَمِ إِجْزَائِهِ لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ قَدْ مَلَكُوهُ بِالْقَبْضِ ، فَلَوْ نَوَى وَقَدْ رَتَّبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعِتْقِ وَالصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثِ أَثْلَاثًا اعْتُدَّ بِجَمِيعِ الْعِتْقِ وَلَمْ يُعْتَدَّ بِجَمِيعِ الصِّيَامِ وَاعْتُدَّ بِالثُّلُثِ مِنَ الْإِطْعَامِ، ثُمَّ هَلْ يَتَكَمَّلُ الْعِتْقُ فِي أَحَدِهِمَا أَمْ لَا ؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ، وَلَزِمَهُ تَكْمِيلُ الْإِطْعَامِ عَنْ إِحْدَاهُمَا، وَعَلَيْهِ اسْتِئْنَافُ الصِّيَامِ عَنِ الْأُخْرَى .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ فَشَكَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ ظِهَارٍ أَوْ قَتْلٍ أَوْ نَذْرٍ فَأَعْتَقَ رَقَبَةً عَنْ أَيِّهَا كَانَ أَجْزَأَهُ، وَلَوْ أَعْتَقَهَا لَا يَنْوِي وَاحِدَةً مِنْهَا لَمْ يُجْزِئْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيَانُ حُكْمِ النِّيَّةِ، في الكفارة وَالْكَلَامُ يَشْتَمِلُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : فِي وُجُوبِهَا . وَالثَّانِي : فِي صِفَتِهَا . وَالثَّالِثُ : فِي مَحَلِّهَا . فَأَمَّا وُجُوبُ النِّيَّةِ فَمُسْتَحَقٌّ فِي التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ وَالصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ قَدْ تُفْعَلُ عَلَى طَرِيقِ الْوُجُوبِ تَارَةً وَعَلَى طَرِيقِ التَّطَوُّعِ أُخْرَى، فَوَجَبَ أَنْ تُسْتَحَقَّ فِيهَا النِّيَّةُ ؛ لِيَمْتَازَ بِهَا الْوَاجِبُ مِنَ التَّطَوُّعِ . وَأَمَّا صِفَةُ النِّيَّةِ في الكفارة فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ بِالْعِتْقِ أَوْ بِالصِّيَامِ أَوْ بِالْإِطْعَامِ أَنَّهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ الَّتِي عَلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ عَنْ أَيِّ كَفَّارَةٍ، وَلَا يُجْزِئُ أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهُ عِتْقٌ وَاجِبٌ أَوْ صَوْمٌ وَاجِبٌ أَوْ إِطْعَامٌ وَاجِبٌ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ قَدْ يَتَنَوَّعُ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ وَصْفِ الْوُجُوبِ بِأَنَّهُ عَنْ كَفَّارَةٍ لِتَمْيِيزِهِ . وَأَمَّا مَحَلُّ النِّيَّةِ في الكفارة فَإِنْ كَانَ صَوْمًا فَفِي لَيْلِ الصِّيَامِ لَا يُجْزِئُ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ كَسَائِرِ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ . وَإِنْ كَانَ عِتْقًا أَوْ طَعَامًا لَمْ تُجْزِهِ النِّيَّةُ قَبْلَ أَنْ يَتَعَيَّنَ لَهُ الْعَبْدُ الَّذِي يُعْتِقُهُ وَالطَّعَامُ الَّذِي يُطْعِمُهُ ، فَأَمَّا بَعْدَ تَعْيِينِ الْعَبْدِ وَالطَّعَامِ فَفِي مَحَلِّ النِّيَّةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَنْوِي مَعَ لَفْظِ الْعِتْقِ وَمَعَ تَفْرِيقِ الطَّعَامِ، فَإِنْ نَوَى قَبْلَهُمَا لَمْ يُجْزِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يَنْوِيَ قَبْلَ التَّعْيِينِ وَبَعْدَ الْعِتْقِ وَالْإِطْعَامِ ، وَأَصْلُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ اخْتِلَافُ أَصْحَابِنَا فِي مَحَلِّ النِّيَّةِ فِي الزَّكَاةِ ، فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ : أَنَّ مَحَلَّ النِّيَّةِ فِيهَا عِنْدَ عَزْلِهَا . وَالثَّانِي : عِنْدَ دَفْعِهَا . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ فَصُورَةُ مَسْأَلَتِنَا فِيمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاجِبَةٌ وَهُوَ شَاكٌّ فِي سَبَبِ وُجُوبِهَا هَلْ وَجَبَتْ بِقَتْلٍ أَوْ ظِهَارٍ ، فَإِنْ أَعْتَقَ يَنْوِي بِهِ الْكَفَّارَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِ أَجْزَأَهُ مَعَ الشَّكِّ فِي الْمُوجِبِ ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ لَا يَجِبُ وَإِنْ نَوَى الْعِتْقَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَنْوِ أَنَّهُ فِي الْكَفَّارَةِ لَمْ يُجْزِهِ ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ التَّكْفِيرِ مُسْتَحَقَّةٌ، وَإِنْ كَانَتْ نِيَّةُ تَعْيِينِ السَّبَبِ فِيهِ مُسْتَحَقَّةً ؛ فَإِنْ كَانَ عَيَّنَ الْعِتْقَ وَنَوَى أَنَّهُ عَنْ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ مَعَ الشَّكِّ

فِيهِ لَمْ يَكُنْ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَدَائِهَا لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْكَفَّارَةُ عَنْ قَتْلٍ، وَلَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ بَقَائِهَا لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ عَنْ ظِهَارٍ ، فَإِنْ بَانَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهَا عَنْ ظِهَارٍ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ بِالنِّيَّةِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ بَانَ أَنَّهَا عَنْ قَتْلٍ لَمْ يُجْزِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ بِالنِّيَّةِ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فَصَارَ الْوَاجِبُ بَاقِيًا عَلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا كَانَ كَمَنْ شَكَّ فِي حَدَثِهِ هَلْ هُوَ مِنْ بَوْلٍ أَوْ نَوَمٍ فَتَوَضَّأَ يَنْوِي حَدَثَ الْبَوْلِ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ عَنْ نَوْمٍ أَجْزَأَهُ . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ رَفْعَ الْحَدَثِ الْوَاحِدِ رَافِعٌ لِجَمِيعِ الْأَحْدَاثِ، وَلَيْسَتِ الْكَفَّارَةُ الْوَاحِدَةُ رَافِعَةً لِجَمِيعِ الْكَفَّارَاتِ . وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ عَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ وَشَكَّ فِيهَا هَلْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ عَنْ قَتْلٍ أَوْ ظِهَارٍ أَوْ نَذْرٍ فَأَعْتَقَ رَقَبَةً يَنْوِي بِهَا الْعِتْقَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ نِيَّةَ التَّكْفِيرِ مُسْتَحَقَّةٌ فِي الْعِتْقِ، وَلَوْ نَوَى بِهَا الْعِتْقَ عَنِ التَّكْفِيرِ نَظَرَ فِي عِتْقِ النَّذْرِ فَإِنْ كَانَ مُسْتَحَقًّا فِي نَذْرِ اللِّجَاجِ الْخَارِجِ مَخْرَجَ الْأَيْمَانِ أَجْزَأَهُ هُنَا الْعِتْقُ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي هَذَا النَّذْرِ تَكْفِيرٌ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ نَذْرَ مُجَازَاةٍ أَوْ تَبَرُّرٍ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ الْعِتْقُ فِيهِ تَكْفِيرًا، وَقِيلَ لَهُ : أَنْتَ عَلَى غَيْرِ يَقِينٍ مِنْ أَدَائِهَا وَلَا مِنْ بَقَائِهَا فِي النَّذْرِ وَحْدَهُ ، فَإِنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً ثَانِيَةً يَنْوِي بِهَا عِتْقَ النَّذْرِ وَحْدَهُ أَجْزَأَهُ وَسَقَطَتِ الْكَفَّارَةُ يَقِينًا عَنْ ذِمَّتِهِ لِأَنَّ عِتْقَ التَّكْفِيرِ قَدْ سَقَطَ بِالْعِتْقِ الْأَوَّلِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ، وَعِتْقَ النَّذْرِ قَدْ سَقَطَ بِالثَّانِي الْمُعَيَّنِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوِ ارْتَدَّ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ فَأَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ ظِهَارِهِ فَإِنْ رَجَعَ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى دَيْنٍ أَدَّاهُ أَوْ قِصَاصٍ أُخِذَ مِنْهُ أَوْ عُقُوبَةٍ عَلَى بَدَنِهِ لِمَنْ وَجَبَتْ لَهُ، وَلَوْ صَامَ فِي رِدَّتِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ عَمَلُ الْبَدَنِ، وَعَمَلُ الْبَدَنِ لَا يُجْزِئُ إِلَّا مَنْ يُكْتَبُ لَهُ . " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ فِي مِلْكِ الْمُرْتَدِّ ثَلَاثَةَ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّ مِلْكَهُ بَاقٍ مَا كَانَ حَيًّا وَتَصَرُّفَهُ فِيهِ جَائِزٌ . الْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ مِلْكَهُ زَائِلٌ عَنْ مَالِهِ وَتَصَرُّفَهُ فِيهِ مَرْدُودٌ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ مِلْكَهُ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى، وَكَذَلِكَ تَصَرُّفُهُ ، فَإِنْ قُتِلَ بِالرِّدَّةِ عُلِمَ زَوَالُ مِلْكِهِ وَفَسَادُ تَصَرُّفِهِ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ ، وَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ عُلِمَ أَنَّ مِلْكَهُ كَانَ بَاقِيًا وَتَصَرُّفَهُ جَائِزًا ، وَلِتَوْجِيهِ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ مَوْضِعٌ مِنْ كِتَابِ الرِّدَّةِ . فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْهَا وَكَانَ عَلَى الْمُرْتَدِّ كَفَّارَةٌ مِنْ قَتْلٍ أَوْ ظِهَارٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ رِدَّتِهِ فَإِنْ قِيلَ بِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهِ ثَابِتٌ وَتَصَرُّفَهُ فِيهِ جَائِزٌ أَوْ قِيلَ أَنَّهُمَا عَلَى الْوَقْفِ وَالْمُرَاعَاةِ جَازَ لَهُ إِخْرَاجُ الْكَفَّارَةِ مِنْ مَالِهِ ، وَإِنْ قِيلَ أَنَّ مِلْكَهُ زَائِلٌ وَتَصَرُّفَهُ مَرْدُودٌ فَفِي جَوَازِ تَكْفِيرِهِ مِنْ مَالِهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ مِنْ مَالِهِ كَمَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاتُهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ، يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ مِنْ مَالِهِ، وَإِنْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ زَكَاتُهُ لِاسْتِحْقَاقِ الْكَفَّارَةِ فِي مَالِهِ قَبْلَ رِدَّتِهِ كَالدُّيُونِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكَفَّارَةِ وَالزَّكَاةِ أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ رِدَّتِهِ، وَالْكَفَّارَةَ قَدْ تَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ رِدَّتِهِ . فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ جَوَازِ التَّكْفِيرِ بَعْدَ الرِّدَّةِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُكَفِّرُ بِالْعِتْقِ فَيُجْزِيهِ أَنْ يُعْتِقَ فِيهِ مُؤْمِنَةً قَدْ كَانَ لَهَا مَالِكًا قَبْلَ الرِّدَّةِ، أَوْ يَقُولَ لِمُسْلِمٍ : أَعْتِقْ عَبْدَكَ هَذَا الْمُسْلِمَ عَنْ كَفَّارَتِي بِكَذَا التكفير بعد الردة . فَإِنِ اشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَصِحُّ الشِّرَاءُ وَيَنْفَذُ الْعِتْقُ . وَالثَّانِي : يَكُونُ بَاطِلًا وَعِتْقُهُ مَرْدُودًا وَإِنَّمَا يَصِحُّ مِنْهُ الْعِتْقُ وَإِنْ كَانَ قُرْبَةً تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ الَّتِي تَنْصَرِفُ إِلَى الْآدَمِيِّينَ فَأَشْبَهَتْ قَضَاءَ الدُّيُونِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُكَفِّرُ بِالصِّيَامِ، فَلَا يُجْزِيهِ الصَّوْمُ فِي الرِّدَّةِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عِبَادَاتِ الْأَبْدَانِ الْمَحْضَةِ الَّتِي لَا تَصِحُّ إِلَّا مِنْ مُسْلِمٍ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُكَفِّرُ بِالْإِطْعَامِ فَفِي جَوَازِهِ مِنْهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ مِنْهُ الْإِطْعَامُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ كَالْعِتْقِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْإِطْعَامِ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الصِّيَامِ الَّذِي لَا يَصِحُّ مِنْهُ، فَأَجْرَى عَلَى الْبَدَلِ حُكْمَ الْمُبْدَلِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ مَا يُجْزِئُ مِنَ الْعُيُوبِ فِي الرِّقَابِ الْوَاجِبَةِ

بَابُ مَا يُجْزِئُ مِنَ الْعُيُوبِ فِي الرِّقَابِ الْوَاجِبَةِ مِنْ كِتَابَيِ الظِّهَارِ قَدِيمٍ وَجَدِيدٍ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " لَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا مِمَّنْ مَضَى مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَا ذُكِرَ لِي عَنْهُ، وَلَا بَقِيَ مَنْ خَالَفَ فِي أَنَّ مِنْ ذَوَاتِ النَقْصِ مِنَ الرِّقَابِ مَا لَا يُجْزِئُ، وَمِنْهَا مَا يُجْزِئُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُهَا دُونَ بَعْضٍ فَلَمْ أَجِدْ فِي مَعَانِي مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ إِلَّا مَا أَقُولُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَجِمَاعُهُ أَنَّ الْأَغْلَبَ فِيمَا يُتَّخَذُ لَهُ الرَّقِيقُ الْعَمَلُ، وَلَا يَكُونُ الْعَمَلُ تَامًّا حَتَّى تَكُونَ يَدَا الْمَمْلُوكِ بَاطِشَتَيْنِ وَرِجْلَاهُ مَاشِيَتَيْنِ وَلَهُ بَصَرٌ وَإِنْ كَانَ عَيْنًا وَاحِدَةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ تَحْرِيرَ الرَّقَبَةِ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أَطْلَقَهَا وَلَمْ يَصِفْهَا فَأَجْمَعَ مَنْ تَقَدَّمَ الشَّافِعِيَّ وَعَاصَرَهُ عَلَى أَنَّ عُمُومَ الْإِطْلَاقِ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ، وَأَنَّ مِنَ الرِّقَابِ مَا يُجْزِئُ، وَمِنْهَا مَا لَا يُجْزِئُ، فَكَانَ الْعُمُومُ مَخْصُوصًا وَخَالَفَ دَاوُدُ مِنْ بَعْدُ ؛ فَقَالَ : الْعُمُومُ مُسْتَعْمَلٌ وَجَمِيعُ الرِّقَابِ تُجْزِئُ مِنْ مَعِيبٍ وَسَلِيمٍ وَنَاقِصٍ وَكَامِلٍ تَمَسُّكًا بِالْعُمُومِ وَاحْتِجَاجًا بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا فِي النَّقْصِ وَالْكَمَالِ ، وَهَذَا خَطَأٌ مَدْفُوعٌ بِإِجْمَاعِ مَنْ تَقَدَّمَهُ ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَقَبَةٍ سَوْدَاءَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ أَفَأَعْتِقُ هَذِهِ ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْنَ اللَّهُ ؟ فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ لَهَا : مَنْ أَنَا ؟ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ وَإِلَى السَّمَاءِ تَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ فَدَلَّ سُؤَالُ السَّائِلِ عَنْهَا وَامْتِحَانُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَا عَلَى أَنَّ الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ، وَأَنَّ مِنَ الرِّقَابِ مَا يُجْزِئُ وَمِنْهَا مَا لَا يُجْزِئُ، فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ دَاوُدَ أَنَّ كُلَّ الرِّقَابِ تُجْزِئُ ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ فِي الْكَفَّارَةِ ذِكْرَ الْعِتْقِ وَالْإِطْعَامِ، ثُمَّ كَانَ عُمُومُ الْإِطْعَامِ مَخْصُوصًا فِي أَنْ لَا يُجْزِئَ مِنْهُ إِلَّا مُقَدَّرٌ وَلَا يُجْزِئُ مَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ مِنْ إِطْعَامِ لُقْمَةٍ وَكِسْرَةٍ ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصَ الْعُمُومِ بِمَا يَقْتَضِيهِ مَقْصُودُ التَّحْرِيرِ . فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَمَقْصُودُ الْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ هُوَ تَكْمِيلُ الْأَحْكَامِ وَتَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ، فَأَمَّا تَكْمِيلُ الْأَحْكَامِ فَهُوَ أَنْ يَصِيرَ بِالْحُرِّيَّةِ جَائِزَ الشَّهَادَةِ ثَابِتَ الْوِلَايَةِ مَاضِيَ التَّصَرُّفِ، وَأَمَّا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ : فَهُوَ أَنْ يَصِيرَ بِالْحُرِّيَّةِ مَالِكًا لِمَنَافِعِ نَفْسِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْعِتْقُ

فِي غَيْرِ كَفَّارَةٍ جَازَ أَنْ يَكُونَ نَاقِصَ الْمَنَافِعِ ؛ لِأَنَّهُ تَطَوُّعٌ، وَإِنْ كَانَ فِي كَفَّارَةٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَامِلَ الْمَنَافِعِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مِنْ ذَوَاتِ الْعُيُوبِ مَا يُجْزِئُ كَالْبَرْصَاءِ وَالْحَمْقَاءِ وَالْقَبِيحَةِ وَالْمَقْطُوعَةِ الْخِنْصَرِ أَوِ الْبِنْصِرِ ، وَأَنَّ مِنْ ذَوَاتِ الْعُيُوبِ الَّتِي لَا تُجْزِئُ الْعَمْيَاءُ وَالْمُقْعَدَةُ وَالْمَقْطُوعَةُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فَدَلَّنَا ذَلِكَ مِنْ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ رَاعَوْا مَا أَثَّرَ فِي الْعَمَلِ وَلَمْ يُرَاعُوا مَا أَثَّرَ فِي الْأَثْمَانِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعَبِيدِ هُوَ الْعَمَلُ ؛ لِأَنَّهُمْ مُرْصَدُونَ لِخِدْمَةٍ أَوْ تَكَسُّبٍ، وَالنُّقْصَانُ مِنْ مَقْصُودِ الشَّيْءِ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِيهِ، كَالْبَيْعِ لَمَّا كَانَ مَقْصُودُهُ الثَّمَنَ كَانَ مَا أَثَّرَ فِي نُقْصَانِهِ عَيْبًا يُوجِبُ الْخِيَارَ وَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ لَمْ يَكُنْ عَيْبًا وَلَا يُسْتَحَقُّ فِيهِ الْخِيَارُ، وَكَالنِّكَاحِ لَمَّا كَانَ مَقْصُودُهُ الِاسْتِمْتَاعَ كَانَ مَا أَثَّرَ فِيهِ مِنَ الْعُيُوبِ مُوجِبًا لِلْخِيَارِ وَمَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ لَمْ يُوجِبْهُ، كَذَلِكَ الْعِتْقُ فِي الْكَفَّارَةِ لَمَّا كَانَ مَقْصُودُهُ تَمْلِيكَ الْعَمَلِ كَانَ مَا أَثَّرَ فِيهِ مِنَ الْعُيُوبِ مَانِعًا مِنَ الْإِجْزَاءِ وَمَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ أَجْزَأَ ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ أَنَّ كُلَّ عَيْبٍ أَضَرَّ بِالْعَمَلِ إِضْرَارًا بَيِّنًا مَنَعَ مِنَ الْإِجْزَاءِ فِي الْكَفَّارَةِ وَمَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْإِجْزَاءِ فِيهَا . فَصْلٌ : فَإِذَا اسْتَقَرَّ مَا أَصَّلْنَاهُ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَمِنَ الْعُيُوبِ الَّتِي لَا تُجْزِئُ فِيمَا تَعَلَّقَ بِالْعِتْقِ في االكفارة الْعَمَى ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَبْلَغِ النَّقْصِ فِي الْإِضْرَارِ بِالْعَمَلِ، فَلَا تُجْزِئُ الْعَمْيَاءُ، فَأَمَّا الْحَوْلَاءُ وَالْعَمْشَاءُ وَالْعَوْرَاءُ فَتُجْزِئُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُضِرٍّ بِالْعَمَلِ فَأَمَّا ضَعْفُ الْبَصَرِ فَإِنْ كَانَ يَمْنَعُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْخَطِّ وَإِثْبَاتِ الْوُجُوهِ الْقَرِيبَةِ مَنَعَ مِنَ الْإِجْزَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ أَجْزَأَ . فَصْلٌ : وَأَمَّا نَقْصُ الْأَطْرَافِ فَإِنْ كَانَ مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ أَوْ مَقْطُوعَ الرِّجْلَيْنِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ ، وَإِنْ كَانَتْ إِحْدَى يَدَيْهِ مَقْطُوعَةً أَوْ إِحْدَى رِجْلَيْهِ لَمْ تُجْزِهِ عِنْدَنَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تُجْزِيهِ وَهَكَذَا يَقُولُ فِيمَنْ قُطِعَتْ إِحْدَى يَدَيْهِ وَإِحْدَى رِجْلَيْهِ مِنْ خِلَافٍ الكفارة بعتق رقبة أَجْزَأَ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ شِقٍّ وَاحِدٍ لَمْ تُجْزِهِ ؛ لِأَنَّ ذَهَابَ أَحَدِ الْعُضْوَيْنِ لَمْ يُسْقِطْ مَنْفَعَةَ الْجِنْسِ، فَأَجْزَأَ كَالْعَوْرَاءِ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ قَطْعَ إِحْدَى الْيَدَيْنِ مُضِرٌّ بِالْعَمَلِ إِضْرَارًا بَيِّنًا فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الْإِجْزَاءِ كَقَطْعِهِمَا مَعًا ، وَلِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ مُوَافِقٌ عَلَى أَنَّ قَطْعَ الْإِبْهَامَيْنِ يَمْنَعُ مِنَ الْإِجْزَاءِ فَقَطْعُ إِحْدَى الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ وَفِيهِمَا زِيَادَةٌ عَلَى الْإِبْهَامَيْنِ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الْإِجْزَاءِ ، فَأَمَّا الْعَوَرُ فَأَجْزَأَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضِرٍّ بِالْعَمَلِ وَلَا مُؤَثِّرٍ فِيهِ، وَاسْتِدْلَالُهُ بِبَقَاءِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ يَفْسُدُ عَلَيْهِ بِقَطْعِ إِحْدَى الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ مِنْ شِقٍّ [ وَاحِدٍ ] . فَصْلٌ : وَأَمَّا قَطْعُ الْأَصَابِعِ فَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ فِي إِحْدَى ثَلَاثٍ ؛ الْإِبْهَامِ أَوِ السَّبَّابَةِ أَوِ الْوُسْطَى فَقَطْعُ إِحْدَى هَذِهِ الثَّلَاثِ مَانِعٌ مِنَ الْإِجْزَاءِ ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تَأْثِيرًا فِي

الْعَمَلِ . فَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ فِي إِحْدَى إِصْبَعَيْنِ وَهِيَ الْخِنْصَرُ أَوِ الْبِنْصِرُ فَقَطْعُ إِحْدَاهُمَا لَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِجْزَاءِ ، لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ إِضْرَارًا بَيِّنًا فَإِنْ قُطِعَتَا مَعًا نُظِرَ ؛ فَإِنْ قُطِعَتَا مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ لَمْ تُجْزِهِ وَإِنْ كَانَتَا مِنْ يَدَيْنِ أَجْزَأَ . فَأَمَّا أَصَابِعُ الرِّجْلِ فَقَطْعُ الْإِبْهَامِ مِنْهَا مَانِعٌ مِنَ الْإِجْزَاءِ ؛ لِأَنَّ فَقْدَهَا مِنَ الرِّجْلِ مُضِرٌّ بِالْمَشْيِ كَمَا أَنَّ فَقْدَهَا مِنَ الْيَدِ مُضِرٌّ بِالْبَطْشِ ، وَأَمَّا غَيْرُ الْإِبْهَامِ مِنْ أَصَابِعِ الرِّجْلِ إِذَا قُطِعَ أَحَدُهَا مِنْ سَبَّابَةٍ أَوْ وُسْطَى أَوْ خِنْصَرٍ أَوْ بِنْصِرٍ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْإِجْزَاءِ، بِخِلَافِ الْيَدِ ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهَا مِنَ الرِّجْلِ مُتَقَارِبَةٌ وَفِي الْيَدِ مُتَفَاضِلَةٌ ، فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْهُمَا فِي رِجْلٍ وَاحِدَةٍ ، مَنَعَ مِنَ الْإِجْزَاءِ ، لِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا مُضِرٌّ بِالْمَشْيِ ، وَشَلَلُ الْإِصْبَعِ يَقُومُ مَقَامَ قَطْعِهَا وَكَذَلِكَ شَلَلُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ . فَصْلٌ : وَأَمَّا قَطْعُ الْأَنَامِلِ فَإِنْ قُطِعَتْ أُنْمُلَتَانِ مِنْ إِصْبَعٍ كَانَ قَطْعُهَا كَقَطْعِ تِلْكَ الْأَصَابِعِ ، فَإِنْ قُطِعَتَا مِنْ إِحْدَى الْأَصَابِعِ الثَّلَاثِ ؛ الْإِبْهَامِ أَوِ السَّبَّابَةِ أَوِ الْوُسْطَى لَمْ تُجْزِهِ ، وَإِنْ قُطِعَتَا مِنْ إِحْدَى إِصْبَعَيِ الْبِنْصِرِ أَوِ الْخِنْصَرِ أَجْزَأَ ، وَإِنْ قُطِعَتْ أُنْمُلَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ إِصْبَعٍ نُظِرَ ؛ فَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْإِبْهَامِ لَمْ تُجْزِهِ ؛ لِأَنَّهَا ذَاتُ أُنْمُلَتَيْنِ يَذْهَبُ بِإِحْدَاهُمَا أَكْثَرُ مَنَافِعِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ إِحْدَى الْأَصَابِعِ الْأَرْبَعِ ذَوَاتِ الْأَنَامِلِ الثَّلَاثِ، أَجْزَأَ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ أَكْثَرُهَا فَبَقِيَ أَكْثَرُ مَنَافِعِهَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَصْلٌ : وَأَمَّا الْجَبُّ وَالْخِصَاءُ في الكفارة بعتق رقبة فَلَا يَمْنَعَانِ مِنَ الْإِجْزَاءِ لِأَنَّهُمَا لَا يَضُرَّانِ بِالْعَمَلِ، وَكَذَلِكَ جَدْعُ الْأَنْفِ وَقَطْعُ الْأُذُنِ ، في الكفارة بعتق رقبة فَأَمَّا شِجَاجُ الرَّأْسِ وَجِرَاحُ الْبَدَنِ في الكفارة بعتق رقبة فَإِنِ انْدَمَلَتْ مَعَ سَلَامَةِ الْأَعْضَاءِ لَمْ تَمْنَعْ مِنَ الْإِجْزَاءِ وَإِنْ شَانَتْ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُضِرَّةٍ بِالْعَمَلِ وَإِنْ لَمْ تَنْدَمِلْ أَجْزَأَ مَا دُونَ مَأْمُومَةِ الرَّأْسِ وَجَائِفَةِ الْبَدَنِ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَخُوفَةٍ، وَلَمْ يُجْزِ مِنْهَا مَأْمُومَةُ الرَّأْسِ وَجَائِفَةُ الْبَدَنِ ، لِأَنَّهُمَا قَبْلَ الِانْدِمَالِ مَخْوفَتَانِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَكُونُ يَعْقِلُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ بِالْعَقْلِ تَصِحُّ الْأَعْمَالُ وَتَسْتَقِيمُ الْأَحْوَالُ ، فَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا قَدْ أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْجُنُونُ الكفارة بعتق رقبة لَمْ يُجْزِهِ لِفَوَاتِ عَمَلِهِ ، وَإِنْ كَانَ يُجَنُّ فِي زَمَانٍ وَيُفِيقُ فِي زَمَانٍ نُظِرَ ؛ فَإِنْ كَانَ زَمَانُ جُنُونِهِ أَكْثَرَ مِنْ زَمَانِ إِفَاقَتِهِ لَمْ يُجْزِهِ ، وَإِنْ كَانَ زَمَانُ إِفَاقَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ زَمَانِ جُنُونِهِ نُظِرَ ؛ فَإِنْ بَقِيَ فِي زَمَانِ إِفَاقَتِهِ سَدِرًا مَضْعُوفًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ إِلَّا بَعْدَ حِينٍ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ زَالَ عَنْهُ السَّدَرُ بِالْإِفَاقَةِ وَقَدَرَ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْعَمَلِ أَجْزَأَهُ، فَأَمَّا الْأَبْلَهُ فَإِنْ كَانَ بَلْهَ بَلَادَةٍ وَدَهَشٍ لَمْ يُجْزِهِ لِتَأْثِيرِهِ فِي الْعَمَلِ ، وَإِنْ كَانَ بَلَهَ سَلَامَةٍ وَقِلَّةِ فِطْنَةٍ أَجْزَأَهُ . فَأَمَّا الْمُغْمَى عَلَيْهِ في الكفارة بعتق رقبة فَيُجْزِئُ لِأَنَّ الْإِغْمَاءَ مَرَضٌ يُرْجَى بُرْؤُهُ، وَأَمَّا الْأَحْمَقُ فَيُجْزِئُ وَهُوَ الَّذِي يَضَعُ كَلَامَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَيَأْتِي بِالْحَسَنِ فِي مَوْضِعِ الْقَبِيحِ وَبِالْقَبِيحِ فِي مَوْضِعِ الْحَسَنِ وَهَذَا غَيْرُ مُضِرٍّ بِالْعَمَلِ فَأَجْزَأَ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَ أَبْكَمَ أَوْ أَصَمَّ يَعْقِلُ، أَوْ أَحْمَقَ أَوْ ضَعِيفَ الْبَطْشِ الكفارة بعتق رقبة ( قَالَ ) فِي الْقَدِيمِ الْأَخْرَسُ لَا يُجْزِئُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ أَوْلَى بِقَوْلِهِ إِنَهُ يُجْزِئُ لِأَنَّ أَصْلَهُ أَنَّ مَا أَضَرَّ بِالْعَمَلِ ضَرَرًا بَيِّنًا لَمْ يُجْزِ وَإِنْ لَمْ يُضِرَّ كَذَلِكَ أَجْزَأَ ( قَالَ ) وَالَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ يُجْزِئُ، وَإِنْ كَانَ مُطْبِقًا لَمْ يُجْزِئْ وَيَجُوزُ الْمَرِيضُ لِأَنَّهُ يُرْجَى، وَالصَّغِيرُ كَذَلِكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فَأَمَّا الْأَصَمُّ فَيُجْزِئُ ؛ لِأَنَّ الصَّمَمَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَمَلِ، وَأَمَّا الْأَخْرَسُ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ يُجْزِئُ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ لَا يُجْزِئُ فَكَانَ الْمُزَنِيُّ يَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ ، وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ وَاخْتَلَفُوا فِيهِمَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْقَدِيمِ لَا يُجْزِئُ إِذَا كَانَ أَبْكَمَ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْخَرَسِ وَالصَّمِّ لِأَنَّهُمَا نُقْصَانٌ يَضُرُّ اجْتِمَاعُهُمَا بِالْعَمَلِ ، وَقَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ يُجْزِئُ إِذَا انْفَرَدَ بِالْخَرَسِ دُونَ الصَّمِّ . وَالثَّانِي : أَنَّ اخْتِلَافَ حَالَيْهِمَا أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْقَدِيمِ لَا يُجْزِئُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَفْهَمُ الْإِشَارَةَ فِي خَرَسِهِ، وَقَوْلَهُ فِي الْجَدِيدِ يُجْزِئُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ يَفْهَمُ الْإِشَارَةَ فِي خَرَسِهِ . وَأَمَّا الضَّعِيفُ الْبَطْشُ لِضُؤُولَةِ جِسْمِهِ وَدِقَّةِ عَظْمِهِ، فَإِنْ كَانَ ضَعْفُ بَطْشِهِ قَدْ فَوَّتَ أَكْثَرَ عَمَلِهِ لَمْ يُجْزِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَوَّتَ أَقَلَّهُ أَجْزَأَهُ . وَأَمَّا الْمَرِيضُ فَإِنْ كَانَ مَرْجُوَّ الْبُرْءِ أَجْزَأَ وَإِنْ مَاتَ ؛ لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَخْلُو جِسْمٌ مِنْ مَرَضٍ ، وَإِنْ كَانَ مَخُوفًا لَمْ يُجْزِهِ وَإِنْ كَانَ عَاشَ ، وَأَمَّا عُلُوُّ السِّنِّ فَإِنْ أَفْضَى لِلْهَرَمِ وَذَهَابِ الْبَطْشِ لَمْ يُجْزِهِ وَإِنْ كَانَ نَاهِضَ الْحَرَكَةِ ظَاهِرَ الْبَطْشِ أَجْزَأَهُ . فَأَمَّا الطِّفْلُ الصَّغِيرُ فَيُجْزِئُ وَإِنْ كَانَ ابْنَ يَوْمِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الزِّيَادَةِ وَالْكَمَالِ، فَأَشْبَهَ الْمَرَضَ الْمَرْجُوَّ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغِرَّةِ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ . وَأَمَّا الْأَعْرَجُ فَإِنْ كَانَ مُقَصِّرًا فِي مَشْيِهِ مُؤَثِّرًا فِي حَرَكَتِهِ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِهِ أَجْزَأَهُ، وَيُجْزِئُ الْأَغْشَمُ وَالْأَخْشَمُ، وَعِتْقُ غَيْرِ ذِي الصِّنَاعَةِ وَعِتْقُ الْفَاسِقِ وَوَلَدِ الزِّنَا الكفارة بعتق رقبة ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ لَا يُجْزِئُ عِتْقُ وَلَدِ الزِّنَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ

وَهَذَا مَذْهَبٌ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي عِتْقِ الْكَفَّارَةِ سَلَامَةُ الدِّينِ وَالْعَمَلِ ، وَلَيْسَ وِلَادَتُهُ مِنْ رِيبَةٍ مُؤَثِّرًا فِي أَحَدِهِمَا فَلَمْ يَمْنَعِ الْإِجْزَاءَ . فَأَمَّا الْخَبَرُ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : شَرُّ الثَّلَاثَةِ ذِكْرًا ؛ لِأَنَّهُ يُذْكَرُ أَبَدًا أَنَّهُ وَلَدُ زِنًا إِذَا سُئِلَ عَنْ أَبِيهِ . وَالثَّانِي : شَرُّ الثَّلَاثَةِ نَسَبًا لِأَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إِلَى أَبٍ . وَالثَّالِثُ : شَرُّ الثَّلَاثَةِ إِنْ كَانَ زَانِيًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجْمَعُ بَيْنَ الزِّنَا وَفَسَادِ النَّسَبِ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّعْرِيفِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ وَاحِدًا مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَقَدْ عَرَّفَهُ بِالشَّرِّ فَقَالَ : وَلَدُ الزِّنَا مِنْهُمْ هُوَ شَرُّهُمْ كَمَا يُقَالُ : الْمُشْتَمِلُ بِثَوْبِهِ هُوَ شَرُّ الْجَمَاعَةِ لَا لِاشْتِمَالِهِ بِالثَّوْبِ، وَلَكِنْ نَبِّهْ عَلَيْهِ بِاشْتِمَالِ الثَّوْبِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ مَنْ لَهُ الْكَفَّارَةُ بِالصِّيَامِ

بَابُ مَنْ لَهُ الْكَفَّارَةُ بِالصِّيَامِ مِنْ كِتَابَيْنِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " مَنْ كَانَ لَهُ مَسْكَنٌ وَخَادِمٌ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُمَا وَلَا مَا يَشْتَرِي بِهِ مَمْلُوكًا كَانَ لَهُ أَنْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْعِتْقَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ عَلَى التَّرْتِيبِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْدَلَ عَنْهُ إِلَى الصِّيَامِ إِلَّا مَعَ الْعَجْزِ عَنْهُ وَيَلْزَمُهُ الْعِتْقُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بَعْدَ وُجُودِ كِفَايَتِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى الرَّقَبَةِ وَلَا عَلَى قِيمَتِهَا، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصُومَ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الرَّقَبَةِ أَوْ عَلَى قِيمَتِهَا وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهَا فَعَلَيْهِ الْعِتْقُ وَلَا يُجْزِيهِ الصَّوْمُ إِجْمَاعًا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الرَّقَبَةِ أَوْ عَلَى قِيمَتِهَا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ تَكْفِيرِهِ بِالصِّيَامِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصِّيَامِ، سَوَاءً وَجَدَ الرَّقَبَةَ أَوْ قِيمَتَهَا وَلَا يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِمَا . وَالثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ سَوَاءً وَجَدَ الرَّقَبَةَ أَوْ قِيمَتَهَا وَعَلَيْهِ الْعِتْقُ وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ مَعَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِمَا يُكَفِّرُ بِالْعِتْقِ إِنْ كَانَ وَاجِدًا لِلرَّقَبَةِ وَبِالصَّوْمِ إِنْ كَانَ وَاجِدًا لِلْقِيمَةِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ وَهَذَا وَاجِدٌ لِلرَّقَبَةِ فَلَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ، قَالَ : وَلِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِرَقَبَةٍ تُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الِانْتِقَالُ عَنْهَا إِلَى الصَّوْمِ، كَمَا لَوْ وَجَدَهَا فَاضِلَةً عَنْ كِفَايَتِهِ . وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ بِأَنَّ الْحُقُوقَ ضَرْبَانِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقُّ الْآدَمِيِّينَ ، ثُمَّ كَانَتْ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ تُسْتَوْفَى مِنْ أَصْلِ الْمَالِ وَلَا تَقِفُ عَلَى الْفَاضِلِ عَنِ الْكِفَايَةِ فَحَقُّ

اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى أَنْ يُسْتَوْفَى مِنْ أَصْلِ الْمَالِ وَلَا يَقِفُ عَلَى الْفَاضِلِ عَنِ الْكِفَايَةِ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ فَجَعَلَ مَا تَعَلَّقَ بِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ مُقَدَّمًا عَلَى غَيْرِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ صَرْفَهُ فِي الْكِفَايَةِ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَفَعَ إِلَى الْوَاطِئِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عَرْقًا مِنْ تَمْرٍ لِيُطْعِمَهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنَّا فَقَالَ : خُذْهُ فَكُلْهُ فَجَعَلَهُ وَعِيَالَهُ أَحَقَّ بِهِ مِنَ الْكَفَّارَةِ فَدَلَّ عَلَى تَعَلُّقِهَا بِالْكِفَايَةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَلَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ قُلْنَا : الْكَفَّارَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَلْزَمُ إِخْرَاجُهَا عَلَى الْفَوْرِ وَلَوْ وَجَبَتْ لَقُدِّمَتْ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ ذَاتُ بَدَلٍ فَوَجَبَ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِالْمَالِ أَنْ تَخْتَصَّ بِالْفَاضِلِ عَنْ قَدْرِ الْكِفَايَةِ كَالطَّهَارَةِ إِذَا احْتَاجَ إِلَى الْمَاءِ لِعَطَشِهِ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِهِ ، وَإِنْ شِئْتَ عَلَّلْتَ بِغَيْرِ هَذِهِ الْعِلَّةِ فَقُلْتَ : لِأَنَّ حَاجَتَهُ تَسْتَغْرِقُ مَا مَعَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَالْعَادِمِ فِي الِانْتِقَالِ إِلَى الْبَدَلِ، أَصْلُهُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْخَائِفِ الْعَطَشِ فِي الطَّهَارَةِ ، وَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمُبَدَلِ فِي حُكْمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُبَدَلِ مِنْهُ فَلَمَّا تَعَلَّقَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى قِيمَةِ الرَّقَبَةِ بِالْفَاضِلِ عَنِ الْكِفَايَةِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْقُدْرَةُ عَلَى الرَّقَبَةِ مُتَعَلِّقَةً بِالْفَاضِلِ عَنِ الْكِفَايَةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى وُجُودِهَا فَاضِلَةً عَنْ كِفَايَتِهِ فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمْ تَسْتَغْرِقْ حَاجَتَهُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِ مَالِكٍ بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ لَا تَجِبُ إِلَّا عَنْ مُعَاوَضَةٍ مِنْ بَيْعٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ صَدَاقٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ أَرْشِ جِنَايَةٍ فَأُكِّدَتْ، وَحُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى تَجِبُ ابْتِدَاءً فَخُفِّفَتْ . وَالثَّانِي : أَنَّ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْكَفَّارَةِ بَدَلًا فَكَانَ أَخَفَّ وَلَيْسَ لِحَقِّ الْآدَمِيِّ بَدَلٌ فَكَانَ أَغْلَظَ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْسَعُ، وَلِذَلِكَ تَعَلَّقَتِ الزَّكَاةُ بِمَالٍ دُونَ مَالٍ، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ أَضْيَقُ فَلِذَلِكَ تَعَلَّقَ بِكُلِّ مَالٍ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ تَعَلُّقِ الْعِتْقِ بِوُجُودِ الْفَاضِلِ عَنِ الْكِفَايَةِ في كفارة القتل والظهار فَمِنْ كِفَايَتِهِ الثِّيَابُ الَّتِي يَلْبَسُهَا لِأَنَّهُ لَا غِنَى لِأَحَدٍ عَنْهَا ، وَدَارُهُ الَّتِي يَسْكُنُهَا لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْهَا ، وَأَمَّا رَقَبَةٌ يَسْتَخْدِمُهَا فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى الْخِدْمَةِ لِزَمَانَةٍ، أَوْ لَمْ تَجْرِ عَادَةُ مِثْلِهِ إِلَّا بِالْخِدْمَةِ فَالرَّقَبَةُ مِنْ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ مِنْ جُمْلَةِ كِفَايَتِهِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَيْهَا وَلَمْ تَجْرِ عَادَةُ مِثْلِهِ بِالْخِدْمَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا لَا تُضَافُ إِلَى كِفَايَتِهِ وَتَكُونُ فَاضِلَةً عَنْهُ يَلْزَمُهُ التَّكْفِيرُ بِهَا .

وَالثَّانِي : أَنَّهَا مِنْ كِفَايَتِهِ لِكَوْنِهَا مِنْ كِفَايَةِ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ مَنْ يَخْدِمُ نَفْسَهُ فَلِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى مَنْ يَخْدِمُهُ . وَأَمَّا الْمَادَّةُ فَهِيَ مِنْ كِفَايَتِهِ الَّتِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا وَلَا يُلْزِمُ بَدَنَهُ إِلَّا بِهَا، وَهِيَ مِنْ إِحْدَى ثَلَاثِ جِهَاتٍ ؛ إِمَّا مِنِ اسْتِغْلَالِ عَقَارٍ أَوْ رِبْحِ تِجَارَةٍ أَوْ كَسْبِ صِنَاعَةٍ . فَأَمَّا اسْتِغْلَالُ الْعَقَارِ فَقَدْ يَكُونُ تَارَةً أَرْضًا تُزْرَعُ وَتَارَةً شَجَرًا تُسْتَثْمَرُ وَتَارَةً أَبْنِيَةً تُؤَجَّرُ ، وَمَثَلُهُ أَنْ يَكُونَ مَاشِيَةً تُحْتَلَبُ ، فَإِنْ مَلَكَ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولَ مَا تَكُونُ غَلَّتُهُ وَفْقَ كِفَايَتِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ كَانَتْ هَذِهِ الْأُصُولُ مِنْ جُمْلَةِ كِفَايَتِهِ فَيُجْزِيهِ الصَّوْمُ وَلَا يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ . وَإِنْ مَلَكَ مِنْهَا مَا غَلَّتُهُ أَكْثَرُ مِنْ كِفَايَتِهِ كَانَتْ زِيَادَتُهَا خَارِجَةً عَنْ كِفَايَتِهِ ، فَإِنْ بَلَغَتْ زِيَادَةُ أُصُولِهَا قِيمَةَ الرَّقَبَةِ كَفَّرَ بِالْعِتْقِ دُونَ الصَّوْمِ وَإِنْ نَقَصَتْ عَنْ قِيمَةِ الرَّقَبَةِ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الزَّكَاةِ . وَأَمَّا رِبْحُ التِّجَارَةِ فَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ مَا يَكُونُ رِبْحُهُ وَفْقَ كِفَايَتِهِ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِنْ جُمْلَةِ الْكِفَايَةِ وَيُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ دُونَ الْعِتْقِ ، وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ زَائِدًا عَنِ الْقَدْرِ الَّذِي يَكْتَفِي بِرِبْحِهِ كَانَتِ الزِّيَادَةُ خَارِجَةً عَنْ كِفَايَتِهِ، فَيَصْرِفُهَا فِي عِتْقِ كَفَّارَتِهِ . وَأَمَّا كَسْبُ الصِّنَاعَةِ فَإِنْ كَانَ وَفْقَ الْكِفَايَةِ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ في القتل والظهار وَلَمْ يَحِلَّ لَهُ أَخْذُ الزَّكَاةِ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الْكِفَايَةِ نَظَرَ فِي زِيَادَةِ الْكَسْبِ، فَإِنْ قُلْتَ وَكَانَتْ لَا تَجْتَمِعُ فَتَبْلُغُ قِيمَةَ الرَّقَبَةِ إِلَّا فِي زَمَانٍ طَوِيلٍ يُنْسَبُ فِيهِ إِلَى تَأْخِيرِ التَّكْفِيرِ عَنْ وَقْتِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ جَمْعُهَا لِلْعِتْقِ وَجَازَ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ ، وَإِنْ كَانَ إِذَا جُمِعَتْ فِي قَلِيلِ الزَّمَانِ الَّذِي لَا يُنْسَبُ فِيهِ إِلَى تَأْخِيرِ التَّكْفِيرِ بَلَغَتْ قِيمَةَ الرَّقَبَةِ كَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَمَا قَارَبَهَا فَفِي وُجُوبِ جَمْعِهَا لِلتَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُهُ جَمْعُهَا وَالتَّكْفِيرُ بِالْعِتْقِ ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ فِي زَمَانٍ لَا يُنْسَبُ فِيهِ إِلَى تَأْخِيرِ التَّكْفِيرِ فَصَارَ كَالْقَادِرِ عَلَيْهَا فِي الْوَقْتِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَشْبَهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ جَمْعُهَا لِلْعِتْقِ وَيَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ ؛ لِأَنَّهُ فِي وَقْتِ الْوُجُوبِ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْعِتْقِ فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي الصَّوْمِ حَتَّى جَمَعَ فَاضِلَ الْكَسْبِ فَبَلَغَ قِيمَةَ الرَّقَبَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُكَفِّرُ بِالْعِتْقِ اعْتِبَارًا بِوَقْتِ الْأَدَاءِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ اعْتِبَارًا بِوَقْتِ الْوُجُوبِ . فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ لَهُ مَسْكَنٌ يَزِيدُ عَلَى مَسْكَنِ مِثْلِهِ وَخَادِمٌ يَزِيدُ عَلَى خَادِمِ مِثْلِهِ وَثِيَابٌ تَزِيدُ عَلَى ثِيَابِ مِثْلِهِ نَظَرَ فِي الزِّيَادَةِ فَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ قِيمَةَ الرَّقَبَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ الِاسْتِبْدَالُ بِذَلِكَ، وَجَازَ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ ، وَإِنْ بَلَغَتْ زِيَادَةُ أَثْمَانِهَا قِيمَةَ الرَّقَبَةِ لَزِمَهُ الِاسْتِبْدَالُ بِهَا وَبَاعَ مَسْكَنَهُ أَوْ خَادِمَهُ أَوْ ثِيَابَهُ وَاشْتَرَى مِنْ أَثْمَانِهَا مَسْكَنَ مِثْلِهِ وَخَادِمَ مِثْلِهِ وَثِيَابَ مِثْلِهِ، وَصَرَفَ فَاضِلَ الْأَثْمَانِ فِي التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ أَفْطَرَ مِنْ عُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ صَامَ تَطُوُّعَا أَوْ مِنَ الْأَيَّامِ الَتِي نَهَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صِيَامِهَا اسْتَأْنَفَهُمَا مُتَتَابِعَيْنِ، وَقَالَ فِي كِتَابِ الْقَدِيمِ إِنْ أَفْطَرَ الْمَرِيضُ بَنَى، وَاحْتَجَّ فِي الْقَاتِلَةِ الَّتِي عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ إِذَا حَاضَتْ أَفْطَرَتْ فَإِذَا ذَهَبَ الْحَيْضُ بَنَتْ ، وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ إِذَا ذَهَبَ الْمَرَضُ بَنَى ( قَالَ ) الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَسَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ مُنْذُ دَهْرٍ يَقُولُ : إِنْ أَفْطَرَ بَنَى ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَإِنَّ هَذَا لَشَبِيهٌ ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ عُذْرٌ وَضَرُورَةٌ، وَالْحَيْضَ عُذْرٌ وَضَرُورَةٌ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُفْطِرُ بِهِمَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ . وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ فِي الظِّهَارِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ كَذَلِكَ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ بِالْوَطْءِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنْ أَفْطَرَ فِيهِمَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ بِعُذَرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ . فَإِنْ أَفْطَرَ بِغَيْرِ عُذْرٍ انْقَطَعَ التَّتَابُعُ في صوم الكفارة وَبَطَلَ بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الصَّوْمِ، وَلَزِمَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ صَوْمَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ : لِأَنَّهُ أُمِرَ بِالصَّوْمِ عَلَى صِفَةٍ، فَإِذَا كَانَ بِخِلَافِ الصِّفَةِ لَمْ يَقَعْ مَوْقِعَ الْإِجْزَاءِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَامَ فِي تَضَاعِيفِ الشَّهْرَيْنِ تَطَوُّعًا أَوْ عَنْ نَذْرٍ أَوْ قَضَاءٍ بَطَلَ بِهِ التَّتَابُعُ وَإِنْ كَانَ صَائِمًا ؛ لِأَنَّ التَّتَابُعَ مُسْتَحَقٌّ لِصَوْمِ الظِّهَارِ لَا لِغَيْرِهِ ، فَإِذَا تَخَلَّلَهُ غَيْرُهُ زَالَ عَنْهُ صِفَتُهُ الْمُسْتَحَقَّةُ فَبَطَلَ بِهِ التَّتَابُعُ وَجَرَى صَوْمُهُ عَنْ غَيْرِهِ مَجْرَى فِطْرِهِ فِي حُكْمِ صَوْمِ الظِّهَارِ ، وَإِنِ اعْتَدَّ بِمَا نَوَاهُ مِنَ الصِّيَامِ وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ صَوْمَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ : لِأَنَّ بُطْلَانَ التَّتَابُعِ قَدْ أَفْسَدَ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الصَّوْمِ، وَإِنْ أَفْطَرَ بِعُذْرٍ فَالْأَعْذَارُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا اخْتَصَّ بِهِ فِي نَفْسِهِ . وَالثَّانِي : مَا اخْتَصَّ بِالزَّمَانِ . فَأَمَّا مَا اخْتَصَّ بِهِ فِي نَفْسِهِ فَالْأَعْذَارُ الَّتِي يُفْطِرُ بِهَا فِي صَوْمِهِ سِتَّةُ أَعْذَارٍ : أَحَدُهَا : الْحَيْضُ ، وَهَذَا لِاخْتِصَاصِهِ بِالنِّسَاءِ لَا يَكُونُ فِي صَوْمِ الظِّهَارِ لِاخْتِصَاصِ صَوْمِ الظِّهَارِ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالْوَطْءِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ، وَالصَّوْمُ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثِ وَاحِدٌ لِاسْتِحْقَاقِ التَّتَابُعِ فِي الشَّهْرَيْنِ الْمُسْتَحَقَّيْنِ فَبَدَأَ بِالْحَيْضِ ، لِأَنَّهُ أَصْلٌ يُبْنَى عَلَيْهِ حُكْمُ غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْذَارِ ، فَإِذَا وُجِدَ الْحَيْضُ فِي صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ بَطَلَ بِهِ الصَّوْمُ فِي زَمَانِهِ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْفِطْرَ بِهِ وَمُنَافَاةِ الصَّوْمِ لَهُ، وَلَمْ يَبْطُلْ بِهِ التَّتَابُعُ وَلَا مَا تَقَدَّمَ بِهِ مِنَ الصَّوْمِ وَجَازَ الْبِنَاءُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الصَّوْمِ لِأَرْبَعَةِ مَعَانٍ : أَحَدُهُمَا : لِأَنَّهُ فِطْرٌ بِعُذْرٍ فَخَالَفَ حُكْمَ الْفِطْرِ بِغَيْرِ عُذْرٍ .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ سَبَبٌ وَقَعَ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ، فَخَالَفَ حُكْمَ الْفِطْرِ عَنِ اخْتِيَارٍ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ زَمَانَهُ يُنَافِي الصَّوْمَ فَأَشْبَهَ اللَّيْلَ وَخَالَفَ الزَّمَانَ الَّذِي لَا يُنَافِي الصَّوْمَ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهَا لَا تَقْدِرُ - فِي الْأَغْلَبِ مِنْ عَادَاتِ النِّسَاءِ - أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ لَا حَيْضَ فِيهِمَا، فَلَمْ تُكَلَّفْ مَا لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ فِطْرُهَا بِالنِّفَاسِ لَا يُقْطَعُ بِهِ التَّتَابُعُ وَقَدْ كَانَ يَقْتَضِي عَلَى التَّعْلِيلِ الرَّابِعِ أَنْ يَبْطُلَ بِهِ التَّتَابُعُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَالِبٍ، وَتَقْدِرُ عَلَى صَوْمِ شَهْرَيْنِ لَا نِفَاسَ فِيهِمَا وَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى صَوْمِ شَهْرَيْنِ لَا حَيْضَ فِيهِمَا، لَكِنَّ حُكْمَ النِّفَاسِ مُلْحَقٌ بِالْحَيْضِ، فَأَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَهُ وَإِنْ أَخَلَّ بِبَعْضِ عِلَلِهِ . وَالْعُذْرُ الثَّانِي : الْمَرَضُ هل يَبْطُلْ بِهِ التَّتَابُعُ في الكفارة شهرين متتابعين وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحَيْضِ فَإِذَا أَفْطَرَ بِهِ فِي صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ فَفِي بُطْلَانِ تَتَابُعِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِهِ يَجُوزُ الْبِنَاءُ تَعْلِيلًا بِمَعْنَيَيْنِ مِنَ الْأَرْبَعَةِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ فِطْرٌ بِعُذْرٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ سَبَبَهُ وَاقِعٌ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ التَّتَابُعَ قَدْ بَطَلَ تَعْلِيلًا بِمَعْنَيَيْنِ مِنَ الْأَرْبَعَةِ . أَحَدُهُمَا : إِنَّ الْمَرَضَ لَا يُنَافِي الصَّوْمَ بِخِلَافِ الْحَيْضِ ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِي الْمَرَضِ مُجْزِئٌ وَفِي الْحَيْضِ غَيْرُ مُجْزِئٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُمْكِنُ فِي الْأَغْلَبِ صَوْمُ شَهْرَيْنِ لَا مَرَضَ فِيهِمَا وَلَا يُمْكِنُ فِي الْأَغْلَبِ صَوْمُ شَهْرَيْنِ لَا حَيْضَ فِيهِمَا . وَالْعُذْرُ الثَّالِثُ : الْفِطْرُ بِالسَّفَرِ هل يَبْطُلْ بِهِ التَّتَابُعُ في الكفارة شهرين متتابعين وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفِطْرِ بِالْمَرَضِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْفِطْرَ بِالْمَرَضِ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ، كَانَ الْفِطْرُ بِالسَّفَرِ أَوْلَى أَنْ يَقْطَعَ التَّتَابُعَ لِوُجُودِ عِلَّتَيْنِ ؛ وَهُمَا : أَنَّهُ لَا يُنَافِي الصَّوْمَ، وَأَنَّهُ يُمْكِنُ فِي الْأَغْلَبِ خُلُوُّهُ مِنَ السَّفَرِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْمَرَضَ لَا يُبْطِلُ التَّتَابُعَ لِعِلَّتَيْنِ فَهَلْ يُبْطِلُهُ الْفِطْرُ بِالسَّفَرِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِاخْتِلَافِ الْعِلَّتَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُبْطِلُ التَّتَابُعَ تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ فِطْرٌ بِعُذْرٍ فَاسْتَوَيَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُبْطِلُ التَّتَابُعَ تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ سَبَبٌ وَقَعَ بِاخْتِيَارٍ، فَخَالَفَ الْمَرَضَ الْوَاقِعَ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ .

وَالْعُذْرُ الرَّابِعُ : الْفِطْرُ بِالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ هل يَبْطُلْ بِهِ التَّتَابُعُ في الكفارة شهرين متتابعين وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفِطْرِ بِالْمَرَضِ فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ لَا يُبْطِلُ التَّتَابُعَ كَانَ الْفِطْرُ بِالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ أَوْلَى أَنْ لَا يُبْطِلَ التَّتَابُعَ لِوُجُودِ عِلَّتَيْهِ وَهُمَا : الْعُذْرُ وَوُقُوعُ سَبَبِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْفِطْرَ بِالْمَرَضِ يُبْطِلُ التَّتَابُعَ بِعِلَّتَيْنِ فَهَلْ يُبْطِلُهُ الْفِطْرُ بِالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُبْطِلُهُ تَعْلِيلًا بِإِمْكَانِ خُلُوِّهِ فِي الْأَغْلَبِ مِنْ صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يُبْطِلُهُ تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ يُنَافِي الصَّوْمَ كَالْحَيْضِ وَلَا يُنَافِيهِ الْمَرَضُ بِخِلَافِ الْحَيْضِ فَصَارَ الْمَرَضُ مُوَافِقًا لِلْحَيْضِ فِي عِلَّتَيْنِ وَمُخَالِفًا لَهُ فِي عِلَّتَيْنِ فَلِذَلِكَ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَالسَّفَرُ مُوَافِقٌ لِلْحَيْضِ فِي عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَمُخَالِفٌ لَهُ فِي ثَلَاثِ عِلَلٍ، فَلِذَلِكَ كَانَ أَضْعَفَ مِنَ الْمَرَضِ وَالْجُنُونُ وَالْإِغْمَاءُ مُوَافِقٌ لِلْحَيْضِ فِي ثَلَاثِ عِلَلٍ وَمُخَالِفٌ لَهُ فِي عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَلِذَلِكَ كَانَ أَقْوَى مِنَ الْمَرَضِ . وَالْعُذْرُ الْخَامِسُ : الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ إِذَا أَفْطَرَتَا بِالْحَمْلِ وَالرَّضَاعِ هل يَبْطُلْ التَّتَابُعُ في الكفارة شهرين متتابعين فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ لِخَوْفٍ عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَهُوَ كَالْفِطْرِ بِالْمَرَضِ فَيَكُونُ بُطْلَانُ التَّتَابُعِ بِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ لِخَوْفِهِمَا عَلَى أَوْلَادِهِمَا فَإِنْ قِيلَ : فَالْخَوْفُ عَلَى النَّفْسِ يُبْطِلُ التَّتَابُعَ فَهَذَا أَوْلَى لِوُجُودِ عِلَّتَيْنِ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْخَوْفَ عَلَى النَّفْسِ لَا يُبْطِلُ التَّتَابُعَ لِعِلَّتَيْنِ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يُبْطِلُ تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ فِطْرٌ بِعُذْرٍ . وَالثَّانِي : يُبْطِلُ تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ سَبَبٌ وَقَعَ عَنِ اخْتِيَارٍ، فَصَارَ الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي السَّفَرِ . وَالْعُذْرُ السَّادِسُ : الْإِكْرَاهُ على الفطر هل يَبْطُلْ بِهِ التَّتَابُعُ في الكفارة شهرين متتابعين وَهُوَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُكْرَهَ عَلَى الْأَكْلِ بِأَنْ يُوجَرَ فِي حَلْقِهِ كُرْهًا فَلَا يُفْطِرُ . وَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ وَتَتَابُعِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُكَرَهُ بِالضَّرْبِ وَمَا يَصِيرُ بِهِ مُكْرَهًا لِيَأْكُل، فَيَأْكُلُ مُكْرَهًا عَلَيْهِ بِالضَّرْبِ، فَفِي فِطْرِهِ بِذَلِكَ قَوْلَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْحَالِفِ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى الْحِنْثِ هَلْ يَصِيرُ حَانِثًا أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ وَلَا يُفْطِرُ فِي صَوْمِهِ فَعَلَى هَذَا هَلْ يَكُونُ عَلَى تَتَابُعِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِوُجُودِ عِلَّتَيْنِ وَعَدَمِ عِلَّتَيْنِ كَالْمَرَضِ :

أَحَدُهُمَا : لَا يُبْطِلُ لِأَنَّهُ عُذْرٌ، وَلِأَنَّ سَبَبَهُ عَنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُبْطِلُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي الصَّوْمَ، وَلِإِمْكَانِ خُلُوِّ الصَّوْمِ مِنْهُ . فَأَمَّا الْأَكْلُ نَاسِيًا فَلَا يُفْطِرُ ؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَلِأَنَّ وُجُودَ مِثْلِهِ فِي الْقَضَاءِ لَا يُؤْمَنُ، وَإِذَا كَانَ عَلَى صَوْمِهِ كَانَ عَلَى تَتَابُعِهِ . فَصْلٌ : وَأَمَّا الْأَعْذَارُ الْمُخْتَصَّةُ بِالزَّمَانِ فَأَرْبَعَةٌ : أَحَدُهَا : شَهْرُ رَمَضَانَ، وَيَمْنَعُ مِنْ صَوْمِ غَيْرِهِ فِيهِ . وَالثَّانِي : يَوْمُ الْفِطْرِ، وَيَمْنَعُ مِنْ جَمِيعِ الصِّيَامِ فِيهِ . وَالثَّالِثُ : يَوْمُ النَّحْرِ، وَهُوَ كَيَوْمِ الْفِطْرِ يَمْنَعُ مِنْ جَمِيعِ الصَّوْمِ . وَالرَّابِعُ : أَيَّامُ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةِ، لَا يَجُوزُ صِيَامُهَا تَطَوُّعًا، وَفِي جَوَازِ صَوْمِهَا فِي كَفَّارَةِ التَّمَتُّعِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يَجُوزُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ لَا يَجُوزُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ فَلَا تَصُومُوا فَإِنْ مُنِعَ مِنْ صَوْمِهَا فِي الْمُتَعِ مُنِعَ مِنْهَا فِي كُلِّ صَوْمٍ وَكَانَتْ كَيَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ ، وَإِنْ جُوِّزَ صَوْمُهَا فِي التَّمَتُّعِ فَفِي جَوَازِ صَوْمِهَا فِي غَيْرِهِ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّوْمِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا لَا يَجُوزُ لِعُمُومِ تَحْرِيمِهَا وَاسْتِثْنَاءِ التَّمَتُّعِ مِنْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ جَوَازَ صَوْمِهَا فِي التَّمَتُّعِ مُوجِبٌ لِجَوَازِ ذَلِكَ فِي كُلِّ صَوْمٍ لَهُ سَبَبٌ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاثْنَانِ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ يَخْتَصَّانِ بِقَطْعِ صَوْمِ الظِّهَارِ وَهُمَا صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَصَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَتَقَدَّمُهُمَا مَا يَقْطَعُ الصَّوْمَ فَصَارَا قَاطِعَيْنِ لِلصَّوْمِ ، أَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ فَلِأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ عَنْ صَوْمِ الظِّهَارِ ؛ لِأَنَّهُ إِنْ نَوَى صَوْمَ الظِّهَارِ لَمْ يُجْزِهِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الزَّمَانَ يَمْنَعُ مِنْهُ ، وَإِنْ نَوَى عَنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ عَنْ رَمَضَانَ ، لِأَنَّهُ نَوَاهُ وَلَمْ يُجْزِ عَنِ الظِّهَارِ ، وَأَمَّا يَوْمُ النَّحْرِ فَلِمُنَافَاتِهِ كُلَّ الصِّيَامِ بِوُجُوبِ الْفِطْرِ فِيهِ ثُمَّ يَقْطَعَانِ التَّتَابُعَ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ ذَلِكَ عَلَى صَوْمِهِ بِاخْتِيَارِهِ لِإِمْكَانِ تَقْدِيمِهِ عَلَيْهِمَا، فَصَارَ كَالْمُفْطِرِ بِغَيْرِ عُذْرٍ . وَأَمَّا يَوْمُ الْفِطْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَنْقَطِعَ الصَّوْمُ بِهِمَا ، أَمَّا يَوْمُ الْفِطْرِ فَيَتَقَدَّمُهُ شَهْرُ رَمَضَانَ الْمُخْتَصُّ بِقَطْعِ الصَّوْمِ، وَأَمَّا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ فَيَتَقَدَّمُهَا يَوْمُ النَّحْرِ الْمُخْتَصُّ بِقَطْعِ الصَّوْمِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِرْ هَذَانِ الصَّوْمَانِ مُخْتَصَّيْنِ بِقَطْعِ صَوْمِ الظِّهَارِ بِوُجُودِهِمَا فِي تَضَاعِيفَ، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَصَّا بِمَنْعِ ابْتِدَاءِ

صَوْمِ الظِّهَارِ ، فَإِنْ صَامَ أَوَّلَ شَوَّالٍ حَتَّى دَخَلَ فِي صَوْمِهِ يَوْمُ الْفِطْرِ لَمْ يَعْتَدَّ بِهِ وَحْدَهُ وَبَنَى عَلَى مَا بَعْدَهُ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ صَوْمَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ، وَأَمَّا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ إِذَا ابْتَدَأَ بِهَا فِي صَوْمِ ظِهَارِهِ فَإِنْ قِيلَ بِمَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ صَوْمُهَا فِيمَا لَهُ سَبَبٌ جَازَ صَوْمُهَا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَلَمْ يُمْنَعِ ابْتِدَاءَ الصِّيَامِ وَجَازَ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَيْهَا ، وَإِنْ قِيلَ : لَا يَجُوزُ صَوْمُهَا فِيمَا لَهُ سَبَبٌ وَمَا لَا سَبَبَ لَهُ مَنَعْتَ ابْتِدَاءَ الصِّيَامِ وَجَازَ الْبِنَاءُ عَلَى مَا بَعْدَهَا حَتَّى يَسْتَكْمِلَ صَوْمَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا صَامَ بِالْأَهِلَّةِ صَامَ هِلَالَيْنِ وَإِنْ كَانَ تِسْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً وَخَمْسِينَ في الكفارة شهرين متتابعين " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَلَيْسَ يَخْلُو حَالُهُ فِي صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ ؛ إِمَّا أَنْ يَبْتَدِئَ فِي أَوَّلِ الْهِلَالِ أَوْ فِي تَضَاعِيفِهِ ، فَإِنْ بَدَأَ بِهِ فِي أَوَّلِهِ وَاسْتَهَلَّ الشَّهْرَ بِصَوْمِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ هِلَالَيْنِ لِأَنَّ شُهُورَ الشَّرْعِ هِيَ الشُّهُورُ الْهِلَالِيَّةُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [ الْبَقَرَةِ : ] وَشُهُورُ الْأَهِلَّةِ قَدْ تَكْمُلُ تَارَةً فَتَكُونُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَتَنْقُصُ أُخْرَى فَتَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَحُكْمُ الشَّهْرِ يَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ زِيَادَتِهِ وَنَقْصِهِ ، رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الْعَشْرِ يَعْنِي ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ قَالَ : وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الْعَشْرِ وَثَنَى إِبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ، كَأَنَّهَا عَقْدُ خَمْسِينَ يَعْنِي تِسْعَةً وَعِشْرِينَ " وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - " صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تِسْعَةً وَعِشْرِينَ أَكْثَرَ مِمَّا صُمْنَا ثَلَاثِينَ " فَإِنْ كَانَ شَهْرَا صَوْمِهِ كَامِلَيْنِ صَامَ سِتِّينَ يَوْمًا وَإِنْ كَانَا نَاقِصَيْنِ صَامَ ثَمَانِيَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كَامِلًا وَالْآخَرُ نَاقِصًا صَامَ تِسْعَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا . فَصْلٌ : وَإِنِ ابْتَدَأَ بِالصَّوْمِ فِي تَضَاعِيفِ الشَّهْرِ كَأَنَّهُ بَدَأَ بِالصَّوْمِ وَقَدْ مَضَى مِنْهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ فَكَانَ أَوَّلُ صَوْمِهِ الْحَادِي عَشَرَ فَيَصُومُ بَاقِيَهُ ثُمَّ يَنْظُرُ فِيهِ ؛ فَإِنْ كَانَ كَامِلًا وَكَانَ بَاقِيهِ عِشْرِينَ يَوْمًا صَامَ الشَّهْرَ الَّذِي بَعْدَهُ مَا بَيْنَ هِلَالَيْنِ كَامِلًا كَانَ أَوْ نَاقِصًا، ثُمَّ صَامَ مِنَ الشَّهْرِ الثَّالِثِ عَشْرَةَ أَيَّامٍ يَسْتَكْمِلُ بِهَا الشَّهْرَ الْأَوَّلَ وَقَدْ أَكْمَلَ بِهَا صَوْمَ الشَّهْرَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ نَاقِصًا وَكَانَ بَاقِيهِ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا صَامَ مِنَ الشَّهْرِ الثَّالِثِ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا يَسْتَكْمِلُ بِهَا الشَّهْرَ الْأَوَّلَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا اعْتِبَارًا بِكَمَالِهِ دُونَ نُقْصَانِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَصُومُ مِنَ الشَّهْرِ الثَّالِثِ عَشْرَةَ أَيَّامٍ هِيَ عِدَّةُ مَا مَضَى مِنَ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ قَبْلَ صَوْمِهِ لِأَنَّ الشَّهْرَ النَّاقِصَ لَا يَلْزَمُ تَكْمِيلُهُ، كَمَا لَوِ ابْتَدَأَ بِالصَّوْمِ مِنْ أَوَّلِهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ إِذَا فَاتَ هِلَالُهُ وَجَبَ عَدَدُهُ، وَإِذَا عُدَّ وَجَبَ أَنْ يُسْتَكْمَلَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ

وَلَأَنْ يَعُدَّ مَا صَامَ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَعُدَّ مَا لَمْ يَصُمْ وَقَدْ صَامَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَإِنْ تَرَكَ مِنْ أَوَّلِهِ عَشْرَةَ أَيَّامٍ فَوَجَبَ أَنْ يَصُومَ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا لِيُكْمِلَ بِهَا ثَلَاثِينَ يَوْمًا . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يُقَدِّمَ نِيَّةَ الصَّوْمِ قَبْلَ الدُّخُولِ في الكفارة شهرين متتابعين " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : النِّيَّةُ فِي صَوْمِ الظِّهَارِ مُسْتَحَقَّةٌ قَبْلَ الْفَجْرِ ؛ لِأَنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ وَعَلَيْهِ أَنْ يُجَدِّدَ النِّيَّةَ لِكُلِّ يَوْمٍ، وَإِنْ كَانَ تَتَابُعُ الصَّوْمِ مُسْتَحَقًّا، كَمَا يَلْزَمُهُ تَجْدِيدُ النِّيَّةِ لِكُلِّ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ مَعَ نِيَّةِ الصَّوْمِ أَنْ يَنْوِيَ التَّتَابُعَ أَمْ لَا ؟ في الكفارة شهرين متتابعين عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ تَتَابُعَ الصَّوْمِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّتَابُعِ كَمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِالصَّوْمِ، ثُمَّ كَانَتْ نِيَّةُ الصَّوْمِ وَاجِبَةً، فَكَذَلِكَ نِيَّةُ التَّتَابُعِ ، فَإِنْ نَوَى الصَّوْمَ وَلَمْ يَنْوِ التَّتَابُعَ لَمْ يُجْزِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُتَابَعَةُ صَلَاتَيِ الْجَمْعِ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِنِيَّةِ الْجَمْعِ، كَذَلِكَ مُتَابَعَةُ صَوْمِ الْكَفَّارَةِ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِنِيَّةِ الْمُتَابَعَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : عَلَيْهِ نِيَّةُ التَّتَابُعِ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى وَلَا يَلْزَمُهُ تَجْدِيدُ النِّيَّةِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، بِخِلَافِ نِيَّةِ الصَّوْمِ ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الصَّوْمِ بِخُرُوجِ الْيَوْمِ فَلَزِمَهُ تَجْدِيدُ نِيَّةِ الصَّوْمِ ، وَلَا يَخْرُجُ مِنَ التَّتَابُعِ بِخُرُوجِ الْيَوْمِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ تَجْدِيدُ نِيَّةِ التَّتَابُعِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : لَا يَلْزَمُهُ نِيَّةُ التَّتَابُعِ بِحَالٍ لَا فِي جَمِيعِهِ وَلَا فِي أَوَّلِهِ لِأَنَّ تَتَابُعَ الصَّوْمِ مِنْ شُرُوطِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَالْعِبَادَةُ إِذَا تَضَمَّنَتْ شُرُوطًا وَأَحْكَامًا أَجْزَأَتِ النِّيَّةُ لَهَا عَنِ النِّيَّةِ لِشُرُوطِهَا وَأَحْكَامِهَا كَالنِّيَّةِ لِلصَّلَاةِ تُغْنِي عَنْ أَنْ يَنْوِيَ مَا تَضَمَّنَهَا مِنْ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَشُرُوطٍ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ نَوَى صَوْمَ يَوْمٍ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ فِيهِ ثُمَّ أَفَاقَ قَبْلَ اللَّيْلِ أَوْ بَعْدَهُ وَلَمْ يَطْعَمْ أَجْزَأَهُ إِذَا دَخَلَ فِيهِ قَبْلَ الْفَجْرِ وَهُوَ يَعْقِلُ، فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْفَجْرِ لَمْ يُجْزِئْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الصَّوْمِ وَهُوَ يَعْقِلُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : كُلُّ مَنْ أَصْبَحَ نَائِمًا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ صَامَ وَإِنْ لَمْ يَعْقِلْهُ إِذَا تَقَدَّمَتْ نِيَّتُهُ ( قَالَ ) وَلَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِيهِ وَفِي يَوْمٍ بَعْدَهُ وَلَمْ يَطْعَمِ اسْتَأْنَفَ الصَّوْمَ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِيهِ كُلِّهِ غَيْرُ صَائِمٍ، وَلَا يُجْزِئُهُ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْهُ عَلَى حِدَتِهِ قَبْلَ الْفَجْرِ لِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ مِنْهُ غَيْرُ صَاحِبِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْجُنُونُ فَيُبْطِلُ الصَّوْمَ ، سَوَاءً كَانَ فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ أَوْ فِي بَعْضِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ التَّكْلِيفَ وَيُنَافِي الْعِبَادَةَ .

وَأَمَّا الْإِغْمَاءُ فَإِنِ اسْتَدَامَ فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ أَبْطَلَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَبْطُلْ بِالنَّوْمِ . وَقَالَ الْمُزَنِيُّ : لَا يَبْطُلُ بِالْإِغْمَاءِ كَمَا لَا يَبْطُلُ بِالنَّوْمِ . وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ : يَبْطُلُ بِالنَّوْمِ كَمَا يَبْطُلُ بِالْإِغْمَاءِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَصَحُّ وَهُوَ أَنَّ النَّوْمَ صِحَّةٌ مُعْتَادَةٌ إِذَا نُبِّهَ مَعَهَا تَنَبَّهَ، فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْيَقَظَةِ فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ، وَالْإِغْمَاءُ مَرَضٌ يُزِيلُ التَّمْيِيزَ وَيُفَارِقُ الشَّهْوَةَ وَيُفَارِقُ الْعَادَةَ وَلَا يَنْتَبِهُ إِذَا نُبِّهَ فَصَارَ بِالْجُنُونِ أَشْبَهَ ، فَأَمَّا إِذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ وَأَفَاقَ فِي بَعْضِهِ هل يَفْسُدْ صَوْمُهُ فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ كِتَابِ الظِّهَارِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُفِيقًا فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ وَعِنْدَ طُلُوعِ فَجْرِهِ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ بِحُدُوثِ الْإِغْمَاءِ مِنْ بَعْدِهِ ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الصَّوْمِ وَهُوَ يَعْقِلُ ، وَإِنْ كَانَ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ وَعِنْدَ طُلُوعِ فَجْرِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ ، وَإِنْ أَفَاقَ مِنْ بَعْدِهِ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِيهِ وَهُوَ لَا يَعْقِلُ . وَقَالَ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ إِنْ أَفَاقَ فِي بَعْضِ يَوْمٍ صَحَّ يَوْمُهُ . وَقَالَ فِي اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ وَلَوْ حَاضَتْ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهَا بَطَلَ صَوْمُهَا فَخَرَّجَ أَصْحَابُنَا اخْتِلَافَ هَذِهِ النُّصُوصِ الثَّلَاثَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَبْطُلُ الصَّوْمُ بِوُجُودِ الْإِغْمَاءِ فِي بَعْضِهِ كَالْجُنُونِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ الصَّوْمُ بِالْإِغْمَاءِ إِذَا وُجِدَتِ الْإِفَاقَةُ فِي بَعْضِهِ كَالنَّوْمِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : إِنْ كَانَتِ الْإِفَاقَةُ فِي أَوَّلِهِ لَمْ يَبْطُلْ بِحُدُوثِ الْإِغْمَاءِ فِي بَاقِيهِ وَإِنْ كَانَ الْإِغْمَاءُ فِي أَوَّلِهِ لَمْ يَصِحَّ بِحُدُوثِ الْإِفَاقَةِ فِي بَاقِيهِ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ لَا يَصِحُّ صَوْمُهُ مَعَ الْإِغْمَاءِ، إِلَّا أَنْ تُوجَدَ الْإِفَاقَةُ فِي طَرَفَيْهِ فِي أَوَّلِهِ عِنْدَ الدُّخُولِ وَفِي آخِرِهِ عِنْدَ الْخُرُوجِ اعْتِبَارًا بِوُجُودِ الْقَصْدِ فِي أَوَّلِ الْعِبَادَةِ وَآخِرِهَا كَمَا تَلْزَمُ النِّيَّةُ فِي الصَّلَاةِ مَعَ الدُّخُولِ فِيهَا وَالْخُرُوجِ مِنْهَا . فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَ هَذَا قَوْلًا رَابِعًا لِلشَّافِعِيِّ ، وَأَنْكَرَ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ تَخْرِيجَهُ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ وَجَعَلُوهُ مَذْهَبًا لَهُمَا، وَفَرَّقُوا بَيْنَ أَوَّلِ الصَّوْمِ وَآخِرِهِ بِأَنَّ أَوَّلَ الصَّوْمِ تُعْتَبَرُ فِيهِ النِّيَّةُ فَاعْتُبِرَتْ فِيهِ الْإِفَاقَةُ وَآخِرَهُ لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ النِّيَّةُ، فَلَمْ تُعْتَبَرْ فِيهِ الْإِفَاقَةُ وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ مُسْتَوْفَاةً . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَافِعيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ صَامَ شَهْرَ رَمَضَانَ فِي الشَّهْرَيْنِ الكفارة أَعَادَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَاسْتَأْنَفَ شَهْرَيْنِ ( قَالَ ) وَأَقَلُّ مَا يَلْزَمُ مَنْ قَالَ إِنَّ الْجِمَاعَ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الصَّوْمِ يُفْسِدُ الصَّوْمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أَنْ يَزْعُمَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ بِالصَّوْمِ وَالْعِتْقِ لَا يُجْزِئَانِ بَعْدَ أَنْ يَتَمَاسَّا ( قَالَ ) وَالَّذِي صَامَ شَهْرًا قَبْلَ التَّمَاسِّ وَشَهْرًا بَعْدَهُ أَطَاعَ اللَّهَ فِي

شَهْرٍ وَعَصَاهُ بِالْجِمَاعِ قَبْلَ شَهْرٍ يَصُومُهُ، وَإِنَّ مَنْ جَامَعَ قَبْلَ الشَّهْرِ الْآخَرِ مِنْهُمَا أَوْلَى أَنْ يَجُوزَ مِنَ الَّذِي عَصَى اللَّهَ بِالْجِمَاعِ قَبْلَ الشَّهْرَيْنِ مَعًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لَا يَخْلُو إِذَا صَامَ شَهْرَ رَمَضَانَ فِي شَهْرَيِ الظِّهَارِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقْدَمَ شَهْرُ رَمَضَانَ فِي أَوَّلِ صَوْمِهِ، فَيَصُومَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَشَوَّالٍ، فَلَا يُجْزِيهِ شَهْرُ رَمَضَانَ عَنْ كَفَّارَتِهِ وَلَا يَوْمَ الْفِطْرِ مِنْ شَوَّالٍ، وَبَنَى عَلَى مَا بَعْدَهُ مِنْ شَوَّالٍ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ صَوْمَ شَهْرَيْنِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ رَمَضَانَ إِنْ كَانَ قَدْ نَوَاهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُؤَخِّرَ رَمَضَانَ فِي آخِرِ صَوْمِهِ، فَيَصُومُ شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ فَلَا يُجْزِيهِ صَوْمُهُمَا، أَمَّا رَمَضَانُ فَلِأَنَّهُ زَمَانُهُ يَمْنَعُ مِنْ إِيقَاعِ غَيْرِهِ فِيهِ، وَأَمَّا شَعْبَانُ فَلِأَنَّ رَمَضَانَ قَدْ أَبْطَلَ تَتَابُعَهُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ صَوْمَ رَمَضَانَ وَيَسْتَأْنِفَ صَوْمَ شَهْرَيْنِ عَنْ كَفَّارَتِهِ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ فِي وَسَطِ صَوْمِهِ ؛ كَأَنَّهُ صَامَ مِنْ نِصْفِ شَعْبَانَ إِلَى نِصْفِ شَوَّالٍ، فَيَعْتَدُّ مِنْ شَوَّالٍ بِمَا بَعْدَ يَوْمِ الْفِطْرِ مِنْهُ، وَيَبْنِي عَلَيْهِ تَمَامَ شَهْرَيْنِ، وَلَا يَعْتَدُّ بِمَا صَامَ مِنْ شَعْبَانَ، لِقَطْعِ تَتَابُعِهِ بِشَهْرِ رَمَضَانَ، وَيُعِيدُ صَوْمَ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ صَامَهُ عَنِ الظِّهَارِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنَّمَا حُكْمُهُ فِي الْكَفَّارَاتِ حَيْنَ يُكَفِّرُ كَمَا حُكْمُهُ فِي الصَّلَاةِ حِينَ يُصَلِّي " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ وَالْوَطْءِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مُتَمَاثِلَةٌ، وَأَنَّ أَبْدَالَهَا مُرَتَّبَةٌ يَلْزَمُ فِيهَا الْعِتْقُ، وَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ إِلَى الصَّوْمِ إِلَّا بِالْإِعْسَارِ، وَلَا يُعْدَلُ عَنِ الصَّوْمِ إِلَى الْإِطْعَامِ إِلَّا بِالْعَجْزِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ هَلْ يُرَاعَى بِالْكَفَّارَةِ حَالُ الْوُجُوبِ أَوْ حَالُ الْأَدَاءِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ كِتَابِ الظِّهَارِ أَنَّ الْمُرَاعَى بِهِ حَالُ الْأَدَاءِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَوَجْهُهُ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ حَقٌّ لَهُ بَدَلٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَعْتَبِرَ بِحَالَةِ أَدَائِهِ لَا حَالِ وُجُوبِهِ كَالطَّهَارَةِ ؛ لِأَنَّهَا إِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ فَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ حَتَّى عَدِمَهُ جَازَ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ عَادِمٌ لِلْمَاءِ فَلَمْ يَتَيَمَّمْ حَتَّى وَجَدَ الْمَاءَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْأَدَاءِ فِي الْحَالَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ فَرْضٌ يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ بِحَسَبِ حَالِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا بِأَدَائِهِ

كَالصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ صَحِيحٌ فَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى مَرِضَ صَلَّى صَلَاةَ مَرِيضٍ وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ مَرِيضٌ فَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى صَحَّ صَلَّى صَلَاةَ صَحِيحٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي الْأَيْمَانِ أَنَّ الْمُرَاعَى بِهَا حَالُ الْوُجُوبِ وَوَجْهُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ وَهَذِهِ عِبَارَةٌ عَمَّا مَضَى فَدَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ حَالِ الْوُجُوبِ ، وَلِأَنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَاتٌ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ بِالْحُدُودِ حَالُ الْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ زَنَى بِكْرًا فَلَمْ يُحَدَّ حَتَّى أُحْصِنَ حُدَّ حَدَّ الْبِكْرِ وَلَوْ زَنَى وَهُوَ عَبْدٌ فَلَمْ يُحَدَّ حَتَّى أُعْتِقَ حُدَّ حَدَّ الْعَبِيدِ ، وَتَجْوِيزُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ بِاسْمِ التَّكْفِيرِ، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ بِهِ حَالُ الْوُجُوبِ كَالْمَحْدُودِ ، وَلِأَنَّ الْمَالَ إِذَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ لَمْ يَسْقُطْ بِالْإِعْسَارِ كَالدُّيُونِ وَالزَّكَوَاتِ ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَلَى صِفَةٍ مَعْلُومَةٍ لِامْتِنَاعِ وُجُوبِ مَا لَا يُعْلَمُ صِفَتُهُ ، وَالْحَالَةُ صِفَتُهَا يَمْنَعُ مِنَ الِانْتِقَالِ عَنْهَا لِأَنَّهُ يَكُونُ بَدَلًا وَفَسْخًا لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْمُرَاعَى بِهَا أَغْلَظُ أَحْوَالِهِ مِنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ إِلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ حَقٌّ مُتَوَسَّعُ الْوَقْتِ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ بِوُجُودِ الْمَالِ فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ بِأَغْلَظِ الْأَحْوَالِ كَالْحَجِّ ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ تَغْلِيظٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَنْفَكَّ فِي أَحْوَالِهَا عَنِ التَّغْلِيظِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَوْجِيهِ الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ حِينِ عَوْدِهِ فِي ظِهَارِهِ إِلَى وَقْتِ تَكْفِيرِهِ مِنْ سِتَّةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا بِالْعِتْقِ فِي أَحْوَالِهِ كُلِّهَا فَفَرْضُهُ الْعِتْقُ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا بِالْعِتْقِ فِي أَحْوَالِهِ كُلِّهَا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا فِي كُلِّ الْبِلَادِ فَفَرْضُهُ الصَّوْمُ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا ، لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا فِي بَلَدِ تَكْفِيرِهِ مُوسِرًا فِي غَيْرِهِ، فَالْكَفَّارَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَ مَحَلُّهُ مُعَيَّنًا، مِثْلَ كَفَّارَةِ التَّمَتُّعِ بِالْحَجِّ، فَإِذَا كَانَ مُعْسِرًا بِمَكَّةَ مُوسِرًا فِي غَيْرِهَا أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُعْسِرِ فِي جَوَازِ الصَّوْمِ اعْتِبَارًا بِمَكَانِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا كَانَ مَحَلُّهُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ وَلَا يَلْحَقُهُ بِتَأْخِيرِهِ ضَرَرٌ، مِثْلُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالْحِنْثِ

فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُوسِرِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْعِتْقِ فِي مَوْضِعِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَلَيْسَ فِي تَأْخِيرِهِ حَرَجٌ وَلَا ضَرَرٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَجُوزَ تَأْخِيرُهُ، لَكِنْ يَلْحَقُهُ فِيهِ ضَرَرٌ ؛ مِثْلُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، قَدْ يَلْحَقُهُ فِي تَأْخِيرِهَا ضَرَرٌ، وَإِنْ جَازَ لِمَا عَلَيْهِ مِنِ اجْتِنَابِ الْوَطْءِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُوسِرِ فِي التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ إِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُعْسِرِ فِي التَّكْفِيرِ بِالصَّوْمِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الضَّرَرِ فِي تَأْخِيرِ التَّكْفِيرِ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا عِنْدَ الْعَوْدِ مُعْسِرًا عِنْدَ الْأَدَاءِ . فَإِنْ قِيلَ : الِاعْتِبَارُ بِوَقْتِ الْوُجُوبِ أَوْ بِأَغْلَظِ الْأَحْوَالِ فَفَرْضُهُ الْعِتْقُ . وَإِنْ قِيلَ : الِاعْتِبَارُ بِوَقْتِ الْأَدَاءِ فَفَرْضُهُ الصَّوْمُ وَإِنْ أَعْتَقَ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ الْعِتْقَ أَغْلَظُ مِنَ التَّكْفِيرِ بِالصَّوْمِ . وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا وَقْتَ الْعَوْدِ مُوسِرًا عِنْدَ التَّكْفِيرِ فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الِاعْتِبَارَ بِوَقْتِ الْأَدَاءِ أَوْ بِأَغْلَظِ الْأَحْوَالِ فَفَرْضُهُ الْعِتْقُ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الِاعْتِبَارَ بِوَقْتِ الْوُجُوبِ فَفَرْضُهُ الصَّوْمُ . وَالْحَالَةُ الْخَامِسَةُ : أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا فِي الطَّرَفَيْنِ وَقْتَ الْوُجُوبِ وَعِنْدَ التَّكْفِيرِ وَمُعْسِرًا فِي الْوَسَطِ فَفَرْضُهُ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا الْعِتْقُ ؛ لِأَنَّهُ وَقْتَ الْوُجُوبِ مُوسِرٌ وَعِنْدَ الْأَدَاءِ مُوسِرٌ وَأَغْلَظُ الْأَحْوَالِ الْيَسَارُ . وَالْحَالُ السَّادِسَةُ : أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا فِي الطَّرَفَيْنِ مُوسِرًا فِي الْوَسَطِ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الِاعْتِبَارَ بِوَقْتِ الْوُجُوبِ أَوْ بِوَقْتِ الْأَدَاءِ فَفَرْضُهُ الصَّوْمُ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الِاعْتِبَارَ بِأَغْلَظِ الْأَحْوَالِ فَفَرْضُهُ الْعِتْقُ ؛ لِأَنَّهُ أَغْلَظُ أَحْوَالِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ دَخَلَ فِي الصَّوْمِ ثُمَّ أَيْسَرَ كَانَ لَهُ أَنْ يَمْضِيَ عَلَى الصِّيَامِ وَالِاخْتِيَارُ لَهُ أَنْ يَدَعَ الصَّوْمَ وَيُعْتِقَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا دَخَلَ الْمُكَفِّرُ فِي الصِّيَامِ لِاسْتِدَامَةِ الْإِعْسَارِ ثُمَّ أَيْسَرَ فِي تَضَاعِيفِ صَوْمِهِ جَازَ أَنْ يُتِمَّ صَوْمَهُ وَيُجْزِئُهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ فَإِنْ قَطَعَ صَوْمَهُ وَكَفَّرَ بِالْعِتْقِ كَانَ أَفْضَلَ ؛ كَالْمُتَيَمِّمِ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي تَضَاعِيفِ صَلَاتِهِ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ إِتْمَامِهَا وَبَيْنَ الْخُرُوجِ مِنْهَا وَاسْتِئْنَافِهَا بِالْوُضُوءِ .

وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْمُزَنِيُّ يَلْزَمُهُ قَطْعُ صَوْمِهِ وَالتَّكْفِيرُ بِالْعِتْقِ، وَكَذَلِكَ الْمُتَيَمِّمُ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي صَلَاتِهِ لَزِمَهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا وَاسْتِئْنَافُهَا بِالْوُضُوءِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْمُتَيَمِّمِ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ وَهُوَ أَصْلٌ فِي الْكَفَّارَةِ وَمَضَى الْكَلَامُ فِي الْكَفَّارَةِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ إِذَا أَيْسَرَ الْمُتَمَتِّعُ فِي تَضَاعِيفِ صَوْمِهِ تَمَّمَ صَوْمَهُ وَأَجْزَأَهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنْ أَيْسَرَ فِي صَوْمِ الثَّلَاثَةِ كَفَّرَ بِالدَّمِ وَإِنْ أَيْسَرَ فِي صَوْمِ السَّبْعَةِ جَازَ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الصَّوْمِ . وَقَالَ الْمُزَنِيُّ : يُكَفِّرُ بِالدَّمِ سَوَاءً أَيْسَرَ فِي صَوْمِ الثَّلَاثَةِ أَوِ السَّبْعَةِ، لَكِنْ نَقْتَصِرُ عَلَى بَعْضِ الْأَدِلَّةِ لِمَا قَدْ أَوْرَدَهُ الْمُزَنِيُّ هَا هُنَا مِنَ الْأَدِلَّةِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَأَوْجَبَ الْعِتْقَ فِيهِ ، عَلَى مَنْ إِنْ لَمْ يَجِدْهُ صِيَامَ شَهْرَيْنِ ، وَهَذَا قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّوْمِ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الْعِتْقُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الصَّوْمِ ، وَلِأَنَّهُ شَرَعَ فِي الصَّوْمِ بِالْإِعْسَارِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الِانْتِقَالُ بِحُدُوثِ الْيَسَارِ كَمَا لَوْ أَيْسَرَ فِي صَوْمِ السَّبْعَةِ وَلِأَنَّ كُلَّ مُعْسِرٍ لَا يَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُ الصَّوْمِ لَمْ يَلْزَمْهُ بِحُدُوثِ الْيَسَارِ الرُّجُوعُ إِلَى بَدَلِ الصَّوْمِ أَصْلُهُ إِذَا أَيْسَرَ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الصَّوْمِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ كَانَ الصَّوْمُ فَرْضَهُ مَا جَازَ اخْتِيَارُ إِبْطَالِ الْفَرْضِ، وَالرَّقَبَةُ فَرْضٌ وَإِنْ وَجَدَهَا لَا غَيْرُهَا، كَمَا أَنَّ الْوُضُوءَ بِالْمَاءِ فَرْضٌ إِذَا وَجَدَهُ لَا غَيْرُهُ، وَلَا خِيَارَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ فَلَا يَخْلُو الدَّاخِلُ فِي الصَّوْمِ إِذَا وَجَدَ الرَّقَبَةَ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَاهُ الْمُتَقَدِّمِ فَلَا فَرْضَ عَلَيْهِ إِلَّا الصَّوْمُ فَكَيْفَ يُجْزِئُهُ الْعِتْقُ وَهُوَ غَيْرُ فَرْضِهِ أَوْ يَكُونُ صَوْمُهُ قَدْ بَطَلَ لِوُجُودِ الرَّقَبَةِ فَلَا فَرْضَ إِلَّا الْعِتْقُ، فَكَيْفَ يُتِمُّ الصَّوْمَ فَيُجْزِئُهُ وَهُوَ غَيْرُ فَرْضِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ إِذَا أَعْتَقَ أَدَّى فَرْضَهُ ثَبَتَ أَنْ لَا فَرْضَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، وَفِي ذَلِكَ إِبْطَالُ صَوْمِهِ كَمُعْتَدَّةٍ بِالشُّهُورِ فَإِذَا حَدَثَ الْحَيْضُ بَطَلَتِ الشُّهُورُ وَثَبَتَ حُكْمُ الْحَيْضِ عَلَيْهَا، وَلَمَّا كَانَ وُجُودُ الرَّقَبَةِ يُبْطِلُ صَوْمَ الشَّهْرَيْنِ كَانَ وُجُودُهَا بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الشُّهُورِ يُبْطِلُ مَا بَقِيَ مِنَ الشُّهُورِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ الرَّقَبَةَ بَعْدَ الدُّخُولِ بَطَلَ مَا بَقِيَ مِنَ الشَّهْرَيْنِ المتتبابعين في الكفارة . وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَذَا الْمَعْنَى ؛ زَعَمَ فِي الْأَمَةِ تُعْتَقُ وَقَدْ دَخَلَتْ فِي الْعِدَّةِ أَنَّهَا لَا تَكُونُ فِي عِدَّتِهَا حُرَّةً وَتَعْتَدُّ عِدَّةَ أَمَةٍ، وَفِي الْمُسَافِرِ يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ ثَمَّ يُقِيمُ لَا يَكُونُ فِي بَعْضِ صَلَاتِهِ مُقِيمًا وَيَقْصُرُ ثُمَّ قَالَ وَهَذَا أَشْبَهُ بِالْقِيَاسِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) فَهَذَا مَعْنَى مَا قُلْتُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ أَعْرَضَ لِنُصْرَةِ مَذْهَبِهِ بِخَمْسَةِ أَسْئِلَةٍ : أَحَدُهَا : أَنْ قَالَ لَوْ كَانَ الصَّوْمُ فَرْضَهُ مَا جَازَ إِبْطَالُ الْفَرْضِ، وَالتَّكْفِيرُ بِالْعِتْقِ فِي جَوَازِ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْعِتْقِ دُونَ الصَّوْمِ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّ فَرْضَ الصَّوْمِ تَخْفِيفٌ وَالْعِتْقَ تَغْلِيظٌ، وَإِسْقَاطُ الْأَخَفِّ بِالْأَغْلَظِ يَجُوزُ، كَمَا أَنَّ فَرْضَ الْوَاجِدِ لِلْمَاءِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ التَّيَمُّمُ، وَلَوِ اشْتَرَى الْمَاءَ وَتَوَضَّأَ بِهِ أَجْزَأَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَرْضَهُ ، وَالْمَرِيضُ فَرْضُهُ فِي الصَّلَاةِ الْقُعُودُ، وَلَوْ تَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ فِي قِيَامِهِ أَجْزَأَهُ، كَمَا أَنَّ الْمُعْسِرَ فِي الْكَفَّارَةِ فَرَضُهُ الصَّوْمُ وَلَوِ اسْتَدَانَ وَأَعْتَقَ أَجَزْأَهُ الْعِتْقُ ، كَذَلِكَ إِذَا أَيْسَرَ فِي تَضَاعِيفِ الصَّوْمِ . وَالسُّؤَالُ الثَّانِي : أَنْ قَالَ الْفَرْضُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ عَلَى التَّرْتِيبِ ، وَإِذَا خُيِّرَ بَيْنَ إِتْمَامِ الصَّوْمِ وَالْعِتْقِ جَعَلْتَ عَلَى التَّخْيِيرِ وَفِي هَذَا إِحَالَةُ فَرْضٍ وَتَغْيِيرُ نَصٍّ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّ فَرْضَهَا عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْوُجُوبِ وَعَلَى التَّمْيِيزِ فِي الِاسْتِحْبَابِ ؛ كَالْمُعْسِرِ يُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ مِنْ عَدَمِ الرَّقَبَةِ وَلَهُ الْخِيَارُ فِي التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ إِذَا اسْتَحَبَّ التَّغْلِيظَ، وَلَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ إِحَالَةُ فَرْضِهَا مِنَ التَّرْتِيبِ إِلَى التَّخْيِيرِ . وَالسُّؤَالُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ بِالشُّهُورِ إِذَا حَاضَتْ فِي تَضَاعِيفِ شُهُورِهَا انْتَقَلَتْ إِلَى الْأَقْرَاءِ وَاعْتَدَّتْ بِالْحَيْضِ وَبَطَلَتْ شُهُورُهَا، كَذَلِكَ الْمُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ إِذَا وَجَدَ الرَّقَبَةَ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ وَإِنِ انْتَقَلَتْ بِرُؤْيَةِ الْحَيْضِ إِلَى الِاعْتِدَادِ بِالْأَقْرَاءِ فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِمَا مَضَى مِنْ شُهُورِهَا قُرْءًا ثُمَّ تُكْمِلُ أَقَرَاءَهَا بِالْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعِدَّةِ وَالْكَفَّارَةِ أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ الِاعْتِدَادُ بِمَا مَضَى مِنَ الشُّهُورِ فَجَازَ أَنْ يَلْزَمَ الِانْتِقَالَ إِلَى الْأَقْرَاءِ وَلَيْسَ يَقَعُ الِاعْتِدَادُ بِمَا مَضَى مِنَ الصَّوْمِ فَلَمْ يَلْزَمِ الِانْتِقَالُ إِلَى الْعِتْقِ لِئَلَّا يَصِيرَ جَامِعًا فِي التَّكْفِيرِ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْعِتْقِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا لَا تَعْتَدُّ بِمَا مَضَى مِنْ شُهُورِهَا فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعِدَّةِ وَالْكَفَّارَةِ أَنَّ دُخُولَهَا فِي الْعِدَّةِ عَلَى شَكٍّ مِنْ فَرْضِهَا لِجَوَازِ انْتِقَالِهَا مِنَ الشُّهُورِ إِلَى الْحَيْضِ وَمِنَ الْحَيْضِ إِلَى الْحَمْلِ، وَالدُّخُولُ فِي الْكَفَّارَةِ عَلَى يَقِينٍ مِنَ الْفَرْضِ فِيهِ . وَالسُّؤَالُ الرَّابِعُ : أَنَّ الْأَمَةَ إِذَا أُعْتِقَتْ فِي الْعِدَّةِ لَزِمَتْهَا عِدَّةُ حُرَّةٍ، كَذَلِكَ الْمُكَفِّرُ إِذَا أَيْسَرَ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّ فِي عِدَّتِهَا بَعْدَ الْعِتْقِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَعْتَدُّ عِدَّةَ أَمَةٍ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ السُّؤَالُ

وَالْقَوْلُ الثَّانِي : تَبْنِي عَلَى عِدَّةِ حُرَّةٍ اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ يَقَعُ الِاحْتِسَابُ بِمَا مَضَى مِنَ الْعِدَّةِ وَلَا يَقَعُ الِاحْتِسَابُ بِمَا مَضَى مِنَ الصَّوْمِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْعِدَّةِ بِالِانْتِهَاءِ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي الِابْتِدَاءِ وَالِاعْتِبَارَ فِي الْكَفَّارَةِ بِالِابْتِدَاءِ لِانْتِفَاءِ الشَّكِّ عَنْهُ . وَالسُّؤَالُ الْخَامِسُ : أَنْ قَالَ فِي الْمُسَافِرِ إِذَا أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ نَاوِيًا الْقَصْرَ ثُمَّ أَقَامَ لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّهَا صَلَاةَ مُقِيمٍ وَلَا يَبْنِي وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى صَلَاةِ مُسَافِرٍ، وَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِهَا مُسَافِرًا، كَذَلِكَ الْمُكَفِّرُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ إِذَا صَارَ مُوسِرًا . وَالْجَوَابُ عَنْهُ : مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْعِدَّةِ مِنْ أَنَّهُ قَدْ يَعْتَدُّ بِمَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ قَبْلَ إِقَامَتِهِ وَهُوَ لَا يَعْتَدُّ فِي الْكَفَّارَةِ بِمَا مَضَى مِنْ صِيَامِهِ فَافْتَرَقَا ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّوْمِ الِانْتِقَالُ إِلَى الْعِتْقِ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ هَكَذَا إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ لِعَجْزِهِ عَنِ الصِّيَامِ، فَشَرَعَ فِيهِ فَأَطْعَمَ بَعْضَ الْمَسَاكِينِ أَوْ مِسْكِينًا وَاحِدًا ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الصِّيَامِ لَمْ يَلْزَمْهُ الصَّوْمُ وَجَازَ أَنْ يُخْرِجَ بَاقِيَ الْإِطْعَامِ ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْمُبْدَلِ بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي الْبَدَلِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ السَّاعَةَ عَنْ ظِهَارِي، إِنْ تَظَهَّرْتَهُ كَانَ حُرًّا لِسَاعَتِهِ وَلَمْ يُجْزِئْهُ أَنْ يَتَظَهَّرَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا وَلَمْ يَكُنْ سَبَبًا مِنْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ يُعْتَقُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَنْجَزَ عِتْقَهُ وَلَا يُجْزِيهِ عَنْ ظِهَارِهِ إِنْ تَظَاهَرَ لِوُجُوبِ الْعِتْقِ بِسَبَبَيْنِ هُمَا الظِّهَارُ وَالْعَوْدُ، فَلَمْ يَجُزْ تَعْجِيلُهُ قَبْلَ وُجُودِ أَحَدِ السَّبَبَيْنِ كَمَا لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ وُجُودِ الْحَوْلِ وَالنِّصَابِ، وَلَا تَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْيَمِينِ وَالْحِنْثِ ، وَلَوْ أَعْتَقَ بَعْدَ الظِّهَارِ وَقَبْلَ الْعَوْدِ أَجْزَأَهُ الْعِتْقُ إِذَا عَادَ لِوُجُودِ أَحَدِ السَّبَبَيْنِ، كَمَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُودِ النِّصَابِ وَقَبْلَ الْحَوْلِ وَتَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ الْيَمِينِ وَقَبْلَ الْحِنْثِ . فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَا تَكُونُ مُظَاهِرَةً وَلَا تَجِبُ عَلَيْهَا كَفَّارَةٌ . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالنَّخَعِيُّ يَكُونُ ظِهَارًا تَلْزَمُهَا بِهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ تَجِبُ عَلَيْهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَخَاطَبَ الرِّجَالَ بِالظِّهَارِ فِي النِّسَاءِ فَلَمْ يَصِحَّ مِنَ النِّسَاءِ فِي الرِّجَالِ ، وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ الْكَفَّارَةَ بِالْعَوْدِ، وَالْعَوْدُ يَكُونُ مِنَ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ كَذَلِكَ الظِّهَارُ .

بَابُ الْكَفَّارَةِ بِالطَّعَامِ

بَابُ الْكَفَّارَةِ بِالطَّعَامِ مِنْ كِتَابَيْ ظِهَارٍ قَدِيمٍ وَجَدِيدٍ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فِيمَنْ تَظَهَّرَ وَلَمْ يَجِدْ رَقَبَةً وَلَمْ يَسْتَطِعْ حِينَ يُرِيدُ الْكَفَّارَةَ صَوْمَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ بِمَرَضٍ أَوْ عِلَّةٍ مَا كَانَتْ أَجْزَأَهُ أَنْ يُطْعِمَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اسْتِحْقَاقُ التَّرْتِيبِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ يَمْنَعُ مِنَ الْإِطْعَامِ إِلَّا بَعْدَ الْعَجْزِ عَنِ الصِّيَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَعَجْزُهُ عَنِ الصِّيَامِ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُرْجَى زَوَالُهُ كَالْعَجْزِ بِالْهَرَمِ فَهَذَا عَجْزٌ مُتَأَبِّدٌ يَجُوزُ مَعَهُ الْإِطْعَامُ وَالْأَوْلَى تَقْدِيمُهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يُرْجَى زَوَالُهُ كَالْعَجْزِ بِالْمَرَضِ، فَهُوَ فِي مِثْلِ هَذَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ تَعْجِيلِ الْإِطْعَامِ اعْتِبَارًا بِحَالِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْتَظِرَ حَالَ بُرْئِهِ ، فَرُبَّمَا كَفَّرَ بِالصِّيَامِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَى الْفَوْرِ . ثُمَّ الْعَجْزُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَقْدِرَ مَعَهُ عَلَى الصِّيَامِ بِحَالٍ . وَالثَّانِي : أَنْ تَلْحَقَهُ الْمَشَقَّةُ الْغَالِبَةُ فِي صِيَامِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ وَلَهُ فِي الْحَالَيْنِ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْإِطْعَامِ وَلَا يُرَاعَى عَدَمُ الْقُدْرَةِ بِكُلِّ حَالٍ، وَكَذَلِكَ الْفِطْرُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَلَوْ كَانَ الْمُظَاهِرُ قَادِرًا عَلَى صَوْمِ أَحَدِ الشَّهْرَيْنِ عَاجِزًا عَنِ الْآخَرِ كَانَ فِي حُكْمِ الْعَاجِزِ عَنْهُمَا فِي الِانْتِقَالِ إِلَى الْإِطْعَامِ ؛ لِأَنَّ تَبْعِيضَ الصَّوْمِ فِي الْكَفَّارَةِ لَا يَجُوزُ وَهَكَذَا لَوْ قَدَرَ عَلَى الصِّيَامِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّتَابُعِ فِيهِ كَانَ فِي حُكْمِ الْعَاجِزِ عَنْهُ فِي الْعُدُولِ إِلَى الْإِطْعَامِ لِأَنَّهُ يَعْجَزُ عَمَّا يُجْزِئُ مِنَ الصِّيَامِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يُجْزِئُهُ أَقَلُّ مِنْ سِتِّينَ مِسْكِينًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . . الْإِطْعَامُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ مُقَدَّرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بِمَا يُدْفَعُ إِلَى كُلِّ مِسْكِينٍ في كفارة الظهار ، وَهُوَ عِنْدَنَا مُدٌّ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مُدَّانِ، وَالْكَلَامُ مَعَهُ يَأْتِي .

وَالثَّانِي : بِمَنْ يُدْفَعُ إِلَيْهِ مِنْ أَعْدَادِ الْمَسَاكِينِ، وَهُمْ عِنْدَنَا سِتُّونَ مِسْكِينًا، فَإِنْ نَقَصَ عَدَدُهُمْ لَمْ يُجْزِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ دَفَعَ ذَلِكَ الْقَدْرَ إِلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ فِي سِتِّينَ يَوْمًا كفارة الظهار أَجْزَأَهُ، وَإِنْ دَفَعَهُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لَمْ يُجْزِهِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَهُوَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ، فَجَازَ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ مَا يَجِبُ دَفْعُهُ إِلَى الْمَسَاكِينِ . وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّهُ مِسْكِينٌ لَمْ يَسْتَوْفِ قُوتَ يَوْمِهِ مِنْ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ فَجَازَ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ مِنْهَا كَالْيَوْمِ الْأَوَّلِ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكَفَّارَةِ سَدُّ سِتِّينَ جَوْعَةٍ فَاسْتَوَى سَدُّ سِتِّينَ جَوْعَةٍ مَنْ شَخْصٍ وَسَدُّهَا مِنْ سِتِّينَ شَخْصًا ؛ لِوُجُودِ الْمَقْصُودِ بِهَا فِي الْحَالَيْنِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَتَكَرَّرَ الْمُدُّ الْوَاحِدُ بِأَنْ يُعْطِيَهُ ثُمَّ يَشْتَرِيَهُ وَيَقُومَ مُقَامَ سِتِّينَ مُدًّا جَازَ أَنْ يَتَكَرَّرَ الْمِسْكِينُ الْوَاحِدُ بِأَنْ يُعْطِيَهُ، ثُمَّ يُعْطِيَهُ فَيَقُومُ مُقَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَأَمَرَ بِفِعْلِ الْإِطْعَامِ الْمُتَعَدِّي إِلَى الْمَطْعُومِ وَقَرَنَهُ بِعَدَدٍ، فَلَمْ يَجُزِ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِ الْعَدَدِ كَمَا لَمْ يَجُزِ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِ الطَّعَامِ، وَلَوْ أَرَادَ بِذَلِكَ تَقْدِيرَ الطَّعَامِ دُونَ الْمَطْعُومِ لَقَالَ : وَطَعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا عَلَى أَنَّ فِي الْإِطْعَامِ تَقْدِيرَ الطَّعَامِ وَالْمَطْعُومِ، فَكَانَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى تَقْدِيرِ الطَّعَامِ دُونَ الْمَطْعُومِ فَإِنْ قِيلَ : فَمَنْعُ الْأَخْذِ مِنْهُ يُؤَدِّي إِلَى تَعْيِينِ الْمَسَاكِينِ، وَهُمْ غَيْرُ مُعَيَّنِينَ، قُلْنَا : إِنَّمَا يُعَيَّنُ فِي الْمَنْعِ دُونَ الدَّفْعِ وَذَلِكَ جَائِزٌ كَمَا يَتَعَيَّنُ مَنْعُهُ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ وَلَا تُؤَدِّي إِلَى تَعْيِينِ الْمَسَاكِينِ، كَذَلِكَ فِي الْأَيَّامِ الْمُخْتَلِفَةِ ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَمَرَ أَوْسَ بْنَ الصَّامِتِ وَسَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ بِإِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا مُدًّا مُدًّا فَكَانَ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمْ خِلَافًا لِأَمْرِهِ . وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ اقْتَصَرَ بِكَفَّارَتِهِ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ فَلَمْ يُجْزِهِ كَمَا لَوْ دَفَعَهُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ . فَإِنْ قِيلَ : فَالْمَعْنَى فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُ وَغَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى سَدِّ جَوْعَتِهِ بِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْأَيَّامِ الْمُخْتَلِفَةِ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ فِي سَدِّ جَوْعَتِهِ بِهِ . قِيلَ : هَذَا التَّعْلِيلُ فَاسِدٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَوْ مُنِعَ مِنْهَا فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ لِاسْتِغْنَائِهِ لَمُنِعَ مَنْ غَيْرِهَا فِيهِ، وَهُوَ لَا يُمْنَعُ مَنْ غَيْرِهَا فَبَطَلَ بِهَذَا التَّعْلِيلُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ مَنَعَ مِنْهَا فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ لَجَازَ إِذَا سَرَقَ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا فِي بَقِيَّةِ يَوْمِهِ لِحَاجَتِهِ وَهُمْ لَا يُجَوِّزُونَ ذَلِكَ فَبَطَلَ هَذَا التَّعْلِيلُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَوِ اسْتَبْقَى قُوتَ يَوْمِهِ إِلَى غَدِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا قُوتَ غَدِهِ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا عَنْهُ بِمَا عِنْدَهُ مِنْهَا فَبَطَلَ تَعْلِيلُهُ . وَقِيَاسٌ ثَانٍ : وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ فِي يَوْمِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهَا فِي غَدِهِ ، كَالْغَنِيِّ .

وَقِيَاسٌ ثَالِثٌ : وَهُوَ أَنَّ الصِّفَةَ إِذَا اشْتُرِطَتْ فِي عَدَدٍ وَلَمْ يَجُزِ الْإِخْلَالُ بِالصِّفَةِ لَمْ يَجُزِ الْإِخْلَالُ بِالْعَدَدِ ، كَالشَّهَادَةِ يُشْتَرَطُ فِيهَا عَدَالَةُ الشُّهُودِ وَالْعَدَدُ ، كَذَلِكَ الْكَفَّارَةُ يُشْتَرَطُ فِيهَا عَدَدٌ وَمَسْكَنَةٌ . وَقِيَاسٌ رَابِعٌ : وَهُوَ أَنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ صَرْفُهُ فِي عَدَدٍ عَلَى صِفَةٍ، فَلَمْ يَجُزِ الِاقْتِصَارُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الصِّفَةِ، كَالْوَصِيَّةِ لِعَشْرَةٍ مِنَ الْمَسَاكِينِ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ بِهَا عَلَى أَحَدِ الْمَسَاكِينِ . وَمِنَ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ فِي الْآيَةِ شَيْئَيْنِ ؛ عَدَدٌ وَطَعَامٌ، وَتَقْدِيرُ الطَّعَامِ مُسْتَفَادٌ بِالِاجْتِهَادِ لِاجْتِهَادِ النَّاسِ فِيهِ، وَعَدَدُ الْمَسَاكِينِ مُسْتَفَادٌ بِالنَّصِّ لِلْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ تَرْكُ مَا اسْتُفِيدَ بِالِاجْتِهَادِ مِنْ تَقْدِيرِ الطَّعَامِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ تَرْكُ مَا اسْتُفِيدَ بِالنَّصِّ مِنْ عَدَدِ الْمَسَاكِينِ . وَاسْتِدْلَالٌ ثَانٍ : وَهُوَ أَنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِي الْعَدَدِ الْمَأْمُورِ بِهِ سِتُّونَ، فَنَحْنُ جَعَلْنَاهُ عَدَدَ السِّتِّينَ مِسْكِينًا وَهُوَ مَنْصُوصٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ جَعَلَهُ عَدَدَ السِّتِّينَ يَوْمًا وَهُوَ غَيْرُ مَنْصُوصٍ ، ثُمَّ لَوِ اسْتَوَيَا فِي الِاحْتِمَالِ كَانَ مَا قَالَهُ فَاسِدًا لِلِاعْتِلَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَهُ عَنْهُ وَعِنْدَنَا مَعَ فَقْدِ اعْتِلَالِهِ وَوُجُودِ عِلَّتِنَا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ مِنَ الْآيَةِ بِانْطِلَاقِ اسْمِ الْمَسْكَنَةِ عَلَيْهِ فَهُوَ أَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ أَخْذُهُ مِنَ الْكَفَّارَةِ لَا زَوَالُ الْمَسْكَنَةِ اعْتِبَارًا بِالْيَوْمِ الْوَاحِدِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ بِأَنَّهُ مِسْكِينٌ لَمْ يَسْتَوْفِ قُوتَ يَوْمِهِ كَالْيَوْمِ الْأَوَّلِ فَهُوَ أَنْ نَقْلِبَ الْعِلَّةَ عَلَيْهِ، فَنَقُولُ لِأَنَّهُ مِسْكِينٌ اسْتَوْفَى قُوتَ يَوْمِهِ مِنْ كَفَّارَةٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا ثَانِيَةً كَالْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْعِلَّةُ أَوْلَى لِأَنَّهَا أَقَلُّ أَوْصَافًا مِنْ تِلْكَ بِوَصْفٍ ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا : لَمْ يَسْتَوْفِ قُوتَ يَوْمِهِ وَنَحْنُ قُلْنَا : اسْتَوْفَى قُوتَ يَوْمِهِ فَأَثْبَتُوا الْإِضَافَةَ الَّتِي أَسْقَطْنَاهَا، وَهِيَ زِيَادَةُ وَصْفٍ، وَإِذْ تَعَارَضْتِ الْعِلَّتَانِ وَقَلَّتْ أَوْصَافُ إِحْدَاهُمَا كَانَتْ أَوْلَى ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي أَصْلِ عِلَّتِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ قُوتَ يَوْمِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْكَفَّارَةِ سَدُّ سِتِّينَ جَوْعَةٍ فَهُوَ أَنَّهُ كَذَلِكَ لَكِنْ مِنْ سِتِّينَ مِسْكِينًا ؛ لِأَنَّ الْمِسْكِينَ الْوَاحِدَ لَوْ أَخَذَ جَمِيعَهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَسَدَّ بِهَا جَوْعَتَهُ فِي سِتِّينَ يَوْمًا لَمْ يُجْزِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَتَكَرَّرَ السَّدُّ الْوَاحِدُ جَازَ أَنْ يَتَكَرَّرَ الْمِسْكِينُ الْوَاحِدُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ فِي تَكْرَارِ الْمُدِّ اسْتِيفَاءَ الْعَدَدِ فَجَازَ وَلَيْسَ فِي تَكْرَارِ الْمِسْكِينِ اسْتِيفَاءُ الْعَدَدِ فَلَمْ يَجُزْ .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا جَازَ تَكْرَارُ الْمُدِّ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ جَازَ فِي الْأَيَّامِ كُلِّهَا، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ تَكْرَارُ الْمِسْكِينِ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ لَمْ يَجُزْ فِي الْأَيَّامِ كُلِّهَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " كُلُّ مِسْكِينٍ مُدًّا مِنْ طَعَامِ بَلَدِهِ الَّذِي يَقْتَاتُ حِنْطَةً أَوْ شَعِيرًا أَوْ أَرُزًّا أَوْ سُلْتًا أَوْ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا أَوْ أَقِطًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَدْرِ مَا يُعْطَى كُلُّ مِسْكِينٍ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَغَيْرِهَا فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَنَّهُ يُعْطَى مُدًّا وَاحِدًا بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ رِطْلٌ وَثُلُثٌ مِنْ جَمِيعِ الْأَقْوَاتِ مِنْ بُرٍّ وَشَعِيرٍ وَتَمْرٍ وَزَبِيبٍ فِي جَمِيعِ الْكَفَّارَاتِ مِنَ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ إِذَا قِيلَ بِدُخُولِ الْإِطْعَامِ فِيهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَالْوَطْءُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَالْأَيْمَانُ إِلَّا فِي كَفَّارَةِ الْأَذَى وَحْدَهَا فِي الْحَجِّ، فَإِنَّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : جَمِيعُ الْكَفَّارَاتِ سَوَاءٌ، وَيَخْتَلِفُ الْمِقْدَارُ بِاخْتِلَافِ الْأَقْوَاتِ ، فَإِنْ كَانَ بُرًّا أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ، قَدْرُهُ أَرْبَعَةُ أَرْطَالٍ، وَإِنْ كَانَ شَعِيرًا أَوْ تَمْرًا أَعْطَاهُ صَاعًا قَدْرُهُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ ، وَعَنْهُ فِي الزَّبِيبِ رِوَايَتَانِ : أَحَدُهُمَا : نِصْفُ صَاعٍ كَالْبُرِّ ، وَالْآخَرُ صَاعٌ كَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ . وَقَالَ مَالِكٌ : كُلُّ الْأَقْوَاتِ سَوَاءٌ، وَيَخْتَلِفُ الْمِقْدَارُ بِاخْتِلَافِ الْكَفَّارَاتِ فَيُعْطَى فِيمَا سِوَى كَفَّارَةِ الظِّهَارِ مِنْ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ مُدًّا بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَيُعْطَى فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ مُدًّا بِمُدِّ هُشَامٍ وَهُوَ الْحَجَّاجِيُّ وَقَدْرُهُ مُدٌّ وَثُلُثٌ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . وَاسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ بِحَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ قَالَ : تَظَاهَرْتُ مِنِ امْرَأَتِي فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : أَعْتِقْ رَقَبَةً قُلْتُ : لَا أَجِدُ فَقَالَ : صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قُلْتُ : لَا أَسْتَطِيعُ فَقَالَ : أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ قَالَ : لَا أَمْلِكُ فَقَالَ : اذْهَبْ إِلَى صَدَقَةِ بَنِيَ زُرَيْقٍ فَخُذْهَا وَأَطْعِمْ مِنْهَا سِتِّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ، وَكُلْ أَنْتَ وَعِيَالُكَ بَقِيَّتَهَا . قَالُوا فَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ ، وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ صَاعًا . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ تَكْفِيرٌ بِإِطْعَامٍ فَلَمْ يُجْزِ فِيهِ الْمُدُّ كَالْكَفَّارَةِ فِي الْأَذَى . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِطْعَامِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ إِلَّا مَا خَصَّهُ الْإِجْمَاعُ وَهُوَ مَا نَقَصَ عَنِ الْمُدِّ . وَحَدِيثُ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : تَظَاهَرْتُ مِنِ امْرَأَتِي فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : أَعْتِقْ رَقَبَةً قُلْتُ : لَا أَجِدُ فَقَالَ : صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَقُلْتُ : لَا أَسْتَطِيعُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110