كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

وَالثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ : أَنَّهُمَا يَتَوَارَثَانِ ، فَيُوَرَّثُ الْعَادِلُ مِنَ الْبَاغِي ، وَيُوَرَّثُ الْبَاغِي مِنَ الْعَادِلِ : لِأَنَّهُمَا مُتَأَوِّلَانِ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ : أَنَّهُ إِنْ قَتَلَهُ فِي عَمْيَاءَ تَوَارَثَا : لِأَنَّ الْعَمْيَاءَ خَطَأٌ ، وَهُوَ يُوَرِّثُ الْخَاطِئَ ، وَإِنْ قَتَلَهُ عَمْدًا لَمْ يَتَوَارَثَا . وَالرَّابِعُ : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُمَا لَا يَتَوَارَثَانِ بِحَالٍ فِي عَمْدٍ وَلَا خَطَأٍ : لِعُمُومِ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنْ أُرِيدَ دَمُهُ أَوْ مَالُهُ أَوْ حَرِيمُهُ قتال الصائل ، فَلَهُ أَنْ يُقَاتِلَ وَإِنْ أَتَى ذَلِكَ عَلَى نَفْسِ مَنْ أَرَادَهُ ، ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيمَنْ أُرِيدَ دَمُهُ أَوْ مَالُهُ أَوْ حَرِيمُهُ أَنَّ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ أَرَادَهُ ، وَإِنْ أَتَى الْقِتَالُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَيَكُونُ دَمُ الطَّالِبِ هَدَرًا مَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَطْلُوبِ مَلْجَأٌ يَلْجَأُ إِلَيْهِ ، مِنْ حِصْنٍ يُغْلِقُهُ عَلَيْهِ ، أَوْ مَهْرَبٍ لَا يُمْكِنُ لُحُوقُهُ فِيهِ : لِرِوَايَةِ الضِّحَاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ نَفْسِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ حَرِيمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ جَارِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ . فَإِنْ وَجَدَ الْمَطْلُوبُ مَلْجَأً يَلْجَأُ إِلَيْهِ ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ : لَهُ أَنْ يُقَاتِلَ . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَخَرَّجَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَبَاحَ قِتَالَهُ إِذَا لَمْ يَأْمَنْ رَجْعَتَهُ ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي مَنَعَ مِنْ قِتَالِهِ إِذَا أَمِنَ رَجْعَتَهُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْقِتَالِ ، فَوُجُوبُهُ مُعْتَبَرٌ بِمَا أَرَادَهُ الطَّالِبُ ، وَذَلِكَ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُرِيدَ مَالَ الْمَطْلُوبِ دُونَ دَمِهِ وَحَرِيمِهِ قتال الصائل ، فَهَذَا الْقِتَالُ مُبَاحٌ ، وَالْمَطْلُوبُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قِتَالِ الطَّالِبِ وَبَيْنَ الِاسْتِسْلَامِ وَتَسْلِيمِ مَالِهِ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُرِيدَ الطَّالِبُ حَرِيمَ الْمَطْلُوبِ لِإِتْيَانِ الْفَاحِشَةِ قتال الصائل ، فَوَاجِبٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ أَنْ يُقَاتِلَ عَنْهَا وَيَمْنَعَ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُرِيدَ الطَّالِبُ نَفْسَ الْمَطْلُوبِ قتال الصائل ، فَفِي وُجُوبِ قِتَالِهِ وَدَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَاتِلَ عَنْهَا وَيَدْفَعَ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [ النِّسَاءِ : 29 ] وَقَوْلِهِ : وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [ الْبَقَرَةِ : 195 ] . كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُضْطَرِّ مِنَ الْجُوعِ إِحْيَاءُ نَفْسِهِ بِأَكْلِ مَا وَجَدَهُ مِنَ الطَّعَامِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِتَالُ وَالدَّفْعُ ، وَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِسْلَامِ ، طَلَبًا لِثَوَابِ الشَّهَادَةِ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ [ الْمَائِدَةِ : 28 ] . وَلِأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أُرِيدَتْ نَفْسُهُ مَنَعَ عَنْهُ عَبِيدَهُ ، فَكَفَّهُمْ ، وَقَالَ لَهُمْ : مَنْ أَغْمَدَ سَيْفَهُ فَهُوَ حُرٌّ . وَأَتَى رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا انْغَمَسَ فِي الْعَدُوِّ حَتَّى قُتِلَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا ، أَيَحْجِزُهُ عَنِ الْجَنَّةِ شَيْءٌ ؟ فَقَالَ : لَا ، إِلَّا الدَّيْنُ . فَانْغَمَسَ فِي الْعَدُوِّ حَتَّى قُتِلَ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَاهُ وَلَا يَمْنَعُهُ . فَأَمَّا الْمُضْطَرُّ جُوعًا إِذَا وَجَدَ طَعَامًا وَهُوَ يَخَافُ التَّلَفَ . فَإِنْ كَانَ مَالِكًا لِلطَّعَامِ أَوْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لَهُ ، وَكَانَ قَادِرًا عَلَى ثَمَنِهِ ، فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ إِحْيَاءُ نَفْسِهِ بِأَكْلِهِ وَجْهًا وَاحِدًا ، بِخِلَافِ مَنْ أُرِيدَ دَمُهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : لِأَنَّ فِي الْقَتْلِ شَهَادَةً يَرْجُو بِهَا الثَّوَابَ ، وَلَيْسَ فِي تَرْكِ الْأَكْلِ شَهَادَةً يُثَابُ عَلَيْهَا . وَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ لِغَيْرِهِ وَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى ثَمَنِهِ ، فَفِي وُجُوبِ إِحْيَاءِ نَفْسِهِ بِأَكْلِهِ وَجْهَانِ . وَهَكَذَا لَوْ وَجَدَ مَيْتَةً كَانَ فِي وُجُوبِ أَكْلِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجِبُ تَغْلِيبًا لِإِحْيَاءِ النَّفْسِ . وَالثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : يَكُونُ مُخَيَّرًا فِيهِ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِتَنْزِيهِ نَفْسِهِ عَنْ نَجَاسَةِ الْمَيْتَةِ ، وَإِبْرَاءِ ذِمَّتِهِ مِنَ الْتِزَامِ ذَنْبٍ لَا يُعْذَرُ عَلَيْهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " فَالْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَمَانِ كُلِّ مُسْلِمٍ مِنْ حُرٍّ وَامْرَأَةٍ وَعَبْدٍ حكمه ، قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ لِأَهْلِ بَغْيٍ أَوْ حَرْبٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . وَأَصْلُ هَذَا : مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ .

قِيلَ : إِنَّهُ أَرَادَ عَبِيدَهُمْ . فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْأَمَانُ ضَرْبَانِ : عَامٌّ وَخَاصٌّ . فَأَمَّا الْعَامُّ : فَهُوَ الْهُدْنَةُ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّاهَا إِلَّا الْإِمَامُ دُونَ غَيْرِهِ : لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ ، فَإِنْ تَوَلَّاهَا غَيْرُهُ لَمْ يَلْزَمْ . وَإِذَا اخْتُصَّتْ بِالْإِمَامِ ، كَانَ إِمَامُ أَهْلِ الْعَدْلِ أَحَقَّ بِعَقْدِهَا مِنْ إِمَامِ أَهْلِ الْبَغْيِ . فَإِنْ عَقَدَهَا إِمَامُ أَهْلِ الْبَغْيِ بَطَلَتْ ، كَمَا تَبْطُلُ بِعَقْدِ غَيْرِ الْإِمَامِ : لِأَنَّ إِمَامَةَ الْبَاغِي لَا تَنْعَقِدُ . وَأَمَّا الْأَمَانُ الْخَاصُّ فَيَصِحُّ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ لِكُلِّ مُشْرِكٍ ، سَوَاءٌ كَانَ الْأَمَانُ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ ، مِنْ حَرٍّ كَانَ أَوْ مِنْ عَبْدٍ ، مِنْ عَادَلٍ أَوْ بَاغٍ ، فَيَكُونُ أَمَانُ الْبَاغِي لَازِمًا لِأَهْلِ الْبَغْيِ وَأَهْلِ الْعَدْلِ ، وَأَمَانُ الْعَادِلِ لَازِمًا لِأَهْلِ الْعَدْلِ وَأَهْلِ الْبَغْيِ . فَإِنْ أَمَّنَ أَهْلُ الْبَغْيِ قَوْمًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، لَمْ يَعْلَمْ بِهِمْ أَهْلُ الْعَدْلِ حَتَّى سَبَوْهُمْ وَغَنِمُوهُمْ لَمْ يَمْلِكُوا سَبْيَهُمْ وَغَنَائِمَهُمْ ، وَلَزِمَهُمْ رَدُّ السَّبْيِ وَالْغَنَائِمِ عَلَيْهِمْ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَّنَهُمْ أَهْلُ الْعَدْلِ ، وَسَبَاهُمْ وَغَنِمَهُمْ أَهْلُ الْبَغْيِ قوم من المشركين ، حَرُمَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَمَلَّكُوهُمْ ، وَحَرُمَ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَبْتَاعُوهُمْ . وَعَلَى إِمَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَرْجِعَهُ مِنْهُمْ وَيَرُدَّهُ عَلَى أَهْلِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَهَكَذَا لَوْ أَمَّنَ أَهْلُ الْبَغْيِ قَوْمًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، ثُمَّ غَدَرُوا بِهِمْ فَسَبَوْهُمْ وَغَنِمُوهُمْ ، لَمْ يَحِلَّ ابْتِيَاعُ السَّبْيِ وَالْغَنَائِمِ مِنْهُمْ ، وَلَزِمَ أَهْلَ الْعَدْلِ رَدُّ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ الْعَدْلِ وَأَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ حكم غنائم المشركين ، قُسِّمَ سَبْيُهُمْ وَغَنَائِمُهُمْ بَيْنَ أَهْلِ الْعَدْلِ وَأَهْلِ الْبَغْيِ : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ ، وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجْمَعُهُمْ وَإِنْ جَرَى الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ . وَيَنْفَرِدُ إِمَامُ أَهْلِ الْعَدْلِ بِقِسْمَةِ الْغَنَائِمِ بَيْنَهُمْ ، وَيَخْتَصُّ بِإِجَازَةِ الْخُمْسِ إِلَيْهِ لِيَنْفَرِدَ بِوَضْعِهِ فِي مُسْتَحِقِّيهِ لِصِحَّةِ إِمَامَتِهِ ، وَبُطْلَانِ إِمَامَةِ غَيْرِهِ . وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

بَابُ الْخِلَافِ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ

بَابُ الْخِلَافِ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : إِذَا كَانَتِ الْحَرْبُ قَائِمَةً اسْتُمْتِعَ بِدَوَابِّهِمْ وَسِلَاحِهِمْ ، وَإِذَا انْقَضَتِ الْحَرْبُ فَذَلِكَ رَدٌّ . قُلْتُ : أَرَأَيْتَ إِنْ عَارَضَكَ وَإِيَّانَا مُعَارِضٌ يَسْتَحِلُّ مَالَ مَنْ يُسْتَحَلُّ دَمُهُ ؟ فَقَالَ : الدَّمُ أَعْظَمُ ، فَإِذَا حَلَّ الدَّمُ حَلَّ الْمَالُ ، هَلْ لَكَ مِنْ حُجَّةٍ إِلَّا أَنَّ هَذَا فِي أَهْلِ الْحَرْبِ الَّذِينَ تُرَقُّ أَحْرَارُهُمْ وَتُسْبَى نِسَاؤُهُمْ وَذَرَارِيُّهُمْ ، وَالْحُكْمُ فِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ خِلَافُهُمْ ، وَقَدْ يَحِلُّ دَمُ الزَّانِي الْمُحْصَنِ وَالْقَاتِلِ وَلَا تَحِلُّ أَمْوَالُهُمَا بِجِنَايَتِهِمَا ، وَالْبَاغِي أَخَفُّ حَالًا مِنْهُمَا ، وَيُقَالُ لَهُمَا : مُبَاحَا الدَّمِ مُطْلَقًا ، وَلَا يُقَالُ لِلْبَاغِي : مُبَاحُ الدَّمِ ، وَإِنَّمَا يُقَالُ : يُمْنَعُ مِنَ الْبَغْيِ إِنْ قُدِرَ عَلَى مَنْعِهِ بِالْكَلَامِ ، أَوْ كَانَ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ لَا يُقَاتِلُ لَمْ يَحِلَّ قِتَالُهُ ، قَالَ : إِنِّي إِنَّمَا آخُذُ سِلَاحَهُمْ : لِأَنَّهُ أَقْوَى لِي وَأَوْهَنُ لَهُمْ مَا كَانُوا مُقَاتِلِينَ . فَقُلْتُ لَهُ : فَإِذَا أَخَذْتُ مَالَهُ وَقُتِلَ فَقَدْ صَارَ مِلْكَهُ كَطِفْلٍ أَوْ كَبِيرٍ لَمْ يُقَاتِلْكَ قَطُّ ، أَفَتَقْوَى بِمَالِ غَائِبٍ غَيْرِ بَاغٍ عَلَى بَاغٍ ؟ فَقُلْتُ لَهُ : أَرَأَيْتَ لَوْ وَجَدْتَ لَهُمْ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ تُقَوِّيكَ عَلَيْهِمْ أَتَأْخُذُهَا ؟ قَالَ : لَا ، قُلْتُ : فَقَدْ تَرَكْتُ مَا هُوَ أَقْوَى لَكَ عَلَيْهِمْ مِنَ السِّلَاحِ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ ، قَالَ : فَإِنَّ صَاحِبَنَا يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَى قَتْلَى أَهْلِ الْبَغْيِ . قُلْتُ : وَلِمَ وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى مَنْ قَتَلَهُ فِي حَدٍّ يَجِبُ عَلَيْهِ قَتْلُهُ ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ تَرْكُهُ ؟ وَالْبَاغِي مُحَرَّمٌ قَتْلُهُ مُوَلِّيًا وَرَاجِعًا عَنِ الْبَغْيِ ، وَلَوْ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ كَانَ مَنْ لَا يُحِلُّ إِلَّا قَتْلَهُ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ أَوْلَى . ( قَالَ ) : كَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ عُقُوبَةٌ لِيَنْكُلَ بِهَا غَيْرُهُ . قُلْتُ : وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا ، فَاصْلُبْهُ أَوْ حَرِّقْهُ أَوْ حُزَّ رَأْسَهُ ، وَابْعَثْ بِهِ فَهُوَ أَشَدُّ فِي الْعُقُوبَةِ . قَالَ : لَا أَفْعَلُ بِهِ شَيْئًا مِنْ هَذَا . قُلْتُ لَهُ : هَلْ يُبَالِي مَنْ يُقَاتِلُكَ عَلَى أَنَّكَ كَافِرٌ لَا يُصَلَّى عَلَيْكَ وَصَلَاتُكَ لَا تُقَرِّبُهُ إِلَى رَبِّهِ ؟ وَقُلْتُ لَهُ : أَيُمْنَعُ الْبَاغِي أَنْ تَجُوزَ شَهَادَتُهُ أَوْ يُنَاكِحَ أَوْ شَيْئًا مِمَّا يَجْرِي لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ ؟ قَالَ : لَا . قُلْتُ : فَكَيْفَ مَنَعْتَهُ الصَّلَاةَ وَحْدَهَا ؟ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا ظَفِرَ أَهْلُ الْعَدْلِ بِدَوَابِّ أَهْلِ الْبَغْيِ وَسِلَاحِهِمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ

يُمْلَكَ عَلَيْهِمْ ، وَلَا أَنْ يُسْتَعَانَ بِهَا فِي قِتَالِهِمْ ، وَتُحْبَسُ عَنْهُمْ مُدَّةَ الْحَرْبِ كَمَا تُحْبَسُ فِيهَا أَسْرَاهُمْ ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْحَرْبُ رُدَّ عَلَيْهِمْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَانَ عَلَى حَرْبِهِمْ بِدَوَابِّهِمْ وَسِلَاحِهِمْ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [ الْحُجُرَاتِ : 9 ] . فَكَانَ الْأَمْرُ بِقِتَالِهِمْ عَلَى عُمُومِهِ ، الْمُشْتَمِلِ عَلَى دَوَابِّهِمْ وَسِلَاحِهِمْ : وَلِأَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ جَازَ قِتَالُهَا بِغَيْرِ سِلَاحِهَا وَدَوَابِّهَا ، جَازَ قِتَالُهَا بِسِلَاحِهَا وَدَوَابِّهَا كَأَهْلِ الْحَرْبِ . وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ حَبْسُهُ عَنْهُمْ إِضْعَافًا لَهُمْ جَازَ قِتَالُهُمْ بِهِ ، مَعُونَةً عَلَيْهِمْ : لِأَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ كَافٍ لَهُمْ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ . فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ . وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَفِعَ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَفِعَ مِنْ مَالِهِ بِالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ كَأَهْلِ الْعَدْلِ . وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يُجُوزُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ مَنْ مَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ مَنْ مَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ . وَلِأَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ يَمْلِكُونَ رِقَابَهَا وَمَنَافِعَهَا ، فَلَمَّا لَمْ تُسْتَبَحْ بِالْبَغْيِ أَنْ تُمْلَكَ عَلَيْهِمْ رِقَابُهَا لَمْ يُسْتَبَحْ أَنْ تُمْلَكَ بِهِ مَنَافِعُهَا . فَأَمَّا الْآيَةُ : فَلَا دَلِيلَ فِيهَا : لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتِ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ ، وَلَمْ تَتَضَمَّنْ صِفَةَ الْقِتَالِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ : فَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَيْهِمْ رِقَابَهَا ، جَازَ أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَيْهِمْ مَنَافِعَهَا ، وَأَهْلُ الْبَغْيِ بِخِلَافِهِمْ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَبْسِهَا : فَلَيْسَ جَوَازُ حَبْسِهَا مُبِيحًا لِلِانْتِفَاعِ بِهَا ، كَمَا جَازَ حَبْسُ أَهْلِ الْبَغْيِ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزِ اسْتِخْدَامُهُمْ وَالِانْتِفَاعُ بِهِمْ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِدَوَابِّهِمْ وَسِلَاحِهِمْ ، فَإِنِ اسْتَمْتَعَ بِهَا أَهْلُ الْعَدْلِ دواب وسلاح أهل البغي لَزِمَهُمْ أُجْرَةُ مِثْلِهَا كَالْغَاصِبِ . فَإِنْ تَلِفَتْ فِي أَيْدِي أَهْلِ الْعَدْلِ بَعْدَ اسْتِعْمَالِهَا دواب وسلاح أهل البغي ضَمِنُوا رِقَابَهَا‌‌‌ ، وَإِنْ تَلِفَتْ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْمَالٍ دواب وسلاح أهل البغي لَمْ يَضْمَنُوهَا : لِأَنَّهُمْ حَبَسُوهَا عَنْهُمْ بِحَقٍّ . وَلَوْ حَبَسُوهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ مَعَ إِمْكَانِ رَدِّهَا عَلَيْهِمْ دواب وسلاح أهل البغي ضَمِنُوهَا لِتَلَفِهَا بَعْدَ وُجُوبِ رَدِّهَا .

فَأَمَّا إِنِ اضْطَرَّ أَهْلُ الْعَدْلِ إِلَى الِانْتِفَاعِ بِدَوَابِّهِمْ وَسِلَاحِهِمْ البغاة عِنْدَ خَوْفِ الِاصْطِلَامِ لِيَنْجُوا عَلَى دَوَابِّهِمْ هَرَبًا مِنْهُمْ ، وَيُقَاتِلُوهُمْ بِسِلَاحِهِمْ دَفْعًا لَهُمْ : جَازَ وَلَمْ يَحْرُمْ : لِأَنَّ حَالَ الضَّرُورَةِ يُخَالِفُ حَالَ الِاخْتِيَارَ ، كَمَا يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَ طَعَامَ غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْكُلَهُ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَجُوزُ أَمَانُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَيْنِ لِأَهْلِ الْحَرْبِ وَالْبَغْيِ ، فَأَمَّا الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أمانه لأهل الحرب والبغي فَإِنْ كَانَ يُقَاتِلُ جَازَ أَمَانُهُ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ ، قُلْتُ : فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ يُقَاتِلُ أَوْ لَا يُقَاتِلُ ؟ قَالَ : قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْمُسْلِمُونَ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ ، تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ قُلْتُ : فَإِنْ قُلْتَ ذَلِكَ عَلَى الْأَحْرَارِ فَقَدْ أَجَزْتَ أَمَانَ عَبْدٍ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَقَدْ رَدَدْتَ أَمَانَ عَبْدٍ مُسْلِمٍ لَا يُقَاتِلُ . قَالَ : فَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ يَدُلُّ عَلَى هَذَا ؟ قُلْتُ : وَيَلْزَمُكَ فِي أَصْلِ مَذْهَبِكَ أَنْ لَا تُجِيزَ أَمَانَ امْرَأَةٍ وَلَا زَمِنٍ : لِأَنَّهُمَا لَا يُقَاتِلَانِ وَأَنْتَ تُجِيزُ أَمَانَهُمَا . ( قَالَ ) : فَأَذْهَبُ إِلَى الدِّيَةِ ، فَأَقُولُ دِيَةُ الْعَبْدِ لَا تُكَافِئُ دِيَةَ الْحُرِّ . قُلْتُ : فَهَذَا أَبْعَدُ لَكَ مِنَ الصَّوَابِ . ( قَالَ ) : وَمِنْ أَيْنَ ؟ قُلْتُ : دِيَةُ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ وَأَنْتَ تُجِيزُ أَمَانَهَا ، وَدِيَةُ بَعْضِ الْعَبِيدِ أَكْثَرُ مِنْ دِيَةِ الْمَرْأَةِ وَلَا تُجِيزُ أَمَانَهُ ، وَقَدْ تَكُونُ دِيَةُ عَبْدٍ لَا يُقَاتِلُ أَكْثَرَ مِنْ دِيَةِ عَبْدٍ يُقَاتِلُ ، فَلَا تُجِيزُ أَمَانَهُ ، فَقَدْ تَرَكْتَ أَصْلَ مَذْهَبِكَ . ( قَالَ ) : فَإِنْ قُلْتَ إِنَّمَا عُنِيَ مُكَافَأَةُ الدِّمَاءِ فِي الْقَوَدِ ، قُلْتُ : فَأَنْتَ تُقِيدُ بِالْعَبْدِ الَّذِي لَا يَسْوَى عَشَرَةَ دَنَانِيرَ الْحُرَّ الَّذِي دِيَتُهُ أَلْفُ دِينَارٍ ، كَانَ الْعَبْدُ يُحْسِنُ قِتَالًا أَوْ لَا يُحْسِنُهُ . قَالَ : إِنِّي لَأَفْعَلُ وَمَا هُوَ عَلَى الْقَوَدِ ، قُلْتُ : وَلَا عَلَى الدِّيَةِ وَلَا عَلَى الْقِتَالِ . قَالَ : فَعَلَامَ هُوَ ؟ قُلْتُ : عَلَى اسْمِ الْإِسْلَامِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا مَا حَكَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ سَوَّى بَيْنِ أَمَانِ الرَّجُلِ وَأَمَانِ الْمَرْأَةِ ، وَهُوَ مُوَافِقٌ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ أَمَانَ أَمِّ هَانِئٍ عَامَ الْفَتْحِ ، وَقَالَ : قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أَمَّ هَانِئٍ . وَأَمَّا أَمَانُ الْعَبْدِ : فَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ جَائِزٌ كَأَمَانِ الْحُرِّ ، سَوَاءٌ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ فِيهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَصِحُّ أَمَانُهُ إِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ ، وَلَا يَصِحُّ أَمَانُهُ إِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ ، اسْتِدْلَالًا بِمَا حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ وَأَجَابَهُ عَلَيْهِ . وَهِذِهِ مَسْأَلَةٌ تَأْتِي فِي كِتَابِ السِّيَرِ ، وَتُسْتَوْفَى فِيهِ .

، فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : " لِأَهْلِ الْبَغْيِ وَالْحَرْبِ " فَجَمَعَ بَيْنَ الْأَمَانِ لِأَهْلِ الْبَغْيِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ . يَصِحُّ الْأَمَانُ لِأَهْلِ الْحَرْبِ ، فَأَمَّا الْأَمَانُ لِأَهْلِ الْبَغْيِ فَإِسْلَامُهُمْ أَمَانٌ لَهُمْ يَمْنَعُ مِنْ قِتَالِهِمْ إِذَا كَفُّوا ، وَمِنْ قَتْلِهِمْ إِذَا أُسِرُوا . فَإِنْ أَمَّنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَغِيِ : لَمْ يُؤَثِّرْ أَمَانُهُ إِلَّا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهُوَ أَنْ يُؤَمِّنَهُ بَعْدَ كَفِّهِ عَنِ الْقِتَالِ وَقَبْلَ أَسْرِهِ ، فَيَمْنَعُ أَمَانُهُ مِنْ أَسْرِهِ ، وَلَا يُؤَثِّرُ أَمَانُهُ بَعْدَ الْأَسْرِ ، وَلَا يُؤَثِّرُ أَمَانُهُ وَهُوَ عَلَى قِتَالِهِ ، وَعَلَى هَذَا الْمَوْضِعِ يُحْمَلُ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرْبِيِّ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : إِذَا امْتَنَعَ أَهْلُ الْبَغْيِ بِدَارِهِمْ مِنْ أَنْ يَجْرِيَ الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ ، فَمَا أَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ التُّجَّارِ وَالْأَسْرَى فِي دَارِهِمْ مِنْ حُدُودِ النَّاسِ بَيْنَهُمْ أَوْ لِلَّهِ ، لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُمْ وَلَا الْحُقُوقُ بِالْحُكْمِ ، وَعَلَيْهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى تَأْدِيَتُهَا إِلَى أَهْلِهَا . قُلْتُ : فَلِمَ قَتَلْتَهُ ؟ قَالَ : قِيَاسًا عَلَى دَارِ الْمُحَارِبِينَ ، يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، ثُمَّ يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ فَلَا يُقَادُ مِنْهُمْ . قُلْتُ : هُمْ مُخَالِفُونَ لِلتُّجَّارِ وَالْأَسْرَى فِي الْمَعْنَى الَّذِي ذَهَبْتَ إِلَيْهِ ، خِلَافًا بَيِّنًا ، أَرَأَيْتَ لَوْ سَبَى الْمُحَارِبُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ثُمَّ أَسْلَمُوا ، أَنَدَعُ السَّابِيَ يَتَخَوَّلُ الْمُسْبَى مَرْقُوقًا لَهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قُلْتُ : أَفَتُجِيزُ هَذَا فِي التُّجَّارِ وَالْأَسْرَى فِي دَارِ أَهْلِ الْبَغْيِ ؟ قَالَ : لَا . قُلْتُ : فَلَوْ غَزَانَا أَهْلُ الْحَرْبِ فَقَتَلُوا مِنَّا ثُمَّ رَجَعُوا مُسْلِمِينَ ، أَيَكُونُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ قَوَدٌ ؟ قَالَ : لَا . قُلْتُ : فَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ التُّجَّارُ وَالْأَسْرَى بِبِلَادِ الْحَرْبِ غَيْرَ مُكْرَهِينَ وَلَا شُبَهَ عَلَيْهِمْ ؟ قَالَ : يُقْتَلُونَ . قُلْتُ : أَيَسَعُ قَصْدُ قَتْلِ التُّجَّارِ وَالْأَسْرَى بِبِلَادِ الْحَرْبِ فَيُقْتَلُونَ ؟ قَالَ : بَلْ يَحْرُمُ . قُلْتُ : أَرَأَيْتَ التُّجَّارَ وَالْأَسْرَى لَوْ تَرَكُوا الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ، أَيَكُونُ عَلَيْهِمْ قَضَاءُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قُلْتُ : وَلَا يَحِلُّ لَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ إِلَّا مَا يَحِلُّ لَهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ؟ قَالَ : لَا . قُلْتُ : فَإِذَا كَانَتِ الدَّارُ لَا تُغَيِّرُ مَا أُحِلَّ لَهُمْ وَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ ، فَكَيْفَ أَسْقَطْتَ عَنْهُمْ حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ الْآدَمِيِّينَ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ؟ ثُمَّ أَنْتَ لَا تُحِلُّ لَهُمْ حَبْسَ حَقٍّ قَبْلَهُمْ فِي دَمٍ وَلَا غَيْرِهِ ، وَمَا كَانَ لَا يَحِلُّ لَهُمْ حَبْسُهُ فَإِنَّ عَلَى الْإِمَامِ اسْتِخْرَاجَهُ عِنْدَكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ؟ قَالَ : فَأَقِيسُهُمْ بِأَهْلِ الرِّدَّةِ الَّذِينَ أُبْطِلُ مَا أَجَابُوا . قُلْتُ : فَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ يُقَادُ مِنْهُمْ مَا لَمْ يُنَصِّبُوا إِمَامًا وَيُظْهِرُوا حُكْمًا ، وَالتُّجَّارُ وَالْأُسَارَى لَا إِمَامَ لَهُمْ ، وَلَا امْتِنَاعَ ، وَنَزْعُمُ لَوْ قَتَلَ أَهْلُ الْبَغْيِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِلَا شُبْهَةٍ أَقَدْتَ مِنْهُمْ . قَالَ : وَلَكِنَّ الدَّارَ مَمْنُوعَةٌ مِنْ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمُ الْحُكْمُ .

قُلْتُ : أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مُحَارَبِينَ امْتَنَعُوا فِي مَدِينَةٍ حَتَّى لَا يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمٌ ، فَقَطَعُوا الطَّرِيقَ ، وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ ، وَأَخَذُوا الْأَمْوَالَ ، وَأَتَوُا الْحُدُودَ ؟ قَالَ : يُقَامُ هَذَا كُلُّهُ عَلَيْهِمْ . قُلْتُ : فَهَذَا تَرْكُ مَعْنَاكَ . وَقُلْتُ لَهُ : أَيَكُونُ عَلَى الْمَدَنِيِّينَ قَوْلُهُمْ : لَا يَرِثُ قَاتِلُ عَمْدٍ وَيَرِثُ قَاتِلُ خَطَأٍ إِلَّا مِنَ الدِّيَةِ ؟ فَقُلْتُ : لَا يَرِثُ الْقَاتِلُ فِي الْوَجْهَيْنِ : لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ اسْمُ قَاتِلٍ ؛ فَكَيْفَ لَمْ تَقُلْ بِهَذَا فِي الْقَاتِلِ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَالْعَدْلِ : لِأَنَّ كُلًّا يَلْزَمُهُ اسْمُ قَاتِلٍ ، وَأَنْتَ تُسَوِّي بَيْنَهُمَا فَلَا تُقِيدُ أَحَدًا بِصَاحِبِهِ ؟ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا أَرَادَ بِهِ أَبَا حَنِيفَةَ ، فَإِنَّهُ قَالَ : إِذَا فَعَلَ أَهْلُ الْبَغْيِ فِي دَارِهِمْ مَا يُوجِبُ حُدُودًا أَوْ حُقُوقًا ، ثُمَّ ظَهَرَ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ ، لَمْ تُقَمْ عَلَيْهِمُ الْحُدُودُ ، وَلَمْ تُسْتَوْفَ مِنْهُمُ الْحُقُوقُ . وَكَذَلِكَ يَقُولُ فِي أَهْلِ الْعَدْلِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فِي دَارِ أَهْلِ الْبَغْيِ مَا يُوجِبُ حُدُودًا أَوْ حُقُوقًا ، لَمْ يُؤَاخَذُوا بِمَا اسْتَهْلَكُوهُ مِنْ حُقُوقٍ ، وَارْتَكَبُوهُ مِنْ حُدُودٍ . وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ ، أَنَّ الْمُسْلِمِينَ إِذَا فَعَلُوهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَا يُوجِبُ حُدُودًا أَوْ حُقُوقًا كَانَ هَدَرًا ، فَجَمَعَ بَيْنَ الدَّارِينَ : لِخُرُوجِهَا عَنْ يَدِ الْإِمَامِ وَتَدْبِيرِهِ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ دَارَ الْحَرْبِ يَسْقُطُ جَرَيَانُ حُكْمِ الْإِسْلَامِ فِيهَا عَلَى أَهْلِهَا ، فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْقُدْرَةِ حَدٌّ ، وَلَا يَسْتَوِ مِنْهُمْ حَقٌّ ، وَلَا يَسْقُطُ جَرَيَانُ حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَى مَنْ دَخَلَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ مِنْهُمْ ، وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ . وَدَارُ الْبَغْيِ لَا تَمْنَعُ مِنْ جَرَيَانِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ فِيهَا عَلَى أَهْلِهَا وَغَيْرِ أَهْلِهَا : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنَعَتْ دَارُ الْإِسْلَامِ مَا فِيهَا ، وَأَبَاحَتْ دَارُ الشِّرْكِ مَا فِيهَا . فَفَرَّقَ بَيْنَ دَارِ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ دَارِ الشِّرْكِ فِي الْحَظْرِ ، فَلَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْإِبَاحَةِ . وَلِأَنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ جَارٍ عَلَى أَهْلِهِ أَيْنَ كَانُوا ، كَمَا أَنَّ حُكْمَ الشِّرْكِ جَارٍ عَلَى أَهْلِهِ حَيْثُ وُجِدُوا . وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ تُغَيِّرَ الدَّارُ أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ ، لَتَغَيَّرَتْ فِي الْعِبَادَاتِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ، فَيَلْتَزِمُونَهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَلَا يَلْتَزِمُونَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ . فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا ، وَاسْتَوَى إِلْزَامُهُمْ لَهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ ، وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ .

فَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّ يَدَ الْإِمَامِ قَدْ زَالَتْ عَنْ دَارِ الْبَغْيِ ، فَسَقَطَ عَنْهُ إِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ كَأَهْلِ الْحَرْبِ . فَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّ الْحُدُودَ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ : لِمُخَاطَبَتِهِمْ بِهَا وَارْتِكَابِهِمْ لِمُوجِبِهَا ، وَالْإِمَامُ مُسْتَوْفٍ لَهَا . فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا كَفَّ ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهَا أَقَامَهَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ حُكْمِ الْمُرْتَدِّ
بيان معنى الردة لغة وشرعا

بَابُ حُكْمِ الْمُرْتَدِّ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَمَنِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى أَيِّ كُفْرٍ ، كَانَ مَوْلُودًا عَلَى الْإِسْلَامِ ، أَوْ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ ، قُتِلَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الرِّدَّةُ فِي اللُّغَةِ : فَهِيَ الرُّجُوعُ عَنِ الشَّيْءِ إِلَى غَيْرِهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [ الْمَائِدَةِ : 121 ] . وَأَمَّا الرِّدَّةُ فِي الشَّرْعِ : فَهِيَ الرُّجُوعُ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ . وَهُوَ مَحْظُورٌ لَا يَجُوزُ الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ الْمَائِدَةِ : 5 ] . وَقَالَ تَعَالَى : وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْآيَةَ [ الْبَقَرَةِ : 217 ] . وَقَالَ تَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ الْآيَةَ [ النِّسَاءِ : 137 ] . وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّهُمُ الْيَهُودُ ، آمَنُوا بِمُوسَى ثُمَّ كَفَرُوا بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ ، ثُمَّ آمَنُوا بِمُوسَى بَعْدَ عَوْدِهِ ، ثُمَّ كَفَرُوا بِعِيسَى ، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمُ الْمُنَافِقُونَ ، آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا ، ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا ، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِمَوْتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، قَصَدُوا تَشْكِيكَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَكَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ ثُمَّ الْكُفْرَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِثُبُوتِهِمْ عَلَيْهِ ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ . فَإِذَا ثَبَتَ حَظْرُ الرِّدَّةِ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَهِيَ مُوجِبَةٌ لِلْقَتْلِ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِجْمَاعِ صَحَابَتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .

رَوَى أَيُّوبُ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ . وَرَوَى عُثْمَانُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ ، أَوْ زِنًى بَعْدَ إِحْصَانٍ ، أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ . وَقَاتَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الرِّدَّةِ وَوَضَعَ فِيهِمُ السَّيْفَ حَتَّى أَسْلَمُوا . وَرَوَى الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَتَلَ أُمَّ قِرْفَةَ الْفَزَارِيَّةَ قَتْلَ مُثْلَةٍ ، شَدَّ رِجْلَيْهَا بِفَرَسَيْنِ ، ثُمَّ صَاحَ بِهِمَا فَشَقَّاهَا . وَهَذَا التَّنَاهِي مِنْهُ فِي نَكَالِ الْقَتْلِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَتْبُوعًا فِيهِ فَلِانْتِشَارِ الرِّدَّةِ فِي أَيَّامِهِ ، وَتَسَرُّعِ النَّاسِ إِلَيْهَا ، لِتَكُونَ هَذِهِ الْمُثْلَةُ أَشَدَّ زَجْرًا لَهُمْ عَنِ الرِّدَّةِ ، وَأَبْعَثَ لَهُمْ عَلَى التَّوْبَةِ . وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا غَلَوْا فِي عَلِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالُوا لَهُ : أَنْتَ إِلَهٌ . فَأَجَّجَ لَهُمْ نَارًا وَحَرَّقَهُمْ فِيهَا . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَوْ كُنْتُ أَنَا لَقَتَلْتُهُمْ بِالسَّيْفِ ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ ، مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ فَقَالَ عَلِيٌّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ : لَمَّا رَأَيْتُ الْأَمْرَ أَمْرًا مُنْكَرَا أَجَّجَتُ نَارًا وَدَعَوْتُ قَنْبَرَا وَرَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ قَالَ : شَهِدْتُ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ أَتَى بِالْمُسْتَوْرِدِ بْنِ قَبِيصَةَ الْعِجْلِيِّ وَقَدْ تَنَصَّرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ . فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ : حُدِّثْتُ عَنْكَ أَنَّكَ تَنَصَّرْتَ . فَقَالَ الْمُسْتَوْرِدُ : أَنَا عَلَى دِينِ الْمَسِيحِ . فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ : وَأَنَا أَيْضًا عَلَى دِينِ الْمَسِيحِ . ثُمَّ قَالَ لَهُ : مَا تَقُولُ فِيهِ ؟ - فَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ خَفِيَ عَلَى عَلِيٍّ . فَقَالَ عَلِيٌّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ : طَؤُوهُ ، فَوُطِئَ حَتَّى مَاتَ .

فَقُلْتُ لِلَّذِي يَلِينِي : مَا قَالَ ؟ قَالَ : إِنَّ الْمَسِيحَ رَبُّهُ . وَرُوِيَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَدِمَ الْيَمَنَ وَبِهَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ ، فَقِيلَ لَهُ : إِنَّ يَهُودِيًّا أَسْلَمَ ، ثُمَّ ارْتَدَّ مُنْذُ شَهْرَيْنِ . فَقَالَ : وَاللَّهِ لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ ، قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ ، فَقُتِلَ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْقَتْلِ بِرِدَّةِ الْمُسْلِمِ إِلَى الْكُفْرِ ، فَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْلِمُ مَوْلُودًا عَلَى الْإِسْلَامِ ، أَوْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ ، أَوْ صَارَ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ صَارَ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَحَدِ أَبَوَيْهِ ، لَمْ يُقْتَلْ بِالرِّدَّةِ : لِضَعْفِ إِسْلَامِهِ . وَهَذَا خَطَأٌ . لِأَنَّهُ لَمَّا جَرَى عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ فِي الْعِبَادَاتِ وَأَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَوَارِيثِ وَالشَّهَادَاتِ ، وَجَبَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي الرِّدَّةِ ، كَغَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، كَمَا كَانَ فِي غَيْرِ الرِّدَّةِ كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ . وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا تَبَعُّضَ فِيهِ ، فَلَمْ تُبَعَّضْ فِيهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ ، وَبِهِ يَفْسُدُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ ضَعْفِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَيُّ كُفْرٍ ارْتَدَّ إِلَيْهِ مِمَّا يُظْهِرُ أَوْ يُسِرُّ مِنَ الزَّنْدَقَةِ ، ثُمَّ تَابَ لَمْ يُقْتَلْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . لَا يَخْلُو حَالُ الْكُفْرِ إِذَا ارْتَدَّ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَتَظَاهَرَ بِهِ أَهْلُهُ كَالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ . أَوْ يُسِرُّونَهُ كَالزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ . فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَظَاهَرُ بِهِ أَهْلُهُ ، قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ مِنْهُ إِذَا ارْتَدَّ إِلَيْهِ ، سَوَاءٌ وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ أَوْ كَانَ كَافِرًا وَأَسْلَمَ . وَحَكَى الشَّافِعِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ - وَأَحْسَبُهُ مَالِكًا - أَنَّ الْمَوْلُودَ عَلَى الْإِسْلَامِ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ إِذَا ارْتَدَّ : لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ حُكْمُ الْكُفْرِ بِحَالٍ ، فَكَانَ أَغْلَظَ حُكْمًا مِمَّنْ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْكُفْرِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ . وَلَكِنَّهُ لَوْ وَقَعَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ - أَوْلَى : لِأَنَّ تَوْبَةَ الْمَوْلُودِ عَلَى الْإِسْلَامِ أَقْوَى : لِأَنَّهُ قَدْ

أَلِفَ الْإِسْلَامَ ، وَتَوْبَةُ الْمَوْلُودِ عَلَى الْكُفْرِ أَضْعَفُ : لِأَنَّهُ قَدْ أَلِفَ الْكُفْرَ ، فَلَمَّا فَسَدَ هَذَا ، كَانَ عَكْسُهُ أَفْسَدَ . وَدَلَائِلُ هَذَا تَأْتِي فِيمَا يَلِيهِ . وَإِنْ كَانَ الْكُفْرُ مِمَّا يُسِرُّهُ أَهْلُهُ كَالزَّنْدَقَةِ : قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ أَيْضًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، تَسْوِيَةً بَيْنَ رِدَّةِ كُلِّ مُسْلِمٍ ، وَبَيْنَ الرِّدَّةِ إِلَى كُلِّ كُفْرٍ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا تُقْبَلُ التَّوْبَةُ مِنَ الزِّنْدِيقِ هل تقبل ، إِلَّا أَنْ يَتُوبَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ . فَفَرَّقَ بَيْنَ بَعْضِ الْكُفْرِ وَبَعْضِهِ فِي الرِّدَّةِ ، كَمَا فَرَّقَ فِي الْأَوَّلِ - إِنْ كَانَ قَائِلًا بِهِ - بَيْنَ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ وَبَعْضِهِمْ فِي الرِّدَّةِ . وَالزِّنْدِيقُ عِنْدَهُ : مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَسَرَّ الْكُفْرَ . وَلِأَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : كَقَوْلِنَا . وَالْأُخْرَى : كَقَوْلِ مَالِكٍ . احْتِجَاجًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ [ آلِ عِمْرَانَ : 90 ] . وَلِأَنَّ الزِّنْدِيقَ يَتَظَاهَرُ بِالْإِسْلَامِ وَيُسِرُّ الْكُفْرَ ، وَهُوَ بَعْدَ التَّوْبَةِ هَكَذَا ، فَصَارَ كَمَا قَبْلَهَا ، فَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ التَّوْبَةُ مِمَّا لَمْ يَكُنْ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِمَا عَلَى سَوَاءٍ . قَالَ : وَلِأَنَّ الزَّنْدَقَةَ أَعْظَمُ فَسَادًا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْحِرَابَةِ : لِجَمْعِهَا بَيْنَ فَسَادِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا ، فَلَمَّا لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَةُ الْمُحَارِبِينَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا تُقْبَلَ تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ . قَالَ : وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ أَنَّهُ يَسْتَدْفِعُ بِهَا الْقَتْلَ ، كَمَا كَانَ الظَّاهِرُ مِنْ تَوْبَةِ الْمُحَارِبِ اسْتِدْفَاعَ الْقَتْلِ بِهَا ، فَوَجَبَ أَنْ تُحْمَلَ تَوْبَتُهُ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ حَالِهَا فِي دَفْعِ الْقَتْلِ بِهَا ، كَمَا حُمِلَتْ تَوْبَةُ الْمُحَارِبِ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ حَالِهَا . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا [ النِّسَاءِ : 94 ] ،

وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ : لَسْتَ مُؤْمَنًا بِفَتْحِ الْمِيمِ ، مِنَ الْأَمَانِ . وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالْكَسْرِ مِنَ الْإِيمَانِ . وَفِيهَا عَلَى كِلَا الْقِرَاءَتَيْنِ دَلِيلٌ لِمَا حَكَاهُ السُّدِّيُّ عَنْ سَبَبِ نُزُولِهَا : أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ : مِرْدَاسُ بْنُ عُمَرَ الْفَدَكِيُّ كَانَتْ لَهُ غُنَيْمَاتٌ ، لَقِيَتْهُ سَرِيَّةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لَهُمْ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ . فَبَدَرَ إِلَيْهِ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَقَتَلَهُ ، فَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ لَهُ : لِمَ قَتَلْتَهُ وَقَدْ أَسْلَمَ ؟ قَالَ : إِنَّمَا قَالَهَا مُتَعَوِّذًا . قَالَهُ : هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ . ثُمَّ حَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَّتَهُ إِلَى أَهْلِهِ ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ غَنَمَهُ . وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَنَّ رَجُلًا سَارَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمْ يُدْرَ مَا سَارَّهُ ، حَتَّى جَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِذَا هُوَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي قَتْلِ رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ؟ قَالَ : بَلَى ، وَلَا شَهَادَةَ لَهُ . قَالَ : أَلَيْسَ يُصَلِّي ؟ قَالَ : بَلَى ، وَلَا صَلَاةَ لَهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَانِي اللَّهُ عَنْهُمْ . وَرَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ ، أَنَّ الْمِقْدَادَ بْنَ عَمْرٍو الْكِنْدِيَّ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنَ الْكُفَّارِ فَقَاتَلَنِي ، فَضَرَبَ إِحْدَى يَدَيَّ فَقَطَعَهَا ، ثُمَّ لَاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ ، فَقَالَ : أَسْلَمْتُ لِلَّهِ ، أَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا ؟ قَالَ : لَا تَقْتُلُهُ ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ ، وَهُوَ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ . فَدَلَّتِ الْآيَةُ وَالْخِبْرَانِ عَلَى الْأَخْذِ بِالظَّاهِرِ دُونَ السَّرَائِرِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّمَا أَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ

وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَبِلَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ ظَاهِرَ إِسْلَامِهِمْ ، وَإِنْ تَحَقَّقَ بَاطِنُ كُفْرِهِمْ ، بِمَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ سَرَائِرِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [ الْمُنَافِقُونَ : 1 - 2 ] . وَقُرِئَ : إِيمَانَهُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ ، مِنَ الْإِيمَانِ ، وَالْأَوَّلُ مِنَ الْيَمِينِ . وَقَالَ تَعَالَى : وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ [ التَّوْبَةِ : 56 ] . فَلَمْ يُؤَاخِذْهُمْ بِمَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ سَرَائِرِهِمُ الَّتِي تَحَقَّقَ بِهَا كُفْرُهُمْ ، وَاعْتَبَرَ مَا تَظَاهَرُوا بِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ وَإِنْ تَحَقَقَ فِيهِ كَذِبُهُمْ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَمْثَالُهُمْ مِنَ الزَّنَادِقَةِ مُلْحَقِينَ بِهِمْ وَدَاخِلِينَ فِي حُكْمِهِمْ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا كَفَّ عَنْهُمْ : لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ ، وَلَوْ عَرَفَهُمْ لَمَا كَفَّ عَنْهُمْ . قِيلَ : قَدْ كَانُوا أَشْهَرَ مِنْ أَنْ يَخْفَوْا ، هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَهُوَ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ ، قَدْ تَظَاهَرَ بِالنِّفَاقِ وَأَبْدَى مُعْتَقَدَهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [ الْأَحْزَابِ : 12 ] . وَقَوْلُهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ : لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [ الْمُنَافِقُونَ : 18 ] . فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ عَنْهُ ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْهَا مِنَ الْغُزَاةِ جَرَّدَ ابْنُهُ عَلَيْهِ سَيْفَهُ ، وَقَالَ : وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ تَقُلْ إِنَّكَ الْأَذَلُّ وَرَسُولُ اللَّهِ الْأَعَزُّ ، لَأَضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي هَذَا . فَقَالَهَا . وَلِأَنَّ إِقْرَارَهُ بِالزَّنْدَقَةِ أَقْوَى مِنْ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِهَا عَلَيْهِ ، فَلَمَّا قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ إِذَا أَقَرَّ بِهَا ، كَانَ أَوْلَى أَنْ تُقْبَلَ فِي قِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِهَا . وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَخْتَلِفَ حُكْمُ التَّوْبَةِ فِي جَهْرِ الْكُفْرِ وَسِرِّهِ ، لَكَانَ قَبُولُ تَوْبَةِ الْمُسَاتِرِ أَوْلَى مِنْ قَبُولِ تَوْبَةِ الْمُجَاهِرِ : لِأَنَّ الْجَهْرَ بِهِ يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ مُعْتَقَدِهِ ، وَالِاسْتِسْرَارِ بِهِ يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ مُعْتَقَدِهِ ، فَلَمَّا بَطُلَ هَذَا كَانَ عِلَّتُهُ أَبْطَلَ ، وَلِأَنَّهَا تَوْبَةٌ مِنْ كُفْرٍ ، فَوَجَبَ أَنْ تُقْبَلَ كَالْجَهْرِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ [ آلِ عِمْرَانَ : 190 ] . فَهُوَ أَنَّهُ قَدْ تَعَارَضَ فِيهَا مَا يَتَنَافَى اجْتِمَاعُهُمَا : لِأَنَّ مَنِ ازْدَادَ كُفْرًا لَمْ يَتُبْ ، وَمَنْ

تَابَ لَمْ يَزْدَدْ كُفْرًا ، وَإِذَا تَنَافَى ظَاهِرُهُمَا صَارَ تَأْوِيلُهَا مَحْمُولًا عَلَى تَقَدُّمِ التَّوْبَةِ عَلَى مَا حَدَثَ بَعْدَهَا مِنْ زِيَادَةِ الْكُفْرِ ، فَيُحْبِطُ حَادِثُ الْكُفْرِ سَابِقَ التَّوْبَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : إِنَّهُ بِالتَّوْبَةِ مُظْهِرٌ لِلْإِسْلَامِ مُسْتَبْطِنٌ لِلْكُفْرِ ، وَهَكَذَا هُوَ قَبْلَهَا . فَهُوَ أَنَّنَا مَا كُلِّفْنَا مِنْهُ إِلَّا الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِ ، وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ مَوْكُولٌ إِلَى رَبِّهِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تُحَاسِبُوا الْعَبْدَ حِسَابَ الرَّبِّ . وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تُؤَثِّرَ التَّوْبَةُ فِي بَاطِنِهِ كَتَأْثِيرِهَا فِي ظَاهِرِهِ . وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُحَارِبِ فَلَا يَصِحُّ : لِافْتِرَاقِهِمَا فِي مَعْنَى الْحُكْمِ : لِأَنَّ الْحِرَابَةَ يُقْتَلُ فِيهَا بِظَاهِرِ فِعْلِهِ ، فَلَمْ تُؤَثِّرِ التَّوْبَةُ فِي رَفْعِهِ ، وَالرِّدَّةُ يُقْتَلُ فِيهَا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ الدَّالِّ عَلَى مُعْتَقَدِهِ ، فَجَازَ أَنْ يَرْفَعَهَا مَا جَانَسَهَا مِنَ الْقَوْلِ فِي تَوْبَتِهِ ، وَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى زَوَالِ مُعْتَقَدِهِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : إِنَّ الظَّاهِرَ مِنْهَا اسْتِدْفَاعُ الْقَتْلِ . فَهُوَ أَنَّ هَذَا الظَّاهِرَ لَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ فِي الْمُرْتَدِّ ، كَمَا لَا يَمْنَعُ إِسْلَامُ الْحَرْبِيِّ إِذَا قُدِّمَ لِلْقَتْلِ مِنْ قَبُولِ إِسْلَامِهِ ، وَالْكَفِّ عَنْ قَتْلِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

يَسْتَوِي فِي الْقَتْلِ بِالرِّدَّةِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ ، امْرَأَةً كَانَتْ أَوْ رَجُلًا ، عَبْدًا كَانَ أَوْ حُرًّا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : يَسْتَوِي فِي الْقَتْلِ بِالرِّدَّةِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ ، وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ ، وَتُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ كَمَا يُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ : أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ . وَمِنَ التَّابِعِينَ : الْحَسَنُ ، وَالزُّهْرِيُّ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ : مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ : تُحْبَسُ الْمُرْتَدَّةُ وَلَا تُقْتَلُ ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ أَمَةً فَلَا تُحْبَسُ عَنْ سَيِّدِهَا . اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ . فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ . وَبِمَا رَوَى عَاصِمُ بْنُ أَبِي النُّجُودِ ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

قَالَ : لَا تُقْتَلُ الْمَرْأَةُ إِذَا ارْتَدَّتْ . وَهَذَا نَصٌّ . وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يُقْتَلْ بِالْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ لَمْ يُقْتَلْ بِالرِّدَّةِ كَالصَّبِيِّ . وَلِأَنَّ كُلَّ حُرٍّ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ ، لَمْ يُقْتَلْ بِالرِّدَّةِ كَالْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ . وَلِأَنَّهَا كَافِرَةٌ لَا تُقَاتِلُ ، فَلَمْ تُقْتَلْ كَالْكَافِرَةِ الْأَصْلِيَّةِ . وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَحْقُونَةُ الدَّمِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ، فَلَمْ يُسْتَبَحْ دَمُهَا بِالرِّدَّةِ عَنِ الْإِسْلَامِ ، لَعَوْدِهَا بَعْدَهُ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَهُ ، وَبِعَكْسِهَا الرَّجُلُ . وَدَلِيلُنَا : عُمُومُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ فَإِنْ قِيلَ : الْمُرَادُ بِهِ الرَّجُلُ : لِقَوْلِهِ : مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ . وَلَوْ أَرَادَ الْمَرْأَةَ لَذَكَرَهُ بِلَفْظِ التَّأْنِيثِ ، فَقَالَ : مَنْ بَدَّلَتْ دِينَهَا . قِيلَ : لَفْظَةُ " مَنْ " لِلْعُمُومِ تَسْتَغْرِقُ الْجِنْسَ ، فَاشْتَمَلَتْ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [ النِّسَاءِ : 124 ] الْآيَةَ . وَلِأَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ : مَنْ دَخَلَ الدَّارَ فَلَهُ دِرْهَمٌ . اسْتَحَقَّهُ مَنْ دَخَلَهَا مَنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى . وَرَوَى الزُّهْرِيُّ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا ، قَالَتْ : ارْتَدَّتِ امْرَأَةٌ يَوْمَ أُحُدٍ ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ . وَرَوَى الزُّهْرِيُّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ ، عَنْ جَابِرٍ : أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يُقَالُ لَهَا أُمُّ مَرْوَانَ ارْتَدَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ ، فَإِنْ رَجَعَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ . وَرَوَاهُ هِشَامُ بْنُ الْغَازِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ ، عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : فَعُرِضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ ، فَأَبَتْ أَنْ تُسْلِمَ ، فَقُتِلَتْ وَهَذَا نَصٌّ . وَلِأَنَّهُ كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ ، فَوَجَبَ أَنْ تَسْتَحِقَّ بِهِ الْقَتْلَ كَالرَّجُلِ ، وَهَذِهِ عِلَّةٌ وَرَدَ النَّصُّ بِهَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ . . . . " .

فَكَانَتْ أَوْكَدَ مِنَ الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ ، وَهَكَذَا نَسْتَنْبِطُ مِنْ هَذَا النَّصِّ عِلَّةً أُخْرَى ، فَنَقُولُ : كُلُّ مَنْ قُتِلَ بِزِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ ، قُتِلَ بِكُفْرٍ بَعْدَ إِيمَانٍ كَالرَّجُلِ . وَمِنْهُ عِلَّةٌ ثَالِثَةٌ : أَنَّ كُلَّ مَنْ قُتِلَ بِالنَّفْسِ قَوَدًا ، قُتَلَ بِالرِّدَّةِ حَدًّا كَالرَّجُلِ ، فَيَكُونُ تَعْلِيلُ النَّصِّ فِي الثَّلَاثَةِ مُسْتَمِرًّا . وَلِأَنَّهُ حَدٌّ يُسْتَبَاحُ بِهِ قَتْلُ الرَّجُلِ ، فَجَازَ أَنْ يُسْتَبَاحَ بِهِ قَتْلُ الْمَرْأَةِ كَالزِّنَا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ نَهْيِهِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوَلَدَانِ : فَهُوَ أَنَّ خُرُوجَهُ عَلَى سَبَبٍ ، رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِامْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ ، فَقَالَ : لِمَ قُتِلَتْ وَهِيَ لَا تُقَاتِلُ وَنَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ . فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْحَرْبِيَّاتِ . فَإِنْ قِيلَ : النَّهْيُ عَامٌّ فَلِمَ اقْتَصَرَ بِهِ عَلَى سَبَبِهِ ؟ قِيلَ : لَمَّا عَارَضَهُ قَوْلُهُ : " مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ " وَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَخْصِيصِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ، وَجَبَ تَخْصِيصُ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبِهِ ، وَحَمْلُ الْآخِرِ عَلَى عُمُومِهِ : لِأَنَّ السَّبَبَ مِنْ إِمَارَاتِ التَّخْصِيصِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : فَهُوَ أَنَّهُ رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى ، عَنْ عَفَّانَ ، عَنْ شُعْبَةَ ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ . قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى هَذَا كَذَّابٌ يَضَعُ الْأَحَادِيثَ عَلَى الثِّقَاتِ . وَقَدْ رَوَاهُ سُفْيَانُ ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، عَنْ عَاصِمٍ ، مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ . وَأَنْكَرَهُ أَبُو بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ ، فَسَكَتَ وَتَغَيَّرَ . وَأَنْكَرَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ . وَمَا كَانَ بِهَذَا الضَّعْفِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ فِي الدِّينِ أَصْلًا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الصَّبِيِّ : فَهُوَ انْتِقَاضُهُ بِالشَّيْخِ الْهَرِمِ وَالْأَعْمَى وَالزَّمِنِ فَإِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ بِالرِّدَّةِ ، وَلَا يُقْتَلُونَ بِالْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ ، وَالْأَصْلُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ : لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَا تَصِحُّ مِنْهُ الرِّدَّةُ . وَأَمَّا جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْكَافِرَةِ الْحَرْبِيَّةِ فَمُنْكَسِرٌ بِالْأَعْمَى وَالزَّمِنِ لَا يُقْتَلُونَ بِالْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ وَيُقْتَلُونَ بِالرِّدَّةِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْحَرْبِيَّةِ أَنَّهَا مَالٌ مَغْنُومٌ ، وَلَيْسَتِ الْمُرْتَدَّةُ مَالًا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَقْنِ دَمِهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ ، فَكَذَلِكَ بِالرِّدَّةِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ .

فَبَاطِلٌ بِالْأَعْمَى وَالزَّمِنِ وَالرُّهْبَانِ وَأَصْحَابِ الصَّوَامِعِ ، دِمَاؤُهُمْ مَحْقُونَةٌ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ، وَيُقْتَلُونَ بِالرِّدَّةِ عَنِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ الْحَرْبِيَّةَ لَمَّا جَازَ إِقْرَارُهَا عَلَى كُفْرِهَا لَمْ تُقْتَلْ ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ إِقْرَارُ الْمُرْتَدَّةِ عَلَى كُفْرِهَا قُتِلَتْ : لِأَنَّ وُقُوعَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي الْإِقْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ يَمْنَعُ مِنْ تَسَاوِيهِمَا فِي الْحُكْمِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
استتابة المرتد مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " ( وَقَالَ فِي الثَّانِي ) : فِي اسْتِتَابَتِهِ ثَلَاثًا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : حَدِيثُ عُمَرَ يُتَأَنَّى بِهِ ثَلَاثًا . وَالْآخَرُ : لَا يُؤَخَّرُ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ فِيهِ بِأَنَاةٍ ، وَهُوَ لَوْ تُؤُنِّيَ بِهِ بَعْدَ ثَلَاثٍ كَهَيْئَتِهِ قَبْلَهَا "

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَهَذَا ظَاهِرُ الْخَبَرِ ، ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : وَأَصْلُهُ الظَّاهِرُ ، وَهُوَ أَقْيَسُ عَلَى أَصْلِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ قَبْلَ قَتْلِهِ ، فَإِنْ تَابَ حُقِنَ دَمُهُ . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : يُقْتَلُ مِنْ غَيْرِ اسْتِتَابَةٍ . وَقَالَ عَطَاءٌ : إِنْ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ قُتِلَ مِنْ غَيْرِ اسْتِتَابَةٍ ، وَإِنْ وُلِدَ فِي الْكُفْرِ ثُمَّ أَسْلَمَ ، لَمْ يُقْتَلْ إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ . اسْتِدْلَالًا : بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ " ، فَلَمْ يَأْمُرْ فِيهِ إِلَّا بِالْقَتْلِ دُونَ الِاسْتِتَابَةِ . لِأَنَّ قَتْلَ الرِّدَّةِ حَدٌّ كَالرَّجْمِ فِي الزِّنَا ، فَلَمَّا لَمْ يَلْزَمِ اسْتِتَابَةُ الزَّانِي لَمْ يَلْزَمِ اسْتِتَابَةُ الْمُرْتَدِّ . وَدَلِيلُنَا : مَا رَوَاهُ عُرْوَةُ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : ارْتَدَّتِ امْرَأَةٌ يَوْمَ أُحُدٍ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُسْتَتَابَ ، فَإِنْ تَابَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ . وَهَذَا نَصٌّ . وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، مِنْ قِبَلِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : هَلْ كَانَ فِيكُمْ مِنْ مُغَرِّبَةِ خَبَرٍ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ ، فَقَتَلْنَاهُ . فَقَالَ عُمَرُ : هَلَّا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا ، وَأَطْعَمْتُمُوهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ رَغِيفًا ، وَاسْتَتَبْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ ، اللَّهُمَّ لَمْ أَحْضُرْ وَلَمْ آمُرْ . . . وَلَمْ أَرْضَ إِذْ بَلَغَنِي ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ دَمِهِ . وَرُوِيَ : أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْمٍ ارْتَدُّوا ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ : ادْعُهُمْ إِلَى دِينِ الْحَقِّ ، وَشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَإِنْ أَجَابُوا فَخَلِّ سَبِيلَهُمْ ،

وَإِنِ امْتَنَعُوا فَاقْتُلْهُمْ . فَأَجَابَ بَعْضُهُمْ فَخَلَّى سَبِيلَهُ ، وَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ فَقَتَلَهُ . وَلِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ حُدُوثِ الرِّدَّةِ أَنَّهُ لِاعْتِرَاضِ شُبْهَةٍ ، فَلَمْ يَجُزِ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقَتْلِ قَبْلَ كَشْفِهَا وَالِاسْتِتَابَةِ مِنْهَا ، كَأَهْلِ الْحَرْبِ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ إِلَّا بَعْدَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ ، وَإِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ . فَأَمَّا الْخَبَرُ فَلَا يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِتَابَةِ . وَأَمَّا الزِّنَا فَالتَّوْبَةُ لَا تُزِيلُهُ ، وَهِيَ تُزِيلُ الرِّدَّةَ ، فَلِذَلِكَ اسْتُتِيبَ مِنَ الرِّدَّةِ ، وَلَمْ يُسْتَتَبْ مِنَ الزِّنَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ الْأَمْرُ بِاسْتِتَابَتِهِ قَبْلَ قَتْلِهِ استتابة المرتد وحكمها ، فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَاخْتِيَارُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ : لِأَنَّ وُجُوبَ الِاسْتِتَابَةِ يُوجِبُ حَظْرَ دَمِهِ قَبْلَهَا ، وَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونِ الدَّمِ لَوْ قُتِلَ قَبْلَهَا ، فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ ، أَنَّ الِاسْتِتَابَةَ وَاجِبَةٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْخَبَرِ وَالْأَثَرِ ، وَلِأَنَّ الِاسْتِتَابَةَ فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّ فِي حُكْمِ إِبْلَاغِ الدَّعْوَةِ لِأَهْلِ الْحَرْبِ ، وَإِبْلَاغُ الدَّعْوَةِ وَاجِبَةٌ ، فَكَذَلِكَ الِاسْتِتَابَةُ . وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّ إِقْلَاعُهُ عَنْ رِدَّتِهِ ، وَالِاسْتِتَابَةُ أَخَصُّ بِالْإِقْلَاعِ عَنْهَا مِنَ الْقَتْلِ ، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ أَوْجَبَ مِنْهُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ حُكْمُ الِاسْتِتَابَةِ فِي الْوُجُوبِ وَالِاسْتِحْبَابِ ، فَهَلْ يُعَجَّلُ قَتْلُهُ عِنْدَ الِامْتِنَاعِ مِنَ التَّوْبَةِ أَوْ يُؤَجَّلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ استتابة المرتد ؟ فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ - أَنَّهُ يُعَجَّلُ قَتْلُهُ وَلَا يُؤَجَّلُ . وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ الْإِنْظَارَ ، فَيُؤَجَّلُ ثَلَاثًا : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ " . وَلِأَنَّهُ حَدٌّ فَلَمْ يُؤَجَّلْ فِيهِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُؤَجَّلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ . وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : يُنْظَرُ مَا كَانَ يَرْجُو التَّوْبَةَ . وَدَلِيلُ تَأْجِيلِهِ ثَلَاثًا : قَوْلُ عَمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أُخْبِرَ بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّ : هَلَّا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا ، اللَّهُمَّ لَمْ أَحْضُرْ وَلَمْ آمُرْ . . . الْخَبَرَ . وَلِأَنَّ اللَّهَ قَضَى بِعَذَابِ قَوْمٍ ، ثُمَّ أَنْظَرَهُمْ ثَلَاثًا فَقَالَ : تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [ هُودٍ : 65 ] .

وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ اسْتِبْصَارُهُ فِي الدِّينِ وَرُجُوعُهُ إِلَى الْحَقِّ ، وَذَلِكَ مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الِارْتِيَاءِ وَالْفِكْرِ ، فَأُمْهِلَ بِمَا يُقَدَّرُ فِي الشَّرْعِ مِنْ مُدَّةِ أَقَلِّ الْكَثِيرِ ، وَأَكْثَرِ الْقَلِيلِ ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ : فَعَلَى هَذَا : فِي تَأْجِيلِهِ بِهَذِهِ الثَّلَاثِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ ، إِنْ قِيلَ : إِنَّ الِاسْتِتَابَةَ مُسْتَحَبَّةٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا وَاجِبَةٌ ، إِنْ قِيلَ : إِنَّ الِاسْتِتَابَةَ وَاجِبَةٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُوقَفُ مَالُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : حُكْمُ الرِّدَّةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : حُكْمُهَا فِي نَفْسِ الْمُرْتَدِّ ، وَهُوَ الْقَتْلُ وَقَدْ مَضَى . وَالثَّانِي : حُكْمُهَا فِي مَالِ الْمُرْتَدِّ ، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بَقَاءُ مَالِهِ عَلَى مِلْكِهِ . وَالثَّانِي : جَوَازُ تَصَرُّفِهِ فِيهِ . فَأَمَّا بَقَاؤُهُ عَلَى مِلْكِهِ مال المرتد ، فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِيهِ قَوْلَيْنِ ، وَثَالِثًا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِهِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ - أَنَّ مِلْكَهُ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ بَانَ أَنَّ مَالَهُ كَانَ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ المرتد ، وَإِنْ قُتِلَ بِالرِّدَّةِ بَانَ أَنَّ مَالَهُ زَالَ عَنْ مِلْكِهِ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ ، فَيَصِيرُ مَالُهُ مُعْتَبَرًا بِنَفْسِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : - نَصَّ عَلَيْهِ فِي زَكَاةِ الْمَوَاشِي - أَنَّ مَالَهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ ، إِلَى أَنْ يُقْتَلَ بِالرِّدَّةِ ، فَيَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ بِالْقَتْلِ أَوْ بِالْمَوْتِ : لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ مَالِكٍ ، فَلَمَّا لَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى مِلْكِ غَيْرِهِ إِلَّا بِالْمَوْتِ ، عُلِمَ بَقَاؤُهُ عَلَى مِلْكِهِ إِلَى وَقْتِ الْمَوْتِ . وَالثَّالِثُ الْمُخْتَلَفُ فِي تَخْرِيجِهِ : - ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْمُدَبِّرِ - أَنَّ تَدْبِيرَ الْمُرْتَدِّ بَاطِلٌ فِي أَحَدِ أَقَاوِيلِهِ الثَّلَاثَةِ : لِأَنَّ مِلْكَهُ خَارِجٌ عَنْهُ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَعْنَى تَعْلِيلِهِ بِأَنَّ مِلْكَهُ خَارِجٌ عَنْهُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَطَائِفَةٍ ، أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ خُرُوجَ مَالِهِ عَنْ تَصَرُّفِهِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِ : لِأَنَّهُ لَوْ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ بِالرِّدَّةِ مَا عَادَ إِلَيْهِ إِلَّا بِتَمْلِيكٍ مُسْتَجَدٍّ ، وَمَنَعُوا مِنْ تَخْرِيجِهِ قَوْلًا ثَالِثًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ ، أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ زَوَالَ مِلْكِهِ عَنْ مَالِهِ ، فَإِنْ عَادَ إِلَى

الْإِسْلَامِ عَادَ الْمَالُ إِلَى مِلْكِهِ ، كَالْخَلِّ إِذَا انْقَلَبَتْ بِنَفْسِهَا خَمْرًا زَالَ عَنْ مِلْكِ صَاحِبِهِ ، فَإِنْ صَارَ الْخَمْرُ خَلًّا عَادَ إِلَى مِلْكِهِ . وَخَرَّجَ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ فِي مَالِهِ ثَلَاثَةَ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّ مَالَهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يَمُوتَ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَالَهُ قَدْ زَالَ عَنْ مِلْكِهِ قُتِلَ أَوْ لَمْ يُقْتَلْ ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ عَادَ إِلَى مِلْكِهِ بِإِسْلَامِهِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ مَالَهُ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ فَمَالُهُ لَمْ يَزَلْ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ ، وَإِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ عُلِمَ أَنَّ مَالَهُ زَالَ عَنْ مِلْكِهِ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ . وَعَلَى هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ يَكُونُ حُكْمُ مَا اسْتَفَادَ مِلْكُهُ فِي رِدَّتِهِ بِهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوِ اصْطِيَادٍ أَوِ احْتِشَاشٍ . فَإِنْ قِيلَ بِالْأَوَّلِ : إِنَّ مِلْكَهُ الْمُتَقَدِّمَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ ، مَلَكَ مَا اسْتَفَادَهُ فِي رِدَّتِهِ ، وَصَارَ مُضَافًا إِلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ . وَإِنْ قِيلَ بِالثَّانِي : أَنَّ مَالَهُ خَرَجَ بِالرِّدَّةِ عَنْ مِلْكِهِ ، لَمْ يَمْلِكْ مَا اسْتَفَادَهُ فِي رِدَّتِهِ : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْلِكْ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مَلِكُهُ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَمْلِكَ مَا لَمْ يَسْتَقِرَّ لَهُ عَلَيْهِ مِلْكٌ . وَإِنْ قِيلَ بِالثَّالِثِ : إِنَّهُ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى ، كَانَ مَا اسْتَفَادَهُ فِي الرِّدَّةِ مَوْقُوفًا مُرَاعًى : فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ مَلَكَهُ مَعَ قَدِيمِ مِلْكِهِ . وَإِنْ قُتِلَ بِالرِّدَّةِ لَمْ يَمْلِكْهُ . فَإِنْ كَانَ عَنْ هِبَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ : بَطُلَتْ ، وَعَادَ إِلَى الْوَاهِبِ وَالْمُوصِي . وَإِنْ كَانَ اصْطِيَادًا أَوِ احْتِشَاشًا : كَانَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي : فِي جَوَازِ تَصَرُّفِهِ فِي مَالِهِ مال المرتد . فَظُهُورُ الرِّدَّةِ مِنْهُ مُوجِبَةٌ لِوُقُوعِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ : لِعِلَّتَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ تَظَاهُرَهُ بِهَا مَعَ مَا يُفْضِي إِلَيْهِ مِنْ إِبَاحَةِ دَمِهِ دَلِيلٌ عَلَى سَفَهِ رَأْيِهِ وَضَعْفِ تَمْيِيزِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ انْتِقَالَ مَالِهِ عَنْهُ إِلَى مَنْ بَايَنَهُ فِي الدَّيْنِ ، يُوجِبُ حِفْظُهُ عَلَيْهِ : لِتُوَجَّهَ التُّهْمَةُ إِلَيْهِ ، حَتَّى لَا يُسْرِعَ إِلَى اسْتِهْلَاكِهِ عَلَيْهِمْ ،

فَإِنْ حَجَرَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ ، صَحَّ الْحَجْرُ ، وَفِي مَعْنَى حَجْرِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَحَجْرِ السَّفَهِ وَفِي مَعْنَاهُ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّ عِلَّةَ حَجْرِهِ سَفَهُ رَأْيِهِ ، وَضِعْفُ تَمْيِيزِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ كَحَجْرِ الْمَرَضِ وَفِي مَعْنَاهُ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّ عِلَّةَ حَجْرِهِ تُوَجِّهُ التُّهْمَةَ إِلَيْهِ فِي حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَالِهِ . وَيَكُونُ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ مَمْنُوعًا مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ ، فَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فِي تَصَرُّفِهِ اسْتِهْلَاكٌ لِمَا لَهُ كَالْعَطَايَا وَالْهِبَاتِ وَالْوَصَايَا وَالصَّدَقَاتِ وَالْوَقْفِ وَالْعِتْقِ ، فَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ ، سَوَاءٌ قِيلَ : إِنَّ حَجْرِهِ حَجْرُ سَفَهٍ ، أَوْ حَجْرُ مَرَضٍ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا جَازَتْ وَصَايَاهُ إِذَا قِيلَ : إِنَّ حَجْرَهُ حَجْرُ مَرَضٍ ، كَمَا تَجُوزُ وَصَايَا الْمَرِيضِ . قِيلَ : لِأَنَّ لِلْمَرِيضِ فِي مَالِهِ الثُّلُثَ ، فَأُمْضِيَتْ وَصَايَاهُ مِنْ ثُلُثِهِ ، وَلَيْسَ لِلْمُرْتَدِّ ثُلُثٌ تُجْعَلُ وَصَايَاهُ مِنْهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ تَصَرُّفِهِ : مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ اسْتِهْلَاكٌ كَالْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ بِأَعْوَاضٍ مِثْلِهَا ، فَيَكُونُ فِي صِحَّتِهَا وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى مَعْنَى حَجْرِهِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ جَمِيعَهَا بَاطِلَةٌ إِذَا قِيلَ : إِنَّ حَجْرَهُ حَجْرُ سَفَهٍ : لِأَنَّ عُقُودَ السَّفِيهِ بَاطِلَةٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ جَمِيعَهَا جَائِزَةٌ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّ حَجْرَهُ حَجْرُ مَرَضٍ : لِأَنَّ عُقُودَ الْمَرِيضِ جَائِزَةٌ . وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ حُكْمُ إِقْرَارِهِ بِالدُّيُونِ وَالْحُقُوقِ ، أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ : بُطْلَانُ إِقْرَارِهِ بِجَمِيعِهَا ، إِذَا قِيلَ : إِنَّهُ حَجْرُ سَفَهٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : صِحَّةُ إِقْرَارِهِ بِجَمِيعِهَا ، إِذَا قِيلَ : إِنَّهُ حَجْرُ مَرَضٍ .

فَصْلٌ : فَإِنْ لَمْ يَحْجُرِ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ ، فَفِي صِحَّةِ تَصَرُّفِهِ وَجَوَازِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ مال المرتد : أَحَدُهَا : أَنَّ تَصَرُّفَهُ جَائِزٌ مَمْضِيٌّ ، سَوَاءٌ قُتَلَ بِالرِّدَّةِ أَوْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ المرتد : لِأَنَّ الْكُفْرَ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ التَّصَرُّفِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ تَصَرُّفَهُ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ ، سَوَاءٌ قُتِلَ بِالرِّدَّةِ أَوْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ : لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْعِلَّتَيْنِ فِي سَفَهِ رَأْيِهِ وَظُهُورِ تُهْمَتِهِ .

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ تَصَرُّفَهُ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى : فَإِنْ قُتِلَ بِالرِّدَّةِ : كَانَ جَمِيعُ تَصَرُّفِهِ بَاطِلًا مَرْدُودًا : لِتَحَقُّقِ الْعِلَّتَيْنِ فِيهِ . وَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ : كَانَ جَمِيعُ تَصَرُّفِهِ جَائِزًا مُمْضِيًّا : لِانْتِفَاءِ الْعِلَّتَيْنِ عَنْهُ . فَعَلَى هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ : تَنْقَسِمُ عُقُودُهُ فِي رِدَّتِهِ عقود المرتد ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ كَالْعِتْقِ حصوله من المرتد وَالتَّدْبِيرِ حصوله من المرتد ، فَيَكُونُ فِي صِحَّتِهِ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : يَكُونُ جَائِزًا . وَالثَّانِي : يَكُونُ بَاطِلًا . وَالثَّالِثُ : يَكُونُ مَوْقُوفًا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ . وَالثَّانِي : جَائِزٌ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا اشْتَمَلَ عَلَى أَمْرَيْنِ يَصِحُّ الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ فِي أَحَدِهِمَا ، وَلَا يَصِحُّ فِي الْآخَرِ كَالْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ : لِأَنَّهُمَا يَشْتَمِلَانِ عَلَى طَلَاقٍ وَعِتْقٍ ، يَصِحُّ فِيهِمَا الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ ، وَعَلَى مُعَاوَضَةٍ لَا يَصِحُّ فِيهَا الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ . فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمُغَلَّبِ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُغَلَّبُ مِنْهُمَا حُكْمُ الْعِوَضِ ، فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ . أَحَدُهُمَا : جَائِزٌ . وَالثَّانِي : بَاطِلٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُغَلَّبُ مِنْهُمَا حُكْمُ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ ، فَيَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : جَائِزٌ . وَالثَّانِي : بَاطِلٌ . وَالثَّالِثُ : مَوْقُوفٌ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا قُتِلَ ، فَمَالُهُ بَعْدَ قَضَاءِ دَيْنِهِ وَجِنَايَتِهِ

وَنَفَقَةِ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ فَيْءٌ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ وَكَمَا لَا يَرِثُ مُسْلِمًا لَا يَرِثُهُ مُسْلِمٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي حُكْمِ مَالِهِ فِي حَيَاتِهِ . فَأَمَّا حُكْمُ مَالِهِ بَعْدَ قَتْلِهِ أَوْ مَوْتِهِ مُرْتَدًّا ، فَالْكَلَامُ فِيهِ مُشْتَمِلٌ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْحُقُوقِ . وَالثَّانِي : فِي اسْتِحْقَاقِ بِاقِيهِ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : فِي الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ مال المرتد بعد قتله ، فَثَلَاثَةٌ : دُيُونٌ ، وَجِنَايَاتٌ ، وَنَفَقَاتٌ . فَأَمَّا الدُّيُونُ : فَمَا وَجَبَ مِنْهَا قَبْلَ الرِّدَّةِ فَمُسْتَحَقٌّ ديون المرتد ، وَمَا وَجَبَ مِنْهَا بَعْدَ الرِّدَّةِ ديون المرتد ، فَإِنْ كَانَ عَنْ تَصَرُّفٍ جَائِزٍ مَمْضِيٍّ اسْتُحِقَّ ، وَمَا كَانَ مِنْهَا عَنْ تَصَرُّفٍ بَاطِلٍ مَرْدُودٍ لَمْ يُسْتَحَقَّ . وَأَمَّا الْجِنَايَاتُ عَلَى النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ الحاصلة من المرتد : فَمُسْتَحَقَّةٌ ، سَوَاءٌ كَانَتْ قَبْلَ الرِّدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا : لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ ضَامِنٌ لِمَا أَتْلَفَ . وَأَمَّا النَّفَقَاتُ : فَمَا وَجَبَ مِنْهَا قَبْلَ الرِّدَّةِ فَمُسْتَحَقٌّ إِذَا كَانَ مِمَّا لَا يَسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ ، كَنَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ أَوْ نَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ ، إِذَا حَكَمَ حَاكِمٌ بِالِافْتِرَاضِ عَلَيْهَا . وَإِنْ سَقَطَتْ بِالتَّأْخِيرِ كَانَ سُقُوطُهَا مَعَ الرِّدَّةِ أَحَقَّ . وَأَمَّا مَا وَجَبَ مِنْهَا فِي زَمَنِ الرِّدَّةِ : فَإِنْ قِيلَ : بِبَقَاءِ مَالِهِ عَلَى مِلْكِهِ ، وَجَبَتْ . وَإِنْ قِيلَ : بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ مَالِهِ ، فَفِي وُجُوبِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَجِبْ لِعَدَمِ مَحَلِّهَا كَالْإِعْسَارِ بِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تَجِبُ وَيَزُولُ مِلْكُهُ عَمَّا لَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ ، وَلَا يَزُولُ عَمَّا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ كَالْمَوْتِ ، يَزُولُ بِهِ مِلْكُ الْمَيِّتِ إِلَّا عَمَّا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ مِنْ كَفَنِهِ وَمَئُونَةِ دَفْنِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الْمَوْرُوثُ مِنْ بَاقِي مَالِهِ ميراث المرتد ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُسْتَحِقِّهِ عَلَى سِتَّةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : - وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - أَنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ فَيْئًا ، وَلَا يَرِثُهُ مُسْلِمٌ وَلَا كَافِرٌ . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ : زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .

وَمِنَ التَّابِعِينَ : الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ : رَبِيعَةُ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، وَأَبُو ثَوْرٍ . وَالثَّانِي : - وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - أَنَّ مَا كَسَبَهُ قَبْلَ رِدَّتِهِ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَمَا كَسَبَهُ فِي رِدَّتِهِ يَكُونُ فَيْئًا لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرْتَدُّ امْرَأَةً فَيَكُونَ جَمِيعُ مَا كَسَبَتْهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ وَبَعْدَهَا لِوَرَثَتِهَا الْمُسْلِمِينَ . وَالثَّالِثُ : - وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - أَنَّ جَمِيعَ مَا كَسَبَهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ وَبَعْدَهَا يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً . وَالرَّابِعُ : - وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ - أَنَّهُ إِنِ اتُّهِمَ بِرِدَّتِهِ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا إَزْوَاءَ وَرَثَتِهِ ، كَانَ مَالُهُ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ لَمْ يُتَّهَمْ كَانَ فَيْئًا لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ . وَالْخَامِسُ : - وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُدَ - أَنَّهُ يَكُونُ مَوْرُوثًا لِمَنِ ارْتَدَّ إِلَى دِينِهِ مِنْ وَرَثَتِهِ الْكُفَّارِ دُونَ الْمُسْلِمِينَ . وَالسَّادِسُ : - وَهُوَ مَذْهَبُ عَلْقَمَةَ ، وَقَتَادَةَ ، وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ - أَنَّ مَالَهُ يَنْتَقِلُ إِلَى جَمِيعِ أَهْلِ دِينِهِ الَّذِينَ ارْتَدَّ إِلَيْهِمْ . وَالدَّلِيلُ عَلَى جَمِيعِهِمْ : قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ . وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَرِثْ مُسْلِمًا لَمْ يَرِثْهُ مُسْلِمٌ كَالْحَرْبِيِّ . وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ قَدْ مَضَى حِجَاجُهَا فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُقْتَلُ السَّاحِرُ إِنْ كَانَ مَا يَسْحَرُ بِهِ كُفْرًا إِنْ لَمْ يَتُبْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ، وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ السَّاحِرِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : - وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ - أَنَّ السَّاحِرَ كَافِرٌ يَجِبُ قَتْلُهُ ، وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ . وَالثَّانِي : - وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ - أَنَّ السَّاحِرَ يَجِبُ قَتْلُهُ ، وَلَمْ يَقْطَعَا بِكُفْرِهِ . وَالثَّالِثُ : - وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - أَنَّ السَّاحِرَ لَا يَكُونُ كَافِرًا بِالسِّحْرِ ، وَلَا يَجِبُ

بِهِ قَتْلُهُ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَا يَسْحَرُ بِهِ كُفْرًا ، فَيَصِيرُ بِاعْتِقَادِ الْكُفْرِ كَافِرًا يَجِبُ قَتْلُهُ بِالْكُفْرِ لَا بِالسِّحْرِ ، وَقَدْ دَلَلْنَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ بِمَا أَجْزَأَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُقَالُ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَقَالَ : أَنَا أُطِيقُهَا وَلَا أُصَلِّيهَا . لَا يَعْمَلُهَا غَيْرُكَ ، فَإِنْ فَعَلْتَ وَإِلَّا قَتَلْنَاكَ كَمَا تَتْرُكُ الْإِيمَانَ وَلَا يَعْمَلُهُ غَيْرُكَ ، فَإِنْ آمَنْتَ وَإِلَّا قَتَلْنَاكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ ، وَذَكَرْنَا أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ ضَرْبَانِ : جَاحِدٌ وَمُعْتَرِفٌ . فَأَمَّا الْجَاحِدُ لِوُجُوبِهَا الصَّلَاةِ : فَهُوَ مُرْتَدٌّ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الرِّدَّةِ ، وَهُوَ إِجْمَاعٌ . وَأَمَّا الْمُعْتَرِفُ بِوُجُوبِهَا التَّارِكُ لِفِعْلِهَا الصَّلَاةِ : فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : - وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - أَنَّهُ يَكْفُرُ بِتَرْكِهَا كَمَا يَكْفُرُ بِجُحُودِهَا . لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ تَرْكُ الصَّلَاةِ ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ . وَالثَّانِي : - وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ - أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِتَرْكِهَا ، وَلَا يُقْتَلُ ، وَيُحْبَسُ حَتَّى يُصَلِّيَ : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا . وَالثَّالِثُ : - وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - أَنَّهُ يُقْتَلُ بِتَرْكِهَا لَا بِكُفْرِهِ : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَلَا إِنِّي نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُصَلِّي مُبَاحُ الدَّمِ . وَقَدْ مَضَى مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْمَعَانِي مَا أَقْنَعَ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ قَتْلُهُ بِتَرْكِهَا قتل تارك الصلاة وَاجِبًا ، فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ تَرْكِهَا ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وَقْتِ سُؤَالِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَسْأَلُ عَنْ تَرْكِهَا فِي آخِرِ وَقْتِهَا إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا قَدْرُ فِعْلِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُسْأَلُ عَنْهَا إِلَّا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا ، فَإِذَا سُئِلَ عَنْهَا وَأَجَابَ بِأَنَّهُ نَسِيَ ، قِيلَ لَهُ : صِلِّ فَقَدْ ذُكِّرْتَ . فَإِنْ قَالَ : أَنَا مَرِيضٌ . قِيلَ : صَلِّ كَيْفَ أَطَقْتَ . وَإِنْ قَالَ : لَسْتُ أُصَلِّي كَسَلًا وَاسْتِثْقَالًا .

قِيلَ لَهُ : تُبْ وَصَلِّ ، فَإِنَّهُ لَا يُصَلِّيهَا غَيْرُكَ . فَإِنْ تَابَ وَصَلَّى عَادَ إِلَى حَالِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ وَلَمْ يَصُلِّ فَهُوَ الَّذِي اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ . وَمَذْهَبُنَا فِيهِ : وُجُوبُ قَتْلِهِ حَدًّا مَعَ بَقَائِهِ عَلَى إِسْلَامِهِ ، وَيَكُونُ مَالُهُ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ ، وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِفَةِ قَتْلِهِ قتل تارك الصلاة عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ يُقْتَلُ ضَرْبًا بِالسَّيْفِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ ، وَطَائِفَةٍ أَنَّهُ يُضْرَبُ بِمَا لَا يُوجَى مِنَ الْخَشَبِ ، وَيُسْتَدَامُ ضَرْبُهُ حَتَّى يَمُوتَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنْ قَتَلَ مُرْتَدًّا قَبْلَ أَنْ يُسْتَتَابَ ، أَوْ جَرَحَهُ فَأَسْلَمَ ، ثُمَّ مَاتَ مِنَ الْجُرْحِ ، فَلَا قَوَدَ وَلَا دِيَةَ وَيُعَزَّرُ الْقَاتِلُ : لِأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ لِقَتْلِهِ بَعْدَ اسْتِتَابَتِهِ الْحَاكِمُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ ، أَنَّ الْمُرْتَدَّ يَخْتَصُّ الْإِمَامُ بِقَتْلِهِ دُونَ غَيْرِهِ : لِأَنَّ قَتْلَهُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي تَنْفَرِدُ الْأَئِمَّةُ بِإِقَامَتِهَا كَالْحُدُودِ . فَإِنْ قَتَلَهُ غَيْرُ الْإِمَامِ لَمْ يَضْمَنْهُ الْقَاتِلُ وَعُزِّرَ ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ قَدْ أَبَاحَتْ دَمَهُ ، فَصَارَ قَتْلُهُ هَدْرًا كَالْحَرْبِيِّ إِذَا قَتَلَهُ مُسْلِمٌ لَمْ يَضْمَنْهُ لِإِبَاحَةِ دَمِهِ ، لَكِنْ يُعَزَّرُ قَاتِلُ الْمُرْتَدِّ ، وَلَا يُعَزَّرُ قَاتِلُ الْحَرْبِيِّ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : إِنَّ قَتْلَ الْمُرْتَدِّ حَدٌّ يَتَوَلَّاهُ الْإِمَامُ فَعُزِّرَ الْمُفْتَاتُ عَلَيْهِ وَقَتْلُ الْحَرْبِيِّ جِهَادٌ يَسْتَوِي الْكَافَّةُ فِيهِ ، فَلَمْ يُعَزَّرِ الْمُنْفَرِدُ بِقَتْلِهِ . فَأَمَّا إِذَا جُرِحَ مُرْتَدًّا ثُمَّ أَسْلَمَ الْمَجْرُوحُ ، وَسَرَى الْجُرْحُ إِلَى نَفْسِهِ فِي الْإِسْلَامِ فَمَاتَ مِنْهُ : فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ دَمَهُ هَدَرٌ لَا يُضْمَنُ : لِأَنَّهَا عَنْ جِنَايَةٍ فِي الرِّدَّةِ غَيْرِ مَضْمُونَةٍ ، فَكَانَ مَا حَدَثَ بَعْدَهَا غَيْرُ مَضْمُونٍ كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ . قَالَ الرَّبِيعُ : وَفِيهَا قَوْلٌ آخَرُ : أَنَّهُ ضَامِنٌ لِنِصْفِ دِيَتِهِ .

لِأَنَّهُ مُرْتَدٌّ فِي حَالِ الْجِنَايَةِ ، وَمُسْلِمٌ فِي حَالِ السَّرَايَةِ ، فَسَقَطَ نِصْفُ الدِّيَةِ بِرِدَّتِهِ ، وَوَجَبَ نِصْفُهَا بِإِسْلَامِهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ تَخْرِيجِ الرَّبِيعِ مِنْ نَفْسِهِ ، وَلَيْسَ بِمَحْكِيٍّ عَنِ الشَّافِعِيِّ ، وَلَا تَقْتَضِيهِ أُصُولُ مَذْهَبِهِ . فَإِنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ هُوَ الْقَاتِلُ فَقَدْ مَضَى فِي الْجِنَايَاتِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يُسْبَى لِلْمُرْتَدِّينَ ذُرِّيَّةٌ وَإِنْ لَحِقُوا بِدَارِ الْحَرْبِ : لِأَنَّ حُرْمَةَ الْإِسْلَامِ قَدْ ثَبَتَتْ لَهُمْ ، وَلَا ذَنْبَ لَهُمْ فِي تَبْدِيلِ آبَائِهِمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْمُرْتَدُّونَ إِذَا كَانُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَمِ يَلْحَقُوا بِدَارِ الْحَرْبِ ، فَلَا خِلَافَ نَعْرِفُهُ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ سَبْيُهُمْ وَلَا اسْتِرْقَاقُهُمْ : تَغْلِيبًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حُرْمَةِ إِسْلَامِهِمْ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُؤْكَلَ ذَبَائِحَهُمْ ذبيحة المرتد ، وَلَا يَنْكِحُوا : تَغْلِيبًا لِحُكْمِ شِرْكِهِمْ ، وَلَا تُقْبَلُ جِزْيَتُهُمْ الجزية من المرتد ، وَلَا يُهَادَنُوا : لِأَنَّ قَبُولَ الْجِزْيَةِ وَعَقْدَ الْهُدْنَةِ مع المرتدين مَوْضُوعَانِ لِلْإِقْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ ، وَالْمُرْتَدُّ لَا يُقَرُّ عَلَى كُفْرِهِ . فَأَمَّا إِذَا لَحِقَ الْمُرْتَدُّونَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، أَوِ انْفَرَدُوا بِدَارٍ صَارَتْ لَهُمْ كَدَارِ أَهْلِ الْحَرْبِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي جَوَازِ سَبْيِهِمْ وَاسْتِرْقَاقِهِمْ . فَذَهَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ : إِلَى جَوَازِ سَبْيِهِمْ وَاسْتِرْقَاقِهِمْ ، كَأَهْلِ الْحَرْبِ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْكُفْرِ ، وَبِهِ قَالَ شَاذٌّ مِنَ الْفُقَهَاءِ . وَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إِلَى تَحْرِيمِ سَبْيِهِمْ وَاسْتِرْقَاقِهِمْ : تَغْلِيبًا لِحُرْمَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِسْلَامِهِمْ ، كَمَا يَحْرُمُ سَبْيُهُمْ وَاسْتِرْقَاقُهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ سَبَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَنِي حَنِيفَةَ حِينَ ارْتَدُّوا مَعَ مُسَيْلِمَةَ . قِيلَ : إِنَّمَا سَبَاهُمْ سَبْيَ قَهْرٍ وَإِذْلَالٍ : لِتَضْعُفَ بِهِمْ قُوَّتُهُمْ ، وَلَمْ يَكُنْ سَبْيَ غَنِيمَةٍ وَاسْتِرْقَاقٍ . وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ الْمُرْتَدَّةِ إِذَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ الْمُرْتَدِّ . وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَرَقَّ مِنْ سَبِّي بَنِي حَنِيفَةَ أُمَّ ابْنِهِ مُحَمَّدٍ وَأَوْلَدَهَا .

وَبَنَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ لَا تُقْتَلُ كَالْحَرْبِيَّةِ ، فَجَازَ اسْتِرْقَاقُهَا : لِاسْتِوَائِهِمَا فِي حَظْرِ الْقَتْلِ عِنْدَهُ ، وَهَذَا قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِيهِ . ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ دَيْنٍ مَنَعَ مِنِ اسْتِرْقَاقِ الرَّجُلِ مَنَعَ مِنِ اسْتِرْقَاقِ الْمَرْأَةِ ، كَالْإِسْلَامِ طَرْدًا ، وَالْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ عَكْسًا . فَأَمَّا مَا حَكَاهُ مِنَ اسْتِرْقَاقِ عَلِيٍّ أُمَّ وَلَدِهِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - أَنَّهُ كَانَ مَذْهَبًا لَهُ ، وَقَدْ خَالَفَهُ فِيهِ غَيْرُهُ ، فَصَارَ خِلَافًا لَا يَقَعُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ . وَالثَّانِي : - وَهُوَ قَوْلُ الْوَاقِدِيِّ - أَنَّهَا كَانَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ سِنْدِيَّةٌ لِبَنِي حَنِيفَةَ ، وَكَانَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ قَدْ صَالَحَهُمْ عَلَى إِمَائِهِمْ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ الْأَظْهَرُ : أَنَّهَا كَانَتْ حُرَّةٌ تَزَوَّجَهَا عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِرِضَاهَا ، فَأَوْلَدَهَا بِالزَّوْجِيَّةِ دُونَ مِلْكِ الْيَمِينِ ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِأَفْعَالِهِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا ذُرِّيَّةُ الْمُرْتَدِّ أحكامهم : وَهُمْ صِغَارُ أَوْلَادِهِ مِنْ ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ ، فَهُمْ عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ الْجَارِي عَلَيْهِمْ بِإِسْلَامِ آبَائِهِمْ ، وَلَا يَزُولُ عَنْهُمْ بِرِدَّةِ آبَائِهِمْ : لِأَنَّ رِدَّةَ آبَائِهِمْ جِنَايَةٌ مِنْهُمْ فَاخْتَصُّوا بِهَا دُونَهُمْ : لِأَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ أَحَدٌ بِمَعْصِيَةِ غَيْرِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا تَعَدَّى إِلَيْهِمْ إِسْلَامُ آبَائِهِمْ فَصَارُوا مُسْلِمِينَ بِإِسْلَامِهِمْ ، فَهَلَّا تَعَدَّى إِلَيْهِمْ رِدَّةُ آبَائِهِمْ فَصَارُوا مُرْتَدِّينَ بِرِدَّتِهِمْ ؟ قِيلَ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى فَجَازَ أَنْ يَرْفَعَ الْإِسْلَامُ مِنْ حُكْمِ الْكُفْرِ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْفَعَ الْكُفْرُ مِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ ، وَلِذَلِكَ إِذَا كَانَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ مُسْلِمًا وَالْآخَرُ كَافِرًا ، كَانَ الْوَلَدُ مُسْلِمًا وَلَمْ يَكُنْ كَافِرًا : تَغْلِيبًا لِلْإِسْلَامِ عَلَى الْكُفْرِ . فَإِذَا ثَبَتَ إِسْلَامُ أَوْلَادِهِمْ فَلَا يَجُوزُ سَبْيُهُمْ وَلَا اسْتِرْقَاقُهُمْ ، وَتَجِبُ نَفَقَاتُهُمْ فِي أَمْوَالِ آبَائِهِمُ الْمُرْتَدِّينَ : لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَخْتَلِفُ بِالْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ . فَإِنْ مَاتُوا غُسِّلُوا وَصُلِّيَ عَلَيْهِمْ ، وَدُفِنُوا فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ .

فَصْلٌ : وَإِذَا لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ كَانَتْ أَحْكَامُ الْحَيَاةِ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَمُتْ رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَجْرِي عَلَى الْمَرْأَةِ أَحْكَامُ الْحَيَاةِ ، وَعَلَى الرَّجُلِ أَحْكَامُ الْمَوْتِ ، فَيُقَسَّمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ ، وَيُعْتَقُ عَلَيْهِ مُدَبِّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ ، وَتَحِلُّ عَلَيْهِ دُيُونُهُ الْمُؤَجَّلَةُ . فَإِنْ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ ، رَجَعَ بِمَا بَقِيَ فِي أَيْدِي وَرَثَتِهِ مِنْ تَرِكَتِهِ الْبَاقِيَةِ ، وَلَمْ

يَرْجِعْ بِمَا اسْتَهْلَكُوهُ ، وَقَدْ نَفَذَ عِتْقُ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبِّرِيهِ ، وَلَا يَتَأَجَّلُ مَا حُكِمَ بِحُلُولِهِ مِنْ دُيُونِهِ ، احْتِجَاجًا بِأَنَّ الرِّدَّةَ تُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ ، فَصَارَتْ كَالْمَوْتِ . وَدَلِيلُنَا : أَنَّهُ حَيٌّ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُوَرَّثَ كَسَائِرِ الْأَحْيَاءِ . وَلِأَنَّ مَنْ جَازَ إِسْلَامُهُ مِنْ رِدَّتِهِ ، لَمْ يُقَسَّمْ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ كَالْمُرْتَدِّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ . وَلِأَنَّ مَنْ مَنَعَتْ دَارُ الْإِسْلَامِ مِنْ إِجْرَاءِ حُكْمِ الْمَوْتِ عَلَيْهِ ، مَنَعَتْ دَارُ الْحَرْبِ مِنْ إِجْرَاءِ حِكَمِ الْمَوْتِ عَلَيْهِ كَالْمُرْتَدَّةِ . وَقِيَاسُهُ مُنْتَقَضٌ بِالرِّدَّةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، كَانَ مَا خَلَّفَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ أحكام المرتد ، فَإِنْ عَادَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَأَخَذَ مَالَهُ سِرًّا ، أَوْ كَانَ قَدْ حَمَلَهُ حِينَ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مال المرتد ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُغْنَمَ مَالُهُ ، وَكَانَ فِي أَمَانٍ مِنَّا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ أَنْ يُغْنَمَ مَالُهُ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الدَّارِ . وَاعْتِبَارُهُ عِنْدَنَا بِالْمَالِكِ أَوْلَى كَالْمُسْلِمِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنْ بَلَغَ مِنْهُمْ إِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا بَلَغَ أَوْلَادُ الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِإِسْلَامِهِمْ فَلَهُمْ حَالَتَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقُومُوا بِعِبَادَاتِ الْإِسْلَامِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَسَائِرِ حُقُوقِهِ ، فَيُحْكَمُ لَهُمْ بِالْإِسْلَامِ فِيمَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ ، وَلَا يُكَلِّفُونَ التَّوْبَةَ : لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِمْ فِيمَا تَقَدَّمَ حُكْمُ الرِّدَّةِ ، وَلَا خَرَجُوا فِيمَا بَعْدَهُ مِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَمْتَنِعُوا بَعْدَ الْبُلُوغِ مِنْ عِبَادَاتِ الْإِسْلَامِ ، فَيُسْأَلُوا عَنِ امْتِنَاعِهِمْ ، فَإِنِ اعْتَرَفُوا بِالْإِسْلَامِ وَامْتَنَعُوا مِنْ فِعْلِ عِبَادَاتِهِ ، كَانُوا عَلَى إِسْلَامِهِمْ وَأَخَذُوا بِمَا تَرَكُوهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ بِمَا يُؤْخَذُ بِهِ غَيْرُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ . فَإِنْ تَرَكُوا الصَّلَاةَ قُتِلُوا بِهَا ، وَإِنْ تَرَكُوا الزَّكَاةَ أُخِذَتْ مِنْهُمْ ، وَإِنْ تَرَكُوا الصِّيَامَ أُدِّبُوا وَحُبِسُوا . وَإِنْ أَنْكَرُوا الْإِسْلَامَ وَجَحَدُوهُ : صَارُوا حِينَئِذٍ مُرْتَدِّينَ تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الرِّدَّةِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ، فَيُسْتَتَابُونَ ، فَإِنْ تَابُوا ، وَإِلَّا قَتَلُوا بِالرِّدَّةِ كَآبَائِهِمْ .

وَحَكَى ابْنُ سُرَيْجٍ قَوْلًا آخَرَ : أَنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُقَرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ : لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَرِفُوا بِالْإِسْلَامِ . وَهَذَا الْقَوْلُ سَهْوٌ مِنَ ابْنِ سُرَيْجٍ فِي تَخْرِيجِهِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ ، فَيَفْسُدُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ .

فَصْلٌ : فَإِنِ ارْتَدُّوا قَبْلَ بُلُوغِهِمْ أولاد المرتدين ، لَمْ يَكُنْ لِرِدَّتِهِمْ حُكْمٌ . وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَ أَوْلَادُ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ الْبُلُوغِ ، لَمْ يَكُنْ لِإِسْلَامِهِمْ حُكْمٌ ، وَلَمْ يَصِحَّ مِنَ الصَّبِيِّ إِسْلَامٌ وَلَا رِدَّةٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَصِحُّ إِسْلَامُ الصَّبِيِّ وَرِدَّتُهُ وَلَا يُقْتَلُ بِهَا . احْتِجَاجًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ ، حَتَّى يُعْرِبَ عَنْ لِسَانِهِ ، فَإِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا . فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا أَعْرَبَ لِسَانُهُ عَنْهُ مِنَ الْإِسْلَامِ أَوِ الرِّدَّةِ صَحِيحًا : وَلِأَنَّهُ مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ فِعْلُ الْعِبَادَةِ ، فَصَحَّ مِنْهُ الْإِسْلَامُ وَالرِّدَّةُ كَالْبَالِغِ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ : عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ . . . . . . . . وَرَفْعُهُ عَنْهُ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يُجْرَى عَلَى اعْتِقَادِهِ حُكْمٌ . وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ الِاعْتِقَادُ لِإِسْلَامٍ وَلَا رِدَّةٍ كَالْمَجْنُونِ ، وَلِأَنَّ مَا لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ قَتْلُ الرِّدَّةِ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ حُكْمُ الرِّدَّةِ كَسَائِرِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي لَا تَكُونُ رِدَّةً . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ : فَهُوَ أَنَّ إِعْرَابَ لِسَانِهِ عَنْهُ يَكُونُ بِبُلُوغِهِ ، إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ . وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْبَالِغِ : فَلَا يَصِحُّ : لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي الْقَتْلِ بِالرِّدَّةِ ، فَوَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي أَصْلِ الرِّدَّةِ ، كَمَا يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْعُقُودِ وَالْأَحْكَامِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنْ وُلِدَ لِلْمُرْتَدِّينَ فِي الرِّدَّةِ لَمْ يُسْبَ : لِأَنَّ آبَاءَهُمْ لَمْ يُسْبَوْا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَوْلَادِ الْمُرْتَدِّينَ قَبْلَ الرِّدَّةِ . فَأَمَّا أَوْلَادُهُمْ بَعْدَ الرِّدَّةِ أولاد المرتدين : وَهُمُ الْمَوْلُودُونَ لَهُمْ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ رِدَّتِهِمْ . فَإِنْ كَانَ أَحَدَ أَبَوَيْهِمْ مُسْلِمًا : فَهُمْ مُسْلِمُونَ لَا تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الرِّدَّةِ ، وَكَانُوا كَالْمَوْلُودِينَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ .

وَإِنْ كَانَ أَبَوَاهُمْ مُرْتَدِّينَ أولاد المرتدين ، لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْإِسْلَامِ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَا بِغَيْرِهِمْ ، فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ - أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ الرِّدَّةِ : إِلْحَاقًا بِآبَائِهِمْ ، فَلَا يَجُوزُ سَبْيُهُمْ وَلَا اسْتِرْقَاقُهُمْ كَآبَائِهِمْ . لَكِنْ لَا يُقْتَلُونَ إِلَّا بَعْدَ بُلُوغِهِمْ وَامْتِنَاعِهِمْ مِنَ التَّوْبَةِ . فَإِنْ مَاتُوا قَبْلَ الْبُلُوغِ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ ، وَلَمْ يُورَثُوا ، وَكَانَ مَالُهُمْ فَيْئًا . فَيَكُونُوا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مُوَافِقِينَ لِلْمَوْلُودِينَ قَبْلَ الرِّدَّةِ مِنْ وَجْهٍ : وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يُسْبَوْنَ وَلَا يُسْتَرَقُونَ . وَمُخَالِفِينَ لَهُمْ مِنْ وَجْهٍ : وَهُوَ أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ الرِّدَّةِ قَبْلَ بُلُوغِهِمْ ، وَيَجْرِي عَلَى الْمَوْلُودِينَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ قَبْلَ بُلُوغِهِمْ . الْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لِآبَائِهِمْ ، فَيَكُونُوا كُفَّارًا لَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ حُرْمَةُ الْإِسْلَامِ : لِأَنَّ آبَاءَهُمْ وَصَفُوا الْإِسْلَامَ فَثَبَتَتْ فِيهِمْ حُرْمَتُهُ ، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُولَدُوا فِي إِسْلَامِ آبَائِهِمْ وَلَا وَصَفُوهُ بِأَنْفُسِهِمْ ، فَانْتَفَتْ عَنْهُمْ حُرْمَةُ الْإِسْلَامِ بِهِمْ وَبِآبَائِهِمْ . فَعَلَى هَذَا : يَجُوزُ سَبْيُهُمْ وَاسْتِرْقَاقُهُمْ كَأَوْلَادِ أَهْلِ الْحَرْبِ ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَرُّوا بَعْدَ الِاسْتِرْقَاقِ عَلَى كُفْرِهِمْ : لِدُخُولِهِمْ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ . وَمَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ أولاد المرتدين ، كَانَ الْإِمَامُ عَلَى خِيَارِهِ فِيهِمْ كَأَهْلِ الْحَرْبِ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ : قَتْلٌ أَوِ اسْتِرْقَاقٌ أَوْ فِدًا أَوْ مَنٌّ . فَيَكُونُوا مُخَالِفِينَ لِلْمَوْلُودِينَ قَبْلَ الرِّدَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْإِسْلَامِ قَبْلَ بُلُوغِهِمْ ، وَإِنْ جَرَى حُكْمُهُ عَلَى الْمَوْلُودِ قَبْلَ الرِّدَّةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ سَبْيُهُمْ وَاسْتِرْقَاقُهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي الْمَوْلُودِ قَبْلَ الرِّدَّةِ .

فَصْلٌ : وَلَا فَرْقَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا بَيْنَ أَنْ يُولَدُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ . وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ : إِنْ وُلِدُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أولاد المرتدين لَمْ يَجُزْ سَبْيُهُمْ وَلَا اسْتِرْقَاقُهُمْ ، وَإِنْ وُلِدُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ أولاد المرتدين جَازَ سَبْيُهُمْ وَاسْتِرْقَاقُهُمْ . احْتِجَاجًا : بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنَعَتْ دَارُ الْإِسْلَامِ مَا فِيهَا وَأَبَاحَتْ دَارُ الشِّرْكِ مَا فِيهَا .

قَالَ : وَلِأَنَّ الذِّمِّيَّ إِذَا نَقَضَ عَهْدَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَرَقَّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَجَازَ أَنْ يُسْتَرَقَّ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، كَذَلِكَ وَلَدُ الْمُرْتَدِّ . وَدَلِيلُنَا فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الدَّارَيْنِ فِي حُكْمِ الرِّدَّةِ : قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا . وَلَمْ يُفَرَّقْ فِيهِمْ بَيْنَ الدَّارَيْنِ . وَلِأَنَّ حُكْمَ الدَّارِ مُعْتَبَرٌ بِأَهْلِهَا ، فَهِيَ تَابِعَةٌ وَلَيْسَتْ مَتْبُوعَةً . وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَجُزِ اسْتِرْقَاقُهُ إِذَا وُلِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، لَمْ يَجُزِ اسْتِرْقَاقُهُ إِذَا وُلِدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، كَالَّذِي أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمٌ . وَمِنْ جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ إِذَا وُلِدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ إِذَا وُلِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، كَوَلَدِ الْحَرْبِيِّينَ . فَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَحْمُولٌ عَلَى تَغْلِيبِ حُكْمِ الْعُمُومِ دُونَ الْخُصُوصِ . وَأَمَّا نَاقِضُ الذِّمَّةِ ، فَلَمْ نَعْتَبِرْ - نَحْنُ وَلَا هُمْ - فِيهِ حُكْمَ الْوِلَادَةِ ، وَجَازَ اسْتِرْقَاقُهُ وَسَبْيُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَجُزْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ : لِأَنَّ عَلَيْنَا أَنْ نُبْلِغَهُ مَأْمَنَهُ [ إِذَا نَقَضَ عَهْدَهُ ، فَلِذَلِكَ مَا افْتَرَقَ حُكْمُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ وَخَالَفَ الْمُرْتَدُّ : لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُنَا أَنْ نُبْلِغَهُ مَأْمَنَهُ ] .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنِ ارْتَدَّ مُعَاهَدُونَ وَلَحِقُوا بِدَارِ الْحَرْبِ وَعِنْدَنَا لَهُمْ ذَرَارِيٌّ لَمْ نَسْبِهِمْ ، وَقُلْنَا : إِذَا بَلَغُوا لَكُمُ الْعَهْدَ إِنْ شِئْتُمْ وَإِلَّا نَبَذْنَا إِلَيْكُمْ ثُمَّ أَنْتُمْ حَرْبٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ أَقَامُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ عَقَدَهُ الْإِمَامُ لَهُمْ عَلَى نُفُوسِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، ثُمَّ نَقَضُوا الْعَهْدَ وَلَحِقُوا بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَخَلَّفُوا أَمْوَالَهُمْ وَذَرَّارِيَّهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، زَالَ الْأَمَانُ عَنْهُمْ ، وَصَارُوا حَرْبًا يُقْتَلُونَ إِذَا قُدِرَ عَلَيْهِمْ ، وَكَانَ الْأَمَانُ بَاقِيًا فِي ذَرَارِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، لَا يَجُوزُ أَنْ تُسْبَى الذَّرَارِيُّ وَلَا تُغْنَمُ الْأَمْوَالُ ، وَإِنْ كَانُوا فِي عَقْدِ الْأَمَانِ تَبَعًا : لِأَنَّ الْأَمَانَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَهُ الْحَرْبِيُّ لِمَالِهِ دُونَ نَفْسِهِ ، بِأَنْ يَكُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيَأْخُذُ أَمَانًا لِمَالٍ يَحْمِلُهُ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لِتِجَارَةٍ أَوْ وَدِيعَةٍ ، فَيَكُونُ الْمَالِكُ حَرْبًا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ ، وَيَكُونُ مَالُهُ سِلْمًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُغْنَمَ . وَيَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ الْأَمَانَ لِنَفْسِهِ دُونَ مَالِهِ ، فَيَكُونُ الْمَالِكُ سِلْمًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ ،

وَيَكُونُ الْمَالُ سَبْيًا يَجُوزُ أَنْ يُغْنَمَ . وَكَذَلِكَ حُكْمُهُ مَعَ ذُرِّيَّتِهِ ، يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ الْأَمَانَ لَهُ دُونَهُمْ وَلَهُمْ دُونَهُ ، فَإِذَا اشْتَمَلَ عَقْدَ أَمَانِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَمَالِهِ [ ثُمَّ نَقَضَ أَمَانَهُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، زَالَ أَمَانُ نَفْسِهِ وَبَقِيَ أَمَانُ ذُرِّيَّتِهِ وَمَالِهِ ] فَلَا تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ وَلَا يُغْنَمُ الْمَالُ . وَلَوْ أَخْرَجَ مَعَهُ حِينَ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ذُرِّيَّتَهُ وَمَالَهُ ، انْتَقَضَ أَمَانُ مَالِهِ وَذُرِّيَّتِهِ ، وَجَازَ غَنِيمَةُ مَالِهِ وَاسْتِرْقَاقُ ذُرِّيَّتِهِ : لِأَنَّ إِخْرَاجَهُمَا مَعَهُ نَقْضٌ لِأَمَانِهِمَا وَأَمَانِهِ . وَلَوْ خَلَّفَهُمَا لَبَقِيَ أَمَانُهُمَا مَعَ زَوَالِ أَمَانِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ : أَنَّ نَقْضَ أَمَانِهِ لَا يَكُونُ نَقْضًا لِأَمَانِ مَا خَلَّفَهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَمَالِهِ أمان أولاد المرتد ، فَسَوَاءٌ حَارَبَنَا بَعْدَ لُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ كَفَّ عَنَّا ، يَجِبُ عَلَيْنَا حِفْظُ ذُرِّيَّتِهِ وَمَالِهِ ، وَتَقَرَّرَ الذُّرِّيَّةُ إِلَى أَنْ يَبْلُغُوا ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُعَاهَدُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا . فَإِذَا بَلَغُوا : خَيَّرَهُمُ الْإِمَامُ بَيْنَ الْمُقَامِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ الْعَوْدِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ ، فَإِنِ اخْتَارُوا الْعَوْدَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ لَزِمَهُ أَنْ يُبْلِغَهُمْ مَأْمَنَهُمْ ، ثُمَّ يَكُونُوا بَعْدَ بُلُوغِهِمْ حَرْبًا . وَإِنِ اخْتَارُوا الْمُقَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَقَرَّهُمْ فِيهَا عَلَى إِحْدَى حَالَتَيْنِ : إِمَّا بِجِزْيَةٍ يَبْذُلُونَهَا ، أَوْ بِعَهْدٍ يَسْتَأْنِفُونَهُ . لِأَنَّ أَمَانَهُمْ بِالْعَهْدِ مُقَدَّرٌ بَعْدَ الْبُلُوغِ ، وَغَيْرُ مُقَدَّرٍ قَبْلَ الْبُلُوغِ ، فَيَجُوزُ أَمَانُهُمْ قَبْلَ الْبُلُوغِ بِسِنِينَ كَثِيرَةٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ أَمَانُهُمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ سَنَةً : لِأَنَّهُمْ قَبْلَ الْبُلُوغِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْجِزْيَةِ ، وَهُمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ مِنْ أَهْلِهَا . وَأَمَّا مَالُهُ : فَمُقَرٌّ عَلَى مِلْكِهِ مَا بَقِيَ حَيًّا عَلَى حُرِّيَّتِهِ ، وَلَهُ إِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَمُوتَ . وَالثَّانِيَةُ : أَنْ يُسْتَرَقَّ . فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ : فَفِي مَالِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُغْنَمُ فَيْئًا لِبَيْتِ الْمَالِ : لِاخْتِصَاصِهِ بِالْأَمَانِ عَلَى مَالِهِ دُونَ وَرَثَتِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَكُونُ مَوْرُوثًا عَنْهُ لِوَرَثَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ دُونَ أَهْلِ الذِّمَّةِ : لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ وَأَهْلَ الْحَرْبِ لَا يَتَوَارَثُونَ : لِارْتِفَاعِ الْمُوَالَاةِ بَيْنَهُمْ ، وَإِنَّمَا كَانَ مَالُهُ بَاقِيًا عَلَى وَرَثَتِهِ : لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ فِيهِ مَقَامَهُ ، فَانْتَقَلَ إِلَيْهِمْ بِحُقُوقِهِ ، وَالْأَمَانُ مِنْ حُقُوقِ الْمَالِ ، فَصَارَ مَوْرُوثًا كَالْمَالِ ، فَإِنْ مَاتَ الْوَارِثُ انْتَقَلَ إِلَى وَارِثِهِ كَذَلِكَ أَبَدًا .

وَإِنِ اسْتُرِقَّ مَالِكُ الْمَالِ فَالِاسْتِرْقَاقُ يُزِيلُ الْمِلْكَ كَالْمَوْتِ ، فَفِي الْمَالِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُغْنَمُ فَيْئًا لِبَيْتِ الْمَالِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَكُونُ مَوْقُوفًا لَا يَنْتَقِلُ إِلَى وَارِثِهِ : لِأَنَّهُ حَيٌّ ، وَلَا إِلَى مُسْتَرِقِّهِ : لِأَنَّهُ مَالٌ لَهُ أَمَانٌ ، وَرُوعِيَتْ حَالُهَ بَعْدَ الِاسْتِرْقَاقِ . فَإِنْ عُتِقَ دُفِعَ الْمَالُ إِلَيْهِ ببِقَدِيمِ مِلْكِهِ . وَإِنْ مَاتَ عَبْدًا فَفِي مَالِهِ قَوْلَانِ أحكام المرتد ، حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ مَغْنُومًا لِبَيْتِ الْمَالِ فَيْئًا ، وَلَا يَكُونُ مَوْرُوثًا : لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُورَثُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ : لِأَنَّهُ مِلْكُهُ فِي حُرِّيَّتِهِ فَانْتَقَلَ إِلَى وَرَثَتِهِ بِحُكْمِ الْحُرِّيَّةِ ، حَتَّى جَرَى عَلَى بَقَاءِ مِلْكِهِ حُكْمُ الْحُرِّيَّةِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنِ ارْتَدَّ سَكْرَانُ فَمَاتَ كَانَ مَالُهُ فَيْئًا ، وَلَا يُقْتَلُ إِنْ لَمْ يَتُبْ حَتَّى يَمْتَنِعَ مُفِيقًا . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : قُلْتُ : إِنَّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى طَلَاقِ السَّكْرَانِ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : تَصِحُّ رِدَّةُ الْسَكْرَانِ وَإِسْلَامُهُ كَمَا يَصِحُّ عِتْقُهُ وَطَلَاقُهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ وَلَا إِسْلَامُهُ ، وَإِنْ صَحَّ عِتْقُهُ وَطَلَاقُهُ . احْتِجَاجًا بِأَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْكُفْرَ يَتَعَلَّقَانِ بِالِاعْتِقَادِ الْمُخْتَصِّ بِالْقَلْبِ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [ النَّحْلِ : 106 ] . وَلَيْسَ يَصِحُّ مِنَ السَّكْرَانِ اعْتِقَادٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ كُفْرٌ وَإِيمَانٌ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا . قَالَ : وَلِأَنَّهُ لَا عَقْلَ لَهُ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ رِدَّتُهُ وَلَا إِسْلَامُهُ كَالْمَجْنُونِ . وَدَلِيلُنَا : مَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ تَكْلِيفِ السَّكْرَانِ ، بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَاوَرَ الصَّحَابَةَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ ، وَقَالَ : أَرَى النَّاسَ قَدْ تَهَافَتُوا وَاسْتَهَانُوا بِحَدِّهِ فَمَاذَا تَرَوْنَ ؟ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ : أَرَى أَنْ يُحَدَّ ثَمَانِينَ : لِأَنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى ، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى ، فَيُحَدُّ حَدَّ الْمُفْتَرِي . فَوَافَقَهُ عُمَرُ وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى هَذَا ، وَحَدُّوهُ حَدَّ الْمُفْتَرِي ثَمَانِينَ .

وَجَعَلُوا مَا تَلَفَّظَ بِهِ فِي السُّكْرِ افْتِرَاءً يَتَعَلَّقُ بِهِ حَدٌّ وَتَعْزِيرٌ ، وَذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ . وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ لَكَانَ كَلَامُهُ لَغْوًا ، وَافْتِرَاؤُهُ مُطَّرَحًا ، وَإِذَا صَحَّ تَكْلِيفُهُ صَحَّ إِسْلَامُهُ وَرِدَّتُهُ . وَلِأَنَّ مَنْ صَحَّ عِتْقُهُ وَطَلَاقُهُ صَحَّتْ رِدَّتُهُ وَإِسْلَامُهُ كَالصَّاحِي . وَلِأَنَّ الرِّدَّةَ وَالْإِسْلَامَ لَفْظٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْفُرْقَةُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ مِنَ السَّكْرَانِ كَالطَّلَاقِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّهُ لَا اعْتِقَادَ لَهُ : فَهُوَ أَنَّهُ يَجْرِي فِي أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ مَجْرَى مَنْ لَهُ اعْتِقَادٌ وَتَمْيِيزٌ ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ طَلَاقُهُ وَظِهَارُهُ ، وَلَوْ عَدِمَ التَّمْيِيزَ مَا وَقَعَا كَالْمَجْنُونِ . وَهُوَ الْجَوَابُ عَنِ الْقِيَاسِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ السَّكْرَانَ هل تجري عليه كل أحكام الصاحي فِي الرِّدَّةِ وَالْإِسْلَامِ كَالصَّاحِي ، كَمَا هُوَ فِي الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ كَالصَّاحِي فَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ فِيمَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ . وَذَهَبَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى أَنَّهُ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الصَّاحِي فِيمَا عَلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ تَغْلِيظًا ، وَلَا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الصَّاحِي فِيمَا لَهُ مِنَ الْحُقُوقِ : لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَخْفِيفًا ، وَالسَّكْرَانُ مُغَلَّظٌ عَلَيْهِ غَيْرُ مُخَفَّفٍ عَنْهُ . فَعَلَى هَذَا : تَصِحُّ مِنْهُ الرِّدَّةُ : لِأَنَّهَا تَغْلِيظٌ . فَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ رِدَّةٍ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ : لِأَنَّهُ تَخْفِيفٌ . وَإِنْ كَانَ عَنْ كُفْرٍ يُقَرُّ عَلَيْهِ كَالذِّمِّيِّ يَصِحُّ مِنْهُ : لِأَنَّهُ تَغْلِيظٌ ، وَهَذَا خَطَأٌ . لِأَنَّ السُّكْرَ إِنْ سَلَبَهُ حُكْمَ التَّمْيِيزِ وَجَبَ أَنْ يَعُمَّ كَالْجُنُونِ ، وَإِنْ لَمْ يَسْلُبْهُ حُكْمَ التَّمْيِيزِ وَجَبَ أَنْ يَعُمَّ كَالصَّاحِي . وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَغَيْرَ مُمَيِّزٍ فِي بَعْضِهَا : لِتَنَاقُضِهِ فِي الْمَعْقُولِ ، وَفَسَادِهِ عَلَى الْأُصُولِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا وَارْتَدَّ سَكْرَانُ ، جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الرِّدَّةِ ردة السكران مِنْ وُجُوبِ قَتْلِهِ وَسُقُوطِ الْقَوَدِ عَنْ قَاتِلِهِ ، وَتَحْرِيمِ زَوْجَاتِهِ ، وَالْحَجْرِ عَلَى أَمْوَالِهِ . وَإِنْ مَاتَ كَانَ مَالُهُ فَيْئًا غَيْرَ مَوْرُوثٍ . فَأَمَّا اسْتِتَابَتُهُ مِنْ رِدَّتِهِ ردة السكران ، فَقَدْ أَمَرَ الشَّافِعِيُّ بِتَأْخِيرِهَا إِلَى حَالِ صَحْوِهِ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْخِيرِهَا هَلْ هُوَ عَلَى الْإِيجَابِ أَوِ الِاسْتِحْبَابِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى

اخْتِلَافِهِمْ هَلْ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الصَّاحِي فِيمَا لَهُ كَمَا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الصَّاحِي فِيمَا عَلَيْهِ ؟ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ تَأْخِيرَهَا اسْتِحْبَابٌ ، فَإِنِ اسْتَتَابَهُ فِي حَالِ سُكْرِهِ صَحَّتْ تَوْبَتُهُ ، وَإِنْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ أُقِيدَ بِهِ ، وَإِنْ مَاتَ كَانَ مَالُهُ لِوَرَثَتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ تَأْخِيرَهَا إِلَى صَحْوِهِ وَاجِبٌ : لِأَنَّهُ رُبَّمَا اعْتَرَضَهُ فِي الرِّدَّةِ شُبْهَةٌ يَسْتَوْضِحُهَا بَعْدَ إِفَاقَتِهِ ، فَإِنِ اسْتَتَابَهُ فِي سُكْرِهِ لَمْ تَصِحَّ تَوْبَتُهُ ، وَكَانَ عَلَى أَحْكَامِ الرِّدَّةِ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ عَنْ قَاتِلِهِ ، وَانْتِقَالِ مَالِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ فَيْئًا دُونَ وَرَثَتِهِ . فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ جَعَلَ تَأْخِيرَ تَوْبَتِهِ دَلِيلًا عَلَى إِبْطَالِ طَلَاقِهِ ، وَغَفَلَ أَنْ يَجْعَلَ ثُبُوتَ رِدَّتِهِ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ طَلَاقِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا ارْتَدَّ عَاقِلٌ ثُمَّ جُنَّ لَمْ يُسْتَتَبْ فِي جُنُونِهِ : لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ إِسْلَامٌ وَلَا رِدَّةٌ ، وَلَمْ يُقْتَلْ حَتَّى يُفِيقَ مِنْ جُنُونِهِ . وَلَوْ جُنَّ بَعْدَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ : قُتِلَ قَبْلَ إِفَاقَتِهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا حَيْثُ مَنَعَ الْجُنُونُ مِنْ قَتْلِ الرِّدَّةِ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ قَتْلِ الْقَوَدِ : أَنَّ لَهُ إِسْقَاطَ قَتْلِ الرِّدَّةِ عَنْ نَفْسٍ بِتَوْبَتِهِ بَعْدَ إِفَاقَتِهِ فَأُخِّرَ إِلَيْهَا ، وَلَيْسَ لَهُ إِسْقَاطُ قَتْلِ الْقَوَدِ عَنْ نَفْسِهِ بِحَالٍ ، فَلَمْ يُؤَخَّرْ إِلَى إِفَاقَتِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ بِالرِّدَّةِ فَأَنْكَرَهُ ، قِيلَ : إِنْ أَقْرَرْتَ بِأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَتَبَرَّأَ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ ، لَمْ يُكْشَفْ عَنْ غَيْرِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ بِالرِّدَّةِ لَمْ تُسْمَعْ شَهَادَتُهُمَا عَلَيْهِ مُطْلَقَةً حَتَّى يَصِفَا مَا سَمِعَاهُ مِنْ قَوْلِهِ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ مُرْتَدًّا ، وَسَوَاءٌ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْ لَمْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِهِ : لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ . كَمَا لَا تُسْمَعُ شَهَادَتُهُمَا بِالْجَرْحِ حَتَّى يَصِفَا مَا يَكُونُ بِهِ مَجْرُوحًا . فَإِذَا ثَبَتَ الشَّهَادَةُ ، سَأَلْنَاهُ عَنْهَا ، وَلَمْ يَعْرِضْ لِقَتْلِهِ قَبْلَ سُؤَالِهِ : لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَابَ مِنْهَا أَوْ سَيَتُوبُ . فَلَوْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ قَبْلَ سُؤَالِهِ الشهادة على الردة عُزِّرَ وَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَلَا دِيَةَ : لِثُبُوتِ رِدَّتِهِ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ وَلِيُّهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ تَابَ مِنْ رِدَّتِهِ فَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ ، وَيُسْأَلُ الْقَاتِلُ ، فَإِنْ عَلِمَ بِإِسْلَامِهِ ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ .

وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بِإِسْلَامِهِ ، فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا قَوَدَ عَلَيْهِ ، وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ : لِأَنَّ تَقَدُّمَ رِدَّتِهِ شُبْهَةٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : عَلَيْهِ الْقَوَدُ : لِأَنَّهُ عَمَدَ قَتْلَ نَفْسٍ مَحْظُورَةٍ . وَإِذَا كَانَ بَاقِيًا بَعْدَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ ، وَسُئِلَ عَنْهَا ، لِمَ يَخْلُو جَوَابُهُ مِنِ اعْتِرَافٍ بِهَا أَوْ إِنْكَارٍ لَهَا . فَإِنِ اعْتَرَفَ بِهَا اسْتَتَبْنَاهُ ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قَتَلْنَاهُ . وَإِنْ أَنْكَرَهَا ، قِيلَ لَهُ : إِنْكَارُكَ لَهَا مَعَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِهَا تَكْذِيبٌ لِشُهُودٍ عُدُولٍ ، لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ بِالتَّكْذِيبِ ، وَلَيْسَ يَلْزَمُكَ الْإِقْرَارُ بِهَا ، وَلَكَ الْمَخْرَجُ مِنْ شَهَادَتِهِمْ بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ . فَإِذَا أَظْهَرَهُ : زَالَتْ عَنْهُ الرِّدَّةُ وَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ . فَقَدْ شَهِدَ شُهُودٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ ، فَأَحْضَرَهُمْ وَسَأَلَهُمْ ، فَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَرَفَ وَتَابَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ ، فَكَفَّ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ ، وَأَجْرَى عَلَى جَمِيعِهِمْ حُكْمَ الْإِسْلَامِ . فَإِذَا أَظْهَرَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ الشهادة على الردة - عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ - قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَمْ يَكْشِفْ عَنْ غَيْرِهِ . وَيُحْتَمَلُ ذَلِكَ مِنْهُ تَأْوِيلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَمْ يَكْشِفْ عَمَّا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ مِنْ رِدَّتِهِ . وَالثَّانِي : لَمْ يَكْشِفْ عَنْ بَاطِنِ مُعْتَقَدِهِ : لِأَنَّ ضَمَائِرَ الْقُلُوبِ لَا يُؤَاخِذُ بِهَا إِلَّا عَلَّامُ الْغُيُوبِ . رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ارْتَابَ بِرَجُلٍ فِي الرِّدَّةِ ، فَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ . فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : أَظُنُّكَ مُتَعَوِّذًا بِهِ . فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمَا لِي فِي الْإِسْلَامِ مَعَاذٌ ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : بَلَى ، إِنَّ لَكَ فِي الْإِسْلَامِ لَمَعَاذًا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا تَوْبَةُ الْمُرْتَدِّ : فَتَتَضَمَّنُ مَا يَصِيرُ بِهِ الْكَافِرُ مُسْلِمًا : لِأَنَّ الرِّدَّةَ قَدْ رَفَعَتْ عَنْهُ حُكْمَ الْإِسْلَامِ ، فَيَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ .

قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَيَبْرَأُ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ . فَذَكَرَ مَعَ الشَّهَادَتَيْنِ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ . فَأَمَّا الشَّهَادَتَانِ : فَوَاجِبَتَانِ لَا يَصِحُّ إِسْلَامُهُ إِلَّا بِهِمَا . وَأَمَّا التَّبَرِّي مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ شَرْطٌ فِي إِسْلَامِ كُلِّ كَافِرٍ وَمُرْتَدٍّ كَالشَّهَادَتَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ اسْتِحْبَابٌ فِي إِسْلَامِ كُلِّ كَافِرٍ وَمُرْتَدٍّ ، كَالِاعْتِرَافِ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : - وَقَدْ أَفْصَحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ - أَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَمُنْكِرِي النُّبُوَّاتِ كَالْأُمِّيِّينَ مِنَ الْعَرَبِ كَانَ التَّبَرِّي مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ مُسْتَحَبًّا . وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ كِتَابٍ يَعْتَرِفُونَ بِالنُّبُوَّاتِ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ إِلَى قَوْمِهِ ، كَانَ التَّبَرِّي مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ وَاجِبًا ، لَا يَصِحُّ إِسْلَامُهُ إِلَّا بِذِكْرِهِ . فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ شُرُوطِ الْإِسْلَامِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي تَوْبَةِ الْمُرْتَدِّ ، نُظِرَ فِي رِدَّتِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ بِجُحُودِ الْإِسْلَامِ ، صَحَّتْ تَوْبَتُهُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ شُرُوطِهِ . وَإِنْ كَانَتْ رِدَّتُهُ بِجُحُودِ عِبَادَةٍ مِنْ عِبَادَاتِهِ توبة المرتد كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَصِحَّةِ الْإِسْلَامِ ، اعْتُبِرَ فِي صِحَّةِ تَوْبَتِهِ - بَعْدَ شُرُوطِ الْإِسْلَامِ - الِاعْتِرَافُ بِمَا جَحَدَهُ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُرْتَدًّا مَعَ اعْتِرَافِهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ ، فَلَمْ تَزُلْ عَنْهُ الرِّدَّةُ بِهِمَا حَتَّى يَعْتَرِفَ بِمَا صَارَ مُرْتَدًّا بِجُحُودِهِ ، وَلَا يَجْزِيهِ الِاقْتِصَارُ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِمَا جَحَدَهُ عَنْ إِعَادَةِ الشَّهَادَتَيْنِ . لِأَنَّهُ قَدْ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْكُفْرِ بِالرِّدَّةِ ، فَلَزِمَهُ إِعَادَةُ الشَّهَادَتَيْنِ : لِيَزُولَ بِهِمَا حُكْمُ الْكُفْرِ ، وَلَزِمَهُ الِاعْتِرَافُ بِمَا جَحَدَهُ : لِيَزُولَ بِهِ حُكْمُ الرِّدَّةِ . وَهَكَذَا لَوْ صَارَ مُرْتَدًّا بِاسْتِحْلَالِ الزِّنَا وَاسْتِبَاحَةِ الْخَمْرِ ، كَانَ مِنْ صِحَّةِ تَوْبَتِهِ الِاعْتِرَافُ بِتَحْرِيمِ الزِّنَا وَحَظْرُ الْخَمْرِ . وَلَكِنْ لَوْ صَارَ مُرْتَدًّا بِسَبِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كَانَ الِاعْتِرَافُ بِنُبُوَّتِهِ فِي الشَّهَادَتَيْنِ مُقْنِعًا فِي صِحَّةِ تَوْبَتِهِ ، وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِحَظْرِ سَبِّهِ : لِأَنَّ فِي الِاعْتِرَافِ بِنُبُوَّتِهِ اعْتِرَافًا بِحَظْرِ سَبِّهِ .



فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُكْرَهُ عَلَى الْكُفْرِ وَالرِّدَّةِ بِالْقَتْلِ ، فَمُوَسَّعٌ لَهُ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ عَنْ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْقَتْلِ ، وَبَيْنَ التَّلَفُّظِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ اسْتِدْفَاعًا لِلْقَتْلِ . فَقَدِ أَكْرَهَتْ قُرَيْشٌ بِمَكَّةَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَأَبَوَيْهِ عَلَى الْكُفْرِ ، فَامْتَنَعَ مِنْهُ أَبَوَاهُ فَقُتِلَا ، وَتَلَفَّظَ عَمَّارٌ بِالْكُفْرِ فَأُطْلِقَ ، فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَعَذَرَ عَمَّارًا وَتَرَحَّمَ عَلَى أَبَوَيْهِ . وَقِيلَ : إِنَّهُ نَزَلَ فِيهِ : إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [ النَّحْلِ : 106 ] . فَإِنْ قِيلَ : فَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى بِهِ ؟ قِيلَ : يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُكْرَهِ . فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُرَجَّى مِنْهُ النِّكَايَةُ فِي الْعَدُوِّ أَوِ الْقِيَامُ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ ، فَالْأَوْلَى بِهِ أَنْ يَسْتَدْفِعَ الْقَتْلَ بِإِظْهَارِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ . وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعْتَرِيهِ مِنْ ضَعْفِ بَصِيرَتِهِ فِي الدِّينِ ، أَوْ يَمْتَنِعُ بِهِ مَنْ أَرَادَ الْإِسْلَامَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، فَالْأَوْلَى بِهِ الصَّبْرُ عَلَى الْقَتْلِ وَالِامْتِنَاعُ مِنْ إِظْهَارِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ . رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَقَصْرًا لَا يَسْكُنُهُ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ مُحَكَّمٌ فِي نَفْسِهِ . فَقِيلَ : إِنَّ الْمُحَكَّمَ : هُوَ الَّذِي يُخَيَّرُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْقَتْلِ ، فَيَخْتَارُ الْقَتْلَ عَلَى الْكُفْرِ . فَإِنْ تَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ المكره على الكفر ، فَلَهُ فِي التَّلَفُّظِ بِهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : إِحْدَاهُنَّ : أَنْ يَتَلَفَّظَ بِلِسَانِهِ وَهُوَ مُعْتَقِدٌ لِلْإِيمَانِ بِقَلْبِهِ ، فَهُوَ عَلَى إِسْلَامِهِ ، وَلَيْسَ لِتَلَفُّظِهِ حُكْمٌ إِلَّا اسْتِدْفَاعَ الْقَتْلِ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [ النَّحْلِ : 106 ] ، وَهَذَا مُطْمَئِنُّ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَتَلَفَّظَ بِلِسَانِهِ مُعْتَقِدًا لَهُ بِقَلْبِهِ ، فَهَذَا مُرْتَدٌّ : لِأَنَّهُ وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى التَّلَفُّظِ فَلَمْ يُكْرَهْ عَلَى الِاعْتِقَادِ ، فَصَارَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ : وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا أَيْ يَسْقُطُ حُكْمُ الْإِكْرَاهِ بِالِاعْتِقَادِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَتَلَفَّظَ بِلِسَانِهِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ اعْتِقَادُ إِيمَانٍ وَلَا كُفْرٍ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ عَلَى إِسْلَامِهِ : لِأَنَّ مَا حَدَثَ مِنَ الْإِكْرَاهِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُرْتَدًّا حَتَّى يَدْفَعَ حُكْمَ لَفْظِهِ بِمُعْتَقَدِهِ : لِأَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُ فِي تَرْكِهِ .

وَهَكَذَا الْمُكْرَهُ عَلَى الطَّلَاقِ ، تُعْتَبَرُ فِيهِ هَذِهِ الْأَحْوَالُ الثَّلَاثُ فِي لَفْظِهِ وَمُعْتَقَدِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا تَلَفَّظَ مُسْلِمٌ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ ، فَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حُكِمَ بِرِدَّتِهِ ، إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ قَالَهَا مُكْرَهًا ، وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُحْكَمْ بِرِدَّتِهِ إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ قَالَهَا مُخْتَارًا . لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ - وَهُوَ يَخَافُ الْكُفْرَ وَيَأْمَنُ الْإِسْلَامَ - أَنَّهُ قَالَهَا عِيَاذًا وَاعْتِقَادًا . وَالظَّاهِرُ مِنْهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ - وَهُوَ يَخَافُ الْإِسْلَامَ وَيَأْمَنُ الْكُفْرَ - أَنَّهُ قَالَهَا تَقِيَّةً وَاسْتِدْفَاعًا . وَعَلَى هَذَا : لَوْ أَظْهَرَهَا وَمَاتَ التلفظ بكلمة الكفر ، فَادَّعَى وَرَثَتُهُ أَنَّهُ كَانَ مُكْرَهًا عَلَيْهَا ، فَلَهُمْ مِيرَاثُهُ . فَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ ، أَنَّهُ كَانَ مُكْرَهًا عَلَيْهَا : لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ ، وَلَهُمْ مِيرَاثُهُ . وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُمْ ، وَحُكِمَ بِرِدَّتِهِ وَكَانَ مَالُهُ فَيْئًا : لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا شَرِبَ الْخَمْرَ وَأَكَلَ الْخِنْزِيرَ هل يصير بذلك مرتدا لَمْ يَصِرْ بِذَلِكَ مُرْتَدًّا ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ . لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُرْتَدًّا إِلَّا بِاسْتِحْلَالِهِ دُونَ أَكْلِهِ . فَيُسْأَلُ عَنْهُ إِذَا أَكَلَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَلَا يُسْأَلُ عَنْهُ إِذَا أَكَلَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ : لِأَنَّ أَكْلَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَقْرَبُ إِلَى اسْتِحْلَالِهِ مِنْ أَكْلِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ . فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ سُؤَالِهِ ، فَقَالَ بَعْضُ وَرَثَتِهِ : أَكَلَهُ مُسْتَحِلًّا ، فَهُوَ كَافِرٌ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَكَلَهُ غَيْرُ مُسْتَحِلٍّ ، فَهُوَ مُسْلِمٌ . فَلِمَنْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ أَكَلَهُ غَيْرُ مُسْتَحِلٍّ - مِيرَاثُهُ مِنْهُ اسْتِصْحَابًا لِإِسْلَامِهِ . فَأَمَّا مِيرَاثُ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ أَكَلَهُ مُسْتَحِلًّا فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : - نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ - أَنَّهُ يَكُونُ مَوْقُوفًا حَتَّى يُكْشَفَ عَنْ حَالِهِ ، وَلَا يَسْقُطَ مِيرَاثُهُ مِنْهُ : لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى غَيْرِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : - حَكَاهُ الرَّبِيعُ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ - أَنَّهُ يَسْقُطُ مِيرَاثُهُ مِنْهُ ، وَلَا يُوقَفُ

عَلَى الْكَشْفِ : لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى غَيْرِهِ بِالْكُفْرِ ، وَعَلَى نَفْسِهِ بِسُقُوطِ الْإِرْثِ ، فَنَفَذَ إِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْفُذْ عَلَى غَيْرِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا صَلَّى الْمُرْتَدُّ قَبْلَ ظُهُورِ تَوْبَتِهِ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ : إِنْ صَلَّى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ ، وَإِنْ صَلَّى فِي دَارِ الْحَرْبِ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ . وَفَرَّقَ أَصْحَابُنَا بَيْنَهُمْ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ فِعْلِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ التَّقِيَّةُ ، وَفِي دَارِ الْحَرْبِ الِاعْتِقَادُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُقَدَّرُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ ، فَلَمْ يَصِرْ مُسْلِمًا بِالصَّلَاةِ ، وَلَا يُقَدَّرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ ، فَصَارَ مُسْلِمًا بِالصَّلَاةِ . وَفِي هَذَا نَظَرٌ . لِأَنَّهُ لَوْ صَارَتِ الصَّلَاةُ إِسْلَامًا لِلْمُرْتَدِّ ، لَصَارَتْ إِسْلَامًا لِلْحَرْبِيِّ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَا جَرَحَ أَوْ أَفْسَدَ فِي رِدَّتِهِ ، أُخِذَ بِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لَا يَخْلُو مَا أَتْلَفَهُ الْمُرْتَدُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي حَالِ رِدَّتِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْفَرِدًا أَوْ فِي جَمَاعَةٍ . فَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ فِي جَمَاعَةٍ لَا يَمْتَنِعُ بِهِمْ : فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُنْفَرِدِ ، عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ ، وَضَمَانُ مَا أَتْلَفَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ : لِأَنَّ إِسْلَامَهُ قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْتِزَامَ أَحْكَامِهِ ، وَهُوَ يَضْمَنُهَا قَبْلَ الرِّدَّةِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ ضَمَانُهَا بِالرِّدَّةِ ، لِأَنَّهَا زَادَتْهُ تَغْلِيظًا لَا تَخْفِيفًا . وَإِنْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ مُمْتَنِعَةٍ عَنِ الْإِمَامِ وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِمْ إِلَّا بِالْقِتَالِ : فَمَا أَتْلَفُوهُ فِي غَيْرِ الْقِتَالِ ضَمِنُوهُ ، وَمَا أَتْلَفُوهُ فِي الْقِتَالِ ، فَفِي ضَمَانِ أَهْلِ الْبَغْيِ لَهُ قَوْلَانِ . فَأَمَّا أَهْلُ الرِّدَّةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِمْ : فَذَهَبَ أَبُو حَامِدٍ الِإِسْفِرَايِينِيُّ وَأَكْثَرُ الْبَغْدَادِيِّينَ إِلَى أَنَّ فِي وُجُوبِ ضَمَانِهِمْ قَوْلَيْنِ كَأَهْلِ الْبَغْيِ : أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُونَ كَمَا يَضْمَنُ الْمُحَارِبُونَ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ . وَالثَّانِي : لَا يَضْمَنُونَ كَمَا لَا يَضْمَنُ الْمُشْرِكُونَ . وَذَهَبَ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ وَأَكْثَرُ الْبَصْرِيِّينَ إِلَى أَنَّهُمْ يَضْمَنُونَ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِنْ كَانَ فِي ضَمَانِ أَهْلِ الْبَغْيِ قَوْلَانِ ، لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا : بِأَنَّ لِأَهْلِ الْبَغْيِ إِمَامًا تُنَفَّذُ أَحْكَامُهُ ، وَلَيْسَ لِأَهْلِ الرِّدَّةِ إِمَامٌ يُنَفَّذُ لَهُ حُكْمٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ جُرِحَ مُرْتَدًّا ثُمَّ جُرِحَ مُسْلِمًا فَمَاتَ ، فَعَلَى مَنْ جَرَحَهُ مُسْلِمًا نِصْفُ الدِّيَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مَضَتْ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ . وَذَكَرْنَا أَنَّهُ إِذَا جَرَحَهُ مُسْلِمٌ فِي حَالِ رِدَّتِهِ ، ثُمَّ أَسْلَمَ فَجَرَحَهُ آخَرُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ وَمَاتَ ، فَجُرْحُهُ فِي الرِّدَّةِ هَدَرٌ لَا يَضْمَنُهُ الْجَارِحُ بِقَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ . وَجُرْحُهُ فِي حَالِ إِسْلَامِهِ مَضْمُونٌ بِالدِّيَةِ دُونَ الْقَوَدِ ، فَيَجِبُ عَلَى الْجَارِحِ نِصْفُ الدِّيَةِ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ أَحَدُ الْقَاتِلِينَ . فَلَوْ عَادَ الْأَوَّلُ فَجُرْحُهُ مَعَ الثَّانِي جُرْحًا ثَانِيًا ، وَجَبَ عَلَى الثَّانِي نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ رُبُعُهَا : لِأَنَّ نِصْفَ فِعْلِهِ هَدَرٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
_____كِتَابُ الْحُدُودِ _____

بَابُ حَدِّ الزِّنَا وَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ
بيان السبب في تسميتها حدود

كِتَابُ الْحُدُودِ بَابُ حَدِّ الزِّنَا وَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " رَجَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْصَنَيْنِ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا ، وَرَجَمَ عُمَرُ مُحْصَنَةً ، وَجَلَدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِكْرًا مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا . وَبِذَلِكَ أَقُولُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا الْحُدُودُ تعريفها : فَهِيَ عُقُوبَاتٌ زَجَرَ اللَّهُ بِهَا الْعِبَادَ عَنِ ارْتِكَابِ مَا حَظَرَ ، وَحَثَّهُمْ بِهَا عَلَى امْتِثَالِ مَا أَمَرَ . وَفِي تَسْمِيَتِهَا حُدُودًا تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَدَّهَا وَقَدَّرَهَا ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَجَاوَزَهَا فَيَزِيدَ عَلَيْهَا أَوْ يَنْقُصَ مِنْهَا ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ قُتَيْبَةَ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : أَنَّهَا سُمِّيَتْ حُدُودًا : لِأَنَّهَا تَمْنَعُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى مَا يُوجِبُهَا ، مَأْخُوذًا مِنْ حَدِّ الدَّارِ : لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ مُشَارَكَةِ غَيْرِهَا فِيهَا ، وَبِهِ سُمِّي الْحَدِيدُ حَدِيدًا : لِأَنَّهُ يُمْتَنَعُ بِهِ ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْبَوَّابَ وَالسَّجَّانَ حَدَّادًا : لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الْخُرُوجِ ، قَالَ الشَّاعِرُ : كَمْ دُونَ بَابِكَ مِنْ أَقْوَامٍ أُحَاذِرُهُمْ بِأُمِّ عَمْرٍو وَحَدَّادٍ وَحَدَّادِ يُرِيدُ بِالْحَدَّادِ الْأَوَّلِ الْبَوَّابَ ، وَبِالْحَدَّادِ الثَّانِي السَّجَّانَ ؛ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا مِنَ الْمَنْعِ ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي بَائِعَ الْخَمْرِ حَدَّادًا : لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْهَا إِلَّا بِالثَّمَنِ . وَقَدْ كَانَتِ الْحُدُودُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ بِالْغَرَامَاتِ ؟ وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ غَلَّ صَدَقَتَهُ ، فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ اللَّهِ ، لَيْسَ لِآلِ مُحَمَّدٍ فِيهَا نَصِيبٌ . وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ بَعْضُ الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ : فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ [ يُوسُفَ : 74 ] ، أَيْ مَا عُقُوبَةُ مَنْ سَرَقَ مِنْكُمْ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ فِي أَنَّكُمْ لَمْ تَسْرِقُوا مِنَّا . قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ أَيْ جَزَاءُ مَنْ سَرَقَ أَنْ يُسْتَرَقَّ . كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [ يُوسُفَ : 75 ] ، أَيْ : كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالظَّالِمِينَ إِذَا سَرَقُوا أَنْ يُسْتَرَقُّوا ، فَكَانَ هَذَا مِنْ دِينِ يَعْقُوبَ ، ثُمَّ نُسِخَ غُرْمُ الْعُقُوبَاتِ بِالْحُدُودِ . فَعِنْدَهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذَا قُطِعَ السَّارِقُ فَلَا غُرْمَ فَتَأَوَّلْنَاهُ عَلَى سُقُوطِ غُرْمِ الْعُقُوبَةِ .



فَصْلٌ : فَبَدَأَ الشَّافِعِيُّ بِحَدِّ الزِّنَا وأحكامه : لِأَنَّهُ أَصْلٌ تَفَرَّعَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ، وَتَعَدَّى فِيهِ حُكْمُهُ ، وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ فِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا [ النِّسَاءِ : 15 - 16 ] ، فَشَذَّتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْأُولَى مِنْهُمَا وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ وَارِدَةٌ فِي إِتْيَانِ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ : لِاقْتِصَارِهِ عَلَى ذِكْرِ النِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ ، فَيَكُونُ كَالزِّنَا فِي الْحَظْرِ وَمُخَالِفًا لَهُ فِي الْحَدِّ . رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : السِّحَاقُ زِنَا النِّسَاءِ بَيْنَهُنَّ . وَيَكُونُ الْحَدُّ فِيهِ حَبْسَهُمَا حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا بِالتَّزْوِيجِ ، فَيَسْتَغْنِينَ بِحَلَالِهِ عَنْ حَرَامِ مَا ارْتَكَبْنَهُ . وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ : وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ وَارِدَةٌ فِي إِتْيَانِ الرِّجَالِ الرِّجَالَ : لِاقْتِصَارِهِ عَلَى ذِكْرِ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ فَيَكُونُ كَالزِّنَا فِي الْحَظْرِ . رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مُبَاشَرَةُ الرَّجُلِ الرَّجُلَ زِنًا ، وَمُبَاشَرَةُ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ زِنًا . وَقَوْلُهُ : فَآذُوهُمَا هُوَ حَدٌّ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمَا ، وَهَذَا الْأَذَى مُجْمَلٌ تَفْسِيرُهُ مَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ مِنْ إِتْيَانِ الْفَاحِشَةِ بَيْنَ الذَّكَرَيْنِ . وَالْفَاحِشَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي هِيَ الزِّنَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ النُّورِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [ النُّورِ : 2 ] ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَرَدَتَا فِي الزِّنَا بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ : لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْأُولَى النِّسَاءَ وَفِي الثَّانِيَةِ الرِّجَالَ : لِتُحْمَلَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى الْأُخْرَى ، فَتَصِيرَ كَالْجَمْعِ فِيهَا بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، وَبِهِ قَالَ الْفُقَهَاءُ . وَتَكُونُ الْآيَةُ الْأُولَى فِي زِنَا النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ فِي زِنَا الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ ، وَهُمَا فِي حُكْمِ الزِّنَا سَوَاءٌ . وَاخْتُلِفَ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَتَانِ هَلْ هُوَ حَدٌّ أَوْ مَوْعِدٌ بِالْحَدِّ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَوْعِدٌ بِالْحَدِّ وَلَيْسَ بِحَدٍّ : لِمَا فِي الْآيَةِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى الْمَوْعِدِ ، فَعَلَى هَذَا فِي قَوْلِهِ : وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْحُكَّامِ فِيمَنْ زَنَا مِنْ عُمُومِ النِّسَاءِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ فِيمَنْ زَنَا مِنْ خُصُوصِ نِسَائِهِمْ ، فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ ، وَهَذَا خِطَابٌ يَتَوَجَّهُ إِلَى الْأَزْوَاجِ دُونَ الْحُكَّامِ : لِأَنَّ الْأَزْوَاجَ بِحَبْسِ نِسَائِهِمْ فِي الْبُيُوتِ أَحَقُّ مِنَ الْحُكَّامِ ، وَلَوْ تُوَجِّهَ إِلَى الْحُكَّامِ لَأَمَرُوا بِحَبْسِهِنَّ فِي الْحُبُوسِ دُونَ الْبُيُوتِ ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِهَذَا الْحَبْسِ انْتِظَارًا لِلْمَوْعِدِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ إِنْ تَأَخَّرَ بَيَانُ الْحَدِّ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا إِنْ وَرَدَ بَيَانُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِنَّ مِنَ الْحَدِّ ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ وَاللَّذَانِ تَثْنِيَةُ الَّذِي ، وَفِيهِمَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا الْبِكْرُ وَالثَّيِّبُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمَا الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ " يَأْتِيَانِهَا " يَعْنِي الْفَاحِشَةَ وَهِيَ : الزِّنَا . مِنْكُمْ يَعْنِي : مِنَ الْمُسْلِمِينَ . فَآذَوْهُمَا ، وَهَذَا خِطَابٌ تَوَجَّهَ إِلَى الْحُكَّامِ . فَآذُوهُمَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بِالْحَبْسِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ . وَالثَّانِي : بِالْقَوْلِ مِنْ تَوْبِيخٍ وَزَجْرٍ . فَإِنْ تَابَا يَعْنِي مِنَ الزِّنَا ، قَبْلَ وُرُودِ الْحَدِّ . وَأَصْلَحَا يَعْنِي : بِالْعِفَّةِ عَنِ الزِّنَا بِالنِّكَاحِ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فَأَطْلِقُوهَا ، إِنْ قِيلَ : إِنَّ الْأَذَى هَاهُنَا الْحَبْسُ . وَالثَّانِي : فَكُفُّوا عَنِ الْإِغْلَاظِ لَهُمَا ، إِنْ قِيلَ : إِنَّ الْأَذَى هَاهُنَا التَّوْبِيخُ وَالزَّجْرُ . فَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ الْآيَتَيْنِ مَوْعِدًا بِالْحَدِّ ، وَيَكُونُ حُكْمُهُمَا ثَابِتًا فِي الْوَعْدِ غَيْرَ مَنْسُوخٍ . وَتَحْقِيقُهُ مَا نَزَلَ بَعْدَهُ مِنْ قُرْآنٍ ، وَوَرَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سُنَّةٍ . فَأَمَّا الْقُرْآنُ فَمَا نَزَلَ فِي سُورَةِ النُّورِ مِنْ حَدِّ الْبِكْرِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [ النُّورِ : 2 ] . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَوَارِدَةٌ فِي جَلْدِ الْبِكْرِ وَرَجْمِ الثَّيِّبِ ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ عَامِرٌ ، عَنْ مَسْرُوقٍ ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ كَرَبَ لَهُ وَتَرَبَّدَ وَجْهُهُ ، قَالَ : فَنَزَلَ عَلَيْهِ الرَّجْمُ ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ : خُذُوا عَنِّي ، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا : الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ . وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالنَّفْيُ .

وَرَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : خُذُوا عَنِّي ، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَ سَبِيلًا : الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ . وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ . فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : " قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا " : إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [ النِّسَاءِ : 15 ] ، فَكَانَ السَّبِيلُ مَا بَيَّنَهُ الرَّسُولُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ فِي جَلْدِ الْبِكْرِ وَرَجْمِ الثَّيِّبِ ، وَزَادَ عَلَى مَا فِي سُورَةِ النُّورِ فِي شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : رَجْمُ الثَّيِّبِ . وَالثَّانِي : تَغْرِيبُ الْبِكْرِ . فَصْلٌ : وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ تَضَمَّنَتَا وُجُوبَ الْحَدِّ وَلَيْسَتْ مَوْعِدًا فِي الْحَدِّ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : لِاشْتِمَالِهِمَا عَلَى أَمْرٍ تَوَجَّهَ إِلَى مُخَاطَبٍ ، وَعَلَى حُكْمٍ تَوَجَّهَ إِلَى فَاعِلٍ ، وَهَذِهِ صِفَةُ الْحَدِّ دُونَ الْوَعْدِ . فَعَلَى هَذَا : اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْحَدِّ الَّذِي تَضَمَّنَتْهَا هَلْ هُوَ مُجْمَلٌ تَعَقَّبَهُ الْبَيَانُ ، أَوْ مُفَسَّرٌ تَعَقَّبَهُ النَّسْخُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مِنَ الْمُجْمَلِ الَّذِي تَعَقَّبَهُ الْبَيَانُ : لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ فِي الْبُيُوتِ هُوَ حُكْمٌ مُبْهَمٌ ، وَالْأَذَى مِنَ الْعُمُومِ الْمُجْمَلِ ، وَيَكُونُ الْبَيَانُ مَا نَزَلَ فِي سُورَةِ النُّورِ مِنْ جَلْدِ الْبِكْرِ ، وَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ رَجْمِ الثَّيِّبِ وَتَغْرِيبِ الْبِكْرِ ، وَيَكُونُ بَيَانُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفْسِيرًا لِإِجْمَالِهِمَا : لِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَلَا قَضَيْتَ لِي بِكِتَابِ اللَّهِ . فَقَامَ خَصْمُهُ - وَكَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ - فَقَالَ : نَعَمِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ ، وَأْذَنْ لِي أَنْ أَتَكَلَّمَ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قُلْ . فَقَالَ : إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عِنْدَ هَذَا الرَّجُلِ ، - يَعْنِي أَجِيرًا - فَزَنَا بِامْرَأَتِهِ ، وَإِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ ، فَافْتَدَيْتُهُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ ، ثُمَّ سَأَلْتُ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي إِنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَالَذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ ، الْغَنَمُ وَالْوَلِيدَةُ رَدٌّ عَلَيْكَ ، وَعَلَى ابْنِكِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا ، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا ، - وَكَانَ أُنَيْسٌ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ - ، فَغَدَا وَمَعَهُ رَجُلٌ آخَرُ إِلَيْهَا ، فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا . فَدَلَّ عَلَى مَا حَكَمَ بِهِ مِنْ تَغْرِيبِ الْبِكْرِ وَرَجْمِ الثَّيِّبِ ، قَضَاءً بِكِتَابِ

اللَّهِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِيهِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِإِجْمَالِهِ ، وَيَكُونَ حُكْمُهُمَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ثَابِتًا غَيْرَ مَنْسُوخٍ : لِأَنَّ بَيَانَ الْمُجْمَلِ تَفْسِيرٌ وَلَيْسَ بِنَسْخٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ بَيَانُ الْمُجْمَلِ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْقُرْآنِ وَمِنَ السُّنَّةِ ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، وَالْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِهِ أَنَّ الْآيَتَيْنِ تَضَمَّنَتَا حَدًّا مَفْهُومًا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى بَيَانٍ : لِأَنَّ مَا فِي الْأُولَى مِنْ إِمْسَاكِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ مَعْلُومٌ ، وَمَا فِي الثَّانِيَةِ مِنَ الْأَذَى بِمَا ضَرَّ مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ مَفْهُومٌ يَتَقَرَّرُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ كَالتَّعْزِيرِ ، ثُمَّ تَعَقَّبَهُ بِالنَّسْخِ بِمَا وَرَدَ مِنْ جَلْدِ الْبِكْرِ وَرَجْمِ الثَّيِّبِ . فَعَلَى هَذَا : اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ ، هَلْ وَرَدَتَا فِي حَدِّ الْبِكْرِ أَوْ فِي حَدِّ الثَّيِّبِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ وَطَائِفَةٍ : أَنَّهُمَا وَرَدَتَا مَعًا فِي حَدِّ الْبِكْرِ ، وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ هَذَا فِي سَبَبِ تَكْرَارِهِ فِي الْآيَتَيْنِ ، فَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ : إِنَّ الْأُولَى فِي أَبْكَارِ النِّسَاءِ ، وَالثَّانِيَةَ فِي أَبْكَارِ الرِّجَالِ . وَقَالَ غَيْرُهُ : لِأَنَّ الْأُولَى فِي الْبِكْرِ الَّتِي لَهَا زَوْجٌ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، وَالثَّانِيَةَ فِي الْبِكْرِ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حَدُّ الْبِكْرِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَنْسُوخًا بِمَا وَرَدَ فِي سُورَةِ النُّورِ مِنْ قَوْلِهِ : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [ النُّورِ : 12 ] وَيَكُونُ حَدُّ الثَّيِّبِ بِالرَّجْمِ فَرْضًا مُبْتَدَأً لَمْ يُنْقَلْ عَنْ حَدٍّ مَنْسُوخٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْآيَتَيْنِ مَعًا وَرَدَتَا فِي حَدِّ الثَّيِّبِ ثُمَّ نُسِخَتْ بِالرَّجْمِ ، وَحَدُّ الْبِكْرِ فَرْضٌ مُبْتَدَأٌ بِمِائَةِ جَلْدَةٍ وَرَدَتْ فِي سُورَةِ النُّورِ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ حَدٍّ مَنْسُوخٍ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ الْأَظْهَرُ ، أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ وَارِدَةٌ فِي حَدِّ الثَّيِّبِ وَنُسِخَتْ بِالرَّجْمِ ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ فِي قَوْلِهِ : فَآذُوهُمَا وَارِدَةٌ فِي حَدِّ الْبِكْرِ وَنُسِخَتْ بِجَلْدِ مِائَةٍ . فَيَكُونُ كِلَا الْحَدَّيْنِ مِنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ مَنْقُولَيْنِ عَنْ حَدَّيْنِ مَنْسُوخَيْنِ . أَمَّا الْجَلْدُ فِي نَسْخِهِ الْأَذَى مِنَ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ فَلَا يَمْتَنِعُ : لِأَنَّهُ فِي سُورَةِ النُّورِ فَهُوَ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ . وَأَمَّا الرَّجْمُ فِي نَسْخِهِ بِإِمْسَاكِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ مِنَ الْآيَةِ الْأُولَى ، فَنَسْخُهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ مُقَرَّرًا : وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ يُنْسَخُ بِالْقُرْآنِ ، وَالسُّنَّةُ تُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ ، وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ ، وَإِنْ جَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ : لِأَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [ الْبَقَرَةِ : 106 ] وَلَيْسَتِ السُّنَّةُ خَيْرًا مِنَ الْقُرْآنِ ، وَلَيْسَ مِثْلَ الْقُرْآنِ إِلَّا الْقُرْآنُ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ لَا يَجُوزَ نَسْخُ الْقُرْآنِ إِلَّا بِالْقُرْآنِ . وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا ، هَلْ كَانَ مُجَوَّزًا فِي الْعَقْلِ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ حَتَّى حَظَرَهُ الشَّرْعُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّهُ قَدْ كَانَ ذَلِكَ مُجَوَّزًا فِي الْعَقْلِ : لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى الْمَأْمُورِ حُكْمُ الْآمِرِ ، كَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى الْآمِرِ حُكْمُ الْمَأْمُورِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمَأْمُورِ رَافِعًا لِقَوْلِ الْآمِرِ : لِأَنَّ الْآمِرَ مُطَاعٌ وَالْمَأْمُورَ مُطِيعٌ . فَأَمَّا نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ فَفِيهِ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ : أَظْهَرُهُمَا : لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِالتَّجَانُسِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ يَجُوزُ : لِأَنَّهُ لَا يُمْتَنَعُ رَفْعُ الْأَخَفِّ بِالْأَعْلَى ، وَإِنِ امْتَنَعَ رَفْعُ الْأَعْلَى بِالْأَخَفِّ . فَإِذَا ثَبَتَ مِنْ أَصْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ لَا يَجُوزُ ، فَفِي نَسْخِ الرَّجْمِ لِإِمْسَاكِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَجْهَانِ يَسْلَمُ مَعَهُمَا أَنْ يُنْسَخَ الْقُرْآنُ بِالسُّنَّةِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُ : أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [ النِّسَاءِ : 16 ] ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْإِمْسَاكِ فِي الْبُيُوتِ حَدٌّ إِلَى غَايَةٍ غَيْرِ مُؤَبَّدَةٍ ، فَخَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْمَنْسُوخِ الَّذِي يَقْتَضِي ظَاهِرَ لَفْظِهِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْعِبًا لِجَمِيعِ الْأَزْمَانِ ، كَمَا اقْتَضَى ظَاهِرُ الْعُمُومِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْعِبًا لِجَمِيعِ الْأَعْيَانِ ، فَلَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خُذُوا عَنِّي ، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لُهُنَّ سَبِيلًا : الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ بَيَانًا لِانْقِضَاءِ زَمَانِ إِمْسَاكِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ وَلَمْ يَكُنْ نَسْخًا : لِأَنَّهُ قَدَّرَ بِهِ مُدَّةً لَا تَقْتَضِي التَّأْبِيدَ ، وَلَوِ اقْتَضَتِ التَّأْبِيدَ لَصَارَ نَسْخًا مُخْرِجَ ذَلِكَ عَنْ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ ، وَصَارَ بَيَانُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِمَا كَانَ مَتْلُوًّا مِنَ الْقُرْآنِ ، ثُمَّ نُسِخَ رَسْمُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ ، فَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنَ الْحَجِّ فِي ذِي الْحِجَّةِ ، فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ ، قَدْ سُنَّتْ لَكُمُ السُّنَنُ وَفُرِضَتْ لَكُمُ الْفَرَائِضُ ، وَتُرِكْتُمْ عَلَى الْوَاضِحَةِ إِلَّا أَنْ تَضِلُّوا ، إِيَّاكُمْ أَنْ تَهْلَكُوا عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ ، أَنْ يَقُوِلَ قَائِلٌ : لَا يَجِدُ حَدَّيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ . فَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَوْلَا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ : زَادَ ابْنُ

الْخِطَابِ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُهَا آية الرجم : الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ ، فَإِنَّا قَدْ أُقْرِأْنَاهَا وَرَوَى الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادٍ ذَكَرَهُ عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ ، أَنَّ خَالَتَهُ أَخْبَرَتْهُ ، قَالَتْ : لَقَدْ أَقْرَأَنَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةَ الرَّجْمِ : " الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ بِمَا قَضَيَا مِنَ اللَّذَّةِ " . فَإِنْ قِيلَ الِاعْتِرَاضُ عَلَى هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَوْلٌ وَاحِدٌ ، وَالْقُرْآنُ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَنْسُوخٌ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْسُوخُ نَاسِخًا . قِيلَ : أَمَّا الِاعْتِرَاضُ فِيهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَفِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا عَضَّدَهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " خُذُوا عَنِّي ، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةِ وَالرَّجْمُ " ، ثُمَّ تَعَقَّبَهُ فِعْلُهُ فِي رَجْمِ مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ ، خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْآحَادِ إِلَى الِاسْتِفَاضَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ رَوَاهُ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ بِمَشْهَدِ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَمَا أَنْكَرُوهُ ، فَدَلَّ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ عَلَيْهِ . وَأَمَّا الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ ، فَالْمَنْسُوخُ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا نُسِخَ رَسْمُهُ وَحُكْمُهُ ، كَالَّذِي رَوَاهُ أَبُو أُمَامَةَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ أَنَّ رَجُلًا قَامَ فِي اللَّيْلِ لِيَقْرَأَ سُورَةً فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا ، وَقَامَ آخَرُ لِيَقْرَأَهَا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا ، فَأَخْبَرَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ : إِنَهَا رُفِعَتِ الْبَارِحَةَ مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَبَقِيَ رَسْمُهُ ، كَالْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَكَقَوْلِهِ فِي الْعِدَّةِ : مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [ الْبَقَرَةِ : 240 ] . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا نُسِخَ رَسْمُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ ، مِثْلَ قَوْلِهِ : " وَالشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ " . وَمِثْلُ قَوْلِهِ : " لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ لَابْتَغَى إِلَيْهِ ثَانِيًا وَلَوْ أَنَّ لَهُ ثَانِيًا مِنْ

ذَهَبٍ لَابْتَغَى إِلَيْهِمَا ثَالِثًا ، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ " . وَمَا بَقِيَ حُكْمُهُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ نَسْخُ رَسْمِهِ : لِأَنَّ رَفْعَ أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ رَفْعَ الْآخَرِ ، كَمَا أَنَّ رَفْعَ حُكْمِهِ لَا يُوجِبُ رَفْعَ رَسْمِهِ ، فَصَحَّ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذَا التَّرْتِيبِ أَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ إِنْ جَعَلْنَاهُ مَنْسُوخًا ، وَبَيْنَ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ إِنْ جَعَلْنَاهُ مُجْمَلًا ، أَوْ مَحْدُودًا ، وَلَمْ يُنْسَخِ الْقُرْآنُ بِالسُّنَّةِ .

الزَّانِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ الزِّنَا وَاسْتِقْرَارِهِ عَلَى رَجْمِ الثَّيِّبِ وَجَلَدِ الْبِكْرِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الزَّانِي مَنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا عَلَى مَا سَنَصِفُهُ مِنْ حَالِ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ . فَإِنْ كَانَ ثَيِّبًا وَيُسَمَّى الثَّيِّبُ مُحْصَنًا فَحَدُّهُ الرَّجْمُ دُونَ الْجَلْدِ حد الثيب . وَذَهَبَ الْخَوَارِجُ إِلَى أَنَّ عَلَيْهِ جَلْدُ مِائَةٍ دُونَ الرَّجْمِ ، تَسْوِيَةً بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ : احْتِجَاجًا بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ ، وَأَنَّ الرَّجْمَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَلَيْسَتْ حُجَّةً عِنْدَهُمْ فِي الْأَحْكَامِ . وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ : عَلَيْهِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ ، فَجَمَعُوا عَلَيْهِ بَيْنَ الْحَدَّيْنِ : احْتِجَاجًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " خُذُوا عَنِّي ، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ " . وَبِرِوَايَةِ قَتَادَةَ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ شَرَاحَةَ الْهَمَدَانِيَّةَ أَتَتْ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَقَالَتْ : قَدْ زَنَيْتُ . قَالَ : لَعَلَّكِ غَيْرَاءُ ، لَعَلَّكِ رَأَيْتِ رُؤْيَا . قَالَتْ : لَا . فَجَلَدَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ ، وَرَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَقَالَ : جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ ، وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ . وَلِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا يُوجِبُ الْجَمْعَ بَيْنَ عُقُوبَتَيْنِ كَالْبِكْرِ يُجْمَعُ لَهُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ : إِلَى آيَةِ الرَّجْمِ دُونَ الْجَلْدِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الرَّجْمِ : - بِخِلَافِ مَا قَالَهُ الْخَوَارِجُ - مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا وَفِعْلًا ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ نَقْلًا وَعَمَلًا ، وَاسْتِفَاضَتُهُ فِي النَّاسِ ، وَانْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ حَتَّى صَارَ حُكْمُهُ مُتَوَاتِرًا ، وَإِنْ كَانَ أَعْيَانُ الْمَرْجُومِينَ فِيهِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ ، وَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ خِلَافِ حَدَثٍ بَعْدَهُ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْجَلْدَ سَاقِطٌ فِي رَجْمِ الثَّيِّبِ : مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا ، وَلَوْ جَلَدَهُمَا لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ رَجْمُهُمَا . وَرَوَى عِكْرِمَةُ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ حِينَ أَتَاهُ فَأَقَرَّ عِنْدَهُ

بِالزِّنَا : لَعَلَكَ قَبَّلْتَ ، أَوْ غَمَزْتَ ، أَوْ نَظَرْتَ . قَالَ : لَا . قَالَ : أَفَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا . لَا يُكَنِّي ، قَالَ : نَعَمْ . فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَجْمِهِ . وَرَوَى أَبُو سَلَمَةَ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَرَفَ بِالزِّنَا فَأَعْرَضَ عَنْهُ ، ثُمَّ اعْتَرَفَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ، حَتَّى شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَبِكَ جُنُونٌ ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : أُحْصِنْتَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَ بِالْمُصَلَّى ، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ فَرَّ ، فَأُدْرِكَ فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ . وَرَوَى أَبُو الْمُهَلَّبِ ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْتَرَفَتْ بِالزِّنَا ، وَقَالَتْ : إِنِّي حُبْلَى . فَدَعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيَّهَا ، فَقَالَ : أَحْسِنْ إِلَيْهَا ، فَإِذَا وَضَعْتِ فَائْتِنِي بِهَا . فَفَعَلَ ، فَلَمَّا وَضَعَتْ جَاءَ بِهَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ . فَفَعَلَتْ ، ثُمَّ جَاءَتْ ، فَأَمَرَّ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَدَّ عَلَيْهَا ثِيَابَهَا ثُمَّ أَمَرَ بِرَجْمِهَا ، وَصَلَّى عَلَيْهَا ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ رَجَمْتَهَا ثُمَّ تُصَلِّي عَلَيْهَا ؟ فَقَالَ : لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ ، هَلْ وَجَدْتَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا ؟ . وَقَالَ - فِيمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - : " اغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا ، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا " فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَلَى اقْتِصَارِهِ عَلَى الرَّجْمِ دُونَ الْجَلْدِ ، وَأَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مِنْ قَوْلِهِ : " وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ " مَنْسُوخٌ لِتَقَدُّمِهِ عَلَى مَا رَوَيْنَاهُ إِذَا كَانَ هُوَ الْأَصْلُ فِي بَيَانِ الرَّجْمِ . وَلِأَنَّ مَا وَجَبَ بِهِ الْقَتْلُ لَمْ يَجِبْ بِهِ الْجَلْدُ كَالرِّدَّةِ . فَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ فِي جَلْدِ شَرَاحَةَ وَرَجْمِهَا ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ مُرْسَلٌ : لِأَنَّ رَاوِيَهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَلَمْ يَلْقَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ جَلَدَهَا : لِأَنَّهُ حَسِبَهَا بِكْرًا ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهَا ثَيِّبٌ فَرَجَمَهَا ، أَلَا تَرَاهُ أَنَّهُ جَلَدَهَا يَوْمَ الْخَمِيسَ وَرَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمْعَةِ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَجَمَعَ بَيْنِهِمَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ . وَالثَّابِتُ أَنَّهَا زَنَتْ بِكْرًا فَجَلَدَهَا ، ثُمَّ زَنَتْ ثَيِّبًا فَرَجَمَهَا . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَجَمَهَا فِي جُمُعَةٍ لَا تَلِي الْخَمِيسَ أَوْ تَلِيهِ .

وَأَمَّا الْقِيَاسُ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ حُجَجِ أَهْلِ الظَّاهِرِ - فَالْمَعْنَى فِي الرَّجْمِ : أَنَّهُ عَامٌّ دَخَلَ فِيهِ مَا دُونَهُ ، وَالْجَلْدُ خَاصٌّ جَازَ أَنْ يَقْتَرِنَ إِلَيْهِ التَّغْرِيبُ الَّذِي لَا يَدْخُلُ فِيهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْبِكْرُ : فَحَدُّهُ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ حد البكر ، وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدًّا ، فَيَجْمَعُ عَلَيْهِ بَيْنَ حَدَّيْنِ ، رَجُلًا كَانَ الزَّانِي أَوِ امْرَأَةً . وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ وَهُوَ الْجَلْدُ ، فَأَمَّا التَّغْرِيبُ فَهُوَ تَعْزِيرٌ غَيْرُ مُقَدَّرٍ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ ، أَوِ الْعُدُولِ إِلَى تَعْزِيرِهِ . وَقَالَ مَالِكٌ : يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي حَدِّ الرَّجُلِ ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي حَدِّ الْمَرْأَةِ ، وَتُجْلَدُ وَلَا تُغَرَّبُ : لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ التَّغْرِيبَ لَيْسَ بِحَدٍّ فِي الزِّنَا ، بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [ النُّورِ : 2 ] ، فَكَانَ الدَّلِيلُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ اقْتَصَرَ فِي حَدِّهَا عَلَى الْجَلْدِ ، وَلَوْ وَجَبَ التَّغْرِيبُ لَقَرَنَهُ بِهِ : لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانُ عَنْ وَقْتِهِ لَا يَجُوزُ . وَالثَّانِي : أَنَّ وُجُوبَ التَّغْرِيبِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ تَكُونُ نَسْخًا ، وَنَسْخُ الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَنَعَ مِنْ سَفَرِ الْمَرْأَةِ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ ، فَإِنْ غُرِّبَتْ مَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ أَسْقَطْتُمُ الْخَبَرَ ، وَإِنْ غُرِّبَتْ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ أَوْجَبْتُمُ التَّغْرِيبَ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِزَانٍ ، وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ يُوجِبُ الْحَدَّ فَلَمْ يَجِبْ بِهِ التَّغْرِيبُ كَالْقَذْفِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ ، وَلِأَنَّهُ زِنًا يُوجِبُ عُقُوبَةً فَلَمْ يُجْمَعْ فِيهِ بَيْنَ حَدَّيْنِ كَزِنَا الثَّيِّبِ . وَدَلِيلُنَا : حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " خُذُوا عَنِّي ، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا : الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ " . فَإِنْ قِيلَ : لَمَّا كَانَ مَا اقْتَرَنَ بِرَجْمِ الثَّيِّبِ مِنَ الْجَلْدِ مَنْسُوخًا ، اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا اقْتَرَنَ بِجَلْدِ الْبِكْرِ مِنَ التَّغْرِيبِ مَنْسُوخًا . قِيلَ : نَسْخُ أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ نَسْخَ الْآخَرِ : لِأَنَّ النَّسْخَ يُؤْخَذُ مِنَ النَّصِّ دُونَ الْقِيَاسِ ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلرَّجُلِ : " وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ " بَعْدَ قَوْلِ الرَّجُلِ : وَسَأَلْتُ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، فَقَالُوا : عَلَى ابْنَكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ . فَصَارَ هَذَا الْخَبَرُ يَجْمَعُ نَصًّا وَوِفَاقًا ، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ .

وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَلَدَ وَغَرَّبَ إِلَى فَدَكٍ . وَجَلَدَ عُمَرُ وَغَرَّبَ إِلَى الشَّامِ . وَجَلَدَ عُثْمَانُ وَغَرَّبَ إِلَى مِصْرَ . وَجَلَدَ عَلِيٌّ وَغَرَّبَ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ ، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ عُمَرُ حِينَ غَرَّبَ : لَا أَنْفِي بَعْدَهُ أَحَدًا . وَقَالَ عَلِيٌّ : كَفَى بِالنَّفْيِ فِتْنَةً . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ غَرَّبُوا تَعْزِيرًا يَجُوزُ لَهُمْ تَرْكُهُ ، وَلَمْ يَكُنْ حَدًّا مَحْتُومًا . قِيلَ : أَمَّا قَوْلُ عُمَرَ لَا أَنْفِي بَعْدَهُ أَحَدًا ، فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ فِي شَارِبِ خَمْرٍ نَفَاهُ فَارْتَدَّ وَلَحِقَ بِالرُّومِ ، وَالنَّفْيُ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ تَعْزِيرٌ يَجُوزُ تَرْكُهُ ، وَهُوَ فِي الزِّنَا حَدٌّ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ . وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ : " كَفَى بِالنَّفْيِ فِتْنَةً " . فَيَعْنِي : عَذَابًا ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [ الذَّارِيَاتِ : 13 ] ، أَيْ يُعَذَّبُونَ . وَلِأَنَّ التَّغْرِيبَ عُقُوبَةٌ تَقَدَّرَتْ عَلَى الزَّانِي شَرْعًا ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَدًّا كَالْجَلْدِ ، وَلِأَنَّ الزِّنَا مَعْصِيَةٌ تُوجِبُ حَدًّا أَعْلَى وَهُوَ الرَّجْمُ ، وَأَدْنَى وَهُوَ الْجَلْدُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَقْتَرِنَ بِأَدْنَاهَا غَيْرُهُمَا ، كَالْقَتْلِ يُوجِبُ أَعْلَى وَهُوَ الْقَوَدُ ، وَأَدْنَى وَهُوَ الدِّيَةُ ، وَاقْتَرَنَ بِهَا الْكَفَّارَةُ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ كُلَّ مَا وَجَبَ بِالْقُرْآنِ ، وَالتَّغْرِيبُ وَاجِبٌ بِالسُّنَّةِ دُونَ الْقُرْآنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ عِنْدَنَا لَا تَكُونُ نَسْخًا ، وَلَوْ كَانَتْ نَسْخًا لَمْ تَكُنْ زِيَادَةُ التَّغْرِيبِ هَاهُنَا نَسْخًا : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّنَا قَدِ اتَّفَقْنَا عَلَيْهَا وَإِنِ اخْتَلَفْنَا فِي حُكْمِهَا ، فَجَعَلُوهَا تَعْزِيرًا وَجَعَلْنَاهَا حَدًّا . وَالثَّانِي : أَنَّهَا تَكُونُ نَسْخًا إِذَا تَأَخَّرَتْ ، وَالتَّغْرِيبُ هَاهُنَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ : أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [ النِّسَاءِ : 15 ] ، فَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَى قَوْلِهِ : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [ النُّورِ : 2 ] ، فَخَرَجَ عَنْ حُكْمِ النَّسْخِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَغْرِيبِهَا مَعَ ذِي الْمَحْرَمِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ تَغْرِيبِهَا تَعْزِيرًا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَغْرِيبِهَا حَدًّا .

وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَحْرَمَ شَرْطٌ عِنْدَنَا فِي مُبَاحِ السَّفَرِ دُونَ وَاجِبِهِ ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَصُومَنَّ امْرَأَةٌ وَزَوْجُهَا حَاضِرٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ مَحْمُولًا عَلَى تَطَوُّعِ الصَّوْمِ دُونَ مَفْرُوضِهِ ، وَهَذَا وَاجِبٌ كَالْحَجِّ ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى ذِي مَحْرَمٍ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قِيَاسٌ يَدْفَعُ النَّصَّ ، فَكَانَ مُطَّرِحًا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُغَرَّبَ فِي غَيْرِ الزِّنَا تَعْزِيرًا ، وَجَازَ فِي الزِّنَا ، لَمْ يَمْنَعْ مِنْ وُجُوبِهِ فِي الزِّنَا حَدًّا ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ فِي غَيْرِ الزِّنَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الثَّيِّبِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حَدَّ الثَّيِّبِ أَغْلَظُ الْعُقُوبَاتِ ، فَسَقَطَ بِهِ مَا دَوْنَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الرَّجْمَ فِيهِ قَدْ مَنَعَ مِنْ حَدٍّ يَتَعَقَّبُهُ ، وَالْجَلْدُ لَا يَمْنَعُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا اسْتَقَرَّ فُرِّقَ مَا بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ فِي حَدِّ الزِّنَا ، فَجَمَعَ الزَّانِي بَيْنَهُمَا ، فَزَنَا بِكْرًا ثُمَّ زَنَا ثَيِّبًا ، فَفِي الْجَمْعِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْحَدَّيْنِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُجْمَعُ عَلَيْهِ بَيْنَهُمَا لِاخْتِلَافِ حُكْمِهِمَا ، فَيُجْلَدُ لِزِنَا الْبَكَارَةِ ، وَيُرْجَمُ لِزِنَا الْإِحْصَانِ ، وَلَا يُغَرَّبُ : لِأَنَّ رَجْمَهُ يُغْنِي عَنْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا : لِأَنَّهُمَا مِنْ جِنْسٍ اتَّفَقَ مُوجِبُهُمَا ، فَدَخَلَ أَخَفُّ الْحُكْمَيْنِ فِي أَغْلَظِهِمَا ، كَمَا يَدْخُلُ الْحَدَثُ فِي الْجَنَابَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَكَرَّرَ الزِّنَا مِنْهُ فِي الْبَكَارَةِ تَدَاخَلَ ، وَلَوْ تَكَرَّرَ مِنْهُ فِي الْإِحْصَانِ تَدَاخَلَ ، فَوَجَبَ إِذَا تَكَرَّرَ فِي الْبَكَارَةِ وَالْإِحْصَانِ أَنْ يَتَدَاخَلَ . وَهَكَذَا لَوْ سَرَقَ ثُمَّ ارْتَدَّ ، فَفِي دُخُولِ قِطْعِ السَّرِقَةِ فِي قَتْلِ الرِّدَّةِ وَجْهَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِذَا أَصَابَ الْحُرُّ أَوْ أُصِيبَتِ الْحُرَّةُ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ فَقَدْ أُحْصِنَا ، فَمَنْ زَنَى مِنْهُمَا فَحَدُّهُ الرَّجْمُ حَتَّى يَمُوتَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ فِي حَدِّ الزِّنَا بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ ، وَلَيْسَ يُرَادُ بِالثَّيِّبِ زَوَالُ الْعُذْرَةِ : لِعَدَمِ هَذِهِ الصِّفَةِ فِي الرِّجَالِ ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهَا الْإِحْصَانُ ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالثَّيِّبِ الْمُحْصَنُ . وَالْإِحْصَانُ فِي كَلَامِهِمُ الِامْتِنَاعُ ، وَمِنْهُ سُمِّي الْقَصْرُ حِصْنًا : لِامْتِنَاعِهِ . وَقِيلَ : فَرَسٌ حَصَانٌ : لِامْتِنَاعِ رَاكِبِهِ بِهِ . وَدِرْعٌ حَصِينَةٌ : لِامْتِنَاعِ لَابِسِهَا مِنْ وُصُولِ السِّلَاحِ إِلَيْهِ . وَقَرْيَةٌ حَصِينَةٌ : لِامْتِنَاعِ أَهْلِهَا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ [ الْحَشْرِ : 14 ] ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْإِحْصَانُ هُوَ الْأَسْبَابُ الْمَانِعَةُ مِنَ الزِّنَا ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ يَصِيرُ الزَّانِي بِهَا مُحْصَنًا :

أَحَدُهُمَا : الْبُلُوغُ من شروط الإحصان : لِأَنَّ الصَّغِيرَ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ خِطَابٌ يَصِيرُ بِهِ مُمْتَنِعًا . وَالثَّانِي : الْعَقْلُ من شروط الإحصان : لِأَنَّ الْعَقْلَ يَمْنَعُ مِنَ الْمَعَاصِي . وَالثَّالِثُ : الْحُرِّيَّةُ من شروط الإحصان : لِأَنَّهَا تَمْنَعُ مِنْ ذِلَّةِ الِاسْتِرْقَاقِ وَنَقْصِ الْقَبَائِحِ ، وَلِأَنَّ الرَّجْمَ أَكْمَلُ الْحُدُودِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ بِأَكْمَلِ الزِّنَا . وَالرَّابِعُ : الْإِصَابَةُ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ من شروط الإحصان : لِأَنَّ النِّكَاحَ أَكْمَلُ مَا يَمْنَعُ مِنَ الزِّنَا ، فَكَانَ شَرْطًا فِي أَكْمَلِ حَدَّيْهِ ، وَالْعَقْدُ لَا يَمْنَعُ حَتَّى تُوجَدَ فِيهِ الْإِصَابَةُ الْمَانِعَةُ مِنْ غَيْرِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا كَمُلَتْ هَذِهِ فَشُرُوطُ الْأَرْبَعَةِ وَجَبَ الرَّجْمُ ، وَلَمْ يَكُنِ الْإِسْلَامُ شَرْطًا فِيهِ من شروط الإحصان . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْإِسْلَامُ شَرْطٌ خَامِسٌ مُعْتَبَرٌ فِي الْجِنَايَةِ : فَإِنْ عُدِمَ ، سَقَطَ الرَّجْمُ : احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ نَافِعٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ . وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : دَعْهَا عَنْكَ ، فَإِنَهَا لَا تُحْصِنُكَ . قَالَ : وَلِأَنَّهَا حَصَانَةٌ مِنْ شَرْطِهَا الْحُرِّيَّةُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِهَا الْإِسْلَامُ كَالْحَصَانَةِ فِي الْقَذْفِ . وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهُ لَمْ يُرْجَمْ كَالْعَبْدِ . وَدَلِيلُنَا : رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا ، وَلَا يَرْجُمُ إِلَّا مُحْصَنًا . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي حَصَانَةِ الرَّجْمِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا رَجَمَهُمَا بِالتَّوْرَاةِ ، وَلَمْ يَرْجُمْهُمَا بِشَرِيعَتِهِ : لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ صُورِيَّا ، وَقَدْ حَضَرَهُ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْيَهُودِ : أَسْأَلُكُمْ بِاللَّهِ مَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ ؟ قَالَ : الْجَلْدُ وَالتَّحْمِيمُ . فَأَمَرَ بِإِحْضَارِ التَّوْرَاةِ : لِتُقْرَأَ عَلْيَهُ ، فَلَمَّا انْتَهَوْا فِي قِرَاءَتِهَا إِلَى مَوْضِعِ الرَّجْمِ وَضَعَ ابْنُ صُورِيَّا يَدَهُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّهُ قَدْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَوْضِعِ الرَّجْمِ . فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَفْعِ يَدِهِ ، فَإِذَا فِيهِ ذِكْرُ الرَّجْمِ يَلُوحُ ، فَقَالَ لَهُمْ : مَا حَمَلَكُمْ عَلَى هَذَا ؟ فَقَالَ كَعْبُ بْنُ صُورِيَّا أَجِدُ فِي كِتَابِنَا الرَّجْمَ ، وَلَكِنْ كَثُرَ الزِّنَا فِي أَشْرَافِنَا فَلَمْ

نَرَ إِقَامَتَهُ إِلَّا عَلَى الْأَدْنِيَاءِ وَنَدَعُ الْأَشْرَافَ ، فَجَعَلْنَاهُ الْجَلْدَ وَالتَّحْمِيمَ وَالتَّجْبِيَةَ ، - يُرِيدُ بِالتَّحْمِيمِ تَسْوِيدَ الْوَجْهِ ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْحُمَمَةِ وَهِيَ الْفَحْمَةُ . وَيُرِيدُ بِالتَّجْبِيَةِ : أَنْ يَرْكَبَا عَلَى حِمَارٍ أَوْ جَمَلٍ وَظَهْرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى ظَهْرِ صَاحِبِهِ - فَرَجَمَهُمَا حِينَئِذٍ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَ : أَنَا أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا سُنَّةً أَمَاتُوهَا . قِيلَ : الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ : وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [ الْمَائِدَةِ : 49 ] ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ عَلَيْهِمْ بِتَوْرَاتِهِمْ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ إِذَا كَانَ مِنْ شَرِيعَتِهِ الرَّجْمُ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا فِي التَّوْرَاةِ كَانَ حُكْمُهُ بِشَرِيعَتِهِ لَا بِالتَّوْرَاةِ ، وَإِنَّمَا أَحْضَرَهَا لِإِكْذَابِهِمْ عَلَى إِنْكَارِهِمْ وُجُودَ الرَّجْمِ فِيهَا . وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَلْدِ الْكَامِلِ إِذَا كَانَ بِكْرًا ، كَانَ وَطْؤُهُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مُحْصَنًا كَالْمُسْلِمِ : وَلِأَنَّ مَنْ مَلَكَ رَجْعَتَيْنِ فِي نِكَاحٍ كَانَ مُحْصَنًا كَالْمُسْلِمِ ، وَفِيهِمَا احْتِرَازٌ مِنَ الْعَبْدِ وَمِنْ غَيْرِ الْوَاطِئِ فِي نِكَاحٍ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ : فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ . أَيْ : لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ مِنْ قَبِيحٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى إِحْصَانِ الْقَذْفِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ، فَرَاوِيهِ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنْ كَعْبٍ ، وَابْنُ أَبِي مَرْيَمَ ضَعِيفٌ ، وَابْنُ أَبِي طَلْحَةَ لَمْ يَلْقَ كَعْبًا ، فَكَانَ مُنْقَطِعًا . وَلَوْ صَحَّ ، لَكَانَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : " فَإِنَهَا لَا تُحْصِنُكَ " مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ التَّرْغِيبَ فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمَاتِ وَالتَّزْهِيدِ فِي نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ : لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ تَحْصِينَ الزِّنَا فِي أَصْحَابِهِ لِيُرْجَمُوا ، وَقَدْ صَانَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : لِاخْتِيَارِهِمْ لِنُصْرَةِ دِينِهِ وَالْجِهَادِ عَلَيْهِ مَعَ رَسُولِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَعْنَاهُ : أَنَّهَا لَا تَعْفِكَ عَنْ نِكَاحِ غَيْرِهَا ، إِمَّا لِقُبْحِهَا أَوْ سُوءِ مُعْتَقَدِهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى حَصَانَةِ الْقَذْفِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قِيَاسٌ يَدْفَعُ النَّصَّ ، فَكَانَ مُطَّرَحًا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَعْنَى فِي حَصَانَةِ الْقَذْفِ اعْتِبَارُ الصِّفَةِ فِيهَا ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهَا الْإِسْلَامُ ، [ لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرِ الْعِفَّةَ فِي حَصَانَةِ الزِّنَا ، كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِيهَا الْإِسْلَامُ ] .

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْعَبْدِ : فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِمَنْ لَيْسَ بِعَفِيفٍ يُرْجَمُ إِنْ زَنَا ، وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ . ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْعَبْدِ : أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُكْمَلْ جَلْدُهُ فَلَمْ يَجِبْ رَجْمُهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا ارْتَدَّ الْمُحْصَنُ لَمْ يَرْتَفِعْ إِحْصَانُهُ فِي الرِّدَّةِ ، وَلَا إِذَا أَسْلَمَ ، وَكَانَ حَدُّهُ الرَّجْمَ إِنْ زَنَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : قَدِ ارْتَفَعَ إِحْصَانُهُ بِرِدَّتِهِ ، وَلَا يَعُودُ إِلَى الْإِحْصَانِ بِإِسْلَامِهِ حَتَّى يَطَأَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ . فَجَعَلَ اسْتِدَامَةَ الْإِسْلَامِ شَرْطًا فِي بَقَاءِ الْحَصَانَةِ ، كَمَا جَعَلَهُ شَرْطًا فِي أَصْلِ الْحَصَانَةِ : احْتِجَاجًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ " وَلِأَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ كُفْرٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَأْنَفَ شَرَائِطُ الْحَصَانَةِ فِيهِ ، كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ ، وَلِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ لَهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي اشْتِرَاكِ الْإِسْلَامِ فِي إِحْصَانِهِ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَحِلُّ دِمُ امِرِئٍ مُسْلِمِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثِ : كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ ، أَوْ زِنًـا بَعْدَ إِحْصَانٍ ، أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ وَهَذَا زِنًـا بَعْدَ إِحْصَانٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهِ الْقَتْلَ . وَكَانَ تَحْرِيرُ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ قِيَاسًا فَنَقُولُ : لِأَنَّهُ زِنًـا بَعْدَ إِحْصَانٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَدُّهُ الرَّجْمَ كَالَّذِي لَمْ يَرْتَدَّ ، وَلِأَنَّهُ إِحْصَانٌ ثَبَتَ فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ الرِّدَّةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الرِّدَّةِ ، قِيَاسًا عَلَى حَصَانَةِ الْقَذْفِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْخَبَرِ فَلَا يَتَوَجَّهُ إِلَى الْمُسْلِمِ بَعْدَ الرِّدَّةِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُشْرِكٍ فَسَقَطَ . وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ فَغَيْرُ مُسْلِمٍ فِي أَصْلِهِ : لِأَنَّ الْكَافِرَ يَكُونُ عِنْدَنَا مُحْصَنًا قَبْلَ إِسْلَامِهِ ، وَهُوَ مُخَالِفٌ فِي بِنَائِهِ عَلَى أَصْلِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ اعْتِبَارِ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ ، فَجَمِيعُهَا شُرُوطٌ فِي الْحَصَانَةِ ، وَبِكَمَالِ الْحَصَانَةِ يَجِبُ الرَّجْمُ ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ . وَذَهَبَ شَاذٌّ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى أَنَّ شَرْطَ الْحَصَانَةِ وَاحِدٌ فِيهَا ، وَهُوَ الْإِصَابَةُ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ من شروط الإحصان ، وَالثَّلَاثَةُ الْبَاقِيَةُ وَهِيَ الْبُلُوغُ من شروط الإحصان وَالْعَقْلُ من شروط الإحصان وَالْحُرِّيَّةُ من شروط الإحصان ، شُرُوطُ وُجُوبِ الرَّجْمِ دُونَ الْحَصَانَةِ . وَهَذَا اخْتِلَافٌ مُؤَثِّرٌ فِي الصَّحِيحِ وَالْمَجْنُونِ وَالْعَبْدِ إِذَا أَصَابُوا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ ، ثُمَّ زِنَا الصَّبِيِّ بَعْدَ بُلُوغِهِ ، وَالْمَجْنُونِ بَعْدَ إِفَاقَتِهِ ، وَالْعَبْدِ بَعْدَ عِتْقِهِ ، فَمَنْ جَعَلَهَا مِنْ شُرُوطِ الْحَصَانَةِ أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْجَلْدَ دُونَ الرَّجْمِ حَتَّى يَسْتَأْنِفُوا ، وَالْإِصَابَةُ فِي النِّكَاحِ بَعْدَ كَمَالِهِمْ ، وَمَنْ جَعَلَهَا مِنْ شُرُوطِ الرَّجْمِ أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الرَّجْمَ بِالْإِصَابَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَبْلَ

كَمَالِهِمْ . وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ وَجْهٌ . وَإِذَا كَانَتِ الْإِصَابَةُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أَصْلًا فِي الْحَصَانَةِ لَمْ تُحْصَنِ الْإِصَابَةُ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ ، وَلَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ : لِأَنَّهَا إِصَابَةُ كَمَالٍ لِاعْتِبَارِهَا فِي كَمَالِ الْحَدِّ ، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهَا أَكْمَلَ أَسْبَابِهَا ، وَالنِّكَاحُ أَكْمَلُ مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : اخْتِصَاصُهُ بِالِاسْتِمْتَاعِ : لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَشْرَفُ مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ وَأَفْضَلُ : لِاجْتِمَاعِ الشَّرَائِعِ عَلَيْهِ وَاسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ بِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَا كَامِلَيْنِ بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ وَالْحُرِّيَّةِ ، فَيَتَحَصَّنَا مَعًا فِيهِ بِإِصَابَةِ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ ، إِذَا غَابَ بِهَا الْحَشَفَةُ فِي الْفَرْجِ ، سَوَاءٌ كَانَ عَقِيبَهَا إِنْزَالٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، فَأَيُّهُمَا زَنَا رُجِمَ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَا نَاقِصَيْنِ مَعًا : لِصِغَرٍ ، أَوْ جُنُونٍ ، أَوْ رِقٍّ ، فَلَا حَصَانَةَ بِهَذِهِ الْإِصَابَةِ مَا كَانَ النَّقْصُ بَاقِيًا ، فَإِنْ زَالَ النَّقْصُ فَفِي ثُبُوتِ الْحَصَانَةِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِصَابَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ كَامِلًا بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ وَالْحُرِّيَّةِ ، وَالزَّوْجَةُ نَاقِصَةً : لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ رِقٍّ ، فَيَثْبُتُ فِيهِ حَصَانَةُ الزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ ، فَإِنْ زَالَ نَقْصُ الزَّوْجَةِ فَفِي ثُبُوتِ حَصَانَتِهَا بِالْإِصَابَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَجْهَانِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ كَامِلَةً بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ وَالْحُرِّيَّةِ دُونَ الزَّوْجِ ، فَيُنْظَرُ فِي نَقْصِ الزَّوْجِ : فَإِنْ كَانَ بِرِقٍّ أَوْ جُنُونٍ تَحَصَّنَتْ بِهِ الزَّوْجَةُ دُونَ الزَّوْجِ . فَإِنْ زَالَ نَقْصُ الزَّوْجِ ، فَفِي ثُبُوتِ حَصَانَتِهِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إِصَابَتِهِ وَجْهَانِ . فَإِنْ كَانَ نَقْصُ الزَّوْجِ لِصِغَرٍ ، نُظِرَ فَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ لَا يُسْتَمْتَعُ بِإِصَابَتِهِ : لِطُفُولَتِهِ كَابْنِ ثَلَاثِ سِنِينَ أَوْ أَرْبَعٍ ، لَمْ يُحْصِنْهَا وَلَمْ يَتَحَصَّنْ بِهَا . وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُسْتَمْتَعُ بِمِثْلِهِ كَالْمُرَاهِقِ فَفِي تَحْصِينِهَا بِإِصَابَتِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : - وَبِهِ قَالَ فِي " الْإِمْلَاءِ " - لَا يُحْصِنُهَا وَلَا يَتَحَصَّنُ بِهَا : لِضَعْفِ إِصَابَتِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : - نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " - قَدْ حَصَّنَهَا وَإِنْ لَمْ يَتَحَصَّنْ بِهَا : لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْإِصَابَةِ تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقُوَّةُ وَالضَّعْفُ كَإِصَابَةِ الشَّيْخِ ، وَهَذَا شَرْحُ مَذْهَبِنَا فِي كَمَالِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ نَاقِصًا لَمْ يَتَحَصَّنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا . فَنَفَى الْحَصَانَةَ عَنِ الْكَامِلِ : لِانْتِفَائِهَا عَنِ النَّاقِصِ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ كَانَ النَّقْصُ بَرِقٍّ لَمْ يَتَحَصَّنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا . وَإِنْ كَانَ النَّقْصُ

بِصِغَرٍ تَحَصَّنَ الْكَامِلُ مِنْهُمَا . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْحَدِّ مُعْتَبَرًا بِنَفْسِهِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَصَانَةِ بِمَثَابَتِهِ مُعْتَبَرًا بِنَفْسِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ لَمْ يَخْلُ حَالُ الزَّانِيَيْنِ مِنْ خَمْسَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَا مُحْصَنَيْنِ فَيُرْجَمَانِ مَعًا ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الزَّانِي وَالزَّانِيَةُ عَلَى مَا سَنَصِفُهُ فِي الرَّجْمِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَا بِكْرَيْنِ فَيُجْلَدَانِ مَعًا ، عَلَى مَا سَنَصِفُهُ فِي الْجَلْدِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُحْصَنًا ، وَالْآخَرُ بِكْرًا ، فَيُرْجَمُ الْمُحْصَنُ مِنْهُمَا ، وَيُجْلَدُ الْبِكْرُ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَقْصُرَا عَنْ حُكْمِ الْمُحْصَنِ وَالْبِكْرِ بِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ يُزِيلُ الْقَلَمَ عَنْهُمَا ، فَلَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَيُعَزَّرُ الصَّبِيُّ مِنْهُمَا دُونَ الْمَجْنُونِ إِنْ كَانَ يُمَيِّزُ أَدَبًا ، كَمَا يُؤَدَّبُ فِي مَصَالِحِهِ حَتَّى لَا يَنْشَأَ عَلَى الْقَبَائِحِ . وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ : أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْحَدِّ إِمَّا مُحْصَنًا أَوْ بِكْرًا ، وَالْآخَرُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْحَدِّ إِمَّا صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا ، فَيُحَدُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِّ زَانِيًا كَانَ أَوْ زَانِيَةً ، وَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَمَّنْ لَيْسَ مَنْ أَهِلِهِ زَانِيًا كَانَ أَوْ زَانِيَةً ، وَلَا يَكُونُ سُقُوطُهُ عَنْ أَحَدِهِمَا مُوجِبًا لِسُقُوطِهِ عَنِ الْآخَرِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : سُقُوطُ الْحَدِّ عَنِ الزَّانِيَةِ لَا يُوجِبُ سُقُوطُهُ عَنِ الزَّانِي ، وَسُقُوطُهُ عَنِ الزَّانِي يُوجِبُ سُقُوطُهُ عَنِ الزَّانِيَةِ : فَيُحَدُّ الْعَاقِلُ إِذَا زَنَا بِالْمَجْنُونَةِ ، وَلَا تُحَدُّ الْعَاقِلَةُ إِذَا زَنَتْ بِمَجْنُونٍ احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ وَطْءَ الْمَجْنُونِ لَيْسَ بِزِنًا : لِأَنَّ مَنْ جَهِلَ تَحْرِيمَ الزِّنَا لَمْ يَكُنْ زَانِيًا ، وَالْمَجْنُونُ جَاهِلٌ بِتَحْرِيمِ الزِّنَا فَلَمْ يَكْ وَطْؤُهُ زِنًا ، وَالتَّمْكِينُ مِمَّا لَيْسَ بِزِنًـا لَا يَكُونُ زِنًـا ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ الْحَدُّ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْوَاطِئَ مَتْبُوعٌ : لِأَنَّهُ فَاعِلٌ . وَالْمَوْطُوءَةُ تَابِعَةٌ : لِأَنَّهَا مُمْكِنَةٌ . فَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنِ الْفَاعِلِ الْمَتْبُوعِ ، سَقَطَ عَنِ التَّابِعِ الْمُمْكِنِ : لِأَنَّ الْمَتْبُوعَ أَصْلٌ ، وَالتَّابِعَ فَرْعٌ ، فَاسْتَحَالَ ثُبُوتُ الْفَرْعِ مَعَ ارْتِفَاعِ أَصْلِهِ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنْ كُلَّ مَا وَجَبَ عَلَيْهَا بِوَطْئِهَا إِذَا مَكَّنَتْ عَاقِلًا ، وَجَبَ عَلَيْهَا بِوَطْئِهَا إِذَا مَكَّنَتْ مَجْنُونًا ، كَالْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ فِي وَطْءِ رَمَضَانَ . وَلِأَنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ عَنِ الْوَاطِئِ لِمَعْنًى يَخُصُّهُ ، لَا يُوجِبُ سُقُوطَهُ عَنِ الْمَوْطُوءَةِ ، كَالْمُسْتَأْمَنِ الْحَرْبِيِّ إِذَا زَنَا بِمُسَلِّمَةٍ يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ دُونَهُ . وَلِأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ لَوِ اخْتَصَّ بِالْمَوْطُوءَةِ لَمْ يَمْنَعْ وَجُوبُهَ الْحَدَّ عَلَى الْوَاطِئِ ، وَجَبَ إِذَا اخْتَصَّ بِالْوَاطِئِ أَنْ لَا يُمْنَعَ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ ، كَاعْتِقَادِ الشُّبْهَةِ . وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ حُكْمُ الْمَوْطُوءَةِ بِالْوَاطِئِ فِي حَقِّهِ الْحَدُّ إِذَا زَنَتِ الْحُرَّةُ بِعَبْدٍ

وَالثَّيِّبُ بِبَكْرٍ ، لَمْ يُعْتَبَرْ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ إِذَا زَنَتِ الْعَاقِلَةُ بِمَجْنُونٍ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : " إِنَّ وَطْءَ الْمَجْنُونِ لَيْسَ بِزِنَا " : فَهُوَ أَنَّ حُكْمَ الزِّنَا ثَابِتٌ فِيهِ : لِانْتِفَاءِ النَّسَبِ عَنْهُ ، وَلَوِ ارْتَفَعَ حُكْمُ الزِّنَا عَنْهُ لَحِقَ النَّسَبُ بِهِ ، وَإِنَّمَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ : لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ : " بِأَنَّ الْوَاطِئَ مَتْبُوعٌ " : فَهُوَ بَاطِلٌ بِصِفَةِ الْحَدِّ لِمَا جَازَ أَنْ تُرْجَمَ الْمَوْطُوءَةُ ، وَإِنْ جُلِدَ الْوَاطِئُ ، جَازَ أَنْ تُجْلَدَ الْمَوْطُوءَةُ وَإِنْ لَمْ يُجْلَدِ الْوَاطِئُ . فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَرْعٌ عَلَيْهِ الزِّنَا فِي مُسْتَيْقِظٍ وَنَائِمٍ ، فَإِنْ زَنَا رَجُلٌ بِنَائِمَةٍ حُدَّ دُونَهَا عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ كَزِنَا الْعَاقِلِ بِمَجْنُونَةٍ ، وَإِنِ اسْتَدْخَلَتِ الْمَرْأَةُ ذَكَرَ نَائِمٍ حد الزنا حُدَّتْ عِنْدَنَا ، وَلَمْ تُحَدَّ عِنْدَهُ ، كَالْعَاقِلَةِ إِذَا زَنَتْ بِمَجْنُونٍ اعْتِبَارًا بِسُقُوطِ الْحَدِّ عَنِ النَّائِمِ . وَمَا قَدَّمْنَاهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " ثُمَّ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا رُجِمَ الزَّانِي أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ غَيْرِهِ مِنَ الْأَمْوَاتِ فِي غَسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَدَفْنِهِ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ ، وَقُسِّمَ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ ، وَلَا يَمْنَعُ قَتْلُهُ فِي الْمَعْصِيَةِ مِنْ أَنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمَقْتُولِ قَوَدًا ، وَلَمْ يُكْرَهْ لِلْإِمَامِ الْحَاكِمِ بِرَجْمِهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ ، وَكَرِهَهَا مَالِكٌ لَهُ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ عَلَى مَاعِزٍ حِينَ رَجَمَهُ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ : حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى الَّتِي رَجَمَهَا مِنْ جُهَيْنَةَ - وَأَحْسَبُهَا الْغَامِدِيَّةَ - فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : تَرْجُمُهَا ثُمَّ تُصَلِّي عَلَيْهَا . فَقَالَ : لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ عَلَى سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ ، هَلْ وَجَدْتَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا . وَجَلَدَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسَ وَرَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَصَلَّى عَلَيْهَا . وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَا تُكْرَهُ لِغَيْرِ الْإِمَامِ فَلَمْ تُكْرَهْ لِلْإِمَامِ ، كَالصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ الزَّانِي . فَأَمَّا مَاعِزٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَأَخَّرَ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ لِعَارِضٍ ، وَيَكْفِي أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَحْضُرَ رَجْمَهُ وَيَتْرُكَ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا حَكَمَ الْإِمَامُ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الْحُكَّامِ بِرَجْمِ زَانٍ ، لَمْ يَلْزَمْهُ وَلَا شُهُودُ الزِّنَا حُضُورَ الرَّجْمِ ، سَوَاءٌ رَجَمَ بِبَيِّنَةٍ ، أَوْ إِقْرَارٍ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ رَجَمَ بِإِقْرَارٍ لَزِمَ حُضُورُ الْإِمَامِ أَوِ الْحَاكِمِ بِالرَّجْمِ . وَإِنْ رَجَمَ بِالْبَيِّنَةِ لَزِمَ حُضُورُ الشُّهُودِ دُونَ الْإِمَامِ : لِأَنَّ الْإِمَامَ أَخَصُّ بِهِ فِي الْإِقْرَارِ ، وَالشُّهُودُ أَخَصُّ بِهِ فِي الشَّهَادَةِ : لِجَوَازِ أَنْ يَرْجِعَ الشُّهُودُ إِنْ شَهِدُوا بِزُورٍ . وَدَلِيلُنَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ مَاعِزًا وَلَمْ يَحْضُرْهُ ، وَقَالَ : " يَا أُنَيْسُ اغْدُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا " وَلِأَنَّهَا إِقَامَةُ حَدٍّ فَلَمْ يَلْزَمْ حُضُورُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالْقَذْفِ ، وَلِأَنَّهَا إِفَاتَةُ نَفْسٍ فَلَمْ يَلْزَمْ فِيهِ حُضُورُهُمَا ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَلْزَمْ حُضُورُهُ فِي حَدِّ الْبِكْرِ لَمْ يَلْزَمْ حُضُورُهُ فِي حَدِّ الثَّيِّبِ ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الزَّانِيَيْنِ .

فَصْلٌ : فَإِنْ حَضَرَ الْإِمَامُ وَالشُّهُودُ الرَّجْمَ لَمْ يَجِبْ الِابْتِدَاءُ بِالرَّجْمِ عَلَى أَحَدٍ ، وَبَدَأَ بِهِ مَنْ شَاءَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ رُجِمَ بِإِقْرَارِهِ بَدَأَ بِرَجْمِهِ الْإِمَامُ ، ثُمَّ الشُّهُودُ ، ثُمَّ النَّاسُ . وَإِنْ رُجِمَ بِالْبَيِّنَةِ بَدَأَ بِرَجْمِهِ الشُّهُودُ ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ : احْتِجَاجًا بِأَنَّهُ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ . وَدَلِيلُنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَضَرَ رَجْمَ الْغَامِدِيَّةِ ، وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ أَنَّهُ بَاشَرَ بِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْهُ ، وَلَوْ فَعَلَ لَنُقِلَ . وَلِأَنَّهُ حَدٌّ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهِ الْمُبْتَدِئُ كَسَائِرِ الْحُدُودِ .

فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي صِفَةِ الرَّجْمِ

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي صِفَةِ الرَّجْمِ ] فَأَمَّا صِفَةُ الرَّجْمِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُسْتَرَ فِيهِ عَوْرَةُ الْمَرْجُومِ إِنْ كَانَ رَجُلًا ، وَيُسْتَرُ جَمِيعُ بَدَنِهَا إِنْ كَانَتِ امْرَأَةً . وَتُعْرَضُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ قَبْلَ رَجْمِهِ لِتَكُونَ خَاتِمَةَ أَمْرِهِ . وَإِنْ حَضَرَ وَقْتُ صَلَاةٍ أُمِرَ بِهَا ، وَإِنْ تَطَوُّعَ بِصَلَاةٍ مُكِّنَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ . وَإِنِ اسْتَسْقَى مَاءً سُقِيَ ، وَإِنِ اسْتَطْعَمَ طَعَامًا لَمْ يُطْعَمْ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَاءَ لِعَطَشٍ مُتَقَدِّمٍ وَالْأَكْلَ لِشِبَعٍ مُسْتَقْبَلٍ . وَلَا يُرْبَطُ وَلَا يُقَيَّدُ ، وَيُخَلَّى وَالِاتِّقَاءُ بِيَدِهِ . وَاخْتَارَ الْعِرَاقِيُّونَ : أَنْ يُحْفَرَ لَهُ حُفَيْرَةً يَنْزِلُ فِيهَا إِلَى وَسَطِهِ . وَهَذَا عِنْدَنَا غَيْرُ مُخْتَارٍ فِي رَجْمِ الرَّجُلِ ، سَوَاءً رُجِمَ بِشَهَادَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ . وَيَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ : لِتَأْخُذَهُ الْأَحْجَارُ مِنْ جَوَانِبِهِ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ فِي مَاعِزٍ

حِينَ رَجَمَهُ ، فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَتُحْفَرُ لَهَا إِنْ رُجِمَتْ بِالشَّهَادَةِ حُفَيْرَةٌ تَنْزِلُ فِيهَا إِلَى صَدْرِهَا : لِرِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ امْرَأَةً فَحَفَرَ لَهَا إِلَى الثَّنْدُوَةِ ، وَلِيَكُونَ ذَلِكَ أَسْتَرَ لَهَا وَأَصُونَ ، فَإِنْ رُجِمَتْ بِإِقْرَارِهَا فَفِي الْحَفْرِ لَهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُحْفَرُ لَهَا : لِيَكُونَ عَوْنًا لَهَا عَلَى هَرَبِهَا إِنْ رَجَعَتْ عَنْ إِقْرَارِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُحْفَرَ لَهَا تَغْلِيبًا لِحَقِّ صِيَانَتِهَا وَسِتْرِهَا ، قَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُحْفَرَ للْغَامِدِيَّةِ إِلَى الصَّدْرِ وَكَانَتْ مُقِرَّةً .

فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي صِفَةِ الْحَجَرِ فِي الرَّجْمِ

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي /1 L10395 صِفَةِ الْحَجَرِ فِي الرَّجْمِ /1 ] فَأَمَّا الْحَجَرُ الَّذِي يُرْجَمُ بِهِ فَالِاخْتِيَارُ أَنْ يَكُونَ مَلْءَ الْكَفِّ ، وَلَا يَكُونُ أَكْبَرَ مِنْهُ كَالصَّخْرَةِ فَتَقْتُلُهُ ، وَلَا يَكُونُ أَخَفَّ مِنْهُ كَالْحَصَاةِ فَيَطُولُ عَلَيْهِ . وَيَكُونُ مَوْقِفُ الرَّامِي مِنْهُ بِحَيْثُ لَا يَبْعُدُ عَلَيْهِ فَيُخْطِئُهُ ، وَلَا يَدْنُو مِنْهُ فَيُؤْلِمُهُ ، فَإِنْ هَرَبَ عِنْدَ مَسِّ الْأَحْجَارِ اتُّبِعَ إِنْ رُجِمَ بِالْبَيِّنَةِ ، وَلَا يُتْبَعُ إِنْ رُجِمَ بِالْإِقْرَارِ : لِأَنَّ مَاعِزًا هَرَبَ حِينَ أَخَذَتْهُ الْأَحْجَارُ فَاتُّبِعَ ، فَقِيلَ : إِنَّ عُمَرَ أَتْبَعَهُ فَرَمَاهُ بَلَحْيِ جَمَلٍ فَقَتَلَهُ ، وَقِيلَ : بَلْ لَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ وَقَدْ أَعْجَزَ أَصْحَابَهُ فَرَمَاهُ بِوَظِيفِ بَعِيرٍ فَقَتَلَهُ ، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ : هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ ، لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ قُبِلَتْ مِنْهُمْ وَلِأَنَّ رَجْمَهُ بِإِقْرَارٍ غَيْرِ مُتَحَتِّمٍ : لِأَنَّهُ يَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ وَهَرَبُهُ كَالرُّجُوعِ . وَالْأَوْلَى بِمَنْ حَضَرَ رَجْمُهُ أَنْ يَكُونَ عَوْنًا فِيهِ إِنْ رَجَمَ بِالْبَيِّنَةِ ، وَمُمْسِكًا عَنْهُ إِنْ رَجَمَ بِالْإِقْرَارِ : لِمَا ذَكَرْنَاهُ . وَجَمِيعُ بَدَنِهِ مَحَلٌّ لِلرَّجْمِ فِي الْمَقَاتِلِ وَغَيْرِ الْمَقَاتِلِ ، وَلَكِنْ يُخْتَارُ أَنْ يُتَوَقَّى الْوَجْهُ وَحْدَهُ : لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّقَاءِ الْوَجْهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ لَمْ يُحْصَنْ جُلِدَ مِائَةً وَغُرِّبَ عَامًا عَنْ بَلَدِهِ بِالسُّنَّةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ حَدَّ الْبِكْرِ الْجَلْدُ وَالتَّغْرِيبُ ، وَسُمِّيَ الْحَدُّ جَلْدًا لِوُصُولِهِ إِلَى الْجَلْدِ . وَلَهُ حَالَتَانِ حد الزاني غير المحصن : حُرٌّ ، وَعَبْدٌ : فَإِنْ كَانَ حُرًّا جُلِدَ مِائَةً ثُمَّ غُرِّبَ بَعْدِ الْجَلْدِ سَنَةً . فَأَمَّا الْجَلْدُ فَهُوَ بِسَوْطٍ مُعْتَدِلٍ لَا جَدِيدٍ وَلَا خَلِقٍ ، وَيُفَرَّقُ الضَّرْبُ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ : لِيَأْخُذَ كُلُّ عُضْوٍ حَظَّهُ مِنَ الْأَلَمِ كَمَا أَخَذَ حَظَّهُ مِنَ اللَّذَّةِ ، إِلَّا عُضْوَيْنِ يَكُفُّ عَنْ ضَرْبِهِمَا وَيُؤْمَرُ بِاتِّقَائِهِمَا :

أَحَدُهُمَا : الْوَجْهُ : لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا ضَرَبْتُمْ فَاتَّقُوا الْوَجْهَ . وَالثَّانِي : الْفَرْجُ : لِأَنَّ الْمَذَاكِيرَ قَاتِلَةٌ . فَأَمَّا الرَّأْسُ فَلَا يَلْزَمُ اتِّقَاؤُهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَلْزَمُ أَنْ يُتَّقَى وَهُوَ أَشْبَهُ : لِأَنَّ الضَّرْبَ عَلَيْهِ أَخْوَفُ . وَأَمَّا التَّغْرِيبُ فَيَشْتَمِلُ عَلَى زَمَانٍ وَمَكَانٍ ، فَأَمَّا الزَّمَانُ فَقَدْ قَدَّرَهُ الشَّرْعُ بِسَنَةٍ تَجْمَعُ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ . وَأَمَّا الْمَكَانُ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : إِلَى مَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَصَاعِدًا : لِأَنَّهُ حَدُّ السَّفَرِ الَّذِي يُقْصَرُ فِيهِ وَيُفْطَرُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ لَهُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي غُرِّبَ إِلَيْهِ أَهْلٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّهُ يُغَرَّبُ إِلَى حَيْثُ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْغُرْبَةِ ، وَتَلْحَقُهُ فِي الْمُقَامِ بِهِ مَشَقَّةٌ وَوَحْشَةٌ ، سَوَاءٌ قَصَرَ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةَ أَوْ لَمْ تُقْصَرْ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِتَغْرِيبِهِ خُرُوجُهُ عَنْ أُنْسِهِ بِالْأَهْلِ وَالْوَطَنِ إِلَى وَحْشَةِ الْغُرْبَةِ وَالِانْفِرَادِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْبَسَ فِي تَغْرِيبِهِ ، إِلَّا أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلزِّنَا وَإِفْسَادِ النَّاسِ ، فَيُحْبَسُ كَفًّا عَنِ الْفَسَادِ تَعْزِيرًا مُسْتَجَدًّا . وَمَئُونَتُهُ فِي غُرْبَتِهِ فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ كَأُجْرَةِ الْجَلَّادِ ، فَإِنْ أَعْوَزَ بَيْتَ الْمَالِ كَانَتْ فِي مَالِهِ كَمَا تَكُونُ فِيهِ أُجْرَةُ مُسْتَوْفِي الْحَدِّ مِنْهُ عِنْدَ الْإِعْوَازِ . فَأَمَّا نَفَقَتُهُ فِي زَمَانِ التَّغْرِيبِ فَعَلَى نَفْسِهِ وَمِنْ كَسْبِهِ ، وَلَا يُمْنَعُ مِنَ الِاكْتِسَابِ ، وَلَا أَنْ يُسَافِرَ مَعَهُ بِمَالٍ يَتَّجَرُ بِهِ أَوْ يُنْفِقُهُ . فَإِنْ أَعْوَزَهُ الْكَسْبُ فِي سَفَرِهِ كَانَ كَسَائِرِ الْفُقَرَاءِ .

فَصْلٌ : فَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَزِيدَ فِي مَسَافَةِ تَغْرِيبِهِ الزاني غير المحصن عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ جَازَ ، فَقَدَ غَرَّبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى الشَّامِ ، وَغَرَّبَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى مِصْرَ . وَإِنْ رَأَى أَنْ يَزِيدَ فِي زَمَانِ تَغْرِيبِهِ عَلَى السَّنَةِ الزاني غير المحصن لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ السَّنَةَ نَصٌّ ، وَالْمَسَافَةَ اجْتِهَادٌ . وَفِي أَوَّلِ السَّنَةِ فِي تَغْرِيبِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : مِنْ وَقْتِ إِخْرَاجِهِ مِنْ بَلَدِهِ : لِأَنَّهُ أَوَّلُ سَفَرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : بَعْدَ حُصُولِهِ فِي مَكَانِ التَّغْرِيبِ ، وَفِيهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ لِأُنْسِ الْوَطَنِ وَاعْتِزَالِ الْأَهْلِ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ حَدُّ التَّغْرِيبِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : بَعْدَ مَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِذَا جُعِلَ حَدًّا لِلتَّغْرِيبِ

فَصْلٌ : وَالْإِمَامُ فِي تَغْرِيبِهِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ الزاني غير المحصن : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُعَيِّنَ عَلَى الْبَلَدِ الَّذِي يُغَرَّبُ إِلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ الْمُقَامُ فِيهِ ، وَلَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ مِنْهُ ، وَيَصِيرُ لَهُ كَالْحَبْسِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يُعَيِّنَ لَهُ عَلَى الْبَلَدِ ، فَيَجُوزُ لَهُ إِذَا تَجَاوَزَ مَسَافَةَ التَّغْرِيبِ أَنْ يُقِيمَ فِي أَيِّ بَلَدٍ مِنَ الْبِلَادِ شَاءَ ، وَيَنْتَقِلُ إِلَى أَيِّ بَلَدٍ شَاءَ . فَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ التَّغْرِيبِ نَظَرَ : فَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ الَّذِي غُرِّبَ إِلَيْهِ مُعَيَّنًا لَمْ يَعُدْ إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ ، فَإِنْ عَادَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ عُزِّرَ كَمَا يُعَزَّرُ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْحَبْسِ بِغَيْرِ إِذْنٍ . وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ ، جَازَ أَنْ يَعُودَ بِإِذْنٍ وَغَيْرِ إِذْنٍ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَعُودَ إِلَّا بِإِذْنٍ . فَإِنْ عَادَ إِلَى وَطَنِهِ قَبْلَ السَّنَةِ عُزِّرَ وَأُخْرِجَ . وَبَنَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ مُقَدَّمِهِ ، وَلَمْ تُحْسَبْ مُدَّةُ مُقَامِهِ فِي وَطَنِهِ . وَلَوْ غَرَّبَ الْمَحْدُودُ نَفْسَهُ أَجْزَأَهُ ، وَلَوْ جَلَدَ نَفْسَهُ الزاني الغير محصن لَمْ يُجْزِئْهُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْحَدَّ حَقٌّ يُسْتَوْفَى مِنْهُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْفِيهِ ، وَالتَّغْرِيبُ انْتِقَالٌ إِلَى مَكَانٍ قَدْ وُجِدَ فِيهِ .

فَصْلٌ : وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُثْبِتَ فِي دِيوَانِهِ أَوَّلَ زَمَانِ تَغْرِيبِهِ الزاني الغير محصن : لِيَعْلَمَ بِإِثْبَاتِهِ اسْتِيفَاءَ حَدِّهِ . فَإِنْ لَمْ يُثْبِتْهُ وَادَّعَى الْمَحْدُودُ انْقِضَاءَ السَّنَةِ وَعَدِمَتِ الْبَيِّنَةُ فِيهِ ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمَحْدُودِ : لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الْمُسْتَرْعَاةِ ، وَيَحْلِفُ اسْتِظْهَارًا . وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ فِي زَمَانِ التَّغْرِيبِ مَا كَانَ يَلْزَمُهُ مِنْ نَفَقَاتِ زَوْجَاتِهِ وَأَوْلَادِهِ ، وَتَنْقَضِي بِهِ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ . وَإِنْ زَنَا فِي مُدَّةِ التَّغْرِيبِ حُدَّ وَغُرِّبَ عَنْ مَوْضِعِهِ عَامًا إِلَى مَسَافَةِ التَّغْرِيبِ ، وَإِلَى جِهَةٍ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَطَنِهِ مِثْلُ مَسَافَةِ التَّغْرِيبِ فَصَاعِدًا ، وَتَكُونُ بَقِيَّةُ التَّغْرِيبِ الْأَوَّلِ دَاخِلًا فِي التَّغْرِيبِ الثَّانِي : لِأَنَّ حُدُودَ الزِّنَا تَتَدَاخَلُ فِي الِاسْتِيفَاءِ .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الزَّانِي عَبْدًا أَوْ أَمَةً فَلَا رَجْمَ عَلَيْهِمَا ، وَإِنْ أُحْصِنَا بِنِكَاحٍ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحُرِّيَّةَ شَرْطٌ فِي الْإِحْصَانِ وَهِيَ مَعْدُومَةٌ فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ حَدَّهُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَدِّ الْحُرِّ ، وَالرَّجْمُ لَا يَنْتَصِفُ . وَإِذَا سَقَطَ الرَّجْمُ عَنْهُ ، فَحَدُّهُ خَمْسُونَ جَلْدَةً وَهِيَ نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [ النِّسَاءِ : 25 ] . فَأَمَّا التَّغْرِيبُ للعبد الزاني فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ :

أَحَدُهَا : يُغَرَّبُ سَنَةً كَالْحُرِّ ، وَإِنْ خَالَفَ الْحُرَّ فِي الْجَلْدِ : لِأَنَّ مَا اعْتُبِرَ فِيهِ الْحَوْلُ لَمْ يَتَبَعَّضْ كَالزَّكَاةِ وَالْجِزْيَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا تَغْرِيبَ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ : لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِسَيِّدِهِ ، وَأَنَّهُ فِي الْغُرْبَةِ أَرْفَهُ لِقِلَّةِ خِدْمَتِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يُغَرَّبُ نِصْفَ سَنَةٍ ، وَهَذَا أَصَحُّ : لِأَنَّ لَمَّا كَانَ التَّغْرِيبُ فِي الْحُرِّ تَبَعًا لِلْجَلْدِ ثُمَّ تَنَصَّفَ جَلْدُ الْعَبْدِ ، وَجَبَ أَنْ يَنْتَصِفَ تَغْرِيبُهُ ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا التَّغْرِيبِ أَنْ يَحُدَّهُ الْإِمَامُ أَوِ السَّيِّدُ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : إِنْ حَدَّهُ السَّيِّدُ لَمْ يُغَرِّبْهُ ، وَإِنْ حَدَّهُ الْإِمَامُ غَرَّبَهُ . وَهَذَا الْفَرْقُ لَا وَجْهَ لَهُ : لِأَنَّ الْحَدَّ مُسْتَوْفًى فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي حَقِّ السَّيِّدِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ مُسْتَوْفِيهِ كَالْجَلْدِ ، وَحَّدُّ الْأَمَةِ كَالْعَبْدِ . وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ وَالْمَكَاتَبُ ، وَمَنْ فِيهِ جُزْءٌ مِنَ الرِّقِّ وَإِنْ قَلَّ ، كَحَدِّ الْعَبِيدِ كَمَا كَانُوا فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ كَالْعَبِيدِ . وَمَئُونَةُ التَّغْرِيبِ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَنَفَقَتُهُ فِي زَمَانِ التَّغْرِيبِ عَلَى السَّيِّدِ ، فَإِنْ أَعْوَزَ بَيْتَ الْمَالِ فَمَئُونَةُ التَّغْرِيبِ عَلَى السَّيِّدِ كَالنَّفَقَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ أَقَرَّ مَرَّةً حُدَّ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أُنَيْسًا أَنْ يَغْدُوَ عَلَى امْرَأَةٍ فَإِنِ اعْتَرَفَتْ رَجَمَهَا . وَأَمَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَأْمُرَا بِعَدَدِ إِقْرَارِهِ . وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ الْإِمَامُ الْحُدُودَ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْإِقْرَارِ الَّذِي يَجِبُ بِهِ حَدُّ الزِّنَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَالثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ : أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِلَّا بِإِقْرَارٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى : لَا تَجِبُ إِلَّا بِإِقْرَارٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ سَوَاءٌ كَانَ فِي مَجْلِسٍ أَوْ فِي مَجَالِسَ : احْتِجَاجًا فِي اعْتِبَارِ الْأَرْبَعِ بِرِوَايَةِ أَبِي حَنِيفَةَ ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَرَّ بِالزِّنَا فَرَدَّهُ ، ثُمَّ عَادَ فَأَقَرَّ بِالزِّنَا فَرَدَّهُ ، ثُمَّ عَادَ فَأَقَرَّ بِالزِّنَا فَرَدَّهُ ، ثُمَّ عَادَ رَابِعَةً فَأَقَرَّ بِالزِّنَا ، فَسَأَلَ عَنْهُ قَوْمُهُ : هَلْ تُنْكِرُونَ مِنْ عَقْلِهِ شَيْئًا ؟ قَالُوا : لَا . فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ فِي مَوْضِعٍ قَلِيلِ الْحِجَارَةِ ، فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ ، فَانْطَلَقَ يَسْعَى إِلَى مَوْضِعٍ كَثِيرِ الْحِجَارَةِ فَرَجَمُوهُ

حَتَّى قُتِلَ فَلَّمَا أَمَرَ بِرَجْمِهِ فِي الرَّابِعَةِ دُونَ مَا تَقَدَّمَهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا هِيَ الْمُوجِبَةُ لِرَجْمِهِ ، وَأَنَّ الْأَرْبَعَ كُلَّهَا شُرُوطٌ فِيهِ . وَرَوَى عَامِرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : أَقْبَلَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا جَالِسٌ عِنْدَهُ ، حَتَّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَقَرَّ عِنْدَهُ بِالزِّنَا ، فَأَمَرَ بِطَرْدِهِ حَتَّى لَمْ يُرَ ، ثُمَّ عَادَ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَقَرَّ عِنْدَهُ بِالزِّنَا ، فَأَمَرَ بِطَرْدِهِ حَتَّى لَمْ يُرَ ، ثُمَّ عَادَ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَقَرَّ عِنْدَهُ بِالزِّنَا ، فَأَمَرَ بِطَرْدِهِ حَتَّى لَمْ يُرَ ، ثُمَّ عَادَ الرَّابِعَةَ ، قَالَ : فَنَهَضْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ : يَا هَذَا إِنَّكَ إِنْ أَقْرَرْتَ عِنْدَهُ الرَّابِعَةَ رَجَمَكَ ، قَالَ : فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَقَرَّ عِنْدَهُ بِالزِّنَا فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ . قَالُوا : فَقَدْ صَرَّحَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَشْهَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الرَّابِعَةَ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِرَجْمِهِ فَأَقَرَّهُ ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ يُثْبِتُ حَدَّ الزِّنَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ مِنْ شَرْطِهِ كَالشَّهَادَةِ ، وَلِأَنَّ الزِّنَا لَمَّا غَلُظَ بِزِيَادَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى سَائِرِ الشَّهَادَاتِ ، وَجَبَ أَنْ يُغَلَّظَ بِزِيَادَةِ الْإِقْرَارِ عَلَى سَائِرِ الْإِقْرَارَاتِ . وَدَلِيلُنَا : حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " يَا أُنَيْسُ اغْدُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا " ، وَلَمْ يُوَقِّتْ لَهُ فِي اعْتِرَافِهَا أَرْبَعًا ، فَغَدَا إِلَيْهَا فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهَا اعْتَرَفَتْ أَرْبَعًا ، فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِهِ بِاعْتِرَافِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ : لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَخِّرَ بَيَانَهُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ وَلَا يُبِيحُ رَجْمَهَا بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ . وَلِأَنَّهُ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ فَكَانَ إِجْمَاعًا . أَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَأَقَرَّ رَجُلٌ بَكَّرَ عِنْدَهُ بِالزِّنَا فَجَلَدَهُ مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا . وَأَمَّا عُمَرُ فَإِنَّ رَجُلًا أَتَاهُ فَقَالَ : إِنِ امْرَأَتِي زَنَتْ فَأَنْفَذَ أَبَا وَاقِدٍ اللِّيثِيَّ إِلَيْهَا ، فَقَالَ لَهَا : زَوْجُكِ قَدِ اعْتَرَفَ عَلَيْكِ بِالزِّنَا ، وَإِنَّكِ لَا تُؤَاخَذِينَ بِقَوْلِهِ : لِتَنْزِعَ ، فَلَمْ تَنْزِعْ ، فَأَمَرَ عُمَرُ بِرَجْمِهَا . وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّ مَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ التَّكْرَارُ كَسَائِرِ الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَلْزَمْ فِيهِ تَكْرَارُ الْإِنْكَارِ لَمْ يَلْزَمْ فِيهِ تَكْرَارُ الْإِقْرَارِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ ، وَلِأَنَّ رَجُلًا لَوْ قَذَفَ رَجُلًا بِالزِّنَا وَوَجَبَ عَلَيْهِ حَدُّ قَذْفِهِ فَاعْتَرَفَ الْمَقْذُوفُ مَرَّةً وَاحِدَةً صَارَ كَالْمُقِرِّ بِهِ أَرْبَعًا فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْ قَاذِفِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَصِيرَ كَالْأَرْبَعِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِهِ : لِأَنَّهُ لَا

يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ زَانِيًا وَفِي بَعْضِهَا غَيْرَ زَانٍ ، وَلِأَنَّهُ إِقْرَارٌ ثَبَتَ بِهِ حَدُّ الْقَذْفِ فَوَجَبَ أَنْ يُثْبِتَ بِهِ حَدُّ الزِّنَا كَالْأَرْبَعِ . وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ ضَرْبَانِ : حَقُّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَحَقٌّ لِلْآدَمِيِّ . وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يُعْتَبَرُ فِي الْإِقْرَارِ بِهِ التَّكْرَارُ ، فَكَانَ حَدُّ الزِّنَا مُلْحَقًا بِأَحَدِهِمَا ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُمَا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ " مَاعِزٍ " فِي إِقْرَارِهِ أَرْبَعًا ، فَمِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَقَّفَ عَنْ رَجْمِهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى اسْتِثْبَاتًا لِحَالِهِ وَاسْتِرَابَةً لِجُنُونِهِ : لِأَنَّهُ كَانَ قَصِيرًا أَعْضَدَ أَحْمَرَ الْعَيْنَيْنِ نَاثِرَ الشِّعْرِ ، أَقْبَلَ حَاسِرًا فَطَرَدَهُ تَصَوُّرًا لِجُنُونِهِ ، وَأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَفْضَحُ نَفْسَهُ وَيُتْلِفُهَا ، وَقَدْ قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبِدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِ وَلِذَلِكَ سَأَلَ قَوْمَهُ عَنْ حَالِهِ ، وَقَالَ : أَبَهَ جِنَّةٌ ؟ وَقَالَ : اسْتَنْكِهُوهُ . لِأَنَّهُ تَوَهَّمَهُ حِينَ لَمْ يَرَ بِهِ جِنَّةً أَنْ يَكُونَ سَكْرَانَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَرْبَعُ مُعْتَبَرًا لَكَانَ الْأَوَّلُ مُؤَثِّرًا ، وَلَمَا اسْتَجَازَ أَنْ يَطْرُدَهُ ، وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى حَقٌّ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ رَجَمَهُ بَعْدَ أَنِ اسْتَثْبَتَهُ فِي الْخَامِسَةِ ، وَقَالَ : " لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ لَعَلَّكَ لَمَسْتَ ؟ " قَالَ : بَلْ جَامَعْتُهَا ، قَالَ : " أَوْلَجْتَ ذَكَرَكَ فِي فَرْجِهَا ، كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ وَالرِّشَا فِي الْبِئْرِ ؟ " قَالَ : نَعَمْ . فَأَقَرَّ بِرَجْمِهِ فِي الْخَامِسَةِ ، وَلَيْسَتْ شَرْطًا بِإِجْمَاعٍ ، فَكَذَلِكَ مَا تَقَدَّمَهَا . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ خَبَرٌ خَالَفَ الْأُصُولَ ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ عِنْدَهُمْ إِذَا خَالَفَ الْأُصُولَ لَمْ يُعْمَلْ بِهِ ، وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " إِنَّكَ إِنْ أَقْرَرْتَ الرَّابِعَةَ رَجَمَكَ " فَلِأَنَّ حَالَهُ قَدْ وَضَحَتْ ، وَالِاسْتِرَابَةُ قَدِ ارْتَفَعَتْ ، فَصَارَتِ الرَّابِعَةُ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِزَوَالِ الِاسْتِرَابَةِ ، وَلَمْ تَكُنْ لِاسْتِكْمَالِ الْعَدَدِ : لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ جَلَدَ فِي أَيَّامِهِ وَلَمْ يَعْتَبِرْ عَدَدًا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الشَّهَادَةِ : فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهَا أَنَّهُ لَمَّا اعْتُبِرَ فِيهَا الْعَدَدُ فِي غَيْرِ الزِّنَا اعْتُبِرَ فِي الزِّنَا ، وَلَمَّا لَمْ يُعْتَبَرِ الْعَدَدُ فِي الْإِقْرَارِ بِغَيْرِ الزِّنَا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِزِيَادَةِ الشَّهَادَةِ فِيهِ تَغْلِيظًا : فَهُوَ أَنَّ الشَّهَادَةَ قَدْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْحُقُوقِ ، وَلَا تُوجِبُ اخْتِلَافَ الْإِقْرَارِ بِهَا ، فَكَذَلِكَ فِي الزِّنَا .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَا بِامْرَأَةٍ فَجَحَدَتِ الْمَرْأَةُ الزِّنَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ دُونَهَا .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ فِعْلَ الرَّجُلِ مَعَ فِعْلِ الْمَرْأَةِ وَطْءٌ وَاحِدٌ ، فَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ فِي جَنَبَتِهَا بِالْجُحُودِ سَقَطَ فِي جَنَبَتِهِ ، وَإِنْ أَقَرَّ لِعَدَمِ الْكَمَالِ : لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ إِلَّا فِي زِنًا كَامِلٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ الزِّنَا بِجُحُودِهَا وَإِقْرَارِهِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ وُجُودٍ وَعَدَمٍ ، فَصَارَ شُبْهَةٌ فِيهِ ، فَوَجَبَ إِسْقَاطُ الْحَدِّ بِهِ . وَدَلِيلُنَا : أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا أَقَرَّ بِالزِّنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، قَالَ : الْآنَ أَقْرَرْتُ أَرْبَعًا . فَبِمَنْ قَالَ : بِفُلَانَةٍ . فَلَمْ يَبْعَثْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا وَلَمْ يَسْأَلْهَا . وَلَوْ كَانَ إِقْرَارُهَا شَرْطًا فِي وُجُوبِ حَدِّهِ وَإِنْكَارُهَا مُوجِبًا لِسُقُوطِهِ ، لَكَفَّ عَنْ رَجْمِهِ إِلَّا بَعْدَ سُؤَالِهَا . وَرَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ أَنَّ رَجُلًا أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَا بِامْرَأَةٍ ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا فَجَحَدَتْ ، فَحُدَّ الرَّجُلُ . وَهَذَا نَصٌّ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا حَدَّهُ لِلْقَذْفِ . قِيلَ : حَدُّ الْقَذْفِ لَهَا لَا يَسْتَحِقُّ إِلَّا بِمُطَالَبَتِهَا ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهَا طَالَبَتْ ، فَصَارَ مَحْمُولًا عَلَى حَدِّ الزِّنَا دُونَ الْقَذْفِ . وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّهُ لَيْسَ فِي جُحُودِهَا أَكْثَرُ مِنْ عَدَمِ إِقْرَارِهَا بِالزِّنَا ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَدِّ عَنْهُ ، كَالسُّكُوتِ إِذَا لَمْ يَجْحَدْ وَلَمْ تُقِرَّ . وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَمْنَعْ سُكُوتُهُ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى غَيْرِهِ ، لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ جُحُودُهُ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِهَا . وَلِأَنَّ جُحُودَهَا لَوْ كَانَ مُسْقِطًا لِلْحَدِّ عَنْهُ ، لَوَجَبَ إِذَا كَانَتْ غَائِبَةً أَلَّا يَحُدَّ حَتَّى تَحْضُرَ : لِجَوَازِ أَنْ تَجْحَدَ فَيَسْقُطَ الْحَدُّ عَنْهُ ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَعْجِيلِ حَدِّهِ قَبْلَ قُدُومِهَا وَسُؤَالِهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِقْرَارَهَا وَجُحُودَهَا سَوَاءٌ فِي حَقِّهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ : " بِأَنَّهُ وَطْءٌ وَاحِدٌ " : فَهُوَ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ وَطْئًا وَاحِدًا فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمُهُ فِي جَنَبَةِ أَحَدِهِمَا ، وَإِنْ سَقَطَ فِي جَنَبَةِ الْآخَرِ ، كَمَا لَوْ كَانَ عَاقِلًا ، وَهِيَ مَجْنُونَةٌ أَوْ كَبِيرًا وَهِيَ صَغِيرَةٌ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ أَنَّ سُقُوطَهُ فِي جَنَبَةِ أَحَدِهِمَا شُبْهَةٌ فَهُوَ : أَنَّهَا شُبْهَةٌ فِي حَقِّهَا دُونَ حَقِّهِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَدِّ عَنْهُ ، كَمَا لَوْ أَكْرَهَهَا عَلَى الزِّنَا لَمْ يَكُنْ سُقُوطُ الْحَدِّ عَنْهَا مُوجِبًا لِسُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهُ . وَبَنَى أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : إِذَا زَنَا النَّاطِقُ بِخَرْسَاءَ ،

قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهَا : لِأَنَّهُ لَا يَجْعَلُ إِشَارَتَهَا بِالزِّنَا إِقْرَارًا ، فَتَصِيرُ كَالْجَاحِدَةِ . وَعِنْدَنَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا إِنْ أَشَارَتْ بِالْإِقْرَارِ ، وَكَذَلِكَ الْأَخْرَسُ إِذَا أَشَارَ بِالْإِقْرَارِ بِالزِّنَا حُدَّ . وَقَدْ مَضَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ " الْإِقْرَارِ " ، ثُمَّ يُقَالُ لِأَبِي حَنِيفَةَ : لَيْسَ فِي خَرَسِهَا أَكْثَرُ مِنْ سُكُوتِهَا ، وَسُكُوتُهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ، كَذَلِكَ خَرَسُهَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَتَى رَجَعَ تُرِكَ ، وَقَعَ بِهِ بَعْضُ الْحَدِّ أَوْ لَمْ يَقَعْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا رَجَعَ الْمُقِرُّ بِالزِّنَا عَنْ إِقْرَارِهِ ، قُبِلَ رُجُوعُهُ وَسَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ . وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ ، سَوَاءٌ وَقَعَ بِهِ بَعْضُ الْحَدِّ أَوْ لَمْ يَقَعْ . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَمَالِكٌ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ، وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ : لَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ ، سَوَاءً وَقَعَ بِهِ الْحَدُّ أَوْ لَمْ يَقَعْ . وَقَالَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ : يُقْبَلُ رُجُوعُهُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي حَدِّهِ ، وَلَا يُقْبَلُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ ، فَإِنَهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا تَأْثِيرَ لِلرُّجُوعِ بَعْدَ إِبْدَاءِ الصَّفْحَةِ . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِرُجُوعِهِ قِيَاسًا عَلَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبَهَاتِ وَرُجُوعُهُ شُبْهَةٌ : لِاحْتِمَالِ صِدْقِهِ . وَلِأَنَّ مَاعِزًا لَمَّا هَرَبَ مِنْ حَرِّ الْأَحْجَارِ وَتَبَعُوهُ حَتَّى قَتَلُوهُ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ لَعَلَّهُ أَنْ يَتُوبَ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ " . فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِرُجُوعِهِ تَأْثِيرٌ لَمْ يُنْدَبْ إِلَى تَرْكِهِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِرَجْمِهِ . وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَقَرَّ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالزِّنَا ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ ، فَتَرَكَهُ وَقَالَ : لَأَنْ أَتْرُكُ حَدًّا بِالشُّبْهَةِ أَوْلَى مِنْ أَنْ أُقِيمَ حَدًّا بِالشُّبْهَةِ . وَوَافَقَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مِثْلِ هَذَا ، وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ ، فَكَانَ إِجْمَاعًا . وَلِأَنَّهُ حَدٌّ لِلَّهِ تَعَالَى ثَبَتَ بِقَوْلِهِ ، فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ بِرُجُوعِهِ كَالرِّدَّةِ ، وَلِأَنَّ مَا ثَبَتَ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْقَوْلِ يَجِبُ أَنْ يَسْقُطَ بِالْقَوْلِ قِيَاسًا عَلَى رُجُوعِ الشُّهُودِ .

فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فِي " إِبْدَاءِ الصَّفْحَةِ " : فَالرَّاجِعُ غَيْرُ مُبْدٍ لِصَفْحَتِهِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُبْدِئًا إِذَا قَامَ عَلَى إِقْرَارِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ : فَمِنْ وَجْهَيْنِ : هُمَا فَرْقٌ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْجَمْعِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى تُدْرَأُ بِالشُّبَهَاتِ وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ لَا تُدْرَأُ بِهَا . وَالثَّانِي : هُوَ أَنَّ عَلَيْهِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ أَنْ يُقِرَّ بِهَا ، وَكَذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ فِيهَا ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا التَّوْبَةُ مِنْهَا ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إِلَى أَنْ لَا يُقِرَّ بِهَا ، فَلِذَلِكَ قُبِلَ رُجُوعُهُ فِيهَا . وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ ، عَنِ ابْنِ هَزَّالٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : وَيْحَكَ يَا هَزَّالُ ، لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ .

فَصْلٌ بيان أقسام الحدود

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا ، فَالْحُدُودُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةِ . وَالثَّانِي : مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمَحْضَةِ . وَالثَّالِثُ : مَا كَانَ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ . فَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةُ : فَحَدُّ الزِّنَا ، وَقَتْلُ الرِّدَّةِ ، وَحَدُّ شُرْبِ الْخَمْرِ ، فَإِذَا وَجَبَتْ بِالْإِقْرَارِ ، سَقَطَتْ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ . وَلَوْ وَجَبَتْ بِالشَّهَادَةِ ، لَمْ تَسْقُطْ بِرُجُوعِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَسَقَطَتْ بِرُجُوعِ الشُّهُودِ . فَإِنِ اجْتَمَعَ فِيهَا الْإِقْرَارُ بِهَا وَالشَّهَادَةُ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ تَخْتَصُّ إِقَامَتُهَا بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالشَّهَادَةِ ؟ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَخْتَصُّ إِقَامَةُ الْحَدِّ فِيهَا بِالشَّهَادَةِ دُونَ الْإِقْرَارِ : لِأَنَّهَا أَغْلَظُ . فَعَلَى هَذَا : إِنْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تَخْتَصُّ إِقَامَتُهَا بِالْإِقْرَارِ دُونَ الشَّهَادَةِ : لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مَعَ الِاعْتِرَافِ مُطَّرَحَةٌ . فَعَلَى هَذَا : لَوْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ ، وَالْأَصَحُّ مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ عِنْدِي أَنْ يُنْظَرَ فِي اجْتِمَاعِهِمَا ، فَإِنْ تَقَدَّمَ الْإِقْرَارُ عَلَى الشَّهَادَةِ كَانَ وُجُوبُ الْحَدِّ بِالْإِقْرَارِ وَسَقَطَ بِالرُّجُوعِ ، وَإِنْ تَقَدَّمَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى الْإِقْرَارِ كَانَ وُجُوبُ الْحَدِّ

بِالشَّهَادَةِ وَلَمْ يَسْقُطْ بِالرُّجُوعِ : لِأَنَّ وُجُوبَهُ مَا سَبَقَهَا فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ مَا تُعْقِبُهُ ، وَعَلَى الْوُجُوهِ كُلِّهَا لَا يُسْقِطُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَذَّبَ الشُّهُودَ حُدَّ بِشَهَادَتِهِمْ ، وَإِنْ صَدَّقَهُمْ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ ، فَلَمْ يُحَدُّ بِشَهَادَتِهِمْ وَلَا بِإِقْرَارِهِ ، قَالَ : لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى مُقِرٍّ فَسَقَطَتْ ، وَالْإِقْرَارُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ حَتَّى يَتَكَرَّرَ أَرْبَعًا . وَهَذَا مِمَّا يَدْفَعُهُ الْمَعْقُولُ أَنْ يَجِبَ الْحَدُّ عَلَى مُنْكَرٍ وَيَسْقُطَ عَنْ مُقِرٍّ ، وَإِنْ بَنَاهُ عَلَى أَصْلٍ ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ أَصْلِهِ . وَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ الْمَحْضَةُ : فَالْقِصَاصُ ، وَحَدُّ الْقَذْفِ ، فَإِذَا وَجَبَ بِالْإِقْرَارِ لَمْ يَسْقُطْ بِالرُّجُوعِ - لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ بَيْنَهُمَا - إِلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ فَيَسْقُطَ بِالتَّصْدِيقِ ، دُونَ الرُّجُوعِ . وَأَمَّا الْحُقُوقُ الْمُشْتَرَكَةُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ اللَّهِ وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ : فَهِيَ السَّرِقَةُ ، يَجِبُ فِيهَا الْقَطْعُ وَهُوَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الْمَحْضَةِ ، وَغُرْمُ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ وَهُوَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمَحْضَةِ . فَإِذَا أَوْجَبَ بِالْإِقْرَارِ لَمْ يَسْقُطِ الْغُرْمُ بِالرُّجُوعِ : لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ . وَفِي سُقُوطِ الْقَطْعِ بِالرُّجُوعِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَسْقُطُ : لِاخْتِصَاصِهِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى . وَالثَّانِي : لَا يَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ : لِاقْتِرَانِهِ بِمَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الرُّجُوعُ .

فَصْلٌ الْأَلْفَاظُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي رُجُوعِ الْمُقِرِّ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا

فَصْلٌ : [ /1 L10329 الْأَلْفَاظُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي رُجُوعِ الْمُقِرِّ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا /1 ] فَأَمَّا مَا يَكُونُ بِهِ رَاجِعًا فِي إِقْرَارِهِ فَهُوَ الْقَوْلُ ، وَذَلِكَ بِإِحْدَى ثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ : إِمَّا أَنْ يَقُولَ : كَذَبْتُ فِي إِقْرَارِي . أَوْ يَقُولُ : لَمْ أَزْنِ . أَوْ يَقُولُ : قَدْ رَجَعْتُ عَنْ إِقْرَارِي . فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ يَكُونُ رُجُوعًا صَرِيحًا ، فَإِنْ قَالَ : لَا تَحُدُّونِي . لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا صَرِيحًا : لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْعَفْوَ أَوِ الْإِنْظَارَ ، وَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ وَلَا الْإِنْظَارُ لَهُ ، إِلَّا لِعُذْرٍ يُنْظَرُ لِأَجَلِهِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ جِنَّةٍ أَوْ قَضَاءِ دَيْنٍ ، فَيُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ الْكَفِّ عَنْهُ ، فَإِذَا بَيَّنَ عَنْ مُرَادِهِ عُمِلَ عَلَيْهِ وَحُكِمَ بِمُوجِبِهِ . وَلَوْ قَالَ : لَا حَدَّ عَلَيَّ . كَانَ أَقْرَبَ إِلَى صَرِيحِ الرُّجُوعِ مَعَ احْتِمَالٍ فِيهِ ، فَيُسْأَلُ عَنْهُ . فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِالرُّجُوعِ وَلَكِنَّ هَرَبَ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَقُومُ هَرَبُهُ مَقَامَ رُجُوعِهِ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَقُومُ مَقَامَهُ وَيَكُونُ رُجُوعًا : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي مَاعِزٍ حِينَ هَرَبَ مِنَ الْأَحْجَارِ : " هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ ، لَعَلَّهُ أَنْ يَتُوبَ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ " .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَكُونُ رُجُوعًا لِاحْتِمَالِهِ ، وَلَكِنْ يُسْأَلُ عَنْ هَرَبِهِ بَعْدَ الْإِمْسَاكِ عَنْهُ لِاحْتِمَالِهِ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَرَّمَ قَاتِلَ مَاعِزٍ بَعْدَ هَرَبِهِ دِيَتِهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ مَا جَعَلْنَاهُ رُجُوعًا صَرِيحًا بَعْدَ الْإِقْرَارِ أَوْجَبْنَا بِهِ ضَمَانَ النَّفْسِ إِنْ قُتِلَ بَعْدَهُ ، وَكُلُّ مَا لَمْ نَجْعَلْهُ رُجُوعًا صَرِيحًا لَمْ نُوجِبْ لَهُ بِهِ الضَّمَانَ .

مَسْأَلَةٌ لَا يُقَامُ حَدُّ الْجَلْدِ عَلَى حُبْلَى وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ الْمُدْنَفِ وَلَا فِي يَوْمٍ حَرُّهُ أَوْ بَرْدُهُ مُفْرِطٌ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يُقَامُ حَدُّ الْجَلْدِ عَلَى حُبْلَى ، وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ الْمُدْنَفِ ، وَلَا فِي يَوْمٍ حَرُّهُ أَوْ بَرْدُهُ مُفْرِطٌ ، وَلَا فِي أَسْبَابِ التَّلَفِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا أُخِّرَ مَعَ وُجُودِ الْأَسْبَابِ الْقَاتِلَةِ ، وَهِيَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : حَبَلٌ يَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ ، وَمَرَضٌ يَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ . فَأَمَّا الْحَبَلُ : فَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْمَحْدُودَةُ حُبْلَى حَامِلًا بِوَلَدٍ ، فَهُوَ مَانِعٌ مِنْ جَلْدِهَا كَمَا هُوَ مَانِعٌ مِنْ رَجْمِهَا ، سَوَاءٌ كَانَ حَمْلُهَا مِنْ زِنًا أَوْ حَلَالٍ : لِأَنَّ جَلْدَ الْحَامِلِ مُفْضٍ إِلَى تَلَفِهَا ، وَتَلَفِ حَمْلِهَا ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مَحْظُورٌ . وَلِأَنَّ عَلِيًّا قَالَ لِعُمَرَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَقَدْ أَمَرَ بِحَدِّ زَانِيَةٍ حَامِلٍ : إِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا . فَرَدَّهَا وَقَالَ : لَوْلَا عَلِيٌّ لَهَلَكَ عُمَرُ . فَإِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا وَهِيَ فِي نِفَاسِهَا ، فَإِنْ أَمِنَ مِنْ تَلَفِهَا فِيهِ جُلِدَتْ ، وَإِنْ خِيفَ مِنْ تَلَفِهَا فِيهِ أُمْهِلَتْ . وَرَوَى أَبُو جَمِيلَةَ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، قَالَ : فَجَرَتْ جَارِيَةٌ لِآلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ لِي : يَا عَلِيُّ انْطَلِقْ فَأَقِمِ الْحَدَّ عَلَيْهَا . فَأَتَيْتُهَا فَوَجَدْتُهَا يَسِيلُ دَمُهَا لَا يَنْقَطِعُ ، فَعُدْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي وَجَدْتُ دَمَهَا يَسِيلُ لَا يَنْقَطِعُ ، فَقَالَ : دَعْهَا حَتَّى يَنْقَطِعَ دَمُهَا ، ثُمَّ اجْلِدْهَا ، وَأَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ . وَأَمَّا الْمَرَضُ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ كَالسُّلِّ وَالْفَالِجِ ، فَيَكُونُ فِي النِّضْوِ عَلَى مَا سَيَأْتِي . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَرْجُوَّ الزَّوَالِ كَالْحُمَّى وَالصُّدَاعِ ، فَيُؤَخَّرَ الْمَحْدُودُ فِيهِ حَتَّى يَبْرَأَ مِنْ مَرَضِهِ : لِأَنَّ جَلْدَهُ فِي الْمَرَضِ الزاني غير المحصن مُفْضٍ إِلَى تَلَفِهِ . وَلَيْسَ يَخْلُو حَدُّهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ . إِمَّا أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّ الْأَصِحَّاءِ ، أَوْ حَدُّ الْمَرْضَى ، أَوْ يُؤَخَّرُ حَتَّى يَبْرَأَ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّ الْأَصِحَّاءِ : لِإِفْضَائِهِ إِلَى تَلَفِهِ .

وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّ الْمَرْضَى : لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّ الْأَصِحَّاءِ ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُؤَخَّرَ إِلَى صِحَّتِهِ . وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : وَهُوَ الْمُخْتَصُّ بِالزَّمَانِ فَهُوَ شَأْنُ إِفْرَاطِ الْحَرِّ وَإِفْرَاطِ الْبَرْدِ : لِأَنَّ الْجَلْدَ فِيهِمَا مُفْضٍ إِلَى التَّلَفِ . وَالْمَقْصُودُ بِالْجَلْدِ فى الحدود الرَّدْعُ وَالزَّجْرُ دُونَ التَّلَفِ . فَيُؤَخَّرُ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ إِلَى اعْتِدَالِ الْهَوَاءِ ، وَفِي شِدَّةِ الْبَرْدِ إِلَى اعْتِدَالِهِ ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمَحْدُودُ فِي بِلَادِ الْحَرِّ الَّتِي لَا يَسْكُنُ حَرُّهَا ، أَوْ فِي بِلَادِ الْبَرْدِ الَّتِي لَا يَقِلُّ بَرْدُهَا ، لَمْ يُؤَخَّرْ حَدُّهُ وَلَمْ يُنْقَلْ إِلَى الْبِلَادِ الْمُعْتَدِلَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَأْخِيرِ الْحَدِّ وَلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ . وَقُوبِلَ إِفْرَاطُ الْحَرِّ وَإِفْرَاطُ الْبَرْدِ بِتَخْفِيفِ الضَّرْبِ حَتَّى يَسْلَمَ فِيهِ مِنَ الْقَتْلِ ، كَمَا نَقُولُهُ فِي الْمَرَضِ الْمُلَازِمِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا يُوجِبُ تَأْخِيرَ جَلْدِهِ فَلَمْ يُؤَخَّرْ وَجَلْدُهُ فِيهِ ، فَإِنْ سَلِمَ مِنَ التَّلَفِ فَقَدْ أَسَاءَ فِيمَا فَعَلَ وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ صَدَرَ عَنْهُ تَلَفٌ فِيهِ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتْلَفَ غَيْرُ الْمَحْدُودِ كَالْحَامِلِ إِذَا جُلِدَتْ ، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا ، فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى مَنْ جَلَدَهَا ، كَمَا قَدْ ضَمِنَ عُمَرُ جَنِينَ الْمَرْأَةِ حِينَ أَجْهَضَتْهُ مِنْ رَهْبَةِ رِسَالَتِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَتْلَفَ الْمَحْدُودُ ، فَفِي وُجُوبِ ضَمَانِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُ دِيَتَهُ : لِتَعَدِّيهِ بِالْوَقْتِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَضْمَنُ دِيَتَهُ : لِحُدُوثِهِ عَنْ جَلْدٍ مُسْتَحَقٍّ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيُرْجَمُ الْمُحْصَنُ فِي كُلِّ ذَلِكَ ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً حُبْلَى فَتُتْرَكَ حَتَّى تَضَعَ وَيُكْفَلَ وَلَدُهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُرْجَمَ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ : لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ غَامِدٍ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : إِنِّي زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي . فَقَالَ : ارْجِعِي . فَرَجَعَتْ ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ ، فَقَالَتْ : لَعَلَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزًا ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَحُبْلَى . فَقَالَ لَهَا : ارْجِعِي حَتَّى تَلِدِي . فَرَجَعَتْ ، فَلَمَّا وَلَدَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ . فَقَالَتْ : قَدْ وَلَدْتُهُ . فَقَالَ : ارْجِعِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ [ . . . . ] وَفِي يَدِهِ شَيْءٌ يَأْكُلُ ، فَأَمَرَ بِالصَّبِيِّ فَدُفِعَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ وَلِأَنَّ عَلِيًّا قَالَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ أَمَرَ بِرَجْمِ حَامِلٍ : " إِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا " فَرَدَّهَا ، وَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ مِثْلَ ذَلِكَ ، فَإِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا أَمْسَكَ عَنْهَا حَتَّى تُرْضِعَ وَلَدَهَا اللِّبَنَ الَّذِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ فِي حِفْظِ حَيَاتِهِ ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي مُرْضِعِ الْوَلَدِ بَعْدَ اللِّبَنِ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ ولد الزنا :

أَحَدُهَا : أَنْ يُوجَدَ وَيَتَعَيَّنَ ، فَيُسَلَّمَ الْوَلَدُ إِلَى مُرْضِعَتِهِ وَتُرْجَمُ الْأُمُّ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يُوجَدَ لِرِضَاعِهِ غَيْرُ الْأُمِّ ، فَيُؤَخَّرُ رَجْمُهَا حَتَّى تُرْضِعَهُ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ثُمَّ تُرْجَمَ : لِأَنَّنَا لَمَّا حَفِظْنَا حَيَاتَهُ حَمْلًا ، فَأَوْلَى أَنْ نَحْفَظَهَا وَلِيدًا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَعْلَمَ وُجُودَ الْمُرْضِعِ وَلَكِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ ، فَفِي جَوَازِ رَجْمِهَا قَبْلَ تَعْيِينِهِ وَدَفْعِهِ إِلَى الْمُرْضِعِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ رَجْمُهَا : لِأَنَّ الْمُرْضِعَ مَوْجُودٌ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ حَتَّى يُسَلَّمَ إِلَى الْمُرْضِعِ ثُمَّ تُرْجَمَ . فَأَمَّا غَيْرُ الْحَامِلِ مِنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ إِذَا كَانُوا مَرْضَى ، أَوْ فِي حَرٍّ مُفْرِطٍ ، أَوْ بَرْدٍ مُفْرِطٍ ، فَفِي تَعْجِيلِ رَجْمِهِمْ مَعَ بَقَاءِ الْمَرَضِ غَيْرُ الْحَامِلِ مِنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ وَفَرْطِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ . أَحَدُهَا : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنْ يُعَجَّلَ الرَّجْمُ وَلَا يُؤَخَّرَ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْقَتْلُ بِخِلَافِ الْمَجْلُودِ ، وَسَوَاءٌ رُجِمَ بِإِقْرَارٍ أَوْ شَهَادَةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُؤَخِّرُ رَجْمُهُ ، وَلَا يُعَجَّلُ حَتَّى يَبْرَأَ مِنْ مَرَضِهِ وَيَعْتَدِلَ الْحَرُّ وَالْبَرْدُ ، سَوَاءٌ رُجِمَ بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ : لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ إِقْرَارِهِ ، وَيَرْجِعَ الشُّهُودُ فِي الشَّهَادَةِ ، فَلَا تَعْجِيلَ فِي زَمَانِ التَّوَجُّهِ حَتَّى يُمْكِنَ اسْتِدْرَاكُ مَا يَمْنَعُ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يُؤَخَّرَ إِنْ رُجِمَ بِالْإِقْرَارِ وَلَا يُؤَخَّرَ إِنْ رُجِمَ بِالشَّهَادَةِ : لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الْمُقِرِّ رُجُوعُهُ : لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَى الرُّجُوعِ ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الشُّهُودِ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ : لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَنْدُوبِينَ إِلَى الرُّجُوعِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ كَانَ الْبِكْرُ نِضْوَ الْخَلْقِ إِنْ ضُرِبَ بِالسَّوْطِ تَلِفَ ، ضُرِبَ بِإِثْكَالِ النَّخْلِ اتِّبَاعًا لِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فِي مِثْلِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا كَانَ حَدُّ النِّضْوِ الرَّجْمُ ، فَإِنَّهُ يُرْجَمُ لِوَقْتِهِ : لِأَنَّهُ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ وَهُوَ فِي وُجُوبِ الرَّجْمِ كَمَيَّتِهِ . وَإِنْ كَانَ حَدُّهُ الْجَلْدَ ، وَهُوَ نِضْوُ الْخَلْقِ ضَعِيفُ التَّرْكِيبِ ، وَإِنْ كَانَ سَلِيمَ الْخِلْقَةِ ، فَحَدَثَ بِهِ مَرَضٌ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ فَأَنْهَكَهُ حَتَّى صَارَ بِمَنْزِلَةٍ إِنْ نَالَهُ أَلَمُ الضَّرْبِ أَتْلَفَهُ جلد الزاني ، فَهُوَ وَالْمَخْلُوقُ كَذَلِكَ سَوَاءٌ فِي الْجَلْدِ إِذَا زَنَيَا . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ جَلْدِهِمَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ يَعْدِلُ عَنْ جَلْدِهِ بِالسَّوْطِ إِلَى إِثْكَالِ النَّخْلِ ، فَيَجْمَعُ مِنْهَا مِائَةَ شِمْرَاخٍ يُضْرَبُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي جَلْدِهِ السَّوْطُ وَلَا الْعَدَدُ .

وَالثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ : أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي جَلْدِهِ السَّوْطُ وَالْعَدَدُ كَغَيْرِهِ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ السَّوْطُ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَدُ ، فَيُجْمَعُ مِائَةُ سَوْطٍ وَيُضْرَبُ بِهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً . وَاسْتَدَلَّ مَنْ جَعَلَهُ كَغَيْرِهِ بِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [ النُّورِ : 2 ] . وَدَلِيلُنَا : رِوَايَةُ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ مُقْعَدًا أَسْوَدَ فِي جِوَارِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ زَنَا فَأَحْبَلَ ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجْلَدَ بِأَثْكَالِ النَّخْلِ . وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ اشْتَكَى حَتَّى ضَنِيَ وَعَادَ جِلْدُهُ عَلَى عَظْمِهِ ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ جَارِيَةٌ لِبَعْضِهِمْ فَهَشَّ لَهَا فَوَقَعَ عَلَيْهَا ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ رِجَالُ قَوْمِهِ يَعُودُونَهُ أَخْبَرَهُمْ ، وَقَالَ : اسْتَفْتَوْا لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ . وَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : مَا رَأَيْنَا أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بِهِ مِنَ الضُّرِّ مِثْلَ مَا بِهِ ، مَا هُوَ إِلَّا جِلْدٌ وَعَظْمٌ . فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذُوا مِائَةَ شِمْرَاخٍ فَيَضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً . وَهَذَا نَصٌّ فِي هَذَا الْبَابِ ، وَبِمِثْلِ هَذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ زَوْجَتَهُ مِائَةً ، فَقَالَ : وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ [ ص : 44 ] حَكَى الشَّافِعِيُّ مُنَاظَرَةً جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ خَالَفَهُ فِيهِ ، فَقَالَ : قَالَ لِي بَعْضُهُمْ : لَا أَعْرِفُ الْحَدَّ إِلَّا وَاحِدًا ، وَإِنْ كَانَ مَضْنُوءًا مِنْ خِلْقَتِهِ . قُلْتُ لَهُ : أَتَرَى الْحَدَّ أَكْبَرَ أَوِ الصَّلَاةَ ؟ فَقَالَ : الصَّلَاةُ . قَالَ : كُلُّ فَرْضٍ قَدْ نَأْمُرُهُ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَجَالِسًا ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبِهِ . فَقَالَ : هَذَا اتِّبَاعُ سُنَّةٍ ، وَمَوْضِعُ ضَرُورَةٍ . قُلْتُ : فَكَذَلِكَ الْجَلْدُ اتِّبَاعُ سُنَّةٍ وَمَوْضِعُ ضَرُورَةٍ . قَالَ : فَقَدْ يَتْلَفُ الصَّحِيحُ الْمُحْتَمِلُ لِلضَّرْبِ ، وَيَعِيشُ النِّضْوُ الضَّعِيفُ . قُلْتُ : إِنَّمَا إِلَيْنَا الظَّاهِرُ ، وَالْأَرْوَاحُ بِيَدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ . وَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ وَجَوَابٌ مُقْنِعٌ .

فَصْلٌ : فَإِنْ سَرَقَ هَذَا النِّضْوُ الْخَلْقَ ، وَعُلِمَ أَنَّ الْقَطْعَ قَاتِلُهُ جلد الزاني فَفِيهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : يَسْقُطُ عَنْهُ الْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ كَمَا يَسْقُطُ عَنْهُ عَدَدُ الْجَلْدِ فِي الزِّنَا : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ زَجْرُهُ دُونَ قَتْلِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُقْطَعُ كَغَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي جَلْدِ الزِّنَا مُخَالِفًا لِغَيْرِهِ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَطْعَ اسْتِهْلَاكٌ كَالرَّجْمِ فَاسْتَوَيَا فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ لِلْقَطْعِ بَدَلٌ ، وَلِلْجَلْدِ بَدَلٌ فَافْتَرَقَا ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ الْقَطْعُ مُسْتَحِقًّا فِي قِصَاصٍ وَجَبَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْهُ وَجْهًا وَاحِدًا ، وَلَوْ كَانَ الْجَلْدُ مُسْتَحِقًّا فِي حَدِّ قَذْفٍ حُدَّ كَحَدِّ الزِّنَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يَجُوزُ عَلَى الزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَإِتْيَانِ الْبَهَائِمِ إِلَّا أَرْبَعَةٌ ، يَقُولُونَ : رَأَيْنَا ذَلِكَ مِنْهُ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْهَا دُخُولَ الْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : قُلْتُ : أَنَا وَلَمْ يَجْعَلْ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ إِتْيَانَ الْبَهِيمَةِ زِنًا ، وَلَا فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ فِي مَسِّ فَرْجِ الْبَهِيمَةِ وُضُوءًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : فِي الزِّنَا . وَالثَّانِي : فِي اللِّوَاطِ . وَالثَّالِثُ : فِي إِتْيَانِ الْبَهَائِمِ . وَالرَّابِعُ : فِي الشَّهَادَةِ عَلَى ذَلِكَ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الزِّنَا تعريفه : فَهُوَ أَنْ يَطَأَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَا شُبْهَةِ عَقْدٍ ، وَلَا بِمِلْكٍ ، وَلَا شُبْهَةِ مِلْكٍ ، وَلَا شُبْهَةِ فِعْلٍ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ ، فَيَجْتَمِعُ فِي وَطْئِهِ هَذِهِ الشُّرُوطُ السِّتَّةُ . فَأَمَّا الْعَقْدُ : فَهُوَ مَا صَحَّ مِنَ الْمَنَاكِحِ . وَأَمَّا شُبْهَةُ الْعَقْدِ : فَهُوَ مَا احْتَمَلَهُ الِاجْتِهَادُ مِنَ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ ، كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ ، وَالشِّغَارِ ، وَالنِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ ، فَهَذَا وَمَا جَانَسَهُ مِنْ شُبْهَةِ الْعُقُودِ الْمَانِعُ مِنْ حَدِّ الزِّنَا ، وَالْمُوجَبُ لِلُحُوقِ الْوَلَدِ . وَأَمَّا الْعَقْدُ عَلَى ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ كَالْأُمَّهَاتِ ، وَالْأَخَوَاتِ ، وَالْخَالَاتِ ، وَالْعَمَّاتِ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رِضَاعٍ ، فَلَا يَكُونُ مِنْ شُبْهَةِ الْعُقُودِ ، وَيَكُونُ الْوَاطِئُ فِيهِ زَانِيًا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَكَحَ مُعْتَدَّةً أَوْ مُطَلَّقَةً مِنْهُ ثَلَاثًا قَبْلَ زَوْجٍ وَوَطَءَ فِيهِ ، كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا زَانِيًا ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : اسْمُ الْعَقْدِ يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ ، وَإِذَا وَطَءَ أُمَّهُ ، أَوْ أُخْتَهُ ، أَوْ مُعْتَدَّةً بِعَقْدِ نِكَاحٍ ، لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا . حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَوِ اسْتَأْجَرَ امْرَأَةً

لِيَزْنِيَ بِهَا أَوْ يَسْتَخْدِمَهَا فَوَطِئَهَا ، فَلَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ وَطْءٌ عَنْ عَقْدٍ فَاسِدٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ فِيهِ الْحَدُّ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْمَنَاكِحِ الْفَاسِدَةِ . قَالَ : وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ لَا يُحَدُّ بِهِ الْكَافِرُ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُحَدَّ بِهِ الْمُسْلِمُ كَالنِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ . قَالَ : وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَنْطَلِقْ عَلَيْهِ اسْمُ الزِّنَا لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ حُكْمُ الزِّنَا : لِأَنَّ الْحُكْمَ تَابِعٌ لِلِاسْمِ . وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ اسْمَ الزِّنَا غَيْرُ مُنْطَلِقٍ عَلَيْهِ : أَنَّ الْمَجُوسَ يَنْكِحُونَ أُمَّهَاتِهِمْ وَأَخَوَاتِهِمْ ، وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِمُ اسْمُ الزِّنَا وَلَا حُكْمُهُ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً [ النِّسَاءِ : 22 ] ، وَالْفَاحِشَةُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ هِيَ الزِّنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [ النِّسَاءِ : 15 ] . وَرَوَى دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ وَقَعَ عَلَى ذَاتِ مَحْرَمٍ فَاقْتُلُوهُ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مُوَاقَعَتِهَا بِالنِّكَاحِ : لِأَنَّ غَيْرَ النِّكَاحِ يَسْتَوِي فِيهِ ذَاتُ الْمَحَارِمِ وَغَيْرُهَا . وَرَوَى أَشْعَثُ ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ، قَالَ : مَرَّ بِي خَالِيَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ دِينَارٍ وَمَعَهُ لِوَاءٌ ، فَقُلْتُ أَيْنَ تُرِيدُ ؟ فَقَالَ : بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ أَنْ آتِيَهُ بِرَأْسِهِ . وَرُوِيَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ : بَيْنَمَا أَنَا أَطُوفُ عَلَى إِبِلٍ لِي ضَلَّتْ ، إِذْ أَقْبَلَ رَكْبٌ أَوْ فَوَارِسُ مَعَهُمْ لِوَاءٌ ، فَجَعَلَ الْأَعْرَابُ يَطِيفُونَ بِي لِمَنْزِلَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إِذْ أَتَوْا قُبَّةً فَاسْتَخْرَجُوا مِنْهَا رَجُلًا فَضَرَبُوا عُنُقَهُ ، فَسَأَلْتُ عَنْهُ فَذَكَرُوا أَنَّهُ أَعْرَسَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ .

وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْهُمْ إِلَّا عَنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ هَذَانِ الْخَبِرَانِ فِي رَجُلَيْنِ ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ : لِاخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ . وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ فِي رَجُلٍ وَاحِدٍ ، رُوِيَ عَلَى لَفْظَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ ، وَحَالَتَيْنِ مُتَقَارِبَتَيْنِ ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَهُوَ دَلِيلٌ . وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّهُ وَطْءٌ مُحَرَّمٌ بِدَوَاعِيهِ غَيْرُ مُخْتَلَفٍ فِيهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْعِلْمِ بِتَحْرِيمِهِ مُوجِبًا لِلْحَدِّ ، إِذَا لَمْ يُصَادِفُ مِلْكًا قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ عَقْدٍ . فَإِنْ قِيلَ : الْعَقْدُ شُبْهَةٌ . قِيلَ : الشُّبْهَةُ مَا اشْتَبَهَ حُكْمُهُ بِالِاخْتِلَافِ فِي إِبَاحَتِهِ كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ ، وَهَذَا غَيْرُ مُشْتَبَهٍ لِلنَّصِّ عَلَى تَحْرِيمِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ شُبْهَةً . وَقَوْلُنَا : يَحْرُمُ بِدَوَاعِيهِ ، احْتِرَازًا مِنْ وَطْءِ الْمُحَرَّمَةِ وَالصَّائِمَةِ الْحَائِضِ . وَقَوْلُنَا : غَيْرُ مُخْتَلَفٍ فِيهِ ، احْتِرَازًا مِنَ الْمَنَاكِحِ الْمُخْتَلِفِ فِيهَا . وَقَوْلُنَا : إِذَا لَمْ يُصَادِفُ مِلْكًا ، احْتِرَازًا مِنَ الْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ . وَلِأَنَّهُ عَقَدَ عَلَى مَنْ لَا يُسْتَبَاحُ بِحَالٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَجُودُهُ كَعَدَمِهِ ، كَالْعَقْدِ عَلَى الْغُلَامِ ، وَلِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ : لِوُجُودِ التَّحْرِيمِ بَعْدَهُ كَوُجُودِهِ قَبْلَهُ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَنَاكِحِ الْفَاسِدَةِ فَالْمَعْنَى فِيهِ : مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ . وَقِيَاسُهُمْ عَلَى الْكَافِرِينَ فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ مُبَاحًا فِي دِينِهِمْ . وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الزِّنَا فَغَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ اسْمَ الزِّنَا لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ فِي الْمَجُوسِ : لِاعْتِقَادِهِمْ إِبَاحَتَهُ ، وَيَنْطَلِقُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِلنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ ، فَهَذَا حُكْمُ الْعَقْدِ وَشُبْهَتُهُ ، وَهُمَا شَرْطَانِ مِنَ السِّتَّةِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمِلْكُ : فَهُوَ أَنْ يَطَأَ بِهِ أَمَةً يَصِحُّ مِلْكُهُ لَهَا ، وَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا حد الزنا ، فَيَكُونُ مُبَاحًا كَالنِّكَاحِ . فَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ كَالْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي وَطْئِهِنَّ عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ . وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يُنْظَرُ ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَسْتَقِرُّ لَهُ عَلَيْهَا مِلْكٌ كَالْأُمِّ وَالْجَدَّةِ فَوَطْؤُهُ لَهَا وَإِنْ مَلِكَهَا زِنًا يُوجِبُ الْحَدَّ : لِأَنَّ مِلْكَهُ قَدْ زَالَ بِعِتْقِهَا عَلَيْهِ . وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يَسْتَقِرُّ لَهُ عَلَيْهَا مِلْكٌ مِنَ الْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ وَسَائِرِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ ، فَفِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهَا بِالْوَطْءِ - مَعَ الْعِلْمِ بِالتَّحْرِيمِ - قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ مِلْكٌ لَا يُسْتَبَاحُ بِهِ الْوَطْءُ بِحَالٍ ، فَأَشْبَهَ مِلْكَ الْغُلَامِ .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا حَدَّ فِيهِ : لِأَنَّ الْجِنْسَ الْمُسْتَبَاحَ إِذَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مِلْكٌ مَنَعَ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ - مَعَ الْعِلْمِ بِالتَّحْرِيمِ - كَالْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ ، وَيَكُونُ الْمِلْكُ مُخَالِفًا لِلنِّكَاحِ : لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ ، فَكَانَ مِنْ أَقْوَى الشُّبَهِ ، وَالنِّكَاحُ غَيْرُ ثَابِتٍ فَارْتَفَعَتْ شُبْهَتُهُ مَعَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ ، وَصَارَ بِخِلَافِ وَطْءِ الْغُلَامِ الَّذِي لَا يُسْتَبَاحُ جِنْسُهُ بِحَالٍ ، فَهَذَا الشَّرْطُ الثَّالِثُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الشَّرْطُ الرَّابِعُ وَهُوَ شُبْهَةُ الْمِلْكِ : فَهُوَ أَنْ يَمْلِكَهَا بِعَقْدٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ ، فَيَكُونُ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ كَالْمَنَاكِحِ الْمُخْتَلَفِ فِي إِبَاحَتِهَا . فَإِنْ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ غَيْرَ مُخْتَلَفٍ فِي إِبَاحَتِهِ ، كَانَ الْوَطْءُ فِيهِ مُوجِبًا لِلْحَدِّ ، وَهَكَذَا الْمُرْتَهِنُ إِذَا وَطِئَ جَارِيَةً قَدِ اسْتَرَقَّهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا حَدَّ عَلَى الْوَاطِئِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الشَّرْطُ الْخَامِسُ وَهُوَ شُبْهَةُ الْفِعْلِ : فَهُوَ أَنْ يَجِدَ عَلَى فِرَاشِهِ امْرَأَةً يَظُنُّهَا أَمَتَهُ ، أَوْ زَوْجَتَهُ ، وَتَظُنُّهُ زَوْجَهَا ، أَوْ سَيِّدَهَا ، فَيَطَأَهَا وَتُمَكِّنَهُ حد الزنا فَلَا حَدَّ عِنْدِ الشَّافِعِيِّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَلَيْهَا الْحَدُّ : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْحَدَّ إِنَّمَا يَسْقُطُ بِعَقْدٍ أَوْ شُبْهَةِ عَقْدٍ ، وَلَيْسَ هَاهُنَا عَقْدٌ وَلَا شُبْهَةُ عَقْدٍ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ الْحَدُّ كَالْعَمْدِ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّهُ وَطِئَ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ حد الزنا ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ إِذَا بَانَ أَنَّهَا غَيْرُ زَوْجَتِهِ ، قِيَاسًا عَلَى الْمَزْفُوفَةِ إِلَيْهِ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّهَا زَوْجَتُهُ . فَبَانَتْ غَيْرُ زَوْجَتِهِ . وَبِهِ يَفْسُدُ اسْتِدْلَالُهُ ، وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ يَثْبُتُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ فِيهِ الْحَدُّ كَالْوَطْءِ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ . فَإِنْ قِيلَ : لِأَنَّ الْمُتْعَةَ عَقْدٌ . قِيلَ : الْعُقُودُ الْفَاسِدَةُ لَا تُبِيحُ الْوَطْءَ ، وَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْ هَذَا الْفَرْقُ مِنَ اسْتِوَائِهِمَا فِي تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ ، لَمْ يَمْنَعْ مِنَ اسْتِوَائِهِمَا فِي سُقُوطِ الْحَدِّ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الشَّرْطُ السَّادِسُ وَهُوَ الْعِلْمُ بِالتَّحْرِيمِ الزنا : فَلِأَنَّ الْعِلْمَ بِهِ هُوَ الْمَانِعُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ ، كَالَّذِي لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَحْكَامُهُ ، كَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَ الزِّنَا لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ . وَالَّذِي لَا يَعْلَمُ تَحْرِيمَ الزِّنَا - مَعَ النَّصِّ الظَّاهِرِ فِيهِ ، وَإِجْمَاعُ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ عَلَيْهِ - أَحَدُ ثَلَاثَةٍ : إِمَّا مَجْنُونٌ أَفَاقَ بَعْدَ بُلُوغِهِ فَزَنَا لِوَقْتِهِ . أَوْ حَدِيثُ عَهْدٍ بِإِسْلَامٍ لَمْ يَعْلَمْ أَحْكَامَهُ . أَوْ قَادِمٌ مِنْ بَادِيَةٍ لَمْ يَظْهَرْ فِيهَا تَحْرِيمُهُ .

فَإِنِ ادَّعَى الزَّانِي أَنَّهُ جَهِلَ تَحْرِيمَ الزِّنَا نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَحَدِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ كَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا وَلَا يَلْزَمُهُ إِحْلَافُهُ إِلَّا اسْتِظْهَارًا : لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ : لِأَنَّ الظَّاهِرَ خِلَافُهُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَكَامَلَتْ فِي الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ شُرُوطُ الزِّنَا السِّتَّةُ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهِمَا ، سَوَاءٌ وَطِئَ فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَكُونُ الْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ حد الزنا زِنًا ، وَلَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ ، حَتَّى قَالَ : إِنَّهُ لَا يَفْسُدُ بِهِ الْحَجُّ وَالصِّيَامُ ، وَلَا تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ ، وَلَا يَجِبُ بِهِ الْغُسْلُ إِلَّا أَنْ يَنْزِلَ مِنْهُ فَيَغْتَسِلُ بِالْإِنْزَالِ : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ لَا يُفْضِي إِلَى فَسَادِ النَّسَبِ ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ كَالِاسْتِمْتَاعِ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ . وَدَلِيلُنَا : أَنَّهُ إِيلَاجٌ فِي أَحَدِ الْفَرْجَيْنِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ كَالْقُبُلِ ، وَلِأَنَّ تَحْرِيمَهُ أَغْلَظُ مِنْ تَحْرِيمِ الْقُبُلِ : لِأَنَّهُ لَا يُسْتَبَاحُ بِالْعَقْدِ ، فَكَانَ بِوُجُوبِ الْحَدِّ أَحَقَّ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهُ لَا يُفْضِي إِلَى فَسَادِ النَّسَبِ : فَالْعِلَّةُ فِيهِ هَتْكُ الْحُرْمَةِ . [ وَفَسَادُ النَّسَبِ تَابِعٌ : لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ وَلَا يَكُونُ ، وَهَذَا أَعْظَمُ فِي هَتْكِ الْحُرْمَةِ ] .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَطْءَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرْجَيْنِ زِنًا يُوجِبُ الْحَدَّ ، فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِتَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ فِي أَحَدِهِمَا سَوَاءٌ أَنَزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ . فَإِنْ غَيَّبَ بَعْضَ الْحَشَفَةِ ، أَوِ اسْتَمْتَعَ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ عُزِّرَ ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ . وَتَعْزِيرُهُ بِتَغْيِيبِ بَعْضِ الْحَشَفَةِ أَغْلَظُ مِنْ تَعْزِيرِهِ بِاسْتِمْتَاعِهِ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ ، وَتَعْزِيزُهُ بِالِاسْتِمْتَاعِ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ حد الزنا أَغْلَظُ مِنْ تَعْزِيرِهِ بِالْمُضَاجَعَةِ وَالْقُبْلَةِ وَإِفْضَاءِ الْبَشَرَةِ بِالْبَشَرَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ حَدٌّ . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ : إِذَا اضْطَجَعَا فِي فِرَاشٍ وَاحِدٍ عَلَى الْمُعَانَقَةِ يُقَبِّلُهَا وَتُقَبِّلُهُ حُدَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : يَحِدُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسِينَ جَلْدَةٍ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنْ لَا حَدَّ عَلَيْهِمَا : حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : إِنِّي نِلْتُ مِنَ امْرَأَةٍ مَا يَنَالُهُ الرَّجُلُ مِنْ زَوْجَتِهِ إِلَّا بِوَطْءٍ ، قَبَّلْتُهَا وَعَانَقْتُهَا فَمَا يَجِبُ عَلَيَّ ، فَتَلَا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [ هُودٍ : 114 ]

وَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ حَدًّا ، فَهَذَا حُكْمُ الزِّنَا وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ .

فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي اللِّوَاطِ

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي اللِّوَاطِ ] وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي : فِي اللِّوَاطِ تعريفه : فَهُوَ إِتْيَانُ الذَّكَرِ الذَّكَرَ ، وَهُوَ مِنْ أَغْلَظِ الْفَوَاحِشِ تَحْرِيمًا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ إِلَى قَوْلِهِ : بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ [ الْأَعْرَافِ : 80 - 81 ] ، فَجَعَلَهُ مِنْ سَرَفِ الْفَوَاحِشِ ، وَلِذَلِكَ عَذَّبَ اللَّهُ قَوْمَ لُوطٍ بِالْخَسْفِ وَأَمْطَرَ عَلَيْهِمُ الْحَيَوَانَ الْبَهِيمَ حَتَّى لَا يَأْتِيَ ذَكَرٌ ذَكَرًا . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَعَنَ اللَّهُ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ . وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : أَوَّلُ مَنْ لَاطَ إِبْلِيسُ ، أُهْبِطَ مِنَ الْجَنَةِ فَرْدًا لَا زَوْجَةَ لَهُ لَاطَ بِنَفْسِهِ فَكَانَتْ ذُرِّيَتُهُ مِنْهُ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ أَغْلَظِ الْفَوَاحِشِ ، فَفِيهِ أَغْلَظُ الْحُدُودِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا حَدَّ فِيهِ ، وَلَا يَفْسُدُ بِهِ الْحَجُّ وَلَا الصَّوْمُ ، وَلَا يَجِبُ بِهِ الْغُسْلُ إِلَّا أَنْ يُنْزِلَ فَيَغْتَسِلُ ، وَيُعَزَّرَانِ وَيُحْبَسَانِ حَتَّى يَتُوبَا : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا لَمْ يَنْطَلِقْ عَلَيْهِ اسْمُ الزِّنَا لَمْ يَجِبْ فِيهِ حَدٌّ ، كَالِاسْتِمْتَاعِ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ : لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ لَا يُسْتَبَاحُ بِعَقْدٍ ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ حَدُّ الِاسْتِمْتَاعِ وَبِمِثْلِهِ مِنَ الزَّوْجَةِ ، وَلِأَنَّ أُصُولَ الْحُدُودِ لَا تَثْبُتُ قِيَاسًا . وَدَلِيلُنَا : رِوَايَةُ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ .

وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِتْيَانُ الرَّجُلِ الرَّجُلَ زِنًا . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الَّذِي يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ ارْجُمُوا الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ . وَرَوَى صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، أَنَّهُ وَجَدَ فِي بَعْضِ ضَوَاحِي الْعَرَبِ رَجُلًا يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةِ ، فَكَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ ، فَاسْتَشَارَ أَبُو بَكْرٍ الصَّحَابَةَ فِيهِ ، فَكَانَ عَلِيٌّ أَشَدَّهُمْ قَوْلًا فِيهِ ، فَقَالَ : مَا فَعَلَ هَذَا إِلَّا أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِهَا ، أَرَى أَنْ يُحَرَقَ بِالنَّارِ . فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ بِذَلِكَ إِلَيْهِ فَحَرَقَهُ . وَأَخَذَ بِهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَكَانَ يَحْرِقُ اللِّوَاطِيُّ فِي خِلَافَتِهِ . وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا حَرَقَ لُوطِيًّا وَرَجَمَ لُوطِيًّا . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يُلْقَى مِنْ شَاهِقٍ مُنَكَّسًا ، ثُمَّ يُرْجَمَ بِالْحِجَارَةِ ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَلَيْسَ لَهُمْ فِيهِ مُخَالِفٌ ، فَكَانَ إِجْمَاعًا بَعْدَ نَصٍّ . وَلِأَنَّهُ فَرْجٌ مَقْصُودٌ بِالِاسْتِمْتَاعِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ قِيَاسًا عَلَى قُبُلِ الْمَرْأَةِ . وَلِأَنَّهُ أَغْلَظُ مِنَ الزِّنَا إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَى اسْتِبَاحَتِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ فِيهِ حَدُّ الزِّنَا كَالزِّنَا . وَقَوْلُهُمْ : إِنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الزِّنَا . فَقَدْ أَطْلَقَ اللَّهُ عَلَيْهِ اسْمُ الْفَاحِشَةِ الَّتِي جَعَلَهَا زِنًا . وَأَمَّا اسْتِبَاحَتُهُ مِنَ الزَّوْجَةِ فَلِأَنَّ صِحَّةَ الْعَقْدِ عَلَيْهَا بِشُبْهَةٍ . وَأَمَّا إِيجَابُ الْحُدُودِ بِالْقِيَاسِ فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ . وَعَلَى أَنَّ فِي حَدِّ اللِّوَاطِ نَصًّا ، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْحَدِّ فِيهِ اللواط فَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِيهِمَا بِتَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ . وَفِيهِ إِذَا كَانَا بَالِغَيْنِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : - نُصَّ عَلَيْهِ فِي اخْتِلَافِ عَلِيٍّ ، وَعَبْدِ اللَّهِ - أَنَّ حَدَّهُ الْقَتْلَ فِي الْمُحْصَنِ وَالْبِكْرِ . وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدَ : وَلِأَنَّهُ أَغْلَظُ مِنَ الزِّنَا ، فَكَانَ حَدُّهُ أَغْلَظَ مِنْ حَدِّ الزِّنَا . فَعَلَى هَذَا : فِي قَتْلِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ : أَنَّهُ يُقْتَلُ رَجْمًا بِالْأَحْجَارِ كَالزِّنَا : لِأَنَّهُ الْمَشْرُوعُ فِيهِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ : أَنَّهُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ صَبْرًا كَالرِّدَّةِ تَعَلُّقًا بِظَاهِرِ الْخَبَرِ .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَقَلَهُ الرَّبِيعُ ، وَقَالَ : رَجَعَ الشَّافِعِيُّ إِلَيْهِ عَنِ الْأَوَّلِ : أَنَّهُ كَحَدِّ الزِّنَا يُرْجَمُ فِيهِ الْمُحْصَنُ ، وَيُجْلَدُ الْبِكْرُ مِائَةً وَيُغَرَّبُ عَامًا . وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ : لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبِ عَامٍ ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ فِيمَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ فِيهِ ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِيمَا اخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ فِيهِ . وَيَسْتَوِي فِيهِ الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ بِهِ ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَيْرُ بَالِغٍ عُزِّرَ وَلَمْ يُحَدَّ .

حُكْمُ السِّحَاقِ

[ حُكْمُ السِّحَاقِ ] فَأَمَّا السِّحَاقُ تعريفه : وَهُوَ إِتْيَانُ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ . فَهُوَ مَحْظُورٌ كَالزِّنَا ، وَإِنْ خَالَفَهُ فِي حَدِّهِ : لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : السِّحَاقُ زِنَا النِّسَاءِ بَيْنَهُنَّ . وَالْوَاجِبُ فِيهِ التَّعْزِيرُ دُونَ الْحَدِّ : لِعَدَمِ الْإِيلَاجِ بَيْنَهُمَا .

فَصْلٌ حُكْمُ إِتْيَانِ الْبَهَائِمِ

فَصْلٌ : [ حُكْمُ إِتْيَانِ الْبَهَائِمِ ] وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثِ فِي إِتْيَانِ الْبَهَائِمِ حكمه ، فَهُوَ مِنَ الْفَوَاحِشِ الْمُحَرَّمَةِ . رَوَى ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَنِيفَةَ ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ . وَرَوَاهُ أَبُو سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي اخْتِلَافِ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ ، وَقَالَ : إِنْ صَحَّ قُلْتُ بِهِ . لِأَنَّ فِي رِوَايَتِهِ ضَعْفًا ، فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا قُتِلَ وَقُتِلَتِ الْبَهِيمَةُ . وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : يُقْتَلُ ، وَفِيهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : رَجْمًا بِالْحِجَارَةِ ، قَالَهُ الْبَغْدَادِيُّونَ . وَالثَّانِي : صَبْرًا بِالسَّيْفِ ، قَالَهُ الْبَصْرِيُّونَ ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا . وَلِأَنَّهُ فَرَجٌ لَا يُسْتَبَاحُ بِحَالٍ ، فَكَانَ حُكْمُهُ أَغْلَظَ .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ فِي حُكْمِ الزِّنَا ، يُرْجَمُ إِنْ كَانَ ثَيِّبًا ، وَيُجْلَدُ وَيُغَرَّبُ إِنْ كَانَ بِكْرًا ؛ لِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا أَصْلٌ لِمَا عَدَاهُ . مُخَرَّجٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : لِأَنَّهُمْ يَعُدُّونَ الِاسْتِمْنَاءَ وَإِتْيَانَ الْبَهَائِمِ زِنًا ، فَاقْتَضَى هَذَا مِنْ كَلَامِهِ أَنْ لَا يَكُونَ زِنًا ، وَلَا يَجِبُ فِيهِ حَدٌّ ، وَيُعَزَّرْ فَاعِلُهُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَالثَّوْرِيِّ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهَا تَمْنَعُ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهَا ، وَلَا يَجِبُ الْوُضُوءُ مِنْ مَسِّهَا . وَالثَّانِي : لِنُفُورِ النُّفُوسِ مِنْهَا وَمَيْلِهَا إِلَى الْآدَمِيِّينَ ، فَوَجَبَ الْحَدُّ فِيمَا مَالَتْ إِلَيْهِ النُّفُوسُ ، وَسَقَطَ فِيمَا نَفَرَتْ مِنْهُ النُّفُوسُ ، كَمَا وَجَبَ الْحَدُّ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ لِمَيْلِ النُّفُوسِ إِلَيْهِ ، وَسَقَطَ فِي شُرْبِ الْبَوْلِ لِنُفُورِ النُّفُوسِ مِنْهُ ، فَعَلَى هَذَا : إِنْ جَعَلْنَاهُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ أَوْجَبْنَا الْغُسْلَ بِالْإِيلَاجِ فِيهِ . وَإِنْ لَمْ نُوجِبِ الْحَدَّ ، فَفِي وُجُوبِ الْغُسْلِ بِالْإِيلَاجِ في البهائم وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجِبُ بِهِ الْغُسْلُ : لِأَنَّهُ فَرْجٌ مُحَرَّمٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا غُسْلَ إِلَّا بِالْإِنْزَالِ : لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي حُكْمِ الْمُبَاشِرَةِ فِي غَيْرِ فَرْجٍ . فَأَمَّا الْبَهِيمَةُ قتلها بعد إتيانها فَقَدْ أُغْفِلَ الْكَلَامُ فِيهَا ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ قَتْلِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي حَدِّهِ ، هَلْ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخَبَرِ أَوْ الِاسْتِدْلَالِ ؟ أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا لَا تُقْتَلُ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّ حَدَّ إِتْيَانِهَا مَأْخُوذٌ مِنَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِدْلَالِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجِبُ قَتْلُهَا ، إِذَا قِيلَ : إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخَبَرِ . وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْبَهِيمَةُ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ . وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ فِي " مُخْتَصَرِهِ " : أَنَّهَا تُقْتَلُ إِنْ كَانَتْ لَهُ ، وَلَا تُقْتَلُ إِنْ كَانَتْ لِغَيْرِهِ . وَهَذَا الْفَرْقُ لَا وَجْهَ لَهُ لِعُمُومِ الْخَبَرِ . فَإِنْ قِيلَ : فَمَا الْمَعْنَى فِي قَتْلِهَا وَلَيْسَ عَلَى الْبَهَائِمِ حُدُودٌ ؟ قِيلَ : لَيْسَتْ تُقْتَلُ حَدًّا ، وَفِي مَعْنَى قَتْلِهَا أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : لِلسِّتْرِ عَلَى مَنْ أَتَاهَا ، أَنْ لَا تُرَى فَيَقْذِفُهُ النَّاسُ بِإِتْيَانِهَا . وَالثَّانِي : أَنْ لَا تَأْتِيَ بِخَلْقٍ مُشَوَّهٍ ، فَقَدْ قِيلَ : إِنْ بَعْضَ الرُّعَاةِ أَتَى بَهِيمَةً ، فَأَتَتْ بِخَلْقٍ مُشَوَّهٍ . فَعَلَى هَذَا : تُقْتَلُ ذَبْحًا لَا رَجْمًا . وَفِي إِبَاحَةِ أَكْلِهَا إِنْ كَانَتْ مَأْكُولَةَ اللَّحْمِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا تُؤْكَلُ ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ : لِأَنَّ النُّفُوسَ تَعَافُ أَكْلَهَا وَقَدْ أُتِيَتْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تُؤْكَلُ : لِأَنَّ إِتْيَانَهَا لَمْ يَنْقِلْهَا عَنْ جِنْسِهَا الْمُسْتَبَاحِ . وَهَلْ يَلْزَمُ غُرْمُهَا لِمَالِكِهَا إِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ ، أَوْ كَانَتْ مَأْكُولَةً ؟ فَقِيلَ : لَا تُؤْكَلُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : لَا غُرْمَ لَهُ : لِأَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ قَتْلَهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَغْرَمُ لَهُ قِيمَتَهَا : لِاسْتِهْلَاكِهَا عَلَيْهِ وَيَكُونُ غُرْمُهَا ، عَلَى مَنْ أَتَاهَا لِاسْتِهْلَاكِهَا بِفِعْلِهِ .

فَصْلٌ الشَّهَادَةُ عَلَى الزِّنَا

فَصْلٌ : [ /1 L10283 الشَّهَادَةُ عَلَى الزِّنَا /1 ] وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى ذَلِكَ . أَمَّا الزِّنَا وَاللِّوَاطُ فَلَا يُقْبَلُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ شُهُودٍ عُدُولٍ ، سَوَاءٌ كَانَ فِي رَجْمٍ أَوْ جَلَدٍ ، عَلَى حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [ النِّسَاءِ : 15 ] ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [ النُّورِ : 13 ] . وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ حِينَ سَأَلَهُ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أَقْتُلُهُ أَوْ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا ، حَتَّى تَأْتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ، كَفَى بِالسَّيْفِ شَاهِدًا يَعْنِي شَاهِدًا عَلَيْكَ : وَلِأَنَّ الشَّهَادَاتِ تَتَغَلَّظُ بِتَغْلِيظِ الْمَشْهُودِ فِيهِ ، فَلَمَّا كَانَ الزِّنَا وَاللِّوَاطُ مِنْ أَغْلَظِ الْفَوَاحِشِ الْمَحْظُورَةِ وَآخِرِهَا ، كَانَتِ الشَّهَادَةُ فِيهِ أَغْلَظَ : لِيَكُونَ أَسْتَرَ لِلْمَحَارِمِ ، وَأَنْفَى لِلْمَعَرَّةِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُسْمَعَ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ علي الزنا . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : تُسْمَعُ فِيهِ شَهَادَةَ ثَلَاثَةِ رِجَالٍ وَامْرَأَتَيْنِ . وَيَجِيءُ عَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِهِ أَنْ تُسْمَعَ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ وَأَرْبَعُ نِسْوَةٍ . وَلَيْسَ كَذَلِكَ يَصِحُّ : لِأَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ رُخْصَةٌ فِيمَا خَفَّ وَهُوَ الْأَمْوَالُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُسْمَعَ فِي مَوَاضِعَ التَّغْلِيظِ . فَأَمَّا الشَّهَادَةُ فِي إِتْيَانِ الْبَهَائِمِ ، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ لَمْ يُسْمَعْ فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ عُدُولٍ ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ مُوجِبًا لِلتَّعْزِيرِ دُونَ الْحَدِّ ، فَفِيهِ وَفِي الشَّهَادَةِ عَلَى مَنْ أَتَى امْرَأَةً دُونَ الْفَرْجِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - لَا يُسْمَعُ فِيهَا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ شُهُودٍ : لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسٍ تَغَلَّظَتْ فِيهِ الشَّهَادَةُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ : أَنَّهُ يُسْمَعُ فِيهَا شَاهِدَانِ : لِخُرُوجِهِ عَنْ حُكْمِ الزِّنَا فِي الْحَدِّ ، فَخَرَجَ عَنْ حُكْمِهِ فِي الشَّهَادَةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُسْمَعُ فِي اللِّوَاطِ وَإِتْيَانِ الْبَهَائِمِ وَوَطْءِ الْمَرْأَةِ فِي غَيْرِ الْقُبُلِ شَاهِدَانِ : بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ .

الْقَوْلُ فِي صِفَةِ الشَّهَادَةِ

[ الْقَوْلُ فِي صِفَةِ الشَّهَادَةِ ] فَأَمَّا صِفَةُ الشَّهَادَةِ في الزنا فَلَا يُجْزِئُ أَنْ يَقُولَ الشُّهُودُ : رَأَيْنَاهُ يَزْنِي . حَتَّى يَصِفُوا مَا شَاهَدُوهُ مِنَ الزِّنَا ، وَهُوَ أَنْ يَقُولُوا : رَأَيْنَا ذَكَرَهُ يَدْخُلُ فِي فَرْجِهَا كَدُخُولِ الْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ : لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَثَبَّتَ مَاعِزًا فِي إِقْرَارِهِ فَقَالَ : أَدْخَلْتَ ذَلِكَ مِنْكَ فِي ذَلِكَ مِنْهَا ، كَدُخُولِ الْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ وَالرِّشَا فِي الْبِئْرِ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ . فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ ، فَلَمَّا اسْتَثْبَتَهُ فِي الْإِقْرَارِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَسْتَثْبِتَ فِي الشَّهَادَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الشُّهُودَ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِالزِّنَا لَمَّا شَهِدُوا بِهِ عِنْدَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَهُمْ أَبُو بَكَرَةَ ، وَنَافِعٌ ، وَنُفَيْعٌ ، وَزِيَادٌ ، فَصَرَّحَ بِذَلِكَ أَبُو بَكَرَةَ ، وَنَافِعٌ ، وَنُفَيْعٌ ، فَأَمَّا زِيَادٌ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : قُلْ مَا عِنْدَكَ ، وَأَرْجُو أَنْ لَا يَهْتِكَ اللَّهُ صَحَابِيًّا عَلَى لِسَانِكَ . فَقَالَ زِيَادٌ : رَأَيْتُ نَفْسًا تَعْلُو ، أَوْ اسْتًا تَنْبُو ، وَرَأَيْتُ رِجْلَاهَا عَلَى عُنُقِهِ كَأَنَّهُمَا أُذُنَا حِمَارٍ ، وَلَا أَدْرِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ ، فَقَالَ عُمَرُ : اللَّهُ أَكْبَرُ . فَأَسْقَطَ الشَّهَادَةَ وَلَمْ يَرَهَا تَامَّةً . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الزِّنَا لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا اللَّمْسُ ، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُهُ الْفَرْجُ فَلِذَلِكَ لَزِمَ فِي الشَّهَادَةِ نَفِيُ هَذَا الِاحْتِمَالِ بِذِكْرِ مَا شَاهَدَهُ مِنْ وُلُوجِ الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا ظَهَرَ بِغَيْرِ ذَاتِ الزَّوْجِ حَمْلٌ ، وَلَمْ يُشْهَدْ عَلَيْهَا بِالزِّنَا وَلَا أَقَرَّتْ بِهِ لَمْ تُحَدَّ ، وَقَالَ مَالِكٌ : تُحَدُّ بِالْحَمْلِ : لِأَنَّهُ مِنْ وَطْءٍ ، وَظَاهِرُهُ : إِذَا كَانَتْ خَلِيَّةً ، أَنَّهُ مِنْ زِنًا فَحُدَّتْ بِالظَّاهِرِ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِامْرَأَةٍ حَامِلٍ غَيْرِ ذَاتِ زَوْجٍ ، فَسَأَلَهَا عَنْهُ فَقَالَتْ : لَمْ أُحِسْ حَتَّى رَكِبَنِي رَجُلٌ فَقَذَفَ فِي مِثْلَ الشِّهَابِ . فَقَالَ عُمَرُ : دَعُوهَا فَإِنَّهَا شَابَّةٌ . وَلِأَنَّ الْحَمْلَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ إِكْرَاهٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ زِنًا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمَ فِيهِ بِالْأَغْلَظِ مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110