كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ مَنَعَ مِنْهَا ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَصَحُّ . فَإِذَا فَرَغَ الْمُؤَذِّنُ مِنَ الْأَذَانِ قَامَ فَخَطَبَ قَائِمًا خُطْبَتَيْنِ ، يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا جَلْسَةً خَفِيفَةً . فَإِنْ خَطَبَ عَلَى غَيْرِ مِنْبَرٍ جَازَ ، لَكِنْ يَقِفُ مِنَ الْقِبْلَةِ عَلَى يَسَارِ مُسْتَقْبَلِهَا وَيَمِينِ مُسْتَدْبِرِهَا آداب الخطبة ، بِخِلَافِ خُطْبَتِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ ، وَأَيْنَ وَقَفَ جَازَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَطَبَ اعْتَمَدَ عَلَى عَنَزَتِهِ اعْتِمَادًا وَقِيلَ : عَلَى قَوْسٍ . ( قَالَ ) : وَأُحِبُّ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَحْبَبْتُ أَنْ يُسَكِّنَ جَسَدَهُ وَيَدَيْهِ إِمَّا بِأَنْ يَجْعَلَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى أَوْ يُقِرَّهُمَا فِي مَوْضِعِهِمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا لَهُ الِاعْتِمَادَ عَلَى شَيْءٍ في خطبة الجمعة لِرِوَايَةِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ الْعِيدَ اعْتَمَدَ عَلَى قَوْسٍ أَوْ عَصًا لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْكَنُ لِرُوعِهِ ، وَأَهْدَأُ لِجَوَارِحِهِ ، وَأَمَدُّ لِصَوْتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَأَسْدَلَ يَدَيْهِ أَوْ حَطَّهُمَا تَحْتَ صَدْرِهِ جَازَ . فَأَمَّا لُبْسُ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ للخطيب فَكِلَاهُمَا جَائِزٌ ، قَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ الْبَيَاضَ ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الْأَرْبَعَةُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَمُّ بِعَمَامَةٍ سَوْدَاءَ ، وَيَرْتَدِي بُرْدًا أَسْحَمِيًّا ، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ السَّوَادَ بَنُو الْعَبَّاسِ فِي خِلَافَتِهِمْ شِعَارًا لَهُمْ ، وَلِأَنَّ الرَّايَةَ الَّتِي عُقِدَتْ لِلْعَبَّاسِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ كَانَتْ سَوْدَاءَ ، وَكَانَتْ رَايَاتُ الْأَنْصَارِ صَفْرَاءَ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَلْبَسَ السَّوَادَ إِذَا كَانَ السُّلْطَانُ لَهُ مُؤْثِرًا لِمَا فِي تَرْكِهِ مِنْ مُخَالَفَتِهِ وَتَغَيُّرِ شِعَارِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَيُقْبِلُ بِوَجْهِهِ قَصْدَ وَجْهِهِ ، وَلَا يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . مِنْ سُنَّةِ الْخَطِيبِ أَنْ يَسْتَدْبِرَ بِهَا الْقِبْلَةَ ، وَيَسْتَقْبِلَ بِهَا النَّاسَ خطبة الجمعة : لِرِوَايَةِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ يَسْتَقْبِلُنَا بِوَجْهِهِ وَنَسْتَقْبِلُهُ بِوُجُوهِنَا : وَلِأَنَّهُ يَعِظُهُمْ بِخُطْبَتِهِ ، وَيُوصِيهِمْ بِتَقْوَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَمُرَاقِبَتِهِ ، وَكَانَ إِقْبَالُهُ

عَلَيْهِمْ أَبْلَغَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا وَاسْتِقْبَالُهُمْ بِوَجْهِهِ أَبْلَغَ فِي الِاسْتِمَاعِ لَهَا ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَ بِوَجْهِهِ قَصْدَ وَجْهِهِ ، وَلَا يَلْتَفِتَ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا وَلَا يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ أَئِمَّةُ هَذَا الْوَقْتِ ، مِنَ الِالْتِفَاتِ يَمِينًا وَشِمَالًا فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لِيَكُونَ مُتَّبِعًا لِلسُّنَّةِ ، آخِذًا بِحُسْنِ الْأَدَبِ ، لِأَنَّ فِي إِعْرَاضِهِ عَمَّنْ أَقْبَلَ إِلَيْهِ ، وَقَصَدَ بِوَجْهِهِ إِلَيْهِ ، قُبْحَ عِشْرَةٍ ، وَسُوءَ أَدَبٍ ، وَلِأَنَّهُ إِذَا أَقْبَلَ بِوَجْهِهِ قَصْدَ وَجْهِهِ عَمَّ الْحَاضِرِينَ سَمَاعُهُ ، وَإِذَا الْتَفَتَ يَمِينًا قَصَّرَ عَنْ سَمَاعِ يُسْرَتِهِ ، وَإِذَا الْتَفَتَ شِمَالًا قَصَّرَ عَنْ سَمَاعِ يُمْنَتِهِ . فَإِنْ خَالَفَ السُّنَّةَ فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ، أَجَزَاهُمْ وَإِيَّاهُ بِحُصُولِ تَبْلِيغِهَا وَالْغَرَضِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا كَالْأَذَانِ الَّذِي مِنْ سُنَّتِهِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ بِهِ ، وَيَجْزِي وَإِنِ اسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَأُحِبُّ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ حَتَّى يُسْمَعَ وَأَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ مُتَرَسِّلًا مُبِينًا مُعْرَبًا بِغَيْرِ مَا يُشْبِهُ الْعِيَّ وَغَيْرِ التَّمْطِيطِ وَتَقْطِيعِ الْكَلَامِ وَمَدِّهِ وَلَا مَا يُسْتَنْكَرُ مِنْهُ وَلَا الْعَجَلَةِ فِيهِ عَلَى الْأَفْهَامِ وَلَا تَرْكِ الْإِفْصَاحِ بِالْقَصْدِ وَلْيَكُنْ كَلَامُهُ قَصِيرًا بَلِيغًا جَامِعًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . الْمَقْصُودُ بِالْخُطْبَةِ شَيْئَانِ : الْمَوْعِظَةُ ، وَالْإِبْلَاغُ ، فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُرَجِّعَ صَوْتَهُ بِالْخُطْبَةِ لِيَحْصُلَ الْإِبْلَاغُ ، وَيَقْصِدَ بِمَوْعِظَتِهِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ : إِيرَادُ الْمَعْنَى الصَّحِيحِ ، وَاخْتِيَارُ اللَّفْظِ الْفَصِيحِ وَاجْتِنَابُ مَا يَقْدَحُ فِي فَهْمِ السَّامِعِ ، مِنْ تَمْطِيطِ الْكَلَامِ وَمَدِّهِ ، أَوِ الْعَجَلَةِ فِيهِ عَنْ إِبَانَةِ لَفْظِهِ ، أَوْ رَكْبِ مَا يُسْتَنْكَرُ مِنْ غَرِيبِ الْكَلَامِ وَإِعْرَابِهِ . وَلَا يُطِيلُ إِطَالَةً تُضْجِرُ ، وَلَا يُقَصِّرُ تَقْصِيرًا يُبْتِرُ ، وَيَعْتَمِدُ فِي كُلِّ زَمَانٍ عَلَى ذِكْرِ مَا يَلِيقُ بِالْحَالِ بَعْدَ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى ، وَيُصَلِّيَ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ ، فَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ فَقَالَ : إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمُدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَسْتَهْدِيهِ ، وَنَسْتَنْصِرُهُ ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ غَوَى حَتَّى يَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ وَقَالَ فِي خُطْبَةٍ أُخْرَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَلَّا إِنَّ الدُّنْيَا عَرَضٌ حَاضِرٌ ، يَأْكُلُ مِنْهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ ، أَيْ وَإِنَّ الْآخِرَةَ أَجَلٌ صَادِقٌ ، يَقْتَضِي فِيهَا مَلِكٌ قَادِرٌ ، أَيْ وَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ بِحَذَافِيرِهِ فِي الْجَنَّةِ ، أَلَا وَإِنَّ الشَّرَّ كُلَّهُ بِحَذَافِيرِهِ فِي النَّارِ أَيْ فَاعْمَلُوا وَأَنْتُمْ مِنَ اللَّهِ ، عَزَّ وَجَلَّ ، عَلَى حَذَرٍ ، اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مَعْرُوضُونَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَأَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ خُطْبَةٍ مِنْهُمَا أَنْ

يَحْمَدَ اللَّهَ وَيُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ وَيُوصِيَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَطَاعَتِهِ وَيَقْرَأَ آيَةً فِي الْأُولَى وَيَحْمَدَ اللَّهَ وَيُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُيُوصِيَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَيَدْعُوَ فِي الْآخِرَةِ : لِأَنَّ مَعْقُولًا أَنَّ الْخُطْبَةَ جَمْعُ بَعْضِ الْكَلَامِ مِنْ وُجُوهٍ إِلَى بَعْضٍ وَهَذَا مِنْ أَوْجَزِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . أَقَلُّ مَا يُجْزِي مِنَ الْخُطْبَةِ ، وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا دُونَهُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ : حَمْدُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالصَّلَاةُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْوَصِيَّةُ بِتَقْوَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَقِرَاءَةُ آيَةٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا ذَكَرَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَوْ سُبْحَانَ اللَّهِ ، أَوْ اللَّهُ أَكْبَرُ ، فَقَدْ أَجْزَأَهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [ الْجُمْعَةِ : ] . فَكَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ " ذِكْرِ اللَّهِ " سُبْحَانَهُ الْخُطْبَةَ ، فَاقْتَضَى الْعُمُومُ جَوَازَ أَيِّ ذِكْرٍ كَانَ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ : مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ فَسَمَّاهُ خَطِيبًا بِهَذَا الْقَدْرِ . قَالَ : وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، صَعِدَ الْمِنْبَرَ لِيَخْطُبَ فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، ثُمَّ أُرْتِجَ عَلَيْهِ . فَنَزَلَ دَرَجَةً وَقَالَ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، كَانَا يُعِدَّانِ لِهَذَا الْمَقَامِ مَقَالَةً ، وَإِنِّي مَا أَعْدَدْتُ لَهُ مَقَالًا ، وَإِنَّكُمْ إِلَى إِمَامٍ فَعَّالٍ أَحْوَجُ مِنْكُمْ إِلَى إِمَامٍ قَوَّالٍ ، وَسَأَعُدُّ مَا أَقُولُ ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ ، ثُمَّ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَصَلَّى الْجُمْعَةَ ، فَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ . وَلِأَنَّ أَيَّ مَا ذَكَرْنَاهُ غَيْرُ مُجْزٍ وَلِأَنَّهُ ذُكِرَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِيَ مِنْهُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الذِّكْرِ كَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ : فِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَارِدُ عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَفِعْلُهُ الْمَنْقُولُ خُطْبَةٌ بِجَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَصَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ ، فَلَمْ يَجُزْ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا دُونَهُ ، وَلِأَنَّ الْخُطْبَةَ عِنْدَ الْعَرَبِ وَالْمُتَعَارَفِ فِي الشَّرْعِ إِنَّمَا هِيَ جَمْعُ كَلَامٍ اخْتَلَفَ أَلْفَاظُهُ وَمَعَانِيهِ ، وَهُوَ بِمُجَرَّدِ الذِّكْرِ لَا يَكُونُ خَطِيبًا عُرْفًا وَلَا شَرْعًا ، وَلِأَنَّ الْجُمْعَةَ ظُهْرٌ مَقْصُورٌ بِشَرَائِطَ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ فِي شَرَائِطِهَا إِلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَوْ مَا يُجْمَعُ عَلَى كَوْنِهِ شَرْطًا ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ ثَابِتٌ بِهِمَا جَمِيعًا ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ لِصَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِئَ مِنْهَا مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الذِّكْرِ كَالْأَذَانِ . الْجَوَابُ : أَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الذِّكْرَ فِيهَا مُجْمَلٌ . أَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " بِئْسَ الْخَطِيبُ

أَنْتَ " ، فَحُجَّةٌ لَنَا : لِأَنَّهُ نَفَى أَنْ يَكُونَ خَطِيبًا ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ لِيَصِحَّ اقْتِرَانُ الِاسْمِ بِهِ ، كَمَا نَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ فَسَمَّاهُ نِكَاحًا لِيُلْحِقَ الْفَسَادَ بِهِ . وَأَمَّا حَدِيثُ عُثْمَانَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَفِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أُرْتِجَ عَلَيْهِ بَعْدَ إِتْيَانِهِ بِالْوَاجِبِ . وَالثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي خُطْبَةِ الْبَيْعَةِ ، وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ : فَلَا يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ بِهِمَا ، فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِحْرَامِ : انْعِقَادُ الصَّلَاةِ . وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْخُطْبَةِ : الْمَوْعِظَةُ ، وَبِمُجَرَّدِ الذِّكْرِ لَا يَكُونُ وَاعِظًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الذِّكْرَ لَا يُجْزِئُ فَلَا بُدَّ فِي الْخُطْبَةِ الْأُولَى مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ وَهِيَ : حَمْدٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ أركان خطبة الجمعة ، وَالصَّلَاةُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أركان خطبة الجمعة ، وَالْوَصِيَّةُ بِتَقْوَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ أركان خطبة الجمعة ، وَقِرَاءَةُ آيَةٍ أركان خطبة الجمعة . وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ أَقَلُّ الْخُطْبَةِ كَأَقْصَرِ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ : وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ : إِنْ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى ، وَصَلَّى عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَوَعَظَ أَجْزَأَهُ . وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَقَاوِيلَ مُخْتَلِفَةٍ ، وَأَكْثَرُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْقَدِيمِ " وَالْإِمْلَاءِ مُجْمَلٌ ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْأُمِّ مُفَسَّرٌ . وَأَمَّا الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ فَتَجْمَعُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ أَيْضًا : حَمْدُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَالصَّلَاةُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْوَصِيَّةُ بِتَقْوَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَالدُّعَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ أركان خطبة الجمعة بَدَلًا مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَى . وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ : لِأَنَّ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ تَجْمَعُ الْحَمْدَ ، وَالصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْوَعْظَ ، وَالْقِرَاءَةَ فِي إِحْدَيْهِمَا وَالدُّعَاءَ فِي الْأُخْرَى ، فَاقْتَصَرْنَا مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَقَلِّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ . وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْأَخِيرَةِ بِآيَةٍ : لِتَكُونَ مُمَاثِلَةً لِلْأُولَى ، وَيَقُولَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ ، فَإِنْ قَرَأَ فِي الْأُولَى وَتَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأَخِيرَةِ جَازَ ، وَلَوْ قَرَأَ فِي الْأَخِيرَةِ وَتَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَى جَازَ ، فَقَدْ غَلِطَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَقَالَ : لَا يُجْزِئُهُ ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ عَلَى جَوَازِهِ فَقَالَ : وَلَوْ قَرَأَ فِي الْأُولَى أَوْ قَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى أَوْ قَرَأَ بَيْنَ ظَهَرَانَيْ ذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً أَجْزَأَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَرَأَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ أَوْ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا أَجْزَأَهُ . وَكَذَلِكَ لَوْ قَدَّمَ بَعْضَ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى بَعْضٍ أَجْزَأَهُ : لَأَنَّ التَّرْتِيبَ فِيهَا غَيْرُ وَاجِبٍ . نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ .

فَصْلٌ الطَّهَارَةُ لِلْخُطْبَةِ مَأْمُورٌ بِهَا

فَصْلٌ : فَأَمَّا الطَّهَارَةُ لِلْخُطْبَةِ فَمَأْمُورٌ بِهَا ، فَإِنْ خَطَبَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ فَقَدْ أَسَاءَ وَفِي إِجْزَائِهِ قَوْلَانِ :

أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يُجْزِئُهُ : لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْقَدِيمِ : " وَإِذَا أَحْدَثَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ أَحْبَبْتُ أَنْ يَنْزِلَ ، وَيَتَطَهَّرَ ، وَيَعُودَ لِيَبْنِيَ عَلَى خُطْبَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْزِلْ وَمَضَى عَلَى خُطْبَتِهِ فَقَدْ أَسَاءَ وَأَجْزَأَهُ " . وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهَا ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ الطَّهَارَةُ مِنْ شَرْطِهِ كَالْأَذَانِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ لَا تُجْزِئُهُ إِلَّا بِطَهَارَةٍ : لِأَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ أُقِيمَا مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ كَانَتِ الطَّهَارَةُ مِنْ شَرْطِ الرَّكْعَتَيْنِ ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مِنْ شَرْطِ الْخُطْبَتَيْنِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِذَا حُصِرَ الْإِمَامُ لُقِّنَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَالْإِمَامُ إِذَا حُصِرَ فِي خُطْبَتِهِ وَأُرْتِجَ عَلَيْهِ فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ إِذَا فُتِحَ عَلَيْهِ زَالَ حَصْرُهُ وَمَضَى فِي خُطْبَتِهِ أَوْ فِي قِرَاءَتِهِ فَهَذَا يُلَقَّنُ ، وَيُفْتَحُ عَلَيْهِ : لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ فَأُرْتِجَ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ أَفِيكُمْ أُبَيٌّ " . قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَ هَلَّا ذَكَّرْتَنِي ، فَقَالَ : مَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَرَى أَبَيًّا يُلَقِّنُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، أَنَّهُ قَالَ : " إِذَا اسْتَطْعَمَكُمُ الْإِمَامُ فَأَطْعِمُوهُ " . قِيلَ مَعْنَاهُ : إِذَا أُرْتِجَ عَلَى الْإِمَامِ فَلَقِّنُوهُ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ مِمَّنْ إِذَا فُتِحَ عَلَيْهِ ازْدَادَ حَصْرُهُ ، وَإِذَا تُرِكَ اسْتَدْرَكَ غَلَطَهُ ، فَهَذَا يُتْرَكُ وَلَا يُلَقَّنُ ، وَهُوَ مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ : إِذَا حُصِرَ الْإِمَامُ فَلَا تُلَقِّنْهُ .

الْأَوْلَى بِالْإِمَامِ أَنْ لَا يَقْرَأَ فِي خُطْبَتِهِ آيَةَ سَجْدَةٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِذَا قَرَأَ سَجْدَةً ، فَنَزَلَ فَسَجَدَ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ كَمَا لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ . ( قَالَ ) : وَأُحِبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْآخِرَةِ بِآيَةٍ ، ثُمَّ يَقُولَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَالْأَوْلَى بِالْإِمَامِ أَنْ لَا يَقْرَأَ فِي خُطْبَتِهِ آيَةَ سَجْدَةٍ قراءتها في الخطبة ، فَإِنْ قَرَأَ وَأَمْكَنَهُ السُّجُودُ عَلَى مِنْبَرِهِ فَعَلَ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ السُّجُودُ عَلَى مِنْبَرِهِ فَإِنْ نَزَلَ وَسَجَدَ جَازَ ، وَإِنْ تَرَكَ السُّجُودَ وَمَضَى فِي خُطْبَتِهِ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، خَطَبَ وَسَجَدَ ، ثُمَّ قَرَأَ بَعْدَ ذَلِكَ سَجْدَةً فَتَأَهَّبَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ فَلَمْ يَسْجُدْ ، وَقَالَ : عَلَى رِسْلِكُمْ ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نَشَاءَ .

فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْأَمْرَيْنِ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَنْزِلَ لِلسُّجُودِ : لِأَنَّ السُّجُودَ سُنَّةٌ وَالْخُطْبَةَ وَاجِبَةٌ ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ الْوَاجِبُ اشْتِغَالًا بِالسُّنَّةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنْ سَلَّمَ رَجُلٌ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ كَرِهْتُهُ وَرَأَيْتُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ الرَّدَّ فَرْضٌ وَيَنْبَغِي تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ : لَا يُشَمِّتْهُ وَلَا يَرُدَّ السَّلَامَ إِلَّا إِشَارَةً . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) ، رَحِمَهُ اللَّهُ : قُلْتُ أَنَا : الْجَدِيدُ أَوْلَى بِهِ لِأَنَّ الرَّدَّ فَرْضٌ وَالصَّمْتَ سُنَّةٌ وَالْفَرْضُ أَوْلَى مِنَ السُّنَّةِ وَهُوَ يَقُولُ : إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَّمَ قَتَلَةَ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ فِي الْخُطْبَةِ وَكَلَّمَ سُلَيْكًا الْغَطَفَانِيَّ وَهُوَ يَقُولُ : يَتَكَلَّمُ الرَّجُلُ فِيمَا يَعْنِيهِ . وَيَقُولُ : لَوْ كَانَتِ الْخُطْبَةُ صَلَاةً مَا تَكَلَّمَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَا وَصَفْتُ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الْإِنْصَاتِ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ وَأَنَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَاجِبٌ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ اسْتِحْبَابٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَحُكْمُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فِي وُجُوبِ الْإِنْصَاتِ أَوِ اسْتِحْبَابِهِ سَوَاءٌ . نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ . فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَالْكَلَامُ كُلُّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : مَا يَلْزَمُهُ فِي غَيْرِهِ . وَالثَّانِي : مَا يَعْنِيهِ فِي نَفْسِهِ . وَالثَّالِثُ : مَا لَا يَلْزَمُهُ فِي غَيْرِهِ وَلَا يَعْنِيهِ فِي نَفْسِهِ . فَأَمَّا مَا يَلْزَمُهُ فِي غَيْرِهِ : كَإِنْذَارِ ضَرِيرٍ قَدْ كَادَ أَنْ يَتَرَدَّى فِي بِئْرٍ أَوِ الْإِنْذَارِ مِنْ سَبُعٍ أَوْ حَرِيقٍ . وَأَمَّا مَا يَعْنِيهِ فِي نَفْسِهِ : كَالرَّجُلِ الَّذِي قَامَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَخْطُبُ فَقَالَ هَلَكَتِ الْمَوَاشِي ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ ، فَادْعُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَنَا . فَهَذَانِ الضَّرْبَانِ غَيْرُ مُحَرَّمَيْنِ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ لَا يَخْتَلِفُ . فَأَمَّا مَا لَا يَلْزَمُهُ فِي غَيْرِهِ وَلَا يَعْنِيهِ فِي نَفْسِهِ : كَالْمُحَادَثَةِ وَالِاسْتِخْبَارِ فَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ الْكَلَامِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنَّهْيِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ . فَأَمَّا رَدُّ السَّلَامِ وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّ الرَّدَّ وَالتَّشْمِيتَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ .

وَالثَّانِي : أَنَّ الرَّدَّ وَالتَّشْمِيتَ حَرَامٌ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ لَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ إِشَارَةً بِيَدِهِ . فَإِنْ قِيلَ : الْكَلَامُ كَانَ مُحَرَّمًا وَرَدُّ السَّلَامِ وَاجِبٌ ، قِيلَ : لِأَنَّ الْإِنْصَاتَ وَاجِبٌ عَلَى الْأَعْيَانِ ، وَالرَّدَّ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ، وَفُرُوضُ الْأَعْيَانِ أَوْكَدُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ رَدَّ السَّلَامِ مُحَرَّمٌ وَتَشْمِيتَ الْعَاطِسِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ وَضَعَهُ فَيَ غَيْرِ مَوْضِعِهِ بِاخْتِيَارِهِ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ الرَّدَّ عَلَيْهِ ، وَالْعَاطِسَ عَطَسَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلَمْ يَكُنْ مَنْسُوبًا إِلَى وَضْعِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَاسْتَحَقَّ التَّشْمِيتَ .

صَلَاةُ الْجُمْعَةِ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى حُضُورِ السُّلْطَانِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَالْجُمُعَةُ خَلْفَ كُلِّ إِمَامٍ صَلَّاهَا مِنْ أَمِيرٍ وَمَأْمُورٍ وَمُتَغَلِّبٍ عَلَى بَلَدٍ وَغَيْرِ أَمِيرٍ جَائِزَةٌ وَخَلْفَ عَبْدٍ وَمُسَافِرٍ كَمَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ فِي غَيْرِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . صَلَاةُ الْجُمْعَةِ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى حُضُورِ السُّلْطَانِ ، وَمَنْ أَدَّاهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِشَرَائِطِهَا انْعَقَدَتْ بِهِ ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْجُمْعَةَ لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا بِحُضُورِ السُّلْطَانِ أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ مِنْ قَاضٍ أَوْ شُرْطِيٍّ ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقِيمُهَا بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَنْ يُوَلِّيهِ إِقَامَتَهَا مِنْ قِبَلِهِ ، وَبِهِ جَرَى الْعَمَلُ فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَعَهْدِ خُلَفَائِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَكَانَ ذَلِكَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ قَالُوا : وَلِأَنَّهُ فَرْضٌ يَلْزَمُ الْكَافَّةَ لَا يُقِيمُهُ إِلَّا وَاحِدٌ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقِيمَهُ إِلَّا السُّلْطَانُ كَالْحُدُودِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُ لَوِ اسْتَوَى السُّلْطَانُ وَغَيْرُهُ فِي جَوَازِ إِقَامَتِهَا لَاسْتَوَيَا فِي الِاخْتِيَارِ ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى إِمَامَةِ السُّلْطَانِ أَوْلَى دَلِيلٍ عَلَى عَدَمِ تَسَاوِيهِمَا فِي جَوَازِ الْإِمَامَةِ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَقِيلَ إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، صَلَّى بِالنَّاسِ الْجُمْعَةَ وَالْعِيدَ وَعُثْمَانُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَحْصُورٌ ، وَلَمْ يَكُنْ حِينَ صَلَّاهَا إِمَامًا وَلَا أَمِيرًا ، وَقَدْ أَخْرَجَ النَّاسُ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ عَنِ الْمَدِينَةِ وَكَانَ أَمِيرًا عَلَيْهَا ، وَقَدَّمُوا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ ، فَصَلَّى بِهِمُ الْجُمْعَةَ وَأَخْرَجُوا الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ عَنِ الْكُوفَةِ ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَيْهَا ، وَقَدَّمُوا ابْنَ مَسْعُودٍ ، فَصَلَّى بِهِمُ الْجُمْعَةَ فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى جَوَازِهَا بِغَيْرِ سُلْطَانٍ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ عَلَى الْبَدَنِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَفْتَقِرُ إِقَامَتُهَا إِلَى سُلْطَانٍ ، كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ مِنَ الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ إِقَامَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ : فَذَلِكَ بَيَانٌ لِأَفْعَالِهَا ، لِأَنَّ الْبَيَانَ إِذَا وَقَعَ بِالْفِعْلِ لَمْ تُعْتَبَرْ فِيهِ صِفَاتُ الْفَاعِلِ ، وَلَوِ اعْتُبِرَ كَوْنُهُ سُلْطَانًا لَاعْتُبِرَ كَوْنُهُ نَبِيًّا . وَقِيَاسُهُمْ عَلَى الْحُدُودِ لَا يَصِحُّ ، لِمَا يُتَخَوَّفُ مِنَ التَّحَامُلِ فِي الْحُدُودِ لِطَلَبِ التَّشَفِّي ،

وَذَلِكَ مَأْمُونٌ فِي الْجُمْعَةِ عَلَى أَنَّ الْجُمْعَةَ قَدِ اسْتَوَى فِي وُجُوبِهَا الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْحُدُودِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَمَّا كَانَتْ جُمُعَتُهُ أَوْلَى دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَصِحُّ إِلَّا بِهِ : فَغَلَطٌ : لِأَنَّنَا قَدَّمْنَا جُمُعَتَهُ تَرْجِيحًا مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى ، فَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى نَفْيِ الْجَوَازِ مِنْ غَيْرِهِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ إِتْيَانَهَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ سُلْطَانٍ فَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ : " خَلْفَ كُلِّ أَمِيرٍ " أَرَادَ بِهِ : الْإِمَامَ ، وَقَوْلُهُ : " أَوْ مَأْمُورٍ " . أَرَادَ بِهِ مَنْ يُقِيمُهَا بِإِذْنِ الْإِمَامِ ، وَقَوْلُهُ : " أَوْ مُتَغَلِّبٍ عَلَى بَلَدٍ " . أَرَادَ بِهِ : الْخَارِجِيَّ وَمَنْ تَغَلَّبَ عَلَى الْإِمَامِ الْعَادِلِ ، وَقَوْلُهُ : " وَغَيْرِ أَمِيرٍ " . أَرَادَ بِهِ : الْعَامِّيَّ الَّذِي لَيْسَ بِإِمَامٍ وَلَا نَائِبٍ عَنْ إِمَامٍ وَلَا مُتَغَلِّبٍ عَلَيْهِ .

الْجُمْعَةُ خَلَفَ الْعَبْدِ جَائِزٌ عند الشافعية والحنفية وغير جائز عند مالك

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْجُمْعَةُ خَلَفَ الْعَبْدِ فَجَائِزٌ عِنْدَنَا ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَقَالَ مَالِكٌ : لَا تَصِحُّ الْجُمْعَةُ خَلَفَ الْعَبْدِ لِعَدَمِ كَمَالِهِ . وَدَلِيلُنَا : مَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدًا كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْجُمْعَةَ وَالصَّلَوَاتِ بِالرَّبَذَةِ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلَمْ يُنْكِرْ إِمَامَتَهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا لِلرِّجَالِ فِي غَيْرِ الْجُمْعَةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا لَهُمْ فِي الْجُمْعَةِ كَالْحُرِّ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمُرَاهِقُ فَفِي جَوَازِ الِائْتِمَامِ بِهِ فِي الْجُمْعَةِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ : يَجُوزُ الِائْتِمَامُ بِهِ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ . وَالثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ : لَا يَجُوزُ الِائْتِمَامُ بِهِ فِي الْجُمْعَةِ وَإِنْ جَازَتْ فِي غَيْرِ الْجُمْعَةِ : لِوُجُوبِ الْجَمَاعَةِ لَهَا ، فَلَمْ تَصِحَّ إِقَامَتُهَا إِلَّا بِكَامِلٍ يَلْزَمُهُ الْفَرْضُ . فَإِذَا جَازَتْ إِمَامَةُ الْعَبْدِ وَإِمَامَةُ الصَّبِيِّ في الجمعة فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَمْ تَنْعَقِدِ الْجُمْعَةُ إِلَّا بِأَرْبَعِينَ أَحْرَارٍ بَالِغِينَ سِوَى الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ ، وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ حُرًّا بَالِغًا انْعَقَدَتْ بِأَرْبَعِينَ رَجُلًا مَعَ الْإِمَامِ . وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : لَا تَصِحُّ الْجُمْعَةُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ زَائِدًا عَلَى الْأَرْبَعِينَ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَمَنْصُوصُهُ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ خِلَافُ هَذَا .

لَا تَنْعَقِدُ جُمْعَتَانِ فِي مِصْرٍ وَلَا يَجُوزُ إِقَامَتُهَا إِلَّا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا يُجَمَّعُ فِي مِصْرٍ وَإِنْ عَظُمَ وَكَثُرَتْ مَسَاجِدُهُ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ مِنْهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . لَا تَنْعَقِدُ جُمْعَتَانِ فِي مِصْرٍ إقامة جمعتان في بلد واحد ، وَلَا يَجُوزُ إِقَامَتُهَا إِلَّا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إِذَا كَانَ الْبَلَدُ حَارَتَيْنِ انْعَقَدَتْ فِيهِ جُمْعَتَانِ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : تَنْعَقِدُ جُمْعَتَانِ فِي كُلِّ بَلَدٍ وَلَا تَنْعَقِدُ ثَلَاثُ جُمَعٍ . وَأَجْرَوْا ذَلِكَ مُجْرَى صَلَاةِ الْعِيدِ . وَهَذَا غَلَطٌ .

وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ : أَنَّ الْجُمْعَةَ وَشَرَائِطَهَا مُرْتَبِطٌ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَحْدُودٌ فِيهِ ، فَلَا يُتَجَاوَزُ حُكْمُهَا عَنْ شَرْطِهِ وَفِعْلِهِ ، فَكَانَ مِمَّا وَصَفَ بِهِ الْجُمْعَةَ وَجَعَلَهُ شَرْطًا لَهَا أَنْ عَطَّلَ لَهَا الْجَمَاعَاتِ وَأَقَامَهَا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ، وَعِنْدَ انْتِشَارِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَتِهِمْ ، ثُمَّ جَرَى عَلَيْهِ الْخُلَفَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، بَعْدَهُ ، وَلَوْ جَازَتْ فِي مَوْضِعَيْنِ لَأَبَانَ ذَلِكَ وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً إِمَّا بِقَوْلِهِ أَوْ بِفِعْلِهِ ؛ وَلِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَصِحَّ انْعِقَادُهَا فِي كُلِّ مَسْجِدٍ إِلْحَاقًا بِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ ، أَوْ لَا يَصِحَّ انْعِقَادُهَا إِلَّا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ اخْتِصَاصًا لَهَا بِتَعْطِيلِ الْجَمَاعَةِ إِذْ لَيْسَ أَصْلٌ ثَابِتٌ تُرَدُّ إِلَيْهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ انْعِقَادُهَا فِي كُلِّ مَسْجِدٍ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ انْعِقَادُهَا إِلَّا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ . وَلِأَنَّهُ مِصْرٌ انْعَقَدَتْ فِيهِ الْجُمْعَةُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ فِيهِ غَيْرُهَا كَالْجُمْعَةِ الثَّالِثَةِ . وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالسَّعْيِ عِنْدَ إِقَامَتِهَا ، فَلَوْ جَازَ إِقَامَتُهَا فِي مَوْضِعَيْنِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ السَّعْيُ إِلَيْهِمَا ، إِذْ لَيْسَ أَحَدُهُمْ أَوْلَى بِالسَّعْيِ إِلَيْهِ مِنَ الْآخَرِ ، وَسَعْيُهُ إِلَيْهِمَا مُسْتَحِيلٌ ، وَإِلَى أَحَدِهِمَا غَيْرُ جَائِزٍ ، فَدَلَّ عَلَى فَسَادِهِ . وَلِأَنَّ الْجُمْعَةَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ الَّتِي شُرِطَ فِيهَا الْعَدَدُ وَالْجَمَاعَةُ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَنْعَقِدَ فِي مَوْضِعَيْنِ ، كَمَا لَا تَنْعَقِدُ الْبَيْعَةُ لِإِمَامَيْنِ . فَصْلٌ : إِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا فَالْبِلَادُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : مَا كَانَ مُدُنًا مُتَقَارِبَةً وَقُرًى مُتَدَانِيَةً اتَّصَلَتْ بُنْيَانُهَا وَاجْتَمَعَتْ مَسَاكِنُهَا كَبَغْدَادَ ، فَيَجُوزُ أَنْ تُقَامَ فِيهِ الْجُمْعَةُ فِي مَوْضِعَيْنِ وَأَكْثَرَ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ أَهْلِهَا ، وَقَدْ دَخَلَ الشَّافِعِيُّ بَغْدَادَ فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي مِنَ الْبِلَادِ : مَا كَانَ مِصْرًا لَمْ يُضَمَّ إِلَيْهِ غَيْرُهُ ، وَيُمْكِنُ جَمِيعَهُمْ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ كَالْكُوفَةِ فَهَذَا الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ تُقَامَ الْجُمْعَةُ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْهُ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ مِنَ الْبِلَادِ : مَا كَانَ مِصْرًا لَمْ يُضَمَّ إِلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ جَمِيعَهُمْ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْهُ لِسَعَتِهِ وَكَثْرَةِ أَهْلِهِ كَالْبَصْرَةِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِقَامَةِ الْجُمْعَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْهُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ لِمَا سَبَقَ مِنَ الدَّلَالَةِ ، وَيُصَلِّي النَّاسُ إِذَا ضَاقَ بِهِمْ فِي الشَّوَارِعِ وَالْأَفْنِيَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَفْتَى بِهِ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ تَجُوزُ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ فِي مَوَاضِعَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ : لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزْ لِأَهْلِ هَذَا الْمِصْرِ الْعَظِيمِ أَنْ

يُصَلُّوا إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ لَطَالَ اتِّصَالُ الصُّفُوفِ ، وَلَخَرَجَ عَنْ حَدِّ الْمُتَعَارَفِ ، وَخَفِيَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الْإِمَامِ : لِأَنَّ الْإِمَامَ إِنْ كَبَّرَ عَلَى الْعَادَةِ لَمْ يَصِلِ التَّكْبِيرُ إِلَى آخِرِهِمْ إِلَّا بَعْدَ تَكْبِيرِهِ لِرُكْنٍ ثَانٍ ، فَيَلْتَبِسُ عَلَيْهِمُ التَّكْبِيرُ ، وَتَخْتَلِطُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ ، وَإِنْ كَبَّرَ وَانْتَظَرَ بُلُوغَ التَّكْبِيرِ إِلَى آخِرِهِمْ طَالَ الزَّمَانُ ، وَتَفَاحَشَ الِانْتِظَارُ ، فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى إِقَامَتِهَا فِي مَوَاضِعَ . فَزَعَمَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الْجَوِينَ غَيْرُ الْبَصْرَةِ ، وَأَنَّهَا كَانَتْ فِي الْأَصْلِ دَسْكَرَةً وَأُضِيفَتْ إِلَى الْبَصْرَةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَازَ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ بِهَا وَجْهًا وَاحِدًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَأَيُّهَا جُمِّعَ فِيهِ فَبَدَأَ بِهَا بَعْدَ الزَّوَالِ فَهِيَ الْجُمُعَةُ وَمَا بَعْدَهَا فَإِنَّمَا هِيَ ظُهْرٌ يُصَلُّونَهَا أَرْبَعًا : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَعْدَهُ صَلَّوْا فِي مَسْجِدِهِ ، وَحَوْلَ الْمَدِينَةِ مَسَاجِدُ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْهُمْ جَمَّعَ إِلَّا فِيهِ ، وَلَوْ جَازَ فِي مَسْجِدَيْنِ لَجَازَ فِي مَسَاجِدِ الْعَشَائِرِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا أُقِيمَتْ جُمْعَتَانِ فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ قَدْ مُنِعَ أَهْلُهُ مِنْ إِقَامَةِ جُمْعَتَيْنِ فِيهِ فَلَهُمَا حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَتَّفِقَ أَوْصَافُهُمَا . وَالثَّانِي : أَنْ تَخْتَلِفَ . فَإِنِ اتَّفَقَتْ أَوْصَافُهُمَا فَكَانَا سَوَاءً فِي الْكَثْرَةِ ، وَإِذْنِ السُّلْطَانِ ، أَوْ حُضُورِ نَائِبٍ عَنْهُ ، أَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمُ السُّلْطَانُ ، وَلَا حَضَرَ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ ، فَهُمَا حِينَئِذٍ فِي الْأَوْصَافِ سَوَاءٌ ، فَيُعْتَبَرُ السَّبْقُ ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا فِي السَّبْقِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَا فِيهِ سَوَاءً . وَالثَّانِي : أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَيَتَعَيَّنَ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ أَحَدَهُمْ قَدْ سَبَقَ وَقَدْ أُشْكِلَ . وَالرَّابِعُ : أَنْ لَا يُعْلَمَ هَلْ صَلَّيَا مَعًا أَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ أَسْبَقَ . فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ : أَنْ يَسْتَوِيَا فَلَا يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ إقامة جمعتين قي مصر واحد : فَقَدْ بَطَلَتِ الْجُمْعَتَانِ مَعًا ، وَعَلَيْهِمْ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ قَوْلًا وَاحِدًا لَا يَخْتَلِفُ ، وَإِنَّمَا بَطَلَتَا مَعًا لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ إِقَامَتُهَا وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ أَبْطَلْنَاهُمَا مَعًا ، كَمَنْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ فِي حَالِهِ . وَالْقِسْمِ الثَّانِي : أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا إقامة جمعتين قي مصر واحد وَيَتَعَيَّنَ فَالْجُمْعَةُ لِلسَّابِقِ ، وَيُعِيدُ الْآخِرُ ظُهْرًا أَرْبَعًا : لِأَنَّ انْعِقَادَ الْجُمْعَةِ لِلسَّابِقِ يَمْنَعُ مِنَ انْعِقَادِهَا لِلثَّانِي ، كَالْوَلِيَّيْنِ إِذَا أَنْكَحَا وَسَبَقَ بِالْعَقْدِ أَحَدُهُمَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا وَيُشْكِلَ السَّابِقُ مِنْهُمَا إقامة جمعتين قي مصر واحد فَعَلَيْهِمَا جَمِيعًا إِعَادَةُ الصَّلَاةِ ،

وَقَالَ الْمُزَنِيُّ : لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِمَا لِحُصُولِ الْجُمْعَةِ لَهُمَا فِي الظَّاهِرِ ، فَلَمْ يَجُزْ إِبْطَالُهَا بِالشَّكِّ الطَّارِئِ وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الْيَقِينَ ثُبُوتُ الْجُمْعَةِ فِي الذِّمَّةِ ، وَالشَّكَّ طَارِئٌ فِي سُقُوطِهَا عَنِ الذِّمَّةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ بَاقِيًا لَا يَسْقُطُ إِلَّا بِيَقِينٍ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِعَادَةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمَا فَهَلْ يُعِيدَانِ جُمْعَةً أَوْ ظُهْرًا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي كِتَابِ الْأُمِّ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِمْ إِعَادَةُ الْجُمْعَةِ : لِأَنَّ فَرْضَهَا لَمْ يَسْقُطْ . وَالْقَوْلُ الثَّانِيَ : عَلَيْهِمْ إِعَادَةُ الظُّهْرِ : لِأَنَّ الْجُمْعَةَ قَدْ أُقِيمَتْ مَرَّةً ، وَلَيْسَ جَهْلُنَا بِأَيِّهِمَا الْجُمْعَةُ جَهْلًا بِأَنَّ فِيهِمَا جُمْعَةً ، وَإِذَا أُقِيمَتِ الْجُمْعَةُ مَرَّةً وَاحِدَةً لَمْ يَجُزْ إِقَامَتُهَا ثَانِيَةً . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يُشْكِلَ الْأَمْرُ فِيهِمَا ، فَلَا يُعْلَمُ هَلْ صَلَّيَا مَعًا أَوْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ إقامة جمعتين قي مصر واحد ، فَعَلَيْهِمَا جَمِيعًا إِعَادَةُ الْجُمْعَةِ قَوْلًا وَاحِدًا ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا قَدْ صَلَّيَا مَعًا ، فَلَا تَنْعَقِدُ الْجُمْعَةُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا . فَصْلٌ : وَإِذَا اخْتَلَفَتْ أَوْصَافُهُمَا فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَعْظَمَ لِحُضُورِ السُّلْطَانِ أَوْ مَنْ يَسْتَنِيبُهُ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا فِي السَّبْقِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَسْبِقَ الْأَعْظَمُ ثُمَّ يَتْلُوهُ الْأَصْغَرُ : فَالْجُمْعَةُ لِلْأَعْظَمِ السَّابِقِ ، وَيُعِيدُ الْأَصْغَرُ ظُهْرًا أَرْبَعًا . وَالْقِسْمُ الثَّانِيَ : أَنْ يَسْبِقَ الْأَصْغَرُ ثُمَّ يَتْلُوهُ الْأَعْظَمُ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْجُمْعَةَ لِلْأَصْغَرِ السَّابِقِ ، لِأَنَّ السُّلْطَانَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي انْعِقَادِهَا ، فَلَمْ يَكُنْ حُضُورُهُ مُؤَثِّرًا ، وَوَجَبَ اعْتِدَادُ الْجُمْعَةِ لِلْأَسْبَقِ مِنْهُمَا ، فَعَلَى هَذَا يُعِيدُ أَهْلُ الْأَعْظَمِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْجُمْعَةَ لِلْأَعْظَمِ وَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا : لِأَنَّ فِي تَصْحِيحِ جُمْعَةِ الْأَصْغَرِ إِذَا كَانَ سَابِقًا افْتِيَاتًا عَلَى السُّلْطَانِ ، وَتَعْطِيلًا لَجُمْعَتِهِ ، وَإِشْكَالًا عَلَى النَّاسِ فِي قَصْدِ مَا تَصِحُّ بِهِ الْجُمْعَةُ ، وَلَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى إِفْسَادِ الصَّلَاةِ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى السَّبْقِ طَمَعًا فِي حُصُولِ الْجُمْعَةِ ، وَلَكَانَ ذَلِكَ مُؤَدِّيًا إِلَى أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَ أَرْبَعُونَ فَأَقَامُوا الْجُمْعَةَ فِي مَسْجِدٍ لَا تَظْهَرُ إِقَامَتُهَا ظُهُورًا عَامًّا أَنْ يَمْتَنِعَ السُّلْطَانُ وَبَاقِي النَّاسِ مِنْ إِقَامَتِهَا ، فَلِهَذِهِ الْأُمُورِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْفَسَادِ وَجَبَ تَصْحِيحُ جُمْعَةِ الْأَعْظَمِ وَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُصَلِّيَاهَا مَعًا وَلَا يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْجُمْعَةَ لِلْأَعْظَمِ وَعَلَى أَهْلِ الْأَصْغَرِ أَنْ يُعِيدُوا ظُهْرًا أَرْبَعًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنْ لَا جُمْعَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَأْنِفُوا إِقَامَتَهَا فِيهِ ثَانِيَةً .

الْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا وَيُشْكِلَ : فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ الْجُمْعَةُ لِلْأَعْظَمِ إِذَا اعْتَبَرْنَا حُضُورَ السُّلْطَانِ دُونَ السَّبْقِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا جُمْعَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا اعْتَبَرْنَا السَّبْقَ ، فَعَلَى هَذَا تَلْزَمُهُمُ الْإِعَادَةُ ، قَوْلًا وَاحِدًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا قَدْ صَلَّيَا مَعًا . فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا يُعْتَبَرُ فِي السَّبْقِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ وَذَكَرُهُ الْمُزَنِيُّ فِي " جَامِعِهِ " أَنَّ اعْتِبَارَ السَّبْقِ : بِالْإِحْرَامِ ، فَأَيُّهُمَا أَحْرَمَ أَوَّلًا كَانَ سَابِقًا وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ أَسْبَقَ سَلَامًا : لِأَنَّ الْجُمْعَةَ تَنْعَقِدُ بِالْإِحْرَامِ ، وَإِذَا انْعَقَدَتْ بِهِ مَنَعَتْ مِنَ انْعِقَادِ غَيْرِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالسَّلَامِ ، فَأَيُّهُمَا سَلَّمَ أَوَّلًا كَانَ سَابِقًا وَإِنْ كَانَ الْأَخِيرُ أَسْبَقَ إِحْرَامًا : لِأَنَّ سُقُوطَ الْفُرُوضِ يَكُونُ بِصِحَّةِ الْأَدَاءِ ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْفَرَاغِ دُونَ الْإِحْرَامِ . وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
باب التبكير إلى الجمعة

بَابُ التَّبْكِيرِ إِلَى الْجُمْعَةِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ بْنُعُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهُرِيِّ ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةَ ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً ، قَالَ : فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَالْبُكُورُ إِلَى الْجُمْعَةِ مُسْتَحَبٌّ بِدَلِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى : أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [ الْمُؤْمِنُونَ : ] . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ وَغَسَلَ وَاغْتَسَلَ وَغَدَا وَانْتَظَرَ وَأَنْصَتَ وَلَمْ يَلْغُ كَانَتْ كَفَارَةً لَهُ مِنَ الْجُمُعَةِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " بَكَّرَ " يَعْنِي فِي الزَّمَانِ . وَ " ابْتَكَرَ " يَعْنِي فِي الْمَكَانِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ حَضَرَتِ الْمَلَائِكَةُ يَكْتُبُونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ ، حَتَّى إِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ طُوِيَتِ الصُّحُفُ يَعْنِي الصُّحُفَ الَّتِي يُكْتَبُ فِيهَا ، وَلِأَنَّهُ إِذَا بَكَّرَ مُنْتَظِرًا لِلصَّلَاةِ كَانَ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّينَ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَإِنَّ أَحَدَكُمْ فِي الصَّلَاةِ مَا كَانَ يَعْمِدُ لِلصَّلَاةِ فَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا لَهُ الْبُكُورَ إِلَى الْجُمْعَةِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَوَّلِ زَمَانِ الْبُكُورِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَهُوَ أَوَّلُ الْيَوْمِ الثَّانِي . وَالثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ ؟ لِيَكُونَ مَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ زَمَانَ غُسْلٍ وَتَأَهُّبٍ . فَإِذَا بَكَّرَ فِي الزَّمَانِ فَيُخْتَارُ أَنْ يُبَكِّرَ فِي الْمَكَانِ ، فَيَجْلِسَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ آداب الجمعة ، قَالَ

الشَّافِعِيُّ : وَلَا فَضْلَ لِلْمَقْصُورَةِ عَلَى غَيْرِهَا : لِأَنَّهُ شَيْءٌ مُحْدَثٌ ، قِيلَ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَهُ مُعَاوِيَةُ ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا الصَّفَّ الْأَوَّلَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالَصَفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا . وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ عَلَى الْإِمَامِ ثُمَّ عَلَى الصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ ثُمَّ عَلَى الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَأُحِبُّ التَّبْكِيرَ إِلَيْهَا وَأَنْ لَا تُؤْتَى إِلَّا مَشْيًا لَا يَزِيدُ عَلَى سَجِيَّةِ مِشْيَتِهِ وَرُكُوبِهِ وَلَا يُشَبِّكُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ لِقُوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلَاةِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . يُكْرَهُ الرُّكُوبُ إِلَى الْجُمْعَةِ ، وَيُخْتَارُ إِتْيَانُهَا مَشْيًا ، لِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ قَالَ : مَا رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِيدٍ وَلَا جِنَازَةٍ قَطُّ وَلِمَا فِيهِ مِنْ أَذَى النَّاسِ وَمُزَاحَمَتِهِمْ ، وَيُخْتَارُ إِذَا مَشَى أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى سَجِيَّتِهِ فِي مِشْيَتِهِ ، وَقَدْ حُكِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَسْعَى إِلَى الْجُمْعَةِ سَعْيًا : لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَهَذَا عِنْدَ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ ، وَهُوَ عِنْدَنَا مَكْرُوهٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ إِلَى الْجُمُعَةِ وَتَسْعَوْنَ سَعْيًا فَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِجَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ : ائْتِ الْجُمُعَةَ عَلَى هِينَتِكَ فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْرَؤُهَا : فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ، وَمَنْ قَرَأَهَا : " فَاسْعَوْا " . قَالَ أَرَادَ بِهِ الْقَصْدَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [ النَّجْمِ : ] . وَقَالَ قَيْسُ بْنُ الْأَسْلَتِ : أَسْعَى عَلَى جُلِّ بَنِي مَالِكٍ كُلُّ امْرِئٍ فِي شَأْنِهِ سَاعِي وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ : لَوْ كَانَ مَعْنَاهُ السَّعْيُ لَسَعَيْتُ حَتَّى يَسْقُطَ رِدَائِي . وَيُخْتَارُ لِمَنْ تَوَجَّهَ إِلَى الْجُمْعَةِ أَنْ لَا يَشْتَغِلَ بِغَيْرِ قَصْدِهِ ، وَلَا يَعْبَثَ بِيَدِهِ ، وَلَا يُشَبِّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ : لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِذَا انْتَظَرَ أَحَدُكُمُ الصَّلَاةَ فَلَا يُشَبِّكْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَيْهَا .

بَابُ الْهَيْئَةِ إِلَى الْجُمْعَةِ

بَابُ الْهَيْئَةِ إِلَى الْجُمْعَةِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ السَّبَّاقِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي جُمْعَةٍ مِنَ الْجُمَعِ : يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ إِنَّ هَذَا يَوْمٌ جَعَلَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِيدَا لِلْمُسْلِمِينَ فَاغْتَسِلُوا وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طِيبٌ فَلَا يَضُرُّهُ أَنْ يَمَسَّ مِنْهُ وَعَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَأُحِبُّ أَنْ يَتَنَظَّفَ بِغُسْلٍ وَأَخْذِ شَعْرٍ وَظُفْرٍ وَعِلَاجٍ لِمَا يَقْطَعُ تَغْيِيرَ الرِّيحِ مِنْ جَمِيعِ جَسَدِهِ وَسِوَاكٍ وَيَسْتِحْسِنَ ثِيَابَهُ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَيُطَيِّبَهَا اتِّبَاعَا لِلسُّنَّةِ وَلِئَلَّا يُؤْذِيَ أَحَدًا قَارَبَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . قَدْ ذَكَرْنَا اسْتِحْبَابَ غُسْلِ الْجُمْعَةِ وَالْبُكُورِ إِلَيْهَا لَكِنْ يُخْتَارُ ذَلِكَ بَعْدَ حَلْقِ الشَّعْرِ ، وَتَقْلِيمِ الْأَظَافِرِ وَتَنْظِيفِ الْجَسَدِ مِنَ الْوَسَخِ يوم الجمعة ، وَعِلَاجِ مَا يَقْطَعُ الرَّائِحَةَ الْمُؤْذِيَةَ مِنَ الْجَسَدِ ، وَالسِّوَاكِ ، وَمَسِّ الطِّيبِ يوم الجمعة ، وَلُبْسِ أَنْظَفِ الثِّيَابِ يوم الجمعة لِيَكُونَ عَلَى أَحْسَنِ هَيْئَةٍ وَأَجْمَلِ زِيٍّ ، لِمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ مِنَ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَلِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَاسْتَاكَ ، وَلَبِسَ أَحَسَنَ ثِيَابِهِ ، وَمَسَّ طِيبًا إِنْ وَجَدَهُ ، وَأَتَى الْجُمُعَةَ ، وَلَمْ يَتَخَطَّ رِقَابَ النَّاسِ ، وَأَنْصَتَ حَتَى يَخْرُجَ الْإِمَامُ ، كَانَتْ كَفَارَتُهُ مِنَ الْجُمْعَةِ إِلَى الَّتِي تَلِيهَا . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ : مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [ الْأَنْعَامِ : ] .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَأَحَبُّ مَا يُلْبَسُ إِلَيَّ الْبَيَاضُ فَإِنْ جَاوَزَهُ بِعُصَبِ الْيَمَنِ وَالْقَطَرِيِّ وَمَا أَشْبَهَهُ مِمَّا يُصْنَعُ غَزْلُهُ وَلَا يُصْبَغُ بَعْدَ مَا يُنْسَجُ فَحَسَنٌ ، وَأَكْرَهُ لِلنِّسَاءِ الطِّيبَ وَمَا يُشْتَهُونَ بِهِ ، وَأُحِبُّ لِلْإِمَامِ مِنْ حُسْنِ الْهَيْئَةِ أَكْثَرَ وَأَنْ يَعْتَمَّ وَيْرَتَدِيَ بِبُرْدٍ ، فَإِنَّهُ يُقَالُ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَمُّ وَيَرْتَدِي بِبُرْدٍ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : بَعْدَمَا يُنْسَجُ ، فَحَسَنٌ . الْبَابَ إِلَى آخِرِهِ . وَهَذَا كَمَا قَالَ . يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ تَكُونَ ثِيَابُ جُمْعَتِهِ وَعِيدِهِ أَجْمَلَ مِنْ ثِيَابِهِ فِي سَائِرِ أَيَّامِهِ : لِأَنَّهُ يَوْمُ زِينَةٍ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَا عَلَى أَحَدِكُمْ لَوِ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ جُمْعَتِهِ سِوَى ثَوْبَيْ مَهِنَتِهِ . وَيُخْتَارَ مِنَ الثِّيَابِ الْبَيَاضُ يوم الجمعة ، فَيَلْبَسُهُ أَحْيَاؤُكُمْ وَكَفِّنُوا بِهَا مَوْتَاكُمْ فَإِنِ اسْتَحْسَنَ لُبْسَ غَيْرِ الْبَيَاضِ فَالْمُخْتَارُ مِنْهُ مَا صُبِغَ غَزْلُهُ قَبْلَ نَسْجِهِ كَالْحُلَلِ ، وَالْأَبْرَادِ وَالْقَطَرِيِّ ، وَعُصَبِ الْيَمَنِ ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْتَدِي بِرِدَاءٍ أَسْحَمِيٍّ ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَعْتَمَّ من وجبت عليه الجمعة ، وَيَرْتَدِيَ : اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْعَمَائِمُ تِيجَانُ الْعَرَبِ . وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَعْمَلَ مِنَ الطِّيبِ مَا كَانَ زَكِيَّ الرَّائِحَةِ يوم الجمعة خَفِيَّ اللَّوْنِ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : طِيبُ الرَّجُلِ مَا ظَهَرَ رِيحُهُ وَبَطُنَ لَوْنُهُ ، وَطِيبُ الْمَرْأَةِ مَا ظَهَرَ لَوْنُهُ وَبَطُنَ رِيحُهُ . وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ مِنْ حُسْنِ الْهَيْئَةِ وَجَمَالِ الزِّيِّ أَكْثَرُ مِمَّا يُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ لِأَنَّهُ مُتَّبَعٌ . فَأَمَّا النِّسَاءُ فَمَنْ كَانَتْ ذَاتَ هَيْئَةٍ وَجِمَالٍ مُنِعَتْ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْجُمْعَةِ للنساء : صِيَانَةً لَهَا ، وَخَوْفًا مِنَ الِافْتِتَانِ بِهَا ، فَأَمَّا غَيْرُ ذَوَاتِ الْهَيْئَاتِ فَلَا يُمْنَعْنَ ، وَيَخْرُجْنَ غَيْرَ مُتَزَيِّنَاتٍ ، وَلَا مُتَطَيِّبَاتٍ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ ، وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلَاتٍ .

فَصْلٌ يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِمَامًا لَا يَصِلُ إِلَى مُصَلَّاهُ إِلَّا بِالتَّخَطِّي

فَصْلٌ : يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يوم الجمعة ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِمَامًا لَا يَصِلُ إِلَى مُصَلَّاهُ إِلَّا بِالتَّخَطِّي ، أَوْ يَكُونَ مَأْمُومًا لَا يَجِدُ مَوْضِعًا وَيَرَى أَمَامَهُ فُرْجَةً ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَخَطَّى لِلضَّرُورَةِ صَفًّا أَوْ صَفَّيْنِ . وَإِنَّمَا كَرِهْنَا التَّخَطِّيَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَذَى ، وَسُوءِ الْأَدَبِ ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَبْصَرَ رَجُلًا يَتَخَطَّى النَّاسَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ لَهُ : آنَيْتَ وَآذَيْتَ يَعْنِي أَنَّهُ أَبْطَأَ بِالْمَجِيءِ

وَآذَى النَّاسَ بِتَخَطِّي رِقَابِهِمْ ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : " لَأَنْ أُصَلِّيَ بِحَرَّةٍ رَمْضَاءَ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ " . وَأَغْلَظُ فِي الْكَرَاهَةِ أَنْ يَتَخَطَّى رِقَابَهُمْ بِنَعْلِهِ .

فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَأَكْرَهُ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ مِنْ مَجْلِسِهِ لِيَجْلِسَ فِي مَوْضِعِهِ صلاة الجمعة : لِمَا لِلْأَوَّلِ مِنْ حَقِّ السَّبْقِ ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا يُقِيمَنَّ أَحَدُكُمُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ حَتَّى يَخْلُفَهُ فِيهِ وَلْيَقُلْ تَوَسَّعُوا وَتَفَسَّحُوا فَإِنْ قَامَ الرَّجُلُ لَهُ مُخْتَارًا عَنْ مَجْلِسِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يُكْرَهْ لَهُ الْجُلُوسُ فِيهِ ، وَكَرِهْنَا ذَلِكَ لِلْقَائِمِ إِلَّا أَنْ يَعْدِلَ لِمِثْلِ مَجْلِسِهِ أَوْ خَيْرٍ مِنْهُ لِقُرْبِهِ مِنَ الْإِمَامِ ، فَلَوْ بَعَثَ رَجُلًا يَأْخُذُ لَهُ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ مَوْضِعًا لَمْ يُكْرَهْ لَهُ ذَلِكَ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ يَبْعَثُ بِغُلَامِهِ لِيَأْخُذَ لَهُ مَوْضِعًا ، فَإِذَا جَاءَ جَلَسَ فِيهِ ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا جَلَسَ فِي مَوْضِعٍ ثُمَّ أَرَادَ الِانْتِقَالَ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ يوم الجمعة كَرِهْنَا لَهُ ذَلِكَ ، إِلَّا أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى مَوْضِعٍ أَفْضَلَ مِنْ مَوْضِعِهِ ، أَوْ يَكُونَ قَدْ غَلَبَهُ النُّعَاسُ فَأَرَادَ الِانْتِقَالَ لِطَرْدِ النَّوْمِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يُكْرَهُ لَهُ ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا جَلَسَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمَسْجِدِ ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ لِعَارِضٍ ، ثُمَّ عَادَ وَقَدْ سَبَقَهُ غَيْرُهُ إِلَى مَوْضِعِهِ فَالسَّابِقُ إِلَى الْمَوْضِعِ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْعَائِدِ إِلَيْهِ ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُتَنَحَّى لَهُ عَنِ الْمَوْضِعِ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِذَا قَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ .

الْبَيْعُ قَبْلَ أَذَانِ الْجُمْعَةِ لَا بَأْسَ بِهِ أَمَّا بَعْدَ الْأَذَانِ فَمَكْرُوهٌ

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْبَيْعُ قَبْلَ أَذَانِ الْجُمْعَةِ فَلَا بَأْسَ بِهِ ، فَأَمَّا بَعْدَ الْأَذَانِ فَمَكْرُوهٌ لِنَهْيِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ لِمَنْ لَزِمَهُ الذَّهَابُ إِلَى الْجُمْعَةِ ، أَمَّا مَنْ لَمْ يَلْزَمْهُ الذَّهَابُ إِلَيْهَا فَمُبَاحٌ لَهُ الْبَيْعُ . وَإِنْ بَاعَ لِمَنْ لَزِمَهُ الذَّهَابُ إِلَيْهَا فَمَكْرُوهٌ ، وَيُكْرَهُ لَا يَلْزَمُهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ عَاوَنَهُ عَلَى مَحْظُورٍ ، إِلَّا أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ وَالْبَيْعُ لَا يَبْطُلُ بِحَالٍ وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا ، لِأَنَّ الْحَظْرَ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِنَفْسِ الْبَيْعِ ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِاشْتِغَالِهِ عَنِ الذَّهَابِ .

فَصْلٌ : رَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ فَلْيَتَصَدَّقْ بِدِينَارٍ أَوْ بِنِصْفِ دِينَارٍ . وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ تَرَكَ الْجُمْعَةَ غَيْرَ مَعْذُورٍ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَذَا الْقَدْرِ ، وَلَا يَلْزُمُهُ ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ بِثَابِتٍ ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَجِبُ فِيهَا الْكَفَّارَةُ بِحَالٍ .



فَصْلٌ : وَتُخْتَارُ الزِّيَادَةُ مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ ، وَالْإِكْثَارِ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةِ الْجُمْعَةِ وَيَوْمِهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ أَقْرَبَكُمْ مِنِّي فِي الْجَنَّةِ أَكْثَرُكُمْ صَلَاةً عَلَيَّ أَلَا فَأَكْثِرُوا مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيَّ فِي اللَّيْلَةِ الْغَرَّاءِ وَالْيَوْمِ الْأَزْهَرِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : يَعْنِي لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ وَيَوْمَ الْجُمْعَةِ . وَيُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ سُورَةِ الْكَهْفِ لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ وَيَوْمَ الْجُمْعَةِ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ قَرَأَهَا وُقِيَ فِتْنَةَ الدَّجَّالِ . وَاللَّهُ الْمُعِينُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ
بيان الأصل في صلاة الخوف

بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِذَا صَلَّوْا فِي سَفَرٍ صَلَاةَ الْخَوْفِ مِنْ عَدُوٍّ غَيْرِ مَأْمُونٍ صَلَى الْإِمَامُ بِطَائِفَةٍ رَكْعَةً وَطَائِفَةٌ وُجَاءَةُ الْعَدُوِّ ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا قَامَ فَثَبَتَ قَائِمًا وَأَطَالَ الْقِيَامَ وَأَتَمَّتِ الطَّائِفَةُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهَا تَقْرَأُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ وَتُخَفِّفُ ، ثُمَّ تُسَلِّمُ وَتَنْصَرِفُ فَتَقِفُ وُجَاءَ الْعَدُوِّ وَتَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَيُصَلِّي بِهَا الْإِمَامُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهِ فَيَقْرَأُ فِيهَا بَعْدَ إِتْيَانِهِمْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ قَصِيرَةٍ وَيَثْبُتُ جَالِسًا وَتَقُومُ الطَّائِفَةُ فَتُتِمُّ لِأَنْفُسِهَا الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ قَصِيرَةٍ ثُمَّ تَجْلِسُ مَعَ الْإِمَامِ قَدْرَ مَا يَعْلَمُهُمْ تَشَهَّدُوا ثُمَّ يُسَلِّمُ بِهِمْ وَقَدْ صَلَّتِ الطَّائِفَةُ جَمِيعًا مَعَ الْإِمَامِ وَأَخَذَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَعَ إِمَامِهَا مَا أَخِذَتِ الْأُخْرَى مِنْهُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ [ النِّسَاءِ ] الْآيَةَ . وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ نَحْوَ ذَلِكَ يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : وَالْأَصْلُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ : قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [ النِّسَاءِ : ] الْآيَةَ ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي مَوَاضِعَ ذَكَرَهَا أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ . وَالصَّحِيحُ الثَّابِتُ مِنْهَا عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ : وَهِيَ صَلَاتُهُ بِ " ذَاتِ الرِّقَاعِ " وَصَلَاتُهُ بِ " عُسْفَانَ " وَصَلَاتُهُ بِ " بَطْنِ النَّخْلِ " . فَأَمَّا صَلَاتُهُ بِ " ذَاتِ الرِّقَاعِ " فَرَوَاهَا مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ عَنْ أَبِيهِ أَوْ قَالَ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثَمَةَ .

وَأَمَّا صَلَاتُهُ بِعُسْفَانَ : فَرَوَاهَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، وَأَمَّا صَلَاتُهُ بِبَطْنِ النَّخْلِ فَرَوَاهَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي بَكَرَةَ . فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَصَلَاةُ الْخَوْفِ جَائِزَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَنْ بَعْدَهُ مِنْ أُمَّتِهِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالْمُزَنِيُّ : صَلَاةُ الْخَوْفِ حكمها مَخْصُوصَةٌ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ أُمَّتِهِ ، وَهِيَ الْيَوْمَ مَنْسُوخَةٌ لَا يَجُوزُ فِعْلُهَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [ النِّسَاءِ : ] . فَدَلَّ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِفِعْلِهَا . وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ فِعْلِهَا إِلَى الْيَوْمِ ، فِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي . وَلِأَنَّ ذَلِكَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . رُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى الْخَوْفَ بِأَصْحَابِهِ لَيْلَةَ الْهَرِيرِ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْشَامِ " . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ صَلَّاهَا بِأَصْحَابِهِ وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أَنَّهُ صَلَّاهَا بِالنَّاسِ بِطَبَرِسْتَانَ وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ . فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ [ النِّسَاءِ : ] . فَهَذَا وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَاجَهًا بِهَا ، فَهُوَ وَسَائِرُ أُمَّتِهِ شُرَكَاءُ فِي حُكْمِهِ إِلَّا أَنْ يَرِدَ النَّصُّ بِتَخْصِيصِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : خَالِصَةً لَكَ نَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [ الطَّلَاقِ : ] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي [ التَّحْرِيمِ : ] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [ الْأَحْزَابِ : ] . فَكَانَ هُوَ وَأُمَّتُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءً ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُوَاجَهَ بِهِ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ وَلَوْ سَاغَ لِهَذَا الْقَائِلِ تَأْوِيلُهُ فِي الصَّلَاةِ لَسَاغَ لِأَهْلِ الرِّدَّةِ فِي الزَّكَاةِ وَقَدْ أَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى رَدِّ قَوْلِهِمْ وَإِبْطَالِ تَأْوِيلِهِمْ .

لا تَأْثِيرَ لِلْخَوْفِ فِي إِسْقَاطِ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ فِعْلِهَا إِلَى الْيَوْمِ فَلَا تَأْثِيرَ لِلْخَوْفِ فِي إِسْقَاطِ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ بَلْ يُصَلِّيهَا أَرْبَعًا إِنْ كَانَ مُقِيمًا أَوْ رَكْعَتَيْنِ إِنْ كَانَ مُسَافِرًا ، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي صِيَانَتِهَا وَتَغَيُّرِ صِفَةِ أَدَائِهَا ، وَحُكِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي السَّفَرِ رَكْعَةٌ ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَطَاوُسٌ ، اسْتِدْلَالًا بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَبِرِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : " فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً " . قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ شَطْرُ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ ، وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِالْخَوْفِ شَطْرٌ آخَرُ لِتَزَايُدِ الْمَشَقَّةِ . وَدَلِيلُنَا مَا نُقِلَ مِنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَمَاكِنِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا صَلَاةَ الْخَوْفِ عَلَى مَا سَيَأْتِي شَرْحُهُ . فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ مَعَهُ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى رَكْعَةٍ مَنْ فَرْضِهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ مَا ثَبَتَ بِالشَّرْعِ إِجْمَاعًا بِمَا لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ وَلَا انْعَقَدَ بِهِ الْإِجْمَاعُ ؛ وَلِأَنَّ الْمَأْمُومَ إِذَا سَاوَى الْإِمَامَ فِي صِفَتِهِ وَحَالِهِ سَاوَاهُ فِي قَدْرِ الصَّلَاةِ وَكَيْفِيَّتِهَا كَمَا لَوْ كَانَا حَاضِرَيْنِ أَوْ مُسَافِرَيْنِ فَلَمْ يَجُزْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى رَكْعَةٍ وَإِنْ كَانَ خَائِفًا لَمْ يَجُزْ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى رَكْعَةٍ إِذَا كَانَ خَائِفًا . الْجَوَابُ : أَمَّا الْآيَةُ فَلَيْسَ فِي ظَاهِرِهَا دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ ، وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَلَمْ يَنْقُلْ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِنَّمَا رَوَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ وَمَا نَقَلْنَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافَهُ فَلَمْ يَلْزَمْ ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ السَّفَرِ أَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ بِهِ شَطْرُ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ كَذَلِكَ بِالْخَوْفِ : فَيَبْطُلُ بِالْإِمَامِ ، عَلَى أَنَّ لِلْخَوْفِ تَأْثِيرًا فِي الصَّلَاةِ إِذَا اشْتَدَّ لِأَنَّهُ يُصَلِّي رَاكِبًا وَنَازِلًا إِلَى قِبْلَةٍ أَوْ إِلَى غَيْرِ قِبْلَةٍ حَسَبَ الْإِمْكَانِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْخَوْفَ لَا يُسْقِطُ مِنْ عَدَدِ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ شَيْئًا ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ وَصِفَةِ أَدَائِهَا صلاة الخوف ، فَإِذَا كَانَ الْعَدُوُّ غَيْرَ مَأْمُونٍ وَقَدِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ بِوَجْهِهِ وَاسْتَدْبَرَهَا الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَأْمَنِ الْإِمَامُ نِكَايَةَ الْعَدُوِّ إِنْ وَلَّاهُ ظَهْرَهُ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرِّقَ أَصْحَابَهُ فَرِيقَيْنِ : فَرِيقٌ تُجَاهَ الْعَدُوِّ وَيُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَةً ، فَإِذَا قَامَ إِلَى الثَّانِيَةِ فَارَقُوهُ وَأَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ وَالْإِمَامُ قَائِمٌ فِي الثَّانِيَةِ ، فَإِذَا فَرَغُوا وَقَفُوا تُجَاهَ الْعَدُوِّ ، وَجَاءَتْ تِلْكَ الطَّائِفَةُ فَصَلَّى الْإِمَامُ بِهَا الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ ثُمَّ قَامُوا فَأَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ وَالْإِمَامُ جَالِسٌ فِي التَّشَهُّدِ يَنْتَظِرُهُمْ ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ سَلَّمَ بِهِمْ وَهَذِهِ صَلَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَاتِ الرِّقَاعِ . رَوَاهَا الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ عَنْ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ بِذَاتِ الرِّقَاعِ وَوَصَفَ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَرَوَاهُ صَالِحُ بْنُ خَوَّاتٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثَمَةَ أَيْضًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُصَلِّي بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً ثُمَّ تَمْضِي فَتَقِفُ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ ، ثُمَّ يُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَةً وَيُسَلِّمُ ، ثُمَّ تَمْضِي هَذِهِ الطَّائِفَةُ وَتَقِفُ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ ، ثُمَّ تَخْرُجُ تِلْكَ فَتُتِمُّ

صَلَاتَهَا وَتَقِفُ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ ، ثُمَّ تُتِمُّ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ صَلَاتَهَا وَنُسِبَتْ هَذِهِ الصَّلَاةُ إِلَى ذَاتِ السَّلَاسِلِ وَذِي قَرَدَ ، وَرَوَاهَا سَالِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ وَسَاقَ مَا حَكَاهُ . وَإِذَا تَقَابَلَ الْحَدِيثَانِ وَجَبَ الِاسْتِدْلَالُ بِتَرْجِيحِ الْأَخْبَارِ وَتَقْدِيمِ أَحَدِ الْمَذْهَبَيْنِ بِشَوَاهِدِ الْأُصُولِ ، فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَرَجَّحَ مَذْهَبَهُ بِشَوَاهِدِ الْأُصُولِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ قَالَ : وُجِدَتِ الْأُصُولُ مَبْنِيَّةً عَلَى الْمَأْمُومِ لَا يَخْرُجُ مِنَ الصَّلَاةِ قَبْلَ إِمَامِهِ وَلَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ أَفْعَالِهَا مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ، وَمَذْهَبُكُمْ يُؤَدِّي إِلَى هَذَا فِي الطَّائِفَةِ الْأُولَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ التَّرْجِيحِ أَنْ قَالَ : وَالْأُصُولُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ يَنْتَظِرُ الْإِمَامَ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْتَظِرَ الْمَأْمُومَ ، وَمَذْهَبُكُمْ يُؤَدِّي إِلَى هَذَا فِي الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ . وَمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ يَقْتَضِيهِ ، وَالسُّنَّةُ تَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَالْأُصُولُ تَشْهَدُ لَهُ ، وَأَمَّا الْكِتَابُ فَيَقْتَضِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [ النِّسَاءِ : ] فَأَضَافَ الْفِعْلَ إِلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ [ النِّسَاءِ : ] . فَأَضَافَ فِعْلَ السُّجُودِ عَلَيْهِمْ ، فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ انْفِرَادَهُمْ بِهِ ، ثُمَّ أَبَاحَهُمْ الِانْصِرَافَ بَعْدَ فِعْلِهِ فَصَارَ تَقْدِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ ، صَلَّيْتَ بِهِمْ رَكْعَةً ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْقِيَامِ الَّذِي هُوَ رَكْنٌ فِيهَا ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ [ النِّسَاءِ : ] . أَيْ : صَلَّوُا الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ فَلْيَنْصَرِفُوا . فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالسُّجُودِ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ فِيهَا ، فَسَقَطَ بِهِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الطَّائِفَةِ الْأُولَى . وَالثَّانِي : قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ [ النِّسَاءِ : ] . فَظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى : لَمْ يُصَلُّوا أَيْ لَمْ يُصَلُّوا شَيْئًا مِنْهَا ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ أَيْ جَمِيعَ الصَّلَاةِ بِكَمَالِهَا ، فَسَقَطَ بِهِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَيْنَاهُ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَشْهَرُ . وَالثَّانِي : أَنَّ رُوَاتَهُ أَكْثَرُ . وَأَمَّا الِاسْتِشْهَادُ بِالْأُصُولِ : فَهِيَ تَشْهَدُ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ ، وَعَلَى تَرْجِيحِ مَذْهَبِنَا مِنْ وَجْهَيْنِ .

فَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي إِفْسَادِ مَذْهَبِهِ . فَأَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَشْيَ وَالْعَمَلَ إِذَا كَثُرَ فِي الصَّلَاةِ فِي حَالِ الِاجْتِيَازِ أَبْطَلَهَا وَمَذْهَبُهُ يَقْتَضِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ اسْتِدْبَارَ الْقِبْلَةِ فِي حَالِ الِاجْتِيَازِ يُبْطِلُهَا وَمَذْهَبُهُ يَقْتَضِيهِ . وَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي تَرْجِيحِ مَذْهَبِنَا : فَأَحَدُهُمَا : أَنَّ تَسْوِيَةَ الْإِمَامِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَوْلَى وَمَذْهَبُنَا يَقْتَضِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ لِلْأُولَى رَكْعَةً ، وَإِحْرَامُ وَالثَّانِيَةِ رَكْعَةٌ وَسَلَامٌ فَتَسَاوَتِ الرَّكْعَتَانِ وَكَانَ الْإِحْرَامُ مُقَابِلًا لِلسَّلَامِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا كَانَ أَبْلَغَ فِي الِاحْتِرَازِ مِنَ الْعَدُوِّ كَانَ أَوْلَى وَمَذْهَبُنَا يَقْتَضِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِسُرْعَةِ الْفَرَاغِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَنْ يَحْرُسُ غَيْرَ مُصَلٍّ يَقْدِرُ عَلَى خَوْفِ الْعَدُوِّ وَقِتَالِهِ ، فَأَمَّا تَرْجِيحُهُ الْأَوَّلُ : فَيَفْسُدُ بِالْإِمَامِ إِذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَاسْتَخْلَفَ ، وَأَمَّا تَرْجِيحُهُ الثَّانِي فَيَفْسُدُ بِالْإِمَامِ إِذَا كَانَ رَاكِعًا فَانْتَظَرَ دَاخِلًا فِي الصَّلَاةِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ أَنَّ مَا وَصَفْنَاهُ مِنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ أَوْلَى وَأَصَحُّ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ إِذَا صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَةً أَنْ يَقُومَ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مُنْتَظِرًا لِفَرَاغِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى وَدُخُولِ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ ، فَإِنِ اعْتَدَلَ قَائِمًا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ أَخْرَجَتْ حِينَئِذٍ الطَّائِفَةُ الْأُولَى نَفْسَهَا مِنْ صَلَاتِهِ وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ وَلَا بُدَّ أَنْ يَنْوُوا الْخُرُوجَ مِنْ صَلَاتِهِ عِنْدَ مُفَارَقَتِهِ ، فَإِنْ فَارَقُوهُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَسْبِقَ إِمَامَهُ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَهُوَ مُؤْتَمٌّ بِهِ ، فَإِذَا نَوَوْا إِخْرَاجَ أَنْفُسِهِمْ عِنْدَ قِيَامِهِمْ أَتَمُّوا الصَّلَاةَ وَأَجْزَأَتْهُمْ . فَلَوْ خَالَفَ الْإِمَامُ فَانْتَظَرَهُمْ جَالِسًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ : لِأَنَّ فَرْضَهُ الْقِيَامُ ، وَمَنِ اسْتَدَامَ الْجُلُوسَ فِي مَوْضِعِ الْقِيَامِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ، فَأَمَّا الطَّائِفَةُ الْأُولَى فَصَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّهُمْ أَخْرَجُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ إِمَامَتِهِ قَبْلَ بُطْلَانِ صَلَاتِهِ ، لِأَنَّ صَلَاتَهُ بَطَلَتْ بِاسْتِدَامَةِ الْجُلُوسِ لَا بِابْتِدَائِهِ وَهُمْ أَخْرَجُوا أَنْفُسَهُمْ مَعَ ابْتِدَاءِ جُلُوسِهِ ، فَأَمَّا الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَصَلَاتُهُمْ بَاطِلَةٌ إِنْ عَلِمُوا بِحَالِهِ وَجَائِزَةٌ إِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِحَالِهِ . فَإِذَا صَحَّ أَنَّ الْإِمَامَ يَنْتَظِرُهُمْ قَائِمًا فِي الثَّانِيَةِ ، فَهَلْ يَقْرَأُ فِي انْتِظَارِهِ قَائِمًا أَمْ لَا ؟ : عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْأُمِّ : يَذْكُرُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَيُسَبِّحُهُ وَلَا يَقْرَأُ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ الطَّائِفَةِ مَعَهُ لِيُسَوِّيَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ فِي الْقِرَاءَةِ وَلَا يُفَضِّلَ .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ بِأَنَّهُ يَقْرَأُ ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ مَحَلٌّ لِلْقِرَاءَةِ لَا لِلْإِنْصَاتِ وَالذِّكْرِ ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَمْتَنِعُ مِنْ تَخْرِيجِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَيَقُولُ : الْمَسْأَلَةُ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ ، فَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ : لَا يَقْرَأُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ إِنْ قَرَأَ لَمْ تُدْرِكِ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ مَعَهُ الْقِرَاءَةَ ، وَقَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ : يَقْرَأُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُمْ يُدْرِكُونَ مَعَهُ الْقِرَاءَةَ وَعَلَى كِلَا الْحَالَيْنِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْكَعَ قَبْلَ دُخُولِ الثَّانِيَةِ مَعَهُ فَإِنْ رَكَعَ وَأَدْرَكُوهُ رَاكِعًا أَجْزَأَتْهُمُ الرَّكْعَةُ . وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مُخَالِفًا صَلَاةَ الْخَوْفِ ، مُفَضِّلًا لِلطَّائِفَةِ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ فَإِذَا رَفَعَ رَأَسَهُ مِنَ السُّجُودِ وَجَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ ، فَهَلْ يُفَارِقُونَهُ قَبْلَ تَشَهُّدِهِ أَوْ بَعْدَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بَعْدَ تَشَهُّدِهِ ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِمُ اتِّبَاعَهُ إِلَى آخِرِ صَلَاتِهِمْ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَأْمُومِينَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ يُفَارِقُونَهُ قَبْلَ تَشَهُّدِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْرَعُ فِي الْفَرَاغِ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا فَارَقُوهُ قَبْلَ التَّشَهُّدِ فَهَلْ يَتَشَهَّدُ قَبْلَ فَرَاغِهِمْ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي الْقِرَاءَةِ . أَحَدُهُمَا : يَتَشَهَّدُ فِي انْتِظَارِهِ ، فَإِذَا أَتَمُّوا تَشَهَّدَ بِهِمْ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّحِيحُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَجْلِسَ مُنْتَظِرًا يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُسَبِّحُهُ فَإِذَا أَتَمُّوا تَشَهَّدَ بِهِمْ وَسَلَّمَ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ إِذَا فَارَقُوهُ لِإِتْمَامِ صَلَاتِهِمْ أَنْ يَنْوُوا الْخُرُوجَ مِنْ إِمَامَتِهِ بِخِلَافِ مَا قُلْنَا فِي الطَّائِفَةِ الْأُولَى . فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأُولَى تُرِيدُ سَبْقَ الْإِمَامِ وَلَا يُمْكِنُهُمْ سَبْقُهُ مَعَ الْإِتْمَامِ بِهِ ، وَالثَّانِيَةَ تُرِيدُ لِحَوْقَ الْإِمَامِ فَلَمْ يَجُزْ لَهُمُ الْخُرُوجُ عَنْ إِمَامَتِهِ .

فَصْلٌ : إِذَا صَلَّى الْإِمَامُ بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْخَوْفِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَصَلَاةُ الْإِمَامِ جَائِزَةٌ ، وَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِمْ قَوْلَانِ : نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي كِتَابِ الْأُمِّ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلَةٌ لِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنَ الْعَمَلِ الْمُنَافِي لَهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : جَائِزَةٌ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الْمُبَاحِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالطَّائِفَةُ ثَلَاثَةٌ وَأَكْثَرُ صلاة الخوف وَأَكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِأَقَلَّ مِنْ طَائِفَةٍ وَأَنْ تَحْرُسَهُ أَقَلُّ مِنْ طَائِفَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الطَّائِفَةُ فَقَدْ وَرَدَ الْقُرْآنُ بِهَا فِي مَوَاضِعَ يَخْتَلِفُ الْمُرَادُ بِهَا مِنَ الْأَعْدَادِ لِاخْتِلَافِ مَا اقْتَرَنَ بِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ . وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [ النِّسَاءِ : ] .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ [ النِّسَاءِ : ] . أَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ : لِأَنَّ الْمَأْمُورَ فِيهَا أَنْ يُصَلِّيَ بِجِمَاعَةٍ وَأَنْ تَحْرُسَهُ جَمَاعَةٌ فَكَانَتِ الطَّائِفَةُ عِبَارَةً عَنِ الْجَمَاعَةِ ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ فِي الْإِطْلَاقِ ثَلَاثٌ وَإِنَّمَا يُعَبَّرُ عَنِ الِاثْنَيْنِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ بِدَلِيلٍ لَا بِمُطْلَقِ الْعِبَارَةِ وَظَاهِرِهَا . وَقَالَ تَعَالَى : وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [ الْحُجُرَاتِ : ] . فَحَمَلَ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ وَالْقَبِيلَتَيْنِ مِنَ النَّاسِ ، وَقَالَ تَعَالَى : وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ النُّورِ : ] . فَحَمَلَ عَلَى الْأَرْبَعَةِ فِي الْآيَاتِ لِتَعَلِّقِهِ بِالزِّنَا وَلَا يَثْبُتُ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ . وَقَالَ تَعَالَى : فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ [ التَّوْبَةِ : ] . فَحَمَلَ عَلَى الْوَاحِدِ لِأَنَّ الْإِنْذَارَ يَقَعُ بِهِ فَكَانَ ذِكْرُ الطَّائِفَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَخْتَلِفُ حَمْلًا عَلَى مَا يَلِيقُ بِهَا وَيُقَارِنُهَا فِي مَوْضِعِهَا ، فَإِذَا صَحَّ أَنَّ الْمُرَادَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ طَائِفَةٌ أَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ فَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِأَقَلَّ مِنْ طَائِفَةٍ وَتَحْرُسَهُ أَقَلُّ مِنْ طَائِفَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَقَالَ تَعَالَى : وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ فَإِنْ صَلَّى بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ أَوْ صَلَّى بِثَلَاثَةٍ وَحَرَسَهُ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَقَدْ أَسَاءَ وَصَلَاتُهُمْ مُجْزِئَةٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ فَإِنْ صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَتَيْنِ وَثَبَتَ قَائِمًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ ، فَحَسَنٌ وَإِنْ ثَبَتَ جَالِسًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ فَجَائِزٌ ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَيُصَلِّي بِهَا مَا بَقِيَ ثُمَّ يَثْبُتُ جَالِسًا حَتَّى تَقْضِيَ مَا بَقِيَ عَلَيْهَا ثُمَّ يُسَلِّمُ بِهِمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ فَأَمَّا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ في الخوف فَثَلَاثُ رَكَعَاتٍ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ ، فَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْخَوْفِ بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ : فَالْأَوْلَى وَالْمَسْنُونُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى وَيُتِمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً ، وَيُصَلِّيَ بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ رَكْعَةً وَتُتِمَّ لِأَنْفُسِهَا رَكْعَتَيْنِ . وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا أَوْلَى لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَخَفُّ انْتِظَارًا وَأَسْرَعُ فَرَاغًا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْحَالَ كَانَتْ تَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ فَلَمَّا تَعَذَّرَتِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الرَّكْعَةَ لَا تَتَبَعَّضُ كَانَ تَكْمِيلُ ذَلِكَ لِلطَّائِفَةِ الْأُولَى أَخَفَّ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِمَا لَهَا مِنْ حَقِّ السَّبْقِ . وَالثَّانِي : أَنَّ أَوَّلَ الصَّلَاةِ أَكْمَلُ مِنْ آخِرِهَا لِمَا يَتَضَمَّنُهَا مِنْ قِرَاءَةِ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ ، فَلَمَّا اخْتَصَّتِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى بِأَكْمَلِ الطَّرَفَيْنِ وَجَبَ أَنْ تَخْتَصَّ بِأَكْمَلِ الْبَعْضَيْنِ ، فَلَوْ خَالَفَ

الْإِمَامُ الْأَوْلَى فِي الْمُسْتَحَبِّ : وَصَلَّى بِالْأُولَى رَكْعَةً وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَتَيْنِ لَوْ كَانَ مُسِيئًا وَصَلَاةُ جَمِيعِهِمْ جَائِزَةً : لَأَنَّ مُخَالَفَةَ الْأَوْلَى فِي الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُهَا وَلَا سُجُودَ عَلَيْهَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا فَعَلَ الْإِمَامُ مَا أُمِرَ بِهِ وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَتَيْنِ وَبِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ رَكْعَةً ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى مَحَلِّ الِانْتِظَارِ أداء صلاة المغرب في الخوف ، فَلَا يَخْتَلِفُ أَنَّهُ إِنِ انْتَظَرَهُمْ جَالِسًا فِي تَشَهُّدِ الثَّانِيَةِ جَازَ ، وَإِنِ انْتَظَرَهُمْ قَائِمًا فِي الثَّانِيَةِ جَازَ وَفِي الْمُسْتَحَبِّ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَنْتَظِرَهُمْ جَالِسًا فِي تَشَهُّدِ الثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ وَهَذَا قَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي الْأُمِّ يَنْتَظِرُهُمْ قَائِمًا فِي الثَّالِثَةِ وَهَذَا أَصَحُّ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قِيَامَهُ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ قُعُودِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ تَخْفِيفَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ أَوْلَى مِنْ إِطَالَتِهِ ، فَإِنِ انْتَظَرَهُمْ قَائِمًا فَعَلَى الطَّائِفَةِ الْأُولَى أَنْ تَتَشَهَّدَ مَعَهُ ، فَإِذَا اعْتَدَلَ قَائِمًا فَارَقُوهُ وَأَتَمُّوا ثُمَّ دَخَلَتِ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ مَعَهُ ، وَإِنِ انْتَظَرَهُمْ جَالِسًا تَشَهَّدَتِ الْأُولَى مَعَهُ ثُمَّ فَارَقُوهُ جَالِسًا بَعْدَ تَشَهُّدِهِ ، فَإِذَا أَتَمُّوا أَحْرَمَتِ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ خَلْفَهُ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ قِيَامِهِ ، فَإِذَا كَبَّرَ لِقِيَامِهِ كَبَّرُوا مَعَهُ بَعْدَ إِحْرَامِهِمْ تَبَعًا لَهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةَ حَضَرٍ فَلْيَنْتَظِرْ جَالِسًا فِي الثَّانِيَةِ أَوْ قَائِمًا فِي الثَّالِثَةِ حَتَى تُتِمُّ الطَّائِفَةُ الَّتِي مَعَهُ ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَيُصَلِّي بِهَا كَمَا وَصَفْتُ فِي الْأُخْرَى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي الْحَضَرِ كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي السَّفَرِ لِعُمُومِ الْآيَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ صُبْحًا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاةِ الْحَضَرِ . وَإِنْ كَانَتْ مَغْرِبًا صَلَّى ثَلَاثًا عَلَى مَا مَضَى ، وَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعًا كَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعَشَاءِ فَرَّقَ أَصْحَابَهُ فِرْقَتَيْنِ وَصَلَّى لِكُلِّ فَرِيقٍ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ هَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ الِانْتِظَارُ جَالِسًا فِي الثَّانِيَةِ أَوْ قَائِمًا فِي الثَّالِثَةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَإِنْ صَلَّى بِالْأُولَى رَكْعَةً وَبِالثَّانِيَةِ ثَلَاثًا أَوْ بِالْأُولَى ثَلَاثًا وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَةً كَانَ مُسِيئًا وَصَلَاةُ جَمِيعِهِمْ جَائِزَةٌ ، وَعَلَى الْإِمَامِ وَعَلَى الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ سُجُودُ السَّهْوِ ، وَلَوْ فَعَلَ فِي الْمَغْرِبِ لَمْ يَلْزَمْهُ سُجُودُ السَّهْوِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَغْرِبَ فِي الْعَدَدِ تَنْصِيفُهَا إِلَى تَفْضِيلِ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ اجْتِهَادًا فَسَقَطَ سُجُودُ السَّهْوِ لِمُخَالَفَتِهِ وَلَمَّا اسْتَوَيَا فِي الظُّهْرِ شَرْعًا لَا اجْتِهَادًا أُلْزِمَ سُجُودَ السَّهْوِ لِمُخَالَفَتِهِ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ فَرَّقَهُمْ أَرْبَعَ فِرَقٍ فَصَلَّى بِفِرْقَةٍ رَكْعَةً ، وَثَبَتَ قَائِمًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ ، ثُمَّ بِفِرْقَةٍ رَكْعَةً وَثَبَتَ جَالِسًا وَأَتَمُّوا ، ثُمَّ بِفِرْقَةٍ رَكْعَةً وَثَبَتَ قَائِمًا وَأَتَمُّوا ، ثُمَّ بِفِرْقَةٍ رَكْعَةً وَثَبَتَ جَالِسَا وَأَتَمُّوا ، كَانَ فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَسَاءَ وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي أَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ فَاسِدَةٌ وَتَتِمُّ صَلَاةُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ لِأَنَّهُمَا خَرَجَتَا مِنْ صَلَاتِهِ قَبْلَ فَسَادِهَا ؛ لِأَنَّ لَهُ انْتِظَارًا وَاحِدًا بَعْدَ آخَرَ ، وَتَفْسُدُ صَلَاةُ مَنْ عَلِمَ مِنَ الْبَاقِيَتَيْنِ بِمَا صَنَعَ وَائْتَمَّ بِهِ دُونَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ فِي الْحَضَرِ أَنْ يُفَرِّقَ أَصْحَابَهُ أَرْبَعَ فِرَقٍ فَيُصَلِّي بِكُلِّ فِرْقَةٍ رَكْعَةً . فَمُنِعَ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِذَا فَعَلَ فَقَدْ أَسَاءَ وَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِمْ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلَةٌ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَوْقَعَ فِي صَلَاتِهِ أَرْبَعَ انْتِظَارَاتٍ وَرَدَ الشَّرْعُ بِاثْنَيْنِ مِنْهَا فَصَارَ كَمَنْ زَادَ فِي الصَّلَاةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ صَلَاتَهُ جَائِزَةٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوِ انْتَظَرَ فِي رُكُوعِهِ دَاخِلًا فِي صَلَاتِهِ فِي غَيْرِ صَلَاةِ الْخَوْفِ لَمْ تُبْطَلْ صَلَاتُهُ وَإِنْ لَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِهِ ، فَلَأَنْ لَا تَبْطُلَ بِانْتِظَارٍ قَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِمِثْلِهِ أَوْلَى . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ فِي انْتِظَارِهِ أَكْثَرُ مِنْ تَطْوِيلِ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّهُ إِنِ انْتَظَرَ جَالِسًا يُسَبِّحُ ، وَإِنِ انْتَظَرَ قَائِمًا قَرَأَ وَتَطْوِيلُ الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الصَّلَاةِ ، فَقَالَ : أَطْوَلُهَا قُنُوتًا .

فَصْلٌ : فَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ صَلَاتَهُ تَبْطُلُ بِانْتِظَارِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الزَّائِدُ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ ، فَعَلَى هَذَا صَلَاةُ الطَّائِفَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ جَائِزَةٌ لِخُرُوجِهَا مِنْ صَلَاتِهِ قَبْلَ فَسَادِهَا . وَصَلَاةُ الطَّائِفَةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ بَاطِلَةٌ إِنْ عَلِمُوا بِحَالِهِ لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي صَلَاتِهِ بَعْدَ فَسَادِهَا . فَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِحَالِهِ فَصَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ كَمَا صَلَّى خَلْفَ جُنُبٍ لَا يَعْلَمُ بِجَنَابَتِهِ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : تَبْطُلُ صَلَاةُ الْإِمَامِ بِانْتِظَارِ الطَّائِفَةِ الرَّابِعَةِ ؛ لِأَنَّ الِانْتِظَارَ الزَّائِدَ هُوَ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ وَبِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَالطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ خَرَجَتْ مِنَ الصَّلَاةِ قَبْلَ الِانْتِظَارِ الثَّالِثِ ؛ لِأَنَّ الِانْتِظَارَ الْأَوَّلَ لِلطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ ، وَالِانْتِظَارَ الثَّانِيَ لِلطَّائِفَةِ الثَّالِثَةِ ، وَالِانْتِظَارَ الثَّالِثَ وَالرَّابِعَ لِلطَّائِفَةِ الرَّابِعَةِ وَحْدَهَا عِنْدَ دُخُولِهَا وَالْآخَرُ عِنْدَ خُرُوجِهَا ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ الطَّائِفَةِ الثَّالِثَةِ جَائِزَةً لِخُرُوجِهَا مِنَ الصَّلَاةِ قَبْلَ فَسَادِهَا ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا فِي الِاجْتِهَادِ فَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُبْطُلْ صَلَاتُهُ بِالِانْتِظَارِ الثَّالِثِ وَإِنَّمَا أَبْطَلَهَا بِانْتِظَارِ الطَّائِفَةِ الثَّالِثَةِ لِمُخَالَفَتِهِ فِعْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْرِيقِ أَصْحَابِهِ وَانْتِظَارِهِمْ .

وَإِذَا قِيلَ بِجَوَازِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَصَلَاةُ الطَّائِفَةِ الرَّابِعَةِ جَائِزَةٌ لِخُرُوجِهِمْ مِنَ الصَّلَاةِ بِخُرُوجِهِ ، فَأَمَّا الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِمْ ، هَلْ هُمْ مَعْذُورُونَ بِذَلِكَ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ غَيْرُ مَعْذُورِينَ ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ طَائِفَةٍ أَنْ تُخْرِجَ نَفْسَهَا بَعْدَ رَكْعَتَيْنِ ، فَلَمْ يُعْذَرُوا بِإِخْرَاجِ أَنْفُسِهِمْ بَعْدَ رَكْعَةٍ ، فَعَلَى هَذَا فِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِمْ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِيمَنْ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ غَيْرَ مَعْذُورٍ . أَحَدُهُمَا : بَاطِلَةٌ . وَالثَّانِي : جَائِزَةٌ فَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ أَشْهَرُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّهُمْ مَعْذُورُونَ ؛ لِأَنَّ إِخْرَاجَ أَنْفُسِهِمْ لَمْ يَكُنْ إِلَى اخْتِيَارِهِمْ ، وَلَوْ أَرَادُوا الْمُقَامَ عَلَى الْإِتْمَامِ لَمْ يُمْكِنْهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُمْ ، فَعَلَى هَذَا صَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ قَوْلًا وَاحِدًا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ . وَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمْعَةَ بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْخَوْفِ ، فَإِنْ كَانَ مُقِيمًا لَكِنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَهَا خَارِجَ الْمِصْرِ وَفِي ظَاهِرِهِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْجُمْعَةَ لَا يَصِحُّ إِقَامَتُهَا إِلَّا فِي مِصْرٍ ، وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا مُتَوَطِّنًا فِي مِصْرٍ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ الْجُمْعَةَ صَلَاةَ الْخَوْفِ ، وَإِذَا أَفْرَدَ أَصْحَابَهُ فَرِيقَيْنِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَرْبَعِينَ رَجُلًا أَهْلَ الْجُمْعَةِ فَإِنْ كَانَتِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ كَانَتِ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ لَمْ يَجُزْ ، فَإِذَا أَكْمَلَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمَا أَرْبَعِينَ ، خَطَبَ عَلَى الطَّائِفَةِ الْأُولَى فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ جُمْعَةً ، فَإِنْ خَطَبَ عَلَى الْأُولَى وَصَلَّى بِالثَّانِيَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْجُمْعَةِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُبْتَدِئًا بِالْجُمْعَةِ جَمَاعَةً لَمْ يَحْضُرُوا الْجُمْعَةَ ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْخَوْفِ صَلَاةَ الْعِيدِ وَالْكُسُوفِ صَلَّى بِالْأُولَى رَكْعَةً وَأَتَمُّوا ، وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَةً وَأَتَمُّوا وَخَطَبَ بِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأُحِبُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَأْخُذَ سِلَاحَهُ فِي الصَّلَاةِ مَا لَمْ يَكُنْ نَجِسًا أَوْ يَمْنَعَهُ مِنَ الصَّلَاةِ أَوْ يُؤْذِيَ بِهِ أَحَدًا ، وَلَا يَأْخُذُ الرُّمْحَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَاشِيَةِ النَّاسِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لَيْسَ يَخْتَلِفُ مَذْهَبُهُ فِي اسْتِحْبَابِ أَخْذِهِ وَالْأَمْرِ بِهِ ، وَإِنَّمَا قَوْلُهُ فِي إِيجَابِهِ فَقَالَ فِي الْقَدِيمِ : أَخْذُهُ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبٌ ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ : أَخْذُهُ فِي الصَّلَاةِ اسْتِحْبَابٌ . وَذَكَرَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَخْذَهُ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ [ النِّسَاءِ : ] . فَكَانَ الْأَمْرُ بِأَخْذِهِ دَالًّا عَلَى وُجُوبِهِ ثُمَّ أَعَادَ الْأَمْرَ تَأْكِيدًا وَحَذَّرَ مِنَ الْعَدُوِّ بِهِ فَقَالَ تَعَالَى : وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [ النِّسَاءِ : ] . ثُمَّ رَفَعَ الْجُنَاحَ عَنْ تَارِكِهِ فَقَالَ تَعَالَى : وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ [ النِّسَاءِ : ] . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجُنَاحَ لَاحِقٌ بِتَارِكِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ أَخْذَهُ اسْتِحْبَابٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِأَخْذِهِ لِعُذْرٍ فَقَدَّمَ حَظْرَهُ لِأَنَّهُ عَمَلٌ فِي الصَّلَاةِ وَالْأَمْرُ بَعْدَ الْحَظْرِ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [ الْمَائِدَةِ : ] . وَلِأَنَّ الطَّائِفَةَ الْمُصَلِّيَةَ مَعَ الْإِمَامِ مَحْرُوسَةٌ بِغَيْرِهَا وَالْقِتَالُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ عَلَيْهَا وَحَمْلُ السِّلَاحِ يُرَادُ إِمَّا لِحِرَاسَةٍ أَوْ قِتَالٍ ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَجِبْ حَمْلُ السِّلَاحِ عَلَيْهِمْ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا فِي الصَّلَاةِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهُ قَادِحًا فِي الصَّلَاةِ وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ بِتَرْكِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ . وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : لَيْسَتِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ : وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ . وَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَوْجَبَتْ فِيهِ حَمْلَ السِّلَاحِ هُوَ مَا يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ كَالسِّكِّينِ وَالْخِنْجَرِ ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي اسْتُحِبَّ فِيهِ حَمْلُ السِّلَاحِ : هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَدْفَعُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ كَالْقَوْسِ وَالنُّشَّابِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْكَلَامُ فِي كَيْفِيَّةِ السِّلَاحِ يَتَرَتَّبُ عَلَى طَرِيقَيْنِ : فَمَنْ قَالَ : الْمَسْأَلَةُ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ جَعَلَ السِّلَاحَ عَلَى خَمْسَةِ أَضْرُبٍ : ضَرْبٌ حَرُمَ حَمْلُهُ فِيهَا ، وَضَرْبٌ كُرِهَ حَمْلُهُ فِيهَا ، وَضَرْبٌ يَجِبُ حَمْلُهُ فِيهَا ، وَضَرْبٌ يُسْتَحَبُّ حَمْلُهُ فِيهَا ، وَضَرْبٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُصَلِّي . فَأَمَّا الَّذِي يَحْرُمُ حَمْلُهُ من السلاح في صلاة الخوف فِيهَا فَضَرْبَانِ : نَجِسٌ وَمَانِعٌ . فَالنَّجِسُ مَا غَشَّ جِلْدَ مَيْتَةٍ لَمْ يَدْبَغْ أَوْ نَجِسَ بِدَمِ جَرِيحٍ أَوْ طُلِيَ بِسُمِّ حَيَوَانٍ ، وَالْمَانِعُ الْبَيْضَةُ السَّابِقَةُ عَلَى جَبْهَتِهِ ، وَالنُّورُ الْمَانِعُ مِنْ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ ، وَأَمَّا الَّذِي يُكْرَهُ حَمْلُهُ من السلاح في صلاة الخوف فِيهَا : فَهُوَ السِّلَاحُ الثَّقِيلُ الَّذِي يَتَأَذَّى بِحَمْلِهِ فِيهَا ، وَأَمَّا الَّذِي يَجِبُ حَمْلُهُ فَهُوَ السِّكِّينُ وَالْخِنْجَرُ وَمَا يَمْنَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَأَمَّا الَّذِي يُسْتَحَبُّ حَمْلُهُ من السلاح في صلاة الخوف فِيهَا : فَهُوَ الْقَوْسُ وَالنُّشَّابُ وَمَا يَمْنَعُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ ، وَأَمَّا الَّذِي يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُصَلِّي فَكَالرُّمْحِ إِنْ كَانَ فِي وَسَطِ النَّاسِ كَانَ مَكْرُوهًا ؛ لِأَنَّهُ يُؤْذِي بِهِ مَنْ جِوَارَهُ . وَإِنْ كَانَ فِي حَاشِيَةِ النَّاسِ كَانَ مُسْتَحَبًّا ؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ . وَمَنْ قَالَ : الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ جَعَلَ السِّلَاحَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ :

مُحَرَّمٌ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَمَكْرُوهٌ ، وَمَا وَصَفْنَاهُ ، وَعَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ وَهُوَ مَا بَيَّنَّاهُ ، وَمَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ وَهُوَ مَا دَفَعَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ دَفَعَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ سَهَا فِي الْأُولَى أَشَارَ إِلَى مَنْ خَلْفَهُ بِمَا يَفْهَمُونَ أَنَّهُ سَهَا ، فَإِذَا قَضَوْا سَجَدُوا لِلسَّهْوِ ثُمَّ سَلَّمُوا ، وَإِنْ لَمْ يَسْهُ هُوَ وَسَهَوْا هُمْ بَعْدَ الْإِمَامِ سَجَدُوا لِسَهْوِهِمْ وَتَسْجُدُ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى مَعَهُ لِسَهْوِهِ فِي الْأُولَى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : السَّهْوُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ كَحُكْمِهِ فِي صَلَاةِ الْأَمْنِ فَإِذَا حَدَثَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ سَهْوٌ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْمَأْمُومِ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ السهو في صلاة الخوف فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مَنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَوْ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ ، فَإِنْ كَانَ سَهْوُهُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَعَلَى جَمَاعَتِهِمْ سُجُودُ السَّهْوِ أَمَّا الطَّائِفَةُ الْأُولَى فَلِائْتِمَامِهِمْ بِهِ فِي حَالِ سَهْوِهِ ، وَأَمَّا الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَلِدُخُولِهِمْ فِي صَلَاتِهِ بَعْدَ سَهْوِهِ ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُشِيرَ إِلَى الطَّائِفَةِ الْأُولَى بِمَا يُعْلِمُهُمْ أَنَّهُ قَدْ سَهَا إِنْ كَانَ سَهْوُهُ خَفِيًّا حَتَّى يَسْجُدُوا لِلسَّهْوِ عِنْدَ فَرَاغِهِمْ : لِأَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الصَّلَاةِ قَبْلَ خُرُوجِهِ فَرُبَّمَا لَمْ يَعْلَمُوا بِسَهْوِهِ ، فَإِنْ كَانَ سَهْوُهُ ظَاهِرًا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْإِشَارَةِ ، فَأَمَّا الطَّائِفَةُ الْأُولَى فَلَا تَحْتَاجُ مَعَهُمْ بِحَالٍ إِلَى الْإِشَارَةِ . قَالَ : سَوَاءٌ كَانَ سَهْوُهُ ظَاهِرًا أَوْ خَفِيًّا ؛ لِأَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الصَّلَاةِ بِخُرُوجِهِ فَهَذَا حُكْمُ سَهْوِهِ إِذَا كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى . فَأَمَّا إِذَا كَانَ سَهْوُهُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَلَا سُجُودَ عَلَى الطَّائِفَةِ الْأُولَى لِخُرُوجِهِمْ مِنْ صَلَاتِهِ قَبْلَ سَهْوِهِ ، وَعَلَيْهِ وَعَلَى الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ سُجُودُ السَّهْوِ ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُمْ يُفَارِقُوهُ قَبْلَ تَشَهُّدِهِ قَامُوا فَأَتَمُّوا مَا عَلَيْهِمْ ثُمَّ سَجَدُوا لِلسَّهْوِ ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُمْ يُفَارِقُونَهُ بَعْدَ تَشَهُّدِهِ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَسْجُدَ الْإِمَامُ إِلَّا بَعْدَ فَرَاغِهِمْ لِيَسْجُدُوا وَمَعَهُ ، فَإِنْ سَجَدَ قَبْلَ فَرَاغِهِمْ وَفِرَاقِهِمْ جَازَ وَعَلَيْهِمُ اتِّبَاعُهُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ ، فَإِذَا أَتَمُّوا مَا عَلَيْهِمْ فَهَلْ عَلَيْهِمْ إِعَادَةُ سُجُودِ السَّهْوِ عِنْدَ فَرَاغِهِمْ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا فِيمَنْ أَحْرَمَ مَعَ الْإِمَامِ بَعْدَ سَهْوِهِ . فَأَمَّا إِنْ كَانَ السَّهْوُ مِنْ قِبَلِ الْمَأْمُومِينَ صلاة الخوف فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ ، فَإِنْ سَهَتِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى ، نَظَرَ فَإِنْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى قَبْلَ فِرَاقِ الْإِمَامِ فَلَا سُجُودَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ مُؤْتَمُّونَ بِمَنْ يَتَحَمَّلُ السَّهْوَ عَنْهُمْ ، وَإِنْ كَانَ سَهْوُهُمْ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ فِرَاقِ الْإِمَامِ فَعَلَيْهِمْ سُجُودُ السَّهْوِ : لِأَنَّهُمْ سَهَوْا وَلَا إِمَامَ لَهُمْ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا كَانَ الْإِمَامُ قَدْ سَهَا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى قَبْلَ فِرَاقِهِ وَسَهَوْا هُمْ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ

فَرَاغِهِ ، فَهَلْ يَتَدَاخَلُ السَّهْوَانِ أَمْ يَلْزَمُ لِكُلِّ سَهْوٍ مِنْهُمَا سَجْدَتَانِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا أَصَحُّهُمَا قَدْ تَدَاخَلَا وَعَلَيْهِ لَهُمَا سَجْدَتَانِ لَا غَيْرَ . وَالثَّانِي : يَسْجُدُ لِكُلِّ سَهْوٍ مِنْهُمَا سَجْدَتَيْنِ لِاخْتِلَافِ مُوجِبِهِمَا ، فَهَذَا حُكْمُ سَهْوِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى ، وَأَمَّا سَهْوُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى قَبْلَ فِرَاقِ الْإِمَامِ فَلَا سُجُودَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ خَلْفَ إِمَامٍ ، وَإِنْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ فِرَاقِ الْإِمَامِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ لَا سُجُودَ عَلَيْهِمْ . وَإِنْ سَهَا الْإِمَامُ لَزِمَهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ مُقِيمُونَ عَلَى الِائْتِمَامِ . وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ : " عَلَيْهِمُ السُّجُودُ لِسَهْوِهِمْ " . وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ إِقَامَتِهِمْ عَلَى الِائْتِمَامِ بِهِ .

بيان أن الْخَوْفُ ضَرْبَانِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَ خَوْفًا أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الْمُسَايَفَةُ وَالْتِحَامُ الْقِتَالِ وصلاة الخوف فيه وَمُطَارَدَةُ الْعَدُوِّ حَتَّى يَخَافُوا إِنْ وَلَّوْا أَنْ يَرْكَبُوا أَكْتَافَهُمْ فَتَكُونَ هَزِيمَتُهُمْ فَيُصَلُّوا كَيْفَ أَمْكَنَهُمْ مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا وَقُعُودًا عَلَى دَوَابِّهِمْ وَقِيَامًا فِي الْأَرْضِ عَلَى أَقْدَامِهِمْ يُومِئُونَ بِرُءُوسِهِمْ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [ الْبَقَرَةِ : ] . وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : مُسْتَقْبِلِي الْقُبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا . قَالَ نَافِعٌ : لَا أَرَى ابْنَ عُمَرَ ذَكَرَ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ : وَالْخَوْفُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا يُمْكِنُ مَعَهُ الصَّلَاةُ جَمَاعَةً عَلَى مَا وَصَفْنَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا لَا يُمْكِنُ مَعَهُ الصَّلَاةُ جَمَاعَةً لِشِدَّةِ الْخَوْفِ وَمُطَارَدَةِ الْعَدُوِّ وَالْتِحَامِ الْقِتَالِ وَالْمُسَايَفَةِ وَالْتِقَاءِ الصَّفَّيْنِ وَاخْتِلَاطِ الْعَسْكَرَيْنِ ، فَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا كَيْفَ أَمْكَنَهُمْ قِيَامًا وَقُعُودًا أَوْ رُكْبَانًا وَنُزُولًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِمْ وَبِهِ قَالَ كَافَّةُ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ أَخَّرُوا الصَّلَاةَ إِلَى وَقْتِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى اسْتِقْبَالِهَا : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حَتَّى أَمِنَ ثُمَّ قَضَى . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [ الْبَقَرَةِ : ] . قَالَ ابْنُ عُمَرَ مَعْنَاهُ " مُسْتَقْبِلُو الْقِبْلَةِ وَغَيْرُ مُسْتَقْبِلِيهَا " . قَالَ نَافِعٌ : لَا أَرَى ابْنَ عُمَرَ قَالَ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَدْ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ ذَلِكَ قَضَاءً مَرْوِيًّا ، وَلِأَنَّ شِدَّةَ الْخَوْفِ عُذْرٌ يُغَيِّرُ

صِفَةَ الْأَدَاءِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ كَالْمَرَضِ ، وَأَمَّا تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ . فَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْخَوْفِ فَلَوْ قَدَرَ عَلَى اسْتِقْبَالِهَا رَاكِبًا وَعَلَى اسْتِدْبَارِهَا نَازِلًا لَاسْتَقْبَلَهَا رَاكِبًا لِأَنَّ فَرْضَ الِاسْتِقْبَالِ أَوْكَدُ مِنْ فَرْضِ الْقِيَامِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ صَلَّى عَلَى فَرَسِهِ فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ رَكْعَةً ثُمَّ أَمِنَ نَزَلَ فَصَلَّى أُخْرَى مُوَاجِهَةَ الْقِبْلَةِ ، وَإِنْ صَلَّى رَكْعَةً آمِنًا ثُمَّ سَارَ إِلَى شِدَّةِ الْخَوْفِ فَرَكِبَ ابْتَدَأَ لِأَنَّ عَمَلَ النُّزُولَ خَفِيفٌ ، وَالرُّكُوبُ أَكْثَرُ مِنَ النُّزُولِ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : قُلْتُ أَنَا : قَدْ يَكُونُ الْفَارِسُ أَخَفَّ رُكُوبًا وَأَقَلَّ شُغْلًا لِفُرُوسِيَّتِهِ مِنْ نُزُولِ ثَقِيلٍ غَيْرِ فَارِسٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِذَا ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ خَائِفًا عَلَى فَرَسِهِ فَصَلَّى بَعْضًا إِلَى الْقِبْلَةِ وَإِلَى غَيْرِ قِبْلَةٍ ثُمَّ أَمِنَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْزِلَ وَيَبْنِيَ عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ كَالْمَرِيضِ الَّذِي يُصَلِّي جَالِسًا لِعَجْزِهِ ، ثُمَّ يَصِحُّ ، فَأَمَّا إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ آمِنًا مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ وَأَظَلَّهُ الْعَدُوُّ فَخَافَ فَرَكِبَ فَرَسَهُ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : هَاهُنَا اسْتِئْنَافُ الصَّلَاةِ ، وَعَلَّلَ بِأَنْ قَالَ : الرُّكُوبُ عَمَلٌ كَثِيرٌ ، وَقَالَ فِي كِتَابِ الْأُمِّ : بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ . وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا يَحْمِلُونَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَبْطَلَ صَلَاتَهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ اسْتِئْنَافُهَا إِذَا رَكِبَ مُخْتَارًا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي لَمْ يُبْطِلْهَا وَأَجَازَ لَهُ الْبِنَاءَ عَلَيْهَا إِذَا دَعَتْهُ الضَّرُورَةُ إِلَى الرُّكُوبِ وَشِدَّةُ الْخَوْفِ وَهُجُومُ الْعَدُوِّ . فَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا ، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَى تَعْلِيلِ الشَّافِعِيِّ لِيُفْسِدَهُ ، فَقَالَ : " قَدْ يَكُونُ رُكُوبُ الْفَارِسِ السَّرِيعِ النَّهْضَةِ أَخَفَّ مِنْ نُزُولِ غَيْرِهِ " . وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ يَفْسُدُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَعْتَبِرْ رُكُوبَ وَاحِدٍ وَنُزُولَ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ رُكُوبَهُ بِنُزُولِهِ وَمَنْ خَفَّ رُكُوبُهُ كَانَ نُزُولُهُ أَخَفَّ . وَالثَّانِي : أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَصَدَ بِتَعْلِيلِهِ غَالِبَ أَحْوَالِ النَّاسِ دُونَ مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ وَنَدَرَ وَغَالِبُ أَحْوَالِهِمْ ثِقَلُ رُكُوبِهِمْ وَخِفَّةُ نُزُولِهِمْ فَصَحَّ تَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ وَبَطَلَ اعْتِرَاضُ الْمُزَنِيِّ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَضْرِبَ فِي الصَّلَاةِ الضَّرْبَةَ وَيَطْعَنَ الطَّعْنَةَ فَأَمَّا إِنْ تَابَعَ الضَّرْبَ أَوْ رَدَّدَ الطَّعْنَةَ فِي الْمَطْعُونِ أَوْ عَمِلَ مَا يَطُولُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا ضَرَبَ ضَرْبَةً أَوْ ضَرْبَتَيْنِ أَوْ طَعْنَةً أَوْ طَعْنَتَيْنِ دَافِعًا عَنْ نَفْسِهِ صلاة الخوف وَنَاكِيًا فِي عَدُوِّهِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ لِأَنَّهُ يَسِيرٌ يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي غَيْرِ صَلَاةِ الْخَوْفِ ، فَكَانَ جَوَازُهُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ أَوْلَى ، فَأَمَّا إِنْ تَابَعَ الضَّرْبَ وَكَرَّرَ الطَّعْنَ حَتَّى طَالَ وَكَثُرَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَبَّاسٍ

وَأَبِي إِسْحَاقَ : إِنْ فَعَلَهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ فَعَلَهُ لِضَرُورَةٍ لَمْ تَبْطُلْ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِمَا فِي مَسْأَلَةِ الرُّكُوبِ ، وَحَمَلَا جَوَابَ الشَّافِعِيِّ عَلَى فِعْلِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ ، لِأَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ مُفَارِقَةٌ لِصَلَاةِ الْأَمْنِ مِنَ الضَّرُورَةِ أَلَا تَرَى إِلَى جَوَازِ اسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ فِيهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزِ اسْتِدْبَارُهَا فِي صَلَاةِ الْأَمْنِ مَعَ الضَّرُورَةِ . وَقَالَ غَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِنَا : قَدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ مَعَ الضَّرُورَةِ وَالِاخْتِيَارِ اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ نَصِّهِ وَأَخْذًا بِمُوجَبِ تَعْلِيلِهِ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ الرُّكُوبِ ، وَأَمَّا إِذَا تَكَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ مَهِيبًا أَوْ مُسْتَنْجِدًا أَوْ مُحَذِّرًا أَوْ مُخْتَارًا أَوْ مُضْطَرًّا صلاة الخوف فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ مَعًا : لِأَنَّ يَسِيرَ الْعَمَلِ مُبَاحٌ وَيَسِيرَ الْكَلَامِ غَيْرُ مُبَاحٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ رَأَوْا سَوَادًا أَوْ جَمَاعَةً أَوْ إِبِلًا فَظَنُّوهُمْ عَدُوًّا فَصَلَّوْا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ يُومِئُونَ إِيمَاءً ثُمَّ بَانَ لَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ عَدُوًّا أَوْ شَكُّوا أَعَادُوا وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ : لَا يُعِيْدُونَ لِأَنَّهُمْ صَلَّوْا وَالْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : قُلْتُ أَنَا : أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ عِنْدِي أَنْ يُعِيدُوا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ بِالْإِيمَاءِ رُخْصَةٌ لِلضَّرُورَةِ وَالْعَجْزِ ، فَإِذَا كَانُوا فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ فَرَأَوْا سَوَادًا مُقْبِلًا أَوْ إِبِلًا سَائِرَةً فَظَنُّوا أَنَّ الْعَدُوَّ قَدْ أَظَلَّهُمْ فَصَلَّوْا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ إِيمَاءً إِلَى قِبْلَةٍ وَإِلَى غَيْرِهَا ، ثُمَّ بَانَ لَهُمْ خِلَافُ مَا ظَنُّوا فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِمْ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ هَذِهِ الصَّلَاةَ عِنْدَ وُجُودِ الْخَوْفِ لَا عِنْدَ وُجُودِ الْعَدُوِّ ، وَقَدْ كَانَ الْخَوْفُ الْمُبِيحُ مَوْجُودًا وَإِنْ كَانَ الْعَدُوُّ مَعْدُومًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي الْأُمِّ : عَلَيْهِمُ الْإِعَادَةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَشَرَائِطِهَا فَتَرْكُهُ عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ وَالْخَطَأِ كَتَرْكِهِ عَمْدًا فِي الْإِيجَابِ وَقَدْ تَرَكَ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ وَاسْتِيفَاءَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ خَاطِئًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِلصَّلَاةِ قَاضِيًا . قَالَ أَصْحَابُنَا : وَلَوْ كَانَ بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ فَرَأَوْا سَوَادًا فَظَنُّوا عَدُوًّا فَصَلَّوْا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ ثُمَّ بَانَ لَهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ عَدُوٍّ فَعَلَيْهِمُ الْإِعَادَةُ قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّ ظَنَّهُمْ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ أَقْوَى مِنْ ظَنِّهِمْ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَهَذَا قَوْلُهُمْ وَلَمْ أَرَ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَالَفَ وَلَا وَجْهَ لِلشَّافِعِيِّ يُعَضِّدُهُ أَوْ يُعَارِضُهُ إِلَّا الْحُجَّاجَ وَأَنَّهُ يَقْتَضِي تَسْوِيَةَ الْحُكْمِ فِي الْحَالَيْنِ . فَلَوْ غَشِيَهُمُ الْعَدُوُّ فَظَنُّوا أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْهُ فَصَلَّوْا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ ثُمَّ بَانَ لَهُمْ أَنَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ نَهْرًا أَوْ جَيْشًا حَائِلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَانِعًا فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِمْ قَوْلَانِ ، وَلَكِنْ

لَوْ صَلَّوْا كَصَلَاةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ أَوْ عُسْفَانَ أَوْ بَطْنِ النَّخْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِمْ قَوْلًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُسْقِطُوا فَرْضًا وَلَا غَيَّرُوا رُكْنًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَ الْعَدُوُّ قَلِيلًا مِنْ نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ وَالْمُسْلِمُونَ كَثِيرًا يَأْمَنُونَهُمْ فِي مُسْتَوًى لَا يَسْتُرُهُمْ شَيْءٌ إِنْ حَمَلُوا عَلَيْهِمْ رَأَوْهُمْ صَلَّى الْإِمَامُ بِهِمْ جَمِيعًا وَرَكَعَ وَسَجَدَ بِهِمْ جَمِيعًا إِلَّا صَفًّا يَلِيهِ أَوْ بَعْضَ صَفٍّ يَنْظُرُونَ الْعَدُوَّ فَإِذَا قَامُوا بَعْدَ السَّجْدَتَيْنِ سَجَدَ الَّذِينَ حَرَسُوهُ أَوَّلًا إِلَّا صَفَّا أَوْ بَعْضَ صَفٍّ يَحْرُسُهُ مِنْهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا سَجْدَتَيْنِ وَجَلَسُوا سَجَدَ الَّذِينَ حَرَسُوهُمْ ثُمَّ يَتَشَهَّدُونَ ، ثُمَّ يُسَلِّمُ بِهِمْ جَمِيعًا ، مَعَا وَهَذَا نَحْوُ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ يَوْمَ عُسْفَانَ وَلَوْ تَأَخَّرَ الصَّفُّ الَّذِي حَرَسَهُ إِلَى الصَّفِّ الثَّانِي وَتَقَدَّمَ الثَّانِي فَحَرَسَهُ فَلَا بَأْسَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِ " عُسْفَانَ " رَوَاهَا أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ ، وَعِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بِعُسْفَانَ وَكَانَ الْعَدُوُّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ ، وَالْمُسْلِمُونَ أَكْثَرَ مِنْهُمْ عَلَى مُسْتَوٍ مِنَ الْأَرْضِ ، فَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمُ الظُّهْرَ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ : قَدْ أَصَبْنَا مِنْهُمْ غَفْلَةً قَدْ أَصَبْنَا مِنْهُمْ غَفْلَةً ، نَهْجُمُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّهُ تَأْتِيهِمْ صَلَاةٌ هِيَ أَعَزُّ عَلَيْهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ يُرِيدُونَ الْعَصْرَ فَنَزَلَ الْوَحْيُّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا صَلَّى الْعَصْرَ صَفَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ وَأَحْرَمَ بِهِمْ ، وَرَكَعَ فَرَكَعُوا وَرَفَعَ فَرَفَعُوا وَسَجَدَ فَسَجَدُوا إِلَّا الصَّفَّ الَّذِي يَلِيهِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَسْجُدُوا لِحِرَاسَتِهِمْ فَلَمَّا رَفَعَ يَسَجَدُوا وَتَأَخَّرُوا وَتَقَدَّمَ الصَّفُّ الْأَخِيرُ ، فَرَكَعَ بِهِمْ وَرَفَعَ وَسَجَدَ بِهِمْ إِلَّا الصَّفَّ الَّذِي يَلِيهِ ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَسْجِدُوا لِحِرَاسَةِ النَّاسِ ، فَلَمَّا رَفَعَ سَجَدُوا وَلَحِقُوهُ فَهَذِهِ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُسْفَانَ . فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْحَرْبِ بِأَصْحَابِهِ مِثْلَهَا احْتَاجَ إِلَى ثَلَاثَةِ شَرَائِطَ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ أَكْثَرَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْعَدُوُّ مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْعَدُوُّ عَلَى مُسْتَوَى الْأَرْضِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مَا يَمْنَعُ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ مَوْجُودَةً صَلَّى حِينَئِذٍ عَلَى وَصْفِنَا فَإِنْ حَرَسَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا وَلَمْ يَتَأَخَّرُوا قَالَ الشَّافِعِيُّ : كَانَ حَسَنًا ، وَإِنْ حَرَسَ الصَّفُّ الثَّانِي فِي الرَّكْعَتَيْنِ مَعًا جَازَ ، وَحِرَاسَةُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ أَوْلَى لِأَمْرَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْعَدُوِّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ أَقْدَرُ عَلَى حِرَاسَةِ الْجَمِيعِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ صَلَّى فِي الْخَوْفِ بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ، ثُمَّ صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ، فَهَكَذَا صَلَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَطْنِ نَخْلٍ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : وَهَذَا عِنْدِي يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ فَرِيضَةٍ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي نَافِلَةً ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ فَرِيضَةً لَهُمْ وَنَافِلَةً لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ صَحِيحٌ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي بَكَرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ لِيُصْلِحَ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ مِنَ الْعَرَبِ فَخَافَ فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ الْعَصْرَ فَقَسَمَهُمْ فِرْقَتَيْنِ ، فَصَلَّى بِفِرْقَةٍ رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ ، وَبِفِرْقَةٍ رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ ، فَكَانَ لَهُ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَلَهُمْ رَكْعَتَانِ وَصَلَّى بِهِمُ الْمَغْرِبَ كَذَلِكَ لَهُ سِتٌّ وَلَهُمْ ثَلَاثٌ ، فَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْخَوْفِ كَصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَطْنِ النَّخْلِ وَكَانَ الْعَدُوُّ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَعَلَ كَفِعْلِهِ فَصَلَّى بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعَ الصَّلَاةِ وَسَلَّمَ .

فَصْلٌ : فَإِنْ صَلَّى الْإِمَامُ بِأَصْحَابِهِ فِي الْأَمْنِ كَصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَوْفِ فَإِنْ كَانَتْ كَصَلَاةِ بَطْنِ النَّخْلِ ، فَصَلَاةُ جَمِيعِهِمْ جَائِزَةٌ وَإِنْ كَانَتْ كَصَلَاةِ عُسْفَانَ ، فَصَلَاةُ الْإِمَامِ وَمَنْ لَمْ يَحْرُسْ مِنَ الْمَأْمُومِينَ جَائِزَةٌ وَفِي صَلَاةِ مَنِ انْتَظَرَ مِنْهُمْ رَفْعَ الْإِمَامِ وَجْهَانِ : أَصَحُّهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا : صَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّهُمْ تَأَخَّرُوا عَنِ الْإِمَامِ بِرُكْنٍ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ ، وَإِنْ كَانَتْ كَصَلَاةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ فَفِي صَلَاةِ الْإِمَامِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلَةٌ لِطُولِ انْتِظَارِهِمْ . وَالثَّانِي : جَائِزَةٌ : لِأَنَّ انْتِظَارَهُ ، قَدْ تَضَمَّنَ ذِكْرًا فَلَمْ يَقْدَحْ فِي صَلَاةٍ . فَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ صَلَاةِ الْإِمَامِ ، فَصَلَاةُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ بَاطِلَةٌ إِنْ عَلِمُوا بِحَالِهِ ، لِأَنَّهُمُ ائْتَمُّوا بِهِ بَعْدَ بُطْلَانِ صَلَاتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِحَالِهِ فَصَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ . فَأَمَّا الطَّائِفَةُ الْأُولَى فَفِي صَلَاتِهِمْ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ صَلَاةِ إِمَامِهِ غَيْرَ مَعْذُورٍ أَحَدُهُمَا : بَاطِلَةٌ . وَالثَّانِي : جَائِزَةٌ . وَإِذَا قِيلَ بِجَوَازِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَفِي صَلَاةِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلَةٌ .

وَالثَّانِي : جَائِزَةٌ . فَأَمَّا الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَصَلَاتُهُمْ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُمْ أَقَامُوا عَلَى الِائْتِمَامِ بِمَنْ خَالَفُوهُ فِي أَفْعَالِهِ ، وَفِيهَا وَجْهٌ آخَرُ أَنَّ صَلَاتَهُمْ جَائِزَةٌ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ ، قَالَ : لَا تَلْزَمُ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ سَهْوُ إِمَامِهِمْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ ؛ لِأَنَّهُ آمِنٌ وَطَلَبُهُمُ تَطَوُّعٌ وَالصَّلَاةُ فَرْضٌ وَلَا يُصَلِّيهَا كَذَلِكَ إِلَّا خَائِفًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : صَلَاةُ الْخَوْفِ مُبَاحَةٌ مَعَ وُجُودِ الْخَوْفِ ، وَالطَّالِبُ آمِنٌ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْخَوْفِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِقُرْبِ الْعَدُوِّ ، أَوْ فِي أَرْضِهِ يَخَافُونَ هُجُومَ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ إِنِ اشْتَغَلُوا بِالصَّلَاةِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا صَلَاةَ الْخَوْفِ .

بَابُ مَنْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ

بَابُ مَنْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " كُلُّ قِتَالٍ كَانَ فَرْضًا أَوْ مُبَاحًا لِأَهْلِ الْكُفْرِ وَالْبَغْيِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَمَنْ أَرَادَ دَمَهُ فَسَلِمَ أَوْ مَالَهُ أَوْ حَرِيمَهُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ فَلِمَنْ قَاتَلَهُمْ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْخَوْفِ وَمَنْ قَاتَلَ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فَإِنْ فَعَلَ أَعَادَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . الْقِتَالُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ : وَاجِبٌ ، وَطَاعَةٌ ، وَمُبَاحٌ ، وَمَعْصِيَةٌ . فَأَمَّا الْوَاجِبُ فَقِتَالُ الْمُشْرِكِينَ وَالْبُغَّاءِ فيه صلاة الخوف ؟ . فَلِلْمُقَاتِلِ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِمَا صَلَاةَ الْخَوْفِ وَأَمَّا الْمُبَاحُ : فَقِتَالُ الرَّجُلِ عَنْ مَالِهِ وَحَرِيمِهِ فيه صلاة الخوف ؟ : وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ صَلَاةَ الْخَوْفِ ، وَأَمَّا الطَّاعَةُ : فَقِتَالُ الْإِمَامِ اللُّصُوصَ وَقُطَّاعَ الطَّرِيقِ . وَتَجُوزُ فِيهِ صَلَاةُ الْخَوْفِ ، وَإِنَّمَا جَازَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ رُخْصَةٌ ، وَالرُّخَصُ تُسْتَبَاحُ فِي الْمُبَاحِ كَاسْتِبَاحِهَا فِي الْوَاجِبِ قِيَاسًا عَلَى الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ فَأَمَّا الْمَعْصِيَةُ كَاللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ إِذَا طُلِبُوا فَخَافُوا فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا صَلَاةَ الْخَوْفِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ تَمْنَعُ مِنَ الرُّخَصِ ، فَإِذَا صَلَّوْا صَلَاةَ الْخَوْفِ كَانُوا كَالْآمِنِينَ إِذَا صَلَّوْا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ أَعَادُوا ، وَإِنْ صَلَّوْا غَيْرَهَا مِنْ صَلَوَاتِ الْخَوْفِ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَمْنِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانُوا مُوَلِّينَ لِلْمُشْرِكِينَ أَدْبَارَهُمْ غَيْرَ مُتَحَرِّفِينَ لِقِتَالٍ وَلَا مُتَحَيِّزِينَ إِلَى فِئَةٍ وَكَانُوا يُومِئُونَ صلاة الخوف أَعَادُوا لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ عَاصُونَ ، وَالرُّخْصَةُ لَا تَكُونُ لِعَاصٍ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ قَدْ أَوْجَبَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَاتِلَ عَشَرَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ تَعَالَى : إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ وَخَفَّفَهُ عَنْهُمْ وَأَوْجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُقَاتِلَ اثْنَيْنِ

مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ تَعَالَى : الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [ الْأَنْفَالِ : ] . وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ فَانْهَزَمُوا مِنْ أَكْثَرَ مِنْ مِثْلَيْهِمْ جَازَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا صَلَاةَ الْخَوْفِ ، وَإِنِ انْهَزَمُوا مِنْ مِثْلِهِمْ فَمَا دُونَ نُظِرَ فِي حَالِهِمْ ، فَإِنِ انْهَزَمُوا لِيَتَحَرَّفُوا لِقِتَالٍ أَوْ يَتَحَيَّزُوا إِلَى فِئَةٍ جَازَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ ، وَإِنِ انْهَزَمُوا غَيْرَ مُتَحَرِّفِينَ لِقِتَالٍ وَلَا مُتَحَيِّزِينَ إِلَى فِئَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا صَلَاةَ الْخَوْفِ ؛ لِأَنَّهُمْ عَاصُونَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [ الْأَنْفَالِ : ] . وَلَا فَرْقَ فِي الْفِئَةِ الَّتِي تَنْحَازُ إِلَيْهَا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ بَعِيدَةً أَوْ قَرِيبَةً فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ حِينَ انْهَزَمُوا مِنَ الْعِرَاقِ : أَنَا فِئَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حُكْمِهِمْ إِذَا لَمْ يُطِيقُوا قِتَالَ مِثْلَيْهِمْ ، هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُوَلُّوا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَحَرَّفُوا لِقِتَالٍ أَوْ يَتَحَيَّزُوا إِلَى فِئَةٍ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [ الْبَقَرَةِ : ] . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ لَهُمْ طَرِيقًا إِلَى مَا لَا يَجُوزُ ، إِذْ لَا يُعْدَمُ الِانْحِيَازُ إِلَى فِئَةٍ قَرُبَتْ أَمْ بَعُدَتْ وَاعْتَمَدَ الشَّافِعِيُّ عَلَى نَصِّ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : كَانَ هَذَانِ الْحُكْمَانِ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ ثُمَّ نُسِخَا مَعًا وَعَلَيْهِمْ أَنْ يُقَاتِلُوا مَا أَمْكَنَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ غَشِيَهُمْ سَيْلٌ وَلَا يَجِدُونَ نَجْوَةً صَلَّوْا يُومِئُونَ عَدْوًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ وَرِكَابِهِمْ صلاة الخوف " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا غَشِيَهُمْ سَيْلٌ أَوْ ظَلَّهُمْ سَبُعٌ أَوْ ضَالَّ عَلَيْهِمْ فَحْلٌ أَوْ أَظَلَّهُمْ حَرِيقٌ وَلَمْ يَجِدُوا نَجْوَةً عَالِيَةً وَلَا جَبَلًا مَنِيعًا وَخَافُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ أَوْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ دُونَ أَنْفُسِهِمْ فَسَعَوْا لِصَلَاحِهَا فَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ ، فَإِنْ غَشِيَهُمْ غَرَقٌ إِذَا تَنَحَّوْا عَنْ سَنَنِهِ أَوْ هَدْمٌ إِنْ تَنَحَّوْا عَنْ مَسْقَطِهِ أَوْ حَرِيقٌ فِي صَحْرَاءَ إِذَا تَنَحَّوْا عَنْ سَنَنِ الرِّيحِ سَلِمُوا لَمْ تُجْزِهِمْ إِلَّا صَلَاةٌ لَوْ كَانَتْ فِي غَيْرِ الْخَوْفِ أَجْزَأَتْهُمْ .

بَابٌ فِي كَرَاهِيَةِ اللِّبَاسِ وَالْمُبَارَزَةِ

بَابٌ فِي كَرَاهِيَةِ اللِّبَاسِ وَالْمُبَارَزَةِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَكْرَهُ لُبْسَ الدِّيْبَاجِ وَالدِّرْعِ الْمَنْسُوجَةِ بِالذَّهَبِ وَالْقَبَاءِ بِأَزْرَارِ الذَّهَبِ فَإِنْ فَاجَأَتْهُ الْحَرْبُ فَلَا بَأْسَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : لُبْسُ الْحَرِيرِ مُحَرَّمٌ عَلَى الرِّجَالِ مُبَاحٌ عَلَى النِّسَاءِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ وَفِي إِحْدَى يَدَيْهِ حَرِيرٌ وَفِي الْأُخْرَى ذَهَبٌ ، فَقَالَ : هَذَانِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حَلَالٌ لِإِنَاثِهَا . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : رَأَى حُلَّةً تُبَاعُ فِي السُّوقِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اشْتَرَيْتَهَا فَلَبِسْتَهَا لِلْجُمْعَةِ وَالْوُفُودِ ، فَقَالَ : " هَذَا لِبَاسُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ فَإِذَا ثَبَتَ تَحْرِيمُهُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ لُبْسِهِ وَافْتِرَاشِهِ . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ جَوَازُ افْتِرَاشِهِ الحرير لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ لُبْسِهِ . وَهَذَا غَلَطٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَانِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حَلَالٌ لِإِنَاثِهَا وَلِأَنَّ فِي افْتِرَاشِهِ مِنَ الْإِسْرَافِ فِي الْخُيَلَاءِ أَكْثَرَ مِمَّا فِي لُبْسِهِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بِالنَّهْيِ أَوْلَى .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الثَّوْبُ الْمَنْسُوجُ مِنْ إِبْرَيْسِمٍ وَقُطْنٍ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْإِبْرَيْسِمُ أَكْثَرَ وَأَغْلَبَ فَلَا يَجُوزُ لُبْسُهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْقُطْنُ أَكْثَرَ فَيَجُوزُ لُبْسُهُ .

وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ سَوَاءً فَمَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا جَوَازُ لُبْسِهِ مُغَلِّبًا لِحُكْمِ الْإِبَاحَةِ ، وَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ مِنْهُمْ تَحْرِيمُ لُبْسِهِ تَعْلِيقًا لِحُكْمِ الْحَظْرِ وَهَذَا الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ وَالْحَظْرَ إِذَا اسْتَوَيَا غُلِّبَ حُكْمُ الْحَظْرِ ، فَأَمَّا الْجُبَّةُ الْمَحْشُوَّةُ بِالْخَزِّ وَالْإِبْرَيْسِمِ فَلَا بَأْسَ يَلْبَسُهَا وَلَكِنْ لَوْ كَانَ أَحَدُ جَانِبَيْهَا حَرِيرًا وَالْآخَرُ قُطْنًا لَمْ يَجُزْ لُبْسُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْحَرِيرُ ظَاهِرَهُ أَوْ بَاطِنَهُ لِأَنَّهُ لَابِسٌ لَهُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا لُبْسُ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِمُفَاجَأَةِ الْحَرْبِ أَوْ لِعِلَّةٍ دَاعِيَةٍ إِلَى لُبْسِهِ فَلَا بَأْسَ ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْخَصَ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، فِي لُبْسِ ذَلِكَ لِعِلَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الذَّهَبُ للرجال فَمُحَرَّمٌ عَلَى الرِّجَالِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ خَالِصًا مُنْفَرِدًا أَوْ مَشُوبًا مُخْتَلِطًا بِخِلَافِ الْحَرِيرِ الَّذِيِ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ يَسِيرِهِ إِذَا كَانَ مُسْتَهْلَكًا . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الذَّهَبَ يَظْهَرُ قَلِيلُهُ كَظُهُورِ كَثِيرِهِ يَغْلِبُ لَوْنُهُ عَلَى لَوْنِ مَا اخْتَلَطَ بِهِ ، وَالْإِبْرَيْسِمُ بِخِلَافِهِ فَإِنْ طُلِيَ الذَّهَبُ بِغَيْرِهِ حَتَّى لَمْ يَظْهَرْ أَوْ صَدِيَ حَتَّى خَفِيَ لَوْنُهُ جَازَ لُبْسُهُ كَالْقَزِّ إِذَا كَانَ حَشْوَ الْجُبَّةِ . فَإِنِ اسْتُعْمِلَ الذَّهَبُ لِضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ جَازَ وَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ ، لِرِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ طَرَفَةَ أَنَّ عَرْفَجَةَ بْنَ أَسْعَدَ أُصِيبَتْ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكُلَابِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ فَأَنْتَنَ عَلَيْهِ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَّخِذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، شَدَّ أَسْنَانَهُ بِالذَّهَبِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا أَكْرَهُ اللُّؤْلُؤَ إِلَّا لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْأَدَبِ وَأَنَّهُ مِنْ زِيِّ النِّسَاءِ وَلَا أَكْرَهُ الْيَاقُوتَ وَالزَّبَرْجَدَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا أَكْرَهُ لِمَنْ كَانَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ فِي الْحَرْبِ بَلَاءً أَنْ يُعَلَّمَ وَلَا أَنْ يَرْكَبَ الْأَبْلَقَ قَدْ أَعْلَمَ حَمْزَةُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ بَدْرٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ وَلَا بَأْسَ بِمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ بَأْسًا وَإِقْدَامًا أَنْ يُشْهِرَ نَفْسَهُ

بِالْأَعْلَامِ وَرُكُوبِ الْأَبْلَقِ ، لِمَا رُوِّينَا أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَعْلَمَ بِرِيشِ نَعَامَةٍ يَوْمَ بَدْرٍ غَرَزَهَا فِي صَدْرِهِ ، وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا دُجَانَةَ كَانَ يُعَلَّمُ بِعِصَابَةٍ حَمْرَاءَ . وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا مِحْجَنٍ كَانَ يَرْكَبُ الْأَبْلَقَ ، وَرُوِيَ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُعَلِّمُ بِذُؤَابَةٍ مُلَوَّنَةٍ ، فَأَمَّا مَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الْإِحْجَامَ عَنْ لِقَاءِ عَدُّوِهِ فَيُكْرَهُ لَهُ الْأَعْلَامُ خَوْفًا مِنْ هَزِيمَةِ الْمُسْلِمِينَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا أَكْرَهُ الْبِرَازَ قَدْ بَارَزَ عُبَيْدَةُ وَحَمْزَةُ وَعَلِيٌّ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا إِذَا اسْتَدْعَى الْمُشْرِكُ الْبِرَازَ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُبَارِزَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةً عَلَيْهِ قَدْ بَرَزَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ يَوْمَ أُحُدٍ وَقَالَ : لِيَبْرُزْ إِلَيَّ مُحَمَّدٌ فَإِنِّي قَدْ حَلَفْتُ أَنْ أَقْتُلَهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " بَلْ أَنَا أَقْتُلُكَ " . وَبَرَزَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ فَرَمَاهُ بِحَرْبَةٍ فِي صَدْرِهِ فَخَدَشَهُ بِهَا فَمَاتَ مِنْهَا ، فَقِيلَ لَهُ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ أَيَقْتُلُكَ بِمِثْلِ هَذَا الْخَدْشِ فَقَالَ - وَاللَّهِ لَوْ تَفَلَ عَلَيَّ لَقَتَلَنِي . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [ الْأَنْفَالِ : ] . وَرُوِيَ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ ، وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ اسْتَدْعَيَا الْبِرَازَ يَوْمَ بَدْرٍ ، فَبَرَزَ إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ، فَقَالُوا : مَنْ أَنْتُمْ ؟ فَقَالُوا : الْأَنْصَارُ . قَالُوا : مَا نُعْدِيكُمْ ، لِيَقُمْ إِلَيْنَا أَكْفَاؤُنَا ، فَبَرَزَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَى عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فَقَتَلَهُ ، وَبَرَزَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ فَقَتَلَهُ . وَبَرَزَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ إِلَى شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فَقَتَلَهُ ، وَقَطَعَ شَيْبَةُ رِجْلَ عُبَيْدَةَ وَخَلَصَ حَيَّا فَمَاتَ بِالصَّفْرَاءِ بَيْنَ بَدْرٍ وَالْمَدِينَةِ ، وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ ، بَارَزَ عَمْرَو بْنَ وُدٍّ الْعَامِرِيَّ بِيَوْمِ الْأَحْزَابِ فَقَتَلَهُ ، وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ قِتَالِ الْأَنْصَارِ فُرْسَانًا وَرَجَّالَةً وَأَمَّا إِذَا بَدَا الرَّجُلُ

الْمُسْلِمُ فَاسْتَدْعَى الْبِرَازَ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : لَا تُبْرِزُنَّ مُحَمَّدًا وَلَا تَدْعُونَ إِلَى الْبِرَازِ ، فَإِنْ دُعِيتَ فَأَجِبْ فَإِنَّ الدَّاعِيَ بَاغٍ وَالْبَاغِيَ بِمَصْرُوعٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكْرَهْهُ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُعَرِّضًا نَفْسَهُ لِلشَّهَادَةِ ، وَذَلِكَ مُبَاحٌ ، قَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَثَّ عَلَى الْقِتَالِ يَوْمًا وَشَوَّقَ إِلَى الْجَنَّةِ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنْ أَنَا خَرَجْتُ فَقَاتَلْتُ حَتَّى أُقْتَلَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا أَيَحْجِزُنِي عَنِ الْجَنَّةِ شَيْءٌ ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا إِلَّا الدَّيْنَ قَالَ : فَخَرَجَ فَانْغَمَسَ فِي الْعَدُوِّ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ كَرِهَ الْبِرَازَ دَاعِيًا وَمُجِيبًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُلْبِسُ فَرَسَهُ وَأَدَاتَهُ جِلْدَ مَا سِوَى الْكَلْبِ وَالْخَنْزِيرِ مِنْ جِلْدِ قِرْدٍ وَفِيلٍ وَأَسَدٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ جُنَّةٌ لِلْفَرَسِ وَلَا تَعَبُّدَ عَلَى الْفَرَسِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْجُلُودُ الطَّاهِرَةُ الذَّكِيَّةُ وَالْمَدْبُوغَةُ حكم لبسها والصلاة فيها فَلَا بَأْسَ بِلُبْسِهَا ، وَالصَّلَاةِ فِيهَا وَعَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَ لُبْسُ غَيْرِ الْجُلُودِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ بِنَزْعِ الْخِفَافِ وَالْفِرَاءِ عَنْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ ، فَأَمَّا الْجُلُودُ النَّجِسَةُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الطَّاهِرَةِ إستعمالها في الحرب فَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْعَلَهَا جُنَّةً لِفَرَسِهِ ، وَآلَةً لِسِلَاحِهِ ، لِأَنَّهُ لَا تَعَبُّدَ عَلَى فَرَسٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَهَا ، لَكِنْ لَا يُصَلِّي فِيهَا ؛ لِأَنَّ تَوَقِّيَ النَّجَاسَةِ إِنَّمَا يَجِبُ لِلصَّلَاةِ ، فَأَمَّا جِلْدُ مَا كَانَ نَجِسًا فِي حَيَاتِهِ كَالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَمَا تَوَلَّدَ بَيْنَهُمَا فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ بِحَالٍ لَا فِي آلَةِ السِّلَاحِ وَلَا فِي جُنَّةِ فَرَسٍ ؛ لِأَنَّ الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِمَا بِحَالٍ ، إِلَّا مَا خُصَّ بِهِ الْكَلْبُ مِنْ جَوَازِ الِانْتِفَاعِ حَيًّا فِي الصَّيْدِ ، وَالْمَاشِيَةِ ، فَكَانَ بَاقِي الِانْتِفَاعِ بِهِ عَلَى جُمْلَةِ التَّحْرِيمِ " .

بَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ

مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حُضُورُ الْجُمُعَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ حُضُورُ الْعِيدَيْنِ

بَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ على من تجب . قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حُضُورُ الْجُمُعَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ حُضُورُ الْعِيدَيْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْأَصْلُ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [ الْكَوْثَرِ : ] . قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ : إِنَّهَا صَلَاةُ الْعِيدِ ، رَوَى حَمَّادٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَلِلْأَنْصَارِ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فَقَالَ : مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ ؟ فَقَالُوا : يَوْمَانِ كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا الْعِيْدَيْنِ الْفِطْرَ وَالْأَضْحَى وَرُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ عِيدٍ صَلَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةُ الْعِيدِ يَوْمَ الْفِطْرِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ وَفِيهَا فُرِضَتْ زَكَاةُ الْفِطْرِ ، وَسُمِّيَ عِيدًا ؛ لِأَنَّهُ يَعُودُ فِي كُلِّ سَنَةٍ ، وَقِيلَ بَلْ سُمِّيَ عِيدًا لِأَنَّ السُّرُورَ يَعُودُ فِيهِ إِلَيْهِمْ .

فَصْلٌ لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ لَيْسَتْ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ واخْتَلَفُوا هَلْ هِيَ سُنَّةٌ أَوْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ

فَصْلٌ : لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ حكمها لَيْسَتْ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا هَلْ هِيَ سُنَّةٌ أَوْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ . فَذَهَبَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ إِلَى أَنَّهُمَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ ، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ كَالْجِهَادِ فَعَلَى هَذَا لَوِ اجْتَمَعَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهَا قَاتَلَهُمُ الْإِمَامُ حَتَّى يُقِيمَهَا مَنْ يَسْقُطُ الْفَرْضُ بِإِقَامَتِهِ . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : إِنَّهُمَا سُنَّةٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا فَرْضَ إِلَّا الْخَمْسَ فَعَلَى هَذَا لَوِ اجْتَمَعَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهَا ، لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُمْ وَعُنِّفُوا عَلَى تَرْكِهَا تَعْنِيفًا بَلِيغًا ، وَقِيلَ بَلْ يُقَاتِلُهُمْ ، لِاسْتِخْفَافِهِمْ بِالدِّينِ . فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ " وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حُضُورُ الْجُمْعَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ حُضُورُ الْعِيدَيْنِ " هَذَا نَقْلُ الْمُزَنِيِّ فِي الْقَدِيمِ فِي كِتَابِ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ ، وَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا تَأْوِيلَانِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الصَّلَاةِ

أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ ، مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حُضُورُ الْجُمْعَةِ فَرْضًا وَجَبَ عَلَيْهِ حُضُورُ الْعِيدَيْنِ نَدْبًا . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حُضُورُ الْجُمْعَةِ فِي عَيْنِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ حُضُورُ الْعِيدَيْنِ فِي جُمْلَةِ غَيْرِهِ .

فَصْلٌ : لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَتْهُ الْجُمْعَةُ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ ، إِمَّا نَدْبًا أَوْ عَلَى الْكِفَايَةِ ، فَأَمَّا مَنْ لَا تَلْزَمُهُ الْجُمْعَةُ مِنَ الْعَبِيدِ وَالنِّسَاءِ وَالْمُسَافِرِينَ هل عليهم صلاة العيد وَالْمَعْذُورِينَ فَهَلْ هُمْ مَأْمُورُونَ بِصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ فِي كِتَابِ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ ، أَنَّهُمْ غَيْرُ مَأْمُورِينَ بِهَا ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ تُصَلَّى فِيهِ الْجُمْعَةُ يُصَلَّى فِيهِ الْعِيدَانِ ، وَمَا لَا تُصَلَّى فِيهِ الْجُمْعَةُ لَا يُصَلَّى فِيهِ الْعِيدَانِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ الْأَئِمَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بَعْدَهُ حَضَرُوا مِنًى فَلَمْ يُرْوَا أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ صَلَّى الْعِيدَ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْجُمْعَةِ فِي سُقُوطِهَا عَنِ الْمُسَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَالْمُنْفَرِدِ ، وَأَنَّ مَنْ أَحَبَّ مِنْهُمْ أَنْ يَتَطَوَّعَ مُنْفَرِدًا صَلَّاهَا كَسَائِرِ النَّوَافِلِ بِلَا تَكْبِيرٍ زَائِدٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ مِنَ الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِهَا ، لِعُمُومِ أَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِذَلِكَ مَا ارْتَادَ لَهَا مَكَانًا وَاسِعًا ؛ لِأَنَّهَا يَحْضُرُهَا مَنْ لَا يَحْضُرُ الْجُمْعَةَ ، فَمَنْ صَلَّى مِنْهُمْ مُنْفَرِدًا صَلَّى كَصَلَاةِ الْإِمَامِ بِتَكْبِيرٍ زَائِدٍ ، فَأَمَّا تَرْكُهُ فَيَ ذَلِكَ بِمِنًى فَلِانْعِكَافِهِ عَلَى الْحَجِّ وَاشْتِغَالِهِ بِهِ لَا لِكَوْنِهِ مُسَافِرًا . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأُحِبُّ الْغُسْلَ بَعْدَ الْفَجْرِ لِلْغُدُوِّ إِلَى الْمُصَلَّى فَإِنْ تَرَكَ الْغُسْلَ تَارِكٌ أَجْزَأَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا غُسْلُ الْعِيدَيْنِ فَسُنَّةٌ مُخْتَارَةٌ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جُمْعَةٍ مِنَ الْجُمَعِ إِنَّ هَذَا يَوْمٌ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِيدًا فَاغْتَسِلُوا فَنَبَّهَ عَلَى غُسْلِ الْعِيدِ لِتَشْبِيهِهِ بِهِ وَيُخْتَارُ أَنْ يَغْتَسِلَ بَعْدَ الْفَجْرِ الثَّانِي ، فَإِنِ اغْتَسَلَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ لَأَجْزَأَهُ كَالْجُمْعَةِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يُجْزِئُهُ بِخِلَافِ الْجُمْعَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْبُكُورِ بَعْدَ الْغُسْلِ ، وَلَا يُمْكِنُ الْبُكُورُ غَالِبًا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ إِلَّا بِتَقَدُّمِ الْغُسْلِ قَبْلَ الْفَجْرِ ؛ وَلِأَنَّ وَقْتَ الْعِيدِ يَضِيقُ عَلَى الْمُتَأَهِّبِ لِلصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ ، فَجَازَ تَقَدُّمُهُ قَبْلَهُ .

بَابُ الْقَوْلِ فِي تَكْبِيرِ الْعِيدَيْنِ وَإِظْهَارِهِ

بَابُ الْقَوْلِ فِي تَكْبِيرِ الْعِيدَيْنِ وَإِظْهَارِهِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأُحِبُّ إِظْهَارَ التَّكْبِيرِ جَمَاعَةً وَفُرَادَى فِي لَيْلَةِ الْفِطْرِ وَلَيْلَةِ النَّحْرِ مُقِيمِينَ وَسَفْرًا فِي مَنَازِلِهِمْ وَمَسَاجِدِهِمْ وَأَسْوَاقِهِمْ وَيَغْدُونَ إِذَا صَلَّوُا الصُّبْحَ لِيَأْخُذُوا مَجَالِسَهُمْ وَيَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ وَيُكَبِّرُونَ بَعْدَ الْغُدُوِّ حَتَى يَخْرُجَ الْإِمَامُ إِلَى الصَّلَاةِ ، وَقَالَ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ حَتَّى يَفْتَتِحَ الْإِمَامُ الصَّلَاةَ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : هَذَا أَقْيَسُ ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي صَلَاةٍ وَلَمْ يُحْرِمْ إِمَامُهُ وَلَمْ يَخْطُبْ فَجَائِزٌ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ ، وَعُرْوَةَ ، وَأَبِي سَلَمَةَ ، وَأَبِي بَكْرٍ يُكَبِّرُونَ لَيْلَةَ الْفِطْرِ فِي الْمَسْجِدِ يَجْهَرُونَ بِالتَّكْبِيْرِ ، وَشَبَّهَ لَيْلَةَ النَّحْرِ بِهَا إِلَّا مَنْ كَانَ حَاجًّا فَذِكْرُهُ التَّلْبِيَةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ أَمَّا التَّكْبِيرُ فِي لَيْلَةِ النَّحْرِ فَسُنَّةٌ إِجْمَاعًا ، فَأَمَّا فِي لَيْلَةِ الْفِطْرِ ، وَيَوْمِ الْفِطْرِ حكم التكبير فيهما ، فَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ سُنَّةٌ أَيْضًا ، وَحُكِيَ عَنْ أُبَيٍّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ كَبَّرَ يَوْمَ الْفِطْرِ ، فَقَالَ : كَبَّرَ إِمَامُهُ ؟ قِيلَ : لَا ، قَالَ : ذَاكَ رَجُلٌ أَحْمَقُ . وَحُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : التَّكْبِيرُ يَوْمَ الْعِيدِ مِنْ عَمَلِ الْحَرَكَةِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ عَلِيٍّ ، وَابْنِ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى دَافِعًا صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ ، فَإِذَا صَحَّ أَنَّ التَّكْبِيرَ يَوْمَ الْفِطْرِ سُنَّةٌ فَابْتِدَاؤُهُ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ شَوَّالٍ . وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ : يَبْتَدِي بِالتَّكْبِيرِ يَوْمَ الْعِيدِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] . فَأَمَرَ بِالتَّكْبِيرِ بَعْدَ إِكْمَالِ الصَّوْمِ ، وَذَلِكَ لِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ شَوَّالٍ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَوْلَى زَمَانِ التَّكْبِيرِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ سُنَّةٌ فِي الْعِيدَيْنِ مِنْ غُرُوبِ

الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَتِهِمَا فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَيُّ الْعِيدَيْنِ أَوْكَدُ فِي التَّكْبِيرِ ، فَقَالَ فِي الْقَدِيمِ : لَيْلَةُ النَّحْرِ أَوْكَدُ ، لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَيْهَا ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ : لَيْلَةُ الْفِطْرِ أَوْكَدُ لِوُرُودِ النَّصِّ فِيهَا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] .

فَصْلٌ : فَأَمَّا هَذَا التَّكْبِيرُ ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا فِي الْأُمِّ : إِلَى أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ إِلَى انْصِرَافِ الْإِمَامِ ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : إِلَى أَنْ يَفْتَتِحَ الْإِمَامُ الصَّلَاةَ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخَرِّجُ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : إِلَى أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ ؛ لِأَنَّهُ زَمَانُ التَّأَهُّبِ لِلصَّلَاةِ . وَالثَّانِي : إِلَى إِحْرَامِ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يَحْرُمُ قَبْلَ إِحْرَامِهِ ، فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِالتَّكْبِيرِ أَوْلَى . وَالثَّالِثُ : إِلَى انْصِرَافِ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعِيدِ يَنْقَضِي بِفَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا : إِنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ وَلَيْسَ بِاخْتِلَافِ أَقَاوِيلَ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُكَبِّرُونَ مَا لَمْ يَتَعَلَّقُوا بِالصَّلَاةِ ، فَتَارَةً عَبَّرَ عَنْهُ بِالْإِحْرَامِ ، وَتَارَةً عَبَّرَ عَنْهُ بِخُرُوجِ الْإِمَامِ لِأَنَّ خُرُوجَهُ يُوجِبُ الْإِحْرَامَ وَتَارَةً عَبَّرَ عَنْهُ بِانْصِرَافِ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّ انْصِرَافَهُ يَتَعَقَّبُ الْإِحْرَامَ .

فَصْلٌ : التَّكْبِيرُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ . فَالْمُقَيَّدُ : مَا انْتُظِرَ بِهِ أَدْبَارُ الصَّلَوَاتِ . وَالْمُطْلَقُ : مَا لَمْ يُنْتَظَرْ بِهِ حَالٌ دُونَ حَالٍ ، فَالتَّكْبِيرُ الْمُقَيَّدُ بِالصَّلَوَاتِ النوع الثاني من أنواع التكبير مَسْنُونٌ فِي عِيدِ الْأَضْحَى وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَلَى مَا سَيَأْتِي ، وَتَكْبِيرُ لَيْلَةِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى مُطْلَقٌ غَيْرُ مُقَيَّدٍ ، فَيُكَبِّرُ فِي الْأَحْوَالِ قَائِمًا وَقَاعِدًا أَوْ مَاشِيًا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ تَكْبِيرَ لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بِالزَّمَانِ ، فَلَمْ يُخْتَصَّ بِهِ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ ، وَتَكْبِيرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مُتَعَلِّقٌ بِالصَّلَوَاتِ ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ لِغَيْرِهَا ، فَإِنْ كَبَّرَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ تَكْبِيرًا مُطْلَقًا جَازَ ، وَإِنْ كَبَّرَ فِي لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ تَكْبِيرًا مُقَيَّدًا ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُضِيًّا لِلسُّنَّةِ قِيَاسًا عَلَى يَوْمِ النَّحْرِ ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ مُمْتَثِلًا لِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ سُنَّةِ التَّكْبِيرِ .

الْقَوْلُ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ

فَصْلٌ : الْقَوْلُ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ في العيدين . وَيُخْتَارُ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ كَمَا يَرْفَعُ الْحَاجُّ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ ، وَيُخْتَارُ لَهُ الْإِكْثَارُ مِنَ الْقُرَبِ وَأَعْمَالِ الْبِرِّ لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ إِمَّا مُسْنَدًا أَوْ مَوْقُوفًا ، أَنَّهُ قَالَ :

" مَنْ قَامَ لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ حِينَ تَمُوتُ الْقُلُوبُ " . وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ عَصَى اللَّهَ فِي لَيْلَةِ عِيدٍ فَكَأَنَّمَا عَصَاهُ فِي لَيْلَةِ الْوَعِيدِ وَمَنْ عَصَاهُ وَهُوَ يَضْحَكُ دَخَلَ النَّارَ وَهُوَ يَبْكِي وَيُخْتَارُ لَهُ الْبُكُورُ إِلَى الْمُصَلَّى يوم العيد لِيَحُوزَ فَضِيلَةَ السَّبْقِ ، وَلِيَرْتَادَ أَشْرَفَ الْبِقَاعِ ، وَأَقْرَبَهَا إِلَى الْإِمَامِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأُحِبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ حَيْثُ هُوَ أَرْفَقُ بِهِمْ صلاة العيد " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ رَاعٍ عَلَيْهِمْ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْعِيدَ بِهِمْ فِي أَرْفَقِ الْمَوَاضِعِ بِهِمْ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْبَلَدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ . إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاسِعَ الْمَسْجِدِ يَسَعُ جَمِيعَ أَهْلِهِ وَالصَّلَاةَ فِيهِ ، مِثْلَ مَكَّةَ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ بِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى الْيَوْمِ يُصَلُّونَ الْعِيدَ فِي مَسْجِدِهِمْ ، وَلِأَنَّ الْمَسْجِدَ أَفْضَلُ مِنَ الصَّحْرَاءِ وَلِذَلِكَ أُمِرَ بِتَحِيَّتِهِ ، وَلِأَنَّهُ أَصْوَنُ مِنَ الْأَنْجَاسِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي مِنَ الْبِلَادِ مَا اتَّسَعَتْ وَضَاقَ سَجَاهَا عَنْ سَعَةِ جَمِيعِهِمْ ، فَهَذَا الْأَوْلَى بِالْإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمُ الْعِيدَ فِي جَنَابِهِ وَمُصَلَّاهُ ، وَيَسْتَخْلِفُ فِي الْمَسْجِدِ مَنْ يُصَلِّي بِضَعَفَةِ النَّاسِ ، وَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الْفِطْرَ وَالْأَضْحَى فِي الصَّحْرَاءِ طَلَبًا لِلسِّعَةِ وَقَدْ صَارَ مُصَلَّى الْمَدِينَةِ الْيَوْمَ دَاخِلَ الْبَلَدِ : لِأَنَّ الْعِمَارَةَ زَادَتْ وَاتَّصَلَتْ حَتَّى غُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَصَارَ مُصَلَّاهُمُ الْيَوْمَ فِي وَسَطِهِ عِنْدَ رَحْبَةِ دَارِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنْ لَمْ يَقْدِرِ الْإِمَامُ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى لِعُذْرٍ مِنْ مَطَرٍ أَوْ رِيحٍ صلاة العيد صَلَّى بِالنَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ ، رُوِيَ أَنَّ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، صَلَّى الْفِطْرَ فِي مَسْجِدٍ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ : حَدِّثِ النَّاسَ بِمَا حَدَّثْتَنِي بِهِ عَنْ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : صَلَّى عُمَرُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، الْفِطْرَ فِي الْمَسْجِدِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَنْ يَمْشِيَ إِلَى الْمُصَلَّى وَيَلْبَسَ عِمَامَةً وَيَمْشِي

النَّاسُ وَيَلْبَسُونَ الْعَمَائِمَ وَيَمَسُّونَ مِنْ طِيبِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَغْدُوا ، وَرَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَكِبَ فِي عِيدٍ وَلَا جِنَازَةٍ قَطُّ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَأُحِبُّ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَضْعُفَ فَيَرْكَبُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ قَصَدَ الْمُصَلَّى لِصَلَاةِ الْعِيدِ ، أَنْ يَكُونَ مَاشِيًا لَا رَاكِبًا ، لِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ قَالَ : مَا رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِيدٍ وَلَا جِنَازَةٍ قَطُّ ، وَلِأَنَّهُ إِذَا مَشَى قَصُرَتْ خُطَاهُ فَكَثُرَ ثَوَابُهُ ، وَلِأَنْ لَا يُؤْذِيَ بِرُكُوبِهِ مَنْ جَاوَرَهُ أَوْ خَالَطَهُ ، إِلَّا أَنْ يَضْعُفَ عَنِ الْمَشْيِ لِمَرَضِهِ أَوْ لِطُولِ طَرِيقِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَرْكَبَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبَلَدُ ثَغْرًا لِأَهْلِ الْجِهَادِ يَقْرُبُ مِنْ بَلَدِ الْعَدُوِّ فَرُكُوبُهُمْ وَإِظْهَارُ زِيِّهِمْ وَسِلَاحِهِمْ أَوْلَى ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِعْزَازِ الدِّينِ وَتَحْصِينِ الْمُسْلِمِينَ ، فَأَمَّا الرَّاجِعُ إِلَى مَنْزِلِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ فَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَإِنْ شَاءَ مَشَى .

فَصْلٌ : الْمُخْتَارُ لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْيَوْمِ مِنَ الزِّينَةِ ( يوم العيد ) ، وَحُسْنِ الْهَيْئَةِ وَلُبْسِ الْعَمَائِمِ ، وَاسْتِعْمَالِ الطِّيبِ وَتَنْظِيفِ الْجَسَدِ ، وَأَخْذِ الشَّعْرِ وَاسْتِحْسَانِ الثِّيَابِ ، وَلُبْسِ الْبَيَاضِ مَا يَخْتَارُهُ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ وَأَفْضَلُ ؛ لِأَنَّهُ يَوْمُ زِينَةٍ ؛ وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي جُمْعَةٍ مِنَ الْجُمَعِ : إِنَّ هَذَا يَوْمٌ جَعَلَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِيدًا لَكُمْ فَاغْتَسِلُوا فَلَمَّا أُمِرَ بِذَلِكَ فِي الْجُمْعَةِ تَشْبِيهًا بِالْعِيدِ كَانَ فِعْلُهُ فِي الْعِيدِ أَوْلَى .

مَسْأَلَةٌ : الْقَوْلُ فِي وَقْتِ الْعِيدِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ خُرُوجُ الْإِمَامِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُوَافِي فِيهِ الصَّلَاةَ وَذَلِكَ حِينَ تَبْرُزُ الشَّمْسُ وَيُؤَخَّرُ الْخُرُوجُ فِي الْفِطْرِ عَنْ ذَلِكَ قَلِيلًا وَرُوِيَ أَنَّ النِّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنْ عَجِّلِ الْأَضْحَى وَأَخِّرِ الْفِطْرَ وَذَكِّرِ النَّاسَ وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَلْبَسُ بُرْدَ حِبَرَةٍ وَيَعْتَمُّ فِي كُلِّ عِيدٍ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ أَدَاءُ صَلَاةِ الْعِيدِ وبيان أول وقتها هُوَ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ ، وَتَمَامُ طُلُوعِهَا فَذَلِكَ أَوَّلُ وَقْتِهَا ، وَآخِرُهُ إِلَى زَوَالِ الشَّمْسِ ، وَمَا بَعْدَ الزَّوَالِ لَيْسَ بِوَقْتٍ لَهَا ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الْعِيدَ وَالشَّمْسُ عَلَى أَطْرَافِ الْجِبَالِ كَالْعَمَائِمِ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ . وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّاهَا وَالشَّمْسُ قَيْدُ رُمْحٍ وَرُوِيَ قَيْدُ رُمْحَيْنِ فَإِنْ صَلَّاهَا مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ سَوَاءً لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ وَقْتٌ نُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ ، فَأَمَّا الْوَقْتُ الَّذِي يُخْتَارُ فِيهِ

الْبُكُورُ إِلَى الْمُصَلَّى لصلاة العيد فَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ إِلَى أَنْ يَكُونَ إِمَامًا ، فَيَأْتِي الْمُصَلَّى فِي الْوَقْتِ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الصَّلَاةُ .

فَصْلٌ : يُخْتَارُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعَجِّلَ صَلَاةَ الْأَضْحَى وَيُؤَخِّرَ صَلَاةَ الْفِطْرِ عَنْهَا قَلِيلًا ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ " أَنْ عَجِّلِ الْأَضْحَى وَأَخِّرِ الْفِطْرَ وَذَكِّرِ النَّاسَ وَلِأَنَّ النَّاسَ فِي الْفِطْرِ قَدْ أُمِرُوا بِتَفْرِيقِ زَكَاتِهِمْ قَبْلَ صَلَاتِهِمْ فَوَسَّعَ لَهُمْ فِي زَمَانِهَا لِاشْتِغَالِهِمْ وَأُمِرُوا فِي الْأَضْحَى بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى نَحْرِ أَضَاحِيِّهِمْ فَقَدَّمَ فِعْلَهَا لِإِعْجَالِهِمْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَطْعَمُ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ الْغُدُوِّ ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَطْعَمُ قَبْلَ الْخُرُوجِ إِلَى الْجَبَّانِ يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَأْمُرُ بِهِ وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ : كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَأْكُلُونَ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ يَوْمَ النَّحْرِ ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَغْدُو إِلَى الْمُصَلَّى فِي يَوْمِ الْفِطْرِ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَيُكَبِّرُ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَلَّى فَيُكَبِّرُ بِالْمُصَلَّى حَتَّى إِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ تَرَكَ التَّكْبِيرَ ، وَعَنْ عُرْوَةَ ، وَأَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُمَا كَانَا يَجْهَرَانِ بِالتَّكْبِيرِ حِينَ يَغْدُوَانِ إِلَى الْمُصَلَّى . ( قَالَ ) : وَأُحِبُّ أَنْ يَلْبَسَ أَحْسَنَ مَا يَجِدُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَطْعَمَ النَّاسُ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ صَلَاتِهِمْ ، وَلَا يَطْعَمُونَ فِي الْأَضْحَى إِلَّا بَعْدَ فَرَاغِهِمْ ، لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَطْعَمُ فِي الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ ، وَفِي الْأَضْحَى إِذَا انْصَرَفَ مِنَ الصَّلَاةِ وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْكُلُ فِي الْفِطْرِ قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى الصَّلَاةِ تَمَرَاتٍ ثَلَاثًا خَمْسًا سَبْعًا . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَكْلَ قَبْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ كَانَ مُحَرَّمًا فَاسْتُحِبَّ الْأَكْلُ فِيهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ لِيُعْلَمَ زَوَالُ التَّحْرِيمِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْأَضْحَى . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ تَفْرِقَةُ الْأَضْحَى بَعْدَ الصَّلَاةِ كَانَتْ السُّنَّةُ فِي الْأَكْلِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ، وَلَمَّا كَانَتْ تَفْرِقَةُ الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ كَانَتِ السُّنَّةُ فِي الْأَكْلِ قَبْلَ الصَّلَاةِ لِيُسَاوِيَ الْفُقَرَاءَ فِي أَكْلِهِمْ مِمَّا وَصَلَ إِلَيْهِمْ فِي يَوْمِهِمْ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِذَا بَلَغَ الْإِمَامُ الْمُصَلَّى نُودِيَ : الصَّلَاةَ جَامِعَةً بِلَا أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُؤَذَّنَ لِصَلَاةِ الْعِيدِ ، وَلَا أَنْ يُقَامَ لَهَا وَإِنَّمَا يُنَادَى لَهَا الصَّلَاةَ جَامِعَةً أَوْ الصَّلَاةَ رَحِمَكُمُ اللَّهُ ، لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي صَلَاةَ الْعِيدِ بِلَا أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ ، وَعُمَرُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَرَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ أَنْ يُنَادَى لِلْعِيدِ وَالِاسْتِسْقَاءِ : الصَّلَاةَ جَامِعَةً ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْوُلَاةِ أَحْدَثَ الْأَذَانَ لِصَلَاةِ الْعِيدِ ، فَرَوَى أَبُو قِلَابَةَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَذَّنَ لَهَا لصلاة العيد عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَذَّنَ لَهَا مُعَاوِيَةُ ، وَخَطَبَ لَهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ ، وَكَانَ مَرْوَانُ مِنْ قِبَلِهِ عَلَى الْمَدِينَةِ فَقَامَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ إِلَى مَرْوَانَ وَقَالَ : لَقَدْ أَدْرَكْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، يُصَلُّونَ الْعِيدَ بِلَا أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ وَيَخْطُبُونَ بَعْدَ الصَّلَاةِ ، قَالَ تِلْكَ سُنَّةٌ مَتْرُوكَةٌ ، فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ فَقَالَ : أَمَّا هَذَا فَقَدَ أَدَّى مَا عَلَيْهِ ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : أَنْكِرِ الْمُنْكَرَ بِيَدِكَ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِكَ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِكَ وَذَلِكَ لَضَعْفُ الْإِيْمَانِ ثُمَّ جَرَى عَلَيْهِ بَنُو أُمَيَّةَ أَيَّامَ مُلْكِهِمْ إِلَى أَنْ وَلِيَ بَنُو الْعَبَّاسِ ، وَرَدُّوا الْأَمْرَ إِلَى حَالِهِ ، وَهُوَ الْيَوْمَ سِيرَةُ الْأَنْدَلُسِ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي أُمَيَّةَ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَإِنْ قَالَ هَلُمُّوا إِلَى الصَّلَاةِ ، أَوْ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ ، أَوْ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ كَرِهْنَا ذَلِكَ وَأَجْزَأَهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " ثُمَّ يُحْرِمُ بِالتَّكْبِيرِ ، فَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ يُكَبِّرُ سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ ، سِوَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا صَلَاةُ الْعِيدِ كيفيتها فَرَكْعَتَانِ إِجْمَاعًا ، وَيَتَضَمَّنُ تَكْبِيرًا زَائِدًا قَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي عَدَدِهِ ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ التَّكْبِيرَ الزَّائِدَ عدده في صلاة العيد فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً ، سَبْعٌ فِي الْأُولَى سِوَى الْإِحْرَامِ وَخَمْسٌ فِي الثَّانِيَةِ سِوَى الْإِحْرَامِ وَكُلُّ التَّكْبِيرِ مِنْ قَبْلِ الْقِرَاءَةِ وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ . وَقَالَ مَالِكٌ : التَّكْبِيرُ الزَّائِدُ إِحْدَى عَشْرَةَ سِتٌّ فِي الْأُولَى وَخَمْسٌ فِي الثَّانِيَةِ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُزَادُ فِي الْأُولَى ثَلَاثُ تَكْبِيرَاتٍ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَيُزَادُ فِي الثَّانِيَةِ ثَلَاثًا بَعْدَ الْقِرَاءَةِ اسْتِدْلَالًا بِخَبَرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا رُوِيَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ سَأَلَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ ، وَأَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ تَكْبِيرِ الْعِيدَيْنِ ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى : كَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعِيْدِ أَرْبَعًا ، كَتَكْبِيرِ الْجِنَازَةِ ، وَوَالَى بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ ، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا بِالْبَصْرَةِ حَيْثُ كُنْتُ بِهَا ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ صَدَقَ . وَالْخَبَرُ الثَّانِي : مَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرَ فِي الْعِيدِ أَرْبَعًا وَالْتَفَتَ ، وَقَالَ أَبْلِغْ كَتَكْبِيرٍ الْجِنَازَةِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ : سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ : سَمِعْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ يَقُولُ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَبَّرَ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ ، فِي الْأُولَى سَبْعًا سِوَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ ، وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا سِوَى تَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ وَهَذَا أَصَحُّ إِسْنَادًا وَأَوْثَقُ رِجَالًا ، وَأَثْبَتُ لَفْظًا ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ بِقَوْلِهِ سَمِعْتُ ، وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكَبِّرُ فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى فِي الْأُولَى سَبْعًا وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا ، وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مُسْنَدًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : التَّكْبِيرُ فِي الْأُولَى فِي الْفِطْرِ سَبْعًا وَفِي الْآخِرَةِ خَمْسًا كِلْتَاهُمَا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَهَذَا نَصٌّ قَدْ رُوِيَ قَوْلًا ، وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرَ فِي الْأُولَى سَبْعًا وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا ، وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ ، وَأَنَسٌ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مِثْلَهُ فَكَانَ مَا رَوَيْنَاهُ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : زِيَادَةُ تَكْبِيرٍ . وَالثَّانِي : كَثْرَةُ رُوَاتِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَرْفَعُ كُلَّمَا كَبَّرَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ وَيَقِفُ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ بِقَدْرِ قِرَاءَةِ آيَةٍ لَا طَوِيلَةٍ وَلَا قَصِيرَةٍ يُهَلِّلُ اللَّهَ وَيُكَبِّرُهُ وَيَحْمَدُهُ وَيُمَجِّدُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا أَحْرَمَ لِصَلَاةِ الْعِيدِ نَوَاهَا مَعَ إِحْرَامِهِ ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ ومايقول في صلاته ، ثُمَّ قَالَ قَبْلَ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ ، وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ثُمَّ يُكَبِّرُ بَعْدَ ذَلِكَ سَبْعًا ، ثُمَّ يَتَعَوَّذُ ، ثُمَّ يَقْرَأُ ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : يَأْتِي بِالتَّوَجُّهِ بَعْدَ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ مَعَ الِاسْتِعَاذَةِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَتَعَوَّذُ قَبْلَ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ مَعَ التَّوَجُّهِ ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَقْدِيمِ التَّوَجُّهِ وَتَأْخِيرِ الِاسْتِعَاذَةِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ التَّوَجُّهَ يَتَعَقَّبُ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ وَالتَّعَوُّذَ يَتَعَقَّبُهُ الْقِرَاءَةُ .

فَصْلٌ : وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ سنن صلاة العيد ، وَقَالَ مَالِكٌ : يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ الْإِحْرَامِ وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ الزَّوَائِدِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهَا تَتْبَعُ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ وَيَسْتَوْفِي فِي حَالِ الْقِيَامِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ سُنَنِهَا رَفْعُ الْيَدَيْنِ كَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ .

فَصْلٌ : وَيَقِفُ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ بِقَدْرِ قِرَاءَةِ آيَةٍ وَسَطًا سنن صلاة العيد ، يُهَلِّلُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُكَبِّرُهُ وَيُمَجِّدُهُ وَلِيَنْتَهِيَ تَكْبِيرُهُ إِلَى آخِرِ الصُّفُوفِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُكَبِّرُ تِسْعًا مُتَوَالِيَاتٍ ، وَقَالَ مَالِكٌ : يَقِفُ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ سَاكِنًا ، وَمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهَا تَكْبِيرَاتٌ فِي حَالِ الْقِيَامِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَخَلَّلَهَا الذِّكْرُ كَتَكْبِيرَاتِ الْجِنَازَةِ ، وَيَضَعَ يُمْنَى يَدَيْهِ عَلَى الْيُسْرَى بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِذَا فَرَغَ مِنْ سَبْعِ تَكْبِيرَاتٍ القرأة في صلاة العيد قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ ثُمَّ يَقْرَأُ بِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وَيَجْهَرُ بِقِرَاءَتِهِ ثُمَّ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ فَإِذَا قَامَ فِي الثَّانِيَةِ كَبَّرَ خَمْسَ تَكْبِيَرَاتٍ سِوَى تَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ مِنَ الْجُلُوسِ وَيَقِفُ بَيْنَ كُلِ تَكْبِيرَتَيْنِ كَقَدْرِ قِرَاءَةِ آيَةٍ لَا طَوِيلَةٍ وَلَا قَصِيرَةٍ كَمَا وَصَفْتُ ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ خَمْسِ تَكْبِيرَاتٍ قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَبِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ثُمَّ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ وَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ وَلَا يَقْرَأُ مَنْ خَلْفَهُ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ ، وَعُمَرَ كَبَّرُوا فِي الْعِيْدَيْنِ سَبْعًا وَخَمْسًا وَصَلَّوْا قَبْلَ الْخُطْبَةِ وَجَهَرُوا بِالْقِرَاءَةِ ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ بِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وَ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا فَرَغَ مِنَ التَّكْبِيرَاتِ السَّبْعِ اسْتَعَاذَ وَقَرَأَ الْفَاتِحَةَ مُبْتَدِئًا " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ثُمَّ قَرَأَ بَعْدَهَا سُورَةَ " قَافْ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ " فَإِذَا رَكَعَ وَسَجَدَ قَامَ

إِلَى الثَّانِيَةِ فَكَبَّرَ خَمْسًا ، وَقَرَأَ الْفَاتِحَةَ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [ الْقَمَرِ : ] . وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا لَهُ الْقِرَاءَةَ بِهَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، سَأَلَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ بِمَاذَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ ؟ فَقَالَ فِي الْأُولَى بِ " قَافْ " وَفِي الثَّانِيَةِ بِ " اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ " ، فَقَالَ عُمَرُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : صَدَقْتَ فَلَوْ قَرَأَ فِي الْأُولَى بِسَبْحْ ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِالْغَاشِيَةِ ، أَوِ اقْتَصَرَ فِيهِمَا عَلَى الْفَاتِحَةِ أَجْزَأَهُ ، وَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ ، وَيَجْهَرُ الْإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ ، لِمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ إِلَّا الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ ، فَإِنْ أَسَرَّ فَقَدْ خَالَفَ السُّنَّةَ وَأَجْزَاهُ ، وَأَمَّا الْمَأْمُومُ القرأة في صلاة العيد فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُنْصِتُ مُسْتَمِعًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ .

فَصْلٌ : فَإِنْ نَسِيَ الْإِمَامُ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ حَتَّى أَخَذَ فِي الْقِرَاءَةِ فَهَلْ يَعُودُ إِلَى التَّكْبِيرِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْقَدِيمُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ يَعُودُ فَيُكَبِّرُ ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ مَحَلٌّ لِلتَّكْبِيرِ ، فَإِذَا ذَكَرَهُ فِي مَحَلِّهِ فَعَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِهِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنَ الْفَاتِحَةِ فَعَادَ إِلَى التَّكْبِيرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْفَاتِحَةَ بَعْدَ التَّكْبِيرِ وَلَيْسَ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى مَا مَضَى ، لِقَطْعِهِ ذَلِكَ بِأَخْذِهِ فِي التَّكْبِيرِ ، وَإِنْ ذَكَرَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُعِيدَ الْقِرَاءَةَ بَعْدَ التَّكْبِيرِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَجَزْأَهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الْجَدِيدُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَمْضِي فِي الْقِرَاءَةِ وَلَا يَعُودُ إِلَى التَّكْبِيرِ ؛ لِأَنَّهُ هَيْئَةٌ وَالْهَيْئَاتُ لَا تُقْضَى بَعْدَ فَوَاتِهَا وَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ فِيهَا .

فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَإِذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ وَقَدْ فَاتَهُ بَعْضُ التَّكْبِيرِ ( المأموم ) في صلاة العيد كَبَّرَ مَعَهُ مَا بَقِيَ ، وَلَمْ يَأْتِ بِمَا فَاتَ : لِأَنَّ اتِّبَاعَ الْإِمَامِ فَرْضٌ وَالتَّكْبِيرَ هَيْئَةٌ مَسْنُونَةٌ ، وَالْفَرْضُ لَا يُتْرَكُ بِالسُّنَّةِ ، فَإِنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ كَبَّرَ مَعَهُ خَمْسًا ، وَإِنْ كَانَتْ أَوَّلِيَّةً لِأَنَّهُ تَابِعُ الْإِمَامِ كَبَّرَ خَمْسًا ، فَإِذَا قَامَ لِيَقْضِيَ الرَّكْعَةَ الْفَائِتَةَ كَبَّرَ خَمْسًا ؛ لِأَنَّهَا ثَانِيَةٌ وَالرَّكْعَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ مُضَمَّنَةٌ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " ثُمَّ يَخْطُبُ فَإِذَا ظَهَرَ عَلَى الْمِنْبَرِ يُسَلِّمُ وَيَرُدُّ النَّاسُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا يُرْوَى غَالِبًا وَيُنْصِتُونَ وَيَسْتَمِعُونَ مِنْهُ وَيَخْطُبُ قَائِمًا خُطْبَتَيْنِ يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا جِلْسَةً خَفِيفَةً وَأُحِبُّ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى شَيْءٍ وَأَنْ يُثَبِّتَ يَدَيْهِ وَجَمِيعَ بَدَنِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْفِطْرُ أَمَرَهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَحَضَّهُمْ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَالْكَفِّ عَنْ مَعْصِيَتِهِ ، ثُمَّ يَنْزِلُ فَيَنْصَرِفُ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ الْخُطَبُ الْمَشْرُوعَةُ عَشْرُ خُطَبٍ : خُطْبَةُ الْجُمْعَةِ ، وَالْعِيدَيْنِ ، وَالْخُسُوفِ ، وَالْكُسُوفِ ، وَالِاسْتِسْقَاءِ ، وَأَرْبَعُ خُطَبٍ فِي الْحَجِّ : يَوْمَ السَّابِعِ ، وَيَوْمَ الْعَاشِرِ ، وَالثَّانِيَ عَشَرَ ، وَهُوَ النَّفْرُ الْأَوَّلُ ، ثُمَّ هِيَ نَوْعَانِ : نَوْعٌ مِنْهَا يَتَقَدَّمُ الصَّلَاةَ ، وَنَوْعٌ يَتَعَقَّبُ الصَّلَاةَ ، فَأَمَّا الَّذِي يَتَقَدَّمُ الصَّلَاةَ ، فَخُطْبَتَانِ الْجُمْعَةُ وَعَرَفَةُ ، وَأَمَّا الَّتِي تَتَعَقَّبُ الصَّلَاةَ فَالثَّمَانِي الْبَاقِيَةُ ، وَمَا يَتَقَدَّمُ الصَّلَاةَ وَاجِبٌ ، وَمَا يَتَعَقَّبُهَا سُنَّةٌ ، فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَخُطَبُ الْعِيدَيْنِ حكمهما ووقتهما سُنَّةٌ تُفْعَلُ بَعْدَ الصَّلَاةِ ، لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ لِلْعِيدِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَخْطُبَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ تَوَجَّهَ إِلَى مِنْبَرِهِ فَرَقَأَ عَلَيْهِ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ ، فَإِذَا انْتَهَى إِلَى مَوْقِفِهِ اسْتَقْبَلَ النَّاسَ بِوَجْهِهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : لِأَنَّ هَذَا يُرْوَى غَالِبًا يَعْنِي السَّلَامَ وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَرَادَ غَالِبًا فِي الصَّحَابَةِ مُنْتَشِرًا فِيهِمْ . وَالثَّانِي : يُرِيدُ فِعْلَ السَّلَامِ يُرْوَى غَالِبًا عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَإِذَا سَلَّمَ فَهَلْ يَجْلِسُ جِلْسَةً خَفِيفَةً لِلِاسْتِرَاحَةِ أَمْ لَا ؟ في صلاة العيد عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ يَجْلِسُ بَعْدَ سَلَامِهِ ثُمَّ يَقُومُ إِلَى خُطْبَتِهِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَجْلِسَ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْجُمْعَةِ يَجْلِسُ انْتِظَارًا لِلْأَذَانِ ، وَلَيْسَ لِلْعِيدِ أَذَانٌ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجْلِسُ لِلِاسْتِرَاحَةِ ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَسْكَنَ لِجَسَدِهِ وَأَمْضَى لِخَاطِرِهِ ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ قَائِمًا خُطْبَتَيْنِ ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ قَائِمًا ، فَإِنْ خَطَبَ جَالِسًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ خطبة العيدين أَجْزَاهُ بِخِلَافِ الْجُمْعَةِ : لِأَنَّ خُطْبَةَ الْجُمْعَةِ فَرْضٌ كَالصَّلَاةِ ، فَجَازَ أَنْ يَفْعَلَهَا جَالِسًا ، وَخُطْبَةُ الْعِيدَيْنِ سُنَّةٌ كَالصَّلَاةِ فَجَازَ أَنْ يَفْعَلَهَا جَالِسًا ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْطُبَ ابْتَدَأَ الْخُطْبَةَ الْأُولَى فَكَبَّرَ تِسْعًا تِسْعًا ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا جَلَسَ جِلْسَةً خَفِيفَةً ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الثَّانِيَةِ فَكَبَّرَ سَبْعًا لِرِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : " مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُكَبِّرَ فِي الْأُولَى تِسْعًا وَفِي الثَّانِيَةِ سَبْعًا " . وَقَوْلُهُ : مِنَ السُّنَّةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَوْ سُنَّةَ الصَّحَابَةِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَالِاقْتِدَاءُ بِهِ حَسَنٌ ؛ وَلِأَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ أُقِيمَتَا مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ ، فَالْأُولَى تَتَضَمَّنُ تِسْعَ تَكْبِيرَاتٍ مَعَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَالرُّكُوعِ ، وَالثَّانِيَةُ سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ مَعَ تَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْخُطْبَتَيْنِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا أُحِبُّ أَنْ يُدْخِلَ بَيْنَ ظَهَرَانَيِ

التَّكْبِيرِ التَّحْمِيدَ وَالثَّنَاءَ ، فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ حَسَنٌ ، وَتَرْكُهُ أَوْلَى ، وَيُخْتَارُ أَنْ يَعْتَمِدَ فِي خُطْبَتِهِ عَلَى شَيْءٍ ، لِيَكُونَ أَسْكَنَ لِجَسَدِهِ ، فَإِنْ أَسْدَلَ يَدَيْهِ أَوْ تَرَكَهُمَا تَحْتَ صَدْرِهِ جَازَ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ فِي خُطْبَتِهِ الْأُولَى بَعْدَ وَاجِبَاتِهَا بِأَمَانَةٍ مَا يَلِيقُ بِزَمَانِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْعِيدُ فِطْرًا ما ينبغي للإمام أن يبينه في خطبة العيد بَيِّنَ حُكْمَ زَكَاةِ الْفِطْرِ ، وَأَنَّهَا وَاجِبَةٌ ، عَلَى مَنْ وَجَدَهَا فَاضِلَةً عَنْ قُوتِهِ ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ زَمَانَ وُجُوبِهَا ، وَالْحُبُوبَ الَّتِي يَجُوزُ إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ مِنْهَا ، وَقَدْرَ الصَّاعِ الْمُؤَدَّى ، وَمَنْ يَسْتَحِقُّ أَخْذَهُ وَمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ ، وَإِنْ كَانَ الْعِيدُ أَضْحَى ما ينبغي للإمام أن يبينه في خطبة العيد بَيَّنَ لَهُمْ حُكْمَ الضَّحَايَا ، وَأَنَّهَا سُنَّةٌ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَوَّلَ زَمَانِ النَّحْرِ وَآخِرَهُ ، وَالْعُيُوبَ الْمَانِعَةَ وَالْأَسْنَانَ الْمُعْتَبَرَةَ ، وَقَدْرَ مَا يَأْكُلُ وَيَتَصَدَّقُ ، وَحُكْمَ التَّكْبِيرِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، وَإِنْ كَانَ فَقِيهًا ذَكَرَ خِلَافَ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالضَّحَايَا وَزَكَاةِ الْفِطْرِ ، لِيَعْلَمَ بِبَيَانِهِ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ فَيَعْلَمَ الْجَاهِلُ وَيَتَذَكَّرَ الْعَالِمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَنَفَّلَ الْمَأْمُومُ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَبَعْدَهَا فِي بَيْتِهِ وَالْمَسْجِدِ وَطَرِيقِهِ ، وَحَيْثُ أَمْكَنَهُ كَمَا يُصَلِّي قَبْلَ الْجُمُعَةِ وَبَعْدَهَا وَرُوِيَ أَنَّ سَهْلَ بْنَ السَّاعِدِيِّ وَرَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ كَانَا يُصَلِّيَانِ قَبْلَ الْعِيدِ وَبَعْدَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْإِمَامُ فَلَا يُخْتَارُ لَهُ أَنْ يَتَنَفَّلَ بَعْدَ خُرُوجِهِ ، لَا قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ ، وَلَا بَعْدَهَا : لِأَنَّهُ قَبْلَ الصَّلَاةِ مُنْتَظَرٌ وَبَعْدَهَا خَاطِبٌ ، فَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَنَفَّلَ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَبَعْدَهَا إِذَا فَرَغَ مِنَ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَنَفَّلَ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَبَعْدَهَا كَالْإِمَامِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُكْرَهُ لَهُ التَّنَفُّلُ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَا يُكْرَهُ لَهُ بَعْدَهَا . وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [ الْعَنْكَبُوتِ : ] . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الصَّلَاةُ خَيْرٌ مَوْضُوعٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ أَنَّ الْإِمَامَ مُتَّبَعٌ فِي أَفْعَالِهِ ، فَلَوْ جَوَّزْنَا لَهُ التَّنَفُّلَ لَتَبِعَهُ النَّاسُ فِيهِ ، وَصَارَ ذَلِكَ مَسْنُونًا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَأْمُومُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُصَلِّي الْعِيدَيْنِ الْمُنْفَرِدُ فِي بَيْتِهِ ، وَالْمَسَافِرُ وَالْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الصَّلَاةِ ، وَحُكْمَ مَنْ يُؤْمَرُ بِهَا وَمَنْ لَا تَلْزَمُهُ الْجُمْعَةُ هَلْ يُؤْمَرُ بِصَلَاةِ الْعِيدِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : قَالَ فِي الْقَدِيمِ : لَا يُؤْمَرُ بِهَا . وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ أَصَحُّ : يُؤْمَرُ بِهَا وَذَكَرْنَا تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأُحِبُّ حُضُورَ الْعَجَائِزِ غَيْرِ ذَاتِ الْهَيْئَةِ الْعِيدَيْنِ

وَأُحِبُّ إِذَا حَضَرَ النَّسَاءُ الْعِيدَيْنِ فما الذي ينبغي فعله لهن أَنْ يَتَنَظَّفْنَ بِالْمَاءِ وَلَا يَلْبَسْنَ شُهْرَةً مِنَ الثِّيَابِ وَتُزَيَّنُ الصِّبْيَانُ بِالصَّبْغِ وَالْحُلِيِّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذَا صَحِيحٌ يُسْتَحَبُّ لِلْعَجَائِزِ الْمُسِنَّاتِ غَيْرِ ذَوَاتِ الْهَيْئَاتِ أَنْ يَحْضُرْنَ صَلَاةَ الْعِيدِ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَحْرِمُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَلْتَخْرُجْنَ تَفِلَاتٍ . وَرَوَى جَابِرٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ خُطْبَتِهِ جَاءَ إِلَى النِّسَاءِ مَاشِيًا مُتَّكِئًا عَلَى قَوْسٍ ، فَوَقَفَ عَلَيْهِنَّ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ اللَّهَ تَعَالَى ، وَحَثَّهُنَّ عَلَى الصَّدَقَةِ ، قَالَ جَابِرٌ : فَتَصَدَّقَتْ هَذِهِ بِثَوْبِهَا وَهَذِهِ بِبَعْضِ حُلِيِّهَا وَهَذِهِ بِبَعْضِ مَا سَنَحَ لَهَا فَأَمَّا حُضُورُ النِّسَاءِ الشَّبَابِ صلاة العيد فَقَدِ اسْتَحَبَّهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ تَعَلُّقًا بِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِإِخْرَاجِ الْمُخَدَّرَاتِ إِلَى الْمُصَلَّى فَقِيلَ : إِنَّهُنَّ يَحِضْنَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لِيَشْهَدْنَ الدُّعَاءَ وَالْخَيْرَ ، وَهَذَا غَلَطٌ ، بَلْ خُرُوجُهُنَّ مَكْرُوهٌ ، لِمَا يُخَافُ مِنَ افْتِتَانِهِنَّ بِالرِّجَالِ ، وَافْتِتَانِ الرِّجَالِ بِهِنَّ ، وَحَدِيثُ أُمِّ عَطِيَّةَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ لِنِسَائِهِ هِيَ هَذِهِ ثُمَّ عَلَى ظَهْرٍ ، قَالَتْ عَائِشَةُ : لَوْ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ بَعْدَهُ لَمَنَعَهُنَّ أَشَدَّ الْمَنْعِ ، وَمَنِ اخْتَرْنَا حُضُورَهُ مِنَ النِّسَاءِ فَيُكْرَهُ لَهُنَّ الطِّيبُ وَالزِّينَةُ ، وَلُبْسُ الشُّهْرَةِ مِنَ الثِّيَابِ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلَاتٍ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الصِّبْيَانُ إخراجهم لصلاة العيد فَيُسْتَحَبُّ إِخْرَاجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ، وَيُخْتَارُ زِينَتُهُمْ بِالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ ، وَهَلْ يَحْرُمُ عَلَى ذُكُورِهِمْ لُبْسُ الْحَرِيرِ وَالْحُلِيِّ مِنَ الذَّهَبِ ؟ الصِّبْيَانُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَحْرُمُ لِإِطْلَاقِ النَّهْيِ بِتَحْرِيمِهَا عَلَى ذُكُورِ الْأُمَّةِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِ صَغِيرٍ مِنْ كَبِيرٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ : لِأَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ فِيمَنْ يَصِحُّ تَكْلِيفُهُ وَتَتَوَجَّهُ الْعِبَادَةُ نَحْوَهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَغْدُو مِنْ طَرِيقٍ وَيَرْجِعُ مِنْ أُخْرَى لصلاة العيد وَأُحِبُّ ذَلِكَ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ وَقَدْ رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ إِلَى الْعِيدِ مِنْ طَرِيقِ الشَّجَرَةِ ، وَيَدْخُلُ مِنْ طَرِيقِ الْمُعَرَّسِ . قَالَ أَصْحَابُنَا : فَيَحْتَمِلُ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُجُوهًا مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِيُسَاوِيَ فِي مُحَرَّفِهِ وَمَمَرِّهِ بَيْنَ الْقَبِيلَتَيْنِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَفَاخَرُونَ بِذَلِكَ فِي مَحَالِّهِمْ ، فَيَقُولُونَ مَرَّ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ ، فَكَانَ إِذَا مَضَى إِلَى الْمُصَلَّى فِي أَحَدِ الْحَيَّيْنِ رَجَعَ فِي الْحَيِّ الْآخَرِ لِيُسَاوِيَ بَيْنَهُمَا ، وَمِنْهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَصَدَّقُ عَلَى مَسَاكِينِ الطَّرِيقِ ، فَأَحَبَّ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ غَيْرِهِ لِيَتَصَدَّقَ عَلَى مَسَاكِينِهِ ، وَمِنْهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْصِدُهُ الْفُقَرَاءُ بِالسُّؤَالِ وَلَا يَحْضُرُهُ مَا يُغْنِيهِمْ ، فَكَانَ يَرْجِعُ فِي طَرِيقٍ آخَرَ تَوَقِّيًا لِمَسْأَلَتِهِمْ ، وَمِنْهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ سُئِلَ فِي طَرِيقِهِ عَنْ مَعَالِمِ الدِّينِ وَأَحْكَامِ الشَّرْعِ فَأَحَبَّ أَنْ يَعُودَ فِي آخَرَ لِيُعَلِّمَ أَهْلَ الطَّرِيقَيْنِ ، وَمِنْهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِلَسَّعَةِ وَقِلَّةِ الزِّحَامِ ، وَقِيلَ : بَلْ فَعَلَ ذَلِكَ لِيَنْتَشِرَ الْمُسْلِمُونَ فِي الطَّرِيقِ لِيَزْدَادَ غَيْظًا لِلْيَهُودِ ، وَقِيلَ : بَلْ فَعَلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ تَجَنُّبًا لِمَكْرِ الْمُنَافِقِينَ ، وَإِبْطَالًا لِكَيْدِهِمْ ، لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا تَرَصَّدُوا لَهُ بِالْمَكْرِ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي ذَهَبَ فِيهِ ، وَقِيلَ : بَلْ لِتَشْهَدَ الْبِقَاعُ ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ : مَنْ مَشَى فِي خَيْرٍ وَبِرٍّ شَهِدَتْ لَهُ الْبِقَاعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَقِيلَ فِي شَهَادَةِ الْبِقَاعِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ، يُنْطِقُهَا فَتَشْهَدُ بِذَلِكَ ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ أَنَّهُ يَشْهَدُ لَهُ مَلَائِكَةُ الْمَوْضِعِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَشْهَدُ لَهُ سُكَّانُ الْمَوْضِعِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ [ الدُّخَانِ : ] . يَعْنِي سُكَّانَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، وَقَدْ قِيلَ فِيهِ مَا يَكْثُرُ تَعْدَادُهُ وَيَطُولُ ذِكْرُهُ ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعَانِي ، فَقَدْ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِمَعْنًى يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ ، فَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ لَمْ يُسْتَحَبَّ ذَلِكَ لِمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْمَأْمُومِينَ ، وَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لِمَعْنًى يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ اسْتَحْبَبْنَاهُ لِمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْمَأْمُومِينَ ، وَإِنْ شَكَكْنَا هَلْ فَعَلَهُ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ أَوْ يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ كَانَ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُفْعَلَ مِثْلُ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتِدَاءً بِهِ ، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : سَوَاءٌ فَعَلَهُ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ أَوْ يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ ، فَالْمُسْتَحَبُّ لِلنَّاسِ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ يَفْعَلُ الشَّيْءَ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ ثُمَّ يَصِيرُ ذَلِكَ سُنَّةً لِمَنْ بَعْدَهُ ، كَالِاضْطِبَاعِ وَالرَّمَلِ ، إِلَّا أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ ، وَأَبَا عَلِيٍّ قَدِ اتَّفَقَا أَنَّ ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ فِي وَقْتِنَا .

وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا إِذَا عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ هَلْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا فِي وَقْتِنَا أَمْ لَا ؟ فَعِنْدَ أَبِي إِسْحَاقَ لَا يُسْتَحَبُّ ، وَعِنْدَ أَبِي عَلِيٍّ يُسْتَحَبُّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا كَانَ الْعُذْرُ مِنْ مَطَرٍ أَوْ غَيْرِهِ أَمَرْتُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْمَسَاجِدِ وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ صَلَّى بِالنَّاسِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ فِي الْمَسْجِدِ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ . ( قَالَ ) : وَلَا أَرَى بَأْسًا أَنْ يَأْمُرَ الْإِمَامُ مَنْ يُصَلِّي بِضَعَفَةِ النَّاسِ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمِصْرِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا حَالَ الْبِلَادِ ، وَأَنَّ مَا كَانَ وَاسِعَ الْجَامِعِ لَا يَضِيقُ بِأَهْلِهِ أُقِيمَتْ فِيهِ الصَّلَاةُ لِلْعِيدِ ، وَمَا كَانَ مِنْهَا ضَيِّقَ الْمَسْجِدِ لَا يَكْفِي جَمِيعَ أَهْلِهِ في صلاة العيد أُقِيمَتْ صَلَاةُ الْعِيدِ فِي مُصَلَّاهُ ، فَإِنْ بَعُدَتْ أَقْطَارُ الْبَلَدِ وَأَطْرَافُهُ وَشَقَّ عَلَى ضَعَفَةِ أَهْلِهِ الْخُرُوجُ إِلَى مُصَلَّاهُ لصلاة العيد اسْتَخْلَفَ فِي جَامِعِهِ مَنْ يُصَلِّي بِالْعَجَزَةِ وَمَنْ لَا نَهْضَةَ فِيهِ وَلَا حَرَكَةَ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرِ الْإِمَامُ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى لِعُذْرٍ مِنْ مَطَرٍ أَوْ خَوْفٍ مصلي العيد صَلَّى بِالنَّاسِ فِي الْجَامِعِ ، فَإِنْ ضَاقَ بِالنَّاسِ ( الجامع ) في صلاة العيد اسْتَخْلَفَ فِي بَعْضِ الْمَسَاجِدِ مَنْ يُصَلِّي بِبَاقِيهِمْ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنْ جَاءَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ جَلَسَ حَتَّى يَفْرُغَ فَإِذَا فَرَغَ قَضَى مَكَانَهُ أَوْ فِي بَيْتِهِ . ( قَالَ ) : وَإِذَا كَانَ الْعِيدُ أَضْحَى عَلَّمَهُمُ الْإِمَامُ كَيْفَ يَنْحَرُونَ وَأَنَّ عَلَى مَنْ نَحَرَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَجِبَ وَقْتُ نَحْرِ الْإِمَامِ أَنْ يُعِيدَ وَيُخْبِرُهُمْ بِمَا يَجُوزُ مِنَ الْأَضَاحِيِّ وَمَا لَا يَجُوزُ ، وَيُسَنُّ مَا يَجُوزُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَأَنَّهُمْ يُضَحُّونَ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ كُلَّهَا . ( قَالَ ) : وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ تَوَجَّهَ لِصَلَاةِ الْعِيدِ فَأَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الْخُطْبَةِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ ، فَلَا تَخْلُو حَالُ الْإِمَامِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي الْمُصَلَّى ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَمِعَ الْخُطْبَةَ ، وَلَا يُصَلِّي حَتَّى إِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ خُطْبَتِهِ صَلَّى حِينَئِذٍ إِنْ شَاءَ فِي مَوْضِعِهِ بِالْمُصَلَّى ، وَإِنْ شَاءَ فِي مَنْزِلِهِ ، لِأَنَّ وَقْتَهَا بَاقٍ إِلَى زَوَالِ الشَّمْسِ ، وَلَيْسَ بَعْضُ الْمَوَاضِعِ أَحَقَّ بِهَا فِي الِانْفِرَادِ مِنْ بَعْضٍ ، فَإِنْ خَافَ فَوَاتَ الْوَقْتِ صَلَّى وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ فِي الْخُطْبَةِ ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا مَعَ إِمْكَانِ أَدَائِهَا وَتَعَذُّرِ قَضَائِهَا بَعْدَ الْوَقْتِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ فِي الْمَسْجِدِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالصَّلَاةِ ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهَا اسْتَمَعَ بَاقِيَ الْخُطْبَةِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الدَّاخِلَ إِلَى الْمَسْجِدِ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ فِيهِ تَحِيَّةً لَهُ وَكَذَلِكَ أَمْرُ الدَّاخِلِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ بِالرُّكُوعِ قَبْلَ الِاسْتِمَاعِ تَحِيَّةً لَهُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُصَلِّي ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُصَلِّي وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُصَلِّي صَلَاةَ الْعِيدِ أَوْ تَحِيَّةَ

الْمَسْجِدِ ؟ مَنْ جَاءَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : يُصَلِّي صَلَاةَ الْعِيدِ بِتَكْبِيرٍ زَائِدٍ وَيَنُوبُ عَنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ ، كَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَأَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي صَلَاةِ فَرِيضَةٍ ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي مَعَهُ ، وَيَنُوبُ عَنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ . وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : يُصَلِّي تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ ثُمَّ يَجْلِسُ لِسَمَاعِ الْخُطْبَةِ ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ صَلَّى الْعِيدَ ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُومَ تَبَعٌ لِإِمَامِهِ فِي الصَّلَاةِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْضِيَ مَا فَاتَهُ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَّا بَعْدَ اتِّبَاعِهِ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْخُطْبَةِ ، كَمَا لَوْ أَدْرَكَهُ فِي صَلَاةِ فَرِيضَةٍ . وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " ثُمَّ لَا يَزَالُ يُكَبِّرُ خَلْفَ كُلِّ صَلَاةِ فَرِيضَةٍ مِنَ الظُّهْرِ مِنَ النَّحْرِ إِلَى أَنْ يُصُلِّيَ الصُّبْحَ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، فَيُكَبِّرُ بَعْدَ الصُّبْحِ ثُمَّ يَقْطَعُ وَبَلَغَنَا نَحْوُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : وَالصُّبْحُ آخِرُ صَلَاةٍ بِمِنًى وَالنَّاسُ لَهُمْ تَبَعٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ تَكْبِيرَ الْعِيدَيْنِ أَوَّلَ زَمَانِهِ وآخره عَلَى ضَرْبَيْنِ مُطْلَقٍ وَمُقَيَّدٍ ، فَالْمُطْلَقُ مَا تَعَلَّقَ بِالزَّمَانِ وَتَشْرِيفِهِ وَعَظِيمِ حُرْمَتِهِ ، وَهَذَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْأَضْحَى وَالْفِطْرُ ، وَلَا يَخْتَصُّ بِهِ صَلَاةٌ مِنْ غَيْرِهَا ، وَقَدْ مَضَى تَفْصِيلُهُ ، وَأَنَّ أَوَّلَ زَمَانِهِ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَآخِرَهُ إِلَى عِنْدِ ظُهُورِ الْإِمَامِ ، فَأَمَّا الْمُقَيَّدُ فَهُوَ مَا تَعَلَّقَ بِالصَّلَوَاتِ وَأَتَى بِهِ فِي أَعْقَابِهَا ، فَهَذَا يَخْتَصُّ بِهِ الْأَضْحَى دُونَ الْفِطْرِ ، لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ حُرْمَةِ الْحَجِّ ، وَيَتَّصِلُ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ النَّحْرِ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْأَضْحَى ، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالتَّكْبِيرِ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ، يَقْطَعُهُ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخَرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، فَيُكَبِّرُ عَقِيبَ خَمْسَ عَشْرَ صَلَاةً وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمِنَ التَّابِعِينَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهْرِيُّ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالتَّكْبِيرِ مِنْ بَعْدِ الْمَغْرِبِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، فَتَكُونُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ صَلَاةً ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ حَكَاهُ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ كَانَ يَبْتَدِئُ بِالتَّكْبِيرِ مِنْ بَعْدِ الصُّبْحِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى بَعْدِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، فَتَكُونُ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ صَلَاةً ثُمَّ قَالَ : وَأَسْتَخِيرُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخَرِّجُ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يُكَبِّرُ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ النَّاسَ فِي التَّكْبِيرِ تَبَعٌ لِلْحَاجِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [ الْحَجِّ : ] فَخَاطَبَ الْحَاجَّ بِذَلِكَ ، وَقِيلَ أَرَادَ بِالْمَنَافِعِ شُهُودَ عَرَفَةَ ، وَقِيلَ أَرَادَ بِهِ النَّحْرَ ، وَالْحَاجُّ يَبْتَدِئُونَ بِالتَّكْبِيرِ عِنْدَ قَطْعِ التَّلْبِيَةِ ، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ النَّحْرِ .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَبْتَدِئُونَ بِالتَّكْبِيرِ مِنْ بَعْدِ الْمَغْرِبِ مِنْ لَيْلَةِ النَّحْرِ إِلَى بَعْدِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، وَوَجْهُهُ أَنْ يُقَالَ : لِأَنَّهَا لَيْلَةُ عِيدٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرُ فِيهَا مَسْنُونًا كَالتَّكْبِيرِ الْمُطْلَقِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : إِنَّهُ يِبْتَدِئُ بِالتَّكْبِيرِ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى بَعْدِ صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ التَّشْرِيقِ ، وَوَجْهُهُ أَنْ يُقَالَ : لِأَنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ يُخْتَصُّ بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرُ فِيهِ مَسْنُونًا كَيَوْمِ النَّحْرِ . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : لَيْسَتِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَقَاوِيلَ ، وَإِنَّمَا هُوَ مَذْهَبُهُ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالتَّكْبِيرِ مِنْ بَعْدِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَقَوْلُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِنَّهُ يَبْتَدِئُ مِنْ بَعْدِ الْمَغْرِبِ مِنْ لَيْلَةِ النَّحْرِ ، فَإِنَّمَا أَرَادَ التَّكْبِيرَ الْمُطْلَقَ ، وَقَوْلُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ ، فَإِنَّمَا قَالَهُ حِكَايَةً عَنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

بَابُ التَّكْبِيرِ

بَابُ التَّكْبِيرِ كيفيته في العيدين . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " التَّكْبِيرُ كَمَا كَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَوَاتِ ( قَالَ ) : فَأُحِبُّ أَنْ يَبْدَأَ الْإِمَامُ فَيَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا نَسَقًا وَمَا زَادَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَحَسَنٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . السُّنَّةُ الْمَأْثُورَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَنَّهُ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا نَسَقًا فَيَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِشَيْءٍ ، فَإِنَّ زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرَا ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ ، صَدَقَ وَعْدَهُ ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ كَانَ حَسَنًا ، وَمَا زَادَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَحَسَنٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ فِي وَقْتِنَا ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الثَّلَاثِ النَّسَقِ أَوْلَى ، لِأَنَّنَا رُوِّيْنَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ عَلَى الصَّفَا مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الزِّيَادَةِ ، وَلِأَنَّهَا تَكْبِيرَاتٌ زِيدَتْ شِعَارًا لِلْعِيدِ فَكَانَتْ وِتْرًا كَتَكْبِيرَاتِ الصَّلَاةِ ، وَكَيْفَ كَبَّرَ جَازَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنْ فَاتَهُ شِيْءٌ : مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ صلاة العيد قَضَى ثُمَّ كَبَّرَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : يُكَبِّرُ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ يَقْضِي مَا فَاتَهُ اتِّبَاعًا لِإِمَامِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَمَكْحُولٍ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَصَحُّ لِأَمْرَيْنِ . : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَلْزَمُهُ اتِّبَاعُ إِمَامِهِ فِي أَفْعَالِ صَلَاتِهِ وَلَيْسَ التَّكْبِيرُ مِنْهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ بِسَلَامِ الْإِمَامِ قَدْ خَرَجَ مِنْ إِمَامَتِهِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ ، فَإِنْ كَبَّرَ مَعَ الْإِمَامِ بَعْدَ قَضَاءِ مَا فَاتَهُ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ مَا لَمْ يَقْصِدْ مُنَافَاةَ الصَّلَاةِ بِاتِّبَاعِ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ مَزَادُهُ كَارِهًا .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُكَبِّرُ خَلْفَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ يوم العيد ، قَالَ الْمُزَنِيُّ : الَّذِي قَبْلَ هَذَا عِنْدِي أَوْلَى بِهِ لَا يُكَبِّرُ إِلَّا خَلْفَ الْفَرَائِضِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، أَمَّا التَّكْبِيرُ فَسُنَّ لِلْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ ، وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ أيام العيد . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ التَّكْبِيرُ سُنَّةٌ لِلرَّجُلِ الْمُقِيمِ دُونَ الْمَرْأَةِ ، وَالْمُسَافِرِ وَمَا ذَكَرْنَا أَوْلَى ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَإِذَا صَحَّ أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ لِلْكَافَّةِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ : يُكَبِّرُ خَلْفَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : خَلْفَ الْفَرَائِضِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ الْمُزَنِيُّ مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا يُخَرِّجُونَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُكَبِّرُ خَلْفَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُكَبِّرُ خَلْفَ الْفَرَائِضِ دُونَ النَّوَافِلِ ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا : مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يُكَبِّرُ خَلْفَ الْفَرَائِضِ دُونَ النَّوَافِلِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَبِهِ جَرَى الْعَمَلُ تَوَارُثًا فِي الْأَمْصَارِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ ، فَمَنْ قَالَ تَمْهِيدًا لَهُمْ عَمَّا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ تَكْبِيرِهِ خَلْفَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ غَلِطَ فِي النَّقْلِ مِنَ التَّنْبِيهِ إِلَى التَّكْبِيرِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ غَلِطَ فِي الْمَعْنَى دُونَ الرِّوَايَةِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالتَّكْبِيرِ خَلْفَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ مَا تَعَلَّقَ بِالزَّمَانِ فِي لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ ، دُونَ مَا تَعَلَّقَ بِالصَّلَوَاتِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ ، وَقَالَ آخَرُونَ : بَلِ النَّوَافِلُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا سُنَّ مُنْفَرِدًا فَلَا يُكَبَّرُ خَلْفَهُ . وَالثَّانِي : مَا سُنَّ فِي جَمَاعَةٍ كَالِاسْتِسْقَاءِ وَالْخَسُوفَيْنِ فَهَذَا يُكَبَّرُ خَلْفَهُ ، وَلَهُ أَرَادَ الشَّافِعِيُّ تَشْبِيهًا بِالْفَرَائِضِ ، فَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا هَلْ يُكَبَّرُ خَلْفَ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ ؟ أيام العيد عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُكَبَّرُ لِفِعْلِهِ فِي جَمَاعَةٍ . وَالثَّانِي : لَا يُكَبَّرُ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ صَلَاةً شَرْعِيَّةً ذَاتَ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ ، وَإِنَّمَا هِيَ دُعَاءٌ وَتَرَحُّمٌ فَلَوْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَضَاهَا بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ هل يُكَبِّرْ خَلْفَهَا أم لا لَمْ يُكَبِّرْ خَلْفَهَا ، وَلَوْ ذَكَرَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ صَلَّاهَا فَائِتَةً قَضَاهَا ، وَكَبَّرَ خَلْفَهَا ، لِأَنَّ التَّكْبِيرَ مِنْ سُنَّةِ الْوَقْتِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ شَهِدَ عَدْلَانِ فِي الْفِطْرِ بِأَنَّ الْهِلَالَ كَانَ بِالْأَمْسِ هل يصلو ا العيد أم لا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الزَّوَالِ صَلَّى بِالنَّاسِ الْعِيدَ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ لَمْ يُصَلُّوا لِأَنَّهُ

عَمَلٌ فِي وَقْتٍ إِذَا جَاوَزَهُ لَمْ يُعْمَلْ فِي غَيْرِهِ كَعَرَفَةَ . وَقَالَ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ : وَأُحِبُّ إِنْ ذَكَرَ فِيهِ شَيْئًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا أَنْ يَشْمَلَ مِنَ الْغَدِ وَمِنْ بَعْدِ الْغَدِ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : قَوْلُهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى بِهِ لِأَنَّهُ احْتَجَّ فَقَالَ : لَوْ جَازَ أَنْ يَقْضِيَ كَانَ بَعْدَ الظُّهْرِ أَجْوَزَ وَإِلَى وَقْتِهِ أَقْرَبَ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : وَهَذَا مِنْ قَوْلِهِ عَلَى صَوَابِ أَحَدِ قَوْلَيْهِ عِنْدِي دَلِيلٌ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عِنْدَ الْإِمَامِ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ وَقَدْ أَصْبَحُوا صِيَامًا عَلَى الشَّكِّ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ بِأَنَّهُمَا رَأَيَا الْهِلَالَ مِنَ اللَّيْلِ ، فَإِنْ صَحَّتْ عَدَالَتُهُمَا قَبْلَ الزَّوَالِ أَفْطَرَ وَصَلَّى بِالنَّاسِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتٌ لِلصَّلَاةِ ، مَا لَمْ تَزُلِ الشَّمْسُ ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ تَصِحَّ عَدَالَتُهُمَا إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ ، فَإِنَّهُ يُفْطِرُ وَيَأْمُرُ النَّاسَ بِهِ ، وَفِي إِعَادَةِ الصَّلَاةِ مِنَ الْغَدِ صلاة العيدين قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ لَا تُعَادُ ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةُ نَافِلَةٍ سُنَّ لَهَا الْجَمَاعَةُ فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِالْفَوَاتِ كَصَلَاةِ الْخُسُوفِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا تُعَادُ مِنَ الْغَدِ ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ دَائِبَةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَسْقُطَ بِفَوَاتِ وَقْتِهَا كَالْفَرَائِضِ ، وَقَدْ رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَضَائِهَا مِنَ الْغَدِ ، إِلَّا أَنَّ فِي الْحَدِيثِ اضْطِرَابًا وَلَوْلَا اضْطِرَابُهُ لَأُعِيدَتِ الصَّلَاةُ مِنَ الْغَدِ قَوْلًا وَاحِدًا . فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عِلَّةِ تَأْخِيرِهَا إِلَى الْغَدِ صلاة العيد عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ : أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَأْخِيرِهَا تَعَذُّرُ اجْتِمَاعِ النَّاسِ لِتَفَرُّقِهِمْ وَعَدَمِ عِلْمِهِمْ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا كَانَ الْبَلَدُ لَطِيفًا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُ أَهْلِهِ بَعْدَ الزَّوَالِ مِنْ يَوْمِهِمْ صُلِّيَتْ فِي الْيَوْمِ ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى وَقْتِهَا الْغَالِبِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَأْخِيرِهَا إِلَى الْغَدِ ، أَنْ يُؤْتَى بِهَا فِي وَقْتِهَا الْمَسْنُونَةِ فِيهِ ، وَذَلِكَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الزَّوَالِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهَا فِي الْيَوْمِ بِحَالٍ .

فَصْلٌ : إِذَا كَانَ الْعِيدُ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ حكم صلاة الجمعة فَعَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ أَنْ يُصَلُّوا الْجُمْعَةَ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ تَرْكُهَا ، كَمَا قَالَ بِهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَالْفُقَهَاءُ كَافَّةً ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ قَدْ سَقَطَ عَنْهُمْ فَرْضُ الْجُمْعَةِ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُمُعَةُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَلِأَنَّ الْعِيدَ سُنَّةٌ وَالْجُمْعَةَ فَرْضٌ ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْفَرْضِ بِالسُّنَّةِ ، فَأَمَّا أَهْلُ السَّوَادِ فَفِي سُقُوطِ الْجُمْعَةِ عَنْهُمْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمْ كَأَهْلِ الْمِصْرِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا سَقَطَتْ عَنْهُمْ ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِأَهْلِ الْعَوَالِي : فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ قَدِ اجْتَمَعَ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ ، فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَنْصَرِفَ فَلَيَنْصَرِفْ فَإِنَّا مُجَمِّعُونَ وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَهْلِ الْمِصْرِ وَالسَّوَادِ : أَنَّ أَهْلَ السَّوَادِ إِذَا انْصَرَفُوا بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ شَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَوْدُ ، لِبُعْدِ دَارِهِمْ وَلَا يَشُقُّ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ لِقُرْبِ دَارِهِمْ .

بَابُ صَلَاةِ خُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ
بيان الأصل في صلاة الخسوف

بَابُ صَلَاةِ خُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فِي أَيِ وَقْتٍ خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي نِصْفِ النَّهَارِ أَوْ بَعْدَ الْعَصْرِ فَسَوَاءٌ ، وَيَتَوَجَّهُ الْإِمَامُ إِلَى حَيْثُ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ فَيَأْمُرُ بِالصَّلَاةِ جَامِعَةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا الْأَصْلُ فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [ فُصِّلَتْ : ] فَاحْتَمَلَ ذَلِكَ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ وَرَدَ فِي الْمَنْعِ مِنَ السُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ أَمْرًا وَرَدَ بِالسُّجُودِ عِنْدَ حُدُوثِ مَعْنَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ ، فَاحْتِيجَ إِلَى بَيَانٍ ، فَبَيَّنَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَلَاتِهِ عِنْدَ خُسُوفِهَا دُونَ سَائِرِ الْآيَاتِ . وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ : خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ : خَسَفَتْ بِمَوْتِهِ ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ خَطَبَ وَقَالَ : " إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرُ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَالصَّلَاةِ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَأَيُّ وَقْتٍ خَسَفَتْ فِيهِ الشَّمْسُ مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ أَوْ بَعْدَ الْعَصْرِ صَلَّى فِيهِ ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَهَا سَبَبٌ تُصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ حَيْثُ تُصَلَّى الْجُمْعَةُ ، لَا حَيْثُ تُصَلَّى الْأَعْيَادُ ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي مَسْجِدِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنْ فَوَاتِ الصَّلَاةِ بِتَجَلِّي الْخُسُوفِ إِذَا خَرَجَ ، فَإِذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ نَادَى : " الصَّلَاةَ جَامِعَةً " بِلَا أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

صَلَاةُ الْخُسُوفِ رَكْعَتَانِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْهُمَا رُكُوعَانِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَقْرَأُ فِي الْقِيَامِ الْأَوَّلِ بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ إِنْ كَانَ يَحْفَظُهَا أَوْ قَدْرِهَا مِنَ الْقُرْآنِ إِنْ كَانَ لَا يَحْفَظُهَا ، ثُمَّ يَرْكَعُ فَيُطِيلُ وَيَجْعَلُ رُكُوعَهُ قَدْرَ قِرَاءَةِ مِائَةِ آيَةٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَقُولُ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ ، ثُمَّ يَقْرَأُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَقْدْرِ مِائَتَيْ آيَةٍ مِنَ الْبَقَرَةِ ، ثُمَّ يَرْكَعُ بِقَدْرِ مَا يَلِي رُكُوعَهُ الْأَوَّلَ ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَسْجُدُ

سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ يَقُومُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَيَقْرَأُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَقَدْرِ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ آيَةً مِنَ الْبَقَرَةِ ثُمَّ يَرْكَعُ بِقَدْرِ سَبْعِينَ آيَةً مِنَ الْبَقَرَةِ ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَقْرَأُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَقَدْرِ مِائَةِ آيَةٍ مِنَ الْبَقَرَةِ ثُمَّ يَرْكَعُ بِقَدْرِ خَمْسِينَ آيَةً مِنَ الْبَقَرَةِ ثُمَّ يَرْفَعُ ثُمَّ يَسْجُدُ ، وَإِنْ جَاوَزَ هَذَا أَوْ قَصَّرَ عَنْهُ فَإِذْ قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ أَجْزَأَةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ صَلَاةُ الْخُسُوفِ كيفيتها رَكْعَتَانِ ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْهُمَا رُكُوعَانِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَإِسْحَاقُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : رَكْعَتَانِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ مِنْ غَيْرِ رُكُوعٍ زَائِدٍ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةَ الْخُسُوفِ رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاتِكُمْ هَذِهِ . وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى هَذِهِ الصَّلَاةَ كَأَحَدِ صَلَاةٍ صَلَّيْتُمُوهَا . قَالَ : وَلِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا ، وَعَلَى كِلَا الْحَالَيْنِ لَيْسَ لَهَا نَظِيرٌ فِيهِمَا بِرُكُوعٍ زَائِدٍ . قَالَ : وَلِأَنَّ الصَّلَوَاتِ تَخْتَلِفُ فِي أَعْدَادِ رَكَعَاتِهَا وَلَا تَخْتَلِفُ فِي زِيَادَةِ أَرْكَانِهَا ، فَكَانَ مَذْهَبُكُمْ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ الْمُقَرَّرَةِ فِيهَا . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ ، فَصَلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ مَعَهُ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا قَدْرَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا ، ثُمَّ رَفَعَ وَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُوْنَ الْأَوَّلَ ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونُ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونُ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونُ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ رَفَعَ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ قَامَ إِلَى الثَّانِيَةِ ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا دُونَ قِيَامِهِ الْأَوَّلِ ثُمَّ سَاقَ الْخَبَرَ إِلَى آخِرِهِ وَرَوَتْ عَمْرَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْخُسُوفَ رَكْعَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَيْنِ وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَسُمْرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ نَفْلٍ يُسَنُّ فِيهَا اجْتِمَاعُ الْكَافَّةِ فَوَجَبَ أَنْ تَخْتَصَّ بِمَعْنًى تُبَايِنُ بِهِ غَيْرَهَا مِنَ النَّوَافِلِ كَالْعِيدِ وَالِاسْتِسْقَاءِ الْمُخْتَصِّ بِزِيَادَةِ التَّكْبِيرَاتِ .

فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ رِوَايَتِهِمْ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَرْجِيحٌ . وَالثَّانِي : اسْتِعْمَالٌ فَأَمَّا التَّرْجِيحُ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَخْبَارَنَا أَكْثَرُ رُوَاةً وَأَصَحُّ إِسْنَادًا . وَالثَّانِي : أَنَّهَا أَزْيَدُ وَأَكْثَرُ عَمَلًا . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ عَمَلُ الْأَئِمَّةِ وَفِعْلُ أَهْلِ الْأَمْصَارِ ، قَدْ عَمِلَ بِهِ عُمَرُ وَعَلِيٌّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِالْمَدِينَةِ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ بِالْبَصْرَةِ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ بِالْمَدِينَةِ ، فَكَانَ الْعَمَلُ بِأَخْبَارِنَا أَوْلَى لِمَا تَضَمَّنَهَا مِنَ التَّرْجِيحِ ، وَأَمَّا الِاسْتِعْمَالُ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الرَّاوِي ، وَقَوْلِهِ كَصَلَاتِكُمْ هَذِهِ أَيْ : يَتَضَمَّنُهَا رُكُوعٌ وَسُجُودٌ بِخِلَافِ الْجِنَازَةِ ، وَقَوْلِهِ فِي الْخَبَرِ الْآخَرِ : " كَأَحَدِ صَلَاةٍ صَلَّيْتُمُوهَا " . يَعْنِي : مِنْ صَلَاةِ الْخُسُوفِ . وَالثَّانِي : تَسْلِيمُ الرِّوَايَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا وَحَمْلُهَا عَلَى الْجَوَازِ ، وَحَمْلُ مَا رُوِّينَاهُ عَلَى الْأَفْضَلِ وَالْمَسْنُونِ ، كَمَا تَوَضَّأَ مَرَّةً لِيَدُلَّ عَلَى الْجَوَازِ ، وَثَلَاثًا لِيَدُلَّ عَلَى الْأَفْضَلِ . وَالثَّالِثُ : حَمْلُ رِوَايَتِهِمْ عَلَى أَنَّ الْخُسُوفَ تَجَلَّى سَرِيعًا وَلَمْ يَطُلْ ، فَرَكَعَ رُكُوعًا وَاحِدًا ، وَحَمْلُ رِوَايَتِنَا عَلَى أَنَّهُ أَطَالَ فَرَكَعَ رُكُوعَيْنِ ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ رَكَعَ رُكُوعًا وَاحِدًا لِيَدُلَّ عَلَى الْجَوَازِ ، وَالسُّنَّةِ ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَرْكَعَ رُكُوعَيْنِ فِي تَطْوِيلِ الْخُسُوفِ وَتَجَلِّيهِ فَالسُّنَّةُ فِي طَوِيلِ الْخُسُوفِ رُكُوعَانِ وَفِي قَصِيرِهِ رُكُوعٌ وَاحِدٌ ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الْمُبَاحِ ، لَيْسَ بَعْضُهُ بِأَوْلَى مِنْ بَعْضٍ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّ الْخُسُوفَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا ، وَلَيْسَ فِي أَحَدِهِمَا رُكُوعٌ زَائِدٌ ، فَيُقَالُ : الصَّلَوَاتُ قَدْ تَخْتَلِفُ فِي هَيْئَاتِهَا وَأَرْكَانِهَا ، وَلِكُلِّ صَلَاةٍ هَيْئَةٌ تَخْتَصُّ بِهَا ، فَلِصَلَاةِ الْعِيدِ هَيْئَةٌ ، وَلِصَلَاةِ الْخُسُوفِ هَيْئَةٌ ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا مُبْطِلًا لِمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ تَغْيِيرُ هَيْئَاتِهَا ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُبْطِلًا لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِتَغْيِيرِ هَيْئَاتِهَا وَاخْتِلَافِ أَوْصَافِهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّ الصَّلَاةَ تَخْتَلِفُ فِي أَعْدَادِ رَكَعَاتِهَا ، إِلَّا فِي زِيَادَةِ أَرْكَانِهَا فَوَاضِحُ الْفَسَادِ : لِأَنَّ زِيَادَةَ أَعْدَادِهَا تُوجِبُ زِيَادَةَ أَرْكَانِهَا ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ زِيَادَةُ مَعْنَى يَقْتَضِي الِانْفِصَالَ عَنْهُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا صِفَةُ الصَّلَاةِ وَكَيْفِيَّتُهَا صَلَاةُ الْخُسُوفِ ، فَهُوَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْإِحْرَامِ نَاوِيًا صَلَاةَ الْخُسُوفِ ، ثُمَّ يَتَوَجَّهَ وَيَسْتَعِيذَ ، وَيَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ يَبْتَدِئُهَا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، وَيَقْرَأُ بَعْدَهَا بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ إِنْ كَانَ يُحْسِنُهَا ، أَوْ بِقَدْرِهَا مِنْ غَيْرِهَا عَلَى مَا قَرَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فِي رِوَايَتِهِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطَالَ الْقِيَامَ الْأَوَّلَ بِنَحْوٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ بِقَدْرِ مِائَةِ آيَةٍ ، يُسَبِّحُ

فِي رُكُوعِهِ وَلَا يَقْرَأُ ، ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَقُولُ . اللَّهُ أَكْبَرُ ، ثُمَّ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ يَبْتَدِئُهَا بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، وَهَلْ يَسْتَعِيذُ قَبْلَهَا أَمْ لَا قبل البسملة في صَلَاةِ الْخُسُوفِ ، عَلَى وَجْهَيْنِ ثُمَّ يَقْرَأُ بِقَدْرِ مِائَتَيْ آيَةٍ مِنَ الْبَقَرَةِ ، ثُمَّ يَرْكَعُ بِقَدْرِ ثَمَانِينَ آيَةً دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَقُولُ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، فَيَكُونُ فِي رَفْعِ رَأْسِهِ مِنَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ مُكَبِّرًا ، وَفِي الثَّانِي قَائِلًا سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ لَا يُطِيلُ فِيهِمَا ، ثُمَّ يَقُومُ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَيَسْتَعِيذُ ، ثُمَّ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ يَبْتَدِئُهَا بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثُمَّ يَقْرَأُ بِقَدْرِ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ آيَةً مِنَ الْبَقَرَةِ ، ثُمَّ يَرْكَعُ بِقَدْرِ سَبْعِينَ آيَةً ، ثُمَّ يَرْفَعُ مُكَبِّرًا ، وَهَلْ يَسْتَعِيذُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، ثُمَّ يَقْرَأُ مِائَةَ آيَةٍ مِنَ الْبَقَرَةِ ، ثُمَّ يَرْكَعُ بِقَدْرِ خَمْسِينَ آيَةً يُسَبِّحُ ، ثُمَّ يَرْفَعُ يَقُولُ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ لَا يُطِيلُ فِيهِمَا ، ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ ، هَكَذَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَدْ حَكَى الْبُوَيْطِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ صَلَّى بِالْبَصْرَةِ لِخُسُوفِ الْقَمَرِ ، وَقَرَأَ فِي الْقِيَامِ الْأَوَّلِ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَفِي الثَّانِي بِسُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ، وَفِي الثَّالِثِ بِسُورَةِ النِّسَاءِ ، وَفِي الرَّابِعِ بِسُورَةِ الْمَائِدَةِ ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ ، وَكَيْفَ قَرَأَ أَجَزْأَهُ ، وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْفَاتِحَةِ جَازَ ، وَلَوْ نَسِيَ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْقِيَامِ الثَّانِي مِنَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى حَتَّى سَجَدَ عَادَ فَانْتَسَبَ قَائِمًا وَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ ثُمَّ قَامَ إِلَى الثَّانِيَةِ ، وَسَجَدَ " لِلسَّهْوِ ، فَلَوْ أَدْرَكَهُ مُؤْتَمٌّ فِي الرُّكُوعِ الثَّانِي لَمْ يُعْتَدَّ لَهُ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ ؛ لِأَنَّ مَا فَاتَهُ مِنْهَا أَكْثَرُهَا ، فَصَارَ بِخِلَافِ مَنْ أَدْرَكَهُ رَاكِعًا فِي فَرْضٍ ، فَلَوْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَسَائِرِ النَّوَافِلِ مِنْ غَيْرِ رُكُوعٍ زَائِدٍ ، فَإِنْ تَأَوَّلَ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ ، وَإِنْ سُهَا وَكَانَ شَافِعِيًّا فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْخُسُوفِ عَلَى مَا وَصَفْنَا خَطَبَ خُطْبَتَيْنِ : وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَخْطُبَ لَهَا . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، وَسُمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْخُسُوفَ ثُمَّ خَطَبَ ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ نَفْلٍ سُنَّ لَهَا اجْتِمَاعُ الْكَافَّةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِهَا الْخُطْبَةُ كَالْعِيدَيْنِ .

صَلَاةُ كُسُوفِ الْقَمَرِ الْجَهْرُ فِيهَا مَسْنُونٌ إِجْمَاعًا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُسَرُّ فِي خُسُوفِ الشَّمْسِ هل يجهر فيها بالقراءة أم لا ؟ بِالْقِرَاءَةِ لِأَنَّهَا مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ : خَسَفَتِ الشَّمْسُ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ مَعَهُ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا قَالَ : نَحْوًا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا ثُمَّ رَفَعَ ، فَقَامَ قِيَامَا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا

وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعَا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ ، فَقَالَ " إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَوَصَفَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : كُنْتُ إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا سَمِعْتُ مِنْهُ حَرْفًا لِأَنَّهُ أَسَرَّ وَلَوْ سَمِعَهُ مَا قَدَّرَ قِرَاءَتَهُ وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ صَلَّى فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ رَكْعَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكِبَ فَخَطَبَنَا ، فَقَالَ : إِنَّمَا صَلَّيْتُ كَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي . قَالَ : وَبَلَغَنَا عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ صَلَّى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رَكْعَتَيْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا صَلَاةُ كُسُوفِ الْقَمَرِ حكم الجهر فيها فَالْجَهْرُ فِيهَا مَسْنُونٌ إِجْمَاعًا لِأَنَّهَا مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ ، فَأَمَّا صَلَاةُ خُسُوفِ الشَّمْسِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ ، أَنَّهُ يُسَرُّ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَإِسْحَاقُ : يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ . اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى لِخُسُوفِ الشَّمْسِ فَجَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ نَفْلٍ كَالْعِيدَيْنِ . وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ خُسُوفِ الشَّمْسِ فَلَمْ أَسْمَعْ مِنْهُ وَلَا حَرْفًا ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ نَهَارٍ يُفْعَلُ مِثْلُهَا فِي اللَّيْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ صِفَتِهَا الْإِسْرَارُ كَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لِخُسُوفِ أَحَدِ النَّيِّرَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ سُنَّتُهَا كَسُنَّةِ الصَّلَوَاتِ الرَّاتِبَةِ فِي وَقْتِهَا . أَصْلُهُ : خُسُوفُ الْقَمَرِ . وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا . فَقَدْ رُوِّينَا عَنْهَا خِلَافَهُ ، عَلَى أَنَّنَا نَحْمِلُ قَوْلَهَا : جَهَرَ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا عَلَى أَنَّهُ جَهَرَ بِالْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ أَسْمَعَ نَفْسَهُ وَذَلِكَ يُسَمَّى جَهْرًا ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : مَا أَسَرَّ مَنْ أَسْمَعَ نَفْسَهُ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ فَمُعَارَضٌ بِقِيَاسِنَا وَهُوَ أَوْلَى لِشَهَادَةِ الْأُصُولِ لَهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنِ اجْتَمَعَ عِيدٌ وَخُسُوفٌ وَاسْتِسْقَاءٌ وَجِنَازَةٌ بأيهم بُدِئَ بِالصَّلَاةِ بُدِئَ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَضَرَ الْإِمَامُ أُمِرَ مَنْ يَقُومُ بِهَا وَبُدِئَ بِالْخُسُوفِ ثُمَّ يُصَلَّى الْعِيدُ ثُمَّ أُخِّرَ الِاسْتِسْقَاءُ إِلَى يَوْمٍ آخَرَ وَإِنْ خَافَ فَوْتَ الْعِيْدِ إن صلي صلاة الخسوف قبلها صَلَّاهَا وَخَفَّفَ ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا إِلَى صَلَاةِ الْخُسُوفِ ثُمَّ يَخْطُبُ لِلْعِيدِ وَلِلْخُسُوفِ وَلَا يَضُرُّهُ أَنْ يَخْطُبَ بَعْدَ الزَّوَالِ لَهُمَا

وَإِنْ كَانَ فِي وَقْتِ الْجُمُعَةِ خسوف الشمس بَدَأَ بِصَلَاةِ الْخُسُوفِ وَخَفَّفَ فَقَرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِأُمِّ الْقُرْآنِ ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، وَمَا أَشْبَهَهَا ، ثُمَّ يَخْطُبَ لِلْجُمْعَةِ وَيَذْكُرُ فِيهَا الْخُسُوفَ ثُمَّ يُصَلِّي الْجُمْعَةَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : أَنْ يَجْتَمِعَ عِيدٌ وَخُسُوفٌ وَاسْتِسْقَاءٌ وَجِنَازَةٌ ، فَالْأَوْلَى تَأْخِيرُ الِاسْتِسْقَاءِ : لِإِمْكَانِ فِعْلِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ ، ثُمَّ يَبْدَأُ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ إِنْ حَضَرَتْ ، لِتَأْكِيدِهَا ، وَلِمَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْمُبَادَرَةِ بِهَا ، مَعَ مَا يُخَافُ مِنْ تَغْيِيرِ الْمَيِّتِ وَالتَّأَذِّي بِهِ ، ثُمَّ يُصَلِّي الْخُسُوفَ ، ثُمَّ الْعِيدَ بَعْدَهُ ، لِأَنَّ بَقَاءَ وَقْتٍ لِلْعِيدِ مُتَيَقَّنٌ إِلَى زَوَالِ الشَّمْسِ ، وَبَقَاءَ الْخُسُوفِ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ ، وَرُبَّمَا أَسْرَعَ تَجَلِّيهِ ، فَإِنْ ضَاقَ وَقْتُ الْعِيدِ وَعَلِمَ أَنَّهُ إِنِ اشْتَغَلَ بِصَلَاةِ الْخُسُوفِ لَمْ يُدْرِكْ صَلَاةَ الْعِيدِ بَدَأَ بِصَلَاةِ الْعِيدِ أَوَّلًا ، ثُمَّ صَلَّى الْخُسُوفَ بَعْدَهَا : لِأَنَّ فَوَاتَ الْعِيدِ مُتَيَقَّنٌ وَبَقَاءَ الْخُسُوفِ مُجَوِّزٌ ، فَكَانَتِ الْبِدَايَةُ بِمَا يُتَيَقَّنُ فَوَاتُهُ أَوْلَى ، فَإِذَا صَلَّى الْعِيدَ لَمْ يَخْطُبْ ، وَصَلَّى لِلْخُسُوفِ ، ثُمَّ خَطَبَ لَهُمَا بَعْدَ الزَّوَالِ ؛ لِأَنَّ خُطْبَةَ الْعِيدِ سُنَّةٌ ، فَجَازَ فِعْلُهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ خُطْبَةُ الْجُمْعَةِ ؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ ، فَلَمْ يَجُزْ فِعْلُهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا . فَإِنْ قِيلَ : تَصَوُّرُ الشَّافِعِيِّ اجْتِمَاعَ الْخُسُوفِ وَالْعِيدِ مُحَالٌ ، لِأَنَّ الْعِيدَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ إِنْ كَانَ فِطْرًا ، أَوْ فِي الْعَاشِرِ إِنْ كَانَ نَحْرًا ، وَالْخُسُوفَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ إِنْ كَانَ لِلشَّمْسِ ، وَفِي الرَّابِعَ عَشَرَ إِنْ كَانَ لِلْقَمَرِ ، فَاسْتَحَالَ اجْتِمَاعُ الْخُسُوفِ وَالْعِيدِ . قِيلَ عَنْ هَذَا أَجْوِبَةٌ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَكُنْ غَرَضُهُ فِي هَذَا تَصْحِيحَ وُقُوعِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ غَرَضُهُ الْكَشْفَ عَنْ مَعَانِي الْأَحْكَامِ بِإِيقَاعِ التَّفْرِيعِ فِي الْمَسَائِلِ لِيَتَّضِحَ الْمَعْنَى ، وَيَتَّسِعَ الْفَهْمُ ، وَبِذَلِكَ جَرَتْ عَادَةُ الْعُلَمَاءِ فِي تَفْرِيِعِ الْمَسَائِلِ ، حَتَّى قَالُوا فِي الْفَرَائِضِ مِائَةُ جَدَّةٍ وَخَمْسُونَ أُخْتًا ، وَإِنْ كَانَ وُجُودُ ذَلِكَ مُسْتَحِيلًا . جَوَابٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ تَكَلَّمَ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُ أَهْلِ النُّجُومِ الَّذِي لَا يُسَوِّغُ قَبُولَ قَوْلِهِمْ ، وَقَدْ نَقَلَ الْوَاقِدِيُّ وَأَهْلُ السِّيَرِ أَنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانَ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ مِنَ الشَّهْرِ ، وَرَوَى ذَلِكَ عَلْقَمَةُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَقِيلَ كَانَ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ مِنْ رَمَضَانَ ، وَقِيلَ الْعَاشِرَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ ، وَقِيلَ الشَّمْسُ خَسَفَتْ يَوْمَ مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَكَانَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ . جَوَابٌ ثَالِثٌ : أَنَّهُ وَإِنْ كَانَتِ الْعَادَةُ فِيمَا ذَكَرُوا فَقَدْ يَنْتَقِضُ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ وَوُجُودِ أَشْرَاطِهَا ، فَبَيَّنَ الْحُكْمَ فِيهَا قَبْلَ وُجُودِهَا ، فَلَوِ اجْتَمَعَ عِيدٌ وَخُسُوفٌ وَجُمْعَةٌ وَضَاقَ وَقْتُ الْجَمِيعِ بَدَأَ بِالْعِيدِ أَوَّلًا ، لِتَعْجِيلِ فَوَاتِهِ ، ثُمَّ الْجُمْعَةِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ ، ثُمَّ الْخُسُوفِ ،

فَلَوْ تَعَجَّلَ وَقْتَ الْخُسُوفِ بَدَأَ بِالصَّلَاةِ لَهُ وَلَمْ يَخْطُبْ ، ثُمَّ صَلَّى الْعِيدَ ، ثُمَّ خَطَبَ لِلْجُمْعَةِ وَذَكَرَ فِيهَا الْخُسُوفَ وَالْعِيدَ ، ثُمَّ صَلَّى الْعِيدَ ، ثُمَّ خَطَبَ لِلْجُمْعَةِ وَذَكَرَ فِيهَا الْخُسُوفَ وَالْعِيدَ ، ثُمَّ صَلَّى الْجُمْعَةَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ خَسَفَ الْقَمَرُ صَلَّى كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ لِأَنَّهَا صَلَاةُ اللَّيْلِ فَإِنْ خَسَفَ بِهِ فِي وَقْتِ قُنُوتٍ ( القمر ) فبأيهما يبدأ الصلاة ؟ بَدَأَ بِالْخُسُوفِ قَبْلَ الْوِتْرِ وَقَبْلَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَإِنْ فَاتَتَا لِأَنَّهُمَا صَلَاةُ انْفِرَادٍ وَيَخْطُبُ بَعْدَ صَلَاةِ الْخُسُوفِ لَيْلًا وَنَهَارًا ، وَيَحُضُّ النَّاسَ عَلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُهُمْ بِالتَّوْبَةِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ ، وَيُصَلِّي حَيْثُ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ لَا حَيْثُ يُصَلِّي الْأَعْيَادَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، السُّنَّةُ فِي كُسُوفِ الْقَمَرِ أَنْ يُصَلَّى لَهَا جَمَاعَةً كَخُسُوفِ الشَّمْسِ . وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : يُصَلِّي النَّاسُ أَفْرَادًا ؛ لِأَنَّهَا مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ . وَدَلِيلُنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَى لِخُسُوفِ الشَّمْسِ جَمَاعَةً ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ فَرَاغِهِ : " إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْرُغُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَإِلَى الصَّلَاةِ وَأَشَارَ إِلَى الصَّلَاةِ الَّتِي فَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ ، وَكَانَتْ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ [ فُصِّلَتْ : ] . وَرَوَى الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ صَلَّى بِالْبَصْرَةِ لِكُسُوفِ الْقَمَرِ فِي جَمَاعَةٍ ، ثُمَّ رَكِبَ بِعِيرَهُ وَخَطَبَ ، فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ لَمْ أَبْتَدِعْ هَذِهِ الصَّلَاةَ بِدَعَةً ، وَإِنَّمَا فَعَلْتُ كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ ، وَلِأَنَّهُ خُسُوفٌ سُنَّ لَهُ الصَّلَاةُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ سُنَّتِهَا الْجَمَاعَةُ كَخُسُوفِ الشَّمْسِ ؛ وَلِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ يَتَجَانَسَانِ ، فَإِذَا سُنَّ الْإِجْمَاعُ لِأَحَدِهِمَا سُنَّ لِلْأُخْرَى كَالْعِيدَيْنِ ، وَيُجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ ، وَيُخْطَبُ بَعْدَ الصَّلَاةِ كَمَا يُخْطَبُ فِي خُسُوفِ الشَّمْسِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ لَمْ يُصَلِّ حَتَّى تَغِيبَ كَاسِفَةً أَوْ مُنْجَلِيَةً أَوْ خَسَفَ الْقَمَرُ فَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى تَجَلَّى أَوْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ لَمْ يُصَلِّ لِلْخُسُوفِ فَإِنْ غَابَ خَاسِفًا صَلَّى لِلْخُسُوفِ بَعْدَ الصُّبْحِ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ وَيُخَفِّفُ لِلْفَرَاغِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَإِنْ طَلَعَتْ أَوْ أَحْرَمَ فَتَجَلَّتْ أَتَمُّوهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا لَمْ يُصَلِّ لِخُسُوفِ الشَّمْسِ حَتَّى غَرَبَتْ لَمْ يُصَلِّ لَهَا لِفَقْدِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهَا بِذَهَابِ زَمَانِ الشَّمْسِ وَسُلْطَانِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ زَمَانُهَا لَكِنْ لَمْ يُصَلِّ

لَهَا حَتَّى تَجَلَّتْ خسوف الشمس سَقَطَتِ الصَّلَاةُ لَهَا لِفَقْدِ الصِّفَةِ الْمُوجِبَةِ لَهَا ، فَإِنْ تَجَلَّى عَنْ بَعْضِهَا وَبَقِيَ بَعْضُهَا خسوف الشمس صَلَّى لِمَا بَقِيَ ، لِوُجُودِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهَا ، وَأَمَّا كُسُوفُ الْقَمَرِ إِذَا لَمْ يُصَلِّ لَهُ حَتَّى غَابَ كَاسِفًا فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَغِيبَ كَاسِفًا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، فَهَذَا يُصَلِّي لِبَقَاءِ سُلْطَانِ اللَّيْلِ ، لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِبَقَاءِ الْوَقْتِ لَا بِبَقَاءِ الطُّلُوعِ ، أَلَّا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ خَاسِفًا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ ( القمر ) ولَمْ يُصَلِّ لَمْ يُصَلِّ لَهُ لِفَوَاتِ وَقْتِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْخُسُوفُ مَوْجُودًا . وَالثَّانِي : إِنَّهُ لَا يُصَلِّي لَهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، فَقَدْ سَقَطَتِ الصَّلَاةُ لِفَوَاتِ الْوَقْتِ بِذَهَابِ نُورِ الْقَمَرِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَمَرُ طَالِعًا أَوْ غَائِبًا . وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا يُصَلِّي لَهُ حَتَّى يَغِيبَ كَاسِفًا بَعْدَ الْفَجْرِ وَقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ لَا يُصَلِّي لَهُ ، لِأَنَّ الْقَمَرَ آيَةُ اللَّيْلِ كَمَا أَنَّ الشَّمْسَ آيَةُ النَّهَارِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [ الْإِسْرَاءِ : ] . فَلَمَّا لَمْ يُصَلِّ لِخُسُوفِ الشَّمْسِ إِذَا تَقَضَّى النَّهَارُ ، لَمْ يُصَلِّ لِخُسُوفِ الْقَمَرِ إِذَا تَقَضَّى اللَّيْلُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهُ يُصَلِّي لَهُ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ ، لِبَقَاءِ سُلْطَانِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِضَوْئِهِ ، وَخَالَفَ الشَّمْسَ الَّذِي يَذْهَبُ ضَوْءُهَا بِدُخُولِ اللَّيْلِ ، فَلَوْ لَمْ يَغِبِ الْقَمَرُ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ عَلَى كُسُوفِهِ فَفِي الصَّلَاةِ لَهُ قَوْلَانِ أَيْضًا ، كَمَا لَوْ غَابَ خَاسِفًا ، فَلَوْ أَحْرَمَ بِصَلَاةِ الْخُسُوفِ فَتَجَلَّى قَبْلَ إِتْمَامِ الصَّلَاةِ ، أَوْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَإِنَّهُ يُتَمِّمُ الصَّلَاةَ وَلَا تَبْطُلُ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ جَلَّلَهَا سَحَابٌ أَوْ حَائِلٌ فَهِيَ عَلَى الْخُسُوفِ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ تَجَلِّيَ جَمِيعِهَا ، وَإِذَا اجْتَمَعَ أَمْرَانِ فَخَافَ فَوْتَ أَحَدِهِمَا بَدَأَ بِالَّذِي يَخَافُ فَوْتَةُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْآخَرِ وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنَ الْخُسُوفِ إِلَّا بِأُمَّ الْقُرْآنِ أَجْزَأَهُ وَلَا يَجُورُ عِنْدِي تَرْكُهَا لِمُسَافِرٍ وَلَا لِمُقِيمٍ بِإِمَامٍ وَمُنْفَرِدِينَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا تَيَقَّنَ الْخُسُوفَ ثُمَّ جَلَّلَهُ سَحَابٌ أَوْ حَالَ دُونَهُ حَائِلٌ يَمْنَعُ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ فَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ تَجَلَّى أَمْ لَا ؟ يُصَلِّي لَهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْخُسُوفِ إِلَّا بَعْدَ تَيَقُّنِ تَجَلِّيهِ ، فَلَوْ كَانَ الْقَمَرُ طَالِعًا غَيْرَ كَاسِفٍ فَغَابَ ضَوْءُهُ فَلَمْ يُعْلَمْ هَلْ ذَلِكَ لِكُسُوفِهِ أَوْ حَائِلٍ تَجَلَّلَهُ مِنْ سَحَابٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يُصَلِّ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ غَيْرُ كَاسِفٍ .

قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنِ اجْتَمَعَ أَمْرَانِ فَخَافَ فَوَاتَ أَحَدِهِمَا في كسوف القمر ، بَدَأَ بِالَّذِي يَخَافُ فَوْتَهُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْآخَرِ " . وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ عَلَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَحْدَهَا أَجْزَأَهُ . وَصَلَاةُ الْخُسُوفِ حكمها سُنَّةٌ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ لِلْحُرِّ وَالْعَبْدِ ، وَالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ فِي جَمَاعَةٍ وَفُرَادَى ، لِتَعَلُّقِهَا بِآيَةٍ عَامَّةٍ يَشْتَرِكُ فِيهَا الْكَافَّةُ ، فَإِنْ صَلَّاهَا النِّسَاءُ فَلَا بَأْسَ ، وَإِنْ صَلَّاهَا الرِّجَالُ فُرَادَى صَلَاةُ الْخُسُوفِ فهل يخطب لَمْ يُخْطَبْ بَعْدَهَا : لِأَنَّ الْخُطْبَةَ لِلْغَيْرِ " .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا آمُرُ بِصَلَاةٍ فِي سِوَاهِمَا وَآمُرُ بِالصَّلَاةِ مُنْفَرِدِينَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُصَلِّيَ لِشَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ سِوَى خُسُوفِ الشَّمْسِ وَكُسُوفِ الْقَمَرِ ، فَأَمَّا الزِّلَازِلُ وَالرِّيَاحُ وَالصَّوَاعِقُ وَانْقِضَاضُ الْكَوَاكِبِ هل يُصَلَّى لِشَيْءٍ مِنْهُ ؟ فَلَا يُصَلَّى لِشَيْءٍ مِنْهُ ، كَصَلَاةِ الْخُسُوفِ فِي جَمَاعَةٍ وَلَا فُرَادَى . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : وَيُصَلَّى جَمَاعَةً فِي كُلِّ آيَةٍ ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ ، وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ : يُصَلَّى فُرَادَى . وَمَذْهَبُنَا أَصَحُّ : لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَاتٌ ، مِنْهَا انْشِقَاقُ الْقَمَرِ ، وَالزِّلَازِلُ وَالرِّيَاحُ وَالصَّوَاعِقُ ، فَلَمْ يُصَلِّ لِشَيْءٍ مِنْهَا ، وَصَلَّى لِلْخُسُوفِ . وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ إِذَا هَبَّتْ رِيحٌ عَاصِفٌ اصْفَرَّ لَوْنُهُ وَقَالَ : اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا وَلَا تَجْعَلْهَا رِيحًا وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الرِّيَاحَ رَحْمَةً وَالرِّيحَ نِقْمَةً ، وَقَالَ تَعَالَى : وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ [ الرُّومِ : ] . فَكَانَتْ رَحْمَةً ، وَقَالَ تَعَالَى : فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [ الْأَحْزَابِ : ] . فَكَانَتْ نِقْمَةً ، فَإِنْ تَنَفَّلَ النَّاسُ بِالصَّلَاةِ لِهَذِهِ الْآيَاتِ جَازَ ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ خَيْرٌ مَوْضُوعٌ ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، أَنَّهُ صَلَّى جَمَاعَةً فِي زَلْزَلَةٍ . فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فَإِنْ صَحَّ قُلْتُ بِهِ ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : إِنْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَا بِهِ ، وَإِلَى وَقْتِنَا هَذَا لَمْ يَصِحَّ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إِنْ صَحَّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قُلْنَا بِهِ ، فَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا عَلَى مَذْهَبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِنْ صَحَّ قُلْنَا بِهِ فِي الزَّلْزَلَةِ . وَالثَّانِي : إِنْ صَحَّ قُلْنَا بِهِ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ .

بَابُ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ

بيان الأصل في صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ

بَابُ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَيَسْتَسْقِي الْإِمَامُ حَيْثُ يُصَلِّي الْعِيدَ وَيَخْرُجُ مُتَنِّظِفًا بِالْمَاءِ وَمَا يَقْطَعُ تَغَيُّرَ الرَّائِحَةِ مِنْ سِوَاكٍ وَغَيْرِهِ فِي ثِيَابِ تَوَاضُعٍ وَفِي اسْتِكَانَةٍ وَمَا أَحْبَبْتُهُ لِلْإِمَامِ مِنْ هَذَا أَحْبَبْتُهُ لِلنَّاسِ كَافَّةً ، وَيُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَرَجَ فِي الْجُمْعَةِ وَالْعِيدَيْنِ بِأَحْسَنِ هَيْئَةٍ وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ مُتَوَاضِعًا وَقَالَ : أَحْسَبُ الَّذِي رَوَاهُ مُتَبَذِّلًا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْأَصْلُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [ الشُّورَى : ] . وَقَالَ تَعَالَى : وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا [ الْبَقَرَةِ : ] . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ [ الْأَعْرَافِ : ] فَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الِانْبِجَاسَ أَضْيَقُ مِنَ الِانْفِجَارِ . وَقَالَ تَعَالَى : اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا [ نُوحٍ : ، ] . وَرُوِيَ : أَجْدَبُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ : إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَجْدَبُوا فَسَأَلُوا مُوسَى أَنْ يَسْتَسْقِيَ لَهُمْ فَسُقُوا ، فَلَوْ سَأَلْتُمْ صَاحِبَكُمْ فَدَعَا لَكُمْ اسْتُجِيبَ لَهُ . فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَكَ تَرَى الْجَدْبَ وَمَا نَزَلَ بِنَا ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَا إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ السَّنَةَ ، يَعْنِي الْجَدْبَ ، لِأَنْ أَسْتَنْصِرَ بِهِ عَلَى أَهْلِ نَجْدٍ ، فَأَمَّا إِذَا أَبَيْتُمْ فَسَأَفْعَلُ . فَاسْتَسْقَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسُقُوا كَأَفْوَاهِ الْعَزَالِي وَرَوَى شَرِيكُ بْنُ أَبِي نَمِرٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ لِلْجُمْعَةِ إِذْ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : هَلَكَتِ الْمَوَاشِي وَتَقَطَّعَتِ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ تَعَالَى لَنَا ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمُطِرْنَا مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ تَهَدَّمَتِ الْبُيُوتُ ، وَتَقَطَّعَتِ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ تَعَالَى لَنَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَءُوسِ الْجِبَالِ

وَالْآكَامِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ قَالَ فَانْجَابَ كَانْجِيَابِ الثَّوْبِ وَرَوَى أَبُو مُسْلِمٍ الْمُلَائِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : أَتَى أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ أَتَيْنَاكَ وَمَا لَنَا بَعِيرٌ يَثِبُ وَلَا صَبِيٌّ يَصِيحُ ثُمَّ أَنْشَدَ : أَتَيْنَاكَ وَالْعَذْرُ يَدْمَى لَبَانُهَا وَقَدْ شُغِلَتْ أُمُّ الصَّبِيِّ عَنِ الطِّفْلِ وَلَا شَيْءَ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ عِنْدَنَا سِوَى الْحَنْظَلِ الْعَامِيِّ وَالْعِلْهِزِ الْغَسْلِ وَلَيْسَ لَنَا إِلَّا إِلَيْكَ فِرَارُنَا وَأَيُّ فِرَارِ النَّاسِ إِلَّا إِلَى الرُّسْلِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَى صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، وَقَالَ : اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا ، سَحًّا طَبَقًا غَيْرَ رَائِثٍ تُنْبِتُ بِهِ الزَّرْعَ ، وَتَمْلَأُ بِهِ الضَّرْعَ ، وَتُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ، وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ . فَمَا اسْتَتَمَّ الدُّعَاءُ حَتَى أَلْقَتِ السَّمَاءُ بِأَبْرَاقِهَا ، فَجَاءَ أَهْلُ الْبَادِيَةِ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، الْغَرَقُ . فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا . فَانْجَابَ السَّحَابُ عَنِ الْمَدِينَةِ كَالْإِكْلِيلِ ، وَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ وَقَالَ : لِلَّهِ دَرُّ أَبِي طَالِبٍ لَوْ كَانَ حَيًّا لَقَرَّتْ عَيْنَاهُ ، مَنِ الَّذِي يُنْشِدُنَا شِعْرَهُ . فَقَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّكَ أَرَدْتَ قَوْلَهُ . : وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ يَلُوذُ بِهِ الْهُلَّاكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ فَهُمْ عِنْدَهُ فِي نِعْمَةٍ وَفَوَاضِلِ كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللَّهِ يُبْزِي مُحَمَّدَا وَلَمَّا نُقَاتِلْ دُوْنَهُ وَنُنَاضِلِ وَنُسْلِمُهُ حَتَّى نُصَرَّعَ حَوْلَهُ وَنَذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالْحَلَائِلِ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ كِنَانَةَ فَأَنْشَدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ : لِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْحَمْدُ مِنْ شُكْرٍ سُقِينَا بِوَجْهِ النَّبِيِّ الْمَطَرْ دَعَا اللَّهَ خَالِقَهُ دَعْوَةً وَأَشْخَصَ مَعْهَا إِلَيْهِ الْبَصَرْ فَلَمْ يَكُ إِلَّا كَإِلْغَاهِ الرِّوَاءِ وَأَسْرَعَ حَتَّى رَأَيْنَا الدُّرَرْ رِقَاقُ الْعَوَالِي جَمُّ الْعِنَانِ أَغَاثَ بِهِ اللَّهُ عُلْيَا مُضَرْ وَكَانَ كَمَا قَالَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ أَبْيَضُ ذُو غُرَرْ بِهِ اللَّهُ يَسْقِي صَوْبَ الْغَمَامِ وَهَذَا الْعِيَانُ لِذَاكَ الْخَبَرْ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنْ يَكُنْ شَاعِرٌ يُحْسِنُ فَقَدْ أَحْسَنْتَ . وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ يَسْتَسْقِي بِالْعَبَّاسِ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنَّا نَتَقَرَّبُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَقِيَّةِ آبَائِهِ وَكُبْرِ رِجَالِهِ فَاحْفَظِ اللَّهُمَّ نَبِيَّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَمِّهِ ، فَقَدْ دَنَوْنَا إِلَيْكَ مُسْتَعْفِينَ إِلَيْكَ وَمُسْتَغْفِرِينَ ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَعَيْنَاهُ تَنْضُجَانِ : اللَّهُمَّ أَنْتَ الرَّاعِي لَا تُهْمِلِ الضَّالَّةَ ، فُقِدَ الضَّرْعُ الصَّغِيرُ وَدَقَّ الْكَبِيرُ ، وَارْتَفَعَتِ الشَّكْوَى ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ، اللَّهُمَّ فَأَغِثْهُمْ بِغِيَاثِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقْنَطُوا فَيَهْلِكُوا فَإِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ، قَالَ : فَنَشَأَتِ السَّحَابُ وَهَطَلَتِ السَّمَاءُ فَطَبَّقَ النَّاسُ بِالْعَبَّاسِ يَمْسَحُونَ أَرْكَانَهُ وَيَقُولُونَ : هَنِيئًا لَكَ سَاقِيَ الْحَرَمَيْنِ فَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ : سَأَلَ الْإِمَامُ وَقَدْ تَتَابَعَ جَدْبُنَا فَسَقَى الْإِمَامَ بِغُرَّةِ الْعَبَّاسِ عَمِّ النَّبِيِّ وَصِنْوِ وَالِدِهِ الَّذِي وَرِثَ النَّبِيَّ بِذَاكَ دُونَ النَّاسِ أَحْيَى الْإِلَهُ بِهِ الْبِلَادَ فَأَصْبَحَتْ مُخْضَرَّةَ الْأَجْنَابِ بَعْدَ الْيَاسِ

فَصْلٌ : فَإِذَا كَانَ الْجَدْبُ وَمُنِعَ النَّاسُ الْقَطْرَ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَخْرُجَ لِلِاسْتِسْقَاءِ إِلَى الْجَبَّانَةِ آداب صلاة الإستسقاء ، وَحَيْثُ يُصَلِّي لِلْأَعْيَادِ ، اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَاقْتِدَاءً بِخُلَفَائِهِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَوْسَعُ وَأَوْفَقُ بِالنَّاسِ ، لِكَثْرَةِ جَمْعِهِمْ ، وَيُخْتَارُ أَنْ يَتَنَظَّفَ بِالْمَاءِ ، وَيَسْتَاكَ ، وَيَقْطَعَ تَغْيِيرَ الرَّائِحَةِ عَنْ بَدَنِهِ ، يَخْرُجُ مُبْتَذَلًا فِي ثِيَابِ تَوَاضُعٍ وَاسْتِكَانَةٍ نِظَافٍ غَيْرِ جُدُدٍ ، اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْرُجُ لِلِاسْتِسْقَاءِ مُبْتَذِلًا مُتَوَاضِعًا وَلِأَنَّهُ يَوْمُ اعْتِذَارٍ وَتَنَصُّلٍ وَسُؤَالٍ وَاسْتِغَاثَةٍ وَتَرَحُّمٍ ، فَلَا مَعْنَى لِلتَّعْظِيمِ فِي تَحْسِينِ الْهَيْئَةِ ، وَخَالَفَ الْعِيدُ ؛ لِأَنَّهُ يَوْمُ سُرُورٍ وَزِينَةٍ ، وَمَا اخْتَرْنَاهُ لِلْإِمَامِ مِنْ هَذِهِ اخْتَرْنَاهُ لِلنَّاسِ كَافَّةً .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأُحِبُّ أَنْ تَخْرُجَ الصِّبْيَانُ لصلاة الإستسقاء وَيَتَنَظَّفُوا لِلِاسْتِسْقَاءِ ، وَكِبَارُ النِّسَاءِ وَمَنْ لَا هَيْئَةَ لَهَا مِنْهُنَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَوْلَا مَشَايُخُ رُكَعٌ وَأَطْفَالٌ رُضَّعٌ ، وَبَهَائِمُ رُتَّعٌ ، لَصُبَّ عَلَيْكُمُ الْعَذَابُ صَبًّا وَلِأَنَّ الصِّبْيَانَ أَحَقُّ بِالرَّحْمَةِ ، وَأَقْرَبُ إِلَى إِجَابَةِ

الدَّعْوَةِ ، وَقِلَّةِ ذُنُوبِهِمْ ، وَرُوِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خَرَجَ يَسْتَسْقِي لِقَوْمِهِ فَمَا أُسْقِيَ ، فَقَالَ : مَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَلْيَرْجِعْ فَانْصَرَفُوا كُلُّهُمْ ، إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا ، فَالْتَفَتَ فَرَآهُ أَعْوَرَ ، فَقَالَ أَمَا سَمِعْتَ قَوْلِي ، قَالَ : قَدْ سَمِعْتُ وَإِنَّهُ لَا ذَنْبَ لِي إِلَّا وَاحِدًا ، نَظَرْتُ إِلَى امْرَأَةٍ فَقَلَعَتْ عَيْنِي هَذِهِ ، فَاسْتَسْقَى بِهِ فَسُقِيَ .

استحباب أن يخرج الصبيان ويتنظفوا للاستسقاء وكبار النساء وما لا هيئة لها منهن

فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " وَلَا آمُرُ بِإِخْرَاجِ الْبَهَائِمِ إِلَى الصَّحْرَاءِ لِلِاسْتِسْقَاءِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ ، قَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ : إِخْرَاجُهُمْ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ تَرِدِ السُّنَّةُ بِإِخْرَاجِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ مِمَّنْ يَتَأَذَّى بِالْجَدْبِ فَكَانُوا كَغَيْرِهِمْ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، خَرَجَ يَسْتَسْقِي ، فَرَأَى نَمْلَةً قَدْ وَقَعَتْ عَلَى ظَهْرِهَا ، فَرَفَعَتْ يَدَهَا وَهِيَ تَقُولُ : اللَّهُمَّ نَحْنُ مِنْ خَلْقِكَ فَارْزُقْنَا أَوْ أَهْلِكْنَا ، فَسُقُوا فَقَالَ : لِلْقَوْمِ ارْجِعُوا فَقَدْ كُفِيتُمْ بِغَيْرِكُمْ . وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا الْأَوْلَى تَرْكُ الْبَهَائِمِ ، وَإِخْرَاجُهَا مَكْرُوهٌ ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْذِيبِهِمْ ، وَاشْتِغَالِ النَّاسِ بِأَصْوَاتِهِمْ ، وَأَنَّهُمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ التَّكْلِيفِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَكْرَهُ إِخْرَاجَ مَنْ يُخَالِفُ الْإِسْلَامَ لِلِاسْتِسْقَاءِ فِي مَوْضِعِ مُسْتَسْقَى الْمُسْلِمِينَ وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ خَرَجُوا مُتَمَيِّزِينَ لَمْ أَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِنَّمَا كَرِهْنَا إِخْرَاجَ أَهْلِ الذِّمَّةِ للإستسقاء مَعَنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [ الْمَائِدَةِ : ] . وَفِي إِخْرَاجِهِمْ مَعَنَا رِضًا بِهِمْ وَتُوَلٍّ لَهُمْ ، وَلِأَنَّ الْكُفَّارَ عُصَاةٌ لَا يُرْجَى لَهُمْ إِجَابَةُ دَعَوْتِهِمْ ، وَرُبَّمَا رُدَّتْ دَعْوَةُ الْمُسْلِمِينَ بِمُخَالَطَتِهِمْ وَالسُّكُونِ إِلَيْهِمْ ، فَإِنْ خَرَجُوا إِلَى بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ لَمْ يُمْنَعُوا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ طَلَبُ رِزْقٍ وَرَجَاءُ فَضْلٍ ، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ وَاسِعٌ . قَالَ الشَّافِعِيُّ لَكِنْ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهُمْ فِي يَوْمٍ غَيْرِ الْيَوْمِ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ ، لِأَنْ لَا تَقَعَ بَيْنَهُمُ الْمُسَاوَاةُ وَالْمُضَاهَاةُ فِي ذَلِكَ ، فَإِنْ خَرَجُوا فِيهِ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ مَنَعَهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَهُمْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَأْمُرُ الْإِمَامُ النَّاسَ قَبْلَ ذَلِكَ أَنْ يَصُومُوا ثَلَاثًا وَيَخْرُجُوا مِنَ الْمَظَالِمِ وَيَتَقَرَّبُوا إِلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ ، بِمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ خَيْرٍ وَيَخْرُجُ بِهِمْ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ إِلَى أَوْسَعِ مَا يَجِدُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إِذَا أَرَادَ الِاسْتِسْقَاءَ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ أَنْ يَصُومُوا ثَلَاثًا وَيَخْرُجُوا فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ إِمَّا صِيَامًا وَهُوَ أَوْلَى ، وَإِمَّا مُفْطِرِينَ لِأَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ

أَعْمَالِ الْقُرْبِ ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : " كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ هُوَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أُجَازِي بِهِ لِأَنَّ الصَّوْمَ مَعُونَةٌ عَلَى رِيَاضَةِ النَّفْسِ وَخُشُوعِ الْقَلْبِ وَالتَّذَلُّلِ لِلطَّاعَةِ ، وَالدُّعَاءُ فِيهِ أَقْرَبُ إِلَى الْإِجَابَةِ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : صَمْتُ الصَّائِمِ تَسْبِيحٌ وَنَوْمُهُ عِبَادَةٌ وَدُعَاؤُهُ مُسْتَجَابٌ ، وَعَمَلُهُ مُضَاعَفٌ . فَإِنْ قِيلَ : هَلَّا مَنَعْتُمُوهُ مِنْ صِيَامِ يَوْمِ الرَّابِعِ لِيَكُونَ أَقْوَى لَهُ عَلَى الدُّعَاءِ كَمَا مَنَعْتُمْ مِنْ صِيَامِ عَرَفَةَ ؟ قُلْنَا : لِأَنَّ دُعَاءَ يَوْمِ عَرَفَةَ فِي آخِرِهِ ، فَرُبَّمَا أَضْعَفَ الصِّيَامُ عَنِ الدُّعَاءِ فِيهِ ، وَدُعَاءُ هَذَا الْيَوْمِ فِي أَوَّلِهِ فَلَمْ يَكُنْ لِلصَّوْمِ تَأْثِيرٌ فِي إِضْعَافِهِ ، وَيَأْمُرُهُمُ الْإِمَامُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْمَظَالِمِ وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِ وَالْمُشَاجِرِ ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَدَاءِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ ، وَالتَّطَوُّعِ بِالْبِرِّ وَالصَّدَقَةِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : حَصِّنُوا أَمْوَالُكُمْ بِالزَّكَاةِ ، وَدَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ .
كيفية صلاة الاستسقاء مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُنَادِي " الصَّلَاةَ جَامِعَةً " ثُمَّ يُصَلِّي بِهِمُ الْإِمَامُ رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلِّي فِي الْعِيدَيْنِ سَوَاءً وَيَجْهَرُ فِيهِمَا كيفية صلاة الاستسقاء ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَيُصَلُّونَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ وَيُكَبِّرُونَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ سَبْعًا وَخَمْسًا وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ كَبَّرَ سَبْعًا وَخَمْسًا وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ يُكَبِّرُ مِثْلَ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ سَبْعًا وَخَمْسًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : يُكَبِّرُ فِي الْأُولَى سَبْعًا سِوَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ ، وَيَقْرَأُ بِالْفَاتِحَةِ وَسُورَةِ قَافْ ، وَيُكَبِّرُ فِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا سِوَى تَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ ، وَيَقْرَأُ بِالْفَاتِحَةِ وَاقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ، وَيَجْهَرُ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الصَّلَاةُ لِلِاسْتِسْقَاءِ بِدْعَةٌ ، فَإِنْ صَلَّى كَانَتْ نَافِلَةً يُسِرُّ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ مِنْ غَيْرِ تَكْبِيرٍ زَائِدٍ . وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ : هَلَكَتِ الْمَوَاشِي وَتَقَطَّعَتِ السُّبُلُ ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا ، فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُصَلِّ .

وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى لِلِاسْتِسْقَاءِ كَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ ، وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ بِالنَّاسِ يَسْتَسْقِي فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ، جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ ، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ ، وَاسْتَقْبَلَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَدَعَا وَاسْتَسْقَى ، وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، أَنَّهُمْ صَلَّوْا لِلِاسْتِسْقَاءِ كَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ ، وَجَهَرُوا بِالْقِرَاءَةِ ، وَرَوَى أَصْحَابُنَا عَنْ عُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، أَنَّهُمْ صَلَّوْا لِلِاسْتِسْقَاءِ ، وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْجَمَاعَةِ مُخَالِفٌ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ ، وَلِأَنَّ مَا سُنَّ لَهُ الْإِجْمَاعُ وَالْبِرَازُ سُنَّ لَهُ الصَّلَاةُ كَالْعِيدَيْنِ وَالْخُسُوفِ ، فَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَلَا يُعَارَضُ بِمَا رَوَيْنَاهُ ، لِأَنَّنَا نُجَوِّزُهُ وَنَسْتَعْمِلُ أَحَادِيثَنَا عَلَى فِعْلِ الْأَفْضَلِ وَالْمَسْنُونِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ لِزِيَادَتِهَا وَكَثْرَةِ رُوَاتِهَا وَمُعَاضَدَةِ فِعْلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَهَا .

الْقَوْلُ فِي وَقْتِ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ

فَصْلٌ : الْقَوْلُ فِي وَقْتِ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ . فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ صِفَةِ الصَّلَاةِ فَوَقْتُهَا فِي الِاخْتِيَارِ كَوَقْتِ صَلَاةِ الْعِيدِ ، لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي الصِّفَةِ ، فَإِنْ صَلَّاهَا فِي غَيْرِ وَقْتِ صَلَاةِ الْعِيدِ إِمَّا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ بَعْدَ زَوَالِهَا أَجْزَأَهُ ، بِخِلَافِ الْعِيدِ ، لِاسْتِوَاءِ الْوَقْتَيْنِ فِي الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِالصَّلَاةِ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ ، نَادَى الصَّلَاةَ جَامِعَةً بِلَا أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ ، ثُمَّ صَلَّى عَلَى مَا وَصَفْتُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ بِتَكْبِيرٍ زَائِدٍ . وَقَالَ مَالِكٌ : يُصَلِّي بِغَيْرِ تَكْبِيرٍ زَائِدٍ ، وَالرِّوَايَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَدْفَعُ قَوْلَهُ . قَالَ أَصْحَابُنَا وَلَوْ قَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ بِسُورَةِ نُوحٍ كَانَ حَسَنًا ، لِمَا تَضَمَّنَهَا مِنَ الِاسْتِغْفَارِ وَنُزُولِ غَيْثٍ ، فَلَوْ قَرَأَ بِغَيْرِ مَا ذَكَرْنَا ، أَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْفَاتِحَةِ ، أَوْ زَادَ فِي التَّكْبِيرِ ، أَوْ نَقَصَ مِنْهُ جَازَ ، لَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " ثُمَّ يَخْطُبُ الْخُطْبَةَ الْأُولَى ثُمَّ يَجْلِسُ ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ يُقَصِّرُ الْخُطْبَةَ الْآخِرَةَ مُسْتَقْبِلَ النَّاسِ فِي الْخُطْبَتَيْنِ وَيُكْثِرُ فِيهِمَا الِاسْتِغْفَارَ وَيَقُولُ كَثِيرًا اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ثُمَّ يُحَوِّلُ وَجْهَهُ إِلَى الْقِبْلَةِ وَيُحَوِّلُ رِدَاءَهُ فَيَجْعَلُ طَرَفَهُ الْأَسْفَلَ الَّذِي عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ وَطَرَفَهُ الْأَسْفَلَ الَّذِي عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ وَإِنْ حَوَّلَهُ وَلَمْ يُنَكِّسْهُ أَجْزَأَهُ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ سَاجٌ جَعَلَ مَا عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ وَمَا عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ

وَيَفْعَلُ النَّاسُ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَتْ عَلَيْهِ خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ بِأَسْفَلِهَا فَيَجْعَلَهُ أَعْلَاهَا فَلَمَّا ثَقُلَتْ عَلَيْهِ قَلَبَهَا ( قَالَ ) : وَيَدْعُو سِرًّا وَيَدْعُو النَّاسُ مَعَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . خُطْبَةُ الِاسْتِسْقَاءِ حكمها ووقتها مَسْنُونَةٌ بَعْدَ الصَّلَاةِ ، وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى لِلِاسْتِسْقَاءِ مِثْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ ، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ سَلَّمَ قَائِمًا ثُمَّ جَلَسَ لِلِاسْتِرَاحَةِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : لَا يَجْلِسُ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِمْ فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ يَبْتَدِئُ الْخُطْبَةَ الْأُولَى بِالِاسْتِغْفَارِ ، وَيَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تِسْعًا نَسَقًا ، بَدَلًا مِنَ التَّكْبِيرِ فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ ، ثُمَّ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ ، وَيُصَلِّي عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُ : اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [ نُوحٍ : ، ، ] . وَيُبَالِغُ فِي الزَّجْرِ وَالْوَعْظِ ، وَالتَّخْوِيفِ ، وَذِكْرِ نِعَمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : وَسَالِفِ أَيَادِيهِ ، وَالِاعْتِبَارِ بِالْأُمَمِ السَّالِفَةِ ، وَالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ ، ثُمَّ يَجْلِسُ ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ الْخُطْبَةَ الثَّانِيَةَ ، وَيَسْتَغْفِرُ فِي ابْتِدَائِهَا سَبْعًا نَسَقًا ، وَيَدْعُو جَهْرًا ، ثُمَّ يَسْتَدْبِرُ النَّاسَ وَيَسْتَقْبِلُ " الْقِبْلَةَ ، وَيَدْعُو اللَّهَ ، عَزَّ وَجَلَّ ، سِرًّا ، وَيَجْهَرُ فِي اسْتِقْبَالِ النَّاسِ ؛ لِأَنَّهُ خَاطِبٌ ، وَيُسِرُّ فِي اسْتِدْبَارِهِمْ لِأَنَّهُ دَاعٍ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ نُوحٍ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ : ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا [ نُوحٍ : ] فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ أَوْلَى .

يُسْتَحَبُّ لَهُ إِذَا أَرَادَ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ أَنْ يُحَوِّلَ رِدَاءَهُ وَيُنَكِّسَهُ

فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ لَهُ إِذَا أَرَادَ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ أَنْ يُحَوِّلَ رِدَاءَهُ وَيُنَكِّسَهُ في صلاة الإستسقاء ، وَتَحْوِيلُهُ أَنْ يَجْعَلَ مَا عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ وَمَا عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ وَتَنْكِيسُهُ : أَنْ يَجْعَلَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ ، وَأَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ . وَقَالَ مَالِكٌ : يُحَوِّلُ وَلَا يُنَكِّسُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُحَوِّلُ وَلَا يُنَكِّسُ . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْقَى وَعَلَيْهِ خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ أَسْفَلَهَا أَعْلَاهَا فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ فَحَوَّلَهَا فَثَبَتَ عَنْهُ التَّحْوِيلُ ، وَنَبَّهَ عَلَى التَّنْكِيسِ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَهُ لِعُذْرٍ ، وَلِأَنَّ فِي التَّحْوِيلِ تَفَاؤُلٌ بِالِانْتِقَالِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْقُلَهُمْ مَنْ حَالِ الْقَحْطِ إِلَى حَالِ السَّعَةِ وَالْخِصْبِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَكُونُ مِنْ دُعَائِهِمْ " اللَّهُمَّ أَنْتَ أَمَرْتَنَا بِدُعَائِكَ وَوَعَدْتَنَا إِجَابَتَكَ فَقَدْ دَعَوْنَاكَ كَمَا أَمَرْتَنَا فَأَجِبْنَا كَمَا وَعَدْتَنَا اللَّهُمَّ فَامْنُنْ عَلَيْنَا بِمَغْفِرَةِ مَا قَارَفْنَا وَإِجَابَتِكَ

إِيَّانَا فِي سُقْيَانَا وَسَعَةِ رِزْقِنَا " ثُمَّ يَدْعُو بِمَا يَشَاءُ مِنْ دِينٍ وَدُنْيَا وَيَبْدَءُونَ وَيَبْدَأُ الْإِمَامُ بِالِاسْتِغْفَارِ وَيَفْصِلُ بِهِ كَلَامَهُ وَيَخْتِمُ بِهِ ، ثُمَّ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ فَيَحُضُّهُمْ عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِمْ وِيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَيَقْرَأُ آيَةً أَوْ آيَتَيْنِ وَيَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ ثُمَّ يَنْزِلُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، اسْتَسْقَى فَكَانَ أَكْثَرَ دُعَائِهِ الِاسْتِغْفَارُ ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إِنِّي لَأَعْجَبُ مِمَّنْ يُبْطِئُ عَلَيْهِ الرِّزْقُ وَمَعَهُ مَفَاتِيحُهُ ، فَقِيلَ لَهُ : وَمَا مَفَاتِيحُهُ ؟ فَقَالَ : الِاسْتِغْفَارُ ، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ الْجُفَاةِ أَنَّهُ اسْتَسْقَى فَقَالَ : رَبَّ الْعِبَادِ مَا لَنَا وَمَا لَكَا قَدْ كُنْتَ تَسْقِينَا فَمَا بَدَا لَكَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ لَا أَبَا لَكَا قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ مَعْنَاهُ : أَشْهَدُ أَنْ لَا أَبَا لَكَ ، فَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي لَفْظَةِ جَفَاءٍ فَهُوَ فِي مَعْنَى الدُّعَاءِ صَحِيحٌ ، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الدُّعَاءِ اسْتَقْبَلَ النَّاسَ وَأَتَى بِبَاقِي الْخُطْبَةِ ثُمَّ قَالَ : أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ ، وَهُوَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الرِّدَاءِ وَتَحْوِيلِهِ ، وَكَذَلِكَ النَّاسُ مَعَهُ حَتَّى نَزَعُوهَا مَتَى نَزَعَهَا ، وَيَخْتَارُ أَنْ يَقْرَأَ عَقِيبَ دُعَائِهِ بِقَوْلِهِ : قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا [ يُونُسَ : ] . وَقَوْلَهِ تَعَالَى : فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ [ الْأَنْبِيَاءِ : ] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [ الْأَنْبِيَاءِ : ] . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ تَفَاؤُلًا لِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ .

فَصْلٌ : ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : فَإِنْ سَقَاهُمُ اللَّهُ وَإِلَّا عَادُوا مِنَ الْغَدِ لِلصَّلَاةِ وَالِاسْتِسْقَاءِ حَتَّى يَسْقِيَهُمُ اللَّهُ ( قَالَ ) : وَإِذَا حَوَّلُوا أَرْدِيَتَهُمْ أَقَرُّوهَا مُحَوَّلَةً كَمَا هِيَ حَتَّى يَنْزِعُوهَا مَتَى نَزَعُوهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَذَلِكَ فِي الِاخْتِيَارِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَاتٍ وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا حَسَنٌ ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَتْ نَاحِيَةً جَدْبَةً وَأُخْرَى خِصْبَةً فَحَسَنٌ أَنْ يَسْتَسْقِيَ أَهْلُ الْخِصْبَةِ لِأَهْلِ الْجَدْبَةِ وَلْلِمُسْلِمِينَ وَيَسْأَلَ اللَّهَ الزِّيَادَةَ لِلْمُخْصِبِينَ فَإِنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ وَاسِعٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [ الْحُجُرَاتِ : ] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [ الْمَائِدَةِ : ] . وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110