كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

بِمَا أَنْفَقَ فِي مَالِ الْمُفْلِسِ مُقَدَّمًا بِهِ عَلَى سَائِرِ الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْحَاكِمِ حُكْمٌ مِنْهُ يَلْزَمُ إِمْضَاؤُهُ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَنْفَقَ بِأَمْرِ الْمُفْلِسِ وَحْدَهُ فَذَلِكَ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ لَا يُشَارِكُ الْغُرَمَاءَ بِهِ ، وَيَكُونُ كَالدُّيُونِ الَّتِي اسْتَحْدَثَهَا بَعْدَ وُقُوعِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَنْفَقَ بِأَمْرِ الْغُرَمَاءِ فَذَلِكَ عَلَى الْغُرَمَاءِ الْآمِرِينَ لَهُ دُونَ الْمُفْلِسِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَنْفَقَ بِأَمْرِ الْغُرَمَاءِ وَالْمُفْلِسِ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمُفْلِسِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُسْتَزَادِ مَالِهِ ، وَهَلْ تَتَقَدَّمُ نَفَقَتُهُ عَلَى جَمِيعِهِمْ أَوْ يَكُونُ بِهَا أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ - أَنَّهُ يَكُونُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ بِنَفَقَتِهِ وَلَا يَتَقَدَّمُ بِهَا عَلَيْهِمْ ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَوْ أَرَادَ تَعْجِيلَ قَلْعِهِ اسْتَغْنَى عَنْ سَقْيِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَتَقَدَّمُ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى سَائِرِ الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ بَعْدَ الْحَجْرِ فِيمَا فِيهِ صَلَاحُ مَالِهِ فَأَشْبَهَ أُجْرَةَ الْمُنَادِي .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ بَاعَهُ زَيْتًا فَخَلَطَهُ بِمِثْلِهِ أَوْ أَرْدَأَ مِنْهُ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَتَاعَهُ بِالْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ ، وَإِنْ خَلَطَهُ بِأَجْوَدَ مِنْهُ فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَّا لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَى مَالِهِ إِلَّا زَائِدًا بِمَالِ غَرِيمِهِ ، وَهُوَ أَصَحُّ وَبِهِ أَقُولُ ، وَلَا يُشْبِهُ الثَّوْبَ يُصْبَغُ وَلَا السَّوِيقَ يُلَتُّ ؛ لِأَنَّ هَذَا عَيْنُ مَالِهِ فِيهِ زِيَادَةٌ ، وَالذَّائِبُ إِذَا اخْتَلَطَ انْقَلَبَ حَتَّى لَا يُوجَدَ عَيْنُ مَالِهِ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنْ يَنْظُرَ إِلَى قِيمَةِ زَيْتِهِ وَالْمَخْلُوطِ بِهِ مُتَمَيِّزَيْنِ ، ثُمَّ يَكُونُ شَرِيكًا بِقَدْرِ قِيمَةِ زَيْتِهِ ، أَوْ يَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِزَيْتِهِ ، ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا : هَذَا أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ زَيْتَهُ إِذَا خُلِطَ بِأَرْدَأَ وَهُوَ لَا يَتَمَيَّزُ عَيْنَ مَالِهِ كَمَا جَعَلَ الثَّوْبَ يُصْبَغُ وَلَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّمْيِيزُ عَيْنَ مَالِهِ ، فَلَمَّا قَدَرَ عَلَى قَسْمِ الزَّيْتِ بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ بِلَا ظُلْمٍ قَسَمَهُ ، وَلَمَّا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى قَسْمِ الثَّوْبِ وَالصَّبْغِ أَشْرَكَهُمَا فِيهِ بِالْقِيمَةِ ، فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ خَلْطُ زَيْتِهِ بِأَجْوَدَ مِنْهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَيْنُ مَالِهِ فِيهِ ، وَفِي قَسْمِهِ ظُلْمٌ وَهُمَا شَرِيكَانِ بِالْقِيمَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَبِيعَ زَيْتًا أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْأَدْهَانِ أَوِ الْحُبُوبِ أَوِ الْأَدِقَّةِ فَيَخْلِطُهُ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِهِ ثُمَّ يُفْلِسُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَخْلِطَهُ بِجِنْسِهِ . وَالثَّانِي : بِغَيْرِ جِنْسِهِ ، فَإِنْ خَلَطَهُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ كَالزَّيْتِ يَخْلِطُهُ بِدَهْنِ الْبَذْرِ وَدَهْنِ الْبَانِ ، أَوْ كَدَقِيقِ الْبُرِّ يُخْلَطُ بِدَقِيقِ الشَّعِيرِ أَوْ دَقِيقِ الْأُرْزِ فَقَدْ بَطَلَ حَقُّهُ مِنَ الرُّجُوعِ بِعَيْنِ مَالِهِ كَيْلًا بَعْدَ اخْتِلَاطِهِ : لِأَنَّهُ جِنْسٌ لَا يَتَمَيَّزُ فَيَصِيرُ مُسْتَرْجَعًا بِغَيْرِ ذَلِكَ الْجِنْسِ ، وَهَلْ يَبْطُلُ حَقُّهُ مِنْ ثَمَنِهِ بَعْدَ اخْتِلَاطِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ حَقَّهُ قَدْ بَطَلَ مِنْ ثَمَنِهِ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا بِهِ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُسْتَهْلَكًا وَيَضْرِبُ الْبَائِعُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِثَمَنِهِ وَيُبَاعُ مَا اخْتَلَطَ عَلَى مِلْكِ الْمُفْلِسِ فِي حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ كُلِّهِمْ وَلَا يَخْتَصُّ الْبَائِعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ دُونَهُمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ لَا يَبْطُلُ مِنْهُ لِوُجُودِ الْعَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ فَيُبَاعُ الْكُلُّ مُخْتَلِطًا وَيُدْفَعُ إِلَى الْبَائِعِ مَا قَابَلَ ثَمَنَ زَيْتِهِ وَإِلَى غُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ مَا قَابَلَ ثَمَنَ مَا اخْتَلَطَ بِهِ . مِثَالُهُ : أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ صَاعًا مِنْ زَيْتٍ يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ فَيَخْلِطُهُ الْمُشْتَرِي بِصَاعٍ مِنْ زَيْتٍ يُسَاوِي دِرْهَمًا فَيُبَاعُ ذَلِكَ مُخْتَلِطًا وَيُدْفَعُ إِلَى الْبَائِعِ ثُلُثَا ثَمَنِهِ وَإِلَى الْغُرَمَاءِ ثُلُثُ ثَمَنِهِ .

فَصْلٌ : فَإِنْ خَلَطَهُ بِجِنْسِهِ خلط الزيت لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ جِنْسًا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ كَالزَّيْتِ ، أَوْ جِنْسًا لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ كَالدَّقِيقِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ كَالزَّيْتِ إِذَا خَلَطَهُ بِالزَّيْتِ فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَخْلِطَهُ بِمِثْلِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَخْلِطَهُ بِأَرْدَأَ مِنْهُ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَخْلِطَهُ بِأَجْوَدَ مِنْهُ . فَإِنْ كَانَ قَدْ خَلَطَهُ بِمِثْلِهِ فِي الْجَوْدَةِ أَوِ الرَّدَاءَةِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِمَكِيلَةِ زَيْتِهِ مِنْهُ لِوُجُودِ الْعَيْنِ وَإِمْكَانِ تَمْيِيزِهَا بِالْقِسْمَةِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَتَاعَهُ بِالْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ إِنْ كَانَ مِمَّا يُكَالُ قَسَمَهُ بِالْكَيْلِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُوزَنُ قَسَمَهُ بِالْوَزْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ إِنْ كَانَ بَاعَهُ بِالْكَيْلِ أَخَذَهُ بِالْكَيْلِ ، وَإِنْ كَانَ بَاعَهُ بِالْوَزْنِ أَخَذَهُ بِالْوَزْنِ ، لِأَنَّ مَا أَصْلُهُ الْكَيْلُ يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ وَزْنًا ، وَمَا أَصْلُهُ الْوَزْنُ يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ كَيْلًا إِذَا كَانَ مَبِيعًا بِغَيْرِ جِنْسِهِ ، فَعَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الِاعْتِبَارُ فِي أَخْذِهِ وَقِسْمَتِهِ بِأَصْلِهِ فِي الْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ ، وَعَلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي يَكُونُ الِاعْتِبَارُ فِي أَخْذِهِ وَقِسْمَتِهِ بِبَيْعِهِ بِالْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ ، فَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ : لَسْتُ آخُذُ مَكِيلَةَ زَيْتِي مِنْهُ لِاخْتِلَاطِهِ بِغَيْرِهِ ، وَلَكِنْ بِيعُوا الْجَمِيعَ لِآخُذَ ثَمَنَ زَيْتِي مِنْ جُمْلَتِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَصِلُ إِلَى حَقِّهِ بِأَخْذِ مَكِيلَتِهِ فَكَانَتِ الْمُطَالَبَةُ بِبَيْعِهِ عَنْتًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَهُ مُطَالَبَتُهُمْ بِالْبَيْعِ لِأَنَّ عَيْنَ مَالِهِ بِالِاخْتِلَاطِ غَيْرُ مُمَيَّزَةٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي التَّقْدِيرِ أَخْذٌ لِبَدَلِهَا فَلَمْ يَلْزَمْهُ ، وَاسْتَحَقَّ الْمُطَالَبَةَ بِالْمَبِيعِ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى حَقِّهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا خَلَطَهُ بِأَرْدَأَ مِنْ زَيْتِهِ فَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ بِهِ ، لِأَنَّ اخْتِلَاطَهُ بِمَا هُوَ أَرْدَأُ نَقْصٌ لَا يَتَمَيَّزُ كَالْهُزَالِ ، وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِعَيْنِ مَالِهِ نَاقِصًا ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّةِ رُجُوعِ الْبَائِعِ فيما اختلط بأردأ منه من الزيت وغيره عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِمَكِيلَةِ زَيْتِهِ لَا غَيْرَ وَيَكُونُ النُّقْصَانُ دَاخِلًا عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ الرُّجُوعَ ، كَمَا لَوْ كَانَ زَيْتُهُ مُتَمَيِّزًا فَتَغَيَّرَ وَنَقَصَتْ قِيمَتُهُ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ إِنْ شَاءَ وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الرُّجُوعِ بِنَقْصِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُبَاعَ جَمِيعُ الزَّيْتِ وَيُقَسَّمَ عَلَى قِيمَةِ الزَّيَتَيْنِ فَيُدْفَعَ إِلَى الْبَائِعِ مَا قَابَلَ ثَمَنَ زَيْتِهِ وَإِلَى غُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ مَا قَابَلَ ثَمَنَ زَيْتِهِ ، مِثَالُهُ : أَنْ يَكُونَ زَيْتُ الْبَائِعِ صَاعًا يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ وَزَيْتُ الْمُفْلِسِ صَاعًا يُسَاوِي دِرْهَمًا فَيُبَاعَ الصَّاعَانِ وَيُدْفَعَ إِلَى الْبَائِعِ ثُلُثَا الثَّمَنِ وَإِلَى غُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ الثُّلُثُ الْبَاقِي ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَائِعَ إِذَا أَمْكَنَهُ الرُّجُوعُ بِحَقِّهِ كَامِلًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ نَاقِصًا ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ زَائِدًا ، وَفِي قِسْمَةِ ثَمَنِهِ عَلَى قِسْمَيْنِ انْتِفَاءُ نَقْصٍ يَدْخُلُ عَلَى مَالِ الْبَائِعِ وَزِيَادَةٍ تُوجَدُ فِي مَالِ الْمُفْلِسِ .

فَصْلٌ : وَإِنْ خَلَطَهُ بِأَجْوَدَ مِنْ زَيْتِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ أَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ مِنَ الرُّجُوعِ بِمَالِهِ بَاقٍ لَا يَبْطُلُ إِذَا اخْتَلَطَ بِأَجْوَدَ مِنْهُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُ مِنَ الرُّجُوعِ إِذَا خَلَطَهُ بِأَرْدَأَ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ عَيْنُ مَالِهِ عَنْهُ لِأَنَّهُ كَالنَّقْصِ الَّذِي لَا يَتَمَيَّزُ وَجَبَ أَنْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهُ مِنَ الرُّجُوعِ إِذَا خَلَطَهُ بِأَجْوَدَ مِنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ عَيْنُ مَالِهِ عَنْهُ لِأَنَّهُ كَالزِّيَادَةِ الَّتِي لَا تَتَمَيَّزُ لِأَنَّ مَا حَدَثَ بِالْمَبِيعِ مِنْ زِيَادَةٍ لَا تَتَمَيَّزُ كَالْحَادِثِ بِهِ مِنْ نَقْصٍ لَا يَتَمَيَّزُ فِي أَنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ بِزِيَادَتِهِ وَنَقْصِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ صَبْغُ الثَّوْبِ لَمَّا كَانَ مِمَّا لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ وَلَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ لَا يَمْنَعُ مِنَ اسْتِرْجَاعِ الْبَائِعِ لَهُ وَيَكُونُ شَرِيكًا فِي ثَمَنِهِ مَصْبُوغًا ، وَكَذَا السَّوِيقُ إِذَا أَلَتَّهُ بِزَيْتٍ لَا يُسْتَخْرَجُ مِنْهُ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ اسْتِرْجَاعِ الْبَائِعِ لَهُ وَيَكُونَ شَرِيكًا فِي ثَمَنِهِ مَلْتُوتًا ، فَأَوْلَى فِي الزَّيْتِ إِذَا خَلَطَهُ بِجِنْسِهِ مِمَّا هُوَ أَجْوَدُ مِنْهُ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ اسْتِرْجَاعِ الْبَائِعِ لَهُ وَيَكُونَ شَرِيكًا فِيهِ مُخْتَلِطًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ بَطَلَ حَقُّ الْبَائِعِ مِنَ اسْتِرْجَاعِ مَالِهِ لِأَنَّهُ إِنِ اسْتَرْجَعَ مِنَ الْجُمْلَةِ مَكِيلَةَ زَيْتِهِ اسْتَفْضَلَ زِيَادَةً غَيْرَ مُسْتَحَقَّةٍ وَأَدْخَلَ بِهَا عَلَى الْغُرَمَاءِ مَضَرَّةً ، فَإِنْ أَخَذَ مِنَ الْمَكِيلَةِ بِقَدْرِ قِيمَةِ زَيْتِهِ صَارَ مُعَاوِضًا عَنْ صَاعٍ بِنِصْفِ صَاعٍ ، وَذَلِكَ رِبًا حَرَامٌ ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنِ الرُّجُوعُ بِالْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ بَطَلَ حَقُّ الْبَائِعِ مِنْهَا وَصَارَ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ فِيهَا ، وَفَارَقَ الزَّيْتَ إِذَا خَلَطَهُ بِأَرْدَأَ مِنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ فِي أَخْذِ مَكِيلَتِهِ مِنَ الْأَرْدَأِ نَقْصٌ يَضُرُّ بِهِ وَلَا يَضُرُّ بِالْغُرَمَاءِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا خَلَطَهُ بِأَجْوَدَ مِنْهُ .

وَالثَّانِي : أَنَّ الْأَدْوَنَ تَبَعٌ لِلْأَعْلَى ، فَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الْبَائِعِ مِنَ الْأَعْلَى بِمُخَالَطَتِهِ الْأَدْوَنَ ، وَسَقَطَ حَقُّهُ مِنَ الْأَدْوَنِ بِمُخَالَطَةِ الْأَعْلَى ، لِأَنَّ الْأَعْلَى مَتْبُوعٌ وَلَيْسَ بِتَبِيعٍ . وَأَمَّا الثَّوْبُ إِذَا صُبِغَ وَالسَّوِيقُ إِذَا أُلِتَّ فَمُخَالِفٌ لِلزَّيْتِ إِذَا اخْتَلَطَ بِأَجْوَدَ مِنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الثَّوْبَ أَصْلٌ وَدُخُولَ الصَّبْغِ عَلَيْهِ تَبَعٌ ، وَكَذَلِكَ السَّوِيقُ أَصْلٌ وَلَتُّهُ بِالزَّيْتِ تَبَعٌ ، فَلَمْ يَبْطُلِ اسْتِرْجَاعُ الْأَصْلِ بِحُدُوثِ التَّبَعِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الزَّيْتُ لِأَنَّهُ خَالَطَهُ مَا صَارَ تَبَعًا لَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ عَيْنَ الثَّوْبِ وَالسَّوِيقِ مَوْجُودَةٌ وَإِنْ صَارَ الصَّبْغُ مُجَاوِرًا لِلثَّوْبِ وَالزَّيْتُ مُجَاوِرًا لِلسَّوِيقِ ، فَجَازَ الرُّجُوعُ بِهِمَا لِبَقَاءِ عَيْنِهِمَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الزَّيْتُ الْمُخْتَلِطُ لِأَنَّ عَيْنَهُ مُسْتَهْلَكَةٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ قَدْ بَطَلَ حَقُّهُ فِي الِاسْتِرْجَاعِ كَانَ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ يَضْرِبُ مَعَهُمْ بِثَمَنِهِ وَيُبَاعُ الزَّيْتُ الْمُخْتَلِطُ فِي حُقُوقِ جَمِيعِهِمْ ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ عَلَى حَقِّهِ مِنَ اسْتِرْجَاعِ مَالِهِ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُبَاعَ الزَّيْتُ الْمُخْتَلِطُ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ الْغُرَمَاءِ فَذَلِكَ لَهُ ، فَإِذَا كَانَ زَيْتُهُ صَاعًا يُسَاوِي دِرْهَمًا وَالْمُخْتَلِطُ بِهِ صَاعًا يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ بِيعَ ذَلِكَ مُخْتَلِطًا وَدُفِعَ إِلَى الْبَائِعِ ثُلُثُ ثَمَنِهِ وَإِلَى الْغُرَمَاءِ ثُلُثَا ثَمَنِهِ ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ بِقَدْرِ حَقِّهِ كَيْلًا عَلَى قَدْرِ الْقِيمَتَيْنِ فَيَأْخُذُ مِنَ الصَّاعَيْنِ الْمُخْتَلِطَيْنِ وَقِيمَتُهُمَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ ثُلُثَيْ صَاعٍ قِيمَتُهُ دِرْهَمٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ : لِأَنَّهُ يَصِيرُ آخِذًا لِثُلُثَيْ صَاعٍ بَدَلًا مِنْ صَاعٍ وَذَلِكَ رِبًا حَرَامٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ جَائِزٌ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَلَيْسَ ذَلِكَ بَيْعُ صَاعٍ بِثُلُثَيْ صَاعٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ وَضْعُهُ فِي مَكِيلَةٍ وَنُقْصَانٍ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ كَانَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : ـ وَبِهِ أَقُولُ ـ يَأْخُذُهَا وَيُعْطِي قِيمَةَ الطَّحْنِ لِأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى مَالِهِ ( قَالَ ) وَكَذَلِكَ الثَّوْبُ يَصْبُغُهُ أَوْ يُقَصِّرُهُ يَأْخُذُهُ وَلِلْغُرَمَاءِ زِيَادَتُهُ ، فَإِنْ قَصَّرَهُ بِأُجْرَةِ دِرْهَمٍ فَزَادَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ كَانَ الْقَصَّارُ شَرِيكًا فِيهِ بِدِرْهَمٍ وَالْغُرَمَاءُ بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ شُرَكَاءُ بِهَا وَبِيعَ لَهُمْ ، فَإِنْ كَانَتْ أُجْرَتُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَزَادَ دِرْهَمًا كَانَ شَرِيكًا فِي الثَّوْبِ بِدِرْهَمٍ وَضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِأَرْبَعَةٍ ، وَبِهَذَا أَقُولُ ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ أَنَّ الْقَصَّارَ غَرِيمٌ بِأُجْرَةِ الْقِصَارَةِ لِأَنَّهَا أَثَرٌ لَا عَيْنٌ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا هَذَا أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ ، وَإِنَّمَا الْبَيَاضُ فِي الثَّوْبِ عَنِ الْقِصَارَةِ كَالسَّمْنِ عَنِ الطَّعَامِ وَالَعَلَفِ وَكُبْرِ الْوَدِيِّ عَنِ السَّقْيِ ، وَهُوَ لَا يَجْعَلُ الزِّيَادَةَ لِلْبَائِعِ فِي ذَلِكَ عَيْنَ مَالِهِ ، فَكَذَلِكَ زِيَادَةُ الْقِصَارَةِ لَيْسَتْ عَيْنَ مَالِهِ ، وَقَدْ قَالَ فِي الْأَجِيرِ يَبِيعُ فِي حَانُوتٍ أَوْ يَرْعَى غَنَمًا أَوْ يُرَوِّضُ دَوَابَّ فَالْأَجِيرُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ ، فَهَذِهِ الزِّيَادَاتُ

عَنْ هَذِهِ الصِّنَاعَاتِ الَّتِي هِيَ آثَارٌ لَيْسَتْ بِأَعْيَانِ مَالٍ حُكْمُهَا عِنْدِي فِي الْقِيَاسِ وَاحِدٌ ، إِلَّا أَنْ تَخُصَّ السُّنَّةُ مِنْهَا شَيْئًا فَيُتْرَكُ لَهَا الْقِيَاسُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ ابْتَاعَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا ، أَوْ ثَوْبًا فَخَاطَهُ أَوْ قَصَّرَهُ ثُمَّ فَلَسَ فَاخْتَارَ الْبَائِعُ عَيْنَ مَالِهِ فَهَلْ تَكُونُ الزِّيَادَةُ بِالطَّحْنِ وَالْخِيَاطَةِ وَالْقِصَارَةِ كَالْأَعْيَانِ الْمُتَمَيِّزَةِ مِنْ ثِمَارِ النَّخْلِ يَمْلِكُهَا الْمُشْتَرِي وَلَا يَرْجِعُ بِهَا الْبَائِعُ ، أَوْ يَكُونُ كَالْآثَارِ الْمُتَّصِلَةِ مِنَ السِّمَنِ وَالطُّولِ لَا يَنْفَرِدُ بِهَا الْمُشْتَرِي وَيَرْجِعُ بِهَا الْبَائِعُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهَا آثَارٌ يَرْجِعُ بِهَا الْبَائِعُ وَلَا يَنْفَرِدُ بِهَا الْمُشْتَرِي ، وَوَجْهُهُ شَيْئَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُزَنِيُّ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ أَنَّ الطَّحْنَ وَالْخِيَاطَةَ وَالْقِصَارَةَ هِيَ آثَارٌ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ لِأَنَّ الطَّحْنَ تَفْرِيقُ أَجْزَاءٍ مُجْتَمِعَةٍ ، وَالْخِيَاطَةَ تَأْلِيفُ أَجْزَاءٍ مُتَفَرِّقَةٍ ، وَالْقِصَارَةَ إِزَالَةٌ كَهَدٍّ مِنْ لَوْنِهِ فَكَانَتْ كَتَعْلِيمِ الْعَبْدِ صَنْعَةً أَوْ خَطًّا وَأَسْوَأَ مِنْ حُدُوثِ السِّمَنِ وَالْكُبْرِ حَالًا ، لِأَنَّ السِّمَنَ وَالْكُبْرَ أَعْيَانٌ مُتَّصِلَةٌ ، وَالطَّحْنُ وَالْقِصَارَةُ أَعْيَانٌ مُتَمَيِّزَةٌ ، فَلَمَّا كَانَ السِّمَنُ الْحَادِثُ فِي الْغَنَمِ بِرَعْيِ الرَّاعِي وَالْكُبْرُ الْحَادِثِ فِي الْوَدِيِّ بِسَقْيِ السَّاقِي لَا تَكُونُ أَعْيَانًا يَنْفَرِدُ الْمُشْتَرِي بِمِلْكِهَا وَيَرْجِعُ الْأَجِيرُ عِنْدَ فَلَسِهِ بِهَا فَالطَّحْنُ وَالْقِصَارَةُ أَوْلَى أَنْ لَا تَكُونُ أَعْيَانًا يَنْفَرِدُ بِهَا الْمُشْتَرِي وَيَمْلِكُهَا وَيَرْجِعُ الْأَجْرُ عِنْدَ فَلَسِهِ بِهَا ، بَلْ تَكُونُ آثَارًا يَرْجِعُ بِهَا الْبَائِعُ مَعَ عَيْنِ مِلْكِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا كَانَ فِي حُكْمِ الْأَعْيَانِ الْمُتَمَيِّزَةِ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ الْمَغْصُوبُ إِذَا أَخَذَهُ الْغَاصِبُ كَالصَّبْغِ ، فَلَمَّا كَانَ الْغَاصِبُ لَوْ غَصَبَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أَوْ ثَوْبًا فَقَصَّرَهُ ثُمَّ اسْتَحَقَّهُ الْمَغْصُوبُ لَمْ يَرْجِعِ الْغَاصِبُ بِالطَّحْنِ وَالْقِصَارَةِ كَمَا لَا يَرْجِعُ بِالسِّمَنِ وَالْكُبْرِ كَذَلِكَ فِي الْفَلَسِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الطَّحْنَ وَالْخِيَاطَةَ وَالْقِصَارَةَ فِي حُكْمِ الْأَعْيَانِ الْمُتَمَيِّزَةِ يَمْلِكُهَا الْمُشْتَرِي وَلَا يَرْجِعُ بِهَا الْبَائِعُ وَوَجْهُهُ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الطَّحْنَ وَالْقِصَارَةَ إِحَالَةُ صِفَةٍ إِلَى غَيْرِهَا كَالصَّبْغِ ؛ لِأَنَّهُ إِحَالَةُ لَوْنٍ إِلَى غَيْرِهِ ، فَلَمَّا كَانَ الصَّبْغُ فِي حُكْمِ الْأَعْيَانِ الْمُتَمَيِّزَةِ يَمْلِكُهَا الْمُشْتَرِي وَلَا يَرْجِعُ بِهَا الْبَائِعُ كَذَلِكَ الطَّحْنُ وَالْقِصَارَةُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الطَّحْنَ وَالْقِصَارَةَ أُمُورٌ تُنْسَبُ إِلَى فَاعِلِهَا ، وَيَجُوزُ أَنْ يُفْرَدَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ بِهَا فَيَسْتَأْجِرُهُ عَلَى الطَّحْنِ وَالْقِصَارَةِ ، فَجَرَى مَجْرَى الْأَعْيَانِ فِي أَنْ لَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا ، وَخَالَفَ سِمَنَ الْغَنَمِ الَّذِي لَا يُنْسَبُ إِلَى الرَّاعِي وَكُبْرَ الْوَدِيِّ الَّذِي لَا يُنْسَبُ إِلَى السَّاقِي ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفْرَدَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ بِهِ ، وَلَا أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ عَلَى سِمَنِ الْغَنَمِ وَكُبْرِ الْوَدِيِّ والإجارة عليها ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ

وَجَوَابٌ ، فَأَمَّا الْغَاصِبُ فَإِنَّمَا لَمْ يَرْجِعْ بِالطَّحْنِ وَالْقِصَارَةِ لِأَنَّهُ أَحْدَثُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَهُوَ مُتَعَدٍّ بِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُشْتَرِي .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ مِنْهُمَا وَأَنَّهُمَا آثَارٌ فِي حُكْمِ النَّمَاءِ الَّذِي لَا يَتَمَيَّزُ مِنَ السِّمَنِ وَالْكُبْرِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ حِنْطَتَهُ دَقِيقًا مَطْحُونًا وَثَوْبَهُ مَخِيطًا وَمَقْصُورًا وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الطَّحْنِ وَالْخِيَاطَةِ إِذَا لَمْ يَخِطْهُ بِخُيُوطٍ لَهُ ، وَلِلطَّحَّانِ وَالْخَيَّاطِ أَنْ يَرْجِعَا بِأُجْرَتِهِمَا عَلَى الْمُشْتَرِي يَضْرِبَانِ بِهَا مَعَ الْغُرَمَاءِ ، وَإِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهَا فِي حُكْمِ الْأَعْيَانِ الْمُتَمَيِّزَةِ كَالثَّمَرَةِ يَمْلِكُهَا الْمُشْتَرِي وَلَا يَرْجِعُ بِهَا الْبَائِعُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الطَّحْنِ وَالْقِصَارَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي وَعَمَلِهِ أَوْ تَكُونَ بِعَمَلِ أَجِيرٍ قَدِ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى عَمَلِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي تَوَلَّى عَمَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَلَا يَخْلُو عَيْنُ الْمَالِ بَعْدَ حُدُوثِ الْعَمَلِ فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ زِيَادَةً وَلَا نُقْصَانًا ، مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ ثَوْبًا يُسَاوِي عَشَرَةً وَيُقَصِّرَهُ فَيَسْوِي بَعْدَ الْقِصَارَةِ عَشَرَةً فَالْعَمَلُ قَدْ صَارَ مُسْتَهْلِكًا ، وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ ثَوْبَهُ مَقْصُورًا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ فِيهِ قَدْ نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ ثَوْبًا يُسَاوِي عَشَرَةً وَيُقَصِّرَهُ فَيَسْوِي بَعْدَ الْقِصَارَةِ ثَمَانِيَةً فَقَدِ اسْتَهْلَكَ الْعَمَلُ وَنَقَصَ الثَّوْبُ فَيُقَالُ لِلْبَائِعِ هَذَا نَقْصٌ لَا يَتَمَيَّزُ فَلَكَ أَنْ تَأْخُذَ الثَّوْبَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوْ تَضْرِبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِهِ ، وَالِاعْتِبَارُ بِزِيَادَتِهِ وَنَقْصِهِ بِقِيمَتِهِ لَا بِثَمَنِهِ ، لِأَنَّ الثَّمَنَ قَدْ يَزِيدُ عَلَى الْقِيمَةِ وَيَنْقُصُ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ قَدْ زَادَ فِي قِيمَتِهِ مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ ثَوْبًا يُسَاوِي عَشَرَةً وَيُقَصِّرَهُ فَيُسَاوِي بَعْدَ الْقِصَارَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ فَالزِّيَادَةُ لِلْمُشْتَرِي - وَهِيَ ثُلُثُهُ - فَيَصِيرُ شَرِيكًا لِلْبَائِعِ بِهَا فِي الثَّوْبِ فَلَا يَلْزَمُ دَفْعُهُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، أَمَّا الْبَائِعُ فَلَحِقَ الْمُشْتَرِي فِيهِ ، وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَلِمِلْكِ الْبَائِعِ لَهُ ، وَيُوضَعُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ حَتَّى يُبَاعَ فَيُعْطِيَ الْبَائِعَ ثُلُثَيْ ثَمَنِهِ قَلَّ الثَّمَنُ أَوْ كَثُرَ ، وَيَكُونَ لِلْمُشْتَرِي ثُلُثُ الثَّمَنِ يَدْفَعُهُ إِلَى غُرَمَائِهِ قَلَّ الثَّمَنُ أَوْ كَثُرَ ، فَهَذَا حُكْمُ الْعَمَلِ إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ تَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي قَدِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا عَلَى عَمَلِهِ فَلَا يَخْلُو أَيْضًا حَالُ الثَّوْبِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ الْعَمَلُ زِيَادَةً وَلَا نُقْصَانًا وَكَانَ يُسَاوِي قَبْلَ الْقِصَارَةِ عَشَرَةً وَيُسَاوِي بَعْدَ الْقِصَارَةِ تِلْكَ الْعَشَرَةَ فَيَكُونُ الْعَمَلُ مُسْتَهْلِكًا وَيَرْجِعُ الْبَائِعُ بِالثَّوْبِ مَقْصُورًا وَيَضْرِبُ الْقَصَّارُ بِأُجْرَتِهِ مَعَ الْغُرَمَاءِ لِاسْتِهْلَاكِ عَمَلِهِ ، فَإِنَّهُ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ الْعَمَلُ كَالْعَيْنِ فَهَلَّا كَانَ الْقَصَّارُ وَالْبَائِعُ شَرِيكَيْنِ فِي الثَّوْبِ بِقِيمَةِ الْعَمَلِ وَقِيمَةِ الثَّوْبِ ؟ قُلْنَا : إِنَّمَا يَكُونُ كَالْعَيْنِ إِذَا كَانَ لِقِيمَتِهِ تَأْثِيرٌ فِي الثَّوْبِ فَأَمَّا مَعَ عَدَمِ تَأْثِيرِهِ فَيَصِيرُ مُسْتَهْلِكًا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تَكُونَ الْقِصَارَةُ قَدْ نَقَصَتْ مِنْ قِيمَةِ الثَّوْبِ ، فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّوْبِ مَقْصُورًا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ إِنْ شَاءَ أَوْ يَضْرِبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِثَمَنِهِ ، وَلِلْقَصَّارِ أَنْ يَضْرِبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِأُجْرَتِهِ ، سَوَاءٌ أَخَذَ الْبَائِعُ ثَوْبَهُ أَوْ تَرَكَهُ ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْقَصَّارِ صَارَ مُسْتَهْلِكًا .

وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ تَكُونَ الْقِصَارَةُ قَدْ زَادَتْ فِي قِيمَةِ الثَّوْبِ ، لِأَنَّهُ كَانَ يُسَاوِي قَبْلَ الْقِصَارَةِ عَشْرَةً فَصَارَ يُسَاوِي بَعْدَ الْقِصَارَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ ، فَالزِّيَادَةُ بِهَا قَدْرُ الثُّلُثُ فَيَكُونَ الْمُشْتَرِي شَرِيكًا لِلْبَائِعِ فِي الثَّوْبِ بِثُلُثِ ثَمَنِهِ ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي أُجْرَةِ الْقَصَّارِ فَلَا تَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ ، أَوْ تَكُونَ أَقَلَّ مِنْهَا ، أَوْ تَكُونَ أَكْثَرَ مِنْهَا ، فَإِنْ كَانَتْ أُجْرَتُهُ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ - خَمْسَةً - فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالزِّيَادَةِ لِأَنَّهَا كَالْعَيْنِ لَهُ فَيَصِيرُ الْقَصَّارُ شَرِيكًا لِلْبَائِعِ فِي الثَّوْبِ بِثُلُثِ ثَمَنِهِ ، وَلَا يُسَلَّمُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يُبَاعَ فَيُعْطَى صَاحِبُ الثَّوْبِ ثُلُثَيِ الثَّمَنِ وَالْقَصَّارُ ثُلُثَ الثَّمَنِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا كَانَ لِلْقَصَّارِ أَنْ يَحْبِسَ الثَّوْبَ بِيَدِهِ عَلَى قَبْضِ أُجْرَتِهِ ؟ قُلْنَا : لَيْسَ لِلْقَصَّارِ ذَاكَ لَا مَعَ الْمُفْلِسِ وَلَا مَعَ غَيْرِهِ ، لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْعَمَلِ لَا فِي الثَّوْبِ ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ أَنْ يَأْخُذَهُ ، لِأَنَّ الْعَمَلَ مُحْتَبَسٌ بِأُجْرَتِهِ ، وَلَكِنْ يُوضَعُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ يَحْبِسُهُ لِلْقَصَّارِ عَلَى أُجْرَتِهِ وَيَنُوبُ عَنْ مَالِكِ الثَّوْبِ فِي حُصُولِ الْيَدِ عَلَى ثَوْبِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ أُجْرَةُ الْقَصَّارِ أَقَلَّ مِنَ الزِّيَادَةِ فَكَانَتْ أُجْرَتُهُ دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفًا وَالزِّيَادَةُ خَمْسَةٌ صَارَ فِي الثَّوْبِ مَقْصُورًا ثَلَاثَةُ شُرَكَاءَ ، فَالْبَائِعُ شَرِيكٌ فِيهِ بِثُلُثَيْ ثَمَنِهِ لِأَنَّ قِيمَةَ ثَوْبِهِ عَشَرَةٌ مِنْ جُمْلَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ ، وَالْقَصَّارُ شَرِيكٌ فِيهِ بِسُدُسِ ثَمَنِهِ لِأَنَّ قَدْرَ أَجْرَتِهِ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ ، وَالْمُفْلِسُ شَرِيكٌ فِيهِ بِسُدُسِ ثَمَنِهِ لِأَنَّ الْفَاضِلَ مِنْ قِيمَةِ الثَّوْبِ مَقْصُورًا بَعْدَ قِيمَتِهِ وَأُجْرَتِهِ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ ، فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا كَانَ لِلْقَصَّارِ أَنْ يَرْجِعَ بِجَمِيعِ الزِّيَادَةِ لِأَنَّهَا عَيْنُ مَالِهِ ؟ قِيلَ : هِيَ وَإِنْ كَانَتْ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ لَهُ فَقَدْ أُسْقِطَ حَقُّهُ مِنْهَا حِينَ رَضِيَ بِالْأُجْرَةِ الْمُقَدَّرَةِ ، ثُمَّ لَا يُسَلَّمُ الثَّوْبُ إِلَى وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ لِحَقِّ الْآخَرِينَ فِيهِ ، وَيَكُونُ مَوْضُوعًا عَلَى يَدِ عَدْلٍ لِيُبَاعَ وَيُقَسَّمَ ثَمَنُهُ عَلَى مَا وَصَفْنَا ، وَتُدْفَعُ حِصَّةُ الْمُفْلِسِ إِلَى الْغُرَمَاءِ ، وَإِنْ كَانَتْ أُجْرَةُ الْقَصَّارِ أَكْثَرَ مِنَ الزِّيَادَةِ فَكَانَتْ أُجْرَتُهُ عَشَرَةً وَالزِّيَادَةُ خَمْسَةً كَانَ الْقَصَّارُ شَرِيكًا لِلْبَائِعِ فِي الثَّوْبِ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ وَفِي ذَلِكَ الثُّلُثِ وَلِلْبَائِعِ الثُّلُثَانِ ، ثُمَّ يَضْرِبُ الْقَصَّارُ بِبَاقِي أُجْرَتِهِ وَهُوَ خَمْسَةٌ مَعَ الْغُرَمَاءِ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ هِيَ عَيْنُ مَالِهِ فَهَلَّا أَخَذَهَا بِجَمِيعِ أُجْرَتِهِ ؟ قِيلَ : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَسْتَحِقَّهَا زَائِدَةً لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَيْهَا نَاقِصَةً ، لِأَنَّ أُجْرَتَهُ مُقَدَّرَةٌ - وَكَذَا الْجَوَابُ فِي الطَّحَّانِ وَالْخَيَّاطِ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ - وَهَكَذَا إِذَا اشْتَرَى سَاجَةً فَعَمِلَهَا بَابًا أَوْ ذَهَبًا فَصَاغَهُ حُلِيًّا أَوْ صُفْرًا فَضَرَبَهُ إِنَاءً أَوْ غَزْلًا فَنَسَجَهُ ثَوْبًا فَالْقَوْلُ فِي جَمِيعِهِ عَلَى مَا مَضَى .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا اشْتَرَى ثَوْبًا فَصَبَغَهُ هل للبائع حق في صبغه ؟ لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ حَقٌّ فِي صَبْغِهِ قَوْلًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ الصَّبْغَ عَيْنٌ جَاوَزَتِ الثَّوْبَ وَحَلَّتْ فِيهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الصَّبْغِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ قَدِ اشْتَرَاهُ مِنْهُ مَعَ الثَّوْبِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ لِأَجْنَبِيٍّ قَدِ اشْتَرَاهُ مِنْهُ .

وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ لِنَفْسِهِ ، فَإِنْ كَانَ قَدِ اشْتَرَى الصَّبْغَ مِنْ بَائِعِ الثَّوْبِ ، مِثَالُهُ : أَنْ يَشْتَرِيَ ثَوْبًا يُسَاوِي عَشَرَةً وَصَبْغًا يُسَاوِي عَشَرَةً فَلَا يَخْلُو حَالُ الثَّوْبِ مَصْبُوغًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : إِمَّا أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ لَمْ تَزِدْ عَلَى قِيمَةِ الثَّوْبِ وَالصَّبْغِ ، أَوْ تَكُونَ قَدْ زَادَتْ ، أَوْ تَكُونَ قَدْ نَقَصَتْ ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ لَمْ تَزِدْ وَلَمْ تَنْقُصْ وَكَانَ يُسَاوِي بَعْدَ الصَّبْغِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَالْعَمَلُ قَدْ صَارَ مُسْتَهْلِكًا ، وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِثَوْبِهِ مَصْبُوغًا ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ بَعْدَ الصَّبْغِ فَصَارَ يُسَاوِي خَمْسَةَ عَشَرَ فَالْعَمَلُ قَدْ صَارَ مُسْتَهْلِكًا وَقَدْ نَقَصَ الثَّوْبُ وَالصَّبْغُ نَقْصًا لَا يَتَمَيَّزُ ، فَيَكُونَ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ فِي أَنْ يَأْخُذَهُ مَصْبُوغًا بِجَمْعِ الثَّمَنَيْنِ وَذَلِكَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ، أَوْ يَضْرِبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِهَا ، فَإِنْ كَانَ قَدْ زَادَتْ قِيمَتُهُ مَصْبُوغًا فَصَارَ يُسَاوِي بَعْدَ الصَّبْغِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْعَمَلَ يَجْرِي مَجْرَى الْآثَارِ دُونَ الْأَعْيَانِ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ زَائِدًا وَلَا حَقَّ لِلْمُفْلِسِ فِيهِ ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْعَمَلَ يَجْرِي مَجْرَى الْأَعْيَانِ كَانَتِ الزِّيَادَةُ لِلْمُفْلِسِ يُشَارِكُ الْبَائِعَ بِهَا فِي الثَّوْبِ فَيَصِيرُ شَرِيكًا فِي ثُلُثِ الثَّوْبِ وَالْبَائِعُ شَرِيكًا فِي ثُلُثَيِ الثَّوْبِ ، وَإِنْ كَانَ الصَّبْغُ لِآخَرَ غَيْرِ بَائِعِ الثَّوْبِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الثَّوْبِ بَعْدَ الصَّبْغِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ زَادَ أَوْ نَقَصَ أَوْ لَمْ يَزِدْ وَلَمْ يَنْقُصْ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَزِدْ وَلَمْ يَنْقُصْ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ قِيمَةُ الثَّوْبِ عَشَرَةٌ وَقِيمَةُ الصَّبْغِ عَشَرَةٌ فَصَارَتْ قِيمَتُهُ مَصْبُوغًا عِشْرِينَ فَالْعَمَلُ مُسْتَهْلِكٌ وَبَائِعُ الثَّوْبِ وَبَائِعُ الصَّبْغِ نَظِيرَانِ شَرِيكَانِ فِيهِ نِصْفَيْنِ ، فَبَائِعُ الثَّوْبِ شَرِيكٌ بِنِصْفِهِ ، وَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ فَصَارَ بَعْدَ الصَّبْغِ يُسَاوِي خَمْسَةَ عَشَرَ فَهَذَا النُّقْصَانُ قَدْرُهُ خَمْسَةٌ وَهُوَ دَاخِلٌ عَلَى الصَّبْغِ دُونَ الثَّوْبِ ، لِأَنَّ عَيْنَ الثَّوْبِ لَمْ تَنْقُصْ ، وَلِأَنَّ عَيْنَ الصَّبْغِ تَبَعٌ لِلثَّوْبِ بِدُخُولِهِ عَلَيْهِ ، فَيُقَالُ لِصَاحِبِ الصَّبْغِ : قَدْ نَقَصَ عَيْنُ مَالِكَ نَقْصًا لَا يَتَمَيَّزُ ، فَإِنِ اخْتَرْتَ الرُّجُوعَ بِهِ نَاقِصًا صِرْتَ شَرِيكًا لِلْبَائِعِ بِثُلُثِ ثَمَنِهِ وَلَا شَيْءَ لَكَ غَيْرُهُ ، وَإِنْ لَمْ تَخْتَرْ ضَرَبْتَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِثَمَنِ صَبْغِكَ ، وَكَانَ الْمُفْلِسُ شَرِيكًا لِبَائِعِ الثَّوْبِ بِثُلُثِ ثَمَنِهِ ، وَبِيعَ الثَّوْبُ مَصْبُوغًا فِي حَقِّهَا ، وَإِنْ زَادَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ مَصْبُوغًا فَصَارَ يُسَاوِي ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْعَمَلَ يَجْرِي مَجْرَى الْآثَارِ فَلَا حَقَّ لِلْمُفْلِسِ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ وَيَكُونُ الثَّوْبُ بَيْنَ بَائِعِ الثَّوْبِ وَبَائِعِ الصَّبْغِ نِصْفَيْنِ ، فَتَعُودُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِمَا ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْعَمَلَ يَجْرِي مَجْرَى الْأَعْيَانِ كَانَتِ الزِّيَادَةُ لِلْمُفْلِسِ وَصَارَ شَرِيكًا بِهَا فِي الثَّوْبِ ، فَيَصِيرُ بَائِعُ الثَّوْبِ شَرِيكًا فِي ثُلُثِهِ وَبَائِعُ الصَّبْغِ شَرِيكًا فِي ثُلُثِهِ وَالْمُفْلِسُ شَرِيكًا فِي ثُلُثِهِ ، وَإِنْ كَانَ الصَّبْغُ لِلْمُفْلِسِ إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ لَمْ تَزِدْ وَلَمْ تَنْقُصْ بِأَنْ كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ عَشَرَةً وَقِيمَةُ الصَّبْغِ عَشَرَةً وَقِيمَتُهُ مَصْبُوغًا عِشْرِينَ فَهُمَا شَرِيكَانِ فِيهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ قَدْ نَقَصَتْ فَصَارَ يُسَاوِي بَعْدَ الصَّبْغِ خَمْسَةَ عَشَرَ فَالنَّقْصُ دَاخِلٌ عَلَى الْمُفْلِسِ مَالِكِ الصَّبْغِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَيَصِيرُ شَرِيكًا فِي الثَّوْبِ بِالثُّلُثِ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ قَدْ زَادَتْ فَصَارَ يُسَاوِي مَصْبُوغًا ثَلَاثِينَ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْعَمَلَ يَجْرِي مَجْرَى الْآثَارِ فَالزِّيَادَةُ بَيْنَهُمَا وَيَكُونَانِ فِي الثَّوْبِ شَرِيكَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفُ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْعَمَلَ جَارٍ مَجْرَى الْأَعْيَانِ

فَالزِّيَادَةُ لِلْمُفْلِسِ بِحَقِّ عَمَلِهِ وَيَصِيرُ شَرِيكًا فِي الثَّوْبِ ، وَصَارَ شَرِيكًا فِي الثَّوْبِ فَيَصِيرُ بَائِعُ الثَّوْبِ شَرِيكًا فِي ثُلُثِهِ وَبَائِعُ الصَّبْغِ شَرِيكًا فِي ثُلُثِهِ وَالْمُفْلِسُ شَرِيكًا فِي ثُلُثِهِ ، وَكَانَ الصَّبْغُ لِلْمُفْلِسِ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ لَمْ تَزِدْ وَلَمْ تَنْقُصْ ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ عَشَرَةً وَقِيمَةُ الصَّبْغِ عَشَرَةً وَقِيمَتُهُ مَصْبُوغًا عِشْرِينَ فَهُمَا شَرِيكَانِ فِيهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ قَدْ نَقَصَتْ فَصَارَتْ تُسَاوِي بَعْدَ الصَّبْغِ خَمْسَةَ عَشَرَ فَالْقَصْرُ دَاخِلٌ عَلَى الْمُفْلِسِ مَالِكِ الصَّبْغِ لِمَا ذَكَرْنَا وَيَصِيرُ شَرِيكًا فِي الثَّوْبِ بِالثُّلْثِ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ قَدْ زَادَتْ فَصَارَ يُسَاوِي مَصْبُوغًا بِثَلَاثِينَ فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْعَمَلَ يَجْرِي مَجْرَى الْآثَارِ فَزِيَادَتُهَا بَيْنَهُمَا فَيَكُونَانِ فِي الثَّوْبِ شَرِيكَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفُ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْعَمَلَ يَجْرِي مَجْرَى الْأَعْيَانِ فَالزِّيَادَةُ لِلْمُفْلِسِ بِحَقِّ عَمَلِهِ بِثَمَنِ الصَّبْغِ وَبِالزِّيَادَةِ وَيَكُونُ ثُلُثَا الثَّمَنِ لِلْمُفْلِسِ وَثُلُثُهُ لِلْبَائِعِ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ تَبَايَعَا بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا فَفَلَسَا أَوْ أَحَدُهُمَا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِجَازَةُ الْبَيْعِ وَرَدُّهُ دُونَ الْغُرَمَاءِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ تَبَايَعَا بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا فَفَلَسَا أَوْ أَحَدُهُمَا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِجَازَةُ الْبَيْعِ وَرَدُّهُ دُونَ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبَيْعٍ مُسْتَحْدَثٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا بَاعَ سِلْعَةً بِخِيَارٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ حُجِرَ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ كَانَ عَلَى خِيَارِهِ فِي الرَّدِّ وَالْإِجَازَةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِرَاضٍ لِلْغُرَمَاءِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ فَسَخَ جَازَ وَإِنْ كَانَ الْحَظُّ فِي الْإِجَازَةِ ، وَإِنْ أَجَازَ صَحَّ وَإِنْ كَانَ الْحَظُّ فِي الْفَسْخِ سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ الْبَيْعَ قَدْ تَمَّ بِنَفْسِ الْعَقْدِ أَوْ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَيَقْضِي الْخِيَارَ ، هَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ ، لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْحَجْرِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْعُقُودِ الْمُسْتَحْدَثَةِ بَعْدَهُ ، فَأَمَّا الْعُقُودُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَلَا تَأْثِيرَ لِلْحَجْرِ فِيهَا وَالْفَسْخِ فِي هَذَا الْعَقْدِ وَالْإِمْضَاءِ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ بِعَقْدٍ مُتَقَدِّمٍ ، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إِنِ اخْتَارَ الْأَحَظَّ مِنَ الْإِجَازَةِ أَوِ الْفَسْخِ صَحَّ ، وَإِنِ اخْتَارَ مَا لَا حَظَّ فِيهِ بِأَنْ أَجَازَ الْبَيْعَ وَكَانَ مَغْبُونًا لَمْ يَجُزْ ، وَإِنَّ لِلْغُرَمَاءِ فَسْخَهُ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَيْهِمْ بِنَقْصِ الْغَبِينَةِ الَّتِي يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهَا إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُزْعَمُ فِيهِ أَنَّ الْمِلْكَ قَدِ انْتَقَلَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، وَهَكَذَا لَوْ فَسَخَ الْمُفْلِسُ وَكَانَ غَائِبًا لَمْ يَجُزْ وَكَانَ لِلْغُرَمَاءِ إِجَازَةُ الْبَيْعِ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنَ اسْتِيفَاءِ مِلْكِهِ عَلَى الزِّيَادَةِ الَّتِي قَدْ مَلَكَهَا بِعَقْدِهِ ، إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُزْعَمُ فِيهِ أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَتَقْضِي الْخِيَارُ ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَا وَجْهَ لَهُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِحَقِّ عَقْدٍ تَقَدَّمَ عَلَى الْحَجْرِ ، وَلَيْسَ لِلْحَجْرِ تَأْثِيرٌ فِيهِ وَلَا لِلْغُرَمَاءِ اعْتِرَاضٌ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِجْبَارًا عَلَى تَمْلِيكِ مَالٍ لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَصِحَّ إِجْبَارُهُ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَصِحُّ إِجْبَارُهُ عَلَى قَبْضِ هِبَةٍ قَدْ قَبِلَهَا - وَهَكَذَا لَوْ وَقَعَ الْحَجْرُ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي زَمَانِ الْخِيَارِ كَانَ عَلَى خِيَارِهِ فِي الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى أَحَظِّ الْأَمْرَيْنِ لَهُ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يُجْبَرُ عَلَى أَحَظِّ الْأَمْرَيْنِ وَإِنْ كَانَ أَحَظَّهُمَا الْفَسْخُ - لِأَنَّهُ كَانَ مَغْبُونًا - أُجْبِرَ عَلَى الْفَسْخِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ

الْمِلْكَ قَدِ انْتَقَلَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، وَإِنْ كَانَ أَحَظَّهُمَا الْإِجَازَةُ - لِأَنَّهُ كَانَ غَائِبًا - أُجْبِرَ عَلَى الْإِجَازَةِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ : إِنَّ الْمِلْكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَتَقْضِي الْخِيَارُ ، وَهُوَ كَمَا ذَكَرْنَا غَيْرُ صَحِيحٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ إِنْ أَخَذَهُ دُونَ صِفَتِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَرْضَى الْغُرَمَاءُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ أَخَذَهُ دُونَ صِفَتِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَرْضَى الْغُرَمَاءُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ سَلَمًا فَحَلَّ السَّلَمُ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ فَقَبَضَهُ دُونَ صِفَتِهِ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَسْلَمَ فِي طَعَامٍ حَدِيثٍ فَقُبِضَ عَتِيقًا أَوْ فِي جَيِّدٍ فَأُخِذَ رَدِيئًا فَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَرْضَ غُرَمَاؤُهُ بِهِ ، لِأَنَّ قَبْضَهُ دُونَ صِفَتِهِ نَقْصٌ يَدْخُلُ عَلَى الْغُرَمَاءِ فِي حُقُوقِهِمْ ، لِأَنَّ نَقْصَ الصِّفَةِ كَنَقْصِ الْعَيْنِ ، فَإِنْ رَضِيَ الْغُرَمَاءُ بِقَبْضِهِ دُونَ صِفَتِهِ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْمُفْلِسَ تَامُّ الْمِلْكِ بِدَلِيلِ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي مَالِهِ ، وَإِنَّمَا الْحَجْرُ وَاقِعٌ عَلَيْهِ لِحُقُوقِ الْغُرَمَاءِ ، فَإِذَا رَضُوا بِالنَّقْصِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِمْ جَازَ ، فَلَوْ وَهَبَ الْمُفْلِسُ مَالًا يَرْضَى بِهِ غُرَمَاؤُهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ كَنَقْصِ الْوَصْفِ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ قَبْضَ السَّلَمِ دُونَ صِفَتِهِ مُسَامَحَةٌ فِي عَقْدٍ تَقَدَّمَ الْفَلَسَ فَصَحَّ مِنْهُ مَعَ رِضَا الْغُرَمَاءِ اعْتِبَارًا بِعَقْدِ مَا مَضَى ، وَالْهِبَةُ فِي الْفَلَسِ عَقْدٌ مُبْتَدَأٌ وَاسْتِهْلَاكُ مَالٍ مُسْتَأْنَفٍ ، فَلَمْ يَصِحَّ مَعَ رِضَا الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ عَنْهُ غَائِبٌ لَمْ يَرْضَ بِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَسْلَفَهُ فِضَّةً بِعَيْنِهَا فِي طَعَامٍ ثُمَّ فَلَسَ كَانَ أَحَقَّ بِفِضَّتِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَسْلَمَ فِضَّةً فِي طَعَامٍ مَوْصُوفٍ فَفَلَسَ الْمُسَلَّمُ إِلَيْهِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْفِضَّةِ الَّتِي كَانَتْ ثَمَنًا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً أَوْ مُسْتَهْلَكَةً ، فَإِنْ كَانَتِ الْفِضَّةُ بَاقِيَةً فِي يَدِ الْمُفْلِسِ ، فَلِلْمُسَلِّمِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَرْجِعَ بِعَيْنِ مَالِهِ إِذَا كَانَ مُثَمَّنًا جَازَ أَنْ يَرْجِعَ بِعَيْنِ مَالِهِ إِذَا كَانَ ثَمَنًا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا جَازَ بِالْفَلَسِ فَسْخُ الْبَيْعِ الْمُنْبَرِمِ فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ بِهِ فَسْخُ السَّلَمِ الَّذِي لَيْسَ بِمُنْبَرِمٍ ، وَإِنْ كَانَتِ الْفِضَّةُ مُسْتَهْلَكَةً فَهَلْ يَسْتَحِقُّ بِحُدُوثِ الْفَلَسِ خِيَارًا فِي فَسْخِ السَّلَمِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ السَّلَمِ : لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ بِالْفَلَسِ خِيَارَ الْفَسْخِ بِتَعْجِيلِ الثَّمَنِ وَتَأْخِيرِ الْمُثَمَّنِ اسْتَحَقَّهُ بِتَعْجِيلِ الثَّمَنِ وَتَأْخِيرِ الْمُثَمَّنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ : أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ فِي الْفَسْخِ لِأَنَّ الْفَسْخَ

بِالْفَلَسِ إِنَّمَا يُسْتَحَقُّ إِذَا ارْتَفَعَ بِهِ الضَّرَرُ عَنِ الْبَائِعِ فِي اسْتِرْجَاعِ عَيْنِ مَالِهِ حَتَّى لَا يُزَاحِمَهُ الْغُرَمَاءُ وَيَصِلَ إِلَى جَمِيعِ حَقِّهِ ، وَفَسْخُ السَّلَمِ لَا يُسْتَفَادُ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّهُ يُشَارِكُ الْغُرَمَاءَ بِهِ إِذَا فَسَخَ كَمَا يُشَارِكُهُمْ إِذَا لَمْ يَفْسَخْ ، فَلَلضَّرَرُ لَاحِقٌ بِهِ فِي الْحَالَيْنِ فَلَمْ يَكُنْ لِفَسْخِهِ مَعْنًى ، فَإِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ عَنْهُ يَسْتَحِقُّ الْفَسْخَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى السَّلَمِ وَيَضْرِبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِقِيمَةِ الطَّعَامِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ السَّلَمَ وَيَضْرِبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِالثَّمَنِ ، وَإِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الثَّانِي فَإِنَّهُ يَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِقِيمَةِ الطَّعَامِ ، وَهُوَ أَنْ يُقَوِّمَ الطَّعَامَ الَّذِي أَسْلَمَ فِيهِ عَلَى صِفَتِهِ وَقَدْرِهِ بِسِعْرِ وَقْتِهِ ، فَإِذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ أَلْفًا صَارَ حَقُّهُ أَلْفًا فَيَضْرِبُ بِهَا مَعَ الْغُرَمَاءِ ، فَإِذَا خَرَجَ قِسْطُهُ بِمُزَاحَمَةِ الْغُرَمَاءِ خَمْسُمِائَةٍ لِأَنَّ مَالَ الْمُفْلِسِ بِإِزَاءِ نِصْفِ دُيُونِهِ لَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهِ الدَّرَاهِمَ وَاشْتَرَى لَهُ بِهَا طَعَامًا ، لِأَنَّ قَبْضَهُ لِلدَّرَاهِمِ بَيْعٌ لِلطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ ، فَيُوَلِّي الْحَاكِمُ شِرَاءَ الطَّعَامِ لَهُ بِالْخَمْسِمِائَةِ ، فَرُبَّمَا اشْتَرَى بِسِعْرِ مَا قُوِّمَ فَيَحْصُلَ لَهُ نِصْفُ طَعَامِهِ ، وَرُبَّمَا اشْتَرَى بِأَزْيَدَ مِنَ الْقِيمَةِ لِغَلَاءِ السِّعْرِ فَيَحْصُلَ لَهُ أَقَلُّ مِنَ النِّصْفِ ، وَرُبَّمَا اشْتَرَى بِأَنْقَصَ مِنَ الْقِيمَةِ لِرُخْصِ السِّعْرِ فَيَحْصُلَ لَهُ أَكْثَرُ مِنَ النِّصْفِ فَيُحْسَبُ عَلَيْهِ مِنْ طَعَامِهِ قَدْرُ مَا قَبَضَ بِالشِّرَاءِ مِنْ زِيَادَةٍ وَنَقْصٍ دُونَ مَا قَوَّمَهُ بِهِ حِينَ ضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِقِيمَتِهِ ، وَكَانَ مَا بَقِيَ أَنْ يَبْقَى دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ عَلَى مَا يَسْتَفِيدُهُ مِنَ الْمَالِ فِيمَا بَعْدَهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ أَكْرَى دَارًا ثُمَّ فَلَسَ الْمُكْرِي فَالْكَرَاءُ لِصَاحِبِهِ فَإِذَا تَمَّ سُكْنَاهُ بِيعَتْ لِلْغُرَمَاءِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَكْرَى دَارًا ثُمَّ فَلَسَ الْمُكْرِي فَالْكَرَاءُ لِصَاحِبِهِ ، فَإِذَا تَمَّ سُكْنَاهُ بِيعَتْ لِلْغُرَمَاءِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا أَوْ عَبْدًا ثُمَّ أَفْلَسَ الْمُؤَجِّرُ أَوْ رَبُّ الدَّارِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ فَالْإِجَارَةُ عَلَى حَالِهَا وَالْمُسْتَأْجِرُ أَحَقُّ بِالدَّارِ إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّةِ إِجَارَتِهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ قَدْ أَزَالَ مِلْكَ الْمُؤَاجِرِ عَنِ الْمَنْفَعَةِ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ ، وَحَجْرُ الْمُفْلِسِ إِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِيمَا لَمْ تَزُلْ مِلْكِيَّةُ الْمُفْلِسِ عَنْهُ ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِيمَا زَالَ عَنْهُ ، كَمَا لَوْ بَاعَ شَيْئًا قَبْلَ فَلَسِهِ لَمْ يُؤَثِّرْ حُدُوثُ فَلَسِهِ لِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ حَقَّ الْمُسْتَأْجِرِ قَدْ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ وَحُقُوقَ الْغُرَمَاءِ تَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ ، فَكَانَ تَقَدُّمُ مَا تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ أَوْلَى كَالرَّهْنِ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ أَوْلَى فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْفَسْخِ بِفَلَسِ الْمُؤَاجِرِ : لِأَنَّهُ مُمَكَّنٌ مِنَ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَأَنَّ الدَّارَ مُقَرَّةٌ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ نُظِرَ ، فَإِنْ رَضِيَ الْغُرَمَاءُ بِتَأْخِيرِ بَيْعِ الدَّارِ حَتَّى تَنْقَضِيَ مُدَّةُ إِجَارَتِهَا لِيَتَوَفَّرَ عَلَيْهِمْ ثَمَنُهَا بَعْدَ تَقَضِّي الْإِجَارَةِ فَذَاكَ أَوْلَى ، وَإِنْ سَأَلُوا بَيْعَهَا فِي الْحَالِ لِيُقْسَمَ ثَمَنُهَا فِيهِمْ جَازَ بَيْعُهَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ قَوْلًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ حَائِلٌ يَمْنَعُ مِنَ التَّسْلِيمِ ، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الشَّيْءِ الْمَغْصُوبِ عَلَى الْغَاصِبِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ ، لِأَنْ لَيْسَ دُونَهُ حَائِلٌ يَمْنَعُ مِنْ

رَدِّهِ ، وَكَمَا يَجُوزُ لِمَنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا سَنَةً أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا ثَانِيَةً وَإِنْ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ ذِكْرُنَا ، فَأَمَّا بَيْعُهَا مِنْ غَيْرِ الْمُسْتَأْجِرِ بيع الدار المستأجرة من غير المستأجر فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بَاطِلٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ تَحُولُ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَ الدَّارِ الْمَبِيعَةِ فَكَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا كَالْمَغْصُوبِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَثْنِيًا لِمَنَافِعِ مَا بَاعَهُ وَلَوِ اسْتَثْنَى مَنَافِعَ مَا بَاعَهُ شَهْرًا بِالشَّرْطِ لَمْ يَجُزْ ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ مُسْتَثْنِيًا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَسْلُوبَ الْمَنْفَعَةِ بِالشَّرْطِ أَوْ بِالْعَقْدِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ وَالْإِجَارَةُ بِحَالِهَا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يَتَنَاوَلُ الْمَنْفَعَةَ دُونَ الرَّقَبَةِ ، وَعَقْدَ الْبَيْعِ يَتَنَاوَلُ الرَّقَبَةَ دُونَ الْمَنْفَعَةِ ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ عَقْدُ الْبَيْعِ وَاقِعًا عَلَى رَقَبَةٍ مُسْتَحِقَّةِ الْمَنْفَعَةِ كَالْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ وَالْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا جَازَ بَيْعُ النَّخْلِ إِذَا كَانَتْ عَلَيْهَا ثَمَرَةٌ مُؤَبَّرَةٌ لِلْبَائِعِ وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَحَقَّةَ الْمَنَافِعِ جَازَ بَيْعُ الدَّارِ إِذَا كَانَتْ مُسْتَحَقَّةَ الْمَنْفَعَةِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَكَانَ أَوْلَى لِأَنَّ مُدَّةَ الْإِجَارَةِ مَعْلُومَةٌ ، وَمُدَّةُ بَقَاءِ الثَّمَرَةِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ وُجُودُ الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّةِ الْبَيْعِ فَالْمُشْتَرِي إِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ ، وَعَلَيْهِ إِنْ أَقَامَ تَمْكِينُ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْهَا إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ ، وَإِنْ قُلْنَا بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ رُدَّ الثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَكَانَتِ الدَّارُ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ إِجَارَتِهِ بِيعَتْ فِي حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ ، وَلَوِ انْهَدَمَتِ الدَّارُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لَزِمَتِ الْإِجَارَةُ فِيمَا مَضَى عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ بِقِسْطِهِ ، وَبَطَلَتِ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ ، وَاسْتَرْجَعَ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِهِ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ مَالُ الْمُفْلِسِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ شَارَكَهُمْ فِيهِ وَضَرَبَ مَعَهُمْ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنَ الْأُجْرَةِ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ - أَعْنِي : انْهِدَامَ الدَّارِ - بَعْدَ قِسْمَةِ مَالِهِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقِسْمَةَ مَاضِيَةٌ وَيَكُونُ مَا اسْتَحَقَّهُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ أُجْرَةِ مَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ عَلَى مَا يَسْتَفِيدُهُ مِنْ بَعْدِ الْقِسْمَةِ ، لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ تُنْقَضُ الْقِسْمَةُ لِيَضْرِبَ الْمُسْتَأْجِرُ بِبَاقِي أُجْرَتِهِ مَعَ الْغُرَمَاءِ ، كَمَا تُنْقَضُ الْقِسْمَةُ إِذَا ظَهَرَ لَهُ غَرِيمٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ رُجُوعَهُ بِبَاقِي الْأُجْرَةِ إِنَّمَا هُوَ

مُسْتَحَقٌّ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ عَقْدِ الْإِجَارَةِ فَجَرَى مَجْرَى مَنْ تَقَدَّمَ حَقُّهُ مِنَ الْغُرَمَاءِ ، وَهُوَ أَنَّ الْوَجْهَيْنِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ تَخْرِيجُهُمَا مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَا مَلَكَهُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنَ الْأُجْرَةِ هَلْ يَكُونُ مِلْكًا مُسْتَقِرًّا أَوْ مُرَاعَاةً ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَكْرَاهُ سَنَةً وَلَمْ يَقْبِضِ الْكِرَاءَ ثُمَّ فَلَسَ الْمُكْتَرِي كَانَ لِلْمُكْرِي فَسْخُ الْكِرَاءِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِذَا فَلَسَ مُسْتَأْجِرُ الْأَرْضِ وَكَانَ مُسْتَأْجِرُ الدَّارِ مِثْلَهُ . فَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا سَنَةً ثُمَّ فَلَسَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْأُجْرَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ أُقْبِضَ جَمِيعُهَا فَلَا خِيَارَ لِلْمُؤَاجِرِ لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ ، كَمَا لَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ إِذَا قَبَضَ جَمِيعَ الثَّمَنِ ، وَالْوَاجِبُ أَنْ يُؤَاجِرَ الدَّارَ مَا بَقِيَ مِنْ مُدَّةِ إِجَارَتِهَا فَتَكُونَ الْأُجْرَةُ مَوْقُوفَةً لِتَمْضِيَ الْمُدَّةُ سَلِيمَةً خَوْفًا مِنَ اسْتِحْقَاقِ اسْتِرْجَاعِهَا بِانْهِدَامِ الدَّارِ قَبِلَ تَقَضِّي إِجَارَتِهَا ، فَإِذَا مَضَتِ الْمُدَّةُ سَلِيمَةً قُسِّمَتِ الْأُجْرَةُ حِينَئِذٍ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ بِكَمَالِهَا بَاقِيَةً عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ، فَلِلْمُؤَاجَرِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ وَاسْتِرْجَاعِ الدَّارِ الْمُؤَاجَرَةِ بِجَمِيعِ الْأُجْرَةِ أَوِ الْمَقَامِ عَلَيْهَا وَمُسَاهَمَةِ الْغُرَمَاءِ بِأُجْرَتِهَا ، فَإِنْ أَقَامَ عَلَى الْإِجَارَةِ وَجَبَ إِجَارَةُ الدَّارِ مَا يَبْقَى مِنْ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ وَقَسَّمَ أَجْرَتَهَا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ بَيْنَ جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ وَيَكُونُ الْمُؤَاجَرُ أُسْوَتَهُمْ ، فَإِنْ قِيلَ : هَلَّا اخْتَصَّ الْمُؤَاجَرُ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْأُجْرَةِ لِأَنَّهَا عَيْنُ مَالِهِ ؟ قِيلَ : لَيْسَتِ الْأُجْرَةُ عَيْنَ مَالِهِ ، وَإِنَّمَا الْمَنْفَعَةُ عَيْنُ مَالِهِ وَالْأُجْرَةُ بَدَلٌ مِنْهَا ، فَصَارَ بِمَثَابَةِ بَائِعِ السِّلْعَةِ إِذَا اخْتَارَ إِمْضَاءَ الْبَيْعِ ، فَإِذَا بِيعَتِ السِّلْعَةُ لَمْ يَخْتَصَّ الْبَائِعُ بِثَمَنِهَا بَلْ كَانَ فِيهِ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ : لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ عَيْنِ مَالِهِ كَذَلِكَ الْأُجْرَةُ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَأْجِرُ قَدْ أَقْبَضَ بَعْضَ الْأُجْرَةِ وَبَقِيَ بَعْضُهَا ، فَلَا فَسْخَ لِلْمُؤَاجَرِ فِيمَا قَبَضَ أُجْرَتَهُ مِنَ الْمُدَّةِ وَعَلَيْهِ الْمَقَامُ إِلَى انْقِضَائِهَا وَلَهُ الْفَسْخُ فِيمَا لَمْ يَقْبِضْ أُجْرَتَهُ مِنَ الْمُدَّةِ ، فَإِنِ اخْتَارَ الْفَسْخَ اسْتَرْجَعَ الدَّارَ بَعْدَ انْقِضَاءِ مَا قَابَلَ الْمَقْبُوضَ مِنَ الْمُدَّةِ بِمَا بَقِيَ مِنَ الْأُجْرَةِ ، فَإِنِ اخْتَارَ الْإِمْضَاءَ أَقَامَ عَلَى الْإِجَارَةِ إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّتِهَا وَضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِبَاقِي الْأُجْرَةِ ، وَوَجَبَ إِجَارَةُ الدَّارِ بِمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ لِتُقَسَّمَ الْأُجْرَةُ بَيْنَ غُرَمَاءَ الْمُفْلِسِ عِنْدَ انْقِضَاءِ تِلْكَ الْمُدَّةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَسَّمَ الْحَاكِمُ مَالَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ ثَمَّ قَدِمَ آخَرُونَ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْحِصَصِ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ لَا يُعَجِّلَ بِقَسْمِ مَالِ الْمُفْلِسِ إِلَّا بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْ جَمِيعِ غُرَمَائِهِ ، وَيُشْهِرُ فِي النَّاسِ أَمْرَهُ لِيَعْلَمَ بِهِ الْغَائِبُ ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا قَدْ كَانَ لَهُ غَرِيمٌ غَائِبٌ لَا يُعْلَمُ بِحَالِهِ فِي الْغَيْبَةِ ، فَإِذَا تَوَقَّفَ وَبَحَثَ وَلَمْ يَعْلَمْ لَهُ غَرِيمًا غَيْرَ مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ قَسَّمَ حِينَئِذٍ مَالَهُ بَيْنَهُمْ ، وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُكَلِّفَ الْغُرَمَاءَ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ أَنْ لَا غَرِيمَ لَهُ سِوَاهُمْ . فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ الْحَاكِمُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَسِّمَ تَرِكَةَ الْمَيِّتِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ إِلَّا أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ أَنْ لَا وَارِثَ لَهُ سِوَاهُمْ فَهَلَّا كَانَ الْغُرَمَاءُ كَذَلِكَ ؟ قُلْنَا : الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَارِثِ وَالْغَرِيمِ أَنَّ الْوَارِثَ لَا يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ التَّرِكَةِ إِلَّا أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ سِوَاهُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِجَمِيعِ الْمَالِ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ بِاسْتِحْقَاقِهِ لِجَمِيعِهِ ، وَالْغَرِيمُ مُسْتَحِقٌّ لِجَمِيعِ دَيْنِهِ إِلَّا أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ بِأَنَّ لَهُ غَرِيمًا سِوَاهُ ، فَلَمَّا لَمْ تَقُمِ الْبَيِّنَةُ جَازَ الْحُكْمُ لَهُ بِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُصْرَفَ بِالشَّكِّ عَنْ حَقِّهِ ، يُوَضِّحُ مَعْنَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ لَوْ عَفَا عَنْ حَقِّهِ مِنَ التَّرِكَةِ لَمْ يُرَدَّ ذَلِكَ عَلَى مَنْ سِوَاهُ مِنَ الْوَرَثَةِ ، لِأَنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا حُقُوقَهُمْ ، وَلَوْ عَفَا أَحَدُ الْغُرَمَاءِ عَنْ حَقِّهِ رُدَّ ذَلِكَ عَلَى مَنْ سِوَاهُ مِنْ غُرَمَائِهِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا قَدِ اسْتَوْفَوْا بِتِلْكَ الْقِسْمَةِ حُقُوقَهُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا قَسَّمَ الْحَاكِمُ مَالَ الْمُفْلِسِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ عِنْدَ ظُهُورِ أَمْرِهِ وَاجْتِمَاعِ مَالِهِ ثُمَّ حْضَرَ لَهُ غَرِيمٌ آخَرُ قَامَتْ لَهُ الْبَيِّنَةُ بِدَيْنِهِ وَجَبَ أَنْ يُشَارِكَهُمْ فِيمَا أَخَذُوهُ ، وَقَالَ مَالِكٌ : لَا حَقَّ لَهُ فِيمَا مَضَى بِالْقِسْمَةِ وَيَكُونُ حَقُّهُ بَاقِيًا فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ عَلَى مَا يَحْدُثُ لَهُ مِنْ مَالٍ ، قَالَ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْحَاكِمِ مَالَ الْمُفْلِسِ حُكْمٌ مِنْهُ نَفَذَ عَنِ اجْتِهَادٍ فَلَمْ يَجُزْ نَقْضُهُ بِاجْتِهَادٍ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ أَنَّ حَجْرَ الْمُفْلِسِ إِنَّمَا وَقَعَ لِجَمِيعِ غُرَمَائِهِ وَقَسَمَ بِاللَّهِ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِقَدْرِ دُيُونِهِ كَمَا أَنَّ مَالَ الْمَيِّتِ مُنْتَقِلٌ إِلَى جَمِيعِ وَرَثَتِهِ وَمَقْسُومٌ بِقَدْرِ فَرَائِضِهِمْ مِنْ تَرِكَتِهُ فَلَوْ كَانَ قَسْمُ الْحَاكِمِ مَالَ الْمَيِّتِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ ثُمَّ حَضَرَ وَارِثٌ كَانَ غَائِبًا نَقَضَ الْقِسْمَةَ وَاسْتَأْنَفَهَا بَيْنَ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ وَجَبَ إِذَا قَسَّمَ مَالَ الْمُفْلِسِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ ثُمَّ حَضَرَ غَرِيمٌ كَانَ غَائِبًا أَنْ يَنْقُضَ الْقِسْمَةَ وَيَسْتَأْنِفَهَا بَيْنَ جَمِيعِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَالَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْحَاكِمِ إِذَا أَمْضَى الْحُكْمَ بِاجْتِهَادٍ خَالَفَ فِيهِ نَصًّا كَانَ حُكْمُهُ بِالِاجْتِهَادِ مَنْقُوضًا ، وَلِأَنَّ الْغُرَمَاءَ قَدِ اسْتَحَقُّوا دُيُونَهُمْ مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ إِذَا كَانَ حَيًّا كَمَا اسْتَحَقُّوا دُيُونَهُمْ مِنْ تَرِكَتِهِ إِذَا كَانَ مَيِّتًا ، فَلَمَّا كَانَ لَوْ قَسَّمَ تَرِكَةَ الْمُفْلِسِ بَعْدَ مَوْتِهِ بَيْنَ مَنْ عَلِمَ مِنْ غُرَمَائِهِ ثُمَّ حَضَرَ قِسْمٌ كَانَ غَائِبًا نَقَضَ تِلْكَ الْقِسْمَةَ وَشَارَكَهُمُ الْغَائِبُ بِقَدْرِ دَيْنِهِ وَجَبَ إِذَا قَسَّمَ مَالَ الْحَيِّ ثُمَّ حَضَرَ غَائِبٌ أَنْ يُشَارِكَهُمْ فَلَا يَسْقُطُ بِالْقِسْمَةِ حَقُّهُ مَعَهُمْ ، وَلِأَنَّ الْغُرَمَاءَ شُرَكَاءُ فِي مَالِ الْمُفْلِسِ كَالشُّرَكَاءِ فِي الرَّهْنِ ، ثُمَّ كَانَ الرَّهْنُ لَوْ قَسَّمَ ثَمَنَهُ مَنْ يَسْتَحِقُّهُ مِنْ مُرْتَهِنِهِ فَمَنْ حَضَرَ لَمْ يَسْقُطْ مِنْهُ حَقُّ مَنْ غَابَ وَشَارَكَهُمْ فِيهِ إِذَا حَضَرَ ، فَكَذَلِكَ الْغُرَمَاءُ إِذَا اقْتَسَمُوا مَالَ الْمُفْلِسِ ثُمَّ حَضَرَ غَائِبٌ وَجَبَ أَنْ يُشَارِكَهُمْ فِيهِ ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُ مَالِكٍ بِأَنَّهُ حُكْمٌ مِنَ الْحَاكِمِ نَفَذَ بِاجْتِهَادٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْقَضَ بِاجْتِهَادٍ ، فَهُوَ أَنَّنَا نَقَضْنَاهُ بِنَصٍّ ، لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْغَائِبِ بِحُضُورِهِ

كَالنَّصِّ ، وَالِاجْتِهَادُ مَنْقُوضٌ بِالنَّصِّ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْغَرِيمَ الْغَائِبَ يُشَارِكُ الْحَاضِرِينَ فِيمَا أَخَذُوهُ فَفِي كَيْفِيَّةِ رُجُوعِهِ عَلَيْهِمْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقِسْمَةَ الْأُولَى تُنْقَضُ ثُمَّ يَسْتَأْنِفُهَا الْحَاكِمُ بَعْدَ دُخُولِ الْغَائِبِ فِيهِمْ ، لِأَنَّ الْقِسْمَةَ الْأُولَى لَمَّا تَقَدَّمَتْ قَبْلَ وَقْتِهَا بَطَلَتْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ مَنْصُوصِهِ أَنَّ الْقِسْمَةَ الْأُولَى مُقَرَّةٌ عَلَى حَالِهَا ، وَيَرْجِعُ هَذَا الْغَائِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقِسْطِ دَيْنِهِ ، وَلَا تَبْطُلُ الْقِسْمَةُ فِيمَا سِوَاهُ ، مِثَالُهُ : أَنْ تَكُونَ دُيُونُ الْغُرَمَاءِ الْحَاضِرِينَ خَمْسَةَ آلَافٍ وَدَيْنُ هَذَا الْغَائِبِ أَلْفًا فَتَصِيرَ جَمِيعُ الدُّيُونِ سِتَّةَ آلَافٍ ، فَيَكُونَ لِهَذَا الْغَائِبِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَاضِرِينَ بِسُدْسِ مَا فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ بِقِسْطِ دَيْنِهِ ، وَيَبْقَى فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ مَا قَبَضَهُ مِلْكًا لَهُ بِالْقِسْمَةِ الْأُولَى ، فَإِنَّمَا لَمْ تَبْطُلْ جَمِيعُ الْقِسْمَةِ لِأَنَّ مَا سِوَى حَقِّ الْغَائِبِ مَوْضُوعٌ فِي حَقِّهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِفَسْخِ الْقِسْمَةِ وَاسْتِئْنَافِهَا مِنْ بَعْدُ وَجْهٌ .

فَصْلٌ : إِذَا قَسَّمَ الْحَاكِمُ مَالَ الْمُفْلِسِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ ثُمَّ وَجَدَ لَهُ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ مَالًا كَانَ أَخْفَاهُ ، فَجَمِيعُ تَصَرُّفِهِ فِيهِ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ ، لِأَنَّ الْحَجْرَ لَمْ يَنْفَكْ عَنْ هَذَا الْمَالِ ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْحَاكِمُ قَسْمَهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ دُيُونِهِمْ ، وَلَا يَتَعَرَّضُ لِنَقْضِ الْقِسْمَةِ الْأُولَى لَا يَخْتَلِفُ ، فَلَوْ ظَهَرَ لِلْمُفْلِسِ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ مَالٌ مُتَقَدِّمٌ وَاسْتَفَادَ مَالًا حَادِثًا وَظَهَرَ لَهُ غَرِيمٌ غَائِبٌ وَحَدَثَ لَهُ غَرِيمٌ مُسْتَحْدَثٌ فَالْمَالُ الْمُتَقَدِّمُ لَا حَقَّ فِيهِ لِمَنْ حَدَثَ مِنَ الْغُرَمَاءِ ، وَيَكُونُ بَيْنَ الْأَوَّلِينَ وَالْغَائِبِ ، فَإِنْ كَانَ بِقِسْطِ دَيْنِ الْغَائِبِ فَإِذَا قِيلَ إِنَّ الْقِسْمَةَ الْأُولَى قَبْلَ حُضُورِ الْغَائِبِ تَكُونُ بَاطِلَةً ضَمَّ الْحَاكِمُ مَا وَجَدَ مِنَ الْمَالِ الَّذِي كَانَ مُتَقَدِّمًا إِلَى مَا بِأَيْدِي الْغُرَمَاءِ بِالْقِسْمَةِ ثُمَّ اسْتَأْنَفَهَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْغَائِبِ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْقِسْمَةَ الْأُولَى لَا تَبْطُلُ دَفَعَ هَذَا الْمَوْجُودَ إِلَى الْغَرِيمِ الْغَائِبِ ، فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ قِسْطِ دَيْنِهِ مِنْهُ أُقِرَّتِ الْقِسْمَةُ الْأُولَى عَلَى حَالِهَا ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ دَفَعَ إِلَيْهِ قِسْطَهُ مِنْهُ وَرَدَّ فَاضِلَهُ عَلَى الْأَوَّلِينَ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ أَخَذَهُ كُلَّهُ ثُمَّ اسْتَرَدَّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنْ قِسْطِ دَيْنَهُ ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْحَاكِمُ قِسْمَةَ الْمَالِ الَّذِي اسْتُحْدِثَ مِلْكُهُ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ بَيْنَ جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُسْتَحْدَثِينَ ، ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ ) .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا أَرَادَ الْحَاكِمُ بَيْعَ مَتَاعِهِ أَوْ رَهْنَهُ متاع المفلس أَحْضَرَهُ أَوْ وَكِيلَهُ لِيُحْصِيَ ثَمَنَ ذَلِكَ فَيَدْفَعَ مِنْهُ حَقَّ الرَّهْنِ مِنْ سَاعَتِهِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَإِنَّمَا يَخْتَارُ الْحَاكِمُ إِحْضَارَ الْمُفْلِسِ بَيْعَ مَتَاعِهِ لِمَعَانٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ أَعْرَفُ بِأَثْمَانِهَا " فَلَا يَلْحَقُهُ غَبْنٌ .

وَالثَّانِي : لِتَوَلِّي الْعَقْدَ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ إِجْبَارٍ فَيَكُونَ الْمُشْتَرِي فِيهِ أَرْغَبَ وَنَفْسُ الْبَائِعِ بِهِ أَطْيَبَ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَعْلَمَ قَدْرَ مَا حَصَلَ مِنْ أَثْمَانِهَا وَمَا يَبْقَى مِنْ دَيْنِهِ بَعْدَهَا ، فَإِنْ تَعَذَّرَ حُضُورُ الْمُفْلِسِ أَحْضَرَ الْحَاكِمُ وَكِيلَهُ لِيَقُومَ فِي الْخُصُومَةِ مَقَامَهُ حَتَّى تَنْتَفِيَ التُّهْمَةُ عَنِ الْحَاكِمِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَكِيلٌ وَكَّلَ لَهُ الْحَاكِمُ وَكِيلًا يَنُوبُ عَنْهُ ، قَالَ أَصْحَابُنَا : وَيَخْتَارُ الْحَاكِمُ إِحْضَارَ الْغُرَمَاءِ أَيْضًا عِنْدَ الْبَيْعِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ رُبَّمَا رَغِبَ بَعْضُهُمْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَبِيعِ فَأَخَذَهُ بِثَمَنٍ مَوْفُورٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَعْلَمُوا قَدْرَ الْأَثْمَانِ الْحَاصِلَةِ لَهُمْ وَمَا يَخُصُّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، فَإِنْ أَمَرَ الْحَاكِمُ بِبَيْعِ الْمَتَاعِ مِنْ غَيْرِ حُضُورِ الْمُفْلِسِ وَغُرَمَائِهِ صَحَّ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ حُضُورَهُمُ اسْتِحْبَابٌ فَلَمْ يَفْسُدْ بِغَيْبَتِهِمُ الْعَقْدُ كَاسْتِئْذَانِ الْأَبِ الْبِكْرَ .

فَصْلٌ : ثُمَّ إِنَّ أَوَّلَ مَا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَبْتَدِئَ بِبَيْعِهِ مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ الرَّهْنُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَعَلُّقُ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِعَيْنِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَعْلَمَ مَا فَضَلَ مِنْهُ فَيُرَدَّ عَلَى غُرَمَائِهِ ، وَكَذَا الْعَبْدُ الْجَانِي يُقَدَّمُ بَيْعُهُ كَالرَّهْنِ لِمَا ذَكَرْنَا ، فَإِذَا بِيعَ الرَّهْنُ فَإِنْ كَانَ ثَمَنُهُ بِقَدْرِ دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ أَخَذَهُ بِدَيْنِهِ ، وَإِنْ كَانَ ثَمَنُهُ أَكْثَرَ مِنْ دَيْنِهِ أُخِذَ مِنْهُ قَدْرُ دَيْنِهِ وَيَرُدُّ بَاقِيَهُ عَلَى الْغُرَمَاءِ ، وَإِنْ كَانَ ثَمَنُهُ أَقَلَّ مِنْ دَيْنِهِ أَخَذَهُ كُلَّهُ وَضَرَبَ بِبَاقِي دَيْنِهِ مَعَ الْغُرَمَاءِ ، فَأَمَّا الْعَبْدُ الْجَانِي فَإِنْ فَضَلَ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْءٌ رُدَّ عَلَى الْغُرَمَاءِ وَإِنْ عَجَزَ فَلَا شَيْءَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ سَوَاءٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لِغُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ ارْتَضُوا بِمَنْ يَكُونُ عَلَى يَدَيْهِ الثَّمَنُ وَبِمَنْ يُنَادِي عَلَى مَتَاعِهِ فِيمَنْ يُزِيدُ ، وَلَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ إِلَّا مِنْ ثِقَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الرَّهْنُ وَالْعَبْدُ الْجَانِي إِذَا بِيعَا عَلَى الْمُفْلِسِ لَمْ يَجُزْ حَبْسُ ثَمَنِهِمَا ، وَعُجِّلَ لِلْمُرْتَهِنِ حَقُّهُ مِنْ ثَمَنِ الرَّهْنِ وَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَرْشُهُ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ الْجَانِي ، وَأَمَّا سَائِرُ أَمْوَالِ الْمُفْلِسِ إِذَا بِيعَتْ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ غَرِيمُهُ وَاحِدٌ أَوْ جَمَاعَةٌ ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا لَمْ يَحْبِسْ عَنْهُ ثَمَنَ مَا بِيعَ : لِأَنَّهُ لَا مُشَارَكَةَ لَهُ فِيهِ ، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً وَجَبَ أَنْ يَحْبِسَ أَثْمَانَ الْمَبِيعَاتِ حَتَّى تَتَكَامَلَ جَمِيعُهَا وَلَا يُعَجِّلُ بِقَسْمِ مَا حَصَلَ مِنْ أَثْمَانِ بَعْضِهَا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْلَمَ قَدْرَ جَمِيعِهَا عَلَى دَيْنِهِ وَقَبْلَ تَكَامُلِهَا يَثِقُ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ رُبَّمَا تَأَخَّرَ غَرِيمٌ لَهُ لَا يُعْلَمُ بِهِ فَيَحْضُرُ عِنْدَ عِلْمِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَضَعَهَا عَلَى يَدِ عَدْلٍ وَلَا يَضَعَهَا عِنْدَ نَفْسِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْبِذْلَةِ وَلُحُوقِ التُّهْمَةِ

وَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَبِيعَ مَتَاعَهُ فِيمَنْ يُزِيدُ ، فَإِنْ كَانَ أَشْهَرَ لِحَالِهِ وَأَقَرَّ لِثَمَنِهِ وَأَبْعَدَ مِنَ التُّهْمَةِ فَيَحْتَاجُ حِينَئِذٍ إِلَى مُنَادٍ ثِقَةٍ يُنَادِي عَلَى الْمَتَاعِ فِيمَنْ يُزِيدُ وَإِلَى عَدْلٍ يَجْمَعُ الْمَالَ عِنْدَهُ إِلَى حِينِ تَكَامُلِهِ ، فَيَقُولُ لِلْمُفْلِسِ وَالْغُرَمَاءِ : اخْتَارُوا مُنَادِيًا يُنَادِي عَلَى مَتَاعِهِ وَعَدْلًا يَكُونُ الْمَالُ مَوْضُوعًا عَلَى يَدَيْهِ ، فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى اخْتِيَارِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ نَظَرَ الْحَاكِمُ فِي عَدَالَتِهِ وَأَمَانَتِهِ ، فَإِنْ كَانَ أَمِينًا أَمْضَى اخْتِيَارَهُمْ لَهُ وَأَقَرَّ ذَلِكَ عَلَى يَدَيْهِ . وَإِنْ كَانَ غَيْرَ أَمِينٍ لَمْ يُمْضِ اخْتِيَارَهُمْ وَأَمَرَهُمْ بِاخْتِيَارِ غَيْرِهِ مِنَ الْأُمَنَاءِ الثِّقَاتِ . فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ لَوِ اخْتَارَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ أَنْ يَضَعَ الرَّهْنَ عَلَى يَدِ غَيْرِ أَمِينٍ لَمْ يَكُنْ لِلْحَاكِمِ عَلَيْهِمُ اعْتِرَاضٌ ، فَهَلَّا إِذَا اخْتَارَ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ وَضْعَ الْمَالِ عَلَى يَدِ غَيْرِ أَمِينٍ أَنْ لَا يَكُونُ لِلْحَاكِمِ عَلَيْهِمُ اعْتِرَاضٌ ؟ قُلْنَا : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْحَاكِمِ نَظَرٌ فِي الرَّهْنِ عَلَى الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ اعْتِرَاضٌ عَلَيْهِمْ فِي الِاخْتِيَارِ ، وَلَمَّا كَانَ لِلْحَاكِمِ نَظَرٌ فِي مَالِ الْمُفْلِسِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي الِاخْتِيَارِ . وَالثَّانِي : أَنْ حَقَّ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ لَا يَتَجَاوَزُهُمَا فَلَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِمَا فِي الِاخْتِيَارِ ، وَحَقُّ الْمُفْلِسِ وَالْغُرَمَاءِ قَدْ رُبَّمَا تَجَاوَزَهُمْ إِلَى غَرِيمٍ غَائِبٍ فَجَازَ لَحِقُهُ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِمْ فِي الِاخْتِيَارِ ، وَأَمَّا إِنِ اخْتَلَفَ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ فِي الِاخْتِيَارِ فَاخْتَارَ الْمُفْلِسُ رَجُلًا وَاخْتَارَ الْغُرَمَاءُ غَيْرَهُ فَإِنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَنْظُرَ فِي الرَّجُلَيْنِ ، فَإِنْ وَجَدَ أَحَدَهُمَا أَمِينًا عَدْلًا وَالْآخَرَ غَيْرَ أَمِينٍ كَانَ الْأَمِينُ أَوْلَى وَأَقَرَّهُ الْحَاكِمُ عَلَى الِاخْتِيَارِ ، فَإِنْ كَانَا أَمِينَيْنِ مَعًا نَظَرَ ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُتَطَوِّعًا وَالْآخَرُ مُسْتَجْعِلًا كَانَ الْمُتَطَوِّعُ أَوْلَى ، وَإِنْ كَانَا مُتَطَوِّعَيْنِ أَوْ مُسْتَجْعِلَيْنِ فَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَضُمَّ أَحَدَهُمَا إِلَى الْآخَرِ فَعَلَ فَإِنَّهُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَاطِ وَإِقْرَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِاخْتِيَارِ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ضَمُّ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ اخْتَارَ الْحَاكِمُ أَوْثَقَهُمَا عِنْدَهُ وَأَعْدَلَهُمَا فِي نَفْسِهِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا ثِقَةً ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا مِنْ ثِقَةٍ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْكَلَامَيْنِ تَأْوِيلٌ ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ : وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا ثِقَةً : يُرِيدُ : أَنَّ الْمُفْلِسَ وَالْغُرَمَاءَ إِذَا اتَّفَقُوا عَلَى اخْتِيَارِ رَجُلٍ لَمْ يَقْبَلِ الْحَاكِمُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ثِقَةً . وَمَعْنَى قَوْلِهِ : وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا مِنْ ثِقَةٍ : يَعْنِي بِهِ الْمُتَوَلِّي لِبَيْعِ الْمَتَاعِ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ مِمَّنْ يُزِيدُ فِي الثَّمَنِ عِنْدَ الْمُزَايَدَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ثِقَةً لَا يَرْجِعُ عَنْ زِيَادَتِهِ لِمَا فِي رُجُوعِهِ مِنَ الْفَسَادِ ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ ) .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأُحِبُّ أَنْ يُرْزَقَ مَنْ وَلِيَ هَذَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَمْ يَعْمَلْ إِلَّا بِجُعْلٍ شَارَكُوهُ ، فَإِنْ لَمْ يَتَّفِقُوا اجْتَهَدَ لَهُمْ وَلَمْ يُعْطَ شَيْئًا وَهُوَ يَجِدُ ثِقَةً يَعْمَلُ بِغَيْرِ جُعْلٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ مَتَى وَجَدَ الْحَاكِمُ مَنْ يَتَطَوَّعُ بِبَيْعِ الْمَتَاعِ وَحِفْظِ الثَّمَنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَ أَحَدًا جُعْلًا عَلَيْهِ لَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، لِأَنَّ مَا فِيهِ مَصْرُوفٌ فِي

الْمَصَالِحِ ، وَلَا مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ لِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْغُرَمَاءِ إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ ، وَإِنْ لَمْ يُجْدِ الْحَاكِمُ مُتَطَوِّعًا جَازَ أَنْ يُعْطِيَهُ جُعْلًا ، فَإِنْ رَأَى مِنَ الْأَصْلَحِ أَنْ يُشَارِطَهُ عَلَيْهِ فَعَلَ ، وَإِنْ رَأَى أَنْ لَا يُشَارِطَهُ لِيُعْطِيَهُ أُجْرَةَ مِثْلِهِ فَعَلَ وَكَانَتِ الْأُجْرَةُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إِنْ كَانَ فِيهِ مَالٌ لِمَا فِي ذَلِكَ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ ، وَيَكُونُ مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُرْصَدِ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ ، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : وَلَا يَجُوزُ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَمْوَالِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ ، أَوْ كَانَ فَلَمْ يَسْمَحْ بِهِ الْإِمَامُ إِمَّا لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ دَفَعَ الْحَاكِمُ الْأُجْرَةَ مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ دُونَ الْغُرَمَاءِ ، لِأَنَّ الْعَمَلَ فِي مَالِهِ ، كَمَا يَدْفَعُ أُجْرَةَ الْوَالِي عَلَى مَالِ الْيَتِيمِ مِنْ مَالِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَيُبَاعُ فِي مَوْضِعِ سُوقِهِ وَمَا فِيهِ صَلَاحُ ثَمَنِ الْمَبِيعِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَبِيعَ كُلَّ نَوْعٍ مِنَ الْمَتَاعِ للمفلس فِي سُوقِهِ ، فَيَبِيعُ الْبَزَّ فِي الْبَزَّازِينَ ، وَيَبِيعُ الْعِطْرَ فِي الْعَطَّارِينَ ، وَيَبِيعُ الرَّقِيقَ فِي النَّخَّاسِينَ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ سُوقِهِ فِيهِ أَرْغَبُ ، وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ هُنَاكَ أَكْثَرُ ، وَلِأَنَّهُ مِنَ التُّهْمَةِ أَبْعَدُ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَتَاعُ كَثِيرًا يَلْزَمُ فِي نَقْلِهِ مَئُونَةً متاع المفلس فَيَرَى الْحَاكِمُ مِنَ الْأَصْلَحِ أَنَّهُ لَا يَحْمِلُهُ إِلَى سُوقِهِ وَيَسْتَدْعِي أَهْلَ السُّوقِ إِلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْحَالِ الْمُشَاهَدَةِ وَالصَّلَاحِ الظَّاهِرِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَدْفَعُ إِلَى مَنِ اشْتَرَى شَيْئًا حَتَى يَقْبِضَ الثَّمَنَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّ مَنْ بَاعَ سِلْعَةً لَمْ يَلْزَمْهُ تَسْلِيمُهَا إِلَى الْمُشْتَرِي مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ بَذْلُ الثَّمَنِ ، فَإِنْ بَذَلَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ وَقَالَ : لَا أَدْفَعُ حَتَّى أَقْبِضَ الْمَبِيعَ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْحَاكِمَ يَأْمُرُهُمَا بِإِحْضَارِ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ إِلَى مَجْلِسِهِ لِيَدْفَعَ كُلَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بَعْدَ حُصُولِهِمْ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْحَاكِمَ يَنْصِبُ لَهُمَا عَدْلًا يَفْعَلُ ذَلِكَ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْحَاكِمَ يَدَعُهُمَا وَلَا يُخَيَّرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لَكِنْ يَمْنَعُهُمَا مِنَ الْمُخَاصَمَةِ . وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ يُخَيِّرُ الْبَائِعَ أَوَّلًا ثُمَّ الْمُشْتَرِي بَعْدَهُ - فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْجَوَابُ فِي مَتَاعِ الْمُفْلِسِ إِذَا بِيعَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَظْهَرْ مِنَ الْمُشْتَرِي بَذْلٌ لَمْ يَجُزْ لِلْعَدْلِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إِلَيْهِ

وَإِنْ ظَهَرَ مِنَ الْمُشْتَرِي بَذْلُ الثَّمَنِ وَقَالَ : لَا أَدْفَعُهُ حَتَّى أَقْبِضَ الثَّمَنَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، فَكَانَ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنْهُمْ يُخْرِجُونَ ذَلِكَ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كَالْمَبِيعِ إِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ مُفْلِسٍ لَكِنْ لَا يَجِيءُ هَاهُنَا إِلَّا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَأْمُرُهُمَا بِإِحْضَارِ ذَلِكَ إِلَى مَجْلِسِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَنْصِبَ لَهُمَا عَدْلًا غَيْرَ الْعَدْلِ الَّذِي يَتَوَلَّى مَالَ الْمُفْلِسِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ يُجْبِرُ بَائِعَ مَالِ الْمُفْلِسِ عَلَى التَّسْلِيمِ ثُمَّ الْمُشْتَرِي عَلَى الدَّفْعِ لِلثَّمَنِ . فَأَمَّا الْقَوْلُ الرَّابِعُ : أَنَّ الْحَاكِمَ يَدَعُهُمَا مَعًا فَلَا يَجِيءُ هَاهُنَا ، قَالُوا : وَمَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ إِلَى مَنِ اشْتَرَى شَيْئًا حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ ، يَعْنِي : حَتَّى يَظْهَرَ لَهُ بَذْلُ الثَّمَنِ . قَالُوا : لِأَنَّ الْحَاكِمَ وَإِنْ لَزِمَهُ الِاحْتِيَاطُ لِلْمُفْلِسِ فَلَيْسَ لَهُ إِجْبَارُ الْمُشْتَرِي عَلَى مَا لَا يَجُوزُ إِجْبَارُهُ عَلَيْهِ ، وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ مِنْهُمْ : بَلْ لَا يَجُوزُ لِبَائِعِ مَالِ الْمُفْلِسِ أَنْ يَدْفَعَ الْمَبِيعَ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ مَنْ لَيْسَ بِمُفْلِسٍ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَالَ الْمُفْلِسِ يَلْزَمُهُ فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَاطِ مَا لَا يَلْزَمُ فِي غَيْرِهِ ، وَالْمُشْتَرِي مَالُهُ دَاخِلٌ عَلَى بَصِيرَةٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ بَيْعَ مَالِ الْمُفْلِسِ بِحُكْمِهِ ، فَالْمُشْتَرِي يَأْمَنُ فِي تَعْجِيلِ الثَّمَنِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بِهِ مَا لَا يَأْمَنُ فِي غَيْرِهِ ، فَكَانَ مَا يَتَخَوَّفُهُ مَعَ غَيْرِ الْمُفْلِسِ مَأْمُونًا فِي ابْتِيَاعِ مَالِ الْمُفْلِسِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَا ضَاعَ مِنَ الثَّمَنِ فَمِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا وَضَعَ ثَمَنَ الْمَبِيعِ عَلَى يَدِ عَدْلٍ فَضَاعَ مِنْ يَدِهِ كَانَ مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ دُونَ غُرَمَائِهِ لِأَنَّهُ مَالِكُ الْمُبْدَلِ فَهَلَاكُ بَدَلِهِ مِنْ مَالِهِ كَالْوَكِيلِ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ بِمَا يُغْنِي عَنِ الْإِعَادَةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَبْدَأُ فِي الْبَيْعِ بِالْحَيَوَانِ وَيَتَأَنَّى بِالْمَسَاكِنِ بِقَدْرِ مَا يَرَى أَهْلُ الْبَصَرِ بِهَا أَنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ أَثْمَانَهَا " ، وَهَذَا صَحِيحٌ . يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِبَيْعِهِ مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ مَا كَانَ تَرْكُهُ أَخْوَفَ ، فَأَوَّلُ مَا يُقَدِّمُ بَيْعَهُ الْحَيَوَانُ ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا نَفْسٌ يُخَافُ تَلَفُهَا . وَالثَّانِي : مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَئُونَةِ عَلَفٍ فِيهَا ، وَكَذَلِكَ كَرِهَ أَهْلُ الِاحْتِيَاطِ اقْتِنَاءَ الْحَيَوَانِ وَقَالُوا : مَئُونَةُ ضِرْسٍ وَضَمَانُ نَفْسٍ . فَلِهَذَيْنِ أَوَّلُ مَا قُدِّمَ بِيعُ الْحَيَوَانِ فِي مَالِ الْمُفْلِسِ ، إِلَّا أَنْ

يَكُونَ فِي مَالِهِ طَعَامٌ رَطْبٌ فَيُقَدِّمُ بَيْعَهُ عَلَى بَيْعِ الْحَيَوَانِ لِمَا يُعَجَّلُ إِلَيْهِ مِنَ الْفَسَادِ ، ثُمَّ يَبِيعُ الْحَيَوَانَ بَعْدَهُ ، ثُمَّ يَبِيعُ بَعْدَ الْحَيَوَانِ مَا كَانَ مَنْقُولًا مِنَ الْعُرُوضِ وَالْأَمْتِعَةِ وَيُقَدِّمُهَا عَلَى مَا لَا يُنْقَلُ مِنَ الدُّورِ وَالْعَقَارِ ، لِأَنَّ الْمَنْقُولَ مُعَرَّضٌ لِلسَّرِقَةِ ، وَيَبْدَأُ فِي بَيْعِ الْمَنْقُولِ بِمَا يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ كَالثِّيَابِ ، وَيُقَدِّمُهَا فِي الْبَيْعِ عَلَى النُّحَاسِ وَالصُّفْرِ ، ثُمَّ يَتَأَنَّى فِي بَيْعِ الْعَقَارِ وَالْأَرْضِينَ حَتَّى يَظْهَرَ أَمْرُهَا وَيَتَأَهَّبَ الْمُشْتَرِي لَهَا ، وَيُقَدِّمُ بَيْعَ الْعَقَارِ عَلَى بَيْعِ الْأَرْضِينَ ، وَلِأَنَّ الْعَقَارَ قَدْ يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْ هَدْمٍ أَوْ حَرِيقٍ ، وَلَا يُبَاعُ الْعَقَارُ وَالْمَسَاكِنُ وَالْأَرْضُونَ بيع العقار والمساكن والأراضي من مال المفلس إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ أَثْمَانَهَا ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَمْوَالِهِ الْمَبِيعَةِ عَلَيْهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ وَجَدَ الْإِمَامُ ثِقَةً يُسْلِفُهُ الْمَالَ حَالًّا لَمْ يَجْعَلْهُ أَمَانَةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّ مَالَ الْمُفْلِسِ يَلْزَمُ الِاحْتِيَاطَ فِي حِفْظِهِ ، فَإِذَا وَجَدَ الْحَاكِمُ أَمِينًا يَأْخُذُ ثَمَنَ مَا بِيعَ مِنْ مَالِهِ مَضْمُونًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَوْدِعَهُ إِيَّاهُ مُؤْتَمَنًا ، لِأَنَّ مَا أَخَذَهُ قَرْضًا وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْغُرْمِ إِنْ تَلِفَ ، وَمَا أَخَذَهُ وَدِيعَةً فَهُوَ مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ إِنْ تَلِفَ فَكَانَ الْقَرْضُ أَحْفَظُ لَهُ مِنَ التَّرْكِ ، إِلَّا أَنْ لَا يَجِدَ ثِقَةً مَلِيئًا فَتَرْكُهُ أَوْلَى ، فَإِنْ قِيلَ : قَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : إِنْ وَجَدَ مَنْ يُسْلِفُهُ الْمَالَ حَالًّا وَهُوَ لَا يُجِيزُ الْقَرْضَ مُؤَجَّلًا فَلَمْ يَكُنْ لِهَذَا الشَّرْطِ تَأْثِيرٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّ جَوَازَ الْقَرْضِ مُؤَجَّلًا : قِيلَ : قَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَيُجِيزُ الْقَرْضَ مُؤَجَّلًا ، وَيَجْعَلُهُ لِلشَّافِعِيِّ مَذْهَبًا ، وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى تَخْطِئَةِ هَذَا الْقَوْلِ وَفَسَادِ مَذْهَبِهِ ؛ لِأَنَّ نُصُوصَ الشَّافِعِيِّ تُبْطِلُهُ وَأُصُولَ مَذْهَبِهِ تَدْفَعُهُ ، لِأَنَّ مِنْ أَصْلِ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْأَجَلَ لَا يُلْزِمُ إِلَّا فِي عَقْدٍ لَازِمٍ وَلَيْسَ الْقَرْضُ بِلَازِمٍ ، وَتَأَوَّلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : إِنْ وَجَدَ مَنْ يُسْلِفُهُ الْمَالَ حَالًّا أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْحَاكِمَ إِذَا رَأَى قَوْلَ مَالِكٍ فِي جَوَازِ الْقَرْضِ الْمُؤَجَّلِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْرِضَ مَالَ الْمُفْلِسِ إِلَى أَجَلٍ وَجَعَلَهُ قَرْضًا حَالًّا حَتَّى لَا يُدْخِلَهُ الْأَجَلُ عَلَى مَذْهَبِ أَحَدٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَنْبَغِي إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ وَقَفَ مَالَهُ عَنْهُ ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَبِيعَ وَلَا يَهِبَ ، وَمَا فَعَلَ مِنْ هَذَا فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَوْقُوفٌ ، فَإِنْ فَضُلَ جَازَ فِيهِ مَا فَعَلَ ، وَالْآخَرُ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا : قَدْ قُطِعَ فِي الْمُكَاتَبِ إِنْ كَاتَبَهُ بَعْدَ الْوَقْفِ فَأَدَّى لَمْ يُعْتَقْ بِحَالٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ حَجْرُ الْفَلَسِ ، فَإِذَا أَرَادَ الْحَاكِمُ أَنْ يَحْجُرَ عَلَى رَجُلٍ بِالْفَلَسِ حجر الحاكم على رجل بالفلس فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَقُولَ الْحَاكِمُ قَوْلًا يَقَعُ بِهِ الْحُكْمُ ، وَاخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي اللَّفْظِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الْحَجْرُ من الحاكم ، فَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ : هُوَ أَنْ يَقُولَ الْحَاكِمَ : قَدْ وَقَفْتُ

مَالَكَ وَمَنَعْتُكَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ ، لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْحَجْرِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُهُ بِهِ ، وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ : هُوَ أَنْ يَقُولَ لَهُ الْحَاكِمُ : قَدْ حَجَرْتُ عَلَيْكَ بِالْفَلَسِ ، وَقَالُوا لِأَنَّ الْحَجْرَ قَدْ يَتَنَوَّعُ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُ حُكْمٌ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ التَّصْرِيحِ بِهِ لِيَمْتَازَ عَنْ غَيْرِهِ ، لِأَنَّ وَقْفَ الْمَالِ وَالْمَنْعَ مِنَ التَّصَرُّفِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ أَحْكَامِ الْحَجْرِ ، فَلَمْ يَقَعْ بِهِ الْحَجْرُ ، فَإِذَا تَلَفَّظَ الْحَاكِمُ بِمَا يَقَعُ بِهِ الْحَجْرُ عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ الْمَذْهَبَيْنِ أَشْهَرَ الْحَاكِمُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلِ الْإِشْهَادُ شَرْطٌ فِي تَمَامِ الْحَجْرِ ؟ فَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ : الْإِشْهَادُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي ثُبُوتِ الْحَجْرِ ، لِأَنَّ نُفُوذَ الْحُكْمِ لَا يَقِفُ عَلَى الْإِشْهَادِ فِيهِ ، فَإِنْ حَجَرَ عَلَيْهِ قَوْلًا وَلَمْ يُشْهِدْ صَحَّ ، وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ : شَرْطُ ثُبُوتِ الْحَجْرِ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الْحَجْرِ الشُّهْرَةُ وَإِظْهَارُ الْأَمْرِ فِيهِ ، وَلَا يَكُونُ مُشْتَهِرًا إِلَّا بِالشَّهَادَةِ ، وَجَرَى مَجْرَى اللَّعَّانِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الشُّهْرَةُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا وَقَعَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ المفلس بِمَا ذَكَرْنَا فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى حَجْرِ السَّفِيهِ أَوْ مَجْرَى حَجْرِ الْمَرَضِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى حَجْرِ السَّفِيهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْمَنْعُ مِنْ تَبْذِيرِ الْمَالِ لِيَكُونَ مُوَفَّرًا ، كَالسَّفِيهِ الَّذِي يُقْصَدُ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ حِفْظُ الْمَالَ مِنَ التَّبْذِيرِ لِيَكُونَ مَوْفُورًا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ حَجْرٌ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِاجْتِهَادٍ وَحُكْمٍ فَشَابَهَ حَجْرَ السَّفِيهِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِاجْتِهَادٍ وَحُكْمٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ هَذَا الْحَجْرَ يَجْرِي مَجْرَى حَجْرِ الْمَرَضِ الْوَاقِعِ لِأَجْلِ الْوَرَثَةِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَعُقُودُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ وَتَصَرُّفُهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِعَيْنِ مَالِهِ الَّذِي وَقَعَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ سِلْعَةً فِي ذِمَّتِهِ أَوْ يَبِيعَ سَلَمًا مَضْمُونًا فِي ذِمَّتِهِ أَوْ يَضْمَنَ ضَمَانًا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ ، فَكُلُّ هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ الَّذِي فِي يَدِهِ نَافِذٌ مَاضٍ لَا اعْتِرَاضَ لِلْغُرَمَاءِ فِيهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا ، سَوَاءٌ قِيلَ : إِنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ يَجْرِي مَجْرَى حَجْرِ السَّفَهِ أَوْ مَجْرَى حَجْرِ الْمَرَضِ ، لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ اخْتُصَّ بِمَالِهِ دُونَ ذِمَّتِهِ ، فَلَوِ ابْتَاعَ فِي حَالِ الْحَجْرِ سِلْعَةً بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ فَأَرَادَ الْبَائِعُ لَهَا أَنْ يَرْجِعَ بِهَا لِفَلَسِهِ فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ عَالِمًا بِفَلَسِهِ وَقْتَ الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِرْجَاعُهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ اسْتِرْجَاعُهَا ، لِأَنَّ عَقْدَهُ قَبْلَ الْحَجْرِ أَقْوَى مِنْهُ بَعْدَهُ ، فَلَمَّا جَازَ اسْتِرْجَاعُ مَا ابْتَاعَهُ قَبْلَ الْحَجْرِ فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ اسْتِرْجَاعُ مَا ابْتَاعَهُ بَعْدَ الْحَجْرِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي اسْتِرْجَاعِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِعْلَامِ حَالِهِ قَبْلَ الْعَقْدِ ، فَصَارَ فِي حُكْمِ الْعَالَمِ بِهِ ، وَلَا يَكُونُ تَقْصِيرُهُ فِي ذَلِكَ عُذْرًا ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ عِنْدِي ، لِأَنَّ الْفَسْخَ بِالْفَلَسِ يَجْرِي مَجْرَى الْفَسْخِ بِالْعَيْبِ ، وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ يَجُوزُ ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَسْتَعْلِمَ قَبْلَ الْعَقْدِ فَكَذَلِكَ الْفَسْخُ بِالْفَلَسِ وَجَمِيعُ مَا مَلَكَهُ فِي حَالِ الْحَجْرِ بِابْتِيَاعٍ أَوِ اصْطِيَادٍ أَوْ قَبُولِ هِبَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ يَصِيرُ دَاخِلًا تَحْتَ الْحَجْرِ كَأَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْحَجْرِ ، فَيَكُونُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ كَتَصَرُّفِهِ فِي غَيْرِهِ مِنْ أَمْوَالِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، فَهَذَا حُكْمُ عُقُودِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَا فِي يَدِهِ .

فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفُهُ وَعُقُودُهُ مُتَعَلِّقًا بِمَا فِي يَدِهِ ، مِثْلَ أَنْ يَبِيعَ مِنْ مَالِهِ مَتَاعًا أَوْ يَهَبَ مَالًا أَوْ يُكَاتِبَ عَبْدًا أَوْ يُحْدِثَ عِتْقًا لَهُ فَقَدْ خَالَفَ مَا يَقْتَضِيهِ الْحَجْرُ مِنَ الْمَنْعِ مِنَ التَّصَرُّفِ ، وَفِي عُقُودِهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي مَعْنَى الْحَجْرِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ جَمِيعَهَا بَاطِلَةٌ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ جَارٍ مَجْرَى حَجْرِ السَّفَهِ لِبُطْلَانِ عُقُودِ السَّفِيهِ وَرَدِّ تَصَرُّفِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا جَائِزَةٌ وَتَكُونُ مَوْقُوفَةً إِذَا قِيلَ إِنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ جَارٍ مَجْرَى حَجْرِ الْمَرَضِ لِصِحَّةِ عُقُودِ الْمَرِيضِ وَوُقُوفِهَا عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ . وَعَلَى هَذَا إِذَا كَانَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ بَعْدَ تَصَرُّفِهِ وَفَاءٌ لِدَيْنِهِ بِسِعْرٍ زَادَ أَوْ رِبْحٍ حَدَثَ أَوْ كَسْبٍ اسْتُفِيدَ كَانَ جَمِيعُ مَا فَعَلَهُ مِنْ بَيْعٍ وَكِتَابَةٍ وَعِتْقٍ مَاضِيًا نَافِذًا لَا اعْتِرَاضَ فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فِي الْبَاقِي مِنْ مَالِهِ وَفَاءٌ لِدَيْنِهِ وَجَبَ أَنْ يُرَدَّ تَصَرُّفُهُ وَتُنْقَضَ عُقُودُهُ وَيَبْدَأَ مِنْهَا بِمَا لَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهِ عِوَضٌ كَالْهِبَةِ وَالْعِتْقِ ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا وَفَاءٌ لَمْ يَعْرِضْ لِفَسْخِ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ وَأُمْضِيَتْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا وَفَاءٌ فُسِخَتِ الْكِتَابَةُ قَبْلَ الْبَيْعِ ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا وَفَاءٌ لَمْ يَعْرِضْ لِفَسْخِ الْبَيْعِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا وَفَاءٌ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمَبِيعِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ بَاعَهُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ حَتَّى صَارَ مَغْبُونًا ، فَهَذَا يُفْسَخُ عَلَيْهِ وَيُسْتَرْجَعُ الْمَبِيعُ مِنْ مُشْتَرِيهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَدْ بَاعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ حَتَّى صَارَ غَابِنًا ، فَهَذَا الْبَيْعُ مَاضٍ وَلَا مَعْنَى لِفَسْخِهِ ؛ لِأَنَّ إِمْضَاءَ الْبَيْعِ أَوْفَرُ لِحُقُوقِ الْغُرَمَاءِ لِلزِّيَادَةِ الْحَاصِلَةِ فِي ثَمَنِهِ فَلَمْ يَجُزْ إِبْطَالُهَا عَلَيْهِمْ بِالْفَسْخِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ قَدْ بَاعَهُ بِمِثْلِ ثَمَنِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ ، فَهَذَا يُنْظَرُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ قَدْ زَادَ قِيمَتُهُ أَوِ الْمَبِيعُ قَدْ نَقَصَ سِعْرُهُ أَمْضَى الْعَقْدَ وَلَمْ يُفْسَخْ عَلَيْهِ لِمَا فِي فَسْخِهِ مِنْ دُخُولِ النَّقْصِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَزِدِ الثَّمَنُ وَلَا يَنْقُصْ سِعْرُ الْمُثَمَّنَ فَهَذَا يُنْظَرُ فِيهِ ، فَإِنْ

كَانَ الثَّمَنُ قَدِ اسْتَهْلَكَهُ الْمُفْلِسُ حَتَّى صَارَ فِي ذِمَّتِهِ فُسِخَ الْبَيْعُ ، لِأَنْ يُسْتَفَادَ بِفَسْخِهِ بِبَيْعِ السِّلْعَةِ الْمَبِيعَةِ فِي حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ ، وَمَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُشْتَرِي مِنَ الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ هُوَ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ عَلَى مَا يَسْتَفِيدُهُ مِنَ الْمَالِ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ ، وَلَا يُشَارِكُ الْغُرَمَاءَ لِأَنَّهُ دَيْنٌ حَدَثَ عَنْ مُعَامَلَةٍ بَعْدَ فَلَسِهِ ، وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَا ذَكَرْنَا إِذَا بَاعَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ وَكَانَ الثَّمَنُ مُسْتَهْلَكًا فُسِخَ الْبَيْعُ أَيْضًا ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ بَاقِيًا مُعَيَّنًا فَظَاهِرُ إِطْلَاقِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ يَقْتَضِي أَنْ يُفْسَخَ عَلَيْهِ ، وَالصَّحِيحُ عِنْدِي : أَنَّهُ لَا يُفْسَخُ ، لِأَنَّ فَسْخَ عُقُودِهِ إِنَّمَا يَكُونُ لِضَرُورَةٍ يُسْتَفَادُ بِهَا شَيْءٌ ، وَالْفَسْخُ هَاهُنَا لَا يُفِيدُ شَيْئًا لِأَنَّهُ إِنْ أَوْجَبَ اسْتِرْجَاعَ الْمَبِيعِ لِيُبَاعَ فِي حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ أَوْجَبَ ذَلِكَ رَدَّ الثَّمَنِ إِلَى الْمُعَيَّنِ الْبَاقِي فِي يَدِ الْمُفْلِسِ وَهُمَا فِي الْقِيمَةِ سَوَاءٌ ، فَكَانَ إِمْضَاءُ الْبَيْعِ لِيَكُونَ الثَّمَنُ مُعَيَّنًا فِي حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ كَفَسْخِ الْبَيْعِ لِيُبَاعَ الْمَبِيعُ فِي حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْفَسْخِ تَأْثِيرٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفْسَخَ عَلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ : إِمْضَاءُ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ وَبَيْعُ الثَّمَنِ قَدْ يَسْتَحِقُّ بِهِ دَرْكًا كَانَ هَذَا فَائِدَةَ الْفَسْخِ ، قِيلَ : مَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ فَلَا مَعْنَى لِتَوَهُّمِهِ لِيُفْسَخَ بِهِ الْعَقْدُ ، وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ فَسْخُ جَمِيعِ الْعُقُودِ لِمَعَانٍ مُتَوَهَّمَةٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ زَعَمَ أَنَّهُ لَزِمَهُ قَبْلَ الْوَقْفِ فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ جَائِزٌ كَالْمَرِيضِ يَدْخُلُ مَعَ غُرَمَائِهِ وَبِهِ أَقُولُ . وَالثَّانِي : أَنَّ إِقْرَارَهُ لَازِمٌ لَهُ فِي مَالٍ إِنْ حَدَثَ لَهُ أَوْ يَفْضُلُ عَنْ غُرَمَائِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ إِقْرَارَ الْمُفْلِسِ بِالدَّيْنِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُقِرَّ بِدَيْنٍ لَزِمَهُ بَعْدَ الْحَجْرِ فَإِقْرَارُهُ لَازِمٌ فِي ذِمَّتِهِ عَلَى مَا يَسْتَفِيدُهُ مِنَ الْمَالِ بَعْدَ زَوَالِ حَجْرِهِ ، وَلَا يَكُونُ الْمُقَرُّ لَهُ مُشَارِكًا لِغُرَمَائِهِ ، لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ إِنَّمَا كَانَ لِمَنْ ثَبَتَ حَقُّهُ قَبْلَ الْحَجْرِ ، وَلِأَنَّ الْمُدَايِنَ لَهُ بَعْدَ فَلَسِهِ رَاضٍ بِخَرَابِ ذِمَّتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُقِرَّ بِدَيْنٍ لَزِمَهُ قَبْلَ الْحَجْرِ ، فَإِقْرَارُهُ لَازِمٌ أَيْضًا ، وَهَلْ يَكُونُ الْمُقَرُّ لَهُ مُشَارِكًا لِغُرَمَائِهِ بِدَيْنِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْحَجْرِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهِ ، وَيَكُونُ الدَّيْنُ لَازِمًا فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ الْمُقِرِّ عَلَى مَا يَسْتَفِيدُهُ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ ، وَهُنَا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ جَارٍ مَجْرَى السَّفَهِ ، وَلِأَنَّ الْغُرَمَاءَ قَدْ تَعَلَّقَتْ حُقُوقُهُمْ بِأَعْيَانِ حَالِهِ كَالرَّهْنِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ لَا يَكُونُ شَرِيكًا فِي الْمَالِ الْمَرْهُونِ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ شَرِيكًا فِي الْمَالِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ يُشَارِكُ الْغُرَمَاءَ ، وَيَكُونُ أُسْوَةً لَهُمْ فِي مَالِ الْمُفْلِسِ . وَهَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ جَارٍ مَجْرَى حَجْرِ الْمَرَضِ ، وَلِأَنَّ الدَّيْنَ قَدْ لَزِمَ بِالْإِقْرَارِ كَلُزُومِهِ بِالْبَيِّنَةِ ، ثُمَّ لَوْ كَانَ ثُبُوتُهُ بِالْبَيِّنَةِ يُوجِبُ مُشَارَكَةَ الْغُرَمَاءِ فَكَذَلِكَ ثُبُوتُهُ بِالْإِقْرَارِ يُوجِبُ مُشَارَكَتَهُمْ ، وَبِهَذَا فَارَقَ

الْمَالَ الْمَرْهُونَ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُشَارِكِ الْمُرْتَهِنَ فِيهِ إِذَا ثَبَتَ بَيِّنَةٌ بِالْبَيِّنَةِ لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهِ إِذَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ ، فَلَوْ كَانَ إِقْرَارُ الْمُفْلِسِ حِينَ قَالَ فِي يَدِهِ أَقَرَّ بِغَصْبِهِ أَوِ اسْتِعَارَتِهِ أَوِ اسْتِئْجَارِهِ أَوْ كَانَ صَائِغًا أَوْ صَبَّاغًا فَأَقَرَّ بِحُلِيٍّ فِي يَدِهِ أَوْ ثِيَابٍ قَدْ صَبَغَهَا فَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ ، وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَازِمٌ كَالْبَيِّنَةِ فَيَدْفَعُ الْأَعْيَانَ إِلَى مَنْ أَقَرَّ لَهُ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشَارِكَهُ الْغُرَمَاءُ فِيهَا ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُشَارِكُهُمْ فِي الْمَالِ أَوْ كَانَ دَيْنًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ إِقْرَارَهُ لَا يَلْزَمُ فِي الْعَيْنِ بَلْ يَكُونُ مَوْقُوفًا وَيُبَاعُ سَائِرُ أَمْوَالِهِ سِوَى الْأَعْيَانِ الَّتِي أَقَرَّ بِهَا ، فَإِنْ وَفَتْ بِدَيْنِهِ دُفِعَتِ الْأَعْيَانُ حِينَئِذٍ إِلَى مَنْ أَقَرَّ لَهُ بِهَا ، وَإِنْ عَجَزَ مَالُهُ عَنْ وَفَاءِ دَيْنِهِ بِيعَتِ الْأَعْيَانُ فِي حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ ، وَكَانَتْ قِيمَتُهَا دَيْنًا لِلْمُقَرِّ لَهُمْ بِهَا فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ يَبِيعُونَهُ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ ، فَلَوِ احْتَاجَ وَفَاءُ دَيْنِهِ إِلَى بَيْعِ الْبَعْضِ مِنْ تِلْكَ الْأَعْيَانِ فَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ بِهَا لِوَاحِدٍ بِيعَ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِ وَيَكُونُ قِيمَتُهُ فِي ذِمَّتِهِ وَدَفَعَ بَاقِيَ الْأَعْيَانِ إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ بِهَا ، وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ بِهَا لِجَمَاعَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفْرِدَ حَقَّ أَحَدِهِمْ بِالْبَيْعِ دُونَ الْبَاقِينَ وَبِيعَ كُلُّ عَيْنٍ أَقَرَّ بِهَا لِشَخْصٍ يَقْسِطُ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ وَدَفَعَ بَاقِيَ الْأَعْيَانِ إِلَى أَرْبَابِهَا لِتَقَعَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ فِيمَا يُبَاعُ عَلَيْهِمْ وَيُدْفَعُ إِلَيْهِمْ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا ادُّعِيَ عَلَى الْمُفْلِسِ مَالٌ وَأَنْكَرَ وَعُرِضَتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِ فَنَكَلَ وَحَلَفَ الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِهِ وَاسْتَحَقَّ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَلْ يَكُونُ الْيَمِينُ بَعْدَ النُّكُولِ تَجْرِي مَجْرَى الْبَيِّنَةِ أَوْ مَجْرَى الْإِقْرَارِ ؟ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ : أَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى الْبَيِّنَةِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُدَّعِي بَعْدَ عَيْنِهِ مُشَارِكًا لِلْغُرَمَاءِ بِدَيْنِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى الْإِقْرَارِ ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَكُونُ مُشَارِكًا لِلْغُرَمَاءِ بِدَيْنِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفْتِينَ إِلَى أَنَّ دُيُونَ الْمُفْلِسِ إِلَى أَجَلٍ تَحِلُّ حُلُولَهَا عَلَى الْمَيِّتِ ، وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُؤَخِّرَ الْمُؤَخَّرَ عَنْهُ لِأَنَّ لَهُ ذِمَةً وَقَدْ يَمْلِكُ ، وَالْمَيِّتُ بَطَلَتْ ذَمَّتُهُ وَلَا يَمْلِكُ بَعْدَ الْمَوْتِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا : هَذَا أَصَحُّ ، وَبِهِ قَالَ فِي الْإِمْلَاءِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الدُّيُونُ الْمُؤَجَّلَةُ على المفلس فَإِنَّهَا تَحِلُّ بِالْمَوْتِ ، وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى : الدُّيُونُ الْمُؤَجَّلَةُ لَا تَحِلُّ بِالْمَوْتِ وَتَكُونُ عَلَى آجَالِهَا ، لِأَنَّ مُدَّةَ الْأَجَلِ حَقٌّ ثَبَتَ لِلْمَيِّتِ مِثْلَ مُدَّةِ الْخِيَارِ ، فَلَمَّا لَمْ تَبْطُلْ مُدَّةُ الْخِيَارِ بِالْمَوْتِ لَمْ تَبْطُلْ مُدَّةُ الْأَجَلِ بِالْمَوْتِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى حُلُولِ دُيُونِهِ بِالْمَوْتِ أَنَّ مَالَهُ قَدْ يَنْتَقِلُ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَى الْغُرَمَاءِ

بِدُيُونِهِمْ وَإِلَى الْوَرَثَةِ بِإِرْثِهِمْ ، فَلَمَّا كَانَ حَقُّ الْوَرَثَةِ يَنْتَقِلُ إِلَيْهِمْ حَالًا : لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى لِلْمَيِّتِ مِلْكٌ بَعْدَ مَوْتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ يَنْتَقِلُ إِلَيْهِمْ حَالًّا : لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى لَهُ أَيْضًا مِلْكٌ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ التَّرِكَةِ فِي الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ مِنْ أَحْوَالٍ ثَلَاثَةٍ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَوْقُوفَةً إِلَى حُلُولِ الدَّيْنِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِالْوَرَثَةِ فِي تَأْخِيرِ إِرْثِهِمْ وَالْإِضْرَارِ بِالْمَيِّتِ فِي تَأْخِيرِ دَيْنِهِ مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى . وَإِمَّا أَنْ يُدْفَعَ إِلَى الْوَرَثَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَضَى لَهُمْ بِالتَّرِكَةِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَقَالَ تَعَالَى : مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [ النِّسَاءِ : 11 ] ، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يُقَسِّمُوا قَدْرَ الدَّيْنِ لِيَكُونَ فِي ذِمَّتِهِمْ أَوْ يَعْزِلُوهُ إِلَى وَقْتِ الْمَحَلِّ فَلَمْ يَجُزْ إِقْسَامُهُمْ بِهِ ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوهُ ، وَلِأَنَّ أَرْبَابَ الدُّيُونِ لَمْ يَرْضَوْا بِذِمَمِهِمْ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْزِلُوهُ ، لِأَنَّ فِيهِ تَعْزِيرًا بِهِ وَتَعْلِيقًا لِنَفْسِ الْمَيِّتِ بِدَيْنِهِ وَعَدَمَ فَائِدَةٍ لَهُمْ وَلِلْمَيِّتِ بِعَزْلِهِ لَهُمْ ، فَلَمْ يَبْقَ وَجْهٌ إِلَّا أَنْ يَتَعَجَّلُوهُ لِيَبْرَأَ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ مِنْهُ وَيَقْتَسِمَ الْوَرَثَةُ مَا فَضَلَ عَنْهُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا حُلُولُ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ بِحُدُوثِ الْفَلَسِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَحِلُّ بِالْفَلَسِ كَمَا يَحِلُّ بِالْمَوْتِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْرِي حَجْرَ الْفَلَسِ مَجْرَى حَجْرِ الْمَرَضِ ، لِأَنَّ الْمُفْلِسَ يَنْتَقِلُ مَالُهُ بِالْفَلَسِ إِلَى غُرَمَائِهِ كَمَا يَنْتَقِلُ مَالُ الْمَرِيضِ بِالْمَوْتِ إِلَى وَرَثَتِهِ ، فَلَمَّا كَانَ الْمَوْتُ يُوجِبُ حُلُولَ الْأَجَلِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفَلَسُ بِمَثَابَتِهِ يُوجِبُ حُلُولَ الْمُؤَجَّلِ ، وَيُلَخِّصُ هَذَا الثُّلْثُ أَنَّ خَرَابَ الذِّمَّةِ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الدُّيُونِ الْحَالَّةِ وَالْمُؤَجَّلَةِ كَالْمَوْتِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا عَلَى آجَالِهَا - لَا تَحِلُّ بِالْفَلَسِ - وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْرِي مِنْهَا حَجْرُ الْمُفْلِسِ مَجْرَى حَجْرِ السَّفِيهِ ، لِأَنَّ دُيُونَ السَّفِيهِ لَا تَحِلُّ لِبَقَاءِ مِلْكِهِ وَجَوَازِ اسْتِفَادَتِهِ ، فَكَذَلِكَ الْمُفْلِسُ لَمَّا كَانَ مِمَّنْ يَمْلِكُ وَيَجُوزُ أَنْ يَحْدُثَ لَهُ مِلْكٌ وَيَبْقَى لَهُ ذِمَّةٌ لَمْ تَحِلَّ دُيُونُهُ ، وَخَالَفَ الْمَيِّتَ الَّذِي لَا يَبْقَى لَهُ مِلْكٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْدُثَ لَهُ مِلْكٌ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ ذِمَّةٌ حَيْثُ حَلَّتْ دُيُونُهُ ، وَلِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْمُفْلِسِ إِنَّمَا كَانَ بِالدُّيُونِ الْحَالَّةَ دُونَ الْمُؤَجَّلَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ دُيُونُهُ مُؤَجَّلَةً لَمْ يَجُزِ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِهَا ، وَالْمُفْلِسُ إِنَّمَا يَجِبُ صَرْفُ مَالِهِ فِيمَنْ كَانَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ حَدَثَ دَيْنُهُ بَعْدَ الْحَجْرِ لَمْ يَكُنْ مُشَارِكًا فِي مَالِهِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْحَجْرُ ، فَكَذَلِكَ أَرْبَابُ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ قِيلَ بِأَنَّهَا إِلَى آجَالِهَا - لَا تَحِلُّ بِالْفَلَسِ - صُرِفَ مَالُهُ فِي الدُّيُونِ الْحَالَّةِ ثُمَّ يُحَالُ أَرْبَابُ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ إِذَا حَلَّتْ عَلَى مَا يَحْدُثُ لَهُ مِنْ مِلْكٍ .

فَإِنْ قِيلَ : بِأَنَّهَا تَحِلُّ بِالْفَلَسِ كَانَ أَرْبَابُ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ فِي مَالِهِ ، وَيَرْجِعُ مَنْ كَانَ لَهُ عَيْنُ مَبِيعِهِ بِعَيْنِ مَالِهِ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ قَدْرُ مَا يَخُصُّهُمْ مِنَ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ ظَاهِرُ إِطْلَاقِ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ مُتَقَدِّمُوا الصَّحَابَةِ أَنَّهُ يُدْفَعُ إِلَى أَرْبَابٍ يَتَمَلَّكُونَهُ كَمَا يُدْفَعُ ذَلِكَ إِلَى مِثْلِ دَيْنِهِ حَالًّا لِيَتَمَلَّكَهُ لِأَنَّ الْمُؤَجَّلَ قَدْ صَارَ بِالْفَلَسِ كَالْمُعَجَّلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّهُ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْمُفْلِسِ لَا يُدْفَعُ إِلَى غُرَمَائِهِ حَتَّى تَحِلَّ دُيُونُهُمْ وَيَكُونَ تَأْثِيرُ مُشَارَكَتِهِمْ لِبَاقِي الْغُرَمَاءِ وَرُجُوعِهِمْ بِأَعْيَانِ الْأَمْوَالِ أَنْ لَا يُصْرَفَ جَمِيعُ مَالِهِ فِي الدُّيُونِ الْحَالَّةِ ، وَأَنَّهُ رُبَّمَا يَكْسِبُ بَعْدَ الْحَجْرِ مَا لَا يَقْضِي بِهِ الدُّيُونَ الْمُؤَجَّلَةَ ، وَلَوِ اكْتَسَبَ لَشَقَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقِيمُوا بِهِ الْبَيِّنَةَ ، ثُمَّ يُطْلَقُ تَصَرُّفُ الْمُفْلِسِ فِيهِ حَتَّى إِذَا حَلَّتِ الْآجَالُ صَرَفَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ وَقُسِمَ فِيهِمْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ جَنَى عَلَيْهِ عَمْدًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَخْذُ الْمَالِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْمُفْلِسِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ مُوجِبَةً لِلْمَالِ إِمَّا فِي الْخَطَأِ وَإِمَّا فِي الْعَمْدِ الَّذِي لَا قَوَدَ فِيهِ فَقَدْ مَلَكَ أَرْشَهَا وَتَعَلَّقَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِهِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يُسْتَحْدَثُ مِلْكُهُ مِنْ إِرْثٍ وَغَيْرِهِ ، فَإِنْ أَبْرَأَ الْجَانِيَ مِنْهُ كَانَ كَمَا لَوْ وَهَبَ مَالًا فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِبْرَاءَ يَكُونُ بَاطِلًا ، وَهَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ حَجْرَ الْمُفْلِسِ جَارٍ مَجْرَى حَجْرِ السَّفِيهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا ، فَإِنْ كَانَ فِي مَالِهِ وَفَاءٌ بِدَيْنِهِ صَحَّ الْإِبْرَاءُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ وَفَاءٌ بِدَيْنِهِ بَطَلَ الْإِبْرَاءُ فِيمَا قَابَلَ بَقِيَّةَ الدَّيْنِ ، فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهُ مُقَابِلًا لِجَمِيعِ الدِّيَةِ بَطَلَ جَمِيعُ الْإِبْرَاءِ ، وَإِنْ كَانَ مُقَابِلًا لِبَعْضِهَا بَطَلَ مِنَ الْإِبْرَاءِ بِقَدْرِ مَا قَابَلَ الْبَاقِيَ مِنْ ثُلُثٍ أَوْ نِصْفٍ وَصَحَّ فِي الْبَاقِي . وَهَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْحَجْرَ بِالْفَلَسِ جَارٍ مَجْرَى حَجْرِ الْمَرَضِ .

فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ عَمْدًا على المفلس تُوجِبُ الْقَوَدَ ، فَالْمُفْلِسُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ أَوْ يَأْخُذَ الْمَالَ ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ فَانْتَقَلَ إِرْثًا إِلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [ الْإِسْرَاءِ : 33 ] . فَإِنْ أَرَادَ الْقِصَاصَ لَمْ يَكُنْ لِلْغُرَمَاءِ عَلَيْهِ اعْتِرَاضٌ ، وَإِنْ أَرَادَ الْمَالَ كَانَ لَهُ وَقُسِّمَ بَيْنَ غُرَمَائِهِ ، وَإِنْ عَفَى عَنِ الْقِصَاصِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْعَفْوِ عَنِ الْمَالِ سَقَطَ الضَّمَانُ ، وَفِي سُقُوطِ الْمَالِ في جناية العمد على المفلس قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي جِنَايَةِ الْعَمْدِ مَا الَّذِي تُوجِبُ ؟

فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ : أَنَّهَا تُوجِبُ الْقِصَاصَ ، فَأَمَّا الْمَالُ فَإِنَّمَا يَجِبُ بِاخْتِيَارِ الْوَلِيِّ ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ سَقَطَ حَقُّهُ مِنَ الْمَالِ إِذَا لَمْ يَخْتَرْهُ فِي الْحَالِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ جِنَايَةَ الْعَمْدِ تُوجِبُ أَحَدَ شَيْئَيْنِ إِمَّا الْقِصَاصَ أَوِ الْمَالَ ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَسْقُطُ الْمَالُ بِعَفْوِهِ عَنِ الْقِصَاصِ ، فَأَمَّا إِنْ عَفَى الْمُفْلِسُ عَنِ الْأَمْرَيْنِ مَعًا مِنَ الْقِصَاصِ وَالْمَالِ وَصَرَّحَ بِهِمَا فِي عَفْوِهِ صَحَّ عَفْوُهُ عَنِ الْقِصَاصِ ، وَفِي عَفْوِهِ عَنِ الْمَالِ عفو المفلس عن المال في جناية العمد ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّ عَفْوَهُ صَحِيحٌ وَقَدْ سَقَطَ الْمَالُ ، وَهَذَا إِذَا قِيلَ : إِنَّ جِنَايَةَ الْعَمْدِ تُوجِبُ الْقِصَاصَ وَحْدَهُ ، وَأَنَّ الْمَالَ لَا يَجِبُ إِلَّا بِاخْتِيَارِ الْوَلِيِّ ، فَيَسْقُطُ الْمَالُ بِعَفْوِهِ عَنْهُ ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يُجْبَرُ عَلَى تَمَلُّكِ مَالٍ مِنْ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ وَمُطْلَقٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ عَفْوَهُ عَنِ الْمَالِ بَاطِلٌ وَتُؤْخَذُ الدِّيَةُ وَتُقَسَّمُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ ، وَهُنَا إِذَا قِيلَ : إِنَّ جِنَايَةَ الْعَمْدِ تُوجِبُ الْقِصَاصَ أَوِ الْمَالَ وَإِنَّ حَجْرَ الْمُفْلِسِ يَجْرِي مَجْرَى حَجْرِ السَّفَهِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ عَفْوَهُ مَوْقُوفٌ إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ جَارٍ مَجْرَى حَجْرِ الْمَرَضِ لِيَنْظُرَ هَلْ فِي مَالِهِ وَفَاءٌ بِدَيْنِهِ فَيَصِحَّ أَوْ عَجَزَ عَنْهُ فَيَبْطُلَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَيْسَ عَلَى الْمُفْلِسِ أَنْ يُؤَاجِرَ وَذُو الْعُسْرَةِ يُنْظَرُ إِلَى مَيْسَرَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا فَضَلَتْ عَلَى الْمُفْلِسِ دُيُونٌ بَعْدَ قِسْمَةِ مَالِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَاجِرَ بِهَا ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ : يَجِبُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ الْحَاكِمُ بِأُجْرَةٍ تُقْضَى بِهَا بَاقِي دُيُونِهِ اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَى ابْنُ أَبِي أَوْفَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاعَ سَرْقًا فِي دَيْنٍ ، وَالْحُرُّ لَا تُبَاعُ رَقَبَتُهُ ثَبَتَ أَنَّهُ بَاعَ مَنَافِعَهُ ، وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَجَّرَ مُفْلِسًا " وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ ، وَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْعَمَلِ كَالْقُدْرَةِ عَلَى الْمَالِ فِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ بِهِمَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي تَعَلُّقِ دُيُونِ الْمُفْلِسِ بِهِمَا ؛ وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ كَالْأَعْيَانِ فِي ضَمَانِهَا فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ بِالْمُسَمَّى وَفِي الْفَاسِدِ بِعِوَضِ الْمِثْلِ ، ثُمَّ إِذَا كَانَتِ الْأَعْيَانُ مَبِيعَةً عَلَى الْمُفْلِسِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْمَنَافِعُ مَبِيعَةً عَلَيْهِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [ الْبَقَرَةِ : 280 ] فَأَمَرَ بِإِطْلَاقِهِ بَعْدَ الْإِعْسَارِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ قَالَ لِغُرَمَائِهِ : " خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ فَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ " وَرُوِيَ " لَا سَبِيلَ لَكُمْ عَلَيْهِ " ، وَلِأَنَّ مَنَافِعَ الْحُرِّ لَيْسَتْ بِمَالٍ وَإِنَّمَا هِيَ أَسْبَابٌ إِلَى تَمَلُّكِ الْمَالِ ، وَالْإِنْسَانُ لَا يُجْبَرُ عَلَى أَسْبَابِ التَّمْلِيكِ إِذَا أَفْلَسَ كَمَا لَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَعَلَى خُلْعِ الزَّوْجَةِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ رِوَايَتِهِمْ أَنَّهُ بَاعَ سَرْقًا

فِي دَيْنٍ فَهُوَ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ لَا يَلْزَمُنَا الْأَخْذُ بِهِ ، وَلَوْ لَزِمَ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ سَرَقَ عَبْدًا بَاعَهُ فِي دَيْنِ سَيِّدِهِ أَوْ حُرًّا أَجَّرَهُ بِاخْتِيَارِ نَفْسِهِ أَوْ بَاعَهُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ حِينَ كَانَ الشَّرْعُ وَارِدًا فِي الْحُرِّ بِجَوَازِ بَيْعِهِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عُمَرَ فَهُوَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِ الْمُفْلِسِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْعَمَلِ كَالْقُدْرَةِ عَلَى الْمَالِ فِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ ، فَفَاسِدٌ بِذَاتِ الرُّوحِ فِي أَنَّ الرُّوحَ تَقُومُ مَقَامَ الْمَالِ فِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ وَلَا تَقُومُ مَقَامَهُ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ وَبِالْأَبَوَيْنِ كَالْمَالِ فِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ دُونَ الدَّيْنِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الصَّدَقَةِ أَنَّهُ يَسْتَبِيحُهَا الْمُحْتَاجُ وَالْقَادِرُ عَلَى الْكَسْبِ غَيْرَ مُحْتَاجٍ ، وَقَضَاءُ الدَّيْنِ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْكَسْبِ لَيْسَ بِمَالٍ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ الْمَنَافِعَ كَالْأَعْيَانِ فَهُوَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ فِي الثَّانِي مَالًا ، وَلَوْ كَانَتْ مَالًا لَوَجَبَ عَلَى غَاصِبِ الْحُرِّ ضَمَانُ مَنَافِعِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .


مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُتْرَكُ لَهُ مِنْ مَالِهِ قَدْرَ مَا لَا غِنَى بِهِ عَنْهُ ، وَأَقَلُّ مَا يَكْفِيهِ وَأَهْلَهُ يَوْمَهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ، وَإِنْ كَانَ لِبَيْعِ مَالِهِ حَبْسٌ أَنْفَقَ مِنْهُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِهِ كُلَّ يَوْمٍ أَقَلَّ مَا يَكْفِيهِمْ مِنْ نَفَقَةٍ وَكُسْوَةٍ كَانَ ذَلِكَ فِي شِتَاءٍ أَوْ صَيْفٍ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ قَسْمِ مَالِهِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : مَئُونَةُ الْمُفْلِسِ فِي زَمَانِ حَجْرِهِ وَاجِبَةٌ فِي مَالِهِ ، وَكَذَلِكَ مَئُونَةُ مَنْ يَلْزَمُهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ يُقَدَّمُ بِهَا عَلَى الْغُرَمَاءِ وَأَصْحَابِ الدُّيُونِ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ حِينَ قَالَ : إِنَّ مَعِي دِينَارًا قَالَ : أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ ، قَالَ : إِنَّ مَعِي آخَرَ ، قَالَ : أَنْفِقْهُ عَلَى زَوْجَتِكَ ، قَالَ : إِنَّ مَعِيَ آخَرَ ، قَالَ : أَنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِكَ وَلِأَنَّهُ بِالْحَجْرِ مَسْلُوبُ النَّفْعِ مُعَطَّلُ الْكَسْبِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَا مَالٍ لَوَجَبَ نَفَقَتُهُ عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، فَوَجَبَ إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ أَنْ يَقَدَّمَ بِإِنْفَاقٍ مِنْهُ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا يَتَقَدَّمُ بِنَفَقَةِ نَفْسِهِ فَأَمَّا نَفَقَةُ أَقَارِبِهِ الَّتِي هِيَ مُوَاسَاةٌ وَهُوَ بِنَفْسِهِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمُوَاسَاةِ فَلَمْ يُقَدَّمْ بِهَا قِيلَ : لِأَنَّ نَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ تَجْرِي قَبْلَ الْفَلَسِ مَجْرَى نَفَقَةِ نَفْسِهِ ، فَأُجْرِيَتْ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ فَلَسِهِ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ فِي مُدَّةِ حَجْرِهِ تُقَدَّرُ مُؤْنَتُهُ وَمُؤْنَةُ زَوْجَتِهِ وَأَقَارِبِهِ . فَالْمَئُونَةُ : هِيَ الْقُوتُ وَالْكُسْوَةُ ، فَأَمَّا الْقُوتُ فَمُقَدَّرُ الزَّمَانِ بِمُدَّةِ حَجْرِهِ وَمُعْتَبَرُ الْقَدْرِ بِحَسَبِ كِفَايَتِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الْحَجْرِ يَوْمًا وَاحِدًا لَمْ يُنْفَقْ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَتْ شَهْرًا لَمْ يُقْصَرْ عَنْهُ ، وَلَا يُعْتَبَرْ فِي الْقُوتِ حَالُ شَهَوَاتِهِ وَمَلَاذِّهِ ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ قُوتُ مِثْلِهِ الَّذِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ ، وَأَمَّا الْكُسْوَةُ فَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ كُسْوَةٌ مُتَمَاسِكَةٌ لَيْسَ فِيهَا سَرَفٌ تُرِكَتْ عَلَى حَالِهَا وَلَمْ يَكُنْ غَيْرُهَا

، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ كُسْوَةٌ ، أَوْ كَانَتْ قَدْ أَخْلَقَتِ اشْتَرَى لَهُ مِنْ مَالِهِ كُسْوَةَ مِثْلِهِ وَلَا يُعْتَبَرُ أَنْ تَكُونَ كَافِيَةً لِمُدَّةِ حَجْرِهِ كَمَا اعْتَبَرْنَا فِي الْقُوتِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ تَبْعِيضَ الْقُوتِ مُمْكِنٌ ، وَتَبْعِيضُ الْكُسْوَةِ عَلَى الزَّمَانِ غَيْرُ مُمْكِنٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا بُدَّ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ مَسْتُورَ الْعَوْرَةِ مُعَرَّضًا لِلْكَسْبِ بِمَا يَتَجَمَّلُ بِهِ مِنْ ثِيَابٍ ، فَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ شِتَاءً فَكُسْوَةُ مِثْلِهِ فِي الشِّتَاءِ ، وَإِنْ كَانَ صَيْفًا فَكُسْوَةُ مِثْلِهِ فِي الصَّيْفِ ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَجْمَعَ لَهُ بَيْنَ كُسْوَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَتْ ثِيَابُهُ كُلُّهَا غَوَالِيَ مُجَاوِزَةَ الْقَدْرِ اشْتَرَى لَهُ مِنْ ثَمَنِهَا أَقَلَّ مَا يُلْبَسُ ، أَقْصِدُ مَا يَكْفِيهِ فِي مِثْلِ حَالِهِ وَمَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتْرُكُ عَلَيْهِ مَا لَا غَنَاءَ بِهِ عَنْهُ ، فَإِذَا كَانَتْ ثِيَابُهُ غَوَالِيَ كَثِيرَةَ الْأَثْمَانِ إن كانت ثياب المفلس غوالي كثيرة الأزمان اسْتَغْنَى عَنْهَا بِمَا هُوَ أَقَلُّ ثَمَنًا مِنْهَا فَيُبَاعُ عَلَيْهِ وَيَشْتَرِي لَهُ مِنْهَا كُسْوَةَ مِثْلِهِ الَّتِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا ، وَيُقَسِّمُ فَاضِلَ ثَمَنِهَا بَيْنَ غُرَمَائِهِ ، فَلَوْ كَانَ قَدْ كَسَى أَقَارِبَهُ قَبْلَ الْحَجْرِ ثِيَابًا غَوَالِيَ وَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَيْهِمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهَا مَا هُوَ أَدْوَنُ مِنْهَا ، لِأَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ مِلْكِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي كُسْوَةِ نَفْسِهِ لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ مَاتَ كُفِّنَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ قَبْلَ الْغُرَمَاءِ وَحُفِرَ قَبْرُهُ وَمُيِّزَ بِأَقَلِّ مَا يَكْفِيهِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ يَلْزَمُهُ أَنْ يُكَفِّنَهُ ثُمَّ قَسَّمَ الْبَاقِي بَيْنَ غُرَمَائِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا مَاتَ الْمُفْلِسُ أَوْ مَاتَ مِنْ أَقَارِبِهِ مَنْ تَلْزَمُهُ مَئُونَتَهُ وَجَبَ أَنْ يُقَدِّمَ تَكْفِينَهُ وَمَئُونَةَ دَفْنِهِ مِنْ أَصْلِ مَالِهِ عَلَى سَائِرِ غُرَمَائِهِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا قُدِّمَ لِمَئُونَتِهِ حَيًّا فَأَوْلَى أَنْ يُقَدَّمَ بِهَا مَيِّتًا ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا حَضَرَ جِنَازَةً قَالَ : هَلْ عَلَى صَاحِبِكُمْ مِنْ دَيْنٍ فَإِنْ قَالُوا : نَعَمْ قَالَ : صَلُّوا عَلَيْهِ ، وَيَمْتَنِعُ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً لِدَيْنِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ فِي كَفَنٍ وَلَمْ يُوجِبْ بَيْعَهُ فِي دَيْنِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ يُقَدَّمَ تَكْفِينُهُ فَهَلْ يَقْتَصِرُ بِهِ فِي الْكَفَنِ عَلَى ثَوْبٍ وَاحِدٍ أَوْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ تكفين المفلس وصفته عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُكَفَّنَ بِثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ كَمَا يُكَفَّنُ بِهَا إِذَا كَانَ حَيًّا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُكَفَّنُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ، لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الْوَاجِبُ ، وَخَالَفَ الْحَيَّ لِأَنَّ الْحَيَّ مُحْتَاجٌ إِلَى التَّحَمُّلِ لِتَعَرُّضِهِ لِلْمَكَاسِبِ ، وَأَمَّا الْحَنُوطُ للمفلس فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ مَالِهِ الْعِرْقَ الْجَارِيَ بِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَلْزَمُ : لِأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الطِّيبِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِ الْمُفْلِسِ سَعَةٌ لَهُ ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي كَفَنِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَقَارِبِهِ الَّذِينَ تَلْزَمُهُ نَفَقَاتُهُمْ ، فَأَمَّا كَفَنُ زَوْجَتِهِ المفلس فَعَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي مَالِهِ أَيْضًا ، وَالثَّانِي فِي مَالِهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُبَاعُ عَلَيْهِ مَسْكَنُهُ وَخَادِمُهُ لِأَنَّ مِنْ ذَلِكَ بُدًّا " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : يُبَاعُ عَلَى الْمُفْلِسِ فِي دَيْنِهِ مَسْكَنُهُ وَخَادِمُهُ ، وَإِنْ كَانَ إِلَيْهِمَا مُحْتَاجًا . وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ : لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا عَلَيْهِ . وَرَوَوْا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ تَعَلُّقًا بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : حَظُّ ابْنِ آدَمَ مِنَ الدُّنْيَا ثَلَاثٌ : خِرْقَةٌ تُوَارِيهِ ، وَكُسْوَةٌ تَكْفِيهِ ، وَمَسْكَنٌ يُئْوِيهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ : وَأَنَا أَزِيدُ فِيهِ : وَزَوْجَةٌ يَسْكُنُ إِلَيْهَا . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ ثِيَابِهِ الَّتِي عَلَيْهِ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ مَسْكَنِهِ وَخَادِمِهِ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِمَا ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ كَالْمُعْسِرِينَ فِي الْكَفَّارَةِ وَكَالْفُقَرَاءِ فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ فَكَذَلِكَ فِي الْمُفْلِسِ ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغُرَمَاءِ مُعَاذٍ : خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ لَيْسَ لَكُمْ غَيْرُهُ . وَلِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى تَمَلُّكِ الْمَسْكَنِ وَالْخَادِمِ لِأَنَّهُ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى مَسْكَنٍ يَكْرَى وَخَادِمٍ بِأُجْرَةٍ ، وَبِذَلِكَ قَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ ، وَهِيَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : لِأَنَّ مِنْ ذَلِكَ بُدًّا ، أَيْ : مِنْ مِلْكِ الْمَسْكَنِ دُونَ سُكْنَاهُ ، وَمِنْ مِلْكِ الْخَادِمِ دُونَ اسْتِخْدَامِهِ ، وَإِذَا كَانَ عَنْ ذَلِكَ مُسْتَغْنِيًا وَجَبَ بَيْعُهُ عَلَيْهِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا بِيعَ عَلَيْهِ ضَيَاعُهُ وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى اسْتِغْلَالِهَا جَازَ أَنْ يُبَاعَ عَلَيْهِ دَارُهُ ، فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى سُكْنَاهَا ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّهُ وَارِدٌ فِي غَيْرِ الْمُفْلِسِ لِأَنَّهُ قَالَ : " حَظُّ ابْنِ آدَمَ مِنَ الدُّنْيَا ثَلَاثٌ " ، وَالْمُفْلِسُ لَيْسَ لَهُ فِي الدُّنْيَا حَظٌّ وَلَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنْهَا نَصِيبٌ ، وَأَمَّا تَرْكُ ثِيَابِهِ عَلَيْهِ فَلِحَاجَتِهِ إِلَيْهَا ، وَأَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِإِجَارَتِهَا وَهِيَ بِإِجَارَةِ الدُّورِ وَالْخَدَمِ جَارِيَةٌ ، وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ دَيْنِ الْمُفْلِسِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى يَتَّسِعُ لِلْمُسَامَحَةِ فَلَمْ يُبَعْ فِيهَا الْمَسْكَنُ وَالْخَادِمُ ، وَالدَّيْنُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ يَضِيقُ عَنِ الْمُسَامَحَةِ فَبِيعَ فِيهِ الْمَسْكَنُ وَالْخَادِمُ . وَالثَّانِي : أَنَّ لِلْكَفَّارَةِ بَدَلًا مِنَ الْمَالِ وَهُوَ الصِّيَامُ ، فَلَمْ يُبَعْ عَلَيْهِ مَسْكَنُهُ لِرُجُوعِهِ إِلَى بَدَلٍ ، وَلَيْسَ لِلْمَالِ فِي دَيْنِ الْآدَمِيِّ بَدَلٌ ، وَأَمَّا أَخْذُهُ لِلزَّكَاةِ كَالْفُقَرَاءِ مَعَ وُجُودِ الْخَادِمِ وَالْمَسْكَنِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِأَخْذِ الزَّكَاةِ الِاسْتِغْنَاءُ بِهَا ، فَجَازَ أَنْ يَأْخُذَهَا وَإِنْ كَانَ لَهُ بَعْضُ الْغَنَاءِ ، وَفِي الْفَلَسِ قَضَاءُ الدَّيْنِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَخِّرَ مَعَ وُجُودِ بَعْضِ الْغَنَاءِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ أَقَامَ شَاهِدًا عَلَى رَجُلٍ بِحَقٍّ وَلَمْ يَحْلِفْ مَعَ شَاهِدِهِ فَلَيْسَ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَحْلِفُوا لَيْسَ لَهُمْ إِلَّا مَا تَمَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ دُونَهُمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي مُفْلِسٍ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مَالًا وَأَقَامَ عَلَى دَعْوَاهُ شَاهِدًا ، فَإِنْ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ وَجَبَ لَهُ الْمَالُ ، وَإِنْ نَكَلَ وَأَجَابَ الْغُرَمَاءُ إِلَى الْيَمِينِ مَعَ شَاهِدِهِ لِعِلْمِهِمْ بِصِدْقِهِ وَأَنَّ الْمَالَ صَائِرٌ إِلَيْهِمْ فَفِيهِ قَوْلَانِ ، وَهَكَذَا لَوِ ادَّعَى الْمُفْلِسُ مَالًا لَيْسَ لَهُ بِهِ شَاهِدٌ

وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَمْ يَحْلِفْ وَرُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُفْلِسِ فَنَكَلَ وَأَرَادَ الْغُرَمَاءُ أَنْ يَحْلِفُوا فَفِيهِ قَوْلَانِ ، فَالْجَوَابُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَاحِدٌ ، وَفِي جَوَازِ إِحْلَافِ الْغُرَمَاءِ فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ : وَهُوَ الْقَدِيمُ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَحْلِفُوا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَالَ الْمُفْلِسِ صَائِرٌ إِلَيْهِمْ كَمَا يَصِيرُ مَالُ الْمَيِّتِ إِلَى وَرَثَتِهِ ، فَلَمَّا جَازَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَحْلِفُوا عَلَى مَالِ الْمَيِّتِ جَازَ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَحْلِفُوا عَلَى مَالِ الْمُفْلِسِ . وَالثَّانِي : أَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ فِي مَالِ الْمُفْلِسِ أَثْبَتُ مِنْ حَقِّ الْوَكِيلِ فِي مَالِ الْمُوَكِّلِ ، فَلَمَّا جَازَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَحْلِفَ فِي إِثْبَاتِ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ إِذَا اخْتَلَفَ الْوَكِيلُ وَالْبَائِعُ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ وَلَيْسَ يَثْبُتُ لَهُمْ حَقٌّ فِي مَالِ الْمُوَكِّلِ ، فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ إِحْلَافُ الْغُرَمَاءِ لِثُبُوتِ حُقُوقِهِمْ فِي مَالِ الْمُفْلِسِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ الْجَدِيدُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَحْلِفُوا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَالَ يَمْلِكُهُ الْمُفْلِسُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَلِفَ كَانَ تَالِفًا فِي حَقِّهِ ؟ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ أَحَدٌ مَالًا بِيَمِينِ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ نِيَابَةٌ فِي الْأَيْمَانِ ، وَالنِّيَابَةِ فِي الْيَمِينِ لَا تَصِحُّ ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ غَيْرُ الْغُرَمَاءِ ، وَلَيْسَ تَعَلُّقُ حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ بِمَالِهِ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ يَمِينِهِمْ عَنْهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مُسْتَأْجِرَ الدَّارِ لَوْ غَصَبَ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْغَاصِبِ أَنَّهُ غَصَبَهَا مِنْهُ وَإِنْ تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِهَا ، وَمُرْتَهِنُ الرَّهْنِ لَوْ غَصَبَ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهِ وَإِنْ تَعَلَّقَ حَقُّ اسْتِيفَائِهِ بِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْيَمِينَ فِي إِثْبَاتِ دَعْوَى الْمُفْلِسِ كَالْيَمِينِ فِي نَفْيِ الدَّعْوَى عَنْهُ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَحْلِفُوا فِي نَفْيِ مَا ادَّعَى عَلَيْهِ إِذَا أَنْكَرَ وَنَكَلَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْلِفُوا فِي إِثْبَاتِ مَا ادَّعَاهُ إِذَا صَارَتِ الْيَمِينُ لَهُ فَنَكَلَ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَرَثَةَ لَمَّا جَازَ لَهُمْ أَنْ يَحْلِفُوا فِي إِثْبَاتِ الدَّعْوَى لِلْمَيِّتِ جَازَ أَنْ يَحْلِفُوا فِي نَفْيِ الدَّعْوَى عَنْهُ ، وَهَذَا تَوْجِيهٌ وَانْفِصَالٌ .

فَصْلٌ : فَإِنْ قِيلَ بِأَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ لَا يَجُوزُ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَحْلِفُوا فَلَا مَسْأَلَةَ . وَإِنْ قِيلَ بِالْأَوَّلِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَحْلِفُوا حَلَفَ جَمِيعُهُمْ كَمَا يَحْلِفُ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ ، فَإِنْ حَلَفَ بَعْضُهُمْ قَضَى لَهُ مِنَ الدَّعْوَى بِقَدْرِ حِصَّةِ دَيْنِهِ مِنْهَا ، وَلَا يَكُونُ نُكُولُ غَيْرِهِ بِمُسْقِطٍ لِحَقِّهِ بَعْدَ يَمِينِهِ ، كَمَا لَوْ حَلَفَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ وَنَكَلَ بَعْضُهُمْ قَضَى لَهُ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ .

بَابٌ الدَّيْنُ عَلَى الْمَيِّتِ وَالْعُهْدَةُ فِي مَالِ الْمُفْلِسِ

بَابٌ : الدَّيْنُ عَلَى الْمَيِّتِ ، وَالْعُهْدَةُ فِي مَالِ الْمُفْلِسِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " مَنْ بِيعَ عَلَيْهِ فِي دَيْنٍ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ فِي حَيَاتِهِ أَوْ تَفْلِيسِهِ فَهَذَا كُلُّهُ سَوَاءٌ وَالْعُهْدَةُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ كَهِيَ فِي مَالِ الْحَيِّ لَا اخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ عِنْدِي " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا بِيعَتْ أَمْوَالُ الْمُفْلِسِ عَلَيْهِ وَضَاعَتْ مِنْ أَيْدِي الْأُمَنَاءِ عَلَيْهَا كَانَ تَلَفُهَا مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ دُونَ غُرَمَائِهِ ، وَكَذَا مَا بَاعَهُ وَلِيٌّ عَلَى طِفْلٍ ، أَوْ وَصِيٌّ فِي تَرِكَةٍ ، أَوْ وَكِيلٌ فِي بَيْعِ رَهْنٍ ، أَوْ عَلَى مُوَكَّلٍ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الثَّمَنُ التَّالِفُ مِنْ مَالِ الْغُرَمَاءِ دُونَ الْمُفْلِسِ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ كَانَ الثَّمَنُ مِنْ جِنْسِ حُقُوقِهِمْ ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا فَهُوَ تَالِفٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ حَقِّهِمْ سِلْعَةً أَوْ عِوَضًا فَهُوَ تَالِفٌ مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ . وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ ، وَصَارَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فَاسِدًا بِالْحَجَاجِيزِ ، وَسَنَذْكُرُ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ مَا يَكُونُ عَلَى طَرِيقِ التَّوْجِيهِ لِصِحَّةِ الْمَذْهَبِ فِيهِ فَنَقُولُ : إِنَّ بَدَلَ كُلِّ شَيْءٍ فِي حُكْمِ مُبَدَّلِهِ ، فَإِمَّا كَانَ تَلَفُ الْمَبِيعِ مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ فَكَذَا تَلَفُ بَدَلِهِ ، وَلِأَنَّ أَمِينَ الْحَاكِمِ فِي الْبَيْعِ يَنُوبُ عَنِ الْمُفْلِسِ فِيهِ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ تَلَفَ الثَّمَنِ إِذَا كَانَ الْمُفْلِسُ هُوَ الْبَائِعُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ دُونَ غُرَمَائِهِ ، فَكَذَا تَلَفُهُ مِنَ النَّائِبِ عَنْهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ دُونَ غُرَمَائِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ بِيعَتْ دَارُهُ بِأَلْفٍ وَقَبَضَ أَمِينُ الْقَاضِي الثَّمَنَ فَهَلَكَ مِنْ يَدِهِ وَاسْتُحِقَّتِ الدَّارُ فَلَا عُهْدَةَ عَلَى الْغَرِيمِ الَّذِي بِيعَتْ لَهُ وَأَحَقُّ النَّاسِ بِالْعُهْدَةِ الْمَبِيعُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ وُجِدَ لَهُ مَالٌ بِيعَ ثُمَّ رُدَّ عَلَى الْمُشْتَرِي مَالُهُ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْهُ بِبَيْعٍ وَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ شَيْءٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْقَاضِي وَلَا أَمِينِهِ وَيُقَالُ لِلْمُشْتَرِي : أَنْتَ غَرِيمُ الْمُفْلِسِ أَوِ الْمَيِّتِ كَغُرَمَائِهِ سَوَاءٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا بِيعَتْ دَارُ الْمُفْلِسِ عَلَيْهِ وَاسْتَحَقَّتِ الدَّارُ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بِثَمَنِهَا ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مَوْجُودًا رَجَعَ بِهِ الْمُشْتَرِي ، وَكَذَا لَوِ اقْتَسَمَهُ الْغُرَمَاءُ رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِمْ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ الثَّمَنُ قَدْ تَلِفَ مِنْ يَدِ الْأَمِينِ فَالَّذِي رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَقْدَمُ بِالثَّمَنِ مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ عَلَى جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ . وَرَوَى الرَّبِيعُ وَحَرْمَلَةُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَكُونُ فِي الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ وَلَا يَتَقَدَّمُ بِهِ عَلَيْهِمْ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا

فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَتَقَدَّمُ بِالثَّمَنِ عَلَى جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ ، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ ، وَوَجَّهَهُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَرْضَ بِذِمَّةِ الْمُفْلِسِ أَنْ يَكُونَ حَقُّهُ ثَابِتًا فِيهَا ، إِلَّا أَنْ يَتَعَجَّلَ مَالًا يَصِيرُ حَقُّهُ مُتَعَلِّقًا بِهَا أُجُورُ الْبَاعَةِ وَأَكْرِيَةُ الْخَانَاتِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَكُونُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ بِالثَّمَنِ ، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ الرَّبِيعُ وَحَرْمَلَةُ ، وَوَجْهُهُ : أَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ فَسَاوَى الْغُرَمَاءَ فِيهِ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي مَحَلِّ الْحَقِّ ، وَلَيْسَ ثُبُوتُ ذَلِكَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ يُوجِبُ تَقْدِيمَهُ عَلَى غَيْرِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُفْلِسَ لَوْ غَصَبَ مَالًا فَأَتْلَفَهُ كَانَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ بِقِيمَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ ثُبُوتُ ذَلِكَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَخَالَفَ أُجُورَ الْبَاعَةِ وَسَائِرَ الْمُؤَنِ الَّتِي هِيَ مُصْلِحَةٌ لِمَالِهِ لَا يَسْتَغْنِي الْمُفْلِسُ عَنْهَا . وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَ اخْتِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ ، فَجَعَلَ رِوَايَةَ الْمُزَنِيِّ فِي تَقْدِيمِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْغُرَمَاءِ أَنْ يَكُونَ حُدُوثُ الِاسْتِحْقَاقِ قَبْلَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ ، وَرِوَايَةَ الرَّبِيعِ وَحَرْمَلَةَ فِي مُشَارَكَةِ الْمُشْتَرِي لِلْغُرَمَاءِ إِذَا كَانَ حُدُوثُ الِاسْتِحْقَاقِ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ ، فَإِذَا أَحْدَثَ لَهُ حَجْرًا ثَانِيًا كَانَ الْمُشْتَرِي وَجَمِيعُ الْغُرَمَاءِ أُسْوَةً فِيمَا بِيَدِهِ .


بَابُ جَوَازِ حَبْسِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ

بَابُ جَوَازِ حَبْسِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِيعَ مَا ظَهَرَ لَهُ وَدُفِعَ وَلَمْ يُحْبَسْ ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ حُبِسَ وَبِيعَ مَا قُدِرَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ ، فَإِنْ ذَكَرَ عُسْرَهُ قُبِلَتْ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ لِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأُحَلِّفُهُ مَعَ ذَلِكَ بِاللَّهِ وَأُخَلِّيهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا حُجِرَ عَلَى الْمُفْلِسِ بِدُيُونِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَظْهَرَ لَهُ مَالٌ أَوْ لَا يَظْهَرَ ، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ مَالٌ بِيعَ فِي دَيْنِهِ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَتَوَلَّاهُ الْمُفْلِسُ إِنْ كَانَ حَاضِرًا لِيَقَعَ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْحَاكِمُ فِيهِ ، وَلَيْسَ يَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ الْبَيِّنَةِ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِمِلْكِ مَا بَاعَ إِذَا كَانَ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِبَيْعِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ بَيْعَ مَالِهِ أَوْ حَضَرَ فَامْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ لَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَبِيعَهُ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْبَيِّنَةِ عِنْدَ تَمَلُّكِهِ لَهُ وَإِذَا ثَبَتَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ ، وَيُقَدَّمُ بِالْبَيْعِ إِلَى أَمِينٍ لَهُ ، وَأَجَازَ الْحَاكِمُ بَيْعَهُ ، فَإِذَا بِيعَتْ عَلَيْهِ أَمْوَالُهُ الظَّاهِرَةُ فَإِنْ كَانَ فِيهَا وَفَاءٌ بِدَيْنِهِ فَكَّ حَجْرَهُ فِي الْحَالِ لِزَوَالِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْحَجْرَ ، وَالْحَجْرُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَرْتَفِعُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ بِرَفْعِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا بِيعَ مِنْ مَالِهِ وَفَاءٌ بِدَيْنِهِ كَانَ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ كَمَنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَالٌ ، وَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَالٌ سُئِلَ عَنْ مَالِهِ ؟ فَإِنْ ذَكَرَ مَالًا حُكِمَ فِيهِ بِمَا ذَكَرْنَا فِي مَالِهِ الظَّاهِرِ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ لَهُ مَالًا وَادَّعَى الْعُسْرَةَ سُئِلَ الْغُرَمَاءُ عَنْهُ ، فَإِنْ صَدَّقُوهُ فِي الْإِعْسَارِ خُلِّيَ عَنْهُ وَلَمْ يَحْبِسْهُ وَفَكَّ حَجْرَهُ لِيَكْتَسِبَ بِتَصَرُّفِهِ مَا يَكُونُ مَصْرُوفًا فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ ، وَإِنْ كَذَّبُوهُ فِي الْإِعْسَارِ وَادَّعَوْا عَلَيْهِ الْيَسَارَ لَمْ تَخْلُ حَالُ الدُّيُونِ الَّتِي لَزِمَتْهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي مُقَابَلَتِهِ مَالٌ أَوْ لَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ كَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَصَدَاقِ الزَّوْجَاتِ وَغُرْمِ الْعَوَارِي وَالضَّمَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الْإِعْسَارِ مَعَ يَمِينِهِ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّاسِ الْإِعْسَارُ وَيُفَكُّ حَجْرُهُ وَيُطْلَقُ وَلَا يُحْبَسُ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْغُرَمَاءُ الْبَيِّنَةَ بِيَسَارِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ دُيُونُهُ فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ كَأَثْمَانِ الْمَبِيعَاتِ وَبَدَلِ الْقَرْضِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَاهُ الْإِعْسَارَ لِثُبُوتِ يَسَارِهِ بِمَا صَارَ إِلَيْهِ فِي مُقَابَلَةِ دَيْنِهِ ، إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ بِإِعْسَارِهِ ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِهِ نُظِرَ فِي الْبَيِّنَةِ ، فَإِنْ شَهِدَتْ بِهَلَاكِهِ وَتَلَفِهِ سُمِعَتْ ، سَوَاءٌ كَانَ الشُّهُودُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ بِهِ أَمْ لَا ، لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ بِثُبُوتِ جَائِحَةٍ قَدْ يَعْلَمُهَا الْبَعِيدُ كَمَا يَعْلَمُهَا الْقَرِيبُ ، وَإِنْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ بِإِعْسَارِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْهَدُوا بِتَلَفِ مَالِهِ فَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ فِيهِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ بِهِ لَمْ تُقْبَلْ

شَهَادَتُهُمْ لِأَنَّ حُدُوثَ الْإِعْسَارِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا مَنْ يُخْبَرُ بَاطِنَ أَمْرِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَتِ الْبَيِّنَةُ بِإِعْسَارِهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا فَإِنْ سَأَلَ الْغُرَمَاءُ إِحْلَافَهُ عَلَى إِعْسَارِهِ بَعْدَ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْإِعْسَارِ أَحَلَفَ لَهُمْ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ بَعْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِإِعْسَارِهِ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْبَيِّنَةِ وَالْيَمِينِ الجمع بين البينة واليمين وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْأُصُولِ ، وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ مَا يُطَالَبُ بِالْيَمِينِ عَلَى نَفْيِهِ غَيْرُ مَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ بِهِ ، لِأَنَّ شَهَادَةَ الْبَيِّنَةِ تَنْفِي مَا ظَهَرَ مِنَ الْمَالِ ، وَيَمِينُهُ يَنْفِي مَا خَفِيَ مِنَ الْمَالِ ، فَصَارَ الْمَنْفِيُّ بِالْبَيِّنَةِ غَيْرَ الْمَنْفِيِّ بِالْيَمِينِ ، وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى رَجُلٍ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مَالًا وَأَقَامَ بَيِّنَةً فَادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَبْرَأَهُ مِنَ الدَّيْنِ وَأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَحْلِفُ مَعَ الْبَيِّنَةِ بِاللَّهِ أَنَّهُ لَمْ يُبْرِئْهُ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْبَيِّنَةِ وَالْيَمِينِ ؛ لِأَنَّ مَا أَثْبَتَهُ بِالْبَيِّنَةِ غَيْرُ مَا نَفَاهُ بِالْيَمِينِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَحْلِفُ مَعَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ فَحَلَفَ وَجَبَ أَنْ يُفَكَّ عَنْهُ الْحَجْرُ وَيُخَلَّى ، وَبِمَاذَا يُفَكُّ حَجْرُهُ فك حجر المفلس ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّهُ يَنْفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِإِعْسَارِهِ مَعَ يَمِينِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْتَقِرَ فَكُّ الْحَجْرِ إِلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ بِهِ ، لِأَنَّ ثُبُوتَ إِعْسَارِهِ يُوجِبُ فَكَّ حَجْرِهِ كَمَا يُوجِبُ قَضَاءَ دَيْنُهُ ، ثُمَّ كَانَ قَضَاءُ الدَّيْنِ يَقَعُ بِهِ فَكُّ الْحَجْرِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ فَكَذَلِكَ الْإِعْسَارُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ الْحَجْرُ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ ، لِأَنَّ تَعَلُّقَ حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ بِذِمَّتِهِ يَقْتَضِي وُجُوبَ مُطَالَبَتِهِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُمْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِحُكْمٍ ، بِخِلَافِ الْمُؤَدِّي لِجَمِيعِ دَيْنِهِ وَيُوشِكُ أَنْ يَكُونَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي مَعْنَى الْحَجْرِ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى حَجْرِ الْمَرَضِ انْفَكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ بِغَيْرِ حُكْمٍ كَالْمَرِيضِ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى حَجْرِ السَّفَهِ لَمْ يَنْفَكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ إِلَّا بِحُكْمٍ كَالسَّفِيهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا إِنْ لَمْ تَقُمِ الْبَيِّنَةُ بِإِعْسَارِهِ وَجَبَ حَبْسُهُ بِدُيُونِهِ حبس المفلس بديونه إن لم تقم البينة على إعساره - إِنْ سَأَلَ الْغُرَمَاءُ حَبْسَهُ - وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْبَسَ أَحَدٌ فِي دَيْنٍ ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا حَبَسَ فِي دَيْنٍ قَطُّ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ الْحَبْسِ فِي الدَّيْنِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ يَدًا وَمَقَالًا يَعْنِي بِالْيَدِ : الْحَبْسَ وَالْمُلَازَمَةَ ، وَبِالْمَقَالِ : الِاقْتِضَاءَ وَالْمُطَالَبَةَ ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَيُّ الْوَاجِدِ يُبِيحُ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ ، يَعْنِي بِإِبَاحَةِ الْعَرْضِ : الْمُطَالَبَةَ وَالتَّوْبِيخَ بِالْمُمَاطَلَةِ ، وَبِالْعُقُوبَةِ : الْحَبْسَ ، لِأَنَّ مَا سِوَى الْحَبْسِ مِنَ الضَّرْبِ وَغَيْرِهِ لَا يَجُوزُ ، وَقَوْلُهُ : " لَيُّ الْوَاجِدِ " يَعْنِي : مَنْعَهُ وَمُمَاطَلَتَهُ ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ : تُطِيلِينَ لَيًّا لِي وَأَنْتِ مُلِيَّةٌ فَأَحْسِنْ بِآدَابِ الْوِسَاخِ التَّقَاضِيَا

ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْحَبْسِ أَيْضًا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " حَبَسَ رَجُلًا يَوْمًا وَلَيْلَةً فِي تُهْمَةٍ " فَلَمَّا جَازَ حَبْسُهُ فِي تُهْمَةٍ لَمْ تَثْبُتْ عَلَيْهِ فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ حَبْسُهُ فِي دَيْنٍ ثَبَتَ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ الْحَبْسَ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ ، وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إِلَى اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ إِلَّا بِهِ كَانَ مُسْتَحَقًّا كَالْمُلَازَمَةِ ، فَإِذًا ثَبَتَ أَنَّهُ يُحْبَسُ بِدَيْنِهِ ، - فَإِذَا اتَّفَقَ غُرَمَاؤُهُ عَلَى حَبْسِهِ حُبِسَ ، وَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَى تَرْكِهِ أُطْلِقَ ، وَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَى مُلَازَمَتِهِ دُونَ حَبْسِهِ لُوزِمَ ، لِأَنَّ الْمُلَازَمَةَ أَقَلُّ ضَرَرًا مِنَ الْحَبْسِ ، فَأَمَّا إِنْ سَأَلَ بَعْضُ غُرَمَائِهِ حَبْسَهُ وَرَضِيَ الْبَاقُونَ بِإِطْلَاقِهِ وَجَبَ أَنْ يُحْبَسَ لِمَنْ سَأَلَ حَبْسَهُ - وَلَوْ كَانَ وَاحِدًا وَأَقَلَّ جَمَاعَتِهِمْ حَقًّا - وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْبَسَ لِبَعْضِهِمْ إِذَا أَطْلَقَهُ الْبَاقُونَ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عَلَى حَبْسِهِ حبس بعض الغرماء للمفلس وإطلاق بعضهم ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ حَبْسَهُ مُسْتَحَقٌّ فِي دَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ حَقُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَفْوِ غَيْرِهِ كَالْيَمِينِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا نَفَقَتُهُ فِي مُدَّةِ حَبْسِهِ المفلس فَفِي مَالِهِ دُونَ غُرَمَائِهِ ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى وُجُوبِهَا عَلَى غُرَمَائِهِ الْحَابِسِينَ لَهُ ، وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا ، وَهَذَا مَذْهَبٌ مَطْرُوحٌ وَقَوْلٌ مَرْدُودٌ : لِأَنَّهُ حُبِسَ لِغُرَمَائِهِ لِيَتَوَصَّلُوا إِلَى حُقُوقِهِمْ بِحَبْسِهِ ، فَلَوْ لَزِمَتْهُمْ نَفَقَتُهُ لَأَضَرَّ الْحَبْسُ بِهِمْ دُونَهُ ، وَلَارْتَفَقَ بِهِ دُونَهُمْ ، فَتَبْطُلُ فَائِدَةُ الْحَبْسِ وَالتَّوَصُّلِ إِلَى الْحَقِّ ، فَإِنْ كَانَ ذَا صَنْعَةٍ فَعَمِلَهَا فِي حَبْسِهِ إن كان المفلس ذا صنعة عمل بها في حبسه فَفِي مَنْعِهِ مِنْهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُمْنَعُ ، لِأَنَّ فِي تَرْكِهِ وَعَمَلِهِ تَأْخِيرُ أَمْرِهِ وَيُطَاوَلُ حَبْسُهُ اتِّكَالًا عَلَى عَمَلِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ : أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنَ الْعَمَلِ لِأَنَّهُ كَسْبٌ يُفْضِي إِلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ ، وَلَا يَلْزَمُ إِخْرَاجُهُ إِلَى الْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ المفلس ، وَلَا يَكُونُ عَاصِيًا بِتَأَخُّرِهِ عَنْهَا إِذَا كَانَ مُعْسِرًا ، وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْذَانُ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْجُمُعَةِ إِذَا عَلِمَ بِشَاهِدِ الْحَالِ وَغَالِبِ الْعَادَةِ أَنَّهُ لَوِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ ، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ اسْتِئْذَانَ الْمَانِعِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ ، فَإِنْ مُنِعَهُ امْتَنَعَ ، لِأَنَّ ابْنَ سِيرِينَ حُبِسَ فِي ثَمَنِ زَيْتٍ كَانَ عَلَيْهِ ، فَكَانَ يَغْتَسِلُ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ وَيَلْبَسُ ثِيَابَهُ وَيَسْتَأْذِنُ ، فَإِذَا مَنَعَهُ السَّجَّانُ رَجَعَ ، وَلَوِ اسْتَأْذَنَ صَاحِبَ الدَّيْنِ كَانَ حَسَنًا ، وَأَمَّا إِذْنُ السَّجَّانِ فَلَا يُؤَثِّرُ ، وَلَوْ تَمَكَّنُ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْجُمُعَةِ لَمْ يَتَأَخَّرْ .

فَصْلٌ : وَلَوْ حُبِسَ لِرَجُلٍ بِحَقٍّ فَجَاءَ آخَرُ فَادَّعَى عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ حَقًّا جَازَ لِلْحَاكِمِ إِخْرَاجُهُ مِنْ حَبْسِهِ لِاسْتِمَاعِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْحَبْسِ لِسَمَاعِ الدَّعْوَى لِمَا فِيهِ مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّ الْأَوَّلِ مِنْ حَبْسِهِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ إِذَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهَا لَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ ، وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ فِي حَقِّ الثَّانِي مِنْ دَعْوَاهُ وَيَرُدَّ إِلَى حَقِّ الْأَوَّلِ فِي حَبْسِهِ ، وَلَوْ كَانَ مَا قَالَ مَالِكٌ صَحِيحًا لَكَانَ الْحَبْسُ نَافِعًا لَهُ فِي دَفْعِ الدَّعَاوَى

عَنْهُ ، فَلَوْ مَاتَ الْمَحْبُوسُ المفلس وَجَبَ إِخْرَاجُهُ مِنْ حَبْسِهِ وَدَفْعُهُ إِلَى أَهْلِهِ لِيَتَوَلَّوْا كَفَنَهُ وَدَفْنَهُ ، وَلَيْسَ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَمْنَعُوا مِنْ دَفْنِهِ ، فَإِنْ مَنَعُوا نُهُوا ، فَإِنِ انْتَهَوْا وَإِلَّا عُزِّرُوا .

فَصْلٌ : فَلَوْ هَرَبَ الْمَحْبُوسُ المفلس لَمْ يَجِبْ عَلَى الْحَاكِمِ طَلَبُهُ : لِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ حَبْسِهِ وَكَانَ لِلْخَصْمِ أَنْ يَطْلُبَهُ ، فَإِنْ وَجَدَهُ فِي مَوْضِعٍ تَعَذَّرَ عَلَى الْخَصْمِ إِحْضَارُهُ مِنْهُ لَزِمَ الْحَاكِمَ إِحْضَارُهُ مِنْهُ إِذَا كَانَ الْمَوْضِعُ مِنْ عَمَلِهِ ، فَإِذَا حَضَرَ أَعَادَهُ إِلَى الْحَبْسِ إِذَا سَأَلَ ذَلِكَ الْخَصْمُ ثُمَّ سَأَلَ عَنْ سَبَبِ هَرَبِهِ : فَإِنْ قَالَ هَرَبْتُ لِإِعْسَارِي لَمْ يُعَزَّرْ ، لِأَنَّهَا شُبْهَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْإِعْسَارَ عَزَّرَهُ ، وَلَا يُمْنَعِ الْمَحْبُوسُ مِنَ التَّطَلُّعِ إِلَى الطَّرِيقِ مِنْ كُوَّةٍ وَلَا مِنْ مُحَادَثَةِ مَنْ يَزُورُهُ ، وَإِذَا وَجَبَ الْحَبْسُ عَلَى امْرَأَةٍ المفلسة حُبِسَتْ عِنْدَ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ أَوْ عِنْدَ ذِي مَحْرَمٍ وَمُنِعَ الزَّوْجُ مِنْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مُرْضِعًا حُمِلَ الطِّفْلُ إِلَيْهَا لِتُرْضِعَهُ مَا لَمْ تَجِدْ مِنْهُ بُدًّا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَمُنِعَتْ غُرَمَاءُهُ مِنْ لُزُومِهِ حَتَى تَقُومَ بَيِّنَةٌ أَنْ قَدْ أَفَادَ مَالًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا أَطْلَقَ الْحَاكِمُ الْمُفْلِسَ عِنْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِإِعْسَارِهِ مُنِعَ غُرَمَاؤُهُ مِنْ مُلَازَمَتِهِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَهُمْ أَنْ يُلَازِمُوهُ لَا عَلَى جِهَةِ التَّعْطِيلِ عَنْ مَكَاسِبِهِ وَلَكِنْ لِحِفْظِهِ وَمَنْعِهِ مِنَ الْهَرَبِ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ يَدًا وَمَقَالًا وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [ الْبَقَرَةِ : 280 ] وَمُلَازَمَتُهُ تَمْنَعُ مِنْ إِنْظَارِهِ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغُرَمَاءِ مُعَاذٍ : " لَيْسَ لَكُمْ إِلَّا مَا وَجَدْتُمْ " وَرُوِيَ " لَا سَبِيلَ لَكُمْ عَلَيْهِ " ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِدَيْنِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُلَازَمَةُ بِهِ كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ ، فَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْمُوسِرِ لِأَنَّهُ جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ الْيَدِ فِي الْمُلَازَمَةِ وَالْمَقَالِ فِي الْمُطَالَبَةِ ، فَلَمَّا اسْتَحَقَّتِ الْمُطَالَبَةُ عَلَى الْمُوسِرِ دُونَ الْمُعْسِرِ كَذَلِكَ الْمُلَازَمَةُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا فِي يَدَيْهِ مَالًا سَأَلْتُهُ ، فَإِنْ قَالَ : مُضَارَبَةٌ ، قُبِلَتْ مِنْهُ مَعَ يَمِينِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا أُطْلِقَ الْمُفْلِسُ بَعْدَ ثُبُوتِ إِعْسَارِهِ فَادَّعَى غُرَمَاؤُهُ أَنَّهُ قَدْ أَيْسَرَ وَسَأَلُوا الْحَجْرَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ بِيَسَارِهِ : لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ إِعْسَارُهُ فَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَى الْيَسَارِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ ، كَمَا أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى المفلس الإعسار بعد يسار الْإِعْسَارَ بَعْدَ يَسَارٍ لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ ، فَإِنْ لَمْ تَقُمِ الْبَيِّنَةُ بِيَسَارِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ أَنَّهُ عَلَى إِعْسَارِهِ وَهُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ ، وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ حَلَفَ الْغُرَمَاءُ عَلَى يَسَارِهِ وَحُبِسَ حَتَّى يَبِينَ أَمْرُهُ ، وَإِنْ كَانَ الْغُرَمَاءُ حِينَ ادَّعَوْا عَلَيْهِ الْيَسَارَ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ نُظِرَ فِي الْبَيِّنَةِ ، فَإِنْ قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ أَيْسَرَ لَمْ يُحْكَمْ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ حَتَّى يَذْكُرُوا مَا بِهِ صَارَ مُوسِرًا ، وَيَصِفُوهُ إِنْ كَانَ غَائِبًا ، وَيُعَيِّنُوهُ إِنَّ كَانَ حَاضِرًا ، فَإِنْ عَيَّنُوهُ أَوْ وَصَفُوهُ

نَظَرَ فِي شَهَادَتِهِمْ ، فَإِنْ شَهِدُوا لَهُ بِمِلْكِ ذَلِكَ الْمَالِ لَمْ يَحْتَجَّ الْحَاكِمُ إِلَى سُؤَالِهِ وَقَسَمَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ ، فَإِنْ شَهِدُوا بِأَنَّهُمْ رَأَوُا الْمَالَ فِي يَدِهِ وَلَمْ يَشْهَدُوا لَهُ بِمِلْكٍ سُئِلَ الْمُفْلِسُ عَنْهُ فَإِنِ ادَّعَا إِمَّا مِلْكًا لِنَفْسِهِ قَسَمَهُ الْحَاكِمُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ مِلْكًا سُئِلَ عَنْ مَالِكِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ أَحْلَفَ الْغُرَمَاءَ وَاسْتَحَقُّوا حَبْسَهُ دُونَ أَخْذِ الْمَالِ وَاسْتَكْشَفَ الْحَاكِمُ عَنْ حَالِهِ حَتَّى يَبِينَ ، فَإِنْ ذَكَرَ مَالِكَ الْمَالِ وَقَالَ هُوَ مُضَارَبَةٌ أَوْ وَدِيعَةٌ لِفُلَانٍ فَلَا يَخْلُو حَالُ فُلَانٍ الْمُقَرِّ لَهُ بِالْمِلْكِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا ، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُفْلِسِ مَعَ يَمِينِهِ ، فَإِنْ حَلَفَ فَهُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ ، وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْغُرَمَاءِ ، فَإِنْ حَلَفُوا لَمْ يَحْكُمْ لَهُمْ بِالْمَالِ وَلَكِنْ يَحْبِسُ لَهُمُ الْمُفْلِسَ حَتَّى يَنْكَشِفَ أَمْرُهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا ، فَإِنْ كَانَ الْمُقَرُّ لَهُ بِالْمَالِ حَاضِرًا سُئِلَ عَنْهُ ، فَإِنْ أَنْكَرَ وَأَكْذَبَ الْمُفْلِسَ فِي إِقْرَارِهِ نُزِعَ الْمَالُ مِنْ يَدِهِ وَقُسِمَ بَيْنَ غُرَمَائِهِ وَحُبِسَ لَهُمْ بِهِ ، وَإِنْ صَدَّقَهُ وَاعْتَرَفَ بِهِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُفْلِسِ فِيهِ الْيَمِينُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ الْيَمِينُ لِاحْتِمَالِهِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ الْغَائِبُ . وَالثَّانِي : لَا يَمِينَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ لَمْ يُقْبَلْ فَلَمْ يَكُنْ لِزَجْرِهِ بِالْيَمِينِ تَأْثِيرٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا غَايَةَ لِحَبْسِهِ أَكْثَرَ مِنَ الْكَشْفِ عَنْهُ ، فَمَتَى اسْتَقَرَّ عِنْدَ الْحَاكِمِ مَا وَصَفْتُ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبْسُهُ وَلَا يَغْفِلُ الْمَسْأَلَةَ عَنْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا حُبِسَ الْمُفْلِسُ لِغُرَمَائِهِ لِعَدَمِ الْبَيِّنَةِ بِعُسْرَتِهِ اسْتَكْشَفَ الْحَاكِمُ أَمْرَهُ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْقِلَهُ ، وَقَالَ مَالِكٌ : يَجِبُ أَنْ يَعْقِلَهُ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ بِعُسْرَتِهِ وَلَا يَجُوزَ أَنْ يَتَوَلَّى الْحَاكِمُ الْكَشْفَ عَنْ حَالِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَيْلٌ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَلْزَمُهُ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ ، بَلْ يَلْزَمُهُ رَفْعُ الظُّلْمِ ، وَحَبْسُ الْمُفْلِسِ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا ظُلْمٌ وَالْمَحْبُوسِ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ، فَلَزِمَ الْحَاكِمَ أَنْ يَتَوَلَّى الْكَشْفَ عَنْ حَالِهِ لِيُقِرَّ الْحَقَّ مَقَرَّهُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَتَى قَامَتْ عِنْدَهُ الْبَيِّنَةُ بِإِعْسَارِهِ بَعْدَ الْكَشْفِ عَنْ حَالِهِ وَجَبَ إِطْلَاقُهُ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَظِرَ بِهِ بِقَضْيِ مُدَّةٍ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا رَوَاهُ مُحَمَّدٌ عَنْهُ : يُحْبَسُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ يُخَلَّى ، وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ : أَنَّهُ يُحْبَسُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ يُخَلَّى ، وَرَوَى غَيْرُهُمَا : أَنَّهُ يُحْبَسُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يُخَلَّى ، وَكُلُّ هَذَا فَاسِدٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [ الْبَقَرَةِ : 280 ] وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ دَلَّتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهَا عَنْ تَأْخِيرِ الْحُكْمِ بِهَا كَسَائِرِ الدَّعَاوِي ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ قِيَامُ الْبَيِّنَةِ بِعُسْرَتِهِ قَبْلَ الْحَبْسِ تُوجِبُ تَرْكَهُ فِي الْحَالِ كَذَلِكَ بَعْدَ الْحَبْسِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُطْلَقُ فِي الْحَالِ عِنْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِعُسْرَتِهِ فَإِنَّ الْحَاكِمَ

يُحَلِّفُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ ، فَإِنْ حَلَفَ أَطْلَقَهُ ، وَإِنْ نَكَلَ فَعَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَحَدُهُمَا : يُطْلِقُهُ بِالْبَيِّنَةِ الَّتِي هِيَ ظَاهِرُ حَالِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُتْرَكَ مَحْبُوسًا حَتَّى يَحْلِفَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا أَفَادَ مَالًا فَجَائِزٌ مَا صَنَعَ فِيهِ حَتَّى يُحْدِثَ لَهُ السُّلْطَانُ وَقْفًا آخَرَ لِأَنَّ الْوَقْفَ الْأُوَلَ لَمْ يَكُنْ لَهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ رَشِيدٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا أُطْلِقَ حَجْرُ الْمُفْلِسِ بَعْدَ ثُبُوتِ إِعْسَارِهِ كَانَ تَصَرُّفُهُ فِيمَا أَفَادَ مِنْ كَسْبِهِ وَمَلَكَ مِنْ مَالٍ جَائِزًا ، وَكَانَتْ عُقُودُهُ مَاضِيَةً ، وَعِتْقُهُ نَافِذًا ، وَهِبَتُهُ جَائِزَةً ، وَإِبْرَاؤُهُ صَحِيحًا ، وَإِقْرَارُهُ لَازِمًا ، لِأَنَّهُ عَادَ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ إِلَى حَالِهِ قَبْلَ وُقُوعِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا صَحَّ ذَلِكَ مِنْهُ قَبْلَ وُقُوعِ الْحَجْرِ وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْحَجْرِ عَنْهُ ، فَإِنْ سَأَلَ الْغُرَمَاءُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ لَهُ حَجْرًا ثَانِيًا جَازَ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ ثَانِيَةً إِذَا حَدَثَ مَا يُوجِبُ الْحَجْرَ ، وَيُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ بَعْدَ الْحَجْرِ الثَّانِي كَمَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ بَعْدَ الْحَجْرِ الْأَوَّلِ ، وَيَسْتَأْنِفُ قِسْمَةَ مَالِهِ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْ غُرَمَائِهِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَعَلَى مَنِ اسْتُحْدِثَ مِنَ الْغُرَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَيَكُونُ جَمِيعُهُمْ أُسْوَةً فِي مَالِهِ بِقَدْرِ دُيُونِهِمْ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَقَعُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ لِغُرَمَائِهِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَيَخْتَصُّونَ بِمَالِهِ دُونَ الْمُتَقَدِّمِينَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالَ مَا حَدَثَ بِيَدِهِ أَنَّهُ مَالُ مَنْ حَدَثَ مِنْ غُرَمَائِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا أَحَقَّ بِهِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، لِاسْتِوَاءِ الْجَمِيعِ فِي ثُبُوتِ حُقُوقِهِمْ فِي ذِمَّتِهِ فَلَمِ يَكُنْ لِلْمُتَأَخِّرِينَ مَزِيَّةٌ عَلَى الْمُتَقَدِّمِينَ كَالْحَجْرِ الْأَوَّلِ لَا يَكُونُ لِمَنْ كَانَ ثُبُوتُ حَقِّهِ أَقْرَبَ فَضْلًا عَلَى مَنْ كَانَ ثُبُوتُ حَقِّهِ أَبْعَدَ فَهَذَا يُفْسِدُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِ الْحَقَّيْنِ فَضْلٌ عَلَى الْآخَرِ لَكَانَ تَقْدِيمُ الْمُقَدَّمِ أَوْلَى لِسَبْقِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا أَرَادَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ إِلَى أَجَلٍ السَّفَرَ وَأَرَادَ غَرِيمُهُ مَنْعَهُ لِبُعْدِ سَفَرِهِ وَقُرْبِ أَجَلِهِ أَوْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِهِ مُنِعَ مِنْهُ وَقِيلَ لَهُ : حَقُّكَ حَيْثُ وَضَعْتَهُ وَرَضِيتَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا أَرَادَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ أَنْ يُسَافِرَ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ مَنْعُهُ وَلَا أَنْ يُطَالِبَهُ بِرَهْنٍ وَلَا كَفِيلٍ سَوَاءٌ كَانَ السَّفَرُ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْأَجَلُ طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهُ يَوْمٌ أَوْ بَعْضُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ اعْتِرَاضٌ ، فَإِنْ تَعَرَّضَ لِمَنْعِهِ مَنَعَهُ الْحَاكِمُ مِنْهُ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ إِذَا أَرَادَ السَّفَرَ بِرَهْنٍ أَوْ كَفِيلٍ ، فَإِنْ أَعْطَاهُ بِدَيْنِهِ رَهْنًا أَوْ كَفِيلًا وَإِلَّا كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ السَّفَرِ ، قَالَ : لِأَنَّهُ إِذَا حَلَّ الدَّيْنُ وَهُوَ غَائِبٌ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ ، وَدَلِيلُنَا : أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَسْتَحِقَّ مُطَالَبَةُ الْمُقِيمِ بِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ مُطَالَبَةُ الْمُسَافِرِ بِهِ كَالْأَدَاءِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ دَيْنٍ لَا يَسْتَحِقُّ أَدَاؤُهُ لَا يَسْتَحِقُّ التَّوَثُّقُ بِهِ كَالْحَاضِرِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ

أَنْ يَسْتَحِقَّ هَذِهِ الْمُطَالَبَةُ فِي الْمُدَايَنَاتِ لَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ فِي نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يُطَالِبَهُ بِذَلِكَ إِذَا سَافَرَ لِبُعْدِ عَوْدِهِ جَازَ أَنْ يُطَالِبَهُ بِهِ إِذَا أَقَامَ خَوْفًا مِنْ هَرَبِهِ ، بَلْ يُقَالُ لَهُ : حَقُّكَ حَيْثُ وَضَعْتَهُ مِنَ الذِّمَمِ وَإِلَى الْوَقْتِ الَّذِي رَضِيتَهُ مِنَ الْأَجَلِ ، وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُكَ الِاحْتِيَاطُ فِيهِ لِنَفْسِكَ بِاشْتِرَاطِ الْوَثِيقَةِ مِنَ الرَّهْنِ أَوِ الضَّمَانِ فِي وَقْتِ الْعَقْدِ فَتَأْمَنَ مَا اسْتُحْدِثَ خَوْفُهُ فَصِرْتَ بِتَرْكِ ذَلِكَ مُفَرِّطًا .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا نُظِرَ فِي سَفَرِهِ ، فَإِنْ كَانَ لِتِجَارَةٍ أَوْ زِيَارَةٍ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ ، فَإِنْ كَانَ سَفَرُ جِهَادٍ سفر من عليه الدين المؤجل من أجل الجهاد فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِيهِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَسْفَارِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَهُ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ وَيُطَالِبَهُ بِالْوَثِيقَةِ ، لِأَنَّ فِي سَفَرِ الْجِهَادِ تَعْرِيضًا لِلشَّهَادَةِ فَخَالَفَ غَيْرَهُ مِنَ الْأَسْفَارِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
_____كِتَابُ الْحَجْرِ _____

بيان الْأَصْلُ فِيهِ

كِتَابُ الْحَجْرِ أَمَّا الْحَجْرُ فَهُوَ مِنْ كَلَامِهِمُ الْمَنْعُ ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ في ماله بِاخْتِيَارِهِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [ النِّسَاءِ : 6 ] " ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فَمَعْنَى قَوْلِهِ ( ابْتَلُوا ) أَيِ اخْتَبِرُوا ، وَقَوْلُهُ ( الْيَتَامَى ) هُمُ الصِّغَارُ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ آبَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْيُتْمَ فِي الْآدَمِيِّينَ بِمَوْتِ الْآبَاءِ وَفِي الْبَهَائِمِ بِمَوْتِ الْأُمَّهَاتِ ، لِأَنَّ الْبَهِيمَةَ تُنْسَبُ إِلَى أُمِّهَا فَكَانَ يُتْمُهَا بِمَوْتِ الْأُمِّ ، وَالْآدَمِيُّ يُنْسَبُ إِلَى أَبِيهِ فَكَانَ يُتْمُهُ بِمَوْتِ الْأَبِ ، وَقَوْلُهُ حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ [ النِّسَاءِ : 6 ] يَعْنِي الِاحْتِلَامَ لِأَنَّ بِالِاحْتِلَامِ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ التَّكْلِيفُ وَيَزُولُ عَنْهُ الْيُتْمُ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُتْمَ بَعْدَ حُلُمٍ . وَقَوْلُهُ فَإِنْ آنَسْتُمْ أَيْ عَلِمْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا ، فِي الرُّشْدِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ الْعَقْلُ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ الْعَقْلُ وَالصَّلَاحُ فِي الدِّينِ وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ وَالصَّلَاحُ فِي الْمَالِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالْحُسْنِ الْبَصْرِيِّ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [ النِّسَاءِ : 6 ] يَعْنِي الَّتِي تَحْتَ أَيْدِيكُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا أَيْ لَا تَأْخُذُوهَا إِسْرَافًا يَعْنِي عَلَى غَيْرِ مَا أَبَاحَ اللَّهُ لَكُمْ

وَأَصْلُ الْإِسْرَافِ : تَجَاوُزُ الْحَدِّ الْمُبَاحِ . وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا يَعْنِي تَأْكُلُ مَالَ الْيَتِيمِ مُبَادِرًا أَنْ يَبْلُغَ فَيَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِهِ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ [ النِّسَاءِ : 6 ] يَعْنِي بِمَالِ نَفْسِهِ عَنْ مَالِ الْيَتِيمِ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى هَذَا الْأَكْلِ الْمُبَاحِ لِلْفَقِيرِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ الْقَرْضُ ، يَسْتَقْرِضُ ثُمَّ يَقْضِي إِذَا وَجَدَ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَأْكُلُ مَا سَدَّ الْجَوْعَةَ ، وَيَلْبَسُ مَا وَارَى الْعَوْرَةَ وَلَا قَضَاءَ ، وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ ، وَمَكْحُولٍ ، وَقَتَادَةَ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ثَمَرِهِ وَيَشْرَبَ مِنْ رَسْلِ مَاشِيَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ وَالشَّعْبِيِّ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَأْخُذَ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا أُجْرَةَ عَمَلِهِ مَعْلُومَةً عَلَى قَدْرِ خِدْمَتِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ . وَمِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْحَجْرِ أَيْضًا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ [ الْبَقَرَةِ : 282 ] . أَمَّا السَّفِيهُ المراد به فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الْجَاهِلُ بِالصَّوَابِ فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ الْمُبَذِّرُ لِمَالِهِ الْمُفْسِدُ لَهُ فِي الْجِهَاتِ الْمُحَرَّمَةِ ، وَهَذَا أَصَحُّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّهُ أَلْيَقُ بِمَعْنَى اللَّفْظِ . أَمَّا الضَّعِيفُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ الْأَحْمَقُ ؛ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ ضَعِيفُ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ الصَّغِيرُ الَّذِي يَضْعُفُ عَنِ الْقِيَامِ بِأَمْرِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ . " أَمَّا الَذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ المقصود منه " فَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ الْأَخْرَسُ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ الْمَمْنُوعُ بِحَبْسٍ أَوْ غَيْبَةٍ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ الْمَغْلُوبُ عَلَى عَقْلِهِ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، لِأَنَّ الْخَرَسَ وَالْغَيْبَةَ لَا يُوجِبَانِ الْحَجْرَ . وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ [ الْبَقَرَةِ : 282 ] فَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يُرِيدُ وَلِيَّ الْحَقِّ وَهُوَ صَاحِبُهُ ، أَنْ يَعْدِلَ فِي إِمْلَائِهِ وَمُطَالَبَتِهِ بِالْحَقِّ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ عَلَى وَلِيِّ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ فِيمَا لَزِمَ مِنْ أَرْشِ جِنَايَةٍ أَوْ قِيمَةِ مُتْلَفٍ ، وَهَذَا قَوْلُ الضَّحَّاكِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ [ الْبَقَرَةِ : 282 ] بِمَعْنَى الَّذِي لَهُ الْحَقُّ فَأَقَامَ عَلَيْهِ بِمَعْنَى لَهُ ، لِأَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ يَقُومُ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ ، فَدَلَّتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ عَلَى الْحَجْرِ . أَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهَا أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِدَفْعِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى بِوُجُودِ شَرْطَيْنِ وَهُمَا : الْبُلُوغُ وَالرُّشْدُ ، اقْتَضَى أَنْ لَا يَدْفَعَ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ قَبْلَ وُجُودِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ ، وَهَذَا هُوَ الْحَجْرُ . وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهَا أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِالْإِمْلَاءِ عَنِ السَّفِيهِ وَالضَّعِيفِ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُهُمْ مِنَ التَّصَرُّفِ وَاسْتِحْقَاقِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِمَا . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( أَنَّهُ حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ بِدَيْنِهِ ) فَلَمَّا أَوْقَعَ الْحَجْرَ لِحَقِّ الْغَيْرِ كَانَ وُقُوعُهُ لِنَفْسِهِ أَوْلَى . وَرُوِيَ أَنَّ قَوْمَ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ يَخْدَعُ فِي بِيَاعَاتِهِ ، فَحَجَرَ عَلَيْهِ حَجْرَ مِثْلِهِ وَلَمْ يَجْعَلْ عُقُودَهُ مُنْبَرِمَةً ، وَجَعَلَ لَهُ خِيَارَ ثَلَاثٍ ، وَقَالَ لَهُ : إِذَا ابْتَعْتَ فَقُلْ لَا خِلَابَةَ فِي الْإِسْلَامِ ، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَهُوَ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ حِينَ سَأَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ ، وَإِجْمَاعُ بَاقِي الصَّحَابَةِ عَلَى جَوَازِ الْحَجْرِ حكمه حَتَّى كَانَ مِنْ شَأْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَا سَنَذْكُرُهُ .

فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي أَسْبَابِ الْحَجْرِ

فَصْلٌ : الْقَوْلُ فِي أَسْبَابِ الْحَجْرِ فَإِذَا ثَبَتَ اسْتِحْقَاقُ الْحَجْرِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلِيلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَالْحَجْرُ مُسْتَحَقٌّ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَوْجُهٍ :

أَحَدُهَا : حَجْرُ الصِّغَرِ . وَالثَّانِي : حَجْرُ الْجُنُونِ . وَالثَّالِثُ : حَجْرُ السَّفَهِ . وَالرَّابِعُ : حَجْرُ الْفَلَسِ . وَالْخَامِسُ : حَجْرُ الْمَرَضِ . وَالسَّادِسُ : حَجْرُ الرِّدَّةِ . وَالسَّابِعُ : حَجْرُ الرِّقِّ . وَالثَّامِنُ : حَجْرُ الْكِتَابَةِ . وَيَنْقَسِمُ الْحَجْرُ أقسامه إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ لَا يَثْبُتُ الْحَجْرُ بِهِ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ ، وَهُوَ حَجْرُ الْفَلَسِ وَحَجْرُ السَّفَهِ . وَقِسْمٌ يَثْبُتُ بِغَيْرِ حُكْمٍ ، وَهُوَ حَجْرُ الصِّغَرِ ، وَحَجْرُ الْجُنُونِ ، وَحَجْرُ الْمَرَضِ ، وَحَجْرُ الرِّقِّ ، وَحَجْرُ الْكِتَابَةِ . وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، وَهُوَ حَجْرُ الرِّدَّةِ . أَقْسَامُ الْحَجْرِ بِاعْتِبَارِ أَثَرِهِ ثُمَّ هِيَ أَيْضًا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ يَثْبُتُ الْحَجْرُ فِي حَقِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَهُوَ حَجْرُ الصِّغَرِ وَالْجُنُونِ وَالسَّفَهِ . وَقِسْمٌ يَثْبُتُ الْحَجْرُ فِيهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، وَهُوَ حَجْرُ الْفَلَسِ وَالْمَرَضِ وَالرِّدَّةِ وَالرِّقِّ وَقِسْمٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ حَقِّهِ وَحَقِّ غَيْرِهِ ، وَهُوَ الْكِتَابَةُ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ مَوْضِعٌ . وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ هَذَا الْكِتَابُ بِحَجْرِ الصِّغَرِ وَحَجْرِ السَّفَهِ .

الْقَوْلُ فِي عَلَامَاتِ وَزَمَانِ الْبُلُوغِ

الْقَوْلُ فِي عَلَامَاتِ وَزَمَانِ الْبُلُوغِ - الْبُلُوغُ بِالِاحْتِلَامِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالْبُلُوغُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً ، إِلَّا أَنْ يَحْتَلِمَ الْغُلَامُ أَوْ تَحِيضَ الْجَارِيَةُ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ فَأَثْبَتَ الْوِلَايَةَ عَلَى السَّفِيهِ وَالضَّعِيفِ وَالَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ وَأَمَرَ وَلِيَّهُ بِالْإِمْلَاءِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهُ فِيمَا لَا غِنَى بِهِ عَنْهُ فِي مَالِهِ مَقَامَهُ ، وَقِيلَ : الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَغْلُوبَ عَلَى عَقْلِهِ ، وَهُوَ أَشْبَهُ مَعَانِيهِ بِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : ثُمَّ بَدَأَ الشَّافِعِيُّ بِذِكْرِ الصِّغَرِ ، وَحَدِّ الصِّغَرِ إِلَى زَمَانِ الْبُلُوغِ ، وَالْبُلُوغُ يَكُونُ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ ، ثَلَاثَةٌ مِنْهَا يَشْتَرِكُ فِيهَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَهِيَ : الِاحْتِلَامُ ، وَالْإِنْبَاتُ ، وَالسِّنُّ ، وَشَيْئَانِ مِنْهَا يَخْتَصُّ بِهِمَا النِّسَاءُ دُونَ الرِّجَالِ وَهُمَا الْحَيْضُ وَالْحَمْلُ . فَأَمَّا الِاحْتِلَامُ فَإِنَّمَا كَانَ بُلُوغًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا [ النُّورِ : 59 ] وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ " وَذَكَرَ مِنْهَا الصَّبِيَّ حَتَّى يَحْتَلِمَ . وَالِاحْتِلَامُ تعريفه هُوَ إِنْزَالُ الْمَنِيِّ الدَّافِقِ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ مِنْ نَوْمٍ أَوْ جِمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِمَا . وَأَقَلُّ زَمَانِ الِاحْتِلَامِ فِي الْغِلْمَانِ والجواري عَشْرُ سِنِينَ ، وَفِي الْجَوَارِي تِسْعُ سِنِينَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْإِنْبَاتُ وتعلقه بالبلوغ فَقَدْ مَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَكُونَ لَهُ بِالْبُلُوغِ تَعَلُّقٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ " وَذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ ، فَجَعَلَ الِاحْتِلَامَ حَدًّا لِبُلُوغِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ إِنْبَاتُ شَعْرِ الْوَجْهِ بُلُوغًا فَأَوْلَى أَلَّا يَكُونَ إِنْبَاتُ شَعْرِ الْعَانَةِ بُلُوغًا . وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ بُلُوغًا أَنَّ سَبْيَ بَنِي قُرَيْظَةَ نَزَلُوا مِنْ حُصُونِهِمْ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ ابْنِ مُعَاذٍ الْأَشْهَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَقَالَ سَعْدٌ : حُكْمِي فِيهِمْ أَنَّ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى قُتِلَ ، وَمَنْ لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِ اسْتُرِقَّ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَذَا حُكْمُ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ لِأَنَّ السَّمَاءَ رُقَعٌ ، وَلِأَنَّ شَعْرَ الْعَانَةِ وَالْإِنْزَالَ يَخْتَصَّانِ بِعُضْوٍ يَحْدُثَانِ عِنْدَ وَقْتِ الْبُلُوغِ بِالْإِنْزَالِ شَرْعًا وَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْإِنْبَاتِ شَرْعًا . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْبُلُوغُ عُرْفًا ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْبُلُوغُ شَرْعًا كَالْإِنْزَالِ ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى مِنَ الِاسْتِدْلَالِ فَرَّقْنَا بَيْنَ شَعْرِ الْوَجْهِ وَبَيْنَ شَعْرِ الْعَانَةِ . فَأَمَّا الْخَبَرُ فَلَيْسَ فِي ظَاهِرِهِ مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ النَّصِّ وَالِاسْتِدْلَالِ حُجَّةٌ . فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا وَأَنَّ الْإِنْبَاتَ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْبُلُوغُ فِي الْمُشْرِكِينَ فَهَلْ يَكُونُ بُلُوغًا فِيهِمْ أَوْ دَلَالَةً عَلَى بُلُوغِهِمْ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَكُونُ بُلُوغًا فِيهِمْ كَالْإِنْزَالِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بُلُوغًا فِي الْمُسْلِمِ أَيْضًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ دَلَالَةً عَلَى بُلُوغِهِمْ ، لِأَنَّ سَعْدًا جَعَلَهُ دَلِيلًا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعِلْمِ بِسِنِّهِمْ .

فَعَلَى هَذَا هَلْ هُوَ دَلَالَةٌ عَلَى بُلُوغِ الْمُسْلِمِينَ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَكُونُ دَلَالَةً عَلَى بُلُوغِ الْمُسْلِمِينَ ، لِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْبُلُوغُ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَكُونُ دَلَالَةً عَلَى بُلُوغِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ دَلَالَةً عَلَى بُلُوغِ الْمُشْرِكِينَ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُشْرِكَ تُغَلَّظُ أَحْكَامُهُ بِبُلُوغِهِ كَوُجُوبِ قَتْلِهِ وَأَخْذِ جِزْيَتِهِ ، فَانْتَفَتْ عَنْهُ التُّهْمَةُ فِي مُعَالَجَةِ الْإِنْبَاتِ . وَالْمُسْلِمُ تُخَفَّفُ أَحْكَامُهُ بِبُلُوغِهِ فِي فَكِّ حَجْرِهِ وَثُبُوتِ وِلَايَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ فَصَارَ مُتَّهَمًا فِي مُعَالَجَةِ الْإِنْبَاتِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الضَّرُورَةَ دَعَتْ إِلَى جَعْلِ الْإِنْبَاتِ بُلُوغًا فِي الْمُشْرِكِ لِأَنَّ سِنَّهُ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِخَبَرِهِ ، وَخَبَرُ الْمُشْرِكِ لَا يُقْبَلُ . وَلَمْ تَدْعُ الضَّرُورَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي الْمُسْلِمِ ، لِأَنَّ خَبَرَهُ فِي سِنِّهِ مَقْبُولٌ ، ثُمَّ لَا اعْتِبَارَ فِي الْإِنْبَاتِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ شَعْرًا قَوِيًّا ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ زَغَبًا فَلَا ، فَلَوْ أَنَّ غُلَامًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَبَتَ الشَّعْرُ عَلَى عَانَتِهِ فَشَهِدَ لَهُ عَدْلَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَكْمِلْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَيَكُونُ بُلُوغُهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ، إِنْ قِيلَ : إِنَّ الْإِنْبَاتَ يَكُونُ بُلُوغًا حُكِمَ بِبُلُوغِهِ وَإِنْ كَانَ سِنُّهُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ عَشْرَةَ سَنَةً ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْإِنْبَاتَ دَلَالَةٌ عَلَى الْبُلُوغِ لَمْ يُحْكَمْ بِبُلُوغِهِ إِذَا عُلِمَ نُقْصَانُ سِنِّهِ ، وَهَذِهِ فَائِدَةُ الْقَوْلَيْنِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا السِّنُّ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْبُلُوغُ بِحَالٍ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْبُلُوغُ بِالِاحْتِلَامِ وَغِلَظِ الصَّوْتِ وَانْشِقَاقِ الْغُضْرُوفِ ؛ لِأَنَّ الْبُلُوغَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْحَلْقِ وَتَبَايُنِ النَّاسِ كَاخْتِلَافِ أَعْمَارِهِمْ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ مَعَ اخْتِلَافِهِ حَدًّا . وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْبُلُوغَ يَكُونُ بِالسِّنِّ ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَكُونُ بِهِ بَالِغًا مِنَ السِّنِّ ، وَفِيمَا نَذْكُرُهُ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي قَدْرِهِ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ أَصْلِهِ . وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ الْبُلُوغِ بِالسِّنِّ ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَنَّ الْبُلُوغَ يَكُونُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فِي الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَكُونُ بُلُوغُ الْجَارِيَةِ بِسَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً ، وَبُلُوغُ الْغُلَامِ بِثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ نَصَّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُوجِبَانِ اسْتِصْحَابَ الصِّغَرِ إِلَى الِاحْتِلَامِ وَتَعْلِيقِ التَّكْلِيفِ

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا [ النُّورِ : 59 ] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ . ثُمَّ كَانَ هَذَا السِّنُّ مُجْمَعًا عَلَى الْبُلُوغِ بِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا دُونَهُ مَرْدُودًا بِظَاهِرِ الثَّمَنِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ ، رِوَايَةُ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : عُرِضْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَرَدَّنِي وَلَمْ يَرَنِي بَلَغْتُ ، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ عَامَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً ، فَأَجَازَنِي فِي الْمُقَاتِلَةِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : عُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ بَدْرٍ وَأَنَا ابْنُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً فَرَدَّنِي ، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ عَامَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَرَدَّنِي وَلَمْ يَرَنِي بَلَغْتُ ، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ عَامَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي فِي الْمُقَاتِلَةِ ، فَالدَّلَالَةُ مِنْ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا رَدَّهُ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ عَلِمَ أَنَّ إِجَازَتَهُ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ : لِأَنَّهُ قَدْ بَلَغَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّهُ لِمَعْنًى ثُمَّ يُجِيزُهُ مَعَ وُجُودِ ذَلِكَ الْمَعْنَى . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَجَازَهُ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ فِي الْمُقَاتِلَةِ ، وَهُمُ الْبَالِغُونَ ، وَبِذَلِكَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِأُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ ، أَنَّ هَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ الذُّرِّيَّةِ وَالْمُقَاتِلَةِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ بَلَغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً بِالِاحْتِلَامِ لَا بِالسِّنِّ ، قِيلَ : هَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمَنْقُولَ مَعَ السَّبَبِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى ذَلِكَ السَّبَبِ ، كَمَا نُقِلَ أَنَّ مَاعِزًا زَنَا فَرُجِمَ ، وَالسَّبَبُ الْمَنْقُولُ هُوَ السِّنُّ ، فَعُلِمَ أَنَّ الْبُلُوغَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ : يُحْتَمَلُ أَنَّ الرَّدَّ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لِلضَّعْفِ ، وَالْإِجَازَةَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ لِلْقُوَّةِ ، كَمَا رُوِيَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّهُ قَالَ : " عُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّنِي وَأَجَازَ غُلَامًا ، فَقُلْتُ رَدَدْتَنِي وَأَجَزْتَهُ وَلَوْ صَارَعْتُهُ لَصَرَعْتُهُ ، فَقَالَ : صَارِعْهُ ، فَصَارَعْتُهُ فَصَرَعْتُهُ فَأَجَازَنِي " ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الرَّدَّ وَالْإِجَازَةَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالضَّعْفِ وَالْقُوَّةِ . قِيلَ : قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ لِلضَّعْفِ وَالْإِجَازَةُ لِلْقُوَّةِ حَمْلًا لَهُ عَلَى سَبَبِهِ ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ لِلسِّنِّ حَمْلًا عَلَى سَبَبِهِ . فَإِنْ قِيلَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ نَقَلَ أَنَّ بَيْنَ أُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ سَنَةً ، وَقَدْ رَوَى

الْوَاقِدِيُّ وَأَهْلُ السِّيَرِ أَنَّ بَيْنَ أُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ سَنَتَيْنِ ، قُلْنَا : نَقْلُ ابْنِ عُمَرَ أَثْبَتُ مِنْ نَقْلِ الْوَاقِدِيِّ ، وَقَدْ تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُرِضَ عَلَيْهِ عَامَ أُحُدٍ وَهُوَ فِي أَوَّلِ سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ ، وَعُرِضَ عَلَيْهِ عَامَ الْخَنْدَقِ وَهُوَ فِي آخِرِ سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ فَصَارَ بَيْنَهُمَا سَنَتَانِ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ ابْنَ عُمَرَ لَا يَعْرِفُ سِنَّ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ قَطُّ وِلَادَتَهُ فَلَمْ يَصِحَّ إِخْبَارُهُ بِهِ ، قُلْنَا لَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا حَتَّى لَا يَجُوزَ الْإِخْبَارُ بِهِ لَمَا جَازَ لَهُ الْإِخْبَارُ بِنَسَبِهِ ، وَلَمَا جَازَ بِأَنْ يَقُولَ : أَنَا ابْنُ عُمَرَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ وِلَادَةَ نَفْسِهِ عَلَى فِرَاشِ عُمَرَ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ يَعْلَمُ بِنَسَبِهِ بِالِاسْتِعَاضَةِ ، قِيلَ : وَقَدْ يَعْلَمُ بِسِنِّهِ بِالِاسْتِعَاضَةِ . وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ : إِذَا اسْتَكْمَلَ الْمَوْلُودُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً كُتِبَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ وَأُخِذَتْ مِنْهُ الْحُدُودُ ، وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ نَصٌّ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ ، وَبِمَا ذَكَرْنَا يَفْسُدُ وَجْهُ اسْتِدْلَالِهِمْ . وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى فَسَادِ مَا قَالُوا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ بُلُوغِ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ ، وَأَنَّ لِلسِّنِّ مَعْنًى يَثْبُتُ بِهِ الْبُلُوغُ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِيهِ كَالِاحْتِلَامِ . وَلِأَنَّ الضَّعْفَ مَعْنًى يُوجِبُ الْحَجْرَ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِيهِ كَالْجُنُونِ ، وَلِأَنَّ مَا يَكْمُلُ بِهِ تَصَرُّفُهُمَا يَجِبُ أَنْ يَسْتَوِيَا فِيهِ وَلَا يَتَفَاضَلَا كَالرُّشْدِ ، وَلِأَنَّهُ حَالٌ لَوْ أَسْلَمَ فِيهَا صَحَّ إِسْلَامُهُ ، أَوْ تَصَرَّفَ فِيهَا بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ صَحَّ تَصَرُّفُهُ ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ فِيهَا بِبُلُوغِهِ كَالثَّمَانِيَ عَشْرَةَ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْبُلُوغَ يَكُونُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَإِنَّمَا يَعْنِي السِّنِينَ الْقَمَرِيَّةَ الَّتِي كُلُّ سَنَةٍ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا هِلَالًا . وَابْتِدَاؤُهَا مِنْ حِينِ أَنْ يَنْفَصِلَ الْمَوْلُودُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ ، وَكَذَا لَا مِيرَاثَ لَهُ حَتَّى يَنْفَصِلَ جَمِيعُهُ حَيًّا مِنَ الرَّحِمِ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ ، وَزُفَرُ ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ : إِذَا خَرَجَ أَكْثَرُ الْمَوْلُودِ مِنَ الرَّحِمِ فَحِينَئِذٍ تُعْتَبَرُ أَوَّلَ سَنَةٍ . وَإِذَا عُلِمَتْ حَيَاتُهُ عِنْدَ خُرُوجِ أَكْثَرِهِ ثُمَّ خَرَجَ بَاقِيهِ مَيِّتًا وَرِثَ . وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ مُقَرَّرَةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ حَالٍ ثَبَتَ لَهَا حُكْمٌ لَمْ يَزَلْ حُكْمُهَا إِلَّا بِالِانْفِصَالِ عَنْهَا كَالْإِيمَانِ . وَلِأَنَّ وَضْعَ الْحَمْلِ لَمَّا أَوْجَبَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ لَمْ تَنْقَضِ إِلَّا بَعْدَ انْفِصَالِ جَمِيعِهِ صَارَ فِي حُكْمِ الْحَمْلِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْوِلَادَةِ لِتَنَافِيهِمَا .



فَصْلٌ : أَمَّا الْحَيْضُ فَهُوَ بُلُوغٌ فِي النِّسَاءِ ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فَلَا يَحِلُّ أَنْ يُنْظَرَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهَا إِلَّا إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا فَجَعَلَهَا بِالْحَيْضِ عَوْرَةً يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهَا ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا بِالْحَيْضِ صَارَتْ بَالِغَةً . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إِلَا بِخِمَارٍ يَعْنِي بَلَغَتْ وَقْتَ الْحَيْضِ لَا أَنَّهُ أَرَادَ كَوْنَهَا فِي وَقْتِ الْحَيْضِ ، لِأَنَّ الْحَائِضَ لَا تَصِحُّ مِنْهَا الصَّلَاةُ بِحَالٍ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْحَمْلُ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمِ الْبُلُوغِ ، وَلَيْسَ بِبُلُوغٍ فِي نَفْسِهِ كَمَا وَهِمَ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَلَدَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ وَمَاءِ الْمَرْأَةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ [ الطَّارِقِ : 7 ، 8 ] يَعْنِي أَصْلَابَ الرِّجَالِ وَتَرَائِبَ النِّسَاءِ ، وَقَالَ تَعَالَى : إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ [ الدَّهْرِ : 2 ] أَيْ : أَخْلَاطٍ ، فَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ مَخْلُوقًا مِنْ مَاءَيْهِمَا دَلَّ الْحَمْلُ عَلَى تَقَدُّمِ إِنْزَالِهِمَا ، فَصَارَ دَلِيلًا عَلَى تَقَدُّمِ بُلُوغِهِمَا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ وبلوغه فَيَكُونُ بَالِغًا بِالسِّنِّ إِذَا اسْتَكْمَلَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً . فَأَمَّا الْحَيْضُ وَالْإِنْزَالُ وأحوالهما فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : حَالٌ يَنْفَرِدُ بِالْإِنْزَالِ . وَحَالٌ يَنْفَرِدُ بِالْحَيْضِ . وَحَالٌ يَجْمَعُ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالْإِنْزَالِ . فَإِذَا أَنْزَلَ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ أَنْزَلَ مِنْ ذَكَرِهِ لَمْ يَكُنْ بَالِغًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً فَلَا يَكُونُ إِنْزَالُهَا مِنْ غَيْرِ الْفَرْجِ بُلُوغًا . وَإِنْ كَانَ أَنْزَلَ مِنْ فَرْجِهِ لَمْ يَكُنْ بَالِغًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا فَلَا يَكُونُ إِنْزَالُهُ مِنْ غَيْرِ الْفَرْجِ بُلُوغًا . وَإِنْ كَانَ أَنْزَلَ مِنْ ذَكَرِهِ وَفَرْجِهِ جَمِيعًا كَانَ بَالِغًا ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ رَجُلًا فَقَدْ أَنْزَلَ مِنْ ذَكَرِهِ ، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً فَقَدْ أَنْزَلَتْ مِنْ فَرْجِهَا .

فَإِنْ حَاضَ لَمْ يَكُنْ بُلُوغًا بِحَالٍ ، سَوَاءٌ خَرَجَ الدَّمُ مِنْ فَرْجَيْهِ مَعًا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا ، وَإِنْ أَنَزَلَ وَحَاضَ فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْحَيْضُ وَالْإِنْزَالُ مِنْ فَرْجِهِ فَلَا يَكُونُ بُلُوغًا لِجَوَازٍ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الدَّمُ وَالْإِنْزَالُ مِنْ ذَكَرِهِ فَلَا يَكُونُ بُلُوغًا لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْإِنْزَالُ مِنْ فَرْجِهِ وَالدَّمُ مَنْ ذَكَرِهِ فَلَا يَكُونُ بُلُوغًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا فَلَا يَكُونُ خُرُوجُ الدَّمِ مِنْ ذَكَرِهِ بُلُوغًا . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ الْإِنْزَالُ مِنْ ذَكَرِهِ وَالْحَيْضُ مِنْ فَرْجِهِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَكُونُ بُلُوغًا ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ رَجُلًا فَقَدْ أَنْزَلَ مِنْ ذَكَرِهِ وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً فَقَدْ حَاضَتْ مِنْ فَرْجِهَا . وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَنَّهُ قَالَ : وَلَوْ حَاضَ وَاحْتَلَمَ لَمْ يَكُنْ بَالِغًا ، وَلَيْسَ هَذَا قَوْلًا لَهُ ثَانِيًا كَمَا وَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ، وَلَكِنْ لَهُ أَحَدُ تَأْوِيلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَالَ : وَلَوْ حَاضَ أَوِ احْتَلَمَ فَأَسْقَطَ الْكَاتِبُ أَلِفًا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ : وَلَوْ حَاضَ وَاحْتَلَمَ مِنْ أَحَدِ فَرْجَيْهِ لَمْ يَكُنْ بُلُوغًا ، فَأَمَّا بُلُوغُهُ بِالْإِنْبَاتِ فَإِنْ كَانَ عَلَى أَحَدِ الْفَرْجَيْنِ لَمْ يَكُنْ بُلُوغًا ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْفَرْجَيْنِ جَمِيعًا كَانَ بُلُوغًا فِي الْمُشْرِكِينَ ، وَفِي الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِذَا أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ بِدَفْعِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى إِلَيْهِمْ بِأَمْرَيْنِ لَمْ يُدْفَعْ إِلَيْهِمْ إِلَّا بِهِمَا ، وَهُوَ الْبُلُوغُ وَالرُّشْدُ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَالرُّشْدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ حَتَّى تَكُونَ الشَّهَادَةُ جَائِزَةً مَعَ إِصْلَاحِ الْمَالِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، الْيَتِيمُ لَا يَنْفَكُّ حَجْرُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَشِيدًا فِي دِينِهِ وَمَالِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ فُكَّ حَجْرُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُبَذِّرًا ، فَيُسْتَدَامُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ إِلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً ثُمَّ يُفَكُّ حَجْرُهُ ، وَإِنْ تَصَرَّفَ قَبْلَ اسْتِكْمَالِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ صَحَّ تَصَرُّفُهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [ النِّسَاءِ : 6 ] . فَذَكَرَ الرُّشْدَ مُنَكَّرًا فَاقْتَضَى رُشْدًا " مَا " وَصَلَاحُهُ لِمَالِهِ فِي حَالَةٍ " مَا " نَوْعٌ مِنَ الرُّشْدِ . وَلِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ غَيْرُ مُبَذِّرٍ فَوَجَبَ أَنْ يُفَكَّ حَجْرُهُ كَالرَّشِيدِ فِي دِينِهِ . وَلِأَنَّ بُلُوغَ الْكَافِرِ عَاقِلًا يُوجِبُ فَكَّ حَجْرِهِ مَعَ عَدَمِ الرَّشَادِ فِي دِينِهِ ، فَالْمُسْلِمُ إِذَا بَلَغَ

عَاقِلًا أَوْلَى بِفَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ : وَلِأَنَّ الْيَتِيمَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ وَنِكَاحِهِ ، فَلَمَّا انْفَكَّ الْحَجْرُ عَنْ نِكَاحِهِ إِذَا بَلَغَ عَاقِلًا وَجَبَ أَنْ يُفَكَّ الْحَجْرُ عَنْ مَالِهِ إِذَا بَلَغَ عَاقِلًا . وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [ النِّسَاءِ : 6 ] فَأَمَرَ بِدَفْعِ أَمْوَالِهِمْ إِلَيْهِمْ بِشَرْطَيْنِ : الْبُلُوغُ وَالرُّشْدُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِمْ بِوُجُودِ الْبُلُوغِ دُونَ الرُّشْدِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِمْ بِوُجُودِ الرُّشْدِ دُونَ الْبُلُوغِ ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُصْلِحًا فِي دِينِهِ لَا يَنْطَلِقُ اسْمُ الرُّشْدِ عَلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَالرُّشْدُ هُوَ الْعَقْلُ كَانَ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الرُّشْدَ عُرْفًا مُسْتَعْمَلٌ فِي صَلَاحِ الدِّينِ وَالْمَالِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْعَقْلِ وَإِنْ كَانَ بَعْضَ شَرَائِطِ الرُّشْدِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَمَرَ بِاخْتِبَارِهِ قَبْلَ الرُّشْدِ ، وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى اخْتِبَارٍ لِظُهُورٍ أَمْرِهِ ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى مَنْ يَشْتَبِهُ أَمْرُهُ لِيَحْتَاجَ إِلَى اخْتِبَارٍ أَوْلَى ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : اقْبِضُوا عَلَى أَيْدِي سُفَهَائِكُمْ . وَالْعَادِمُ لِلرُّشْدِ سَفِيهٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا عَلَى يَدِهِ مَمْنُوعًا مِنْ تَصَرُّفِهِ فِي مَالِهِ ، وَلِأَنَّهُ بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ مَالِهِ كَالْمَجْنُونِ أَوِ الْمُبَذِّرِ قَبْلَ الْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ ، وَلِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ مَالِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ كَالصَّغِيرِ ، وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ مَا نُدِبَ إِلَيْهِ مِنْ صَلَاحَيْ رُشْدِهِ ، وَهُمَا صَلَاحُ نَفْسِهِ بِالدِّينِ وَصَلَاحُ مَالِهِ بِالْقَصْدِ ، فَلَمَّا كَانَ صَلَاحُ مَالِهِ بِالْبُلُوغِ مُعْتَبَرًا فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ صَلَاحُ نَفْسِهِ مُعْتَبَرًا . فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ جَعَلْنَاهَا دَلِيلًا لَنَا ، وَمَا حَمَلُوهَا عَلَيْهِ مِمَّا انْطَلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ رُشْدٍ " مَا " غَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ التَّلَفُّظَ بِالشَّهَادَتَيْنِ رُشْدٌ ، وَدَفْعُ الْأَذَى مِنَ الطَّرِيقِ رُشْدٌ ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ فَكُّ الْحَجْرِ . وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرُوا لَا يَكُونُ رُشْدًا مُطْلَقًا ، وَالسَّفِيهُ لَيْسَ بِرَشِيدٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [ النِّسَاءِ : 5 ] . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرَّشِيدِ فَالْمَعْنَى فِيهِ الْإِصْلَاحُ فِي الدِّينِ وَالْمَالِ . وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ النِّكَاحِ " وَالْمَالِ " فَهُمَا سَوَاءٌ مَتَى لَمْ يَنْفَكَّ الْحَجْرُ عَنْ مَالِهِ لَمْ يَنْفَكَّ عَنْ نِكَاحِهِ . وَأَمَّا الْكَافِرُ فَهُوَ رَشِيدٌ فِي دِينِ نَفْسِهِ ، لِأَنَّ الرُّشْدَ هُوَ أَنْ يَنْتَهِيَ عَمَّا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ ، وَيَفْعَلَ مَا يَعْتَقِدُ حُسْنَهُ وَوُجُوبَهُ ، وَلَا اعْتِبَارَ فِي رُشْدِهِ بِمَا يَعْتَقِدُهُ الْغَيْرُ مِنْ قُبْحٍ وَحَظَرٍ فَكَانَ اسْمُ

الرُّشْدِ مُنْطَلِقًا عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا يُفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ . وَلَا يَنْطَلِقُ اسْمُ الرُّشْدِ عَلَى الْمُسْلِمِ إِذَا كَانَ فَاسِقًا ، فَلَمْ يُفَكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ ، كَمَا يَلِي الْكَافِرُ عَلَى مَالِ وَلَدِهِ وَلَا يَلِي الْفَاسِقُ عَلَى مَالِ وَلَدِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَالرُّشْدُ الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ حَتَّى تَكُونَ الشَّهَادَةُ جَائِزَةً مَعَ إِصْلَاحِ الْمَالِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَوْلِهِ حَتَّى تَكُونَ الشَّهَادَةُ جَائِزَةً مَا الَّذِي أَرَادَ بِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مُرَادَهُ بِهِ أَنْ يَكُونَ بِوَصْفِ مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ فَلَا يَرْتَكِبُ مَحْظُورًا وَلَا يَأْتِي قَبِيحًا وَلَا يُخِلُّ بِوَاجِبٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ بِوَصْفِ مَنْ تَكُونُ الشَّهَادَةُ لَهُ بِالرُّشْدِ جَائِزَةً لِظُهُورِ أَفْعَالِهِ الْجَمِيلَةِ وَانْتِشَارِ سِدَادِهِ عِنْدَ أَكْفَائِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنَّمَا يُعْرَفُ إِصْلَاحُ الْمَالِ بِأَنْ يُخْتَبَرَ الْيُتْمَانُ ، وَالِاخْتِبَارُ يَخْتَلِفُ بِقَدْرِ حَالِ الْمُخْتَبَرِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَبْتَذِلُ فَيُخَالِطُ النَّاسَ بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَبَعْدَهُ فَيَقْرُبُ اخْتِبَارُهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَانُ عَنِ الْأَسْوَاقِ فَاخْتِبَارَهُ أَبْعَدُ فَيُخْتَبَرُ فِي نَفَقَتِهِ ، فَإِنْ أَحْسَنَ إِنْفَاقَهَا عَلَى نَفْسِهِ وَشِرَاءَ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ ، أَوْ يُدْفَعُ إِلَيْهِ الشَّيْءُ الْيَسِيرُ فَإِذَا أَحْسَنَ تَدْبِيرَهُ وَتَوْفِيرَهُ وَلَمْ يُخْدَعْ عَنْهُ دُفِعَ إِلَيْهِ مَالُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَاخْتِبَارُ الْأَيْتَامِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي زَمَانِهِ . وَالثَّانِي : فِي صِفَتِهِ . فَأَمَّا زَمَانُ الِاخْتِبَارِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بَعْدَ الْبُلُوغِ لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي يَنْفُذُ فِيهِ تَصَرُّفُهُ وَتَصِحُّ فِيهِ عُقُودُهُ وَيَثْبُتُ لِقَوْلِهِ حُكْمٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُخْتَبَرُ قَبْلَ الْبُلُوغِ لِيَصِلَ إِلَى قَبْضِ مَالِهِ عِنْدَ بُلُوغِهِ وَرُشْدِهِ ، وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِأَجْلِ الِاخْتِبَارِ . كَمَا لَزِمَ تَعْلِيمُ الصَّبِيِّ الطَّهَارَةَ وَالصَّلَاةَ قَبْلَ الْبُلُوغِ حَتَّى لَا يَتَأَخَّرَ بَعْدَ الْبُلُوغِ عَنْ أَدَاءِ الْفَرْضِ تَشَاغُلًا بِالتَّعْلِيمِ ، فَمَنْ قَالَ بِهَذَا فَفِي كَيْفِيَّةِ اخْتِبَارِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْوَلِيَّ يُعْطِيهِ مَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ مِنْ يَسِيرِ الْمَالِ ، فَيَبِيعُ بِهِ وَيَشْتَرِي وَيَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ لِمَوْضِعِ الضَّرُورَةِ إِلَيْهِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْيَتِيمَ يُبَاشِرُ بِمَا دُفِعَ إِلَيْهِ مِنْ يَسِيرِ مَالِهِ الْمُسَاوَمَةَ وَتَقْدِيرَ الثَّمَنِ وَاسْتِصْلَاحَ الْعَقْدِ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ لَهُ ذَلِكَ تَوَلَّى الْوَلِيُّ الْعَقْدَ عَنْهُ ، وَلَا يَصِحُّ لِعَدَمِ بُلُوغِهِ الْعَقْدُ مِنْهُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا صِفَةُ الِاخْتِبَارِ فَقَدْ يَكُونُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : مَا كَانَ اخْتِبَارًا لِدِينِهِ ، وَهُوَ لُزُومُ الْعِبَادَاتِ وَتَجَنُّبُ الْمَحْظُورَاتِ وَتُوَقِّي الشُّبُهَاتِ . وَالثَّانِي : مَا كَانَ اخْتِبَارًا لِمَالِهِ ، وَهُوَ التَّوَصُّلُ إِلَى الِاكْتِسَابِ وَالْقَصْدِ فِي الْإِنْفَاقِ . وَالثَّالِثُ : مَا كَانَ مُشْتَرِكًا فِي اخْتِبَارِ دِينِهِ وَمَالِهِ ، وَهُوَ حَالُهُ فِيمَنْ يُصَاحِبُ مِنَ النَّاسِ أَوْ يُخَالِطُ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُولَى عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ غُلَامًا أَوْ جَارِيَةً . فَأَمَّا الْغُلَامُ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُسْتَبْذَلُ بِدُخُولِ الْأَسْوَاقِ ، أَوْ مِمَّنْ يُصَانُ عَنْهَا ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَدْخُلُ الْأَسْوَاقَ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ فِي دُخُولِ السُّوقِ الَّتِي تَلِيقُ بِمِثْلِهِ وَدَفَعَ إِلَيْهِ يَسِيرًا مِنْ مَالِهِ وَرَاعَى مَا يَكُونُ مِنْ بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ وَأَخْذِهِ وَعَطَائِهِ . فَإِنْ كَانَ شَدِيدًا فِيهَا حَسَنَ التَّدْبِيرِ لَهَا لَا يُغْبَنُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لَمْ يَقْنَعْ مِنْهُ بِدُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى يُرَاعَى ذَلِكَ مِنْهُ ثَانِيَةً وَثَالِثَةً ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأُولَى مِنْهُ اتِّفَاقًا لَا قَصْدًا ، فَإِذَا تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلِمَ صِحَّةَ قَصْدِهِ فِيهِ ، كَالْكَلْبِ إِذَا عُلِّمَ فَأَمْسَكَ مَرَّةً لَمْ يَصِرْ مُعَلَّمًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ بِالِاتِّفَاقِ ، فَإِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ صَارَ قَصْدًا فَصَارَ مُعَلَّمًا . فَإِذَا رَآهُ الْوَلِيُّ مِرَارًا يَمْضِي عَلَى شَاكِلَتِهِ فِي الْقَصْدِ وَصَوَابِ التَّدْبِيرِ وَحُسْنِ التَّقْدِيرِ عَلِمَ رُشْدَهُ فِي الْمَالِ . وَإِنْ رَآهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ مِنْ فَسَادِ الْقَصْدِ وَحُصُولِ الْغَبْنِ عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ رَشِيدٍ فِي الْمَالِ . وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُصَانُ عَنِ الْأَسْوَاقِ فَاخْتِبَارُهُ أَشَدُّ فَيُدْفَعُ إِلَيْهِ نَفَقَةُ يَوْمٍ ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهَا نَفَقَةُ أُسْبُوعٍ ، ثُمَّ نَفَقَةُ شَهْرٍ ، وَرَعَاهُ الْوَلِيُّ فِي تَقْدِيرِهَا وَصَرْفِهَا فِي وُجُوهِهَا ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ ضَيْعَةٍ أَذِنَ لَهُ فِي تَدْبِيرِهَا ، فَإِنْ رَآهُ مُصِيبَ الرَّأْيِ فِيهَا وَاضِعًا لِلْأُمُورِ مَوَاضِعَهَا يُقَدِّرُ النَّفَقَةَ عَلَى وَاجِبِهَا عَلِمَ رُشْدَهُ فِي مَالِهِ ، وَإِنْ رَآهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ رَشِيدٍ فِيهِ فَهَذَا اخْتِبَارُ رُشْدِهِ فِي الْمَالِ . وَأَمَّا اخْتِبَارُ رُشْدِهِ فِي دِينِهِ فَهُوَ بِمُرَاعَاةِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي وَمُصَاحَبَةِ مَنْ يُخَالِطُ وَيُمَاشِي ، فَإِنْ كَانَ مُقْبِلًا عَلَى عِبَادَاتِهِ فِي أَوْقَاتِهَا الرَّاتِبَةِ مُجَانِبًا لِلْمَعَاصِي وَالشُّبُهَاتِ مُمَاشِيًا لِأَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ مُحَافِظًا عَلَى مُرُوءَةِ مِثْلِهِ عَلِمَ رُشْدَهُ فِي دِينِهِ . وَإِنْ كَانَ خِلَافَ هَذَا فَهُوَ غَيْرُ رَشِيدٍ فِي الدِّينِ .

فَإِذَا اجْتَمَعَ رُشْدُهُ فِي دِينِهِ وَمَالِهِ وَجَبَ فَكُّ حَجْرِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ أَبًا أَوْ جَدًّا انْفَكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ بِرُشْدِهِ مِنْ غَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَبِ لَمَّا ثَبَتَتْ بِغَيْرِ حُكْمٍ ارْتَفَعَتْ بِالرُّشْدِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ ، وَإِنْ كَانَتِ الْوِلَايَةُ لِأَمِينِ حَاكِمٍ لَمْ تَرْتَفِعْ عَنْهُ إِلَّا بِحُكْمٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَتْ وِلَايَتُهُ بِحُكْمٍ لَمْ تَرْتَفِعْ إِلَّا بِحُكْمٍ ، وَإِنْ كَانَتِ الْوِلَايَةُ لِوَصِيِّ أَبٍ أَوْ جَدٍّ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَرْتَفِعُ بِالرُّشْدِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ كَالْأَبِ لِثُبُوتِهَا لِلْوَصِيِّ بِغَيْرِ حُكْمٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا لَا تَرْتَفِعُ إِلَّا بِحُكْمٍ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْوَصِيِّ لَمْ تَثْبُتْ إِلَّا بِغَيْرِهِ كَأَمِينِ الْحَاكِمِ . فَإِذَا صَارَ مَفْكُوكَ الْحَجْرِ بِمَا ذَكَرْنَا وَجَبَ تَسْلِيمُ مَالِهِ إِلَيْهِ ، فَإِنْ مُنِعَ مِنْهُ صَارَ الْمَانِعُ لَهُ مِنْهُ مَعَ زَوَالِ الْعُذْرِ ضَامِنًا لَهُ ، فَإِنْ عَقَدَ لَهُ فِيهِ عَقْدًا مِنْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ كَانَ عَقْدُهُ بَاطِلًا .

فَصْلٌ : فَإِذَا أَرَادَ وَلِيُّ الْيَتِيمِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ أُجْرَةً بِحَقِّ قِيَامِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ فَقِيرًا جَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ أَجْرَ مِثْلِهِ بِحَقِّ قِيَامِهِ عَلَيْهِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [ النِّسَاءِ : 6 ] . وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ [ النِّسَاءِ : 6 ] يَعْنِي بِمَالِهِ عَنْ مَالِ الْيَتِيمِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا أَنْ يَأْخُذَ الْأُجْرَةَ لِأَنَّهَا عِوَضٌ عَنْ قِيَامِهِ فَلَمْ يَخْتَصَّ بِهَا فَقِيرٌ دُونَ غَنِيٍّ كَسَائِرِ الْأُجُورِ ، وَتَكُونُ الْآيَةُ مَحْمُولَةً عَلَى الِاسْتِحْبَابِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَاخْتِبَارُ الْمَرْأَةِ اليتيمه مَعَ عِلْمِ صَلَاحِهَا لِقِلَّةِ مُخَالَطَتِهَا فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ أَبْعَدُ فَتَخْتَبِرُهَا النِّسَاءُ وَذَوُو الْمَحَارِمِ بِمِثْلِ مَا وَصَفْتُ ، فَإِذَا أُونِسَ مِنْهَا الرُّشْدُ دُفِعَ إِلَيْهَا مَالُهَا تَزَوَّجَتْ أَمْ لَمْ تَتَزَوَّجْ ، كَمَا يُدْفَعُ إِلَى الْغُلَامِ نَكَحَ أَوْ لَمْ يَنْكِحْ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي دَفْعِ أَمْوَالِهِمَا إِلَيْهِمَا بِالْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ وَلَمْ يَذْكُرْ تَزْوِيجًا ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْحَجْرِ بِعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَالزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَاخْتِبَارُ الْجَارِيَةِ فِي رُشْدِهَا أَصْعَبُ مِنَ اخْتِبَارِ الْغُلَامِ : لِأَنَّ حَالَ الْغُلَامِ أَظْهَرُ وَحَالَ الْجَارِيَةِ أَخْفَى ، وَالَّذِي يَتَوَلَّى اخْتِبَارَهَا ذَوُو مَحَارِمِهَا وَنِسَاءُ أَهْلِهَا ، بِخِلَافِ الْغُلَامِ الَّذِي يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَتَوَلَّى اخْتِبَارَهُ وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا . وَحَالُ النِّسَاءِ أَيْضًا يَخْتَلِفُ فِي الْبُرُوزِ وَالْخُفْيِ ، فَيُدْفَعُ إِلَيْهَا مِنْ مَالِهَا مَا تَتَوَلَّى إِنْفَاقَهُ عَلَى نَفْسِهَا وَفِي تَدْبِيرِ خَدَمِهَا وَمَنْزِلِهَا ، فَإِذَا وُجِدَ مِنْهَا الْقَصْدُ فِي جَمِيعِهِ وَأَصَابَتْ تَدْبِيرَ مَا يَتَوَلَّاهُ النِّسَاءُ مِنْ أُمُورِ الْمَنَازِلِ وَاسْتِغْزَالِ الْكِسْوَاتِ مَعَ صَلَاحِ رُشْدِهَا فِي الدِّينِ عُلِمَ رُشْدُهَا وَوَجَبَ فَكُّ حَجْرِهَا سَوَاءٌ تَزَوَّجَتْ أَوْ لَمْ تَتَزَوَّجْ .

وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَكَّ حَجْرُهَا حَتَّى تَتَزَوَّجَ ، وَلَا يَجُوزَ تَصَرُّفُهَا بَعْدَ التَّزْوِيجِ إِلَّا أَنْ تَصِيرَ عَجُوزًا مُعَنَّسَةً إِلَّا بِإِذْنِ الزَّوْجِ . وَاسْتُدِلَّ عَلَى بَقَاءِ الْحَجْرِ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ تَتَزَوَّجَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [ النِّسَاءِ : 6 ] . وَبُلُوغُ النِّكَاحِ هُوَ التَّزْوِيجُ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي فَكِّ الْحَجْرِ . وَاسْتُدِلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهَا بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [ النِّسَاءِ : 34 ] ، وَبِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَتَصَرَّفَ فِي مَالِهَا بَعْدَ أَنْ مَلَكَ الزَّوْجُ عِصْمَتَهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ ، وَهَذَا نَصٌّ ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ عَطِيَّةُ شَيْءٍ إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا ، وَلِأَنَّ مَالَ الزَّوْجَةِ فِي الْغَالِبِ مَقْصُودٌ فِي عَقْدِ نِكَاحِهَا ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِزِيَادَةِ صَدَاقِهَا لِكَثْرَةِ مَالِهَا وَقِلَّتِهِ لِقِلَّةِ مَالِهَا ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَاقْتَضَى أَنْ يَمْلِكَ فِيهِ مَنْعَهَا . وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهَا تَسْتَحِقُّ فَكَّ الْحَجْرِ بِالْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ مِنْ غَيْرِ تَزْوِيجٍ قَوْلُهُ تَعَالَى : حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [ النِّسَاءِ : 6 ] ، وَبُلُوغُ النِّكَاحِ إِنَّمَا هُوَ بُلُوغُ زَمَانِهِ كَالْغُلَامِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَمَّ إِلَى هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ ثَالِثٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إِسْقَاطِ فَائِدَةِ الشَّرْطِ وَالْغَايَةِ . وَلِأَنَّ مَا انْفَكَّ بِهِ الْحَجْرُ بَعْدَ التَّزْوِيجِ انْفَكَّ بِهِ حَجْرُ الْجَارِيَةِ كَالْمُزَوَّجَةِ ، وَلِأَنَّ الْجَارِيَةَ قَبْلَ التَّزْوِيجِ أَشَحُّ لِمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مُؤْنَةِ جِهَازِهَا وَنَفَقَةِ نَفْسِهَا ، وَبَعْدَ التَّزْوِيجِ أَسْمَحُ لِسُقُوطِ الْجِهَادِ عَنْهَا وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى زَوْجِهَا . وَالْغُلَامُ ضِدُّهَا : لِأَنَّهُ قَبْلَ التَّزْوِيجِ أَسْمَحُ لِقِلَّةِ مَئُونَتِهِ ، وَبَعْدَ التَّزْوِيجِ أَشَحُّ لِكَثْرَةِ مَئُونَتِهِ ، فَلَمَّا جَازَ فَكُّ الْحَجْرِ عَنِ الْغُلَامِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ فِي أَسْمَحِ حَالَيْهِ فَأَوْلَى أَنْ يُفَكَّ حَجْرُ الْجَارِيَةِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ فِي أَشَحِّ حَالَيْهَا . وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ تَصَرُّفِهَا بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ عَلَى النَّسَاءِ فِي يَوْمِ عِيدٍ فَقَالَ : تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ ، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تَتَصَدَّقُ بِخَاتَمِهَا وَقُرْطِهَا ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ

فِيهِ إِذْنُ زَوْجِهَا ، وَلِأَنَّ مَنِ اسْتَحَقَّ تَسْلِيمَ مَالِهِ إِلَيْهِ اسْتَحَقَّ جَوَازَ تَصَرُّفِهِ فِيهِ كَالْغُلَامِ : وَلِأَنَّ لِلزَّوْجَةِ حَقًّا فِي يَسَارِ الزَّوْجِ فِي زِيَادَةِ النَّفَقَةِ مَا لَيْسَ لِلزَّوْجِ فِي يَسَارِ الزَّوْجَةِ ، فَلَمَّا جَازَ تَصَرُّفُ الزَّوْجِ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجَةِ مَعَ حَقِّهَا فِي يَسَارِهِ فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ تَصَرُّفُ الزَّوْجَةِ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ لِسُقُوطِ حَقِّهِ بِيَسَارِهَا ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ مِنْهَا فَكَانَ جَوَابًا عَنْهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [ النِّسَاءِ : 34 ] فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُمْ أَهْلُ قِيَامٍ عَلَى نِسَائِهِمْ فِي تَأْدِيبِهِنَّ عَلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِنَّ . وَقَدْ رَوَى جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ ، عَنِ الْحَسَنِ ، أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ لَطَمَ امْرَأَتَهُ فَجَاءَتْ تَلْتَمِسُ الْقِصَاصَ ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا الْقِصَاصَ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ : وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [ طه : 114 ] . ثُمَّ نَزَلَتْ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [ النِّسَاءِ : 34 ] ، فَلَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ عَلَى مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ دَلِيلٌ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، فَهُوَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْمُبَذِّرَةِ إِذَا وَلِيَ الزَّوْجُ الْحَجْرَ عَلَيْهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ عَطِيَّةُ شَيْءٍ إِلَا بِإِذْنِ زَوْجِهَا فَهُوَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَالِ الزَّوْجِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : إِنَّ الْمَهْرَ يَزِيدُ بِزِيَادَةِ مَالِهَا وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهِ ، فَهُوَ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلِأَجْلِ مَا يَعُودُ فِي الزَّوْجِ مِنْ تَوْفِيرِ الْمَالِ بِالْإِرْثِ وَسُقُوطِ نَفَقَةِ أَوْلَادِهِ عَنْهُ بِالْإِعْسَارِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا كَانَ وَاجِبًا أَنْ يَحْجُرَ عَلَى مَنْ قَارَبَ الْبُلُوغَ وَقَدْ عَقَلَ نَظَرًا لَهُ وَإِبْقَاءً لِمَالِهِ ، فَكَانَ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَشَدَّ تَضْيِيعًا لِمَالِهِ وَأَكْثَرَ إِتْلَافًا لَهُ لَا يَجِبُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ ، وَالْمَعْنَى الَّذِي أَمَرَ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ بِهِ فِيهِ قَائِمٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : السَّفِيهُ الْمُبَذِّرُ لِمَالِهِ يَجِبُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ بَالِغًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْحَجْرُ عَلَى بَالِغٍ عَاقِلٍ وَإِنْ كَانَ سَفِيهًا مُبَذِّرًا ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ بِالْإِنْفَاقِ وَنَهَى عَنِ الْإِمْسَاكِ ، فَقَالَ تَعَالَى : وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [ الْمُنَافِقُونَ : 10 ] ، وَقَالَ : لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [ آلِ عِمْرَانَ : 92 ] ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ مَا نَدَبَ إِلَيْهِ يُوجِبُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَيْسَ لَكَ

مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ فَكَانَ ذَلِكَ حَثًّا مِنْهُ عَلَى الْإِنْفَاقِ لِلْمَالِ وَتَرْكِ إِمْسَاكِهِ . وَرَوَى الْحَسَنُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا حَجْرَ عَلَى حُرٍّ فَهَذَا نَصٌّ ، وَلِأَنَّهُ حُرٌّ مُكَلَّفٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ كَغَيْرِ الْمُبَذِّرِ : وَلِأَنَّ مَنْ حُجِرَ عَلَيْهِ فِي عُقُودِهِ حُجِرَ عَلَيْهِ فِي إِقْرَارِهِ كَالْمَجْنُونِ ، وَمَنْ لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ فِي إِقْرَارِهِ لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ فِي عُقُودِهِ كَالرَّشِيدِ . فَلَمَّا صَحَّ إِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ صَحَّ فِي مَالِهِ وَعُقُودِهِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ مَنْ قُبِلَ إِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ قُبِلَ إِقْرَارُهُ فِي مَالِهِ كَالرَّشِيدِ . وَلِأَنَّ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ فِي مَالِ نَفْسِهِ أَقْوَى مِنْ تَصَرُّفِ غَيْرِهِ فِي مَالِهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ إِبْطَالُ عُقُودِهِ الْمُسْتَقْبَلَةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَصِحَّ فِي غَيْرِهِ أَنْ يُبْطِلَ عُقُودَهُ الْمُسْتَقْبَلَةَ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا [ النِّسَاءِ : 5 ] الْآيَةِ ، وَالْمُرَادُ بِالسُّفَهَاءِ الْبَالِغُونَ الْعُقَلَاءُ ، لِأَنَّ السَّفَهَ صِفَةُ قِيَامٍ لَا تَتَوَجَّهُ إِلَّا عَلَى مُكَلَّفٍ ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْحَجْرِ بِالسَّفَهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [ النِّسَاءِ : 5 ] أَنْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمُ الْقِيَامَ عَلَيْهَا . وَالثَّانِي : قَوْلُهُ تَعَالَى : وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ [ النِّسَاءِ : 5 ] وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ الْأَوْلَى . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : أَمْوَالَكُمُ يَعْنِي أَمْوَالَهُمْ ، وَإِنَّمَا أَضَافَ ذَلِكَ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ لِتَصَرُّفِهِمْ فِيهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَمَرَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ مِنْهَا وَلَا يَجِبُ الْإِنْفَاقُ مِنْ غَيْرِ أَمْوَالِهِمْ ، وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ : فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ [ الْبَقَرَةِ : 282 ] . فَأَثْبَتَ الْوِلَايَةَ عَلَى السَّفِيهِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَجْنُونِ وَالصَّغِيرِ . وَرَوَى عَطَاءٌ ، عَنْ سَعِيدٍ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْتَاعُ وَكَانَ فِي عُقْدَتِهِ ضَعْفٌ فَأَتَى أَهْلُهُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا : يَا نَبِيَّ اللَّهِ احْجُرْ عَلَى فُلَانٍ فَإِنَّهُ يَبْتَاعُ وَفِي

عُقْدَتِهِ ضَعْفٌ فَدَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَهَاهُ عَنِ الْبَيْعِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا أَصْبِرُ عَنْهُ ، فَقَالَ : إِنْ كُنْتَ غَيْرَ تَارِكٍ فَقُلْ : لَا خِلَابَةَ ، فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْحَجْرِ عَلَى الْبَالِغِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ حَجَرَ عَلَيْهِ حَجْرَ مِثْلِهِ بِأَنْ أَثْبَتَ لَهُ الْخِيَارَ فِي عُقُودِهِ وَلَمْ يَجْعَلْهَا مُنْبَرِمَةً . وَالثَّانِي : سُؤَالُهُمُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ وَإِمْسَاكُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِنْكَارِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : خُذُوا عَلَى أَيْدِي سُفَهَائِكُمْ وَلَا يُمْكِنُ الْأَخْذُ عَلَى أَيْدِيهِمْ إِلَّا بِالْحَجْرِ عَلَيْهِمْ . وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ لِأَجْلِ غُرَمَائِهِ فَكَانَ الْحَجْرُ عَلَى السَّفِيهِ لِحَقِّ نَفْسِهِ أَوْلَى ، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرَّ بِأَرْضٍ سَبِخَةٍ فَقَالَ : لِمَنْ هَذِهِ ؟ فَقَالُوا : كَانَتْ لِفُلَانٍ وَاشْتَرَاهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ بِسِتِّينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ : مَا يَسُرُّنِي أَنْ تَكُونَ لِي بِنَعْلَيْنِ ، ثُمَّ رَأَى عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ : لِمَ لَا تَقْبِضُ عَلَى يَدِ ابْنِ أَخِيكَ وَتَحْجُرُ عَلَيْهِ ، فَعَلِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ بِذَلِكَ فَلَقِيَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَذَكَرَ لَهُ الْحَالَ ، فَقَالَ : شَارِكْنِي فِيهَا فَشَارَكَهُ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلِيٌّ إِلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَسْأَلُهُ الْحَجْرَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ ، فَقَالَ عُثْمَانُ : كَيْفَ أَحْجُرُ عَلَى مَنْ شَرِيكُهُ الزُّبَيْرُ ، وَكَانَ مَعْرُوفًا بِالْإِمْسَاكِ وَالِاسْتِصْلَاحِ فَصَارَتْ شَرِكَتُهُ شُبْهَةً تَنْفِي اسْتِحْقَاقَ الْحَجْرِ ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَمِنْ بَاقِي الصَّحَابَةِ فِي إِمْسَاكِهِمْ إِجْمَاعًا مُنْعَقِدًا عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْحَجْرِ عَلَى الْبَالِغِ ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا تُبَذِّرُ مَالَهَا فِي الْعَطَايَا وَالصِّلَاتِ وَالصَّدَقَاتِ فَقَالَ : لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ أَوْ لَأَحْجُرَنَّ عَلَيْهَا ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ فَحَلَفَتْ أَنْ لَا تُكَلِّمَهُ حَتَى رَكِبَ إِلَيْهَا فَاعْتَذَرَ لَهَا وَكَفَّرَتْ عَنْ يَمِينِهَا وَكَلَّمَتْهُ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْبَالِغِ مَشْهُورٌ فِيهِمْ ، وَإِنْ كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَهِمَ فِي مُوجِبِهِ ؛ لِأَنَّ مَنْ صَرَفَ مَالَهُ فِي الْقُرْبِ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ الْحَجْرَ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ رَاسَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ عَدَمَ التَّدْبِيرِ وَوُجُودَ التَّبْذِيرِ يُوجِبُ ثُبُوتَ الْحَجْرِ كَالصَّغِيرِ ، وَلِأَنَّ مَا يُسْتَدَامُ بِهِ الْحَجْرُ لِاسْتِدَامَتِهِ وَجَبَ إِذَا طَرَأَ أَنْ يُبْتَدَئَ الْحَجْرُ بِهِ كَالْجُنُونِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْإِنْفَاقِ فِي الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فَهُوَ أَنَّهُ أَمَرَ بِالْإِنْفَاقِ فِي الطَّاعَاتِ دُونَ التَّبْذِيرِ وَالْإِنْفَاقِ فِي الْمَعَاصِي ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا نَهَى عَنْهُ وَدَلَّ عَلَى قُبْحِهِ ، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا حَجْرَ عَلَى حُرٍّ فَحَدِيثٌ مُرْسَلٌ ، وَلَوْ صَحَّ لَاحْتَمَلَ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حُكْمٍ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرَّشِيدِ فَالْمَعْنَى فِيهِ وُجُودُ الْإِصْلَاحِ مِنْهُ .

وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ بِعِلَّةِ أَنَّهُ مِمَّنْ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَالْمَعْنَى فِيهِ انْتِفَاءُ التُّهْمَةِ عَنْهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهِ وَلُحُوقُهَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ كَالْعَبْدِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْطِلَ مَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ عُقُودِ نَفْسِهِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ ، فَهُوَ أَنَّ غَيْرَهُ لَمْ يُبْطِلْ عُقُودَهُ الْمُسْتَقْبَلَةَ ، وَإِنَّمَا وُقُوعُ الْحَجْرِ عَلَيْهِ مَنَعَ مِنْ صِحَّةِ الْعُقُودِ مِنْهُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْحَجْرِ عَلَى الْكَبِيرِ بِالسَّرَفِ وَالتَّبْذِيرِ فَلَا يَخْلُو حَالُ ذِي الْمَالِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مُصْلِحًا لِدِينِهِ مُصْلِحًا لِمَالِهِ ، فَهَذَا هُوَ الرَّشِيدُ الَّذِي يَجُوزُ أَمْرُهُ وَتَصِحُّ عُقُودُهُ . وَالْحَالُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُفْسِدًا فِي دِينِهِ لِظُهُورِ فِسْقِهِ مُفْسِدًا فِي مَالِهِ لِظُهُورِ تَبْذِيرِهِ فَهَذَا هُوَ السَّفِيهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ بِمَا نَذْكُرُهُ مِنْ أَحْوَالِ التَّبْذِيرِ . وَالْحَالُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مُصْلِحًا لِدِينِهِ مُفْسِدًا لِمَالِهِ بِالتَّبْذِيرِ لَهُ فَلَا يَخْلُو حَالُ تَبْذِيرِهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ بِالْغَبْنِ الَّذِي يَلْحَقُهُ فِي بَيُوعِهِ وَأَشْرِيَتِهِ فَهَذَا يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ بِهِ . الْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ التَّبْذِيرُ بِإِنْفَاقِ مَالِهِ فِي الْمَعَاصِي فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُوجِبُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ التَّبْذِيرُ بِإِنْفَاقِ مَالِهِ فِي الطَّاعَاتِ وَالصِّلَاتِ فَلَيْسَ ذَلِكَ تَبْذِيرًا وَهُوَ فِيهِ مَأْجُورٌ وَالْحَجْرُ عَلَيْهِ غَيْرُ جَائِزٍ . الْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ تَبْذِيرُهُ بِإِنْفَاقِ مَالِهِ فِي مَلَاذِّهِ وَالْإِسْرَافِ فِي مَلْبُوسِهِ وَالْإِنْفَاقِ فِي شَهَوَاتِهِ حَتَّى يَتَجَاوَزَ فِي جَمِيعِهَا الْحَدَّ الْمَأْلُوفَ وَالْقَدْرَ الْمَعْرُوفَ ، فَفِي وُجُوبِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُحْجَرُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنْفَاقٌ فِي غَيْرِ حَقٍّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا حَجْرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ لِإِبَاحَتِهِ ، فَهَذَا حُكْمُ الْحَالِ الثَّالِثِ . وَأَمَّا الْحَالُ الرَّابِعَةُ : فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُصْلِحًا فِي مَالِهِ مُفْسِدًا فِي دِينِهِ لِفِسْقِهِ وَفُجُورِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ ، فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : يَجِبُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِفِسْقِهِ وَإِنْ كَانَ مُصْلِحًا فِي مَالِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فَسَادُ الدِّينِ شَرْطًا فِي اسْتِدَامَةِ الْحَجْرِ كَانَ شَرْطًا فِي ابْتِدَاءِ الْحَجْرِ كَالْفَسَادِ فِي الْمَالِ ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : لَا يَجُوزُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُصْلِحًا فِي مَالِهِ لِعَدَمِ التَّأْثِيرِ بِهِ ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ فِي اسْتِدَامَةِ الْحَجْرِ عَلَى الصَّغِيرِ بِإِفْسَادِ الدِّينِ ، وَعَدَمِ ابْتِدَاءِ الْحَجْرِ عَلَى الْكَبِيرِ بِإِفْسَادِ الدِّينِ ؛ بِأَنَّ الصَّغِيرَ قَدْ ثَبَتَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرْتَفِعْ إِلَّا بِرُشْدٍ كَامِلٍ ، وَالْكَبِيرُ مَرْفُوعُ الْحَجْرِ فَلَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ إِلَّا بِسَفَهٍ كَامِلٍ .



فَصْلٌ : فَأَمَّا الشَّحِيحُ الَّذِي يَبْخَلُ عَلَى نَفْسِهِ فِي النَّفَقَةِ الحجر عليه فَلَا يَأْكُلُ حَسْبَ كِفَايَتِهِ وَلَا يَلْبَسُ بِقَدْرِ حَالِهِ شُحًّا عَلَى نَفْسِهِ وَبُخْلًا وَحُبًّا لِلْمَالِ وَجَمْعًا ، فَقَدْ كَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يُوجِبَانِ الْحَجْرَ عَلَيْهِ بِالشُّحِّ وَالتَّقْصِيرِ كَمَا يُوجَبُهُ بِالسَّرَفِ وَالتَّبْذِيرِ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَهَى عَنْهُمَا فَقَالَ : وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [ الْإِسْرَاءِ 29 ] وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ الْحَجْرَ يُفِيدُ جَمْعَ الْمَالِ وَإِمْسَاكَهُ لَا إِنْفَاقَهُ . وَلَيْسَ كُلُّ مَنْهِيٍّ عَنْهُ يُوجِبُ الْحَجْرَ ، فَمَنْ قَالَ بِإِيجَابِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ عُقُودِهِ وَلَا كَفَّهُ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ ، وَلَكِنْ يُنْفَقُ عَلَيْهِ جَبْرًا بِالْمَعْرُوفِ مِنْ مَالِهِ ، إِلَّا أَنْ يُخَافَ عَلَيْهِ إِخْفَاءُ مَالِهِ لِعِظَمِ شُحِّهِ فَيُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا حَجَرَ الْإِمَامُ عَلَيْهِ لِسَفَهِهِ وَإِفْسَادِهِ مَالَهُ أَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّ حَجْرَ السَّفَهِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ بِخِلَافِ حَجْرِ الصِّغَرِ وَالْجُنُونِ ، لِأَنَّ ثُبُوتَ السَّفَهِ يَكُونُ بِاجْتِهَادٍ فَلَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ ، وَالصِّغَرُ وَالْجُنُونُ لَا اجْتِهَادَ فِيهِ وَهُوَ بِالنَّصِّ ، فَثَبَتَ بِغَيْرِ حُكْمٍ ، وَسَوَاءٌ كَانَ لِلسَّفِيهِ أَبٌ وَأُمٌّ ، فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ مِنْ سَفَهِهِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْحَجْرَ عَلَيْهِ حَجَرَ عَلَيْهِ . وَحَجْرُ السَّفَهِ أَعَمُّ مِنْ حَجْرِ الْفَلَسِ ، لِأَنَّ حَجْرَ الْفَلَسِ يَخْتَصُّ بِمَالِهِ دُونَ عُقُودِهِ الَّتِي لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَالِهِ ، وَحَجْرُ السَّفَهِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ عُقُودِهِ ، فَيَقُولُ فِي السَّفَهِ : قَدْ حَجَرْتُ عَلَى فُلَانٍ ، بِخِلَافِ الْفَلَسِ فِي الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْحَجْرِ أَعَمُّ . فَإِذَا حَجَرَ عَلَيْهِ قَوْلًا عَلَى مَا مَضَى أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ ، وَهَلْ ذَلِكَ شَرْطٌ فِي ثُبُوتِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الْحَجْرَ حُكْمٌ ، وَثُبُوتُ الْحُكْمِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْإِشْهَادِ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ الْحَجْرَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْحَجْرِ إِظْهَارُ مَنْعِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ لِيَتَحَفَّظَ النَّاسُ مِنْ مُعَامَلَتِهِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُحَصَّلُ إِلَّا بِالْإِشْهَادِ . فَعَلَى هَذَا لَا يَتِمُّ الْحَجْرُ قَبْلَ الْإِشْهَادِ ، وَيَكُونُ جَائِزَ التَّصَرُّفِ ، فَإِذَا أَشْهَدَ فَقَدْ تَمَّ الْحَجْرُ . وَيُخْتَارُ لَهُ بَعْدَ الْإِشْهَادِ أَنْ يُنَادِيَ فِي النَّاسِ بِإِيقَاعِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ لِيَكُونَ أَشْهَرَ لِأَمْرِهِ .

فَإِنْ لَمْ يُنَادِ فِيهِمْ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ جَازَ وَكَانَ تَصَرُّفُهُ بَعْدَ الْإِشْهَادِ مَرْدُودًا ، وَسَوَاءٌ أَظْهَرَ الشَّاهِدَانِ ذَلِكَ أَوْ كَتَمَاهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَمَنْ بَايَعَهُ بَعْدَ الْحَجْرِ فَهُوَ الْمُتْلِفُ لِمَالِهِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : مُبَايَعَةُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ بَاطِلَةٌ ، فَإِنْ كَانَ السَّفِيهُ هُوَ الْبَائِعُ انْتُزِعَ مَا بَاعَ مِنْ يَدِ مُشْتَرِيهِ لِفَسَادِ الْعَقْدِ فِيهِ ، فَإِنْ تَلِفَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ دُونَ الثَّمَنِ ، وَإِنْ كَانَ السَّفِيهُ هُوَ الْمُشْتَرِي كَانَ لِبَائِعِهِ انْتِزَاعُ ذَلِكَ مِنْ يَدِ السَّفِيهِ إِنْ كَانَ بَاقِيًا ، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّفِيهِ لَا فِي الْحَالِ وَلَا بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ ، لِأَنَّ مَنْ عَامَلَهُ مَعَ ظُهُورِ حَالِهِ صَارَ هُوَ الْمُتْلِفُ لِمَالِهِ . وَلَكِنْ هَلْ يَلْزَمُهُ غُرْمُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ فُتْيَا لَا حُكْمًا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّ اخْتِيَارَ الْمَالِكِ لِمُعَامَلَتِهِ رِضًا مِنْهُ بِاسْتِهْلَاكِهِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَلْزَمُهُ غُرْمُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ اسْتِهْلَاكَ مَالٍ عَلَى طَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ . وَلَكِنْ لَوْ ضَمِنَ مَالًا بَطَلَ ضَمَانُهُ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْغُرْمُ حُكْمًا وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَجْهًا وَاحِدًا ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الضَّمَانِ اسْتِهْلَاكٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ الْتِزَامٍ إِذَا بَطَلَ سَقَطَ حُكْمُهُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا عَقْدُ الْخُلْعِ بالنسبة للسفيه فَيَصِحُّ مِنَ السَّفِيهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ مِنْهُ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَأَحْرَى أَنْ يَصِحَّ مِنْهُ بِعِوَضٍ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ اسْتِفَادَةُ مَالٍ مَحْضٍ ، كَمَا يَصِحُّ مِنْهُ قَبُولُ الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ اسْتِفَادَةُ مَالٍ مَحْضٍ . وَلَا يَجُوزُ لَهُ بَعْدَ خَلْعِهِ أَنْ تُسَلِّمَ الزَّوْجَةُ مَالَ الْخَلْعِ إِلَيْهِ ، وَتُسَلِّمُهُ إِلَى وَلِيِّهِ لِأَنَّهُ بِالْحَجْرِ قَدْ سَقَطَ حَقُّهُ مِنْ قَبْضِ مَالِهِ . فَإِنْ قَبَضَهُ السَّفِيهُ فَبَادَرَ الْوَلِيُّ إِلَى أَخْذِهِ مِنْهُ سَقَطَ عَنِ الزَّوْجَةِ . وَإِنْ أَتْلَفَهُ السَّفِيهُ كَانَ الْحَقُّ بَاقِيًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجَةِ وَعَلَيْهَا دَفْعُهُ ثَانِيَةً إِلَى الْوَلِيِّ وَلَا رُجُوعَ لَهَا عَلَى السَّفِيهِ بِمَا دَفَعَتْ إِلَيْهِ إِذَا اسْتَهْلَكَهُ . وَهَكَذَا إِذَا قَبِلَ السَّفِيهُ الْهِبَةَ وَالْوَصِيَّةَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ ، فَإِنْ سَلَّمَ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَاسْتَهْلَكَهُ وَجَبَ عَلَى مَنْ أَقْبَضَهُ ذَلِكَ غُرْمُ الْوَصِيَّةِ دُونَ الْهِبَةِ ، لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ الْوَصِيَّةَ بِقَبُولِهِ فَيُلْزَمُ غُرْمَهَا لَهُ ، وَلَمْ يَمْلِكِ الْهِبَةَ بِقَبُولِهِ فَلَمْ يَجِبْ غُرْمُهُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا عَقْدُ الْإِجَارَةِ من السفيه فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ مُسْتَأْجِرًا كَانَ أَوْ مُؤَجِّرًا ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ كَالْبَيْعِ .

فَإِنْ أَجَّرَ نَفْسَهُ فَإِنْ كَانَ فِيمَا هُوَ مَقْصُودٌ مِنْ عَمَلِهِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ صَانِعًا وَعَمَلُهُ مَقْصُودٌ فِي كَسْبِهِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَتَوَلَّى الْوَلِيُّ الْعَقْدَ عَلَيْهِ . وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْصُودٍ مِثْلَ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ فِي حَجٍّ أَوْ وَكَالَةٍ فِي عَمَلٍ وَلَيْسَ عَمَلُهُ مَقْصُودًا فِي كَسْبِهِ لِاسْتِغْنَائِهِ بِمَالِهِ صَحَّتِ الْإِجَارَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَتَطَوَّعَ عَنْ غَيْرِهِ بِهَذَا الْعَمَلِ فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ مِنْهُ بِعِوَضٍ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا هِبَتُهُ وَعِتْقُهُ وَكِتَابَتُهُ السفيه فَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ لَا يَصِحُّ مِنْهُ ، وَلَكِنْ يَصِحُّ مِنْهُ التَّدْبِيرُ وَالْوَصِيَّةُ من السفيه ، لِأَنَّ تَأْثِيرَ ذَلِكَ بَعْدَ زَوَالِ الْحَجْرِ بِالْمَوْتِ . فَلَوْ مَرِضَ السَّفِيهُ وَأَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ ثُمَّ مَاتَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ حَجْرُ السَّفَهِ أَوْ حَجْرُ الْمَرَضِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَغْلِبُ حَجْرُ السَّفَهِ لِأَنَّهُ أَسْبَقُ ، وَلِأَنَّ حُدُوثَ مَا يُوجِبُ الْحَجْرَ لَا يَرْفَعُ حُكْمَ الْحَجْرِ الْمُتَقَدِّمِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عِتْقُهُ بَاطِلًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ حَجْرَ الْمَرَضِ أَغْلَبُ لِأَنَّهَا حَالٌ تَسْتَحِقُّ حِفْظَ الْمَالِ فِيهَا لِلْوَارِثِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عِتْقُهُ مَاضِيًا فِي ثُلُثِهِ كَالْمَرِيضِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا مُدَايَنَاتُهُ السفيه فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : [ الْأَوَّلُ ] : قِسْمٌ يَسْتَقِرُّ وُجُوبُهُ بِاخْتِيَارِ أَرْبَابِهِ كَالْقَرْضِ وَمُهُورِ الزَّوْجَاتِ وَأَثْمَانِ الْمَبِيعَاتِ فَهَذَا لَا يَضْمَنُهُ وَغُرْمُهُ لَا يَلْزَمُهُ . [ الثَّانِي ] وَقِسْمٌ يَسْتَقِرُّ وُجُوبُهُ بِلَا اخْتِيَارِ أَرْبَابِهِ كَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَقِيَمِ الْمَتْلَفَاتِ فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ وَيَلْزَمُهُ غُرْمُهُ : لِأَنَّهُ لَمَّا لَزِمَ ذَلِكَ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ فَأَوْلَى أَنْ يَجِبَ عَلَى السَّفِيهِ . [ الثَّالِثُ ] : قِسْمٌ يَكُونُ السَّبَبُ فِيهِ بِاخْتِيَارِهِمْ وَحُصُولُ الْوُجُوبِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ كَالْوَدِيعَةِ إِذَا تَلِفَتْ وَالْعَارِيَةِ إِذَا اسْتُهْلِكَتْ فَلَا يَخْلُو تَلَفُ ذَلِكَ وَهَلَاكُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِفِعْلِ السَّفِيهِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ ، فَإِنْ كَانَ تَلَفُهُ بِغَيْرِ فِعْلِهِ كَانَ ضَمَانُهُ هَدْرًا وَهُوَ تَالِفٌ مِنْ مَالِ مَالِكِهِ : لِأَنَّهُ بِتَسْلِيمِهِ قَدْ عَرَّضَهُ لِهَلَاكِهِ . وَإِنْ كَانَ تَلَفُهُ بِفِعْلِهِ بِأَنْ أَتْلَفَ الْوَدِيعَةَ الَّتِي أُودِعَهَا أَوِ اسْتَهْلَكَ الْعَارِيَةَ الَّتِي اسْتَعَارَهَا فَفِي وُجُوبِ غُرْمِ ذَلِكَ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : غُرْمُهُ عَلَى السَّفِيهِ وَاجِبٌ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْإِتْلَافِ لِأَنَّهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا غُرْمَ عَلَيْهِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ التَّسْلِيمِ لِأَنَّهُ كَانَ بِاخْتِيَارِهِ .



فَصْلٌ : فَأَمَّا إِقْرَارُهُ السفيه فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ يَلْزَمُ ، وَقِسْمٌ لَا يَلْزَمُ ، وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٍ فِي لُزُومِهِ . فَأَمَّا مَا يَلْزَمُ إِقْرَارُهُ فِيهِ فَهُوَ مَا تَعَلَّقَ بِبَدَنِهِ كَإِقْرَارِهِ بِمَا يُوجِبُ حَدًّا أَوْ قَوْدًا فَيُسْتَوْفَى ذَلِكَ مِنْهُ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْهُ وَلِتَعَلُّقِهِ بِمَا لَمْ يَقَعِ الْحَجْرُ عَلَيْهِ . فَلَوْ عَفَا مَنْ أَقَرَّ لَهُ بِالْقَوْدِ إِلَى الْمَالِ ثَبَتَ لَهُ الْمَالُ لِأَنَّهُ فَرْعٌ لِقَوْدٍ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ . وَهَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِابْنٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِإِقْرَارِهِ ، فَلَوْ أَقَرَّ بِابْنِ أَمَةٍ ثَبَتَ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِ وَصَارَ حُرًّا . وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : إِقْرَارُهُ بِهِ بَاطِلٌ لَا يُثْبِتُ نَسَبًا وَلَا يُوجِبُ عِتْقًا . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : يَثْبُتُ نَسَبُهُ وَيَصِيرُ حُرًّا يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ . وَمَا قُلْنَاهُ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَوْ أَوْلَدَ أَمَتَهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَصَارَ حُرًّا ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ بِهِ مُقِرًّا . وَأَمَّا مَا لَا يَلْزَمُ بِإِقْرَارِهِ فَهُوَ مَا تَعَلَّقَ بِالْمَالِ لِحُصُولِ التُّهْمَةِ فِيهِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ عَنْ مُعَامَلَةٍ أَوْ إِتْلَافٍ ، لَكِنْ إِنْ كَانَ عَنْ إِتْلَافٍ لَزِمَ بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ ، وَإِنْ كَانَ عَنْ مُعَامَلَةٍ لَمْ يَلْزَمْ وَإِنْ قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ ، فَلَوْ فُكَّ حَجْرُهُ لَمْ يَلْزَمْهُ فِي الْحُكْمِ مَا كَانَ أَقَرَّ بِهِ . وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ مَا أَقَرَّ بِهِ قَدْ لَزِمَهُ قَبْلَ حَجْرِهِ بِقَرْضٍ كَانَ اقْتَرَضَهُ أَوْ بَيْعٍ كَانَ ابْتَاعَهُ لَزِمَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَدَاءُ ذَلِكَ بَعْدَ فَكِّ حَجْرِهِ . وَإِنْ كَانَ لُزُومُ ذَلِكَ فِي حَالِ الْحَجْرِ فَفِي لُزُومِ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى ، وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي لُزُومِ إِقْرَارِهِ بِهِ فَشَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : جِنَايَاتُ الْخَطَأِ عَلَى النُّفُوسِ فَفِي لُزُومِهَا بِإِقْرَارِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَلْزَمُ لِتَعَلُّقِهَا بِالْمَالِ كَإِقْرَارِهِ بِاسْتِهْلَاكِ الْأَمْوَالِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَلْزَمُ بِإِقْرَارِهِ لِتَغْلِيظِ النُّفُوسِ ، وَإِنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ عَمْدُهَا بِإِقْرَارِهِ ثَبَتَ خَطَؤُهَا بِإِقْرَارِهِ . وَأَمَّا الثَّانِي : فَهُوَ السَّرِقَةُ يُقِرُّ بِهَا ، فَفِي لُزُومِهَا وَوُجُوبِ غُرْمِهَا بِإِقْرَارِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : تَلْزَمُ وَيَجِبُ غُرْمُهَا لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْقَطْعَ الَّذِي يَنْفِي التُّهْمَةَ عَنْهُ فِي إِقْرَارِهِ بِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا تَلْزَمُهُ لِأَنَّ أَصْلَ إِقْرَارِهِ إِنَّمَا هُوَ بِمَالٍ لَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ ، فَعَلَى هَذَا فِي وُجُوبِ قَطْعِهِ وَجْهَانِ : فَأَمَّا إِقْرَارُ وَلَيِّهِ عَنْهُ فَلَا يَصِحُّ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَبْدَانِ ، وَلَا فِيمَا وَجَبَ فِي الْمَالِ عَنْ جِنَايَةٍ وَإِتْلَافٍ ، وَلَا فِيمَا تَوَلَّاهُ السَّفِيهُ مِنْ عُقُودِهِ . وَيَصِحُّ فِيمَا تَوَلَّاهُ الْوَلِيُّ مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي مَالِهِ ، فَيُقِرُّ بِالْبَيْعِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ وَبِالِابْتِيَاعِ وَقَبْضِ الْمَبِيعِ وَبِصِفَاتِ الْعَقْدِ مِنْ حُلُولٍ أَوْ تَأْجِيلٍ وَثُبُوتِ خِيَارٍ وَانْبِرَامِ عَقْدٍ عَنْ تَرَاضٍ ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ [ الْبَقَرَةِ : 282 ] .



فَصْلٌ : فَأَمَّا عِبَادَاتُهُ السفيه فَتَصِحُّ مِنْهُ بِدُخُولِهِ فِيهَا فَرْضًا كَانَتْ أَوْ تَطَوُّعًا ، فَلَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ ، فَإِنْ كَانَ الْحَجُّ تَطَوُّعًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطَى نَفَقَةَ الْحَجِّ مِنْ مَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ فَرْضًا وَجَبَ عَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ نَفَقَةَ حَجِّهِ . فَلَوْ أَفْسَدَهُ بِوَطْءٍ مَكَّنَهُ مِنْ نَفَقَةِ الْمُضِيِّ فِيهِ حَتَّى يُنْهِيَهُ ، فَأَمَّا نَفَقَةُ الْقَضَاءِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُعْطِيهِ لِوُجُوبِهِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ . وَالثَّانِي : لَا يُعْطِيهِ لِتَعَلُّقِهِ بِإِفْسَادِهِ ، وَأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنْهُ فِي الثَّانِي مِثْلُ مَا كَانَ مِنْهُ فِي الْأَوَّلِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ . فَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ فِي زَمَانِ حَجْرِهِ كَفَّارَةٌ فَإِنْ كَانَتْ كَفَّارَةَ تَخْيِيرٍ بَيْنَ الصَّوْمِ وَغَيْرِهِ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْمَالِ . وَإِنْ كَانَتْ كَفَّارَةَ تَرْتِيبٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْقَلَ إِلَى الصَّوْمِ إِلَّا بِالْإِعْسَارِ ، فَهَلْ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْيَسَارِ أَوِ الْإِعْسَارِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْيَسَارِ لِوُجُودِ مِلْكِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ ، وَيُكَفِّرُ بِالْمَالِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِعْسَارِ لِأَنَّهُ بِالْحَجْرِ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْمُعْسِرِ فَيُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ . فَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يُكَفِّرْ بِالصَّوْمِ حَتَّى فُكَّ حَجْرُهُ ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْمُرَاعَى بِالْكَفَّارَةِ حَالُ الْأَدَاءِ لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْمُرَاعَى بِالْكَفَّارَةِ حَالُ الْوُجُوبِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجْزِيهِ الصَّوْمُ اعْتِبَارًا بِحَالِهِ عِنْدَ الْوُجُوبِ . وَالثَّانِي : لَا يَجْزِيهِ إِلَّا الْمَالُ لِأَنَّهُ كَانَ مُوسِرًا ، وَإِنَّمَا ثُبُوتُ الْحَجْرِ عَلَيْهِ كَانَ مَانِعًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَتَى أُطْلِقَ عَنْهُ الْحَجْرُ ثُمَّ عَادَ إِلَى حَالِ الْحَجْرِ حُجِرَ عَلَيْهِ ، وَمَتَى رَجَعَ بَعْدَ الْحَجْرِ إِلَى حَالِ الْإِطْلَاقِ أُطْلِقَ عَنْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا حَجَرَ الْحَاكِمُ عَلَى رَجُلٍ بِالسَّفَهِ ثُمَّ ظَهَرَ رُشْدُهُ وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَفُكَّ حَجْرَهُ ، وَفِي هَذَا الرُّشْدِ الَّذِي يُوجِبُ فَكَّ حَجْرِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ وَالْإِصْلَاحُ فِي الْمَالِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ ، فَإِنْ وُجِدَ مِنْهُ الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُوجَدِ الصَّلَاحُ فِي الْمَالِ ، أَوْ وُجِدَ مِنْهُ الْإِصْلَاحُ فِي الْمَالِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِصْلَاحُ فِي الدِّينِ وَجَبَ اسْتِدَامَةُ الْحَجْرِ عَلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ الْإِصْلَاحُ فِي الْمَالِ وَحْدَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ .

فَإِذَا ظَهَرَ رُشْدُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ لَمْ يَنْفَكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ ، لِأَنَّ مَا يُوجِبُ زَوَالَ الْحَجْرِ يَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادٍ ، بِخِلَافِ الْجُنُونِ الَّذِي الْإِفَاقَةُ مِنْهُ ظَاهِرَةٌ وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادٍ . وَيَرْتَفِعُ الْحَجْرُ بِوُجُودِ الْإِفَاقَةِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْوِلَايَةُ عَلَى السَّفِيهِ مَرْدُودَةً إِلَى أَبِيهِ أَوْ غَيْرِهِ ، بِخِلَافِ الصَّغِيرِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ فَلَمْ يَرْتَفِعْ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ ، وَابْتِدَاءُ الْحَجْرِ عَلَى الصَّغِيرِ يَثْبُتُ بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ فَجَازَ أَنْ يَرْتَفِعَ مَعَ الْأَبِ بِغَيْرِ حُكْمٍ ، فَإِذَا فَكَّ الْحَاكِمُ الْحَجْرَ عَنْهُ بِعَوْدَةٍ إِلَى حَالِ الرُّشْدِ جَازَ تَصَرُّفُهُ ، فَلَوْ عَادَ إِلَى حَالِ التَّبْذِيرِ وَالسَّفَهِ وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُعِيدَ الْحَجْرَ عَلَيْهِ . فَإِنْ عَادَ إِلَى حَالِ الرُّشْدِ رَفَعَ الْحَجْرَ عَنْهُ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ كُلَّمَا عَادَ إِلَى السَّفَهِ حُجِرَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ عَادَ إِلَى الرُّشْدِ فُكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ ، لِأَنَّ كُلَّ عِلَّةٍ أَوْجَبَتْ حُكْمًا اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ زَوَالُ تِلْكَ الْعِلَّةِ مُوجِبًا لِزَوَالِ ذَلِكَ الْحُكْمِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ أَجَزْتَ إِطْلَاقَهُ عَنْهُ وَهُوَ إِتْلَافُ مَالٍ ؟ قِيلَ : لَيْسَ بِإِتْلَافٍ مَالٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمُوتُ فَلَا تُورَثُ عَنْهُ امْرَأَتُهُ وَلَا تَحِلُّ لَهُ فِيهَا هِبَةٌ وَلَا بَيْعَةٌ وَيُورَثُ وَيُبَاعُ عَلَيْهِ وَيُمْلَكُ ثَمَنُهُ ، فَالْعَبْدُ مَالٌ بِكُلِّ حَالٍ ، وَالْمَرْأَةُ لَيْسَتْ بِمَالٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ يُؤْذَنُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَالنِّكَاحِ فَيَكُونَ لَهُ الطَّلَاقُ وَالْإِمْسَاكُ دُونَ سَيِّدِهِ وَلِمَالِكِهِ أَخْذُ مَالِهِ كُلِّهِ دُونَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، طَلَاقُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ وَاقِعٌ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو يُوسُفَ : طَلَاقُهُ لَا يَقَعُ ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ إِتْلَافُ مَالٍ كَالْعِتْقِ ، لِأَنَّ الْبُضْعَ يُمْلَكُ بِالْمَالِ وَيَزُولُ عَنْهُ الْمِلْكُ بِالْمَالِ ، فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ عِتْقُهُ وَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ طَلَاقُهُ ، وَلِأَنَّ شَاهِدَيْنِ لَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَمَضَى الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمَا فَرَجَعَ الشَّاهِدَانِ لَزِمَهُمَا مَهْرُ الْمِثْلِ . فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِتْلَافَ مَالٍ مَا لَزِمَهُمَا غُرْمُ الْمَالِ . وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [ الْبَقَرَةِ : 230 ] وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ .

وَلِأَنَّ السَّفِيهَ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْعَبْدِ لِحُرِّيَّتِهِ وَثُبُوتِ مِلْكِهِ ، فَلَمَّا صَحَّ طَلَاقُ الْعَبْدِ فَأَوْلَى أَنْ يَصِحَّ طَلَاقُ السَّفِيهِ . وَلِأَنَّهُ يَسْتَفِيدُ بِطَلَاقِهِ سُقُوطَ النَّفَقَةِ إِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ وَنِصْفَ الْمَهْرِ إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ هَذِهِ الْفَائِدَةِ وَيُجْبَرَ عَلَى الْتِزَامِ النَّفَقَةِ . وَقَوْلُهُمْ : إِنَّهُ مَالٌ كَالْعَبْدِ غَلَطٌ ، لِأَنَّ الْعَبْدَ يَصِحُّ بَيْعُهُ وَرَهْنُهُ وَيُورَثُ عَنْهُ ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي الزَّوْجَةِ . وَغُرْمُ الشَّاهِدَيْنِ الْمَهْرَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ مَا أَوْقَعَا مِنَ الْحَيْلُولَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَتَفْوِيتِ الِاسْتِمْتَاعِ عَلَيْهِمَا وَإِنْ لَمْ يَتَلَقَّا بِشَهَادَتِهِمَا مَالًا . كَمَا لَوْ شَهِدَا بِمَا أَوْجَبَ الْقَوْدَ لَزِمَتْهُمَا الدِّيَةُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْحَقُّ مَالًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
_____كِتَابُ الصُّلْحِ _____

مَسْأَلَةٌ الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا

كِتَابُ الصُّلْحِ أُمْلِيَ عَلَيَّ كِتَابُ أَبِي يُوسُفَ وَمَا دَخَلَ فِيهِ مِنَ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ الصُّلْحِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْأَثَرُ وَالِاتِّفَاقُ ، فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [ النِّسَاءِ : 114 ] . وَقَالَ تَعَالَى : وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا [ النِّسَاءِ : 128 ] الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى : وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [ النِّسَاءِ : 35 ] . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا أَبَا أَيُّوبَ أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى صَدَقَةٍ يَرْضَى اللَّهُ مَوْضِعَهَا ، قُلْتُ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : تَسْعَى فِي صُلْحٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ إِذَا تَفَاسَدُوا ، وَتُقَارِبُ بَيْنَهُمْ إِذَا تَبَاعَدُوا . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا . وَرَوَى كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيُّ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلَالِ بْنِ الْحَرْثِ اعْلَمْ أَنَّ الصُّلْحَ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا ، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا .

وَرَوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ يُلَازِمُ غَرِيمًا لَهُ يُقَالُ لَهُ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ وَقَدِ ارْتَفَعَتْ بَيْنَهُمَا خُصُومَةٌ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَعْبٍ خُذْ مِنْهُ الشَّطْرَ وَدَعِ الشَّطْرَ . وَأَمَّا الْأَثَرُ فَمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ فِي عَهْدِهِ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ : الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا . وَرَوِيَ أَنَّ أَكْثَرَ قَضَايَا عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَتْ صُلْحًا . وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ ص : 20 ] ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : الصُّلْحُ بَيْنَ الْخُصُومِ . وَالثَّانِي : فَصْلُ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِخْلَافٍ فِيهِ . وَالثَّالِثُ : سُرْعَةُ الْقَضَاءِ وَبَتِّ الْحُكْمِ . وَأَمَّا الِاتِّفَاقُ فَهُوَ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ وَإِبَاحَتِهِ بِالشَّرْعِ . وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هُوَ رُخْصَةٌ لِاسْتِثْنَائِهِ مِنْ جُمْلَةٍ مَحْظُورَةٍ أَوْ هُوَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ أَصْلًا بِذَاتِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ رُخْصَةٌ لِأَنَّهُ فَرْعٌ لِأُصُولٍ يُعْتَبَرُ بِهَا فِي صِحَّتِهِ وَفَسَادِهِ وَلَيْسَ بِأَصْلٍ بِذَاتِهِ فَصَارَ لِاعْتِبَارِهِ بِغَيْرِ رُخْصَةٍ مُسْتَثْنَاةٍ مِنْ جُمْلَةٍ مَحْظُورَةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ أَصْلًا بِذَاتِهِ قَدْ جَاءَ الشَّرْعُ بِهِ وَجَرَى الْعَمَلُ عَلَيْهِ ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى الْقَوْلِ بِهِ أَبُو حَامِدٍ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا قَوْلُهُ : الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ ، هَلْ هُوَ عَامٌّ أَوْ مُحْمَلٌ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُحْمَلٌ ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ جَعَلَهُ مُعْتَبَرًا بِغَيْرِهِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ أَصْلًا بِذَاتِهِ .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ عَامٌّ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَهُ أَصْلًا بِذَاتِهِ . فَأَمَّا الصُّلْحُ الَّذِي يُحَرِّمُ الْحَلَالَ فَهُوَ أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى دَارٍ عَلَى أَنْ لَا يَسْكُنَهَا ، أَوْ يُصَالِحَ زَوْجَتَهُ عَلَى أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا ، أَوْ عَلَى أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا فَيُحَرِّمُ عَلَى نَفْسِهِ بِالصُّلْحِ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنَ السُّكْنَى وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ . وَأَمَّا الصُّلْحُ الَّذِي يُحِلُّ الْحَرَامَ فَهُوَ أَنْ يُصَالِحَهُ مِنَ الدَّرَاهِمِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهَا ، أَوْ عَلَى دَنَانِيرَ مُؤَجَّلَةٍ أَوْ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ . فَيَسْتَحِلُّ بِالصُّلْحِ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ مِنَ الرِّبَا وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ .

مَسْأَلَةٌ مَا جَازَ فِي الْبَيْعِ جَازَ فِي الصُّلْحِ وَمَا بَطَلَ فِيهِ بَطَلَ فِي الصُّلْحِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَمَا جَازَ فِي الْبَيْعِ جَازَ فِي الصُّلْحِ ، وَمَا بَطَلَ فِيهِ بَطَلَ فِي الصُّلْحِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَجُمْلَةُ الصُّلْحِ ضَرْبَانِ : مُعَاوَضَةٌ ، وَحَطِيطَةٌ . فَأَمَّا الْمُعَاوَضَةُ : فَهُوَ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، مِثْلَ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ ، أَوْ دَنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ ، فَهَذَا بَيْعٌ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمٌ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَدْخُلُهُ الرِّبَا كَالصُّلْحِ عَلَى الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ أَوْ عَلَى الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ لَزِمَ فِيهِ الْقَبْضُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَدَخَلَهُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ دُونَ خِيَارِ الشَّرْطِ . وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا رِبَا فِيهِ جَازَ فِيهِ الِافْتِرَاقُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَثَبَتَ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ وَخِيَارُ الثَّلَاثِ ، وَصَحَّ فِيهِ دُخُولُ الْأَجَلِ وَأَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ ، فَيُعْتَبَرُ فِي صِحَّتِهِ وَفَسَادِهِ مَا يُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ وَفَسَادِهِ وَهُوَ الَّذِي بَدَأَ بِهِ الشَّافِعِيُّ . وَأَمَّا الْحَطِيطَةُ معناها فَهُوَ أَنْ يُصَالِحَهُ مِنْ حَقِّهِ عَلَى بَعْضِهِ وَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي الذِّمَّةِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَيْنًا قَائِمَةً . فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي الذِّمَّةِ فَصُورَتُهُ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَعْتَرِفُ بِهَا فَيُصَالِحَهُ مِنْهَا عَلَى خَمْسِينَ دِينَارًا فَهَذَا يَكُونُ إِبْرَاءً . فَإِنْ حَطَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ بِلَفْظِ الْإِبْرَاءِ فَقَالَ : قَدْ صَالَحْتُكَ عَلَى خَمْسِينَ دِينَارًا وَأَبْرَأْتُكَ مِنَ الْبَاقِي صَحَّ ، إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ الْإِبْرَاءُ مَخْرَجَ الشَّرْطِ فَيَقُولُ : إِنْ أَعْطَيْتَنِي خَمْسِينَ دِينَارًا فَقَدْ أَبْرَأْتُكَ مِنَ الْبَاقِي ، أَوْ يَقُولَ : قَدْ أَبْرَأْتُكَ مِنْ خَمْسِينَ دِينَارًا إِنْ دَفَعْتَ إِلَيَّ خَمْسِينَ دِينَارًا ، فَلَا يَصِحُّ هَذَا الْإِبْرَاءُ .

وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : إِنْ أَقْرَرْتَ لِي بِحَقِّي فَقَدْ أَبْرَأْتُكَ مِنْ خَمْسِينَ دِينَارًا فَأَقَرَّ لَمْ يُبْرَأْ مِنْ شَيْءٍ ، لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْبَرَاءَةِ بِشَرْطٍ لَا يَصِحُّ . فَإِنْ حَطَّ الْبَاقِيَ بِغَيْرِ لَفْظِ الْإِبْرَاءِ فَقَالَ : قَدْ صَالَحْتُكَ مِنَ الْمِائَةِ عَلَى خَمْسِينَ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : لَا يَصِحُّ . وَالثَّانِي وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ : يَصِحُّ . وَتَوْجِيهُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ عَنْهُمَا فِيمَا بَعْدُ . وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ عَيْنًا قَائِمَةً فَصُورَتُهُ : أَنْ يَدَّعِيَ دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ فَيَعْتَرِفَ لَهُ بِهَا وَيُصَالِحَهُ مِنْهَا عَلَى نِصْفِهَا فَهَذَا يَكُونُ هِبَةً . فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَقَرَّ لَهُ بِالدَّارِ : قَدْ وَهَبْتُ لَكَ نِصْفَهَا صَحَّ وَاعْتُبِرَ فِيهِ مَا يُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ الْهِبَةِ مِنَ الْقَبُولِ وَمُرُورِ زَمَانِ الْقَبْضِ ، وَهَلْ يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِهِ فِي الْقَبْضِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ ، بَلْ قَالَ : صَالَحْتُكَ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ عَلَى نِصْفِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ نَصُّ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِجَمِيعِ الدَّارِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى بَعْضِهَا ، كَمَا لَا يَجُوزُ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى سُكْنَاهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ : أَنَّهُ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ عَلَى بَعْضِهِ جَازَ أَنْ يُصَالِحَهُ عَنِ الْأَعْيَانِ عَلَى بَعْضِهَا ، وَمِنْ هَذَيْنِ يُخَرَّجُ الْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذْهَبَيْنِ فِي الصُّلْحِ هَلْ هُوَ فَرْعٌ لِغَيْرِهِ أَوْ أَصْلٌ بِذَاتِهِ .

مَسْأَلَةٌ إِنْ صَالَحَ رَجُلٌ أَخَاهُ مِنْ مُوَرِّثِهِ فَإِنْ عَرَفَا مَا صَالَحَهُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ جَازَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ صَالَحَ رَجُلٌ أَخَاهُ مِنْ مُوَرِّثِهِ فَإِنْ عَرَفَا مَا صَالَحَهُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ جَازَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَمَقْصُودُ الشَّافِعِيِّ بِهَا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ : فَمَا جَازَ فِي الْبَيْعِ جَازَ فِي الصُّلْحِ ، وَمَا بَطَلَ فِيهِ بَطَلَ فِي الصُّلْحِ ، فَإِذَا وَرِثَ أَخَوَانِ تَرِكَةً صَالَحَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ عَلَى مَالٍ مِنْ حَقِّهِ لِتَصِيرَ لَهُ التَّرِكَةُ كُلُّهَا بِإِرْثِهِ وَصُلْحِهِ فَهَذَا فِي حُكْمِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُشْتَرِيًا مِنْ أَخِيهِ نَصِيبَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ ، فَيَصِحُّ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ يُعْتَبَرُ بِهَا صِحَّةُ الْبَيْعِ : أَحَدُهَا : مَعْرِفَةُ التَّرِكَةِ بِالْمُشَاهَدَةِ لَهَا وَالْإِحَاطَةِ بِهَا .

وَالثَّانِي : مَعْرِفَةُ قَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُصَالِحُ بِالْإِرْثِ مِنْهَا . وَالثَّالِثُ : كَوْنُ الْعِوَضِ مَعْلُومًا تَنْتَفِي الْجَهَالَةُ عَنْهُ . فَإِنْ لَمْ يُشَاهِدِ التَّرِكَةَ ، أَوْ جَهِلَا حِصَّةَ الْمُصَالِحِ ، أَوْ قَدْرَ الْعِوَضِ بَطَلَ الصُّلْحُ .

مَسْأَلَةٌ لَوِ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ حَقًّا فَصَالَحَهُ مِنْ دَعْوَاهُ وَهُوَ مُنْكِرٌ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوِ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ حَقًّا فَصَالَحَهُ مِنْ دَعْوَاهُ وَهُوَ مُنْكِرٌ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ وَيَرْجِعُ الْمُدَّعِي عَلَى دَعْوَاهُ وَيَأْخُذُ مِنْهُ صَاحِبُهُ مَا أَعْطَاهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ بِالصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ بَاطِلٌ حَتَّى يُصَالِحَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِالدَّعْوَى . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : يَجُوزُ الصُّلْحُ مَعَ الْإِنْكَارِ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [ النِّسَاءِ : 128 ] وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : كُلُّ مَا وَقَى الْمَرْءُ بِهِ عِرْضَهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ ، وَالصَّدَقَةُ تُسْتَحَبُّ لِبَاذِلِهَا وَتَحِلُّ لِآخِذِهَا فَهَكَذَا الصُّلْحُ . وَلِأَنَّهُ بَذَلَ مَالًا فِي الصُّلْحِ مُخْتَارًا فَصَحَّ كَالْمُقِرِّ بِهِ . وَلِأَنَّهُ مُدَّعٍ لَمْ يُعْلَمْ كَذِبُهُ فَصَحَّ صُلْحُهُ كَالْمُقَرِّ لَهُ . وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَسَامِي يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَعَانِي ، فَلَمَّا اخْتَصَّ الصُّلْحُ بِاسْمٍ غَيْرِ الْبَيْعِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْبَيْعِ ، وَلَوْ كَانَ لَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ الْإِقْرَارِ لَكَانَ بَيْعًا مَحْضًا وَلَمْ يَكُنْ لِاخْتِصَاصِهِ بِاسْمِ الصُّلْحِ مَعْنًى ، وَلِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْأُصُولِ بِالْآخِذِ دُونَ الْبَاذِلِ . أَلَا تَرَى أَنَّ شَاهِدًا لَوْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ بِعِتْقِ عَبْدِهِ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ ثُمَّ ابْتَاعَهُ الشَّاهِدُ مِنْهُ حَلَّ لَهُ أَخْذُ ثَمَنِهِ لِاعْتِقَادِ إِحْلَالِهِ . وَإِنْ كَانَ الْبَاذِلُ مُعْتَقِدًا لِتَحْرِيمِهِ فَكَذَلِكَ الصُّلْحُ يَحِلُّ لِلْآخِذِ ، وَإِنْ كَانَ الْبَاذِلُ مُنْكِرًا . وَلِأَنَّ فِي الْمَنْعِ مِنَ الصُّلْحِ مَعَ الْإِنْكَارِ مَنْعًا مِنَ الصُّلْحِ بِكُلِّ حَالٍ لِأَنَّهُ يُبْعِدُ الصُّلْحَ مَعَ الْإِقْرَارِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَحَلٌّ إِلَّا مَعَ الْإِنْكَارِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [ الْبَقَرَةِ : 188 ] وَالصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حَقٌّ يَجُوزُ أَنْ يُعَاوَضَ عَلَيْهِ . وَمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا .

وَالصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ مُحَرِّمٌ لِلْحَلَالِ وَمُحِلٌّ لِلْحَرَامِ ؛ لِأَنَّهُ يُحِلُّ الْمُعَاوَضَةَ عَلَى غَيْرِ حَقٍّ ثَابِتٍ وَذَلِكَ حَرَامٌ ، وَيُحَرِّمُ عَلَى الْمُدَّعِي بَاقِيَ حَقِّهِ وَذَلِكَ حَلَالٌ . وَلِأَنَّهُ صُلْحٌ عَلَى مُجَرَّدِ الدَّعْوَى فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَمَا لَوِ ادَّعَى قَتْلَ عَمْدٍ فَصُولِحَ عَلَيْهِ مَعَ الْإِنْكَارِ . وَلِأَنَّهُ اعْتَاشَ عَنْ حَقٍّ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْلِكَ عِوَضَهُ ، أَصْلُهُ إِذَا ادَّعَى وَصِيَّةً فَصُولِحَ بِمَالٍ ، وَلِأَنَّهُ صَالَحَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ صِدْقَهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ كَمَا لَوْ عَلِمَ كَذِبَهُ . وَلِأَنَّهُ نَوْعُ مُعَاوَضَةٍ لَا يَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ مَعَ الْإِنْكَارِ كَالْبَيْعِ . وَلِأَنَّ الصُّلْحَ لَمَّا لَمْ يَجُزْ عَلَى مَجْهُولِ الْوَصْفِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ عَلَى مَجْهُولِ الْعَيْنِ . وَلِأَنَّ الْمَبْذُولَ بِالصُّلْحِ لَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : [ الْأَوَّلُ ] : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَبْذُولًا لِكَفِّ الْأَذَى . [ الثَّانِي ] : أَوْ يَكُونَ مَبْذُولًا لِقَطْعِ الدَّعْوَى . [ الثَّالِثُ ] : أَوْ يَكُونَ مَبْذُولًا لِلْإِعْفَاءِ مِنَ الْيَمِينِ . [ الرَّابِعُ ] : أَوْ يَكُونَ مَبْذُولًا لِلْمُعَاوَضَةِ . فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَبْذُولًا لِدَفْعِ الْأَذَى لِأَنَّهُ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ . وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لِقَطْعِ الدَّعْوَى لِمَا فِيهِ مِنَ اعْتِبَارِ مَا يَمْنَعُ مِنَ الرِّبَا ، وَهُوَ إِذَا كَانَ الْحَقُّ أَلْفًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهَا . وَلَوْ كَانَ دَرَاهِمَ صُولِحَ عَلَيْهَا بِدَنَانِيرَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَارِقَهُ قَبْلَ قَبْضِهَا ، وَلَوْ كَانَ لِقَطْعِ الدَّعْوَى لَجَازَ الِافْتِرَاقُ . وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لِلْإِعْفَاءِ مِنَ الْيَمِينِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَمْرَيْنِ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ مَبْذُولٌ لِلْمُعَاوَضَةِ . وَالْمُعَاوَضَةُ تَصِحُّ مَعَ الْإِقْرَارِ ، وَتَبْطُلُ مَعَ الْإِنْكَارِ ، لِأَنَّ مَا لَمْ يَجِبْ مِنَ الْحُقُوقِ لَمْ يَجُزِ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ فَهُوَ أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلَائِلِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كُلُّ مَالٍ وَقَى الْمَرْءُ بِهِ عِرْضَهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِهِ الْبِرُّ لِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ لَا يَخْلُو الْمَقْصُودُ بِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : [ الْأَوَّلِ ] : إِمَّا أَنْ يُقْصَدَ بِهِ الْقُرْبَةُ وَهُوَ الصَّدَقَةُ . [ الثَّانِي ] : أَوِ الصِّلَةُ وَهُوَ الْهِبَةُ .

[ الثَّالِثِ ] : أَوِ الْمُعَاوَضَةُ وَهُوَ الْبَيْعُ . وَلَيْسَ مَالُ الصُّلْحِ مَقْصُودًا بِهِ الْبِرُّ وَلَا الصِّلَةُ فَثَبَتَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْمُعَاوَضَةُ ، وَالْخَبَرُ لَا يَتَنَاوَلُ الْمُعَاوَضَةَ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمُقِرِّ فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْمُقِرِّ أَنَّ الْعِوَضَ مَأْخُوذٌ عَمَّا ثَبَتَ لَهُ فَصَحَّ ، وَفِي الْمُنْكِرِ عَمَّا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ فَلَمْ يَصِحَّ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَسَامِي يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَعَانِي فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الصُّلْحُ مُخَالِفًا لِلْبَيْعِ ، فَهُوَ أَنَّ الْبَيْعَ مُخَالِفٌ لِلصُّلْحِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الصُّلْحَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ بَعْدَ التَّنَازُعِ وَالْمُخَاصَمَةِ ، وَالْبَيْعُ بِخِلَافِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالصُّلْحِ الْإِرْفَاقُ وَبِالْبَيْعِ الْمُعَاوَضَةُ . فَكَانَ افْتِرَاقُهُمَا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَا مِنْ حَيْثُ مَا ذُكِرَ مِنَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْآخِذِ دُونَ الْبَاذِلِ كَالشَّاهِدِ فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، وَالشَّاهِدُ إِنَّمَا كَانَ لَهُ ابْتِيَاعُ مَنْ شَهِدَ بِعِتْقِهِ لِأَنَّهُ كَانَ مَحْكُومًا بِرِقِّهِ لِبَايِعِهِ . وَإِنْ قَصَدَ مُشْتَرِيهِ اسْتِنْقَاذَهُ مِنْ رِقِّهِ ، كَمَا أَنَّ قَصْدَ مَنِ اشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا مِنْ كَافِرٍ اسْتِنْقَاذَهُ مِنْ أَسْرِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الصُّلْحِ مِنَ الْإِنْكَارِ يُفْضِي إِلَى الْمَنْعِ مِنَ الصُّلْحِ بِكُلِّ حَالٍ فَغَلَطٌ : لِأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ قَدْ يُصَالَحُ أَيْضًا إِمَّا لِكَوْنِ الْمُقِرِّ غَاصِبًا بِيَدِهِ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مُمَاطِلًا بِحَقِّهِ ، وَيَرَى أَنْ يَتَعَجَّلَ قَبْضَ الْبَعْضِ بِالصُّلْحِ ، وَلَا يُمْنَعُ مِنَ الْكُلِّ بِالْغَصْبِ أَوِ الْمَطَلِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الصُّلْحَ مَعَ الْإِنْكَارِ حكمه لَا يَجُوزُ ، فَلَوْ صَالَحَهُ مَعَ إِنْكَارِهِ كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلًا وَلَزِمَ رَدُّ الْعِوَضِ وَلَمْ يَقَعِ الْإِبْرَاءُ ، حَتَّى لَوْ صَالَحَهُ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ قَدْ أَنْكَرَهَا عَلَى خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَبْرَأَهُ مِنَ الْبَاقِي لَزِمَهُ فِي الْحُكْمِ رَدُّ مَا قَبَضَ وَلَمْ يُبْرَأْ مِمَّا بَقِيَ حَتَّى لَوْ أَقَامَ بِالْأَلْفِ بَيِّنَةً عَادِلَةً كَانَ لَهُ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِهَا ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَا قَبَضَهُ بِالصُّلْحِ الْفَاسِدِ لَا يَمْلِكُهُ كَالْمَقْبُوضِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ . وَالْإِبْرَاءُ كَانَ مَقْرُونًا بِمِلْكِ مَا صَالَحَ بِهِ ، فَلَمَّا لَزِمَهُ رَدُّهُ لِعَدَمِ مِلْكِهِ بَطَلَ إِبْرَاؤُهُ لِعَدَمِ صِفَتِهِ ، وَكَمَنْ بَاعَ عَبْدًا بَيْعًا فَاسِدًا فَأَذِنَ لِمُشْتَرِيهِ فِي عِتْقِهِ فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي بِإِذْنِهِ لَمْ يُعْتَقْ ، لِأَنَّ إِذْنَهُ إِنَّمَا كَانَ مَضْمُونًا بِمِلْكِ الْعِوَضِ ، فَلَمَّا لَمْ يَمْلِكْهُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ بِالْإِذْنِ ، فَإِنْ قِيلَ : أَفَيَسَعُ صَاحِبُ الْحَقِّ أَنْ يَأْخُذَ مَا بُذِلَ لَهُ بِالصُّلْحِ مَعَ الْإِنْكَارِ إِذَا كَانَ مُحِقًّا ؟ قِيلَ : يَسَعُهُ ذَلِكَ وَيَجُوزُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ .

فَصْلٌ : فَلَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ أَلْفًا فَأَنْكَرَهُ ثُمَّ أَبْرَأَهُ مِنْهَا قَبْلَ ثُبُوتِهَا عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ حكم الصلح فيه بَرِئَ مِنْهَا ، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ عَقْدِ صُلْحٍ كَانَ مُطْلَقًا فَصَحَّ ، وَإِذَا كَانَ عَنْ عَقْدِ صُلْحٍ كَانَ مُقَيَّدًا

بِصِحَّتِهِ فَبَطَلَ بِبُطْلَانِهِ ، وَلَكِنْ لَوْ لَمْ يُبْرِئْهُ مِنْهَا بِلَفْظِ الْإِبْرَاءِ وَقَالَ : قَدْ حَطَطْتُهَا عَنْكَ فَفِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ سَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ بِهَا وَبَرِئَ مِنْهَا : لِأَنَّ الْحَطِيطَةَ أَحَدُ أَلْفَاظِ الْإِبْرَاءِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُطَالَبَةَ بَاقِيَةٌ وَلَا يَبْرَأُ مِنْ شَيْءٍ ، لِأَنَّ الْحَطِيطَةَ إِسْقَاطٌ ، وَإِسْقَاطُ الشَّيْءِ إِنَّمَا يَصِحُّ بَعْدَ لُزُومِهِ .

فَصْلٌ : فَلَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ أَلْفًا أَقَرَّ بِهَا ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى خَمْسِمِائَةٍ وَأَبْرَأَهُ مِنَ الْبَاقِي حكم الصلح فيه فَكَانَ مَا صَالَحَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْخَمْسِمِائَةِ مُسْتَحِقًّا فَالصُّلْحُ صَحِيحٌ وَالْإِبْرَاءُ لَازِمٌ . وَيَرْجِعُ عَلَى الْمُقِرِّ بِبَذْلِ مَا اسْتَحَقَّ مِنْ يَدِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَمِ مِنَ الْحُقُوقِ إِذَا أُخِذَ بِهِ مَالٌ مُعَيَّنٌ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهِ إِلَّا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : [ الْأَوَّلِ ] : إِمَّا الِاسْتِقْرَارُ بِالْقَبْضِ بِاسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ . [ الثَّانِي ] : وَإِمَّا لِتَعْيِينِهِ بِعَقْدٍ لَازِمٍ ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الصُّلْحِ هُوَ إِبْرَاءٌ وَلَيْسَ بِعَقْدٍ مِنْ عُقُودِ الْمُعَوِّضَاتِ اللَّازِمَةِ ، فَغَلَبَ حُكْمُ الْإِبْرَاءِ فِي صِحَّةِ الصُّلْحِ وَلَمْ يَغْلِبْ حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ فِي إِبْطَالِ الصُّلْحِ .

فَصْلٌ : إِذَا أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْحَقِّ ثُمَّ أَنْكَرَ الصلح فيه جَازَ الصُّلْحُ ، وَإِنْ أَنْكَرَ فَصُولِحَ ثُمَّ أَقَرَّ كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلًا ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ الْمُتَقَدِّمَ لَا يَبْطُلُ بِالْإِنْكَارِ الْحَادِثِ فَصَحَّ الصُّلْحُ إِذَا أَنْكَرَ بَعْدَ إِقْرَارِهِ لِوُجُودِهِ بَعْدَ لُزُومِ الْحَقِّ . وَلَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ إِذَا كَانَ عَقِيبَ إِنْكَارِهِ وَقَبْلَ إِقْرَارِهِ لِوُجُودِهِ قَبْلَ لُزُومِ الْحَقِّ .

فَصْلٌ : فَلَوْ أَنْكَرَ الْحَقَّ فَقَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ الصلح جَازَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ لِلُزُومِ الْحَقِّ بِالْبَيِّنَةِ كَلُزُومِهِ بِالْإِقْرَارِ . فَلَوْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى إِنْكَارِهِ فَقَالَ : صَالِحْنِي عَلَيْهِ ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِقْرَارًا فَلَا يَصِحُّ الصُّلْحُ مَعَهُ ، وَلَوْ قَالَ مَلِّكْنِي ذَلِكَ كَانَ إِقْرَارًا يَصِحُّ الصُّلْحُ مَعَهُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ قَوْلَهُ صَالِحْنِي يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ قَطْعَ الْخُصُومَةِ وَكَفَّ الْأَذَى فَلَمْ يَصِرْ بِهِ مُقِرًّا . وَقَوْلُهُ مَلِّكْنِي لَا يَحْتَمِلُ فَصَارَ بِهِ مُقِرًّا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ صَالَحَ عَنْهُ رَجُلٌ يُقِرُّ عَنْهُ بِشَيْءٍ جَازَ الصُّلْحُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ صَالَحَ عَنْهُ رَجُلٌ يُقِرُّ عَنْهُ بِشَيْءٍ جَازَ الصُّلْحُ وَلَيْسَ لِلَّذِي أَعْطَى عَنْهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَطَوَّعَ بِهِ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا مَا شَرَحَهُ الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ " أَنْ يُرِيدَ الرَّجُلَانِ الصُّلْحَ وَيَكْرَهَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْإِقْرَارَ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَلَا بَأْسَ أَنْ يُقِرَّ رَجُلٌ عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُؤَدِّي إِلَى الْمُدَّعِي مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ فَيَكُونَ صَحِيحًا ، وَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى حَقًّا فِي الذِّمَّةِ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ عَيْنًا قَائِمَةً . فَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى حَقًّا فِي الذِّمَّةِ جَازَ أَنْ يُصَالِحَ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ عَنْهُ سَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ فِي الصُّلْحِ عَنْهُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ ، لِأَنَّ هَذَا الصُّلْحَ إِنَّمَا يُوجِبُ إِسْقَاطَ الدَّيْنِ وَالْبَرَاءَ مِنْهُ ، وَذَلِكَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَضَى الدَّيْنُ عَنْهُ بِغَيْرِ إِذْنٍ صَحَّ ، فَكَذَلِكَ إِذَا صَالَحَ عَنْهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ صَحَّ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمِنْ شَرْطِ هَذَا الصُّلْحِ أَنْ يُقِرَّ عَنْهُ الْأَجْنَبِيُّ بِالْحَقِّ فَيَقُولُ : حَقُّكَ ثَابِتٌ عَلَى فُلَانٍ فَصَالِحْنِي عَنْهُ . وَهَلْ يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ : وَقَدْ أَقَرَّ عِنْدِي بِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ : حَقُّكَ ثَابِتٌ عَلَى فُلَانٍ وَقَدْ أَقَرَّ عِنْدِي بِهِ لِيَصِحَّ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِثُبُوتِ الْحَقِّ عَلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْلَمُ بِذَلِكَ عَنْ إِقْرَارِهِ تَارَةً وَبِغَيْرِ إِقْرَارِهِ أُخْرَى . فَإِذَا أَقَرَّ فَصَالَحَ عَنْهُ صَحَّ الصُّلْحُ وَلَزِمَ الْمُصْلِحَ عَنْ غَيْرِهِ دَفْعُ مَا اتَّفَقَا عَلَى الصُّلْحِ بِهِ ، وَبَرِئَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنَ الْمُدَّعِي ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُصَالِحِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا صَالَحَ بِهِ مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ تَطَوَّعَ بِالْغُرْمِ عَنْهُ كَمَا لَوْ تَطَوَّعَ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ . فَأَمَّا إِذَا أَذِنَ لَهُ فِي الصُّلْحِ عَنْهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الصُّلْحِ عَنْهُ دُونَ الْأَدَاءِ فَيَقُولُ : صَالِحْ عَنِّي ، فَلَا رُجُوعَ لَهُ بِمَا أَدَّاهُ فِي الصُّلْحِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ لَهُ فِي الْأَدَاءِ فَصَارَ مُتَطَوِّعًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْأَدَاءِ فَيُنْظَرُ فِي إِذْنِهِ بِالْأَدَاءِ ، فَإِنْ قَالَ لَهُ : صَالِحْ وَأَدِّ لِتَرْجِعَ عَلَيَّ ، فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ قَالَ : أَدِّ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالرُّجُوعِ فَفِي رُجُوعِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَرْجِعُ عَلَيْهِ لِإِذْنِهِ فِيهِ . وَالثَّانِي : لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ لِأَنَّ أَمْرَهُ بِالْأَدَاءِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِمَعْنَى التَّطَوُّعِ بِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ

يَكُونُ لِمَعْنَى الرُّجُوعِ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَكُنِ الْإِذْنُ صَرِيحًا فِي الرُّجُوعِ بِهِ .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى عَيْنًا قَائِمَةً فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُصَالِحِ عَنْهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُصَالِحَ عَنْهَا لِنَفْسِهِ . أَوْ يُصَالِحَ عَنْهَا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ . فَإِنَّ صَالَحَ عَنْهَا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَا يَخْلُو ، إِمَّا أَنْ يُصَالِحَ عَنْهُ بِإِذْنِهِ ، أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، فَإِنَّ صَالَحَ عَنْهُ بِإِذْنِهِ جَازَ ، وَهَلْ يَحْتَاجُ مَعَ الْإِذْنِ لِلْوَكِيلِ فِي الصُّلْحِ إِلَى الْإِقْرَارِ بِهَا عِنْدَهُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ إِذْنِهِ لِلْوَكِيلِ حَتَّى يُقِرَّ بِهَا عِنْدَهُ لِلْمُدَّعِي ، ثُمَّ يُقِرُّ الْوَكِيلُ بِذَلِكَ عِنْدَ الْمُدَّعِي عِنْدَ صُلْحِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ : أَنَّ الصُّلْحَ يَصِحُّ بِإِذْنِهِ لِلْوَكِيلِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِقْرَارِهِ عِنْدَ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّ وَكِيلَهُ فِي الصُّلْحِ نَائِبٌ عَنْهُ ، فَإِقْرَارُهُ عِنْدَهُ كَإِقْرَارِهِ عِنْدَ نَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا يُقِرُّ الْوَكِيلُ عَنْهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ ، وَيَزِيدُ فِيهِ : إِنَّ فُلَانًا وَكَّلَنِي فِي الصُّلْحِ عَنْهُ ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ مِنَ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ هَلْ يَكُونُ إِذْنُهُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصُّلْحِ أَمْ لَا ؟ فَأَمَّا إِذَا صَلَحَ عَنْهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ ، وَأَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ ، وَأَبِي حَامِدٍ ، أَنَّ الصُّلْحَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُصَالِحَ عَمَّا فِي الذِّمَّةِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ جَازَ أَنْ يُصَالِحَ عَنِ الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ : أَنَّ الصُّلْحَ بَاطِلٌ مَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذْنٌ فِيهِ : لِأَنَّ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الصُّلْحِ تَمْلِيكَ عَيْنٍ فَلَمْ يَصِحَّ بِغَيْرِ إِذْنِ مَنْ تَمَلَّكَهَا ، كَمَنِ اشْتَرَى لِغَيْرِهِ شَيْئًا بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَارَقَ مَا فِي الذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّ طَرِيقَهُ الْإِبْرَاءُ ، وَيَصِحُّ مِنَ الْإِنْسَانِ أَنْ يُبْرِئَ غَيْرَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَإِذْنِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا صَالَحَ عَنْهَا لِنَفْسِهِ فَهَذَا فِي حُكْمِ مَنِ اشْتَرَى شَيْئًا مَغْصُوبًا فَيَحْتَاجُ أَنْ يَعْتَرِفَ لِلْمُدَّعِي بِالْمِلْكِ وَيُقِرَّ بِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى انْتِزَاعِ ذَلِكَ مِنْ يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَيَصِحَّ هَذَا وَيَكُونَ بَيْعًا مَحْضًا ، فَإِنِ انْتَزَعَ ذَلِكَ مِنْ يَدِهِ بَرِئَ الْمُدَّعِي مِنْ ضَمَانِ الْعَقْدِ ، وَإِنْ عَادَ فَذَكَرَ أَنَّهُ لَيْسَ يَقْدِرُ عَلَى انْتِزَاعِهَا مِنْ يَدِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ إِذَا كَذَّبَهُ الْمُدَّعِي ، وَلَهُ الرُّجُوعُ بِالْعِوَضِ الَّذِي بَذَلَهُ .

فَصْلٌ : إِذَا أَوْقَفَ رَجُلٌ دَارًا بِيَدِهِ ثُمَّ ادَّعَاهَا مُدَّعٍ فَأَقَرَّ لَهُ بِهَا كَانَ إِقْرَارُهُ مَرْدُودًا لِخُرُوجِهَا عَنْ حُكْمِ مِلْكِهِ بِالْوَقْفِ ، وَهَكَذَا لَوْ صَدَّقَهُ الَّذِينَ وُقِفَتِ الدَّارُ عَلَيْهِمْ لَمْ يَبْطُلِ الْوَقْفُ لِمَا تَعَلَّقَ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110