كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي



فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا ، وَأَرَادَ الْوَلِيُّ نِكَاحَ الْمَرْأَةِ فَذَكَرَتْ أَنَّهَا بِكْرٌ أو ثيب هل يقبل قولها ، قَبِلَ قَوْلَهَا ، مَا لَمْ يَعْلَمْ خِلَافَهُ ، وَأَجْرَى عَلَيْهَا حُكْمَ الْبِكْرِ . فَإِنْ قَالَتْ أَنَا ثَيِّبٌ قَبِلَ قَوْلَهَا ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ لَهَا زَوْجٌ تَقَدَّمَ ، وَلَمْ يَسْأَلْ عَنِ الْوَطْءِ الَّذِي صَارَتْ بِهِ ثَيِّبًا ، وَأَجْرَى عَلَيْهَا حُكْمَ الثَّيِّبِ ، فَلَوْ زَوَّجَهَا الْأَبُ بِغَيْرِ إِذَنٍ : لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهَا بِكْرٌ ، فَادَّعَتْ بَعْدَ عَقْدِهِ أَنَّهَا ثَيِّبٌ ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِي إِبْطَالِ النِّكَاحِ بَعْدَ وُقُوعِهِ عَلَى ظَاهِرِ الصِّحَّةِ : لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الْبَكَارَةُ ، فَإِنْ أَقَامَتْ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ شَهِدْنَ لَهَا أَنَّهُنَّ شَاهَدْنَهَا قَبْلَ النِّكَاحِ ثَيِّبًا لَمْ يَبْطُلِ الْعَقْدُ ، إِمْضَاءً لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ عُذْرَتُهَا زَالَتْ بِظُفْرَةٍ ، أَوْ إِصْبَعٍ ، أَوْ حَلْقَةٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا تُزَوَّجُ الْبِكْرُ بِغَيْرِ إِذْنِهَا ، وَلَا يُزَوِّجُ الصَّغِيرَةَ إِلَّا أَبُوهَا أَوْ جَدُّهَا بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ نِكَاحَ الْبِكْرِ مُعْتَبَرٌ بِأَوْلِيَائِهَا ، وَنِكَاحَ الثَّيِّبِ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهَا : لِأَنَّ الثَّيِّبَ لَا تُزَوَّجُ مَعَ الْأَوْلِيَاءِ إِلَّا بِإِذْنِهَا ، وَالْبِكْرَ يُجْبِرُهَا عَلَيْهِ بَعْضُ أَوْلِيَائِهَا ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ وَلِيُّ الْبِكْرِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَبًا أَوْ عَصَبَةً ، فَإِنْ كَانَ وَلَيُّهَا أَبًا وَزَوَّجَهَا جَبْرًا ، سَوَاءً كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً عَاقِلَةً أَوْ مَجْنُونَةً ، وَهَكَذَا الْجَدُّ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ ، يَقُومُ فِي إِجْبَارِهَا مَقَامَ الْأَبِ ، لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ قَامَ مَقَامَ الْأَبِ الجد بعد الأب في تزويج البكر : لِأَنَّهُ مُشَارِكٌ لَهُ فِي اسْمِ الْأَبِ ، أَوْ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْأَبِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِأَنَّهُ مُشَارِكٌ لَهُ فِي الِاسْمِ : لِأَنَّهُمَا يُسَمَّيَانِ أَبًا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [ الْحَجِّ : 78 ] . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْأَبِ ، وَإِنْ لَمْ يُشَارِكْهُ فِي الِاسْمِ لِمَا فِيهِ مِنْ صِفَتَيِ الْأَبِ الَّتِي تَمَيَّزَ بِهَا عَنْ سَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ ، وَهُمَا الْوِلَادَةُ وَالتَّعَصُّبُ ، فَبِالْوِلَادَةِ تَمَيَّزَ عَنِ الْإِخْوَةِ ، وَبِالتَّعَصُّبِ تَمَيَّزَ عَنِ الْجَدِّ لِلْأُمِّ ، وَإِنْ كَانَ وَلِيُّ الْبِكْرِ عَصَبَةً رُوعِيَ حَالُهَا حِينَئِذٍ ، فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ عَصَابِتِهَا تَزْوِيجُهَا سَوَاءً كَانَتْ عَاقِلَةً أَوْ مَجْنُونَةً ، وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً زَوَّجَهَا أَقْرَبُ عَصَبَتِهَا إِنْ كَانَتْ عَاقِلَةً بِاخْتِيَارِهَا وَعَنْ إِذْنِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مَجْنُونَةً لَمْ يُزَوِّجُوهَا : لِأَنَّ تَزْوِيجَهَا فِي الْجُنُونِ مُعْتَبَرٌ بِالنَّظَرِ فِي مَصَالِحِهَا ، وَلَا نَظَرَ لِلْعَصَبَاتِ فِي مَصَالِحِهَا ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ وِلَايَةٌ فِي حَالِهَا ، وَإِنْ كَانَ وَلِيُّ الْبِكْرِ الْحَاكِمَ ، فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ تَزْوِيجُهَا عَاقِلَةً كَانَتْ أَوْ مَجْنُونَةً : لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْمَنَاكِحِ فَتُزَوَّجُ ، وَلَا مِنْ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ فَتُسْتَأْذَنُ ، وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَتْ عَاقِلَةً لَمْ يَكُنْ لِلْحَاكِمِ تَزْوِيجُهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مَجْنُونَةً زَوَّجَهَا إِذَا رَأَى ذَلِكَ صَلَاحًا لَهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَصَبَةِ تَزْوِيجُهَا فِي حَالِ جُنُونِهَا . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ لِلْحَاكِمِ نَظَرًا فِي مَصَالِحِهَا ، شَارَكَ بِهِ الْأَبَ وَفَارَقَ بِهِ الْعَصَبَةَ ، وَلِذَلِكَ وُلِّيَ عَلَى مَالِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَلِيَ عَلَيْهِ الْعَصَبَةُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ ابْنُ ابْنٍ وَلَهِ بِنْتُ ابْنٍ آخَرَ ، فَأَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَ ابْنِهِ بِنْتَ ابْنِهِ ، فَإِنْ كَانَ أَبَوَاهُمَا بَاقِيَيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَزْوِيجُهُمَا : لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْجَدِّ مَعَ بَقَاءِ الْأَبِ في النكاح ، وَإِنْ كَانَ أَبَوَاهَا

مَيِّتَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ ابْنُ ابْنِهِ بَالِغًا فَلَيْسَ لَهُ إِجْبَارُهُ عَلَى النِّكَاحِ ، فَإِنْ كَانَتْ بِنْتُ ابْنِهِ ثَيِّبًا فَلَيْسَ لَهُ إِجْبَارُهَا عَلَى النِّكَاحِ ، وَإِنْ كَانَ ابْنُ ابْنِهِ صَغِيرًا أَوْ بِنْتُ ابْنِهِ بِكْرًا ، فَلَهُ إِجْبَارُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ ، إِنْ أَرَادَ تَزْوِيجَ أَحَدِهِمَا بِالْأَخَرِ ، فَفِي جَوَازِهِ جَبْرًا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ أَحَدِهِمَا حَتَّى يَبْلُغَ الِابْنُ ، فَيَكُونُ هُوَ الْقَابِلَ لِنَفْسِهِ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : كُلُّ نِكَاحٍ لَمْ يَحْضُرْهُ أَرْبَعٌ فَهُوَ سِفَاحٌ وَلِأَنْ لَا يَتَوَلَّى الْعَقْدَ مِنْ طَرَفَيْهِ كَمَا لَا يَجُوزُ لِابْنِ الْعَمِّ أَنْ يُزَوِّجَ مُوَلِّيَتَهُ : لِأَنْ لَا يَصِيرَ مُتَوَلِّيًا لِلْعَقْدِ مِنْ طَرَفَيْهِ . وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الْقَاصِّ وَطَائِفَةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ لِلْجَدِّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ وَيَتَوَلَّى الْعَقْدَ مِنْ طَرَفَيْهِ ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ فِيمَا يُنْفِقُ مِنْ مَالٍ عَلَى ابْنِ ابْنِهِ إِذَا كَانَ وَالِيًا عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَلَّى الْعَقْدَ مِنْ طَرَفَيْهِ ، وَخَالَفَ ابْنُ الْعَمِّ فِي تَزْوِيجِهِ ابْنَةَ عَمِّهِ إِذَا كَانَ وَالِيًا عَلَيْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ وِلَايَةَ الْجَدِّ تُوجِبُ الْإِجْبَارَ لِقُوَّتِهَا وَوِلَايَةَ ابْنِ الْعَمِّ تُمْنَعُ مِنَ الْإِجْبَارِ لِضَعْفِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْجَدَّ فِي الطَّرَفَيْنِ عَاقِدٌ لِغَيْرِهِ وَابْنُ الْعَمِّ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ عَاقِدٌ لِنَفْسِهِ . وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْحَدَّادِ الْمِصْرِيِّ وَطَائِفَةٍ ، فَعَلَى هَذَا لَا بُدَّ لِلْجَدِّ مِنْ أَنْ يَتَلَفَّظَ فِي عَقْدِ نِكَاحِهَا بِالْإِيجَابِ فَيَقُولُ : قَدْ زَوَّجْتُ ابْنَ ابْنِي بِبِنْتِ ابْنِي ، وَهَلْ يَحْتَاجُ فِيهِ الْقَبُولَ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَلَفَّظَ فِيهِ الْقَبُولَ ، فَيَقُولُ : وَقَبِلْتُ نِكَاحَهَا لَهُ . وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْحَدَّادِ ، وَلِأَنَّهُ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِوِلَايَتَيْنِ ، فَقَامَ فِيهِ مَقَامَ وَلِيَّيْنِ ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ فِيهِ مِنْ لَفْظَتَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِيجَابٌ ، وَالْآخَرُ : قَبُولٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَحْتَاجُ أَنْ يَتَلَفَّظَ فِيهِ بِالْقَبُولِ ، هَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ : لِأَنَّ الْجَدَّ يَقُومُ مَقَامَ وَلِيَّيْنِ ، فَقَامَ لَفْظُهُ مَقَامَ لَفْظَيْنِ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ كَانَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ يَحْتَاجُ إِلَى النِّكَاحِ زَوَّجَهُ وَلِيُّهُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ كَانَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ يَحْتَاجُ إِلَى النِّكَاحِ زَوَّجَهُ وَلِيُّهُ ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فَجَاوَزَ مَهْرَ مِثْلِهَا رَدَّ الْفَضْلَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْمُوَلَّى عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّزْوِيجِ إِلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهِ : لِأَنَّ الْحَجْرَ يَمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْعُقُودِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ إِلَى النِّكَاحِ حَاجَةٌ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ ، وَلَا لِوَلِيِّهِ أَنْ يُزَوِّجَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْتِزَامِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ، وَإِنْ كَانَ بِهِ إِلَى النِّكَاحِ حَاجَةٌ ، إِمَّا بِأَنْ يُرَى يَتَوَثَّبُ عَلَى النِّسَاءِ لِفَرْطِ الشَّهْوَةِ ، وَإِمَّا بِأَنْ يَحْتَاجَ إِلَى خَادِمٍ ، وَخِدْمَةُ النِّسَاءِ لَهُ أَرْفَقُ بِهِ ، فَيَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يُزَوِّجَهُ : لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَى الْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ الَّتِي هَذَا مِنْهَا ، وَلِيَصُدَّهُ بِذَلِكَ عَنْ مُوَاقَعَةِ الزِّنَا الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ وَالْمَأْثَمِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَوَلِيُّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُزَوِّجَهُ بِنَفْسِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي التَّزْوِيجِ ، فَإِنْ زَوَّجَهُ الْوَلِيُّ جَازَ أَنْ يَعْقِدَ لَهُ النِّكَاحَ عَلَى مَنْ يَخْتَارُهَا لَهُ مِنَ الْأَكْفَاءِ ،

وَلَا يَلْزَمُهُ اسْتِئْذَانُهُ فِيهِ : لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَصَالِحِهِ الَّتِي لَا تَقِفُ عَلَى إِذْنِهِ ، كَمَا لَا تَقِفُ عَلَى إِذْنِ مَا عَقَدَهُ مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ ، وَلَا يَزِيدُ الْمَنْكُوحَةَ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا ، كَمَا لَا يَزِيدُ فِي عُقُودِ أَمْوَالِهِ عَلَى أَعْوَاضِ أَمْثَالِهَا ، فَإِنْ زَوَّجَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ ، كَانَتِ الزِّيَادَةُ مَرْدُودَةً ، وَلَا تَجُبْ فِي مَالِ السَّفِيهِ وَلَا عَلَى وَلِيِّهِ ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ فِي التَّزْوِيجِ لِيَتَوَلَّاهُ السَّفِيهُ بِنَفْسِهِ جَازَ . فَإِنْ قَبِلَ فَهَلَّا مُنِعَ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ بِنَفْسِهِ وَ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ مَعَ إِذْنِ وَلِيِّهِ ، كَمَا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ عَقْدُ الْبَيْعِ ، وَإِنْ أَذِنَ فِيهِ وَلِيُّهُ ؟ . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَ النِّكَاحِ حَيْثُ صَحَّ مِنْهُ أَنْ يَعْقِدَهُ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ وَبَيْنَ الْبَيْعِ حَيْثُ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ أَنْ يَعْقِدَهُ ، وَإِنْ أَذِنَ فِيهِ الْوَلِيُّ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ حِفْظُ الْمَالِ دُونَ النِّكَاحِ ، فَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ الْعَقْدُ فِي الْمَالِ ، وَصَحَّ مِنْهُ الْعَقْدُ فِي النِّكَاحِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا صَحَّ مِنْهُ رَفَعُ النِّكَاحِ بِالْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ ، فَأَوْلَى أَنْ يَصِحَّ مِنْهُ عَقْدُ النِّكَاحِ بِإِذْنٍ ، وَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ إِنْزَالُهُ مِلْكَهُ عَنِ الْأَقْوَالِ بِالْعِتْقِ وَالْهِبَةِ بِإِذْنٍ وَلَا غَيْرِ إِذْنٍ ، لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ عُقُودُ الْأَمْوَالِ كُلِّهَا بِإِذْنٍ وَلَا غَيْرِ إِذْنٍ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ يَجُوزَ أَنْ يَتَوَلَّى عَقْدَ النِّكَاحِ بِنَفْسِهِ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، هَلْ لَهُ فِي النِّكَاحِ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ عَلَى الْمَنْكُوحَةِ أَمْ لَا ؟ ناقص الأهلية في النكاح عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : يَلْزَمُهُ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ عَلَى الْمَنْكُوحَةِ : لِيَقْطَعَ اجْتِهَادَهُ فِي الْعَقْدِ حَتَّى لَا يَنْكِحَ مَنْ يَعْظُمُ مَهْرُهَا . وَالثَّانِي : عَلَيْهِ أَنْ يُعِيِّنَ لَهُ عَلَى الْقَبِيلَةِ أَوِ الْعَشِيرَةِ : حَتَّى لَا يَنْكِحَ مِنْ ذَوِي الْأَنْسَابِ الَّذِينَ يَعَظُمُ مُهُورُ نِسَائِهِمْ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيِّنَ لَهُ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ نِسَاءِ الْقَبِيلَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَقِفُ عَلَى اخْتِيَارِ النُّفُوسِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُعَيِّنَ الْمَنْكُوحَةَ ، وَلَا عَلَى قَبِيلَتِهَا : لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَسْوَإِ حَالًا مِنَ الْعَبْدِ الَّذِي يَجُوزُ إِذَا أَذِنَ السَّيِّدُ لَهُ فِي النِّكَاحِ أَنْ لَا يُعَيَّنَ لَهُ عَلَى الْمَنْكُوحَةِ وَلَا عَلَى قَوْمِهَا ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ السَّفِيهُ مِثْلَهُ فِي الْإِذْنِ ، فَإِذَا نَكَحَ السَّفِيهُ بِمُقْتَضَى الْإِذْنِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فَمَا دُونَ ، لَزَمَهُ الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ فِي مَالِهِ أَنْ يَنْكِحَ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ ، صَحَّ النِّكَاحُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ ، وَكَانَتِ الزِّيَادَةُ مَرْدُودَةً لَا تَلْزَمُهُ فِي وَقْتِ الْحَجْرِ وَلَا بَعْدَ فَكِّهِ عَنْهُ ، وَخَالَفَ الْعَبْدَ الَّذِي إِذَا نَكَحَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ وَزَادَ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي ذِمَّتِهِ يُؤَدِّيهَا بَعْدَ عِتْقِهِ ، وَالرِّفْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ لِحِفْظِ مَالِهِ عَلَيْهِ فَلَوْ لَزِمَتْهُ الزِّيَادَةُ بَعْدَ فَكِّ الْحَجَرِ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مَالُهُ مَحْفُوظًا عَلَيْهِ ، وَالْعَبْدُ إِنَّمَا حُجِرَ عَلَيْهِ لِأَجْلِ سَيِّدِهِ ، وَحِفْظِ مَا يَسْتَحِقُّهُ السَّيِّدُ مِنْ كَسْبِهِ ، فَإِذَا لَزِمَتْهُ الزِّيَادَةُ بَعْدَ عِتْقِهِ ، سَلَّمَ حَقَّ السَّيِّدِ وَصَارَ مَالُهُ مَحْفُوظًا عَلَيْهِ .

فَصْلٌ إِذَا نَكَحَ السَّفِيهُ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا نَكَحَ السَّفِيهُ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ أَعْلَمَهُ وَلِيُّهُ وَلَا اسْتَأْذَنَهُ فَمَنَعَهُ ، فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ : لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحَجْرِ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الْعَقْدِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَتْ عَالِمَةً بِحَجْرِهِ فَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ فِي حَالِ الْحَجْرِ ، وَلَا بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ ، وَتَصِيرُ كَالْمُبَرِّئَةِ مِنْهُ لِعِلْمِهَا بِحَجْرِهِ . وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَالِمَةً بِحَجْرِهِ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي حَالِ الْحَجْرِ دَفْعُ الْمَهْرِ : لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مَنَعَ الْحَجْرُ مِنْهُ ، وَفِي لُزُومِهِ لَهُ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُهُ دَفْعُهُ بَعْدَ فَكِّ حَجَرِهِ لِئَلَّا يَصِيرَ مُمْتَنِعًا بِبَعْضِهَا مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَلْزَمُهُ دَفْعُهُ بَعْدَ فِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ ، كَمَا لَمْ يَلْزَمْهُ قَبْلَ فَكِّهِ عَنْهُ : لِيَكُونَ مَالُهُ بِالْحَجْرِ مَحْفُوظًا عَلَيْهِ ، كَمَا لَمْ تَلْزَمْهُ الزِّيَادَةُ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لِهَذَا الْمَعْنَى ، وَلَيْسَ جَهْلُهَا بِحَالِهِ عُذْرًا : لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يُمْكِنُهَا أَنْ تَسْتَعْلِمَ فَتَعْلَمُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ السَّفِيهُ قَدْ سَأَلَ وَلِيَّهُ النِّكَاحَ فَمَنَعَهُ ، وَاسْتَأْذَنَهُ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ ، فَفِي نِكَاحِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ لِتَأْثِيرِ الْحَجْرِ فِي عُقُودِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْكَلَامُ فِي الْمَهْرِ عَلَى مَا مَضَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ : لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَى الْوَلِيِّ ، فَإِذَا مَنَعَهُ مِنْهُ جَازَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ بِنَفْسِهِ ، كَالدَّيْنِ إِذَا مُنِعَ صَاحِبُهُ مِنْهُ جَازَ أَنَّ يَسْتَوْفِيَهُ بِنَفْسِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ النِّكَاحُ كَالْمَأْذُونِ فِيهِ ، وَيَدْفَعُ مَهْرَ الْمِثْلِ وَالنَّفَقَةَ مِنْ مَالِهِ .

فَصْلٌ في المجنون

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَجْنُونُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ في النكاح : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُسْتَدَامَ الْجُنُونِ لَا يُفِيقُ فِي شَيْءٍ مِنْ زَمَانِهِ ، فَهَذَا يُنْظَرُ فِي حَالِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ إِلَى النِّكَاحِ حَاجَةٌ لَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهِ أَنْ يُزَوِّجَهُ ، وَلَا أَنْ يُوجِبَ فِي مَالِهِ غُرْمَ النَّفَقَةِ وَالْمَهْرِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ ، وَإِنْ كَانَ بِهِ إِلَى النِّكَاحِ حَاجَةٌ ، وَذَلِكَ فِي أَحَدِ الْحَالَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُرَى يَتَوَثَّبُ عَلَى النِّسَاءِ لِفَرْطِ شَهْوَةٍ ، وَإِمَّا أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى خِدْمَةِ النِّسَاءِ وَالزَّوْجَةُ أَرْفَقُ بِهِ ، فَيَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يُزَوِّجَهُ بِنَفْسِهِ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَرُدَّ الْعَقْدَ إِلَيْهِ لِيَتَزَوَّجَ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ السَّفِيهِ : لِأَنَّ السَّفِيهَ مُكَلَّفٌ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ حُكْمٌ ، وَالْمَجْنُونُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِكَلَامِهِ حُكْمٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمَجْنُونُ مِمَّنْ يُجَنُّ فِي زَمَانٍ وَيُفِيقُ فِي زَمَانٍ ، فَهَذَا عَلَى أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ زَمَانُ جُنُونِهِ أَكْثَرَ مِنْ زَمَانِ إِفَاقَتِهِ ، فَيَجُوزُ لِوَلِيِّهِ إِذَا رَآهُ مُحْتَاجًا إِلَى النِّكَاحِ أَنْ يُزَوِّجَهُ فِي زَمَانِ جُنُونِهِ ، وَلَا يَرُدَّ الْعَقْدَ إِلَيْهِ كَالَّذِي طَبَقَ بِهِ الْجُنُونُ ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ فِي زَمَانِ إِفَاقَتِهِ وَأَنْ يَرُدَّ الْعَقْدَ إِلَيْهِ كَالسَّفِيهِ : لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ قَبْلَ زَمَانِ إِفَاقَتِهِ لَا يَرْتَفِعُ ،

لَكِنْ يَكُونُ حُكْمُهُ فِي زَمَانِ الْجُنُونِ حُكْمَ الْحَجْرِ بِالْجُنُونِ ، وَفِي زَمَانِ الْإِفَاقَةِ حُكْمَ الْحَجْرِ بِالسَّفَهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ زَمَانُ إِفَاقَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ زَمَنِ جُنُونِهِ ، فَالْحَجْرُ يَرْتَفِعُ فِي زَمَانِ الْإِفَاقَةِ ، وَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يُزَوِّجَهُ فِي حَالِ جُنُونِهِ لِمَا يُرْجَى إِفَاقَتُهُ ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُزَوَّجَ بِنَفْسِهِ فِي زَمَانِ إِفَاقَتِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ ، وَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يُزَوِّجَهُ فِي إِفَاقَتِهِ لِارْتِفَاعِ حَجْرِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَتَسَاوَيَ زَمَانُ جُنُونِهِ وَزَمَانُ إِفَاقَتِهِ ، فَفِي أَغْلَبِهِمَا حُكْمًا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حُكْمَ الْجُنُونِ أَغْلَبُ : تَغْلِيبًا لِحُكْمِ ثُبُوتِ الْحَجْرِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُهُ كَالضَّرْبِ الْأَوَّلِ فِيمَنْ كَثُرَ زَمَانُ جُنُونِهِ وَقَلَّ زَمَانُ إِفَاقَتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ حُكْمَ الْإِفَاقَةِ أَغْلَبُ تَغْلِيبًا لِأَصْلِ السَّلَامَةِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُهُ كَالضَّرْبِ الثَّانِي فِيمَنْ كَثُرَ زَمَانُ إِفَاقَتِهِ وَقَلَّ زَمَانُ جُنُونِهِ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ فَتَزَوَّجَ كَانَ لَهَا الْفَضْلُ مَتَى عَتَقَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ فَتَزَوَّجَ كَانَ لَهَا الْفَضْلُ مَتَى عَتَقَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : لَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ : لِرِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَيُّمَا عَبْدٍ نَكَحَ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فَهُوَ عَاهِرٌ . وَالْعَاهِرُ : الزَّانِي فَشُبِّهَ بِالزَّانِي لِتَحْرِيمِ عَقْدِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ زَانِيًا فِي الْحُكْمِ : وَلِأَنَّ السَّيِّدَ مَالِكٌ لِمَنَافِعِهِ وَأَكْسَابِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَفْوِيتُهَا بِتَزْوِيجِهِ . فَإِنْ تَزَوُّجَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ العبد كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا : لِأَنَّ مُسْتَحِقَّ الْحَجْرِ قَدْ رَفَعَهُ بِإِذْنِهِ ، فَعَادَ إِلَى جَوَازِ تَصَرُّفِهِ ، وَإِنْ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذَنْ سَيِّدِهِ ، كَانَ نِكَاحُهُ بَاطِلًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ السَّيِّدِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : نِكَاحُهُ جَائِزٌ وَلِلسَّيِّدِ فَسْخُهُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهَا رِوَايَةُ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا نَكَحَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْخَبَرَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ : وَلِأَنَّ الْحَجْرَ الْمَانِعَ مِنْ جَوَازِ الْمَنَاكِحِ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهَا كَالْجُنُونِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ نِكَاحَ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ بَاطِلٌ ، وَبِإِذْنِهِ جَائِزٌ ، فَلِلسَّيِّدِ - إِذًا - إِذْنٌ لِعَبْدِهِ فِي النِّكَاحِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يُعَيَّنَ لَهُ عَلَى الْمَنْكُوحَةِ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَجَاوَزَهَا ، فَإِنْ نَكَحَ غَيْرَهَا كَانَ نِكَاحًا بِغَيْرِ إِذْنٍ .

وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يُعَيِّنَ لَهُ عَلَى الْمَنْكُوحَةِ ، وَيَكُونُ إِذْنُهُ مُطْلَقًا ، فَيَجُوزُ بِخِلَافِ السَّفِيهِ الَّذِي يَلْزَمُ الْوَلِيَّ أَنْ يُعَيِّنَ عَلَى الْمَنْكُوحَةِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْعَبْدَ مَنْ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْعُقُودِ ، وَلَيْسَ السَّفِيهُ مِنْ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْعُقُودِ ، فَإِذَا صَحَّ نِكَاحُ الْعَبْدِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ نَظَرَ فِي الْمَهْرِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ ، كَانَ فِي كَسْبِهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ لَزِمَ قَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ فِي كَسْبِهِ ، وَنَالَتِ الزِّيَادَةَ فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يُعْتَقَ ، فَيُؤَدِّي . وَفَارَقَ السَّفِيهَ فِي إِبْطَالِ الزِّيَادَةِ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ بِالْمَعْنَى الَّذِي قَدَّمْنَاهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا سَأَلَ الْعَبْدُ سَيِّدَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ فَعَضَلَهُ وَمَنَعُهُ ، نُظِرَ فِي الْعَبْدِ ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ بَالِغٍ لَمْ يُجْبِرِ السَّيِّدَ عَلَى تَزْوِيجِهِ : لِأَنَّهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى النِّكَاحِ ، وَإِنْ كَانَ بَالِغًا فَهَلْ يُجْبِرُ السَّيِّدَ عَلَى تَزْوِيجِهِ إِنْ أَقَامَ عَلَى عَضْلِهِ وَمَنْعِهِ ، زَوَّجَهُ الْحَاكِمُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا - أَشَارَ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ التَّعَرُّضِ بِالْخِطْبَةِ - : أَنَّ السَّيِّدَ يُجْبَرُ عَلَى تَزْوِيجِ الْعَبْدِ لِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ : مِنْ حَاجَتِهِ وَكَمَالِ مَصْلَحَتِهِ وَسُكُونِ نَفْسِهِ ، فَشَابَهَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ تَمَامِ قُوَّتِهِ وَكَمَالِ كِسْوَتِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي - نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ - : أَنَّ السَّيِّدَ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَزْوِيجِ عَبْدِهِ : لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْمَلَاذِ وَالشَّهَوَاتِ ، وَلَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ تَمْكِينُ عَبْدِهِ مِنْ مَلَاذِهِ وَشَهَوَاتِهِ ، فَعَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلَيْنِ لَوْ كَانَ السَّيِّدُ مَوْلًى عَلَيْهِ لِصِغَرِهِ أَوْ سَفَهٍ أَوْ جُنُونٍ . فَإِنْ قِيلَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ : أَنَّ السَّيِّدَ يُجْبَرُ عَلَى نِكَاحِ عَبْدِهِ لَزِمَ وَلِيَّ السَّيِّدِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ أَنْ يُزَوِّجَ عَبْدَهُ إِذَا طَلَبَ النِّكَاحَ ، وَإِنْ قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي : أَنَّ السَّيِّدَ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَزْوِيجِهِ لَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهِ أَنْ يُزَوِّجَهُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ السَّيِّدُ أَنْ يُجْبِرَ عَبْدَهُ عَلَى التَّزْوِيجِ ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ صَغِيرًا كَانَ لِسَيِّدِهِ إِجْبَارُهُ عَلَى النِّكَاحِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ إِجْبَارُ وَلَدِهِ فِي صِغَرِهِ الَّذِي لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ فَإِجْبَارُ عَبْدِهِ فِي صِغَرِهِ أَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ بَالِغًا فَهَلْ لِلسَّيِّدِ إِجْبَارُهُ عَلَى النِّكَاحِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ - : لَهُ إِجْبَارُ عَبْدِهِ عَلَى النِّكَاحِ إجبار السيد عبده : لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ الْعَقْدَ ، عَلَى مَنَافِعِهِ وَرَقَبَتِهِ جَبْرًا كَانَ النِّكَاحُ مُلْحَقًا بِأَحَدِهِمَا فِي عَقْدِهِ عَلَيْهِ جَبْرًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلسَّيِّدِ إِجْبَارُ عَبْدِهِ عَلَى النِّكَاحِ : لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْمَلَاذِ وَالشَّهَوَاتِ الَّتِي لَيْسَ لِلسَّيِّدِ إِجْبَارُ عَبْدِهِ عَلَيْهَا ، وَلِأَنَّ مَعْقُودَ الْوَطْءِ الَّذِي لَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ إِجْبَارُ عَبْدِهِ عَلَيْهِ ، فَكَانَ النِّكَاحُ بِمَثَابَتِهِ . وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا لَوْ كَانَ السَّيِّدُ مُوَلًّى عَلَيْهِ لِصِغَرٍ أَوْ سَفَهٍ لَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهِ إِجْبَارُ عَبْدِهِ عَلَى النِّكَاحِ قَوْلًا وَاحِدًا ، لِمَا فِي إِجْبَارِهِ مِنْ إِخْرَاجِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ مِنْ كَسْبِهِ .



فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُدَبَّرُ فَهُوَ كَالْعَبْدِ فِي إِجْبَارِ السَّيِّدِ لَهُ عَلَى النِّكَاحِ ، وَفِي إِجْبَارِ السَّيِّدِ عَلَى تَزْوِيجِهِ إِذَا ادَّعَى إِلَى النِّكَاحِ المدبر . وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ إِجْبَارُهُ عَلَى النِّكَاحِ الْمُكَاتَبُ ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِلْزَامِهِ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ فِي كَسْبِهِ . وَأَمَّا إِذَا دَعَا سَيِّدَهُ إِلَى النِّكَاحِ ، فَهَلْ يُجْبَرُ السَّيِّدُ عَلَيْهِ ؟ إِنْ قِيلَ إِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى تَزْوِيجِ عَبْدِهِ فَأَوْلَى أَنْ يُجْبَرَ عَلَى تَزْوِيجِ مُكَاتَبِهِ ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَزْوِيجِ عَبْدِهِ ، فَفِي إِجْبَارِهِ عَلَى تَزْوِيجِ مُكَاتَبِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ ، كَمَا لَا يُجْبَرُ عَلَى تَزْوِيجِ عَبْدِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى تَزْوِيجِ مُكَاتَبِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى تَزْوِيجِ عَبْدِهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ اكْتِسَابَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ ، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى تَزْوِيجِهِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْتِزَامِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ ، وَاكْتِسَابِ الْمُكَاتَبِ لِنَفْسِهِ فَأُجْبِرَ السَّيِّدُ عَلَى تَزْوِيجِهِ : لِأَنَّهُ لَا يَؤُولُ إِلَى الْتِزَامِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْعَبْدُ إِذَا كَانَ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ نكاحه ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِإِذْنِ أَحَدِهِمَا حَتَّى يَأْذَنَا - لَهُمَا جَمِيعًا - فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى تَزْوِيجِهِ فَهَلْ لَهُمَا إِجْبَارُهُ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَإِنْ دَعَاهُمَا إِلَى النِّكَاحِ فَهَلْ يُجْبَرَانِ عَلَى تَزْوِيجِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَأَمَّا إِنْ كَانَ نِصْفُ الْعَبْدِ حُرًّا وَنِصْفُهُ مَمْلُوكًا لِسَيِّدِهِ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى النِّكَاحِ ، فَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى النِّكَاحِ : لِأَنَّ فِيهِ حُرِّيَّةً لَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ فِيهَا ، وَإِنْ دَعَا سَيِّدَهُ إِلَى النِّكَاحِ فَفِي إِجْبَارِهِ قَوْلَانِ .

مَسْأَلَةٌ وَفِي إِذْنِهِ لِعَبْدِهِ بِاكْتِسَابِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ إِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَفِي إِذْنِهِ لِعَبْدِهِ بِاكْتِسَابِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ إِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا أَذِنَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ فِي النِّكَاحِ وجوب المهر في هذه الحالة فَنَكَحَ ، فَقَدْ وَجَبَ الْمَهْرُ بِالْعَقْدِ ، وَالنَّفَقَةُ بِالتَّمْكِينِ ، وَلِوُجُوبِهَا مَحَلٌّ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْعَبْدِ وَلِلْعَبْدِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ وجوب المهر بالعقد والنفقة بالتمكين : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مُكْتَسِبًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُكْتَسِبٍ ، وَلَا مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ ، فَإِنْ كَانَ مُكْتَسِبًا : فَالْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ فِي كَسْبِهِ : لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالنِّكَاحِ إِذْنٌ بِهِ وَبِمُوجِبِهِ ، وَأَوْلَى مَا تَعَلَّقَ ذَلِكَ بِكَسْبِهِ : لِأَنَّهُ مِنْهُ وَإِلَيْهِ ، فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيِسَ لَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ فَلَزِمَهُ فِيهَا دَيْنٌ زَادَ عَلَى مَا بِيَدِهِ كَانَ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ يُؤَدِّيْهِ بَعْدَ عِتْقِهِ فَهَلَّا اسْتَوَيَا ؟ . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهَا : أَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ مَعْقُودٌ بِالِاكْتِسَابِ ، وَالدَّيْنَ ضِدَّ الِاكْتِسَابِ ، فَصَارَ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ ، فَلِذَلِكَ تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ ، وَالْإِذْنُ بِالنِّكَاحِ مَعْقُودُهُ الِاسْتِمْتَاعُ الْمُوجِبُ لِلْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ ، فَصَارَ الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ مِنْ مُوجِبَاتِ إِذْنِهِ ، فَلِذَلِكَ تَعَلَّقَ بِكَسْبِهِ دُونَ ذِمَّتِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ فِي كَسْبِهِ ، فَالْمَهْرُ يُسْتَحَقُّ فِي كَسْبِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ ، وَالنَّفَقَةُ تُسْتَحَقُّ مِنْ كَسْبِهِ بَعْدَ تَمَكُّنِهِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ : لِأَنَّهُمَا يُسْتَحَقَّانِ فِي الْكَسْبِ الْحَادِثِ بَعْدَ

وُجُوبِهِمَا ، وَلَا يُسْتَحَقَّانِ فِي كَسْبٍ تَقَدَّمَهُمَا : لِأَنَّ الْكَسْبَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ إِذَنٌ ، فَصَارَ خَالِصًا لِسَبَبِهِ ، فَلَوْ كَانَ الْعَقْدُ بِمَهْرٍ مُؤَجَّلٍ اسْتُحِقَّ ذَلِكَ فِي الْكَسْبِ الْحَادِثِ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ قِيلَ لِلسَّيِّدِ : عَلَيْكَ أَنْ تُخَلِّيَ سَبِيلَ عَبْدِكَ وَتَرْفَعَ عَنْهُ يَدَكَ لَيْلًا وَنَهَارًا ، أَمَّا النَّهَارُ فَلِاكْتِسَابِ الْكَسْبِ وَالنَّفَقَةِ ، وَأَمَّا اللَّيْلُ فَلِلِاسْتِمْتَاعِ بِالزَّوْجَةِ ، ثُمَّ لَا سَبِيلَ لَكَ إِلَى إِبْطَالِ حَقِّهِ مِنْ تَمْكِينِهِ لَيْلًا مِنْ نَفْسِهِ ، وَلَكَ السَّبِيلُ إِلَى مَنْعِهِ نَهَارًا مِنْ نَفْسِهِ بِالْتِزَامِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ : لِأَنَّ حَقَّهُ فِي اسْتِمْتَاعِهِ لَيْلًا لَا بَدَلَ لَهُ فَلَمْ يَسْقُطْ وَلِحَقِّهِ مِنَ اكْتِسَابِ النَّهَارِ بَدَلٌ يَلْتَزِمُهُ السَّيِّدُ فَقَطْ ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ كَسْبِهِ إِذَا مُكِّنَ مِنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ ، فَلَا حَقَّ فِيهِ لِلسَّيِّدِ وَلَا عَلَيْهِ ، وَقَدْ خَلَصَ جَمِيعُ كَسْبِهِ لَهُ فِي نَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ زَوْجَتِهِ وَكِسْوَتِهَا وَمَهْرِهَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ كَسْبُهُ أَكْثَرَ مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ ، فَلِلسَّيِّدِ الْفَاضِلِ مِنْهُمَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ أَكْثَرَ مِنْ كَسْبِهِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّيَ عَلَيْهِ جَمِيعَ كَسْبِهِ : لِيَصْرِفَهُ فِي الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ ، وَيَكُونُ حَالُهُ فِي الْبَاقِي عَلَيْهِ مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ كَحَالَ مَنْ لَا كَسْبَ لَهُ ، وَلَا هُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدُ .

فَصْلٌ : فَلَوْ أَنَّ سَيِّدَ هَذَا الْعَبْدِ الْمُكْتَسِبِ إِذَا اسْتَخْدَمَهُ نَهَارًا لَزِمَهُ جَمِيعُ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ لَهُ وَلِزَوْجَتِهِ سَوَاءً كَانَ كَسْبُهُ مُسَاوِيًا لَهُمَا أَوْ مَقْصُورًا عَنْهُمَا : لِأَنَّهُ بِالِاسْتِخْدَامِ كَالضَّامِنِ لَهُمَا ، وَلَوْ أَنَّ سَيِّدَهُ لَمْ يَسْتَخْدِمْهُ وَلَكِنْ حَبَسَهُ فِي زَمَانِ كَسْبِهِ ، لَزِمَهُ غُرْمُ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ ، وَلَوْ حَبَسَهُ غَيْرُ سَيِّدِهِ لَزِمَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ السَّيِّدَ يَلْتَزِمُ ذَلِكَ فِي حَقِّ عَبْدِهِ ، فَلَزِمَهُ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْعَبْدُ مِنْ مَهْرِ زَوْجَتِهِ وَنَفَقَتِهَا ، وَالْأَجْنَبِيُّ يَضْمَنُ ذَلِكَ فِي حَقِّ السَّيِّدِ فَلَزِمَهُ قِيمَةُ مَا اسْتَهْلَكَهُ مِنْ مَنَافِعِهِ .

مَسْأَلَةٌ إِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَعْطَى مِمَّا فِي يَدَيْهِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَعْطَى مِمَّا فِي يَدَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَحْوَالِ الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ مهر العبد في هذه الحالة ، فَيَكُونُ مَا لَزِمَهُ مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ مُتَعَلِّقًا بِمَالِ التِّجَارَةِ : لِأَنَّ هَذَا الْمَالَ فِي حَقِّ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَمَالِ الْكَسْبِ فِي حَقِّ الْمُكْتَسِبِ لِكَوْنِهِمَا مِلْكًا لِلسَّيِّدِ الْآذِنِ ، لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمَالِ هَاهُنَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ : " أَعْطَى مِمَّا فِي يَدَيْهِ " عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ مَالِ الرِّبْحِ الْمُسْتَفَادِ بَعْدَ وُجُوبِهِ ، فَيُعْطِي الْمَهْرَ مِنَ الرِّبْحِ الْمُسْتَفَادِ بَعْدَ الْعَقْدِ ، وَالنَّفَقَةَ مِنَ الرِّبْحِ الْمُسْتَفَادِ بَعْدَ التَّمْكِينِ ، كَمَا قُلْنَا فِي الْمُكْتَسِبِ إِنَّهُ يُعْطِيهِمَا مِنْ كَسْبِ الْمُسْتَفَادِ بَعْدَ وُجُوبِهِمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُعْطِيهِمَا مِنْ جَمِيعِ مَا بِيَدِهِ مِنَ الرِّبْحِ الْمُسْتَفَادِ قَبْلَ الْوُجُوبِ وَبَعْدَهُ ، وَلَا يُعْطِيهِمَا مِنْ أَصْلِ الْمَالِ : لِأَنَّ جَمِيعَهُمَا نَمَاءُ الْمَالِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكَسْبِ وَالرِّبْحِ : أَنَّ كَسْبَ الْعَمَلِ حَادِثٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ ، وَلَيْسَ كَسْبُ التِّجَارَةِ حَادِثًا فِي كُلِّ يَوْمٍ .

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يُعْطِيهِمَا مِنْ جَمِيعِ مَا بِيَدِهِ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ مِنْ رِبْحٍ وَأَصْلٍ : لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مِلْكٌ لِلسَّيِّدِ ، وَقَدْ صَارَ بِالْإِذْنِ كَالْمَأْمُورِ يَدْفَعُهُمَا فَتَعَلَّقَ الْإِذْنُ لِجَمِيعِ مَا بِيَدِهِ كَالدَّيْنِ ، فَلَوْ أَنَّ السَّيِّدَ دَفَعَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مَالِ التِّجَارَةِ خَلَصَ مَالُ التِّجَارَةِ وَرِبْحُهُ لِلسَّيِّدِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَحْوَالِ الْعَبْدِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُكْتَسِبٍ وَلَا مَأْذُونٍ لَهُ فِي التِّجَارَةِ إِمَّا لِأَنَّهُ زَمِنٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى عَمَلٍ ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ مُحَارِفٌ مَحْرُومٌ لَا يُقَدِّرُ شَيْئًا ، وَإِنْ عَمِلَ فَهُمَا سَوَاءٌ ، وَعَلَى السَّيِّدِ الْتِزَامُ نَفَقَتِهِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْتِزَامُ نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ ، وَيُقَالُ لَهَا : زَوْجُكِ مُعْتَبَرٌ بِنَفَقَتِكِ ، وَأَنْتِ بِالْخِيَارِ فِي الصَّبْرِ مَعَهُ عَلَى إِعْسَارِهِ أَوْ فَسْخِ نِكَاحِهِ ، فَأَمَّا الْمَهْرُ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ يُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَلَا يُؤْخَذُ السَّيِّدُ بِهِ : لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْبُضْعِ الَّذِي قَدْ صَارَ مِلْكًا لِلْعَبْدِ دُونَ السَّيِّدِ وَمَنْ مَلَكَ ذَا بَدَلٍ ، مُلِّكَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْبَدَلُ ، وَهَذَا أَشْهَرُ الْقَوْلَيْنِ وَأَظْهَرُهُمَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا فِي ذِمَّةِ سَيِّدِهِ : لِأَنَّ إِذْنَهُ بِالنِّكَاحِ الَّذِي لَا يَنْفَكُّ مِنَ الْتِزَامِ الْمَهْرِ مُوجِبٌ لِالْتِزَامِ ذَلِكَ الْمَهْرِ كَالدُّيُونِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ حكم المهر في هذه الحالة فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ، وَلَا مَهْرَ وَلَا نَفَقَةَ : لِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ قَدْ أَسْقَطَ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْعِوَضِ ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَكَانَ لَهَا بِالدُّخُولِ مَهْرُ مِثْلِهَا : لِوَطْءِ الشُّبْهَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَإِنْ مَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا وَأَيْنَ يَكُونُ الْمَهْرُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا - نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ - : أَنْ يَكُونَ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ يُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهِ : لِأَنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ بِرِضَى مُسْتَحِقِّهِ ، فَأَشْبَهَ الدُّيُونَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : خَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا مِنْ كَلَامٍ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ يَكُونُ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ يُبَاعُ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ بِهِ سَيِّدُهُ : لِأَنَّهُ وَجَبَ بِالْوَطْءِ الَّذِي هُوَ إِتْلَافٌ فَأَشْبَهَ الْجِنَايَةَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَذِنَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ فِي نِكَاحٍ ، فَنَكَحَ نِكَاحًا فَاسِدًا ، فَفِي دُخُولِهِ فِي إِذْنِ السَّيِّدِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي حُكْمِ إِذْنِهِ لِانْطِلَاقِ الِاسْمِ عَلَى فَاسِدِهِ كَانْطِلَاقِهِ عَلَى صَحِيحِهِ ، وَلِوُجُوبِ الْمَهْرِ فِي فَاسِدِهِ كَوُجُوبِهِ فِي صَحِيحِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَحَلَّ الْمَهْرِ كَمَحَلِّهِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ إِنْ كَانَ مُكْتَسِبًا فَفِي كَسْبِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَانَ فِيهَا بِيَدِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُكْتَسِبٍ وَلَا مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ ، كَانَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ . وَالثَّانِي : فِي ذِمَّةِ سَيِّدِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي - وَهُوَ الْأَصَحُّ - : أَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي جُمْلَةِ إِذْنِهِ : لِأَنَّ

إِطْلَاقَ الْأَمْرِ يَقْتَضِي حَمْلَهُ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ ، وَلِأَنَّ هَذَا الْمَهْرَ مَا وَجَبَ بِالْعَقْدِ : وَإِنَّمَا وَجَبَ بِالْوَطْءِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِذَنٌ ، فَعَلَى هَذَا فِي مَحَلِّ هَذَا الْمَهْرِ الْقَوْلَانِ الْمَاضِيَانِ : أَحَدُهُمَا : فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ . وَالثَّانِي : فِي رَقَبَتِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا زَوَّجَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ بِأَمَتِهِ فهل على العبد من مهر أو نفقة ؟ ، فَلَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ مَهْرٌ وَلَا نَفَقَةٌ : لِأَنَّهُمَا لَوْ وَجَبَا لَكَانَا لِلسَّيِّدِ ، وَلَا يَثْبُتُ لِلسَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ مَالٌ ، لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمَهْرِ : هَلْ وَجَبَ بِالْعَقْدِ ثُمَّ سَقَطَ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ وَجَبَ بِالْعَقْدِ ، ثُمَّ سَقَطَ : لِئَلَّا يَكُونَ كَالْمَوْهُوبَةِ الَّتِي جُعِلَتْ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ أَصْلًا : لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِلْكُ السَّيِّدِ مَانِعًا مِنَ اسْتِدَامَةِ اسْتِحْقَاقِهَ ، كَانَ مَانِعًا مِنَ ابْتِدَاءِ اسْتِحْقَاقِهِ ، أَلَّا تَرَاهُ لَوْ أَتْلَفَ مَالَ سَيِّدِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ غُرْمُهُ ، لَا فِي الِابْتِدَاءِ وَلَا فِي الِاسْتِدَامَةِ ، كَذَلِكَ الْمَهْرُ . وَلِمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْهُ بِأَنَّ الْأَمْوَالَ قَدْ تَجُوزُ أَنْ تُمَلَّكَ بِغَيْرِ بَدَلٍ ، وَالْبُضْعُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُمَلَّكَ إِلَّا بِبَدَلٍ ، فَلَوْ أَنَّ السَّيِّدَ بَعْدَ تَزْوِيجِ عَبْدِهِ بِأَمَتِهِ أَعْتَقَهُمَا مَعًا ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مُطَالَبَةُ عَبْدِهِ بِالْمَهْرِ بَعْدَ عِتْقِهِ : لِأَنَّهُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ ، وَلَا لِلْأَمَةِ بَعْدَ عِتْقِهَا مُطَالَبَةُ الزَّوْجِ ، وَلَا السَّيِّدِ بِمَهْرِهَا : لِأَنَّهُ مَا وَجَبَ لَهَا بِالْعَقْدِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا زَوَّجَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ بِعَبْدِ غَيْرِهِ ، وَلَمْ تَقْبِضْ مَهْرَهَا مِنْهُ حَتَّى اشْتَرَاهُ ، فَإِنْ كَانَ بِيَدِ الْعَبْدِ مِنْ كَسْبِهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ وَبَعْدَ النِّكَاحِ شَيْءٌ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي يَأْخُذُهُ مِنْ مَهْرِ أَمَتِهِ ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ فِيهِ حَقٌّ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِيَدِ الْعَبْدِ مَنْ كَسْبِهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ شَيْءٌ ، فَلَا مُطَالَبَةَ لِمُشْتَرِيهِ بِمَهْرِ أَمَتِهِ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ عَبْدَهُ وَلَا حَقَّ لِلسَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هَذَا الشِّرَاءُ أَسْقَطَ الْمَهْرَ أَوْ مَنَعَ مِنَ الْمُطَالَبَةِ مَعَ بَقَاءِ الْمَهْرِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ الْمَهْرَ : لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمِلْكُ مَانِعًا مِنَ ابْتِدَاءِ اسْتِحْقَاقِهِ كَانَ مَانِعًا مِنْ بَقَاءِ اسْتِحْقَاقِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ مَنَعَ مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِالْمَهْرِ وَلَمْ يُسْقِطْهُ : لِأَنَّ الْحُقُوقَ ثَابِتَةٌ فِي الذِّمَمِ لَا تَسْقُطُ إِلَّا بِالْأَدَاءِ أَوِ الْإِبْرَاءِ ، وَلَيْسَ الشِّرَاءُ وَاحِدًا مِنْهُمَا ، وَتَأْثِيرُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ بِعِتْقِ الْعَبْدِ أَوْ بَيْعِهِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الشِّرَاءَ قَدْ أَسْقَطَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَهْرِ ، لَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ مُطَالَبَةُ الْعَبْدِ بَعْدَ عِتْقِهِ أَوْ بَيْعِهِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ مَنَعَ مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِهِ وَلَمْ يُسْقِطْهُ ، كَانَ لِلسَّيِّدِ مُطَالَبَتُهُ بَعْدَ عِتْقِهِ أَوْ بَيْعِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا زَوَّجَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ بِأَمَةِ غَيْرِهِ ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا السَّيِّدُ كَانَ النِّكَاحُ بِحَالِهِ وَمَهْرُهَا

مُسْتَحَقٌّ لِبَائِعِهَا : لِوُجُوبِهِ فِي مِلْكِهِ ، وَلَوْ كَانَ السَّيِّدُ قَدْ أَمَرَ عَبْدَهُ بِشِرَاءِ زَوْجَتِهِ ، فَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا لِسَيِّدِهِ ، فَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ ، وَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا لِنَفْسِهِ : لِتُكُونَ أَمَةً لِعَبْدٍ لَا لِلسَّيِّدِ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْعَبْدِ هَلْ يُمَلَّكُ إِذَا مَلَكَ أَمْ لَا ؟ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ : أَنَّهُ يُمَلَّكُ إِذَا مَلَكَ ، فَالشِّرَاءُ لِلْعَبْدِ ، وَقَدْ بَطَلَ النِّكَاحُ : لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ زَوْجَتَهُ بَطَلَ نِكَاحُهَا ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْجَدِيدِ : أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُمَلَّكُ إِذَا مَلَكَ ، فَيَكُونُ الشِّرَاءُ لِلسَّيِّدِ ، وَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ لَوَ ضَمِنَ لَهَا السَّيَدُ مَهْرَهَا وَهَوَ أَلْفٌ عَنِ الْعَبْدِ لَزِمَهُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوَ ضَمِنَ لَهَا السَّيَدُ مَهْرَهَا وَهَوَ أَلْفٌ عَنِ الْعَبْدِ لَزِمَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا أَذِنَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ حُرَّةً المهر في هذه الحالة ، فَتَزَوُّجَهَا عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ ، ثُمَّ إِنَّ السَّيِّدَ ضِمْنَ لَهَا أَلْفًا عَنْ عَبْدِهِ ، صَحَّ الضَّمَانُ لِوُجُوبِهِ كَالدُّيُونِ ، وَيَكُونُ الْأَلْفُ كَسْبَ عَبْدِهِ بِالْعَقْدِ ، وَفِي ذِمَّةِ سَيِّدِهِ بِالضَّمَانِ ، وَهِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تُطَالِبَ الْعَبْدَ بِهَا مِنْ كَسْبِهِ بِحُكْمِ عَقْدِهِ ، أَوْ تُطَالِبَ السَّيِّدَ بِهَا بِحُكْمِ ضَمَانِهِ ، فَإِنْ دَفْعَهَا الْعَبْدُ مِنْ كَسْبِهِ بَرِئَ السَّيِّدُ مِنْ ضَمَانِهَا ، وَإِنْ دَفْعَهَا السَّيِّدُ مِنْ مَالِهِ بَرِئَ الْعَبْدُ مِنْهَا ، وَلَمْ يَرْجِعِ السَّيِّدُ بِهَا عَلَى عَبْدِهِ : لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَثْبُتُ لَهُ فِي ذِمَّةِ عَبْدِهِ مَالٌ ، فَلَوْ طَلَّقَ هَذَا الْعَبْدُ زَوْجَتَهُ نُظِرَ فِي طَلَاقِهِ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا فَقَدِ اسْتَكْمَلَتْهُ ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا مَلَكَ بِالطَّلَاقِ نِصْفَ الصَّدَاقِ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الزَّوْجَةُ قَبَضَتْ صَدَاقَهَا بَرِئَ الزَّوْجُ مِنْ نِصْفِهِ ، وَبَرِئَ السَّيِّدُ مِنْ ضَمَانِ هَذَا النِّصْفِ : لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الضَّامِنِ ، وَبَقِيَ لِلزَّوْجَةِ نِصْفُ الصَّدَاقِ عَلَى الْعَبْدِ وَعَلَى السَّيِّدِ ضَمَانُهُ ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الزَّوْجَةُ الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ قَدْ قَبَضَتْ صَدْاقَهَا رَجَعَ عَلَيْهَا نِصْفُهُ ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الْمُطَلِّقِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ سَيِّدِهِ عِنْدَ طَلَاقِهِ ، أَوْ قَدْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ ، فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ ، فَالسَّيِّدُ هُوَ الرَّاجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الصَّدَاقِ : لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِ عَبْدِهِ بِالطَّلَاقِ وَاكْتِسَابِ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ . وَإِنْ كَانَ مِلْكُ السَّيِّدِ قَدْ زَالَ عَنْهُ بِعِتْقٍ أَوْ بَيْعٍ ، فَفِي مُسْتَحِقِّ هَذَا النِّصْفِ مِنَ الصَّدَاقِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَاييِنِيِّ - : أَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ الْعَبْدُ إِنْ كَانَ قَدْ أُعْتِقَ ، أَوْ مُشْتَرِيهِ إِنْ كَانَ قَدْ بِيعَ ، وَلَا حَقَّ فِيهِ لِسَيِّدِهِ الدَّافِعِ لَهُ : لِأَنَّ نِصْفَ الصَّدَاقِ كَسْبُ مَا مَلَكَ بِالطَّلَاقِ ، وَالطَّلَاقُ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِ السَّيِّدِ ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ مَا مَلَكَ بِهِ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ ، وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى الْأَبِ يُزَوِّجُ ابْنَهُ الصَّغِيرَ عَلَى صَدَاقٍ يَدْفَعُهُ الْأَبُ مِنْ مَالِهِ ثُمَّ يُطَلِّقُ الِابْنُ عِنْدَ الْبُلُوغِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِزَوْجَتِهِ ، فَيَمْلِكُ الِابْنُ نِصْفَ الصَّدَاقِ ، وَلَا يَعُودُ إِلَى الْأَبِ ، وَإِنْ دَفْعَهُ مِنْ مَالِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - قَالَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَدَّادِ فِي " فُرُوعِهِ " - : أَنَّهُ يَكُونُ لِلسَّيِّدِ : لِأَنَّ الصَّدَاقَ مَالُهُ ، فَمَا رَجَعَ مِنْهُ بِالطَّلَاقِ عَادَ إِلَيْهِ ، وَإِنْ زَالَ مُلْكُهُ عَنِ الْعَبْدِ .

وَذَهَبَ إِلَى هَذَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَيْضًا ، وَفُرِّقَ بَيْنَ الْأَبِ إِذَا دَفَعَ الصَّدَاقَ عَنِ ابْنِهِ وَبَيْنَ السَّيِّدِ إِذَا دَفَعَهُ عَنْ عَبْدِهِ ، بِأَنَّ الِابْنَ يَمْلِكُ ، فَكَانَ دَفْعُ الْأَبِ تَمْلِيكًا لَهُ ، ثُمَّ قَضَاءً لِلصَّدَاقِ عَنْهُ ، فَإِذَا طَلَّقَ الِابْنُ قَبْلَ الدُّخُولِ ، عَادَ نِصْفُ الصَّدَاقِ إِلَيْهِ : لِسَابِقِ مِلْكِهِ ، وَلَيْسَ كَالْعَبْدِ : لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ فَلَمْ يَكُنْ دَفْعُ الصَّدَاقِ عَنْهُ تَمْلِيكًا لَهُ ، فَإِذَا طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ ، لَمْ يَمْلِكْ مَا لَمْ يُجْبَرْ لَهُ عَلَيْهِ مِلْكٌ وَسَوَاءً دَفَعَ السَّيِّدُ الصَّدَاقَ مِنْ مَالِهِ أَوْ دَفَعَهُ الْعَبْدُ مِنْ كَسْبِهِ : لِأَنَّ كَسْبَهُ مَالٌ لِسَيِّدِهِ . وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ وَأَوْلَاهُمَا .

مَسْأَلَةٌ فَإِنْ بَاعَهَا زَوْجُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِتِلْكَ الْأَلْفِ بِعَيْنِهَا فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ بَاعَهَا زَوْجُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِتِلْكَ الْأَلْفِ بِعَيْنِهَا ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّ عُقْدَةَ الْبَيْعِ وَالْفَسْخِ وَقَعَا مَعًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا ضَمِنَ السَّيِّدُ عَنْ عَبْدِهِ صَدَاقَ زَوْجَتِهِ وَهُوَ أَلْفٌ ثُمَّ أَنَّهَا ابْتَاعَتْ زَوْجَهَا مِنْ سَيِّدِهِ بِأَلْفٍ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَبْتَاعَهُ بِأَلْفٍ فِي ذِمَّتِهَا . وَالثَّانِي : أَنْ تَبْتَاعَهُ بِالْأَلْفِ الَّتِي هِيَ صَدَاقُهَا . فَإِنِ ابْتَاعَتْهُ بِأَلْفٍ فِي ذِمَّتِهَا ، فَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ بَعْدُ ، وَإِنِ ابْتَاعَتْهُ بِالْأَلْفِ الَّتِي هِيَ صَدَاقُهَا ، كَأَنَّهَا قَالَتْ لِلسَّيِّدِ بِعْنِي زَوْجِي بِالْأَلْفِ الَّتِي ضَمِنْتَهَا مِنْ صَدَاقِي ، فَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُقَدِّمَتَانِ نَذْكُرُهُمَا ، ثُمَّ نَبْنِي الْجَوَابَ عَلَيْهِمَا : إِحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ : أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا مَلَكَتْ زَوْجَهَا بَطَلَ نِكَاحُهَا ، وَإِنَّمَا بَطَلَ : لِأَنَّ أَحْكَامَ النِّكَاحِ وَمِلْكَ الْيَمِينِ مُتَضَادَّةٌ : لِأَنَّهُ كَانَ مَالِكًا لِبُضْعِهَا فَصَارَتْ مَالِكَةً لِرَقَبَتِهِ ، وَصَارَ مُسْتَحِقَّ الْحَجْرِ عَلَيْهَا بِالزَّوْجِيَّةِ فَصَارَتْ تَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ بِالرِّقِّ ، وَكَانَتْ نَفَقَتُهَا عَلَيْهِ فَصَارَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهَا ، وَإِذَا تَضَادَّتْ أَحْكَامُهَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ ثَبَتَ أَقْوَاهَا وَانْتَفَى أَضْعَفُهَا ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ أَقْوَى مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ : لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يُخْتَصُّ بِمِلْكِ الْبُضْعِ ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ يَسْتَوْعِبُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ كُلِّهَا ، فَلِذَلِكَ ثَبَتَ مِلْكُ الْيَمِينِ وَبَطَلَ عَقْدُ النِّكَاحِ . وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّ فَسْخَ النِّكَاحِ قَبْلَ الدُّخُولِ إِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَةِ الصداق في هذه الحالة أَسْقَطَ جَمِيعَ صَدَاقِهَا ، كَمَا لَوِ ارْتَدَّتْ . وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ لَمْ يَسْقُطِ الصَّدَاقُ إِلَّا نَصِفُهُ كَمَا لَوِ ارْتَدَّ . وَهُوَ هَاهُنَا مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَةِ : لِأَنَّهُ وَقَعَ بِابْتِيَاعِهَا لَهُ . فَإِنْ قِيلَ : الْفَسْخُ هَاهُنَا إِنَّمَا وَقَعَ بِالِابْتِيَاعِ الَّذِي هُوَ مِنْهُمَا ، وَالْفَسْخُ إِذَا وَقَعَ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَيْنِ ، غَلَبَ فِيهِ حُكْمُ الزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ كَالْخُلْعِ . قِيلَ : قَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا هَذَا ، فَأَخْطَأَ فِيهِ : مَذْهَبًا ، وَحِجَاجًا . أَمَّا الْمَذْهَبُ : فَهُوَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ نَصَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى خِلَافِهِ ، وَجَعَلَ الْفَسْخَ مُضَافًا إِلَى الزَّوْجَةِ فِي إِسْقَاطِ جَمِيعِ صَدَاقِهَا . وَأَمَّا الْحِجَاجُ : فَهُوَ الْفَرْقُ الْوَاقِعُ بَيْنَ الِابْتِيَاعِ وَالْخَلْعِ مِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ الِابْتِيَاعَ إِنَّمَا كَانَ بَيْنَ السَّيِّدِ وَالزَّوْجَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلزَّوْجِ فِيهِ صُنْعٌ وَلَا اخْتِبَارٌ ، فَلَمْ يُجَزْ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ الْخُلْعُ ، وَإِنَّمَا كَانَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ، فَجَازَ لِاخْتِصَاصِ الزَّوْجِ بِالْفُرْقَةِ أَنْ يُضَافَ الْفَسْخُ إِلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الزَّوْجَ فِي الْخُلْعِ أَزَالَ مِلْكَهُ عَنِ الْبُضْعِ إِلَى غَيْرِ مَالِكٍ كَالْعِتْقِ الَّذِي يُزِيلُ بِهِ الْمُعَتِقُ مِلْكَهُ عَنْ رَقَبَةِ الْعَبْدِ إِلَى غَيْرِ مَالِكٍ ، فَغَلَبَ فِيهِ حُكْمُ الزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ ، وَالِابْتِيَاعُ قَدْ زَالَ بِهِ مِلْكُ الْبَائِعِ وَانْتَقَلَ إِلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي ، فَغَلَبَ فِيهِ حُكْمُ الزَّوْجَةِ : لِانْتِقَالِ الْمِلْكِ إِلَيْهَا دُونَ الزَّوْجِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَاتَانِ الْمُقَدِّمَتَانِ وَابْتَاعَتْ زَوْجَهَا بِالْأَلْفِ الَّذِي ضَمِنَهُ السَّيِّدُ مِنْ صَدَاقِهَا ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ قَدْ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ الِابْتِيَاعِ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ . فَإِنِ ابْتَاعَتْهُ بَعْدَ دُخُولِهِ بِهَا كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا : لِابْتِيَاعِهَا إِيَّاهُ مِنْ مَالِكِهِ بِثَمَنٍ قَدِ اسْتَحَقَّتْهُ ذِمَّتُهُ لِاسْتِكْمَالِهَا لِلصَّدَاقِ بِالدُّخُولِ ، فَصَارَ كَابْتِيَاعِهَا إِيَّاهُ بِدَيْنٍ عَلَى سَيِّدِهِ ، وَإِذَا صَحَّ الْبَيْعُ بَطَلَ النِّكَاحُ ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الزَّوْجَةَ إِذَا مَلَكَتْ زَوْجَهَا بَطَلَ نِكَاحُهَا ، وَبَرِئَتِ الزَّوْجَةُ مِنَ الثَّمَنِ لِكَوْنِهِ صَدَاقًا ، وَبَرِئَ السَّيِّدُ مِنْ ضَمَانِ الصَّدَاقِ لِكَوْنِهِ ثَمَنًا ، وَلَمْ يَبْقَ لَهَا عَلَى زَوْجِهَا صَدَاقٌ : لِأَنَّهَا قَدِ اسْتَوْفَتْهُ مِنْ ضَامِنِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى عَبْدِهِ بِمَا غَرِمَهُ عَنْهُ مِنْ ضَمَانِهِ : لِأَنَّهُ ضَمِنَهُ عَنْهُ فِي حَالِ مِلْكِهِ .

فَصْلٌ : وَإِنِ ابْتَاعَتْهُ بِصَدَاقِهَا قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا ابتياع الزوجة لزوجها ، فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ ، فَالْبَيْعُ يَكُونُ بَاطِلًا ، وَتَعْلِيلُ بُطْلَانِهِ قَدْ أَجْمَلَهُ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ : " لِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ وَالْفَسْخِ وَقَعَا مَعًا " . وَبَيَانُهُ : أَنَّ فِي إِثْبَاتِ الْبَيْعِ إِبْطَالَ النِّكَاحِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْبَيْعَ إِذَا صَحَّ بَطَلَ النِّكَاحُ ، وَإِذَا بَطَلَ النِّكَاحُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ صَدَاقُهَا ، وَإِذَا سَقَطَ الصَّدَاقُ بَطَلَ ضَمَانُهُ : لِأَنَّ بَقَاءَ الضَّمَانِ يَكُونُ لِبَقَاءِ الْحَقِّ الْمَضْمُونِ ، وَإِذَا بَطَلَ الضَّمَانُ بَطَلَ الثَّمَنُ : لِأَنَّ الثَّمَنَ هُوَ الصَّدَاقُ الْمَضْمُونُ ، وَإِذَا بَطَلَ الثَّمَنُ بَطَلَ الْبَيْعُ : لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِثَمَنٍ ، فَلَمَّا أَدَّى إِثْبَاتُ الْبَيْعِ إِلَى إِبْطَالِ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ ، حُكِمَ بِإِبْطَالِ الْبَيْعِ وَبَقَاءِ النِّكَاحِ عَلَى ثُبُوتِهِ : لِأَنَّ مَا أَدَّى ثُبُوتُهُ إِلَى إِسْقَاطِهِ وَإِسْقَاطِ غَيْرِهِ حُكِمَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِإِسْقَاطِهِ وَثُبُوتِ غَيْرِهِ : لِيُدْفَعَ بِأَقَلِّ الضَّرَرَيْنِ أَكْبَرُهُمَا ، وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ : فَمِنْهَا : أَنَّ مَنْ مَاتَ وَتَرَكَ أَخًا لَا وَارِثَ لَهُ سِوَاهُ ، فَأَقَرَّ الْأَخُ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ ، ثَبَتَ نَسَبُ الِابْنِ وَلَمْ يَرِثْ : لِأَنَّهُ لَوْ وَرِثَ لَحَجَبَ الْأَخَ فَلَمْ يَرِثْ ، وَإِذَا لَمْ يَرِثِ الْأَخُ بَطَلَ إِقْرَارُهُ بِالنَّسَبِ : لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقِرَّ بِالنَّسَبِ مَنْ لَيْسَ بِوَارِثٍ ، وَإِذَا بَطَلَ إِقْرَارُهُ بِالنَّسَبِ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ ، فَلَمَّا كَانَ تَوْرِيثُ هَذَا الِابْنِ مُؤَدِّيًا إِلَى إِبْطَالِ نَسَبِهِ وَمِيرَاثِهِ ، ثَبَتَ نَسَبُهُ وَبَطَلَ مِيرَاثُهُ . وَمِنْهَا : أَنَّ مَنِ اشْتَرَى أَبَاهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ عَتَقَ وَلَمْ يَرِثْ : لِأَنَّ عِتْقَهُ فِي الْمَرَضِ كَالْوَصِيَّةِ لَهُ فِي اعْتِبَارِهِ مِنَ الثُّلُثِ ، فَلَوْ وَرِثَ لَمُنِعَ الْوَصِيَّةَ : لِأَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ، وَإِذَا مُنِعَ الْوَصِيَّةَ بَطَلَ الْعِتْقُ ، وَإِذَا بَطَلَ الْعِتْقُ سَقَطَ الْمِيرَاثُ ، فَلَمَّا كَانَ تَوْرِيثُهُ مُؤَدِّيًا إِلَى إِبْطَالِ عِتْقِهِ وَمِيرَاثِهِ ، ثَبَتَ عِتْقُهُ وَسَقَطَ مِيرَاثُهُ . وَمِنْهَا : أَنْ يُوصِيَ لِرَجُلٍ بِابْنٍ لَهُ مَمْلُوكِهِ فَمَاتَ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ ، وَخَلَّفَ أَخًا هُوَ وَارِثُهُ فَيَقْبَلُ الْأَخُ الْوَصِيَّةَ لِأَخِيهِ بِابْنِهِ ، فَإِنَّ الِابْنَ يَعْتِقُ وَلَا يَرِثُ : لِأَنَّهُ لَوْ وَرِثَ

لَحَجَبَ الْأَخَ ، وَإِذَا حَجَبَهُ بَطَلَ قَبُولُهُ لِلْوَصِيَّةِ ، وَإِذَا بَطَلَ قَبُولُهُ بَطَلَ عِتْقُ الِابْنِ ، وَإِذَا بَطَلَ عِتْقُهُ سَقَطَ مِيرَاثُهُ ، فَلَمَّا أَدَّى ثُبُوتُ مِيرَاثِهِ إِلَى سُقُوطِ عِتْقِهِ وَبُطْلَانِهِ ثَبَتَ الْعِتْقُ وَسَقَطَ الْمِيرَاثُ . وَمِنْهَا : أَنْ يَدَّعِيَ عَبْدَانِ عَلَى سَيِّدِهِمَا الْعِتْقَ ، وَهُوَ مُنْكِرٌ فَيَشْهَدُ لَهُمَا شَاهِدَانِ بِالْعِتْقِ ، فَيُحْكَمُ بِعِتْقِهِمَا ثُمَّ يَشْهَدُ الْمُعَتَقَانِ بِجَرْحِ الشَّاهِدِينَ ، فَإِنَّ شَهَادَتَهُمَا بِالْجَرْحِ مَرْدُودَةٌ : لِأَنَّهَا لَوْ قُبِلَتْ فِي الْجَرْحِ رَدَّتْ شَهَادَةَ الشَّاهِدِينَ بِالْعِتْقِ ، وَصَارَ الْمُعَتَقَانِ عَبْدَيْنِ مَرْدُودِيِ الشَّهَادَةِ ، فَلَمَّا أَدَّى قَبُولُ شَهَادَتِهِمَا إِلَى رَدِّهَا وَإِبْطَالِ الْعِتْقِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا ، وَثَبَتَ الْعِتْقُ ، وَلِذَلِكَ مِنَ النَّظَائِرِ مَا يَطُولُ ذِكْرُهُ ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا أَمْثِلَةً يُؤَدِّي دَوْرُهَا إِذَا ثَبَتَ إِلَى سُقُوطِهَا فَلَمْ يَثْبُتْ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوَ بَاعَهَا إِيِّاهُ بِأَلْفٍ لَا بِعَيْنِهَا كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا وَعَلَيْهَا الثَّمَنُ ، وَالنِّكَاحُ مَفْسُوخٌ مِنْ قِبَلِهَا وَقِبَلِ السَّيَدِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ ابْتِيَاعِهَا لِزَوْجِهَا ابتياع الزوجة لزوجته إِنِ ابْتَاعَتْهُ بِأَلْفٍ فِي ذِمَّتِهَا ، فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ لِانْعِقَادِهِ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ ، وَالنِّكَاحُ قَدْ بَطَلَ ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ النِّكَاحَ وَمِلْكَ الْيَمِينِ لَا يَجْتَمِعَانِ لِتَنَافِي أَحْكَامِهِمَا فَأُثْبِتُ أَقْوَاهُمَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ . إِمَّا أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ قَدْ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ ابْتِيَاعِهَا لَهُ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَصَدَاقُهَا قَدْ سَقَطَ : لِانْفِسَاخِ النِّكَاحِ مِنْ جِهَتِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَإِذَا سَقَطَ الصَّدَاقُ بَطَلَ ضَمَانُ السَّيِّدِ لَهُ : لِأَنَّ الضَّمَانَ فَرْعٌ لِأَصْلٍ قَدْ بَرِئَ مِنْهُ الْمَضْمُونُ فَبَرِئَ الضَّامِنُ مِنْهُ وَلِلسَّيِّدِ عَلَيْهَا الْأَلْفُ الَّذِي اشْتَرَتْ بِهِ زَوْجَهَا وَلَا مُطَالَبَةَ لَهَا بِصَدَاقِهَا .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ ابْتِيَاعِهَا لَهُ الحرة تتزوج عبدا ، فَقَدِ اسْتَقَرَّ لَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا بِالدُّخُولِ عَلَى الزَّوْجِ ، قَدْ مَلَكَتْهُ فَصَارَ عَبْدًا لَهَا ، قَبْلَ تَبَرُّؤِ الزَّوْجِ مِنْهُ بِحُدُوثِ مِلْكِهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ بَرِئَ مِنْهُ : لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَصِحُّ أَنَّ يَثْبُتَ لَهُ فِي ذِمَّةِ عَبْدِهِ مَالٌ فَعَلَى هَذَا قَدْ بَرِئَ السَّيِّدُ مِنْ ضَمَانِهِ لِبَرَاءَةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ ، وَلِلسَّيِّدِ مُطَالَبَتُهَا بِالْأَلْفِ الَّذِي هُوَ ثَمَنٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الزَّوْجَ لَا يَبْرَأُ مِنْ صَدَاقِهَا ، وَإِنْ صَارَ عَبْدًا لَهَا لِاسْتِقْرَارِهِ عَلَيْهِ قَبْلَ مِلْكِهَا لَهُ ، فَلَمْ يَسْقُطْ إِلَّا بِأَدَاءٍ أَوْ إِبْرَاءٍ ، وَإِنْ صَارَ لَهَا عَبْدًا ، وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ لَهَا ابْتِدَاءً فِي ذِمَّتِهِ مَالٌ بَعْدَ أَنْ صَارَ لَهَا عَبْدًا ، فَإِمَّا أَنَّ يَكُونَ الْحَقُّ ثَابِتًا فَلَا يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْمِلْكِ بَاقِيًا ، فَعَلَى هَذَا لَهَا عَلَى السَّيِّدِ الْأَلْفُ الَّذِي هِيَ صَدَاقُهُا ، وَلِلسَّيِّدِ عَلَيْهَا الْأَلْفُ الَّتِي هِيَ ثَمَنُ زَوْجِهَا ، فَإِنْ كَانَتِ الْأَلْفَانِ مِنْ نَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَمْ يَصِرْ قَصَاصًا ، وَكَانَ عَلَيْهَا أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى السَّيِّدِ الْأَلْفَ الَّتِي هِيَ ثَمَنُ زَوْجِهَا وَعَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَيْهَا الْأَلْفَ الَّتِي هِيَ صَدَاقُهَا . فَإِنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا أَدْفَعُ مَا عَلَيَّ حَتَّى أَقْبِضَ مَا لِي لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ : لِأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لِأَحَدِ الْمَالَيْنِ بِالْآخَرِ ، فَأَيُّهُمَا بَدَأَ بِالْمُطَالَبَةِ قُضِيَ لَهُ عَلَى صَاحِبِهِ بِالدَّفْعِ فَإِنْ تَبَارَءَا مِنَ

الْأَلْفَيْنِ صَحَّ الْإِبْرَاءُ ، فَلَوْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ : قَدْ أَبْرَأْتُكَ إِنْ أَبْرَأْتَنِي ، لَمْ يَصِحَّ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْيِيدِ الْبَرَاءَةِ بِشَرْطٍ ، وَلَوْ قَالَ : قَدْ أَبْرَأْتُكَ فَأَبْرِئْنِي ، فَهُوَ مُبَرِّئٌ مِنْ حَقِّهِ بِغَيْرِ شَرْطٍ ، فَصَحَّتْ بَرَاءَتُهُ ، وَطَلَبَ إِلَى الْآخَرِ أَنْ يُبَرِّئَهُ وَكَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُبَرِّئَهُ أَوْ لَا يُبَرِّئَهُ ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَلْفَانِ مَنْ نَقْدٍ وَاحِدٍ لَا يَخْتَلِفُ ، فَكَانَتِ الْأَلْفُ الثَّمَنُ مِنْ جِنْسِ الْأَلْفِ الصَّدَاقِ ، وَعَلَى صِفَتِهَا ، فَهَلْ يَصِيرُ ذَلِكَ قَصَاصًا أَمْ لَا ؟ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّ يَصِيرَ قَصَاصًا اخْتَارَا أَوْ لَمْ يَخْتَارَا ، فَعَلَى هَذَا قَدْ بَرِئَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ حَقِّ صَاحِبِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنْ يَصِيرَ قَصَاصًا إِنِ اخْتَارَا أَوْ أَحَدُهُمَا ، وَلَا تَصِيرُ قَصَاصًا إِنْ لَمْ يَخْتَرْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ يَصِيرُ قَصَاصًا إِنِ اخْتَارَاهُ مَعًا ، وَلَا يَكُونُ قَصَاصًا إِنِ اخْتَارَهُ أَحَدُهُمَا . وَالرَّابِعُ : - وَهُوَ مُخَرَّجٌ - : أَنْ لَا يَصِيرَ قَصَاصًا بِحَالٍ وَإِنِ اخْتَارَاهُ ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُؤْتِيَ إِلَى صَاحِبِهِ مَالَهُ وَيَسْتَوْفِيَ مِنْهُ مَا عَلَيْهِ . وَوَجْهُ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِعَبْدِهِ وَيَمْنَعَهُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ وَفِي مِصْرِهِ إِلَّا فِي الْحِينِ الَّذِي لَا خِدْمَةَ لَهُ فِيهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ لِلسَّيِّدِ إِذَا أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي النِّكَاحِ ، فَعَلَى حَالَتَيْنِ : إِحْدَاهَا : أَنْ يَلْتَزِمَ لِزَوْجَتِهِ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يَلْتَزِمَ . فَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمْ لَهَا الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَ عَبْدَهُ مِنَ اكْتِسَابِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ نَهَارًا ، وَيُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ لَيْلًا ، فَيَكُونُ تَخْلِيَتُهُ نَهَارًا لِلِاكْتِسَابِ ، وَلَيْلًا لِلِاسْتِمْتَاعِ ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ زَوْجَتُهُ فِي مَنْزِلِ سَيِّدِهِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ تَخْلِيَتُهُ لَيْلًا لِوُصُولِهِ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ مَعَ سَيِّدِهِ ، فَلَوْ أَرَادَ السَّيِّدُ أَنَّ يُسَافِرَ بِعَبْدِهِ هَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَنْعِهِ مِنَ الِاكْتِسَابِ ، فَإِنْ قَهَرَهُ عَلَى نَفْسِهِ ، قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَاييِنِيُّ : يَضْمَنُ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِهِ أَوْ نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ : لِأَنَّ أُجْرَتَهُ إِنْ زَادَتْ كَانَ لَهُ أَخْذُ الزِّيَادَةِ ، وَإِنْ نَقَصَتْ لَمْ يَلْزَمْهُ إِتْمَامُ النَّفَقَةِ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عِنْدِي لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ يَضْمَنُ لَهَا النَّفَقَةَ وَلَا يَضْمَنُ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَضْمَنُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ ، لَا فِي حَقِّ الْعَبْدِ ، فَلَزِمَتْهُ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ وَلَمْ تَلْزَمْهُ أُجْرَةُ الْعَبْدِ . وَالثَّانِي : أَنَّ حَالَ إِجْبَارِهِ أَعْظَمُ مِنْ حَالِ خِيَارِهِ ، فَلَمَّا لَزِمَهُ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ ضَمَانُ النَّفَقَةِ ،

فَأَوْلَى أَنْ يَلْزَمَهُ فِي حَالِ الْإِجْبَارِ ضَمَانُ النَّفَقَةِ ، فَأَمَّا إِذَا قَهَرَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَيْلًا وَأَرْسَلَهُ نَهَارًا ، فَقَدْ تَعَدَّى كَتَعَدِّيهِ ، وَلَوْ قَهَرَهُ نَهَارًا غَيْرَ أَنَّهُ يَضْمَنُ زَمَانَ نَهَارِهِ وَلَا يَضْمَنُ زَمَانَ لَيْلِهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ زَمَانَ لَيْلِهِ مُسْتَحَقُّ الِاسْتِمْتَاعِ الَّذِي لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فَلَمْ يُضْمَنْ ، وَزَمَانُ نَهَارِهِ مُسْتَحَقٌّ لِلْكَسْبِ الَّذِي يُقَابِلُهُ عِوَضُ ضُمِنَ .

فَصْلٌ : فَإِنِ الْتَزَمَ السَّيِّدُ لَهَا الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ فِي مِصْرِهِ ، وَلَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا الْتَزَمَ لَهُ الْمَهَرَ وَالنَّفَقَةَ سَقَطَ عَنْهُ مَا لَزِمَهُ بِالزَّوْجِيَّةِ فَعَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ ، وَقَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ فِي الْحَضَرِ وَالسِّفْرِ فَكَذَلِكَ الْآنَ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَنْزِلَةَ السَّيِّدِ مَعَ عَبْدِهِ كَمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي نَفْسِهِ ، فَكُلُّ مَا جَازَ لِلْحُرِّ أَنْ يَفْعَلَهُ مَعَ زَوْجَتِهِ مِنْ تَصَرُّفٍ فِي الْحَضَرِ وَتَقَلُّبٍ فِي السَّفَرِ ، جَازَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَفْعَلَهُ مَعَ عَبْدِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِلسَّيِّدِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ فِي مِصْرِهِ ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ نَهَارًا وَعَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ لِلِاسْتِمْتَاعِ بِزَوْجَتِهِ لَيْلًا : لِأَنَّ زَمَانَ الِاسْتِخْدَامِ هُوَ النَّهَارُ ، فَيُعَلَّقُ حَقُّ السَّيِّدِ بِهِ دُونَ اللَّيْلِ ، وَزَمَانُ الِاسْتِمْتَاعِ هُوَ اللَّيْلُ ، فَيُعَلَّقُ حَقُّ الْعَبْدِ بِهِ دُونَ النَّهَارِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُسَافِرَ بِهِ ، فَلَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ وَيَقْطَعَهُ عَنْ زَوْجَتِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا . فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيْسَ اللَّيْلُ فِي الْحَضَرِ مُسْتَثْنَى مَنْ حَقِّ السَّيِّدِ فَهَلَّا كَانَ فِي السَّفَرِ كَذَلِكَ ؟ قِيلَ : لِأَنَّ السَّيِّدَ فِي الْحَضَرِ قَدْ يَصِلُ إِلَى حَقِّهِ مِنَ اسْتِخْدَامِ النَّهَارِ ، وَإِذَا أَرْسَلَهُ لَيْلًا لِلِاسْتِمْتَاعِ ، وَلَا يَصِلُ فِي السَّفَرِ إِلَى حَقِّهِ مِنَ اسْتِخْدَامِ النَّهَارِ إِذَا أَرْسَلَهُ لَيْلًا لِلِاسْتِمْتَاعِ ، فَكَذَلِكَ صَارَ زَمَانُ اللَّيْلِ مُسْتَثْنَى فِي حَالِ السَّيِّدِ فِي الْحَضَرِ وَغَيْرَ مُسْتَثْنَى مِنَ السَّفَرِ ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مُسَافِرَةً مَعَ الْعَبْدِ فَيَسْتَوِي حُكْمُ الْحَضَرِ وَالسِّفْرِ فِي اسْتِثْنَاءِ اللَّيْلِ مِنْهَا . فَأَمَّا إِنْ كَانَ السَّيِّدُ مِمَّنْ عَمَلُهُ وَاسْتِخْدَامُهُ فِي اللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ كَالْبَزَّارِينَ وَالرَّيَّاحِينِ وَالْحَدَّادِينَ ، صَارَ اللَّيْلُ زَمَانَ اسْتِخْدَامِهِ لِعَبْدِهِ ، وَالنَّهَارُ زَمَانَ إِرْسَالِهِ لِلِاسْتِمْتَاعِ بِزَوْجَتِهِ ، وَلَا يَنْبَغِي لِلسَّيِّدِ أَنْ يُسَافِرَ بِعَبْدِهِ عِنْدَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ قَصْدًا لِلْإِضْرَارِ بِهِ وَبِزَوْجَتِهِ ، وَكَذَلِكَ فِي مِصْرِهِ . فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : " وَلَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِعَبْدِهِ " فَقَدْ ذَكَرْنَا جَوَازَهُ . وَقَوْلُهُ : " وَيَمْنَعُهُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ وَفِي مِصْرِهِ " فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا - قَالَهُ أَبُو حَامِدٍ - : أَنَّهُ يَمْنَعُهُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِهِ إِذَا كَانَتِ امْرَأَتُهُ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَتْ خَارِجَةً مِنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهُ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْهَا . وَالثَّانِي - وَهُوَ أَشْبَهُ التَّأْوِيلَيْنِ عِنْدِي - : أَنَّهُ يَمْنَعُهُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِهِ نَهَارًا : لِأَنَّهُ زَمَانُ الِاسْتِخْدَامِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الْخُرُوجِ لَيْلًا فِي زَمَانِ الِاسْتِمْتَاعِ ، أَلَّا تَرَى الشَّافِعِيَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : " إِلَّا فِي الْحِينِ الَّذِي لَا خِدْمَةَ لَهُ فِيهِ " يَعْنِي اللَّيْلَ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ قَالَتْ لَهُ أَمَتُهُ أَعْتِقْنِي عَلَى أَنْ أَنْكِحَكَ وَصَدَاقِي عِتْقِي ، فَأَعْتَقَهَا عَلَى ذَلِكَ ، فَلَهَا الْخِيَارُ فِي أَنْ تَنْكِحَ أَوْ تَدَعَ وَيَرْجِعَ عَلَيْهَا بِقِيمَتِهَا ، فَإِنْ نَكَحَتْهُ وَرَضِيَ بِالْقِيمَةِ الَّتِي عَلَيْهَا فَلَا بَأْسَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) يَنْبَغِي فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ أَنْ لَا يُجِيزَ هَذَا الْمَهْرَ حَتَى يَعْرِفَ قِيمَةَ الْأَمَةِ حِينَ أَعْتَقَهَا ، فَيَكُونُ الْمَهْرُ مَعْلُومًا : لِأَنَّهُ لَا يُجِيزُ الْمَهْرَ غَيْرَ مَعْلُومٍ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) سَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ حَدِيثِ صَفِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا ، فَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النِّكَاحِ أَشْيَاءُ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا أَعْتَقَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ عَلَى أَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ وَيَكُونَ عِتْقُهَا صَدَاقَهَا ، إِمَّا أَنِ ابْتَدَأَهَا بِذَلِكَ أَوْ سَأَلَتْهُ فَأَجَابَهَا إِلَى ذَلِكَ فَقَدْ عَتَقَتْ ، وَهِيَ بِالْخِيَارِ فِي الْحَالَيْنِ بَيْنَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ أَوْ لَا تَتَزَوَّجَ . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : قَدْ صَارَتْ لَهُ بِهَذَا الْعِتْقِ زَوْجَةً مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : لَا تَصِيرُ زَوْجَةً بِالْعِتْقِ وَلَكِنْ تُخَيَّرُ عَلَى أَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ بِعَقْدٍ مُسْتَجَدٍّ . وَاسْتَدَلَّ أَحْمَدُ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ ، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ عَقَدَ بَعْدَ الْعِتْقِ عَلَيْهَا ثُمَّ دَخَلَ بِهَا . وَاسْتَدَلَّ الْأَوْزَاعِيُّ بِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهَا عَلَى مَعْلُومٍ مِنْ خِدْمَتِهِ أَوْ عَمَلٍ المهر في النكاح أُخِذَتْ بِهِ جَبْرًا ، فَكَذَلِكَ عَلَى التَّزْوِيجِ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ بَدَلَ الْعِوَضِ عَلَى نِكَاحٍ فِي الذِّمَّةِ لَا يَصِحُّ كَمَا لَوْ أَعْطَاهَا أَلْفًا عَلَى أَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ بَعْدَ يَوْمٍ لَمْ يَصِحَّ كَذَلِكَ هَذَا ، وَلِأَنَّ الذِّمَّةَ إِنَّمَا ثَبَتَتْ فِيهَا الْأَمْوَالُ وَالْأَعْمَالُ ، فَالْأَمْوَالُ كَالْقَرْضِ وَالسَّلَمِ ، وَالْأَعْمَالُ كَالْبِنَاءِ وَالْخِيَاطَةِ ، فَأَمَّا الْعُقُودُ فَلَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ، كَمَا لَوْ أَعْطَاهَا ثَوْبًا عَلَى أَنْ تَبِيعَهُ دَارًا ، أَوْ يُؤْجِرُهُا عَبْدًا لَمْ يَصِحَّ ، كَذَلِكَ النِّكَاحُ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ بِمَا نَفَذَ مِنَ الْعِتْقِ ، وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ انْفِصَالٌ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْأَوْزَاعِيُّ : لِأَنَّ قَطْعَ الْخِيَارِ قَبْلَ مَا يُمْلَكُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ الْخِيَارِ لَا يَصِحُّ ، كَمَا لَوْ أُسْقِطَ الشَّفِيعُ خِيَارَهُ فِي أَخْذِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ ، لَمْ يَسْقُطِ الْخِيَارُ بَعْدَ الْبَيْعِ ، كَذَلِكَ خِيَارُ الْمُعْتَقَةِ فِي التَّزْوِيجِ يَكُونُ بَعْدَ الْعِتْقِ ، فَلَا يَصِحُّ إِسْقَاطُهُ قَبْلَ الْعِتْقِ ، وَيَدُلُّ عَلَى أَحْمَدَ خُصُوصًا أَنَّ الْعِتْقَ مُزِيلٌ لِمِلْكِ الْمُعَتِقِ عَنِ الرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ عَقْدُ النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ بَعْضُ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ : لِأَنَّ مَا أَوْجَبَ نَفْيَ شَيْءٍ اسْتَحَالَ أَنْ يُوجِبَ إِثْبَاتُهُ وَإِثْبَاتُ بَعْضِهِ : لِكَوْنِهِمَا ضِدَّيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُ أَحْمَدَ بِحَدِيثِ صَفِيَّةَ فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا ، فَبَطَلَ اسْتِدْلَالُهُ بِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصٌ فِي مَنَاكِحِهِ بِمَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ .

قَالَ الْمُزَنِيُّ : سَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ عَنْ حَدِيثِ صَفِيَّةَ ، فَقَالَ : إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا . قَالَ الشَّافِعِيُّ : لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ الْمُزَنِيُّ : كَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا خُصَّ بِهِ فِي أَمْرِ صَفِيَّةَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ خُصَّ بِأَنْ صَارَ عِتْقُهَا نِكَاحَهَا ، وَلَا يَصِيرُ عِتْقُ غَيْرِهِ مَنْ أُمَّتِهِ نِكَاحًا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ خُصَّ بِأَنْ وَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ ، وَلَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ خُصَّ بِأَنْ لَمْ يَلْزَمْهُ لَهَا صَدَاقٌ ، وَغَيْرُهُ يَلْزَمُهُ الصَّدَاقُ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ خُصَّ بِأَنْ صَارَتْ قِيمَتُهَا وَإِنْ جَهِلَتْ صَدَاقًا مِنْهُ ، وَلَا تَكُونُ الْقِيمَةُ إِذَا جَهِلَتْ صَدَاقًا مِنْ غَيْرِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا لَا تُجْبَرُ عَلَى نِكَاحِهِ إِذَا أَبَتْ فَكَذَلِكَ لَوْ بَذَلَتْ لَهُ نَفْسَهَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى نِكَاحِهَا إِذَا أَبَى : لَأَنَّ الشَّرْطَ إِذَا لَمْ يُوجِبْ إِجْبَارَهَا لَمْ يُوجِبْ إِجْبَارَهُ ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى خِيَارِهِ ، وَإِذَا كَانَا كَذَلِكَ فَلَهَا حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَتَنَاكَحَا . وَالثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يَتَنَاكَحَا . فَإِنْ لَمْ يَتَنَاكَحَا إِمَّا لِامْتِنَاعِهِ أَوِ امْتِنَاعِهَا ، فَلَهُ عَلَيْهَا قِيمَتُهَا ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ لَهُ عَلَيْهَا قِيمَتُهَا : لِأَنَّهُ أَعْتَقَهَا عَلَى شَرْطِ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْ لُزُومِهِ ، فَإِذَا فَاتَهُ الرُّجُوعُ بِرَقَبَتِهَا لِنُفُوذِ الْعِتْقِ رَجَعَ بِقِيمَتِهَا ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهَا عَلَى حِمًى أَوْ حِرًى تَجِبُ لَهُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْعِتْقِ لَا يَوْمَ الرُّجُوعِ بِالْقِيمَةِ : لِأَنَّ بِالْعِتْقِ وَقَعَ الِاسْتِهْلَاكُ الْمُوجِبُ لِلْقِيْمَةِ ، وَهَكَذَا لَوْ أَعْتَقَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ أُمَّ وَلَدِهِ أَوْ مُكَاتَبَتَهُ أَوْ مُدَبَّرَتَهُ لَمْ يَلْزَمْهُنَّ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ بِهِ ، وَكَانَ لَهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ : لِأَنَّهُنَّ سَوَاءٌ فِي تَفَارُقِهِنَّ فَتَسَاوَيْنَ فِي عِتْقِهِنَّ ، وَهَكَذَا لَوْ أَعْتَقَهُنَّ عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهِنَّ ، وَلَمْ يَقُلْ عَلَى أَنَّ عِتْقَهُنَّ صَدَاقَهُنَّ كَانَ الْعِتْقُ نَافِذًا ، وَلَهُ عَلَيْهِنَّ قِيمَتُهُنَّ : لِأَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي فِي مُقَابَلَةِ عِتْقِهِنَّ لَمْ يَلْزَمْهُنَّ فَوَجَبَ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى قِيمَتِهِنَّ .

فَصْلٌ : فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ نَكَحَهَا فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَنْكِحَهَا عَلَى صَدَاقٍ مَعْلُومٍ مُعَيَّنٍ أَوْ فِي الذِّمَّةِ إجبار الولي في النكاح ، فَالنِّكَاحُ بِلَا صَدَاقٍ جَائِزٌ وَلَهُ عَلَيْهَا قِيمَتُهَا ، وَلَهَا عَلَيْهِ صَدَاقُهَا ، فَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ مُعَيَّنًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ قِصَاصًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْقِيمَةِ لَمْ يَكُنْ قِصَاصًا أَيْضًا ، وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ مَنْ جِنْسِ الْقِيمَةِ فَهَلْ يَكُونُ قِصَاصًا أَمْ لَا ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَقَاوِيلِ الْأَرْبَعَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَنْكِحَهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ عِتْقُهَا صَدَاقَهَا إجبار الولي في النكاح ، وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ ، وَالصَّدَاقُ بَاطِلٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الصَّدَاقُ جَائِزٌ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الْعِتْقَ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا عَمَلٍ يُعْتَاضُ عَلَيْهِ بِمَالٍ

فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا ، وَصَحَّ النِّكَاحُ : لِأَنَّ بُطْلَانَ الصَّدَاقِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ النِّكَاحِ ، فَتَكُونُ لَهَا عَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقٍ فَاسِدٍ مِنْ حَرَامٍ أَوْ مَجْهُولٍ ، وَيَكُونُ لَهُ عَلَيْهَا قِيمَتُهَا ، فَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ مَهْرَ الْمِثْلِ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَمْ يَكُونَا قِصَاصًا ، وَإِنْ كَانَا مَنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَهَلْ يَكُونَا قِصَاصًا أَمْ لَا ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَقَاوِيلِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَنْكِحَهَا عَلَى أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهَا صَدَاقًا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَا عَالِمَيْنِ بِقَدْرِ الْقِيمَةِ فَيَكُونُ النِّكَاحُ وَالصَّدَاقُ جَائِزَيْنِ : لِأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَعْلُومٍ فِي ذِمَّتِهَا ، فَعَادَ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى دَيْنٍ فِي ذِمَّتِهَا مَنْ ثَمَنٍ أَوْ قَرْضٍ ، وَتَبْرَأُ مَنْ قِيمَتِهَا بِالصَّدَاقِ ، وَيَبْرَأُ مِنْ صَدَاقِهَا بِالْقِيمَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَا جَاهِلَيْنِ بِقَدَرِ الْقِيمَةِ أَوْ أَحَدِهَا ، فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ ، وَفِي بُطْلَانِ الصَّدَاقِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ - : أَنَّ الصَّدَاقَ بَاطِلٌ : لِأَنَّ الْجَهَالَةَ تَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهِ ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَقْدٍ غَيْرِ مَوْصُوفٍ وَلَا مُعَيَّنٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي - قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ - : أَنَّ الصَّدَاقَ جَائِزٌ : بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ : أَنَّ الصَّدَاقَ الْمُعَيَّنَ إِذَا بَطَلَ وَجَبَ الرُّجُوعُ بِقِيمَتِهِ لَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ ، فَتَصِحُّ هَاهُنَا : لِأَنَّ قِيمَةَ الصَّدَاقِ هِيَ الْقِيمَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا أَرَادَ سَيِّدُ الْأَمَةِ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى عِتْقِهَا وَنِكَاحِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهَا خِيَارٌ فِي الِامْتِنَاعِ بَعْدَ الْعِتْقِ ، فَقَدْ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ : إِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى التَّوَصُّلِ إِلَى ذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ لَهَا : إِنْ تَزَوَّجْتُكِ فِي غَدٍ فَأَنْتِ الْيَوْمَ حُرَّةٌ ، فَهِيَ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْهَا فِي غَدٍ بَاقِيَةٌ عَلَى الرِّقِّ ، لَا خِيَارَ لَهَا فِي نَفْسِهَا ، وَإِذَا تَزَوَّجَهَا أَوْجَبَ التَّزْوِيجُ تَقَدُّمَ عِتْقِهَا ، وَبَانَ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَيْهَا وَهِيَ حُرَّةٌ قَبْلَهُ بِيَوْمٍ ، فَصَحَّ . وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا : هَذَا خَطَأٌ ، وَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ : لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَقَعُ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ ، فَصَارَ الْعَقْدُ وَاقِعًا فِي حَالِ الرِّقِّ ، وَلَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْكِحَ أَمَتَهُ ، فَبَطَلَ الْعَقْدُ وَإِذَا لَمْ يَقَعِ الْعِتْقُ : لِأَنَّ الْعِتْقَ إِذَا عُلِّقَ بِعَقْدٍ تَعَلَّقَ بِصَحِيحِهِ دُونَ فَاسِدِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ لِعَبْدِهَا : قَدْ أَعْتَقْتُكَ عَلَى أَنْ تَتَزَوَّجَ بِي ، أَوِ ابْتَدَأَهَا الْعَبْدُ فَقَالَ : اعْتِقِينِي عَلَى أَنْ أَتَزَوَّجَ بِكِ ، فَأَعْتَقَتْهُ ، عَتَقَ فِي الْحَالَيْنِ ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا ، وَلَا يَلْزَمْهَا إِنْ رَضِيَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ : لِمَا قَدَّمْنَاهُ ، وَلَا قِيمَةَ لَهَا عَلَى عَبْدِهَا بِخِلَافِ عِتْقِ السَّيِّدِ لِأَمَتِهِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ مَا أَوْجَبَهُ عَقْدُ النِّكَاحِ مِنَ التَّمْلِيكِ يَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجُ دُونَ الزَّوْجَةِ ، فَإِذَا شَرَطَهُ السَّيِّدُ عَلَى أَمَتِهِ كَانَ شَرْطًا لَهُ ، فَإِذَا فَاتَهُ رَجَعَ بِبَذْلٍ ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهَا عَلَى مَالٍ يَأْخُذُهُ اسْتَحَقَّهُ عَلَيْهَا ، وَإِذَا شَرَطَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى عَبْدِهَا ، كَانَ شَرْطًا عَلَيْهَا ، فَلَمْ يَكُنْ سُقُوطُهُ عَنْهَا مُوجِبًا

لِرُجُوعِهَا بِبَدَلِهِ ، وَصَارَ كَمَا لَوْ أَعْتَقَتْهُ عَلَى مَالٍ يَدْفَعُهُ إِلَيْهَا ، لَمْ يَلْزَمْهَا دَفْعُ الْمَالِ إِلَيْهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا عَلَيْهِ شَيْءٌ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِسَيِّدِ عَبْدٍ : أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَلَى أَنْ أُزَوِّجَكَ بِنْتِي ، فَأَعْتَقَهُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ بَعْدَ الْعِتْقِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ تَزْوِيجُ بِنْتِهِ بِهِ ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَا يَصِحُّ فِيهِ السَّلَفُ ، وَلَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ . ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ قَالَ لَهُ : أَعْتِقْ عَبْدِي عَنِّي عَلَى أَنْ أُزَوِّجَكَ بِنْتِي ، كَانَ الْعِتْقُ وَاقِعًا عَلَى الْبَاذِلِ لِلنِّكَاحِ دُونَ السَّيِّدِ ، وَكَانَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ عَبْدِهِ : لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ عَنْهُ عَلَى بَذْلٍ لَمْ يَحْصُلْ . وَإِنْ قَالَ لَهُ : أَعْتِقْهُ مِنْ نَفْسِكَ عَلَى أَنْ أُزَوِّجَكَ بِنْتِي ، فَفِي وُجُوبِ قِيمَةِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ : أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَلَى نَفْسِكَ عَلَى أَلْفٍ لَكَ عَلَيَّ فَفِي وُجُوبِ الْأَلْفِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجِبُ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَعُدْ عَلَيْهِ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ نَفْعٌ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ هَاهُنَا قِيمَةٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : تَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ الْأَلْفُ ، كَمَا لَوْ قَالَ : طَلِّقْ زَوْجَتَكَ عَلَى أَلْفٍ لَكَ عَلَيَّ ، لَزِمَهُ الْأَلْفُ كَذَلِكَ فِي الْعِتْقِ ، فَعَلَى هَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ هَاهُنَا الْقِيمَةُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَعْتَقَ الرَّجُلُ أَمَتَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ ، وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ فِي حَالِ عِتْقِهَا ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ، فَفِي النِّكَاحِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْعِتْقِ هَلْ وَقَعَ بِإِجْزَاءٍ فِي الظَّاهِرِ أَوْ مَوْقُوفًا ؟ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ - : أَنَّهُ وَقَعَ بِإِجْزَاءٍ فِي الظَّاهِرِ : لِخُرُوجِهَا مِنَ الثُّلُثِ فِي حَالِ الْعِتْقِ ، فَإِنْ صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ أَوْ مَاتَ وَهِيَ خَارِجَةٌ مِنْ ثُلُثِهِ ، اسْتَقَرَّ الْعِتْقُ مِنْ وَقْتِ التَّلَفُّظِ بِهِ ، فَإِنْ تَلَفَ مَالُهُ ثُمَّ مَاتَ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ ثُلُثِهِ أُبْطِلَ الْعِتْقُ الْوَاقِعُ فِي الظَّاهِرِ بِمَا تَجَدَّدَ مِنَ السَّبَبِ الْمَانِعِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْحَدَّادِ وَبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ - : أَنَّ الْعِتْقَ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ مَوْتِ السَّيِّدِ أَوْ صِحَّتِهِ ، وَلَا يُحْكَمُ فِي الْمَالِ بِصِحَّةٍ وَلَا فَسَادٍ . فَإِنْ صَحَّ أَوْ مَاتَ وَهِيَ خَارِجَةٌ مِنْ ثُلُثِهِ ، بَانَ أَنَّ الْعِتْقَ كَانَ وَاقِعًا بِاللَّفْظِ . فَإِنْ مَاتَ وَهِيَ غَيْرُ خَارِجَةٍ مِنَ الثُّلُثِ أَوْ أُتْلِفَ مَالُهُ أَوْ حُدُوثُ دَيْنٍ أَحَاطَ بِجَمِيعِهِ ، بَانَ أَنَّ الْعِتْقَ لَمْ يَقَعْ : لِأَنَّ مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ لَمْ يُقْطَعْ بِأَحَدِهِمَا ، وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى مَا يَسْتَقِرُّ مِنْهُمَا . فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ تَفَرَّعَ النِّكَاحُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ عَلَيْهَا ، فَإِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْعِتْقَ وَقَعَ نَاجِزًا فِي الظَّاهِرِ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ، وَأَنْ يُزَوِّجَهَا بِغَيْرِهِ ، وَجَازَ لَوْ وَهَبَهَا وَلَمْ يُعْتِقْهَا أَنْ يَطَأَهَا الْمَوْهُوبَةُ لَهُ ، وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا وَحُدَّ قَاذِفُهَا وَإِنْ قُذِفَتْ أُكْمِلَ حَدُّهَا وَتَرِثُ وَتُورَّثُ . وَإِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الثَّانِي : إِنَّ الْعِتْقَ مَوْقُوفٌ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ، وَلَا أَنْ يُزَوِّجَهَا ، وَكَانَ النِّكَاحُ إِنْ تَزَوَّجَهَا أَوْ زَوَّجَهَا بَاطِلًا : لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا ، وَلَمْ يَجُزْ إِنْ وُهِبَتْ وَلَمْ يُعْتِقْ

أَنْ يَطَأَهَا الْمَوْهُوبَةُ لَهُ وَلَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا : لِأَنَّهُ كَمَا يَكُونُ الْعِتْقُ مَوْقُوفًا ، فَكَذَلِكَ الْهِبَةُ تَكُونُ مَوْقُوفَةً ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا ، وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُا ، وَإِنْ قُذِفَتْ لَمْ يُكْمَلْ حَدُّهَا وَيَقِفُ مِيرَاثُهَا عَلَى مَا يَتَبَيَّنُ مِنْ أَمْرِهَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا وَضَحَ مَا وَصَفْنَا فَسَدَ حُكْمُ النِّكَاحِ إِنْ صَحَّ أَوْ فَسَدَ . فَإِذَا قِيلَ : إِنِ النِّكَاحَ بَاطِلٌ ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا السَّيِّدُ حَتَّى مَاتَ ، فَلَا مَهْرَ لَهَا وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا ، وَهِيَ حُرَّةٌ إِنْ خَرَجَتْ مِنَ الثُّلْثِ وَقْتَ الْوَفَاةِ ، فَإِنْ عَجْزَ الثُّلْثُ عَنْهَا عَتَقَ مِنْهَا قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، وَرَقَّ بَاقِيهَا إِنْ لَمْ يُمْضِ الْوَرَثَةُ عِتْقَهَا . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ وَمَاتَ ، وَالثُّلُثُ يَحْتَمِلُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا اسْتَقَرَّ عِتْقُهَا ، وَعَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ ، دَخَلَ بِهَا السَّيِّدُ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ ، وَلَا مِيرَاثَ لَهَا : لِأَنَّ ثُبُوتَ الْمِيرَاثِ يُؤَدِّي إِلَى سُقُوطِهِ : لِأَنَّ عِتْقَهَا فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ لَهَا ، وَإِذَا وَرِثَتْ مُنِعَتِ الْوَصِيَّةَ ، وَإِذَا مُنِعَتِ الْوَصِيَّةَ بَطَلَ الْعِتْقُ ، وَإِذَا بَطَلَ الْعِتْقُ بَطَلَ النِّكَاحُ ، وَإِذَا بَطَلَ النِّكَاحُ سَقَطَ الْمِيرَاثُ ، وَمَا أَدَّى ثُبُوتُهُ إِلَى نَفْيِهِ لَمْ يَثْبُتْ . فَأَمَّا الْمَهْرُ فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَمَا دُونَ أَخَذَتْهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ كَانَ قَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ، وَكَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَصِيَّةً لَهَا تُعْطَاهَا مِنَ الثُّلُثِ إِنِ احْتَمَلَهَا : لِأَنَّهَا غَيْرُ وَارِثَةٍ ، فَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهَا تَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ وَقْتَ الْعِتْقِ ، وَلَا تَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ وَقْتَ الْمَوْتِ ، نُظِرَ فِي الْوَرَثَةِ . فَإِنْ يُجِيزُوا مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ ، أُعْتِقَ مِنْهَا قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ ، وَيُرَقُّ الْبَاقِي ، وَكَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا . فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا . وَإِنْ دَخَلَ بِهَا كَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهَا ، وَسَقَطَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا رَقَّ . وَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ الْعِتْقَ عَتَقَ جَمِيعُهَا . فَأَمَّا النِّكَاحُ فَعَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ هَلْ هِيَ تَنْفِيذٌ لِلْوَصِيَّةِ أَوِ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ ؟ فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا تَنْفِيذٌ مَا فَعَلَهُ ، كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهَا ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ مِنْهُمْ ، كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا ، فَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهَا تَخْرُجُ مِنَ الثُّلْثِ وَقْتَ الْعِتْقِ وَوَقْتَ الْمَوْتِ ، وَكَانَ الْمَهْرُ إِنْ دُفِعَ نَقَصَ مِنَ الثُّلْثِ عَنْ قِيمَتِهَا ، نُظِرَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَخَلَ بِهَا ، فَلَا مَهْرَ لَهَا وَالْعِتْقُ فِي جَمِيعِهَا نَافِذٌ وَالنِّكَاحُ عَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ جَائِزٌ : لِأَنَّ ثُبُوتَ الْمَهْرِ يُؤَدِّي إِلَى سُقُوطِهِ لِعَجْزِ الثُّلُثِ عَنْ قِيمَتِهَا وَعَجْزِهِ يُؤَدِّي إِلَى رِقِّ بَعْضِهَا وَرِقُّ بَعْضِهَا يُؤَدِّي إِلَى بُطْلَانِ نِكَاحِهَا وَسُقُوطِ مَهْرِهَا ، وَمَا أَدَّى ثُبُوتُهُ إِلَى سُقُوطٍ لَمْ يَثْبُتْ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَقَدِ اسْتَحَقَّتْ بِالدُّخُولِ مَهْرَ الْمِثْلِ ، فَإِنْ أَبْرَأَتْ مِنْهُ اتَّسَعَ الثُّلُثُ لِقِيمَتِهَا ، فَنَفَذَ عِتْقُهَا وَصَحَّ نِكَاحُهَا ، وَإِنْ طَالَبَتْ بِهِ اسْتَحَقَّتْ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا تَحَرَّرَ مِنْ عِتْقِهَا ، وَكَانَ نِكَاحُهَا بَاطِلًا وَسَقَطَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا رَقَّ مِنْهَا وَدَخَلَهُ الدُّوْرُ ، وَسَنَذْكُرُ مِنْ طَرِيقِ الْعَمَلِ مَا يُعْلَمُ بِهِ قَدْرُ مَا تَتَحَرَّرُ مِنَ الْعِتْقِ عَلَى حَقِيقَةٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَنَقُولُ : إِذَا أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ أَمَةً لَهُ قِيمَتُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرَهَا ، وَتَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقٍ ، مِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَمَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسُونَ دِرْهَمًا ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا ، فَإِنْ لَمْ

يَدْخُلُ بِهَا ، فَلَا مَهْرَ لَهَا ، وَعَتَقَ ثُلُثُهَا إِنْ لَمْ يُجِزِ الْوَرَثَةُ عِتْقَ جَمِيعِهَا ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا ، فَإِنْ أَبْرَأَتْ مِنَ الْمَهْرِ عَتَقَ مِنْهَا الثُّلْثُ وَرَقَّ الثُّلْثَانِ ، وَإِنْ طَالَبَتْ بِمَا تَسْتَحِقُّهُ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا دَاخِلَةِ الدُّوْرِ وَبَانَ الْعَمَلُ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ الْخَبَرِ أَنْ يَقُولَ : لِلْأَمَةِ بِالْعِتْقِ شَيْءٌ ، وَلَهَا بِالْمَهْرِ نِصْفُ شَيْءٍ : لِأَنَّ مَهْرَ مِثْلِهَا نِصْفُ قِيمَتِهَا ، وَلِلْوَرَثَةِ شَيْئَانِ مَثَلًا مِمَّا يَخْرُجُ بِالْعِتْقِ ، وَيَصِيرُ الْجَمِيعُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ وَنِصْفَ شَيْءٍ فَأَضْرِبُهَا فِي مَخْرَجِ الْكَسْرِ الَّذِي هُوَ النِّصْفُ ، وَذَلِكَ اثْنَانِ تَكُنْ سَبْعَةَ أَشْيَاءَ لِلْعِتْقِ مِنْهَا سَهْمَانِ سُبْعَاهَا ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ ، وَلِلْمَهْرِ سَهْمٌ هُوَ سُبْعُهَا ، وَقِيمَةُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا ، وَسُبْعَانِ وَذَلِكَ سُبْعَا مَهْرِ مِثْلِهَا ، وَهُوَ قَدْرُ مَهْرِ مَا عَتَقَ مِنْهَا ، وَيَرِقُّ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِهَا وَذَلِكَ بِسَبْعَةٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَسُبْعُ دِرْهَمٍ ، وَهُوَ مَثَلًا مَا عَتَقَ مِنْهَا مَا يُقَالُ لِلْوَرَثَةِ : إِنْ دَفَعْتُمْ قِيمَةَ السُّبْعِ الْمُسْتَحَقِّ فِي الْمَهْرِ صَارَ لَكُمْ خَمْسَةُ أَسْبَاعِهَا ، وَإِنْ لَمْ تَدْفَعُوهُ بِيعَ وَدُفِعَ ثَمَنُهُ إِلَيْهَا .
فَصْلٌ : وَإِذَا أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ أَمَتَهُ قِيمَتُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ وَتَزَوُّجَهَا عَلَى صَدَاقِ مِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَمَهْرُ مَثْلِهَا خَمْسُونَ دِرْهَمًا ، وَمَاتَ وَخَلَّفَ مَعَهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، فَقِيمَتُهَا تَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ فَيَكُونُ النِّكَاحُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْحَدَّادِ ، وَمَنْ تَابَعَهُ - : أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، فَلَا مَهْرَ لَهَا ، وَقَدْ عَتَقَ جَمِيعُهَا ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا ، فَإِنْ أَبْرَأَتْ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا ، عَتَقَ جَمِيعَهَا أَيْضًا ، وَإِنْ لَمْ تَبْرَأْ مِنْهُ وَطَلَبَتْهُ رَقَّ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا عَجَزَ بِهِ الثُّلُثُ عَنْ قِيمَتِهَا بِالْخَارِجِ مِنْ مَهْرِهَا وَبَابُهُ مِنْ طَرِيقِ الْخَبَرِ مَا قَدَّمْنَاهُ . وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَهُ : بِالْعِتْقِ شَيْءٌ وَبِالْمَهْرِ نِصْفُ شَيْءٍ وَلِلْوَرَثَةِ شَيْئَانِ ، وَيَصِيرُ الْجَمِيعُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ وَنِصْفَ شَيْءٍ ، أَخْبَرَ بِهَا فِي مَخْرَجَ النِّصْفِ ، وَهُوَ اثْنَانِ تَكُنْ سَبْعَةَ أَشْيَاءَ ، فَيُعْتِقُ مِنْهَا سَهْمَيْنِ بِسَهْمَيْنِ سُبْعَا التَّرِكَةِ ، وَذَلِكَ سِتَّةُ أَسْبَاعِ رَقَبَتِهَا : لِأَنَّ التَّرِكَةَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَقِيمَتُهَا مِائَةٌ فَتَكُونُ قِيمَةُ سِتَّةِ أَسْبَاعِهَا خَمْسَةً وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةَ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ ، وَيَكُونُ لَهَا مَهْرُ سِتَّةِ أَسْبَاعِهَا اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَسِتَّةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ ، وَيَكُونُ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ التَّرِكَةِ وَهُوَ مِائَةٌ وَوَاحِدٌ وَسَبْعُونَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ ، وَهُوَ قَدْرُ السُّبْعِ الْمَوْقُوفِ مِنْهَا ، وَالْبَاقِي مِنَ التَّرِكَةِ يُعَدُّ مَهْرَهَا : لِأَنَّ قِيمَةَ سُبْعِهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَسُبْعَانِ ، وَالْبَاقِي مِنَ الْمِائَتَيْنِ بَعْدَ الْخَارِجِ مِنْ مَهْرِهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ وَسَبْعَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ - : أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا وَعِتْقُ جَمِيعِهَا نَافِذٌ بِخُرُوجِ جَمِيعِ قِيمَتِهَا مِنَ الثُّلُثِ وَسَقَطَ الْمَهْرُ : لِأَنَّ ثُبُوتَهُ يُؤَدِّي إِلَى سُقُوطِهِ لِنُقْصَانِ الثُّلُثِ بِهِ فَلَمْ يَثْبُتْ ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَإِنْ أَبْرَأَتْ مِنْ مَهْرِهَا نَفَذَ الْعِتْقُ فِي جَمِيعِهَا ، وَإِنْ طَلَبَتْهُ بَطَلَ النِّكَاحُ : لِنُقْصَانِ الثُّلُثِ عَنْ قِيمَتِهَا ، وَحُكِمَ لَهَا بِقَدْرِ مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى : لِأَنَّ بِفَسَادِ النِّكَاحِ يَبْطُلُ الْمُسَمَّى ، وَكَانَ وَجْهُ الْعَمَلِ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ الْخَبَرِ مَا ذَكَرْنَا ، وَالْقَدْرُ الَّذِي يَتَحَرَّرُ مِنْ عِتْقِهَا مَا وَصَفْنَا ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
_____بَابُ اجْتِمَاعِ الْوُلَاةِ وَأَوْلَاهُمْ وَتَفَرُّقِهِمْ وَتَزْوِيجِ الْمَغْلُوبِينَ عَلَى عُقُولِهِمْ وَالصِّبْيَانِ _____

مَسْأَلَةٌ أَقْرَبُ أَوْلِيَاءِ الْمَرْأَةِ إِلَيْهَا وَأَحَقُّهُمْ بِنِكَاحِهَا الْأَبُ

بَابُ اجْتِمَاعِ الْوُلَاةِ وَأَوْلَاهُمْ وَتَفَرُّقِهِمْ ، وَتَزْوِيجِ الْمَغْلُوبِينَ عَلَى عُقُولِهِمْ وَالصِّبْيَانِ مِنَ الْجَامِعِ ، مِنْ كِتَابِ مَا يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ مِنَ النِّكَاحِ الْقَدِيمِ ، وَإِنْكَاحِ أَمَةِ الْمَأْذُونِ لَهُ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ مَعَ الْأَبِ فَإِنْ مَاتَ فَالْجَدُّ ثُمَّ أَبُو الْجَدِّ ثُمَّ أَبُو أَبِي الْجَدِّ كَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّهُمْ أَبٌ فِي الثِّيِّبِ وَالْبِكْرِ سَوَاءٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ أَقْرَبُ أَوْلِيَاءِ الْمَرْأَةِ إِلَيْهَا وَأَحَقُّهُمْ بِنِكَاحِهَا الْأَبُ : لِأَنَّهَا بَعْضُهُ ، وَهِيَ مِنْهُ بِمَثَابَةِ نَفْسِهِ . رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : فَاطِمَةُ بِضْعَةٌ مِنِّي يُرِيبُنِي مَا يُرِيبُهَا . وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [ النِّسَاءِ : 135 ] أَنَّ الْأَنْفُسَ هَاهُنَا الْأَوْلَادُ ، وَلِأَنَّ الْأَبَ أَكْثَرُ الْعَصَبَاتِ شَفَقَةً وَحُبًّا وَأَعَظَمُهُمْ رُفْقَةً وَحُنُوًّا ، وَصَارَ بِهَا أَمَسَّ وَيَطْلُبُ الْحَظَّ لَهَا أَخَصَّ ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْوَلَدُ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ مَجْهَلَةٌ مَحْزَنَةٌ ، وَلِأَنَّ سَائِرَ الْعَصَبَاتِ بِهِ يَدُلُّونَ وَإِلَيْهِ يَنْتَسِبُونَ ، وَالَمُدَلَّى بِهِ أَقْوَى مِنَ الْمُدَلَّى ، وَلِأَنَّهُ يَلِي عَلَى الْمَالِ وَالنِّكَاحِ أَقْوَى مِمَّنْ تَفَرَّدَ بِالْوِلَايَةِ عَلَى النِّكَاحِ ، فَصَارَ الْأَبُ بِهَذِهِ الْمَعَانِي الْأَرْبَعَةِ أَوْلَى بِالْوِلَايَةِ فِي النِّكَاحِ مِنْ سَائِرِ الْعَصَبَةِ .

فَصْلٌ الْجَدُّ أَبُو الْأَبِ أَحَقُّ الْعَصَبَاتِ بِالْوِلَايَةِ بَعْدَ الْأَبِ

فَصْلٌ : فَإِنْ مَاتَ الْأَبُ أَوْ بَطَلَتْ وِلَايَتُهُ بِكُفْرٍ ، أَوْ رِقٍّ ، أَوْ جُنُونٍ ، أَوْ فِسْقٍ ، فَالْجَدُّ أَبُو الْأَبِ أَحَقُّ الْعَصَبَاتِ بِالْوِلَايَةِ بَعْدَ الْأَبِ في النكاح . وَقَالَ مَالِكٌ : الْأَخُ بَعْدَ الْأَبِ أَحَقُّ بِالْوِلَايَةِ مِنَ الْجَدِّ : لِأَنَّ الْأَخَ ابْنُ الْأَبِ ، وَالْجَدُّ أَبُو أَبِي الْأَبِ ، وَالِابْنُ أَقْوَى تَعْصِيبًا مِنَ الْأَبِ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ فِي الْجَدِّ بَعْضِيَّةً لَيْسَتْ فِي الْأَخِ ، فَصَارَ بِهَا مُتَشَابِهًا لِلْأَبِ ، وَلِأَنَّ لِلْجَدِّ وِلَايَةً عَلَى الْمَالِ وَالنِّكَاحِ ، فَكَانَ أَوْلَى مِنَ الْأَخِ الَّذِي تَخْتَصُّ وِلَايَتُهُ بِالنِّكَاحِ ، وَلِأَنَّ الْجَدَّ كَانَتْ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى الْأَبِ ، فَكَانَ بَعْدَهُ أَوْلَى مِنَ الْأَخِ الَّذِي قَدْ كَانَ تَحْتَ وِلَايَةِ الْأَبِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ الْأَخَ ابْنُ الْأَبِ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ أَبِيهِ ، فَفَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ بِابْنِ الْمَرْأَةِ وَأَبِيهَا .

فَصْلٌ الولاية بعد الجد لأبيه ثُمَّ تَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى مَنْ فَوْقَهُ مِنَ الْآبَاءِ

فَصْلٌ : فَإِنْ مَاتَ الْجَدُّ أَوْ بَطَلَتْ وِلَايَتُهُ بِكُفْرٍ ، أَوْ رِقٍّ لمن تكون ولاية النكاح في هذه الحالة ، أَوْ جُنُونٍ ، أَوْ فِسْقٍ ، قَالُوا : فَالْوِلَايَةُ

بَعْدَهُ لِأَبِيهِ ، ثُمَّ تَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى مَنْ فَوْقَهُ مِنَ الْآبَاءِ ، كُلَّمَا عُدِمَ الْأَقْرَبُ ، كَانَتِ الْوِلَايَةُ بَعْدَهُ لِمَنْ هُوَ أَبْعَدُ ، حَتَّى يَنْفَذَ جَمِيعُ الْآبَاءِ ، فَيَكُونُ الْجَدُّ الْأَبْعَدُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْوِلَادَةِ وَالْبَعْضِيَّةِ أَحَقَّ بِالْوِلَايَةِ مِنَ الْأَخِ وَإِنْ قَرُبَ ، وَيَكُونُ حُكْمُ الْأَجْدَادِ وَإِنْ بَعُدُوا فِي إِجْبَارِ الْبِكْرِ وَاسْتِئْمَارِ الثَّيِّبِ كَالْأَبِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا وِلَايَةَ بَعْدَهُمْ لِأَحَدٍ مَعَ الْإِخْوَةِ ، ثُمَّ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ مِنَ الْعَصَبَةِ ( قَالَ الْمُزَنِيُ ) : وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الْإِخْوَةِ ( فَقَالَ ) فِي الْجَدِيدِ : مَنِ انْفَرَدَ فِي دَرَجَةٍ بَأُمٍّ كَانَ أَوْلَى ( وَقَالَ ) فِي الْقَدِيمِ : هُمَا سَوَاءٌ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : قَدْ جَعَلَ الْأَخَ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ أَوْلَى مِنَ الْأَخِ لِلْأَبِ ، وَجَعَلَهُ فِي الْمِيرَاثِ أَوْلَى مِنَ الْأَخِ لِلْأَبِ ، وَجَعَلَهُ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا الَّذِي وَضَعَهُ بِخَطِّهِ ، لَا أَعْلَمُهُ سُمِعَ مِنْهُ إِذَا أَوْصَى لِأَقْرَبِهِمْ بِهِ رَحِمًا أَنَّهُ أَوْلَى مِنَ الْأَخِ لِلْأَبِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : وَقِيَاسُ قَوْلِهِ أَنَّهُ أَوْلَى بِإِنْكَاحِ الْأُخْتِ مِنَ الْأَخِ لِلْأَبِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْوِلَايَةَ فِي النِّكَاحِ تَكُونُ لِلْأَبِ ، ثُمَّ لِمَنْ نَاسَبَ الْأَبَ ، وَلَا يَسْتَحِقُّهَا بِالنَّسَبِ مَنْ لَمْ يَرْجِعْ بِالنَّسَبِ إِلَى الْأَبِ ، فَيَكُونُ الْأَبُ أَصْلًا يَرْجِعُ إِلَيْهِ كُلُّ مَنِ اسْتَحَقَّ الْوِلَايَةَ بِالنَّسَبِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْآبَاءُ مِنْ جُمْلَةِ الْعَصَبَاتِ عَمُودٌ يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ مِنْهُمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ ، وَمَنْ هُمْ مِنَ الْعَصَبَاتِ دُرِجَ مَرْتَبَتُهُ يَخْرُجُ مِنْ كُلِّ دَرَجَةٍ عَمُودٌ ، وَكُلُّ دَرَجَةٍ تَتَقَدَّمُ بِعَمُودِهَا عَلَى مَا بَعْدَهَا ، وَتَتَأَخَّرُ بِعَمُودِهَا قَبْلَهَا ، فَإِذَا انْقَرَضَ عَمُودُ الْآبَاءِ ، كَانَتِ الدَّرَجَةُ الْأُولَى بَنِي الْأَبِ وَهُمُ الْإِخْوَةُ وَعَمُودُهَا بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا ، وَالدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ بَنُو الْجَدِّ وَهُمُ الْأَعْمَامُ وَعَمُودُهَا بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا ، وَالدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ بَنُو أَبِي الْجَدِّ وَهُمْ أَعْمَامُ الْأَبِ وَعَمُودُهَا بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا ، وَكَذَلِكَ بَنُو أَبٍ بَعْدَ أَبٍ ، حَتَّى يَنْقَرِضَ بَنُو جَمِيعِ الْآبَاءِ فَيَصِيرُ أَحَقَّ الْعَصَبَاتِ بِالْوِلَايَةِ بَعْدَ الْأَبَاءِ الْإِخْوَةُ وَبَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا ، ثُمَّ الْأَعْمَامُ وَبَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا ، ثُمَّ أَعْمَامُ الْأَبِ وَبَنُوهُمْ وِإنْ سَفَلُوا ، ثُمَّ أَعْمَامُ الْجَدِّ وَبَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا ، ثُمَّ أَعْمَامُ جَدِّ الْجَدِّ وَبَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا ، كَذَلِكَ أَبَدًا حَتَّى يَنْقَرِضَ بَنُو الْآبَاءِ كُلُّهُمْ فَلَا يَبْقَى بَعْدَهُمْ وَلِيُّ مُنَاسِبٌ ، فَتَنْتَقِلُ حِينَئِذٍ الْوِلَايَةُ عَلَى الْمُنَاسِبِينَ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْمَوَالِي الْمُعْتِقِينَ ، ثُمَّ إِلَى عَصَبَتِهِمْ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، ثُمَّ إِلَى السُّلْطَانِ فَهُوَ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ .

فَصْلٌ أَوَّلُ دَرَجَةٍ تَنْتَقِلُ إِلَيْهَا الْوِلَايَةُ بَعْدَ الْآبَاءِ الْإِخْوَةُ

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي تَرْتِيبِ الْعَصَبَاتِ لِاسْتِحْقَاقِ الْوِلَايَةِ ، فَأَوَّلُ دَرَجَةٍ تَنْتَقِلُ إِلَيْهَا الْوِلَايَةُ بَعْدَ الْآبَاءِ الْإِخْوَةُ ، وَالْإِخْوَةُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : إِخْوَةٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ ، وَإِخْوَةٌ لِأَبٍ ، وَإِخْوَةٌ لِأُمٍّ . فَأَمَّا الْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ فَلَا وِلَايَةَ لَهُمْ سَوَاءً اجْتَمَعُوا مَعَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْعَصَبَاتِ أَوِ انْفَرَدُوا : لِأَنَّهُمْ لَمَّا أُدْلُوْا بِالْأُمِّ وَلَمْ يَرْجِعُوا بِنَسَبِهِمْ إِلَى الْأَبِ خَرَجُوا مِنْ جُمْلَةِ الْعَصَبَاتِ الْمُنَاسِبِينَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ وِلَايَةٌ . وَأَمَّا الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْإِخْوَةُ لِلْأَبِ ، فَلَهُمُ الْوِلَايَةُ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ انْفَرَدَ كَانَ وَلِيًّا ، فَإِنِ انْفَرَدَ الْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ كَانَتِ الْوِلَايَةُ لَهُ ، وَإِنِ انْفَرَدَ الْأَخُ لِلْأَبِ كَانَتِ الْوِلَايَةُ لَهُ ، وَإِنِ اجْتَمَعَا فَفِيهِ قَوْلَانِ :

أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَأَبِي ثَوْرٍ - : أَنَّهُمْ سَوَاءٌ وَلَا يُقَدَّمُ الْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ فِي الْوِلَايَةِ عَلَى النِّكَاحِ وَإِنْ قُدِّمَ عَلَيْهِ فِي الْمِيرَاثِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأُمَّ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ ، فَلَمْ يَتَرَجَّحْ مَنْ أَدْلَى بِهَا : لِأَنَّ الْمُدَلَّى بِهِ أَقْوَى مِنَ الْمُدَلِّي ، وَلَيْسَ كَالْمِيرَاثِ الَّذِي يُقَدَّمُ فِيهِ الْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ : لِأَنَّ لِلْأُمِّ فِي الْمِيرَاثِ مَدْخَلًا ، فَلِذَلِكَ يُرَجَّحُ مَنْ أُدْلَى بِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ وِلَايَةَ النِّكَاحِ تَخْتَصُّ بِهَا الذُّكُورُ ، فَلَمْ يَتَرَجَّحْ فِيهَا مَنْ أَدْلَى بِالْإِنَاثِ كَتَحَمُّلِ الْعَقْلِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي - قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - : أَنَّ الْأَخَ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ أَحَقُّ بِالْوِلَايَةِ مِنَ الْأَخِ لِلْأَبِ في ولاية النكاح لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِدْلَاءَ بِالْأُمِّ كَالتَّقَدُّمِ بِدَرَجَةٍ بِدَلِيلَيْنِ ، أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَخَ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ يَحْجُبُ الْأَخَ لِلْأَبِ ، كَمَا يَحْجُبُ ابْنَ الْأَخِ . وَالثَّانِي : لِلْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ مَعَ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ السُّدُسُ ، كَمَا يَكُونُ لِبِنْتِ الِابْنِ مَعَ بِنْتِ الصُّلْبِ وَإِذَا كَانَ الْإِدْلَاءُ بِالْأُمِّ كَالتَّقَدُّمِ بِدَرَجَةٍ بِهَذَيْنِ الدَّلِيلَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى بِالْوِلَايَةِ ، وَقَدْ عَبَّرَ الْمُزَنِيُّ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ الْمُدْلِيَ بِالْأَبَوَيْنِ أَقْرَبُ مِمَنْ أَدْلَى بِأَحَدِهِمَا اسْتِشْهَادًا بِالْوَصَايَا فِيمَنْ وَصَّى بِثُلُثِ مَالِهِ لِأَقْرَبِ النَّاسِ بِهِ ، وَتَرَكَ أَخَوَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَبٍ وَأُمٍّ ، وَالْآخَرُ لِأَبٍ أَنَّهُ يَكُونُ الْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ اتِّفَاقًا لِاخْتِصَاصِهِ بِالْقُرْبِ ، فَكَذَلِكَ وِلَايَةُ النِّكَاحِ فَهَذَا وَجْهٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْأَخَ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ادْلَاءُهُ بِالسَّبَبَيْنِ وَاشْتِرَاكُهُمَا فِي الرَّحِمَيْنِ أَكْثَرُ إِشْفَاقًا وَحُبًّا مِمَّنْ تَفَرَّدَ بِأَحَدِهِمَا ، فَصَارَ بِمَعْنَى الْوِلَايَةِ أَخَصَّ وَبِطْلَبِ الْحَظِّ فِيهَا أَمَسَّ ، كَمَا كَانَ الْأَبُ لِاخْتِصَاصِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى أَحَقَّ بِهَا مِنْ سَائِرِ الْعَصَبَاتِ وَهَكَذَا الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ فِي أَحَقِّهِمَا بِهَا قَوْلَانِ ، وَهَكَذَا فِي تَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ لِلدَّيَةِ إِذَا كَانَ فِيهَا أَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ ، وَأَخٌ لِأَبٍ قَوْلَانِ ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ عَلَى قَوْلَيْنِ . فَأَمَّا فِي الْمِيرَاثِ ، وَالْوَصِيَّةِ لِلْأَقْرَبِ ، فَالْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ أَحَقُّ مِنَ الْأَخِ لِلْأَبِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ فِي الْأَخَوَيْنِ ، فَهَكَذَا بَنُوهُمَا ، فَيَكُونُ ابْنُ أَخٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَابْنُ أَخٍ لِأَبٍ فِي أَحَقِّهِمَا بِالْوِلَايَةِ قَوْلَانِ ، وَهَكَذَا بَنُو أَبِي الْأَخَوَيْنِ وَإِنْ سَفَلُوا وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الدَّرَجِ ، فَإِنِ اخْتَلَفَ دَرْجُهُمْ قُدِّمَ الْأَقْرَبُ إِنْ كَانَ لِلْأَبِ ، فَيَكُونُ الْأَخُ لِلْأَبِ أَوْلَى مِنَ ابْنِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ، وَكَذَلِكَ مَنْ بَعْدَهُ ، وَهَكَذَا الْأَعْمَامُ وَبَنُوهُمُ الْإِخْوَةُ وَبَنِيهِمْ ، فَالْعَمُّ لِلْأُمِّ لَا وِلَايَةَ لَهُ لِخُرُوجِهِ مِنَ الْعَصَبَاتِ ، وَإِنْ تَفَرَّدَ بِهَا عَمٌّ لِأَبٍ وَأُمٍّ كَانَتِ الْوِلَايَةُ لَهُ ، وَإِنِ اجْتَمَعَا فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ الْقَدِيمُ - : أَنَّهُمَا سَوَاءٌ .

وَالثَّانِي - وَهُوَ الْجَدِيدُ - : أَنَّ الْعَمَّ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ أَوْلَى ، وَهَكَذَا بَنُو هَذَيْنِ الْعَمَّيْنِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ، فَإِنِ اخْتَلَفَ الدَّرَجُ قُدِّمَ الْأَقْرَبُ ، وَإِنْ كَانَ لِأَبٍ فَيَكُونُ الْعَمُّ لِلْأَبِ أَوْلَى مِنَ ابْنِ الْعَمِّ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ، وَهَكَذَا الْكَلَامُ فِي أَعْمَامِ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ وَبَنِيهِمْ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ أَبْنَاءُ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ ، فَفِيهَا قَوْلَانِ كَالْأَخِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْأَخِ مِنَ الْأَبِ . فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُمَا سَوَاءٌ كَانَ أَبْنَاءُ الْعَمِّ سَوَاءً ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَخًا لِأُمٍّ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْأَخَ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ أَوْلَى كَانَ ابْنُ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ أَوْلَى لِفَضْلِ إِدْلَائِهِ بِالْأُمِّ ، فَأَمَّا الْعَمَّانِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا خَالًا فَهُمَا سَوَاءٌ : لِأَنَّ الْخَالَ لَا يَرِثُ فَلَمْ يَتَرَجَّحْ بِهِ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

لَا يُزَوِّجُ الْمَرْأَةَ ابْنُهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَصَبَةً لَهَا

قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَلَا يُزَوِّجُ الْمَرْأَةَ ابْنُهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَصَبَةً لَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : لَا وِلَايَةَ لِلِابْنِ عَلَى أُمِّهِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِالْبُنُوَّةِ . وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَصَاحِبُهُ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ : يَجُوزُ لِلِابْنِ أَنْ يُزَوِّجَ أُمَّهُ ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَرْتِيبِهِ مَعَ الْأَبِ . فَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَإِسْحَاقُ : الِابْنُ أَوْلَى بِنِكَاحِهَا مِنَ الْأَبِ . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : الْأَبُ أَوْلَى ، ثُمَّ الِابْنُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُمَا سَوَاءٌ ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ ، فَأَيُّهُمَا زَوَّجَهَا جَازَ . وَاسْتَدَلُّوا جَمِيعًا عَلَى ثُبُوتِ وِلَايَةِ الِابْنِ في نكاح أمه عَلَيْهَا : بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَطَبَ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لِي وَلِيٌّ حَاضِرٌ ، فَقَالَ مَا لَكِ وَلِيٌّ حَاضِرٌ وَلَا غَائِبٌ لَا يَرْضَانِي . ثُمَّ قَالَ لِابْنِهَا عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ : " قُمْ يَا غُلَامُ فَزَوِّجْ أُمَّكَ " . فَهَذَا نَصٌّ . قَالُوا : وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ زَوَّجَ أُمَّهُ أُمَّ سُلَيْمٍ مِنِ عَمِّهِ أَبِي طَلْحَةَ ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلِأَنَّ ابْنَ الْمَرْأَةِ عَصَبَةٌ لَهَا ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا فِي نِكَاحِهَا كَالْأَبِ ، وَلِأَنَّ تَعْصِيبَ الِابْنِ أَقْوَى مِنْ تَعْصِيبِ الْأَبِ : لِأَنَّهُمَا إِذَا اجْتَمَعَا سَقَطَ بِالِابْنِ تَعْصِيبُ الْأَبِ ، وَصَارَ مَعَهُ ذَا فَرْضٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ أَوْلَى بِتَزْوِيجِهَا مِنَ الْأَبِ ، وَلِأَنَّ الْوَلِيَّ إِنَّمَا يُرَادُ لِحِفْظِ الْمَنْكُوحَةِ مِنْ تَزْوِيجِ مَنْ لَا يُكَافِئُهَا فَيَدْخُلُ الْعَارُ عَلَى أَهْلِهَا ، وَالِابْنُ رَافِعٌ لِلْعَارِ عَنْهَا وَعَنْ نَفْسِهِ مِنْ سَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ لِكَثْرَةِ أَنَفَتِهِ وَعِظَمِ حَمِيَّتِهِ ، فَكَانَ أَحَقَّ بِنِكَاحِهَا . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ كُلَّ نَسَبٍ لَا يَمْلِكُ بِهِ أَبُو الْمُنْتَسِبِ الْوِلَايَةَ لَمْ يَمْلِكْ بِهِ الْمُنْتَسِبَ بِالْوِلَايَةِ كَالْأَخِ مِنَ الْأُمِّ طَرْدًا أَوْ كَالْأَخِ مِنَ الْأَبِ عَكْسًا ، وَلِأَنَّ كُلَّ ذِي نَسَبٍ أَدْلَى بِمَنْ لَا يَمْلِكُ الْإِجْبَارَ عَلَى النِّكَاحِ لَمْ يَكُنْ وَلِيًّا فِي النِّكَاحِ كَابْنِ الْأُخْتِ طَرْدًا ، وَكَابْنِ الْأَخِ عَكْسًا ، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَجْمَعْهُمَا نَسَبٌ لَمْ يَثْبُتْ بَيْنَهُمَا وِلَايَةُ النَّسَبَ كَالِابْنِ مِنَ الرَّضَاعِ . فَإِنْ قِيلَ : فَالِابْنُ مُنَاسِبٌ وَالْمُرْتَضِعُ غَيْرُ مُنَاسِبٍ قِيلَ الِابْنُ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِأُمِّهِ : لِأَنَّ يَرْجِعُ

بِنَسَبِهِ إِلَى أَبِيهِ لَا إِلَيْهَا ، أَلَّا تَرَى أَنَّ ابْنَ الْعَرَبِيَّةِ مِنَ النَّبَطِيِّ نَبَطِيٌّ ، وَابْنَ النَّبَطِيَّةِ مِنَ الْعَرَبِيِّ عَرَبِيٌّ ، وَلِأَنَّ وَلِيَّ الْأُخْتَيْنِ الْمُتَنَاسِبَتَيْنِ وَاحِدٌ وَوِلَايَةُ الْأَخَوَيْنِ الْمُتَنَاسِبَيْنِ وَاحِدَةٌ ، فَلَمَّا لَمْ يَمْلِكِ الِابْنُ تَزْوِيجَ خَالَتِهِ لَمْ يَمْلِكْ تَزْوِيجَ أُمِّهِ ، وَلَمَّا لَمْ يَمْلِكْ أَخُوهُ لِأَبِيهِ تَزْوِيجَ أُمِّهِ لَمْ يَمْلِكْ هُوَ تَزْوِيجَ أُمَّهُ . وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاعْتِلَالِ : قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَنْ لَمْ يَمْلِكْ تَزْوِيجَ امْرَأَةٍ لَمْ يَمْلِكْ تَزْوِيجَ أُخْتِهَا الْمُنَاسِبَةِ لَهَا قِيَاسًا عَلَى ابْنِ الْبِنْتِ طَرْدًا ، وَعَلَى ابْنِ الْعَمِّ عَكْسًا . وَالثَّانِي : أَنَّهَا امْرَأَةٌ لَا يَمْلِكُ أَخُوهُ الْمُنَاسِبُ لَهُ تَزْوِيجَهَا فَلَمْ يَمْلِكْ هُوَ تَزْوِيجَهَا ، كَالْخَالَةِ طَرْدًا وَكَالْعَمَّةِ عَكْسًا ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعِ الْوِلَايَةِ بِالنَّسَبِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْوَلَدِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ لِلْوَلَدِ قِيَاسًا عَلَى وِلَايَةِ الْمَالِ ، وَلِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى نِكَاحِهَا لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ دِلَاؤُهُ بِهَا أَوْ بِأَبِيهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ دِلَاؤُهُ بِأَبِيهِ : لِأَنَّ أَبَاهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْهَا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ دِلَاؤُهُ بِهَا لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهَا عَلَى نَفْسِهَا ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَهَا وِلَايَةٌ لِمَنْ أَدْلَى بِهَا ، وَإِذَا بَطَلَ الْإِدْلَاءُ بِالسَّبَبَيْنِ بَطَلَتِ الْوِلَايَةُ . فَإِنْ قِيلَ : فَغَيْرُ مُنْكَرٍ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ أَدْلَى بِهَا مِنْ وِلَايَةِ النِّكَاحِ مَا لَيْسَ لَهَا كَالْأَبِ يُزَوِّجُ أَمَةَ بِنْتِهِ إِدْلَاءً بِهَا ، وَلَيْسَ لِلْبِنْتِ تَزْوِيجُهَا . قِيلَ : لَمْ يُزَوِّجْهَا الْأَبُ إِدْلَاءً بِالْبِنْتِ لِأَنَّ الْإِدْلَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْأَسْفَلِ إِلَى الْأَعْلَى ، وَلَا يَكُونُ مِنَ الْأَعْلَى بِالْأَسْفَلِ ، وَإِنَّمَا زَوَّجَهَا : لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ وَلِيًّا عَلَى بِنْتِهِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا عَلَى أَمَةِ بِنْتِهِ : لِأَنَّ الْوِلَايَةَ إِذَا أُثْبِتَتْ عَلَى الْأَقْوَى ، فَأَوْلَى أَنْ تَثْبُتَ عَلَى الْأَضْعَفِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَزْوِيجِ أُمِّ سَلَمَةَ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ ابْنَهَا زَوَّجَهَا : لِأَنَّهُ كَانَ مَعَ الْبُنُوَّةِ مُنَاسِبًا لَهَا : لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ ، فَكَانَ مِنْ بَنِي عَمِّهَا يَجْتَمِعَانِ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ . قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : فَكَانَ أَقْرَبَ عَصَبَاتِهَا الْحَاضِرِينَ ، فَزَوَّجَهَا بِتَعْصِيبِ النَّسَبِ لَا بِالْبُنُوَّةِ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قُمْ فَزَوِّجْ أُمَّكَ أَيْ فَجِئْنِي بِمَنْ يُزَوِّجُ أُمَّكَ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لِي وَلِيٌّ حَاضِرٌ فَأَقَرَّهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمَ يَكُنْ وَلِيًّا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ كَانَ غَيْرَ بَالِغٍ ، قِيلَ : إِنَّهُ كَانَ ابْنُ سِتِّ سِنِينَ وَقِيلَ ابْنَ سَبْعِ سِنِينَ ، فَدَلَّ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ بِالتَّزْوِيجِ إِنَّمَا كَانَ أَمْرًا بِإِحْضَارِ مَنْ يَتَوَلَّى التَّزْوِيجَ . وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصٌ فِي مَنَاكِحِهِ بِأَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ فَأَمَرَ ابْنَهَا

بِذَلِكَ : اسْتِطَابَةً لِنَفْسِهِ لَا تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ عَلَى أَنَّ رَاوِيَ هَذَا اللَّفْظِ إِنَّمَا هُوَ ثَابِتٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَثَابِتٌ لَمْ يَلْقَ عُمَرَ فَكَانَ مُنْقَطِعًا . وَأَمَّا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فَكَانَ مِنْ عَصَبَاتِ أُمِّهِ فَزَوَّجْهَا بِتَعْصِيبِ النَّسَبِ لَا بِالْبُنُوَّةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ بِأَنَّهُ عَصَبَةٌ كَالْأَبِ فَهُوَ أَنَّ الِابْنَ عَصَبَةٌ فِي الْمِيرَاثِ لَيْسَ بِعَصَبَةٍ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ : لِأَنَّ وِلَايَةَ النِّكَاحِ يَسْتَحِقُّهَا مَنْ عَلَا مِنَ الْعَصَبَاتِ ، وَالْمِيرَاثُ يَسْتَحِقُّهُ مَنْ عَلَا وَسَفَلَ مِنَ الْعَصَبَاتِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَبِ لَمَّا كَانَ أَبُوهُ - وَهُوَ الْجَدُّ - وَلِيًّا لَهَا كَانَ الْأَبُ وَلِيًّا ، وَلَمَّا كَانَ أَبُو الِابْنِ - وَهُوَ الزَّوْجُ - غَيْرَ وَلِيٍّ لَهَا لَمْ يَكُنِ الِابْنُ وَلِيًّا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ تَعْصِيبَ الِابْنِ أَقْوَى مِنْ تَعْصِيبِ الْأَبِ ، فَهُوَ أَنَّهُ أَقْوَى مِنْهُ فِي الْمِيرَاثِ بِاسْتِحْقَاقِ الْوِلَايَةِ فِي النِّكَاحِ ، لَا فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُعْتَبَرَ قُوَّةُ التَّعْصِيبِ فِي الْمِيرَاثِ : لِأَنَّ الصَّغِيرَ وَالْمَجْنُونَ مِنَ الْأَبْنَاءِ يُسْقِطُ فِي الْمِيرَاثِ تَعْصِيبَ الْآبَاءِ ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ وِلَايَةِ النِّكَاحِ عَنْ حُكْمِ الْأَبِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ أَعْظَمُ حَمِيَّةً وَأَكْثَرُ أَنَفَةً فِي مَنْعِهَا مِنْ غَيْرِ الْأَكْفَاءِ ، فَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي أَبْطَلَ وِلَايَتَهُ بِهِ وَبِهِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ ، فَقَالَ : " لِأَنَّهُ يَرَى نِكَاحَهَا عَارًا " يَعْنِي أَنَّهُ يَدْفَعُ عَنْ تَزْوِيجِهَا وَيَرَاهُ عَارًا ، فَهُوَ لَا يَطْلُبُ الْحَظَّ لَهَا فِي نِكَاحِ كُفْئِهَا ، وَالْوَلِيُّ مَنْدُوبٌ لِطَلَبِ الْحَظِّ لَهَا ، فَلِذَلِكَ خَرَجَ الِابْنُ عَنْ مَعْنَى الْأَوْلِيَاءِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنْ لَيْسَ لِلِابْنِ تَزْوِيجَ أُمِّهِ بِالْبُنُوَّةِ ، فَلَهُ تَزْوِيجُهَا بِأَحَدِ أَرْبَعَةِ أَسْبَابٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ عَصَبَةً لَهَا مِنَ النَّسَبِ بِأَنْ يَكُونَ ابْنَ ابْنِ عَمِّهَا وَلَيْسَ لَهَا مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ فَيُزَوِّجُهَا : لِأَنَّ بُنُوَّتَهُ إِنْ لَمْ تَزِدْهُ قُوَّةً لَمْ تَزِدْهُ ضَعْفًا ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ لَهَا ابْنَا ابْنِ عَمٍّ أَحَدُهُمَا ابْنُهَا ، فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ : هُمَا سَوَاءٌ كَالْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ مَعَ الْأَخِ لِلْأَبِ ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ : ابْنُهَا أَوْلَى لِفَضْلِ إِدْلَائِهِ بِهَا . وَالسَّبَبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُوَالِيًا لَهَا يُزَوِّجُهَا بِوِلَايَةِ الْوَلَاءِ . فَلَوْ كَانَ لَهَا ابْنَا مَوْلًى أَحَدُهُمَا ابْنُهَا فَعَلَى قَوْلَيْنِ كَالْأَخَوَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْآخِرُ لِأَبٍ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ الْقَدِيمُ - : أَنَّهُمَا سَوَاءٌ . وَالثَّانِي - وَهُوَ الْجَدِيدُ - : أَنَّ ابْنَهَا يُفَضَّلُ إِدْلَاؤُهُ بِهَا أَوْلَى . وَالسَّبَبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ ابْنُهَا قَاضِيًا ، وَلَيْسَ لَهَا عَصَبَةٌ مُنَاسِبُ ، فَيَجُوزُ لِابْنِهِا أَنْ يُزَوِّجَهَا بِوِلَايَةِ الْحُكْمِ . وَالسَّبَبُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا لِوَلِيِّهَا الْمُنَاسِبِ ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا نِيَابَةً عَنْهُ كَمَا يُزَوِّجُهَا الْمُسْتَنَابُ مِنَ الْأَجَانِبِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا أَعْتَقَتِ الْمَرْأَةُ أَمَةً لَهَا وَأَرَادَتْ تَزْوِيجَهَا ، وَكَانَ لَهَا أَبٌ وَابْنٌ ، فَأَبَوْهَا أَوْلَى بِتَزْوِيجِ الْمُعَتَقَةِ مِنَ ابْنِهَا ، فَلَوْ مَاتَتِ السَّيِّدَةُ الْمُعْتِقَةُ ، وَخَلَّفَتْ أَبَاهَا وَابْنَهَا فَوَلَاءُ أَمَتِهَا الَّتِي أَعْتَقَتْهَا لِلِابْنِ دُونَ الْأَبِ ، وَفَى حَقِّهِمَا بِنِكَاحِهَا وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَبَ أَوْلَى بِوِلَايَةِ نِكَاحِهَا مِنَ الِابْنِ ، كَمَا كَانَ أَوْلَى بِذَلِكَ فِي حَيَاةِ سَيِّدِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الِابْنَ بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ أَوْلَى بِنِكَاحِ الْمُعَتَقَةِ مِنَ الْأَبِ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بَعْدَ الْمَوْتِ أَمْلَكَ بِالْوَلَاءِ مِنَ الْأَبِ ، فَصَارَ أَمْلَكَ بِوِلَايَةِ النِّكَاحِ مِنَ الْأَبِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا وِلَايَةَ بَعْدَ النَّسَبِ إِلَّا لِلْمُعْتِقِ ثُمَّ أَقْرَبِ النَّاسِ بِعَصَبَةِ مُعْتِقِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِنِكَاحِ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ الْمُنَاسِبُونَ لَهَا مِنَ الْعَصَبَاتِ يَتَرَتَّبُونَ بِالْقُرْبِ إِلَيْهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، فَمَتَى وُجِدَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَإِنْ بَعُدَ ، فَهُوَ أَحَقُّ النَّاسِ بِنِكَاحِهَا ، وَإِنْ عَدِمُوا جَمِيعًا ، قَامَ الْمَوْلَى الْمُعْتِقُ فِي نِكَاحِهَا مَقَامَ الْأَوْلِيَاءِ الْمُنَاسِبِينَ مِنْ عَصَبَتِهَا : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ، وَلِأَنَّ الْمَوْلَى الْمُعْتِقَ قَدْ أَفَادَهَا بِالْعِتْقِ مَا أَفَادَهَا الْأَبُ الْحُرُّ مِنْ زَوَالِ الرِّقِّ حَتَّى صَارَتْ مَالِكَةً وَوَارِثَةً وَمَوْرُوثَةً وَمَعْقُولًا عَنْهَا ، فَاقْتَضَى أَنْ تَحِلَّ مَحَلَّ الْأَبِ وَالْعَصَبَاتِ فِي وِلَايَةِ نِكَاحِهَا ، فَمَتَى وُجِدَ الْمَوْلَى الْمُعْتِقُ بَعْدَ فَقْدِ الْعَصَبَاتِ ، كَانَ أَحَقَّ النَّاسِ بِنِكَاحِهَا ، فَإِنْ عُدِمَ فَعَصَبَةُ الْمَوْلَى يَتَرَتَّبُونَ فِي وِلَايَةِ نِكَاحِهَا عَلَى مِثْلِ مَا يَتَرَتَّبُونَ عَلَيْهِ فِي اسْتِحْقَاقِ وَلَائِهَا وَمِيرَاثِهَا ، فَيَكُونُ ابْنُ الْمَوْلَى ، ثُمَّ بَنَوْهُ أَحَقَّ بِوَلَائِهَا وَوِلَايَةِ نِكَاحِهَا مِنَ الْأَبِ ، ثُمَّ الْأَبُ بَعْدَ الْبَنِينَ وَبَنِيهِمْ ، ثُمَّ فِيمَنْ يَسْتَحِقُّهُ بَعْدَ الْأَبِ مِنْ أَهْلِ الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : الْإِخْوَةُ ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا ، ثُمَّ الْجَدُّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : الْجَدُّ ، ثُمَّ الْإِخْوَةُ ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : الْإِخْوَةُ ، ثُمَّ الْجَدُّ ، ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَةِ ، ثُمَّ فِيمَنْ يَسْتَحِقُّهَا مِنَ الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : الْأَعْمَامُ ، ثُمَّ بَنُوهُمْ ، وَإِنْ سَفَلُوا ، ثُمَّ أَبُو الْجَدِّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَبُو الْجَدِّ ، ثُمَّ الْأَعْمَامِ ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : الْأَعْمَامُ ثُمَّ أَبُو الْجَدِّ ، ثُمَّ بَنُو الْأَعْمَامِ وَإِنْ سَفَلُوا ، ثُمَّ يَتَرَتَّبُونَ فِي الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ وَمَا بَعْدَهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، حَتَّى جَمِيعِ عَصَبَاتِ الْمَوْلَى ، فَإِنْ عُدِمُوا فَمَوْلَى الْمَوْلَى ، ثُمَّ عَصَبَتُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الْمَوَالِي الْمُعْتِقِينَ وَعَصِبَاتِهِمْ أَحَدٌ وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ الْعَادِمَةُ لِلْعَصِبَاتِ حُرَّةً لَا وَلَاءَ عَلَيْهَا ، فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ ، وَهُوَ النَّاظِرُ فِي الْأَحْكَامِ ، فَتَكُونُ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى الْأَرَامِلِ وَالْأَيْتَامِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لِلْمُعَتَقَةِ ابْنٌ وَمَوْلًى اسْتَوَيَا فِي وِلَايَةِ نِكَاحِهَا فَأَيُّهُمَا زَوَّجَهَا جَازَ ، وَلَوْ كَانَ لَهَا مَوَلَيَانِ مُعَتِقَانِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِنِكَاحِهَا حَتَّى يَجْتَمِعَا عَلَيْهِ أَوْ يَأْذَنَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ ، فَإِنْ تَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِنِكَاحِهَا مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْآخَرِ فما حكم نكاحها كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَيُّهُمَا انْفَرَدَ بِنِكَاحِهَا مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ صَحَّ وَأَجْرَاهُمَا مَجْرَى أَخَوِيِ الْحُرَّةِ

وَابْنِيْ مَوْلَى الْمُعَتَقَةِ . وَهَذَا الْجَمْعُ خَطَأٌ : لِظُهُورِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْأَخَوَيْنِ وَابْنَيِ الْمَوْلَى مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ كُلَّ الْوِلَايَةِ وَالْوَلَاءِ لِانْتِقَالِ حَقِّ الْمَيِّتِ مِنْهُمَا إِلَى الْبَاقِي وَلِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُعَتِقِينَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ كُلَّ الْوِلَايَةِ وَالْوَلَاءِ : لِأَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمَا انْتَقَلَ حَقُّهُ إِلَى الْبَاقِي فَمَنَعَ هَذَا الْفَرْقُ مِنْ صِحَّةِ الْجَمِيعِ . فَلَوْ مَاتَ أَحَدُ الْمُعَتِقِينَ وَتَرَكَ اثْنَيْنِ فَزَوَّجَهَا الْمُعْتِقُ الْبَاقِي بِأَحَدِ ابْنِيِ الْمُعْتِقِ الْمَيِّتِ جَازَ ، وَلَوْ زَوَّجَهَا ابْنَا الْمَيِّتِ دُونَ الْمُعَتِقِ الْبَاقِي لَمْ يَجُزْ لِمَا بَيَّنَّا مِنَ التَّعْلِيلِ ، وَلَوْ أَعْتَقَ رَجُلَانِ عَبْدًا أَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدُ أَمَةً وَمَاتَ الْعَبْدُ ولاية النكاح في هذه الحالة لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ مُعَتِقِيهِ تَزْوِيجُ الْأَمَةِ حَتَّى يَجْتَمِعَا عَلَى نِكَاحِهَا : لِأَنَّ الَّذِي يَمْلِكُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْوَلَاءِ ، فَإِنْ تَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِنِكَاحِهَا بَطَلَ ، وَإِنْ عَضَلَ أَحَدُ الْمُعْتِقَيْنَ الْأَمَةَ ، أَوْ غَابَ ، أَوْ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ عَصَبَةً ولاية النكاح في هذه الحالة ، زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ وَالْمُعَتِقُ الْبَاقِي لِيَنُوبَ الْحَاكِمُ عَمَّنْ مَاتَ ، أَوْ عَضَلَ ، فَإِنْ تَفَرَّدَ الْحَاكِمُ بِتَزْوِيجِهَا دُونَ الْمُعَتِقِ أَوْ تَفَرَّدَ بِهِ الْمُعَتِقُ دُونَ الْحَاكِمِ في ولاية النكاح ، كَانَ بَاطِلًا : لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا إِلَّا نِصْفُ الْوِلَايَةِ .

مَسْأَلَةٌ إِنِ اسْتَوَتِ الْوُلَاةُ فَزَوَّجَهَا بَإِذْنِهَا دُونَ أَسَنِّهِمْ وَأَفْضَلِهِمْ كُفُؤًا جَازَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنِ اسْتَوَتِ الْوُلَاةُ فَزَوَّجَهَا بَإِذْنِهَا دُونَ أَسَنِّهِمْ وَأَفْضَلِهِمْ كُفُؤًا جَازَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ جَمَاعَةُ أَوْلِيَاءَ يُسَاوِي الْأَخْوَالَ فِي التَّعْصِيبِ وَالْقُرْبِ كَالْإِخْوَةِ وَبَنِيهِمْ وَالْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ ولاية النكاح في هذه الحالة ، فَإِنَّهُمْ فِي الْوِلَايَةِ سَوَاءٌ : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَوِ انْفَرَدَ بِهَا لَاسْتَحَقَّهَا ، فَإِذَا شَارَكَ غَيْرَهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ ، فَجَعَلَهُمْ عِنْدَ الِاشْتِجَارِ سَوَاءً ، وَلَمْ يَعْدَمْ مِنْهُمْ مَعَ التَّكَافُؤِ أَحَدًا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ مِنْ أَنْ يَتَشَاجَرُوا أَوْ لَا يَتَشَاجَرُوا . فَإِنْ لَمْ يَتَشَاجَرُوا : فَالْأَوْلَى أَنْ يَتَوَلَّى الْعَقْدَ مِنْهُمْ أَفْضَلُهُمْ مَشْيًا وَدِينًا وَعِلْمًا ، أَمَّا الْمَشْيُ فَلِأَنَّهُ أَخْبَرُ بِالْأُمُورِ لِكَثْرَةِ تَجْرِبَتِهِ ، وَأَمَّا الدِّينُ فَإِنَّهُ يُسَارِعُ إِلَى مَا نُدِبَ إِلَيْهِ مِنْ طَلَبِ الْحَظِّ لِوَلِيَّتِهِ ، وَأَمَّا الْعِلْمُ فَلِأَنَّهُ يَعْرِفُ شُرُوطَ الْعَقْدِ فِي صِحَّتِهِ وَفَسَادِهِ ، فَإِذَا تَوَلَّاهُ مَنْ تَكَامَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْأَوْصَافُ كَانَ أَوْلَى وَأَفْضَلَ ، وَإِنْ تَوَلَّاهُ مِنْهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ فَكَانَ أَصْغَرَهُمْ سِنًّا وَأَقَلَّهُمْ عِلْمًا أَوْ دِينًا لَكِنْ كَانَ بَالِغًا عَدْلًا بِالنِّكَاحِ جَازَ : لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ سِوَاهُ لَصَحَّ عَقْدُهُ ، وَلَمْ يَكُنْ لِمَا أَخَلَّ بِهِ مِنْ زِيَادَةِ الْفَضْلِ تَأْثِيرٌ ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَعَ غَيْرِهِ .

فَصْلٌ : فَإِنْ تَشَاجَرُوا ، أَوْ طَلَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِلْعَقْدِ المتساويين في الرتبة في ولاية النكاح ، لَمْ يَتَرَجَّحْ مِنْهُمْ عِنْدَ التَّشَاجُرِ بِالسِّنِّ وَالْعِلْمِ أَحَدٌ ، وَكَانُوا مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءً : لِأَنَّ كُلَّ صِفَةٍ لَمْ تَكُنْ شَرْطًا فِي الْوِلَايَةِ مَعَ الِانْفِرَادِ لَمْ يَتَرَجَّحْ بِهَا أَحَدُهُمْ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ كَالْمُخَالَطَةِ وَالْجِوَارِ طَرْدًا وَكَالْعَدَالَةِ عَكْسًا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ الْإِقْرَاعُ بَيْنَهُمْ لِيَتَمَيَّزَ بِالْقُرْعَةِ أَحَدُهُمْ : لِأَنَّ مَا اشْتَرَكَتِ الْجَمَاعَةُ فِي مُوجِبِهِ وَلَمْ يَكُنِ اشْتِرَاكُهُمْ فِي حُكْمِهِ تَمَيُّزًا فِيهِ بِالْقُرْعَةِ ، كَمَا يُقْرَعُ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الْقِصَاصِ فِيمَنْ يَتَوَلَّاهُ مِنْهُمْ وَبَيْنَ أَوْلِيَاءِ الطِّفْلِ فِيمَنْ يَكْفُلُهُ مِنْ بَيْنِهِمْ ، فَإِذَا قُرِعَ بَيْنَهُمْ كَانَ مَنْ قُرِعَ مِنْهُمْ أَوْلَاهُمْ بِالْعَقْدِ أَوْ يَتَوَلَّاهُ أَوْ أَنْ يَأْذَنَ لِغَيْرِهِ فِيهِ ، وَهَلْ يَصِيرُ أَوْلَى بِهِ اسْتِحْقَاقًا أَوِ اخْتِيَارًا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَصِيرُ أَوْلَى بِهِ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِحْقَاقِ لِتَرَجُّحِهِ بِالْقُرْعَةِ عَلَى مَنْ سِوَاهُ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَذِنَ لِغَيْرِهِ فِيهِ كَانَ نَائِبًا عَنْهُ ، وَإِنْ تَوَلَّاهُ غَيْرُهُ مِنَ الْجَمَاعَةِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ أَوْلَى بِهِ مِنْ طَرِيقِ الِاخْتِيَارِ لِيُكَافِئَ الْجَمَاعَةَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَذِنَ لِغَيْرِهِ فِيهِ ، كَانَ تَارِكًا لِحَقِّهِ وَالْمُتَوَلَّى لَهُ قَائِمٌ فِيهِ بِحَقِّ نَفْسِهِ ، وَإِنْ تَوَلَّاهُ غَيْرُهُ مِنَ الْجَمَاعَةِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَالنِّكَاحِ كَانَ جَائِزًا .

مَسْأَلَةٌ إِنْ كَانَ غَيْرَ كُفُؤٍ لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمْ قَبْلَ إِنْكَاحِهِ فَيَكُونُ حَقًّا لَهُمْ تَرَكُوهُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ كَانَ غَيْرَ كُفُؤٍ لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمْ قَبْلَ إِنْكَاحِهِ فَيَكُونُ حَقًّا لَهُمْ تَرَكُوهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِذَا رَضِيَتِ الْمَرْأَةُ لِنَفْسِهَا رَجُلًا ، وَدَعَتْ أَوْلِيَاءَهَا إِلَى تَزْوِيجِهَا بِهِ ، لَمْ يَخْلُ حَالُ الرَّجُلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ كُفُؤًا لَهَا أَوْ غَيْرَ كُفْءٍ ، فَإِنْ كَانَ كُفُؤًا لَزِمَهُمْ تَزْوِيجُهَا بِهِ ، فَإِنْ قَالُوا : نُرِيدُ مَنْ هُوَ أَكْفَأَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَاكَ : لِأَنَّ طَلَبَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْكَفَاءَةِ خُرُوجٌ عَنِ الشَّرْطِ الْمُعْتَبَرِ إِلَى مَا لَا يَتَنَاهَى فَسَقَطَ ، وَكَانُوا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ عَضْلَةً يُزَوِّجُهَا الْحَاكِمُ دُونَهُمْ . وَإِنْ كَانَ غَيْرَ كُفْءٍ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَمْتَنِعُوا مِنْ تَزْوِيجِهَا : لِئَلَّا يَدْخُلَ عَلَيْهِمُ عَارٌ مُقْضٍ ، فَلَوْ رَضُوا بِهِ إِلَّا وَاحِدٌ ، كَانَ لِلْوَاحِدِ مَنْعُهَا مِنْهُ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ عَارٍ وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ الْمَقْذُوفِ إِذَا أَعْفَوْا عَنِ الْقَاذِفِ إِلَّا وَاحِدٌ كَانَ الْوَاحِدُ أَنْ يَجِدَهُ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ مَعَرَّةِ الْقَذْفِ ، فَلَوْ بَادَرَ أَحَدُ أَوْلِيَائِهَا بِغَيْرِ عِلْمِ الْبَاقِينَ وَرِضَاهُمْ فَزَوَّجَهَا بِهَذَا الَّذِي لَيْسَ كُفْأً لَهَا أولياء المرأة في النكاح ، فَظَاهِرُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا وَفِي كِتَابِ " الْأُمِّ " : أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ : لِأَنَّهُ قَالَ : لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمْ قَبْلَ إِنْكَاحِهِ فَيَكُونُ حَقًّا لَهُمْ ، وَقَالَ فِي كِتَابِ " الْإِمْلَاءِ " : فَإِنْ زَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ كَانَ لَهُمُ الرَّدُّ ، فَظَاهِرُ هَذَا جَوَازُ النِّكَاحِ ، وَلِلْأَوْلِيَاءِ خِيَارُ الْفَسْخِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اخْتِلَافَ الْجَوَابِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ ظَاهِرُ نَصٍّ فِي الْإِمْلَاءِ - : أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ ، وَلِلْأَوْلِيَاءِ خِيَارُ الْفَسْخِ لِأَنَّ عَدَمَ الْكَفَاءَةِ نَقْصٌ يَجْرِي مَجْرَى الْعُيُوبِ فِي النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ تُوجِبُ خِيَارَ الْفَسْخِ مَعَ صِحَّةِ الْعَقْدِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي - وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَفِي كِتَابِ " الْأُمِّ " - : أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ : لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَا يَقَعُ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ ، فَإِذًا لَمْ يَنْعَقِدْ : لِأَنَّ مَا كَانَ بَاطِلٌ ، وَلِأَنَّ غَيْرَ الْكُفْءِ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الْإِذْنُ ، فَكَانَ الْعَقْدُ فِيهِ بَاطِلًا كَمَنْ عُقِدَ عَلَى غَيْرِهِ بَيْعًا أَوْ نِكَاحًا بِغَيْرِ أَمْرِهِ . فَهَذَا أَحَدُ مَذْهَبَيْ أَصْحَابِنَا . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَطَائِفَةٍ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : أَنَّ اخْتِلَافَ الْجَوَابَيْنَ عَلَى اخْتِلَافُ حَالَيْنِ وَلَيْسَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ ، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ نَصُّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ إِطْلَاقِ النِّكَاحِ ، هُوَ إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ الْعَاقِدُ عَالِمًا بِأَنَّ الزَّوْجَ غَيْرُ كُفْءٍ قَبْلَ الْعَقْدِ ، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ نَصُّهُ فِي " الْإِمْلَاءِ " مِنْ جَوَازِ النِّكَاحِ

وَثُبُوتِ خِيَارِ الْفَسْخِ فِيهِ لِبَاقِي الْأَوْلِيَاءِ ، هُوَ إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْوَلِيُّ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ الْعَقْدِ ، وَهَذَا أَصَحُّ الْمَذْهَبَيْنِ وَأَوْلَى الطَّرَفَيْنِ : لِأَنَّهُ مَعَ الْعِلْمِ مُخَالِفٌ وَمَعَ التَّدْلِيسِ مَغْرُورٌ فَجَرَى مَجْرَى الْوَكِيلِ ، وَإِذَا اشْتَرَى لِمُوَكِّلِهِ مَا يَعْلَمُ بِعَيْبِهِ صحة العقد في هذه الحالة لَمْ يَصِحَّ عَقْدُهُ ، وَلَوِ اشْتَرَى لَهُ مَا لَا يَعْلَمُ بِعَيْبِهِ صَحَّ عَقْدُهُ وَثَبَتَ فِيهِ الْخِيَارُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ الْأَقْرَبُ مِنْ أَوْلِيَائِهَا وَاحِدًا فَرِضَى وَرَضِيَتْ بِغَيْرِ كُفْءٍ فَزَوَّجَهَا بِهِ وَأَنْكَرَهُ بَاقِي الْأَوْلِيَاءِ الولاية في النكاح ، فَلَا اعْتِرَاضَ لَهُمْ وَالنِّكَاحُ مَاضٍ : لِأَنَّ الْأَقْرَبَ قَدْ حَجَبَ الْأَبَاعِدَ عَنِ الْوِلَايَةِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمُ اعْتِرَاضٌ كَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ وِلَايَةٌ ، وَلَوْ كَانَ الْأَقْرَبُ هُوَ الْمُمْتَنِعَ وَالْأَبَاعِدُ الرَّاضُونَ ، فَمَنْعُ الْأَقْرَبِ أَوْلَى مِنْ رِضَا الْأَبَاعِدِ وَإِنْ كَثُرُوا : لِأَنَّ حَجْبَهُمْ عَنِ الْوِلَايَةِ لَا يَعْتَبِرُ فِيهِمْ مَنْعًا وَلَا رِضًى .

الْقَوْلُ فِي الْكَفَاءَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ

[ الْقَوْلُ فِي /1 L11281 الْكَفَاءَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ /1 ] قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " وَلَيْسَ نِكَاحُ غَيْرِ الْكُفْءِ بِمُحَرَّمٍ فَأَرُدُّهُ بِكُلِّ حَالٍ ، إِنَّمَا هُوَ تَقْصِيرٌ عَنِ الْمُزَوَّجَةِ وَالْوُلَاةِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا الْكَفَاءَةُ فِي النِّكَاحِ فَمُعْتَبِرَةٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي لُحُوقِ الزَّوْجَةِ وَالْأَوْلِيَاءِ : لِرِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَنْكِحُوا النِّسَاءَ إِلَّا الْأَكْفَاءَ وَلَا يُزَوِّجُهُنَّ إِلَّا الْأَوْلِيَاءُ . وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ وَانْكِحُوا الْأَكْفَاءَ وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ . وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ثَلَاثَةٌ لَا تُؤَخِّرْهَا : الصَّلَاةُ إِذَا أَتَتْ ، وَالْجِنَازَةُ إِذَا حَضَرَتْ ، وَالْأَيِّمُ إِذَا وَجَدَتْ كُفُؤًا " وَلِأَنَّ فِي نِكَاحِ غَيْرِ الْكُفْءِ عَارًا يَدْخُلُ عَلَى الزَّوْجَةِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَعَضَاضَةً تَدْخُلُ عَلَى الْأَوْلَادِ يَتَعَدَّى إِلَيْهِمْ نَقْصًا ، فَكَانَ لَهَا وَلِلْأَوْلِيَاءِ دَفْعُهُ عَنْهُمْ وَعَنْهَا .


الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِ الْكَفَاءَةِ وَالْأَصْلُ فِيهَا وَشَرَائِطُهَا

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِ الْكَفَاءَةِ وَالْأَصْلُ فِيهَا وَشَرَائِطُهَا ] فَإِذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ الْكَفَاءَةِ فَهِيَ الْمُسَاوَاةُ ، مَأْخُوذٌ مَنْ كَفَّتَيِ الْمِيزَانِ لِتَكَافُئِهِمَا ، وَهِيَ مُعْتَبِرَةٌ بِشَرَائِطَ نَذْكُرُهَا .

أَصْلُهَا مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي شُعْبَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ : لِمَالِهَا ، وَحَسَبِهَا ، وَدِينِهَا ، وَجِمَالِهَا ، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ . يُقَالُ : تَرِبَ الرَّجُلُ إِذَا افْتَقَرَ ، وَأَتْرَبَ إِذَا اسْتَغْنَى ، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَرِبَتْ هَاهُنَا بِمَعْنَى اسْتَغْنَتْ ، وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى افْتَقَرَتْ ، فَتَصِيرُ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مَنْ لَمْ يُخَالِفْ لَهُ أَمْرًا ، مَعَ أَنَّ دُعَاءَهُ مَقْرُونٌ بِالْإِجَابَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَعْنَاهُ تَرِبَتْ يَدَاكَ إِنْ لَمْ تَظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ : لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ سُلِبَتِ الْبَرَكَةُ فَافْتَقَرَتْ يَدَاهُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهَا كَلِمَةٌ تَخِفُّ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَرَبِ فِي خَوَاتِيمِ الْكَلَامِ وَلَا يُرِيدُونَ بِهَا دُعَاءً وَلَا ذَمًّا ، كَقَوْلِهِمْ مَا أَشْعَرَهُ قَاتَلَهُ اللَّهُ ، وَمَا أَرْمَاهُ شُلَّتْ يَدَاهُ . فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَالشُّرُوطُ الَّتِي تُعْتَبِرُ بِهَا الْكَفَاءَةُ سَبْعَةٌ وَهِيَ : الدِّينُ من الشروط التي تعتبر بها الكفاءة الدين ، وَالنَّسَبُ من الشروط التي تعتبر بها الكفاءة النسب ، وَالْحُرِّيَّةُ من الشروط التي تعتبر بها الكفاءة الحرية ، وَالْمَكْسَبُ من الشروط التي تعتبر بها الكفاءة المكسب ، وَالْمَالُ من الشروط التي تعتبر بها الكفاءة المال ، وَالْبَشَرُ ، وَالسَّلَامَةُ مِنَ الْعُيُوبِ من الشروط التي تعتبر بها الكفاءة السلامة من العيوب . وَقَالَ مَالِكٌ : الْكَفَاءَةُ مُعْتَبَرَةٌ بِالدِّينِ وَحْدَهُ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : مُعْتَبِرَةٌ بِشَرْطَيْنِ : الدِّينِ وَالنَّسَبِ . وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : هِيَ مُعْتَبِرَةٌ بِثَلَاثِ شَرَائِطَ : الدِّينِ ، وَالنَّسَبِ ، وَالْمَالِ ، وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : هِيَ مُعْتَبِرَةٌ بِأَرْبَعِ شَرَائِطَ : الدِّينِ ، وَالنَّسَبِ ، وَالْمَالِ ، وَالْمَكْسَبِ . الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ . وَنَحْنُ نَدُلُّ عَلَى كُلِّ شَرْطٍ مِنْهَا وَنُبَيِّنُ حُكْمَهُ .

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ فِي الْكَفَاءَةِ وَهُوَ الدِّينُ

[ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ فِي الْكَفَاءَةِ وَهُوَ الدِّينُ ] أَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ الدِّينُ الكفاءة في الزواج فَإِنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِي الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ كَانَ شَرْطًا مُعْتَبَرًا بِالْإِجْمَاعِ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ [ الْحَشْرِ : 20 ] . وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَا بَرِئٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ . وَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الصِّفَاتِ وَالْفُجُورِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الْإِسْلَامِ ، فَعِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ : أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ مُعْتَبَرٍ ، وَعِنْدَ الْجَمَاعَةِ عَنْهُ : أَنَّهُ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :

الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [ النُّورِ : 3 ] . وَقَالَ تَعَالَى : أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ [ السَّجْدَةِ : 18 ] . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ : لَا يَفْرَكُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا خُلُقًا . فَأَمَّا الْمُسْلِمَانِ إِذَا كَانَ أَبَوَا أَحَدِهِمَا مُسْلِمَيْنِ وَأَبَوَا الْأَخِيرِ كَافِرَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَكُونَا كُفْئَيْنِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَكَافُؤَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَكَافَأِ الْآبَاءُ لَمْ يَتَكَافَأِ الْأَبْنَاءُ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ فَضْلَ النَّسَبِ يَتَعَدَّى وَفَضْلَ الدِّينِ لَا يَتَعَدَّى : لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَحْصُلُ لِلْأَبْنَاءِ إِلَّا مِنَ الْآبَاءِ ، فَتَعَدَّى فَضْلُهُ إِلَى الْأَبْنَاءِ ، وَالدِّينُ قَدْ يَحْصُلُ لِلْأَبْنَاءِ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ الْآبَاءِ فَلَمْ يَتَعَدَّ فَضْلُهُ إِلَى الْأَبْنَاءِ .

الشَّرْطُ الثَّانِي وَهُوَ النَّسَبُ

فَصْلٌ : [ الشَّرْطُ الثَّانِي وَهُوَ النَّسَبُ ] فَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي : وَهُوَ " النَّسَبُ " فَمُعْتَبَرٌ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ : لِمَالِهَا ، وَحَسَبِهَا يَعْنِي بِالْحَسَبِ النَّسَبَ . وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِيَّاكُمْ وَخَضْرَاءَ الدِّمَنِ ، قِيلَ : وَمَا خَضْرَاءُ الدِّمَنِ ، قَالَ : ذَلِكَ مَثْلُ الْمَرْأَةِ الْحَسْنَاءِ مِنْ أَصْلٍ خَبِيثٍ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالنَّاسُ يَتَرَتَّبُونَ فِي أَصْلِ الْأَنْسَابِ ثَلَاثَ مَرَاتِبَ : قُرَيْشًا ، ثُمَّ سَائِرَ الْعَرَبِ ، ثُمَّ الْعَجَمَ . فَأَمَّا قُرَيْشٌ فَهِيَ أَشْرَفُ الْأُمَمِ لِمَا خَصَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ رِسَالَتِهِ وَفَضَّلَهُمْ بِهِ مِنْ نُبُوَّتِهِ : وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلَا تَقَدَّمُوهَا ، وَتَعَلَّمُوا مِنْ قُرَيْشٍ وَلَا تُعَلِّمُوهَا فَلَا يُكَافِئُ قُرَيْشِيًّا أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ تَكُونُ قُرَيْشٌ كُلُّهُمْ أَكْفَاءً فِي النِّكَاحِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - : أَنَّ جَمِيعَ قُرَيْشٍ أَكْفَاءٌ فِي النِّكَاحِ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ فَلَمَّا كَانَ جَمِيعُ قُرَيْشٍ فِي الْإِمَامَةِ أَكْفَاءً ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونُوا فِي النِّكَاحِ أَكْفَاءً . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا - : أَنَّ قُرَيْشًا يَتَفَاضَلُونَ بِقُرْبِهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَتَكَافَئُونَ : لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : نَزَلَ عَلَيَّ جِبْرِيلُ ، فَقَالَ

لِي : قَلَّبْتُ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ، فَلَمْ أَرَ أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ ، وَقَلَّبْتُ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ، فَلَمْ أَرَ أَفْضَلَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَلِأَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا شَرُفَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَائِرِ الْعَرَبِ كَانَ أَقْرَبُهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَفَ مِنْ سَائِرِ قُرَيْشٍ ، وَلِأَنَّهُمْ لَمَّا تَرَتَّبُوا فِي الدِّيوَانِ بِالْقُرْبِ حَتَّى صَارُوا فِيهِ عَلَى عَشْرِ مَرَاتِبَ دَلَّ عَلَى تَمْيِيزِهِمْ بِذَلِكَ فِي الْكَفَاءَةِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَجَمِيعُ بَنِي هَاشِمٍ ، وَبَنِي الْمُطَّلِبِ أَكْفَاءٌ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَهُمْ فِي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى ، وَجَمَعَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بَيْنَهُمْ فِي الدِّيوَانِ ، ثُمَّ يَلِيهِمْ سَائِرُ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ ، وَبَنِي زُهْرَةَ ، وَلَا يُفَضَّلُ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ فِي كَفَاءَةِ النِّكَاحِ عَلَى بَنِي نَوْفَلٍ ، وَلَا بَنِي عَبْدِ الْعُزَّى عَلَى بَنِي عَبْدِ الدَّارِ ، وَلَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ عَلَى بَنِي زُهْرَةَ ، وَإِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ فِي وَضْعِ الدِّيوَانِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُشَقُّ اعْتِبَارُهُ فِي كَفَاءَةِ النِّكَاحِ وَلَا يُشَقُّ اعْتِبَارُهُ فِي وَضْعِ الدِّيوَانِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْكَفَاءَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْبُطُونِ الْجَامِعَةِ لَا فِي الْأَفْخَاذِ الْمُتَفَرِّقَةِ : لِأَنَّنَا إِنْ لَمْ نَعُدْ إِلَى بَنِي أَبٍ أَبْعَدَ ، صَارَتِ الْمَنَاكِحُ مَقْصُورَةً عَلَى بَنِي الْأَبِ الْأَقْرَبِ ، فَضَاقَتْ ، ثُمَّ جَمَعْنَا بَيْنَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنِي زُهْرَةَ فِي كَفَاءَةِ النِّكَاحِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا بَطْنًا وَاحِدَةً : لِرِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " صَرِيحُ قُرَيْشٍ ابْنًا كَالْأَبِ " يَعْنِي بَنِي قُصَيٍّ وَبَنِي زُهْرَةَ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجِعُ إِلَى قُصَيٍّ بِأَبِيهِ ، وَإِلَى زُهْرَةَ بِأُمِّهِ ، فَتَقَارَبَا فِي الْكَفَاءَةِ بِأَبَوَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ يَلِي عَبْدَ مَنَافٍ وَبَنِي زُهْرَةَ سَائِرُ قُرَيْشٍ ، فَيَكُونُوا جَمِيعًا أَكْفَاءً . فَلَوْ كَانَ فِيهِمْ بَنُو أَبٍ لَهُ سَابِقَةٌ فِي الْإِسْلَامِ ، فَهَلْ يُكَافِئُهُمُ الْبَاقُونَ مِنْ قَوْمِهِمْ ، كَبَنِي أَبِي بَكْرٍ ؟ هَلْ يُكَافِئُهُمْ قَوْمُهُمْ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ ، وَكَبَنِي عُمَرَ ؟ هَلْ يُكَافِئُهُمْ قَوْمُهُمْ مَنْ بَنِي عَدِيٍّ ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونُوا أَكْفَاءَهُمْ بِجَدَّتِهِمْ قَدْ كَانُوا قَبْلَ الْكَثْرَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى إِنْكَاحِ بَنِيَ أَبَيهِمْ أَكْفَاءً لِعَشَائِرِهِمْ ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْكَثْرَةِ وَالْقُدْرَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَكُونُوا أَكْفَاءَهُمْ لِمَا قَدْ تَمَيَّزُوا بِهِ مِنْ فَضْلِ الشَّرَفِ وَالسَّابِقَةِ وَلَا يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونُوا قَبْلَ الْكَثْرَةِ أَكْفَاءً غَيْرَ مُتَمَيِّزِينَ ، وَبَعْدَ الْكَثْرَةِ مُتَمَيِّزِينَ كَمَا تَمَيَّزَتْ بَنُو هَاشِمٍ بَعْدَ الْكَثْرَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزُوا قَبْلَ الْكَثْرَةِ . ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَوَالِي قُرَيْشٍ هَلْ يَكُونُوا أَكْفَاءً فِي النِّكَاحِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ مِنْ مَوَالِي ذَوِي الْقُرْبَى هَلْ يُشَارِكُونَهُمْ فِي سَهْمِهِمْ مِنَ الْخُمُسِ ؟ فَهَذَا الْكَلَامُ فِي قُرَيْشٍ . فَأَمَّا سَائِرُ الْعَرَبِ سِوَى قُرَيْشٍ فَهُمْ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي قُرَيْشٍ ، فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ أَنْ جَمِيعَهُمْ أَكْفَاءٌ مِنْ عَدْنَانَ وَقَحْطَانَ : لِأَنَّ فِي عَدْنَانَ سَابِقَةَ الْمُهَاجِرِينَ ، وَفِي قَحْطَانَ سَابِقَةَ الْأَنْصَارِ ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ : إِنَّهُمْ يَتَفَاضَلُونَ وَلَا يَتَكَافَئُونَ ، فَتُفَضَّلُ مُضَرُ فِي الْكَفَاءَةِ عَلَى رَبِيعَةَ ، وَيُفَضَّلُ عَدْنَانُ عَلَى قَحْطَانَ : اعْتِبَارًا بِالْقُرْبِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَدْ سَمِعَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَجُلًا يَنْشُدُ : إِنِّي امْرُؤٌ حِمْيَرِيٌّ حِيِنَ تَنَسِبُنِي لَا مِنْ رَبِيعَةَ آبَائِي وَلَا مُضَرَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : ذَاكَ أَهْوَنُ لِقَدْرِكَ وَأَبْعَدُ لَكَ مِنَ اللَّهِ . فَلَوْ تَقَدَّمَتْ قَبِيلَةٌ مِنَ

الْعَرَبِ عَلَى غَيْرِهَا نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِمَأْثَرَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ لِكَثْرَةِ عَدَدٍ كَانُوا وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعَرَبِ أَكْفَاءً ، وَإِنْ كَانَ لِسَابِقَةٍ فِي الْإِسْلَامِ كَانَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمُحْتَمَلَيْنِ ، وَأَمَّا سَائِرُ الْعَجَمِ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ إِنَّ جَمِيعَهُمْ أَكْفَاءٌ لِلْفُرْسِ مِنْهُمْ ، وَالنَّبَطِ ، وَالتُّرْكِ ، وَالْقِبْطِ ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ إِنَّهُمْ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْكَفَاءَةِ ، فَالْفُرْسُ أَفْضَلُ مِنَ النَّبَطِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ كَانَ الدِّينُ مُعَلَّقًا بِالثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ قَوْمٌ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ . وَبَنُو إِسْرَائِيلَ أَفْضَلُ مِنَ الْقِبْطِ الَّذِينَ سَلَفَهُمْ لِكَثْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ لِقَوْمٍ مِنَ الْفُرْسِ شَرَفٌ عَلَى غَيْرِهِمْ ، نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ لِمُلْكٍ قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَوْ مَأْثَرَةٍ تَقَدَّمَتْ لَمْ يَتَقَدَّمُوا بِهِ فِي الْكَفَاءَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ لِسَابِقَةٍ فِي الْإِسْلَامِ احْتَمَلَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْمُحْتَمَلَيْنِ .

الشَّرْطُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ

فَصْلٌ : [ الشَّرْطُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ ] وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ : وَهُوِ الْحُرِّيَّةُ الكفاءة في النكاح فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [ النَّحْلِ : 75 ] . فَمَنَعَ مِنَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ يَعْنِي عَبِيدَهُمْ ، فَجَعَلَ الْعَبِيدَ أَدْنَى مِنَ الْأَحْرَارِ ، وَلِأَنَّ الرِّقَّ يَمْنَعُ مِنَ الْمِلْكِ وَكَمَالِ التَّصَرُّفِ وَيَرْفَعُ الْحَجْرَ لِلسَّيِّدِ ، فَكَانَ النَّقْصُ بِهِ أَعْظَمَ مِنْ نَقْصِ النَّسَبِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْعَبْدُ كُفْءَ الْحُرَّةِ وَلَا الْأَمَةُ كُفْءَ الْحُرِّ ، وَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ الْمُدَبَّرُ ، وَلَا الْمَكَاتَبُ ، وَلَا الْمُعْتَقُ نِصْفُهُ ، وَلَا مِنْ جُزْءٍ مِنَ الرِّقِّ ، وَإِنْ قَلَّ كُفْءَ الْحُرَّةِ وَلَا تَكُونُ الْمُدَبَّرَةُ وَالْمُكَاتَبَةُ وَلَا أُمُّ الْوَلَدِ وَلَا الْمُعْتَقَةُ نِصْفُهَا ، وَلَا مَنْ فِيهَا جُزْءٌ مِنَ الرِّقِّ ، وَإِنْ قَلَّ كُفْءَ الْحُرِّ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ الْعَبْدُ كُفُؤًا لِمَنْ عَتَقَ نِصْفُهَا وَرَقَّ بَعْضُهَا ، أَوْ تَكُونُ الْأَمَةُ كُفُؤًا لِمَنْ عَتَقَ بَعْضُهُ وَرَقَّ بَعْضُهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَكُونُ كُفُؤًا : لِأَنَّ لِبَعْضِ الْحُرِّيَّةِ فَضْلًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تَكُونُ كُفُؤًا : لِأَنَّ مَنْ لَمْ تَكْمُلْ حُرِّيَّتُهُ فَأَحْكَامُ الرِّقِّ عَلَيْهِ أَغْلَبُ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَنْ عَتَقَ بَعْضُهُ كُفُؤًا لِلْحُرِّ تَغْلِيبًا لِلرِّقِّ صَارَ كُفْءَ الْعَبْدِ ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا يَكُونُ مَنْ ثُلُثِهِ حُرٌّ لِمَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ حَتَّى تَسَاوَا مَا فِيهِمَا مِنْ حُرِّيَّةٍ وَرِقٍّ ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونَانِ كُفُؤًا ، وَإِنْ تَفَاضَلَ بَاقِيهُمَا مِنْ حُرِّيَّةٍ وَرِقٍّ ، فَأَمَّا الْمَوْلَى فَإِنْ كَانَ قَدْ جَرَى عَلَيْهِ رِقٌّ قَبْلَ الْعِتْقِ لَمْ يَكُنْ كُفْءَ الْحُرَّةِ الْأَصْلِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَجْرِي عَلَيْهِ رِقٌّ لِكَوْنِهِ ابْنَ عِتْقٍ مِنْ رِقٍّ ، فَهَلْ يَكُونُ كُفْءَ الْحُرَّةِ الْأَصْلِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي مَوَالِي كُلِّ قَبِيلَةٍ هَلْ يَكُونُونَ أَكْفَاءَهَا فِي النِّكَاحِ ، فَإِنْ قِيلَ يَكُونُونَ أَكْفَاءَهَا ، صَارَ الْمَوْلَى كُفُؤًا لِلْحُرَّةِ الْأَصْلِ ، وَإِنْ قِيلَ لَا يَكُونُونَ أَكْفَاءً لَمْ

يَصِرِ الْمَوْلَى كُفُؤًا لِلْحُرَّةِ الْأَصْلِ ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مَوْلَى لِعَرَبِيٍّ وَالْآخَرُ مَوْلَى لِنَبَطِيٍّ ، فَإِنْ قِيلَ مَوْلَى الْقَبِيلَةِ كُفْءٌ لَهَا فِي النِّكَاحِ لَمْ يَكُنْ مَوْلَى النَّبَطِيِّ كُفُؤًا لِمَوْلَى الْعَرَبِيِّ ، وَإِنْ قِيلَ لَا يَكُونُ كُفُؤًا لَهَا كَانَ مَوْلَى النَّبَطِيِّ كُفُؤًا لِمَوْلَى الْعَرَبِيِّ .

الشَّرْطُ الرَّابِعُ وَهُوَ الْكَسْبُ

فَصْلٌ : [ الشَّرْطُ الرَّابِعُ وَهُوَ الْكَسْبُ ] فَأَمَّا الشَّرْطُ الرَّابِعُ - وَهُوَ الْكَسْبُ الكفاءة في النكاح - : فَإِنَّ النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ بِهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ [ النَّحْلِ : 71 ] . فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي قَدْرِ الرِّزْقِ فَبَعْضُهُمْ مُوَسَّعٌ عَلَيْهِ ، وَبَعْضُهُمْ مُضَيَّقٌ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي أَسْبَابِ الرِّزْقِ فَبَعْضُهُمْ يَصِلُ إِلَيْهِ لِعِزٍّ وَدَعَةٍ ، وَبَعْضُهُمْ يَصِلُ إِلَيْهِ بَذْلٌ وَمَشَقَّةٌ ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا [ طَهَ : 124 ] ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ الرِّزْقُ الضَّيِّقُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ الْكَسْبُ الْحَرَامُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ إِنْفَاقُ مَنْ لَا يُوقِنُ بِالْخَلَفِ ، وَالْمَكَاسِبُ تَكُونُ فِي الْعُرْفِ الْمَأْلُوفِ مِنْ أَرْبَعِ جِهَاتٍ : بِالزِّرَاعَاتِ وَالتِّجَارَاتِ ، وَالصِّنَاعَاتِ ، وَالْحِمَايَاتِ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا رُتَبٌ مُتَفَاضِلَةٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُفَضَّلُ بَعْضُهَا عَلَى غَيْرِهِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ وَالْأَزْمَانِ ، وَإِنَّ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ التِّجَارَاتِ ، وَفِي بَعْضِهَا الزِّرَاعَاتِ أَفْضَلُ ، وَفِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ حُمَاةُ الْأَجْنَادِ أَفْضَلُ ، وَفِي بَعْضِهَا أَقَلُّ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُفَضَّلَ بَعْضُهَا فِي عُمُومِ الْبُلْدَانِ وَالْأَزْمَانِ ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِيهَا الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ ، وَالْأَفْضَلُ مِنْهَا فِي الْجُمْلَةِ مَا انْحَفَظَتْ بِهِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ ، أَنْ لَا تَكُونَ مُتَرَذَّلَ الصِّنَاعَةِ كَالْحَائِكِ ، وَلَا مُسْتَخْبَثَ الْكَسْبِ كَالْحَجَّامِ ، وَلَا سَاقِطَ الْمُرُوءَةِ كَالْحَمَّالِ ، وَلَا مُبْتَذَلًا كَالْأَجِيرِ ، فَمَنِ انْحَفَظَتْ عَلَيْهِ فِي مَكَاسِبِهِ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ لَمْ يُكَافِئْهُ فِي النِّكَاحِ مَنْ أَخَلَّ بِهَا مِنْ حَجَّامٍ وَكَنَّاسٍ قَيِّمٍ وَحَائِكٍ ، فَالْعُرْفُ فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ هُوَ الْمُحَكَّمُ .

الشَّرْطُ الْخَامِسُ الْمَالُ

فَصْلٌ : [ الشَّرْطُ الْخَامِسُ : الْمَالُ ] وَأَمَّا الشَّرْطُ الْخَامِسُ : وَهُوَ الْمَالُ الكفاءة في النكاح : فَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ : لِمَالِهَا . وَلِمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ أَحْسَابَ أَهْلِ الدُّنْيَا هَذَا الْمَالُ . وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [ الْعَادِيَّاتِ : 8 ] . يَعْنِي

الْمَالَ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ الَّذِينَ يَتَفَاخَرُونَ وَيَتَكَاثَرُونَ بِالْأَمْوَالِ دُونَ الْأَنْسَابِ ، فَالْمَالُ فِيهِمْ مُعْتَبَرٌ فِي شَرْطِ الْكَفَاءَةِ ، وَإِنْ كَانُوا مِنَ الْبَوَادِي وَعَشَائِرُ الْقُرَى يَتَفَاخَرُونَ وَيَتَكَاثَرُونَ بِالْأَنْسَابِ دُونَ الْأَمْوَالِ ، فَفِي اعْتِبَارِ الْمَالَ فِي شَرْطِ الْكَفَاءَةِ بَيْنَهُمْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ كَأَهْلِ الْأَمْصَارِ ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى أُمُورِ الدُّنْيَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ مُعْتَبَرٍ : لِأَنَّهُ يَزُولُ فَيَفْتَقِرُ الْغَنِيُّ وَيَسْتَغْنِي الْفَقِيرُ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : خَيْرُ النَّاسِ مُؤْمِنٌ فَقِيرٌ يُعْطِي جَهْدَهُ يَعْنِي مُقِلًّا لَيْسَ لَهُ إِلَّا مَا يَزْهَدُ فِيهِ لِقِلَّتِهِ . وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : خَيْرُ أُمَّتَيِ الَّذِينَ لَمْ يُوَسَّعْ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَبْطَرُوا ، وَلَمْ يُقَتَّرْ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَسْأَلُوا ثُمَّ إِذَا جُعِلَ الْمَالُ شَرْطًا فِي الْكَفَاءَةِ لَيْسَ التَّمَاثُلُ فِي قَدْرِهِ مُعْتَبَرًا حَتَّى لَا يَتَكَافَأَ مَنْ مَلَكَ أَلْفَ دِينَارٍ إِلَّا مَنْ مَلَكَ مِثْلَهَا ، وَلَكِنْ أَنْ يَكُونَا مَوْصُوفَيْنِ بِالْغِنَى فَيَصِيرَا كُفُئَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مَالًا ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ أَيْضًا التَّمَاثُلُ فِي أَجْنَاسِ الْمَالِ بَلْ إِذَا كَانَ مَالُ أَحَدِهِمَا دَنَانِيرَ ، وَمَالُ الْآخَرِ عَقَارًا أَوْ عُرُوضًا كَانَا كُفُئَيْنِ .

الشَّرْطُ السَّادِسُ السِّنُّ

فَصْلٌ : [ الشَّرْطُ السَّادِسُ : السِّنُّ ] وَأَمَّا الشَّرْطُ السَّادِسُ : هُوَ السِّنُّ الكفاءة في النكاح مِمَّا لَمْ يَخْتَلِفَا فِي طَرَفَيْهِ ، فَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْكَفَاءَةِ ، فَيَكُونُ الْحَدَثُ كُفُؤًا لِلشَّابِّ وَالشَّابِّ كُفُؤًا لِلْكَاهِلِ ، وَالْكَهْلُ كُفُؤًا لِلشَّيْخِ ، وَلَكِنْ إِذَا اخْتَلَفَا فِي طَرَفَيْهِ فَكَانَ أَحَدُهُمَا فِي أَوَّلِ سِنِّهِ كَالْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ ، وَالْأُخْرَى فِي غَايَةِ سِنِّهِ كَالشَّيْخِ وَالْعَجُوزِ ، فَفِي اعْتِبَارِهِ فِي الْكَفَاءَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ فَلَا يَكُونُ الشَّيْخُ كُفُؤًا لِلطِّفْلَةِ وَلَا الْعَجُوزُ كُفُؤًا لِلطِّفْلِ : لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّنَافِي وَالتَّبَايُنِ ، وَإِنَّ مَعَ غَايَاتِ السِّنَّ تَقِلُّ الرَّغْبَةُ وَيُعْدَمُ الْمَقْصُودُ بِالزَّوْجِيَّةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : غَيْرُ مُعْتَبَرٍ : لِأَنَّهُ قَدْ يَطُولُ عُمُرُ الْكَبِيرِ وَيَقْصُرُ عُمُرُ الصَّغِيرِ ، وَرُبَّمَا قَدَرَ الْكَبِيرُ مِنْ مَقْصُودِ النِّكَاحِ عَلَى مَا يَعْجِزُ عَنْهُ الصَّغِيرُ ، وَلِأَنَّ مَعَ نَقْصِ الْكَبِيرِ فَضْلًا لَا يُوجَدُ فِي الصَّغِيرِ .

الشَّرْطُ السَّابِعُ السَّلَامَةُ مِنَ الْعُيُوبِ

فَصْلٌ : [ الشَّرْطُ السَّابِعُ : السَّلَامَةُ مِنَ الْعُيُوبِ ] فَأَمَّا الشَّرْطُ السَّابِعُ : هُوَ السَّلَامَةُ مِنَ الْعُيُوبِ الكفاءة في النكاح ، فَهِيَ الْعُيُوبُ الَّتِي رَدَّ بِهَا عَقْدُ النِّكَاحِ ، وَهِيَ خَمْسَةٌ تَشْتَرِكُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ مِنْهَا فِي ثَلَاثَةٍ : وَهِيَ الْجُنُونُ ، وَالْجُذَامُ ، وَالْبَرَصُ . وَيَخْتَصُّ الرِّجَالُ مِنْهَا اثْنَتَيْنِ هُمَا : الْجَبُّ وَالْخِصَاءُ ، وَفِي مُقَابَلَتِهِمَا مِنَ النِّسَاءِ الْقَرَنُ

وَالرَّتْقُ ، وَإِنَّمَا اعْتُبِرَتْ هَذِهِ الْعُيُوبُ الْخَمْسَةُ فِي الْكَفَاءَةِ : لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَتْ وُجُودُهَا فَسْخَ النِّكَاحُ الَّذِي لَا يُوجِبُهُ نَقْصُ النِّسَبِ ، فَأَوْلَى أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً فِي الْكَفَاءَةِ كَالنَّسَبِ . فَأَمَّا الْعُيُوبُ الَّتِي لَا تُوجِبُ وَتَنْفِرُ مِنْهَا النَّفْسُ كَالْعَمَى وَالْقَطْعِ ، وَالزَّمَانَةِ ، وَتَشْوِيهِ الصُّورَةِ ، فَفِي اعْتِبَارِهَا فِي الْكَفَاءَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُعْتَبَرُ : لِعَدَمِ تَأْثِيرِهَا فِي عُقُودِ الْمَنَاكِحِ . وَالثَّانِي : يُعْتَبَرُ : لِنُفُورِ النَّفْسِ مِنْهَا وَلِحُصُولِ الْمَعَرَّةِ بِهَا ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ : أَتَزَوَّجْتَ يَا زَيْدُ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : تَزَوَّجْ فَتَسْتَعِفُّ مَعَ عِفَّتِكَ ، وَلَا تَزَوَّجْ مِنَ النِّسَاءِ خَمْسًا ، قَالَ : وَمَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لَا تَزَوَّجْ شَهْبَرَةً وَلَا لَهْبَرَةً وَلَا نَهْبَرَةً وَلَا هَبْدَرَةً وَلَا لَفُوتًا ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : لَا أَعْرِفُ مِمَّا قُلْتَ شَيْئًا . فَقَالَ : أَمَّا الشَّهْبَرَةُ : فَالزَّرْقَاءُ الْبَذِيَّةُ ، وَأَمَّا اللَّهْبَرَةُ : فَالطَّوِيلَةُ الْمَهْزُولَةُ ، وَأَمَّا النَّهْبَرَةُ : فَالْعَجُوزُ الْمُدَبَّرَةُ ، وَأَمَّا الْهَبْدَرَةُ : فَالْقَصِيرَةُ الدَّمِيمَةُ ، وَأَمَّا اللَّفُوتُ : فَذَاتُ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِهَذِهِ الْأَحْوَالِ وَنَظَائِرِهَا أَثَرٌ فِي الْكَفَاءَةِ لَمَا أَمَرَ بِالتَّحَرُّزِ مِنْهَا .

الْقَوْلُ فِيمَا إِذَا تَزَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِيمَا إِذَا /1 L11292 L27438 تَزَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ /1 ] فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ شُرُوطِ الْكَفَاءَةِ وَنَكَحَتِ الْمَرْأَةُ غَيْرَ كُفُءٍ لَمْ يَخْلُ نِكَاحُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ رَضِيَتْهُ الزَّوْجَةُ وَكَرِهَهُ الْأَوْلِيَاءُ ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ اعْتِبَارًا بِحُقُوقِ الْأَوْلِيَاءِ فِيهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَدْ رَضِيَهُ الْأَوْلِيَاءُ وَكَرِهَتْهُ الزَّوْجَةُ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ اعْتِبَارًا لِحَقِّهَا فِيهِ حَتَّى لَا يَعِرَّهَا مَنْ لَا يُكَافِئُهَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ قَدْ رَضِيَتْهُ الزَّوْجَةُ وَالْأَوْلِيَاءُ ، فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ . وَقَالَ مَالِكٌ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمَاجِشُونَ : النِّكَاحُ بَاطِلٌ . وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : يُفْسَخُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا وَلَا يُفَرَّقُ ، وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا تَنْكِحُوا النِّسَاءَ إِلَّا الْأَكْفَاءَ وَلَا يُزَوِّجُهُنَّ إِلَّا الْأَوْلِيَاءُ . فَلَمَّا مَنَعَ مِنْ إِنْكَاحِ غَيْرِ الْكُفْءِ كَمَا مَنَعَ مِنْ نِكَاحِ غَيْرِ الْوَلِيِّ دَلَّ عَلَى بُطْلَانِهِ لِغَيْرِ الْكُفْءِ كَمَا بَطَلَ بِغَيْرِ الْوَلِيِّ : وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " لَا يَمْلِكُ الْإِيضَاحَ إِلَّا الْأَكْفَاءُ " . وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [ النِّسَاءِ آيَةُ : 3 ] وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ زَوَّجَ بَنَاتِهِ وَلَا كُفْءَ لَهُنَّ مِنْ قَرِيبٍ وَلَا بَعِيدٍ : لِأَنَّهُنَّ أَصْلُ الشَّرَفِ ، وَقَدْ زَوَّجَ فَاطِمَةَ بِعَلِيٍّ ، وَزَوَّجَ أُمَّ كُلْثُومٍ وَرُقَيَّةَ بِعُثْمَانَ ، وَزَوَّجَ زَيْنَبَ بِأَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ ، وَقَدْ رُوِيَ

أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ الْمَخْزُومِيَّةِ - وَهِيَ بِنْتُ عَمَّتِهِ ، وَقَدْ خَطَبَهَا مُعَاوِيَةُ وَأَبُو جَهْمٍ - : انْكَحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ ، وَهِيَ مِنْ صَلِيبَةِ قُرَيْشٍ ، فَزَوَّجَ بِنْتَ عَمَّتِهِ بِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، وَهُوَ مَوْلَاهُ ، وَزَوَّجَ أَبَاهُ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ ، وَهِيَ بِنْتُ عَمَّتِهِ أُمَيْمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ . ثُمَّ نَزَلَ عَلَيْهَا بَعْدَهُ ، وَزَوَّجَ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيَّ بِضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبَدِ الْمُطَّلِبِ . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّمَا زَوَّجْتُ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ بِزَيْنَبَ بِنْتِ حَجْشٍ ، وَالْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ ضُبَاعَةَ بِنْتَ الزُّبَيْرِ : لِتَعْلَمُوا أَنَّ أَشْرَفَ الشَّرَفِ الْإِسْلَامُ ، وَقَدْ زَوَّجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِيقُ بِنْتَ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ فَصَارَ سِلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهَمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَهُ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ فَكَرِهَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ ذَلِكَ ، وَلَقِيَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فَشَكَا إِلَيْهِ ، فَقَالَ : سَأَكْفِيكَ ، وَلَقِيَ سَلْمَانَ ، فَقَالَ : هَنِيئًا لَكَ ، إِنْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَزَمَ أَنْ يُزَوِّجَكَ كَرِيمَتَهُ لِيَتَوَاضَعَ بِكَ ، فَقَالَ : إِنِّي مُتَوَاضِعٌ وَاللَّهِ لَا أَتَزَوَّجُهَا . وَلِأَنَّ الْكَفَاءَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ، فَلَمَّا صَحَّ النِّكَاحُ إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ بِامْرَأَةٍ لَا تُكَافِئُهُ صَحَّ النِّكَاحُ إِذَا تَزَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ بِرَجُلٍ لَا يُكَافِئُهَا . فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْخَبَرِ وَالْأَثَرِ فَمَحْمُولَانِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : إِمَّا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْإِيجَابِ ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى نِكَاحِ الْأَبِ لِلْبِكْرِ الَّتِي يُجْبِرُهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ لَيْسَ نَقْصُ الْمَهْرِ نَقْصًا فِي النَّسَبِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَيْسَ نَقْصُ الْمَهْرِ نَقْصًا فِي النَّسَبِ ، وَالْمَهْرُ لَهَا دُونَهُمْ فَهِيَ أَوْلَى بِهِ مِنْهُمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا رَضِيَتِ الْمَرْأَةُ أَنْ تَنْكِحَ نَفْسَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا لَمْ يَكُنْ لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يَعْتَرِضُوا عَلَيْهَا فِيهِ ، وَلَا أَنْ يَمْنَعُوهَا مِنَ النِّكَاحِ لِنَقْصِهِ ، فَإِنْ مَنَعُوهَا صَارَ الْمَانِعُ لَهَا فَاصِلًا وَزَوَّجَهَا الْحَاكِمُ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لِلْأَوْلِيَاءِ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا فِي نَقْصِ الْمَهْرِ وَلَا يَصِيرُوا عَضْلَةً بِمَنْعِهَا مِنْهُ ، وَإِنْ نَكَحَتْ فَلَهُمْ فَسْخُ نِكَاحِهَا إِلَّا أَنْ يُكْمِلَ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدَّوُا الْعَلَائِقَ قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا الْعَلَائِقُ : قَالَ مَا تَرْضَى بِهِ الْأَهْلُونَ فَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ : " أَدَّوُا الْعَلَائِقَ " خِطَابًا لِلْأَزْوَاجِ كَانَ قَوْلُهُ : مَا تَرْضَى بِهِ الْأَهْلُونَ " إِشَارَةً إِلَى الْأَوْلِيَاءِ ، وَلِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يَشْتَمِلُ عَلَى بَدَلَيْنِ ، هُمَا : الْبُضْعُ ، وَالْمَهْرُ ، فَلَمَّا كَانَ لِلْأَوْلِيَاءِ الِاعْتِرَاضُ فِي بُضْعِهَا أَنْ تَضَعَهُ فِي غَيْرِ كُفْءٍ ، كَانَ لَهُمُ الِاعْتِرَاضُ فِي مَهْرِهَا أَنْ يَنْكِحَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ ، وَيَتَحَرَّرَ مِنْهُ قِيَاسَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَحَدُ بَدَلَيْ عَقْدِ النِّكَاحِ ، فَجَازَ لِلْأَوْلِيَاءِ الِاعْتِرَاضُ فِيهِ كَالْبُضْعِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا اعْتَرَضَ بِهِ الْأَوْلِيَاءُ فِي نِكَاحِ الصَّغِيرَةِ اعْتَرَضُوا بِهِ فِي نِكَاحِ الْكَبِيرَةِ كَالْكَفَاءَةِ ، وَلِأَنَّ فِي بَعْضِ الْمَهْرِ عَارًا عَلَى الْأَهْلِ بِجَهْرِهِمْ بِكَثِيرِهِ وَإِخْفَائِهِمْ لِقَلِيلِهِ ، فَصَارَ دُخُولُ الْعَارِ عَلَيْهِمْ فِي نُقْصَانِهِ كَدُخُولِهِ عَلَيْهِمْ فِي نِكَاحِ غَيْرِ كُفْءٍ ، فَكَانَ لَهُمْ رَفْعُ هَذَا الْعَارِ عَنْهُمْ بِالْمَنْعِ مِنْهُ : وَلِأَنَّ فِي نُقْصَانِ مَهْرِهَا ضَرَرًا لَاحِقًا بِنِسَاءِ أَهْلِهَا غَيْرَ اعْتِبَارِ مَهْرِ أَمْثَالِهِنَّ بِهَا ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَاصِمِ بْنِ عَبِيدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ امْرَأَةً تَزَوَّجَتْ عَلَى نَعْلَيْنِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرْضَيْتِ مِنْ نَفْسِكِ وَمَا لِكِ بِهَاتَيْنِ النَّعْلَيْنِ ، قَالَتْ : نَعَمْ ، فَأَجَازَ وَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ اعْتَبَرَ رِضَاهَا بِهِ دُونَ الْأَوْلِيَاءِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ : هَلْ ذَلِكَ مَهْرُ مِثْلِهَا ؟ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ نُقْصَانَ الْمَهْرِ وَرِضَا الْأَوْلِيَاءِ غَيْرُ مُعْتَبَرَيْنِ ، وَلِأَنَّ مَا مَلَكَتِ الْإِبْرَاءَ مِنْهُ مَلَكَتِ تَقْدِيرَهُ كَالْأَثْمَانِ ، وَلِأَنَّ مَا ثَبَتَ لَهَا فِي الْأَثْمَانِ ثَبَتَ لَهَا فِي الْمُهُورِ كَالْإِبْرَاءِ : وَلِأَنَّ ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ عَلَيْهَا فِي بُضْعٍ لَا يُوجِبُ ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ عَلَيْهَا فِي بَدَلٍ . أَصْلُهُ : مَهْرُ أَمْثَالِهَا : وَلِأَنَّ لَهَا مَنْفَعَتَيْنِ : مَنْفَعَةَ اسْتِخْدَامٍ ، وَمَنْفَعَةَ اسْتِمْتَاعٍ ، فَلَمَّا لَمْ يَمْلِكِ الْأَوْلِيَاءُ الِاعْتِرَاضَ عَلَيْهَا فِي الِاسْتِخْدَامِ إِذَا أَجَّرَّتْ نَفْسَهَا بِأَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِهَا ، لَمْ يَمْلِكُوا الِاعْتِرَاضَ فِي الِاسْتِمْتَاعِ إِذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّهُ أَحَدُ الْمَنْفَعَتَيْنِ ، فَلَمْ يَمْلِكْ أَوْلِيَاؤُهَا مَعَ جَوَازِ أَمْرِهَا الِاعْتِرَاضَ عَلَيْهَا فِي بَدَلِهِ كَالْإِجَارَةِ : وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْمَهْرِ قَدْ يَكُونُ تَارَةً عَنِ اخْتِيَارٍ وَمُرَاضَاةٍ ، وَذَلِكَ فِي الْعُقُودِ ، وَتَارَةً عَنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ وَمُرَاضَاةٍ ، وَذَلِكَ فِي إِصَابَةِ الشُّبْهَةِ وَمَا شَاكَلَهُ ، فَلَمَّا مَلَكَتْ بِحَقِيقَةٍ إِذَا وَجَبَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا ، فَأَوْلَى أَنْ تَمْلِكَ بِحَقِيقَةٍ إِذَا وَجَبَ بِاخْتِيَارِهَا : لِأَنَّهُ مَعَ الِاخْتِيَارِ أَخَفُّ وَمَعَ عَدَمِهِ أَغْلَظُ ، وَلِأَنَّهُ يَلْحَقُ الْأَوْلِيَاءَ مِنَ الْعَارِ إِذَا نَكَحَتْ بِأَخَسِّ الْأَمْوَالِ جِنْسًا كَالنَّوَى وَقُشُورِ الرُّمَّانِ أَكْثَرُ مَا يَلْحَقُهُمْ إِذَا نَكَحَتْ بِأَقَلِّ الْمُهُورِ قَدْرًا ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ لِلْأَوْلِيَاءِ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا فِي خِسَّةِ الْجِنْسِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُمُ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا فِي نُقْصَانِ الْقَدْرِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَدَّوُا الْعَلَائِقَ ، فَهُوَ أَنَّهُ أَمَرَ الْأَزْوَاجَ بِأَدَاءِ الْعَلَائِقِ وَقَوْلُهُ : إِنَّ

الْعَلَائِقَ مَا تَرَاضَى بِهِ الْأَهْلُونَ يَعْنِي أَهْلَيِ الْعَلَائِقِ ، وَأَهْلُوهَا هُمُ الزَّوْجَاتُ دُونَ الْأَوْلِيَاءِ ، فَكَانَ الْخَبَرُ دَلِيلًا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ لَا لَهُ . وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْبُضْعِ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ إِنَّمَا مَلَكُوا الِاعْتِرَاضَ فِيهِ لِمَا فِيهِ مِنْ نَقْصِ النِّسَبِ وَدُخُولِ الْعَارِ عَلَى الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ ، وَلَيْسَ فِي تَخْفِيفِ الْمَهْرِ عَارٌ ، كَمَا لَمْ يَكُنْ فِي إِسْقَاطِهِ عَارٌ ، وَهُوَ دَلِيلُ الشَّافِعِيِّ ، وَفِي جَوَابٍ عَنِ اسْتِدْلَالٍ ، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِدُخُولِ الضَّرَرِ عَلَى نِسَاءِ الْعَصَبَاتِ فَلَوْ كَانَ لِهَذَا الْمَعْنَى بِمُسْتَحَقِّ الِاعْتِرَاضِ فِيهِ لَا تَسْتَحِقُّهُ النِّسَاءُ اللَّائِي يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ الضَّرَرُ دُونَ الْأَوْلِيَاءِ وَلَاشْتَرَكَ فِيهِ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِنَّ فِي الْجِنْسِ كَالِاعْتِرَاضِ فِي الْقَدْرِ ، وَكَانَتْ مَمْنُوعَةً مِنَ الزِّيَادَةِ فِيهِ كَمَا مُنِعَتْ مِنَ النُّقْصَانِ مِنْهُ ، فَلَمَّا فَسَدَ الِاعْتِرَاضُ بِهَذِهِ الْمَعَانِي كَانَ بِالنُّقْصَانِ أَفْسَدَ .

مَسْأَلَةٌ لَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ وَثَمَّ أَوْلَى مِنْه

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ وَثَمَّ أَوْلَى مِنْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . قَدْ ذَكَرْنَا بِأَنَّ أَقْرَبَ الْعَصَبَاتِ أَحَقُّ بِالْوِلَايَةِ مِنَ الْأَبْعَدِ ولاية النكاح عَلَى مَا مَضَى مِنَ التَّرْتِيبِ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِذَا كَانَ الْأَبْعَدُ سَيِّدَ الْعَشِيرَةِ كَانَ أَحَقَّ مِنَ الْأَقْرَبِ كَالَّتِي لَهَا عَمٌّ هُوَ سَيِّدُ عَشِيرَتِهِ وَلَهَا إِخْوَةٌ ، فَالْعَمُّ أَحَقُّ بِنِكَاحِهَا مِنَ الْإِخْوَةِ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : " لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ إِلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهَا ، أَوْ ذِي الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا ، أَوِ السُّلْطَانِ " فَحَمْلُ ذِي الرَّأْيِ مُقَدَّمٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ بِفَضْلِ رِئَاسَتِهِ أَقْدَرُ عَلَى تَخَيُّرِ الْأَكْفَاءِ ، وَلِلرَّغْبَةِ فِيهِ تَعْدِلُ إِلَيْهِ الزُّعَمَاءُ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، وَاسْتِحْقَاقُ الْوِلَايَةِ بِالْقُرْبِ أَوْلَى مِنَ اسْتِحْقَاقِهَا بِالرِّئَاسَةِ مَعَ الْبُعْدِ لِأُمُورٍ : مِنْهَا : أَنَّ الرِّئَاسَةَ الْأَبْعَدَ لَمَّا لَمْ يَسْتَحِقُّ بِهَا الْوِلَايَةَ مَعَ الْأَبِ فَكَذَلِكَ مَعَ كُلِّ عَصَبَةٍ هُوَ الْأَقْرَبُ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَقَدَّمُ بِالرِّئَاسَةِ فِي الْوِلَايَةِ عَلَى الْمَالِ لَمْ يَتَقَدَّمْ بِالرِّئَاسَةِ فِي الْوِلَايَةِ عَلَى النِّكَاحِ ، وَلِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّ بِالتَّسْلِيمِ يُؤَثِّرُ فِيهِ الرِّيَاضَةُ كَالْمِيرَاثِ . فَأَمَّا الْأَثَرُ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَهُوَ دَلِيلُنَا : لِأَنَّهُ قَدَّمَ الْوَلِيَّ عَلَى ذِي الرَّأْيِ مِنَ الْأَهْلِ ، وَأَمَّا قُدْرَتُهُ عَلَى تَخَيُّرِ الْأَكْفَاءِ وَمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ مِنْ تَخَيُّرِ الْأَكْفَاءِ ، فَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَزُولُ إِذَا بَاشَرَ عَقْدَهَا مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ .

مَسْأَلَةٌ إِنْ كَانَ أَوْلَاهُمْ بِهَا مَفْقُودًا أَوْ غَائِبًا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : فَإِنْ كَانَ أَوْلَاهُمْ بِهَا مَفْقُودًا أَوْ غَائِبًا ، بَعِيدَةً كَانَتْ غَيْبَتُهُ أَمْ قَرِيبَةً ، زَوَّجَهَا السُّلْطَانُ بَعْدَ أَنْ يَرْضَى الْخَاطِبُ وَيَحْضُرَ أَقْرَبُ وُلَاتِهَا وَأَهْلُ الْحَزْمِ مِنْ أَهْلِهَا غياب الولي الأقرب ، وَيَقُولُ هَلْ تَنْقِمُونَ شَيْئًا ؟ فَإِنْ نَكَرُوهُ نُظِرَ فِيهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ .

إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوِلَايَةَ يَسْتَحِقُّهَا الْأَقْرَبُ دُونَ الْأَبْعَدِ ، فَكَانَ الْأَقْرَبُ مَفْقُودًا أَوْ غَائِبًا ، لَمْ تَنْتَقِلِ الْوِلَايَةُ عَنْهُ إِلَى مَنْ هُوَ أَبْعَدُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ الْأَقْرَبُ مَفْقُودًا انْتَقَلَتِ الْوِلَايَةُ إِلَى مَنْ هُوَ أَبْعَدُ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا مَعْرُوفَ الْمَكَانِ ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْبَتُهُ مُنْقَطِعَةً انْتَقَلَتِ الْوِلَايَةُ إِلَى الْأَبْعَدِ ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُنْقَطِعَةٍ لَمْ تَنْتَقِلْ . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : وَالْغَيْبَةُ الْمُنْقَطِعَةُ مِنَ " الْكُوفَةِ " إِلَى " الرِّقَّةِ " وَغَيْرُ الْمُنْقَطِعَةِ مِنَ " الْكُوفَةِ " إِلَى " بَغْدَادَ " . وَاسْتَدَلَّ عَلَى انْتِقَالِهَا بِالْغِيبَةِ إِلَى الْأَبْعَدِ ، بِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَذَّرُ مِنْهُ تَزْوِيجُهَا بِالْغِيبَةِ ، كَمَا لَا يَتَعَذَّرُ مِنْهُ بِالْجُنُونِ وَالرِّقِّ ، فَلَمَّا انْتَقَلَتْ بِجُنُونِهِ وَرِقِّهِ انْتَقَلَتْ عَنْهُ بِغَيْبَتِهِ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ لَا تَنْتَقِلُ بِغَيْبَةٍ مُنْقَطِعَةٍ ، كَالْوِلَايَةِ عَلَى الْمَالِ ، وَلِأَنَّهَا غَيْبَةٌ لَا يَنْقَطِعُ بِهَا وَلَاءُ الْمَالِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَنْتَقِلَ بِهَا وِلَايَةُ النِّكَاحِ كَالْغَيْبَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مُنْقَطِعَةً ، وَلِأَنَّ الْغَيْبَةَ لَا تُزِيلُ وِلَايَتَهُ : لِأَنَّهُ لَوْ زَوَّجَهَا فِي غَيْبَتِهِ صَحَّ ، وَلَوْ وَكَّلَ فِي تَزْوِيجِهَا جَازَ ، وَإِذَا لَمْ تُزَلْ عَنْهُ لَمْ تُنْقَلْ إِلَى مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ كَالْحَاضِرِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِتَعَذُّرِ النِّكَاحِ مِنْهُ ، فَلَيْسَ تَعَذُّرُهُ مَعَ بَقَاءِ الْوِلَايَةِ يُوجِبُ انْتِقَالَهَا عَنْهُ كَالْعَضْلِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ أَنَّ الْوِلَايَةَ لَا تَنْتَقِلُ عَنْهُ بِالْفَقْدِ وَالْغَيْبَةِ إِلَى مَنْ هُوَ أَبْعَدُ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ مَفْقُودًا أَوْ غَائِبًا ، فَإِنْ كَانَ مَفْقُودًا لَا يُعْرَفُ مَكَانُهُ ، وَلَا يُعْلَمُ خَبَرُهُ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ النَّائِبُ عَنِ الْغَيْبِ فِي حُقُوقِهِمْ ، كَمَا زَوَّجَهَا عَنْهُ إِذَا عَضَلَ . وَإِنْ كَانَ غَائِبًا لَمْ تَخْلُ مَسَافَةُ غَيْبَتِهِ أَنْ تَكُونَ قَرِيبَةً أَوْ بَعِيدَةً : فَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ مَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ : زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِهِ فِيهِ : لِأَنَّ اسْتِئْذَانَهُ مَعَ بُعْدِ الْغَيْبَةِ شَاقٌّ : وَلِأَنَّ طُولَ الزَّمَانِ فِي بُعْدِ الْمَسَافَةِ ، فَفَوَّتَ عَلَى الزَّوْجَةِ حَقَّهَا مِنَ الْعَقْدِ . وَإِنْ كَانَتْ غَيْبَتُهُ قَرِيبَةً وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ مَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ تَزْوِيجِ الْحَاكِمِ لَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ الولي الذي غاب عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُزَوِّجُهَا الْحَاكِمُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لِلْمَعْنَيَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ . وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ : لِأَنَّهُ قَالَ : بَعِيدَةً كَانَتْ غَيْبَتُهُ أَوْ قَرِيبَةً . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ تَزْوِيجُهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ : لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْحَاضِرِ ، إِذْ لَيْسَ لَهُ التَّرَخُّصُ بِأَحْكَامِ السَّفَرِ ، وَتَأَوَّلَ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ أَصْحَابِنَا كَلَامَ الشَّافِعِيِّ " بَعِيدَةً كَانَتْ غَيْبَتُهُ أَمْ قَرِيبَةً " عَلَى قُرْبِ الزَّمَانِ كَقُرْبِ الْمَكَانِ ، كَأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَدْ سَافَرَ مِنْ زَمَانٍ قَرِيبٍ أَوْ مِنْ زَمَانٍ بَعِيدٍ ، وَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ سَفَرُهُ إِلَى مَكَانٍ قَرِيبٍ أَوْ مَكَانٍ بَعِيدٍ .

فَصْلٌ : إِذَا أَرَادَ الْحَاكِمُ تَزْوِيجَهَا بِفَقْدِ الْوَلِيِّ وَغَيْبَتِهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا ، فَقَدِ اخْتَارَ الشَّافِعِيُّ لَهُ إِحْضَارَ أَهْلِهَا مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةٌ كَالْعَصَبَاتِ ، أَوْ لَا وِلَايَةَ لَهُ كَالْأَخْوَالِ : لِيُشَاوِرَهُمْ فِي تَزْوِيجِهَا ،

وَلِيَسْأَلَهُمْ عَنْ كَفَاءَةِ زَوْجِهَا اسْتِطَابَةً لِنُفُوسِهِمْ ، كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُعَيْمًا أَنْ يُشَاوِرَ ابْنَتَهُ ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي الْوِلَايَةِ حَقٌّ ، وَلِأَنَّهُمْ أَعْرَفُ بِحَالِهَا وَحَالِ الزَّوْجِ لِمَكَانِ اخْتِصَاصِهِمْ وَكَثْرَةِ فَرَاغِهِمْ مِنَ الْحَاكِمِ ، فَإِذَا أَحْضَرَهُمُ الْحَاكِمُ لِلْمُشَاوَرَةِ فِي نِكَاحِهَا ، كَانَ مَعَهُمْ فِيهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : أَنْ يَقُولَ لَهُمُ اخْتَارُوا زَوْجًا ، فَإِذَا اخْتَارُوا نَظَرَ الْحَاكِمُ فِي كَفَاءَتِهِ ، فَإِنْ كَانَ كُفُؤًا ، زَوَّجَهَا عَنْ إِذْنِهَا ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ كُفْءٍ ، لَمْ يُزَوِّجْهَا بِهِ وَإِنْ أَذِنَتْ فِيهِ وَرَضِيَهُ أَهْلُهَا : لِأَنَّ لِلْغَائِبِ حَقًّا فِي طَلَبِ الْأَكْفَاءِ لَهَا ، وَبَيْنَ أَنْ يَخْتَارَ الْحَاكِمُ لَهَا كُفُؤًا ثُمَّ يَسْأَلُ الْأَوْلِيَاءَ عَنْهُ بَعْدَ إِذْنِ الزَّوْجَةِ فِيهِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدَحُوا فِي كَفَاءَتِهِ زَوَّجَهَا بِهِ سَوَاءً أَرَادُوهُ أَوْ لَمْ يُرِيدُوهُ ، فَإِنْ قَدَحُوا فِيهِ ، نَظَرَ الْحَاكِمُ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْقَدْحِ ، فَإِنْ كَانَ مَانِعًا مِنَ الْكَفَاءَةِ لَمْ يُزَوِّجْهَا بِهِ وَالْتَمَسَ لَهَا غَيْرَهُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَانِعٍ مِنَ الْكَفَاءَةِ زَوَّجَهَا بِهِ وَإِنْ كَرِهُوهُ : لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ رِضَى الْمَنْكُوحَةِ دُونَهُمْ ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْهُمُ اخْتِيَارُ الْأَكْفَاءِ ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْحَاكِمِ إِذَا تَعَذَّرَ تَزْوِيجُهَا بِمَنْ يَقَعُ عَلَيْهِ الِاخْتِيَارُ أَنْ يَرُدَّ الْعَقْدَ إِلَى الْحَاضِرِ مِنْ أَوْلِيَائِهَا : لِيُكُونَ عَقْدُهُ مُتَّفَقًا عَلَى صِحَّتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَتَفَرَّدَ بِالْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ مُشَاوَرَتِهِمْ جَازَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ عَضَلَهَا الْوَلِيُّ زَوَّجَهَا السُّلْطَانُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ عَضَلَهَا الْوَلِيُّ زَوَّجَهَا السُّلْطَانُ ، وَالْعَضْلُ أَنْ تَدْعُوَ إِلَى مِثْلِهَا فَيَمْتَنِعَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا دَعَتِ الْمَرْأَةُ وَلِيَّهَا إِلَى تَزْوِيجِهَا ، فَعَلَيْهِ إِجَابَتُهَا ، وَهُوَ حَرِجٌ إِنِ امْتَنَعَ قَصْدًا لِلْإِضْرَارِ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ [ الْبَقَرَةِ : 232 ] فَإِنْ عَضَلَهَا لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ فِي دَرَجَتِهِ مِنَ الْعَصَبَاتِ غَيْرُهُ ، أَمْ لَا ، فَإِنْ كَانَ فِي دَرَجَةِ غَيْرِهِ كَأَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ إِخْوَتِهَا ، أَوْ وَاحِدٌ مِنْ بَنِي عَمِّهَا ، عَدَلَتْ عَنْهُ إِلَى مَنْ فِي دَرَجَتِهِ مِنْ إِخْوَتِهَا ، أَوْ بَنِي عَمَّتِهَا ، وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ مَعَهُمْ مَدْخَلٌ إِذَا زَوَّجَهَا غَيْرُ الْعَاضِلِ مَنْ تَسَاوَى بِهِ فِي النَّسَبِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي دَرَجَتِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ أَحَدٌ وَكَانُوا أَبْعَدَ مِنْهُ تَسَاوِيًا عَدَلَتْ عَنِ الْفَاضِلِ إِلَى الْحَاكِمِ وَلَمْ تَعْدِلْ إِلَى الْبَعِيدِ فِي النَّسَبِ : لِأَنَّ عَضْلَهُ لَا يُزِيلُ وِلَايَتَهُ ، وَعَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُحْضِرَهُ ، وَيَسْأَلَهُ عَنْ سَبَبِ عَضْلِهِ ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ الَّذِي دَعَتْ إِلَيْهِ غَيْرَ كُفْءٍ لَمْ يَكُنْ عَاضِلًا : لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ نِكَاحِ غَيْرِ الْكُفْءِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِهِ . وَقَالَ لَهَا : إِنْ أَرَدْتِ زَوْجًا فَالْتَمِسِي غَيْرَهُ مِنَ الْأَكْفَاءِ ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ الَّذِي دَعَتْ إِلَيْهِ الْمَرْأَةُ كُفُؤًا وَكَانَ امْتِنَاعُ الْوَلِيِّ لِكَرَاهَتِهِ وَبُغْضِهِ لَا لِعَدَمِ كَفَائَتِهِ ، صَارَ الْوَلِيُّ حِينَئِذٍ عَاضِلًا . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَالْعَضْلُ أَنْ تَدْعُوَ إِلَى مِثْلِهَا فَيَمْتَنِعُ " فَحِينَئِذٍ يَأْمُرُهُ الْحَاكِمُ بِتَزْوِيجِهَا ، وَلَا يَتَوَلَّاهُ الْحَاكِمُ مَا لَمْ يَتِمَّ الْوَلِيُّ عَلَى الِامْتِنَاعِ ، فَإِذَا أَجَابَ وَزَوَّجَ بَعْدَ الِامْتِنَاعِ ، زَالَتْ يَدُ الْحَاكِمِ عَنِ الْعَقْدِ ، وَإِنْ أَقَامَ عَلَى الِامْتِنَاعِ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ حِينَئِذٍ عَنْهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَإِنِ اشْتَجَرُوا - أَوْ قَالَ : اخْتَلَفُوا - فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ وَلِأَنَّ تَزْوِيجَهَا حَقٌّ عَلَى وَلِيِّهَا وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ فَامْتَنَعَ مِنْهُ ، أَخَذَهُ الْحَاكِمُ بِهِ جَبْرًا ، فَقَامَ مَقَامَهُ فِي أَدَائِهِ كَقَضَاءِ الدُّيُونِ مِنْ مَالِهِ .

مَسْأَلَةٌ وَكِيلُ الْوَلِيِّ يَقُومُ مَقَامَهُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَوَكِيلُ الْوَلِيِّ يَقُومُ مَقَامَهُ ، فَإِنْ زَوَّجَهَا غَيْرَ كُفْءٍ لَمْ يَجُزْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : الْوَكَالَةُ فِي التَّزْوِيجِ جَائِزَةٌ . وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : لَا يَجُوزُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْوَلِيَّ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْضَى بِالْوِلَايَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهَا : وَلِأَنَّ الْوَلِيَّ نَائِبٌ فَلَمْ يَكُنْ أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ كَالْوَكِيلِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُوكِّلَ غَيْرَهُ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ لَهُ : أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ وَإِذْنُ الْوَلِيِّ إِنَّمَا صَحَّ فِي الْوَكَالَةِ لَا لِلْمَنْكُوحَةِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَّلَّ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمَرِيَّ فِي تَزْوِيجِ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ فَأَصْدَقَهَا النَّجَاشِيُّ عَنْهُ أَرْبَعَمِائَةَ دِينَارٍ : فَجَعَلَ عَبْدُ الْمَلِكَ بْنُ مَرْوَانَ ذَلِكَ حَدَّ الصَّدَاقِ لِلشَّرِيفَاتِ مِنْ قَوْمِهُ ، وَوَكَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا رَافِعٍ فِي تَزْوِيجِ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةِ بِمَكَّةَ سَنَةَ سَبْعٍ ، فَرَدَّتْ أَمْرَهَا إِلَى الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَزَوَّجَهَا بِهِ ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ زَوْجَ أُخْتِهَا أُمِّ الْفَضْلِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنَّ تَعْقِدَ عَلَى نَفْسِهَا : لِأَنَّهَا رَدَّتْ أَمْرَهَا إِلَى الْعَبَّاسِ وَلَمْ يَكُنْ وَلِيًّا لَهَا ، فَعَنْ هَذَا أَرْبَعَةُ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ فِي عُقُودِ الْمَنَاكِحِ وَاشْتِرَاطِ الْوَلِيِّ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَزْوِيجُهُ لَهَا بِأَنْ كَانَ سَفِيرًا فِي الْعَقْدِ وَمُشِيرًا . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَلَيُّهَا رَدَّ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَزَوَّجَهَا . وَالرَّابِعُ - قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا - : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصٌ أَنْ يَنْكِحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ . وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ يُقْصَدُ فِيهِ الْمُعَاوَضَةُ ، فَصَحَّتْ فِيهِ الْوَكَالَةُ كَالْبُيُوعِ ، فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِهِ فَإِنَّهَا لَمْ تَصِحَّ لِانْقِطَاعِ وِلَايَتِهِ بِمَوْتِهِ ، فَصَارَ مُوجَبًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، وَهُوَ فِي الْوَكَالَةِ مُوَكِّلٌ مَعَ بَقَاءِ حَقِّهِ فَصَحَّتْ وَكَالَتُهُ ، وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ وَصِيتُهُ ، وَأَمَّا الْوَكِيلُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُوَكِّلَ : لِأَنَّهُ مُسْتَنَابٌ بِعَقْدٍ ، وَالْوَلِيُّ يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ : لِأَنَّهُ مَالِكٌ بِالشَّرْعِ فَافْتَرَقَا .

فَصْلٌ إِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ الْوَكَالَةِ فِي النِّكَاحِ جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ الْوَلِيَّ وَالزَّوْجَ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُوكِّلَ الزَّوْجَةَ

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ الْوَكَالَةِ فِي النِّكَاحِ جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ الْوَلِيَّ وَالزَّوْجَ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُوكِّلَ الزَّوْجَةَ : لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلزَّوْجَةِ فِي مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهَا التَّوْكِيلُ فِيهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَحُكْمُ الْوَكَالَةِ فِيهِ يَتَعَلُّقُ بِفَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي تَوْكِيلِ الْوَلِيِّ . وَالثَّانِي : فِي تَوْكِيلِ الزَّوْجِ . فَأَمَّا تَوْكِيلُ الْوَلِيِّ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ إِلَّا مَنْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا فِيهِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا بَالِغًا عَاقِلًا حُرًّا مُسْلِمًا رَشِيدًا ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافُ السِّتَّةُ صَحَّ تَوْكِيلُهُ ، كَمَا تَصِحُّ

وِلَايَتُهُ ، وَإِنْ أَخَلَّ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ فَوَكَّلَ امْرَأَةً ، أَوْ صَغِيرًا ، أَوْ مَجْنُونًا ، أَوْ عَبْدًا ، أَوْ كَافِرًا ، أَوْ سَفِيهًا لَمْ يَجُزْ وَكَانَتِ الْوَكَالَةُ بَاطِلَةً ، فَإِنْ عَقَدَ بِهَا كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا ، فَإِذَا تَكَامَلَتْ فِي الْوَكِيلِ هَذِهِ الشُّرُوطُ السِّتُّ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْوَلِيِّ الْمُوَكِّلِ لَهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُجْبِرُ عَلَى النِّكَاحِ كَالْأَبِ وَالْجَدِّ مَعَ الْبِكْرِ ، أَوْ مِمَّنْ لَا يُجْبِرُ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ مَعَ الثَّيِّبِ ، أَوْ كَغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ مَعَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ ، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ مِمَّنْ يُجْبِرُ عَلَى النِّكَاحِ كَالْأَبِ وَالْجَدِّ مَعَ الْبِكْرِ ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُوكِّلَ بِإِذْنِهَا وَغَيْرِ إِذْنِهَا ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ تَزْوِيجُهَا بِإِذْنِهَا وَغَيْرِ إِذْنِهَا ، لَكِنْ هَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يُعَيِّنَ لِوَكِيلِهِ عَلَى الزَّوْجِ أَوْ يَرُدَّهُ إِلَى اخْتِيَارِهِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى اخْتِيَارِهِ : لِأَنَّهُ قَدْ أَقَامَهُ بِالتَّوْكِيلِ مَقَامَ نَفْسِهِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ التَّعْيِينُ كَالتَّوْكِيلِ فِي الْأَمْوَالِ ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَخْتَارَ لَهَا كُفُؤًا ، وَالْأَوْلَى بِهِ إِذَا أَرَادَ تَزْوِيجَهَا بِمَنْ قَدِ اخْتَارَهُ لَهَا أَنْ يَسْتَأْذِنَهَا فِيهِ ، وَإِذْنُهَا مَعَهُ الصَّمْتُ كَإِذْنِهَا مَعَ الْأَبِ ، فَإِنْ زَوَّجَهَا بِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِهِ صَحَّ النِّكَاحُ كَالْأَبِ إِذَا زَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنٍ ، فَلَوْ أَنَّ الْوَلِيَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ عَيَّنَ لِوَكِيلِهِ عَلَى الزَّوْجِ سَقَطَ اخْتِيَارُ الْوَكِيلِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ مَنْ عُيِّنَ لَهُ عَلَيْهِ كَالْوَكِيلِ فِي الشِّرَاءِ إِذَا عُيِّنَ عَلَى مَا يَشْتَرِيهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يُعَيِّنَ لِوَكِيلِهِ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ عَلَى الزَّوْجِ الَّذِي زَوَّجَهَا بِهِ ، وَلَا يَرُدَّ ذَلِكَ إِلَى خِيَارِهِ : لِأَنَّ مَعْنَى الْوَلِيِّ فِي لُحُوقِ عَارِهَا مَعْقُودٌ فِي وَكِيلِهِ ، فَلَمْ يَقُمِ اخْتِيَارُ الْوَكِيلِ مَقَامَ اخْتِيَارِهِ ، وَفَارَقَ التَّوْكِيلَ فِي الْأَمْوَالِ الَّتِي لَا يُرَاعَى فِي اخْتِيَارِهَا لُحَوْقُ الْعَارِ . فَعَلَى هَذَا مَتَى زَوَّجَهَا الْوَكِيلُ بِكُفْءٍ وَغَيْرِ كُفُءٍ ، كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا لِفَسَادِ الْوَكَالَةِ ، فَلَوْ عُيِّنَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِأَحَدِ رَجُلَيْنِ ، نَظَرَ : فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ قَدِ اخْتَارَهُمَا وَرَدَّ الْعَقْدَ عَلَى أَحَدِهِمَا إِلَى خِيَارِ وَكَيْلِهِ جَازَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْوَلِيِّ اخْتِيَارٌ بَلْ رَدَّ ذَلِكَ إِلَى اخْتِيَارِ وَكِيلِهِ وَخِيَارِهِ ، ثُمَّ الِاعْتِبَارُ بِأَنْ لَا يَكُونَ لِلْوَلِيِّ خِيَارٌ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ الْوَلِيُّ مِمَّنْ لَا يُجْبِرُ عَلَى النِّكَاحِ ، فَهَلْ يَلْزَمُ اسْتِئْذَانُهَا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ أَمْ لَا ؟ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَوْكِيلُهُ إِلَّا بِإِذْنِهَا : لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهَا ، وَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ الَّذِي لَا يَجُوزُ لَهُ أَنَّ يُوَكِّلَ فِيمَا هُوَ وُكِّلَ فِيهِ إِلَّا عَنْ إِذْنِ مُوَكِّلِهِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهَا الْوَلِيُّ فِي تَوْكِيلِهِ ، فَزَوَّجَهَا الْوَكِيلُ بِإِذْنِهَا أَوْ غَيْرِ إِذْنِهَا ، كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا لِفَسَادِ الْوَكَالَةِ ، وَلَوِ اسْتَأْذَنَهَا الْوَلِيُّ فِيهِ بَعْدَ عَقْدِ الْوَكَالَةِ لَمْ تَصِحَّ الْوَكَالَةُ حَتَّى يَسْتَأْذِنَهَا الْوَلِيُّ بَعْدَ إِذْنِهَا فِي تَوْكِيلِهِ ، فَإِذَا وَكَّلَهُ بَعْدَ إِذْنِهَا وَكَانَ وَكِيلًا لَهُمَا جَمِيعًا ، فَإِنْ رَجَعَتْ فِي تَوْكِيلِهِ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَزُولَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - : الْوَكَالَةُ جَائِزَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهَا الْوَلِيُّ فِي عَقْدِهَا : لِأَنَّهُ مُوَكَّلٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ بِالشَّرْعِ لَا بِالِاسْتِنَابَةِ ، فَأَشْبَهَ الْأَبَ وَخَالَفَ الْوَكِيلَ الْمُسْتَنَابَ ، فَعَلَى هَذَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنِ الْمَرْأَةَ فِي عَقْدِهَا وَيَكُونُ هُوَ وَكِيلًا

لِلْوَلِيِّ وَحْدَهُ ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ مَنْعُهَا ، لَكِنْ لَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُزَوِّجَهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا ، كَمَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِوَلِيِّهَا الْمُوَكِّلِ ، فَإِنْ زَوَّجَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا وكيل الولي كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا ، سَوَاءً زَوَّجَهَا بِكُفْءٍ أَوْ غَيْرِ كُفْءٍ ، وَلَوْ زَوَّجَهَا الْوَكِيلُ بِإِذْنِهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا ، سَوَاءً أَجَازَهُ الْوَلِيُّ أَوْ لَمَ يُجِزْهُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا تَوْكِيلُ الزَّوْجِ في النكاح : شروطه ، وَإِنْ كَانَ فِي تَزْوِيجِ امْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا ، جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ كُلَّ مَنْ صَحَّ مِنْهُ قَبُولُ النِّكَاحِ فِي نَفْسِهِ ، وَهُوَ مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ : أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا بَالِغًا عَاقِلًا ، وَسَوَاءً كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا ، رَشِيدًا أَوْ سَفِيهًا : لِأَنَّ الْعَبْدَ وَالسَّفِيهَ يَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَا عَقْدَ النِّكَاحِ لِأَنْفُسِهِمَا ، فَصَحَّ أَنْ يَقْبَلَاهُ لِغَيْرِهِمَا ، فَأَمَّا تَوْكِيلُ الْمَرْأَةِ ، وَالصَّبِيِّ ، وَالْمَجْنُونِ ، فَلَا يَصِحُّ : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُمْ قَبُولُهُ لِأَنْفُسِهِمْ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُمْ قَبُولُهُمْ لِغَيْرِهِمْ . فَأَمَّا إِنْ كَانَ تَوْكِيلُ الزَّوْجِ فِي تَزْوِيجِ امْرَأَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ لِيَخْتَارَ الْوَكِيلُ ، فَهَلْ يَلْزَمُ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَى الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ فِي الْوَكِيلِ أَنْ يَكُونَ رَشِيدًا غَيْرَ مُوْلًى عَلَيْهِ بِسَفَهٍ أَمْ لَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ رَشِيدًا يَقْبَلُ نِكَاحَ نَفْسِهِ ، فَإِنْ كَانَ سَفِيهًا لَمْ يَجُزْ لِقُصُورِهِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي نِكَاحِ نَفْسِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ رَشِيدًا : لِأَنَّهُ يَقْبَلُهُ عَنْ إِذْنٍ ، وَ يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَقْبَلَ نِكَاحَ نَفْسِهِ عَنْ إِذْنِ وَلِيِّهِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : إِنْ عَيَّنَ لِوَكِيلِهِ عَلَى الْقَبِيلَةِ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ عَلَى الْمَنْكُوحَةِ ، جَازَ أَنْ يَكُونَ وَكَيْلُهُ فِيهِ سَفِيهًا ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ عَلَى الْقَبِيلَةِ وَلَا عَلَى الْمَنْكُوحَةِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ فِيهِ إِلَّا رَشِيدًا . وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْأَوْجُهِ فِي إِذْنِ وَلِيِّهِ أَنْ يَعْقِدَ لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ وَلِيُّ الْكَافِرَةِ كَافِرٌ وَلَا يَكُونُ الْمُسْلِمُ وَلِيًّا لِكَافِرَةٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَوَلِيُّ الْكَافِرَةِ كَافِرٌ ، وَلَا يَكُونُ الْمُسْلِمُ وَلِيًّا لِكَافِرَةٍ : لِقَطْعِ اللَّهِ الْوِلَايَةَ بَيْنَهُمَا بِالدِّينِ ، إِلَّا عَلَى أَمَتِهِ ، وَإِنَّمَا صَارَ ذَلِكَ لَهُ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَهُ ، تَزَوَّجَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ حَبِيبَةَ وَوَلَّى عُقْدَةَ نِكَاحِهَا ابْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَهُوَ مُسْلِمٌ وَأَبُو سُفْيَانَ حَيٌ وَكَانَ وَكِيلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو ابْنَ أُمَيَّةَ الضَّمَرِيُّ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) لَيْسَ هَذَا حُجَّةً فِي إِنْكَاحِ الْأَمَةِ ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنْ لَا مَعْنَى لِكَافِرٍ فِي مُسْلِمَةٍ ، فَكَانَ ابْنُ سَعِيدٍ وَوَكِيلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْلِمَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ لِأَبِيهَا مَعْنًى فِي وِلَايَةِ مُسْلِمَةٍ إِذَا كَانَ كَافِرًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ اتِّفَاقَ الدِّينِ شَرْطٌ فِي ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ عَلَى الْمَنْكُوحَةِ ، فَلَا يَكُونُ الْكَافِرُ وَلِيًّا لِمُسْلِمَةٍ وَلَا الْمُسْلِمُ وَلِيًّا لِكَافِرَةٍ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [ النِّسَاءِ : 141 ] وَقَوْلُهُ أَيْضًا : لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [ الْمَائِدَةِ : 51 ] فَدَلَّتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ عَلَى أَنْ لَا وِلَايَةَ لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمَةٍ ، وَقَالَ تَعَالَى : وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [ التَّوْبَةِ : 71 ] فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا وِلَايَةَ لِمُسْلِمٍ عَلَى كَافِرَةٍ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ ،

وَكَانَ أَبُوهَا وَإِخْوَتُهَا كُفَّارًا ، وَهِيَ مُسْلِمَةٌ مُهَاجِرَةٌ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ، تَزَوَّجَهَا مِنْ أَقْرَبِ عَصَبَاتِهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَهُوَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ ، فَدَلَّ عَلَى انْتِقَالِ الْوِلَايَةِ بِالْكُفْرِ عَمَّنْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَى مَنْ سَاوَاهَا فِي الْإِسْلَامِ ، وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ ، فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَطَعَ الْمُوَالَاةَ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ ، فَلَمْ تَثْبُتِ الْوِلَايَةُ مَعَهُ كَمَا لَمْ يَثْبُتِ الْمِيرَاثُ ، وَإِنَّمَا الْوِلَايَةُ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِطَلَبِ الْحَظِّ لَهَا وَدَفْعِ الْعَارِ عَنْهَا ، وَاخْتِلَافُ الدِّينِ يَصُدُّ عَنْ هَذَا أَوْ يَمْنَعُ مِنْهُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً [ التَّوْبَةِ : 10 ] .

لَا يَثْبُتُ لِلْكَافِرِ وِلَايَةٌ عَلَى مُسْلِمَةٍ لَا نَسَبًا وَلَا حُكْمًا وَلَا مِلْكًا

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا ، فَلَا يَثْبُتُ لِلْكَافِرِ وِلَايَةٌ عَلَى مُسْلِمَةٍ ، لَا نَسَبًا ، وَلَا حُكْمًا ، وَلَا مِلْكًا ، وَلَا يُزَوِّجُهَا مِنْ عَصَبَاتِهَا إِلَّا مُسْلِمٌ قَدْ جَمَعَ شَرْطَيْنِ : النَّسَبَ ، وَالدِّينَ ، فَأَمَّا الْكَافِرَةُ فَالْوِلَايَةُ عَلَيْهَا تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : وِلَايَةٌ بِنَسَبٍ ، وَوِلَايَةٌ بِحُكْمٍ ، وَوِلَايَةٌ بِمِلْكٍ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ الْوِلَايَةُ بِالنَّسَبِ ، فَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهَا إِلَّا لِمَنْ إِذَا شَارَكَهَا فِي النِّسَبِ ، سَاوَاهَا فِي الدِّينِ ، وَيُرَاعَى أَنْ يَكُونَ رَشِيدًا فِي دِينِهِ ، كَمَا يُرَاعَى رُشْدُ الْوَلِيِّ الْمُسْلِمِ ، فَلَوْ كَانَتِ الْكَافِرَةُ نَصْرَانِيَّةً ، وَكَانَ لَهَا أَخٌ نَصْرَانِيٌّ وَأَخٌ مُسْلِمٌ وَأَخٌ يَهُودِيٌّ وَأَخٌ مَجُوسِيٌّ ، وَلَا وِلَايَةَ عَلَيْهَا لِلْمُسْلِمِ ، وَيَكُونُ النَّصْرَانِيُّ وَالْيَهُودِيُّ وَالْمَجُوسِيُّ فِي الْوِلَايَةِ عَلَيْهَا سَوَاءً ، كَمَا يُشَارِكُونَ فِي مِيرَاثِهَا ، وَلَا يَخْتَصُّ بِهَا النَّصْرَانِيُّ مِنْهُمْ : لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ ، فَلَوْ كَانَ فِي إِخْوَتِهَا مُرْتَدٌّ عَنِ الْإِسْلَامِ ، فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهَا ، كَمَا لَا مِيرَاثَ لَهُ مِنْهَا ، وَلِأَنَّ الْمُرْتَدَّ مُوْلًى عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا ، فَلَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُرْتَدَّةً ، وَكَانَ لَهَا أَخٌ مُسْلِمٌ وَأَخٌ مُرْتَدٌّ وَأَخٌ نَصْرَانِيٌّ ، فَلَا وِلَايَةَ عَلَيْهَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ كَمَا لَا يَرِثُهَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِمُسْلِمٍ وَلَا كَافِرٍ وَلَا مُرْتَدٍّ : لِأَنَّ الرِّدَّةَ مَانِعَةٌ مِنَ اسْتِبَاحَةِ نِكَاحِهَا . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ الْوِلَايَةُ بِالْحُكْمِ فَيَثْبُتُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرَةِ : لِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ بِالْمُوَالَاةِ بِالنَّسَبِ ، فَيَمْتَنِعُ اخْتِلَافُ الدِّينِ مِنْهَا : وَإِنَّمَا تَسْتَحِقُّ بِالْوِلَايَةِ الَّتِي تَثْبُتُ عَلَى الْكَافِرِ كَثُبُوتِهَا عَلَى الْمُسْلِمِ ، فَإِذَا عَدِمَتِ الْكَافِرَةُ مِنْهَا شَيْئًا مِنْ عَصَبَتِهَا الْكَفَّارِ ، زَوَّجَهَا حَاكِمُ الْمُسْلِمِينَ بِكُفْءٍ مِنَ الْكُفَّارِ أَوِ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ دَعَتْ إِلَى زَوْجٍ مُسْلِمٍ وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ تَزْوِيجُهَا بِهِ : لِأَنَّهُ إِذَا تَقَاضَى إِلَى حَاكِمِ الْمُسْلِمِينَ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ لَزِمَهُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ دَعَتْ إِلَى زَوْجٍ كَافِرٍ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ كَانَ حَاكِمُ الْمُسْلِمِينَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِهِ أَوِ الْإِعْرَاضِ عَنْهَا ، كَمَا يَكُونُ بِالْخِيَارِ فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا إِذَا تَقَاضَيَا إِلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، فَهَلْ يَلْزَمُ الْحَاكِمَ تَزْوِيجُهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ، مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي وُجُوبِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا عِنْدَ التَّرَافُعِ إِلَيْهِ ، فَإِنْ زَوَّجَهَا لَمْ يَعْقِدْ نِكَاحَهَا إِلَّا شَاهِدَانِ مُسْلِمَانِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَهُ بِهِ أَهْلُ دِينِهَا : لِأَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْعَدَالَةَ شَرْطٌ فِي الشَّهَادَةِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ الْوِلَايَةُ بِالْمِلْكِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ثُبُوتِهَا لِلسَّيِّدِ الْمُسْلِمِ عَلَى أَمَتِهِ الْكَافِرَةِ ، عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ أَبَى إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ - : أَنَّهُ يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ

الْمُسْلِمِ تَزْوِيجُ أَمَتِهِ الْكَافِرَةِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ : لِأَنَّهُ قَالَ : " وَلَا يَكُونُ الْمُسْلِمُ وَلِيًّا لِكَافِرَةٍ إِلَّا عَلَى أَمَتِهِ " وَوَجْهُهُ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ وِلَايَةٌ لَمْ تُسْتَحَقَّ بِمُوَالَاةِ النِّسَبِ ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهَا اخْتِلَافُ الدِّينِ كَالْوِلَايَةِ بِالْحُكْمِ . وَالثَّانِي : أَنَّ السَّيِّدَ يَتَوَصَّلُ إِلَى الْكَسْبِ ، فَلَمْ يُؤَثِّرِ اخْتِلَافُ الدِّينِ كَمَا لَمْ يُؤَثِّرِ الْفِسْقُ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيِّ ، وَأَبِي الْقَاسِمِ الدَّارَكِيِّ وَطَائِفَةٍ - : أَنَّ إِسْلَامَ السَّيِّدِ يَمْنَعُهُ مِنْ تَزْوِيجِ أَمَتِهِ الْكَافِرَةِ ، كَمَا يَمْنَعُهُ مِنْ تَزْوِيجِ ابْنَتِهِ . وَحَمَلَ غَيْرُ الْمُزَنِيِّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ : " إِلَّا عَلَى أَمَتِهِ " ، عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا حِكَايَةً عَنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ ، وَإِمَّا عَلَى أَمَتِهِ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ عَلَى مَنَافِعِهَا دُونَ بُضْعِهَا ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ فِي تَزْوِيجِهِ لَهَا تَغْلِيبًا لِوِلَايَةِ النِّكَاحِ دُونَ الْكَسْبِ : لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُزَوِّجُ أَمَتَهَا ، وَإِنْ مَلَكَتْ عَقْدَ اكْتِسَابِهَا . فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ : فَإِنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فِيمَا نَقَلَهُ مِنَ اسْتِدْلَالِهِ لَهُ بِحَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ ، وَتَوَهَّمَ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِهِ فِي تَزْوِيجِ الْمُسْلِمِ لِأَمَتِهِ الْكَافِرَةِ ، وَهَذَا خَطَأٌ فِي التَّوَهُّمِ : لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ إِنَّمَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يُزَوِّجُ بِنْتَهُ الْمُسَلِّمَةَ ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

مَسْأَلَةٌ إذا كَانَ الْوَلِيُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا غَيْرَ عَالِمٍ بِمَوْضِعِ الْحَظِّ أَوْ سَقِيمًا مُؤْلِمًا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ سَفِيهًا ، أَوْ ضَعِيفًا غَيْرَ عَالِمٍ بِمَوْضِعِ الْحَظِّ ، أَوْ سَقِيمًا مُؤْلِمًا ، أَوْ بِهِ عِلَّةٌ تُخْرِجُهُ مِنَ الْوِلَايَةِ ، فَهُوَ كَمَنْ مَاتَ فَإِذَا صَلَحَ صَارَ وَلِيًّا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْأَسْبَابَ الْمَانِعَةَ مِنْ وِلَايَةِ النِّكَاحِ ، فَقَالَ : " فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ سَفِيهًا ولاية النكاح " وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الْمَجْنُونُ : لِأَنَّهُ سَفِيهُ الْعَقْلِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ الْمُفْسِدُ لِمَالِهِ وَدِينِهِ : لِأَنَّهُ سَفِيهُ الرَّأْيِ . فَأَمَّا الْمَجْنُونُ ولاية المجنون : فَلَا وِلَايَةَ لَهُ : لِأَنَّهُ لَمَّا أَزَالَ الْجُنُونُ وِلَايَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَأَوْلَى أَنْ يُزِيلَ وِلَايَتَهُ عَلَى غَيْرِهِ ، فَلَوْ كَانَ يُجَنُّ فِي زَمَانٍ وَيُفِيقُ فِي زَمَانٍ ، فَلَا وِلَايَةَ لَهُ فِي زَمَانِ جُنُونِهِ ، فَأَمَّا زَمَانُ إِفَاقَتِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فِيهِ بَلِيدًا مَغْمُورًا ، فَلَا يَصِحُّ فِكْرُهُ وَلَا يَسْلَمُ تَمْيِيزُهُ ، فَلَا وِلَايَةَ لَهُ فِي زَمَانِ إِفَاقَتِهِ ، كَمَا لَا وِلَايَةَ لَهُ فِي زَمَانِ جُنُونِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِيهِ سَلِيمَ الْفِكْرِ صَحِيحَ التَّمْيِيزِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ زَمَانُ إِفَاقَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ زَمَانِ جُنُونِهِ فَلَهُ الْوِلَايَةُ فِي زَمَانِ الْإِفَاقَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ زَمَانُ إِفَاقَتِهِ أَقَلَّ مِنْ زَمَانِ جُنُونِهِ ، فَفِي عَوْدِ الْوِلَايَةِ إِلَيْهِ فِي زَمَانِ الْإِفَاقَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَعُودُ إِلَيْهِ : لِعَدَمِ مَا يَمْنَعُ مِنْهَا .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَعُودُ إِلَيْهِ : اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْأَغْلَبِ مِنْ زَمَانَيْهِ . فَأَمَّا السَّفِيهُ ولاية السفيه في النكاح فَلَهُ حَالَتَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ حُجِرَ عَلَيْهِ ، لَا يَعْرِفُ مَوْضِعَ الْحَظِّ لِنَفْسِهِ ، فَهَذَا لَا وِلَايَةَ لَهُ : لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ حَظَّ نَفْسِهِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَعْرِفَ حَظَّ غَيْرِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَدْ حُجِرَ عَلَيْهِ لِتَبْذِيرِهِ لِمَالِهِ مَعَ مَعْرِفَتِهِ لِحَظِّ نَفْسِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا - : لَا وِلَايَةَ لَهُ فِي النِّكَاحِ : لِأَنَّهُ لَمَّا زَالَتْ وِلَايَتُهُ عَنْ نَفْسِهِ ، فَأَوْلَى أَنْ تَزُولَ وِلَايَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ - : هُوَ عَلَى وِلَايَتِهِ وَلَهُ تَزْوِيجُ وَلِيَّتِهِ : لِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّ بِالْحَجْرِ لِحِفْظِ الْمَالِ غَيْرُ مَقْصُودٍ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي إِسْقَاطِهَا ، فَإِنْ كَانَ السَّفِيهُ غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - : أَنَّهُ كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ ، لَا وِلَايَةَ لَهُ لِوُجُودِ مَعْنَى الْحَجْرِ فِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ عَلَى وِلَايَتِهِ : لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَبْلَ الْحَجْرِ بَاقِيَ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ ، كَانَ بَاقِيَ الْوِلَايَةِ عَلَى غَيْرِهِ .

فَصْلٌ : ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " أَوْ ضَعِيفًا " وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الصَّغِيرُ الضَّعِيفُ الْبَدَنِ . وَالثَّانِي : الضَّعِيفُ الرَّأْيِ ، إِمَّا لِعَتَهٍ وَبَلَهٍ ، وَإِمَّا لِكِبَرٍ وَهَرَمٍ . فَأَمَّا الصَّغِيرُ ولاية الصغير في النكاح فَلَا وِلَايَةَ لَهُ : أَنَّهُ مُوَلَّى عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا : أَمَّا الْمَعْتُوهُ وَالْأَبْلَهُ ولايتهما في النكاح فَلَا وِلَايَةَ لَهُ : لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَمْيِيزُهُ فَلَمْ يَعْرِفْ حَظَّ نَفْسِهِ وَحَظَّ غَيْرِهِ ، وَأَمَّا الشَّيْخُ الْهَرِمُ الَّذِي قَدْ صَارَ بِهَرَمِهِ خَرِقًا لَا يَعْرِفُ مَوْضِعَ الْحَظِّ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ لِفَقْدِهِ تَمْيِيزَهُ .

فَصْلٌ : ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " أَوْ سَقِيمًا " وَفِيهِ رِوَايَتَانِ : أَحَدُهُمَا : مُؤْلِمًا يَعْنِي ذَا الْمَرَضِ الْمُؤْلِمِ . وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : مُوَلِّيًا يَعْنِي ذَا الْمَرَضِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ لِفَقْدِ تَمْيِيزِهِ كَالْبِرْسَامِ وَإِنْ كَانَ مَرَضُهُ مُؤْلِمًا نُظِرَ فِي أَلَمِهِ ، فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ ، كَانَ عَلَى وِلَايَتِهِ وَإِنْ كَانَ أَلَمُهُ عَظِيمًا قَدْ قَطَعَهُ عَنِ الْفِكْرِ وَصَرَفَهُ عَنِ الْحَظِّ وَالصَّلَاحِ ، فَلَا وِلَايَةَ لَهُ لِفَقْدِ الْمَقْصُودِ بِهَا مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ مَرَضُهُ مُوَلِّيًا عَلَيْهِ كَإِفَاءِ الْمُبَرْسَمِ ، فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يُزَوِّجَ مِنْهُ فِي حَالِ إِغْمَائِهِ ، وَفِي بُطْلَانِ وِلَايَتِهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : قَدْ بَطَلَتْ لِزَوَالِ عَقْلِهِ بِالْجُنُونِ ، فَعَلَى هَذَا تَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تَبْطُلُ : لِأَنَّ إِعْفَاءَ الْمَرِيضِ اسْتِرَاحَةٌ بِالنَّوْمِ ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَرَّقْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَرَضِ الْمُؤْلِمِ الَّذِي لَيْسَ بِاسْتِرَاحَةٍ فِي إِبْطَالِ الْوِلَايَةِ ، فَعَلَى هَذَا يَنُوبُ عَنْهُ الْحَاكِمُ فِي التَّزْوِيجِ وَلَا تَنْتَقِلُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ : " أَوْ بِهِ عِلَّةٌ تُخَرِجُهُ مِنَ الْوِلَايَةِ " وَفِيهَا تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْأَمْرَاضَ الْمَانِعَةَ مِنَ الْوِلَايَةِ فَمِنْهَا مَا آلَمَ كَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ ، وَمِنْهَا مَا أَثَرُهُ فِي التَّمْيِيزِ كَالْأَعْمَى ، وَفِي إِضَافَةِ الْعَمَى وَالْخَرَسِ إِلَيْهِمَا وَجْهَانِ : التَّأْوِيلُ الثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ الْأَسْبَابَ الْمَانِعَةَ مِنَ الْوِلَايَةِ كَالْكُفْرِ ، وَالرِّقِّ ، وَالرِّدَّةِ . فَأَمَّا الْفِسْقُ ولايته فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا - وَهُوَ الْأَظْهَرُ - : أَنَّهُ مَانِعٌ مِنْ وِلَايَةِ النِّكَاحِ بِكُلِ حَالٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - : أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْهَا بِحَالٍ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - : أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يُجْبِرُ كَالْأَبِ بَطَلَتْ وِلَايَتُهُ بِالْفِسْقِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُجْبِرُ كَالْأَخِ لَمْ تَبْطُلْ وِلَايَتُهُ بِالْفِسْقِ . وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ - وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ - : أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْفِسْقُ مُوجِبًا لِلْحَجْرِ بَطَلَتْ بِهِ الْوِلَايَةُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُوجِبٍ لَهُ لَمْ تَبْطُلْ بِهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ هَذِهِ الْأَوْجُهِ . فَأَمَّا الْخُنْثَى فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى إِشْكَالِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ زَوَالُهُ بِقَوْلِهِ ، كَإِخْبَارِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّ طَبْعَهُ يَمِيلُ إِلَى الرِّجَالِ حَتَّى زَوَّجَ امْرَأَةً وَلَا وِلَايَةَ لَهُ : لِأَنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ قِيلَ عَلَى نَفْسِهِ ، فَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى غَيْرِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَدْ زَالَ تَعَيُّنًا لِإِمَارَةٍ لَا يُرْتَابُ بِهَا ، فَلَهُ الْوِلَايَةُ لِاعْتِبَارِ حُكْمِهِ بِالرِّجَالِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ . فَأَمَّا الْإِحْرَامُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ، فَمَانَعٌ مِنَ الْوِلَايَةِ سَوَاءً كَانَ صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا : لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمُضِيِّ فِيهِمَا ، وَلَا تَبْطُلُ بِهِ الْوِلَايَةُ : لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِإِحْرَامِهِ كَالْعَاضِلِ فَيُزَوِّجُهَا الْحَاكِمُ عَنْهُ ، وَلَا تَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ عَنْهُ إِلَى مَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ .

فَصْلٌ : إِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُشَكِّلَةِ لِوِلَايَةِ النِّكَاحِ انْتَقَلَتِ الْوِلَايَةُ بِهَا إِلَى مَنْ هُوَ أَبْعَدُ بِخِلَافِ الْغَيْبَةِ الَّتِي لَا تُوجِبُ انْتِقَالَ الْوِلَايَةِ : لِأَنَّ الْغَائِبَ يَصِحُّ مِنْهُ التَّزْوِيجُ وَلَا يَصِحُّ مِنْ هَؤُلَاءِ . فَلَوْ زَالَتِ الْأَسْبَابُ الْمُبَطِلَةُ لِلْوِلَايَةِ ، بِأَنْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ ، وَأُعْتِقَ الْعَبْدُ ، وَأَفَّاقَ الْمَجْنُونُ ، وَرَشَدَ السَّفِيهُ ، عَادُوا إِلَى الْوِلَايَةِ وَانْتَقَلَتْ عَمَّنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُمْ ، فَلَوْ كَانَ الْأَبْعَدُ قَدْ زَوَّجَ فِي جُنُونِ الْقَرِيبِ وَسَفَهِهِ ، صَحَّ نِكَاحُهُ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْأَقْرَبِ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ وَالرُّشْدِ اعْتِرَاضٌ عَلَيْهِ .

وَلَوْ كَانَ الْأَبْعَدُ قَدْ زَوَّجَ بَعْدَ إِفَاقَةِ الْأَقْرَبِ وَرُشْدِهِ كَانَ نِكَاحُهُ بَاطِلًا سَوَاءً عَلِمَ بِإِفَاقَتِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ، فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيْسَ وَكِيلُ الْوَلِيِّ إِذَا زَوَّجَ بَعْدَ رُجُوعِ الْوَلِيِّ فِي الْوَكَالَةِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِرُجُوعِهِ ، كَانَ فِي نِكَاحِهِ قَوْلَانِ ، فَهَلَّا كَانَ نِكَاحُ الْأَبْعَدِ ؟ مِثْلُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ ؟ قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْوَكِيلَ مُسْتَنَابٌ يُضَافُ عَقْدُهُ إِلَى مُوَكِّلِهِ ، فَكَانَ عَقْدُهُ أَمْضَى مِنْ عَقْدِ الْأَبْعَدِ الَّذِي لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنِ الْأَقْرَبِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ زَوَّجَهَا الْأَبْعَدُ ، ثُمَّ اخْتَلَفَ هُوَ وَالْأَقْرَبُ ، فَقَالَ الْأَبْعَدُ : زَوَّجْتُهَا قَبْلَ إِفَاقَتِكَ ، فَالنِّكَاحُ مَاضٍ ، وَقَالَ الْأَقْرَبُ : بَلْ زَوَّجْتَهَا بَعْدَ إِفَاقَتِي ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِاخْتِلَافِهِمَا وَلَا رُجُوعَ ، فَيُسْأَلُ قَوْلُ الزَّوْجَيْنِ : لِأَنَّ الْعَقْدَ حَقٌّ لَهُمَا فَلَمْ يَنْفُذْ فِيهِ قَوْلُ غَيْرِهِمَا .

مَسْأَلَةٌ لَوْ قَالَتْ قَدْ أَذِنْتُ فِي فُلَانٍ فَأَيُّ وُلَاتِي زَوَّجَنِي فَهُوَ جَائِزٌ فَأَيُّهُمْ زَوَّجَهَا جَازَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ قَالَتْ قَدْ أَذِنْتُ فِي فُلَانٍ فَأَيُّ وُلَاتِي زَوَّجَنِي فَهُوَ جَائِزٌ ، فَأَيُّهُمْ زَوَّجَهَا جَازَ ، وَإِنْ تَشَاحُّوا أَقْرَعَ بَيْنَهُمُ السُّلْطَانُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ جَمَاعَةُ أَوْلِيَاءَ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ ، فَيَنْبَغِي لَهَا وَلَهُمْ أَنْ يَرُدُّوا عَقْدَ نِكَاحِهَا إِلَى أَسَنِّهِمْ وَأَعْلَمِهِمْ وَأَوْرَعِهِمْ : لِأَنَّ ذَا السِّنِّ قَدْ جَرَّبَ الْأُمُورَ ، وَذَا الْعِلْمِ أَعْرَفُ بِأَحْكَامِ الْعُقُودِ ، وَذَا الْوَرَعِ أَسْلَمُ اخْتِيَارًا وَأَكْثَرُ احْتِيَاطًا . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا اشْتَرَكُوا فِي عَقْدِ نِكَاحِهَا وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ أَحَدُهُمْ كَمَا لَوِ اشْتَرَكُوا فِي رِقِّ جَارِيَةٍ اشْتَرَكُوا فِي تَزْوِيجِهَا لِتُسَاوِيهِمْ كَالشُّرَكَاءِ فِي مِلْكٍ إِذَا أَرَادُوا بَيْعَهُ أَوْ إِجَارَتَهُ ، اشْتَرَكُوا فِي الْعَقْدِ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ أَحَدُهُمْ لِتَسَاوِيهِمْ فِيهِ ؟ قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَعْقُودَ فِي الْأَمْلَاكِ يَتَبَعَّضُ ، وَلَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْعَقْدِ عَلَى قَدْرِ حِصَّتِهِ جَازَ ، فَلِذَلِكَ جَازَ إِذَا اجْتَمَعُوا أَنْ يَشْتَرِكُوا فِي الْعَقْدِ عَلَى الْجَمِيعِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عَقْدُ النِّكَاحِ : لِأَنَّهُ يَتَبَعَّضُ وَلَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى بَعْضِ امْرَأَةٍ ، فَلِذَلِكَ إِذَا اجْتَمَعَ الْأَوْلِيَاءُ لَمْ يَشْتَرِكُوا فِيهِ وَيُفْرَدُ بِالْعَقْدِ أَحَدُهُمْ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلِلْمَرْأَةِ الْمَخْطُوبَةِ حَالَتَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَأْذَنَ لِأَحَدِهِمْ بِعَيْنِهِ فِي الْعَقْدِ عَلَيْهَا المرأة . وَالثَّانِي : أَنْ لَا تُعَيِّنَ ، فَإِنْ عَيَّنَتْ ، فَقَالَتْ : قَدْ أَذِنْتُ لِفُلَانٍ مِنْ إِخْوَتِي أَوْ مِنْ أَعْمَامِي أَنْ يُزَوِّجَنِي لِفُلَانٍ أَوْ بِمَنْ يَخْتَارُهُ لِي مِنَ الْأَكْفَاءِ فَيَكُونُ الْمَأْذُونُ لَهُ مِنْهُمْ أَحَقَّ بِعَقْدِ نِكَاحِهَا مِنْ جَمَاعَتِهِمْ ، فَإِنْ زَوَّجَهَا غَيْرُهُ مِنْهُمْ كَانَ نِكَاحُهَا بَاطِلًا سَوَاءً كَانَتْ قَدْ عَيَّنَتْ عَلَى الزَّوْجِ أَوْ لَمْ تُعَيِّنْ : لِأَنَّهَا لَمْ تَأْذَنْ لَهُ فَصَارَ عَاقِدًا بِغَيْرِ إِذَنٍ فَبَطَلَ عَقْدُهُ .

فَصْلٌ : وَإِنْ لَمْ تُعَيِّنْ عَلَى أَحَدِ الْأَوْلِيَاءِ بَلْ قَالَتْ : يُزَوِّجُنِي أَحَدُكُمْ وَأَيُّكُمْ يُزَوِّجُنِي فَهُوَ بِإِذْنِي وَرِضَايَ المرأة التي اجتمع لها أولياء ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ حِينَئِذٍ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَتَنَازَعُوا فِي تَزْوِيجِهَا ، أَوْ لَمْ يَتَنَازَعُوا ، فَإِنْ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي تَزْوِيجِهَا وَسَلَّمُوهُ

لِأَحَدِهِمْ ، زَوَّجَهَا مَنْ سَلَّمُوا إِلَيْهِ الْعَقْدَ مِنْهُمْ ، وَسَوَاءً كَانَ أَفْضَلَهُمْ أَوْ أَنْقَصَهُمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ سَبَبٌ يَمْنَعُهُ مِنَ الْوِلَايَةِ : لِأَنَّهُ لَوْ تَفَرَّدَ لَكَانَ وَلِيًّا فَكَذَلِكَ إِذَا شَارَكَ ، وَإِنْ تَنَازَعُوا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ نِزَاعُهُمْ فِي تَوَلِّي الْعَقْدِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الزَّوْجِ كَأَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يُزَوِّجُوهَا بِزَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ لَكِنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ : أَنَا أُزَوِّجُهَا بِهِ ، فَهَؤُلَاءِ لَا حَقَّ لِلسُّلْطَانِ مَعَهُمْ : لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ عَاضِلٌ ، لَكِنْ يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ فَأَيُّهُمْ قُرِعَ كَانَ أَوْلَى بِنِكَاحِهَا مِنْ جَمَاعَتِهِمْ ، فَإِنْ زَوَّجَهَا مَنْ لَمْ تَخْرُجْ لَهُ الْقَرْعَةُ مِنْهُمْ ، نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقُرْعَةِ كَانَ نِكَاحُهُ جَائِزًا لِكَوْنِهِ وَلِيًّا ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقُرْعَةِ ، فَفِي صِحَّةِ نِكَاحِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَصِحُّ لِكَوْنِهِ وَلِيًّا . وَالثَّانِي : بَاطِلٌ : لِأَنَّ الْقُرْعَةَ قَدْ مَيَّزَتْ حَقَّ الْوِلَايَةِ لِغَيْرِهِ .

فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ نِزَاعُهُمْ فِي غَيْرِ الزَّوْجِ وَفِي تَوَلِّي الْعَقْدِ الأولياء ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ : أَنَا أُزَوِّجُهَا بِزَيْدٍ وَلَا أُزَوِّجُهَا بِعَمْرٍو ، وَيَقُولُ الْآخَرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ ، فَيُرْجَعُ إِلَى الزَّوْجَةِ ، فَإِنْ رَضِيَتْ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ دُونَ الْآخَرِ ، كَانَ مَنْ رَضِيَتْهُ الزَّوْجَةُ أَحَقَّ ، وَمَنْ دُعِيَ إِلَى تَزْوِيجِهَا بِهِ أَوْلَى ، فَإِنْ قَالَتْ : هُمَا عِنْدِي سَوَاءٌ فَزَوَّجُونِي بِأَحَدِهِمَا ، فَلَا قُرْعَةَ هَاهُنَا : لِأَنَّهُ يَصِيرُ قِرَاعًا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ، وَالْقُرْعَةُ لَا تُمَيِّزُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِالرِّضَا وَالِاخْتِيَارِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ الْأَوْلِيَاءُ عَضْلَةً : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَمْتَنِعُ مَنْ رَضِيَهُ الْآخَرُ ، فَوَجَبَ أَنْ يُرْجَعَ فِي تَزْوِيجِهَا إِلَى السُّلْطَانِ ، كَمَا لَوْ صَرَّحُوا بِالْعَضْلِ حَتَّى زَوَّجَهَا بِمَنْ يَخْتَارُهُ لَهَا مِنَ الزَّوْجَيْنِ الْمُخْتَلَفُ فِيهِمَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ أَذِنَتْ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يُزَوِّجَهَا لَا فِي رَجُلٍ بِعَيْنِهِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ أَذِنَتْ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يُزَوِّجَهَا لَا فِي رَجُلٍ بِعَيْنِهِ ، فَزَوَّجَهَا كُلُّ وَاحِدٍ رَجُلًا ، فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَنْكَحَ الْوَلِيَّانِ فَالْأَوَّلُ أَحَقُّ فَإِنْ لَمْ تُثْبِتِ الشُّهُودُ أَيُّهُمَا أَوَّلُ ، فَالنِّكَاحُ مَفْسُوخٌ ، وَلَا شَيْءَ لَهَا ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا أَحَدُهُمَا عَلَى هَذَا كَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ، وَهُمَا يُقِرَّانِ أَنَّهَا لَا تَعْلَمُ مِثْلَ أَنْ تَكُونَ غَائِبَةً عَنِ النِّكَاحِ ، وَلَوِ ادَّعَيَا عَلَيْهَا أَنَّهَا تَعْلَمُ ، أُحْلِفَتْ مَا تَعْلَمُ وَإِنْ أَقَرَتْ لِأَحَدِهِمَا لَزِمَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : فِي امْرَأَةٍ لَهَا وَلِيَّانِ أَذِنَتْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُزَوِّجَهَا بِرَجُلٍ لَا بِعَيْنِهِ يَخْتَارُهُ لَهَا مِنْ أَكْفَائِهَا ، فَزَوَّجَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَلِيَّيْنِ بِرَجُلٍ غَيْرَ الَّذِي زَوَّجَهَا بِهِ الْآخَرُ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَا مَعًا غَيْرَ كُفُؤَيْنِ ، فَنِكَاحُهُمَا بَاطِلٌ ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا ، فَإِنْ دَخْلَ بِهَا أَحَدُهُمَا كَانَ عَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا دُونَ الْمُسَمَّى ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ كُفْءٍ : لِأَنَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ يُوقِفُ نِكَاحَهُ عَلَى الْإِجَازَةِ فَكَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً يُدْرَأُ بِهَا الْحَدُّ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ كُفُؤًا ، وَالْآخَرُ غَيْرَ كُفْءٍ ، فَنِكَاحُ غَيْرِ الْكُفْءِ بَاطِلٌ ، وَنِكَاحُ الْكُفْءِ جَائِزٌ ، سَوَاءً تَقَدَّمَ نِكَاحُهُ أَوْ تَأَخَّرَ ، فَإِنْ دَخْلَ بِهَا غَيْرُ كُفْءٍ ، فَعَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ ، ثُمَّ يُنْظَرُ ، فَإِنْ كَانَ نِكَاحُهُ قَدْ تَقَدَّمَ ، فَلَا أَحَدَ عَلَيْهِ سَوَاءً عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَعَلَيْهَا أَنْ تَفْتَدِيَ مِنْ

إِصَابَتِهِ وَإِنْ كَانَ نِكَاحُهُ قَدْ تَأَخَّرَ ، فَإِنْ عَلِمَ بِالْحَالِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لِارْتِفَاعِ الشُّبْهَةِ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا : لِأَنَّهَا لَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ ، وَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَحِقَ بِهِ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْكُفْءِ فِي زَمَانِ عِدَّتِهَا مِنْ غَيْرِ الْكُفْءِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الزَّوْجَانِ مَعًا كُفُؤَيْنِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ نِكَاحِهِمَا مِنْ خَمْسَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَيُعْلَمَ أَيُّهُمَا هُوَ السَّابِقُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَقَعَ النِّكَاحَانِ مَعًا ، وَلَا يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَشُكَّ هَلْ وَقَعَ النِّكَاحَانِ مَعًا أَوْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَشُكَّ أَيُّهُمَا هُوَ السَّابِقُ . وَالْخَامِسُ : أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ، وَيَدَّعِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَنَّهُ هُوَ السَّابِقُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ : أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَيُعْلَمَ أَيُّهُمَا هُوَ السَّابِقُ بِالنِّكَاحِ لِأَسْبَقِ الزَّوْجَيْنِ عَقْدًا تزويج المرأة من رجلين ، وَالنِّكَاحُ الثَّانِيَ الْمَسْبُوقُ بَاطِلٌ ، سَوَاءً دَخَلَ هَذَا الثَّانِي بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ : عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ . وَمِنَ التَّابِعِينَ : شُرَيْحٌ ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ : أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ . وَقَالَ مَالِكٌ : النِّكَاحُ لِلْأَوَّلِ إِلَّا أَنْ يَدْخُلَ بِهَا الثَّانِي وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِنِكَاحِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ النِّكَاحُ لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ : عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ . وَمِنَ التَّابِعِينَ : عَطَاءٌ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ : الزُّهْرِيُّ ، اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ بْنِ عَبِيدِ اللَّهِ زَوَّجَ أُخْتَهُ بِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ ، وَزَوَّجَهَا أَخُوهَا يَعْقُوبُ بْنُ طَلْحَةَ بِالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بِالْمَدِينَةِ فَدَخَلَ بِهَا الْحَسَنُ ، وَهُوَ الثَّانِي مِنَ الزَّوْجَيْنِ ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ نِكَاحِ يَزِيدَ ، فَقَضَى مُعَاوِيَةُ بِنِكَاحِهَا لِلْحَسْنِ بَعْدَ أَنْ أَجْمَعَ مَعَهُ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ ، فَصَارَ مَنْ سِوَاهُمْ مَحْجُوبًا بِإِجْمَاعِهِمْ : وَلِأَنَّهُ قَدْ تَسَاوَى الْعَقْدَانِ فِي أَنْ يُفْرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَلِيَ مَأْذُونٌ لَهُ وِيَرْجِعُ الثَّانِي أَيُّمَا تَعَلَّقَ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ بِالدُّخُولِ مِنْ وُجُوبِ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ وَلُحُوقِ النَّسَبِ ، فَصَارَ أَوْلَى وَأَثْبَتَ مِنَ الْأَوَّلِ ، وَلِأَنَّ الْمُتَنَازِعَيْنِ فِي الْمِلْكِ إِذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِتَصَرُّفٍ وَيَدٍ كَانَ أَوْلَى كَذَلِكَ الزَّوْجَاتُ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ إِلَى قَوْلِهِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ [ النِّسَاءِ : 24 ] يَعْنِي ذَوَاتَ الْأَزْوَاجِ فَنَصَّ عَلَى تَحْرِيمِهَا كَالْأُمِّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَحِلَّ بِالدُّخُولِ كَمَا لَا يَحِلُّ غَيْرُهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ . وَرَوَى قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَيُّمَا امْرَأَةٍ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ فَهِيَ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ .

وَرَوَى الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادٍ رَفَعَهُ لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا نَكَحَ الْوَلِيَّانِ فَالْأَوَّلُ أَحَقُّ . وَرَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ : أَنَّ امْرَأَةً ذَاتَ وَلِيَّيْنِ زَوَّجَهَا أَحَدُهُمَا بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْحَنَفِيِّ ، وَزَوَّجَهَا الْآخَرُ بِعَبِيدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْحَنَفِيِّ ، فَدَخَلَ بِهَا عَبِيدُ اللَّهِ ، وَهُوَ الثَّانِي ، وَتَقَاضَيَا إِلَى عَلَيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، فَقَضَى بِالنِّكَاحِ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ ، وَأَبْطَلَ نِكَاحَ عَبِيدِ اللَّهِ مَعَ دُخُولِهِ ، وَقَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذَا نَكَحَ الْوَلِيَّانِ فَالْأَوَّلُ أَحَقُّ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ نِكَاحٍ لَا يَصِحُّ إِذَا عَرِيَ عَنِ الْوَطْءِ لَمْ يَصِحَّ إِذَا اتَّصَلَ بِالْوَطْءِ كَالنِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ ، وَلِإِجْمَاعِنَا إِنَّ رَجُلًا لَوْ وَكَّلَ وَكِيلَيْنِ فِي أَنْ يُزَوِّجَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا امْرَأَةً فَزَوَّجَاهُ بِأُخْتَيْنِ أَوْ وَكَّلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُزَوِّجَهُ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ فَزَوَّجَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْبَعًا أَنْ نِكَاحَ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا أَصَحُّ مِنْ نِكَاحِ الثَّانِي وَإِنِ اقْتَرَنَ بِهِ دُخُولٌ ، فَكَذَلِكَ وَلِيَّا الْمَرْأَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ نِكَاحُ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا أَصَحَّ وَإِنِ اقْتَرَنَ بِالثَّانِي دُخُولٌ . وَتَحْرِيرُهُ : أَنَّ بُطْلَانَ نِكَاحِ الثَّانِي إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ دُخُولٌ لَا يُوجِبُ تَصْحِيحَهُ ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهِ دُخُولٌ لَا يُوجِبُ تَصْحِيحَهُ كَوَكِيلَيِ الزَّوْجِ فِي أُخْتَيْنِ أَوْ أَرْبَعٍ بَعْدَ أَرْبَعٍ : وَلِأَنَّ الدُّخُولَ فِي النِّكَاحِ جَارٍ مَجْرَى الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْوَكِيلَيْنِ فِي بَيْعِ عَبْدٍ لَوْ بَاعَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَأَقْبَضَهُ الثَّانِي أَنَّ الْبَيْعَ لِلْأَوَّلِ وَإِنْ قَبْضَ الثَّانِي ، كَذَلِكَ الْوَلِيَّانِ فِي النِّكَاحِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِنِكَاحِ الْحَسَنِ وَيَزِيدَ : فَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُعَاوِيَةُ اسْتَنْزَلَ يَزِيدَ عَنْ نِكَاحِهَا ، وَاسْتَأْنَفَ عَقْدَ الْحَسَنِ عَلَيْهَا . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ الثَّانِيَ قَدْ تَرَجَّحَ بِمَا تَعَلَّقَ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ : فَفَاسِدٌ : لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ النِّكَاحِ ، ثُمَّ هُوَ بَاطِلٌ بِالزَّوْجِ إِذَا زَوَّجَهُ وَكِيلَاهُ بِأُخْتَيْنِ ، فَإِنَّ النِّكَاحَ لِلْأُولَى وَإِنْ دَخْلَ بِالثَّانِيَةِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ الْمُتَنَازِعَيْنِ يُقَدَّمُ صَاحِبُ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ : فَلَيْسَ لِلْيَدِ فِي النِّكَاحِ تَأْثِيرٌ ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَمْلَاكِ إِذَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً ، وَالْأَنْسَابِ ، ثُمَّ هُوَ فَاسِدٌ بِنِكَاحِ الْأُخْتَيْنِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَقَعَ النِّكَاحَانِ مَعًا وَلَا يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ اذا تزوجت المرأة بزوجين ، فَالنِّكَاحَانِ بَاطِلَانِ : لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ ذَاتَ زَوْجَيْنِ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ ذَا زَوْجَتَيْنِ : لِأَنَّ اشْتِرَاكَ الزَّوْجَيْنِ فِي نِكَاحِ امْرَأَةٍ يَقْضِي إِلَى اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ وَفَسَادِ الْأَنْسَابِ ، وَلَيْسَ هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودًا فِي الزَّوْجِ إِذَا جَمَعَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ اجْتِمَاعُ النِّكَاحَيْنِ ، وَلَمْ يَكُنْ تَصْحِيحُ أَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنْ فَسَادِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَا بَاطِلَيْنِ ، فَإِذَا بَطَلَ النِّكَاحُ بِمَا ذَكَرْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ :

إِحْدَاهَا : أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ دَخَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، فَهِيَ خَلِيَّةٌ وَلَا مَهْرَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا : لِفَسَادِ عَقْدِهِ وَعَدَمِ إِصَابَتِهِ ، وَلِأَيِّهِمَا شَاءَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْعَقْدَ عَلَيْهَا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِهَا أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ ، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ : أَنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ لِلدَّاخِلِ بِهَا ، وَمَا قَدْ مَضَى مِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ كَافٍ فِي هَذِهِ ، وَيَكُونُ نِكَاحُ الدَّاخِلِ بِهَا بَاطِلًا كَغَيْرِ الدَّاخِلِ : لِأَنَّ الدَّاخِلَ بِهَا عَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا بِالْإِصَابَةِ ، وَعَلَيْهَا مِنْهُ الْعِدَّةُ ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ نِكَاحَهَا فِي زَمَانِ عِدَّتِهَا مِنْهُ ، وَلَيْسَ عَلَى غَيْرِ الدَّاخِلِ بِهَا مَهْرٌ وَلَا لَهُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا إِلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَدْخُلَ بِهَا الزَّوْجَانِ مَعًا ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَهْرُ الْمِثْلِ بِالْإِصَابَةِ ، وَعَلَيْهَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْعِدَّةُ بَدْءً بَعْدَ أَسْبَقِهِمَا إِصَابَةً ، وَلَيْسَ لَهُ اسْتِئْنَافُ نِكَاحِهَا إِلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّتَيْنِ : لِأَنَّهُ يَتَعَقَّبُ عِدَّتَهَا مِنْهُ عِدَّةٌ مِنْ غَيْرِهِ ، فَحَرُمَتْ عَلَيْهِ فِي الْعِدَّتَيْنِ مَعًا ، فَأَمَّا الثَّانِي مِنْهُمَا إِصَابَةً فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي عِدَّةِ الْأَوَّلِ ، وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي عِدَّةِ الثَّانِي .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَشُكَّ هَلْ وَقَعَ النِّكَاحَانِ مَعًا أَوْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرُ تزويج المرأة بزوجين فَالنِّكَاحَانِ بَاطِلَانِ : لِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا تَرَدَّدَ بَيْنَ حَالِيْ صِحَّةٍ وَفَسَادٍ حُمِلَ عَلَى الْفَسَادِ دُونَ الصِّحَّةِ اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ أَنْ لَا عَقْدَ حَتَّى يُعْلَمَ يَقِينُ صِحَّتِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْحُكْمُ فِيهِمَا كَمَا لَوْ وَقَعَا مَعًا ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ وُجُودِ الدُّخُولِ وَعَدَمِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : وَهُوَ أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَيُشَكَّ أَيُّهُمَا هُوَ السَّابِقُ تزويج المرأة بزوجين فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَصِيرَ الشَّكُّ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْيَقِينِ ، فَيَكُونُ النِّكَاحَانِ مَوْقُوفَيْنِ عَلَى مَا يُرْجَى مِنْ زَوَالِ الشَّكِّ بِعُودُ الْيَقِينِ : لِأَنَّ طُرُوءَ الشَّكِّ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْيَقِينِ يَجُوزُ أَنَّ يَتَعَقَّبَهُ يَقِينٌ ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ ذَاتَ زَوْجٍ قَدْ جُهِلَ عَيْنُهُ فَتُمْنَعُ مِنَ الْأَزْوَاجِ ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا إِصَابَتُهَا إِلَّا بَعْدَ الْيَقِينِ بِأَنَّهُ الْأَسْبَقُ نِكَاحًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ مُقَارِنًا لِلْعَقْدِ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ يَقِينٌ ، فَلَا يَكُونُ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا : لِأَنَّهُ لَيْسَ يُتَوَقَّعُ زَوَالُ الشَّكِّ بِعَوْدِ الْيَقِينِ ، وَإِذَا امْتَنَعَ وَقَفُ النِّكَاحَيْنِ كَانَا بَاطِلَيْنِ وَهَلْ يَفْتَقِرُ بُطْلَانُهُمَا إِلَى فَسْخِ الْحَاكِمِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُفْتَقَرُ إِلَى فَسْخِ الْحَاكِمِ وَيَكُونُ الْجَهْلُ عَلَى الْمُتَقَدِّمِ فَسْخًا : لِأَنَّ الْجَهْلَ بِعَيْنِ الْأَسْبَقِ هُوَ الْمَانِعُ مِنْ تَعْيِينِ الْأَصَحِّ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَقَعَ بِهِ الْفَسْخُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَقَعُ الْفَسْخُ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ : لِأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَهُمَا زَوْجٌ ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمَا الزَّوْجُ فَلَمْ يَنْفَسِخْ نِكَاحُهُ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ الَّذِي لَهُ مَدْخَلٌ فِي فَسْخِ الْمَنَاكِحِ ، فَإِنْ قِيلَ بِوُقُوعِ الْفَسْخِ بِالْجَهْلِ دُونَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ كَانَ فَسْخًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ، كَمَا يُمْنَعُ التَّوَارُثُ بَيْنَ الْغَرْقَى فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ عَنْ إِشْكَالِ التَّقَدُّمِ ، وَإِنْ قِيلَ بِوُقُوعِ الْفَسْخِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي : فَهَلْ يَقَعُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ فَسْخٌ فِي الظَّاهِرِ وَالزَّوْجِيَّةُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا بَاقِيَةٌ فِي الْبَاطِنِ : لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُحِيلُ الْأُمُورَ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ الْفَسْخَ يَقَعُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا : لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَمَّا لَمْ يَحْصُلُ لَهَا الْعِوَضُ عَادَ إِلَيْهَا الْمُعَوَّضُ ، كَالْبَائِعِ إِذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي بِثَمَنِ سِلْعَةٍ عَادَتْ إِلَيْهِ بِفَسْخِ الْحَاكِمِ مِلْكًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الْخَامِسُ : وَهُوَ أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَيَدَّعِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَنَّهُ هُوَ السَّابِقُ تزوجت المرأة بزوجين ، فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ عُمِلَ عَلَيْهَا وَحُكِمَ بِهَا ، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ الْعَاقِدُ أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ لَمْ تُقْبَلْ : لِأَنَّهُ شَهِدَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ ، وَلَوْ كَانَ وَلِيُّ الْعَقْدِ الْآخَرِ شَاهِدًا فِي هَذَا الْعَقْدِ قُبِلَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بَيِّنَةٌ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ . إِمَّا أَنْ يَدَّعِيَا عِلْمَهُمَا بِأَسْبَقِهِمَا عَقْدًا ، أَوْ لَا يَدَّعِيَاهُ لِغَيْبَتِهِمَا عَنِ الْعَقْدِ وَجَهْلِهِمَا بِالْأَسْبَقِ ، تَحَالَفَ الزَّوْجَانِ دُونَ الْوَلِيَّيْنِ : لِأَنَّهُمَا الْمُتَدَاعِيَانِ ، وَلَا يُرَاعَى تَصْدِيقُ الْوَلِيَّيْنِ ، فَإِنْ حَلَفَ الزَّوْجَانِ انْفَسَخَ النِّكَاحَانِ . وَهَلْ يَنْفَسِخَانِ بِنَفْسِ التَّحَالُفِ أَوْ بِفَسْخِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا فِي الْبُيُوعِ . وَإِنْ نَكَلَ الزَّوْجَانِ عَنِ الْيَمِينِ فَسَخَ الْحَاكِمُ نِكَاحَهُمَا ، وَلَمْ يَنْفَسِخْ إِلَّا بِحُكْمِهِ وَجْهًا وَاحِدًا : لِأَنَّ نُكُولَ النَّاكِلِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُحِقًّا فِي دَعْوَاهُ ، فَلَمْ يُمْنَعْ بِنُكُولِهِ فَسْخٌ حَتَّى يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ . فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَنَكَلَ الْآخَرُ ، قَضَى بِالنِّكَاحِ لِلْحَالِفِ مِنْهُمَا دُونَ النَّاكِلِ . فَإِنْ دَخَلَ بِهَا النَّاكِلُ نُظِرَ حَالُ دُخُولِهِ : فَإِنْ كَانَ بَعْدَ نُكُولِهِ أَوْ يَمِينِ صَاحِبِهِ ، فَهُوَ زَانٍ بِحَدٍّ ، وَلَا يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ . أَمَّا الْمَرْأَةُ : فَإِنْ عَلِمَتْ بِحَالِ النَّاكِلِ عِنْدَ تَمْكِينِهِ مِنْ نَفْسِهَا ، فَهِيَ زَانِيَةٌ تُحَدُّ وَلَا مَهْرَ لَهَا ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا . وَإِنْ كَانَ النَّاكِلُ قَدْ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ نُكُولِهِ وَيَمِينِ صَاحِبِهِ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهَا : لِبَقَاءِ شُبْهَتِهِ فِي النِّكَاحِ وَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ ، وَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَحِقَ بِهِ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْحَالِفِ حَتَّى تَقْضِيَ عِدَّةَ النَّاكِلِ ، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي زَمَانِ الْعِدَّةِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا . أَمَا الْحَالِفُ فَلِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ لِاعْتِدَادِهَا مِنْ غَيْرِهِ ، وَأَمَّا النَّاكِلُ فَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَتَهُ ، وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْهُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا فَهَلْ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ .

فَصْلٌ : فَإِنِ ادَّعَتْ عِلْمَهَا فِي الِابْتِدَاءِ ، وَأَنَّهَا تَعْرِفُ أَسْبَقَهُمَا نِكَاحًا زواجها من اثنين ، فَلَهَا حَالَتَانِ : حَالَةٌ تَعْتَرِفُ بِالْعِلْمِ ، وَحَالَةٌ لَا تَعْتَرِفُ بِهِ ، فَإِنْ لَمْ تَعْتَرِفْ ، وَقَالَتْ : لَسْتُ أَعْلَمُ أَيُّهُمَا أَسْبَقُ بِالْعَقْدِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا ، وَإِنَّمَا لَزِمَهَا الْيَمِينُ : لِأَنَّهَا لَوْ أَقَرَّتْ بَعْدَ الْإِنْكَارِ كَانَ قَوْلُهَا فِي نِكَاحِ مَنْ قَدَّمَتْهُ مَقْبُولًا ، فَإِنْ حَلَفَتْ أَنَّهَا لَا تَعْلَمُ أَيُّهُمَا أَسْبَقُ بِالْعَقْدِ ، فَالنِّكَاحَانِ بَاطِلَانِ . وَهَلْ يَبْطُلُ بِمُجَرَّدِ يَمِينِهِمَا أَوْ فَسْخِ الْحَاكِمِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، إِنْ قِيلَ قَدْ أَبَطَلَ يَمِينُهَا نِكَاحَ الزَّوْجَيْنِ وَهِيَ مُعْتَرِفَةٌ أَنَّ أَحَدَهُمَا زَوْجٌ ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهَا ، قِيلَ لِأَنَّ يَمِينَهَا يُسْقِطُ عَنْهَا تَمْكِينَ نَفْسِهَا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَإِذَا مَنَعَهَا الشَّرْعُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَطَلَ نِكَاحُهَا ، وَإِنْ نَكَلَتْ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الزَّوْجَيْنِ ، فَإِنْ حَلَفَا بَطَلَ نِكَاحُهُمَا ، وَإِنْ نَكَلَا فُسِخَ نِكَاحُهُمَا ، وَإِنْ حَلَفَ

أَحَدُهُمَا وَنَكَلَ الْآخَرُ ، قُضِيَ بِنِكَاحِهَا لِلْحَالِفِ مِنْهُمَا دُونَ النَّاكِلِ ، وَإِنِ اعْتَرَفَتْ وَقَالَتْ : أَعْلَمُ السَّابِقَ بِالْعَقْدِ مِنْهُمَا وَهُوَ زَيْدٌ دُونَ عَمْرٍو ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا ، وَهِيَ زَوْجَةٌ لِلْمُصَدِّقِ : لِأَنَّهَا مَالِكَةٌ بُضْعَهَا ، فَقُبِلَ قَوْلُهَا فِي تَصْدِيقِ مَنْ مَلَكَهُ عَنْهُمَا كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي سَائِرِ أَمْلَاكِهَا ، وَهَلْ عَلَيْهَا الْيَمِينُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَمِينَ عَلَيْهَا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا لَوْ رَجَعَتْ عَنْهُ لَمْ تُقْبَلْ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ بَيِّنَةٌ كَالشَّاهِدِينَ . وَهَذَا قَوْلُهُ فِي " الْأُمِّ " . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْيَمِينَ عَلَيْهَا وَاجِبَةٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُكَذِّبَ مُدَّعٍ ، فَلَمْ يَدْفَعْ مُجَرَّدُ الْإِنْكَارِ إِلَّا مَعَ يَمِينٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِرُجُوعِهَا أَنْ لَوْ صَدَّقَتْهُ غُرِّمَ فَلَزِمَتِ الْيَمِينُ . وَهَذَا قَوْلُهُ فِي " الْإِمْلَاءِ " . وَمِثْلُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فِي الرَّاهِنِ إِذَا صَدَقَ أَحَدُ الْمُرْتَهِنَيْنِ هَلْ يَحْلِفُ لِلْمُكَذِّبِ ، أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ قَوْلَيْهِ فِي يَمِينِ الزَّوْجَةِ مَبْنِيًّا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي تَصْدِيقِهَا لِلْمُكَذِّبِ هَلْ يُوجِبُ عَلَيْهَا مَهْرَ الْمِثَلِ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قِيلَ يُوجِبُ التَّصْدِيقُ عَلَيْهَا مَهْرَ الْمِثْلِ حَلَفَتْ عَلَى التَّكْذِيبِ ، وَإِنْ قِيلَ لَمْ يَجِبْ لَمْ تَحْلِفْ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ وَبِنَاؤُهُمَا فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ لَا يَمِينَ عَلَيْهَا أَوْ عَلَيْهَا الْيَمِينُ فَحَلَفَتْ ، ثَبَتَ النِّكَاحُ لِلْمُصَدِّقِ ، وَكَانَ نِكَاحُ الْمُكَذِّبِ مَرْدُودًا ، وَإِنْ قِيلَ عَلَيْهَا الْيَمِينُ فَنَكَلَتْ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا فِي النُّكُولِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ الِاعْتِرَافُ بِالثَّانِي أَوْ بِغَيْرِ اعْتِرَافٍ بِهِ ، فَإِنْ كَانَ نُكُولُهَا اعْتِرَافًا لِلثَّانِي يَتَقَدَّمُ نِكَاحُهُ لَمْ يُرَدَّ الْيَمِينُ عَلَى أَحَدٍ ، وَقَدْ صَارَتْ مُقِرَّةً لِلْأَوَّلِ ثُمَّ عَدَلَتْ عَنْهُ إِلَى إِقْرَارِهَا لِلثَّانِي ، فَثَبَتَ نِكَاحُهَا لِلْأَوَّلِ بِإِقْرَارِهَا ، وَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهَا عَنْهُ إِلَى الثَّانِي ، وَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهَا فِي الِابْتِدَاءِ بِسَبْقِ هَذَا لِأَجْلِ هَذَا ، فَتَكُونُ زَوْجَةً لِلْأَوَّلِ بِإِقْرَارِهَا دُونَ الثَّانِي كَمَنْ بِيَدِهِ دَارٌ ، فَقَالَ هِيَ لِزَيْدٍ لَا بَلْ لِعَمْرٍو ، وَكَانَتْ لِزَيْدٍ الْمُقَرِّ لَهُ أَوَّلًا دُونَ عَمْرٍو ، وَإِذَا كَانَتْ بِمَا سَبَقَ مِنَ الْإِقْرَارِ زَوْجَةً لِلْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي ، فَهَلْ يَلْزَمُهَا أَنْ تَغْرَمَ لِلثَّانِي مَهْرَ مِثْلِهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : كَمَنْ قَالَ : هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ بَلْ لِعَمْرٍو وَكَانَتْ لِزَيْدٍ ، وَهَلْ يَغْرَمُ قِيمَتَهَا لِعَمْرٍو أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَلْزَمُهُا غُرْمُ الْمَهْرِ لِاعْتِرَافِهِمَا بِمَا لَزِمَهُمَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَلْزَمُهُا غُرْمُ مَهْرِ مِثْلِهَا لِلثَّانِي : لِأَنَّهَا قَدْ فَوَّتَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهَا لِلْأَوَّلِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ مَاتَ الْأَوَّلُ صَارَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ زَوْجَةً لِلثَّانِي بِإِقْرَارِهَا الْمُتَقَدِّمِ كَمَنْ أَقَرَّ بِدَارٍ لِزَيْدٍ ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا لِعَمْرٍو ، كَانَتْ لِزَيْدٍ الْمُقَرِّ لَهُ أَوَّلًا ، فَلَوْ عَادَتِ الدَّارُ إِلَى الْمُقِرِّ بِابْتِيَاعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ ، صَارَتْ لِعَمْرٍو بِالْإِقْرَارِ السَّابِقِ الْمُتَقَدِّمِ فَكَذَلِكَ هَذِهِ فِي مَصِيرِهَا زَوْجَةً لِلثَّانِي ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ مِنَ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُصِبْهَا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَصَابَهَا بِأَكْثَرِ الْأَجَلَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةِ

أَشْهُرٍ وَعَشَرٍ عِدَّةُ الْوَفَاةِ أَوْ ثَلَاثَةُ أَقَرَّاءٍ عِدَّةُ الْوَطْءِ ، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الثَّانِي فِي زَمَانِ عَدَّتِهَا مِنَ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَتَهُ ، وَإِنْ كَانَ نُكُولُهَا لِغَيْرِ اعْتِرَافٍ بَلْ كَانَتْ عَلَى تَكْذِيبِ الثَّانِي ، وَتَصْدِيقِ الْأَوَّلِ رُدَّ الْيَمِينُ بَعْدَ نُكُولِهَا عَلَى الْمُكَذِّبِ ، فَإِنْ نَكَلَ الْمُكَذِّبُ عَنْهَا اسْتَقَرَّ نِكَاحُ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ حَلَفَ فَقَدْ قَابَلَ تَصْدِيقَ الْأَوَّلِ يَمِينُ الْكَذِبِ فَيَكُونُ يَمِينُ الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي يَمِينِ الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، هَلْ يَقُومُ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ أَمْ مَقَامَ الْإِقْرَارِ ثبوت الأسبق فيمن تزوجا امرأة واحدة ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ زَوْجَةَ الثَّانِي وَيَزُولُ عَنْهَا نِكَاحُ الْأَوَّلِ : كَمَا لَوْ أَقَامَ الثَّانِي بَيِّنَةً بَعْدَ تَصْدِيقِهَا لِلْأَوَّلِ ، وَهَذَا مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ مَعَ بُعْدِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ الْإِقْرَارِ ، فَعَلَى هَذَا قَدْ كَانَ مَعَ الْأَوَّلِ إِقْرَارٌ مِنْهَا ، وَقَدْ صَارَ مَعَ الثَّانِي إِقْرَارٌ قَدْ لَزِمَ عَنْهَا فَصَارَ إِقْرَارَيْنِ ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِمَا هَلْ يَكُونُ حُكْمُهُمَا حُكْمَ إِقْرَارَيْنِ وَقَعَا مَعًا : لِأَنَّ يَمِينَ الثَّانِي أَوْجَبَهَا نُكُولُهَا عَنِ الْيَمِينِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ ، فَلَمْ يَتَقَدَّمْ حُكْمُ أَحَدِ الْإِقْرَارَيْنِ عَلَى الْآخَرِ . وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ النِّكَاحَانِ مَعًا : كَمَا لَوْ أَقَرَّتْ لَهُمَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُمَا فِي حُكْمِ إِقْرَارَيْنِ مُتَرَتِّبَيْنِ وَقَعَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ : لِأَنَّ يَمِينَ الثَّانِي جَعَلَتْهُ فِي حُكْمِ الْمُقَرِّ لَهُ وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ ، فَصَارَ الْإِقْرَارُ لَهُ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ زَوْجَةً لِلْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي ، كَمَا لَوْ أَقَرَّتْ لِثَانٍ بَعْدَ أَوَّلٍ ، وَهَلْ يَرْجِعُ الثَّانِي عَلَيْهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ ، فَإِنْ طَلَبَ الثَّانِي فِي هَذِهِ الْحَالِ إِحْلَافَ الْأَوَّلِ ؟ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ لَهُ إِحْلَافُهُ : لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَوْ مَاتَ لَمْ تَصِرْ زَوْجَةً لِلثَّانِي : لِأَنَّهَا مُنْكِرَةٌ ، وَإِنْ نَزَلَتْ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهَا مَنْزِلَةَ الْمُقِرَّةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَهُ إِحْلَافُهَا وَلَوْ نَزَلَ عَنْهَا فَحُكِمَ بِهَا زَوْجَةً لِلثَّانِي لَأَجْرَيْنَا عَلَيْهَا أَحْكَامَ الْمُقِرَّةِ مِنْ غَيْرِ تَبْعِيضٍ فَهَذَا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ وَمَا انْتَهَتْ إِلَيْهَا أَقْسَامُهَا وَأَحْكَامُهَا .

فَصْلٌ : وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُوَكِّلَ الرَّجُلُ وَكِيلَيْنِ فِي أَنْ يُزَوِّجَاهُ فَزَوَّجَاهُ بِامْرَأَتَيْنِ فِي عَقْدَيْنِ لَزِمَهُ الْعِقْدَانِ وَصَحَّ نِكَاحُهُمَا لَهُ ، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ إِذَا زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ : لِأَنَّ الرَّجُلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَا زَوْجَتَيْنِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ ذَاتَ زَوْجَيْنِ ، فَلَوْ قَالَ أَحَدُ الْوَكِيلَيْنِ : زَوَّجْتُكَ مِنْ زَيْنَبَ وَزَوَّجَكَ صَاحِبِي مِنْ هِنْدٍ ، وَقَالَ الْآخَرُ : أَنَا زَوَّجْتُكَ بِزَيْنَبَ وَزَوَّجَكَ صَاحِبِي مِنْ هِنْدٍ ، فَلَا تَأْثِيرَ لِهَذَا الِاخْتِلَافِ ، وَالنِّكَاحَانِ عَلَى الصِّحَّةِ ، فَلَوْ زَوَّجَهُ الْوَكِيلَانِ بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي عَقْدَيْنِ صَحَّ نِكَاحُهُ عَلَيْهَا ، وَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا لَهُ الْحَكَمُ وَالْمَهْرُ دُونَ الثَّانِي ، فَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدَانِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ مِنْ وَلِيَّيْنِ صَحَّ النِّكَاحُ أَيْضًا ، فَإِنِ اخْتَلَفَ الْمَهْرَانِ لَمْ يُحْكَمْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَكَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ ، فَلَوِ ادَّعَتِ الزَّوْجَةُ تَقَدُّمَ أَكْثَرِ الْعَقْدَيْنِ مَهْرًا وَادَّعَى الزَّوْجُ تَقَدُّمَ أَقَلِّهِمَا مَهْرًا وَلَا بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا تَحَالَفَا وَحُكِمَ لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَكِيلَيْنِ .

فَلَوْ عَقَدَ الْوَكِيلُ عَلَى امْرَأَةٍ غَيْرِ الْمُوَكَّلِ عَلَيْهَا ، أَوْ لَمْ يُعَيَّنْ ثُمَّ اخْتَلَفَا تعيين المحل في النكاح ، فَقَالَ الْوَكِيلُ : قَبِلَتِ الْعَقْدَ عَلَيْهَا لِنَفْسِي ، وَقَالَ الْمُوَكِّلُ : بَلْ قَبِلْتُهُ لِي ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ : لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَةٍ : أَنْتِ زَوْجَتِي ، فَصَدَّقَتْهُ ، ثَبَتَ حُكْمُ نِكَاحِهِمَا بِالتَّصَادُقِ عَلَيْهِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَثْبُتُ نِكَاحُهُمَا بِالتَّصَادُقِ حَتَّى يُرَى دَاخِلًا عَلَيْهَا وَخَارِجًا مِنْ عِنْدِهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَا فِي سَفَرٍ . وَحُكِيَ هَذَا عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ ، وَمَذْهَبُهُ فِي الْجَدِيدِ أَصَحُّ : لِأَنَّهُ لَيْسَ ظُهُورُ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ ، فَلَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الِاعْتِرَافِ . وَإِذَا صَحَّ النِّكَاحُ بِهَذَا التَّصَادُقِ عَلَيْهِ ، فَأَيُّهُمَا مَاتَ وِرِثَهُ صَاحِبُهُ ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ الرَّجُلُ : هَذِهِ زَوْجَتِي وَلَمْ يَكُنْ مِنْهَا تَصْدِيقٌ وَلَا تَكْذِيبٌ ، فَإِنْ مَاتَ وَرِثَتْهُ ، وَإِنْ مَاتَتْ لَمْ يَرِثْهَا . نَصَّ عَلَيْهَا الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ " ، لَا أَنَّهُ اعْتَرَفَ لَهَا بِمَا لَمْ يُعْتَرَفْ لَهُ بِمِثْلِهِ فَوَرِثَتْهُ وَلَمْ يَرِثْهَا ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَتِ الْمَرْأَةُ : هَذَا زَوْجِي ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَصْدِيقٌ وَلَا تَكْذِيبٌ ، وَرِثَهَا إِنْ مَاتَتْ ، وَلَمْ تَرِثْهُ إِنْ مَاتَ : لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي " الْإِمْلَاءِ " ، قَالَ فِيهِ : وَلَوْ تَزَوَّجَّ رِجْلٌ امْرَأَةً مِنْ وَلِيِّهَا ثُمَّ مَاتَ عَنْهَا ، فَقَالَ وَارِثُهُ زَوْجُكِ وَلِيُّكِ بِغَيْرِ إِذْنِكِ فَنِكَاحُكِ بَاطِلٌ وَلَا مِيرَاثَ لَكِ ، وَقَالَتْ : بَلْ زَوَّجَنِي بِإِذْنِي فَلِي الْمِيرَاثُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا : لِأَنَّ إِذْنَهَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنْهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ بِأَمْرِهَا مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ نَفْسِهِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ بِأَمْرِهَا مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ نَفْسِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ وَلِيٌّ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا كَابْنِ عَمٍّ أَوْ مَوْلَى مُعْتَقٍ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِنَفْسِهِ وَوِلَايَتِهِ حَتَّى يُزَوِّجَهُ الْحَاكِمُ بِهَا . وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِنْ نَفْسِهِ بَعْدَ إِذْنِهَا لَهُ . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : يَأْذَنُ لِأَجْنَبِيٍّ حَتَّى يُزَوِّجَهُ بِهَا وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَهُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [ النِّسَاءِ : 127 ] قَالَتْ عَائِشَةُ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي شَأْنِ يَتِيمَةٍ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا رَغِبَ فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا لَمْ يُقْسِطْ لَهَا فِي صَدَاقِهَا مَهْرًا ، أَنْ تَنْكِحُوا أَوْ تُقْسِطُوا لَهُنَّ فِي صَدَاقِهِنَّ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَمْ يُقْسِطْ فِي صَدَاقِهَا ، وَيَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَهَذَا نِكَاحٌ قَدْ عَقَدَهُ وَلِيٌّ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَتَزَوَّجَهَا وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ سِوَاهُ : وَلِأَنَّهُ نِكَاحٌ بِوَلِيٍّ ، فَجَازَ ثُبُوتُهُ ، كَمَا لَوْ زَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ الْوَلِيَّ إِنَّمَا يُرَادُ لِأَنْ لَا تَضَعَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فِي غَيْرِ كُفْءٍ وَوَلِيُّهَا كُفْءٌ لَهَا .

وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : كُلُّ نِكَاحٍ لَمْ يَحْضُرْهُ أَرْبَعَةٌ فَهُوَ سِفَاحٌ : خَاطِبٌ ، وَوَلِيٌّ ، وَشَاهِدَا عَدْلٍ فَاعْتَبَرَ فِي صِحَّتِهِ حُضُورَ أَرْبَعَةٍ ، وَجَعَلَ الْخَاطِبَ مِنْهُمْ غَيْرَ الْوَلِيِّ ، فَلَمْ يُجِزْ أَنْ يَصِحَّ بِثَلَاثَةٍ يَكُونُ الْوَلِيُّ مِنْهُمْ خَاطِبًا ، كَمَا لَمْ يُجِزْ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ مِنْهُمْ خَاطِبًا . وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ حَتَّى يَكُونَ الْوَلِيُّ غَيْرَهُ ، وَلَا يَشْتَرِي الْوَلِيُّ شَيْئًا مِنَ الْغَنِيمَةِ وَلَا الْوَصِيُّ شَيْئًا مِنَ الْمِيرَاثِ وَهَذَا نَصٌّ مُرْسَلٌ ، وَسَعِيدٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ حُجَّةٌ : لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَمْ يُمْلَكْ فِيهِ الْبَدَلُ إِلَّا بِإِذْنٍ ، فَلَمْ يُمْلَكْ فِيهِ الْقَبُولُ . كَالْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ لَمَّا مَلَكَ فِيهِ الْبَدَلَ بِإِذْنِ مُوَكِّلِهِ لَمْ يَمْلِكْ فِيهِ الْقَبُولَ فِي شِرَائِهِ لِنَفْسِهِ ، وَهِيَ دَلَالَةُ الشَّافِعِيِّ . وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْقِيَاسِ ابْتِيَاعُ الْأَبِ مَالَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ بِنَفْسِهِ حَيْثُ صَارَ فِيهِ مَالِكًا لِلْبَدَلِ وَالْقَبُولِ : لِأَنَّ الْأَبَ يَمْلِكُ الْبَدَلَ بِنَفْسِهِ لَا بِإِذْنِ غَيْرِهِ ، فَجَازَ أَنْ يَمْلِكَ فِيهِ الْقَبُولَ ، وَخَالَفَ الْوَلِيَّ فِي النِّكَاحِ كَمَا خَالَفَ الْوَكِيلَ فِي الْبَيْعِ ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ اعْتُبِرَ فِي النِّكَاحِ احْتِيَاطًا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ زَوْجًا كَالشَّاهِدِ : وَلِأَنَّ الْوَلِيَّ مَنْدُوبٌ لِطَلَبِ الْحَظِّ لَهَا فِي الْتِمَاسِ مَنْ هُوَ أَكْفَأُ وَأَغْنَى ، فَإِذَا صَارَ زَوْجًا انْصَرَفَ نَظَرُهُ إِلَى حَظِّ نَفْسِهِ دُونَهَا ، فَعُدِمَ فِي عَقْدِهِ مَعْنَى الْوِلَايَةِ فَصَارَ مَمْنُوعًا مِنْهُ ، وَلَيْسَتِ الْآيَةُ دَلِيلًا عَلَى مَا اخْتَلَفَا فِيهِ مِنْ جَوَازِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِنَفْسِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ فَهُوَ : إِنَّ هَذَا فِي حَالِ تَزْوِيجِهِ بِهَا قَدْ خَرَجَ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا لَهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ انْصِرَافِهِ عَمَّا وُضِعَ لَهُ الْوَلِيُّ مِنْ طَلَبِ الْحَظِّ لَهَا إِلَى طَلَبِ الْحَظِّ لِنَفْسِهِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ سَعِيدٍ : فَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصٌ بِجَوَازِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَبَرَ بِهِ حَالُ غَيْرِهِ . فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنِ اعْتَبَرَ الْوَلِيَّ فِي نِكَاحِهِ ، فَيَقُولُ لَمْ يَكُنْ لِصَفِيَّةَ وَلِيٌّ غَيْرُهُ ، فَصَارَ فِي عَقْدِهِ عَلَيْهَا كَالْإِمَامِ إِذَا لَمْ يَجِدْ لِوَلِيَّتِهِ وَلِيًّا سِوَاهُ يُزَوِّجُهَا مِنْهُ ، فَيَكُونُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ أَنَّهُ نِكَاحٌ بِوَلِيٍّ : فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَكُونُ وَلِيًّا لَهَا إِذَا تَزَوَّجَهَا : لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ زَوَالِ مَعْنَى الْوِلَايَةِ عَنْهُ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْبَاذِلَ غَيْرُ الْعَائِلِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ كُفْءٌ لَهَا لِمُنَاسَبَتِهِ ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى وَلِيٍّ يَلْتَمِسُ الْكَفَاءَةَ ، وَهِيَ لَيْسَتْ مُعْتَبَرَةٌ بِالنَّسَبِ وَحْدَهُ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ لَا يُكَافِئَهَا فِيمَا سِوَى النَّسَبِ مِنْ مَالٍ وَعَفَافٍ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِنَفْسِهِ ، نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ فِي دَرَجَتِهِ مِنْ أَوْلِيَائِهَا أَحَدٌ ، جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا إِلَّا مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ لَمْ تَنْتَقِلِ الْوِلَايَةُ إِلَى الْبَعِيدِ ، وَزَوَّجَهُ الْحَاكِمُ بِهَا . وَقَالَ قَتَادَةُ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ : تَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ إِلَى مَنْ هُوَ أَبْعَدُ فَيُزَوِّجُهَا مِنْهُ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ وِلَايَتَهُ لَمْ تَبْطُلْ بِهَذَا الْقَصْدِ فَلَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُ إِلَى الْأَبْعَدِ ، وَصَارَ بِخِطْبَتِهَا كَالْعَاضِلِ

فَيُزَوِّجُهَا الْحَاكِمُ ، فَلَوْ كَانَ هَذَا الْوَلِيُّ هُوَ الْحَاكِمُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِوِلَايَةِ النَّسَبِ وَعَدَلَ إِلَى الْإِمَامِ أَوْ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْحُكَّامِ حَتَّى يُزَوِّجَهُ بِهَا ، فَلَوْ كَانَ هَذَا الْوَلِيُّ هُوَ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ وأراد أن يزوجها من نفسه فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِنَفْسِهِ : لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ ، وَأَنَّ الْحُكَّامَ كُلَّهُمْ مِنْ قَبْلِهِ ، كَمَا تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفِيَّةَ بِنَفْسِهِ لِهَذَا الْمَعْنَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِنْ حُكَّامِ الْوَقْتِ لِوِلَايَتِهِمْ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْهُ فَهُمْ بِخِلَافِ وُكَلَائِهِ ، وَلِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي تَقْلِيدِ الْحُكَّامِ وَنَائِبٌ عَنْ نَفْسِهِ فِي تَقْلِيدِ الْوُكَلَاءِ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ مَاتَ بَطَلَتْ وِلَايَةُ وُكَلَائِهِ وَلَنْ تَبْطُلَ وِلَايَةُ حُكَّامِهِ ، وَلِذَلِكَ تَحَاكَمَ عُمَرُ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَحَاكَمَ عَلِيٌّ يَهُودِيًّا إِلَى شُرَيْحٍ .

فَصْلٌ : وَلَوْ أَرَادَ الْوَلِيُّ أَنْ يُزَوِّجَ وَلِيَّتَهُ بِابْنِهِ كَوَلِيٍّ هُوَ عَمٌّ ، فَأَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَ أَخِيهِ بِابْنِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ لَا يُزَوِّجُهَا غَيْرُ أَبِيهَا أَوْ جَدِّهَا ، وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً وَابْنُهُ صَغِيرٌ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَوِّجَهُ بِهَا : لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَاذِلًا لِلنِّكَاحِ عَنْهَا وَقَابِلًا لَهُ عَنِ ابْنِهِ ، فَاجْتَمَعَ الْبَذْلُ وَالْقَبُولُ مِنْ جِهَتِهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَمَا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِنَفْسِهِ : لِحُصُولِ الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ مِنْهُ مِنْ جِهَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ ابْنُهُ كَبِيرًا ، فَفِي جَوَازِ تَزْوِيجِهِ بِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ : لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ بَاذِلًا ، فَالْقَابِلُ غَيْرُهُ وَهُوَ الِابْنُ ، فَلَمْ يَجْتَمِعِ الْبَذْلُ وَالْقَبُولُ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَهُ بِهَا : لِأَنَّهُ يَمِيلُ بِالطَّبْعِ إِلَى طَلَبِ الْحَظِّ لِابْنِهِ دُونَهَا ، كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِنَفْسِهِ لِهَذَا الْمَعْنَى . فَأَمَّا الْجَدُّ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَ ابْنِهِ بِابْنِ ابْنٍ لَهُ آخَرَ ، فَإِنْ كَانَا كَبِيرَيْنِ ، جَازَ لِاعْتِدَالِ السَّبَبَيْنِ فِي مَيْلِهِ إِلَيْهِمَا ، وَطَلَبِ الْحَظِّ لَهُمَا ، وَإِنْ كَانَا صَغِيرَيْنِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ : لِهَذَا الْمَعْنَى . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ : لِاجْتِمَاعِ الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ مِنْ جِهَتِهِ .

مَسْأَلَةٌ يُزَوِّجُ الْأَبُ أَوِ الْجَدُّ الِابْنَةَ الَّتِي يُؤْيَسُ مِنْ عَقْلِهَا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيُزَوِّجُ الْأَبُ أَوِ الْجَدُّ الِابْنَةَ الَّتِي يُؤْيَسُ مِنْ عَقْلِهَا : لِأَنَّ لَهَا فِيهِ عَفَافًا وَغِنًى ، وَرُبَّمَا كَانَ شِفَاءً ، وَسَوَاءً كَانَتْ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ مَضَتْ فِيمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّقْسِيمِ ، فَإِذَا كَانَتْ مَجْنُونَةً لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا ، فَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا : زَوَّجَهَا أَبُوهَا أَوْ جَدُّهَا ، صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً : لِأَنَّ لِلْأَبِ إِجْبَارَ الْبِكْرِ فِي حَالِ الْعَقْلِ ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يُجْبِرَهَا فِي حَالِ الْجُنُونِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَبٌ وَلَا جَدٌّ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ أَوْلِيَائِهَا وَلَا الْحَاكِمِ أَنْ يُزَوِّجَهَا حَتَّى تَبْلُغَ ، فَإِذَا بَلَغَتْ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ دُونَ عَصَبَتِهَا الْمُنَاسِبِينَ : لِاخْتِصَاصِهِ بِفَضْلِ النَّظَرِ فِي الْوِلَايَةِ

عَلَى مَالِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا ، نُظِرَ : فَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً زَوَّجَهَا أَبُوهَا أَوْ جَدُّهَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَبٌ وَلَا جَدٌّ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ دُونَ سَائِرِ الْعَصَبَاتِ ، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً ثَيِّبًا فَلَيْسَ لِغَيْرِ الْأَبِ أَوِ الْجَدِّ تَزْوِيجُهَا حَتَّى تَبْلُغَ . وَهَلْ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ تَزْوِيجُهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ أَمْ لَا ؟ المجنونة عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ حَتَّى تَبْلُغَ : لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهَا إِلَى الزَّوْجِ قَبْلَ الْبُلُوغِ . وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ ، بِخِلَافِ الْعَاقِلَةِ الَّتِي يَجْرِي صِحَّةُ إِذْنِهَا بِالْبُلُوغِ ، وَلَا يَجْرِي صِحَّةُ إِذْنِ الْمَجْنُونَةِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ، فَافْتَرَقَا . فَأَمَّا قَوْلُهُ : فَإِنَّ لَهَا فِيهِ عَفَافًا وَغِنًى وَرُبَّمَا كَانَ شِفَاءً . فَهَذَا تَعْلِيلٌ بِجَوَازِ تَزْوِيجِ الْبَالِغِ الْمَجْنُونَةَ ، فَأَمَّا الْعَفَافُ فَيُرِيدُ بِهِ مِنَ الزِّنَا ، وَأَمَّا الْغِنَى فَتَغْنَى بِاكْتِسَابِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ ، وَأَمَّا الشِّفَاءُ فَرُبَّمَا كَانَ مِنْ شِدَّةٍ الْمَانَخُولْيَا وَقُوَّةِ الشَّبَقِ ، فَتَبْرَأُ إِنْ جُومِعَتْ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ يُزَوِّجُ الْمَغْلُوبَ عَلَى عَقْلِهِ أَبُوهُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيُزَوِّجُ الْمَغْلُوبَ عَلَى عَقْلِهِ أَبُوهُ إِذَا كَانَتْ بِهِ إِلَى ذَلِكَ حَاجَةٌ وَابْنَهُ الصَّغِيرَ فَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا أَوْ مَخْبُولًا كَانَ النِّكَاحُ مَرْدُودًا لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : لَا يَخْلُو حَالُ الِابْنِ إِذَا أَرَادَ الْأَبُ أَنْ يُزَوِّجَهُ مِنْ أَحَدِ حَالَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا ، فَإِنْ كَانَ عَاقِلًا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا أَوْ صَغِيرًا ، فَإِنْ كَانَ بَالِغًا فَلَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ لِلْأَبِ فِي نِكَاحِهِ ، فَإِنْ زَوَّجَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِلْعَقْدِ أَوِ الْإِذْنِ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا جَازَ لِلْأَبِ تَزْوِيجُهُ فِي صِغَرِهِ ، فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ زَوَّجَ ابْنًا لَهُ وَهُوَ صَغِيرٌ : وَلِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فِي الْأَغْلَبِ إِذَا بَلَغَ فَعَجَّلَ الْأَبُ لَهُ ذَلِكَ لِيَأْلَفَ صِيَانَةَ الْفَرْجِ ، وَرُبَّمَا رَغِبَ النَّاسُ فِيهِ لِكَفَالَةِ الْأَبِ ، فَإِنْ زَوَّجَهُ وَاحِدَةً لَزِمَهُ نِكَاحُهَا وَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ خِيَارٌ ، فَإِنْ أَرَادَ الْفِرَاقَ فَبِالطَّلَاقِ ، وَإِنْ أَرَادَ الْأَبُ تَزْوِيجَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّ لَهُ فِي الْوَاحِدَةِ غِنَاءً . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِ نَصًّا : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَهُ تَمَامَ أَرْبَعٍ : لِأَنَّ مَعْنَى الْوَاحِدَةِ مَوْجُودٌ فِيهِنَّ ، وَإِنْ كَانَ الِابْنُ مَجْنُونًا ، فَلَهُ حَالَتَانِ : صَغِيرٌ ، وَكَبِيرٌ ، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ تَزْوِيجُهُ : لِعَدَمِ حَاجَتِهِ بِاجْتِمَاعِ جُنُونِهِ مَعَ صِغَرِهِ ، وَإِنْ كَانَ لِلْأَبِ تَزْوِيجُ بِنْتِهِ الصَّغِيرَةِ الْمَجْنُونَةِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْبِنْتَ قَدْ تَكْتَسِبُ بِالتَّزْوِيجِ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ ، وَالِابْنُ مُلْتَزِمُهُمَا . وَإِنْ كَانَ الِابْنُ بَالِغًا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ إِلَى التَّزْوِيجِ حَاجَةٌ لَمْ يُزَوِّجْهُ ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا وَحَاجَتُهُ تَكُونُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُرَى مُتَوَثِّبًا عَلَى النِّسَاءِ : لِكَثْرَةِ شَهْوَتِهِ وَقُوَّةِ شَبَقِهِ ، وَإِمَّا أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى خَادِمٍ وَخِدْمَةُ الزَّوْجَةِ أَرْفَقُ بِهِ : لِفَضْلِ حُنُوِّهَا وَكَثْرَةِ شَفَقَتِهَا ، فَيَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ تَزْوِيجُهُ بِوَاحِدَةٍ لَا يَزِيدُهُ عَلَيْهَا : لِأَنَّ لَهُ فِيهَا غِنَاءً ، فَإِنْ أَفَاقَ مِنْ جُنُونِهِ ، كَانَ النِّكَاحُ عَلَى لُزُومِهِ .

فَأَمَّا الْمُغْمَى عَلَيْهِ ، فَلَا يَجُوزُ لِلْأَبِ تَزْوِيجُهُ : لِأَنَّ الْإِغْمَاءَ مَرَضٌ يُرْجَى سُرْعَةُ زَوَالِهِ ، بِخِلَافِ الْجُنُونِ . فَأَمَّا الَّذِي يُجَنُّ فِي زَمَانٍ وَيُفِيقُ فِي زَمَانٍ ، فَلَيْسَ لِلْأَبِ تَزْوِيجُهُ لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ زَمَانُ إِفَاقَتِهِ أَكْثَرَ : لِأَنَّهُ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى الْعَقْدِ فِي زَمَانِ الْإِفَاقَةِ .

مَسْأَلَةٌ لَيْسَ لَأَبِي الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَيْسَ لَأَبِي الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا زَوَّجَ الْأَبُ ابْنَهُ الْمَجْنُونَ أَوْ تَزَوَّجَ الِابْنُ وَهُوَ عَاقِلٌ ثُمَّ جُنَّ ، فَلَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهُ : لِأَنَّ الْخُلْعَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالطَّلَاقِ ، وَالطَّلَاقُ لَا يَقَعُ إِلَّا مِنَ الْأَزْوَاجِ . رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ : أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنِّي زَوَّجْتُ عَبْدِيَ امْرَأَةً وَأُرِيدُ أَنْ أُطَلِّقَهَا مِنْهُ ، فَقَالَ : لَيْسَ لَكَ طَلَاقُهَا ، إِنَّمَا الطَّلَاقُ لِمَنْ أُخِذَ بِالسَّاقِ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ إِزَالَةُ مِلْكٍ يَقِفُ عَلَى شَهَوَاتِ النُّفُوسِ ، لَا يُرَاعَى فِيهِ الْأَصْلَحُ وَالْأَوْلَى : لِأَنَّهُ قَدْ يُطَلِّقُ الْعَفِيفَةَ وَالْجَمِيلَةَ ، وَيُمْسِكُ الْفَاجِرَةَ الْقَبِيحَةَ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَاعَى فِيهِ شَهْوَةُ غَيْرِ الْمَالِكِ : لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْوَلِيِّ فِي حَقِّ غَيْرِهِ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ دُونَ الشَّهْوَةِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُطَلِّقَ عَلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِ ، وَجَازَ أَنْ يَبِيعَ مَالَهُ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِالْمَصْلَحَةِ فِيهِ فَافْتَرَقَا ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ أَنْ يُطَلِّقَ عَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ أَوِ الْمَجْنُونِ فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهُ : لِأَنَّهُ مُعَاوِنُهُ عَلَى طَلَاقٍ لَا يَصِحَّ مِنْهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ لَا يَضْرِبُ لِامْرَأَتِهِ أَجَلَ الْعِنِّينِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يَضْرِبُ لِامْرَأَتِهِ أَجَلَ الْعِنِّينِ : لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، أَوْ بِكْرًا لَمْ يُعْقَلْ أَنْ يَدْفَعَهَا عَنْ نَفْسِهِ بِالْقَوْلِ أَنَّهَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا ادَّعَتِ امْرَأَةُ الْمَجْنُونِ عَلَيْهِ الْعُنَّةَ ، لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهَا عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِقَوْلِهِ وَلَا عَلَى وَلِيِّهِ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ يُوجِبُ حَقًّا عَلَى غَيْرِهِ : وَلَإِنْ صَدَّقَهَا الْوَلِيُّ عَلَى عِنَّتِهِ جَازَ أَنْ يَضْرِبَ لَهَا أَجَلَ الْعُنَّةِ : لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَاقِلًا جَازَ أَنْ يُنْكِرَهَا ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ عَاقِلًا فَيَضْرِبُ لَهَا أَجَلَ الْعُنَّةِ ، ثُمَّ جُنَّ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لَمْ يَجُزْ إِذَا انْقَضَّتِ الْمُدَّةُ وَهُوَ عَلَى جُنُونِهِ أَنْ يُخَيَّرَ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ : لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَاقِلًا لَجَازَ أَنْ يَدَّعِيَ وَطْئَهَا إِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا وَمَنْعَهَا إِنْ كَانَتْ بِكْرًا ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي الْحَالَيْنِ .

مَسْأَلَةٌ لَا يُخَالِعُ عَنِ الْمَعْتُوهَةِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يُخَالِعُ عَنِ الْمَعْتُوهَةِ وَلَا يُبَرِّئُ زَوْجَهَا مِنْ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لَا يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُخَالِعَ عَنْ بِنْتِهِ الْمَجْنُونَةِ مِنْ مَالِهَا لِأَمْرَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِ مَالِهَا وَهَذَا اسْتِهْلَاكٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَى طَلَبِ الزِّيَادَةِ فِي كَسْبِهَا لَا إِلَى إِسْقَاطِهِ ، وَهَذَا يُسْقِطُ نَفَقَتَهَا وَمَهْرَهَا إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، فَأَمَّا إِنْ خَالَعَ الْأَبُ عَنْهَا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ جَازَ خُلْعُهُ : لِأَنَّهُ لَوْ خَالَعَ عَنْ أَجْنَبِيَّةٍ عَاقِلَةٍ بِمَالِ نَفْسِهِ وَهِيَ غَيْرُ عَالِمَةٍ وَلَا مُرِيدَةٍ ، صَحَّ خُلْعُهُ ، فَعَنْ بِنْتِهِ الْمَجْنُونَةِ أَوْلَى .

فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يُبَرِّئُ زَوْجَهَا مِنْ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِهَا والد المجنونة " وَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ الصَّدَاقِ ، فَلَا يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُبَرِّئَ مِنْهُ . وَالثَّانِي : صَدَاقًا ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ لَهَا فَلَا يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُبَرِّئَ مِنْهُ : لِأَنَّهُ كَسَائِرِ أَمْوَالِهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ لَمْ يُطَلِّقْ فَلَا يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُبَرِّئَ مِنْهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَدْ طُلِّقَتْ فَفِي جَوَازِ إِبْرَاءِ الْأَبِ مِنْهُ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ - : أَنَّهُ الْأَبُ ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَوْلِيَاءِ أَنْ يَبْرَأَ مِنْ صَدَاقِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي - قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ - : وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَنَّهُ الزَّوْجُ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ أَنْ يَبْرَآ مِنْهُ ، كَمَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَوْلِيَاءِ أَنْ يَبْرَآ شَيْئًا مِنْ صَدَاقِهَا كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْرَأَ مِنْ غَيْرِ الصَّدَاقِ مِنْ سَائِرِ أَمْوَالِهَا ، فَأَمَّا الْخُلْعُ فَعَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخْرِجُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهَا بِصَدَاقِهَا : لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ الْإِبْرَاءُ مِنْهُ عَلَى غَيْرِ بَدَلٍ كَانَ جَوَازُهُ عَلَى بَدَلٍ أَوْلَى ، وَهَذَا جَمْعٌ فَاسِدٌ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِنَّ الْإِبْرَاءَ مُجَوَّزٌ بَعْدَ الطَّلَاقِ ، وَفِي الْخُلْعِ يَكُونُ مُبَرَّأً مِنْهُ قَبْلَ الطَّلَاقِ . وَالثَّانِي : إِنَّ فِي الْإِبْرَاءِ تَرْغِيبًا لِلْأَزْوَاجِ فِيهَا ، وَفِي الْخُلْعِ تَزْهِيدًا فِيهَا ، فَاخْتَلَفَ الْمَعْنَى فِيهِمَا ، فَافْتَرَقَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " فَإِنْ هَرَبَتْ وَامْتَنَعَتْ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا هَرَبَتْ بِالْجُنُونِ مِنْ زَوْجِهَا وَمَنَعَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا صَارَتْ نَاشِزًا وَسَقَطَتْ نَفَقَتُهَا : لِأَنَّ النَّفَقَةَ عِوَضٌ فِي مُقَابَلَةِ تَمْكِينٍ ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدِ التَّمْكِينُ الَّذِي هُوَ مُعَوَّضٌ بَطَلَ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ النَّفَقَةِ الَّتِي عِوَضٌ كَالسِّلْعَةِ إِذَا بَلَغَتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ بَطَلَ مَا فِي مُقَابَلَتِهَا مِنَ الثَّمَنِ فَإِنْ قِيلَ :

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110