كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي



فَصْلٌ : فَإِذَا قَالَ لَهَا : إِنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ الْيَوْمَ ، فَأَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ ، فَلَمْ يُطَلِّقْهَا فِي الْيَوْمِ حَتَّى مَضَى ، لَمْ تُطَلَّقْ : لِأَنَّ مُضِيَّ الْيَوْمِ شَرْطٌ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ ، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِيهِ بَعْدَ مُضِيِّهِ ، لِامْتِنَاعِ صِفَتِهِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ وَلَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ : أَيَّتُكُنَّ وَقَعَ عَلَيْهَا طَلَاقِي ، فَصَوَاحِبُهَا طَوَالِقُ ثُمَّ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ ، طُلِّقْنَ كُلُّهُنَّ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ، لِأَنَّ طَلَاقَهُ لِلْوَاحِدَةِ مُوقِعٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ طَلْقَةً وَاحِدَةً ، وَوُقُوعُ هَذِهِ الْوَاحِدَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ، مُوقِعٌ لِلطَّلَاقِ عَلَى صَوَاحِبِهَا وَهِيَ ثَلَاثٌ كُلُّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَقُدِمَ بِهِ مَيِّتًا أَوْ مُكْرَهًا لَمْ تُطَلَّقْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قَالَ لَهَا : إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَلَا يَخْلُو قُدُومُ زَيْدٍ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقْدَمَ بِنَفْسِهِ مُخْتَارًا لِلْقُدُومِ ، عَالِمًا لِلْيَمِينِ ، فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ ، سَوَاءٌ قَدِمَ مِنْ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ ، يَقْصُرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ ، أَوْ مِنْ مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ لَا يَقْصُرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ ، لِأَنَّهُ فِي الْحَالَيْنِ قَادِمٌ وَسَوَاءٌ كَانَ صَحِيحًا أَوْ مَرِيضًا : لِأَنَّهُ فَعَلَ الْقُدُومَ بِنَفْسِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُقْدَمَ بِزَيْدٍ مَيِّتًا أَوْ مُكْرَهًا مَحْمُولًا ، فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ جَعَلَ صِفَةَ الطَّلَاقِ فِعْلَ زَيْدٍ لِلْقُدُومِ ، فَإِذَا قُدِمَ بِزَيْدٍ مَيِّتًا أَوْ مُكْرَهًا ، فَهُوَ مَفْعُولٌ بِهِ وَلَيْسَ بِفَاعِلٍ ، فَلَمْ تُوجَدْ صِفَةُ الطَّلَاقِ فَلَمْ يَقَعْ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَقْدَمَ زَيْدٌ بِنَفْسِهِ مُكْرَهًا مُخَوَّفًا غَيْرَ مُخْتَارٍ ، فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَقَعُ لِوُجُودِ الْقُدُومِ مِنْهُ ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْمُكْرَهُ وَالْمُخْتَارُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَقَعُ لِعَدَمِ الْقَصْدِ ، فَأَشْبَهَ الْمَحْمُولَ ، وَهَكَذَا حُكْمُ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْأَكْلِ وَالْفِطْرِ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَقْدَمَ زَيْدٌ ، وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِيَمِينِ الْحَالِفِ ، أَوْ عَلِمَ بِهَا ، فَقَدِمَ نَاسِيًا لِلْيَمِينِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَكُونَ الْقَصْدُ بِالْيَمِينِ مَنْعَ زَيْدٍ مِنَ الْقُدُومِ ، إِمَّا لِأَنَّ زَيْدًا سُلْطَانٌ لَا يَمْتَنِعُ مِنَ الْقُدُومِ بِيَمِينِ هَذَا الْحَالِفِ ، أَوْ يَكُونُ مَجْنُونًا أَوْ صَغِيرًا لَا قَصْدَ لَهُ ، فَالطَّلَاقُ هَاهُنَا وَاقِعٌ بِقُدُومِهِ : لِأَنَّهُ طَلَاقٌ بِصِفَةٍ مَحْضَةٍ لَا يُرَاعَى فِيهَا الْقَصْدُ ، وَقَدْ وُجِدَتْ فَوَقَعَ بِهَا الطَّلَاقُ كَمَا لَوْ قَالَ : إِذَا دَخَلَ الْحِمَارُ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ طَارَ الْغُرَابُ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَدَخَلَ الْحِمَارُ وَطَارَ الْغُرَابُ ، وَقَعَ الطَّلَاقُ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ ذِي قَصْدٍ .

وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَقْصِدَ الْحَالِفُ بِيَمِينِهِ مَنْعَ زَيْدٍ مِنَ الْقُدُومِ : لِأَنَّهُ مِمَّنْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ أَوْ يُتَمَثَّلُ أَمْرُهُ فَهَذِهِ يَمِينٌ مَحْضَةٌ ، وَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهَا بِقُدُومِ زَيْدٍ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَلَا عِلْمٍ قَوْلَانِ ، مَنْ حِنْثِ النَّاسِ فِي قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ . وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِنَا : يَحْنَثُ قَوْلًا وَاحِدًا ، لِأَنَّ الْقَصْدَ إِنَّمَا يُرَاعَى فِي فِعْلِ الْحَالِفِ لَا فِي فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ : لِأَنَّ الْحَالِفَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَا قَصْدٍ ، فَجَازَ أَنْ يُرَاعَى الْقَصْدُ فِي أَفْعَالِهِ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ ، غَيْرَ ذِي قَصْدٍ ، فَلَمْ يُرَاعَ الْقَصْدُ فِي أَفْعَالِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ إِذَا رَأَيْتِهِ فَرَأَتْهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ حَنَثَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : لِأَنَّهُ قَالَ : إِذَا رَأَيْتِ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَقَدْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِرُؤْيَتِهَا لِزَيْدٍ ، فَإِذَا رَأَتْهُ مَيِّتًا أَوْ رَأَتْهُ مَجْنُونًا أَوْ مُكْرَهًا مَحْمُولًا ، وَقَعَ الطَّلَاقُ لِوُجُودِ الرُّؤْيَةِ مِنْهَا ، فَحَصَلَتْ صِفَةُ الْحِنْثِ ، وَوَقَعَ بِهَا الطَّلَاقُ فَلَوْ كَانَ زَيْدٌ فِي مُقَابَلَةِ مِرْآةٍ ، فَاطَّلَعَتْ فِي الْمِرْآةِ صُورَةُ زَيْدٍ فِيهَا ، أَوِ اطَّلَعَتْ فِي الْمَاءِ ، وَزَيْدٌ فِي مُقَابَلَةِ الْمَاءِ ، فَرَأَتْ صُورَتَهُ فِيهِ ، لَمْ تُطَلَّقْ : لِأَنَّهَا لَمْ تَرَهُ ، وَإِنَّمَا رَأَتْ مِثَالَهُ ، وَصَارَ كَرُؤْيَتِهَا لِزَيْدٍ فِي الْمَنَامِ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ بِهَا طَلَاقٌ . فَإِنْ رَأَتْ زَيْدًا مِنْ وَرَاءِ زُجَاجٍ شَفَّافٍ ، لَا يَمْنَعُ مِنْ مُشَاهَدَةِ مَا وَرَاءَهُ فَإِنْ كَانَ حَائِلًا وَقَعَ الطَّلَاقُ بِخِلَافِ رُؤْيَتِهِ فِي الْمِرْآةِ ، لِأَنَّهَا رَأَتْ هَاهُنَا جِسْمَ زَيْدٍ ، وَرَأَتْ فِي الْمِرْآةِ مِثَالَ زَيْدٍ وَلَا يَكُونُ الزُّجَاجُ الْحَائِلُ مَعَ وُجُودِ الرُّؤْيَةِ مِنْ وَرَائِهِ ، مَانِعًا لَهُ مِنْهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ حَلَفَ لَا تَأْخُذُ مَالَكَ عَلَيَّ فَأَجْبَرَهُ السُّلْطَانُ فَأَخَذَ مِنْهُ الْمَالَ حَنَثَ وَلَوْ قَالَ لَا أُعْطِيكَ لَمْ يَحْنَثْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُقَدِّمَةٌ ، وَهِيَ فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى نَفْيِ فِعْلٍ ، فَوَجَدَ الْفِعْلَ بِغَيْرِ قَصْدٍ وَلَا اخْتِيَارٍ ، إِمَّا عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ وَإِمَّا عَلَى وَجْهِ النِّسْيَانِ . فَالْيَمِينُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ مَعْقُودَةً عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْحَالِفِ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ مَعْقُودَةً عَلَى نَفْيِ فِعْلِ غَيْرِ الْحَالِفِ ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْحَالِفِ فَصُورَتُهَا فِي الطَّلَاقِ ، إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَهَلْ يَكُونُ قَصْدُ الدُّخُولِ مُعْتَبَرًا فِي حِنْثِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : وَإِنْ كَانَتْ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ غَيْرِهِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ إِنْ دَخَلَ زَيْدٌ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَذَهَبَ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ قَصْدَ زَيْدٍ لِلدُّخُولِ هَلْ يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي الْحِنْثِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا يَكُونُ فِي فِعْلِ الْحَالِفِ عَلَى قَوْلَيْنِ .

وَذَهَبَ الْبَصْرِيُّونَ إِلَى أَنَّ الْقَصْدَ فِي فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْحِنْثِ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ اعْتِبَارُهُ فِي فِعْلِ الْحَالِفِ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا قَدَّمْنَاهُ ، مِنْ أَنَّ الْيَمِينَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ ذِي قَصْدٍ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ فِي فِعْلِهِ مُعْتَبَرًا ، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى غَيْرِ ذِي قَصْدٍ ، فَلَمْ يَكُنِ الْقَصْدُ فِي فِعْلِهِ مُعْتَبَرًا . وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا ، أَشْبَهُ بِمَا قَالَهُ الْبَصْرِيُّونَ : لِأَنَّهُ قَالَ : وَلَوْ حَلَفَ لَا تَأْخُذُ مَالَكَ عَلَيَّ ، فَأَجْبَرَهُ السُّلْطَانُ ، فَأَخَذَ مِنْهُ الْمَالَ حَنِثَ ، وَلَوْ قَالَ : لَا أُعْطِيكَ لَمْ يَحْنَثْ ، فَحَنَّثَهُ مَعَ فَقْدِ الْقَصْدِ مِنَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُحَنِّثْهُ مَعَ فَقْدِ الْقَصْدِ مِنَ الْحَالِفِ ، وَلَوِ اسْتَوَى الْقَوْلَانِ فِيهِمَا لَسَّوَى فِي الْحِنْثِ بَيْنَهُمَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا ، فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَصْليْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَحْلِفَ بِالطَّلَاقِ عَلَى صَاحِبِ دَيْنٍ عَلَيْهِ ، أَنَّكَ لَا تَأْخُذُ مَالَكَ عَلَيَّ ، فَصَارَ الْمَالُ إِلَيْهِ ، فَلَهُ فِيهِ خَمْسَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ مُخْتَارًا لِأَخْذِهِ ، فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ سَوَاءٌ دَفَعَهُ الْحَالِفُ مُخْتَارًا أَوْ مَكْرَهًا أَوْ أَخَذَ الْمَالَ بِنَفْسِهِ سِرًّا أَوْ جَهْرًا ، لِأَنَّ الْحِنْثَ مُعَلَّقٌ بِالْأَخْذِ ، وَقَدْ وُجِدَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَهَكَذَا لَوْ أَخَذَ الْمَالَ مِنْ وَكِيلِهِ أَوْ مِنْ مُتَطَوِّعٍ عَلَيْهِ بِالْقَضَاءِ حَنِثَ ، بِوُجُودِ الْأَخْذِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَالِفُ قَالَ : لَا تَأْخُذُ مِنِّي مَالَكَ عَلَيَّ ، فَإِذَا أَخَذَهُ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَحْنَثْ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَأْخُذَهُ وَكِيلُهُ فَلَا حِنْثَ عَلَى الْحَالِفِ : لِأَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ لَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ وَكِيلُهُ ، فَلَمْ تُوجَدْ صِفَةُ الْحِنْثِ ، وَسَوَاءٌ أَخَذَهُ الْوَكِيلُ بِأَمْرِهِ أَوْ غَيْرِ أَمْرِهِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ عَرَضًا أَوْ حَوَالَةً ، فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ أَيْضًا : لِأَنَّهُ قَدْ بَدَّلَ الْمَالَ وَلَمْ يَأْخُذْ عَيْنَ الْمَالِ ، فَلَمْ تُوجَدْ صِفَةُ الْحِنْثِ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَأْخُذَ السُّلْطَانُ الْمَالَ ، وَيَضَعَهُ فِي حِرْزِ صَاحِبِ الدَّيْنِ أَوْ فِي حِجْرِهِ فَلَا حِنْثَ أَيْضًا ، إِلَّا أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْمَحْلُوفُ أَخْذَ ذَلِكَ مِنْ حِرْزِهِ أَوْ حِجْرِهِ ، فَيَحْنَثُ الْحَالِفُ حِينَئِذٍ لِوُجُودِ الْأَخْذِ الْآنَ . وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ : أَنْ يُخَوِّفَهُ السُّلْطَانُ فَيَأْخُذَ الْمَالَ مُكْرَهًا فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا ، فَعَلَى مَذْهَبِ الْبَغْدَادِيِّينَ هَلْ يَكُونُ حَنِثَ الْحَالِفُ ، عَلَى قَوْلَيْنِ ، تَسْوِيَةٌ بَيْنَ عَدَمِ الْفِعْلِ مِنَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَبَيْنَ عِلْمِهِ مِنَ الْحَالِفِ ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ يَحْنَثُ الْحَالِفُ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ الْقَصْدَ لَا يُرَاعَى مِنْ غَيْرِ الْحَالِفِ ، وَقَدْ وُجِدَ فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ الْحِنْثُ .



فَصْلٌ : وَالْفَصْلٌ الثَّانِي : أَنْ يَحْلِفَ بِالطَّلَاقِ ، أَنْ لَا يُعْطِيَهُ مَالَهُ فَلَهُ فِي أَخْذِ الْمَالِ مِنْهُ سِتَّةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ مُخْتَارًا ، فَيَحْنَثُ ، سَوَاءٌ أُخِذَ الْمَالُ مِنْهُ ، بِاخْتِيَارٍ أَوْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ : لِأَنَّ الْحِنْثَ مُعَلَّقٌ بِالْعَطَاءِ دُونَ الْأَخْذِ ، وَقَدْ وُجِدَ فَوَقَعَ الْحِنْثُ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ إِلَى وَكِيلِهِ فَلَا يَحْنَثُ سَوَاءٌ أَخَذَهُ الْوَكِيلُ بِأَمْرِهِ أَوْ غَيْرِ أَمْرِهِ : لِأَنَّهُ أَعْطَى غَيْرَهُ وَلَمْ يُعْطِهِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَتَوَلَّى وَكِيلُهُ دَفْعَ الْمَالِ إِلَيْهِ ، فَلَا حِنْثَ سَوَاءٌ دَفَعَهُ الْوَكِيلُ بِأَمْرِهِ أَوْ غَيْرِ أَمْرِهِ : لِأَنَّ الْمُعْطِيَ غَيْرُهُ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يُعْطِيَهُ الْمَالَ عَرَضًا أَوْ حَوَالَةً ، فَلَا يَحْنَثُ ، لِأَنَّهُ أَعْطَى بَدَلَ الْمَالِ وَلَمْ يُعْطِ الْمَالَ . وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ : أَنْ يَأْخُذَهُ السُّلْطَانُ مِنْ مَالِهِ جَبْرًا ، فَيُعْطِيَهُ فَلَا حِنْثَ ، كَدَفْعِ الْوَكِيلِ . وَالْحَالُ السَّادِسَةُ : أَنْ يُخَوِّفَهُ السُّلْطَانُ عَلَى دَفْعِهِ ، فَيُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مُكْرَهًا ، فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ إِنْ كَلَّمْتِهِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَكَلَّمَتْهُ حَيْثُ يَسْمَعُ حَنِثَ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ كَلَّمَتْهُ مَيِّتًا أَوْ حَيْثُ لَا يَسْمَعُ لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ كَلَّمَتْهُ مُكْرَهَةً لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ كَلَّمَتْهُ سَكْرَانَةً حَنِثَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قَالَ لَهَا : إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَكَلَّمَتْهُ مُخْتَارَةً كَلَامًا سَمِعَهُ ، سَوَاءٌ قَلَّ الْكَلَامُ أَوْ كَثُرَ ، أَجَابَ زَيْدٌ عَنْهُ ، أَوْ لَمْ يُجِبْ : لِأَنَّ الْكَلَامَ قَدْ وُجِدَ ، وَإِنْ كَلَّمَتْهُ فَلَمْ يَسْمَعْ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَ لِقُرْبِهِ ، فَلَمْ يَسْمَعْ لِشُغْلِهِ حَنِثَ : لِأَنَّهُ قَدْ يُقَالُ : كَلَّمْتُ فُلَانًا فَلَمْ يَسْمَعْ فَصَارَتْ مُكَلِّمَةً لَهُ ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَ لِبُعْدِهِ ، لَمْ يَحْنَثْ : لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ مُكَلِّمَةً لَهُ إِلَّا إِذَا كَانَ الْكَلَامُ وَاصِلًا إِلَيْهِ ، وَإِلَّا فَهِيَ مُتَكَلِّمَةٌ وَلَيْسَتْ مُكَلِّمَةً ، وَلَوْ كَلَّمَتْهُ وَهُوَ أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ كَلَامَهَا ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَهُ لَوْ كَانَ سَمِيعًا ، لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَهُ ، لَوْ كَانَ سَمِيعًا فَفِي حِنْثِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَحْنَثُ كَمَا لَوْ كَلَّمَتْ سَمِيعًا ، فَلَمْ يَسْمَعْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَسْمَعُ ، لِأَنَّ مِثْلَهُ غَيْرُ مُكَلَّمٍ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [ الرُّومِ : ] . وَلَوْ كَلَّمَتْهُ وَهُوَ حَيٌّ حَنِثَ ، وَلَوْ كَلَّمَتْهُ وَهُوَ مَجْنُونٌ مَغْلُوبٌ عَلَيْهِ ، لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ

مِثْلَهُ لَا يُكَلَّمُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَلَّمَتْهُ وَهُوَ مَيِّتٌ ، وَالنَّائِمُ وَالْمَيِّتُ لَا يُكَلَّمَانِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [ الرُّومِ : ] . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَتْلَى بَدْرٍ ، وَهُمْ فِي الْقَلِيبِ فَقَالَ : هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ، قَيْلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُكَلِّمُ أَمْوَاتًا لَا يَسْمَعُونَ ، فَقَالَ : إِنَّهُمْ لَأَسْمَعُ مِنْكُمْ ، وَلَكِنَّهُ لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي الْجَوَابِ ، فَصَارَ الْمَيِّتُ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يُكَلَّمَ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَقَعَ الْحِنْثُ بِكَلَامِهَا لَهُ مَيِّتًا . قِيلَ : هَذَا هُوَ الْحُجَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يُكَلَّمُ : لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا كَلَامَهُ لَهُمْ ، وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ مُكَلَّمًا مَا أَنْكَرُوهُ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى ، رَدَّ أَرْوَاحَهُمْ إِلَيْهِ ، حِينَ كَلَّمَهُمْ مُعْجِزَةً خَصَّ بِهَا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يُعِيدُ أَرْوَاحَهُمْ لِسَائِلِهِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ ، وَلَوْ كَلَّمَتْهُ وَهُوَ سَكْرَانُ لَا يَشْعُرُ بِالْكَلَامِ وَلَا يَسْمَعُهُ ، لَمْ يَحْنَثْ : لِأَنَّهُ مِثْلُهُ لَا يُكَلَّمُ كَالنَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ كَاتَبَتْهُ ، لَمْ يَحْنَثْ قَالَ إِنْ كَلَّمْتِهِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فكاتبته : لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَكُونُ كَلَامًا ، وَإِنْ قَامَتْ فِي الْإِفْهَامِ مَقَامَ الْكَلَامِ ، وَهَكَذَا لَوْ رَاسَلَتْهُ لَمْ يَحْنَثْ : لِأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ دُونَهَا ، وَإِنْ كَانَ مُبَلِّغًا عَنْهَا ، وَلَوْ أَشَارَتْ إِلَيْهِ بِالْكَلَامِ إِشَارَةً فَهِمَ بِهَا مُرَادَهَا ، فَإِنْ كَانَ نَاطِقًا سَمِيعًا ، لَمْ يَحْنَثْ بِإِشَارَتِهَا إِلَيْهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [ مَرْيَمَ : ، ] فَلَمْ يَجْعَلِ الْإِشَارَةَ كَلَامًا ، وَإِنْ قَامَتْ مَقَامَهُ فِي الْإِفْهَامِ ، وَإِنْ كَانَ زَيْدٌ أَصَمَّ لَا يَسْمَعُ الْكَلَامَ إِلَّا بِالْإِشَارَةِ فَفِي حِنْثِهِ ، بِإِشَارَتِهَا إِلَيْهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَحْنَثُ : لِأَنَّ الْإِشَارَةَ لَيْسَتْ كَلَامًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَحْنَثُ : لِأَنَّهُ هَكَذَا يُكَلَّمُ الْأَصَمُّ ، وَلَوْ كَلَّمَتْ رَجُلًا آخَرَ كَلَامًا سَمِعَهُ زَيْدٌ : لَمْ يَحْنَثْ : لِأَنَّهَا مُكَلِّمَةٌ لِغَيْرِهِ ، وَلَوْ كَلَّمَتِ الْحَائِطَ كَلَامًا لَمْ يَسْمَعْهُ إِلَّا زَيْدٌ فَفِي حِنْثِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَحْنَثُ كَمَا لَوْ كَلَّمَتْ غَيْرَهُ فَسَمِعَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَحْنَثُ : لِأَنَّ الْحَائِطَ لَا يُكَلَّمُ ، فَصَارَ الْكَلَامُ مُتَوَجِّهًا إِلَى مَنْ يَجُوزُ أَنْ يُكَلَّمَ وَلَوْ سَلَّمَتْ عَلَى جَمَاعَةٍ وَفِيهِمْ زَيْدٌ فَإِنْ لَمْ تَعْزِلْهُ بِنِيَّتِهَا حَنِثَ ، وَإِنْ عَزَلَتْهُ بِنِيَّتِهَا فَفِي حِنْثِهِ وَجْهَانِ .



فَصْلٌ : وَلَوْ كَلَّمَتْ زَيْدًا وَهِيَ نَائِمَةٌ ، لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ كَلَامَ النَّائِمِ هَذَيَانٌ ، وَهَكَذَا لَوْ كَلَّمَتْهُ وَهِيَ مَجْنُونَةٌ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ ، أَوْ فِي إِغْمَاءٍ قَدْ أَطْبَقَ لَمْ يَحْنَثْ : لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهَا فِي الْعُرْفِ كَلَامًا وَلَوْ كَلَّمَتْهُ وَهِيَ سَكْرَانَةٌ لَا تَعْقِلُ ، فَإِنْ كَانَ سُكْرُ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ لَمْ يَحْنَثْ كَالْإِغْمَاءِ ، وَإِنْ كَانَ سُكْرُ مَعْصِيَةٍ حَنِثَ ، لِأَنَّ طَلَاقَ السَّكْرَانِ وَاقِعٌ ، كَطَلَاقِ الصَّاحِي ، وَإِنْ خَرَجَ قَوْلٌ آخَرُ فِي طَلَاقِ السَّكْرَانِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ لَمْ يَحْنَثْ هَاهُنَا ، وَلَوْ كَلَّمَتْهُ نَاسِيَةً حَنِثَ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ ، وَعِنْدَ الْبَغْدَادِيِّينَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَلَوْ كَلَّمَتْهُ مُكْرَهَةً كَانَ فِي حِنْثِهِ عَلَى مَذْهَبِ الْبَغْدَادِيِّينَ قَوْلَانِ وَمِنَ الْبَصْرِيِّينَ مَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى تَخْرِيجِ الْقَوْلَيْنِ هَاهُنَا : لِأَنَّ مَا لَا يُقْصَدُ مِنَ الْكَلَامِ لَيْسَ بِكَلَامٍ ، فَجَرَى مَجْرَى هَذَيَانِ النَّائِمِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِزَوْجَتِهِ إِنْ بَدَأْتُكِ بِالْكَلَامِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ : إِنْ بَدَأْتُكَ بِالْكَلَامِ فَعَبْدِي حُرٌّ ، انْحَلَّتْ يَمِينُ الزَّوْجِ : لِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ بِقَوْلِهَا ، إِنْ بَدَأْتُكَ بِالْكَلَامِ فَعَبْدِي حُرٌّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَادِئًا لَهَا بِالْكَلَامِ ، فَإِنْ بَدْأَهَا الزَّوْجُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْكَلَامِ انْحَلَّتْ يَمِينُ الزَّوْجَةِ وَلَمْ يَحْنَثِ الزَّوْجُ ، لِأَنَّهَا خَرَجَتْ بِمَا بَدَأَهَا الزَّوْجُ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ ، أَنْ تَكُونَ بَادِئَةً لَهُ بِالْكَلَامِ ، وَإِنْ بَدَأَتْهُ بِالْكَلَامِ حَنِثَ وَعَتَقَ عَبْدُهَا .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ إِنْ أَمَرْتُكِ بِأَمْرٍ فَخَالَفْتِينِي فَأَنْتِ طَالِقٌ ، ثُمَّ قَالَ لَهَا : إِنْ لَمْ تَصْعَدِي السَّمَاءَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، كَانَ فِي طَلَاقِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ طُلِّقَتْ : لِأَنَّهَا لَمْ تَفْعَلْ مَا أَمَرَهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تُطَلَّقُ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِي الْعُرْفِ مَا أَمْكَنَ إِجَابَةَ الْمَأْمُورِ إِلَيْهِ ، وَهَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ .

فَصْلٌ : فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الطَّلَاقِ بِصِفَةٍ وَبَيْنَ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ . وَالطَّلَاقُ بِالْعَقْدِ أَنْ يُعَلِّقَ طَلَاقَهَا بِشَرْطٍ لَا تَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ ، كَقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا طَلَعْتِ الشَّمْسُ أَوْ إِذَا دَخَلَ رَأْسُ الشَّهْرِ ، أَوْ إِذَا قَدِمَ الْحَاجُّ ، أَوْ إِذَا جَاءَ الْمَطَرُ ، أَوْ إِذَا نَعَبَ الْغُرَابُ أَوْ إِذَا حَضْتِ ، أَوْ إِنْ وَلَدْتِ ، أَوْ إِنْ شِئْتِ ، فَهَذَا كُلُّهُ وَمَا شَاكَلَهُ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِصِفَةٍ فَإِذَا قَالَ : إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِكِ ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ لَهَا : إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، أَوْ إِذَا قَدِمَ الْحَاجُّ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، أَوْ إِذَا جَاءَ الْمَطَرُ فَأَنْتِ طَالِقٌ : لَمْ يَحْنَثْ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَاقُ ، لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ مُطَلِّقٌ بِصِفَةٍ وَلَيْسَ بِحَالِفٍ بِالطَّلَاقِ . وَأَمَّا الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ فَهُوَ مَا مَنَعَ بِهَا مِنْ فِعَالٍ ، وَحَثَّ بِهَا عَلَى فِعْلٍ ، أَوْ قَصَدَ تَصْدِيقَ نَفْسِهِ ، أَوْ غَيْرِهِ عَلَى شَيْءٍ ، فَالَّتِي يَمْنَعُ بِهَا مِنْ فِعْلٍ ، أَنْ يَقُولَ : إِنْ دَخَلَتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ .

وَالَّتِي يَحُثُّ بِهَا عَلَى فِعْلٍ ، أَنْ يَقُولَ : إِنْ لَمْ تَدْخُلِي الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ . وَالَّتِي قَصَدَ بِهَا التَّصْدِيقَ عَلَى فِعْلٍ ، أَنْ يَقُولَ : إِنْ لَمْ أَكُنْ دَخَلْتُ الدَّارَ ، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَهَذَا كُلُّهُ حَلِفٌ بِالطَّلَاقِ ، فَلَوْ قَالَ لَهَا : إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، حَنِثَ وَطُلِّقَتْ مِنْهُ : لِأَنَّهُ قَدْ حَلَفَ بِطَلَاقِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا لَمْ تُطَلَّقْ بِدُخُولِ الدَّارِ : لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ بِالْأُولَى ، وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا ، طُلِّقَتْ ثَانِيَةً بِدُخُولِهَا ، فَلَوْ قَالَ لَهَا : إِنْ دَخَلَ زَيْدٌ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَإِنْ كَانَ زَيْدٌ مِمَّنْ يُطِيعُهُ ، وَيَمْتَنِعُ مِنَ الدُّخُولِ بِقَوْلِهِ فَهِيَ يَمِينٌ بِالطَّلَاقِ وَإِنْ كَانَ زَيْدٌ سُلْطَانًا أَوْ ذَا قُدْرَةٍ لَا يُطِيعُهُ وَلَا يَمْتَنِعُ مِنَ الدُّخُولِ بِقَوْلِهِ ، فَهُوَ طَلَاقٌ بِصِفَةٍ ، وَلَيْسَ بِيَمِينٍ ، هَذَا مَذْهَبُنَا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : كُلُّ هَذَا يَمِينٌ كَالطَّلَاقِ ، إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ ، أَحَدُهَا أَنْ يَقُولَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا حِضْتِ ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا طَهُرْتِ ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا شِئْتِ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِقَوْلِهِ إِذَا حِضْتِ أَوْ طَهُرْتِ ، أَنْ يُوقِعَهُ لِلسُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ ، وَالْمَقْصُودُ بِقَوْلِهِ إِنْ شِئْتِ التَّمْلِيكُ الَّذِي يُرَاعَى فِيهِ الرَّدُّ وَالْقَبُولُ . فَأَمَّا إِذَا قَالَ : إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ ، أَوْ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ ، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهَا يَمِينٌ بِالطَّلَاقِ ؟ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ طَلَاقٍ بِصِفَةٍ ، فَأَشْبَهَ قَوْلَهُ : إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الْيَمِينَ مَا قُصِدَ بِهَا الْمَنْعُ مِنْ شَيْءٍ ، أَوِ الْحَثُّ عَلَى شَيْءٍ ، أَوِ التَّصْدِيقُ عَلَى شَيْءٍ ، وَمَا خَرَجَ عَنْ هَذَا فَلَيْسَ بِيَمِينٍ كَقَوْلِهِ : إِذَا حِضْتِ أَوْ طَهُرْتِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا ، تَفَرَّعَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ لَهَا : إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِكِ ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ، ثُمَّ يُعِيدُهُ ثَانِيَةً ، فَيَقُولُ : إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ وَتُطَلَّقُ مِنْهُ وَاحِدَةً : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِإِعَادَةِ اللَّفْظِ حَالِفًا بِطَلَاقِهَا ، فَلَوْ أَعَادَهُ ثَالِثَةً ، فَقَالَ : إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ طُلِّقَتْ ثَالِثَةً بِالْيَمِينِ الثَّالِثَةِ ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بَيْنَ قَوْلِهِ ، كُلَّمَا حَلَفْتُ بِطَلَاقِكِ ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ، وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ : كُلَّمَا فِي وُجُودِ التَّكْرَارِ ، وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ بِتَكْرَارِ الْأَيْمَانِ ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا ، فَلَا تُطَلَّقَ إِلَّا الْأُولَى وَحْدَهَا : لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ بِهَا . فَرْعٌ : وَإِذَا كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ مَدْخُولٌ بِهَا وَغَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا ، فَقَالَ لَهُمَا : إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِكُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ ثُمَّ أَعَادَهُ ثَانِيَةً ، فَقَالَ : إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِكُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ ، حَنِثَ وَطُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَاحِدَةً ، إِلَّا أَنَّ طَلَاقَ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا بَائِنٌ ، وَطَلَاقَ الْمَدْخُولِ بِهَا رَجْعِيٌّ . فَإِنْ أَعَادَ ذَلِكَ ثَالِثَةً ، فَقَالَ : إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِكُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ ، لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا أَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا ، فَلِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ ، وَأَمَّا الْمَدْخُولُ بِهَا فَلِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا ، بِأَنْ يَكُونَ حَالِفًا بِطَلَاقِهَا ، وَهُوَ غَيْرُ حَالِفٍ بِطَلَاقِ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا : لِأَنَّ بَعْدَ بَيْنُونَتِهَا لَا يَكُونُ حَالِفًا بِطَلَاقِهَا .

فَرْعٌ : وَإِذَا كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ ، حَفْصَةُ وَعَمْرَةُ ، فَقَالَ : يَا حَفْصَةُ إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، ثُمَّ قَالَ : يَا عَمْرَةُ إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِ حَفْصَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، طُلِّقَتْ حَفْصَةُ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ حَالِفًا بِطَلَاقِ عَمْرَةَ ، وَلَمْ تُطَلَّقْ عَمْرَةَ : لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ حَالِفًا بِطَلَاقِ حَفْصَةَ ، فَإِنْ أَعَادَ ذَلِكَ ثَانِيَةً فَقَالَ : يَا حَفْصَةُ إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، وَيَا عَمْرَةُ إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِ حَفْصَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، طُلِّقَتْ عَمْرَةُ وَاحِدَةً : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ حَالِفًا بِطَلَاقِ حَفْصَةَ ، وَطُلِّقَتْ حَفْصَةُ ثَانِيَةً : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ حَالِفًا بِطَلَاقِ عَمْرَةَ ، فَإِنْ أَعَادَ ذَلِكَ ثَالِثَةً ، فَقَالَ : يَا حَفْصَةُ إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، وَيَا عَمْرَةُ إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِ حَفْصَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، طُلِّقَتْ حَفْصَةُ ثَالِثَةً وَطُلِّقَتْ عَمْرَةُ ثَانِيَةً . فَإِنْ أَعَادَ ذَلِكَ رَابِعَةً لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا ، وَصَارَ الطَّلَاقُ الْوَاقِعُ عَلَى حَفْصَةَ ثَلَاثًا وَالطَّلَاقُ الْوَاقِعُ عَلَى عَمْرَةَ اثْنَتَيْنِ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ حَفْصَةَ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ طَلَاقِهَا ، لَا يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقٌ وَلَا يَكُونُ حَالِفًا عَلَيْهَا بِالطَّلَاقِ فَلَمْ تُطَلَّقْ بِعَمْرَةَ لِاسْتِكْمَالِهَا لِلثَّلَاثِ ، وَلَمْ تُطَلَّقْ بِهَا عَمْرَةُ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ حَالِفًا عَلَى حَفْصَةَ بِالطَّلَاقِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ لِمَدْخُولٍ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ وَقَعَتِ الْأُولَى وَسُئِلَ مَا نَوَى فِي الثِّنْتَيْنِ بَعْدَهَا فَإِنْ أَرَادَ تَبْيِينَ الْأُولَى فَهِيَ وَاحِدَةٌ وَمَا أَرَادَ وَإِنْ قَالَ لَمْ أُرِدْ طَلَاقًا لَمْ يُدَنْ فِي الْأُولَى وَدِينَ فِي الثِّنْتَيْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا أَنْ يُكَرِّرَ لَفْظَ الطَّلَاقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، فَيَقُولُ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا تُطَلَّقُ ثَلَاثًا ، وَلَا يُرْجَعُ إِلَى إِرَادَتِهِ ، وَيَجْرِي ذَلِكَ مَجْرَى قَوْلِهِ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا غَيْرَ أَنَّهُ فَرَّقَ فِي إِحْدَى الْمَوْضِعَيْنِ وَجَمَعَ فِي الْآخَرِ . وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ التَّكْرَارَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّأْكِيدُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّكْرَارُ وَالِاسْتِئْنَافُ أَلَّا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ . فَكَرَّرَهَا ثَلَاثًا فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ مَحْمُولًا عَلَى التَّأْكِيدِ دُونَ الِاسْتِئْنَافِ وَقَالَ : وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ، وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ، وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا . فَكَانَ تَكْرَارُهُ لِذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى التَّأْكِيدِ دُونَ الِاسْتِئْنَافِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَغْزُهَا بَعْدَ هَذِهِ الْيَمِينِ ، إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً ، هَذَا لِسَانُ الْعَرَبِ وَعَادَتُهُمْ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَكْرَارُ لَفْظِ الطَّلَاقِ مَحْمُولًا عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كُرِّرَ الْإِقْرَارُ لَمَا تَضَاعَفَ بِهِ الْحَقُّ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ ، لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ ، لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ ، لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ ، وَيَكُونُ التَّكْرَارُ مَحْمُولًا عَلَى التَّأْكِيدِ فَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ .



فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ احْتِمَالُ هَذَا التَّكْرَارِ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّأْكِيدُ تَارَةً وَالِاسْتِئْنَافُ أُخْرَى ، في الطلاق وَقَعَتِ الطَّلْقَةُ الْأُولَى وَرُجِعَ إِلَى إِرَادَتِهِ ، فِي الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ ، وَلَهُ فِيهِمَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُرِيدَ بِهَا التَّأْكِيدَ لِلْأُولَى ، فَلَا تُطَلَّقُ إِلَّا وَاحِدَةً ، فَإِنْ أَكْذَبَتْهُ الزَّوْجَةُ فِي أَنَّهُ أَرَادَ التَّأْكِيدَ ، وَقَالَتْ : بَلْ أَرَدْتَ الِاسْتِئْنَافَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُرِيدَ الِاسْتِئْنَافَ فَتُطَلَّقُ ثَلَاثًا ، فَإِنْ أَكْذَبَتْهُ الزَّوْجَةُ وَقَالَتْ : أَرَدْتَ التَّأْكِيدَ لَمْ يُؤَثِّرْ تَكْذِيبُهَا وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُرِيدَ بِإِحْدَاهُمَا التَّأْكِيدَ ، وَبِالْأُخْرَى الِاسْتِئْنَافَ ، فَقَدْ طُلِّقَتْ ثِنْتَيْنِ وَكَانَتِ الْأُخْرَى تَأْكِيدًا لِإِحْدَى الطَّلْقَتَيْنِ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ لَا تَكُونَ لَهُ إِرَادَةٌ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ يُحْمَلُ عَلَى التَّأْكِيدِ وَلَا تَلْزَمُهُ إِلَّا الطَّلْقَةُ الْأُولَى لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ إِذَا احْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ صَارَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِهِ شَكًّا وَالطَّلَاقُ لَا يَقَعُ بِالشَّكِّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ إِذَا رُجِعَ فِيهِ إِلَى إِرَادَتِهِ صَارَ كِنَايَةً وَالْكِنَايَةُ لَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ مَعَ فَقْدِ الْإِرَادَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ مِنَ الْجَدِيدِ ، يُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَتُطَلَّقُ ثَلَاثًا ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّفْظَ الثَّانِيَ كَالْأَوَّلِ ، وَعَلَى صِيغَتِهِ ، فَلَمَّا وَقَعَ الطَّلَاقُ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ ، وَجَبَ أَنْ يَقَعَ بِمَا كَانَ مِثْلًا لَهُ مِنَ الثَّانِي وَالثَّالِثِ . وَالثَّانِي : أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ مُقَيَّدٌ ، وَعَلَى التَّأْكِيدِ غَيْرُ مُقَيَّدٍ ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى مَا أَفَادَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا لَمْ يُفِدْ ، فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا جَعَلْتُمُ الْإِقْرَارَ ، إِذَا تَكَرَّرَ مَحْمُولًا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ فَضَاعَفْتُمُ الْحَقَّ بِتَكْرَارِهِ كَالطَّلَاقِ ، قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ، أَنَّ الْإِقْرَارَ إِخْبَارٌ عَنْ مَاضٍ بِحَقٍّ مُسْتَقِرٍّ فَلَمْ يُوجِبْ تَكْرَارُهُ تَكْرَارَ الْحَقِّ ، وَالطَّلَاقُ تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، فَجَازَ إِذَا تَكَرَّرَ ، أَنْ يَبْقَى .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ وَقَعَتِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ بِالْوَاوِ لَأَنَّهَا اسْتِئْنَافٌ لِكَلَامٍ فِي الظَّاهِرِ وَدِينَ فِي الثَّالِثَةِ فَإِنْ أَرَادَ بِهَا طَلَاقًا فَهُوَ طَلَاقٌ وَإِنْ أَرَادَ بِهَا تَكْرِيرًا فَلَيْسَ بِطَلَاقٍ وَكَذَلِكَ أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثَمَّ طَالِقٌ وَكَذَلِكَ طَالِقٌ بَلْ طَالِقٌ بَلْ طَالِقٌ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِي كِتَابِ الْإِمْلَاءِ وَإِنْ أَدْخَلَ " ثُمَّ " أَوْ

وَاوًا فِي كَلِمَتَيْنِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَظَاهِرُهَا اسْتِئْنَافٌ وَهِيَ ثَلَاثٌ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَالظَّاهِرُ فِي الْحُكْمِ أَوْلَى وَالْبَاطِنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ ، وَقَعَتِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ وَلَمْ يُرْجَعْ إِلَى إِرَادَتِهِ فِيهِمَا ، لِأَنَّهُ قَدْ غَايَرَ بَيْنَ الْحَرْفَيْنِ ، فَالطَّلْقَةُ الْأُولَى بِحَرْفِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ : أَنْتِ ، وَالطَّلْقَةُ الثَّانِيَةُ بِوَاوِ الْعَطْفِ ، وَإِذَا غَايَرَ بَيْنَ الْحَرْفَيْنِ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ التَّأْكِيدِ ، إِلَى الِاسْتِئْنَافِ ، لِأَنَّ التَّأْكِيدَ يَكُونُ يُشَاكِلُ الْأَلْفَاظَ فَإِنْ تَغَايَرَتْ صَارَتِ اسْتِئْنَافًا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَقَعَتِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ لِتَغَايُرِهِمَا ، وَكَانَتِ الثَّالِثَةُ مُشَابِهَةً لِلثَّانِيَةِ ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي وَاوِ الْعَطْفِ ، فَدَخَلَهَا الِاحْتِمَالُ فَاقْتَضَى أَنْ لَا يُرْجَعَ فِيهَا إِلَى إِرَادَتِهِ ، فَإِنْ أَرَادَ بِهَا التَّأْكِيدَ ، كَانَتْ تَأْكِيدًا وَلَمْ يُطَلِّقْ إِلَّا ثِنْتَيْنِ وَإِنْ أَرَادَ بِهَا الِاسْتِئْنَافَ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ فَفِيهَا قَوْلَانِ : إِحْدَاهُمَا : يَكُونُ تَأْكِيدًا . وَالثَّانِي : يَكُونُ اسْتِئْنَافًا عَلَى مَا مَضَى ، فَلَوْ قَالَ : أَرَدْتُ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ التَّأْكِيدَ قُبِلَ مِنْهُ فِي الثَّالِثَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، فَلَمْ تَقَعْ وَلَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ فِي الثَّانِيَةِ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ ، وَقُبِلَ مِنْهُ فِي الْبَاطِنِ وَكَانَ فِيهَا مَدِينًا ، فَيَلْزَمُهُ فِي الظَّاهِرِ طَلْقَتَانِ ، وَفِي الْبَاطِنِ وَاحِدَةٌ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ، وَقَعَتِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ ، لِأَنَّهَا مُغَايِرَةٌ لِلْأُولَى بِحَرْفِ النَّسَقِ ، وَالثَّالِثَةُ مِثْلُ الثَّانِيَةِ ، يُرْجَعُ إِلَى إِرَادَتِهِ فِيهَا ، فَإِنْ أَرَادَ بِهَا التَّأْكِيدَ لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا ثِنْتَيْنِ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهَا الِاسْتِئْنَافَ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ بَلْ طَالِقٌ ، بَلْ طَالِقٌ ، طُلِّقَتِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ لِتَغَايُرِهِمَا بِحَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ ، الَّذِي يَقْتَضِي الْإِضْرَابَ عَنِ الْأَوَّلِ بِاسْتِدْرَاكِ مَا بَعْدَهُ ، وَالطَّلَاقُ لَا يَرْتَفِعُ بَعْدَ وُقُوعِهِ ، وَلَكِنَّ الثَّالِثَةَ مُشَابِهَةٌ لِلثَّانِيَةِ ، فَيُسْأَلُ عَنْهَا ، وَيُحْمَلُ عَلَى إِرَادَتِهِ فِيهَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ فَعَلَى قَوْلَيْنِ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ طَالِقٌ ، طُلِّقَتِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَدْخَلَ عَلَى الثَّانِيَةِ وَاوَ الْعَطْفِ ، وَرُجِعَ إِلَى إِرَادَتِهِ فِي الثَّالِثَةِ ، لِأَنَّهَا كَالثَّانِيَةِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ ، فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا ، أَنَّهَا تُطَلَّقُ طَلْقَتَيْنِ . وَاحِدَةً بِقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ، وَالثَّانِيَةَ بِقَوْلِهِ : فَطَالِقٌ . وَقَالَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ : لَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ ، لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ يَنْقُلُ جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى وَيُخْرِجُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُهُ طَلْقَتَانِ وَدِرْهَمَانِ ، عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الطَّلَاقِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : تَلْزَمُهُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَدِرْهَمٌ وَاحِدٌ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِقْرَارِ .

وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى حَمْلِ الْجَوَابِ عَلَى ظَاهِرِهِ ، فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَتُطَلَّقُ طَلْقَتَيْنِ وَلَا يَلْزَمُهُ فِي الْإِقْرَارِ إِلَّا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الدَّرَاهِمَ قَدْ تَتَفَاضَلُ فَيَكُونُ دِرْهَمٌ خَيْرًا مِنْ دِرْهَمٍ فَإِذَا قَالَ : لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ احْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ فَدِرْهَمٌ آخَرُ خَيْرٌ مِنْهُ ، فَلَمْ يَحْتَمِلْ قَوْلُهُ فَطَالِقٌ أَنَّهَا خَيْرٌ مِنَ الْأُولَى أَوْ دُونَهَا ، فَوَقَعَتِ الثَّانِيَةُ لِانْتِفَاءِ الِاحْتِمَالِ عَنْهَا . فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ فَطَالِقٌ ، وَقَعَتِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ لِتَغَايُرِ اللَّفْظِ فِيهِمَا وَرُجِعَ إِلَى إِرَادَتِهِ فِي الثَّالِثَةِ ، لِأَنَّهَا كَالثَّانِيَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا إِرَادَةٌ فَعَلَى قَوْلَيْنِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ ، ثُمَّ طَالِقٌ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا وَلَمْ يُرْجَعْ إِلَى إِرَادَتِهِ فِيهِمَا لِأَنَّهُ قَدْ غَايَرَ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ ، فَإِنْ قَالَ : إِنِّي أَرَدْتُ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ التَّأْكِيدَ ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ وَدِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى . وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ ، فَطَالِقٌ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا ، لِلْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ بَلْ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ مَتَى غَايَرَ بَيْنَ اللَّفْظِ لَمْ يُسْأَلْ ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَايَرْ سُئِلَ ، فَأَمَّا الْمُغَايَرَةُ بَيْنَ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ مَعَ اتِّفَاقِ الْحُرُوفِ في ألفاظ الطلاق فَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ مُفَارَقَةٌ أَنْتِ مُسَرَّحَةٌ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ كَمُغَايَرَةِ الْحُرُوفِ فَتُطَلَّقَ ثَلَاثًا مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ ، لِأَنَّ الْحُكْمَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ أَخَصُّ مِنْهُ بِحُرُوفِ الطَّلَاقِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُغَلَّبُ حُكْمُ الْحُرُوفِ الْمُتَشَاكِلَةِ وَإِنْ كَانَتْ أَلْفَاظُ الطَّلَاقِ مُتَغَايِرَةً ، لِأَنَّ الْحُرُوفَ هِيَ الْعَامِلَةُ فِي وُقُوعِ الْحُكْمِ بِاللَّفْظِ . فَعَلَى هَذَا يُرْجَعُ إِلَى مَا أَرَادَهُ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ عَلَى مَا مَضَى .

فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ : وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ لَا بَلْ طَالِقٌ ، وَنَوَى بِقَوْلِهِ لَا بَلْ طَالِقٌ إِثْبَاتَ الثَّانِيَةِ ، طُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى قَالَ ذَلِكَ مُرْسَلًا ، مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا ، لِأَنَّهُ قَدْ غَايَرَ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ . وَإِنْ نَوَى بِالثَّالِثَةِ أَنْ يَسْتَدْرِكَ بِهَا وُقُوعَ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ شَكَّ فِي إِيقَاعِهَا ، في الطلاق قَالَ الشَّافِعِيُّ : طُلِّقَتْ ثِنْتَيْنِ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ مَا أَرَادَ ، هَذَا الَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ : أَنَّ الثَّالِثَةَ لَا تَقَعُ فِي الْبَاطِنِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهِيَ وَاقِعَةٌ فِي الظَّاهِرِ ، فَالْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَهُ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهَا لَا تَقَعُ ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا فَهُوَ مَعْلُولٌ ، لِأَنَّ تَغَايُرَ الْأَلْفَاظِ يَحْمِلُ لِكُلِّ طَلْقَةٍ حُكْمَ نَفْسِهَا ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ ، فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ مَا أَدَّى إِلَى رَفْعِهَا .

فَصْلٌ : قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَا بَلْ ثِنْتَيْنِ ، طُلِّقَتْ ثَلَاثَةً ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَدْرَكَ بِالثِّنْتَيْنِ ، الْإِضْرَابَ عَنِ الْوَاحِدَةِ ، فَوَقَعَتِ الثِّنْتَانِ وَلَمْ

يَصِحَّ الْإِضْرَابُ عَنِ الْأُولَى ، وَهَذَا عِنْدِي غَيْرُ صَحِيحٍ ، بَلْ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا طَلْقَتَانِ ، لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَدْرَكَ زِيَادَةً عَلَى الْأُولَى بَطَلَ حُكْمُ الْإِضْرَابِ ، لِدُخُولِهِ فِي الْمُسْتَدْرِكِ ، وَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ : لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ لَا بَلْ دِرْهَمَانِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا دِرْهَمَانِ لَا غَيْرَهُ ، لِدُخُولِ الدِّرْهَمِ فِي الدِّرْهَمَيْنِ ، فَزَالَ عَنْهُ حُكْمُ الْإِضْرَابِ .


فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ لِإِحْدَى زَوْجَتَيْهِ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً ، لَا بَلْ هَذِهِ ثَلَاثًا ، طُلِّقَتِ الْأُولَى وَاحِدَةً وَطُلِّقَتِ الثَّانِيَةُ ثَلَاثًا ؛ لِأَنَّهُ اسْتَدْرَكَ بِالثَّانِيَةِ الْإِضْرَابَ عَنْ طَلَاقِ الْأُولَى ، فَطُلِّقَتِ الثَّانِيَةُ وَلَمْ يَقَعْ طَلَاقُ الْأُولَى ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ لِزَوْجَةٍ وَاحِدَةٍ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً ، لَا بَلْ ثَلَاثًا إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ ، قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَدَّادِ الْمِصْرِيُّ فِي فُرُوعِهِ : طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ وَاحِدَةً ، وَطُلِّقَتْ بِدُخُولِ الدَّارِ تَمَامَ الثَّلَاثِ إِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا فَجَعَلَ الشَّرْطَ رَاجِعًا إِلَى الثَّلَاثَةِ وَحْدَهَا ، وَجَعَلَ الْأُولَى بِآخِرِهِ بِغَيْرِ شَرْطٍ ، لِإِضْرَابِهِ عَنْهَا بِاسْتِدْرَاكِ الثَّلَاثِ بِالشَّرْطِ ، وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ فِي قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَلْ ثِنْتَيْنِ ، أَنَّهَا تُطَلَّقُ ثَلَاثًا ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ الْحَدَّادِ ، لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدِي لِدُخُولِ الْوَاحِدَةِ فِي الثَّلَاثِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ رَاجِعًا إِلَى الْجَمِيعِ ، وَلَا تُطَلَّقُ قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ شَيْئًا ، فَإِذَا دَخَلَتْهَا طُلِّقَتْ ثَلَاثًا .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ لَهَا : إِنْ طَلَّقْتُكِ وَاحِدَةً ، أَمْلِكُ فِيهَا الرَّجْعَةَ ، فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهَا ثَلَاثًا ، فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا طُلِّقَتْ وَاحِدَةً وَلَمْ يُوجِبْ وُقُوعُهَا وُقُوعَ ثَلَاثٍ قَبْلَهَا ، لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي وُقُوعِ الثَّلَاثِ ، بِثُبُوتِ الرَّجْعَةِ فِي الْوَاحِدَةِ ، وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا لَا رَجْعَةَ فِي طَلَاقِهَا ، فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الثَّلَاثِ فِيهَا ، فَوَقَعَتِ الْوَاحِدَةُ ، وَلَمْ تَقَعِ الثَّلَاثُ ، وَهَذَا مِمَّا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا ، مَلَكَ بَعْدَ الْوَاحِدَةِ رَجَعَتْهَا ، فَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ الثَّلَاثِ فِيهَا ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ لَا الْوَاحِدَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ ، وَلَا الثَّلَاثُ الْمُعَلَّقَةُ بِالصِّفَةِ ، لِأَنَّ وُقُوعَ النَّاجِزَةِ تُوجِبُ وُقُوعَ ثَلَاثٍ قَبْلَهَا بِالصِّفَةِ ، وَوُقُوعَ الثَّلَاثِ مِنْ قَبْلُ تَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ الْوَاحِدَةِ مِنْ بَعْدِهِ ، فَنَفَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّلَاقَيْنِ وُقُوعَ الْآخَرِ فَسَقَطَا مَعًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ ، وَمَنْ حَكَى عَنْهُ خِلَافَهُ ، فَقَدْ وَهِمَ أَنَّهُ تَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلْقَةُ النَّاجِزَةُ وَحْدَهَا وَلَا يَكُونُ اشْتِرَاطُهَا فِي وُقُوعِ الثَّلَاثَةِ قَبْلَهَا مَانِعًا مِنْ وُقُوعِهَا وَهَذَا الصَّحِيحُ عِنْدِي ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ لِأَمْرَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّاجِزَ أَصْلٌ وَهُوَ أَقْوَى ، وَالْمُعَلَّقَ بِالصِّفَةِ فَرْعٌ وَهُوَ أَضْعَفُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ أَضْعَفُهُمَا رَافِعًا لِأَقْوَاهُمَا . وَالثَّانِي : أَنَّ طَلَاقَ الصِّفَةِ لَا يَقَعُ إِلَّا بَعْدَ وُقُوعِ النَّاجِزِ ، وَالطَّلَاقُ لَا يَرْتَفِعُ بَعْدَ وُقُوعِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهَا تُطَلَّقُ ثَلَاثًا الْوَاحِدَةَ النَّاجِزَةَ وَثِنْتَيْنِ مِنَ الثَّلَاثِ الْمُعَلَّقَةِ بِالصِّفَةِ ، وَلَا يَكُونُ امْتِنَاعُ وُقُوعِ الثَّالِثَةِ لِأَنَّهَا فِي حَقِّ الْمُطَلَّقَةِ رَابِعَةً مَانِعًا مِنْ وُقُوعِ مَا سِوَاهَا إِذَا كَانَ وُقُوعُهُ مُمْكِنًا ، كَمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَرْبَعًا طُلِّقَتْ بِدُخُولِ الدَّارِ ثَلَاثًا ، وَلَمْ يَكُنِ امْتِنَاعُ وُقُوعِ الرَّابِعَةِ مَانِعًا مِنْ وُقُوعِ الثَّلَاثِ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا . وَلِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهٌ ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ لَهَا : إِنْ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثًا فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهَا ثَلَاثًا ، فَإِنْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً أَوْ طَلْقَتَيْنِ طُلِّقَتْ مَا أَوْقَعَهُ عَلَيْهَا مِنْ نَاجِزِ الطَّلَاقِ مِنْ وَاحِدَةٍ أَوِ اثْنَتَيْنِ ، فَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَعَلَى مَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُ لَا تُطَلَّقُ شَيْئًا ، لَا مِنْ نَاجِزِ الطَّلَاقِ وَلَا الْمُعَلَّقِ بِالصِّفَةِ لِتَدْفَعَ الطَّلَّاقَيْنِ . وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ تَقَعُ الثَّلَاثُ النَّاجِزَةُ ، لِأَنَّهَا أَثْبَتُ الطَّلَّاقَيْنِ وَأَقْوَاهُمَا فَلَوْ قَالَ : كُلَّمَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا ، فَعَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيِّ : فَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقٌ قَطُّ ، لِأَنَّ وُقُوعَهُ يَقْتَضِي وُقُوعَ ثَلَاثَةٍ قَبْلَهُ، وَوُقُوعَ ثَلَاثَةٍ قَبْلَهُ تَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ مَا بَعْدَهُ . وَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَسْقُطُ حُكْمُ الثَّلَاثِ الْمُعَلَّقَةِ بِالصِّفَةِ ، لِأَنَّ ثُبُوتَهَا يُؤَدِّي إِلَى أَنْ لَا يَلْحَقَهَا طَلَاقٌ أَبَدًا ، وَهَذَا مَدْفُوعٌ فِي الزَّوْجَاتِ مَعَ بَقَاءِ نِكَاحِهِنَّ فَبَطَلَ ، وَوَقَعَ عَلَيْهَا مَا اسْتَأْنَفَهُ مِنَ الطَّلَاقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا فَهِيَ وَاحِدَةٌ كَقَوْلِهِ طَلَاقًا حَسَنًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ طَلَاقًا مَصْدَرٌ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمِ الطَّلَاقِ وَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي زِيَادَةِ الْعَدَدِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [ النِّسَاءِ : ] . وَلِأَنَّ قَوْلَهُ طَلَاقًا صِفَةٌ لِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ، فَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ طَلَاقًا حَسَنًا ، وَهَكَذَا أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقًا لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا وَاحِدَةٌ ، وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فِي زِيَادَةِ الْعَدَدِ . فَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقًا ثِنْتَيْنِ لَزِمَهُ ثِنْتَانِ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ ثَلَاثًا ، لَزِمَهُ ثَلَاثٌ ، لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ، ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا لَزِمَهُ مَا

أَرَادَ ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا ، وَهَذَا مِمَّا وَافَقَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَإِنْ خَالَفَ فِي اقْتِصَارِهِ عَلَى قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مَرِيضَةً بِالنَّصْبِ كَانَ الْمَرَضُ شَرْطًا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ فَمَا لَمْ تَمْرَضْ لَمْ تُطَلَّقْ ، فَإِذَا مَرِضَتْ طُلِّقَتْ ، لِأَنَّ نَصْبَهُ عَلَى الْحَالِ يُخْرِجُهُ مَخْرَجَ الشَّرْطِ وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مَرِيضَةٌ بِالرَّفْعِ طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَرِيضَةً أَوْ غَيْرَ مَرِيضَةٍ ، لِأَنَّهُ بِالرَّفْعِ يَصِيرُ صِفَةً ، وَهَذَا فِيمَنْ كَانَ مَنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ ، وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ فِي حُكْمِ مَا يَلْزَمُهُ كَأَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ ، لِأَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِاللَّفْظِ ، سَوَاءٌ عَرَفَ حُكْمَهُ أَوْ جَهِلَهُ مِثْلَ صَرِيحِ الطَّلَاقِ وَكِنَايَتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ حُكْمُ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ ، فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ ، لِأَنَّ الْإِعْرَابَ دَلِيلٌ عَلَى الْمَقَاصِدِ وَالْأَغْرَاضِ فَإِذَا جُهِلَتْ عُدِمَتْ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ طَالِقًا ، فَقَدْ جَعَلَ الشَّرْطَ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا ، أَنْ تَدْخُلَ الدَّارَ وَهِيَ مُطَلَّقَةٌ ، فَإِنْ دَخَلَتْهَا غَيْرَ مُطَلَّقَةٍ لَمْ تُطَلَّقْ ، كَمَا لَوْ قَالَ : إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ رَاكِبَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَدَخَلَتْهَا غَيْرَ رَاكِبَةٍ لَمْ تُطَلَّقْ ، وَلَوْ طَلَّقَهَا ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا ، بِأَنْ تَكُونَ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا أَوْ تَكُونَ مُخْتَلِعَةً لَمْ تُطَلَّقْ بِدُخُولِ الدَّارِ ، لِأَنَّ الْبَائِنَ لَا يَلْحَقُهَا طَلَاقٌ ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا طُلِّقَتْ بِدُخُولِ الدَّارِ طَلْقَتَيْنِ ، لِقَوْلِهِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ فَتَصِيرُ طَالِقًا ثَلَاثًا .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ بِالْكَسْرِ كَانَ دُخُولُ الدَّارِ شَرْطًا ، فَلَا تُطَلَّقُ حَتَّى تَدْخُلَهَا وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْ دَخَلَتِ الدَّارَ بِالْفَتْحِ ، طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ ، سَوَاءٌ دَخَلَتِ الدَّارَ أَوْ لَمْ تَدْخُلْ ، لِأَنَّهَا إِذَا فُتِحَتْ بِمَعْنَى الْجَزَاءِ ، وَتَقْدِيرُهُ أَنْتِ طَالِقٌ ، لِأَنَّكِ دَخَلْتِ الدَّارَ ، هَذَا فِيمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ ، فَأَمَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ كَأَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي الْحَالَيْنِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا دَخَلَتِ الدَّارَ ، كَانَ دُخُولُ الدَّارِ شَرْطًا ، لَا تُطَلَّقُ حَتَّى تَدْخُلَ الدَّارَ ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إِذْ دَخَلَتِ الدَّارَ ، لَمْ يَكُنْ دُخُولُ الدَّارِ شَرْطًا ، وَطُلِّقَتْ فِي الْحَالِ لِأَنَّ إِذَا اسْمٌ لِمُسْتَقْبَلٍ ، فَكَانَ شَرْطًا ، وَإِذِ اسْمٌ لِمَا مَضَى فَكَانَ خَبَرًا .



فَصْلٌ : وَإِذَا كَرَّرَ حَرْفَ الشَّرْطِ وَيُسَمِّيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ اعْتِرَاضُ الشَّرْطِ عَلَى الشَّرْطِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا رَكِبْتِ إِنْ لَبِسْتِ ، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا ، إِلَّا بِاللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ فَإِنْ رَكِبَتْ وَلَبِسَتْ عَلَى مَا قَالَهُ فِي لَفْظِهِ فَإِنْ بَدَأَتْ بِالرُّكُوبِ ، ثُمَّ عَقَّبَتْهُ بِاللُّبْسِ لَمْ تُطَلَّقْ ، وَإِنْ خَالَفَتْ تَرْتِيبَ اللَّفْظِ فَبَدَأَتْ بِاللُّبْسِ وَعَقَّبَتْهُ بِالرُّكُوبِ : لِأَنَّ قَوْلَهُ إِذَا رَكِبْتِ إِنْ لَبِسْتِ فَقَدْ جَعَلَ اللُّبْسَ شَرَطًا فِي الرُّكُوبِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ الشَّرْطَ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْمَشْرُوطِ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا قُمْتِ إِذَا قَعَدْتِ ، لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى تُقَدِّمَ الْقُعُودَ عَلَى الْقِيَامِ ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الْقُعُودَ شَرْطًا فِي الْقِيَامِ ، وَإِنْ كَانَ حَرْفُ الشَّرْطِ فِيهِمَا وَاحِدًا . وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ أَكَلْتِ إِنْ تَكَلَّمْتِ ، لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى يَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْأَكْلِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا إِنْ ضَرَبْتِ عَمْرًا لَمْ تُطَلَّقْ ، حَتَّى تَفْعَلَ الثَّلَاثَةَ بِعَكْسِ لَفْظِهِ ، فَتَبْدَأُ بِضَرْبِ عَمْرٍو ثُمَّ بِكَلَامِ زَيْدٍ ثُمَّ بِدُخُولِ الدَّارِ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا شَرْطٌ فِيمَا تَقَدَّمَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ .

فَصْلٌ : فِي " لَوْ " وَإِذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ لَوْ دَخَلْتِ الدَّارَ ، كَانَ شَرْطًا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا إِلَّا بِدُخُولِ الدَّارِ وَجَرَى مَجْرَى إِنِ الَّتِي تَكُونُ شَرْطًا ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ لَوْ دَخَلْتِ الدَّارَ لَوْ خَرَجْتِ مِنْهَا فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهَا حَتَّى تَدْخُلَ الدَّارَ وَلَا يَخْرُجَ الزَّوْجُ مِنْهَا ، فَإِنْ دَخَلَتْ وَخَرَجَ مِنْهَا لَمْ تُطَلَّقْ .

فَصْلٌ : فِي " لَوْلَا " وَإِذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ لَوْلَا أَبُوكِ ، فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ ، قَالَ الْمُزَنِيُّ فِي مَسَائِلِهِ الْمَنْثُورَةِ ، لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ لَوْلَا أَبُوكِ لَطَلَّقْتُكِ ، وَهَكَذَا أَنْتِ طَالِقٌ لَوْلَا جَمَالُكِ ، فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَوْلَا جَمَالُكِ لَطَلَّقْتُكِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ، أَوْ لَا لَمْ تُطَلَّقْ ، لِأَنَّ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ بَلْ لَا طُلِّقَتْ لِأَنَّ بَلْ لِلْإِضْرَابِ ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَمْ لَا .

فَصْلٌ : وَإِذَا قِيلَ لِلرَّجُلِ زَوْجَتُكَ هَذِهِ طَالِقٌ مِنْكَ ، فَقَالَ : نَعَمْ كَانَ هَذَا ابْتِدَاءَ إِيقَاعٍ مِنْهُ لِلطَّلَاقِ فَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ، فَيَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ وَلَا يُرَاعَى فِيهِ النِّيَّةُ ، لِأَنَّهُ أَجَابَ إِلَى صَرِيحٍ فَجَرَى عَلَى جَوَابِهِ حُكْمُ الصَّرِيحِ ، وَلَوْ قِيلَ لَهُ : طَلَّقْتَ امْرَأَتَكَ هَذِهِ ، فَقَالَ : نَعَمْ ، كَانَ هَذَا إِقْرَارًا بِالطَّلَاقِ ، يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ بِإِقْرَارِهِ فِي الظَّاهِرِ وَيُدَانُ فِي الْبَاطِنِ إِنْ كَانَ كَاذِبًا وَلَا يَلْزَمُهُ .

وَلَوْ قِيلَ لَهُ : أَتُطَلِّقُ امْرَأَتَكَ هَذِهِ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، كَانَ مُوعِدًا بِالطَّلَاقِ لَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ إِلَّا أَنْ يَسْتَأْنِفَ إِيقَاعَهُ مِنْ بَعْدُ . وَلَوْ قِيلَ لَهُ : أَهَذِهِ زَوْجَتُكَ ، فَقَالَ لَا ، وقوع الطلاق كَانَ هَذَا إِنْكَارًا ، لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ فَيَصِيرَ كِنَايَةً فِيهِ ، فَهَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي هَذَا الْ

فَصْلٌ : ، وَإِنْ خَبَطَ أَصْحَابُنَا فِيهِ خَبْطَ عَشْوَاءٍ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ الْأَعْجَمِيُّ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْرِفَ مَعْنَاهُ فَيَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ ، سَوَاءٌ أَرَادَهُ أَوْ لَمْ يُرِدْهُ كَالْعَرَبِيِّ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يَعْرِفَ مَعْنَاهُ وَلَا يُرِيدَ مُوجَبَهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ ، فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ ، وَيَصِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِ لَغْوًا . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ لَا يَعْرِفَ مَعْنَاهُ ، وَلَكِنَّهُ يُرِيدُ مُوجَبَهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ ، فَالَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَحَكَاهُ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ ، حَتَّى يَعْرِفَ مَعْنَى اللَّفْظِ ، لِأَنَّهُ مُوجِبٌ لِلطَّلَاقِ . وَعِنْدِي أَنَّ الطَّلَاقَ لَازِمٌ لَهُ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَرَادَ مُوجَبَ اللَّفْظِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَعْنَاهُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ ، إِذَا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْإِرَادَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ إِرَادَةٌ ، لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَعْنَاهُ فَقَدْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى تَعَرُّفِ مَعْنَاهُ ، وَلِأَنَّنَا لَوْ أَسْقَطْنَا عَنْهُ الطَّلَاقَ ، لَسَوَّيْنَا بَيْنَ أَنْ يُرِيدَ مُوجَبَهُ أَوْ لَا يُرِيدَ ، وَهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ . وَهَكَذَا الْعَرَبِيُّ إِذَا طَلَّقَ بِصَرِيحِ الْأَعْجَمِيَّةِ ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهَا ، كَانَ عَلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ . فَلَوْ أَنَّ زَوْجَةَ الْأَعْجَمِيِّ ادَّعَتْ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَعْرِفُ مَعْنَى الطَّلَاقِ بِالْعَرَبِيَّةِ ، حكم طلاقه كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَكَذَلِكَ زَوْجَةُ الْعَرَبِيِّ لَوِ ادَّعَتْ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَعْرِفُ الطَّلَاقَ بِالْأَعْجَمِيَّةِ ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَكُلُّ مُكْرَهٍ وَمَغْلُوبٍ عَلَى عَقْلِهِ فَلَا يَلْحَقُهُ الطَّلَاقُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْمَغْلُوبُ عَلَى عَقْلِهِ بِجُنُونٍ أَوْ مَرَضٍ فَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُ وَلَا يَصِحُّ عَقْدُهُ . وَأَمَّا الْمُكْرَهُ عَلَى الطَّلَاقِ إِذَا تَلَفَّظَ بِهِ كُرْهًا غَيْرَ مُخْتَارٍ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ وَلَا عِتْقُهُ وَلَمْ تَصِحَّ عُقُودُهُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ كَالطَّلَاقِ أَوِ الْعِتْقِ أَوْ كَانَ مِمَّا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ ، كَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ مِمَّا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ كَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ لَمْ يَصِحَّ مِنَ الْمُكْرَهِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ صَحَّ مِنَ الْمُكْرَهِ كَمَا يَصِحُّ مِنَ الْمُخْتَارِ

اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مُكْرَهٍ وَمُخْتَارٍ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ . وَبِرِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : كُلُّ الطَّلَاقِ جَائِزٌ إِلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ وَالصَّبِيِّ . فَدَخَلَ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ فِي عُمُومِ الْجَوَازِ . وَبِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ . وَالْمُكْرَهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ جَادًّا أَوْ هَازِلًا فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ طَلَاقُهُ . وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ عِمْرَانَ كَانَ نَائِمًا مَعَ امْرَأَتِهِ فِي الْفِرَاشِ فَجَلَسَتْ عَلَى صَدْرِهِ ، وَوَضَعَتِ السِّكِّينَ وَقَالَتْ : طَلِّقْنِي وَإِلَّا ذَبَحْتُكَ فَنَاشَدَهَا اللَّهَ فَأَبَتْ فَطَلَّقَهَا ، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ ، فَقَالَ : " لَا إِقَالَةَ فِي الطَّلَاقِ " . أَيْ لَا رُجُوعَ فِيهِ ، فَدَلَّ عَلَى وُقُوعِهِ مَعَ الْإِكْرَاهِ . وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّهُ طَلَاقُ مُكَلَّفٍ مَالِكٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا كَالْمُخْتَارِ قَالَ : وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ مَعَ الْإِرَادَةِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ وُقُوعِهِ مَعَ فَقْدِ الْإِرَادَةِ كَالْهَزْلِ ، وَلِأَنَّ مَا أَوْجَبَ تَحْرِيمَ الْبُضْعِ مَعَ الِاخْتِيَارِ ، أَوْجَبَ تَحْرِيمَهُ مَعَ الْإِكْرَاهِ كَالرَّضَاعِ . وَدَلِيلُنَا : مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ . فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ مَرْفُوعًا . فَإِنْ قِيلَ : فَالِاسْتِكْرَاهُ لَمْ يُرْفَعْ لِأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ ، قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ حُكْمُ الِاسْتِكْرَاهِ ، لَا الِاسْتِكْرَاهُ ، كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حُكْمُ الْخَطَأِ لَا وُجُودُ الْخَطَأِ . عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ : عُفِيَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ . فَبَانَ بِهِ مَا ذَكَرْنَا ، فَإِنْ قِيلَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى رَفْعِ الْإِثْمِ ، قِيلَ حَمْلُهُ عَلَى رَفْعِ الْحُكْمِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَعَمُّ ، لِأَنَّ مَا رَفَعَ الْحُكْمَ قَدْ رَفَعَ الْإِثْمَ ، وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا طَلَاقَ فِي إِغْلَاقٍ .

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الْإِغْلَاقُ كَالْإِكْرَاهِ ، يَعْنِي أَنَّهُ كَالْمُغْلَقِ عَلَيْهِ اخْتِيَارُهُ ، فَإِنْ قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الْجُنُونُ لِأَنَّهُ مُعَلَّقُ الْإِرَادَةِ فَفِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ أَقْوَمُ بِمَعَانِيهَا مِنْ غَيْرِهِمْ فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى مَا قَرَّرَهُ أَوْلَى . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ فَيَكُونُ أَعَمَّ . وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . قَالَهُ خَمْسَةٌ مِنْهُمْ ، لَمْ يَظْهَرْ مُخَالِفٌ لَهُمْ ، مِنْهُمْ عُمَرُ رَوَى عَنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، أَنَّ رَجُلًا تَدَلَّى بِحَبْلٍ يَشْتَارُ - أَيْ يَجْتَنِي عَسَلًا - فَأَدْرَكَتْهُ امْرَأَةٌ ، فَحَلَفَتْ لَتَقْطَعَنَّ الْحَبْلَ أَوْ لِيُطَلِّقَنَّهَا ثَلَاثًا فَذَكَّرَهَا اللَّهَ وَالْإِسْلَامَ فَحَلَفَتْ لَتَفْعَلَنَّ أَوْ لِيَفْعَلَنَّ ، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَلَمَّا خَرَجَ أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، فَذَكَرَ لَهُ الَّذِي كَانَ مِنَ امْرَأَتِهِ إِلَيْهِ ، وَالَّذِي كَانَ مِنْهُ إِلَيْهَا ، فَقَالَ : ارْجِعْ إِلَى امْرَأَتِكَ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِطَلَاقٍ . وَمِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ : كَانَ لَا يَرَى طَلَاقَ الْمُكْرَهِ شَيْئًا ، وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ، قَالَ : لَيْسَ عَلَى الْمُكْرَهِ وَالْمُضْطَهَدِ طَلَاقٌ ، وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ كَانَا يَرَيَانِ مِثْلَ ذَلِكَ . وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّهُ لَفْظٌ حُمِلَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ بِهِ حُكْمٌ ، كَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالطَّلَاقِ فَإِنْ قِيلَ : لَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الْإِيقَاعِ بِالْإِقْرَارِ ، لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الرَّضَاعِ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ وَالْإِكْرَاهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالرَّضَاعِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمٌ ، وَالْإِكْرَاهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْإِسْلَامِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ بِهِ يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ ، وَخَالَفَ الْإِيقَاعَ الَّذِي لَا يَدْخُلُهُ صِدْقٌ وَلَا كَذِبٌ . فَعَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِقْرَارَ الْمُكْرَهِ لَمْ يَرْتَفِعْ لِاحْتِمَالِ دُخُولِ الصِّدْقِ ، وَالْكَذِبِ فِيهِ ، لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ احْتِمَالِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ مَوْجُودٌ فِي إِقْرَارِ الْمُخْتَارِ ، وَطَلَاقُهُ وَاقِعٌ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فِيهِ الْإِكْرَاهُ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْإِيقَاعِ . وَالثَّانِي : هُوَ أَنَّ الرَّضَاعَ فِعْلٌ لَا يُرَاعَى فِيهِ الْقَصْدُ ، فَاسْتَوَى فِيهِ حُكْمُ الْمُكْرَهِ وَالْمُخْتَارِ ، وَالْإِقْرَارُ قَوْلٌ يُرَاعَى فِيهِ الْقَصْدُ ، فَافْتَرَقَ فِيهِ حُكْمُ الْمُكْرَهِ وَالْمُخْتَارِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَجْنُونَةَ لَوْ أَرْضَعَتْ ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ التَّحْرِيمِ ، وَلَوْ أَقَرَّتْ بِهِ لَمْ يَثْبُتْ . وَالْمَجْنُونُ لَوْ أَوْلَدَ أَمَتَهُ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ ، وَلَوْ أَعْتِقَهَا لَمْ تَعْتِقْ ، فَافْتَرَقَ حُكْمُ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِرْضَاعِ ، وَحُكْمُ الْإِقْرَارِ بِالرَّضَاعِ ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا فِعْلٌ وَالْآخَرَ قَوْلٌ . وَاسْتَوَى حُكْمُ الْإِكْرَاهِ عَلَى إِيقَاعِ الطَّلَاقِ وَعَلَى الْإِقْرَارِ ، لِأَنَّ كِلَيْهِمَا قَوْلُهُ ، وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ عَلَى فِعْلِ الْإِسْلَامِ ، فَإِنَّمَا يَصِحُّ وَيَثْبُتُ فِيمَنْ كَانَ حَرْبِيًّا فَيُدْعَى بِالسَّيْفِ إِلَى الْإِسْلَامِ ، لِأَنَّ إِكْرَاهَهُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ قَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ ، وَلَا يَصِحُّ إِكْرَاهُ الذِّمِّيِّ الْبَاذِلِ لِلْجِزْيَةِ ، لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ أَقَرَّهُ عَلَيْهِ ، فَكَانَ إِكْرَاهُهُ عَلَيْهِ ظُلْمًا ، فَلَمْ يَصِحَّ .

وَالْإِكْرَاهُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْإِسْلَامِ إِنَّمَا هُوَ إِكْرَاهٌ عَلَى الْتِزَامِ أَحْكَامِهِ ، قَبْلَ الْإِقْرَارِ مِنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ . وَهَذَا ظُلْمٌ فَاسْتَوَى حُكْمُ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْإِسْلَامِ ، وَالْإِكْرَاهِ عَلَى فِعْلِ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ لِكَوْنِهِمَا ظُلْمًا فَلَمْ يَصِحَّا وَافْتَرَقَ حُكْمُ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْإِسْلَامِ ، وَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ فِي حَقِّ الْحَرْبِيِّ ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ ظَلَمٌ فَلَمْ يَصِحَّ ، وَفِعْلَ الْإِسْلَامِ حَقٌّ فَصَحَّ ، فَإِنْ وَجَبَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنْ يَسْتَوِيَ فِي الطَّلَاقِ حُكْمُ الْإِقْرَارِ وَالْإِيقَاعِ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ظُلْمٌ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَا . وَقِيَاسٌ ثَانٍ : وَهُوَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ مَعْنًى يُزِيلُ حُكْمَ الْإِقْرَارِ بِالطَّلَاقِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُزِيلَ حُكْمَ إِيقَاعِ الطَّلَاقِ كَالْجُنُونِ وَالنَّوْمِ وَالصِّغَرِ . وَقِيَاسٌ ثَالِثٌ : أَنَّهُ لَفْظٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ إِذَا حُمِلَ عَلَيْهِ فِيهِ حَقٌّ ، أَصْلُهُ الْإِكْرَاهُ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ . قِيَاسٌ رَابِعٌ : أَنَّهُ قَوْلٌ فِي أَحَدِ طَرَفَيِ النِّكَاحِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ مَعَ الْإِكْرَاهِ كَالنِّكَاحِ . وَقِيَاسٌ خَامِسٌ : أَنَّ كُلَّ بُضْعٍ لَمْ يُمْلَكْ بِلَفْظِ الْمُكْرَهِ ، لَمْ يَحْرُمْ بِقَوْلِ الْمُكْرَهِ ، كَالْإِيمَاءِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ أَنَّهُ قَالَ : " فَإِنْ طَلَّقَهَا " ، وَالْمُكْرَهُ عِنْدَنَا غَيْرُ مُطَلِّقٍ ، وَلَوْ صَحَّ دُخُولُهُ فِي عُمُومِهَا لَكَانَ مَخْصُوصًا بِمَا ذَكَرْنَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كُلُّ الطَّلَاقِ جَائِزٌ إِلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ وَالصَّبِيِّ . فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ الِاخْتِيَارِ . وَالثَّانِي : أَنَّ فِي اسْتِثْنَاءِ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ لِفَقْدِ الْقَصْدِ مِنْهُمَا تَنْبِيهٌ عَلَى إِلْحَاقِ الْمُكْرَهِ بِهِمَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ ، فَهُوَ أَنَّنَا نَقُولُ بِمُوجَبِهِ وَنَجْعَلُ الْجِدَّ وَالْهَزْلَ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ سَوَاءً ، وَالْمُكْرَهُ لَيْسَ بِجَادٍّ وَلَا هَازِلٍ ، فَخَرَجَ عَنْهَا كَالْمَجْنُونِ ، لِأَنَّ الْجَادَّ قَاصِدٌ لِلَّفْظِ مُرِيدٌ لِلْفُرْقَةِ وَالْهَازِلَ قَاصِدٌ لِلْفَظِّ غَيْرُ مُرِيدٍ لِلْفُرْقَةِ وَالْمُكْرَهَ غَيْرُ قَاصِدٍ لِلَّفْظِ وَلَا مُرِيدٍ لِلْفُرْقَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا إِقَالَةَ فِي الطَّلَاقِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الرَّجُلَ أَقَرَّ بِالطَّلَاقِ وَادَّعَى الْإِكْرَاهَ فَأَلْزَمَهُ إِقْرَارُهُ ، وَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَأَى مِنْ جَلَدِهِ وَضَعْفِ زَوْجَتِهِ مَا لَا يَكُونُ بِهِ مُكْرَهًا فَأَلْزَمَهُ الطَّلَاقَ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُخْتَارِ فَالْمَعْنَى فِيهِ صِحَّةُ إِقْرَارِهِ ، وَالْمُكْرَهُ لَا يَصِحُّ

إِقْرَارُهُ فَلَمْ يَصِحَّ إِيقَاعُهُ وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ الْقِيَاسَ عَلَيْهِمْ فَقُلْتَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِيقَاعُهُ بِهَزْلِهِ إِقْرَارَهُ كَالْمُخْتَارِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ مَعَ الْإِرَادَةِ ، لَمْ يَمْنَعْ وُقُوعَهُ مَعَ فَقْدِ الْإِرَادَةِ فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُعْتَبَرُ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ ، وُجُودَ الْإِرَادَةِ وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْإِرَادَةِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْهَازِلِ صِحَّةُ إِقْرَارِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الرَّضَاعِ ، فَهُوَ أَنَّهُ يُنْتَقَضُ بِالْمُكْرَهِ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الرَّضَاعِ أَنَّهُ فِعْلٌ وَالطَّلَاقُ قَوْلٌ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَنْ فَرَّقَ مَا بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ ، بِحَالِ الْمَجْنُونَةِ إِذَا أَرْضَعَتْ وَالْمَجْنُونِ إِذَا طَلَّقَ مَا كَفَى .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ لَا يَقَعُ ، فَجَمِيعُ مَا وَقَعَ الْإِكْرَاهُ عَلَيْهِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا لَا يَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ الِاخْتِيَارِ . وَالثَّانِي : مَا يَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَيَسْتَوِي فِيهِ حُكْمُ الْمُكْرَهِ وَالْمُخْتَارِ . وَالثَّالِثُ : مَا اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ مَا لَا يَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ ، فَهُوَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْكُفْرِ وَعَلَى سَبِّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَعَلَى عَقْدِ الْأَيْمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى ، أَوْ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَعَلَى سَائِرِ الْعُقُودِ مِنَ الْمَنَاكِحِ وَالْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ وَالْوِكَالَاتِ عَلَى الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ وَالظِّهَارِ وَالْقَذْفِ وَالْوَصِيَّةِ ، فَهَذَا كُلُّهُ لَا حُكْمَ لَهُ ، إِذَا أُكْرِهَ عَلَى فِعْلِهِ ، وَكَذَلِكَ الصَّائِمُ إِذَا أُوجِرَ الطَّعَامُ فِي حَلْقِهِ فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : الَّذِي يَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَيَسْتَوِي فِيهِ حُكْمُ الْمُكْرَهِ وَالْمُخْتَارِ ، فَهُوَ إِسْلَامُ أَهْلِ الْحَرْبِ وَالرَّضَاعُ وَالْحَدَثُ وَطَرْحُ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمُصَلِّي عَلَى خُفِّهِ إِذَا كَانَ مَاسِحًا ، إِلَى مَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى فَيَكُونُ وُجُودُ ذَلِكَ مِنَ الْمُكْرَهِ وَالْمُخْتَارِ سَوَاءً . وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَالْمُكْرَهُ عَلَى الْقَتْلِ فِي وُجُوبِ الْقَوْدِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ ، وَإِكْرَاهُ الرَّجُلِ عَلَى الزِّنَا فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ قَوْلَانِ وَإِكْرَاهُ الصَّائِمِ عَلَى الْأَكْلِ فِي فِطْرِهِ بِهِ قَوْلَانِ وَإِكْرَاهُ الْمُصَلِّي عَلَى الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ فِي بُطْلَانِهَا قَوْلَانِ . وَتَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ يُذْكَرُ فِي مَوَاضِعِهَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا قَدْ صَحَّ أَنَّ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ لَا يَقَعُ ، فَالْكَلَامُ فِيهِ مُشْتَمِلٌ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : فِي صِفَةِ الْمُكْرِهِ . وَالثَّانِي : فِي صِفَةِ الْإِكْرَاهِ .

وَالثَّالِثُ : فِي صِفَةِ الْمُكْرَهِ ، فَأَمَّا الْمُكْرِهُ ، شروطه فَهُوَ مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ ثَلَاثَةٌ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ قَاهِرًا ، وَالْقَاهِرُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ عَامَّ الْقُدْرَةِ كَالسُّلْطَانِ الْمُتَغَلِّبِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ خَاصَّ الْقُدْرَةِ كَالْمُتَلَصِّصِ ، وَالسَّيِّدِ مَعَ عَبْدِهِ ، وَكِلَاهُمَا مَكْرِهٌ ، وَهُمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ ، إِذَا كَانَتْ قُدْرَةُ الْمُكْرِهِ نَافِذَةً عَلَى الْمُكْرَهِ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَغْلِبَ فِي النَّفْسِ بِالْأَمَارَاتِ الظَّاهِرَةِ أَنَّهُ سَيَفْعَلُ عِنْدَ الِامْتِنَاعِ مِنْ إِصَابَتِهِ مَا يَتَوَعَّدُهُ بِهِ وَتَهَدَّدَهُ ، فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى النَّفْسِ ، جَازَ أَنْ يَفْعَلَ وَلَا يَفْعَلَ فَلَيْسَ بِمَكْرِهٍ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مَكْرِهًا بِظُلْمٍ ، فَأَمَّا إِنْ أَكْرَهْ بِغَيْرِ ظُلْمٍ كَإِكْرَاهِ الْمُولِي عَلَى الطَّلَاقِ فِي قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنْ يُكْرَهَ عَلَيْهِ ، فَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُكْرِهِ ، وَمَا أَكْرَهَ عَلَيْهِ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ ، وَكَالنَّاذِرِ عِتْقَ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ ، إِذَا امْتَنَعَ مِنْ عِتْقِهِ فَأُكْرِهَ عَلَيْهِ ، فَقَدْ عَتَقَ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ بِهِ حَقٌّ وَاجِبٌ وَهُوَ بِامْتِنَاعِهِ مِنْهُ طَوْعًا ظَالِمٌ آثِمٌ ، فَإِذَا تَكَامَلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الثَّلَاثَةُ فِي الْمُكْرِهِ صَارَ مَكْرِهًا .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ بِإِدْخَالِ الضَّرَرِ وَالْأَذَى الْبَيِّنِ عَلَى الْمُكْرَهِ ، أنواعه وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِ سَبْعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : الْقَتْلُ ، وَهُوَ أَعْظَمُ مَا يَدْخُلُ بِهِ الضَّرَرُ عَلَى النَّفْسِ ، فَإِذَا هَدَرَهُ فِي نَفْسِهِ كَانَ إِكْرَاهًا ، فَإِنْ هَدَرَ بِهِ فِي غَيْرِهِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْغَيْرِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ بَيْنَهُمِ بَعْضِيَّةٌ كَالْوَالِدِينَ وَإِنْ عَلَوْا ، وَالْمَوْلُودِينَ وَإِنْ سَفَلُوا ، فَيَكُونَ التَّهْدِيدُ بِقَتْلِهِمْ إِكْرَاهًا لِأَنَّ الْبَعْضِيَّةَ تَقْتَضِي التَّمَازُجَ فِي الْأَحْكَامِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ ، إِمَّا أَجْنَبِيًّا أَوْ ذَا نَسَبٍ لَا يَكُونُ مُحَرَّمًا كَبَنِي الْأَعْمَامِ وَبَنِي الْأَخْوَالِ ، فَلَا يَكُونُ تَهْدِيدُهُ بِقَتْلِهِمْ إِكْرَاهًا ، لِأَنَّ بَيْنَ جَمِيعِ النَّاسِ تَنَاسُبٌ مِنْ بَعِيدٍ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَبَنِيهِمَا ، وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ دُونَ بَنِيهَا وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ دُونَ بَنِيهَا ، فَهَلْ يَكُونُ التَّهْدِيدُ بِقَتْلِهِمْ إِكْرَاهًا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ إِكْرَاهًا لِثُبُوتِ الْمُحَرَّمِ كَالْوَالِدَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَكُونُ إِكْرَاهًا لِعَدَمِ الْبَعْضِيَّةِ كَالْأَبْعَدِينَ ، فَهَذَا حُكْمُ التَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ .

وَالثَّانِي : الْجُرْحُ ، إِمَّا بِقَطْعِ طَرَفٍ أَوْ إِنْهَارِ دَمٍ ، فَهُوَ إِكْرَاهٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إِدْخَالِ أَلَمٍ ، وَأَنَّهُ رُبَّمَا سَرَى إِلَى النَّفْسِ . وَالثَّالِثُ : الضَّرْبُ ، فَيَكُونُ إِكْرَاهًا لِأَلَمِهِ وَضَرَرِهِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الشَّطَارَةِ وَالصَّعْلَكَةِ الَّذِينَ يَتَبَاهَوْنَ فِي احْتِمَالِ الضَّرْبِ ، وَيَتَفَاخَرُونَ فِي الصَّبْرِ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ إِكْرَاهًا فِي أَمْثَالِهِمْ . وَالرَّابِعُ : الْحَبْسُ ، فَلَا يَخْلُو أَمْرُهُ فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُهَدِّدَهُ بِطُولِ الْحَبْسِ فَيَكُونَ إِكْرَاهًا ، لِدُخُولِ الضَّرَرِ بِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَصِيرَ الزَّمَانِ كَالْيَوْمِ وَنَحْوِهِ فَلَا يَكُونَ إِكْرَاهًا لِقُرْبِهِ وَقِلَّةِ ضَرَرِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا يُعْلَمَ طُولُهُ وَلَا قِصَرُهُ فَيَكُونَ إِكْرَاهًا ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ فِي الْمَحْبُوسِ عَلَى شَيْءٍ أَنَّهُ لَا يُطِيقُ إِلَّا بَعْدَ فِعْلِهِ . وَحُكْمُ الْقَيْدِ ، إِذَا هُدِرَ بِهِ كَحُكْمِ الْحَبْسِ ، لِأَنَّهُ أَحَدُ الْمَانِعِينَ فِي التَّصَرُّفِ . وَالْخَامِسُ : أَخْذُ الْمَالِ ، فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا يُؤَثِّرُ أَخْذُهُ فِي حَالِهِ فَيَكُونَ إِكْرَاهًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَلِيلًا ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِي حَالِهِ فَلَا يَكُونَ إِكْرَاهًا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا إِلَّا أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي حَالِهِ لِسِعَةِ مَالِهِ ، فَفِي كَوْنِهِ مُكْرَهًا بِأَخْذِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ مُكْرَهًا بِقَدْرِ الْمَالِ الْمَنْفُوسِ بِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَكُونُ إِكْرَاهًا اعْتِبَارًا بِمَالِهُ الَّذِي لَا يُؤَثِّرُ الْمَأْخُوذُ فِيهِ . وَالسَّادِسُ : النَّفْيُ عَنْ بَلَدِهِ ، فَنَنْظُرُ حَالَهُ ، فَإِنْ كَانَ ذَا وَلَدٍ وَأَهْلٍ وَمَالٍ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى نَقْلِ أَهْلِهِ وَمَالِهِ مَعَهُ كَانَ إِكْرَاهًا ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى نَقْلِهِمَا وَمُكِّنَ مِنْهُمَا فَفِي كَوْنِهِ إِكْرَاهًا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَكُونُ إِكْرَاهًا لِتَسَاوِي الْبِلَادِ كُلِّهَا فِي مُقَامِهِ فِيمَا شَاءَ مِنْهَا . وَالثَّانِي : يَكُونُ إِكْرَاهًا ، لِأَنَّ النَّفْيَ عُقُوبَةٌ كَالْحَدِّ ، وَلِأَنَّ فِي تَغْرِيبِهِ عَنْ وَطَنِهِ مَشَقَّةٌ لَاحِقَةٌ بِهِ . وَالسَّابِعُ : السَّبُّ وَالِاسْتِخْفَافُ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِنْ رَعَاعِ النَّاسِ وَسَفَلَتِهِمُ الَّذِينَ لَا يَتَنَاكَرُونَ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَلَا يُغَضُّ لَهُمْ جَاهٌ ، فَلَا يَكُونَ ذَلِكَ إِكْرَاهًا فِي أَمْثَالِهِمْ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِنَ الصِّيَانَاتِ وَذَوِي الْمُرُوءَاتِ فَفِيهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : يَكُونُ ذَلِكَ إِكْرَاهًا فِي أَمْثَالِهِمْ ، لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ وَهَنِ الْجَاهِ ، وَأَلَمِ الْغَلَبِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَكُونُ إِكْرَاهًا ، لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ مَظْلُومُونَ بِهِ ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يُنْظَرَ حَالُ الْإِنْسَانِ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَطَالِبِي الرُّتَبِ فِيهَا ، كَانَ ذَلِكَ إِكْرَاهًا فِي مِثْلِهِ : لِأَنَّهُ يُنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ جَاهِهِ بَيْنَ نُظَرَائِهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْآخِرَةِ وَذَوِي الزَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِكْرَاهًا فِي مِثْلِهِ ، لِأَنَّهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ جَاهِهِ بَيْنَ نُظَرَائِهِ ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ إِعْلَاءً لِذِكْرِهِ مَعَ كَثْرَةِ صَوَابِهِ ، هَذَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ ، جُرِّدَ لِلسِّيَاطِ فِيمَا كَانَ يُفْتِي بِهِ مِنْ سُقُوطِ يَمِينِ الْمُكْرِهِ ، فَكَأَنَّمَا كَانَ ذَلِكَ حُلِيًّا حُلِّيَ بِهِ فِي النَّاسِ ، فَهَذَا حُكْمُ الْإِكْرَاهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُكْرَهُ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ في الطلاق وَهُوَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ الْإِكْرَاهِ عَنْ نَفْسِهِ إِلَّا بِالْهَرَبِ مِنَ الْمُكْرِهِ لِحَبْسِهِ أَوْ لِإِمْسَاكِهِ ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْهَرَبِ لَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا . وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ إِنْ خَوَّفَ الْمُكْرِهَ بِاللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَخَفْ لِعُتُوِّهِ وَبَغْيِهِ ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ إِنْ خَوَّفَهُ بِاللَّهِ تَعَالَى خَافَ وَكَفَّ فَلَيْسَ بِمُكْرَهٍ ، وَأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ نَاصِرٌ يَمْنَعُ مِنْهُ ، وَلَا شَفِيعٌ يَكُفُّهُ عَنْهُ ، فَإِنْ وَجَدَ نَاصِرًا أَوْ شَفِيعًا فَلَيْسَ بِمَكْرَهٍ ، فَإِذَا عُدِمَ الْخَلَاصُ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ تَحَقَّقَ إِكْرَاهُهُ ، فَإِذَا تَلَفَّظَ حِينَئِذٍ بِالطَّلَاقِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالطَّلَاقِ غَيْرَ قَاصِدٍ لِلَفْظِ الطَّلَاقِ وَلَا مُرِيدٍ لِإِيقَاعِهِ فَهُوَ الَّذِي لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ ، لِوُجُودِ الْإِكْرَاهِ عَلَى اللَّفْظِ وَعَدَمِ الْإِرَادَةِ فِي الْوُقُوعِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَقْصِدَ لَفْظَ الطَّلَاقِ ، وَيُرِيدَ إِيقَاعَهُ فَطَلَاقُ هَذَا وَاقِعٌ لِارْتِفَاعِ حُكْمِ الْإِرَادَةِ بِقَصْدِهِ وَإِرَادَتِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَقْصِدَ لَفْظَ الثَّلَاثِ وَلَا يُرِيدُ إِيقَاعَهُ فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ مِنْهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ لِفَقْدِ الْإِرَادَةِ فِي الْوُقُوعِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَقَعُ طَلَاقُهُ لِقَصْدِهِ لَفَظَ الطَّلَاقِ ، فَصَارَ فِيهِ كَالْمُخْتَارِ ، وَإِذَا تَلَفَّظَ الْمُخْتَارُ بِالطَّلَاقِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَقَعَ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَال الشَّافِعِيُّ : " خَلَا السَّكْرَانَ مِنْ خَمْرٍ أَوْ نَبِيذٍ فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ لَا تُسْقِطُ عَنْهُ فَرْضًا وَلَا طَلَاقًا وَالْمَغْلُوبُ عَلَى عَقْلِهِ مِنْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ مُثَابٌ فَكَيْفَ يُقَاسُ مَنْ عَلَيْهِ الْعِقَابُ عَلَى مَنْ لَهُ الثَّوَابُ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحِجَازِ لَا يَلْزَمُهُ طَلَاقٌ فَيَلْزَمُهُ

إِذَا لَمْ يَجُزْ عَلَيْهِ تَحْرِيمُ الطَّلَاقِ أَنْ يَقُولَ وَلَا عَلَيْهِ قَضَاءُ الصَّلَاةِ كَمَا لَا يَكُونُ عَلَى الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ قَضَاءُ صَلَاةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْليْنِ : أَحَدُهُمَا : طَلَاقُ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ . وَالثَّانِي : طَلَاقُ السَّكْرَانِ ، فَأَمَّا الْمَغْلُوبُ عَلَى عَقْلِهِ بِجُنُونٍ أَوْ عَتَهٍ أَوْ إِغْمَاءٍ أَوْ غِشٍّ أَوْ نَوْمٍ ، فَإِذَا تَلَفَّظَ بِالطَّلَاقِ فِي حَالِهِ هَذِهِ الَّتِي غُلِبَ فِيهَا عَلَى عَقْلِهِ فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَى يَبْلُغَ وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَفِيقَ وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَنْتَبِهَ . وَلِأَنَّهُمْ بِزَوَالِ الْعَقْلِ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْمُكْرَهِ الْعَاقِلِ ، فَكَانَ مَا دَلَّ عَلَى ارْتِفَاعِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ فَهُوَ عَلَى ارْتِفَاعِ طَلَاقِ هَؤُلَاءِ أَدَلُّ . فَلَوْ أَفَاقَ الْمَغْلُوبُ عَلَى عَقْلِهِ بِمَا ذَكَرْنَا بَعْدَ أَنْ تَلَفَّظَ بِالطَّلَاقِ لَمْ يَلْزَمْهُ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ طَلَاقٌ ، فَلَوِ اخْتَلَفَا قَالَتِ الزَّوْجَةُ : قَدْ كُنْتَ وَقْتَ طَلَاقِي عَاقِلًا ، وَإِنَّمَا تَجَانَنْتَ أَوْ تَغَاشَيْتَ أَوْ تَنَاوَمْتَ ، وَقَالَ الزَّوْجُ : بَلْ كُنْتُ مَغْلُوبَ الْعَقْلِ بِالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ وَالنَّوْمِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ ، لِأَمْرَيْنِ . أَحَدُهُمَا : اعْتِبَارًا بِالظَّاهِرِ مِنْ حَالِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَعْرَفُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِهِ . وَلَوِ اخْتَلَفَا فَقَالَ الزَّوْجُ : طَلَّقْتُكِ فِي حَالِ الْجُنُونِ . وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ : بَلْ طَلَّقْتَنِي بَعْدَ الْإِفَاقَةِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ ، وَأَنْ لَا طَلَاقَ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا ، وَالطَّلَاقُ لَهُ لَازِمٌ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِفَاقَةُ ، وَالْتِزَامُ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ إِلَّا عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ ، وَلَكِنْ لَوِ ادَّعَى أَنَّهُ طَلَّقَهَا وَهُوَ مَجْنُونٌ ، وَأَنْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ قَدْ جُنَّ قَطُّ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا ، وَالطَّلَاقُ لَهُ لَازِمٌ ، لِأَنَّهُ عَلَى أَصْلِ الصِّحَّةِ حَتَّى يُعْلَمَ غَيْرُهَا .

فَصْلٌ : وَأَمَّا السَّكْرَانُ طلاقه فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَسْكَرَ بِشُرْبِ مُطْرِبٍ ( فَعَلَى ضَرْبَيْنِ ) . وَالثَّانِي : أَنْ يَسْكَرَ بِشُرْبِ دَوَاءٍ غَيْرِ مُطْرِبٍ ، فَإِنْ سَكِرَ بِشُرْبِ مُسْكِرٍ مُطْرِبٍ حكم طلاقه فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يُنْسَبَ فِيهِ إِلَى مَعْصِيَةٍ ، إِمَّا لِأَنَّهُ شَرِبَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُسْكِرٌ ، وَإِمَّا بِأَنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ وَأُوجِرَ الشَّرَابُ فِي حَلْقِهِ ، فَهَذَا فِي حُكْمِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ ، وَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ لِارْتِفَاعِ الْمَأْثَمِ عَنْهُ .

وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَاصِيًا فِيهِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ مُسْكِرٌ ، وَشُرْبِهِ لَهُ مُخْتَارًا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وُقُوعِ طَلَاقِهِ ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُقُوعِ طَلَاقِهِ . وَحُكِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمُجَاهِدٍ وَرَبِيعَةَ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَدَاوُدَ أَنَّ طَلَاقَهُ لَا يَقَعُ ، وَبِهِ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُزَنِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَمِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ الطَّحَاوِيُّ وَالْكَرْخِيُّ ، وَحَكَى الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ فِي ظِهَارِ السَّكْرَانِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي كُتُبِهِ يَقَعُ ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ . وَالثَّانِي : لَا يَقَعُ وَحُكْمُ طَلَاقِهِ وَظِهَارِهِ فِي الْوُقُوعِ وَالسُّقُوطِ وَاحِدٌ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي تَفَرَّدَ الْمُزَنِيُّ بِنَقْلِهِ فِي الْقَدِيمِ ، وَلَمْ يُسَاعِدْهُ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْقَدِيمِ ، وَلَا وُجِدَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِ الْقَدِيمَةِ هَلْ يَصِحُّ تَخْرِيجُهُ قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ ، أَنَّ طَلَاقَهُ وَظِهَارَهُ لَا يَقَعُ : فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى صِحَّةِ تَخْرِيجِهِ ، وَأَنَّهُ قَوْلٌ ثَانٍ لِلشَّافِعِيِّ ، لِأَنَّ الْمُزَنِيَّ ثِقَةٌ فِيمَا يَرْوِيهِ ضَابِطًا لِمَا يَنْقُلُهُ وَيَحْكِيهِ ، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ هَذَا التَّخْرِيجُ ، وَلَيْسَ فِي طَلَاقِ السَّكْرَانِ إِلَّا قَوْلٌ وَاحِدٌ أَنَّهُ يَقَعُ ، لِأَنَّ الْمُزَنِيَّ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً ضَابِطًا ، فَأَصْحَابُ الْقَدِيمِ بِمَذْهَبَيْهِ فِيهِ أَعْرَفُ ، وَيَجُوزُ إِنْ ظَهَرَ بِهِ الْمُزَنِيُّ أَنْ يَكُونَ حَكَاهُ عَنْ غَيْرِهِ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ طَلَاقَهُ غَيْرُ وَاقِعٍ ، بِأَنَّهُ مَفْقُودُ الْإِرَادَةِ بِعِلْمٍ ظَاهِرٍ ، فَلَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ كَالْمُكْرَهِ . وَلِأَنَّهُ زَائِلُ الْعَقْلِ ، فَلَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ كَالْمَجْنُونِ ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُمَيِّزٍ فَلَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ كَالصَّغِيرِ وَدَلِيلُنَا مِنْ طَرِيقَيْنِ : أَحَدُهُمَا : ثُبُوتُ تَكْلِيفِهِ . وَالثَّانِي : وُقُوعُ طَلَاقِهِ . فَأَمَّا ثُبُوتُ تَكْلِيفِهِ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [ النِّسَاءِ : ] . فَدَلَّتْ عَلَى تَكْلِيفِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَسْمِيَتُهُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ ، وَنِدَائُهُمْ بِالْإِيمَانِ ، وَلَا يُنَادَى بِهِ إِلَّا لَهُمُ . وَالثَّانِي : نَهْيُهُمْ فِي حَالِ السُّكْرِ أَنْ يَقْرَبُوا الصَّلَاةَ ، وَلَا يُنْهَى إِلَّا مُكَلَّفٌ ، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، لِأَنَّ عُمَرَ شَاوَرَهُمْ فِي حَدِّ الْخَمْرِ ، وَقَالَ : أَرَى النَّاسَ قَدْ بَالَغُوا فِي شُرْبِهِ وَاسْتَهَانُوا بِحَدِّهِ ، فَمَاذَا تَرَوْنَ ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : إِنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى ، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى ، فَأَرَى أَنْ يُحَدَّ حَدَّ الْمُفْتَرِي ثَمَانِينَ ، فَحَدَّهُ عُمَرُ وَعُثْمَانُ

وَعَلِيٌّ ثَمَانِينَ ، فَكَانَ الدَّلِيلُ مِنْهُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ عِلَّةٌ لِافْتِرَائِهِ فِي سُكْرِهِ ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ لَمَا حُدَّ بِمَا أَتَاهُ وَلَا كَانَ مُؤَاخَذًا بِهِ وَفِي مُؤَاخَذَتِهِ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى تَكْلِيفِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ ، وَجَبَ أَنْ يَقَعَ طَلَاقُهُ كَالصَّاحِي . وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى وُقُوعِ طَلَاقِهِ فِي الْأَصْلِ ، فَمَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَطَبَ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ تَزَوَّجَهَا مِنْ أَبِيهَا خُوَيْلِدٍ وَهُوَ سَكْرَانُ وَدَخَلَ بِهَا ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُزَوِّجُ نَشْوَانُ وَلَا يُطَلِّقُ إِلَّا أَجَزْتُهُ وَهَذَا نَصٌّ . وَلِأَنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِسُكْرِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُؤَاخَذًا بِمَا حَدَثَ عَنْ سُكْرِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ جَنَى جِنَايَةً فَسَرَتْ لَمَّا كَانَ مُؤَاخَذًا بِهَا ، كَانَ مُؤَاخَذًا بِسِرَايَتِهَا ، فَإِنْ قِيلَ فَلَيْسَ السُّكْرُ مَنْ فِعْلِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ ، فَكَيْفَ صَارَ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ ، وَمُؤَاخَذًا بِهِ ؟ قِيلَ : لِأَنَّ سَبَبَهُ وَهُوَ الشُّرْبُ مِنْ فِعْلِهِ . فَصَارَ مَا حَدَثَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى مَنْسُوبًا إِلَى فِعْلِهِ ، كَمَا أَنَّ سَرَايَةَ الْجِنَايَةِ لَمَّا حَدَثَتْ عَنْ فِعْلِهِ ، نُسِبَتْ إِلَيْهِ وَكَانَ مُؤَاخَذًا بِهَا ، وَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ ، لِأَنَّ رَفْعَ الطَّلَاقِ تَخْفِيفٌ وَرُخْصَةٌ ، وَإِيقَاعَهُ تَغْلِيظٌ وَغَرِيمَةٌ ، فَإِذَا وَقَعَ مِنَ الصَّاحِي وَلَيْسَ بِعَاصٍ ، كَانَ وُقُوعُهُ مِنَ السَّكْرَانِ مَعَ الْمَعْصِيَةِ أَوْلَى ، لِأَنَّ السَّكْرَانَ لَيْسَ يُسْتَدَلُّ عَلَى سُكْرِهِ بِعِلْمٍ ظَاهِرٍ ، هُوَ مَعْذُورٌ فِيهِ ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ جِهَتِهِ ، وَهُوَ فَاسِقٌ مَرْدُودُ الْخَبَرِ وَرُبَّمَا تَسَاكَرَ تَصَنُّعًا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ بِهِ عَنْ يَقِينِ الْحُكْمِ السَّابِقِ ، بِالتَّوَهُّمِ الطَّارِئِ ، وَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ بِالْمُكْرَهِ وَالْمَجْنُونِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَعَ الْمُكْرَهِ وَالْمَجْنُونِ عِلْمٌ ظَاهِرٌ يَدُلُّ عَلَى فَقْدِ الْإِرَادَةِ هُمَا فِيهِ مَعْذُورَانِ ، بِخِلَافِ السَّكْرَانِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُكْرَهَ وَالْمَجْنُونَ غَيْرُ مُؤَاخَذَيْنِ بِالْإِكْرَاهِ وَالْجُنُونِ ، فَلَمْ يُؤَاخَذَا بِمَا حَدَثَ فِيهِمَا ، كَمَا أَنَّ مَنْ قَطَعَ يَدَ سَارِقٍ فَسَرَتْ إِلَى نَفْسِهِ ، لَا يُؤَاخِذُهُ بِالسِّرَايَةِ ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِالْقَطْعِ ، وَلَوْ كَانَ مُتَعَدِّيًا بِالْقَطْعِ لَكَانَ مُؤَاخَذًا بِالسَّرَايَةِ ، كَمَا كَانَ مُؤَاخَذًا بِالْقَطْعِ ، وَخَالَفَ الصَّبِيَّ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ ، وَالصَّبِيَّ غَيْرُ مُكَلَّفٍ ، وَإِذَا صَحَّ أَنَّ طَلَاقَهُ وَاقِعٌ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عِلَّةِ وُقُوعِهِ طلاق السكران عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ : الْعِلَّةُ فِي وُقُوعِ طَلَاقِهِ أَنَّهُ مُتَّهِمٌ فِيهِ لِنَفْسِهِ ، وَأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ سُكْرُهُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ وَجَمِيعُ الْأَحْكَامِ الْمُغَلَّظَةِ وَالْمُخَفَّفَةِ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ ، وَيَكُونُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا مَدِينًا .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْعِلَّةَ فِي وُقُوعِ طَلَاقِهِ بِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ مُغَلَّظَةٌ عَلَيْهِ ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ كُلُّ مَا كَانَ مُغَلَّظًا مِنَ الطَّلَاقِ ، وَالظِّهَارِ وَالْعِتْقِ وَالرِّدَّةِ وَالْحُدُودِ ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ مَا كَانَ تَخْفِيفًا كَالنِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ ، وَقَبُولِ الْهِبَاتِ وَالْوَصَايَا . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ : أَنَّ الْعِلَّةَ فِي وُقُوعِ طَلَاقِهِ إِسْقَاطُ حُكْمِ سُكْرِهِ بِتَكْلِيفِهِ ، وَأَنَّهُ كَالصَّاحِي فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ مِنْهُ جَمِيعُ مَا كَانَ تَغْلِيظًا وَتَخْفِيفًا ، ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ : كُنْتُ أَذْهَبُ إِلَى الْوَجْهِ الثَّانِي حَتَّى وَجَدْتُ نَصًّا لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَصِحُّ رَجْعَتُهُ وَإِسْلَامُهُ مِنَ الرِّدَّةِ فَرَجَعْتُ إِلَى هَذَا الْوَجْهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا السَّكْرَانُ بِشُرْبِ دَوَاءٍ غَيْرِ مُطْرِبٍ كَشَارِبِ الْبَنْجِ حكم طلاقه وَمَا فِي مَعْنَاهُ ، فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقْصِدَ بِهِ التَّدَاوِيَ وَلَا يَقْصِدَ بِهِ السُّكْرَ ، فَلَا يَقْعُ طَلَاقُهُ وَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ مُبَاحٌ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَقْصِدَ بِهِ السُّكْرَ دُونَ التَّدَاوِي فَفِيهِ وَجْهَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ السُّكْرِ مِنَ الشَّرَابِ ، فِي وُقُوعِ طَلَاقِهِ وَمُؤَاخَذَتِهِ بِأَحْكَامِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، لِمُؤَاخَذَتِهِ بِسُكْرِهِ وَمَعْصِيَتِهِ بِتَنَاوُلِهِ كَمَعْصِيَتِهِ بِتَنَاوُلِ الشَّرَابِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ ، وَلَا يُؤَاخَذُ بِأَحْكَامِهِ وَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا بِهِ ، لِأَنَّ الشَّرَابَ مُطْرِبٌ يَدْعُو النُّفُوسَ إِلَى تَنَاوُلِهِ فَغُلِّظَ حُكْمُهُ آخِرًا عَنْهُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ ، كَمَا غُلِّظَ بِالْحَدِّ ، وَهَذَا غَيْرُ مُطْرِبٍ ، وَالنُّفُوسُ مِنْهُ نَافِرَةٌ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُغَلَّظْ بِالْحَدِّ ، فَلَمْ يُغَلَّظْ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ الطَّلَاقِ بِالْحِسَابِ وَالِاسْتِثْنَاءِ

بَابُ الطَّلَاقِ بِالْحِسَابِ وَالِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْجَامِعِ مِنْ كِتَابَيْنِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فِي اثْنَتَيْنِ فَإِنْ نَوَى مَقْرُونَةً بِاثْنَتَيْنِ فَهِيَ ثَلَاثٌ وَإِنْ نَوَى الْحِسَابَ فَهِيَ اثْنَتَانِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَوَاحِدَةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فِي اثْنَتَيْنِ ، أقسامه فَقَدْ قَسَّمَ الشَّافِعِيُّ حَالَهُ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُرِيدَ وَاحِدَةً مَعَ اثْنَتَيْنِ ، فَتُطَلَّقَ ثَلَاثًا لِأَنَّ " فِي " قَدْ تَقُومُ مَقَامَ مَعَ ، لِأَنَّهَا مِنْ حُرُوفِ الصِّفَاتِ الَّتِي يَقُومُ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ [ الْأَنْبِيَاءِ : ] . أَيْ عَلَى الْقَوْمِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُرِيدَ الْحِسَابَ وَهُوَ مَضْرُوبُ وَاحِدَةٍ فِي اثْنَتَيْنِ ، فَتُطَلَّقَ اثْنَتَيْنِ ، لِأَنَّهُمَا مَضْرُوبُ الْوَاحِدَةِ فِيهِمَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ لَا يَكُونَ إِرَادَةً ، فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ وَنَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا ، وَفِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ أَنَّهَا تَكُونُ وَاحِدَةً ، لِأَنَّ قَوْلَهُ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً إِيقَاعٌ لَهَا وَقَوْلَهُ فِي اثْنَتَيْنِ عَلَى مُقْتَضَى اللِّسَانِ ، ظَرْفٌ لِلْوَاحِدَةِ ، وَالظَّرْفُ مَحَلٌّ لَا يَتْبَعُ الْمَقْصُودَ فِي حُكْمِهِ ، كَمَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي ثَوْبَيْنِ ، أَوْ فِي دَارَيْنِ ، طُلِّقَتْ وَاحِدَةً إِذَا لَمْ يُرِدْ أَكْثَرَ مِنْهَا ، وَكَمَا لَوْ أَقَرَّ بِثَوْبٍ فِي مِنْدِيلٍ كَانَ إِقْرَارًا بِالثَّوْبِ ، دُونَ الْمِنْدِيلِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : تُطَلَّقُ اثْنَتَيْنِ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلطَّلَاقِ مَحَلٌّ ، فَيَجْعَلُ الِاثْنَتَيْنِ ظَرْفًا ، وَإِذَا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا ، فَصَارَ مَحْمُولًا عَلَى مُوجَبِ الْحِسَابِ فَكَانَ اثْنَتَيْنِ ، وَهَذَا مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلنَّصِّ فَاسِدٌ ، لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلطَّلَاقِ مَحَلٌّ فَلِلْمُطَلَّقَةِ مَحَلٌّ فَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ فِي ثَوْبَيْنِ وَفِي دَارَيْنِ ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ ، فَلَمْ يَبْطُلْ حُكْمُ هَذَا الِاحْتِمَالِ .

فَصْلٌ : فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فِي ثَلَاثٍ ، فَإِنْ أَرَادَ مَعَ ثَلَاثٍ أَوْ أَرَادَ الْحِسَابَ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ طُلِّقَتِ اثْنَيْنِ أَيْضًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَا تَقَعُ عَلَيْكِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَوْقَعَ وَاحِدَةً ، وَأَرَادَ رَفْعَهَا فَالطَّلَاقُ بَعْدَ وُقُوعِهِ لَا يَرْتَفِعُ ، وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى قَوْلِهِ لِعَبْدِهِ ، أَنْتَ حُرٌّ حُرِّيَّةً لَا تَقَعُ عَلَيْكَ ، فَإِنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ بَعْدَ الْعِتْقِ لَا تَرْتَفِعُ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ لَا طُلِّقْتِ ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ قَوْلُهُ " لَا " بَعْدَ تَقْدِيمِ الطَّلَاقِ ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ لَا طَالِقٌ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ ، لِأَنَّهُ قَدَّمَ حَرْفَ النَّفْيِ . وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ لَا يَقَعَانِ عَلَيْكِ طُلِّقَتِ اثْنَتَيْنِ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لَا يَقَعْنَ عَلَيْكِ ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَثَانِيَةٌ لَا تَقَعُ عَلَيْكِ أَوْ قَالَ : ثَانِيَةٌ لَا . طُلِّقَتْ وَاحِدَةً ، لِأَنَّ تَقْدِيرَ كَلَامِهِ فَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلَا تَقَعُ عَلَيْكِ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ وَثَالِثَةٌ لَا تَقَعُ عَلَيْكِ ، أَوْ قَالَ : وَثَالِثَةٌ لَا طُلِّقَتِ اثْنَتَيْنِ ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ لَا تَقَعُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا عَلَيْكِ طُلِّقَتْ وَاحِدَةً وَصَارَ اسْتِثْنَاءً كَقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ لَا وَاحِدَةً .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَإِنْ قَالَ وَاحِدَةٌ قَبْلَهَا وَاحِدَةٌ كَانَتْ تَطْلِيقَتَيْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ أَصْحَابُنَا ، أَنَّهُ إِذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَهَا وَاحِدَةٌ أَنَّهَا طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْوَاحِدَةِ الَّتِي جَعَلَهَا قَبْلَ الَّتِي أَوْقَعَهَا ، هَلْ تَقَعُ قَبْلَهَا عَلَى مُوجَبِ لَفْظِهِ أَوْ تَقَعُ مَعَهَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا تَقَعُ مَعَ الَّتِي أَوْقَعَهَا وَلَا تَقَعُ قَبْلَهَا ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ سَابِقًا لِلَفْظِ الطَّلَاقِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهَا تَقَعُ قَبْلَ الَّتِي أَوْقَعَهَا ، اعْتِبَارًا بِمُوجَبِ لَفْظِهِ ، وَيَكُونُ وُقُوعُهَا بَعْدَ لَفْظِهِ ، وَقَبْلَ الَّتِي أَوْقَعَهَا بِلَفْظِهِ ، فَيَجْعَلُ نَاجِزَ الطَّلَاقِ مُؤَخَّرًا لِيَتَقَدَّمَهُ طَلَاقُ الصِّفَةِ حَتَّى لَا يَكُونَ وُقُوعُهُ سَابِقًا لِلَفْظِهِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّ نَاجِزَ الطَّلَاقِ يَقَعُ بِنَفْسِ اللَّفْظِ وَلَا يَتَعَقَّبُهُ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ وَمَاتَ مَعَ آخِرِ كَلَامِهِ مِنْ غَيْرِ

فَصْلٌ : طُلِّقَتْ وَلَوْ كَانَ يَقَعُ بَعْدَهُ لَمْ تُطَلَّقْ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ تَقَعُ الطَّلْقَتَانِ عَلَيْهَا بَعْدَ لَفْظِهِ بِزَمَانَيْنِ ، لِتَقَعَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّلْقَتَيْنِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّمَانَيْنِ . وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، تَقَعُ الطَّلْقَتَانِ بِنَفْسِ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ زَمَانٍ يُعْتَبَرُ بَعْدَهُ . فَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ : أَرَدْتُ بِقَوْلِي قَبْلَهَا وَاحِدَةٌ فِي نِكَاحٍ كَانَ تَقَدَّمَهُ ، فَإِنْ صَدَّقَتْهُ الزَّوْجَةُ عَلَيْهِ لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا وَاحِدَةً ، وَإِنْ أَكْذَبَتْهُ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى النِّكَاحِ الْمُتَقَدِّمِ ، كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَا تُطَلَّقُ إِلَّا وَاحِدَةً ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهَا وَلَزِمَهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ طَلْقَتَانِ ، وَكَانَ مَدِينًا فِي الْبَاطِنِ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا وَاحِدَةٌ .



فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ ، طُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ ، وَتَكُونُ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ عَلَى مُوجَبِ لَفْظِهِ ، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ أَصْحَابُنَا ، فَتَكُونُ النَّاجِزَةُ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْوَاقِعَةِ بِالصِّفَةِ إِلَّا أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ تَقَعُ الْأُولَى بَعْدَ قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً ، وَتَقَعُ الثَّانِيَةُ بَعْدَ قَوْلِهِ بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ : تَقَعُ الْأُولَى مَعَ قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً ، وَتَقَعُ الثَّانِيَةُ مَعَ قَوْلِهِ : بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ ، فَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ : أَرَدْتُ بِقَوْلِي بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ ، أَنَّنِي أَسْتَأْنِفُ إِيقَاعَهَا عَلَيْهَا مِنْ بَعْدِ لَفْظٍ مُسْتَجَدٍّ ، وَلَمْ أُرِدْ إِيقَاعَهَا الْآنَ بِهَذَا اللَّفْظِ ، فَإِنْ صَدَّقَتْهُ الزَّوْجَةُ قُبِلَ مِنْهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ فِي الْحَالَّةِ إِلَّا وَاحِدَةٌ ، فَكَانَ مُوعِدًا بِطَلْقَةٍ أُخْرَى ، إِنْ أَوْقَعَهَا ، وَإِلَّا لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهَا ، وَإِنْ أَكْذَبَتْهُ الزَّوْجَةُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ ، وَلَزِمَتْهُ طَلْقَتَانِ ، وَكَانَ مَدِينًا فِي الْبَاطِنِ لَا تَلْزَمُهُ إِلَّا وَاحِدَةٌ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَهَا وَاحِدَةٌ وَبَعْدَهَا وَاحِدَةٌ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا . وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ وَبَعْدَ وَاحِدَةٍ ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ قَبْلَهَا وَاحِدَةٌ وَبُعْدَهَا وَاحِدَةٌ ، وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ قَبْلَ وَاحِدَةٍ وَبَعْدَ وَاحِدَةٍ . وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً مَعَ وَاحِدَةٍ طُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فَوْقَ وَاحِدَةٍ ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً تَحْتَ وَاحِدَةٍ طُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ . وَلَوْ قَالَ فِي الْإِقْرَارِ عَلَيَّ دِرْهَمٌ فَوْقَ دِرْهَمٍ أَوْ تَحْتَ دِرْهَمٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الدَّرَاهِمَ تَتَفَاضَلُ ، فَجَازَ أَنْ يُنْسَبَ فَوْقَ إِلَى الْجَوْدَةِ وَتَحْتَ إِلَى الرَّدَاءَةِ . وَالطَّلَاقُ لَا يَتَفَاضَلُ ، فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يُنْسَبَ إِلَّا إِلَى الْوُقُوعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ قَالَ رَأْسُكِ أَوْ شَعْرُكِ أَوْ يَدُكِ أَوْ رِجْلُكِ أَوْ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِكِ طَالِقٌ فَهِيَ طَالِقٌ لَا يَقَعُ عَلَى بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ : إِذَا طَلَّقَ بَعْضَ بَدَنِهَا طَلَّقَ جَمِيعِهَا ، سَوَاءٌ كَانَ مَا طَلَّقَهُ مِنْهَا جُزْءًا شَائِعًا مُقَدَّرًا كَقَوْلِهِ : رُبُعُكِ طَالِقٌ ، أَوْ نِصْفُكُ طَالِقٌ ، أَوْ غَيْرَ مُقَدَّرٍ كَقَوْلِهِ جُزْءٌ مِنْكِ طَالِقٌ ، أَوْ كَانَ عُضْوًا مُعَيَّنًا كَقَوْلِهِ : رَأْسُكِ طَالِقٌ ، أَوْ يَدُكِ طَالِقٌ أَوْ شَعْرُكِ طَالِقٌ ، أَوْ ظُفْرُكِ طَالِقٌ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْعُضْوُ مِمَّا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْجُمْلَةِ وَلَا يَحْيَا كَالرَّأْسِ أَوْ كَانَ مِمَّا لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْجُمْلَةِ وَيَحْيَا بِفَقْدِهِ كَالْيَدِ وَالشَّعَرِ . أَوْ كَانَ مِمَّا لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْجُمْلَةِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي طَلَاقِ بَعْضِهَا ، هَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَسْرِي مِنْهُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى ذَلِكَ الْبَعْضِ ثُمَّ يَسْرِي مِنْهُ إِلَى جَمِيعِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَكْمُلُ فِي الْحَالِ ثُمَّ يَقَعُ عَلَى جَمِيعِهَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ سَرَايَةٍ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ طَلَّقَ جُزْءًا شَائِعًا مِنْهَا طُلِّقَتْ ، مُقَدَّرًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُقَدَّرٍ ، وَإِنْ طَلَّقَ عُضْوًا مِنْهَا ، طُلِّقَتْ بِخَمْسَةِ أَعْضَاءٍ وَهِيَ قَوْلُهُ : رَأْسُكِ طَالِقٌ أَوْ ظَهْرُكِ طَالِقٌ ، أَوْ وَجْهُكِ طَالِقٌ ، أَوْ رَقَبَتُكِ طَالِقٌ أَوْ فَرْجُكِ طَالِقٌ ، وَلَا تُطَلَّقُ بِغَيْرِهَا مِنْ قَوْلِهِ : يَدُكِ طَالِقٌ وَرِجْلُكِ طَالِقٌ ، وَشَعْرُكِ طَالِقٌ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عِلَّةِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ الْخَمْسَةِ دُونَ غَيْرِهَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْعِلَّةُ فِيهَا أَنَّهَا أَعْضَاءٌ لَا يَحْيَا بِقَطْعِهَا ، وَالْيَدُ وَالرِّجْلُ يَحْيَا بِقَطْعِهَا ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ : وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ إِنَّ الْعِلَّةَ فِيهَا أَنَّهُ قَدْ يُعَبَّرُ بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ الْخَمْسَةِ عَنْ جُمْلَتِهَا ، وَلَا يُعَبَّرُ بِغَيْرِهَا عَنْهَا ، أَمَّا الْوَجْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [ الرَّحْمَنِ : ] . وَأَمَّا الرَّأْسُ فَلِقَوْلِهِمْ : عِنْدِي كَذَا رَأْسٍ مِنَ الرَّقِيقِ ، وَأَمَّا الظَّهْرُ فَلِقَوْلِهِمْ : عِنْدِي مِنَ الظَّهْرِ كَذَا وَكَذَا ، وَأَمَّا الرَّقَبَةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَكُّ رَقَبَةٍ [ الْبَلَدِ : ] . وَأَمَّا الْفَرْجُ فَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَكَيْفَ بِكُمْ إِذَا رَكِبَتِ الْفُرُوجُ الشُّرُوجَ . وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِطَلَاقِ مَا سِوَاهَا ، بِأَنَّهُ جُزْءٌ يَصِحُّ بَقَاءُ النِّكَاحِ مَعَ فَقْدِهِ ، فَإِذَا أَوْقَعَ الطَّلَاقَ عَلَيْهِ لَمْ تُطَلَّقْ بِهِ كَالدَّمِ وَاللَّحْمِ . قَالَ : وَلِأَنَّ صِحَّةَ الطَّلَاقِ مُعْتَبَرٌ بِالْقَوْلِ ، فَلَمْ يَصِحَّ إِيقَاعُهُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ قَالَ : وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْفُرْقَةِ فَلَمْ يَصِحَّ تَعْلِيقُهُ بِبَعْضِ مُعَيَّنٍ كَالْفَسْخِ . وَدَلِيلُنَا : أَنَّهُ طَلَّقَ جُزْءًا اسْتَبَاحَهُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ ، إِذَا كَانَ مِنْ أَصْلِهِ كَالْجُزْءِ الشَّائِعِ ، فَإِنْ قِيلَ : الْمَعْنَى فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ ، أَنَّهُ يَجُوزُ إِفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ ، فَوَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ ، وَالْجُزْءُ الْمُعَيَّنُ لَا يَجُوزُ إِفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ ، فَلَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ . قِيلَ : لَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الطَّلَاقِ بِالْبَيْعِ ، لِأَنَّ الْبَيْعَ يَقِفُ عَلَى مَا تَنَاوَلَهُ وَلَا يَسْرِي إِلَى غَيْرِهِ ، فَصَحَّ فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ ، لِأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي الْجُزْءِ الْمُعَيَّنِ ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ ، لِأَنَّهُ يَسْرِي ، فَوَقَعَ عَلَى الْجُزْءِ الْمُعَيَّنِ وَالشَّائِعِ جَمِيعًا لِسَرَايَتِهَا إِلَى الْجَمِيعِ ، فَإِنْ قِيلَ فَالْجُزْءُ الْمُشَاعُ هُوَ شَائِعٌ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ ، فَجَازَ أَنْ يَسْرِيَ ، وَالْجُزْءُ الْمُعَيَّنُ لَيْسَ بِشَائِعٍ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْرِيَ قِيلَ إِذَا جَازَ أَنْ يَسْرِيَ مِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ الشَّائِعِ إِلَى جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ جَازَ أَنْ يَسْرِيَ مِنْ ذَلِكَ الْعُضْوِ الْمُعَيَّنِ إِلَى جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ . فَإِنْ قِيلَ : فَالْعُضْوُ تَابِعٌ لِلْجُمْلَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْرِيَ حُكْمُ التَّابِعَ إِلَى الْمَتْبُوعِ ، كَمَا لَا يَسْرِي عِتْقُ الْحَمْلِ إِلَى الْحَامِلِ لِأَنَّ الْحَمْلَ تَابِعٌ ، وَيَسْرِي عِتْقُ الْحَامِلِ إِلَى الْحَمْلِ ، لِأَنَّهُ مَتْبُوعٌ ، قِيلَ الْعُضْوُ تَابِعٌ لِلنَّفْسِ فَلِذَلِكَ دَخَلَتْ دِيَاتُ الْأَطْرَافِ فِي دِيَةِ النَّفْسِ ،

وَلَيْسَ الْعُضْوُ تَابِعًا لِلْبَدَنِ ، لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ دِيَةُ عُضْوٍ فِي دِيَةِ عُضْوٍ ، ثُمَّ يُنْتَقَضُ بِطَلَاقِ الْفَرْجِ وَالْأَعْضَاءِ الْخَمْسَةِ . وَقِيَاسٌ ثَانٍ : وَهُوَ أَنَّهُ أَشَارَ بِالطَّلَاقِ إِلَى عُضْوٍ مُتَّصِلٍ بِهَا اتِّصَالَ الْخِلْقَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَالْإِشَارَةِ بِهِ إِلَى جَمِيعِ الْجُمْلَةِ كَالْأَعْضَاءِ الْخَمْسَةِ ، وَقَوْلُنَا : " اتِّصَالَ الْخِلْقَةِ " احْتِرَازًا مِنَ الْأُذُنِ إِذَا أُلْصِقَتْ بَعْدَ قَطْعِهَا ، فَإِنَّهُ إِذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهِ لَمْ يُطَلِّقْ بِهِ . فَإِنْ قِيلَ : الْمَعْنَى فِي الْأَعْضَاءِ الْخَمْسَةِ أَنَّهَا قَوَامُ الْبَدَنِ ، وَأَنَّهُ لَا يَحْيَا بِفَقْدِهَا . انْتُقِضَ بِالْكَبِدِ وَالْفُؤَادِ لِأَنَّهُمَا قَوَامُ الْبَدَنِ ، لَا يَحْيَا إِلَّا بِهِمَا ، وَلَا تُطَلَّقُ عِنْدَهُ بِطَلَاقِهِمَا . وَأَنْ يُقَالَ : الْمَعْنَى فِيهَا أَنَّهُ يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْجُمْلَةِ ، كَانَ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يُعَبَّرُ عَنِ الْجُمْلَةِ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ دُونَ الْحَقِيقَةِ ، وَصَرِيحُ الطَّلَاقِ يَتَعَلَّقُ بِالْحَقِيقَةِ دُونَ الْمَجَازِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْجُمْلَةِ إِذَا أُطْلِقَتْ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ وَهِيَ هَاهُنَا مُضَافَةٌ ، لِأَنَّهُ قَالَ : رَأْسُكِ طَالِقٌ ، فَلَمْ يُعَبِّرْ بِهَا مَعَ الْإِضَافَةِ إِلَّا عَنْهَا ، لَا عَنِ الْجُمْلَةِ ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ قَدْ مَيَّزَتِ الْمُضَافَ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ قَدْ يُعَبَّرُ عَنِ الْجُمْلَةِ بِغَيْرِ الْأَعْضَاءِ الْخَمْسَةِ . أَمَّا الْيَدُ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ [ الْمَسَدِ : ] . وَأَمَّا الرِّجْلُ فَلِقَوْلِهِمْ : لِفُلَانٍ عِنْدَ السُّلْطَانِ قَدَمٌ أَيْ مَنْزِلَةٌ وَأَمَّا الشَّعَرُ فَلِقَوْلِهِمْ حَيَّا اللَّهُ هَذِهِ اللِّحْيَةَ أَيِ الْجُمْلَةَ . وَقِيَاسٌ ثَالِثٌ : وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا لَوِ اسْتَثْنَاهُ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ بَطَلَ ، وَجَبَ إِذَا أَوْقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقَ أَنْ يَقَعَ كَالْفَرْجِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْحَمْلِ وَالدَّمِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِمَا أَنَّهُ لَمْ يَسْتَبِحْهُمَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِمَا أَنَّهُمَا لَا يَدْخُلُهُمَا السَّرَايَةُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْفَسْخِ فَالْمَعْنَى فِي الْفَسْخِ أَنَّهُ لَا يَسْرِي كَسَرَايَةِ الطَّلَاقِ فَخَالَفَ حُكْمَ الطَّلَاقِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا ، فَكُلُّ مَا كَانَ مُتَّصِلًا بِبَدَنِهَا اتِّصَالَ الْخِلْقَةِ مِنْ جَمِيعِ الْأَطْرَافِ وَالشَّعَرِ ، وَإِذَا أَوْقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقَ ، هل يقع على جميعها ؟ وَقَعَ عَلَى جَمِيعِهَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا فِي وُقُوعِهِ جُمْلَةً أَوْ سَرَايَةً . فَأَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ مُتَّصِلًا اتِّصَالَ الْخِلْقَةِ ، كَالْحَمْلِ

وَالْأُذُنِ الْمُلْصَقَةِ بَعْدَ الْقَطْعِ ، فَلَا تُطَلَّقُ بِطَلَاقِهِ . وَكَذَلِكَ الدَّمُ وَالرِّيقُ وَالْعَرَقُ ، لِأَنَّ الْبَدَنَ وِعَاؤُهُ وَلَيْسَ بِمُتَّصِلٍ بِهِ ، كَمَا يَكُونُ وِعَاءً لِلطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ، وَلِذَلِكَ يَنفَصْلٌ عَنِ الْبَدَنِ كَانْفِصَالِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ تُطَلَّقْ بِطَلَاقِهِ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : تُطَلَّقُ بِطَلَاقِ ذَلِكَ ، لِكَوْنِهِ مِنْ جُمْلَتِهَا وَفِي بَدَنِهَا كَسَائِرِ أَعْضَائِهَا ، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا عَلَّلْنَا بِهِ ، وَأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى قَوْلِهِ : ثِيَابُكِ طَالِقٌ ، وَهَكَذَا لَوْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ عَلَى أَفْعَالِهَا فَقَالَ : أَكْلُكِ طَالِقٌ ، أَوْ شُرْبُكِ طَالِقٌ أَوْ قِيَامُكِ طَالِقٌ أَوْ رُقُودُكِ طَالِقٌ ، وَهَكَذَا إِذَا أَوْقَعَهُ عَلَى حَوَاسِّهَا فَقَالَ : نَظَرُكِ طَالِقٌ أَوْ سَمْعُكِ طَالِقٌ أَوْ ذَوْقُكِ طَالِقٌ أَوْ لَمْسُكِ طَالِقٌ لَمْ تُطَلَّقْ ، لِانْفِصَالِهِ عَنْهَا ، إِلَّا أَنْ يُوقِعَهُ عَلَى جَوَارِحِ هَذِهِ الْحَوَاسِّ فَيَقُولَ : عَيْنُكِ طَالِقٌ ، وَأُذُنُكِ طَالِقٌ ، وَأَنْفُكِ طَالِقٌ وَلِسَانُكِ طَالِقٌ فَتُطَلَّقُ ، فَإِنْ قَالَ : عِنْدَكَ طَالِقٌ لَمْ تُطَلَّقْ أَيْضًا ، فَأَمَّا إِنْ قَالَ : بَيَاضُكِ طَالِقٌ أَوْ سَوَادُكِ طَالِقٌ ، أَوْ لَوْنُكِ طَالِقٌ فَفِي وُقُوعِهِ عَلَيْهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تُطَلَّقُ ، لِأَنَّهُ مِنْ ذَاتِهَا الَّتِي لَا تَنْفَصْلٌ عَنْهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ ، لِأَنَّ الْأَلْوَانَ أَعْرَاضٌ تَحُلُّ الذَّاتَ وَلَيْسَتْ أَجْسَامًا كَالذَّاتِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ إِلَّا فَرْجَكِ ، طُلِّقَتْ مَعَ فَرْجِهَا ، لِأَنَّهَا لَا تَبْتَعِضُ فِي الطَّلَاقِ وَالِاسْتِثْنَاءُ لَا يَسْرِي ، وَالطَّلَاقُ يَسْرِي وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ إِلَّا أَنْتِ ، طُلِّقَتْ وَكَانَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ لَغْوًا ، لِأَنَّهُ رَافِعٌ لِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ وَلَهُ زَوْجَتَانِ : يَا حَفْصَةُ أَنْتِ طَالِقٌ وَرَأْسُ عَمْرَةَ بِالرَّفْعِ ، طُلِّقَتْ حَفْصَةُ وَعَمْرَةُ ، لِأَنَّهُ طَلَّقَ جَمِيعَ حَفْصَةَ وَطَلَّقَ رَأْسَ عَمْرَةَ ، فَطَلَّقَ جَمِيعُهَا ، وَلَوْ قَالَ : يَا حَفْصَةُ : أَنْتِ طَالِقٌ وَرَأْسِ عَمْرَةَ بِالْكَسْرِ لَمْ تُطَلَّقْ عَمْرَةُ ، لِأَنَّهُ صَارَ خَارِجًا مَخْرَجَ الْقَسَمِ بِرَأْسِ عَمْرَةَ عَلَى طَلَاقِ حَفْصَةَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ بَعْضَ تَطْلِيقَةٍ كَانَتْ تَطْلِيقَةً وَالطَّلَاقُ لَا يَتَبَعَّضُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذْ بَعْضُ طَلَاقِهَا يَكْمُلُ وَلَمْ يَتَبَعَّضْ ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَعْضُ مِنْهَا كَقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ بَعْضَ طَلْقَةٍ ، أَوْ كَانَ مِقْدَارًا : أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ أَوْ عُشْرَ طَلْقَةٍ ، سَوَاءٌ قَلَّ الْبَعْضُ أَوْ كَثُرَ ، وَيَكُونُ طَلْقَةً كَامِلَةً وَقَالَ دَاوُدُ : لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا إِلَّا بِطَلْقَةٍ كَامِلَةٍ وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْضَ طَلْقَةٍ لَمْ تُطَلَّقْ ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَبَعَّضْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْزَمَ مِنْهُ ، مَا لَمْ يَلْزَمْ ، وَصَارَ الْبَعْضُ الَّذِي أَوْقَعَهُ لَغْوًا . وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّ تَكْمِيلَ الطَّلَاقِ مُوجِبٌ لِكَمَالِ التَّحْرِيمِ ، وَتَبْعِيضَهُ يَقْتَضِي

تَبْعِيضَ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْرِيمُ لَا يَتَبَعَّضُ ، فَصَارَ التَّحْرِيمُ بِالتَّبْعِيضِ مُمَازِجًا لِلتَّحْلِيلِ ، وَهُمَا لَا يَمْتَزِجَانِ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَغْلِيبِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ، فَكَانَ تَغْلِيبُ التَّحْرِيمِ أَوْلَى الْأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ إِذَا اجْتَمَعَا يَغْلِبُ حُكْمُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ ، كَاخْتِلَاطِ زَوْجَتِهِ بِأُخْتِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ يَسْرِي ، وَإِبَاحَةَ النِّكَاحِ لَا تَسْرِي ، لِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ نِصْفَ زَوْجَتِهِ سَرَى الطَّلَاقُ إِلَى جَمِيعِهَا ، وَلَوْ نَكَحَ نِصْفَ امْرَأَةٍ لَمْ يَسْرِ النِّكَاحُ إِلَى جَمِيعِهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَيْ تَطْلِيقَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّ لِلْوَاحِدَةِ نِصْفَيْنِ ، فَلَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً وَاحِدَةً ، وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَيْ طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ ، فِي أَنَّهَا فِي الْحَالَيْنِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ ، كَمَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ : لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ ، وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ : لَهُ عَلَيَّ نِصْفَا دِرْهَمٍ ، فِي أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْحَالَيْنِ مُقِرًّا بِدِرْهَمٍ وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةَ أَثْلَاثِ طَلْقَةٍ ، أَوْ أَرْبَعَةَ أَرْبَاعِ طَلْقَةٍ ، كَانَتْ طَلْقَةً وَاحِدَةً ، مَا لَمْ يُرِدْ أَكْثَرَ مِنْهَا ، لِأَنَّ لِلطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ ثَلَاثُ أَثْلَاثٍ وَأَرْبَعَةُ أَرْبَاعٍ .

فَصْلٌ : وَلَكِنْ لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ ، وَمِثْلَهُ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تُطَلَّقُ وَاحِدَةً ، لِأَنَّ مِثْلَ النِّصْفِ نِصْفٌ ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ : نِصْفَيْ تَطْلِيقَةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تُطَلَّقُ تَطْلِيقَتَيْنِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمْ يُدْخِلْ بَيْنَ النِّصْفَيْنِ وَاوَ الْعَطْفِ وَقَدْ أَدْخَلَهَا هَاهُنَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَضَافَ النِّصْفَيْنِ إِلَى طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَمْ يُضِفْهَا هَاهُنَا إِلَى طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ وَمِثْلَهُ ، طُلِّقَتْ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ طَلْقَتَيْنِ ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ وَنَصِفَهَا طُلِّقَتْ ثِنْتَيْنِ وَجْهًا وَاحِدًا . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمِثْلِ وَالضِّعْفِ ، أَنَّ الْمِثْلَ نَظِيرٌ ، وَالضِّعْفَ تَكْرِيرٌ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةَ أَنْصَافِ طَلْقَةٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تُطَلَّقُ طَلْقَتَيْنِ ، لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ أَنْصَافٍ تَكُونُ وَاحِدَةً وَنِصْفًا ، فَكَمَّلَ اثْنَتَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تُطَلَّقُ وَاحِدَةً ، لِأَنَّهُ أَضَافَ الثَّلَاثَةَ الْأَنْصَافَ إِلَى الْوَاحِدَةِ ، فَصَارَ النِّصْفُ الثَّالِثُ بِإِضَافَتِهِ إِلَى الْوَاحِدَةِ لَغْوًا فَسَقَطَ ، وَطُلِّقَتْ وَاحِدَةً ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ أَرْبَعَةَ أَثْلَاثِ طَلْقَةٍ ، أَوْ خَمْسَةَ أَرْبَاعِ طَلْقَةٍ كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : تُطَلَّقُ ثِنْتَيْنِ . وَالثَّانِي : وَاحِدَةً .


فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ وَثُلُثَهَا وَسُدُسَهَا ، طُلِّقَتْ وَاحِدَةً ، لِأَنَّهُ قَدْ كَمَّلَهُمَا بِالْأَجْزَاءِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهَا ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ وَثُلُثَهَا وَرُبُعَهَا وَسُدُسَهَا فَقَدْ زَادَتْ أَجْزَاؤُهَا عَلَيْهَا ، وَهِيَ مُضَافَةٌ إِلَى وَاحِدَةٍ ، فَكَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ ، كَقَوْلِهِ ثَلَاثَةَ أَضْعَافِ طَلْقَةٍ : أَحَدُهُمَا : تُطَلَّقُ ثِنْتَيْنِ . وَالثَّانِي : وَاحِدَةً ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ وَثُلُثَ طَلْقَةٍ وَسُدُسَ طَلْقَةٍ ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ وَسُدُسَ طَلْقَةٍ طُلِّقَتْ وَاحِدَةً . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّهُ إِذَا أَدْخَلَ بَيْنَ الْأَجْزَاءِ " وَاوَ الْعَطْفِ تَغَايَرَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَإِذَا حَذَفَهَا لَمْ يَتَغَايَرْ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَتَيْنِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تُطَلَّقُ وَاحِدَةً وَيَصِيرُ كَقَوْلِهِ وَاحِدَةً مِنْ ثِنْتَيْنِ ، وَيَكُونُ النِّصْفُ مُمَيِّزًا لِإِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تُطَلَّقُ تَطْلِيقَتَيْنِ وَيَكُونُ النِّصْفُ رَاجِعًا إِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّلْقَتَيْنِ ، فَتُطَلَّقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفَهَا ، وَيَسْرِي إِلَى جَمِيعِهَا ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَيْ تَطْلِيقَتَيْنِ ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ : تُطَلَّقُ تَطْلِيقَتَيْنِ ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي : تُطَلَّقُ ثَلَاثًا . وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةَ أَنْصَافِ تَطْلِيقَتَيْنِ ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا ، أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، فَلِأَنَّ النِّصْفَ لَمَّا كَانَ مُوقِعًا لِطَلْقَةٍ ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الثَّلَاثَةُ أَنْصَافٍ مُوقِعًا لِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ . وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي : فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَنْصَافِ يَرْجِعُ إِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ التَّطْلِيقَتَيْنِ ، فَيَصِيرُ مُوقِعًا لِسِتٍّ فَوَقَعَ مِنْهَا ثَلَاثٌ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ نِصْفُ طَالِقٍ طُلِّقَتْ كَمَا لَوْ قَالَ " نِصْفُكِ طَالِقٌ " ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتَ نِصْفُ طَلْقَةٍ كَانَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا وَجْهَانِ . كَقَوْلِهِ أَنْتِ الطَّلَاقُ : أَحَدُهُمَا : تُطَلَّقُ وَاحِدَةً إِذَا قِيلَ : إِنَّ قَوْلَهُ : أَنْتِ الطَّلَاقُ صَرِيحٌ . وَالثَّانِي : لَا تُطَلَّقُ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ كِنَايَةٌ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ قَدْ أَوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ تَطْلِيقَةً كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ طَالِقًا وَاحِدَةً وَكَذَلِكَ تَطْلِيقَتَيْنِ وَثَلَاثًا وَأَرْبَعًا إِلَّا أَنْ يُرِيدَ قَسْمَ كُلِّ وَاحِدَةٍ فَيُطَلَّقْنَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قَالَ لِأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ لَهُ : قَدْ أَوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ تَطْلِيقَةً ، كَانَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِنَّ ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي عُرْفِ الْخِطَابِ بَيْنَ قَوْلِهِ : قَدْ أَوْقَعْتُ عَلَيْكُنَّ ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ قَدْ أَوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ ، كَمَا لَا فَرْقَ فِي الْإِقْرَارِ بَيْنَ قَوْلِهِ : هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ هِيَ بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو ، لِأَنَّ حُرُوفَ الصِّفَاتِ يَقُومُ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ صَرِيحًا فَلَهُ فِي إِيقَاعِ الطَّلَاقِ بَيْنَهُنَّ سِتَّةٌ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُوقِعَ بَيْنَهُنَّ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً ، فَتُطَلَّقَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً ، لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ إِذَا قُسِّمَتْ بَيْنَ أَرْبَعٍ ، كَانَ قِسْطُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ الرُّبُعَ فَيَكْمُلُ الرُّبُعُ بِالسَّرَايَةِ تَطْلِيقَةً كَامِلَةً . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُوقِعَ بَيْنَهُنَّ تَطْلِيقَتَيْنِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِيهِمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُرِيدَ قِسْمَةَ جُمْلَةِ التَّطْلِيقَةِ بَيْنَهُنَّ ، فَتُطَلَّقَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً ، لِأَنَّ قِسْطَهَا مِنْ قِسْمَةِ الثِّنْتَيْنِ نِصْفُ وَاحِدَةٍ فَكَمُلَتْ وَاحِدَةً . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُرِيدَ قِسْمَةَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَيْنَهُنَّ ، فَتُطَلَّقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تَطْلِيقَتَيْنِ ، لِأَنَّ قِسْطَهَا مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رُبُعٌ ، فَيَكْمُلُ الرُّبُعُ طَلْقَةً ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا بِالرُّبُعَيْنِ تَطْلِيقَتَانِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ لَا يَكُونُ لَهُ إِرَادَةٌ فِي الْقَسْمِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُحْمُلُ إِطْلَاقُ ذَلِكَ عَلَى قِسْمَةِ جُمْلَةِ التَّطْلِيقَتَيْنِ بَيْنَهُنَّ ، فَيَكُونُ قِسْطُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَجْهًا آخَرَ ، وَحَكَاهُ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي إِفْصَاحِهِ أَنَّهُ يُحْمَلُ إِطْلَاقُ ذَلِكَ عَلَى قِسْمَةِ كُلِّ تَطْلِيقَةٍ بَيْنَهُنَّ ، فَيَكُونُ قِسْطُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رُبُعَيْ تَطْلِيقَتَيْنِ ، فَتُطَلَّقُ تَطْلِيقَتَيْنِ ، وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَصَحُّ ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْأَمْرَيْنِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْأَقَلِّ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُوقِعَ بَيْنَهُنَّ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ ، فَإِنْ أَرَادَ قِيمَةَ الْجُمْلَةِ بَيْنَهُنَّ طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً ، لِأَنَّ قِسْطَهَا مِنَ الثَّلَاثِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ تَطْلِيقَةٍ ، فَكَمُلَتْ تَطْلِيقَةً وَإِنْ أَرَادَ قِسْمَةَ كُلِّ تَطْلِيقَةٍ بَيْنَهُنَّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثًا ، لِأَنَّ قِسْطَهَمَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ تَطْلِيقَاتٍ فَيُكْمِلُ كُلُّ رُبُعٍ تَطْلِيقَةً ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يُحْمَلُ عَلَى قِسْمَةِ الْجُمْلَةِ فَتُطَلَّقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ تُطَلَّقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثًا .

وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يُوقِعَ بَيْنَهُنَّ أَرْبَعَ تَطْلِيقَاتٍ ، فَإِنْ أَرَادَ قِسْمَةَ الْجُمْلَةِ ، طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ تُطَلَّقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثًا ، وَتَكُونُ الرَّابِعَةُ لَغْوًا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ تُطَلَّقُ وَاحِدَةً ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ ثَلَاثًا . وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ : أَنْ يُوقِعَ بَيْنَهُنَّ خَمْسَ تَطْلِيقَاتٍ ، فَإِنْ أَرَادَ قِسْمَةَ الْجُمْلَةِ بَيْنَهُنَّ طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تَطْلِيقَتَيْنِ ، لِأَنَّ قِسْطَ كُلِّ وَاحِدَةٍ ، وَاحِدَةٌ وَرُبُعٌ ، فَكَمُلَتْ ثِنْتَيْنِ ، وَإِنْ أَرَادَ قِسْمَةَ كُلِّ تَطْلِيقَةٍ بَيْنَهُنَّ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا مِنْ خَمْسٍ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ تُطَلَّقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ تَطْلِيقَتَيْنِ ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ ثَلَاثًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْقَعَ بَيْنَهُنَّ سِتًّا أَوْ سَبْعًا أَوْ ثَمَانِيَةً ، لِأَنَّ قِسْطَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ السِّتِّ تَطْلِيقَةٌ وَنِصْفٌ ، وَمِنَ السَّبْعِ تَطْلِيقَةٌ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ ، وَمِنَ الثَّمَانِ تَطْلِيقَتَانِ ، وَلَا فَرَقَ بَيْنَ تَطْلِيقَتَيْنِ وَبَيْنَ تَطْلِيقَةٍ مِنْ بَعْضِ ثَانِيَةٍ فِي تَكْمِيلِهَا بِطَلْقَتَيْنِ . وَالْحَالُ السَّادِسَةُ : أَنْ يُوقِعَ بَيْنَهُنَّ تِسْعَ تَطْلِيقَاتٍ ، فَتُطَلَّقَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ، لِأَنَّ قِسْطَهَا مِنْ قِسْمَةِ الْجُمْلَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَرُبُعٌ ، وَهُوَ أَقَلُّ أَحْوَالِهَا ، فَكَمُلَتْ ثَلَاثًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْقَعَ بَيْنَهُنَّ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَانٍ ، وَدُونَ التِّسْعِ كَثَمَانٍ وَنِصْفٍ أَوْ ثَمَانٍ وَعُشْرٍ ، لِأَنَّهُ أَزَادَ قِسْطَ كُلِّ وَاحِدَةٍ عَلَى الثِّنْتَيْنِ وَلَوْ بِيَسِيرٍ مِنْ ثَالِثَةٍ ، كَمُلَ ثَلَاثًا .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : قَدْ أَوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ تِسْعَ تَطْلِيقَاتٍ ، وَقَالَ أَرَدْتُ بِالتِّسْعِ ثَلَاثًا وَاسْتَثْنَيْتُ الرَّابِعَةَ ، طَلَّقَ الثَّلَاثَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، وَطُلِّقَتِ الرَّابِعَةُ فِي الظَّاهِرِ ، وَكَانَ مَدِينًا فِي الْبَاطِنِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : قَدْ أَوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ خَمْسًا ، وَقَالَ : أَرَدْتُ التَّفْضِيلَ بَيْنَهُنَّ فِي الْقِسْمَةِ ، وَأَنْ يَكُونَ ثَلَاثٌ مِنَ الْخَمْسِ لِوَاحِدَةٍ ، وَالثِّنْتَانِ الْبَاقِيَتَانِ بَيْنَ الثَّلَاثِ ، في الطلاق قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الَّتِي فَضَّلَهَا ظَاهِرًا ، وَطُلِّقَتْ مِنْهُ ثَلَاثًا ، وَقَدْ كَانَ يَقَعُ عَلَيْهَا لَوْلَا التَّفْضِيلُ تَطْلِيقَتَانِ وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي اللَّائِي نَقَصَهُنَّ فِي الظَّاهِرِ وَإِنْ كَانَ مَدِينًا فِي الْبَاطِنِ ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ لَوْلَا التَّفْضِيلُ طَلْقَتَانِ ، وَيَقَعُ عَلَيْهَا مَعَ التَّفْضِيلِ وَاحِدَةٌ ، فَيَلْزَمُهُ فِي الظَّاهِرِ تَطْلِيقَتَانِ وَفِي الْبَاطِنِ وَاحِدَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا فَهِيَ ثَلَاثٌ إِنَّمَا يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ إِذَا بَقَّى شَيئًا فَإِذَا لَمْ يُبَقِّ شَيئًا فَمُحَالٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فَهُوَ ضِدُّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ، لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهُ مَا لَوْلَاهُ لَكَانَ دَاخِلًا فِيهِ ، فَيَكُونُ مِنَ الْإِثْبَاتِ نَفْيًا وَمِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتًا ، فَإِذَا قَالَ : جَاءَنِي الْقَوْمُ إِلَّا

زَيْدًا ، فَقَدْ أَثْبَتَ مَجِيءَ الْقَوْمِ إِلَيْهِ ، وَنَفَى مَجِيءَ زَيْدٍ إِلَيْهِ ، لِاسْتِثْنَائِهِ مِنْهُمْ وَلَوْ قَالَ : مَا جَاءَنِي أَحَدٌ إِلَّا زَيْدًا ، فَقَدْ نَفَى مَجِيءَ أَحَدٍ وَأَثْبَتَ مَجِيءَ زَيْدٍ لِاسْتِثْنَائِهِ مِمَّنْ نَفَى ، وَإِذَا عَادَ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى جُمْلَةٍ ، كَانَ الْمُرَادُ بِهَا ، مَا بَقِيَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْهَا ، فَإِذَا قَالَ : لَهُ عَشَرَةٌ إِلَّا ثَلَاثَةً كَانَ إِقْرَارُهُ بِسَبْعَةٍ ، وَلَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ مُبْتَدِئًا : عَلَيَّ سَبْعَةٌ وَبَيْنَ قَوْلِهِ : لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا ثَلَاثَةً . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا [ الْعَنْكَبُوتِ : ] . فَكَانَ كَقَوْلِهِ : تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ عَامًا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ اسْتِثْنَاءٌ ثَانِي بَعْدَ أَوَّلٍ ، وَثَالِثٌ بَعْدَ ثَانِي فَيَعُودُ الْأَوَّلُ إِلَى الْمُسْتَثْنَى نَقَصَ فِيهِ إِثْبَاتًا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ الْأَوَّلُ نَفْيًا ، وَالثَّانِي إِثْبَاتًا ، وَالثَّالِثُ نَفْيًا لِمَا ذَكَرْنَا ، مِنْ أَنَّ حُكْمَ الِاسْتِثْنَاءِ ضِدُّ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ . مِثَالُهُ : أَنْ يَقُولَ : لَهُ عَشَرَةٌ إِلَّا سَبْعَةً إِلَّا خَمْسَةً ، فَيَكُونُ مُقِرًّا بِثَمَانِيَةٍ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِثْبَاتٌ ، فَكَانَ قَوْلُهُ إِلَّا سَبْعَةً نَفْيًا لَهَا مِنَ الْعَشَرَةِ ، فَسَقَطَتْ مِنْهَا بَقِيَتْ ثَلَاثًا ، فَلَمَّا قَالَ : إِلَّا خَمْسَةً عَادَ إِلَى السَّبْعَةِ وَهِيَ نَفْيٌ ، فَكَانَتِ الْخَمْسَةُ إِثْبَاتًا فَزِيدَتْ عَلَى الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ مِنَ الْعَشَرَةِ ، فَصَارَتْ ثَمَانِيَةً ، وَصَارَ مُسْتَثْنًا لِاثْنَتَيْنِ مِنْ عَشَرَةٍ ، لِأَنَّ الْخَمْسَةَ الْمُسْتَثْنَاةَ مِنَ السَّبْعَةِ يَبْقَى مِنْهَا اثْنَتَانِ فَصَارَ هُوَ الْمُسْتَثْنَى مِنَ الْعَشَرَةِ ، وَشَاهِدُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلُهُ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ : قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ [ الْحِجْرِ : ، ] فَاسْتَثْنَى آلَ لُوطٍ بِالنَّجَاةِ مِنَ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ فِي الْهَلَاكِ ثُمَّ اسْتَثْنَى امْرَأَةَ لُوطٍ مِنْ آلِ لُوطٍ الْمُنَجَّوْنَ مِنَ الْهَلَاكِ ، فَصَارَتْ مِنَ الْهَالِكِينَ ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ يَأْتِي بِوَاوِ الْعَطْفِ ، كَانَا اسْتِثْنَاءً وَاحِدًا كَقَوْلِهِ : عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا أَرْبَعَةً إِلَّا ثَلَاثَةً ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ : عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا سَبْعَةً ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ ، لِأَنَّ وَاوَ الْعَطْفِ تَجْمَعُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ ، وَمَتَى كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رَافِعًا لِجَمِيعِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ وَثَبَتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ، كَقَوْلِهِ لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا عَشَرَةً ، ثَبَتَ إِقْرَارُهُ بِالْعَشَرَةِ وَبَطَلَ اسْتِثْنَاؤُهُ لِلْعَشَرَةِ ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَوْضُوعٌ لِإِبْقَاءِ بَعْضِ الْجُمْلَةِ لَا لِرَفْعِهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحْسُنُ أَنْ يَقُولَ : جَاءَ بَنُو تَمِيمٍ إِلَّا بَنِي تَمِيمٍ ، وَيَحْسُنُ أَنْ يَقُولَ : إِلَّا الصِّبْيَانَ ، لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ رَافِعٌ ، وَفِي الثَّانِي مُبْقٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ رَافِعًا لِلْأَوَّلِ ، مُبْقِيًا لِلْأَكْثَرِ إِجْمَاعًا ، كَقَوْلِهِ : عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا دِرْهَمًا ، فَيَبْقَى تِسْعَةٌ يَكُونُ مُقِرًّا بِهَا . فَأَمَّا إِذَا كَانَ رَافِعًا لِلْأَكْثَرِ مُبْقِيًا لِلْأَقَلِّ جَازَ عَلَى قَوْلِ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ ، فَيَقُولُ : لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا تِسْعَةً ، فَيَكُونُ مُقِرًّا بِدِرْهَمٍ . وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ دَرَسْتَوَيْهِ مِنَ النُّحَاةِ ، أَنَّهُ أَبْطَلَ الِاسْتِثْنَاءَ إِذَا كَانَ رَفْعَ الْأَكْثَرَ ، وَأَبْقَى الْأَقَلَّ وَهُوَ قَوْلٌ مُطْرَحٌ ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَدْفَعُهُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتِنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ

[ الْحِجْرِ : ، ] . فَاسْتَثْنَى الْمُخْلَصِينَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَنَفَى الْكَافِرِينَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهَا : إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [ الْحِجْرِ : ] . فَاسْتَثْنَى الْغَاوِينَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَنَفَى الْمُؤْمِنِينَ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ أَكْثَرُ لِقَوْلِهِ : وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [ الْأَعْرَافِ : ] . فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ لِلْأَكْثَرِ وَقَالَ الشَّاعِرُ : أَدُّوا الَّتِي نَقَصَتْ تِسْعِينَ عَنْ مِائَةٍ ثُمَّ ابْعَثُوا حَكَمًا بِالْحَقِّ قَوَّالًا فَاسْتَثْنَى تِسْعِينَ مِنْ مِائَةٍ وَهِيَ الْأَكْثَرُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ تَمْهِيدِ هَذِهِ الْأُصُولِ ، كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الطَّلَاقِ مَبْنِيًّا عَلَيْهَا . فَإِذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَةً ، طُلِّقَتِ اثْنَتَيْنِ ، لِبَقَائِهَا بَعْدَ اسْتِثْنَائِهَا الْوَاحِدَةَ . وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَةً اثْنَتَيْنِ ، طُلِّقَتْ وَاحِدَةً لِبَقَائِهَا بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ لِلِاثْنَتَيْنِ . وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا لِإِيقَاعِهَا بَعْدَ اسْتِثْنَائِهَا وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ خَمْسًا إِلَّا ثَلَاثًا . فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا تُطَلَّقُ ثَلَاثًا ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مِنَ الطَّلَاقِ إِلَّا ثَلَاثًا ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا مِنَ الْخَمْسِ لَغْوٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا ، فَطُلِّقَتْ ثَلَاثًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَقَدْ حَكَاهُ الْبُوَيْطِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تُطَلَّقُ اثْنَتَيْنِ ، لِأَنَّ الْخَمْسَ لَغْوٌ إِذَا لَمْ يَتَعَقَّبْهَا اسْتِثْنَاءٌ ، فَأَمَّا مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ فَلَا تَكُونُ لَغْوًا لِأَنَّ الْبَاقِيَ هُوَ الْمَقْصُودُ ، فَخَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ اللَّغْوِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ خَمْسًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ ، طُلِّقَتْ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَاحِدَةً لِعَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الثَّلَاثِ ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي : تُطَلَّقُ ثَلَاثًا لِعَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الْخَمْسِ . وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ أَرْبَعًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ ، طُلِّقَتْ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَاحِدَةً ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي اثْنَتَيْنِ ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ سِتًّا إِلَّا ثَلَاثًا ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا عَلَى الْوَجْهَيْنِ ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِنْ عَادَ إِلَى السِّتِّ فَقَدْ أَبْقَى ثَلَاثًا ، وَإِنْ عَادَ إِلَى الثَّلَاثِ فَقَدِ اسْتَثْنَى جَمِيعَهَا فَلَمْ يَصِحَّ .


فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ إِلَّا وَاحِدَةً ، طُلِّقَتِ اثْنَتَيْنِ ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْأَوَّلَ نَفْيٌّ فَبَقِيَتْ بَعْدَهُ وَاحِدَةٌ ، وَالِاسْتِثْنَاءَ الثَّانِي إِثْبَاتٌ فَزَادَتْ بِهِ وَاحِدَةٌ ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الثَّانِيَ قَدْ أَسْقَطَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ وَاحِدَةً ، فَصَارَ الْبَاقِي مِنْهُ وَاحِدَةً ، وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُسْتَثْنَى مِنَ الثَّلَاثِ فَبَقِيَتِ اثْنَتَانِ ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا

وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً ، طُلِّقَتْ وَاحِدَةً ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَمَعَ بَيْنَ عَدَدَيِ الِاسْتِثْنَاءِ بِوَاوِ الْعَطْفِ ، صَارَ الْمُسْتَثْنَى وَاحِدَةً ، وَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ ، فَتُطَلَّقُ وَاحِدَةً ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَةً وَإِلَّا وَاحِدَةً ، طُلِّقَتْ وَاحِدَةً ، لِأَنَّ دُخُولَ وَاوِ الْعَطْفِ بَيْنَ الْعَدَدَيْنِ يَجْعَلُ إِعَادَةَ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ تَأْكِيدًا . وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ وَوَاحِدَةً ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تُطَلَّقُ ثَلَاثًا ، لِأَنَّ عَدَدَيِ الِاسْتِثْنَاءِ إِذَا جُمِعَا كَانَا ثَلَاثًا ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا ، فَتُطَلَّقُ ثَلَاثًا وَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ لِرَفْعِهِ لِلْجَمِيعِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تُطَلَّقُ وَاحِدَةً ، إِسْقَاطًا لِلْوَاحِدَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ عَدَدَيِ الِاسْتِثْنَاءِ ، لِتَكُونَ الثِّنْتَانِ الْبَاقِيَتَانِ مِنْهُ عَدَدًا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ ، فَلِذَلِكَ طُلِّقَتْ وَاحِدَةً ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ بَقِيَتْ وَاحِدَةٌ ، فَإِذَا قَالَ : إِلَّا وَاحِدَةً صَارَ كَأَنَّهُ قَدِ اسْتَثْنَى وَاحِدَةً مِنْ وَاحِدَةٍ فَلَمْ يَصِحَّ ، وَلَوْ كَانَ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَةً وَاثْنَتَيْنِ فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تُطَلَّقُ ثَلَاثًا إِسْقَاطًا لِجَمِيعِ الِاسْتِثْنَاءِ ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي تُطَلَّقُ اثْنَتَيْنِ إِسْقَاطًا لِآخِرِ الْعَدَدَيْنِ ، وَإِثْبَاتًا لِلْأَوَّلِ ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً ، إِلَّا وَاحِدَةً طُلِّقَتْ ثَلَاثًا ، وَسَقَطَ الِاسْتِثْنَاءُ ، لِأَنَّهُ لَمَّا فَرَّقَ الْجُمْلَةَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهَا صَارَ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إِلَى أَقْرَبِهَا ، وَهِيَ الْوَاحِدَةُ الْأَخِيرَةُ ، فَلَمْ يَصِحَّ اسْتِثْنَاؤُهَا وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ فَطَالِقٌ ، إِلَّا طَلْقَةً طُلِّقَتْ ثَلَاثًا ، لِأَنَّهُ أَفْرَدَهَا ، وَلَمْ يَجْمَعْهَا فَلَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهَا .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ إِلَّا اثْنَتَيْنِ وَنِصْفَ إِلَّا وَاحِدَةً ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا ، لِأَنَّ نِصْفَ الثَّالِثَةِ يَسْرِي ، فَيَصِيرُ وَاحِدَةً كَامِلَةً ، وَقَدْ ضَمَّهَا إِلَى اثْنَتَيْنِ بِوَاوِ الْعَطْفِ ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ وَوَاحِدَةً إِلَّا وَاحِدَةً فَتُطَلَّقُ ثَلَاثًا وَيَسْقُطُ اسْتِثْنَاءُ الْوَاحِدَةِ ، لِرُجُوعِهِ إِلَى الْوَاحِدَةِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ : أَنَّهَا تُطَلَّقُ طَلْقَتَيْنِ ، لِأَنَّ وَاوَ الْعَطْفِ دَخَلَتْ هَاهُنَا ، فِيمَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ وَسَرَايَةُ الطَّلَاقِ تَسْتَقِرُّ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ ، فَإِذَا اسْتَثْنَى وَاحِدَةً مِنَ اثْنَتَيْنِ وَنِصْفٍ بَقِيَتْ وَاحِدَةٌ وَنِصْفٌ فَكَمُلَتِ اثْنَتَيْنِ ، فَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا نِصْفَ ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا ، لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ طَلْقَتَانِ وَنِصْفُ ، وَيَكُونُ تَكْمِيلُ الطَّلَاقِ فِي الْوَاقِعِ مِنْهُ دُونَ الْمُسْتَثْنَى . وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ وَنِصْفَ إِلَّا طَلْقَةً وَنِصْفَ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا تُطَلَّقُ ثَلَاثًا ، لِأَنَّ الطَّلْقَةَ وَنِصْفًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَثْنَى مِنْ نِصْفِ طَلْقَةٍ ، فَيَسْقُطَ الِاسْتِثْنَاءُ وَيَكْمُلَ الْوَاقِعُ ثَلَاثًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا تُطَلَّقُ طَلْقَتَيْنِ ، لِأَنَّ النِّصْفَ طَلْقَةٍ الْوَاقِعَةَ مَعَ الطَّلْقَتَيْنِ قَدْ

صَارَتْ ثَلَاثًا ، وَقَدِ اسْتَثْنَى مِنْهَا طَلْقَةً وَنِصْفًا ، فَبَقِيَتْ طَلْقَةٌ فَكَمُلَتْ طَلْقَتَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهَا تُطَلَّقُ وَاحِدَةً ، لِأَنَّ كَمَالَ الْوَاقِعِ يَكُونُ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْهُ ، وَقَدِ اسْتَثْنَى طَلْقَةً وَنِصْفًا مِنْ طَلْقَتَيْنِ وَنِصْفٍ فَبَقِيَتْ وَاحِدَةٌ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَةً ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : تُطَلَّقُ ثَلَاثًا لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْأَوَّلَ رَافِعٌ لِلْكُلِّ فَيَسْقُطُ ، وَالِاسْتِثْنَاءَ الثَّانِيَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَوَّلِ فَسَقَطَ بِسُقُوطِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا تُطَلَّقُ طَلْقَتَيْنِ ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْأَوَّلَ سَقَطَ بِرَفْعِهِ لِلْكُلِّ وَقَامَ الِاسْتِثْنَاءُ الثَّانِي مَقَامَ الْأَوَّلِ ، فَنَفَى طَلْقَةً وَبَقِيَتْ طَلْقَتَانِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهَا تُطَلَّقُ وَاحِدَةً ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْأَوَّلَ قَدْ عَادَ إِلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ الثَّانِي فَبَقَّى مِنْهُ وَاحِدَةً وَنَفَى مِنْهُ اثْنَتَيْنِ ، فَصَحَّ عَوْدُهُ إِلَى الثَّلَاثِ ، فَبَقِيَ مِنْهَا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ . وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا إِلَّا ثِنْتَيْنِ ، كَانَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : تُطَلَّقُ ثَلَاثًا وَيَسْقُطُ جَمِيعُ الِاسْتِثْنَاءِ . وَالثَّانِي : تُطَلَّقُ وَاحِدَةً ، إِسْقَاطًا لِلِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ ، وَإِقَامَةً لِلثَّانِي مَقَامَهُ . وَالثَّالِثُ : تُطَلَّقُ اثْنَتَانِ ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْأَخِيرَ يَرْجِعُ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ ، فَبَقِيَ مِنْهُ وَاحِدَةٌ فَيَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْوَاحِدَةِ مِنَ الثَّلَاثَةِ ، فَتَبْقَى اثْنَتَانِ وَتُطَلَّقُ وَاحِدَةً اسْتِعْمَالًا لَهَا فَتَسْقُطُ مِنَ الْأَوَّلِ اثْنَتَانِ ، وَتَبْقَى مِنْهُ وَاحِدَةٌ ، وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُسْتَثْنَى .

فَصْلٌ : وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ في الطلاق يَصِحُّ بِجَمِيعِ حُرُوفِهِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِيهِ ، وَهِيَ : إِلَّا ، وَغَيْرُ ، وَسِوَى ، وَخَلَا ، وَحَاشَا ، وَعَدَا ، فَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَةً ، أَوْ غَيْرَ وَاحِدَةٍ أَوْ سِوَى وَاحِدَةٍ أَوْ خَلَا وَاحِدَةً أَوْ حَاشَا وَاحِدَةً أَوْ عَدَا وَاحِدَةً ، صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ كُلِّهَا ، وَطُلِّقَتِ اثْنَتَيْنِ ، إِلَّا أَنَّ غَيْرَ وَحْدَهَا مِنْ جَمِيعِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِيهَا الْإِعْرَابُ ، فَتُضُمُّ الرَّاءُ مِنْهَا تَارَةً ، وَتُفْتَحُ أُخْرَى ، فَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ غَيْرَ وَاحِدَةٍ بِفَتْحِ الرَّاءِ ، كَانَ اسْتِثْنَاءٌ وَطَلَّقَتِ اثْنَتَيْنِ ، وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا غَيْرُ وَاحِدَةٍ ، بِضَمِّ الرَّاءِ قَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ : تُطَلَّقُ ثَلَاثًا ، لِأَنَّهُ بِالضَّمِّ يَصِيرُ نَفْيًا ، وَلَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً وَتَقْدِيرُهُ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لَيْسَتْ وَاحِدَةً ، وَلَيْسَ لِأَصْحَابِنَا فِي هَذَا نَصٌّ ، فَإِنْ كَانَ الْمُطَلِّقُ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ الَّذِي يَسْتَعْمِلُ الْإِعْرَابَ فِي كَلَامِهِ ، فَالْجَوَابُ عَلَى مَا قَالُوهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ كَانَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ اخْتِلَافِ وِجْهَتَيْ أَصْحَابِنَا فِي أَمْثَالِهِ .


فَصْلٌ : وَإِذَا قَدَّمَ الِاسْتِثْنَاءَ ، في الطلاق فَقَالَ : أَنْتِ إِلَّا وَاحِدَةً طَالِقٌ ثَلَاثًا ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا وَسَقَطَ الِاسْتِثْنَاءُ ، لِأَنَّهُ يَعُودُ إِلَى مَا تَقَدَّمُهُ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَا تَعَقَّبَهُ ، فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ جَاءَ

فِي كَلَامِهِمْ عَوْدُ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى مَا تَعَقَّبَهُ ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ فِي مَدْحِ هِشَامِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُغِيرَةِ خَالِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ . وَمَا مِثْلُهُ فِي النَّاسِ إِلَّا مُمَلَّكًا أَبُو أُمِّهِ حَيٌّ أَبُوهُ يُقَارِبُهُ فَقَدَّمَ الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ وَمَا مِثْلُهُ فِي النَّاسِ حَيٌّ يُقَارِبُهُ إِلَّا مُمَلَّكًا أَبُو أَمِّ ذَلِكَ الْمُمَلَّكِ ، أَبُو هَذَا الْمَمْدُوحِ . قِيلَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ إِنَّمَا قُدِّمَ فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ ، مَا زَالَتِ الضَّرُورَةُ عَنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ كُلَّمَا وَلَدْتِ وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فَوَلَدَتْ ثَلَاثًا فِي بَطْنٍ طُلِّقَتْ بِالْأَوَّلِ وَاحِدَةً وَبِالثَّانِي أُخْرَى وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالثَّالِثِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : كُلَّمَا وَلَدْتِ وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَإِنْ وَلَدَتْ وَلَدًا وَاحِدًا طُلِّقَتْ وَاحِدَةً ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْأَقْرَاءِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ، وَسَوَاءٌ وَضَعَتْهُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا ، كَامِلَ الْخَلْقِ أَوْ نَاقِصًا ، فَأَمَّا إِنْ وَضَعَتْ يَدًا أَوْ رِجْلًا لَمْ تُطَلَّقْ ، لِأَنَّهُ بَعْضُ وَلَدٍ وَلَيْسَ بِوَلَدٍ وَتَصِيرُ بِهِ لَوْ كَانَتْ أُمَّهُ أَمَّ وَلَدٍ ، وَلِأَنَّهَا قَدْ عَلِقَتْ مِنْهُ بِوَلَدٍ . وَإِنْ وَضَعَتْ وَلَدَيْنِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَلِدَهُمَا مَعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ، لَا يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ لِكَوْنِهِمَا فِي مَشِيمَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَتُطَلَّقُ بِهِمَا طَلْقَتَيْنِ ، لِأَنَّ كُلَّمَا مَوْضُوعَةٌ لِلتَّكْرَارِ . وَقَدْ تَكَرَّرَتْ صِفَةُ الطَّلَاقِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَكَرَّرَ بِهَا وُقُوعُ الطَّلَاقِ ، وَعَلَيْهَا بَعْدَ التَّطْلِيقَتَيْنِ أَنْ تَعْتَدَّ بِالْأَقْرَاءِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَضَعَهُمَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ رَاجَعَهَا بَعْدَ الْأَوَّلِ ، فَتُطَلَّقُ بِالثَّانِي ثَانِيَةً ، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْأَقْرَاءِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ رَاجَعَهَا فَتُطَلَّقُ بِالْأَوَّلِ وَاحِدَةً ، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالثَّانِي وَلَا تُطَلَّقُ بِهِ ، لِأَنَّ مَا انْقَضَتْ بِهِ الْعُدَّةُ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ ، وَإِنَّمَا انْقَضَتْ بِهِ الْعُدَّةُ ، لِأَنَّهَا بِوُقُوعِ الطَّلْقَةِ الْأُولَى بِالْوَلَدِ الْأَوَّلِ مُعْتَدَّةٌ ، وَالْمُعْتَدَّةُ إِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا بَانَتْ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ إِذَا انْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ ، لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ بِوَضْعِهِ .

وَالثَّانِي لَا يَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ فِي حَالَةِ الْبَيْنُونَةِ ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا : إِذَا مُتُّ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، لَمْ تُطَلَّقْ بِمَوْتِهِ : لِأَنَّهَا بَانَتْ بِالْمَوْتِ ، فَلَمْ تُطَلَّقْ بِالْمَوْتِ . وَحَكَى أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَوْلًا ثَانِيًا فِي الْإِمْلَاءِ ، أَنَّهَا تُطَلَّقُ بِالثَّانِي أُخْرَى وَتَنْقَضِي بِهِ الْعُدَّةُ : لِوُجُودِ الصِّفَةِ فِي الثَّانِي كَوُجُودِهَا فِي الْأَوَّلِ ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ وَالْبَيْنُونَةُ مَعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ، كَالَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا . وَأَنْكَرَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا تَخْرِيجَ هَذَا الْقَوْلِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّنِي لَمْ أَجِدْهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمَالِيهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ابْنُ خَيْرَانَ مَنْ وَقَفَ عَلَى أَمَالِي الشَّافِعِيِّ قَبْلَهُ ، فَلَمْ يَحْكِهِ مِنْهُمْ أَحَدٌ . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ابْنُ خَيْرَانَ مَنْسُوبًا فِي حِكَايَةِ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى السَّهْوِ وَالْغَلَطِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْحِجَاجَ يُبْطِلُهُ وَهُوَ كَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إِذَا مُتُّ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَمَاتَ لَمْ تُطَلَّقْ إِجْمَاعًا لِأَنَّ مَا بِهِ يَقَعُ الطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَتْ بِهِ الْبَيْنُونَةُ ، فَلَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَا حَكَّاهُ ابْنُ خَيْرَانَ مَحْمُولَا عَلَى أَنَّهَا وَضَعَتْهُمَا مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَطُلِّقَتْ بِهِمَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْأَقْرَاءِ ، وَلَوْ وَضَعَتْهُمَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ ، طُلِّقَتْ بِالْأَوَّلِ وَاحِدَةً ، وَلَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ بِهِ ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالثَّانِي ، وَلَمْ تُطَلَّقْ بِهِ ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّفْرِيعُ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ وَضَعَتْ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ ، فَإِنْ وَضَعَتْهُمْ مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ طُلِّقَتْ بِهِمْ ثَلَاثًا ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْأَقْرَاءِ وَإِنْ وَضَعَتْهُمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ طُلِّقَتْ بِالْأَوَّلَ وَاحِدَةً وَبِالثَّانِي ثَانِيَةٍ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالثَّالِثِ ، وَلَمْ تُطَلَّقْ بِهِ ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الثَّلَاثَةُ مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي أَكْثَرُ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ طُلِّقَتْ بِالْأَوَّلِ وَحْدَهُ طَلْقَةً . قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ : وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا قَبْلَ وَضْعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ : لِأَنَّهُمَا مِنْ حَمْلٍ مُسْتَأْنَفٍ فَيَكُونُ لُحُوقُهُمَا بِهِ ، كَمَنْ وَضَعَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ عَدَّتِهَا عَلَى مَا سَنُفَصْلٌهُ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عِنْدِي لَيْسَ بِصَحِيحٍ : لِأَنَّهُ لَيْسَ يُمْتَنِعُ أَنْ يَطَأَهَا فِي الْعِدَّةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ عَنِ الثَّالِثِ فَتُعَلَّقُ وَتَكُونُ بَاقِيَةً فِي عِدَّتِهَا إِلَى وَضْعِهِ ، فَتَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِمَا قَالَهُ أَبُو حَامِدٍ وَجْهٌ ، وَنُظِرَ فِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَكْثَرُ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالثَّانِي وَلَمْ تُطَلَّقْ بِهِ وَكَانَ لَاحِقًا بِالزَّوْجِ ، وَصَارَ الثَّالِثُ مَوْلُودًا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، فَيَكُونُ لُحُوقُهُ عَلَى مَا سَنُفَصْل

فَصْلٌ : فِي الْمَوْلُودِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، من قَالَ لزوجته كُلَّمَا وَلَدْتِ وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الثَّانِي وَالثَّالِثِ أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُمَا مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ ، فَعَلَى هَذَا تُطَلَّقُ بِالثَّانِي ثَانِيَةً وَلَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ لِبَقَاءِ الْحَمْلِ ، تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالثَّالِثِ ، وَلَا تُطَلَّقُ بِهِ وَيُلْحَقَانِ بِالزَّوْجٍ كَالْأَوَّلِ . وَلَوْ وَضَعَتْ أَرْبَعَةَ أَوْلَادٍ نُظِرَ ، فَإِنْ وَضَعَتْهُمْ مَعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا : لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ لَا تَقَعُ ، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا

بِالْأَقْرَاءِ ، وَإِنْ وَضَعَتْهُمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَجَمِيعُهُمْ فِي حَمْلٍ وَاحِدٍ طُلِّقَتْ بِالْأَوَّلِ وَاحِدَةً وَبِالثَّانِي ثَانِيَةً وَبِالثَّالِثِ ثَالِثَةً ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالرَّابِعِ . فَلَوْ وَضَعَتِ اثْنَيْنِ مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، ثُمَّ اثْنَيْنِ مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ طُلِّقَتْ بِالِاثْنَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ طَلْقَتَيْنِ ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثَلَاثَةً بِالِاثْنَيْنِ الْآخِرَيْنِ ، وَلَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ بِوَاحِدٍ مِنْهَا : لِأَنَّهُمَا كَالْوَلَدِ الْوَاحِدِ فِي الِانْفِصَالِ ، فَلَوْ وَضَعَتْ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ مَعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ، ثُمَّ وَضَعَتْ رَابِعًا مُنْفَرِدًا طُلِّقَتْ ثَلَاثًا بِالثَّلَاثَةِ ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالرَّابِعِ الْمُنْفَرِدِ ، وَلَوْ وَضَعَتِ الْوَاحِدَ الْمُنْفَرِدَ أَوَّلًا ثُمَّ الثَّلَاثَ الْمُجْتَمِعِينَ مَعًا ، طُلِّقَتْ وَاحِدَةً بِالْأَوَّلِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالثَّالِثِ ، وَلَمْ تُطَلَّقْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ : لِاجْتِمَاعِهِمْ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَيَجْرِي عَلَيْهِمْ إِذَا اجْتَمَعُوا فِي الطَّلَاقِ حُكْمُ الِافْتِرَاقِ ، وَفِي الْعِدَّةِ حُكْمُ الْوَاحِدِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقْتَرِنَ عَدَدُ الطَّلَاقِ ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ تَقْتَرِنَ الْعِدَّةُ وَالطَّلَاقُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ : كُلَّمَا كَانَ فِي بَطْنِكِ وَلَدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فَوَضَعَتْ وَلَدًا وَاحِدًا ، طُلِّقَتْ بِهِ وَاحِدَةً ، وَانْقَضَتْ بِهِ عِدَّتُهَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ ، إِذَا وَلَدْتِ وَلَدًا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَالِفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِتَقَدُّمِ الْوِلَادَةِ : لِأَنَّهَا تُطَلَّقُ بِكَوْنِهِ فِي بَطْنِهَا وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِالْوِلَادَةِ ، أَنَّهُ كَانَ فِي بَطْنِهَا ، فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ لِوِلَادَتِهِ بَعْدَ تَقَدُّمِ الطَّلَاقِ وَوُقُوعِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا قَالَ : إِنْ وَلَدْتِ وَلَدًا : لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِنَفْسِ الْوِلَادَةِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَنْقَضِ بِهِ الْعِدَّةُ : لِأَنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ يَكُونُ بَعْدَ تَقَدُّمِ الطَّلَاقِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ وَضَعَتْ وَلَدَيْنِ طُلِّقَتْ بِهِمَا طَلْقَتَيْنِ سَوَاءٌ وَضَعَتْهُمَا مَعًا أَوْ مُفَرَّقًا ، وَانْقَضَتْ بِهِمَا الْعِدَّةُ ، وَلَوْ وَضَعَتْ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ طُلِّقَتْ بِهِمْ ثَلَاثًا ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْأَخِيرِ . وَلَوْ قَالَ : إِنْ كَانَ فِي بَطْنِكِ وَلَدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً ، فَوَضَعَتْ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ طُلِّقَتْ وَاحِدَةً وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْأَخِيرِ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ اللَّفْظَ الْمُوجِبَ لِلتَّكْرَارِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : " كُلَّمَا " فَلَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ إِلَّا بِوَاحِدٍ ، إِسْقَاطًا لِحُكْمِ التَّكْرَارِ ، كَمَا لَوْ قَالَ : إِنْ وَلَدْتِ أَوْ إِذَا وَلَدْتِ وَلَدًا أَوْ مَتَى وَلَدْتِ وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَوَلَدَتْ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ ، طُلِّقَتْ وَاحِدَةً بِالْأَوَّلِ وَلَمْ تُطَلَّقْ بِالثَّانِي وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالثَّالِثِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ : إِنْ وَلَدْتِ وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، ثُمَّ قَالَ : إِنْ وَلَدْتِ ذَكَرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنْ وَلَدَتْ أُنْثَى طُلِّقَتْ : لِأَنَّهَا وَلَدٌ ، وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا طُلِّقَتِ اثْنَتَيْنِ ، وَاحِدَةً بِأَنَّهُ وَلَدٌ ، وَثَانِيَةً لِأَنَّهُ ذَكَرٌ ، وَمِثْلُهُ أَنْ يَقُولَ : إِنْ كَلَّمْتِ رَجُلًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، وَإِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَإِذَا كَلَّمَتْ زَيْدًا طُلِّقَتِ اثْنَتَيْنِ ، وَاحِدَةً بِأَنَّهُ رَجُلٌ وَثَانِيَةً بِأَنَّهُ زَيْدٌ . فَلَوْ قَالَ : إِنْ وَلَدْتِ ذَكَرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً ، وَإِنْ وَلَدْتِ أُنْثَى فَأَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ ، فَوَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى فَلَهُمَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ :

أَحَدُهَا : أَنْ تَضَعَهُمَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَتُطَلَّقَ ثَلَاثًا وَاحِدَةً بِوَضْعِ الذَّكَرِ وَاثْنَتَانِ بِوَضْعِ الْأُنْثَى وَتَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تَلِدَ الْأُنْثَى أَوَّلًا ثُمَّ الذَّكَرَ ، فَتُطَلَّقُ ثِنْتَيْنِ بِالْأُنْثَى ، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالذَّكَرِ ، وَلَا تُطَلَّقُ بِهِ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ تَلِدَ الذَّكَرَ أَوَّلًا ثُمَّ الْأُنْثَى ، فَتُطَلَّقُ بِالذِّكْرِ وَاحِدَةً ، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْأُنْثَى ، وَلَا تُطَلَّقُ بِهَا . وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ لَا تَعْلَمَ كَيْفَ وَلَدَتْهُمَا فَتُطَلَّقُ مِنْ أَجْلِهِ ، لِأَنَّهَا يَقِينٌ ، لِجَوَازِ أَنْ تَلِدَ الذَّكَرَ ثُمَّ الْأُنْثَى ، وَالطَّلَاقُ يَقَعُ بِالْيَقِينِ دُونَ الشَّكِّ ، وَيُخْتَارُ لَهُ فِي الْوَرَعِ أَنْ يَلْتَزِمَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ لِجَوَازِ أَنْ تَلِدَهُمَا مَعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْأَقْرَاءِ : لِأَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَنْقَضِي إِلَّا بِالْيَقِينِ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَلِدَهُمَا مَعًا فَتَكُونَ عِدَّتُهَا بِالْأَقْرَاءِ ، فَلِذَلِكَ مَا الْتَزَمَهَا . وَلَوْ قَالَ : إِنْ كَانَ فِي بَطْنِكِ ذَكَرٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً ، وَإِنْ كَانَ فِي بَطْنِكِ أُنْثَى فَأَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ فَوَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى طُلِّقَتْ ثَلَاثًا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لِتَقَدُّمِ وُقُوعِهِ عَلَى الْوِلَادَةِ ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْأَخِيرِ مِنْهُمَا ، تَعْلِيلًا بِمَا قَدَّمْنَاهُ ، فَلَوْ وَلَدَتْ خُنْثَى مُشْكَلًا طُلِّقَتْ بِهِ وَاحِدَةً ، لِأَنَّهُ وَإِنْ أُشْكِلَ عِنْدَنَا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مُشْكَلٍ ، فَأَوْقَعْنَا بِهِ وَاحِدَةً لِأَنَّهَا يَقِينٌ . وَلَكِنْ لَوْ قَالَ : إِنْ وَلَدْتِ ذَكَرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَوَلَدَتْ خُنْثَى لَمْ تُطَلَّقْ : لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أُنْثَى وَلَوْ قَالَ : إِنْ وَلَدْتِ أُنْثَى فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَوَلَدَتْ خُنْثَى لَمْ تُطَلَّقْ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا . وَلَوْ قَالَ : إِنْ كَانَ مَا فِي بَطْنِكِ ذَكَرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَوَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى لَمْ تُطَلَّقْ ، وَهَكَذَا لَوْ وَلَدَتْ ذَكَرَيْنِ لَمْ تُطَلَّقْ ، لِأَنَّ شَرْطَ طَلَاقِهَا أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا فِي بَطْنِهَا ذَكَرًا وَاحِدًا ، فَإِذَا كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ عُدِمَ شَرْطُهُ فَلَمْ يَقَعْ . وَمِثْلُهُ أَنْ يَقُولَ : إِنْ كَانَ كُلُّ مَا فِي الْكِيسِ دَرَاهِمَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَكَانَ فِيهِ دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ لَمْ تُطَلَّقْ : لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كُلُّ مَا فِي الْكِيسِ دَرَاهِمَ ، وَلَوْ قَالَ : إِنْ كَانَ فِي الْكِيسِ دَرَاهِمُ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَكَانَ فِيهِ دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ طُلِّقَتْ كَذَلِكَ الْحَمْلُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا قَالَ لِزَوْجَتَيْهِ حَفْصَةَ وَعَمْرَةَ : كُلَّمَا وَلَدَتْ وَاحِدَةٌ مِنْكُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ ، فَوَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَدًا ، نُظِرَ فَإِنْ وَلَدَتَا مَعًا طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا طَلْقَتَيْنِ ، وَاحِدَةً بِوِلَادَتِهَا وَالْأُخْرَى بِوِلَادَةِ صَاحِبَتِهَا ، وَعَلَيْهِمَا الِاعْتِدَادُ بِالْأَقْرَاءِ ، وَإِنْ وَلَدَتْ إِحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى مِثْلَ أَنْ تَلِدَ حَفْصَةُ يَوْمَ السَّبْتَ وَعَمْرَةُ يَوْمَ الْأَحَدِ ، طُلِّقَتْ حَفْصَةُ طَلْقَتَيْنِ ، وَاحِدَةً بِوِلَادَتِهَا وَالْأُخْرَى بِوِلَادَةِ عَمْرَةَ ، وَاعْتَدَّتْ بِالْأَقْرَاءِ ، وَطُلِّقَتْ

عَمْرَةُ وَاحِدَةً بِوِلَادَةِ حَفْصَةَ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوِلَادَةِ نَفْسِهَا وَلَمْ تُطَلَّقْ بِهِ ، وَلَوْ وَلَدَتْ حَفْصَةُ أَوَّلًا ثُمَّ وَلَدَتْ عَمْرَةُ بَعْدَهَا وَلَدَيْنِ ، طُلِّقَتْ حَفْصَةُ ثَلَاثًا ، وَاحِدَةٌ بِوِلَادَتِهَا ، وَاثْنَانِ بِوِلَادَةِ عَمْرَةَ ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْأَقْرَاءِ ، وَطُلِّقَتْ عَمْرَةُ طَلْقَتَيْنِ وَاحِدَةً بِوِلَادَةِ حَفْصَةَ وَثَانِيَةً بِوَلَدِهَا الْأَوَّلِ ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَلَدِهَا الثَّانِي وَلَمْ تُطَلَّقْ . وَلَوْ وَلَدَتْ عَمْرَةُ أَوَّلًا وَلَدَيْنِ ، وَوَلَدَتْ حَفْصَةُ بَعْدَهَا وَلَدًا ، طُلِّقَتْ عَمْرَةُ وَاحِدَةً بِوَلَدِهَا الْأَوَّلِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَلَدِهَا الثَّانِي وَلَمْ تُطَلَّقْ بِهِ وَطُلِّقَتْ حَفْصَةُ طَلْقَتَيْنِ بِوَلَدِي عَمْرَةَ ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بَعْدَهَا وَلَدًا ثَانِيًا طُلِّقَتْ عَمْرَةُ طَلْقَتَيْنِ ، وَاحِدَةً بِوَلَدِهَا الْأَوَّلِ ، وَثَانِيَةً بِوَلَدِ حَفْصَةَ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَلَدِهَا الثَّانِي ، وَلَمْ تُطَلَّقْ بِهِ ، وَلَوْ وَلَدَتْ حَفْصَةُ وَلَدَيْنِ وَعَمْرَةُ وَلَدًا ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَتَقَدَّمْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثَلَاثًا لِثَلَاثَةِ الْأَوْلَادِ ، وَاعْتَدَّتْ بِالْأَقْرَاءِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : يَا حَفْصَةُ إِنْ كَانَ أَوَّلُ مَا تَلِدِينَ ذَكَرًا فَعَمْرَةُ طَالِقٌ ، فَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَوَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى فَلَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَلِدَ الذَّكَرَ ثُمَّ الْأُنْثَى فَتُطَلَّقُ عَمْرَةُ دُونَهَا . وَالثَّانِي : أَنْ تَلِدَ الْأُنْثَى ثُمَّ الذَّكَرَ ، فَتُطَلَّقُ هِيَ دُونَ عَمْرَةَ . وَالثَّالِثُ : أَنْ تَلِدَهُمَا مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا تُطَلَّقُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا : لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوَلَدَيْنِ أَوَّلٌ . وَالرَّابِعُ : أَنْ تَلِدَهُمَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ ، وَيُشْكَلَ هَلْ تَقَدَّمَ الذَّكَرُ أَوِ الْأُنْثَى ؟ فَقَدْ طُلِّقَتْ إِحْدَاهُمَا لَا بِعَيْنِهَا ، وَيَكُونُ كَالطَّلَاقِ الْوَاقِعِ عَلَى إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ وَقَدْ أُشْكِلَتْ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : يَا حَفْصَةُ ، إِنْ وَلَدْتِ فَأَنْتِ وَعَمْرَةُ طَالِقَتَانِ ، فَقَالَتْ حَفْصَةُ : قَدْ وَلَدْتُ ، وَأَكْذَبَهَا الزَّوْجُ ، لَمْ تُطَلَّقْ عَمْرَةُ ، وَفِي طَلَاقِ حَفْصَةَ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الْعِدَدِ ، وَنَقْلَهُ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ إِلَى جَامِعِهِ ، أَنَّ قَوْلَهَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا مَقْبُولٌ وَيَقَعُ بِهِ طَلَاقُهَا وَلَا يَلْحَقُ بِالزَّوْجِ إِلَّا أَنْ تُقِيمَ بَيِّنَةً عَلَى وِلَادَتِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا : أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ بِهِ ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا عَلَى نَفْسِهَا كَمَا لَا يُقْبَلُ عَلَى غَيْرِهَا ، وَكَمَا لَا يَلْحَقُ بِالزَّوْجِ بِقَوْلِهَا : لِأَنَّهُ مِمَّا يُمْكِنُهَا إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى وِلَادَتِهِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ : إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَقَالَتْ : قَدْ دَخَلْتُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهَا إِلَّا بِبَيِّنَةٍ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَقَعْ وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالنُّذُورِ كَهُوَ فِي الْأَيْمَانِ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا عَلَّقَ طَلَاقَهُ أَوْ عِتْقَهُ أَوْ يَمِينَهُ أَوْ نَذْرَهُ أَوْ إِقْرَارَهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ عُقُودِهِ وَارْتَفَعَ حُكْمُ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَالْإِقْرَارِ وَالْعُقُودِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ يَمْنَعُ مِنَ انْعِقَادِ ذَلِكَ كُلِّهِ ، أَوْ يَكُونُ شَرْطًا يُعَلَّقُ بِهِ فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ لِعَدَمِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ يَمْنَعُ مِنَ انْعِقَادِهِ فَلَا يَثْبُتُ لِذَلِكَ كُلِّهِ عَقْدٌ وَلَا حُكْمٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ شَرْطٌ انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَحْكَامُ فَلَمْ يَلْزَمْ لِعَدَمِ الشَّرْطِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُنْعَقِدَةً فَهَذَا حُكْمُ مَا عُقِدَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَالْإِقْرَارِ وَالْعُقُودِ ، فِي أَنَّ جَمِيعَهُ غَيْرُ لَازِمٍ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ . وَقَالَ مَالِكٌ : تَقَعُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ حُكْمُ الْأَيْمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَرْتَفِعُ مَا سِوَى الْأَيْمَانِ بِاللَّهِ مِنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالنُّذُورِ وَالْإِقْرَارِ . وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى : يَرْتَفِعُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ حُكْمُ جَمِيعِ الْأَيْمَانِ بِاللَّهِ وَبِالطَّلَاقِ وَبِالْعِتْقِ ، وَلَا يَرْتَفِعُ بِهِ وُقُوعُ النَّاجِزِ مِنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالنُّذُورِ ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : يَرْتَفِعُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ حُكْمُ الْأَيْمَانِ كُلِّهَا ، وَحُكْمُ الطَّلَاقِ وَإِنْ كَانَ نَاجِزًا ، وَلَا يَرْتَفِعُ حُكْمُ الْعِتْقِ وَالنُّذُورِ وَالْإِقْرَارِ . فَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ فَقَالَ : إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ فَاقْتَضَى دَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ حَنِثَ وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَافِعٌ كَالْكَفَّارَةِ ، فَلَمَّا اخْتُصَّتِ الْكَفَّارَةُ بِالْأَيْمَانِ بِاللَّهِ دُونَ غَيْرِهَا ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى مُخْتَصًّا بِهَا دُونَ غَيْرِهَا ، وَلِأَنَّهُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ الْمُعَلَّقِ لَهُ بِشَرْطٍ يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ ، فَوَجَبَ أَنْ يُتَعَجَّلَ وُقُوعُهُ وَيَسْقُطَ شَرْطُهُ ، كَمَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ صَعِدْتِ السَّمَاءَ طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ لِاسْتِحَالَةِ الشَّرْطِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُ أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى الطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ عَلَى لِسَانِهِ ، مَشِيئَةً مِنْهُ لِإِيقَاعِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَرْتَفِعَ لِوُجُودِ شَرْطِهِ . وَدَلِيلُنَا : رِوَايَةُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ ثُمَّ قَالَ فِي إِثْرِهَا : إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْأَيْمَانِ بِاللَّهِ وَفِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ ،

وَلِأَنَّهُ طَلَاقٌ عُلِّقَ بِمَشِيئَةٍ مِنْ لَهُ مَشِيئَةٌ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهَا ، أَصْلُهُ إِذَا عَلَّقَهُ بِمَشِيئَةِ زَيْدٍ ، وَلِأَنَّهُ طَلَاقٌ عَلَّقَهُ بِصِفَةٍ صَحِيحَةٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ قَبْلَ وُجُودِهَا ، أَصْلُهُ إِذَا عَلَّقَهُ بِدُخُولِ الدَّارِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ يَمِينٍ لَوْ عَلَّقَهَا بِمَشِيئَةِ آدَمِيٍّ ، لَمْ تَقَعْ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهَا ، وَجَبَ إِذَا عَلَّقَهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ أَنْ لَا تَقَعَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهَا كَالْيَمِينِ بِاللَّهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا ارْتَفَعَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ حُكْمُ الْيَمِينِ بِاللَّهِ ، مَعَ عِظَمِ حُرْمَتِهَا كَانَ رَفْعُ مَا دُونَهُ فِي الْحُرْمَةِ مِنَ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ أَوْلَى . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ خَبَرِهِمْ فَهُوَ أَنَّ خَبَرَنَا أَعَمُّ وَأَزْيَدُ فَكَانَ قَاضِيًا عَلَى الْأَخَصِّ الْأَنْقَصِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ كَالْكَفَّارَةِ فِي رَفْعِ الْيَمِينِ بِهِمَا ، فَهُوَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَافِعٌ لِلْيَمِينِ وَالْكَفَّارَةَ غَيْرُ رَافِعَةٍ : لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَمْنَعُ مِنَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ ، وَالْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ إِلَّا بِالْحِنْثِ بَعْدَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ فَافْتَرَقَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى تَعْلِيقِ طَلَاقِهَا بِصُعُودِ السَّمَاءِ ، فَهُوَ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَقَعُ لِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِشَرْطٍ لَمْ يُوجَدْ فَأَشْبَهَ غَيْرَهُ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي لَا تُوجَدُ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ زَيْدٌ ، وَزَيْدٌ مَيِّتٌ لَمْ تُطَلَّقْ ، وَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ لَمْ يُوجَدْ فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ وَالشَّرْطَ يُلْغَى : لِاسْتِحَالَتِهِ ، وَأَنَّهُ فِي الْكَلَامِ لَغْوٌ ، وَلَيْسَتْ مَشِيئَةُ اللَّهِ مُسْتَحِيلٌ وَلَا الْكَلَامُ بِهَا لَغْوٌ ، بَلْ قَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا وَنَدَبَ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [ الْكَهْفِ : ، ] . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ إِجْرَاءَ الطَّلَاقِ عَلَى لِسَانِهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى إِرَادَةِ إِجْرَائِهِ ، وَلَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى إِرَادَةِ إِيقَاعِهِ ، ثُمَّ ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ إِذَا عَلَّقَهَا بِصُعُودِ السَّمَاءِ كَقَوْلِهِ : وَاللَّهِ لَأَضْرِبَنَّكِ إِنْ صَعِدْتِ السَّمَاءَ ، فَإِنَّهَا لَا تَلْزَمُ وَإِنْ قُيِّدَتْ بِشَرْطٍ مُسْتَحِيلٍ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا أَحْمَدُ فَاسْتَدَلَّ عَلَى وُقُوعِ الْعِتْقِ دُونَ الطَّلَاقِ إذا علق الطلاق أو العتق على المشيئة أَنَّهُ مَكْرُوهٌ لَمْ يُرِدْهُ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ وَالْعِتْقُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَمُرِيدٌ لَهُ ، فَدَلَّ عَلَى وُقُوعِهِ بِمَا رَوَاهُ أَصْحَابُهُ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ مَالِكٍ اللَّخْمِيِّ عَنْ مَكْحُولٍ

عَنْ مُعَاذٍ قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا مُعَاذُ مَا خَلَقَ اللَّهُ شَيْئًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ، أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْعِتَاقِ وَلَا أَبْغَضَ إِلَيْهِ مِنَ الطَّلَاقِ " . فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِمَمْلُوكِهِ : أَنْتَ حُرٌّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَهُوَ حَرٌّ وَلَا اسْتِثْنَاءَ لَهُ ، فَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَكَذَا اسْتِثْنَاؤُهُ وَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ ، بِدَلِيلَيْنِ عَلَى حَمْلِ مَا دَلَلْنَا بِهِ عَلَى مَالِكٍ ، وَهَذَا الْخَبَرُ غَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ حُمَيْدَ بْنَ مَالِكٍ غَيْرُ ثِقَةٍ ، وَمَكْحُولٌ لَمْ يَلْقَ مُعَاذًا . هَكَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ ، وَحَكَى الدَّارَكِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، لَوْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَكُنْ ذَاكَ تَأْوِيلُهُ بِحَالٍ ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، فَهُوَ أَنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِي الِاسْتِحْبَابِ وَالْكَرَاهِيَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِهِمَا فِي الْوُقُوعِ : لِأَنَّهُ قَدْ يَقَعُ الشَّيْءُ وَيَلْزَمُ حُكْمُهُ ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا وَقَدْ يَقَعُ وَلَا يَلْزَمُ وَإِنْ كَانَ مُسْتَحَبًّا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا ، فَمَشِيئَةُ اللَّهِ تَرْفَعُ حُكْمَ كُلِّ قَوْلٍ اتَّصَلَ بِهَا مِنْ طَلَاقٍ وَغَيْرِهِ ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَتِ الْمَشِيئَةُ أَوْ تَأَخَّرَتْ أَوْ تَوَسَّطَتْ ، فَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، أَوْ أَنْتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ طَالِقٌ ، أَوْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْتِ طَالِقٌ ، فَلَا طَلَاقَ وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ أَوْ إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَوْ مَتَى شَاءَ اللَّهُ فَلَا طَلَاقَ ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ لَمْ يَشَأِ اللَّهُ لَمْ تُطَلَّقْ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ لَا يَشَأَ فَتُطَلَّقُ ، وَقَدْ يَشَاءُ فَلَا تُطَلَّقُ وَلَيْسَ يُعْلَمُ هَلْ شَاءَ أَوْ لَمْ يَشَأْ ، فَلَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ : لِأَنَّ صِفَةَ وُقُوعِهِ وَهُوَ عَدَمُ الْمَشِيئَةِ لَمْ تُعْلَمْ كَمَا لَا يَقَعُ إِذَا قَالَ : إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، لِأَنَّ صِفَةَ وُقُوعِهِ وَهُوَ الْمَشِيئَةُ لَمْ تُعْلَمْ ، وَهَكَذَا إِذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مَا لَمْ يَشَأِ اللَّهُ لَمْ تُطَلَّقْ ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ، فَفِي وُقُوعِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ : لِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَشِيئَةٍ لَا تُعْلَمُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الْمَذْهَبُ أَنَّهَا تُطَلَّقُ : لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ ، وَجَعَلَ رَفْعَهُ مُقَيَّدًا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَهِيَ لَا تُعْلَمُ ، فَسَقَطَ حُكْمُ رَفْعِهِ وَثَبَتَ حُكْمُ وُقُوعِهِ ، وَخَالَفَ قَوْلَهُ : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، لِأَنَّهُ جَعَلَ حُكْمَ وُقُوعِهِ مُقَيَّدًا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَهِيَ لَا تُعْلَمُ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ زَيْدٌ ، فَكَانَ وُقُوعُهُ مَوْقُوفًا عَلَى مَشِيئَتِهِ ، فَإِنْ شَاءَ طُلِّقَتْ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ تُطَلَّقْ ، وَإِنْ مَاتَ زَيْدٌ قَبْلَ أَنْ تَعْلَمَ مَشِيئَتَهُ لَمْ تُطَلَّقْ ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ زَيْدٌ مَيِّتًا قَبْلَ طَلَاقِهِ لَمْ تُطَلَّقْ ، فَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ ، فَإِنْ شَاءَ زَيْدٌ لَمْ تُطَلَّقْ ، وَإِنْ لَمْ يَشَأْ طُلِّقَتْ ، فَإِنْ مَاتَ زَيْدٌ قَبْلَ أَنْ تَعْلَمَ مَشِيئَتَهُ ، كَانَ عَلَى

الْوَجْهَيْنِ : فَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتِ ، فَقَالَتْ : قَدْ شِئْتُ لَمْ تُطَلَّقْ : لِأَنَّهُ قَيَّدَ وُقُوعَ طَلَاقِهَا بِشَرْطَيْنِ هُمَا مَشِيئَةُ اللَّهِ وَمَشِيئَتُهَا ، وَمَشِيئَةُ اللَّهِ لَا تُعْلَمُ وَإِنْ عُلِمَتْ مَشِيئَتُهَا ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ . فَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ زَيْدٌ ، وَكَانَ زَيْدٌ مَجْنُونًا فَقَالَ : قَدْ شِئْتُ لَمْ تُطَلَّقْ : لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَا مَشِيئَةَ لَهُ ، وَلَوْ كَانَ سَكْرَانَ فَشَاءَ طُلِّقَتْ : لِثُبُوتِ الْأَحْكَامِ بِأَقْوَالِهِ ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ : أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ لِأَنَّ سُكْرَهُ يُوجِبُ تَغْلِيظَ الْحُكْمِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلَا يُوجِبُ تَغْلِيظَهُ عَلَى غَيْرِهِ ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ زَيْدٌ وَكَانَ أَخْرَسَ فَشَاءَ بِالْإِشَارَةِ طُلِّقَتْ ، وَلَوْ كَانَ نَاطِقًا فَخُرِسَ فَشَاءَ بِالْإِشَارَةِ ، قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ لَمْ تُطَلَّقْ : لِأَنَّ مَشِيئَتَهُ وَقْتَ الطَّلَاقِ كَانَتْ نُطْقًا فَلَمْ تَثْبُتْ بِالْإِشَارَةِ وَهَذَا عِنْدِي غَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ إِشَارَةَ الْأَخْرَسِ تَقُومُ مَقَامَ نُطْقِهِ مَعَ الْعَجْزِ وَقْتَ الْبَيَانِ وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا تَقَدَّمَ الْأَمْرَ ، أَنْ لَوْ كَانَ أَخْرَسَ فِي وَقْتِ الطَّلَاقِ نَاطِقًا فِي وَقْتِ الْبَيَانِ ، لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ إِلَّا بِالنُّطْقِ دُونَ الْإِشَارَةِ وَإِنْ صَحَّتْ مِنْهُ فِي وَقْتِ الطَّلَاقِ بِالْإِشَارَةِ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ نَاطِقًا فَخَرِسَ ، فَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ الْحِمَارُ ، فَهَذَا مِنَ الشُّرُوطِ الْمُسْتَحِيلَةِ لِأَنَّهُ لَا مَشِيئَةَ لِلْحِمَارِ ، فَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ صَعِدْتِ السَّمَاءَ ، فَيَكُونُ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِيهِ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ لِزَوْجَتَيْهِ حَفْصَةَ وَعَمْرَةَ : أَنْتُمَا طَالِقَتَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إِلَيْهِمَا ، فَلَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا إِلَّا أَنْ يَعْزِلَهَا فِي اسْتِثْنَائِهِ ، وَلَوْ قَالَ : حَفْصَةُ طَالِقٌ وَعَمْرَةُ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنْ أَرَادَ بِالِاسْتِثْنَاءِ عَمْرَةَ الْأَخِيرَةَ ، طُلِّقَتْ حَفْصَةُ وَلَمْ تُطَلَّقْ عَمْرَةُ ، وَإِنْ أَرَادَهُمَا مَعًا لَمْ تُطَلَّقَا جَمِيعًا ، وَإِنْ أَطْلَقَ الِاسْتِثْنَاءَ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا ، كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إِلَيْهِمَا فَلَمْ تُطَلَّقَا : لِرُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْعَطْفِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ يَرُدُّهُمْ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورِ فَتُطَلَّقُ حَفْصَةُ عِنْدَهُ لِخُرُوجِهَا مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ ، وَلَا تُطَلَّقُ عَمْرَةُ لِدُخُولِهَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ ، فَلَوْ قَالَ : أَرَدْتُ بِالِاسْتِثْنَاءِ حَفْصَةَ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ حُمِلَ عَلَى إِرَادَتِهِ ، وَطُلِّقَتْ عَمْرَةُ الْأَخِيرَةُ دُونَ حَفْصَةَ الْأُولَى ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تُطَلَّقَانِ مَعًا . وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، رَجَعَ الِاسْتِثْنَاءُ إِذَا أَطْلَقَهُ إِلَى الطَّلَاقَيْنِ فَلَمْ يَقَعَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَرْجِعُ إِلَى الثَّانِي وَيَقَعُ الْأَوَّلُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا وَصَلَ طَلَاقَهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ مُرِيدٍ بِأَوَّلِ كَلَامِ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ : لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُتَّصِلَ يُعْتَبَرُ حُكْمُ أَوَّلِهُ بِآخِرِهِ ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : لَا حُكْمَ لِلِاسْتِثْنَاءِ حَتَّى يَنْوِيَهُ عِنْدَ تَلَفُّظِهِ بِالطَّلَاقِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ أَوَّلِ كَلَامِهِ بَطَلَ وَهَذَا فَاسِدٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ .



فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ أَنْ شَاءَ اللَّهُ بِالْفَتْحِ طُلِّقَتْ بِخِلَافِ إِنِ الْمَكْسُورَةِ لِأَنَّهَا بِالْكَسْرِ شَرْطٌ وَبِالْفَتْحِ تَعْلِيلٌ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إِذْ شَاءَ اللَّهُ طُلِّقَتْ بِخِلَافِ قَوْلِهِ : إِذَا شَاءَ اللَّهُ : لِأَنَّ إِذْ لِلْمَاضِي ، فَلَمْ تَكُنْ شَرْطًا وَإِذَا لِلْمُسْتَقْبَلِ فَكَانَتْ شَرْطًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ طَلَاقِ الْمَرِيضِ

طَلَاقُ الْمَرِيضِ وَالصَّحِيحِ سَوَاءٌ

بَابُ طَلَاقِ الْمَرِيضِ مِنْ كِتَابِ الرَّجْعَةِ وَمِنَ الْعِدَّةِ وَمِنَ الْإِمْلَاءِ عَلَى مَسَائِلَ مَالِكٍ وَاخْتِلَافِ الْحَدِيثِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَطَلَاقُ الْمَرِيضِ وَالصَّحِيحِ سَوَاءٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : لَا فَرْقَ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْمَرِيضِ سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا أَوْ دُونَهَا وَقَالَ الشَّعْبِيُّ طَلَاقُ الْمَرِيضِ لَا يَقَعُ لِأَجْلِ التُّهْمَةِ فِي الإدما وَهَذَا خَطَأٌ : لِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [ الْبَقَرَةِ : ] وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ : النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ وَلِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ أَغْلَظُ مِنْ حَلِّهِ ، ثُمَّ نِكَاحُ الْمَرِيضِ يَصِحُّ فَحَلُّهُ بِالطَّلَاقِ أَوْلَى أَنْ يَصِحَّ : وَلِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ مِنْهُ الظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يَصِحَّ مِنْهُ الطَّلَاقُ : لِأَنَّ حُكْمَهُ أَغْلَظُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ طَلَقَ مَرِيضٌ ثَلَاثًا فَلَمْ يَصِحَّ حَتَى مَاتَ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا قَالَ الْمُزَنِيُّ فَذَكَرَ حُكْمَ عُثْمَانَ بِتَوْرِيثِهَا مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي مَرَضِهِ وَقَوْلَ ابْنِ الزُّبَيْرِ لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أَرَ أَنْ تَرِثَ الْمَبْتُوتَةُ . قَالَ الْمُزَنِيُّ وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الْعِدَّةِ إِنَّ الْقَوْلَ بِأَنْ لَا تَرِثَ المَبْتُوتَةُ قَوْلٌ يَصِحُّ وَقَدْ ذِهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ الْآثَارِ وَقَالَ كَيْفَ تَرِثُهُ امْرَأَةٌ لَا يَرِثُهَا وَلَيْسَتْ لَهُ بِزَوْجَةٍ قَالَ الْمُزَنِيُّ فَقُلْتُ أَنَا هَذَا أَصَحُّ وَأَقْيَسُ لِقَوْلِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ وَقَالَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ إِمْلَاءً عَلَى مَسَائِلَ مَالِكٍ إِنَّ مَذْهَبَ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَصَحُّهُمَا وَقَالَ فِيهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الطَّلَاقَ هل يقطع التوارث بين الزوجين ؟ فِي قَطْعِ التَّوَارُثِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ ، قِسْمٌ يَقْطَعُ التَّوَارُثَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الطَّلَاقُ الْبَائِنُ فِي الصِّحَّةِ أَوْ فِي مَرَضٍ غَيْرِ مُخَوِّفٍ ، وَالْبَائِنُ طَلَاقُ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا ، وَطَلَاقُ الثَّلَاثِ ، وَالطَّلَاقُ فِي الْخَلْعِ ، فَلَا يَرِثُهَا وَلَا تَرِثُهُ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْتُ فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا : لِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا ، وَهَذَا إِجْمَاعٌ . وَقِسْمٌ لَا يَقْطَعُ التَّوَارُثَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الصِّحَّةِ أَوْ فِي الْمَرَضِ يَتَوَارَثَانِ فِيهِ مَا لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ ، فَإِنْ مَاتَ وَرِثَتْهُ وَإِنْ مَاتَتْ وَرِثَهَا ، فَإِذَا انْقَضَتْ

الْعِدَّةُ فَلَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا . وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ الطَّلَاقُ الْبَائِنُ فِي الْمَرَضِ الْمُخَوِّفِ إِذَا اتَّصَلَ بِالْمَوْتِ ، فَإِنْ مَاتَتْ لَمْ يَرِثْهَا إِجْمَاعًا وَإِنْ مَاتَ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِيرَاثِهَا مِنْهُ ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي الرَّجْعَةِ وَالْعِدَدَ وَالْإِمْلَاءِ عَلَى مَسَائِلَ مَالِكٍ ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْقَدِيمِ فِيهَا نَصٌّ ، أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهَا تَرِثُهُ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ : عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَرَبِيعَةُ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا لَا تَرِثُ وَبِهِ قَالَ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ ، وَرُبَّمَا أُضِيفَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَقَوْلُ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْآثَارِ . وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ وَدَاوُدُ ، فَإِذَا قِيلَ بِالْأَوَّلِ : أَنَّهَا تَرِثُ فَدَلِيلُهُ مَعْنَى الْإِجْمَاعِ الْمَنْقُولِ عَنِ الصَّحَابَةِ . وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَبْتُوتَةِ فِي الْمَرَضِ تَرِثُ وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ طَلَّقَ تَمَاضُرَ بِنْتَ الْأَصْبَغِ الْكَلْبِيَّةَ فِي مَرَضِهِ فَوَرَّثَهَا مِنْهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قِيلَ بِمُشَاوَرَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَقِيلَ إِنَّهَا صُولِحَتْ عَلَى رُبُعِ ثَمَنِهَا لِأَنَّهُنَّ كُنَّ أَرْبَعًا عَلَى ثَمَانِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقِيلَ ثَمَانِينَ أَلْفَ دِينَارٍ . وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّمِيمِيُّ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَكَانَ بِهِ الْفَالِجُ فَمَاتَ بَعْدَ سَنَةٍ فَوَرَّثَهَا مِنْهُ عُثْمَانُ . وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا حُوصِرَ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ فَوَرَّثَهَا مِنْهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَقَالَ : طَلَّقَهَا فِي شَرَفِ الْمَوْتِ ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لِهَذِهِ الْقَضَايَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ إِلَّا قَوْلَ ابْنِ الزُّبَيْرِ : لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أَرَ أَنْ تَرِثَ مَبْتُوتَةٌ ، فَقِيلَ مَعْنَاهُ ، لَمْ يَبْلُغِ اجْتِهَادِي أَنْ تَرِثَ مَبْتُوتَةٌ ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أَهْتَدِ إِلَى هَذَا ، فَكَانَ هَذَا مَنْ ذَكَرْنَا مَعَ عَدَمِ الْمُخَالِفِ فِيهِ إِجْمَاعًا حَاجًّا ، وَلِأَنَّهَا بَانَتْ فِي حَالٍ يُعْتَبَرُ عَطَايَاهُ فِيهَا مِنَ الثُّلُثِ ، فَوَجَبَ أَنْ تَرِثَهُ كَالْبَائِنِ بِالْمَوْتِ ، وَلِأَنَّهُ مَتْهُومٌ فِي مَنْعِهَا مِنَ الْإِرْثِ فَأَشْبَهَ الْقَاتِلَ الْمَتْهُومَ فِي اخْتِلَافِ الْإِرْثِ فَكَانَتِ التُّهْمَةُ بِالْقَتْلِ مَانِعَةً مِنَ الْمِيرَاثِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ التُّهْمَةُ بِالطَّلَاقِ مَانِعَةً مِنْ إِسْقَاطِ الْمِيرَاثِ ، وَلِأَنَّ بِالْمَرَضِ قَدْ تَعَلَّقَتْ حُقُوقُ الْوَرَثَةِ بَيْنَ مَالِهِ ، بِدَلِيلٍ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الْعَطَايَا فِيمَا زَادَ عَلَى ثُلُثِهِ كَالْوَصَايَا بَعْدَ الْمَوْتِ . فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْ إِسْقَاطِ حُقُوقِهِمْ مِنْ مِيرَاثِهِمْ لِتَعَلُّقِهَا بِتَرِكَتِهِ .

وَإِذَا قِيلَ بِالثَّانِي : وَأَنَّهَا لَا تَرِثُ وَهُوَ أَقِيسُ الْقَوْلَيْنِ وَأَوْلَاهُمَا فَدَلِيلُهُ : مَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْمَكِّيُّ فِي خِلَافِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا تَرِثُ الْمَبْتُوتَةُ وَهَذَا إِذَا صَحَّ نَصٌّ لَا يَسُوغُ خِلَافُهُ ، وَلِأَنَّهَا فُرْقَةٌ تَقْطَعُ إِرْثَهُ مِنْهَا فَوَجَبَ أَنْ تَقْطَعَ إِرْثَهَا مِنْهُ ، أَصْلُهُ الْفُرْقَةُ فِي الصِّحَّةِ ، وَلِأَنَّهُ إِرْثٌ يَنْقَطِعُ بِالْفُرْقَةِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْقَطِعَ بِالْفُرْقَةِ فِي حَالِ الْمَرَضِ ، أَصْلُهُ إِرْثُ الزَّوْجِ ، وَلِأَنَّ لِلنِّكَاحِ أَحْكَامًا مِنْ طَلَاقٍ وَظِهَارٍ وَإِيلَاءٍ وَتَحْرِيمٍ لِلْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أُخْتِهَا وَخَالَتِهَا وَعَمَّتِهَا وَثُبُوتِ الْمِيرَاثِ وَعِدَّةِ الْوَفَاةِ ، فَلَمَّا انْتَفَى عَنْ هَذِهِ الْمَبْتُوتَةِ فِي حَالِ الْمَرَضِ أَحْكَامُ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ الْمِيرَاثِ ، انْتَفَى عَنْهَا أَحْكَامُ النِّكَاحِ فِي الْمِيرَاثِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّهُ حُكْمٌ يَخْتَصُّ بِالنِّكَاحِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنِ الْمَبْتُوتَةِ فِي الْمَرَضِ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ وَلِأَنَّ فَسْخَ النِّكَاحِ فِي الْمَرَضِ سَبَبٌ مِنْ جِهَتِهَا كَالرِّدَّةِ وَالرَّضَاعِ يَمْنَعُ مِيرَاثَهُ مِنْهَا ، وَإِنْ تَوَجَّهَتِ التُّهْمَةُ إِلَيْهِمَا جَمِيعًا بَيْنَ وُجُودِهِ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْفُرْقَةِ مِنْ جِهَتِهِ يَمْنَعُ مِيرَاثَهَا مِنْهُ تَسْوِيَةً بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْإِجْمَاعِ : فَهُوَ أَنَّ الْخِلَافَ فِيهَا حَاصِلٌ وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ : لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أَرَ أَنْ تَرِثَ مَبْتُوتَةٌ ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لَا سِيَّمَا فِي أَيَّامِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ قَالَ : وَاللَّهِ لَا أُوَرِّثُ تَمَاضُرَ ، ثُمَّ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ فَقِيلَ لَهُ أَفَرَرْتَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ . قَالَ : مَا فَرَرْتُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَهَا فِيهِ مِيرَاثٌ فَأَعْطُوهَا فَصَالَحَهَا عُثْمَانُ مِنْ رُبُعِ الثَّمَنِ عَلَى ثَمَانِينَ أَلْفًا . وَلَوْ كَانَتْ وَارِثَةً فَصُولِحَتْ ، فَخَرَجَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ إِجْمَاعًا . وَلَكِنْ لِاحْتِمَالِ الْأَمْرِ عِنْدَ عُثْمَانَ تَقَدَّمَ بِمُصَالَحَتِهَا . وَجَوَابُ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَوَى عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ : لَا تَسْأَلُنِي امْرَأَةٌ مِنْ نِسَائِي الطَّلَاقَ إِلَّا طَلَّقْتُهَا فَغَضِبَتْ تَمَاضُرُ وَسَأَلْتِ الطَّلَاقَ ، فَغَضِبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَطَلَّقَهَا . وَتَمَاضُرُ هِيَ أُمُّ أَبِي سَلَمَةَ وَهُوَ أَعْرَفُ بِحَالِهَا ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا سَأَلَتِ الطَّلَاقَ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يُورِّثُهَا إِذَا سَأَلَتْ طَلَاقَهَا ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ دَلِيلٌ لَوْ كَانَ إِجْمَاعًا ، وَلِأَنَّ أَبَا سَلَمَةَ رُوِيَ أَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عَدَّتِهَا ، وَأَنَّ مَوْتَهُ كَانَ بَعْدَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ طَلَاقِهَا ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَا تَرِثُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عَدَّتِهَا ، فَخَرَجَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ دَلِيلٌ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّهُ مَاتَ فِي عِدَّتِهَا بَعْدَ حَيْضَتَيْنِ ، قِيلَ : أَبُو سَلَمَةَ أَعْرَفُ بِحَالِهَا : لِأَنَّهُ ابْنُهَا مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَجَانِبِ ، وَلِأَنَّ نَقْلَهُ أَزْيَدُ فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ أَحَقَّ .

وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْفُرْقَةِ بِالْمَوْتِ ، فَالْمَعْنَى فِيهَا أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ مِيرَاثَهَا مِنْهُ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْقَتْلِ فَهُوَ اسْتِدْلَالُ الْعِلَّتَيْنِ : لِأَنَّ الْقَتْلَ يَمْنَعُ مِنْ مِيرَاثٍ كَانَ مُسْتَحَقًّا وَهُمْ جَعَلُوا طَلَاقَ الْمَرَضِ يُثْبِتُ مِيرَاثًا كَانَ سَاقِطًا ، وَلَيْسَ لِاعْتِبَارِ التُّهْمَةِ فِيهِ وَجْهٌ فَإِنَّ التُّهْمَةَ لَوْ وُجِدَتْ فِي الْفُرْقَةِ الَّتِي مِنْ جِهَتِهَا لَمْ تَرِثْ فَكَذَلِكَ فِي الْفُرْقَةِ مِنْ جِهَتِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ حُقُوقَ الْوَرَثَةِ قَدْ تَعَلَّقَتْ بِعَيْنِ مَالِهِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ : لِأَنَّهُ لَوْ أَنْفَقَهُ فِي شَهَوَاتِهِ وَمَلَاذِهِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ وَلَوْ سُلِّمَ لَهُمْ لَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ مَنْ كَانَ وَارِثًا عِنْدَ مَوْتِهِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ وَارِثَةً عِنْدَ الْمَوْتِ فَلَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَالُ .

فَصْلٌ : إِذَا تَقَرَّرَ الْقَوْلَانِ فَإِنْ قِيلِ بِالثَّانِي : أَنَّهَا لَا تَرِثُ فَلَا تَفْرِيعَ عَلَيْهِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْتُ فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا ، سَأَلَتْهُ الطَّلَاقَ أَوْ لَمْ تَسْأَلْهُ . وَإِذَا قِيلَ بِالْأَوَّلِ : أَنَّهَا تَرِثُ ، فَفِي زَمَانِ مِيرَاثِهَا الزوجة إذا طلقت مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا تَرِثُهُ مَا كَانَتْ فِي عِدَّتِهَا وَهِيَ عِدَّةُ الطَّلَاقِ بِالْأَقْرَاءِ ، فَإِذَا انْقَضَتْ عَدَّتُهَا لَمْ تَرِثْ : لِأَنَّ بَقَاءَ الْعِدَّةِ مِنْ بَقَايَا تَعَلُّقِ النِّكَاحِ وَأَحْكَامِهِ فَتَبِعَهَا الْإِرْثُ وَسَقَطَ بِانْقِضَائِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَرِثُهُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ لَمْ تَرِثْ : لِأَنَّ تَزْوِيجَهَا رِضًا مِنْهَا بِطَلَاقِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ : أَنَّهَا تَرِثُهُ وَإِنْ تَزَوَّجَتْ : لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهَا فَلَمْ يَسْقُطْ بِالتَّزْوِيجِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ مِيرَاثَهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ ، فَإِنَّهَا تَرِثُهُ إِذَا لَمْ تَخْتَرْ طَلَاقَ نَفْسِهَا فَإِنِ اخْتَارَتْ طَلَاقَهَا ومات زوجها هل ترث منه ؟ لَمْ تَرِثْ . وَاخْتِيَارُهَا لِلطَّلَاقِ قَدْ يَكُونُ مِنْ وُجُوهٍ ، مِنْهَا : أَنْ تَسْأَلَهُ الطَّلَاقَ فَيُطَلِّقَهَا ، أَوْ يُعَلِّقَهُ بِمَشِيئَتِهَا فَتَشَاءُ طَلَاقَهَا أَوْ يُعَلِّقَهُ بِفِعْلِهَا فِيمَا لَا تَجِدُ مِنْهُ بُدًّا ، كَقَوْلِهِ : إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ أَوْ كَلَّمْتِ زَيْدًا أَوْ لَبِسْتِ هَذَا الْقَمِيصَ أَوْ أَكَلْتِ هَذَا الرَّغِيفَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَتَفْعَلُ ذَلِكَ ، فَيَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِهَا لِلطَّلَاقِ : لِأَنَّهَا تَجِدُ مِنْ ذَلِكَ بُدًّا فَلَا تَدْخُلُ الدَّارَ ، وَلَا تُكَلِّمُ زَيْدًا ، وَلَا تَلْبَسُ ذَلِكَ الْقَمِيصَ ، وَلَا تَأْكُلُ ذَلِكَ الرَّغِيفَ . فَأَمَّا إِنْ عَلَّقَهُ بِفِعْلِ مَا لَا تَجِدُ بُدًّا مِنْهُ كَقَوْلِهِ : إِنْ أَكَلْتِ أَوْ شَرِبْتِ أَوْ نِمْتِ أَوْ قَعَدْتِ ، فَإِنْ فَعَلَتْ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَهِيَ غَيْرُ مُخْتَارَةٍ لِطَلَاقِهَا ، فَلَهَا الْمِيرَاثُ وَإِنْ فَعَلَتْهُ قَبْلَ وَقْتِ الْحَاجَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : يَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الِاخْتِيَارِ ، اعْتِبَارًا بِوَقْتِ الْفِعْلِ لِأَنَّهَا تَجِدُ مِنْ تَقْدِيمِهِ قَبْلَ الْحَاجَةِ بُدًّا . وَالثَّانِي : يَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ عَدَمِ الِاخْتِيَارِ ، اعْتِبَارًا بِوَقْتِ الْفِعْلِ : لِأَنَّهَا تَجِدُ مِنْ تَقْدِيمِهِ قَبْلَ الْحَاجَةِ بُدًّا بِحَالِ الْفِعْلِ : لِأَنَّهَا لَا تَجِدُ مِنْ فِعْلِهِ بُدًّا ، وَكَذَلِكَ لَوْ خَالَعَتْهُ دَلَّ الْخُلْعُ عَلَى اخْتِيَارِهَا فَمَنَعَهَا طَلَاقُ الْخُلْعِ مِنَ الْمِيرَاثِ ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَهَا الْمِيرَاثُ وَإِنِ اخْتَارَتِ الطَّلَاقَ وَسَأَلَتْهُ ، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ أَصْحَابِنَا تَعَلُّقًا بِأَنَّ تَمَاضُرَ بِنْتَ الْأَصْبَغِ الْكَلْبِيَّةَ سَأَلَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ الطَّلَاقَ ، فَوَرَّثَهَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْقَتْلُ مَانِعًا مِنَ الْمِيرَاثِ لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَنْ سُؤَالٍ وَغَيْرِ سُؤَالٍ ، حَتَّى لَوْ قَالَ لَهُ الْمَوْرُوثُ : اقْتُلْنِي فَقَتَلَهُ لَمْ يَرِثْهُ ، كَذَلِكَ الطَّلَاقُ فِي الْمَرَضِ لَمَّا كَانَ مُوجِبًا لِلْمِيرَاثِ لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَنْ سُؤَالٍ وَغَيْرِ سُؤَالٍ ، وَهَذَا فَاسِدٌ : لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْإِرْثِ إِنَّمَا يَكُونُ لِأَجْلِ التُّهْمَةِ فِي الْإِرْثِ فَإِذَا اخْتَارَتْ وَسَأَلَتْ زَالَتِ التُّهْمَةُ وَسَقَطَ مُوجِبُ الْإِرْثِ ، وَلِأَنَّهَا إِذَا سَأَلَتْ وَاخْتَارَتْ ، صَارَتِ الْفُرْقَةُ مَنْسُوبَةً إِلَيْهَا فَجَرَى مَجْرَى فَسْخِهَا بِالْعُيُوبِ الَّتِي لَا تُوجِبُ مِيرَاثَهَا وَلَا مِيرَاثَهُ مِنْهَا . وَأَمَّا تَمَاضُرُ فَكُلُّ مَا أَخَذَتْهُ وَإِنْ سَأَلَتِ الطَّلَاقَ صُلْحًا لَا إِرْثًا ، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْهَا حَتَّى سَأَلَتْهُ لِأَنَّهُ أَمْسَكَهَا حَتَّى حَاضَتْ ثُمَّ طَهُرَتْ ثُمَّ طَلَّقَهَا . وَإِذَا تَأَخَّرَ طَلَاقُهُ عَنْ سُؤَالِهَا لَمْ يَكُنْ جَوَابًا ، وَصَارَ طَلَاقًا مُبْتَدَأً ، وَقِيلَ أَنَّهَا سَأَلَتْهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ فَطَلَّقَهَا فِي الْمَرَضِ . وَأَمَّا الْإِرْثُ فِي الْقَتْلِ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فِي الْحَظْرِ سَوَاءٌ فَكَانَ فِي حُكْمِ الْمِيرَاثِ سَوَاءً وَخَالَفَ سُؤَالَ الطَّلَاقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " لَوْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ أَنَّهُ طَلَقَهَا فِي صِحَّتِهِ ثَلَاثًا هل ترث منه . ؟ لَمْ تَرِثْهُ وَحُكْمُ الطَّلَاقِ فِي الْإِيقَاعِ وَالْإِقْرَارِ فِي الْقِيَاسِ عَنْدِي سَوَاءٌ . وَقَالَ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا تَرِثُ الْمَبْتُوتَةُ قَالَ الْمُزَنِيُّ وَقَدِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ قَالَ إِذَا ادَّعَيَا وَلَدًا فَمَاتَ وَرِثَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ ابْنٍ وَإِنْ مَاتَا وَرِثَهُمَا كَمَالِ أَبٍ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ النَّاسُ يَرِثُونَ مَنْ يُوَرِّثُونَ فَأَلْزَمَهُمْ تَنَاقُضَ قَوْلِهِمْ إِذْ لَمْ يَجْعَلُوا الِابْنَ مِنْهُمَا كَهُمَا مِنْهُ فِي الْمِيرَاثِ فَكَذَلِكَ إِنَمَا تَرِثُ الزَّوْجَةُ الزَّوْجَ مِنْ حَيْثُ يَرِثُهَا فَإِذَا ارْتَفَعَ الْمَعْنَى الَذِي يَرِثُهُمْ بِهِ لَمْ تَرِثْهُ وَهَذَا أَصَحُّ فِي الْقِيَاسِ وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمُنِ بْنُ عَوْفٍ مَا فَرَّرْتُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَا مِنْ سُنَّةِ رَسُولِهِ وَتَبِعَهُ ابْنُ الْزُّبَيْرِ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ أَنَّهُ كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا فِي صِحَّتِهِ ، يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ : لِأَنَّهَا حَالَةٌ يَمْلِكُ فِيهَا إِيقَاعَ الطَّلَاقِ فَصَحَّ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِالطَّلَاقِ ، وَيَكُونُ طَلَاقًا فِي الصِّحَّةِ دُونَ الْمَرَضِ ، لَا يَرِثُ بِهِ قَوْلًا وَاحِدًا ، لَكِنَّهَا تَعْتَدُّ مِنْ وَقْتِ إِقْرَارِهِ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي سُقُوطِ نَفَقَتِهَا ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ أَنَّهَا تَرِثُهُ لِلُحُوقِ التُّهْمَةِ فِي إِقْرَارِهِ ، كَلُحُوقِهَا فِي طَلَاقِهِ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الْمُقِرَّ بِالطَّلَاقِ غَيْرُ مُطَلِّقٍ فِي حَالِ الْإِقْرَارِ ، أَلَا تَرَى لَوْ حَلَفَ لَا يُطَلِّقُ فَأَقَرَّ بِالطَّلَاقِ لَمْ يَحْنَثْ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَافَ طَلَاقُ الصِّحَّةِ إِلَى حَالِ الْمَرَضِ ، وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِهِ فِي الْمَرَضِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ لَهَا فِي صِحَّتِهِ : إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَقَدِمَ زَيْدٌ فِي مَرَضِهِ ، طُلِّقَتْ وَلَا تَرِثُ ، قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِنْ كَانَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي الْمَرَضِ لِعَقْدِهِ فِي الصِّحَّةِ ، وَانْتَفَى التُّهْمَهُ عَنْهُ فِي الْإِرْثِ وَهَكَذَا لَوْ قَالَ فِي صِحَّتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ رَأْسَ الشَّهْرِ ، فَأَهَلَّ الشَّهْرُ وَهُوَ مَرِيضٌ طُلِّقَتْ ، وَلَمْ تَرِثْ تَعْلِيلًا بِمَا ذَكَرْنَا ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَقَالَ مَالِكٌ تَرِثُ : لِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ فِي الْمَرَضِ ، وَقَوْلُهُ مَرْدُودٌ بِمَا وَصَفْنَا مِنَ انْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْهُ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا فِي صِحَّتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي مَرَضِي ، طُلِّقَتْ فِيهِ وَكَانَ لَهَا الْمِيرَاثُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَقَاوِيلِ ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ لَهَا فِي صِحَّتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي لِشَهْرٍ ، وَمَاتَ بَعْدَهُ بِشَهْرٍ مِنْ قَوْلِهِ ، طُلِّقَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ ، فَإِنْ كَانَ وَقْتَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا صَحِيحًا لَمْ تَرِثْهُ : لِأَنَّهُ طَلَاقٌ فِي الصِّحَّةِ وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تَرِثُهُ لِأَنَّهُ عَقْدُ طَلَاقٍ فِي الصِّحَّةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وُقُوعُهُ فِي الصِّحَّةِ . وَفِيهِ وَجْهٌ : أَنَّهَا تَرِثُهُ : لِأَنَّهُ لَمَّا قَيَّدَهُ بِزَمَانِ الْمَوْتِ صَارَ مَتْهُومًا بِالتَّعَرُّضِ لَهُ ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي آخِرِ أَجْزَاءِ صِحَّتِي الْمُتَّصِلَةِ بِأَسْبَابِ أَوَّلِ مَوْتِي طُلِّقَتْ فِيهِ وَلَمْ تَرِثْ وَإِنْ كَانَ مَتْهُومًا لِأَنَّهُ طَلَاقٌ فِي الصِّحَّةِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُوَرَّثَ فِيهِ ، وَلَكِنْ لَوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا فِي صِحَّتِهِ بِفِعْلِهِ ثُمَّ أَوْقَعَ الْفِعْلَ فِي مَرَضِهِ . مِثَالُهُ : أَنْ يَقُولَ وَهُوَ صَحِيحٌ : إِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ إِنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ كَلَّمَ زَيْدًا فِي مَرَضِهِ أَوْ دَخَلَ الدَّارَ فِي مَرَضِهِ فَلَهَا الْمِيرَاثُ : لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ بِإِيقَاعِ الْفِعْلِ فِيهِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ الْمُخَوِّفِ ثُمَّ صَحَّ مِنْهُ ثُمَّ مَرِضَ وَمَاتَ لَمْ تَرِثْهُ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَقَالَ زُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ : تَرِثُ : لِأَنَّهُ طَلَاقٌ فِي الْمَرَضِ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ : لِأَنَّ تَعَقُّبَ الصِّحَّةِ قَدْ أَخْرَجَ مَرَضَ الطَّلَاقِ أَنْ يَكُونَ مُخَوِّفًا ، فَلَوْ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ الْمُخَوِّفِ ثُمَّ قُتِلَ فِيهِ أَوِ افْتَرَسَهُ سَبْعٌ أَوْ نَهَشَتْهُ أَفْعَى فَكَانَ مَوْتُهُ مِنْ غَيْرِهِ ، قَالَ أَصْحَابُنَا : لَمْ تَرِثْ : لِأَنَّ حُدُوثَ الْمَوْتِ مِنْ غَيْرِهِ فَنُفِيَ عَنْهُ حُكْمُ الْخَوْفِ . وَهَكَذَا لَوْ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ فَارْتَدَّتْ عَنِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ لَمْ تَرِثْ قَوْلًا وَاحِدًا :

لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بِالرِّدَّةِ فِي حَالٍ لَوْ مَاتَ فِيهَا لَمْ تَرِثْهُ ، وَإِنْ كَانَتْ ذِمِّيَّةً فَطَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ ثُمَّ أَسْلَمَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ لَمْ تَرِثْهُ : لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ وَقْتَ طَلَاقِهِ وَقَبْلَ إِسْلَامِهَا لَمْ تَرِثْهُ ، فَانْتَفَتِ التُّهْمَةُ عَنْهُ ، وَلَوْ أَسْلَمَتْ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَرِثَتْ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ : إِنْ أَسْلَمْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَسْلَمَتْ وَرِثَتْ لِتُهْمَتِهِ ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ أَمَةً فَطَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ ثُمَّ أُعْتِقَتْ لَمْ تَرِثْ ، وَلَوْ أُعْتِقَتْ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَرِثَتْ . فَلَوْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَذَلِكَ بِأَنْ يُعَلِّقَ الزَّوْجُ طَلَاقَهَا بِقُدُومِ زَيْدٍ ، وَيُعَلِّقَ السَّيِّدُ عِتْقَهَا بِقُدُومِ زَيْدٍ ، فَيَكُونُ قُدُومُ زَيْدٍ مُوقِعًا لِطَلَاقِهَا وَعِتْقِهَا ، فَيَغْلِبُ فِيهَا حُكْمُ الْأَسْبَقِ مِنْهُمَا ، فَإِنْ سَبَقَ الزَّوْجُ السَّيِّدَ فَقَالَ : إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ تَلَاهُ السَّيِّدُ فَقَالَ : إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا : لِارْتِفَاعِ التُّهْمَةِ عَنِ الزَّوْجِ ، وَإِنْ سَبَقَ السَّيِّدُ فَقَالَ : إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتِ حُرَّةٌ ثُمَّ تَلَاهُ الزَّوْجُ فَقَالَ : إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَلَهَا الْمِيرَاثُ لِتُهْمَةِ الزَّوْجِ ، فَلَوْ قَالَ لَهَا السَّيِّدُ : إِنْ طَلَّقَكِ الزَّوْجُ غَدًا فَأَنْتِ الْيَوْمَ حُرَّةٌ ، فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ مِنَ الْغَدِ ثَلَاثًا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ لَمْ تَرِثْ قَوْلًا وَاحِدًا ، سَوَاءٌ عَلِمَ الزَّوْجُ بِذَلِكَ أَمْ لَا : لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَقَعُ إِلَّا بِالطَّلَاقِ ، وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ فِي مَرَضِهِ : إِنْ أَعْتَقَكِ السَّيِّدُ غَدًا فَأَنْتِ الْيَوْمَ طَالِقٌ ثَلَاثًا ، فَأَعْتَقَهَا السَّيِّدُ فِي غَدٍ ، فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَهَا الْمِيرَاثُ : لِتُهْمَةِ الزَّوْجِ فَتَكُونُ كَالْحُرَّةِ الْمَبْتُوتَةِ فِي الْمَرَضِ . وَالثَّانِي : لَا مِيرَاثَ لَهَا لِتَقَدُّمِ الطَّلَاقِ عَلَى الْعِتْقِ ، فَلَوِ اخْتَلَفَتْ مَعَ وَرَثَةِ الزَّوْجِ ، فَقَالَتْ : طَلَّقَنِي بَعْدَ عِتْقِي فَلِيَ الْمِيرَاثُ . وَقَالَ الْوَرَثَةُ : طَلَّقَكِ قَبْلَ عِتْقِكِ فَلَا مِيرَاثَ لَكِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ مَعَ أَيْمَانِهِمْ وَلَا مِيرَاثَ لَهَا : لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا عَدَمُ الْإِرْثِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ سَبْقُهُ . وَلَوِ اخْتَلَفَتِ الْحُرَّةُ وَوَرَثَةُ الزَّوْجِ فَقَالَتْ طَلَّقَنِي فِي مَرَضِهِ فَلِيَ الْمِيرَاثُ ، وَقَالَ الْوَرَثَةُ : طَلَّقَكِ فِي الصِّحَّةِ فَلَا مِيرَاثَ لَكِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا وَلَهَا الْمِيرَاثُ : لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ ، وَلِأَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ حُدُوثِ الطَّلَاقِ ، وَفِي شَكٍّ مِنْ تَقَدُّمِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ طَلَاقًا رَجْعِيًّا فَإِنْ مَاتَ فِي عِدَّتِهَا وَرِثَتْهُ قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ طَلَاقًا فِي الصِّحَّةِ وَرِثَتْ بِهِ ، فَلَأَنْ تَرِثَ بِهِ فِي الْمَرَضِ أَوْلَى ، وَلَوْ مَاتَتْ عَنْهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عَدَّتِهَا لَمْ تَرِثْهُ قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّ هَذَا الطَّلَاقَ لَا يَمْنَعُهَا الْمِيرَاثَ فَلَمْ يُتَّهَمْ فِيهِ وَإِنَّمَا مَنَعَهَا الْمِيرَاثَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ وَلَيْسَتْ مِنْ فِعْلِهِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ فَسَخَ نِكَاحَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِأَحَدِ الْعُيُوبِ ، فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ فِي مَرَضِهِ فَتَرِثُهُ : لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ فِي الْمَرَضِ هُوَ مَتْهُومٌ بِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تَرِثُهُ قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَمْرَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا فُرْقَةٌ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا فَضَعُفَتْ تُهْمَتُهُ بِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ تَأْخِيرَهَا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَا يُسْقِطُ حَقَّهُ مِنَ الْفَسْخِ ، فَخَالَفَ الطَّلَاقَ الَّذِي لَا يَسْقُطُ حَقُّهُ مِنْهُ بِالتَّأْخِيرِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا ارْتَدَّ فِي مَرَضِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ فَبَانَتْ مِنْهُ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ لَمْ تَرِثْهُ قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ الطَّلَاقِ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الرِّدَّةَ غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لِلْفُرْقَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَحْكَامِهَا ، فَخَالَفَتْ حُكْمَ الطَّلَاقِ الْمَوْضُوعِ لِلْفُرْقَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ غَيْرُ مَتْهُومٍ بِالرِّدَّةِ فِي قَصْدِ ارْتِدَادِهِ لِمَا يَتَغَلَّظُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِهَا . فَخَالَفَتِ الطَّلَاقَ . ،

فَصْلٌ : وَإِذَا لَاعَنَهَا فِي مَرَضِهِ ثُمَّ مَاتَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مِيرَاثِهَا مِنْهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : تَرِثُهُ كَالْمُطَلَّقَةِ لِلُحُوقِ التُّهْمَةِ فِيهِ كَالطَّلَاقِ . وَالثَّانِي : لَا تَرِثُهُ : لِأَنَّ لُحُوقَ الْمَعَرَّةِ بِهِ فِي لِعَانِهِ وَفَسَادِ فِرَاشِهِ وَنَفْيِ نَسَبِ وَلَدِهِ عَنْهُ ، تَنْفِي عَنْهُ التُّهْمَةَ فِي فُرْقَتِهِ فَلَمْ تَرِثْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : إِنْ لَاعَنَهَا فِي الْمَرَضِ عَنْ قَذْفٍ فِي الصِّحَّةِ لَمْ تَرِثْهُ ، وَإِنْ لَاعَنَهَا عَنْ قَذْفٍ فِي الْمَرَضِ وَرِثَتْ : لِأَنَّ تَقَدُّمَ السَّبَبِ عَلَى الْمَرَضِ يَنْفِي عَنْهُ التُّهْمَةَ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ لَهَا فِي مَرَضِهِ : إِنْ صَلَّيْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، أَوْ قَالَ لَهَا : إِنْ صُمْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَصْلتْ وَصَامَتْ نُظِرَ ، إِنْ فَعَلَتْ ذَلِكَ تَطَوُّعًا طُلِّقَتْ وَلَا مِيرَاثَ لَهَا : لِأَنَّهَا تَجِدُ مِنْ تَرْكِ التَّطَوُّعِ بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ بُدًّا ، فَصَارَتْ مُخْتَارَةً لِلطَّلَاقِ ، فَلَمْ تَرِثْ ، وَإِنْ صَلَّتْ وَصَامَتْ فَرْضًا طُلِّقَتْ وَلَهَا الْمِيرَاثُ ، لِأَنَّهَا لَا تَجِدُ مِنْ فَرْضِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ بُدًّا ، فَلَمْ تَصِرْ مُخْتَارَةً لِلطَّلَاقِ . وَلَوْ قَالَ لَهَا : إِنْ كَلَّمْتِ أَبَوَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَكَلَّمَتْهُمَا طُلِّقَتْ مَكَانَهَا ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ : لِأَنَّهَا لَا تَجِدُ مِنْ كَلَامِ أَبَوَيْهَا بُدًّا لِأَنَّ تَرْكَ كَلَامِهِمَا مَعْصِيَةٌ ، وَإِنْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِكَلَامِ غَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِهَا وَأَقَارِبِهَا ، طُلِّقَتْ ، وَلَمْ تَرِثْ لِأَنَّهَا تَجِدُ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِمَا بُدًّا ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيُّ : إِنْ كَلَّمَتْ ذَا مَحْرَمٍ وَرِثَتْ كَالْأَبَوَيْنِ وَإِنْ كَلَّمَتْ غَيْرَ ذِي مَحْرَمٍ لَمْ تَرِثْ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا لِمَا ذَكَرْنَاهُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا طَلَّقَ فِي مَرَضِهِ أَرْبَعَ زَوْجَاتٍ لَهُ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ، ثُمَّ تَزَوَّجَ أَرْبَعًا سِوَاهُنَّ وَمَاتَ عَنْهُنَّ وَقِيلَ بِتَوْرِيثِ الْمَبْتُوتَةِ ، فَفِي الْمِيرَاثِ هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ مِيرَاثَ الزَّوْجَاتِ وَهُوَ الرُّبُعُ أَوِ الثُّمُنُ يَكُونُ مَقْسُومًا بَيْنَ الْأَرْبَعِ

الْمُطَلَّقَاتِ وَالْأَرْبَعِ الْمُزَوَّجَاتِ أَثْمَانًا : لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُمَا يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْمِيرَاثَ يَكُونُ لِلْأَرْبَعِ الْمُطَلَّقَاتِ دُونَ الْأَرْبَعِ الْمُزَوَّجَاتِ : لِأَنَّ حَقَّ الْمُطَلَّقَاتِ أَسْبَقُ مِنْ حَقِّ الْمُزَوَّجَاتِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْمِيرَاثَ يَكُونُ لِلْأَرْبَعِ الْمُزَوَّجَاتِ دُونَ الْمُطَلَّقَاتِ ، لِأَنَّ حُقُوقَ الزَّوْجَاتِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ ، وَحُقُوقَ الْمُطَلَّقَاتِ بِالِاجْتِهَادِ . فَلَوْ تَزَوَّجَ بَعْدَ الْأَرْبَعِ اثْنَتَيْنِ ، ثُمَّ مَاتَ ، فَأَحَدُ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْمِيرَاثَ مَقْسُومٌ بَيْنَ السِّتِّ كُلِّهِنَّ . وَالثَّانِي أَنَّهُ لِلْأَرْبَعِ الْمُطَلَّقَاتِ . وَالثَّالِثُ : لِلزَّوْجَتَيْنِ نِصْفُ الْمِيرَاثِ وَالنِّصْفُ الْبَاقِي بَيْنَ الْأَرْبَعِ الْمُطَلَّقَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الشَّكِّ فِي الطَّلَاقِ

بَابُ الشَّكِّ فِي الطَّلَاقِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " لَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ الشَّيْطَانَ لَعَنَهُ اللَّهُ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَنْفُخُ بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ فَلَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَشُمَّ رِيحًا عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُزَلْ يَقِينُ طَهَارَةٍ إِلَّا بِيَقِينِ حَدَثٍ فَكَذَلِكَ مَنِ اسْتَيْقَنَ نِكَاحًا ثُمَّ شَكَّ فِي الطَّلَاقِ لَمْ يُزَلِ الْيَقِينُ إِلَّا بِالْيَقِينِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَا الشَّكُّ فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ هَلْ طَلَّقَ أَمْ لَا ؟ فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ إِسْقَاطًا لِحُكْمِ الشَّكِّ ، وَاعْتِبَارًا بِيَقِينِ النِّكَاحِ وَأَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ مُسْتَقِرَّةٌ عَلَى تَغْلِيبِ الْيَقِينِ عَلَى الشَّكِّ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ ثَلَاثًا صَلَّى أَوْ أَرْبَعَا فَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ . وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَنْفُخُ بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ فَيَقُولُ أَحْدَثْتُ أَحْدَثْتُ فَلَا يَنْصَرِفْ مِنْ صَلَاتِهِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحَا . فَأَمَرَهُ فِي هَذَيْنِ الْخَبِرَيْنِ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى الْيَقِينِ فِيمَا يُؤَدِّيهِ مِنْ صِلَاتِهِ وَفِيمَا يَلْتَزِمُ مِنْ حَدَثِهِ وَأَسْقَطَ حُكْمَ الشَّكِّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ ، فَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ يَلْزَمُ مَا يَتَيَقَّنُهُ وَيَسْقُطُ مَا يَشُكُّ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَحْكَامِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ تَرَكْتُمْ هَذَا الِأَصْلَ فِي مَوَاضِعَ غَلَّبْتُمْ فِيهَا حُكْمَ الشَّكِّ عَلَى الْيَقِينِ مِنْهَا فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إِذَا شَكَّ وَهُوَ فِيهَا فِي دُخُولِ وَقْتِ صَلَاةِ الْعَصْرِ غَلَبَ حُكْمُ الشَّكِّ وَأَتَمَّهَا ظُهْرًا فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ أَصْحَابَنَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ، فَذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ إِلَى أَنَّهُ يُتِمُّهَا جُمُعَةً تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْيَقِينِ فِي بَقَاءِ الْوَقْتِ فَسَقَطَ هَذَا الِاعْتِرَاضُ . وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا : بَلْ يُتِمُّهَا لِأَجْلِ الشَّكِّ ظُهْرًا : لِأَنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ مُتَيَقَّنٌ فَلَمْ يَسْقُطْ إِلَّا بِيَقِينِ الْأَدَاءِ ، وَأَدَاءُ الْجُمُعَةِ يَصِحُّ بِشَرْطٍ مُتَيَقَّنٍ وَهُوَ بَقَاءُ الْوَقْتِ ، فَلَمْ يَصِحَّ أَدَاؤُهَا مَعَ الشَّكِّ فِي وُجُودِ شَرْطِهَا فَلِذَلِكَ أَتَمَّهَا ظُهْرًا ، فَعَلَى هَذَا إِنَّمَا هُوَ تُقَابُلُ أَصْلَيْنِ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ عَلَى الْيَقِينِ فِيهِمَا فَرَجَّحْنَا حُكْمَ الْيَقِينِ فِي أَوْكَدِهِمَا . وَمِنْهَا الْمُتَلَفِّفُ فِي ثَوْبِهِ إِذَا ضَرَبَهُ ضَارِبٌ فَقَدَّهُ ، وَاخْتُلِفَ فِي حَيَاتِهِ قَبْلَ ضَرْبِهِ ،

الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ ضَارِبِهِ ، فَقَدْ خَالَفْتُمُ الْيَقِينَ فِي بَقَاءِ حَيَاتِهِ ، قُلْنَا : أَمَّا الْقَوَدُ فَلَا يَجِبُ ، لِأَنَّهَا شُبْهَةٌ وَالْقَوَدُ حَدٌّ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ ، وَأَمَّا الدِّيَةُ فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : تَجِبُ اعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ فِي بَقَاءِ حَيَاتِهِ . وَالثَّانِي : لَا تَجِبُ اعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ ، فَعَلَى هَذَا قَدْ تَقَابَلَ أَصْلَانِ لِأَحَدِهِمَا بَقَاءُ الْحَيَاةِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ . وَالثَّانِي : بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فِي إِسْقَاطِهَا فَعُلِمَ حُكْمُ الْيَقِينِ فِي أَحَدِ الْأَصْلَيْنِ وَهُوَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ لِأَنَّهُ أَصْلٌ وَاحِدٌ لَمْ يُعَارِضْهُ غَيْرُهُ فَاعْتُبِرَ الْيَقِينُ فِيهِ . وَمِنْهَا أَنَّ الْعَبْدَ الْآبِقَ إِذَا أَعْتَقَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ لَمْ يُجْزِهِ ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ حَيَاتِهِ ، قِيلَ : هَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي عِتْقِهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ : لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا ، وَعَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِ ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ حَيًّا ، فَغَلَبَ حُكْمُ الْحَيَاةِ فِي الزَّكَاةِ ، وَحُكْمُ الْمَوْتِ فِي الْكَفَّارَةِ . فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ نَقَلَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى ، وَأَخْرَجَهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُجْزِئُ عِتْقُهُ فِي الْكَفَّارَةِ كَمَا تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ : تَغْلِيبًا لِلْيَقِينِ فِي بَقَاءِ الْحَيَاةِ . وَالثَّانِي : لَا تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ ، كَمَا لَا يُجْزِئُ عِتْقُهُ فِي الْكَفَّارَةِ ، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْيَقِينِ فِي بَقَاءِ الْكَفَّارَةِ فِي الذِّمَّةِ ، لِأَنَّهُ تَقَابَلَ أَصْلَانِ فَرَجَحَ الْيَقِينُ فِي أَوْكَدِهِمَا وَلَيْسَ كَالطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَجِبُ اعْتِبَارُ الْيَقِينِ فِيهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَالشَّكُّ فِي الطَّلَاقِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَشُكَّ فِي أَصْلِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَشُكَّ فِي عَدَدِهِ ، فَإِنْ كَانَ شَكَّ فِي أَصْلِهِ ، هَلْ طَلَّقَ أَمْ لَا ؟ لَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَاقُ ، اعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ فِي بَقَاءِ النِّكَاحِ ، وَإِسْقَاطًا لِلشَّكِّ فِي رَفْعِهِ بِالطَّلَاقِ ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، لَكِنَّ الْوَرِعَ أَنْ يَلْتَزِمَ حُكْمَ الطَّلَاقِ حَتَّى لَا يَسْتَبِيحَ بُضْعًا بِالشَّكِّ ، فَإِنْ كَانَ الشَّكُّ فِي طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ ، هَلْ أَوْقَعَهَا أَمْ لَا ؟ فَالْتِزَامُهُ لِحُكْمِهَا وَرَعًا أَنْ يَرْتَجِعَهَا ، فَإِنْ كَانَ قَدْ طَلَّقَ حَلَّتْ لَهُ بِالرَّجْعَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ طَلَّقَ لَمْ تَضُرَّهُ الرَّجْعَةُ وَيَسْتَبْقِيهَا عَلَى طَلْقَتَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ الشَّكُّ فِي الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ هَلْ أَوْقَعَهَا أَمْ لَا ؟ فَالْوَرَعُ أَنْ يَتْرُكَ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا ، أَنْ يَعْتَزِلَهَا وَيَلْتَزِمَ نَفَقَتَهَا ، فَيَغْلِبُ الشَّكُّ فِي اعْتِزَالِ الْوَطْءِ وَالْيَقِينُ فِي الْتِزَامِ النَّفَقَةِ ، وَإِنْ أَرَادَ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا لِتَسْتَبِيحَ نِكَاحَ غَيْرِهِ بِيَقِينٍ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ وَطِئَهَا مِنْ قَبْلُ لَمْ يَقَعْ هَذَا الطَّلَاقُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ طَلَّقَهَا مِنْ قَبْلُ وَقَعَ هَذَا الطَّلَاقُ . وَحَلَّتْ لَهُ لِزَوْجٍ بَعْدَهُ ، فَإِذَا اسْتَحَلَّتْ بِزَوْجٍ حَلَّتْ لَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا ثُمَّ هِيَ مُسْتَبَاحَةٌ

بِيَقِينٍ هَذَا فِي الْوَرَعِ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ فِي الْحُكْمِ أَنْ يَرْتَجِعَ إِذَا شَكَّ فِي الْوَاحِدَةِ ، وَلَا أَنْ يَعْتَزِلَ أَوْ يُطْلِّقَ بِالْيَقِينِ فِي أَصْلِ النِّكَاحِ ، وَاسْتِدَامَةِ إِبَاحَتِهِ .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الشَّكُّ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ مَعَ يَقِينِ وُقُوعِهِ ، مِثْلَ أَنْ يَشُكَّ هَلْ طَلَّقَ وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا ، لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا الْيَقِينُ وَهُوَ الْأَقَلُّ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَلْزَمُ أَكْثَرُ مَا شَكَّ فِيهِ وَهُوَ الثَّلَاثُ ، فَلَا تَحِلُّ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ . فَإِذَا تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً طُلِّقَتْ ثَلَاثًا : لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ طَلَّقَهَا فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ اثْنَتَيْنِ فَبَقِيَتْ مَعَهُ عَلَى وَاحِدَةٍ ، فَإِذَا تَزَوَّجَهَا ثَالِثَةً بَعْدَ زَوْجٍ ثَانٍ وَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً طُلِّقَتْ مِنْهُ ثَلَاثًا : لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ طَلَّقَهَا فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ وَاحِدَةً ، وَيُسَمَّى الطَّلَاقُ الدُّولَابِيُّ . وَاسْتَدَلَّ عَلَى الْتِزَامِهِ مَعَ الشَّكِّ حُكْمَ الْأَكْثَرِ ، بِأَنَّ الشَّكَّ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ يُوجِبُ تَغْلِيبَ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ ، كَمَنِ اخْتَلَطَتْ أُخْتُهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ حُرِّمَ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا : تَغْلِيبًا لِلتَّحْرِيمِ ، وَكَمَنَ أَصَابَ ثَوْبَهُ نَجَاسَةٌ فَلَمْ يَعْرِفْ مَوْضِعَهَا ، غَسَلَ جَمِيعَهُ تَغْلِيبًا لِلنَّجَاسَةِ . وَكَمَنَ طَلَّقَ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ ، وَلَمْ يَعْرِفْهَا حُرِّمَتَا عَلَى التَّأْبِيدِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الطَّلَاقِ ، كَذَلِكَ إِذَا شَكَّ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ لَزِمَهُ الْأَكْثَرُ تَغْلِيبًا لِلطَّلَاقِ . وَدَلِيلُنَا مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْخَبَرَيْنِ ، أَنَّهُ شَكٌّ فِي طَلَاقٍ فَلَمْ يُحْكَمْ بِوُقُوعِهِ ، كَالشَّكِّ فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ ، وَلِأَنَّهُ كَمَا لَوْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي أَصْلِهِ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ ، وَجَبَ إِذَا وَقَعَ فِي عَدَدِهِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْيَقِينِ كَالصَّلَاةِ ، وَلِأَنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ فَلَمْ يَلْزَمِ الشَّكُّ كَالْإِبْرَاءِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِتَغْلِيبِ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ فَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مَعَ اجْتِمَاعِهِمْ دُونَ الشَّكِّ فِيهِمَا ، وَأَنَّ الْأَصْلَ تَغْلِيبُ حُكْمٍ . فَأَمَّا الثَّوْبُ إِذَا شَكَّ فِي مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ فَغَلَّبَهُ عَلَى جَمِيعِهِ لِأَنَّ وُقُوعَ النَّجَاسَةِ فِيهِ قَدْ يَمْنَعُ الصَّلَاةَ فِيهِ ، فَلَمْ يَسْتَبِحْهَا فِيهِ إِلَّا بِيَقِينِ طَهَارَةٍ ، فَكَذَلِكَ عَلَى جَمِيعِهِ وَأَمَّا أُخْتُهُ وَأَجْنَبِيَّةٌ ، فَلِأَنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ ثَبَتَ فَلَمْ يَسْتَبِحْ أَحَدَهُمَا بِالشَّكِّ . وَكَذَلِكَ إِذَا شَكَّ فِي الْمُطَلَّقَةِ مِنْ زَوْجَتَيْهِ وَلَيْسَ كَالشَّكِّ فِي الطَّلَاقِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ تَحْرِيمُ الثَّلَاثِ ، فَلَمْ يَلْزَمْ تَحْرِيمُهَا بِالشَّكِّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ حَنِثْتُ بِالطَّلَاقِ أَوْ فِي الْعِتْقِ وَقَفَ عَنْ نِسَائِهِ وَرَقِيقِهِ حَتَى يُبَيِّنَ وَيَحْلِفَ لِلَّذِي يَدَّعِي فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ فَإِنْ خَرَجَ السَّهْمُ عَلَى الرَّقِيقِ عَتَقُوا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى النِّسَاءِ لَمْ يُطَلَّقْنَ وَلَمْ يَعْتِقِ الرَّقِيقُ وَالْوَرَعُ أَنْ يَدَعْنَ مِيرَاثَهُ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ تَيَقَّنَ حِنْثَهُ بِطَلَاقِ نِسَائِهِ ، أَوْ أَعْتَقَ إِمَائِهِ وَأُشْكِلَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ كَانَ بِطَلَاقِ النِّسَاءِ أَوْ عِتْقِ الْإِمَاءِ ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ وَقَدْ رَأَى طَائِرًا : إِنْ كَانَ هَذَا الطَّائِرُ غُرَابًا فَنِسَائِي طَوَالِقُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَإِمَائِي أَحْرَارٌ ، وَطَارَ الطَّائِرُ وَلَمْ يَعْلَمْ أَغُرَابٌ كَانَ أَوْ غَيْرُ غُرَابٍ ، فَيَصِيرُ مُتَيَقِّنًا لِلْحِنْثِ فِي أَحَدِهِمَا ، وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ فَيَتَعَلَّقُ بِشَكِّهِ هَذَا أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْهُمَا قَبْلَ الْبَيَانِ مَنْعَ تَحْرِيمٍ ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْءُ النِّسَاءِ وَلَا الِاسْتِمْتَاعُ بِالْإِمَاءِ وَلَا التَّصَرُّفُ فِيهِنَّ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْحَظْرِ : لِأَنَّ التَّحْرِيمَ فِيهِمَا وَاقِعٌ بِيَقِينِ ، وَالشَّكَّ وَاقِعٌ بِالتَّعْيِينِ ، فَجَرَى مَجْرَى اخْتِلَاطِ أُخْتِهِ بِأَجْنَبِيَّةٍ يُوجِبُ تَحْرِيمَهَا عَلَيْهِ : لِوُقُوعِ التَّحْرِيمِ مَعَ الْجَهْلِ بِالتَّعْيِينِ ، وَإِذَا حُرِّمَ عَلَيْهِ النِّسَاءُ بِالشَّكِّ حُرِّمَ عَلَيْهِنَّ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ غَيْرَهُ بِالشَّكِّ ، وَكَذَلِكَ الْإِمَاءُ يَحْرُمُ عَلَيْهِنَّ أَنْ يَتَصَرَّفْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ ، وَتَوَقَّفَ أَمْرُ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْبَيَانِ .

فَصْلٌ : وَالْحُكْمُ الثَّانِي : أَنْ يُؤْخَذَ بِنَفَقَاتِ النِّسَاءِ وَنَفَقَاتِ الْإِمَاءِ ، فيمن قَالَ حَنِثْتُ بِالطَّلَاقِ أَوْ فِي الْعِتْقِ وَإِنْ حُرِّمْنَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ تَحْرِيمَهُنَّ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ ، وَلِأَنَّ نَفَقَاتِهِنَّ وَاجِبَةٌ قَبْلَ الشَّكِّ ، فَلَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ بِالشَّكِّ ، لَكِنْ يَسْقُطُ حَقُّ الْقَسْمِ لِلنِّسَاءِ لِتَحْرِيمِهِنَّ كَالْمُحَرَّمِ بِالرِّدَّةِ وَالْإِحْرَامِ ، وَيُوقَفُ كَسْبُ الْإِمَاءِ أَنْ يَتَصَرَّفْنَ أَوِ السَّيِّدُ فِيهِ ، حَتَّى يُتَيَقَّنَ عِتْقُهُنَّ فَيَمْلِكْنَ الْفَاضِلَ مِنْ إِكْسَابِهِنَّ أَوْ سَيْرِ رِزْقِهِنَّ فَتَكُونُ مِلْكًا لِلسَّيِّدِ ، فَلَوْ أَرَادَ السَّيِّدُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُنَّ وَيُنْفِقَ عَلَيْهِنَّ ، وَأَرَدْنَ أَنْ يَكْتَسِبْنَ لِأَنْفُسِهِنَّ وَيُنْفِقْنَ مِنْ كَسْبِهِنَّ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ السَّيِّدِ تَغْلِيبًا لِسَابِقِ الْمِلِكِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُنَّ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ التَّحْرِيمِ .

فَصْلٌ : وَالْحُكْمُ الْآخَرُ أَنْ يُؤْخَذَ بِبَيَانِ الْحِنْثِ ، هَلْ كَانَ فِي طَلَاقِ النِّسَاءِ أَوْ عِتْقِ الْإِمَاءِ وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ بَيَانٌ فَإِنَّ بَيَّنَ شَيْئًا قُبِلَ مِنْهُ : لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِي وُقُوعِ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ كَانَ مَقْبُولَ الْبَيَانِ فِي الصِّفَةِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ ، فَإِنْ قَالَ : كَانَ الْحِنْثُ بِطَلَاقِ النِّسَاءِ ، فيمن قَالَ حَنِثْتُ بِالطَّلَاقِ أَوْ فِي الْعِتْقِ لِأَنَّ الطَّائِرَ كَانَ غُرَابًا طُلِّقَ النِّسَاءُ بِإِقْرَارِهِ ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الْإِمَاءُ كُنَّ عَلَى رِقِّهِنَّ ، وَلَا يَمِينَ ، عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَذَّبْنَهُ حَلَفَ لَهُنَّ وَكُنَّ عَلَى رِقِّهِنَّ ، فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ لَهُنَّ ، رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِنَّ ، فَإِذَا حَلَفْنَ عُتِقْنَ بِأَيْمَانِهِنَّ بَعْدَ نُكُولِهِ وَطُلِّقَ النِّسَاءُ بِإِقْرَارِهِ فَلَوْ أَكْذَبْنَهُ وَلَمْ يَكُنْ إِحْلَافُهُ ، فَهَلْ يُحَلِّفُهُ الْحَاكِمُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُحَلِّفُهُ : لِأَنَّ فِي عِتْقِهِنَّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى . وَالثَّانِي : لَا يُحَلِّفُهُ لِأَنَّ قَوْلَهُنَّ فِي تَصْدِيقِهِ مَقْبُولٌ بِغَيْرِ يَمِينٍ ، وَلَوْ تَجَرَّدَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى يَحْلِفْنَ إِنْ صَدَّقَهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ حُقُوقِهِنَّ ، وَإِنْ قَالَ : كَانَ الْحِنْثُ بِعِتْقِ

الْإِمَاءِ فيمن قَالَ حَنِثْتُ بِالطَّلَاقِ أَوْ فِي الْعِتْقِ : لِأَنَّ الطَّائِرَ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا عَتَقَ الْإِمَاءُ وَإِنْ صَدَّقْنَهُ النِّسَاءُ ، وَإِلَّا حَلَفَ لَهُنَّ ، ثُمَّ هُنَّ بَعْدَ إِمَائِهِ زَوْجَاتٌ ، فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ لَهُنَّ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِنَّ ، فَإِذَا حَلَفْنَ طُلِّقْنَ بِأَيْمَانِهِنَّ بَعْدَ نُكُولِهِ ، وَعَتَقَ الْإِمَاءُ بِإِقْرَارِهِ ، وَإِنْ أَمْسَكَ عَنِ الْبَيَانِ فَلَمْ يُبَيِّنْ طَلَاقَ النِّسَاءِ ، وَلَا عِتْقَ الْإِمَاءِ نُظِرَ فِي إِمْسَاكِهِ ، فَإِنْ كَانَ مَعَ عِلْمِهِ بِالْحَالِ حُبِسَ لَهُنَّ حَتَّى يُبَيِّنَ ، وَإِنْ كَانَ إِمْسَاكُهُ عَنِ الْبَيَانِ لِجَهْلِهِ بِالْحَالِ لَمْ يُحْبَسْ ، وَكَانَ النِّسَاءُ وَالْإِمَاءُ مَوْقُوفَاتٍ عَلَى التَّحْرِيمِ مَا بَقِيَ حَتَّى يَمُوتَ ، فَلَوْ قَالَ : أَمْسَكْتُ عَنِ الْبَيَانِ لِخَفَائِهِ عَلَيَّ ، وَقُلْنَ بَلْ أَمْسَكَ عَنْهُ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ ، أُحْلِفَ لَهُنَّ وَلَمْ يُحْبَسْنَ ، وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَيْهِنَّ وَيُحْبَسُ لَهُنَّ ، وَرُجِعَ إِلَى بَيَانِهِنَّ إِنْ كَانَ عِنْدَهُنَّ عِلْمٌ ، كَمَا يَجُوزُ رَدُّ الْيَمِينِ عَلَيْهِنَّ ، فَإِذَا نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ لَهُنَّ ، فَإِنِ اتَّفَقَ الْفَرِيقَانِ عَلَى أَنَّ الْحِنْثَ كَانَ بِطَلَاقِ النِّسَاءِ لِأَنَّ الطَّائِرَ كَانَ غُرَابًا حَلَفَ النِّسَاءُ ، وَلَمْ يَحْلِفِ الْإِمَاءُ ، وَطُلِّقَ النِّسَاءُ بِأَيْمَانِهِنَّ وَلَمْ يَعْتِقِ الْإِمَاءُ : لِشَكِّ السَّيِّدِ فِي عِتْقِهِنَّ . وَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْحِنْثَ كَانَ بِعِتْقِ الْإِمَاءِ ، لِأَنَّ الطَّائِرَ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا حَلَفْنَ دُونَ النِّسَاءِ ، وَعَتَقْنَ بِأَيْمَانِهِنَّ ، وَلَمْ يُحِلَّ النِّسَاءَ لِشَكِّ الزَّوْجِ فِي طَلَاقِهِنَّ . وَإِنِ اخْتَلَفَ الْفَرِيقَانِ فَادَّعَى النِّسَاءُ الْحِنْثَ بِطَلَاقِهِنَّ ، لِأَنَّ الطَّائِرَ كَانَ غُرَابًا ، وَادَّعَى الْإِمَاءُ أَنَّ الْحِنْثَ بِعِتْقِهِنَّ لِأَنَّ الطَّائِرَ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا ، حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ وَطُلِّقَ النِّسَاءُ بِأَيْمَانِهِنَّ وَعَتَقَ الْإِمَاءُ بِأَيْمَانِهِنَّ .

فَصْلٌ : وَالْحُكْمُ الرَّابِعُ : إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ بَيَانٌ أَوْ كَانَ فَلَمْ يُبَيِّنْ حَتَّى مَاتَ ، فيمن قَالَ حَنِثْتُ بِالطَّلَاقِ أَوْ فِي الْعِتْقِ فَهَلْ يُرْجَعُ إِلَى بَيَانِ وَرَثَتِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُرْجَعُ إِلَى بَيَانِهِمْ ، لِقِيَامِهِمْ بِالْمَوْتِ مَقَامَهُ ، فَعَلَى هَذَا يَقُومُ بَيَانُهُمْ مَقَامَ بَيَانِهِ عَلَى مَا مَضَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ مَذْهَبِنَا وَحُجَجِنَا ، أَنَّهُ لَا يُرْجَعُ إِلَى بَيَانِهِمْ ، أَمَّا الْمَذْهَبُ فَلِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا ، فَإِنْ مَاتَ أُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ ، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُ يُرْجَعُ إِلَى بَيَانِ وَرَثَتِهِ ، فَأَمَّا الْحِجَاجُ فَلِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الْبَيَانَ عَنْهُ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فَهُمْ بِذَلِكَ أَوْلَى ، وَلِأَنَّهُمْ لَا يَقَعُ مِنْهُمُ الطَّلَاقُ فَلَمْ يُرْجَعْ إِلَيْهِمْ فِي بَيَانِهِ ، فَعَلَى هَذَا يُقْرَعُ بَيْنَ الْإِمَاءِ وَالنِّسَاءِ سَوَاءٌ كَانَ عِنْدَ الْوَرَثَةِ أَمْ لَا ، وَهَكَذَا لَوْ رُجِعَ إِلَى بَيَانِهِمْ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ بَيَانٌ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ وَإِذَا وَجَبَ الْإِقْرَاعُ بَيْنَهُمْ جُمِعَ بَيْنَ النِّسَاءِ فِي قُرْعَةٍ ، وَبَيْنَ الْإِمَاءِ فِي قُرْعَةٍ ، وَأُخْرِجَتْ عَلَى الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ لِأَنَّ الْعِتْقَ قَدْ دَخَلَ فِي الْقُرْعَةِ فَدَخَلَتْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، فَإِنْ قِيلَ : وَلَيْسَ لِلطَّلَاقِ مَدْخَلٌ فِي الْقُرْعَةِ فَلِمَ دَخَلَتْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَفِي ذَلِكَ إِدْخَالُ قُرْعَةٍ فِي شَيْئَيْنِ لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا مَدْخَلٌ فِي الْقُرْعَةِ قِيلَ : قَدْ يَجُوزُ إِذَا لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ الشَّيْئَيْنِ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ إِحْدَاهُمَا ، كَمَا أَنَّ الْقَطْعَ مَعَ الْعَزْمِ فِي

السَّرِقَةِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ وَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ الْعَزْمُ وَحْدَهُ بِالشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الْقَطْعُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْقُرْعَةِ فيمن قَالَ حَنِثْتُ بِالطَّلَاقِ أَوْ فِي الْعِتْقِ فَإِنْ رَجَعَتْ بِقُرْعَةِ الْإِمَاءِ عَتَقْنَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَقَدَ الْيَمِينَ فِي الْمَرَضِ فَيَعْتِقْنَ مِنَ الثُّلُثِ ، وَكَانَ النِّسَاءُ زَوْجَاتٍ يُحْكَمُ لَهُنَّ بِالْمِيرَاثِ ، لِأَنَّ الْإِرْثَ مُسْتَحَقٌّ قَبْلَ الشَّكِّ فَلِمَ سَقَطَ بِالشَّكِّ كَالنَّفَقَةِ ؟ وَإِنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى النِّسَاءِ لَمْ يُطَلَّقْنَ وَعَتَقَ الْإِمَاءُ وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : يُطَلَّقُ النِّسَاءُ بِالْقُرْعَةِ كَمَا يَعْتِقُ الْإِمَاءُ بِهَا ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْعِتْقَ وَالطَّلَاقَ يَجْتَمِعَانِ فِي وُقُوعِهِمَا عَلَى الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَجْتَمِعَا فِي دُخُولِ الْقُرْعَةِ فِيهِمَا ، وَلِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي تَمْيِيزِ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ ، فَكَذَلِكَ فِي تَمْيِيزِ الطَّلَاقِ مِنَ الْعِتْقِ . وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ لَا بِعَيْنِهَا لَمْ يَقَعْ بَيْنَهُنَّ . وَلَوْ أَعْتَقَ وَاحِدَةً مِنْ إِمَائِهِ أَوْ عَبِيدِهِ أُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ ، فَدَلَّ عَلَى دُخُولِ الْقُرْعَةِ فِي الْعِتْقِ دُونَ الطَّلَاقِ ، وَإِنَّمَا دَخَلَتِ الْقُرْعَةُ فِي الْعِتْقِ ، لِأَنَّ الْعِتْقَ مَحِلُّهُ الْمِلْكُ، وَالْقُرْعَةُ تَدْخُلُ فِي الْمَالِ ، فَجَازَ أَنْ تَدْخُلَ فِيمَا يَكُونُ مَحِلُّهُ فِي الْمِلْكِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ ، لِأَنَّ مَحِلَّهُ النِّكَاحُ ، وَالْقُرْعَةُ لَا تَدْخُلُ فِي النِّكَاحِ ، فَلَمْ تَدْخُلْ فِيمَا يَكُونُ مَحِلُّهُ النِّكَاحُ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ خُرُوجَ الْقُرْعَةِ عَلَى النِّسَاءِ لَا يُوقِعُ عَلَيْهِنَّ الطَّلَاقَ فَلَهُنَّ الْمِيرَاثُ ، لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ مَا يُسْقِطُهُ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِنَّ مَنِ ادَّعَتْ طَلَاقَهَا بِكَوْنِ الطَّائِرِ غُرَابًا فَلَا تَرِثُ لِإِخْبَارِهَا بِسُقُوطِ الْإِرْثِ ، فَأَمَّا الْإِمَاءُ فَيَثْبُتُ لَهُنَّ حُكْمُ الرِّقِّ بِخُرُوجِهِنَّ مِنَ الْقُرْعَةِ ، وَيَجُوزُ لِلْوَرَثَةِ التَّصَرُّفُ فِيهِنَّ لِثُبُوتِ رِقِّهِنَّ ، فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا مُنِعَ الْوَرَثَةُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِنَّ كَمَا مُنِعَ السَّيِّدُ ، قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ السَّيِّدَ اجْتَمَعَ فِي مِلْكِهِ الْمَحْظُورُ وَالْمُبَاحُ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِمَاءَ وَأَبْضَاعَ النِّسَاءِ ، فَغَلَبَ حُكْمُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ ، لِاجْتِمَاعِهِمَا يَقِينًا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِلْوَرَثَةِ ، لِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ إِلَّا أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ ، وَهُمُ الْإِمَاءُ دُونَ أَبْضَاعِ النِّسَاءِ ، فَلَمْ يَجْتَمِعِ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ ، فَكَذَلِكَ لَمْ يَغْلِبْ حُكْمُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ ، وَصَارَ مِلْكًا شُكَّ فِي حَظْرِهِ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ فَأُعْسِرَ فِيهِ أَصْلُ الْإِبَاحَةِ ، فَإِذَا صَحَّ كَوْنُ الْإِمَاءِ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ارْتِفَاعِ الشُّبْهَةِ عَنْهُنَّ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَرْتَفِعُ الشُّبْهَةُ عَنْهُنَّ لِلشَّكِّ الْمُتَقَدِّمِ فِي عِتْقِهِنَّ ، وَأَنَّ الْقُرْعَةَ لَمْ تَدْخُلْ لِتَحْقِيقِ مَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ مِنَ الطَّلَاقِ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا تَدْخُلَ لِتَحْقِيقِ مَا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ مِنَ الْعِتْقِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ لِلْوَرَثَةِ الِاسْتِمْتَاعُ بِهِنَّ ، وَيَجُوزُ التَّوَصُّلُ إِلَى أَخْذِ أَثْمَانِهِنَّ وَيَمْلِكُوا كَسْبَهُنَّ وَلَوْ وُزِّعُوا كَانَ أَوْلَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الشُّبْهَةَ عَنْ رِقِّهِنَّ مُرْتَفِعَةٌ ، لِأَنَّ الْقُرْعَةَ تَضَمَّنَتْ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا . أَمَّا النَّفْيُ فَنَفْيُ عِتْقِ الْإِمَاءِ . وَأَمَّا الْإِثْبَاتُ فَإِثْبَاتُ طَلَاقِ النِّسَاءِ ، فَإِذَا لَمْ تَعْمَلْ فِي إِثْبَاتِ الطَّلَاقِ لَمْ يَتَحَقَّقْ ، وَإِذَا عَمِلَتْ فِي نَفْيِ الْعِتْقِ تَحَقَّقَ ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لَهُمْ وَطْءُ الْإِمَاءِ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِنَّ كَيْفَ شَاءُوا .



فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ : إِنْ كَانَ هَذَا الطَّائِرُ غُرَابًا فَنِسَائِي طَوَالِقُ ، وَإِنْ كَانَ حَمَامًا فَإِمَائِي أَحْرَارٌ فَطَارَ وَلَمْ يَعْلَمْ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ بِطَلَاقٍ وَلَا عِتْقٍ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الطَّائِرُ لَيْسَ بِغُرَابٍ وَلَا حَمَامٍ فَلَمْ يَتَحَقَّقِ الْحِنْثُ . وَلَيْسَ كَالَّذِي تَقَدَّمَ إِنْ كَانَ غُرَابًا أَوْ غَيْرَ غُرَابٍ ، لِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ مِنْ أَحَدِهِمَا .

فَصْلٌ : وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ قَالَ أَحَدُهُمَا : إِنْ كَانَ هَذَا الطَّائِرُ غُرَابًا فَنِسَائِي طَوَالِقُ ، وَقَالَ آخَرُ : إِنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ ، فَطَارَ وَلَمْ يُعْلَمْ أَغْرَابًا كَانَ أَوْ غَيْرَ غُرَابٍ فَلَا حِنْثَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلِلزَّوْجِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِنِسَائِهِ ، وَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي عَبِيدِهِ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاكٌّ فِي الْحِنْثِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ حِنْثٌ ، وَخَالَفَ اجْتِمَاعَهُمَا فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ ، لِأَنَّ الْحِنْثَ يَقِينٌ وَإِنْ جُهِلَ تَعْيِينُهُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا قَالَ رَجُلَانِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدٌ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : إِنْ كَانَ هَذَا الطَّائِرُ غُرَابًا فَعَبْدِي حُرٌّ ، وَقَالَ الْآخَرُ : إِنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَعَبْدِي حُرٌّ فَطَارَ وَلَمْ يُعْلَمْ أَغُرَابًا كَانَ أَوْ غَيْرَ غُرَابٍ لَمْ يَعْتَقْ عَبْدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِشَكِّهِ فِي عِتْقِهِ ، فَإِنِ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا عَبْدَ الْآخِرِ فَصَارَا مَعًا فِي مِلْكِ أَحَدِهِمَا نُظِرَ ، فَإِنْ تَكَاذَبَا عَتَقَ عَلَى الْمُشْتَرِي الْعَبْدُ الَّذِي اشْتَرَاهُ ، لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِحُرِّيَّتِهِ ، وَعَبْدُهُ الْأَوَّلُ عَلَى رِقِّهِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَكَاذَبَا وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى شَكِّهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَى الْمُشْتَرِي عِتْقُ أَحَدِهِمَا ، كَمَا لَوْ قَالَ ذَلِكَ وَهُمَا فِي مِلْكِهِ ، لِاجْتِمَاعِهِمَا الْآنَ فِي مِلْكِهِ فَعَلَى هَذَا يُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِمَا حَتَّى يُبَيَّنَ الْحُرُّ مِنْهُمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا عِتْقَ عَلَيْهِ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ السَّيِّدَيْنِ قَدْ كَانَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي عَبْدِهِ بَعْدَ الْيَمِينِ . وَكَذَلِكَ إِذَا اجْتَمَعَ فِي مِلْكِ أَحَدِهِمَا وَلَكِنْ لَوْ تَنَازَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدَ الْآخِرِ فَإِنْ كَانَا تَكَاذَبَا عَتَقَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْعَبْدُ الَّذِي اشْتَرَاهُ وَإِنْ لَمْ يَتَكَاذَبَا جَازَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْعَبْدِ الَّذِي اشْتَرَاهُ وَجْهًا وَاحِدًا ، لِأَنَّهُمَا لَمْ يَجْتَمِعَا فِي مَلْكٍ وَمُشْتَرِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقُومُ مَقَامَ بَائِعِهِ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثَلَاثًا مُنِعَ مِنْهُمَا وَأُخِذَ بِنَفَقَتِهِمَا حَتَى يُبَيِّنَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا قَالَ وَلَهُ زَوْجَتَانِ : إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثَلَاثًا ، طُلِّقَتْ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى . وَقَالَ مَالِكٌ : طُلِّقَتَا مَعًا ، لِأَنَّ إِرْسَالَ الطَّلَاقِ عَلَيْهِمَا يَجْعَلُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَظًّا

فَطُلِّقَتَا ، كَمَا لَوْ شَرَكَ بَيْنَهُمَا . وَقَالَ دَاوُدُ : لَا طَلَاقَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، كَمَا لَوْ قَالَ : لِأَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَمْ يَلْزَمْهُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ . وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ مَدْخُولٌ وَيَلْزَمُهُ طَلَاقُ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى لِرِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ عُمَانَ أَتَاهُ فَقَالَ : إِنَّ لِي ثَلَاثَ نِسْوَةٍ وَإِنِّي طَلَّقْتُ إِحْدَاهُنَّ ، فَثَبَتَ طَلَاقُهَا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إِنْ كُنْتَ نَوَيْتَ طَلَاقَ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِعَيْنِهَا ، ثُمَّ أُنْسِيتَهَا فَقَدِ اشْتَرَكْنَ فِي الطَّلَاقِ ، كَمَا يَشْتَرِكْنَ فِي الْمِيرَاثِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَوَيْتَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِعَيْنِهَا ، فَطَلِّقْ أَيَّتَهُنَّ شِئْتَ وَأَمْسِكِ الْبَاقِيَتَيْنِ . وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَلَيْسَ أَعْرِفُ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا فَصَارَ إِجْمَاعًا . وَقَوْلُهُ : إِنْ كُنْتَ نَوَيْتَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِعَيْنِهَا ، ثُمَّ أُنْسِيتَهَا فَقَدِ اشْتَرَكْنَ فِي الطَّلَاقِ ، يَعْنِي فِي تَحْرِيمِ الطَّلَاقِ لَا فِي وُقُوعِهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، وَلِأَنَّ الْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ إِذَا اجْتَمَعَا لَمْ يَغْلِبْ حُكْمُ الْإِبَاحَةِ إِجْمَاعًا ، فَسَقَطَ بِهِ قَوْلُ دَاوُدَ ، وَإِذَا أَمْكَنَ تَمْيِيزُهَا لَمْ يَغْلِبْ بِهِ حُكْمُ الْحَظْرِ ، فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ مَالِكٍ . وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدَيْهِ : أَحَدُكُمَا حُرٌّ ، عَتَقَ أَحَدُهُمَا ، وَبَيَّنَ الْمُعْتَقَ مِنْهُمَا كَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَفِيمَا ذَكَرْنَا انْفِصَالٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُطَلِّقُ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى . فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُطَلَّقَةِ من حيث التعيين وعدمه مِنْهُمَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يُعَيِّنَهَا بِاللَّفْظِ أَوْ لَا يُعَيِّنَهَا ، فَإِنْ عَيَّنَهَا وَقْتَ لَفْظِهِ وَقَصَدَهَا بِإِشَارَتِهِ أَوْ تَسْمِيَتِهِ فَهِيَ الْمُطَلَّقَةُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ الطَّلَاقَ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ نَسِيَهَا وَلَا أُشْكِلَتْ عَلَيْهِ سُئِلَ عَنْهَا وَأُخِذَ بِبَيَانِهَا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ نَسِيَهَا أَوْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي ظُلْمَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ ، وُقِفَ أَمْرُهَا وَأُخِذَ بِبَيَانِهَا بِالْكَشْفِ عَنِ الْحَالَةِ وَالتَّوَصُّلِ إِلَى زَوَالِ الْإِشْكَالِ ، فَإِذَا بَيَّنَ أَحَدَهُمَا قَبْلَ قَوْلِهِ ، فَإِنْ صُدِّقَ عَلَيْهَا لَمْ يَحْلِفْ وَإِنْ كَذَّبَتَاهُ حَلَفَ لِلْبَاقِيَةِ مِنْهُمَا دُونَ الْمُطَلَّقَةِ ، لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَنِ الْمُطَلَّقَةِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ، وَلَوْ رَجَعَ عَنِ الْبَاقِيَةِ قُبِلَ مِنْهُ ، وَكَانَ الطَّلَاقُ وَاقِعًا وَقْتَ لَفْظِهِ دُونَ بَيَانِهِ ، وَكَذَلِكَ الْفَتْرَةُ عَقِيبَ الطَّلَاقِ ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنِ الطَّلَاقَ وَقْتَ لَفْظِهِ وَأَرْسَلَهُ بَيْنَهُمَا فَلَهُ أَنْ يُعَيِّنَهُ الْآنَ فِيمَنْ شَاءَ مِنْهُمَا ، وَيَكُونَ الْأَمْرُ فِيهِ إِلَى خِيَارِهِ ، فَأَيَّتُهُمَا شَاءَ أَنْ يُعَيِّنَهَا بِالطَّلَاقِ فَعَلَ ، وَيُؤْخَذُ بِالْبَيَانِ فِي تَعْيِينِ الَّتِي شَاءَ طَلَاقَهَا ، فَإِذَا عَيَّنَهَا بِالطَّلَاقِ وَبَيَّنَهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ الطَّلَاقُ وَاقِعًا عَلَيْهَا مَنْ وَقْتِ اللَّفْظِ أَوْ وَقْتِ التَّعْيِينِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مِنْ وَقْتِ اللَّفْظِ ، لِأَنَّهُ أَوْجَبَ الطَّلَاقَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنْ وَقْتِ التَّعْيِينِ لِأَنَّهُ مَيَّزَ الطَّلَاقَ فَإِذَا قِيلَ بِهَذَا الْوَجْهِ اعْتَدَّتْ مَنْ وَقْتِ التَّعْيِينِ ، وَإِذَا قِيلَ بِالْأَوَّلِ فَفِي عِدَّتِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : مِنْ وَقْتِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ ، بِاللَّفْظِ : لِأَنَّهَا تَتَعَقَّبُ بِالطَّلَاقِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : مِنْ وَقْتِ تَعْيِينِهِ ، وَإِنْ تَقَدَّمَ الطَّلَاقُ شَرَعَ بِغَلِيظِ الْأَمْرَيْنِ .



فَصْلٌ : فَلَوْ قَالَ : إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ ، وَكَانَ نِكَاحُ إِحْدَاهُمَا فَاسِدًا ، وَنِكَاحُ الْأُخْرَى صَحِيحًا فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ مُرْسَلًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَقَعَ عَلَى الْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا صَحِيحًا ، وَلَمْ يُرْجَعْ إِلَى خِيَارِهِ ، لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إِلَّا عَلَيْهَا ، وَلَوْ كَانَ مُعَيَّنًا فَبَيَّنَ أَنَّهُ أَرَادَ الْمَنْكُوحَةَ نِكَاحًا فَاسِدًا قُبِلَ مِنْهُ هَكَذَا لَوِ اتَّفَقَتِ الزَّوْجَتَانِ فِي الِاسْمِ وَالنَّسَبِ وَنِكَاحُ إِحْدَاهُمَا فَاسِدٌ ، فَذُكِرَتْ بِاسْمِهَا وَنَسَبِهَا الَّذِي يَشْتَرِكَانِ فِيهِ ، وَقَالَ : أَرَدْتُ الْمَنْكُوحَةَ نِكَاحًا فَاسِدًا قُبِلَ مِنْهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ قَالَ : إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ قُبِلَ مِنْهُ ، وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي الِاسْمِ وَالنَّسَبِ لَمْ يُقْبَلْ ، وَوَافَقَنَا فِي الْعَبْدَيْنِ إِذَا اشْتَرَكَا فِي الِاسْمِ ، وَشِرَاءُ أَحَدِهِمَا فَاسِدٌ وَشِرَاءُ الْآخَرِ صَحِيحٌ ، وَقَالَ يَا فُلَانُ : أَنْتَ حُرٌّ ، وَأَرَادَ الْمُشْتَرَى فَاسِدًا قُبِلَ مِنْهُ ، كَمَا لَوْ قَالَ : أَحَدُكُمَا حُرٌّ . وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِي الطَّلَاقِ ، فَوَجَبَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ قَالَ لَمْ أُرِدْ هَذِهِ بِالطَّلَاقِ كَانَ إِقْرَارًا مِنْهُ لِلْأُخْرَى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا طَلَّقَ إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ كَانَ مَأْخُوذًا بِالْبَيَانِ ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ مُعَيَّنًا أَخَذَ ( تَبْيِينَ الْمُعَيَّنَةِ مِنْهُمَا ) ، وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا عَيَّنَهُ فِيمَنْ شَاءَ مِنْهُمَا ، ثُمَّ هُمَا إِلَى وَقْتِ الْبَيَانِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ كَالْأَجَانِبِ وَكَالزَّوْجَاتِ فِي النَّفَقَةِ وَإِنَّمَا حُرِّمَتَا مَعًا قَبْلَ الْبَيَانِ ، لِأَنَّ الْمُحَرَّمَةَ مِنْهُمَا غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ عَنِ الْمُبَاحَةِ فَغَلَبَ فِيهِمَا حُكْمُ الْحَظْرِ وَالتَّحْرِيمِ ، كَمَا لَوِ اخْتَلَطَتْ زَوْجَتُهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ ، حُرِّمَتَا عَلَيْهِ فِي حَالِ الِاشْتِبَاهِ حَتَّى يَسْتَبِينَ الزَّوْجَةَ مِنَ الْأَجْنَبِيَّةِ . وَأَمَّا الْتِزَامُ النَّفَقَةِ فَلِأَنَّ الْمُحَرَّمَةَ مِنْهُمَا مُحْتَبَسَةٌ عَلَى بَيَانِهِ الْعَائِدِ إِلَيْهِ عَنْ زَوْجَتِهِ تَقَدَّمَتْ عَلَيْهِ فَجَرَى مَجْرَى الْمُشْرِكِ إِذَا أَسْلَمَ عَنْ عَشْرِ زَوْجَاتٍ ، كَانَ عَلَيْهِ الْتِزَامُ نَفَقَاتِهِنَّ حَتَّى يَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا يُحْبَسُ عَلَى اخْتِيَارِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَخْذِهِ بِالْبَيَانِ ، لَمْ تَخْلُ الْمُبَيَّنَةُ مِنْ أَنْ يَكُونَ طَلَاقُهَا مُعَيَّنًا أَوْ مُبْهَمًا مُرْسَلًا ، إذا قَالَ : إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ ، وَكَانَ نِكَاحُ إِحْدَاهُمَا فَاسِدًا ، وَنِكَاحُ الْأُخْرَى صَحِيحًا فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا لَمْ يَخْلُ حَالُ بَيَانِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ . إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْوَطْءِ فَإِنْ بُيِّنَ بِالْقَوْلِ صَحَّ ، وَهُوَ فِي بَيَانِهِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يُبَيِّنَ الْمُطَلَّقَةَ مِنْهُمَا فَتُبَيَّنُ بِهَا زَوْجَتُهُ الْأُخْرَى ، كَقَوْلِهِ وَهُمَا حَفْصَةُ وَعَمْرَةُ : الْمُطَلَّقَةُ هِيَ حَفْصَةُ فَيُعْلَمُ أَنَّ عَمْرَةَ زَوْجَتُهُ ، أَوْ يُبَيِّنُ الزَّوْجَةَ مِنْهُمَا ، فَيُعْلَمُ أَنَّ الْأُخْرَى هِيَ مُطَلَّقَةٌ ، كَقَوْلِهِ عَمْرَةُ هِيَ الزَّوْجَةُ فَيُعْلَمُ أَنَّ حَفْصَةَ هِيَ الْمُطَلَّقَةُ وَلَكِنْ لَوْ كُنَّ ثَلَاثًا كَانَ أَنْجَزُ الْبَيَانَيْنِ بَيَانَ الْمُطَلَّقَةِ ، فَيَقُولُ حَفْصَةُ هِيَ الْمُطَلَّقَةُ ، فَيُعْلَمُ بِبَيَانِ طَلَاقِهَا أَنَّ مَنْ سِوَاهَا مِنَ الْآخِرَتَيْنِ زَوْجَتَانِ ، وَلَوْ قَالَ حَفْصَةُ زَوْجَةٌ احْتَاجَ إِلَى بَيَانٍ ثَانٍ فِي الْآخِرَتَيْنِ ، إِمَّا بِأَنْ يُبَيِّنَ الْمُطَلَّقَةَ مِنْهُمَا فَتَكُونَ الْأُخْرَى زَوْجَةً وَإِمَّا أَنْ يُبَيِّنَ الزَّوْجَةَ مِنْهُمَا فَتَكُونَ الْأُخْرَى مُطَلَّقَةً ، فَهَذَا حُكْمُ بَيَانِهِ بِالْقَوْلِ ، فَأَمَّا بَيَانُهُ بِالْوَطْءِ وَهُوَ أَنْ يَطَأَ إِحْدَاهُمَا ، فَلَا يَكُونُ وَطْئُهُ بَيَانًا لِزَوْجَتِهِ الْمَوْطُوءَةِ ، وَلِتَعْيِينِ الطَّلَاقِ فِي الْأُخْرَى ، فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا كَانَ الْوَطْءُ بَيَانًا كَمَا لَوْ قَالَ : بَاعَ

أَمَتَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ ، ثُمَّ وَطِئَهَا الْبَائِعُ فِي زَمَانِ خِيَارِهِ كَانَ وَطْؤُهُ بَيَانًا لِفَسْخِ الْبَيْعِ ، لِأَنَّهُ لَا يَطَأُ إِلَّا فِي مِلْكٍ ، فَكَذَلِكَ لَا يَطَأُ إِلَّا زَوْجَةً . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إِلَّا بِالْقَوْلِ دُونَ الْفِعْلِ ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ بَيَانُهُ ، وَالْمِلْكُ يَصِحُّ وَيَثْبُتُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فَصَحَّ فَسْخُهُ فِي الْبَيْعِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِالْوَطْءِ مُبَيِّنًا عَنِ الطَّلَاقِ ، سُئِلَ عَنْ بَيَانِ الْمُطَلَّقَةِ قَوْلًا ، فَإِنْ بَيَّنَ الْمُطَلَّقَةَ عَنِ الْمَوْطُوءَةِ صَارَ وَاطِئًا لِزَوْجَتِهِ ، وَكَانَ الطَّلَاقُ وَاقِعًا مِنْ وَقْتِ اللَّفْظِ دُونَ الْبَيَانِ ، وَإِنْ بَيَّنَ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ هِيَ الْمَوْطُوءَةُ صَارَ وَاطِئًا لِأَجْنَبِيَّةٍ ، وَكَانَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، إِنْ عَلِمَ دُونَهَا ، لِأَنَّهَا لَمْ تَعْلَمْ وَعِدَّتُهَا مِنْ وَقْتِ اللَّفْظِ دُونَ الْبَيَانِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَطْءُ فِي زَمَانِ الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَ انْقِضَائِهَا إِذَا كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا ، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا مِنَ الْوَطْءِ إِنْ حُدَّ ، لِأَنَّهُ زِنًا ، وَاعْتَدَّتْ مِنْهُ إِنْ لَمْ يُحَدَّ ، لِأَنَّهُ شِبْهٌ .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ مُبْهَمًا ، لَمْ يُعْتَبَرْ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، وَأَرْسَلَ نِيَّتَهُمَا كَانَ مُخَيَّرًا فِي إِيقَاعِهِ عَلَى أَيَّتِهِمَا شَاءَ وَأَخَذَ بِتَعْيِينِهِ ، فَإِنْ عَيَّنَهُ بِالْقَوْلِ صَحَّ ، فَإِنْ عَيَّنَهُ بِالْوَطْءِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا ، وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَصِحُّ تَعْيِينُهُ كَمَا يَصِحُّ بِهِ فَسْخُ الْمَبِيعَةِ ، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الطَّلَاقِ الْمُعَيَّنِ ، حَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْوَطْءُ فِيهِ بَيَانًا ، وَبَيَانُ الطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ حَيْثُ صَارَ الْوَطْءُ فِيهِ بَيَانًا ، أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَيَّنَ لَا خِيَارَ فِي تَعْيِينِهِ ، فَلَمْ يَكُنِ اخْتِيَارُهُ لِلْوَطْءِ تَعْيِينًا ، وَالطَّلَاقَ الْمُبْهَمَ لَهُ الْخِيَارُ فِي تَعْيِينِهِ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ اخْتِيَارُهُ لِلْوَطْءِ تَعْيِينًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَعْيِينُهُ بِالْوَطْءِ وَإِنْ صَحَّ بِالْوَطْءِ فُسِخَ الْبَيْعُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، فَإِذَا جَعَلْنَا الْوَطْءَ تَعْيِينًا لِلطَّلَاقِ ، كَانَتِ الْمَوْطُوءَةُ زَوْجَةً وَصَارَ الطَّلَاقُ وَاقِعًا عَلَى غَيْرِ الْمَوْطُوءَةِ . وَإِذَا لَمْ نَجْعَلِ الْوَطْءَ تَعْيِينًا لِلطَّلَاقِ ، أُخِذَ بِتَعْيِينِهِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ تَعْيِينُهُ فِي غَيْرِ الْمَوْطُوءَةِ أَوْ يَكُونُ عَلَى خِيَارِهِ فِي تَعْيِينِهِ فِي أَيَّتِهِمَا الْمُطَلَّقَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُهُ تَعْيِينُهُ بِالْقَوْلِ فِي غَيْرِ الْمَوْطُوءَةِ لِيَكُونَ الْوَطْءُ لِزَوْجَتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَلَى خِيَارِهِ فِي تَعْيِينِهِ فِي أَيَّتِهِمَا شَاءَ ، كَمَا لَوْ كَانَ مُخَيَّرًا لَوْ لَمْ يَطَأْ فَعَلَى هَذَا إِنْ عَيَّنَهُ فِي غَيْرِ الْمَوْطُوءَةِ تَعَيَّنَ فِيهَا ، وَكَانَتِ الْمَوْطُوءَةُ زَوْجَتَهُ ، وَإِنْ عَيَّنَهُ فِي الْمَوْطُوءَةِ تَعَيَّنَ فِيهَا ، وَهَلْ يَكُونُ الطَّلَاقُ وَاقِعًا بِهَذَا التَّعْيِينِ ، أَوْ يَكُونُ وَاقِعًا بِاللَّفْظِ الْمُقَدَّمِ : عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ فِي التَّعْيِينِ وَتَكُونُ الْمُعَيَّنَةُ قَبْلَ التَّعْيِينِ وَبَعْدَ التَّلَفُّظِ بِالطَّلَاقِ زَوْجَتَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِاللَّفْظِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَأَنَّ الْوَطْءَ صَادَفَهَا وَهِيَ غَيْرُ زَوْجَةٍ ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ بِحَالٍ ، لِأَنَّهَا كَانَتْ جَارِيَةً فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ لِتَخْيِيرِهِ تَعْيِينَ الطَّلَاقِ فِي غَيْرِهَا ، فَعَلَى هَذَا إِنْ قِيلَ : إِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِالتَّعْيِينِ الْمُتَأَخِّرِ ، فَالْعِدَّةُ مِنْ وَقْتِ التَّعْيِينِ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِاللَّفْظِ الْمُتَقَدِّمِ فَفِي الْعِدَّةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ الْمُتَقَدِّمِ لَا مِنَ الْعِدَّةِ بِتَعَقُّبِ الطَّلَاقِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْعِدَّةَ مِنْ وَقْتِ التَّعْيِينِ الْمُتَأَخِّرِ ، وَإِنْ تَقَدَّمَ الطَّلَاقُ اعْتِبَارًا بِالتَّغْلِيظِ فِي الْأَمْرَيْنِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ أَخْطَأْتُ بَلْ هِيَ هَذِهِ طُلِّقَتَا مَعًا بِإِقْرَارِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ طَلَّقَ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ وَأَخَذَ بِبَيَانِ الْمُطَلَّقَةِ مِنْهُمَا ، فَقَالَ : هِيَ هَذِهِ لَا بَلْ هَذِهِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُوقِعِ بَيْنَهُمَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مُعَيِّنًا أَوْ مُبْهِمًا ، فَإِنْ كَانَ مُعَيِّنًا فَقَالَ : هَذِهِ لَا بَلْ هَذِهِ طُلِّقَتَا مَعًا ، لِأَنَّ الْبَيَانَ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنَّمَا هُوَ إِقْرَارٌ بِوُقُوعِهِ بِاللَّفْظِ الْمُتَقَدِّمِ ، فَإِذَا قَالَ : بَلْ هَذِهِ صَارَ مُقِرًّا بِطَلَاقِهَا ، فَإِذَا قَالَ : لَا بَلْ هَذِهِ صَارَ مُقِرًّا بِطَلَاقِ الْأُخْرَى رَاجِعًا عَنْ طَلَاقِ الْأُولَى ، فَقُبِلَ إِقْرَارُهُ بِالثَّانِيَةِ وَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ عَنِ الْأُولَى كَمَنْ قَالَ : عَلَيَّ لِزَيْدٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، لَا بَلْ هِيَ عَلَيَّ لِعَمْرٍو ، كَانَ مُقِرًّا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَلْفٍ ، لِأَنَّ رُجُوعَهُ عَنْ زَيْدٍ إِلَى عَمْرٍو يَجْعَلُهُ مُقِرًّا لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو . وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ مُبْهَمًا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا تُطَلَّقَانِ مَعًا كَالطَّلَاقِ الْمُعَيَّنِ وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ : إِنَّ الْبَيَانَ فِي الْمُبْهَمِ يُوجِبُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِاللَّفْظِ دُونَ التَّعْيِينِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُطَلِّقُ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ : إِنَّ الْبَيَانَ فِي الْمُبْهَمِ يُوجِبُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِالتَّعْيِينِ ، وَيَكُونُ الْفَرْقُ عَلَى هَذَا بَيْنَ الْمُعَيَّنِ وَالْمُبْهَمِ ، أَنَّ الْبَيَانَ فِي الْمُعَيَّنِ إِقْرَارٌ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي إِقْرَارًا كَالْأَوَّلِ وَالثَّانِي فِي الْمُبْهَمِ طَلَاقٌ ، وَلَمْ يَكُنِ الثَّانِي طَلَاقًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ، لِأَنَّهُ إِشَارَةٌ وَالطَّلَاقُ لَا يَقَعُ بِمُجَرَّدِ الْإِشَارَةِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لَهُ ثَلَاثُ زَوْجَاتٍ ، وَطَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ طَلَاقًا مُعَيَّنًا ، وَأَخَذَ بِبَيَانِهَا ، فَقَالَ : هِيَ هَذِهِ ، بَلْ هَذِهِ بَلْ هَذِهِ ، طُلِّقْنَ كُلُّهُنَّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ صَارَ مُقِرًّا بِطَلَاقِهِنَّ كُلِّهِنَّ ، فَلَوْ قَالَ : هِيَ هَذِهِ ، أَوْ هَذِهِ أَوْ هَذِهِ ، لَمْ يَكُنْ فِيهِ بَيَانٌ لِطَلَاقِ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ، لِأَنَّهُ

لَمْ يُورِدْ بَيَانًا عَلَى مَا عَلِمْنَاهُ ، فَلَوْ قَالَ : هِيَ هَذِهِ وَهَذِهِ وَهَذِهِ طُلِّقْنَ كُلُّهُنَّ . وَلَوْ قَالَ : هِيَ هَذِهِ أَوْ هَذِهِ أَوْ هَذِهِ ، طُلِّقَتِ الْأُولَى وَأُخِذَ بِبَيَانِ إِحْدَى الْآخِرَتَيْنِ فَيَصِيرُ مُطَلِّقًا لِاثْنَتَيْنِ ، ثُمَّ قِيَاسُ هَذَا فِي الْأَرْبَعِ إِذَا طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ مَاتَتَا أَوْ إِحْدَاهُمَا قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ وَقَفْنَا لَهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِيرَاثَ زَوْجٍ وَإِذَا قَالَ لِإِحْدَاهُمَا هَذِهِ الَّتِي طَلَقْتُ رَدَدْنَا عَلَى أَهْلِهَا مَا وَقَفْنَا لَهُ وَأَحْلَفْنَاهُ لِوَرَثَةِ الْأُخْرَى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا طَلَّقَ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ ثُمَّ لَمْ يُبَيِّنْ حَتَّى مَاتَتْ إِحْدَى الزَّوْجَتَيْنِ ، عُزِلَ مَنْ تَرِكَتِهَا مِيرَاثُ زَوْجٍ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ هِيَ الزَّوْجَةُ ، وَالْأَصْلُ ثُبُوتُ الزَّوْجِيَّةِ ، وَأُخِذَ بِبَيَانِ الْمُطَلَّقَةِ مِنْهُمَا بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا يُؤْخَذُ بِبَيَانِهَا قَبْلَهُ ، سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ مُعَيَّنًا أَوْ مُبْهَمًا ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ فِي الْإِبْهَامِ لِوُقُوعِهِ فِي التَّعْيِينِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمُعَيَّنِ مُخْبِرًا ، فَإِنْ قَالَ : الْمُطَلَّقَةُ هِيَ الْمَيِّتَةُ وَالْبَاقِيَةُ هِيَ الزَّوْجَةُ فَقَدِ انْتَفَتِ التُّهْمَةُ عَنْهُ فِي الْمِيرَاثِ فَرُدَّ عَلَى وَرَثَتِهِ ، وَتَكُونُ الْبَاقِيَةُ زَوْجَةً ، فَإِنْ أُكْذِبَ فِي هَذَا الْبَيَانِ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتَةِ إِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا ، لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ بِهَذَا التَّكْذِيبِ شَيْئًا . فَأَمَّا الزَّوْجَةُ الْبَاقِيَةُ إِذَا أَكْذَبَتْهُ ، وَقَالَتْ : أَنَا الْمُطَلَّقَةُ فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ مُعَيَّنًا فَلَهَا إِحْلَافُهُ ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ مُبْهَمًا فَلَيْسَ لَهَا إِحْلَافُهُ ، لِأَنَّهُ فِي الْمُعَيَّنِ مُخْبِرٌ فَجَازَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى تَكْذِيبِهِ فِي خَبَرِهِ ، وَفِي الْمُبْهَمِ مُخَيَّرٌ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى خِيَارِهِ . فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْمَيِّتَةُ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا ، فَهُوَ وَإِنْ أَسْقَطَ مِيرَاثَهُ مِنْهَا فَقَدْ رَامَ بِمَا أَقَرَّ بِهِ مِنَ الطَّلَاقِ إِسْقَاطَ نِصْفِ مَهْرِهَا فَنَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ نِصْفُ الصَّدَاقِ مِثْلَ الْمِيرَاثِ ، أَوْ أَقَلَّ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ نِصْفُ الصَّدَاقِ أَكْثَرَ كَانَ لِوَرَثَتِهَا إِحْلَافُهُ إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ مُعَيَّنًا ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِحْلَافُهُ إِنْ كَانَ مُبْهَمًا ، فَلَوْ مَاتَتِ الزَّوْجَتَانِ قَبْلَ بَيَانِهِ ، عُزِلَ لَهُ مِنْ تَرِكَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِيرَاثُ زَوْجٍ ، لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ هِيَ الزَّوْجَةَ وَأُخِذَ بِالْبَيَانِ ، فَإِذَا بَيَّنَ طَلَاقَ إِحْدَاهُمَا رُدَّ مَا عُزِلَ مِنْ مِيرَاثِهِ مِنْهَا عَلَى وَرَثَتِهَا ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ مِيرَاثَ الْأُخْرَى ، لِأَنَّهَا زَوْجَةٌ ، فَإِنْ أَكْذَبَهُ الْفَرِيقَانِ كَانَ لِوَرَثَةِ الزَّوْجَةِ مِنْهُمَا إِحْلَافُهُ ، إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ مُعَيَّنًا ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِحْلَافُهُ إِنْ كَانَ مُبْهَمًا . وَلَمْ يَكُنْ لِوِرْثِهِ الْمُطَلَّقَةِ مِنْهُمَا إِحْلَافُهُ إِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا ، وَلَا إِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا ، وَكَانَ نِصْفُ الصَّدَاقِ أَقَلَّ مِنَ الْمِيرَاثِ أَوْ مِثْلَهُ . وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ فَلَهُمْ إِحْلَافُهُ ، إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ مُعَيَّنًا ، وَلَيْسَ لَهُمْ إِحْلَافُهُ إِنْ كَانَ مُبْهَمًا .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ كَانَ هُوَ الْمَيِّتَ وَقَفْنَا لَهُمَا مِيرَاثَ امْرَأَةٍ حَتَّى يَصْطَلِحَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : فِيمَنْ طَلَّقَ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ بَيَانِ الْمُطَلَّقَةِ مِنْهُمَا ، وَجَبَ أَنْ يُعْزَلَ مِنْ تَرِكَتِهِ مِيرَاثُ زَوْجَةٍ مِنْ رُبُعٍ أَوْ ثُمُنٍ ، هَلْ يَقُومُ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ فِي بَيَانِ الْمُطَلَّقَةِ مِنْهُمَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ يَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي الْبَيَانِ ، سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ مُعَيَّنًا أَوْ مُبْهَمًا ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَامُوا مَقَامَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّسَبِ وَالْإِقْرَارِ بِهِ قَامُوا مَقَامَهُ فِي تَعْيِينِ الطَّلَاقِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُمْ لَا يَقُومُونَ مَقَامَهُ فِيهِ ، وَلَا يُرْجَعُ فِي بَيَانِهِ إِلَيْهِمْ ، سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ مُعَيَّنًا أَوْ مُبْهَمًا ، لِأَنَّ فِي بَيَانِهِمْ إِسْقَاطُ وَارِثٍ مُشَارِكٍ ، وَالْوَارِثُ لَا يَمْلِكُ إِسْقَاطَ مَنْ شَارَكَهُ فِي الْمِيرَاثِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُمْ يَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي الطَّلَاقِ الْمُعَيَّنِ ، لِأَنَّهُمْ مُخَيَّرُونَ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُخَيَّرُوا عَنْهُ ، وَلَا يَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي الطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ ، لِأَنَّهُ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى خِيَارِ مَنْ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ ، وَهُمْ لَا يَمْلِكُونَهُ . فَإِذَا قُلْنَا : إِنَّهُ يُرْجَعُ إِلَى بَيَانِهِمْ ، قَامُوا فِيهِ مَقَامَ بَيَانِ الزَّوْجِ ، وَكَانَ الْخَصْمُ فِي الْمِيرَاثِ هُوَ وَارِثَ الزَّوْجِ ، فَإِذَا بَيَّنَ وَأُكْذِبَ فِي الْبَيَانِ ، لَمْ يَحْلِفْ لِلْمُقِرِّ بِزَوَاجِهَا وَحَلَفَ لِلْمُقِرِّ بِطَلَاقِهَا ، إِنْ كَانَ مُعَيَّنًا ، وَلْمِ يَحْلِفْ إِنْ كَانَ مُبْهَمًا ، وَإِذَا قُلْنَا إِنَّهُ لَا يُرْجَعُ إِلَى بَيَانِ الْوَارِثِ لَمْ يَكُنِ الْوَارِثُ خَصْمًا لَهُمَا ، وَوُقِفَ الْمِيرَاثُ بَيْنَ الزَّوْجَتَيْنِ حَتَّى يَتَحَالَفَا عَلَيْهِ ، فَتَأْخُذَهُ الْحَالِفَةُ مِنْهُمَا دُونَ النَّاكِلَةِ أَوْ يَصْطَلِحَانِ عَلَيْهِ فَيَقْتَسِمَانِهِ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا بِهِ ، وَإِلَّا فَهُوَ بَاقٍ عَلَى الْوَقْفِ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَكُونَ مِنْهُمَا أَحَدُ هَذَيْنِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ مَاتَتْ وَاحِدَةٌ قَبْلَهُ ثُمَّ مَاتَ بَعْدَهَا فَقَالَ وَارِثُهُ طَلَّقَ الْأُولَى وَرِثَتِ الْأُخْرَى بِلَا يَمِينٍ وَإِنْ قَالَ طَلَّقَ الْحَيَّةَ فَفِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْمَيِّتِ فَيَحْلِفُ أَنَّ الْحَيَّةَ هِيَ الَتِي طَلَّقَ ثَلَاثًا وَيَأْخُذُ مِيرَاثَهُ مِنَ الْمَيِّتَةِ قَبْلَهُ وَقَدْ يُعْلَمُ ذَلِكَ بِخَبَرِهِ أَوْ بِخَبَرِ غَيْرِهِ مِمَنْ يُصَدِّقُهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ يُوقَفُ لَهُ مِيرَاثُ زَوْجٍ مِنَ الْمِيتَةِ قَبْلَهُ وَلِلْحَيَّةِ مِيرَاثُ امْرَأَةٍ مِنْهُ حَتَّى يَصْطَلِحَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِيمَنْ طَلَّقَ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ ، ثُمَّ مَاتَتْ إِحْدَاهُمَا وَمَاتَ الزَّوْجُ بَعْدَهَا قَبْلَ الْبَيَانِ ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُعْزَلَ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتَةِ قَبْلَهُ مِيرَاثُ زَوْجٍ ، لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْبَاقِيَةُ هِيَ الزَّوْجَةَ وَيُعْزَلُ مِنْ تَرِكَةِ الزَّوْجِ مِيرَاثُ زَوْجَةٍ ، لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْبَاقِيَةُ هِيَ الزَّوْجَةَ ، ثُمَّ يُنْظَرُ مَا يَقُولُهُ وَارِثُ الزَّوْجِ ، فَإِنْ قَالَ مَا يَضُرُّهُ فِي الْأَمْرَيْنِ : بِأَنَّ

الْمُتَوَفَّاةَ قَبْلَهُ مُطَلَّقَةٌ ، فَلَا مِيرَاثَ لَنَا مِنْهَا وَالْبَاقِيَةَ بَعْدَهُ زَوْجَةٌ فَلَهَا الْمِيرَاثُ مَعَنَا ، فَقَدْ بَيَّنَ مَا يَضُرُّهُ ، فَقَوْلُهُ مَقْبُولٌ فِيهِ ، لِأَنَّ مَا يَدَّعِي عَلَيْهِ مِنْ مِيرَاثِ الْبَاقِيَةِ قَدْ صُدِّقَ عَلَيْهِ ، وَمَا يَجُوزُ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ مِنْ مِيرَاثِ الْمَيِّتَةِ قَدْ أَسْقَطَهُ فَلَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِ ، وَإِنْ بَيَّنَ مَا يَنْفَعُهُ فِي الْأَمْرَيْنِ فَقَالَ : الْمَيِّتَةُ هِيَ الزَّوْجَةُ فَلَنَا الْمِيرَاثُ مِنْ تَرِكَتِهَا ، وَالْبَاقِيَةُ هِيَ الْمُطَلَّقَةُ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا مَعَنَا ، فَإِنْ صُدِّقَ عَلَى ذَلِكَ زَالَ النِّزَاعُ ، وَحُمِلَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَ ، فَأُعْطِيَ مِيرَاثَ الْمَيِّتَةِ ، وَمُنِعَ مِنْ مِيرَاثِ الْحَيَّةِ . وَإِنْ أُكْذِبَ عَلَيْهِ وَقَالَ وَارِثُ الْمَيِّتَةِ : هِيَ الْمُطَلَّقَةُ فَلَا مِيرَاثَ لَكُمْ مِنْهَا . وَقَالَتِ الْبَاقِيَةُ : أَنَا الزَّوْجَةُ فَلِيَ الْمِيرَاثُ مَعَكُمْ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ ، نَصَّ عَلَيْهِمَا الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا ، وَتِلْكَ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ بِنَاءً عَلَيْهَا ، وَمَخْرَجُهُ مِنْهَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ : أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بَيَانِ الْوَارِثِ ، فَيَحْلِفُ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتَةِ عَلَى الْعِلْمِ ، لِأَنَّهَا يَمِينٌ عَلَى نَفْيِ طَلَاقِ غَيْرِهِ ، فَيَقُولُ : وَاللَّهِ لَا أَعْلَمُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ، وَيَسْتَحِقُّ مِنْ تَرِكَتِهَا مِيرَاثَ زَوْجٍ ، وَيَحْلِفُ لِلْبَاقِيَةِ عَلَى الْبَتِّ وَالْقَطْعِ ، لِأَنَّهَا يَمِينٌ عَلَى إِثْبَاتِ طَلَاقِهَا فَيَقُولُ : وَاللَّهِ لَقَدْ طَلَّقَهَا وَيَسْقُطُ مِيرَاثَهَا مِنَ الزَّوْجِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إِلَى بَيَانِ الْوَارِثِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ ، وَيَكُونُ مَا عُزِلَ مِنْ مِيرَاثِ الْمَيِّتَةِ مَوْقُوفًا حَتَّى يَصْطَلِحَ عَلَيْهِ وَارِثُهَا وَوَارِثُ الزَّوْجِ . وَمَا عُزِلَ مِنْ مِيرَاثِ الزَّوْجِ مَوْقُوفًا حَتَّى تَصْطَلِحَ عَلَيْهِ الزَّوْجَةُ الْبَاقِيَةُ وَوَارِثُ الزَّوْجِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ مَا يِهْدِمُ الرَّجُلُ مِنَ الطَّلَاقِ

بَابُ مَا يِهْدِمُ الرَّجُلُ مِنَ الطَّلَاقِ مِنْ كِتَابَيْنِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " لَمَّا كَانَتِ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ تُوجِبُ التَّحْرِيمَ كَانَتْ إِصَابَةُ زَوْجٍ غَيْرِهِ تُوجِبُ التَّحْلِيلَ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الطَّلْقَةِ وَلَا فِي الطَّلْقَتَيْنِ مَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ لَمْ يَكُنْ لِإِصَابَةِ زَوْجٍ غَيْرِهِ مَعْنًى يُوجِبُ التَّحْلِيلَ فَنِكَاحُهُ وَتَرْكُهُ سَوَاءٌ وَرَجَعَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى هَذَا وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَمَّنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ اثْنَتَيْنِ فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ فَطَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا وَتَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ قَالَ عُمَرُ هِيَ عِنْدَهُ عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ الطَّلَاقِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْفُرْقَةَ الْوَاقِعَةَ بِالطَّلَاقِ أقسامها تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ أَخَفُّهَا : مَا يَسْتَبِيحُهُ الْمُطَلِّقُ بِالرَّجْعَةِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ ، وَهُوَ مَا دُونَ الثَّلَاثِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا فَيَسْتَبِيحُهَا الزَّوْجُ بِأَنْ يُرَاجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَغْلَظُهُمَا : أَنْ لَا يَسْتَبِيحَهَا الْمُطَلِّقُ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ ، وَهُوَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا ، فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ بِالثَّلَاثِ ، حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَوْسَطُهَا أَنْ يَسْتَبِيحَهَا بَعْدَ نِكَاحٍ بَعْدَ طَلَاقِهِ ، وَلَا يَسْتَبِيحَهَا بِالرَّجْعَةِ ، وَلَا يَفْتَقِرَ إِلَى نِكَاحِ زَوْجٍ ، وَهُوَ مَا دُونَ الثَّلَاثِ مِنْ طَلْقَةٍ أَوْ طَلْقَتَيْنِ إِمَّا فِي غَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا وَإِمَّا فِي مَدْخُولٍ بِهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ، وَإِمَّا فِي مُخْتَلِعَهٍ ، فَإِنْ نَكَحَهَا قَبْلَ زَوْجٍ أَوْ بَعْدَ زَوْجٍ لَمْ يُصِبْهَا حَتَّى طَلَّقَهَا ، فَإِذَا تَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ كَانَتْ مَعَهُ عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ الطَّلَاقِ إِجْمَاعًا ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ وَاحِدَةً بَقِيَتْ مَعَهُ عَلَى اثْنَتَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ اثْنَتَيْنِ بَقِيَتْ مَعَهُ عَلَى وَاحِدَةٍ ، وَإِنْ نَكَحَتْ زَوْجًا وَأَصَابَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا وَعَادَ الْأَوَّلُ بَعْدَ عِدَّتِهَا مِنَ الثَّانِي وَتَزَوَّجَهَا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ وُجُودَ الزَّوْجِ الثَّانِي كَعَدَمِهِ ، وَأَنَّهُ لَا يَرْفَعُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ ، وَإِذَا نَكَحَهَا الْأَوَّلُ بَعْدَهُ كَانَتْ مَعَهُ عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ الطَّلَاقِ ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ وَاحِدَةً بَقِيَتْ مَعَهُ عَلَى اثْنَتَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ اثْنَتَيْنِ بَقِيَتْ عَلَى وَاحِدَةٍ ، فَإِنْ طَلَّقَهَا فِي النِّكَاحِ الثَّانِي وَاحِدَةً حُرِّمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ .

وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ : عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ : مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَزُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَيُوسُفُ : الزَّوْجُ الثَّانِي قَدْ هَدَمَ طَلَاقَ الْأَوَّلِ وَرَفَعَهُ ، فَإِذَا عَادَتْ إِلَى الْأَوَّلِ كَانَتْ مَعَهُ عَلَى ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [ الْبَقَرَةِ : ] . فَاقْتَضَى ظَاهِرُ الْآيَةِ جَوَازَ الرَّجْعَةِ إِذَا طَلَّقَهَا فِي النِّكَاحِ الثَّانِي ، وَاحِدَةً بَعْدَ اثْنَتَيْنِ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ ، وَأَنْتُمْ تَمْنَعُونَ مِنْهَا وَتُحَرِّمُونَهَا إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهَا إِصَابَةُ زَوْجٍ ثَانٍ فَوَجَبَ أَنْ تَهْدِمَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ ، أَصْلُهُ إِذَا كَانَ طَلَاقُ الْأَوَّلِ ثَلَاثًا ، قَالَ : وَلِأَنَّ إِصَابَةَ الثَّانِي لَمَّا قَوِيَتْ عَلَى هَدْمِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ ، كَانَتْ عَلَى هَدْمِ مَا دُونَهَا أَقْوَى ، كَمَنْ قَوِيَ عَلَى حَمْلِ مِائَةِ رِطْلٍ كَانَ عَلَى حَمْلِ رِطْلٍ أَقْوَى ، وَكَالْمَاءِ إِذَا رَفَعَ كَثِيرَ النَّجَاسَةِ كَانَ بِرَفْعِ قَلِيلِهَا أَوْلَى ، وَكَالْغُسْلِ إِذَا رَفَعَ الْجَنَابَةَ ، كَانَ بِرَفْعِ الْحَدَثِ أَوْلَى ، وَكَالْجَنَابَةِ إِذَا نَقَضَتْ طُهْرَ الْبَدَنِ ، كَانَتْ بِنَقْضِ طَهَارَةِ بَعْضِهِ أَوْلَى . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [ الْبَقَرَةِ : ] . فَكَانَ طَلَاقُ مَنْ بَقِيَتْ لَهُ مِنَ الثَّلَاثِ طَلْقَةً لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَهَا إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ ، سَوَاءٌ نَكَحَتْ قَبْلَ طَلَاقِهِ زَوْجًا أَمْ لَا ، فَإِنْ قِيلَ : فَإِنْ كَانَ آخِرُ الْآيَةِ دَلِيلًا لَكُمْ ، كَانَ أَوَّلُهَا عَلَى مَا مَضَى دَلِيلًا لَنَا ، قِيلَ : إِذَا اجْتَمَعَ فِي الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ مَا يُوجِبُ الْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ ، كَانَ تَغْلِيبُ مَا يُوجِبُ الْحَظْرَ عَلَى الْإِبَاحَةِ أَوْلَى . وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهَا إِصَابَةٌ لَمْ تَكُنْ شَرْطًا فِي الْإِبَاحَةِ فَلَمْ تَهْدِمْ مَا تَقَدَّمَ الطَّلَاقَ كَإِصَابَةِ السَّيِّدِ وَالْإِصَابَةِ بِشُبْهَةٍ وَلِأَنَّهُ طَلَّقَهَا قَبْلَ اسْتِكْمَالِ عَدَدِ الطَّلَاقِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الطَّلَاقِ ، وَأَصْلُهُ إِذَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الثَّانِي ، وَلِأَنَّ الِاسْتِبَاحَةَ الْوَاقِعَةَ بَعْدَ الْفُرْقَةِ الْمُسْتَبِيحَةِ عَنْ نِكَاحِ زَوْجٍ ، لَا تَرُدُّهَا إِلَى أَوَّلِ الْعِدَّةِ كَالرَّجْعَةِ ، لِأَنَّهَا طَلْقَةٌ اسْتَكْمَلَ بِهَا عَدَدَ الثَّلَاثِ ، فَوَجَبَ تَحْرِيمُهَا إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ . أَصْلُهُ : إِذَا اسْتَكْمَلَ الثَّلَاثَ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَلِأَنَّ إِصَابَةَ الزَّوْجِ الثَّانِي فِي الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ لَا يَهْدِمُهُ ، وَإِنَّمَا يَرْفَعُ تَحْرِيمَهُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الطَّلَاقَ قَدْ وَقَعَ فَلَمْ يَرْتَفِعْ بَعْدَ وُقُوعِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوِ ارْتَفَعَ لَاسْتَبَاحَهَا بِغَيْرِ عَقْدٍ ، وَإِذَا أَثَّرَتْ فِي رَفْعِ التَّحْرِيمِ فِي الثَّلَاثِ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ تَحْرِيمٌ لَمْ يَكُنْ لِلْإِصَابَةِ فِيهَا تَأْثِيرٌ . وَلِأَنَّنَا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ الثَّانِيَ يُبْنَى عَلَى الْأَوَّلِ فِي الْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ ، قَبْلَ زَوْجٍ وَبَعْدَهُ فَكَذَلِكَ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَقَدْ مَضَى .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110