كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ تَغْلِيظَ الْيَمِينِ بِمَا يُضَافُ إِلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي يَنْفَرِدُ بِهَا وَتَعْظُمُ فِي النُّفُوسِ التَّلَفُّظُ بِهَا مَأْمُورٌ بِهِ ، وَمَنْدُوبٌ إِلَيْهِ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِتَبَايُنِ مَا قَدْ أَلِفَهُ الْإِنْسَانُ مِنْ أَيْمَانِهِ بِاللَّهِ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ ، فَيَكُونُ أَزْجَرَ وَأَرْدَعَ . وَالثَّانِي : لِيَنْتَفِيَ بِهَا تَأْوِيلُ ذَوِي الشُّبُهَاتِ ، فَإِنْ حَذَفَهَا الْحَاكِمُ وَاقْتَصَرَ عَلَى إِحْلَافِهِ بِاللَّهِ ، أَجْزَأَهُ . وَحَذْفُهَا فِي أَهْلِ الدِّيَانَةِ أَيْسَرُ مِنْ حَذْفِهَا فِي ذَوِي الشُّبُهَاتِ ، وَإِنْ كَانَ جَوَازُ حَذْفِهَا فِي الْفَرِيقَيْنِ عَلَى سَوَاءٍ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ [ الْمَائِدَةِ : 106 ] ، وَقَوْلِهِ : فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ [ النُّورِ : 6 ] ، وَأَحْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فِي قَتْلِهِ لِأَبِي جَهْلٍ : بِاللَّهِ إِنَّكَ قَتَلْتَهُ ، وَأَحْلَفَ رُكَانَةَ بِاللَّهِ فِي طَلَاقِ امْرَأَتِهِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

بَابُ دَعْوَى الدَّمِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ قَسَامَةٌ

مَسْأَلَةٌ إِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مَحَلَّةِ قَوْمٍ يُخَالِطُهُمْ غَيْرُهُمْ أَوْ فِي صَحْرَاءَ أَوْ مَسْجِدٍ

بَابُ دَعْوَى الدَّمِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ قَسَامَةٌ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مَحَلَّةِ قَوْمٍ يُخَالِطُهُمْ غَيْرُهُمْ أَوْ فِي صَحْرَاءَ أَوْ مَسْجِدٍ أَوْ سُوقٍ فَلَا قَسَامَةَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ وُجُودَ الْقَتِيلِ فِي مَحَلَّةٍ لَا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ عَلَى أَهْلِهَا ، أَوْ بَعْضِهِمْ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ مُخْتَصَّةً بِأَهْلِهَا ، مِثْلَ خَيْبَرَ لَا يَخْتَلِطُ بِهِمْ غَيْرُهُمْ وَلَا يُشْرِكُهُمْ فِيهَا سِوَاهُمْ . فَيَجُوزُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى مَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ قَتْلَهُ مِنْهُمْ ، سَوَاءٌ قَلُّوا أَوْ كَثُرُوا ، إِذَا أَمْكَنَ أَنْ يَشْتَرِكُوا فِي قَتْلِ الْوَاحِدِ ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَشْتَرِكُوا فِيهِ مُنِعَ مِنَ الْقَسَامَةِ عَلَى جَمِيعِهِمْ . وَقِيلَ لَهُ : خُصَّ بِالدَّعْوَى مَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ ، ثُمَّ أَقْسِمْ . فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْمَحَلَّةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ أَهْلِهَا وَغَيْرِهِمْ ، تَطْرُقُهَا الْمَارَّةُ وَتَدْخُلُهَا السَّابِلَةُ ، فَلَا قَسَامَةَ فِيهَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِهَا ، وَلَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا . فَلَوْ كَانَتْ قَرْيَةً يَدْخُلُهَا غَيْرُ أَهْلِهَا عِنْدَ وُرُودِ الْقَوَافِلِ ، وَلَا يَدْخُلُهَا غَيْرُهُمْ إِذَا انْقَطَعَتِ الْقَوَافِلُ عَنْهُمْ ، جَازَتِ الْقَسَامَةُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْقَوَافِلِ ، وَلَمْ تَجِبِ الْقَسَامَةُ مَعَ وُرُودِ الْقَوَافِلِ ، فَهَذَا شَرْطٌ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : ظُهُورُ الْعَدَاوَةِ بَيْنَ الْقَتِيلِ وَأَهْلِ الْمَحَلَّةِ أَوِ الْقَرْيَةِ ، أَوْ ظُهُورُ الْعَدَاوَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْقَتِيلِ وَأَهْلِ الْقَرْيَةِ ، فَتَجُوزُ الْقَسَامَةُ مَعَ ظُهُورِ الْعَدَاوَةِ ، وَلَا تَجُوزُ مَعَ ارْتِفَاعِ الْعَدَاوَةِ . فَإِنِ اصْطَلَحُوا بَعْدَ الْعَدَاوَةِ ، ثُمَّ وُجِدَ الْقَتِيلُ فِيهِمْ ، نُظِرَ حَالُ الصُّلْحِ ، فَإِنْ تَظَاهَرُوا بِالْحُسْنَى بَعْدَ الصُّلْحِ فَلَا قَسَامَةَ ، وَإِنْ لَمْ يَتَظَاهَرُوا بِالصُّلْحِ أَقْسَمَ . كَالشَّاهِدِ إِذَا صَالَحَ عَدُوَّهُ ، ثُمَّ شَهِدَ عَلَيْهِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ بَعْدَ الصُّلْحِ إِذَا رَأَى مَا بَيْنَهُمَا حَسَنًا ، وَلَا تُقْبَلُ إِنْ لَمْ يُرَ مَا بَيْنَهُمَا حَسَنًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنِ ادَّعَى وَلِيُّهُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لَمْ يَحْلِفْ إِلَّا مَنْ أَثْبَتُوهُ بِعَيْنِهِ ، وَإِنْ كَانُوا أَلْفًا فَيَحْلِفُونَ يَمِينًا يَمِينًا : لِأَنَّهُمْ يَزِيدُونَ عَلَى خَمْسِينَ

فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا وَاحِدٌ حَلَفَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَبَرِئَ . فَإِنْ نَكَلُوا حَلَفَ وُلَاةُ الدَّمِ خَمْسِينَ يَمِينًا ، وَاسْتَحَقُّوا الدِّيَةَ فِي أَمْوَالِهِمْ إِنْ كَانَ عَمْدًا وَعَلَى عَوَاقِلِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ إِنْ كَانَ خَطَأً . ( قَالَ ) : وَفِي دِيَاتِ الْعَمْدِ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي شُرُوطِ الْقَسَامَةِ . فَأَمَّا دَعْوَى الدِّمَاءِ فِي غَيْرِ الْقَسَامَةِ فَمُعْتَبَرَةٌ بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ عَلَى مُعَيَّنٍ ، فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنِ الْقَاتِلَ وَادَّعَى قَتْلَهُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لَمْ يُسْمَعْ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ تُعَيَّنَ عَلَى عَدَدٍ يُمْكِنُ اشْتِرَاكُهُمْ فِي الْقَتْلِ ، فَإِنْ عَيَّنَ عَلَى عَدَدٍ لَا يُمْكِنُ اشْتِرَاكُهُمْ لَمْ يُسْمَعْ ، فَإِذَا عَيَّنَهَا عَلَى مَنْ يُمْكِنُ اشْتِرَاكُهُمْ فِيهِ حَلَفُوا وَبَرِئُوا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا اعْتِبَارَ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ قَتْلَهُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنِينَ وَعَلَى مَنْ لَا يُمْكِنُ اشْتِرَاكُهُمْ فِيهِ ، فَإِذَا ادَّعَى قَتْلَهُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ مَحَلَّةٍ أَوْ قَرْيَةٍ اخْتَارَ مِنْهُمْ خَمْسِينَ رَجُلًا وَأَحْلَفَهُمْ ، فَإِذَا حَلَفُوا أَوْجَبَ الدِّيَةَ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ ، فَخَالَفَ أُصُولَ الشَّرْعِ فِي خَمْسَةِ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : سَمَاعُ الدَّعْوَى عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ . وَالثَّانِي : سَمَاعُهَا عَلَى مَنْ لَا يَصِحُّ مِنْهُمُ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ جَعَلَ لِلْمُدَّعِي اخْتِيَارَ خَمْسِينَ مِمَّنْ شَاءَ مِنْهُمْ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُمْ غَيْرُ قَتَلَةٍ . وَالرَّابِعُ : إِحْلَافُهُمْ وَإِنْ عَلِمَ صِدْقَهُمْ . وَالْخَامِسُ : إِلْزَامُهُمُ الدِّيَةَ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ، وَكَفَى بِمُخَالَفَةِ الْأُصُولِ فِيهَا دَفْعًا لِقَوْلِهِ . وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى فَسَادِ كُلِّ أَصْلٍ مِنْهَا مَا أَقْنَعَ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا وَسُمِعَتِ الدَّعْوَى عَلَى مَا وَصَفْنَا ، وَكَانَتْ عَلَى جَمَاعَةٍ ، فَفِي قَدْرِ مَا يَلْزَمُهُمْ مِنَ الْأَيْمَانِ في القسامة ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ ذَكَرْنَاهَا : أَحَدُهَا : يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسِينَ يَمِينًا ، وَلَوْ كَانُوا أَلْفًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَحْلِفُ جَمِيعُهُمْ خَمْسِينَ يَمِينًا ، تُقَسَّطُ عَلَى أَعْدَادِهِمْ . وَالثَّالِثُ : يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَمِينًا وَاحِدَةً ، وَلَوْ كَانَ وَاحِدًا . وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا جَعَلَ الشَّافِعِيُّ إِمْكَانَ اشْتِرَاكِهِمْ فِي الْقَتْلِ شَرْطَ سَمَاعِ الدَّعْوَى عَلَيْهِمْ ، فَكَيْفَ قَالَ : يَحْلِفُونَ ، وَلَوْ كَانُوا أَلْفًا ، لَا يَصِحُّ اشْتِرَاكُ الْأَلْفِ فِي قَتْلِ

الْوَاحِدِ . قِيلَ : لِأَنَّ الْعَدَدَ الَّذِي يُمْكِنُ اشْتِرَاكُهُ فِي الْقَتْلِ يَخْتَلِفُ حَسَبَ اخْتِلَافِ الْقَتْلِ ، فَإِنْ كَانَ ذَبْحًا أَوْ قَطْعًا أَوْ بِضَرْبِ الْعُنُقِ ، لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ أَلْفٌ وَلَا مِائَةٌ وَلَا خَمْسُونَ . وَإِنْ كَانَ بِجِرَاحٍ أُمْكِنَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ مِائَةٌ وَمِائَتَانِ ، وَإِنْ كَانَ بِالْعَصَا أَمْكَنَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ أَلْفٌ ، فَيَضْرِبُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَصًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَوْهُ بِالْبُنْدُقِ أَمْكَنَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ أَلْفٌ فَيَرْمِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِبُنْدُقَةٍ ، فَإِنْ حُمِلَ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ عَلَى هَذَا كَانَ مُمْكِنًا ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى غَيْرِهِ كَانَ مُبَالَغَةً .

مَسْأَلَةٌ لْمَحْجُورُ عَلَيْهِ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ : لِأَنَّ إِقْرَارَهُ بِالْجِنَايَةِ يَلْزَمُهُ فِي مَالِهِ ، وَالْجِنَايَةُ خِلَافُ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : يُرِيدُ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ ، وَالْحُكْمُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : فِي الدَّعْوَى . تُسْمَعُ مِنْهُ الدَّعْوَى فِي الْقَتْلِ كَمَا تُسْمَعُ مِنَ الرَّشِيدِ : لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ مَوْضُوعٌ لِحِفْظِ مَالِهِ ، وَدَعْوَاهُ أَحْفَظُ لِمَالِهِ ، سَوَاءٌ ادَّعَى قَتْلَ عَمْدٍ أَوْ خَطَأٍ وهو محجور عليه فِي قَسَامَةٍ وَغَيْرِ قَسَامَةٍ . وَالثَّانِي : سَمَاعُ الدَّعْوَى عَلَيْهِ . فَيَسْمَعُهَا فِي الْعَمْدِ ، وَفِي سَمَاعِهَا فِي الْخَطَأِ قَوْلَانِ . وَالثَّالِثُ : إِقْرَارُهُ بِالْقَتْلِ ، فَإِنْ كَانَ بِعَمْدٍ صَحَّ إِقْرَارُهُ فِيهِ ، وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ إِنْ عُفِيَ عَنِ الْقَوَدِ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ بِخَطَأٍ مَحْضٍ فَفِي صِحَّةِ إِقْرَارِهِ بِهِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى . وَالرَّابِعُ : إِحْلَافُهُ ، فَتَصِحُّ أَيْمَانُهُ سَوَاءٌ حَلَفَ مُدَّعِيًا فِي الْقَسَامَةِ ، أَوْ حَلَفَ مُنْكِرًا فِي غَيْرِ الْقَسَامَةِ ، لِمَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ ، وَبِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ ، إِلَّا فِي إِقْرَارِهِ بِجِنَايَةٍ لَا قِصَاصَ فِيهَا ، فَإِنَّهُ لَا يُبَاعُ فِيهَا : لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَالِ غَيْرِهِ ، فَمَتَى عَتَقَ لَزِمَهُ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : فَكَمَا لَمْ يَضُرَّ سَيِّدَهُ إِقْرَارُهُ بِمَا يُوجِبُ الْمَالَ ، فَكَذَلِكَ لَا يَضُرُّ عَاقِلَةَ الْحُرِّ قَوْلُهُ بِمَا يُوجِبُ عَلَيْهِمُ الْمَالَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا كَانَتْ دَعْوَى الْقَتْلِ عَلَى عَبْدٍ ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ فِي عَمْدٍ يُوجِبُ الْقَوَدَ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ فِي خَطَأٍ يُوجِبُ الْمَالَ ، فَإِنْ كَانَتْ فِي عَمْدٍ يُوجِبُ الْقَوَدَ ، فَهِيَ

مَسْمُوعَةٌ عَلَى الْعَبْدِ دُونَ سَيِّدِهِ : لِأَنَّ إِقْرَارَ الْعَبْدِ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ مَقْبُولٌ : لِارْتِفَاعِ التُّهْمَةِ عَنْهُ ، وَإِقْرَارُ السَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ . فَإِنِ اعْتَرَفَ الْعَبْدُ بِهَا اقْتُصَّ مِنْهُ ، فَإِنْ عُفِيَ عَنِ الْقِصَاصِ بِيعَ فِي جِنَايَتِهِ ، إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ سَيِّدُهُ . وَإِنْ كَانَتْ دَعْوَى الْقَتْلِ فِي خَطَأٍ يُوجِبُ الْمَالَ ، فَيَجُوزُ سَمَاعُهَا عَلَى الْعَبْدِ وَعَلَى سَيِّدِهِ ، أَمَّا الْعَبْدُ فَلِتَعَلُّقِهَا إِنْ أَقَرَّ بِذِمَّتِهِ وَأَدَائِهِ لَهَا بَعْدَ عِتْقِهِ ، وَأَمَّا السَّيِّدُ فَلِأَنَّهَا - إِنْ أَقَرَّ - مُسْتَحَقَّةٌ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، فَإِنْ سُمِعَتْ عَلَى الْعَبْدِ فَأَنْكَرَهَا حَلَفَ وَبَرِئَ ، وَجَازَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الدَّعْوَى عَلَى سَيِّدِهِ بَعْدَ إِنْكَارِ عَبْدِهِ وَيَمِينِهِ ، فَإِنِ اعْتَرَفَ بِهَا تَعَلَّقَتْ بِرَقَبَةِ عَبْدِهِ ، وَإِنْ أَنْكَرَهَا حَلَفَ وَبَرِئَ . وَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَهَا تَعَلَّقَتْ بِذِمَّتِهِ دُونَ رَقَبَتِهِ ، إِلَّا أَنْ يَصْدُقَهُ السَّيِّدُ عَلَيْهَا فَتَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ ، إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ السَّيِّدُ مِنْهَا ، وَلَوْ قُدِّمَتِ الدَّعْوَى عَلَى السَّيِّدِ ، فَإِنِ اعْتَرَفَ تَعَلَّقَتْ بِرَقَبَةِ عَبْدِهِ ، إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ السَّيِّدُ مِنْهَا . وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَبْدُ فِيهَا مُقِرًّا أَوْ مُنْكِرًا ، وَإِنْ أَنْكَرَهَا السَّيِّدُ حَلَفَ وَبَرِئَ ، وَجَازَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الدَّعْوَى عَلَى الْعَبْدِ . فَإِنْ أَنْكَرَهَا حَلَفَ وَبَرِئَ ، وَإِنِ اعْتَرَفَ بِهَا تَعَلَّقَتْ بِذِمَّتِهِ ، يُؤَدِّيهَا بَعْدَ عِتْقِهِ وَيَسَارِهِ . فَلَوْ أَنْكَرَهَا الْعَبْدُ وَنَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ فِيهَا ، فَرُدَّتْ عَلَى الْمُدَّعِي وَحَلَفَ ، ثَبَتَتْ لَهُ الْجِنَايَةُ بِيَمِينِهِ بَعْدَ النُّكُولِ ، وَهَلْ تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ أَوْ بِذِمَّتِهِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي يَمِينِ الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، هَلْ تَقُومُ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ أَوْ مَقَامَ الْإِقْرَارِ ؟ فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ تَعَلَّقَتْ بِرَقَبَتِهِ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ الْإِقْرَارِ تَعَلَّقَتْ بِذِمَّتِهِ . فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ : كَمَا لَا يَضُرُّ سَيِّدَهُ إِقْرَارُهُ بِمَا يُوجِبُ الْمَالَ ، فَكَذَلِكَ لَا يَضُرُّ عَاقِلَةَ الْحُرِّ . قَوْلُهُ هَذَا صَحِيحٌ : لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَتَحَمَّلُ اعْتِرَافَ الْجَانِي ، كَمَا لَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ إِقْرَارُ عَبْدِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ سَكْرَانَ لَمْ يَحْلِفْ حَتَّى يَصْحُوَ أيمان القسامة . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : هَذَا يَدُلُّ عَلَى إِبْطَالِ طَلَاقِ السَّكْرَانِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَلَا يُمَيِّزُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا تَوَجَّهَتِ الْيَمِينُ عَلَى سَكْرَانَ لَمْ يَحْلِفْ فِي حَالِ سُكْرِهِ حَتَّى يَصْحُوَ ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ رُبَّمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ بِالسُّكْرِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْيَمِينَ مَوْضُوعَةٌ لِلزَّجْرِ ، وَالسَّكْرَانُ يُقْدِمُ فِي سُكْرِهِ عَلَى مَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ عِنْدَ إِفَاقَتِهِ .

وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الِامْتِنَاعِ مِنِ اسْتِحْلَافِهِ ، هَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ أَوْ وَاجِبٌ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ ، فَإِنْ أُحْلِفَ فِي حَالِ سُكْرِهِ أَجْزَأَ : لِأَنَّنَا نُجْرِي عَلَيْهِ فِي السُّكْرِ أَحْكَامَ الْمُفِيقِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ وَاجِبٌ ، وَأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ فِي حَالِ سُكْرِهِ لَمْ يُجْزِهِ ، لِمَا قَدَّمَنَا مِنْ وَضْعِ الْيَمِينِ لِلزَّجْرِ ، وَسُكْرُهُ يَصُدُّ عَنِ الِانْزِجَارِ . وَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ جَعَلَ مَنْعَ الشَّافِعِيِّ مِنِ اسْتِحْلَافِهِ فِي السُّكْرِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ طَلَاقَ السَّكْرَانِ لَا يَقَعُ ، فَيَلْزَمُهُ حُكْمُ الشَّافِعِيِّ بِوُقُوعِ طَلَاقِهِ وَصِحَّةِ ظِهَارِهِ وَثُبُوتِ رِدَّتِهِ ، وَمُنِعَ مِنْ إِحْلَافِهِ وَاسْتِتَابَتِهِ مِنْ رِدَّتِهِ حَتَّى يُفِيقَ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ فِي جَمِيعِهَا أَحْكَامُ الصَّاحِي فِيمَا لَهُ وَفِيمَا عَلَيْهِ مِمَّا ضَرَّهُ أَوْ نَفَعَهُ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَيَحْمِلُ مَنْعَهُ مِنْ إِحْلَافِهِ وَاسْتِتَابَتِهِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْوُجُوبِ ، وَأَنَّهُ إِنْ حَلَفَ وَتَابَ صَحَّتْ أَيْمَانُهُ وَتَوْبَتُهُ كَالْمُفِيقِ . فَعَلَى هَذَا : لَا دَلِيلَ لِلْمُزَنِيِّ فِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الصَّاحِي فِيمَا عَلَيْهِ مِمَّا يَضُرُّهُ ، وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الصَّاحِي فِيمَا لَهُ مِمَّا يَنْفَعُهُ : لِأَنَّ السُّكْرَ مَعْصِيَةٌ تُوجِبُ التَّغْلِيظَ ، فَاخْتُصَّ بِلُزُومِ أَغْلَظِ الْحُكْمَيْنِ وَسُقُوطِ أَخَفِّهِمَا . فَعَلَى هَذَا : لَا دَلِيلَ لِلْمُزَنِيِّ فِيهِ : لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ تَغْلِيظٌ ، وَصِحَّةُ الْأَيْمَانِ تَخْفِيفٌ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَقَدْ قِيلَ : لَا يَبْرَأُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ إِلَّا بِخَمْسِينَ يَمِينًا في القسامة ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، وَلَا يُحْتَسَبُ لَهُمْ يَمِينٌ غَيْرُهُ ، وَهَكَذَا الدَّعْوَى فِيمَا دُونَ النَّفْسِ . وَقِيلَ : يَلْزَمُهُ مِنَ الْأَيْمَانِ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ ، فِي الْيَدِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ، وَفِي الْمُوضِحَةِ ثَلَاثَةُ أَيْمَانَ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَقَدْ قَالَ فِي أَوَّلِ بَابٍ مِنَ الْقَسَامَةِ : وَلَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ فِي دُونِ النَّفْسِ . وَهَذَا عِنْدِي أَوْلَى بِقَوْلِ الْعُلَمَاءِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى تَغْلِيظُ الْأَيْمَانِ فِي الْقَسَامَةِ ، فَأَمَّا تَغْلِيظُهَا فِي غَيْرِ الْقَسَامَةِ مِنَ الدِّمَاءِ ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : تَغْلِيظٌ فِي النَّفْسِ وَفِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ فِيهَا بِالْقَسَامَةِ تَغْلِيظًا لِحُكْمِ الدِّمَاءِ ، وَفِي كَيْفِيَّةِ تَغْلِيظِهَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَقَاوِيلِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا تُغَلَّظُ فِي النَّفْسِ وَلَا فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إِذَا سَقَطَتِ الْقَسَّامَةُ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الدَّعَاوَى ، وَالْمُسْتَحَقُّ فِيهَا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ .

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهَا مُغَلَّظَةٌ فِي النَّفْسِ ، وَلَا تُغَلَّظُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ : لِاخْتِصَاصِ النَّفْسِ بِتَغْلِيظِ الْكَفَّارَةِ وَسُقُوطِهَا فِيمَا دُونَ النَّفْسِ . فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ : لَا قَسَامَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ . وَقَالَ : هَا هُنَا تُغَلَّظُ الْأَيْمَانُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، وَهِمَ وَظَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ اخْتَلَفَ فِي الْقَسَامَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، وَهَذَا زَلَلٌ ذَمِيمٌ فِيهِ : لِأَنَّ قَوْلَهُ لَمْ يَخْتَلِفْ أَنَّهُ لَا قَسَامَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي تَغْلِيظِ الْأَيْمَانِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، وَهُمَا مَسْأَلَتَانِ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِي إِحْدَاهُمَا ، وَاخْتَلَفَ فِي الْأُخْرَى . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ

الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ

بَابُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ [ النِّسَاءِ : 92 ] . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ لِلْمَقْتُولِ ، وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ عَلَى الْقَاتِلِ . وَجُمْلَةُ الْقَتْلِ تَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : وَاجِبٌ ، مُبَاحٌ ، وَمَحْظُورٌ يَأْثَمُ بِهِ ، وَمَحْظُورٌ لَا يَأْثَمُ بِهِ . فَأَمَّا الْوَاجِبُ : فَالْقَتْلُ بِالرِّدَّةِ وَالزِّنَى وَالْحِرَابَةِ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ . وَأَمَّا الْمُبَاحُ فَالْقِصَاصُ ، وَدَفْعُ الطَّالِبِ لِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ ، وَهُوَ فِي حُكْمِ الْوَاجِبِ فِي سُقُوطِ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ . وَأَمَّا الْمَحْظُورُ الَّذِي يَأْثَمُ بِهِ فَهُوَ قَتْلُ الْعَمْدِ بِغَيْرِ حَقٍّ . وَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ : الْقِصَاصُ مَعَ التَّكَافُؤِ ، وَالدِّيَةُ عِنْدَ الْعَفْوِ ، وَالْكَفَّارَةُ عَنِ الْقَتْلِ ، وَالْوَعِيدُ فِي الْمَأْثَمِ . وَأَمَّا الْمَحْظُورُ الَّذِي لَا يَأْثَمُ بِهِ فَهُوَ قَتْلُ الْخَطَأِ ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمَانِ : الدِّيَةُ ، وَالْكَفَّارَةُ . وَقَدْ تَضَمَّنَتْهُمَا الْآيَةُ . وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقِصَاصُ وَالْمَأْثَمُ ، فَيَصِيرُ مُوَافِقًا لِلْعَمْدِ فِي حُكْمَيْنِ ، وَمُخَالِفًا لَهُ فِي حُكْمَيْنِ . وَإِذَا كَانَتْ أَقْسَامُ الْقَتْلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، فَالْكَفَّارَةُ فِيهِ وَاجِبَةٌ عَنْ كُلِّ قَتْلٍ لِمَضْمُونٍ فِي كُلِّ قَتِيلٍ مَضْمُونٍ عَلَى كُلِّ قَاتِلٍ ضَامِنٍ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْقَتْلُ الْمَضْمُونُ فَعَمْدٌ وَخَطَأٌ ، فَالْعَمْدُ يَأْتِي فِي خِلَافٍ نَذْكُرُهُ ، وَالْخَطَأُ مُتَّفَقٌ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَتْلُ الْخَطَأِ بِمُبَاشَرَةٍ أَوْ بِسَبَبٍ كفارته ، وَالْمُبَاشَرَةُ : أَنْ يَرْمِيَ هَدَفًا فَيُصِيبَ إِنْسَانًا فَيَقْتُلَهُ . وَالسَّبَبُ : أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي أَرْضٍ لَا يَمْلِكُهَا ، فَيَقَعَ فِيهَا إِنْسَانٌ فَيَمُوتَ ، أَوْ يَضَعَ حَجَرًا فِي طَرِيقِ سَائِرٍ ، فَيَعْثُرَ بِهِ إِنْسَانٌ فَيَمُوتَ ، أَوْ يَرُشَّ مَاءً فِي الطَّرِيقِ ، فَيَزْلِقَ بِهِ فَيَمُوتَ . إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي ضَمَانِ النَّفْسِ التَّالِفَةِ ، فَيَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَجِبُ فِي قَتْلِ الْمُبَاشَرَةِ الدِّيَةُ مِعِ الْكَفَّارَةِ ، وَتَجِبُ فِي قَتْلِ السَّبَبِ الدِّيَةُ دُونَ الْكَفَّارَةِ : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ كُلَّ مَنْ ضَمِنَ نَفْسًا عَنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ

الْكَفَّارَةُ كَالْعَاقِلَةِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَجِبْ فِي جِنْسِهِ قَوَدٌ لَمْ يَجِبْ فِي جِنْسِهِ كَفَّارَةٌ كَالْإِمْسَاكِ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّهُ قَتْلٌ يُضْمَنُ بِالدِّيَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُضْمَنُ بِالْكَفَّارَةِ ، كَالْمُبَاشَرَةِ . فَإِنْ مَنَعُوا أَنْ يَكُونَ مَقْتُولًا ، احْتُجَّ عَلَيْهِمْ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ : لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ دِيَةُ النَّفْسِ ، وَلَا يَكُونُ مُتْلِفًا لِلنَّفْسِ إِذْ لَا يَلْزَمُ دِيَةٌ إِلَّا فِي قَتْلٍ عَنْ مَقْتُولٍ ، وَلِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ تَلْزَمُ بِمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ ، فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَ بِسَبَبِ الْقَتْلِ كَجَزَاءِ الصَّيْدِ ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ أَوْكَدُ مِنَ الدِّيَةِ ، فَلَمَّا وَجَبَتِ الدِّيَةُ كَانَ أَوْلَى أَنْ تَجِبَ الْكَفَّارَةُ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّ الْعَاقِلَةَ تَلْتَزِمُ الدِّيَةَ تَحَمُّلًا وَنِيَابَةً ، وَالْكَفَّارَةُ لَا يَدْخُلُهَا التَّحَمُّلُ وَلَا النِّيَابَةُ ؛ وَلِذَلِكَ تَحَمَّلَتِ الْعَاقِلَةُ دِيَةَ الْخَطَأِ ، وَلَمْ تَتَحَمَّلْ كَفَّارَتَهُ وَإِنْ لَزِمَتْهُ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْإِمْسَاكِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّ الْإِمْسَاكَ لَمَّا لَمْ يُوجِبْ ضَمَانَ الدِّيَةِ لَمْ يُوجِبْ ضَمَانَ الْكَفَّارَةِ ، وَلَمَّا أَوْجَبَ السَّبَبُ ضَمَانَ الدِّيَةِ أَوْجَبَ ضَمَانَ الْكَفَّارَةِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَقْتُولُ الْمَضْمُونُ : فَكُلُّ مَنْ ضُمِنَتْ نَفْسُهُ بِالْقَصَاصِ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَمُسْلِمٍ وَكَافِرٍ وَحُرٍّ وَعَبْدٍ ، وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ بِقَتْلِهِ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ إِلَّا بِقَتْلِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ ، وَلَا تَجِبْ بِقَتْلِ عَبْدٍ وَلَا كَافِرٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَجِبُ بِقَتْلِ الْعَبْدِ وَلَا تَجِبُ بِقَتْلِ الْكَافِرِ : احْتِجَاجًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ [ النِّسَاءِ : 92 ] ، فَجَعَلَ الْإِيمَانَ شَرْطًا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ في القتل ، فَلَمْ تَجِبْ مَعَ عَدَمِ الشَّرْطِ ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مُخْتَصَّةٌ بِأَغْلَظِ الْحُرُمَاتِ ، وَكَذَلِكَ وَجَبَتْ فِي النَّفْسِ دُونَ الْأَطْرَافِ . وَأَطْرَافُ الْمُسْلِمِ أَغْلَظُ مِنْ نَفْسِ الْكَافِرِ فَكَانَتْ أَوْلَى بِسُقُوطِ الْكَفَّارَةِ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [ النِّسَاءِ : 92 ] ، فَأَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الدِّيَةَ مَعَ الْكَفَّارَةِ فِي قَتْلِ الْمُعَاهِدِ ، كَمَا أَوْجِبَهَا فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ ، فَكَانَ أَوَّلُ الْآيَةِ فِي الْمُسْلِمِ وَآخِرُهَا فِي الْكَافِرِ : وَلِأَنَّهَا نَفْسٌ مَضْمُونَةٌ بِالدِّيَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ تُضْمَنَ بِالْكَفَّارَةِ كَالْمُسْلِمِ . وَمَا ادَّعَاهُ مِنْ ضَعْفِ حُرْمَتِهِ فَرَاجِعٌ عَلَيْهِ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ . ثُمَّ يُقَالُ : قَدْ أَثْبَتَتِ الذِّمَّةُ لَهُ حُرْمَةً فَلَا يُسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ عَدِمِهَا فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ ، كَمَا لَمْ يُسَوَّ بَيْنَهُمَا فِي سُقُوطِ الدِّيَةِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقَاتِلُ الضَّامِنُ : فَكُلُّ قَاتِلٍ ضَمِنَ نَفْسَ مَقْتُولٍ ، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ؛ سَوَاءٌ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ، عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا ، مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا ، حُرًّا أَوْ عَبْدًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا كَفَّارَةَ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ بالقتل : احْتِجَاجًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ : عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَنْتَبِهَ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ لَا يَدْخُلُهَا التَّحَمُّلُ ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ، وَلِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ فَلَمْ

تَجِبْ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْأَيْمَانِ ، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْقَاتِلِ لَا يَتَحَمَّلُهُ غَيْرُ الْقَاتِلِ ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ كَالْقِصَاصِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ ، وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَإِنْ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِمَا الْخِطَابُ مُوَاجَهَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ تَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ خِطَابُ الِالْتِزَامِ . وَالْكَفَّارَةُ خِطَابُ الْتِزَامٍ فَتَوَجَّهَ إِلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ كَالدِّيَةِ : وَلِأَنَّهُ قَاتِلٌ ضَامِنٌ فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ كَالْبَالِغِ الْعَاقِلِ ، وَلِأَنَّهُ حَقُّ مَالٍ يَجِبُ بِالْقَتْلِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَالْعَاقِلُ وَالْمَجْنُونُ كَالدِّيَةِ ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ أَوْكَدُ مِنَ الدِّيَةِ : لِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ ، وَعَلَى السَّيِّدِ فِي قَتْلِ عَبْدِهِ ، وَإِنْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمَا الدِّيَةُ ، فَلَمَّا وَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ كَانَ أَوْلَى أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِمَا الْكَفَّارَةُ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ " : فَهُوَ أَنَّ رَفْعَ الْقَلَمِ عَنْهُمْ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ حُكْمِ الْقَتْلِ فِي أَمْوَالِهِمْ ، كَمَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ وُجُوبِ الدِّيَةِ ، وَكَمَا لَا يَمْنَعُ النَّائِمَ إِذَا انْقَلَبَ عَلَى إِنْسَانٍ فَقَتَلَهُ مِنْ وُجُوبِ الدِّيَةِ مَعَ الْكَفَّارَةِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ : فَمُنْتَقَضٌ بِوُجُوبِ الْغُرْمِ ، وَجَزَاءِ الصَّيْدِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ : أَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ عَلَى الْبَدَنِ ، وَالْكَفَّارَةُ حَقٌّ فِي الْمَالِ فَافْتَرَقَا كَمَا افْتَرَقَ الْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ مَعَ انْتِقَاضِهِ بِجَزَاءِ الصَّيْدِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَصِحَّ مِنْهُمَا الْأَيْمَانُ لَمْ يَلْزَمْهُمَا كَفَّارَتُهُمَا ، وَلَمَّا صَحَّ مِنْهُمَا الْقَتْلُ لَزِمَتْهُمَا كَفَّارَتُهُ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْقِصَاصِ ، فَالْمَعْنَى فِي الْقِصَاصِ : أَنَّهُ حَقٌّ عَلَى بَدَنٍ فَسَقَطَ عَنْهُمَا كَالْحُدُودِ ، وَالْكَفَّارَةُ حَقٌّ فِي مَالٍ فَلَمْ تَسْقُطْ عَنْهُمَا كَزَكَاةِ الْفِطْرِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ أَحْكَامَ الْقَتْلِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَقَالَ تَعَالَى : فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [ النِّسَاءِ : 92 ] يَعْنِي فِي قَوْمٍ فِي دَارِ حَرْبٍ خَاصَّةً ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ قَوَدًا وَلَا دِيَةً إِذَا قَتَلَهُ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ مُسْلِمًا ، وَذَلِكَ أَنْ يُغِيرَ أَوْ يَقْتُلَهُ فِي سِرِّيَّةٍ أَوْ يَلْقَاهُ مُنْفَرِدًا بِهَيْئَةِ الْمُشْرِكِينَ وَفِي دَارِهِمْ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَحْكَامَ الْقَتْلِ فِي ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ ، أَوْجَبَ فِيهِمْ دِيَتَيْنِ وَثَلَاثَ كَفَّارَاتٍ :

أَحَدُهُا : وَهُوَ الْمُقَدَّمُ فِيهَا قَتْلُ الْمُؤْمِنَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَأَوْجَبَ فِيهِ الدِّيَةَ وَالْكَفَّارَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا وَقَدِ اسْتَوْفَيْنَاهُ . وَالثَّانِي : قَتْلُ الْمُؤْمِنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، فَأَوْجَبَ فِيهِ الْكَفَّارَةَ وَلَمْ يُوجِبْ فِيهِ الدِّيَةَ ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ، وَمَعْنَاهُ : فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ مِنْ أَعْدَائِكُمْ مُؤْمِنٌ قَتَلْتُمُوهُ بَيْنَهُمْ ، فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ تَلْزَمُكُمْ فِي قَتْلِهِ . وَلَا يَخْلُو حَالُ قَتْلِهِ فِيهِمْ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْلَمَ قَاتِلُهُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ وَتَعَمَّدَ قَتْلَهُ ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قَوَدَ عَلَيْهِ : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنَعَتْ دَارُ الْإِسْلَامِ مَا فِيهَا ، وَأَبَاحَتْ دَارُ الشِّرْكِ مَا فِيهَا ، وَلِأَنَّهُ مَقْتُولٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ يُسْتَحَقَّ فِيهِ قَوَدٌ كَأَهْلِ الْحَرْبِ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مِنَ الْمُسْلِمِ مَالَهُ وَدَمَهُ ، وَأَنْ لَا يَظُنَّ بِهِ إِلَّا خَيْرًا ، وَلِأَنَّهُ عَامِدٌ لِقَتْلِ مُسْلِمٍ مَحْقُونِ الدَّمِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْقَوَدُ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ . وَالْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ وَالْقِيَاسُ أَنَّ دَارَ الشِّرْكِ لَمْ تُبِحْ دَمَهُ ، وَأَبَاحَتْ دَمَ الْمُشْرِكِ .

فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَعْلَمَ قَاتِلُهُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ ، وَلَا يَعْمِدُ قَتْلَهُ وَلَكِنْ يَرْمِي إِلَى دَارِ الْحَرْبِ سَهْمًا مُرْسَلًا فَيَقَعُ عَلَيْهِ فَيَقْتُلُهُ ، فَهُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ ، وَفِي قَتْلِهِ الْكَفَّارَةُ . وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ : إِلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ . وَقَالَ مَالِكٌ : تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ هَاجَرَ إِلَيْهَا ، وَجَبَتْ فِيهِ الدِّيَةُ المقتول ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ فِيهَا وَلَا هَاجَرَ إِلَيْهَا ، لَمْ تَجِبْ فِيهِ الدِّيَةُ : لِثُبُوتِ حُرْمَةِ الدَّارِ عَلَى الْمُهَاجِرِ ، وَعَدَمِهَا فِي غَيْرِ الْمُهَاجِرِ . وَاسْتَدَلَّا فِي الْجُمْلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ : وَلِأَنَّهُ مَقْتُولٌ مُسْلِمٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا بِالدِّيَةِ كَالْمَقْتُولِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [ النِّسَاءِ : 92 ] ، فَكَانَ الدَّلِيلُ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : اقْتِصَارُهُ عَلَى الْكَفَّارَةِ ، وَلَوْ وَجَبَتْ فِيهِ الدِّيَةُ لَذَكَرَهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ غَايَرَ بَيْنَ قَتْلِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الشِّرْكِ ، وَلَوْ تَسَاوَيَا لِأَطْلَقَ وَلَمْ يُغَايِرْ بَيْنَهُمَا ، وَلِأَنَّهَا دَارُ إِبَاحَةٍ لَمْ يَعْمِدْ فِيهَا قَتْلَ مُسْلِمٍ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَضْمَنَ بِالْقَتْلِ دِيَةً ، كَمَا لَوْ قُتِلَ غَيْرُ مُسْلِمٍ ، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَضْمَنْ دِيَتَهُ إِذَا لَمْ يُهَاجِرْ لَمْ يُضْمَنْ ، وَإِنْ هَاجَرَ ،

كَالْمُشْرِكِ . وَعُمُومُ الْآيَةِ مُخَصَّصٌ بِمَا تَعْقُبُهَا ، وَقِيَاسُهُ مُعَارِضٌ لِقِيَاسِنَا : وَلِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ حَاظِرَةٌ ، وَدَارُ الْمُشْرِكِ مُبِيحَةٌ .

فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَعْمِدَ قَتْلَهُ وَلَا يَعْلَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ ، فَلَا قَوَدَ فِيهِ ، وَفِيهِ الدِّيَةُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا دِيَةَ فِيهِ ، إِنْ لَمْ يُهَاجِرْ . وَدَلِيلُنَا : أَنَّ الْيَمَانَ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ ، وَلَمْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِهِ ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِيَتِهِ . فَقَالَ حُذَيْفَةُ : يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُمْ : فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا . وَلِأَنَّ جَهْلَ الْقَاتِلِ بِأَحْوَالِ الْمَقْتُولِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ ضَمَانِهِ عَنِ الْقَاتِلِ ؛ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ .

فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ وَلَا يَعْمِدُ قَتْلَهُ ، وَيَرْمِي أَهْلَ الدَّارِ بِسَهْمٍ ، فَاعْتَرَضَ الْمُسْلِمُ السَّهْمَ حَتَّى أَصَابَهُ فَقَتَلَهُ ، فَلَا قَوَدَ ، وَفِيهِ الْكَفَّارَةُ ، وَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا دِيَةَ فِيهِ ، اسْتِدْلَالًا بِالْآيَةِ ، وَاعْتِبَارًا بِالْقِسْمِ الثَّانِي . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : فِيهِ الدِّيَةُ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ الْيَمَانِ ، وَاعْتِبَارًا بِالْقِسْمِ الثَّالِثِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا هُوَ الثَّالِثُ مِمَّا بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، وَجَمَعَ فِي قَتْلِهِ بَيْنَ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ ، وَهُوَ الْكَافِرُ ذُو الْمِيثَاقِ بِذِمَّةٍ أَوْ عَهْدٍ إِذَا قُتِلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَفِيهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ : بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ، فَجَمَعَ فِي قَتْلِهِ بَيْنَ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ ، كَمَا جَمَعَ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ . وَقَدَّمَ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ الْكَفَّارَةَ عَلَى الدِّيَةِ ، وَفِي قَتْلِ الْكَافِرِ الدِّيَةَ عَلَى الْكَفَّارَةِ : لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَرَى تَقْدِيمَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ ، وَالْكَافِرُ يَرَى تَقْدِيمَ حَقِّ نَفْسِهِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى . وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : بَلْ خَالَفَ بَيْنَهُمَا ، وَلَمْ يَجْعَلْهُمَا عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ : لِأَنْ لَا يَلْحَقُ بِهِمَا مَا بَيْنَهُمْ مِنْ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي قَوْلِهِ : فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَيَضُمُّ إِلَيْهِ الدِّيَةَ إِلْحَاقًا بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ ، فَأَزَالَ هَذَا الِاحْتِمَالَ بِأَحَدِ اللَّفْظَيْنِ . وَسَوَاءٌ كَانَ صَاحِبَ هَذَا الْمِيثَاقِ مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، أَوْ مِنْ أَصْحَابِ الْعَهْدِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، أَوْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ ، إِذَا قُتِلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .

فَأَمَّا إِذَا قُتِلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ الْكَافِرُ ذُو الْمِيثَاقِ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُسْلِمِ إِذَا قُتِلَ فِيهَا فِي ضَمَانِهِ بِالْكَفَّارَةِ وَالدِّيَةِ ، إِلَّا أَنْ يَعْمِدَ قَتْلَهُ غَالَطًا بِمِيثَاقِهِ الَّذِي هُوَ مُقِيمٌ عَلَى الْتِزَامِهِ ، فَتَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ مَعَ الْكَفَّارَةِ . وَالْكَفَّارَةُ الْوَاجِبَةُ فِي قَتْلِ الْكَافِرِ كَالْكَفَّارَةِ الْوَاجِبَةِ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ ، فِي أَيْمَانِ الرَّقَبَةِ وَسَلَامَتِهَا مِنَ الْعُيُوبِ الْمُضِرَّةِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ فِي الْخَطَأِ ، وَفِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، كَانَتِ الْكَفَّارَةُ فِي الْعَمْدِ أَوْلَى . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَاحْتُجَّ بِأَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً سَوَاءٌ ، إِلَّا فِي الْمَأْثَمِ ، فَكَذَلِكَ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً سَوَاءٌ ، إِلَّا فِي الْمَأْثَمِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : الْكَفَّارَةُ تَجِبُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ . وَأَوْجَبَهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ ، وَأَسْقَطَاهَا فِي قَتْلِ الْعَمْدِ سَوَاءٌ وَجَبَ فِي الْقَوَدِ أَوْ لَمْ يَجِبْ : اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ، فَجَعَلَ الْخَطَأَ شَرْطًا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ ، فَوَجَبَتْ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنِ الْعَمْدِ : لِعَدَمِ الشَّرْطِ ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : الْعَمْدُ قَوَدٌ فَجَعْلَ مُوجِبَ الْعَمْدِ اسْتِحْقَاقَ الْقَوَدِ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي غَيْرِ الْقَوَدِ ، وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ يُوجِبُ الْقَتْلَ فَلَمْ يُوجِبِ الْكَفَّارَةَ كَالزِّنَى وَالرِّدَّةِ ، وَلِأَنَّهُ قَتْلُ عَمْدٍ فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الْكَفَّارَةُ ، كَالْقِصَاصِ ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ عَلَى بَدَنِ ، وَالْكَفَّارَةَ حَقٌّ فِي مَالٍ فَلَمْ يَجْتَمِعَا فِي الْقَتْلِ الْوَاحِدِ كَالْقِصَاصِ مَعَ الدِّيَةِ . وَدَلِيلُنَا : مَا رَوَاهُ وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ قَالَ : أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَاحِبٍ لَنَا اسْتَوْجَبَ النَّارَ بِالْقَتْلِ ، فَقَالَ : أَعْتِقُوا عَنْهُ رَقَبَةً ، يُعْتِقُ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ وَهُوَ لَا يَسْتَوْجِبُ النَّارَ إِلَّا فِي الْعَمْدِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ أَمَرَ بِهَا غَيْرَ الْقَاتِلِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الْقَاتِلِ . قُلْنَا : الْخِطَابُ وَإِنْ تَوَجَّهَ إِلَى السَّائِلِ ، فَالْمُرَادُ بِهِ الْقَاتِلُ : لِأَنَّهُ أَوْجَبَهَا بِالْقَتْلِ . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي وَأَدْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ . فَقَالَ : أَعْتِقْ عَنْ كُلِّ مَوْؤُودٍ رَقَبَةً ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ تَحْفِرُ تَحْتَ الْحَامِلِ إِذَا ضَرَبَهَا الطَّلْقُ حُفَيْرَةً ، يَسْقُطُ فِيهَا وَلَدُهَا إِذَا وَضَعَتْهُ ، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا أَخْرَجُوهُ مِنْهَا ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى تُرِكَتْ فِي حُفْرَتِهَا ، وَطُمَّ التُّرَابُ عَلَيْهَا حَتَّى تَمُوتَ ، وَهَذَا قَتْلُ عَمْدٍ ، وَقَدْ أُوجِبَتْ فِيهِ الْكَفَّارَةُ .

وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّهُ قَتْلُ آدَمِيٍّ مَضْمُونٌ ، فَوَجَبَ أَنْ تُسْتَحَقَّ فِيهِ الْكَفَّارَةُ كَالْخَطَأِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ كَفَّارَةٍ وَجَبَتْ بِقَتْلِ الْخَطَأِ وَجَبَتْ بِقَتْلِ الْعَمْدِ كَجَزَاءِ الصَّيْدِ ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إِذَا وَجَبَتْ عَلَى الْخَاطِئِ مَعَ عَدَمِ الْمَأْثَمِ كَانَ وُجُوبُهَا عَلَى الْعَامِدِ مَعَ الْمَأْثَمِ حَقًّا في القتل ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [ الْبَقَرَةِ : 185 ] ، فَلَمَّا أُوجِبَ الْقَضَاءُ عَلَى الْمُفْطِرِ مَعْذُورًا بِمَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ ، كَانَ وُجُوبُهُ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ عَمْدًا بِغَيْرِ عُذْرٍ أَحَقَّ ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : الْقَتْلُ كَفَّارَةٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ ، أَنَّ الْكَفَّارَةَ عَلَى وُجُوبِهَا لَا تَسْقُطُ بِالْقَوَدِ : لِأَنَّهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ تَسْقُطْ بِتَأْدِيَةِ حَقِّ الْآدَمِيِّ ، كَمَا لَمْ تَسْقُطْ بِأَدَاءِ الدِّيَةِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا اشْتَرَكَتِ الْجَمَاعَةُ فِي قَتْلِ نَفْسٍ عَمْدًا أَوْ خَطَأً ، فَإِنَّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِي الدِّيَةِ ، فَلَا يَلْزَمُهُمْ إِلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَلَا يَشْتَرِكُونَ فِي الْكَفَّارَةِ ، وَيَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَفَّارَةٌ كَامِلَةٌ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا اشْتَرَكُوا فِي الْكَفَّارَةِ كَمَا اشْتَرَكُوا فِي الدِّيَةِ ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ ، وَحَكَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِكُمْ عَنِ الشَّافِعِيِّ ؟ قِيلَ : الْحَاكِي لَهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ غَالِطٌ ، لَمْ يُعْرَفْ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِ ، وَلَا نَقَلَهُ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَنُصُوصُهُ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ بِخِلَافِهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الدِّيَةَ تَتَبَعَّضُ ، فَجَازَ أَنْ يَشْتَرِكُوا فِيهَا ، وَالْكَفَّارَةَ لَا تَتَبَعَّضُ ، فَلَمْ يَصِحَّ اشْتِرَاكُهُمْ فِيهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ مِنَ النَّفْسِ ، وَهِيَ وَاحِدَةٌ فَلَمْ يَلْزَمْ فِيهَا إِلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَالْكَفَّارَةُ لِتَكْفِيرِ الْقَتْلِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ ، فَلَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَفَّارَةٌ . وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ دَلِيلٌ عَلَى عُثْمَانَ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُودُ الْكَفَّارَةِ في القتل عَلَى كُلِّ قَاتِلٍ بِغَيْرِ حَقٍّ مِنْ عَمْدٍ أَوْ خَطَأٍ فِي كُلِّ مَقْتُولٍ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ ، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ، فَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا عَلَى الْعِتْقِ وَالصِّيَامِ ، فَقَالَ : وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [ النِّسَاءِ : 92 ] ، فَقَدَّمَ عِتْقَ الرَّقَبَةِ ، وَشَرَطَ فِيهَا الْإِيمَانَ ، فَلَا يُجْزِئُ إِلَّا عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْتُولُ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا : لِأَنَّهُ شَرَطَ إِيمَانَهَا فِي عِتْقِهَا عَنْ قَتْلِ الْكَافِرِ ، فَكَانَ إِيمَانُهَا فِي عِتْقِهَا عَنْ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ أَوْلَى . فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الرَّقَبَةَ فَاضِلَةً عَنْ كِفَايَتِهِ عَلَى الْأَبَدِ ، سَقَطَ عَنْهُ التَّكْفِيرُ بِالْعِتْقِ ، وَكَفَّرَ بِصِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ، وَهُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ . فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الصِّيَامِ فَفِيهِ قَوْلَانِ :

أَحَدُهُمَا : يَعْدِلُ إِلَى الْإِطْعَامِ فَيُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَيْهِ مِنْ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ، وَأَطْلَقَ ذِكْرَهُ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ إِطْلَاقُهُ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ عَلَى تَقَيُّدِهِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ : لِأَنَّ الْمُطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ مِنْ جِنْسِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا إِطْعَامَ فِيهَا ، وَتَكُونُ الْكَفَّارَةُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بَاقِيَةً فِي ذِمَّتِهِ إِلَى أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهَا : لِأَنَّ الْإِبْدَالَ فِي الْكَفَّارَاتِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى النَّصِّ دُونَ الْقِيَاسِ ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُ مُطَلَقِهَا عَلَى الْمُقَيَّدِ إِلَّا فِي الْوَصْفِ دُونَ الْأَصْلِ ، كَمَا حُمِلَ إِطْلَاقُ الْيَدِ فِي التَّيَمُّمِ عَلَى تَقَيُّدِهَا بِالْمَرَافِقِ فِي الْوُضُوءِ : لِأَنَّهُ حَمْلُ مُطْلَقٍ عَلَى مُقَيَّدٍ فِي وَصْفٍ ، وَلَمْ يُحْمَلْ إِغْفَالُ ذِكْرِ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ عَلَى مَا قُيِّدَ مِنْ ذِكْرِهِمَا فِي الْوُضُوءِ : لِأَنَّهُ حَمْلُ مُطْلَقٍ عَلَى مُقَيَّدٍ فِي أَصْلٍ . كَذَلِكَ فِي الْكَفَّارَةِ حَمَلَنَا إِطْلَاقَ الْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ عَلَى تَقَيُّدِهِ بِالْأَيْمَانِ مِنْ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ؛ لِأَنَّهُ حَمْلُ مُطْلَقٍ عَلَى مُقَيَّدٍ فِي وَصْفٍ . وَلَمْ يُحْمَلْ إِغْفَالُ الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ عَلَى ذِكْرِهِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ : لِأَنَّهُ حَمْلُ مُطْلَقٍ عَلَى مُقَيَّدٍ فِي أَصْلٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ لَا يَرِثُ الْقَاتِلُ

بَابُ لَا يَرِثُ الْقَاتِلُ مِنْ كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَرِثُ قَاتِلٌ خَطَأً وَلَا عَمْدًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَجْنُونًا أَوْ صَبِيًّا فَلَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ : لِأَنَّ الْقَلَمَ عَنْهُمَا مَرْفُوعٌ . وَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ : لَا يَرِثُ قَاتِلُ عَمْدٍ وَلَا يَرِثُ قَاتِلُ خَطَأٍ مِنَ الدِّيَةِ ، وَيَرِثُ مِنْ سَائِرِ مَالِهِ . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : هَلْ رَأَيْتُمْ وَارِثًا يَرِثُ بَعْضَ مَالِ رَجُلٍ دُونَ بَعْضٍ ؟ إِمَّا أَنْ يَرِثَ الْكُلَّ أَوْ لَا يَرِثَ شَيْئًا . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : يَدْخُلُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ يُسَوِّي بَيْنَ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ وَبَيْنَ الْبَالِغِ الْخَاطِئِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ ، وَيَجْعَلُ عَلَى عَوَاقِلِهِمُ الدِّيَةَ وَيَرْفَعُ عَنْهُمُ الْمَأْثَمَ ، فَكَيْفَ وَرِثَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ وَهُمْ سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى ؟ ( قَالَ ) : وَيَدْخُلُ عَلَى أَصْحَابِنَا مَا دَخَلَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ ، وَلَيْسَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ قَاتِلِ خَطَأٍ لَا يَرِثُ ، وَقَاتِلِ عَمْدٍ خَبَرٌ يَلْزَمُ ، وَلَوْ كَانَ ثَابِتًا كَانَتْ فِيهِ الْحُجَّةُ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : الَمَعْنَى : تَأْوِيلُهُ إِذَا لَمْ يَثْبُتْ فَرْقٌ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي أَنَّهُمَا لَا يَرِثَانِ . وَقَدْ قَطَعَ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِ قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ ، فَقَالَ : إِذَا قَتَلَ الْعَادِلُ الْبَاغِيَ ، أَوِ الْبَاغِي الْعَادِلَ ، لَا يَتَوَارَثَانِ : لِأَنَّهُمَا قَاتِلَانِ ، قَالَ : وَهَذَا أَشْبَهُ بِمَعْنَى الْحَدِيثِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا قَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ ، وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْفُقَهَاءِ فِي مِيرَاثِ الْقَاتِلِ ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ لَا يَرِثُ قَاتِلُ عَمْدٍ وَلَا خَطَأٍ ، سَوَاءٌ جَرَى عَلَيْهِ الْقَلَمُ بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ ، أَوْ رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ بِالصِّغَرِ وَالْجُنُونِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَرِثُ قَاتِلُ عَمْدٍ وَلَا خَطَأٍ إِنْ جَرَى عَلَيْهِ الْقَلَمُ ، وَيَرِثُ إِنْ رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَرِثُ قَاتِلُ الْعَمْدِ وَإِنْ رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ ، وَيَرِثُ الْخَاطِئُ مِنَ الْمَالِ دُونَ الدِّيَةِ ، وَإِنْ جَرَى عَلَيْهِ الْقَلَمُ . فَرَدَّ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَلَى مَالِكٍ هَذَا الْقَوْلَ ، وَقَالَ : هَلْ رَأَيْتُمْ وَارِثًا يَرِثُ بَعْضَ مَالِ رَجُلٍ دُونَ بَعْضٍ ؟ إِمَّا أَنْ يَرِثَ الْكُلَّ أَوْ لَا يَرِثَ شَيْئًا . وَهَذَا رَدٌّ صَحِيحٌ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَلَى مَالِكٍ ؛ حَيْثُ وَرَّثَ الْخَاطِئَ مِنَ الْمَالِ دُونَ الدِّيَةِ ، وَكِلَاهُمَا مَالٌ لِلْمَقْتُولِ يَقْضِي مِنْهُمَا دُيُونَهُ وَتُنَفَّذُ مِنْهُمَا وَصَايَاهُ . فَإِنِ انْتَفَتِ التُّهْمَةُ عَنِ الْخَاطِئِ وَرِثَ الْكُلَّ ، وَإِنْ تَحَقَّقَتِ التُّهْمَةُ مُنِعَ الْكُلَّ ، وَلَمْ يَجُزْ تَبْعِيضُ الْمَالِ فِي الْمِيرَاثِ ،

فَيَرِثُ بَعْضًا وَيُمْنَعُ بَعْضًا ، كَمَا أَنَّ الْمَبْتُوتَةَ بِالطَّلَاقِ فِي الْمَرَضِ ، لَمَّا لَحِقَ الزَّوْجَ التُّهْمَةُ فِي مَنَعَهَا مِنْ ثُلُثَيْ مَالِهِ : لِأَنَّ الثُّلُثَ غَيْرُ مَتْهُومٍ فِي مَنْعِهَا مِنْهُ : لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ كُلَّ وَارِثٍ ، فَلَمْ يَلْحَقِ الزَّوْجَ تُهْمَةٌ فِي مَنْعِهَا مِنْهُ ، وَقَدْ كَانَ يَقْتَضِي عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ أَنْ يُوَرِّثَهَا ثُلُثَيْ مَالِهِ ، وَلَا يُوَرِّثَهَا مِنَ الثُّلُثِ : لِاخْتِصَاصِ التُّهْمَةِ بِالثُّلُثَيْنِ دُونَ الثُّلُثِ ، وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى إِبْطَالِ هَذَا التَّبْعِيضِ ، وَكَانُوا فِي تَوْرِيثِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ : فَمِنْ وَرَّثَهَا مِنْهُمْ ، وَرَّثَهَا جَمِيعَ الْمَالِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَتْهُومٍ فِي بَعْضِهِ . وَمَنْ لَمْ يُوَرِّثْهَا ، مَنَعَهَا جَمِيعَ الْمَالِ وَإِنْ كَانَ مَتْهُومًا فِي بَعْضِهِ ، فَبَطَلَ بِهَذَا الْإِجْمَاعِ تَبْعِيضُ الْمَالِ لِمِيرَاثِ الْخَاطِئِ ، ثُمَّ إِنَّ الشَّافِعِيَّ رَدَّ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ تَوْرِيثِ مَنْ رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ دُونَ مَنْ جَرَى عَلَيْهِ الْقَلَمُ : لِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ قَدْ شَارَكَا الْخَاطِئَ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ ، وَشَارَكَهُمَا الْخَاطِئُ فِي ارْتِفَاعِ الْمَأْثَمِ ، فَصَارُوا جَمِيعًا سَوَاءً فِي الْحُكْمِ وَالْعِلَّةِ ، فَهَلَّا صَارُوا سَوَاءً فِي الْمِيرَاثِ فِي أَنْ يَرِثُوا أَوْ لَا يَرِثُوا ؟ وَكَيْفَ فَرَّقَ بَيْنَهُمْ فِي الْمِيرَاثِ وَقَدْ تَسَاوَوْا فِي سَبَبِهِ ، وَهَذَا التَّكَافُؤُ فِي الِاعْتِرَاضِ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ الْمَذْهَبَيْنِ ، وَيَصِحُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ مَنْعِ كُلِّ قَاتِلٍ مِنَ الْمِيرَاثِ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ . وَقَالَ : لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنْ لَا مِيرَاثَ لِكُلِّ قَاتِلٍ ، فَكُلُّ قَاتِلٍ تَعَلَّقَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْقَتْلِ فِي ضَمَانِ دِيَةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ فَلَا مِيرَاثَ لَهُ بِحَالٍ ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْقَتْلِ هل يرث ؟ - إِذَا تَنَاوَلَهُ اسْمُ الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ بِحَقٍّ - فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا كَالْمُقْتَضَى مِنْهُ قَوَدًا فَلَا مِيرَاثَ لَهُ : لِتَوَجُّهِ التُّهْمَةِ إِلَيْهِ فِي عُدُولِهِ عَنِ الْعَفْوِ إِلَى الْقِصَاصِ : رَغْبَةً فِي الْمِيرَاثِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ قَتْلُهُ وَلَا يَكُونُ مُخَيَّرًا كَالْحَاكِمِ إِذَا قَتَلَ فِي زِنًى أَوْ فِي قِصَاصٍ اسْتَوْفَاهُ لِخَصْمٍ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقْتُلَهُمْ بِالْبَيِّنَةِ فَلَا يَرِثُ ؛ لِأَنَّهُ مَتْهُومٌ فِي تَزْكِيَةِ الشُّهُودِ فَمَنَعَتْهُ التُّهْمَةُ مِنَ الْمِيرَاثِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَقْتُلَهُمْ بِإِقْرَارِهِمْ ، فَفِي مِيرَاثِهِ لَهُمْ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ ، يَرِثُهُمْ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْهُ فِي إِقْرَارِهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَالْأَكْثَرِينَ ، وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ لَا يَرِثُ لِإِطْلَاقِ اسْمِ الْقَتْلِ عَلَيْهِ ، وَإِنِ انْتَفَتِ التُّهْمَةُ عَنْهُ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْجِنَايَةِ

بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْجِنَايَةِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَا يُقْبَلُ فِي الْقَتْلِ وَجِرَاحِ الْعَمْدِ وَالْحُدُودِ سِوَى الزِّنَا ، إِلَّا عَدْلَانِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الشَّهَادَةُ فَتَنْقَسِمُ عَلَى أَقْسَامٍ - مَوْضِعُ اسْتِيفَائِهَا ، كِتَابُ الشَّهَادَاتِ - وَنَحْنُ نَذْكُرُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَا اخْتَصَّ بِهِ مِنَ الشَّهَادَةِ فِي الْجِنَايَاتِ . وَالْجِنَايَاتُ ضَرْبَانِ : عَمْدٌ يُوجِبُ الْقِصَاصَ ، وَخَطَأٌ يُوجِبُ الْمَالَ ، فَأَمَّا الْعَمْدُ الْمُوجِبُ لِلْقِصَاصِ فَلَا تَثْبُتُ الْبَيِّنَةُ فِيهِ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ ، وَلَا يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، كَالْحُدُودِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي نَفْسٍ أَوْ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : لَا يُقْبَلُ فِي النَّفْسِ إِلَّا أَرْبَعَةُ شُهُودٍ كَالزِّنَى الشهادة على الجناية : لِأَنَّهَا إِمَاتَةُ نَفْسٍ ، وَيُقْبَلُ فِيمَا دُونَهَا شَاهِدَانِ ، كَالْحُدُودِ . وَقَالَ مَالِكٌ : يُقْبَلُ فِيمَا قَلَّ مَنِ الْجِرَاحِ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ ، وَلَا يُقْبَلُ فِيمَا كَثُرَ إِلَّا شَاهِدَانِ : لِخِفَّةِ الْقَلِيلِ وَتَغْلِيظِ الْكَثِيرِ ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ فِي كِتَابِهِ عَلَى ثَلَاثِ شَهَادَاتٍ ، خَالَفَ بَيْنَ أَحْكَامِهَا وَجَعَلَهَا أُصُولًا لِمَا أَغْفَلَهُ : لِيَكُونَ الْمُغْفَلُ فَرْعًا مُلْحَقًا بِأَصْلِهِ فِيهَا ، فَنَصَّ عَلَى أَرْبَعَةِ شُهُودٍ فِي الزِّنَى ، وَنَصَّ عَلَى شَاهِدَيْنِ فِي الطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ ، وَنَصَّ عَلَى شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي الْأَمْوَالِ ، وَأَغْفَلَ الشَّهَادَةَ فِي الْجِنَايَاتِ فَصَارَتْ فَرْعًا لِإِحْدَاهَا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى الزِّنَى : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تُحْمَلْ عَلَيْهِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، لَمْ تُحْمَلْ عَلَيْهِ فِي النَّفْسِ ، لِوُجُوبِ تَسَاوِيهِمَا ، كَمَا اسْتَوَى حُكْمُ الزِّنَى فِي مَا أَوْجَبَ الرَّجْمَ وَمَا أَوْجَبَ الْجَلْدَ ، فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ الْحَسَنِ . وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْأَمْوَالِ : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُحْمَلْ عَلَيْهَا فِيمَا كَثُرَ لَمْ تُحْمَلْ عَلَيْهَا فِيمَا قَلَّ : لِاسْتِوَاءِ حُكْمِ الْأَمْوَالِ فِيمَا قَلَّ وَكَثُرَ ، فَبَطَلَ بِهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ . فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْأَصْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ الشَّاهِدَانِ فِي الطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ فِيمَا كَثُرَ وَقَلَّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُقْبَلُ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ وَيَمِينٌ وَشَاهِدٌ فِيمَا لَا قِصَاصَ فِيهِ ، مِثْلَ الْجَائِفَةِ وَجِنَايَةِ مَنْ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ مِنْ مَعْتُوهٍ وَصَبِيٍّ وَمُسْلِمٍ عَلَى كَافِرٍ وَحُرٍّ عَلَى عَبْدٍ وَأَبٍ عَلَى ابْنٍ : لِأَنَّ ذَلِكَ مَالٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، كُلُّ جِنَايَةٍ سَقَطَ الْقِصَاصُ فِيهَا وَأَوْجَبَتِ الدِّيَةَ قُبِلَ

فِيهَا شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ ، وَشَاهِدٌ وَيَمِينٌ ، كَالْأَمْوَالِ : لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَالٌ . وَالَّذِي لَا قِصَاصَ فِيهِ مِنَ الْجِنَايَاتِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : الْخَطَأُ الْمَحْضُ مِمَّنْ كَانَ وَعَلَى مَنْ كَانَ . وَالثَّانِي : عَمْدُ الْخَطَأِ : لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْخَطَأِ إِلَّا فِي تَقْسِيطِ الدِّيَةِ فِيهِ وَتَخْفِيفِهَا . وَالثَّالِثُ : الْعَمْدُ الَّذِي يَسْقُطُ فِيهِ الْقِصَاصُ ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : مَا سَقَطَ لِمَعْنًى فِي الْجَانِي ، كَجِنَايَةِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ، وَجِنَايَةِ الْأَبِ عَلَى الِابْنِ . وَالثَّانِي : مَا سَقَطَ لِمَعْنًى فِي الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَجِنَايَةِ الْمُسْلِمِ عَلَى كَافِرٍ ، وَجِنَايَةِ الْحُرِّ عَلَى عَبْدٍ . وَالثَّالِثُ : مَا سَقَطَ لِمَعْنًى فِي الْجِنَايَةِ كَالْجَائِفَةِ ، فَيُقْبَلُ فِي جَمِيعِ هَذَا كُلِّهِ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ وَشَاهِدٌ وَيَمِينٌ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ فِي نَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ أَوْ جُرْحٍ ، فَإِنْ صَارَتِ الْجَائِفَةُ نَفَسًا لَمْ يُقْبَلْ فِيهَا إِلَّا شَاهِدَانِ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ .

فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا ، فَقَالَ وَلِيُّ الْقِصَاصِ : لَسْتُ أَقْتَصُّ فَاسْمَعُوا مِنِّي شَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ . وَلَمْ يُقْبَلْ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ " لَسْتُ أَقْتَصُّ " مَوْعِدٌ بِالْعَفْوِ ، وَلَيْسَ بِعَفْوٍ . وَإِنْ قَالَ : قَدْ عَفَوْتُ عَنِ الْقِصَاصِ فَاسْمَعُوا شَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ ، وَشَاهِدٌ وَيَمِينٌ : لِأَنَّهُ لَوْ أَقَامَ شَاهِدَيْنَ بَعْدَ عَفْوِهِ قَبْلَ الشَّهَادَةِ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِالْقِصَاصِ . وَقَالَ : بَعْضُ أَصْحَابِنَا ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : لَا أَقْبَلُ مِنْهُ ، وَإِنْ صَرَّحَ بِالْعَفْوِ إِلَّا شَاهِدَيْنِ ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا أَوْجَبَ الْقِصَاصَ نَوْعٌ لَا يُقْبَلُ فِيهِ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ عَفْوٌ مِنْهُ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهِ لِلْقِصَاصِ ، وَكِلَا التَّعْلِيلَيْنِ خَطَأٌ : لِأَنَّ الْعَفْوَ يُخْرِجُهُ مِنْ نَوْعِ الْقِصَاصِ ، فَبَطَلَ التَّعْلِيلُ الْأَوَّلُ ، وَالْعَفْوُ قَبْلَ الْبَيِّنَةِ عَفْوٌ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ الْقِصَاصِ : لِأَنَّهُ يُسْتَحَقُّ بِالْجِنَايَةِ لَا بِالْبَيِّنَةِ ، فَبَطَلَ التَّعْلِيلُ الثَّانِي .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ هَاشِمَةً أَوْ مَأْمُومَةً ، لَمْ أَقْبَلْ أَقَلَّ مِنْ شَاهِدَيْنِ : لِأَنَّ الَّذِي شُجَّ إِنْ أَرَادَ أَنْ آخُذَ لَهُ الْقِصَاصَ مِنْ مُوضِحَةٍ فَعَلْتُ : لِأَنَّهَا مُوضِحَةٌ وَزِيَادَةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا دُونَ الْمُوضِحَةِ مِنْ شِجَاجِ الرَّأْسِ فَيُقْبَلُ فِيهِ - عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً - شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ ، وَشَاهِدٌ وَيَمِينٌ : لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي عَمْدِهِ ، وَأَمَّا الْمُوضِحَةُ فَلَا يُقْبَلُ فِيهَا

- إِذَا كَانَتْ عَمْدًا - إِلَّا شَاهِدَانِ : لِأَنَّهَا مُوجِبَةٌ لِلْقِصَاصِ . فَإِنْ قِيلَ : إِذَا أَقَامَ فِي عَمْدِهَا شَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ ، أَوْ شَاهِدًا وَيَمِينًا ، هَلَّا حَكَمْتُمْ لَهُ بِالدِّيَةِ وَأَسْقَطْتُمُ الْقَوَدَ ؟ كَالسَّرِقَةِ إِذَا شَهِدَ بِهَا شَاهِدَانِ حُكِمَ فِيهَا بِالْقَطْعِ وَالْغُرْمِ ، وَإِنْ شَهِدَ بِهَا شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ أُسْقِطَ الْقَطْعُ وَحُكِمَ بِالْغُرْمِ . قِيلَ : لَا ، لِفَرْقٍ مَنَعَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ؛ وَهُوَ أَنَّ الْغُرْمَ وَالْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ حَقَّانِ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا لِاخْتِلَافِ مُسْتَحِقِّهَا ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بَدَلًا مِنَ الْآخَرِ ، فَجَازَ أَنْ يُفْرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِحُكْمِهِ ، وَالْقِصَاصُ وَالْأَرْشُ فِي الْمُوضِحَةِ حَقٌّ وَجَبَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ لِمُسْتَحِقٍّ وَاحِدٍ ، أَحَدُهُمَا بَدَلٌ مِنَ الْآخَرِ ، فَشَارَكَهُ فِي حُكْمِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُثْبَتَ أَحَدُهُمَا مَعَ انْتِفَاءِ الْآخَرِ فَافْتَرَقَا . وَأَمَّا مَا فَوْقَ الْمُوضِحَةِ مِنَ الْهَاشِمَةِ وَالْمُنَقِّلَةِ وَالْمَأْمُومَةِ ، فَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الشِّجَاجُ بَيْنَ مَا فِيهِ قِصَاصٌ ، وَهُوَ الْإِيضَاحُ ، وَبَيْنَ مَا لَيْسَ فِيهِ قِصَاصٌ ، وَهُوَ الْهَشْمُ وَالتَّنْقِيلُ ، فَفِيهَا لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِيهَا إِذَا كَانَتْ عَمْدًا إِلَّا شَاهِدَانِ : لِأَنَّ فِيهَا إِيضَاحًا يُسْتَحَقُّ فِيهِ الْقِصَاصُ لِمَنْ طَلَبَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي كِتَابِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهَا شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ ، وَشَاهِدٌ وَيَمِينٌ : لِأَنَّهُ لَمَّا قُبِلَ ذَلِكَ فِيهِ إِذَا انْفَرَدَ عَنِ الْإِيضَاحِ لَمْ يَمْتَنِعْ قَوْلُهُ فِيهِ إِذَا اقْتَرَنَ بِالْإِيضَاحِ ، وَصَارَ الْإِيضَاحُ مُلْحَقًا بِهِ فِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ : لِمُشَارَكَتِهِ لَهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " قَالَ : وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ ضَرَبَهُ بِسَيْفٍ وَقَفْتُهُمَا ، فَإِنْ قَالَا : فَأَنْهَرَ دَمَهُ وَمَاتَ مَكَانَهُ . قَبِلْتُهُمَا وَجَعَلْتُهُ قَاتِلًا ، وَإِنْ قَالَا : لَا نَدْرِي أَنْهَرَ دَمُهُ أَمْ لَا ، بَلْ رَأَيْنَاهُ سَائِلًا . لَمْ أَجْعَلْهُ جَارِحًا حَتَّى يَقُولَا : أَوْضَحَهُ هَذِهِ الْمُوضِحَةَ بِعَيْنِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الشُّهُودِ ، فَأَمَّا صِفَةُ الشَّهَادَةِ : فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً لَا احْتِمَالَ فِيهَا : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [ الزُّخْرُفِ : 86 ] ، فَإِذَا قَالَ الشَّاهِدَانِ : رَأَيْنَاهُ قَدْ طَلَبَهُ بِسَيْفٍ وَغَابَا عَنَّا ، ثُمَّ رَأَيْنَاهُ قَتِيلًا ، أَوْ جَرِيحًا . لَمْ تُقْبَلْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ : لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَتَلَهُ أَوْ جَرَحَهُ غَيْرُهُ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَا : قَدْ رَأَيْنَاهُ وَقَدْ ضَرَبَهُ بِسَيْفٍ ثُمَّ غَابَا ، وَوَجَدْنَاهُ قَتِيلًا أَوْ جَرِيحًا هل تقبل شهادتهما . لَمْ تُقْبَلْ : لِجَوَازِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَتْلِ غَيْرِهِ أَوْ جِرَاحَةِ غَيْرِهِ . فَإِنْ قَالَا : رَأَيْنَاهُ وَقَدْ ضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ فَأَنْهَرَ دَمَهُ وَمَاتَ مَكَانَهُ ، قُبِلَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ : لِأَنَّ ظَاهِرَ مَوْتِهِ أَنَّهُ مِنْ إِنْهَارِ دَمِهِ . فَإِنِ ادَّعَى الْجَارِحُ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ غَيْرِ جِرَاحَتِهِ ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ مَعَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِمَوْتِهِ عُقَيْبَ جِرَاحَتِهِ ، وَلَا يَحْلِفُ وَلَيُّهُ . وَإِنْ قَالَا : أَنْهَرَ دَمَهُ ، وَلَمْ يَشْهَدَا بِمَوْتِهِ ، نُظِرَ فِي مَوْتِهِ ، فَإِنْ بَعُدَ زَمَانٌ لَا يَجُوزُ أَنْ تَنْدَمِلَ

فِيهِ الْجِرَاحَةُ ، حُكِمَ عَلَى الْجَارِحِ بِالْقَتْلِ : لِأَنَّ ظَاهِرَ مَوْتِهِ قَبْلَ انْدِمَالِ الْجِرَاحَةِ أَنَّهُ مِنْهَا . فَإِنِ ادَّعَى الْجَارِحُ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ غَيْرِهَا ، فَهُوَ مُحْتَمَلٌ ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ الظَّاهِرِ ، فَيَحْلِفُ الْوَلِيُّ أَنَّهُ مَاتَ مِنَ الْجِرَاحَةِ ، وَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ بَعْدَهَا بِزَمَانٍ يَجُوزُ أَنْ تَنْدَمِلَ فِيهِ الْجِرَاحَةُ ، حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْجِرَاحَةِ ، وَلَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ حَتَّى يُقِيمَ وَلِيُّهُ الْبَيِّنَةَ ، أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ ضِمْنًا مَرِيضًا حَتَّى مَاتَ ، فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ بِالْقَتْلِ . فَإِنِ ادَّعَى مَوْتَهُ مِنْ غَيْرِهِ أُحْلِفَ وَلِيُّهُ لَقَدْ مَاتَ مِنْ جِرَاحَتِهِ ، وَلَكِنْ لَوْ شَهِدَ الشَّاهِدَانِ أَنَّهُ ضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ وَلَمْ يَشْهَدَا أَنَّهُ أَنْهَرَ دَمَهُ لَمْ يَكُنْ جَارِحًا : لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَضْرُوبٍ بِسَيْفٍ يَنْجَرِحُ بِهِ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَا : ضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ فَسَالَ دَمُهُ ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا : لِجَوَازِ أَنْ يَسِيلَ مِنْ فَتْحِ عِرْقٍ أَوْ رُعَافٍ . وَلَوْ قَالَا : ضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ فَأَسَالَ دَمَهُ ، قُبِلَتْ شَهَادَتَهُمَا : لِأَنَّهُمَا أَضَافَا سَيَلَانَ الدَّمِ إِلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ . فَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ أَوْضَحَهُ فِي رَأْسِهِ ، فَإِنْ عَيَّنَا الْمُوضِحَةَ حُكِمَ فِيهَا بِالْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنَاهَا نُظِرَ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي رَأْسِهِ غَيْرُ مُوضِحَةٍ وَاحِدَةٍ ، كَانَتْ هِيَ الْمَشْهُودَ بِهَا ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ حُكِمَ فِيهَا بِالْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي رَأْسِهِ مَوَاضِحُ جَمَاعَةٍ ، حُكِمَ فِيهَا بِالدِّيَةِ ، وَلَمْ يُحْكَمْ فِيهَا بِالْقِصَاصِ : لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ فِي كُلِّ مُوضِحَةٍ عَلَى كُلِّ مَوْضِعٍ مِنَ الرَّأْسِ ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى التَّعْيِينِ ، وَالْقِصَاصُ لَا يَجِبُ إِلَّا بَعْدَ تَعْيِينِ الْمَوْضِعِ مِنَ الرَّأْسِ ، وَقَدْرِهَا فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ . وَهَكَذَا لَوْ شَهِدَ أَنَّهُ قُطِعَ إِحْدَى يَدَيْهِ ، وَلَمْ يُعَيِّنَاهَا ، فَإِنْ كَانَتْ إِحْدَى يَدَيْهِ بَاقِيَةً وَجَبَ الْقِصَاصُ فِي الدَّامِيَةِ أَوِ الدِّيَةُ ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ : لِأَنَّهَا صَارَتْ بِبَقَاءِ الْأُخْرَى مُعَيَّنَةً فِي الدَّامِيَةِ ، وَإِنْ كَانَ مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِالْقِصَاصِ : لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مُسْتَحَقَّهُ فِي يُمْنَى أَوْ يُسْرَى ، وَحُكِمَ لَهُ بِالدِّيَةِ : لِاسْتِوَائِهَا فِي الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ فِيمَا سِوَاهُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلَيْنِ أَنَّهُمَا قَتَلَاهُ ، وَشَهِدَ الْآخَرَانِ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ أَنَّهُمَا قَتَلَاهُ ، وَكَانَتْ شَهَادَتُهُمَا فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ ، فَإِنْ صَدَّقَهُمَا وَلِيُّ الدَّمِ مَعًا ، أُبْطِلَتِ الشَّهَادَةُ ، وَإِنْ صَدَّقَ اللَّذَيْنِ شَهِدَا أَوَّلًا ، قَبِلْتُ شَهَادَتَهُمَا ، وَجَعَلْتُ الْآخَرَيْنِ دَافِعَيْنِ بِشَهَادَتِهِمَا ، وَإِنْ صَدَّقَ اللَّذَيْنِ شَهِدَا آخِرًا أُبْطِلَتْ شَهَادَتُهُمَا : لِأَنَّهُمَا يَدْفَعَانِ بِشَهَادَتِهِمَا مَا شَهِدَ بِهِ عَلَيْهِمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُصَوَّرَةٌ فِي سَمَاعِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْقَتْلِ قَبْلَ دَعْوَى الْوَلِيِّ ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّةِ سَمَاعِهَا قَبْلَ الدَّعْوَى عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا تُسْمَعُ قَبْلَ الدَّعْوَى ، إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ طِفْلًا أَوْ غَائِبًا ، وَلَا يَجُوزُ سَمَاعُهَا إِذَا كَانَ بَالِغًا حَاضِرًا .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا تُسْمَعُ قَبْلَ الدَّعْوَى ، إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْوَلِيُّ شُهُودَهُ ، وَلَا تُسْمَعُ إِذَا عَرَفَهُمْ بَعْدَ الدَّعْوَى . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْجُمْهُورِ : أَنَّهَا تُسْمَعُ قَبْلَ الدَّعْوَى فِي الدِّمَاءِ خَاصَّةً ، وَلَا تُسْمَعُ فِي غَيْرِ الدِّمَاءِ ، إِلَّا بَعْدَ الدَّعْوَى ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِتَغْلِيظِ الدِّمَاءِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْحُقُوقِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْمَقْتُولِ يَقْضِي مِنْهَا دُيُونَهُ ، وَتُنَفَّذُ مِنْهَا وَصَايَاهُ ، فَجَازَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ فِي سَمَاعِ الشَّهَادَةِ قَبْلَ دَعْوَى أَوْلِيَائِهِ ، وَيَجِيءُ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ أَنْ يَسْمَعَهَا فِي دُيُونِ الْمَيِّتِ ، وَلَا يَسْمَعَهَا فِي دُيُونِ الْحَيِّ ، وَعَلَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ : لَا يَسْمَعُهَا فِي دُيُونِ حَيٍّ ، وَلَا مَيِّتٍ . وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ يُتَأَوَّلُ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : خَيْرُ الشُّهَدَاءِ مَنْ شَهِدَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا يُشْهَدُ فِيهِ قَبْلَ سَمَاعِ الدَّعْوَى . وَمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : شَرُّ الشُّهَدَاءِ مَنْ شَهِدَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا لَا يُشْهَدُ فِيهِ إِلَّا بَعْدَ سَمَاعِ الدَّعْوَى .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا ، فَصُورَةُ مَسْأَلَتِنَا فِي شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلَيْنِ أَنَّهُمَا قَتَلَا زَيْدًا ، وَشَهِدَ الرَّجُلَانِ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِمَا أَنِّ الشَّاهِدَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ هُمَا اللَّذَانِ قَتَلَا زَيْدًا ، فَلِلْوَلِيِّ حَالَتَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَصِحَّ مِنْهُ الدَّعْوَى . وَالثَّانِي : أَنْ لَا تَصِحَّ مِنْهُ ، فَإِنْ صَحَّتْ مِنْهُ الدَّعْوَى لِبُلُوغِهِ وَعَقْلِهِ ، سَأَلَهُ الْحَاكِمُ عَمَّا يَدَّعِيهِ مِنَ الْقَتْلِ عَلَى مَنْ يُعَيِّنُهُ مِنَ الْأَرْبَعَةِ ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَدَّعِيَهُ عَلَى الْآخَرَيْنِ اللَّذَيْنِ شَهِدَ عَلَيْهِمَا الْأَوَّلَانِ ، فَتَكُونُ شَهَادَةُ الْأَوَّلَيْنِ عَلَيْهِمَا مَاضِيَةً ، وَيُحْكَمُ لِلْوَلِيِّ عَلَى الْآخِرَيْنِ بِالْقَتْلِ : لِسَلَامَةِ الْأَوَّلَيْنِ عِنْدَ شَهَادَتِهِمَا ، وَتُهْمَةِ الْآخَرَيْنِ فِي الشَّهَادَةِ بِالدَّفْعِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا ، وَهَلْ يَلْزَمُ الْحَاكِمَ أَنْ يَسْتَعِيدَ الشَّهَادَةَ مِنْهُمَا بَعْدَ الدَّعْوَى أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَسْتَعِيدُهَا ، وَيَحْكُمُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ شَهَادَتِهِمَا : لِأَنَّهُ لَا يَسْتَعِيدُ بِهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَلْزَمُهُ اسْتِعَادَتُهُمَا ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْهَا : لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ سَابِقًا لِلدَّعْوَى .

وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَدَّعِيَ الْوَلِيُّ قَتْلَهُ عَلَى الْأَوَّلَيْنِ دُونَ الْآخِرَيْنَ ، فَشَهَادَتُهُمَا عَلَى الْأَوَّلَيْنِ بَاطِلَةٌ : لِأَنَّهُمَا قَدْ صَارَا عَدُوَّيْنِ لَهُمَا ، وَمُتَّهَمَيْنِ فِي شَهَادَتِهِمَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَدَّعِي قَتْلَهُ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ ، فَتَبْطُلُ الشَّهَادَتَانِ : لِإِكْذَابِهِ لَهُمَا ، وَإِقْرَارِهِ بِفِسْقِهِمَا ، وَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ مِمَّنْ لَا تَصِحُّ مِنْهُ الدَّعْوَى لِصِغَرِهِ ، أَوْ جُنُونِهِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، هَلْ يَقْضِي الْحَاكِمُ بِمُوجِبِ الشَّهَادَةِ أَوْ يُوقِفُهَا عَلَى بُلُوغِ الْوَلِيِّ وَعَقْلِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَقْضِي بِمُوجِبِ الشَّهَادَةِ ، وَيَقْضِي عَلَى الْآخَرَيْنِ بِالْقَتْلِ بِشَهَادَةِ الْأَوَّلَيْنَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَقِفُ الشَّهَادَةَ ، وَلَا يَبُتُّ الْحُكْمَ فِيهَا حَتَّى يَبْلُغَ ، وَيُفِيقَ الْمَجْنُونُ ، ثُمَّ يَرْجِعَ إِلَيْهِ فِي الدَّعْوَى وَيَعْمَلَ عَلَى مَا بَيَّنَهُ وَادَّعَاهُ مِنَ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ : لِتَرَدُّدِ الشَّهَادَةِ بَيْنَ إِيجَابٍ وَإِسْقَاطٍ ، فَلَمْ يُحْكَمْ بِأَحَدِهِمَا مَعَ احْتِمَالِهِمَا . فَأَمَّا إِذَا اتَّفَقَتْ شَهَادَةُ بَعْضٍ وَلَمْ تَتَقَدَّمْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى ، فَكِلْتَا الشَّهَادَتَيْنِ بَاطِلَةٌ ، لَا يُحْكَمُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، وَلَا يُرْجَعُ فِيهِمَا إِلَى دَعْوَى الْوَلِيِّ : لِتَعَارُضِ الشَّهَادَتَيْنِ فِي التَّدَافُعِ بِهِمَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى إِقْرَارِهِ أَنَّهُ قَتَلَهُ عَمْدًا وَالْآخَرُ عَلَى إِقْرَارِهِ ، وَلَمْ يَقُلْ : خَطَأً وَلَا عَمْدًا ، جَعَلْتُهُ قَاتِلًا وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ . فَإِنْ قَالَ : عَمْدًا ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ . وَإِنْ قَالَ : خَطَأً ، أُحْلِفَ مَا قَتَلَهُ عَمْدًا ، وَكَانَتِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي مُضِيِّ ثَلَاثِ سِنِينَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى إِقْرَارِ رَجُلٍ بِالْقَتْلِ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : أَقَرَّ عِنْدِي أَنَّهُ قَتَلَهُ عَمْدًا ، وَشَهِدَ الْآخَرُ : أَقَرَّ عِنْدِي أَنَّهُ قَتَلَهُ . وَلَمْ يَقُلْ عَمْدًا وَلَا خَطَأً ، فَقَدْ تَمَّتِ الشَّهَادَةُ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالْقَتْلِ ، وَلَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ عَلَى إِقْرَارِهِ بِصِفَةِ الْقَتْلِ . فَيُسْأَلُ الْمُقِرُّ عَنْ صِفَةِ الْقَتْلِ ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقُولَ : قَتَلْتُهُ عَمْدًا . فَيُقْتَصُّ مِنْهُ بِإِقْرَارِهِ الْآنِفِ ، لَا بِالشَّهَادَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ إِلَى الدِّيَةِ ، كَانَتْ حَالَةً مُغَلَّظَةً فِي مَالِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقُولَ : قَتَلَتُهُ خَطَأً . فَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْقَوَدِ : لِأَنَّهُ لَمْ يُتِمَّ الشَّهَادَةَ بِالْعَمْدِ ، وَلَكِنْ يَكُونُ هَذَا لَوْثًا فِي قَتْلِ الْعَمْدِ : لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ اللَّوْثُ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ فَأَوْلَى أَنْ يَثْبُتَ بِشَاهِدَيْنِ ، فَإِنْ أَقْسَمَ حُكِمَ لَهُ بِالْقَوَدِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ ، وَبِالدِّيَةِ الْمُغَلَّظَةِ حَالَّةً عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ ، وَإِنْ لَمْ يُقْسِمْ ، أُحْلِفَ الْمُقِرُّ بِاللَّهِ أَنَّهُ مَا قَتَلَهُ عَمْدًا وَلَزِمَتْهُ دِيَةُ

الْخَطَأِ مُخَفَّفَةً يُؤَدِّيهَا مِنْ مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، وَلَا تَحْمِلُهَا عَنْهُ الْعَاقِلَةُ : لِأَنَّهَا دِيَةُ اعْتِرَافٍ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُمْسِكَ عَنِ الْبَيَانِ ، فَيَصِيرُ كَالنَّاكِلِ ، فَتُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْوَلِيِّ ، فَإِنْ حَلَفَ حُكِمَ لَهُ بِالْقَوَدِ بِيَمِينِهِ لَا بِالشَّهَادَةِ ، وَإِنْ نَكَلَ حُكِمَ لَهُ بِدِيَةِ الْخَطَأِ دُونَ الْعَمْدِ بِالشَّهَادَةِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى فِعْلِ الْقَتْلِ ، فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَتَلَهُ عَمْدًا وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَتَلَهُ خَطَأً ، سُئِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صِفَةِ الْقَتْلِ الَّذِي شَاهَدَهُ ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَيْهَا وَاخْتَلَفَا فِي الْحُكْمِ عِنْدَهُمَا ، لَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ تَعَارُضٌ ، وَوَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَعْتَبِرَ بِمَا شَهِدَا بِهِ مِنْ صِفَةِ الْقَتْلِ ، فَإِنْ كَانَ عَمْدًا حُكِمَ فِيهِ بِالْقَوَدِ ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً حُكْمِ فِيهِ بِدِيَةِ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ . وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ الْقَتْلِ فَهُوَ تَعَارُضٌ لَا يُحْكَمُ فِيهِ بِعَمْدٍ وَلَا خَطَأٍ ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ . وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا : قَتَلَهُ غُدْوَةً . وَقَالَ الْآخَرُ : عَشِيَّةً . أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا : بِسَيْفٍ . وَالْآخَرُ : بِعَصًا . فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُكَذِّبٌ لِصَاحِبِهِ ، وَمِثْلُ هَذَا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا تَعَارَضَ الشَّاهِدَانِ فَأَثْبَتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا نَفَاهُ الْآخَرُ ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ شَهَادَتُهُمَا عَلَى فِعْلِ الْقَتْلِ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْقَتْلِ ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى فِعْلِ الْقَتْلِ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : قَتَلَهُ غُدْوَةً ، أَوْ فِي يَوْمِ السَّبْتِ . وَقَالَ الْآخَرُ : قَتَلَهُ عَشِيَّةً ، أَوْ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ . أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا : قَتَلَهُ بِسَيْفٍ . وَقَالَ الْآخَرُ : بِعَصًا . أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا : قَتَلَهُ بِالْبَصْرَةِ . وَقَالَ الْآخَرُ : بِالْكُوفَةِ . فَهُمَا وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى الشَّهَادَةِ بِالْقَتْلِ ، فَقَدْ تَعَارَضَا فِي صِفَتِهِ ، فَصَارَا مُتَكَاذِبَيْنِ : لِأَنَّ قَتْلَهُ غُدْوَةً غَيْرُ قَتْلِهِ عَشِيَّةً ، وَقَتْلَهَ بِسَيْفٍ غَيْرُ قَتْلِهِ بِعَصًا ، فَلَا يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِمَا وَلَا بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ يَمِينِ الْمُدَّعِي فِي عَمْدٍ وَلَا خَطَأٍ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : أُعَزِّرُ الشَّاهِدَيْنِ وَأَحْكُمُ بِفِسْقِهِمَا : لِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى كَذِبٍ مُسْتَحِيلٍ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ : لَا تَعْزِيرَ عَلَيْهِمَا وَلَا تَفْسِيقَ : لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِجَوَازِ الِاشْتِبَاهِ عَلَيْهِمَا ، فَيَخْرُجَانِ بِالشُّبْهَةِ عَنِ الْفِسْقِ وَالْكَذِبِ .

وَالثَّانِي : أَنَّ كَذِبَ أَحَدِهِمَا لَا يَمْنَعُ صِدْقَ الْآخَرِ ، وَقَدِ اشْتَبَهَ الصَّادِقُ مِنَ الْكَاذِبِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ شَهَادَتَهُمَا مَرْدُودَةٌ ، فَقَدْ نَقَلَ الْمُزَنِيُّ هَا هُنَا : " وَمِثْلُ هَذَا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ " . وَنَقَلَ الرَّبِيعُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ : وَمِثْلُ هَذَا لَا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ هَذَيْنِ النَّقْلَيْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّ الصَّحِيحَ مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَا هُنَا ، أَنَّهُ يُوجِبُ الْقَسَامَةَ ، وَيَكُونُ الرَّبِيعُ سَاهِيًا فِي زِيَادَةِ " لَا " : لِأَنَّهُمَا قَدِ اتَّفَقَا عَلَى الشَّهَادَةِ بِالْقَتْلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ : أَنَّ الصَّحِيحَ مَا نَقَلَهُ الرَّبِيعُ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ ، وَيَكُونُ الْمُزَنِيُّ سَاهِيًا فِي حَذْفِ " لَا " : لِأَنَّ تَكَاذُبَهُمَا يُسْقِطُ شَهَادَتَهُمَا . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ كِلَا النَّقْلَيْنِ صَحِيحٌ ، وَأَنَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ مِثْلَ تَكَاذُبِ الْوَلِيَّيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُوجِبُ الْقَسَامَةَ . وَالثَّانِي : لَا يُوجِبُهَا .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ تَكُونَ شَهَادَتُهُمَا عَلَى إِقْرَارِهِ بِالْقَتْلِ ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا : أَقَرَّ عِنْدِي أَنَّهُ قَتَلَهُ غُدْوَةً ، وَيَقُولُ الْآخَرُ : . أَنَّهُ قَتَلَهُ عَشِيَّةً . أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا : أَقَرَّ عِنْدِي أَنَّهُ قَتَلَهُ بِسَيْفٍ ، وَيَقُولُ الْآخَرُ : أَقَرَّ عِنْدِي أَنَّهُ قَتَلَهُ بِعَصًا . أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا : أَقَرَّ عِنْدِي أَنَّهُ قَتَلَهُ بِالْبَصْرَةِ ، وَيَقُولُ الْآخَرُ : أَقَرَّ عِنْدِي أَنَّهُ قَتَلَهُ بِالْكُوفَةِ . فَهَذِهِ شَهَادَةٌ صَحِيحَةٌ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالْقَتْلِ ، لَا تَعَارُضَ فِيهَا ، وَإِنَّمَا التَّعَارُضُ مِنَ الْمُقِرِّ بِالْقَتْلِ فِي صِفَةِ الْقَتْلِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالْقَتْلِ ، فَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلَيْنِ عَمْدًا يُوجِبُ الْقَوَدَ أَقَدْنَاهُ ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَطَأً لَا يُوجِبُ الْقَوَدَ سَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ ، وَلَزِمَتْهُ دِيَةُ الْخَطَأِ مُؤَجَّلَةً فِي مَالِهِ . وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَمْدًا مُوجِبًا لِلْقَوَدِ وَالْآخَرُ خَطَأً لَا يُوجِبُ الْقَوَدَ ، صَارَ كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى إِقْرَارِهِ بِقَتْلِ الْعَمْدِ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى إِقْرَارِهِ بِقَتْلِ الْخَطَأِ ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى فِي الرُّجُوعِ إِلَى قَوْلِهِ ، فَإِنْ أَقَرَّ بِالْعَمْدِ أَقَدْنَاهُ ، وَإِنْ أَقَرَّ بِالْخَطَأِ أَحْلَفْنَاهُ ، وَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الْبَيَانِ جَعَلْنَاهُ نَاكِلًا ، وَأَحْلَفْنَا وَلِيَّ الدَّمِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْعَمْدِ ، فَإِنْ نَكَلَ حَكَمْنَا لَهُ بِدِيَةِ الْخَطَأِ فِي مَالِهِ دُونَ عَاقِلَتِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَتَلَهُ ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَتْلِهِ ، لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا : لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُخَالِفٌ لِلْفِعْلِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا أَقَامَ وَلِيُّ الدَّمِ شَاهِدَيْنِ ، شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى فِعْلِ الْقَتْلِ ، فَقَالَ : رَأَيْتُهُ قَتْلَهُ . وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْقَتْلِ ، قَالَ : أَقَرَّ عِنْدِي أَنَّهُ قَتَلَهُ . لَمْ

تَتَعَارَضْ شَهَادَتُهُمَا : لِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَنَافِيَةٍ وَلَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ مِنْهُمَا : لِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَمَاثِلَةٍ : لِأَنَّ فِعْلَ الْقَتْلِ غَيْرُ الْإِقْرَارِ بِالْقَتْلِ ، وَلَمْ تَكْمُلِ الشَّهَادَةُ عَلَى الْفِعْلِ وَلَا عَلَى الْإِقْرَارِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِوَاحِدٍ مِنْهَا ، لَكِنْ يَكُونُ هَذَا لَوْثًا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ مُقَوِّيَةٌ لِلْأُخْرَى غَيْرُ مُنَافِيَةٍ لَهَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْقَتْلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً ، فَإِنْ كَانَ خَطَأً لَمْ يَحْتَجْ فِيهِ إِلَى الْقَسَامَةِ : لِأَنَّهُ قَدْ تَتِمُّ الْبَيِّنَةُ فِيهِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ ، فَيُقَالُ لِوَلِيِّ الدَّمِ : احْلِفْ مَعَ أَيِّ الشَّاهِدَيْنِ شِئْتَ يَمِينًا وَاحِدَةً ، تُكْمِلُ بِهَا بَيِّنَتَكَ وَيُقْضَى لَكَ فِيهَا بِدِيَةِ الْخَطَأِ . وَيُنْظَرُ فَإِنْ حَلَفَ مَعَ الشَّاهِدِ عَلَى فِعْلِ الْقَتْلِ كَانَتِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَإِنْ حَلَفَ مَعَ الشَّاهِدِ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالْقَتْلِ ، كَانَتِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْقَوْدِ ؛ كَقَتْلِ الْأَبِ لِابْنِهِ وَالْمُسْلِمِ لِكَافِرٍ ، فَهُوَ مُخْتَصٌّ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ ، وَيَصِيرُ كَالْخَطَأِ فِي أَنْ لَا يُحْكَمَ فِيهِ بِالْقَسَامَةِ : لِوُجُودِ الْبَيِّنَةِ مَعَ يَمِينِ الْوَلِيِّ مَعَ أَيِّ الشَّاهِدَيْنِ يَمِينًا وَاحِدَةً ، وَيُحْكَمُ لَهُ بِدِيَةِ الْعَمْدِ فِي مَالِهِ ، سَوَاءٌ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِ الْفِعْلَ أَوْ مَعَ شَاهِدِ الْإِقْرَارِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مِنَ الْعَمْدِ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْقَوْدِ ، فَيَجِبُ الْحُكْمُ فِيهِ بِالْقَسَامَةِ دُونَ الشَّهَادَةِ : لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَصِيرُ لَوْثًا ، فَيَحْلِفُ الْوَلِيُّ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ خَمْسِينَ يَمِينًا ، وَيُحْكَمُ لَهُ بِالْقَوَدِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ ، وَبِدِيَةِ الْعَمْدِ حَالَّةً عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ ضَرَبَهُ مُلَفَّفًا ، فَقَطَعَهُ بِاثْنَيْنِ ، وَلَمْ يُبَيِّنَا أَنَّهُ كَانَ حَيًّا ، لَمْ أَجْعَلْهُ قَاتِلًا ، وَأَحْلَفْتُهُ مَا ضَرَبَهُ حَيًّا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ بِالْقَتْلِ فَغَيْرُ مُفْتَقِرَةٍ إِلَى إِثْبَاتِ الْحَيَاةِ عِنْدَ الْقَتْلِ : لِأَنَّ الْقَتْلَ هُوَ إِمَاتَةُ الْحَيَاةِ ، فَدَلَّتْ عَلَى وُجُودِ الْحَيَاةِ عِنْدَ الْقَتْلِ . فَأَمَّا إِذَا شَهِدَا أَنَّهُ قُطِعَ مَلْفُوفًا فِي ثَوْبٍ بِاثْنَيْنِ ، فَهَذِهِ شَهَادَةٌ مُحْتَمَلَةٌ : لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْقَطْعِ حَيًّا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا ، فَيُسْأَلُ الشَّاهِدَانِ لِأَجْلِ هَذَا الِاحْتِمَالِ عَنْ حَالِ الْمَلْفُوفِ ، وَلَهُمَا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْهَدَا بِحَيَاتِهِ عِنْدَ قَطْعِهِ ، أَوْ بِمُشَاهَدَةِ حَرَكَتِهِ أَوْ بِاخْتِلَاجِهِ بَعْدَ قَطْعِهِ ، فَهَذَا كُلُّهُ شَهَادَةٌ بِالْحَيَاةِ : لِأَنَّهُ لَا يَخْتَلِجُ بَعْدَ الْقَطْعِ إِلَّا حَيٌّ . فَأَمَّا الشَّهَادَةُ بِسَيَلَانِ دَمِهِ عِنْدَ قَطْعِهِ ، فَلَا تَكُونُ شَهَادَةً بِحَيَاتِهِ ، وَإِنْ كَانَ دَمُ الْمَيِّتِ جَامِدًا : لِأَنَّ جُمُودَ دَمِهِ يَكُونُ بَعْدَ فُتُورِ حَرَارَتِهِ ، وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَاتَ لِوَقْتِهِ ، قَبْلَ فُتُورِ حَرَارَتِهِ وَجُمُودِ دَمِهِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَثْبُتْ فِيهِ الْحَيَاةُ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَشْهَدَا مَوْتَهُ عِنْدَ قَطْعِهِ ، فَيَصِيرَا شَاهِدَيْنِ بِنَفْيِ الْحَيَاةِ ، وَإِثْبَاتِ

الْمَوْتِ ، فَلَا تُسْمَعُ شَهَادَةُ غَيْرِهِمَا بِحَيَاتِهِ ، وَيَنْتَفِي عَنْهُ حُكْمُ الْقَتْلِ ، وَيُعَزَّرُ أَدَبًا عَلَى قَطْعِ مَيِّتٍ : لِانْتِهَاكِ حُرْمَتِهِ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَجْهَلَا حَالَهُ عِنْدَ قَطْعِهِ ، فَلَا يَشْهَدَا بِحَيَاتِهِ وَلَا مَوْتِهِ . فَإِنْ تَصَادَقَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى حَيَاةٍ أَوْ مَوْتٍ ، عُمِلَ عَلَى تُصَادُقِهِمَا . وَإِنْ تَنَازَعَا ، فَقَالَ الْمُدَّعِي : كَانَ حَيًّا ، وَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ : كَانَ مَيِّتًا ، كُلِّفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ ، فَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً بِحَيَاتِهِ عِنْدَ قَطْعِهِ حُكِمَ بِهَا ، وَأُجْرِيَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْقَتْلِ ، وَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً بِمَوْتِهِ عِنْدَ قَطْعِهِ حُكِمَ بِهَا ، وَبَرِئَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنَ الْقَتْلِ . وَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً بِالْحَيَاةِ ، وَأَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً بِالْمَوْتِ : فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُحْكَمُ بِبَيِّنَةِ الْمَوْتِ : لِأَنَّهَا أَزْيَدُ عِلْمًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُمَا مُتَعَارِضَانِ : لِأَنَّ وَاحِدَةً مِنْهُمَا تَقْطَعُ بِإِثْبَاتِ مَا نَفَتْهُ الْأُخْرَى ، وَلَمْ يَكُنْ فِي إِحْدَاهُمَا مَعَ الْقَطْعِ بِالشَّهَادَةِ زِيَادَةُ عِلْمٍ ، فَأَمَّا إِنْ أَقَامَ عَلَى الدَّعْوَى وَعَدِمَا الْبَيِّنَةَ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَا هُنَا ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ كَانَ مَيِّتًا عِنْدَ قَطْعِهِ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ قَتْلِهِ إِنْ حَلَفَ : لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ ، فَصَارَ كَمَا لَوِ ادَّعَى الْوَلِيُّ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ سِرَايَةِ جِرَاحَتِهِ ، وَادَّعَى أَنَّهُ مَاتَ مِنْ غَيْرِ جِرَاحَتِهِ ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْجَانِي دُونَ الْوَلِيِّ اعْتِبَارًا بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَتَفَرَّدَ الرَّبِيعُ بِنَقْلِهِ . وَقَالَ بَعْدَ رِوَايَةِ الْأَوَّلِ : وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْوَلِيِّ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ كَانَ حَيًّا عِنْدَ قَطْعِهِ ، وَيُؤْخَذُ الْقَاطِعُ بِحُكْمِ قَطْعِهِ : لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْحَيَاةِ حَتَّى يُعْلَمَ زَوَالُهَا عِنْدَ الْقَطْعِ ، وَالْيَقِينُ وَالشَّكُّ إِذَا تَعَارَضَا سَقَطَ حُكْمُ الشَّكِّ بِالْيَقِينِ ، كَمَا لَوْ تَيَقَّنَ الْحَدَثَ وَشَكَّ فِي الطَّهَارَةِ ، أَوْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ دَعْوَى الْمَوْتِ وَدَعْوَى السِّرَايَةِ : أَنَّ الْوَلِيَّ مُسْتَأْنِفٌ لِدَعْوَى السِّرَايَةِ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِيهَا ، وَالْجَانِي هَا هُنَا مُسْتَأْنِفٌ لِدَعْوَى الْمَوْتِ ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِيهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ أَنَّ أَحَدَهُمْ عَفَا الْقَوَدَ وَالْمَالَ فَلَا سَبِيلَ إِلَى الْقَوَدِ وَإِنْ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ وَأُحْلِفَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مَا عَفَا الْمَالَ وَيَأْخُذُ حِصَّتَهُ مِنَ الدِّيَةِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ حَلَفَ الْقَاتِلُ مَعَ شَهَادَتِهِ لَقَدْ عَفَا عَنْهُ الْقِصَاصَ وَالْمَالَ وَبَرِئَ مِنْ حِصَّتِهِ مِنَ الدِّيَةِ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي قَتْلِ عَمْدٍ ، تَرْكُ ابْنَيْنِ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى أَخِيهِ بِالْعَفْوِ ، فَلَا تَخْلُو شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِعَفْوِهِ عَنِ الْقَوَدِ وَحْدَهُ ، فَيَسْقُطُ الْقَوَدُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ فِي حَقِّ الشَّاهِدِ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْإِقْرَارِ ، لَا بِحُكْمِ الشَّهَادَةِ ، وَيَسْتَوِي فِيهَا مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ وَمَنْ لَا تَجُوزُ : لِأَنَّ الشَّاهِدَ عَلَى أَخِيهِ بِالْعَفْوِ مُقِرٌّ لِسُقُوطِ الْقَوَدِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ : لِأَنَّ الْقَوَدَ لَا يَتَبَعَّضُ ، وَعَفْوُ أَحَدِ الْأَوْلِيَاءِ عَنْهُ مُوجِبٌ لِسُقُوطِهِ فِي حُقُوقِ جَمِيعِهِمْ ، وَإِذَا سَقَطَ فِي حَقِّ الشَّاهِدِ ، سَقَطَ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَلَا يَمِينَ عَلَى الْقَاتِلِ فِي إِثْبَاتِ الْعَفْوِ ، وَلَا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فِي نَفْيِهِ : لِسُقُوطِ الْقَوَدِ بِمُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ ، وَقُضِيَ لَهُمَا بِدِيَةِ الْعَمْدِ عَلَى سِوَاهُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِعَفْوِهِ عَنِ الدِّيَةِ دُونَ الْقَوَدِ ، فَيُنْظَرُ حَالُ الشَّاهِدِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ بِجُرْحِهِ ، رُدَّ قَوْلُهُ ، وَلَمْ يُحْكَمْ بِهِ فِي شَهَادَةٍ وَلَا إِقْرَارٍ : لِأَنَّ الْمَجْرُوحَ لَا يَشْهَدُ ، وَالْإِقْرَارَ لَا يُؤَثِّرُ ، وَكَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ . وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ مِمَّنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لِعَدَالَتِهِ لَمْ تُؤَثِّرْ بِشَهَادَتِهِ فِي الْقَوَدِ : لِأَنَّهُ مَا شَهِدَ بِالْعَفْوِ عَنْهُ ، وَكَانَ أَخُوهُ عَلَى حَقِّهِ مِنْهُ ، وَهَلْ تَكُونُ شَهَادَتُهُ مُؤَثِّرَةً فِي الْعَفْوِ عَنِ الدِّيَةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ ، وَالَّذِي يَجِبُ بِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُوجِبٌ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ مِنَ الْقَوَدِ ، أَوِ الدِّيَةِ . فَعَلَى هَذَا : تُؤَثِّرُ شَهَادَةُ الْأَخِ فِي الْعَفْوِ عَنِ الدِّيَةِ ، إِذَا حَلَفَ مَعَهُ الْقَاتِلُ لَقَدْ عَفَا عَنِ الدِّيَةِ : لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ مِنَ الْمَالِ يُحْكَمُ فِيهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، فَيَسْقُطُ حَقُّهُ مِنَ الدِّيَةِ وَيَتَعَيَّنُ حَقُّهُ فِي الْقَوَدِ ، وَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ اسْتِيفَائِهِ ، أَوْ إِسْقَاطِهِ مِنْ غَيْرِ دِيَةٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ قَتْلَ الْعَمْدِ مُوجِبٌ لِلْقَوَدِ وَحْدَهُ ، فَأَمَّا الدِّيَةُ فَلَا تَجِبُ إِلَّا بِاخْتِيَارِ الْوَلِيِّ . فَعَلَى هَذَا : لَا تُؤَثِّرُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ ، وَإِنْ حَلَفَ مَعَهَا الْقَاتِلُ : لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ عَلَى الْإِبْرَاءِ مِنَ الدِّيَةِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهَا ، وَيَكُونُ الْأَخُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْقَوَدِ وَالْعَفْوِ عَنْهُ ، لَا اخْتِيَارَ الدِّيَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِعَفْوِهِ عَنِ الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ مَعًا ، فَالْقَوَدُ قَدْ سَقَطَ بِكُلِّ حَالٍ ، سَوَاءٌ كَانَ الشَّاهِدُ مِمَّنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ أَوْ لَا تَجُوزُ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ ، فَأَمَّا الدِّيَةُ فَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ الشَّاهِدِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ كَانَتْ شَهَادَتُهُ مَرْدُودَةً ، وَحَلَفَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مَا عَفَا عَنِ الدِّيَةِ ، وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَذْكُرَ فِي يَمِينِهِ وَمَا عَفَا عَنِ الْقَوَدِ . وَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ : لِأَنَّ يَمِينَهُ مَوْضُوعَةٌ لِإِثْبَاتِ مَا يَسْتَحِقُّهُ وَهُوَ يَسْتَحِقُّ الدِّيَةَ دُونَ الْقَوَدِ ، وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ مِمَّنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ أَبْرَأَتْ شَهَادَتُهُ قَوْلًا وَاحِدًا إِذَا حَلَفَ مَعَهَا

الْقَاتِلُ عَلَى الْعَفْوِ ، وَكَانَتْ بَيِّنَةً تَامَّةً فِي الْإِبْرَاءِ . وَفِي صِفَةِ يَمِينِ الْقَاتِلِ هَا هُنَا مَعَ شَاهِدِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ ، وَقَالَهُ أَبُو إِسْحَاقُ الْمَرْوَزِيُّ : يَحْلِفُ : لَقَدْ عَفَا عَنِ الدِّيَةِ . وَلَا يَذْكُرُ أَنَّهُ عَفَا عَنِ الْقَوَدِ : لِسُقُوطِ الْقَوَدِ بِإِقْرَارِ الْأَخِ دُونَ شَهَادَتِهِ ، وَكَمَا يَحْلِفُ الْأَخُ إِذَا رُدَّتْ شَهَادَةُ أَخِيهِ أَنَّهُ مَا عَفَا عَنِ الدِّيَةِ ، وَلَا يَذْكُرُ الْقَوَدَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ ، وَقَالَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّهُ يَحْلِفُ الْقَاتِلُ مَعَ شَاهِدِهِ : لَقَدْ عَفَا عَنِ الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ : لِأَنَّ هَذِهِ يَمِينٌ تَقُومُ مَقَامَ شَاهِدٍ ، فَكَانَتْ عَلَى لَفْظِ الشَّهَادَةِ ، وَخَالَفَتْ يَمِينَ الْأَخِ : لِاخْتِصَاصِهَا بِإِثْبَاتِ الْمُسْتَحِقِّ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ شَهِدَ وَارِثٌ أَنَّهُ جَرَحَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً ، لَمْ أَقْبَلْ : لِأَنَّ الْجُرْحَ قَدْ يَكُونُ نَفْسًا فَيَسْتَوْجِبُ بِشَهَادَتِهِ الدِّيَةَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : لِأَنَّ كُلَّ شَاهِدٍ جَرَّ بِشَهَادَتِهِ إِلَى نَفْسِهِ نَفْعًا ، أَوْ دَفَعَ بِهَا ضَرَرًا ، كَانَتْ شَهَادَتُهُ مَرْدُودَةً . فَإِذَا شَهِدَ وَارِثَا الْمَجْرُوحِ ، وَهُمَا أَخَوَاهُ أَوْ عَمَّاهُ ، عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ جَرَحَهُ ، لَمْ تَخْلُ حَالُ الشَّهَادَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ انْدِمَالِ الْجُرْحِ ، فَشَهَادَتُهُمَا مَقْبُولَةٌ : لِأَنَّهُمَا لَا يَجُرَّانِ بِهَا نَفْعًا وَلَا يَدْفَعَانِ بِهَا ضَرَرًا ، سَوَاءٌ أَوَجَبَتِ الْقِصَاصَ أَوِ الدِّيَةَ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ قَبْلَ انْدِمَالِ الْجُرْحِ فَهِيَ مَرْدُودَةٌ ، فَلَا تُقْبَلُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا قَدْ تَسْرِي إِلَى نَفْسِهِ فَيَمُوتُ مِنْهَا ، وَيَصِيرَا الْمُسْتَحِقَّيْنِ لَهَا ، فَيَصِيرَا شَاهِدَيْنِ لِأَنْفُسِهِمَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَجْرُوحَ مَعَ بَقَاءِ الْجِرَاحِ مُتَّهَمٌ . وَلِوَرَثَةِ الْمَرِيضِ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ فِي مَالٍ وَمَنْعُهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيمَا زَادَ عَلَى ثُلُثِهِ ، كَاعْتِرَاضِهِمْ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ لَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْمَرَضِ . فَعَلَى هَذَا : إِنْ كَانَ الْجُرْحُ مِمَّا يَسْرِي مِثْلُهُ إِلَى النَّفْسِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا لَهُ عَلَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ ، وَلَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا لَهُ عَلَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي . وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ لَهُ وَارِثَاهُ فِي مَرَضِهِ بِدَيْنٍ ، كَانَ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمَا لَهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا فِي الدَّيْنِ كَمَا لَا تُقْبَلُ فِي الْجُرْحِ ، وَهُوَ مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ : أَنَّهَا تُقْبَلُ فِي الدَّيْنِ ، وَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ

فِي الْجِرَاحِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الدَّيْنَ يَمْلِكُهُ الْمُوَرِّثُ ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى الْوَارِثِ ، وَالدِّيَةَ يَمْلِكُهَا الْوَارِثُ عَنِ الْجَانِي ، فَصَارَ فِي الْجِنَايَةِ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ ، فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ ، وَفِي الدَّيْنِ شَاهِدًا لِغَيْرِهِ فَأُمْضِيَتِ شَهَادَتُهُ ، وَهَذَا مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا لَهُ قَبْلَ انْدِمَالِ الْجُرْحِ السَّارِي ، لَمْ يَخْلُ حَالُ الْجُرْحِ مِنْ أَنْ يَسْرِيَ إِلَى النَّفْسِ ، أَوْ يَنْدَمِلَ . فَإِنْ سَرَى إِلَى النَّفْسِ ، اسْتَقَرَّ الْحُكْمُ فِي رَدِّ شَهَادَتِهِمَا ، وَإِنِ انْدَمَلَ لَمْ يُحْكَمْ بِالشَّهَادَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ . وَفِي الْحُكْمِ بِهَا إِنِ اسْتَأْنَفَاهَا بَعْدَ الِانْدِمَالِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا فِي الْمُسْتَأْنَفِ : لِزَوَالِ مَا مَنَعَ مِنْ رَدِّهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا لِلْحُكْمِ بِرَدِّهَا فِي الشَّهَادَةِ ، الْأَوَّلُ كَالْفَاسِقِ إِذَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لَمْ تُقْبَلْ إِذَا ادَّعَاهَا بَعْدَ عَدَالَتِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ شَهِدَ وَلَهُ مَنْ يَحْجُبُهُ ، قَبِلْتُهُ . فَإِنْ لَمْ أَحْكُمْ حَتَّى صَارَ وَارِثًا طَرَحْتُهُ ، وَلَوْ كُنْتُ حَكَمْتُ ثُمَّ مَاتَ مَنْ يَحْجُبُهُ وَرَّثْتُهُ : لِأَنَّهَا مَضَتْ فِي حِينٍ لَا يَجُرُّ بِهَا إِلَى نَفْسِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا رُدَّتْ شَهَادَةُ الْوَارِثَيْنِ فِي الْجِرَاحِ اعْتُبِرَتْ بِكَوْنِهِمَا وَارِثَيْنِ عِنْدَ تَنْفِيذِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمَا : لِأَنَّهُمَا بِحَالِ التُّهْمَةِ الْمُوجِبَةِ لِلرَّدِّ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَاخْتَلَفَ حَالُهُمَا قَبْلَ الشَّهَادَةِ وَبَعْدَهَا فَلَهُمَا حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَا غَيْرَ وَارِثَيْنِ عِنْدَ الشَّهَادَةِ ، ثُمَّ يَمُوتُ مَنْ يَحْجُبُهُمَا ، فَيَصِيرَا وَارِثَيْنِ بَعْدَ الشَّهَادَةِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَصِيرَ الشَّاهِدَانِ وَارِثَيْنِ بَعْدَ الشَّهَادَةِ ، وَقَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا ، فَشَهَادَتُهُمَا مَرْدُودَةٌ : لِحُدُوثِ مَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِهَا عِنْدَ الْحُكْمِ بِهَا ، فَصَارَ كَمَا لَوْ شَهِدَ عَدْلَانِ ، فَلَمْ يُحْكَمْ بِشَهَادَتِهِمَا حَتَّى فَسَقَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا فِي الْعَدَالَةِ ، لِحُدُوثِ الْفِسْقِ عِنْدَ الْحُكْمِ بِهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : يَصِيرَا وَارِثَيْنِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمَا ، فَهِيَ مَاضِيَةٌ لَا تَنْقَضِي بِحُدُوثٍ مَا تَجَدَّدَ بَعْدَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِهَا ، كَمَا لَوْ حُكِمَ بِشَهَادَةِ الْعَدْلَيْنِ ثُمَّ فَسَقَا لَمْ يُنْقَضِ الْحُكْمُ بِحُدُوثِ فِسْقِهِمَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَا وَارِثَيْنِ عِنْدَ الشَّهَادَةِ ، وَيَحْدُثُ مَنْ يَحْجُبُهُمَا ، فَيَصِيرَا غَيْرَ وَارِثَيْنِ بَعْدَهَا ، فَلَا يَكُونُ الْحُكْمُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ شَهَادَتِهِمَا : لِاقْتِرَانِ التُّهْمَةِ بِهِمَا . فَإِنِ اسْتَأْنَفَاهَا بَعْدَ أَنْ صَارَا غَيْرَ وَارِثَيْنِ ، فَفِي جَوَازِ قَبُولِهَا عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي إِعَادَةِ

شَهَادَتِهِمَا بَعْدَ انْدِمَالِ الْجُرْحِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ شَهِدَ مِنْ عَاقِلَتِهِ بِالْجُرْحِ ، لَمْ أَقْبَلْ وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا : لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ مَالٌ فِي وَقْتِ الْعَقْلِ ، فَيَكُونُ دَافِعًا عَنْ نَفْسِهِ بِشَهَادَتِهِ مَا يَلْزَمُهُ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَأَجَازَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِذَا كَانَ مِنْ عَاقِلَتِهِ فِي قُرْبِ النَّسَبِ مَنْ يَحْمِلُ الْعَقْلَ حَتَّى لَا يَخْلُصَ إِلَيْهِ الْغُرْمُ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِالْقَتْلِ ، وَشَهِدَ شَاهِدَانِ مِنْ عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ بِجُرْحِهِمَا ، فَالْقَتْلُ الْمَشْهُودُ بِهِ ضَرْبَانِ : عَمْدٌ ، وَخَطَأٌ ، فَإِنْ كَانَ عَمْدًا قُبِلَتْ شَهَادَةُ الْعَاقِلَةِ بِجُرْحِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْقَتْلِ : لِأَنَّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْهُ حُكْمٌ ، فَلَمْ يُتَّهَمُوا فِي الشَّهَادَةِ بِالْجُرْحِ : لِأَنَّهُمْ لَا يَدْفَعُونَ بِهَا ضَرَرًا وَلَا يَجُرُّونَ بِهَا نَفْعًا . وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ عَلَى إِقْرَارِهِ بِهِ ، فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَاقِلَةِ فِي جُرْحِ الشُّهُودِ : لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ الِاعْتِرَافَ ، فَلَمْ يُتَّهَمُوا فِي شَهَادَةِ الْجُرْحِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ عَلَى فِعْلِ الْقَتْلِ ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَاقِلَةِ فِي الْجُرْحِ : لِأَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ تَجِبُ عَلَيْهِمْ ، فَإِذَا شَهِدُوا بِجُرْحِ شَاهِدَيِ الْأَصْلِ ، دَفَعُوا بِهَا تَحْمِلُ الدِّيَةَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ ، فَصَارَ كَشَهَادَةِ الْقَاتِلِ بِجُرْحِهِمْ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ ، وَهِيَ مَرْدُودَةٌ لِدَفْعِهِ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ ، كَذَلِكَ شَهَادَةُ الْعَاقِلَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ رَدُّ شَهَادَتِهِمْ بِالْجُرْحِ فَهُمْ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونُوا عِنْدَ الشَّهَادَةِ بِوَصْفِ مَنْ يَتَحَمَّلُ الدِّيَةَ : لِوُجُودِ شَرْطَيْنِ : قُرْبُ النَّسَبِ ، وَوُجُودُ الْغِنَى ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمَرْدُودُ شَهَادَتُهُمْ بِالْجُرْحِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونُوا عِنْدَ الشَّهَادَةِ بِوَصْفِ مَنْ لَا يَتَحَمَّلُ الدِّيَةَ ، وَهُمْ صِنْفَانِ : أَحَدُهُمَا : مَنْ لَا يَتَحَمَّلُهَا لِفَقْرٍ . وَالثَّانِي : مَنْ لَا يَتَحَمَّلُهَا لِبُعْدِ نَسَبِهِ وَوُجُودِ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ نَسَبًا . فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَتَحَمَّلُهَا لِفَقْرِهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ بِالْجُرْحِ . وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَتَحَمَّلُهَا لِبُعْدِ نَسَبِهِ وَوُجُودِ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ بِالْجُرْحِ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ نَصِّهِ فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا : أَنْ حَمَلُوا ذَلِكَ فِيهِمَا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ لَا يَتَحَمَّلُهَا لِقُرْبِ نَسَبِهِ ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ لَا يَتَحَمَّلُهَا لِبُعْدِ نَسَبِهِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي بُعْدِ النَّسَبِ : لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا عِنْدَ شَهَادَتِهِمَا بِوَصْفِ مَنْ لَا يَتَحَمَّلُ الْعَقْلَ ، فَلَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِمَا عِنْدَ الشَّهَادَةِ بِالْجُرْحِ تُهْمَةٌ يَجُرَّانِ بِهَا نَفْعًا ، أَوْ يَدْفَعَانِ بِهَا ضَرَرًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ لَا يَتَحَمَّلُهَا لِبُعْدِ نَسَبِهِ وَلِفَقْرِهِ ، وَلَا شَهَادَةُ مَنْ لَا يَتَحَمَّلُهَا لِبُعْدِ نَسَبِهِ : لِأَنَّهُمَا قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَا عِنْدَ الْحَوْلِ مِمَّنْ يَتَحَمَّلُهَا لِاسْتِغْنَاءِ الْفَقِيرِ وَمَوْتِ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْ ذِي النَّسَبِ الْبَعِيدِ ، فَيَصِيرَا دَافِعَيْنِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا تَحَمُّلَ الْعَقْلِ بِشَهَادَتِهِمَا فَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَكَثِيرٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا : أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ . وَالْجَوَابُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ : فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ لَا يَتَحَمَّلُهَا لِفَقْرِهِ ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ لَا يَتَحَمَّلُهَا لِبُعْدِ نَسَبِهِ عَلَى ظَاهِرِ نَصِّهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْفَقِيرَ مَعْدُودٌ مِنَ الْعَاقِلَةِ فِي الْحَالِ ، لِقُرْبِ نَسَبِهِ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ لَا يَتَحَمَّلَ الْعَقْلَ عِنْدَ الْحَوْلِ لِبَقَاءِ فَقْرِهِ . وَالْبَعِيدُ النَّسَبِ غَيْرُ مَعْدُودٍ مِنَ الْعَاقِلَةِ فِي الْحَالِ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَتَحَمَّلَ الْعَقْلَ عِنْدَ الْحَوْلِ ، وَبِمَوْتِ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ فَافْتَرَقَ مَعْنَاهُمَا فَكَذَلِكَ مَا افْتَرَقَا فِي الشَّهَادَةِ ، وَجَمَعَ الْمُزَنِيُّ بَيْنَ مَعْنَاهُمَا ؛ وَلِذَلِكَ مَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الشَّهَادَةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَتَجُوزُ الْوَكَالَةُ فِي تَثْبِيتِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْقَتْلِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً ، فَإِذَا كَانَ الْقَوَدُ لَمْ يُدْفَعْ إِلَيْهِ حَتَّى يَحْضُرَ الْوَلِيُّ أَوْ يُوَكِّلَهُ بِقَتْلِهِ فَيَكُونُ لَهُ قَتْلُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ ، وَأَعَادَهَا الْمُزَنِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْجِنَايَاتِ ، ثُمَّ كَرَّرَهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ كِتَابِ الْقَسَامَةِ ، وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَيْهَا مَعَ تَقَدُّمِ اسْتِيفَائِهَا . وَالْوَكَالَةُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : فِي تَثْبِيتِ الْقِصَاصِ الوكالة ، فَتَصِحُّ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ : وَلِأَنَّهَا وَكَالَةٌ فِي إِثْبَاتِ حَقٍّ . وَمَنَعَ مِنْهَا أَبُو يُوسُفَ : لِأَنَّهُ حَدٌّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ . فَإِذَا ثَبَتَ الْقِصَاصُ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ : لِقُصُورِ تَصَرُّفِهِ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الْوَكَالَةُ مِنْ تَثْبِيتِ الْقِصَاصِ دُونَ اسْتِيفَائِهِ . وَجَوَّزَ لَهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى الِاسْتِيفَاءَ : لِمُطْلَقِ الْوَكَالَةِ ، كَمَا جَوَّزَ لَهُ بِمُطْلَقِهَا فِي الْمَبِيعِ قَبْضَ الثَّمَنَ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ، فَإِنِ اقْتَصَّ الْوَكِيلُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ .

وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ لَهُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ . فَظَاهِرُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ جَوَازُ الْوَكَالَةِ في اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ ، وَظَاهِرُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ بُطْلَانُهَا ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، فَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَهُ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ ، وَقَدْ شَرَحْنَا كِلَا الطَّرِيقَتَيْنِ ، فَإِنْ قِيلَ : بِأَنَّ الْوَكَالَةَ فِي الِاسْتِيفَاءِ لَا تَصِحُّ ، مُنِعَ الْوَكِيلُ مِنَ الْقِصَاصِ ، فَإِنِ اقْتَصَّ فَقَدْ أَسَاءَ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِيهِ مَعَ فَسَادِ عَقْدِهِ . وَإِنْ قِيلَ : بِجَوَازِ الْوَكَالَةِ فِي الِاسْتِيفَاءِ ، فَإِنْ عُقِدَتِ الْوَكَالَةُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْقِصَاصِ صَحَّتْ ، وَإِنْ عُقِدَتْ قَبْلَ ثُبُوتِ الْقِصَاصِ فَفِي صِحَّتِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : لَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ لِعَقْدِهَا قَبْلَ ثُبُوتِ الِاسْتِحْقَاقِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تَصِحُّ الْوَكَالَةُ : لِأَنَّ الْقِصَاصَ مُسْتَحَقٌّ بِالْقَتْلِ ، فَصَارَتِ الْوَكَالَةُ مَعْقُودَةً بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَهَكَذَا لَوْ جُمِعَ لَهُ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ بَيْنَ تَثْبِيتِ الْقِصَاصِ ، وَبَيْنَ اسْتِيفَائِهِ ، صَحَّتٍ الْوَكَالَةُ فِي إِثْبَاتِهِ ، وَفِي صِحَّتِهَا فِي اسْتِيفَائِهِ وَجْهَانِ . فَإِذَا صَحَّتِ الْوَكَالَةُ فِي الِاسْتِيفَاءِ ، فَهَلْ يَلْزَمُ إِحْضَارُ الْمُوكَلِ إِلَى حَيْثُ يَعْلَمُ الْوَكِيلُ أَوِ الْحَاكِمُ بِطَلَبِهِ وَعَفْوِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، يَلْزَمُ حُضُورُهُ إِلَى حَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَى الْوَكِيلِ أَوِ الْحَاكِمِ حَالُهُ فِي بَقَائِهِ عَلَى الطَّلَبِ أَوْ حُدُوثِ الْعَفْوِ : لِأَنَّهُ قَوَدٌ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ ، وَالظَّاهِرُ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الدِّينِ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ أَنْ يَعْفُوَ بَعْدَ ظُهُورِ الْقُدْرَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَلْزَمُ أَنْ يَقْرُبَ كَمَا لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَحْضُرَ : لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِهِ بَقَاؤُهُ عَلَى اسْتِيفَاءِ مَا وُكِلَ فِيهِ ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ فَوَاتُ اسْتِدْرَاكِهِ كَمَا لَمْ يَمْنَعْ مِنَ التَّوْكِيلِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ ، وَفِي الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ ، مَعَ فَوَاتِ اسْتِدْرَاكِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا أَمَرَ السُّلْطَانُ بِقَتْلِ رَجُلٍ أَوْ قَطْعِهِ ، اقْتُصَّ مِنَ السُّلْطَانِ : لِأَنَّهُ هَكَذَا يَفْعَلُ ، وَيُعَزَّرُ الْمَأْمُورُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْجِنَايَاتِ ، وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَ السُّلْطَانُ رَجُلًا بِقَتْلِ رَجُلٍ ظُلْمًا ، فَقَتَلَهُ الْمَأْمُورُ ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ السُّلْطَانَ مُحِقٌّ فِي قَتْلِهِ ، وَأَنَّهُ لَا يَرَى قَتْلَ أَحَدٍ ظُلْمًا ، فَعَلَى السُّلْطَانِ الْآمِرِ الْقَوَدُ دُونَ الْمَأْمُورِ الْقَاتِلِ : لِأَنَّ الْمَأْمُورَ كَالْآلَةِ لِالْتِزَامِهِ طَاعَةَ سُلْطَانِهِ ، وَالسُّلْطَانُ هُوَ الْقَاتِلُ لِنُفُوذِ أَمْرِهِ ، وَلَا تَعْزِيرَ عَلَى الْمَأْمُورِ : لِأَنَّهُ أَطَاعَ فِيمَا ظَاهِرُهُ حَقٌّ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ مُخْتَلَفًا فِي اسْتِحْقَاقِهِ ، كَقَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ ،

وَالْحُرِّ بِالْعَبْدِ ، فَيَعْتَقِدُ السُّلْطَانُ الْآمِرُ وُجُوبَهُ ، لِمَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ ، وَيَعْتَقِدُ الْمَأْمُورُ سُقُوطَهُ كَمَا يَعْتَقِدُهُ مِنْ مَذْهَبِهِ ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، لَكِنْ يُعَزَّرُ الْمَأْمُورُ : لِإِقْدَامِهِ عَلَى قَتْلٍ يَعْتَقِدُ حَظْرَهُ ، وَإِنْ سَقَطَ الْقَوَدُ بِاجْتِهَادِهِ كَالْآمِرِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ مَحْظُورًا وَدَمُ الْمَقْتُولِ مَحْقُونًا ، وَالْمَأْمُورُ عَالِمًا بِظُلْمِهِ إِنْ قَتَلَ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَكُونَ مِنَ الْآمِرِ إِكْرَاهٌ لِلْمَأْمُورِ ، فَالْقَوَدُ وَاجِبٌ عَلَى الْمَأْمُورِ دُونَ الْآمِرِ : لِمُبَاشَرَتِهِ لِقَتْلِ مَظْلُومٍ بِاخْتِيَارِهِ ، وَيُعَزَّرُ الْآمِرُ تَعْزِيرًا مِثْلَهُ : لِأَمْرِهِ بِقَتْلٍ هُوَ مَأْمُورٌ بِمَنْعِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِنَ الْآمِرِ إِكْرَاهٌ لِلْمَأْمُورِ صَارَ بِهِ الْآمِرُ قَاهِرًا وَالْمَأْمُورُ مَقْهُورًا ، فَالْقَوَدُ عَلَى الْآمِرِ الْقَاهِرِ وَاجِبٌ ، وَلَا تَمْنَعُ وِلَايَتُهُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ مَنْ يَدَّعِي الْعِلْمَ مِنْ إِعْفَاءِ الْوُلَاةِ مِنَ الْقِصَاصِ : لِأَنْ لَا يَنْتَشِرَ بِالِاقْتِصَاصِ مِنْهُمْ فَسَادٌ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الْحُدُودَ وَالْحُقُوقَ يَسْتَوِي فِيهَا الشَّرِيفُ وَالْمَشْرُوفُ ، وَالْوَالِي وَالْمَعْزُولُ ، وَقَدْ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِصَاصَ مِنْ نَفْسِهِ ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ ، وَلِأَنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِعْطَاءِ الْحَقِّ مِنْ نَفْسِهِ مَنْ يَتَوَلَّى أَخْذَ الْحُقُوقِ لِغَيْرِهِ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [ الْبَقَرَةِ : 44 ] ، وَيَكُونُ الْقَهْرُ مِنْ هَذَا الْآمِرِ فِسْقًا ، وَهَلْ يَنْعَزِلُ بِهِ عَنْ إِمَامَتِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَنْعَزِلُ : لِأَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ فِي عَقْدِ إِمَامَتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَنْعَزِلُ بِهِ حَتَّى يَعْزِلَهُ أَهْلُ الْعَقْدِ وَالْحَلِّ ، إِنْ أَقَامَ عَلَى حَالِهِ وَلَمْ يَتُبْ عِنْدَ اسْتِتَابَتِهِ : لِأَنَّ وِلَايَتَهُ انْعَقَدَتْ بِهِمْ فَلَمْ يَنْعَزِلْ عَنْهَا إِلَّا بِهِمْ . فَأَمَّا الْمَأْمُورُ الْمَقْهُورُ فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ : لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ إِحْيَاءَ نَفْسِهِ بِقَتْلِ غَيْرِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا قَوَدَ عَلَيْهِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عِلَّتِهِ ، فَذَهَبَ الْبَغْدَادِيُّونَ إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ عَنْهُ : أَنَّ الْإِكْرَاهَ على القتل شُبْهَةٌ يُدْرَأُ بِهَا الْحُدُودُ ، فَعَلَى هَذَا : يَسْقُطُ الْقَوَدُ عَنْهُ وَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَيْهِ وَيَلْزَمُهُ نِصْفُهَا : لِأَنَّهُ أَحَدُ قَاتِلَيْنِ : لِأَنَّ الشُّبْهَةَ تُدْرَأُ بِهَا الْحُدُودُ وَلَا تُدْفَعُ بِهَا الْحُقُوقُ . وَذَهَبَ الْبَصْرِيُّونَ إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ عَنْهُ أَنَّ الْإِكْرَاهَ إِلْجَاءٌ وَضَرُورَةٌ ، يَنْقِلُ حُكْمَ الْفِعْلِ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ إِلَى الَأَمْرِ ، فَعَلَى هَذَا : لَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَلَا دِيَةَ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ الْحُكْمِ فِي السَّاحِرِ إِذَا قَتَلَ بِسِحْرِهِ

بيان أَصْلُ مَا جَاءَ فِي السِّحْرِ

بَابُ الْحُكْمِ فِي السَّاحِرِ إِذَا قَتَلَ بِسِحْرِهِ أَصْلُ مَا جَاءَ فِي السِّحْرِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ الْآيَةَ [ الْبَقَرَةِ : 102 ] . وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِيهَا ، وَمَا احْتَمَلَهُ تَأْوِيلُ مَعَانِيهَا : لِيَكُونَ حُكْمُ السِّحْرِ مَحْمُولًا عَلَيْهَا . أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا تَدَّعِي . وَالثَّانِي : مَا تَقْرَأُ وَفِيمَا تَتْلُوهُ ، وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : السِّحْرُ . وَالثَّانِي : الْكَذِبُ عَلَى سُلَيْمَانَ . وَفِي الشَّيَاطِينِ هَا هُنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ شَيَاطِينُ الْجِنِّ ، وَهُوَ الْمُطْلَقُ مِنْ هَذَا الِاسْمِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ الْمُتَمَرِّدُونَ فِي الضَّلَالِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ : أَيَّامَ يَدْعُونَنِي الشَّيْطَانَ مِنْ غَزَلِي وَهُنَّ يَهْوَيْنَنِي إِذْ كُنْتُ شَيْطَانَا وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَعْنِي فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ لَمَّا كَانَ مَلِكًا حَيًّا ، وَتَكُونُ " عَلَى " بِمَعْنَى " فِي " . وَالثَّانِي : عَلَى كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ ، بَعْدَ وَفَاتِهِ : لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ آلَاتِ مُلْكِهِ ، وَيَكُونُ " عَلَى " مُسْتَعْمَلًا عَلَى حَقِيقَتِهِ . وَفِي قَوْلِهِ : وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَعْنِي وَمَا سَحَرَ سُلَيْمَانُ ، وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ سَحَرُوا ، فَعَبَّرَ عَنِ السِّحْرِ بِالْكُفْرِ : لِأَنَّهُ يُئُولُ إِلَيْهِ .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ عَلَى حَقِيقَةِ الْكُفْرِ : لِأَنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يَكْفُرْ ، وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ السِّحْرُ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الشَّيَاطِينَ كَانُوا يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ وَيَسْتَخْرِجُونَ السِّحْرَ ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ ، فَأَخَذَهُ مِنْهُمْ وَدَفَنَهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ ، فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ دَلُّوا عَلَيْهِ الْإِنْسَ وَنَسَبُوهُ إِلَى سُلَيْمَانَ ، وَقَالُوا : بِسِحْرِهِ هَذَا سُخِّرَتْ لَهُ الرِّيَاحُ وَالشَّيَاطِينُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الشَّيَاطِينَ بَعْدَ مَوْتِهِ دَفَنُوا سِحْرَهُمْ تَحْتَ كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ ، ثُمَّ نَسَبُوهُ إِلَيْهِ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَةِ الْكُفْرِ ، فَفِيمَا أُرِيدَ بِقَوْلِهِ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا كَفَرَ بِالسِّحْرِ . وَالثَّانِي : مَا كَفَرَ بِمَا حَكَاهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ تَسْخِيرِ الرِّيَاحِ وَالشَّيَاطِينِ لَهُ ، وَفِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : كَفَرُوا بِمَا اسْتَخْرَجُوهُ مِنَ السِّحْرِ . وَالثَّانِي : كَفَرُوا بِمَا نَسَبُوهُ إِلَى سُلَيْمَانَ مِنَ السِّحْرِ ، ثُمَّ قَالَ : يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : مَعْنَاهُ أَعْلَمُوهُمْ وَلَمْ يُعَلِّمُوهُمْ ، فَيَكُونُ مِنَ الْإِعْلَامِ لَا مِنَ التَّعْلِيمِ ، وَقَدْ جَاءَ فِي كَلَامِهِمْ تَعَلَّمُ بِمَعْنَى أَعْلَمَ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : تَعَلَّمْ أَنَّ بَعْدَ الْغَيِّ رُشْدًا وَأَنَّ لِذَلِكَ الْغَيِّ انْقِشَاعَا وَالثَّانِي : أَنَّهُ التَّعْلِيمُ الْمُسْتَعْمَلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ ، وَفِي تَعْلِيمِهِمْ لِلنَّاسِ السِّحْرَ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ أَلْقَوْهُ فِي قُلُوبِهِمْ فَتَعَلَّمُوهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ دَلُّوهُمْ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ تَحْتِ الْكُرْسِيِّ فَتَعَلَّمُوهُ ، وَفِي قَوْلِهِ : وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا مَلَكَانِ مِنْ مَلَائِكَةِ السَّمَاءِ . قَالَهُ مَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمَا مَلِكَانِ مِنْ مُلُوكِ الْأَرْضِ . قَالَهُ مَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ ، وَفِي " مَا " هَا هُنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا بِمَعْنَى الَّذِي ، وَتَقْدِيرُهُ : الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا بِمَعْنَى النَّفْيِ ، وَتَقْدِيرُهُ : وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَى الْمَلِكَيْنِ ، " بِبَابِلَ " وَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا أَرْضُ الْكُوفَةِ وَسَوَادُهَا ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ حِينَ تَبَلْبَلَتِ الْأَلْسُنُ بِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهَا مِنْ نَصِيبِينَ إِلَى رَأْسِ الْعَيْنِ ، وَ " هَارُوتَ وَمَارُوتَ " فِيهِمَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا اسْمَانِ لِلْمَلَكَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمَا اسْمَانِ لِشَخْصَيْنِ غَيْرِ الْمَلَكَيْنِ ، وَفِيهِمَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ اسْمُ أَحَدِهِمَا هَارُوتُ وَالْآخَرِ مَارُوتُ . قَالَهُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَلَكَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مَنْ قِبَلِهِمَا مِنْ مُلُوكِ الْأَرْضِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمَا مِنْ نَاسِ الْأَرْضِ ، اسْمُ أَحَدِهِمَا هَارُوتُ وَالْآخَرِ مَارُوتُ مِنْ أَهْلِ الْحِيَلِ . قَالَهُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَلَكَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ هُمَا مِنْ مَلَائِكَةِ السَّمَاءِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُمَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ . فَفِي سَبَبِ هُبُوطِهِمَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : اخْتِبَارُ الْمَلَائِكَةِ : لِأَنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ عُصَاةِ الْأَرْضِ فَأُهْبِطَ مِنْهُمْ هَارُوتُ وَمَارُوتُ فِي صُورَةِ الْإِنْسِ فَأَقْدَمَا عَلَى الْمَعَاصِي وَتَعْلِيمِ النَّصِيحَةِ . وَهَذَا يُسْتَبْعَدُ فِي الْمَلَائِكَةِ الْمَعْصُومِينَ مِنَ الْمَعَاصِي ، لَكِنْ قَالَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَذَكَرْتُهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَهْبَطَهُمَا لِيَنْهَيَا النَّاسَ عَنِ السِّحْرِ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُمَا مِنْ نَاسِ الْأَرْضِ ، فَفِيهِمَا وَجْهَانِ : أَنَّهُمَا كَانَا مُؤْمِنَيْنِ . وَقِيلَ : كَانَ نَبِيَّيْنِ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلِذَلِكَ نَهَيَا عَنِ الْكُفْرِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمَا كَانَا كَافِرَيْنِ وَلِذَلِكَ عَلَّمَا السِّحْرَ ، ثُمَّ قَالَ : وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ النَّفْيِ . وَتَقْدِيرُهُ : لَا يُعَلِّمَانِ أَحَدًا السِّحْرَ فَيَقُولَانِ : إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ . فَعَلَى هَذَا : يَكُونُ ذَلِكَ رَاجِعًا إِلَى مَنِ انْتَفَتْ عَنْهُ الْمَعْصِيَةُ مِنَ الْمَلَكَيْنِ أَوْ مِنْ هَارُوتَ وَمَارُوتَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ إِثْبَاتٌ لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ عَلَى شَرْطِ أَنْ يَقُولَا : إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرُ . فَعَلَى هَذَا : فِيهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا‌‌‌‌ : أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ أُضِيفَتْ إِلَيْهِ الْمَعْصِيَةُ مِنَ الْمَلَكَيْنِ وَمِنْ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ، وَيَكُونُ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ : إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ أَيْ شَيْءٌ عَجِيبٌ مُسْتَظْرَفُ الْحُسْنِ ، كَمَا يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ الْحَسْنَاءِ فِتْنَةٌ . وَهَذَا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ : فَلَا تَكْفُرْ أَيْ فَلَا تَكْفُرْ بِمَا جِئْنَاكَ بِهِ وَتَطْرَحْهُ ، بَلْ صَدِّقْ بِهِ وَاعْمَلْ عَلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَنِ انْتَفَتْ مِنْهُ الْمَعْصِيَةُ مِنَ الْمَلَكَيْنِ أَوْ مِنْ هَارُوتَ وَمَارُوتَ . فَعَلَى هَذَا : هَلْ لِمَلَائِكَةِ اللَّهِ وَأَوْلِيَائِهِ تَعْلِيمُ النَّاسِ السِّحْرَ أَمْ لَا ؟ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَهُمْ تَعْلِيمُ النَّاسِ السِّحْرَ : لِيَنْهَوْا عَنْهُ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِهِ : لِأَنَّهُمْ إِذَا جَهِلُوهُ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الِاجْتِنَابِ مِنْهُ ، كَالَّذِي لَا يَعْرِفُ الْكُفْرَ لَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ . وَالثَّانِي : لَيْسَ لَهُمْ تَعْلِيمُ السِّحْرَ وَلَا إِظْهَارُهُ لِلنَّاسِ : لِمَا فِي تَعْلِيمِهِ مِنَ الْإِغْرَاءِ بِفِعْلِهِ ، وَقَدْ كَانَ السِّحْرُ فَاشِيًا تَعَلَّمُوهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ ، فَاخْتَصَّ الْمَلَكَانِ بِالنَّهْيِ عَنْهُ ، وَيَكُونُ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ أَيِ اخْتِبَارٌ وَابْتِلَاءٌ . وَفِي قَوْلِهِ : فَلَا تَكْفُرْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : فَلَا تَكْفُرْ بِالسِّحْرِ . وَالثَّانِي : فَلَا تَكْفُرْ بِتَكْذِيبِكَ لِنَهْيِ اللَّهِ عَنِ السِّحْرِ ، ثُمَّ قَالَ : فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : مِنْ هَارُوتَ وَمَارُوتَ . وَالثَّانِي : مِنَ السَّحَرَةِ وَالْكَفَرَةِ مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا بِالسِّحْرِ الَّذِي تَعْلَمُونَ . وَالثَّانِي : يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا بِالْكُفْرِ : لِأَنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ بِالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ مُفَرِّقٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ كَالرِّدَّةِ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ يَعْنِي بِالسِّحْرِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بِأَمْرِ اللَّهِ . وَالثَّانِي : بِعِلْمِ اللَّهِ . ثُمَّ قَالَ : وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ [ الْبَقَرَةِ : 102 ] ، يَعْنِي يَضُرُّهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يَنْفَعُهُمْ فِي الدُّنْيَا . ثُمَّ قَالَ : وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ يَعْنِي السِّحْرَ بِمَا يَبْذُلُهُ لِلسَّاحِرِ ، مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : مِنْ نَصِيبٍ . وَالثَّانِي : مِنْ دِينٍ .

فَصْلٌ مَعْنَى السِّحْرِ فِي اللُّغَةِ

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي هِيَ أَصْلٌ يُسْتَنْبَطُ مِنْهُ أَحْكَامُ السِّحْرِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَى السِّحْرِ فِي اللُّغَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ إِخْفَاءُ الْخِدَاعِ وَتَدْلِيسُ الْأَبَاطِيلِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ : أَرَانَا مُوضِعِينَ لِأَمْرِ غَيْبٍ وَنُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ أَيْ نُخْدَعُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ : كُنَّا نُسَمِّي السِّحْرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْعَضَهَ . وَالْعِضَهُ : شِدَّةُ الْبُهْتِ وَتَمْوِيهُ الْكَذِبِ . وَأَنْشَدَ الْخَلِيلُ : أَعُوذُ بِرَبِّي مِنَ النَّافِثَاتِ وَمِنْ عَضَهِ الْعَاضِهِ الْمُعْضَهِ وَالْكَلَامُ فِي السِّحْرِ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : فِي حَقِيقَةِ السِّحْرِ . وَالثَّانِي : فِي تَأْثِيرِ السِّحْرِ . وَالثَّالِثُ : فِي حُكْمِ السِّحْرِ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : فِي حَقِيقَةِ السِّحْرِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا ، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ : أَنَّ لَهُ حَقِيقَةً وَتَأْثِيرًا . وَذَهَبَ مُعْتَزِلَةُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمَغْرِبِيُّ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الْإِسْتِرَابَاذِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : إِلَى أَنْ لَا حَقِيقَةَ لِلسِّحْرِ وَلَا تَأْثِيرَ ، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْيِيلٌ وَتَمْوِيهٌ كَالشَّعْبَذَةِ ، لَا تُحْدِثُ فِي الْمَسْحُورِ إِلَّا التَّوَهُّمَ وَالِاسْتِشْعَارَ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فِي قِصَّةِ فِرْعَوْنِ وَمُوسَى فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى [ طه : 66 ، 67 ] ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ تَخْيِيلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا فِيمَا مَثَّلُوهُ بِالْحَيَّاتِ مِنَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ زِئْبَقًا ، وَاسْتَقْبَلُوا بِهَا مَطْلِعَ الشَّمْسِ فَلَمَّا حَمِيَ بِهَا سَاحَ وَسَرَى ، فُسِّرَتْ تِلْكَ الْحِبَالُ كَالْحَيَّاتِ السَّارِيَةِ ، وَمَعْلُومٌ مِنْ هَذَا أَنَّهُ تَخْيِيلٌ بَاطِلٌ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلسِّحْرِ حَقِيقَةٌ لَخَرَقَ الْعَادَاتِ ، وَبَطَلَ بِهِ الْمُعْجِزَاتُ وَزَالَتْ دَلَائِلُ النُّبُوَّاتِ ، وَلَمَا وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالسَّاحِرِ ، وَبَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، وَفِي هَذَا دَفْعٌ لِأُصُولِ الشَّرَائِعِ وَإِبْطَالُ

الْحَقَائِقِ وَمَا أَدَّى إِلَى هَذَا فَهُوَ مَدْفُوعٌ عَقْلًا وَشَرْعًا . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لِلسِّحْرِ حَقِيقَةً وَتَأْثِيرًا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْآيَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعَ اخْتِلَافِ مَا تَضَمَّنَهَا مِنَ التَّأْوِيلِ ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَقِيقَةٌ لَأَبَانَ فَسَادَهُ وَلَذَكَرَ بُطْلَانَهُ ، وَلَمَا كَانَ لِلنَّهْيِ عَنْهُ مُوقِعٌ ، وَفِي هَذَا رَدٌّ لِمَا نَطَقَ بِهِ التَّنْزِيلُ ، فَكَانَ مَدْفُوعًا ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [ الْفَلَقِ : 4 ] . وَالنَّفَّاثَاتُ السَّوَاحِرُ ، فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ ، يَنْفُثْنَ فِي عُقَدِ الْخَيْطِ لِلسِّحْرِ . رَوَى الْحَسَنُ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مِنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ ، وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ ، وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلسِّحْرِ تَأْثِيرٌ لَمَا أُمِرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّهِ ، وَلَكَانَ السِّحْرُ كَغَيْرِهِ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى أَبُو صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَكَى شَكْوَى شَدِيدَةً ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَالنَّائِمِ وَالْيَقِظَانِ إِذَا مَلَكَانِ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِهِ وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : مَا شَكْوَاهُ ؟ فَقَالَ : مَطْبُوبٌ - أَيْ مَسْحُورٌ ، وَالطِّبُّ السِّحْرُ - قَالَ : وَمَنْ طَبَّهُ ؟ قَالَ لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ الْيَهُودِيُّ ، وَطَرَحَهُ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ تَحْتَ صَخْرَةٍ فِيهَا . فَبَعْثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهَا وَتَرًا فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً ، فَأَمَرَ بِحَلِّ الْعُقَدِ ، فَكَانَ كُلَّمَا حَلَّ عُقْدَةً وَجَدَ رَاحَةً حَتَّى حُلَّتِ الْعُقَدُ كُلُّهَا ، فَكَأَنَّمَا نَشِطَ مِنْ عِقَالٍ . فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ الْمُعَوِّذَتَانِ وَهَمَّا إِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً بِعَدَدِ الْعُقَدِ ، وَأُمِرَ أَنْ يَتَعَوَّذَ بِهِمَا ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْخَبَرُ مِنْ طُرُقٍ شَتَّى تَخْتَلِفُ أَلْفَاظُهُ وَتَتَّفِقُ مَعَانِيهِ ، وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَثَ أَيَّامًا يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَأْتِيهِنَّ ، فَاسْتَيْقَظَ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَقَالَ : يَا عَائِشَةُ ، قَدْ أَفْتَانِي رَبِّي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ ، أَتَانِي رَجُلَانِ فِي الْمَنَامِ . . . وَذَكَرَتْ مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي الْأَلْفَاظِ . وَإِذَا أَثَّرَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَعَلَ ، وَأَثَّرَ فِيهِ حِينَ نَشِطَ مَعَ مَا عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَيْنِ خَلْقِهِ ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يُؤَثِّرَ فِي غَيْرِهِ . فَإِنْ قِيلَ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ مِنَ السِّحْرِ لِمَا فِي اسْتِمْرَارِهِ مِنْ خَلَلِ الْعَقْلِ ، وَقَدْ أَنْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ قَالَ فِي رَسُولِهِ وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا [ الْفَرْقَانِ : 8 ] ، قِيلَ : عِصْمَةُ الرَّسُولِ مُخْتَصَّةٌ بِعَقْلِهِ وَدِينِهِ ، وَهُوَ فِي الْمَرَضِ كَغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ ، وَقَدْ سَمَّ يَهُودُ خَيْبَرَ ذِرَاعًا مَشْوِيَّةً ، وَقُدِّمَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَكَلَ مِنْهَا وَمَرِضَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ ، فَكَانَ يَقُولُ : مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَادُّنِي ، فَهَذَا أَوَانُ قَطَعَتْ أَبْهَرِي فَكَانَ فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِ . وَلَمَّا أَجْرَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ حِينَ قَرَأَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى [ النَّجْمِ : 19 ، 20 ] ، تِلْكَ

الْغَرَانِيقُ الْعُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى . أَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْهُ وَعَصَمَهُ مِنْهُ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى نَافِعٌ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : أَرْسَلَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى خَيْبَرَ لِأُقَسِّمَ ثِمَارَهَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَسَحَرُونِي ، فَتَكَوَّعَتْ يَدِي ، فَأَجْلَاهُمْ عُمَرُ عَنِ الْحِجَازِ . فَلَوْلَا أَنَّ لِلسِّحْرِ حَقِيقَةً وَتَأَثُّرًا لَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ ، وَانْتَشَرَ فِي الْكَافَّةِ ، وَلَمَا أَجْلَاهُمْ عُمَرُ مِنْ دِيَارِهِمْ ، وَلَرَاجَعَتْهُ الصَّحَابَةُ فِيهِمْ كَمَا رَاجَعُوهُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ الْمُحْتَمَلَةِ . وَقَدْ رَوَى بَجَالَةُ ، قَالَ : كَتَبَ عُمَرُ أَنِ اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ . فَقَتَلْنَا ثَلَاثَ سَوَاحِرَ . يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مُعْجِزَةَ مُوسَى فِي الْعَصَا : لِكَثْرَةِ السِّحْرِ فِي زَمَانِهِ ، وَمُعْجِزَةَ عِيسَى بِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى : لِكَثْرَةِ الطِّبِّ فِي زَمَانِهِ ، وَمُعْجِزَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ : لِكَثْرَةِ الْفُصَحَاءِ فِي زَمَانِهِ . فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلسِّحْرِ حَقِيقَةٌ ، كَمَا لِلطِّبِّ وَالْفَصَاحَةِ حَقِيقَةٌ ، لَضَعُفَتْ مُعْجِزَةُ مُوسَى فِي عُلُوِّهِ عَلَى السَّحَرَةِ : لِأَنَّهُ دَفَعَ مَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ ، وَلَيْسَ لِدَفْعِ مَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ تَأْثِيرٌ ، وَإِنَّمَا التَّأْثِيرُ فِي دَفْعِ مَا لَهُ تَأْثِيرٌ ، كَمَا كَانَ لِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى تَأْثِيرٌ عَلَى الطِّبِّ ، وَلِفَصَاحَةِ الْقُرْآنِ عَلَى فَصَاحَةِ الْكَلَامِ تَأْثِيرٌ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ : فَهُوَ أَنَّ حَقِيقَةَ السِّحْرِ آثَارُهُ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِأَفْعَالِ السِّحْرِ حَقِيقَةٌ ، وَقَدْ أَثَّرَ سِحْرُهُمْ فِي مُوسَى مَا أَوْجَسَهُ مِنَ الْخَوْفِ فِي نَفْسِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِمَا فِيهِ خَرْقُ الْعَادَاتِ وَإِبْطَالُ الْمُعْجِزَاتِ : فَهُوَ خَرْقُ الْعَادَاتِ فِي غَيْرِ السَّحَرَةِ وَلَيْسَ بِخَرْقِ الْعَادَاتِ فِي السَّحَرَةِ ، كَمَا أَنَّ الشَّعْبَذَةَ خَرْقُ الْعَادَاتِ فِي غَيْرِ الْمُتَشَعْبِذَةِ وَلَيْسَ بِخَرْقِ الْعَادَاتِ فِي الْمُتَشَعْبِذَةِ . وَلَيْسَ فِيهِ إِبْطَالُ الْمُعْجِزَاتِ : لِأَنَّ الشَّعْبَذَةَ فِي خَرْقِ الْعَادَاتِ كَالسِّحْرِ ، وَلَيْسَ فِيهَا إِبْطَالُ الْمُعْجِزَاتِ ، فَكَذَلِكَ السِّحْرُ : لِأَنَّ خَرْقَ الْعَادَاتِ بِالْمُعْجِزَاتِ مُخَالِفٌ لِخَرْقِهَا بِالسِّحْرِ وَالشَّعْبَذَةِ : لِأَنَّ أَفْعَالَ الْمُعْجِزَاتِ حَقِيقَةٌ وَأَفْعَالَ السَّحَرَةِ مُسْتَحِيلَةٌ : لِأَنَّ مُوسَى لَمَّا فَلَقَ الْبَحْرَ ظَهَرَتْ أَرْضُهُ حَتَّى سَارَ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمُهُ عَلَى الْيَابِسِ ، وَلَمَّا أَلْقَى السَّحَرَةُ حِبَالَهُمْ حَتَّى ظَنَّهَا النَّاظِرُ حَيَّاتٍ ظَهَرَ اسْتِحَالَتُهَا ، وَعَادَتْ إِلَى حَالِهَا ، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْعِصْمَةِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي وَهُوَ تَأْثِيرُ السِّحْرِ . فَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ مِمَّنْ ضَعُفَتْ فِي الْعِلْمِ مَخَابِرُهُمْ ، وَقَلَّتْ فِيهِ مَعْرِفَتُهُمْ إِلَى أَنَّ السَّاحِرَ قَدْ يَقْلِبُ بِسِحْرِهِ الْأَعْيَانَ ، وَيُحَدِثُ بِهِ الْأَجْسَامَ ، وَيَجْعَلُ الْإِنْسَانَ حِمَارًا بِحَسَبَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ قُوَّةِ السِّحْرِ وَضَعْفِهِ ، وَهَذَا وَاضِحُ الِاسْتِحَالَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ عَلَى هَذَا لَصَارَ خَالِقًا وَهُوَ مَخْلُوقٌ ، وَرَازِقًا وَهُوَ مَرْزُوقٌ ، وَرَبًّا وَهُوَ مَرْبُوبٌ ، وَشَارَكَ اللَّهَ تَعَالَى فِي قُدْرَتِهِ وَعَارَضَهُ فِي حِكْمَتِهِ .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِهِ لَقَدَرَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ ، فَيَرُدُّهَا إِلَى الشَّبَابِ بَعْدَ الْهِرَمِ ، وَإِلَى الْوُجُودِ بَعْدَ الْعَدَمِ ، وَيَدْفَعُ الْمَوْتَ عَنْ نَفْسِهِ ، فَصَارَ مِنَ الْمُخَلَّدِينَ وَبَايَنَ جَمِيعَ الْمَخْلُوقِينَ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى إِبْطَالِ جَمِيعِ الْحَقَائِقِ ، وَأَنْ لَا يَقَعَ فَرْقٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، وَلَجَازَ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ الْأَجْسَامِ مِمَّا قَلَبَتِ السَّحَرَةُ أَعْيَانَهَا ، فَيَكُونُ الْحِمَارُ إِنْسَانًا وَالْإِنْسَانُ حِمَارًا . فَإِذَا وَضَحَتِ اسْتِحَالَةُ هَذَا الْقَوْلِ بِمَا ذَكَرْنَا ، فَالَّذِي يُؤَثِّرُهُ السِّحْرُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يُوَسْوِسَ وَيُمْرِضَ وَرُبَّمَا قَتَلَ : لِأَنَّ السِّحْرَ تَخْيِيلٌ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [ طه : 66 ] ، وَالتَّخْيِيلُ بَدْوُ الْوَسْوَسَةِ ، وَالْوَسْوَسَةُ بَدْوُ الْمَرَضِ ، وَالْمَرَضُ بَدْوُ التَّلَفِ ، فَإِذَا قَوِيَ التَّخْيِيلُ حَدَثَ عَنْهُ الْوَسْوَسَةُ ، وَإِذَا قَوِيَتِ الْوَسْوَسَةُ حَدَثَ عَنْهَا الْمَرَضُ ، وَإِذَا قَوِيَ الْمَرَضُ حَدَثَ عَنْهُ التَّلَفُ ، فَيَكُونُ أَوَّلُ مَبَادِئِهِ التَّخْيِيلَ ثُمَّ الْوَسْوَسَةَ ثُمَّ الْمَرَضَ ثُمَّ التَّلَفَ ، وَهُوَ غَايَتُهُ فَهَذِهِ آثَارُ السِّحْرِ .

فَصْلٌ أَحْكَامُ السِّحْرِ

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ ، وَهُوَ أَحْكَامُ السِّحْرِ ، فَيَشْتَمِلُ عَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : حُكْمُ السَّاحِرِ . وَالثَّانِي : حُكْمُ تَعَلُّمِ السِّحْرِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي حُكْمِ السَّاحِرِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ : فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : إِلَى أَنَّهُ كَافِرٌ يَجِبُ قَتْلُهُ ، وَلَمْ يَقْطَعَا بِكُفْرِهِ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِالسِّحْرِ ، وَلَا يَجِبُ بِهِ قَتْلُهُ ، وَيُسْأَلُ عَنْهُ ، فَإِنِ اعْتَرَفَ مَعَهُ بِمَا يُوجِبُ كُفْرَهُ وَإِبَاحَةَ دَمِهِ كَانَ كَافِرًا بِمُعْتَقَدِهِ لَا بِسِحْرِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوِ اعْتَقَدَ إِبَاحَةَ السِّحْرِ ، صَارَ كَافِرًا بِاعْتِقَادِ إِبَاحَتِهِ لَا بِفِعْلِهِ ، فَيُقْتَلُ حِينَئِذٍ بِمَا انْضَمَّ إِلَى السِّحْرِ لَا بِالسِّحْرِ ، بَعْدَ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ فَلَا يَتُوبُ . وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَ بِهِ الْقَتْلَ بِرِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ يَعْنِي بِهِ الْقَتْلَ ، وَبِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ بَجَالَةَ ، قَالَ : كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : أَنِ اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ . فَقَتَلْنَا ثَلَاثَ سَوَاحِرَ . وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الصَّحَابَةِ خِلَافٌ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ ، وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ جَارِيَةً لِحَفْصَةَ سَحَرَتْ حَفْصَةَ ، فَبَعَثَتْ بِهَا إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ فَقَتَلَهَا . وَلِأَنَّ السَّاحِرَ يُضَاهِي بِسِحْرِهِ أَفْعَالَ الْخَالِقِ ، وَمِثْلَ هَذَا كُفْرٌ يُوجِبُ الْقَتْلَ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ، إِلَّا بِحَقِّهَا فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ مَنْ قَالَهَا مِنْ سَاحِرٍ وَغَيْرِ سَاحِرٍ . وَلِأَنَّ لَبِيدَ بْنَ أَعْصَمَ الْيَهُودِيَّ حَلِيفَ بَنِي زُرَيْقٍ قَدْ سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمْ يَقْتُلْهُ وَهُوَ تَحْتَ قُدْرَتِهِ ، وَقَدْ كَانَ عَلَى عَهْدِهِ كَثِيرٌ مِنَ السَّحَرَةِ ، فَمَا قَتَلَ وَاحِدًا مِنْهُمْ ، وَلَوْ وَجَبَ قَتْلُهُمْ لَمَا أَضَاعَ حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ . وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَرِضَتْ فَسَأَلَ بَعْضُ بَنِي أَخِيهَا طَبِيبًا مِنَ الزُّطِّ عَنْ مَرَضِهَا ، فَقَالَ : هَذِهِ امْرَأَةٌ سَحَرَتْهَا أَمَتُهَا . فَسَأَلَتْ

عَائِشَةُ أَمَتَهَا - وَكَانَتْ مُدَبِّرَةً لَهَا - فَاعْتَرَفَتْ بِالسِّحْرِ ، وَقَالَتْ : سَأَلَتُكِ الْعِتْقَ فَلَمْ تُعْتِقِينِي . فَبَاعَتْهَا عَائِشَةُ ، وَاشْتَرَتْ بِثَمَنِهَا أَمَةً أَعْتَقَتْهَا . وَلَوْ كَانَ قَتْلُهَا مُسْتَحَقًّا مَا اسْتَجَازَتْ بَيْعَهَا وَاسْتِهْلَاكَ ثَمَنِهَا عَلَى مُشْتَرِيهَا ، وَكَانَتِ الصَّحَابَةُ تُنْكِرُ عَلَيْهَا بَيْعَهَا : وَلِأَنَّ السِّحْرَ تَخْيِيلٌ كَالشَّعْبَذَةِ وَهِيَ لَا تُوجِبُ الْكُفْرَ وَالْقَتْلَ ، فَكَذَلِكَ السِّحْرُ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ : فَرَاوِيهِ الْحَسَنُ وَهُوَ مُرْسَلٌ . وَضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ : قَدْ لَا يَكُونُ قَتْلًا فَلَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِيهِ . وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَرَاوِيهِ بَجَالَةُ لَمْ يَلْقَ عُمَرَ ، فَكَانَ أَيْضًا مُرْسَلًا ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَذْهَبًا لَهُ . وَأَمَّا حَفْصَةُ فَقَدْ أَنْكَرَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهَا قَتْلَهَا ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَحَقًّا لَمْ يُنْكِرْهُ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّهُ مَضَاهُ لِأَفْعَالِ الْخَالِقِ فَغَلَطٌ عَلَيْهِ وَفِيهِ : لِأَنَّ غَايَةَ سِحْرِهِ أَنْ يُؤْذِيَ ، وَلَيْسَ كُلُّ مُؤْذٍ وَمُضِرٍّ مُضَاهِيًا لِأَفْعَالِ خَالِقِهِ ، كَالضَّارِبِ وَالْقَاتِلِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ حُكْمُ تَعَلُّمِ السِّحْرِ : وَتَعَلُّمُهُ مُحَرَّمٌ مَحْظُورٌ : لِأَنَّ تَعَلُّمَهُ دَاعٍ إِلَى فِعْلِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ ، وَمَا دَعَا إِلَى الْمَحْظُورِ كَانَ مَحْظُورًا ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ مِنَّا مَنْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ . فَإِنْ تَعَلَّمَهُ لَمْ يَكْفُرْ بِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَكْفُرُ بِتَعَلُّمِهِ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَهَذَا مَذْهَبٌ ، يَفْسُدُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ مُخْتَصٌّ بِالِاعْتِقَادِ ، وَتَعَلُّمُ السِّحْرِ لَيْسَ بِاعْتِقَادٍ ، فَلَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ الْكُفْرُ . وَالثَّانِي : أَنَّ تَعَلُّمَ الْكُفْرِ أَغْلَظُ مِنْ تَعَلُّمِ السِّحْرِ ، وَهُوَ لَا يَكْفُرُ بِتَعَلُّمِ الْكُفْرِ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكْفُرَ بِتَعَلُّمِ السِّحْرِ ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ وَارِدَةٌ فِي مُعَلِّمِ السِّحْرِ دُونَ مُتَعَلِّمِهِ ، وَفَرْقٌ مَا بَيْنَ الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ : لِأَنَّ الْمُعَلِّمَ مُثْبِتٌ وَالْمُتَعَلِّمَ مُتَخَيِّرٌ ، كَمَا وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ مُعَلِّمِ الْكُفْرِ وَمُتَعَلِّمِهِ ، وَعَلَى أَنَّ الشَّيَاطِينَ كَانُوا كَفَرَةً بِغَيْرِ السِّحْرِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِذَا سَحَرَ رَجُلًا فَمَاتَ ، سُئِلَ عَنْ سِحْرِهِ : فَإِنْ قَالَ : أَنَا أَعْمَلُ هَذَا لِأَقْتُلَ فَأُخْطِئُ الْقَتْلَ وَأُصِيبُ وَقَدْ مَاتَ مِنْ عَمَلِي ، فَفِيهِ الدِّيَةُ ، وَإِنْ قَالَ : مَرِضَ مِنْهُ وَلَمْ يَمُتْ . أَقْسَمَ أَوْلِيَاؤُهُ لَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ ، وَكَانَتِ الدِّيَةُ ، وَإِنْ قَالَ : عَمَلِي يَقْتُلُ الْمَعْمُولَ بِهِ ، وَقَدْ عَمَدْتُ قَتْلَهُ بِهِ ، قُتِلَ بِهِ قَوَدًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا السِّحْرُ : فَهُوَ مَا يَخْفَى فِعْلُهُ مِنَ السَّاحِرِ ، وَيَخْفَى فِعْلُهُ فِي الْمَسْحُورِ ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ فِي الدَّعْوَى عَلَى السَّاحِرِ ، وَلَا تَقُومَ بِهِ بَيِّنَةٌ فِي الْمَسْحُورِ . فَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى سَاحِرٍ أَنَّهُ سَحَرَ وَلِيًّا لَهُ ، فَقَتَلَهُ بِسِحْرِهِ لَمْ يَسْتَوْصِفْ عَنِ السِّحْرِ

لِخَفَائِهِ عَلَيْهِ ، وَلَا يُكَلَّفِ الْبَيِّنَةَ لِامْتِنَاعِهَا ، فَإِذَا امْتَنَعَا رَجَعَ إِلَى سُؤَالِ السَّاحِرِ هَلْ سَحَرَ أَوْ لَمْ يَسْحَرْ ؟ فَإِنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ سَاحِرًا ، أَوِ اعْتَرَفَ بِالسِّحْرِ ، وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ قَدْ سَحَرَهُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَإِنِ اعْتَرَفَ أَنَّهُ سَحَرَهُ سُئِلَ عَنْ سِحْرِهِ ؛ لِأَنَّ آثَارَ السِّحْرِ مُخْتَلِفَةٌ وَلَيْسَ يُمْكِنُ الْعَمَلُ فِيهَا إِلَّا عَلَى قَوْلِ السَّاحِرِ ، وَلَا يَخْلُو حَالُ بَيَانِهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقُولَ : عَمَدْتُ سِحْرَهُ ، وَسِحْرِي يَقْتُلُ فِي الْأَغْلَبِ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ لَا يَقْتُلَ . فَهَذَا قَاتِلُ عَمْدٍ مَحْضٍ وَعَلَيْهِ الْقَوَدُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قَوَدَ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنْ لَا قَوَدَ إِلَّا بِالْمُحَدَّدِ ، وَدَلِيلُنَا : أَنَّهُ قَتَلَهُ بِمَا يَقْتُلُ مِثْلَهُ فِي الْأَغْلَبِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ فِي عَمْدِهِ الْقَوَدَ كَالْمُحَدَّدِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَقُولَ : سِحْرِي لَا يَقْتُلُ فِي الْأَغْلَبِ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَقْتُلَ ، وَقَدْ مَاتَ مِنْ سِحْرِي . فَهَذَا قَاتِلُ عَمْدِ شِبْهِ الْخَطَأِ ، عَلَيْهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً دُونَ الْقَوَدِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا دِيَةَ عَلَيْهِ ، احْتِجَاجًا بِأَنَّ الْقَتْلَ إِنَّمَا يُضْمَنُ بِالْمُبَاشَرَةِ ، أَوْ بِالْأَسْبَابِ الْحَادِثَةِ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ . وَلَيْسَ فِي السِّحْرِ وَاحِدٌ مِنْهَا ، فَلَمْ تُوجِبْ ضَمَانَ النَّفْسِ كَالشَّتْمِ وَالْبَهْتِ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ الْقَتْلَ حَدَثَ عَنْ سَبَبٍ قَاتِلٍ ، فَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ ضَمَانُ النَّفْسِ كَالسُّمِّ وَحَفْرِ الْبِئْرِ ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَنْفَصِلَ مِنَ السِّحْرِ مَا يَتَّصِلُ بِالْمَسْحُورِ ، كَمَا يَنْفَصِلُ مِنَ الْمُتَثَاوِبِ مَا يَتَّصِلُ بِالْمُقَابِلِ لَهُ فَيَثَّاوَبُ ، وَكَمَا يَنْفَصِلُ مِنْ نَظَرِ الَّذِي يُعِينُ مَا اسْتَحْسَنَ فَيَتَّصِلُ بِالْمُعِينِ وَالْمُسْتَحْسِنِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : الْعَيْنُ حَقٌّ كَمَا أَنَا حَقٌّ وَفِي هَذَا الدَّلِيلِ انْفِصَالٌ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَقُولَ : سِحْرِي يُمْرِضُ وَلَا يَقْتُلُ ، وَقَدْ أَمْرَضَهُ سِحْرِي وَمَاتَ بِغَيْرِهِ . فَهَذَا يُعْتَبَرُ فِيهِ حَالُ الْمَسْحُورِ ، فَإِنْ لَمْ يَزَلْ ضِمْنًا مَرِيضًا مِنْ وَقْتِ السِّحْرِ إِلَى وَقْتِ الْمَوْتِ ، فَالظَّاهِرُ مِنْهُ حُدُوثُ مَوْتِهِ مَنْ مَرَضِ سِحْرِهِ ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ وَلِيِّ الْمَسْحُورِ مَعَ يَمِينِهِ . وَإِنْ كَانَ قَدِ انْقَطَعَ عَنْهُ الْمَرَضُ وَصَارَ دَاخِلًا خَارِجًا ، فَالظَّاهِرُ مِنْ مَوْتِهِ أَنَّهُ بِسَبَبِ حَادِثٍ غَيْرِ سِحْرِهِ ، فَيَحْلِفُ السَّاحِرُ لَقَدْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ سِحْرِهِ ، كَالْجِرَاحَةِ إِذَا حَدَثَ بَعْدَهَا مَوْتُ الْمَجْرُوحِ ، وَاخْتَلَفَ الْوَلِيُّ وَالْجَارِحُ ، فَإِنْ لَمْ يَنْدَمِلِ الْجُرْحُ وَكَانَ عَلَى أَلَمِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ مَعَ يَمِينِهِ ، وَإِنِ انْدَمَلَ وَزَالَ الْأَلَمُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَارِحِ مَعَ يَمِينهِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَقُولَ : سِحْرِي قَدْ يُمْرِضُ وَلَا يُمْرِضُ ، وَمَا أَمْرَضَهُ سِحْرِي . فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَيُعَزَّرُ أَدَبًا وَزَجْرًا ، وَيُسْتَتَابُ ، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ عُزِّرَ إِذَا سَحَرَ وَلَا يُعَزَّرُ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ مِنَ التَّوْبَةِ ، إِذَا لَمْ يَسْحَرْ . وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

قِتَالُ أَهْلِ الْبَغْيِ

بَابُ مَنْ يَجِبُ قِتَالُهُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَالسِّيرَةِ فِيهِمْ

أَصْلُ مَا وَرَدَ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ

قِتَالُ أَهْلِ الْبَغْيِ بَابُ مَنْ يَجِبُ قِتَالُهُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَالسِّيرَةِ فِيهِمْ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [ الْحُجُرَاتِ : 9 ] . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذِهِ الْآيَةُ هِيَ أَصْلُ مَا وَرَدَ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ ، وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا حَكَاهُ السُّدِّيُّ : أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ تُدْعَى أَمَّ زَيْدٍ ، أَرَادَتْ زِيَارَةَ أَهْلِهَا فَمَنَعَهَا زَوْجُهَا ، فَاقْتَتَلَ أَهْلُهُ وَأَهْلُهَا ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ . وَالثَّانِي : مَا حَكَاهُ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَهْطِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولٍ مِنَ الْخَزْرَجِ ، وَرَهْطِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ مِنَ الْأَوْسِ . وَسَبَبُهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولٍ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ لَهُ ، فَرَاثَ الْحِمَارُ ، فَأَمْسَكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولٍ أَنْفَهُ ، وَقَالَ : إِلَيْكَ حِمَارَكَ . فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ ، وَقَالَ : لَحِمَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْيَبُ رِيحًا مِنْكَ وَمِنْ أَبِيكَ . وَتَنَافَرُوا ، وَأَعَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَوْمَهُ ، فَاقْتَتَلُوا بِالنِّعَالِ وَالْأَيْدِي ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ ، وَأَصْلَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ . فَقَالَ : وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [ الْحُجُرَاتِ : 19 ] . يَعْنِي : جَمْعَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَخْرَجَهُمُ التَّنَافُرُ إِلَى الْقِتَالِ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ، وَهَذَا خِطِابٌ نُدِبَ إِلَيْهِ كُلُّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ مِنَ الْوُلَاةِ وَغَيْرِ الْوُلَاةِ ، وَإِنْ كَانَ بِالْوُلَاةِ أَخَصَّ . فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى وَالْبَغْيُ : التَّعَدِّي بِالْقُوَّةِ إِلَى طَلَبِ مَا لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ .

فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تَبْغِي بِالتَّعَدِّي فِي الْقِتَالِ . وَالثَّانِي : تَبْغِي بِالْعُدُولِ عَنِ الصُّلْحِ . وَهَذَا الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ مُخَاطَبٌ بِهِ الْوُلَاةُ دُونَ غَيْرِهِمْ . حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ أَيْ : تَرْجِعَ ، وَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى الصُّلْحِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ . قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ . وَالثَّانِي : حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ، قَالَهُ قَتَادَةُ . فَإِنْ فَاءَتْ يَعْنِي : رَجَعَتْ عَنِ الْبَغْيِ . فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بِالْحَقِّ . وَالثَّانِي : بِكِتَابِ اللَّهِ . وَأَقْسِطُوا يَعْنِي : اعْدِلُوا ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : اعْدِلُوا فِي تَرْكِ الْهَوَى وَالْمُمَايَلَةِ . وَالثَّانِي : فِي تَرْكِ الْعُقُوبَةِ وَالْمُؤَاخَذَةِ . إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ يَعْنِي الْعَادِلِينَ . قَالَ أَبُو مَالِكٍ : فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ . فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى بَقَاءِ الْبُغَاةِ عَلَى إِيمَانِهِمْ . وَدَلَّتْ عَلَى الِابْتِدَاءِ بِالصُّلْحِ قَبْلَ قِتَالِهِمْ . وَدَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ قِتَالِهِمْ إِنْ أَقَامُوا عَلَى بَغْيِهِمْ . وَدَلَّتْ عَلَى الْكَفِّ عَنِ الْقِتَالِ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ . وَدَلَّتْ عَلَى أَنْ لَا تِبَاعَةَ عَلَيْهِمْ فِيمَا كَانَ بَيْنَهُمْ . فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَحْكَامٍ دَلَّتْ عَلَيْهَا هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَفِيهَا دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ فَمَنَعَ مِنْهُ ، وَجَبَ قِتَالُهُ عَلَيْهِ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ .

فَرَوَى سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا . وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ عَنْ عُنُقِهِ . وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ الدَّالُّ عَلَى إِبَاحَةِ قتال أهل البغي قِتَالِهِمْ : فَهُوَ مُنْعَقِدٌ عَنْ فِعْلِ إِمَامَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَبُو بَكْرٍ فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ في عهد أبو بكر . وَالثَّانِي : عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي قِتَالِ مَنْ خَلَعَ طَاعَتَهُ . فَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ قَاتَلَ طَائِفَتَيْنِ : طَائِفَةٌ ارْتَدَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ مَعَ مُسَيْلِمَةَ وَطُلَيْحَةَ وَالْعَنْسِيَّ ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي قِتَالِهِمْ أَحَدٌ . وَطَائِفَةٌ أَقَامُوا عَلَى الْإِسْلَامِ وَمَنَعُوا الزَّكَاةَ بِتَأْوِيلٍ اشْتَبَهَ ، فَخَالَفَهُ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ فِي الِابْتِدَاءِ ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَأْيِهِ ، وَوَافَقُوهُ عَلَيْهِ فِي الِانْتِهَاءِ حِينَ وَضَحَ لَهُمُ الصَّوَابُ ، وَزَالَتْ عَنْهُمُ الشُّبْهَةُ . وَنَحْنُ نَذْكُرُ شَرْحَهُ مِنْ بَعْدُ مُفَصَّلًا ، فَكَانَ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ مَعَهُ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْمُخَالَفَةِ لَهُ أَوْكَدَ . وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ شَهِدَ بِنَفْسِهِ قِتَالَ مَنْ بَغَى عَلَيْهِ ، فَأَوَّلُ مَنْ قَاتَلَ مِنْهُمْ أَهْلَ الْجَمَلِ بِالْبَصْرَةِ مَعَ عَائِشَةَ . وَثَنَّى بِقِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ بِصِفِّينَ مَعَ مُعَاوِيَةَ . وَثَلَّثَ بِقِتَالِ أَهْلِ النَّهْرَوَانِ مِنَ الْخَوَارِجِ . فَسَارَ فِي قِتَالِهِمْ سِيرَةَ أَبِي بَكْرٍ فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ إِبَاحَةُ قِتَالِهِمْ عَلَى بَغْيِهِمْ ، فَقِتَالُهُمْ مُعْتَبَرٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا ، وَرَابِعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ .

أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونُوا فِي مَنَعَةٍ ، بِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ ، لَا يُمْكِنُ تَفْرِيقُ جَمْعِهِمْ إِلَّا بِقِتَالِهِمْ شروط قتال الإمام للبغاة . فَإِنْ كَانُوا آحَادًا لَا يَمْتَنِعُونَ اسْتُوفِيَتْ مِنْهُمُ الْحُقُوقُ ، وَلَمْ يُقَاتَلُوا . قَالَ الشَّافِعِيُّ : قَتَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجِمٍ عَلِيًّا رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ مُتَأَوِّلًا ، فَأُقِيدَ بِهِ . يَعْنِي : أَنَّهُ لَمَّا انْفَرَدَ وَلَمْ يَمْتَنِعْ بِعَدَدٍ ، لَمْ يُؤَثِّرْ تَأْوِيلُهُ فِي أَخْذِ الْقَوَدِ مِنْهُ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَعْتَزِلُوا عَنْ دَارِ أَهْلِ الْعَدْلِ بِدَارٍ يَنْحَازُونَ إِلَيْهَا وَيَتَمَيَّزُونَ بِهَا شروط قتال الإمام للبغاة ، كَأَهْلِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ . فَإِنْ كَانُوا عَلَى اخْتِلَاطٍ بِأَهْلِ الْعَدْلِ ، وَلَمْ يَنْفَرِدُوا عَنْهُمْ : لَمْ يُقَاتَلُوا . رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَخْطُبُ ، فَسَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ : لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ - تَعْرِيضًا بِالرَّدِّ عَلَيْهِ فِيمَا كَانَ مِنْ تَحْكِيمِهِ - فَقَالَ عَلِيٌّ : كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ ، لَكُمْ عَلَيْنَا ثَلَاثٌ : لَا نَمْنَعُكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللَّهِ ، وَلَا نَمْنَعُكُمُ الْفَيْءَ مَا دَامَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَنَا ، وَلَا نَبْدَؤُكُمْ بِقِتَالٍ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يُخَالِفُوهُ بِتَأْوِيلٍ مُحْتَمَلٍ شروط قتال الإمام للبغاة ، كَالَّذِي تَأَوَّلَهُ أَهْلُ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِدَمِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . فَإِذَا بَايَنُوا مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ ، أُجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْحِرَابَةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ . وَأَمَّا الرَّابِعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ : فَهُوَ نَصْبُ إِمَامٍ لَهُمْ يَجْتَمِعُونَ عَلَى طَاعَتِهِ ، وَيَنْقَادُونَ لِأَمْرِهِ شروط قتال الإمام للبغاة ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ : إِنَّهُ شَرْطٌ يُسْتَحَقُّ بِهِ قِتَالُهُمْ ، لِيَسْتَقِرَّ بِهِ تَمَيُّزُهُمْ وَمُبَايِنَتُهُمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : إِنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي قِتَالِهِمْ . لِأَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَاتَلَ أَهْلَ الْجَمَلِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِمَامٌ ، وَقَاتَلَ أَهْلَ صِفِّينَ قَبْلَ أَنْ يُنَصِّبُوا إِمَامًا لَهُمْ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَكَامَلَتِ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي قِتَالِهِمْ ، لَمْ يَبْدَأْ بِهِ الْإِمَامُ حَتَّى يَسْأَلَهُمْ عَنْ سَبَبِ انْفِرَادِهِمْ وَمُبَايَنَتِهِمْ قتال البغاة ، فَإِنْ ذَكَرُوا مَظْلَمَةً أَزَالَهَا ، وَإِنْ ذَكَرُوا شُبْهَةً كَشَفَهَا وَنَاظَرَهُمْ عَلَيْهَا ، حَتَّى يَظْهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ فِيهَا : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمْرَ بِالْإِصْلَاحِ أَوَّلًا ، وَبِالْقِتَالِ أَخِيرًا . وَلِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَنَفَذَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِلَى الْخَوَارِجِ بَالنَّهْرَوَانِ ،

يَسْأَلُهُمْ عَنْ سَبَبِ مُبَايَنَتِهِمْ وَيَحِلُّ شُبْهَةَ تَأْوِيلِهِمْ : لِتَظَاهُرِهِمْ بِالْعِبَادَةِ وَالْخُشُوعِ وَحَمْلِ الْمَصَاحِفِ فِي أَعْنَاقِهِمْ ، فَقَالَ لَهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ : هَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَوْجُ ابْنَتِهِ ، وَقَدْ عَرَفْتُمْ فَضْلَهُ فَمَا تَنْقِمُونَ مِنْهُ ؟ قَالُوا : نَنْقِمُ مِنْهُ ثَلَاثًا : حَكَمَ فِي دِينِ اللَّهِ ، وَقَدْ أَغْنَى كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ عَنِ التَّحْكِيمِ . وَقَتَلَ وَلَمْ يَسْبِ ، وَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ إِمَّا أَنْ يَقْتُلَ وَيَسْبِيَ أَوْ لَا يَقْتُلَ وَلَا يَسْبِيَ : لِأَنَّهُ إِذَا حُرِّمَتْ أَمْوَالُهُمْ فَقَدْ حُرِّمَتْ دِمَاؤُهُمْ . وَمَحَا اسْمَهُ مِنَ الْخِلَافَةِ ، فَإِنْ كَانَ عَلَى حَقٍّ فَلِمَ خُلِعَ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ حَقٍّ فَلِمَ دَخَلَ ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَمَّا قَوْلُكُمْ : إِنَّهُ حَكَمَ فِي دِينِ اللَّهِ ، فَقَدْ حَكَّمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدِّينِ فَقَالَ : وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا [ النِّسَاءِ : 35 ] . وَقَالَ تَعَالَى : يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [ الْمَائِدَةِ : 65 ] ، فَحَكَّمَ فِي أَرْنَبٍ قِيمَتُهُ دِرْهَمٌ ، فَبِأَنْ يُحَكِّمَ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ أَوْلَى . فَرَجَعُوا عَنْ هَذَا . فَقَالَ : وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : كَيْفَ قَتَلَ وَلَمْ يَسْبِ ؟ فَلَوْ حَصَلَتْ عَائِشَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَهْمِ أَحَدِكُمْ كَيْفَ يَصْنَعُ ؟ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا [ الْأَحْزَابِ : 53 ] . قَالُوا : رَجَعْنَا عَنْ هَذِهِ . قَالَ : وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : إِنَّهُ مَحَا اسْمَهُ مِنَ الْخِلَافَةِ حِينَ كَتَبَ كِتَابَ التَّحْكِيمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ ، فَقَدْ مَحَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمَهُ مِنَ النُّبُوَّةِ حِينَ قَاضَى سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَقَدْ كَتَبَ كِتَابَ الْقَضِيَّةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، فَكَتَبَ : هَذَا مَا قَاضَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو . فَقَالَ سُهَيْلٌ : لَا تَكْتُبْ " رَسُولُ اللَّهِ " ، فَلَوْ عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا خَالَفْنَاكَ ، فَاكْتُبْ " مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ " . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلِيٍّ : امْحُهُ . فَقَالَ : لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَمْحُوَ اسْمَكَ مِنَ النُّبُوَّةِ .

فَقَالَ لَهُ : أَرِنِيهِ ، فَأَرَاهُ ، فَمَحَاهُ بِإِصْبَعِهِ . فَرَجَعَ بَعْضُهُمْ وَبَقِيَ مِنْهُمْ نَحْوُ أَرْبَعَةِ آلَافٍ لَمْ يَرْجِعُوا ، فَعَادَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَأَخْبَرَهُ ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : سِيرُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ ، فَلَنْ يُفْلِتَ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ ، وَلَنْ يُقْتَلَ مِنْكُمْ عَشَرَةٌ ، فَسَارُوا مَعَهُ إِلَيْهِمْ فَقَتَلَهُمْ ، وَأَفْلَتَ مِنْهُمْ ثَمَانِيَةٌ ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ تِسْعَةٌ ، وَقَالَ : اطْلُبُوا لِي ذَا الثَّدِيَّةِ . فَرَأَوْهُ قَتِيلًا بَيْنَهُمْ ، فَكَبَّرَ عَلِيٌّ ، وَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَ رَسُولِهِ إِذْ قَالَ لِي : تُقَاتِلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ فِيهِمْ ذُو الثَّدِيَّةِ . فَهَذِهِ سِيرَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِيهِمْ . وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ السِّيرَةَ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَخَذُوا السِّيرَةَ فِي قِتَالِ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَأَخَذُوا السِّيرَةَ فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُقَدِّمُ قَبْلَ قِتَالِهِمْ سُؤَالَهَمْ عَنْ سَبَبِ بَغْيِهِمْ وَاعْتِزَالِهِمْ عَنِ الْجَمَاعَةِ ، ثُمَّ مُنَاظَرَتَهُمْ فِي حَلِّ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ ، فَمَتَى أَمَلَ رُجُوعَهُمْ إِلَى الطَّاعَةِ وَدُخُولَهُمْ فِي الْجَمَاعَةِ بِالْقَوْلِ وَالْمُنَاظَرَةِ لَمْ يَتَجَاوَزْهُ إِلَى الْقِتَالِ ، وَإِنْ يَئِسَ مِنْ رُجُوعِهِمْ بَعْدَ كَشْفِ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ ، جَازَ لِإِمَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ حِينَئِذٍ قِتَالُهُمْ وَمُحَارَبَتُهُمْ ، وَانْقَسَمَتْ أَحْوَالُهُمْ فِي قِتَالِهِمْ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا كَانَ قِتَالُهُمْ عَلَيْهِ وَاجِبًا . وَالثَّانِي : مَا كَانَ قِتَالُهُمْ عَلَيْهِ مُبَاحًا . وَالثَّالِثُ : مَا اخْتَلَفَ الْقَوْلُ فِي وُجُوبِهِ وَإِبَاحَتِهِ . فَأَمَّا مَا وَجَبَ قِتَالُهُمْ عَلَيْهِ : فَهُوَ بِوَاحِدٍ مِنْ خَمْسَةِ أُمُورٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَعَرَّضُوا لِحَرِيمِ أَهْلِ الْعَدْلِ مايوجب قتال أهل البغي بِإِفْسَادِ سَبِيلِهِمْ . وَالثَّانِي : أَنْ يَتَعَطَّلَ جِهَادُ الْمُشْرِكِينَ بِهِمْ مايوجب قتال أهل البغي . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ مَا لَيْسَ لَهُمْ مايوجب قتال أهل البغي . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَمْتَنِعُوا مِنْ دَفْعِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ مايوجب قتال أهل البغي . وَالْخَامِسُ : أَنْ يَتَظَاهَرُوا عَلَى خَلْعِ الْإِمَامِ الَّذِي قَدِ انْعَقَدَتْ بَيْعَتُهُ وَلَزِمَتْ طَاعَتُهُ مايوجب قتال أهل البغي .

رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ خَلَعَ يَدَهُ مِنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً . وَأَمَّا مَا أُبِيحَ قِتَالُهُمْ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ : فَهُوَ أَنْ يَنْفَرِدُوا عَنِ الْجَمَاعَةِ وَلَا يَمْتَنِعُوا مِنْ حَقٍّ ، وَلَا يَتَعَدَّوْا إِلَى مَا لَيْسَ لَهُمْ بِحَقٍّ ما يبيح قتال أهل البغي ولا يوجبه ، فَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ قِتَالُهُمْ لِتَفْرِيقِ الْجَمَاعَةِ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قِتَالُهُمْ لِتَظَاهُرِهِمْ بِالطَّاعَةِ . رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ خَرَجَ عَنِ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ . وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ قِتَالِهِمْ وَإِبَاحَتِهِ : فَهُوَ إِذَا امْتَنَعُوا مَعَ انْفِرَادِهِمْ مِنْ دَفْعِ زَكَاةِ أَمْوَالِهِمُ الظَّاهِرَةِ ما اختلف في قتال أهل البغي عليه ، وَقَامُوا بِتَفْرِقَتِهَا فِي أَهْلِ السَّهْمَيْنِ مِنْهُمْ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ : إِنَّ قِتَالَهُمْ عَلَيْهَا وَاجِبٌ ، إِذَا قِيلَ فِيهَا بِوُجُوبِ دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ : إِنَّ قِتَالَهُمْ عَلَيْهَا مُبَاحٌ ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ إِذَا قِيلَ فِيهِ : إِنَّ دَفْعَهَا إِلَى الْإِمَامِ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى جَدُّهُ أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ وَلَمْ يَذْكُرْ تِبَاعَةً فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الصُّلْحَ آخِرًا كَمَا ذَكَرَ الْإِصْلَاحَ بَيْنَهُمْ أَوَّلًا قَبْلَ الْإِذْنِ بِقِتَالِهِمْ : فَأَشْبَهَ هَذَا أَنْ تَكُونَ التَّبِعَاتُ فِي الدِّمَاءِ وَالْجِرَاحِ وَمَا تَلِفَ مِنَ الْأَمْوَالِ سَاقِطَةً بَيْنَهُمْ ، وَكَمَا قَالَ ابْنُ شِهَابٍ عِنْدَنَا : قَدْ كَانَتْ فِي تِلْكَ الْفِتْنَةِ دِمَاءٌ يُعْرَفُ فِي بَعْضِهَا الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ ، وَأُتْلِفَتْ فِيهَا أَمْوَالٌ ، ثُمَّ صَارَ النَّاسُ إِلَى أَنْ سَكَنَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ وَجَرَى الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ ، فَمَا عَلِمْتُهُ اقْتُصَّ مِنْ أَحَدٍ وَلَا أُغْرِمَ مَالًا أَتْلَفَهُ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَمَا عَلِمْتُ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ مَا حَوَوْا فِي الْبَغْيِ مِنْ مَالٍ فَوُجِدَ بِعَيْنِهِ أَنَّ صَاحِبَهُ أَحَقُّ بِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْمُسْتَهْلَكُ بَيْنَ أَهْلِ الْعَدْلِ وَأَهْلِ الْبَغْيِ فِي غَيْرِ ثَائِرَةِ الْحَرْبِ وَالْتِحَامِ الْقِتَالِ مِنْ دِمَاءٍ وَأَمْوَالٍ ، فَهِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَى مُسْتَهْلِكِهَا ، سَوَاءٌ كَانَ اسْتِهْلَاكُهَا قَبْلَ الْقِتَالِ أَوْ بَعْدَ ، فَيَضْمَنُ أَهْلُ الْبَغْيِ مَا اسْتَهْلَكُوهُ لِأَهْلِ الْعَدْلِ مِنْ دِمَاءٍ وَأَمْوَالٍ ، وَيَضْمَنُ أَهْلُ الْعَدْلِ مَا اسْتَهْلَكُوهُ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ مِنْ دِمَاءٍ وَأَمْوَالٍ ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مِنَ الْمُسْلِمِ مَالَهُ وَدَمَهُ ، وَأَنْ لَا يَظُنَّ بِهِ إِلَّا خَيْرًا . وَأَمَّا الْمُسْتَهْلَكُ فِي ثَائِرَةِ الْحَرْبِ وَالْتِحَامِ الْقِتَالِ من أموال ودماء البغاة ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فِيمَا اسْتَهْلَكُوهُ مِنْ دِمَاءِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَأَمْوَالِهِمْ : لِأَمْرَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا وَجَبَ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ مِنْ قِتَالِهِمْ يَمْنَعُ مِنْ ضَمَانِ مَا تَلِفَ بِالْقِتَالِ مِنْ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ : لِتَنَافِي اجْتِمَاعِ وُجُوبِ الْقِتَالِ وَوُجُوبِ الضَّمَانِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَقْصُودَ الْقِتَالِ دَفْعُهُمْ عَنْ بَغْيِهِمْ ، فَصَارُوا فِي هَدَرِهَا كَالطَّالِبِ إِذَا قَتَلَهُ الْمَطْلُوبُ دَفَعًا عَنْ نَفْسِهِ . وَهَلْ يَضْمَنُ أَهْلُ الْبَغْيِ لِأَهْلِ الْعَدْلِ مَا اسْتَهْلَكُوهُ مِنْ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ أَمْ لَا ؟ في حال المعركة عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُ مَالِكٍ : أَنَّهُمْ يَضْمَنُونَهُ لَهُمْ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ لَمَّا ضَمِنُوهُ إِذَا لَمْ يَمْتَنِعُوا ضَمِنُوهُ وَإِنِ امْتَنَعُوا كَأَهْلِ الْحِرَابَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْقِتَالُ مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ ، كَانَ مَا حَدَثَ عَنْهُ مَضْمُونًا كَالْجِنَايَاتِ ، كَمَا أَنَّ الْقِتَالَ لَمَّا وَجَبَ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ كَانَ مَا حَدَثَ عَنْهُ غَيْرَ مَضْمُونٍ كَالْحُدُودِ ، لِفَرْقِ مَا بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمَحْظُورِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا [ الْحُجُرَاتِ : 9 ] . فَأَمَرَ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ ، وَلَمْ يَذْكُرْ تَبِعَةً فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ ، فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِهِ عَنْهُمْ . وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَالَ لِمَنْ تَابَ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ : تَدُونَ قَتْلَانَا وَلَا نَدِي قَتْلَاكُمْ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : لَا نَأْخُذُ لِقَتْلَانَا دِيَةً : لِأَنَّهُمْ عَمِلُوا لِلَّهِ وَأُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ ، فَسَكَتَ أَبُو بَكْرٍ سُكُوتَ رَاجِعٍ إِلَى قَوْلِهِ . وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ طُلَيْحَةَ قَتَلَ ثَابِتَ بْنَ أَقْرَمَ وَعُكَّاشَةَ بْنَ مِحْصَنٍ ، وَهَرَبَ إِلَى الشَّامِ ثُمَّ أَسْلَمَ ، وَقَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ ، فَقَبِلَ تَوْبَتَهُ وَلَمْ يَقْتَصَّ مِنْهُ . وَهَكَذَا فَعَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْجَمَلِ ؛ لَمْ يَأْخُذْ أَحَدًا بِمَا اسْتَهْلَكَهُ مِنْ دَمٍ وَلَا مَالٍ ، مَعَ مَعْرِفَةِ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ وَالتَّالِفِ وَالْمَتْلُوفِ . وَهَكَذَا حَكَى ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالزُّهْرِيُّ ، فَدَلَّ عَلَى الْإِجْمَاعِ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ . وَلِأَنَّهُمَا طَائِفَتَانِ مُمْتَنِعَتَانِ اقْتَتَلَتَا تَدَيُّنًا ، فَلَمْ يَضْمَنْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَالْمُسْلِمِينَ .

[ وَلِأَنَّ تَضْمِينَ أَهْلِ الْبَغْيِ مَا أَتْلَفُوهُ مُنَفِّرٌ لَهُمْ وَمَانِعٌ مِنْ رُجُوعِهِمْ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُطْرَحًا كَمَا أُطْرِحَ فِي أَهْلِ الْحَرْبِ ] .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ ، فَإِنْ قِيلَ بِالْأَوَّلِ : إِنَّ الضَّمَانَ وَاجِبٌ ، ضُمِنَتِ الْأَمْوَالُ بِالْغُرْمِ ، فَأَمَّا النُّفُوسُ فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً أَوْ عَمْدَ الْخَطَأِ ضَمِنَتْ عَاقِلَةُ الْقَاتِلِ الدِّيَةَ دُونَ الْقَاتِلِ . وَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا مَحْضًا فَفِي ضَمَانِهَا بِالْقَوَدِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : تُضْمَنُ بِالْقَوَدِ : لِأَنَّهَا تُضْمَنُ فِي الْحَرْبِ كَمَا تُضْمَنُ فِي غَيْرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا تُضْمَنُ بِالدِّيَةِ دُونَ الْقَوَدِ : لِأَنَّهَا حَالُ شُبْهَةٍ تُدْرَأُ بِهَا الْحُدُودَ ، وَتَكُونُ الدِّيَةُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ . وَإِنْ قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي : فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ ، سَقَطَ ضَمَانُ مَا تَلِفَ مِنَ الْأَمْوَالِ ، وَوَجَبَ رَدُّ مَا بَقِيَ مِنْهَا . فَأَمَّا إِنْ أَتْلَفَ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ قِتَالٍ ، نُظِرَ حَالُ مُتْلِفِهِ : فَإِنْ قَصَدَ بِمَا أَتْلَفَهُ مِنْهَا إِضْعَافَهُمْ وَهَزِيمَتَهُمْ لَمْ يَضْمَنْهَا . وَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّشَفِّي وَالِانْتِقَامَ ضَمِنَهَا ، وَصَارَتْ كَالْمُسْتَهْلَكِ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ الْقِتَالِ . وَأَمَّا النُّفُوسُ : فَمَنْ قُتِلَ فِي الْقِتَالِ لَمْ يُضْمَنْ فِي عَمْدٍ وَلَا خَطَأٍ بِقَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ ، وَفِي ضَمَانِهِ بِالْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْأَصَحُّ ، أَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْكَفَّارَةِ ، كَمَا كَانَ غَيْرَ مَضْمُونٍ بِقَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُضْمَنُ بِالْكَفَّارَةِ : لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَتَأَكَّدَتْ عَلَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، وَكَمَا يُضْمَنُ نَفْسُ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِالْكَفَّارَةِ دُونَ الدِّيَةِ . وَمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ وَهُوَ مُعْتَزِلٌ عَنْ صُفُوفِ الْحَرْبِ : فَإِنْ كَانَ رَدْءًا لَهُمْ وَعَوْنًا : سَقَطَ ضَمَانُ نَفْسِهِ كَالْمُقَاتِلَةِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَدْءًا وَلَا عَوْنًا : خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْمُقَاتِلَةِ وَضُمِنَتْ نَفْسُهُ بِالدِّيَةِ ، وَفِي ضَمَانِهَا بِالْقَوَدِ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى .

أَهْلُ الرِّدَّةِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرْبَانِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَهْلُ الرِّدَّةِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرْبَانِ : فَمِنْهُمْ قَوْمٌ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ مِثْلُ طُلَيْحَةَ وَمُسَيْلِمَةَ وَالْعَنْسِيِّ وَأَصْحَابِهِمْ ، وَمِنْهُمْ قَوْمٌ تَمَسَّكُوا بِالْإِسْلَامِ وَمَنَعُوا الصَّدَقَاتِ وَلَهُمْ لِسَانٌ عَرَبِيٌّ . وَالرِّدَّةُ ارْتِدَادٌ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ ، وَارْتِدَادٌ بِمَنْعِ حَقٍّ كَانُوا عَلَيْهِ ، وَقَوْلُ عُمَرَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوهَا فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ ؟ وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ : هَذَا مِنْ حَقِّهَا ، لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا مِمَّا أَعْطَوْهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهَا مَعْرِفَةٌ مِنْهُمَا مَعًا أَنَّ مِمَّنْ قَاتَلُوا مَنْ تَمَسَّكَ بِالْإِسْلَامِ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا شَكَّ عُمَرُ فِي قِتَالِهِمْ ، وَلَقَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ تَرَكُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَصَارُوا مُشْرِكِينَ ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي مُخَاطَبَتِهِمْ جُيُوشَ أَبِي بَكْرٍ وَأَشْعَارِ مَنْ قَالَ الشِّعْرَ مِنْهُمْ فَقَالَ شَاعِرُهُمْ : أَلَا أَصْبِحِينَا قَبْلَ ثَائِرَةِ الْفَجْرِ لَعَلَّ مَنَايَانَا قَرِيبٌ وَمَا نَدْرِي أَطَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ بَيْنَنَا فَيَا عَجَبًا مَا بَالُ مُلْكِ أَبِي بَكْرِ فَإِنَّ الَّذِي سَأَلُوكُمْ فَمَنَعْتُمُ لَكَالتَّمْرِ أَوْ أَحْلَى إِلَيْهِمْ مِنَ التَّمْرِ سَنَمْنَعُهُمْ مَا كَانَ فِينَا بَقِيَّةٌ كِرَامٌ عَلَى الْعَزَّاءِ فِي سَاعَةِ الْعُسْرِ وَقَالُوا لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ الْإِسَارِ : مَا كَفَرْنَا بَعْدَ إِيمَانِنَا ، وَلَكِنَّا شَحَحْنَا عَلَى أَمْوَالِنَا . فَسَارَ إِلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ بِنَفْسِهِ حَتَّى لَقِيَ أَخَا بَنِي بَدْرٍ الْفَزَارِيَّ فَقَاتَلَهُ وَمَعَهُ عُمَرُ وَعَامَّةُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ أَمْضَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَالِدًا فِي قِتَالِ مَنِ ارْتَدَّ وَمَنَعَ الزَّكَاةَ فَقَاتَلَهُمْ بِعَوَامَّ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : فَفِي هَذَا دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ مَنَعَ حَقًّا مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَقْدِرِ الْإِمَامُ عَلَى أَخْذِهِ بِامْتِنَاعِهِ قَاتَلَهُ ، وَإِنْ أَتَى الْقِتَالُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى كُلُّ حَقٍّ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ فَمَنَعَهُ بِجَمَاعَةٍ وَقَالَ : لَا أُؤَدِّي وَلَا أَبْدَؤُكُمْ بِقِتَالٍ . قُوتِلَ ، وَكَذَا قَالَ : مَنْ مَنَعَ الصَّدَقَةَ مِمَّنْ نُسِبَ إِلَى الرِّدَّةِ . فَإِذَا لَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِتَالِهِمْ بِمَنْعِ الزَّكَاةِ ، فَالْبَاغِي الَّذِي يُقَاتِلُ الْإِمَامَ الْعَادِلَ فِي مِثْلِ مَعْنَاهُمْ فِي أَنَّهُ لَا يُعْطِي الْإِمَامَ الْعَادِلَ حَقًّا يَجِبُ عَلَيْهِ وَيَمْتَنِعُ مِنْ حُكْمِهِ ، وَيَزِيدُ عَلَى مَانِعِ الصَّدَقَةِ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَحْكُمَ هُوَ عَلَى الْإِمَامِ الْعَادِلِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَصَدَ الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ أَمْرَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : الرَّدُّ عَلَى طَائِفَةٍ نَسَبَتْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ إِلَى الْخَطَأِ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ ، وَقَالُوا : هَلَّا فَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَهُ عُثْمَانُ أَغْلَقَ بَابَهُ وَكَفَّ أَصْحَابَهُ عَنِ الْقِتَالِ ؟ وَكَالَّذِي فَعَلَ ابْنُهُ الْحَسَنُ حِينَ رَأَى الثَّائِرَةَ قَدْ هَاجَتْ ، وَالدِّمَاءَ قَدْ طَاحَتْ ، سَلَّمَ الْأَمْرَ تَسْلِيمَ تَقَرُّبٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ ؟ فَرَدَّ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِمْ : بِأَنَّهُ مَا ابْتَدَعَ ذَلِكَ ، وَلَا ارْتَكَبَ فِيهِ مَحْظُورًا ، فَقَدْ فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ مَا فَعَلَهُ ، وَإِنِ اخْتَلَفَ السَّبَبَانِ فِيهِ ، فَإِنَّ أَهْلَ الرِّدَّةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرْبَانِ : مِنْهُمْ مَنِ ارْتَدَّ عَنْ دِينِهِ وَكَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ ، مِثْلُ مُسَيْلِمَةَ تَنَبَّأَ بِالْيَمَامَةِ فَارْتَدَّ مَعَهُ مَنْ أَطَاعَهُ مَنْ بَنِي حَنِيفَةَ ، وَمِثْلُ طُلَيْحَةَ تَنَبَّأَ بِالْيَمَنِ فَارْتَدَّ مَعَهُ مَنْ أَطَاعَهُ مِنْ أَهْلِهَا . وَمِثْلُ الْعَنْسِيِّ تَنَبَّأَ فِي قَوْمِهِ فَارْتَدَّ مَعَهُ مَنْ أَطَاعَهُ مِنْهُمْ ، فَجَهَّزَ الْجُيُوشَ إِلَيْهِمْ ، وَكَانَ أَوَّلُ جَيْشٍ سَيَّرَهُ إِلَيْهِمْ جَيْشَ أُسَامَةَ ، وَكَانَ مُبَرِّزًا بِظَاهِرِ الْمَدِينَةِ حِينَ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَيَّرَهُمْ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَبْنَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ ، فَعَادَ ظَافِرًا ، ثُمَّ سَيَّرَ إِلَى مُسَيْلِمَةَ جَيْشًا وَأَمَدَّهُمْ بِالْجُيُوشِ حَتَّى قُتِلَ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ مَنْ قُتِلَ ، وَأَسْلَمَ مِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ . فَهَذَا ضَرَبٌ مِنْهُمُ انْطَلَقَ عَلَيْهِمُ اسْمُ الرِّدَّةِ لُغَةً وَشَرْعًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي مِنْهُمْ : مَنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى إِسْلَامِهِ وَمَنَعَ مِنَ الزَّكَاةِ بِتَأْوِيلٍ ذَهَبَ إِلَيْهِ ، وَشُبْهَةٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [ التَّوْبَةِ : 103 ] ، وَكَانَ دُخُولُ الشُّبْهَةِ عَلَيْهِمْ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ خَاطَبَ بِهِ رَسُولَهُ ، فَلَمْ يَتَوَجَّهِ الْخِطَابُ إِلَى غَيْرِهِ . وَالثَّانِي : قَوْلُهُ : إِنْ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَلَيْسَتْ صَلَوَاتُ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ سَكَنًا لَنَا ، فَاشْتَبَهَ تَأْوِيلُهُمْ عَلَى قَوْمٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَصَحَّ فَسَادُهُ لِأَبِي بَكْرٍ ، فَأَذْعَنَ عَلَى قِتَالِهِمْ ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ بِالْكَفِّ عَنْهُمْ ، مِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لِأَنْ أَخِرُّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَتَخَطَّفُنِي الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِيَ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ، لَأَهْوَنُ عَلَيَّ مِمَّا سَمِعْتُ مِنْكُمْ يَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ، وَاللَّهِ لَا فَرَّقْتُ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ ، يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى : وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [ الْبَقَرَةِ : 43 ] ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا أَوْ عِقَالًا كَانُوا مِمَّا أَعْطَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ ، أَرَأَيْتُمْ لَوْ سَأَلُوا تَرْكَ الصَّلَاةِ ، أَرَأَيْتُمْ لَوْ سَأَلُوا تَرْكَ الصِّيَامِ ، أَرَأَيْتُمْ لَوْ سَأَلُوا تَرْكَ الْحَجِّ ، أَرَأَيْتُمْ لَوْ سَأَلُوا شُرْبَ الْخَمْرِ ، أَرَأَيْتُمْ لَوْ سَأَلُوا الزِّنَى ، فَإِذًا لَا تَبْقَى عُرْوَةٌ مِنْ عُرَى الْإِسْلَامِ إِلَّا انْحَلَّتْ .

فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : عَلَامَ نُقَاتِلُهُمْ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ . فَوَكَزَ أَبُو بَكْرٍ فِي صَدْرِ عُمَرَ ، وَقَالَ : إِلَيْكَ عَنِّي شَدِيدًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ خَوَّارًا فِي الْإِسْلَامِ ، وَهَلْ هَذَا إِلَّا مِنْ حَقِّهَا ؟ قَالَ عُمَرُ : فَشَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ ، فَحِينَئِذٍ أَجْمَعُوا مَعَهُ عَلَى قِتَالِهِمْ مَعَ بَقَائِهِمْ عَلَى إِسْلَامِهِمْ ، وَلَمْ يَكُنِ الْإِسْلَامُ مَانِعًا مِنْ قِتَالِهِمْ : لِأَنَّهُمْ مَنَعُوا حَقًّا عَلَيِهِمْ . وَكَذَلِكَ حَالُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قِتَالِ مَنْ قَاتَلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ . وَلَا يَكُونُ كَفُّ عُثْمَانَ وَتَسْلِيمُ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حُجَّةً عَلَيْهِ : لِأَنَّ لِكُلِّ وَقْتٍ حُكْمًا ، وَلِكُلِّ مُجْتَهِدٍ رَأْيًا . وَلَا يَمْنَعُ إِسْلَامُ مَانِعِي الزَّكَاةِ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الرِّدَّةِ عَلَيْهِمْ لُغَةً ، وَإِنْ لَمْ يَنْطَلِقْ عَلَيْهِمْ شَرْعًا : لِأَنَّهُ لِسَانٌ عَرَبِيٌّ ، وَالرِّدَّةُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الرُّجُوعُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [ الْكَهْفِ : 64 ] ، أَيْ : رَجَعَا ، فَانْطَلَقَ اسْمُ الرِّدَّةِ عَلَى مَنْ رَجَعَ عَنِ الزَّكَاةِ كَانْطِلَاقِهِ عَلَى مَنْ رَجَعَ عَنِ الدِّينِ . فَهَذَا أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ فِي مُرَادِ الشَّافِعِيِّ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي مِنْ مُرَادِهِ بِهَا : فَالْكَلَامُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ ، وَهُمْ ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ : مَنَعُوهَا فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ . وَضَرْبٌ : مَنَعُوهَا مِنْ بَعْدُ . فَأَمَّا مَانِعُوهَا عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ : فَهُمْ مَنْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُمْ بِمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ مِنْ تَأْوِيلِ الْآيَةِ ، فَلَا يَكُونُوا مُرْتَدِّينَ وَهُمْ بَاقُونَ عَلَى إِسْلَامِهِمْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : قَدِ ارْتَدُّوا بِامْتِنَاعِهِمْ عَنْهَا : لِاسْتِحْلَالِهِمْ مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى خِلَافِهِ ، كَمَا لَوِ اسْتَحَلُّوا الْآنَ مَنْعَهَا . وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٌ : لِأَنَّ الصَّحَابَةَ عَارَضُوا أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ لِبَقَائِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ ، فَوَافَقَهُمْ أَبُو بَكْرٍ عَلَى إِسْلَامِهِمْ ، وَبَيَّنَ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِقِتَالِهِمْ ، وَلَوِ ارْتَدُّوا لَمَا عَارَضُوهُ ، وَلَمَا احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِمَا احْتَجَّ ، فَدَلَّ عَلَى إِجْمَاعِهِمْ أَنَّهُمْ بَاقُونَ عَلَى إِسْلَامِهِمْ . وَلِأَنَّ الْقَوْمَ حِينَ تَابُوا وَقَدِمُوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ قَالُوا : وَاللَّهِ مَا كَفَرْنَا بَعْدَ إِيمَانِنَا وَلَكِنْ شَحَحْنَا عَلَى أَمْوَالِنَا .

وَقَدْ بَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ فِي قَوْلِ شَاعِرِهِمْ : أَلَا أَصْبِحِينَا قَبْلَ ثَائِرَةِ الْفَجْرِ لَعَلَّ مَنَايَانَا قَرِيبٌ وَمَا نَدْرِي أَطَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ بَيْنَنَا فَيَا عَجَبًا مَا بَالُ مُلْكِ أَبِي بَكْرِ فَإِنَّ الَّذِي سَأَلُوكُمُ فَمَنَعْتُمُ لَكَالتَّمْرِ أَوْ أَحْلَى إِلَيْهِمْ مِنَ التَّمْرِ سَنَمْنَعُهُمْ مَا كَانَ فِينَا بَقِيَّةٌ كِرَامٌ عَلَى الْعَزَّاءِ فِي سَاعَةِ الْعُسْرِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَلَا أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مَا قَالُوهُ مِنْ بَقَائِهِمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ ، فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِهِ إِجْمَاعًا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا مَانِعُو الزَّكَاةِ مِنْ بَعْدُ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَنْ مَنَعَهَا مُسْتَحِلًّا لِمَنْعِهَا ، فَيَكُونُ بِاسْتِحْلَالِ الْمَنْعِ مُرْتَدًّا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَانِعُ مِنْهَا فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ مُرْتَدًّا . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْمَنْعَ الْأَوَّلَ كَانَ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ عَلَى إِبْطَالِ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ مِنْ حُكْمِ الْآيَةِ ، فَكَانَ لِتَأْوِيلِ الشُّبْهَةِ مَسَاغًا ، وَالْمَنْعُ الْحَادِثُ بَعْدَهُ قَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى إِبْطَالِ الشُّبْهَةِ فِيهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِلتَّأْوِيلِ مَسَاغٌ ، فَافْتَرَقَا فِي حُكْمِ الرِّدَّةِ : لِافْتِرَاقِهِمَا فِي حَالِ الْإِجْمَاعِ . وَمِثَالُهُ : شَارِبُ الْخَمْرِ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ لَمَّا اسْتَحَلَّ شُرْبَهَا بِشُبْهَةٍ تَعَلَّقَ بِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا [ الْمَائِدَةِ : 93 ] ، لَمْ يُكَفَّرْ لِاحْتِمَالِ شُبْهَتِهِ ، فَلَمَّا أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا التَّأْوِيلِ صَارَ مُسْتَحِلُّهَا كَافِرًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَمْنَعُوا مِنْهَا غَيْرَ مُسْتَحِلِّينَ لِمَنْعِهَا ، فَيَجُوزُ قِتَالُهُمْ عَلَى أَخْذِهَا مِنْهُمْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا مَعَ إِقْرَارِهِمْ بِوُجُوبِهَا : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِتَعَلُّقِهَا بِأَمْوَالِهِمْ دُونَ أَبْدَانِهِمْ ، فَكَانَ الْمَالُ هُوَ الْمَطْلُوبَ دُونَهُمْ . وَالثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ ائْتَمَنَهُمْ عَلَى أَدَائِهَا فَكَانَتْ كَالْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ لِلصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ : وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا أَوْ عِقَالًا مِمَّا أَعْطَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ . فَوَافَقُوهُ عَلَيْهِ بَعْدَ مُخَالَفَتِهِمْ لَهُ ، فَدَلَّ عَلَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بِهِ . وَلِأَنَّهُمْ لَمَّا قُوتِلُوا لِامْتِنَاعِهِمْ مِنْ حَقِّ الْإِمَامِ فِي الطَّاعَةِ ، كَانَ قِتَالُهُمْ فِي امْتِنَاعِهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الزَّكَاةِ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ الْعِبَادَاتِ نَوْعَانِ : عَلَى أَبْدَانٍ ، وَفِي أَمْوَالٍ ،

فَلَمَّا قُوتِلُوا فِي عِبَادَاتِ الْأَبْدَانِ قُوتِلُوا فِي عِبَادَاتِ الْأَمْوَالِ . وَقَوْلُهُمْ : إِنَّ الْمَالَ هُوَ الْمَطْلُوبُ فَصَحِيحٌ ؛ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يُوَصَلْ إِلَيْهِ إِلَّا بِقِتَالِهِمْ ، صَارَ قِتَالُهُمْ مُوَصِّلًا إِلَى أَخْذِ الْحَقِّ مِنْهُمْ ، وَمَا أَوْصَلَ إِلَى الْحَقِّ كَانَ حَقًّا . وَأَمَّا الْأَمْوَالُ الْبَاطِنَةُ فَفِيهَا جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا نَظَرَ لِلْإِمَامِ فِيهَا ، فَلَمْ يُحَارِبْهُمْ عَلَيْهَا ، وَخَالَفَتِ الْأَمْوَالَ الظَّاهِرَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَاتَلُوا عَلَى إِخْرَاجِهَا إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا ، وَإِنْ لَمْ يُقَاتَلُوا عَلَى دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ قِتَالِهِمْ عَلَى مَنْعِهَا ، فَإِنْ قَدَرَ الْإِمَامُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَخَذَ زَكَاتَهَا مِنْهَا بِغَيْرِ قِتَالٍ نُظِرَ . فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهَا لِرَفْعِ أَيْدِيهِمْ عَنْهَا ، مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الدَّفْعِ عَنْهَا لَمْ يُقَاتِلْهُمْ : لِأَنَّ هَذَا تَمْكِينٌ مِنَ الزَّكَاةِ . وَإِنْ كَانَ لِعَجْزِهِمْ عَنِ الدَّفْعِ عَنْهَا ، كَانَ عَلَى قِتَالِهِمْ ، حَتَّى يُظْهِرُوا الطَّاعَةَ بِأَدَائِهَا طَوْعًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَنَّ نَفَرًا يَسِيرًا قَلِيلِي الْعَدَدِ وَيُعْرَفُ أَنَّ مِثْلَهُمْ لَا يَمْتَنِعُ إِذَا أُرِيدُوا ، فَأَظْهَرُوا آرَاءَهُمْ وَنَابَذُوا الْإِمَامَ الْعَادِلَ وَقَالُوا : نَمْتَنِعُ مِنَ الْحُكْمِ فَأَصَابُوا أَمْوَالًا وَدِمَاءً وَحَدَّدُوا فِي هَذِهِ الْحَالِ مُتَأَوِّلِينَ ، ثُمَّ ظُهِرَ عَلَيْهِمْ ، أُقِيمَتْ عَلَيْهِمُ الْحُدُودُ وَأُخِذَتْ مِنْهُمُ الْحُقُوقُ ، كَمَا تُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ الْمُتَأَوِّلِينَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا قَلَّ أَهْلُ الْبَغْيِ وَلَمْ يَنْفَرِدُوا بِدَارٍ ، وَنَالَتْهُمُ الْقُدْرَةُ ، وَلَمْ يَمْنَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِكَثْرَةٍ وَقُوَّةٍ لَمْ يُؤَثِّرْ مَا تَأَوَّلُوهُ فِي سُقُوطِ الْحُقُوقِ عَنْهُمْ ، وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ . فَقَدْ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجِمٍ مِنْ أَسْوَأِ الْبُغَاةِ مُعْتَقَدًا ، وَأَعْظَمِهِمْ إِجْرَامًا ، قَالَ - وَعَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ بِالْكُوفَةِ - : وَاللَّهِ لَأُرِيحَنَّهُمْ مِنْكَ . فَأَخَذَهُ النَّاسُ وَحَمَلُوهُ إِلَيْهِ ، وَقَالُوا : اقْتُلْهُ قَبْلَ أَنْ يَقْتُلَكَ ، فَقَالَ : كَيْفَ أَقْتُلُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْتُلَنِي ؟ وَخَلَّى سَبِيلَهُ ، فَبَاتَ لَهُ فِي الْمَسْجِدِ ، فَخَرَجَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ مُغَلِّسًا . وَقِيلَ : إِنَّهُ أَنْشَدَ بِالِاتِّفَاقِ قَوْلَ الشَّاعِرِ :

اشْدُدْ حَيَازِيمَكَ لِلْمَوْتِ فَإِنَّ الْمَوْتَ آتِيكَ وَلَا تَجْزَعْ مِنَ الْمَوْتِ إِذَا حَلَّ بِوَادِيكَ وَأَحْرَمَ بِرَكْعَتِي الْفَجْرِ ، فَأَمْسَكَ ابْنُ مُلْجِمٍ عَنْهُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى حَتَّى قَدَّرَ رُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ ، وَرَأَى سُجُودَهُ أَطْوَلَ مِنْ رُكُوعِهِ ، وَكَذَا السُّنَّةُ . فَلَمَّا قَامَ إِلَى الثَّانِيَةِ ضَرْبَهُ فِي سُجُودِهِ ضَرْبَةً فَلَقَ بِهَا هَامَتَهُ . فَقَالَ عَلِيٌّ : فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ . وَأُخِذَ ابْنُ مُلْجِمٍ فَحُمِلَ إِلَيْهِ ، وَقِيلَ لَهُ : اقْتُلْهُ قَبْلَ أَنْ يَقْتُلَكَ . فَقَالَ : كَيْفَ أَقْتُلُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْتُلَنِي ؟ إِنْ عِشْتُ فَأَنَا وَلِيُّ دَمِي أَعْفُو إِنْ شِئْتُ ، وَإِنْ شِئْتُ اسْتَقَدْتُ ، وَإِنْ مُتُّ فَقَتَلْتُمُوهُ فَلَا تُمَثِّلُوا ، وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى . وَكَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَلَمَّا جَاءَ وَقْتُ الْإِفْطَارِ ، قَالَ : أَطْعِمُوهُ وَأَحْسِنُوا إِسَارَهُ ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قُدِّمَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ فِي دَارِهِ ابْنُ مُلْجِمٍ . فَلَمَّا مَاتَ قَتَلَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَوَدًا . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَفِي النَّاسِ بَقِيَّةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا أَنْكَرَ قَتْلَهُ وَلَا عَابَهُ أَحَدٌ . فَدَلَّ عَلَى فَرْقِ مَا بَيْنَ الِامْتِنَاعِ وَالْقُدْرَةِ . وَلِأَنَّ سُقُوطَ الْقَوَدِ فِي الِامْتِنَاعِ وَالْكَثْرَةِ إِنَّمَا هُوَ لِلْحَاجَةِ إِلَى تَأَلُّفِهِمْ فِي الرُّجُوعِ إِلَى الطَّاعَةِ ، وَالْمُنْفَرِدُ مَقْهُورٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأَلُّفِهِ ، فَلِذَلِكَ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُمْتَنِعِ وَغَيْرِ الْمُمْتَنِعِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا كَانَتْ لِأَهْلِ الْبَغْيِ جَمَاعَةٌ تَكْبُرُ وَيَمْتَنِعُ مِثْلُهَا بِمَوْضِعِهَا الَّذِي هِيَ بِهِ بَعْضَ الِامْتِنَاعِ حَتَّى يُعْرَفَ أَنَّ مِثْلَهَا لَا يُنَالُ إِلَّا حَتَّى تَكْثُرَ نِكَايَتُهُ ، وَاعْتَقَدَتْ وَنَصَّبَتْ إِمَامًا وَأَظْهَرَتْ حُكْمًا وَامْتَنَعَتْ مِنْ حُكْمِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ ، فَهَذِهِ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ الَّتِي تُفَارِقُ حُكْمَ مَنْ ذَكَرْنَا قَبْلَهَا ، فَإِنْ فَعَلُوا مِثْلَ هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُسْأَلُوا مَا نَقَمُوا ، فَإِنْ ذَكَرُوا مَظْلَمَةً بَيِّنَةً رُدَّتْ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوهَا بَيِّنَةً ، قِيلَ : عُودُوا لِمَا فَارَقْتُمْ مِنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ ، وَأَنْ تَكُونَ كَلِمَتُكُمْ وَكَلِمَةُ أَهْلِ دِينِ اللَّهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَاحِدَةً ، وَأَنْ لَا تَمْتَنِعُوا مِنَ الْحُكْمِ ، فَإِنْ فَعَلُوا قُبِلَ مِنْهُمْ ، وَإِنِ امْتَنَعُوا قِيلَ : إِنَّا مُؤْذِنُوكُمْ بِحَرْبٍ ، فَإِنْ لَمْ

يُجِيبُوا قُوتِلُوا وَلَا يُقَاتَلُوا حَتَّى يُدْعَوْا وَيُنَاظَرُوا إِلَّا أَنْ يَمْتَنِعُوا مِنَ الْمُنَاظَرَةِ فَيُقَاتَلُوا حَتَّى يَفِيئُوا إِلَى أَمْرِ اللَّهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ أَهْلِ الْبَغْيِ أَنَّهُمْ ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ خَرَجُوا عَنِ الْقُدْرَةِ بِالِامْتِنَاعِ وَالْكَثْرَةِ ، وَلَا يُوصَلُ إِلَيْهِمْ إِلَّا بِالْجُيُوشِ وَالْمُقَاتِلَةِ أقسام البغاة . فَهُمْ مَنْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي إِبَاحَةِ قِتَالِهِمْ ، وَأَنَّ أَهْلَ الْعَدْلِ لَا يَضْمَنُونَ مَا اسْتَهْلَكُوهُ عَلَيْهِمْ فِي ثَائِرَةِ الْحَرْبِ مِنْ دِمَاءٍ وَأَمْوَالٍ ، وَفِي تَضْمِينِ أَهْلِ الْبَغْيِ مَا اسْتَهْلَكُوهُ عَنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي ثَائِرَةِ الْحَرْبِ مِنْ دِمَاءٍ وَأَمْوَالٍ قَوْلَانِ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَنْ كَانَ تَحْتَ الْقُدْرَةِ أقسام البغاة ، وَهُمْ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَخْتَلِطُوا بِأَهْلِ الْعَدْلِ كَابْنِ مُلْجِمٍ وَأَشْيَاعِهِ ، فَأَحْكَامُنَا عَلَيْهِمْ جَارِيَةٌ فِي الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ ، وَهُمْ مُؤَاخَذُونَ بِضَمَانِ مَا اسْتَهْلَكُوهُ مِنْ دِمَاءٍ وَأَمْوَالٍ ، سَوَاءٌ اسْتَهْلَكُوهَا عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ ، أَوِ اسْتَهْلَكُوهَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَيُؤْخَذُ أَهْلُ الْعَدْلِ بِضَمَانِ مَا اسْتَهْلَكُوهُ عَلَيْهِمْ مِنْ دِمَاءٍ وَأَمْوَالٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَنْفَرِدُوا بِدَارٍ لِكَثْرَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَظَاهَرُوا بِخُلُقِ الطَّاعَةِ ، وَلَا امْتَنَعُوا مِنْ أَدَاءِ الْحُقُوقِ ، فَهَؤُلَاءِ يَجِبُ الْكَفُّ عَنْهُمْ ، وَلَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ مَا أَقَامُوا عَلَى حَالِهِمْ ، وَإِنْ خَالَفُوا أَهْلَ الْعَدْلِ فِي مُعْتَقَدِهِمْ . فَقَدِ اعْتَزَلَ أَهْلُ النَّهْرَوَانِ عَلِيًّا وَخَالَفُوهُ فِي رَأْيِهِ ، فَوَلَّى عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ عَامِلًا ، فَأَطَاعُوهُ ، فَكَفَّ عَنْهُمْ ، ثُمَّ قَتَلُوهُ ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عَلِيٌّ أَنْ سَلِّمُوا إِلَيَّ قَاتِلَهُ أُقِيدُ مِنْهُ ، قَالُوا : كُلُّنَا قَتَلَهُ . فَسَارَ إِلَيْهِمْ حَتَّى قَتَلَهُمْ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا فَعَلُوهُ قَبْلَ التَّظَاهُرِ بِخَلْعِ الطَّاعَةِ هُمْ بِهِ مُؤَاخَذُونَ وَلَهُ ضَامِنُونَ . كَذَلِكَ مَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ ، وَيَصِيرُ مُخَالِفًا لِحُكْمِ مَنْ تَظَاهَرَ بِخَلْعِ الطَّاعَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي قِتَالِهِمْ إِذَا تَظَاهَرُوا بِخَلْعِ الطَّاعَةِ ، وَالْكَفِّ عَنْهُمْ إِذَا لَمْ يَتَظَاهَرُوا . وَالثَّانِي : فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْهُمْ إِذَا تَظَاهَرُوا ، فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ ، وَوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمْ قَوْلًا وَاحِدًا إِذَا لَمْ يَتَظَاهَرُوا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَالْفَيْئَةُ الرُّجُوعُ عَنِ الْقِتَالِ بِالْهَزِيمَةِ أَوِ التَّرْكِ لِلْقِتَالِ ؛ أَيْ حَالَ تَرَكُوا فِيهَا الْقِتَالَ فَقَدْ فَاؤُوا وَحَرُمَ قِتَالُهُمْ : لِأَنَّهُ أَمْرٌ أَنْ يُقَاتَلَ ، وَإِنَّمَا يُقَاتَلُ مَنْ يُقَاتِلُ ، فَإِذَا لَمْ يُقَاتِلْ حَرُمَ بِالْإِسْلَامِ أَنْ يُقَاتَلَ ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ فَإِنَّمَا يُقَالُ : اقْتُلُوهُ لَا

قَاتِلُوهُ . نَادَى مُنَادِي عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْجَمَلِ : أَلَا لَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ ، وَأُتِيَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ صِفِّينَ بِأَسِيرٍ ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ : لَا أَقْتُلُكَ صَبْرًا إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ، فَخَلَّى سَبِيلَهُ وَالْحَرْبُ يَوْمَ صِفِّينَ قَائِمَةٌ ، وَمُعَاوِيَةُ يُقَاتِلُ جَادًّا فِي أَيَّامِهِ كُلِّهَا مُنْتَصِفًا ، أَوْ مُسْتَعْلِيًا ، فَبِهَذَا كُلِّهِ أَقُولُ وَأَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ جَمَاعَةً مُمْتَنِعَةً فَحُكْمُهُ الْقِصَاصُ ، قَتَلَ ابْنُ مُلْجِمٍ عَلِيًّا مُتَأَوِّلًا فَأَمَرَ بِحَبْسِهِ ، وَقَالَ لِوَلَدِهِ : إِنْ قَتَلْتُمْ فَلَا تُمَثِّلُوا ، وَرَأَى عَلَيْهِ الْقَتْلَ ، وَقَتَلَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَفِي النَّاسِ بَقِيَّةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا أَنْكَرَ قَتْلَهُ وَلَا عَابَهُ أَحَدٌ ، وَلَمْ يَقُدْ عَلِيٌّ - وَقَدْ وَلِيَ قِتَالَ الْمُتَأَوِّلِينَ - وَلَا أَبُو بَكْرٍ مِنْ قَتْلِهِ الْجَمَاعَةَ الْمُمْتَنِعُ مِثْلُهَا عَلَى التَّأْوِيلِ عَلَى مَا وَصَفْنَا وَلَا عَلَى الْكُفْرِ ، وَإِنْ كَانَ بِارْتِدَادٍ إِذَا تَابُوا ، قَدْ قَتَلَ طُلَيْحَةُ عُكَّاشَةَ بْنَ مِحْصَنٍ وَثَابِتَ بْنَ أَقْرَمَ ، ثُمَّ أَسْلَمَ فَلَمْ يَضْمَنْ عَقْلًا وَلَا قَوَدًا ، فَأَمَّا جَمَاعَةٌ مُمْتَنِعَةٌ غَيْرُ مُتَأَوِّلِينَ قَتَلَتْ وَأَخَذَتِ الْمَالَ ، فَحُكْمُهُمْ حُكْمُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : هَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ : لِأَنَّهُ أَلْزَمَهُمْ هُنَاكَ مَا وَضَعَ عَنْهُمْ هَهُنَا ، وَهَذَا أَشْبَهُ عِنْدِي بِالْقِيَاسِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصْلُ هَذَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [ الْحُجُرَاتِ : 9 ] . فَكَانَ قَوْلُهُ : فَقَاتِلُوا يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِقِتَالِهِمْ لَا بِقَتْلِهِمْ . وَقَوْلُهُ : حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ هُوَ الْغَايَةُ فِي إِبَاحَةِ قِتَالِهِمْ . وَالْفَيْئَةُ فِي كَلَامِهِمْ : الرُّجُوعُ ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ تَتَّفِقُ أَحْكَامُهَا وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهَا : أَحَدُهَا : أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى طَاعَةِ الْإِمَامِ وَالِانْقِيَادِ لِأَمْرِهِ ترك قتال البغاة ، فَهُوَ غَايَةُ مَا أُرِيدَ مِنْهُمْ ، وَقَدْ خَرَجُوا بِهِ مِنَ الْبَغْيِ اسْمًا وَحُكْمًا ، وَصَارُوا دَاخِلِينَ فِي أَحْكَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُلْقُوا سِلَاحَهُمْ مُسْتَسْلِمِينَ ترك قتال البغاة ، فَالْوَاجِبُ الْكَفُّ عَنْهُمْ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِقِتَالِهِمْ لَا بِقَتْلِهِمْ ، وَخَالَفُوا أَهْلَ الْحَرْبِ إِذَا أَلْقَوْا سِلَاحَهُمْ فِي جَوَازِ قَتْلِهِمْ : لِأَنَّ الْأَمْرَ فِي أَهْلِ الْحَرْبِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى قَتْلِهِمْ ، وَفِي أَهْلِ الْبَغْيِ إِلَى قِتَالِهِمْ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يُوَلُّوا مُنْهَزِمِينَ ترك قتال البغاة فَيَجِبُ الْكَفُّ عَنْهُمْ ، وَلَا يُتْبَعُوا بَعْدَ هَزِيمَتِهِمْ . فَقَدْ نَادَى مُنَادِي عَلِيٍّ يَوْمَ الْجَمَلِ : أَلَا لَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ ، وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَالَ : دَخَلَ عَلَيَّ

مَرْوَانُ فَقَالَ لِي : مَا رَأَيْتُ أَكْرَمَ غَلَبَةً مِنْ أَبِيكَ ، مَا كَانَ إِلَّا أَنْ وَلَّيْنَا يَوْمَ الْجَمَلِ حَتَّى نَادَى مُنَادِيهِ : أَلَا لَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ . وَلَمَّا وَلَّى الزُّبَيْرُ عَنِ الْقِتَالِ وَخَرَجَ عَنِ الصَّفِّ ، قَالَ عَلِيٌّ : أَفْرِجُوا لِلشَّيْخِ فَإِنَّهُ مُحْرِمٌ ، فَمَضَى وَتَبِعَهُ عَمْرُو بْنُ جُرْمُوزٍ حَتَّى ظَفِرَ بِاغْتِيَالِهِ فَقَتَلَهُ بِوَادِي السِّبَاعِ ، وَأَتَى عَلِيًّا بِرَأْسِهِ ، فَقَالَ عَلِيٌّ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : بَشِّرْ قَاتِلَ ابْنِ صَفِيَّةَ بِالنَّارِ . فَقَالَ عَمْرٌو : أُفٍّ لَكُمْ إِنْ كُنَّا مَعَكُمْ أَوْ عَلَيْكُمْ فِي النَّارِ ، فَقَامَ وَهُوَ يَقُولُ : أَتَيْتُ عَلِيًّا بِرَأْسِ الزُّبَيْرِ وَكُنْتُ أَظُنُّ بِهَا زُلْفَتِي فَبَشَّرَ بِالنَّارِ قَبْلَ الْوَعِيدِ وَبِئْسَ بِشَارَةُ ذِي التُّحْفَةِ وَوَلَّى طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ ، فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ حَتَّى رَمَاهُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ بِسَهْمٍ فِي أَكْحَلِهِ فَقَتَلَهُ ، وَكَانَ فِي عَسْكَرِ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ ، فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلِ سَارَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَعَهُ قَنْبَرٌ مَوْلَاهُ بِمِشْعَلَةٍ يَتَصَفَّحُ الْقَتْلَى ، فَمَرَّ بِطَلْحَةَ قَتِيلًا ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَبَكَى وَقَالَ : أَعْزِزْ عَلَيَّ أَبَا مُحَمَّدٍ أَنْ أَرَاكَ مُجَدَّلًا تَحْتَ نُجُومِ السَّمَاءِ ، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، شَفَيْتُ غَيْظِي وَقَتَلْتُ مَعْشَرِي ، إِلَى اللَّهِ أَشْكُو عُجَرِي وَبُجَرِي ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ : فَتًى كَانَ يُعْطِي السَّيْفَ فِي الرَّوْعِ حَقَّهُ إِذَا ثَوَّبَ الدَّاعِي وَيَشْقَى بِهِ الْجَوْرُ فَتًى كَانَ يُدْنِيهِ الْغِنَى مِنْ صَدِيقِهِ إِذَا مَا هُوَ اسْتَغْنَى وَيُبْعِدُهُ الْفَقْرُ

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُمْ لَا يُتْبَعُونَ بَعْدَ انْهِزَامِهِمْ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُنْهَزِمِ إِلَى غَيْرِ دَارٍ يَرْجِعُ إِلَيْهَا ، وَإِلَى غَيْرِ إِمَامٍ يَعُودُ إِلَى طَاعَتِهِ ، وَبَيْنَ الْمُنْهَزِمِ إِلَى دَارٍ وَإِمَامٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُتْبَعُ الْمُنْهَزِمُ إِلَى غَيْرِ دَارٍ وَإِمَامٍ أهل البغي ، وَيُتْبَعُ الْمُنْهَزِمُ إِلَى دَارٍ وَإِمَامٍ أهل البغي وَيُقْتَلُ إِنْ ظُفِرَ بِهِ ؛ احْتِجَاجًا بِأَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَتَّبِعْ مَنِ انْهَزَمَ مِنْ أَهْلِ الْجَمَلِ : لِأَنَّهُمُ انْهَزَمُوا إِلَى غَيْرِ دَارٍ وَإِمَامٍ ، وَاتَّبَعَ مَنِ انْهَزَمَ يَوْمَ صِفِّينَ : لِأَنَّهُمْ رَجَعُوا إِلَى دَارٍ وَإِمَامٍ . حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ اتَّبَعَ مُدْبِرًا لِيَقْتُلَهُ فَكَشَفَ عَنْ سَوْأَتِهِ فَكَفَّ عَلِيٌّ طَرْفَهُ ، وَرَجَعَ عَنْهُ . قَالَ : وَلِأَنَّ الِانْهِزَامَ مَعَ بَقَاءِ الدَّارِ وَالْإِمَامِ لَا يَكُونُ رُجُوعًا عَنِ الْبَغْيِ ، وَلَا مَانِعًا مِنَ الْعَوْدِ . وَدَلِيلُنَا : مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ أُتِيَ بِأَسِيرٍ يَوْمَ صِفِّينَ ، فَقَالَ لَهُ الْأَسِيرُ : أَتَقْتُلُنِي صَبْرًا . فَقَالَ : لَا إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ، وَخَلَّى سَبِيلَهُ .

قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَالْحَرْبُ يَوْمَئِذٍ قَائِمَةٌ ، وَمُعَاوِيَةُ يُقَاتِلُ جَادًّا فِي أَيَّامِهِ كُلِّهَا مُسْتَعْلِيًا أَوْ مُنْتَصِفًا . يَعْنِي : مُسْتَعْلِيًا بِكَثْرَةِ جَيْشِهِ ، أَوْ مُنْتَصِفًا بِمُسَاوَاةِ الْجَيْشِ . وَأُتِيَ مُعَاوِيَةُ بِأَسِيرٍ يَوْمَ صِفِّينَ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ ، فَقَالَ الْأَسِيرُ : وَاللَّهِ مَا تَقْتُلُنِي لِلَّهِ وَلَا فِيهِ ، وَلَكِنْ لِحُطَامِ هَذِهِ الدُّنْيَا ، فَإِنْ عَفَوْتَ فَصَنَعَ اللَّهُ بِكَ مَا هُوَ أَهْلُهُ ، وَإِنْ قَتَلْتَ فَصَنَعَ اللَّهُ بِكَ مَا أَنْتَ أَهْلُهُ . فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ : لَقَدْ سَبَبْتَ فَأَحْسَنْتَ . وَخَلَّى سَبِيلَهُ . وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مَأْمُورٌ بِالْقِتَالِ لَا بِالْقَتْلِ ، وَالْمُوَلِّي غَيْرُ مُقَاتِلٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْتَلَ . وَلِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِتَالِ الْكَفُّ ، وَالْمُوَلِّي كَافٌّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُتْبَعَ . فَأَمَّا احْتِجَاجُهُ بِنِدَائِهِ يَوْمَ الْجَمَلِ دُونَ صِفِّينَ فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَمَرَ بِالنِّدَاءِ فِي الْيَوْمَيْنِ مَعًا ، أَنْ لَا يُتْبَعَ مُدْبِرٌ وَلَا يُذَفَّفَ عَلَى جَرِيحٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ - وَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْيَوْمَيْنِ فِي النِّدَاءِ - فَلِأَنَّ الْحَرْبَ انْجَلَتْ يَوْمَ الْجَمَلِ ، فَتَفَرَّغَ لِلنِّدَاءِ ، وَكَانَتْ يَوْمَ صِفِّينَ بَاقِيَةً فَتَشَاغَلَ بِتَدْبِيرِ الْحَرْبِ عَنِ النِّدَاءِ . وَأَمَّا طَلَبُهُ لِلْأَسِيرِ ، فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اخْتِلَاطِ الصُّفُوفِ وَبَقَاءِ الْقِتَالِ . وَاحْتِجَاجُهُمْ بِجَوَازِ عَوْدِهِ فَلَا مَعْنًى لِتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِعِلَّةٍ لَمْ تَكُنْ ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا تَكُونَ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

لَوْ أَنَّ قَوْمًا أَظْهَرُوا رَأْيَ الْخَوَارِجِ وَتَجَنَّبُوا الْجَمَاعَاتِ وَأَكْفَرُوهُمْ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا أَظْهَرُوا رَأْيَ الْخَوَارِجِ وَتَجَنَّبُوا الْجَمَاعَاتِ وَأَكْفَرُوهُمْ لَمْ يَحِلَّ بِذَلِكَ قِتَالُهُمْ . بَلَغَنَا أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ : لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ ، لَكُمْ عَلَيْنَا ثَلَاثٌ : لَا نَمْنَعُكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللَّهِ ، وَلَا نَمْنَعُكُمُ الْفَيْءَ مَا دَامَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَ أَيْدِينَا ، وَلَا نَبْدَؤُكُمْ بِقِتَالٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْخَوَارِجُ ، فَهُمُ الْخَارِجُونَ عَنِ الْجَمَاعَةِ بِمَذْهَبٍ ابْتَدَعُوهُ وَرَأْيٍ اعْتَقَدُوهُ ، يَرَوْنَ أَنَّ مَنِ ارْتَكَبَ إِحْدَى الْكَبَائِرِ كَفَرَ وَحَبِطَ عَمَلُهُ ، وَاسْتَحَقَّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ ، وَأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ صَارَتْ بِظُهُورِ الْكَبَائِرِ فِيهَا دَارَ كُفْرٍ وَإِبَاحَةٍ ، وَأَنَّ مَنْ تَوَلَّاهُمْ وَجَرَى عَلَى حُكْمِهِمْ فَكَذَلِكَ . فَاعْتَزَلُوا الْجَمَاعَةَ وَأَكْفَرُوهُمْ ، وَامْتَنَعُوا مِنَ الصَّلَاةِ خَلْفَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ، وَسُمُّوا شُرَاةً ، وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهِمْ عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ تَسْمِيَةُ ذَمٍّ ، سَمَّاهُمْ بِهِ أَهْلُ الْعَدْلِ : لِأَنَّهُمْ شَرَوْا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَحَارَبُوا جَمَاعَتَهُمْ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ تَسْمِيَةُ حَمْدٍ ، سَمَّوْا بِهَا أَنْفُسَهُمْ : لِأَنَّهُمْ شَرَوُا الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ، أَيْ : بَاعُوهَا . فَإِذَا اعْتَقَدَ قَوْمٌ رَأْيَ الْخَوَارِجِ وَظَهَرَ مُعْتَقَدُهُمْ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ ، وَهُمْ بَيْنَ أَهْلِ الْعَدْلِ غَيْرُ مُنَابِذِينَ لَهُمْ وَلَا مُتَجَرِّئِينَ عَلَيْهِمْ ، تُرِكُوا عَلَى حَالِهِمْ ، وَلَمْ يَجُزْ قَتْلُهُمْ وَلَا قِتَالُهُمْ ، وَلَمْ يُؤْخَذُوا جَبْرًا بِالِانْتِقَالِ عَنْ مَذْهَبِهِمْ ، وَالرُّجُوعِ عَنْ تَأْوِيلِهِمْ ، وَعُدِلَ إِلَى مُنَاظَرَتِهِمْ وَإِبْطَالِ شُبْهَتِهِمْ بِالْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ ، وَإِنْ كَانُوا عَلَيْهَا مُقِرِّينَ . فَقَدْ أَقَرَّهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ أَنْ يَعْتَزِلُوهُ ، وَسُمِعَ قَائِلُهُمْ يَقُولُ : لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ تَعْرِيضًا بِهِ فِي تَحْكِيمِهِ يَوْمَ صِفِّينَ . فَقَالَ عَلِيٌّ : كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ . وَهَذَا أَحْسَنُ جَوَابٍ لِمَنْ عَرَّضَ بِمِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ . ثُمَّ قَالَ : لَكُمْ عَلَيْنَا ثَلَاثٌ : لَا نَمْنَعُكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللَّهِ ، وَلَا نَمْنَعُكُمُ الْفَيْءَ مَا دَامَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَنَا ، وَلَا نَبْدَؤُكُمْ بِقِتَالٍ . فَجَعَلَ هَذِهِ الْأَحْكَامَ فِيهِمْ كَهِيَ فِي أَهْلِ الْعَدْلِ ، وَاقْتَضَى فِي ذَلِكَ سِيرَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُنَافِقِينَ فِي كَفِّهِ عَنْهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِمُعْتَقَدِهِمْ : لِتَظَاهُرِهِمْ بِطَاعَتِهِ مَعَ اسْتِبْطَانِ مَعْصِيَتِهِ . فَإِنْ صَرَّحَ الْخَوَارِجُ بِسَبِّ الْإِمَامِ ، وَسَبِّ أَهْلِ الْعَدْلِ ، عُزِّرُوا لِلْأَذَى وَذَبًّا عَنْ مَنْصِبِ الْإِمَامَةِ . وَإِنْ عَرَّضُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ ، فَفِي تَعْزِيرِهِمْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُعَزَّرُونَ : لِأَنَّ عَلِيًّا لَمْ يُعَزِّرْ مَنْ عَرَّضَ ، لِفَرْقِ مَا بَيْنَ التَّعْرِيضِ وَالتَّصْرِيحِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ يُعَزَّرُونَ : لِأَنَّ الْإِقْرَارَ عَلَى التَّعْرِيضِ مُفْضٍ إِلَى التَّصْرِيحِ ، فَكَانَ التَّعْزِيرُ حَاسِمًا لِمَا بَعْدَهُ مِنَ التَّصْرِيحِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ قَتَلُوا وَالِيَهُمْ أَوْ غَيْرَهُ قَبْلَ أَنْ يُنَصِّبُوا إِمَامًا أَوْ يُظْهِرُوا حُكْمًا مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْإِمَامِ ، كَانَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْقِصَاصُ ، قَدْ سَلَّمُوا وَأَطَاعُوا وَالِيًا عَلَيْهِمْ مِنْ قِبَلِ عَلِيٍّ ثُمَّ قَتَلُوهُ ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنِ ادْفَعُوا إِلَيْنَا قَاتِلَهُ نَقْتُلُهُ بِهِ ، قَالُوا : كُلُّنَا قَتَلَهُ . قَالَ : فَاسْتَسْلِمُوا نَحْكُمُ عَلَيْكُمْ . قَالُوا : لَا . فَسَارَ إِلَيْهِمْ فَقَاتَلَهُمْ فَأَصَابَ أَكْثَرَهُمْ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا اجْتَمَعَ الْخَوَارِجُ فِي مَوْضِعٍ تَمَيَّزُوا بِهِ عَنْ أَهْلِ الْعَدْلِ ، وَلَمْ يَخْرُجُوا عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ ، وَقَصَدُوا بِالِاعْتِزَالِ أَنْ يَنْفَرِدُوا عَنْ مُخَالِفِهِمْ وَيَتَسَاعَدُوا عَلَى مُعْتَقَدِهِمْ ، كَانَتْ دَارُهُمْ مِنْ جُمْلَةِ دَارِ أَهْلِ الْعَدْلِ ، تُقَامُ عَلَيْهِمُ الْحُدُودُ وَتُسْتَوْفَى مِنْهُمُ الْحُقُوقُ ، وَلَا يُبْدَؤُونُ بِحَرْبٍ وَلَا قِتَالٍ ، مَا لَمْ يَبْدَؤُوا بِالْمُنَابَذَةِ وَالْقِتَالِ . فَإِنْ قَتَلُوا عَامِلَهُمُ الْوَالِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَعْوَانِ الْإِمَامِ ، ثُمَّ أَظْهَرُوا خَلْعَ الْإِمَامِ وَنَابَذُوهُ ، أَجْرَى الْإِمَامُ عَلَيْهِمُ الْقِصَاصُ وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُمْ بِمَا أَظْهَرُوا بَعْدَ الْقَتْلِ مِنَ الْخَلْعِ وَالْمُنَابَذَةِ ، وَكَذَلِكَ مَا اسْتَهْلَكُوهُ مِنَ الْأَمْوَالِ كَانُوا مَأْخُوذِينِ بِضَمَانِهِ . فَقَدْ وَلَّى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى النَّهْرَوَانِ عَامِلَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ ، وَقَدِ اعْتَزَلُوهُ ، فَكَانَ نَاظِرًا فِيهِمْ كَنَظَرِهِ فِي أَهْلِ الْعَدْلِ ، إِلَى أَنْ وَثَبُوا عَلَيْهِ ، وَقَالُوا : مَا تَقَوُلُ فِي الشَّيْخَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ؟ فَقَالَ : مَا أَقُولُ فِي خَلِيفَتَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِمَامَيِ الْمُسْلِمِينَ . قَالُوا : مَا تَقُولُ فِي عُثْمَانَ ؟ فَقَالَ : فِي السِّتِّ الْأَوَائِلِ خَيْرًا . وَأَمْسَكَ عَنِ السِّتِّ الْأَوَاخِرِ . فَقَالُوا : مَا تَقُولُ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ . فَقَالَ : أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَسَيِّدُ الْمُتَّقِينَ . فَعَمَدُوا إِلَيْهِ فَذَبَحُوهُ ، فَرَاسَلَهُمْ عَلِيٌّ أَنْ سَلِّمُوا إِلَيَّ قَاتِلَهُ أَحْكُمْ فِيهِ بِحُكْمِ اللَّهِ . قَالُوا : كُلُّنَا قَتَلَهُ . قَالَ : فَاسْتَسْلِمُوا لِحُكْمِ اللَّهِ ، وَسَارَ إِلَيْهِمْ ، فَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ . فَدَلَّ هَذَا مِنْ فِعْلِهِ عَلَى أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : جَوَازُ إِقْرَارِهِمْ وَإِنِ اعْتَزَلُوا مَا كَانُوا مُتَظَاهِرِينَ بِالطَّاعَةِ . وَالثَّانِي : وُجُوبُ الْقِصَاصِ عَلَيْهِمْ ، وَأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُمْ بِخَلْعِ الطَّاعَةِ . فَأَمَّا مَنْ قَتَلُوهُ بَعْدَ خَلْعِ الطَّاعَةِ وَإِظْهَارِ الْمُنَابَذَةِ ، فَفِي ضَمَانِهِ عَلَيْهِمْ قَوْلَانِ كَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ عَلَيْهِمْ ، اخْتُصَّ بِالْقَاتِلِ مِنْهُمْ ، فَإِنْ سَلَّمُوهُ لَمْ يُقْتَلْ غَيْرُهُ مِنْ مُعِينٍ وَلَا مُشِيرٍ ، وَفِي انْحِتَامِ الْقِصَاصِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُنْحَتِمٌ كَالْقَتْلِ فِي الْحِرَابَةِ لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ : لِأَنَّهُمْ فِي إِشْهَارِ السِّلَاحِ كَالْمُحَارِبِينَ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ . فَعَلَى هَذَا : يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ الْإِمَامُ بِقَتْلِهِ مِنْ غَيْرِ حُضُورِ وَلِيِّهِ وَطَلَبِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ غَيْرُ مَنَحْتِمٍ ، يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْقِصَاصِ فِي غَيْرِهِمْ كَجَرَيَانِ حُكْمِ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِمْ . فَعَلَى هَذَا : لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِقَتْلِهِ حَتَّى يَحْضُرَ وَلِيُّهُ مُطَالِبًا ، فَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ أَوِ الْعَفْوِ عَنْهُمَا . فَإِنْ لَمْ يُسَلِّمُوا الْقَاتِلَ ، جَازَ قِتَالُ جَمِيعِهِمْ وَحَلَّ قَتْلُهُمْ ، وَلَمْ يَخْتَصَّ بِهِ الْقَاتِلُ مِنْهُمْ . فَإِنِ انْجَلَتِ الْحَرْبُ عَنْ بَقِيَّةٍ مِنْهُمْ ، كَفَّ عَنْ قَتْلِهِمْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ فِيهِمْ ، فَيُقْتَلُ قَوَدًا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي انْحِتَامِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَإِذَا قَاتَلَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ أَوْ عَبْدٌ أَوْ غُلَامٌ مُرَاهِقٌ قُوتِلُوا مُقْبِلِينَ وَتُرِكُوا مُوَلِّينَ : لِأَنَّهُمْ مِنْهُمْ " . وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا قَاتَلَ مَعَ أَهْلِ الْبَغْيِ نِسَاؤُهُمْ وَصِبْيَانُهُمْ وَعَبِيدُهُمْ ، كَانُوا فِي حُكْمِهِمْ يُقَاتَلُونَ مُقْبِلِينَ وَيُكَفُّ عَنْهُمْ مُدْبِرِينَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْبَيْعَةِ وَالْجِهَادِ : لِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا فِي وُجُوبِ كَفِّهِمْ عَنِ الْقِتَالِ كَالرِّجَالِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْعَةِ وَالْجِهَادِ . وَلِأَنَّ الْإِمَامَ فِي دَفْعِهِمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ جَارٍ مَجْرَى الدَّافِعِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَهُ دَفْعُ الطَّالِبِ وَلَوْ بِالْقَتْلِ ، وَلَوْ كَانَتِ امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا ، كَذَلِكَ الْمُقَاتِلُ مِنَ الْبُغَاةِ يُدْفَعُ وَلَوْ بِالْقَتْلِ ، وَلَوْ كَانَ امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا . وَلَا يُضْمَنُونَ ، وَإِنْ أَتَى الْقِتَالُ عَلَى نُفُوسِهِمْ ، كَمَا لَا يُضْمَنُ الرَّجُلُ الْبَالِغُ ، وَلَا تُضْمَنُ الْبَهِيمَةُ إِذَا صَالَتْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَخْتَلِفُونَ فِي الْإِسَارِ ، وَلَوْ أُسِرَ بَالِغٌ مِنَ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ فَحُبِسَ لِيُبَايِعَ ، رَجَوْتُ أَنْ يَسَعَ ، وَلَا يَسَعُ أَنْ يُحْبَسَ مَمْلُوكٌ وَلَا غَيْرُ بَالِغٍ مِنَ الْأَحْرَارِ وَلَا امْرَأَةٌ لِتُبَايِعَ ، وَإِنَّمَا يُبَايِعُ النِّسَاءُ عَلَى الْإِسْلَامِ ، فَأَمَّا عَلَى الطَّاعَةِ فَهُنَّ لَا جِهَادَ عَلَيْهِنَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا أُسِرَ أَهْلُ الْبَغْيِ وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُ أَسْرَاهُمْ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ أَنْ يُقْتَلُوا كَأَهْلِ الْحَرْبِ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ : مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ ، مَا حُكْمُ مَنْ بَغَى مِنْ أُمَّتِي ؟ قُلْتُ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يُتْبَعُ مُدْبِرُهُمْ وَلَا يُجْهَزْ عَلَى جَرِيحِهِمْ ، وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهُمْ وَلَا يُقْسَمُ فَيْئُهُمْ . وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ نَصٌّ . وَلِأَنَّ سِيرَةَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِمْ كَانَتْ هَكَذَا ، وَعَلَيْهَا عَمِلَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ . وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِقِتَالِهِمْ البغاة كَفُّهُمْ عَنِ الْقِتَالِ ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ قَتْلَهُمْ . وَلِأَنَّهُمْ فِي دَفْعِهِمْ عَنِ الْبَغْيِ فِي حُكْمِ الطَّالِبِ نَفْسَ الْمَطْلُوبِ الَّذِي لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ بَعْدَ كَفِّهِ ، كَذَلِكَ الْبُغَاةُ ، وَهُمْ بِخِلَافِ أَهْلِ الْحَرْبِ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَتْلُهُمْ بِقِتَالِهِمْ فَافْتَرَقُوا . فَعَلَى هَذَا : لَوْ قُتِلَ أَسِيرٌ مِنْهُمْ أهل البغي ضَمِنَهُ الْقَاتِلُ بِالدِّيَةِ ، وَفِي ضَمَانِهِ بِالْقَوَدِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُقَادُ مِنْهُ : لِأَنَّهُ قَتْلٌ مَحْظُورُ النَّفْسِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُقَادُ مِنْهُ : لِأَنَّهَا شُبْهَةٌ تُدْرَأُ بِالْحُدُودِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ قَتْلَهُمْ بَعْدَ الْإِسَارِ مَحْظُورٌ ، فَهُمْ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ أَحْرَارًا بَالِغِينَ ، فَيَدْعُوَا إِلَى الْبَيْعَةِ عَلَى الطَّاعَةِ ، فَإِنْ أَجَابُوا إِلَيْهَا وَبَايَعُوا الْإِمَامَ عَلَيْهَا ، أُطْلِقُوا وَلَمْ يَجُزْ حَبْسُهُمْ ، وَلَمْ يَلْزَمْ أَخْذُ رَهَائِنِهِمْ وَلَا إِقَامَةُ كُفَلَائِهِمْ ، وَوُكِلُوا إِلَى مَا تَظَاهَرُوا بِهِ مِنَ الطَّاعَةِ ، وَلَمْ يَسْتَكْشِفُوا عَنْ ضَمَائِرِهِمْ . وَإِنِ امْتَنَعُوا مِنْ بَيْعَةِ الْإِمَامِ عَلَى طَاعَتِهِ ، حُبِسُوا إِلَى انْجِلَاءِ الْحَرْبِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عِلَّةِ حَبْسِهِمْ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعِلَّةَ فِي حَبْسِهِمُ امْتِنَاعُهُمْ مِنْ وُجُوبِ الْبَيْعَةِ عَلَيْهِمْ ، وَمَنِ امْتَنَعَ مِنْ وَاجِبٍ عَلَيْهِ حُبِسَ بِهِ كَالدُّيُونِ . وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ . فَعَلَى هَذَا : يَكُونُ حَبْسُهُمْ وَاجِبًا عَلَى الْإِمَامِ ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ : لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ : يُحْبَسُونَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْعِلَّةَ فِي حَبْسِهِمْ أَنْ تَضْعُفَ مُقَاتَلَةُ الْبُغَاةِ بِهِمْ ، وَهَذَا أَصَحُّ التَّعْلِيلَيْنِ .

لِأَنَّهُمْ لَوْ حُبِسُوا لِوُجُوبِ الْبَيْعَةِ لَمَا جَازَ إِطْلَاقُهُمْ بَعْدَ انْجِلَاءِ الْحَرْبِ إِلَّا بِهَا . فَعَلَى هَذَا : يَكُونُ حَبْسُهُمْ مَوْكُولًا إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ : لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ : رَجَوْتُ أَنْ يَسَعَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْأَسْرَى مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْجِهَادِ كَالنِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ وَالصِّبْيَانِ من البغاة ، فَلَا يَجُوزُ حَبْسُهُمْ عَلَى الْبَيْعَةِ : لِأَنَّهُ لَا بَيْعَةَ عَلَى النِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ إِلَّا فِي الْإِسْلَامِ دُونَ الْجِهَادِ ، لِوُجُوبِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ وَسُقُوطِ الْجِهَادِ عَنْهُمْ . وَالصِّبْيَانُ لَا بَيْعَةَ عَلَيْهِمْ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا فِي الْجِهَادِ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : وَيَخْتَلِفُونَ فِي الْإِسَارِ . فَإِذَا لَمْ يَجُزْ حَبْسُهُمْ عَلَى الْبَيْعَةِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ حَبْسِهِمْ لِإِضْعَافِ الْبُغَاةِ عَلَى وَجْهَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْعِلَّتَيْنِ فِي حَبْسِ أَهْلِ الْجِهَادِ مِنْهُمْ : أَحَدُهُمَا : لَا يُحْبَسُونَ إِذَا قِيلَ : إِنَّ عِلَّةَ حَبْسِهِمْ وُجُوبُ الْبَيْعَةِ عَلَيْهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُحْبَسُونَ إِذَا قِيلَ : إِنَّ عِلَّةَ حَبْسِهِمْ إِضْعَافُ الْبُغَاةِ بِهِمْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَأَمَّا إِذَا انْقَضَتِ الْحَرْبُ فَلَا يُحْبَسُ أَسِيرُهُمْ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ انْقِضَاءَ الْحَرْبِ تَكُونُ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : بِالرُّجُوعِ إِلَى الطَّاعَةِ وَالدُّخُولِ فِي الْبَيْعَةِ ترك قتال البغاة ، فَيُطْلَقُ أَسْرَاهُمْ كَمَا خُلِّيَتْ سَبِيلُهُمْ : لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنْهُمْ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَنْقَضِيَ بِالِاسْتِسْلَامِ وَإِلْقَاءِ السِّلَاحِ ترك قتال البغاة ، فَلَا يَجُوزُ بَعْدَ اسْتِسْلَامِهِمْ وَدُخُولِهِمْ تَحْتَ الْقُدْرَةِ أَنْ يُقْتَلُوا ، وَتَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ مَنِ اعْتَقَدَ رَأْيَهُمْ مُوَادِعًا ، فَيُخْلَى سَبِيلُهُمْ وَسَبِيلُ أَسْرَاهُمْ . فَإِنِ اخْتَلَطُوا بِأَهْلِ الْعَدْلِ : كَانُوا عَلَى حُكْمِهِمْ . وَإِنْ تَمَيَّزُوا بِدَارٍ ، قَلَّدَ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ وَالِيًا لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهُمُ الْحُقُوقَ ، وَيُقِيمَ عَلَيْهِمُ الْحُدُودَ ، وَكَانَتْ دَارُهُمْ دَارَ عَدْلٍ ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى رَأْيِ أَهْلِ الْبَغْيِ ، اعْتِبَارًا بِنُفُوذِ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ تَنْقَضِي الْحَرْبَ بِهَزِيمَتِهِمْ البغاة . فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُمْ لَا يُتْبَعُونَ ، سَوَاءٌ كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ يَنْضَمُّونَ إِلَيْهَا أَوْ لَمْ تَكُنْ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَرَى إِتْبَاعَهُمْ ، إِنْ كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ يَنْضَمُّونَ إِلَيْهَا . وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ .

فَأَمَّا أَسْرَاهُمْ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُنْهَزِمِينَ دَارٌ وَفِئَةٌ يَنْضَمُّونَ إِلَيْهَا أحوال أسرى البغاة ، أُطْلِقَ أَسْرَاهُمْ ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ دَارٌ وَفِئَةٌ أحوال أسرى البغاة فَفِي إِطْلَاقِ أَسْرَاهُمْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : وَمُقْتَضَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ فِي حَبْسِهِمْ ، أَنَّهُمْ يُسْتَبْقَوْنَ فِي حَبْسِهِمْ وَلَا يُطْلَقُونَ إِلَّا أَنْ يُبَايِعُوا ، وَلَا تَبْقَى لَهُمْ دَارٌ وَفِئَةٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي فِي حَبْسِهِمْ ، أَنَّهُمْ يُطْلَقُونَ لِمَا قَدْ تَمَّ مِنْ ضَعْفِهِمْ بِالْهَزِيمَةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ سَأَلُوا أَنْ يُنْظَرُوا ، لَمْ أَرَ بَأْسًا عَلَى مَا يَرْجُو الْإِمَامُ مِنْهُمْ . وَإِنْ خَافَ عَلَى الْفِئَةِ الْعَادِلَةِ الضَّعْفَ عَنْهُمْ ، رَأَيْتُ تَأْخِيرَهُمْ إِلَى أَنْ تُمْكِنَهُ الْقُوَّةُ عَلَيْهِمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا سَأَلَ أَهْلُ الْبَغْيِ إِنْظَارَهُمْ وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَا سَأَلُوهُ مِنَ الْإِنْظَارِ قَرِيبًا كَالْيَوْمِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، لَا تَتَفَرَّقُ فِيهَا الْعَسَاكِرُ ، وَلَا يَتَبَاعَدُ فِيهِ مُعَسْكَرُهُ ، فَيُجَابُونَ إِلَيْهِ ، وَيُنْظِرُهُمْ هَذِهِ الْمُدَّةَ ، وَعَسْكَرُهُ مُقِيمٌ عَلَيْهِمْ ، وَيَتَحَرَّزُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنْهُمْ : لِأَنَّ قِتَالَهُمْ لَا يَدُومُ اتِّصَالُهُ لَيْلًا وَنَهَارًا ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنِ اسْتِرَاحَةِ عَسْكَرِهِ وَدَوَابِّهِ ، فَيَجْعَلُهَا إِجَابَةً لِسُؤَالِهِمْ إِعْذَارًا وَإِنْذَارًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَسْأَلُوهُ الْإِنْظَارَ مُدَّةً طَوِيلَةً كَالشَّهْرِ وَمَا قَارَبَهُ ، يَبْعُدُ فِيهَا الْمُعَسْكَرُ وَيَتَفَرَّقُ فِيهَا الْعَسَاكِرُ ، فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِي الْأَصْلَحِ ، بِالْكَشْفِ عَنْ سَرَائِرِهِمْ وَعَنْ أَحْوَالِ عَسْكَرِهِمْ . فَإِنْ عَلِمَ مِنْ مَسْأَلَتِهِمُ الْإِنْظَارَ : لِيَسْتَوْضِحُوا الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ ، أَوْ لِيَجْمَعُوا كَلِمَةَ جَمَاعَتِهِمْ عَلَى الطَّاعَةِ أَنْظَرَهُمْ ، سَوَاءٌ كَانَ فِي عَسْكَرِهِ قُوَّةٌ عَلَيْهِمْ أَوْ ضَعْفٌ عَنْهُمْ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُمْ عَوْدُهُمْ إِلَى الطَّاعَةِ دُونَ الِاصْطِلَامِ . وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ الْإِنْظَارَ : لِيَجْمَعُوا فِيهَا مَا يَتَقَوَّوْنَ بِهِ عَلَيْهِ ، إِمَّا مِنْ عَسَاكِرَ أَوْ أَمْوَالٍ ، أَوْ سَأَلُوهُ الْإِنْظَارَ : لِيَطْلُبُوا لَهُ الْمَكَايِدَ ، أَوْ لِيَتَفَرَّقَ عَنْهُ الْعَسْكَرُ فَيَثْقُلُ عَلَيْهِ الْعَوْدُ . نَظَرَ حِينَئِذٍ إِلَى حَالِ عَسَاكِرِهِ : فَإِنْ وَجَدَ فِيهِمْ قُوَّةً عَلَى قِتَالِهِمْ وَصَبْرًا عَلَى مُطَاوَلَتِهِمْ ، لَمْ يُنْظِرْهُمْ وَأَقَامَ عَلَى حَرْبِهِمْ حَتَّى يُذْعِنُوا بِالطَّاعَةِ أَوْ يَنْهَزِمُوا . وَإِنْ وَجَدَ فِي عَسْكَرِهِ ضَعْفًا عَنْهُمْ وَعَجْزًا عَنْ مُطَاوَلَتِهِمْ ، أَنْظَرَهُمْ لِيَلْتَمِسَ الْقُوَّةَ عَلَيْهِمْ إِمَّا بِعَسَاكِرَ أَوْ بِأَمْوَالٍ ، وَجَعَلَ ظَاهِرَ الْإِنْظَارِ إِجَابَةً لِسُؤَالِهِمْ : لِيُقِيمُوا عَلَى الْكَفِّ وَالْمُوَادَعَةِ ، وَبَاطِنَ إِنْظَارِهِمُ الْتِمَاسَ الْقُوَّةِ عَلَيْهِمْ حَتَّى لَا يَغْفُلَ عَنْهُمْ .



فَصْلٌ : فَإِنْ سَأَلُوا الْإِنْظَارَ مُدَّةً لَا يَجُوزُ إِنْظَارُهُمْ إِلَيْهَا عَلَى مَالٍ بَذَلُوهُ البغاة ، لَمْ يَجُزْ إِنْظَارُهُمْ بِهِ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ بَذْلَ الْمَالِ عَلَى الْمُوَادَعَةِ صَغَارٌ وَذِلَّةٌ ، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَالْجِزْيَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ رُبَّمَا أَخْرَجُوهُ إِلَى إِضْعَافِهِ بِمَا يَتَجَدَّدُ لَهُمْ مِنَ الْقُوَّةِ . فَإِنْ أُخِذَ مِنْهُمُ الْمَالُ عَلَى الْإِنْظَارِ ، بَطَلَ حُكْمُ الْإِنْظَارِ ، وَنُظِرَ فِيمَا دَفَعُوهُ مِنَ الْمَالِ . فَإِنْ كَانَ مِنْ خَالِصِ أَمْوَالِهِمْ رُدَّ عَلَيْهِمْ . وَإِنْ كَانَ مِنَ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَاتِ ، لَمْ يُرَدَّ وَصُرِفَ فِي مُسْتَحِقِّيهِ .

فَصْلٌ : فَإِنْ خِيفَ الْمَكْرُ بِإِنْظَارِهِمْ فَبَذَلُوا رَهَائِنَ مِنْ أَوْلَادِهِمْ عَلَى الْوَفَاءِ بِعَهْدِهِمْ أهل البغي . فَإِنْ كَانَ الْإِنْظَارُ مِمَّا لَا تَجُوزُ الْإِجَابَةُ إِلَيْهِ مَعَ أَخْذِ الرَّهَائِنِ ، لَمْ يُجَابُوا إِلَيْهِ بِبَذْلِ الرَّهَائِنِ . وَإِنْ جَازَتِ الْإِجَابَةُ إِلَيْهِ بِغَيْرِ الرَّهَائِنِ ، كَانَتِ الْإِجَابَةُ إِلَيْهِ مَعَ أَخْذِ الرَّهَائِنِ أَوْلَى . فَإِنْ عَادَتِ الْحَرْبُ وَرَهَائِنُهُمْ فِي أَيْدِينَا ، لَمْ تُقْتَلْ رَهَائِنُهُمْ : لِأَنَّ التَّعَدِّيَ مِنْ غَيْرِهِمْ . وَلَوْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ أُسَارَى مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فَقَتَلُوهُمْ ، وَفِي أَيْدِينَا لَهُمْ أُسَارَى مِنْهُمْ أَوْ رَهَائِنُ لَهُمْ أهل البغي ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُمْ بِمَنْ قَتَلُوهُ : لِأَنَّ الْقَاتِلَ غَيْرُهُمْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوِ اسْتَعَانَ أَهْلُ الْبَغْيِ بِأَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ ، قُتِلَ أَهْلُ الْحَرْبِ ، وَسُبُوا ، وَلَا يَكُونُ هَذَا أَمَانًا إِلَّا عَلَى الْكَفِّ ، فَأَمَّا عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا اسْتَعَانَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى قِتَالِنَا بِأَهْلِ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ أَعْطَوْهُمْ ، نُظِرَ حَالُ الْأَمَانِ ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا ، أَوْ مَشْرُوطًا بِقِتَالِنَا . فَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا : صَحَّ الْأَمَانُ لَهُمْ ، وَكَانَ عَقْدُ أَهْلِ الْبَغْيِ لَهُمْ كَعَقْدِ أَهْلِ الْعَدْلِ : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ .

وَيَصِيرُونَ بِهَذَا الْأَمَانِ آمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَأَهْلِ الْعَدْلِ : لِعُمُومِهِ وَصِحَّتِهِ ، مَا لَمْ يُقَاتِلُونَا . فَإِنْ قَاتَلُونَا صَارُوا كَأَهْلِ الْعَهْدِ الْمُتَقَدِّمِ إِذَا قَاتَلُوا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ . وَإِنْ كَانَ عَقْدُ الْأَمَانِ لَهُمْ مَشْرُوطًا بِقِتَالِهِمْ مَعَهُمْ ، كَانَ هَذَا الْأَمَانُ بَاطِلًا : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ عَقْدُ الْأَمَانِ لَهُمْ بِقِتَالِنَا ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْعَقِدَ عَلَى قِتَالِنَا . وَالثَّانِي : أَنَّ عَقْدَ الْأَمَانِ يَقْتَضِي أَنْ نُؤَمِّنَهُمْ وَنَأْمَنَهُمْ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ نُؤَمِّنَهُمْ وَلَا نَأْمَنَهُمْ . وَإِذَا بَطَلَ الْأَمَانُ بِمَا ذَكَرْنَا سَقَطَ حُكْمُهُ فِي أَهْلِ الْعَدْلِ ، وَلَزِمَ حُكْمُهُ فِي أَهْلِ الْبَغْيِ اعْتِبَارًا بِالشَّرْطِ فِي حَقِّهِمْ ، وَإِنْ بَطَلَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ . وَجَازَ لِأَهْلِ الْعَدْلِ قَتْلُهُمْ وَاسْتِرْقَاقُهُمْ وَسَبْيُهُمْ ، وَقَتْلُهُمْ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ ، كَمَا يُقْتَلُونَ وَيُقَاتَلُونَ فِي جِهَادِهِمْ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ . وَلَمْ يَجُزْ لِأَهْلِ الْبَغْيِ قَتْلُهُمْ وَلَا اسْتِرْقَاقُهُمْ ، وَإِنْ حَكَمْنَا بِبُطْلَانِ أَمَانِهِمْ لِلُزُومِهِ فِي الْخُصُوصِ وَإِنْ بَطَلَ فِي الْعُمُومِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَلَوْ كَانَ لَهُمْ أَمَانٌ فَقَاتَلُوا أَهْلَ الْعَدْلِ ، كَانَ نَقْضًا لِأَمَانِهِمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا كَانَ لِطَائِفَةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ بِأَمَانٍ مُتَقَدِّمٍ ، فَاسْتَعَانَ بِهِمْ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى قِتَالِنَا ، كَانَ ذَلِكَ نَقْضًا لِأَمَانِهِمْ إِذَا قَاتَلُونَا : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [ الْأَنْفَالِ : 58 ] . فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ بِنَقْضِهِ إِذَا خِفْنَاهُمْ ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يُنْقَضَ بِقِتَالِهِمْ . وَلِأَنَّ إِعْطَاءَ الْعَهْدِ لَهُمْ إِنَّمَا كَانَ لِمَصْلَحَتِنَا لَا لِمَصْلَحَتِهِمْ ، وَكَذَلِكَ إِذَا سَأَلُوا الْعَهْدَ لَمْ يَلْزَمْ إِجَابَتُهُمْ إِلَيْهِ ، إِلَّا إِذَا رَأَى الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ حَظًّا لِلْمُسْلِمِينَ ، فَيَجُوزُ أَنْ يُعَاهِدَهُمْ ، فَإِذَا قَاتَلُوا زَالَتِ الْمَصْلَحَةُ فَبَطَلَ الْعَهْدُ عُمُومًا ، وَإِنْ كَانَ فِي أَهْلِ الْبَغْيِ خُصُوصًا . وَجَازَ لَنَا قَتْلُهُمْ وَسَبْيُهُمْ ، وَقِتَالُهُمْ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ . فَإِنْ أَسْلَمُوا : لَمْ يُؤْخَذُوا بِمَا اسْتَهْلَكُوا مِنْ دَمٍ وَلَا مَالٍ كَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ، وَبِخِلَافِ أَهْلِ الْبَغْيِ . فَإِنْ قَالُوا : لَمْ نَعْلَمْ أَنَّ قِتَالَنَا مَعَهُمْ مُبْطِلٌ لِعَهْدِنَا مَعَكُمْ . لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ فِي بَقَاءِ الْعَهْدِ مَعَهُمْ : لِأَنَّ الْأَمَانَ هُوَ الْكَفُّ وَالْمُوَادَعَةُ ، فَضَعُفَ مَا ادَّعَوْهُ مِنَ الْجَهَالَةِ .

فَإِنِ ادَّعَوُا الْإِكْرَاهَ : كُلِّفُوا الْبَيِّنَةَ ، فَإِنْ أَقَامُوا عَلَى إِكْرَاهِ أَهْلِ الْبَغْيِ لَهُمْ عَلَى قِتَالِنَا بَيِّنَةً ، كَانُوا عَلَى عَهْدِهِمْ . وَإِنْ لَمْ يُقِيمُوهَا ، لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُمْ ، وَانْتَقَضَ عَهْدُهُمْ : لِأَنَّ أَصْلَ الْفِعْلِ حُدُوثُهُ عَنِ اخْتِيَارِ فَاعِلِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ ، فَقَدْ قِيلَ : لَيْسَ هَذَا نَقْضًا لِلْعَهْدِ . قَالَ : وَأَرَى إِنْ كَانُوا مُكْرَهِينَ أَوْ ذَكَرُوا جَهَالَةً ، فَقَالُوا : كُنَّا نَرَى إِذَا حَمَلَتْنَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أُخْرَى أَنَّ دَمَهَا يَحِلُّ كَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ ، أَوْ لَمْ نَعْلَمْ أَنَّ مَنْ حَمَلُونَا عَلَى قِتَالِهِ مُسْلِمٌ ، لَمْ يَكُنْ هَذَا نَقْضًا لِلْعَهْدِ ، وَأُخِذُوا بِكُلِ مَا أَصَابُوا مِنْ دَمٍ وَمَالٍ ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا اسْتَعَانَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى قِتَالِنَا بِأَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَأَصْحَابِ الْجِزْيَةِ ، فَإِنْ كَانُوا مُكْرَهِينَ : لَمْ تَنْتَقِضْ ذِمَّتُهُمْ . وَإِنْ كَانُوا مُخْتَارِينَ : فَإِنِ ادَّعَوْا جَهَالَةً ، وَقَالُوا : ظَنَنَّا أَنَّ مَعُونَتَنَا لِبَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضِ جَائِزَةٌ ، كَمَا نُعِينُكُمْ عَلَى قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ، قُبِلَ مِنْهُمْ دَعْوَى الْجَهَالَةِ ، وَلَمْ تُنْقَضْ ذِمَّتُهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ وَانْتَقَضَ بِهِ عَهْدُهُمْ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ حَقٌّ لَهُمْ عَلَيْنَا ، وَعَهْدَ الْأَمَانِ حَقٌّ لَنَا عَلَيْهِمْ : لِأَنَّ مَنْ سَأَلَ الْأَمَانَ لَمْ يَلْزَمْ إِجَابَتُهُ ، وَمَنْ بَذَلَ الْجِزْيَةَ لَزِمَتْ إِجَابَتُهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ لَنَا مَعَ خَوْفِ الْخِيَانَةِ أَنْ نَنْقُضَ أَمَانَ أَهْلِ الْعَهْدِ ، وَلَيْسَ لَنَا مَعَ خَوْفِهَا أَنْ نَنْقُضَ أَمَانَ أَهْلِ الذِّمَّةِ حَتَّى نَتَيَقَّنَهَا ، فَافْتَرَقَا . وَإِنْ لَمْ يَدَّعُوا الْجَهَالَةَ ، لَمْ يَخْلُ عَقْدُ ذِمَّتِهِمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُعِينُوا عَلَى مُسْلِمٍ بِقَتْلٍ وَلَا قِتَالٍ ، فَيَكُونُ مَا خَالَفَ هَذَا الشَّرْطَ مِنْ قِتَالِهِمْ لِأَهْلِ الْعَدْلِ نَقْضًا لِأَمَانِهِمْ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَقْدُ ذِمَّتِهِمْ مُطْلَقًا ، لَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ فِيهِ ، فَفِي انْتِقَاضِ ذِمَّتِهِمْ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدِ انْتَقَضَتْ بِالْقِتَالِ ذِمَّتُهُمْ كَمَا انْتَقَضَ بِهِ أَمَانُ أَهْلَ الْعَهْدِ . فَعَلَى هَذَا : يَجُوزُ قَتْلُهُمْ وَقِتَالُهُمْ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي أَهْلِ الْعَهْدِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا تُنْتَقَضُ بِهِ ذِمَّتُهُمْ وَإِنِ انْتَقَضَ بِهِ أَمَانُ أَهْلَ الْعَهْدِ : لِقُوَّةِ الذِّمَّةِ عَلَى الْعَهْدِ مِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ الذِّمَّةَ مُؤَبَّدَةٌ وَالْعَهْدَ مُقَدَّرٌ بِمُدَّةٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ الذِّمَّةَ تُوجِبُ أَنْ نَكُفَّ عَنْهُمْ أَنْفُسَنَا وَغَيْرَنَا ، وَالْعَهْدَ لَا يُوجِبُ أَنْ نَكُفَّ عَنْهُمْ غَيْرَنَا ، مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ . فَعَلَى هَذَا : يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُقَاتِلَهُمْ مُقْبِلِينَ وَنَكُفَّ عَنْهُمْ مُدْبِرِينَ كَأَهْلِ الْبَغْيِ ، لَكِنْ مَا أَصَابُوهُ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ يُؤْخَذُونَ بِغُرْمِهِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِنْ لَمْ يُؤْخَذْ أَهْلُ الْبَغْيِ بِغُرْمِهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ : لِأَنَّ قِتَالَ أَهْلِ الْبَغْيِ بِتَأْوِيلٍ ، وَقِتَالَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ أَتَى أَحَدُهُمْ تَائِبًا لَمْ يُقَصَّ مِنْهُ : لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ مُحَرَّمُ الدَّمِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي مُرَادِهِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا مَنِ اسْتَعَانَ الْبُغَاةُ بِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، إِذَا أَتْلَفُوا فِي حَرْبِنَا دِمَاءً وَأَمْوَالًا ، ثُمَّ تَابُوا مِنَ الشِّرْكِ وَأَسْلَمُوا ، لَمْ يُؤْخَذُوا بِغُرْمِهِ إِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ . وَجُعِلَ الْقِتَالُ نَقْضًا لِذِمَّتِهِمْ ، فَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ نَقْضًا لَمْ يَسْقُطِ الْغُرْمُ ، وَلَا يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الْبُغَاةِ : لِأَنَّهُ عَلَّلَ فِي سُقُوطِ الْغُرْمِ بِمَا لَيْسَ بِعِلَّةٍ فِي سُقُوطِهِ عَنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَهُوَ التَّوْبَةُ : لِأَنَّ عِلَّةَ سُقُوطِهِ عَنْ أَهْلِ الْبَغْيِ هُوَ التَّأْوِيلُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا أَهْلَ الْبَغْيِ : لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ أَفْصَحَ بِذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأُمِّ ، وَتَكُونُ التَّوْبَةُ مَحْمُولَةً عَلَى إِظْهَارِ الطَّاعَةِ وَوُجُودِ الْقُدْرَةِ ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ غُرْمُ مَا اسْتَهْلَكُوهُ مِنْ دَمٍ وَمَالٍ ، عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ ، وَإِنْ وَجَبَ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَقَالَ لِي قَائِلٌ : مَا تَقُولُ فِيمَنْ أَرَادَ دَمَ رَجُلٍ أَوْ مَالَهُ أَوْ حَرِيمَهُ ؟ قُلْتُ : يُقَاتِلُهُ ، وَإِنْ أَتَى الْقَتْلُ عَلَى نَفْسِهِ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِ إِلَّا بِذَلِكَ ، وَرُوِيَ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ ، وَزِنًى بَعْدَ إِحْصَانٍ ، وَقَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ قُلْتُ : هُوَ كَلَامٌ عَرَبِيٌّ ، وَمَعْنَاهُ إِذَا أَتَى وَاحِدَةً مِنَ الثَّلَاثِ حَلَّ دَمُهُ ، فَمَعْنَاهُ كَانَ رَجُلًا زَنَى مُحْصَنًا ثُمَّ تَرَكَ الزِّنَى وَتَابَ مِنْهُ وَهَرَبَ ، فَقُدِرَ عَلَيْهِ ، قُتِلَ رَجْمًا . أَوْ قَتَلَ عَمْدًا وَتَرَكَ الْقَتْلَ وَتَابَ مِنْهُ وَهَرَبَ ، ثُمَّ قُدِرَ عَلَيْهِ قُتِلَ قَوَدًا . وَإِذَا كَفَرَ ثُمَّ تَابَ ، فَارَقَهُ اسْمُ الْكُفْرِ . وَهَذَانِ لَا يُفَارِقُهُمَا اسْمُ الزِّنَى وَالْقَتْلِ وَلَوْ تَابَا وَهَرَبَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذَا سُؤَالٌ اعْتَرَضَ بِهِ عَلَى الشَّافِعِيِّ مَنْ مَنَعَ مِنْ قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ : لِأَنَّ قِتَالَهُمْ مُفْضٍ إِلَى قَتْلِهِمْ ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَحُلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا

بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ ، أَوْ زِنًى بَعْدَ إِحْصَانٍ ، أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ . وَلَيْسَ الْبَاغِي وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ ، وَجُعِلَ هَذَا السُّؤَالُ مَقْصُورًا فِيمَنْ أُرِيدَ دَمُهُ أَوْ مَالُهُ أَوْ حَرِيمُهُ ، كَيْفَ يَجُوزُ لَهُ قَتْلُ مَنْ أَرَادَهُ بِذَلِكَ ؟ فَاقْتَضَى السُّؤَالُ دَلِيلًا عَلَى الْحُكْمِ وَانْفِصَالًا عَنِ الْخَبَرِ . فَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَنْ أُرِيدَ دَمُهُ أَوْ مَالُهُ أَوْ حَرِيمُهُ يَجُوزُ لَهُ دَفْعُ مَنْ أَرَادَهُ وَإِنْ أَتَى الدَّفْعُ عَلَى نَفْسِهِ - عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ مِنْ تَرْتِيبِ الدَّفْعِ بِحَالٍ بَعْدَ حَالٍ - قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مِنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ . وَالشَّهِيدُ مَظْلُومٌ ، وَلِلْمَظْلُومِ دَفْعُ الظُّلْمَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْقِتَالِ ، وَمَا أُبِيحَ مِنَ الْقِتَالِ لَمْ يَجِبْ بِهِ ضَمَانٌ . وَأَمَّا الِانْفِصَالُ عَنِ الْخَبَرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَبَاحَ الْقَتْلَ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ اخْتَلَفَتْ مَعَانِيهَا وَاتَّفَقَتْ أَحْكَامُهَا : أَحَدُهَا : بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ ، فَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ ، وَيَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ ، وَيَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الْكُفْرِ بَعْدَ التَّوْبَةِ . وَالثَّانِي : بِالزِّنَى بَعْدَ الْإِحْصَانِ ، لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ ، وَلَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ بَعْدَ الْقُدْرَةِ ، وَفِي سُقُوطِهِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ خِلَافٌ ، وَلَا يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الزِّنَى بَعْدَ التَّوْبَةِ . وَالثَّالِثُ : بِقَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ ، وَهَذَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ ، وَلَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ ، وَلَا يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الْقَتْلِ بِالتَّوْبَةِ . فَلَمَّا اخْتَلَفَتِ الْمَعَانِي وَالْأَسْمَاءُ ، صَارَتْ مَعَانِي الْقَتْلِ هِيَ الْمُعْتَبَرَةَ دُونَ الْعَدَدِ الْمَحْصُورِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لِسَانٌ عَرَبِيٌّ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَى الْعَدَدِ الْمَحْصُورِ مَا فِي مَعْنَاهُ ، وَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ رَافِعَةً لِحُكْمِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ [ الْأَعْرَافِ : 142 ] . وَعَلَى أَنَّ لِلْخَبَرِ تَأْوِيلَيْنِ يُغْنِيَانِ عَنْ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ صَبْرًا إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ ، وَهَذَا لَا يُقْتَلُ صَبْرًا وَإِنَّمَا يَنْتَهِي حَالُهُ إِلَى الْقَتْلِ دَفْعًا .

وَالثَّانِي : لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ بِسَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ ، وَهَذَا لَا يُقْتَلُ بِسَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ ، وَإِنَّمَا يُقْتَلُ بِسَبَبٍ حَادِثٍ فِي الْحَالِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يُسْتَعَانُ عَلَيْهِمْ بِمَنْ يَرَى قَتْلَهُمْ مُدْبِرِينَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الِاسْتِعَانَةُ بِأَهْلِ الْعَهْدِ وَالذِّمَّةِ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ ، فَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [ النِّسَاءِ : 141 ] ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى . وَلِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ عَلَى نُفُوسِهِمْ وَحَرِيمِهِمْ : لِمَا يَعْتَقِدُونَهُ دِينًا مِنْ إِبَاحَةِ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمُ الَّتِي أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى حَظْرَهَا وَأَمَرَ بِالْمَنْعِ مِنْهَا . فَأَمَّا الِاسْتِعَانَةُ عَلَيْهِمْ بِمَنْ يَرَى قِتَالَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ البغاة ، فَقَدْ مَنَعَ الشَّافِعِيُّ مِنْهُ لِمَا يَلْزَمُ مِنَ الْكَفِّ عَنْهُمْ إِذَا انْهَزَمُوا . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا جَازَ أَنْ يَسْتَعِينَ عَلَيْهِمْ بِمَنْ يُخَالِفُ رَأْيَهُ فِيهِ ، وَيَعْمَلُ عَلَى اجْتِهَادِ نَفْسِهِ ، كَمَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ يَحْكُمُ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ ، وَإِنْ خَالَفَ اجْتِهَادَ مُسْتَخْلِفِهِ ، فَيَجُوزُ لِلشَّافِعِيِّ أَنْ يَسْتَخْلِفَ حَنَفِيًّا ، وَلِلْحَنَفِيِّ أَنْ يَسْتَخْلِفَ شَافِعِيًّا . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ قِتَالَ أَهْلِ الْبَغْيِ مُدْبِرِينَ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ ، وَالْمُعَيَّنُ فِيهِ مَأْمُورٌ مَمْنُوعٌ مِنَ الِاجْتِهَادِ ، وَالْمُسْتَخْلَفُ عَلَى الْحُكْمِ مُفَوَّضٌ إِلَيْهِ النَّظَرُ ، فَسَاغَ لَهُ الِاجْتِهَادُ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الِاسْتِعَانَةِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَنْعُ تَحْرِيمٍ وَحَظْرٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَنْعُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ . فَإِنْ دَعَتْهُ الضَّرُورَةُ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ : لِعَجْزِ أَهْلِ الْعَدْلِ عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ ، جَازَ أَنْ يَسْتَعِينَ بِهِمْ عَلَى ثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ لَا يَجِدَ عَوْنًا غَيْرَهُمْ ، فَإِنْ وَجَدَ لَمْ يَجُزْ . وَالثَّانِي : أَنْ يَقْدِرَ عَلَى رَدِّهِمْ إِنْ خَالَفُوا ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهِمْ لَمْ يَجُزْ .

وَالثَّالِثُ : أَنْ يَثِقَ بِمَا شَرَطَهُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَتْبَعُوا مُدْبِرًا وَلَا يُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ ، فَإِنْ لَمْ يَثِقْ بِوَفَائِهِمْ لَمْ يَجُزْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَا بَأْسَ إِذَا كَانَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرُ أَنْ يُسْتَعَانَ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَحِلُّ دِمَاؤُهُمْ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ : يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَانَ فِي بَعْضِ حُرُوبِهِ بِيَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ ، وَاسْتَعَارَ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ عَامَ الْفَتْحِ سَبْعِينَ دِرْعًا . وَشَهِدَ مَعَهُ حُنَيْنًا وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ ، وَسَمِعَ أَبَا سُفْيَانَ يَقُولُ : غَلَبَتْ هَوَازِنُ وَقُتِلَ مُحَمَّدٌ . فَقَالَ لَهُ : بِفِيكَ الْحَجَرُ ، وَاللَّهِ لَرَبٌّ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ رَبٍّ مِنْ هَوَازِنَ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ . قِيلَ : إِنَّمَا بَرِئَ مِنْ مَعُونَةِ الْمُسْلِمِ لِمُشْرِكٍ ، وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ مَعُونَةِ الْمُشْرِكِ لِمُسْلِمٍ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ أَهْلِ الشِّرْكِ . وَمَعْنَاهُ : لَا تَرْجِعُوا إِلَى آرَائِهِمْ . فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزِ الِاسْتِعَانَةُ بِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ ( المشركون ) ، فَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ نِيَّاتُهُمْ فِي الْمُسْلِمِينَ جَمِيلَةً . وَالثَّانِي : أَنْ يُعْلَمَ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ إِنِ انْضَمُّوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ ، لَمْ يَضْعُفِ الْمُسْلِمُونَ عَنْ جَمِيعِهِمْ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُؤْمَنَ غَدْرُهُمْ وَتَخْزِيلُهُمْ . فَإِذَا اسْتُكْمِلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الشُّرُوطُ اسْتَعَانَ بِهِمْ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يُعِينُ الْعَادِلُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ الْبَاغِيَتَيْنِ ، وَإِنِ اسْتَعَانَتْهُ عَلَى الْأُخْرَى حَتَّى تَرْجِعَ إِلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا افْتَرَقَ أَهْلُ الْبَغْيِ طَائِفَتَيْنِ ، وَقَاتَلَتْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ الْأُخْرَى . فَإِنْ قَوِيَ الْإِمَامُ عَلَى قِتَالِهِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعُونَةُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ كِلَا الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى خَطَأٍ ، وَالْمَعُونَةُ عَلَى الْخَطَأِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ خَطَأٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَعُونَةَ إِحْدَاهُمَا أَمَانٌ لَهَا ، وَعَقْدُ الْأَمَانِ لَهَا غَيْرُ جَائِزٍ . وَإِنْ ضَعُفَ عَنْ قِتَالِهِمَا ، قَاتَلَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ مَعَ الْأُخْرَى ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُسْتَعِينٌ بِهِمْ ، وَلَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُعِينٌ لَهُمْ ، وَلْيَضُمَّ إِلَيْهِ أَقَرَبَهُمَا إِلَى مُعْتَقَدِهِ ، وَأَرْغَبَهُمَا فِي طَاعَتِهِ . فَإِنِ اسْتَوَيَا ضَمَّ إِلَيْهِ أَقَلَّهُمَا جَمْعًا ، فَإِنِ اسْتَوَيَا ضَمَّ إِلَيْهِ أَقْرَبَهُمَا دَارًا ، فَإِنِ اسْتَوَيَا اجْتَهَدَ رَأْيَهُ فِي إِحْدَاهُمَا . فَإِنْ أَطَاعَتْهُ الطَّائِفَةُ الَّتِي قَاتَلَهَا أَوِ انْهَزَمَتْ عَنْهُ ، عَدَلَ إِلَى الْأُخْرَى ، وَلَمْ يَبْدَأْ بِقِتَالِهَا إِلَّا بَعْدَ اسْتِدْعَائِهَا ثَانِيَةً إِلَى طَاعَتِهِ : لِأَنَّ انْضِمَامَهَا إِلَيْهِ كَالْأَمَانِ الَّذِي يَقْطَعُ حُكْمَ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الِاسْتِدْعَاءِ وَالْحَيَاةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يُرْمَوْنَ بِالْمَنْجَنِيقِ وَلَا نَارٍ إِلَّا أَنْ تَكُونَ ضَرُورَةً أهل البغي بِأَنْ يُحَاطَ بِهِمْ فَيَخَافُوا الِاصْطِلَامَ ، أَوْ يُرْمَوْنَ بِالْمَنْجَنِيقِ فَيَسَعُهُمْ ذَلِكَ دَفْعًا عَنْ أَنْفُسِهِمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ كَفُّهُمْ عَنِ الْبَغْيِ ، وَالْمَقْصُودَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ قَتْلُهُمْ عَلَى الشِّرْكِ ، فَاخْتَلَفَ قِتَالُهُمَا لِاخْتِلَافِ مَقْصُودِهِمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي صِفَةِ الْحَرْبِ . وَالثَّانِي : فِي حُكْمِهَا . فَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا فِي صِفَةِ الْحَرْبِ البغاة والمشركين ، فَمِنْ تِسْعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكْبِسَ أَهْلَ الْحَرْبِ فِي دَارِهِمْ غِرَّةً وَبَيَاتًا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِأَهْلِ الْبَغْيِ .

وَالثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يُحَاصِرَ أَهْلَ الْحَرْبِ وَيَمْنَعَهُمُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِأَهْلِ الْبَغْيِ . وَالثَّالِثُ : يَجُوزُ أَنْ يَقْطَعَ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ نَخِيلَهُمْ وَأَشْجَارَهُمْ وَزُرُوعَهُمْ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِأَهْلِ الْبَغْيِ . وَالرَّابِعُ : يَجُوزُ أَنْ يُفَجِّرَ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ الْمِيَاهَ لِيَغْرَقُوا ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِأَهْلِ الْبَغْيِ . وَالْخَامِسُ : يَجُوزُ أَنْ يَحْرِقَ عَلَيْهِمْ مَنَازِلَهُمْ ، وَيُلْقِيَ عَلَيْهِمُ النَّارَ ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِأَهْلِ الْبَغْيِ . وَالسَّادِسُ : يَجُوزُ أَنْ يُلْقِيَ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ الْحَيَّاتِ وَالْحَسَكَ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِأَهْلِ الْبَغْيِ . وَالسَّابِعُ : يَجُوزُ أَنْ يَنْصِبَ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ الْعَرَّادَاتِ وَيَرْمِيَهُمْ بِالْمَنْجَنِيقَاتِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِأَهْلِ الْبَغْيِ . وَالثَّامِنُ : يَجُوزُ أَنْ يَعْقِرَ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ خَيْلَهُمْ إِذَا قَاتَلُوا عَلَيْهَا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِأَهْلِ الْبَغْيِ . وَالتَّاسِعُ : يَجُوزُ أَنْ يُقَاتِلَ أَهْلَ الْحَرْبِ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ ، وَلَا يُقَاتِلُ أَهْلَ الْبَغْيِ إِلَّا مُقْبِلِينَ وَيَكُفُّ عَنْهُمْ مُدْبِرِينَ . وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا فِي حُكْمِ الْحَرْبِ البغاة والمشركين فَمِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : يَجُوزُ أَنْ يَقْتُلَ أَسْرَى أَهْلِ الْحَرْبِ ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يَقْتُلَ أَسْرَى أَهْلِ الْبَغْيِ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ تُسْبَى ذَرَارِيُّ أَهْلِ الْحَرْبِ وَتُغْنَمَ أَمْوَالُهُمْ ، وَلَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي أَهْلِ الْبَغْيِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْهَدَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ عَهْدًا وَهُدْنَةً ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْهَدَ لِأَهْلِ الْبَغْيِ . وَالرَّابِعُ : يَجُوزُ أَنْ يُصَالِحَ أَهْلَ الْحَرْبِ عَلَى مَالٍ ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ مَعَ أَهْلِ الْبَغْيِ . وَالْخَامِسُ : يَجُوزُ أَنْ يَسْتَرِقَّ أَهْلَ الْحَرْبِ ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يَسْتَرِقَّ أَهْلَ الْبَغْيِ . وَالسَّادِسُ : يَجُوزُ أَنْ يُفَادِيَ أَهْلَ الْحَرْبِ عَلَى مَالٍ وَأَسْرَى ، وَلَا تَجُوزُ مُفَادَاةُ أَهْلِ الْبَغْيِ .



فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنِ اخْتِلَافِهِمَا فِي صِفَةِ الْحَرْبِ وَحُكْمِهَا ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرْمَوْا بِالْمَنْجَنِيقِ ، فَذَلِكَ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ . فَإِنْ دَعَتْ ضَرُورَةٌ فِي إِحْدَى حَالَتَيْنِ جَازَ أَنْ يُرْمَوْا بِهِ ، وَتُلْقَى عَلَيْهِمُ النَّارُ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يُقَاتِلُوا أَهْلَ الْعَدْلِ بِذَلِكَ ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَاتِلُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ ، قَصْدًا لِكَفِّهِمْ عَنْهُ لَا لِمُقَاتَلَتِهِمْ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ الظُّلْمَ لَا يُبِيحُ الظُّلْمَ ، لَكِنْ يَسْتَدْفِعُ الظُّلْمَ بِمَا أَمْكَنَ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُحِيطُوا بِأَهْلِ الْعَدْلِ وَيَخَافُوا اصْطِلَامَهُمْ ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَرْمُوهُمْ بِالْمَنْجَنِيقِ وَيُلْقُوا عَلَيْهِمُ النَّارَ طَلَبًا لِلْخَلَاصِ مِنْهُمْ ، لَا قَصْدًا لِاصْطِلَامِهِمْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ غَلَبُوا عَلَى بِلَادٍ فَأَخَذُوا صَدَقَاتِ أَهْلِهَا ، وَأَقَامُوا عَلَيْهِمُ الْحُدُودَ لَمْ تَعُدْ عَلَيْهِمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا تَغَلَّبَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى بَلَدٍ فَأَخَذُوا صَدَقَاتِهَا وَجَبَوْا خَرَاجَهَا وَأَقَامُوا الْحُدُودَ عَلَى أَهْلِهَا ، أَمْضَى الْإِمَامُ مَا فَعَلُوهُ إِذَا ظَهَرَ عَلَى بِلَادِهِمْ وَلَمْ يُطَالِبْ بِمَا جَبَوْهُ مِنَ الْحُقُوقِ ، وَلَمْ يُعِدْ مَا أَقَامُوهُ مِنَ الْحُدُودِ : لِأَنَّ عَلِيًّا رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْضَى ذَلِكَ وَلَمْ يُطَالِبْ بِهِ . وَلِأَنَّهُمْ مُتَأَوِّلُونَ فِي جِبَايَتِهِ وَإِقَامَتِهِ . وَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاةَ عَامٍ مَرَّتَيْنِ ، وَلَا يُقَامُ عَلَى زَانٍ حَدَّانِ . فَإِنِ ادَّعَى أَصْحَابُ الْحُدُودِ إِقَامَتَهَا عَلَيْهِمْ من أهل البغي قُبِلَ قَوْلُهُمْ فِيهَا ، وَلَمْ يُحْلَفُوا عَلَيْهَا : لِأَنَّهَا حُدُودٌ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ . فَإِنِ ادَّعَى مَنْ عَلَيْهِ الْحُقُوقُ ، دَفْعَهَا إِلَيْهِمْ أهل البغي . فَإِنْ كَانَتْ زَكَاةً قُبِلَ قَوْلَهُمْ فِي دَفْعِهَا وَلَمْ يُكَلَّفُوا الْبَيِّنَةَ عَلَيْهَا : لِأَنَّهُمْ فِيهَا أُمَنَاءُ . فَإِنِ اتُّهِمُوا أُحْلِفُوا ، وَفِي يَمِينِهِمْ بَعْدَ اعْتِرَافِهِمْ بِوُجُوبِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ ، إِنْ نَكَلُوا عَنْهَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُمْ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا وَاجِبَةٌ ، إِنْ نَكَلُوا عَنْهَا أُخِذَتْ مِنْهُمْ بِالِاعْتِرَافِ الْمُتَقَدِّمِ ، دُونَ النُّكُولِ . وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ الَّذِي ادَّعَوْا أَدَاءَهُ جِزْيَةً أَوْ خَرَاجًا : فَإِنْ كَانَ عَلَى كَافِرٍ : كُلِّفَ الْبَيِّنَةَ ، وَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ : لِأَنَّ الْجِزْيَةَ أُجْرَةٌ ، وَالْخَرَاجَ إِمَّا

أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا أَوْ أُجْرَةً ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ فِي دَفْعِ الْأُجْرَةِ ، وَلَا قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي دَفْعِ الثَّمَنِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ . فَإِنْ أَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى دَفْعِهَا بَرِئُوا . وَإِنْ لَمْ يُقِيمُوهَا أُخِذَتْ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ وَالْخَرَاجُ . وَإِنْ كَانَ الْخَرَاجُ عَلَى مُسْلِمٍ : فَفِي قَبُولِ قَوْلِهِ فِي دَفْعِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ ، وَيَحْلِفُ إِنِ اتُّهِمَ عَلَيْهِ كَالزَّكَاةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ ، أَنَّ قَوْلَهُ فِيهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْأَدَاءِ ، فَإِنْ لَمْ يُقِمْهَا أُخِذَتْ مِنْهُ . فَإِنْ أَحْضَرُوا خُطُوطًا بِقَبْضِهَا . . فَإِنْ كَانَتْ مُحْتَمِلَةً لِلشُّبْهَةِ : لَمْ يُعْمَلْ بِهَا فِي الْأَحْكَامِ ، وَلَا فِي حُقُوقِ الْأَمْوَالِ . وَإِنْ كَانَتْ سَلِيمَةً مِنَ الِاحْتِمَالِ ظَاهِرَةَ الصِّحَّةِ ، لَمْ يُعْمَلْ عَلَيْهَا فِي الْأَحْكَامِ ، وَلَا فِي حُقُوقِ الْمُعَامَلَاتِ . وَفِي جَوَازِ الْعَمَلِ بِهَا فِي حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهَا ، اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِيهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِهَا عَلَى الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَالْحُقُوقِ : لِدُخُولِ الِاحْتِمَالِ فِيهَا وَإِمْكَانِ التَّزْوِيرِ عَلَيْهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يُرَدُّ مِنْ قَضَاءِ قَاضِيهِمْ إِلَّا مَا يُرَدُّ مِنْ قَضَاءِ قَاضِي غَيْرِهِمْ . ( وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ) : إِذَا كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ بِرَأْيِهِ عَلَى اسْتِحْلَالِ دَمٍ وَمَالٍ ، لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُهُ وَلَمْ يُقْبَلْ كِتَابُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : إِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ بِرَأْيِهِ عَلَى اسْتِحْلَالِ دَمٍ أَوْ مَالٍ ، لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُهُ وَلَمْ يُقْبَلْ كِتَابُهُ . إِذَا قَلَّدَ أَهْلُ الْبَغْيِ قَاضِيًا عَلَى الْبِلَادِ الَّتِي غُلِبُوا عَلَيْهَا ، نُظِرَتْ حَالُهُ : فَإِنْ كَانَ يَرَى اسْتِحْلَالَ دِمَاءِ أَهْلِ الْعَدْلِ وَأَمْوَالِهِمْ : كَانَ تَقْلِيدُهُ بَاطِلًا وَقَضَايَاهُ مَرْدُودَةً ، سَوَاءٌ وَافَقَتِ الْحَقَّ أَوْ خَالَفَتْهُ . لِأَنَّهُ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ فَاسِقٌ ، وَوِلَايَةُ الْفَاسِقِ بَاطِلَةٌ ، وَبُطْلَانُ وِلَايَتِهِ تُوجِبُ رَدَّ أَحْكَامِهِ .

وَإِنْ كَانَ لَا يَرَى اسْتِبَاحَةَ ذَلِكَ : جَازَ تَقْلِيدُهُ الْقَضَاءَ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ، سَوَاءٌ كَانَ عَادِلًا أَوْ بَاغِيًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَنْعَقِدُ وِلَايَتُهُ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ ، وَلَا تُنَفَّذُ أَحْكَامُهُ . وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُتَأَوِّلٌ بِشُبْهَةٍ خَرَجَ بِهَا مِنَ الْفِسْقِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا صَحَّ مِنَ الْبَاغِي أَنْ يُقَلَّدَ الْقَضَاءَ ، صَحَّ مِنْهُ أَنْ يُنَفِّذَ الْقَضَاءَ ، وَصَارَ فِي الْحُكْمِ كَالْعَادِلِ ، كَمَا كَانَ فِي التَّقْلِيدِ كَالْعَادِلِ . فَإِذَا حَكَمَ نُفِّذَتْ أَحْكَامُهُ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ وَأَهْلِ الْعَدْلِ ، وَلَمْ يُرَدَّ مِنْهَا إِلَّا مَا يُرَدُّ مِنْ أَحْكَامِ قُضَاةِ أَهْلِ الْعَدْلِ ، إِنْ خَالَفَ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ غَيْرِ مُحْتَمَلٍ . فَعَلَى هَذَا : لَوْ حَكَمَ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ فِيمَا أَتْلَفُوهُ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ ، نُفِّذَ حُكْمُهُ : لِأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَلَوْ حَكَمَ بِسُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْهُمْ فِيمَا أَتْلَفُوهُ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ ، نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ فِيمَا أَتْلَفُوهُ قَبْلَ الْحَرْبِ أَوْ بَعْدَهَا ، لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُهُ : لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ . وَإِنْ كَانَ فِيمَا أَتْلَفُوهُ فِي حَالِ الْقَتْلِ نُفِّذَ حُكْمُهُ : لِاحْتِمَالِهِ فِي الِاجْتِهَادِ ، وَسَقَطَ عَنْهُمُ الضَّمَانُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَتَبَ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ إِلَى قَاضِي الْعَدْلِ كِتَابًا فِي حُكْمٍ ، فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَتَظَاهَرَ بِقَبُولِهِ وَيَتَلَطَّفَ فِي رَدِّهِ اسْتِهَانَةً بِهِ وَزَجْرًا لَهُ عَنْ بَغْيِهِ . فَإِنْ قَبِلَهُ وَحَكَمَ بِهِ جَازَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَهُ وَلَا يُنَفِّذَ حُكْمَهُ بِهِ ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي بُطْلَانِ وِلَايَتِهِ وَرَدِّ أَحْكَامِهِ . وَهَكَذَا يَجُوزُ لِقَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ كِتَابًا بِحُكْمٍ ، وَإِنْ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ . وَلَعَلَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَمْنَعُ مِنْهُ . فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ سَأَلَ عَلِيًّا رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا يَعْمَلُ عَلَيْهِ فِي أَحْكَامِهِ ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا ، وَأَخَذَهُ مُعَاوِيَةُ فِي الطَّرِيقِ ، وَكَانَ يَعْمَلُ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا ، فَقَالَ : غَلِطْتُ غَلْطَةً لَا أَعْتَذِرُ ، أَكِيسُ بَعْدَهَا وَأَسْتَمِرُّ .

فَأَمَّا مَا حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ قَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : إِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ ، فَلَيْسَ بِقَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ، وَإِنَّمَا وَهِمَ بِهِ الْمُزَنِيُّ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ شَهِدَ مِنْهُمْ عَدْلٌ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ ، مَا لَمْ يَكُنْ يَرَى أَنْ يَشْهَدَ لِمُوَافِقِهِ بِتَصْدِيقِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . شَهَادَةُ أَهْلِ الْبَغْيِ إِذَا كَانُوا عُدُولًا مَقْبُولَةٌ ، وَلَا يَكُونُوا بِمَا تَأَوَّلُوهُ مِنَ الْبَغْيِ فُسَّاقًا : لِحُدُوثِهِ مِنْهُمْ عَنْ تَأْوِيلٍ سَائِغٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُمْ فُسَّاقٌ ، لَكِنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ : لِأَنَّهُ فِسْقٌ مِنْ تَدَيُّنٍ وَاعْتِقَادٍ ، وَلِذَلِكَ قُبِلَتْ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِذَا كَانُوا عُدُولًا فِي دِينِهِمْ . وَقَالَ مَالِكٌ : هُمْ فُسَّاقٌ ، لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِمَا فِي صِحَّةِ الْعَدَالَةِ مِنْهُمْ ، وَأَنْ لَا يَصِيرُوا بِالتَّأْوِيلِ الْمُسَوِّغِ فُسَّاقًا : أَنَّ الِانْفِصَالَ مِنْ مَذْهَبٍ إِلَى غَيْرِهِ - إِذَا كَانَ لَهُ فِي الِاجْتِهَادِ مَسَاغٌ - لَا يَقْتَضِي التَّفْسِيقَ ، كَالْمُنْتَقِلِ فِي فُرُوعِ الدِّينِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ أَوْ أَبِي حَنِيفَةَ ، لَا يَفْسُقُ بِالِانْتِقَالِ : لِأَنَّهُ عَدَلَ إِلَى مَذْهَبٍ بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا إِذَا اجْتَنَبَ مَا يَجْتَنِبُهُ عُدُولُ أَهْلِ الْعَدْلِ ، لَمْ يُمْنَعْ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ عدل أهل البغي إِلَّا فِي حَالَتَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَرَى مَنْ خَالَفَهُ مُبَاحَ الدَّمِ وَالْمَالِ ، فَيَكُونُ بِهَذِهِ الِاسْتِبَاحَةِ فَاسِقًا . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَعْتَقِدَ رَأْيَ الْخَطَّابِيَّةِ ، وَهُمْ قَوْمٌ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ لِمُوَافِقِهِمْ عَلَى مُخَالِفِهِمْ فِيمَا ادَّعَاهُ عَلَيْهِ ، فَيُصَدِّقُهُ ، ثُمَّ يَشْهَدُ لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ . وَبَنَوْهُ عَلَى أُصُولِهِمْ فِي أَنَّ الْكَذِبَ فِي الْقَوْلِ وَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ مُوجِبٌ لِلْكُفْرِ وَإِحْبَاطِ الطَّاعَاتِ . فَشَهَادَةُ هَؤُلَاءِ مَرْدُودَةٌ ، وَفِي عِلَّةِ رَدِّهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : الْفِسْقُ : لِأَنَّهُ اعْتِقَادٌ يَرُدُّهُ الْإِجْمَاعُ . وَالثَّانِي : التُّهْمَةُ مَعَ ثُبُوتِ الْعَدَالَةِ : لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي مُمَاثَلَةِ مُوَافِقِهِ ، فَصَارَ كَشَهَادَةِ الْأَبِ لِابْنِهِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى عَدَالَةٍ . فَعَلَى هَذَا : تُرَدُّ شَهَادَتُهُ إِذَا شَهِدَ بِالْحَقِّ مُطْلَقًا ، وَإِنْ شَهِدَ عَلَى إِقْرَارَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ ، فَفِي رَدِّ شَهَادَتِهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : تُرَدُّ شَهَادَتُهُ فِي الْمُقَيَّدِ كَرَدِّهَا فِي الْمُطْلَقِ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْعِلَّةَ فِي رَدِّهَا الْفِسْقُ . وَالثَّانِي : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَا تُرَدُّ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْعِلَّةَ فِي رَدِّهَا التُّهْمَةُ : لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ فِي الْمُطْلَقِ أَنَّهُ لِتَصْدِيقِ مُوَافِقِهِ ، وَلَا يُتَّهَمُ فِي الْمُقَيَّدِ بِالْإِقْرَارِ أَنْ يَقُولَ : أَقَرَّ عِنْدِي وَلَمْ يُقِرَّ : لِأَنَّهُ كَذِبٌ يُوجِبُ عِنْدَهُمُ الْكُفْرَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ قُتِلَ بَاغٍ فِي الْمُعْتَرَكِ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَدُفِنَ . وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَالشَّهِيدِ . وَالْآخَرُ : أَنَّهُ كَالْمَوْتَى ، إِلَّا مَنْ قَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَقْتُولُ فِي مَعْرَكَةِ الْحَرْبِ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ حكمه : فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ اسْتِهَانَةً بِهِ وَعُقُوبَةً لَهُ : لِمُخَالَفَتِهِ فِي الدِّينِ ، كَأَهْلِ الْحَرْبِ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فُرِضَ عَلَى أُمَّتِي غُسْلُ مَوْتَاهَا ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا . وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ مَقْتُولٌ بِحَقٍّ ، فَلَمْ يَمْنَعْ قَتْلُهُ مِنْ غُسْلِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ ، كَالزَّانِي وَالْمُقْتَصِّ مِنْهُ ، بَلْ هَذَا أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ مِنْهُمَا : لِأَنَّ الزَّانِيَ فَاسْقٌ ، وَهَذَا مُتَرَدِّدُ الْحَالِ بَيْنَ فِسْقٍ وَعَدَالَةٍ . فَأَمَّا اسْتِهَانَتُهُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَهَانَ بِمَخْلُوقٍ فِي إِضَاعَةِ حُقُوقِ الْخَالِقِ . وَأَمَّا جَعْلُ ذَلِكَ عُقُوبَةً ، فَالْعُقُوبَةُ إِنَّمَا تَتَوَجَّهُ إِلَى مَنْ يَأْلَمُ بِهَا : وَلِأَنَّ الْعُقُوبَاتِ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ كَالْحُدُودِ . فَإِنْ قِيلَ : يُعَاقَبُ بِهَا الْحَيُّ مِنْهُمْ . قِيلَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاقَبَ أَحَدٌ بِذَنْبِ غَيْرِهِ ، عَلَى أَنَّهُمْ يَرَوْنَ تَرْكَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ قُرْبَةً لَهُمْ .

فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ فِي مَعْرَكَتِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ حكمه ، فَفِي غُسْلِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ مَقْتُولٌ فِي الْمَعْرَكَةِ عَلَى حَقٍّ ، كَالْقَتِيلِ فِي مَعْرَكَةِ الْمُشْرِكِينَ .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ : لِأَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قُتِلُوا شُهَدَاءَ فَغُسِّلُوا وَصُلِّيَ عَلَيْهِمْ : لِأَنَّهُمْ لَمْ يُقْتَلُوا فِي مَعْرَكَةِ الْمُشْرِكِينَ . وَقُتِلَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ بِصِفِّينَ فَغَسَّلَهُ عَلِيٌّ وَصَلَّى عَلَيْهِ : وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ ، فَلَمْ يَمْنَعْ قَتْلُهُ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ كَالْمَقْتُولِ فِي غَيْرِ الْمَعْرَكَةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَكْرَهُ لِلْعَدْلِ أَنْ يَعْمِدَ قَتْلَ ذِي رَحِمٍ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ عَنْ قَتْلِ أَبِيهِ ، وَأَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ أُحُدٍ عَنْ قَتْلِ ابْنِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . يُكْرَهُ لِلْعَادِلِ قَتْلُ ذِي رَحِمٍ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَقِتَالُهُ ، وَيَعْدِلُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ [ لُقْمَانَ : 15 ] . وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ قَتْلِ أَبِيهِ يَوْمَ بَدْرٍ ، وَكَفَّ أَبَا بَكْرٍ عَنْ قَتْلِ ابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَلِأَنَّ فِيهِ اعْتِيَادًا لِلْعُقُوقِ وَاسْتِهَانَةً بِالْحُقُوقِ . وَلِأَنَّ لَهُ فُسْحَةً فِي أَنْ يَعْدِلَ عَنْ ذِي رَحِمِهِ ، وَيَكِلَ قَتْلَهُ أَوْ قِتَالَهُ إِلَى غَيْرِهِ . فَإِنْ قَتَلَ ذَا رَحِمٍ لَهُ جَازَ ، وَلَمْ يُحَرَّجْ ، وَإِنْ كُرِهَ لَهُ . رُوِيَ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ قَتَلَ أَبَاهُ مُشْرِكًا ، وَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَأْسِهِ ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ مِنْهُ حَتَّى ظَهَرَ فِي وَجْهِهِ ، وَقَالَ : مَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ ؟ قَالَ : سَمِعْتُهُ يَسُبُّكَ . ثُمَّ وَلَّى مُنَكَّسًا إِلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ عُذْرَهُ : لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ الْآيَةَ [ الْمُجَادَلَةِ : 22 ] .

فَصْلٌ : فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : وَأَكْرَهُ أَنْ يَعْمِدَ قَتْلَ ذِي رَحِمٍ . عَمْدُ الْقَتْلِ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ رَمْيُهُ عَمْيًا يَرْمِي إِلَى صَفِّهِمْ سَهْمًا ، لَا يَقْصِدُ بِهِ أَحَدًا بِعَيْنِهِ ، فَيَقْتُلُ بِهِ مَنْ أَصَابَهُ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ . وَهَذَا أَوْلَى مَا فَعَلَهُ الْعَادِلُ فِي قِتَالِهِ ، فَيَكُونُ عَامِدًا فِي الْقَتْلِ غَيْرَ مُتَعَمِّدٍ لِلْمَقْتُولِ .

وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَعْمِدَ قَتْلَ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ ، يُقَاتِلُ أَهْلَ الْعَدْلِ وَيَنْكِي فِيهِمْ ، فَهَذَا مُبَاحٌ لَا حَرَجَ فِيهِ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ قَتْلُ دَفْعٍ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَعْمِدَ قَتْلَ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ قَدْ كَفَّ عَنِ الْقِتَالِ ، وَهُوَ وَاقِفٌ مَعَ صَفِّهِمْ ، فَفِي عَمْدِ قَتْلِهِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَحْظُورٌ : لِأَنَّ الْقَصْدَ بِقِتَالِهِمُ الْكَفُّ ، وَهَذَا كَافٍ فَصَارَ كَالْأَسِيرِ الَّذِي يَحْرُمُ اعْتِمَادُ قَتْلِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَحْرُمُ : لِأَنَّهُ رَدْءٌ لَهُمْ وَعَوْنٌ ، فَأَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ مُقَاتَلَتِهِمْ . فَقَدْ شَهِدَ حَرْبَ الْجَمَلِ مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ، وَكَانَ نَاسِكًا عَابِدًا وَرِعًا يُدْعَى السَّجَّادَ . فَرَآهُ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاقِفًا فَنَهَى عَنْ قَتْلِهِ ، وَقَالَ : إِيَّاكُمْ وَصَاحِبَ الْبُرْنُسِ . فَقَتَلَهُ رَجُلٌ ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ : وَأَشْعَثَ قَوَّامٍ بِآيَاتِ رَبِّهِ قَلِيلِ الْأَذَى فِيمَا تَرَى الْعَيْنُ مُسْلِمِ هَتَكْتُ لَهُ بِالرُّمْحِ جَيْبَ قَمِيصِهِ فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ يُنَاشِدُنِي ( حم ) وَالرُّمْحُ مُشْرَعٌ فَهَلَّا تَلَا ( حم ) قَبْلَ التَّقَدُّمِ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ غَيْرَ أَنْ لَيْسَ تَابِعًا عَلِيًّا وَمَنْ لَا يَتْبَعِ الْحَقَّ يَظْلِمِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَمَا أَخَذَهُ عَلِيٌّ بِدَمِهِ ، وَلَا زَجَرَهُ عَلَى قَتْلِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَيُّهُمَا قَتَلَ أَبَاهُ أَوِ ابْنَهُ ، فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : إِنْ قَتَلَ الْعَادِلُ أَبَاهُ وَرِثَهُ ، وَإِنْ قَتَلَهُ الْبَاغِي لَمْ يَرِثْهُ . وَخَالَفَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ : يَتَوَارَثَانِ : لِأَنَّهُمَا مُتَأَوِّلَانِ . وَخَالَفَهُ آخَرُ ، فَقَالَ : لَا يَتَوَارَثَانِ : لِأَنَّهُمَا قَاتِلَانِ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَذَا أَشْبَهُ بِمَعْنَى الْحَدِيثِ ، فَيَرِثُهُمَا غَيْرُهُمَا مِنْ وَرَثَتِهِمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي مِيرَاثِ الْقَاتِلِ قَدْ مَضَتْ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ . فَإِذَا اقْتَتَلَ الْوَرَثَةُ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَوَارُثِهِمْ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ يُوَرَّثُ الْعَادِلُ مِنَ الْبَاغِي ، وَلَا يُوَرَّثُ الْبَاغِي مِنَ الْعَادِلِ : لِأَنَّ قَتْلَ الْعَادِلِ ظُلْمٌ ، وَقَتْلَ الْبَاغِي حَقٌّ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110