كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

حَتَّى يَأْذَنَ مَعَهُ الْحَالِفُ ، فَإِنْ أَذِنَ الْغَيْرُ ، وَلَمْ يَأْذَنِ الْحَالِفُ حَنِثَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَقُولَ : ائْذَنْ لَهَا عَنِّي ، فَقَدْ صَارَ فِي الْإِذْنِ نَائِبًا عَنِ الْحَالِفِ ، فَيَحْتَاجُ الْغَيْرُ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا إِذْنَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَنْ نَفْسِهِ . وَالثَّانِي : عَنِ الْحَالِفِ . فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَ الْإِذْنَيْنِ بَرَّ الْحَالِفُ ، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا حَنِثَ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يُطْلِقَ إِذْنَهُ لِلْغَيْرِ ، فَيُسْأَلَ عَنْهُ الْحَالِفُ . فَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ عُمِلَ عَلَيْهِ ، وَكَانَ حُكْمُهُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الضَّرْبَيْنِ ، فَإِنْ فَاتَ سُؤَالُ الْحَالِفِ عَنْهُ لِغَيْبَةٍ طَالَتْ نُظِرَ حَالُ ذَلِكَ الْغَيْرِ مَعَ الْحَالِفِ : فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ جَرَتْ عَادَتُهُ أَنْ يَأْمُرَهُ وَيَنْهَاهُ ، صَارَ هَذَا الْإِذْنُ لَهُ أَمْرًا ، فَيَكُونُ إِذْنًا عَنِ الْحَالِفِ ، فَيَصِيرُ كَالضَّرْبِ الثَّانِي . وَإِنْ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ صَارَ مِثْلُ هَذَا الْإِذْنِ طَلَبًا ، فَيَكُونُ إِذْنًا عَنِ الْغَيْرِ ، فَيَصِيرُ كَالضَّرْبِ الْأَوَّلِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ أَذِنَ لَهَا وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ فَخَرَجَتْ لَمْ يَحْنَثْ : لِأَنَّهُ قَدْ أَذِنَ لَهَا وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ حَقٌّ لِرَجُلٍ فَغَابَ أَوْ مَاتَ فَجَعَلَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ فِي حِلٍّ بَرِئَ غَيْرَ أَنِّي أُحِبُّ لَهُ فِي الْوَرَعِ لَوْ أَحْنَثَ نَفْسَهُ : لِأَنَّهَا خَرَجَتْ عَاصِيَةً لَهُ عِنْدَ نَفْسِهَا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَذِنَ لَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا حَلَفَ بِطَلَاقِهَا أَنْ لَا تَخْرُجَ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، وَأَذِنَ لَهَا وَلَمْ تَعْلَمْ بِالْإِذْنِ حَتَّى خَرَجَتْ لَمْ يَحْنَثْ ، وَلَا يَكُونُ عِلْمُهَا بِالْإِذْنِ شَرْطًا فِي الْبِرِّ . هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ . وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ : يَحْنَثُ ، وَيَكُونُ عِلْمُهَا بِالْإِذْنِ شَرْطًا فِي الْبِرِّ ، اسْتِدْلَالًا بِأَرْبَعَةِ مَعَانٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْإِذْنَ تَضَمَّنَ الْإِعْلَامَ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [ الْحَجِّ : 27 ] ، أَيْ : أَعْلِمْهُمْ بِفَرْضِهِ ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ : إِذَا حَلَلْتِ ، فَآذِنِينِي ، أَيْ : أَعْلِمِينِي . وَقَوْلِ الشَّاعِرِ :

آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ أَيْ : أَعْلَمَتْنَا ، فَإِذَا ثَبَتَ بِالشَّرْعِ وَاللُّغَةِ أَنَّ الْإِذْنَ يَتَضَمَّنُ الْإِعْلَامَ صَارَ شَرْطًا فِيهِ ، فَإِنْ عُدِمَ لَمْ يَكْمُلِ الْإِذْنُ ، فَلَمْ يَقَعْ بِهِ الْبِرُّ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْإِذْنَ أَمْرٌ يُخَالِفُ مَا بَعْدَهُ حُكْمَ مَا قَبْلَهُ ، فَجَرَى مَجْرَى النَّسْخِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ بِالنَّسْخِ شَرْطٌ فِي لُزُومِهِ كَذَلِكَ الْعِلْمُ بِالْإِذْنِ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ أَلْزَمَهَا بِخُرُوجِهِ عَنْ إِذْنِهِ أَنْ تَكُونَ مُطِيعَةً فِي الْخُرُوجِ ، فَإِذَا لَمْ تَعَلَمْ بِالْإِذْنِ صَارَتْ عَاصِيَةً بِالْخُرُوجِ ، فَلَمْ يَكُنْ هُوَ الْخُرُوجَ الْمَأْذُونَ فِيهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْنَثَ بِهِ ، وَيَصِيرَ عَدَمُ عِلْمِهَا بِالْإِذْنِ جَارِيًا مَجْرَى عَدَمِ الْإِذْنِ ، لِوُجُودِ الْمَعْصِيَةِ فِيهِمَا ، كَمَنْ بَاعَ مَا لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَالِكٌ لَهُ ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ مَالِكًا لَهُ ، كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا ، وَجَرَى عَدَمُ عِلْمِهِ بِالْمِلْكِ مَجْرَى عَدَمِ الْمِلْكِ . وَالرَّابِعُ : أَنَّ الْإِذْنَ يَفْتَقِرُ إِلَى آذِنٍ وَمَأْذُونٍ لَهُ ، كَالْكَلَامِ الَّذِي يَفْتَقِرُ إِلَى قَائِلٍ وَمُسْتَمِعٍ ، فَلَمَّا كَانَ الْمُنْفَرِدُ بِالْكَلَامِ يَسْلُبُهُ حُكْمَ الْكَلَامِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُنْفَرِدُ بِالْإِذْنِ يَسْلُبُهُ حُكْمَ الْإِذْنِ . وَدَلِيلُنَا أَرْبَعَةُ مَعَانٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْإِذْنَ يَخْتَصُّ بِالْآذِنِ ، وَالْعِلْمَ بِهِ مُخْتَصٌّ بِالْمَأْذُونِ لَهَا ، وَشَرْطُ يَمِينِهِ إِنَّمَا كَانَ مَعْقُودًا عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنَ الْإِذْنِ دُونَ مَا يَخْتَصُّ بِهَا مِنَ الْعِلْمِ . أَلَا تَرَى أَنَّ اسْمَ الْإِذْنِ يَنْطَلِقُ عَلَى إِذْنِهِ دُونَ عِلْمِهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَفَرُّدُهُ بِالْإِذْنِ مُوجِبًا لِوُجُودِ الشَّرْطِ ، فَلَا يَقَعُ بِهِ الْحِنْثُ ، كَمَا لَوْ قَالَ : إِنْ قُمْتُ ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ، طُلِّقَتْ بِقِيَامِهِ ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعِلْمُ شَرْطًا فِي الْإِذْنِ لَكَانَ وُجُودُهُ مِنَ الْحَالِفِ شَرْطًا فِيهِ ، كَمَا كَانَ وُجُودُ الْإِذْنِ مِنْهُ شَرْطًا فِيهِ ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهَا لَوْ عَلِمَتْ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ صَحَّ ، وَلَوْ أَذِنَ لَهَا غَيْرُهُ لَمْ يَصِحَّ ، دَلَّ عَلَى خُرُوجِهِ مِنْ حُقُوقِ الْإِذْنِ ، وَصَحَّ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ قَدْ حَظَرَ الْخُرُوجَ عَلَيْهَا بِالْيَمِينِ ، وَأَبَاحَهَا الْخُرُوجَ بِالْإِذْنِ ، فَصَارَ عَقْدُهَا جَامِعًا بَيْنَ حَظْرٍ وَإِبَاحَةٍ ، وَالِاسْتِبَاحَةُ إِذَا صَادَفَتْ إِبَاحَةً لَمْ يُعْلَمْ بِهَا الْمُسْتَبِيحُ جَرَى عَلَيْهَا حُكْمُ الْإِبَاحَةِ دُونَ الْحَظْرِ ، كَمَنِ اسْتَبَاحَ مَالَ رَجُلٍ قَدْ أَبَاحَ لَهُ ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ

بِإِبَاحَتِهِ ، جَرَى عَلَى الْمَالِ الْمُبْتَدِئِ حُكْمُ الْإِبَاحَةِ اعْتِبَارًا بِالْمُبِيحِ ، وَلَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ الْحَظْرُ اعْتِبَارًا بِالْمُسْتَبِيحِ . كَذَلِكَ حُكْمُ هَذَا الْخُرُوجِ . وَتَحْرِيرُهُ : أَنَّهَا اسْتِبَاحَةٌ بَعْدَ إِبَاحَةٍ ، فَلَمْ يَكُنْ فَقْدُ الْعِلْمِ بِهَا مُؤَثِّرًا فِي حُكْمِهَا كَالْمَالِ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهَا لَا تَعْلَمُ بِإِذْنِهِ ، لِبُعْدِهَا تَارَةً ، وَلِنَوْمِهَا أُخْرَى ، وَقَدْ وَافَقُوا أَنَّهُ لَوْ أَذِنَ لَهَا ، وَهِيَ نَائِمَةٌ ، فَخَرَجَتْ غَيْرَ عَالِمَةٍ بِإِذْنِهِ لَمْ يَحْنَثْ ، كَذَلِكَ إِذَا أَذِنَ لَهَا ، وَهِيَ بَعِيدَةٌ ، فَلَمْ تَعْلَمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى خَرَجَتْ ، وَجَبَ أَنْ لَا يَحْنَثَ . وَتَحْرِيرُهُ : أَنَّهَا يَمِينٌ تَعَلَّقَ الْبِرُّ فِيهَا بِالْإِذْنِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ عَدَمُ الْعِلْمِ بِهِ مُوجِبًا لِلْحِنْثِ ، كَالنَّائِمَةِ وَالنَّاسِيَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمُ الْأَوَّلِ ، بِأَنَّ الْإِذْنَ يَتَضَمَّنُ الْإِعْلَامَ اسْتِشْهَادًا بِمَا ذَكَرُوهُ ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِعْلَامَ هُوَ الْإِيذَانُ دُونَ الْإِذْنِ ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْإِذْنِ وَالْإِيذَانِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْإِذْنَ لَوِ اقْتَضَى الْإِعْلَامَ ، لَاخْتَصَّ بِهِ الْإِذْنُ دُونَ غَيْرِهِ ، وَهُوَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ شَرْطِ إِذْنِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمُ الثَّانِي فِي النَّسْخِ ، فَهُوَ أَنَّ فِي اعْتِبَارِ الْعِلْمِ بِهِ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّسْخَ يَلْزَمُ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ كَالْإِذْنِ ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ ، كَأَهْلِ قُبَاءَ حِينَ اسْتَدَارُوا فِي صَلَاتِهِمْ ، وَبَنَوْا عَلَى مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِنَسْخِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالْكَعْبَةِ . فَعَلَى هَذَا أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّسْخَ مُخْتَصٌّ بِالتَّعَبُّدِ الشَّرْعِيِّ ، فَلَمْ يَلْزَمْ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ ، لِوُجُوبِ إِبْلَاغِهِ ، وَالْإِذْنُ رَافِعٌ لِلْمَنْعِ ، فَصَارَ مُرْتِفَعًا قَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمُ الثَّالِثِ بِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْإِذْنِ يَقْتَضِي خُرُوجًا تَكُونُ فِيهِ مُطِيعَةً ، فَهُوَ انْتِقَاضُهُ بِخُرُوجِهَا إِنْ كَانَتْ نَاسِيَةً لِإِذْنِهِ ، أَوْ كَانَتْ نَائِمَةً عِنْدَ إِذْنِهِ هِيَ قَاصِدَةٌ لِمَعْصِيَتِهِ ، وَلَا يَحْنَثُ بِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمُ الرَّابِعِ بِالْمُتَكَلِّمِ ، فَهُوَ فَسَادُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي كَلَامِ الْغَيْرِ الِاسْتِمَاعُ دُونَ الْإِعْلَامِ وَالسَّمَاعِ ، وَهُمْ يَعْتَبِرُونَ فِي الْإِذْنِ الْإِعْلَامَ دُونَ السَّمَاعِ وَالِاسْتِمَاعِ ، فَفَسَدَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَعَ اخْتِلَافِ مَقْصُودِهِمَا .



فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الْإِذْنِ ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ أَذِنَ لَهَا وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَلَيْسَ إِشْهَادُهُ عَلَى الْإِذْنِ شَرْطًا فِيهِ ، وَإِنَّمَا هِيَ حُجَّةٌ لَهُ إِنِ ادَّعَاهُ : لِيَرْفَعَ بِهِ الطَّلَاقَ إِذَا أَنْكَرَتْهُ الزَّوْجَةُ ، لِيَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ . وَإِنَّمَا الشَّرْطُ فِي صِحَّةِ الْإِذْنِ أَنْ يَكُونَ مَسْمُوعًا مِنْهُ ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ لِمُسْتَمِعٍ لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ الَّذِي لَا يَصِحُّ بِهِ الْإِذْنُ . ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأُحِبُّ لَهُ فِي الْوَرَعِ أَنْ يُحَنِّثَ نَفْسَهُ من علق طلاق امرأته بخروجها بغير إذنه " ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَخْرَجٌ مُخْتَلِفٌ فِي اسْتِبَاحَتِهِ ، فَاخْتَارَ لَهُ أَنْ تَكُونَ الِاسْتِبَاحَةُ مُتَّفَقًا عَلَيْهَا ، وَأَمَرَهُ بِالْتِزَامِ الْحِنْثِ ، وَلَمْ يُرِدْ بِالْتِزَامِ الْحِنْثِ الْتِزَامَ الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّهُ إِنِ الْتَزَمَ الطَّلَاقَ لَمْ تَصِرْ زَوْجَتُهُ مُسْتَبِيحَةَ الْأَزْوَاجِ بِاتِّفَاقٍ ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِمَا تَكُونُ الِاسْتِبَاحَةُ فِي الْجِهَتَيْنِ بِاتِّفَاقٍ يَقَعُ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا أَوْ ثَلَاثًا . فَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا ، فَيُخْتَارُ لَهُ فِي الْوَرَعِ إِنْ أَرَادَ الْمَقَامَ مَعَهَا أَنْ يَرْتَجِعَهَا ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ إِنْ وَقَعَ اسْتَبَاحَهَا بِالرَّجْعَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ لَمْ تَضُرَّهُ الرَّجْعَةُ . وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الْمَقَامَ مَعَهَا قَالَ لَهَا : إِنْ لَمْ يَكُنِ الطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكِ ، فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً ، حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ فِي الْحَالَيْنِ . فَإِنْ لَمْ يَقُلْ هَكَذَا ، وَقَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَزِمَتْهُ الْوَاحِدَةُ ، وَكَانَتِ الثَّانِيَةُ عَلَى اخْتِلَافٍ . وَإِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدَ هَذَيْنِ كَانَ النِّكَاحُ لَازِمًا ، وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنَ الْأَزْوَاجِ ، وَيُؤْخَذُ بِنَفَقَتِهَا ، وَالْوَرَعُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ إِصَابَتِهَا . وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا ، فَلَيْسَ مِنَ الْوَرَعِ الْإِقَامَةُ عَلَيْهَا ، وَالْوَرَعُ أَنْ يُفَارِقَهَا بِأَنْ يَقُولَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا . وَلَيْسَ يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِنْ لَمْ يَكُنِ الطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكِ ؛ لِأَنَّ طَلَاقَ الْحِنْثِ إِنْ وَقَعَ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُ الْمُبَاشَرَةِ ، وَخَالَفَ طَلَاقَ الرَّجْعَةِ ؛ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُ الْحِنْثِ وَقَعَ طَلَاقُ الْمُبَاشَرَةِ . فَإِنْ لَمْ يَقُلْ هَذَا فِي الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ ، كَانَ مُلْتَزِمًا لِنِكَاحِهَا ، وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنَ الْأَزْوَاجِ ، وَيُؤْخَذُ بِنَفَقَتِهَا ، وَالْوَرَعُ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ إِصَابَتِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعْ ، وَأَصَابَهَا فِي الطَّلَّاقَيْنِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ ، وَلَا مَأْثَمَ ، لِمَا حُكِمَ بِهِ مِنْ بِرِّهِ فِي يَمِينِهِ .

بَابُ مَنْ يُعْتِقُ مِنْ مَمَالِيكِهِ إِذَا حَنِثَ أَوْ حَلَفَ بِعِتْقِ عَبْدٍ فَبَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ

بَابُ مَنْ يُعْتِقُ مِنْ مَمَالِيكِهِ إِذَا حَنِثَ أَوْ حَلَفَ بِعِتْقِ عَبْدٍ فَبَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " مَنْ حَلَفَ بِعِتْقِ مَا يَمْلِكُ وَلَهُ أُمُّهَاتُ أَوْلَادٍ وَمُدَبَّرُونَ وَأَشْقَاصٌ مِنْ عَبِيدٍ عَتَقُوا عَلَيْهِ إِلَّا الْمُكَاتَبَ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ : لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ خَارِجٌ مِنْ مِلْكِهِ بِمَعْنًى وَدَاخِلٌ فِيهِ بِمَعْنًى ، وَهُوَ مَحُولٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخْذِ مَالِهِ وَاسْتِخْدَامِهِ وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ وَلَا زَكَاةَ الْفِطْرِ فِي رَقِيقِهِ ، وَلَيْسَ كَذَا أُمُّ وَلَدِهِ وَلَا مُدَبَّرُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا حَلَفَ بِعِتْقِ مَا يَمْلِكُ ، فَحَنِثَ أَوْ قَالَ : مَمَالِيكِي أَحْرَارٌ ، فَالْحُكْمُ فِي عِتْقِ الْحِنْثِ وَالْمُبَاشَرَةِ سَوَاءٌ ، فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ كُلُّ مَنْ يَمْلِكُ رِقَّهُ مِنْ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ ، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ مَمَالِيكُ لَهُ ، وَيَعْتِقُ عَلَيْهِ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ ؛ لِأَنَّهُنَّ فِي مِلْكِهِ ، وَيَجْرِي عَلَيْهِنَّ أَحْكَامُ رِقِّهِ ، فِي اسْتِبَاحَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ ، وَاسْتِخْدَامِهِنَّ ، وَمِلْكِ أَكْسَابِهِنَّ ، وَالْتِزَامِ نَفَقَتِهِنَّ ، وَزَكَاةِ فِطْرِهِنَّ ، وَجَوَازِ تَزْوِيجِهِنَّ ، وَإِجَارَتِهِنَّ كَالْإِمَاءِ . وَإِنَّمَا حَرُمَ بَيْعُهُنَّ ، لِمَا ثَبَتَ مِنْ حُرْمَةِ الْوِلَادَةِ ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ بَقَاءِ رِقِّهِنَّ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ أَرْشَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِنَّ ، فَلِذَلِكَ دَخَلْنَ فِي جُمْلَةِ مَمَالِيكِهِ ، فَيُعْتِقُهُنَّ . وَيَعْتِقُ عَلَيْهِ مُدَبَّرُوهُ لِبَقَاءِ رِقِّهِمْ وَجَوَازِ بَيْعِهِمْ ، وَمِلْكِ إِكْسَابِهِمْ ، وَالْتِزَامِ نَفَقَتِهِمْ وَتَعْجِيلِ عِتْقِهِمْ ، وَكَذَلِكَ يَعْتِقُ عَلَيْهِ الْمُخَارَجُونَ مِنْ عَبِيدِهِ ، وَالْمُعْتَقُونَ بِصِفَةٍ لَمْ تَأْتِ ؛ لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ مَمَالِيكُ تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ رِقِّهِ فِيمَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ . وَإِذَا كَانَ لَهُ أَشْخَاصٌ مِنْ عَبِيدٍ وَإِمَاءٍ عَتَقُوا عَلَيْهِ فِيمَا مَلَكَهُ مِنْهُمْ ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ بَاقِيهِمْ إِنْ أَيْسَرَ بِقِيمَتِهِمْ ، وَرُقَّ الْبَاقِي إِنْ أَعْسَرَ بِهِمْ . وَأَمَّا الْمُكَاتَبُونَ ، فَإِنْ كَانَتْ كِتَابَتُهُمْ فَاسِدَةً عُتِقُوا عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً لَمْ يَعْتِقُوا عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَنْوِ عِتْقَهُمْ . هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ ، وَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْمُزَنِيُّ ، وَرَوَى الرَّبِيعُ مِثْلَهُ . ثُمَّ قَالَ الرَّبِيعُ بَعْدَ أَنْ رَوَى عَنْهُ : إِنَّهُمْ لَا يَعْتِقُونَ ، وَحِفْظِي عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمَكَاتَبَ يَعْتِقُ إِذَا حَلَفَ بِعِتْقِ رَقِيقِهِ .

فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا حَكَاهُ مِنْ هَذَا ، فَامْتَنَعَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَعَ طَائِفَةٍ تَقَدَّمَتْهُ مِنْ تَخْرِيجِهِ ، لِأَنَّهُ يُخَالِفُ مَنْصُوصَ الشَّافِعِيِّ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ ، وَأَثْبَتَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ مَعَ طَائِفَةٍ تَقَدَّمَتْهُ ، وَخَرَّجُوا عِتْقَ الْمُكَاتَبِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَا اخْتَصَّ الرَّبِيعُ بِنَقْلِهِ أَنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : جَرَيَانُ أَحْكَامِ الرِّقِّ عَلَيْهِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا نَفَذَ فِيهِ عِتْقُ الْخُصُوصِ إِذَا عَيَّنَهُ نَفَذَ فِيهِ عِتْقُ الْعُمُومِ إِذَا أَطْلَقَهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الْمَشْهُورُ الَّذِي اتَّفَقَ أَصْحَابُهُ عَلَى نَقْلِهِ ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي كُتُبِهِ : أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ فِي الْعُمُومِ إِذَا لَمْ يَنْوِهِ ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْكِتَابَةَ كَالْبَيْعِ ، لِأَنَّهَا إِزَالَةُ مِلْكٍ بِعِوَضٍ ، فَانْتَقَلَ بِهَا الْمِلْكُ فِي الظَّاهِرِ ، وَإِنْ جَازَ عَوْدُهُ إِلَى مِلْكِهِ بِالْعَجْزِ فِي الْبَاطِنِ ، فَصَارَ كَالْمَبِيعِ عَلَى مُفْلِسٍ قَدِ انْتَقَلَ الْمِلْكُ ، وَإِنْ جَازَ اسْتِرْجَاعُهُ بِالْفَلَسِ ، وَمَا زَالَ بِهِ الْمِلْكُ لَمْ يَدْخُلْ فِي عُمُومِ الْمِلْكِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا زَالَ عَنِ السَّيِّدِ مِلْكُ مَنَافِعِهِ وَكَسْبُهُ ، وَأُرُوشُ جِنَايَاتِهِ ، وَسَقَطَتْ عَنْهُ نَفَقَتُهُ وَفِطْرَتُهُ زَالَ عَنْهُ مِلْكُ رَقَبَتِهِ ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي عُمُومِ مِلْكِهِ . فَإِنْ قِيلَ : الِاسْتِدْلَالُ بِهَذَيْنِ مَعْلُولٌ ، لِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ عُتِقَ ، وَلَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ إِلَّا فِي مِلْكٍ . قِيلَ : إِنَّمَا عُتِقَ ، لِأَنَّ عِتْقَهُ إِبْرَاءٌ ، وَهُوَ يُعْتَقُ بِالْإِبْرَاءِ ، كَمَا يُعْتَقُ بِالْأَدَاءِ ، فَهَذَا تَمَامٌ لِذَلِكَ الْعِتْقِ الْأَوَّلِ ، وَلَيْسَ بِابْتِدَاءِ عِتْقٍ فِي الرِّقِّ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا جَعَلْتُمْ عِتْقَهُ إِبْرَاءً يُعْتَقُ بِهِ فِي الْخُصُوصِ : لَزِمَكُمْ أَنْ تَجْعَلُوهُ إِبْرَاءً يُعْتَقُ بِهِ فِي الْعُمُومِ . قُلْنَا : لَا يَلْزَمُ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَنْ عِتْقُهُ فِي الْخُصُوصِ حَيْثُ جَعَلْنَاهُ إِبْرَاءَ عِتْقِهِ فِي الْعُمُومِ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْفُذْ صَرِيحُ عِتْقِهِ فِي الْخُصُوصِ فِي غَيْرِهِ ، يَعْنِي بِهِ فِي غَيْرِ الْمَكَاتَبِ ، صَارَ صَرِيحًا فِي إِبْرَائِهِ ، فَعُتِقَ بِهِ . وَلَمَّا نَفَذَ صَرِيحُ الْعِتْقِ فِي الْعُمُومِ فِي غَيْرِهِ ، صَارَ كِتَابَةً فِي إِبْرَائِهِ ، فَلَمْ يَبْرَأْ إِلَّا أَنْ

يَقْتَرِنَ بِالْكِتَابَةِ نِيَّةٌ ، وَجَعَلْنَاهُ صَرِيحًا فِي الْخُصُوصِ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ النِّيَّةُ ، وَكِتَابَةً فِي الْعُمُومِ تُعْتَبَرُ فِيهِ النِّيَّةُ ، فَوَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ . وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ ، فَيَصِيرَ بِالنِّيَّةِ حُرًّا ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالنِّيَّةِ مُبَرَّأً فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ دَخَلْتُمْ فِي فَرْقِكُمْ بَيْنَ الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ فِي نُفُوذِ الْعِتْقِ فِيمَا أَنْكَرْتُمُوهُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي فَرْقِهِ بَيْنَ الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ فِي طَلَاقِ الْمُخْتَلِعَةِ حَيْثُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ عَلَيْهَا فِي الْخُصُوصِ إِذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ، وَلَمْ يُوقِعْهُ عَلَيْهَا فِي الْعُمُومِ إِذَا قَالَ : كُلُّ نِسَائِي طَوَالِقُ ، فَارْتَكَبْتُمْ مَا أَنْكَرْتُمُوهُ عَلَى غَيْرِكُمْ . قِيلَ : لَا يَدْخُلُ هَذَا الْإِلْزَامُ عَلَيْنَا ، لِأَنَّ لِلطَّلَاقِ وَجْهًا وَاحِدًا أَوْجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ حُكْمُ الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ ، وَلِعِتْقِ الْمُكَاتَبِ وَجْهَانِ فَجَازَ أَنْ يَفْتَرِقَ فِيهَا حُكْمُ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ . فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ خَارِجٌ مِنْ مِلْكِهِ بِمَعْنًى وَدَاخِلٌ فِيهِ بِمَعْنًى ، فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : خَارِجٌ مِنْ مِلْكِهِ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ ، وَدَاخِلٌ فِيهِ بِالْعَجْزِ . وَالثَّانِي : خَارِجٌ مِنْ مِلْكِهِ ، لِعَدَمِ تَصَرُّفِهِ ، وَدَاخِلٌ فِي مِلْكِهِ لِثُبُوتِ عَجْزِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ حَلَفَ بِعِتْقِ عَبْدِهِ لَيَضْرِبَنَّهُ غَدًا فَبَاعَهُ الْيَوْمَ ، فَلَمَّا مَضَى غَدٌ اشْتَرَاهُ ، فَلَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ إِذَا وَقَعَ مَرَّةً لَمْ يَحْنَثْ ثَانِيَةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي عَقْدِ يَمِينِهِ بِعِتْقٍ عِنْدَهُ أَنْ يَعْقِدَهَا بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ ، وَقَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ ، وَسَنُعِيدُهُ هَاهُنَا ، لِنَبْنِيَ عَلَيْهِ حُكْمَ الْعِتْقِ . فَإِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ : إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَلَهَا فِي دُخُولِ الدَّارِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَدْخُلَهَا ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى هَذَا النِّكَاحِ ، فَيَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ ، وَتُطَلَّقُ بِحِنْثِهِ ، لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ قَدْ وُجِدَ فِي زَمَانٍ يَلْزَمُهُ فِيهِ الطَّلَاقُ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلَاقًا لَا يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ أَوْ يَمْلِكُهَا ، وَانْقَضَتِ الْعِدَّةُ ، ثُمَّ دَخَلَتِ الدَّارَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ ، لِأَنَّ دُخُولَ الدَّارِ ، وَإِنْ كَانَ مُوجِبًا لِلْحِنْثِ ، فَقَدْ كَانَ فِي زَمَانٍ لَا يَلْزَمُهُ مُوجِبُهُ مِنَ الطَّلَاقِ ، فَلَمْ يَحْنَثْ بِهِ . وَإِنْ جَدَّدَ نِكَاحَهَا بَعْدَ دُخُولِ الدَّارِ ، ثُمَّ دَخَلَتِ الدَّارَ لَمْ يَحْنَثْ بِهِ ، وَلَمْ تُطَلَّقْ عَلَيْهِ ، لِمَا عَلَّلَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّ الْحِنْثَ إِذَا وَقَعَ مَرَّةً لَمْ يَقَعْ ثَانِيَةً .

وَبَيَانُهُ : أَنَّهُ لَمَّا وُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ انْحَلَّتْ بِهِ الْيَمِينُ ، فَسَقَطَ حُكْمُهَا ، وَإِذَا انْحَلَّتِ الْيَمِينُ لَمْ تَعُدْ إِلَّا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُطَلِّقَهَا ، وَيَسْتَأْنِفَ نِكَاحَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ ، ثُمَّ تَدْخُلُ الدَّارَ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي ، فَيَكُونُ عَقْدُ الْيَمِينِ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ ، وَوُجُودُ الْحِنْثِ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي ، وَلَمْ يَقَعْ بَيْنَ النِّكَاحَيْنِ حِنْثٌ ، فَالْحِنْثُ مُعْتَبَرٌ بِصِفَةِ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ كَانَ دُونَ الثَّلَاثِ عَادَتِ الْيَمِينُ عَلَى الْقَدِيمِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَفِي الْجَدِيدِ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَإِنْ كَانَتْ ثَلَاثًا لَمْ تَعُدِ الْيَمِينُ عَلَى الْجَدِيدِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَفِي الْقَدِيمِ عَلَى قَوْلَيْنِ ، فَصَارَ فِي حِنْثِهِ بِدُخُولِهَا فِي النِّكَاحِ الثَّانِي قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَحْنَثُ ، وَيَقَعُ الطَّلَاقُ لِوُجُودِ الْيَمِينِ وَالْحِنْثِ فِي زَمَانٍ يَمْلِكُ فِيهِ الطَّلَاقَ ، فَاسْتَقَرَّ حُكْمُ الْيَمِينِ فِي النِّكَاحَيْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ ، وَإِنْ كَانَ شَرْطُ الْحِنْثِ مَوْجُودًا ، لِأَنَّهَا يَمِينٌ انْعَقَدَتْ قَبْلَ هَذَا النِّكَاحِ ، فَارْتَفَعَتْ بِزَوَالِ مَا انْعَقَدَتْ فِيهِ ، لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقٌ قَبْلَ نِكَاحٍ ، وَلَا عِتْقٌ قَبْلَ مِلْكٍ .

فَصْلٌ : فَإِذَا اسْتَقَرَّ حُكْمُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ فِي الطَّلَاقِ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا حُكْمُ الْعِتْقِ . فَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ : إِنْ لَمْ أَضْرِبْكَ غَدًا ، فَأَنْتَ حُرٌّ ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَأْتِيَ غَدٌ وَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ ، فَإِنْ ضَرَبَهُ فِيهِ قَبْلَ غُرُوبِ شَمْسِهِ بَرَّ ، وَلَمْ يُعْتَقْ ، وَإِنْ لَمْ يَضْرِبْهُ حَتَّى غَرَبَتْ شَمْسُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ضَرْبِهِ حَنِثَ وَعُتِقَ عَلَيْهِ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ضَرْبِهِ بِإِكْرَاهٍ أَوْ نِسْيَانٍ ، فَفِي حِنْثِهِ وَعِتْقِهِ قَوْلَانِ فِي حِنْثِ النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ ، فَإِنْ جَاءَ غَدٌ ، فَلَمْ يَضْرِبْهُ حَتَّى فَاتَ ضَرْبُهُ إِمَّا بِمَوْتِ السَّيِّدِ أَوْ بِهَرَبِ الْعَبْدِ أَوْ بَيْعِهِ ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَفُوتَ الضَّرْبُ وَقَدْ مَضَى مِنَ الْغَدِ مَا لَا يَتَّسِعُ لِلضَّرْبِ ، فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ وَلَا عِتْقَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَفُوتَ الضَّرْبُ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْغَدِ مَا لَا يَتَّسِعُ لِضَرْبٍ ، فَيَحْنَثُ وَيُعْتَقُ عَلَيْهِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَفُوتَ الضَّرْبُ وَقَدْ مَضَى مِنَ الْغَدِ مَا يَتَّسِعُ لِلضَّرْبِ ، فَفِي حِنْثِهِ وَعِتْقِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَحْنَثُ وَيُعْتَقُ عَلَيْهِ لِفَوَاتِ ضَرْبِهِ بَعْدَ إِمْكَانِهِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ ، لِتَقَدُّمِهِ عَلَى زَمَانِ عِتْقِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ مَجِيءِ غَدِهِ ، وَيَبْتَاعَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ غَدِهِ ، فَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ فِي زَمَانِ الْحِنْثِ قَدْ كَانَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ . وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : يُعْتَقُ عَلَيْهِ ، وَيَنْتَقِضُ الْبَيْعُ ، وَيَرْجِعُ مُشْتَرِيهِ بِثَمَنِهِ ، لِاسْتِحْقَاقِ عِتْقِهِ قَبْلَ بَيْعِهِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ نُفُوذَ الْبَيْعِ قَدْ أَوْجَبَ زَوَالَ مِلْكِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ مُشْتَرِيهِ ، نَفَذَ عِتْقُهُ ، وَإِنْ رَهَنَهُ قَبْلَ غَدِهِ ، وَافْتَكَّهُ بَعْدَ غَدِهِ ، فَفِي عِتْقِهِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ مِنْ نُفُوذِ الْعِتْقِ فِي الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ : أَحَدُهُمَا : يُعْتَقُ عَلَيْهِ فِي يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ . وَالثَّانِي : لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ فِي يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ . وَالثَّالِثُ : يُعْتَقُ عَلَيْهِ فِي يَسَارِهِ ، وَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ فِي إِعْسَارِهِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ غَدِهِ ، وَيَبْتَاعَهُ قَبْلَ غَدِهِ ، وَلَا يَضْرِبُهُ فِي غَدِهِ ، فَهَذِهِ يَمِينٌ انْعَقَدَتْ فِي الْمِلْكِ الْأَوَّلِ ، وَوُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ فِي الْمِلْكِ الثَّانِي ، وَلَمْ يَمْضِ شَرْطُ الْحِنْثِ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ ، فَيَصِيرُ كَعَقْدِ الطَّلَاقِ فِي نِكَاحٍ ، وَوُقُوعِهِ فِي آخَرَ ، فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ ، لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ بَيْعُهُ فِي الْمِلْكِ الْأَوَّلِ جَارِيًا مَجْرَى الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ أَوْ مَجْرَى الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْعَقْدَيْنِ فِيهَا شَرْطٌ مَانِعٌ ، فَعَلَى هَذَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَفِي الْجَدِيدِ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ ، لِأَنَّ الْبَيْعَ قَدْ أَزَالَ حُقُوقَ الْمِلْكِ ، كَمَا أَزَالَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ حُقُوقَ النِّكَاحِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَفِي الْقَدِيمِ عَلَى قَوْلَيْنِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ : إِنْ ضَرَبْتُكَ ، فَأَنْتَ حُرٌّ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَحْنَثُ بِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِكُلِّ مَا آلَمَ جِسْمَهُ مِنْ فِعْلٍ كَالْعَضِّ وَالرَّفْسِ ، وَكُلِّ مَا آلَمَ قَلْبَهُ كَالسَّبِّ وَالشَّتْمِ .

وَالثَّانِي : - وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - يَحْنَثُ بِكُلِّ مَا آلَمَ جِسْمَهُ مِنْ فِعْلٍ كَالْعَضِّ وَالْخَنْقِ ، وَلَا يَحْنَثُ بِمَا آلَمَ قَلْبَهُ مِنْ قَوْلٍ . وَالثَّالِثُ : - وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِمَا آلَمَ قَلْبَهُ مِنْ قَوْلٍ ، وَلَا يَحْنَثُ بِمَا آلَمَ جِسْمَهُ إِلَّا مَا انْطَلَقَ اسْمُ الضَّرْبِ عَلَيْهِ ، فَلَا يَحْنَثُ بِخَنْقِهِ وَعَضِّهِ ، لِانْتِفَاءِ اسْمِ الضَّرْبِ عَنْهُ ، وَيَحْنَثُ بِمَا وَصَلَ إِلَى جِسْمِهِ مِنْ آلَةٍ بِيَدِهِ . وَفِي حِنْثِهِ إِنْ لَكَمَهُ أَوْ لَطَمَهُ أَوْ رَفَسَهُ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَحْنَثُ بِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يُقَالُ : قَدْ ضَرَبَهُ بِيَدِهِ ، وَإِنْ تَنَوَّعَتْ أَسْمَاءُ الضَّرْبِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَحْنَثُ بِهِ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الضَّرْبِ يَنْطَلِقُ عَلَى مَا كَانَ بِآلَةٍ مُسْتَعْمَلَةٍ فِيهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : أَنْتَ حُرٌّ إِنْ بِعْتُكَ فَبَاعَهُ بَيْعًا لَيْسَ بِبَيْعِ خِيَارٍ ، فَهُوَ حُرٌّ حِينَ عَقَدَ الْبَيْعَ ، وَإِنَّمَا زَعَمْتُهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا ، قَالَ : وَتَفَرُّقُهُمَا بِالْأَبْدَانِ ، فَقَالَ : فَكَانَ لَوْ أَعْتَقَهُ عُتِقَ فَيُعْتَقُ بِالْحِنْثِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَلَيْسَ يَخْلُو مَعَ عَبْدِهِ إِذَا قَالَ لَهُ : إِنْ بِعْتُكَ فَأَنْتَ حُرٌّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَبِيعَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَيُعْتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، بَعْدَ تَمَامِهِ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ ، وَهَذَا مِمَّا وَافَقَ عَلَيْهِ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ ، لِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يَمْنَعُ مِنْ إِبْرَامِ الْعَقْدِ ، وَيَنْفُذُ عِتْقُ الْبَائِعِ فِيهِ بِالْمُبَاشَرَةِ ، فَنَفَذَ عِتْقُهُ فِيهِ بِالْحِنْثِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَبِيعَهُ بَيْعًا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ إِثْبَاتَ خِيَارٍ وَلَا إِسْقَاطَهُ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ ، مَا لَمْ يَفْتَرِقَا فِيهِ بِأَبْدَانِهِمَا بِالْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ فِيهِ . وَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ عِنْدَهُمَا لَا يَثْبُتُ ، وَيَنْعَقِدُ الْبَيْعُ عِنْدَهُمَا نَاجِزًا ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُمَا . وَإِذَا عُتِقَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بَطَلَ الْبَيْعُ ، لِنُفُوذِ عِتْقِهِ عَلَى الْبَائِعِ ، فَصَارَ نُفُوذُ الْعِتْقِ مِنْ جِهَتِهِ نَسْخًا يُوجِبُ رَدَّ الثَّمَنِ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يَبِيعَهُ بِشَرْطِ إِسْقَاطِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ ، وَالشَّرْطِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ ، وَالشَّرْطَ لَازِمٌ يَسْقُطُ بِهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ ، لِأَنَّ الْخِيَارَ

غَرَرٌ ، فَكَانَ إِسْقَاطُهُ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ ، وَسَمَّاهُ بَيْعَ الْخِيَارِ لِمَا شُرِطَ فِيهِ مِنْ إِسْقَاطِ الْخِيَارِ ، وَتَأَوَّلَ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ عَلَى هَذَا الْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ إِسْقَاطُ الْخِيَارِ ، وَحَمَلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ : فَبَاعَهُ بَيْعًا لَيْسَ بَيْعَ خِيَارٍ ، عَلَى هَذَا الْبَيْعِ ، لِأَنَّ فَحْوَى كَلَامِهِ يَقْتَضِي إِذَا كَانَ بَيْعَ خِيَارٍ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ ، فَيَكُونُ الْبَيْعُ مَاضِيًا وَالْخِيَارُ مُرْتَفِعًا ، وَلَا يُعْتَقُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ لِسُقُوطِ الْخِيَارِ فِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْبَيْعَ وَالشَّرْطَ بَاطِلَانِ ، لِأَنَّ الشَّرْطَ مُنَافٍ لِمُوجَبِ الْعَقْدِ ، فَأَبْطَلَهُ ، وَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ مَعَ بُطْلَانِ الْبَيْعِ . وَيَكُونُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : " فَبَاعَهُ بَيْعًا لَيْسَ فِيهِ خِيَارٌ " مَحْمُولًا عَلَى أَنْ لَيْسَ فِيهِ خِيَارٌ . وَالثَّالِثُ : وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْبُوَيْطِيُّ فِي كِتَابِهِ ، وَمُرَادُهُ بِهِ الرَّدُّ عَلَى مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ فِي إِسْقَاطِهِمَا خِيَارَ الْمَجْلِسِ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ اسْمُ بَيْعِ الْخِيَارِ عَلَى مَا لَيْسَ فِيهِ خِيَارٌ ، كَمَا تَأَوَّلَهُ الْأَوَّلُ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ ، وَالْبَيْعَ جَائِزٌ وَلَهُمَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ ، وَإِنَّمَا بَطَلَ شَرْطُ الْخِيَارِ ، لِإِسْقَاطِهِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهِ ، فَجَرَى مَجْرَى إِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهَا بِالْبَيْعِ ، وَصَحَّ الْبَيْعُ مَعَ إِسْقَاطِ الشَّرْطِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مِنَ الثَّمَنِ قِسْطًا ، فَعَلَى هَذَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ لِثُبُوتِ الْخِيَارِ فِيهِ ، ثُمَّ يَبْطُلُ الْبَيْعُ بَعْدَ الصِّحَّةِ بِعِتْقِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ : إِنْ وَهَبْتُكَ فَأَنْتَ حُرٌّ ، عُتِقَ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : يُعْتَقُ بِالْبَذْلِ وَحْدَهُ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، لِأَنَّ الْبَذْلَ أَوَّلُ الْعَقْدِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ بِالْبَيْعِ ، لِأَنَّهُ لَا يُعْتَقُ فِيهِ بِالْبَذْلِ ، حَتَّى يَتَعَقَّبَهُ الْقَبُولُ ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْبَذْلِ لَا يَكُونُ عَقْدًا فِيهَا ، وَكَذَلِكَ إِذَا عَلَّقَ عِتْقَهُ بِالرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : إِنِ اسْتَخْدَمْتُكَ ، فَأَنْتَ حُرٌّ ، فَخَدَمَهُ الْعَبْدُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يُعْتَقْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُعْتَقُ عَلَيْهِ ، وَوَافَقَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَسْتَخْدِمُ عَبْدَ غَيْرِهِ ، فَخَدَمَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ أَنْ لَا يَحْنَثَ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ عَبْدَ غَيْرِهِ لَيْسَ بِمَنْدُوبٍ لِخِدْمَتِهِ ، فَلَمْ يَحْنَثْ إِلَّا بِاسْتِخْدَامِهِ ، وَعَبْدَهُ مَنْدُوبٌ لِخِدْمَتِهِ ، فَكَانَ إِمْسَاكُهُ عَنْهُ رِضًا ، وَالرِّضَا مِنْهُ اسْتِخْدَامٌ ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الِاسْتِخْدَامَ هُوَ اسْتِدْعَاءُ الْخِدْمَةِ ، فَافْتَقَرَ إِلَى أَمْرٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ فَرْقَ مَا بَيْنَ الْخِدْمَةِ وَالِاسْتِخْدَامِ كَفَرْقِ مَا بَيْنَ الْعَمَلِ وَالِاسْتِعْمَالِ ، فَلَمَّا لَمْ يَنْطَلِقْ عَلَى الْعَمَلِ اسْمُ الِاسْتِعْمَالِ لَمْ يَنْطَلِقْ عَلَى الْخِدْمَةِ اسْمُ الِاسْتِخْدَامِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ لِعَبِيدِهِ : مَنْ بَشَّرَنِي مِنْكُمْ بِخَبَرِ زَيْدٍ فَهُوَ حُرٌّ ، فَإِنْ بِشَّرَهُ أَحَدُهُمْ بِخَبَرٍ سَارٍّ لِزَيْدٍ عُتِقَ ، وَإِنْ بِشَّرَهُ بِخَبَرٍ مَكْرُوهٍ لِزَيْدٍ ، فَفِي حِنْثِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُعْتَقُ ، لِأَنَّ الْبِشَارَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ تَغَيُّرِ الْبَشَرَةِ ، وَقَدْ تَتَغَيَّرُ بِالْمَكْرُوهِ كَمَا تَتَغَيَّرُ بِالسَّارِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ ، لِأَنَّ الْبِشَارَةَ قَدْ صَارَتْ فِي الْعُرْفِ لِلسَّارِّ مِنَ الْأَخْبَارِ دُونَ الْمَكْرُوهِ . وَالصَّحِيحُ أَنْ يُنْظَرَ حَالُ الْحَالِفِ مَعَ زَيْدٍ ، فَإِنْ كَانَ صَدِيقًا لَهُ لَمْ يُعْتَقْ بِالْخَبَرِ الْمَكْرُوهِ ، وَإِنْ كَانَ عَدُوًّا لَهُ عُتِقَ بِالْخَبَرِ الْمَكْرُوهِ لِأَنْ بَشَّرَهُ ، فَصَارَ بِشَارَةً عِنْدَهُ . وَلَوْ كَانَ عَدُوًّا ، فَبَشَّرَهُ بِخَبَرٍ سَارٍّ عُتِقَ ، وَإِنْ سَاءَهُ الْخَبَرُ ، لِأَنَّهُ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ بِشَارَةٌ . فَإِذَا تَقَرَّرَ الْخَبَرُ الَّذِي يُعْتَقُ بِهِ ، فَإِنْ بَشَّرَهُ وَاحِدٌ مِنْ عَبِيدِهِ عُتِقَ ، وَإِنْ بَشَّرَهُ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ عَبِيدِهِ ، فَإِنْ تَقَدَّمَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ عُتِقَ الْأَوَّلُ دُونَ غَيْرِهِ ، لِأَنَّ الْبِشَارَةَ تَكُونُ بِالْخَبَرِ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ بَشَّرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ عُتِقُوا جَمِيعًا . وَإِنْ بَشَّرَهُ جَمِيعُ عَبِيدِهِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يُعْتَقْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ : " مَنْ بَشَّرَنِي مِنْكُمْ " يَقْتَضِي التَّبْعِيضَ دُونَ الْجَمِيعِ . وَلَوْ قَالَ : مَنْ أَخْبَرَنِي بِقُدُومِ زَيْدٍ ، فَأَخْبَرَهُ جَمِيعُهُمْ بِقُدُومِهِ عَلَى اجْتِمَاعٍ أَوِ انْفِرَادٍ عُتِقُوا جَمِيعًا ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُخْبِرُ بِخِلَافِ الْبِشَارَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْخَبَرِ الْأَوَّلِ ، وَلَا يَلْزَمُ تَبْعِيضُهُمْ ، لِأَنَّهُ لَمْ يُدْخِلْ فِيهِ حَرْفَ التَّبْعِيضِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ : مَنْ يَسْبِقْ بِدُخُولِ الدَّارِ مِنْ عَبِيدِي ، فَهُوَ حُرٌّ ، فَأَيُّهُمْ سَبَقَ بِالدُّخُولِ عُتِقَ ، وَلَمْ يُعْتَقْ مَنْ بَعْدَهُ ، فَإِنْ سَبَقَ بِالدُّخُولِ اثْنَانِ مَعًا ، ثُمَّ دَخَلَ بَعْدَهُمَا ثَالِثٌ عُتِقَ الْأَوَّلَانِ دُونَ الثَّالِثِ ، لِأَنَّهُمَا سَبَقَاهُ . وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ بَعْدَهُمَا ثَالِثٌ ، لَمْ يُعْتَقَا ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا سَابِقٌ . وَلَوْ قَالَ : أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الدَّارَ مِنْ عَبِيدِي حُرٌّ ، فَدَخَلَهَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ ، وَلَمْ يَدْخُلْهَا غَيْرُهُ فَفِي عِتْقِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُعْتَقُ ، لِأَنَّهُ أَوَّلٌ . وَالثَّانِي : لَا يُعْتَقُ ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَا تَعَقَّبَهُ آخَرُ . وَلَوْ قَالَ : آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الدَّارَ مِنْ عَبِيدِي حُرٌّ ، فَدَخَلَهَا اثْنَانِ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُمَا عُتِقَ الثَّانِي مِنْهُمَا ، وَإِنْ كَانَ لَهُ غَيْرُهُمَا لَمْ يُعْتَقِ الثَّانِي إِلَّا أَنْ

يَمُوتَ الثَّالِثُ أَوْ يَمُوتَ السَّيِّدُ ، لِجَوَازِ أَنْ يَدْخُلَهَا الثَّالِثُ فَيَصِيرَ حُرًّا . فَإِنْ كَانَ لَهُ وَقْتَ يَمِينِهِ عَبْدَانِ ، فَاشْتَرَى ثَالِثًا ، وَدَخَلَ الْأَوَّلَانِ وَاحِدًا بَعْدَ آخَرَ عُتِقَ الثَّانِي ، لِأَنَّ الثَّالِثَ لَا يُعْتَقُ بِالدُّخُولِ لِحُدُوثِهِ بَعْدَ الْيَمِينِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ : إِنْ زَوَّجْتُكَ أَوْ بِعْتُكَ فَأَنْتَ حُرٌّ ، فَزَوَّجَهُ أَوْ بَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا ، لَمْ يَحْنَثْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، وَلَا بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ اعْتِبَارًا بِالْعَقْدِ الشَّرْعِيِّ فِي انْطِلَاقِ الِاسْمِ عَلَيْهَا . وَالثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، وَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ اعْتِبَارًا بِاسْمِ الْعَقْدِ فِي اللُّغَةِ دُونَ الشَّيْءِ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، وَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ ، لِأَنَّهُ جَوَّزَ التَّصَرُّفَ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، وَمَنَعَ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ . هَذَا الْفَرْقُ مَدْفُوعٌ ، وَهُوَ مِنَ الْعَقْدَيْنِ مَمْنُوعٌ . وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ الْمَذْهَبَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ عُرْفُ لُغَةٍ وَعُرْفُ شَرْعٍ كَانَ عُرْفُ الشَّرْعِ مُقَدَّمًا عَلَى عُرْفِ اللُّغَةِ ، لِأَنَّ الشَّرْعَ نَاقِلٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ عَلَيْهِمَا بِالْفَسَادِ مَا اخْتَصَّ بِهِمَا مِنَ الْأَحْكَامِ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ عَلَيْهِمَا مَا عَلِقَ بِهِمَا مِنَ الْأَيْمَانِ .

فَصْلٌ : إِذَا قَالَ : مَنْ تَسَرَّيْتُ بِهَا مِنْ جَوَارِيَّ ، فَهِيَ حُرَّةٌ ، فَتَسَرَّى بِجَارِيَةٍ كَانَتْ فِي مِلْكِهِ وَقْتَ يَمِينِهِ عُتِقَتْ . وَإِنْ تَسَرَّى بِجَارِيَةٍ مَلَكَهَا بَعْدَ يَمِينِهِ لَمْ تُعْتَقْ ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْفُذِ الْعِتْقُ قَبْلَ الْمِلْكِ ، لَمْ تَنْعَقِدِ الْيَمِينُ بِهِ قَبْلَ الْمِلْكِ . فَأَمَّا التَّسَرِّي الَّذِي يُعْتَقُ بِهِ ، فَلَيْسَ لَهُ فِي الشَّرْعِ عُرْفٌ ، وَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ عُرْفُ اللُّغَةِ وَالِاسْتِعْمَالِ . فَأَمَّا اللُّغَةُ فَفِيمَا اشْتُقَّ مِنْهُ التَّسَرِّي خَمْسَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ السُّرُورِ ، وَلِأَنَّهُ مَسْرُورٌ بِالِاسْتِمْتَاعِ بِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّرْوِ ، لِأَنَّهَا أَسْرَى جَوَارِيهِ عِنْدَهُ .

وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّرَاءِ ، وَهُوَ الظَّهْرُ ، لِأَنَّهَا كَالظَّهْرِ الْمَرْكُوبِ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّرَرِ وَهُوَ الْجِمَاعُ ، لِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِجِمَاعِهِ . وَالْخَامِسُ : أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّتْرِ ، لِأَنَّهُ قَدْ سَتَرَهَا بِالْخِدْرِ بَعْدَ الْبِذْلَةِ ، وَسَتَرَ جِمَاعَهَا بِالْإِخْفَاءِ . وَأَمَّا عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ فِي التَّسَرِّي ، فَهُوَ طَلَبُ الْوَلَدِ مِنْهَا ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْإِنْزَالِ وَالْجِمَاعِ ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ فِي اللِّعَانِ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ ، أَنَّهُ يَصِيرُ مُتَسَرِّيًا بِهَا إِذَا جَامَعَ وَأَنْزَلَ ، وَلَا يَصِيرُ مُتَسَرِّيًا إِذَا جَامَعَ وَلَمْ يُنْزِلْ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَكُونُ مُتَسَرِّيًا إِذَا جَامَعَ وَلَمْ يُنْزِلْ ، وَخَرَّجَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَجْهًا ثَانِيًا ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ، تَغْلِيبًا لِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ عَلَى عُرْفِ اللُّغَةِ ، لِأَنَّ عُرْفَ الِاسْتِعْمَالِ نَاقِلٌ . وَاخْتُلِفَ فِي تَخْدِيرِهَا عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ ، هَلْ يَكُونُ شَرْطًا فِي كَمَالِ السِّرَاءِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ شَرْطٌ فِيهِ ، لِأَنَّ عُرْفَ الِاسْتِعْمَالِ وَاللُّغَةِ جَارِيَانِ بِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَا تُعْتَقُ بِالْجِمَاعِ وَحْدَهُ ، حَتَّى يُخَدِّرَهَا وَيَسْتُرَهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهِ ، لِأَنَّ عُرْفَ الشَّرْعِ لَا يُوجِبُ تَخْدِيرَ الْأَمَةِ ، فَصَارَ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ مَخْصُوصًا بِهِ ، فَعَلَى هَذَا تُعْتَقُ بِالْجِمَاعِ وَحْدَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُخَدِّرْهَا . فَأَمَّا جِمَاعُهَا دُونَ الْفَرَجِ ، فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُتَسَرِّيًا وَجْهًا وَاحِدًا ، وَوَافَقَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَلَيْسَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنْ يَكُونَ بِهِ مُتَسَرِّيًا .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لَهُ عَبْدَانِ ، فَقَالَ لَهُمَا : إِذَا جَاءَ غَدٌ ، فَأَحَدُكُمَا حُرٌّ ، فَإِذَا جَاءَ غَدٌ ، وَهُمَا فِي مِلْكِهِ أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا ، وَعَيَّنَ الْعِتْقَ فِيمَنْ شَاءَ مِنْهُمَا . فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ بَاعَهُ قَبْلَ غَدٍ ، وَجَاءَ غَدٌ وَأَحَدُهُمَا بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ الْعِتْقَ لَمْ يَتَعَيَّنْ مِنْهُ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : يُعْتَقُ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ التَّخْيِيرَ ارْتَفَعَ بِعَدَمِ غَيْرِهِ ، فَتَعَيَّنَ الْعِتْقُ فِيهِ . وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ مَا أُبْهِمَ بِاللَّفْظِ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِالْحُكْمِ . أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ ، وَعَبْدِ غَيْرِهِ : أَحَدُهُمَا حُرٌّ ، لَمْ يَتَعَيَّنِ الْعِتْقُ فِي عَبْدِهِ ، وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ وَأَجْنَبِيَّةٍ : إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ ، لَمْ يَتَعَيَّنِ الطَّلَاقُ فِي زَوْجَتِهِ .

فَعَلَى هَذَا إِنْ بَاعَ أَحَدَهُمَا أَوِ اشْتَرَاهُ قَبْلَ غَدٍ ، وَجَاءَ غَدٌ وَهُمَا فِي مِلْكِهِ ، فَإِنْ قِيلَ بِعَقْدِ الْيَمِينِ فِي الْمَبِيعِ ، عُتِقَ أَحَدُهُمَا وَعَيَّنَ الْعِتْقَ فِيمَنْ شَاءَ مِنْهُمَا . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْيَمِينَ قَدْ سَقَطَتْ فِي الْمَبِيعِ لَمْ يُعْتَقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ جَامِعِ الْأَيْمَانِ الثَّانِي

بَابُ جَامِعِ الْأَيْمَانِ الثَّانِي مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الرُّؤُوسَ فَأَكَلَ رُؤُوسَ الْحِيتَانِ أَوْ رُؤُوسَ الطَّيْرِ أَوْ رُؤُوسَ شَيْءٍ يُخَالِفُ رُؤُوسَ الْغَنَمِ وَالِإِبِلِ وَالْبَقَرِ ، لَمْ يَحْنَثْ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الَّذِي يَعْرِفُ النَّاسُ إِذَا خُوطِبُوا بِأَكْلِ الرُّؤُوسِ إِنَّمَا هِيَ مَا وَصَفْنَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِلَادٌ لَهَا صَيْدٌ يَكْثُرُ كَمَا يَكْثُرُ لَحْمُ الْأَنْعَامِ فِي السُّوقِ وَتُمَيَّزُ رُؤُوسُهَا ، فَيَحْنَثُ فِي رُؤُوسِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ إِذَا حَلَفَ : لَا يَأْكُلُ الرُّؤُوسَ ، مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُرِيدَ عُمُومَ الرُّؤُوسِ كُلِّهَا مِمَّا انْطَلَقَ اسْمُ الرَّأْسِ عَلَيْهِ ، فَيَحْنَثُ بِأَكْلِ كُلِّ مَا سُمِّيَ رَأْسًا مِمَّا يُفْصَلُ مِنْ أَبْدَانِهَا ، كَرُؤُوسِ الْغَنَمِ أَوْ لَا يُفْصَلُ كَرُؤُوسِ الطَّيْرِ ، وَالْحِيتَانِ ، اعْتِبَارًا بِمُرَادِهِ فِيمَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ حَقِيقَةُ الِاسْمِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُرِيدَ تَخْصِيصَ نَوْعٍ مِنَ الرُّؤُوسِ بِعَيْنِهَا دُونَ مَا عَدَاهَا ، فَيَحْنَثُ بِأَكْلِهَا وَحْدَهَا ، سَوَاءٌ انْفَصَلَ فِي الْعُرْفِ أَوْ لَمْ يَنْفَصِلْ ، وَلَا يَحْنَثْ بِأَكْلِ مَا عَدَاهَا ، اعْتِبَارًا بِمُرَادِهِ فِي التَّخْصِيصِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُطْلَقَ اسْمُ الرُّؤُوسِ ، وَلَا تَكُونُ لَهُ إِرَادَةٌ فِي عُمُومٍ ، وَلَا تَخْصِيصٍ ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ فِي مَا انْطَلَقَ اسْمُ الرَّأْسِ عَلَيْهِ ، فَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ رُؤُوسِ الطَّيْرِ وَالْحِيتَانِ وَالْجَرَادِ ، وَإِنِ اتَّفَقَ عَلَيْهَا حَقِيقَةُ اسْمِ الرُّؤُوسِ بِخُرُوجِهِ عَنِ الْعُرْفِ ، فَصَارَتِ الْحَقِيقَةُ مَخْصُوصَةً بِالْعُرْفِ ، كَمَا خُصَّتِ الْأَرْضُ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَقْعُدُ عَلَى بِسَاطٍ بِالْعُرْفِ ، وَكَمَا خُصَّتِ الشَّمْسُ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَقْعُدُ فِي سِرَاجٍ بِالْعُرْفِ . وَإِذَا كَانَ الْحِنْثُ مُعْتَبَرًا فِيهَا بِالْعُرْفِ دُونَ الْحَقِيقَةِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَحْنَثُ بِهِ مِنْ أَكْلِ الرُّؤُوسِ عِنْدَ إِطْلَاقِهَا . فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِلَى أَنَّهُ يَحْنَثُ بِأَكْلِ رُؤُوسِ النَّعَمِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ، وَلَا يَحْنَثُ بِغَيْرِهَا مِنْ رُؤُوسِ الطَّيْرِ وَالْحِيتَانِ ، وَهُوَ عُرْفُ الْحِجَازِ ، لِأَنَّهُمْ يَفْصِلُونَ رُؤُوسَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مِنْ أَجْسَادِهَا ، وَيُفْرِدُونَ بَيْعَهَا فِي أَسْوَاقِهَا .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَحْنَثُ بِأَكْلِ رُؤُوسِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ، وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ رُؤُوسِ الْإِبِلِ ، وَهُوَ عُرْفُ أَهْلِ الْكُوفَةِ ، لِاخْتِصَاصِهِمْ بِإِفْرَادِ رُؤُوسِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ بِالْبَيْعِ بَعْدَ انْفِصَالِهَا دُونَ رُؤُوسِ الْإِبِلِ ، وَتَعْلِيلًا بِأَنَّ رُؤُوسَ الْغَنَمِ تُشْوَى وَتُكْبَسُ ، وَرُؤُوسَ الْبَقَرِ تُكْبَسُ وَلَا تُشْوَى ، وَرُؤُوسَ الْإِبِلِ لَا تُشْوَى وَلَا تُكْبَسُ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : لَا يَحْنَثُ إِلَّا بِأَكْلِ رُؤُوسِ الْغَنَمِ وَحْدَهَا ، اعْتِبَارًا بِعُرْفِ بَغْدَادَ ، وَتَعْلِيلًا بِأَنَّهَا تُشْوَى وَتُكْبَسُ ، وَلَا يُجْمَعُ الْأَمْرَانِ فِي غَيْرِهَا ، وَكِلَا التَّعْلِيلَيْنِ دَعْوَى مَدْفُوعَةٌ ، لِوُجُودِ الْأَمْرَيْنِ فِي الثَّلَاثَةِ كُلِّهَا . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَعْلِيلِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ حِنْثِهِ بِرُؤُوسِ الثَّلَاثَةِ كُلِّهَا عَلَى وَجْهَيْنِ يَحْتَمِلُهُمَا كَلَامُ الشَّافِعِيِّ : أَحَدُهُمَا : لِاخْتِصَاصِهَا بِقَطْعِ رُؤُوسِهَا عَنْ أَجْسَادِهَا ، وَإِفْرَادِ بَيْعِهَا فِي أَسْوَاقِهَا ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ فِي بِلَادِ الْفَلَوَاتِ يَكْثُرُ فِيهَا الصَّيْدُ وَتُقْطَعُ رُؤُوسُهُ مِنْ أَجْسَادِهِ ، وَيُفْرَدُ بَيْعُهُ فِي أَسْوَاقِهِ أَوْ كَانَ فِي بِلَادِ الْبِحَارِ بَلَدٌ يَكْثُرُ فِيهِ الْحِيتَانُ وَتُقْطَعُ رُؤُوسُهَا عَنْ أَجْسَادِهَا ، وَيُفْرَدُ بَيْعُهَا فِي أَسْوَاقِهَا حَنِثَ أَهْلُهَا بِأَكْلِ رُؤُوسِهَا ، كَمَا يَحْنَثُ أَهْلُ أَمْصَارِ الرِّيفِ بِأَكْلِ رُؤُوسِ الْغَنَمِ ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَكُونُ عُرْفُ هَذِهِ الْبِلَادِ الْمُخْتَلِفَةِ مَقْصُورًا عَلَى أَهْلِهَا أَوْ عَامًّا فِيهِمْ ، وَفِي الطَّارِئِ إِلَيْهَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ خَاصٌّ فِي أَهْلِهَا دُونَ الطَّارِئِ إِلَيْهَا ، تَغْلِيبًا لِعُرْفِ الْحَالِفِ ، فَإِنْ دَخَلَ أَهْلُ الرِّيفِ إِلَى بِلَادِ الْفَلَوَاتِ وَالْبِحَارِ لَمْ يَحْنَثُوا إِلَّا بِرُؤُوسِ الْغَنَمِ ، وَإِنْ دَخَلَ أَهْلُ الْفَلَوَاتِ إِلَى أَمْصَارِ الرِّيفِ لَمْ يَحْنَثُوا إِلَّا بِرُؤُوسِ الصَّيْدِ ، وَإِنْ دَخَلَ أَهْلِ الْبِحَارِ إِلَى أَمْصَارِ الرِّيفِ لَمْ يَحْنَثُوا إِلَّا بِأَكْلِ رُؤُوسِ الْحِيتَانِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ عَامٌّ فِي أَهْلِهَا ، وَفِي الطَّارِئِ إِلَيْهَا ؛ تَغْلِيبًا لِعُرْفِ الْمَكَانِ ، فَإِنْ دَخَلَ أَهْلُ الرِّيفِ إِلَى بِلَادِ الْفَلَوَاتِ ، حَنِثُوا بِرُؤُوسِ الصَّيْدِ ، وَإِنْ دَخَلُوا إِلَى بِلَادِ الْبِحَارِ حَنِثُوا بِرُؤُوسِ الْحِيتَانِ . وَإِنْ دَخَلَ أَهْلُ الْفَلَوَاتِ وَالْبِحَارِ إِلَى بِلَادِ الرِّيفِ حَنِثُوا بِرُؤُوسِ النَّعَمِ . وَفِي بَقَاءِ حِنْثِهِمْ بِعُرْفِ بِلَادِهِمْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بَاقٍ عَلَيْهِمْ لِاسْتِقْرَارِهِ عِنْدَهُمْ ، فَعَلَى هَذَا يَحْنَثُ أَهْلُ الرِّيفِ فِي بِلَادِ الْفَلَوَاتِ بِأَكْلِ رُؤُوسِ الصَّيْدِ ، وَبِأَكْلِ رُؤُوسِ النَّعَمِ ، وَيَحْنَثُونَ فِي بِلَادِ الْبِحَارِ بِأَكْلِ

رُؤُوسِ الْحِيتَانِ مَعَ رُؤُوسِ النَّعَمِ ، وَيَحْنَثُ أَهْلُ الْفَلَوَاتِ ، فِي بِلَادِ الرِّيفِ بِأَكْلِ رُؤُوسِ النَّعَمِ ، وَأَكْلِ رُؤُوسِ الصَّيْدِ ، وَيَحْنَثُ أَهْلُ الْبِحَارِ فِيهَا بِأَكْلِ رُؤُوسِ الْحِيتَانِ ، وَبِأَكْلِ رُؤُوسِ النَّعَمِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَزُولُ عَنْهُمْ فِي بِلَادِهِمْ بِانْتِقَالِهِمْ عَنْهَا ، فَلَا يَحْنَثُ أَهْلُ الْفَلَوَاتِ وَالْبِحَارِ فِي بِلَادِ الرِّيفِ إِلَّا بِرُؤُوسِ النَّعَمِ . وَلَا يَحْنَثُ أَهْلُ الرِّيفِ فِي بِلَادِ الْفَلَوَاتِ إِلَّا بِرُؤُوسِ الصَّيْدِ ، وَفِي بِلَادِ الْبِحَارِ إِلَّا بِرُؤُوسِ الْحِيتَانِ . فَهَذَا حُكْمُ التَّعْلِيلِ فِي هَذَا الْوَجْهِ الْأَوَّلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : فِي تَعْلِيلِ حِنْثِهِ بِرُؤُوسِ النَّعَمِ أَنَّ عُرْفَ كَلَامِهِمْ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا ، وَإِفْرَادُ أَكْلِهَا مُخْتَصٌّ بِهَا ، فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ مِمَّنْ قَالَ : أَكَلْتُ الرُّؤُوسَ إِلَّا رُؤُوسَ النَّعَمِ ، وَغَيْرُهَا يُؤْكَلُ مَعَ أَجْسَادِهَا . وَفِي التَّعْلِيلِ تَمَيُّزٌ مِنْ وَجْهٍ ، وَامْتِزَاجٌ مِنْ وَجْهٍ ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَكُونُ عُرْفُ الْبَلَدِ خَاصًّا فِيهِ أَوْ عَامًّا فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ ، عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يَصِيرُ عَامًّا فِي الْبِلَادِ كُلِّهَا ، فَيَحْنَثُ جَمِيعُهُمْ بِرُؤُوسِ النَّعَمِ الثَّلَاثَةِ . وَإِنْ عَرَفْنَا أَنَّ لِبَعْضِ الْبِلَادِ عُرْفًا فِي الْبِلَادِ كُلِّهَا ، فَيَحْنَثُ جَمِيعُهُمْ بِرُؤُوسِ النَّعَمِ الثَّلَاثَةِ وَرُؤُوسِ الصَّيْدِ وَالْحِيتَانِ ، حَنِثَ جَمِيعُ النَّاسِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْهُ لَمْ يَحْنَثُوا . وَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِنَّمَا خَصَّ الْحِنْثَ بِرُؤُوسِ النَّعَمِ الثَّلَاثَةِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ عُرْفَ بَلَدٍ فِي غَيْرِهَا ، وَلَوْ عَلِمَ لَحَنَّثَ بِهَا جَمِيعَ النَّاسِ كَمَا حَنَّثَ بِرُؤُوسِ النَّعَمِ ، وَلِذَلِكَ حَنَّثَ الْقَرَوِيَّ إِذَا حَلَفَ لَا يَسْكُنُ بَيْتًا ، فَسَكَنَ بَيْتًا مِنْ بُيُوتِ الْبَادِيَةِ ، لِأَنَّ عُرْفَ الْبَادِيَةِ جَارٍ بِهِ ، كَمَا أَنَّ الْخَلِيفَةَ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْخُبْزَ وَعَادَتُهُ خُبْزُ الْبُرِّ ، فَأَكَلَ خُبْزَ الشَّعِيرِ ، حَنِثَ بِهِ ، لِأَنَّ عُرْفَ أَهْلِ الْفَاقَةِ جَارٍ بِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ ، أَنَّ عُرْفَ كُلِّ بَلَدٍ مَخْصُوصٌ فِي أَهْلِهِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ . فَعَلَى هَذَا يَحْنَثُ أَهْلُ الْحِجَازِ بِرُؤُوسِ النَّعَمِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اعْتِبَارًا بِعُرْفِهِمْ وَيَحْنَثُ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِرُؤُوسِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ، وَلَا يَحْنَثُ بِرُؤُوسِ الْإِبِلِ اعْتِبَارًا بِعُرْفِ أَهْلِهَا . قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَيَحْنَثُ أَهْلُ بَغْدَادَ وَالْبَصْرَةِ بِرُؤُوسِ الْغَنَمِ ، وَلَا يَحْنَثُونَ بِرُؤُوسِ الْبَقَرِ وَالْإِبِلِ ، كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ

اعْتِبَارًا بِعُرْفِهِمْ . وَهَذَا قَوْلُ مَنْ لَمْ يُحَنِّثِ الْقَرَوِيَّ بِسُكْنَى بَيْتِ الشَّعْرِ . فَإِنِ انْتَقَلَ أَهْلُ بَلَدٍ لَهُمْ فِيهِ عُرْفٌ إِلَى بَلَدٍ يُخَالِفُونَهُمْ فِي الْعُرْفِ ، فَفِيمَا يَحْنَثُونَ بِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ هِيَ مَجْمُوعُ مَا شَرَحْنَاهُ : أَحَدُهَا : يَحْنَثُونَ بِعُرْفِ بَلَدِهِمُ الَّذِي انْتَقَلُوا عَنْهُ . وَالثَّانِي : يَحْنَثُونَ بِعُرْفِ الْبَلَدِ الَّذِي انْتَقَلُوا إِلَيْهِ . وَالثَّالِثُ : يَحْنَثُونَ بِعُرْفِ الْبَلَدَيْنِ مَعًا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَكَذَلِكَ الْبَيْضُ وَهُوَ بَيْضُ الدَّجَاجِ وَالْإِوَزِّ وَالنَّعَامِ الَذِي يُزَايِلُ بَائِضَهُ حَيًّا ، فَأَمَّا بَيْضُ الْحِيتَانِ فَلَا يَكُونُ هَكَذَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْبَيْضَ وَأَطْلَقَ وَلَمْ يُرِدْ تَخْصِيصَ نَوْعٍ مِنْهُ ، حُمِلَ عَلَى إِطْلَاقِهِ عَلَى كُلِّ بَيْضٍ فَارَقَ بَائِضَهُ حَيًّا مِنْ مَأْلُوفٍ كَالدَّجَاجِ وَالْبَطِّ ، وَنَادِرٍ كَالنَّعَامِ وَالْإِوَزِّ وَالْعَصَافِيرِ ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْمُعْتَادِ مِنَ الْبَيْضِ كَالدَّجَاجِ وَالْبَطِّ ، وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ النَّادِرِ مِنْ بَيْضِ الْإِوَزِّ وَالْعَصَافِيرِ ، كَمَا يَحْنَثُ فِي أَكْلِ الرُّؤُوسِ بِالْمُعْتَادِ دُونَ النَّادِرِ . وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ خُرُوجَ النَّادِرِ مِنَ الْبَيْضِ غَيْرِ الْمُعْتَادِ لِعِزَّتِهِ وَفَقْدِهِ ، وَخُرُوجُ النَّادِرِ مِنَ الرُّؤُوسِ عَنِ الْمُعْتَادِ مَعَ وُجُودِهِ وَمُكْنَتِهِ ، فَافْتَرَقَا . وَالثَّانِي : أَنَّ جَمِيعَ الْبَيْضِ مِنْ نَادِرٍ وَمُعْتَادٍ مُفْرَدٌ بِالْأَكْلِ فَجَرَى جَمِيعُهُ مَجْرَى الْخَاصِّ مِنَ الرُّؤُوسِ الْمُفْرَدَةِ بِالْأَكْلِ . وَأَمَّا بَيْضُ الْحِيتَانِ وَالْجَرَادِ ، فَإِنَّمَا لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يُفَارِقُ بَائِضَهُ حَيًّا ، فَصَارَ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ خَارِجًا مِنَ الْعُرْفِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُؤْكَلُ مَعَ جِسْمِهِ . وَيُقَالُ لِمَنْ أَكَلَ بَيْضَ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ ، إِنَّهُ قَدْ أَكَلَ سَمَكًا وَجَرَادًا ، فَصَارَ كَلَحْمِهِ ، فَلَوْ ذَبَحَ دَجَاجَةً فِي جَوْفِهَا بَيْضٌ وَصَلَ إِلَيْهِ بِذَبْحِهَا ، فَفِي حِنْثِهِ بِأَكْلِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يُزَايِلْ بَائِضَهُ حَيًّا ، فَصَارَ كَبَيْضِ السَّمَكِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ ، لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يُوصَلُ إِلَيْهِ مَعَ حَيَاةِ بَائِضِهِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حِنْثِهِ بِكُلِّ الْبَيْضِ مِنْ نَادِرٍ وَمُعْتَادٍ ، حَنِثَ بِأَكْلِ الْمُعْتَادِ أَهْلُ النَّادِرِ وَالْمُعْتَادِ .

وَأَمَّا النَّادِرُ فَيَحْنَثُ بِأَكْلِهِ أَهْلُ النَّادِرِ كَبَيْضِ النَّعَامِ ، يَحْنَثُ بِهِ أَهْلُ الْبَادِيَةِ ، وَفِي حِنْثِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ بِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَحْنَثُونَ بِهِ إِذَا قِيلَ : إِنَّ أَهْلَ الْقُرَى يَحْنَثُونَ بِسُكْنَى بُيُوتِ الشَّعْرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَحْنَثُونَ بِهِ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّ أَهْلَ الْقُرَى لَا يَحْنَثُونَ بِسُكْنَى بُيُوتِ الشَّعْرِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا حَنَثَ بِلَحْمِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْوَحْشِ وَالطَّيْرِ ؛ لِأَنَّهُ كُلُّهُ لَحْمٌ ، وَلَا يَحْنَثُ فِي لَحْمِ الْحِيتَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِالْأَغْلَبِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَإِنَّمَا حَنِثَ بِأَكْلِ كُلِّ لَحْمٍ مِنْ أَهْلِيٍّ كَالنَّعَمِ ، وَوَحْشٍ كَالصَّيْدِ وَالطَّائِرِ مِنْ مُعْتَادٍ وَنَادِرٍ ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِلَحْمِ الْحِيتَانِ ، لِأَصْلٍ أُوَضِّحُهُ ، يَكُونُ فِي الْأَيْمَانِ مُعْتَبَرًا ، لِيَسْلَمَ مِنَ التَّنَاقُضِ وَهُوَ : أَنَّ الِاسْمَ اللُّغَوِيَّ إِذَا انْطَلَقَ عَلَى أَعْيَانٍ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُطَابِقَهُ الْعُرْفُ فِي جَمِيعِهَا فَيُحْمَلَ فِي الْأَيْمَانِ عَلَى جَمِيعِ تِلْكَ الْأَعْيَانِ ، سَوَاءٌ كَانَ مَا طَابَقَهُ مِنَ الْعُرْفِ عَامًّا أَوْ خَاصًّا . فَالْعُرْفُ الْعَامُّ أَنْ يَحْلِفَ : لَا آكُلُ رَطْبًا ، فَيَحْنَثُ بِجَمِيعِ الْأَرْطَابِ مِنْ لَذِيذٍ وَغَيْرِ لَذِيذٍ ، مِنْ مُسْتَطَابٍ وَغَيْرِ مُسْتَطَابٍ ، أَوْ يَحْلِفُ : لَا آكُلُ بَقْلًا ، فَيَحْنَثُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ لَذِيذٍ وَغَيْرِ لَذِيذٍ . وَالْعُرْفُ الْخَاصُّ أَنْ يَحْلِفَ : لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا ، فَيَحْنَثُ كُلُّ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ بِلُبْسِ كُلِّ ثَوْبٍ مِنْ مُرْتَفِعٍ وَدَانٍ ، فَيَحْنَثُ الْمَلِكُ بِلُبْسِ الصُّوفِ ، وَإِنْ خَرَجَ بِدُخُولِهِ فِي عُرْفٍ مِنْ عُرْفِهِ وَدَخَلَ فِي عُرْفِ الْفُقَرَاءِ ، وَيَحْنَثُ الْفَقِيرُ بِلُبْسِ الْحَرِيرِ وَإِنْ خَرَجَ عَنْ عُرْفِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِدُخُولِهِ فِي عُرْفِ الْأَغْنِيَاءِ مَعَ اشْتِرَاكِ جَمِيعِهَا فِي اسْمِ الثَّوْبِ ، فَلَمْ يَخْرُجْ بَعْضُهَا بِعُرْفٍ خَاصٍّ إِذَا طَابَقَهُ عُرْفٌ خَاصٌّ ، وَهَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ خُبْزًا حَنِثَ كُلُّ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ بِأَكْلِ كُلِّ مَخْبُوزٍ مِنْ بُرٍّ وَشَعِيرٍ وَأُرْزٍ وَذُرَةٍ ، فَيَحْنَثُ الْغَنِيُّ بِأَكْلِ خُبْزِ الشَّعِيرِ ، وَإِنْ خَرَجَ عَنْ عُرْفِهِ ، لِدُخُولٍ فِي عُرْفِ الْفَقِيرِ ، وَيَحْنَثُ الْفَقِيرُ بِخُبْزِ الْبُرِّ ، وَإِنْ خَرَجَ عَنْ عُرْفِهِ ، لِدُخُولِهِ فِي عُرْفِ الْغَنِيِّ مَعَ اشْتِرَاكِ جَمِيعِهَا فِي اسْمِ الْخُبْزِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا كَانَ الِاسْمُ فِيهِ مُخَالِفًا لِلْعُرْفِ ، الِاسْمَ اللُّغَوِيَّ إِذَا انْطَلَقَ عَلَى أَعْيَانٍ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا خَرَجَ عَنِ الْعُرْفِ لِإِلْحَاقِهِ بِغَيْرِهِ مَعَ التَّسَاوِي فِي الْوُجُودِ ، فَيَصِيرُ فِي الْأَيْمَانِ مَحْمُولًا عَلَى مَا خَصَّهُ الْعُرْفُ دُونَ مَا عَمَّهُ الِاسْمُ ، كَالَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِمَّنْ حَلَفَ لَا

يَأْكُلُ الرُّؤُوسَ أَنَّ حِنْثَهُ مُخْتَصٌّ بِرُؤُوسِ النَّعَمِ ، لِإِضَافَةِ رُؤُوسِ غَيْرِهَا إِلَى أَجْسَادِهَا ، وَاخْتِصَاصِ النَّعَمِ بِانْفِرَادِهِ مِنْ بَيْنِهَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا خَرَجَ عَنِ الْعُرْفِ لِتَعَذُّرِهِ أَوْ لِعِزَّتِهِ ، فَيَكُونُ فِي الْأَيْمَانِ مَحْمُولًا عَلَى مَا عَمَّهُ الِاسْمُ دُونَ مَا خَصَّهُ الْعُرْفُ . فَاللَّحْمُ خَرَجَ مِنْ عُرْفِهِ لَحْمُ الصَّيْدِ ، لِتَعَذُّرِهِ ، وَلَحْمُ الدَّجَاجِ لِعِزَّتِهِ وَغَلَاءِ ثَمَنِهِ ، فَامْتَنَعَ تَخْصِيصُ الِاسْمِ بِالْعُرْفِ ، لِأَنَّ الْعُرْفَ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ ، لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ وُجُودٍ وَعَدَمٍ ، فَصَارَ مَا عَمَّ مِنَ الِاسْمِ الْمُسْتَقِرِّ أَوْلَى مِنْ تَخْصِيصِهِ بِعُرْفٍ غَيْرِ مُسْتَقِرٍّ ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا فِي الْبَيْضِ : إِنَّهُ يَحْنَثُ بِبَيْضِ الْعَصَافِيرِ لِاخْتِصَاصِهِ بِعُرْفٍ غَيْرِ مُسْتَقِرٍّ كَاللَّحْمِ وَلَا يَحْنَثُ بِبَيْضِ السَّمَكِ ؛ لِاخْتِصَاصِهِ بِعُرْفٍ مُسْتَقِرٍّ كَالرُّؤُوسِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا خَرَجَ عَنِ الْعُرْفِ لِاسْمٍ خَاصٍّ هُوَ أَغْلَبُ عَلَيْهِ ، فَيَكُونُ فِي الْأَيْمَانِ مَحْمُولًا عَلَى خُصُوصِ الِاسْمِ دُونَ عُمُومٍ ، كَلَحْمِ الْحِيتَانِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّحْمِ فِي الْعُمُومِ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : يَذَّكَّرُونَ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا [ النَّحْلِ : 14 ] . لَكِنَّ اسْمَ السَّمَكِ أَخَصُّ بِهِ مِنِ اسْمِ اللَّحْمِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْنَثَ بِهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا ، اعْتِبَارًا بِخُصُوصِ الِاسْمِ دُونَ عُمُومِهِ . وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : يَحْنَثُ بِهِ اعْتِبَارًا بِعُمُومِ الِاسْمِ دُونَ خُصُوصِهِ ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْخَاصَّ أَغْلَبُ ، فَكَانَ اعْتِبَارُهُ أَوْجَبَ . وَالثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ سَمَّى الْأَرْضَ بِسَاطًا ، وَالشَّمْسَ سِرَاجًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى بِسَاطٍ ، فَجَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ ، وَلَا يَجْلِسُ فِي سِرَاجٍ ، فَجَلَسَ فِي الشَّمْسِ ، وَلَا يَمَسُّ وَتَدًا فَمَسَّ جَبَلًا ، لَمْ يَحْنَثِ اعْتِبَارًا بِخُصُوصِ الِاسْمِ دُونَ عُمُومِهِ ، وَكَذَلِكَ فِي لَحْمِ السَّمَكِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْقَرَوِيِّ إِذَا حَلَفَ لَا يَسْكُنُ بَيْتًا ، فَسَكَنَ بَيْتَ شَعْرٍ ، هَلْ هُوَ مَخْصُوصٌ بِعُرْفٍ أَوِ اسْمٍ ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِعُرْفٍ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، فَجَعَلَهُ حَانِثًا بِهِ ، كَالَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي أَكْلِ الْخُبْزِ وَلُبْسِ الثَّوْبِ . وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِاسْمٍ ، لِأَنَّهُ يُسَمَّى خَيْمَةً وَفُسْطَاطًا ، فَلَمْ يَجْعَلْهُ حَانِثًا بِهِ كَلَحْمِ السَّمَكِ ، وَحَنِثَ الْبَدَوِيُّ بِسُكْنَى بُيُوتِ الْمَدَرِ وَجْهًا وَاحِدًا ، لِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْعُرْفِ دُونَ الِاسْمِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا قَرَّرْنَا مِنْ هَذَا الْأَصْلِ ، وَجَبَ اعْتِبَارُهُ فِي جَمِيعِ الْأَيْمَانِ ، لِيَسْلَمَ مِنَ الْإِشْكَالِ فَإِذَا حَنِثَ فِي اللَّحْمِ بِكُلِّ لَحْمٍ مِنْ مُعْتَادٍ وَنَادِرٍ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ

أَصْحَابُنَا : هَلْ يُحْمَلُ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْمُبَاحِ وَالْمَحْظُورِ ؟ إذا حلف ألا يأكل لحما أَوْ يَكُونُ مَخْصُوصًا فِي الْمُبَاحِ دُونَ الْمَحْظُورِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْمُبَاحِ وَالْمَحْظُورِ ، فَيَحْنَثُ بِلَحْمِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ اعْتِبَارًا بِعُمُومِ الِاسْمِ ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالْحَظْرِ ، كَمَا يَحْنَثُ بِاللَّحْمِ الْمَغْصُوبِ ، وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُبَاحِ دُونَ الْمَحْظُورِ ، فَلَا يَحْنَثُ بِلَحْمِ مَا حَرُمَ مِنْ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ وَحْشٍ أَوْ حِمَارٍ أَهْلِيٍّ ؛ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا خُصَّتِ الْأَيْمَانُ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ ، كَانَ أَوْلَى مِنْ أَنْ تُخَصَّ بِعُرْفِ الشَّرْعِ ؛ لِأَنَّهُ أَلْزَمُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَصَدَ بِالْيَمِينِ أَنْ حَظَرَ عَلَى نَفْسِهِ مَا اسْتُبِيحَ بِغَيْرِ يَمِينٍ ، فَخَرَجَ الْمَحْظُورُ مِنْ قَصْدِ الْيَمِينِ ، فَلَمْ يَحْنَثْ بِهِ . وَأَمَّا الْمَغْصُوبُ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْمُبَاحِ ، وَأَنَّهُ حَظْرُ الْمَعْنَى خَاصٌّ ، فَأَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الْعُمُومِ فِي الْإِبَاحَةِ . وَلَا فَرْقَ فِيمَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ مِنَ اللَّحْمِ بَيْنَ أَنْ يَأْكُلَهُ مُشْوِيًّا أَوْ مَطْبُوخًا أَوْ نِيئًا ، وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ - وَأَظُنُّهُ مَالِكًا - : إِنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ نِيئًا ، حَتَّى يُطْبَخَ أَوْ يُشْوَى ؛ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِي أَكْلِهِ . وَهَذَا الِاعْتِبَارُ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الطَّبْخَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ ، يُقْصَدُ بِهَا الِاسْتِطَابَةُ ، فَلَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُهَا فِي الْمُطْلَقِ ، كَمَا لَا يُعْتَبَرُ بِهِ الْمُسْتَطَابُ الْمُسْتَلَذُّ . وَالثَّانِي : أَنَّ حَقِيقَةَ الْأَكْلِ مَا لَاكَهُ مَضْغًا بِفَمِهِ ، وَازْدَرَدَهُ إِلَى جَوْفِهِ . وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي النِّيءِ ، كَوُجُودِهِ فِي الْمَطْبُوخِ وَالْمَشْوِيِّ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَشْرَبَ سَوِيقًا فَأَكَلَهُ ، أَوْ لَا يَأْكُلَ خُبْزًا فَمَاثَهُ فَشَرِبَهُ ، أَوْ لَا يَشْرَبُ شَيْئًا فَذَاقَهُ ، فَدَخَلَ بَطْنَهُ لَمْ يَحْنَثْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْأَفْعَالَ أَنْوَاعٌ كَالْأَعْيَانِ ، فَإِذَا تَعَلَّقَتِ الْيَمِينُ بِنَوْعٍ مِنْ فِعْلٍ ، فَهِيَ كَتَعَلُّقِهَا بِنَوْعٍ مِنْ يَمِينٍ ، فَلَا يَحْنَثُ بِغَيْرِ ذَلِكَ الْعَيْنِ ، كَمَا لَا يَحْنَثُ بِغَيْرِ تِلْكَ الْعَيْنِ . وَالْأَكْلُ نَوْعٌ ، وَالشُّرْبُ نَوْعٌ ، وَالذَّوْقُ نَوْعٌ ، وَالطَّعْمُ نَوْعٌ ، وَلِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ صِفَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ تَخْتَصُّ بِهِ . وَإِنْ جَازَ أَنْ يَقَعَ الِاشْتِرَاكُ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ ، فَإِذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ هَذَا السَّوِيقَ ،

فَشُرْبُهُ أَنْ يَمْزُجَهُ بِالْمَاءِ وَيَشْرَبَهُ كَشُرْبِهِ الْمَاءَ ، فَإِنْ شَرِبَهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ حَنِثَ . وَإِنْ بَلَّهُ حَتَّى اجْتَمَعَ وَأَكَلَهُ مَضْغًا لَمْ يَحْنَثْ ، لِأَنَّهُ آكِلٌ وَلَيْسَ بِشَارِبٍ ، وَلَوِ اسْتَفَّهُ سَفًّا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَارِبٍ وَلَا آكِلٍ ، وَإِنْ حَلَفَ لَا آكُلُ هَذَا الْخُبْزَ ، فَأَكَلَهُ أَنْ يَمْضُغَهُ بِفَمِهِ ، وَيَزْدَرِدَهُ إِلَى جَوْفِهِ ، فَإِنْ أَكَلَهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ حَنِثَ ، وَإِنْ رَضَّهُ ، وَمَزَجَهُ بِالْمَاءِ وَشَرِبَهُ لَمْ يَحْنَثْ ، لِأَنَّهُ شَارِبٌ ، وَلَيْسَ بِآكِلٍ . وَلَوِ ابْتَلَعَهُ مِنْ غَيْرِ مَضْغٍ لَمْ يَحْنَثْ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِآكِلٍ ، وَلَا شَارِبٍ ، وَلَا يَحْنَثُ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ إِلَّا بِمَا وَصَلَ إِلَى الْجَوْفِ ، فَإِنْ حَلَفَ لَا ذَاقَ هَذَا الطَّعَامَ ، فَالذَّوْقُ أَنْ يَعْرِفَ طَعْمَهُ بِفَمِهِ . وَهَلْ يَحْتَاجُ مَعَ مَعْرِفَةِ طَعْمِهِ بِفَمِهِ إِلَى وُصُولِ يَسِيرٍ مِنْهُ إِلَى جَوْفِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَكْمُلُ الذَّوْقُ إِلَّا بِوُصُولِ يَسِيرٍ مِنْهُ إِلَى جَوْفِهِ ، لِيَمُرَّ فِي الْحَلْقِ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ . فَإِنْ لَمْ يَصِلْ شَيْءٌ مِنْهُ إِلَى الْجَوْفِ لَمْ يَكُنْ ذَائِقًا وَلَا حَانِثًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ إِلَّا مَعْرِفَةُ الطَّعْمِ دُونَ الْوُصُولِ إِلَى الْجَوْفِ ، لِمُفَارَقَتِهِ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ الْمُخْتَصَّانِ بِالْوُصُولِ إِلَى الْجَوْفِ . فَإِنْ أَكَلَ هَذَا الذَّائِقُ أَوْ شَرِبَ حَنِثَ ، لِأَنَّهُ قَدْ ذَاقَ وَزَادَ . وَإِنْ حَلَفَ لَا يَطْعَمُ هَذَا الطَّعَامَ ، فَالتَّطَعُّمُ مَعْرِفَةُ طَعْمِهِ بِلِسَانِهِ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِوُصُولِ شَيْءٍ مِنْهُ إِلَى جَوْفِهِ ، فَإِذَا عَرَفَ طَعْمَهُ حَنِثَ ، فَإِنْ ذَاقَهُ أَوْ أَكَلَهُ أَوْ شَرِبَهُ حَنِثَ ، لِأَنَّهُ قَدْ تَطَعَّمَ وَزَادَ . وَإِنْ حَلَفَ لَا أَطْعَمُ هَذَا الطَّعَامَ ، حَنِثَ بِأَكْلِهِ وَشُرْبِهِ ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِذَوْقِهِ وَطَعْمِهِ ، لِفَرْقِ مَا بَيْنَ الطَّعْمِ وَالتَّطَعُّمِ ، لِأَنَّ الطَّعْمَ مَا صَارَ طَعَامًا لَهُ ، وَالتَّطَعُّمَ مَا عُرِفَ طَعْمُهُ . فَلَوْ أَوْجَرَ الطَّعَامَ بِقَمْعٍ فِي حَلْقِهِ ، وَلَمْ يَدْنُ فِي لَهَوَاتِ فَمِهِ ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالذَّوْقِ وَالتَّطَعُّمِ لَمْ يَحْنَثْ لِعَدَمِ شُرُوطِهَا فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى أَنْ لَا يَطْعَمَ حَنِثَ ، لِأَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ ، فَصَارَ طَعَامًا لَهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ سَمْنًا فَأَكَلَهُ بِالْخُبْزِ أَوْ بِالْعَصِيدَةِ أَوْ بِالسَّوِيقِ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ السَّمْنَ لَا يَكُونُ مَأْكُولًا إِلَّا بِغَيْرِهِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ جَامِدًا فَيَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْكُلَهُ جَامِدًا مُفْرَدًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا السَّمْنُ فَلَهُ حَالَتَانِ : جَامِدٌ ، وَذَائِبٌ .

فَإِذَا حَلَفَ لَا آكُلُ سَمْنًا ، فَلَهُ فِي أَكْلِهِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَأْكُلَهُ مُنْفَرِدًا . وَالثَّانِيَةُ : أَنْ يَأْكُلَهُ مَعَ غَيْرِهِ . فَإِنْ أَكَلَهُ مُنْفَرِدًا ، وَكَانَ جَامِدًا حَنِثَ ، وَإِنْ كَانَ ذَائِبًا لَمْ يَحْنَثْ ، لِأَنَّهُ يَكُونُ لِلْجَامِدِ آكِلًا ، وَلِلذَّائِبِ شَارِبًا . وَإِنْ أَكَلَهُ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ خُبْزٍ أَوْ سَوِيقٍ أَوْ فِي عَصِيدَةٍ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حِنْثِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ - أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إِذَا خَلَطَهُ بِغَيْرِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ جَامِدًا أَوْ ذَائِبًا ، وَلَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ اسْمُ الْأَكْلِ إِلَّا بِانْفِرَادِهِ ، وَأَجْرَاهُ مَجْرَى قَوْلِهِ : وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ طَعَامًا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ ، فَاشْتَرَى زَيْدٌ وَعَمْرٌو طَعَامًا ، فَأَكَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - أَنَّهُ إِنْ كَانَ جَامِدًا لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِهِ مَعَ غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ ذَائِبًا حَنِثَ بِأَكْلِهِ مَعَ غَيْرِهِ ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى أَكْلِ الْجَامِدِ مُنْفَرِدًا ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى أَكْلِ الذَّائِبِ إِلَّا مَعَ غَيْرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ مَعَ غَيْرِهِ إِذَا كَانَ ظَاهِرًا فِيهِ ، كَمَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ مُنْفَرِدًا ، سَوَاءٌ كَانَ جَامِدًا أَوْ ذَائِبًا ، لِأَنَّ اخْتِلَاطَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ بِمَا لَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ الْحِنْثِ بِهِ ، كَمَا لَوْ حَلَفَ : لَا أُكَلِّمُ زَيْدًا ، فَكَلَّمَ جَمَاعَةً هُوَ فِيهِمْ حَنِثَ ، وَكَمَا لَوْ حَلَفَ : لَا آكُلُ طَعَامًا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ ، فَاشْتَرَى زَيْدٌ طَعَامًا ، وَاشْتَرَى عَمْرٌو طَعَامًا ، فَخَلْطَهُمَا وَأَكَلَهُمَا ، حَنِثَ كَذَلِكَ السَّمْنُ إِذَا خَلَطَهُ بِغَيْرِهِ حَنِثَ بِأَكْلِهِمَا . وَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّفْرِيعُ ، فَإِذَا أَكَلَ السَّمْنَ مَعَ غَيْرِهِ ، فَجَعَلَهُ عَصِيدًا ، أَوْ بَلَّ فِيهِ خُبْزًا أَوْ لَتَّ فِيهِ سَوِيقًا ، فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَظْهَرَ فِيهِ طَعْمُهُ إِذَا أُكِلَ ، أَوْ يَظْهَرُ فِيهِ بَيَاضُ لَوْنِهِ إِذَا ثُرِدَ ، فَيَحْنَثُ بِأَكْلِهِ لِظُهُورِ صِفَتَيِ السَّمْنِ مِنْ طَعْمٍ وَلَوْنٍ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يَظْهَرَ فِيهِ طَعْمُهُ إِذَا أُكِلَ ، وَلَا يَظْهَرُ فِيهِ لَوْنُهُ إِذَا ثُرِدَ ، فَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ ، لِأَنَّ السَّمْنَ قَدْ صَارَ بِعَدَمِ الصِّفَتَيْنِ مُسْتَهْلَكًا . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَظْهَرَ فِيهِ طَعْمُهُ إِذَا أُكِلَ ، وَلَا يَظْهَرُ فِيهِ لَوْنُهُ إِذَا ثُرِدَ ، فَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ ، لِأَنَّ يَمِينَهُ مُسْتَهْلَكَةٌ ، فَلَمْ يَحْنَثْ بِطَعْمِهِ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَظْهَرَ فِيهِ لَوْنُهُ إِذَا ثُرِدَ ، وَلَا يَظْهَرُ فِيهِ طَعْمُهُ إِذَا أُكِلَ ، فَيَحْنَثُ بِأَكْلِهِ ، لِبَقَاءِ عَيْنِهِ ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فَقْدُ طَعْمِهِ .

وَهَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ عَسَلًا وَلَا دِبْسًا ، كَانَ كَالسَّمْنِ ، لِأَنَّهُمَا يَجْمُدَانِ تَارَةً ، وَيَذُوبَانِ أُخْرَى ، وَيُؤْكَلَانِ مُنْفَرِدَيْنِ وَمُخْتَلِطَيْنِ ، فَيَكُونُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْجَوَابِ . فَأَمَّا إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ خَلًّا ، فَالْخَلُّ ذَائِبٌ ، وَقَلَّ أَنْ يَجْمُدَ . وَإِذَا كَانَ ذَائِبًا لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِهِ مُنْفَرِدًا ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ شَارِبًا ، وَلَا يَكُونُ آكِلًا . وَإِنْ أَكَلَ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ خُبْزٍ أَوْ فِي سِكْبَاجٍ فَإِنْ صَارَ مُسْتَهْلِكًا فِيهِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فِيهِ حَنِثَ . وَكَذَلِكَ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَبَنًا ، فَأَكْلَهُ بِغَيْرِهِ أَوْ طَبَخَهُ مَعَ غَيْرِهِ ، فَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ لَبَنًا فَخَلَطَهُ بِغَيْرِهِ ، فَإِنْ كَانَ مَا خَلَطَهُ بِهِ جَامِدًا لَمْ يَحْنَثْ ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ آكِلًا ، وَلَا يَكُونُ شَارِبًا ، وَإِنْ خَلَطَهُ بِمَائِعٍ ، فَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ أَغْلَبَ ، لِظُهُورِ لَوْنِهِ وَطَعْمِهِ حَنِثَ بِشُرْبِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَغْلُوبًا لِخَفَاءِ لَوْنِهِ وَطَعْمِهِ لَمْ يَحْنَثْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذِهِ التَّمْرَةَ ، فَوَقَعَتْ فِي تَمْرٍ ، فَإِنْ أَكَلَهُ إِلَّا تَمْرَةً أَوْ هَلَكَتْ مِنْهُ تَمْرَةٌ ، لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ أَنَّهُ أَكَلَهَا ، وَالْوَرَعُ أَنْ يُحَنِّثَ نَفْسَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا حَلَفَ : لَا يَأْكُلُ هَذِهِ التَّمْرَةَ ، فَأَكَلَهَا إِلَّا نَوَاهَا وَقَمَعَهَا حَنِثَ ، لِأَنَّهُ أَكَلَ مَأْكُولَهَا ، وَأَلْقَى غَيْرَ مَأْكُولِهَا ، فَانْصَرَفَتِ الْيَمِينُ فِي الْأَكْلِ إِلَى الْمَأْكُولِ مِنْهَا ، وَلَمْ تَنْصَرِفْ إِلَى غَيْرِ الْمَأْكُولِ . وَلَوْ أَكَلَهَا إِلَّا يَسِيرًا مِنْهَا كَنُقْرَةِ طَائِرٍ لَمْ يَحْنَثْ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَحْنَثُ . وَهَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ ، فَأَكَلَهُ إِلَّا لُقْمَةً مِنْهُ لَمْ يَحْنَثْ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَحْنَثُ إِذَا أَكَلَ أَكْثَرَهُ ، اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ . وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ إِذَا لَمْ يَكْمُلِ ارْتَفَعَ بِهِ الْحِنْثُ فِي الْحَالَيْنِ . فَأَمَّا إِذَا وَقَعَتِ التَّمْرَةُ الَّتِي حَلَفَ عَلَيْهَا أَنْ لَا يَأْكُلَهَا فِي تَمْرٍ اخْتَلَطَتْ بِهِ ، فَإِنْ أَكَلَ جَمِيعَ التَّمْرِ حَنِثَ ، لِإِحَاطَةِ عِلْمِنَا بِأَنَّهُ قَدْ أَكَلَهَا مَعَ غَيْرِهَا . وَقَدْ وَافَقَ عَلَى هَذَا أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ ، وَإِنْ خَالَفَ فِي السَّمْنِ ، وَهُوَ حُجَّةٌ تُعِيدُهُ إِلَى الْوِفَاقِ . وَإِنْ أَكَلَ جَمِيعَ التَّمْرِ إِلَّا تَمْرَةً ، أَوْ هَلَكَ مِنْ جَمِيعِ التَّمْرِ تَمْرَةٌ ، لَمْ تَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ أَكَلَ تِلْكَ التَّمْرَةَ ، فَيَحْنَثُ .

وَالثَّانِي : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا الْبَاقِيَةُ الَّتِي لَمْ يَأْكُلْهَا ، فَلَا يَحْنَثُ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَشُكَّ ، هَلْ أَكَلَهَا أَوْ لَمْ يَأْكُلْهَا ، فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهَا هِيَ الْبَاقِيَةُ ، أَوِ الْهَالِكَةُ ، فَصَارَ الْحِنْثُ مَشْكُوكًا فِيهِ ، وَالْحِنْثُ لَا يَقَعُ بِالشَّكِّ ، وَمُسْتَحَبٌّ لَهُ فِي الْوَرَعِ أَنْ يُحَنِّثَ نَفْسَهُ احْتِيَاطًا اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ مِنْ حَالِهَا أَنَّهَا فِي الْمَأْكُولِ ، مَعَ تَجْوِيزِ بَقَائِهَا فِي الْعَادَةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا عَلَّقْتُمْ حُكْمَ الْوُجُوبِ بِالْغَالِبِ مِنْ حَالِ هَذَا ، فَحَكَمْتُمْ بِحِنْثِهِ ، كَمَا حَكَمْتُمْ فِيمَنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ مِائَةَ ضَرْبَةٍ ، فَجَمَعَ مِائَةَ شِمْرَاخٍ ، وَضَرَبَهُ بِهَا ضَرْبَةً ، وَشَكَّ فِي وُصُولِ جَمِيعِهَا إِلَى جَسَدِهِ أَنَّهُ يَبِرُّ تَغْلِيبًا لِلظَّاهِرِ فِي وُصُولِ جَمِيعِهَا إِلَى جَسَدِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَصِلُ لَطَائِفُهَا . قِيلَ : لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمَعْدُودَ فِي الضَّرْبِ مَعْفُوٌّ ، وَالْوُقُوعَ فِي الْمَحَلِّ مَعْلُومٌ ، وَالْحَائِلَ دُونَهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ ، يُعْمَلُ عَلَى الظَّاهِرِ ، وَلَمْ يُؤْخَذْ بِالشَّكِّ ، وَخَالَفَ التَّمْرَةُ ، لِأَنَّ فِعْلَ الْأَكْلِ فِيهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ ، وَهُوَ الْمُخْتَصُّ بِالشَّكِّ ، فَاطُّرِحَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ هَذِهِ الْحِنْطَةَ فَطَحَنَهَا أَوْ خَبَزَهَا أَوْ قَلَاهَا ، فَجَعَلَهَا سَوِيقًا لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ قَمْحٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو يَمِينُ مَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ حِنْطَةً مِنْ أَمْرَيْنِ : إِبْهَامٌ أَوْ تَعْيِينٌ . فَإِنْ أَبْهَمَ ، وَلَمْ يُعَيِّنْ ، فَقَالَ : وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ حِنْطَةً ، أَوْ لَا أَكَلْتُ الْحِنْطَةَ ، فَهُمَا سَوَاءٌ ، وَيَحْنَثُ بِأَنْ يَأْكُلَهَا حَبًّا صَحِيحًا ، وَلَا يَحْنَثَ أَنْ يَأْكُلَهَا خُبْزًا أَوْ دَقِيقًا أَوْ سَوِيقًا وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ إِذَا أَبْهَمَ صَارَتِ الْيَمِينُ مَعْقُودَةً عَلَى الِاسْمِ دُونَ الْعَيْنِ ، فَيَحْنَثُ بِمَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الِاسْمُ ، وَلَا يَحْنَثُ بِمَا زَالَ عَنْهُ ذَلِكَ الِاسْمُ ، وَقَدْ زَالَ اسْمُ الْحِنْطَةِ عَنْهَا بَعْدَ طَحْنِهَا وَخَبْزِهَا . أَلَا تَرَاهُ لَوْ حَلَفَ : لَا كَلَّمَ صَبِيًّا ، فَكَلَّمَ رَجُلًا ، أَوْ لَا أَكَلَ رُطَبًا ، فَأَكَلَ تَمْرًا لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ كَانَ صَبِيًّا ، وَالتَّمْرَ قَدْ كَانَ رُطَبًا ، لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ فِي الْإِبْهَامِ عَلَى الِاسْمِ دُونَ الْعَيْنِ . وَإِنْ عَيَّنَ فَقَالَ : وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ هَذِهِ الْحِنْطَةَ ، تَعَيَّنَتِ الْحِنْطَةُ فِي يَمِينِهِ ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ غَيْرِهَا . وَاخْتَلَفُوا فِي بَقَاءِ الِاسْمِ عَلَيْهَا ، هَلْ يَكُونُ شَرْطًا فِي عَقْدِ الْيَمِينِ ، لَا يَقَعُ الْحِنْثُ إِلَّا مَعَ بَقَائِهِ ؟

فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ بَقَاءَ الِاسْمِ شَرْطٌ فِي الْحِنْثِ ، فَإِنْ قَضَمَهَا حَبًّا حَنِثَ ، لِبَقَاءِ اسْمِ الْحِنْطَةِ عَلَيْهَا ، وَإِنْ طَحَنَهَا ، فَأَكَلَهَا خُبْزًا أَوْ دَقِيقًا أَوْ سَوِيقًا لَمْ يَحْنَثْ ، لِزَوَالِ اسْمِ الْحِنْطَةِ عَنْهَا . فَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَجَرَى عَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِهِ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الدَّارِ ، فَصَارَتْ طَرِيقًا أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ ، لِزَوَالِ اسْمِ الدَّارِ عَنْهَا بَعْدَ الْهَدْمِ ، كَزَوَالِ اسْمِ الْحِنْطَةِ عَنْهَا بَعْدَ الطَّحْنِ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَنَاقَضَ مَذْهَبَهُ فِي الدَّارِ ، فَجَعَلَهُ حَانِثًا بَعْدَ الْهَدْمِ ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ حَانِثًا فِي الطَّعَامِ بَعْدَ الطَّحْنِ ، وَقَدِ اشْتَرَكَا فِي زَوَالِ الِاسْمِ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ مِنْ أَصْحَابِنَا : إِنَّ الْيَمِينَ مَعْقُودَةٌ عَلَى الْعَيْنِ دُونَ الِاسْمِ ، فَيَحْنَثُ بِأَكْلِهَا خُبْزًا وَدَقِيقًا وَسَوِيقًا ، كَمَا يَحْنَثُ بِقَضْمِهَا حَبًّا صَحِيحًا ، احْتِجَاجًا بِأَنَّ الِاسْمَ مَوْضُوعٌ لِتَعْرِيفِ الْيَمِينِ . فَإِذَا عُرِفَتْ بِالتَّعْيِينِ سَقَطَ حُكْمُ الِاسْمِ اسْتِشْهَادًا بِمَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا آكُلُ مِنْ هَذَا الْجَمَلِ ، فَذَبَحَهُ وَأَكَلَ مِنْ لَحْمِهِ حَنِثَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الذَّبْحِ جَمَلًا ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُسْتَفَادَ بِالتَّعْيِينِ هُوَ نَقْلُ الْحُكْمِ مِنْ عُمُومِ الْمُبْهَمِ إِلَى خُصُوصِ الْعَيْنِ ، فَإِذَا كَانَ الِاسْمُ مُعْتَبَرًا فِي الْمُبْهَمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي الْمُعَيَّنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْعَقْدَ اشْتَمَلَ عَلَى تَسْمِيَةٍ وَتَعْيِينٍ ، فَلَمَّا كَانَ بَقَاءُ الْعَيْنِ شَرْطًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَقَاءُ الِاسْمِ شَرْطًا . فَأَمَّا الْجَمَلُ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحِنْطَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَكْلُ الْجَمَلِ حَيًّا ، وَيُمْكِنُ أَكْلُ الْحِنْطَةِ حَبًّا . وَالثَّانِي : أَنَّ الشَّيْءَ مَنَعَ مِنْ أَكْلِ الْجَمَلَ حَيًّا ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ أَكْلِ الْحِنْطَةِ حَبًّا ؛ فَلِهَذَيْنِ مَا افْتَرَقَا فِي بَقَاءِ الِاسْمِ وَزَوَالِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا حَلَفَ لَا أَكَلْتُ مِنْ هَذَا الدَّقِيقِ ، فَاسْتَفَّهُ حَنِثَ ، وَإِنْ خَبَزَهُ وَأَكَلَ مِنْهُ ، لَمْ يَحْنَثْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنِ اسْتَفَّهُ لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ خَبَزَهُ وَأَكَلَ مِنْهُ حَنِثَ ، فَكَانَ مَذْهَبُهُ فِيهِ عَكْسَ مَذْهَبِنَا ، احْتِجَاجًا بِعُرْفِ الدَّقِيقِ ، أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ إِلَّا مَخْبُوزًا كَالْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يُؤْكَلُ إِلَّا مَذْبُوحًا ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْعُرْفِ فِيهِ مَشْرُوطًا ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا اعْتُبِرَ فِي الْحِنْطَةِ بَقَاءُ الِاسْمِ دُونَ الْعُرْفِ وِفَاقًا ، وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ مِثْلُهُ فِي الدَّقِيقِ حِجَاجًا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا اعْتُبِرَتْ فِيهِ الصِّفَةُ كَانَ اعْتِبَارُ صِفَتِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِ صِفَةٍ تَحْدُثُ مِنْ بَعْدِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا حَلَفَ لَا آكُلُ هَذَا الرُّطَبَ ، فَصَارَ تَمْرًا ، أَوْ لَا آكُلُ هَذَا الْجَدْيَ ، فَصَارَ تَيْسًا ، أَوْ لَا أُكَلِّمُ هَذَا الصَّبِيَّ ، فَصَارَ شَيْخًا ، فَفِي الْحِنْثِ بِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : لَا يَحْنَثُ ، لِانْتِقَالِهِ عَنْ صِفَتِهِ كَالطَّعَامِ إِذَا طُحِنَ وَالدَّقِيقِ إِذَا خُبِزَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَحْنَثُ ، وَفَرَّقَ قَائِلُهُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ طَحْنِ الطَّعَامِ وَخَبْزِ الدَّقِيقَ ، بِأَنَّ انْتِقَالَ هَذَا عَنْ حَالِهِ حَادِثٌ مِنْ ذَاتِهِ ، فَصَارَ بَعْدَ الِانْتِقَالِ مَنْسُوبًا إِلَى أَصْلِهِ . وَانْتِقَالُ الطَّعَامِ بِالطَّحْنِ وَالدَّقِيقِ بِالْخُبْزِ حَادِثٌ عَنْ صَنْعَةِ فَاعِلٍ ، فَصَارَ بِالِانْتِقَالِ مَنْسُوبًا إِلَى فَاعِلِهِ دُونَ أَصْلِهِ . وَتَعْلِيلُ هَذَا الْفَرْقِ مَعْلُولٌ بِمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ حِنْطَةً ، فَصَارَتْ زَرْعًا ، وَلَا يَأْكُلُ بَيْضَةً ، فَصَارَتْ فَرْخًا ، فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِوِفَاقٍ وَإِنْ كَانَ انْتِقَالَ ذَاتٍ .

فَصْلٌ : وَإِذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ هَذَا الْعَصِيرَ فَصَارَ خَمْرًا ، أَوْ لَا يَشْرَبُ هَذَا الْخَمْرَ فَصَارَ خَلًّا ، لَمْ يَحْنَثْ بِهِ وَجْهًا وَاحِدًا ، لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَنَ بِزَوَالِ الِاسْمِ زَوَالُ الْحُكْمِ ، فَزَالَ عَنْ حَالِهِ عُرْفًا وَشَرْعًا ، فَانْتَفَى عَنْهُ الْحِنْثُ بِانْتِفَاءِ الِاسْمِ وَالْحُكْمِ . وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الْغَزْلَ ، فَنَسَجَهُ ثَوْبًا حَنِثَ بِلُبْسِهِ وَجْهًا وَاحِدًا ، لِأَنَّ الْغَزْلَ لَمَّا كَانَ لَا يُلْبَسُ إِلَّا مَنْسُوجًا صَارَ مُضْمَرًا فِي الْيَمِينِ ، وَالْمُضْمَرُ فِي الْأَيْمَانِ كَالْمُظْهَرِ ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الْحَيَوَانَ حَنِثَ بِأَكْلِهِ مَذْبُوحًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ أَكْلِهِ حَيَوَانًا ، لِأَنَّهَا صِفَةٌ مُضْمَرَةٌ ، فَجَرَى عَلَيْهَا حُكْمُ الْمُظْهَرَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا حَلَفَ لَا يَشَمُّ الْبَنَفْسَجَ ، فَشَمَّ دُهْنَ الْبَنَفْسَجِ ، أَوْ لَا يَشَمُّ الْوَرْدَ ، فَشَمَّ دُهْنَ الْوَرْدِ أَوْ شَمَّ مَاءَ الْوَرْدِ لَمْ يَحْنَثْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَحْنَثُ بِدُهْنِ الْبَنَفْسَجِ ، وَلَا يَحْنَثُ بِدُهْنِ الْوَرْدِ وَمَاءِ الْوَرْدِ ، فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِعُرْفِ أَهْلِ الْكُوفَةِ ، أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ دُهْنَ الْبَنَفْسَجَ بَنَفْسَجًا ، وَلَا يُسَمُّونَ دُهْنَ الْوَرْدِ وَرْدًا ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَسْمِيَةُ مَجَازٍ ، فَكَانَ اعْتِبَارُهَا بِالْحَقِيقَةِ أَوْلَى . وَالثَّانِي : أَنَّ اسْمَ الْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ مُنْطَلِقٌ عَلَى جِسْمٍ وَرَائِحَةٍ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَلَّقَ

حُكْمُهَا بِالرَّائِحَةِ وَهِيَ فَرْعٌ مَعَ عَدَمِ الْجِسْمِ وَهُوَ أَصْلٌ . فَعَلَى هَذَا لَوْ شَمَّ الْبَنَفْسَجَ بَعْدَ انْتِقَالِ رَائِحَتِهِ إِلَى الدُّهْنِ حَنِثَ بِهِ عِنْدَنَا ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَا قُلْنَاهُ أَوْلَى ، لِأَنَّهُ لَا يَعْدَمُ بَقَايَا رَائِحَتِهِ مِنْ بَقَايَا شَمِّهِ . وَلَوْ شَمَّ عُصَارَةَ الْوَرْدِ بَعْدَ اسْتِخْرَاجِ مَائِهِ لَمْ يَحْنَثْ بِهِ ، لِأَنَّ اسْمَ الْوَرْدِ قَدْ زَالَ عَنْهُ ، وَمَاؤُهُ قَدْ خَرَجَ مِنْهُ ، فَخَالَفَ بِهَذَيْنِ حَالَ الْبَنَفْسَجِ بَعْدَ التَّرْبِيَةِ ، وَكَانَ وَرَقُ الْوَرْدِ بَعْدَ التَّرْبِيَةِ كَالْبَنَفْسَجِ بَعْدَ التَّرْبِيَةِ فِي وُقُوعِ الْحِنْثِ بِهِمَا ، مَا كَانَتْ رُطُوبَتُهُمَا بَاقِيَةً ، فَإِنْ يَبِسَا كَانَ فِي الْحِنْثِ بِهِمَا بَعْدِ يُبْسِهِمَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَحْنَثُ ، كَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا ، فَأَكَلَ تَمْرًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَحْنَثُ لِبَقَاءِ اسْمِهِ وَجِسْمِهِ . وَخَالَفَ أَكْلُ التَّمْرِ عَنِ الرُّطَبِ لِزَوَالِ اسْمِ الرُّطَبِ عَنْهُ ، وَبَقَاءِ اسْمِ الْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ عَلَى مَا يَبِسَ مِنْهُ . وَلِتَعْلِيلِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ : كَانَ مَنْ حَنِثَ مَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرُّطَبَ ، فَأَكَلَهُ تَمْرًا عَلَى وَجْهَيْنِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا حَلَفَ لَا يَشَمُّ الْوَرْدَ وَالْبَنَفْسَجَ ، فَمَرَّ بِهِمَا فِي السُّوقِ ، فَشَمَّ رَائِحَتَهُمَا ، فَإِنْ حَمَلَ النَّسِيمُ الرَّائِحَةَ حَتَّى شَمَّهَا لَمْ يَحْنَثْ . وَإِنِ اجْتَذَبَ الرَّائِحَةَ بِخَيَاشِيمِهِ حَتَّى شَمَّهَا حَنِثَ ، لِأَنَّ شَمَّهَا بِهُبُوبِ النَّسِيمِ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ ، وَشَمَّهَا بِاجْتِذَابِ خَيَاشِيمِهِ مِنْ فِعْلِهِ . فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيْسَ لَوْ مَرَّ الْمُحْرِمُ بِسُوقِ الْعَطَّارِينَ ، فَشَمَّ رَائِحَةَ الطِّيبِ لَا تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ فِي الْحَالَيْنِ ؟ فَهَلَّا كَانَ الْحَالِفُ كَذَلِكَ . قِيلَ : لِأَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَ الْمُحْرِمَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ ، دُونَ الرَّائِحَةِ ، وَالْيَمِينُ مَنَعَتْ هَذَا مِنْ شَمِّ الرَّائِحَةِ ، فَافْتَرَقَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ شَحْمًا وَلَا شَحْمًا فَأَكَلَ لَحْمًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا اللَّحْمُ وَالشَّحْمُ ، فَيَجْتَمِعَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ ، وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ . فَأَمَّا وَجْهُ اجْتِمَاعِهِمَا : فَأَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحَيَوَانَ الْوَاحِدَ يَجْمَعُهُمَا فِي التَّزْكِيَةِ وَالِاسْتِبَاحَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الشَّحْمَ حَادِثٌ عَنِ اللَّحْمِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ اللَّحْمُ حَادِثًا عَنِ الشَّحْمِ ، فَالشَّحْمُ مَا حَوْلَهُ اللَّحْمُ ، وَاللَّحْمُ مَا تَرَكَّبَ عَلَى الْعَظْمِ .

وَأَمَّا وَجْهُ افْتِرَاقِهِمَا ، فَأَحَدُهُمَا فِي الِاسْمِ ، لِأَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ اسْمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ . وَالثَّانِي : فِي صِفَتِهِ مِنْ لَوْنٍ وَطَعْمٍ حَتَّى مَاءُ اللَّحْمِ أَحْمَرُ كَثِيفُ الْجِسْمِ ذُو طَعْمِ ، وَالشَّحْمُ أَبْيَضُ رَخْوُ الْجِسْمِ ذُو طَعْمٍ آخَرَ ، فَيُحْمَلَانِ فِي الْأَيْمَانِ عَلَى حُكْمِ الِافْتِرَاقِ . فَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ الشَّحْمِ ، وَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَحْمًا لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ اللَّحْمِ . وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ - أَحْسَبُهُ مَالِكًا - : إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ حَنِثَ بِأَكْلِ الشَّحْمِ ، وَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الشَّحْمَ لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ اللَّحْمِ ، فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي اسْمِ اللَّحْمِ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي اسْمِ الشَّحْمِ ، فَافْتَرَقَا ، احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّهَ أَطْلَقَ اسْمَ الشَّحْمِ عَلَى اللَّحْمِ فِي قَوْلِهِ : أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ [ الْأَنْعَامِ : 145 ] ، وَلَمْ يُطْلِقِ اسْمَ الشَّحْمِ عَلَى اللَّحْمِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الشَّحْمَ فَرْعُ اللَّحْمِ ، لِحُدُوثِهِ عَنْهُ ، وَلَيْسَ اللَّحْمُ فَرْعًا لِلشَّحْمِ ، لِحُدُوثِهِ عَنْ غَيْرِهِ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ ، يَبْطُلُ بِهِمَا اسْتِدْلَالُهُ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ افْتِرَاقَهُمَا فِي الِاسْمِ لَا يُوجِبُ افْتِرَاقَهُمَا فِي الْحُكْمِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الِاسْمَ إِذَا كَانَ لَهُ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ حُمِلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ دُونَ مَجَازِهِ . فَأَمَّا الْآيَةُ فَلِأَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ تُحْمَلُ عَلَى الْأَسْمَاءِ وَالْمَعَانِي ، وَالْأَيْمَانُ تُحْمَلُ عَلَى الْأَسْمَاءِ دُونَ الْمَعَانِي .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْحَالِفَ بِأَحَدِهِمَا لَا يَحْنَثُ بِالْآخَرِ وَجَبَ أَنْ يُمَيَّزَ اللَّحْمُ الَّذِي يَحْنَثُ بِهِ الْحَالِفُ عَلَيْهِ مِنَ الشَّحْمِ الَّذِي لَا يَحْنَثُ بِهِ الْحَالِفُ عَلَيْهِ . وَأَمَّا اللَّحْمُ فَهُوَ جَمِيعُ مَا اخْتَصَّ بِكَوْنِهِ فِي بَدَنِ الْحَيَوَانِ مُرَكَّبٌ عَلَى عَظْمِهِ ، وَتَغَطَّى بِجِلْدِهِ ، فَهُوَ لَحْمٌ يَحْنَثُ بِهِ الْحَالِفُ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ مُقَدَّمِ الْبَدَنِ أَوْ مِنْ مُؤَخَّرِهِ أَوْ جَنْبِهِ أَوْ ظَهْرِهِ . وَالْبَيَاضُ الَّذِي عَلَى الْجَنْبِ وَالظَّهْرِ وَالزَّوْرِ لَمْ يَحْنَثْ بِهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا ، وَلَا يَحْنَثُ بِهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَحْمًا ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : هُوَ شَحْمٌ يَحْنَثُ بِهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَحْمًا ، وَلَا يَحْنَثُ بِهِ الْحَالِفُ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا ، وَقَالَ بِهِ شَاذٌّ مِنْ أَصْحَابِنَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا [ الْأَنْعَامِ : 146 ] ، فَدَلَّ عَلَى دُخُولِهِ فِي الِاسْمِ ، وَاسْتِثْنَائِهِ فِي الْحُكْمِ ، وَلِأَنَّهُ بِصِفَةِ الشَّحْمِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِصِفَةِ اللَّحْمِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مِنَ اللَّحْمِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَثْنَاهُ مِنْ حُكْمِ الشَّحْمِ ، فَدَلَّ عَلَى

دُخُولِهِ فِي حُكْمِ اللَّحْمِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يُفْرَدُ عَنِ اللَّحْمِ ، وَإِنْ أُفْرِدَ عَنْهُ الشَّحْمُ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَحْمٌ ، وَلَيْسَ شَحْمٌ ، لِأَنَّهُ فِي صَلَابَةِ اللَّحْمِ وَكَثَافَتِهِ وَمَا بَيْنَ لَحْمِهِ وَجِلْدِهِ ، وَإِذَا وُصِفَ قِيلَ : لَحْمٌ سَمِينٌ ، فَكَانَ بِاللَّحْمِ أَخَصَّ بِهِ مِنَ الشَّحْمِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْأَلْيَةُ ، ما الحكم إذا حلف ألا يأكل الألية فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهَا أَصْحَابُنَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مِنَ الشَّحْمِ لِتَمَيُّزِهَا مِنَ اللَّحْمِ ، فَيَحْنَثُ بِهَا فِي الشَّحْمِ ، وَلَا يَحْنَثُ بِهَا فِي اللَّحْمِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا مِنَ اللَّحْمِ ، لِاتِّصَالِهَا بِالْعَظْمِ ، فَيَحْنَثُ بِهَا فِي اللَّحْمِ ، وَلَا يَحْنَثُ بِهَا فِي الشَّحْمِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ اللَّحْمِ وَلَا مِنَ الشَّحْمِ لِلتَّعْلِيلَيْنِ : فَلَا يَحْنَثُ بِهَا فِي الشَّحْمِ ، وَلَا يَحْنَثُ بِهَا فِي اللَّحْمِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا لَحْمُ الْخَدَّيْنِ مِنَ الرَّأْسِ وَلَحْمُ اللِّسَانِ ، ما الحكم إذا حلف ألا يأكل أحدهما فَيَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّحْمِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، هَلْ يَدْخُلُ فِي حِنْثِ الْحَالِفِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَدْخُلُ فِي حُكْمِ اللَّحْمِ ، وَيَحْنَثُ بِهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا ، لِانْطِلَاقِ اسْمِ اللَّحْمِ عَلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَدْخُلُ فِي حُكْمِهِ ، وَإِنْ دَخَلَ فِي اسْمِهِ فَلَا يَحْنَثُ بِهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا ، لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الِاسْمِ الْمُطْلَقِ ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الِاسْمِ الْمُضَافِ ، فَيُقَالُ : لَحْمُ الرَّأْسِ ، وَلَحْمُ اللِّسَانِ ، وَلَا يُقَالُ لَحْمٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْكَبِدُ وَالْفُؤَادُ وَالطِّحَالُ ، فَلَيْسَ بِلَحْمٍ فِي الِاسْمِ ، وَلَا فِي الْحُكْمِ ، وَلَا يَحْنَثُ بِهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ فِي حُكْمِ اللَّحْمِ ، وَيَحْنَثُ بِهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا ، اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ : أَنَّهُ يُبَاعُ مَعَهُ فِي الْعُرْفِ ، فَدَخَلَ مَعَهُ فِي الْحُكْمِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُؤْكَلُ عَلَى صِفَةِ اللَّحْمِ مَطْبُوخًا وَمَشْوِيًّا مُنْفَرِدًا عَنْهُ وَمُمْتَزِجًا بِهِ ، فَكَانَ عَلَى حُكْمِهِ . وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا خَالَفَ اللَّحْمَ فِي اسْمِهِ وَجَبَ أَنْ يُخَالِفَهُ فِي حُكْمِهِ ، كَالرِّئَةِ وَالْكَرِشِ ، وَبِهِ يَبْطُلُ مَا احْتَجَّ بِهِ .

وَالثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَضَافَهُ إِلَى غَيْرِ اللَّحْمِ ، فَخَرَجَ عَنْ حُكْمِهِ بِقَوْلِهِ : أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ ، فَالْمَيْتَتَانِ الْحُوتُ وَالْجَرَادُ ، وَالدَّمَانِ الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ فَهَذَا مَا تَعَلَّقَ بِاللَّحْمِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الشَّحْمُ ، فَهُوَ شَحْمُ الْكَرِشِ وَالْكُلَى ، فَيَحْتَوِي عَلَيْهِ اللَّحْمُ ، وَلَا يَتَّصِلُ بِالْعَظْمِ فَيَحْنَثُ بِهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَحْمًا . فَأَمَّا الشَّحْمُ الَّذِي يَتَخَلَّلُ اللَّحْمَ ، فَهُوَ مُلْحَقٌ بِاللَّحْمِ دُونَ الشَّحْمِ ، لِأَنَّهُ مِنْ سِمَنِ اللَّحْمِ ، فَكَانَ فِي حُكْمِهِ ، فَيَحْنَثُ بِهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا ، وَلَا يَحْنَثُ بِهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَحْمًا . وَأَمَّا شَحْمُ الْعَيْنَيْنِ ، فَيَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّحْمِ ، وَلَا يَحْنَثُ بِهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَحْنَثُ بِهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الشَّحْمَ عَلَى وَجْهَيْنِ ، كَلَحْمِ الرَّأْسِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ . أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ : يَحْنَثُ بِهِ لِانْطِلَاقِ اسْمِ الشَّحْمِ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : لَا يَحْنَثُ بِهِ ، لِأَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ إِلَّا بِقَرِينِهِ ، فَيُقَالُ : شَحْمُ الْعَيْنِ ، وَلَا يُقَالُ شَحْمٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ . وَأَمَّا الدِّمَاغُ فَلَيْسَ بِلَحْمٍ وَلَا شَحْمٍ ، فَلَا يَحْنَثُ بِهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ ، وَلَا يَأْكُلُ الشَّحْمَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " أَوْ رُطَبًا فَأَكَلَ تَمْرًا أَوْ تَمْرًا فَأَكَلَ رُطَبًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا انْتَقَلَتْ أَسْمَاءُ الْجِنْسِ بِانْتِقَالِ أَحْوَالِهِ خَرَجَتْ مِنْ أَحْكَامِ أَيْمَانِهِ ، فَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا . فَأَكَلَ تَمْرًا أَوْ بُسْرًا ، وَلَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ كَانَ الرُّطَبُ بُسْرًا . وَيَصِيرُ تَمْرًا لِمَعْنَيَيْنِ . أَحَدُهُمَا : مُفَارَقَتُهُ لَهُمَا فِي الِاسْمِ . وَالثَّانِي : مُفَارَقَتُهُ لَهُمَا فِي الصِّفَةِ . وَهَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ تَمْرًا ، فَأَكَلَ رُطَبًا أَوْ بُسْرًا لَمْ يَحْنَثْ لِلْمَعْنَيَيْنِ . وَهَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا ، فَأَكَلَ طَلَعَا أَوْ رُطَبًا أَوْ تَمْرًا لَمْ يَحْنَثْ لِلْمَعْنَيَيْنِ . وَأَمَّا إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الرُّطَبَ أَوْ لَا يَأْكُلُ الْبُسْرَ ، فَأَكَلَ مُنَاصَفَةً بَعْضَهَا رُطَبًا وَبَعْضَهَا بُسْرًا ، فَإِنْ أَكَلَ الْبُسْرَ مِنْهَا حَنِثَ بِهِ فِي الْبُسْرِ ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِهِ فِي الرُّطَبِ . وَإِنْ أَكَلَ الرُّطَبَ مِنْهَا حَنِثَ بِهِ فِي الرُّطَبِ ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِهِ فِي الْبُسْرِ .

وَإِنْ أَكَلَ جَمِيعَهَا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : - وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ - أَنَّهُ يَحْنَثُ بِهَا فِي الْبُسْرِ وَالرُّطَبِ ، لِمَا فِيهَا مِنْ بُسْرٍ وَرُطَبٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِهَا فِي الْبُسْرِ وَلَا فِي الرُّطَبِ ، لِخُرُوجِهَا فِي الْإِطْلَاقِ مِنِ اسْمِ الْبُسْرِ وَاسْمِ الرُّطَبِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْفَيَّاضِ الْبَصْرِيِّ - أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَكْثَرُهَا بُسْرًا حَنِثَ بِهَا فِي الْبُسْرِ ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِهَا فِي الرُّطَبِ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهَا رُطَبًا حَنِثَ بِهَا فِي الرُّطَبِ ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِهَا فِي الْبُسْرِ ، اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ . وَهَكَذَا إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ عِنَبًا ، فَأَكَلَ زَبِيبًا لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ زَبِيبًا ، فَأَكَلَ عِنَبًا لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِوُجُودِ الْمَعْنَيَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِهِمَا فِي الِاسْمِ وَالصِّفَةِ . فَأَمَّا إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ خَوْخًا ، فَأَكَلَهُ يَابِسًا ، أَوْ لَا يَأْكُلُ مِشْمِشًا ، فَأَكَلَهُ يَابِسًا فَفِي حِنْثِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَحْنَثُ ، لِزَوَالِ الصِّفَةِ كَالتَّمْرِ مَعَ الرُّطَبِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَحْنَثُ ، لِبَقَاءِ الِاسْمِ بِخِلَافِ الرُّطَبِ الَّذِي يَزُولُ عَنْهُ الِاسْمُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " أَوْ زُبْدًا فَأَكَلَ لَبَنًا لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا غَيْرُ صَاحِبِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَبَنًا وَلَا يَشْرَبُ اللَّبَنَ حَنِثَ بِكُلِّ لَبَنٍ مُبَاحٍ مِنْ مَعْهُودٍ وَغَيْرِ مَعْهُودٍ ، فَالْمَعْهُودُ أَلْبَانُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ، وَغَيْرُ الْمَعْهُودِ لَبَنُ الصَّيْدِ . وَعِنْدَ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِالْمَعْهُودِ مِنْ أَلْبَانِ النَّعَمِ ، وَلَا يَحْنَثُ بِغَيْرِ الْمَعْهُودِ مِنْ أَلْبَانِ الصَّيْدِ ، كَمَا قَالَ فِي الْبَيْضِ . فَأَمَّا أَلْبَانُ الْخَيْلِ فَهِيَ مَعْهُودَةٌ فِي بِلَادِ التُّرْكِ ، وَغَيْرُ مَعْهُودَةٍ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ . وَأَمَّا أَلْبَانُ الْآدَمِيَّاتِ فَمَعْهُودَةٌ فِي الصِّغَارِ ، وَغَيْرُ مَعْهُودَةٍ فِي الْكِبَارِ . وَفِي حِنْثِهِ بِالْأَلْبَانِ الْمُحَرَّمَةِ ، كَأَلْبَانِ الْحَمِيرِ وَالْكِلَابِ وَجْهَانِ ، كَمَا قُلْنَا فِي حِنْثِهِ بِاللُّحُومِ الْمُحَرَّمَةِ : أَحَدُهُمَا : يَحْنَثُ اعْتِبَارًا بِالِاسْمِ .

وَالثَّانِي : لَا يَحْنَثُ اعْتِبَارًا بِالشَّرْعِ . وَأَمَّا إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ زُبْدًا ، فَالزُّبْدُ الْمَعْهُودُ يَكُونُ مِنْ لَبَنِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ، وَلَيْسَ لِأَلْبَانِ الْإِبِلِ زُبْدٌ ، فَيَحْنَثُ بِزُبْدِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ . وَإِنْ كَانَ لِأَلْبَانِ شَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ زُبْدٌ ، فَهُوَ نَادِرٌ غَيْرُ مَعْهُودٍ ، فَيَحْنَثُ بِهِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ اعْتِبَارًا بِالِاسْمِ ، وَلَا يَحْنَثُ بِهِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ . وَلَوْ حَلَفَ بِأَكْلِ اللَّبَاءِ ، فَهُوَ أَوَّلُ لَبَنٍ يَحْدُثُ بِالْوِلَادَةِ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ بِالْحَمْلِ إِذَا وَافَقَ وَقْتَ الْوِلَادَةِ وَحَلَبَ بَعْدَهَا ، وَفِي حِنْثِهِ بِمَا حَلَبَ قَبْلَهَا وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِيمَا تَقَدَّمَ عَلَى الْوِلَادَةِ مِنْ دَمِ النِّفَاسِ ، هَلْ يَكُونُ نِفَاسًا عَلَى وَجْهَيْنِ : إِنْ قِيلَ : يَكُونُ نِفَاسًا ، كَانَ هَذَا اللَّبَنُ لِبَاءً ، وَإِنْ قِيلَ : لَا يَكُونُ نِفَاسًا ، لَمْ يَكُنْ هَذَا اللَّبَنُ لِبَاءً ، وَغَالِبُ اللِّبَاءِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ ثَلَاثُ حَلَبَاتٍ ، وَرُبَّمَا زَادَ وَنَقَصَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْحَيَوَانِ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ . وَصِفَتُهُ مَا خَالَفَ اللَّبَنَ فِي لَوْنِهِ وَقِوَامِهِ ، فَإِنَّ لَوْنَ اللِّبَاءِ يَمِيلُ إِلَى الصُّفْرَةِ ، وَهُوَ أَثْخَنُ مِنَ اللَّبَنِ ، وَهُوَ عِنْدَ الرُّعَاةِ مَعْرُوفٌ . وَسَوَاءٌ أَكَلَهُ نِيئًا أَوْ مَطْبُوخًا ، وَإِنْ كَانَ عُرْفُهُ أَنْ يُؤْكَلَ مَطْبُوخًا كَاللَّحْمِ . فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ ، وَحَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ زُبْدًا ، فَأَكَلَ لَبَنًا لَمْ يَحْنَثْ ، لِأَنَّهُ مُفَارِقٌ لِلزُّبْدِ فِي الِاسْمِ وَالصِّفَةِ . وَلَوْ أَكَلَ سَمْنًا فَفِي حِنْثِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَحْنَثُ بِهِ ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الصِّفَةِ ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَبَنًا حَنِثَ بِجَمِيعِ مَا تَنَاوَلَهُ اسْمُ اللَّبَنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ حَلِيبٍ وَمَخِيضٍ وَرَائِبٍ وَذَائِبٍ وَجَامِدٍ . فَأَمَّا الزُّبْدُ فَلَا يَحْنَثُ بِهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَبَنًا ، كَمَا لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ اللَّبَنِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ زُبْدًا . وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : يَحْنَثُ بِالزُّبْدِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّبَنَ ، لِأَنَّهُ مِنَ اللَّبَنِ ، وَلَا يَحْنَثُ بِاللَّبَنِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الزُّبْدَ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ اللَّبَنُ مِنَ الزُّبْدِ . وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ اسْمَ اللَّبَنِ عَامٌّ وَاسْمَ الزُّبْدِ خَاصٌّ ، فَدَخَلَ خُصُوصُ الزُّبْدِ فِي عُمُومِ اللَّبَنِ ، وَلَمْ يَدْخُلْ عُمُومُ اللَّبَنِ فِي خُصُوصِ الزُّبْدِ ، وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ ، وَلَوْ كَانَ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَجْهٌ ، لَكَانَ عَكْسُ قَوْلِهِ أَوْلَى ، فَيَحْنَثُ بِاللَّبَنِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ زُبْدًا ، لِأَنَّ فِي اللَّبَنِ زُبْدًا ، وَلَا يَحْنَثُ بِالزُّبْدِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَبَنًا ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الزُّبْدِ لَبَنٌ ، فَلَمَّا

كَانَ هَذَا فَاسِدًا كَانَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَكْسِ أَفْسَدَ ، وَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ مَا قَرَّرْنَاهُ مِنِ اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ ، لِأَنَّهُ مُسْتَمِرٌّ فِي الْقِيَاسِ ، فَلَا يَحْنَثُ بِالزُّبْدِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّبَنَ ، وَلَا يَحْنَثُ بِاللَّبَنِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الزُّبْدَ ، لِأَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الِاسْمِ وَالصِّفَةِ . وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّبَنَ لَمْ يَحْنَثْ بِالْجُبْنِ وَالْمَصْلِ . وَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْجُبْنَ وَالْمَصْلَ لَا يَحْنَثُ بِاللَّبَنِ ، لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الِاسْمِ وَالصِّفَةِ ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِالْجُبْنِ وَالْمَصْلِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّبَنَ ، لِأَنَّهُمَا مِنَ اللَّبَنِ ، وَلَا يَحْنَثُ بِاللَّبَنِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْجُبْنَ وَالْمَصْلَ ، لِأَنَّ اللَّبَنَ لَا يَكُونُ مِنْهُمَا . وَلَوْ كَانَ لِقَوْلِهِ هَذَا وَجْهٌ ، لَوَجَبَ أَنْ يَحْنَثَ بِالتَّمْرِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا ، لِأَنَّهُ مِنْ رُطَبٍ وَلَا يَحْنَثُ بِالرُّطَبِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ التَّمْرَ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ التَّمْرِ ، وَلَا أَحْسَبُ ابْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ هَذَا ، وَإِنْ كَانَ تَعْلِيلُهُ يَقْتَضِيهِ ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى خِلَافِهِ .

فَصْلٌ : وَسَأُوَضِّحُ فِي الْأَيْمَانِ أَصْلًا يُحْمَلُ عَلَيْهِ أَحْكَامُهَا ، لِيَسْلَمَ مِنْ هَذَا الِاخْتِلَافِ ، فَأَقُولُ : إِنَّ كُلَّ يَمِينٍ انْعَقَدَتْ عَلَى اسْمٍ يُعْتَبَرُ بِهِ الْبِرُّ وَالْحِنْثُ لَمْ يَخْلُ ذَلِكَ الِاسْمُ مِنْ أَمْرَيْنِ مُجْمَلٍ وَمُفَسَّرٍ . فَإِنْ كَانَ الِاسْمُ مُجْمَلًا كَقَوْلِهِ فِي الْإِثْبَاتِ : وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ شَيْئًا ، وَفِي النَّفْيِ : وَاللَّهِ لَا فَعَلْتُ شَيْئًا ، فَاسْمُ الشَّيْءِ يَعُمُّ كُلَّ مُسَمًّى ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى جَمِيعِ الْأَسْمَاءِ لِخُرُوجِهَا مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْعُرْفِ ، وَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى بَعْضِهَا ، وَلَا يَتَعَيَّنُ بَعْضُهَا إِلَّا بِالْبَيَانِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا إِلَى بَيَانِهِ ، وَلَهُ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ وَقْتَ يَمِينِهِ ، فَيُحْمَلُ إِجْمَالُ يَمِينِهِ عَلَى نِيَّتِهِ ، فَيَصِيرُ بِالنِّيَّةِ مُفَسَّرًا ، وَبِالْقَوْلِ مُخْبَرًا ، كَأَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ : لَا فَعَلْتُ شَيْئًا ؛ أَيْ لَا دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ ، وَبِقَوْلِهِ : لَأَفْعَلَنَّ شَيْئًا أَيْ : لَأَدْخُلَنَّ هَذِهِ الدَّارَ ، فَتَعَلَّقَ بِرُّهُ وَحِنْثُهُ بِدُخُولِ الدَّارِ ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَ عَلَى بَيَانِهِ أَوْ تَأَخَّرَ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ ، بِرٌّ وَلَا حِنْثٌ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ وَقْتَ يَمِينِهِ ، فَلَهُ أَنْ يُعَيِّنَهَا بَعْدَ الْيَمِينِ فِيمَنْ شَاءَ ، وَيَعْمَلُ فِيهَا عَلَى خِيَارِهِ ، كَمَنْ قَالَ لِنِسَائِهِ : إِحْدَاكُنَّ طَالِقٌ ، وَلَمْ يُعَيِّنْ وَاحِدَةً ، كَانَ لَهُ تَعْيِينُ الطَّلَاقِ فِيمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ ، وَإِنْ كَانَ التَّعْيِينُ عَلَى خِيَارِهِ ، فَالْيَمِينُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عِتَاقٍ ، فَيُؤْخَذُ حَتْمًا بِتَعْيِينِ يَمِينِهِ ، فِيمَا يَخْتَارُهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْآدَمِيِّ بِهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَدْ حَلَفَ بِاللَّهِ ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَى تَعْيِينِ مَا يَخْتَارُهُ ، وَتَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِرَادَتِهِ فِي التَّعْيِينِ مَتَى شَاءَ ، وَلَا حِنْثَ فِيهَا قَبْلَ التَّعْيِينِ .

فَإِذَا عَيَّنَهَا بِاخْتِيَارِهِ فَجَعَلَ قَوْلَهُ : لَأَفْعَلَنَّ شَيْئًا مُعَيَّنًا فِي أَنْ يَرْكَبَ هَذِهِ الدَّابَّةَ ، وَقَوْلُهُ : لَا فَعَلْتُ شَيْئًا مُعَيَّنًا فِي أَنْ يَرْكَبَ هَذِهِ الدَّابَّةَ ، صَارَ هَذَا التَّعْيِينُ هُوَ الْمُرَادُ بِالْيَمِينِ ، فَتَعَلَّقَ بِهِ الْبِرُّ وَالْحِنْثُ دُونَ غَيْرِهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وُجِدَ مِنْهُ رُكُوبُ الدَّابَّةِ قَبْلَ التَّعْيِينِ ، أَوْ لَمْ يُوجَدْ ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ رُكُوبُهَا قَبْلَ التَّعْيِينِ تَعَلَّقَ الْبِرُّ وَالْحِنْثُ بِمَا يَسْتَأْنِفُهُ مِنْ رُكُوبِهَا بَعْدَ التَّعْيِينِ . وَإِنْ كَانَ قَدْ رَكِبَهَا قَبْلَ التَّعْيِينِ ، فَفِي وُقُوعِ الْبِرِّ وَالْحِنْثِ بِهِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى تَعْيِينِ الطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ فِي وَاحِدَةٍ مِنْ نِسَائِهِ ، هَلْ يُوجِبُ وُقُوعُهُ وَقْتَ اللَّفْظِ أَوْ وَقْتَ التَّعْيِينِ . أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ : يَقَعُ الطَّلَاقُ بِاللَّفْظِ الْمُتَقَدِّمِ ، فَعَلَى هَذَا يَتَعَلَّقُ الْبِرُّ وَالْحِنْثُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الرُّكُوبِ قَبْلَ التَّعْيِينِ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَا تَأَخَّرَ عَنْهُ بِرٌّ وَلَا حِنْثٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَقَعُ الطَّلَاقُ وَقْتَ التَّعْيِينِ ، فَعَلَى هَذَا يَتَعَلَّقُ الْبِرُّ وَالْحِنْثُ بِالرُّكُوبِ بَعْدَ التَّعْيِينِ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَا تَقَدَّمَهُ بَرٌّ وَلَا حِنْثٌ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الِاسْمُ الْمُفَسَّرُ فَضَرْبَانِ ، خَاصٌّ وَعَامٌّ . فَأَمَّا الْخَاصُّ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَ لَهُ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ ، كَالسِّرَاجِ حَقِيقَةً مَا اسْتَصْبَحَ بِهِ مِنَ النَّارِ وَمَجَازُهُ الشَّمْسُ ، وَالْبِسَاطُ حَقِيقَةً الْفَرْشُ الْمَبْسُوطُ ، وَمَجَازُهُ الْأَرْضُ ، فَيَنْقَسِمُ فِي الْأَيْمَانِ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْحَقِيقَةَ دُونَ الْمَجَازِ ، من لفظ اليمين المفسر الخاص فَيُحْمَلُ عَلَى حَقِيقَةِ ظَاهِرِهِ لَفْظًا وَمُعْتَقَدًا ، سَوَاءٌ كَانَ مَا أَرَادَهُ مِنَ الْحَقِيقَةِ شَرْعِيًّا أَوْ لُغَوِيًّا ، فَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الزُّبْدَ فأكل لبن لَمْ يَحْنَثْ بِاللَّبَنِ ، وَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ التَّمْرَ فأكل رطب لَمْ يَحْنَثْ بِالرُّطَبِ ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَجَازَ دُونَ الْحَقِيقَةِ ، من لفظ اليمين المفسر الخاص فَيُرِيدُ بِالسِّرَاجِ الشَّمْسَ دُونَ الْمِصْبَاحِ ، وَبِالْبِسَاطِ الْأَرْضَ دُونَ الْفَرْشِ ، وَبِاللَّحْمِ السَّمَكَ دُونَ اللَّحْمِ ، وَبِلَمْسِ الزَّوْجَةِ وَطْئَهَا دُونَ مُلَامَسَتِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ بِاللَّهِ تَعَالَى حُمِلَتْ عَلَى الْمَجَازِ دُونَ الْحَقِيقَةِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ؛ لِاسْتِثْنَاءِ الْحَقِيقَةِ بِنِيَّتِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ حُمِلَتْ عَلَى الْمَجَازِ فِي الْبَاطِنِ ، وَحُمِلَتْ عَلَى أَغْلَظِ الْأَمْرَيْنِ فِي الظَّاهِرِ ، وَسَوَاءٌ مَا كَانَ مَا أَرَادَهُ مِنَ الْمَجَازِ شَرْعِيًّا أَوْ لُغَوِيًّا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْجَمْعَ بَيْنَ حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ ، من لفظ اليمين المفسر الخاص فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا مِنْ بِرِّهِ وَحِنْثِهِ ، لِأَنَّهُ أَغْلَظُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا ، فَحُمِلَ السِّرَاجُ عَلَى الْمِصْبَاحِ وَالشَّمْسِ ، وَيُحْمَلُ الْبِسَاطُ عَلَى الْفَرْشِ وَالْأَرْضِ ، وَيُحْمَلُ اللَّحْمُ عَلَى السَّمَكِ وَاللَّحْمِ ، وَيُحْمَلُ

مَسُّ الزَّوْجَةِ عَلَى وَطْئِهَا وَمُلَامَسَتِهَا ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ يَمِينُهُ بِاللَّهِ أَوْ بِطَلَاقٍ وَعَتَاقٍ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يُرِيدَ بِهِ غَيْرَ حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ ، من لفظ اليمين المفسر الخاص كَمَنْ أَرَادَ بِالسِّرَاجِ غَيْرَ الْمِصْبَاحِ وَالشَّمْسِ ، وَأَرَادَ بِالْبِسَاطِ غَيْرَ الْفَرْشِ وَالْأَرْضِ ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى مَا أَرَادَ غَيْرَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ، لِخُرُوجِهِ عَنْ مُقْتَضَى لَفْظِهِ مِنْ صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ ، كَمَنْ أَرَادَ الطَّلَاقَ بِمَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ وَلَا كِنَايَةٍ ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْمَجَازِ ، لِتَجَرُّدِهِ عَنْ نِيَّةٍ كَالطَّلَاقِ بِالْكِنَايَةِ إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِنِيَّةٍ . فَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ ، حُمِلَتْ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي الظَّاهِرِ لَا مِنَ الْبَاطِنِ ، وَكَانَتْ لَغْوًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا بِرٌّ وَلَا حِنْثٌ . وَقَالَ مَالِكٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : أَحْمِلُ يَمِينَهُ عَلَى إِرَادَتِهِ ، وَإِنْ خَرَجَ عَنِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ إِذَا اقْتَرَنَ لَهَا ضَرْبٌ مِنَ الِاحْتِمَالِ . وَقَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ : وَاللَّهِ لَا شَرِبْتُ لَكَ مَاءً مِنْ عَطَشٍ ، حَنِثَ بِأَكْلِ طَعَامِهِ ، وَلُبْسِ ثَوْبِهِ ، وَرُكُوبِ دَابَّتِهِ ، وَدُخُولِ دَارِهِ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِيمَنْ قَالَ لِغَرِيمِهِ : وَاللَّهِ لَأَجُرَّنَّكَ عَلَى الشَّوْكِ : حَنِثَ بِمَطْلِهِ وَتَأْخِيرِ دَيْنِهِ اعْتِبَارًا بِمَخْرَجِ الْكَلَامِ وَمَقْصُودِهِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّ مَا خَرَجَ عَنِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ صَارَ مُخْتَصًّا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ ، وَالنِّيَّةُ لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا يَمِينٌ ، كَمَا لَوْ نَوَى يَمِينًا ، فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ . وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ : أَنْ تَتَجَرَّدَ يَمِينُهُ عَنْ نِيَّةٍ وَإِرَادَةٍ ، من لفظ اليمين المفسر الخاص فَيُحْمَلُ فِي الْبِرِّ وَالْحِنْثِ عَلَى الْحَقِيقَةِ دُونَ الْمَجَازِ ، لِأَنَّ افْتِقَارَ الْمَجَازِ إِلَى النِّيَّةِ يُسْقِطُ حُكْمَهُ إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ نِيَّةٍ ، مِثْلَ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ إِذَا لَمْ تَقْتَرِنْ بِهَا نِيَّةٌ . فَإِنِ اخْتَلَفَ الشَّرْعُ وَاللُّغَةُ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ ، كَالنِّكَاحِ هُوَ فِي الشَّرْعِ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ ، وَمَجَازٌ فِي الْوَطْءِ ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ ، وَمَجَازٌ فِي الْعَقْدِ ، كَالصَّلَاةِ هِيَ الشَّرْعُ حَقِيقَةً فِي الدُّعَاءِ فِي ذَاتِهِ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ ، وَمَجَازٌ فِي الدُّعَاءِ ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ حَقِيقَةٌ فِي الدُّعَاءِ مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ ، وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ ، فَيُحْمَلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي الشَّرْعِ دُونَ اللُّغَةِ ، لِأَنَّ الشَّرْعَ نَاقِلٌ ، فَيُحْمَلُ النِّكَاحُ عَلَى الْعَقْدِ دُونَ الْوَطْءِ ، وَتُحْمَلُ الصَّلَاةُ عَلَى ذَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ دُونَ الدُّعَاءِ . فَقَدْ تَرَتَّبَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الدَّقِيقَ ، فَأَكَلَ الْخُبْزَ لَمْ يَحْنَثْ ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشَمُّ الْبَنَفْسَجَ فَشَمَّ دُهْنَ الْبَنَفْسَجِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَلَوْ حِلَفَ لَا يَضْرِبُ عَبْدَهُ ، فَعَضَّهُ لَمْ يَحْنَثْ حَمْلًا لَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ دُونَ الْمَجَازِ ، وَحَنَّثَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِالْأَمْرَيْنِ اسْتِعْمَالًا لِلْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ .

وَالضَّرْبُ الثَّانِي فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ : أَنْ تَكُونَ لَهُ حَقِيقَةٌ وَلَيْسَ لَهُ مَجَازٌ ، فَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : مُبْهَمٌ ، وَمُعَيَّنٌ ، وَمُطْلَقٌ ، وَمُقَيَّدٌ . فَالْمُبْهَمُ أَنْ يَقُولَ : لَا كَلَّمْتُ رَجُلًا ، فَيَحْنَثُ بِكُلِّ مَنْ كَلَّمَهُ مِنَ الرِّجَالِ ، وَلَا يَحْنَثُ بِكَلَامِ صَبِيٍّ وَلَا امْرَأَةٍ . وَالْمُعَيَّنُ أَنْ يَقُولَ : لَا كَلَّمْتُ زَيْدًا ، فَيَحْنَثُ بِكَلَامِهِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا ، وَلَا يَحْنَثُ بِكَلَامِ غَيْرِهِ . وَالْمُطْلَقُ أَنْ يَقُولَ : لَا شَرِبْتُ مَاءً ، فَإِطْلَاقُهُ أَنْ لَا يَذْكُرَ لَهُ قَدْرًا ، وَلَا يُعَيِّنَ لَهُ زَمَانًا أَوْ مَكَانًا ، فَيَحْنَثُ بِشُرْبِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ إِذَا شَرِبَهُ صَرْفًا ، فَإِنْ مَزَجَهُ بِغَيْرِهِ حَنِثَ إِذَا غُلِبَ عَلَى غَيْرِهِ بِلَوْنِهِ وَطَعْمِهِ ، وَلَمْ يَحْنَثْ إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ بِلَوْنِهِ وَطَعْمِهِ ، كَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ خَلًّا ، فَأَكَلَ سِكْبَاجًا ، أَوْ لَا يَأْكُلُ سَمْنًا ، فَأَكَلَ عَصِيدًا . وَالْمُقَيَّدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : مُقَيَّدًا بِمَكَانٍ كَقَوْلِهِ : لَا شَرِبْتُ بِالْبَصْرَةِ ، فَلَا يَحْنَثُ بِشُرْبِهِ فِي غَيْرِهَا . وَمُقَيَّدًا بِزَمَانٍ كَقَوْلِهِ : لَا شَرِبْتُهُ شَهْرًا ، فَلَا يَحْنَثُ بِشُرْبِهِ بَعْدَهُ . وَمُقَيَّدًا بِصِفَةٍ كَقَوْلِهِ : لَا شَرِبْتُهُ صَرْفًا ، فَلَا يَحْنَثُ بِشُرْبِهِ مَمْزُوجًا . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ حَنِثَ بِالْمُبْهَمِ فِي الْمُعَيَّنِ ، وَلَمْ يَحْنَثْ فِي الْمُعَيَّنِ بِالْمُبْهَمِ ، وَحَنِثَ فِي الْمُطْلَقِ بِالْمُقَيَّدِ ، وَلَمْ يَحْنَثْ فِي الْمُقَيَّدِ بِالْمُطْلَقِ لِعُمُومِ الْمُبْهَمِ وَالْمُطْلَقِ وَخُصُوصِ الْمُعَيَّنِ وَالْمُقَيَّدِ ، فَإِنْ أَرَادَ بِالْمُبْهَمِ مُعَيَّنًا ، وَبِالْمُطْلِقِ مُقَيَّدًا حُمِلَ عَلَى إِرَادَةِ لَفْظِهِ ، فَجُعِلَ الْمُبْهَمُ مُعَيَّنًا ، وَالْمُطَلَّقُ مُقَيَّدًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ إِنْ كَانَ حَالِفًا بِاللَّهِ ، وَفِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ إِنْ كَانَ حَالِفًا بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى بَعْضَ مَا شَمِلَهُ عُمُومُ الْجِنْسِ ، فَصَارَ كَتَخْصِيصِ الْعُمُومِ فِي النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ ، فَلَا يَحْنَثُ فِي إِبْهَامِ قَوْلِهِ : لَا كَلَّمْتُ رَجُلًا ، وَقَدْ أَرَادَ زَيْدًا إِلَّا بِكَلَامِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الرِّجَالِ ، وَلَا يَحْنَثُ فِي إِطْلَاقِ قَوْلِهِ : لَا شَرِبْتُ مَاءً ، وَقَدْ أَرَادَ شَهْرًا أَلَّا يَشْرَبَهُ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ . فَأَمَّا عَكْسُ هَذَا إِذَا أَرَادَ بِالْمُعَيَّنِ مُبْهَمًا ، وَبِالْمُقَيَّدِ مُطْلَقًا حُمِلَ عَلَى لَفْظِهِ فِي التَّعْيِينِ وَالتَّقْيِيدِ ، وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى إِرَادَتِهِ فِي الْإِبْهَامِ وَالْإِطْلَاقِ ، لِأَنَّ مَا يُجَاوِزُ الْمُعَيَّنَ وَالْمُقَيَّدَ خَارِجٌ مِنْ لَفْظِ الْيَمِينِ فَصَارَ مُرَادًا بِغَيْرِ يَمِينٍ ، فَلَا يَحْنَثُ فِي تَعْيِينِ قَوْلِهِ : لَا كَلَّمْتُ زَيْدًا هَذَا ، وَقَدْ أَرَادَ كُلَّ الرِّجَالِ إِلَّا بِكَلَامِ زَيْدٍ وَحْدَهُ ، وَلَا يَحْنَثُ فِي تَقْيِيدِ قَوْلِهِ : لَا شَرِبْتُ الْمَاءَ فِي شَهْرِي هَذَا ، وَقَدْ أَرَادَ كُلَّ الشُّهُورِ عَلَى الْأَبَدِ أَنْ لَا يَشْرَبَهُ فِيهِ وَحْدَهُ . وَتَعْلِيلُهُ بِمَا ذَكَرْنَا وَشَاهِدُهُ مِنَ الطَّلَاقِ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةٌ ، يُرِيدُ بِهَا ثَلَاثًا ، فَتُطَلَّقُ وَاحِدَةً وَلَا تُطَلَّقُ ثَلَاثًا ، لِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِنَفْيِهَا مِنْ لَفْظِهِ ، فَلَمْ تَقُمْ بِمُجَرَّدِ

إِرَادَتِهِ فَافْتَرَقَ حُكْمُ الْعَكْسَيْنِ ، لِافْتِرَاقِ الْعِلَّتَيْنِ ، فَهَذَا أَصْلٌ يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْكَلَامُ فِي أَحْكَامِ الْأَيْمَانِ فِي الْأَسْمَاءِ وَالْخَاصَّةِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الِاسْمُ الْعَامُّ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : عَامُّ اللَّفْظِ عَامُّ الْمُرَادِ . وَالثَّانِي : عَامُّ اللَّفْظِ خَاصُّ الْمُرَادِ . فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ ، فَهُوَ مَا كَانَ عَامَّ اللَّفْظِ عَامَّ الْمُرَادِ ، من لفظ اليمين المفسر العام فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا كَانَ عُمُومُهُ فِي لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ . وَالثَّانِي : مَا كَانَ عُمُومُهُ فِي لَفْظِهِ دُونَ مَعْنَاهُ . وَالثَّالِثُ : مَا كَانَ عُمُومُهُ فِي مَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ، وَهُوَ مَا كَانَ عُمُومُهُ فِي لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ ، فَمِثْلُ قَوْلِهِ : وَاللَّهِ لَا كَلَّمْتُ النَّاسَ ، فَيُحْمَلُ عَلَى عُمُومِ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ فِي حِنْثِهِ بِكَلَامِ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ذَكَرٍ وَأُنْثَى بِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْكَلَامِ مِنْ سَلِيمٍ وَسَقِيمٍ . وَمِثْلُهُ فِي التَّنْزِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [ الْعَنْكَبُوتِ : 62 ] وَقِيَاسُهُ فِي الْأَيْمَانِ أَنْ يَقُولَ : وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ اللَّحْمَ ، فَيُحْمَلُ عَلَى عُمُومِ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ ، فَيَحْنَثُ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ اللَّحْمِ عَلَى كُلِّ صِفَةٍ مِنَ الْأَكْلِ ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ مَا عُمُومُهُ فِي لَفْظِهِ دُونَ مَعْنَاهُ ، فَمِثْلُ قَوْلِهِ : وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ الْحِنْطَةَ ، فَيَحْنَثُ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْحِنْطَةِ ، وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ مَا حَدَثَ عَنِ الْحِنْطَةِ مِنْ دَقِيقٍ وَسَوِيقٍ وَخُبْزٍ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : لَا أَكَلْتُ الرُّطَبَ يَحْنَثُ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الرُّطَبِ ، وَلَا يَحْنَثُ بِمَا حَدَثَ مِنَ الرُّطَبِ عَنْ تَمْرٍ وَبُسْرٍ . وَقَوْلُهُ : لَا أَكَلْتُ اللَّبَنَ يَحْنَثُ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ اللَّبَنِ ، وَلَا يَحْنَثُ بِمَا حَدَثَ عَنِ اللَّبَنِ مِنْ جُبْنٍ وَمَصْلٍ وَزُبْدٍ وَسَمْنٍ ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى عُمُومِ لَفْظِهِ دُونَ مَعْنَاهُ ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِمَا إِذَا تَغَيَّرَ عَنْ حَالِهِ ، وَزَالَ عَنِ اسْمِهِ ، فَاجْعَلْ ذَلِكَ قِيَاسًا مُطَّرِدًا فِي نَظَائِرِهِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَا كَانَ عُمُومُهُ فِي مَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ ، فَمِثْلُ قَوْلِهِ : وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ عَسَلًا ، فَأَكَلَ خَبِيصًا فِيهِ عَسَلٌ ، وَلَا أَكَلْتُ دَقِيقًا ، فَأَكَلَ خَبِيصًا فِيهِ دَقِيقٌ ، وَلَا أَكَلْتُ سَمْنًا ، فَأَكَلَ خَبِيصًا فِيهِ سَمْنٌ ، حَنِثَ فِي هَذِهِ كُلِّهَا ، لِأَنَّ فِي الْخَبِيصِ عَسَلًا وَدَقِيقًا وَسَمْنًا ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى عُمُومِ مَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِمَا إِذَا حَدَثَ لَهُ اسْمٌ بِالْمُشَارَكَةِ لَمْ يَزُلِ الِاسْمُ الْخَاصُّ عَنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا ، لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى

خَبِيصًا إِلَّا بِاجْتِمَاعِهَا ، وَلَا يَزُولُ اسْمُ كُلِّ نَوْعٍ عَنْهُ ، لِأَنَّهُ يُقَالُ هَذَا خَبِيصٌ فِيهِ عَسَلٌ ، وَفِيهِ دَقِيقٌ ، وَفِيهِ سَمْنٌ . فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيْسَ لَوْ قَالَ : لَا أَكَلْتُ دَقِيقًا وَأَكَلَهُ خُبْزًا لَمْ يَحْنَثْ ؟ فَهَلَّا كَانَ فِي الْخَبِيصِ كَذَلِكَ قِيلَ : لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ : هَذَا خَبِيصٌ فِيهِ دَقِيقٌ ، وَلَا يَقُولُونَ : هَذَا خُبْزٌ فِيهِ دَقِيقٌ فَصَارَ اسْمُ الدَّقِيقِ فِي الْخَبِيصِ بَاقِيًا ، وَفِي الْخُبْزِ زَائِلًا ، فَلِذَلِكَ مَا افْتَرَقَا فِي حُكْمِ الْحِنْثِ ، فَاجْعَلْ ذَلِكَ قِيَاسًا مُطَّرِدًا فِي نَظَائِرِهِ . فَهَذَا حُكْمُ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ فِيمَا كَانَ عَامَّ اللَّفْظِ عَامَّ الْمُرَادِ . وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : وَهُوَ مَا كَانَ عَامَّ اللَّفْظِ خَاصَّ الْمُرَادِ ، فَهُوَ مَا خُصَّ عُمُومُ لَفْظِهِ بِسَبَبٍ أَوْجَبَ خُرُوجَهُ عَنْ عُمُومِهِ ، كَمَا خُصَّ عُمُومُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ . وَتَخْصِيصُ اللَّفْظِ الْعَامِّ فِي الْأَيْمَانِ يَكُونُ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : تَخْصِيصُ عُمُومِهِ بِالْمَعْقُولِ . وَالثَّانِي : بِالشَّرْعِ . وَالثَّالِثُ : بِالْعُرْفِ . وَالرَّابِعُ : بِالِاسْتِثْنَاءِ . وَالْخَامِسُ : بِالنِّيَّةِ . فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : فِي تَخْصِيصِ عُمُومِهِ بِالْمَعْقُولِ ، فَهُوَ مَا امْتَنَعَ اسْتِيفَاءُ عُمُومِهِ فِي الْعَقْلِ كَقَوْلِهِ : وَاللَّهِ لَآكُلَنَّ الْخُبْزَ ، وَلَأَشْرَبَنَّ الْمَاءَ ، وَلَأُكَلِّمَنَّ النَّاسَ ، وَلَأَتَصَدَّقُ عَلَى الْمَسَاكِينِ ، لِمَا امْتَنَعَ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَأْكُلَ كُلَّ الْخُبْزِ ، وَيَشْرَبَ كُلَّ الْمَاءِ ، وَيُكَلِّمَ جَمِيعَ النَّاسِ ، وَيَتَصَدَّقَ عَلَى جَمِيعِ الْمَسَاكِينِ ، خَصَّ الْعَقْلُ عُمُومَ الْجِنْسِ ، فَتَعَلَّقَ الْبِرُّ وَالْحِنْثُ بِأَكْلِ بَعْضِ الْخُبْزِ ، وَشُرْبِ بَعْضِ الْمَاءِ ، وَكَلَامِ بَعْضِ النَّاسِ ، وَالتَّصَدُّقِ عَلَى بَعْضِ الْمَسَاكِينِ . ثُمَّ هَذِهِ الْأَجْنَاسُ ضَرْبَانِ : مَعْدُودٌ وَغَيْرُ مَعْدُودٍ . فَأَمَّا غَيْرُ الْمَعْدُودِ فَكَالْخُبْزِ وَالْمَاءِ ، فَيَتَعَلَّقُ الْبِرُّ وَالْحِنْثُ بِقَلِيلِ الْجِنْسِ وَكَثِيرِهِ ، فَأَيُّ قَدْرٍ أَكَلَهُ مِنَ الْخُبْزِ ، وَأَيُّ قَدْرٍ شَرِبَهُ مِنَ الْمَاءِ بَرَّ بِهِ فِي الْإِثْبَاتِ ، وَحَنِثَ بِهِ فِي النَّفْيِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ بِالْمَعْقُولِ حُكْمُ الْعُمُومِ ، وَلَمْ يَتَقَدَّرْ بَعْضُهُ بِعُرْفٍ وَلَا مَعْقُولٍ ، رُوعِيَ فِيهِ مَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ . وَأَمَّا الْمَعْدُودُ فَكَالنَّاسِ وَالْمَسَاكِينِ ، فَإِنْ كَانَ يَمِينُهُ عَلَى إِثْبَاتٍ كَقَوْلِهِ : لَأُكَلِّمَنَّ النَّاسَ وَلَأَتَصَدَّقُ عَلَى الْمَسَاكِينِ ، لَمْ يَبِرَّ حَتَّى يُكَلِّمَ مِنَ النَّاسِ ثَلَاثَةً ، وَيَتَصَدَّقَ عَلَى ثَلَاثَةٍ مِنَ الْمَسَاكِينِ ، اعْتِبَارًا بِأَقَلِّ الْجَمْعِ ، وَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى نَفْيٍ كَقَوْلِهِ : لَا كَلَّمْتُ

النَّاسَ ، وَلَا تَصَدَّقْتُ عَلَى الْمَسَاكِينِ ، حَنِثَ بِكَلَامِ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ ، وَبِالصَّدَقَةِ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الْمَسَاكِينِ ، اعْتِبَارًا بِأَقَلِّ الْعَدَدِ فِي النَّفْيِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي اعْتِبَارِ أَقَلِّ الْجُمَعِ فِي الْإِثْبَاتِ وَاعْتِبَارِ أَقَلِّ الْعَدَدِ فِي النَّفْيِ أَنَّ نَفْيَ الْجَمِيعِ مُمْكِنٌ ، وَإِثْبَاتَ الْجَمِيعِ مُمْتَنِعٌ . وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي : فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالشَّرْعِ في الأيمان فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : تَخْصِيصُ اسْمٍ . وَالثَّانِي : تَخْصِيصُ حُكْمٍ . فَأَمَّا تَخْصِيصُ الِاسْمِ فَكَالصِّيَامِ ، فِي اللُّغَةِ هُوَ : الْإِمْسَاكُ عَنِ الطَّعَامِ وَالْكَلَامِ وَالشَّرَابِ ، ثُمَّ خَصَّهُ الشَّرْعُ بِالْإِمْسَاكِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي النَّهَارِ ، وَيَكُونُ عُمُومُهُ فِي اللُّغَةِ مَحْمُولًا عَلَى خُصُوصِهِ فِي الشَّرْعِ ، فَإِذَا عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى الصِّيَامِ لَمْ يَتَعَلَّقِ الْبِرُّ وَالْحِنْثُ إِلَّا بِالصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ ، وَصَارَ عُمُومُ اللَّفْظِ بِالشَّرْعِ مَخْصُوصًا . وَكَذَلِكَ الْحَجُّ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْقَصْدُ إِلَى كُلِّ جِهَةٍ ، وَخَصَّهُ الشَّرْعُ بِقَصْدِ الْبَيْعِ الْحَرَامِ لِأَفْعَالِ الْحَجِّ ، فَلَا يَتَعَلَّقُ الْبِرُّ وَالْحِنْثُ فِي انْعِقَادِ يَمِينِهِ عَلَى الْحَجِّ إِلَّا بِخُصُوصِ الشَّرْعِ دُونَ عُمُومِ اللُّغَةِ . وَعَلَى هَذَا قِيَاسُ نَظَائِرِهِ . وَأَمَّا تَخْصِيصُ الْحُكْمِ ، فَكَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ ، خُصَّ بِالتَّحْرِيمِ مِنْ عُمُومِ اللُّحُومِ الْمُبَاحَةِ ، فَفِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِهِ فِي الْأَيْمَانِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَخْتَصُّ عُمُومُهَا بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ ، كَمَا خُصَّ بِالِاسْمِ الشَّرْعِيِّ ، فَلَا يَحْنَثُ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ بِأَكْلِ اللُّحُومِ الْمُحَرَّمَةِ . وَلَوْ حَلَفَ لَيَأْكُلَنَّ اللَّحْمَ لَمْ يَبِرَّ بِأَكْلِ اللُّحُومِ الْمُحَرَّمَةِ . لَوْ حَلَفَ : لَا وَطِئَ لَمْ يَحْنَثْ بِالْوَطْءِ فِي الْدُّبْرِ . وَلَوْ حَلَفَ أَنَّهُ يَطَأُ لَمْ يَبِرَّ إِلَّا بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ ، وَيَبِرُّ وَيَحْنَثُ بِوَطْءِ الزِّنَا ، لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْمُبَاحِ . وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَتَيَمَّمُ ، كَانَ مَحْمُولًا عَلَى تَيَمُّمِ أَعْضَائِهِ بِالتُّرَابِ ، دُونَ مَا هُوَ مَوْضُوعٌ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْقَصْدِ . فَإِنْ تَيَمَّمَ لِمَرَضٍ أَوْ فِي سَفَرٍ حَنِثَ ، وَإِنْ تَيَمَّمَ بِالْقَصْدِ إِلَى جِهَةٍ لَمْ يَحْنَثْ ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَتَخَصَّصُ عُمُومُ الْأَيْمَانِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ، لِاتِّفَاقِ أَحْكَامِ الْأَيْمَانِ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ ، اعْتِبَارًا بِمَا انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ ، فَتُحْمَلُ عَلَى عُمُومِهَا فِيمَا حَلَّ

وَحَرُمَ ، اعْتِبَارًا بِالِاسْمِ دُونَ الْحُكْمِ ، فَيَحْنَثُ فِي اللَّحْمِ بِكُلِّ لَحْمٍ ، وَفِي الْوَطْءِ بِكُلِّ وَطْءٍ ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسُ فِي نَظَائِرِهِ . وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ : فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْعُرْفِ في الأيمان فَضَرْبَانِ : عَامٌّ وَخَاصٌّ . فَأَمَّا الْعُرْفُ الْعَامُّ ، فَكَمَنَ حَلَفَ لِغَيْرِهِ : لَأَخْدِمَنَّكَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ، فَيُخَصُّ بِالْعُرْفِ مِنْ خِدْمَةِ النَّهَارِ زَمَانَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالِاسْتِرَاحَةِ بِحَسَبِ مَا يُخْدَمُ فِيهِ مِنْ شَاقٍّ وَسَهْلٍ ، وَمِنْ خِدْمَةِ اللَّيْلِ وَقْتَ النَّوْمِ وَالْمَأْلُوفِ ، فَإِنْ تَرَكَ الْخِدْمَةَ فِيهَا لَمْ يَحْنَثْ ، لِخُرُوجِهَا بِالْعُرْفِ مِنْ عُمُومِ يَمِينِهِ . وَإِنْ تَرَكَ الْخِدْمَةَ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْأَوْقَاتِ حَنِثَ ، لِدُخُولِهَا فِي عُمُومِ يَمِينِهِ ، وَلَوْ حَلَفَ لَأَضْرِبَنَّكَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خَرَجَ بِالْعُرْفِ مِنْ زَمَانِ النَّهَارِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ زَمَانِ الِاسْتِرَاحَةِ فِي الْخِدْمَةِ ، فَلَا يَكُونُ بِتَرْكِ الضَّرْبِ فِيهَا حَانِثًا ، وَخَرَجَ بِالْعُرْفِ مِنْ بَقِيَّةِ الزَّمَانِ فِي الضَّرْبِ خُصُوصًا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ أَلَمُ الضَّرْبِ فِيهِ بَاقِيًا ، فَيَكُونُ بَقَاءُ أَلَمِهِ كَبَقَاءِ فِعْلِهِ ، فَإِنْ تَرَكَ ضَرْبَهُ مَعَ بَقَاءِ الْأَلَمِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ تَرَكَهُ مَعَ زَوَالِ الْأَلَمِ حَنِثَ ، لِأَنَّ مِنْ دَوَامِ فِعْلِهِ أَنْ تَتَخَلَّلَهُ فَتَرَاتٌ فِي الْعُرْفِ ، فَاعْتُبِرَ بِدَوَامِ أَلَمِهِ الْحَادِثِ عَنْهُ . وَلَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا وَضَعْتُ رِدَائِي عَنْ عَاتِقِي انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ عَلَى لُزُومِ لُبْسِهِ فِي زَمَانِ الْعُرْفِ ، فَإِنْ نَزَعَهُ عَنْ عَاتِقِهِ فِي زَمَانِ اللَّيْلِ أَوْ دُخُولِ الْحَمَّامِ أَوْ عِنْدَ تَبَذُّلِهِ لَمْ يَحْنَثْ لِخُرُوجِهِ بِالْعُرْفِ عَنْ زَمَانِ لُبْسِهِ ، وَإِنْ نَزَعَهُ فِي غَيْرِهِ حَنِثَ لِدُخُولِهِ فِي عُرْفِ لُبْسِهَا . فَلَوْ قَالَ لِغَرِيمِهِ : وَاللَّهِ لَا نَزَعْتُ رِدَائِي عَنْ عَاتِقِي حَتَّى أَقْضِيَكَ دَيْنَكَ ، حَنِثَ بِنَزْعِهِ قَبْلَ قَضَاءِ دَيْنِهِ فِي زَمَانِ الْعُرْفِ وَغَيْرِهِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ جَعْلَهُ فِي الْإِطْلَاقِ مَقْصُودًا فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ شَرْطٌ وَالْعُرْفُ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَيْمَانِ دُونَ الشُّرُوطِ . وَلَوْ قَالَ لِغَرِيمِهِ : وَاللَّهِ لَأَخْدِمَنَّكَ حَتَّى أَقْضِيَكَ دَيْنَكَ ، لَمْ يَحْنَثْ بِتَرْكِ الْخِدْمَةِ فِي زَمَانِ الِاسْتِرَاحَةِ ، قَبْلَ الْقَضَاءِ ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الْخِدْمَةَ خَبَرًا ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا شَرْطًا ، ثُمَّ عَلَى قِيَاسِ هَذَا فِي نَظَائِرِهِ . وَيَنْسَاقُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الرُّؤُوسَ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِرُؤُوسِ غَيْرِ الْغَنَمِ ، لِخُرُوجِهَا بِالْعُرْفِ مِنْ عُمُومِ الِاسْمِ ، وَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْبَيْضَ لَمْ يَحْنَثْ بِبَيْضِ السَّمَكِ وَالْجَوَادِ ، وَكَذَلِكَ فِي نَظَائِرِهِ . وَيَطَّرِدُ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ إِذَا حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الْقَمِيصَ ، حَنِثَ بِلُبْسِهِ إِذَا تَقَمَّصَ بِهِ ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِلُبْسِهِ إِذَا ارْتَدَى بِهِ ، وَإِذَا حَلَفَ : لَا يَلْبَسُ هَذَا الْخَاتَمَ حَنِثَ بِلُبْسِهِ فِي

الْخِنْصَرِ ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِلُبْسِهِ فِي الْإِبْهَامِ اعْتِبَارًا بِالْعَادَةِ ، وَتَخْصِيصًا بِالْعُرْفِ . وَأَمَّا الْعُرْفُ الْخَاصُّ فَكَقَوْلِهِ : وَاللَّهِ لَا قَتَلْتُ ، وَلَا ضَرَبْتُ ، فَأَمَرَ بِالْقَتْلِ وَالضَّرْبِ ، حَنِثَ بِهِ الْمُلُوكُ دُونَ السُّوقَةِ ، لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي أَفْعَالِ الْمُلُوكِ الْأَمْرُ بِهَا ، وَفِي أَفْعَالِ السُّوقَةِ مُبَاشَرَتُهَا . وَلَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا نَسَجْتُ ثَوْبًا ، فَاسْتَنْسَجَهُ حَنِثَ بِهِ مَنْ لَا يُحْسِنُ النِّسَاجَةَ ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِهِ مَنْ يُحْسِنُهَا ، وَلَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا تَصَدَّقْتُ حَنِثَ الْأَغْنِيَاءُ بِدَفْعِهَا ، وَحَنِثَ الْفُقَرَاءُ بِأَخْذِهَا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ . وَلَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا طُفْتُ وَلَا سَعَيْتُ حَنِثَ أَهْلُ مَكَّةَ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ ، وَبِالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَحَنِثَ غَيْرُهُمْ بِالسَّعْيِ عَلَى الْقَدَمِ ، وَالطَّوَافِ فِي الْأَسْوَاقِ ، وَحَنِثَ أَهْلُ الْوُشَاةِ بِالسَّعْيِ إِلَى الْوُلَاةِ . وَلَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا خَتَمْتُ ، حَنِثَ الْقَارِئُ بِخَتْمِ الْقُرْآنِ ، وَحَنِثَ التَّاجِرُ بِخَتْمِ كِيسِهِ ، لِأَنَّهُ عُرْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا . وَلَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا قَرَأْتُ ، حَنِثَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِقِرَاءَةِ الشِّعْرِ . وَلَوْ قَالَ وَاللَّهِ لَا تَكَلَّمْتُ حَنِثَ بِجَمِيعِ الْكَلَامِ ، بِإِنْشَادِ الشِّعْرِ ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، لِخُرُوجِهِ بِالْإِعْجَازِ عَنْ جِنْسِ الْكَلَامِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ بِإِعْجَازٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَحْنَثُ بِالْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ الصَّلَاةِ ، وَلَا يَحْنَثُ بِهِ فِي الصَّلَاةِ ، وَلَيْسَ لِاخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ تَأْثِيرٌ فِيهِ إِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ وَجْهٌ . فَهَذَا حُكْمُ الْمَخْصُوصِ بِالْعُرْفِ ، فَقِسْ عَلَيْهِ نَظَائِرَهُ . وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ : فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالِاسْتِثْنَاءِ ، في الأيمان فَهُوَ الْقَوْلُ الْمُخْرِجُ مِنْ لَفْظِ الْيَمِينِ بَعْضَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ ، وَلَهُ شَرْطَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِهَا ، فَإِنِ انْفَصَلَ عَنْهَا بَطَلَ . وَالثَّانِي : أَنْ يُخَالِفَ حُكْمَ الْيَمِينِ ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى نَفْيٍ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ إِثْبَاتًا ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى إِثْبَاتٍ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ نَفْيًا وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ هَلْ يَفْتَقِرُ إِلَى اعْتِقَادِهِ فِي أَوَّلِ الْيَمِينِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اعْتِقَادَهُ مَعَ أَوَّلِ الْيَمِينِ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْهُ بَطَلَ حُكْمُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُهُ فِي الظَّاهِرِ صَحِيحًا .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ إِذَا اتَّصَلَ بِالْيَمِينِ الْمَقْصُودَةِ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُهَا ، وَصَحَّ بِمُجَرَّدِ لَفْظِهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ . وَحُكْمُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ يَمِينِهِ بَعْضَ جُمْلَتِهَا ، فَلَا تَنْعَقِدُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِيهَا بِرٌّ وَلَا حِنْثٌ ، وَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ : اسْتِثْنَاءُ مَكَانٍ ، وَاسْتِثْنَاءُ زَمَانٍ ، وَاسْتِثْنَاءُ عَدَدٍ ، وَاسْتِثْنَاءُ صِفَةٍ ، وَفِي ذِكْرِ أَحَدِهَا بَيَانٌ لِجَمِيعِهَا . فَإِذَا قَالَ : وَاللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ زَيْدًا إِلَّا فِي دَارِي بَرَّ إِنْ ضَرَبَهُ فِي غَيْرِ دَارِهِ ، وَلَمْ يَبِرَّ إِنْ ضَرَبَهُ فِي دَارِهِ ، وَحَنِثَ إِنْ لَمْ يَضْرِبْهُ فِي غَيْرِ دَارِهِ ، وَلَا يَحْنَثُ إِنْ لَمْ يَضْرِبْهُ فِي دَارِهِ . وَلَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا ضَرَبْتُ زَيْدًا إِلَّا فِي دَارِي ، حَنِثَ إِنْ ضَرَبَهُ فِي غَيْرِ دَارِهِ ، وَلَمْ يَحْنَثْ إِنْ ضَرَبَهُ فِي دَارِهِ ، وَبَرَّ إِنْ لَمْ يَضْرِبْهُ فِي غَيْرِ دَارِهِ ، وَلَا يَبِرُّ إِنْ لَمْ يَضْرِبْهُ فِي دَارِهِ ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسُ فِي نَظَائِرِهِ . وَأَمَّا الْوَجْهُ الْخَامِسُ : فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالنِّيَّةِ ، في الأيمان فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ بِقَلْبِهِ فِي عَقْدِ يَمِينِهِ مَا يَصِحُّ أَنْ يَذْكُرَهُ بِلَفْظِهِ ، فَيُحْمَلُ فِيهَا عَلَى نِيَّتِهِ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِعَقْدِ يَمِينِهِ ، وَلَا تَصِحُّ إِنْ تَقَدَّمَتِ النِّيَّةُ عَلَى الْيَمِينِ أَوْ تَأَخَّرَتْ عَنْهَا ، وَذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِهِ : وَاللَّهِ لَا كَلَّمْتُ زَيْدًا ، وَيَنْوِي بِهِ شَهْرًا ، وَلَا أَكَلْتُ خُبْزًا ، وَيَنْوِي بِهِ لَيْلًا ، وَلَا لَبِسْتُ ثَوْبًا ، وَيَنْوِي بِهِ قَمِيصًا ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ نَظَائِرِهِ مَا أَغْنَى ، فَيَكُونُ فِي الْأَيْمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى مَحْمُولًا عَلَى نِيَّتِهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ، وَفِي الْأَيْمَانِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مَحْمُولًا عَلَيْهَا فِي الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ ، فَهَذَا أَصْلٌ فِي الْأَيْمَانِ لَا يُخْرِجُ أَحْكَامَهَا مِنْهُ ، فَإِذَا حُمِلَتْ عَلَيْهِ سَلِمَتْ مِنَ الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ ، وَاللَّهُ يُوَفِّقُ مَنِ اسْتَرْشَدَهُ . وَسَأُتْبِعُهُ مِنَ الْفُرُوعِ بِمَا تُوَضِّحُهُ مِنْ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ وَمُخْتَلَفٍ فِيهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا قَالَ : وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ الْفَاكِهَةَ ، حَنِثَ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا مِنْ ثِمَارِ الْأَشْجَارِ كُلِّهَا ، فَيَحْنَثُ بِأَكْلِ التُّفَّاحِ وَالْمِشْمِشِ وَالْكُمِّثْرَى وَالسَّفَرْجَلِ وَالنَّبْقِ وَالتُّوتِ وَالرُّمَّانِ وَالْعِنَبِ وَالرُّطَبِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَحْنَثُ بِالرُّمَّانِ وَالْعِنَبِ وَالرُّطَبِ ، وَإِنْ خَالَفَهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ ، وَقَالَا بِقَوْلِنَا احْتِجَاجًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [ الرَّحْمَنِ : 68 ] . وَقَالَ تَعَالَى : فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [ عَبَسَ : 27 - 31 ] فَجَمَعَ بَيْنَ الْفَاكِهَةِ ، وَبَيْنَ الْعِنَبِ وَالرُّطَبِ وَالرُّمَّانِ فِي الذِّكْرِ ، وَخَيَّرَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ فِي الِاسْمِ ، فَدَلَّ عَلَى خُرُوجِهَا مِنِ اسْمِ الْفَاكِهَةِ ، كَمَا خَرَجَ مِنْهَا الزَّيْتُونُ ، لِتَمَيُّزِهِ بِالِاسْمِ .

وَدَلِيلُنَا : مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تَزْهَى قِيلَ : وَمَا تَزْهَى ؟ قَالَ : حَتَى تَحْمَارَّ أَوْ تَصْفَارَّ . وَالدَّلِيلُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْفَوَاكِهَ هِيَ الثِّمَارُ وَالرُّطَبُ وَالْعِنَبُ مِنْ أَجَلِّهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ جَعَلَ الِاحْمِرَارَ وَالِاصْفِرَارَ مُبِيحًا لِبَيْعِهَا ، وَهَذَا مِمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُهَا ، وَلِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى دُخُولِ الْعِنَبِ وَالرُّطَبِ وَالرُّمَّانِ فِي الْفَاكِهَةِ ، فَرُوِيَ عَنْ يُونُسَ النَّحْوِيِّ أَنَّهُ قَالَ : الرُّمَّانُ وَالنَّخْلُ مِنْ أَفْضَلِ الْفَاكِهَةِ ، وَإِنَّمَا قُصِدَا بِالذِّكْرِ لِفَضْلِهِمَا ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [ الْبَقَرَةِ : 98 ] ، فَذَكَرَ الْمَلَائِكَةَ ، وَخَصَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَالَ بِالذِّكْرِ ، وَإِنْ كَانَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِفَضْلِهِمَا . وَقَالَ الْخَلِيلُ : الْفَاكِهَةُ : الثِّمَارُ كُلُّهَا . وَقَالَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ : الرُّطَبُ وَالرُّمَّانُ مِنَ الْفَوَاكِهِ ، وَفُضِّلَا بِالذِّكْرِ عَلَى جَمِيعِهَا ، وَهَؤُلَاءِ فِي اللُّغَةِ قُدْوَةٌ مُتَّبَعُونَ وَلَا يَسُوغُ خِلَافُهُمْ فِيهَا ، وَلِأَنَّ اسْمَ الْفَاكِهَةِ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّفَكُّهِ بِهَا ، وَهِيَ الِاسْتِطَابَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ : فُلَانٌ يُتَفَكَّهُ بِكَلَامِهِ أَيْ : يُتَطَارَبُ بِهِ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْعِنَبِ وَالرُّطَبِ وَالرُّمَّانِ أَوْفَى مِنْ وُجُودِهِ مِنْ غَيْرِهَا ، فَكَانَ أَحَقَّ بِاسْمِهَا ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ الْجَمْعُ فِي الْجِنْسِ بَيْنَ خُصُوصٍ وَعُمُومٍ بِمَانِعٍ مِنْ دُخُولِ الْخُصُوصِ فِي الْعُمُومِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [ الْبَقَرَةِ : 238 ] ، فَدَخَلَتْ فِي عُمُومِ الصَّلَوَاتِ ، وَإِنْ خُصَّتْ بِالذِّكْرِ . وَكَقَوْلِهِ : وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ فَدَخَلَ فِي عُمُومِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ . قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : إِنَّمَا يَدْخُلُ الْخُصُوصُ فِي الْعُمُومِ إِذَا تَأَخَّرَ ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ إِذَا تَقَدَّمَ . قِيلَ : هَذِهِ دَعْوَى لَا يَشْهَدُ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا دَلِيلٌ ، وَإِنْ سَلِمَ ذَلِكَ لَكُمْ ، فَقَدْ تَأَخَّرَ خُصُوصُ قَوْلِهِ : فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ عَلَى عُمُومِ الْفَاكِهَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَدْخُلَا فِيهَا . فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي دُخُولِ الْعِنَبِ وَالرُّمَّانِ فِي الْفَاكِهَةِ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ . وَأَمَّا الرُّطَبُ ، فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَجْعَلُهُ مِنَ الْفَاكِهَةِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي يَقِلُّ فِيهَا كَبَغْدَادَ ، وَلَا يَجْعَلُهَا مِنَ الْفَاكِهَةِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا كَالْبَصْرَةِ ، وَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ

إِلَى أَنَّهُ مِنَ الْفَاكِهَةِ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْصَارِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ . فَأَمَّا ثِمَارُ مَا عَدَا الْأَشْجَارِ ، فَالْمَوْزُ فَاكِهَةٌ وَالْبِطِّيخُ فَاكِهَةٌ ، وَلَيْسَ الْخِيَارُ وَالْقِثَّاءُ مِنَ الْفَاكِهَةِ ، وَإِنَّمَا هُمَا مِنَ الْخُضْرَاوَاتِ ، لِأَنَّهَا لَا تَتَغَيَّرُ عَنْ أَلْقَابِهَا إِلَّا عِنْدَ فَسَادِهَا . فَإِذَا ثَبَتَ مَا يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْفَاكِهَةِ حَنِثَ بِأَكْلِهِ رَطْبًا ، فَإِنْ أَكَلَهُ يَابِسًا ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا يُنْقَلُ عَنِ اسْمِهِ بَعْدَ يُبْسِهِ وَجَفَافِهِ كَالرُّطَبِ يُسَمَّى بَعْدَ جَفَافِهِ تَمْرًا ، وَكَالْعِنَبِ يُسَمَّى بَعْدَ جَفَافِهِ زَبِيبًا ، فَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ ، وَقَدْ خَرَجَ عَنِ الْفَاكِهَةِ بِزَوَالِهِ عَنِ اسْمِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَنْتَقِلَ عَنِ اسْمِهِ بَعْدَ جَفَافِهِ كَالتِّينِ وَالْخَوْخِ وَالْمِشْمِشِ ، فَفِي حِنْثِهِ بِأَكْلِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَحْنَثُ بِهِ لِبَقَاءِ اسْمِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَحْنَثُ بِهِ لِانْتِقَالِهِ عَنْ صِفَتِهِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ أُدْمًا حَنِثَ بِأَكْلِ اللَّحْمِ وَالسَّمَكِ وَالْجُبْنِ وَالْمِلْحِ وَالزَّيْتُونِ ، وَبِمَا يُصْطَبَغُ بِهِ كَالْخَلِّ وَالزَّيْتِ وَاللَّبَنِ وَالسَّمْنِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَحْنَثُ إِلَّا بِمَا يُصْطَبَغُ بِهِ ، وَهُوَ الْأُدْمُ خَاصَّةً ، وَهُوَ مَا يَنْصَبِغُ بِهِ الْخُبْزُ مِثْلَ الْخَلِّ وَالزَّيْتِ وَاللَّبَنِ وَالسَّمْنِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْبُرْمَةُ تَفُورُ بِلَحْمٍ وَأُدْمٍ ، فَقَدَّمْنَا لَهُ خُبْزًا بِأُدْمِ الْبَيْتِ ، فَقَالَ : أَلَمْ أَرَ بُرْمَةً فِيهَا لَحْمٌ ؟ قُلْنَا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهَ ، وَلَكِنْ ذَاكَ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ ، وَأَنْتَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ ، فَقَالَ : هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ فَمَيَّزَتْ بَيْنَ اللَّحْمِ وَالْأُدُمِ فِي الِاسْمِ ، فَدَلَّ عَلَى تَمْيِيزِهَا فِيهِ . وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : سَيِّدُ الْأُدْمِ اللَّحْمُ ، وَنِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي اسْمِ الْأُدْمِ ، فَدَلَّ عَلَى اشْتِرَاكِهِمَا فِيهِ ؛ وَلِأَنَّ اسْمَ الْأُدْمِ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْتِطَابَةِ أَكْلِ الْخُبْزِ بِهِ حَتَّى يُسْتَحَبَّ وَيُسْتَمْرَأَ ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ : أَدَمَ اللَّهُ بَيْنَكُمَا أَيْ أَصْلَحَ بَيْنَكُمَا بِالْمَحَبَّةِ . وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي " غَرِيبِ الْحَدِيثِ " أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ خَطَبَ امْرَأَةً ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ نَظَرْتَ إِلَيْهَا ، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا . فَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنِ الْكِسَائِيِّ مَعْنَاهُ : أَنْ تَكُونَ بَيْنَكُمَا الْمَوَدَّةُ وَالِاتِّفَاقُ ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي اللَّحْمِ أَوْفَى مِنْهُ فِي الصَّبْغِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ بِاسْمِ الْإِدَامِ أَخَصُّ . وَتَمْيِيزُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إِنَّمَا كَانَ لِاخْتِلَافِ النَّوْعِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِاخْتِلَافِ الِاسْمِ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْقِسْمُ فَمَا يُسْتَطَابُ بِهِ أَكْلُ الْخُبْزِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ :

أَحَدُهَا : مَا يَكُونُ إِدَامًا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ مُنْفَرِدًا ، وَبِالْخُبْزِ ، وَهُوَ مَا يُؤْتَدَمُ بِهِ فِي الْأَغْلَبِ مِنَ اللَّحْمِ وَالسَّمَكِ وَالْبَيْضِ وَاللَّبَنِ ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا لَا يَكُونُ أُدْمًا ، وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ مُنْفَرِدًا ، وَلَا بِالْخُبْزِ ، وَهُوَ الْفَوَاكِهُ كُلُّهَا ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْأُدْمِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا مِنْ عُرْفٍ عَامٍّ وَلَا خَاصٍّ ، وَالْمُسْتَئْدِمُ بِهَا خَارِجٌ عَنِ الْعَرَبِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا لَا يَكُونُ إِدَامًا إِذَا انْفَرَدَ عَنِ الْخُبْزِ ، وَيَصِيرُ إِدَامًا إِذَا أُكِلَ بِالْخُبْزِ ، وَهُوَ يُسْتَأْدَمُ بِهِ فِي خُصُوصِ الْعُرْفِ دُونَ عُمُومِهِ كَالْعَسَلِ وَالدِّبْسِ وَالتَّمْرِ ، فَلَا يَحْنَثُ بِهِ إِنْ أَكَلَهُ مُنْفَرِدًا ، وَيَحْنَثُ بِهِ إِنْ أَكَلَهُ بِالْخُبْزِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالْخُبْزِ إِدَامًا ، وَلَمْ يَكُنْ بِانْفِرَادِهِ إِدَامًا . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّهُ أَعْطَى سَائِلًا خُبْزًا وَتَمْرًا ، وَقَالَ : هَذَا إِدَامُ هَذَا . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَا اخْتُلِفَ فِيهِ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ ، فَيُؤْكَلُ تَارَةً قُوتًا ، وَتَارَةً أُدْمًا كَالْأُرْزِ وَالْبَاقِلَّاءِ فَلَهُ فِي أَكْلِهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَأْكُلَهُ مَخْبُوزًا ، فَقَدْ صَارَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ قُوتًا ، فَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَأْكُلَهُ مَطْبُوخًا بِخُبْزٍ أَوْ يَصْنَعَ بِهِ ، فَقَدْ صَارَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إِدَامًا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَأْكُلَهُ مَطْبُوخًا مُنْفَرِدًا بِغَيْرِ خُبْزٍ ، فَفِي حِنْثِهِ بِأَكْلِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : يَحْنَثُ بِهِ اعْتِبَارًا بِصِفَتِهِ فِي الِائْتِدَامِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَحْنَثُ بِهِ اعْتِبَارًا بِأَصْلِهِ فِي الْأَقْوَاتِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يُعْتَبَرَ عُرْفُ بَلَدِهِ ، فَإِنْ كَانَ فِي عُرْفِهِمْ إِدَامًا كَأَهْلِ الْعِرَاقِ حَنِثَ بِأَكْلِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي عُرْفِهِمْ قُوتًا كَطَبَرِسْتَانَ لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ قُوتًا ، فَالْأَقْوَاتُ مَا قَامَتْ بِهَا الْأَبْدَانُ ، وَأَمْكَنَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا ، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِالْعُرْفِ ، وَالْعُرْفُ فِيهِ ضَرْبَانِ : عُرْفُ شَرْعٍ ، وَعُرْفُ اسْتِعْمَالٍ . فَأَمَّا عُرْفُ الشَّرْعِ فَهُوَ مُنْطَلِقٌ عَلَى مَا وَجَبَتْ فِيهِ زَكَاةُ الْعَيْنِ ، وَجَازَ إِخْرَاجُهُ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ ، فَيَحْنَثُ بِأَكْلِهِ ، سَوَاءٌ دَخَلَ فِي عُرْفِ قُوتِهِ أَوْ خَرَجَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ عُرْفَ الشَّيْءِ عَامٌّ كَعُمُومِ أَحْكَامِهِ فَيَحْنَثُ بِأَكْلِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَقْوَاتِهِ . وَأَمَّا عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ فَمَا خَالَفَ عُرْفَ الشَّرْعِ ، فَضَرْبَانِ : عُرْفُ اخْتِيَارٍ ، وَعُرْفُ اضْطِرَارٍ .

فَأَمَّا عُرْفُ الِاخْتِيَارِ ، فَكَالْبَوَادِي يَقْتَاتُونَ أَلْوَانَ الْحُبُوبِ وَسُكَّانِ جَزَائِرِ الْبِحَارِ يَقْتَاتُونَ لُحُومَ الصَّيْدِ ، وَسُكَّانِ تِلْكَ الْجِبَالِ يَقْتَاتُونَ لُحُومَ الصَّيْدِ ، فَيَحْنَثُ كُلُّ قَوْمٍ مِنْهُمْ بِأَكْلِ عُرْفِهِمْ فِي أَقْوَاتِهِمْ ، وَلَا يَحْنَثُونَ بِعُرْفِ غَيْرِهِمْ ؛ لِخُصُوصِهِ فِي عُرْفِهِمْ ، وَيَحْنَثُونَ بِالْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ ؛ لِعُمُومِهِ فِيهِمْ ، وَلَا يَحْنَثُ غَيْرُهُمْ بِعُرْفِهِمْ لِخُصُوصِهِ فِيهِمْ . وَأَمَّا عُرْفُ الِاضْطِرَارِ فَكَأَهْلِ الْفَلَوَاتِ يَقْتَاتُونَ الْحَشِيشَ فِي زَمَانِ الْجَدْبِ ، وَيَقْتَاتُونَ الْأَلْبَانَ فِي غَيْرِهَا فِي زَمَانِ الْخِصْبِ ، فَيَحْنَثُونَ فِي زَمَانِ الْجَدْبِ بِقُوتِهِمْ فِي الْجَدْبِ وَالْخِصْبِ ، وَيَحْنَثُونَ فِي زَمَانِ الْخِصْبِ بِقُوتِهِمْ فِي الْخِصْبِ دُونَ الْجَدْبِ ، وَيَكُونُ عُرْفُ الزَّمَانِ مُعْتَبَرًا كَمَا كَانَ عُرْفُ الْمَكَانِ مُعْتَبَرًا . وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا حَنِثَ بِكُلِّ مَطْعُومٍ مِنْ قُوتٍ وَإِدَامٍ وَفَاكِهَةٍ وَحَلْوَى ؛ لِأَنَّ جَمِيعَهَا مَطْعُومَةٌ ، فَانْطَلَقَ اسْمُ الطَّعَامِ عَلَيْهَا ، وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الدَّوَاءِ ، وَإِنْ كَانَ مَطْعُومًا ؛ لِأَنَّ اسْمَ الطَّعَامِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ . وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي الطَّعَامِ إِلَّا بِأَكْلِ الْحِنْطَةِ وَحْدَهَا اعْتِبَارًا بِاسْمِهِ عُرْفًا ، وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ [ آلِ عِمْرَانَ : 93 ] يُرِيدُ كُلَّ مَطْعُومٍ فَصَارَ اسْمُ الطَّعَامِ فِي الشَّرْعِ مُنْطَلِقًا عَلَى كُلِّ مَطْعُومٍ ، وَفِي الْعُرْفِ مُنْطَلِقًا بِالْعِرَاقِ عَلَى الْحِنْطَةِ ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى عُرْفِ الشَّرْعِ أَوْلَى . . . فَإِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ حُمِلَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا عَلَى نِيَّتِهِ .

فَصْلٌ : إِذَا قَالَ : وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ الْحَلْوَاءَ ، حَنِثَ بِأَكْلِ كُلِّ مَا عُصِرَ بِالسُّكَّرِ أَوِ الْعَسَلِ أَوِ الدَّقِيقِ ، حَتَّى امْتَزَجَ بِضَرْبِهِ مِنْ لَوْزٍ أَوْ جَوْزٍ أَوْ دَقِيقٍ ، فَيَصِيرُ بِالْمَزْجِ دَاخِلًا فِي اسْمِ الْخَلْطِ الْحَلْوَاءِ ، فَإِنِ انْفَرَدَ بِأَكْلِ سُكَّرٍ أَوْ عَسَلٍ أَوْ دِبْسٍ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ حُلْوٌ ، وَلَيْسَ بِحَلْوَاءَ . وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ حَلَاوَةً حَنِثَ بِأَكْلِ هَذَا كُلِّهِ مُنْفَرِدًا وَمُمْتَزِجًا ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ الْفَوَاكِهِ الْحُلْوَةِ ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَيْئًا حُلْوًا حَنِثَ بِأَكْلِ هَذَا كُلِّهِ ، وَحَنِثَ بِأَكْلِ الْفَوَاكِهِ الْحُلْوَةِ ، وَلَوْ حَلِفَ لَا يَأْكُلُ لَذِيذًا ، فَأَكَلَ مَا يَسْتَلِذُّهُ هُوَ ، وَلَا يَسْتَلِذُّهُ غَيْرُهُ حَنِثَ ، وَلَوْ أَكَلَ مَا يَسْتَلِذُّهُ غَيْرُهُ ، وَلَا يَسْتَلِذُّهُ هُوَ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَلِذٍّ بِمَا أَكَلَ . وَلَوْ حَلَفَ لَا أَكَلْتُ مُسْتَلَذًّا حَنِثَ بِمَا يَسْتَلِذُّهُ غَيْرُهُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَلَذَّ مِنْ صِفَاتِ الْمَأْكُولِ ، وَاللَّذِيذَ مِنْ صِفَاتِ الْأَكْلِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ : وَاللَّهِ لَا شَمَمْتُ الرَّيْحَانَ ، حَنِثَ بِشَمِّ الشَّاهَسْفَرَمَ وَهُوَ الرَّيْحَانُ

الْفَارِسِيُّ ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِشَمِّ الْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ ، وَلَا بِشَمِّ الْيَاسَمِينِ وَالْخُزَامَى وَاللَّيْنُوفَرِ ؛ لِخُرُوجِهَا عَنِ اسْمِ الرَّيْحَانِ بِأَسْمَائِهَا الْمُفْرَدَةِ . وَلَوْ حَلَفَ لَا شَمَمْتُ مَشْمُومًا حَنِثَ بِشَمِّ هَذَا كُلِّهِ ؛ لِأَنَّ اسْمِ الْمَشْمُومِ يَنْطَلِقُ عَلَى جَمِيعِهِ ، وَلَا يَحْنَثُ بِشَمِّ الْكَافُورِ وَالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ ؛ لِخُرُوجِهَا عَنِ اسْمِ الْمَشْمُومِ بِأَسْمَائِهَا الْمُفْرَدَةِ . وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشَمُّ طِيبًا حَنِثَ بِشَمِّ الْكَافُورِ وَالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِشَمِّ الْمَشْمُومِ لِخُرُوجِهِ عَنِ اسْمِ الطِّيبِ . وَلَوْ حَلَفَ لَا شَمَمْتُ مُسْتَطَابًا حَنِثَ بِشَمِّ هَذَا كُلِّهِ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَطَابُ الرَّائِحَةِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ : وَاللَّهِ لَا لَبِسْتُ حُلِيًّا حَنِثَ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاللُّؤْلُؤِ وَالْجَوْهَرِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَحْنَثُ بِاللُّؤْلُؤِ وَالْجَوْهَرِ حَتَّى يَمْتَزِجَ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ اسْتِدْلَالًا بِالْعُرْفِ وَاحْتِجَاجًا بِالِاسْمِ . وَدَلِيلُنَا : نَصُّ الشَّرْعِ بِخِلَافِهِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : يَذَّكَّرُونَ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [ النَّحْلِ : 14 ] ، وَالْمُسْتَخْرَجُ مِنْهُ هُوَ اللُّؤْلُؤُ وَالْجَوْهَرُ وَالْمَرْجَانُ ، فَجَعَلَهُ حُلِيًّا مَلْبُوسًا . وَقَالَ تَعَالَى : يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [ الْحَجِّ : 23 ] . قَرَأَ عَاصِمٌ وَنَافِعٌ ( لُؤْلُؤًا ) بِالنَّصْبِ ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْخَفْضِ ، فَالنَّصْبُ مَحْمُولٌ : عَلَى الِانْفِرَادِ ، وَالْخَفْضُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَمْرَيْنِ مِنَ الِانْفِرَادِ وَالِامْتِزَاجِ ؛ وَلِأَنَّ مَا كَانَ حُلِيًّا بِامْتِزَاجِهِ كَانَ حُلِيًّا بِانْفِرَادِهِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ؛ وَلِأَنَّ الْحُلِيَّ مَا يُرَادُ إِمَّا لِلزِّينَةِ أَوْ لِلْمُبَاهَاةِ ، وَهُمَا فِي الْحُلِيِّ اللُّؤْلُؤِ وَالْجَوْهَرِ أَوْفَى مِنْهُمَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ . فَأَمَّا التَّحَلِّي بِالْخَرَزِ وَالصُّفْرِ ، فَيَحْنَثُ بِهِ مَنْ كَانَ فِي عُرْفِهِمْ حُلِيًّا كَالْبَوَادِي وَسُكَّانِ السَّوَادِ ، وَلَا يَحْنَثُ بِهِ مَنْ خَرَجَ عَنْ عُرْفِهِمْ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ . فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَلَا فَرْقَ فِي الْحِنْثِ بِهِ بَيْنَ مُبَاحِهِ وَمَحْظُورِهِ ، فَلَوْ لَبِسَ ثَوْبًا مَنْسُوجًا بِالذَّهَبِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ بِاسْمِ الثَّوْبِ أَخَصُّ مِنْهُ بِاسْمِ الْحُلِيِّ ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَقَلَّدَ بِسَيْفٍ مُحَلًّى لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ السَّيْفَ لَيْسَ بِحُلِيٍّ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حُلِيٌّ . فَأَمَّا لُبْسُ مِنْطَقَةٍ مُحَلَّاةٍ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ ، فَفِي الْحِنْثِ بِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَحْنَثُ لِأَنَّهَا مِنْ حُلِيِّ الرِّجَالِ .

وَالثَّانِي : لَا يَحْنَثُ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا مِنَ الْآلَاتِ الْمُحَلَّاةِ كَالسَّيْفِ ، وَيَحْنَثُ بِلُبْسِ الْخَاتَمِ ذَهَبًا كَانَ أَوْ فِضَّةً . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَحْنَثُ بِلُبْسِهِ إِنْ كَانَ مِنْ فِضَّةٍ ، وَيَحْنَثُ إِنْ كَانَ مِنْ ذَهَبٍ ؛ لِأَنَّ الْفِضَّةَ مَأْلُوفَةٌ وَالذَّهَبَ غَيْرُ مَأْلُوفٍ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ مَأْلُوفَ الْحُلِيِّ كَغَيْرِ مَأْلُوفِهِ كَالْأَسْوِرَةِ وَالْأَطْوَاقِ ، وَلِأَنَّ مَا كَانَ حُلِيًّا فِي الْأَسْوِرَةِ وَالْأَطْوَاقِ كَانَ حُلِيًّا فِي الْخَوَاتِيمِ كَالذَّهَبِ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحَلَّى خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ ثُمَّ نَزَعَهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ رَجُلًا ثُمَّ سَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِيهِمْ لَمْ يَحْنَثْ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ رَجُلًا ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ كَلَامٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّلَاةَ تَبْطُلُ بِهِ إِذَا كَانَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ . فَأَمَّا إِذَا سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِيهِمْ ، فَلِلْحَالِفِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقْصِدَهُ بِسَلَامِهِ عَلَيْهِمْ ، فَهَذَا حَانِثٌ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَعْزِلَهُ بِنِيَّتِهِ ، وَيَقْصِدُ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى غَيْرِهِ ، فَهَذَا غَيْرُ حَانِثٍ ؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمَقَاصِدِ فِي عَقْدِهَا ، فَحُمِلَتْ عَلَيْهِ فِي حَلِّهَا ، فَلَا وَجْهَ لِمَا عَدَا هَذَا الْقَوْلَ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ قَصْدٌ فِي إِرَادَتِهِ ، وَلَا فِي عَزْلِهِ ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عَالِمًا أَنَّهُ فِيهِمْ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ فِيهِمْ ، فَفِي حِنْثِهِ بِإِطْلَاقِ سَلَامِهِ عَلَيْهِمْ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا ، وَنَقَلَهُ الرَّبِيعُ فِي الْأُمِّ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالْكَلَامِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : حَكَاهُ الرَّبِيعُ مُنْفَرِدًا أَنَّ فِيهِ قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ يَحْنَثُ ، وَهُوَ أَظْهَرُ ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ عَلَيْهِمْ عَامٌّ ، فَدَخَلَ فِي عُمُومِهِمْ . وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ فِيهِمْ أَوْ عَلِمَ فَنَسِيَ ، هَلْ يَكُونُ فِعْلُ الْجَاهِلِ وَالنَّاسِي فِي الْأَيْمَانِ كَالْعَالِمِ وَالذَّاكِرِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا لَغْوٌ لَا يَحْنَثُ بِهَا ، فَعَلَى هَذَا لَا يَحْنَثُ بِهَذَا السَّلَامِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا لَازِمَةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا الْحِنْثُ ، فَعَلَى هَذَا فِي حِنْثِهِ بِهَذَا السَّلَامِ قَوْلَانِ .

فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا كَلَّمْتُكَ وَاللَّهِ لَا كَلَّمْتُكَ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِإِعَادَةِ الْيَمِينِ مُكَلِّمًا لَهُ ، وَلَوْ كَلَّمَهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مَجْنُونٌ أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ ، وَكَانَ لَا يَعْلَمُ بِالْكَلَامِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ عَلِمَ بِالْكَلَامِ وَلَمْ يَفْهَمْهُ حَنِثَ ، وَلَوْ كَلَّمَهُ وَهُوَ نَائِمٌ ، فَإِنْ كَانَ كَلَامًا يُوقِظُ

مِثْلَ النَّائِمِ حَنِثَ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُوقِظُ مِثْلَ النَّائِمِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَلَوْ كَلَّمَهُ وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْهُ ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَ مِثْلَ كَلَامِهِ حَنِثَ بِهِ سَمِعَ أَوْ لَمْ يَسْمَعْ ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَهُ لَمْ يَحْنَثْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ كَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا أَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولًا فَالْوَرَعُ أَنْ يَحْنَثَ ، وَلَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ لِأَنَّ الرَّسُولَ وَالْكِتَابَ غَيْرُ الْكَلَامِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : هَذَا عِنْدِي بِهِ وَبِالْحَقِّ أَوْلَى قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا إِلَى قَوْلِهِ : بُكْرَةً وَعَشِيًّا فَأَفْهَمَهُمْ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْكَلَامِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ ، وَقَدِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ الْهِجْرَةَ مُحَرَّمَةٌ فَوْقَ ثَلَاثٍ ، فَلَوْ كَتَبَ أَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى كَلَامِهِ لَمْ يُخْرِجْهُ هَذَا مِنَ الْهِجْرَةِ الَّتِي يَأْثَمُ بِهَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : فَلَوْ كَانَ الْكِتَابُ كَلَامًا لَخَرَجَ بِهِ مِنَ الْهِجْرَةِ فَتَفَهَّمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا ، فَيَكْتُبُ إِلَيْهِ كِتَابًا أَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولًا أَوْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ أَوْ رَمَزَ إِلَيْهِ بِعَيْنٍ أَوْ حَاجِبٍ لَمْ يَحْنَثْ . وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَحْنَثُ وَذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِيهِ ، فَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ قَوْلًا لَهُ ثَانِيًا ، وَتَبِعَهُمْ فِيهِ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ ، فَخَرَجَ حِنْثُهُ بِذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْهِ وَجَعَلُوا كَلَامَ الْمُزَنِيِّ دَلِيلًا عَلَيْهِمَا وَاخْتِيَارًا لِلصَّحِيحِ مِنْهُمَا . وَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّهُ ذَكَرَهُ حِكَايَةً عَنْ غَيْرِهِ ، وَلَيْسَ بِمَذْهَبٍ لَهُ ، فَلَا يَحْنَثُ بِهِ قَوْلًا ، وَجَعَلُوا كَلَامَ الْمُزَنِيِّ احْتِجَاجًا لِلشَّافِعِيِّ ، وَرَدًّا عَلَى مَالِكٍ . وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ وَمَنْ تَابَعَهُ عَلَى حِنْثِهِ بِالْكِتَابِ وَالرَّسُولِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا [ الشُّورَى : 51 ] . فَجَعَلَ الْوَحْيَ كَلَامًا ، لِاسْتِثْنَائِهِ مِنْهُ ، وَقَالَ تَعَالَى : آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا [ آلِ عِمْرَانَ : 41 ] . فَجَعَلَ الرَّمْزَ كَلَامًا لِاسْتِثْنَائِهِ مِنْهُ ، وَلِأَنَّهُ يَقُومُ فِي الْأَفْهَامِ مَقَامَ الْإِفْهَامِ ، فَصَارَ فِي حُكْمِ الْكَلَامِ . وَدَلِيلُنَا : مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُزَنِيُّ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [ مَرْيَمَ : 10 ، 11 ] . فَدَلَّ عَلَى خُرُوجِ الْوَحْيِ وَالْإِشَارَةِ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي نَهَى عَنْهُ . وَقَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مَرْيَمَ : إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا إِلَى قَوْلِهِ : فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ، [ مَرْيَمَ : 26 ، 27 ، 28 ، 29 ] . فَدَلَّ عَلَى خُرُوجِ الْإِشَارَةِ

مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي نُهِيَتْ عَنْهُ ، وَلِأَنَّ كَلَامَهُ مُخْتَصٌّ بِجَارِحَةِ لِسَانِهِ ، وَكَلَامِ الرَّسُولِ بِلِسَانِ غَيْرِهِ ، وَالْكِتَابِ مِنْ أَفْعَالِ يَدِهِ ، فَصَارَ كَلَامُهُ مُخَالِفًا لِرِسَالَتِهِ ، وَكِتَابُهُ مُخْرِجًا عَنْ حُكْمِ كَلَامِهِ ، وَلِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْأَسَامِي دُونَ الْمَعَانِي وَالْأَسْمَاءُ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ فِي أَحْكَامِ الْأَيْمَانِ مُخْتَلِفَةً ، وَإِنِ اسْتَدَلَّ الْمُزَنِيُّ بِمَا حَكَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّ الْهِجْرَةَ مُحَرَّمَةٌ فَوْقَ ثَلَاثٍ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ ، وَالسَّابِقُ أَسْبَقُهُمَا إِلَى الْجَنَّةِ . قَالَ : فَلَوْ كَتَبَ أَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى كَلَامِهِ لَمْ يُخْرِجْهُ هَذَا مِنَ الْهِجْرَةِ الَّتِي أَثِمَ بِهَا . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ ، أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ عَنْ مَأْثَمِ الْهِجْرَةِ ، فَيَكُونُ دَلِيلًا فِي الْمَسْأَلَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ مَأْثَمِ الْهِجْرَةِ كَالْكَلَامِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا ، لِأَنَّ مَقْصُودَ الْكَلَامِ فِي الْهِجْرَةِ نَفْيُ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْوَحْشَةِ ، وَعَوْدُهُمَا إِلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ مِنَ الْأُنْسَةِ ، فَقَامَ ذَلِكَ مَقَامَ الْكَلَامِ فِي الْهِجْرَةِ اعْتِبَارًا بِالْمَعْنَى وَلَمْ يَقُمْ مَقَامَ الْكَلَامِ فِي الْيَمِينِ اعْتِبَارًا بِالِاسْمِ ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَمْلِ الْأَيْمَانِ عَلَى الْأَسَامِي ، وَحَمْلِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْمَعَانِي . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَتَيْنِ ، فَهُوَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ بِمَعْنَى لَكِنْ ، فَجَازَ أَنْ يَعُودَ إِلَى غَيْرِ جِنْسِهِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [ النِّسَاءِ : 29 ] مَعْنَاهُ : لَكِنْ كُلُوهُ بِتِجَارَةٍ . فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ فَقَدْ تَقَدَّمَ الِانْفِصَالُ عَنْهُ بِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْأَسَامِي دُونَ الْمَعَانِي .

فَصْلٌ : فَإِنْ كَلَّمَ غَيْرَهُ بِكَلَامٍ يَسْمَعُهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَعْرِيضٌ لَهُ لَمْ يَحْنَثْ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَعْرِيضٌ لَهُ فَإِنْ كَانَ مُوَاجِهًا بِالْكَلَامِ حَنِثَ بِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُكَلِّمًا لَهُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُوَاجِهٍ بِهِ لَمْ يَحْنَثْ . رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَمَّا أَرَادَتِ الْخُرُوجَ إِلَى الْبَصْرَةِ أَشَارَتْ عَلَيْهَا أُمُّ سَلَمَةَ أَنْ لَا تَفْعَلَ ، وَحَلَفَتْ عَلَيْهَا إِنْ خَرَجَتْ أَنْ لَا تُكَلِّمَهَا ، فَلَمَّا خَرَجَتْ وَعَادَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مُعَرِّضَةً بِهَا : يَا حَائِطُ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ ؟ يَا حَائِطُ ، أَلَمْ أَنْهَكَ ؟ فَبَلَّغَتْ غَرَضَهَا ، وَسَلِمَتْ مِنَ الْحِنْثِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَرَى كَذَا إِلَّا رَفَعَهُ إِلَى قَاضٍ فَرَآهُ ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ رَفْعُهُ إِلَيْهِ حَتَى مَاتَ ذَلِكَ الْقَاضِي لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يُمْكِنَهُ فَيُفَرِّطُ ، وَإِنْ عُزِلَ فَإِنْ

كَانَتْ نِيَّتُهُ أَنْ يَرْفَعَهُ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ قَاضِيًا ، فَلَا يَجِبُ رَفْعُهُ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ خَشِيتُ أَنْ يَحْنَثَ إِنْ لَمْ يَرْفَعْهُ إِلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَرْفَعَ إِلَى الْقَاضِي مَا رَآهُ مِنْ لُقَطَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوْ مُنْكَرٍ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُعَيِّنَ الْقَاضِي ، وَيَصِفَهُ بِالْقَضَاءِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُعَيِّنَهُ ، وَلَا يَصِفَهُ بِالْقَضَاءِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَصِفَهُ بِالْقَضَاءِ ، وَلَا يُعَيِّنَهُ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : إِذَا وَصَفَهُ وَعَيَّنَهُ بِالْقَضَاءِ ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : أَرْفَعُهُ إِلَى فُلَانٍ الْقَاضِي أَوْ إِلَى هَذَا الْقَاضِي ، فَلِلْحَالِفِ فِيمَا رَآهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَرْفَعَهُ إِلَيْهِ فِي وِلَايَتِهِ ، فَقَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ ، لِوَفَائِهِ بِهَا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يَرْفَعَهُ إِلَيْهِ حَتَّى يَمُوتَ الْقَاضِي أَوِ الْحَالِفُ ، فَيُنْظَرُ ، فَإِنْ كَانَ قَدَرَ عَلَى رَفْعِهِ إِلَيْهِ قَبْلَ الْمَوْتِ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ لِتَقْصِيرِهِ بِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَفْعِهِ إِلَيْهِ نُظِرَ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ لِقُصُورِ الزَّمَانِ لَمْ يَحْنَثْ ، لِأَنَّ زَمَانَ الْإِمْكَانِ شَرْطٌ فِي الْبِرِّ ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ لِعُذْرٍ مَانِعٍ مِنْ إِكْرَاهٍ أَوْ مَرَضٍ ، فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَحْنَثُ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يُرَاعِي الْغَلَبَةَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَحْنَثُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُرَاعِي الْغَلَبَةَ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُعْزَلَ الْقَاضِي عَنْ وِلَايَتِهِ ، فَلَا يَخْلُو الْحَالِفُ فِي تَعْيِينِ الْقَاضِي بِالِاسْمِ وَالْقَضَاءِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُرِيدَ رَفْعَهُ إِلَيْهِ فِي أَيَّامِ وِلَايَتِهِ فَيَجْعَلَ الْوِلَايَةَ شَرْطًا فِي الرَّفْعِ ، فَيَجْرِي عَزْلُهُ عَنْهَا مَجْرَى مَوْتِهِ فِي الْحُكْمِ فِيهِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَرْفَعْهُ إِلَيْهِ حَتَّى مَاتَ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُرِيدَ رَفْعَهُ إِلَيْهِ وَلَا يَجْعَلُ الْوِلَايَةَ شَرْطًا فَيَرْفَعُهُ إِلَيْهِ بَعْدَ عَزْلِهِ ، وَيَكُونُ كَحَالِهِ لَوْ كَانَ عَلَى وِلَايَتِهِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ رَفْعُهُ إِلَى الْوَالِي بَعْدَهُ ، وَلَا يَبَرُّ إِنْ رَفَعَهُ إِلَيْهِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ لَا تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ فِي وِلَايَةٍ ، وَلَا عَزْلٍ ، فَهَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ حُكْمُ التَّعْيِينِ أَوْ حُكْمُ الصِّفَةِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ : فَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ صَبِيًّا ، فَكَلَّمَهُ رَجُلًا ، أَحَدُهُمَا يَغْلِبُ فِيهِ حُكْمُ التَّعْيِينِ لِقُوَّتِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ رَفْعُهُ إِلَيْهِ بَعْدَ عَزْلِهِ ، وَيَكُونُ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى وِلَايَتِهِ ، وَيَحْنَثُ بِكَلَامِ الصَّبِيِّ إِذَا صَارَ رَجُلًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَغْلِبُ فِيهِ حُكْمُ الصِّفَةِ ، لِأَنَّهَا كَالشُّرُوطِ فَلَا يَبَرُّ إِنْ رَفَعَهُ إِلَيْهِ بَعْدَ

عَزْلِهِ ، وَلَا يَحْنَثُ بِكَلَامِ الصَّبِيِّ إِذَا صَارَ رَجُلًا . فَإِنْ لَمْ يَعُدِ الْقَاضِي إِلَى وِلَايَتِهِ كَانَ كَمَوْتِهِ فِي بِرِّ الْحَالِفِ وَحِنْثِهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ ، لِاحْتِمَالِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : " إِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ خَشِيتُ أَنْ يَحْنَثَ إِنْ لَمْ يَرْفَعْهُ إِلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنِ احْتِمَالِ الْبِرِّ وَالْحِنْثِ ، وَلَوْ حَنَّثَ نَفْسَهُ وَرَعًا كَانَ أَحْوَطَ " . فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ . وَأَمَّا حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّانِي ، فَهُوَ أَنْ لَا يُعَيِّنَهُ ، وَلَا يَصِفَهُ بِالْقَضَاءِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : أَرْفَعُهُ إِلَى فُلَانٍ أَوْ إِلَى هَذَا ، فَهَذَا يَلْزَمُهُ رَفْعُهُ إِلَيْهِ فِي وِلَايَتِهِ وَعَزْلِهِ ، فَيَبِرُّ إِذَا رَفَعَهُ إِلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ ، وَيَحْنَثُ إِذَا لَمْ يَرْفَعْهُ إِلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ رَفْعُهُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ ، وَلَا يَبِرُّ إِنْ رَفَعَهُ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ يَصِفَهُ بِالْقَضَاءِ ، وَلَا يُعَيِّنَهُ ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : أَرْفَعُهُ إِلَى الْقَاضِي أَوْ إِلَى قَاضٍ ، فَلَا يَبِرُّ إِنْ رَفَعَهُ إِلَى مَعْزُولٍ ، وَلَا يَسْقُطُ بِعَزْلِ قَاضِي الْوَقْتِ وَمَوْتِهِ ، وَقَامَ غَيْرُهُ مِنَ الْقُضَاةِ مَقَامَهُ لِعَقْدِ الْيَمِينِ عَلَى وَالِي الْقَضَاءِ ، ثُمَّ يُنْظَرُ . فَإِنْ قَالَ : أَرْفَعُهُ إِلَى الْقَاضِي ، بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ لَزِمَهُ رَفْعُهُ إِلَى مَنْ تَقَلَّدَ قَضَاءَ ذَلِكَ الْبَلَدِ دُونَ غَيْرِهِ ، فَإِنْ رَفَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ قُضَاةِ الْأَمْصَارِ لَمْ يَبِرَّ ، وَإِنْ قَالَ : إِلَى قَاضٍ ، بِحَذْفِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ ، وَجَازَ أَنْ يَرْفَعَهُ إِلَى مَنْ شَاءَ مِنْ قُضَاةِ الْأَمْصَارِ ، وَكَانَ يَرْفَعُهُ إِلَيْهِ بَارًّا ، لِأَنَّ دُخُولَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ تَعْرِيفٌ وَحَذْفَهَا إِبْهَامٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ حَلَفَ مَا لَهُ مَالٌ وَلَهُ عَرَضٌ أَوْ دَيْنٌ حَنَثَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَحْنَثُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْأَمْوَالَ ضَرْبَانِ : أَعْيَانٌ ، وَدُيُونٌ . فَأَمَّا الْأَعْيَانُ فَجَمِيعُهَا أَمْوَالٌ مُتَمَوَّلَةٌ إِذَا صَحَّ أَنْ تُمْلَكَ بِعِوَضٍ ، وَيُزَالُ الْمِلْكُ عَنْهَا بِعِوَضٍ سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْأَعْيَانِ الْمُزَكَّاةِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْمَوَاشِي وَالزُّرُوعِ ، أَوْ كَانَ غَيْرَ مُزَكًّى كَالثِّيَابِ وَالْأَثَاثِ وَالْعَقَارِ . فَإِذَا حَلَفَ : مَا لَهُ مَالٌ ، حَنِثَ بِجَمِيعِهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْمَالُ مَا وَجَبَ فِيهِ الزَّكَاةُ ، وَلَيْسَ بِمَالٍ مَا لَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ . وَقَالَ مَالِكٌ : الْمَالُ هُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ دُونَ غَيْرِهِمَا ، وَلَا يَحْنَثُ فِي الْيَمِينِ إِلَّا بِهِمَا ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً [ التَّوْبَةِ : 103 ] ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ [ الْمَعَارِجِ : 24 ] ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا لَا

زَكَاةَ فِيهِ خَارِجٌ مِنِ اسْمِ الْمَالِ ؛ لِخُرُوجِهِ مِنْ حُكْمِ الزَّكَاةِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [ الْأَنْعَامِ : 152 ] ، وَقَالَ تَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [ النِّسَاءِ : 10 ] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْحَظْرَ مُتَنَاوِلٌ لِجَمِيعِ الْأَصْنَافِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَهَا أَمْوَالٌ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : وَخَيْرُ الْمَالِ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ ، وَمُهْرٌ مَأْمُورَةٌ يُرِيدُ بِالسِّكَّةِ النَّخِيلَ الْمُصْطَفَّةَ ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الدَّرْبُ سِكَّةً ؟ لِامْتِدَادِهِ . وَالْمَأْبُورَةُ هِيَ الَّتِي يُؤَبَّرُ ثَمَرُهَا ، وَالْمُهْرَةُ الْمَأْمُورَةُ هِيَ الْكَثِيرَةُ النَّسْلِ ، فَجَعَلَ النَّخْلَ وَالْخَيْلَ مِنَ الْأَمْوَالِ وَلِأَنَّ الْأَعْيَانَ الْمُتَمَوَّلَةَ فِي الْعَادَةِ تَكُونُ أَمْوَالًا كَالزَّكَاةِ ؛ وَلِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَالِ مَا يُقْتَنَى وَيُتَمَوَّلُ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي غَيْرِ الزَّكَاةِ كَوُجُودِهِ فِي الْمُزَكَّى . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَتَيْنِ ، فَهُوَ أَنَّ الْعُمُومَ وَإِنْ تَنَاوَلَ جَمِيعَهَا ، فَهُوَ مَخْصُوصٌ فِي الزَّكَاةِ بِبَعْضِهَا مَعَ بَقَاءِ الِاسْمِ فِي الْخُصُوصِ ، كَمَا بَقِيَ اسْمُ السَّارِقِ عَلَى مَنْ سَرَقَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ ، وَإِنْ خُصَّ بِسُقُوطِ الْقَطْعِ عَنْهُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الدُّيُونُ فَضَرْبَانِ : حَالٌّ وَمُؤَجَّلٌ . فَأَمَّا الْحَالُّ فَهُوَ مَالٌ مَمْلُوكٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، وَيَحْنَثُ بِهِ إِذَا حَلَفَ : لَا مَالَ لَهُ وله دين حال أو مؤجل . وَأَمَّا الْمُؤَجَّلُ فَفِي كَوْنِهِ مَالًا مَمْلُوكًا يَحْنَثُ بِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَالٌ مَمْلُوكٌ يَحْنَثُ بِهِ الْحَالِفُ كَالْحَالِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَيْسَ بِمَالٍ مَمْلُوكٍ حَتَّى يَحِلَّ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ ، فَلَا يَحْنَثُ بِهِ الْحَالِفُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ الدَّيْنُ مَالًا مُؤَجَّلًا كَانَ أَوْ حَالًّا ، وَلَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ احْتِجَاجًا بِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ أَكْثَرَ مِنَ الْمُطَالَبَةِ ، فَلَمْ يَكُنْ مَالًا كَالشُّفْعَةِ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ [ الْمَعَارِجِ : 24 ] وَفِي الدَّيْنِ الزَّكَاةُ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَالٌ ؛ وَلِأَنَّ مَا وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ كَانَ مَمْلُوكًا كَالْأَعْيَانِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ ، فَهُوَ أَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ كَالْمُطَالَبَةِ بِإِقْبَاضِ الْأَعْيَانِ ، ثُمَّ لَمْ تَمْنَعِ الْمُطَالَبَةُ بِالْأَعْيَانِ مِنْ ثُبُوتِ الْمِلْكِ ، كَذَلِكَ الْمُطَالَبَةُ بِالدُّيُونِ . وَأَمَّا الْمُطَالَبَةُ بِالشُّفْعَةِ ، فَالْمُسْتَحَقُّ فِيهَا الْحُكْمُ بِهَا ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَجُزِ الْمُعَاوَضَةُ عَنْهَا ، وَالْمُطَالَبَةُ بِالدَّيْنِ بَعْدَ ثُبُوتِ اسْتِحْقَاقِهِ ، وَلِذَلِكَ جَازَتِ الْمُعَاوَضَةُ عَنْهُ ، فَافْتَرَقَا .

فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ لِهَذَا الْحَالِفِ مَالٌ مَرْهُونٌ أَوْ مَغْصُوبٌ حلف أن لا مال له حَنِثَ بِهِ لِبَقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ ضَالٌّ ، فَفِي حِنْثِهِ بِهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : يَحْنَثُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى بَقَائِهِ حَتَّى يُعْلَمَ هَلَاكُهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَحْنَثُ بِهِ لِأَنَّ بَقَاءَهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ ، فَلَمْ يَحْنَثْ بِالشَّكِّ . وَلَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ مُدَبَّرٌ أَوْ مَكَاتَبٌ وحلف أن لا مال له حَنِثَ بِهِمَا لِبَقَائِهِمَا عَلَى مِلْكِهِ ، وَلَوْ كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ ، فَفِي حِنْثِهِ بِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَحْنَثُ لِأَنَّهَا كَالْمُكَاتَبِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَحْنَثُ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُعَاوِضَ عَنْهَا ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَصِحُّ أَنْ يُسْتَرَقَّ فَيُبَاعَ ، وَأُمُّ الْوَلَدِ لَا يَصِحُّ أَنْ تُسْتَرَقَّ فَتُبَاعَ . وَلَوْ كَانَ لَهُ وَقْفٌ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ رَقَبَتَهُ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي مِلْكِهِ لَمْ يَحْنَثْ بِهِ ، وَإِنْ قِيلَ بِدُخُولِهَا فِي مِلْكِهِ ، فَفِي حِنْثِهِ بِهَا وَجْهَانِ كَأُمِّ الْوَلَدِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ مِائَةَ سَوْطٍ فَجَمَعَهَا فَضَرَبَهُ بِهَا ، حكم بره فَإِنْ كَانَ يُحِيطُ الْعِلْمُ أَنَّهَا مَاسَّتْهُ كُلُّهَا بَرَّ ، وَإِنْ أَحَاطَ أَنَّهَا لَمْ تَمَاسَّهُ كُلُّهَا لَمْ يَبَرَّ ، وَإِنْ شَكَّ لَمْ يَحْنَثْ فِي الْحُكْمِ وَيَحْنَثُ فِي الْوَرَعِ ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ وَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَثْكَالِ النَّخْلِ فِي الزِّنَا ، وَهَذَا شَيْءٌ مَجْمُوعٌ غَيْرَ أَنَهُ إِذَا ضَرَبَهُ بِهَا مَاسَّتْهُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : هَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ : لَوْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا لِوَقْتٍ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ فُلَانٌ ، فَإِنْ مَاتَ أَوْ غُبِّيَ عَنَّا حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ حَنَثَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَكِلَا مَا يَبَرُّ بِهِ شَكٌّ ، فَكَيْفَ يَحْنَثُ فِي أَحَدِهِمَا وَلَا يَحْنَثُ فِي الْآخَرِ ؟ فَقِيَاسُ قَوْلِهِ عِنْدِي أَنْ لَا يَحْنَثَ بِالشَّمِّ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوْ لَمْ يَقُلْ ضَرْبًا شَدِيدًا فَأَيُّ ضَرْبٍ ضَرَبَهُ إِيَّاهُ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ ضَارِبُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ عَبْدَهُ مِائَةً اشْتَمَلَ حُكْمُ بِرِّهِ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : عَدَدُ ضَرْبِهِ . وَالثَّانِي : وُصُولُ جَمِيعِهَا إِلَى بَدَنِهِ . وَالثَّالِثُ : فِي حُصُولِ الْأَلَمِ بِضَرْبِهِ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي عَدَدِ ضَرْبِهِ ، فَمُعْتَبَرٌ بِلَفْظِ يَمِينِهِ ، وَلَهُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَحْلِفَ أَنْ يَضْرِبَهُ مِائَةَ مَرَّةٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَحْلِفَ أَنْ يَضْرِبَهُ مِائَةَ سَوْطٍ .

وَالثَّالِثَةُ : أَنْ يَحْلِفَ أَنْ يَضْرِبَهُ مِائَةَ ضَرْبَةٍ . فَأَمَّا الْحَالُ الْأُولَى : إِذَا حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ مِائَةَ مَرَّةٍ ، فَعَلَيْهِ فِي الْبِرِّ أَنْ يُفَرِّقَهَا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَهَا ، فَإِنْ جَمَعَهَا وَضَرَبَهُ بِهَا كَانَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً ، كَمَا لَوْ رَمَى الْجَمْرَةَ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ دُفْعَةً وَاحِدَةً اعْتَدَّهَا بِحَصَاةٍ وَاحِدَةٍ ، حَتَّى رَمَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ فِي سَبْعِ مَرَّاتٍ ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : إِذَا حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَهُ مِائَةَ سَوْطٍ ، فَيَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَهَا وَيَضْرِبَهُ بِمِائَةِ سَوْطٍ دُفْعَةً وَاحِدَةً وَيَكُونَ بَارًّا ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَقَالَ مَالِكٌ : عَلَيْهِ أَنْ يُفَرِّقَهَا وَلَا يَبِرَّ إِنْ جَمَعَهَا ، كَمَا لَوْ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَهُ مِائَةَ مَرَّةٍ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ [ ص : 44 ] وَذَلِكَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ تَعَالَى أَيُّوبَ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ عَدَدًا سَمَّاهُ ، فَأَفْتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَجْمَعَ ذَلِكَ الْعَدَدَ فَيَضْرِبَهَا بِهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً ؛ لِيَبِرَّ فِي يَمِينِهِ . وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُقْعَدٍ زَنَا أَنْ يُضْرَبَ بِإِثْكَالِ النَّخْلِ دُفْعَةً وَاحِدَةً . وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ مِائَةَ مَرَّةٍ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَهَا ، وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ مِائَةَ سَوْطٍ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَهَا أَنَّهُ جَعَلَ الْمَعْدُودَ فِي مِائَةِ مَرَّةٍ الْفِعْلَ ، وَفِي مِائَةِ سَوْطٍ الْأَسْوَاطَ . وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ : إِذَا حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَهُ مِائَةَ ضَرْبَةٍ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُفَرِّقَهَا ، وَلَا يَبِرَّ إِنْ جَمَعَهَا ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَيَضْرِبَهُ مِائَةَ مَرَّةٍ ، وَيَكُونُ الْعَدَدُ رَاجِعًا إِلَى الْفِعْلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ ذَلِكَ وَيَبِرُّ بِهِ كَمَا لَوْ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَهُ مِائَةَ سَوْطٍ ، وَيَكُونُ الْعَدَدُ رَاجِعًا إِلَى الْآلَةِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي وُصُولِ جَمِيعِهَا إِلَى بَدَنِهِ ، فَمُعْتَبَرٌ بِلَفْظِهِ ، فَإِنْ قَالَ : أَضْرِبُكَ بِمِائَةِ سَوْطٍ جَازَ ، إِذَا جَمَعَهَا وَضَرَبَهُ بِهَا حكم بره لليمين أَنْ لَا يَصِلَ جَمِيعُهَا إِلَى بَدَنِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ ضَارِبًا لَهُ بِمِائَةِ سَوْطٍ ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الْبَاءِ عَلَى الْعَدَدِ تَجْعَلُهُ صِفَةً لِآلَةِ الضَّرْبِ ، وَلَا تَجْعَلُهُ صِفَةً لِعَدَدِ الضَّرْبِ . وَإِنْ قَالَ : أَضْرِبُكَ مِائَةَ سَوْطٍ ، وَحَذَفَ الْبَاءَ مِنَ الْعَدَدِ لَبَرَّ بِإِيصَالِ جَمِيعِهَا إِلَى بَدَنِهِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ صِفَةً لِعَدَدِ الضَّرْبِ دُونَ الْآلَةِ . وَإِذَا كَانَ مِنْ شَرْطِ الْبِرِّ وَصُولُ جَمِيعِهَا إِلَى بَدَنِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِي جَمْعِهَا وَضَرْبِهِ بِهَا دُفْعَةً مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ :

أَحَدُهَا : أَنْ يَعْلَمَ وُصُولَ جَمِيعِهَا إِلَى بَدَنِهِ ، فَيَكُونُ بَارًّا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ بَعْضَهَا لَمْ يَصِلْ إِلَى بَدَنِهِ ، فَلَا يَكُونُ بَارًّا . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَشُكَّ هَلْ وَصَلَ جَمِيعُهَا أَوْ لَمْ يَصِلْ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَكُونُ بَارًّا ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ وُقُوعِهَا عَلَى الْبَدَنِ أَنَّهُ لَمْ يَحُلْ عَنْهُ حَائِلٌ ، فَحُمِلَ عَلَى الْبِرِّ فِي الظَّاهِرِ ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِالشَّكِّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيُّ : لَا يَبِرُّ بِشَكِّهِ فِي الْبِرِّ . وَاسْتَدَلَّ الْمُزَنِيُّ بِمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِيمَنْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا الْوَقْتَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ فُلَانٌ ، فَإِنْ مَاتَ فُلَانٌ أَوْ غَابَ ، حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ حَنِثَ ، فَلَمْ يَجْعَلْهُ بِالشَّكِّ فِي الْمَشِيئَةِ بَارًّا ، فَكَيْفَ جَعَلَهُ بِالشَّكِّ فِي وُصُولِ الضَّرْبِ بَارًّا ؟ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ الْمَشِيئَةَ شَرْطًا فِي حِلِّ الْيَمِينِ ، وَقَدِ انْعَقَدَتْ فَلَمْ تُخِلَّ بِالشَّكِّ مَعَ عَدَمِ الظَّاهِرِ فِيهِ ، وَجَعَلَ وَصُولَ الضَّرْبِ شَرْطًا فِي الْبِرِّ ، فَلَمْ يَحْنَثْ بِالشَّكِّ ؛ اعْتِبَارًا بِالظَّاهِرِ فِيهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي وُصُولِ الْأَلَمِ إِلَى بَدَنِهِ ، فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْبَرِّ ، وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَأْلَمْ بِهِ . وَقَالَ مَالِكٌ : وُصُولُ الْأَلَمِ شَرْطٌ فِي الْبِرِّ ، فَإِنْ لَمْ يَأْلَمْ بِهِ حَنِثَ حلف أضربك بمائة سوط اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَقْصُودَ الضَّرْبِ بِتَأْثِيرِهِ ، وَمَا لَا أَلَمَ فِيهِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْأَلَمُ فِي ضَرْبِ الْحُدُودِ شَرْطًا فِيهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَيْمَانِ شَرْطًا فِيهَا حَمْلًا لِإِطْلَاقِهَا عَلَى عُرْفِ الشَّرْعِ . وَدَلِيلُنَا أَمْرَانِ : احْتِجَاحًا ، وَانْفِصَالًا : أَحَدُهُمَا : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ لِضَرْبِ الْمُقْعَدِ عِثْكَالًا ، لِيَدْفَعَ عَنْهُ الْأَلَمَ ، وَيَسْتَقِرَّ بِهِ الْحُكْمُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْأَيْمَانَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْأَسَامِي دُونَ الْمَعَانِي ، فَجَازَ الِاقْتِصَارُ فِيهَا عَلَى مُجَرَّدِ الضَّرْبِ دُونَ الْأَلَمِ بِحُصُولِ الِاسْمِ ، وَالْحُدُودُ أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِالْأَسْمَاءِ وَالْمَعَانِي ، فَجَازَ أَنْ يَقْتَرِنَ بِالِاسْمِ مَقْصُودُهُ مِنَ الْأَلَمِ . فَأَمَّا إِنْ كَانَ عَلَيْهِ لِبَاسٌ يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ الضَّرْبِ إِلَى بَشَرَةِ بَدَنِهِ اعْتُبِرَ حَالُهُ ، إِنْ كَانَ كَثِيفًا يَخْرُجُ عَنِ الْعُرْفِ ، وَيَمْنَعُ مِنَ الْإِحْسَاسِ ، بِالضَّرْبِ لَمْ يَبِرَّ ، وَإِنْ كَانَ مَأْلُوفًا لَا يَخْرُجُ عَنِ الْعُرْفِ ، وَلَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِحْسَاسِ بِالضَّرْبِ بَرَّ ، وَإِنْ لَمْ يَأْلَمْ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَهَبُ لَهُ هِبَةً فَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ أَوْ نَحَلَهُ أَوْ أَعْمَرَهُ فَهُوَ هِبَةٌ ، فَإِنْ أَسْكَنَهُ فَإِنَّمَا هِيَ عَارِيَةٌ لَمْ يُمْلِكْهُ إِيَّاهَا ، فَمَتَى شَاءَ رَجَعَ فِيهَا ، وَكَذَلِكَ إِنْ حُبِسَ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا حَلَفَ لَا يَهَبُ لَهُ هِبَةً ، فَالْهِبَةُ مِمَّا تَبَرَّعَ بِتَمْلِيكِهِ مِنَ الْأَعْيَانِ فِي حَيَاتِهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يَتَمَلَّكُ عَنْهَا ، فَيَحْنَثُ بِالْهِبَةِ إِذَا قَبَضَهَا بَعْدَ الْعَقْدِ وَلَا يَحْنَثُ بِالْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَيَحْنَثُ بِالْهَدِيَّةِ إِذَا قُبِضَتْ ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْهَا عُقْدَةٌ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يُعْتَبَرُ فِي الْهِبَاتِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْهَدَايَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَحْكَامِهَا فِي كِتَابِ الْعَطَايَا وَيَحْنَثُ بِالْعُمْرَى وَالرُّقْبَى ؛ لِأَنَّهَا مِنَ الْهِبَاتِ ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ ، وَهَذَا مِمَّا وَافَقَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ ، ثُمَّ إِذَا قُبِضَتِ الْهِبَةُ عَنْ عَقْدٍ تَقَدَّمَهَا ، فَفِي زَمَانِ حِنْثِهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ حَتَّى يَمْلِكَ الْهِبَةَ : أَحَدُهُمَا : بِالْقَبْضِ ، فَعَلَى هَذَا يَحْنَثُ وَقْتَ إِقْبَاضِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَدُلُّ الْقَبْضُ عَلَى مِلْكِهَا وَقْتَ عَقْدِهَا ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حَانِثًا وَقْتَ الْعَقْدِ . وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ إِذَا عَقَدَ الْهِبَةَ وَنَقَلَ أَوْ سَلَّمَ فَلَمْ يَقْبَلْهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ فَرَدَّهَا ، فَفِي حِنْثِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَمْ تَتِمَّ تَخْرِيجًا مِنْ قَوْلِهِ : إِنَّهَا تُمْلَكُ بِالْقَبْضِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَحْنَثُ لِتَعَلُّقِهَا بِفِعْلِهِ ، تَخْرِيجًا مِنْ قَوْلِهِ : إِنَّهَا تُمْلَكُ بِالْعَقْدِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِالصَّدَقَةِ ، وقد حلف ألا يهب له فَالصَّدَقَةُ ضَرْبَانِ فَرْضٌ وَتَطَوُّعٌ ، فَإِنْ كَانَتْ فَرْضًا كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ لَمْ يَحْنَثْ بِهَا اتِّفَاقًا لِخُرُوجِهَا عَنْ تَبَرُّعِ الْهِبَاتِ ، وَلَوْ كَانَتْ تَطَوُّعًا كَانَتْ هِبَةً يَحْنَثُ بِهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَتْ مِنَ الْهِبَاتِ ، وَلَا يَحْنَثُ بِهَا ؛ احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : اخْتِلَافُهُمَا فِي الِاسْمِ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْمًا . وَالثَّانِي : لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْحُكْمِ ، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمًا . وَدَلِيلُنَا أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : لِاتِّفَاقِهِمَا فِي التَّبَرُّعِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَبَرِّعٌ . وَالثَّانِي : لِاتِّفَاقِهِمَا فِي سُقُوطِ الْبَدَلِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى غَيْرِ بَدَلٍ ؛ فَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا فِي الِاسْمِ ؛ فَلِأَنَّ الصَّدَقَةَ نَوْعٌ فِي الْهِبَةِ ، فَدَخَلَتْ فِي اسْمِ الْعُمُومِ ، وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا فِي الْحُكْمِ فَهُمَا فِيهِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ ؛ وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ فِي الْمَقَاصِدِ . فَالْهَدِيَّةُ لِمَنْ عَلَا

قَصْدًا لِاسْتِعْطَافِهِ ، وَالْهِبَةُ لِمَنْ كَافَأَ قَصْدًا لِمَحَبَّتِهِ ، وَالصَّدَقَةُ عَلَى مَنْ دَنَا قَصْدًا لِثَوَابِهِ ، وَالنِّحْلُ عَلَى مَنْ نَاسَبَ قَصْدًا لِبِرِّهِ ، وَلَا يَمْنَعُ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْمَقَاصِدِ مِنْ تَسَاوِيهِمَا فِي الْحُكْمِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَلَوْ حَلَفَ لَا يَهَبُ فَحَابَى فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ حكم بره لَمْ يَحْنَثْ بِالْمُحَابَاةِ ، لِخُرُوجِهَا عَنِ الْهِبَةِ بِلُزُومِهَا فِي الْعَقْدِ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَسْتَوْهِبُ فَغَابَنَ فِي الْبَيْعِ لَمْ يَحْنَثْ بِالْمُغَابَنَةِ ، وَلَوْ أَبْرَأَ مِنْ دَيْنٍ ، فَإِنْ جَعَلَ الْقَبُولَ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ حَنِثَ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَجْعَلِ الْقَبُولَ شَرْطًا فِيهِ ، فَفِي حِنْثِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَحْنَثُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْهِبَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَحْنَثُ بِهِ ؛ لِتَعَلُّقِهِ بِالذِّمَّةِ دُونَ الْعَيْنِ ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَهَبُ لِمُكَاتَبِهِ فَأَبْرَأَ مِنْ مَالِ كِتَابَتِهِ لَمْ يَحْنَثْ وَجْهًا وَاحِدًا ، لِأَنَّ إِبْرَاءَ الْمُكَاتَبِ عِتْقٌ وَالْعِتْقُ لَيْسَ بِهِبَةٍ ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَهَبُ فَعَفَا عَنْ قَوَدٍ قَدِ اسْتُحِقَّ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الْقَوَدَ لَيْسَ بِمَالٍ فَإِنْ جَازَ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى مَالِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ عَفَا عَنِ الشُّفْعَةِ لَمْ يَحْنَثْ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاوِضَ عَلَيْهَا ، وَلَوْ وَقَفَ وَقْفًا . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ رَقَبَةَ الْوَقْفِ لَا تُمْلَكُ لَمْ يَحْنَثْ بِهِ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهَا تُمْلَكُ فَفِي حِنْثِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَحْنَثُ بِهِ لِنَقْلِ مِلْكِهِ بِغَيْرِ بَدَلٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَحْنَثُ بِهِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ تَامٍّ بِمَنْعِهِ مِنْ كَمَالِ التَّصَرُّفِ فِيهِ . وَلَوْ أَوْلَمَ وَدَعَا إِلَى طَعَامِهِ فَأُكِلَ مِنْهُ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ طَعَامَ الْوَلَائِمِ غَيْرُ مَوْهُوبٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ مَأْذُونٌ فِي اسْتِهْلَاكِهِ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ ، سَوَاءٌ قِيلَ : إِنَّ الْآكِلَ يَتَمَلَّكُهُ بِالْأَكْلِ أَوْ يَتَمَلَّكُهُ بِالتَّنَاوُلِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ . وَلَوْ وَصَّى بِوَصِيَّةٍ لَمْ يَحْنَثْ بِهَا ، لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ تُمْلَكُ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَالْحِنْثُ لَا يَقَعُ بَعْدَ الْمَوْتِ . وَلَوْ أَعَارَ عَارِيَةً لَمْ يَحْنَثْ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْعَوَارِي تُمْلَكُ بِهَا الْمَنَافِعُ دُونَ الْأَعْيَانِ ، وَالْهِبَاتُ مَا مُلِكَ بِهَا الْأَعْيَانُ ؛ وَلِأَنَّ مِلْكَ الْمَنَافِعِ فِي الْعَوَارِي غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُعِيرُ مِنَ الرُّجُوعِ فِيهَا مَتَى شَاءَ وَهُوَ تَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَرْكَبَ دَابَّةَ الْعَبْدِ فَرَكِبَ دَابَّةَ الْعَبْدِ ، لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لَهُ إِنَّمَا اسْمُهَا مُضَافٌ إِلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ هَذَا الْعَبْدِ وَكَانَ سَيِّدُهُ قَدْ

أَعْطَاهُ دَابَّةً جَعَلَهَا بِرَسْمِ رُكُوبِهِ ، وَلَمْ يُمَلِّكْهُ إِيَّاهَا فَرَكِبَهَا الْحَالِفُ لَمْ يَحْنَثْ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : لَا سَكَنْتُ دَارَ هَذَا الْعَبْدِ ، وَكَانَ سَيِّدُهُ قَدْ أَعْطَاهُ دَارًا جَعَلَهَا مَسْكَنَهُ لَمْ يَحْنَثْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَحْنَثُ فِي الدَّابَّةِ وَلَا يَحْنَثُ فِي الدَّارِ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَبْدِ فِي الدَّابَّةِ أَقْوَى مِنْ تَصَرُّفِهِ فِي الدَّارِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِضَافَتَهُمَا إِلَيْهِ سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ ، فَلَمَّا لَمْ يَحْنَثْ فِي الدَّارِ لِعَدَمِ مِلْكِهِ ، وَجَبَ أَنْ لَا يَحْنَثَ فِي الدَّابَّةِ ؛ لِأَنَّهَا عَلَى غَيْرِ مِلْكِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْإِضَافَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمِلْكِ حَقِيقَةً ، وَعَلَى الْيَدِ مَجَازًا ، وَالْأَيْمَانَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْحَقَائِقِ دُونَ الْمَجَازِ ، كَمَا لَوْ كَانَتِ الدَّابَّةُ فِي يَدِ سَائِسِهَا ، فَإِنْ قِيلَ : لَوْ حَلَفَ لَا يَمْلِكُ ثَمَرَةَ هَذِهِ النَّخْلَةِ حَنِثَ بِمِلْكِهَا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ إِضَافَةَ مِلْكٍ ، قِيلَ : لَمَّا اسْتَحَالَ فِيهَا إِضَافَةُ الْمِلْكِ حُمِلَتْ عَلَى مَا لَا يَسْتَحِيلُ لِوُجُودِهِ فِي شَوَاهِدِ الْمَعْقُولِ ، وَهِيَ عَلَى الضِّدِّ مِنَ الْإِضَافَةِ إِلَى الْعَبْدِ .

فَصْلٌ : وَبِعَكْسِ مَا ذَكَرْنَاهُ إِذَا حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ زَيْدٍ أَوْ لَا يَسْكُنُ دَارَهُ ، فَرَكِبَ دَابَّةً جَعَلَهَا زَيْدٌ بِرَسْمِ عَبْدِهِ ، أَوْ سَكَنَ دَارًا جَعَلَهَا بِرَسْمِ عَبْدِهِ حَنِثَ فِي الدَّابَّةِ وَالدَّارِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَيَحْنَثُ فِي الدَّارِ وَلَا يَحْنَثُ فِي الدَّابَّةِ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَذْهَبِهِ ، وَإِذَا كَانَتِ الْإِضَافَةُ مَحْمُولَةً عَلَى الْمِلْكِ اسْتِعْمَالًا لِحَقِيقَتِهَا دُونَ مَجَازِهَا وَجَدَ بِهِ قِيَاسًا مُسْتَمِرًّا ، وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِذَا حَلَفَ لَا يَسْكُنُ دَارَ زَيْدٍ ، فَسَكَنَ دَارًا يَسْكُنُهَا زَيْدٌ وَبَكْرٌ لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَنَا ، وَحَنَّثَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ الْعَبْدِ أَوْ لَا يَسْكُنُ دَارَهُ ، فَمَلَّكَهُ سَيِّدُهُ دَابَّةً وَدَارًا ، فَفِي حِنْثِ الْحَالِفِ بِرُكُوبِ دَابَّتِهِ وَسُكْنَى دَارِهِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ مِنَ الْعَبْدِ ، هَلْ يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ : لَا يَمْلِكُ وَإِنْ مُلِّكَ فَعَلَى هَذَا لَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ : يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ ، فَعَلَى هَذَا يَحْنَثُ بِهِ الْحَالِفُ عَلَى قَوْلِ جُمْهُورٍ لِأَصْحَابِنَا ، وَشَذَّ بَعْضُهُمْ فَقَالَ : لَا يَحْنَثُ بِهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَإِنْ مُلِّكَ ، لِأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ لِمَا تَمَلَّكَهُ السَّيِّدُ مِنَ الرُّجُوعِ فِيهِ ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ مَعْلُولٌ بِالْوَالِدِ إِذَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ كَانَ تَامًّا ، وَإِنِ اسْتَحَقَّ الْوَالِدُ الرُّجُوعَ فِيهِ . وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا إِذَا حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ الْمَكَاتَبِ فَرَكِبَ دَابَّتَهُ حَنِثَ بِهَا الْحَالِفُ عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ مَالِكُهَا ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِهَا مِنْ قَوْلِ مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ ؛ تَعْلِيلًا بِأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَوْ قَالَ : مَالِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ صَدَقَةٌ عَلَى مَعَانِي الْأَيْمَانِ ، حكم الكفارة فَمَذْهَبُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَعِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَطَاءٍ

وَالْقِيَاسُ أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ ، وَقَالَ : مَنْ حَنَثَ فِي الْمَشْيِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ ، حكم الكفارة فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا قَوْلُ عَطَاءٍ : كَفَّارَةُ يَمِينٍ ، وَمَذْهَبُهُ أَنَّ أَعْمَالَ الْبِرِّ لَا يَكُونُ إِلَّا مَا فَرَضَ اللَّهُ أَوْ تَبَرُّرًا يُرَادُ بِهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَالتَّبَرُّرُ أَنْ يَقُولَ : لِلَّهِ عَلَيَّ إِنْ شَفَانِي أَنْ أَحُجَّ نَذْرًا ، فَأَمَّا إِنْ لَمْ أَقْضِكَ حَقَّكَ فَعَلَيَّ الْمَشْيُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ ، فَهَذَا مِنْ مَعَانِي الْأَيْمَانِ لَا مَعَانِي النُّذُورِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : قَدْ قُطِعَ بِأَنَّهُ قَوْلُ عَدَدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْقِيَاسُ ، وَقَدْ قَالَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ : لَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرُ حَجٍّ إِنْ شَاءَ فُلَانٌ ، فَشَاءَ ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، إِنَّمَا النَّذْرُ مَا أُرِيدَ بِهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ عَلَى مَعَانِي الْمُعَلَّقِ وَالشَّائِي غَيْرُ النَّاذِرِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ النَّذْرَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : نَذْرُ جَزَاءٍ وَتَبَرُّرٍ ، أقسام النذر وَهُوَ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ عَلَى مَا أَوْلَاهُ اللَّهُ مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ دَفَعَهُ عَنْهُ مِنْ نِقْمَةٍ ، كَقَوْلِهِ : إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أَوْ رَزَقَنِي وَلَدًا ، فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمَالِي فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : نَذْرُ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ خَرَجَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ ، أقسام النذر فَالنَّفْيُ مَا الْتَزَمَ بِهِ نَفْيَ فِعْلٍ ، كَقَوْلِهِ : إِنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَمَالِي صَدَقَةٌ ، لِيَلْزَمَ بِنَذْرِهِ دُخُولَ الدَّارِ ، وَالْإِثْبَاتُ مَا الْتَزَمَ بِهِ إِثْبَاتَ فِعْلٍ ، كَقَوْلِهِ : إِنْ لَمْ أَدْخُلِ الدَّارَ فَمَالِي صَدَقَةٌ ، لِيَلْتَزِمَ بِنَذْرِهِ دُخُولَ الدَّارِ ، وَالْإِثْبَاتُ مَا الْتَزَمَ بِهِ النَّفْيُ كَقَوْلِهِ : إِنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَمَالِي صَدَقَةٌ ، لِيَلْتَزِمَ بِنَذْرِهِ أَنْ لَا يَدْخُلَ الدَّارَ إِذَا خَالَفَ عَقْدَ نَذْرِهِ وَحَنِثَ فِيمَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى سِتَّةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ، وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ ، أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ صَدَقَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَ مَالَهُ بِمَا لَا يَصِيرُ مَوْصُوفًا بِهِ ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ : إِنْ دَخَلْتُ الدَّارَ ، فَمَالِي حَرَامٌ . وَالثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ أَنَّهُ يُلْزَمُ الْوَفَاءَ بِنَذْرِهِ ، وَالصَّدَقَةَ بِجَمِيعِ مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ النَّذْرِ كَالْجَزَاءِ وَالتَّبَرُّرِ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْ مَالِهِ بِقَدْرِ زَكَاتِهِ ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ الْمَشْرُوعَةَ هِيَ الزَّكَاةُ . وَالرَّابِعُ : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثُلُثِ مَالِهِ ؛ لِأَنَّ أَبَا لُبَابَةَ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَنْخَلِعُ عَنْ مَالِي ؟ فَقَالَ : الثُّلُثُ يُجْزِئُكَ .

وَالْخَامِسُ : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ الْأَمْوَالِ الْمُزَكَّاةِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا لَيْسَ بِمُزَكًّى . وَالسَّادِسُ : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَبَيْنَ أَنْ يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَعَائِشَةَ ، وَحَفْصَةَ ، وَأُمِّ سَلَمَةَ ، وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ ، وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ تَابَعَهُ فِي الْجُمْلَةِ وَلَمْ يُوجِبْ فِيهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [ التَّوْبَةِ : 75 ، 76 ] ، فَتَوَعَّدَهُ عَلَى تَرْكِ الْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ وَالْوَعِيدُ يَتَوَجَّهُ إِلَى تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ نَذَرَ نَذْرًا سَمَّاهُ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ نَذَرَ نَذْرًا يُطِيقُهُ فَلْيَفِ بِهِ فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى عُمُومِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ الصَّدَقَةَ بِشَرْطٍ فَوَجَبَ أَنْ يُلْزَمَ بِوُجُودِ الشَّرْطِ كَالْجَزَاءِ بِالتَّبَرُّرِ ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ حَقٍّ لَزِمَ بِنَذْرِ الْجَزَاءِ وَالتَّبَرُّرُ لَزِمَهُ بِنَفْيِ النَّذْرِ وَالْإِثْبَاتِ كَالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ ، وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ إِلَى قَوْلِهِ : ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ [ الْمَائِدَةِ : 89 ] ، فَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى كُلِّ يَمِينٍ . وَرَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَهَذَا نَصٌّ . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ نَذَرَ وَلَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ، وَمَنْ نَذَرَ مَا لَا يُطِيقُ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ . وَرَوَتْ عَائِشَةُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ حَلَفَ بِالْهَدْيِ أَوْ جَعَلَ مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ فِي الْمَسَاكِينِ أَوْ فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا نَصٌّ ، وَلِأَنَّهُ بِانْتِشَارِهِ عَنْ سَبْعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُمْ إِجْمَاعٌ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ . رَوَى عُمَرُ بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَخَوَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَ بَيْنَهُمَا مِيرَاثٌ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ : قَسِّمْهُ ، فَقَالَ لَهُ : إِنْ عُدْتَ بِذِكْرِ الْقِسْمَةِ لَا أُكَلِّمُكَ أَبَدًا ، وَكُلُّ مَالِي فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إِنَّ الْكَعْبَةَ لَغَنِيَّةٌ عَنْ مَا لِكَ كَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ ، وَكَلِّمْ أَخَاكَ ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : لَا يَمِينَ عَلَيْكَ فِي مَعْصِيَةِ الرَّبِّ ، وَلَا فِي قَطِيعَةِ الرَّحِمِ ، وَلَا فِيمَا لَيْسَ لَكَ . وَرَوَى بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ : قَالَتْ مَوْلَاتِي : لَأُفَرِّقَنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَ امْرَأَتِكَ ، وَكُلُّ مَالِي فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ ، وَأَنَا يَوْمٌ يَهُودِيَّةٌ وَيَوْمٌ نَصْرَانِيَّةٌ وَيَوْمٌ مَجُوسِيَّةٌ

إِنْ لَمْ أُفَرِّقْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ امْرَأَتِكَ ، قَالَ : فَأَتَيْتُ ابْنَ عُمَرَ فَأَخْبَرْتُهُ ، فَجَاءَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْبَابِ ، فَقَالَ هَاهُنَا : هَارُوتُ وَمَارُوتُ ، فَقَالَتْ يَا طَيِّبَ بْنَ الطَّيِّبِ ، ادْخُلْ أَعُوَذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِكَ ، قَالَ : أَتُرِيدِينَ أَنْ تُفَرِّقِي بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ، قَالَتْ : إِنِّي جَعَلْتُ كُلَّ مَالِي فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ ، وَقُلْتُ : إِنَّهَا يَوْمٌ يَهُودِيَّةٌ ، وَيَوْمٌ نَصْرَانِيَّةٌ ، وَيَوْمٌ مَجُوسِيَّةٌ ، قَالَ : تُكَفِّرِينَ يَمِينَكِ وَتَجْمَعِينَ بَيْنَ فَتَاكِ وَفَتَاتِكِ . وَرُوِيَ أَنَّهَا سَأَلَتِ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَكُلُّهُمْ قَالَ لَهَا : كَفِّرِي عَنْ يَمِينِكِ وَخَلِّي بَيْنَهُمَا فَفَعَلَتْهُ . وَرَوَى خِلَاسُ بْنُ عُمَرَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنِ امْرَأَةٍ أَهْدَتْ ثَوْبَهَا إِنْ مَسَّتْهُ ، فَقَالَ : لِتُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهَا ، وَلِتَلْبَسْ ثَوْبَهَا ، وَإِذَا كَانَ هَذَا مَرْوِيًّا عَنْ هَذَا الْعَدَدِ مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَلَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُمْ فَهُوَ إِجْمَاعٌ قَاطِعٌ ، فَاعْتَرَضَ عَلَى هَذَا الْإِجْمَاعِ مَا حَكَاهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْهُنْدُوَانِيِّ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْوَفَاءِ قَوْلُ الْعَبَادِلَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ . قِيلَ : لَهُمْ هَذِهِ دَعْوَى يَدْفَعُهَا مَا رَوَيْنَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَنَّ أَحَدًا مِنْ نَقَلَةِ السُّنَنِ وَالْآثَارِ لَمْ يَرْوِ خِلَافَهُ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ وَيَجِبُ بِحِنْثِهِ كَفَّارَةٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ ، وَلِأَنَّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي حِنْثِهِ بِاللَّهِ جَازَ أَنْ يَسْقُطَ بِهِ حُكْمُ حِنْثِهِ فِي النَّذْرِ كَقَوْلِهِ : إِنْ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ . وَلِأَنَّهُ لَوْ جَرَّدَ نَذْرَهُ عَنْ يَمِينٍ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ وَلَوْ جَرَّدَ يَمِينَهُ عَنْ نَذْرٍ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ، وَهَذَا النَّذْرُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْأَيْمَانِ الْمَحْضَةِ وَالنُّذُورِ الْمَحْضَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحِنْثُ فِيهِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ حِنْثِ الْأَيْمَانِ وَحِنْثِ النُّذُورِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهِيَ وَارِدَةٌ فِي نَذْرِ جَزَاءٍ وَتَبَرُّرٍ عَقَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَمْ يَفِ بِهِ ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرَيْنِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى نَذْرِ الْجَزَاءِ وَالتَّبَرُّرِ ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّذْرَ لَا لِمَحْضِ مُعَاوَضَةٍ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ ، فَيَجْعَلُ النَّذْرَ لَازِمًا فِي الْجَزَاءِ وَلَا يَجْعَلُهُ لَازِمًا فِي التَّبَرُّرِ الْمُبْتَدَأِ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ مَقْصُودَ النَّذْرِ طَاعَةُ اللَّهِ وَمَقْصُودَ هَذَا الْتِزَامُ فِعْلٍ أَوِ الِامْتِنَاعُ مِنْ فِعْلٍ فَلِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَقْصُودِ مَا اخْتَلَفَا فِي الْحُكْمِ ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ نَذْرَ التَّبَرُّرِ لَازِمًا كَمَا كَانَ نَذْرُ الْجَزَاءِ لَازِمًا ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَعْلِيقِ هَذَا النَّذْرِ بِالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ ، فَهُوَ أَنَّهُ وُقُوعُ عِتْقٍ وَطَلَاقٍ بِصِفَةٍ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى اسْتِئْنَافِ عِتْقٍ وَطَلَاقٍ - مُخَالِفٌ حُكْمَ تَعْلِيقِهِ بِالصَّدَقَةِ الَّتِي تَفْتَقِرُ إِلَى

فِعْلِهِ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ تَخْيِيرُهُ بَيْنَ هَذَا النَّذْرِ وَبَيْنَ الْوَفَاءِ وَالْكَفَّارَةِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْوَاجِبِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا وَهُمَا فِي الْوُجُوبِ عَلَى سَوَاءٍ وَلَهُ الْخِيَارُ فِيمَا شَاءَ مِنْهُمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَلَهُ إِسْقَاطُهُمَا بِالنَّذْرِ لِأَنَّ حُكْمَ الْيَمِينِ أَغْلَبُ ، وَهِيَ بِاللَّهِ تَعَالَى أَغْلَظُ ، وَإِنْ كَانَ الْوَفَاءُ بِالنَّذْرِ أَفْضَلَ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالنُّذُورُ تَنْقَسِمُ عَلَى سَبْعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا يَلْزَمُهُ فِيهِ الْوَفَاءُ بِمَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ نَذْرُ الْجَزَاءِ وَالتَّبَرُّرِ إِذَا قَالَ : إِنْ شَفَانِي اللَّهُ تَصَدَّقْتُ بِمَالِي ، أَوْ حَجَجْتُ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ، أَوْ صُمْتُ شَهْرًا ، أَوْ صَلَّيْتُ أَلْفَ رَكْعَةٍ ، فَعَلَيْهِ إِذَا شَفَاهُ اللَّهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا الْتَزَمَهُ مِنَ الصَّدَقَةِ بِمَالِهِ كُلِّهِ . وَفِي قَدْرِ مَا يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَتَصَدَّقُ بِهِ لِأَنَّهُ مِنْ مَالِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ لِاسْتِثْنَائِهِ بِالشَّرْعِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَخَرَجَ مِنْ عُمُومِ نَذْرِهِ . وَإِنْ أَوْجَبَ الْحَجَّ لَزِمَهُ أَنْ يَحُجَّ مُسْتَطِيعًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُسْتَطِيعٍ ، بِخِلَافِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِالِاسْتِطَاعَةِ وَتَعَلَّقَ وُجُوبُ هَذِهِ بِالنُّذُورِ ، وَإِنْ أَوْجَبَ الصَّلَاةَ صَلَّى ، وَفِي وُجُوبِ الْقِيَامِ فِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُهُ الْقِيَامُ فِيهَا مَعَ الْقُدْرَةِ لِوُجُوبِهَا كَالْفُرُوضِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَلْزَمُهُ الْقِيَامُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ ، فَكَانَتْ بِالتَّطَوُّعِ أَشْبَهَ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا يَلْزَمُهُ فِيهِ مِنَ الصَّدَقَةِ بِقَلِيلِ مَالِهِ ، أقسام النذر وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : إِنْ شَفَانِي اللَّهُ فَلِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ ، فَيَنْصَرِفُ إِطْلَاقُ هَذَا النَّذْرِ إِلَى الصَّدَقَةِ ؛ لِأَنَّهَا أَغْلَبُ مِنْ عُرْفِ النُّذُورِ وَلَا يَتَعَذَّرُ إِطْلَاقُهَا بِمَالٍ ، فَجَازَتْ بِقَلِيلِ الْمَالِ اعْتِبَارًا بِالِاسْمِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا يَلْزَمُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ وَحْدَهَا ، في النذر وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : إِنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَلِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ ، فَيَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَحْدَهَا تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْيَمِينِ عَلَى النُّذُرِ ؛ لِأَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ مَعْلُومَةٌ ، وَمُوجَبُ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ مَجْهُولٌ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقَعَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ مَعْلُومٍ وَمَجْهُولٍ .

وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَا يَكُونُ مُخَيَّرًا فِي الْتِزَامِهِ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِمَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَبَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ ، أقسام النذر وَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ أَنْ يُعَلِّقَ نَذْرَهُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ ، وَلَا يُعَلِّقَهُ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ ، لِيَمْنَعَ نَفْسَهُ بِالنَّذْرِ مِنْ فِعْلِ شَيْءٍ ، أَوْ يَلْتَزِمَ بِهِ فِعْلَ شَيْءٍ ، فَيَصِيرُ يَمِينًا عَقَدَهَا بِنَذْرٍ ، فَهِيَ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا مُخَيَّرًا بَيْنَ الْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ وَبَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ لِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ أَصْلِ النَّذْرِ وَأَصْلِ الْأَيْمَانِ ، فَإِنْ كَانَ النَّذْرُ بِمَالٍ أَوْ صَلَاةٍ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَبَيْنَ الْكَفَّارَةِ ، وَإِنْ كَانَ النَّذْرُ بِحَجٍّ . قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ : فِيهِ قَوْلَانِ ، فَتَمَسَّكَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ بِظَاهِرِ كَلَامِهِ ، وَوَهِمَ فِي مُرَادِهِ ، فَخَرَجَ مَذْهَبُهُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْكَفَّارَةِ كَمَا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْكَفَّارَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَلْزَمُهُ الْحَجُّ وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى الْكَفَّارَةِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ ، وَتَكَلَّفَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْحَجَّ يَلْزَمُ بِالدُّخُولِ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ ، فَصَارَ أَغْلَظَ فِي الِالْتِزَامِ مِنْ غَيْرِهِ . وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ مَذْهَبَهُ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ ، كَمَا لَمْ يَخْتَلِفْ فِي غَيْرِهِ ، وَأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْكَفَّارَةِ ، كَمَا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَبَيْنَ الْكَفَّارَةِ . وَحَمَلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ : فِيهِ قَوْلَانِ . عَلَى أَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ لِلْفُقَهَاءِ ؛ لِأَنَّ لَهُمْ فِي الصَّدَقَةِ أَقَاوِيلَ حَكَاهَا ، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الْحَجِّ إِلَّا قَوْلَانِ . إِمَّا الْتِزَامُهُ ، وَإِمَّا التَّخْيِيرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّكْفِيرِ ، وَإِنْ كَانَ مَذْهَبُهُ فِيهِ التَّخْيِيرَ . وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ : مَا اخْتَلَفَ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ مُرَادِهِ في النذر وَهُوَ أَنْ يَقُولَ إِذَا دَخَلْتُ الْبَصْرَةَ فَعَلَيَّ صَدَقَةٌ ، أَوْ إِنْ رَأَيْتُ زَيْدًا فَعَلَيَّ الْحَجُّ فَيُنْظَرُ ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ التَّرَجِّيَ لِدُخُولِ الْبَصْرَةِ وَلِلِقَاءِ زَيْدٍ ، فَهُوَ مَعْقُودٌ عَلَى فِعْلٍ لِلَّهِ تَعَالَى دُونَ فِعْلِ نَفْسِهِ ، فَهُوَ نَذْرُ جَزَاءٍ وَتَبَرُّرٍ ، فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ مَنْعَ نَفْسِهِ مِنْ دُخُولِ الْبَصْرَةِ وَرُؤْيَةِ زَيْدٍ ، فَهِيَ يَمِينٌ عَقَدَهَا عَلَى نَذْرٍ ، فَيَكُونُ مُخَيَّرًا فِيهَا بَيْنَ الْوَفَاءِ وَالتَّكْفِيرِ . وَالْقِسْمُ السَّادِسُ : مَا اخْتَلَفَ حُكْمُهُ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ فِيهِ ، أقسام النذر وَهُوَ أَنْ يُعَلِّقَ نَذْرَهُ بِتَحْرِيمِ مَالِهِ عَلَيْهِ فَيَقُولُ : إِنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَمَالِي عَلَيَّ حَرَامٌ . فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا حَرَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَارِيَةَ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ : لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ [ التَّحْرِيمِ : 1 ] ، ثُمَّ قَالَ : قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [ التَّحْرِيمِ : 2 ] . فَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِي الَّذِي حَرَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى نَفْسِهِ فَرَوَى الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ حَرَّمَ مَارِيَةَ . فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ الْحَالِفَ فِي تَحْرِيمِهِ غَيْرَ ذَاتِ الْفُرُوجِ مِنْ مَالِهِ شَيْءٌ ، وَتَكُونُ الْيَمِينُ فِيهِ لَغْوًا .

وَرَوَى طَائِفَةٌ أَنَّ الَّذِي حَرَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَسَلُ ، أَوِ الْمَغَافِيرُ ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ الْحَالِفَ بِتَحْرِيمِ مَالِهِ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ، كَمَا يَلْزَمُهُ فِي تَحْرِيمِ ذَاتِ الْفُرُوجِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ . وَالْقِسْمُ السَّابِعُ : مَا لَا يَلْزَمُهُ فِي النَّذْرِ بِهِ وَفَاءٌ وَلَا كَفَّارَةٌ ، سَوَاءٌ جَعَلَهُ نَذْرَ تَبَرُّرٍ ، أَوْ نَذْرَ يَمِينٍ ، وَيَكُونُ عَفْوًا ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ إِنْ جَعَلَهُ نَذْرَ تَبَرُّرٍ : لِلَّهِ عَلَيَّ الْحَجُّ إِنْ شَاءَ زَيْدٌ ، أَوْ يَقُولُ إِنْ جَعَلَهُ نَذْرَ يَمِينٍ : إِنْ دَخَلْتُ الدَّارَ تَصَدَّقْتُ بِمَالِي إِنْ شَاءَ عَمْرٌو ، فَلَا يَلْزَمُهُ فِي الْحَالَيْنِ أَنْ يَفِيَ بِنَذْرِهِ ، وَلَا أَنْ يُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ مَا عَلَّقَهُ بِفِعْلِ اللَّهِ وَالْيَمِينَ مَا عَلَّقَهَا بِفِعْلِ نَفْسِهِ ، وَهَذَا النَّذْرُ وَالْيَمِينُ مُعَلَّقَانِ بِمَشِيئَةِ غَيْرِهِ ، فَخَرَجَا عَنْ شَرْطِ النَّذْرِ وَشَرْطِ الْيَمِينِ ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِمَا وُجُوبٌ بِمَشِيئَةٍ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْوُجُوبِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
_____كِتَابُ النُّذُورِ _____

مَنْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ

كِتَابُ النُّذُورِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " مَنْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ لَزِمَهُ إِنْ قَدَرَ عَلَى الْمَشِيِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ رَكِبَ وَأَهْرَاقَ دَمًا احْتِيَاطًا مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُطِقْ شَيْئًا سَقَطَ عَنْهُ ، وَلَا يَمْشِي أَحَدٌ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا النَّذْرُ فِي اللُّغَةِ ، فَهُوَ الْوَعْدُ بِخَيْرٍ أَوْ بِشَرٍّ ، قَالَ عَنْتَرَةُ الْعَبْسِيُّ : الشَّاتِمَيْ عِرْضِي وَلَمْ أَشْتُمْهُمَا وَالنَّاذِرَيْنِ إِذَا لَمَ أَلْقَهُمَا دَمِي وَأَمَّا النَّذْرُ فِي الشَّرْعِ ، فَهُوَ الْوَعْدُ بِالْخَيْرِ ، دُونَ الشَّرِّ ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالنُّذُورِ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [ الْمَائِدَةِ : 1 ] ، وَقَالَ تَعَالَى : وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [ الْإِسْرَاءِ : 24 ] ، يَعْنِي مَسْئُولًا عَنْهُ ، وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَقْدِ وَالْعَهْدِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَقْدَ مَا كَانَ بَيْنَ مُتَعَاقِدَيْنِ ، وَالْعَهْدَ قَدْ يَنْفَرِدُ فِيهِ الْإِنْسَانُ فِي حَقِّهِ نَفْسَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْعَقْدَ إِلْزَامٌ بِوَثِيقَةٍ ، وَالْعَهْدَ إِلْزَامٌ بِغَيْرِ وَثِيقَةٍ ، فَصَارَ الْعَقْدُ أَوْكَدَ مِنَ الْعَهْدِ ، فَأَمَرَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِالْوَفَاءِ . وَقَالَ تَعَالَى : وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا [ النَّحْلِ : 16 ] ، فَجَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ الْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنْ نَقْضِهِ ، ثُمَّ حَمِدَ مَنْ وَفَّى بِنَذْرِهِ فَقَالَ : يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا [ الْإِنْسَانِ : 7 ] ، وَحَمِدَ مَنْ وَفَّى بِعَهْدِهِ فَقَالَ : وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا [ الْبَقَرَةِ : 177 ] ثُمَّ ذَمَّ وَتَوَعَّدَ مَنْ لَمْ يَفِ بِعَهْدِهِ ، وَلَمْ يَفِ بِنَذْرِهِ فَقَالَ تَعَالَى : وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ الْآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [ التَّوْبَةِ : 75 ، 76 ، 77 ] وَهَذَا نَزَلَ فِي ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ الْأَنْصَارِيِّ وَفِي سَبَبِ نُزُولِهِ فِيهِ قَوْلَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَانَ لَهُ مَالٌ بِالشَّامِ خَافَ هَلَاكَهُ ، فَنَذَرَ إِنْ وَصَلَ إِلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْهُ ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ بَخِلَ بِهِ وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَوْلًى لِعُمَرَ قَتَلَ حَمِيمًا لَهُ فَنَذَرَ إِنْ وَصَلَ إِلَى الدِّيَةِ أَنْ يُخْرِجَ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا ، فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَيْهِ بَخِلَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا وَهَذَا قَوْلُ مُقَاتِلٍ ، فَلَمَّا بَلَغَ ثَعْلَبَةَ مَا نَزَلْ فِيهِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَأَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ صَدَقَتَهُ فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَنِي أَنْ أَقْبَلَ مِنْكَ صَدَقَتَكَ ، فَحَثَا الْقِرَابَ عَلَى رَأْسِهِ ، وَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْ صَدَقَتِهِ شَيْئًا ، ثُمَّ أَتَى بَعْدَهُ أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ ، ثُمَّ أَتَى بَعْدَهُ عُمَرُ فَلَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ ، ثُمَّ أَتَى بَعْدَهُ عُثْمَانُ فَلَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ ، وَمَاتَ فِي أَيَّامِهِ ، وَهَذَا مِنْ أَشَدِّ وَعِيدٍ ، وَأَعْظَمِ زَجْرٍ فِي نَقْضِ الْعُهُودِ ، وَمَنْعِ النُّذُورِ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ ، عَنِ الْقَاسِمِ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِنَّ النَّذْرَ لَا يَأْتِي عَلَى ابْنِ آدَمَ شَيْئًا لَمْ أُقَدِّرْهُ عَلَيْهِ ، وَلَكِنَّهُ شَيْءٌ أَسْتَخْرِجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ ، يُؤْتِينِي عَلَيْهِ مَا لَا يُؤْتِينِي عَلَى الْبُخْلِ . فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مَا يَبْذُلُهُ مِنَ الْبِرِّ أَفْضَلُ مِمَّا يَلْتَزِمُهُ بِالنَّذْرِ . وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ عُمَرَ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَوْفِ بِنَذْرِكَ ؛ وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْحُقُوقِ نَوْعَانِ : حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَحَقٌّ لِلْآدَمِيِّينَ ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ تَتَبَرَّعَ بِالضَّمَانِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، جَازَ أَنْ تَتَبَرَّعَ لِضَمَانٍ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالنُّذُورُ الْمَحْضَةُ ضَرْبَانِ : مُجَازَاةٌ ، وَتَبَرُّرٌ . فَأَمَّا الْمُجَازَاةُ : فَهُوَ مَا عَقَدَهُ النَّاذِرُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ طَاعَةٍ يَفْعَلُهَا مُجَازَاةً عَلَى مَا يَرْجُو مِنْ نَفْعٍ ، أَوْ يَسْتَدْفِعُهُ مِنْ ضُرٍّ فَجَعَلَهُ شَرْطًا وَجَزَاءً . فَالشَّرْطُ مَا طُلِبَ وَالْجَزَاءُ مَا بُذِلَ ، وَالشَّرْطُ الْمَطْلُوبُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : طَاعَةٌ وَمُبَاحٌ وَمَعْصِيَةٌ .

وَالْجَزَاءُ الْمَبْذُولُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : طَاعَةٌ وَمُبَاحٌ وَمَعْصِيَةٌ . فَأَمَّا ضُرُوبُ الشَّرْطِ الْمَطْلُوبِ فَالطَّاعَةُ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ فِي الرَّجَاءِ إِنْ رَزَقَنِي اللَّهُ الْحَجَّ ، أَوْ فَتَحَ عَلَى يَدَيَّ بِلَادَ أَعْدَائِهِ ، فَلَهُ عَلَيَّ كَذَا . وَيَقُولُ فِي الْخَوْفِ : إِنْ كَفَانِي اللَّهُ ظَفَرَ أَعْدَائِهِ بِي ، أَوْ دَفَعَ عَنِّي مَا يَقْطَعُنِي عَنْ صَلَاتِي وَصِيَامِي فَلَهُ عَلَيَّ كَذَا . فَهَذَا نَذْرٌ مُنْعَقِدٌ وَالْوَفَاءُ بِهِ وَاجِبٌ . وَالْمُبَاحُ أَنْ يَقُولَ فِي الرَّجَاءِ : إِنْ رَزَقَنِي اللَّهُ وَلَدًا أَوْ مَالًا فَلَهُ عَلَيَّ كَذَا . وَيَقُولُ فِي الْخَوْفِ : إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أَوْ سَلَّمَنِي فِي سَفَرِي فَلَهُ عَلَيَّ كَذَا . فَهَذَا نَذْرٌ مُنْعَقِدٌ وَالْوَفَاءُ بِهِ وَاجِبٌ . وَالْمَعْصِيَةُ أَنْ يَقُولَ فِي الرَّجَاءِ : إِنْ ظَفِرْتُ بِقَتْلِ فُلَانٍ ، أَوْ زَنَيْتُ بِفُلَانَةٍ فَلِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا . وَيَقُولُ فِي الْخَوْفِ : إِنْ لَمْ أَدْفَعْ عَنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ ، وَلَمْ أَمْنَعْ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ ، فَلِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا . فَهَذَا نَذْرٌ بَاطِلٌ ، وَالْوَفَاءُ بِهِ غَيْرُ وَاجِبٍ ، لِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ ، عِنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ ، وَلَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا مَنَعَ مِنِ انْعِقَادِ الْمَعْصِيَةِ ، أَسْقَطَ مَا قَابَلَهَا مِنَ الْجَزَاءِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً . وَأَمَّا ضَرْبُ الْجَزَاءِ الْمَبْذُولِ ، فَالطَّاعَةُ مِنْهَا أَنْ يَقُولَ : إِنْ كَانَ كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ ، أَوْ أَصُومَ ، أَوْ أَحُجَّ ، أَوْ أَعْتَكِفَ ، أَوْ أَتَصَدَّقَ ، فَهَذَا جَزَاءٌ يَنْعَقِدُ بِهِ الشَّرْطُ الْمُبَاحُ ، وَيُلْتَزَمُ فِيهِ الْوَفَاءُ . وَأَمَّا الْمُبَاحُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : إِنْ كَانَ كَذَا ، فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَكْلُ لَذِيذٍ ، وَلُبْسُ جَدِيدٍ إِنْ أَثْبَتَ ، أَوْ لَا أَكَلْتُ لَذِيذًا ، وَلَا لَبِسْتُ جَدِيدًا ، إِنْ نَفَى ، فَهَذَا جَزَاءٌ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ الشَّرْطُ ، وَلَا يَلْزَمُ فِيهِ الْوَفَاءُ ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنِ الْعُرْفِ الْمَقْصُودِ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى . رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ إِذْ هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ فِي

الشَّمْسِ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا : هَذَا أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ وَلَا يَقْعُدَ ، وَلَا يَسْتَظِلَّ ، وَلَا يَتَكَلَّمَ فَقَالَ : مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ ، وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَأَسْقَطَ عَنْهُ مَا لَا طَاعَةَ فِيهِ ، وَأَمَرَهُ بِالْتِزَامِ مَا فِيهِ طَاعَةٌ . وَرَوَى ابْنُ عَوْنٍ حَدِيثًا أَسْنَدَهُ أَنَّ رَجُلًا حَجَّ مَعَ ذِي قَرَابَةٍ مُقْتَرِنًا بِهِ فَرَآهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قِيلَ : إِنَّهُ نَذَرَ فَأَمَرَ بِالْقِرَانِ أَنْ يُقْطَعَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الِاقْتِرَانِ طَاعَةٌ لِلَّهِ أَسْقَطَهُ مِنْ نَذْرِهِ ، وَالْمَعْصِيَةُ أَنْ يَقُولَ : إِنْ كَانَ كَذَا قَبَّلْتُ فُلَانًا ، أَوْ زَنَيْتُ بِفُلَانَةٍ ، إِنْ أَثْبَتَ ، أَوْ لَا صَلَّيْتُ ، وَلَا صُمْتُ إِنْ نَفَى ، فَهَذَا جَزَاءٌ بَاطِلٌ ، وَهُوَ عِنْدَنَا بِاعْتِقَادِهِ عَاصٍ ، فَصَارَ شَرْطُ النَّذْرِ مُنْعَقِدًا بِنَوْعَيْنِ بِطَاعَةٍ ، وَمُبَاحٍ ، وَغَيْرَ مُنْعَقِدٍ بِنَوْعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْمَعْصِيَةُ ، وَصَارَ الْجَزَاءُ لَازِمًا بِنَوْعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الطَّاعَةُ وَغَيْرُ لَازِمٍ بِنَوْعَيْنِ ، وَهُمَا الْمُبَاحُ وَالْمَعْصِيَةُ . فَعَلَى هَذَا إِذَا قَالَ : إِنْ هَلَكَ فُلَانٌ ؛ وَهَبْتُ دَارِي لِفُلَانٍ فَإِنْ كَانَ الْهَالِكُ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ ، انْعَقَدَ بِهِ الشَّرْطُ ؛ لِأَنَّهُ طَاعَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَعْدَائِهِ ، لَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ الشَّرْطُ ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ وَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ مِمَّنْ يَقْصِدُ بِهِبَتِهِ الْأَجْرَ وَالثَّوَابَ لَزِمَ بِهِ الْجَزَاءُ ؛ لِأَنَّهُ طَاعَةٌ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَقْصِدُ بِهِبَتِهِ التَّوَاصُلَ وَالْمَحَبَّةَ لَمْ يَلْزَمْ بِهِ الْجَزَاءُ ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ وَلَوْ قَالَ : إِنْ سَلَّمَ اللَّهُ مَالِي وَهَلَكَ مَالُ فُلَانٍ أَعْتَقْتُ عَبْدِي وَطَلَّقْتُ امْرَأَتِي انْعَقَدَ نَذْرُهُ عَلَى سَلَامَةِ مَالِهِ ، وَلَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى هَلَاكِ مَالِ فُلَانٍ ؛ لِأَنَّ مَا شَرَطَهُ مِنْ سَلَامَةِ مَالِهِ مُبَاحٌ ، وَمَا شَرَطَهُ مِنْ هَلَاكِ مَالِ غَيْرِهِ مَعْصِيَةٌ ، وَلَزِمَهُ فِي الْجَزَاءِ عِتْقُ عَبْدِهِ ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ طَلَاقُ امْرَأَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ بِالْعِتْقِ طَاعَةٌ ، وَالْجَزَاءَ بِالطَّلَاقِ مُبَاحٌ . وَلَوْ جَعَلَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي وُقُوعِ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ فَقَالَ : إِنْ سَلَّمَ اللَّهُ مَالِي وَهَلَكَ مَالُ فُلَانٍ ، فَامْرَأَتِي طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ ، انْعَقَدَ الشَّرْطَانِ ، وَوَقَعَ بِهِمَا الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ ، وَصَارَ شَرْطُ الْمَعْصِيَةِ مُعْتَبَرًا كَشَرْطِ الطَّاعَةِ وَالْجَزَاءُ فِيهِ بِمُبَاحِ الطَّلَاقِ وَاقِعٌ كَوُقُوعِهِ بِمُسْتَحَبِّ الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ خَارِجًا عَنْ أَحْكَامِ النُّذُورِ إِلَى وُقُوعِ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ بِالصِّفَاتِ ، ثُمَّ نَجْعَلُ مَا ذَكَرْنَاهُ قِيَاسًا مُسْتَمِرًّا فِي نَذْرِ الْمُجَازَاةِ . وَأَمَّا نَذْرُ التَّبَرُّرِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ مُبْتَدِأً لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا فَيَبْتَدِئُ بِالْتِزَامِ مَا لَيْسَ بِلَازِمٍ ، فَهُوَ نَوْعَانِ : طَاعَةٌ ، وَغَيْرُ طَاعَةٍ . فَأَمَّا الطَّاعَةُ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَحُجَّ ، أَوْ أَعْتَمِرَ ، أَوْ أُصَلِّيَ ، أَوْ أَصُومَ ، أَوْ أَعْتَكِفَ ، أَوْ أَتَصَدَّقَ بِمَالِي ، أَوْ مَا جَرَى مَجْرَى هَذَا مِنْ أَنْوَاعِ الْقُرَبِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي انْعِقَادِ نَذْرِهِ ، وَوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّهُ نَذْرٌ مُنْعَقِدٌ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ ، كَالْمُجَازَاةِ ؛ لِعُمُومِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ مَرْيَمَ : إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي [ آلِ عِمْرَانَ : 35 ] ، فَأَطْلَقَ نَذْرَهَا وَلَمْ يَذْكُرْ تَعْلِيقَهُ بِشَرْطٍ وَجَزَاءٍ ، فَدَلَّ عَلَى لُزُومِ النَّذْرَيْنِ فِي التَّبَرُّرِ وَالْمُجَازَاةِ . وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ ، [ التَّوْبَةِ : 77 ] ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِوَعْدِهِ فِي الْأَمْرَيْنِ . وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ فَاسْتَوَى فِيهِ حُكْمُ النَّذْرَيْنِ . وَلِأَنَّهُ عَقْدُ نَذْرٍ بِطَاعَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ فِي الْمُجَازَاةِ ، وَالتَّبَرُّرِ ، كَالْأُضْحِيَّةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَأَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ أَنَّهُ نَذْرٌ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ ، وَالْوَفَاءُ بِهِ وَاجِبٌ تَمَسُّكًا بِدَلِيلِ لُغَةٍ وَشَرْعٍ . أَمَّا اللُّغَةُ فَمَا حَكَاهُ الصَّيْرَفِيُّ عَنْ ثَعْلَبٍ ، أَنَّ النَّذْرَ عِنْدَ الْعَرَبِ وَعْدٌ بِشَرْطٍ ، فَكَانَ عُرْفُ اللِّسَانِ فِيهِ مُسْتَعْمَلًا . وَأَمَّا الشَّرْعُ فَلِاسْتِقْرَارِ أُصُولِهِ عَلَى الْفَرْقِ فِي اللُّزُومِ بَيْنَ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ مِنَ الْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ ؛ لِأَنَّهَا لَازِمَةٌ بِالْعَقْدِ وَبَيْنَ عُقُودِ غَيْرِ الْمُعَاوَضَاتِ مِنَ الْعَطَايَا وَالْهِبَاتِ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ بِالْعَقْدِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ نَذْرُ الْمُعَاوَضَةِ لَازِمًا بِالْعَقْدِ ، وَنَذْرُ غَيْرِ الْمُعَاوَضَةِ غَيْرَ لَازِمٍ بِالْعَقْدِ ، وَكِلَا الِاسْتِدْلَالَيْنِ مَدْخُولٌ بِمَا قَدَّمْنَاهُ ، وَعُرْفُ اللِّسَانِ مَدْفُوعٌ بِقَوْلِ جَمِيلِ بْنِ مَعْمَرٍ : فَلَيْتَ رِجَالًا فِيكِ قَدْ نَذَرُوا دَمِي وَهَمُّوا بِقَتْلِي يَا بُثَيْنَ لِقَوْلِي وَأَمَّا نَذْرُ مَا لَيْسَ بِطَاعَةٍ ، وَلَا قُرْبَةٍ فَكَقَوْلِهِ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَدْخُلَ الْبَصْرَةَ أَوْ لَا أَدْخُلَهَا ، أَوْ آكُلَ لَذِيذًا ، أَوْ لَا آكُلَهُ ، أَوْ أَلْبَسَ جَدِيدًا ، أَوْ لَا أَلْبَسَهُ فَلَيْسَ فِي فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ هَذَا وَلَا فِي تَرْكِهِ طَاعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا قُرْبَةٌ إِلَيْهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَبَاحَ فِعْلَهُ وَتَرَكَهُ فَاسْتَوَى الْأَمْرَانِ فِي الْحُكْمِ عِنْدَهُ ، فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَيْتَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَضْرِبَ عَلَى رَأْسِكَ بِالدُّفِّ فَقَالَ : أَوْفِ بِنَذْرِكِ قِيلَ : هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ دُونَ الْوُجُوبِ فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَزَوَّجَ ، فَإِنْ قَصَدَ بِهِ غَضَّ الطَّرْفِ وَتَحْصِينَ الْفَرْجِ ، كَانَ قُرْبَةً ؛ فَيَكُونُ وَاجِبًا فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ ، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ الِاسْتِمْتَاعَ وَالتَّلَذُّذَ كَانَ مُبَاحًا ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ . ثُمَّ عَلَى قِيَاسِ هَذَا فِي نَظَائِرِهِ ؛ فَهَذَا حُكْمُ عَقْدِ الْبَابِ فِي أُصُولِ النُّذُورِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ : فَصُورَتُهَا فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ فَلَهُ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَصِفَهُ بِبَيْتِهِ الْحَرَامِ فَيَقُولُ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ ؛ فَيَنْعَقِدُ بِهِ النَّذْرُ ، وَيَلْزَمُ فِيهِ الْوَفَاءُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ الَّتِي يُتَعَبَّدُ بِهَا . وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَذْهَبَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ ، أَوْ أَقْصِدَهُ أَوْ أَمْضِيَ إِلَيْهِ انْعَقَدَ بِهِ النَّذْرُ كَالْمَشْيِ إِلَيْهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ بِالْمَشْيِ إِلَيْهِ ، وَلَا يَنْعَقِدُ بِالْقَصْدِ لَهُ وَالذَّهَابِ إِلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْمَشْيِ يُرِيدُ الْقُرْبَةَ وَبِالْقَصْدِ وَالذَّهَابِ غَيْرُ مُرِيدٍ لَهُمَا . وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ ، [ الْحَجِّ : 27 ] ، فَجَعَلَ الرُّكُوبَ صِفَةً لِقَاصِدِيهِ كَالْمَشْيِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْقَصْدَ ، وَالذَّهَابَ يَعُمُّ الْمَشْيَ وَالرُّكُوبَ فَدَخَلَ حُكْمُ الْخُصُوصِ فِي الْعُمُومِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يَصِفَهُ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ ، وَيَقْتَضِي عَلَى قَوْلِهِ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُرِيدَ بِهِ بَيْتَ اللَّهِ الْحَرَامَ ، فَيَصِيرَ بِإِرَادَتِهِ فِي حُكْمِ مَنْ تَلَفَّظَ بِهِ فِي انْعِقَادِ نَذْرِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُرِيدَ بِهِ غَيْرَهُ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ وَمَسَاجِدِهِ الَّتِي لَا فَضْلَ لَهَا عَلَى غَيْرِهَا ، فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ نَذْرٌ ، وَلَا يَلْزَمُهُ فِيهِ وَفَاءٌ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُطْلِقَ نَذْرَهُ ، وَلَا يَقْتَرِنَ بِهِ إِرَادَةٌ ، فَفِي إِطْلَاقِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا ، أَنَّ مَعْهُودَ إِطْلَاقِهِ يَتَوَجَّهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ عُرْفًا ، فَتَوَجَّهَ النَّذْرُ إِلَيْهِ حُكْمًا ، فَصَارَ بِالْعُرْفِ كَالْمُضْمَرِ فَيَصِيرُ النَّذْرُ بِهِ مُنْعَقِدًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ وَنَقَلَهُ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي جَامِعِهِ أَنَّهُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يَنْطَلِقُ عَلَى مَسَاجِدِ اللَّهِ كُلِّهَا ، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ إِطْلَاقُهُ مِنْ بَعْضِهَا ، وَلَا يُحْمَلُ إِطْلَاقُهُ عَلَى إِضْمَارٍ تَجَرَّدَ عَنْ نِيَّةٍ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَنْعَقِدُ بِهِ النَّذْرُ ، وَلَوِ احْتَاطَ بِالْتِزَامِهِ كَانَ أَوْلَى .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ انْعِقَادُ النَّذْرِ بِقَصْدِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ لَمْ يَخْلُ حَالُ مُنْذِرِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :

أَحَدُهَا : أَنْ يُرِيدَ قَصْدَهُ لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ، المنذر بقصده البيت الحرام فَقَدْ تَعَيَّنَ نَذْرُهُ بِمَا أَرَادَهُ مِنْ حَجٍّ ، أَوْ عُمْرَةٍ ، فَإِنْ أَرَادَ الْحَجَّ لَمْ تُجْزِهِ الْعُمْرَةُ ، وَلَوْ أَرَادَ الْعُمْرَةَ لَمْ يُجْزِهِ الْحَجُّ ، وَإِنْ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَجَزَأَهُ الْقِرَانُ عَنْ إِفْرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُرِيدَ بِقَصْدِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ أَنْ لَا يَحُجَّ وَلَا يَعْتَمِرَ المنذر فَفِي النَّذْرِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ لِاسْتِثْنَاءِ مَقْصُودِهِ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ صَحِيحٌ لِعَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الْحُكْمِ ، دُونَ الْعَقْدِ . فَعَلَى هَذَا فِي الشَّرْطِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي حُكْمَ النُّذُورِ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الشَّرْطَ صَحِيحٌ ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ بِحَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ لِاتِّصَالِ الشَّرْطِ بِالنَّذْرِ ، فَصَارَ مَحْمُولًا عَلَيْهِ ، فَعَلَى هَذَا فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَضُمَّ إِلَى قَصْدِ الْبَيْتِ عِبَادَةً مِنْ طَوَافٍ ، أَوْ صَلَاةٍ ، أَوْ صِيَامٍ ، أَوِ اعْتِكَافٍ ، لِيَصِيرَ الْقَصْدُ طَاعَةً ، إِذَا اقْتَرَنَ بِطَاعَةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْرِنَ بِالْقَصْدِ طَاعَةً ، لِأَنَّ قَصْدَ الْبَيْتِ طَاعَةٌ وَمُشَاهَدَتَهُ قُرْبَةٌ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا مَا الْتَزَمَ فَصَارَ فِي مَجْمُوعِ هَذَا التَّفْصِيلِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ النَّذْرَ بَاطِلٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ صَحِيحٌ ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ النَّذْرَ وَالشَّرْطَ صَحِيحَانِ ، وَعَلَيْهِ فِعْلُ عِبَادَةٍ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُمَا صَحِيحَانِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ عِبَادَةٌ غَيْرُ الْقَصْدِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُطْلِقَ نَذْرَهُ بِقَصْدِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ ، وَلَا يَقْتَرِنُ بِهِ إِرَادَةٌ ، المنذر فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ فِيهِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ، وَيَكُونُ إِطْلَاقُ النَّذْرِ مَعْقُودًا بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ، لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِهِمَا شَرْعًا ؛ فَصَارَ مَقْصُودًا بِهِمَا نَذْرًا . وَذَهَبَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِيمَنْ أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ مِنْ غَيْرِ خَطَأٍ فِيهَا ، هَلْ يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ لِدُخُولِهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَهَا مُحِلًّا ، فَعَلَى هَذَا يَصِيرُ إِطْلَاقُ نَذْرِهِ بِقَصْدِ الْبَيْتِ مَعْقُودًا عَلَى حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ وَيَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَهَا مُحِلًّا . قَالَ أَبُو عَلِيٍّ : فَعَلَى هَذَا فِي انْعِقَادِ نَذْرِهِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَجْهَانِ تَخَرَّجَا مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ، أَوْ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ فِي لُزُومِ نَذْرِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُهُ النَّذْرُ كَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَهُوَ قَصْدٌ لَا يَجِبُ بِهِ إِحْرَامٌ ، وَكَذَلِكَ قَصْدُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَا يَجِبُ فِيهِ إِحْرَامٌ وَيَكُونُ النَّذْرُ فِي جَمِيعِهَا مَقْصُورًا عَلَى مُجَرَّدِ الْقَصْدِ لِاشْتِرَاكِهَا فِي مَعْنَى الْوُجُوبِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ النَّذْرُ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ، وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ ، وَإِنْ لَزِمَهُ النَّذْرُ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، لِوُجُوبِ قَصْدِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ شَرْعًا ، فَوَجَبَ قَصْدُهُ نَذْرًا ، وَلَمْ يَجِبْ قَصْدُ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ، وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ شَرْعًا ، فَلَمْ يَجِبْ قَصْدُهُ نَذْرًا ، فَاقْتَضَى افْتِرَاقُهُمَا فِي هَذَا التَّعْلِيلِ الْمُخَالِفِ بَيْنَهُمَا فِي الْوُجُوبِ أَنْ يَجِبَ بِقَصْدِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي النَّذْرِ مَا أَوْجَبَ قَصْدُهُ بِالشَّرْعِ ، وَهَذَا التَّخْرِيجُ وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا فَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ مَعَ عَدَمِ النَّصِّ ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى وُجُوبِ إِحْرَامِهِ فِي النَّذْرِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ؛ لِأَنَّهُ مَعْهُودُ النَّذْرِ عُرْفًا ، فَلَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى تَخْرِيجِ مَا يُخَالِفُهُ ، وَيَكُونُ فِي هَذَا مُخَيَّرًا بَيْنَ الْإِحْرَامِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ، وَإِنْ كَانَ الْحَجُّ أَفْضَلَ مِنَ الْعُمْرَةِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ عَلَيْهِ فِيهِ هَذَا النَّذْرُ أَنْ يُحْرِمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ، فَلَهُ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يُطْلِقَ فِي نَذْرِهِ صِفَةَ قَصْدِهِ ، المنذر قصد البيت الحرام وَلَا يَشْتَرِطُ فِيهِ رُكُوبًا ، وَلَا مَشْيًا فَيَقُولُ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَقْصِدَ بَيْتَ اللَّهِ الْحَرَامِ ، أَوْ أَذْهَبَ إِلَيْهِ ، أَوْ أَمْضِيَ إِلَيْهِ أَوْ أَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ إِذَا خَرَجَ بَيْنَ الرُّكُوبِ وَالْمَشْيِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَشْتَرِطَ فِي نَذْرِهِ صِفَةَ قَصْدِهِ المنذر قصد الببيت الحرام بِرُكُوبٍ أَوْ مَشْيٍ فَيَقُولُ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ ، أَوْ أَرْكَبَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ ، فَفِي لُزُومِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فِي نَذْرِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الرُّكُوبُ وَلَا الْمَشْيُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِالشَّرْعِ لَمْ يَجِبْ بِالنَّذْرِ ، وَلَهُ أَنْ يَرْكَبَ إِنْ شَرَطَ الْمَشْيَ ، وَيَمْشِيَ إِنْ شَرَطَ الرُّكُوبَ . وَقَدْ رَوَى يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ ، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتَفْتَيْتُهُ فَقَالَ : لِتَمْشِ أَوْ لِتَرْكَبْ فَخَيَّرَهَا بَيْنَ الْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ ، فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِ الشَّرْطِ فِي الْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُمَا يَجِبَانِ بِالشَّرْطِ ؛ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَمْشِيَ إِذَا شَرَطَ الْمَشْيَ وَيَلْزَمَهُ أَنْ يَرْكَبَ إِذَا شَرْطَ الرُّكُوبَ ، لِأَنَّ فِي الْمَشْيِ زِيَادَةَ عَمَلٍ ، وَفِي الرُّكُوبِ زِيَادَةُ نَفَقَةٍ ، وَكِلَاهُمَا قُرْبَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ النَّذْرِ أَنْ لَا يَلْزَمَ فِيهِ إِلَّا مَا وَجَبَ بِالشَّرْعِ كَمَا يَلْزَمُ فِيهِ الْأُضْحِيَّةُ وَالِاعْتِكَافُ ، وَإِنْ لَمْ يُجِبْ فِيهِ الشَّرْعُ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَشْبَهُ : أَنَّ الْمَشْيَ يَلْزَمُ بِاشْتِرَاطِهِ ، وَلَا يَلْزَمُ الرُّكُوبُ بِاشْتِرَاطِهِ ؛ لِأَنَّ فِي الْمَشْيِ مَشَقَّةً ، فَلَزِمَ لِتَغْلِيظِهِ ، وَفِي الرُّكُوبِ تَرْفِيهٌ ، فَلَمْ يَلْزَمْ لِتَحْقِيقِهِ ، وَأَدَاءُ الْأَخَفِّ بِالْأَغْلَظِ مُجْزِئٌ ، وَأَدَاءُ الْأَغْلَظِ بِالْأَخَفِّ غَيْرُ مُجْزِئٍ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ حَجَّا مَاشِيَيْنِ . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : " مَا آسَى عَلَى شَيْءٍ كَمَا آسَى عَلَى أَنْ لَوْ حَجَجْتُ فِي شَبَابِي مَاشِيًا " . وَقَدْ سَمِعْتُ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ [ الْحَجِّ : 27 ] ، فَبَدَأَ بِالرَّجَّالَةِ قَبْلَ الرُّكْبَانِ . فَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ : إِنَّ الْمَشْيَ وَالرُّكُوبَ لَا يَجِبَانِ بِالشَّرْطِ ، لَزِمَهُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِهِ ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْإِحْرَامُ فِيهِ مِنْ بَلَدِهِ اعْتِبَارًا بِفَرْضِ الْحَجِّ فِي الْإِحْرَامِ كَمَا اعْتُبِرَ بِفَرْضِهِ فِي سُقُوطِ الْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ . وَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الثَّانِي إِنَّ الْمَشْيَ وَالرُّكُوبَ يَجِبَانِ بِالشَّرْطِ ابْتَدَأَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ مَسِيرِهِ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ وَلَزِمَهُ الْإِحْرَامُ فِيهِ مِنْ بَلَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ الْمَشْيُ وَالرُّكُوبُ مِنْ حُقُوقِ هَذَا الْحَجِّ ، الْمَنْدُوبِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ حُقُوقِ حَجِّ الْإِسْلَامِ وَجَبَ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ الْإِحْرَامُ لِيَصِيرَ بِهِ دَاخِلًا فِي لَوَازِمِ النَّذْرِ . وَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الثَّالِثِ : إِنَّ الْمَشْيَ وَاجِبٌ بِالشَّرْطِ ، وَالرُّكُوبَ غَيْرُ وَاجِبٍ بِالشَّرْطِ ، لَزِمَهُ فِي اشْتِرَاطِ الْمَشْيِ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ بَلَدِهِ ، وَفِي اشْتِرَاطِ الرُّكُوبِ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ مِيقَاتِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ مَا شَرَطَهُ مِنَ الْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ ، فَخَالَفَ شَرْطَهُ فَرَكِبَ ، وَقَدْ شَرَطَ أَنْ يَمْشِيَ وَمَشَى ، وَقَدْ شَرَطَ أَنْ يَرْكَبَ فَحَجُّهُ مُجْزِئٌ عَنْ نَذْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ حَجُّ النَّذْرِ بِأَوْكَدَ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَلَا الْمَشْيُ وَالرُّكُوبُ بِأَوْكَدَ مِنْ تَقْدِيمِ الْإِحْرَامِ ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ إِجْرَاءِ الْفَرْضِ ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْ إِجْزَاءِ النَّذْرِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ جُبْرَانُ مَا آخِرُهُ مِنَ الْإِحْرَامِ ، وَفِي وُجُوبِ جُبْرَانِ مَا تَرَكَهُ مِنَ الْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ عند شرط المنذر قصده ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ :

أَحَدُهَا : لَا يَجِبُ عَلَيْهِ جُبْرَانُهُمَا ؛ لِاخْتِصَاصِ الْجُبْرَانِ بِالْمَنَاسِكِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَلَيْسَ الْمَشْيُ وَالرُّكُوبُ بِنُسُكٍ مَشْرُوعٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجِبُ عَلَيْهِ جُبْرَانُهُمَا بِدَمٍ فَيَفْتَدِي الْمَشْيَ إِذَا رَكِبَ ، وَيَفْتَدِي الرُّكُوبَ إِذَا مَشَى ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ صَارَا بِالشَّرْطِ مِنْ حُقُوقِ حَجِّهِ ، فَجَرَى عَلَيْهِمَا حُكْمُ الْمَنَاسِكِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ أُخْتَهُ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ حَافِيَةً غَيْرَ مُخْتَمِرَةٍ ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُقْبَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : مُرْ أُخْتَكَ فَلْتَرْكَبْ وَلْتَخْتَمِرْ وَلْتَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَشْبَهُ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَفْتَدِيَ الْمَشْيَ ، إِذَا رَكِبَ وَلَا يَفْتَدِيَ الرُّكُوبَ إِذَا مَشَى ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَرَفَّهَ بِتَرْكِ الْمَشْيِ ، وَلَمْ يَتَرَفَّهْ بِتَرْكِ الرُّكُوبِ ، فَإِذَا قِيلَ : بِسُقُوطِ الْفِدْيَةِ فِيهِمَا اسْتَوَى حُكْمُ تَرْكِهِمَا بِعُذْرٍ وَغَيْرِ عُذْرٍ . وَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الْفِدْيَةِ فِيهِمَا ، وَجَبَتْ فِي تَرْكِهِمَا بِغَيْرِ عُذْرٍ لِقُدْرَةِ الْمَاشِي عَلَى الْمَشْيِ وَقُدْرَةِ الرَّاكِبِ عَلَى الرُّكُوبِ ، وَفِي وُجُوبِهِمَا فِي تَرْكِهِمَا لِعُذْرٍ لِعَجْزِ الْمَاشِي بِالْمَرَضِ ، وَعَجْزِ الرَّاكِبِ بِالْعُسْرَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تَسْقُطُ الْفِدْيَةُ بِالْعَجْزِ ؛ لِاسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ عَلَى سُقُوطِ مَا عَجَزَ عَنْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تَجِبُ الْفِدْيَةُ مَعَ الْعَجْزِ ، لِتَوَجُّهِ الْعَجْزِ إِلَى الْفِعْلِ ، دُونَ الْفِدْيَةِ ، فَيَسْقُطُ مَا عَجَزَ عَنْهُ مِنَ الْفِعْلِ ، وَلَمْ يَسْقُطْ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْفِدْيَةِ ؛ لِأَنَّ الْفِدْيَةَ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ ، تَجِبُ عَلَى الْمَعْذُورِ ، وَغَيْرِ الْمَعْذُورِ كَالْفِدْيَةِ فِي الْحَلْقِ ، وَاللِّبَاسِ فَإِذَا اسْتَقَرَّ وُجُوبُ هَذِهِ الْفِدْيَةِ فَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا فِدْيَةُ تَرْكٍ ؛ لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِلْمَشْيِ الْمَشْرُوطِ ، وَتَارِكٌ لِمَا شَرَطَهُ مِنْ نَفَقَةِ الرُّكُوبِ ؛ فَصَارَ كَالْمُتَمَتِّعِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ بِتَرْكِ الْإِحْرَامِ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ فِي أَحَدِ نُسْكَيْهِ ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْفِدْيَةُ دَمَ شَاةٍ ، فَإِنْ أَعْسَرَ بِهَا صَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا فِدْيَةُ تَرْفِيهٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَرَفَّهَ فِي تَرْكِ الْمَشْيِ بِالرُّكُوبِ وَتَرَفَّهَ فِي تَرْكِ الرُّكُوبِ بِسُقُوطِ النَّفَقَةِ ؛ فَصَارَ كَفِدْيَةِ الْحَلْقِ الَّذِي تَرَفَّهَ بِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُخَيَّرًا فِي الْفِدْيَةِ بَيْنَ دَمِ شَاةٍ ، أَوْ إِطْعَامِ ثَلَاثَةِ آصُعٍ سِتَّةَ مَسَاكِينَ ، أَوْ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا نَذَرَ الْحَجَّ مَاشِيًا مَشَى حَتَّى يَحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ ثُمَّ يَرْكَبُ ، وَإِذَا نَذَرَ أَنْ يَعْتَمِرَ مَاشِيًا مَشَى حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَيَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا النَّذْرُ فِي الْحَجِّ مَاشِيًا مُوَافِقٌ لِنَذْرِهِ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ مِنْ وَجْهَيْنِ ، وَمَفَارِقٌ لَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ . فَأَمَّا مَا يُوَافِقُهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ : فَأَحَدُهُمَا : اشْتِرَاكُهُمَا فِي وُجُوبِ الْمَشْيِ فِيهِمَا ، وَسُقُوطِهِ ، وَفِيهِ وَجْهَانِ وَأَمَّا مَا يُفَارِقُهُ فِيهِ مِنَ الْوَجْهَيْنِ : فَأَحَدُهُمَا : أَنَّهُ إِذَا نَذَرَ الْحَجَّ مَاشِيًا ؛ تَعَيَّنَ نَذْرُهُ فِي الْحَجِّ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ فِي الْعُمْرَةِ ، وَإِذَا نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ ، لَمْ يَتَعَيَّنْ نَذْرُهُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْإِحْرَامِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ . وَالثَّانِي : يَفْتَرِقَانِ فِي أَوَّلِ الْمَشْيِ وَآخِرِهِ ، فَإِذَا نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا كَانَ آخِرُ الْمَشْيِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ وَأَوَّلُهُ مُخْتَلَفًا فِيهِ . وَإِذَا نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ كَانَ أَوَّلُ الْمَشْيِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ ، وَآخِرُهُ مُخْتَلَفًا فِيهِ ، فَإِذَا نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا فَفِي أَوَّلِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَشْيِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : مِنْ بَلَدِهِ إِذَا تَوَجَّهَ مِنْهُ لِحَجِّهِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِي حَجِّ الْمَاشِي فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ بِهِ مِنْ بَلَدِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ مِنْ مِيقَاتِهِ اعْتِبَارًا بِأَوَّلِ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَأَرْكَانِهِ . فَعَلَى هَذَا يُحْرِمُ بِهِ مِنْ مِيقَاتِهِ وَآخِرِ مَشْيِهِ إِذَا حَلَّ إِحْلَالَهُ الثَّانِي الَّذِي يَسْتَبِيحُ بِهِ جَمِيعَ مَا حَظَرَهُ الْإِحْرَامُ ، وَفِي إِحْلَالِهِ الثَّانِي قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : الرَّمْيُ ، وَالْحَلْقُ ، وَالطَّوَافُ ، إِنْ قِيلَ : إِنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ بِشَيْئَيْنِ : الرَّمْيُ ، وَالطَّوَافُ ، إِنْ قِيلَ : إِنَّ الْحَلْقَ إِبَاحَةٌ بَعْدَ حَظْرٍ . وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْكَبَ فِي أَيَّامِ مِنًى وَإِنْ كَانَ الرَّمْيُ فِيهَا بَاقِيًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَرْمِيهَا بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ حَجِّهِ . وَإِذَا نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ كَانَ أَوَّلُ مَشْيِهِ مِنْ بَلَدِهِ إِذَا تَوَجَّهَ ، وَفِي آخِرِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : إِذَا وَصَلَ إِلَى الْبَيْتِ اعْتِبَارًا بِلَفْظِ نَذْرِهِ . وَالثَّانِي : إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الْقُدُومِ اعْتِبَارًا بِأَوَّلِ قُرْبَةٍ . وَالثَّالِثُ : إِذَا حَلَّ إِحْلَالَهُ الثَّانِي اعْتِبَارًا بِكَمَالِ نُسُكِهِ ، فَإِنْ رَكِبَ فِي مَشْيِهِ الْمُسْتَحَقِّ كَانَ

فِي الْفِدْيَةِ عَلَى مَا مَضَى ، وَإِذَا نَذَرَ أَنْ يَعْتَمِرَ مَاشِيًا كَانَ فِي أَوَّلِ مَشْيِهِ وَجْهَانِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَجِّ : أَحَدُهُمَا : مِنْ بَلَدِهِ ، وَيُحْرِمُ مِنْهُ بِعُمْرَةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : مِنْ مِيقَاتِهِ وَيُحْرِمُ مِنْهُ بِعُمْرَتِهِ ، وَآخِرُ مَشْيِهِ إِذَا أَحَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ ، وَفِيمَا يَتَحَلَّلُ بِهِ مِنْهُمَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بِالطَّوَافِ ، وَالسَّعْيِ ، وَالْحَلْقِ ، إِنْ قِيلَ إِنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ . وَالثَّانِي : بِالطَّوَافِ ، وَالسَّعْيِ ، إِنْ قِيلَ : إِنَّ الْحَلْقَ إِبَاحَةٌ بَعْدَ حَظْرٍ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ الْحَجُّ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ انْصَرَفَ هَذَا إِلَى النَّذْرِ ، فَانْعَقَدَ نَذْرُهُ بِالْحَجِّ ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ ، رُوعِيَ مَخْرَجُ لَفْظِهِ ، فَإِنْ تَضَمَّنَ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّذْرِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ مُجَازَاةً عَلَى اجْتِلَابِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ ، أَوْ شَرَطَ فِيهِ الْمَشْيَ الَّذِي لَا يَلْزَمُ مِنْ غَيْرِ النَّذْرِ انْصَرَفَ ذَلِكَ إِلَى النَّذْرِ ، وَانْعَقَدَ نَذْرُهُ بِالْحَجِّ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِهِ دَلِيلٌ عَلَى النَّذْرِ وَاقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ : لِلَّهِ عَلَيَّ الْحَجُّ ، فَهُوَ مُحْتَمِلٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ نَذْرًا لِحَجٍّ ، وَمُحْتَمِلٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْإِخْبَارَ بِفَرْضِ الْحَجِّ ؛ فَوَجَبَ لِأَجْلِ هَذَا الِاحْتِمَالِ أَنْ يُرْجَعَ إِلَى الْمُرَادِ بِهِ ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ النَّذْرَ كَانَ نَذْرًا ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْإِخْبَارَ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ فَرْضِ الْحَجِّ لَمْ يَكُنْ نَذْرًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ لَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ النَّذْرُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِشَكْلٍ مُحْتَمَلٍ .

إِذَا أَحْرَمَ بِمَا نَذَرَهُ مِنَ الْحَجِّ مَاشِيًا وَفَاتَهُ الْحَجُّ بِفَوَاتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ فَاتَهُ الْحَجُّ حَلَّ مَاشِيًا وَعَلَيْهِ حَجُّ قَابِلٌ مَاشِيًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا أَحْرَمَ بِمَا نَذَرَهُ مِنَ الْحَجِّ مَاشِيًا ، وَفَاتَهُ الْحَجُّ بِفَوَاتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ إِمَّا بِإِحْصَارٍ أَوْ مَرَضٍ ، أَوْ خَطَأٍ فِي عَدَدٍ أَوْ ضَلَالٍ فِي طَرِيقٍ فَلَا يَخْلُو حَجُّ نَذْرِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقَ الزَّمَانِ ، أَوْ مُعَيَّنًا فَإِنْ أَطْلَقَ زَمَانَهُ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِسَنَةٍ بِعَيْنِهَا ، جَازَ لَهُ تَعْجِيلُهُ فِي أَوَّلِ عَامٍ ، وَجَازَ لَهُ تَأْخِيرُهُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْوَامِ ؛ لِأَنَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ أَوْكَدُ وَهِيَ عَلَى التَّرَاخِي ، فَكَانَ حَجُّ النَّذْرِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّرَاضِي . فَإِذَا أَحْرَمَ بِهِ فِي عَامٍ ، وَمَشَى فِيهِ حَتَّى فَاتَهُ الْحَجُّ بِأَحَدِ مَا ذَكَرْنَا ، وَجَبَ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْهُ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ مِنْ طَوَافٍ ، وَسَعْيٍ وَحِلَاقٍ ، وَفِي لُزُومِ الْمَشْيِ فِيمَا يَتَحَلَّلُ بِهِ بَعْدَ الْفَوَاتِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَمْشِي فِيهِ لِاسْتِحْقَاقِهِ بِالنَّذْرِ ، وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْكَبَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ مَا يَتَحَلَّلُ بِهِ بَعْدَ الْفَوَاتِ غَيْرُ مُجْزِئٍ عَنْ نَذْرِهِ ، فَسَقَطَ الْمَشْيُ فِيهِ كَمَا سَقَطَ تَوَابِعُ الْوُقُوفِ مِنَ الرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ ثُمَّ عَلَيْهِ قَضَاءُ

حَجَّةِ النَّذْرِ بِالْفَوَاتِ ، كَمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْضِيَ بِالْفَوَاتِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ وَفِي زَمَانِ قَضَائِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَى التَّرَاخِي كَأَصْلِ النَّذْرِ . وَالثَّانِي : عَلَى الْفَوْرِ فِي عَامَّةِ الْآتِي ؛ لِأَنَّ إِحْرَامَهُ بِمَا فَاتَ قَدْ عَجَّلَ قَضَاءَ الْفَوَاتِ ، وَعَلَيْهِ فِي الْقَضَاءِ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا كَالْأَدَاءِ ، لِيَصِيرَ قَاضِيًا لِمَا كَانَ لَهُ مُؤَدِّيًا ، وَفِي اعْتِدَادِهِ بِمَشْيِهِ فِي الْحَجِّ الْفَائِتِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْأَظْهَرُ : لَا يُعْتَدُّ بِمَشْيِهِ فِيهِ ، كَمَا لَا يُعْتَدُّ بِغَيْرِهِ مِنْ أَرْكَانِهِ ، وَيَلْزَمُهُ الْعَوْدُ إِلَى بَلَدِهِ ؛ لِإِحْرَامِهِ بِالْقَضَاءِ مِنْهُ ، وَيَتَوَجَّهُ بَعْدَ إِحْرَامِهِ مِنْهُ مَا يَشَاءُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَعْتَدُّ بِمَشْيِهِ فِي الْفَائِتِ وَإِنْ لَمْ يَعْتَدَّ بِشَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِهِ لِاخْتِصَاصِ الْمَشْيِ بِالنَّذْرِ دُونَ الشَّرْعِ ؛ فَيَجُوزُ أَنْ يَرْكَبَ فِي حَجِّهِ الْقَضَاءِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى مَحَلِّ الْفَوَاتِ ، ثُمَّ يَمْشِيَ فِي بَقِيَّةِ حَجِّهِ ، حَتَّى يَتَحَلَّلَ مِنْهُ حَكَاهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَعَ ضَعْفِهِ .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ نَذْرُهُ مُقَيَّدًا بِزَمَانٍ فِي سَنَةٍ بِعَيْنِهَا هل يلزمه كَقَوْلِهِ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَحُجَّ مَاشِيًا فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ فِيهِ الْتِزَامًا لِمُوجِبِ نَذْرِهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ عَنْهُ ، وَفِي جَوَازِ تَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ وَقْتِهِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ وَقْتِهِ ، إِذَا وُجِدَ شَرْطُ نَذْرِهِ كَمَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ وُجُوبِهَا ، وَالْأَوْلَى بِهِ أَنْ يُحْرِمَ بِهِ فِي عَامِ نَذْرِهِ ، فَإِذَا أَحْرَمَ فِيهِ فَفَاتَهُ الْحَجُّ ، فَفِي وُجُوبِ قَضَائِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَقْضِي كَغَيْرِ الْمُعَيِّنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَقْضِي ؛ لِأَنَّ الْمُعَيَّنَ لَا يَتَمَاثَلُ فِي الْقَضَاءِ . فَإِنْ قِيلَ : لَا يَلْزَمُ قَضَاؤُهُ ، لَزِمَهُ الْمَشْيُ فِي الْقَضَاءِ ، وَفِي لُزُومِ الْمَشْيِ ، فِيمَا يَتَحَلَّلُ بِهِ مِنْ حَجِّ فَوَاتِهِ ، قَوْلَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا . وَلَوْ أَخَّرَ الْحَجَّ الْمُعَيَّنَ عَنْ عَامَّةِ الْمُعَيَّنِ فَإِنْ أَخَّرَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ وَجَبَ قَضَاؤُهُ وَإِنْ أَخَّرَهُ لِعُذْرٍ فَفِي وُجُوبِ قَضَائِهِ قَوْلَانِ كَالْفَوَاتِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

لَوْ قَالَ عَلَيَّ أَنْ أَمْشِيَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْمَشْيُ حَتَّى يَكُونَ بَرًّا

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَ : عَلَيَّ أَنْ أَمْشِيَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْمَشْيُ حَتَّى يَكُونَ بَرًّا ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَشْيِ إِلَى غَيْرِ مَوَاضِعَ التَّبَرُّرِ بِرٌّ ، وَذَلِكَ مِثْلُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَأُحِبُّ لَوْ نَذَرَ إِلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَوْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَنْ يَمْشِيَ وَأَحْتَجُّ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ ، وَمَسْجِدِي هَذَا ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَلَا يَبِينُ لِي أَنْ يَجِبَ كَمَا يَبِينُ لِي أَنَّ وَاجِبًا الْمَشْيُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْبِرَّ بِإِتْيَانِ بَيْتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَرْضٌ ، وَالْبِرُّ بِإِتْيَانِ هَذَيْنِ نَافِلَةٌ ، وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى مَسْجِدِ مِصْرَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لَا يَخْلُو إِذَا نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى مَكَانٍ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يُعَيِّنَ الْمَكَانَ الَّذِي يَمْشِي إِلَيْهِ أَوْ لَا يُعَيِّنَ ، فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ مَكَانًا يَمْشِي إِلَيْهِ بِقَوْلٍ وَلَا نِيَّةٍ لَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ نَذْرٌ ، وَلَمْ يَلْزَمْ مَشْيٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا قُرْبَةَ فِي الْمَشْيِ ، وَلَا بِرَّ ، وَلَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ إِلَّا مَا كَانَ بِرًّا ؛ وَإِنْ عَيَّنَ فِي نَذْرِهِ الْمَكَانَ الَّذِي يَمْشِي إِلَيْهِ بِقَوْلٍ ظَاهِرٍ ، أَوْ نِيَّةٍ مُضْمَرَةٍ ، فَلَهُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَنْذِرَ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إِلَى مَكَّةَ ، أَوْ إِلَى مَوْضِعٍ مِنْ جَمِيعِ الْحَرَمِ ، فَقَدْ ذَكَرْنَا انْعِقَادَ نَذْرِهِ بِهِ لِمَا خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ وُجُوبِ قَصْدِهِ فِي الشَّرْعِ ؛ فَوَجَبَ قَصْدُهُ بِالنَّذْرِ ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ فِي قَصْدِهِ أَنْ يُحْرِمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ قَصْدُهُ إِلَّا بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَنْذِرَ الْمَشْيَ إِلَى مَسْجِدٍ لَمْ يَخْتَصَّ بِعِبَادَةٍ شَرْعِيَّةٍ كَنَذْرِ الْمَشْيِ إِلَى مَسْجِدٍ بِالْبَصْرَةِ ، أَوْ مَسْجِدٍ بِالْكُوفَةِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ النَّذْرُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ إِلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِمَسْجِدِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ اخْتِصَاصٌ بِطَاعَةٍ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ . فَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ ؛ انْعَقَدَ نَذْرُهُ بِالصَّلَاةِ وَلَمْ يَنْعَقِدْ بِجَامِعِ الْبَصْرَةِ ، وَجَازَ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ نَذْرِهِ بِالْبَصْرَةِ وَغَيْرِ الْبَصْرَةِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَنْذِرَ الْمَشْيَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ، وَهُوَ مَسْجِدُ بَيْتِ

الْمَقْدِسِ ، أَوْ يَنْذِرَ الْمَشْيَ إِلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ ، وَهُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَفِي انْعِقَادِ نَذْرِهِ بِالْمَشْيِ إِلَيْهِمَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْمَنْقُولُ هَاهُنَا ، وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَنَّ نَذْرَهُ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ إِلَيْهِ ، لِرِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَكْعَتَيْنِ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : صَلِّ هَاهُنَا ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : صَلِّ هَاهُنَا ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ . قَالَ : شَأْنُكَ إِذَنْ فَلَوْ وَجَبَ هَذَا النَّذْرُ ؛ لَبَدَأَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْأَمْرِ بِهِ ؛ وَلِأَنَّهُمَا لَا يَجِبُ قَصْدُهُمَا بِالشَّرْعِ ؛ فَلَمْ يَجِبْ قَصْدُهُمَا بِالنَّذْرِ كَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْصَارِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَقْرِنْ بِالْمَشْيِ إِلَيْهَا عِبَادَةً سَقَطَ حُكْمُ النَّذْرِ ، وَإِنْ قَرَنَ بِالْمَشْيِ إِلَيْهَا عِبَادَةً شَرْعِيَّةً مِنْ صَلَاةٍ ، أَوْ صِيَامٍ ، أَوِ اعْتِكَافٍ لَزِمَهُ مَا نَذَرَ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صِيَامٍ أَوِ اعْتِكَافٍ وَلَمْ يَلْزَمْهُ نَذْرُهُ فِي الْمَشْيِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ، وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ ، وَجَازَ أَنْ يُصَلِّيَ ، وَيَصُومَ فِي مَسْجِدٍ ، وَغَيْرِ مَسْجِدٍ ، وَجَازَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْبُوَيْطِيِّ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ : إِنَّ نَذْرَهُ بِالْمَشْيِ إِلَيْهِمَا مُنْعَقِدٌ وَالْوَفَاءَ بِهِ وَاجِبٌ ؛ لِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا فَنَفَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَدَّ الرَّحَالِ وُجُوبًا إِلَّا إِلَيْهَا ؛ فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ شَدِّهَا إِلَى هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ ، وَلِأَنَّهُمَا قَدْ كَانَا مَقْصُودَيْنِ فِي الشَّرْعِ بِعِبَادَةٍ وَاجِبَةٍ . وَأَمَّا الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى ؛ فَقَدْ كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ قِبْلَةً يُصَلَّى إِلَيْهِ . وَأَمَّا مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ فَقَدْ كَانَ مَقْصُودًا بِوُجُوبِ الْهِجْرَةِ إِلَيْهِ ؛ فَفَارَقَا مَا عَدَاهُمَا مِنْ سَائِرِ مَسَاجِدِ الْأَمْصَارِ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ ؛ فَفَارَقَاهَا أَيْضًا فِي حُكْمِ النَّذْرِ . فَعَلَى هَذَا لَا يَخْلُو نَذْرُهُ فِي الْمَشْيِ إِلَيْهَا مِنْ أَنْ يَتَضَمَّنَ عِبَادَةً فِيهِ ، أَوْ لَا يَتَضَمَّنَ عِبَادَةً فِيهِ ، فَإِنْ لَمْ يَتَضَمَّنْ فِيهِ عِبَادَةً وَاقْتَصَرَ عَلَى أَنَّ نَذْرَ الْمَشْيِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ، وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ ؛ لَزِمَهُ الْمَشْيُ إِلَيْهِمَا ، وَفِي الْتِزَامِهِ فِعْلَ الْعِبَادَةِ فِيهِمَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَلْزَمُهُ غَيْرُ قَصْدِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ بِنَذْرِهِ ، وَيَكُونُ النَّذْرُ مَقْصُورًا عَلَى التَّبَرُّرِ بِقَصْدِهِمَا وَالْمُشَاهَدَةِ لَهُمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَلْزَمُهُ فِي الْقَصْدِ إِلَيْهِمَا فِعْلُ عِبَادَةٍ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّ الْمَسَاجِدَ إِنَّمَا تُقْصَدُ لِلْعِبَادَةِ دُونَ الْمُشَاهَدَةِ . فَعَلَى هَذَا فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْعِبَادَةِ فِيهِمَا وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيمَا شَاءَ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صِيَامٍ أَوِ اعْتِكَافٍ ؛ لِأَنَّ جَمِيعَهَا عِبَادَاتٌ يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَلْزَمُهُ فِيهِمَا الصَّلَاةُ خَاصَّةً لِاخْتِصَاصِ الْمَسَاجِدِ بِالصَّلَاةِ عُرْفًا فَاخْتُصَّ بِهِمَا نَذْرًا ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ ، وَإِنْ عَيَّنَ فِي نَذْرِهِ مَا يَفْعَلُهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي هَذَيْنِ الْمَسْجِدَيْنِ فَقَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ، وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ ، أَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ فِيهِمَا ، أَوْ أَصُومَ فِيهِمَا انْعَقَدَ نَذْرُهُ بِالْقَصْدِ ، وَانْعَقَدَ نَذْرُهُ بِالْعِبَادَةِ وَلَزِمَتْهُ الْعِبَادَةُ الَّتِي عَيَّنَهَا مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صِيَامٍ أَوِ اعْتِكَافٍ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا . فَإِذَا نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَأَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ انْعَقَدَ نَذْرُهُ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا . أَمَّا الْمَشْيُ إِلَيْهِ فَفِي وُجُوبِهِ وَجْهَانِ كَالْمَشْيِ إِلَى الْحَرَمِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجِبُ وَيَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الْقَصْدِ فَإِنْ مَشَى أَوْ رَكِبَ جَازَ ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْيُ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ أَفْضَلَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْمَشْيَ إِلَيْهِ وَاجِبًا وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْكَبَ اعْتِبَارًا بِصَرِيحِ لَفْظِهِ فِي نَذْرِهِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ رَكِبَ إِلَيْهِ ، وَلَمْ يَمْشِ فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُجْزِئُهُ إِذَا قِيلَ : إِنَّ نَذْرَهُ مَقْصُورٌ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالْمَشْيِ هُوَ الْعِبَادَةُ الْمَقْصُودَةُ ، وَعَلَيْهِ إِعَادَةُ قَصْدِهِ إِلَيْهِ مَاشِيًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُجْزِئُهُ إِذَا قِيلَ : إِنَّهُ يَلْتَزِمُ بِقَصْدِهِ فِعْلَ عِبَادَةٍ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَقْصُودُ بِالنَّذْرِ هُوَ فِعْلُ الْعِبَادَةِ فِيهِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْبُرَ تَرْكَ الْمَشْيِ بِفِدْيَةٍ ، كَمَا قِيلَ : فِي الْمَشْيِ إِلَى الْحَرَمِ لِاخْتِصَاصِ الْفِدْيَةِ بِجُبْرَانِ الْحَجِّ ، دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ . فَأَمَّا الصَّلَاةُ فِيهِ ، فَقَدْ لَزِمَتْهُ بِالنَّذْرِ فِي اسْتِحْقَاقِ فِعْلِهَا فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ فِيهِ ، فَإِنْ صَلَّاهَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ ؛ لَمْ يُجْزِهِ إِذَا قِيلَ : إِنَّهُ يَلْتَزِمُ بِقَصْدِهِ فِعْلَ عِبَادَةٍ فِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ فِيهِ ، فَإِنْ صَلَّاهَا فِي غَيْرِهِ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ بِقَصْدِهِ فِعْلَ غَيْرِهِ ، وَالْأَظْهَرُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ لُزُومُ صَلَاتِهِ فِيهِ ، وَإِنَّهَا لَا تُجْزِئُهُ فِي غَيْرِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ بِمِنًى ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ لَمْ يَلْزَمْهُ بِهَذَا النَّذْرِ أَكْثَرُ مِنْ صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَرَمِ الَّذِي حُرْمَتُهُ مُشْتَرَكَةٌ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْحَرَمِ لَزِمَهُ هَذَا النَّذْرُ ، كَمَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى الْحَرَمِ وَفِيمَا يَنْعَقِدُ بِهِ نَذْرُهُ وَجْهَانِ :

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110