كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

وَيَتَفَاضَلَانِ كَيْلًا ، وَالتَّفَاضُلُ فِيهِ مُحَرَّمٌ ، فَلَوِ اعْتُبِرَ التَّسَاوِي بِالْوَزْنِ : لِأَنَّهُ أَخَصُّ لَاقْتَضَى أَلَّا يُعْتَبَرَ التَّسَاوِي بِالْكَيْلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَخَصَّ . وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا أَدَّى إِلَى التَّفَاضُلِ فِي الْوَزْنِ الَّذِي هُوَ أَخَصُّ ، فَلَمَّا جَازَ اعْتِبَارُ التَّسَاوِي فِيهِ بِالْكَيْلِ وَإِنْ جَازَ التَّفَاضُلُ فِي الْوَزْنِ ، وَجَبَ أَلَّا يَجُوزَ اعْتِبَارُ التَّسَاوِي بِالْوَزْنِ لِجَوَازِ التَّفَاضُلِ فِي الْكَيْلِ ، وَلَوْ كَانَ مُخَيَّرًا فِي اعْتِبَارِ التَّسَاوِي فِيهِ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ لَكَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ التَّمَاثُلِ فَيَحِلُّ أَوْ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ التَّفَاضُلِ فَيَحْرُمُ . وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا رَوَى طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " الْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَالْوَزْنُ وَزْنُ أَهْلِ مَكَّةَ " . وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ إِخْبَارًا مِنْهُ بِانْفِرَادِ الْمَدِينَةِ بِالْمِكْيَالِ وَمَكَّةَ بِالْمِيزَانِ : لِأَنَّ مِكْيَالَ غَيْرِ الْمَدِينَةِ وَمِيزَانَ غَيْرِ مَكَّةَ يَجُوزُ التَّبَايُعُ بِهِ ، وَاعْتِبَارُ التَّمَاثُلِ فِيهِ ، فَعُلِمَ أَنَّ مُرَادَهُ عَادَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِيمَا يَكِيلُونَهُ وَعَادَةُ أَهْلِ مَكَّةَ فِيمَا يَزِنُونَهُ . وَلِأَنَّهُ لَوْ أَحْدَثَ النَّاسُ عَادَةً فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ أَنْ يَتَبَايَعُوهَا عَدَدًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ مُعْتَبَرًا فِي بَعْضِهَا بِبَعْضٍ اعْتِبَارًا بِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْحِجَازِ مِنْ قَبْلُ . وَكَذَا الْأَرْبَعَةُ الَّتِي قَدْ وَرَدَ فِيهَا النَّصُّ ، لَوْ خَالَفَ النَّاسُ فِيهَا الْعَادَةَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْحَادِثُ رَافِعًا لِسَالِفِ الْعَادَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا سِوَى ذَلِكَ مُعْتَبَرًا فِي تَمَاثُلِهِ بِسَالِفِ الْعَادَةِ . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ عِلَّةُ أَنَّهُ جِنْسٌ يَحْرُمُ فِيهِ التَّفَاضُلُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اعْتِبَارُ التَّمَاثُلِ فِيهِ بِالْمِقْدَارِ الْمَعْهُودِ عَلَى زَمَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ . وَهَذِهِ عِلَّةٌ تَعُمُّ مَالِكًا وَأَبَا حَنِيفَةَ وَفِيهَا انْفِصَالٌ عَمَّا اسْتَدَلَّا بِهِ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اعْتِبَارَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بِمَا كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْجِنْسِ الَّذِي فِيهِ الرِّبَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفَ الْحَالِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ مَجْهُولَ الْحَالِ . فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفَ الْحَالِ رَاعَيْتَ فِيهِ مَا عُرِفَ مِنْ حَالِهِ ، فَإِنْ كَانَ مَكِيلًا جَعَلْتَ الْكَيْلَ فِيهِ أَصْلًا وَمَنَعْتَ مِنْ بَيْعِهِ وَزْنًا ، وَإِنْ كَانَ مَوْزُونًا جَعَلْتَ الْوَزْنَ فِيهِ أَصْلًا وَمَنَعْتَ مِنْ بَيْعِهِ كَيْلًا . فَعَلَى هَذَا قَدْ كَانَتِ الْحُبُوبُ عَلَى عَهْدِهِ مَكِيلَةً ، وَالْأَدْهَانُ مَكِيلَةً ، وَالْأَلْبَانُ مَكِيلَةً ، وَكَذَلِكَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَإِنْ كَانَ مَجْهُولَ الْحَالِ أَوْ كَانَ مِنْ مَأْكَلٍ غَيْرِ الْحِجَازِ رَاعَيْتَ فِيهِ عُرْفَ أَهْلِ الْوَقْتِ فِي أَغْلَبِ الْبِلَادِ فَجَعَلْتَهُ أَصْلًا . فَإِنْ كَانَ الْعُرْفُ وَزْنًا جَعَلْتَ أَصْلَهُ الْوَزْنَ ، وَإِنْ كَانَ الْعُرْفُ كَيْلًا جَعَلْتَ أَصْلَهُ كَيْلًا .

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ فِيهِ عُرْفٌ غَالِبٌ ، فَكَانَتْ عَادَتُهُمْ تَسْتَوِي فِي كَيْلِهِ وَوَزْنِهِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : تُبَاعُ وَزْنًا : لِأَنَّ الْوَزْنَ أَخَصُّ . وَالثَّانِي : تُبَاعُ كَيْلًا : لِأَنَّ الْكَيْلَ فِي الْمَأْكُولَاتِ نَصٌّ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِأَشْبَهِ الْأَشْيَاءِ بِهِ مِمَّا عُرِفَ حَالُهُ عَلَى عَهْدِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيُلْحَقُ بِهِ : لِأَنَّ الْأَشْبَاهَ مُتَقَارِبَةٌ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيهِ بَيْنَ الْوَزْنِ وَالْكَيْلِ لِاسْتِوَاءِ الْعُرْفِ فِيهِ . . فَصْلٌ : إِذَا كَانَتْ ضَيْعَةٌ أَوْ قَرْيَةٌ يَتَسَاوَى طَعَامُهَا فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ ، وَلَا يَفْضُلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ هَلْ يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ وَزْنًا بِمَا قَدْ عُرِفَ مِنْ حَالِهِ أَنَّ التَّمَاثُلَ فِيهِ بِالْكَيْلِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا - هَلْ يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ وَزْنًا ؟ - عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ : لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ النَّصِّ وَتَغْيِيرِ الْعُرْفِ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ ، وَيَكُونُ الْوَزْنُ فِيهِ نَائِبًا عَنِ الْكَيْلِ لِلْعِلْمِ بِمُوَافَقَتِهِ ، كَمَا كَانَ مِكْيَالُ الْعِرَاقِ نَائِبًا عَنْ مِكْيَالِ الْحِجَازِ لِمُوَافَقَتِهِ فِي الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمَكِيلَيْنِ . فَصْلٌ : إِذَا تَبَايَعَا صُبْرَةَ طَعَامٍ بِصُبْرَةِ طَعَامٍ جُزَافًا ، ثُمَّ كِيلَا مِنْ بَعْدُ فَوُجِدَتَا سَوَاءً ، كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا : لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالتَّمَاثُلِ كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ ، وَلَوْ تَبَايَعَا عَلَى الْمُكَايَلَةِ وَالْمُمَاثَلَةِ صَحَّ الْبَيْعُ . فَإِنْ كَانَتَا سَوَاءً لَزِمَ الْعَقْدُ وَلَا خِيَارَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَلَوْ فَضَلَتْ إِحْدَى الصُّبْرَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بُطْلَانُ الْعَقْدِ : لِأَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الصُّبْرَتَيْنِ مَعَ ظُهُورِ التَّفَاضُلِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : جَوَازُ الْعَقْدِ : لِاشْتِرَاطِ التَّمَاثُلِ . فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُ صَاحِبُ الْفَضْلِ زِيَادَتَهُ وَيَكُونُ لِصَاحِبِ الصُّبْرَةِ النَّاقِصَةِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ أَوْ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِمِثْلِ صُبْرَتِهِ .

مَسْأَلَةٌ لا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ بَالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ بَالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ يَكُونُ مُتَفَاضِلًا فِي نَحْوِ ذَلِكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَالْمَشْهُورُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي سَائِرِ كُتُبِهِ الَّذِي حَكَاهُ عَنْهُ جَمِيعُ أَصْحَابِهِ ، أَنَّ بَيْعَ الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَحَكَى الْحُسَيْنُ الْكَرَابِيسِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ جَوَازَ بَيْعِ الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ مُتَفَاضِلًا ، وَجَعَلَهُمَا كَالْجِنْسَيْنِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ .

وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ : يَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ مُتَمَاثِلًا ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ تَمَاثُلِهِ . فَقَالَ مَالِكٌ : يَصِحُّ تَمَاثُلُهُ بِالْكَيْلِ . وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ : لَا يَصِحُّ تَمَاثُلُهُ إِلَّا بِالْوَزْنِ . فَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمَا جِنْسَانِ وَجَوَّزَ التَّفَاضُلَ بَيْنَهُمَا ، وَهُوَ أَبُو ثَوْرٍ ، وَالْكَرَابِيسِيُّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، فَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِشَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الدَّقِيقَ لَا يَصِيرُ حِنْطَةً أَبَدًا ، وَلَا شَيْءَ أَبْلَغُ فِي تَنَافِي التَّجَانُسِ مِنْ هَذَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ حِنْطَةً فَأَكَلَ دَقِيقًا ، أَوْ لَا يَأْكُلُ دَقِيقًا فَأَكَلَ حِنْطَةً لَمْ يَحْنَثْ ، وَلَوْ كَانَا جِنْسًا وَاحِدًا لَحَنِثَ بِأَكْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا . فَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ ، وَإِنَّ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَهُمَا حَاصِلَةٌ إِمَّا بِالْكَيْلِ أَوْ بِالْوَزْنِ عَلَى حَسْبِ اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ ، فَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ الدَّقِيقَ حِنْطَةٌ مُتَفَرِّقَةُ الْأَجْزَاءِ ، وَتَفْرِيقُ أَجْزَائِهَا يُحْدِثُ فِيهَا خِفَّةً فِي الْمِكْيَالِ : وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنَ التَّسَاوِي ، كَمَا لَوْ بَاعَ الْحِنْطَةَ خَفِيفَةَ الْوَزْنِ بِكَيْلِهَا حِنْطَةً ثَقِيلَةَ الْوَزْنِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ ، وَإِنْ عَلِمَ اخْتِلَافَهُمَا فِي الْوَزْنِ إِذَا تَسَاوَيَا فِي الْكَيْلِ ، كَذَلِكَ الدَّقِيقُ بِالْحِنْطَةِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الدَّقِيقَ وَالْحِنْطَةَ جِنْسٌ وَاحِدٌ هُوَ أَنَّ الدَّقِيقَ نَفْسُ الْحِنْطَةِ ، وَإِنَّمَا تَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهَا ، وَلَيْسَ تَفَرُّقُ أَجْزَائِهَا بِمُخْرِجٍ لَهَا مِنْ جِنْسِهَا ، كَصِحَاحِ الدَّرَاهِمِ وَمَكْسُورِهَا . فَإِنْ قِيلَ : مَكْسُورُ الدَّرَاهِمِ يَصِيرُ صِحَاحًا بِالسَّبْكِ ، وَالدَّقِيقُ لَا يَصِيرُ حِنْطَةً أَبَدًا . قُلْنَا : لَيْسَ اخْتِلَافُ الشَّيْءِ بِتَنَقُّلِ أَحْوَالِهِ الَّتِي لَا يَعُودُ إِلَيْهَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ جِنْسِهِ : فَإِنَّ التَّيْسَ لَا يَعُودُ جَدْيًا ، وَالتَّمْرُ لَا يَعُودُ رُطَبًا ، وَالرُّطَبُ لَا يَعُودُ بُسْرًا ، ثُمَّ لَا يَدُلُّ انْتِقَالُهُ إِلَى الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ وَتَعَذُّرُ عَوْدِهِ إِلَى الْحَالِ الْأَوَّلِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ ، بَلِ التَّمْرُ مِنْ جِنْسِ الرُّطَبِ وَإِنْ لَمْ يَصِرْ رُطَبًا ، كَذَلِكَ الدَّقِيقُ مِنْ جِنْسِ الْحِنْطَةِ وَإِنْ لَمْ يَصِرْ حِنْطَةً . فَأَمَّا الْأَثْمَانُ فَمَجْهُولَةٌ عَلَى عُرْفِ الْأَسَامِي ، وَالرِّبَا مَحْمُولٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعَانِي ، فَلَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ . أَلَا تَرَاهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا فَأَكَلَ تَمْرًا لَمْ يَحْنَثْ ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّمْرَ وَالرُّطَبَ جِنْسَانِ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الدَّقِيقَ وَالْحِنْطَةَ جِنْسٌ وَاحِدٌ حَرُمَ التَّفَاضُلُ فِيهِ ، وَلَمْ يَصِحَّ اعْتِبَارُ التَّمَاثُلِ : أَمَّا بِالْوَزْنِ : فَلِأَنَّ أَصْلَهُ الْكَيْلُ وَمَا كَانَ أَصْلُهُ الْكَيْلُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ تَمَاثُلُهُ بِالْوَزْنِ ، وَأَمَّا الْكَيْلُ : فَلِأَنَّ تَفْرِيقَ أَجْزَاءِ الدَّقِيقِ بِالطَّحْنِ وَاجْتِمَاعُ أَجْزَاءِ الْحِنْطَةِ يُحْدِثُ بَيْنَهُمَا فِي الْمِكْيَالِ اخْتِلَافًا يُحِيطُ الْعِلْمُ بِالْفَضْلِ بَيْنَهُمَا ، وَالتَّفَاضُلُ مَحْظُورٌ بِالنَّصِّ . وَلَيْسَ هَذَا كَالطَّعَامِ الْخَفِيفِ بِالطَّعَامِ الثَّقِيلِ ، لِأَنَّ أَجْزَاءَ الْجَمِيعِ مُجْتَمِعَةً ، وَإِنَّمَا خَفَّتْ

أَجْزَاءُ أَحَدِهِمَا وَثَقُلَتْ أَجْزَاءُ الْآخَرِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَخَالَفَ الدَّقِيقُ الَّذِي قَدْ تَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ ، فَانْبَسَطَتْ بِالْحِنْطَةِ الَّتِي قَدِ انْضَمَّتْ أَجْزَاؤُهَا وَاجْتَمَعَتْ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَيْعَ الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ لَا يَجُوزُ ، فَكَذَا مَا حَدَثَ عَنِ الدَّقِيقِ مِنَ الْعَجِينِ وَالْخُبْزِ وَالسَّوِيقِ هل يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالْحِنْطَةِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالْحِنْطَةِ ، أَمَّا الْعَجِينُ فَلِعِلَّتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : مَا ذَكَرْنَا مِنْ عِلَّةِ الدَّقِيقِ . وَالثَّانِيَةُ : دُخُولُ الْمَاءِ فِيهِ . وَأَمَّا الْخُبْزُ فَلِثَلَاثِ عِلَلٍ مِنْهَا هَاتَانِ الْعِلَّتَانِ . وَالثَّالِثَةُ : دُخُولُ النَّارِ فِيهِ . فَأَمَّا السَّوِيقُ بِالْحِنْطَةِ فَلَا يَجُوزُ لِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ كَالدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ . فَصْلٌ : فَإِذَا بِيعَ الدَّقِيقُ بِالدَّقِيقِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ . وَقَدْ رَوَاهُ الْبُوَيْطِيُّ ، وَحَكَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي مَسَائِلِهِ الْمَنْثُورَةِ عَنِ الشَّافِعِيِّ لِتَسَاوِيهِمَا فِي تَفَرُّقِ أَجْزَائِهِمَا كَمَا جَازَ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ لِتَسَاوِيهِمَا فِي اجْتِمَاعِ أَجْزَائِهِمَا ، وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ لِاجْتِمَاعِ أَجْزَاءِ أَحَدِهِمَا وَتَفَرُّقِ أَجْزَاءِ الْآخَرِ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الدَّقِيقَ وَإِنْ تَفَرَّقَتْ أَجْزَاءُ جَمِيعِهِ بِالطَّحْنِ فَقَدْ يَكُونُ طَحْنُ أَحَدِهِمَا أَنْعَمَ ، فَيَكُونُ تَفْرِيقُ أَجْزَائِهِ أَكْثَرَ وَهُوَ فِي الْمِكْيَالِ أَجْمَعُ ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى التَّفَاضُلِ فِيهِ : لِأَنَّ النَّاعِمَ الْمُنْبَسِطَ أَكْثَرُ فِي الْمِكْيَالِ مِنَ الْخَشِنِ الْمُجْتَمِعِ ، أَوْ يَكُونُ مَجْهُولَ التَّمَاثُلِ ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ : لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالتَّمَاثُلِ كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ . وَإِذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ فَكَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ السَّوِيقِ بِالدَّقِيقِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ . فَأَمَّا الْخُبْزُ إِذَا يَبِسَ وَدُقَّ فَتُوتًا نَاعِمًا ، وَبِيعَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ كَيْلًا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ : لِأَنَّهُ بَعْدَ الْيُبْسِ وَالدَّقِّ قَدْ عَادَ أَصْلُهُ مِنْ قَبْلُ ، وَقَدْ حَصَلَ فِيهِ التَّمَاثُلُ بِالْكَيْلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي ، وَهُوَ أَصَحُّ : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّ الدَّقِيقَ أَقْرَبُ إِلَى التَّمَاثُلِ مِنَ الْخَبْزِ الْمَدْقُوقِ الَّذِي قَدْ دَخَلَتْهُ النَّارُ وَأَحَالَتْهُ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ ، فَأَوْلَى أَلَّا يَجُوزَ بَيْعُ الْخُبْزِ الْمَدْقُوقِ بِالْخُبْزِ الْمَدْقُوقِ ، وَلَوْلَا أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ مَشْهُورٌ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِنَا لَكَانَ إِغْفَالُهُ أَوْلَى : لِمُخَالَفَتِهِ النَّصَّ وَمُنَافَاتِهِ الْمَذْهَبَ . فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فِي بَيْعِ الدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ ، أَوِ الْخُبْزِ بِالدَّقِيقِ جَازَهُ لِجَوَازِ التَّفَاضُلِ فِيهِ ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ الْبُرِّ بِدَقِيقِ الشَّعِيرِ ، وَخُبْزِ الْبُرِّ بِخُبْزِ الشَّعِيرِ مُتَفَاضِلًا يَدًا بِيَدٍ ، لِاخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ : لِأَنَّ الشَّعِيرَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْبُرِّ .

وَقَالَ مَالِكٌ : الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ جِنْسٌ وَاحِدٌ ، فَلَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا . وَبِهِ قَالَ حَمَّادٌ ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ . اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ وَجَّهَ بِغُلَامٍ لَهُ وَمَعَهُ صَاعٌ مِنْ بُرٍّ ، فَقَالَ : اشْتَرِ بِهِ شَعِيرًا ، فَاشْتَرَى بِهِ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ ، وَازْدَادَ صَاعًا آخَرَ ، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ لَهُ : لِمَ فَعَلْتَ هَذَا . رُدَّهُ فَإِنِّي كُنْتُ أَسْمَعُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ . قَالَ : وَطَعَامُنَا يَوْمَئِذٍ الشَّعِيرُ . فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ بَيْنَ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَأَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ . قَالَ : وَلِأَنَّ الْبُرَّ وَالشَّعِيرَ يَتَقَارَبَانِ فِي الْمَنْفَعَةِ وَيَمْتَزِجَانِ فِي الْمُشَاهَدَةِ فَجَرَيَا مَجْرَى شَامِيٍّ وَحَبَشَانِيٍّ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُمَا جِنْسَانِ حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " وَلَكِنْ بِيعُوا الْبُرَّ بِالشَّعِيرِ ، والشَّعِيرَ بِالْبُرِّ ، وَالتَّمْرَ بِالْمِلْحِ ، وَالْمِلْحَ بِالتَّمْرِ ، كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ " . فَجَوَّزَ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا نَصًّا مَعَ قَوْلِهِ : فَإِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا جِنْسَانِ . وَلِأَنَّ الشَّعِيرَ مُخَالِفٌ لِلْبُرِّ فِي صِفَتِهِ وَخِلْقَتِهِ وَمَنْفَعَتِهِ ، وَإِنْ قَارَبَهُ مِنْ وَجْهٍ ، فَحَلَّ مِنَ الْبُرِّ مَحَلَّ الزَّبِيبِ مِنَ التَّمْرِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَا جِنْسَيْنِ كَمَا أَنَّ الزَّبِيبَ مِنَ التَّمْرِ جِنْسَانِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَنَّ الدَّلِيلَ مِنَ الْخَبَرِ قَوْلُ مَعْمَرٍ دُونَ رِوَايَتِهِ ، وَلَيْسَ مُجَرَّدُ قَوْلِهِ حُجَّةً مَعَ مُخَالَفَةِ غَيْرِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ تَقَارُبِهِمَا فِي الْمَنْفَعَةِ وَامْتِزَاجِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ، فَلَيْسَ تَقَارُبُهُمَا فِي الْمَنْفَعَةِ بِمُوجِبٍ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي الْجِنْسِ كَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ . وَلَيْسَ امْتِزَاجُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُمَا جِنْسٌ كَالتُّرَابِ الْمُمْتَزِجِ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ لَا بَأْسَ بِخَلِّ الْعِنَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَا بَأْسَ بِخَلِّ الْعِنَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ فَأَمَّا خَلُّ الزَّبِيبِ فَلَا خَيْرَ فِي بَعْضِهِ بِبَعْضٍ ، مِثْلًا بِمَثَلٍ ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْمَاءَ يَقِلُّ فِيهِ وَيَكْثُرُ ، فَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْأَجْنَاسُ فَلَا بَأْسَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَمُقَدِّمَاتُ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ التَّمْرَ وَالرُّطَبَ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَالزَّبِيبُ وَالْعِنَبُ جِنْسٌ وَاحِدٌ ، وَأَنَّ الْمَاءَ هَلْ فِيهِ الرِّبَا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا : أَحَدُهُمَا : فِيهِ الرِّبَا : لِأَنَّهُ مَطْعُومٌ . وَالثَّانِي : لَا رِبَا فِيهِ : لِأَنَّهُ مُبَاحُ الْأَصْلِ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ لَا يَتَحَوَّلُ ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا إِنَّ مَنْ غَصَبَ مَاءً فَتَوَضَّأَ بِهِ جَازَ ، وَلَوْ غَصَبَ رَقَبَةً فَأَعْتَقَهَا لَمْ يَجُزْ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَبَيْعُ خَلِّ الْعِنَبِ

بِخَلِّ الْعِنَبِ جَائِزٌ لِحُصُولِ التَّمَاثُلِ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِ . وَلَيْسَ لَهُ غَايَةٌ يَخَافُ عَلَيْهِ التَّفَاوُتَ فِيهَا فَصَارَ كَالْأَدْهَانِ ، وَأَمَّا خَلُّ الزَّبِيبِ بِخَلِّ الزَّبِيبِ حكم بيعه فَلَا يَجُوزُ : لِأَنَّ فِيهِمَا مَا يَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ فِي أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الْآخَرِ ، فَيُفْضِي إِلَى التَّفَاضُلِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ خَلِّ التَّمْرِ بِخَلِّ التَّمْرِ لَا يَجُوزُ : لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَاءِ الْمَانِعِ مِنَ التَّمَاثُلِ ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ خَلِّ الرُّطَبِ بِخَلِّ الرُّطَبِ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ خَلِّ الْعِنَبِ : لِأَنَّ خَلَّ الْعِنَبِ عَصِيرٌ ، لَا يُخَالِطُهُ الْمَاءُ ، وَخَلُّ الرُّطَبِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِمُخَالَطَةِ الْمَاءِ . فَأَمَّا بَيْعُ خَلِّ الْعِنَبِ بِخَلِّ الزَّبِيبِ فَلَا يَجُوزُ أَيْضًا : لِأَنَّ الزَّبِيبَ وَالْعِنَبَ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَفِي أَحَدِهِمَا مَا يَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ خَلِّ الرُّطَبِ بِخَلِّ التَّمْرِ لَا يَجُوزُ : لِأَنَّ فِيهِمَا مَا يَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ ، وَلَكِنْ بَيْعُ خَلِّ الْعِنَبِ بِخَلِّ التَّمْرِ وَالرُّطَبِ جَائِزٌ : لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ لَا يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا . فَأَمَّا بَيْعُ خَلِّ الزَّبِيبِ بِخَلِّ الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى ثُبُوتِ الرِّبَا فِي الْمَاءِ . أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّ الْمَاءَ لَا رِبَا فِيهِ : لِأَنَّ الزَّبِيبَ وَالتَّمْرَ جِنْسَانِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِذَا قِيلَ إِنَّ فِي الْمَاءِ الرِّبَا : لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الَّذِي فِي أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الْآخَرِ . وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يُخْرِجُ قَوْلًا ثَانِيًا فِي الْخَلِّ أَنَّ جَمِيعَهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ كَاللَّبَنِ ، فَيَمْنَعُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْ بَيْعِ خَلِّ التَّمْرِ بِخَلِّ الزَّبِيبِ بِكُلِّ حَالٍ . وَامْتَنَعَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا مِنْ تَخْرِيجِ هَذَا الْقَوْلِ ، وَقَالُوا : إِنَّ الْخَلَّ أَجْنَاسٌ كَأُصُولِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا خَيْرَ فِي التَّحَرِّي فِيمَا فِي بَعْضِهِ بِبَعْضٍ رِبًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِ الشَّافِعِيِّ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَالِكًا ، حَيْثُ جَوَّزَ بَيْعَ خَلِّ التَّمْرِ بِخَلِّ التَّمْرِ إِذَا تَحَرَّى فِيهِ خِلَالَ بَصِيرٍ بِصَنْعَتِهِ ، فَأَخْبَرَ أَنَّ مَا فِي أَحَدِهِمَا مِنَ الْمَاءِ مِثْلَ مَا فِي الْآخَرِ . فَرَدَّ عَلَيْهِ جَوَازَ التَّحَرِّي فِيهِ وَمَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ بِكُلِّ حَالٍ : لِأَنَّ التَّحَرِّيَ تَخْمِينٌ وَالْيَقِينَ مَعْدُومٌ ، وَتَجْوِيزُ التَّفَاضُلِ مَحْظُورٌ . وَقَالَ آخَرُونَ ، مِنْهُمُ ابْنُ أبيِ هُرَيْرَةَ : أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ ردًّا عَلَى مَالِكٍ فِي تَجْوِيزِهِ لِأَهْلِ الْبَادِيَةِ أَنْ يُتَابِعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ تَحَرِّيًا وَاجْتِهَادًا فِي التَّمَاثُلِ مِنْ غَيْرِ كَيْلٍ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَكِيلٍ ، وَمَنَعَهُمْ مِنَ التَّحَرِّي فِي الْمَوْزُونِ : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ تَعُوزُهُمُ الْمَكَايِيلُ ، فَاضْطَرُّوا إِلَى التَّحَرِّي وَالِاجْتِهَادِ فِيهِ ، كَمَا جَازَ التَّحَرِّي فِي بَيْعِ الْعَرَايَا مِنْ غَيْرِ كَيْلٍ لِلضَّرُورَةِ فِيهِ .

وَهَذَا خَطَأٌ لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ وَمُفَارَقَةِ الْقِيَاسِ . رَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الصُّبْرَةِ مِنَ الطَّعَامِ بِالصُّبْرَةِ مَا لَمْ يُدْرَ كَيْلُ هَذِهِ وَكَيْلُ هَذِهِ " . وَهَذَا نَصٌّ . وَلِأَنَّ كُلَّ مَا حُرِّمَ فِيهِ التَّفَاضُلُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْخُلَهُ التَّحَرِّي فِي التَّمَاثُلِ كَأَهْلِ الْحَضَرِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ تَحَرٍّ فِي تَمَاثُلِ جِنْسٍ يُمْنَعُ مِنْهُ أَهْلُ الْحَضَرِ ، يُمْنَعُ مِنْهُ أَهْلُ الْبَادِيَةِ كَالْمَوْزُونِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالضَّرُورَةِ عِنْدَ فَقْدِ الْمِكْيَالِ فَفَاسِدٌ بِفَقْدِ الْمِيزَانِ الَّذِي لَا يَسْتَبِيحُونَ مَعَهُ التَّحَرِّي فِي الْمَوْزُونِ ، وَخَالَفَ الْعَرَايَا : لِأَنَّ كَيْلَ مَا عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ غَيْرُ مُمْكِنٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَا خَيْرَ فِي مُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدِّ عَجْوَةٍ حَتَى يَكُونَ التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَتُهُ أَنَّ كُلَّ جِنْسٍ ثَبَتَ فِيهِ الرِّبَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ بِشَيْءٍ مِنْ جِنْسِهِ إِذَا ضُمَّ إِلَيْهِ عِوَضٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ . فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ مُدُّ تَمْرٍ وَدِرْهَمٌ بِمُدَّيْ تَمْرٍ وَلَا بِدِرْهَمَيْنِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ دِينَارٌ وَثَوْبٌ بِدِينَارَيْنِ وَلَا دِرْهَمٌ وَسَيْفٌ بِدِرْهَمَيْنِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بِجَوَازِهِ ، فَأَبَاحَ بَيْعَ مُدِّ تَمْرٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدَّيْنِ ، وَجَعَلَ مُدًّا بِمُدٍّ وَدِرْهَمًا بِمُدٍّ ، وَأَجَازَ بَيْعَ سَيْفٍ مُحَلَّى بِذَهَبٍ بِالذَّهَبِ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ ذَهَبًا مِنَ الْحِلْيَةِ ، لِيَكُونَ الْفَاضِلُ مِنْهُ ثَمَنًا لِلسَّيْفِ وَيَجْعَلَ الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ . فَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ كَانَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْفَسَادِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : إِذَا وَجَدْتُمْ لِمُسْلِمٍ مَخْرَجًا فَأَخْرِجُوهُ . فَلَمَّا كَانَ مُتَبَايِعَا الْمُدِّ وَالدِّرْهَمِ بِالْمُدَّيْنِ لَوْ شَرَطَا فِي الْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ مُدٌّ بِمُدٍّ ، وَدِرْهَمٌ بِمُدٍّ صَحَّ الْعَقْدُ ، وَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ أَيْضًا مَعَ عَدَمِ الشَّرْطِ ، لِيَكُونَ الْعَقْدُ مَحْمُولًا عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ دُونَ الْفَسَادِ . قَالَ : وَلِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِيمَا يَدْخُلُهُ الرِّبَا مُعْتَبَرَةٌ بِالْكَيْلِ إِنْ كَانَ مَكِيلًا أَوْ بِالْوَزْنِ إِنْ كَانَ مَوْزُونًا . فَأَمَّا الْقِيمَةُ فَلَا اعْتِبَارَ بِهَا فِي الْمُمَاثَلَةِ ، لَا فِي الْمَكِيلِ ، وَلَا فِي الْمَوْزُونِ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ بَاعَ كَرًّا مِنْ حِنْطَةٍ يُسَاوِي عَشَرَةَ دَنَانِيرَ بِكَرٍّ مِنْ حِنْطَةٍ يُسَاوِي عِشْرِينَ دِينَارًا صَحَّ الْعَقْدُ : لِوُجُودِ التَّمَاثُلِ فِي الْكَيْلِ ، وَإِنْ حَصَلَ التَّفَاضُلُ فِي الْقِيمَةِ ، وَإِذَا بَطَلَ اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ فِي الْمُمَاثَلَةِ صَارَ الْعَقْدُ مُقْسَّطًا عَلَى الْأَجْزَاءِ دُونَ الْقِيَمِ ، فَيَصِيرُ مُدٌّ بِإِزَاءِ مُدٍّ وَدِرْهَمٌ بِإِزَاءِ مُدٍّ .

وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ حَدِيثُ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ : أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ خَيْبَرَ بِقَلادَةٍ فِيهَا خَرَزٌ وَذَهَبٌ ابْتَاعَهَا رَجُلٌ بِتِسْعَةِ دَنَانِيرَ أَوْ بِسَبْعَةِ دَنَانِيرَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " لَا حَتَّى تُمَيِّزَ بَيْنَهُمَا " . فَقَالَ الرَّجُلُ : إِنَّمَا أَرَدْتُ الْحِجَارَةَ . فَقَالَ : " لَا حَتَى تُمَيِّزَ بَيْنَهُمَا " . فَإِنْ قِيلَ : فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّهُ : لِأَنَّ ذَهَبَ الْقَلَادَةِ أَكْثَرُ مِنْ ذَهَبِ الثَّمَنِ قُلْنَا : لَا يَصْحُّ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَطْلَقَ الْجَوَابَ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ فَدَلَّ عَلَى اسْتِوَاءِ الْحَالَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ قَوْلَ الْمُشْتَرِي إِنَّمَا أَرَدْتُ الْخَرَزَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الذَّهَبَ يَسِيرٌ دَخَلَ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ . وَرُوِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ ابْتَاعَ سَيْفًا مُحَلًّى بِالذَّهَبِ بِذَهَبٍ ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : لَا يَصْلُحُ هَذَا : فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْهُ . فَقَالَ : الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ . فَقَالَ مُعَاوِيَةُ : مَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا . فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتُحَدِّثُنِي عَنْ رَأْيِكَ ، وَاللَّهِ لَا أُسَاكِنُكَ أَبَدًا . فَدَلَّ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا . ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى هُوَ أَنَّ الْعَقْدَ الْوَاحِدَ إِذَا جَمَعَ شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الْقِيمَةِ ، كَانَ الثَّمَنُ مُقُسَّطًا عَلَى قِيمَتِهِمَا لَا عَلَى أَعْدَادِهِمَا ، يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَصْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَنِ اشْتَرَى شِقْصًا مِنْ دَارٍ وَعَبْدًا بِأَلْفٍ ، فَاسْتَحَقَّ الشِّقْصَ بِالشُّفْعَةِ كَانَ مَأْخُوذًا بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ اعْتِبَارًا بِقِيمَتِهِ وَقِيمَةِ الْعَبْدِ ، وَلَا يَكُونُ مَأْخُوذًا بِنِصْفِ الثَّمَنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَنِ اشْتَرَى عَبْدًا وَثَوْبًا بِأَلْفٍ ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ الثَّوْبَ أَوْ تَلِفَ ، كَانَ الْعَبْدُ مَأْخُوذًا بِحِصَّتِهِ مِنَ الْأَلْفِ وَلَا يَكُونُ مَأْخُوذًا بِنِصْفِ الْأَلْفِ . وَإِذَا كَانَتِ الْأُصُولُ تُوجِبُ تَقْسِيطَ الثَّمَنِ عَلَى الْقِيمَةِ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ هَاهُنَا فَاسِدًا : لِأَنَّهُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْعِلْمُ بِالتَّفَاضُلِ . وَالثَّانِي : الْجَهْلُ بِالتَّمَاثُلِ : لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الْمُدِّ الَّذِي مَعَ الدِّرْهَمِ أَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ دِرْهَمٍ ، أَوْ يَكُونُ دِرْهَمًا لَا أَقَلَّ وَلَا أَكْثَرَ . فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ كَانَ التَّفَاضُلُ مَعْلُومًا ، وَإِنْ كَانَ دِرْهَمًا كَانَ التَّمَاثُلُ مَجْهُولًا ، وَالْجَهْلُ بِالتَّمَاثُلِ كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ فَلَمْ يَخْلُ الْعَقْدُ فِي كِلَا الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْفَسَادِ .

فَإِنْ قِيلَ : الثَّمَنُ لَا يَتَقَسَّطُ عَلَى الْقِيمَةِ فِي حَالِ الْعَقْدِ ، وَإِنَّمَا يَتَقَسَّطُ عَلَى الْقِيمَةِ بِالِاسْتِحْقَاقِ فِيمَا بَعْدُ : لِأَنَّ الثَّمَنَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا حَالَ الْعَقْدِ وَتَقْسِيطُهُ عَلَى الْقِيمَةِ بِهِ يُفْضِي إِلَى الْجَهَالَةِ . قُلْنَا : هَذَا الْقَوْلُ فَاسِدٌ : لِأَنَّ الثَّمَنَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُقَسَّطًا : إِمَّا عَلَى الْقِيمَةِ وَإِمَّا عَلَى الْعَدَدِ ، فَلَمَّا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ مُقَسَّطًا عَلَى الْعَدَدِ : لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ ، ثَبَتَ أَنَّهُ مُقَسَّطٌ عَلَى الْقِيمَةِ ، وَلَيْسَ الْجَهْلُ بِالتَّفْصِيلِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْجُمْلَةِ مَانِعًا مِنَ الصِّحَّةِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ لَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى الْفَسَادِ . فَيَنْتَقِضُ بِمَنْ بَاعَ سِلْعَةً إِلَى أَجَلٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا نَقْدًا بِأَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ ، مَعَ إِمْكَانِ حَمْلِهِ عَلَى الصِّحَّةِ ، وَهُمَا عَقْدَانِ يَجُوزُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ ، وَجَعَلُوا الْعَقْدَ الْوَاحِدَ هَاهُنَا عَقْدَيْنِ لِيَحْمِلُوهُ عَلَى الصِّحَّةِ فَكَانَ هَذَا إِفْسَادًا لِقَوْلِهِمْ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا أَصْلًا مُعْتَبَرًا لَكَانَ بَيْعُ مُدِّ تَمْرٍ بِمُدَّيْنِ جَائِزًا : لِيَكُونَ تَمْرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنَوَى الْآخَرِ ، حَمْلًا لِلْعَقْدِ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ فِيهِ وَلَا يَفْسُدُ . أَوْ يَكُونُ مُدٌّ بِمُدٍّ وَالْآخَرُ مَحْمُولًا عَلَى الْهِبَةِ دُونَ الْبَيْعِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُ هَذَا فِي الْعَقْدِ وَجَبَ اعْتِبَارُ إِطْلَاقِهِ فِي الْعُرْفِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ مُعْتَبَرَةٌ بِالْقَدْرِ دُونَ الْقِيمَةِ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْقِيمَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ وَإِنَّمَا تَمَاثُلُ الْقَدْرِ مُعْتَبَرٌ ، غَيْرَ أَنَّ بِالْقِيمَةِ فِي الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ يُعْلَمُ تَمَاثُلُ الْقَدْرِ أَوْ تَفَاضُلُهُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا وَبَاعَ الرَّجُلُ مُدًّا مِنْ تَمْرٍ وَدِرْهَمًا بِمُدَّيْنِ مِنْ تَمْرٍ من غير تفصيل بينهما كَانَ بَاطِلًا ، إِلَّا أَنْ يَفْصِلَ فَيَقُولُ : قَدْ بِعْتُكَ مُدًّا بِمُدٍّ وَدِرْهَمًا بِمُدٍّ فَيَصِحُّ : لِأَنَّ التَّفْصِيلَ يَجْعَلُهُمَا عَقْدَيْنِ وَيَمْنَعُ مِنْ تَقْسِيطِ الثَّمَنِ عَلَى الْقِيمَتَيْنِ ، وَكَذَا لَوْ بَاعَهُ مُدًّا وَدِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ كَانَ بَاطِلًا إِلَّا مَعَ التَّفْصِيلِ . وَكَذَا لَوْ بَاعَهُ مُدًّا مَنْ بُرٍّ وَمُدًّا مِنْ شَعِيرٍ بِمُدَّيْنِ مِنْ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ كَانَ بَاطِلًا إِلَّا مَعَ التَّفْصِيلِ ، وَلَكِنْ لَوْ بَاعَهُ مُدًّا مِنْ بُرٍّ وَمُدًّا مِنْ شَعِيرٍ بِمُدَّيْنِ مِنْ تَمْرٍ كَانَ جَائِزًا إِذَا تَقَابَضَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ : لِأَنَّهَا أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهَا ، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنَ التَّفَرُّقِ قَبْلَ تَقَابُضِهِمَا لِأَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِي جَمِيعِهَا وَاحِدَةٌ . وَلَوْ بَاعَهُ ثَوْبًا وَدِينَارًا بِثَوْبَيْنِ كَانَ جَائِزًا ، وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ : لِأَنَّ مَا لَا رِبَا فِيهِ لَا يَمْنَعُ مِنَ التَّفَرُّقِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ . وَكَذَا لَوْ بَاعَهُ ثَوْبًا وَدِينَارًا بِكَرٍّ مِنْ بُرٍّ صَحَّ وَجَازَ التَّفَرُّقُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ : لِأَنَّ الدَّنَانِيرَ وَالْبُرَّ وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا الرِّبَا فَلِعِلَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ .

فَأَمَّا إِذَا بَاعَهُ دِينَارًا وَثَوْبًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ كَانَ فِي الْعَقْدِ قَوْلَانِ : لِأَنَّهُ عَقْدٌ جَمَعَ بَيْعًا وَصَرْفًا : لِأَنَّ مَا قَبْلَ الدِّينَارِ مِنَ الدَّرَاهِمِ صَرْفٌ ، وَمَا قَابَلَ الثَّوْبَ بَيْعٌ . وَكَذَا لَوْ بَاعَهُ ثَوْبًا وَقَفِيزًا مِنْ شَعِيرٍ بِقَفِيزَيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ كَانَ أَيْضًا عَلَى قَوْلَيْنِ : لِأَنَّهُ بَيْعٌ وَصَرْفٌ : لِأَنَّ مَا قَابَلَ الثَّوْبَ مِنَ الْحِنْطَةِ بَيْعٌ ، وَمَا قَابَلَ الشَّعِيرَ كَالصَّرْفِ لِاسْتِحْقَاقِ الْقَبْضِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَكُلُّ زَيْتٍ وَدُهْنٍ لُوزٍ وَجُوزٍ وَبُزُورٍ لَا يَجُوزُ مِنَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ ، فَإِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَلَا بَأْسَ بِهِ مُتَفَاضِلًا يَدًا بِيَدٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْأَدْهَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ مما فيه ربا ومما ليس فيه ربا : أَحَدُهَا : مَا كَانَتْ مِنْ أُصُولٍ مَأْكُولَةٍ وَتَكُونُ بَعْدَ اسْتِخْرَاجِهَا دُهْنًا مَأْكُولَةً كَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ ، وَدُهْنِ الْجُوزِ وَاللُّوزِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَدُهْنُ الْبُطْمِ وَالصَّنُوبَرِ وَالْخَرْدَلِ وَالْحَبِّ الْأَخْضَرِ ، فَهَذِهِ كُلُّهَا وَمَا شَاكَلَهَا مَأْكُولَةٌ بَعْدَ اسْتِخْرَاجِهَا ، وَمَأْكُولَةُ الْأَصْلِ قَبْلَ اسْتِخْرَاجِهَا ، فَفِيهَا الرِّبَا : لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةٌ بِأَصْلِهَا ، فَأَصْلُهَا مَأْكُولَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً بِأَنْفُسِهَا فَهِيَ مَأْكُولَةٌ ، فَلَمْ تَخْلُ فِي كِلَا الْحَالَيْنِ مِنْ ثُبُوتِ الرِّبَا فِيهَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا كَانَتْ مِنْ أُصُولٍ غَيْرِ مَأْكُولَةٍ وَتَكُونُ بَعْدَ اسْتِخْرَاجِهَا دُهْنًا غَيْرَ مَأْكُولَةٍ كَدُهْنِ الْمَحْلَبِ وَالْأَلْبَانِ وَالْكَافُورِ ، فَهَذِهِ وَمَا شَاكَلَهَا غَيْرُ مَأْكُولَةِ الْأُصُولِ وَالْأَدْهَانِ جَمِيعًا ، فَلَا رِبَا فِيهَا اعْتِبَارًا بِالْحَالَتَيْنِ مَعًا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا كَانَتْ مِنْ أُصُولٍ مَأْكُولَةٍ ، لَكِنَّهَا لَا تَكُونُ بَعْدَ اسْتِخْرَاجِهَا دُهْنًا مَأْكُولَةً كَدُهْنِ الْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ وَالْخَيْرِيِّ وَالْيَاسَمِينِ فَهَذِهِ فِي أَنْفُسِهَا غَيْرُ مَأْكُولَةٍ فِي الْعُرْفِ ، وَإِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ طِلَاءً ، لَكِنَّهَا مُسْتَخْرَجَةٌ مِنْ أَصْلٍ مَأْكُولٍ ، وَهُوَ السِّمْسِمُ ؛ فَفِي ثُبُوتِ الرِّبَا فِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا رِبَا فِيهَا اعْتِبَارًا بِأَنْفُسِهَا . وَالثَّانِي : فِيهَا الرِّبَا اعْتِبَارًا بِأُصُولِهَا . وَكَذَلِكَ دُهْنُ السَّمَكِ مِنْ أَصْلٍ مَأْكُولٍ ، لَكِنَّهُ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مَأْكُولٍ . وَأَمَّا دُهْنُ الْبَزْرِ وَالْقُرْطُمِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أُصُولِهَا ، هَلْ هِيَ مَأْكُولَةٌ يَثْبُتُ فِيهَا الرِّبَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا رِبَا فِيهَا فَعَلَى هَذَا لَا رِبَا فِي أَدْهَانِهَا . وَالثَّانِي : فِيهَا الرِّبَا لِأَنَّهَا قَدْ تُؤْكَلُ . فَعَلَى هَذَا فِي ثُبُوتِ الرِّبَا فِي أَدْهَانِهَا وَجْهَانِ : لِأَنَّهَا مِنْ أَصْلٍ مَأْكُولٍ ، وَفَرْعٍ غَيْرِ مَأْكُولٍ .

وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَا كَانَتْ مِنْ أُصُولٍ غَيْرِ مَأْكُولَةٍ ، لَكِنَّ بَعْدَ اسْتِخْرَاجِهَا دُهْنًا مَأْكُولَةً . كَدُهْنِ الْخِرْوَعِ وَحَبِّ الْقَرْعِ وَمَا شَاكَلَهَا ، فَفِي ثُبُوتِ الرِّبَا فِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : فِيهَا الرِّبَا اعْتِبَارًا بِأَنْفُسِهَا . وَالثَّانِي : لَا رِبَا فِيهَا اعْتِبَارًا بِأُصُولِهَا . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَدْهَانَ الْمَأْكُولَةَ الربا فيها فِيهَا الرِّبَا عَلَى مَا وَصَفْنَا ، فَلَا فَصْلَ بَيْنَ الْمَأْكُولِ أُدُمًا أَوْ دَوَاءً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَكْلِ ، كَمَا لَا فَصْلَ فِي غَيْرِ الْأَدْهَانِ مِنَ الْمَأْكُولِ قُوتًا أَوْ دَوَاءً . ثُمَّ الْأَدْهَانُ أَجْنَاسٌ كَأُصُولِهَا ، وَإِنْ كَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يُخْرِجُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ كَاللُّحْمَانِ ، وَالْأَلْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا جِنْسٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا أَجْنَاسٌ . وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى فَسَادِ هَذَا التَّخْرِيجِ ، وَأَنَّ الْأَدْهَانَ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ كَمَا أَنَّ أُصُولَهَا أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ ، بِخِلَافِ اللُّحِمَانِ وَالْأَلْبَانِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ لِأُصُولِ اللُّحِمَانِ وَالْأَلْبَانِ اسْمًا جَامِعًا ، وَهُوَ الْحَيَوَانُ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ جِنْسًا وَاحِدًا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَدْهَانُ : إِذْ لَيْسَ لِأُصُولِهَا اسْمٌ جَامِعٌ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَجْنَاسًا . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَدْهَانَ أَجْنَاسٌ ، فَالزَّيْتُ جِنْسٌ . قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : وَزَيْتُ الْفُجْلِ جِنْسٌ آخَرَ : لِأَنَّ الزَّيْتَ الْمُطْلَقَ مُسْتَخْرَجٌ مِنَ الزَّيْتُونِ ، وَالزَّيْتُونُ جِنْسٌ غَيْرُ الْفُجْلِ ، ثُمَّ الشَّيْرَجُ جِنْسٌ آخَرُ . فَأَمَّا دُهْنُ الْوَرْدِ وَدُهْنُ الْبَنَفْسَجِ إِذَا قِيلَ فِيهِمَا الرِّبَا فَهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ ، وَكَذَلِكَ دُهْنُ الْيَاسَمِينِ وَالْخَيْرِيِّ ، فَهَذَا كُلُّهُ مَعَ الشَّيْرَجِ جِنْسٌ وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ : لِأَنَّ جَمِيعَهَا مِنَ السِّمْسِمِ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ لِاخْتِلَافِ التَّرْتِيبِ . فَإِذَا كَانَ الْجِنْسُ وَاحِدًا حَرُمَ فِيهِ التَّفَاضُلُ ، فَإِنْ كَانَا جِنْسَيْنِ جَازَ فِيهِمَا التَّفَاضُلُ . فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ بَيْعُ الزَّيْتِ بِالشَّيْرَجِ مُتَفَاضِلًا ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الشَّيْرَجِ بِالشَّيْرَجِ إِلَّا مُتَمَاثِلًا . وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِ الشَّيْرَجِ بِالشَّيْرَجِ بِكُلِّ حَالٍ : لِأَنَّ فِيهِ مَاءً وَمِلْحًا لَا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُهُ إِلَّا بِهِمَا ، وَهَذَا يَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الْمَاءَ وَالْمِلْحَ وَإِنْ كَانَ لَا يُسْتَخْرَجُ الشَّيْرَجُ إِلَّا بِهِمَا ، فَيَخْتَلِفَانِ فِي ثِقَلِ السِّمْسِمِ وَهُوَ الْكُسْبُ : إِذْ لَا يَصِحَّ اخْتِلَاطُ الْمَاءِ بِالدُّهْنِ وَلَا بَقَاءُ الْمَاءِ بَيْنَ أَجْزَائِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ لَا يَجُوزُ مِنَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مَطْبُوخٌ بِنَيِّئٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَا يَجُوزُ مِنَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مَطْبُوخٌ بِنَيِّئٍ مِنْهُ بِحَالٍ إِذَا كَانَ إِنَّمَا يُدَّخَرُ مَطْبُوخًا ، وَلَا مَطْبُوخٌ مِنْهُ بِمَطْبُوخٍ : لِأَنَّ النَّارَ تَنْقُصُ مِنْ بَعْضٍ أَكْثَرَ

مِمَّا تَنْقُصُ مِنْ بَعْضٍ ، وَلَيْسَ لَهُ غَايَةٌ يُنْتَهَى إِلَيْهَا كَمَا يَكُونُ لِلتَّمْرِ فِي الْيُبْسِ غَايَةٌ يُنْتَهَى إِلَيْهَا . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) مَا أَرَى لِاشْتِرَاطِهِ - يَعْنِي الشَّافِعِيَّ - إِذَا كَانَ إِنَّمَا يَدَّخِرُ مَطْبُوخًا مَعْنًى : لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنَّ مَا ادُّخِرَ وَمَا لَمْ يُدَّخَرْ وَاحِدٌ وَالنَّارُ تَنْقُصُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَجُمْلَتُهُ : أَنَّ كُلَّ مَا دَخَلَتْهُ النَّارُ لِانْعِقَادِهِ وَاجْتِمَاعِ أَجْزَائِهِ ، وَلَمْ تَدْخُلْهُ لِإِصْلَاحِهِ وَتَصْفِيَتِهِ بيع الْمَطْبُوخُ مِنْهُ بِالنَّيِّءِ ، لَمْ يَجُزِ الْمَطْبُوخُ مِنْهُ بِالنَّيِّءِ : لِأَنَّ النَّارَ نَقَصَتْ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ تَنْقُصْ مِنَ الْآخَرِ . وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ الْمَطْبُوخُ مِنْهُ بِالْمَطْبُوخِ : لِأَنَّ النَّارَ رُبَّمَا نَقَصَتْ مِنْ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ نُقْصَانِ الْآخَرِ . وَيَجُوزُ مِنَ الْجِنْسَيْنِ بِكُلِّ حَالٍ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الزَّيْتِ الْمَطْبُوخِ بِالنَّيِّءِ وَلَا بِالْمَطْبُوخِ ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ بِالشَّيْرَجِ النَّيِّءِ وَالْمَطْبُوخِ .

مَسْأَلَةٌ لَا يُبَاعُ عَسَلُ نَحْلٍ بِعَسَلِ نَحْلٍ إِلَّا مُصَفَّيَيْنِ مِنَ الشَمْعِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَا يُبَاعُ عَسَلُ نَحْلٍ بِعَسَلِ نَحْلٍ إِلَّا مُصَفَّيَيْنِ مِنَ الشَمْعِ : لِأَنَّهُمَا لَوْ بِيعَا وَزْنًا وَفِي أَحَدِهِمَا شَمْعٌ وَهُوَ غَيْرُ الْعَسَلِ بِالْعَسَلِ غَيْرُ مَعْلُومٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ بِيعَا كَيْلًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَسَلِ بِالْعَسَلِ إِلَّا مُصَفَّيَيْنِ مِنَ الشَّمْعِ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا شَمْعٌ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ الشَّمْعَ إِنْ كَانَ فِي أَحَدِهِمَا كَانَ التَّفَاضُلُ فِي الْعَسَلِ مَعْلُومًا ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا كَانَ التَّمَاثُلُ فِيهِ مَجْهُولًا . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا جَازَ بَيْعُ الْعَسَلِ بِالْعَسَلِ وَفِيهِمَا شَمْعٌ ، كَمَا جَازَ بَيْعُ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ وَفِيهِمَا نَوًى . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّمْعِ فِي الْعَسَلِ وَبَيْنَ النَّوَى فِي التَّمْرِ في البيع مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّوَى فِي التَّمْرِ بَعْضٌ مِنْهُ لَا يَتِمُّ صَلَاحُ التَّمْرِ إِلَّا بِهِ ، وَلِذَلِكَ مَنَعَ مِنْ بَيْعِ التَّمْرِ الْمُنَقَّى مِنَ النَّوَى بِمِثْلِهِ ، وَلَيْسَ الشَّمْعُ كَذَلِكَ : لِأَنَّهُ مُبَايِنٌ لِلْعَسَلِ وَإِنْ جَاوَرَهُ ، وَتَرْكُهُ فِيهِ مُؤَدٍّ إِلَى فَسَادِهِ ، وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا أَبْقَى لَهُمَا ، وَلِذَلِكَ جَازَ بَيْعُ الْعَسَلِ الْمُصَفَّى بِمِثْلِهِ . وَالْفَرْقُ الثَّانِي : أَنَّ النَّوَى فِي التَّمْرِ غَيْرُ مَقْصُودٍ ، فَلَمْ يَكُنْ لِكَوْنِهِ فِيهِ تَأْثِيرٌ ، وَالشَّمْعُ فِي الْعَسَلِ مَقْصُودٌ ، فَكَانَ اجْتِمَاعُهُمَا هَاهُنَا يُؤَدِّي إِلَى الْجَهَالَةِ فِي الْمَقْصُودِ مِنْهُمَا . أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَظْمَ فِي اللَّحْمِ لَمَّا كَانَ غَيْرَ مَقْصُودٍ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِاللَّحْمِ وَفِيهِمَا عَظْمٌ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَيْعَ الْعَسَلِ بِالْعَسَلِ لَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ تَصْفِيَتِهِمَا مِنَ الشَّمْعِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ التَّصْفِيَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ :

إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالشَّمْسِ أَوْ بِالنَّارِ . فَإِذَا كَانَتْ بِالشَّمْسِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ جَوَازِ بَيْعِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ بِالنَّارِ فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَجْعَلُ دُخُولَ النَّارِ فِي تَصْفِيَتِهِ مَانِعًا مِنْ بَيْعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ كَدُخُولِ النَّارِ فِي الزَّيْتِ : لِأَنَّهَا تَأْخُذُ بَعْضَ أَجْزَاءِ الْعَسَلِ كَمَا تَأْخُذُ بَعْضَ أَجْزَاءِ الزَّيْتِ . وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ دُخُولَ النَّارِ فِي تَصْفِيَتِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ بِيعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ ، وَكَذَلِكَ فِي السَّمْنِ بِخِلَافِ الزَّيْتِ الْمَغْلِيِّ : لِأَنَّ النَّارَ دَخَلَتْ فِيهِ لِإِصْلَاحِهِ وَتَمْيِيزِهِ مِنْ شَمْعِهِ ، فَلَمْ تَأْخُذْ مِنْ أَجْزَائِهِ شَيْئًا ، وَكَذَلِكَ السَّمْنُ ، وَإِنَّمَا تَأْخُذُ النَّارُ فِيمَا تَدْخُلُ فِيهِ لِانْعِقَادِهِ وَاجْتِمَاعِ أَجْزَائِهِ ، حَتَّى لَوْ أَنَّ الْعَسَلَ الْمُصَفَّى أُغْلِيَ بِالنَّارِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ : لِأَنَّ النَّارَ إِذَا لَمْ تَمَيِّزْهُ مِنْ غَيْرِهِ أَذْهَبَتْ بَعْضَ أَجْزَائِهِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا السُّكَّرُ وَالْفَانِيذُ فَإِنْ أُلْقِيَ فِيهِمَا مَاءٌ أَوْ لَبَنٌ أَوْ جُعِلَ فِيهِمَا دَقِيقٌ أَوْ غَيْرُهُ بيع بعضه ببعضه ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ نُظِرَ فِي دُخُولِ النَّارِ فِيهِمَا . فَإِنْ كَانَتْ قَدْ دَخَلَتْ لِتَصْفِيَتِهِمَا وَتَمْيِيزِهِمَا مِنْ غَيْرِهِمَا جَازَ بَعْضُهُمَا بِبَعْضٍ ، وَإِنْ دَخَلَتْ لِانْعِقَادِهِمَا وَاجْتِمَاعِ أَجْزَائِهِمَا لَمْ يَجُزْ ، وَكَذَلِكَ دِبْسُ التَّمْرِ وَرَبُّ الْفَوَاكِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَا خَيْرَ فِي مُدِّ حِنْطَةٍ فِيهَا قَصَلٌ أَوْ زُوَانٌ بِمُدِّ حِنْطَةٍ لَا شَيْءَ فِيهَا مِنْ ذَلِكَ : لِأَنَّهَا حِنْطَةٌ بِحِنْطَةٍ مُتَفَاضِلَةٍ وَمَجْهُولَةٍ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا اخْتَلَطَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَا يَزِيدُ فِي كَيْلِهِ مِنْ قَلِيلِ التُّرَابِ وَمَا دَقَّ مِنْ تِبْنِهِ ، فَأَمَّا الْوَزْنُ فَلَا خَيْرَ فِي مِثْلِ هَذَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . أَمَّا الْقَصَلُ فَهُوَ عُقُدُ التِّبْنِ الَّتِي تَبْقَى فِي الطَّعَامِ بَعْدَ تَصْفِيَتِهِ ، وَأَمَّا الشَّيْلَمُ وَالزُّوَانُ فَهُمَا حَبَّتَانِ تَنْبُتَانِ مَعَ الطَّعَامِ . فَإِذَا بَاعَ طَعَامًا فِيهِ قَصَلٌ أَوْ زُوَانٌ أَوْ يُسَلِّمُ بِطَعَامٍ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا : لِحُصُولِ التَّفَاضُلِ فِي الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ طَعَامًا فِيهِ قَصَلٌ أَوْ زُوَانٌ بِمِثْلِهِ مِمَّا هُوَ فِيهِ قَصَلٌ أَوْ زُوَانٌ لَمْ يَجُزْ : لِعَدَمِ التَّمَاثُلِ فِي الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ . فَأَمَّا يَسِيرُ التُّرَابِ وَمَا دَقَّ مِنَ التِّبْنِ إِذَا حَصَلَ فِي الطَّعَامِ فَبِيعَ بِمِثْلِهِ كَيْلًا جَازَ : لِأَنَّ هَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمِكْيَالِ : إِذِ الطَّعَامُ إِذَا كِيلَ حَصَلَ بَيْنَ الْحَبِّ خَلَلٌ لَا يَمْتَلِئُ بِشَيْءٍ مِنَ الطَّعَامِ لِضِيقِهِ . فَإِذَا حَصَلَ فِي الطَّعَامِ يَسِيرُ التُّرَابِ صَارَ فِي ذَلِكَ الْخَلَلِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْكَيْلِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَأَمَّا الْوَزْنُ فَلَا خَيْرَ فِي مِثْلِ هَذَا . وَلَيْسَ يُرِيدُ الطَّعَامَ : لِأَنَّ بَيْعَ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ وَزْنًا لَا يَجُوزُ بِحَالٍ ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ مَا يُوزَنُ مِنَ الْوَرِقِ وَالذَّهَبِ إِذَا بِيعَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَفِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا يَسِيرٌ مِنَ التُّرَابِ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ لِقَلِيلِ التُّرَابِ تَأْثِيرًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْمِكْيَالِ . فَصْلٌ : وَأَمَّا بَيْعُ الْعَلَسِ بِالْعَلَسِ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنْ قِشْرَتِهِ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ

قِشْرَةُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ قِشْرَةِ الْأُخْرَى فَيُؤَدِّيَ إِلَى التَّفَاضُلِ فِيهِ . وَكَذَلِكَ بَيْعُهُ بِالْحِنْطَةِ قَبْلَ تَقْشِيرِهِ : لِأَنَّهُ صِنْفٌ مِنْهَا ، وَلَكِنْ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالشَّعِيرِ : لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ يَجُوزُ فِيهِمَا التَّفَاضُلِ . فَأَمَّا بَيْعُ الْأُرْزِ بِالْأُرْزِ قَبْلَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْقِشْرَةِ الْعُلْيَا لَا يَجُوزُ كَالْعَلَسِ ، فَأَمَّا بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْقِشْرَةِ الْعُلْيَا وَقَبْلَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْقِشْرَةِ الثَّانِيَةِ الْحَمْرَاءِ ، فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِ فِيهَا بِمِثْلِهِ وَيَجْعَلُ النِّصَابَ فِيهِ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ كَالْعَلَسِ . وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْقِشْرَةَ الْحَمْرَاءَ اللَّاصِقَةَ بِهِ تَجْرِي مَجْرَى أَجْزَاءِ الْأُرْزِ : لِأَنَّهُ قَدْ يُطْحَنُ مَعَهَا وَيُؤْكَلُ أَيْضًا مَعَهَا ، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْهَا مُتَنَاهِيًا فِي اسْتِطَابَتِهِ كَمَا يَخْرُجُ مَا لَصِقَ بِالْحِنْطَةِ مِنَ النُّخَالَةِ ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ بَيْعِ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ . وَكَذَلِكَ الْأُرْزُ فِي بَيْعِهِ بِالْأُرْزِ مَعَ قِشْرَتِهِ الْحَمْرَاءِ وَنِصَابُهُ فِي الزَّكَاةِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ مَعَهَا كَالْحِنْطَةِ مَعَ قِشْرَتِهَا الْحَمْرَاءِ .

اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأَلْبَانِ هَلْ هِيَ صِنْفٌ وَاحِدٌ أَوْ أَصْنَافٌ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَبَنُ الْغَنَمِ مَاعِزِهِ وَضَأْنِهِ صِنْفٌ وَلَبَنُ الْبَقَرِ عِرَابِهَا وَجَوَامِيسِهَا صِنْفٌ ، وَلَبَنُ الْإِبِلِ مَهْرِيِّهَا وَعِرَابِهَا صِنْفٌ ، فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَ الصِّنْفَانِ فَلَا بَأْسَ مُتَفَاضِلًا يَدًا بِيَدٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأَلْبَانِ هَلْ هِيَ صِنْفٌ وَاحِدٌ أَوْ أَصْنَافٌ مما فيه ربا ومما ليس فيه ربا ، عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، إِنَّهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ : لِأَنَّ الِاسْمَ الْخَاصَّ يَجْمَعُهَا عِنْدَ حُدُوثِ الرِّبَا فِيهَا ، وَلَا يَكُونُ اخْتِلَافُ أَنْوَاعِهَا دَلِيلًا عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا وَأَجْنَاسِهَا ، كَمَا أَنَّ التَّمْرَ كُلَّهُ جِنْسٌ ، وَلَيْسَ اخْتِلَافُ أَنْوَاعِهِ دَلِيلًا عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وَأَكْثَرِ كُتُبِهِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، إِنَّ الْأَلْبَانَ أَصْنَافٌ وَأَجْنَاسٌ : لِأَنَّهَا فُرُوعٌ لِأُصُولٍ هِيَ أَجْنَاسٌ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ أَجْنَاسًا كَالْأَدِقَّةِ وَالْأَجْبَانِ لَمَّا كَانَتْ فُرُوعًا لِأَجْنَاسٍ كَانَتْ هِيَ أَجْنَاسًا . فَإِذَا قِيلَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ لَبَنِ الْإِبِلِ بِلَبَنِ الْبَقَرِ أَوِ الْغَنَمِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ . وَإِذَا قِيلَ بِالثَّانِي إِنَّهَا أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ كَانَ لَبَنُ الْإِبِلِ جِنْسًا ، لَكِنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَخَاتِيِّ وَالْعِرَابِ . وَلَبَنُ الْبَقَرِ جِنْسٌ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعِرَابِيَّةِ وَالْجَوَامِيسِ ، وَلَبَنُ الْغَنَمِ جِنْسٌ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الضَّأْنِ وَالْمَاعِزِ . فَإِنْ كَانَ الْجِنْسُ وَاحِدًا حَرُمَ فِيهِ التَّفَاضُلُ ، وَإِنْ كَانَ الْجِنْسُ مُخْتَلِفًا جَازَ فِيهِ التَّفَاضُلُ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا مُنِعَ مِنْ بَيْعِ اللَّبَنِ بِاللَّبَنِ إِذَا كَانَ فِيهِمَا زُبْدٌ كَمَا مُنِعَ مِنْ بَيْعِ الْعَسَلِ بِالْعَسَلِ إِذَا

كَانَ فِيهِمَا شَمْعٌ . قِيلَ : بَقَاءُ الزُّبْدِ فِي اللَّبَنِ مِنْ كَمَالِ مَنَافِعِهِ ، وَهُوَ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ مَأْكُولٌ مَعَهُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الشَّمْعُ فِي الْعَسَلِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جُمْلَتِهِ ، وَلَا مَأْكُولًا مَعَهُ وَاحِدًا . فَيَسْتَوِي سَمْنُ الْغَنَمِ وَسَمْنُ الْبَقَرِ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْأَلْبَانَ أَجْنَاسٌ كَانَتْ هَذِهِ كُلُّهَا أَجْنَاسًا . فَيَكُونُ سَمْنُ الْغَنَمِ جِنْسًا ، وَسَمْنُ الْبَقْرِ جِنْسًا ، وَالتَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا يَجُوزُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَا خَيْرَ فِي زُبْدِ غَنَمٍ بِلَبَنِ غَنَمٍ : لِأَنَّ الزُّبْدَ شَيْءٌ مِنَ اللَّبَنِ وَلَا خَيْرَ فِي سَمْنِ غَنَمٍ بِزُبْدِ غَنَمٍ ، وَإِذَا أُخْرِجَ مِنْهُ الزُّبْدُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُبَاعَ بِزُبْدٍ وَسَمْنٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَأَصْلُ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ مُتَّخَذًا مِنَ اللَّبَنِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنَ اللَّبَنِ . فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّبَنِ الْحَلِيبِ بِالزُّبْدِ ، وَلَا بِالسَّمْنِ ، وَلَا بِالْجُبْنِ ، وَلَا بِالْمَصْلِ ، وَلَا بِالْأَقِطِ ، وَلَا بِالْمَخِيضِ : لِأَنَّ فِي اللَّبَنِ الْحَلِيبَ زُبْدًا وَسَمْنًا وَجُبْنًا وَمَصْلًا وَأَقِطًا وَمَخِيضًا . وَالتَّمَاثُلُ فِيهِمَا مَعْدُومٌ . قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي تَعْلِيلِ الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الزُّبْدِ بِاللَّبَنِ : لِأَنَّ الزُّبْدَ شَيْءٌ مِنَ اللَّبَنِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي بَيَانِ هَذَا التَّعْلِيلِ . فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَقُولُ : مَعْنَاهُ أَنَّ فِي الزُّبْدِ شَيْئًا مِنَ اللَّبَنِ يَبْقَى فَلَا يُخْرِجُهُ إِلَّا النَّارُ . فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى بَيْعِ اللَّبَنِ بِاللَّبَنِ مُتَفَاضِلًا . وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا : إِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ فِي اللَّبَنِ زُبْدًا ، فَيُؤَدِّي إِلَى بَيْعِ الزُّبْدِ بِالزُّبْدِ مُتَفَاضِلًا . وَهَذَا أَصَحُّ الْمَعْنَيَيْنِ . لِأَنَّ مَا فِي الزُّبْدِ مِنَ اللَّبَنِ يَسِيرٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ . وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ تُؤَثِّرُ فِي بَيْعِ الزُّبْدِ بِاللَّبَنِ الْمَخِيضِ . فَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الزُّبْدِ بِاللَّبَنِ الْمَخِيضِ : لِأَنَّ فِي الزُّبْدِ لَبَنًا . وَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ يَجُوزُ ، وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ : لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَخِيضِ زُبْدٌ . فَأَمَّا بَيْعُ الْمَخِيضِ بِالسَّمْنِ فَيَجُوزُ عَلَى كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي السَّمْنِ لَبَنٌ وَلَا فِي اللَّبَنِ سَمْنٌ . وَأَمَّا بَيْعُ الْمَخِيضِ بِالْجُبْنِ أَوِ الْمَصْلِ أَوِ الْأَقِطِ من الألبان ، فَلَا يَجُوزُ عَلَى كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ : لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَبَنًا . وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْجُبْنِ بِالْمَصْلِ ، وَلَا بَيْعُ الْأَقِطِ بِالْجُبْنِ : لِأَنَّ جَمِيعَهُ مِنْ لَبَنٍ يُعْدَمُ فِيهِ التَّمَاثُلُ .

وَهَكَذَا ، لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَخِيضِ بِاللَّبَنِ الْحَلِيبِ : لِأَنَّ اللَّبَنَ الْحَلِيبَ فِيهِ زُبْدٌ ، وَالْمَخِيضَ لَبَنٌ فِيهِ مَاءٌ ، فَعُدِمَ التَّمَاثُلُ بَيْنَهُمَا ، لَكِنْ يَجُوزُ بَيْعُ اللَّبَنِ الْحَلِيبِ بِاللَّبَنِ الرَّائِبِ وَالْحَامِضِ إِذَا لَمْ يَكُنْ زُبْدُهُمَا مَمْخُوضًا : لِأَنَّهُ بَيْعُ لَبَنٍ فِيهِ زُبْدٌ بِلَبَنٍ فِيهِ زُبْدٌ فَصَارَ كَبَيْعِ الْحَلِيبِ بِالْحَلِيبِ . وَأَمَّا بَيْعُ الزُّبْدِ بِالسَّمْنِ فَلَا يَجُوزُ : لِمَا فِي الزُّبْدِ مِنْ بَقِيَّةِ اللَّبَنِ الَّتِي تَمْنَعُ مِنْ تَمَاثُلِهِ بِالسَّمْنِ . فَهَذَا الْكَلَامُ فِي بَيْعِ كُلِّ نَوْعٍ مِنَ اللَّبَنِ بِنَوْعِ غَيْرِهِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا بَيْعُ النَّوْعِ الْوَاحِدِ بِمِثْلِهِ : أَمَّا بَيْعُ اللَّبَنِ الْحَلِيبِ بِاللَّبَنِ الْحَلِيبِ فَيَجُوزُ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ . وَأَمَّا بَيْعُ اللَّبَنِ الْمَخِيضِ بِاللَّبَنِ الْمَخِيضِ فَلَا يَجُوزُ ، لِأَنَّ فِي الْمَخِيضِ مَاءً قَدْ مُخِضَ بِهِ لِإِخْرَاجِ الزُّبْدِ مِنْهُ يَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ فِي اللَّبَنِ بِغَيْرِ مَاءٍ ، فَيَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِهِ بِمِثْلِهِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ إِخْرَاجِ الزُّبْدِ بِغَيْرِ مَاءٍ فَيَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِهِ بِمِثْلِهِ . فَصْلٌ : وَأَمَّا بَيْعُ الزُّبْدِ بِالزُّبْدِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّ فِي الزُّبْدِ لَبَنًا بَاقِيًا يَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ عِنْدِي ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّهُ يَجُوزُ : لِأَنَّ مَا فِي الزُّبْدِ مِنْ بَقَايَا اللَّبَنِ يَسِيرٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ بَيْعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ ، كَالنَّوَى فِي التَّمْرِ ، وَكَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحَلِيبِ بِالْحَلِيبِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا زُبْدٌ : لِأَنَّ غَيْرَ الزُّبْدِ هُوَ الْمَقْصُودُ . فَصْلٌ : فَأَمَّا بَيْعُ السَّمْنِ بِالسَّمْنِ فَيَجُوزُ وَإِنَّ صُفِّيَ بِالنَّارِ : لِأَنَّ دُخُولَ النَّارِ فِيهِ لِتَمْيِيزِهِ وَتَصْفِيَتِهِ . فَإِنْ كَانَ ذَائِبًا لَمْ يُبَعْ إِلَّا كَيْلًا ، وَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ : لِأَنَّ أَصْلَهُ الْكَيْلُ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ وَزْنًا : لِأَنَّ الْوَزْنَ أَحْصَرُ وَالْكَيْلُ فِيهِ مُتَعَذَّرٌ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَصْلٌ : فَأَمَّا بَيْعُ الْجُبْنِ بِالْجُبْنِ فَلَا يَجُوزُ إِنْ كَانَ رَطْبًا أَوْ نَدِيًّا ، فَإِنْ كَانَ يَابِسًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : رَوَاهُ حَرْمَلَةُ . يَجُوزُ بَيْعُهُ إِذَا تَنَاهَى بِنَفْسِهِ وَزْنًا لِقِيمَةِ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ ، وَأَنَّهُ غَايَةُ اللَّبَنِ الَّتِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : رَوَاهُ الرَّبِيعُ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، أَنَّ بَيْعَ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ لَا يَجُوزُ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْعِلَّةِ الْمَانِعَةِ مِنْ جَوَازِهِ . فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : لِأَنَّ أَصْلَهُ الْكَيْلُ وَهُوَ فِيهِ مُتَعَذَّرٌ . وَقَالَ غَيْرُهُ : لِأَنَّ فِيهِ إِنْفَحَةً تَعْمَلُ بِهَا تَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ فِيهِ فَعَلَى هَذَا الْوَدْقِ الْجُبْنُ حَتَّى

عَمَلَ فُتُوتًا ، وَصَارَ نَاعِمًا جَازَ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ عَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ لِإِمْكَانِ كَيْلِهِ ، وَلَمْ يَجُزْ عَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ لِبَقَاءِ الْإِنْفَحَةِ فِيهِ . فَصْلٌ : وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا ، لَا يَجُوزُ بَيْعُ الزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ : لِأَنَّ فِيهِ مَا بِهِ وَالتَّمَاثُلُ مَعْدُومٌ ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الشَّيْرَجِ بِالسِّمْسِمِ ، وَلَا بَيْعُ دُهْنِ الْجَوْزِ بِالْجَوْزِ ، وَلَا دُهْنِ اللَّوْزِ بِاللَّوْزِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ بَيْعُ الزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ إِذَا كَانَ الزَّيْتُ أَكْثَرَ مِمَّا فِي الزَّيْتُونِ مِنَ الزَّيْتِ ، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ أَقَلَّ لَمْ يَجُزْ : لِيَكُونَ فَاضِلُ الزَّيْتِ فِي مُقَابَلَةِ عَصِيرِ الزَّيْتُونِ . وَكَذَا يَقُولُ فِي بَيْعِ جَمِيعِ الْأَدْهَانِ بِأُصُولِهَا ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا دَلِيلٌ عَلَيْهِ . وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِذَا بَاعَ مُدَّ تَمْرٍ وَدِرْهَمًا بِمُدَّيْ تَمْرٍ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ . فَإِنْ قِيلَ : لِمَ جَوَّزْتُمْ بَيْعَ السِّمْسِمِ بِالسِّمْسِمِ وَرُبَّمَا كَانَ دُهْنُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ . قُلْنَا : دُهْنُ السِّمْسِمِ قَبْلَ اسْتِخْرَاجِهِ تَبَعٌ لِأَصْلِهِ فَلَا اعْتِبَارَ بِزِيَادَتِهِ وَنَقْصِهِ ، كَمَا أَنَّ زُبْدَ اللَّبَنِ قَبْلَ اسْتِخْرَاجِهِ تَبَعٌ لِأَصْلِهِ ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مَعَ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ زُبْدُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ . فَأَمَّا إِذَا اسْتُخْرِجَ دُهْنُ السِّمْسِمِ وَبَقِيَ كُسْبًا وَحْدَهُ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ جَوَازُ بَيْعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ ، فَجَوَّزَ بَيْعَ الْكُسْبِ بِالْكُسْبِ وَزْنًا ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ، بَلْ بَيْعُ الْكُسْبِ بِالْكُسْبِ لَا يَجُوزُ لِأُمُورٍ : مِنْهَا : أَنَّ أَصْلُهُ الْكَيْلَ ، وَالْكَيْلُ فِيهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَالْوَزْنُ فِيهِ غَيْرُ جَائِزٍ . وَمِنْهَا : أَنَّ الْكُسْبَ يَخْتَلِفُ عَصْرُهُ ، فَرُبَّمَا كَانَ مَا بَقِيَ مِنْ دُهْنِ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ ، فَيُؤَدِّي إِلَى التَّفَاضُلِ فِيهِ . وَمِنْهَا : أَنَّ فِي الْكُسْبِ مَاءً وَمِلْحًا لَا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُ الدُّهْنِ إِلَّا بِهِمَا ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ الْمُمَاثَلَةِ . فَأَمَّا بَيْعُ طَحِينِ السِّمْسِمِ بِطَحِينِ السِّمْسِمِ قَبْلَ اسْتِخْرَاجِ الدُّهْنِ مِنْهُمَا ، فَلَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ طَحْنُ أَحَدِهِمَا أَنْعَمَ مِنَ الْآخَرِ كَمَا قِيلَ فِي الدَّقِيقِ ، وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِي بَيْعِ الْكُسْبِ بِالْكُسْبِ : إِذْ أَصْلُهُ الْكَيْلُ وَطَحْنُهُ مُخْتَلِفٌ .

مَسْأَلَةٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُ شَاةٍ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ بِلَبَنٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَا خَيْرَ فِي شَاةٍ فِيهَا لَبَنٌ يُقْدَرُ عَلَى حَلْبِهِ بِلَبَنٍ مِنْ قِبَلِ أَنَّ فِي الشَّاةِ لَبَنًا لَا أَدْرِي كَمْ حِصَّتُهُ مِنَ اللَّبَنِ الَّذِي اشْتُرِيَتْ بِهِ نَقْدًا ، وَإِنْ كَانَتْ نَسِيئَةً فَهُوَ أَفْسَدُ لِلْبَيْعِ ، وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّبَنِ التَّصْرِيَةَ بَدَلًا ، وَإِنَّمَا اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ كَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ الْمَبِيعِ فِي قِشْرِهِ يَسْتَخْرِجُهُ صَاحِبُهُ أَنَّى شَاءَ ، وَلَيْسَ كَالْوَلَدِ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لَا يَجُوزُ بَيْعُ شَاةٍ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ بِلَبَنٍ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بِجَوَازِهِ : لِأَنَّ اللَّبَنَ فِي الشَّاةِ تَبَعٌ لِلشَّاةِ وَغَيْرُ مَقْصُودٍ فِي نَفْسِهِ ، وَلِذَلِكَ جَازَتِ الْجَهَالَةُ فِيهِ ، فَلَمَّا جَازَ بَيْعُ ذَلِكَ بِالدَّرَاهِمِ لِكَوْنِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ تَبَعًا وَغَيْرَ مَقْصُودٍ ، جَازَ بَيْعُهُ بِاللَّبَنِ . وَلِأَنَّ اللَّبَنَ لَوْ كَانَ مَقْصُودًا وَكَانَ الثَّمَنُ عَلَيْهِ مُقَسَّطًا لَجَازَ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ بِالْعَقْدِ مُفْرَدًا اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ تَبَعًا . وَلِأَنَّ اللَّبَنَ نَمَاءٌ كَالْحَمْلِ ، فَلَمَّا كَانَ الْحَمْلُ تَبَعًا ، فَاللَّبَنُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ تَبَعًا : لِأَنَّ الْحَمْلَ كَأَصْلِهِ ، وَاللَّبَنُ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ أَصْلِهِ . وَهَذَا خَطَأٌ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اللَّبَنَ فِي الضَّرْعِ مَقْصُودٌ وَيَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ لِلَّبَنِ التَّصْرِيَةَ بَدَلًا فَقَالَ : إِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا ، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ " . فَلَوْلَا أَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاوَلُ الشَّاةَ وَلَبَنَهَا الَّذِي فِي الضَّرْعِ كَمَا يَتَنَاوَلُهُ إِذَا كَانَ مَحْلُوبًا فِي إِنَاءٍ ، لَأَسْقَطَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - غُرْمَهُ فِي اسْتِهْلَاكِهِ مَعَ قَضَائِهِ أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " لَا يَحْلِبَنَّ أَحَدُكُمْ شَاةَ أَخِيهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، ضُرُوعُ مَوَاشِيكُمْ خَزَائِنُ طَعَامِكُمْ ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْتِيَ خَزَانَةَ أَخِيهِ فَيَأْخُذَ مَا فِيهَا " . فَجَعَلَ مَا فِي الضَّرْعِ مِنَ اللَّبَنِ مِثْلَ مَا فِي الْخِزَانَةِ مِنَ الْمَتَاعِ ، فَلَمَّا كَانَ مَتَاعُ الْخِزَانَةِ مَقْصُودًا يَتَقَسَّطُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَبَنُ الضَّرْعِ مَقْصُودًا يَتَقَسَّطُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ . وَإِذَا ثَبَتَ بِهَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ أَنَّ لَبَنَ الضَّرْعِ مَقْصُودٌ يَتَقَسَّطُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُ شَاةٍ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ بِلَبَنٍ ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ شَاةٍ وَلَبَنٍ مَحْلُوبٍ بِلَبَنٍ ، لِأَجْلِ التَّفَاضُلِ ، كَمَا قُلْنَا فِي مُدِّ تَمْرٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدَّيْ تَمْرٍ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ عَلَى كَوْنِهِ تَبَعًا لِجَهَالَةِ قَدْرِهِ وَجَوَازِ بَيْعِهِ بِالدَّرَاهِمِ فَالْجَوَابُ : أَنَّ جَهَالَةَ قَدْرِهِ غَرَرٌ ، وَالْغَرَرُ الْيَسِيرُ فِي الْبَيْعِ مُجَوَّزٌ لِلضَّرُورَةِ . وَبِيعُهُ بِاللَّبَنِ رِبًا ، وَالرِّبَا الْيَسِيرُ فِي الْبَيْعِ غَيْرُ مُجَوَّزٍ مَعَ الضَّرُورَةِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ إِفْرَادُ لَبَنِ الضَّرْعِ بِالْعَقْدِ دُلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي الثَّمَنِ قِسْطٌ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ : لَيْسَ كُلُّ مَا جَازَ بَيْعُهُ مُفْرَدًا اقْتَضَى أَلَّا يَأْخُذَ مِنَ الثَّمَنِ قِسْطًا .

أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّمَرَةَ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا يَجُوزُ بَيْعُهَا تَبَعًا لِنَخْلِهَا ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا مُفْرَدًا ، وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّهَا تَأْخُذُ مِنَ الثَّمَنِ قِسْطًا . وَكَذَلِكَ أَسَاسُ الدَّارِ بَيْعُهُ تَبَعًا لِلدَّارِ يَجُوزُ بَيْعُهُ تَبَعًا لِلدَّارِ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ مُفْرَدًا ، وَقَدِ اتَّفَقُوا أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنَ الثَّمَنِ قِسْطًا كَذَلِكَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ . فَأَمَّا إِلْحَاقُهُ بِالْحَمْلِ فَلِلشَّافِعِيِّ فِي الْحَمْلِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ السُّؤَالُ . وَالثَّانِي : يَكُونُ تَبَعًا . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ : أَنَّ اللَّبَنَ فِي الضَّرْعِ كَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ الْمَبِيعِ فِي قُشُورِهِ يَسْتَخْرِجُهُ صَاحِبُهُ إِذَا شَاءَ ، وَلَيْسَ كَالدَّرِّ لَا يُقْدَرُ عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ . يَعْنِي : أَنَّ اللَّبَنَ فِي الضَّرْعِ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ ، وَالْحَمْلَ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا بَيْعُ شَاةٍ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ بِشَاةٍ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ فَبَاطِلٌ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا . وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ : يَجُوزُ : لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ بَيْعُ السِّمْسِمِ بِالسِّمْسِمِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا دُهْنٌ غَيْرُ ظَاهِرٍ ، كَذَا يَجُورُ بَيْعُ شَاةٍ بِشَاةٍ وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا لَبَنٌ غَيْرُ ظَاهِرٍ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الشَّاةَ وَاللَّبَنَ جَمِيعًا مَقْصُودَانِ بِالْعَقْدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَلَيْسَ كَالدُّهْنِ فِي السِّمْسِمِ : لِأَنَّ دُهْنَ السِّمْسِمِ لَا يَمْتَازُ عَنْ كُسْبِهِ فَيَصِيرَانِ مَقْصُودَيْنِ ، وَإِنَّمَا الدُّهْنُ تَبَعٌ فَلَمْ يَكُنْ بِهِ مُعْتَبَرًا ، وَجَرَى بَيْعُ الشَّاةِ الَّتِي فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ بِشَاةٍ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ مَجْرَى بَيْعِ نَخْلَةٍ فِيهَا رُطَبٌ بِنَخْلَةٍ فِيهَا رُطَبٌ ، لَمَّا لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ النَّخْلِ وَالرُّطَبِ مَقْصُودٌ ، لَمْ يَجُزْ فِي مَسْأَلَتِنَا : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّاةِ وَاللَّبَنِ مَقْصُودٌ . فَصْلٌ : فَأَمَّا بَيْعُ شَاةٍ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ بِشَاةٍ لَبُونٍ لَيْسَ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ فَجَائِزٌ لِعَدَمِ الرِّبَا ، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ نَخْلَةٍ فِيهَا رُطَبٌ بِنَخْلَةٍ لَيْسَ فِيهَا رُطَبٌ ، وَلَكِنْ لَوْ بَاعَ شَاةً فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ بِشَاةٍ مَذْبُوحَةٍ لَيْسَ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ لَمْ يَجُزْ ، لَا مِنْ جِهَةِ الرِّبَا ، وَلَكِنْ مِنْ حَيْثُ أَنَّ بَيْعَ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ لَا يَجُوزُ . فَأَمَّا إِذَا بَاعَ شَاةً فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ بِبَقَرَةٍ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْأَلْبَانَ جِنْسٌ وَاحِدٌ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْأَلْبَانَ أَجْنَاسٌ . وَإِذَا كَانَ بَيْعُ الشَّاةِ الَّتِي فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ لَا يَجُوزُ بِاللَّبَنِ ، لَمْ يَجُزْ أَيْضًا بِالزُّبْدِ ، وَلَا بِالسَّمْنِ ، وَلَا بِالْمَصْلِ ، وَلَا بِالْأَقِطِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّبَنِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ . فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا بَاعَ دَجَاجَةً فِيهَا بَيْضٌ بِبَيْضٍ ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ مُخْرِجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْحَمْلِ . هَلْ يَكُونُ تَبَعًا أَوْ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ : لِأَنَّ الْبَيْضَ كَالْحَمْلِ .

فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْحَمْلَ تَبَعٌ جَازَ بَيْعُ الدَّجَاجَةِ الَّتِي فِيهَا بَيْضٌ بِالْبَيْضِ ، لِأَنَّ مَا مَعَ الدَّجَاجَةِ مِنَ الْبَيْضِ تَبَعٌ . وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْحَمْلَ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ بَيْعَ الْبَيْضِ بِالْبَيْضِ لَا يَجُوزُ عَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ . فَصْلٌ : إِذَا بَاعَهُ دَارًا فِيهَا مَاءٌ بِدَارٍ فِيهَا مَاءٌ البيع في هذه الحالة ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْمَاءَ لَا رِبَا فِيهِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، جَازَ هَذَا بِكُلِّ حَالٍ ، وَإِنْ قِيلَ فِي الْمَاءِ الرِّبَا ، لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمَاءِ الَّذِي فِي الدَّارِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُحْرَزًا فِي الْأَجْبَابِ أَوْ حَاصِلًا فِي الْآبَارِ . فَإِنْ كَانَ فِي الْأَجْبَابِ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لَا يَخْتَلِفُ ، وَهَذَا بَيْعٌ غَيْرُ جَائِزٍ : خَوْفَ التَّفَاضُلِ فِي الْمَاءِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ شَاةٍ مَعَهَا لَبَنٌ بِشَاةٍ مَعَهَا لَبَنٌ . وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ فِي الْآبَارِ ، فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَزْعُمُ أَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ يَكُونُ مِلْكًا لِمَالِكِ الْبِئْرِ كَمَا يُمْلَكُ بِالْإِجَارَةِ فِي الْأَجْبَابِ . فَعَلَى هَذَا يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِ دَارٍ ذَاتِ بِئْرٍ فِيهَا مَاءٌ بِدَارٍ ذَاتِ بِئْرٍ فِيهَا مَاءٌ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ مِلْحًا فَيَجُوزُ : لِأَنَّ الْمَاءَ الْمِلْحَ غَيْرُ مَشْرُوبٍ وَلَا رِبَا فِيهِ . وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، إِلَى أَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ لَا يُمْلَكُ إِلَّا بِالْأَخْذِ وَالْإِجَارَةِ ، وَكَذَلِكَ مَاءُ الْعَيْنِ وَالنَّهْرِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لِمَالِكِ الْبِئْرِ مَنْعُ غَيْرِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي بِئْرِهِ أَوْ نَهْرِهِ . فَإِنْ تَصَرَّفَ غَيْرُهُ وَأَجَازَ الْمَالِكُ كَانَ مَا أَجَازَهُ أَمْلَكَ بِهِ مِنْ صَاحِبِ الْبِئْرِ . وَإِنَّمَا لَمْ يُمْلَكْ مَاءُ الْبِئْرِ إِلَّا بِالْإِجَارَةِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَنِ اشْتَرَى دَارًا ذَاتَ بِئْرٍ فَاسْتَعْمَلَ مَاءَهَا ، ثُمَّ رَدَّهَا بِعَيْبٍ لَمْ يَلْزَمْهُ لِلْمَاءِ غُرْمٌ ، وَلَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لَزِمَهُ غُرْمُهُ كَمَا يُغْرَمُ لَبَنُ الضَّرْعِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مُسْتَأْجِرَ الدَّارِ لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَاءَ الْبِئْرِ ، وَلَوْ كَانَ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِ الدَّارِ لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ أَنَّ الْمَاءَ لَا يُمْلَكُ إِلَّا بِالْإِجَارَةِ . فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ بَيْعُ دَارٍ ذَاتِ بِئْرٍ فِيهَا مَاءٌ بِدَارٍ ذَاتِ بِئْرٍ فِيهَا مَاءٌ .

مَسْأَلَةٌ كُلُّ مَا لَمْ يَجُزِ التَّفَاضُلُ فِيهِ فَالْقَسْمُ فِيهِ كَالْبَيْعِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَكُلُّ مَا لَمْ يَجُزِ التَّفَاضُلُ فِيهِ فَالْقَسْمُ فِيهِ كَالْبَيْعِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقِسْمَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا بَيْعٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا إِفْرَازُ حَقٍّ وَتَمْيِيزُ نَصِيبٍ .

وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهَا لِاخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي خَرْصِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثِمَارَ الْمَدِينَةِ وَأَعْنَابَ الطَّائِفِ ، فَهَلْ كَانَ لِمَعْرِفَةِ قَدْرِ الزَّكَاةِ أَوْ لِإِفْرَازِ حُقُوقِ أَهْلِ السُّهْمَانِ ؟ فَإِذَا قِيلَ خَرْصُهَا لِمَعْرِفَةِ قَدْرِ الزَّكَاةِ فِيهَا ، وَإِنَّمَا كَانَ إِفْرَازُ الْحَقِّ تَبَعًا لِمَعْرِفَتِهَا . فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا تَجُوزُ قِسْمَةُ الثِّمَارِ خَرْصًا وَتَكُونُ الْقِسْمَةُ بَيْعًا . وَإِذَا قِيلَ إِنَّمَا خَرْصُهَا لِإِفْرَازِ حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ مِنْهَا ، جَازَ قِسْمَةُ الثِّمَارِ خَرْصًا ، وَكَانَتِ الْقِسْمَةُ إِفْرَازَ حَقٍّ وَتَمْيِيزَ نَصِيبٍ . فَإِذَا قِيلَ إِنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَشْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فَوَجْهُهُ : أَنَّ الشَّرِيكَيْنِ فِي الدَّارِ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ . فَإِذَا اقْتَسَمَا فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا مُقَدَّمَ الدَّارِ ، وَأَخَذَ الْآخَرُ مُؤَخَّرَهَا ، صَارَ صَاحِبُ الْمُقَدَّمِ بَائِعًا لِحِصَّتِهِ مِنْ مُؤَخَّرِ الدَّارِ بِحِصَّةِ شَرِيكِهِ مِنْ مُقَدَّمِهَا : لِأَنَّهُ نَقْلُ مِلْكٍ بِمِلْكٍ وَهَذَا هُوَ الْبَيْعُ الْمَحْضُ . وَإِذَا قِيلَ إِنَّ الْقِسْمَةَ إِفْرَازُ حَقٍّ وَتَمْيِيزُ نَصِيبٍ فَوَجْهُهُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْقِسْمَةَ لَمَّا خَالَفَتِ الْبَيْعَ فِي الِاسْمِ وَجَبَ أَنْ تُخَالِفَ الْبَيْعَ فِي الْحُكْمِ : لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَسَامِي دَلِيلٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَعَانِي . وَالثَّانِي : أَنَّ الْقِسْمَةَ لَمَّا دَخَلَهَا الْجَبْرُ وَالْإِكْرَاهُ ، وَلَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ مَعَ الْجَبْرِ وَالْإِكْرَاهِ ، دَلَّ عَلَى اخْتِلَافِهِمَا وَعَدَمِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَمَّا صَحَّ دُخُولُ الْقُرْعَةِ فِي تَعْيِينِ الْمِلْكِ بِالْقِسْمَةِ ، وَلَمْ يَصِحَّ دُخُولُ الْقُرْعَةِ فِي تَعْيِينِ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ حَتَّى يَكُونَ مُعَيَّنًا بِالْعَقْدِ ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ مُخَالِفَةٌ لِلْبَيْعِ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ أَحْكَامِ الْبَيْعِ اسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ وَضَمَانُ الدَّرْكِ ، وَانْتَفَى عَنِ الْقِسْمَةِ اسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ وَضَمَانُ الدَّرْكِ ، دَلَّ عَلَى تَنَافِي حُكْمَيْهِمَا وَعَدَمِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا . فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ ، فَإِذَا قِيلَ إِنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْجِنْسِ الَّذِي يُرِيدُ الشَّرِيكَانِ قِسْمَتَهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا فِيهِ الرِّبَا أَمْ لَا . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ الرِّبَا كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ وَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ ، جَازَ لَهُمَا أَنْ يَقْتَسِمَاهُ ، كَيْفَ شَاءَا ، وَزْنًا وَعَدَدًا وَجُزَافًا وَمُتَفَاضِلًا : لِأَنَّ التَّفَاضُلَ فِي بَيْعِ مَا لَا رِبَا فِيهِ جَائِزٌ ، وَيَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ . وَإِنْ كَانَ مِمَّا فِيهِ الرِّبَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ جِنْسًا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ كَالْحِنْطَةِ . فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَسِمَاهُ إِلَّا كَيْلًا مُتَسَاوِيًا وَيَتَقَابَضَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ ، وَلَا يَصْحُّ مِنْهُمَا اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ ، وَلَا يَثْبُتُ لَهُمَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ ، فَتَكُونُ صِحَّةُ هَذِهِ الْقِسْمَةِ مُعْتَبَرَةٌ بِخَمْسَةِ شُرُوطٍ :

أَحَدُهَا : أَنْ يَقْتَسِمَاهُ كَيْلًا : لِأَنَّ الْحِنْطَةَ الْأَصْلُ فِيهَا الْكَيْلُ ، وَإِنِ اقْتَسَمَاهُ وَزْنًا لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ جِنْسًا أَصِلُهُ الْوَزْنُ ، فَإِنِ اقْتَسَمَاهُ كَيْلًا لَمْ يَجُزْ . وَإِذَا كَانَتِ الصُّبْرَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ أَخَذَ هَذَا قَفِيزًا وَأَخَذَ صَاحِبُ الثُّلُثِ قَفِيزًا . وَإِنْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا أَخَذَ صَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ قَفِيزَيْنِ وَأَخَذَ صَاحِبُ الثُّلُثِ قَفِيزًا . وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ حِصَّتِهِ مِنَ الصُّبْرَةِ ، ثُمَّ يَكْتَالُ الْآخَرُ مَا بَقِيَ لِجَوَازِ أَنْ يَتْلِفَ الْبَاقِي قَبْلَ أَنْ يَكْتَالَهُ الشَّرِيكُ الْآخَرُ . وَلِأَنَّهُمَا قَدِ اسْتَوَيَا فِي الْمِلْكِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْقَبْضِ . فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى الْمُبْتَدِئِ مِنْهُمَا بِأَخْذِ الْقَفِيزِ الْأَوَّلِ ، وَإِلَّا أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا فِي أَخْذِهِ ، وَيَكُونُ اسْتِقْرَارُ مِلْكُ الْأَوَّلِ عَلَى مَا أَخَذَهُ مَوْقُوفًا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ الْآخَرُ مِثْلَهُ . فَلَوْ أَخَذَ الْأَوَّلُ قَفِيزًا فَهَلَكَتِ الصُّبْرَةُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ الثَّانِي مِثْلَهُ ، لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُ الْأَوَّلِ عَلَى الْقَفِيزِ ، وَكَانَ الثَّانِي شَرِيكًا لَهُ فِيهِ : لِيَمْلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْقِسْمَةِ مِثْلَ مَا مَلَكَهُ صَاحِبُهُ ، فَهَذَا أَحَدُ الشُّرُوطِ وَفُرُوعُهُ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي قَبْضِ حُقُوقِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَفَاضُلٍ ، وَإِذَا كَانَتِ الصُّبْرَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَزْدَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى أَخْذِ النِّصْفِ شَيْئًا وَلَا أَنْ يَنْقُصَ مِنْهُ شَيْئًا : لِأَنَّهُ إِنِ ازْدَادَ أَوْ نَقَصَ صَارَ بَائِعًا لِلطَّعَامِ بِالطَّعَامِ مُتَفَاضِلًا وَذَلِكَ حَرَامٌ . وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا نِصْفَ الصُّبْرَةِ وَثَوْبًا ، أَوْ يَأْخُذَ الْآخَرُ نِصْفَهَا وَيُعْطِي ثَوْبًا ، لِحُصُولِ التَّفَاضُلِ فِيهِ . فَإِنْ كَانَتِ الصُّبْرَةُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا اقْتَسَمَاهَا كَذَلِكَ ، فَأَخَذَ صَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ ثُلْثَيِ الصُّبْرَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزْدَادَ شَيْئًا أَوْ يَنْقُصَ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا يُوقِعُ تُفَاضُلًا فِي بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ . قِيلَ : التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا مُعْتَبَرٌ بِقَدْرِ الْحَقِّ لَا بِالتَّمَاثُلِ فِي الْقَدْرِ . فَإِذَا أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرَ حَقِّهِ فَقَدْ تَسَاوَيَا وَإِنْ كَانَتِ الْحُقُوقُ مُتَفَاضِلَةً بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْمُبْتَدَأِ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ وَكِيلُهُ قَابِضًا وَمُقْبِضًا : لِأَنَّ لَهُ حَقًّا وَعَلَيْهِ حَقًّا . فَلَهُ قَبْضُ حَقِّهِ وَعَلَيْهِ إِقْبَاضُ حَقِّ شَرِيكِهِ ، فَإِنْ قَبَضَ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ إِقْبَاضِ الشَّرِيكِ حَقَّهُ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ أَقْبَضَ شَرِيكَهُ حَقَّهُ مِنْ غَيْرِ قَبْضِ حَقِّ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّهَا مُنَاقَلَةٌ بَيْنَ مُتَعَاوِضَيْنِ فَلَزِمَ فِيهَا الْقَبْضُ وَالْإِقْبَاضُ مَعًا . فَلَوْ أَذِنَ أَحَدُهُمَا لِشَرِيكِهِ فِي الْقَبْضِ لَهُ وَالْإِقْبَاضِ عَنْهُ لَمْ يَجُزْ ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَابِضًا مِنْ نَفْسِهِ وَمُقْبِضًا عَنْهَا .

وَكَذَا لَوْ أَذِنَ كُلُّ وَاحِدٍ لِزَيْدٍ فِي الْقَبْضِ لَهُ وَالْإِقْبَاضِ عَنْهُ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَتَوَلَّى الْقَبْضَ وَالْإِقْبَاضَ اثْنَانِ . وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ : أَنْ يَتَقَابَضَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَقَبْضُهُمَا بِالْكَيْلِ وَحْدَهُ دُونَ التَّحْوِيلِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ حَيْثُ كَانَ التَّحْوِيلُ فِي قَبْضِهِ مُعْتَبَرًا وَبَيْنَ الْقِسْمَةِ حَيْثُ لَمْ يَكُنِ التَّحْوِيلُ فِي قَبْضِهَا مُعْتَبَرًا . أَنَّ الْمَبِيعَ مَضْمُونٌ عَلَى بَائِعِهِ بِالْيَدِ ، فَاعْتُبِرَ فِي قَبْضِهِ التَّحْوِيلُ لِتَرْتَفِعَ الْيَدُ فَيَسْقُطُ الضَّمَانُ ، وَلَيْسَ فِي الْقِسْمَةِ ضَمَانٌ يَسْقُطُ بِالْقَبْضِ ، وَإِنَّمَا هِيَ مَوْضُوعَةٌ لِلْإِجَازَةِ ، وَبِالْكَيْلِ دُونَ التَّحْوِيلِ تَقَعُ الْإِجَازَةُ . فَلَوْ تَقَابَضَا بَعْضَ الصُّبْرَةِ وَلَمْ يَتَقَابَضَا بَاقِيَهَا حَتَّى افْتَرَقَا حكم القسمة في هذه الحالة صَحَّتِ الْقِسْمَةُ فِيمَا تَقَابَضَا قَوْلًا وَاحِدًا ، إِذَا صَارَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ حَقِّهِ مِثْلُ مَا صَارَ إِلَى صَاحِبِهِ ، وَكَانَتِ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِيمَا بَقِيَ مِنَ الصُّبْرَةِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِشَاعَةِ . وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ : وُقُوعُ الْقِسْمَةِ نَاجِزَةً مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ يُسْتَحَقُّ فِيهَا . لَا خِيَارِ الثَّلَاثِ بِالشَّرْطِ ، وَلَا خِيَارِ الْمَجْلِسِ الْمُسْتَحَقِّ فِي الْبَيْعِ . أَمَّا خِيَارُ الْمَجْلِسِ فَلِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ فِي الْبَيْعِ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَبْنِ مَعَ بَقَايَا أَحْكَامِ الْعَقْدِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْقِسْمَةُ - وَإِنْ كَانَتْ بَيْعًا مِثْلَهُ : لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ وَالْغَبْنَ قَدِ انْتَفَيَا عَنْهَا ، وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ الْإِجَازَةِ لِلْقِسْمَةِ حُكْمٌ فِي الشَّرِكَةِ فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ فِيهَا . فَبِهَذَيْنِ سَقَطَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ . فَأَمَّا خِيَارُ الثَّلَاثِ فَهُوَ أَسْقَطُ : لِأَنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ أَثْبَتُ فِي الْعُقُودِ مِنْ خِيَارِ الثَّلَاثِ ، فَإِذَا سَقَطَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ فَأَوْلَى أَنْ يَسْقُطَ خِيَارُ الثَّلَاثِ . فَهَذِهِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ مُعْتَبَرَةٍ فِي قِسْمِ هَذَا الضَّرْبِ ، وَهُوَ مَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ . فَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي ، وَهُوَ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ القسمة فيه كَالرُّطَبِ ، وَالْعِنَبِ ، وَالْبُقُولِ ، وَالْخُضَرِ ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقْتَسِمَهُ الشَّرِيكَانِ كَيْلًا ، وَلَا وَزْنًا ، وَلَا جُزَافًا ، عَلَى هَذَا الْقَوْلِ : لِتَحْرِيمِ بَيْعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ . وَالْوَجْهُ فِي ارْتِفَاعِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِيهِ ، صِنْفٌ مِنَ الْبُيُوعِ . وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَا ذَلِكَ حِصَّتَيْنِ مُتَمَيِّزَتَيْنِ ، ثُمَّ يَبِيعُ أَحَدُهُمَا حَقَّهُ مِنْ إِحْدَى الْحِصَّتَيْنِ عَلَى شَرِيكِهِ بِدِينَارٍ ، وَيَبْتَاعُ مِنْهُ حَقَّهُ مِنَ الْحِصَّةِ الْأُخْرَى بِدِينَارٍ . فَتَصِيرُ إِحْدَى الْحِصَّتَيْنِ بِكَمَالِهَا لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ وَعَلَيْهِ دِينَارٌ ، وَالْحِصَّةُ الْأُخْرَى بِكَمَالِهَا لِلشَّرِيكِ الْآخَرِ وَعَلَيْهِ دِينَارٌ . ثُمَّ يَتَقَابَضَانِ الدِّينَارَ بِالدِّينَارِ ، فَيَكُونُ هَذَا بَيْعًا يَجْرِي عَلَيْهِ جَمِيعُ أَحْكَامِ الْبُيُوعِ الْمُشَاعَةِ .

فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الْقِسْمَةِ إِذَا قِيلَ إِنَّهَا إِفْرَازُ حَقٍّ وَتَمْيِيزُ نَصِيبٍ بَيْعٌ . فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا قِيلَ إِنَّهَا إِفْرَازُ حَقٍّ وَتَمْيِيزُ نَصِيبٍ ، جَازَ لَهُمَا أَنْ يَتَقَاسَمَا كُلَّ جِنْسٍ بَيْنَهُمَا مِمَّا فِيهِ الرِّبَا أَوْ لَا رِبَا فِيهِ كَيْفَ شَاءَا كَيْلًا وَوَزْنًا وَجُزَافًا . فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَلِفُ أَجْزَاؤُهُ كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ ، فَلَا بُدَّ مِنِ اجْتِمَاعِهِمَا عَلَى الْقِسْمَةِ حَتَّى يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَابِضًا وَمُقْبِضًا . فَإِذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِأَخْذِ حِصَّتِهِ لَمْ يَجُزْ ، وَكَانَ مَا أَخَذَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ وَعَلَيْهِ ضَمَانُ حِصَّةِ شَرِيكِهِ مِنْهُ ، وَمَا بَقِيَ أَيْضًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ ، لَكِنْ لَا يَضْمَنُ حِصَّةَ شَرِيكِهِ مِنْهُ . وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَمَاثَلُ أَجْزَاؤُهُ وَلَا يَخْتَلِفُ كَالْحُبُوبِ وَالْأَدْهَانِ جَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِأَخْذِ حِصَّتِهِ عَنْ إِذْنِ شَرِيكِهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ مَا يَخْتَلِفُ أَجْزَاؤُهُ يَحْتَاجُ إِلَى اجْتِهَادٍ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ ، وَنَظَرٍ فِي طَلَبِ الْأَحَظِّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِالْقِسْمَةِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ الشَّرِيكُ . وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا كَانَتْ أَجْزَاؤُهُ مُتَمَاثِلَةً : لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهِ مُقَدَّرٌ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادٍ فِي اسْتِيفَائِهِ وَلَا إِلَى نَظَرٍ فِي طَلَبِ الْأَحَظِّ فِي أَخْذِهِ ، فَجَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِأَخْذِ حِصَّتِهِ عَنْ إِذْنِ شَرِيكِهِ ، فَإِنِ اسْتَفْضَلَ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ وَبَانَ وَظَهَرَ ، رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا اسْتَفْضَلَ ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِيمَا تَمَاثَلَتْ أَجْزَاؤُهُ أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِالْقِسْمَةِ عَنْ إِذْنِ شَرِيكِهِ ، وَإِنْ جَازَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بَيْعٌ ، وَالْبَيْعُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ أَحَدُهُمَا . وَهُوَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِفْرَازُ حَقٍّ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ أَحَدُهُمَا . فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَوِ انْفَرَدَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِأَخْذِ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ شَرِيكِهِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّ لِشَرِيكِهِ حَقَّ الْإِشَاعَةِ فَلَمْ يَسْقُطْ إِلَّا بِإِذْنٍ . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَا أَجَازَهُ الشَّرِيكُ مُشَاعًا ، وَهُوَ ضَامِنٌ لِحِصَّةِ شَرِيكِهِ مِنْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ : لِأَنَّهُ لَوِ اسْتَأْذَنَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ ، فَجَازَ إِذَا اسْتَوْفَى قَدْرَ حَقِّهِ أَلَّا يَسْتَأْذِنَهُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُ تَمْرٍ بِرُطَبٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ تَمْرٍ بِرُطَبٍ بِحَالٍ : لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ ؟ " فَنَهَى عَنْهُ فَنَظَرَ إِلَى الْمُتَعَقِّبِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ .

بَيْعُ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ لَا يَجُوزُ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ ، وَعَامَّةُ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ . اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ التَّمْرَ وَالرُّطَبَ لَيْسَ يَخْلُو حَالُهُمَا مِنْ أَنْ يَكُونَا جِنْسًا وَاحِدًا أَوْ جِنْسَيْنِ . فَإِنْ كَانَا جِنْسًا وَاحِدًا جَازَ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مُتَسَاوِيًا حَالَ الْعَقْدِ . وَإِنْ كَانَا جِنْسَيْنِ فَبَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ أَجْوَزُ . قَالَ : وَلِأَنَّ الرُّطَبَ نَوْعٌ مِنَ التَّمْرِ يَنْقُصُ بِالْيُبْسِ وَطُولِ الْمُكْثِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَانِعًا مَنْ بَيْعِهِ بِتَمْرٍ مِنْ جِنْسِهِ ، هُوَ أَكْثَرُ مِنْ يُبْسِهِ ، كَمَا جَازَ بَيْعُ التَّمْرِ الْحَدِيثِ بِالتَّمْرِ الْعَتِيقِ ، وَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ يَنْقُصُ إِذَا صَارَ كَالْعَتِيقِ . قَالَ : وَلِأَنَّ التَّمَاثُلَ فِي الْجِنْسِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْعَقْدِ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِحُدُوثِ التَّفَاضُلِ فِيمَا بَعْدُ ، كَالسِّمْسِمِ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالسِّمْسِمِ إِذَا تَمَاثَلَا ، وَإِنْ جَازَ بَعْدَ اسْتِخْرَاجِهِمَا دُهْنًا أَنْ يَتَفَاضَلَا . قَالَ : وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ عِنْدَكُمْ بَيْعُ الْعَرَايَا وَهِيَ تَمْرٌ بِرُطَبٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ ، لَا يَقْدِرُ عَلَى تَمَاثُلِهِمَا كَيْلًا إِلَّا بِالْخَرْصِ ، كَانَ بَيْعُ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ الْمَقْدُورِ عَلَى تَمَاثُلِهِمَا بِالْكَيْلِ أَجْوَزُ ، وَهُوَ مِنَ الرِّبَا أَبْعَدُ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا رِوَايَةُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ كَيْلًا وَعَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ بِالزَّيْتِ كَيْلًا ، وَعَنْ بَيْعِ الزَّرْعِ بِالْحِنْطَةِ كَيْلًا . وَهَذَا نَصٌّ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا خَصَّ بِالنَّهْيِ التَّمْرَ بِالرُّطَبِ إِذَا كَانَ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ : لِأَنَّهُ وَارِدٌ فِي الْمُزَابَنَةِ . قِيلَ : هَذَا تَأْوِيلٌ يَفْسَدُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ تَخْصِيصُ عُمُومٍ بِدَعْوًى . وَالثَّانِي : أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ بِالْكَيْلِ ، وَكَيْلُ مَا عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، فَعُلِمَ أَنَّ النَّهْيَ وَارِدٌ فِيمَا الْكَيْلُ فِيهِ مُمْكِنٌ . وَرَوَى بَشِيرُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ إِلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا تَمْرًا يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا . فَإِنْ قِيلَ : فَيَحْصُلُ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ ذَلِكَ بِالْخَرْصِ : لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى الْعَرَايَا مِنْهَا بِالْخَرْصِ . قِيلَ : النَّهْيُ إِذَا كَانَ عَامًّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مَخْصُوصًا بِالِاسْتِثْنَاءِ إِذَا كَانَ خَاصًّا .

وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ زَيْدًا أَبَا عَيَّاشٍ أَخْبَرَهُ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ فَقَالَ : " أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ " . قِيلَ : نَعَمْ . قَالَ : " فَلَا إذًا " . وَهَذَا أَظْهَرُ الْأَخْبَارِ الثَّلَاثَةِ دَلِيلًا وَتَعْلِيلًا . اعْتَرَضُوا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : طَعْنُهُمْ فِي رَاوِيهِ ؛ فَقَالُوا لَمْ يَرِدْ إِلَّا مِنْ جِهَةِ زَيْدِ بْنِ عَيَّاشٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ . وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ زَيْدًا أَبَا عَيَّاشٍ ثِقَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَقْبُولُ الْحَدِيثِ ، وَهُوَ مَوْلًى لِبَنِي مَخْزُومٍ . وَقَدْ رَوَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ ، وَعِمْرَانُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ وُجُوهِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ فِي حَدِيثِهِ . الِاعْتِرَاضُ الثَّانِي : قَدْحُهُمْ فِي مَتْنِهِ ، فَقَالُوا : لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الرُّطَبَ يَنْقُصُ إِذَا صَارَ تَمْرًا حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهُ . وَمِثْلُ هَذَا لَا يَخْفَى عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ . وَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الِاسْتِفْهَامِ ، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ الِاسْتِفْهَامَ ، وَإِنَّمَا قُصِدَ بِهِ التَّقْرِيرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى [ طَهَ : ] . فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ اسْتِفْهَامًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا كَانَ تَقْرِيرًا عَلَى مُوسَى . كَذَلِكَ هَذَا السُّؤَالُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيرِ : لِيُنَبِّهَ بِهِ عَلَى الْعِلَّةِ ، وَأَنَّ كُلَّ مَا يَنْقُصُ إِنْ يَبِسَ مِنْ سَائِرِ الْأَجْنَاسِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ ، وَلَوْ أَجَابَ مِنْ غَيْرِ تَقْرِيرٍ لَكَانَ الْجَوَابُ مَقْصُورًا عَلَى السُّؤَالِ . الِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِرْشَادِ وَالْمَشُورَةِ ، كَأَنْ كَانَ مُشْتَرِي الرُّطَبِ سَأَلَهُ مُسْتَشِيرًا فِي الشِّرَاءِ ، فَقَالَ لَا لِأَنَّهُ يَنْقُصُ عَلَيْكَ إِذَا يَبِسَ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّ هَذَا تَأْوِيلٌ يُخَالِفُ الْعَادَةَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ : لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي سُؤَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ عَنِ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَخْتَصُّ بِعِلْمِهَا دُونَ الْمَتَاجِرِ الَّتِي قَدْ يُشَارِكُونَهُ فِي الْعِلْمِ بِهَا ، وَأَنَّ جَوَابَهُ عَنْهَا جَوَابٌ شَرْعِيٌّ وَنَهْيُهُ عَنْهَا نَهْيٌ حُكْمِيٌّ ، فَلَا جَائِزَ أَنْ يَعْدِلَ بِالسُّؤَالِ وَالْجَوَابِ عَنْ مَوْضُوعِهِمَا وَالْعُرْفِ الْقَائِمِ فِيهِمَا .

وَدَلِيلُنَا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى : أَنَّهُ جِنْسٌ فِيهِ الرِّبَا ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُ رَطْبِهِ بِيَابِسِهِ مُتَسَاوِيَيْنِ كَالْحِنْطَةِ بِالْعَجِينِ وَالْخُبْزِ بِالدَّقِيقِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ : لِأَنَّ طَحْنَ الدَّقِيقِ صَنْعَةٌ يُعَاوَضُ عَلَيْهَا ، فَصَارَ فِي خُبْزِ الدَّقِيقِ عِوَضٌ لَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهِ شَيْءٌ ، وَلَيْسَ جَفَافُ التَّمْرِ بِصَنْعَةٍ يُعَاوَضُ عَلَيْهَا فَجَازَ بَيْعُهُ بِالرُّطَبِ . قِيلَ : عَنْ هَذَا جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لَجَازَ عَلَى أَصْلِكُمُ التَّفَاضُلُ فِي بَيْعِ الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ ، حَتَّى يُجِيزُوا بَيْعَ صَاعٍ مِنْ دَقِيقٍ بِصَاعَيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ ، لِيَكُونَ صَاعٌ بِصَاعٍ ، وَالصَّاعُ الْفَاضِلُ مِنَ الْحِنْطَةِ بِإِزَاءِ مَا فِي الدَّقِيقِ مِنَ الصَّنْعَةِ ، فَلَمَّا لَمْ تَقُولُوا بِهَذَا دَلَّ عَلَى أَنَّكُمْ لَمْ تَجْعَلُوا لِلصَّنْعَةِ قِيمَةً . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ الصَّنْعَةَ لَا تَقُومُ فِي عُقُودِ الرِّبَا وَلَا تَأْثِيرَ لِدُخُولِهَا فِيهِ . أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ ابْتَاعَ حُلِيًّا مَصْبُوغًا بِذَهَبٍ مَسْبُوكٍ جَازَ إِذَا تَمَاثَلَا ، وَلَا يَكُونُ وُجُودُ الصَّنْعَةِ فِي أَحَدِهِمَا دَلِيلًا عَلَى فَسَادِ الْعَقْدِ عَلَيْهِمَا ، كَذَلِكَ الدَّقِيقُ بِالْحِنْطَةِ لَيْسَ الْمَنْعُ مِنَ الْعَقْدِ عَلَيْهِمَا لِأَجْلِ مَا فِي الدَّقِيقِ مِنَ الصَّنْعَةِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْمَعْنَى ، ثَبَتَ أَنَّهُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنِ اخْتِلَافِهِمَا فِي حَالِ الِادِّخَارِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ جِنْسًا أَوْ جِنْسَيْنِ ، وَإِنْ تَقَابَلُوا بِمِثْلِهِ فِي بَيْعِ الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ ، ثُمَّ يُقَالَ هُمَا وَإِنْ كَانَا جِنْسًا وَاحِدًا فَقَدِ اخْتَلَفَا فِي حَالِ الِادِّخَارِ ، فَهُنَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ نُقْصَانَ الرُّطَبِ إِذَا صَارَ تَمْرًا كَنُقْصَانِ الْحَدِيثِ إِذَا صَارَ عَتِيقًا ، ثُمَّ لَمْ يَمْنَعْ حُدُوثُ النُّقْصَانِ مِنْ بَيْعِ الْحَدِيثِ بِالْعَتِيقِ ، كَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ فِي بَيْعِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ ، مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحَدِيثَ وَالْعَتِيقَ قَدْ بَلَغَا حَالَ الِادِّخَارِ ، فَجَازَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ وَإِنْ نَقَصَا فِيمَا بَعْدُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرُّطَبُ : لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ حَالَ الِادِّخَارِ . وَالثَّانِي : أَنَّ نُقْصَانَ الْحَدِيثِ إِذَا صَارَ عَتِيقًا يَسِيرًا لَا يُضْبَطُ فَكَانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ كَالْفَضْلِ بَيْنَ الْكَيْلَيْنِ وَالْوَزْنَيْنِ لَمَّا كَانَ يَسِيرًا لَا يُضْبَطُ عُفِيَ عَنْهُ ، وَنُقْصَانُ الرُّطَبِ كَثِيرٌ فَلَمْ يُعْفَ عَنْهُ . أَلَا تَرَى أَنَّ بَيْعَ الطَّعَامِ الْحَدِيثِ بِالطَّعَامِ الْعَتِيقِ جَائِزٌ ، وَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ أَنْدَى وَالْعَتِيقُ أَيْسَرُ : لِأَنَّ مَا بَيْنَهُمَا يَسِيرًا فَعُفِيَ عَنْهُ ، وَلَوْ كَانَ الطَّعَامُ مَبْلُولًا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِالطَّعَامِ : لِأَنَّ مَا بَيْنَهُمَا كَثِيرٌ فَلَمْ يُعْفَ عَنْهُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ التَّمَاثُلَ مُعْتَبَرٌ حَالَ الْعَقْدِ ، وَإِنْ حَدَثَ التَّفَاضُلُ فِيمَا بَعْدُ

كَالسِّمْسِمِ بِالسِّمْسِمِ بيع بعضه ببعض . قُلْنَا : التَّمَاثُلُ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الِادِّخَارِ ، وَالسِّمْسِمُ مُدَّخَرٌ فَصَحَّ التَّمَاثُلُ فِيهِ ، وَالرُّطَبُ غَيْرُ مُدَّخِرٍ فَلَمْ يَصِحَّ التَّمَاثُلُ فِيهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْعَرَايَا ، فَهُوَ أَنَّ الْعَرَايَا وَإِنْ جَوَّزْنَاهَا لِتَخْصِيصِ الشَّرْعِ لَهَا فَلِأَنَّنَا اعْتَبَرْنَا الْمُمَاثَلَةَ حَالَ الِادِّخَارِ ، وَأَنْتُمْ أَسْقَطْتُمُ اعْتِبَارَ الْمُمَاثَلَةِ حَالَ الِادِّخَارِ ، ثُمَّ الْمُمَاثَلَةُ مَأْخُوذَةٌ بِالشَّرْعِ فَوَرَدَ الشَّرْعُ فِي مُمَاثَلَةِ الْعَرَايَا بِالْخَرْصِ وَفِي غَيْرِهَا بِالْكَيْلِ . فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ بَيْعَ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ لَا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ الزَّبِيبُ بِالْعِنَبِ لَا يَجُوزُ ، وَالْفَوَاكِهُ كُلُّهَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ رَطْبِهَا بِيَابِسِهَا . فَإِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ جَازَ بَيْعُ يَابِسِ أَحَدِهِمَا بِرَطْبِ الْآخَرِ ، وَرَطْبِ أَحَدِهِمَا بِرَطْبِ الْآخَرِ في الفواكه . وَأَمَّا النَّوْعَانِ مِنَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ كَالرُّطَبِ الْبَرْنِيِّ وَالرُّطَبِ الْمَعْقِلِيِّ فَحُكْمُهُمَا حُكْمُ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ ، لَا يَجُوزُ بَيْعُ تَمْرِ أَحَدِهِمَا بِرَطْبِ الْآخَرِ .

مَسْأَلَةٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُ رُطَبٍ بِرُطَبٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بَيْعُ رُطَبٍ بِرُطَبٍ : لِأَنَّهُمَا فِي الْمُتَعَقَّبِ مَجْهُولَا الْمِثْلِ تَمْرًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . بَيْعُ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ لَا يَجُوزُ . وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَصَاحِبَاهُ ، وَالْمُزَنِيُّ : يَجُوزُ . اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الرُّطَبَ أَكْثَرُ مَنَافِعِهِ ، فَجَازَ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ رُطَبًا وَإِنْ نَقَصَ بَعْدَ يُبْسِهِ كَاللَّبَنِ ، وَلِأَنَّ نُقْصَانَ الرُّطَبِ إِذَا بِيعَ بِالرُّطَبِ مِنْ طَرَفَيْهِ جَمِيعًا ، فَتَسَاوَيَا فِي حَالِ كَوْنِهِمَا رَطْبًا ، وَتَسَاوَيَا بَعْدَ جَفَافِهِمَا تَمْرًا . فَلَمَّا جَازَ بَيْعُهُمَا تَمْرًا لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْجَفَافِ جَازَ بَيْعُ رَطْبِهِمَا لِتَسَاوِيهِمَا فِي الرُّطُوبَةِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ ؟ . قَالُوا نَعَمْ . قَالَ : فَلَا إذًا " . فَجَعَلَ عِلَّةَ الْمَنْعِ حُدُوثَ النُّقْصَانِ فِيمَا بَعْدُ ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي بَيْعِ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ كَوُجُودِهِمَا فِي بَيْعِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ . وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ النَّقْصُ فِي بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ مَانِعًا مِنَ الْبَيْعِ ، كَانَ النَّقْصُ فِي بَيْعِ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ مَعًا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنَ الْبَيْعِ . وَلِأَنَّ الْجَهْلَ بِالتَّمَاثُلِ كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ ، فَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ بِالتَّفَاضُلِ فِي بَيْعِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الْبَيْعِ لِنُقْصَانِ الرُّطَبِ إِذَا صَارَ تَمْرًا ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجَهْلُ بِالتَّمَاثُلِ فِي بَيْعِ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ البيع في هذه الحالة مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الْبَيْعِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ نَقْصُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ نَقْصِ الْآخَرِ إِذَا صَارَ تَمْرًا ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَخْتَصُّ بِمَالِكٍ وَالْمُزَنِيِّ وَمَنْ وَافَقَنَا فِي الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ .

فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَالْكَلَامُ مَعَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْكَلَامِ فِي الَّتِي قَبْلِهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِاللَّبَنِ ، فَهُوَ أَنَّ أَكْمَلَ مَنَافِعِ اللَّبَنِ يُوجَدُ إِذَا كَانَ لَبَنًا . فَجَازَ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ لِكَمَالِ مَنَافِعِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرُّطَبُ : لِأَنَّ كَمَالَ مَنَافِعِهِ يَكُونُ إِذَا يَبِسَ ، إِذْ كَلُّ شَيْءٍ أُمْكِنَ أَنْ يُعْمَلَ مِنَ الرُّطَبِ أُمْكِنَ أَنْ يُعْمَلَ مِنَ التَّمْرِ ، وَلَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ أُمْكِنَ أَنْ يُعْمَلَ مِنَ اللَّبَنِ أُمْكِنَ أَنْ يُعْمَلَ مِنَ الْجُبْنِ وَالْمَصْلِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ نَقْصَهُمَا قَدِ اسْتَوَى مِنَ الطَّرَفَيْنِ فَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ دَلِيلًا أَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْمَنْعِ . عَلَى أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ فِي النَّقْصِ إِذَا نَقَصَ الرُّطَبُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ وَيَتَبَايَنُ بِتَبَايُنِ أَزْمَانِهِ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَيْعَ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ لَا يَجُوزُ ، وَبَيْعَ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ لَا يَجُوزُ ، فَكَذَا كُلُّ مَا يَصِيرُ رُطَبًا وَتَمْرًا بَيْعُهُ بِالرُّطَبِ والتمر لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالرُّطَبِ ، وَلَا بِالتَّمْرِ ، كَالْبَلَحِ وَالْخَلَالِ ، وَالْبُسْرِ ، لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِرُطَبٍ وَلَا بِتَمْرٍ ، وَكَذَا كُلُّ مَا يُتَّخَذُ مِنَ التَّمْرِ وَالرُّطَبِ كَالدِّبْسِ وَالنَّاطِقِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالتَّمْرِ وَالرُّطَبِ ، وَلَا بِمَا يَصِيرُ تَمْرًا وَرُطَبًا كَالْبَلَحِ وَالْخَلَالِ وَالْبُسْرِ . فَأَمَّا بَيْعُ الطَّلْعِ بِالرُّطَبِ وَالتَّمْرِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : جَوَازُهُ : لِأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ فَشَابَهَ بَيْعَ الْقَصِيلِ بِالْحِنْطَةِ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الْقَصِيلِ بِالْحِنْطَةِ : لِأَنَّ نَفْسَ الطَّلْعِ يَصِيرُ رُطَبًا وَتَمْرًا ، وَلَيْسَ يَصِيرُ نَفْسُ الْقَصِيلِ حِنْطَةً ، وَإِنَّمَا تَنْعَقِدُ فِيهِ الْحِنْطَةُ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ طَلْعِ الْفُحُولُ جَازَ كَالْقَصِيلِ : لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ رُطَبًا . وَإِنْ كَانَ مِنْ طَلْعِ الْإِنَاثِ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّهُ يَصِيرُ رُطَبًا . وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يُجِيزُ بَيْعَ الرُّطَبِ الَّذِي لَا يَصِيرُ تَمْرًا بِمِثْلِهِ : لِأَنَّهَا حَالُ كَمَالِ مَنَافِعِهِ كَاللَّبَنِ . وَلَيْسَ هَذَا صَحِيحًا : لِأَنَّ النَّادِرَ مِنَ الْجِنْسِ يَلْحَقُ بِالْغَالِبِ مِنْهُ فِي الْحُكْمِ .

مَسْأَلَةٌ لَا يَجُوزُ قَمْحٌ مَبْلُولٌ بِقَمْحٍ جَافٍّ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ قَمْحٌ مَبْلُولٌ بِقَمْحٍ جَافٍّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ الْمَبْلُولَةِ بِالْحِنْطَةِ الْيَابِسَةِ : لِأَنَّ الْمَبْلُولَةَ تَنْقُصُ إِذَا جَفَّتْ وَيَبِسَتْ ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ . وَكَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ الْمَبْلُولَةِ بِالْحِنْطَةِ الْمَبْلُولَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي النُّقْصَانِ إِذَا يَبِسَا ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ . وَكَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ الْمَقْلُوَّةِ بِالْحِنْطَةِ النَّيَّةِ : لِأَنَّ النَّارَ قَدْ أَخَذَتْ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَقْلُوَّةِ ، وَأَحْدَثَتْ فِيهَا انْتِفَاخًا يَمْنَعُ مِنَ الْمُمَاثَلَةِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الزَّيْتِ الْمَغْلِيِّ بِالزَّيْتِ النَّيِّءِ . وَكَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ الْمَقْلُوَّةِ بِالْحِنْطَةِ الْمَقْلُوَّةِ : لِأَنَّ مَا أَحْدَثَتْهُ النَّارُ فِيهِمَا قَدْ يَخْتَلِفُ ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الزَّيْتِ الْمَغْلِيِّ بِالزَّيْتِ الْمَغْلِيِّ .

وَكَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ النَّشَا بِالْحِنْطَةِ وَلَا بِالنَّشَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَى .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِذَا كَانَ الْمُتَبَايِعَانِ الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ بِأَعْيَانِهِمَا إِذَا تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ كَانَا فِي مَعْنًى مَنْ لَمْ يُبَايِعْ ، دَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ سِلْعَةٍ بَاعَهَا فَهَلَكَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ فَمِنَ مَالِ بَائِعِهَا : لِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهَا فَلَمَّا هَلَكَتْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْذُ ثَمَنِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا تَلِفَتِ السِّلْعَةُ الْمَبِيعَةُ فِي يَدِ بَائِعِهَا قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي حكم البيع في هذه الحالة لَهَا بَطَلَ الْبَيْعُ ، وَكَانَتْ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ ، وَاسْتَحَقَّ الْمُشْتَرِي اسْتِرْجَاعَ الثَّمَنَ سَوَاءٌ بَذَلَهَا الْبَائِعُ فَامْتَنَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ قَبْضِهَا ، أَوْ طَلَبَهَا الْمُشْتَرِي فَامْتَنَعَ الْبَائِعُ مِنْ إِقْبَاضِهَا . هَذَا مَذْهَبُنَا ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَصَاحِبَاهُ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِتَلَفِهَا ، وَهِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُشْتَرِي بِثَمَنِهَا . فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ طَلَبَهَا مِنَ الْبَائِعِ فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ ، ضَمِنَهَا الْبَائِعُ بِالْقِيمَةِ كَالْغَاصِبِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُشْتَرِي طَلَبَهَا ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْبَائِعِ كَالْمُودِعِ ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ . وَقَالَ النَّخَعِيُّ : إِنْ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ بَذَلَهَا لِلْمُشْتَرِي فَامْتَنَعَ مِنْ قَبْضِهَا لَمْ يَبْطُلِ الْبَيْعُ بِتَلَفِهَا ، وَكَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَى الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ ، وَإِنْ لَمْ يَبْذُلْهَا لِلْمُشْتَرِي حَتَّى هَلَكَتْ بَطَلَ الْبَيْعُ ، وَكَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَى الْبَائِعِ ، وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ مَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَمْضَى الْبَيْعَ مَعَ تَلَفِهَا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ " . فَجَعَلَ الْخَرَاجَ مِلْكًا لِمَنْ عَلَيْهِ الضَّمَانُ ، فَلَمَّا كَانَ الْخَرَاجُ لِلْمُشْتَرِي ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَضْ ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ . وَقَدْ يَتَحَرَّرُ دَلِيلُ هَذَا الْخَبَرِ قِيَاسًا فَيُقَالُ : لِأَنَّهُ مَبِيعٌ مَلَكَ الْمُشْتَرِي خَرَاجَهُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ ضَمَانٌ كَالْمَقْبُوضِ . وَلِأَنَّ ضَمَانَ الثَّمَنِ فِي مُقَابَلَةِ مِلْكِ الثَّمَنِ ، فَلَمَّا كَانَ الثَّمَنُ الْمَبِيعُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُ الْمَبِيعِ مَضْمُونًا عَلَى الْمُشْتَرِي وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْقَبْضَ مُوجِبًا لِتَمَامِ الْعَقْدِ ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا [ الْبَقَرَةِ : ] فَجَعَلَ الْمَقْبُوضَ مِمَّا قَدِ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْمِلْكُ ، فَلَمْ يُوجِبِ اسْتِرْجَاعَهُ ، وَمَا لَيْسَ بِمَقْبُوضٍ مِمَّا لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ مِلْكٌ فَأَوْجَبَ رَدَّهُ ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا : إِنَّ عُقُودَ الْمُشْرِكِينَ إِذَا تَقَابَضُوهَا ، مُمْضَاةٌ ، وَإِنْ عُقِدَتْ فَاسِدَةً . فَلَمَّا كَانَ الْقَبْضُ مُوجِبًا لِاسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ ، وَعَدَمُ الْقَبْضِ مَانِعًا مِنِ اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ . اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا تَلِفَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ وَيَبْطُلُ عَقْدَهُ .

وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْهِ نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ ، وَرِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ فَأَخْبَرَ أَنَّ مَا لَمْ يُقْبَضْ غَيْرُ مَضْمُونٍ فَمَنَعَ مِنْ طَلَبِ الرِّبْحِ فِيهِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ فَبِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ " . فَمَنَعَ مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ لِتَلَفِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَنَبَّهَ عَلَى حُكْمِ كُلِّ مَبِيعٍ تَلِفَ قَبْلَ الْقَبْضِ . وَالدَّلِيلُ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى تَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ وَتَحْرِيرِهِ . أَنَّهُ قَبْضٌ مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَوَاتُهُ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ كَالصَّرْفِ . وَلِأَنَّهُ مَبِيعٌ تَلِفَ قَبْلَ الْقَبْضِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُسْقِطًا لِلضَّمَانِ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ ، كَالْقَفِيزِ الْمَبِيعِ مِنَ الصُّبْرَةِ إِذَا تَلِفَ جَمِيعُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ " فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ : لِأَنَّهُ جَعَلَ الْخَرَاجَ لِمَنْ عَلَيْهِ الضَّمَانُ ، وَهُمْ عَكَسُوا الْأَمْرَ فَجَعَلُوا الضَّمَانَ عَلَى مَنْ لَهُ الْخَرَاجُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ : لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْبَائِعِ بِالْقِيمَةِ ، وَالْخَرَاجُ لِلْمُشْتَرِي . فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَى الْبَائِعِ بِالْقِيمَةِ وَإِنْ كَانَ الْخَرَاجُ لِلْمُشْتَرِي فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ ، وَيَكُونُ الْخَرَاجُ لِلْمُشْتَرِي . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَقْبُوضِ ، فَالْمَعْنَى فِي الْمَقْبُوضِ اسْتِقْرَارُ مِلْكِهِ عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ غَيْرُ الْمَقْبُوضِ . وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِجَمْعِهِمْ بَيْنَ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ ، فَمُنْتَقِضٌ بِالْقَفِيزِ مِنَ الصُّبْرَةِ ، ثُمَّ يُقَالُ : هُمَا سَوَاءٌ فِي أَنَّ مِلْكَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي عَلَى الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ قَبْلَ الْقَبْضِ . وَسَتَأْتِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ بَعْدُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَة إِذَا اشْتَرَى بِالدَّنَانِيرِ دَرَاهِمَ بِأَعْيَانِهَا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُعْطِيَ غَيْرَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِذَا اشْتَرَى بِالدَّنَانِيرِ دَرَاهِمَ بِأَعْيَانِهَا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُعْطِيَ غَيْرَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ . فَإِذَا اشْتَرَى دَنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٍ أَوْ ثَوْبًا بِدَنَانِيرَ مُعَيَّنَةٍ التعيين في هذه الحالة تَعَيَّنَتْ بِالْعَقْدِ . وَفَائِدَةُ التَّعْيِينِ ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَدْفَعَ غَيْرَ الدَّرَاهِمَ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الْعَقْدُ ، وَمَتَى تَلِفَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لَا تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ ، وَيَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَدْفَعَ مِثْلَ الدَّرَاهِمِ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الْعَقْدُ . فَإِنْ تَلِفَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَبْطُلِ الْعَقْدُ : احْتِجَاجًا بِقَوْلِ الْفَرَّاءِ إِنَّ لِلثَّمَنِ شَرْطَيْنِ : أَنْ تَصْحَبَهُ الْبَاءُ ، وَأَنْ يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ ، كَقَوْلِهِ : بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِدِينَارٍ ، فَلَمَّا كَانَ اقْتِرَانُ الْبَاءِ شَرْطًا لَازِمًا اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ شَرْطًا لَازِمًا ، فَهَذَا مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ وَمُقْتَضَى اللِّسَانِ . فَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ ، فَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي أَبِيعُ الْإِبِلَ بِالدنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ ، وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ ، فَقَالَ : " لَا بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا مَا لَمْ تَتَفَرَّقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ . فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَوْ تَعَيَّنَتْ بِالْعَقْدِ لَمَا جَازَ أَخْذُ بَدَلِهَا قَبْلَ الْقَبْضِ ، فَلَمَّا جَازَ أَخْذُ بَدَلِهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ . وَلِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَمَّا جَازَ إِطْلَاقُ ذِكْرِهَا فِي الْعَقْدِ لَمْ تَتَعَيَّنْ بِالْعَقْدِ ، كَمَا أَنَّ غَيْرَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ مِنَ السِّلَعِ وَالْعُرُوضِ لَمَّا لَمْ يَجُزْ إِطْلَاقُ ذِكْرِهَا فِي الْعَقْدِ تَعَيَّنَتْ بِالْعَقْدِ ، وَلِأَنَّ تَعْيِينَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ غَيْرُ مُفِيدٍ : لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ الْمُعَيَّنَةَ كَغَيْرِهَا مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ وَإِنْ تَكُنْ مُعَيَّنَةً ، فَلَمَّا سَقَطَتْ فَائِدَةُ التَّعْيِينِ وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ حُكْمُهُ ، كَمَا أَنَّ تَعْيِينَ الْمِيزَانِ وَالْوَزَّانِ لَمَّا كَانَ غَيْرَ مُفِيدٍ لَمْ يَتَعَيَّنَا ، وَجَازَ أَنْ يُوَفِّيَهُ الثَّمَنَ بِغَيْرِ ذَلِكَ الْمِيزَانِ وَالْوَزَّانِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ : " لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ ، وَلَا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ ، إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ عَيْنًا بِعَيْنٍ " . فَوَصَفَ الذَّهَبَ وَالْوَرِقَ بِالتَّعْيِينِ فِي الْعَقْدِ فَدَلَّ عَلَى تَعْيِينِهِمَا فِيهِ . وَلِأَنَّ كُلَّ مَا تَعَيَّنَ بِالْقَبْضِ جَازَ أَنْ يَتَعَيَّنَ بِالْعَقْدِ كَالثِّيَابِ . وَلِأَنَّ كُلَّ مَا تَعَيَّنَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ الْأَثْمَانِ وَجَبَ أَنْ تَتَعَيَّنَ فِيهِ الْأَثْمَانُ كَالْقَبْضِ . وَلِأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ تُعَيَّنُ بِهِ غَيْرُ الْأَثْمَانِ تُعَيَّنُ بِهِ الْأَثْمَانُ كَالْوَدِيعَةِ وَالْقَصَبِ . وَلِأَنَّ كُلَّ مَا تَعَيَّنَ مَصْنُوعُهُ بِالْعَقْدِ وَجَبَ أَنْ يَتَعَيَّنَ بِهِ غَيْرُ مَصْنُوعِهِ كَالصُّفْرِ .

وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ بِالْعَقْدِ اشْتِرَاطُ التَّعْيِينِ فِي الأثمان وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اشْتِرَاطُ التَّعْيِينِ فِيهِ مُبْطِلًا لِذَلِكَ الْعَقْدِ كَالسَّلَمِ . فَلَمَّا كَانَ اشْتِرَاطُ التَّعْيِينِ فِي الْأَثْمَانِ لَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ . وَلِأَنَّ الْعَقْدَ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَمَنٍ وَمُثَمَّنٍ ، فَلَمَّا كَانَ الثَّمَنُ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ : مُعَيَّنٌ وَهُوَ الْبَيْعُ ، وَغَيْرُ مُعَيَّنٍ وَهُوَ السَّلَمُ ، اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ أَيْضًا يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ : مُعَيَّنٌ بِالْإِشَارَةِ وَغَيْرُ مُعَيَّنٍ بِالْإِطْلَاقِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ احْتِجَاجِهِ بِقَوْلِ الْفَرَّاءِ ، فَهُوَ أَنَّ الثَّمَنَ قَدْ يَكُونُ تَارَةً ذَهَبًا وَوَرِقًا ، وَيَكُونُ تَارَةً عُرُوضًا وَسِلَعًا . فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ فِي الْعُرُوضِ وَالسِّلَعِ مُبْطِلًا لِتَعْيِينِهَا ، جَازَ أَلَّا يَكُونَ قَوْلُهُ فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ مُبْطِلًا لِتَعْيِينِهَا . عَلَى أَنَّ التَّعْيِينَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيهِ حُجَّةً . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ اعْتِبَارًا بِغَالِبِ أَحْوَالِ التُّجَّارِ فِي بِيَاعَاتِهِمْ ، وَعُرْفِهِمُ الْجَارِي فِي تِجَارَاتِهِمْ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ مَا جَازَ إِطْلَاقُ ذِكْرِهِ لَمْ يَتَعَيَّنْ ، فَهُوَ أَنَّ إِطْلَاقَ ذِكْرِهِ إِنَّمَا جَازَ : لِأَنَّ فِيهِ نَقْدًا غَالِبًا وَعُرْفًا مُعْتَبَرًا ، وَلَوْ كَانَ فِي جِنْسٍ مِنَ الْعُرُوضِ نَوْعٌ غَالِبٌ وَعُرْفٌ مُعْتَبَرٌ ، جَازَ إِطْلَاقُ ذِكْرِهِ كَالنُّقُودِ ، وَلَوْ كَانَتِ النُّقُودُ مُخْتَلِفَةً لَمْ يَجُزْ إِطْلَاقُ ذِكْرِهَا كَالْعُرُوضِ : لِأَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَيَصِيرُ مَعْلُومًا بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : إِمَّا بِالْإِشَارَةِ ، وَإِمَّا بِالصِّفَةِ ، وَإِمَّا بِالْعُرْفِ . سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ ثَمَنًا أَوْ مُثَمَّنًا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ تَعْيِينَ النُّقُودِ غَيْرُ مُفِيدٍ ، فَجَرَى مَجْرَى تَعْيِينِ الْمِيزَانِ وَالْوَزَّانِ اللَّذَيْنِ لَمَّا لَمْ يُفِيدَا لَمْ يَتَعَيَّنَا بِالْعَقْدِ . فَهُوَ أَنَّ فِي تَعْيِينِ النُّقُودِ لِلنَّاسِ أَغْرَاضًا صَحِيحَةً ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْفَائِدَةِ فِيهَا يَمْنَعُ مِنْ تَعْيِينِهَا بِالْعَقْدِ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ تَعْيِينِهَا بِالْقَبْضِ أَوْ فِي الْغَصْبِ . فَأَمَّا الْمِيزَانُ وَالْوَزَّانُ فَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ مِقْدَارَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَكُنْ يُمْلَكُ بِالْعَقْدِ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِخِلَافِ النُّقُودِ الْمَمْلُوكَةِ بِالْعَقْدِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " فَإِنْ وَجَدَ بِالدَّنَانِيرِ أَوِ الدَّرَاهِمِ عَيْبًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ ؛ إِنْ شَاءَ حَبَسَ الدَّنَانِيرَ بِالدَّرَاهِمِ ، سَوَاءٌ قَبْلَ التَّفَرُّقِ أَوْ بَعْدَهُ أَوْ حَبَسَ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ أَوْ نَقَضَ الْبَيْعَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الصَّرْفَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : مُعَيَّنٌ ، وَفِي الذِّمَّةِ . فَأَمَّا مَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ فَيَأْتِي مِنْ بَعْدُ . وَأَمَّا الْمُعَيَّنُ فَصُورَتُهُ من صور الصرف المعين أَنْ يَقُولَ : قَدْ بِعْتُكَ هَذِهِ الْعَشْرَةَ دَنَانِيرَ بِعَيْنِهَا بِهَذِهِ الْمِائَةِ دِرْهَمٍ بِعَيْنِهَا . فَيَلْزَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَفْعَ مَا تَعَيَّنَ بِالْعَقْدِ . فَلَوْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الدَّنَانِيرَ بِعَيْنِهَا فَوَجَدَهَا مَعِيبَةً ، لَمْ يَخْلُ حَالُ عَيْبِهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ :

إِمَّا أَنْ يُخْرِجَهَا الْعَيْبُ مِنْ جِنْسِ الذَّهَبِ أَوْ لَا يُخْرِجُهَا . فَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ جِنْسِ الذَّهَبِ ، كَأَنْ وَجَدَ الدَّنَانِيرَ نُحَاسًا أَوْ وَجَدَهَا فِضَّةً مَطْلِيَّةً ، فَالصَّرْفُ فِي الْمَعِيبِ بَاطِلٌ : لِأَنَّهُ اشْتَرَى غَيْرَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ ، كَمَنِ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ قُطْنٌ فَكَانَ كِتَّانًا . وَإِذَا كَانَ الصَّرْفُ فِي الْمَعِيبِ بَاطِلًا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمَعِيبِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَمِيعَ الدَّنَانِيرِ أَوْ بَعْضَهَا . فَإِنْ كَانَ جَمِيعَهَا فَالصَّرْفُ بَاطِلٌ ، وَيَسْتَرْجِعُ الْمُشْتَرِي جَمِيعَ الثَّمَنِ . وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا مَعِيبًا كَانَ الصَّرْفُ فِي الْمَعِيبِ بَاطِلًا . وَهَلْ يَبْطُلُ فِي الْبَاقِي أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ أَيْضًا إِذَا لَمْ يَجُزْ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ ، وَيَسْتَرْجِعُ الْمُشْتَرِي جَمِيعَ الثَّمَنِ . وَالثَّانِي : جَائِزٌ إِذَا قِيلَ بِجَوَازِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ بَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ فِيهِ وَاسْتِرْجَاعِ الثَّمَنِ ، وَبَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ فِيهِ وَالْإِقَامَةِ عَلَى الْجَيِّدِ مِنْهُ . وَبِمَاذَا يُقَيَّمُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَقِسْطِهِ . وَالثَّانِي : بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِلَّا فُسِخَ . وَكَذَا لَوْ كَانَ الْعَيْبُ فِي الدَّرَاهِمِ دُونَ الدَّنَانِيرِ ، كَانَ الْجَوَابُ وَاحِدًا وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ . وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ جِنْسًا وَاحِدًا كَدَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ بِدَنَانِيرَ ، ثُمَّ وُجِدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا يُخْرِجُهَا مِنَ الْجِنْسِ ، وَكَانَ الْعَيْبُ فِي بَعْضِهَا ، وَقِيلَ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ فِي الْجَيِّدِ الْبَاقِي مِنْهَا ، كَانَ لَهُ إِمْسَاكُهُ بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ قَوْلًا وَاحِدًا لَا يَخْتَلِفُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْجِنْسَ الْوَاحِدَ يَحْرُمُ فِيهِ التَّفَاضُلُ ، فَلَوْ قِيلَ بِأَخْذِهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ حَصَلَ التَّحْرِيمُ بِالتَّفَاضُلِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْجِنْسَانِ فِي جَوَازِ التَّفَاضُلِ . فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْعَيْبِ إِذَا كَانَ يُخْرِجُهَا مِنَ الْجِنْسِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْعَيْبُ لَا يُخْرِجُهَا مِنَ الْجِنْسِ ، كَأَنَّهُ اشْتَرَى دَنَانِيرَ عَلَى أَنَّهَا مَغْرِبِيَّةٌ ، فَكَانَتْ مَشْرِقِيَّةً ، أَوْ عَلَى أَنَّهَا ذَهَبٌ أَحْمَرُ فَكَانَتْ ذَهَبًا أَصْفَرَ ، فَالصَّرْفُ لَا يَبْطُلُ بِهَذَا الْعَيْبِ لِوُجُودِ الْعَيْنِ وَحُصُولُ الْجِنْسِ ، كَمَنِ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ مَرْوِيٌّ فَوَجَدَهُ هَرَوِيَّ . وَلَا يَجُوزُ لَهُ إِبْدَالُ الْمَعِيبِ : لِأَنَّ الْبَدَلَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعَقْدُ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ إِلَى الْعَيْبِ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي جَمِيعِ الدَّنَانِيرِ أَوْ بَعْضِهَا . فَإِنْ كَانَ فِي جَمِيعِهَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الصَّرْفِ وَاسْتِرْجَاعِ الثَّمَنِ أَوِ الْمَقَامُ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ أَرْشِ الْعَيْبِ : لِأَنَّ الْأَرْشَ لَا يَسْتَحِقُّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الرَّدِّ . وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ فِي بَعْضِهَا ، فَإِنْ رَضِيَ بِالْعَيْبِ وَأَمْسَكَ الْجَمِيعَ بِكُلِّ الثَّمَنِ كَانَ ذَلِكَ

لَهُ . فَإِنْ فَسَخَ الصَّرْفَ فِي الْجَمِيعِ وَاسْتَرْجَعَ جَمِيعَ الثَّمَنِ كَانَ لَهُ ، وَإِنْ أَرَادَ فَسْخَ الصَّرْفِ فِي الْمَعِيبِ ، وَإِمْسَاكَهُ فِي الْجَيِّدِ السَّلِيمِ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ : إِذَا قِيلَ إِنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ لَا يَجُوزُ ، وَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُمْسِكَ الْجَمِيعَ أَوْ يَفْسَخَ الْجَمِيعَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَجُوزُ إِذَا قِيلَ : إِنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ يَجُوزُ . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : إِمَّا أَنْ يَفْسَخَ فِي الْكُلِّ ، أَوْ يُقِيمَ عَلَى الْكُلِّ ، أَوْ يَفْسَخَ فِي الْمَعِيبِ وَيُقِيمَ عَلَى السَّلِيمِ بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ قَوْلًا وَاحِدًا . فَإِنْ قِيلَ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا حَيْثُ أَخَذَهُ بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَيْبُ بَعْضِهَا يُخْرِجُهَا مِنَ الْجِنْسِ فَيَكُونُ فِيمَا يَأْخُذُهَا بِهِ قَوْلَانِ . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ هَاهُنَا قَدْ كَانَ لَهُ الْمَقَامُ عَلَى الْكُلِّ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، وَإِنَّمَا فَسَخَ فِي الْبَعْضِ الْمَعِيبِ وَأَقَامَ عَلَى الْبَعْضِ السَّلِيمِ طَلَبًا لِلْحَظِّ ، فَلَوْ قِيلَ يَأْخُذُهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، كَانَ فَسْخُ الْمَعِيبِ سَفَهًا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَعِيبُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ : لِأَنَّ الْبَيْعَ قَدْ بَطَلَ فِيهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِكُلِّ الثَّمَنِ فَجَازَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يَأْخُذَ السَّلِيمَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِذَا تَبَايَعَا ذَلِكَ بِغَيْرِ عَيْنِ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ وَتَقَابَضَا ، ثُمَّ وَجَدَ بِالدَّنَانِيرِ أَوْ بِبَعْضِ الدَّرَاهِمِ عَيْبًا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا أَبْدَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ الْمَعِيبَ . وَإِنْ كَانَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ ، فَفِيهِ أَقَاوِيلُ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ كَالْجَوَابِ فِي الْعَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُبَذَلُ الْمَعِيبُ : لِأَنَّهُ بَيْعُ صِفَةٍ أَجَازَهَا الْمُسْلِمُونَ إِذَا قُبِضَتْ قَبْلَ التَّفَرُّقِ ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حُجَّتِهِ كَمَا لَوِ اشْتَرَى سَلَمًا بِصِفَةٍ ثُمَّ قَبَضَهُ فَأَصَابَ بِهِ عَيْبًا أَخَذَ صَاحِبُهُ بِمِثْلِهِ ( قَالَ ) وَتَنَوُّعُ الصِّفَاتِ غَيْرُ تَنَوُّعِ الْأَعْيَانِ وَمَنْ أَجَازَ بَعْضَ الصَّفْقَةِ رَدَّ الْمَعِيبَ مِنَ الدَّرَاهِمِ بِحِصَّتِهَا مِنَ الدِّينَارِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) إِذَا كَانَ بَيْعُ الْعَيْنِ وَالصِّفَاتِ مِنَ الدَّنَانِيرِ بالدَّرَاهِمِ فِيمَا يَجُوزُ بِالْقَبْضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ سَوَاءً ، وَفِيمَا يَفْسُدُ بِهِ الْبَيْعُ مِنَ الِافْتِرَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ سَوَاءٌ لَزِمَ أَنْ يَكُونَا فِي حُكْمِ الْمَعِيبِ بَعْدَ الْقَبْضِ سَوَاءً ، وَقَدْ قَالَ يَرُدُّ الدَّرَاهِمَ بِقَدْرِ حِصَّتِهَا مِنَ الدِّينَارِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الصَّرْفِ الْمُعَيَّنِ . فَأَمَّا الْمَضْمُونُ فِي الذِّمَّةِ من أنواع الصرف فَصُورَتُهُ : أَنْ يَشْتَرِيَ رَجُلٌ مِنْ صَيْرَفِيٍّ مِائَةَ دِينَارٍ قَاسَانِيَّةً مَوْصُوفَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ حَاضِرَةٍ ، أَوْ مَوْصُوفَةٍ ، ثُمَّ يَقْبِضُ الدَّنَانِيرَ فَيَجِدُهَا مَعِيبَةً ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَجِدَ بِهَا الْعَيْبَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ ، فَلَهُ إِبْدَالُ الْمَعِيبِ لَا يَخْتَلِفُ . سَوَاءٌ كَانَ

الْعَيْبُ يُخْرِجُهَا مِنْ جِنْسِ الذَّهَبِ أَمْ لَا ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَيْبُ فِي جَمِيعِهَا أَوْ فِي بَعْضِهَا : لِأَنَّ الْقَبْضَ مَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ مُسْتَحَقٌّ بِالشَّرْطِ ، وَاجْتِمَاعُهُمَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ مَانِعًا مِنْ إِبْرَامِ الْعَقْدِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَجِدَ بِهَا الْعَيْبَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَيْبِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ جِنْسِ الذَّهَبِ أَوْ لَا يُخْرِجَهَا . فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ يُخْرِجُهَا مِنْ جِنْسِ الذَّهَبِ بِأَنْ كَانَتْ تَفَرُّقًا فِي الصَّرْفِ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ ، فَإِنْ كَانَ الْكُلُّ مَعِيبًا اسْتَرْجَعَ الْمُشْتَرِي جَمِيعَ الثَّمَنِ ، وَإِنْ كَانَ الْبَعْضُ مَعِيبًا وَالْبَاقِي سَلِيمًا بَطَلَ الصَّرْفُ فِي الْمَعِيبِ وَصَحَّ الصَّرْفُ فِي السَّلِيمِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ . وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يُخْرِجُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ . وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ : لِأَنَّ الْفَسَادَ طَرَأَ عَلَى الصَّفْقَةِ بَعْدَ صِحَّتِهَا ، وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ فِيمَا إِذَا كَانَ الْفَسَادُ مُقْتَرِنًا بِهَا . فَإِنْ قِيلَ بِتَخْرِيجِ أَبِي إِسْحَاقَ إِنَّ الصَّرْفَ فِي الْكُلِّ بَاطِلٌ ، اسْتَرْجَعَ الْمُشْتَرِي جَمِيعَ الثَّمَنِ . وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِهِ فِي السَّلِيمِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ ، كَانَ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الصَّرْفَ فِي السَّلِيمِ لِبُطْلَانِهِ فِي الْمَعِيبِ ، وَيَسْتَرْجِعَ جَمِيعَ الثَّمَنِ ، وَبَيْنَ أَنْ يُمْضِيَهُ فِي السَّلِيمِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ . وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ يُخْرِجُ قَوْلًا ثَانِيًا أَنَّهُ يَأْخُذُهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، وَإِلَّا فُسِخَ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ، فَهَذَا إِذَا كَانَ عَيْبُهَا يُخْرِجُهَا مِنْ جِنْسِ الذَّهَبِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَانَ عَيْبُهَا لَا يُخْرِجُهَا مِنْ جِنْسِ الذَّهَبِ فَهَلْ لَهُ إِبْدَالُ الْمَعِيبِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ لَهُ أَنْ يُبْدِلَ ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ : لِأَنَّ الصَّرْفَ يَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ كَمَا يَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْدِلَ مَا تَعَيَّنَ بِالْقَبْضِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْدِلَ مَا تَعَيَّنَ بِالْعَقْدِ . وَلِأَنَّهُ لَوْ أَبْدَلَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ لَبَطَلَ الْقَبْضُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ ، وَإِذَا لَمْ يَتِمَّ الْقَبْضُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ بَطَلَ الصَّرْفُ ، فَكَانَ فِي إِثْبَاتِ الْبَدَلِ إِبْطَالُ الْعَقْدِ ، فَمَنَعَ مِنَ الْبَدَلِ لِيَصِحَّ الْعَقْدُ . وَلِمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الصَّرْفُ الْمُعَيَّنُ وَمَا فِي الذِّمَّةِ يَسْتَوِيَانِ فِي الْفَسَادِ بِالتَّفَرُّقِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَيَسْتَوِيَانِ فِي الصِّحَّةِ بِالْقَبْضِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ ، وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي حُكْمِ الْمَعِيبِ . فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْدَلَ مَعِيبُ مَا كَانَ مُعَيَّنًا ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْدَلَ مَعِيبُ مَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَهُ أَنْ يُبْدِلَ . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . لِأَنَّ مَا جَازَ إِبْدَالُهُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ جَازَ إِبْدَالُهُ مَعَ صِحَّةِ الْعَقْدِ بَعْدَ التَّفَرُّقِ كَالسَّلَمِ وَكَمَا أَنَّ مَا

لَمْ يَجُزْ إِبْدَالُهُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ مِنَ الْمُعَيَّنِ لَمْ يَجُزْ إِبْدَالُهُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ . وَبِهَذَا يَنْتَقِضُ مَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ : وَلِأَنَّهُ مَضْمُونٌ فِي الذِّمَّةِ فَجَازَ إِبْدَالُ مَعِيبِهِ مَعَ صِحَّةِ عَقْدِهِ اعْتِبَارًا بِمَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ . فَإِنْ قِيلَ : لَهُ الْبَدَلُ ، أُبْدِلَ الْمَعِيبُ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْفَسْخِ . وَإِذَا قِيلَ : لَيْسَ لَهُ الْبَدَلُ ، كَانَ حُكْمُهُ كَالْمُعَيَّنِ إِذَا كَانَ عَيْبُهُ مِنْ جِنْسِهِ فِي اعْتِبَارِ حَالِ الْمَعِيبِ . فَإِنْ كَانَ جَمِيعُ الدَّنَانِيرِ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ إِمْضَاءِ الْعَقْدِ فِي جَمِيعِهَا مِنْ غَيْرِ أَرْشٍ وَالْفَسْخِ . وَإِنْ كَانَ الْمَعِيبُ بَعْضَ الدَّنَانِيرِ فَإِنْ أَمْضَى فِي الْكُلِّ جَازَ ، وَإِنْ فَسَخَ فِي الْكُلِّ جَازَ ، وَإِنْ أَمْضَى فِي السَّلِيمِ وَفَسَخَ فِي الْمَعِيبِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ رَاطَلَ مِائَةَ دِينَارٍ عِتْقَ مَرْوَانِيَّةٍ وَمَائةَ دِينَارٍ مِنْ ضَرْبٍ مَكْرُوهٍ بِمِائَتَيْ دِينَارٍ مِنْ ضَرْبٍ وَسَطٍ خَيْرٍ مِنَ الْمَكْرُوهِ وَدُونَ الْمَرْوَانِيَّةِ لَمْ يَجُزْ : لِأَنِّي لَمْ أَرَ بَيْنَ أَحَدٍ مِمَّنْ لَقِيتُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ اخْتِلَافًا فِي أَنَّ مَا جَمَعَتْهُ الصَّفْقَةُ مِنْ عَبْدٍ وَدَارٍ أَنَّ الثَّمَنَ مَقْسُومٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ قِيمَتِهِ مِنَ الثَّمَنِ ، فَكَانَ قِيمَةُ الْجَيِّدِ مِنَ الذَّهَبِ أَكْثَرَ مِنَ الرَّدِيءِ ، وَالْوَسَطُ أَقَلَّ مِنَ الْجَيِّدِ ، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . لَا يَجُوزُ بَيْعُ مِائَةِ دِينَارٍ مِنْ جَيِّدِ الدَّنَانِيرِ وَمِائَةِ دِينَارٍ مِنْ رَدِيءِ الدَّنَانِيرِ ، بِمِائَتَيْ دِينَارٍ مِنْ وَسَطِ الدَّنَانِيرِ الَّتِي هِيَ دُونَ الْجَيِّدِ وَفَوْقَ الرَّدِيءِ . وَكَذَا لَا يَجُوزُ ذَهَبٌ جَيِّدٌ وَذَهَبٌ رَدِيءٌ بِذَهَبٍ جَيِّدٍ ، وَلَا بِذَهَبٍ رَدِيءٍ ، وَكَذَا الْفِضَّةُ مِثْلُهَا . وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّرَاهِمِ الصِّحَاحِ وَالدَّرَاهِمِ الْغُلَّةِ ، بِالدَّرَاهِمِ الصِّحَاحِ وَلَا بِالْغُلَّةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بِجَوَازِ هَذَا كُلِّهِ : احْتِجَاجًا بِنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ إِلَا مِثْلًا بِمِثْلٍ . وَالْمُمَاثَلَةُ فِي هَذَا مَوْجُودَةٌ . قَالَ : وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ بَيْعُ الذَّهَبِ الْجَيِّدِ بِالذَّهَبِ الرَّدِيءِ لِتَمَاثُلِهَا فِي الْوَزْنِ مَعَ تَفَاضُلِهِمَا فِي الْقِيمَةِ ، فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ بَيْعُ الذَّهَبِ الْجَيِّدِ وَالذَّهَبِ الرَّدِيءِ بِالذَّهَبِ الْوَسَطِ لِتَمَاثُلِهِمَا فِي الْوَزْنِ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَتَفَاضَلَانِ فِي الْقِيمَةِ . قَالَ : وَلِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ مُعْتَبَرَةٌ ، وَلَيْسَ يَخْلُو أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةِ ، أَوْ مِنْ حَيْثُ الْوَزْنِ . فَلَمَّا بَطَلَ أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً مِنْ جِهَةِ الْقِيمَةِ : لِأَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ دِينَارًا قِيمَتُهُ عِشْرُونَ دِرْهَمًا بِدِينَارٍ قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ جَازَ أَنْ يَتَسَاوَىَ الْوَزْنُ مَعَ تَفَاضُلِ الْقِيمَةِ ، وَلَوْ بَاعَهُ دِينَارًا قِيمَتُهُ عِشْرُونَ دِرْهَمًا بِدِينَارَيْنِ قِيمَتُهُمَا عِشْرُونَ دِرْهَمًا ، لَمْ يَجُزِ تُفَاضُلُ الْوَزْنِ مَعَ تَمَاثُلِ الْقِيمَةِ .

ثَبَتَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ التَّمَاثُلُ مِنْ جِهَةِ الْوَزْنِ دُونَ الْقِيمَةِ ، وَقَدْ تَمَاثَلَ الْوَزْنَانِ فِي الذَّهَبِ الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ بِالذَّهَبِ الْوَسَطِ فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مَعَهُ فِي بَيْعِ مُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدَّيْ عَجْوَةٍ : لِأَنَّ تِلْكَ أَصْلٌ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، ثُمَّ نَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ . فَاقْتَضَى ذَلِكَ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْقَدْرِ وَالْقِيمَةِ إِلَّا مَا خَصَّهُ إِجْمَاعٌ أَوْ دَلِيلٌ . وَلِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الصَّفْقَةَ إِذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَانَ الثَّمَنُ مُقَسَّطًا عَلَى قِيمَتِهَا دُونَ عَدَدِهِمَا . فَإِذَا بَاعَهُ مِائَةَ دِينَارٍ مِنْ ذَهَبٍ جَيِّدٍ يُسَاوِي أَلْفَيْ دِرْهَمٍ ، وَمِائَةَ دِينَارٍ مِنْ ذَهَبٍ رَدِيءٍ يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ ، بِمِائَتَيْ دِينَارٍ مِنْ ذَهَبٍ وَسَطٍ تُسَاوِي ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ ، كَانَ مِائَةُ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ الْوَسَطِ فِي مُقَابَلَةِ أَقَلَّ مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ الْجَيِّدِ ، وَالْمِائَةُ الْأُخْرَى فِي مُقَابَلَةِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ الرَّدِيءِ ، فَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى التَّفَاضُلِ فِي بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ ، وَذَلِكَ حَرَامٌ ، وَكَانَ هَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَهُ مِائَةَ دِينَارٍ مِنْ ذَهَبٍ جَيِّدٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ مِنْ ذَهَبٍ رَدِيءٍ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي بَيْعِ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ مَعَ تَسَاوِي الْقَدْرِ الْمُسَامَحَةُ دُونَ الْمُعَايَنَةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا قَابَلَ نَوْعَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الصَّفْقَةَ فِي بَيْعِ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ قَابَلَتْ نَوْعًا وَاحِدًا فَقُسِّطَ الثَّمَنُ عَلَى الْأَجْزَاءِ لَا عَلَى الْقِيمَةِ . أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا بَاعَ دِينَارًا قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ بِدِينَارٍ قِيمَتُهُ عِشْرُونَ ، فَنِصْفُ الدِّينَارِ وَإِنْ كَانَ قِيمَتُهُ خَمْسَةٌ فِي مُقَابَلَةِ نِصْفِ الدِّينَارِ وَإِنْ كَانَ قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ . وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ مُقَابَلًا بِنَوْعَيْنِ : لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى التَّفَاضُلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : إِنَّ الِاعْتِبَارَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْمُمَاثِلَةِ فِي الْقَدْرِ أَوِ الْقِيمَةِ ، فَلَمَّا بَطَلَ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْقِيمَةِ ثَبَتَ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْقَدْرِ . فَهُوَ أَنْ يُقَالَ : الِاعْتِبَارُ بِالْمُمَاثَلَةِ فِي الْقَدْرِ مَا لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ مُقَسَّطًا عَلَى الْقِيمَةِ . فَأَمَّا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ مُقُسَّطًا عَلَى الْقِيمَةِ لِاخْتِلَافِ الْأَنْوَاعِ فَلَا اعْتِبَارَ بِالْمُمَاثَلَةِ فِي الْقَدْرِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا بَاعَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ صِحَاحًا وَمِائَةَ دِرْهَمٍ غُلَّةً ، بِمِائَةِ دِرْهَمٍ صِحَاحٍ وَمِائَةٍ غُلَّةٍ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَخْتَلِفَ جَوْهَرُ الصِّحَاحِ مِنْ هَذَا الْعِوَضِ بِالصِّحَاحِ مِنْ هَذَا الْعِوَضِ ، أَوْ جَوْهَرُ الْغَلَّةِ مِنْ هَذَا الْعِوَضِ ، فَيَكُونُ الصَّرْفُ بَاطِلًا لِمَا ذَكَرْنَا . وَالثَّانِي : أَلَّا يَخْتَلِفَ . فَعَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : جَائِزٌ لِتَسَاوِي الْعِوَضَيْنِ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ ، لِلتَّعْلِيلِ الْمُتَقَدِّمِ . فَصْلٌ : وَعَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا ، لَا يَجُوزُ بَيْعُ ذَهَبٍ مَعَ آخَرَ مِنْ جَوْهَرٍ ، أَوْ لُؤْلُؤٍ ، أَوْ سَيْفٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ بِذَهَبٍ ، لِحَدِيثِ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ الذَّهَبُ الَّذِي مَعَ الْجَوْهَرِ أَقَلَّ مِنَ الذَّهَبِ الَّذِي هُوَ الثَّمَنُ جَازَ ، لِيَكُونَ الْفَاضِلُ مِنَ الذَّهَبِ الثَّمَنَ فِي مُقَابَلَةِ الْجَوْهَرِ . وَإِنْ كَانَا مِثْلَيْنِ لَمْ يَجُزْ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ كَانَ الذَّهَبُ الَّذِي مَعَ الْجَوْهَرِ أَقَلَّ مِنْ ثُلُثِ الثَّمَنِ جَازَ ، وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ فَصَاعِدًا لَمْ يَجُزْ . وَفِيمَا ذَكَرْنَا دَلِيلٌ كَافٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِيَ الدَّرَاهِمَ مِنَ الصَّرَّافِ وَيَبِيعَهَا مِنْهُ إِذَا قَبَضَهَا بأقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ أَوْ أَكْثَرَ ، عَادَةً وَغَيْرَ عَادَةٍ سَوَاءٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا اشْتَرَى مِنْ صَيْرَفِيٍّ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ صِحَاحًا ، وَقَبَضَ الدِّينَارَ وَتَمَّ الصَّرْفُ ، ثُمَّ بَاعَ ذَلِكَ الدِّينَارَ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا غُلَّةً كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا . سَوَاءٌ جَرَتْ لَهُ بِذَلِكَ عَادَةٌ أَمْ لَا . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ جَرَتْ بِهِ بِذَلِكَ عَادَةٌ لَمْ يَجُزْ ، وَكَانَ حَرَامًا : لِأَنَّ الْعُرْفَ وَالْعَادَةَ كَالشَّرْطِ الْمَلْفُوظِ بِهِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ ذَلِكَ لَفْظًا كَانَ رِبًا حَرَامًا ، كَذَلِكَ إِذَا كَانَ مُعْتَادًا . قَالَ : وَلِأَنَّ هَذَا فِعْلٌ يُضَارِعُ الرِّبَا الْحَرَامَ : لِأَنَّ قَصْدَهُ أَنْ يَبِيعَ عَشَرَةً صِحَاحًا بِعِشْرِينَ غُلَّةً ، وَمَا ضَارَعَ الْحَرَامَ كَانَ حَرَامًا . وَهَذَا خَطَأٌ : بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ عُبَادَةُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " وَلَكِنْ بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ ، وَالْوَرِقَ بِالذَّهَبِ ، كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ " . وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ عَادَةٍ وَغَيْرِ عَادَةٍ . وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الْفِعْلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ رِبًا أَوْ غَيْرَ رِبًا ، فَإِنْ كَانَ رِبًا لَمْ يَجُزْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رِبًا جَازَ وَإِنْ تَكَرَّرَ مِائَةَ مَرَّةٍ ، فَلَمَّا جَازَ أَوَّلَ مَرَّةٍ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِرِبًا ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ ، وَلَوْ مِائَةَ مَرَّةٍ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْعَادَةَ تَجْرِي مَجْرَى الشَّرْطِ اعْتِبَارًا بِغَالِبِ النَّقْدِ ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَادَةَ الْبَلَدِ تَجْرِي مَجْرَى الشَّرْطِ ، وَلَيْسَ عَادَةُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ كَالشَّرْطِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْعَادَةَ فِي صِفَاتِ الْعَقْدِ مُخَالِفَةٌ لِلشَّرْطِ ، أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَقَدَ نِكَاحًا

وَشَرَطَ فِيهِ الطَّلَاقَ فَسَدَ ، وَلَوْ عَقَدَ نِكَاحًا وَكَانَ مُعْتَادًا لِلطَّلَاقِ لَمْ يَفْسَدْ ، فَقَدْ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَادَةِ وَالشَّرْطِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : إِنَّ هَذَا الْفِعْلَ مُضَارِعٌ لِلرِّبَا ، فَهُوَ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ مَعْلُولٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّقْسِيمِ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ وَاسِطَةٌ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ رِبًا صَرِيحًا كَانَ عَقْدًا صَحِيحًا . فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ ذَلِكَ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى شَرْحِ الْمَذْهَبِ فِي كَيْفِيَّةِ الْعَقْدِ في الصرف فَنَقُولُ : أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَى مِنْهُ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، وَقَبَضَ مِنْهُ الدِّينَارَ وَدَفَعَ إِلَيْهِ الدَّرَاهِمَ ، ثُمَّ افْتَرَقَا جَازَ أَنْ يَعُودَ فَيَبِيعَ عَلَيْهِ الدِّينَارَ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ . وَهَكَذَا لَوْ تَقَابَضَا ، ثُمَّ تَخَايَرَا مِنْ غَيْرِ تَفَرُّقٍ ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَا الْعَقْدَ الثَّانِيَ ، جَازَ : لِأَنَّ التَّخَايُرَ فِي الْعَقْدِ يَقُومُ مَقَامَ الِافْتِرَاقِ فِي لُزُومِ الْعَقْدِ . فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَتَقَابَضَا حَتَّى عَقَدَا الْعَقْدَ الثَّانِيَ لَمْ يَجُزْ ، وَكَانَ الْعَقْدُ الثَّانِي بَاطِلًا : لِأَنَّ بَيْعَ مَا لَمْ يُقْبَضْ لَا يَجُوزُ ، وَلَوْ تَقَابَضَا ثُمَّ عَقَدَا الْعَقْدَ الثَّانِيَ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَجُوزُ : لِأَنَّ اتِّفَاقَهُمَا عَلَى الْعَقْدِ الثَّانِي اخْتِيَارٌ مِنْهُمَا لِإِمْضَاءِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ فَجَرَى مَجْرَى الْعَقْدِ بَعْدَ التَّخَايُرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَيَكُونُ الْعَقْدُ الثَّانِي بَاطِلًا : لِأَنَّ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ لَمْ يَسْتَقِرَّ بِالِافْتِرَاقِ وَلَا بِالتَّخَايُرِ . وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ مِنْ أَنَّ الرِّضَا بِالْعَقْدِ الثَّانِي اخْتِيَارٌ لِإِمْضَاءِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ فَغَلَطٌ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّخَايُرِ وَالْبَيْعِ أَنَّهُمَا إِذَا اخْتَارَا الْإِمْضَاءَ فَقَدْ رَضِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِإِقْرَارِ مِلْكِ صَاحِبِهِ عَلَى مَا انْتَقَلَ إِلَيْهِ فَاسْتَقَرَّ بِذَلِكَ الْمِلْكُ . وَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى الْبَيْعِ الثَّانِي فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَرْضَ بِاسْتِقْرَارِ مِلْكِ صَاحِبِهِ عَلَى مَا انْتَقَلَ إِلَيْهِ ، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ بِذَلِكَ الْمِلْكُ ، فَصَارَ حُكْمُ التَّخَايُرِ وَالْبَيْعِ مُخْتَلِفًا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ فِي لُزُومِ الْعَقْدِ مُتَّفَقًا فَهَذَا آخِرُ الْبَابِ . فَصْلٌ : وَإِذْ قَدْ مَضَى مَسْطُورُ الْبَابِ مُسْتَوْفِيًا فَسَنَذْكُرُ مَا اسْتَقَرَّ مِنْ أُصُولِهِ فُرُوعًا بَعْدَ عَقْدِ مَا مَضَى مَنْشُورًا : لِيَكُونَ أَمْهَدَ لِأُصُولِهِ وَأَصَحَّ لِفُرُوعِهِ ، فَنَقُولُ : إِنَّمَا سُمِّيَ الصَّرْفُ صَرْفًا لِصَرْفِ حُكْمِهِ عَنْ أَكْثَرِ أَحْكَامِ الْبَيْعِ . وَقِيلَ : بَلْ سُمِّيَ صَرْفًا لِصَرْفِ الْمُسَامَحَةِ عَنْهُ فِي زِيَادَةٍ أَوْ تَأْخِيرٍ . وَقِيلَ : بَلْ سُمِّيَ صَرْفًا : لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُصَارَفَةَ صَاحِبِهِ أَيْ مُضَايَقَتَهُ . وَالصَّرْفُ إِنَّمَا يَخْتَصُّ بِبَيْعِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ ، أَوِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ ، وَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ . وَشُرُوطُ الصَّرْفِ الَّتِي لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهَا ثَلَاثَةٌ لَازِمَةٌ ، وَرَابِعٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الصَّرْفِ . وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ اللَّازِمَةَ فَأَحُدُهَا : إِطْلَاقُ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ أَجَلٍ مَشْرُوطٍ فِيهِ . فَلَوْ شَرَطَا فِيهِ أَجَلًا كَانَ بَاطِلًا ، فَلَوْ أَسْقَطَا الْأَجَلَ بَعْدَ اشْتِرَاطِهِ فِي الْعَقْدِ لَمْ يَصِحَّ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ : إِذَا اشْتَرَطَا إِسْقَاطَ الْأَجَلِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ صَحَّ اسْتِحْسَانًا . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَعْقِدَ نَاجِزًا مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ مَشْرُوطٍ فِيهِ فَإِنْ شَرَطَا فِيهِ خِيَارَ الثَّلَاثِ كَانَ بَاطِلًا ، وَلَوْ أَسْقَطَا الْخِيَارَ بَعْدَ اشْتِرَاطِهِ فِي الْعَقْدِ لَمْ يَصِحَّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا أَسْقَطَاهُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ صَحَّ اسْتِحْسَانًا . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : التَّقَابُضُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ ، فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ كَانَ بَاطِلًا فَهَذِهِ الشُّرُوطُ اللَّازِمَةُ . وَأَمَّا الشَّرْطُ الرَّابِعُ : وَهُوَ الْمُمَاثِلَةُ فَإِنْ كَانَ الْجِنْسُ وَاحِدًا كَانَتِ الْمُمَاثَلَةُ شَرْطًا مُعْتَبَرًا ، وَإِنِ اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا مُعْتَبَرًا . ثُمَّ الصَّرْفُ يَنْقَسِمُ أَقْسَامًا أَرْبَعَةً : فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ : بَيْعُ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ القسم الأول من الصرف : وَهُوَ ضَرْبَانِ : جِنْسٌ بِمِثْلِهِ كَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ ، وَجِنْسٌ بِغَيْرِهِ كَالْفِضَّةِ بِالذَّهَبِ ، فَهَذَا يَصِحُّ بِشُرُوطِهِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ . وَهَذَا بَاطِلٌ : لِلنَّهْيِ عَنْهُ ، كَرَجُلٍ بَاعَ دَرَاهِمَ لَهُ عَلَى زَيْدٍ دَيْنًا بِدَنَانِيرَ أَوْ بِدَرَاهِمَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى عَمْرٍو دَيْنًا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : بَيْعُ عَيْنٍ بِدَيْنٍ ، وَهَذَا بَاطِلٌ ، وَهُوَ الصَّرْفُ بِالْأجِلِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : بَيْعُ دَيْنٍ بِعَيْنٍ كَرَجُلٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ يَبِيعُهَا عَلَيْهِ بِمِائَةِ دِينَارٍ يَأْخُذُهَا مِنْهُ عَيْنًا . فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا صَحَّ : لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا لَمْ يَصِحَّ : لِأَنَّ الْمُؤَجَّلَ لَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِهِ فَلَمْ تَجُزِ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ . وَإِذَا صَحَّ فِي الْحَالِّ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى قَبْضِ الدَّنَانِيرِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ إِلَّا أَنْ يَأْخُذَ بَدَلَ الدَّرَاهِمِ ثَوْبًا أَوْ عَرَضًا ، فَفِي لُزُومِ قَبْضِهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ ، أَنَّهُ يَجُوزُ الِافْتِرَاقُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ : لِأَنَّ مَا سِوَى الصَّرْفِ لَا يَلْزَمُ فِيهِ تَعْجِيلُ الْقَبْضِ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ حَتَّى يَتَقَابَضَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَإِلَّا صَارَ بَيْعَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ . فَلَوْ أَخَذَ بَدَلَ الْأَلْفِ دِرْهَمٍ خَمْسِينَ دِينَارًا وَعَبْدًا كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ : لِأَنَّهُ عَقْدٌ جَمَعَ بَيْعًا وَصَرْفًا . أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ فِيهِمَا وَيَرْجِعُ بِالْأَلْفِ .

وَالثَّانِي : جَائِزٌ فِيهِمَا وَيَلْزَمُ قَبْضُ الدَّنَانِيرِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ . وَفِي قَبْضِ الْعَبْدِ قَبْلَهُ وَجْهَانِ . فَرْعٌ : فَلَوْ أَحَالَ بِالدَّنَانِيرِ الَّتِي قَدِ اسْتَحَقَّ قَبْضَهَا فِي الصَّرْفِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ عَلَى رَجُلٍ حَاضِرٍ ، فَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهَا الْمُسْتَحِقُّ لَهَا مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ فِي الْمَجْلِسِ حَتَّى افْتَرَقَا بَطَلَ الصَّرْفُ . وَإِنْ قَبَضَهَا فِي الْمَجْلِسِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْحَوَالَةِ ، هَلْ تَجْرِي مَجْرَى الْبَيْعِ أَوْ هِيَ عَقْدُ مَعُونَةٍ وَإِرْفَاقٍ ؟ فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْحَوَالَةَ تَجْرِي مَجْرَى الْبَيْعِ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهَا عَقْدُ مَعُونَةٍ وَإِرْفَاقٍ جَازَ ، كَمَا لَوْ أَمَرَ وَكِيلَهُ بِالدَّفْعِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ . فَرْعٌ : فَلَوْ لَمْ يُحِلَّهُ بِهَا وَلَكِنِ اقْتَرَضَهَا لَهُ مِنْ غَيْرِهِ وَدَفَعَهَا إِلَيْهِ فما الحكم ، جَازَ : لِوُجُودِ الْقَبْضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ ، وَلَكِنْ لَوِ اقْتَرَضَهَا الصَّيْرَفِيُّ مِنَ الْمُشْتَرِي ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ لِيَكُونَ قَبْضًا عَمَّا اشْتَرَاهُ مِنَ الدَّنَانِيرِ ، عَلَى وَجْهَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْقَرْضِ ، مَتَى يَمْلِكُ ؟ وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ : أَنَّ الْقَرْضَ يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ هَاهُنَا ، وَيَصِحُّ هَذَا الصَّرْفُ : لِأَنَّهُ قَبَضَ الدَّنَانِيرَ مِنَ الصَّيْرَفِيِّ بَعْدَ أَنْ مَلَكَهَا بِالْقَرْضِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْقَرْضَ يُمْلَكُ بِالتَّصَرُّفِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ هَاهُنَا ، وَيَبْطُلُ هَذَا الصَّرْفُ : لِأَنَّهُ قَبَضَ الدَّنَانِيرَ مُشْتَرِيًا لَهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُ الصَّيْرَفِيِّ عَلَيْهَا . فَرْعٌ : فَلَوِ اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ صَيْرَفِيٍّ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَقَبَضَ مِنْهُ الدِّينَارَ ، وَحَصَلَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الصَّيْرَفِيِّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ . قَالَ : اجْعَلْ هَذِهِ الْعَشَرَةَ بَدَلًا مِنَ الثَّمَنِ ، لَمْ يَجُزْ سَوَاءٌ حَصَلَتِ الْعَشَرَةُ عَلَى الصَّيْرَفِيِّ قَبْلَ الصَّرْفِ أَوْ بَعْدَهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ حَصَلَتْ قَبْلَ الصَّرْفِ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ حَصَلَتْ بَعْدَهُ جَازَ . وَهَذَا غَلَطٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَكُونُ صَرْفًا قَدْ عُدِمَ فِيهِ الْقَبْضُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَصِيرُ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ إِلَّا أَنْ يَأْخُذَ دِينَارًا بِالْعَشَرَةِ بَعْدَ حُصُولِهَا عَلَيْهِ فَيَجُوزُ ، وَهُوَ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ الْمَذْكُورِ مِنْ قَبْلُ . فَرْعٌ : فَإِذَا اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ صَيْرَفِيٍّ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فِي ذِمَّتِهِ ، ثُمَّ إِنَّ الصَّيْرَفِيَّ أَبْرَأَ الْمُشْتَرِي مِنَ الْعَشَرَةِ ، كَانَتِ الْبَرَاءَةُ بَاطِلَةً ، وَإِنِ افْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِهَا بَطَلَ الصَّرْفُ : لِأَنَّهُ إِبْرَاءٌ مِمَّا لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ . وَلَوْ كَانَتِ الْعَشَرَةُ مُعَيَّنَةً فَوَهَبَهَا الصَّيْرَفِيُّ لَهُ ، فَإِنْ كَانَتِ الْهِبَةُ قَبْلَ قَبْضِهَا لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهَا لَمْ يَسْتَقِرَّ ، وَإِنْ كَانَتِ الْهِبَةُ بَعْدَ قَبْضِهَا فَفِيهَا وَجْهَانِ كَالْبَيْعِ .

فَرْعٌ : وَإِذَا اشْتَرَى مِنْهُ دِينَارًا فَقَبَضَهُ ، ثُمَّ وَجَدَهُ مَعِيبًا بَعْدَ تَلَفِهِ فَأَرَادَ الرُّجُوعَ بِأَرْشِ عَيْبِهِ من الصيرفي نَظَرَ : فَإِنْ كَانَ قَدِ اشْتَرَى الدِّينَارَ بِوَزْنِهِ ذَهَبًا ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ بِأَرْشِ الْعَيْبِ : لِأَنَّ أَخْذَ الْأَرْشِ يُؤَدِّي إِلَى التَّفَاضُلِ فِي بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ . وَإِنْ كَانَ قَدِ اشْتَرَاهُ بِدَرَاهِمَ ، فَفِي جَوَازِ الرُّجُوعِ بِأَرْشِ عَيْنِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ . اعْتِبَارًا بِعُيُوبِ سَائِرِ الْمَبِيعَاتِ السَّالِفَةِ ، وَهَذَا أَقَيْسُ الْوَجْهَيْنِ ، فَعَلَى هَذَا يَرْجِعُ بِأَرْشِ عَيْبِ الدِّينَارِ دَرَاهِمَ ، وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ الْمَعِيبُ فِضَّةً رَجَعَ بِأَرْشِ عَيْبِهَا ذَهَبًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الشُّيُوخِ مِنْ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ وَالْجُمْهُورِ مِنْ غَيْرِهِمْ ، لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ بِأَرْشِ عَيْبِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الصَّرْفَ أَضْيَقُ حُكْمًا مِنَ الْبِيَاعَاتِ ، فَلَمْ يَتَّسِعْ لِدُخُولِ الْأَرْشِ فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْأَرْشَ يُعْتَبَرُ بِالْأَثْمَانِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الْأَثْمَانِ . فَعَلَى هَذَا لَا يَخْلُو عَيْبُ الدِّينَارِ الْمُسْتَهْلَكِ إِذَا لَمْ يُخْرِجْهُ مِنَ الْجِنْسِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْبًا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ أَوْ لَا يَصِحُّ ، فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ صِفَةً فِي الذِّمَّةِ مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ دِينَارًا قَاسَانِيًّا فَيَتَبَيَّنُ بَعْدَ تَلَفِهِ مَغْرِبِيًّا . فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَعَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّ بَدَلَهُ دِينَارًا مِثْلَهُ مَغْرِبِيًّا . وَإِنْ كَانَ الْمَعِيبُ مُبَهْرَجًا مِمَّا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَا فِي الذِّمَّةِ مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ دِينَارًا قَاسَانِيًّا فَيَتَبَيَّنُ الدِّينَارَ مُبَهْرَجًا ، فَعَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَرْضَ بِعَيْبِهِ أَنْ يَرُدَّ قِيمَتَهُ دَرَاهِمَ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَهُ : لِأَنَّ الْمُبَهْرَجَ لَا مِثْلَ لَهُ . فَإِذَا رَدَّ مِثْلَ الدِّينَارِ الْمَعِيبِ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ أَوْ رَدَّ قِيمَتَهُ وَرِقًا فِيمَا لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ ، نَظَرَ : فَإِنْ كَانَ قَدِ اشْتَرَى الدِّينَارَ الَّذِي بَانَ عَيْبُهُ بِعَيْنِهِ لَمْ تَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِبَدَلِهِ وَكَانَ لَهُ اسْتِرْجَاعُ مَا دَفَعَ مِنْ ثَمَنِهِ . وَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ ، فَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ بِبَدَلِهِ سَلِيمًا مِنْ عَيْبٍ أَمْ لَا ؟ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ . فَرْعٌ : وَإِذَا حَصَلَتْ فِي ذِمَّةِ رَجُلٍ دَرَاهِمُ مَوْصُوفَةٌ وَكَانَتْ نَقْدًا يَتَعَامَلُ النَّاسُ بِهِ ، فَحَظَرَ السُّلْطَانُ الْمُعَامَلَةَ بِهَا وَحَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ ، لَمْ يَسْتَحِقَّ صَاحِبُ الدَّرَاهِمِ وَغَيْرِهَا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَالِبَهُ بِقِيمَتِهَا . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِقِيمَتِهَا ذَهَبًا فِي آخِرِ يَوْمٍ حُرِّمَتْ . وَهَذَا خَطَأٌ . لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي تَحْرِيمِ الْمُعَامَلَةِ بِهَا أَنْ يَكُونَ مُوَكِّسًا لِقِيمَتِهَا ، وَمَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ لَا يَسْتَحِقُّ بَدَلَهُ لِنُقْصَانِ قِيمَتِهِ كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَغَيْرِهِ .

فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لَهُ أَخْذُ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ بِعَيْنِهَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ كَمَا كَانَ لَهُ أَخْذُهَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ فَعُدِمَتْ تِلْكَ الدَّرَاهِمُ وَلَمْ تُوجَدْ ، كَانَ لَهُ حِينَئِذٍ أَخْذُ قِيمَتِهَا ذَهَبًا : لِتَعَذُّرِهَا وَاعْتِبَارِ زَمَانِ الْقِيمَةِ فِي آخِرِ أَوْقَاتِ وُجُودِهَا وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهَا : لِأَنَّهُ آخِرُ وَقْتٍ كَانَتْ عَيْنُهَا فِيهِ مُسْتَحَقَّةً . فَلَوِ ابْتَاعَ دِينَارًا وَثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٍ مِنْ هَذَا النَّقْدِ الْمَذْكُورِ فَحَظَرَ السُّلْطَانُ الْمُعَامَلَةَ بِهَا قَبْلَ قَبْضِهَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَيْبًا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْفَسْخَ : لِأَنَّ الْعُيُوبَ مَا اخْتُصَّتْ بِالصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ ، فَأَمَّا تَحْرِيمُ السُّلْطَانِ فَعَارِضٌ يَخْتَصُّ بِالسِّعْرِ وَنَقْصِهِ ، وَنُقْصَانُ الْأَسْعَارِ لَا يَكُونُ عَيْبًا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْفَسْخَ . فَرْعٌ : وَإِذَا تَبَايَعَا ذَهَبَهُ بِذَهَبِهِ البائع والمشتري نَظَرَ : فَإِنْ تَبَايَعَاهَا جُزَافًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَرِطَا الْمُوَازَنَةَ ، كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا وَيَتَرَادَّانِ ، فَلَوْ وُزِنَتَا جَمِيعًا فَكَانَتَا سَوَاءً لَمْ يَصِحَّ الصَّرْفُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ عَلِمَا ذَلِكَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ صَحَّ الصَّرْفُ ، وَإِنْ عَلِمَاهُ بَعْدَهُ لَمْ يَصِحَّ . وَقَالَ زُفَرُ : يَصِحُّ بِكُلِّ حَالٍ . وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ ، وَمَذْهَبُنَا فِيهِ أَصَحُّ . لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالتَّمَاثُلِ كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ ، ثُمَّ كَانَ الْعِلْمُ بِالتَّفَاضُلِ مُعْتَبَرًا وَقْتَ الْعَقْدِ ، كَذَا الْجَهْلُ بِالتَّمَاثُلِ مُعْتَبَرًا وَقْتَ الْعَقْدِ . فَأَمَّا إِنْ تَبَايَعَاهَا مُوَازَنَةً لَمْ يَفْسَدِ الْعَقْدُ وَكَانَ مُعْتَبَرًا بِمَا يُخْرِجُهُ الْوَزْنُ مِنْ تَمَاثُلِهِمَا أَوْ تَفَاضُلِهِمَا ، فَإِنْ كَانَتَا سَوَاءً صَحَّ الصَّرْفُ ، وَإِنْ تَفَاضَلَتَا فَقَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الصَّرْفَ بَاطِلٌ : لِظُهُورِ الْفَضْلِ فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الصَّرْفَ جَائِزٌ بِإِسْقَاطِ الْفَضْلِ : لِاشْتِرَاطِ التَّمَاثُلِ ، وَلِلَّذِي نَقَصَتْ ذَهَبَتُهُ الْخِيَارُ دُونَ الْآخَرِ لِنُقْصَانِ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي بَيْعِ صُبْرَةِ طَعَامٍ بِصُبْرَةِ طَعَامٍ . فَرْعٌ : وَإِذَا بَاعَ رَجُلٌ ثَوْبًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهَا مِنْ صَرْفِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا بِدِينَارٍ ، كَانَ الْبَيْعُ وَالصَّرْفُ بَاطِلَيْنِ : لِأَنَّ السِّعْرَ لَيْسَ بِصِفَةٍ يَخْتَصُّ بِالْعَيْنِ وَلَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ . فَرْعٌ : وَلَوْ بَاعَهُ ثَوْبًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ بِقِيمَتِهَا دَنَانِيرَ مِنْ صَرْفِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا بِدِينَارٍ البابع والمشتري ، كَانَ الْبَيْعُ وَالصَّرْفُ بَاطِلَيْنِ : لِأَنَّهُمَا بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الشَّرْطُ بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ فَيَصِحُّ الْبَيْعُ وَلَا يَلْزَمُ الشَّرْطُ ، وَيَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي دَفْعِ الدَّنَانِيرِ ، وَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ فِي قَبْضِهَا ، وَالْمُسْتَحِقُّ دَفْعَ الدَّرَاهِمِ الَّتِي كَانَ بِهَا الْعَقْدُ . فَرْعٌ : فَإِذَا بَاعَهُ ثَوْبًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ نَقْدِ سُوقٍ وَكَذَا ، نَظَرَ فِي نَقْدِ تِلْكَ ، فَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُخْتَلِفٍ كَانَ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ وَهُوَ أَظْهَرُ : لِأَنَّهَا صِفَةٌ يَمْتَازُ بِهَا الْمَوْصُوفُ عَنْ غَيْرِهِ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ : لِأَنَّهَا صِفَةٌ فِي غَيْرِ الْمَوْصُوفِ يَجُوزُ انْتِقَالُهَا عَنْهُ . فَرْعٌ : فَإِذَا اشْتَرَى دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى أَنَّهُ يُسَاوِي الْعَشَرَةَ ، أَوْ عَلَى أَلَّا غَبِينَةَ عَلَيْهِ

فِي ثَمَنِهِ ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَقْصًى بِهِ ، فَالصَّرْفُ بَاطِلٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ : لِأَنَّهَا شُرُوطٌ تُنَافِي الْعَقْدَ وَمِثْلُهُ وَاقِعٌ . فَرْعٌ : وَإِذَا بَاعَهُ ثَوْبًا بِدِينَارٍ إِلَّا دِرْهَمًا فَإِنْ جَهِلَا أَوْ أَحَدُهُمَا قِيمَةَ الدِّينَارِ فِي الْحَالِ ، كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا : لِلْجَهْلِ بِالثَّمَنِ . وَإِنْ عَلِمَا قِيمَةَ الدِّينَارِ فَفِي الْبَيْعِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ : لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الثَّمَنِ لَا يَجُوزُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ : لِأَنَّهُمَا إِذَا عَلِمَا أَنَّ قِيمَةَ الدِّينَارِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَقَدْ بَاعَهُ بِدِينَارٍ إِلَّا دِرْهَمًا كَانَ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ بِعْتُكَ بِدِينَارٍ إِلَّا عُشْرَ دِينَارٍ ، فَيَصِيرُ الْبَيْعُ بِتِسْعَةِ أَعْشَارِ دِينَارٍ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ عَلَى الْوَجْهَيْنِ : لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى دِرْهَمًا وَلَمْ يَسْتَثْنِ قِيمَةَ دِرْهَمٍ ، فَلَا يَلْزَمُ الْمُشْتَرِي دَفْعُ الدِّينَارِ كُلِّهِ لِمَوْضِعِ الِاسْتِثْنَاءِ ، وَلَا يَلْزَمُ الْبَائِعَ دَفَعُ دِرْهَمٍ : لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُشْتَرٍ فَيَتَعَذَّرُ اسْتِيفَاءُ الْعَقْدِ فَبَطَلَ . فَرْعٌ : فَإِذَا ابْتَاعَ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَدَفَعَ إِلَيْهِ الصَّيْرَفِيُّ دِينَارًا وَرَجَحَ الدِّينَارُ قِيرَاطًا جَازَ لِلصَّيْرَفِيِّ أَنْ يَهَبَ الْقِيرَاطَ الزَّائِدَ لِلْمُشْتَرِي ، وَجَازَ أَنْ يُودِعَهُ إِيَّاهُ فَيَصِيرُ الصَّيْرَفِيُّ شَرِيكًا لِلْمُشْتَرِي فِي الدِّينَارِ بِالْقِيرَاطِ الزَّائِدِ . فَإِنْ دَفَعَ إِلَيْهِ الْمُشْتَرِي قِيرَاطًا مِنْ غَيْرِ الدِّينَارِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ إِلَّا بِاخْتِيَارِهِ وَيَكُونُ اسْتِئْنَافَ صَرْفٍ آخَرَ فِي قِيرَاطٍ بِقِيرَاطٍ . فَلَوْ كَانَ الصَّيْرَفِيُّ حِينَ زَادَ الدِّينَارَ قِيرَاطًا أَخَذَ مِنَ الْمُشْتَرِي ثَمَنَ الْقِيرَاطِ الزَّائِدِ وَرِقًا ، جَازَ بِأَكْثَرَ مِنَ السِّعْرِ الْأَوَّلِ وَبِأَقَلَّ : لِأَنَّهُ اسْتِئْنَافُ صَرْفٍ ثَانٍ . وَلَوْ أَخَذَ مِنْهُ الصَّيْرَفِيُّ بَدَلَ الْقِيرَاطِ الزَّائِدِ قِيرَاطًا مِنْ ذَهَبٍ جَازَ أَيْضًا : لِأَنَّهُمَا عَقْدَانِ ، وَلَكِنْ لَوْ تَبَايَعَا فِي الِابْتِدَاءِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَقِيرَاطًا بِدِينَارٍ وَقِيرَاطٍ كَانَ بَاطِلًا : لِأَنَّهُ عَقْدٌ وَاحِدٌ كَمُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدَّيْ عَجْوَةٍ . فَرْعٌ : وَإِذَا اشْتَرَى ثَوْبًا بِدِينَارٍ ، وَوَزَنَ الْمُشْتَرِي الدِّينَارَ فَرَجَحَ فِي الْمِيزَانِ فَأَعْطَاهُ بَائِعُ الثَّوْبِ حِزَامًا أَفْضَلَ مِنَ الدِّينَارِ ذَهَبًا وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ قَدْرَ الزِّيَادَةِ جَازَ : لِأَنَّهُمَا قَدِ اسْتَأْنَفَا صَرْفًا فِي ذَهَبٍ بِذَهَبٍ مُتَمَاثِلٍ مَعَ الْجَهْلِ بِالْقَدْرِ ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّرْفِ ، أَلَّا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ سَبِيكَةَ ذَهَبٍ لَا يَعْلَمُ وَزْنَهَا بِوَزْنِهَا ذَهَبًا جَازَ لِحُصُولِ التَّمَاثُلِ ، وَإِنْ جَهِلَا الْقَدْرَ . فَرْعٌ : وَإِذَا أَوْدَعَ رَجُلٌ رَجُلًا مِائَةَ دِينَارٍ ، ثُمَّ إِنَّ صَاحِبَ الدَّنَانِيرِ لَقِيَ الْمُودَعَ فَبَاعَ عَلَيْهِ الدَّنَانِيرَ الْوَدِيعَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالدَّنَانِيرُ غَيْرُ حَاضِرَةٍ ، لَمْ يَجُزْ وَكَانَ الصَّرْفُ بَاطِلًا : لِأَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْ عَيْنًا حَاضِرَةً تُرَى وَلَا صِفَةً فِي الذِّمَّةِ تُعْرَفُ ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ الْمُودَعُ قَدْ ضَمِنَهَا بِالِاسْتِهْلَاكِ ، ثُمَّ ابْتَاعَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ صَحَّ ، وَكَانَ هَذَا بَيْعَ عَيْنٍ بِدَيْنٍ . فَلَوْ كَانَ قَدْ ضَمِنَهَا بِالتَّعَدِّي مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا فَابْتَاعَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ بَقَاءَ عَيْنِهَا يَمْنَعُ مِنَ اسْتِقْرَارِهَا فِي الذِّمَّةِ ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الدَّنَانِيرُ وَقْتَ الْعَقْدِ حَاضِرَةً فَيَصِحُّ الصَّرْفُ .

فَرْعٌ : وَإِذَا كَانَ عَلَى رَجُلٍ دَنَانِيرُ يُعْطِي صَاحِبَهَا دَرَاهِمَ عَلَى مَا يَتَّفِقُ عِنْدَهُ وَيَحْصُلُ بِيَدِهِ مِنْ غَيْرِ مُصَارَفَةٍ وَتَقْرِيرِ سِعْرٍ بِالدَّنَانِيرِ ، لَمْ يَكُنْ هَذَا صَرْفًا ، وَلَمْ يَصِرْ قِصَاصًا مِنَ الدَّنَانِيرِ ، وَكَانَتِ الدَّرَاهِمُ الْمَدْفُوعَةُ فِي حُكْمِ الْقَرْضِ ، لِصَاحِبِهَا اسْتِرْجَاعُهَا مَتَى شَاءَ ، وَعَلَيْهِ دَفْعُ مَا فِي ذِمَّتِهِ مِنَ الدَّنَانِيرِ . فَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الدَّنَانِيرِ أَنْ يَحْبِسَ مَا قَبَضَ مِنَ الدَّرَاهِمِ عَلَى قَبْضِ مَا لَهُ مِنَ الدَّنَانِيرِ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ عَنْ بَيْعٍ فَاسِدٍ لَا يَجُوزُ حَبْسُهُ عَلَى اسْتِرْجَاعِ ثَمَنِهِ . وَلَوِ اتَّفَقَا بَعْدَ قَبْضِ الدَّرَاهِمِ عَلَى أَنْ يَتَبَايَعَا الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ ، فَإِنْ كَانَتِ الدَّرَاهِمُ حَاضِرَةً لَمْ يَسْتَهْلِكْهَا الْقَابِضُ جَازَ بَيْعُهَا : لِأَنَّهُ بِيعُ دَرَاهِمَ حَاضِرَةٍ بِدَنَانِيرَ فِي الذِّمَّةِ . وَإِنْ كَانَتِ الدَّرَاهِمُ قَدِ اسْتَهْلَكَهَا الْقَابِضُ وَصَارَتْ فِي ذِمَّتِهِ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ ، إِلَّا أَنْ يَتَطَارَحَا وَيَتَبَارَيَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، فَيَقُولُ قَابِضُ الدَّرَاهِمِ لِدَافِعِهَا : قَدْ أَبْرَأْتُكَ مِنْ كَذَا دِينَارًا . وَيَقُولُ صَاحِبُ الدَّرَاهِمِ لَقَابِضِهَا : قَدْ أَبْرَأْتُهُ مِنْ كَذَا دِرْهَمًا . فَيَصِحُّ الْإِبْرَاءُ مِنْهُمَا جَمِيعًا ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِبْرَاءُ مَشْرُوطًا فَلَا يَصِحُّ ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الدَّنَانِيرِ لِصَاحِبِ الدَّرَاهِمِ : قَدْ أَبْرَأْتُكَ مِنْ كَذَا دِينَارًا عَلَى أَنْ تُبْرِئَنِي مِنْ كَذَا دِرْهَمًا . وَيَقُولُ صَاحِبُ الدَّرَاهِمِ لِصَاحِبِ الدَّنَانِيرِ : قَدْ أَبْرَأْتُهُ مِنْ كَذَا دِرْهَمًا عَلَى أَنْ تُبْرِئَنِي مِنْ كَذَا دِينَارًا . فَيَكُونُ الْإِبْرَاءُ مِنْهُمَا جَمِيعًا بَاطِلًا ، لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ تَبْطُلُ بِالشَّرْطِ وَإِنَّمَا تَصِحُّ مَعَ الْإِطْلَاقِ . فَلَوْ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَبْرَأَهُ صَاحِبُهُ بَرَاءَةً مُطْلَقَةً مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَلَمْ يُبْرِئْهُ الْآخَرُ مِنْ شَيْءٍ جَازَ ، وَكَانَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِحَقِّهِ ، وَلَيْسَ لِلْمُبْرِئِ مُطَالَبَةُ الْآخَرِ بِشَيْءٍ . فَرْعٌ : وَإِذَا ابْتَاعَ ثَوْبًا بِنِصْفِ دِينَارٍ ثُمَّ ابْتَاعَ ثَوْبًا ثَانِيًا بِنِصْفِ دِينَارٍ ، كَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَدْفَعَ دِينَارًا بِنِصْفَيْنِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ دِينَارًا صَحِيحًا إِلَّا أَنْ يَبْتَاعَهُمَا مَعًا بِدِينَارٍ ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ دِينَارًا صَحِيحًا ، وَلَا يَلْزَمُ الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ دِينَارًا بِنِصْفَيْنِ ، فَلَوِ ابْتَاعَ ثَوْبًا بِنِصْفِ دِينَارٍ ، وَابْتَاعَ ثَوْبًا آخَرَ بِنِصْفِ دِينَارٍ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ ثَمَنَ الثَّوْبَيْنِ دِينَارًا صَحِيحًا ، كَانَ هَذَا الشَّرْطُ مَعَ الْبَيْعِ الثَّانِي بَاطِلًا ، وَصَحَّ بَيْعُ الثَّوْبِ الْأَوَّلِ بِنِصْفِ دِينَارٍ : لِأَنَّ مَا اقْتَرَنَ بِالْبَيْعِ الثَّانِي مِنَ الشَّرْطِ يُنَافِيهِ . وَلَوِ ابْتَاعَ ثَوْبًا بِنِصْفِ دِينَارٍ ثُمَّ ابْتَاعَ آخَرَ بِنِصْفِ دِينَارٍ عَلَى أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ دِينَارًا ، كَانَ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي جَائِزَيْنِ : لِأَنَّ الشَّرْطَ الْمُقْتَرِنَ بِالثَّانِي لَا يُنَافِيهِ . فَرْعٌ : فَإِذَا قَبَضَ رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ دَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ فَضَمِنَ لَهُ رَجُلٌ آخَرُ بَدَلَ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ زَائِفٍ أَوْ بَهْرَجَةٍ أَوْ دِرْهَمٍ لَا يَجُوزُ ، فَإِنَّ الضَّمَانَ جَائِزٌ إِلْحَاقًا بِضَمَانِ الدَّرْكِ ، وَإِنْ كَانَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالْإِسْقَاءِ ، وَهَذِهِ مِنْ مَنْصُوصَاتِ ابْنِ سُرَيْجٍ . فَإِنْ وَجَدَ الْقَابِضُ زَائِفًا أَوْ مُبَهْرَجًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ فِي إِبْدَالِهَا عَلَى الْقَاضِي إِنْ شَاءَهُ أَوْ عَلَى الضَّامِنِ إِنْ شَاءَ .

فَلَوْ أَبْدَلَهَا عَلَى الْقَاضِي بَرِئَ الضَّامِنُ أَيْضًا ، وَلَوْ أَبْدَلَهَا عَلَى الضَّامِنِ رَجَعَ الضَّامِنُ عَلَى الْقَاضِي بِهَا إِنْ ضَمِنَهَا عَنْهُ بِأَمْرِهِ . فَإِنْ قَالَ الضَّامِنُ : أَعْطُونِي الْمَرْدُودَ بِعَيْنِهِ لِأُعْطِيَكُمْ بَدَلَهُ لَمْ يُعْطِهِ إِيَّاهُ وَقِيلَ لَهُ : الْوَاجِبُ أَنْ يَفْسَخَ الْقَضَاءُ فِي الْمَرْدُودِ وَيَرُدَّ عَلَى الْمَضْمُونِ لَهُ مَا ضَمِنَهُ ، وَهَذَا الْمَرْدُودُ وَغَيْرُهُ مِنْ مَالِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ ، وَلَكَ الرُّجُوعُ بِمِثْلِ مَا أَدَّيْتَ ، فَلَوْ أَحْضَرَ الْقَابِضُ دَرَاهِمَ رَدِيئَةً لِيُبَدِّلَهَا ، وَقَالَ هِيَ مِمَّا قَبَضْتُهُ ، وَأَنْكَرَاهُ جَمِيعًا ، فَإِنْ كَانَ الرَّدُّ دَرَاهِمَ مَعِيبَةً ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا مَعَ أَيْمَانِهِمَا وَعَلَى الْقَابِضِ الْبَيِّنَةُ . لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ مَا قَبَضَ وَبَرِئَا مِنْهُ بِالْقَبْضِ ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي رُجُوعِ الْحَقِّ . وَإِنْ كَانَ الرَّدُّ نُحَاسًا أَوْ غَيْرَ فِضَّةِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ : لِأَنَّ أَصْلَ الدَّيْنِ ثَابِتٌ ، وَإِنَّمَا يُقِرُّ بِقَبْضِ النُّحَاسِ قَضَاءً ، وَالنُّحَاسُ لَا يَكُونُ قَضَاءً عَنِ الْفِضَّةِ . أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى دَرَاهِمَ فَكَانَتْ نُحَاسًا كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا ، وَلَوْ كَانَتْ فِضَّةً مَعِيبَةً كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا ، وَلَوِ اشْتَرَى غُلَامًا فَكَانَ جَارِيَةً كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ . قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، انْتَهَى .

بَابُ بَيْعِ اللَّحْمِ بِاللَّحْمِ

اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي اللُّحْمَانِ هَلْ هِيَ صِنْفٌ وَاحِدٌ أَوْ صِنْفَانِ

بَابُ بَيْعِ اللَّحْمِ بِاللَّحْمِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَاللَّحْمُ كُلُّهُ صِنْفٌ : وَحْشِيُّهُ وَإِنْسِيُّهُ وَطَائِرُهُ ، لَا يَحِلُّ فِيهِ الْبَيْعُ حَتَّى يَكُونَ يَابِسًا وَزْنًا بِوَزْنٍ . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : فِيهَا قَوْلَانِ فَخَرَّجَهُمَا . ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ : وَمَنْ قَالَ : اللُّحْمَانُ صِنْفٌ وَاحِدٌ لَزِمَهُ إِذَا حَدَّهُ بِجَمَاعِ اللَّحْمِ أَنْ يَقُولَهُ فِي جَمَاعِ الثَّمَرِ ، فَيَجْعَلُ الزَّبِيبَ وَالتَّمْرَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الثِّمَارِ صِنْفًا وَاحِدًا ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَهُ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) فَإِذَا كَانَ تَصْيِيرُ اللُّحْمَانِ صِنْفًا وَاحِدًا قِيَاسًا لَا يَجُوزُ بِحَالٍ ، وَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْجَامِعَةِ ، وَأَنَّهَا عَلَى الْأَصْنَافِ وَالْأَسْمَاءِ الْخَاصَّةِ فَقَدْ قَطَعَ بِأَنَّ اللُّحْمَانَ أَصْنَافٌ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَقَدْ قَطَعَ قَبْلَ هَذَا الْبَابِ بِأَنَّ أَلْبَانَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْإِبِلِ أَصْنَافٌ مُخْتَلِفَةٌ ، فَلُحُومُهَا الَّتِي هِيَ أَصْلُ الْأَلْبَانِ بِالِاخْتِلَافِ أَوْلَى . وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ الْمَجْمُوعَةِ : فَإِذَا اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُ الْحِيتَانِ ، فَلَا بَأْسَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا ، وَكَذَلِكَ لُحُومُ الطَّيْرِ إِذَا اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهَا . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَفِي ذَلِكَ كِفَايَةٌ لِمَا وَصَفْنَا ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي اللُّحْمَانِ ، هَلْ هِيَ صِنْفٌ وَاحِدٌ أَوْ صِنْفَانِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَنْصُوصَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ : أَنَّ اللَّحْمَ كُلَّهُ صِنْفٌ وَاحِدٌ : لِأَنَّ الِاسْمَ الْخَاصَّ يَجْمَعُهَا عِنْدَ حُدُوثِ الرِّبَا فِيهَا ، وَلَا يَكُونُ اخْتِلَافُ أَنْوَاعِهَا دَلِيلًا عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا ، كَمَا أَنَّ الثَّمَرَ كُلَّهُ جِنْسٌ ، وَلَيْسَ اخْتِلَافُ أَنْوَاعِهِ دَلِيلًا عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنَّ اللُّحْمَانَ أَصْنَافٌ وَأَجْنَاسٌ : لِأَنَّهَا فُرُوعٌ لِأُصُولٍ هِيَ أَجْنَاسٌ ، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ أَجْنَاسًا كَالْأَدِقَّةِ وَالْأَدْهَانِ ، لَمَّا كَانَتْ فُرُوعًا لِأَجْنَاسٍ كَانَتْ هِيَ أَجْنَاسَهَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ اللَّحْمَ كُلَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ ، فَلُحُومُ النَّعَمِ وَلُحُومُ الْوَحْشِ وَلُحُومُ الطَّيْرِ كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ ، وَهَلْ تَكُونُ لُحُومُ الْحِيتَانِ بيع بعضها ببعض صِنْفًا مِنْهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا وَاللَّحْمَ كُلَّهُ صِنْفٌ وَاحِدٌ : لِأَنَّ اسْمَ اللَّحْمِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ لُحُومَ الْحِيتَانِ صِنْفٌ آخَرُ ، وَإِنْ كَانَتِ اللُّحُومُ كُلُّهَا صِنْفًا وَاحِدًا بيع بعضها ببعض في هذه الحالة : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَأْكُلِ الْحِيتَانَ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ اقْتَضَى أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ جِنْسِ اللَّحْمِ ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ اللُّحْمَانُ كُلُّهَا صِنْفَيْنِ ، فَلُحُومُ حَيَوَانِ الْبَرِّ عَلَى اخْتِلَافِهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ ، وَلُحُومُ حِيتَانِ الْبَحْرِ عَلَى اخْتِلَافِهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ . وَإِذَا قُلْنَا : إِنَّ اللُّحْمَانَ أَصْنَافٌ ، فَلَحْمُ الْغَنَمِ صِنْفٌ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الضَّأْنِ مِنْهُ وَالْمَاعِزِ ، وَلَا بَيْنَ الْمَعْلُوفِ وَالرَّاعِي ، وَلَا بَيْنَ الْمَهْزُولِ وَالسَّمِينِ ، ثُمَّ لَحْمُ الْبَقَرِ صِنْفٌ آخَرُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْجَوَامِيسِ وَالْعِرَابِ ، وَلَحْمُ الْإِبِلِ صِنْفٌ آخَرُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَهْرِيَّةِ وَالْبَخَاتِ . ثُمَّ لُحُومُ الصَّيْدِ الْوَحْشِيِّ بيع بعضها ببعض أَصْنَافٌ ، فَلَحْمُ الطَّيْرِ صِنْفٌ ، وَلَحْمُ الثَّعَالِبِ صِنْفٌ ، وَلَحْمُ الْأَرَانِبِ صِنْفٌ ، وَلَحْمُ بَقَرِ الْوَحْشِ صِنْفٌ ، وَلَحْمُ حُمُرِ الْوَحْشِ صِنْفٌ ، ثُمَّ لُحُومُ الطَّيْرِ أَصْنَافٌ ، فَلَحْمُ الْحَمَامِ صِنْفٌ ، وَلَحْمُ الدَّجَاجِ صِنْفٌ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ جِنْسٍ مِنَ الطَّيْرِ لُحُومُ جِنْسِهَا صِنْفٌ . ثُمَّ هَلْ تَكُونُ لُحُومُ الْحِيتَانِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ صِنْفًا وَاحِدًا أَوْ تَكُونُ أَصْنَافًا : عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ جَمِيعَهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ إِلَّا حِيتَانُهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا أَصْنَافٌ مُخْتَلِفَةٌ ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ حَيَوَانَ الْبَحْرِ كُلَّهُ مَأْكُولٌ : حِيتَانَهُ وَدَوَابَّهُ وَمَا فِيهِ مِنْ كَلْبٍ وَغَيْرِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الشَّيْءُ صِنْفًا وَالنَّتَاجُ صِنْفًا ، وَكُلُّ مَا اخْتَصَّ بِاسْمٍ يُخَالِفُ غَيْرَهُ صِنْفًا .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الشُّحُومُ فَصِنْفٌ غَيْرُ اللَّحْمِ ، وَفِيهَا قَوْلَانِ كَاللَّحْمِ ، وَلَكِنْ هَلْ تَكُونُ الْإِلْيَةُ وَمَا حَمَلَهُ الظَّهْرُ صِنْفًا مِنَ الشَّحْمِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا صِنْفٌ مِنْ جُمْلَةِ الشَّحْمِ ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا أَصْنَافٌ مُخْتَلِفَةٌ غَيْرُ الشَّحْمِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَلِتَوْجِيهِ الْقَوْلَيْنِ مَوْضِعٌ مِنْ كِتَابِ الْأَيْمَانِ ثُمَّ الْكَبِدُ صِنْفٌ يُخَالِفُ اللَّحْمَ ، وَالطِّحَالُ صِنْفٌ آخَرُ ، وَالْفُؤَادُ صِنْفٌ آخَرُ ، وَكَذَلِكَ الْمُخُّ وَالدِّمَاغُ وَالْكِرْشُ وَالْمُصْرَانُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا صِنْفٌ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْبَيْضُ فَنَوْعَانِ : بَيْضُ طَيْرٍ هل تكون صِنْفًا مِنْ لُحُومِ الطَّيْرِ أم لا ، وَبَيْضُ سَمَكٍ . فَأَمَّا بَيْضُ الطَّيْرِ فَلَا يَكُونُ صِنْفًا مِنْ لُحُومِ الطَّيْرِ : لِأَنَّ الْبِيضَ أَصْلٌ لِلْحَيَوَانِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ صِنْفًا مِنَ اللَّحْمِ الَّذِي هُوَ فَرْعُ الْحَيَوَانِ . فَعَلَى هَذَا إِذَا قِيلَ : إِنَّ اللَّحْمَ أَصْنَافٌ فَالْبَيْضُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ أَصْنَافًا ، وَإِذَا قِيلَ : إِنَّ اللُّحْمَانَ صِنْفٌ وَاحِدٌ ، فَفِي الْبَيْضِ وَجْهَانِ ، وَأَمَّا بَيْضُ السَّمَكِ هل تكون صِنْفًا مِنْ لُحُومِ السمك أم لا فَهَلْ يَكُونُ نَوْعًا مِنْ لَحْمِ السَّمَكِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ صِنْفٌ غَيْرُ السَّمْكِ ، كَمَا أَنَّ بَيْضَ الطَّيْرِ صِنْفٌ غَيْرُ لَحْمِ الطَّيْرِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ لَحْمِ السَّمَكِ : لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ مَعَهُ حَيًّا وَمَيِّتًا . وَإِذَا وَضَحَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَفْصِيلِ اللُّحُومِ ، وَمَا اتَّصَلَ بِهَا مِنَ الشُّحُومِ ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهَا أَصْنَافٌ جَازَ بَيْعُ الصِّنْفِ مِنْهَا بِصِنْفٍ آخَرَ ، مُتَمَاثِلًا وَمُتَفَاضِلًا ، رَطْبًا وَيَابِسًا ، وَزْنًا وَجُزَافًا ، كَلَحْمِ الْغَنَمِ بِلَحْمِ الْبَقَرِ ، لَكِنْ يَدًا بِيَدٍ ، وَإِنْ قُلْنَا : هِيَ صِنْفٌ وَاحِدٌ ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَاعَ بَعْضٌ بِبَعْضٍ إِلَّا يَابِسًا بِيَابِسٍ مُتَمَاثِلًا بِالْوَزْنِ . فَأَمَّا بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ رَطْبًا فَغَيْرُ جَائِزٍ ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : يَجُوزُ كَمَا جَازَ بَيْعُ الْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ ؟ احْتِجَاجًا بِأَنَّ مُعْظَمَ مَنَافِعِهِ مَوْجُودٌ فِي حَالِ رُطُوبَتِهِ كَاللَّبَنِ . وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ مَا يُوجَدُ مِنْ مَنَافِعِ اللَّحْمِ فِي حَالِ رُطُوبَتِهِ مَوْجُودَةٌ فِيهِ عِنْدَ يُبْسِهِ ، وَمَنَافِعَ اللَّبَنِ الرَّطْبِ لَا تُوجَدُ فِيهِ عِنْدَ يُبْسِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَيْعَ اللَّحْمِ الرَّطْبَ بِاللَّحْمِ الرَّطْبِ لَا يَجُوزُ ، إِذَا كَانَ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ ، أَوْ قِيلَ إِنَّ اللُّحْمَانَ صِنْفٌ وَاحِدٌ ، فَإِذَا انْتَهَى إِلَى غَايَةِ يُبْسِهِ ، وَبَلَغَ أَقْصَى جَفَافِهِ ، جَازَ حِينَئِذٍ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ ، بِخِلَافِ التَّمْرِ الَّذِي يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالتَّمْرِ إِذَا بَلَغَ أَوَّلَ جَفَافِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ إِلَى غَايَةِ يُبْسِهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ اللَّحْمِ وَالتَّمْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ اللَّحْمَ بِاللَّحْمِ يُبَاعُ وَزْنًا ، وَيَسِيرُ النَّدَاوَةُ فِيهِ تُؤَثِّرُ فِي وَزْنِهِ ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ يُبَاعُ كَيْلًا ، وَيَسِيرُ النَّدَاوَةُ فِيهِ لَا تُؤَثِّرُ فِي كَيْلِهِ . وَالْفَرْقُ الثَّانِي : أَنَّ ادِّخَارَ التَّمْرِ فِي أَوَّلِ جَفَافِهِ يُمْكِنُ ، وَادِّخَارَ اللَّحْمِ فِي أَوَّلِ جَفَافِهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، فَصَارَ التَّمْرُ فِي أَوَّلِ الْجَفَافِ مُدَّخَرًا ، وَاللَّحْمُ فِي أَوَّلِ الْجَفَافِ غَيْرَ مُدَّخَرٍ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَإِنْ حُمِلَ اللَّحْمُ الْيَابِسُ فِي بَلَدٍ كَثِيرِ النَّدَى ، وَكَانَ مَا أَصَابَهُ مِنَ النَّدَى يَزِيدُ فِي وَزْنِهِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ . فَأَمَّا اللَّحْمُ إِذَا كَانَ فِي خِلَالِهِ عَظْمٌ فَهَلْ يُمْنَعُ مِنْ بِيعِهِ بِاللَّحْمِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُمْنَعُ كَمَا لَا يَمْنَعُ النَّوَى إِذَا كَانَ فِي التَّمْرِ مِنْ بَيْعِهِ بِالتَّمْرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي ، وَهُوَ أَصَحُّ : أَنَّ الْعَظْمَ فِي اللَّحْمِ يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِ بِاللَّحْمِ ، وَفَارَقَ النَّوَى فِي التَّمْرِ : لِأَنَّ بَقَاءَ النَّوَى فِي التَّمْرِ مِنْ صَلَاحِهِ ، وَلَيْسَ بَقَاءُ الْعَظْمِ فِي اللَّحْمِ مِنْ صَلَاحِهِ . فَأَمَّا الْجِلْدُ إِذَا كَانَ عَلَى اللَّحْمِ بَيْعِهِ بِاللَّحْمِ فَإِنْ كَانَ غَلِيظًا لَا يُؤْكَلُ مَعَهُ مُنِعَ مِنْ بَيْعِهِ بِاللَّحْمِ ، وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا يُؤْكَلُ مَعَهُ كَجُلُودِ الْجِدَاءِ وَالدَّجَاجِ ، فَهَلْ يُمْنَعُ إِذَا كَانَ عَلَى اللَّحْمِ مِنْ بَيْعِهِ بِاللَّحْمِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ كَالْعَظْمِ فَأَمَّا لُحُومُ الْحِيتَانِ بَيْعُ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ مِنْهَا بَعْضِهَا بِبَعْضٍ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ مِنْهَا بَعْضِهَا بِبَعْضٍ طَرِيًّا وَلَا نَدِيًّا وَلَا مَمْلُوحًا : لِأَنَّ الْمِلْحَ يَمْنَعُ مِنَ الْمُمَاثَلَةِ وَلَكِنْ يُبَاعُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ إِذَا بَلَغَ غَايَةَ يُبْسِهِ غَيْرَ مَمْلُوحٍ ، إِلَّا أَنْ تَقُولَ إِنَّ الْحِيتَانَ أَصْنَافٌ ، فَإِذَا اخْتَلَفَ الصِّنْفَانِ مِنْهَا كَانَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ طَرِيًّا وَمَمْلُوحًا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ

مسألة عدم جواز بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ

بَابُ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنْ جَزُورًا نُحِرَتْ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَجَاءَ رَجُلٌ بِعَنَاقٍ ، فَقَالَ : أَعْطُونِي جُزْءًا بِهَذِهِ الْعَنَاقِ . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَا يَصْلُحُ هَذَا . وَكَانَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُبَيْرِ ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، يُحَرِّمُونَ بَيْعَ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ عَاجِلًا وَآجِلًا ، يُعْطُونَ ذَلِكَ وَلَا يُرَخِّصُونَ فِيهِ ( قَالَ ) وَبِهَذَا نَأْخُذُ كَانَ اللَّحْمُ مُخْتَلِفًا أَوْ غَيْرَ مُخْتَلِفٍ ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبَا بَكْرٍ ، وَإِرْسَالُ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عِنْدَنَا حَسَنٌ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) إِذَا لَمْ يَثْبُتِ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَالْقِيَاسُ عِنْدِي أَنَّهُ جَائِزٌ : وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فَصِيلٌ بِجَزُورٍ قَائِمَيْنِ جَائِزًا ، وَلَا يَجُوزَانِ مَذْبُوحَيْنِ : لِأَنَّهُمَا طَعَامَانِ لَا يَحِلُّ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ ، فَهَذَا لَحْمٌ وَهَذَا حَيَوَانٌ ، وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ فَلَا بَأْسَ بِهِ فِي الْقِيَاسِ ، إِنْ كَانَ فِيهِ قَوْلٌ مُتَقَدِّمٌ مِمَّنْ يَكُونُ بِقَوْلِهِ اخْتِلَافٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَابِتًا فَيَكُونُ مَا قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ لَا يَجُوزُ ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَبُو يُوسُفَ : بَيْعُهُ جَائِزٌ بِكُلِّ حَالٍ ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ : يَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ إِذَا كَانَ اللَّحْمُ مِنْ لَحْمِ الْحَيَوَانِ : لِيَكُونَ فَاضِلَ اللَّحْمِ فِي مُقَابِلِهِ الْجِلْدِ وَالْعَظْمِ ، فَإِنْ كَانَ بِمِثْلِهِ أَوْ أَقَلَّ لَمْ يَجُزْ . وَقَالَ الْمُزَنِيُّ : يَجُوزُ بَيْعُهُ بِكُلِّ حَالٍ قِيَاسًا ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ فِيهِ ثَابِتًا ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَهُ بِأَنَّ اللَّحْمَ فِيهِ الرِّبَا ، وَالْحَيَوَانَ لَيْسَ فِيهِ رِبًا ، وَبَيْعُ مَا فِيهِ الرِّبَا بِمَا لَا رِبَا فِيهِ جَائِزٌ كَبَيْعِ اللَّحْمِ بِالْجِلْدِ : وَلِأَنَّ مَا فِيهِ الرِّبَا بِعِلَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ، فَبِأَنْ يَجُوزَ بَيْعُ مَا فِيهِ الرِّبَا بِمَا لَا رِبَا فِيهِ أَوْلَى . وَلِأَصْحَابِنَا فِي الدَّلِيلِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَانِ :

أَحَدُهُمَا : اتِّبَاعُ السُّنَّةِ وَالْأَثَرِ دُونَ الْقِيَاسِ وَالنَّظَرِ ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ . فَإِنْ قِيلَ : فَحَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلٌ ، وَالْمَرَاسِيلُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَتْ حُجَّةً ، قِيلَ : أَمَّا مَرَاسِيلُ غَيْرِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فَلَيْسَتْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِانْفِرَادِهَا حُجَّةً ، وَأَمَّا مَرَاسِيلُ سَعِيدٍ بن المسيب ، فَقَدْ حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ أَخَذَ بِهَا فِي الْقَدِيمِ ، وَجَعَلَهَا عَلَى انْفِرَادِهَا حُجَّةً ، وَإِنَّمَا خُصَّ سَعِيدٌ بِقَبُولِ مَرَاسِيلِهِ ، لِأُمُورٍ : مِنْهَا أَنَّ سَعِيدًا لَمْ يُرْسِلْ حَدِيثًا قَطُّ إِلَّا وُجِدَ مِنْ طَرِيقِ غَيْرِهِ مُسْنَدًا ، وَمِنْهَا أَنَّهُ كَانَ قَلِيلَ الرِّوَايَةِ لَا يَرْوِي أَخْبَارَ الْآحَادِ ، وَلَا يُحَدِّثُ إِلَّا بِمَا سَمِعَهُ عَنْ جَمَاعَةٍ أَوْ عَضَّدَهُ قَوْلُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، أَوْ رَآهُ مُنْتَشِرًا عِنْدَ الْكَافَّةِ ، أَوْ وَافَقَهُ فِعْلُ أَهْلِ الْعَصْرِ ، وَمِنْهَا أَنَّ رِجَالَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ الَّذِينَ أَخَذَ مِنْهُمْ وَرَوَى عَنْهُمْ هُمْ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ ، وَلَيْسَ كَغَيْرِهِ الَّذِي يَأْخُذُ عَمَّنْ وَجَدَ ، وَمِنْهَا أَنَّ مَرَاسِيلَ سَعِيدٍ سُيِّرَتْ فَكَانَتْ مَأْخُوذَةً عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَكَانَ يُرْسِلُهَا لِمَا قَدْ عَرَفَهُ النَّاسُ مِنَ الْأُنْسِ بَيْنَهُمَا وَالْوَصْلَةِ ، وَإِنَّ سَعِيدًا كَانَ صِهْرَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى ابْنَتِهِ فَصَارَ إِرْسَالُهُ كَإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ : أَنَّهُ مُرْسَلُ سَعِيدٍ وَغَيْرِهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ، وَإِنَّمَا قَالَ : مُرْسَلُ سَعِيدٍ عِنْدَنَا حَسَنٌ لِهَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي وَصَفْنَا ، اسْتِئْنَاسًا بِإِرْسَالِهِ ، ثُمَّ اعْتِمَادًا عَلَى مَا قَارَبَهُ مِنَ الدَّلِيلِ ، فَيَصِيرُ الْمُرْسَلُ حِينَئِذٍ مَعَ مَا قَارَبَهُ حُجَّةً . وَالَّذِي يَصِيرُ بِهِ الْمُرْسَلُ حُجَّةً أَحَدَ سَبْعَةِ أَشْيَاءَ : إِمَّا قِيَاسٌ ، أَوْ قَوْلُ صَحَابِيٍّ ، وَإِمَّا فِعْلُ صَحَابِيٍّ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ ، وَإِمَّا أَنْ يَنْتَشِرَ فِي النَّاسِ مِنْ غَيْرِ دَافِعٍ لَهُ ، وَإِمَّا أَنْ يَعْمَلَ بِهِ أَهْلُ الْعَصْرِ ، وَإِمَّا أَنْ لَا يُوجَدَ دَلَالَةٌ سِوَاهُ ، وَقَدِ اتَّصَلَ بِمُرْسَلِ سَعِيدٍ هَذَا أَكْثَرُ هَذِهِ السَّبْعَةِ ، فَمِنْ ذَلِكَ إِسْنَادُ غَيْرِهِ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ سَمُرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ ، وَمِنْ ذَلِكَ الْأَثَرُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ جَزُورًا نُحِرَتْ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَجَاءَ رَجُلٌ بِعَنَاقٍ ، فَقَالَ أَعْطُونِي جَزُورًا بِهَذِهِ الْعَنَاقِ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَا يَصْلُحُ هَذَا . فَكَانَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ مَعَ انْتِشَارِهِ فِي النَّاسِ عَدَمَ مُعَارِضًا لَهُ وَحُصُولُ الْعَمَلِ بِهِ دَلِيلٌ وَكَيْدٌ فِي لُزُومِ الْأَخْذِ بِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَزُورُ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَنَعَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ بَيْعِهِ بِالْعَنَاقِ . قِيلَ : هَذَا تَأْوِيلٌ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مَحْمُولًا عَلَيْهِ : لِأَنَّ إِبِلَ الصَّدَقَةِ إِنَّمَا تُتَّخَذُ لِإِطْعَامِ الْفُقَرَاءِ ، فَلَا جَائِزَ أَنْ يَنْسِبَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَوْ مَنْ عَاصَرَهُمْ إِلَى أَنَّهُ الْتَمَسَ ابْتِيَاعَ شَيْءٍ مِنْهُ لِعَنَاقٍ وَلَا غَيْرِهِ ، مَعَ ظُهُورِ الْحَالِ بِحُضُورِ أَبِي بَكْرٍ ، وَلَمَّا كَانَ نَقْلُ الْحَالِ مُفِيدًا فَإِنَّمَا يُفِيدُ نَقْلُهَا فِيمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا سِيَّمَا مَعَ إِطْلَاقِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْحُكْمَ وَنَقْلِ السَّبَبِ .

وَالطَّرِيقُ الثَّانِيَةُ لِأَصْحَابِنَا فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ وَالنَّظَرِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ السُّنَّةِ وَالْأَثَرِ ، هُوَ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ فِيهِ الرِّبَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَاعَ بِأَصْلِهِ الَّذِي فِيهِ مِنْهُ كَالدِّبْسِ بِالتَّمْرِ ، وَالشَّيْرَجِ بِالسِّمْسِمِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ جِنْسٍ فِيهِ الرِّبَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ مَا زَالَ عَنْ حَالِ الْبَقَاءِ بِأَصْلِهِ الَّذِي هُوَ عَلَى حَالِ الْبَقَاءِ كَالدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ ، وَكَذَا اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ بِأَنَّهُ يَبِيعُ مَا فِيهِ الرِّبَا بِمَا لَا رِبَا فِيهِ كَاللَّحْمِ بِالْجِلْدِ ، فَهُوَ أَنَّ الْجِلْدَ لَيْسَ فِيهِ لَحْمٌ ، فَلِذَلِكَ جَازَ بَيْعُهُ بِاللَّحْمِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحَيَوَانُ : لِأَنَّ فِيهِ لَحْمًا ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ لُبِّ الْجَوْزِ بِالْجَوْزِ ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ بِقُشُورِ الْجَوْزِ ، وَبِمِثْلِهِ يُجَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ الْآخَرِ .

فَصْلٌ : فَإِنْ صَحَّ مَا ذَكَرْنَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْحَيَوَانِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْكُولًا ، أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ : فَإِنْ كَانَ مَأْكُولًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِاللَّحْمِ بِحَالٍ ، سَوَاءٌ كَانَ اللَّحْمُ مِنْ جِنْسِهِ كَلَحْمِ الْغَنَمِ بِالْغَنَمِ ، أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ كَلَحْمِ الطَّيْرِ بِالْغَنَمِ ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بَيْعُ لَحْمِ الْجَزُورِ بِالْعُصْفُورِ ، وَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ بِالسَّمَكِ ، وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي السَّمَكِ ، هَلْ هُوَ صِنْفٌ مِنَ اللَّحْمِ أَمْ لَا ؟ وَفِي جَوَازِ بِيعِ اللَّحْمِ بِالسَّمَكِ الْحَيِّ أَيْضًا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّهُ لَحْمٌ لِحَيَوَانٍ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ : لِأَنَّ حَيَّ السَّمَكِ فِي حُكْمِ مَيِّتِهِ بِخِلَافِ الْحَيَوَانِ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْحَيَوَانُ غَيْرَ مَأْكُولٍ كَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ بَيْعِهِ بِاللَّحْمِ ، فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ بِاللَّحْمِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ : لِعُمُومِ النَّهْيِ ، وَبِهِ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ زَعَمَ أَنَّ دَلِيلَ الْمَسْأَلَةِ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ : لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَيْسَ فِيهِ لَحْمٌ مَأْكُولٌ ، وَبِهَذَا قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ زَعَمَ أَنَّ دَلِيلَ الْمَسْأَلَةِ اتِّبَاعُ الْقِيَاسِ . فَأَمَّا بَيْعُ الشَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ إِذَا قِيلَ إِنَّ طَرِيقَ الْمَسْأَلَةِ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ : لِأَنَّ السُّنَّةَ خَصَّتِ اللَّحْمَ دُونَ الشَّحْمِ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ إِذَا قِيلَ إِنَّ طَرِيقَهَا الْقِيَاسُ : لِأَنَّ فِي الْحَيَوَانِ شَحْمًا ، وَكَذَا بَيْعُ الْحَيَوَانِ بِالْكَبِدِ وَالطِّحَالِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ . وَأَمَّا بَيْعُ الْحَيَوَانِ بِالْجِلْدِ وَالْعَظْمِ فَيَجُوزُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ : لِأَنَّ الْجِلْدَ وَالْعَظْمَ مَا لَا رِبَا فِيهِ بِخِلَافِ اللَّحْمِ ، وَكَذَا بِيعُ الْبَيْضِ بِالدَّجَاجِ يَجُوزُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا بِخِلَافِ اللَّحْمِ : لِأَنَّ اللَّحْمَ بَعْضُ الْحَيَوَانِ ، وَلَيْسَ الْبَيْضُ بَعْضُ الدَّجَاجِ ، وَكَذَا بَيْعُ اللَّبَنِ بِالْحَيَوَانِ يَجُوزُ ، فَإِنْ قِيلَ : فَاللَّبَنُ عِنْدَ الْعَرَبِ لَحْمٌ : رُوِيَ أَنَّ نَبِيًّا شَكَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الضَّعْفَ ، فَأَوْحَى إِلَيْهِ أَنْ كُلِ اللَّحْمَ بِاللَّحْمِ . يَعْنِي : اللَّبَنَ بِاللَّحْمِ ، وَقَالَ الشَّاعِرُ :

نُطْعِمُهَا الْلَحْمَ إِذَا عَزَّ الشَّجَرْ وَالْخَيْلُ فِي إِطْعَامِهَا اللَّحْمَ ضَرَرْ يَعْنِي أَنْ تُطْعِمَهَا اللَّبَنَ عِنْدَ عِزَّةِ الْمَرْعَى ، فَلَمَّا كَانَ اللَّبَنُ عِنْدَ الْعَرَبِ لَحْمًا ، ثُمَّ ثَبَتَ بِالشَّرْعِ أَنَّ بَيْعَ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ لَا يَجُوزُ ، فَلِذَا بَيْعُ اللَّبَنِ بِالْحَيَوَانِ لَا يَجُوزُ . قِيلَ : إِنَّمَا سَمَّتِ الْعَرَبُ اللَّبَنَ لَحْمًا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ وَالْمَجَازِ ، وَلَيْسَ بِلَحْمٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، لَا فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي اللُّغَةِ ، أَلَا تَرَى إِلَى جَوَازِ بَيْعِ اللَّحْمِ بِاللَّبَنِ مُتَفَاضِلًا ، وَأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ لَبَنًا ، وَالْأَحْكَامُ إِذَا عُلِّقَتْ بِالْأَسْمَاءِ تَنَاوَلَتِ الْحَقِيقَةَ دُونَ الْمَجَازِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ ثَمَرَةِ الْحَائِطِ يُبَاعُ أَصْلُهُ مِنْ كَثْبٍ

إِذَا ابْتَاعَ أَرْضًا ذَاتَ نَخْلٍ مُثْمِرٍ أَوِ ابْتَاعَ نَخْلًا فَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ

بَابُ ثَمَرَةِ الْحَائِطِ يُبَاعُ أَصْلُهُ مِنْ كَثْبٍ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَالِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ بَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ يُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ " ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) فَإِذَا جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِبَارَ حَدًّا لِمِلْكِ الْبَائِعِ فَقَدْ جَعَلَ مَا قَبْلَهُ حَدًا لِمِلْكِ الْمُشْتَرِي " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا ابْتَاعَ أَرْضًا ذَاتَ نَخْلٍ مُثْمِرٍ أَوِ ابْتَاعَ نَخْلًا فَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ . وَقَدْ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ مَا اتَّصَلَ بِالنَّخْلِ مِنْ سَعَفٍ وَلِيفٍ . فَأَمَّا الثَّمَرَةُ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا فِي الْعَقْدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْتَرِطَا دُخُولَهَا فِي الْبَيْعِ ، فَدَخَلَ فِيهِ اتِّفَاقًا ، مُؤَبَّرَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَشْتَرِطَا خُرُوجَهَا مِنَ الْبَيْعِ ، فَتَكُونُ خَارِجَةً مِنْهُ اتِّفَاقًا مُؤَبَّرَةً أَوْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ ، لَكِنْ إِنْ كَانَتْ مُؤَبَّرَةً لَمْ يَلْزَمِ اشْتِرَاطُ قَطْعِهَا : لِأَنَّهَا خَارِجَةٌ بِالْعَقْدِ وَالشَّرْطُ تَأْكِيدٌ ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ : لَمْ يَجُزْ إِخْرَاجُهَا مِنَ الْعَقْدِ إِلَّا بِاشْتِرَاطِ الْقَطْعِ : لِأَنَّهَا تَخْرُجُ مِنَ الْعَقْدِ بِالشَّرْطِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ حُكْمُ مَا اسْتُوْفِيَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ مِنَ اشْتِرَاطِ الْقَطْعِ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مُؤَبَّرَةً فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الْبَيْعِ . وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُؤَبَّرَةِ لَا تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ بِأَنَّهَا مِمَّا يَصِحُّ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِأَصْلِهِ فِي الْبَيْعِ كَالْمُؤَبَّرَةِ . قَالَ : وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَتْبَعُهُ الثَّمَرَةُ الْمُؤَبَّرَةُ ، فَوَجَبَ أَلَّا يَتْبَعَهُ الثَّمَرَةُ غَيْرُ الْمُؤَبَّرَةِ كَالرَّهْنِ . قَالَ : وَلِأَنَّ الثَّمَرَةَ نَمَاءٌ كَالزَّرْعِ ، فَلَمَّا حَالَ الزَّرْعُ فِي كَوْنِهِ بَذْرًا وَظُهُورِهِ بَقْلًا فِي أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ ، وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حَالُ الثَّمَرَةِ فِي كَوْنِهَا فِي الطَّلْعِ وَظُهُورِهَا مُؤَبَّرَةً

مِنَ الطَّلْعِ فِي أَلَّا يَدْخُلَ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لِلنَّخْلِ ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ نَمَاءٌ لَوْ كَانَ ظَاهِرًا لَمْ يَتْبَعْ أَصْلَهُ فِي الْبَيْعِ فَوَجَبَ إِذَا كَانَ كَامِنًا لَمْ يَتْبَعْهُ فِي الْبَيْعِ كَالزَّرْعِ . بِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ انْتَفَى ذَلِكَ الْحُكْمُ عَنِ الْوَصْفِ الْآخَرِ ، فَلَمَّا جَعَلَ الْآبَارَ حَدًّا لِمِلْكِ الْبَائِعِ فَقَدْ جُعِلَ مَا قَبْلَهُ حَدًّا لِمِلْكِ الْمُشْتَرِي . الثَّانِي : أَنَّهُ جَعَلَهَا لِلْبَائِعِ بِشَرْطِ التَّأْبِيرِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُجْعَلَ لَهُ مَعَ عَدَمِ التَّأْبِيرِ . وَدَلِيلٌ ثَالِثٌ مِنَ الْخَبَرِ وَهُوَ أَنَّ نَصَّهُ عَلَى التَّأْبِيرِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّنْبِيهُ عَلَى غَيْرِهِ ، أَوِ التَّمَيُّزُ مِنْ غَيْرِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّنْبِيهُ : لِأَنَّ حُكْمَ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ أَخْفَى مِنْ حُكْمِ مَا قَدْ أُبِّرَ ، وَالتَّنْبِيهُ مَا يَقْصِدُ بِهِ بَيَانُ الْأَخْفَى : لِيَدُلَّ عَلَى حُكْمِ الْأَظْهَرِ ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّمَيُّزُ عَنْ غَيْرِهِ ، وَأَنَّ الْحُكْمَ مُخْتَصٌّ بِهِ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْشَدَ قَوْلَ الْأَنْصَارِيِّ حِينَ حَرَّمَ عَلَيْهِ بَعْضُ مُلُوكِ الْجَاهِلِيَّةِ ثَمَرَةَ نَخْلَةٍ لَهُ : جَدَدْتَ جَنَى نَخْلَتِي ظَالِمًا وَكَانَ الثِّمَارُ لِمَنْ قَدْ أَبَرَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَكَانَ الثِّمَارُ لِمَنْ قَدْ أَبَرَ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ إِثْبَاتًا لِهَذَا الْحُكْمِ . كَمَا أَنْشَدَ قَوْلَ الْأَعْشَى : وَهُنَّ شَرُّ غَالِبٍ لِمَنْ غَلَبَ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَهُنَّ شَرُّ غَالِبٍ لِمَنْ غَلَبَ " . تَثْبِيتًا لِهَذَا الْقَوْلِ . وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَبَايَعَا نَخْلًا ثُمَّ اخْتَصَمَا فِي الثَّمَرَةِ ، فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِيَ لَقَّحَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّلْقِيحَ ، وَهُوَ التَّأْبِيرُ عِلْمٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ فِي تَمْلِيكِ الثَّمَرَةِ ، فَإِنْ لَقَّحَ الْبَائِعُ كَانَتِ الثَّمَرَةُ لَهُ ، وَإِنْ لَقَّحَ الْمُشْتَرِي اقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ لَهُ . وَلِأَنَّ ثَمَرَةَ النَّخْلِ إِذَا كَانَتْ طَلْعًا بِمَثَابَةِ الْحَمْلِ إِذَا كَانَ مُسْتَجِنًّا ، فَإِذَا أَبْرَزَتْ مِنْ طَلْعِهَا كَانَتْ كَالْحَمْلِ إِذَا انْفَصَلَ عَنْ أُمِّهِ ، فَلَمَّا كَانَ الْحَمْلُ قَبْلَ انْفِصَالِهِ تَبَعًا لِأُمِّهِ فِي الْبَيْعِ اقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ قَبْلَ بُرُوزِهَا مِنَ الطَّلْعِ تَبَعًا لِلنَّخْلِ فِي الْبَيْعِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ نَمَاءٌ مُسْتَجِنٌّ فِي أَصْلِهِ فَوَجَبَ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لِأَصْلِهِ كَالْحَمْلِ فِي الْبَطْنِ وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ .

فَإِنْ قِيلَ : الْمَعْنَى فِي الْحَمْلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ ، فَلِذَلِكَ كَانَ تَبَعًا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الثَّمَرَةُ : لِأَنَّهُ يَجُوزُ إِفْرَادُهَا بِالْعَقْدِ ، فَلَمْ يَكُنْ تَبَعًا . قِيلَ : هَذَا فَاسِدٌ بِأَبْوَابِ الدَّارِ . ثُمَّ يُقَالُ : الْحَمْلُ جَارٍ مَجْرَى أَبْعَاضِ الْأُمِّ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزِ الْعَقْدُ عَلَى أَبْعَاضِهَا لَمْ يَجُزْ عَلَى حَمْلِهَا ، وَالثَّمَرَةُ قَبْلَ التَّأْبِيرِ تَجْرِي مَجْرَى أَغْصَانِ الشَّجَرَةِ ، فَلَمَّا جَازَ الْعَقْدُ عَلَى أَغْصَانِهَا جَازَ عَلَى ثَمَرِهَا ، وَلِأَنَّهَا ثَمَرَةٌ تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهَا فَجَازَ أَنْ تَكُونَ تَبَعًا لِأَصْلِهَا فِي بَعْضِ أَحْوَالِهَا قِيَاسًا عَلَى نَوْرِ الثِّمَارِ قَبْلَ انْعِقَادِهَا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمُؤَبَّرَةِ ، فَالْمَعْنَى فِي الْمُؤَبَّرَةِ أَنَّهَا ظَاهِرَةٌ ، فَلَمْ تَكُنْ تَبَعًا كَالْوَلَدِ ، وَغَيْرُ الْمُؤَبَّرَةِ كَامِنَةٌ فَكَانَتْ تَبَعًا كَالْحَمْلِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الرَّهْنِ ، قُلْنَا : فِي الرَّهْنِ مَذْهَبَانِ : أَحَدُهُمَا : يَتْبَعُ الرَّهْنَ مَا كَانَ غَيْرَ مُؤَبَّرٍ ، فَعَلَى هَذَا سَقَطَ السُّؤَالُ . وَالثَّانِي : لَا يَتْبَعُ ، فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي الرَّهْنِ أَنَّهُ لَمَّا ضَعُفَ عَنْ أَنْ تَتْبَعَهُ الثَّمَرَةُ الْحَادِثَةُ ضَعُفَ عَنْ أَنْ تَتْبَعَهُ الثَّمَرَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الزَّرْعِ ، فَالْمَعْنَى فِي الزَّرْعِ أَنَّهُ مُسْتَوْدَعٌ فِي الْأَرْضِ ، وَلَيْسَ بِحَادِثٍ مِنْهَا فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ تَبَعًا لَهَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الثَّمَرَةُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا طَلْعُ الْفُحُولِ قَبْلَ تَأْبِيرِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : كَوْنُهُ تَابِعًا لِلْعَقْدِ دَاخِلًا فِي الْبَيْعِ كَطَلْعِ الْإِنَاثِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ ، أَلَّا يَكُونَ تَابِعًا وَلَا يَدْخُلَ فِي الْبَيْعِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ طَلْعِ الْإِنَاثِ أَنَّ طَلْعَ الْإِنَاثِ لَا يُؤْخَذُ إِلَّا بَعْدَ إِبَارِهِ وَتَنَاهِيهِ بُسْرًا وَرَطْبًا ، وَطَلَعَ الْفُحُولِ يُؤْخَذُ قَبْلَ إِبَارِهِ ، وَيَكُونُ حَالُ تَنَاهِيهِ طَلْعًا . وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخْرِجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي طَلْعِ الْإِنَاثِ ، هَلْ يُقَاسُ عَلَى الْحَمْلِ قِيَاسُ تَحْقِيقٍ أَوْ قِيَاسُ تَقْرِيبٍ ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : قِيَاسُ تَحْقِيقٍ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَصِيرُ طَلْعُ الْفُحُولِ مُؤَبَّرًا بِالتَّشْقِيقِ وَالظُّهُورِ . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ قِيَاسُ تَقْرِيبٍ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ ، فَعَلَى هَذَا يَصِيرُ طَلْعُ الْفُحُولِ مُؤَبَّرًا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْعُقُودُ الَّتِي يَمْلِكُ بِهَا النَّخْلَ الْمُثْمِرَ عَلَى أَرْبَعَةٍ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ عَلَى وَجْهِ الْمُرَاضَاةِ ، كَالْبَيْعِ ، وَالصُّلْحِ ، وَالصَّدَاقِ ، فَهَذِهِ الْعُقُودُ تَتْبَعُهَا الثَّمَرَةُ غَيْرُ الْمُؤَبَّرَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْمُرَاضَاةِ ، كَالْمَبِيعِ إِذَا اسْتَرْجَعَ بِحُدُوثِ

الْفَلَسِ ، فَهَلْ تَكُونُ الثَّمَرَةُ الَّتِي لَمْ تُؤَبِّرْ تَبَعًا لَهُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ يَذْكُرَانِ فِي الْفَلَسِ ، وَكَالرَّهْنِ إِذَا بِيعَ جَبْرًا عَلَى الرَّهْنِ ، هَلْ يُبَاعُ مَعَهُ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ مِنَ الثَّمَرَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ لَكِنَّهُ عَلَى وَجْهِ الْمُرَاضَاةِ ، كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ ، فَهَلْ تَكُونُ الثَّمَرَةُ الَّتِي لَمْ تُؤَبَّرْ تَبَعًا لَهُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ يُذْكَرَانِ فِي الْهِبَةِ . وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ : مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ ، وَلَمْ يَكُنْ مَأْخُوذًا عَلَى وَجْهِ الْمُرَاضَاةِ ، كَالطَّلَاقِ إِذَا اسْتَرْجَعَ بِهِ نِصْفَ الْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَلَا تَكُونُ الثَّمَرَةُ دَاخِلَةً فِيهِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ ، وَكَالْوَالِدِ إِذَا رَجَعَ فِيمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ ، لَمْ يَكُنْ لِلْوَالِدِ اسْتِرْجَاعُ الثَّمَرَةِ مِنْهُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَأَقَلُّ الْإِبَارِ أَنْ يُؤَبَّرَ شَيْءٌ مِنْ حَائِطِهِ ، وَإِنْ قَلَّ وَإِنْ لَمْ يُؤَبَّرِ الَّذِي إِلَى جَنْبِهِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى مَا أُبِّرَ كُلُّهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا أَبَّرَ الْحَائِطَ أَوْ نَخْلَةً مِنْهُ كَانَ تَأْبِيرًا لِجَمِيعِهِ ، وَصَارَ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ مِنَ الْحَائِطِ فِي حُكْمِ مَا قَدْ أُبِّرَ مِنْهُ فِي كَوْنِهِ لِلْبَائِعِ ، وَخُرُوجِهِ مِنَ الْبَيْعِ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ بَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ " وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّأْبِيرُ فِي جَمِيعِهِ أَوْ بَعْضِهِ ، وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ التَّأْبِيرِ فِي كُلِّ نَخْلَةٍ مَشَقَّةٌ ، وَفِي تَبْعِيضِ الثَّمَرَةِ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي اخْتِلَافٌ ، سَوَاءٌ مُشَارَكَةً فَجَعَلَ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ تَبَعًا لِمَا قَدْ أُبِّرَ فِي خُرُوجِهِ مِنَ الْبَيْعِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا جَعَلْتُمْ مَا قَدْ أُبِّرَ تَبَعًا لِمَا لَمْ يُؤَبَّرْ فِي دُخُولِهِ فِي الْبَيْعِ . قُلْ : لِأَنَّ الْمُؤَبَّرَةَ ظَاهِرَةٌ ، وَغَيْرَ الْمُؤَبَّرَةِ بَاطِنَةٌ ، وَقَدِ اسْتَقَرَّ فِي الشَّرْعِ أَنْ يَكُونَ الْبَاطِنُ تَبَعًا لِلظَّاهِرِ ، وَلَا يَكُونُ الظَّاهِرُ تَبَعًا لِلْبَاطِنِ . أَلَا تَرَى أَنَّ مَا بَطَنَ مِنْ أَسَاسِ الْحَائِطِ ، وَرُؤُوسِ الْأَجْذَاعِ تَبَعٌ لِمَا ظَهَرَ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ ، وَلَا يَكُونُ مَا ظَهَرَ تَبَعًا لِمَا بَطَنَ فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ تَأْبِيرَ بَعْضِ النَّخْلِ تَأْبِيرٌ لِجَمِيعِ النَّخْلِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ النَّخْلِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَوْعًا وَاحِدًا أَوْ أَنْوَاعًا . فَإِنْ كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا فَتَأْبِيرُ نَخْلَةٍ مِنْهُ كَتَأْبِيرِ جَمِيعِهِ . وَإِنْ كَانَ أَنْوَاعًا فَتَأْبِيرُ نَوْعٍ مِنْهُ ، فَهَلْ يَكُونُ تَأْبِيرًا لِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ ، أَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ ، وَأَنَّ تَأْبِيرَ أَحَدِ الْأَنْوَاعِ لَا يَكُونُ تَأْبِيرًا لِجَمِيعِ الْأَنْوَاعِ : لِأَنَّ تَلَاحُقَ النَّوْعِ الْوَاحِدِ مُتَقَارِبٌ وَتَلَاحُقَ الْأَنْوَاعِ الْمُخْتَلَفِ مُتَبَاعِدٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ تَأْبِيرَ النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنَ النَّخْلِ تَأْبِيرٌ

لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ النَّخْلِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ خَوْفِ الِاخْتِلَافِ ، وَسُوءِ الْمُشَارَكَةِ ، وَأَنَّهُ رُبَّمَا اتَّفَقَ تَأْبِيرُ الْأَنْوَاعِ الْمُخْتَلِفَةِ ، وَاخْتَلَفَ تَأْبِيرُ النَّوْعِ الْوَاحِدِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا جَرَى عَلَى جَمِيعِ الْحَائِطِ حُكْمُ التَّأْبِيرِ ، وَجَعَلَ الثَّمَرَةَ لِلْبَائِعِ خَارِجَةً مِنَ الْبَيْعِ ، فَأَطْلَعَتِ النَّخْلَةُ بَعْدَ ذَلِكَ طَلْعًا مُسْتَحْدَثًا نُظِرَ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ طَلْعِ الْعَامِ الْمُسْتَقْبَلِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي ، وَإِنْ كَانَ مِنْ طَلْعِ الْعَامِ الْمَاضِي تَأَخَّرَ ثُمَّ أَطْلَعَ بَعْدَ تَأْبِيرِ مَا تَقَدَّمَ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي لِحُدُوثِهِ عَلَى مِلْكِهِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّهُ يَكُونُ لِلْبَائِعِ : لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ تَبَعًا لِمَا قَدْ أَبَّرَ خَوْفًا مِنْ سُوءِ الْمُشَارَكَةِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا لَمْ يَطْلَعْ تَبَعًا لِمَا قَدْ أَطْلَعَ خَوْفًا أَيْضًا مِنْ سُوءِ الْمُشَارَكَةِ . وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ أَنَّ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ يَصِحُّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ وَيَلْزَمُ فِيهِ الشَّرْطُ ، فَجَازَ أَنْ يَصِيرَ تَبَعًا لِمَا قَدْ أُبِّرَ فِي الْعَقْدِ . وَمَا لَمْ يَطْلَعْ لَا يَصِحُّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ وَلَا يَلْزَمْ فِيهِ الشَّرْطُ ، فَلَمْ يَصِرْ تَبَعًا لِمَا قَدِ اسْتَثْنَاهُ الْعَقْدُ ، وَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ تَعْلِيلًا صَحِيحًا ، لِجَازَ بَيْعُ مَا لَمْ يُخْلَقْ مِنَ الثِّمَارِ تَبَعًا لِمَا قَدْ خُلِقَ ، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَمْ يَبْدُو صَلَاحُهُ تَبَعًا لِمَا بَدَا صَلَاحُهُ ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى وَهَاءِ قَوْلِهِ وَفَسَادِ تَعْلِيلِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا كَانَ لَهُ حَائِطَانِ مُحْرَزَانِ فَبَاعَهُمَا وَقَدْ أُبَّرَتْ ثَمَرَةُ أَحَدِهِمَا ، وَلَمْ تُؤَبَّرْ ثَمَرَةُ الْآخَرِ ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَائِطَيْنِ حُكْمُ نَفْسِهِ لِامْتِيَازِهِمَا ، وَتَكُونُ الثَّمَرَةُ الْمُؤَبَّرَةُ لِلْبَائِعِ وَثَمَرَةُ الْحَائِطِ الَّذِي لَمَّ يُؤَبَّرْ لِلْمُشْتَرِي . وَلَوْ كَانَ حَائِطًا وَاحِدًا فَأُبِّرَتْ ثَمَرَةُ مُقَدَّمِهِ وَلَمْ تُؤَبَّرْ ثَمَرَةُ مُؤَخَّرِهِ ، فَإِنْ بَاعَ جَمِيعَ الْحَائِطِ كَانَ كُلُّ الثَّمَرَةِ فِي حُكْمِ الْمُؤَبَّرَةِ ، وَإِنْ أَفْرَدَ الْعَقْدَ عَلَى إِحْدَى الْحِصَّتَيْنِ نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ عَلَى مُقَدَّمِ الْحَائِطِ الَّذِي قَدْ أَبَّرَ فَثَمَرَتُهُ لِلْبَائِعِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مُؤَخَّرِ الْحَائِطِ الَّذِي لَمْ يُؤَبَّرْ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لِلْبَائِعِ أَيْضًا : لِأَنَّ الْحَائِطَ وَاحِدٌ ، وَتَأْبِيرُ بَعْضِهِ تَأْبِيرٌ لِجَمِيعِهِ ، فَيَصِيرُ الْمُؤَخَّرُ الَّذِي لَمْ يُؤَبَّرْ فِي حُكْمِ الْمُقَدَّمِ الَّذِي قَدْ أُبِّرَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَكُونُ لِلْمُشْتَرِي : لِأَنَّ إِفْرَادَ الْمُؤَخَّرِ بِالْعَقْدِ يَجْعَلُهُ فِي حُكْمِ الْحَائِطِ الْمُحْرَزِ ، فَلَا يَكُونُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ فِي التَّأْبِيرِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ تَشَقَّقَ طَلْعُ إِنَاثِهِ ، أَوْ شَيْءٌ مِنْهُ فَهُوَ فِي مَعْنَى مَا أُبِّرَ كُلُّهُ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا التَّأْبِيرُ للثمرة : حقيقته فَهُوَ التَّلْقِيحُ ، وَالتَّلْقِيحُ هُوَ أَنْ يُشَقَّقَ طَلْعُ الْإِنَاثِ ، وَيُوضَعَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ طَلْعِ الْفُحُولِ : لِيَشْتَدَّ بِرَائِحَتِهِ وَيَقْوَى ، فَلَا يَلْحَقُهُ الْفَسَادُ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ ، وَصَحَّتْ فِيهِ التَّجْرِبَةُ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا دَخَلَ الْمَدِينَةَ رَأَى الْأَنْصَارَ يُؤَبِّرُونَ النَّخْلَ ، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرُوهُ بِهِ ، فَقَالَ : لَوْ تَرَكُوهَا لَصَلُحَتْ ، فَتَرَكُوهَا فَتَغَيَّرَتْ . فَقِيلَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : " مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَإِلَيْكُمْ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ فَإِلَيَّ " . فَلَوْ تَشَقَّقَ طَلْعُ الْإِنَاثِ ، وَلَمْ يُلَقَّحْ بِطَلْعِ الْفُحُولِ صَحَّ التَّأْبِيرُ ، وَخَرَجَتْ مِنَ الْعَقْدِ : لِأَنَّ التَّلْقِيحَ رُبَّمَا تُرِكَ فَصَلُحَتِ الثَّمَرَةُ ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ أَنْوَاعِ النَّخْلِ مَا يَكُونُ تَرْكُ تَلْقِيحِهِ أَصْلَحَ لِثَمَرَتِهِ . فَلَوْ لَمْ يَتَشَقَّقِ الطَّلْعُ بِنَفْسِهِ لَكِنْ شَقَّقَهُ أَرْبَابُهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ الْإِدْرَاكِ وَزَمَانِ الْحَاجَةِ كَانَ تَأْبِيرًا ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ وَفِي غَيْرِ زَمَانِ الْحَاجَةِ لَمْ يَكُنْ تَأْبِيرًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنْ كَانَ فِيهَا فُحُولُ نَخْلٍ بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ الْإِنَاثُ ، فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ ، وَهِيَ قَبْلَ الْإِبَارِ وَبَعْدَهُ فِي الْبَيْعِ فِي مَعْنَى مَا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ مِنْ أَنَّ كُلَّ ذَاتِ حَمْلٍ مِنْ بَنِي آدَمَ وَمِنَ الْبَهَائِمِ بِيعَتْ فَحَمْلُهَا تَبَعٌ لَهَا كَعُضْوٍ مِنْهَا : لِأَنَّهُ لَمْ يُزَايِلْهَا ، فَإِنْ بِيعَتْ بَعْدَ أَنْ وَلَدَتْ ، فَالْوَلَدُ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ طَلْعَ الْفُحُولِ إِذَا تَشَقَّقَ كَانَ مُؤَبَّرًا ، وَقَبْلَ تَشَقُّقِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَكُونُ مُؤَبَّرًا كَطَلْعِ الْإِنَاثِ . وَالثَّانِي : يَصِيرُ فِي حُكْمِ الْمُؤَبَّرِ لِأَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْغَالِبِ طَلْعًا . فَإِذَا تَبَايَعَا نَخْلًا فِيهَا فُحُولٌ وَإِنَاثٌ ، فَإِنْ أَبَّرَ طَلْعَ الْإِنَاثِ كَانَ طَلْعُ الْفُحُولِ تَبَعًا لَهُ سَوَاءٌ تَشَقَّقَ أَوْ لَمَ يَتَشَقَّقْ . وَلَوْ أَبَّرَ طَلْعَ الْفُحُولِ إِمَّا بِالتَّشَقُّقِ أَوْ بِظُهُورِ الطَّلْعِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، وَلَمْ يُؤَبَّرْ شَيْءٌ مِنْ طَلْعِ الْإِنَاثِ ، فَهَلْ يَصِيرُ طَلْعُ الْإِنَاثِ تَبَعًا لَهُ فِي التَّأْبِيرِ حَتَّى يُحْكَمَ بِجَمِيعِهِ لِلْبَائِعِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَصِيرُ طَلْعُ الْإِنَاثِ تَبَعًا لِطَلْعِ الْفُحُولِ فِي التَّأْبِيرِ ، كَمَا صَارَ طَلْعُ الْفُحُولِ تَبَعًا لِطَلْعِ الْإِنَاثِ فِي التَّأْبِيرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي ، وَهُوَ أَصَحُّ : أَنَّ طَلْعَ الْإِنَاثِ لَا يَتْبَعُ طَلْعَ الْفُحُولِ ، وَإِنْ كَانَ طَلْعُ الْفُحُولِ يَتْبَعُ طَلْعَ الْإِنَاثِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ مَقْصُودَ الثِّمَارِ هُوَ طَلْعُ الْإِنَاثِ : لِأَنَّهُ يَصِيرُ بُسْرًا وَرَطْبًا وَتَمْرًا ، وَطَلْعُ الْفُحُولِ تَبَعٌ لَهُ : لِأَنَّهُ مُرَادٌ لِتَلْقِيحِهِ ، وَلَيْسَ يُقْصَدُ فِي نَفْسِهِ ، فَلِذَلِكَ صَارَ طَلْعُ الْفُحُولِ تَبَعًا لِطَلْعِ الْإِنَاثِ ، فِي التَّأْبِيرِ وَلَمْ يَصِرْ طَلْعُ الْإِنَاثِ تَبَعًا لَهُ .



فَصْلٌ : فَإِذَا أَخَذَ طَلْعُ الْفُحُولِ جَازَ بَيْعُهُ فِي قِشْرِهِ طلع الفحول : لِأَنَّ اسْتِيفَاءَهُ فِي الْقِشْرِ مِنْ صَلَاحِهِ كَالرُّمَّانِ . وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِ فِي قِشْرِهِ حَتَّى يَصِيرَ بَارِزًا ، وَلَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ لِمَا ذَكَرْنَا .

مَسْأَلَةٌ الْكُرْسُفُ إِذَا بِيعَ أَصْلُهُ كَالنَّخْلِ إِذَا خَرَجَ جَوْزُهُ وَلَمْ يَتَشَقَّقْ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي وَإِذَا تَشَقَّقَ فَهُوَ لِلْبَائِعِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَالْكُرْسُفُ إِذَا بِيعَ أَصْلُهُ كَالنَّخْلِ إِذَا خَرَجَ جَوْزُهُ وَلَمْ يَتَشَقَّقْ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي ، وَإِذَا تَشَقَّقَ فَهُوَ لِلْبَائِعِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْكُرْسُفُ فَهُوَ الْقُطْنُ بِلُغَةِ الْحِجَازِ ، وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ وَمِصْرَ وَأَطْرَافِ الْيَمَنِ وَالْحِجَازِ شَجَرٌ يُلْفَظُ عَامًا بَعْدَ عَامٍ ، وَيَكُونُ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ زَرْعًا يُحْصَدُ فِي كُلِّ عَامٍ ، فَتَكَلَّمَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى حُكْمِهِ فِي بِلَادِهِ ، فَإِذَا كَانَ الْقُطْنُ فِي بِلَادٍ يَكُونُ شَجَرًا كَانَ مُنَزَّلًا فِي أَحْوَالِهِ تَنْزِيلَ النَّخْلِ : لِأَنَّهُ فِي كِمَامٍ يَنْشَقُّ عَنْهُ ، فَإِذَا بِيعَ شَجَرُ الْقُطْنِ مَعَ الْأَرْضِ أَوْ مُفْرَدًا عَنِ الْأَرْضِ ، وَكَانَ حَمْلُهُ سَاقِطًا أَوْ وَرْدًا أَوْ جَوْزًا مُنْعَقِدًا ، فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي تَبَعٌ لِأَصْلِهِ كَثَمَرِ النَّخْلِ إِذَا كَانَ طَلْعًا لَمْ يُؤَبَّرْ ، وَإِنْ كَانَ جَوْزُهُ قَدْ تَشَقَّقَ وَقَطْنُهُ قَدْ ظَهَرَ فَهُوَ لِلْبَائِعِ لَا يَتْبَعُ أَصْلَهُ ، كَثَمَرِ النَّخْلِ إِذَا أُبِّرَ . فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْقُطْنُ فِي بِلَادٍ زَرْعًا بيعه ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ مُفْرَدًا عَنِ الْأَرْضِ ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْقَطْعَ ، وَإِذَا بِيعَتِ الْأَرْضُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ نَبَاتُ الْقُطْنِ ، وَلَا مَا فِيهِ مِنْ وَرْدٍ وَجَوْزٍ كَسَائِرِ الزُّرُوعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ النَّبَاتَ ضَرْبَانِ شَجَرٌ وَزَرْعٌ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَيُخَالِفُ الثِّمَارَ مِنَ الْأَعْنَابِ وَغَيْرِهَا النَّخْلُ ، فَتَكُونُ كُلُّ ثَمَرَةٍ خَرَجَتْ بَارِزَةً وَتُرَى فِي أَوَّلِ مَا تَخْرُجُ كَمَا تُرَى فِي آخِرِهِ فَهُوَ فِي مَعْنَى ثَمَرِ النَّخْلِ بَارِزًا مِنَ الطَّلْعِ ، فَإِذَا بَاعَهُ شَجَرًا مُثْمِرًا فَهُوَ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ لِأَنَّ الثَّمَرَ فَارَقَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْدَعًا فِي الشَّجَرِ كَمَا يَكُونُ الْحَمْلُ مُسْتَوْدَعًا فِي الْأَمَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجَمْلَتُهُ أَنَّ النَّبَاتَ ضَرْبَانِ : شَجَرٌ وَزَرْعٌ . فَأَمَّا الشَّجَرُ فَهُوَ مَا كَانَ عَلَى سَاقٍ فَلَا يَخْلُو حَالَ حَمْلِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَقْصُودَهُ الْوَرَقُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَقْصُودَهُ الْوَرْدُ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مَقْصُودَهُ الثَّمَرُ . فَأَمَّا مَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْوَرَقَ فَكَالْحِنَّا وَالتُّوتِ . فَأَمَّا الْحِنَّا فَإِنَّ وَرَقَهُ يَبْدُو بَعْدَ تَفَرُّعِ أَغْصَانِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي عُقْدَةٍ يَنْفَتِحُ عَنْهَا ، فَإِذَا بَدَا وَرَقُهُ بَعْدَ التَّفَرُّعِ صَارَ فِي حُكْمِ النَّخْلِ الْمُؤَبَّرِ فَيَكُونُ لِلْبَائِعِ . وَأَمَّا شَجَرُ الْفِرْصَادُ فَنَوْعَانِ :

نَوْعٌ مِنْهُ يُعْرَفُ بِالشَّامِيِّ يُقْصَدُ مِنْهُ ثَمَرُهُ دُونَ وَرَقِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ ثَمَرِ الْأَشْجَارِ إِذَا طَلَعَ ، فَلَا اعْتِبَارَ بِظُهُورِ وَرَقِهِ . - وَنَوْعٌ مِنْهُ يُقْصَدُ مِنْهُ وَرَقُهُ دُونَ ثَمَرِهِ ، وَوَرَقُهُ يَبْدُو فِي عُقْدَةٍ ثُمَّ يَنْفَتِحُ عَنْهَا ، فَإِنْ كَانَ فِي عُقْدَةٍ فَهُوَ تَبَعٌ لِأَصْلِهِ ، وَإِنْ كَانَ عُقْدَةً قَدِ انْشَقَّتْ وَظَهَرَ وَرَقُهَا لَمْ يُتْبَعْ أَصْلُهُ ، وَكَانَ لِلْبَائِعِ ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي كُلِّ مَا قُصِدَ مِنْهُ الْوَرَقُ . وَأَمَّا مَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْوَرْدَ فَيَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ : - نَوْعٌ مِنْهُ يَبْدُو بَارِزًا كَالْيَاسَمِينِ ، فَهَذَا إِذَا وُجِدَ الْوَرَقُ فِيهِ لَمْ يُتْبَعْ أَصْلُهُ . - وَنَوْعٌ مِنْهُ يَبْدُو مُسْتَجِنًّا إِمَّا بِعَقْدٍ يَنْفَتِحُ عَنْهَا ، أَوْ بِغِطَاءٍ يَنْكَشِفُ عَنْهُ كَالْوَرْدِ الْمُطْلَقِ ، فَإِنْ كَانَ فِي كِمَامِهِ لَمْ يَبْرُزْ فَهُوَ تَبَعٌ لِأَصِلِهِ ، وَإِنْ بَرَزَ عَمَّا تَحْتَهُ لَمْ يَتْبَعْ أَصْلَهُ وَكَانَ لِلْبَائِعِ . وَأَمَّا مَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الثَّمَرَ ، فَعَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَبْدُوَا بَارِزًا مُنْعَقِدًا كَالتِّينِ ، فَهَذَا وُجُودُهُ فِي شَجَرِهِ كَالتَّأْبِيرِ لَا يُتْبَعُ أَصْلُهُ وَيَكُونُ لِلْبَائِعِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا يَبْدُو فِي كِمَامٍ يَتَشَقَّقُ عَنْهُ ، كَالْجَوْزِ عَلَيْهِ قِشْرَتَانِ : إِحْدَاهُمَا عُلْيَا تَنْشَقُّ عَنْهُ فِي شَجَرِهِ ، وَالثَّانِيَةُ سُفْلَى يُؤْخَذُ مَعَهَا وَيُدَّخَرُ بِهَا ، فَهَذَا فِي حُكْمِ طَلْعِ النَّخْلِ ، فَإِذَا كَانَ فِي قِشْرَتِهِ الْعُلْيَا فَهُوَ تَبَعٌ لِأَصْلِهِ ، وَيَكُونُ لِلْمُشْتَرِي . وَإِنِ انْشَقَّتْ عَنْهُ الْقِشْرَةُ الْعُلْيَا ، وَبَرَزَتِ الْقِشْرَةُ السُّفْلَى ، لَمْ يُتْبَعْ أَصْلُهُ وَكَانَ لِلْبَائِعِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : مَا يَبْدُو وَرْدًا وَنَوْرًا ، ثُمَّ يَنْعَقِدُ حَبًّا كَالتُّفَّاحِ وَالْمِشْمِشِ وَالرُّمَّانِ وَالسَّفَرْجَلِ وَالْكُمَّثْرَى وَمَا فِي مَعْنَاهُ ، فَإِذَا كَانَ وَرْدًا وَنَوْرًا ، فَهُوَ تَبَعٌ لِأَصِلِهِ وَيَكُونُ لِلْمُشْتَرِي ، وَإِنِ انْعَقَدَ وَتَسَاقَطَ نَوْرُهُ لَمْ يُتْبَعْ أَصْلُهُ وَكَانَ لِلْبَائِعِ ، وَكَذَلِكَ اللَّوْزُ فِي مَعْنَاهُ . فَأَمَّا الْكَرْمُ فَنَوْعَانِ : مِنْهُ مَا يُورِدُ ثُمَّ يَنْعَقِدُ ، وَمِنْهُ مَا يَبْدُو حَبًّا مُنْعَقِدًا فَيَتَعَيَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ النَّوْعَيْنِ بِحُكْمِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَظَائِرِهِ ، فَهَذَا حُكْمُ الشَّجَرِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَجَرٌ مِثْلَ بَصَلِ النَّرْجِسِ وَالزَّعْفَرَانِ إِلَّا أَنَّهُ يَبْقَى سِنِينَ فِي مَوْضِعِهِ فَيَكُونُ كَشَجَرِ الْوَرْدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا . وَأَمَّا الزَّرْعُ فَضَرْبَانِ من ناحية البيع : ضَرْبٌ إِذَا حُصِدَ لَمْ يَبْقَ لَهُ أَصِلٌ يُسْتَخْلَفُ كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ ، فَهَذَا لَا يُتْبَعُ أَصْلُهُ إِلَّا بِالشَّرْطِ ، وَلَا يَجُوزُ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ إِلَّا بِشَرْطِ الْقَطْعِ . وَضَرْبٌ آخَرُ يُجَزُّ مِرَارًا وَيُسْتَخْلَفُ كَالْعَلَفِ ، وَهُوَ الْقَتُّ ، وَأَنْوَاعٌ مِنَ الْبُقُولِ فَيَكُونُ مَا طَلَعَ مِنْهُ وَظَهَرَ لِلْبَائِعِ لَا يَتْبَعُ الْأَصْلَ ، وَهَلْ يَنْتَظِرُ بِمَا طَلَعَ تَنَاهِيَ جِذَاذِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُنْتَظَرُ بِهِ تَنَاهِيَ جِذَاذِهِ ، فَإِذَا بَلَغَ الْحَدَّ الَّذِي جَرَتِ الْعَادَةُ بِجِذَاذِهِ عَلَيْهِ فَقَدِ انْتَهَى مِلْكُ الْبَائِعِ ، وَيَكُونُ مَا بَعْدُ تِلْكَ الْجُّذَّةِ بِكَمَالِهَا لِلْمُشْتَرِي .

وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَا أُطْلِعَ مِنْ ثِمَارِ النَّخْلِ بَعْدَ الْعَقْدِ لِلْبَائِعِ تَبَعًا لِمَا أُطْلِعَ مِنْهَا وَأُبِّرَ . وَالْوَجْهِ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُنْتَظَرُ بِهِ كَمَالُ جَدَادِهِ ، بَلْ يَكُونُ لِلْبَائِعِ مَا ظَهَرَ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يُسْتَكْمَلْ ، وَيُؤْمَرْ بِجِدَادِهِ وَإِنْ لَمْ يُسْتَكْمَلْ ، وَيَكُونُ الْأَصْلُ الْبَاقِي وَمَا اسْتَخْلَفَ طُلُوعَهُ مِنْ بَعْدِ الْعَقْدِ تَبَعًا لِلْأَصْلِ . وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَا أَطْلَعَ مِنْ ثِمَارِ النَّخْلِ مِنْ بَعْدِ الْعَقْدِ يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي ، وَلَا يَكُونُ تَبَعًا لِمَا أُطْلِعَ فِيهِ وَأُبِّرَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَمَعْقُولٌ إِذَا كَانَتِ الثَّمَرَةُ لِلْبَائِعِ أَنَّ عَلَى الْمُشْتَرِي تَرْكَهَا فِي شَجَرِهَا إِلَى أَنْ تَبْلُغَ الْجِدَادَ أَوِ الْقِطَافَ أَوِ اللَّقَاطَ فِي الشَّجَرِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا صَارَتْ ثَمَرَةُ النَّخْلَةِ لِلْبَائِعِ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : - إِمَّا أَنْ تَصِيرَ لَهُ بِالتَّأْبِيرِ ، أَوْ بِالشَّرْطِ قَبْلَ التَّأْبِيرِ ، فَإِنْ صَارَتْ لَهُ بِالشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ قَبْلَ التَّأْبِيرِ فَعَلَى الْبَائِعِ قَطْعُهَا فِي الْحَالِ ، وَلَا يُلْزِمُ الْمُشْتَرِي تَرَكَهَا عَلَى نَخْلِهِ إِلَّا بِاخْتِيَارِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ : لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْبَائِعِ لَهَا إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى شَرْطِ الْقَطْعِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَهَذَا الشَّرْطُ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْتِزَامُ مُوجِبِهِ . وَإِنْ صَارَتِ الثَّمَرَةُ لَهُ بِالتَّأْبِيرِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَلِلْبَائِعِ تَرْكُهَا عَلَى نَخْلِهَا وَشَجَرِهَا إِلَى أَوَانِ جِذَاذِهَا وَلِقَاطِهَا وَلَا يَلْزَمُ قَطْعُهَا وَلَا لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ تَرْكِهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَلَى الْبَائِعِ قَطْعُهَا ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُشْتَرِي تَرْكُهَا : احْتِجَاجًا بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ مَا ابْتَاعَهُ ، فَهُوَ يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ النَّخْلِ كَمَا يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ الدَّارِ ، فَلَمَّا كَانَ لَوِ ابْتَاعَ دَارًا وَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ نَقْلُ مَا فِيهَا مِنْ مَتَاعِهِ لِيُسَلِّمَ الْمُشْتَرِيَ مَنْفَعَةَ دَارِهِ ، كَذَلِكَ لَوِ ابْتَاعَ نَخْلًا وَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ جِذَاذُ مَا عَلَيْهَا مِنْ ثِمَارِهِ لِيُسَلِّمَ الْمُشْتَرِيَ مَنْفَعَةَ نَخْلِهِ ، ثُمَّ أَخْذُ الثَّمَرَةِ أَوْلَى : لِأَنَّ تَرْكَهَا مُضِرٌّ ، وَتَرَكُ الْمَتَاعِ غَيْرُ مُضِرٍّ . وَلِأَنَّهُ لَوِ اسْتَحَقَّ الْبَائِعُ تَرْكَ الثَّمَرَةِ لَكَانَ قَدِ اسْتَثْنَى مَنْفَعَةَ مَا بَاعَهُ ، كَمَنْ بَاعَ دَارًا وَاشْتَرَطَ سُكْنَاهَا ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا فَاسِدًا كَانَ مَا أَدَّى إِلَيْهِ فَاسِدًا . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ الْمَبِيعَ إِذَا كَانَ مَشْغُولًا بِمِلْكِ الْبَائِعِ وَجَبَ عَلَيْهِ نَقْلُهُ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَاسْتَقَرَّ الْعُرْفُ عَلَيْهِ ، أَلَا تَرَى لَوْ بَاعَ دَارَهُ لَيْلًا لَمْ يُلْزَمِ الِانْتِقَالَ عَنْهَا فِي الْحَالِ حَتَّى يُصْبِحَ اعْتِبَارًا بِالْعَادَةِ وَالْعُرْفِ ، وَلَوْ كَانَتِ الدَّارُ مَمْلُوءَةً بِمَتَاعِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُجْهِدَ نَفْسَهُ فِي نَقْلِهِ فِي يَوْمِهِ حَتَّى يَنْقُلَهُ فِي الْأَيَّامِ اعْتِبَارًا بِالْعَادَةِ وَالْعُرْفِ ، وَجَبَ إِذَا بَاعَهُ نَخْلًا أَلَّا يُلْزِمَهُ أَخْذَ ثَمَرِهَا فِي الْحَالِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى وَقْتِ الْجِذَاذِ ، اعْتِبَارًا بِالْعَادَةِ وَالْعُرْفِ . وَلِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِالْعَادَةِ وَالْعُرْفِ فِي حُكْمِ مَا ثَبَتَ بِالشَّرْطِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَثْمَانَ الْمُطْلَقَةَ تُحْمَلُ عَلَى غَالِبِ النَّقْدِ كَمَا لَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالشَّرْطِ ، وَالْعُرْفِ فِي الثِّمَارِ تَرَكَهَا إِلَى وَقْتِ الْجِذَاذِ ، فَلَمَّا

كَانَ لَوْ شَرَطَ الْبَائِعُ تَرْكَهَا إِلَى وَقْتِ الْجِذَاذِ لَزِمَ ، وَجَبَ إِذَا كَانَ الْعُرْفُ أَنْ تُتْرَكَ إِلَى وَقْتِ الْجِذَاذِ أَنْ تَلْتَزِمَ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنَ الدَّارِ فَهُمَا سَوَاءٌ ، وَالْعُرْفُ فِيهِمَا مُعْتَبَرٌ ، لَكِنَّ الْعُرْفَ فِي الدَّارِ أَنْ يَنْقُلَ الْبَائِعُ مَتَاعَهُ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ ، وَفِي الثِّمَارِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْجِذَاذِ ، ثُمَّ يَقُولُ مَنْفَعَةُ الدَّارِ تَبْطُلُ بِإِقْرَارِ الْمَتَاعِ فِيهَا ، وَلَا تَبْطُلُ مَنْفَعَةُ النَّخْلِ بِإِقْرَارِ الثَّمَرَةِ عَلَيْهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مُسْتَثْنَاةٌ كَالسُّكْنَى ، فَهُوَ أَنَّ الْأُصُولَ قَدْ فَرَّقَتْ بَيْنَ اسْتِثْنَاءِ الْمَنْفَعَةِ بِالْعَقْدِ وَبَيْنَ اسْتِثْنَائِهَا بِالشَّرْطِ . أَلَّا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ أَمَةً ، وَاسْتَثْنَى الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا لَمْ يَجُزْ وَكَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا ، وَلَوْ كَانَتْ مُزَوَّجَةً كَانَ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا مُسْتَثْنًى وَالْعَقْدُ صَحِيحٌ ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ . فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ اسْتِيفَاءَ الثَّمَرَةِ إِلَى أَوَانِ الْجِذَاذِ : فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا تُؤْخَذُ ثَمَرًا فَإِلَى أَوَّلِ أَوْقَاتِ جِذَاذِهَا ثَمَرًا ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا تُؤْخَذُ رَطْبًا فَإِلَى أَوَّلِ أَوْقَاتِ لِقَاطِهَا رَطْبًا ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا تُؤْخَذُ بُسْرًا فَإِلَى أَوَّلِ قَطْعِهَا بُسْرًا ، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي الْكَرْمِ وَالشَّجَرِ فَنُقِرُّ الْكَرْمَ إِلَى وَقْتِ الْقِطَافِ وَالشَّجَرَ إِلَى وَقْتِ اللِّقَاطِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَإِذَا كَانَ لَا يُصْلِحُهَا إِلَّا السَّقْيُ فَعَلَى الْمُشْتَرِي تَخْلِيَةُ الْبَائِعِ وَمَا يَكْفِي مِنَ السَّقْيِ ، وَإِنَّمَا لَهُ مِنَ الْمَاءِ مَا فِيهِ صَلَاحُ ثَمَرِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا اسْتَحَقَّ الْبَائِعُ تَرْكَ الثَّمَرَةِ عَلَى نَخْلِ الْمُشْتَرِي إِلَى وَقْتِ الْجِذَاذِ الذي يجب على المشتري في هذه الحالة ، فَقَدْ تَحْتَاجُ الثَّمَرَةُ إِلَى مَا يُصْلِحُهَا مِنَ السَّقْيِ ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي تَمْكِينُهُ مِنَ السَّقْيِ ، لِمَا قَدِ اسْتَحَقَّهُ مِنْ إِصْلَاحِ ثَمَرَتِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ السَّقْيِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا أَوْ مُتَعَذِّرًا . فَإِنْ كَانَ السَّقْيُ مُمْكِنًا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ نَافِعًا لِلنَّخْلِ وَالثَّمَرَةِ ، فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْقِيَ وَعَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يُمَكِّنَهُ ، وَمُؤْنَةُ السَّقْيِ عَلَى الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي : لِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِ ثَمَرَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ لِنَخْلِ الْمُشْتَرِي فِيهِ صَلَاحٌ : لِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ حَالِ السَّقْيِ صَلَاحُ الثَّمَرَةِ وَالنَّخْلُ تَبَعٌ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ أَنْ يَبِيعَ صَاحِبُ النَّخْلِ ثَمَرَتَهُ فَيَجِبُ سَقْيُهَا عَلَى صَاحِبِ النَّخْلِ دُونَ مُشْتَرِي الثَّمَرَةِ ، أَنَّ مَنْ بَاعَ ثَمَرَةً وَجَبَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهَا بِمَنَافِعِهَا ، وَمِنْ مَنَافِعِهَا السَّقْيُ فَوَجَبَ عَلَى بَائِعِهَا دُونَ الْمُشْتَرِي لَهَا ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الثَّمَرَةُ الْحَاصِلَةُ لِبَائِعِ النَّخْلِ بِالتَّأْبِيرِ مَضْمُونَةً عَلَى صَاحِبِ النَّخْلِ بِالتَّسْلِيمِ ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ السَّقْيُ ، فَلَوِ امْتَنَعَ الْبَائِعُ فِي مَسْأَلَتِنَا مِنْ سَقْيِ ثَمَرَتِهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ ، وَقِيلَ لِمُشْتَرِي النَّخْلِ إِنْ أَرَدْتَ سَقْيَ نَخْلِكَ فَاسْقِهِ وَلَا نُجْبِرُكَ عَلَيْهِ .

وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ السَّقْيُ مُضِرًّا بِالنَّخْلِ وَالثَّمَرَةِ ، فَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ النَّخْلِ أَنْ يَسْقِيَ كَانَ لِصَاحِبِ الثَّمَرَةِ أَنْ يَمْنَعَهُ : لِأَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ وَيَضُرُّ غَيْرَهُ . وَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الثَّمَرَةِ أَنْ يَسْقِيَ كَانَ لِصَاحِبِ النَّخْلِ أَنْ يَمْنَعَهُ : لِأَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ وَيَضُرُّ غَيْرَهُ . فَلَوْ قَالَ صَاحِبُ الثَّمَرَةِ : أُرِيدُ أَنْ آخُذَ الْمَاءَ الَّذِي كُنْتُ أَسْتَحِقُّهُ لِسَقْيِ ثَمَرَتِي فَأَسْقِي بِهِ غَيْرَهَا مِنَ الثِّمَارِ أَوِ الزَّرْعِ لَمْ يَجُزْ ، وَكَذَا لَوْ أَخَذَ ثَمَرَتَهُ قَبْلَ وَقْتِ جِذَاذِهَا ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَاءَ الَّذِي كَانَ يَسْتَحِقُّهُ لِسَقْيِهَا إِلَى وَقْتِ الْجِذَاذِ : لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَسْتَحِقُّ مِنَ الْمَاءِ مَا فِيهِ صَلَاحُ تِلْكَ الثَّمَرَةِ دُونَ غَيْرِهَا . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ السَّقْيُ نَافِعًا لِلنَّخْلِ مُضِرًّا بِالثَّمَرَةِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، هَلْ لِصَاحِبِ النَّخْلِ أَنْ يَسْقِيَ مَعَ مَا فِي السَّقْيِ مِنْ مَضَرَّةِ الثَّمَرَةِ ؟ فَحُكِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ قَالَ : لِصَاحِبِ الثَّمَرَةِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ السَّقْيِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَضَرَّةِ الثَّمَرَةِ ، فَإِذَا مَنَعَهُ كَانَ لِصَاحِبِ النَّخْلِ فَسْخُ الْعَقْدِ لِمَا يَلْحَقُهُ فِي مَنْعِ السَّقْيِ مِنَ الْمَضَرَّةِ . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ : لِصَاحِبِ النَّخْلِ أَنْ يَسْقِيَ وَيُجْبِرَ صَاحِبَ الثَّمَرَةِ عَلَى تَمْكِينِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ حُقُوقِ مِلْكِهِ وَلَا خِيَارَ ، ثُمَّ مُؤْنَةُ السَّقْيِ هَاهُنَا عَلَى صَاحِبِ النَّخْلِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْمَنْفَعَةِ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَكُونَ السَّقْيُ نَافِعًا لِلثَّمَرَةِ مُضِرًّا بِالنَّخْلِ ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لِصَاحِبِ الثَّمَرِ أَنْ يَسْقِيَ لِصَلَاحِ ثَمَرَتِهِ ، وَلِصَاحِبِ النَّخْلِ فَسْخُ الْبَيْعِ : لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْإِضْرَارِ بِنَخْلِهِ . وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَهُ أَنْ يَسْقِيَ ثَمَرَتَهُ جَبْرًا ، وَلَا خِيَارَ لِصَاحِبِ النَّخْلِ . فَلَوِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ السَّقْيِ لَمْ يُرْجَعْ فِيهِ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَسُئِلَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ بِالثَّمَرَةِ ، فَمَا ذَكَرُوا أَنَّهُ قَدْرَ كِفَايَتِهَا كَانَ عَلَى صَاحِبِ النَّخْلِ تَمْكِينُهُ مِنْهُ دُونَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ أَوِ التَّقْصِيرِ عَنْهُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَاءُ مُتَعَذَّرًا فَلَا يَخْلُو حَالُ تَعَذُّرِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِإِعْوَازِ الْمَاءِ أَوْ لِفَسَادِ آلَتِهِ . فَإِنْ كَانَ تَعَذُّرُ الْمَاءِ لِإِعْوَازِهِ سَقَطَ حُكْمُ السَّقْيِ ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الثَّمَرَةِ فِي تَرْكِهَا عَلَى النَّخْلِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ التي تم بيعها : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا بِغَيْرِ سُقْيٍ يَضُرُّ بِالنَّخْلِ وَبِهَا ، فَقَطْعُهَا وَاجِبٌ ، وَلِرَبِّ النَّخْلِ أَنْ يُجْبِرَ صَاحِبَ الثَّمَرَةِ عَلَى قَطْعِهَا : لِأَنَّ فِيهِ مَضَرَّةً بِالنَّخْلِ وَلَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلثَّمَرَةِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا غَيْرَ مُضِرٍّ بِالنَّخْلِ وَلَا بِهَا ، فَلَهُ تَرْكُ الثَّمَرَةِ إِلَى وَقْتِ جِذَاذِهَا : لِأَنَّهُ لَا مَضَرَّةَ عَلَى صَاحِبِ النَّخْلِ فِي تَرْكِهَا .

وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا مُضِرًّا بِالثَّمَرَةِ دُونَ النَّخْلِ ، فَصَاحِبُ الثَّمَرَةِ بِالْخِيَارِ فِي أَخْذِ الثَّمَرَةِ أَوْ تَرْكِهَا ، وَلَا يُقَالُ لِصَاحِبِ النَّخْلِ : لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهَا . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا مُضِرًّا بِالنَّخْلِ دُونَ الثَّمَرَةِ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لِرَبِّ الثَّمَرَةِ أَنْ يُقِرَّ الثَّمَرَةَ عَلَى النَّخْلِ إِلَى وَقْتِ الْجِذَاذِ ، وَإِنْ ضَرَّ بِنَخْلِ الْمُشْتَرِي لِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِ الثَّمَرَةِ وَدُخُولِ الْمُشْتَرِي مَعَهُ عَلَى بَصِيرَةٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : عَلَى رَبِّ الثَّمَرَةِ أَخْذُ ثَمَرَتِهِ وَلِلْمُشْتَرِي إِجْبَارُهُ عَلَى قَطْعِهَا لِيُزِيلَ عَنْهُ ضَرَرَ تَرْكِهَا . فَأَمَّا إِنْ تَعَذَّرَ الْمَاءُ لِفَسَادِ الْآلَةِ ، أَوْ لِفَسَادِ الْمَجَارِي ، أَوْ لِطَمِّ الْآبَارِ ، فَأَيُّهُمَا لَحِقَهُ بِتَأْخِيرِ السَّقْيِ ضَرَرٌ كَانَ لَهُ إِصْلَاحُ مَا يُوَصِّلُهُ إِلَى الْمَاءِ . فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُضِرًّا بِالنَّخْلِ وَجَبَ عَلَى مُشْتَرِي النَّخْلِ أَنْ يُزِيلَ الضَّرَرَ عَنْ نَخْلِهِ بِسَوْقِ الْمَاءِ إِلَى نَخْلِهِ ، وَلَا يُجْبِرُ رَبَّ الثَّمَرَةِ عَلَى قَطْعِ ثَمَرَتِهِ . وَإِنْ كَانَ مُضِرًّا بِالثَّمَرَةِ لَزِمَهُ ذَلِكَ أَوْ يَقْطَعُهَا . وَإِنْ كَانَ مُضِرًّا بِهِمَا جَمِيعًا لَزِمَ ذَلِكَ صَاحِبُ النَّخْلِ لِمَا ذَكَرْنَا ، إِلَّا أَنْ يُبَادِرَ إِلَى قَطْعِ ثَمَرَتِهِ فَيَسْقُطَ عَنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَإِذَا كَانَتِ الشَّجَرَةُ مِمَّا تَكُونُ فِيهِ الثَّمَرَةُ ظَاهِرَةً ، ثُمَّ تَخْرُجُ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الْخَارِجَةُ ثَمَرَةَ غَيْرِهَا ، فَإِنْ تَمَيَّزَ فَلِلْبَائِعِ الثَّمَرَةُ الْخَارِجَةُ وَلِلْمُشْتَرِي الْحَادِثَةُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَمَيَّزُ ، فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ إِلَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ الْبَائِعُ الثَّمَرَةَ كُلَّهَا ، فَيَكُونُ قَدْ زَادَهُ حَقًا لَهُ ، أَوْ يَتْرُكَهُ الْمُشُتَرِي لِلْبَائِعِ فَيَعْفُو لَهُ عَنْ حَقِّهِ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْبَيْعَ مَفْسُوخٌ ، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَفِي الْإِمْلَاءِ عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ مَفْسُوخٌ ، وَهَكَذَا قَالَ فِي بَيْعِ الْبَاذِنْجَانِ فِي شَجَرِهِ وَالْخِرْبِزِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأُمِّ مَسْأَلَتَيْنِ نَقَلَ الْمُزَنِيُّ إِحْدَاهُمَا ، وَأَغْفَلَ الْمُقَدِّمَةَ مِنْهُمَا ، فَكَانَ الْأَوْلَى الْبِدَايَةَ بِمَا أَغْفَلَهُ لِيَكُونَ جَوَابُ الْأُخْرَى مَبْنِيًّا عَلَيْهَا . وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ بَاعَ ثَمَرَةَ شَجَرٍ أَوْ بِطِّيخَ مِزَاحٍ أَوْ حَمْلَ بَاذِنْجَانَ فَلَمْ يَأْخُذْهُ الْمُشْتَرِي مِنْ شَجَرِهِ ، وَلَا لَقَطَ الْبِطِّيخَ مِنْ مِزَاحِهِ حَتَّى حَدَثَتْ ثَمَرَةٌ أُخْرَى ، فَالْحَادِثَةُ مِلْكُ الْبَائِعِ لَا يَمْلِكُهَا الْمُشْتَرِي . فَإِنْ كَانَتِ الْحَادِثَةُ تَتَمَيَّزُ عَنِ الْأُولَى بِلَوْنٍ أَوْ صِغَرٍ أَوْ نُضْجٍ ، أَخَذَ الْمُشْتَرِي الثَّمَرَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ ، وَأَخَذَ الْبَائِعُ الثَّمَرَةَ الْحَادِثَةَ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا نِزَاعٌ . وإِنْ كَانَتِ الْحَادِثَةُ لَا تَتَمَيَّزُ عَنِ الْأُولَى فَقَدْ صَارَ الْمَبِيعُ مُخْتَلِطًا بِغَيْرِهِ ، فَفِي الْبَيْعِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ : لِأَنَّ الْمَبِيعَ قَدِ اخْتَلَطَ بِمَا لَمْ يَتَمَيَّزْ عَنْهُ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْقَبْضِ ، فَأَوْقَعَ ذَلِكَ جَهَالَةً فِي الْبَيْعِ فَأَبْطَلَهُ ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَحْدِثَ هِبَةَ مَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعَقْدُ لِيَصِحَّ لَهُ الْعَقْدُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَبْطُلُ ، لَكِنْ يُقَالُ لِلْبَائِعِ : اسْمَحْ لِلْمُشْتَرِي بِالثَّمَرَةِ الْحَادِثَةِ ، فَإِنْ سَمَحَ لَهُ بِهَا لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ قَبُولُهَا ، وَإِنْ شَحَّ الْبَائِعُ بِهَا وَأَقَامَا عَلَى الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ فِيهَا فَسَخَ الْحَاكِمُ الْبَيْعَ بَيْنَهُمَا . وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ امْتِيَازَ الْبَائِعِ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ إِلَى وَقْتِ الْقَبْضِ يَمْنَعُ مِنْ طُرُقِ الْفَسَادِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْقَبْضِ كَالِاسْتِهْلَاكِ ، وَسَمَاحَةُ الْبَائِعِ بِالْحَادِثَةِ لَا تَجْرِي مَجْرَى الْهِبَةِ الَّتِي لَا يَلْزَمُ قَبُولُهَا : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا نَفْيُ الْجَهَالَةِ وَتَصْحِيحُ الْعَقْدِ ، فَشَابَهَتِ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ كَالْكِبَرِ وَالسِّمَنِ . وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ بَاعَ أَرْضًا ذَاتَ شَجَرٍ مُثْمِرٍ ، أَوْ بَاعَ الشَّجَرَ وَحْدَهُ وَفِيهِ ثَمَرٌ ، فَحَكَمَ بِالثَّمَرِ لِلْبَائِعِ لِأَجْلِ التَّأْبِيرِ ، وَبِالشَّجَرِ مَعَ الْأَرْضِ لِلْمُشْتَرِي ، فَحَدَثَتْ ثَمَرَةٌ أُخْرَى قَبْلَ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْبَائِعُ ثَمَرَتَهُ ، فَإِنْ كَانَتِ الْحَادِثَةُ تَتَمَيَّزُ عَنِ الْأُولَى بِصِغَرٍ أَوْ بِلَوْنٍ ، أَوْ نُضْجٍ كَانَتِ الْأُولَى لِلْبَائِعِ وَالْحَادِثَةُ لِلْمُشْتَرِي ، وَالْبَيْعُ عَلَى حَالِهِ . وَإِنْ كَانَتِ الْحَادِثَةُ لَا تَتَمَيَّزُ عَنِ الْأُولَى ، نَقَلَ الْمُزَنِيُّ فِي الْبَيْعِ قَوْلَيْنِ كَالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ يَمْنَعُ مِنْ تَخْرِيجِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَيَنْسُبُ الْمُزَنِيَّ إِلَى الْغَلَطِ فِي نَقْلِهِ ، وَيَقُولُ : الْبَيْعُ صَحِيحٌ قَوْلًا وَاحِدًا . لِأَنَّ اخْتِلَاطَ الْحَادِثَةِ بِالْمُتَقَدِّمَةِ اخْتِلَاطٌ فِي غَيْرِ الْمَبِيعِ : لِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الثَّمَرَةِ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ ، وَمَا حَدَثَ مِنَ الثَّمَرَةِ لَا يُوجَدُ وَقْتَ الْعَقْدِ ، فَلَا يُوقِعُ ذَلِكَ فَسَادًا فِي الْعَقْدِ . وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ ، وَطَائِفَةٌ يُخَرِّجُونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ لِمَا ذَكَرْنَا . وَالثَّانِي : جَائِزٌ ، وَيُقَالُ لِلْمُشْتَرِي : اسْمَحْ بِالْحَادِثَةِ ، فَإِنْ سَمَحَ لَزِمَ الْبَيْعُ ، وَإِنَّ شَحَّ بِهَا ، قِيلَ لِلْبَائِعِ : أَتَسْمَحُ بِالْمُتَقَدِّمَةِ لِلْمُشْتَرِي ، فَإِنْ سَمَحَ بِهَا ( لَهُ ) لَزِمَ الْبَيْعُ ، وَإِنْ شَحَّ وَتَنَازَعَا فَسَخَ الْحَاكِمُ الْبَيْعَ بَيْنَهُمَا . وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ خَيْرَانَ أَصَحُّ جَوَابًا وَتَعْلِيلًا ، وَإِنْ كَانَ نَقْلُ الْمُزَنِيِّ صَحِيحًا ، وَالْإِذْعَانُ لِلْحَقِّ أَوْلَى مِنْ نَصْرِ مَا سِوَاهُ ، وَعَلَى مَا يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُ ابْنِ خَيْرَانَ إِنْ تَرَاضَيَا وَاتَّفَقَا عَلَى قَدْرِ

الْحَادِثَةِ مِنَ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَإِلَّا فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ وَلَا يُفْسَخُ الْبَيْعُ : لِأَنَّهُ لَا يَجْعَلُ لِمَا حَدَثَ تَأْثِيرًا فِي الْبَيْعِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ : هَكَذَا قَالَ ( يَعْنِي الشَّافِعِيَّ ) فِيمَنْ بَاعَ قِرْطًا جَزَّهُ عِنْدَ بُلُوغِ الْجِزَازِ ، فَتَرَكَهُ الْمُشْتَرِي حَتَّى زَادَ ، كَانَ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ فِي أَنْ يَدَعَ لَهُ الْفَضْلَ الَذِي لَهُ بِلَا ثَمَنٍ أَوْ يَنْقُضَ الْبَيْعَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِيمَنِ ابْتَاعَ قِرْطًا جَزَّهُ يَعْنِي عَلَفًا بِشَرْطِ الْجِزَازِ ، أَوْ مَا جَرَى مَجْرَاهُ مِنَ الْبُقُولِ الَّتِي تُبَاعُ جَزًّا ، فَأَخَّرَ الْمُشْتَرِي جَزَّهُ حَتَّى طَالَتْ فَقَدْ حَدَثَتْ زِيَادَةٌ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ ، فَضَمَّهَا الْمُزَنِيُّ إِلَى مَسْأَلَةِ الثَّمَرَةِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ : الْبَيْعُ جَائِزٌ قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّ طُولَ الْعَلَفِ زِيَادَةٌ لَا تَتَمَيَّزُ مِثْلَ كِبَرِ الثَّمَرَةِ ، فَلَمَّا كَانَتِ الثَّمَرَةُ إِذَا أَخَّرَ الْمُشْتَرِي قَطْعَهَا حَتَّى كَبِرَتْ لَمْ يَفْسُدِ الْبَيْعُ ، وَكَانَتِ الزِّيَادَةُ لَهُ : لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ لَا تَتَمَيَّزُ ، وَجَبَ فِي الْعَلَفِ إِذَا أَخَّرَ جَزَّهُ حَتَّى طَالَ أَلَّا يَفْسُدَ الْبَيْعُ ، وَتَكُونُ الزِّيَادَةُ لَهُ لِأَنَّهَا لَا تَتَمَيَّزُ . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا : إِنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ كَالثَّمَرَةِ الْمَبِيعَةِ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِثَمَرَةٍ حَادِثَةٍ وَهَذَا أَصَحُّ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ ، مِنْ كِبَرِ الثَّمَرَةِ وَطُولِ الْعَلَفِ ، أَنَّ كِبَرَ الثَّمَرَةِ لَا يَمْتَازُ عَنْ أَصْلِهِ ، وَلَا يُوجَدُ بَعْدَ قَطْعِ الثَّمَرَةِ ، وَطُولَ الْعَلَفِ مُتَمَيِّزٌ وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا ، وَيَحْدُثُ بَعْدَ جِزَازِ الْعَلَفِ فَافْتَرَقَا . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ وَيَتَرَاجَعَانِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَبْطُلُ لَكِنْ يُقَالُ لِلْبَائِعِ أَتَسْمَحُ لِلْمُشْتَرِي بِالزِّيَادَةِ ، فَإِنْ سَمَحَ بِهَا لَزِمَ الْبَيْعُ ، وَإِنْ شَحَّ بِهَا وَأَقَامَا عَلَى التَّنَازُعِ ، فَسَخَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا وَتَرَاجَعَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " كَمَا لَوْ بَاعَهُ حِنْطَةً ، فَانْثَالَتْ عَلَيْهَا حِنْطَةٌ ، فَلَهُ الْخِيَارُ فِي أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ الزِّيَادَةَ أَوْ يَفْسَخَ لِاخْتِلَاطِ مَا بَاعَ بِمَا لَمْ يَبِعْ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) هَذَا عِنْدِي أَشْبَهُ بِمَذْهَبِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ قَبَضَ : لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عَلَيْهِ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ مَا دَامَ فِي يَدَيْهِ وَلَا يُكَلَّفُ مَا لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَيْهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا : فَإِذَا كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ لَمْ يَضُرَّ الْبَيْعَ شَيْءٌ لِتَمَامِهِ ، وَهَذَا الْمُخْتَلِطُ لَهُمَا يَتَرَاضَيَانِ فِيهِ بِمَا شَاءَا : إِذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُولُ لَا أَدْرِي مَا لِي فِيهِ ، وَإِنْ تَدَاعَيَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي كَانَتِ الثَّمَرَةُ فِي يَدَيْهِ وَالْآخَرُ مُدَّعٍ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِيمَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا مُخْتَلِطًا بِطَعَامٍ لِلْبَائِعِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَبْضِ .

وَالثَّانِي : بَعْدَهُ . فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الطَّعَامِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ ، أَوْ غَيْرَ مَعْلُومِ الْقَدْرِ ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْلُومِ الْقَدْرِ ، كَانَ كَالثَّمَرَةِ الْمَبِيعَةِ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِثَمَرَةٍ حَادِثَةٍ ، فَيَكُونُ فِي الْبَيْعِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ . وَالثَّانِي : جَائِزٌ . فَإِنْ تَرَاضَيَا وَاتَّفَقَا وَإِلَّا فُسِخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا . وَإِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَعْلُومَ الْكَيْلِ ، فَيَعْلَمَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ كَيْلِ الْمَبِيعِ قَدْرَ مَا لَيْسَ بِمَبِيعٍ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ غَيْرَ مَعْلُومِ الْكَيْلِ وَغَيْرُ الْمَبِيعِ مَعْلُومَ الْقَدْرِ ، فَيَعْلَمُ بِقَدْرِ اسْتِيفَاءِ كَيْلِ مَا لَيْسَ بِمَبِيعٍ قَدْرَ الْمَبِيعِ . فَإِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مَعْلُومَ الْقَدْرِ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ ، فَقَدْ صَارَ مُخْتَلِطَ الْعَيْنِ مُتَمَيِّزَ الْقَدْرِ ، وَكَانَ تَمَيُّزُ الْقَدْرِ يَمْنَعُ مِنَ الْجَهَالَةِ ، وَهُوَ أَقْوَى الْمَقْصُودِينَ مِنْهُ فَصَحَّ الْبَيْعُ ، وَكَانَ اخْتِلَاطُ الْعَيْنِ مُغَيِّرًا لِلصِّفَةِ مَعَ تَقَارُبِ الْأَجْزَاءِ فَصَارَ عَيْبًا يُوجِبُ الْخِيَارَ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ جَائِزًا وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ ، فَإِنْ فَسَخَ رَجَعَ بِالثَّمَنِ ، وَإِنْ أَقَامَ صَارَ شَرِيكًا لِلْبَائِعِ فِيهِ عَلَى قَدْرِ الْحِصَّتَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ الطَّعَامَانِ مُتَمَاثِلِيِ الْقِيمَةِ تَقَاسَمَاهُ كَيْلًا ، وَإِنْ كَانَا مُخْتَلِفَيِ الْقِيمَةِ بِيعَ وَكَانَا شَرِيكَيْنِ فِي ثَمَنِهِ عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ الطَّعَامَيْنِ إِلَّا أَنْ يَتَرَاضَيَا بِقِسْمَةِ ذَلِكَ كَيْلًا عَلَى الْحِصَصِ دُونَ الْقِيَمِ فَيَجُوزُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَاطُ الطَّعَامِ بَعْدَ قَبْضِهِ ، فَالْبَيْعُ مَاضٍ لَا يَفْسُدُ لِانْبِرَامِهِ بِالْقَبْضِ . فَإِنْ قِيلَ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الطَّعَامِ إِذَا اخْتَلَطَ بَعْدَ قَبْضِهِ فَلَمْ يَبْطُلِ الْبَيْعُ فِيهِ ، وَبَيْنَ الثَّمَرَةِ إِذَا اخْتَلَطَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ فِي شَجَرِهَا فَبَطَلَ الْبَيْعُ فِيهَا ؟ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ : قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ قَبْضَ الطَّعَامِ قَدِ اسْتَقَرَّ فَانْبَرَمَتْ عِلَّةُ الْعَقْدِ ، وَقَبْضُ الثَّمَرَةِ عَلَى نَخْلِهَا وَفِي شَجَرِهَا غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ وَعِلَّةُ الْعَقْدِ لَمْ تَنْبَرِمْ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ عَطِشَتْ عَلَى نَخْلِهَا وَشَجَرِهَا بَعْدَ قَبْضِهَا وَأَضَرَّ ذَلِكَ بِهَا ، كَانَ ذَلِكَ عَيْبًا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمُشْتَرِي خِيَارَ الْفَسْخِ ، وَلَوْ كَانَ الْقَبْضُ مُسْتَقِرًّا وَالْعَقْدُ مُنْبَرِمًا ، مَا اسْتَحَقَّ بِهِ الْفَسْخَ كَمَا لَا يَسْتَحِقُّهُ فِي الطَّعَامِ بَعْدَ الْقَبْضِ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ قَدْرُ الطَّعَامِ مَعْلُومًا بِأَحَدِ الْأَوْجُهِ الَّتِي مَضَتْ تَقَاسَمَاهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .

وَإِنْ كَانَ قَدْرُ الطَّعَامِ مَجْهُولًا ، فَإِنْ تَرَاضَيَا بِشَيْءٍ اتَّفَقَا عَلَيْهِ ، جَازَ وَاقْتَسَمَاهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَإِنْ تَنَازَعَا وَاخْتَلَفَا ، نُظِرَ : فَإِنْ كَانَتْ صُبْرَةَ الْمُشْتَرِي قَدِ انْثَالَتْ عَلَى صُبْرَةِ الْبَائِعِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ فِي قَدْرِ مَا لَهُ مِمَّا لِلْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ الْيَدَ لَهُ . وَإِنَّ كَانَتْ صُبْرَةُ الْبَائِعِ قَدِ انْثَالَتْ عَلَى صُبْرَةِ الْمُشْتَرِي ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي قَدْرِ مَا لَهُ مِمَّا لِلْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ الْيَدَ لَهُ . وَقَالَ الْمُزَنِيُّ : الْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ : لِأَنَّ يَدَهُ قَدْ كَانَتْ عَلَى الطَّعَامَيْنِ مَعًا ، وَكَانَ أَعْرَفَ بِقَدْرِهِمَا مِنَ الْمُشْتَرِي الْمُسْتَحْدَثِ إِلَيْهِ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ مَا وَجَبَ اعْتِبَارُ الْيَدِ فِيهِ كَانَتِ الْيَدُ الثَّانِيَةُ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً مِنَ الْيَدِ الْمُرْتَفِعَةِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ كُلُّ أَرْضٍ بِيعَتْ فَلِلْمُشْتَرِي جَمِيعُ مَا فِيهَا مِنْ بِنَاءٍ وَأَصْلٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَكُلُّ أَرْضٍ بِيعَتْ فَلِلْمُشْتَرِي جَمِيعُ مَا فِيهَا مِنْ بِنَاءٍ وَأَصْلٍ ، وَالْأَصْلُ مَا لَهُ ثَمَرَةٌ بَعْدَ ثَمَرَةٍ مِنْ كُلِّ شَجَرٍ مُثْمِرٍ وَزَرْعٍ مُثْمِرٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنِ ابْتَاعَ أَرْضًا ذَاتَ بِنَاءٍ وَشَجَرٍ لَمْ يَخْلُ حَالُ ابْتِيَاعِهِ مِنْ ثَلَاثِ أَحْوَالٍ : إِمَّا أَنْ يَشْتَرِطَ دُخُولَ الْبَنَّاءِ وَالشَّجَرِ فِي الْبَيْعِ لَفْظًا ، فَيَدْخُلُ . وَإِمَّا أَنْ يَشْتَرِطَ خُرُوجَهُ لَفْظًا ، فَيَخْرُجُ . وَإِمَّا أَنْ يُطْلِقَ الْعَقْدَ ، وَيَقُولَ ابْتَعْتُ مِنْكَ هَذِهِ الْأَرْضَ ، فَنَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْبَيْعِ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ بِنَاءٍ وَشَجَرٍ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ ، وَنَصَّ فِي الرَّهْنِ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ بِنَاءٍ وَشَجَرٍ لَا يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ ، فَاقْتَضَى لِاخْتِلَافِ نَصِّهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى ثَلَاثِ طُرُقٍ : إِحْدَاهَا : وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ ، وَأَبِي حَفْصٍ الْوَكِيلِ ، أَنْ نَقَلُوا جَوَابَهُ فِي الْبَيْعِ إِلَى الرَّهْنِ وَجَوَابَهُ فِي الرَّهْنِ إِلَى الْبَيْعِ ، وَخَرَّجُوا الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ لِاخْتِلَافِ نَصِّهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْبِنَاءَ وَالشَّجَرَ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ وَلَا فِي الرَّهْنِ جَمِيعًا ، كَمَا لَا تَدْخُلُ الثَّمَرَةُ الْمُؤَبَّرَةُ فِي الْبَيْعِ وَلَا فِي الرَّهْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْبِنَاءَ وَالشَّجَرَ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ جَمِيعًا ، بِخِلَافِ الثَّمَرَةِ الْمُؤَبَّرَةِ : لِأَنَّ الثَّمَرَةَ الْمُؤَبَّرَةَ تُسْتَبْقَى مُدَّةَ صَلَاحِهَا ، ثُمَّ تُزَالُ عَنْ نَخْلِهَا وَشَجَرِهَا فَصَارَتْ كَالشَّيْءِ الْمُتَمَيِّزِ ، فَلَمْ تَدْخُلْ إِلَّا بِالشَّرْطِ ، وَالْبِنَاءُ وَالشَّجَرُ يُرَادُ لِلتَّأْبِيرِ ، وَالْبِنَاءُ يَجْرِي مَجْرَى أَجْزَاءِ الْأَرْضِ فَصَارَ دَاخِلًا فِي الْعَقْدِ . وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ : وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الْعَبَّاسِ ، وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَ اخْتِلَافَهُ اخْتِلَافَ نِصْفِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ :

فَجَعَلَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ مِنْ دُخُولِ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : بِعْتُكَ الْأَرْضَ بِحُقُوقِهَا ، يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ الْبِنَاءُ وَالشَّجَرُ : لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْأَرْضِ ، وَلَوْ قَالَ مِثْلَهُ فِي الرَّهْنِ لَدَخَلَ . وَجَعَلَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ مِنْ خُرُوجِ ذَلِكَ مِنَ الرَّهْنِ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهُ قَالَ : رَهَنْتُكَ الْأَرْضَ وَلَمْ يَقُلْ بِحُقُوقِهَا ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الرَّهْنِ الْبِنَاءُ وَالشَّجَرُ : لِأَنَّهُ أَطْلَقَ ، وَلَوْ فَعَلَ مِثْلَهُ فِي الْبَيْعِ لَمْ يَدْخُلْ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ . وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ : وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنْ حَمَلُوا جَوَابَهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَجَعَلُوا الْبِنَاءَ وَالشَّجَرَ دَاخِلًا فِي الْبَيْعِ بِغَيْرِ شَرْطٍ ، وَلَمْ يَجْعَلُوهُ دَاخِلًا فِي الرَّهْنِ إِلَّا بِالشَّرْطِ ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ بِفَرْقَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يُزِيلُ الْمِلْكَ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَا اتَّصَلَ بِالْمَبِيعِ تَبَعًا لَهُ لِقُوَّتِهِ ، وَعَقْدُ الرَّهْنِ يَضْعُفُ عَنْ إِزَالَةِ الْمِلْكِ ، فَلَمْ يَتْبَعْهُ مَا لَمْ يُسَمِّهِ لِضَعْفِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَا حَدَثَ فِي الْبَيْعِ لِلْمُشْتَرِي جَازَ أَنْ يَكُونَ مَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ قِبَلِ الْمُشْتَرِي ، وَلَمَّا كَانَ مَا حَدَثَ فِي الرَّهْنِ لَا يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا تَقَدَّمَ الرَّهْنَ أَوْلَى أَنْ لَا يَدْخُلَ فِي الرَّهْنِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْبِنَاءَ وَالشَّجَرَ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ ، فَكَذَا كُلُّ مَا كَانَ فِي الْأَرْضِ مُتَّصِلًا بِهَا مِنْ مُسَمَّيَاتِهَا يدخل في البيع ، سَوَاءٌ كَانَتْ آجُرًّا ، أَوْ حِجَارَةً ، أَوْ تُرَابًا - وَكَذَا تِلَالُ التُّرَابِ الَّتِي تُسَمَّى بِالْبَصْرَةِ جِبَالًا - وَجُوخَاتُهَا ، وَبَيْدَرُهَا ، وَقَدْرُهَا ، وَالْحَائِطُ الَّذِي يَحْظَرُهَا ، وَسَوَاقِيهَا الَّتِي تَشْرَبُ الْأَرْضُ مِنْهَا ، وَأَنْهَارُهَا الَّتِي فِيهَا ، وَعَيْنُ الْمَاءِ إِنْ كَانَتْ فِيهَا فَإِنَّهُ يَمْلِكُهَا . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ هَلْ يَمْلِكُ الْمَاءَ الَّذِي فِيهَا ؟ فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ : لَا يَمْلِكُهُ وَإِنَّمَا يَصِيرُ الْمَاءُ مَمْلُوكًا بِالْإِجَارَةِ ، وَلَوْ كَانَ مَمْلُوكًا مَا جَازَ لِلْمُسْتَأْجِرِ اسْتِعْمَالُهُ ، وَلَوَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي إِذَا رُدَّ غُرْمُهُ . قَالَ : وَإِنَّمَا يَكُونُ أَوْلَى بِالْمَاءِ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ ، وَأَنَّ لَهُ مَنْعَ الْغَيْرِ مِنْ دُخُولِ مِلْكِهِ ، فَلَوْ دَخَلَ إِنْسَانٌ فَأَجَارَ مِنْ مَائِهِ صَارَ مَالِكًا لَهُ ، وَإِنْ تَعَدَّى بِالدُّخُولِ . وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : قَدْ مَلَكَ الْمَاءَ الَّذِي يَنْبُعُ مِنْ أَرْضِهِ مِنْ عَيْنٍ أَوْ بِئْرٍ : لِأَنَّهُ يَحْدُثُ عَنْ مِلْكِهِ ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ تَمَلُّكُهُ فَصَارَ كَالْمَاءِ الَّذِي أَجَازَهُ فِي إِنَاءٍ ، وَلَوْ أَجَازَ مِنْهُ إِنْسَانٌ شَيْئًا لَمْ يَمْلِكْهُ ، وَاسْتَحَقَّ انْتِزَاعَهُ مِنْ يَدِهِ ، وَإِنَّمَا جَازَ لِلْمُسْتَأْجِرِ اسْتِعْمَالُهُ : لِأَنَّهُ كَالْمَاءِ دُوِّنَ لَهُ بِالْعُرْفِ ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُشْتَرِي غُرْمُهُ : لِأَنَّ حُكْمَهُ مَوْضُوعٌ عَلَى التَّوْسِعَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ الَّتِي ابْتَاعَهَا مَعْدِنٌ كَانَ دَاخِلًا فِي الْبَيْعِ ظَاهِرًا كَانَ أَوْ بَاطِنًا ، وَأَمَّا مَا فِي الْمَعْدِنِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ جَامِدًا ، كَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ وَالرَّصَاصِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ ذَائِبًا جَارِيًا ، كَالنِّفْطِ ، وَالزِّفْتِ ، وَالْقَارِ . فَإِنْ كَانَ جَامِدًا كَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ كَانَ مِلْكًا لِمَالِكِهَا ، وَإِنْ كَانَ ذَائِبًا كَالنِّفْطِ وَالزِّفْتِ وَالْقَارِ ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ لَا يُمْلَكُ إِلَّا بِالْإِجَازَةِ ، وَلَوْ خَرَجَ عَنْ أَرْضِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُ النَّاسِ مِنْهُ . وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَكُونُ مَمْلُوكًا فِي الْأَرْضِ ، لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ ، وَلَوْ خَرَجَ مِنَ الْأَرْضِ لَكَانَ لِمَالِكِهَا مَنْعُ النَّاسِ مِنْهُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا تَوَلَّدَ مِنْ أَنْهَارِ الْأَرْضِ وَعُيُونِهَا مِنَ السَّمَكِ ، فَلَا يُمْلَكُ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ مَعًا إِلَّا بِالْحِيَازَةِ ، كَمَا لَا يُمْلَكُ مَا فَرَخَ مِنَ الصَّيْدِ فِي أَرْضِهِ إِلَّا بِأَخْذِهِ ، وَإِنَّمَا لَهُ مَنْعُ النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ : لِمَا فِيهِ مِنْ دُخُولِ أَرْضِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ ، فَإِنْ أَخَذُوهُ فَقَدْ مَلَكُوهُ دُونَهُ .

فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ دُولَابٌ لِلْمَاءِ بعد البيع ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ : لِاتِّصَالِهِ بِهَا ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ كَمَالُ مَنَافِعِهَا فَجَرَى مَجْرَى أَبْوَابِ الدَّارِ الَّتِي تَدْخُلُ مَعَهَا فِي الْبَيْعِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهَا فَإِنَّمَا تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ : لِاتِّصَالِهَا بِهَا ، وَإِنَّ فِيهَا كَمَالَ مَنَافِعِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ ، كَمَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ خَشَبَةُ الزَّابُوقَةِ ، وَإِنْ سَقَتْ وَلَا بَقَرَةَ الدُّولَابِ وَإِنْ سَقَتْ . وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَفْصِلُ ، فَيَقُولُ : إِنْ كَانَ الدُّولَابُ صَغِيرًا يُمْكِنُ نَقْلُهُ صَحِيحًا عَلَى حَالِهِ بِغَيْرِ مَشَقَّةٍ ، لَمْ يَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ كَالزَّابُوقَةِ . وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا لَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ صَحِيحًا إِلَّا بِالتَّفْصِيلِ ، أَوْ بِمَشَقَّةٍ غَالِبَةٍ ، دَخَلَ فِي الْبَيْعِ : لِأَنَّهُ نُصِبَ لِلِاسْتِدَامَةِ وَالْبَقَاءِ فَجَرَى مَجْرَى الشَّجَرِ وَالْبِنَاءِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي الْأَرْضِ رَحًا لِلْمَاءِ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ بَيْتُ الرَّحَا وَبِنَاؤُهُ . فَأَمَّا حِجَارَةُ الرَّحَا فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ عُلُوًّا وَسُفْلًا : لِأَنَّهَا مِنْ تَمَامِ الْمَنَافِعِ . وَالثَّانِي : لَا تَدْخُلُ فِيهِ عُلُوًّا وَلَا سُفْلًا : لِامْتِيَازِهَا . وَالثَّالِثُ : تَدْخُلُ فِيهِ السُّفْلَى : لِاتِّصَالِهِ وَلَا تَدْخُلُ فِيهِ الْعُلْيَا لِانْفِصَالِهِ . وَأَمَّا دُولَابُ الرَّحَا الَّذِي يُدِيرُهُ الْمَاءُ فَيُدِيرُ الرَّحَا ، فَهُوَ تَبَعٌ لِلرَّحَا ، يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ بِدُخُولِهِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ بِخُرُوجِهِ ، وَإِلْحَاقُهُ بِالسُّفْلَى أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهِ بِالْعُلْيَا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا كَانَ فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرٍ مَقْطُوعٍ ، وَبِنَاءٍ مَقْلُوعٍ لا يدخل في البيع إلا بشرط ، وَعَلَفٍ مَخْزُونٍ ، وَتَمْرٍ مَلْقُوطٍ ، وَتُرَابٍ مَنْقُولٍ ، وَسِمَادٍ مَحْمُولٍ ، فَكُلُّ ذَلِكَ لِلْبَائِعِ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ إِلَّا بِالشَّرْطِ ، أَوْ يَكُونُ التُّرَابُ أَوِالسِّمَادُ قَدْ سَقَطَ فِي الْأَرْضِ وَاسْتُعْمِلَ .



فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا بَاعَهُ الْبِنَاءَ وَالشَّجَرَ ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِ الْأَرْضِ فَبَيَاضُ الْأَرْضِ الَّذِي بَيْنَ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ لَا يَخْتَلِفُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ تُبَاعَ الْأَرْضُ فَيَتْبَعُهَا الْبِنَاءُ وَالشَّجَرُ ، وَبَيْنَ أَنْ يُبَاعَ الْبِنَاءُ وَالشَّجَرُ فَلَا تَتْبَعُهُمَا الْأَرْضُ . إِنَّ الْأَرْضَ أَصِلٌ وَالْبِنَاءَ وَالشَّجَرَ فَرْعٌ ، فَإِذَا بِيعَتِ الْأَرْضُ جَازَ أَنْ يَتْبَعَهَا فَرْعُهَا ، وَإِذَا بِيعَ الْبِنَاءُ وَالشَّجَرُ لَمْ تَتْبَعْهُ الْأَرْضُ الَّتِي هِيَ أَصْلٌ . فَأَمَّا مَا كَانَ مِنَ الْأَرْضِ قَرَارًا لِلْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ ، فَفِي دُخُولِهِ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لِلْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَدْخُلُ لِمَا ذَكَرْنَا . وَالثَّانِي : يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ : لِأَنَّهُ لَا قِوَامَ لِلْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ إِلَّا بِهِ ، فَخَالَفَ بَيَاضَ الْأَرْضِ الَّذِي يَسْتَغْنِي عَنْهُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا قَالَ : بِعْتُكَ هَذَا الْبُسْتَانَ فَالْبَيْعُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْأَرْضِ ، وَيَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ الشَّجَرُ وَالْغِرَاسُ وَالنَّخْلُ وَكُلُّ مَا لَهُ مِنَ النَّبَاتِ أَصْلٌ ، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ : بِعْتُكَ هَذِهِ الْأَرْضَ : لِأَنَّ اسْمَ الْبُسْتَانِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ حَتَّى تَكُونَ ذَاتَ نَخْلٍ وَشَجَرٍ ، فَلَوْ كَانَ فِي الْبُسْتَانِ بِنَاءٌ كَانَ كَقَوْلِهِ : بِعْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ الْمَذْهَبِ : لِأَنَّ الْبُسْتَانَ قَدْ يَخْلُو مِنَ الْبِنَاءِ فَيَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ ، وَلَا يَخْلُو مِنَ الشَّجَرِ وَالْبِنَاءِ فَيَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ . وَإِنْ قَالَ : بِعْتُكَ هَذِهِ الْقَرْيَةَ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ سُودُ الْقَرْيَةِ كُلُّهُ مِنَ الْبِنَاءِ وَالْمَسَاكِنِ وَالدَّكَاكِينِ وَالْحَمَّامَاتِ ، وَمَا فِي خِلَالِ الْمَسَاكِنِ مِنَ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مَزَارِعُهَا ، وَلَا أَرْضُهَا ، وَلَا بَسَاتِينُهَا ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْأَرْضِ مَا اخْتَلَطَ بِبُنْيَانِهَا وَمَسَاكِنِهَا ، وَمَا كَانَ مِنْ أَفْنِيَةِ الْمَسَاكِنِ وَحُقُوقِهَا دُونَ غَيْرِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا إِذَا بَاعَهُ دَارًا ، وَقَالَ : بِعْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ ما يشمله البيع ، وَأَطْلَقَ ، فَقَدْ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الدَّارُ مِنْ بِنَاءٍ وَسُقُوفٍ وَسُفْلٍ وَعُلُوٍّ وَكُلِّ مَا كَانَ مُتَّصِلًا بِبُنْيَانِهَا عَلَى التَّأْبِيدِ دَاخِلًا أَوْ خَارِجًا مِنَ الْأَبْوَابِ الْمَنْصُوبَةِ وَالْأَجْنِحَةِ وَالْمَيَازِيبِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مَعَ ذَلِكَ مَا كَانَ دَاخِلًا وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا كَانَ خَارِجًا . وَلِأَجْلِهِ احْتَرَزَ الشُّرْطِيُّونَ فِي كَتْبِ الْوَثَائِقِ ، فَقَالُوا : وَكُلُّ حَقٍّ هُوَ لَهَا دَاخِلٌ فِيهَا وَخَارِجٌ مِنْهَا . وَهَذَا مَذْهَبٌ ظَهَرَ فَسَادُهُ ، بِإِجْمَاعِ الْكَافَّةِ عَلَى خِلَافِهِ ، وَأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالِاتِّصَالِ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ فِي الْأَمْرَيْنِ . وَأَمَّا مَا كَانَ مُنْفَصِلًا عَنْهُمَا مِنْ آلَةٍ وَقُمَاشٍ وَدَلْوٍ وَبَكَرَةٍ ، فَكُلُّهُ خَارِجٌ عَنِ الْبَيْعِ .

وَقَالَ زُفَرُ : كُلُّ مَا كَانَ فِي الدَّارِ مِنْ آلَةٍ وَقُمَاشٍ ، لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فَجَمِيعُهُ دَاخِلٌ فِي الْبَيْعِ ، وَلِأَجْلِهِ احْتَرَزَ الشُّرْطِيُّونَ فِي كُتُبِهِمْ ، فَقَالَ : وَكُلُّ حَقٍّ هُوَ لَهَا . وَهَذَا أَظْهَرُ فَسَادًا مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَوْ جَازَ دُخُولُ هَذَا فِي الْبَيْعِ لِجَازَ دُخُولُ مَا فِي الدَّارِ مِنْ عَبِيدٍ وَإِمَاءٍ وَمَاشِيَةٍ وَطَعَامٍ ، وَمَا أَحَدٌ قَالَ بِهَذَا تَعْلِيلًا بِالِانْفِصَالِ . وَكَذَا كُلُّ مَا كَانَ مُنْفَصِلًا ، وَكَذَا كُلُّ مَا فَصَلَ مِنْ أَدِلَّةِ الْبِنَاءِ ، مِنْ آجُرٍّ وَخَشَبٍ فَلَمْ تُسْتَعْمَلْ ، أَوْ كَانَتْ أَبْوَابًا فَلَمْ تُنْصَبْ ، فَكُلُّ ذَلِكَ خَارِجٌ مِنَ الْبَيْعِ لِانْفِصَالِهِ . فَأَمَّا السُّلَّمُ وَدَرَجُ الْخَشَبِ فَإِنْ كَانَتْ مُثَبَّتَةَ الطَّرَفَيْنِ دَخَلَ جَمِيعُ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ لِاتِّصَالِهِ بِالْبُنْيَانِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً تُرْفَعُ وَتُوضَعُ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ لِانْفِصَالِهَا عَنِ الْبُنْيَانِ . وَكَذَا الرُّفُوفُ فَإِنْ كَانَتْ مَبْنِيَّةً أَوْ مُسَمَّرَةً دَخَلَتْ فِي الْبَيْعِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً لَمْ تَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ ، وَهَكَذَا الْإِغْلَاقُ وَالْإِقْفَالُ مَا كَانَ مِنْهَا مُنْفَصِلًا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ ، وَمَا كَانَ مِنْهَا مُتَّصِلًا دَخَلَ فِي الْبَيْعِ ، وَفِي دُخُولِهِ مِفْتَاحَهُ وَجْهَانِ ، وَهَكَذَا كُلُّ مَا كَانَ مُنْفَصِلًا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، إِلَّا مَعَ مُتَّصِلٍ بِالدَّارِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ : لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِمُتَّصِلٍ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ : لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مُنْفَصِلٌ . وَكَذَا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ دُكَّانًا عَلَيْهِ دُرُبَاتٌ تُغْلَقُ بِهَا يُرِيدُ بِهِ أَلْوَاحُ الدُّكَّانِ فَمَا كَانَ مُتَّصِلًا مِنْهَا بِالْحَائِطِ مِنَ الْجَنْبَيْنِ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ لِاتِّصَالِهِ ، وَفِي دُخُولِ الْأَلْوَاحِ الْمُنْفَصِلَةِ وَجْهَانِ ، وَكَذَا التَّثَوُّرُ الْمَبْنِيُّ دَاخِلٌ فِي الْمَبِيعِ ، وَفِي دُخُولِ رَأْسِهِ وَجْهَانِ . وَهَكَذَا السَّفِينَةُ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مِنْ آلَتِهَا مَا كَانَ مُتَّصِلًا ، وَفِي دُخُولِ مَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ مِنْ آلَتِهَا الْمُنْفَصِلَةِ وَجْهَانِ . فَأَمَّا الْحَبَابُ الْمَدْفُونَةُ فَإِنْ كَانَ دَفَنَهَا لِلِانْتِفَاعِ بِهَا عَلَى التَّأْبِيدِ كَحَبَابِ الزَّيَاتِينِ ، وَالْبَرَازِينِ ، وَالدَّهَانِينِ دَخَلَتْ فِي الْبَيْعِ ، وَإِنْ كَانَ دَفَنَهَا اسْتِيدَاعًا لَهَا فِي الْأَرْضِ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ ، كَمَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مِنْ حِجَارَةِ الْأَرْضِ مَا كَانَ مَبْنِيًّا ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا كَانَ مُسْتَوْدَعًا . فَأَمَّا إِنِ اتَّصَلَ بِالدَّارِ حُجْرَةٌ أَوْ سَاحَةٌ أَوْ رَحْبَةٌ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ : لِخُرُوجِ ذَلِكَ عَنْ حُدُودِ الدَّارِ الَّتِي لَا تَمْتَازُ الدَّارُ عَنْ غَيْرِهَا إِلَّا بِهَا ، وَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ إِلَّا بِذِكْرِهَا ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ حُدُودٍ فِي الْغَالِبِ ، فَإِنِ اسْتَوْفَى ذِكْرَهَا صَحَّ الْبَيْعُ ، وَإِنْ ذَكَرَ مِنْهَا حَدًّا أَوْ حَدَّيْنِ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ ، وَإِنْ ذَكَرَ مِنْهَا ثَلَاثَةَ حُدُودٍ وَأَغْفَلَ الرَّابِعَ ، فَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ لَا تَتَمَيَّزُ بِذِكْرِ الْحُدُودِ الثَّلَاثَةِ بَطَلَ الْبَيْعُ ، وَإِنْ تَمَيَّزَتْ بِذِكْرِ الْحُدُودِ الثَّلَاثَةِ ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ لِحُصُولِ الِامْتِيَازِ ، وَفِيهِ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا وَجْهٌ آخَرُ : أَنَّ الْبَيْعَ بِإِغْفَالِ ذِكْرِهِ بَاطِلٌ . فَأَمَّا إِنِ اتَّصَلَ بِالدَّارِ سَابَاطٌ عَلَى حَائِطٍ مِنْ حُدُودِهَا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي دُخُولِهِ فِي الْبَيْعِ مَعَ الْإِطْلَاقِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :

أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ ، كَمَا لَا تَدْخُلُ الْحُجْرَةُ الْمُتَّصِلَةُ بِالدَّارِ . وَالثَّانِي : يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ كَمَا يَدْخُلُ فِيهِ الْأَجْنِحَةُ وَالْمَيَازِيبُ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ تَخْرِيجُ أَبِي الْغِيَاضِ أَنْ تَعْتَبِرَ حَالَ الْأَجْذَاعِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ مَطْرُوحًا عَلَى حَائِطٍ لِهَذِهِ الدَّارِ دَخَلَ السَّابَاطُ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّ جَمِيعَهُ تَبَعٌ ، وَإِنَّ كَانَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ مَطْرُوحًا عَلَى حَائِطٍ لِغَيْرِ هَذِهِ الدَّارِ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّ جَمِيعَهُ لَيْسَ بِمَبِيعٍ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا بَاعَهُ عَبْدًا وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ أَوْ أَمَةٌ وَعَلَيْهَا جِلْبَابُهَا ، فَقَدْ حُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ جَمِيعَ مَا عَلَى الْعَبْدِ أَوِ الْأَمَةِ مِنْ ثِيَابٍ وَحُلِيٍّ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ : لِأَنَّهُ يَدٌ قَدْ مَلَكَتْ . وَقَالَ قَوْمٌ : بَلْ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مِنْ جَمِيعِ مَا عَلَيْهَا قَدْرُ مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ . وَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ : لَا يَدْخُلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ لِانْفِصَالِهِ عَنِ الْمَبِيعِ ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنِ ابْتَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِيَ الْمُبْتَاعُ " وَلَوْ وَجَبَ قَدْرُ مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ لَلَزِمَ قَدْرُ مَا يَسُدُّ الْجَوْعَةَ .

فَصْلٌ : وَإِذَا ابْتَاعَ دَابَّةً عَلَيْهَا سَرْجٌ وَلِجَامٌ أَوْ شَيْءٌ مِنْ آلَتِهَا ، كَالْحَبْلِ وَالْمِقْوَدِ هل يدخل الْحَبْلُ وَالْمِقْوَدُ في البيع لَمْ يَدْخُلْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ . وَقَالَ قَوْمٌ : يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ الْحَبْلُ وَالْمِقْوَدُ ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ أَوْجَبَ فِي بَيْعِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ قَدْرَ مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ فَسَادِهِ ، لَكِنْ يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الدَّابَّةِ النِّعَالُ الْمُسَمَّرَةُ فِي أَرْجُلِهَا : لِأَنَّهَا كَالْمُتَّصِلِ وَهِيَ بِخِلَافِ الْقُرْطِ فِي الْأُذُنِ ، حَيْثُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ : لِأَنَّ نِعَالَ الدَّابَّةِ مَوْضُوعَةٌ لِلِاسْتِدَامَةِ وَالْقُرْطُ لَا يُلْبَسُ لِلِاسْتِدَامَةِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ابْتَاعَ سَمَكَةً فَوَجَدَ فِي جَوْفِهَا لُؤْلُؤَةً أَوْ جَوْهَرَةً لَمْ تَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ كَمَا لَا يَدْخُلُ الْكَنْزُ الْمَدْفُونُ فِي الدَّارِ فِي الْبَيْعِ ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي اللُّؤْلُؤَةِ أَوِ الْجَوْهَرَةِ ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا أَثَرُ مِلْكٍ مِنْ ثُقْبٍ أَوْ صَنْعَةٍ ، فَهِيَ لُقَطَةٌ لَا تُمْلَكُ لِلصَّيَّادِ الْبَائِعِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَثَرُ مِلْكٍ مِنْ ثُقْبٍ فَهِيَ مِلْكٌ لِلصَّيَّادِ الْبَائِعِ ، كَمَا يَمْلِكُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ مَعْدِنِهِ : لِأَنَّ الْحُوتَ وَالسَّمَكَ قَدْ يَمُرُّ بِمَعَادِنِ اللُّؤْلُؤِ وَالْجَوْهَرِ فَرُبَّمَا ابْتَلَعَ شَيْئًا مِنْهُ . لَكِنْ لَوِ ابْتَاعَ سَمَكَةً فَوَجَدَ فِي جَوْفِهَا سَمَكَةً كَانَتْ دَاخِلَةً فِي الْبَيْعِ ، وَمَلِكَهَا الْمُشْتَرِي . وَالْفَرْقُ بَيْنَ السَّمَكَةِ تَكُونُ فِي جَوْفِ السَّمَكَةِ وَبَيْنَ اللُّؤْلُؤَةِ : أَنَّ السَّمَكَةَ قَدْ تَغْتَذِي بِالسَّمَكِ فَصَارَ مَا فِي جَوْفِهِ مِنْ ذَلِكَ مِنْ أَغْذِيَتِهِ ، وَمَحْكُومٌ بِهِ مِنْ جُمْلَتِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ اللُّؤْلُؤُ . وَهَكَذَا لَوِ ابْتَاعَ طَائِرًا فَوَجَدَ فِي جَوْفِهِ سَمَكًا أَوْ جَرَادًا ، كَانَ دَاخِلًا فِي الْبَيْعِ : لِأَنَّهُ مِنْ أَغْذِيَتِهِ ، وَلَوْ وَجَدَ فِي جَوْفِهِ خَاتَمًا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ .

قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَيُؤْكَلُ الْحُوتُ وَالْجَرَادُ الْمَوْجُودُ فِي جَوْفِ الطَّائِرِ ، وَهَذَا صَحِيحٌ : لِأَنَّهُمَا يُؤْكَلَانِ مَيِّتَيْنِ ، لَكِنْ بَعْدَ الْغَسْلِ لِنَجَاسَتِهِمَا بِمَا فِي جَوْفِ الطَّائِرِ ، وَلَوْ كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ جَوْفِ الْحُوتِ لَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ : لِأَنَّ مَا فِي جَوْفِ الْحُوتِ لَيْسَ بِنَجِسٍ ، وَمَا فِي جَوْفِ الطَّائِرِ نَجِسٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنْ كَانَ فِيهَا زَرْعٌ فَهُوَ لِلْبَائِعِ يُتْرَكُ حَتَّى يُحْصَدَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا بَاعَ أَرْضًا وَفِيهَا زَرْعٌ يُحْصَدُ مَرَّةً وَيُؤْخَذُ دُفْعَةً كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالْبَاقِلَّا وَالْكَتَّانِ ، فَهُوَ لِلْبَائِعِ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ إِلَّا بِالشَّرْطِ بِخِلَافِ الشَّجَرِ وَالْغَرْسِ الْمَوْضُوعِ لِلِاسْتِدَامَةِ وَالْبَقَاءِ : لِأَنَّ الزَّرْعَ لَا يُوضَعُ لِلِاسْتِدَامَةِ ، وَإِنَّمَا يُزْرَعُ لِتَكَامُلِ الْمَنْفَعَةِ فَحَلَّ مَحَلَّ الْمَتَاعِ الْمُودَعِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ . فَإِنْ قِيلَ : فَالثَّمَرَةُ قَبْلَ التَّأْبِيرِ تُسْتَبْقَى لِتَكَامُلِ الْمَنْفَعَةِ ، ثُمَّ تُجْتَنَا وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الْبَيْعِ ، فَهَلَّا كَانَ الزَّرْعُ مِثْلَهَا ؟ قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الثَّمَرَةَ حَادِثَةٌ مِنْ خَلِفَةِ الْأَصْلِ الْمَبِيعِ ، وَالزَّرْعُ مُسْتَوْدَعٌ فِي الْأَرْضِ بِفِعْلِ الْآدَمِيِّ ، وَقَدْ فُرِّقَ فِي الْأُصُولِ بَيْنَ مَا كَانَ مِنْ خَلِفَةِ الْأَصْلِ فَيَكُونُ تَبَعًا ، وَبَيْنَ مَا يَكُونُ مُسْتَوْدَعًا فِي الْأَصْلِ ، فَلَا يَكُونُ تَبَعًا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى أَرْضًا فَوَجَدَ فِيهَا رِكَازًا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ : لِأَنَّهُ مُسْتَوْدَعٌ فِي الْأَرْضِ ، وَلَوْ وَجَدَ فِيهَا مَعْدِنًا كَانَ دَاخِلًا فِي الْبَيْعِ : لِأَنَّهُ خِلْقَةٌ فِي الْأَرْضِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الزَّرْعَ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُشْتَرِي مِنْ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالزَّرْعِ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ : فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالزَّرْعِ فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْفَسْخِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالزَّرْعِ : لِأَنَّهُ ابْتَاعَهَا عَنْ رُؤْيَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ ، وَلَمْ يَرَهَا وَقْتَ الْعَقْدِ ، فَلَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ : لِأَنَّ الزَّرْعَ عَيْبٌ لِمَنْعِهِ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ . فَإِنْ فَسَخَ رَجَعَ بِالثَّمَنِ ، وَإِنْ أَقَامَ فَلِلْبَائِعِ تَرْكُ الزَّرْعِ فِي الْأَرْضِ إِلَى وَقْتِ حَصَادِهِ كَمَا يَكُونُ لَهُ تَرْكُ مَا أَبَّرَ مِنَ الثَّمَرِ إِلَى وَقْتِ جِذَاذِهِ ، وَلَا أُجْرَةَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ فِي تَرْكِهِ : لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مُسْتَحَقَّةٌ قَبْلَ مِلْكِهِ ، مَا احْتَاجَ الزَّرْعُ إِلَى سَقْيٍ فَعَلَى الْمُشْتَرِي التَّمْكِينُ مِنْهُ وَعَلَى الْبَائِعِ مُؤْنَتُهُ ، فَإِذَا انْتَهَى إِلَى أَوَّلِ أَوْقَاتِ اسْتِحْصَادِهِ وَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يَحْصُدَهُ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي تَرْكِهِ اسْتِزَادَةً فِي صَلَاحِهِ ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ الْحَصَادِ ، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ لِلزَّرْعِ عُرُوقٌ مُضِرَّةٌ ، فَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ بَقِيَتْ لِلزَّرْعِ عُرُوقٌ مُضِرَّةٌ كَانَ عَلَى الْبَائِعِ قَلْعُهَا ، وَإِزَالَةُ الضَّرَرِ بِهَا إِنْ شَاءَ الْمُشْتَرِي . فَلَوْ جَزَّ الْبَائِعُ زَرْعَهُ قَبْلَ وَقْتِ حَصَادِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْأَرْضِ بَعْدَ قَلْعِ الْعُرُوقِ الْمُضِرَّةِ ، وَلَيْسَ لَهُ اسْتِبْقَاءُ الْأَرْضِ مَا بَقِيَ مِنْ مُدَّةِ الزَّرْعِ : لِأَنَّهُ إِنَّمَا اسْتَحَقَّ مِنْ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ مَا كَانَ صَلَاحًا لِذَلِكَ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110