كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

فَالنَّصُّ : مَا وَرَدَ بِهِ السَّمْعُ فِي تَعْلِيقِ حُكْمٍ بِالِاسْمِ ، وَالْقِيَاسُ : مَا ثَبَتَ حُكْمُهُ مِنْ مَعْنَى الِاسْمِ . وَفِيمَا أُخِذَ مِنْهُ اسْمُ النَّصِّ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الِارْتِفَاعِ لِارْتِفَاعِ الْمِنَصَّةِ بِمَنْ عَلَيْهَا : لِأَنَّهُ قَدْ رَفَعَ الْمُسَمَّى بِذِكْرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مَأْخُوذٌ عَنِ الظُّهُورِ لِظُهُورِ مَنْ عَلَى الْمِنَصَّةِ بِهَا ، لِأَنَّهُ قَدْ أَظْهَرَ الْمُسَمَّى بِذِكْرِهِ .

أَقْسَامُ الْقِيَاسِ

[ أَقْسَامُ الْقِيَاسِ ] : وَالْقِيَاسُ : قِيَاسَانِ ؛ قِيَاسُ مَعْنًى وَقِيَاسُ شَبَهٍ : وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ قِيَاسِ الْمَعْنَى وَقِيَاسِ الشَّبَهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قِيَاسَ الْمَعْنَى مَا أُخِذَ حُكْمُ فَرْعِهِ مِنْ مَعْنَى أَصْلِهِ ، وَقِيَاسُ الشَّبَهِ مَا أُخِذَ حُكْمُ فَرْعِهِ مِنْ شَبَهِهِ بِأَصْلِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ قِيَاسَ الْمَعْنَى مَا لَمْ يَكُنْ لِفَرْعِهِ إِلَّا أَصْلٌ وَاحِدٌ أُخِذَ حُكْمُهُ مِنْ مَعْنَاهُ ، وَقِيَاسُ الشَّبَهِ مَا تَجَاذَبَتْهُ أُصُولٌ أُلْحِقَ بِأَقْوَاهَا شَبَهًا فَصَارَ قِيَاسُ الْمَعْنَى أَقْوَى مِنْ قِيَاسِ الشَّبَهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ . [ قِيَاسُ الْمَعْنَى أقسامه ] : فَأَمَّا قِيَاسُ الْمَعْنَى : فَيَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ جَلِيٌّ وَخَفِيٌّ . أَمَّا الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ : فَيَكُونُ مَعْنَاهُ فِي الْفَرْعِ زَائِدًا عَلَى مَعْنَى الْأَصْلِ . وَأَمَّا الْقِيَاسُ الْخَفِيُّ : فَيَكُونُ مَعْنَاهُ فِي الْفَرْعِ مُسَاوِيًا لِمَعْنَى الْأَصْلِ . [ أَقْسَامُ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ ] : وَالْقِيَاسُ الْجَلِيُّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : مَا عُرِفَ مَعْنَاهُ مِنْ ظَاهِرِ النَّصِّ بِغَيْرِ اسْتِدْلَالٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ التَّعَبُّدُ فِيهِ بِخِلَافِ أَصْلِهِ ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا [ الْإِسْرَاءِ : ] . فَدَلَّ تَحْرِيمُ التَّأْفِيفِ بِبَدِيهَةِ النَّصِّ عَلَى تَحْرِيمِ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحَرَّمَ التَّأْفِيفُ وَيَحِلَّ الضَّرْبُ وَالشَّتْمُ ، فَصَارَ تَحْرِيمُ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ مَأْخُوذًا مِنْ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ قِيَاسًا ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [ الزَّلْزَلَةِ : - ] . فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجَازِيَ عَلَى قَلِيلِ الطَّاعَةِ وَلَا يُجَازِيَ عَلَى كَثِيرِهَا وَيُعَاقِبَ عَلَى قَلِيلِ الْمَعْصِيَةِ وَلَا يُعَاقِبَ عَلَى كَثِيرِهَا

وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [ آلِ عِمْرَانَ : ] . فَالْأَمِينُ عَلَى الْقِنْطَارِ هُوَ عَلَى الدِّينَارِ آمَنُ ، وَالْخَائِنُ فِي الدِّينَارِ هُوَ فِي الْقِنْطَارِ أَخْوَنُ . وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ الْقِيَاسِ هُوَ أَقْرَبُ وُجُوهِ الْقِيَاسِ إِلَى النُّصُوصِ لِدُخُولِ فُرُوعِهَا فِي النُّصُوصِ . وَأَنْكَرَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الضَّرْبُ . قِيَاسًا . وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ نَصًّا وَجَعَلَهُ آخَرُونَ تَنْبِيهًا . وَأَنْكَرَ كَثِيرٌ مِنْ مُثْبِتِي الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ هَذَا قِيَاسًا . وَسَمَّاهُ بَعْضُهُمْ مَفْهُومَ الْخِطَابِ وَسَمَّاهُ آخَرُونَ مِنْهُمْ فَحْوَى الْكَلَامِ . وَأَنْكَرُوا عَلَى الشَّافِعِيِّ تَسْمِيَتَهُ قِيَاسًا . قَالُوا : لِأَنَّ الْقِيَاسَ مَا خَفِيَ حُكْمُ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ حَتَّى عُرِفَ بِالِاسْتِدْلَالِ مِنَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ، فَمَا خَرَجَ عَنِ الْخَفَاءِ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ فَلَيْسَ بِقِيَاسٍ وَهَذَا الْإِنْكَارُ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّصَّ مَا عُرِفَ حُكْمُهُ مِنِ اسْمِهِ ، وَالْقِيَاسُ مَا عُرِفَ حُكْمُهُ مِنِ اسْمِ غَيْرِهِ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ هَاهُنَا : لِأَنَّ اسْمَ التَّأْفِيفِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ كَمَا لَا يَنْطَلِقُ اسْمُ الضَّرْبِ عَلَى التَّأْفِيفِ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الِاسْمَيْنِ يَنْطَلِقُ عَلَى غَيْرِ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الْآخَرُ فَصَارَ تَحْرِيمُ الضَّرْبِ مَأْخُوذًا مِنْ مَعْنَى التَّأْفِيفِ لَا مِنِ اسْمِهِ . فَإِنِ امْتَنَعُوا أَنْ يُسَمُّوهُ قِيَاسًا فَقَدْ سَلَّمُوا مَعْنًى وَخَالَفُوا فِي اسْمِهِ ، وَالْمُخَالَفَةُ فِي الِاسْمِ مَعَ تَسْلِيمِ الْمَعْنَى مُطْرَحَةٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَعَانِيَ تَتَنَوَّعُ : فَيَكُونُ بَعْضُهَا جَلِيًّا تَسْبِقُ بَدِيهَتُهُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ وَبَعْضُهَا خَفِيًّا لَا يُفْهَمُ إِلَّا بِالْفِكْرِ وَالِاسْتِدْلَالِ ، كَمَا أَنَّ الْأَسْمَاءَ تَتَنَوَّعُ فَيَكُونُ بَعْضُهَا وَاضِحًا تَعْرِفُهُ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ ، وَبَعْضُهَا غَامِضًا تَعْرِفُهُ الْخَاصَّةُ دُونَ الْعَامَّةِ ، كَنَهْيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَهُوَ زَنَاءُ وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الزَّكَاةِ : " لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ وَلَا خِلَاطَ وَلَا وِرَاطَ وَنَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ اخْتِلَافُ الْأَسْمَاءِ فِي الْوُضُوحِ وَالْغُمُوضِ مَانِعًا مِنْ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُهَا نُصُوصًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ الْمَعَانِي فِي الْجَلَاءِ وَالْخَفَاءِ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ مِنْ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُهَا قِيَاسًا . فَإِذَا صَحَّ أَنَّ هَذَا قِيَاسٌ فَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِهِ . وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ النَّسْخِ بِهِ القياس الجلي عَلَى وَجْهَيْنِ .

أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ : لَا يَجُوزُ النَّسْخُ بِهِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ فَرْعُ النَّصِّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِلنَّصِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَكَاهُ عَنْ بَعْضِ مَنْ تَقَدَّمَهُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ بِهِ النَّصُّ ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرِدَ التَّعَبُّدُ فِي فَرْعِهِ بِخِلَافِ أَصْلِهِ صَارَ الْفَرْعُ كَالنَّصِّ فَجَازَ بِهِ النَّسْخُ . فَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ نَصًّا فِي الْقُرْآنِ جَازَ أَنْ يُنْسَخَ بِهِ الْقُرْآنُ دُونَ السُّنَّةِ ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ نَصًّا فِي السُّنَّةِ جَازَ أَنْ تُنْسَخَ بِهِ السُّنَّةُ دُونَ الْقُرْآنِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا عُرِفَ مَعْنَاهُ مِنْ ظَاهِرِ النَّصِّ بِغَيْرِ اسْتِدْلَالٍ القياس الجلي لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ التَّعَبُّدُ فِيهِ بِخِلَافِ أَصْلِهِ . وَذَلِكَ مِثَالُ نَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْأُضْحِيَةِ بِالْعَوْرَاءِ الْبَيِّنِ عَوَرُهَا وَالْعَرْجَاءِ الْبَيِّنِ عَرَجُهَا فَكَانَتِ الْعَمْيَاءُ قِيَاسًا عَلَى الْعَوْرَاءِ ، وَالْقَطْعَاءُ قِيَاسًا عَلَى الْعَرْجَاءِ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَرِدَ التَّعَبُّدُ بِتَحْرِيمِ الْعَوْرَاءِ وَالْعَرْجَاءِ وَإِبَاحَةِ الْعَمْيَاءِ وَالْقَطْعَاءِ . وَمِثْلُهُ " نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُحْرِمَ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبًا مَسَّهُ وَرَسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ فَكَانَ الْعَنْبَرُ وَالْمِسْكُ قِيَاسًا عَلَى الْوَرَسِ وَالزَّعْفَرَانِ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَرِدَ التَّعَبُّدُ بِتَحْرِيمِ الْوَرَسِ وَالزَّعْفَرَانِ وَإِبَاحَةِ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ . وَهَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ فِيهِ فَاقْتَصَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى تَحْرِيمِ النَّصِّ وَإِبَاحَةِ مَا عَدَاهُ فَحَرَّمَ التَّضْحِيَةَ بِالْعَوْرَاءِ وَالْعَرْجَاءِ ، وَأَبَاحَهَا بِالْعَمْيَاءِ وَالْقَطْعَاءِ ، وَحَرَّمَ مَا مَسَّهُ وَرَسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ ، وَأَبَاحَ مَا مَسَّهُ عَنْبَرٌ أَوْ مِسْكٌ . وَأَثْبَتَ بَعْضُهُمْ تَحْرِيمَ جَمِيعِهِ بِالتَّنْبِيهِ دُونَ النَّصِّ . فَهَذَا الضَّرْبُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِمِثْلِهِ ، وَلَا يَجُوزُ بِهِ النَّسْخُ بِوِفَاقِ أَصْحَابِنَا لِجَوَازِ وُرُودِ التَّعَبُّدِ فِي الْفَرْعِ بِخِلَافِ أَصْلِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : مَا عُرِفَ مَعْنَاهُ مِنْ ظَاهِرِ النَّصِّ بِاسْتِدْلَالٍ ظَاهِرٍ وَيُعْرَفُ بِمَبَادِئِ النَّظَرِ القياس الجلي . وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي زِنَا الْإِمَاءِ : فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [ النِّسَاءِ : ] . فَجُعِلَ حَدُّهُنَّ نِصْفَ حَدِّ الْحَرَائِرِ ، وَلَمْ يَكُنِ الْمَعْنَى فِيهِ إِلَّا نَقْصَهُنَّ بِالرِّقِّ ، فَكَانَ الْعَبِيدُ قِيَاسًا عَلَيْهِنَّ فِي تَنْصِيفِ الْحَدِّ إِذَا زَنَوْا لِنَقْصِهِمْ بِالرِّقِّ . وَمِثْلُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ مُوسِرًا قَوَّمَ عَلَيْهِ " فَكَانَتِ الْأَمَةُ قِيَاسًا عَلَى الْعَبْدِ .

وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [ الْجُمُعَةِ : ] . فَكَانَ مَعْنَى نَهْيِهِ عَنِ الْبَيْعِ أَنَّهُ شَاغِلٌ عَنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ ، فَكَانَتْ عُقُودُ الْمَنَاكِحِ وَالْإِجَارَاتِ وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ وَالصَّنَائِعِ قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ ، لِأَنَّهُ شَاغِلٌ عَنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ . فَهَذَا الضَّرْبُ لَا يَجُوزُ بِهِ النَّسْخُ . وَيَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا ، وَإِنْ مَنَعَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ لِخُرُوجِهِ عَنِ الْجَلَاءِ بِالِاسْتِدْلَالِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِجَلَاءِ الِاسْتِدْلَالِ كَالْجَلِيِّ بِغَيْرِ اسْتِدْلَالٍ . فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ هِيَ ضُرُوبُ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ ، يَجُوزُ أَنْ يَنْعَقِدَ بِهَا الْإِجْمَاعُ وَيُنْقَضَ بِهَا حُكْمُ مَنْ خَالَفَ مِنَ الْحُكَّامِ .

فَصْلٌ : الْقِيَاسُ الْخَفِيُّ : وَأَمَّا الْقِيَاسُ الْخَفِيُّ : فَهُوَ مَا خَفِيَ مَعْنَاهُ فَلَمْ يُعْرَفْ إِلَّا بِالِاسْتِدْلَالِ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ فِي الْفَرْعِ مُسَاوِيًا لِمَعْنَى الْأَصْلِ . وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : مَا كَانَ مَعْنَاهُ لَائِحًا . وَالثَّانِي : مَا كَانَ مَعْنَاهُ غَامِضًا . وَالثَّالِثُ : مَا كَانَ مَعْنَاهُ مُشْتَبِهًا . فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ مَا كَانَ مَعْنَاهُ لَائِحًا يُعْرَفُ بِاسْتِدْلَالٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ القياس الخفي فَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ [ النِّسَاءِ : ] . فَكَانَتْ عَمَّاتُ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ فِي التَّحْرِيمِ قِيَاسًا عَلَى الْعَمَّاتِ . وَخَالَاتُ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ فِي التَّحْرِيمِ قِيَاسًا عَلَى الْخَالَاتِ . لِاشْتِرَاكِهِنَّ فِي الرَّحِمِ ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي نَفَقَةِ الْوَلَدِ فِي صِغَرِهِ : فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [ الطَّلَاقِ : ] . فَكَانَتْ نَفَقَةُ الْوَالِدِ عِنْدَ عَجْزِهِ فِي كِبَرِهِ قِيَاسًا عَلَى نَفَقَةِ الْوَلَدِ لِعَجْزِهِ بِصِغَرِهِ . وَالْمَعْنَى فِي هَذَا الضَّرْبِ لَائِحٌ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ وَهُوَ مِنْ ضُرُوبِ الْخَفِيِّ بِمَنْزِلَةِ الْأَوَّلِ مِنْ ضُرُوبِ الْجَلِيِّ وَيَجُوزُ أَنْ يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ بِمِثْلِهِ وَيُنْقَضَ بِهِ حُكْمُ الْحَاكِمِ إِذَا خَالَفَهُ . وَفِي جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِهِ وَجْهَانِ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : وَهُوَ مَا كَانَ مَعْنَاهُ غَامِضًا لِلِاسْتِدْلَالِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ فَتَقَابَلَتْ القياس الخفي

مَعَانِيهِ حَتَّى غَمُضَتْ مِثَالُهُ تَعْلِيلُ الرِّبَا فِي الْبُرِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ، فَتَقَابَلَ فِيهِ التَّعْلِيلُ بِالْأَكْلِ ، لِيُقَاسَ عَلَيْهِ كُلُّ مَأْكُولٍ ، وَالتَّعْلِيلُ بِالْقُوتِ ، لِيُقَاسَ عَلَيْهِ كُلُّ مُقْتَاتٍ ، وَالتَّعْلِيلُ بِالْكَيْلِ لِيُقَاسَ عَلَيْهِ كُلُّ مَكِيلٍ ، وَمِثْلُهُ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَقْبِضَ ، تَقَابَلَ فِيهِ التَّعْلِيلُ بِالطَّعْمِ ، حَتَّى يُقَاسَ عَلَيْهِ كُلُّ مَطْعُومٍ ، وَالتَّعْلِيلُ بِالنَّقْلِ ، لِيُقَاسَ عَلَيْهِ كُلُّ مَنْقُولٍ ، وَالتَّعْلِيلُ بِالْبَيْعِ لِيُقَاسَ عَلَيْهِ كُلُّ مَبِيعٍ . فَصَارَ الْمَعْنَى بِاخْتِلَافِهِمْ فِيهِ غَامِضًا وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مُتَرَجِّحًا . وَمِثْلُ هَذَا الضَّرْبِ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ إِجْمَاعٌ وَلَا يُنْقَضُ بِهِ حُكْمٌ وَلَا يُخَصُّ بِهِ عُمُومٌ . وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَا كَانَ مُشْتَبِهًا ، فَهُوَ مَا احْتَاجَ نَصُّهُ وَمَعْنَاهُ إِلَى اسْتِدْلَالٍ : كَالَّذِي قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " : أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ فَعُرِفَ الِاسْتِدْلَالُ : أَنَّ الْخَرَاجَ هُوَ الْمَنْفَعَةُ وَأَنَّ الضَّمَانَ هُوَ ضَمَانُ الْبَيْعِ ، ثُمِ عُرِفَ مَعْنَى الْمَنْفَعَةِ بِالِاسْتِدْلَالِ فَتَقَابَلَتِ الْمَعَانِي بِالِاخْتِلَافِ فِيهَا فَمِنْ مُعَلِّلٍ لَهَا بِأَنَّهَا آثَارٌ . فَلَمْ يَجْعَلِ الْمُشْتَرِيَ إِذَا رَدَّ بِالْعَيْبِ مَالِكًا لِلْأَعْيَانِ مِنَ الثِّمَارِ وَالنِّتَاجِ ، وَمِنْ مُعَلِّلٍ لَهَا بِأَنَّهَا مَا خَالَفَتْ أَجْنَاسَ أُصُولِهَا ، فَجَعَلَهُ مَالِكًا لِلثِّمَارِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مَالِكًا لِلنِّتَاجِ ، وَعَلَّلَهَا الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهَا نَمَاءٌ ، فَجَعَلَهُ مَالِكًا لِكُلِّ نَمَاءٍ مِنْ ثِمَارٍ وَنِتَاجٍ . فَمِثْلُ هَذَا الضَّرْبِ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ فِي حُكْمِ أَصْلِهِ وَلَا يَنْعَقِدُ فِي مَعْنَاهُ ، وَلَا يُنْقَضُ بِقِيَاسِهِ حُكْمٌ ، وَلَا يُخَصُّ بِهِ عُمُومٌ ، وَهُوَ أَضْعَفُ مِمَّا تَقَدَّمَهُ ، وَإِنْ قَارَبَهُ فِي حُكْمِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ قِيَاسُ الشَّبَهِ وَأَمَّا قِيَاسُ الشَّبَهِ فَهُوَ مَا تَجَاذَبَتْهُ الْأُصُولُ ، فَأَخَذَ مِنْ كُلِّ أَصْلٍ شَبَهًا ، وَأَخَذَ كُلُّ أَصْلٍ مِنْهُ شَبَهًا . وَهُوَ نَوْعَانِ : قِيَاسُ تَحْقِيقٍ ، يَكُونُ الشَّبَهُ فِي أَحْكَامِهِ ، وَقِيَاسُ تَقْرِيبٍ يَكُونُ الشَّبَهُ فِي أَوْصَافِهِ . وَقِيَاسُ التَّحْقِيقِ مُقَابِلٌ لِقِيَاسِ الْمَعْنَى الْجَلِيِّ وَإِنْ ضَعُفَ عَنْهُ . قِيَاسُ التَّحْقِيقِ . فَأَمَّا قِيَاسُ التَّحْقِيقِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَرَدَّدَ حُكْمُ الْفَرْعِ بَيْنَ أَصْلَيْنِ يَنْتَقِضُ بِرَدِّهِ إِلَى أَحَدِهِمَا ، وَلَا يَنْتَقِضُ بِرَدِّهِ إِلَى الْآخَرِ ، فَيُرَدُّ إِلَى الْأَصْلِ الَّذِي لَا يَنْتَقِضُ بِرَدِّهِ إِلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلُّهُمَا شَبَهًا وَلَا يُرَدُّ إِلَى الْأَصْلِ الَّذِي يَنْتَقِضُ بِرَدِّهِ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ شَبَهًا : مِثَالُهُ : الْعَبْدُ هَلْ يَمْلِكُ ؟ إِذَا مَلَكَ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : الْحُرُّ فِي جَوَازِ مِلْكِهِ . وَالثَّانِي : الْبَهِيمَةُ فِي عَدَمِ مِلْكِهِ فَلَمَّا انْتَقَضَ بِرَدِّهِ إِلَى الْحُرِّ بِالْمِيرَاثِ حِينَ لَمْ يَمْلِكْ بِهِ وَجَبَ رَدُّهُ إِلَى الْبَهِيمَةِ لِسَلَامَتِهِ مِنَ النَّقْضِ ، وَإِنْ كَانَ شَبَهُهُ بِالْأَحْرَارِ أَكْثَرَ مِنْ شَبَهِهِ بِالْبَهَائِمِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَتَرَدَّدَ الْفَرْعُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ يَسْلَمُ مِنَ النَّقْضِ فِي رَدِّهِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَهُوَ بِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ أَكْثَرُ شَبَهًا مِنْهُ بِالْأَصْلِ الْآخَرِ ، مِثْلُ أَنْ يُشْبِهَ أَحَدَهُمَا مِنْ وَجْهٍ وَيُشْبِهَ الْآخَرَ مِنْ وَجْهَيْنِ ، أَوْ يَشْبِهَ أَحَدَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ وَيَشْبِهَ الْآخَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ ، فَيَجِبُ رَدُّهُ إِلَى الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ شَبَهًا بِهِ . مِثَالُهُ : فِي الْجِنَايَةِ عَلَى أَطْرَافِ الْعَبْدِ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ رَدِّهِ إِلَى الْحُرِّ فِي تَقْدِيرِ الْجِنَايَةِ عَلَى أَطْرَافِهِ وَبَيْنَ رَدِّهِ إِلَى الْبَهِيمَةِ فِي وُجُوبِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ وَهُوَ يُشْبِهُ الْبَهِيمَةَ فِي أَنَّهُ مَمْلُوكٌ وَمَوْرُوثٌ وَيُشْبِهُ الْحُرَّ أَنَّهُ آدَمِيٌّ ، مُخَاطَبٌ ، مُكَلَّفٌ ، يَجِبُ فِي قَتْلِهِ الْقَوَدُ وَالْكَفَّارَةُ ، فَوَجَبَ رَدُّهُ إِلَى الْحُرِّ فِي تَقْدِيرِ الْجِنَايَةِ عَلَى أَطْرَافِهِ دُونَ الْبَهِيمَةِ ، لِكَثْرَةِ شَبَهِهِ بِالْحُرِّ ، وَقِلَّةِ شَبَهِهِ بِالْبَهِيمَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَتَرَدَّدَ حُكْمُ الْفَرْعِ بَيْنَ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الصِّفَتَيْنِ ، وَيُوجَدُ فِي الْفَرْعِ بَعْضُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الصِّفَتَيْنِ ، وَلَا تَكْمُلُ فِيهِ إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ ، وَلَكِنْ يُوجَدُ فِيهِ الْأَكْثَرُ مِنْ إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ وَالْأَقَلُّ مِنَ الْأُخْرَى ، فَيَجِبُ رَدُّهُ إِلَى الْأَصْلِ فِيهِ أَكْثَرُ صِفَاتِهِ : مِثَالُهُ : ثُبُوتُ الرِّبَا فِي الْإِهْلِيلِجِ وَالسَّقْمُونِيَا لِمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ الْخَشَبِ فِي الْإِبَاحَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغِذَاءٍ وَبَيْنَ الطَّعَامِ فِي التَّحْرِيمِ لِأَنَّهُ مَأْكُولٌ فَكَانَ رَدُّهُ إِلَى الْغِذَاءِ فِي التَّحْرِيمِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غِذَاءً أَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إِلَى الْخَشَبِ فِي الْإِبَاحَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غِذَاءً ، لِأَنَّ الْأَكْلَ أَغْلَبُ صِفَاتِهِ . فَهَذِهِ ضُرُوبُ قِيَاسِ التَّحْقِيقِ .

فَصْلٌ : قِيَاسُ التَّقْرِيبِ . وَأَمَّا قِيَاسُ التَّقْرِيبِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَرَدَّدَ الْفَرْعُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الصِّفَتَيْنِ وَقَدْ جَمَعَ الْفَرْعُ صِفَتَيِ الْأَصْلَيْنِ ، فَيُرَجَّحُ فِي الْفَرْعِ أَغْلَبُ الصِّفَتَيْنِ . مِثَالُهُ : فِي الْمَعْقُولِ : أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْأَصْلَيْنِ مَعْلُولًا بِالْبَيَاضِ وَالْآخَرُ مَعْلُولًا بِالسَّوَادِ وَيَكُونُ الْفَرْعُ جَامِعًا لِلسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ فَيُعْتَبَرُ حَالُهُ : فَإِنْ كَانَ بَيَاضُهُ أَكْثَرَ مِنْ سَوَادِهِ رُدَّ إِلَى الْأَصْلِ الْمَعْلُولِ بِالْبَيَاضِ وَلَمْ يَكُنْ لِلسَّوَادِ فِيهِ تَأْثِيرٌ ، وَإِنْ كَانَ سَوَادُهُ أَكْثَرَ مِنْ بَيَاضِهِ رُدَّ إِلَى الْأَصْلِ الْمَعْلُولِ بِالسَّوَادِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْبَيَاضِ فِيهِ تَأْثِيرٌ .

وَمِثَالُهُ فِي الشَّرْعِ : الشَّهَادَاتُ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا بِقَبُولِ الْعَدْلِ وَرَدِّ الْفَاسِقِ ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ أَحَدًا غَيْرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَمْحَضُ الطَّاعَةَ حَتَّى لَا يَشُوبَهَا بِمَعْصِيَةٍ مِنَ الصَّغَائِرِ ، وَلَا أَحَدَ يَمْحَضُ الْمَعْصِيَةَ حَتَّى لَا يَشُوبَهَا بِشَيْءٍ مِنَ الطَّاعَاتِ ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْأَغْلَبِ مِنْ حَالَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [ الْقَارِعَةِ : : ] . وَإِنْ كَانَتِ الطَّاعَاتُ أَغْلَبَ عَلَيْهِ حُكِمَ بِعَدَالَتِهِ ، وَلَا تَأْثِيرَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْصِيَةٍ ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَعَاصِي أَغْلَبَ عَلَيْهِ حُكِمَ بِفِسْقِهِ ، وَلَا تَأْثِيرَ لِمَا فِيهِ مِنْ طَاعَةٍ . وَامْتَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ أَنْ يَكُونَ قِيَاسًا : لِأَنَّ الْقِيَاسَ مَا اسْتُخْرِجَ عِلَّةُ فَرْعِهِ مِنْ أَصْلِهِ ، وَهَذَا قَدِ اسْتَخْرَجَ عِلَّةَ أَصْلِهِ مِنْ فَرْعِهِ . وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، لِأَنَّ صِفَةَ الْعِلَّةِ مُسْتَخْرَجَةٌ مِنَ الْفَرْعِ وَحُكْمَ الْعِلَّةِ مُسْتَخْرَجٌ مِنَ الْأَصْلِ ، وَالْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَوْضُوعٌ لِحُكْمِ الْعِلَّةِ دُونَ صِفَتِهَا . وَمِثْلُ هَذَا نَقُولُهُ فِي الْمَاءِ الْمُطْلَقِ إِذَا خَالَطَهُ مَائِعٌ طَاهِرٌ كَمَاءِ الْوَرْدِ فَلَمْ يُغَيِّرْهُ نَظَرٌ : فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ أَكْثَرَ حُكِمَ لَهُ بِالتَّطْهِيرِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا لَيْسَ بِمُطَهِّرٍ وَإِنْ كَانَ مَاءُ الْوَرْدِ أَكْثَرَ حُكِمَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَهِّرٍ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا هُوَ مُطَهِّرٌ . فَإِنْ سَلَّمَ أَبُو حَنِيفَةَ هَذَا الْحُكْمَ وَلَا أَحْسَبُهُ يَمْتَنِعُ مِنْهُ وَخَالَفَ فِي الِاسْمِ لَمْ تَضُرَّ مُخَالَفَتُهُ فِي الِاسْمِ مَعَ مُوَافَقَتِهِ فِي مَعْنَاهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَتَرَدَّدَ الْفَرْعُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الصِّفَتَيْنِ وَالصِّفَتَانِ مَعْدُومَتَانِ فِي الْفَرْعِ وَصِفَةُ الْفَرْعِ تُقَارِبُ إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ وَإِنْ خَالَفَتْهَا . مِثَالُهُ فِي الْمَعْقُولِ : أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْأَصْلَيْنِ مَعْلُولًا بِالْبَيَاضِ وَالْأَصْلُ الْآخَرُ مَعْلُولًا بِالسَّوَادِ وَالْفَرْعُ أَخْضَرُ لَيْسَ بِأَبْيَضَ وَلَا أَسْوَدَ فَيُرَدُّ إِلَى أَقْرَبِ الْأَصْلَيْنِ شَبَهًا بِصِفَتِهِ وَالْخُضْرَةُ أَقْرَبُ إِلَى السَّوَادِ مِنَ الْبَيَاضِ فَيُرَدُّ إِلَى السَّوَادِ دُونَ الْبَيَاضِ . وَمِثَالُهُ فِي الشَّرْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [ الْمَائِدَةِ : ] . وَلَيْسَ الْمِثْلُ مِنَ النَّعَمِ مُشْبِهًا لِلصَّيْدِ فِي جَمِيعِ أَوْصَافِهِ وَلَا مُنَافِيًا لَهُ فِي جَمِيعِ أَوْصَافِهِ فَاعْتُبِرَ فِي الْجَزَاءِ أَقْرَبُ الشَّبَهِ بِالصَّيْدِ . وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَكُونَ هَذَا قِيَاسًا لِأَنَّ الْقِيَاسَ مَا وُجِدَتْ أَوْصَافُ أَصْلِهِ فِي فَرْعِهِ وَأَوْصَافُ الْأَصْلِ فِي هَذَا غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي الْفَرْعِ فَصَارَ قِيَاسًا بِغَيْرِ عِلَّةٍ . وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، لِأَنَّ الْحَادِثَةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ حُكْمٍ وَالْحُكْمَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا فِي الْإِجْمَاعِ دَلِيلٌ عَلَيْهَا لَمْ يَبْقَ لَهَا أَصْلٌ غَيْرُ الْقِيَاسِ فَكَانَ أَقْرَبُهَا شَبَهًا بِأَصْلِ الْقِيَاسِ هُوَ عِلَّةَ الْقِيَاسِ .

وَقَدْ جَعَلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا اجْتِهَادًا مَحْضًا وَلَمْ يَجْعَلْهُ قِيَاسًا ، وَهَذَا الِاجْتِهَادُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَصْلٍ يُعْتَبَرُ فِيهِ شَبْهُ الْأَصْلِ فَصَارَ قِيَاسًا . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَتَرَدَّدَ الْفَرْعُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الصِّفَتَيْنِ ، وَالْفَرْعُ جَامِعٌ لِصِفَتَيِ الْأَصْلَيْنِ ، وَأَحَدُ الْأَصْلَيْنِ مِنْ جِنْسِ الْفَرْعِ ، وَالْآخَرُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ . مِثَالُهُ : أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ مِنَ الطَّهَارَةِ وَأَحَدُ الْأَصْلَيْنِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالْآخَرُ مِنَ الطَّهَارَةِ ، فَيَكُونُ رَدُّهُ إِلَى أَصْلِ الطَّهَارَةِ لِمُجَانَسَتِهِ أَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إِلَى أَصْلِ الصَّلَاةِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ . وَهَاهُنَا ضَرْبٌ رَابِعٌ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ وُجُودِهِ وَهُوَ أَنْ يَتَرَدَّدَ الْفَرْعُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ فِيهِ شَبَهُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَصْلَيْنِ ، وَشَبَهُهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَصْلَيْنِ وَلَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ . فَمَنَعَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ جَوَازِهِ وَأَحَالَ تَكَافُؤَ الْأَدِلَّةِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهَ عِبَادُهُ بِمَا لَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ طَرِيقًا تُوَصِّلُهُمْ إِلَى عِلْمِهِ ، وَلَكِنْ رُبَّمَا خَفِيَ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ لِقُصُورِهِ فِي الِاجْتِهَادِ فَإِنْ أَعْوَزَهُ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْأَصْلَيْنِ عَدَلَ إِلَى الْتِمَاسِ حُكْمِهِ مِنْ غَيْرِ الْقِيَاسِ . وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى جَوَازِ وَجُودِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَدِلَّةِ غَامِضًا لِمَا عَلِمَهُ فِيهَا مِنَ الْمَصْلَحَةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مُتَكَافِئًا لِمَا رَآهُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَلَيْسَ يَخْلُو أَنْ يَكُونَ لَهَا حُكْمٌ مَعَ التَّكَافُؤِ . فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ مَا تَكَافَأَتْ فِيهِ الْأَدِلَّةُ وَتَرَدَّدَ بَيْنَ أَصْلَيْنِ : حَاظِرٍ وَمُبِيحٍ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُجْتَهِدَ بِالْخِيَارِ فِي رَدِّهِ إِلَى أَيِّ الْأَصْلَيْنِ شَاءَ مِنْ حَظْرٍ أَوْ إِبَاحَةٍ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ لَمْ يُرِدْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَنَصَّبَ عَلَى مُرَادِهِ مِنْهُمَا دَلِيلًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَرُدُّهُ إِلَى أَغْلَظِ الْأَصْلَيْنِ حُكْمًا وَهُوَ الْحَظْرُ دُونَ الْإِبَاحَةِ احْتِيَاطًا لِأَنَّ أَصْلَ التَّكْلِيفِ مَوْضُوعٌ عَلَى التَّغْلِيظِ . فَصَارَتْ أَقْسَامُ الْقِيَاسِ مَا شَرَحْنَاهُ : اثْنَيْ عَشَرَ قِسْمًا : سِتَّةُ أَقْسَامٍ مِنْهَا مُخْتَصَّةٌ بِقِيَاسِ الْمَعْنَى مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ فِي الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ وَثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ مِنْهَا فِي الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ وَسِتَّةُ أَقْسَامٍ مِنْهَا مُخْتَصَّةٌ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ فِي قِيَاسِ التَّحْقِيقِ وَثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ فِي قِيَاسِ التَّقْرِيبِ .

فَصْلٌ : هَلْ تَثْبُتُ الْأَسْمَاءُ وَالْحُدُودُ وَالْمَقَادِيرُ بِالْقِيَاسِ ؟ . فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَقْسَامِ الْقِيَاسِ أَنَّهُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ فَالَّذِي يَثْبُتُ

بِالْقِيَاسِ فِي الشَّرْعِ هُوَ الْأَحْكَامُ الْمُسْتَنْبَطَةُ مِنَ النُّصُوصِ . فَأَمَّا الْأَسْمَاءُ وَالْحُدُودُ وَالْمَقَادِيرُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ اسْتِخْرَاجِهَا بِالْقِيَاسِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ أَنْ تَثْبُتَ الْأَسْمَاءُ بِالْقِيَاسِ إِذَا تَعَلَّقَ بِهَا أَحْكَامٌ كَتَسْمِيَةِ النَّبِيذِ خَمْرًا لِوُجُودِ مَعْنَى الْخَمْرِ فِيهِ وَيَجُوزُ أَنْ تَثْبُتَ الْحُدُودُ قِيَاسًا فَيَثْبُتَ حَدُّ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ ، قِيَاسًا عَلَى الْقَذْفِ كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لِأَنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذِيَ وَإِذَا هَذِيَ افْتَرَى وَحَدُّ الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ . وَيَجُوزُ أَنْ تَثْبُتَ الْمَقَادِيرُ قِيَاسًا : كَمَا قَدَّرْنَا أَقَلَّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرَهُ وَأَقَلَّ الطُّهْرِ وَأَكْثَرَهُ وَأَقَلَّ السَّفَرِ وَأَكْثَرَهُ . وَقَدْ أَشَارَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى اخْتِيَارِ هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّ جَمِيعَهَا أَحْكَامٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ إِثْبَاتُ الْأَسْمَاءِ وَلَا إِثْبَاتُ الْحُدُودِ وَلَا إِثْبَاتُ الْمَقَادِيرِ بِالْقِيَاسِ . أَمَّا الْأَسْمَاءُ فَلِأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ اللُّغَةِ دُونَ الشَّرْعِ . وَأَمَّا الْحُدُودُ فَلِأَنَّ مَعَانِيَهَا غَيْرُ مَعْقُولَةٍ . وَأَمَّا الْمَقَادِيرُ فَلِأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ وَإِنَّمَا صِيرَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الْمُقَدَّرَةِ إِلَى عُرْفٍ أَوْ وُجُودٍ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصَوَابِ مَا اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهِ فَهَذَا شَرْحُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ الْأَرْبَعَةِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَيَجْمَعُ الْمُخْتَلِفِينَ لِأَنَّهُ أَشَدُّ لِتَقَصِّيهِ وَلِيَكْشِفَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا إِنَّمَا يَخْتَصُّ بِالْحَوَادِثِ الْمُشْكِلَةِ وَالنَّوَازِلِ الْمُلْتَبِسَةِ دُونَ مَا اسْتَقَرَّتْ أَحْكَامُهُ بِالنُّصُوصِ أَوْ بِالْإِجْمَاعِ أَوْ بِالْقِيَاسِ الَّذِي لَا يُحْتَمَلُ غَيْرُهُ ، فَيَجْمَعُ لَهُ الْمُخْتَلِفِينَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لِيَسْأَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ حُكْمِ الْحَادِثَةِ وَدَلِيلِهَا وَيُعَارِضَ الْأَدِلَّةَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ وَيَكْشِفَ عَنْ عِلَلِهَا وَأُصُولِهَا . وَلَا يُفَوِّضُ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ ، حَتَّى يَجْتَهِدَ فِيهَا كَاجْتِهَادِهِمْ ، ثُمَّ يَجْتَهِدُ فِي قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَيَنْظُرُ فِيمَا اسْتَدَلَّ بِهِ وَيُنَاظِرُهُمْ وَيُنَاظِرُونَهُ طَلَبًا لِلصَّوَابِ لَا نُصْرَةً لِقَوْلِهِ . فَإِذَا وَضُحَ لَهُ الصَّوَابُ بَعْدَ الْكَشْفِ وَالنَّظَرِ عَمِلَ عَلَيْهِ وَحَكَمَ بِهِ . وَإِنَّمَا لَزِمَهُ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ :

أَحَدُهَا : اقْتِدَاءٌ بِالصَّحَابَةِ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْهُمْ كَانُوا لَا يُنَفِّذُونَ الْأَحْكَامَ الْمُشْتَبِهَةَ إِلَّا بَعْدَ الْمُشَاوَرَةِ وَمَسْأَلَةِ النَّاسِ فِيمَا عَرَفُوهُ مِنْ أَحْكَامِ الرَّسُولِ كَمَا سَأَلَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ مِيرَاثِ الْجَدَّةِ ، حَتَّى أَخْبَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهَا السُّدُسَ وَسَأَلَ عَنِ الْمَجُوسِ فَأَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ " سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَكَمَا قَالَ عُمَرُ : رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دِيَةِ الْجَنِينِ شَيْئًا إِلَّا قَالَهُ فَأَخْبَرَهُ حَمَلُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى الْحَاكِمِ مِنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ وَالنَّوَازِلِ مَا يَكُونُ عِلْمُهُ عِنْدَ غَيْرِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُمْضِيَ حُكْمَهُ عَلَى الْتِبَاسٍ وَاحْتِمَالٍ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ مُجْتَهِدٌ وَعَلَى الْمُجْتَهِدِ التَّقَصِّي فِي اجْتِهَادِهِ ، وَمِنَ التَّقَصِّي أَنْ يَكْشِفَ بِالسُّؤَالِ وَيُنَاظِرَ فِي طَلَبِ الصَّوَابِ . الْفَرْقُ بَيْنَ النَّظَرِ وَالْجَدَلِ . وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَ النَّظَرِ وَالْجَدَلِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّظَرَ طَلَبُ الصَّوَابِ ، وَالْجَدَلَ نُصْرَةُ الْقَوْلِ . وَالثَّانِي : أَنَّ النَّظَرَ هُوَ الْفِكْرُ بِالْقَلْبِ وَالْعَقْلِ ، وَالْجَدَلَ هُوَ الِاحْتِجَاجُ بِاللِّسَانِ . الْفَرْقُ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَالْحُجَّةِ : وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَالْحُجَّةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الدَّلِيلَ مَا دَلَّكَ عَلَى مَطْلُوبِكَ ، وَالْحُجَّةَ مَا مَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ . وَالثَّانِي : أَنَّ الدَّلِيلَ مَا دَلَّكَ عَلَى صَوَابِكَ ، وَالْحُجَّةَ مَا دَفَعَتْ عَنْكَ قَوْلَ مُخَالِفِكَ . الْفَرْقُ بَيْنَ النَّصِّ وَالظَّاهِرِ . وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَ النَّصِّ وَالظَّاهِرِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّصَّ مَا كَانَ لَفْظُهُ دَلِيلَهُ ، وَالظَّاهِرُ مَا سَبَقَ مُرَادُهُ إِلَى فَهْمِ سَامِعِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ النَّصَّ مَا لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ احْتِمَالٌ ، وَالظَّاهِرُ مَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِ احْتِمَالٌ . الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَحْوَى وَلَحْنِ الْقَوْلِ . وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَحْوَى وَلَحْنِ الْقَوْلِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْفَحْوَى مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ اللَّفْظُ ، وَلَحْنُ الْقَوْلِ مَا لَاحَ فِي أَثْنَاءِ اللَّفْظِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْفَحْوَى مَا دَلَّ عَلَى مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ ، وَلَحْنُ الْقَوْلِ مَا دَلَّ عَلَى مِثْلِهِ . تَفَرُّدُ الْحَاكِمِ بِاجْتِهَادِهِ . فَإِنْ تَفَرَّدَ الْحَاكِمُ بِاجْتِهَادِهِ فَقَدْ أَسَاءَ وَقَصَّرَ ، وَكَانَ حُكْمُهُ نَافِذًا إِذَا عَمِلَ بِمَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ ، مَا لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ مَا لَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ مَعَهُ : مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ لَا يُحْتَمَلُ .

شُرُوطُ جَوَازِ وِلَايَةِ الْقَاضِي

أَنْ يَكُونَ كَامِلًا فِي نَفْسِهِ

شُرُوطُ جَوَازِ وِلَايَةِ الْقَاضِي مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي عَقْلِهِ مَا إِذَا عَقَلَ الْقِيَاسَ عَقْلُهُ وَإِذَا سَمِعَ الِاخْتِلَافَ مَيَّزَهُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ وَلَا لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَقْضِيَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يَجِبُ أَنْ تُسْتَوْفَى فِيهَا الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي وِلَايَةِ الْقَاضِي وَنَفَاذِ حُكْمِهِ . وَالَّذِي يُعْتَبَرُ فِي جَوَازِ وِلَايَتِهِ وَنَفَاذِ حُكْمِهِ سَبْعَةُ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ كَامِلًا فِي نَفْسِهِ . وَكَمَالُ نَفْسِهِ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : كَمَالُ حُكْمِهِ . وَالثَّانِي : كَمَالُ خُلُقِهِ . فَأَمَّا كَمَالُ الْحُكْمِ : فَهُوَ بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ لِأَنَّ بِاجْتِمَاعِهِمَا يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ وَيَثْبُتُ لِلْقَوْلِ حُكْمٌ . فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي غَيْرَ بَالِغٍ وَلَا مُخْتَلَّ الْعَقْلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمْيِيزٌ صَحِيحٌ وَلَا لِقَوْلِهِ حُكْمٌ نَافِذٌ . فَإِنْ قُلِّدَ الْقَضَاءَ صَبِيٌّ أَوْ مُخْتَلُّ الْعَقْلِ كَانَتْ وِلَايَتُهُ بَاطِلَةً ، وَأَحْكَامُهُ مَرْدُودَةً ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوَلًّى عَلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ وَالِيًا ، وَلَا يَلْزَمُهُ حُكْمُ قَوْلِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ لَازِمًا . وَلَيْسَ يَكْتَفِي فِيهِ بِالْعَقْلِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ مِنْ عِلْمِهِ بِالْمُدْرَكَاتِ الضَّرُورِيَّةِ حَتَّى يَكُونَ صَحِيحَ التَّمْيِيزِ جِيِّدَ الْفَطِنَةِ بَعِيدًا مِنَ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ يَتَوَصَّلُ بِذَكَائِهِ إِلَى حَلِّ مَا أُشْكِلَ وَفَصْلِ مَا أُعْضِلَ . فَإِنْ كَانَ مَعَ هَذِهِ الْحَالِ يَطْرَأُ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ جُنُونٌ ، نُظِرَ فِيهِ . فَإِنِ امْتَدَّ بِهِ حَتَّى تَأَخَّرَ عَنْ أَوْقَاتِ النَّظَرِ لَمْ يَصِحَّ تَقْلِيدُهُ . وَإِنْ قَصُرَ زَمَانُهُ وَكَانَ كَالسَّاعَةِ ، نُظِرَ . فَإِنْ أَثَّرَتْ فِي زَمَانِ إِفَاقَتِهِ لِفُتُورِ حِسِّهِ وَدَهَشِ عَقْلِهِ لَمْ يَصِحَّ تَقْلِيدُهُ . وَإِنْ أَفَاقَ مِنْ سَاعَتِهِ ، وَعَادَ إِلَى اسْتِقَامَتِهِ فَفِي جَوَازِ تَقْلِيدِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ فِي زَمَانِ ذَلِكَ عَنْ حُكْمِ التَّكْلِيفِ وَتَبْطُلُ بِهِ فُرُوضُ الْعِبَادَاتِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ وَيَجْرِي مَجْرَى فَتَرَاتِ النَّوْمِ وَأَوْقَاتِ الِاسْتِرَاحَةِ . فَإِنْ قُلِّدَ وَهُوَ سَلِيمُ الْعَقْلِ ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الْجُنُونُ بَطَلَتْ وِلَايَتُهُ ، وَلَمْ يَعُدْ إِلَيْهَا بِالْإِفَاقَةِ . وَلَكِنْ لَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي وِلَايَتِهِ : لِأَنَّ الْإِغْمَاءَ مَرَضٌ لَا يَمْنَعُ مِنَ النُّبُوَّةِ . وَأَمَّا كَمَالُ الْخِلْقَةِ فَتُعْتَبَرُ سَلَامَتُهُ فِيهَا فِي ثَلَاثَةِ أَوْصَافٍ : أَحَدُهَا : صِحَّةُ بَصَرِهِ ، فَلَا يَكُونُ أَعْمَى . وَالثَّانِي : صِحَّةُ سَمْعِهِ ، فَلَا يَكُونُ أَصَمَّ . وَالثَّالِثُ : سَلَامَةُ لِسَانِهِ ، فَلَا يَكُونُ أَخْرَسَ . فَأَمَّا الْأَعْمَى هل يتولى القضاء : فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ ، وَلَوْ عَمِيَ بَعْدَ التَّقْلِيدِ بَطَلَتْ وِلَايَتُهُ ، لِأَنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ . وَجَوَّزَ مَالِكٌ تَقْلِيدَ الْأَعْمَى ، كَمَا جَوَّزَ شَهَادَتَهُ . فَإِنْ كَانَ فِي عَيْنِهِ عَشًا يُبْصِرُ نَهَارًا وَلَا يُبْصِرُ لَيْلًا جَازَ تَقْلِيدُهُ . وَإِنْ كَانَ فِي بَصَرِهِ ضَعْفٌ فَإِنْ كَانَ يَرَى الْأَشْبَاحَ وَلَا يَعْرِفُ الصُّوَرَ لَمْ يَجُزْ تَقْلِيدُهُ . وَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ الصُّوَرَ إِذَا قَرُبَتْ وَلَا يَعْرِفُهَا إِذَا بَعُدَتْ جَازَ تَقْلِيدُهُ . وَأَمَّا الْأَصَمُّ هل يتولى القضاء : فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ ، وَإِنْ طَرَأَ عَلَيْهِ صَمَمٌ بَطَلَتْ وِلَايَتُهُ ، لِأَنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بِالصَّمَمِ بَيْنَ إِقْرَارٍ وَإِنْكَارٍ . وَالصَّمَمُ الْمَانِعُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ أَنْ لَا يَفْهَمَ الْأَصْوَاتَ وَإِنْ عَلَتْ . فَأَمَّا ثِقَلُ السَّمْعِ الَّذِي يَفْهَمُ عَالِيَ الْأَصْوَاتِ وَلَا يَفْهَمُ خَافِتَهَا فَتَقْلِيدُهُ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ تَقْلِيدُ السَّمِيعِ أَوْلَى مِنْهُ . وَأَمَّا الْأَخْرَسُ هل يتولى القضاء فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ ، وَإِنْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْخَرَسُ بَطَلَتْ وِلَايَتُهُ ، لِأَنَّهُ يَعْجِزُ بِخَرَسِهِ عَنْ إِنْفَاذِ الْأَحْكَامِ وَإِلْزَامِ الْحُقُوقِ . وَجَوَّزَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وِلَايَتَهُ إِذَا كَانَ مَفْهُومَ الْإِشَارَةِ ، كَمَا جَوَّزَ شَهَادَتَهُ . وَهُوَ عِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا مَمْنُوعٌ مِنَ الْأَمْرَيْنِ . فَأَمَّا إِنْ كَانَ بِلِسَانِهِ تَمْتَمَةٌ أَوْ فَأْفَأَةٌ أَوْ عَقْلَةٌ أَوْ رَدَّةٌ أَوْ عُقْدَةٌ لَا تَمْنَعُ مَنْ فَهْمِ الْكَلَامِ هل يقلد القضاء صَحَّ تَقْلِيدُهُ لِأَنَّهُ نَقْصٌ لَا يَمْنَعُ مَنْ فَهْمِ الْكَلَامِ وَإِنْ غَمُضَ فَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ مُوسَى لَمْ تَمْنَعْ عُقْدَةُ لِسَانِهِ مِنْ صِحَّةِ رِسَالَتِهِ . فَأَمَّا صِحَّةُ أَعْضَائِهِ فَغَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي وِلَايَتِهِ ، فَيَجُوزُ تَقْلِيدُهُ وَإِنْ كَانَ مُقْعَدًا أَوْ ذَا زَمَانَةٍ ، وَإِنْ كَانَتِ السَّلَامَةُ مِنَ الْآفَاتِ أَهْيَبَ لِذَوِي الْوِلَايَاتِ .

فَصَارَتِ الْأَوْصَافُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي كَمَالِ نَفْسِهِ خَمْسَةً : الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالْبَصَرُ وَالسَّمْعُ وَالنُّطْقُ فَهَذَا حُكْمُ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ .

فَصْلٌ الذُّكُورَةُ

فَصْلٌ : وَالشَّرْطُ الثَّانِي الذُّكُورَةُ فَيَكُونُ رَجُلًا . فَأَمَّا الْمَرْأَةُ هل تقلد القضاء فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهَا . وَجَوَّزَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ كَالرَّجُلِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَصِحُّ قَضَاؤُهَا فِيمَا تَصِحُّ فِيهِ شَهَادَتُهَا وَشَهَادَتُهَا عِنْدَهُ تَصِحُّ فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ . فَأَمَّا ابْنُ جَرِيرٍ فَإِنَّهُ عَلَّلَ جَوَازَ وِلَايَتِهَا بِجَوَازِ فُتْيَاهَا . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ عَلَّلَ جَوَازَ وِلَايَتِهَا بِجَوَازِ شَهَادَتِهَا . وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبَا إِلَيْهِ : قَوْلُهُ تَعَالَى : الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [ النِّسَاءِ : ] . يَعْنِي فِي الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقِمْنَ عَلَى الرِّجَالِ . وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " مَا أَفْلَحَ قَوْمٌ أَسْنَدُوا أَمْرَهُمْ إِلَى امْرَأَةٍ . وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ . وَلِأَنَّهُ لَمَّا مَنَعَهَا نَقْصُ الْأُنُوثَةِ مِنْ إِمَامَةِ الصَّلَوَاتِ مَعَ جَوَازِ إِمَامَةِ الْفَاسِقِ ، كَانَ الْمَنْعُ مِنَ الْقَضَاءِ الَّذِي لَا يَصِحُّ مِنَ الْفَاسِقِ أَوْلَى . وَلِأَنَّ نَقْصَ الْأُنُوثَةِ يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ الْوِلَايَاتِ كَإِمَامَةِ الْأَمَةِ . وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ فِي الْحُدُودِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ كَالْأَعْمَى . وَأَمَّا جَوَازُ فُتْيَاهَا وَشَهَادَتِهَا فَلِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ فِيهِمَا فَلَمْ تَمْنَعْ مِنْهُمَا الْأُنُوثَةُ وَإِنْ مَنَعَتْ مِنَ الْوِلَايَاتِ وَكَذَلِكَ تَقْلِيدُ الْخُنْثَى للقضاء لَا يَصِحُّ ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً فَإِنْ زَالَ إِشْكَالُهُ وَبَانَ رَجُلًا صَحَّ تَقْلِيدُهُ . فَإِنْ رُدَّ إِلَى الْمَرْأَةِ تَقْلِيدُ قَاضٍ لَمْ يَصِحَّ ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ أَنْ تَكُونَ وَالِيَةً لَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ مُوَلِّيَةً . وَإِنْ رُدَّ إِلَيْهَا اخْتِيَارُ قَاضٍ جَازَ ، لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ اجْتِهَادٌ لَا تَمْنَعُ مِنْهُ الْأُنُوثَةُ كَالْفُتْيَا .

فَصْلٌ الْحُرِّيَّةُ

فَصْلٌ : وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : الْحُرِّيَّةُ من شروط صحة القضاء : فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي عَبْدًا ، وَلَا مُدَبَّرًا ، وَلَا مُكَاتَبًا ، وَلَا مَنْ فِيهِ جُزْءٌ مِنَ الرِّقِّ ، وَإِنْ قَلَّ ، فَإِنْ قُلِّدَ كَانَتْ وِلَايَتُهُ بَاطِلَةً ، وَحُكْمُهُ مَرْدُودًا : لِأَنَّ الْعَبْدَ مَوْلًى عَلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ وَالِيًا ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ قَاضِيًا . وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ قَضَاءَ الْعَبْدِ ، لِجَوَازِ فُتْيَاهُ ، وَرِوَايَتِهِ ، وَلِقَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَوْ كَانَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ حَيًّا لَمَا يُخَالِجُنِي فِي تَقْلِيدِهِ شَكٌّ . وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَمْرَيْنِ . أَحَدُهُمَا : مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَوْلًى عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ وَالِيًا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَمْلُوكًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا وَرَاوِيًا . فَأَمَّا أَمْرُ سَالِمٍ فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَانَ مَوْلَى عِتَاقَةٍ وَلَمْ يَكُنْ بَاقِيًا فِي الرِّقِّ وَتَقْلِيدُ الْمُعْتَقِ للقضاء جَائِزٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ عُمَرَ قَالَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فِي مَدْحِ سَالِمٍ . وَقَدْ عَيَّنَ الْإِمَامَةَ فِي أَهْلِ الشُّورَى . وَبِالْإِجْمَاعِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ إِمَامًا عَلَى الْأُمَّةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُشِيرَ بِهَا إِلَيْهِ .

فَصْلٌ الْإِسْلَامُ

فَصْلٌ : وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ الْإِسْلَامُ من شروط صحة القضاء : فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ قَاضِيًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا عَلَى أَهْلِ دِينِهِ . وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ تَقْلِيدَهُ عَلَى أَهْلِ دِينِهِ ، وَأَنْفَذَ أَحْكَامَهُ وَقَبِلَ قَوْلَهُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ ، كَمَا جَوَّزَ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ . اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ الْجَارِي فِي تَقْلِيدِهِمْ . وَاحْتِجَاجًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [ الْمَائِدَةِ : ] . وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتْ وِلَايَتُهُمْ فِي الْمَنَاكِحِ جَازَتْ فِي الْأَحْكَامِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [ التَّوْبَةِ : ] . وَنُفُوذُ الْأَحْكَامِ يَنْفِي الصَّغَارَ . وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ فَمَنَعَ هَذَا الْخَبَرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْإِسْلَامِ وِلَايَةٌ لِغَيْرِ مُسْلِمٍ .

وَلِأَنَّ الْفَاسِقَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْكَافِرِ لِجَرَيَانِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ فَلَمَّا مَنَعَ الْفِسْقُ مِنْ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ الْكُفْرُ . وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ تَصِحَّ وِلَايَتُهُ فِي الْعُمُومِ لَمْ تَصِحَّ وِلَايَتُهُ فِي الْخُصُوصِ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ طَرْدًا وَكَالْمُسْلِمِ الْعَدْلِ عَكْسًا . فَأَمَّا الْآيَةُ فَمَحْمُولَةٌ عَلَى الْمُوَالَاةِ دُونَ الْوِلَايَةِ . وَأَمَّا وِلَايَاتُهُمْ فِي مَنَاكِحِهِمْ فَلِأَنَّهُمْ مَالِكُونَ لَهَا فَلَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِمْ فِيهَا . وَأَمَّا الْعُرْفُ الْجَارِي مِنَ الْوُلَاةِ فِي تَقْلِيدِهِمْ فَهُوَ تَقْلِيدُ زَعَامَةٍ وَرِيَاسَةٍ وَلَيْسَ بِتَقْلِيدِ حُكْمٍ وَقَضَاءٍ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ حُكْمُهُ أَهْلَ دِينِهِ لِالْتِزَامِهِمْ لَهُ لَا لِلُزُومِهِ لَهُمْ . وَلَا يَقْبَلُ الْإِمَامُ قَوْلَهُ فِيمَا حَكَمَ بِهِ بَيْنَهُمْ . وَإِذَا امْتَنَعُوا مَنْ تَحَاكُمِهِمْ إِلَيْهِ لَمْ يُجْبَرُوا عَلَيْهِ وَكَانَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ أَنْفَذَ .

فَصْلٌ الْعَدَالَةُ

فَصْلٌ : وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ الْعَدَالَةُ شرط من شروط تولي القضاء : فَمُعْتَبَرَةٌ فِي الْقَضَاءِ وَجَمِيعِ الْوِلَايَاتِ . وَالْعَدَالَةُ تعريفها : أَنْ يِكونَ صَادِقَ اللَّهْجَةِ ظَاهِرَ الْأَمَانَةِ عَفِيفًا عَنِ الْمَحَارِمِ مُتَوَقِّيًا لِلْمَآثِمِ بَعِيدًا مِنَ الرِّيَبِ مَأْمُونًا فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ مُسْتَعْمَلًا لِمُرُوءَةِ مِثْلِهِ فِي دِينِهِ وَسَنَسْتَوْفِي شُرُوطَهَا فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ . فَإِذَا تَكَامَلَتْ فِيهِ فَهِيَ الْعَدَالَةُ الَّتِي تَصِحُّ بِهَا وِلَايَتُهُ وَتُقْبَلُ بِهَا شَهَادَتُهُ . فَأَمَّا الْفِسْقُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا تَعَلَّقَ بِأَفْعَالٍ يَتَّبِعُ فِيهَا الشَّهْوَةَ فَلَا يَصِحُّ تَقْلِيدُهُ وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ وَإِنْ وَافَقَ فِيهِ الْحَقَّ لِفَسَادِ وِلَايَتِهِ . وَحُكِيَ عَنِ الْأَصَمِّ صِحَّةُ وِلَايَتِهِ ، وَنُفُوذُ حُكْمِهِ ، إِذَا وَافَقَ الْحَقَّ لِصِحَّةِ إِمَامَتِهِ فِي الصَّلَاةِ ، وَجَوَازِ اتِّبَاعِهِ فِيهَا . وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ [ الْحُجُرَاتِ : ] . فَمَنَعَ مِنْ قَبُولِ قَوْلِهِ ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنْ نُفُوذِ قَوْلِهِ . وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا جَعَلَ الْعَدَالَةَ شَرْطًا فِي الشَّهَادَةِ كَانَ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ شَرْطًا فِي الْقَضَاءِ ، وَجَازَتْ إِمَامَتُهُ لِتَعَلُّقِهَا بِالِاخْتِيَارِ وَخُرُوجِهَا عَنِ الْإِلْزَامِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مِنَ الْفِسْقِ مَا اخْتَصَّ بِاعْتِقَادٍ يَتَعَلَّقُ فِيهِ بِشُبْهَةٍ يَتَأَوَّلُ بِهَا خِلَافَ الْحَقِّ . فَفِي جَوَازِ تَقْلِيدِهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى حُكْمُ الْكُفْرِ بِتَأْوِيلٍ وَغَيْرِ تَأْوِيلٍ ، وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ الْفِسْقِ بِتَأْوِيلٍ وَغَيْرِ تَأْوِيلٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَأَوُّلُهُ الشُّبَهَ فِي الْفُرُوعِ لَا يَمْنَعُ مِنَ التَّقْلِيدِ كَانَ كَذَلِكَ فِي الْأُصُولِ . فَإِنْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْفِسْقُ بعد تقلده القضاء بَعْدَ صِحَّةِ تَقْلِيدِهِ بَطَلَتْ وِلَايَتُهُ بِالضَّرْبِ الْأَوَّلِ . وَفِي بُطْلَانِهَا بِالضَّرْبِ الثَّانِي وَجْهَانِ : أَصَحُّهُمَا هَاهُنَا لَا تَبْطُلُ . وَأَصَحُّهُمَا هُنَاكَ لَا تَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ لَا يُقَلَّدُ إِلَّا بِتَعْدِيلٍ كَامِلٍ وَلَا يَنْعَزِلُ إِلَّا بِجَرْحٍ كَامِلٍ .

فَصْلٌ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ

فَصْلٌ : وَالشَّرْطُ السَّادِسُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ من شروط تولي القضاء : وَعِلْمُهُ بِهَا يَشْتَمِلُ عَلَى أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا : عِلْمُهُ بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أُصُولِهَا الَّتِي يَسْتَنْبِطُ بِهَا أَحْكَامَهَا . وَالثَّانِي : مَعْرِفَتُهُ بِفُرُوعِهَا فِيمَا انْعَقَدْ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ ، أَوْ حَصَلَ فِيهِ اخْتِلَافٌ لِيَتِّبِعَ الْإِجْمَاعَ ، وَيَجْتَهِدَ فِي الِاخْتِلَافِ : لِيَصِيرَ بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي الدِّينِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يُفْتِيَ وَيَقْضِيَ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ وَيَسْتَقْضِيَ . فَإِنْ كَانَ عَامِّيًّا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفْتِيَ وَلَا يَقْضِيَ ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ بَاطِلَةً وَحُكْمُهُ وَإِنْ وَافَقَ الْحَقَّ مَرْدُودًا . وَجَوَّزَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ تَقْلِيدَ الْعَامِّيِّ الْقَاضِي لِيَسْتَفْتِيَ فِي أَحْكَامِهِ الْعُلَمَاءَ . اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ إِذَا جَازَ أَنْ يَحْكُمَ فِي الِاسْتِفْتَاءِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ جَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِأَنَّهُمَا مَعًا حُكْمٌ بِعِلْمٍ . قَالُوا وَلِأَنَّ مَنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا جَازَ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا كَالْعَالِمِ . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ مَعَ الْجَهْلِ بِمَا تَوَصَّلَا بِهِ إِلَى صِحَّةِ الشَّهَادَةِ ، وَيَحْكُمُ بِقِيمَةِ الْمُقَوِّمَيْنِ مَعَ الْجَهْلِ بِمَا تَوَصَّلَا بِهِ إِلَى صِحَّةِ الْقِيمَةِ ، جَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِفُتْيَا الْمُفْتِي مَعَ الْجَهْلِ بِمَا تَوَصَّلَ بِهِ إِلَى صِحَّةِ الْحُكْمِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [ الزُّمَرِ : ] . وَالدَّلِيلُ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَنَعَ مِنَ الْمُسَاوَاةِ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْحُكْمِ وَغَيْرِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَالَهُ زَجْرًا فَصَارَ أَمْرًا .

وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِي النَّارِ ، فَالَّذِي فِي الْجَنَّةِ رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحُكْمَ فَجَارَ عَنْهُ فَهُوَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ قَضَى بَيْنَ النَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى دُخُولِ الْعَامِّيِّ فِي الْوَعِيدِ لِأَنَّهُ قَضَى عَلَى جَهْلٍ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا اسْتَفْتَى لَمْ يَقْضِ عَلَى جَهْلٍ وَإِنَّمَا يَقْضِي بِعِلْمٍ . فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُقَلِّدَ لَيْسَ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَضَى بِعِلْمٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ جَاهِلٌ بِطَرِيقِ الْعِلْمِ ، وَإِنْ عَلِمَ فَلَمْ يَخْرُجْ فِي الْجَوَابَيْنِ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا بِجَهْلٍ . وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُفْتِيًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا كَالْفَاسِقِ . ثُمَّ الْحُكْمُ أَغْلَظُ لِأَنَّ الْحَاكِمَ مُلْزِمٌ وَالْمُفْتِيَ غَيْرُ مُلْزِمٍ . وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ ، كَغَيْرِ الْمُسْتَفْتِي . وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ يَلْتَزِمُهُ غَيْرُ مُلْزِمِهِ فَلَمْ يَصِحَّ مِنْ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِينَ كَالْفَتَاوَى . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْعَامِّيِّ الْمُسْتَفْتِي فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَامِّيَّ مُضْطَرٌّ وَالْحَاكِمَ غَيْرُ مُضْطَرٍّ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْعَامِّيَّ يَلْتَزِمُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَالْحَاكِمَ يُوجِبُهُ عَلَى غَيْرِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالشَّهَادَةِ كَالْعَالِمِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا رُوعِيَ فِي الشَّهَادَةِ آلَتُهَا : وَهُوَ فِي التَّحَمُّلِ الْعَقْلُ وَالْبَصَرُ وَالسَّمْعُ وَفِي الْأَدَاءِ الْعَقْلُ وَاللِّسَانُ ، وَجَبَ أَنْ يُرَاعَى فِي الْحُكْمِ آلَتُهُ : وَهُوَ الِاجْتِهَادُ فَصَارَتِ الشَّهَادَةُ لَنَا دَلِيلًا . وَالثَّانِي : فِي مَعْنَى الْأَصْلِ أَنَّ الْعَالِمَ لَمَّا جَازَ أَنْ يُفْتِيَ جَازَ أَنْ يَحْكُمَ ، وَالْعَامِّيُّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفْتِيَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِطَرِيقِ الشَّهَادَةِ وَالتَّقْوِيمِ ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمْ يُنَصَّبْ لَهُ عَلَى صِدْقِ الشَّاهِدِينَ وَالْمُقَوِّمِينَ دَلِيلٌ فَجَازَ لَهُ تَقْلِيدُهُمْ وَقَدْ نُصِّبَ لَهُ عَلَى الْأَحْكَامِ دَلِيلٌ فَلَمْ يَجُزْ تَقْلِيدُهُ فِيهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَلْزَمِ الْمُفْتِيَ مَعْرِفَةُ طَرِيقِ الشَّهَادَةِ وَالتَّقْوِيمِ لَمْ يَلْزَمِ الْحَاكِمَ وَلَمَّا لَزِمَ الْمُفْتِيَ مَعْرِفَةُ طَرِيقِ الْأَحْكَامِ لَزِمَ الْحَاكِمَ .

فَصْلٌ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا بِأُصُولِ الشَّرْعِ الْأَرْبَعَةِ

فَصْلٌ : وَالشَّرْطُ السَّابِعُ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا بِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ الْأَرْبَعَةِ . فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعْدِلُ عَنْ بَعْضِهَا وَيَعْتَقِدُ إِبْطَالَ شَيْءٍ مِنْهَا نُظِرَ .

فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَقُولُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، لَمْ يَجُزْ تَقْلِيدُهُ ، لِأَنَّ أَكْثَرَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ . وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَقُولُ بِحُجَّةِ الْإِجْمَاعِ ، وَيُجَوِّزُ مُخَالَفَةَ الْإِجْمَاعِ لَمْ يَجُزْ تَقْلِيدُهُ ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ أَصْلٌ مُتَّبَعٌ . وَإِنْ كَانَ مِنْ نُفَاةِ الْقِيَاسِ فَهُمْ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَنْ نَفَى الْقِيَاسَ وَعَمِلَ بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ وَعَدَلَ عَمَّا لَا نَصَّ فِيهِ إِلَى أَقَاوِيلِ سَلَفِهِمْ وَجَعَلُوهَا كَالنَّصِّ فِي الْعَمَلِ بِهَا . مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ هَؤُلَاءِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِتَقْلِيدِهِمْ فِي الْأَحْكَامِ . وَالثَّانِي : لِتَرْكِهِمْ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ وَهُوَ الْقِيَاسُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مِنْ نُفَاةِ الْقِيَاسِ : مَنْ يَعْدِلُ عِنْدَ عَدَمِ النُّصُوصِ إِلَى فَحْوَى الْكَلَامِ وَدَلِيلِ الْخِطَابِ وَسَلْكِ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَيَعْدِلُ عَنْ تَعْلِيلِ النُّصُوصِ بِمَعَانِيهَا كَأَهْلِ الظَّاهِرِ ، فَفِي جَوَازِ تَقْلِيدِهِمُ الْقَضَاءَ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ مِنْ تَرْكِ أَصْلٍ مَشْرُوعٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ : لِأَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ وَاضِحَ الْمَعَانِي وَإِنْ عَدَلُوا عَنْ خَفِيِّ الْقِيَاسِ .

فَصْلٌ تَقْلِيدُ الْمَفْضُولِ الْقَضَاءَ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ

فَصْلٌ : تَقْلِيدُ الْمَفْضُولِ الْقَضَاءَ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ . فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ السَّبْعَةِ صَحَّ تَقْلِيدُ مَنْ وُجِدَتْ فِيهِ وَإِنْ كَانَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ مَوْجُودًا : لِأَنَّ تَقْلِيدَ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْفَاضِلِ جَائِزٌ فِي الْقَضَاءِ . وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِهِ فِي الْإِمَامَةِ ، فَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ ، كَالْقَضَاءِ وَمَنَعَ مِنْهُ آخَرُونَ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ فِي وَاحِدٍ وَالْقَضَاءَ فِي عَدَدٍ . وَلِأَنَّ الْإِمَامَ يَسْتَدْرِكُ خَطَأَ الْقُضَاةِ وَلَيْسَ عَلَى الْإِمَامِ مَنْ يَسْتَدْرِكُ خَطَأَهُ . حُكْمُ الْقَاضِي بِغَيْرِ مَذْهَبِهِ . فَإِذَا تَقَلَّدَ الْقُضَاةُ بِوُجُودِ الشُّرُوطِ السَّبْعَةِ فِيهِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ . وَإِنِ اعْتَزَى إِلَى مَذْهَبٍ مِنْ مَذَاهِبِ أَئِمَّةِ الْوَقْتِ كَمَنْ أَخَذَ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، أَوْ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَلِّدَ صَاحِبَ مَذْهَبِهِ ، وَعَمِلَ عَلَى اجْتِهَادِ نَفْسِهِ ، وَإِنْ خَالَفَ مَذْهَبَ مَنِ اعْتَزَى عَلَيْهِ . فَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، وَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ فِي حَالَةٍ إِلَى الْعَمَلِ فِيهَا بِقَوْلِ أَبِي

حَنِيفَةَ ، أَوْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ فِيهَا إِلَى الْعَمَلِ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ جَازَ . وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَسَاعَدَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : قَدِ اسْتَقَرَّتِ الْيَوْمَ مَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ وَتَعَيَّنَ الْأَئِمَّةُ الْمُتَّبَعُونَ فِيهَا فَلَا يَجُوزُ لِمَنِ اعْتَزَى إِلَى مَذْهَبٍ أَنْ يَحْكُمَ بِغَيْرِهِ فَمَنَعَ أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَحْكُمُوا بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَمَنَعَ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَحْكُمُوا بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ ، لِأَجْلِ التُّهْمَةِ ، وَأَنْ يَجْعَلَ الْقُضَاةُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى الْمُمَايَلَةِ ، وَأَوْجَبُوا عَلَى كُلِّ مُنْتَحِلٍ لِمَذْهَبٍ أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبِ صَاحِبِهِ . وَهَذَا وَإِنْ كَانَ الرَّأْيُ يَقْتَضِيهِ فَأُصُولُ الشَّرْعِ تُنَافِيهِ : لِأَنَّ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بِاجْتِهَادِ غَيْرِهِ . وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : الْحَاكِمُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَحْكُمَ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ أَوْ بِاجْتِهَادِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ أَوْ مِمَّنِ اعْتُزِيَ إِلَى مَذْهَبِهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ لَمَّا تَوَسَّطَ أَمْرَ الشُّورَى وَانْتَصَبَ لِاخْتِيَارِ الْإِمَامِ مِنْهُمْ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أُبَايِعُكَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَسِيرَةِ الشَّيْخَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ عَلِيٌّ : بَلْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَجْتَهِدُ رَأْيِي ، فَعَدَلَ إِلَى عُثْمَانَ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ نَعَمْ فَبَايَعَهُ . فَاسْتَدَلُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَلِيًّا امْتَنَعَ مِنْ تَقْلِيدِهِمَا : لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ أَعْلَمُ مِنْهُمَا وَأَجَابَ عُثْمَانُ إِلَى تَقْلِيدِهِمَا : لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُمَا أَعْلَمُ مِنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَمَّا رَأَى أَنَّهُمَا أَعْلَمُ مِنْ غَيْرِهِمَا دَعَا إِلَى تَقْلِيدِهِمَا . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ وَإِنْ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُ هُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِمُعَاذٍ : " بِمَ تَحْكُمُ ؟ قَالَ : بِكِتَابِ اللَّهِ . قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ ؟ قَالَ : بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ ؟ قَالَ : أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ بَعْدَ اجْتِهَادِ رَأْيِهِ أَنْ يُقَلِّدَ أَحَدًا . وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ لَهُ الْحُكْمُ بِاجْتِهَادِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْحُكْمُ بِاجْتِهَادِ غَيْرِهِ ، قِيَاسًا عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْحَاكِمُ أَعْلَمَ وَلِأَنَّ كُلَّ مُشْتَرِكَيْنِ فِي آلَةِ الِاجْتِهَادِ فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا تَقْلِيدُ صَاحِبِهِ وَإِنْ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُ قِيَاسًا عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ وَلِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ تَقْلِيدُ مِثْلِهِ لَمْ يَجُزْ لْهُ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ كَالْمُفْتِي . وَلِأَنَّ مَا حَرُمَ مِنَ التَّقْلِيدِ عَلَى الْمُفْتِي حَرُمَ عَلَى الْحَاكِمِ ، كَالتَّقْلِيدِ مَعَ النَّصِّ .

فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ : فَهُوَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى السِّيرَةِ وَالسِّيَاسَةِ دُونَ الْأَحْكَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

إِبْطَالُ الِاسْتِحْسَانِ

إِبْطَالُ الِاسْتِحْسَانِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَحْسِنَ بِغَيْرِ قِيَاسٍ وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يُشَرِّعَ فِي الدِّينِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الِاسْتِحْسَانُ فِيمَا أَوْجَبَتْهُ أَدِلَّةُ الْأُصُولِ وَاقْتَرَنَ بِهِ اسْتِحْسَانُ الْعُقُولِ فَهُوَ حُجَّةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا يَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهَا . فَأَمَّا اسْتِحْسَانُ الْعُقُولِ إِذَا لَمْ يُوَافِقْ أَدِلَّةَ الْأُصُولِ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ . وَالْعَمَلُ بِدَلَائِلِ الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْجَبُ وَهِيَ أَحْسَنُ فِي الْعُقُولِ مِنْ الِانْفِرَادِ عَنْهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الِاسْتِحْسَانُ فِي الشَّرْعِ حُجَّةٌ تُوجِبُ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي بَيَانِ مَذْهَبِهِ فِيهِ : فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ الْعَمَلُ بِأَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ . وَهَذَا مِمَّا نُوَافِقُهُ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ الْأَحْسَنُ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ الْقَوْلُ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ كَمَا خَصَّ خُرُوجَ الْجِصِّ وَالنَّوَرَةِ مِنْ عِلَّةِ الرِّبَا وَإِنْ كَانَ مَكِيلًا . وَهَذَا أَصْلٌ نُخَالِفُهُ فِيهِ : وَلِلْكَلَامِ عَلَيْهِ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَنْ يَتْرُكَ أَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ بِأَضْعَفِهِمَا إِذَا كَانَ حَسَنًا ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا فِي الزَّوَايَا . وَهَذَا نُخَالِفُهُ فِيهِ : لِأَنَّ أَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ عِنْدَنَا أَحْسَنُ مِنْ أَضْعَفِهِمَا . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ مَا غَلَبَ فِي الظَّنِّ وَحَسُنَ فِي الْعَقْلِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَلَا أَصْلٍ وَإِنْ دَفَعَهُ مِنْ دَلَائِلِ الشَّرْعِ أَصْلٌ . هَذَا هُوَ أَفْسَدُ الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا . أَدِلَّةُ الْقَائِلِينَ بِالِاسْتِحْسَانِ . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى الْعَمَلِ بِالِاسْتِحْسَانِ فِي الْجُمْلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [ الزُّمَرِ : ] . وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ

قَالُوا وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَحْكَامٍ عَدَلُوا عَنِ الْأُصُولِ فِيهَا إِلَى الِاسْتِحْسَانِ ، مِنْهَا دُخُولُ الْوَاحِدِ إِلَى الْحَمَّامِ ، يَسْتَعْمِلُ مَاءً غَيْرَ مُقَدَّرٍ ، وَيَقْعُدُ فِيهِ زَمَانًا غَيْرَ مُقَدَّرٍ ، وَيُعْطِي عَنْهُ عِوَضًا غَيْرَ مُقَدَّرٍ ، وَيَشْرَبُ مِنَ السَّاقِي مَاءً غَيْرَ مُقَدَّرٍ وَيُعْطِي عَنْهُ عِوَضًا غَيْرَ مُقَدَّرٍ ، وَيَشْتَرِي الْمَأْكُولَ بِالْمُسَاوَمَةِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ يَتَلَفَّظُ فِيهِ بِبَدَلٍ وَقَبُولٍ ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ ، وَقَدْ عَمِلَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ اسْتِحْسَانًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ حُجَّةٌ وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِحُجَّةٍ . وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ الِاحْتِجَاجِ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِحْسَانِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [ النِّسَاءِ : ] . فَجَعَلَ الْأَحْسَنَ فِي التَّنَازُعِ مَا كَانَ مَأْخُوذًا عَنْ أَوَامِرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَفَى بِالتَّنَازُعِ قُبْحًا أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ غَيْرِهِمَا . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ [ النِّسَاءِ : ] . فَنَفَى الْعِلْمَ عَنْ غَيْرِ الْمُسْتَنْبِطِ . وَالِاسْتِنْبَاطُ هُوَ الْبِنَاءُ عَلَى مَعَانِي الْأُصُولِ دُونَ الظَّنِّ وَالِاسْتِحْسَانِ . وَلِأَنَّ فِي الظَّنِّ وَالِاسْتِحْسَانِ اتِّبَاعًا لِهَوًى ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ ص : ] . وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ . فَإِنْ كَانَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ ، وَجَبَ اتِّبَاعُ الْإِجْمَاعِ فِيهِ . وَإِنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ فَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [ الشُّورَى : ] . وَلَمْ يَقُلْ إِلَى الِاسْتِحْسَانِ وَلِأَنَّ الِاسْتِحْسَانَ بِالدَّلِيلِ يُوجِبُ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ . وَالِاسْتِحْسَانُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ يُوقِعُ الِاخْتِلَافَ فِيهِ لِاخْتِلَافِ الْآرَاءِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [ النِّسَاءِ : ] . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لِوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ . وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الِاسْتِحْسَانُ بِالْعَقْلِ مُغْنِيًا فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ عَنْ أُصُولِ الشَّرْعِ لَاسْتَغْنَى بِعَقْلِهِ عَنِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَجَازَ لَهُ أَنْ يُشَرِّعَ فِي الدِّينِ بِعَقْلِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْعٍ ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [ الْقِيَامَةِ : ] . يَعْنِي : غَيْرَ مَأْمُورٍ وَلَا مَنْهِيٍّ . وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ أَقْوَى مِنَ الِاسْتِحْسَانِ لِجَوَازِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ دُونَ الِاسْتِحْسَانِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَيْهِ الِاسْتِحْسَانُ .

وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الِاسْتِحْسَانُ دَلِيلًا لَجَازَ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي تَرْكِ الِاسْتِحْسَانِ دَلِيلًا فَيَؤُولُ إِثْبَاتُهُ إِلَى إِبْطَالِهِ . الْجَوَابُ عَلَى أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِهِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [ الزُّمَرِ : ] . فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِ الْأَحْسَنِ دُونَ الْمُسْتَحْسَنِ وَالْأَحْسَنُ مَا كَانَ فِي نَفْسِهِ حَسَنًا وَالْمُسْتَحْسَنُ مَا اسْتَحْسَنَهُ الْغَيْرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَسَنًا فَافْتَرَقَا ، وَلَزِمَ اتِّبَاعُ الْأَحْسَنِ دُونَ الْمُسْتَحْسَنِ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ وَارِدٌ فِيمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ مِنْ ثَوَابِ الطَّاعَاتِ وَعِقَابِ الْمَعَاصِي فَيَتَّبِعُونَ الْأَحْسَنَ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَةِ وَاجْتِنَابِ الْمَعْصِيَةِ . وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا جُعِلَ لَهُ مِنِ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ ، وَنُدِبَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَفْوِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [ الْبَقَرَةِ : ] . فَجُعِلَ لَهُ الْقِصَاصُ وَنُدِبَ فِيهِ إِلَى الْعَفْوِ فَكَانَ الْعَفْوُ أَحْسَنَ مِنَ الْقِصَاصِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : " مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ حَسَنٌ عِنْدَ اللَّهِ " فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَخْلُو مُرَادُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُرِيدَ مَا رَآهُ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ حَسَنًا فَهُوَ الْإِجْمَاعُ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ . أَوْ يُرِيدُ مَا رَآهُ بَعْضُهُمْ حَسَنًا فَلَيْسَ بَعْضُهُمُ الَّذِي اسْتَحْسَنَهُ بِأَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ الَّذِي اسْتَقْبَحَهُ وَهَذَا يَتَعَارَضُ فَصَارَ مَحْمُولًا عَلَى الْإِجْمَاعِ دُونَ الِاخْتِلَافِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى اسْتِحْسَانِ مَا خَالَفَ الْأُصُولَ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْأَمْثِلَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى هَذَا انْعَقَدَ فَصِرْنَا إِلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ لَا بِالِاسْتِحْسَانِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا تَرَاضَى بِهِ النَّاسُ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ وَتَسَامَحُوا بِهِ فِي عُرْفِهِمْ لَمْ يُعَارِضُوا فِيهِ مَا لَمْ يُفْضِ إِلَى الرِّبَا وَاسْتِبَاحَةِ الْفُرُوجِ ، وَلَوْ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا فِيهِ لَحَمَلْنَاهُ عَلَى مُوجَبِ الْأُصُولِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ أَنْكَرَ الشَّافِعِيُّ الِاسْتِحْسَانَ ، وَقَالَ بِهِ فِي مَسَائِلَ :

مِنْهَا : أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُتْعَةِ " وَاسْتَحْسَنَ بِقَدْرِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا " وَقَالَ فِي الشُّفْعَةِ : " إِنَّهُ يُؤَجَّلُ ثَلَاثًا وَذَلِكَ اسْتِحْسَانٌ مِنِّي وَلَيْسَ بِأَصْلٍ " وَقَالَ فِي أَيْمَانِ الْحُكَّامِ : وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ الْحُكَّامِ يَحْلِفُ بِالْمُصْحَفِ ، وَذَلِكَ عِنْدِي حَسَنٌ " وَقَالَ فِي الْأَذَانِ : " حَسَنٌ أَنْ يَضَعَ إِصْبَعَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ " . قِيلَ : لَمْ يَقُلِ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِحْسَانِ ، وَإِنَّمَا قَالَهُ لِدَلِيلٍ اقْتَرَنَ بِهِ : أَمَّا اسْتِحْسَانُهُ الْمُتْعَةَ بِقَدْرِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فَلِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَهُ ، وَمَذْهَبُهُ فِي الْقَدِيمِ : أَنَّ الصَّحَابِيَّ إِذَا انْفَرَدَ بِقَوْلٍ لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ فَهُوَ حُجَّةٌ . وَأَمَّا اسْتِحْسَانُهُ الشُّفْعَةَ أَنْ يُؤَجَّلَ ثَلَاثًا فَلِأَنَّ النَّاسَ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى تَأْجِيلِهِ فِي قَرِيبِ الزَّمَانِ فِي مَبِيتِهِ بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِ وَإِمْهَالِهِ لِزَمَانِ أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَلِبَاسِهِ فَجَعَلَ الْقَرِيبَ مُقَدَّرًا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ [ هُودٍ : ] . فَجَعَلَهَا حَدًّا لِلْقُرْبِ . وَأَمَّا اسْتِحْسَانُهُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْلِفَ بِالْمُصْحَفِ فَلِأَنَّ الْأَيْمَانَ قَدْ تُغَلَّظُ فِي كَثِيرِ الْأَمْوَالِ فَجَازَ أَنْ تُغَلَّظَ بِالْمُصْحَفِ الْمُوجِبِ لِلْكَفَّارَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ فَضْلِ الْخَوْفِ وَالتَّحَرُّجِ . وَأَمَّا اسْتِحْسَانُهُ أَنْ يَضَعَ إِصْبَعَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ فَلِأَنَّ بِلَالًا كَانَ يَفْعَلُهُ بِمَشْهَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّهُ أَمَدُّ لِصَوْتِهِ . فَلَمْ يَخْلُ مَا اسْتَحْسَنَهُ مِنْ دَلِيلٍ اقْتَرَنَ بِهِ . وَالِاسْتِحْسَانُ بِالدَّلِيلِ مَعْمُولٌ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا نُنْكِرُ الْعَمَلَ بِالِاسْتِحْسَانِ إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ دَلِيلٌ

تَقْسِيمُ الشَّافِعِيِّ لِلْقِيَاسِ

تَقْسِيمُ الشَّافِعِيِّ لِلْقِيَاسِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَالْقِيَاسُ قِيَاسَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ فَذَلِكَ الَّذِي لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ خِلَافُهُ وَالْآخَرُ أَنْ يُشْبِهَ الشَّيْءُ الشَّيْءَ مِنْ أَصْلٍ وَيُشْبِهَ الشَّيْءَ مِنْ أَصْلٍ غْيرِهِ فَيُشْبِهُهُ هَذَا بِهَذَا الْأَصْلِ وَيُشْبِهُهُ الْآخَرُ بِأَصْلِ غَيْرِهِ وَمَوْضِعُ الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنْ يَنْظُرَ فَإِنْ أَشْبَهَهُ أَحَدُهُمَا فِي خَصْلَتَيْنِ وَالْآخَرُ فِي خَصْلَةٍ أَلْحَقَهُ بِالَذِي أَشْبَهَهُ فِي الْخَصْلَتَيْنِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ قَدَّمْنَا مِنْ أَقْسَامِ الْقِيَاسِ مَا أَقْنَعَ وَأَوْضَحْنَا مِنْ أَمْثِلَتِهِ مَا كَفَى . فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا " وَالْقِيَاسُ قِيَاسَانِ " فَفِي تَأْوِيلِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِ ، أَنَّهُ أَرَادَ بِالْأَوَّلِ قِيَاسَ الْمَعْنَى وَبِالثَّانِي قِيَاسَ الشَّبَهِ .

فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ جَعَلَ الْأَوَّلَ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ ، وَقِيَاسُ الْمَعْنَى يَجُوزُ خِلَافُهُ إِذَا كَانَ خَفِيًّا ، وَلَا يَجُوزُ خِلَافُهُ إِذَا كَانَ جَلِيًّا ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَرَادَ الْجَلِيَّ دُونَ الْخَفِيِّ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَهُمَا مَعًا فَالْجَلِيُّ لَا يَجُوزُ خِلَافُ حُكْمِهِ وَالْخَفِيُّ لَا يَجُوزُ تَرْكُ قِيَاسِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : فِي تَأْوِيلِ كَلَامِهِ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْقِيَاسِ الْأَوَّلِ مَا لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ مِنْ قِيَاسَيِ الْمَعْنَى وَقِيَاسِ التَّحْقِيقِ مِنْ قِيَاسِ الشَّبَهِ ، لِأَنَّ خِلَافَهُمَا لَا يَجُوزُ ، وَأَرَادَ بِالْقِيَاسِ الثَّانِي : مَا يَجُوزُ فِيهِ الِاخْتِلَافُ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الْخَفِيُّ مِنْ قِيَاسِ الْمَعْنَى وَقِيَاسُ التَّقْرِيبِ مِنْ قِيَاسِ الشَّيْءِ ، فَيَكُونُ تَأْوِيلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مَحْمُولًا عَلَى مَعْنَى لَفْظِهِ وَتَأْوِيلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مَحْمُولًا عَلَى مَعْنَى حُكْمِهِ .

مَسْأَلَةٌ حُكْمُ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَتَخْطِئَتُهُ لِلْمُجْتَهِدِينَ

[ حُكْمُ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَتَخْطِئَتُهُ لِلْمُجْتَهِدِينَ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [ الْأَنْبِيَاءِ : ] . قَالَ الْحَسَنُ : لَوْلَا هَذِهِ الْآيَةُ لَرَأَيْتُ أَنَّ الْحُكَّامَ قَدْ هَلَكُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمِدَ هَذَا لِصَوَابِهِ وَأَثْنَى عَلَى هَذَا بِاجْتِهَادِهِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا مِنْ أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ مَا أَغْنَى ، وَمُرَادُ الشَّافِعِيِّ بِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ بَيَانِ مَذْهَبِهِ فِي الِاجْتِهَادِ فِي ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ عَلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى طَلَبِ الْعَيْنِ ، وَإِصَابَةِ الْحُكْمِ فِي الْحَادِثَةِ . وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادَ لِيَعْمَلَ بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْحَقَّ فِي أَحَدِ أَقَاوِيلِ الْمُجْتَهِدِينَ ، لَا فِي جَمِيعِهَا وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فَجَعَلَ الْحَقَّ فِي جَمِيعِهَا . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْمُصِيبَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ وَاحِدٌ ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ ، وَأَنَّ كُلَّهُمْ مُخْطِئٌ عِنْدَ اللَّهِ ، وَفِي الْحُكْمِ ، إِلَّا ذَلِكَ الْوَاحِدَ ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُصِيبًا عِنْدَ اللَّهِ ، وَفِي الْحُكْمِ وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فَجَعَلَ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا عِنْدَ اللَّهِ وَفِي الْحُكْمِ . [ الِاعْتِرَاضُ عَلَى الشَّافِعِيِّ بِأَنَّ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ قَوْلَيْنِ ] . فَإِذَا اسْتَقَرَّتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي الِاجْتِهَادِ اعْتَرَضَ بِهَا عَلَيْهِ مَنْ خَالَفَهُ فِي إِنْكَارِ الْقَوْلَيْنِ ، فَقَالُوا : كَيْفَ اسْتَجَازَ أَنْ يَحْكُمَ فِي حَادِثَةٍ بِقَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ وَأَكْثَرَ وَهُوَ يَرَى أَنَّ عَلَيْهِ طَلَبَ الْعَيْنِ وَأَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ وَأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُخْطِئٌ إِلَّا وَاحِدًا . فَكَانَ حُكْمُهُ بِالْقَوْلَيْنِ خَطَأً مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ :

أَحَدُهَا : أَنَّهُ خَالَفَ بِذَلِكَ أُصُولَ مَذْهَبِهِ فِي الِاجْتِهَادِ ، لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْقَوْلَيْنِ يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ طَلَبِ الْعَيْنِ ، وَيَجْعَلُ الْحَقَّ فِي جَمِيعِ الْأَقَاوِيلِ ، وَيَجْعَلُ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا ، فَنَقَضَ بِفُرُوعِ الِاجْتِهَادِ أُصُولَ مَذْهَبِهِ فِي الِاجْتِهَادِ ، وَكَفَى بِهَذَا التَّنَاقُضِ فَسَادًا لِقَوْلِهِ وَوَهَنًا لِمَذْهَبِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ ابْتَدَعَ بِذَلِكَ طَرِيقَةً خَرَقَ بِهَا إِجْمَاعَ مَنْ تَقَدَّمَهُ وَأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْ عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى زَمَانِهِ مَنْ أَجَابَ فِي حُكْمٍ بِقَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي حَالٍ وَاحِدٍ ، وَكَانُوا مِنْ بَيْنِ مَنِ اسْتَقَرَّ لَهُ جَوَابٌ ذَكَرَهُ أَوْ خَفِيَ عَلَيْهِ فَأَمْسَكَ عَنْهُ ، وَلَمْ يُجِبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي حُكْمٍ بِقَوْلَيْنِ ، لِأَنَّ الْجَوَابَ مَا أَبَانَ وَلَيْسَ فِي الْقَوْلَيْنِ بَيَانٌ ، وَخَرَقَ الْإِجْمَاعَ بِالْقَوْلَيْنِ كَخَرْقِهِ بِغَيْرِ الْقَوْلَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ التَّنَاقُضَ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ مُمْتَنِعٌ ، وَالْحَلَالَ لَيْسَ بِحَرَامٍ ، وَالْحَرَامَ لَيْسَ بِحَلَالٍ ، وَالْإِثْبَاتَ لَيْسَ بِنَفْيٍ ، وَالنَّفْيَ لَيْسَ بِإِثْبَاتٍ ، وَهُوَ بِالْقَوْلَيْنِ قَدْ حَلَّلَ الشَّيْءَ فِي أَحَدِهِمَا وَحَرَّمَهُ فِي الْآخَرِ ، وَأَثْبَتَهُ بِأَحَدِهِمَا وَنَفَاهُ الْآخَرُ ، وَمَا أَضَافَ إِلَى الشَّرْعِ مُمْتَنِعًا فِيهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَدْفُوعًا بِهِ . وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ لَا يَخْلُو إِرْسَالُ الْقَوْلَيْنِ فِي أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِضِعْفِ اجْتِهَادِهِ ، أَوْ لِرَأْيهِ فِي تَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ ، وَضَعْفُ الِاجْتِهَادِ نَقْصٌ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَابِعًا غَيْرَ مَتْبُوعٍ ، وَتَكَافُؤُ الْأَدِلَّةِ وَإِنْ قَالَ بِهِ قَوْمٌ فَقَدْ خَالَفَهُمْ فِيهِ الْأَكْثَرُونَ ، وَلَا يَجُوزُ مَعَ تَكَافُئِهَا أَنْ يَكُونَ لَهُ حُكْمٌ فِيهَا وَلَا مَذْهَبَ يَعْتَقِدُهُ فِيهَا . فَأَبْطَلُوا عَلَيْهِ الْقَوْلَ بِالْقَوْلَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ ، وَإِنْ كَانَ مَا اعْتَرَضُوا بِهِ كَثِيرًا . فَنَحْنُ نَذْكُرُ قَبْلَ الِانْفِصَالِ عَنْهَا أَقْسَامَ الْقَوْلَيْنِ فَإِذَا تَوَجَّهَ الِاعْتِرَاضُ بِهَا عَلَى أَحَدِ الْأَقْسَامِ لَزِمَ الِانْفِصَالُ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَتَوَجَّهْ سَقَطَ .

فَصْلٌ : [ أَنْوَاعُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ في المسألة الواحدة ] . وَذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ يَنْقَسِمُ إِلَى عَشَرَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُقَيِّدَ جَوَابَهُ فِي مَوْضِعٍ وَيُطْلِقَهُ فِي آخَرَ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ " أَنَّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ " وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ : " أَقَلُّهُ يَوْمٌ " يُرِيدُ بِهِ مَعَ لَيْلَتِهِ ، وَهَذَا مَعْهُودٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، وَجَاءَ الْقُرْآنُ بِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى مَا قَيَّدَ مِنْ جِنْسِهِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] . حُمِلَ إِطْلَاقُهُ فِي الْعَدَالَةِ عَلَى مَا قُيِّدَ بِهَا فِي قَوْلِهِ : وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [ الطَّلَاقِ : ] . وَمِثْلُ هَذَا لَا اعْتِرَاضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِيهِ . وَإِنْ وَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَخَرَّجَهُ قَوْلًا ثَانِيًا ، فَلَمْ يَعُدْ وَهْمُهُ عَلَى الشَّافِعِيِّ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ أَلْفَاظُهُ ، وَمَعَانِيهَا مُتَّفِقَةٌ ، مِثْلُ قَوْلِهِ فِي

الْمُظَاهِرِ : " وَإِذَا مُنِعَ الْجِمَاعَ ، أَحْبَبْتُ أَنْ يُمْنَعَ الْقُبَلَ وَالتَّلَذُّذَ " وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ : " وَرَأَيْتُ أَنْ يُمْنَعَ " يُرِيدُ بِهِ الِاسْتِحْبَابَ ، فَإِنْ حَمَلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ كَانَ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي تَأْوِيلِ لَفْظِهِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : " رَأَيْتُ " يَحْتَمِلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالْإِيجَابِ ، وَلَا يَمْتَنِعَ وُجُودُ مِثْلِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، فَلَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِيهِ اعْتِرَاضٌ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ لِاخْتِلَافِ حَالِهِ ، كَالصَّدَاقِ إِذَا ذُكِرَ فِي السِّرِّ مِقْدَارًا وَذُكِرَ فِي الْعَلَانِيَةِ أَكْثَرَ مِنْهُ ، قَالَ فِي مَوْضِعٍ : الصَّدَاقُ صَدَاقُ السِّرِّ ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ : " الصَّدَاقُ صَدَاقُ الْعَلَانِيَةِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْهُ لِاخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِيهِ ، وَلَكِنْ لِاخْتِلَافِ حَالِ الصَّدَاقَيْنِ ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِصَدَاقِ السِّرِّ عَقْدٌ فَهُوَ الْمُسْتَحَقُّ ، وَيَكُونُ صَدَاقُ الْعَلَانِيَةِ مُجْمَلًا وَإِنِ اقْتَرَنَ الْعَقْدُ بِصَدَاقِ الْعَلَانِيَةِ فَهُوَ الْمُسْتَحَقُّ وَكَانَ صَدَاقُ السِّرِّ مَوْعِدًا . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا أَبَانَ ذَلِكَ . قِيلَ : قَدْ أَبَانَهُ بِمَا قَرَّرَهُ مِنْ أُصُولِ مَذْهَبِهِ ، وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ لِاخْتِلَافِ الْقِرَاءَةِ أَوْ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ : فَاخْتِلَافُ الْقِرَاءَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى : أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ [ النِّسَاءِ : ] . " أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَامَسْتُمْ يُوجِبُ الْوُضُوءَ عَلَى اللَّامِسِ أَوِ الْمَلْمُوسِ وَلَمَسْتُمْ يُوجِبُهُ عَلَى اللَّامِسِ دُونَ الْمَلْمُوسِ ، وَاخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ كَالْمَرْوِيِّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِي بَيَانِ الْمَوَاقِيتِ " أَنَّهُ صَلَّى عِشَاءَ الْآخِرَةِ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي حِينَ ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ نِصْفُهُ . وَفِي خَبَرٍ آخَرَ : " حِينَ ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ ثُلُثُهُ " . فَلِأَجْلِ اخْتِلَافِ الْقِرَاءَةِ وَالرِّوَايَةِ مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ إِنْكَارٌ فِيهِ ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ الدَّلِيلِ أَوْجَبَ اخْتِلَافَ الْمَدْلُولِ . وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ : مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ ، لِأَنَّهُ عَمِلَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى ظَاهِرٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ثُمَّ بَلَغَتْهُ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ نَقَلَتْهُ عَنِ الظَّاهِرِ إِلَى قَوْلٍ آخَرَ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صِيَامِ التَّمَتُّعِ : فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ [ الْبَقَرَةِ : ] . فَأَخَذَ بِظَاهِرِهِ وَأَوْجَبَ صِيَامَهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، لِأَنَّهَا الظَّاهِرُ مِنْ أَيَّامِ الْحَجِّ ثُمَّ رُوِيَ لَهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أَنَّهُ نَهَى عَنْ صِيَامِهَا " فَعَدَلَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ عَمَّا عَمِلَ بِهِ مِنْ ظَاهِرِ الْكِتَابِ ، وَأَوْجَبَ صِيَامَهَا ، بَعْدَ إِحْرَامِهِ وَقِيلَ عَرَفَةُ ، اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ . وَمِثْلُ قَوْلِهِ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى فَلَا إِنْكَارَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْعُدُولِ ، لِأَنَّهُ عَمِلَ فِي الْحَالَيْنِ بِدَلِيلٍ . وَالْقِسْمُ السَّادِسُ : مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ لِأَنَّهُ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى أَحَدِهِمَا فِي حَالٍ ثُمَّ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ فِي الْحَالِ الْأُخْرَى وَمِثْلُ هَذَا لَا يُنْكَرُ . قَدْ فَعَلَهُ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ ، هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي مِيرَاثِ الْإِخْوَةِ مَعَ الْجَدِّ فَأَسْقَطَهُمْ بِهِ فِي أَوَّلِ قَوْلِهِ وَأَشْرَكَهُمْ مَعَهُ فِي آخِرِ قَوْلِهِ ، وَحَكَمَ فِي

الْمُشْرِكَةِ فِي الْعَامِ الْأَوَّلِ بِالتَّشْرِيكِ ، وَفِي الْعَامِ الثَّانِي بِإِسْقَاطِ التَّشْرِيكِ وَقَالَ : " تِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا وَهَذِهِ عَلَى مَا قَضَيْنَاهُ " وَاخْتَلَفَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي مِيرَاثِ الْجَدِّ عَلَى أَقَاوِيلَ وَقَالَ فِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ : " اجْتَمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِهِنَّ وَقَدْ رَأَيْتُ أَنَّ بَيْعَهُنَّ جَائِزٌ . وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَّا وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عَنْهُ الرِّوَايَةُ فِي الْأَحْكَامِ فَسَمَّاهَا أَصْحَابُهُمْ " رِوَايَاتٍ " وَسَمَّاهَا أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ أَقَاوِيلَ وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ لَمْ يَبْتَدِعْهَا الشَّافِعِيُّ ، وَهِيَ أَدَلُّ عَلَى الْوَرَعِ وَأَبْعَثُ عَلَى الِاجْتِهَادِ . وَالْقِسْمُ السَّابِعُ : أَنْ تَبْلُغَهُ سُنَّةٌ لَمْ تَثْبُتْ عِنْدَهُ وَقَدْ عَمِلَ بِالْقِيَاسِ فَيَجْعَلُ قَوْلَهُ مِنْ بَعْدُ مَوْقُوفًا عَلَى ثُبُوتِ السُّنَّةِ ، كَالَّذِي جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنَ الصِّيَامِ عَنِ الْمَيِّتِ وَالْغُسْلِ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ ، رُوِيَا لَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ ضَعِيفَيْنِ فَقَالَ بِمُوجَبِ الْقِيَاسِ بِأَنْ لَا صِيَامَ عَنِ الْمَيِّتِ ، وَلَا غُسْلَ مِنْ غُسْلِهِ ، ثُمَّ قَالَ مَا رُوِيَ وَقَالَ : " إِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ قُلْتُ بِهِ " . فَأَظْهَرَ مُوجَبَ الْقِيَاسِ وَأَوْجَبَ الْعُدُولَ عَنْهُ إِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ . وَقَالَ : كُلُّ قَوْلٍ قُلْتُهُ فَثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِلَافُهُ فَأَنَا أَوَّلُ رَاجِعٍ عَنْهُ . وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُظْهِرَ الِاخْتِلَافَ فِيهِ وَأَنْ يَقِفَهُ عَلَى السُّنَّةِ إِنْ ثَبَتَتْ ، وَعَلَى الْقِيَاسِ إِنْ لَمْ تَثْبُتْ . وَالْقِسْمُ الثَّامِنُ : أَنْ يَقْصِدَ بِذِكْرِ الْقَوْلَيْنِ إِبْطَالَ مَا تَوَسَّطَهُمَا ، وَيَكُونُ مَذْهَبُهُ مِنْهَا مَا فَرَّعَ عَلَيْهِ وَحَكَمَ بِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ فِي وَضْعِ الْجَوَائِحِ ، وَقَدْ قَدَّرَهَا مَالِكٌ بِوَضْعِ الثُّلُثِ : " لَيْسَ إِلَّا وَاحِدٌ مِنْ قَوْلَيْنِ إِمَّا أَنْ تُوضَعَ جَمِيعُهَا أَوْ لَا يُوضَعُ شَيْءٌ مِنْهَا " وَمِنْ قَوْلِهِ فِي الْجَارِيَةِ الْمُوصَى بِهَا إِذَا وَلَدَتْ أَوْ وُهِبَ لَهَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ لَمَّا جَعَلَ أَهْلُ الْعِرَاقِ بَعْضَ وَلَدِهَا وَبَعْضَ مَا وُهِبَ لَهَا لِوَرَثَةِ الْمُوصِي وَبَعْضَهُ لِلْمُوصَى لَهُ : " لَيْسَ إِلَّا وَاحِدٌ مِنْ قَوْلَيْنِ إِمَّا أَنْ يَمْلِكَهَا الْمُوصَى لَهُ بِالْمَوْتِ فَيَكُونُ كُلَّ ذَلِكَ ، وَإِمَّا أَنْ يَمْلِكَهَا بِالْقَبُولِ ، فَكُلُّ ذَلِكَ لِلْوَرَثَةِ وَلَيْسَ لِتَبْعِيضِهِ مَعَ عَدَمِ قَوْلٍ ثَالِثٍ وَجْهٌ ، وَهَذَا تَحْقِيقٌ يَبْطُلُ بِهِ مَا خَالَفَ الْقَوْلَيْنِ . وَالْقِسْمُ التَّاسِعُ : أَنْ يَذْكُرَ الْقَوْلَيْنِ إِبْطَالًا لِمَا عَدَاهُمَا وَيَكُونُ مَذْهَبُهُ مَوْقُوفًا عَلَى مَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ مِنْ صِحَّةِ أَحَدِهِمَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَائِلًا بِهِمَا ، وَمِثْلُ هَذَا قَدْ جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ وَالْعَمَلُ . أَمَّا الشَّرْعُ : فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ : " الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ . فَنَفَى أَنْ تَكُونَ فِي غَيْرِ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَفِي غَيْرِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْهُ ، وَجَعَلَهَا مَوْقُوفَةً عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ . وَأَمَّا الْعَمَلُ فَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ فِي أَهْلِ الشُّورَى جَعَلَهَا فِي سِتَّةٍ نَفَى بِهِمْ طَلَبَ الْإِمَامِ فِي غَيْرِهِمْ وَوَقَّفَ الْإِمَامَةَ فِيهِمْ عَلَى مَنْ يُؤَدِّي الِاجْتِهَادُ إِلَيْهِ مِنْهُمْ . وَهَذَا عَمَلٌ انْعَقَدْ بِهِ إِجْمَاعُهُمْ . وَالْقِسْمُ الْعَاشِرُ : أَنْ يَذْكُرَ الْقَوْلَيْنِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الِاجْتِهَادِ وَجْهًا ، وَلَا يَقْطَعُ بِأَحَدِهِمَا لِاحْتِمَالِ الْأَدِلَّةِ ، وَلَا يَعْمَلُ بِهَا لِاخْتِلَافِ الْحُكْمِ ، وَيُفَرِّعُ

عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِنْ صَحَّ . وَلَيْسَ يُنْكِرُ مِنَ الْعُلَمَاءِ التَّوَقُّفُ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ . هَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ تَوَقَّفَ فِي أَشْيَاءَ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ . رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : " الْمُؤْمِنُ وَقَّافٌ وَالْمُنَافِقُ وَثَّابٌ . وَيَكُونُ مَقْصُودُ الشَّافِعِيِّ بِذِكْرِ الْقَوْلَيْنِ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِبْطَالُ مَا عَدَاهُمَا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الِاجْتِهَادِ وَجْهٌ . وَالثَّانِي إِثْبَاتُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ لَهُ فِي الِاجْتِهَادِ وَجْهًا وَلَيْسَ يُجِيبُ بِهِمَا إِذَا اسْتُفْتِي فَيُخَيِّرُ السَّائِلَ بَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا يَجْتَهِدُ رَأْيَهُ فِي الْجَوَابِ بِأَحَدِهِمَا فَلَمْ يَصِرْ قَائِلًا بِهِمَا وَلَا مُعْتَقِدًا لِصِحَّتِهِمَا ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُوَ الْأَصَحَّ ، وَإِنْ لَمْ يَقْطَعْ فِي الْحَالِ بِالْأَصَحِّ وَهَذَا إِنَّمَا قَالَهُ فِي عَدَدٍ مِنَ الْمَسَائِلِ قِيلَ إِنَّهَا سَبْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً . فَلَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاعْتِرَاضِ ، وَلَا أُبْطِلَ مَا قَرَّرَهُ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي الِاجْتِهَادِ . وَفِي هَذَا التَّقْسِيمِ انْفِصَالٌ عَنْ الِاعْتِرَاضِ فَسَقَطَ بِهِ الِاعْتِرَاضُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

[ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ بِأُجُورِ الْمُجْتَهِدِينَ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ " فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ " يُثَابُ عَلَى أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِمَّا يُثَابُ عَلَى الْآخَرِ فَلَا يَكُونُ الثَّوَابُ فِيمَا لَا يَسَعُ وَلَا فِي الْخَطَأِ الْمَوْضُوعِ " قَالَ الْمُزَنِيُّ " رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَا أَعْرِفُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ ! لَا يُؤْجَرُ عَلَى الْخَطَأِ وَإِنَّمَا يُؤْجَرُ عَلَى قَصْدِ الصَوَابِ وَهَذَا عِنْدِي هُوَ الْحَقُّ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَحْكَامِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْخَطَأِ وَالصَّوَابِ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ جَعَلَ لِلْخَاطِئِ أَجْرًا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْحَدِيثَ قَدْ رُوِيَ مُخْتَلِفًا . فَأَمَّا جَعْلُهُ لِلْخَاطِئِ أَجْرًا ، فَلَمْ يَجْعَلْهُ مُسْتَحِقًّا لِلْأَجْرِ عَلَى خَطَئِهِ وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مُسْتَحِقًّا لَهُ عَلَى اجْتِهَادِهِ ، فَإِنْ أَصَابَ ظَفِرَ مَعَ أَجْرِ الِاجْتِهَادِ بِأَجْرِ الصَّوَابِ فَصَارَ لَهُ أَجْرَانِ أَحَدُهُمَا بِاجْتِهَادِهِ وَالْآخَرُ بِصَوَابِهِ . وَإِنْ أَخْطَأَ ظَفِرَ بِأَجْرِ اجْتِهَادِهِ : وَحُرِمَ أَجْرَ صَوَابِهِ ، كَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " : مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْ بِهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً وَإِنْ عَمِلَ بِهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا .

وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْحَدِيثِ فَأَشْهَرُ الْحَدِيثَيْنِ هَذَا وَهُوَ الْمُتَدَاوَلُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَالْحَدِيثُ الثَّانِي مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ فَرَجِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : " اخْتَصَمَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلَانِ وَأَنَا جَالِسٌ فَقَالَ يَا عَمْرُو اقْضِ بَيْنَهُمَا . فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنْتَ شَاهِدٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ قُلْتُ عَلَى مَاذَا ؟ قَالَ عَلَى أَنَّكَ إِذَا أَصَبْتَ فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَإِنِ اجْتَهَدْتَ فَأَخْطَأْتَ فَلَكَ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ . فَاخْتَلَفَ أَجْرُ الْمُصِيبِ فِي الْخَبَرَيْنِ فَجَعَلَ لَهُ فِي الْأَوَّلِ أَجْرَيْنِ وَجَعَلَ لَهُ فِي الثَّانِي عَشْرًا . وَفِي هَذَا الِاخْتِلَافِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ أَجْرَيْنِ إِذَا وَصَلَ إِلَى الصَّوَابِ بِأَوَّلِ اجْتِهَادٍ وَجَعَلَ لَهُ عَشْرًا إِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ بِتَكْرَارِ الِاجْتِهَادِ لِيَكُونَ أَجْرُهُ بِحَسَبِ قِلَّةِ اجْتِهَادِهِ وَكَثْرَتِهِ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : أَنَّهُ أُجِرَ بِالْعَشْرِ لِمُضَاعَفَةِ الْحَسَنَةِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَأُجِرَ فِي الْآخَرِ بِأَجْرَيْنِ مِنْ غَيْرِ مُضَاعَفَةٍ ، لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ أُجِرَ وَفِي الْمُضَاعَفَةِ عَشْرٌ .

نَقْضُ الْحُكْمِ

[ نَقْضُ الْحُكْمِ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : مَنِ اجْتَهَدَ مِنَ الْحُكَّامِ فَقَضَى بِاجْتِهَادٍ ثُمَّ رَأَى أَنَّ اجْتِهَادَهُ خَطَأٌ أَوْ وَرَدَ عَلَى قَاضٍ غَيْرِهِ فَسَوَاءٌ فَمَا خَالَفَ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ إِجْمَاعًا أَوْ مَا فِي مَعْنَى هَذَا ردَّهُ وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهُ لَمْ يَرُدَّهَ وَحَكَمَ فِيمَا اسْتَأْنَفَ بِالَذِي هُوَ الصَّوَابُ عِنْدَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا بَانَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ فِي حُكْمِهِ أَوْ بَانَ لَهُ أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْقُضَاةِ قَدْ أَخْطَأَ فِي حُكْمِهِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُخْطِئَ فِيمَا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ . وَالثَّانِي : أَنْ يُخْطِئَ فِيمَا لَا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ . فَإِنْ أَخْطَأَ فِيمَا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ وَهُوَ أَنْ يُخَالِفَ أَوْلَى الْقِيَاسَيْنِ مِنْ قِيَاسِ الْمَعْنَى الْخَفِيِّ أَوْ أَولَاهُمَا مِنْ قِيَاسِ التَّقْرِيبِ فِي الشَّبَهِ كَانَ حُكْمُهُ نَافِذًا وَحُكْمُ غَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ بِهِ نَافِذًا لَا يُتَعَقَّبُ بِفَسْخٍ وَلَا نَقْضٍ . فَإِنَّ عُمَرَ لَمْ يَشْرَكْ فِي عَامٍ وَشَرِكَ فِي عَامٍ فَلَمَّا قِيلَ لَهُ : إِنَّكَ لَمْ تَشْرَكْ فِي الْعَامِ

الْمَاضِي بَيْنَ وَلَدِ الْأُمِّ وَبَيْنَ وَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ فَكَيْفَ تَشْرَكُ الْآنَ ؟ قَالَ تِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا وَهَذِهِ عَلَى مَا قَضَيْنَا . وَحَكَمَ أَبُو بَكْرٍ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي الْعَطَاءِ وَلَمْ يُفَضِّلْ بِالسَّابِقَةِ وَقَالَ : " إِنَّمَا عَمِلُوا لِلَّهِ وَإِنَّمَا أُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا الدُّنْيَا بَلَاغٌ " وَلَمْ يَفْرِضْ لِلْعَبِيدِ مَعَ سَادَاتِهِمْ . وَفَضَّلَ عُمَرُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِالسَّابِقَةِ وَفَرَضَ لِلْعَبِيدِ . وَسَوَّى عَلِيٌّ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ وَفَرَضَ لِلْعَبِيدِ كَفِعْلِ عُمَرَ . وَلَمْ يَنْقُضْ بَعْضُهُمْ حُكْمَ بَعْضٍ لِنُفُوذِهِ بِاجْتِهَادٍ سَائِغٍ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ نَقَضَ عَلِيٌّ حُكْمَ شُرَيْحٍ فِي ابْنَيْ عَمِّ أَحَدِهِمَا أَخٌ لِأُمٍّ حِينَ حَكَمَ بِالْمِيرَاثِ لِابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ وَأَجْرَاهُمَا مَجْرَى أَخَوَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَبٍ وَالْآخَرُ لِأَبٍ وَأُمٍّ . فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ رَدَّهُ عَنْهُ قَبْلَ نُفُوذِ حُكْمِهِ بِهِ . وَالثَّانِي : نَقَضَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ نُفُوذِهِ ، لِأَنَّهُ خَالَفَ فِيهِ ظَاهِرَ النَّصِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [ النِّسَاءِ : ] . وَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا وَلَمْ يَجُزْ لَهُ نَقْضُ مَا ثَبَتَ بِاجْتِهَادٍ مُسَوَّغٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِلَّا بِاجْتِهَادٍ ثَانٍ دُونِ الْأَوَّلِ . وَلَوْ بَانَ لَهُ فَسَادُ الِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ قَبْلَ تَنْفِيذِ الْحُكْمِ بِهِ حَكَمَ بِالِاجْتِهَادِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ . وَمِثَالُ ذَلِكَ مَا يَقُولُهُ فِي الْمُجْتَهِدِ فِي الْقِبْلَةِ إِنْ بَانَ لَهُ بِالِاجْتِهَادِ خَطَأُ مَا تَقَدَّمَ مِنِ اجْتِهَادِهِ قَبْلَ صِلَاتِهِ عَمِلَ عَلَى اجْتِهَادِهِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ بَانَ لَهُ بَعْدَ صَلَاتِهِ لَمْ يُعِدْ مَا صَلَّى وَاسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ الثَّانِيَةَ بِالِاجْتِهَادِ الثَّانِي .

فَصْلٌ : وَإِذَا خَالَفَ مَا لَا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ وَهُوَ أَنْ يُخَالِفَ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ خَالَفَ مِنْ قِيَاسِ الْمَعْنَى الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ أَوْ خَالَفَ مِنْ قِيَاسِ الشَّبَهِ قِيَاسَ التَّحْقِيقِ نَقَضَ بِهِ حُكْمَهُ وَحُكْمَ غَيْرِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : إِنْ خَالَفَ مَعْنَى نَصِّ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوْ قِيَاسٍ جَلِيٍّ أَوْ خَفِيٍّ لَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ وَإِنْ خَالَفَ إِجْمَاعًا نُقِضَ حُكْمُهُ . وَهَذَا قَوْلٌ مُسْتَبْعَدٌ ، لَكِنَّهُ مَحْكِيٌّ عَنْهُمَا ، ثُمَّ نَاقَضَا فِي هَذَا الْقَوْلِ .

فَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ حَكَمَ بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ نُقِضَ حُكْمُهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ حَكَمَ بِالْقُرْعَةِ بَيْنَ الْعَبِيدِ نُقِضَ حُكْمُهُ وَإِنْ حَكَمَ بِجَوَازِ بَيْعِ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ عِنْدَ ذَبْحِهِ نُقِضَ حُكْمُهُ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : إِنْ حَكَمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ نُقِضَ حُكْمُهُ . وَهَذَا الْمَذْهَبُ مَعَ اسْتِبْعَادِهِ مُتَنَاقِضٌ . وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [ النِّسَاءِ : ] . يَعْنِي إِلَى حُكْمِ اللَّهِ وَحُكْمِ الرَّسُولِ . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " رُدُّوا الْجَهَالَاتِ إِلَى السُّنَنِ . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " مَنْ أَدْخَلَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ وَلِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَدَلَ عَنِ اجْتِهَادِهِ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ حِينَ أَخْبَرَهُ حَمَلُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ . وَكَانَ لَا يُوَرِّثُ امْرَأَةً مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا حَتَّى رَوَى لَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا ، فَوَرَّثَهَا عُمَرُ . وَكَانَ يُفَاضِلُ بَيْنَ دِيَاتِ الْأَصَابِعِ حَتَّى رُوِيَ لَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " وَفِي كُلِّ إِصْبَعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ . وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ : لَا يَمْنَعُكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَهُ أَمْسِ فَرَاجَعْتَ الْيَوْمَ فِيهِ عَقْلَكَ ، وَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ ، أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الْحَقِّ ، فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ ، وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ . وَهَذِهِ كُلُّهَا آثَارٌ لَمْ يَظْهَرْ لَهَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَكَانَتْ إِجْمَاعًا . وَلِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَصْلٌ لِلْإِجْمَاعِ ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْعَقِدَ عَلَى مَا خَالَفَ نَصَّ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ فَلَمَّا نُقِضَ حُكْمُهُ بِمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ كَانَ نَقْضُهُ بِمُخَالَفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْلَى . وَوُضُوحُ فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ يُغْنِي عَنِ اسْتِيفَاءِ أَدِلَّتِهِ .

مَسْأَلَةٌ هَلْ يَتَعَقَّبُ الْقَاضِي حُكْمَ مَنْ قَبْلَهُ

[ هَلْ يَتَعَقَّبُ الْقَاضِي حُكْمَ مَنْ قَبْلَهُ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَيْسَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَتَعَقَّبَ حُكْمَ مَنْ قَبْلَهُ وَإِنْ تَظَلَّمَ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ مِمَّنْ قَبْلَهُ نُظِرَ فِيهِ فَرَدَّهُ أَوْ أَنْفَذَهُ عَلَى مَا وَصَفْتُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا تَقَلَّدَ عَمَلًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَقَّبَ أَحْكَامَ مَنْ قَبْلَهُ وَلَا يَتَتَبَّعَهَا لِأَمْرَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْهَا نُفُوذُهَا عَلَى الصِّحَّةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ نَاظِرٌ فِي مُسْتَأْنَفِ الْأَحْكَامِ دُونَ مَاضِيهَا . فَلِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَقَّبَهَا . فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَعَقَّبَهَا مِنْ غَيْرِ مُتَظَلِّمٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ ذَلِكَ لَهُ - وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ - عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيِّ ، يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَعَقَّبَهَا ، لِمَا فِيهِ مِنْ فَضْلِ الِاحْتِيَاطِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ : لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَعَقَّبَهَا مِنْ غَيْرِ مُتَظَلِّمٍ إِلَيْهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَتَشَاغَلُ بِمَاضٍ لَمْ يَلْزَمْهُ عَنْ مُسْتَقْبَلٍ يَجِبُ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَتَتَبَّعُ قَدَحًا فِي الْوُلَاةِ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ . فَإِنْ تَظَلَّمَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَوَّلِ مُتَظَلِّمٌ لَمْ تَخْلُ ظُلَامَتُهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي حُكْمٍ أَوْ غَيْرِ حُكْمٍ . فَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ حُكْمٍ كَدَعْوَى دَيْنٍ عَلَيْهِ أَوْ عَقْدٍ عَقَدَهُ مَعَهُ كَانَ الْأَوَّلُ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْخُصُومِ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ إِحْضَارُهُ وَسَمَاعُ الدَّعْوَى عَلَيْهِ وَالْحُكْمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ . وَإِنْ كَانَ التَّظَلُّمُ مِنْهُ فِي حُكْمٍ حُكِمَ بِهِ عَلَيْهِ لَمْ يَسْمَعِ الْحَاكِمُ الدَّعْوَى مِنْهُ مُجْمَلَةً حَتَّى يَصِفَهَا بِمَا تَصِحُّ الدَّعْوَى بِمِثْلِهِ . فَإِذَا وَصَفَهَا نَظَرَ الْحَاكِمُ فِيهَا ، فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ بِمِثْلِهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْقَضَ ، لِأَنَّهُ خَالَفَ فِيهَا مِنْ قِيَاسِ الْمَعْنَى الْقِيَاسَ الْخَفِيَّ ، أَوْ خَالَفَ فِيهَا مِنْ قِيَاسِ الشَّبَهِ قِيَاسَ التَّقْرِيبِ ، رَدَّ الْمُتَظَلِّمَ عَنْهُ وَلَمْ يُعِدْهُ وَأَعْلَمَهُ أَنَّ حُكْمَهُ نَافِذٌ عَلَيْهِ . فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ مِمَّا يُنْقَضُ مِثْلُهُ ، لِمُخَالَفَتِهِ نَصَّ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الْإِجْمَاعِ أَوِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ مِنْ قِيَاسِ الْمَعْنَى أَوْ قِيَاسِ التَّحْقِيقِ مِنْ قِيَاسِ الشَّبَهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بَعْدَ سَمَاعِ هَذِهِ الدَّعْوَى مِنْهُ فِيمَا يَسْتَجِيزُ بِهِ الْحَاكِمُ إِحْضَارَ الْأَوَّلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَسْتَجِيزُ إِحْضَارَهُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى حَتَّى يُقِيمَ بِهَا الْمُتَظَلِّمُ بَيِّنَةً تَشْهَدُ لَهُ بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ أَحْكَامِ الْأَوَّلِ نُفُوذُهَا عَلَى الصِّحَّةِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَهُ فِيهَا عَنِ الظَّاهِرِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ . وَلِأَنْ تُصَانَ وُلَاةُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْبِذْلَةِ إِلَّا بِمَا يُوجِبُهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : إِنِ اقْتَرَنَ بِدَعْوَاهُ أَمَارَةٌ تَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا مِنْ كِتَابِ قَضِيَّةٍ أَوْ مَحْضَرٍ ظَاهِرِ الصِّحَّةِ أَحْضَرَ بِهِ الْأَوَّلَ ، وَإِنْ تَجَرَّدَتِ الدَّعْوَى عَنْ أَمَارَةٍ لَمْ تُحْضِرْهُ .

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يُحْضِرُهُ عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا ، لِاحْتِمَالِ الدَّعْوَى وَحَسْمِ التَّظَلُّمِ وَرَفْعِ الشَّنَاعَةِ . فَإِذَا حَضَرَ الْأَوَّلُ اسْتَأْنَفَ الْمُتَظَلِّمُ دَعْوَاهُ . فَإِذَا كَمَّلَهَا سَأَلَهُ الْحَاكِمُ عَنْهَا إِنْ أَوْجَبَتْ غُرْمًا ، وَلَمْ يَسْأَلْهُ إِنْ لَمْ تُوجِبْ غُرْمًا . لِأَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ الْعَزْلِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي مَاضِي أَحْكَامِهِ . وَمَقْبُولٌ فِيمَا لَزِمَهُ غُرْمُهُ . وَعَمَلُ الْحَاكِمِ فِيهِ عَلَى الْبَيِّنَةِ بِمَا تَقُومُ بِهِ . فَإِنِ اعْتَرَفَ بِمَا يُوجِبُ الْغُرْمَ أَلْزَمَهُ إِيَّاهُ . وَإِنْ أَنْكَرَهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ إِحْلَافِهِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ لَا يُحَلِّفُهُ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكُ حُكْمٍ وَلَيْسَ بِاسْتِهْلَاكِ فِعْلٍ وَظَاهِرُ الْأَحْكَامِ نُفُوذُهَا عَلَى الصِّحَّةِ ، وَيَجِبُ صِيَانَةُ الْحُكَّامِ فِيهَا عَنِ الْبِذْلَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهَا ، لِأَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ تَسْتَوِي فِيهَا الْكَافَّةُ وَلَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِمْ وَلَكِنْ لَوِ ادَّعَى الْمُتَظَلِّمُ أَنَّهُ ارْتَشَى مِنْهُ مَالًا عَلَى الْحُكْمِ فَالرِّشْوَةُ ظُلْمٌ كَالْغُصُوبِ فَيَجُوزُ إِحْضَارُ الْأَوَّلِ بِهَذِهِ الدَّعْوَى وَإِحْلَافُهُ عَلَيْهَا إِنْ أَنْكَرَ .

اتِّخَاذُ الْمُتَرْجِمِ

اتِّخَاذُ الْمُتَرْجِمِ : مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا تَحَاكَمَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ لَا يَعْرِفُ لِسَانَهُ لَمْ تُقْبَلِ التَّرْجَمَةُ عَنْهُ إِلَا بِعَدْلَيْنِ يَعْرِفَانِ لِسَانَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِنْ كَانَ الْحَاكِمُ يَعْرِفُ لِسَانَ الْأَعْجَمِيِّ فَلَيْسَ يَحْتَاجُ إِلَى تَرْجُمَانٍ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ لِسَانَ الْأَعْجَمِيِّ احْتَاجَ إِلَى مُتَرْجِمٍ يُتَرْجِمُ لِلْحَاكِمِ مَا قَالَهُ الْأَعْجَمِيُّ . حُكْمُ التَّرْجَمَةِ . وَاخْتُلِفَ فِي حُكْمِ التَّرْجَمَةِ هَلْ هِيَ شَهَادَةٌ أَوْ خَبَرٌ ؟ . فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا شَهَادَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى الْعَدَدِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : التَّرْجَمَةُ خَبَرٌ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى عَدَدٍ ، بَلْ تُقْبَلُ فِيهَا تَرْجَمَةُ الْوَاحِدِ إِذَا كَانَ عَدْلًا . اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ شَرَائِعَ الدِّينِ لَمَّا قُبِلَتْ عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَانَتِ التَّرْجَمَةُ

بِهِ أَوْلَى ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتْ تَرْجَمَةُ الْأَعْمَى وَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ جَرَتْ مَجْرَى الْخَبَرِ الَّذِي تُقْبَلُ فِيهِ رِوَايَتُهُ . وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ تَثْبِيتُ إِقْرَارٍ يَفْتَقِرُ إِلَى الْحُرِّيَّةِ وَالْعَدَالَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَفْتَقِرَ إِلَى الْعَدَدِ كَالشَّهَادَةِ ، وَلِأَنَّهُ نَقَلَ إِقْرَارًا لَوْ كَانَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ أَنْ تَكُونَ شَهَادَةً تَفْتَقِرُ إِلَى عَدَدٍ ، فَوَجَبَ إِذَا كَانَ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ تَفْتَقِرُ إِلَى عَدَدٍ قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ أَنْكَرَ بَعْدَ أَنْ أَقَرَّ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ إِخْبَارِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ تُقْبَلَ فِيهَا أَخْبَارُ الْعَبْدِ وَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ فِي التَّرْجَمَةِ جَازَ أَنْ يُقْبَلَ فِيهَا خَبَرُ الْوَاحِدِ وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ فِي التَّرْجَمَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَرْجَمَةِ الْأَعْمَى فَهُوَ أَنَّ التَّرْجَمَةَ تَفْتَقِرُ إِلَى السَّمَاعِ دُونَ الْبَصَرِ وَشَهَادَةُ الْأَعْمَى هل تقبل أم لا مَقْبُولَةٌ فِيمَا تَعَلَّقَ بِالسَّمَاعِ وَإِنْ رُدَّتْ فِيمَا تَعَلَّقَ بِالْبَصَرِ .

فَصْلٌ : تَرْجَمَةُ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ وَالْمَرْأَةِ . فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ التَّرْجَمَةَ شَهَادَةٌ وَلَيْسَتْ بِخَبَرٍ فَلَا تُقْبَلُ فِيهَا تَرْجَمَةُ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ كَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا . فَأَمَّا تَرْجَمَةُ الْمَرْأَةِ فَإِنْ كَانَتْ فِيمَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ كَالْإِقْرَارِ بِالْأَمْوَالِ سُمِعَتْ تَرْجَمَةُ الْمَرْأَةِ وَحُكِمَ فِيهَا بِتَرْجَمَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ كَالشَّهَادَةِ . وَإِنْ كَانَتْ فِيمَا لَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ كَالْإِقْرَارِ بِالْحُدُودِ وَالْمَنَاكِحِ ، لَمْ تُسْمَعْ فِيهِ تَرْجَمَةُ الْمَرْأَةِ ، وَنُظِرَ : فَإِنْ كَانَتْ فِيمَا يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ كَغَيْرِ الزِّنَا حَكَمْنَا فِيهِ بِتَرْجَمَةِ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ . وَإِنْ كَانَتْ بِالزِّنَا فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا عَلَى قَوْلَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ بِخِلَافِ فِعْلِ الزِّنَا فَعَلَى هَذَا يَحْكُمُ فِيهِ بِتَرْجَمَةِ شَاهِدَيْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ كَالزِّنَا فَعَلَى هَذَا لَا يَحْكُمُ فِيهِ إِلَّا بِتَرْجَمَةِ أَرْبَعَةٍ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْخَصْمَيْنِ إما أن يكونا أعجميين أو أحدهما مِنْ أَنْ يَكُونَا أَعْجَمِيَّيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا . فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَعْجَمِيًّا شَهِدَ الْمُتَرْجِمَانِ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِمَا قَالَهُ الْأَعْجَمِيُّ مِنْ دَعْوَى أَوْ جَوَابٍ وَأَدَّيَاهُ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ دُونَ الْخَبَرِ . وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُمَا يَذْكُرَانِهِ بِلَفْظِ الْخَبَرِ دُونَ الشَّهَادَةِ . وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ : لِأَنَّهُ لَمَّا افْتَقَرَ إِلَى عَدَدِ الشَّهَادَةِ وَجَبَ أَنْ يَفْتَقِرَ إِلَى لَفْظِهَا ثُمَّ

يَذْكُرُ الْحَاكِمُ ذَلِكَ لِلْخَصْمِ الْعَرَبِيِّ وَيَسْمَعُ جَوَابَهُ عَنْهُ . وَإِنْ كَانَا أَعْجَمِيَّيْنِ فَهَلْ لِلْمُتَرْجِمَيْنِ عَنْ أَحَدِهِمَا أَنْ يُتَرْجِمَا عَنِ الْآخَرِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الشَّاهِدَيْنِ إِذَا تَحَمَّلَا عَنْ أَحَدِ شَاهِدَيِ الْأَصْلِ هَلْ يَتَحَمَّلَانِ عَنِ الشَّاهِدِ الْآخَرِ أَمْ لَا ؟ . فَإِنْ قِيلَ : بِجَوَازِهِ فِي التَّحَمُّلِ ، قِيلَ بِجَوَازِهِ فِي التَّرْجَمَةِ ، وَإِنْ مَنَعَ مِنْهُ فِي التَّحَمُّلِ مَنَعَ مِنْهُ فِي التَّرْجَمَةِ . فَأَمَّا تَرْجَمَةُ مَا قَالَهُ الْحَاكِمُ لِلْخَصْمِ الْأَعْجَمِيِّ فَهِيَ خَبَرٌ مَحْضٌ وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ : لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا عِنْدَ الْحُكَّامِ الْمُلْزِمِينَ . فَيَجُوزُ فِيهَا تَرْجَمَةُ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَرْجِمُ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ هُوَ الْمُتَرْجِمَ لِلْخَصْمِ الْآخَرِ وَجْهًا وَاحِدًا لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّرْجَمَةِ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَغَيْرِ الْحَاكِمِ بِالْوُجُوبِ وَالْإِلْزَامِ .

الشُّهُودُ

الشُّهُودُ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عِنْدَ الْقَاضِي كَتَبَ حِلْيَةَ كُلِّ رَجُلٍ وَرَفَعَ فِي نَسَبِهِ إِنْ كَانَ لَهُ أَوْ وِلَايَةٍ إِنْ كَانَتْ لَهُ وَسَأَلَهُ عَنْ صِنَاعَتِهِ وَكُنْيَتِهِ إِنْ كَانَتْ لَهُ وَعَنْ مَسْكَنِهِ وَعَنِ مَوْضِعِ بِيَاعَتِهِ وَمُصَلَّاهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الشُّهُودِ إِذَا شَهِدُوا عِنْدَ الْقَاضِي مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْلَمَ عَدَالَتَهُمْ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ حكم من علم عدالته هل تقبل شهادته فَيَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَتِهِمْ وَيَعْمَلَ عَلَى عِلْمِهِ فِي عَدَالَتِهِمْ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَعْلَمَ فِسْقَهُمْ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ أَوْ فِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ حكم من علم فسقه هل تقبل شهادته ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَتِهِمْ ، وَيَعْمَلَ عَلَى عِلْمِهِ فِي فِسْقِهِمْ ، فَيَحْكُمُ بِعِلْمِهِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ . وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ فِي الْحُكْمِ بِعِلْمِهِ فِيمَا عَدَاهُ قَوْلَانِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ لَا يُعْرَفُوا بِعَدَالَةٍ وَلَا فِسْقٍ : فَلَا يَخْلُو أَنْ يَعْلَمَ إِسْلَامَهُمْ ، أَوْ لَا يَعْلَمَهُ . فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ إِسْلَامَهُمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَتِهِمْ ، حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهُمْ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمَ الْإِسْلَامِ بِظَاهِرِ الدَّارِ فِي سَمَاعِ شَهَادَتِهِمْ وَإِنْ أَجْرَيْنَا عَلَى اللَّقِيطِ حُكْمَ الْإِسْلَامِ بِظَاهِرِ الدَّارِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّهَادَةِ مِنْ إِلْزَامِ الْحُقُوقِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِاللَّقِيطِ .

وَإِنْ عَلِمَ إِسْلَامَهُمْ وَجَهِلَ عَدَالَتِهِمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَتِهِمْ حَتَّى يَبْحَثَ عَنْ عَدَالَةِ ظَاهِرِهِمْ وَبَاطِنِهِمْ فَيَحْكُمَ بِهَا بَعْدَ ثُبُوتِ عَدَالَتِهِمْ . وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، وَسَوَاءٌ كَانَ لَهُمْ سِيمَا حَسَنٌ وَسَمْتٌ جَمِيلٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَتِهِمْ وَيَعْمَلَ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ عَدَالَتِهِمْ ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْبَحْثُ عَنْهَا إِلَّا فِي الْحُدُودِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهَا ، أَوْ يَجْرَحُهُمُ الْخَصْمُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ، فَيَلْزَمُهُ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ الْبَحْثُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْبَحْثُ عَنْهَا فِيمَا عَدَاهُمَا . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ كَانَ لَهُمْ سِيَمَا جَمِيلٌ وَسَمْتٌ حَسَنٌ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ عَنْ عَدَالَتِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سِيمَا وَسَمْتٌ لَمْ يَحْكُمْ بِشَهَادَتِهِمْ ، إِلَّا بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْ عَدَالَتِهِمُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَدَلِيلُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ " وَسَطًا " وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ . هُمْ وَسَطٌ تَرْضَى الْأَنَامُ بِحُكْمِهِمْ إِذَا نَزَلَتْ إِحْدَى اللَّيَالِي بِمُعْظَمِ وَالثَّانِي : أَنَّهُ جَعَلَهُمْ بِمَا رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا شَهِدَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ ، فَقَالَ لَهُ : " أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؟ " قَالَ : نَعَمْ فَأَمَرَ بِلَالًا أَنْ يُنَادِيَ فِي النَّاسِ بِالصِّيَامِ مِنَ الْغَدِ ، وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْ عَدَالَتِهِ ، وَعَمَلَ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ حَالِهِ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ " الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا مَجْلُودًا فِي فِرْيَةٍ فَحَكَمَ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ ، إِلَّا مَنْ ثَبَتَ جَرْحُهُ . وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ : " الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا مَجْلُودًا فِي حَدٍّ أَوْ مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ أَوْ ظَنِينًا فِي وَلَاءٍ أَوْ نَسَبٍ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَوَلَّى السَّرَائِرَ ، وَدَرَأَ الْحُدُودَ بِالْأَيْمَانِ وَالْبَيِّنَاتِ وَهَذَا عَهْدٌ عَمِلَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ ، وَتَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ فَصَارَ كَالْإِجْمَاعِ . وَقَالُوا : وَلِأَنَّ الْفِسْقَ طَارِئٌ بِمَا يَسْتَحْدِثُهُ مِنْ فِعْلِ الْمَعَاصِي بَعْدَ الْبُلُوغِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَدَامَ حُكْمُ عَدَالَتِهِ مَا لَمْ يَثْبُتْ خِلَافُهَا مِنْ فِسْقِهِ .

قَالُوا : وَلِأَنَّهُ لَمَّا اعْتُبِرَ إِسْلَامُهُ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ وَجَبَ اعْتِبَارُ عَدَالَتِهِ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ . وَلِأَنَّ الرُّوَاةَ لِأَخْبَارِ الدِّيَانَاتِ لَمَّا اعْتُبِرَتْ عَدَالَةُ ظَاهِرِهِمْ دُونَ بَاطِنِهِمْ كَانَ فِي الشَّهَادَاتِ أَوْلَى . وَلِأَنَّهُ لَمَّا اعْتُبِرَ فِي شُهُودِ الْمَنَاكِحِ عَدَالَةُ الظَّاهِرِ ، كَذَلِكَ شُهُودُ غَيْرِ الْمَنَاكِحِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [ الطَّلَاقِ : ] . وَقَالَ تَعَالَى : إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا فَأَمَرَ بِالْعَدْلِ ، وَنَهَى عَنِ الْفَاسِقِ ، فَوَجَبَ الْبَحْثُ عَنْ حَالِهِ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ مِنَ الْمَأْمُورِ بِهِمْ أَوِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُمْ ، وَلَا يَحْكُمُ بِالْعَدَالَةِ عَنْ جَهَالَةٍ كَمَا لَا يَحْكُمُ بِالْفِسْقِ عَنْ جَهَالَةٍ لِاحْتِمَالِ الْأَمْرَيْنِ . وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ حُرَيْثٍ قَالَ شَهِدَ رَجُلٌ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : إِنِّي لَسْتُ أَعْرِفُكَ وَلَا يَضُرُّكَ أَنْ لَا أَعْرِفَكَ فَائْتِنِي بِمَنْ يَعْرِفُكَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : أَنَا أَعْرِفُهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ : بِأَيِّ شَيْءٍ تَعْرِفُهُ ؟ قَالَ : بِالْعَدَالَةِ وَالْفَضْلِ ، . قَالَ : هُوَ جَارُكَ الْأَدْنَى تَعْرِفُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ وَمَدْخَلَهُ وَمَخْرَجَهُ ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : فَمُعَامِلُكَ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ اللَّذَيْنِ يُسْتَدَلُّ بِهِمَا عَلَى الْوَرَعِ ؟ قَالَ : لَا قَالَ : فَصَاحِبُكَ فِي السَّفَرِ الَّذِي يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ ؟ قَالَ : لَا قَالَ : فَلَسْتَ تَعْرِفُهُ ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ : ائْتِنِي بِمَنْ يَعْرِفُكَ فَدَلَّ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ عَلَى وُجُوبِ الْبَحْثِ عَنِ الْعَدَالَةِ . وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّ كُلَّ عَدَالَةٍ شُرِطَتْ فِي الشَّهَادَةِ لَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ بِهَا مَعَ الْجَهَالَةِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْحُدُودِ . وَلِأَنَّ كُلَّ شَهَادَةٍ وَجَبَ الْبَحْثُ عَنْ عَدَالَتِهَا فِي الْحُدُودِ وَجَبَ الْبَحْثُ عَنْ عَدَالَتِهَا فِي غَيْرِ الْحُدُودِ كَمَا لَوْ طَعَنَ فِيهَا الْخَصْمُ . وَلِأَنَّ كُلَّ عَدَالَةٍ وَجَبَ الْبَحْثُ عَنْهَا إِذَا طَعَنَ فِيهَا الْخَصْمُ وَجَبَ الْبَحْثُ عَنْهَا وَإِنْ لَمْ يَطْعَنِ الْخَصْمُ كَالْحُدُودِ . وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ الْعَدَالَةِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي صِفَةِ الِاعْتِبَارِ ، فَهُمُ اعْتَبَرُوهَا بِالظَّاهِرِ وَنَحْنُ نَعْتَبِرُهَا بِالْبَحْثِ وَالْبَحْثُ أَقْوَى مِنَ الظَّاهِرِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَحَقَّ بِالِاعْتِبَارِ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاحْتِيَاطِ وَالِاسْتِظْهَارِ . وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِإِسْلَامِهِ بِالظَّاهِرِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ فِيهَا كُفَّارًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِعَدَالَتِهِ بِظَاهِرِ الْإِسْلَامِ : لِأَنَّ فِي الْمُسْلِمِينَ فُسَّاقًا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [ الْبَقَرَةِ : ] . فَمِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ شَهِدُوا فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا شَهَادَتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا رِسَالَةَ رَبِّهِمْ [ أَلَا تَرَى كَيْفَ ] قَالَ : وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [ الْبَقَرَةِ : ] . أَنَّ مَا شَهِدْتُمْ بِهِ حَقٌّ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : " الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ " فَهُوَ أَنَّ مَا أَوْجَبَهُ الْإِسْلَامُ مِنْ عَمَلِ الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي مُوجِبٌ لِعَدَالَتِهِمْ ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِيهِمْ إِذَا عَلِمْنَا ذَلِكَ مِنْهُمْ ، وَالْبَحْثُ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِلَى الْعِلْمِ بِهَذَا . وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْفِسْقَ طَارِئٌ فَهُوَ أَنَّ الْعَدَالَةَ بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ ، وَالْفِسْقَ بِفِعْلِ الْمَعَاصِي ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلَيْنِ طَارِئٌ ، فَلَمْ يَكُنِ الْأَخْذُ بِأَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : لَمَّا اعْتُبِرَ ظَاهِرُ إِسْلَامِهِ اعْتُبِرَ ظَاهِرُ عَدَالَتِهِ فَهُوَ أَنَّ الْإِسْلَامَ اعْتِقَادٌ يَخْفَى فَعَمِلَ فِيهِ عَلَى الظَّاهِرِ ، وَالْعَدَالَةُ وَالْفِسْقُ بِأَفْعَالٍ تَظْهَرُ فَأَوْجَبَتِ الْبَحْثَ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ عَدَالَةِ الرُّوَاةِ : فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ تُعْتَبَرُ فِيهِمْ عَدَالَةُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ كَالشَّهَادَةِ وَلَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُمْ إِلَّا بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْ عَدَالَتِهِمْ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ وَهُوَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِمْ عَدَالَةُ الظَّاهِرِ وَيُعْتَبَرُ فِي الشُّهُودِ عَدَالَةُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَخْبَارَ الدِّيَانَاتِ يَسْتَوِي فِيهَا الْمُخْبِرُ وَغَيْرُ الْمُخْبِرِ ، فَكَانَتِ التُّهْمَةُ مُنْتَفِيَةً وَالِاعْتِبَارُ أَخَفَّ ، وَالشَّهَادَةُ يَخْتَلِفُ فِيهَا الشَّاهِدُ وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ، فَكَانَتِ التُّهْمَةُ مُتَوَجِّهَةً وَالِاعْتِبَارُ أَغْلَظَ . وَالثَّانِي : [ أَنَّهُ قَدْ يُقْبَلُ فِي الرِّوَايَةِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ مَنْ لَمْ يُقْبَلْ فِي الشَّهَادَةِ وَيُقْبَلُ خَبَرُ الرَّاوِي مَعَ وُجُودِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ ، وَتُقْبَلُ مِنْهَا رِوَايَةُ الْوَاحِدِ عَنِ الْوَاحِدِ وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى الْعَنْعَنَةُ ، لِقَوْلِهِ حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ . وَمِثْلُ هَذَا كُلِّهِ لَا يَجُوزُ فِي الشَّهَادَةِ ] كَذَلِكَ حَالُ الْعَدَالَةِ .

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ عَدَالَةِ شُهُودِ الْمَنَاكِحِ فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَذْهَبُ إِلَى اعْتِبَارِ عَدَالَتِهِمْ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ، كَالشَّهَادَةِ فِي الْحُقُوقِ ، وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُهُمْ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِمْ عَدَالَةُ الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ فِي الْحُقُوقِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَدَالَةَ الْبَاطِنِ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا غَيْرُ الْحُكَّامِ ، فَاخْتَصَّ اعْتِبَارُهَا بِالْأَحْكَامِ . وَالثَّانِي : أَنَّ عُقُودَ الْمَنَاكِحِ تَكْثُرُ ، وَفِي تَأْخِيرِهَا إِلَى الْبَحْثِ عَنْ عَدَالَةِ الْبَاطِنِ ضَرَرٌ شَاقٌّ فَخَالَفَتْ شَهَادَةَ الْأَحْكَامِ .

فَصْلٌ : اعْتِرَافُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِعَدَالَةِ الشُّهُودِ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِمْ لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ عَدَالَتِهِمْ ، فَاعْتَرَفَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِعَدَالَتِهِمْ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمْ ، عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَحْكُمُ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ الْبَحْثَ عَنْ عَدَالَتِهِمْ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِ فَأَسْقَطَ اعْتِبَارَهُ فِيهِمْ بِاعْتِرَافِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِتَزْكِيَتِهِ لَهُمْ ، لِأَنَّ فِي الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ حُكْمًا بِعَدَالَتِهِمْ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا بِتَزْكِيَةِ الْخَصْمِ . تَدْوِينُ أَسْمَاءِ الشُّهُودِ وَحِلْيَتِهِمْ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُثْبِتَ أَسْمَاءَ الشُّهُودِ ، وَكُنَاهُمْ ، وَيَرْفَعَ فِي أَنْسَابِهِمْ ، أَوْ وَلَائِهِمْ ، وَيَذْكُرَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ صَنَائِعَ وَمَكَاسِبَ ، وَبِقَاعِ مَسَاكِنِهِمْ ، وَيُثْبِتَ حُلَاهُمْ وَأَوْصَافَهُمْ فِي أَلْوَانِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ ، لِئَلَّا تُشْتَبَهُ الْأَسْمَاءُ وَالْأَنْسَابُ . وَقَدْ حُكِيَ عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ أَنَّهُ قَالَ : شَيْئَانِ مَا عَمِلَ بِهِمَا قَبْلِي أَحَدٌ ، وَلَا يَتْرُكُهُمَا بَعْدِي أَحَدٌ . تَحْلِيَةُ الشُّهُودِ ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُمْ سِرًّا . تَزْكِيَةُ الشُّهُودِ . فَإِذَا فَرَغَ الْحَاكِمُ مِنْ إِثْبَاتِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَسْمَاءِ الشُّهُودِ وَحُلَاهُمْ ، أَذِنَ لَهُمْ فِي الِانْصِرَافِ لِيَبْحَثَ عَنْ عَدَالَتِهِمْ سِرًّا ثُمَّ جَهْرًا ، بِأَصْحَابِ مَسَائِلِهِ ، عَلَى مَا سَنَصِفُهُ مِنْ بَعْدُ لِيَثْبُتَ عِنْدَهُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عَدَالَةٍ أَوْ فِسْقٍ . وَيَكُونُ الْكَشْفُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ وَاجِبًا عَلَى الْحَاكِمِ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ بِعَدَالَتِهِمْ . وَقَالَ الْمَغْرِبِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ : يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ دُونَ الْحَاكِمِ . إِلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهِ الْحَاكِمُ : لِأَنَّ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي دُونَ الْحَاكِمِ .

وَهَذَا فَاسِدٌ : لِأَنَّ التَّعْدِيلَ وَالْجَرْحَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْحَاكِمِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْكَشْفُ عَنْهُمَا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ .

تَفْرِيقُ الشُّهُودِ

تَفْرِيقُ الشُّهُودِ وَسُؤَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى انْفِرَادِهِ عَنْ صِفَةِ شَهَادَتِهِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَأُحِبُّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سُدَّةُ عُقُولٍ أَنْ يُفَرِّقَهُمْ ثَمَّ يَسْأَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى حِدَتِهِ عَنْ شَهَادَتِهِ وَالْيَوْمِ الَّذِي شَهِدَ فِيهِ وَالْمَوْضِعِ وَمَنْ فِيهِ لِيُسْتَدَلَّ عَلَى عَوْرَةٍ إِنْ كَانَتْ فِي شَهَادَتِهِ وَإِنْ جَمَعُوا الْحَالَ الْحَسَنَةَ وَالْعَقْلَ لَمْ يَفْعَلْ بِهِمْ ذَلِكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ مَنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ عَدَالَتُهُ مِنَ الشُّهُودِ أَنْ يَرَاهُمْ عَلَى كَمَالٍ أَوِ اخْتِلَالٍ . فَإِنْ رَآهُمْ عَلَى وُفُورِ الْعَقْلِ وَشِدَّةِ التَّيَقُّظِ وَظُهُورِ الْحَزْمِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى اخْتِبَارِهِمْ وَلَا أَنْ يُفَرِّقَهُمْ لِسُؤَالِهِمْ وَاقْتَصَرَ عَلَى إِثْبَاتِ أَسْمَائِهِمْ لِيَتَوَلَّى أَصْحَابُ مَسَائِلِهِ الْبَحْثَ عَنْ عَدَالَتِهِمْ . وَإِنْ رَآهُمْ عَلَى اخْتِلَالٍ مِنْ قِلَّةِ الْحَزْمِ وَضَعْفِ الرَّأْيِ وَاضْطِرَابِ الْعَقْلِ اخْتَبَرَهُمْ قَبْلَ إِثْبَاتِ أَسْمَائِهِمْ . وَاخْتِبَارُهُمْ يَكُونُ بِتَفْرِيقِهِمْ وَسُؤَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى انْفِرَادِهِ عَنْ صِفَةِ شَهَادَتِهِ ، فِي سَبَبِهَا ، وَزَمَانِهَا ، وَمَكَانِهَا ، لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ عِنْدَ الِارْتِيَابِ كَالَّذِي رَوَى أَنَّ أَرْبَعَةً مِنْ حَوَاشِي نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ هَمُّوا بِإِصَابَةِ امْرَأَةٍ فَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِمْ فَشَهِدُوا عَلَيْهَا عِنْدَ دَاوُدَ بِالزِّنَا فَهَمَّ بِرَجْمِهَا فَبَلَغَ ذَلِكَ سُلَيْمَانَ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ فَاسْتَدْعَى أَرْبَعَةً مِنَ الصِّبْيَانِ فَشَهِدُوا بِمِثْلِ ذَلِكَ ثُمَّ فَرَّقَهُمْ ، وَسَأَلَهُمْ فَاخْتَلَفُوا فَرَدَّ شَهَادَتَهُمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ دَاوُدَ فَفَرَّقَهُمْ وَسَأَلَهُمْ فَاخْتَلَفُوا فَرَدَّ شَهَادَتَهُمْ . وَقِيلَ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ فَرَّقَ الشُّهُودَ دَانْيَالَ شَهِدَ عِنْدَهُ أَرْبَعَةٌ عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَا ، فَفَرَّقَهُمْ ، وَسَأَلَهُمْ ، فَاخْتَلَفُوا ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ فَنَزَلَتْ نَارٌ فَأَحْرَقَتْهُمْ . وَحُكِيَ أَنَّ سَبْعَةً خَرَجُوا فِي سَفَرٍ فَفُقِدَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَجَاءَتِ امْرَأَتُهُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ تَدَّعِي عَلَيْهِمْ قَتْلَهُ فَفَرَّقَهُمْ وَأَقَامَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى سَارِيَةٍ وَوَكَّلَ بِهِ رَجُلًا وَاسْتَدْعَى أَحَدَهُمْ وَسَأَلَهُ فَأَنْكَرُ فَقَالَ عَلِيٌّ اللَّهُ أَكْبَرُ فَظَنُّوا حِينَ سَمِعُوا تَكْبِيرَهُ أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى إِقْرَارِ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ اسْتَدْعَاهُمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ ، فَأَقَرُّوا ، فَقَالَ الْأَوَّلُ : أَنَا مَا أَقْرَرْتُ . فَقَالَ " قَدْ شَهِدَ عَلَيْكَ أَصْحَابُكَ " . فَثَبَتَ أَنَّ تَفْرِيقَ الشُّهُودِ مَعَ الِارْتِيَابِ نُدِبَ مِنْ سُنَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَئِمَّةِ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاحْتِيَاطِ وَنَفْيِ الِارْتِيَابِ .

فَإِنِ اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فِي الشَّهَادَةِ عِنْدَ تَفَرُّقِهِمْ رَدَّهُمْ وَلَمْ يَحْكُمْ بِشَهَادَتِهِمْ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِثْبَاتِ أَسْمَائِهِمْ وَالْبَحْثِ عَنْ عَدَالَتِهِمْ . وَعْظُ الشُّهُودِ . وَإِنِ اتَّفَقُوا وَلَمْ يَخْتَلِفُوا وَعَظَهُمْ بِمَا يَخَافُونَ بِهِ فَضِيحَةَ الدُّنْيَا وَعَذَابَ الْآخِرَةِ . رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ وَهُوَ قَاضِي الْكُوفَةِ فَجَاءَهُ رَجُلٌ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ حَقًّا فَأَنْكَرَ ، فَأَحْضَرَ الْمُدَّعِيَ شَاهِدَيْنِ فَشَهِدَا لَهُ بِمَا ادَّعَاهُ فَقَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ : وَالَّذِي بِهِ تَقُومُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ مَا كَذَبْتُ فِي الْإِنْكَارِ وَلَقَدْ كَذِبَا عَلَيَّ فِي الشَّهَادَةِ وَلَوْ سَأَلْتَ عَنْهُمَا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِمَا اثْنَانِ ، وَكَانَ مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ مُتَّكِئًا فَاسْتَوَى جَالِسًا وَقَالَ قَدْ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ إِنَّ الطَّيْرَ لَتَخْفِقُ بِأَجْنِحَتِهَا وَتَرْمِي بِمَا فِي حَوَاصِلِهَا مِنْ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّ شَاهِدَ الزُّورِ لَا تَزُولُ قَدَمَاهُ حَتَّى يَتَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ فَإِنْ صَدَقْتُمَا فَاثْبُتَا وَإِنْ كَذَبْتُمَا فَغَطِّيَا رُؤُسَكُمَا وَانْصَرِفَا فَغَطَّيَا رُؤُسَهُمَا وَانْصَرَفَا . وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِالسَّرِقَةِ عَلَى رَجُلٍ فَقَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَاللَّهِ مَا سَرَقْتُ ، وَوَاللَّهِ مَا سَرَقْتُ ، وَوَاللَّهِ لَقَدْ كَذَبَا عَلَيَّ ، فَوَعَظَهُمَا عَلِيٌّ وَاجْتَمَعَ النَّاسُ فَذَهَبَا فِي الزِّحَامِ فَقَالَ عَلِيٌّ : لَوْ صَدَقَا لَثَبَتَا وَلَمْ يَقْطَعِ الرَّجُلَ . وَلِأَنَّ الْحَسَدَ وَالتَّنَافُسَ قَدْ يَبْعَثُ مَنْ قَلَّتْ أَمَانَتُهُ عَلَى الشَّهَادَةِ بِالْكَذِبِ : إِمَّا اعْتِمَادًا لِإِضْرَارٍ ، أَوِ ارْتِشَاءٍ عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ ، فَلَزِمَ الْحَاكِمَ التَّحَفُّظُ فِيهَا فِيمَنْ جَهِلَ حَالَهُ اخْتَبَرَهُ بِمَا أَمْكَنَ مِنْ الِاخْتِبَارِ وَالْوَعْظِ . فَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ وَعْظِهِ سَتَرَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَفْضَحْهُ إِلَّا أَنْ يَتَحَقَّقَ مِنْهُ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ فَيَكْشِفُ حَالَهُ لِيَتَحَرَّزَ مِنْهُ الْحُكَّامُ . فَإِنْ أَقَامَ بَعْدَ الْوَعْظِ عَلَى شَهَادَتِهِ أَثْبَتَ اسْمَهُ حِينَئِذٍ لِلْبَحْثِ عَنْ عَدَالَتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

صِفَاتُ أَصْحَابِ الْمَسَائِلِ أَوِ الْمُزَكِّينَ

صِفَاتُ أَصْحَابِ الْمَسَائِلِ أَوِ الْمُزَكِّينَ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ أَصْحَابُ مَسَائِلِهِ جَامِعِينَ لِلْعَفَافِ فِي الطُّعْمَةِ وَالْأَنْفُسِ وَافِرِي الْعُقُولِ بَرَاءً مِنَ الشَّحْنَاءِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّاسِ أَوِ الْحَيْفِ عَلَيْهِمْ أَوِ الْحَيْفِ عَلَى أَحَدٍ بِأَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْعَصَبِيَّةِ أَوِ الْمُمَاطَلَةِ لِلنَّاسِ وَأَنْ يَكُونُوا جَامِعِينَ لِلْأَمَانَةِ فِي أَدْيَانِهِمْ لَا يَتَغَفَّلُونَ بِأَنْ يَسْأَلُوا الرَّجُلَ عَنْ عَدُوِّهِ فَيُخْفِيَ حَسَنًا وَيَقُولَ قَبِيحًا فَيَكُونُ جَرْحًا وَيَسْأَلُوهُ عَنْ صَدِيقِهِ فَيُخْفِيَ قَبِيحًا وَيَقُولَ حَسَنًا فَيَكُونَ تَعْدِيلًا " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا احْتَاجَ الْقَاضِي إِلَى الْبَحْثِ عَنْ أَحْوَالِ الشُّهُودِ عَوَّلَ فِيهِمْ عَلَى أَصْحَابِ مَسَائِلِهِ ، لِيَعْرِفَ مِنْهُمُ الْجَرْحَ وَالتَّعْدِيلَ . ثُمَّ وَصَفَ الشَّافِعِيُّ مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ مَسَائِلِهِ ، بِسَبْعَةِ أَوْصَافٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونُوا جَامِعِينَ لِلْعَفَافِ فِي الطُّعْمَةِ وَالْأَنْفُسِ . وَالْعَفَافُ فِي الطُّعْمَةِ أَنْ لَا يَأْكُلُوا الْحَرَامَ وَالشُّبَهَ فَيَدْعُوهُمْ إِلَى قَبُولِ الرَّشْوَةِ . وَالْعَفَافُ فِي الْأَنْفُسِ أَنْ لَا يُقْدِمُوا عَلَى ارْتِكَابِ مَحْظُورٍ أَوْ مُشْتَبَهٍ فَيَبْعَثُهُمْ عَلَى التَّحْرِيفِ وَالْكَذِبِ . وَالْوَصْفُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونُوا وَافِرِي الْعُقُولِ لِيَصِلُوا بِوُفُورِ عُقُولِهِمْ إِلَى غَوَامِضِ الْأُمُورِ بِلُطْفٍ ، وَيَتَحَرَّزُوا بِوُفُورِ عُقُولِهِمْ أَنْ يَتِمَّ عَلَيْهِمْ خِدَاعٌ أَوْ حِيلَةٌ ، فَيَجْمَعُوا بِوُفُورِ عُقُولِهِمْ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ . وَالْوَصْفُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونُوا بَرَاءً مِنَ الشَّحْنَاءِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّاسِ فَلَا يَكُونُوا مِمَّنْ يُعَادِي النَّاسَ وَيَحْسُدُهُمْ ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ فِي طِبَاعِهِ الْعَدَاوَةُ وَالْحَسَدُ ، كَانَ مِنَ الْخَيْرِ بَعِيدًا ، وَمِنَ الشَّرِّ قَرِيبًا ، فَلَمْ يُوثَقْ بِخَبَرِهِ . وَالْوَصْفُ الرَّابِعُ : أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْعَصَبِيَّةِ فِي نَسَبٍ أَوْ مَذْهَبٍ فَيَمِيلُ مَعَ مُوَافِقِهِ فِي تَحْسِينِ قَبِيحِهِ ، وَيَمِيلُ عَلَى مُخَالِفِهِ فِي تَقْبِيحِ حَسَنِهِ . وَالْوَصْفُ الْخَامِسُ : أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا عَنْ مُمَاطَلَةِ النَّاسِ وَالْمُمَاطَلَةُ اللَّجَاجُ : لِأَنَّ اللَّجُوجَ يَنْصُرُ هَوَاهُ ، وَيَرْتَكِبُ مَا يَهْوَاهُ ، وَلَا يَرْجِعُ عَنِ الْخَطَأِ وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ الصَّوَابُ فَلَمْ يُؤْمَنْ بِلُجَاجِهِ أَنْ يَعْدِلَ مَجْرُوحًا ، أَوْ يَجْرَحَ مُعَدَّلًا . وَالْوَصْفُ السَّادِسُ : أَنْ يَكُونُوا جَامِعِينَ لِلْأَمَانَةِ لِيُورِدَ بِأَمَانَتِهِ مَا سَمِعَهُ وَعَرِفَهُ وَلَا يَتَأَوَّلُ فِيهِ مَا يَصْرِفُهُ عَنْ أَقْوَى الْأَمْرَيْنِ إِلَى أَضْعَفِهِمَا وَعَنْ أَظْهَرِ الْحَالَيْنِ إِلَى أَخْفَاهُمَا . وَالْوَصْفُ السَّابِعُ : أَنْ لَا يَسْتَرْسِلَ فَيَسْأَلُ عَدُوًّا مُبَايِنًا مُنَابِذًا وَلَا صَدِيقًا مُوَاصِلًا ، لِأَنَّ الْعَدُوَّ يُظْهِرُ الْقَبِيحَ وَيُخْفِي الْحَسَنَ ، وَالصَّدِيقُ يُظْهِرُ الْحَسَنَ ، وَيُخْفِي الْقَبِيحَ ، وَلِيَعْدِلْ إِلَى سُؤَالِ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ ، فَلَمْ يَتَظَاهَرْ بِعَدَاوَةٍ ، وَلَمْ يَتَخَصَّصْ بِصَدَاقَةٍ ، لِأَنَّ رَأْيَهُ أَسْلَمُ ، وَقَوْلَهُ أَصْدَقُ ، وَهَذَا الْوَصْفُ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِ صَاحِبِ الْمَسَائِلِ وَلَا يَرْجِعُ إِلَى صِفَتِهِ . فَإِذَا تَكَامَلَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافُ فِي أَصْحَابِ مَسَائِلِهِ وَإِنْ كَانَ كَمَالُهَا مُتَعَذَّرًا صَارُوا أَهْلًا أَنْ يُعَوِّلَ عَلَيْهِمْ فِي الْبَحْثِ وَيَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِمْ فِي التَّعْدِيلِ وَالْجَرْحِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَيَحْرِصُ عَلَى أَنْ لَا يُعْرَفَ لَهُ صَاحِبُ مَسْأَلَةٍ فَيُحْتَالَ لَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ احْتِيَاطِ الْحُكَّامِ فِي أَنْ لَا يُعْرَفَ أَصْحَابُ مَسَائِلِهِ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ مَسَائِلَ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ لَا يُعْرَفُوا بَيْنَ النَّاسِ بِأَنْسَابِهِمْ وَأَسْمَائِهِمْ وَإِنَّمَا احْتَاطُوا بِذَلِكَ حَتَّى لَا يُحْتَالَ عَلَيْهِمْ فِيمَنْ سَأَلُوا عَنْ حَالِهِ .

وَالَّذِي يُؤْمَرُ بِأَنْ لَا يُعْرَفُوا عِنْدَهُ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ : أَحَدُهَا : عِنْدَ الْمَشْهُودِ لَهُ حَتَّى لَا يَحْتَالَ فِي تَعْدِيلِ شُهُودِهِ . وَالثَّانِي : عِنْدَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَحْتَالَ فِي جَرْحِ شُهُودِهِ . وَالثَّالِثُ : عِنْدَ الشُّهُودِ حَتَّى لَا يَحْتَالُوا فِي تَعْدِيلِ أَنْفُسِهِمْ . وَالرَّابِعُ : عِنْدَ الْمُسْؤُلِينَ عَنِ الشُّهُودِ حَتَّى لَا يَحْتَالَ لَهُمُ الْأَعْدَاءُ فِي الْجَرْحِ وَالْأَصْدِقَاءُ فِي التَّعْدِيلِ .

مَا يَجِبُ أَنْ يَعْلَمَهُ أَصْحَابُ الْمَسَائِلِ

مَا يَجِبُ أَنْ يَعْلَمَهُ أَصْحَابُ الْمَسَائِلِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأَنْ يَكْتُبَ لِأَصْحَابِ الْمَسَائِلِ صِفَاتِ الشُّهُودِ عَلَى مَا وَصَفْنَا وَأَسْمَاءَ مَنْ شَهِدَ لَهُ وَشَهِدَ عَلَيْهِ وَمَبْلَغَ مَا شَهِدُوا فِيهِ ثُمَّ لَا يَسْأَلُونَ أَحَدًا حَتَّى يُخْبِرُوهُ بِمَنْ شَهِدُوا لَهُ وَعَلَيْهِ وَبِقَدْرِ مَا شَهِدُوا فِيهِ فَإِنَّ الْمَسْئُولَ قَدْ يَعْرِفُ مَا لَا يَعْرِفُهُ الْحَاكِمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ عَدُوًّا لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَوْ شَرِيكًا فِيمَا شَهِدَ فِيهِ وَتَطِيبُ نَفْسُهُ عَلَى تَعْدِيلِهِ فِي الْيَسِيرِ وَيَقِفُ فِي الْكَثِيرِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا الْفَصْلُ مَقْصُورٌ عَلَى مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْحَاكِمُ ، فِيمَا يُلْقِيهِ إِلَى أَصْحَابِ مَسَائِلِهِ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : صِفَاتُ الشُّهُودِ ، بِأَسْمَائِهِمْ ، وَأَنْسَابِهِمْ ، وَصِنَاعَتِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ وَأَسْوَاقِهِمْ ، وَحِلْيَةِ أَبْدَانِهِمْ ، وَأَلْوَانِهِمْ ، حَتَّى لَا يَشْتَبَهَ عَلَيْهِمُ الْمَسْؤُلُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِهِ . وَالثَّانِي : مَنْ شَهِدُوا لَهُ لِئَلَّا يَكُونَ وَالِدًا ، أَوْ وَلَدًا أَوْ شَرِيكًا ، مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ لَهُ . وَالثَّالِثُ : مَنْ شَهِدُوا عَلَيْهِ ، لِئَلَّا يَكُونَ عَدُوًّا فَيَرُدَّ شَهَادَتَهُمْ عَلَيْهِ . وَالرَّابِعُ : مَا شَهِدُوا بِهِ مِنَ الْحَقِّ ، فَإِنَّهُمْ قَدْ يَرَوْنَ قَبُولَ قَوْلِهِمْ فِي الْيَسِيرِ ، وَلَا يَرَوْنَهُ فِي الْكَثِيرِ . وَهَذَا أَحْوَطُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ . فَيُثْبِتُ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ لِأَصْحَابِ مَسَائِلِهِ فِي رِقَاعٍ . وَقَدْ يُسَمَّى أَصْحَابُ الْمَسَائِلِ الْمُزَكِّينَ ثُمَّ الْحَاكِمُ بِالْخِيَارِ مَعَهُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْأَحْوَطُ ، أَنْ يَكْتُبَ بِذَلِكَ أَرْبَعَ رِقَاعٍ يَدْفَعُ مِنْهَا رُقْعَتَيْنِ إِلَى مُزَكِّيَيْنِ آخَرَيْنِ لِيَسْأَلَا عَنْ أَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ وَيَدْفَعَ رُقْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ إِلَى مُزَكِّيَيْنِ آخَرَيْنِ لِيَسْأَلَا عَنِ الشَّاهِدِ الْآخَرِ فَيَسْمَعُ تَزْكِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ مِنْ مُزَكِّيَيْنِ ، وَيَصِيرُ الْمُزَكُّونَ أَرْبَعَةً . وَالثَّانِي : أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى رُقْعَتَيْنِ فِيهِمَا ذِكْرُ الشَّاهِدَيْنِ ، فَيَدْفَعُ إِحْدَاهُمَا إِلَى أَحَدِ

الْمُزَكِّيَيْنِ ، لِيَسْأَلَ عَنِ الشَّاهِدَيْنِ ، وَيَدْفَعَ الْأُخْرَى إِلَى الْمُزَكِّي الْآخَرِ لِيَسْأَلَهُ عَنِ الشَّاهِدَيْنِ ، فَتَصِيرُ التَّزْكِيَةُ فِيهِمَا مَسْمُوعَةً مِنْ مُزَكِّيَيْنِ . عَمَلُ أَصْحَابِ الْمَسَائِلِ . فَإِذَا تَوَجَّهَ بِهَا أَصْحَابُ الْمَسَائِلِ الْمُزَكُّونَ ، كَانَ أَوَّلُ مَا يَسْأَلُونَ عَنْهُ أَحْوَالَ الشُّهُودِ . فَإِنْ وَجَدُوهُمْ مَجْرُوحِينَ لَمْ يَسْأَلُوا عَنْ غَيْرِهِمْ . وَإِنْ وَجَدُوهُمْ مُعَدَّلِينَ سَأَلُوا عَمَّنْ شَهِدُوا لَهُ . فَإِنْ ذَكَرُوا أَنَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ مَا يَمْنَعُ مِنْ شَهَادَتِهِمْ لَهُ ، لَمْ يَسْأَلُوا عَمَّا عَدَاهُ . وَإِنْ ذَكَرُوا جَوَازَ شَهَادَتِهِمْ لَهُ ، سَأَلُوا عَمَّنْ شَهِدُوا عَلَيْهِ . فَإِنْ ذَكَرُوا مَا يَمْنَعُ مِنْ شَهَادَتِهِمْ عَلَيْهِ ، لَمْ يَسْأَلُوا عَمَّا عَدَاهُ . وَإِنْ ذَكَرُوا جَوَازَ شَهَادَتِهِمْ عَلَيْهِ ، ذَكَرُوا حِينَئِذٍ الْقَدْرَ الَّذِي شَهِدُوا فِيهِ . ثُمَّ عَلَى أَصْحَابِ الْمَسَائِلِ أَنْ يَشْهَدُوا عِنْدَ الْحَاكِمِ بِمَا عَرَفُوهُ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْأَرْبَعِ إِنِ اجْتَمَعَتْ أَوِ افْتَرَقَتْ ، فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حُكْمًا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ ، وَإِنْ لَزِمَ اعْتِبَارُ جَمِيعِهَا فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ .

لَا يُقْبَلُ التَّعْدِيلُ إِلَّا مِنِ اثْنَيْنِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ

لَا يُقْبَلُ التَّعْدِيلُ إِلَّا مِنِ اثْنَيْنِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يَقْبَلُ الْمَسْأَلَةَ عَنْهُ وَلَا تَعْدِيلَهُ وَلَا تَجْرِيحَهُ إِلَّا مِنِ اثْنَيْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لَا يَحْكُمُ الْقَاضِي بِتَعْدِيلِ مَنْ شَهِدَ عِنْدَهُ وَلَا بِجَرْحِهِ إِلَّا بِشَهَادَةِ مُزَكِّيَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ مَسَائِلِهِ . فَإِنْ شَهِدَ بِالتَّعْدِيلِ أَوِ الْجَرْحِ وَاحِدٌ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ فِي تَعْدِيلٍ وَلَا جَرْحٍ . وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ : يَحْكُمُ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ وَأَجْرَاهُ مَجْرَى الْخَبَرِ ، وَخَالَفَ فِيهِ كَخِلَافِهِ فِي التَّرْجَمَةِ . اسْتِدْلَالًا بِقَبُولِ خَبَرِهِ فِي الدِّيَانَاتِ ، فَكَانَ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ أَوْلَى ، وَأَجَازَ سَمَاعَ قَوْلِهِ بِلَفْظِ الْخَبَرِ دُونَ الشَّهَادَةِ . وَأَجَازَ تَعْدِيلَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ كَمَا أَجَازَ خَبَرَهُمَا . وَكُلُّ هَذَا فَاسِدٌ عِنْدَنَا ، فَلَا يَسْمَعُ الْجَرْحَ وَالتَّعْدِيلَ إِلَّا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَ تَعْدِيلَ وَالِدٍ وَلَا وَلَدٍ وَلَا يَقْبَلُ فِيهِ إِلَّا مَا يَقْبَلُ فِي سَائِرِ الشَّهَادَاتِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ

إِثْبَاتُ حُكْمٍ عَلَى خَصْمٍ بِقَوْلِ غَيْرِهِ فَصَارَ هُوَ الْحَقَّ الْمَطْلُوبَ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى مَا اسْتَدَلَّ بِهِ فِي التَّرْجَمَةِ . شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي التَّعْدِيلِ وَالْجَرْحِ . وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي التَّعْدِيلِ وَالْجَرْحِ وَإِنْ شَهِدَ شُهُودُ الْأَصْلِ بِمَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مِنَ الْأَمْوَالِ أَوِ الْوِلَادَةِ أَوْ عُيُوبِ النِّسَاءِ . وَقَبِلَهَا أَبُو حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْجَرْحَ وَالتَّعْدِيلَ خَبَرٌ وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ . وَنَحْنُ نَحْمِلُهُ عَلَى أَصْلِنَا فِي أَنَّهَا شَهَادَةٌ وَلَيْسَتْ بِخَبَرٍ ثُمَّ هِيَ شَهَادَةٌ بِغَيْرِ الْمَالِ فَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُنَّ فِيهِ وَإِنْ قُبِلَتْ فِي الْأَمْوَالِ .

فَصْلٌ : هَلْ يَحْكُمُ الْقَاضِي فِي التَّزْكِيَةِ بِأَصْحَابِ الْمَسَائِلِ أَوْ بِأَهْلِ الْخِبْرَةِ ؟ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا شَهَادَةٌ مَحْضَةٌ يَحْكُمُ فِيهَا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : هَلْ يَحْكُمُ الْقَاضِي فِي تَعْدِيلِهِمْ وَجَرْحِهِمْ بِأَصْحَابِ مَسَائِلِهِ ؟ أَوْ بِمَنْ عَدَّلَهُمْ وَجَرَحَهُمْ مِنْ جِيرَانِهِ وَأَهْلِ الْخِبْرَةِ بِهِمْ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَصْحَابَ مَسَائِلِهِ هُمُ الشُّهُودُ عِنْدَهُ بِالتَّعْدِيلِ وَالْجَرْحِ ، وَهُمُ الْمُتَحَمِّلُونَ عَنِ الْجِيرَانِ وَأَهْلِ الْخِبْرَةِ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّعْدِيلِ وَالْجَرْحِ . وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَقَوْلِ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ . فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا يَسْمَعُهُ أَصْحَابُ الْمَسَائِلِ مِنَ الْجِيرَانِ وَأَهْلِ الْخِبْرَةِ بِلَفْظِ الْخَبَرِ دُونَ الشَّهَادَةِ : لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْحُكَّامِ . وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِمُ الْعَدَدُ . وَيَعْتَبِرُ أَنْ يَقَعَ فِي نُفُوسِ أَصْحَابِ الْمَسَائِلِ صِدْقُ الْمُخْبِرِ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ تَعْدِيلٍ وَجَرْحٍ فَرُبَّمَا وَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِدْقُ الْوَاحِدِ فَجَازَ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَيْهِ وَرُبَّمَا ارْتَابَ بِالِاثْنَيْنِ فَلَزِمَهُ أَنْ يَسْتَزِيدَ . وَيَجُوزُ لِأَصْحَابِ الْمَسَائِلِ أَنْ يَسْأَلُوا الْجَارَ : مِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ تَعْدِيلَهُ وَجَرْحَهُ ؟ وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْأَلَ أَصْحَابَ الْمَسَائِلِ مِنْ أَيْنَ عَلِمْتُمُ الْجَرْحَ وَالتَّعْدِيلَ ؟ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ . أَنَّ الَّذِي يَشْهَدُ بِالتَّعْدِيلِ وَالْجَرْحِ هُمْ مَنْ عَرِفَهُمَا مِنَ الْجِيرَانِ وَأَهْلِ الْخِبْرَةِ ، وَيَكُونُ أَصْحَابُ مَسَائِلِهِ رُسُلَهُمْ فِيهَا : لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِذَلِكَ مَسْمُوعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ ، وَهُمُ الْجِيرَانُ وَأَهْلُ الْخِبْرَةِ دُونَ أَصْحَابِ الْمَسَائِلِ ، وَلِأَنَّ شَهَادَةَ أَصْحَابِ الْمَسَائِلِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ ، وَهِيَ لَا تُسْمَعُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى شُهُودِ الْأَصْلِ .

فَعَلَى هَذَا إِذَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ الْمَسَائِلِ رُسُلَ مَنْ عَدَّلَ وَجَرَحَ ، كَانَ مَا يَذْكُرُهُ أَصْحَابُ مَسَائِلِهِ خَبَرًا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ فِيهِ عَلَى قَوْلِ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ الْخَبَرِ دُونَ الشَّهَادَةِ ، وَيُسَمُّوا لِلْحَاكِمِ مَنْ عَدَّلَ وَجَرَّحَ ، ثُمَّ تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ بِالتَّعْدِيلِ وَالْجَرْحِ مِنَ الْجِيرَانِ وَأَهْلِ الْخِبْرَةِ عَلَى شَرْطِ الشَّهَادَةِ .

فَصْلٌ : هَلْ يَشْهَدُ عَلَى تَعْدِيلِ الثَّانِي مَنْ شَهِدَا عَلَى الْأَوَّلِ من الشهود أمام أحاكم ؟ . وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ مِنْ أَصْحَابِ مَسَائِلِهِ أَوْ مِنَ الْجِيرَانِ بِحَسَبِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ بِتَعْدِيلِ أَحَدِ شَاهِدَيِ الْأَصْلِ ، جَازَ أَنْ يَشْهَدَا بِتَعْدِيلِ الشَّاهِدِ الْآخَرِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِنْ كَانَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ قَوْلَيْنِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ هُمَا فَرْعٌ لِأَصْلٍ وَفِي التَّزْكِيَةِ هُمَا شَاهِدَانِ عَلَى الْأَصْلِ .

مِنِ احْتِيَاطَاتِ الْحُكَّامِ فِي التَّعْدِيلِ وَالْجَرْحِ

مِنِ احْتِيَاطَاتِ الْحُكَّامِ فِي التَّعْدِيلِ وَالْجَرْحِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيُخْفِي عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَسْمَاءَ مَنْ دَفَعَ إِلَى الْآخَرِ لِتَتَّفِقَ مَسْأَلَتُهُمَا أَوْ تَختَلِفَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : وَهُوَ مِنِ اسْتِظْهَارِ الْحَاكِمِ ، أَنْ يُخْفِيَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ مَسَائِلِهِ مَا دَفَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ ، حَتَّى لَا يَجْمَعَهُمُ الْهَوَى عَلَى اتِّفَاقٍ فِي جَرْحٍ أَوْ تَعْدِيلٍ . وَإِذَا شَهِدُوا عِنْدَ الْقَاضِي بِجَرْحٍ أَسَرُّوهُ ، وَلَمْ يَجْهَرُوا بِهِ . وَإِنْ شَهِدُوا بِتَعْدِيلٍ جَازَ أَنْ يَجْهَرُوا بِهِ ، لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِإِخْفَاءِ الْمَسَاوِئِ ، وَإِظْهَارِ الْمَحَاسِنِ . وَيَجُوزُ أَنْ تُسْمَعَ شَهَادَتُهُمْ بِالْجَرْحِ مَعَ غَيْبَةِ الْمَجْرُوحِ ، وَلَا يَلْزَمُ إِعَادَتُهَا مَعَ حُضُورِهِ وَتُسْمَعُ شَهَادَتُهُمْ بِالتَّعْدِيلِ مَعَ الْحُضُورِ ، وَلِأَنَّ الْمُعَدِّلَ مَحْكُومٌ بِقَوْلِهِ ، فَاحْتَاجَ الْحَاكِمُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ . وَتُسْمَعُ شَهَادَتُهُمْ بِالتَّعْدِيلِ مَعَ غَيْبَةِ الْمُعَدَّلِ وَتُعَادُ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ مَعَ حُضُورِهِ ، لِئَلَّا يَقَعَ الْغَلَطُ فِي اتِّفَاقِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَنْسَابِ ، فَيَزُولُ الِاشْتِبَاهُ بِالْإِشَارَةِ مَعَ الْحُضُورِ .

حُكْمُ شَهَادَاتِ التَّعْدِيلِ إِذَا اخْتَلَفَتْ

حُكْمُ شَهَادَاتِ التَّعْدِيلِ إِذَا اخْتَلَفَتْ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنِ اتَّفَقَتْ بِالتَّعْدِيلِ أَوِ التَجرِيحِ قَبِلَهُمَا وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَعَادَهَا مَعَ غَيْرِهِمَا " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : لَيْسَ يَخْلُو حَالُ الشَّاهِدَيْنِ عِنْدَ الْحَاكِمِ مِنْ أَصْحَابِ مَسَائِلِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى الشَّهَادَةِ بِالتَّعْدِيلِ فَيَحْكُمُ بِالْعَدَالَةِ وَيُنَفِّذُ الْحُكْمَ بِشُهُودِ الْأَصْلِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى الشَّهَادَةِ بِالْجَرْحِ ، فَيَحْكُمُ بِهِ وَيُسْقِطُ شُهُودَ الْأَصْلِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَخْتَلِفَا فَيَشْهَدَ أَحَدُهُمَا بِالْعَدَالَةِ ، وَيَشْهَدَ الْآخَرُ بِالْجَرْحِ ، فَلَا يَحْكُمُ بِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي عَدَالَةٍ وَلَا جَرْحٍ ، وَيُنَفِّذُ غَيْرَهُمَا . وَيَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ فِيمَنْ يُنَفِّذُهُ بَعْدَهُمَا عَلَى وَاحِدٍ ، لِأَنَّ بِالْوَاحِدِ تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْجَرْحِ أَوِ التَّعْدِيلِ ، وَلَوِ اسْتَظْهَرَ بِإِنْفَاذِ اثْنَيْنِ كَانَ أَحْوَطَ . فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : أَعَادَهُمَا مَعَ غَيْرِهِمَا فَيَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُعِيدَهُمَا ثَانِيَةً لِلْبَحْثِ فَرُبَّمَا ظَهَرَ لِمَنْ عَدَّلَ جَرْحٌ يُوَافِقُ فِيهِ صَاحِبَهُ أَوْ ظَهَرَ لِمَنْ جَرَحَ تَعْدِيلٌ يُوَافِقُ فِيهِ صَاحِبَهُ وَيَسْمَعُ الْحَاكِمُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُجُوعَهُ إِلَى مَا بَانَ لَهُ مِنْ خِلَافِ شَهَادَتِهِ الْأُولَى . وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ : أَعَادَهُمَا يَعْنِي عَنِ الشَّهَادَةِ إِلَى حَيْثُ شَاءَ ، لِيَنْظُرَ مَا يَشْهَدُ بِهِ الثَّالِثُ ، فَإِنْ أَتَاهُ الثَّالِثُ فَشَهِدَ عِنْدَهُ بِالتَّعْدِيلِ كَمُلَتْ بَيِّنَةُ التَّعْدِيلِ ، فَحَكَمَ بِهَا وَلَمْ يُؤْثِرْ شَهَادَةَ الْخَارِجِ ، وَإِنْ شَهِدَ عِنْدَهُ بِالْجَرْحِ كَمُلَتْ بَيِّنَةُ الْجَرْحِ ، فَحَكَمَ بِهَا وَلَمْ يُؤْثِرْ شَهَادَةَ الْخَارِجِ ، وَإِنْ شَهِدَ عِنْدَهُ بِالْجَرْحِ كَمُلَتْ بَيِّنَةُ الْجَرْحِ فَحَكَمَ بِهَا وَلَمْ يُؤْثِرْ شَهَادَةَ الْمُعَدِّلِ .

بَيِّنَةُ الْجَرْحِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ التَّعْدِيلِ

بَيِّنَةُ الْجَرْحِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ التَّعْدِيلِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ عُدِّلَ رَجُلٌ بِشَاهِدَيْنِ وَجُرِحَ بِآخَرَيْنِ كَانَ الْجَرْحُ أَوْلَى لِأَنَّ التَّعْدِيلَ عَلَى الظَّاهِرِ وَالْجَرْحَ عَلَى الْبَاطِنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : إِذَا شَهِدَ بِعَدَالَةِ رَجُلٍ شَاهِدَانِ وَشَهِدَ بِجَرْحِهِ شَاهِدَانِ كَانَتْ شَهَادَةُ الْجَرْحِ أَوْلَى مِنْ شَهَادَةِ التَّعْدِيلِ ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : هُوَ مَا عَلَّلَ بِهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالتَّعْدِيلِ عَلَى الظَّاهِرِ وَبِالْجَرْحِ عَلَى الْبَاطِنِ ، وَالْحُكْمَ بِالْبَاطِنِ أَقْوَى مِنَ الْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ ، وَصَارَ كَمَنْ شَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ بِالْإِسْلَامِ ، وَشَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ بِالرِّدَّةِ ، كَانَتِ الشَّهَادَةُ بِالرِّدَّةِ أَوْلَى مِنَ الشَّهَادَةِ بِالْإِسْلَامِ ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ ظَاهِرٌ ، وَالرِّدَّةَ بَاطِنَةٌ ، وَكَمَنَ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ بِأَلْفٍ وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ بِالْقَضَاءِ ، كَانَتْ شَهَادَةُ الْقَضَاءِ أَوْلَى ، لِأَنَّهَا تَشْهَدُ بِبَاطِنٍ . وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّ فِي الْجَرْحِ إِثْبَاتًا ، وَفِي التَّعْدِيلِ نَفْيًا ، وَالْإِثْبَاتُ أَوْلَى مِنَ النَّفْيِ ،

كَمَنْ شَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ بِنِكَاحِ امْرَأَةٍ ، وَشَهِدَ عَلَيْهِ اثْنَانِ بِطَلَاقِهَا ، كَانَتْ شَهَادَةُ الطَّلَاقِ أَوْلَى ، لِمَا تَضَمَّنَهَا مِنْ إِثْبَاتِ مَا نُفِيَ بِغَيْرِهَا . فَلَوْ شَهِدَ بِالْجَرْحِ اثْنَانِ وَشَهِدَ بِالتَّعْدِيلِ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَكْثَرُ كَانَتْ بَيِّنَةُ الْجَرْحِ أَوْلَى ، وَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَةُ التَّعْدِيلِ أَكْثَرَ ، لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْعِلَّتَيْنِ . وَلَكِنْ لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ بِجَرْحِهِ . فِي سَنَةٍ أَوْ بَلَدٍ ، ثُمَّ شَهِدَ اثْنَانِ بِتَعْدِيلِهِ فِي سَنَةٍ بَعْدَهَا ، أَوْ فِي بَلَدٍ آخَرَ ، انْتَقَلَ إِلَيْهِ ، حَكَمَ بِتَعْدِيلِهِ دُونَ جَرْحِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتُوبُ وَيَنْتَقِلُ مِنَ الْفِسْقِ إِلَى الْعَدَالَةِ ، وَيَهْفُو كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ثُمَّ يَسْتَقِيمُونَ .

لَا يُقْبَلُ الْجَرْحُ إِلَّا بِيَقِينٍ

لَا يُقْبَلُ الْجَرْحُ إِلَّا بِيَقِينٍ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يُقْبَلُ الْجَرْحُ إِلَا بِالْمُعَايَنَةِ أَوْ بِالسَّمَاعِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْفِسْقَ قَدْ يَكُونُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : بِالْأَفْعَالِ ، كَالزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ . وَالثَّانِي : بِالْأَقْوَالِ ، كَالْقَذْفِ وَالْكَذِبِ وَالسِّعَايَةِ وَالنَّمِيمَةِ . وَالثَّالِثُ : بِالِاعْتِقَادِ ، كَاسْتِحْلَالِ الْمَحْظُورَاتِ وَالتَّدَيُّنِ بِالْبِدَعِ الْمُسْتَنْكَرَاتِ . فَالْأَفْعَالُ : تُعْلَمُ بِالْمُعَايَنَةِ ، وَالْأَقْوَالُ : تُعْلَمُ بِالسَّمَاعِ ، وَكَذَلِكَ الِاعْتِقَادُ . فَلَا تُقْبَلُ مِنَ الْجَارِحِ إِذَا شَهِدَ بِأَفْعَالِ الْجَرْحِ إِلَّا إِذَا شَاهَدَهَا . وَلَا تُقْبَلُ مِنْهُ إِذَا شَهِدَ بِأَقْوَالِ الْجَرْحِ إِلَّا إِذَا سَمِعَهَا . وَلَا تُقْبَلُ مِنْهُ إِذَا قَالَ بَلَغَنِي وَقِيلَ لِي . وَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْأَعْمَى بِالْجَرْحِ بِالْأَفْعَالِ وَلَا فِي الْأَقْوَالِ ، أَمَّا الْأَفْعَالُ فَإِنَّهُ لَمْ يَرَهَا ، وَأَمَّا الْأَقْوَالُ فَلِأَنَّهُ ، وَإِنْ سَمِعَهَا فَلَيْسَ يَتَحَقَّقُهَا مِنَ الْمَجْرُوحِ لِاشْتِبَاهِ صَوْتِهِ بِصَوْتِ غَيْرِهِ . فَأَمَّا الشَّهَادَةُ بِهَا عَنِ الْإِخْبَارِ فَإِنْ كَانَتْ أَخْبَارَ آحَادٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمُخْبِرِ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَخْبَارِ الِاسْتِفَاضَةِ أَوِ التَّوَاتُرِ الَّتِي لَا يَعْتَرِضُهَا ارْتِيَابٌ جَازَ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا ، كَمَا يَشْهَدُ بِالْأَنْسَابِ ، وَبِالْأَمْلَاكِ ، وَالْمَوْتِ ، وَتُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْأَعْمَى : لِأَنَّهُ مُسَاوٍ لِلْبَصِيرِ فِي الْعِلْمِ بِهَا . فَإِذَا عَلِمَ الشَّاهِدُ الْجَرْحَ إِمَّا بِالْمُعَايَنَةِ لِلْأَفْعَالِ أَوْ بِالسَّمَاعِ لِلْأَقْوَالِ أَوْ بِالْخَبَرِ الْمُسْتَفِيضِ بِالْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ جَازَ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ : لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ عَلَى يَقِينٍ مِنَ الْعِلْمِ بِهَا وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ .

فَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ بِهَذَا الْجَرْحِ عِنْدَ الْحَاكِمِ هُمُ الْجِيرَانَ وَأَهْلَ الْخِبْرَةِ كَانَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ مُعْتَبَرَةً فِي شَهَادَتِهِمْ . وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ بِهَا أَصْحَابَ مَسَائِلِهِ تَحَمَّلُوهَا عَنْ عِلْمِهَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ ، وَجَازَ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا بِهَا عَنْهُمْ ، لِأَنَّ أَصْحَابَ مَسَائِلِهِ قَدْ نُدِبُوا لِلْبَحْثِ عَنْهَا ، وَلَوْ تَحَمَّلُوهَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ لَقَدَّمُوا الشَّهَادَةَ بِهَا وَلَمَا احْتَاجُوا إِلَى الْمَسْأَلَةِ عَنْهَا . وَلَا يَصِيرُ أَصْحَابُ الْمَسَائِلِ إِذَا شَهِدُوا بِهَا قَذَفَةً ، وَإِنْ لَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمْ ، وَيَصِيرُ الْجِيرَانُ بِهَا قَذَفَةً . إِنْ لَمْ تُكْمُلْ شَهَادَتُهُمْ ، لِأَنَّ أَصْحَابَ الْمَسَائِلِ نُدِبُوا لِلْإِخْبَارِ بِمَا سَمِعُوهُ ، وَلَمْ يُنْدَبِ الْجِيرَانُ إِلَيْهِ وَسَوَاءٌ ذَكَرَ أَصْحَابُ الْمَسَائِلِ هَذَا الْجَرْحَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ أَوْ بِلَفْظِ الْخَبَرِ ، لَكِنَّ الْحَاكِمَ يَحْكُمُ بِهِ إِنْ كَانَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ ، وَلَا يَحْكُمُ بِهِ إِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ .

ذِكْرُ سَبَبِ الْجَرْحِ

ذِكْرُ سَبَبِ الْجَرْحِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يَقْبَلُهُ مِنْ فَقِيهٍ دَيِّنٍ عَاقِلٍ إِلَّا بِأَنْ يَقِفَهُ عَلَى مَا يَجْرَحُهُ بِهِ فَإِنَّ النَّاسَ يَتَبَايَنُونَ فِي الْأَهْوَاءِ فَيَشْهَدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْكُفْرِ وَالْفِسْقِ بِالتَأْوِيلِ وَهُوَ بِالْجَرْحِ عِنْدَهُمْ أَوْلَى وَأَكْثَرُ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى أَنْ تَجُوزَ شَهَادَتُهُ بَغْيًا حَتَّى يُعَدَّ الْيَسْيرُ الَذِي لَا يَكُونُ جَرْحًا جَرْحًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَقْبَلَ شَهَادَةَ الشُّهُودِ بِالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ حَتَّى يَذْكُرُوا لَهُ أَسْبَابَ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَتِهِمْ ، إِذَا شَهِدُوا عِنْدَهُ أَنَّهُ عَدْلٌ ، أَوْ فَاسِقٌ ، وَلَا يَسْأَلُهُمْ عَنْ سَبَبِ مَا صَارَ بِهِ عِنْدَهُمْ عَدْلًا ، أَوْ فَاسِقًا . اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ؟ " مِنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَلِأَنَّهُمْ إِذَا شَهِدُوا عَلَيْهِ بِالزِّنَا صَارُوا قَذَفَةً يُحَدُّونَ ، فَكَانَتِ الشَّهَادَةُ بِفِسْقِهِ أَسْلَمَ وَأَسْتَرَ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْأَلَهُمْ عَنْ سَبَبِ عِلْمِهِمْ بِهِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْأَلَهُمْ عَنْ سَبَبِ فِسْقِهِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " اذْكُرُوا الْفَاسِقَ بِمَا فِيهِ يَحْذَرْهُ النَّاسُ . وَلِأَنَّ الْجَرْحَ وَالتَّعْدِيلَ إِلَى الْحُكَّامِ دُونَ الشُّهُودِ ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ اجْتِهَادُ الْحَاكِمِ ، وَلَمْ يُعْمَلْ فِيهِ عَلَى رَأْيِ الشُّهُودِ : وَلِأَنَّ النَّاسَ مُخْتَلِفُونَ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ ، فَشَارِبُ النَّبِيذِ

مُخْتَلِفٌ فِي حَدِّهِ وَفِسْقِهِ فَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يُفَسِّقُهُ وَلَا يَحُدُّهُ ، وَمَالِكٌ يُفَسِّقُهُ وَيَحُدُّهُ ، وَالشَّافِعِيُّ يَحُدُّهُ وَلَا يُفَسِّقُهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ إِلَّا قَوْلُ مَنْ يُنَفِّذُ حُكْمَهُ وَهُمُ الْحُكَّامُ دُونَ الشُّهُودِ . وَقَدْ حَكَى الرَّبِيعُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّ رَجُلًا جَرَحَ شَاهِدًا عِنْدَ حَاكِمٍ ، فَقِيلَ لَهُ لِمَ جَرَحَتْهُ ؟ قَالَ : لِأَنِّي رَأَيْتُهُ يَبُولُ قَائِمًا قِيلَ : وَلِمَ يَصِيرُ فَاسِقًا إِذَا بَالَ قَائِمًا ؟ قَالَ : لِأَنَّهُ يَرْشُشُ عَلَى سَاقَيْهِ ، قِيلَ : أَفَرَأَيْتَهُ يَرْشُشُ عَلَى سَاقَيْهِ حِينَ بَالَ ؟ قَالَ : لَا . فَإِذَا جَازَ أَنْ يُجْرَحَ الشَّاهِدُ بِمِثْلِ هَذَا وَلَيْسَ بِجَرْحٍ لَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُ الشَّهَادَةَ بِالْجَرْحِ ، حَتَّى يَصِفَ لَهُ مَا يَصِيرُ بِهِ مَجْرُوحًا . وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُتَعَصِّبِينَ فِي الْمَذَاهِبِ يُفَسِّقُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ بِالْمُخَالَفَةِ فَاسِقًا ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَسْتَفْسِرَهُمْ عَمَّا صَارَ بِهِ فَاسِقًا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِالْخَبَرِ ، فَقَدْ عَارَضَهُ مَا ذَكَرْنَا فَيَسْقُطَانِ فَيَحْمِلُ السَّتْرَ فِيمَا لَمْ تَدْعُ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ ، وَالذِّكْرَ فِيمَا دَعَتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : إِنَّهُمْ يَصِيرُونَ قَذَفَةً فَقَدْ قَدَّمْنَاهُ ؛ فَإِنَّ أَصْحَابَ الْمَسَائِلِ لَا يَصِيرُونَ بِهِ قَذَفَةً وَإِنْ صَارَ الْجِيرَانُ بِهِ قَذَفَةً لَكِنْ لَيْسَ لِأَصْحَابِ الْمَسَائِلِ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِمْ بِالْقَذْفِ ، لِأَنَّهُمْ قَالُوهُ بَعْدَ اسْتِخْبَارِهِمْ عَنْهُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَسْأَلُوا عَنْ سَبَبِ الْعِلْمِ لَمْ يَسْأَلُوا عَنْ سَبَبِ الْفِسْقِ فَهُوَ أَنَّ سَبَبَ الْعِلْمِ بِهِ غَيْرُ مُخْتَلَفٍ فِيهِ ، فَلَمْ يَسْأَلُوا عَنْهُ وَسَبَبُ فِسْقِهِمْ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْأَلُوا عَنْهُ .

بَيَانُ سَبَبِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ مِمَّنْ تَقَدَّمَتْ مَعْرِفَتُهُ

فَصْلٌ : بَيَانُ سَبَبِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ مِمَّنْ تَقَدَّمَتْ مَعْرِفَتُهُ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَسْمَعُ الشَّهَادَةَ بِالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ حَتَّى يَسْأَلَ الشُّهُودَ عَنْ سَبَبِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ ، فَيَسْتَوِي سُؤَالُهُ عَنِ الشَّهَادَةِ بِالتَّعْدِيلِ وَعَنِ الشَّهَادَةِ بِالْجَرْحِ : لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُعَدَّلَ مَنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُجْرَحَ مَنْ لَيْسَ بِمَجْرُوحٍ ، فَوَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْهُمَا جَمِيعًا . وَلَا تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ بِالتَّعْدِيلِ إِلَّا مِمَّنْ تَقَدَّمَتْ مَعْرِفَتُهُ وَطَالَتْ خِبْرَتُهُ وَلَا يَسْمَعُهَا مِمَّنْ قَرُبَتْ مُدَّةُ مَعْرِفَتِهِ لِجَوَازِ التَّصَنُّعِ فِي قَرِيبِ الْمُدَّةِ . وَيَسْمَعُ الشَّهَادَةَ بِالْجَرْحِ مِمَّنْ تَقَدَّمَتْ مَعْرِفَتُهُ وَمِمَّنْ حَدَثَتْ مَعْرِفَتُهُ : لِأَنَّ الْجَرْحَ بِحُدُوثِ فِعْلٍ قَدْ يَكُونُ فِي قَرِيبِ الْمُدَّةِ كَمَا يَكُونُ فِي بَعِيدِهَا . فَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ بِأَسْبَابِ الْجُرْحِ ، اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ رَأْيَهُ فِيهَا فَإِذَا صَارَ بِهَا مَجْرُوحًا

عِنْدَهُ ، حَكَمَ بِفِسْقِهِ وَرَدَّ شَهَادَتَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا مَجْرُوحًا عِنْدَهُ ، لَمْ يَحْكُمْ بِفِسْقِهِ ، وَلَا بِعَدَالَتِهِ ، وَتَوَقَّفَ عَنِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ . وَإِنْ شَهِدُوا بِأَسْبَابِ الْعَدَالَةِ اجْتَهَدَ رَأْيَهُ فِيهَا فَإِنْ صَارَ بِهَا عَدْلًا عِنْدَهُ حَكَمَ بِعَدَالَتِهِ وَأَمْضَى الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَصِرْ بِهَا عَدْلًا عِنْدَهُ لَمْ يَحْكُمْ بِعَدَالَتِهِ وَلَا بِفِسْقِهِ وَتَوَقَّفَ عَنِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ .

هَلِ السُّؤَالُ عَنْ سَبَبِ التَّعْدِيلِ شَرْطٌ

هَلِ السُّؤَالُ عَنْ سَبَبِ التَّعْدِيلِ شَرْطٌ ؟ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يَقْبَلُ التَعْدِيلَ إِلَّا بِأَنْ يَقُولَ : عَدْلٌ عَلَيَّ وَلِي . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ . فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَسْأَلُ عَنْ أَسْبَابِ التَّعْدِيلِ ، وَيَسْأَلُهُمْ . عَنْ أَسْبَابِ الْجَرْحِ : لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالتَّعْدِيلِ أَنْ يَجِدُوهُ سَلِيمًا مِنَ الْهَفَوَاتِ ، وَهَذَا لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى شَرْحِ السَّبَبِ ، وَالْجَرْحُ بِحُدُوثِ أَفْعَالِهِ الْمُوجِبَةِ لِفِسْقِهِ ، فَوَجَبَ شَرْحُهَا . فَعَلَى قَوْلِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ يَكُونُ السُّؤَالُ عَنْ سَبَبِ الْعَدَالَةِ اسْتِظْهَارٌ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ وَاجِبٍ . وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي زَمَانِنَا . وَعَلَى هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : وَلَا يَقْبَلُ التَّعْدِيلَ إِلَّا بِأَنْ يَقُولَ : " عَدْلٌ عَلَيَّ وَلِي " . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَوْلِهِ : عَدْلٌ عَلَيَّ وَلِي هَلْ يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا عَلَى الْوُجُوبِ شَرْطًا فِيهَا ؟ أَوْ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ تَأْكِيدًا لَهَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعْدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ تَأْكِيدًا ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالتَّعْدِيلِ تَقْتَضِي الْحُكْمَ بِهَا لَهُ وَعَلَيْهِ . وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَهْلِ الْعِرَاقِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَطَائِفَةٍ ، أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ شَرْطًا مُعْتَبَرًا فِي صِحَّةِ التَّعْدِيلِ ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ الشَّاهِدُ لَمْ يَثْبُتِ التَّعْدِيلُ عَلَى ظَاهِرِ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ . وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا فِي الْعِلَّةِ . فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ : الْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا فِي شَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ ، وَفِي الْقَلِيلِ دُونَ الْكَثِيرِ ، فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ عَمَّ وَلَمْ يَخُصَّ . وَقَالَ غَيْرُهُ : بَلِ الْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الشَّاهِدُ بِالتَّعْدِيلِ مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ ، لِأَنَّهُ مِنْ وَالِدَيْهِ أَوْ مَوْلُودَيْهِ أَوْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ مِنْ أَعْدَائِهِ وَمُبَايِنِيهِ فَإِذَا قَالَ : عَدْلٌ عَلَيَّ وَلِي زَالَ هَذَا الِاحْتِمَالُ .

فَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا نَسَبَ بَيْنَهُمَا وَلَا عَدَاوَةَ . وَعَلَى تَعْلِيلِ أَبِي إِسْحَاقَ يَلْزَمُ ذَلِكَ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا نَسَبَ بَيْنِهِمَا وَلَا عَدَاوَةَ . فَأَمَّا الشَّهَادَةُ بِأَنَّهُ عَدْلٌ رِضًا فَهُوَ وَإِنْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي التَّعْدِيلِ ، فَعِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّ قَوْلَهُ رِضًا مَحْمُولٌ مِنَ التَّأْكِيدِ دُونَ الْوُجُوبِ ، لِأَنَّ الْعَدْلَ رِضًا . وَذَهَبَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ شَهَادَتَهُ بِأَنَّهُ رِضًا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ التَّعْدِيلِ ، لِأَنَّ التَّعْدِيلَ سَلَامَةٌ ، وَالرِّضَا كَمَالٌ . وَاسْتَزَادَ بَعْضُ الْقُضَاةِ مِنْهُمْ فِي التَّعْدِيلِ أَنْ يَذْكُرَ الشُّهُودُ : " أَنَّهُ مَأْمُونٌ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ " . وَهَذَا تَأْكِيدٌ ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي التَّعْدِيلِ : لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ الْعَدَالَةِ أَنْ يَكُونَ مَأْمُونًا فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ ، فَلَمْ يَلْزَمْ فِي الشَّهَادَةِ أَنْ نَذْكُرَ أَحْكَامَهَا ، كَمَا لَا يَلْزَمُ أَنْ يَذْكُرَ فِيهَا صِدْقَهُ ، وَأَمَانَتَهُ ، وَتَقْوَاهُ ، وَتَحَرُّجَهُ . فَهَذَا شَرْحُ الْمَذْهَبِ عَلَى قَوْلِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ سُؤَالَ الشَّاهِدِ عَنْ أَسْبَابِ الْعَدَالَةِ اسْتِظْهَارٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ . وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ سُؤَالَهُ عَنْ أَسْبَابِهَا وَاجِبٌ ، لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّعْلِيلِ ، مِنْ جَوَازِ الِاحْتِمَالِ فِي التَّعْدِيلِ ، كَجَوَازِ الِاحْتِمَالِ فِي التَّفْسِيقِ . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الشَّاهِدُ مُؤَدِّيًا لِأَسْبَابِ التَّعْدِيلِ ، وَالْقَاضِي هُوَ الْحَاكِمُ بِالْعَدَالَةِ وَتَكُونُ اسْتَزَادَتُهُ مِنَ الشُّهُودِ ، أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ عَدْلٌ عَلَيَّ وَلِي اسْتِخْبَارًا عَنْ حُكْمِ الْعَدَالَةِ ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ عَلَى سَبَبِهَا . وَهَلْ يَكُونُ هَذَا الِاسْتِخْبَارُ لَازِمًا فِي حَقِّ الْحَاكِمِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا فِي حَقِّ الشَّاهِدِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ لَازِمًا فِي حَقِّهِ [ لِيَكُونَ حُكْمُهُ ] ، بِالتَّعْدِيلِ عَلَى أَحْوَطِ الْأُمُورِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ فِي حَقِّهِ ، كَمَا لَيْسَ بِلَازِمٍ فِي حَقِّ الشَّاهِدِ : لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِأَسْبَابِ التَّعْدِيلِ تُغْنِي عَمَّا سِوَاهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

لَا يُقْبَلُ التَّعْدِيلُ إِلَّا مِنْ ذِي الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ

لَا يُقْبَلُ التَّعْدِيلُ إِلَّا مِنْ ذِي الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : ثَمَّ لَا يُقْبَلُ حَتَّى يَسْأَلَهُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ بِهِ فَإِنْ كَانَتْ بَاطِنَةً مُتَقَادِمَةً وَإِلَّا لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالتَّعْدِيلِ تُخَالِفُ الشَّهَادَةَ بِالْجَرْحِ ، مِنْ وَجْهَيْنِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا ، وَثَالِثٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ . فَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمَا فَأَحَدُهُمَا : أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالتَّعْدِيلِ لَا تُقْبَلُ إِلَّا مِمَّنْ كَانَ قَدِيمَ الْمَعْرِفَةِ ، وَتُقْبَلُ فِي الْجَرْحِ مِمَّنْ كَانَ حَدِيثَ الْمَعْرِفَةِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَصَنَّعُ الْعَدَالَةَ فِي قَرِيبِ الزَّمَانِ ، فَلَمْ تُقْبَلْ إِلَّا مِنْ قَدِيمِ الْمَعْرِفَةِ ، وَيَحْدُثُ الْجَرْحُ فِي قَرِيبِ الزَّمَانِ ، فَقُبِلَ مِنْ حَدِيثِ الْمَعْرِفَةِ . وَالْفَرْقُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ التَّعْدِيلُ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الظَّاهِرَةِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا فِي الظَّاهِرِ ، مَجْرُوحًا فِي الْبَاطِنِ ، وَالْمُعْتَبَرُ عَدَالَةُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ، وَيُقْبَلُ الْجَرْحُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الظَّاهِرَةِ ، وَالْبَاطِنَةِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يُعْلَمُ بِهِ مَنْ عُرِفَ ظَاهِرُهُ ، كَمَا يُعْلَمُ بِهِ مَنْ عُرِفَ بَاطِنُهُ . وَأَمَّا الْفَرْقُ الثَّالِثُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ ، أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِالْجَرْحِ إِلَّا بَعْدَ ذِكْرِ سَبَبِهِ ، فَهَلْ يَكُونُ ذِكْرُ السَّبَبِ فِي التَّعْدِيلِ شَرْطًا فِي الشَّهَادَةِ بِهِ ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ شَرْطٌ جَازَ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ بِالتَّعْدِيلِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ . وَإِنْ قِيلَ : لَيْسَ بِشَرْطٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ بِالتَّعْدِيلِ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ .

تَعْدِيلُ الْعَلَانِيَةِ

تَعْدِيلُ الْعَلَانِيَةِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيَسْأَلُ عَمَّنْ جَهِلَ عَدْلَهُ سِرًّا فَإِذَا عُدِّلَ سَأَلَ عَنْ تَعْدِيلِهِ عَلَانِيَةً لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمُعَدَّلَ سِرًّا هُوَ هَذَا لَا يُوَافِقُ اسْمٌ اسْمًا وَلَا نَسَبٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِمَّا إِذَا ابْتَدَأَ أَصْحَابُ الْمَسَائِلِ بِالشَّهَادَةِ فِيمَنْ بَحَثُوا عَنْهُ ، وَلَيْسَ عِنْدَ الْحَاكِمِ عِلْمٌ بِمَا يَشْهَدُونَ بِهِ ، مِنْ جَرْحٍ وَلَا تَعْدِيلٍ ، فَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ لَا يَبْعَثَهُمْ عَلَى الْجَهْرِ بِالشَّهَادَةِ ، حَذَرًا أَنْ يَشْهَدُوا بِالْجَرْحِ الْمَأْمُورِ بِسَتْرِهِ . وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بِالْعَدَالَةِ ، جَازَ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الشَّهَادَةِ سِرًّا وَجَهْرًا . فَإِنْ شَهِدُوا بِالْجَرْحِ ، حَكَمَ بِهِ ، وَلَمْ يُعْلِنْهُ . وَإِنْ شَهِدُوا بِالتَّعْدِيلِ ، أَعْلَنَهُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِيُرَغِّبَ النَّاسَ فِي حُسْنِ الذِّكْرِ ، وَجَمِيلِ الثَّنَاءِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ مِنْ جَرْحِهِ مَا يَخْفَى عَلَى غَيْرِهِ . ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْمُعَدَّلِ : فَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا فِي النَّاسِ ، بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ ، فِي الِاسْمِ ، وَالنَّسَبِ ، اقْتَصَرَ الْحَاكِمُ عَلَى الشَّهَادَةِ بِتَعْدِيلِهِ ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِشَارَةِ الشُّهُودِ إِلَيْهِ .

وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَشْهُورٍ فِي النَّاسِ ، وَجَازَ أَنْ يُشْتَبَهَ الِاسْمُ وَالنَّسَبُ أَخَذَ الْحَاكِمُ الشُّهُودَ بِتَعْيِينِهِ ، عِنْدَ حُضُورِهِ ، بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ ، إِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي شَهِدْنَا عِنْدَكَ بِتَعْدِيلِهِ ، لِيَزُولَ الِاشْتِبَاهُ ، فِي اسْمِهِ ، وَنَسَبِهِ ، فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُوَافِقَ اسْمٌ اسْمًا ، وَنَسَبٌ نَسَبًا . وَهَذَا التَّعْيِينُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ ، لِمَا ذَكَرْنَا . وَحَمَلَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ ، تَأْكِيدًا ، اعْتِبَارًا بِالظَّاهِرِ . وَحَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ فِي الْمَشْهُورِ ، وَعَلَى الْوُجُوبِ فِي الْمَجْهُولِ أَصَحُّ .

فَصْلٌ : هَلِ الْحُكْمُ بِالْعَدَالَةِ يَسْتَقِرُّ عَلَى التَّأْبِيدِ ؟ . فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا وَحَكَمَ بِالشَّهَادَةِ فِي التَّعْدِيلِ عَلَى مَا شَرَحْنَا ، وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ تَنْفِيذُ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ ، ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحُكْمَ بِعَدَالَتِهِ قَدِ اسْتَقَرَّ عَلَى التَّأْبِيدِ مَا لَمْ يَطْرَأْ جَرْحٌ يَظْهَرُ مِنْ بَعْدُ ، فَيَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِ مَتَى شَهِدَ عِنْدَهُ ، اسْتِصْحَابًا بِالظَّاهِرِ مِنْ حَالِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يُعِيدُ الْبَحْثَ عَنْ عَدَالَتِهِ فِي كُلِّ مُدَّةٍ يَجُوزُ أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُهُ فِيهَا ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْبَحْثُ فِي كُلِّ شَهَادَةٍ ، لِأَنَّهُ شَاقٌّ ، وَخَارِجٌ عَنِ الْعُرْفِ . وَالْمُدَّةُ الَّتِي يَعْتَدُّ بِمُضِيِّهَا الْبَحْثُ عَنْ عَدَالَتِهِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ . وَقَدَّرَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ . فَإِذَا أَعَادَ الْبَحْثَ عَنْهُ مِرَارًا ، اسْتَقَرَّتْ فِي النُّفُوسِ عَدَالَتُهُ ، وَتَحَقَّقَتْ أَمَانَتُهُ ، فَإِنْ تَجَدَّدَتْ مِنْهُ اسْتِرَابَةٌ أَعَادَ الْبَحْثَ وَالْكَشْفَ وَإِنْ لَمْ تَحْدُثِ اسْتِرَابَةٌ لَمْ يُعِدْهَا .

فَصْلٌ تَمْيِيزُ الشُّهُودِ وَتَعْيِينُهُمْ

فَصْلٌ : تَمْيِيزُ الشُّهُودِ وَتَعْيِينُهُمْ . فَأَمَّا تَمْيِيزُ الشُّهُودِ وَتَعْيِينُهُمْ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ حَتَّى يَعْتَمِدَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِمْ وَلَا يَسْمَعَ شَهَادَةَ غَيْرِهِمْ كَالَّذِي عَلَيْهِ النَّاسُ فِي زَمَانِنَا فَهُوَ مُسْتَحْدَثٌ ، أَوَّلُ مَنْ فَعَلَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي ، وَكَانَ مَالِكِيًّا مَيَّزَ شُهُودَهُ وَاقْتَصَرَ عَلَى الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ وَلَمْ يَقْبَلْ شَهَادَةَ غَيْرِهِمْ ، وَتَلَاهُ مَنْ تَعَقَّبَهُ مِنَ الْقُضَاةِ إِلَى وَقْتِنَا لِيَكُونَ الشُّهُودُ أَعْيَانًا مَعْدُودِينَ حَتَّى لَا يَسْتَشْهِدَ الْخُصُومَ بِمَجْهُولِ الْعَدَالَةِ فَيُغَرِّرُوا وَلَا يَطْمَعُ فِي الشَّهَادَةِ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لَهَا فَيَسْتَرْسِلُوا . وَهَذَا مَكْرُوهٌ مِنْ أَفْعَالِ الْقُضَاةِ : لِأَنَّهُ مُسْتَحْدَثٌ ، خُولِفَ فِيهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ . وَلَيْسَ يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ شُهُودٌ يَقْبَلُهُمْ ، وَإِنَّمَا الْمَكْرُوهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ غَيْرَهُمُ اقْتِصَارًا عَلَيْهِمْ : لِأَنَّ فِي النَّاسِ مِنَ الْعُدُولِ أَمْثَالَهُمْ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى بَعْضِ

الْعُدُولِ دُونَ بَعْضٍ ، فَيَخُصُّ ، وَقَدْ عَمَّ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَمْ يَخُصَّ . وَلِأَنَّهُ قَدْ يَتَجَدَّدُ لِلنَّاسِ حُقُوقٌ يَشْهَدُهَا مَنِ اتَّفَقَ ، فَإِذَا لَمْ يَسْمَعْ إِلَّا شَهَادَةَ مُعَيَّنٍ بَطَلَتْ . وَلِأَنَّ فِي التَّعْيِينِ مَشَقَّةً تَدْخُلُ عَلَى الشَّاهِدِ وَالْمُسْتَشْهِدِ ، لِمَسْأَلَةِ الطَّالِبِ وَإِجَابَةِ الْمَطْلُوبِ . وَلِأَنَّ مَنْ قَلَّتْ أَمَانَتُهُ مِنَ النَّاسِ إِذَا عَلِمُوا أَنْ لَا تُقْبَلَ فِيهِمْ شَهَادَةُ مَنْ حَضَرَهُمْ تَجَاحَدُوا ، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمُوا تَنَاصَفُوا . [ وَقَدْ يَتَهَافَتُ النَّاسُ فِي الْمَعَاصِي عِنْدَ الْإِيَاسِ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ وَيَمْتَنِعُونَ مِنْهَا عِنْدَ ظَنِّهِمْ قَبُولَ شَهَادَتِهِمْ ] .

الْقَوْلُ فِي كَاتِبِ الْقَاضِي

الْقَوْلُ فِي كَاتِبِ الْقَاضِي . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَّخِذَ كَاتِبًا حَتَّى يَجْمَعَ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا عَاقِلًا وَيَحْرِصُ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا لَا يُؤْتَى مِنْ جَهَالَةٍ نَزِهًا بَعِيدًا مِنَ الطَّبْعِ شروط كاتب القاضي . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : لَا يَسْتَغْنِي قُضَاةُ الْأَمْصَارِ وَالْوُلَاةُ عَلَى الْأَعْمَالِ عَنْ كَاتِبٍ يَنُوبُ عَنْهُمْ فِي ضَبْطِ الْأُمُورِ لِيَتَشَاغَلَ الْوُلَاةُ بِالنَّظَرِ ، وَيَتَشَاغَلَ الْكَاتِبُ بِالْإِثْبَاتِ ، وَإِنْشَاءِ الْكُتُبِ . قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُتَّابٌ ، مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ الَّذِي كَتَبَ الْقَضِيَّةَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ قُرَيْشٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَمِنْهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ . وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَاتِبٌ ، يُقَالُ لَهُ السِّجِلُّ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ : تَعْرِفُ السُّرْيَانِيَّةَ ؟ قَالَ : لَا قَالَ : " فَإِنَّهُمْ يَكْتُبُونَ إِلَيَّ وَلَا أُحِبُّ أَنْ يَقْرَأَ كُتُبِي كُلُّ أَحَدٍ فَتَعَلَّمِ السُّرْيَانِيَّةَ قَالَ زَيْدٌ فَتَعَلَّمْتُهَا فِي نِصْفِ شَهْرٍ . وَلِفَضْلِ الْكِتَابَةِ فِي الصَّحَابَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَادَى أَسْرَى بَدْرٍ شَرَطَ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ فِدَاءٌ أَنْ يُعَلِّمَ عَشَرَةً مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْكِتَابَةَ ، فَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ تَعَلَّمَ مِنْهُمْ . وَقَدْ كَانَ لِلْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كُتَّابٌ مَشْهُورُونَ وَكَذَلِكَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ .

وَلِأَنَّ تَشَاغُلَ الْوُلَاةِ بِالْكِتَابَةِ يَقْطَعُهُمْ عَنِ النَّظَرِ الْمُخْتَصِّ بِهِمْ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْقُضَاةُ وُلَاةٌ لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْ كُتَّابٍ . صِفَاتُ كَاتِبِ الْقَاضِي . وَصِفَةُ كَاتِبِ الْقَاضِي مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَوْصَافِهِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ : أَحَدُهَا : الْعَدَالَةُ : لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْإِقْرَارِ وَالْبَيِّنَاتِ وَتَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ فَافْتَقَرَ إِلَى صِفَةِ مَنْ تَثْبُتُ بِهِ الْحُقُوقُ كَالشُّهُودِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا ، وَلَيْسَ يُرِيدُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ جَزْلَ الرَّأْيِ ، سَدِيدَ التَّحْصِيلِ ، حَسَنَ الْفَطِنَةِ حَتَّى لَا يُخْدَعَ . أَوْ يُدَلَّسَ عَلَيْهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا ، لِيَعْلَمَ صِحَّةَ مَا يَكْتُبُ مِنْ فَسَادِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا بِأَحْكَامِ كِتَابَتِهِ ، وَمَا يَخْتَصُّ بِالشُّرُوطِ ، مِنَ الْمَحَاضِرِ وَالسِّجِلَّاتِ ، وَاسْتِعْمَالِ الْأَلْفَاظِ الْمَوْضُوعَةِ لَهَا ، وَالتَّحَرُّزِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُحْتَمَلَةِ ، وَيَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ وَاضِحَ الْخَطِّ ، فَصِيحَ اللِّسَانِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ نَزِيهًا بَعِيدًا مِنَ الطَّمَعِ لِيُؤْمَنَ أَنْ يَرْتَشِيَ فَيُحَابِيَ . فَإِذَا ظَفِرَ الْقَاضِي بِمَنْ تَكَامَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْأَوْصَافُ الْأَرْبَعَةُ وَأَرْجُو أَنْ يَظْفَرَ بِهِ جَازَ أَنْ يَسْتَكْتِبَهُ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَكْتِبَ عَبْدًا ، وَإِنْ أَكْمَلَهَا : لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ شَرْطٌ فِي كَمَالِ الْعَدَالَةِ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَكْتِبَ ذِمِّيًا وَإِنْ كَانَ كَافِيًا : لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا بِفِسْقِهِمْ فِي الدِّينِ عَنْ قَبُولِ قَوْلِهِمْ فِيهِ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [ الْمُمْتَحَنَةِ : ] . وَقَالَ : لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [ الْمَائِدَةِ : ] . وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ ، وَلَا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِطَانَتَانِ : بِطَانَةٌ تَدْعُوهُ إِلَى الْخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ ، وَبِطَانَةٌ تَدْعُوهُ إِلَى الشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ .

وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَقَدْ جَاءَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِ مَعْنَاهُ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا [ آلِ عِمْرَانَ : ] . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ . أَيْ لَا تَرْجِعُوا إِلَى آرَائِهِمْ ، وَلَا تُعَوِّلُوا عَلَى مُشَاوَرَتِهِمْ . وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَمَعَهُ كَاتِبٌ نَصْرَانِيٌّ ، فَأُعْجِبَ عُمَرُ بِخَطِّهِ وَحِسَابِهِ ، فَقَالَ لِأَبِي مُوسَى أَحْضِرْ كَاتِبَكَ ، لِيَقْرَأَهُ فَقَالَ أَبُو مُوسَى : إِنَّهُ نَصْرَانِيٌّ لَا يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَزَبَرَهُ عُمَرُ وَقَالَ " لَا تَأْمَنُوهُمْ وَقَدْ خَوَّنَهُمُ اللَّهُ ، وَلَا تُدْنُوهُمْ وَقَدْ أَبْعَدَهُمُ اللَّهُ ، وَلَا تُعِزُّوهُمْ وَقَدْ أَذَلَّهُمُ اللَّهُ " . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ : مَا يَنْبَغِي لِقَاضٍ وَلَا وَالٍ أَنْ يَتَّخِذَ كَاتِبًا ذِمِّيًّا ، وَلَا يَضَعَ الذِّمِّيَّ فِي مَوْضِعٍ يَفْضُلُ بِهِ مُسْلِمًا ، وَيُعِزُّ الْمُسْلِمِينَ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ حَاجَةٌ إِلَى غَيْرِ أَهْلِ دِينِهِمْ ، وَالْقَاضِي أَهْلُ النَّاسِ فِي هَذَا عُذْرًا .

فَصْلٌ : مَجْلِسُ الْكَاتِبِ وَعَمَلُهُ عند القاضى . فَإِذَا اسْتَكْتَبَ الْقَاضِي مَنْ وَصَفْنَا ، وَأَحْضَرَهُ مَجْلِسَ حُكْمِهِ ، وَأَجْلَسَهُ فِي الِاخْتِيَارِ عَنْ يَسَارِهِ ، لِيُثْبِتَ مَا يَحْكُمُ بِهِ مِنْ إِقْرَارٍ ، أَوْ سَمَاعِ بَيِّنَةٍ ، أَوْ تَنْفِيذِ حُكْمٍ يَذْكُرُ فِيهِ الْمَحْكُومَ لَهُ ، وَالْمَحْكُومَ عَلَيْهِ ، بِأَسْمَائِهِمَا ، وَأَنْسَابِهِمَا ، وَبِقَدْرِ مَا حَكَمَ بِهِ ، وَسَبَبَ حُكْمِهِ ، مِنْ إِقْرَارٍ ، أَوْ بَيِّنَةٍ ، وَإِنْ حَلَّاهُمَا عِنْدَ الْجَهَالَةِ بِهِمَا كَانَ أَوْلَى . وَالْقَاضِي فِيمَا يَكْتُبُهُ الْكَاتِبُ مِنْ ذَلِكَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُلْقِيَهُ عَلَيْهِ ، حَتَّى يَكْتُبَهُ مِنْ لَفْظِهِ ، أَوْ يَكْتُبَهُ الْكَاتِبُ بِأَلْفَاظِهِ وَالْقَاضِي يَنْظُرُ إِلَيْهِ ، أَوْ يَقْرَأُهُ بَعْدَ كِتَابَتِهِ ، وَيُعْلِمَ فِيهِ الْقَاضِيَ بِخَطِّهِ ، وَيُشْهِدَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ ، لِيَكُونَ حُجَّةً لِلْمُتَحَاكِمِينَ . وَيَكْتُبُ الْكَاتِبُ ذَلِكَ عَلَى نُسْخَتَيْنِ ، تَكُونُ إِحْدَاهُمَا فِي دِيوَانِ الْقَاضِي ، وَالْأُخْرَى بِيَدِ الْمَحْكُومِ لَهُ . فَإِنْ قَصَّرَ الْقَاضِي فِيمَا وَصَفْنَاهُ كَانَ مُفَرِّطًا فِي حُقُوقِ وِلَايَتِهِ ، وَمُفَرِّطًا فِي حُقُوقِ الْخُصُومِ ، وَإِنِ اسْتَوْفَاهَا سَلِمَ مِنَ التَّفْرِيطِ فِيهِمَا .

صِفَاتُ الْقَاسِمِ

[ صِفَاتُ الْقَاسِمِ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَالْقَاسِمُ فِي صِفَةِ الْكَاتِبِ عَالِمٌ بِالْحِسَابِ صفة القاسم لَا يُخْدَعُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : لِأَنَّ الْقَاسِمَ أَمِينُ الْحَاكِمِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى صِفَاتِ الْكَاتِبِ ، مِنَ الْعَدَالَةِ ، وَالْأَمَانَةِ ، وَاسْتَكْمَلَ الْأَوْصَافَ الْأَرْبَعَةَ ، وَيَزِيدُ عَلَيْهَا : أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْحِسَابِ ، وَالْمِسَاحَةِ ، وَالْقِسْمَةِ ، وَأَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْقِيَمِ .

فَإِنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ الْقِيَمُ لِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ الْمُقَوَّمَةِ ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَقْصِيرًا فِي صِفَتِهِ وَرَجَعَ الْحَاكِمُ فِي التَّقْوِيمِ إِلَى غَيْرِهِ ، لِأَنَّ لِكُلِّ جِنْسٍ وَنَوْعٍ أَهْلَ خِبْرَةٍ ، وَهُمْ أَعْلَمُ بِقِيمَتِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ ، وَلَيْسَ يُكْمِلُ مَعْرِفَةَ قِيَمِ الْأَجْنَاسِ كُلِّهَا أَحَدٌ . وَلِلْقَاسِمِ اجْتِهَادٌ ، كَالْحَاكِمِ ، وَلَيْسَ لِلْكَاتِبِ اجْتِهَادٌ : لِأَنَّهُ مُثْبِتٌ لِحُكْمِ الْحَاكِمِ ، فَكَانَ مَا يُعْتَبَرُ مِنْ أَوْصَافِ الْقَاسِمِ أَغْلَظَ مِنِ اعْتِبَارِهَا فِي الْكَاتِبِ .

ضَمُّ الشَّهَادَاتِ وَحِفْظُهَا

ضَمُّ الشَّهَادَاتِ وَحِفْظُهَا . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيَتَوَلَّى الْقَاضِي ضَمَّ الشَّهَادَاتِ وَرَفْعَهَا لَا يَغِيبُ ذَلِكَ عَنْهُ ، وَيَرْفَعُهَا فِي قِمَطْرٍ وَيَضُمُّ الشَّهَادَاتِ وَحُجَجَ الرَّجُلَيْنِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ مُتَرْجَمَةً بِأَسْمَائِهِمَا وَالشَّهْرِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ ؛ لِيَكُونَ أَعْرَفَ لَهُ إِذَا طَلَبَهَا فَإِذَا مَضَتْ سَنَةٌ عَزَلَهَا ، وَكَتَبَ " خُصُومُ سَنَةِ كَذَا " حَتَّى يَكُونَ كُلُّ سَنَةٍ مَفْرُوزَةً وَكُلُّ شَهْرٍ مَفْرُوزًا ، وَلَا يَفْتَحُ الْمَوَاضِعَ الَّتِي فِيهَا تِلْكَ الشَّهَادَاتُ إِلَّا بَعْدَ نَظَرِهِ إِلَى خَاتَمِهِ أَوْ عَلَامَتِهِ ، وَأَنْ يَتْرُكَ فِي يَدَيِ الْمَشْهُودِ لَهُ نُسْخَةً بِتِلْكَ الشَّهَادَاتِ وَلَا يَخْتِمَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْقَضَاءُ تعريفه فَهُوَ الْفَصْلُ لِانْقِضَاءِ التَّنَازُعِ بِهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [ الْإِسْرَاءِ : ] . وَالَّذِي يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي فِي نَظَرِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ : أَحَدُهَا : فَصْلُ التَّنَازُعِ بَيْنَ الْخُصُومِ . وَالثَّانِي : التَّوْثِقَةُ فِيمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنَ الْحُقُوقِ . وَالثَّالِثُ : حِفْظُ مَا حَصَلَ عِنْدَهُ مِنَ الْحُجَجِ وَالْوَثَائِقِ . الْقَوْلُ فِي فَصْلِ التَّنَازُعِ . فَأَمَّا الْأَوَّلُ : وَهُوَ فَصْلُ التَّنَازُعِ بَيْنَ الْخُصُومِ فَلَهُ حَالَتَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِ وَاضِحًا فَيُعَجِّلُ فَصْلَهُ فِي الْوَقْتِ الْمَأْلُوفِ مِنْ زَمَانِ نَظَرِهِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ فِي اللَّيْلِ وَأَوْقَاتِ الِاسْتِرَاحَةِ أَنْ يَفْصِلَهُ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ مَعَ الْمُكْنَةِ الْمَأْلُوفَةِ أَنْ يُؤَخِّرَهُ ، فَإِنْ أَخَّرَهُ أَثِمَ ، إِلَّا أَنْ يُحَلِّلَهُ الْخُصُومُ . فَإِنِ اتَّفَقَ الْخَصْمَانِ عَلَى تَأْخِيرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْمِلَهُمَا عَلَى تَعْجِيلِهِ . وَإِنْ دَعَا أَحَدُهُمَا إِلَى تَعْجِيلِ فَصْلِهِ ، وَدَعَا الْآخَرُ إِلَى تَأْخِيرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْمِلَهَا عَلَى تَعْجِيلِهِ وَعَمِلَ عَلَى قَوْلِ الطَّالِبِ دُونَ الْمَطْلُوبِ : لِأَنَّ فَصْلَ التَّنَازُعِ حَقٌّ لِلْمَطْلُوبِ دُونَ الطَّالِبِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِ مُشْتَبِهًا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الِاشْتِبَاهُ لِاخْتِلَاطِ الدَّعْوَى وَاشْتِبَاهِ التَّنَازُعِ ، فَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَهُمَا بِكَشْفِ الْمُشْتَبَهِ وَتَمْيِيزِ الْمُخْتَلَطِ ، وَلَا يَعْجَلَ فِي فَصْلِ التَّنَازُعِ بَيْنَهُمَا مَعَ اشْتِبَاهِ حَالِهِمَا ، وَالْأَمْرُ فِي كَشْفِ ذَلِكَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِمَا ، فَإِذَا كَشَفَاهُ فَصَلَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الِاشْتِبَاهُ لِإِشْكَالِ الْحُكْمِ عَلَى الْقَاضِي : لِاحْتِمَالِهِ عِنْدَهُ ، فَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقِفَ الْحُكْمَ عَلَى اجْتِهَادِهِ فِيهِ ، وَمُشَاوَرَةِ الْفُقَهَاءِ فِي وَجْهِ صَوَابِهِ ، وَلَا يَعْجَلَ بِفَصْلِهِ مَعَ الِاشْتِبَاهِ ، فَإِذَا بَانَ لَهُ بِاجْتِهَادِهِ وَجْهُ الْحَقِّ فِيهِ عَجَّلَ حِينَئِذٍ فَصْلَهُ وَلَمْ يُؤَخِّرْهُ . فَإِنْ رَدَّهُمَا الْقَاضِي مَعَ الِاشْتِبَاهِ إِلَى وَسَاطَةِ مُتَوَسِّطٍ بَيْنَهُمَا لَمْ يَلْزَمْهُمَا الرُّجُوعُ إِلَيْهِ . وَإِنْ سَأَلَاهُ رَدَّهُمَا إِلَى الْوَسِيطِ لَزِمَهُ الْكَفُّ عَنِ النَّظَرِ بَيْنَهُمَا ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّهُمَا إِلَى وَسِيطٍ مُعَيَّنٍ : لِأَنَّ رَدَّهُمَا إِلَيْهِ تَقْلِيدٌ لَهُ عَلَى النَّظَرِ بَيْنَهُمَا ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُقَلِّدَ لَهُمَا نَاظِرًا . فَإِنْ أَجَابَهُمَا إِلَيْهِ كَانَ تَبَرُّعًا مِنْهُ وَحَمَلَهُمَا الْوَسِيطُ عَلَى التَّرَاضِي دُونَ الْإِلْزَامِ إِلَّا أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِ الْإِلْزَامَ ، فَيَصِيرُ حَاكِمًا وَمُلْزَمًا . وَيَجُوزُ لِلْوَسِيطِ أَنْ يَشْهَدَ عِنْدَهُ بِمَا حَفِظَهُ مِنْ إِقْرَارِهِمَا فَإِنْ شَرَطَا عَلَيْهِ أَنْ لَا يَحْفَظَ عَلَيْهِمَا إِقْرَارًا فَفِي شَهَادَتِهِ عَلَيْهِمَا وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الِاسْتِرْعَاءِ هَلْ يَكُونُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الشَّهَادَةِ .

فَصْلٌ : حُكْمُ الْقَاضِي عَلَى وَالِدَيْهِ وَمَوْلُودَيْهِ أَوْ لَهُمَا وَيَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ عَلَى وَالِدَيْهِ وَمَوْلُودَيْهِ . وَفِي جَوَازِ حُكْمِهِ لِوَالِدَيْهِ وَمَوْلُودَيْهِ القاضي ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : لَا يَجُوزُ حُكْمُهُ لَهُمْ كَمَا لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ لَهُمْ : لِأَنَّ طَرِيقَ الْحُكْمِ ظَاهِرٌ وَطَرِيقَ الشَّهَادَةِ بَاطِنٌ فَتَوَجَّهَتْ إِلَيْهِ التُّهْمَةُ فِي الشَّهَادَةِ ، وَلَمْ تَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ فِي الْحُكْمِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لَهُمْ بِالْإِقْرَارِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لَهُمْ بِالْبَيِّنَةِ : لِأَنَّهُ قَدْ يُتَّهَمُ بِأَنْ يَعْدِلَ فِيهَا مَنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ وَلَا يُتَّهَمُ فِي الْإِقْرَارِ . وَيَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لِعَدُوِّهِ وَعَلَى عَدُوِّهِ وَجْهًا وَاحِدًا . وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودَيْنِ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَسْبَابَ الْعَدَاوَةِ طَارِئَةٌ تَزُولُ بَعْدَ وُجُودِهَا وَتَحْدُثُ بَعْدَ عَدَمِهَا ، وَأَسْبَابُ الْأَنْسَابِ لَازِمَةٌ لَا تَحُولُ وَلَا تَزُولُ فَغَلُظَتْ هَذِهِ وَخَفَّفَتْ ذَلِكَ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْأَنْسَابَ مَحْصُورَةٌ مُتَعَيِّنَةٌ ، وَالْعَدَاوَةُ مُنْتَشِرَةٌ مُشْتَبِهَةٌ يُفْضِي تَرْكُ الْحُكْمِ مَعَهَا إِلَى امْتِنَاعِ كُلِّ مَطْلُوبٍ بِمَا يَدَّعِيهِ مِنَ الْعَدَاوَةِ .

فَصْلٌ : الْقَوْلُ فِي التَّوْثِقَةِ لِلْمُتَنَازِعَيْنِ . وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي وَهُوَ التَّوْثِقَةُ لِلْمُتَنَازِعَيْنِ فِيمَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ مِنَ الْحُقُوقِ : فَلَا يَخْلُو ثُبُوتُ الْحَقِّ عِنْدَهُ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَثْبُتَ الْحَقُّ عِنْدَهُ [ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ] . فَإِذَا سَأَلَهُ الْمُدَّعِي أَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ ، مِنْ إِقْرَارِ خَصْمِهِ لَزِمَتْهُ إِجَابَتُهُ إِلَيْهِ ، وَأَشْهَدَ الْقَاضِي عَلَى نَفْسِهِ بِثُبُوتِ حَقِّهِ عِنْدَهُ بِإِقْرَارِ خَصْمِهِ ، لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ إِلَّا الْإِقْرَارَ الَّذِي قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ الْمُقِرُّ فَلَزِمَ الْقَاضِي إِثْبَاتُ حَقِّهِ بِالْإِشْهَادِ عَلَى نَفْسِهِ لِيَكُونَ لَهُ حُجَّةً عِنْدَ إِنْكَارِ خَصْمِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَثْبُتَ الْحَقُّ عِنْدَهُ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِ خَصْمِهِ [ فَيَلْزَمُ الْقَاضِي أَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِثُبُوتِ حَقِّ الْمُدَّعِي بِيَمِينِهِ بَعْدَ نُكُولِ خَصْمِهِ ، لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ لِلْمُدَّعِي غَيْرَ إِشْهَادِ الْقَاضِي عَلَى نَفْسِهِ . فَإِنْ سَأَلَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى نَفْسِهِ مَحْضَرًا ، نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ فِي دَيْنٍ يَسْتَوْفِي عَاجِلًا لَمْ يَلْزَمْهُ كَتْبُ الْمَحْضَرِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ فِي الْحَالِ وَإِنْ كَانَ فِي دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ أَوْ فِي مِلْكٍ مُتَأَبَّدٍ فَفِي وُجُوبِ كَتْبِ الْمَحْضَرِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجِبُ ؛ لِأَنَّ الْإِشْهَادَ بَيِّنَةٌ تُغْنِي عَنْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي كَتْبُ الْمَحْضَرِ وَالْإِشْهَادُ لِيَكُونَ حُجَّةً مَعَ صَاحِبِ الْحَقِّ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي مُطْلَقِ الشَّهَادَةِ فَيَكُونُ كَتْبُ الْمَحْضَرِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يُثْبِتَ الْحَقَّ عِنْدَهُ بَيِّنَةٌ يُقِيمُهَا الْمُدَّعِي عَلَى خَصْمِهِ ، فَهَلْ يَلْزَمُ الْقَاضِي الْإِشْهَادُ عَلَى نَفْسِهِ إِذَا سَأَلَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجِبُ عَلَيْهِ : لِأَنَّ لَهُ بِالْحَقِّ بَيِّنَةً فَلَمْ يَلْزَمِ الْقَاضِي أَنْ يُجَدِّدَ لَهُ بَيِّنَةً وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ مُخَيَّرًا .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَلْزَمُهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ الْبَيِّنَةِ كَمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَشْهَدَ فِي الْإِقْرَارِ : لِأَنَّ فِي إِشْهَادِهِ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ الْبَيِّنَةِ الْمَوْجُودَةِ تَعْدِيلَ بَيِّنَتِهِ ، وَثُبُوتَ حَقِّهِ ، وَإِلْزَامَ خَصْمِهِ . فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ لَا تَثْبُتُ إِلَّا بِإِشْهَادِهِ عَلَى نَفْسِهِ . فَإِنْ سَأَلَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ الْإِسْجَالَ لَهُ بِحَقِّهِ ، وَالْإِشْهَادَ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ ، كَانَ فِي وُجُوبِ الْإِسْجَالِ بِهِ وَجْهَانِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي وُجُوبِ كَتْبِ الْمَحْضَرِ بِالْإِقْرَارِ . وَلَوْ حَكَمَ عَلَى الْمُنْكِرِ بِالْيَمِينِ ، وَأَحْلَفُهُ عَلَى إِنْكَارِهِ وَسَأَلَهُ الْإِشْهَادَ عَلَى نَفْسِهِ بِإِحْلَافِهِ ، لَزِمَهُ الْإِشْهَادُ لِأَنَّ الْيَمِينَ قَدْ أَبْرَأَتْهُ مِنَ الدَّعْوَى مَعَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ ؛ فَاحْتَاجَ إِلَى حُجَّةٍ يَسْقُطُ بِهَا الرُّجُوعُ فِي مُطَالَبَتِهِ وَلَيْسَ لَهُ حُجَّةٌ إِلَّا إِشْهَادَ الْقَاضِي عَلَى نَفْسِهِ . فَإِنْ سَأَلَهُ كَتْبَ مَحْضَرٍ بِإِحْلَافِهِ وَالْإِشْهَادِ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ فِي وُجُوبِهِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ : وَلَيْسَ لِلْمُدَّعِي الْمُطَالَبَةُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى إِنْكَارِ خَصْمِهِ ، وَإِحْلَافِهِ : لِأَنَّ الْحُجَّةَ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَتْ لَهُ .

فَصْلٌ : الْقَوْلُ فِي الْمَحَاضِرِ وَالسِّجِلَّاتِ . فَأَمَّا صِفَةُ الْمَحْضَرِ وَالسِّجِلِّ فَلِلْقُضَاةِ فِيهِمَا عُرْفٌ وَشُرُوطٌ مُعْتَبَرَةٌ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مُتَّبَعَةً لِمَا فِي الْخُرُوجِ عَنْ عُرْفِهِمْ وَعَادَتِهِمْ فِيهَا مِنْ تَوَجُّهِ الظُّنُونِ وَوُقُوعِ الِاشْتِبَاهِ . فَأَمَّا الْمَحْضَرُ : فَهُوَ حِكَايَةُ الْحَالِ وَمَا جَرَى بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ مِنْ دَعْوَى وَإِقْرَارٍ وَإِنْكَارٍ وَبَيِّنَةٍ وَيَمِينٍ . فَأَمَّا السِّجِلُّ : فَهُوَ تَنْفِيذُ مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ وَإِمْضَاءُ مَا حَكَمَ بِهِ فَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ الْمَحْضَرِ وَالسِّجِلِّ . فَإِنْ ذَكَرَ فِي الْمَحْضَرِ تَنْفِيذَ الْحُكْمِ جَرَى مَجْرَى السِّجِلِّ فِي الْمَعْنَى وَإِنْ خَالَفَهُ لَفْظُهُ فِي الِابْتِدَاءِ وَاسْتَغْنَى بِهِ عَنِ السِّجِلِّ ، وَإِنْ ذَكَرَ السِّجِلَّ حِكَايَةَ الْحَالِ جَرَى مَجْرَى الْمَحْضَرِ فِي الْمَعْنَى وَإِنْ خَالَفَ لَفْظُهُ فِي الِابْتِدَاءِ وَاسْتَغْنَى بِهِ عَنِ الْمَحْضَرِ وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَعْدِلَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ مَوْضُوعِهِ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْمَحْضَرِ أَنْ يَتَذَكَّرَ بِهِ الْحَاكِمُ مَا جَرَى بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ لِيَحْكُمَ فِيهِ بِمُوجِبِ الشَّرْعِ ، وَالْمَقْصُودُ بِالسِّجِلِّ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً بِمَا نَفَّذَ بِهِ الْحُكْمَ . فَلِذَلِكَ وَجَبَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِتَمْيِيزِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ . وَصِفَةُ الْمَحْضَرِ أَنْ يُكْتَبَ : حَضَرَ الْقَاضِي فَلَانُ بْنُ فُلَانٍ ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ قَاضِي عَبْدِ اللَّهِ الْإِمَامُ فَلَانٌ عَلَى بَلَدِ كَذَا فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ وَقَضَائِهِ فِي مَوْضُوعِ كَذَا . وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَحْضَرُ عَلَى إِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ .

وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِنِيُّ : إِنْ كَانَ عَلَى إِقْرَارٍ لَمْ يَذْكُرْ مَجْلِسَ حُكْمِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي بَيِّنَةٍ ذَكَرَ : لِأَنَّ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ حُكْمٌ ، وَلَيْسَ فِي الْإِقْرَارِ حُكْمٌ . وَلَيْسَ لِهَذَا الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَجْهٌ : لِأَنَّ الدَّعْوَى لَا يَسْمَعُهَا الْقَاضِي إِلَّا فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ ، لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْإِقْرَارِ إِلْزَامٌ ، وَالْإِلْزَامُ حُكْمٌ . ثُمَّ يَذْكُرُ اسْمَ الْمُدَّعِي . وَاسْمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَمَا جَرَى بَيْنَهُمَا ، مِنْ قَدْرِ الدَّعْوَى ، وَمَا تَعَقَّبَهَا مِنْ إِقْرَارٍ ، أَوْ إِنْكَارٍ ، وَيَمِينٍ ، أَوْ نُكُولٍ ، أَوْ سَمَاعِ بَيِّنَةٍ . وَيُعْلَمُ الْقَاضِي فِيهِ بِعَلَامَتِهِ الَّتِي عُرِفَ بِهَا . وَإِنْ أَشْهَدَ فِيهِ كَانَ أَوْكَدَ وَأَحْوَطَ ، وَيُسَلِّمُهَا إِلَى الْمُحْتَجِّ بِهَا ، وَيَجْعَلُ مِثْلَهَا فِي دِيوَانِهِ . وَأَمَّا السِّجِلُّ فَيَبْدَأُهُ بِالشَّهَادَةِ ، كَمَا ابْتَدَأَ الْمَحْضَرَ بِالْحُضُورِ ، فَيَكُونُ أَوَّلُ السِّجِلِّ : هَذَا مَا أَشْهَدَ عَلَيْهِ الْقَاضِي فُلَانًا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ ، وَيَذْكُرُ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ وَقَضَائِهِ ، فَإِنْ كَانَ إِسْجَالًا بِمَحْضَرٍ كَتَبَ نُسْخَتَهُ ، وَإِنْ كَانَ إِسْجَالًا بِمَا تَضَمَّنَهُ كِتَابٌ ، مِنْ ثُبُوتِ مِلْكٍ فِيهِ ، كَتَبَ نُسْخَتَهُ ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ إِنْفَاذَ حُكْمِهِ بِهِ ، وَاسْتَوْفَاهُ عَلَى شُرُوطِهِ ، وَأَشْهَدَ بِمَا فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ . وَلِلْمَحَاضِرِ وَالسِّجِلَّاتِ كُتُبٌ هُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنْ كِتَابِنَا هَذَا الْمَوْضُوعِ لِفِقْهِ الْأَحْكَامِ دُونَ مُوَاضَعَاتِ الشُّرُوطِ ، وَرُبَّمَا أَفْرَدْنَا لِذَلِكَ كِتَابًا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ . وَلَا بُدَّ لِلْإِسْجَالِ مِنْ شَهَادَةٍ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ إِنْفَاذِ الْحُكْمِ بِمَا فِيهِ . وَقَدْ يَكُونُ الْمَحْضَرُ فِي الْأَغْلَبِ بِغَيْرِ شَهَادَةٍ .

فَصْلٌ : الْقَوْلُ فِي حِفْظِ الْحُجَجِ وَالْوَثَائِقِ . وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ حِفْظُ مَا حَصَلَ عِنْدَهُ مِنَ الْحُجَجِ وَالْوَثَائِقِ مِنَ الْمَحَاضِرِ وَالسِّجِلَّاتِ ، فَيُكْتَبُ عَلَى ظَهْرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْمُ صَاحِبِهِ ، وَتَارِيخُ تَنْفِيذِهِ ، وَيَخْتِمُهُ بِخَاتَمِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَخْتِمِ النُّسْخَةَ الَّتِي فِي يَدِ صَاحِبِهَا لِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ عَرْضِهَا وَإِظْهَارِهَا . وَيَجْمَعُ وَثَائِقَ كُلِّ يَوْمٍ ، إِمَّا بِنَفْسِهِ ، أَوْ بِمَشْهَدِهِ ، وَلَا يَكِلُهُ إِلَى مَنْ يَتَوَلَّاهُ بِغَيْرِ مُعَايَنَتِهِ ، لِأَنَّهَا أَمَانَاتُ أَرْبَابِهَا فِي يَدِهِ ، لِيَسْلَمَ مِنِ اغْتِيَالٍ ، أَوِ احْتِيَالٍ ، وَيَضَعُهَا فِي قِمَطْرٍ ، أَوْ سَفَطٍ ، يَخْتِمُهُ بِخَاتَمِهِ . فَإِذَا اجْتَمَعَتْ حُجَجُ كُلِّ شَهْرٍ ضَمَّهَا ، وَكَتَبَ عَلَى مَجْمُوعِهَا : اسْمَ الشَّهْرِ مِنَ السَّنَةِ . وَيَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي كُلِّ شَهْرٍ .

فَإِذَا تَكَامَلَتْ حُجَجُ السَّنَةِ كُلِّهَا أَفْرَدَهَا وَكَتَبَ عَلَى مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهَا " حُجَجُ سَنَةِ كَذَا " . ثُمَّ يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ كُلَّ سَنَةٍ ، وَتَكُونُ جَمِيعُهَا تَحْتَ خَتْمِهِ فِي أَوْعِيَتِهِ . وَيَخْتِمُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى خِزَانَتِهِ ، وَيَكُونُ الْخَاتَمُ فِي يَدِهِ وَلَا يُسَلِّمُهُ إِلَى غَيْرِهِ ، إِلَّا مَعَ مُشَاهَدَتِهِ ، لِئَلَّا يَتِمَّ فِيهِ احْتِيَالٌ إِذَا فَارَقَهُ وَبَعُدَ عَنْهُ .

هَلْ يَحْكُمُ الْقَاضِي بِمَا يَجِدُهُ فِي دِيوَانِهِ مِنَ الْحُجَجِ وَالْكُتُبِ دُونَ أَنْ يَتَذَكَّرَهَا

هَلْ يَحْكُمُ الْقَاضِي بِمَا يَجِدُهُ فِي دِيوَانِهِ مِنَ الْحُجَجِ وَالْكُتُبِ دُونَ أَنْ يَتَذَكَّرَهَا ؟ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا يُقْبَلُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا مِمَّا وَجَدَ فِي دِيوَانِهِ إِلَّا مَا حَفِظَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَطْرَحُ فِي الدِّيوَانِ وَيُشْبِهُ الْخَطُّ الْخَطَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا حَضَرَ الْقَاضِيَ خَصْمَانِ وَذَكَرَ الطَّالِبُ مِنْهُمَا أَنَّ فِي دِيوَانِ الْقَضَاءِ حُجَّةً لَهُ عَلَى خَصْمِهِ وَسَأَلَهُ إِخْرَاجَهَا وَالْحُكْمَ بِهَا ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ مِثْلَ نُسْخَتِهَا الَّتِي بِيَدِهِ لَمْ يَعْمَلْ عَلَيْهَا وَأَخْرَجَ نُسْخَةَ دِيوَانِهِ وَوَقَفَ عَلَيْهَا . فَإِذَا عَرَفَ صِحَّتَهَا وَذَكَرَ حُكْمَهُ فِيهَا عَمِلَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ وَأَلْزَمَ الْخَصْمَ مَا حَكَمَ بِهِ . وَإِنْ عَرَفَ صِحَّةَ خَطِّهِ وَلَمْ يَذْكُرْ وَقْتَ حُكْمِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِخَطِّهِ وَإِنْ صَحَّ فِي نَفْسِهِ . وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو يُوسُفَ : يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِخَطِّهِ إِذَا عَرَفَ صِحَّتَهُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ . وَهُوَ عُرْفُ الْقُضَاةِ فِي عَصْرِنَا . اسْتِدْلَالًا بِأُمُورٍ مِنْهَا : أَنَّهُ قَدْ فَعَلَ مِنَ الِاحْتِيَاطِ بِالْخَطِّ وَالْخَتْمِ وَالْحِفْظِ غَايَةَ مَا فِي وُسْعِهِ ، فَلَوْ لَمْ يَعْمَلْ عَلَيْهِ لَتَاهَتْ بِهِ الْحُقُوقُ ، وَلَبَطَلَتْ بِهِ الْأَحْكَامُ ، وَلَمَا احْتَاجَ إِلَى مَا فَعَلَهُ مِنَ الِاحْتِيَاطِ . وَمِنْهَا : أَنَّ الْعَمَلَ بِهِ مُسْتَفِيضٌ وَالْإِنْكَارَ فِيهِ مُرْتَفِعٌ . وَمِنْهَا : أَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلرَّاوِي أَنْ يَرْوِيَ أَخْبَارَ الدِّيَانَاتِ مِنْ كِتَابِهِ إِذَا وَثِقَ بِصِحَّتِهِ كَانَتِ الْأَحْكَامُ بِذَلِكَ أَوْلَى . وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [ الْإِسْرَاءِ : ] ، وَمَا أَمْضَاهُ بِخَطِّهِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فَقَدْ قَفَا مَا لَمْ يَعْلَمْهُ ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ أَغْلَظُ مِنَ الشَّهَادَةِ ، لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْإِلْزَامِ ، فَلَمَّا لَمْ تَجُزِ الشَّهَادَةُ بِمَعْرِفَةِ الْخَطِّ إِلَّا مَعَ الذِّكْرِ كَانَ الْحُكْمُ بِذَلِكَ أَحَقَّ .

وَلِأَنَّ الْخُطُوطَ قَدْ تَشْتَبِهُ ، وَيَزُورُ عَلَيْهَا مَا لَا يَكَادُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا ، وَيَحْتَالُ عَلَى الْخُتُومِ فَصَارَ إِمْضَاءُ الْحُكْمِ بِهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ مُشْتَبِهًا ، وَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي إِلْزَامُ حَقٍّ وَإِمْضَاءُ حُكْمٍ مَعَ الِاشْتِبَاهِ وَالِاحْتِمَالِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّهُ قَدْ فَعَلَ غَايَةَ وُسْعِهِ لِيَحْكُمَ بِهِ فَهُوَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِيَتَذَكَّرَ بِهِ لَا لِيَحْكُمَ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالِاسْتِفَاضَةِ : فَهُوَ أَنَّهَا اسْتِفَاضَةُ اسْتِرْسَالٍ . وَلَيْسَتْ بِاسْتِفَاضَةِ اعْتِقَادٍ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الرِّوَايَةِ : فَهُوَ أَنَّ حُكْمَ الرِّوَايَةِ أَوْسَعُ ، وَفِي حِفْظِهَا مَعَ الْكَثْرَةِ مَشَقَّةٌ ، وَلَمَّا كَانَتِ الشَّهَادَةُ مُفَارِقَةً لِلرِّوَايَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى ، كَانَتْ مُفَارَقَتُهُ لِلْأَحْكَامِ وَالْإِلْزَامِ لِهَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى .

فَصْلٌ : هَلْ يَجُوزُ تَوْلِيَةُ الْقَاضِي الْأُمِّيِّ ؟ فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي مِمَّنْ لَا يَكْتُبُ الْخَطَّ وَلَا يَقْرَأَهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ وِلَايَتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَصِحُّ وِلَايَتُهُ : لِأَنَّ شُرُوطَ النُّبُوَّةِ أَغْلَظُ . وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِّيًّا ، وَلِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْعَمَلُ بِخَطِّهِ لَمْ يُؤَثِّرْ فَقْدُهُ فِي وِلَايَتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تَصِحُّ وِلَايَتُهُ إِذَا كَانَ أُمِّيًّا حَتَّى يَكْتُبَ وَيَقْرَأَ : لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ فِي الِاجْتِهَادِ إِلَّا بِمَا يَقْرَأَهُ مِنَ الْعُلُومِ وَلَا يَحْفَظُ مَا عَلِمَهُ مِنْ شَرْعٍ وَأَمْضَاهُ مِنْ حُكْمٍ إِلَّا بِمَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ مِنْ كِتَابِهِ وَيَتَذَكَّرُهُ مِنْ خَطِّهِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابَةِ " . فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ ، فَخَالَفَ فِيهِ مَنْ سِوَاهُ .

إِذَا نَسِيَ الْحَاكِمُ حُكْمَهُ وَشَهِدَ بِهِ شَاهِدَانِ

إِذَا نَسِيَ الْحَاكِمُ حُكْمَهُ وَشَهِدَ بِهِ شَاهِدَانِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوَ شَهِدَ عِنْدَهُ شُهُودٌ أَنَّهُ حَكَمَ بِحُكْمٍ فَلَا يُبْطِلُهُ وَلَا يُحِقُّهُ إِذَا لَمْ يَذْكُرْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي خَصْمَيْنِ حَضَرَا مَجْلِسَ الْقَاضِي فَادَّعَى أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ حَقًّا ، وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ . فَذَكَرَ الْمُدَّعِي لِلْقَاضِي أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ حَقِّي عَلَيْهِ عِنْدَكَ وَحَكَمْتَ لِي بِهِ . فَإِنْ ذَكَرَ الْقَاضِي ذَلِكَ وَعَلِمَهُ ، حَكَمَ عَلَى الْخَصْمِ بِهِ ، سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ أَوْ لَا : لِأَنَّهُ لَيْسَ هَذَا مِنْهُ اسْتِئْنَافًا لِحُكْمٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ إِمْضَاءٌ وَإِلْزَامٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حُكْمِهِ .

وَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْقَاضِي ذَلِكَ وَأَحْضَرَهُ الْمُدَّعِي خَطَّهُ ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِخَطِّهِ إِذَا لَمْ يَذْكُرْهُ . فَإِنْ أَحْضَرَ الْمُدَّعِي شُهُودًا يَشْهَدُونَ عِنْدَهُ بِمَا ثَبَتَ مِنْ حَقِّهِ عَلَى خَصْمِهِ فَلِذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ عِنْدَهُ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَقَرَّ عِنْدَهُ لِهَذَا الْمُدَّعِي بِكَذَا ، سَمِعَ الْقَاضِي هَذِهِ الشَّهَادَةَ ، لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى إِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَلَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ عَلَى حُكْمِ الْقَاضِي ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ عِنْدَهُ أَنَّهُ حَكَمَ لِهَذَا الْمُدَّعِي عَلَى خَصْمِهِ بِكَذَا لِثُبُوتِ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ إِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ ، فَيَشْهَدُونَ عِنْدَهُ بِحُكْمِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ . فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ عَلَى حُكْمِ نَفْسِهِ وَبِهَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى : وَيَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ عَلَى حُكْمِ نَفْسِهِ كَمَا يَسْمَعُهَا عَلَى حُكْمِ غَيْرِهِ . اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ قَوْلَ ذِي الْيَدَيْنِ أَنَّهُ سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ ، وَاسْتَشْهَدَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ عَلَى مَا قَالَهُ ذُو الْيَدَيْنِ فَصَدَّقَاهُ ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمَا عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ ، فَكَانَ مَنْ عَدَاهُ مِنَ الْحُكَّامِ بِقَبُولِ الشَّهَادَةِ أَحَقَّ . وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، لِمَا رَوَاهُ حُمَيْدٌ ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ : بَعَثَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ بِالْهُرْمُزَانِ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، حِينَ نَزَلَ عَلَى حُكْمِهِ ، فَلَمَّا قَدِمَ الْهُرْمُزَانُ عَلَيْهِ سَكَتَ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : تَكَلَّمْ ، فَقَالَ : أَكَلَامُ حَيٍّ أَمْ كَلَامُ مَيِّتٌ ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : تَكَلَّمْ فَلَا بَأْسَ عَلَيْكَ ، فَقَالَ : " نَحْنُ وَأَنْتُمْ مَعَاشِرَ الْعَرَبِ حَيْثُ خَلَا اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كُنَّا نَسْتَعْبِدُكُمْ فَلَمَّا كَانَ اللَّهُ مَعَكُمْ فَلَيْسَ لَنَا بِكُمْ يَدَانِ ، فَأَمَرَ عُمَرَ بِقَتْلِهِ لِهِ ، فَقَالَ لَهُ أَنْسٌ : كَيْفَ تَقْتُلُهُ وَقَدْ قُلْتَ لَهُ لَا بَأْسَ عَلَيْكَ ؟ فَقَالَ عُمَرُ لِأَنَسٍ : " مَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ ؟ " فَشَهِدَ مَعَهُ الزُّبَيْرُ ، فَقَبِلَ شَهَادَتَهُمَا ، وَأَطْلَقَهُ آمِنًا ، وَفَرَضَ لَهُ فِي الْعَطَاءِ ، وَكَانَ هَذَا بِمَشْهَدٍ مِنْ أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ ، فَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى عُمَرَ سَمَاعَهُ لِلشَّهَادَةِ عَلَى قَوْلِهِ ، فَدَلَّ عَلَى إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِهِ . وَقَدْ أَجَازَ الْمُسْلِمُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي رِوَايَاتِ السُّنَنِ الْمَشْرُوعَةِ : رَوَى رَبِيعَةُ ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ " وَنَسِيَ سُهَيْلٌ الْحَدِيثَ ، فَقَالَ لَهُ رَبِيعَةُ : أَنْتَ حَدَّثْتَنِي فَكَانَ سُهَيْلٌ يَقُولُ :

حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ عَنِّي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ " فَإِذَا جَازَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى غَيْرِهِ فِيمَا رَوَاهُ جَازَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ فِيمَا حَكَمَ بِهِ . وَلِأَنَّهُ كَمَا جَازَ أَنْ يَسْمَعَ الشَّهَادَةَ عَلَى حُكْمِ غَيْرِهِ جَازَ أَنْ يَسْمَعَهَا عَلَى حُكْمِ نَفْسِهِ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [ الْقِيَامَةِ : ] . فَوَكَلَهُ فِي فِعْلِهِ إِلَى نَفْسِهِ ، وَلَمْ يَكِلْهُ إِلَى غَيْرِهِ . وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِ : أَنَّهُ قَدْ صَلَّى حَتَّى يَعْلَمَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ وَحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْسَعُ حُكْمًا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ ، كَانَ بِأَنْ لَا يَسْمَعَ الشَّهَادَةَ عَلَى حُكْمِهِ لِغَيْرِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ أَخَفُّ مِنَ الْحُكْمِ ، لِمَا فِي الْحُكْمِ مِنَ الْإِلْزَامِ الَّذِي لَا تَتَضَمَّنُهُ الشَّهَادَةُ . ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الشَّاهِدَ إِذَا نَسِيَ شَهَادَتَهُ فَشَهِدَ بِهَا عِنْدَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى الشَّهَادَةِ فِيمَا يَشْهَدُ بِهِ : فَكَانَ الْحُكْمُ بِذَلِكَ أَوْلَى . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ تَذَّكَّرَ بِقَوْلِهِمْ فَعَمِلَ عَلَى ذِكْرِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُمْ أَحْدَثُ لَهُ شَكًّا ، وَالشَّكُّ فِي الصَّلَاةِ يُوجِبُ الْعَمَلُ فِيهَا عَلَى الْيَقِينِ وَبِهِمَا يُجَابُ عَنْ قِصَّةِ الْهُرْمُزَانِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ ، فَلِسَعَةِ حُكْمِهَا جَازَ فِيهَا مَا لَمْ يَجُزْ فِي غَيْرِهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ سَمَاعِ غَيْرِهِ لِلشَّهَادَةِ ، فَهُوَ أَنَّ غَيْرَهُ يَعْمَلُ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ ، فَجَازَ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى الشَّهَادَةِ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ ، وَهُوَ يَعْمَلُ فِي فِعْلِ نَفْسِهِ عَلَى الْيَقِينِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْمَلَ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ فِي الشَّهَادَةِ حَتَّى يَقْطَعَ بِيَقِينِ نَفْسِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ شَهِدُوا عِنْدَ غَيْرِهِ أَجَازَهُ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ مِنْهُ مَا يَعْرِفُ مِنْ نَفْسِهِ فَإِنْ عَلِمَ غَيْرُهُ أَنَّهُ أَنْكَرَهُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْبَلَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عِنْدَ غَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ بِمَا حَكَمَ بِهِ الشهادةعلى حكم القاضي لَمْ يَخْلُ حَالُ رَدِّهِ لِشَهَادَتِهِمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَرُدَّهَا : لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ حُكْمَهُ بِهَا وَهُوَ لَا يَرَى سَمَاعَ الشَّهَادَةِ عَلَى حُكْمِ نَفْسِهِ ، فَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ إِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عِنْدَهُ بِمَا حَكَمَ بِهِ أَنْ يَقْبَلَ شَهَادَتَهُمْ وَيَعْمَلَ عَلَيْهَا وَيَحْكُمَ بِهَا ، لِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْجَوَابِ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي أَنَّ فِعْلَ نَفْسِهِ مَحْمُولٌ عَلَى يَقِينِهِ ، وَفِعْلُ غَيْرِهِ مَحْمُولٌ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَاضِي الَّذِي حَكَمَ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا وَالِيًا أَوْ مَعْزُولًا ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي الَّذِي قَدْ حَكَمَ قَدْ أَكْذَبَ الشُّهُودَ عِنْدَهُ وَرَدَّهُمْ

مَجْرُوحِينَ ، فَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقْبَلَ شَهَادَتَهُمْ عَلَى حُكْمِهِ ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ حَكَمَ بِإِبْطَالِ الْحُكْمِ وَتَفْسِيقِ الشُّهُودِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ قَدْ أَنْكَرَ الْحُكْمَ وَلَمْ يُكَذِّبِ الشُّهُودَ ، فَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ مَعَ إِنْكَارِهِ لِلْحُكْمِ أَنْ يَسْمَعَ الشَّهَادَةَ بِحُكْمِهِ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَهَا وَيَحْكُمَ بِهَا : لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْمُنْكِرِ مَسْمُوعَةٌ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْحُقُوقِ . وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحَاكِمَ أَصْلٌ وَالشُّهُودَ فَرْعٌ ، وَفَسَادُ حُكْمِ الْأَصْلِ مُوجِبٌ لِفَسَادِ حُكْمِ الْفَرْعِ ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ ، إِذَا فَسَدَ فِيهَا حُكْمُ الْأَصْلِ فَسَدَ حُكْمُ الْفَرْعِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَوْ أَكْذَبَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَسْمَعَ بِهِ شَهَادَتَهُمْ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ إِذَا أَنْكَرَهُمْ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

كِتَابُ قَاضٍ إِلَى قَاضٍ

كِتَابُ قَاضٍ إِلَى قَاضٍ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَيَقْبَلُ كُلَّ كِتَابٍ لِقَاضٍ عَدْلٍ وَلَا يَقْبَلُهُ إِلَا بِعَدْلَيْنِ وَحَتَّى يَفْتَحَهُ وَيَقْرَأَهُ عَلَيْهِمَا فَيَشْهَدَا أَنَّ الْقَاضِيَ أَشْهَدَهُمَا عَلَى مَا فِيهِ وَأَنَّهُ قَرَأَهُ بِحَضْرَتِهِمَا أَوْ قُرِئَ عَلَيْهِمَا ، وَقَالَ : اشْهَدَا هَذَا كِتَابِي إِلَى فُلَانٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا كُتُبُ الْقُضَاةِ إِلَى الْقُضَاةِ وَالْأُمَرَاءِ ، فِي تَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ ، وَاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ فَمَحْكُومٌ بِهَا وَمَعْمُولٌ عَلَيْهَا . وَالْأَصْلُ فِيهَا مَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ كِتَابِ سُلَيْمَانَ إِلَى بِلْقِيسَ قَالَتْ : قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [ النَّمْلِ : ] فَأَنْذَرَهَا بِكِتَابِهِ ، وَدَعَاهَا إِلَى دِينِهِ ، وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ كَلَامِهِ وَاقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى أَنْ قَالَ : أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ فَأَوْجَزَ وَاخْتَصَرَ ، وَهَكَذَا تَكُونُ كُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ مُوجَزَةً مُخْتَصَرَةً . فَاحْتَمَلَ قَوْلُهُ : أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ تَأْوِيلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَعْصُونِي . وَالثَّانِي : لَا تُخَالِفُونِي . وَاحْتَمَلَ قَوْلُهُ " وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ " تَأْوِيلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مُسْلِمِينَ بِدِينِي . وَالثَّانِي : مُسْتَسْلِمِينَ لِطَاعَتِي . وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ افْتَتَحَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَتَحَ كُتُبَهُ بِـ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "

وَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُلُوكِ الْأُمَمِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَكَتَبَ إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ مَلِكًا مِنْهُمْ كِسْرَى مَلِكُ الْفُرْسِ وَقَيْصَرُ مَلِكُ الرُّومِ . فَأَمَّا كِسْرَى فَكَتَبَ إِلَيْهِ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَانَ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا وَالسَّلَامُ " . فَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُهُ مَزَّقَهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَمَزَّقَ مُلْكُهُ . وَكَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، إِلَى قَيْصَرَ عَظِيمِ الرُّومِ : قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ، الْآيَةَ [ آلِ عِمْرَانَ : ] . فَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُهُ قَبَّلَهُ وَوَضَعَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَتَرَكَهُ فِي الْمِسْكِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ثَبُتَ مُلْكُهُ " . وَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ كِتَابًا ذَكَرَ فِيهِ الْأَحْكَامَ وَالزَّكَوَاتِ وَالدِّيَاتِ ، فَصَارَ فِي الدِّينِ شَرْعًا ثَابِتًا ، وَعَمَلًا مُسْتَفِيضًا . وَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ وَدَفَعَ إِلَيْهِ كِتَابًا مَخْتُومًا ، وَقَالَ : لَا تَفُضَّهُ حَتَّى تَبْلُغَ مَوْضِعَ كَذَا ، فَإِذَا بَلَغْتَهُ فَفُضَّهُ ، وَاعْمَلْ بِمَا فِيهِ فَفَضَّهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَمَرَهُ ، وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ ، وَأَطَاعَهُ الْجَيْشُ عَلَيْهِ . وَكَتَبَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ إِلَى أُمَرَائِهِمْ وَقُضَاتِهِمْ بِمَا عَمِلُوا عَلَيْهِ فِي الدِّيَانَاتِ وَالسِّيَاسَاتِ . وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَهْدَهُ عَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ وَهُوَ مَشْهُورٌ جَعَلَهُ الْمُسْلِمُونَ أَصْلًا لِلْعُهُودِ . وَكَتَبَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ : أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّهُ قَدْ حُصِرَ بِنَا فَالْوَحَا الْوَحَا . وَكَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ : أَمَّا بَعْدُ ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَسُرُّهُ دَرَكُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ ، وَيَسُوؤُهُ فَوْتُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيُدْرِكَهُ ، فَلَا تَكُنْ بِمَا نِلْتَ مِنْ دُنْيَاكَ فَرِحًا ، وَلَا بِمَا فَاتَكَ مِنْهَا تَرِحًا ، وَلَا تَكُنْ مِمَّنْ يَرْجُو الْآخِرَةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ وَيُؤَخِّرُ التَّوْبَةُ بِطُولِ أَمَلٍ ، فَكَأَنَّ قَدِ ، وَالسَّلَامُ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَمَا انْتَفَعْتُ وَلَا اتَّعَظْتُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ هَذَا الْكِتَابِ . فَدَلَّتْ هَذِهِ السُّنَنُ وَالْآثَارُ عَلَى قَبُولِ الْكُتُبِ فِي الْأَحْكَامِ وَلِأَنَّ ضَرُورَاتِ الْحُكَّامِ

إِلَيْهَا دَاعِيًا فِي حِفْظِ الْحُقُوقِ : لِأَنَّهَا قَدْ تَبْعُدُ عَنْ مُسْتَحِقِّيهَا وَيَبْعُدُ عَنْهَا مُسْتَحِقُّوهَا فَلَمْ يَجِدِ الْحُكَّامُ بُدًّا مِنْ مُكَاتَبَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِهَا . فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلِلْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ بِمَا وَجَبَ عِنْدَهُ مِنْ حُكْمٍ ، أَوْ ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ حَقٍّ ، وَيَكْتُبُ بِهِ إِلَى مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ وَأَدْنَى ، وَإِلَى خَلِيفَتِهِ وَمُسْتَخْلِفِهِ . وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ بِهِ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَثْبُتَ بِهَا عِنْدَ الثَّانِي مَا ثَبَتَ عِنْدَ الْأَوَّلِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَقُومَ فِي تَنْفِيذِهَا وَاسْتِيفَائِهَا مَقَامَ الْأَوَّلِ . مَتَى يَجِبُ قَبُولُهَا ؟ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِوُجُوبِ قَبُولِهَا ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الثَّانِي عَالِمًا بِصِحَّةِ وِلَايَةِ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِصِحَّةِ وِلَايَتِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُ كِتَابِهِ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِصِحَّةِ أَحْكَامِهِ ، وَكَمَالِ عَدَالَتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُ كِتَابِهِ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يَعْلَمَ صِحَّةَ كِتَابِهِ فِيمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ أَحْكَامٍ : بِأَيِّ شَيْءٍ يَعْلَمُ صِحَّةَ الْكِتَابِ ؟ وَاخْتَلَفَ فِيمَا يَعْلَمُ بِهِ صِحَّةَ كِتَابِهِ . فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَهُ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَشْهَدَ بِهِ شَاهِدَانِ عَلَى مَا سَنُصَنِّفُهُ . وَذَهَبَ قُضَاةُ الْبَصْرَةِ : الْحَسَنُ ، وَسَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَأَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَامٍ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ ، وَمَالَ إِلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ ، أَنَّهُ إِذَا عَرَفَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ خَطَّ الْقَاضِي الْكَاتِبِ وَخَتْمَهُ وَاتَّصَلَتْ بِمِثْلِهِ كُتُبُهُ ؛ جَازَ أَنْ يَقْبَلَهُ ، وَيَعْمَلَ بِمَا تَضَمَّنَهُ ، احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ كُتُبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَتْ مَقْبُولَةً ، يُعْمَلُ بِمَا فِيهَا مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ عُرْفَ الْحُكَّامِ بِقَبُولِهَا مُسْتَفِيضٌ ، لِتَعَذُّرِ الشَّهَادَةِ بِهَا ، وَسُكُونِ النَّفْسِ إِلَى صِحَّتِهَا .

وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقًّا غَائِبًا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " شَاهِدَاكَ ، أَوْ يَمِينُهُ " فَجَعَلَ الْحُكْمَ مَقْصُورًا عَلَى الشَّهَادَةِ دُونَ الْكِتَابِ . وَلِأَنَّ نَقْلَ مَا غَابَ عَنِ الْقَاضِي لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالشَّهَادَةِ دُونَ الْخَطِّ قِيَاسًا عَلَى خُطُوطِ الشُّهُودِ إِذَا كَتَبُوا إِلَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ لَمْ يَحْكُمْ بِهَا ، كَذَلِكَ كُتُبُ الْقُضَاةِ . وَلِأَنَّ الْخُطُوطَ تَشْتَبِهُ ، وَالتَّزْوِيرَ عَلَى أَمْثَالِهَا مُمْكِنٌ ، فَلَمْ يَجُزْ مَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا مَعَ إِمْكَانِ مَا هُوَ أَحْوَطُ مِنْهَا ، كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْأَعْمَى : لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَشْتَبِهَ عَلَيْهِ الْأَصْوَاتُ ، وَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى شَهَادَةِ الْبَصِيرِ لِانْتِفَاءِ الِاشْتِبَاهِ عَنْهُ . وَلِأَنَّ مَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ فِيهِ بِالْأَقْوَى لَمْ يَجُزِ الْعَمَلُ فِيهِ بِالْأَضْعَفِ ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْعُقُودِ ، لَمَّا أَمْكَنَ أَنْ تَسْمَعَ مِنَ الشَّاهِدِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَسْمَعَ مِنَ الْمُخْبِرِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ كُتُبِ رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا كَانَتْ تَرِدُ مَعَ رُسُلٍ يَشْهَدُونَ بِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى الْأَخْبَارِ الَّتِي يَخِفَّ حُكْمُهَا لِعُمُومِهَا فِي الْتِزَامِهَا وَالشَّهَادَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِاحْتِيَاطِ تَغْلِيظًا لِالْتِزَامِهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ دَعْوَى الِاسْتِفَاضَةِ فَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْلِمٍ ثُمَّ هِيَ اسْتِفَاضَةُ فِعْلٍ مَخْصُوصٍ ، وَلَيْسَ بِاسْتِفَاضَةِ اعْتِقَادٍ عَامٍّ .

فَصْلٌ : صِحَّةُ الْكُتُبِ وَلُزُومُ الْحُكْمِ بِهَا . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ كُتُبَ الْقُضَاةِ إِلَى الْقُضَاةِ لَا تُقْبَلُ بِالْخُطُوطِ حَتَّى يَشْهَدَ بِهَا عُدُولُ الشُّهُودِ ، فَالْكَلَامُ فِي صِحَّتِهَا وَلُزُومِ الْحُكْمِ بِهَا يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : فِيمَا يَكْتُبُ بِهِ الْقَاضِي مِنْ أَحْكَامِهِ . وَالثَّانِي : فِيمَنْ يُكَاتِبُهُ الْقَاضِي بِحُكْمِهِ . وَالثَّالِثُ : فِيمَا يَجِبُ بِهِ قَبُولُ كُتُبِهِ . وَالرَّابِعُ : فِيمَا يُمْضِيهِ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ حُكْمِهِ . مَا يَكْتُبُ بِهِ الْقَاضِي مِنْ أَحْكَامِهِ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : فِيمَا يَكْتُبُ بِهِ الْقَاضِي مِنْ أَحْكَامِهِ فَأَحْكَامُهُ تَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَحْكُمَ لِحَاضِرٍ عَلَى حَاضِرٍ بِحَقٍّ حَاضِرٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَحْكُمَ لِحَاضِرٍ عَلَى حَاضِرٍ بِحَقٍّ غَائِبٍ .

وَالثَّالِثُ : أَنْ يَحْكُمَ لِحَاضِرٍ عَلَى غَائِبٍ بِحَقٍّ غَائِبٍ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَحْكُمَ لِحَاضِرٍ عَلَى غَائِبٍ بِحَقٍّ حَاضِرٍ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَحْكُمَ لِحَاضِرٍ عَلَى حَاضِرٍ بِحَقٍّ حَاضِرٍ ، فَالْحَقُّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ عَيْنًا حَاضِرَةً فَيَحْكُمُ الْقَاضِي بِهَا لِمَنِ اسْتَحَقَّهَا إِمَّا بِإِقْرَارٍ ، أَوْ بِبَيِّنَةٍ ، وَيَنْتَزِعُهَا مِنْ يَدِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَيُسَلِّمُهَا إِلَى الْمَحْكُومِ لَهُ ، وَلَا يَجُوزُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَكْتُبَ بِهِ الْقَاضِي إِلَى غَيْرِهِ ، سَوَاءٌ أَقَامَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ أَوْ هَرَبَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي بَدَنِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ مُقِيمًا بَعْدَ الْحُكْمِ اسْتَوْفَاهُ مِنْهُ وَلَمْ يَكْتُبْ بِهِ الْقَاضِي إِلَى غَيْرِهِ . فَإِنْ هَرَبَ بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ وَقَبْلَ اسْتِيفَائِهِ مِنْهُ ؛ جَازَ لِلْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ إِلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْهَارِبُ بِمَا حَكَمَ عَلَيْهِ ، مِنْ قِصَاصٍ أَوْ حَدٍّ لِيَسْتَوْفِيَهُ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ ، وَهَذَا حُكْمٌ عَلَى حَاضِرٍ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكْتُبَ بِهِ مَنْ لَا يَرَى الْحُكْمَ عَلَى غَائِبٍ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي ذِمَّةِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْوَالِ الثَّابِتَةِ فِي الذِّمَمِ . فَإِنْ كَانَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ مُقِيمًا اسْتَوْفَاهُ الْقَاضِي مِنْهُ لِمُسْتَحِقِّهِ وَلَمْ يَكْتُبْ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ . وَإِنْ هَرَبَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْهُ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ اسْتَوْفَاهُ مِنْ مَالِهِ ، وَلَمْ يَكْتُبْ بِهِ إِلَى قَاضٍ غَيْرِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ ؛ جَازَ أَنْ يَكْتُبَ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنَ الْحَقِّ إِلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي هَرَبَ إِلَيْهِ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ ، لِيَسْتَوْفِيَهُ وَهُوَ قَضَاءٌ عَلَى حَاضِرٍ وَلَيْسَ بِقَضَاءٍ عَلَى غَائِبٍ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَحْكُمَ لِحَاضِرٍ عَلَى حَاضِرٍ بِحَقٍّ غَائِبٍ ما يكتب به القاضي الى القاضي ، فَهَذَا يَكُونُ فِي الْأَعْيَانِ دُونَ الذِّمَمِ ، وَهَذَا مِمَّا يَكْتُبُ بِمِثْلِهِ الْقُضَاةُ . وَثُبُوتُ اسْتِحْقَاقِهِ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُقِرَّ بِهِ الْمَطْلُوبُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَثْبُتَ بِيَمِينِ الطَّالِبِ بَعْدَ نُكُولِ الْمَطْلُوبِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ بِبَيِّنَةٍ شَهِدَتْ بِهِ لِلطَّالِبِ عَلَى الْمَطْلُوبِ . فَإِنْ ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ بِإِقْرَارِ الْمَطْلُوبِ كَانَ الْقَاضِي فِيمَا يَكْتُبُ بِهِ مِنْ حُكْمِهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَذْكُرَ ثُبُوتَ اسْتِحْقَاقِهِ بِإِقْرَارِهِ أَوْ لَا يَذْكُرَ : لِأَنَّ الْمُقِرَّ لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِاسْتِحْقَاقِهِ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ .

وَإِنْ ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ بِيَمِينِ الطَّالِبِ بَعْدَ نُكُولِ الْمَطْلُوبِ لَزِمَ الْقَاضِي فِيمَا يَكْتُبُ بِهِ مِنْ حُكْمِهِ أَنْ يَذْكُرَ ثُبُوتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِيَمِينِ الطَّالِبِ بَعْدَ نُكُولِ الْمَطْلُوبِ : لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً قُبِلَتَ مِنْهُ . وَإِنْ ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ بِبَيِّنَةٍ شَهِدَتْ بِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَفِي وُجُوبِ ذِكْرِهَا فِي كِتَابِ الْقَاضِي وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَلْزَمُهُ ذِكْرُ الْبَيِّنَةِ ، وَيَكُونُ فِيهِ مُخَيَّرًا ، كَالْإِقْرَارِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَلْزَمُهُ ذِكْرُ الْحُكْمِ بِالْبَيِّنَةِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُعَارِضَهَا الْمَطْلُوبُ بِبَيِّنَةٍ أُخْرَى فَيَكُونُ بِيَدِهِ وَبِبَيِّنَتِهِ أَحَقَّ مِنْ بَيِّنَةٍ بِغَيْرِ يَدٍ . وَالْقَاضِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُسَمِّيَ شُهُودَ الْبَيِّنَةِ أَوْ لَا يُسَمِّيَهُمْ إِذَا وَصَفَهُمْ بِالْعَدَالَةِ . فَإِنْ لَمْ يَصِفْهُمْ بِهَا فَهَلْ يَكُونُ الْحُكْمُ بِهِمْ تَعْدِيلًا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِنَّ ذِكْرَهُ لِلْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ تَعْدِيلٌ يُغْنِي عَنْ ذِكْرِ عَدَالَتِهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَصِفَهُمْ بِالْعَدَالَةِ وَبِمَا يَجُوزُ بِهِ قَبُولُ الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُكْمٌ بِظَاهِرِ التَّوَسُّمِ وَالسَّمْتِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ يَحْكُمَ لِحَاضِرٍ عَلَى غَائِبٍ بِحَقٍّ غَائِبٍ كتب القضاة إلى القضاة . فَإِنْ كَانَ الْغَائِبُ وَقْتَ الْحُكْمِ حَاضِرًا ثُمَّ غَابَ فَهُوَ حُكْمٌ عَلَى حَاضِرٍ لِحَاضِرٍ . وَإِنْ كَانَ غَائِبًا عِنْدَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ نَفَذَ حُكْمَهُ إِنْ كَانَ يَرَى جَوَازَ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ ، وَلَمْ يَنْفُذْ إِنْ لَمْ يَرَهُ . فَإِنْ كَتَبَ وَهُوَ لَا يَرَى الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْغَائِبِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْحُكْمَ بِهَا ، نُظِرَ ، فَإِنْ ذَكَرَ الشَّهَادَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ ثُبُوتَ الْحَقِّ بِالشَّهَادَةِ ؛ جَازَ أَنْ يَكْتُبَ بِذَلِكَ ، وَيَكُونُ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ هُوَ الْحَاكِمُ بِهَا ، وَيَكُونُ كِتَابُ الْقَاضِي كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ . وَإِنْ ذَكَرَ ثُبُوتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِالشَّهَادَةِ فَفِي كَوْنِ الثُّبُوتِ حُكْمًا ؛ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : قَالَهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِنِيُّ : يَكُونُ حُكْمًا ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكْتُبَ بِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ عِنْدِي ، أَنَّهُ لَا يَكُونُ حُكْمًا : لِأَنَّ الْحُكْمَ هُوَ الْإِلْزَامُ وَلَيْسَ فِي الثُّبُوتِ إِلْزَامٌ ، وَهُوَ فِي ثُبُوتِ الْحَقِّ كَالْإِقْرَارِ . أَقْسَامُ الْحَقِّ الْمَحْكُومِ بِهِ . فَإِذَا نُفِّذَ كِتَابُ الْقَاضِي بِذَلِكَ عَلَى مَا فَصَّلْنَاهُ ، فَالْحَقُّ الْمَحْكُومُ بِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ :

أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي ذِمَّةِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِي بَدَنِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ عَيْنًا مَنْقُولَةً فِي يَدِهِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ عَيْنًا مَنْقُولَةً فِي بَلَدِهِ . فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي ذِمَّتِهِ : فَيَسْتَوْفِي مِنْهُ إِنْ أَيْسَرَ ، وَيَنْظُرُ بِهِ إِنْ أَعْسَرَ . وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ عَلَى بَدَنِهِ ، فَإِنْ كَانَ لِآدَمِيٍّ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ اسْتَوْفَاهُ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ أَنْ تُسْتَوْفَى حُدُودُ الْأَبْدَانِ بِكُتُبِ الْقُضَاةِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ لِتَغْلِيظِهَا . وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا لَمَّا لَمْ تَسْقُطْ بِالشُّبْهَةِ صَارَتْ كَالْأَمْوَالِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا لَمَّا جَازَتْ فِيهَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ حُكِمَ فِيهَا بِكُتُبِ الْقُضَاةِ . فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَا فَفِي جَوَازِ اسْتِيفَائِهِ بِكِتَابٍ إِلَى الْقَاضِي قَوْلَانِ لِجَوَازِ اسْتِيفَائِهِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ : أَحَدُهُمَا : يُسْتَوْفَى كَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يُسْتَوْفَى : لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ عَيْنًا فِي يَدِهِ غَيْرَ مَنْقُولَةٍ كَالضِّيَاعِ وَالْعَقَارِ ، فَالْحُكْمُ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ . فَإِنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ عَدَالَةُ شُهُودِهَا حَكَمَ بِثُبُوتِهَا ، وَجَازَ أَنْ يَكْتُبَ بِهَا إِلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمِلْكُ الْمُسْتَحَقُّ ، دُونَ قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ . وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ عِنْدَهُ عَدَالَةُ الشُّهُودِ وَهُمْ غُرَبَاءُ ، وَذَكَرَ الطَّالِبُ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً بِتَزْكِيَتِهِمْ بِقِيَمِهَا عِنْدَ قَاضِي بَلَدِهِمْ فَلِلشُّهُودِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمِلْكُ وَهُمْ عَلَى الْعَوْدِ إِلَيْهِ ، فَلَا تُسْمَعُ شَهَادَتُهُمْ وَإِنْ سَمِعَهَا لَمْ يَكْتُبْ بِهَا ، وَقَالَ لِلطَّالِبِ اذْهَبْ مَعَ شُهُودِكَ إِلَى قَاضِي بَلَدِهِمْ وَبَلَدِ مَالِكٍ لِيَشْهَدُوا عِنْدَهُ بِمَا شَهِدُوا بِهِ عِنْدِي ، فَإِنَّ كُتُبَ الْقَضَاءِ مُخْتَصَّةٌ بِمَا لَا

يُمْكِنُ ثُبُوتُهُ بِغَيْرِهَا ، وَثُبُوتُ هَذَا بِالشَّهَادَةِ مُمْكِنٌ ، فَلَمْ يَحْكُمْ فِيهِ بِالْمُكَاتَبَةِ ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ ، لَا يَحْكُمُ بِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى شُهُودِ الْأَصْلِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمِلْكُ ، وَلَا يُرِيدُونَ الْعَوْدَ إِلَيْهِ ، وَالْبَيِّنَةُ بِتَعْدِيلِهِمْ فِيهِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكْتُبَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ عِنْدَهُ إِلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمِلْكُ بِمَا شَهِدُوا بِهِ ، لِيَكْشِفَ عَنْ عَدَالَتِهِمْ ، فَإِذَا صَحَّتْ عِنْدَهُ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ ، فَيَصِيرُ التَّعْدِيلُ وَالْحُكْمُ مُخْتَصًّا بِالْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ ، وَيَكُونُ كِتَابُ الْقَاضِي الْأَوَّلِ مَقْصُورًا عَلَى نَقْلِ الشَّهَادَةِ ، وَلَا وَجْهَ لِمُكَاتَبَةِ الثَّانِي الْأَوَّلَ بِالتَّعْدِيلِ لِيَتَوَلَّى الْأَوَّلُ الْحُكْمَ : لِأَنَّ الثَّانِيَ قَادِرٌ عَلَى تَنْفِيذِ الْحُكْمِ فَلَمْ يَحْتَجْ فِيهِ إِلَى الْأَوَّلِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ مِنْ غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمِلْكُ ، فَيَجُوزُ لِلْقَاضِي بَعْدَ سَمَاعِ شَهَادَتِهِمْ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى قَاضِي بَلَدِهِمْ ، وَيَسْأَلَهُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ ، فَإِنْ عَرَفَهَا كَتَبَ بِهَا إِلَى الْقَاضِي الْأَوَّلِ ، لِيَتَوَلَّى الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِمْ ، وَيَكُونُ الثَّانِي حَاكِمًا بِعَدَالَتِهِمْ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَ كِتَابَ الثَّانِي إِلَّا بِشَهَادَةٍ ؛ لِأَنَّ كِتَابَ الْأَوَّلِ اسْتِخْبَارٌ ، وَكِتَابُ الثَّانِي حُكْمٌ . وَأَمَّا الضَّرْبُ الرَّابِعُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَيْنًا مَنْقُولَةً فِي يَدِ الْمَطْلُوبِ ، كَالْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ وَالثَّوْبِ . فَإِذَا أَحْضَرَ الطَّالِبُ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ ادِّعَائِهِ فِي يَدِ الْمَطْلُوبِ بِغَصْبٍ أَوْ عَارِيَةٍ ، وَحَلَّاهُ الشُّهُودُ بِحِلْيَتِهِ وَنَعَتُوهُ بِاسْمِهِ وَجِنْسِهِ وَصِفَتِهِ فَفِي الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ عَلَى مَا يَنْقُلُ مِنَ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ ، وَحَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٍ ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهَا فِيمَا يُنْقَلُ مِنَ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ حَتَّى يُشِيرَ الشُّهُودُ إِلَيْهَا بِالتَّعْيِينِ . وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ ، وَهُوَ الْمَعْمُولُ عَلَيْهِ : لِأَنَّ الصِّفَاتِ تَتَشَابَهُ ، وَالْحِلَى تَتَمَاثَلُ ، فَلَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ بِهَا مَعَ الِاحْتِمَالِ حَتَّى يَزُولَ بِالتَّعْيِينِ وَيَكُونُ الْحُكْمُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ مَقْصُورًا عَلَى مَا لَا يُنْقَلُ لِتَعْيِينِهِ بِحُدُودِهِ وَمَوْضِعِهِ دُونَ مَا يُنْقَلُ لِلْإِشْكَالِ فِيهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَحَكَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ غَيْرِهِ ، وَأَضَافَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَيْهِ ، أَنَّهُ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ مَنْقُولَةً كَمَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهَا فِي غَيْرِ الْمَنْقُولَةِ ، لِمَا يَجِبُ مِنْ حِفْظِ الْحُقُوقِ عَلَى أَهْلِهَا . وَخَرَّجَ ابْنُ سُرَيْجٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ وَجْهًا ثَالِثًا ، فَقَالَ : إِنْ كَانَ هَذَا الْعَبْدُ الْمُدَّعِي فِي عَيْنِهِ يَخْتَصُّ بِوَصْفٍ يَنْدُرُ وَجُودُهُ فِي غَيْرِهِ كَشَامَةٍ فِي مَوْضِعٍ مِنْ جَسَدِهِ أَوْ إِصْبَعٍ

زَائِدَةٍ فِي مَوْضِعٍ مِنْ يَدِهِ أَوْ كَانَ مَشْهُورًا مِنْ عَبِيدِ السُّلْطَانِ لَا يَشْرَكُهُ غَيْرُهُ فِي اسْمِهِ وَمَنْزِلَتِهِ وَصِفَتِهِ ، جَازَ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمْ مَعَ غَيْبَتِهِ ، وَإِنْ شَابَهَ عُمُومَ النَّاسِ فِي صِفَتِهِ وَنَعْتِهِ لَمْ يُحْكَمْ فِيهِ بِالشَّهَادَةِ إِلَّا مَعَ التَّعْيِينِ وَالْإِشَارَةِ ، وَأَجْرَى ذَلِكَ مَجْرَى الْأَنْسَابِ فِيمَنْ غَابَ إِذَا رُفِعَتْ ، حَتَّى تَرَاخَتْ وَزَالَ الِاشْتِرَاكُ فِيهَا حُكِمَ فِيهَا بِالشَّهَادَةِ وَإِنْ قَرُبَتْ حَتَّى اشْتَبَهَ الِاشْتِرَاكُ فِيهَا ، لَمْ يُحْكَمْ بِالشَّهَادَةِ إِلَّا مَعَ التَّعْيِينِ . وَلِهَذَا التَّخْرِيجِ وَجْهٌ ، لَكِنَّهُ نَادِرٌ ، وَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ يَكُونُ عَلَى الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ . فَإِذَا قِيلَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْحُكْمَ بِهَا لَا يَجُوزُ إِلَّا مَعَ التَّعْيِينِ ، فَفِي جَوَازِ سَمَاعِهَا وَالْمُكَاتَبَةِ بِهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَسْمَعُ الْقَاضِي الشَّهَادَةَ بِهَا : لِأَنَّهَا تُرَادُ لِلْحُكْمِ ، فَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حُكْمٌ لَمْ تَسْمَعْ ذِكْرَهُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نُصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى : يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَ الْقَاضِي الشَّهَادَةَ بِهَا وَيَكْتُبَ بِهِ إِلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْعَبْدُ الْمَطْلُوبُ ، فَإِذَا وَصَلَ الْكِتَابُ إِلَيْهِ ، لَمْ يَحْكُمْ بِالْعَبْدِ إِلَّا أَنْ يُعَيِّنَهُ الشُّهُودُ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَيُسْتَفَادُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَقَعِ الْحُكْمُ بِهَا إِلَّا مَعَ التَّعْيِينِ مِنَ الْجِهَتَيْنِ ، أَنْ لَا يَتَكَلَّفَ الثَّانِي الْكَشْفَ عَنْ عَدَالَتِهِمْ ، وَلَا يَتَكَلَّفَ الشُّهُودُ إِعَادَةَ شَهَادَتِهِمْ ، وَإِنَّمَا يَقْتَصِرُونَ عَلَى الْإِشَارَةِ بِالتَّعْيِينِ ، فَيَقُولُونَ : هَذَا هُوَ الْعَبْدُ الَّذِي شَهِدْنَا بِهِ لِفُلَانٍ عِنْدَ الْقَاضِي فُلَانٍ . وَيُسْتَفَادُ بِهَا عِنْدِي فَائِدَةٌ ثَالِثَةٌ : أَنْ يَمُوتَ الْعِبَادُ فَيُسْتَحَقُّ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ ذِي الْيَدِ قِيمَتُهُ عَلَى نَعْتِهِ وَصِفَتَهُ . وَإِذَا قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي ، أَنَّ الْحُكْمَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ مَعَ عَدَمِ التَّعْيِينِ جَائِزٌ ، أَحْضَرَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ الْعَبْدَ وَصَاحِبَ الْيَدِ وَقَالَ لَهُ : هَذَا الْعَبْدُ هُوَ الْمَنْعُوتُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ . فَإِنِ اعْتَرَفَ بِهَا ، حَكَمَ عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِ الْعَبْدِ إِلَى طَالِبِهِ . وَإِنْ أَنْكَرْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَوْصُوفُ الْمَحْكُومُ بِهِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ فِيمَا يُحْكَمُ بِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّ الْقَاضِيَ يَخْتِمُ فِي عُنُقِ الْعَبْدِ ، وَيُسَلِّمُهُ إِلَى الطَّالِبِ الْمَشْهُودِ لَهُ ، مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، وَيَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا ، وَيُنَفِّذُهُ إِلَى الْقَاضِي الْأَوَّلِ ، لِيَحْضُرَ الشُّهُودُ لِتَعْيِينِهِ . فَإِنْ عَيَّنُوهُ ، وَأَنَّهُ الْعَبْدُ الَّذِي شَهِدُوا بِهِ لِلطَّالِبِ ، حَكَمَ بِهِ لَهُ وَكَتَبَ إِلَى الْقَاضِي الثَّانِي بِاسْتِحْقَاقِ الطَّالِبِ ، وَبَرَاءَةِ الْكَفِيلِ مِنْ ضَمَانِهِ .

وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا بِهِ لِلْمَطْلُوبِ بِعَيْنِهِ أَلْزَمَهُ رَدَّهُ عَلَى مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ ، وَأَخَذَهُ بِنَفَقَةِ عَوْدِهِ وَضَمَانِ نَفْسِهِ إِنْ تَلِفَ . وَلَوْ كَانَ بَدَلَ هَذَا الْعَبْدِ أَمَةٌ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا فِي إِجْرَائِهَا مَجْرَى الْعَبْدِ : فَمَنَعَ أَبُو يُوسُفَ مِنْ تَسْلِيمِهَا : لِأَنَّهَا ذَا فَرْجٍ ، وَرُبَّمَا كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِصَاحِبِ الْيَدِ ، وَجَعَلَ هَذَا الْحُكْمَ مَقْصُورًا عَلَى الْعَبْدِ . وَسَوَّى ابْنُ أَبِي لَيْلَى بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ أَنْ تُضَمَّ إِلَى أَمِينٍ ثِقَةٍ يُحْتَاطُ بِهِ حَذَرًا مِنَ التَّعَرُّضِ لِإِصَابَتِهَا . قَالَ الشَّافِعِيُّ عِنْدَ حِكَايَةِ هَذَا الْقَوْلِ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى : وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ ، وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ . وَأَخَذَ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْ أَصْحَابِنَا أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ . وَلَا يَصِحُّ تَخْرِيجُهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : لِأَنَّهُ يَتْرُكُ الِاسْتِحْسَانَ بِالْقِيَاسِ ، وَقَدْ جَعَلَهُ اسْتِحْسَانًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : مِنْ مَذَاهِبِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ الْحُكْمِ بِهِ ، حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ بَعْضِ الْحُكَّامِ : أَنْ يُنَادِيَ الْقَاضِي عَلَى الْعَبْدِ فِيمَنْ يَزِيدُ ، فَإِذَا انْتَهَى ثَمَنُهُ ، قَالَ لِمُدَّعِيهِ : ادْفَعْ ثَمَنَهُ يَكُونُ مَوْضُوعًا عَلَى يَدِ عَدْلٍ ، وَخُذِ الْعَبْدَ مَعَكَ ، فَإِنْ عَيَّنَهُ شُهُودُكَ حَكَمَ بِهِ الْقَاضِي لَكَ ، وَكَتَبَ بِرَدِّ الثَّمَنِ عَلَيْكَ ، وَإِنْ لَمْ يُعِينُوهُ لَكَ ، لَزِمَكَ رَدُّهُ ، وَاسْتِرْجَاعُ ثَمَنِهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ إِنْ أَجَابَ إِلَيْهِ الطَّالِبُ جَازَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يُجِبْ إِلَيْهِ لَمْ يُجْبِرْ عَلَيْهِ وَالْأَصَحُّ عِنْدِي مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنْ يَقْبَلَ الْقَاضِي الثَّانِي الْكِتَابَ ، وَبِحُكْمٍ بِوُجُوبِ مَا تَضَمَّنَهُ ، مِنَ الْعَبْدِ الْمَوْصُوفِ فِيهِ ، وَيُخَيَّرُ صَاحِبُ الْيَدِ فِي الْعَبْدِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : بَيْنَ أَنْ يُسَلِّمَهُ بِالصِّفَةِ الْمَشْهُودِ بِهَا إِلَى طَالِبِهِ فَيَنْبَرِمُ الْحُكْمُ بِهَا ، وَبَيْنَ أَنْ يَمْضِيَ بِالْعَبْدِ مَعَ طَالِبِهِ ، عَلَى احْتِيَاطٍ مِنْ هَرَبِهِ إِلَى الْقَاضِي الْأَوَّلِ ، فَإِنْ عَيَّنَهُ الشُّهُودُ ، سَلَّمَهُ إِلَى الطَّالِبِ بِحُكْمِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ الشُّهُودُ ، خَلَّى سَبِيلَ الْعَبْدِ مَعَ صَاحِبِ الْيَدِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَعْدِلَ بِالطَّالِبِ إِلَى دَفْعِ الْقِيمَةِ لِلْعَبْدِ الْمَوْصُوفِ دُونَ الْعَبْدِ الَّذِي فِي يَدِهِ . فَأَيُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَعَلَ صَاحِبُ الْيَدِ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ حَقِّ الطَّالِبِ وَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ جَمِيعِهَا ، وَقَدْ ثَبَتَ اسْتِحْقَاقُ الْعَبْدِ الْمَوْصُوفِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْقِطَ شَهَادَةَ عُدُولٍ ثَبَتَتْ بِمِثْلِهِمُ الْحُقُوقُ ، وَأَخَذَهُ الْقَاضِي الثَّانِي جَبْرًا بِدَفْعِ قِيمَةِ الْعَبْدِ الْمَوْصُوفِ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالِاشْتِبَاهِ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ جَرَى مَجْرَى الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ أَوِ الْآبِقِ لَزِمَ دَفْعُ قِيمَتِهِ كَذَلِكَ ، هَذَا وَلَا يُجْبِرُهُ عَلَى تَسْلِيمِ

الْعَبْدِ ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاشْتِبَاهِ ، وَلَا يُجْبِرُهُ عَلَى السَّفَرِ بِالْعَبْدِ إِلَى الْقَاضِي الْأَوَّلِ : لِأَنَّهُ لَا إِجْبَارَ عَلَيْهِ فِي السَّفَرِ بِمَالِهِ وَلَا عَلَى الْمُحَاكَمَةِ إِلَى غَيْرِ قَاضِي بَلَدِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصَوَابِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : وَهُوَ أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ لِحَاضِرٍ عَلَى غَائِبٍ بِحَقٍّ حَاضِرٍ كتب القضاة إلى القضاة ، فَهَذَا يَكُونُ فِي الْأَعْيَانِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالشَّهَادَةِ ، فَلَا يَقِفُ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مُكَاتَبَةِ قَاضٍ آخَرَ ، وَيَنْفَرِدُ بِالْحُكْمِ بَعْدَ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَرَى الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْعَيْنُ مَنْقُولَةً أَوْ غَيْرَ مَنْقُولَةٍ . فَإِنْ سَأَلَهُ الْمَحْكُومُ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا بِاسْتِحْقَاقِ الْمِلْكِ الْحَاضِرِ إِلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ الْمَحْكُومُ بِهَا مَنْقُولَةً ، لَمْ يُكْتَبْ بِهَا لِانْبِرَامِ الْحُكْمِ بِهَا ، وَانْقِطَاعِ الْعَلَقِ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَنْقُولَةٍ كَالْعَقَارِ أَجَابَهُ إِلَيْهِ وَكَتَبَ لَهُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ قَدِ انْبَرَمَ : لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ عَنْ ذَلِكَ أُجْرَةً يُطَالِبُ بِهَا الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ . وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا : أَنَّ رَجُلًا لَوْ حَضَرَ قَاضِي بَلَدٍ وَذَكَرَ لَهُ أَنَّنِي ابْتَعْتُ فِي خَلْطَةِ فُلَانٍ الْغَائِبِ سَهْمًا مِنْ دَارٍ فِي بَلَدِكَ وَعَفَا عَنْ شُفْعَتِهِ وَلِي بَيِّنَةٌ قَدْ أَحْضَرْتُهَا تَشْهُدُ عَلَيْهِ بِالْعَفْوِ فَاسْمَعْهَا ، وَاكْتُبْ بِهَا إِلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الشَّفِيعُ ، فَلَسْتُ آمَنُ إِنْ خَرَجْتُ إِلَيْهِ أَنْ يُطَالِبَنِي بِالشُّفْعَةِ وَيَجْحَدَ الْعَفْوَ ، لَمْ يَسْمَعِ الْقَاضِي بَيِّنَتَهُ ، وَلَمْ يَكْتُبْ لَهُ بِشَيْءٍ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَسْمَعْهَا : لِأَنَّ سَمَاعَهَا بِعَفْوِ الْغَائِبِ يَكُونُ بَعْدَ دَعْوَى الْغَائِبِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْمَعَ عَلَيْهِ بَيِّنَةً فِيمَا لَمْ يَدَّعِهِ . وَهَكَذَا لَوْ قَالَ الْحَاضِرُ لِفُلَانٍ الْغَائِبِ : عَلَيَّ أَلْفٌ ، قَدْ دَفَعْتُهَا إِلَيْهِ أَوْ قَدْ أَبْرَأَنِي مِنْهَا وَهَذِهِ بَيِّنَتِي ، وَلَسْتُ آمَنُ إِنْ خَرَجْتُ إِلَيْهِ أَنْ يَجْحَدَ الْقَبْضَ أَوِ الْإِبْرَاءَ وَيُطَالِبَنِي ، فَاسْمَعْ بَيِّنَتِي وَاكْتُبْ بِهَا إِلَى قَاضِي بَلَدِهِ ، لَمْ يَسْمَعْهَا ، وَلَمْ يَكْتُبْ بِهَا : لِأَنَّ الْغَائِبَ لَمْ يُطَالِبْ فَلَمْ يَسْمَعِ الْبَيِّنَةَ عَلَى غَيْرِ مُطَالَبٍ . وَهَكَذَا لَوْ قَالَ الْحَاضِرُ : إِنَّ فُلَانًا الْغَائِبَ بَاعَنِي هَذِهِ الدَّارَ ، أَوْ وَهَبَهَا لِي ، وَهَذِهِ بَيِّنَتِي ، وَلَسْتُ آمَنُ أَنْ يَجْحَدَهَا ، فَاسْمَعْهَا لِي ، لَمْ يَسْمَعْهَا لِأَنَّ سَمَاعَهَا يَكُونُ بَعْدَ جَوَابِ الْغَائِبِ إِنْ أَنْكَرَ . وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا : أَنَّ امْرَأَةً لَوِ ادَّعَتْ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا وَهُوَ غَائِبٌ أَوْ حَاضِرٌ ، وَهَؤُلَاءِ شُهُودِي عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ وَلَسْتُ آمَنُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِي فَاسْمَعْ بَيِّنَتِي وَاحْكُمْ عَلَيْهِ بِطَلَاقِي ، لَمْ يَسْمَعْ بَيِّنَتَهَا ، سَوَاءٌ كَانَ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا فَلَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الدَّعْوَى فَإِنْ تَعَرَّضَ لَهَا الزَّوْجُ أَحْضَرَهُ وَلَمْ يَسْمَعِ الْبَيِّنَةَ قَبْلَ حُضُورِهِ وَإِنْكَارِهِ . فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا وَأَرَادَتِ الزَّوْجَةُ أَنْ تَخْرُجَ إِلَى بَلَدِهِ ، فَفِي سَمَاعِ بَيِّنَتِهَا إِذَا ادَّعَتْ أَنَّهُ قَدْ يَتَعَرَّضُ لَهَا وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : لَا يَسْمَعُهَا كَمَا لَا يَسْمَعُهَا عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَى فِي الْأَمْلَاكِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَسْمَعُهَا فِي الزَّوْجِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فِي الْأَمْلَاكِ ، لِمَا يَلْزَمُ مِنْ فَضْلِ الِاحْتِيَاطِ فِي حِفْظِ الْفُرُوجِ ، وَلَوْ لَمْ تَذْكُرْ خُرُوجَهَا إِلَى بَلَدِهِ لَمْ يَسْمَعْ بَيِّنَتَهَا ، وَجْهًا وَاحِدًا . وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا : أَنَّ أَمَةً لَوْ كَانَتْ فِي يَدِ رَجُلٍ ، فَأَحْضَرَهَا إِلَى الْقَاضِي ، وَذَكَرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ ثَمَنَهَا ، وَسَأَلَ الْقَاضِيَ أَنْ يَسْمَعَ بَيِّنَتَهُ عَلَى ابْتِيَاعِهَا وَدَفْعِ ثَمَنِهَا ، لَمْ يَسْمَعْهَا مِنْهُ ، فَإِنِ اسْتُحِقَّتِ الْأَمَةُ مِنْ يَدِهِ بِبَيِّنَةٍ شَهِدَتْ بِهَا لِمُسْتَحِقِّهَا جَازَ لِلْقَاضِي حِينَئِذٍ أَنْ يَسْمَعَ بَيِّنَتَهُ بِابْتِيَاعِهَا مِنَ الْغَائِبِ ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهَا قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ : لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلرُّجُوعِ بِدَرَكِهَا بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَغَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلدَّرَكِ قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ . وَهَكَذَا لَوِ ادَّعَتِ الْأَمَةُ أَنَّهَا حُرَّةُ الْأَصْلِ ، وَأَقَامَتْ بَيِّنَةً بِحُرِّيَّتِهَا فَسَأَلَ صَاحِبَ الْيَدِ أَنْ يَسْمَعَ بَيِّنَتَهُ بِابْتِيَاعِهَا مِنَ الْغَائِبِ سَمِعَهَا لِاسْتِحْقَاقِهِ الرُّجُوعَ بِدَرَكِهَا . وَلَوْ أَنَّ الْأَمَةَ حِينَ قَالَتْ أَنَّهَا حُرَّةُ الْأَصْلِ عَدِمَتِ الْبَيِّنَةَ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ إِقْرَارُهَا بِالرِّقِّ ، قُبِلَ قَوْلُهَا فِي حُرِّيَّتِهَا وَأُحْلِفَتْ لِصَاحِبِ الْيَدِ : لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ أَصْلٌ لَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ الرِّقُّ . فَإِنْ سَأَلَ صَاحِبُ الْيَدِ أَنْ تُسْمَعَ بَيِّنَتُهُ بِابْتِيَاعِهَا مِنَ الْغَائِبِ لِيَرْجِعَ يُدْرِكُهَا عَلَيْهِ ، لَمْ يَسْمَعْهَا الْقَاضِي وَلَمْ يُكَاتِبْ بِهَا . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ بَيِّنَتَهَا بِالْحُرِّيَّةِ مَسْمُوعَةٌ عَلَى كُلِّ ذِي يَدٍ ثَابِتَةٍ وَزَائِلَةٍ ، وَقَوْلَهَا فِي الْحُرِّيَّةِ مَقْبُولٌ ، عَلَى ذِي الْيَدِ الثَّابِتَةِ . وَيَسْتَحِقُّ صَاحِبُ الْيَدِ إِحْلَافَ الْبَائِعِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحُرَّةٍ فَإِنْ سَأَلَ الْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ لَهُ بِمَا حَكَمَ بِهِ مِنْ حُرِّيَّتِهَا كَتَبَ لَهُ بِإِحْلَافِ الْبَائِعِ ، وَلَمْ يَكْتُبْ لَهُ بِرُجُوعِ الدَّرَكِ عَلَى الْبَائِعِ . وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا : أَنْ يَشْهَدَ عِنْدَ الْقَاضِي شَاهِدٌ وَاحِدٌ بِمِلْكٍ لِرَجُلٍ فَيَذْكُرُ الْمَشْهُودُ لَهُ أَنَّ لَهُ شَاهِدًا آخَرَ فِي بَلَدٍ آخَرَ ، وَيَسْأَلُ الْقَاضِيَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى قَاضِي ذَلِكَ الْبَلَدِ بِمَا شَهِدَ بِهِ الشَّاهِدُ عِنْدَهُ فَهَذَا مُعْتَبَرٌ بِالْمِلْكِ . فَإِنْ كَانَ فِي بَلَدِ الْقَاضِي الْآخَرِ كَتَبَ لَهُ بِشَهَادَةِ مَنْ شَهِدَ عِنْدَهُ لِيَتَوَلَّى ذَلِكَ الْحَاكِمُ تَكْمِيلَ الْبَيِّنَةِ وَتَنْفِيذَ الْحُكْمِ . وَإِنْ كَانَ الْمَلِكُ فِي بَلَدِ هَذَا الْقَاضِي لَمْ يَكْتُبْ لَهُ بِالشَّهَادَةِ ، وَأَخَذَ كِتَابَ ذَلِكَ الْقَاضِي بِمَا شَهِدَ بِهِ الشَّاهِدُ الْآخَرُ لِيَتَوَلَّى هَذَا الْقَاضِي تَنْفِيذَ الْحُكْمِ بِالشَّاهِدَيْنِ . وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا أَنَّ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً لَوِ ادَّعَى وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَنَّ لَهُ وَلَدًا حُرًّا فِي بَلَدٍ

آخَرَ وَسَأَلَ الْقَاضِي سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ بِنَسَبِهِ وَحُرِّيَّتِهِ أَوْ بِأَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ لِيَكْتُبَ بِهِ إِلَى قَاضِي ذَلِكَ الْبَلَدِ ، فَلِهَذَا الطَّالِبِ فِي طَلَبِهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : إِحْدَاهَا : أَنْ يَطْلُبَ ذَلِكَ : لِأَنَّ الْوَلَدَ قَدْ مَاتَ فَيَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ بِذَلِكَ وَيَكْتُبَ بِهِ إِلَى قَاضِي ذَلِكَ الْبَلَدِ لِيَحْكُمَ لَهُ بِمِيرَاثِ وَلَدِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَذْكُرَ أَنَّ الْوَلَدَ حَيٌّ ، وَأَنَّهُ فِي يَدِ مَنْ قَدِ اسْتَرَقَّهُ ؛ سَمِعَ الْبَيِّنَةَ بِنَسَبِهِ وَحُرِّيَّتِهِ ، وَكَتَبَ بِهَا إِلَى قَاضِي ذَلِكَ الْبَلَدِ ، سَوَاءٌ ذَكَرَ اسْمَ الْمُسْتَرِقِّ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ . وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي مِلْكٍ لَمْ تُسْمَعِ الْبَيِّنَةَ إِلَّا بَعْدَ تَسْمِيَةِ صَاحِبِ الْيَدِ : لِأَنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ وَالْحُرِّيَّةُ لَا تَنْتَقِلُ . فَإِنْ كَانَتِ الْبَيِّنَةُ تَشْهَدُ بِحُرِّيَّةِ الْوَلَدِ وَلَمْ تَشْهَدْ بِنَسَبِهِ ، لَمْ يَسْمَعْهَا ، وَلَمْ يَكْتُبْ بِهَا : لِأَنَّ الطَّالِبَ إِذَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ نَسَبٌ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حَقٌّ فِي الطَّلَبِ ، وَلَوْ كَانَتِ الْبَيِّنَةُ تَشْهَدُ بِالنَّسَبِ دُونَ الْحُرِّيَّةِ ، نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ ثُبُوتُهُ مُوجِبًا لِلْحُرِّيَّةِ سَمِعَهَا وَكَتَبَ بِهَا ، وَإِنْ لَمْ يُوجِبِ الْحُرِّيَّةُ لَمْ يَسْمَعْهَا وَلَمْ يَكْتُبْ بِهَا . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ لَا يَذْكُرَ الطَّالِبُ اسْتِرْقَاقَ الْوَلَدِ ، وَلَا مَوْتَهُ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ وَلَا يَكْتُبَ بِهَا : لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي الْحَالِ حَقٌّ لِطَالِبٍ وَلَا مَطْلُوبٍ ، فَهَذَا حُكْمُ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فِيمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ .

فَصْلٌ : مَنْ يُكَاتِبُهُ الْقَاضِي بِحُكْمِهِ . وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي : مِنَ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ وَهُوَ فِيمَنْ يُكَاتِبُهُ الْقَاضِي بِحُكْمِهِ فَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مُكَاتَبَةُ الْقُضَاةِ . وَالثَّانِي : مُكَاتَبَةُ الْأُمَرَاءِ . وَالثَّالِثُ : مُكَاتَبَةُ الشُّهُودِ . وَالرَّابِعُ : مُكَاتَبَةُ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي مُكَاتَبَةِ الْقُضَاةِ : فَيُكَاتِبُ بِحُكْمِهِ أَحَدَ قَاضِيَيْنِ : إِمَّا قَاضِيَ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْخَصْمُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ ، وَإِمَّا قَاضِيَ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمِلْكُ الْمَحْكُومُ بِهِ ، وَلَيْسَ لِمُكَاتَبَةِ غَيْرِهِمَا مِنَ الْقُضَاةِ وَجْهٌ ، لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ عَلَى غَيْرِهِمَا شَيْءٌ مِنْ حُكْمِهِ . فَإِذَا كَتَبَ إِلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْخَصْمُ الْمَطْلُوبُ فَانْتَقَلَ الْمَطْلُوبُ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ أَوْصَلَ الطَّالِبُ كِتَابَهُ إِلَى ذَلِكَ الْقَاضِي وَيَتَنَجَّزُ بِهِ كِتَابَهُ إِلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي انْتَقَلَ الْمَطْلُوبُ إِلَيْهِ ، وَجَازَ لِلْقَاضِي الثَّانِي أَنْ يَكْتُبَ بِهِ إِلَى الْقَاضِي الثَّالِثِ . فَإِنْ عَادَ الطَّالِبُ إِلَى الْقَاضِي الْأَوَّلِ وَسَأَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ إِلَى الْقَاضِي الثَّالِثِ

فَالْأَوْلَى بِالْقَاضِي الْأَوَّلِ أَنْ يَسْتَعِيدَ مِنْهُ الْكِتَابَ الْأَوَّلَ وَيَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا ثَانِيًا إِلَى الْقَاضِي الثَّالِثِ . فَإِنْ لَمْ يَسْتَعِدْهُ ، ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ الثَّانِي أَنَّهُ قَدْ كَانَ كَتَبَ لَهُ كِتَابًا بِهَذَا الْحُكْمِ إِلَى فُلَانٍ الْقَاضِي حَتَّى لَا يَتَوَصَّلَ بِالْكِتَابَيْنِ إِلَى أَنْ يَأْخُذَ بِحَقِّ حَقَّيْنِ . فَإِنْ قَالَ الطَّالِبُ خَصْمِي فِي بَلَدِ كَذَا وَلَسْتُ آمَنُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ ، وَسَأَلَ كِتَابَيْنِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكْتُبَهُمَا ، وَكَانَ الْقَاضِي بَيْنَ خِيَارَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكْتُبَ إِلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي كَانَ فِيهِ الْمَطْلُوبُ ، لِيَتَنَجَّزَ بِهِ الطَّالِبُ كِتَابَ ذَلِكَ الْقَاضِي إِنْ خَرَجَ الْمَطْلُوبُ إِلَى غَيْرِهِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا مُرْسَلًا إِلَى مَنْ وَصَلَ إِلَيْهِ كِتَابُهُ مِنْ سَائِرِ الْقُضَاةِ . وَهَكَذَا لَوْ لَمْ يَعْرِفِ الطَّالِبُ الْبَلَدَ الَّذِي فِيهِ الْمَطْلُوبُ ، كَتَبَ لَهُ الْقَاضِي كِتَابًا مُطْلَقًا يُعْلِمُ بِهِ جَمِيعَ الْقُضَاةِ ، فَأَيُّ قَاضٍ كَانَ الْمَطْلُوبُ فِي بَلَدِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ كِتَابَهُ وَيَحْكُمَ بِهِ . وَلَوْ كَتَبَ الْقَاضِي لِلطَّالِبِ كِتَابًا وَتَسَلَّمَهُ مِنْهُ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ ضَاعَ ، كَتَبَ لَهُ غَيْرَهُ عَلَى مِثْلِ نُسَخِهِ لَا يَتَغَيَّرُ فِي لَفْظٍ وَلَا مَعْنًى ، وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّ الطَّالِبَ قَدْ كَانَ تَنَجَّزَ غَيْرَهُ بِمِثْلِهِ ، وَذَكَرَ أَنَّهُ ضَاعَ مِنْهُ لِئَلَّا يَتِمَّ بِالْكِتَابَيْنِ احْتِيَالٌ . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا بِالْحُكْمِ بِالْحَقِّ لِيَكُونَ الثَّانِي مُسْتَوْفِيًا ، وَإِمَّا بِثُبُوتِ الْحَقِّ ، لِيَكُونَ الثَّانِي حَاكِمًا .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فِي مُكَاتَبَةِ الْقَاضِي لِلْأَمِيرِ : فَهِيَ مَقْصُورَةٌ عَلَى مُكَاتَبَةِ أَمِيرِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْخَصْمُ الْمَطْلُوبُ ، أَوِ الْمِلْكُ الْمَحْكُومُ بِهِ ، دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأُمَرَاءِ . وَلَا يَكْتُبُ إِلَيْهِ إِلَّا بِمَا حَكَمَ بِهِ ، وَأَمْضَاهُ ، لِيَكُونَ الْأَمِيرُ مُسْتَوْفِيًا لَهُ وَلَا يَكُونُ حَاكِمًا بِهِ لِأَنَّ الْحُمَاةَ وَالْأُمَرَاءَ أَعْوَانٌ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ ، وَلَيْسُوا بِحُكَّامٍ فِيهَا ، بِخِلَافِ الْقُضَاةِ الْمَنْدُوبِينَ لِلِاسْتِيفَاءِ وَالْأَحْكَامِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، فَمُكَاتَبَةُ الْقَاضِي لِلْأَمِيرِ مَقْصُورَةٌ عَلَى أَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهِ بِمَا حَكَمَ بِهِ مِنْ مِلْكِ الطَّالِبِ فِي بَلَدِهِ ، لِيُمَكِّنَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ ، فَيَرْفَعُ عَنْهُ يَدَ مَنْ سُوَاهُ ، فَهَذَا يَجُوزُ إِذَا أَمِنَ عُدْوَانَ الْأَمِيرِ . فَلَوْ كَانَ لِبَلَدِ الْمِلْكِ أَمِيرٌ وَقَاضٍ ، كَانَتْ مُكَاتَبَةُ الْأَمِيرِ بِذَلِكَ أَوْلَى مِنْ مُكَاتَبَةِ الْقَاضِي : لِأَنَّهُ بِالْيَدِ أَخَصُّ ، مَا لَمْ يُعَارِضْهُ الْقَاضِي فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهِ بِمَا حَكَمَ بِهِ عَلَى الْخَصْمِ الْمَطْلُوبِ ، لِيَسْتَوْفِيَهُ لِلطَّالِبِ ، فَهَذَا يَجُوزُ أَنْ يُكَاتِبَ بِهِ الْأَمِيرَ .

فَلَوْ كَانَ لِبَلَدِ هَذَا الْمَطْلُوبِ أَمِيرٌ وَقَاضٍ ، كَانَتْ مُكَاتَبَةُ الْقَاضِي بِذَلِكَ أَوْلَى : لِأَنَّ الْقَاضِيَ بِإِلْزَامِ الْحُقُوقِ أَخَصُّ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهِ بِإِحْضَارِ الْمَطْلُوبِ إِلَيْهِ فَهَذَا مُعْتَبَرٌ بِوِلَايَةِ الْقَاضِي . فَإِنْ كَانَ بَلَدُ الْأَمِيرِ دَاخِلًا فِي وِلَايَتِهِ ، جَازَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهِ بِإِحْضَارِ الْمَطْلُوبِ . وَلَزِمَ الْأَمِيرَ إِنْفَاذُهُ إِلَيْهِ . وَإِنْ كَانَ خَارِجًا مِنْ وِلَايَتِهِ ، لَمْ يَجُزْ لِلْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الْأَمِيرِ بِإِحْضَارِهِ وَلَمْ يَجُزْ لِلْأَمِيرِ أَنْ يُنَفِّذَهُ إِلَيْهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فِي مُكَاتَبَةِ الْقَاضِي لِلشُّهُودِ ، فَلَيْسَ لِلشُّهُودِ تَنْفِيذُ حُكْمٍ وَلَا اسْتِيفَاءُ حَقٍّ ، وَإِنَّمَا هُوَ وَثَائِقٌ ، فِيمَا يَتَحَمَّلُونَهُ مِنَ الْحُقُوقِ ، لِيَشْهَدُوا بِهَا لِمُسْتَحِقِّيهَا عِنْدَ مُسْتَوْفِيهَا . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِلْقَاضِي فِي مُكَاتَبَتِهِمْ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُكَاتِبَهُمْ بِتَنْفِيذِ الْحُكْمِ ، فَهَذَا مِنْهُ اسْتِخْلَافٌ لَهُمْ عَلَى الْحُكْمِ ، وَهُوَ اسْتِئْنَافُ وِلَايَةٍ ، لَا يَصِحُّ إِلَّا بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ عَمَلِهِ فَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْهُمْ لَمْ يَجُزْ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَذْكُرَ لَفْظَ التَّقْلِيدِ فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ لَمْ يَجُزْ وَيَصِيرُ هَذَا تَقْلِيدًا خَاصًّا فِي هَذَا الْحُكْمِ دُونَ غَيْرِهِ عَلَى اجْتِمَاعٍ فِيهِ ، وَلَا يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُهُمْ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُكَاتِبَهُمْ بِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ : فَجَوَازُ ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونُوا مِنْ عَمَلِهِ ، فَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ فِي عَمَلِهِ ، فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُكَاتِبَهُمْ إِشْهَادًا لَهُمْ عَلَى حُكْمِهِ ، لِيَكُونُوا وَثِيقَةً لِلطَّالِبِ يَتَحَمَّلُونَ عَنْهُ إِنْفَاذَ حُكْمِهِ لَهُ ، فَجَرَى هَذَا مَجْرَى الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ ، فَيَصِحُّ أَنْ يُكَاتِبَهُمْ بِهِ ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ عَمَلِهِ وَيَصِحُّ أَنْ يَتَحَمَّلُوهُ عَنْهُ إِذَا أَشْهَدَهُمْ شُهُودُ الْمُتَحَمِّلِينَ لِلْكِتَابِ ، وَيَصِحُّ أَنْ يُؤَدُّوا ذَلِكَ إِذَا تَعَذَّرَ ثُبُوتُهُ بِمَنْ تَحَمَّلُوا ذَلِكَ عَنْهُ وَهُوَ الْقَاضِي أَوْ شُهُودُ الْكِتَابِ كَمَا نَقُولُهُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ فِي مُكَاتَبَةِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ القاضي ، فَالْكِتَابُ إِلَيْهِ إِلْزَامٌ لَهُ ، وَحُكْمٌ عَلَيْهِ . فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ عَمَلِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهِ ، وَلَا يَجِبُ إِذَا كَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَ كِتَابَهُ ، وَلَا يَقْبَلُهُ : لِأَنَّهُ فِي طَاعَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ .

وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ عَمَلِهِ جَازَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهِ . وَلَزِمَهُ إِذَا وَصَلَ الْكِتَابُ إِلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَهُ لِأَنَّهُ مُلْتَزِمٌ لِطَاعَتِهِ ، فَإِنْ خَرَجَ إِلَى الطَّالِبِ مِنْ حَقِّهِ ، وَإِلَّا لَزِمَهُ الْمَصِيرُ مَعَ الطَّالِبِ إِلَى الْقَاضِي إِذَا دَعَاهُ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْحُضُورُ إِلَّا بِالِاسْتِحْضَارِ ، فَهَذِهِ أَقْسَامُ الْفَصْلِ الثَّانِي مِنَ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ مِنْهَا ، وَهُوَ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ قَبُولُ كُتُبِهِ : فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي عَقْدِ الْبَابِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي فِي الْحُكْمِ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ ، يَتَحَمَّلَانِ الْكِتَابَ عَنْهُ ، وَيَشْهَدَانِ بِهِ عِنْدَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، فَلِتَحَمُّلِهِمَا الْكِتَابَ شُرُوطٌ ، وَلِأَدَائِهِمَا لِلْكِتَابِ شُرُوطٌ : فَأَمَّا شُرُوطُ تَحَمُّلِهِ فَثَلَاثَةٌ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْلَمَا مَا فِيهِ وَعِلْمُهُمَا بِهِ يَكُونُ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ . إِمَّا أَنْ يَقْرَأَهُ الْقَاضِي عَلَيْهِمَا ، وَإِمَّا أَنْ يَأْمُرَ مَنْ يَقْرَأُهُ بِحَضْرَتِهِ عَلَيْهِمَا ، وَإِمَّا أَنْ يَقْرَأَهُ الشَّاهِدَانِ عَلَيْهِ . فَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا مَا فِيهِ وَدَفَعَهُ الْقَاضِي إِلَيْهِمَا مَخْتُومًا لِيَشْهَدَا بِهِ ، لَمْ يَجُزْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ . وَجَوَّزَهُ أَبُو يُوسُفَ وَهَذَا فَاسِدٌ : لِإِمْكَانِ التَّزْوِيرِ عَلَى الْخَتْمِ ، كَإِمْكَانِهِ عَلَى الْخَطِّ ، وَلِأَنَّهُ تَحَمُّلُ شَهَادَةٍ ، فَلَمْ يَجُزْ إِلَّا بِمَعْلُومٍ . فَإِنْ أَرَادَ الشَّاهِدَانِ فِي الْكِتَابِ الْمَخْتُومِ أَنْ يَشْهَدَا بِالْكِتَابِ ، وَلَا يَشْهَدَا بِمَا فِيهِ ، فَفِي جَوَازِهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ بِكِتَابٍ مُعَيَّنٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِهِ لَا تُفِيدُ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا مَا فِيهِ . وَلَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتِبِ قَبُولُهُ لِلْحُكْمِ بِمَا فِيهِ إِلَّا بِشَهَادَةِ غَيْرِهِمَا . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَقُولَهُ الْقَاضِي لَهُمَا : هَذَا كِتَابِي إِلَى الْقَاضِي فُلَانٍ فَاشْهَدَا عَلَيَّ بِمَا فِيهِ فَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُمَا هَذَا كِتَابِي إِلَى فُلَانٍ وَاقْتَصَرَ بِهِمَا عَلَى عُنْوَانِهِ لَمْ يَجُزْ . وَإِنْ قَالَ لَهُمَا : هَذَا كِتَابِي إِلَى فُلَانٍ وَلَمْ يَسْتَرْعِهِمَا الشَّهَادَةَ وَلَا قَالَ اشْهَدَا عَلَيَّ بِمَا فِيهِ ، فَفِي صِحَّةِ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ بِهَذَا الْقَوْلِ وَحْدَهُ وَجْهَانِ ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي جَوَازِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُقِرِّ بِالسَّمَاعِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْعَاءِ الْمُقِرِّ لِلشُّهُودِ ، فَإِنْ قِيلَ لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِالسَّمْعِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِدْعَائِهِمَا ، لَمْ يَصِحَّ هَذَا التَّحَمُّلُ ، وَلَمْ يَجُزْ مَعَهُ الْأَدَاءُ وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِهِ ، جَوَّزَ هَذَا فِي التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ لَا يَغِيبَ الْكِتَابُ عَنْهُمَا بَعْدَ تَحَمُّلِ مَا فِيهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَا قَدْ كَتَبَا

فِيهِ شَهَادَتُهُمَا ، لِيَتَذَكَّرَا بِهِ صِحَّةَ الْكِتَابِ وَمَعْرِفَتَهُ ، فَإِنْ غَابَ الْكِتَابُ عَنْهُمَا قَبْلَ إِثْبَاتِ خَطَّهِمَا فِيهِ ، أَوِ ارْتَابَا بِهِ بَعْدَ الْخَطِّ لَمْ يَصِحَّ التَّحَمُّلُ ، إِلَّا أَنْ يُعِيدَ الْقَاضِي قِرَاءَتَهُ عَلَيْهِمَا وَيَقُولَ لَهُمَا : هَذَا هُوَ كِتَابِي الَّذِي أَشْهَدْتُكُمَا عَلَيَّ بِمَا فِيهِ إِلَى الْقَاضِي فُلَانٍ : لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُبَدِّلَهُ فِي الْغَيْبَةِ بِغَيْرِهِ . وَأَمَّا شُرُوطُ أَدَائِهِ إِلَى الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ فَثَلَاثَةٌ : أَحَدُهَا : أَنْ يَسْتَدِيمَ الثِّقَةَ بِصِحَّةِ الْكِتَابِ ؟ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ . إِمَّا أَنْ لَا يَخْرُجَ الْكِتَابُ عَنْ أَيْدِيهِمَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَا قَدْ أَثْبَتَا فِيهِ خُطُوطَهُمَا ، حَتَّى يُحَقِّقَا عَلَامَتَهُمَا فِيهِ ، فَإِنْ تَشَكَّكَا فِيهِ لَمْ يَصِحَّ أَدَاؤُهُمَا . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَصِلَ إِلَى الْقَاضِي بِمَشْهَدِهِمَا ، إِمَّا مِنْ أَيْدِيهِمَا ، أَوْ مِنْ يَدِ الطَّالِبِ بِحَضْرَتِهِمَا فَإِنْ لَمْ يُشَاهِدَا وُصُولَهُ لَمْ يَصِحَّ الْأَدَاءُ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يَشْهَدَا عِنْدَ الْقَاضِي بِمَا فِيهِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ دُونَ الْخَبَرِ فَإِنْ قَالَاهُ بِلَفْظِ الْخَبَرِ دُونَ الشَّهَادَةِ أَوْ شَهِدَا بِالْكِتَابِ وَلَمْ يَشْهَدَا بِمَا فِيهِ لَمْ يَصِحَّ الْأَدَاءُ لِلْحُكْمِ .

فَصْلٌ : مَا يُمْضِيهِ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ حُكْمِهِ . وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ : وَهُوَ فِيمَا يُمْضِيهِ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ حُكْمِهِ ، فَكِتَابُهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى نَقْلِ مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ إِقْرَارٍ وَشَهَادَةٍ ، فَيَثْبُتُ بِالْكِتَابِ عِنْدَ الثَّانِي مَا ثَبَتَ عِنْدَ الْأَوَّلِ مِنْ إِقْرَارٍ أَوْ شَهَادَةٍ ، وَيَتَوَلَّى الثَّانِي إِنْفَاذَ الْحُكْمِ فِيهِ بِرَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ ، فَإِنِ اخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُمَا فِيهِ ، كَانَ مَحْمُولًا عَلَى اجْتِهَادِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ، لِاخْتِصَاصِ الثَّانِي بِتَنْفِيذِ الْحُكْمِ فِيهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ مُشْتَمِلًا عَلَى ذِكْرِ الشَّهَادَةِ وَإِمْضَاءِ الْحُكْمِ بِهَا ، فَلَا يَخْلُو حَالُ حُكْمِهِ عِنْدَهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ جَائِزًا ، لَا يُخَالِفُهُ فِيهِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُمْضِيَهُ لِطَالِبِهِ وَيَأْخُذَ الْمَطْلُوبَ بِأَدَائِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ بَاطِلًا لَا مَسَاغَ لَهُ فِي الِاجْتِهَادِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْقُضَهُ . فَإِنِ اقْتَرَنَ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، كَالنِّكَاحِ ، وَالطَّلَاقِ ، نَقَضَهُ وَإِنْ لَمْ يُطَالِبْ بِنَقْضِهِ ، وَإِنْ تَفَرَّدَ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ نَقْضُهُ إِلَّا أَنْ يُطَالِبَهُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِنَقْضِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مُحْتَمِلًا لِلِاجْتِهَادِ ، لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ أَصْلَيْنِ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ فِيهِ إِلَى غَيْرِ مَا حَكَمَ بِهِ الْكَاتِبُ ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُمْضِيَهُ ، لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ بَاطِلٌ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ ، لِاحْتِمَالِهِ فِي الِاجْتِهَادِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَطْلُوبَ بِأَدَائِهِ : لِأَنَّهُ غَيْرُ

مُسْتَحَقٍّ عِنْدَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ الطَّالِبَ مِنْهُ ، لِنُفُوذِ الْحُكْمِ بِهِ ، وَقَالَ لِلْمَطْلُوبِ : لَسْتُ أُوجِبُهُ عَلَيْكَ ، وَلَا أُسْقِطُهُ عَنْكَ ، وَقَالَ لِلطَّالِبِ : لَسْتُ أُوجِبُهُ لَكَ ، وَلَا أَمْنَعُكَ مِنْهُ ، فَإِنْ تَرَاضَيْتُمَا أَمْضَيْتُهُ عَلَى مَرْاضَاتِكُمَا ، وَإِنْ تَمَانَعْتُمَا تَرَكْتُكُمَا عَلَى تَنَازُعِكُمَا ، وَقَطَعْتُ التَّنَافُرَ بَيْنَكُمَا . وَيَخْرُجُ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا حَاكِمًا أَوْ مُسْتَوْفِيًّا . فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَا ضَمَنَّاهُ عِقْدَ الْبَابِ مِنَ الْأَقْسَامِ وَالْأَحْكَامِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

نَسْخُ الشَّاهِدَيْنِ الْكِتَابَ

نَسْخُ الشَّاهِدَيْنِ الْكِتَابَ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : ! وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِنَسْخِهِ كِتَابَةً فِي أَيْدِيهِمْ وَيُوَقِّعُوا شَهَادَاتِهِمْ فِيهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَهُوَ الْأَحْوَطُ فِي كُتُبِ الْقُضَاةِ ، أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ عَلَى نُسْخَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : مَعَ الطَّالِبِ مَخْتُومَةٌ وَالْأُخْرَى مَعَ الشَّاهِدَيْنِ مَفْضُوضَةٌ يَتَدَارَسَانِهَا ، لِيَحْفَظَا مَا فِيهَا ، وَتَكُونُ الَّتِي مَعَ الطَّالِبِ مَحْفُوظَةً بِالْخَتْمِ حَتَّى إِنْ ضَاعَتْ إِحْدَى النُّسْخَتَيْنِ ، أَوْ كِلَاهُمَا ، أَمْكَنَ الشَّاهِدَانِ إِذَا حَفِظَا مَا فِي الْكِتَابِ أَنْ يَشْهَدَا بِمَا فِيهِ . فَإِنِ اقْتَصَرَ الْقَاضِي فِي الْكِتَابِ عَلَى نُسْخَةٍ وَاحِدَةٍ جَازَ ، وَلَهُ فِيهِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَدْفَعَ الْكِتَابَ إِلَى الشَّاهِدَيْنِ دُونَ الطَّالِبِ ، فَيَجُوزُ وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ خَتْمِهِ وَتَرْكِهِ وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَخْتِمَهُ إِذَا كَانَ مَعَهُمَا لِيَتَدَارَسَاهُ وَيَحْفَظَا مَا فِيهِ حَتَّى يَشْهَدَا بِهِ لَفَظًا إِنْ ضَاعَ مِنْهُمَا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَدْفَعَ الْقَاضِي الْكِتَابَ إِلَى الطَّالِبِ دُونَ الشَّاهِدَيْنِ ، فَعَلَى الْقَاضِي مِنَ الِاحْتِيَاطِ فِيهِ أَنْ يَخْتِمَهُ بِخَاتَمِهِ وَعَلَى الشَّاهِدَيْنِ مِنَ الِاحْتِيَاطِ فِي الشَّهَادَةِ بِهِ أَنْ يُوَقِّعَا فِيهِ خَطَّهُمَا وَيَخْتِمَاهُ بِخَتْمِهِمَا ، لِيَكُونَ ذَلِكَ عَلَامَةً لَهُمَا فِي نَفْسِ الِارْتِيَابِ عَنْهُمَا ، وَيَكُونُ خَتْمُهُمَا فِي دَاخِلِ الْكِتَابِ وَخَتْمُ الْقَاضِي عَلَى ظَهْرِهِ مَعْطُوفًا . فَإِنِ اقْتَصَرَ الشَّاهِدَانِ عَلَى الْخَطِّ دُونَ الْخَتْمِ جَازَ ، وَإِنْ تَرَكَا زِيَادَةَ الِاحْتِيَاطِ . فَإِذَا وَصَلَ الطَّالِبُ وَالشَّاهِدَانِ إِلَى الْقَاضِي الْمُكَاتِبِ ، تَفَرَّدَ الطَّالِبُ بِخِطَابِهِ دُونَ الشَّاهِدَيْنِ ، وَكَانَ أَوَّلُ كَلَامِهِ مُسْتَعْدِيًا إِلَيْهِ ، وَلَمْ يَكُنْ مُدَّعِيًا عِنْدَهُ ، فَيَقُولُ : أَنَا أَسْتَعْدِيكَ عَلَى فُلَانٍ فِي حَقٍّ لِي عَلَيْهِ ، أَوْ فِي يَدِهِ وَقَدْ مَنَعَنِي مِنْهُ . وَيَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ، وَلَا يَذْكُرَ الْكِتَابَ وَلَا حُضُورَ الشُّهُودِ وَلَا يَصِفَ الْحَقَّ وَلَا يَذْكُرَ قَدْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَجْلِسُ اسْتِعْدَاءٍ وَلَيْسَ مَجْلِسُ دَعْوَى ، وَيَسْأَلُهُ إِحْضَارَ خَصْمِهِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110