كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي


جَابِرٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْعُمْرَى لِمَنْ وَهَبَ فَأَمَّا قَوْلُهُ : " لَا تُعْمِرُوا ، وَلَا تُرْقِبُوا " فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا إِلَى مَاذَا يُوَجَّهُ النَّهْيُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُوَجَّهُ إِلَى الْحُكْمِ ، وَهَذَا أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ فِيهِ : لِأَنَّهُ قَالَ : فَمَنْ أَعْمَرَ شَيْئًا ، أَوْ أَرْقَبَهُ فَهُوَ سَبِيلُ الْمِيرَاثِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُوَجَّهُ إِلَى اللَّفْظِ الْجَاهِلِيِّ ، وَالْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ عَلَى مَا سَنَشْرَحُهُ مِنْ بَعْدُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ فِي الْجُمْلَةِ جَوَازُ الْعُمْرَى ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا هَلْ يُتَوَجَّهُ التَّمْلِيكُ فِيهَا إِلَى الرَّقَبَةِ أَمِ الْمَنْفَعَةِ ؟ منفعة العمرى عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ : التَّمْلِيكُ فِيهَا يُتَوَجَّهُ إِلَى الرَّقَبَةِ كَالْهِبَاتِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ : أَنَّ التَّمْلِيكَ فِيهَا مُتَوَجَّهٌ إِلَى الْمَنْفَعَةِ وَالرَّقَبَةِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ أَنَّ التَّمْلِيكَ فِي الْعُمْرَى يُتَوَجَّهُ إِلَى الرَّقَبَةِ ، وَفِي الْعُمْرَى مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْمَنْفَعَةِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ تَمْلِيكٌ بِهِمَا مَعًا الرَّقَبَةُ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْمَرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ ، فَإِنَّهُ لِلَّذِي يُعْطَاهَا لَا يَرْجِعُ إِلَى الَّذِي أَعْطَاهَا : لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ ، وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " جَعَلَ الْعُمْرَى لِلْوَارِثِ " وَلِأَنَّ لَفْظَ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى فِي قَوْلِهِمْ : قَدْ جَعَلْتُ دَارِي هَذِهِ لَكَ عُمْرِي أَوْ رُقْبَى مُتَوَجَّهٌ إِلَى الرُّقْبَى لِوُقُوعِ الْإِشَارَةِ إِلَيْهَا وَتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَوَجَّهَ التَّمْلِيكُ إِلَيْهَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى يَمْلِكُ بِهِمَا الرُّقْبَى ، فَسَنَشْرَحُ الْمَذْهَبَ فِيهَا وَنَبْدَأُ بِالْعُمْرَى مِنْهُمَا ، وَلِلْمُعْمِرِ فِي الْعُمْرَى ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقُولَ : قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَكَ . وَالثَّانِي : أَنْ يَقُولَ : قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرِي . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَقُولَ : قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرِي أَنَا . فَأَمَّا الْحَالُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَكَ أَوْ حَيَاتَكَ فما حكم الوقف ، فَلَا يَخْلُو فِي ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقُولَ : قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَكَ وَلِعَقِبِكَ مِنْ بَعْدِكَ ، أَوْ لِوَرَثَتِكَ بَعْدَكَ ، فَهَذِهِ


عَطِيَّةٌ جَائِزَةٌ وَتَمْلِيكٌ صَحِيحٌ ، قَدْ مَلَكَهَا الْمُعْمِرُ مِلْكًا تَامًّا ثُمَّ صَارَتْ لِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ هِبَةً نَاجِزَةً وَمِلْكًا صَحِيحًا ، وَتَمَامُهَا بَعْدَ عَقْدِ الْعُمْرَى بِالْقَبْضِ الَّذِي بِهِ تَتِمُّ الْهِبَاتُ ، وَلَيْسَ لِلْمُعْطِي بَعْدَ الْإِقْبَاضِ الرُّجُوعُ فِيهَا وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ مُخَيَّرًا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَقُولَ : قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ مُدَّةَ عُمْرِكَ عَلَى أَنَّكَ إِذَا مِتَّ عَادَتْ إِلَيَّ إِنْ كُنْتُ حَيًّا ، أَوْ إِلَى وَرَثَتِي إِنْ كُنْتُ مَيِّتًا الصيغة في العمرى ، فَهَذِهِ عَطِيَّةٌ وَتَمْلِيكٌ فَاسِدٌ : لِأَنَّ تَمْلِيكَ الْأَعْيَانِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَقَدَّرَ بِمُدَّةٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ عَلَى التَّأْبِيدِ لَمَّا كَانَ الشَّرْطُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا ثُمَّ هِيَ عَلَى مِلْكِ الْمُعْطِي سَوَاءٌ أَقَبْضَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ ، وَلَهُ اسْتِرْجَاعُهَا وَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهَا الْمُعْطَى ، أَوْ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِأَجْرِهَا مُدَّةَ تَصَرُّفِهِ فِيهَا : لِأَنَّهُ قَدْ أَبَاحَهُ إِيَّاهَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَقُولَ : قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ مُدَّةَ عُمْرِكَ ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فما حكم الوقف كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي ، وَلِأَنْ يَكُونَ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ رَوَاهُ الزَّعْفَرَانِيُّ عَنْهُ : أَنَّهُ عَطِيَّةٌ بَاطِلَةٌ لِتَقْدِيرِهَا بِمُدَّةِ الْحَيَاةِ ، وَلِأَنَّ جَابِرًا رَوَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْمَرَ لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَإِنَّهَا لِلَّذِي يُعْطَاهَا لَا يَرْجِعُ إِلَى الَّذِي أَعْطَاهَا : لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ فَجَعَلَ صَحِيحَ الْعَطِيَّةِ بِأَنْ يَجْعَلَهُ لَهُ وَلِعَقِبِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَجْعَلْهَا لِعَقِبِهِ لَمْ يَصِحَّ ، وَلِأَنَّهُ تَمْلِيكُ عَيْنٍ قُدِّرَ بِمُدَّةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَمَا لَوْ قَالَ : بِعْتُكَ دَارِي هَذِهِ عُمْرَكَ ، وَلِأَنَّهَا عُمْرَى مُقَدَّرَةٌ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ بَاطِلَةً كَمَا لَوْ قَالَ : قَدْ أَعْمَرْتُهَا سَنَةً ، وَلِأَنَّهُ إِذَا جَعَلَهَا لَهُ مُدَّةَ عُمْرِهِ فَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ الرُّجُوعَ إِلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَبْطُلُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يُورَثَ عَنْهُ فَيَصِحُّ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الصِّحَّةِ مَعَ الِاحْتِمَالِ الْفَاسِدِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ وَأَكْثَرِ الْقَدِيمِ أَنَّهَا عَطِيَّةٌ جَائِزَةٌ وَتَمْلِيكٌ صَحِيحٌ يَكُونُ لِلْمُعْطِي فِي حَيَاتِهِ ثُمَّ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِقَوْلِهِ عَنْهُ : لَا تُعْمِرُوا وَلَا تُرْقِبُوا ، فَمَنْ أَعْمَرَ شَيْئًا أَوْ أَرْقَبَهُ فَهُوَ سَبِيلُ الْمِيرَاثِ وَلِرِوَايَةِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الْعُمْرَى لِلْوَارِثِ ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَعْمَرَ أُمَّهُ عَبْدًا ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ نَازَعَهُ الْوَرَثَةُ فِيهِ فَقَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ مِيرَاثًا فَقَالَ الرَّجُلُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّمَا جَعَلْتُهُ لَهَا عُمْرَهَا فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : فَذَلِكَ أَبْعَدُ لَكَ وَلِأَنَّ الْأَمْلَاكَ الْمُسْتَقِرَّةَ إِنَّمَا يَتَقَدَّرُ زَمَانُهَا بِحَيَاةِ الْمَالِكِ ، ثُمَّ تَنْتَقِلُ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَى وَرَثَةِ الْمَالِكِ ، فَلَمْ يَكُنْ مَا جَعَلَهُ لَهُ مِنَ الْمِلْكِ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ مُنَافِيًا لِحُكْمِ الْأَمْلَاكِ ، وَإِذَا لَمْ تُنَافِيهِ اقْتَضَى أَنْ يَصِحَّ ، وَإِذَا صَحَّ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَوْرُوثًا فَأَمَّا الْبَيْعُ إِذَا قَالَ : بِعْتُكَهَا مُدَّةَ حَيَاتِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ فَرْقُ ابْنِ سُرَيْجٍ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ يَقْتَضِي فَسْخًا مُنْتَظَرًا ، وَالْبَيْعُ إِذَا كَانَ فِيهِ فَسْخٌ مُنْتَظَرٌ بَطَلَ ، وَالْهِبَةُ إِذَا كَانَ فِيهَا فَسْخٌ مُنْتَظَرٌ لَمْ تَبْطُلْ كَهِبَةِ الْأَبِ ؛ فَلِذَلِكَ بَطَلَ الْبَيْعُ بِهَذَا الشَّرْطِ ، وَلَمْ يَبْطُلِ الْعُمْرَى بِهَذَا الشَّرْطِ .


وَالْفَرْقُ الثَّانِي : وَهُوَ فَرْقُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ شُرُوطَ الْبَيْعِ تُقَابِلُ جَزَاءً مِنَ الثَّمَنِ ، فَإِذَا بَطَلَتْ سَقَطَ مَا قَابَلَهَا مِنْهُ فَأَفْضَى إِلَى جَهَالَةِ الثَّمَنِ ؛ فَلِذَلِكَ بَطَلَ الْبَيْعُ بِهَذَا الشَّرْطِ وَلَيْسَ فِي الْعُمْرَى ثَمَنٌ يَقْضِي هَذَا الشَّرْطُ إِلَى جَهَالَتِهِ ؛ فَلِذَلِكَ صَحَّتْ مَعَ الشُّرُوطِ . فَأَمَّا رِوَايَةُ جَابِرٍ أَنَّهُ أَعْمَرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ مَعَ بَاقِي الرِّوَايَاتِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي هِيَ عَلَى الْعُمُومِ إِذْ لَيْسَ تَتَنَافَى فِي ذَلِكَ ، فَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ التَّمْلِيكَ لِلرَّقَبَةِ لَا يَصِحُّ ، فَإِنَّ الْمِيرَاثَ فِيهَا لَا يُسْتَحَقُّ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ هَلْ يَمْلِكُ الْمُعْمِرُ الْمُعْطِي الِانْتِفَاعَ بِهَا مُدَّةَ حَيَاتِهِ أَمْ لَا ؟ للهبة عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَدْ مَلَكَ الِانْتِفَاعَ بِهَا مُدَّةَ حَيَاتِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الِانْتِفَاعَ بِهَا : لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مُتَوَجَّهٌ إِلَى الرَّقَبَةِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَإِذَا بَطَلَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَوْ تَصَرَّفَ فِيهَا الْمُعْطِي وَانْتَفَعَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أُجْرَةٌ : لِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ لَهُ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يُضْمَنُ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ لَا يُضْمَنُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ ، وَلَكِنْ لَوْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ ، فَإِنْ كَانَ تَلَفُهَا مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ لَمْ يَضْمَنْ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَإِنْ كَانَ تَلَفُهَا بِفِعْلِهِ ضَمِنَهَا : لِأَنَّهُ عُدْوَانٌ ، وَهُوَ غَيْرُ مَالِكٍ لَهَا ، فَهَذَا حُكْمُ قَوْلِهِ : ( قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ مُدَّةَ عُمْرِكَ ) ، وَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ الْعَطِيَّةَ صَحِيحَةٌ ، وَأَنَّ الْعُمْرَى مَوْرُوثَةٌ فَلَا رَجْعَةَ لِلْمُعْمِرِ الْمُعْطِي فِيهَا بَعْدَ الْقَبْضِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : وَهُوَ أَنْ يَقُولَ - : قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَى إِشَارَةً إِلَى عَقْدِ الْعُمْرَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَدِّرَ ذَلِكَ بِعُمْرِ أَحَدٍ للهبة ، فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ ، لِلنَّهْيِ عَنْهَا ، وَلَا يَمْلِكُ بِهَا الْمُعْمِرِ الْمُعْطِي الْمَنْفَعَةَ مُدَّةَ حَيَاتِهِ كَمَا لَا يَمْلِكُ لِرَقَبَتِهِ وَجْهًا وَاحِدًا : لِأَنَّنَا قَدْ دَلَلْنَا عَلَى أَنَّ التَّمْلِيكَ بِالْعُمْرَى مُتَوَجَّهٌ إِلَى الرَّقَبَةِ ، فَإِذَا بَطَلَ لَمْ يَمْلِكْ بِهَا الْمَقْصُودَ بِهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَضْمَنِ الْأُجْرَةَ إِنْ سَكَنَ أَوْ تَصَرَّفَ ، فَلَوْ كَانَتِ الْعُمْرَى نَخْلًا فَأَثْمَرَتْ لَمْ يَمْلِكِ الثَّمَرَةَ ، وَلَوْ كَانَتْ شَاةً فَنَتَجَتْ لَمْ يَمْلِكِ الْوَلَدَ ، فَإِنْ تَلِفَتِ الثَّمَرَةُ فِي يَدِهِ وَهَلَكَ الْوَلَدُ ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ لَمْ يَضْمَنْ ، وَإِنْ كَانَتْ بِفِعْلِهِ ضَمِنَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهَا جَائِزَةٌ ، وَهِيَ مِلْكٌ لَهُ فِي حَيَاتِهِ ثُمَّ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ لِرِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لَهُ وَلِعَقِبِهِ يَرِثُهَا مَنْ يَرِثُهُ مِنْ عَقَبِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ مُدَّةَ عُمْرِي ، أَوْ جَعَلْتُهَا عُمَرَ زَيْدٍ للهبة ، وَالْحَكَمُ فِيهِمَا وَاحِدٌ ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا عَطِيَّةٌ بَاطِلَةٌ : لِأَنَّهُ لَا يُمَلِّكُهُ إِيَّاهَا عُمْرَهُ فَيُورَثُ عَنْهُ ، وَلَا جَعَلَهَا عُمْرَى فَيَسْتَعْمِلُ فِيهَا الْخَبَرَ ، وَإِنَّمَا قَدَّرَ ذَلِكَ بِعُمْرِ نَفْسِهِ أَوْ عُمْرِ أَجْنَبِيٍّ ، فَاقْتَضَى لِمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِ الْأَصْلِ خُرُوجُهَا مِنْ حُكْمِ النَّفْيِ أَنْ تَبْطُلَ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : قَدْ أَعْمَرْتُكَهَا


سَنَةً ، أَوْ شَهْرًا كَانَتْ كَذَلِكَ فِي الْبُطْلَانِ ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُغَلِّبُ فِيهَا حُكْمَ الْعُمْرَى ، وَيُخَرِّجُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ وَهُوَ خَطَأٌ لِمَا بَيَّنَاهُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الرُّقْبَى أحكامها ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَشْتَرِطَ ارْتِقَابَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فَيَقُولُ : قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ رُقْبَى تَرْقُبُنِي وَأَرْقُبُكَ ، فَإِنْ مِتَّ قَبْلِي رَجَعَتْ إِلَيَّ ، وَإِنْ مُتُّ قَبْلَكَ فَهِيَ لَكَ ، فَهَذِهِ عَطِيَّةٌ بَاطِلَةٌ ، لِمَا فِي هَذَا الشَّرْطِ مِنْ مُنَافَاةِ الْمِلْكِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ ، بَلْ يَقُولُ : قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ رُقْبَى ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ لَا يَحْصُلُ بِهِ التَّمْلِيكُ اعْتِبَارًا بِمَقْصُودِ اللَّفْظِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الْجَدِيدُ أَنَّهَا عَطِيَّةٌ جَائِزَةٌ يَمْلِكُهَا الْمُعْطِي أَبَدًا مَا كَانَ حَيًّا وَيُورَثُ عَنْهُ إِنْ مَاتَ سَوَاءٌ كَانَ الْمُعْطِي حَيًّا أَوْ مَيِّتًا ؛ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : فَمَنْ أَعْمَرَ شَيْئًا ، أَوْ أَرْقَبَهُ فَهُوَ سَبِيلُ الْمِيرَاثِ

بَابُ عَطِيَّةِ الرَّجُلِ وَلَدَهُ



بَابُ عَطِيَّةِ الرَّجُلِ وَلَدَهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَعَنْ مُحَمَدِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ يُحَدِّثَانِهِ ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلَامًا كَانَ لِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَ هَذَا ؟ قَالَ : لَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَلَيْسَ يَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا فِي الْبِرِّ إِلَيْكَ سَوَاءً ؟ فَقَالَ : بَلَى قَالَ : فَارْجِعْهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : وَبِهِ نَأْخُذُ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أُمُورٍ مِنْهَا : حُسْنُ الْأَدَبِ فِي أَنْ لَا يُفَضِّلَ ، فَيَعْرِضُ فِي قَلْبِ الْمَفْضُولِ شَيْءٌ يَمْنَعُهُ مِنْ بِرِّهِ ، فَإِنَّ الْقَرَابَةَ يَنْفَسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مَا لَا يَنْفَسُ الْعِدَى ، وَمِنْهَا أَنَّ إِعْطَاءَهُ بَعْضَهُمْ جَائِزٌ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : فَارْجِعْهُ وَمِنْهَا أَنَّ لِلْوَالِدِ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا أَعْطَى وَلَدَهُ ، وَقَدْ فَضَّلَ أَبُو بَكْرٍ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِنَخْلٍ ، وَفَضَّلَ عُمَرُ عَاصِمًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِشَيْءٍ أَعْطَاهُ إِيَاهُ ، وَفَضَّلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَلَدَ أُمِّ كُلْثُومٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . أَفْضَلُ الْهِبَاتِ صِلَةُ ذَوِي الْأَرْحَامِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : خَيْرُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الْأَرْحَامِ الْكَاشِحِ فَإِذَا وَهَبَ لِوَلَدٍ فَيَخْتَارُ التَّسْوِيَةَ فِي الْهِبَةِ ، وَلَا يُفَضِّلُ ذَكَرًا عَلَى أُنْثَى ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ مَذْهَبُ شُرَيْحٍ ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ ، وَأَحْمَدَ ، وَإِسْحَاقَ إِلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُعْطِيَ الذَّكَرَ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ اسْتِدْلَالًا بِقِسْمَتِهِ لِأَحَدِهِمْ سَهْمٌ فِي الْمَوَارِيثِ . وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ عِكْرِمَةُ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : سَوُّوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ وَلَوْ كُنْتُ مُفَضِّلًا لَفَضَّلْتُ الْبَنَاتَ وَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ حَمْلِهِمْ عَلَى الْمَوَارِيثِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَا يُسَوِّي بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ ، كَالْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ ، وَكَالْأَبَوَيْنِ مَعَ الِابْنِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ

مَسْأَلَةٌ : فَإِنْ لَمْ يُسَوِّ بَيْنَهُمْ وَخَصَّ بِالْهِبَةِ فما حكم هبة الأب هذه بَعْضَهُمْ كَانَتِ الْهِبَةُ جَائِزَةً وَإِنْ أَسَاءَ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَقَالَ طَاوُسٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَدَاوُدُ : الْهِبَةُ بَاطِلَةٌ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبَشِيرٍ : أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَهُ ؟ قَالَ : فَارْجِعْهُ ، وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : فَأَشْهِدْ غَيْرِي عَلَى التَّبَرُّؤِ مِنْ فِعْلِهِ وَدَلَّ قَوْلُهُ :


هَذَا جَوْرٌ ، عَلَى ذَمِّ فِعْلِهِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ تَفْضِيلَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ يُؤَدِّي إِلَى عُقُوقِ بَاقِيهِمْ ، وَمَا نُصِبَ عَلَى الْعُقُوقِ فَهُوَ عُقُوقٌ ، وَالْعُقُوقُ حَرَامٌ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : فَارْجِعْهُ فَلَوْلَا تَعُودُ الْهِبَةُ لَمَا أَمَرَهُ بِالِاسْتِرْجَاعِ ثُمَّ قَوْلُهُ : أَشْهِدْ غَيْرِي دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ : لِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَشْهَدَ فِيهِ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَشْهَدَ فِيهِ ، وَإِنَّمَا أَمْرُهُ بِإِشْهَادِ غَيْرِهِ اسْتِئْنَافًا ، وَهَذَا جَوَابٌ ، وَدَلِيلُ قَوْلِهِ : هَذَا جَوَابٌ ؛ أَيْ : مَيْلٌ يُقَالُ : فَجَازَ السَّهْمُ ، إِذَا مَالَ عَنِ الرَّمْيَةِ فَقَالَ ذَلِكَ : لِأَنَّهُ مَالَ إِلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَصَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِنَحْلِ عِشْرِينَ وُسْقًا مِنْ تَمْرٍ ، وَقَالَ : وَدِدْتُ أَنَّكِ قَدْ قَبَضْتِيهِ وَهُوَ الْيَوْمَ مِنْ مَالِ الْوَارِثِ ، وَفَضَّلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَاصِمًا بِنَخْلٍ ، وَخَصَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَلَدَ أُمِّ كُلْثُومٍ ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَجْمَعَ جَمِيعَهُمْ ، جَازَ أَنْ يُعْطِيَ جَمِيعَهُمْ ، جَازَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِجَمِيعِهِمْ كَالْأَجَانِبِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتْ هِبَةُ بَعْضِ الْأَوْلَادِ لِلْأَبِ جَازَتْ هِبَةُ الْأَبِ لِبَعْضِ الْأَوْلَادِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوِ اتَّصَلَ حَدِيثُ طَاوُسٍ " لَا يَحِلُّ لِوَاهِبٍ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَ إِلَّا لَوَالِدٍ فِيمَا يَهَبُ لِوَلَدِهِ " لَقُلْتُ بِهِ ، وَلَمْ أُرِدْ وَاهِبًا غَيْرَهُ وَهَبَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَالْحَدِيثُ مُتَّصِلٌ ، وَلَيْسَ لِوَاهِبٍ أَقْبَضَ مَا وَهَبَ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَالِدًا فَيَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ ، فَأَمَّا مَنْ سِوَاهُ فَلَا رُجُوعَ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ أَجْنَبِيًّا أَوْ ذَا رَحِمٍ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إِنْ وَهَبَ لِذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ لَهُ ، وَإِنْ وَهَبَ لِذِي غَيْرِ رَحِمٍ جَازَ الرُّجُوعُ ، فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَالْكَلَامُ مَعَهُ فِي فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : جَوَازُ رُجُوعِ الْأَبِ فِي هِبَتِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَمْنَعُ مِنْهُ . وَالثَّانِي : مَنْعُ الْأَجْنَبِيِّ مِنَ الرُّجُوعِ فِي هِبَتِهِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ جَوَازُ رُجُوعِ الْأَبِ فِي هِبَتِهِ ، فَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ رُجُوعِهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ فَكَانَ عُمُومُ هَذَا يَمْنَعُ مِنْ رُجُوعِهِ فِيمَا مَلَكَ الِابْنُ عَنْهُ ، وَبِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِيهِ وَبِمَا رَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ وَهَبَ لِذِي رَحِمٍ لَمْ يَرْجِعْ ، وَمَنْ وَهَبَ لَغَيْرِ ذِي رَحِمٍ رَجَعَ مَا لَمْ يَبِتْ قَالَ : وَلِأَنَّ الْهِبَةَ لِذِي الرَّحِمِ صَدَقَةٌ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا ثَوَابُ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ


الْمُكَافَأَةِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ فِي الصَّدَقَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ لِذِي الرَّحِمِ ، وَلِأَنَّ فِي الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ عُقُوقًا ، وَعُقُوقُ ذِي الرَّحِمِ حَرَامٌ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَهَبَ بِشَرْطِ الثَّوَابِ فَأُثِيبَ لَمْ يَرْجِعْ ، وَهَذَا قَدْ أُثِيبَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي هِبَةِ الرَّحِمِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبَشِيرٍ فِي هِبَتِهِ لِنُعْمَانَ مِنْ بَيْنِ وَلَدِهِ : فَارْجِعْهُ فَلَوْلَا أَنَّ رُجُوعَهُ جَائِزٌ لَمَا أَمَرَهُ بِهِ ، وَلَكَانَ الْأَوْلَى لَوْ فَعَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ ، وَرَوَى عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ ، عَنْ طَاوُسٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَا يَجُوزُ لِرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَةً ، أَوْ يَهَبَ هِبَةً فَيَرْجِعَ فِيهَا إِلَّا الْوَالِدُ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ ، وَمَثَلُ الَّذِي يُعْطِي الْعَطِيَّةَ وَيَرْجِعُ فِيهَا كَمَثَلِ الْكَلْبِ يَأْكُلُ فَإِذَا شَبِعَ قَاءَ ثُمَ عَادَ فِي قَيْئِهِ ، وَهَذَا نَصٌّ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِلًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، وَقَدْ ثَبَتَ اتِّصَالُهُ ، وَبِهَذَا يَخُصُّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ عُمُومِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ ، وَيُتَمِّمُ مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ مِنْ بَقِيَّةِ الْخَبَرِ الثَّانِي ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَوْلَادُكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ ، فَكُلُوا مِنْ طَيِّبِ كَسْبِكُمْ ، فَمَيَّزَ الْوَلَدَ مِنْ غَيْرِهِ وَجَعَلَهُ كَسْبًا لِوَالِدِهِ ، فَكَانَ مَا كَسَبَهُ الْوَلَدُ مِنْهُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ كَسْبِهِ ، وَقَدْ يَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاعْتِلَالِ قِيَاسٌ فَيُقَالُ : لِأَنَّهُ وَهَبَ كَسْبَهُ لِكَسْبٍ غَيْرِ مُعْتَاضٍ عَنْهُ ، فَجَازَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ كَمَا لَوْ وَهَبَ لِعَبْدِهِ ، وَلِأَنَّ مَا لِلْوَلَدِ فِي يَدِ وَالِدِهِ لِجَوَازِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ إِذَا كَانَ صَغِيرًا وَأَخَذَ النَّفَقَةَ مِنْهُ إِذَا كَانَ كَبِيرًا فَصَارَتْ هِبَةً لَهُ ، وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ يَدِهِ فِي حُكْمِ مَا وَهَبَهُ وَهُوَ بَاقٍ فِي يَدِهِ ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَهُ لِغَيْرِهِ إِذَا لَمْ يَقْبِضْهُ لِبَقَائِهِ فِي يَدِهِ جَازَ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ وَإِنْ أَقْبَضَهُ : لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْبَاقِي فِي يَدِهِ ، وَتَحْرِيرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسًا أَنَّهَا هِبَةٌ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِيهَا فَجَازَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا قِيَاسًا عَلَى مَا لَمْ يَقْبِضْ ، وَلِأَنَّ الْأَبَ لِفَضْلِ حُنُوِّهِ تُبَايِنُ أَحْكَامُهُ أَحْكَامَ غَيْرِهِ فَلَا يُعَادِيهِ ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي يَدَيْهِ بِالتَّزْوِيجِ ، وَفِي مَالِهِ بِالْعُقُودِ لِفَضْلِ الْحُنُوِّ وَانْتِفَاءِ التُّهَمِ ، فَجَازَ أَنْ يُخَالِفَ غَيْرَهُ فِي جَوَازِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ : لِأَنَّ انْتِفَاءَ التُّهْمَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ رُجُوعَهُ فِيهَا لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ مِنْهُ إِلَيْهَا ، وَلِأَنَّنَا وَأَبَا حَنِيفَةَ قَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى الْفَرْقِ فِي الْهِبَةِ بَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ وَذِي الرَّحِمِ ، فَلِأَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ فِيهَا مَعَ ذِي الرَّحِمِ الْمُبَاعِضِ دُونَ الْأَجْنَبِيِّ الهبة أَوْلَى مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ دُونَ ذِي الرَّحِمِ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ : أَحَدُهَا : النَّصُّ الْمُعَاضِدُ . وَالثَّانِي : الْبَعْضِيَّةُ الْمُمَازَجَةُ . وَالثَّالِثُ : التَّمْيِيزُ بِالْأَحْكَامِ الْمَخْصُوصَةِ ، وَفِي هَذِهِ الْمَعَانِي جَوَابٌ ، وَجَوَابُهُمْ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِالثَّوَابِ ، فَهُوَ أَنَّهُ إِذَا أَثْبَتَ بِالْمَالِ فَقَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ الْبَدَلُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ جَامِعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُبْدَلِ ، فَخَالَفَ مَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ الْبَدَلُ عَلَى أَنَّ ثَوَابَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ فِي الْهِبَةِ غَيْرُ الرَّاجِعِ فِيهَا مِنَ الْأَبِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي أَنَّ غَيْرَ الْأَبِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ ، وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا ، اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ عَمْرٍو . وَدَلِيلُنَا مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ طَاوُسٍ أَنَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَ لَهُ الْقَصَاصُ عَلَى وَاهِبِهِ


لَمْ يَمْلِكْ وَاهِبُهُ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ فِي هِبَتِهِ كَالْأَخِ طَرْدًا ، وَالْوَالِدِ عَكَسًا ، وَلِأَنَّ انْتِفَاءَ الْقَرَابَةِ تَمْنَعُ مِنَ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ الْمَقْبُوضَةِ كَالزَّوْجَيْنِ ، وَلِأَنَّهَا هِبَةٌ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ ، فَلَمْ يَجُزِ الرُّجُوعُ فِيهَا بِحُكْمِ حَاكِمٍ كَالْهِبَةِ عَلَى الثَّوَابِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَيْسَ لِغَيْرِ الْوَالِدِ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْجَدِّ وَالْجَدَّةِ ، وَمَنَعَ مَالِكٌ الْأُمَّ وَالْجَدَّ أَنْ يَرْجِعَا فِي هِبَتِهِمَا تَعَلُّقًا بِحَقِيقَةِ الْأُمِّ فِي الْوَلَدِ فَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ : لِأَنَّ كُلَّهُمْ وَالِدٌ فِيهِ بَعْضِيَّةٌ ، فَأَمَّا الْوَلَدُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ فِي هِبَتِهِ لِلْوَالِدِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَرْقِ وَفَضْلِ الْحُنُوِّ وَحَقِّ الْوِلَايَةِ وَجَوَازِ التَّصَرُّفِ ، فَإِذَا صَحَّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَالِدٌ وَوَالِدَةٌ أَوْ جَدٌّ أَوْ جَدَّةٌ وَهَبَ ، فَلَهُ الرُّجُوعُ فِي هِبَتِهِ سَوَاءٌ قَالَ الْأَبُ : قَصَدْتُ بِالْهِبَةِ بِرَّهُ ، فَعَقَّ وَلَمْ يَبِرَّ ، أَوْ قَالَ : لَمْ أَقْصِدْ ذَلِكَ ، وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ : إِنَّمَا يَرْجِعُ الْأَبُ فِي هِبَتِهِ إِذَا قَالَ : قَصَدْتُ بِهَا بِرَّهُ وَظُهُورَ إِكْرَامِهِ ، وَلَمْ يَبِرَّ وَلَمْ يُكْرِمْ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِنْ لَمْ يُقُلْ ذَلِكَ وَيَدَّعِيهِ ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عُمُومُ الْخَبَرِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا جَازَ بِهِ الرُّجُوعُ فَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِيهِ ، كَمَا أَنَّ مَا لَا يَجُوزُ بِهِ الرُّجُوعُ فَهَذَا غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِيهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا تَصَدَّقَ الْأَبُ عَلَى وَلَدِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْهِبَاتِ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الصَّدَقَاتِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ، صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ، عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا ، مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا .

فَصْلٌ : وَلَوْ تَدَاعَا رَجُلَانِ طِفْلًا وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا : هُوَ ابْنِي ثُمَّ وَهَبَا لَهُ هِبَةً فهل لأحدهما الرجوع في هبته لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّجُوعُ فِي هِبَتِهِ : لِأَنَّهُ لَا يَحْكُمُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأُبُوَّتِهِ ، فَإِنِ انْتَفَى عَنْ أَحَدِهِمَا وَلَحِقَ بِالْآخَرِ فَهَلْ لِمَنْ لَحِقَ بِهِ الرُّجُوعُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ هِبَتِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَرْجِعُ لِثُبُوتِ أُبُوَّتِهِ . وَالثَّانِي : لَا يَرْجِعُ لِأَنَّهُ حِينَ وَهَبَ كَانَ مِمَّنْ لَا يَرْجِعُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا وَهَبَ الْأَبُ لِأَوْلَادِهِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ فِي نَفْسِهِ لِبَعْضِهِمْ جَازَ ، وَفِي كَرَاهِيَتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُكْرَهُ لَهُ اسْتِرْجَاعُ الْهِبَةِ مِنْ بَعْضِهِمْ حَتَّى يَسْتَرْجِعَهَا مِنْ جَمِيعِهِمْ ، كَمَا يُكْرَهُ لَهُ الْهِبَةُ لِبَعْضِهِمْ حَتَّى يَهَبَ لِجَمِيعِهِمْ . وَالثَّانِي : لَا يُكَرَهُ : لِأَنَّ الْخَبَرَ فِي التَّسْوِيَةِ فِي الْعَطَاءِ لَا فِي الْمَنْعِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا وَهَبَ لِابْنِهِ هِبَةً فَبَاعَهَا الِابْنُ ، أَوِ اسْتَهْلَكَهَا فَلَيْسَ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ بِبَدَلِهَا ، وَإِنَّمَا


يَرْجِعُ لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي يَدِهِ ، وَهَكَذَا لَوْ رَهَنَهَا الِابْنُ لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ بِهَا مَا كَانَتْ رَهْنًا ، فَإِنِ افْتَكَّهَا الِابْنُ جَازَ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ بِهَا ، وَلَوْ بَاعَهَا الِابْنُ ثُمَّ ابْتَاعَهَا أَوْ وَرِثَهَا ، فَهَلْ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ فِيهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَرْجِعُ بِهَا ، لِبَقَائِهَا فِي يَدِهِ . وَالثَّانِي : لَا يَرْجِعُ بِهَا ، لِخُرُوجِهَا عَنْ مِلْكِ الِابْنِ .

فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي يَدِ الِابْنِ ، ثُمَّ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِفَلَسِهِ أي الهبة فَفِي جَوَازِ رُجُوعِ الْأَبِ بِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَرْجِعُ بِهَا ، لِبَقَائِهَا فِي يَدِهِ . وَالثَّانِيَةُ : لَا يَرْجِعُ بِهَا ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهَا .

فَصْلٌ : وَلَوْ وَهَبَ الْأَبُ لِابْنِهِ هِبَةً ثُمَّ وَهَبَهَا الِابْنُ لِابْنِهِ فهل للأب الرجوع فيها جَازَ لِلِابْنِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى ابْنِهِ ، وَهَلْ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ بِهَا عَلَى ابْنِ ابْنِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَرْجِعُ بِهَا : لِأَنَّهُ ابْنُ ابْنِهِ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِهِبَتِهِ . وَالثَّانِي : لَا يَرْجِعُ بِهَا : لِأَنَّهُ غَيْرُ الْوَاهِبِ لَهُ ، فَعَلَى هَذَا لَوِ اسْتَرْجَعَهَا الِابْنُ مِنَ ابْنِهِ فَفِي رُجُوعِ الْأَبِ بِهَا وَجْهَانِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ وَهَبَ لِابْنِهِ جَارِيَةً فَأَعْتَقَهَا الِابْنُ ، أَوْ دَارًا فَوَقَفَهَا لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ بِهَا وَلَا بِقِيمَتِهَا : لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكَةِ ، وَهَكَذَا لَوْ وَطِئَ الِابْنُ الْجَارِيَةَ فَأَحْبَلَهَا لَا يُمْكِنُ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ بِهَا وَلَا بِقِيمَتِهَا : لَأَنَّ مَنْ مَلَكَ أُمَّ الْوَلَدِ لَا يَجُوزُ أَنْ تَنْتَقِلَ إِلَى مَالِكٍ آخَرَ ، وَلَكِنْ لَوْ لَمْ يُحَبِّلْهَا جَازَ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ بِهَا ، ثُمَّ وَطِئَهَا حَرَامٌ عَلَيْهِ : لِأَنَّهَا صَارَتْ مَنْ حَلَائِلِ أَبْنَائِهِ ، وَلَيْسَ لِلْأَبِ مُطَالَبَتُهُ بِأَرْشِ التَّحْرِيمِ ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَتِ الْأَمَةُ بِكْرًا فَافْتَضَّهَا الِابْنُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِأَرْشِ الْبَكَارَةِ ، فَلَوْ جَنَى عَلَيْهَا فِي يَدِ الِابْنِ جِنَايَةً أَخَذَ أَرْشَهَا ، ثُمَّ رَجَعَ الْأَبُ بِهَا لَمْ يَرْجِعْ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ عَلَى ابْنِهِ : لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِمَّا فَاتَ رُجُوعُ الْأَبِ بِهِ ، فَصَارَ أَرْشُ جِنَايَتِهَا كَثَمَنِهَا لَوْ بَاعَهَا ، فَلَوْ كَانَ الِابْنُ كَاتَبَهَا لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ بِهَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْكِتَابَةُ فَاسِدَةٌ فَيَرْجِعُ بِهَا ، فَإِنْ عَجَزَتْ عَنِ الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ رَجَعَ الْأَبُ بِهَا وَجْهًا وَاحِدًا بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَهَا : لَأَنَّ الْبَيْعَ يُزِيلُ الْمِلْكَ ، وَالْكِتَابَةَ تُوقِفُ الْمِلْكَ وَلَا تُزِيلُهُ ، فَلَوْ دَبَّرَهَا الِابْنُ أَوْ أَعْتَقَهَا بِصِفَةٍ لَوْ بَاتَ جَازَ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ بِهَا لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ ، وَلَمْ يَنْقُلْ مِلْكَهَا إِلَى غَيْرِهِ ، فَلَوْ كَانَ الِابْنُ قَدْ زَوَّجَهَا رَجَعَ الْأَبُ بِهَا ، وَالنِّكَاحُ عَلَى حَالِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَجَّرَهَا الِابْنُ جَازَ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ بِهَا ، وَالْإِجَارَةُ بِحَالِهَا إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّتِهَا ، وَالْأُجْرَةُ وَالْمَهْرُ مَعًا لِلِابْنِ دُونَ الْأَبِ

فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَتِ الْهِبَةُ شَاةً فَنَتَجَتْ ثُمَّ رَجَعَ الْأَبُ بِهَا كَانَ النِّتَاجُ لِلِابْنِ دُونَ الْأَبِ ، فَلَوْ كَانَتِ الشَّاةُ عِنْدَ الْهِبَةِ حَامِلًا ثُمَّ وَلَدَتْ فِي يَدِ الِابْنِ ، ثُمَّ رَجَعَ الْأَبُ بِالشَّاةِ فَفِي وَلَدِهَا قَوْلَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْحَمْلِ ، فَلَوْ كَانَتِ الشَّاةُ حَائِلًا ثُمَّ رَجَعَ الْأَبُ بِهَا حَامِلًا فَفِي وَلَدِهَا إِذَا


وَضَعَتْهُ أَيْضًا قَوْلَانِ ، وَلَوْ كَانَتِ الْهِبَةُ نَخْلًا فَأَثْمَرَتْ فِي يَدِ الِابْنِ ثُمَّ رَجَعَ الْأَبُ بِالنَّخْلِ ، فَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ مُؤَبَّرَةً عِنْدَ رُجُوعِ الْأَبِ فَهِيَ لِلِابْنِ ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لِلِابْنِ أَيْضًا : لِأَنَّهَا مِمَّا تَتَمَيَّزُ . وَالثَّانِي : لِلْأَبِ : لِأَنَّ مَا يُؤَبَّرُ مِنَ النَّخْلِ تَبَعٌ لِأَصْلِهِ كَالْبَيْعِ .

فَصْلٌ : وَلَا يَصِحُّ رُجُوعُ الْأَبِ فِي هِبَتِهِ هل يصح أم لا إِلَّا بِالْقَوْلِ الصَّرِيحِ ، سَوَاءٌ كَانَ الِابْنُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ، بِخِلَافِ هِبَتِهِ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ حَيْثُ جَوَّزْنَاهَا بِالنِّيَّةِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : لِأَنَّهُ اسْتِرْجَاعُ مِلْكٍ فَكَانَ أَغْلَظَ ، ثُمَّ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ مُعَلَّقًا بِصِفَةٍ حَتَّى لَوْ قَالَ : إِذَا دَخَلْتُ الدَّارَ فَقَدْ رَجَعْتُ فِي هِبَتِي لِابْنِي ، لَمْ يَجُزْ ، وَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي رُجُوعِهِ فِي الْوَصِيَّةِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ كَالْهِبَةِ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ : لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتِ الْوَصِيَّةُ بِالصِّفَةِ جَازَ الرُّجُوعُ فِيهَا بِالصِّفَةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " لِمَنْ يَسْتَثِيبُ مِنْ مِثْلِهِ ، أَوْ لَا يَسْتَثِيبُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْهِبَةَ نَوْعَانِ : نَوْعٌ لَا يَقْتَضِي الْمُكَافَأَةَ ، وَنَوْعٌ يَقْتَضِيهَا ، فَأَمَّا مَا لَا يَقْتَضِي الْمُكَافَأَةَ فَمِنْ ثَمَانِيَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : هِبَةُ الْإِنْسَانِ لِمَنْ دُونَهُ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا التَّفَضُّلُ . وَالثَّانِي : هِبَةُ الْغَنِيِّ لِلْفَقِيرِ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا النَّفْعُ . وَالثَّالِثُ : هِبَةُ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ لِلصَّبِيِّ أَوِ الْمَجْنُونِ : لِأَنَّهَا مِمَّنْ لَا يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ مِنْهَا . وَالرَّابِعُ : الْهِبَةُ لِلْأَهْلِ وَالْأَقَارِبِ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا صِلَةُ الرَّحِمِ . وَالْخَامِسُ : الْهِبَةُ لِلْمُنَافِرِ الْمُعَادِي : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا التَّآلُفُ . وَالسَّادِسُ : الْهِبَةُ لِلْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا الْقُرْبَةُ وَالتَّبَرُّرُ . وَالسَّابِعُ : الْهِبَةُ لِلْأَصْدِقَاءِ وَالْإِخْوَانِ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا تَأْكِيدُ الْمَوَدَّةِ . وَالثَّامِنُ : الْهِبَةُ لِمَنْ أَعَانَ بِجَاهٍ أَوْ بِمَالٍ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا الْمُكَافَأَةُ ، فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْهِبَةِ عَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّمَانِيَةِ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الْمُكَافَأَةَ ، وَإِذَا أَقْبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ بَعْدَ الْقَبُولِ فَقَدْ مَلَكَهَا مِلْكًا مُسْتَقِرًّا كَالَّذِي يَمْلِكُ بِابْتِيَاعٍ أَوْ مِيرَاثٍ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا مَا يَقْتَضِي الْمُكَافَأَةَ من الهبةَ فَهُوَ مَا سِوَى هَذِهِ الْوُجُوهِ مِمَّا يَظْهَرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا طَلَبُ الْمُكَافَأَةِ عَلَيْهَا ، فَفِي وُجُوبِ الْمُكَافَأَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ : أَنَّ الْمُكَافَأَةَ عَلَيْهَا وَاجِبَةٌ ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَلْمَانَ : إِنَّا نَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَنُكَافِئُ عَلَيْهَا ، وَلِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَهْدَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاقَةً فَكَافَأَهُ فَلَمْ يَرْضَ ، فَكَافَأَهُ فَلَمْ يَرْضَ ، فَلَمْ يَزَلْ يُكَافِئُهُ حَتَى رَضِيَ ، ثُمَّ قَالَ : هَمَمْتُ أَنْ لَا أَتَّهِبَ إِلَّا مِنْ قُرَشِيٍّ أَوْ أَنْصَارِيٍّ أَوْ ثَقَفِيٍّ وَإِنَّمَا خَصَّ هَذَا : لِأَنَّهُمْ


مَشْهُورُونَ بِسَمَاحَةِ النُّفُوسِ وَقِلَّةِ الطَّمَعِ ، فَلَوْلَا وُجُوبُ الْمُكَافَأَةِ لَمَا صَبَرَ عَلَى طَمَعِ الْأَعْرَابِيِّ وَأَذَاهُ : لِأَنَّ الْعُرْفَ الْجَارِيَ فِي النَّاسِ الْمُكَافَأَةُ بِهَا يَجْعَلُهُ كَالشَّرْطِ فِيهَا ، وَيَكُونُ قَبُولُ الْهِبَةِ رِضًى بِالْتِزَامِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُكَافَأَةَ عَلَيْهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ ، وَلِأَنَّ مَا صَحَّ تَمَلُّكُهُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ بَدَلٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ فِيهِ الْبَدَلَ كَالْوَصِيَّةِ ، وَالصَّدَقَةِ ، وَلِأَنَّ الْعُقُودَ لَا يَخْتَلِفُ اسْتِحْقَاقُ الْبَدَلِ فِيهَا بِاخْتِلَافِ الْعَاقِدِينَ لَهَا اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْعُقُودِ مِنَ الْبَيْعِ ، وَالْإِجَارَةِ فِي اسْتِحْقَاقِهِ ، وَالْوَصِيَّةِ وَالْعَارِيَةِ فِي إِسْقَاطِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ ، فَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّ الثَّوَابَ لَا يَجِبُ ، فَإِنَّ الْمُكَافَأَةَ لَا تُسْتَحَقُّ ممَا يَقْتَضِي الْمُكَافَأَة من الهبةَ ، فَأَثَابَ الْمَوْهُوبُ لَهُ وَكَافَأَ ، فَهِيَ هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ لَا يَتَعَلَّقُ حُكْمُ وَاحِدَةٍ مِنَ الْهِبَتَيْنِ بِالْأُخْرَى ، فَلَوِ اسْتُحِقَّتْ إِحْدَاهُمَا ، أَوْ ظَهَرَ بِهَا عَيْبٌ فَالْأُخْرَى عَلَى حَالِهَا لَا يَجُوزُ أَنْ تُسْتَرْجَعَ ، فَإِنْ شَرَطَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي نَفْسِهِ ثَوَابًا وَمُكَافَأَةً ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الثَّوَابُ الَّذِي شَرَطَ مَجْهُولًا ، فَالْهِبَةُ بَاطِلَةٌ لِاشْتِرَاطِ مَا يُنَافِيهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا ، فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلَةٌ ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : جَائِزَةٌ : لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ عَلَى بَدَلٍ مَعْلُومٍ كَالْبَيْعِ ، فَإِنْ كَانَ شُبْهَةً فَإِذَا قُلْنَا بِبُطْلَانِ الْهِبَةِ عِنْدَ اشْتِرَاطِ الثَّوَابِ مَعْلُومًا كَانَ أَوْ مَجْهُولًا فَالْمَوْهُوبُ لَهُ ضَامِنٌ لَهَا بِالْقَبْضِ : لِأَنَّهَا مَقْبُوضَةٌ عَلَى وَجْهِ الْمُعَاوَضَةِ ، وَعَلَيْهِ رَدُّهَا لِفَسَادِ الْعَقْدِ ، فَلَوْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ كَانَ ضَامِنًا لَهَا كَالْمَقْبُوضِ مِنْ بَيْعٍ فَاسِدٍ بِأَكْثَرَ مَا كَانَ قِيمَتُهُ مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ عَلَى أَصَحِّ الْمَذْهَبَيْنِ فِي ضَمَانِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، وَلَوْ نَقَصَتْ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا ضَمِنَ قَدْرَ نَقْصِهَا ، فَإِذَا قُلْنَا بِصِحَّةِ الْهِبَةِ عِنْدَ اشْتِرَاطِ الثَّوَابِ الْمَعْلُومِ فَهِيَ كَالْبَيْعِ الْمَحْضِ تَسْتَحِقُّ فِيهِ خِيَارَ الْمَجْلِسِ بِالْعَقْدِ وَخِيَارَ الثَّلَاثِ بِالشَّرْطِ ، وَيَجُوزُ اشْتِرَاطُ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِيهِ ، وَإِنِ اسْتُحِقَّتِ الْهِبَةُ وَجَبَ رَدُّ الثَّوَابِ ، وَإِنِ اسْتُحِقَّ الثَّوَابُ وَجَبَ رَدُّ الْهِبَةِ وَإِنْ كَانَ الثَّوَابُ مُعَيَّنًا ، أَوْ غُرِمَ مِثْلُهُ مَعَ بَقَاءِ الْهِبَةِ إِنْ كَانَ الثَّوَابُ مَوْصُوفًا ، وَإِنْ ظَهَرَ فِي الْهِبَةِ عَيْبٌ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُقَامِ وَالْفَسْخِ .

فَصْلٌ : وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الثَّوَابَ وَاجِبٌ ، وَالْمُكَافَأَةَ مُسْتَحَقَّةٌ ممَا يَقْتَضِي الْمُكَافَأَة من الهبةَ ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَشْتَرِطَ الثَّوَابَ أَوْ لَا يَشْتَرِطَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ لَزِمَهُ بِالْعَقْدِ ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُثِيبَ وَيُكَافِئَ حَتَّى يَرْضَى الْوَاهِبُ : لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَزَلْ يُكَافِئُ الْأَعْرَابِيَّ حَتَّى رَضِيَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : عَلَيْهِ أَنْ يُكَافِئَ بِمَا يَكُونُ فِي الْعُرْفِ ثَوَابًا لِمِثْلِ تِلْكَ الْهِبَةِ : لِأَنَّ الرِّضَا لَا يَنْحَصِرُ ، فَكَانَ الْعُرْفُ أَوْلَى أَنْ يَعْتَبِرَهُ .


وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : عَلَيْهِ أَنْ يُكَافِئَ بِقَدْرِ قِيمَةِ الْهِبَةِ ، لَا يَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا ، وَلَا يُجْزِئُهُ النُّقْصَانُ مِنْهَا : لِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّ فِيهِ الْبَدَلُ إِذَا عُدِمَ الْمُسَمَّى رَجَعَ إِلَى الْقِيمَةِ اعْتِبَارًا بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُكَافِئَ فِي مِقْدَارِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الثَّوَابِ وَبَيْنَ أَنْ يَرُدَّ الْهِبَةَ ، وَلَا خِيَارَ لِلْوَاهِبِ فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ ، فَإِنْ رَدَّ الْهِبَةَ لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالثَّوَابِ ، فَإِنْ رَدَّهَا نَاقِصَةً فَإِنْ كَانَ نَقْصُهَا بِفِعْلِهِ ضَمِنَهُ لِلْوَاهِبِ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ فَفِي ضَمَانِهِ إِيَّاهُ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا عَلَيْهِ ضَمَانُهُ . وَالثَّانِي : لَا يَضْمَنُهُ ، وَإِنْ رَدَّهَا وَقَدْ زَادَتْ فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ لَا تَتَمَيَّزُ كَالطُّولِ وَالسَّمِنُ أَخَذَهَا الْوَاهِبُ زَائِدَةً : لِأَنَّ مَا لَا يَتَمَيَّزُ مِنَ الزِّيَادَاتِ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ ، وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُتَمَيِّزَةً فَهِيَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ كَالنِّتَاجِ وَالثَّمَرَةِ لِحُدُوثِهَا عَلَى مِلْكِهِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ دَفْعُهَا إِلَى الْوَاهِبِ وَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ الْهِبَةَ ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ الْهِبَةَ وَكَافَأَهُ عَلَيْهَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الثَّوَابِ فِيهَا ، فَالْوَاهِبُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَقْبَلَ الْمُكَافَأَةَ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَقْبَلَ ، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي اسْتِرْجَاعِ الْهِبَةِ ، فَإِنْ قَبِلَ الْمُكَافَأَةَ ثُمَّ اسْتُحِقَّتْ مِنْ يَدِهِ ، فَالْمَوْهُوبُ لَهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُكَافِئَهُ ثَانِيَةً وَبَيْنَ أَنْ يَرُدَّ الْهِبَةَ ، وَلَوِ اسْتُحِقَّتِ الْهِبَةُ دُونَ الْمُكَافَأَةِ كَانَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالْمُكَافَأَةِ ، فَلَوْ قَالَ الْوَاهِبُ : أَنَا أَهَبُ لَكَ مِثْلَ تِلْكَ الْهِبَةِ ، وَلَا أَرُدُّ الْمُكَافَأَةَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ بِخِلَافِ اسْتِحْقَاقِ الْمُكَافَأَةِ ، فَلَوْ لَمْ يُكَافِئِ الْمَوْهُوبُ لَهُ عَنْ نَفْسِهِ وَكَافَأَهُ عَنْهُ غَيْرُهُ جَازَ ، وَلَا رُجُوعَ لِلْوَاهِبِ لِوُصُولِ الثَّوَابِ إِلَيْهِ ، وَلَا رُجُوعَ لِلْمُكَافِئِ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ بِمَا أَثَابَ عَنْهُ وَكَافَأَ : لِأَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ إِلَّا أَنْ يُكَافِئَ بِأَمْرِهِ فَيَرْجِعَ عَلَيْهِ ، فَلَوْ لَمْ يُكَافِئْهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ عَنِ الْهِبَةِ حَتَّى تَلِفَتْ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ فَفِي وُجُوبِ الثَّوَابِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ : لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُكَافِئَ وَيُثِيبَ فِي الْحَالِ الَّتِي إِنْ رَدَّ وَلَمْ يُثِبْ ، فَعَلَى هَذَا تَتْلَفُ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الثَّوَابَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِاسْتِحْقَاقِهِ بِالْعَقْدِ ، فَإِنْ أَثَابَ ، وَإِلَّا ضَمِنَهَا بِالْقِيمَةِ لِتَلَفِهَا عَنْ بَدَلٍ فَائِتٍ .

فَصْلٌ : وَإِنِ اشْتَرَطَ الْوَاهِبُ الثَّوَابَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَشْتَرِطَهُ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا ، فَإِنِ اشْتَرَطَهُ مَجْهُولًا صَحَّتِ الْهِبَةُ وَلَزِمَ الشَّرْطُ : لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْعَقْدَ ، ثُمَّ حُكْمُ هَذِهِ الْهِبَةِ وَالثَّوَابُ عَلَى مَا مَضَى ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ غَيْرَ أَنَّ الْهِبَةَ لَوْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ مَعَ هَذَا الشَّرْطِ مِثْلَ الثَّوَابِ لَزِمَهُ أَنْ يُثِيبَ أَوْ يَضْمَنَ الْقِيمَةَ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِنِ اشْتَرَطَ الثَّوَابَ مَعْلُومًا فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : جَائِزٌ : لِأَنَّ مَا مُنِعَ عَنِ الْجَهَالَةِ كَانَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ وَلَهُ مَا اشْتَرَطَ ، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْعِ أَنَّهُ فِي الْهِبَةِ يَشْتَرِطُ الثَّوَابَ الْمَعْلُومَ يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ دَفْعِ الثَّوَابِ وَبَيْنَ رَدِّ الْهِبَةِ ، وَفِي الْبَيْعِ يَلْزَمُهُ دَفْعُ الثَّمَنِ ، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الرَّدِّ مَا لَمْ يَكُنْ خِيَارٌ أَوْ عَيْبٌ ، ثُمَّ هُمَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ عَلَى سَوَاءٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّ الْهِبَةَ بَاطِلَةٌ لِخُرُوجِهَا عَنْ حُكْمِ الْهِبَاتِ الْمُطْلَقَةِ ، وَالْبُيُوعِ اللَّازِمَةِ ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ مَضْمُونَةً ضَمَانَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ عَلَى مَا مَضَى .




فَصْلٌ : هِبَةُ الْمَرِيضِ فِي الثُّلُثِ ، فَإِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ أُمْضِيَتْ ، وَإِلَّا رُدَّتْ : لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ ، وَإِنِ احْتَمَلَ الثُّلُثُ بَعْضَهَا أَمْضَى مِنْهَا قَدْرَ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ إِلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْوَارِثُ فَيَصِحَّ فِي الْجَمِيعِ ، فَلَوْ وَهَبَ فِي الصِّحَّةِ وَأُقْبِضَ فِي الْمَرَضِ فَهِيَ هِبَةٌ فِي الْمَرَضِ : لِأَنَّهَا بِالْقَبْضِ فِيهِ تَمَّتْ ، فَلَوِ اخْتَلَفَا فَقَالَ وَارِثُ الْوَاهِبِ : هِيَ فِي الْمَرَضِ ، وَقَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ : فِي الصِّحَّةِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَارِثِ مَعَ يَمِينِهِ : لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا عَدَمُ اللُّزُومِ ، فَلَوْ مَاتَ الْوَاهِبُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ وَارِثَهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِقْبَاضِهَا بِالْعَقْدِ الْمَاضِي أَوِ الْمَنْعِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْعَقْدَ قَدْ بَطَلَ بِالْمَوْتِ ، فَإِنْ أَحَبَّ إِمْضَاءَ الْهِبَةِ اسْتَأْنَفَ عَقْدًا وَقَبْضًا .

فَصْلٌ : وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ فَوَهَبَ لَهُ أَهْلُهَا هِبَةً قَبِلَهَا وَقَبَضَهَا ، وَلَمْ يَغْنَمْهَا الْمُسْلِمُونَ إِنْ ظَفِرُوا بِهَا ، وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ مَا يُنْقَلُ مِنْهَا وَمَا لَا يُنْقَلُ ، فَجَعَلَ مَا يُنْقَلُ مَمْلُوكًا وَمَا لَا يُنْقَلُ مَغْنُومًا ، اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ مَنَحَهُ الْمُشْرِكُونَ أَرْضًا فَلَا أَرْضَ لَهُ ، وَهَذَا إِنْ صَحَّ عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْعَارِيَةِ دُونَ الْهِبَةِ .

فَصْلٌ : هِبَةُ دُورِ مَكَّةَ وَعَقَارِهَا يَجُوزُ بِخِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى الْبَيْعِ ، فَأَمَّا إِجَارَتُهَا لِلْحُجَّاجِ ، فَيَجُوزُ هِبَتُهَا إِنْ جَازَ بَيْعُهَا ، وَأُبْطِلَ إِنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا .

فَصْلٌ : هِبَةُ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ ، وَلِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ يَجُوزُ : لِأَنَّ هِبَتَهُ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ إِبْرَاءٌ وَلِغَيْرِهِ تَمْلِيكٌ ، وَهِبَةُ الْمَنَافِعِ عَارِيَةٌ لَا تَلْزَمُ : لِأَنَّ قَبْضَهَا قَبْلَ انْقِضَائِهَا لَا يَصِحُّ .

مَسْأَلَةٌ تَجُوزُ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " ( قَالَ ) : وَتَجُوزُ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ هل تجوز للرسول عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَأْخُذُهَا لَمَّا رَفَعَ اللَّهُ مِنْ قَدْرِهِ وَأَبَانَهُ مِنْ خَلْقِهِ ؛ إِمَّا تَحْرِيمًا وَإِمَّا لِئَلَّا يَكُونَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ يَدٌ : لِأَنَّ مَعْنَى الصَّدَقَةِ لَا يُرَادُ ثَوَابُهَا ، وَمَعْنَى الْهَدِيَّةِ يُرَادُ ثَوَابُهَا ، وَكَانَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَرَأَى لَحْمًا تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى بُرَيْرَةَ فَقَالَ : هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَةٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْمَقْصُودُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَصْلَانِ مَضَيَا . أَحَدُهُمَا : تَحْرِيمُ الصَّدَقَاتِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ . وَالثَّانِي : إِبَاحَةٌ لِصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ ، وَقَدْ بَيَّنَاهُ فَلَمْ يَكُنْ لِلْإِطَالَةِ بِتَكْرَارِهِمَا وَجْهٌ مَعَ مَا حَصَلَ مِنْ إِطَالَةِ الِاسْتِيفَاءِ ، فَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ فَتَحْرُمُ عَلَى الْغَنِيِّ وَإِنْ حَلَّتْ لَهُ الصَّدَقَةُ ، رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا مِنْ فَقْرٍ مُدْقِعٍ ، أَوْ غُرْمٍ مُفْظِعٍ ، أَوْ دَمٍ مُوجِعٍ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

_____كِتَابُ اللُّقَطَةِ _____

مَسْأَلَةٌ بيان الْأَصْلُ فِي اللُّقَطَةِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ اللُّقَطَةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ ، عَنْ رَبِيعَةَ ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ : اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُكَ بِهَا وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَحْوُ ذَلِكَ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَبِهَذَا أَقُولُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ الْأَصْلُ فِي اللُّقَطَةِ ، وَقَدْ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ بِتَمَامِهِ وَأَنَّهُ سَأَلَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ " فَشَأْنُكَ بِهَا " عَنْ ضَالَّةِ الْغَنَمِ فَقَالَ : لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ ، فَقَالَ : فَضَالَّةُ الْإِبِلِ ؟ قَالَ : مَا لَكَ وَلَهَا ؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا ، أَمَّا قَوْلُهُ فِي ضَالَّةِ الْغَنَمِ : هِيَ لَكَ ، يَعْنِي إِنْ أَخَذْتَهَا ، أَوْ لِأَخِيكَ إِنْ أَخَذَهَا غَيْرُكَ ، أَوْ لِلذِّئْبِ يَعْنِي إِنْ لَمْ تُؤْخَذْ أَكَلَهَا الذِّئْبُ . فَأَمَّا قَوْلُهُ فِي ضَالَّةِ الْإِبِلِ : مَا لَكَ وَلَهَا ؟ أَيْ : لَا تَأْخُذْهَا . وَقَوْلُهُ : مَعَهَا سِقَاؤُهَا ، يَعْنِي : أَعْنَاقُهَا الَّتِي تَتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْمَاءِ ، فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى تَقْرِيبِ الرَّاعِي وَمَعُونَتِهِ . وَقَوْلُهُ : حِذَاؤُهَا ، يَعْنِي خِفَافَ أَرْجُلِهَا الَّتِي تَقْدِرُ بِهَا عَلَى السَّيْرِ وَطَلَبِ الْمَرْعَى وَتَمْتَنِعُ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ ، فَخَالَفَتِ الْغَنَمَ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ . وَرَوَى مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّا نُصِيبُ هَوَامِّي الْإِبِلِ ، فَقَالَ : ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ حَرْقُ النَّارِ وَهَوَامِّي الْإِبِلِ : هِيَ الْمُهْمَلَةُ الَّتِي لَا رَاعِيَ لَهَا . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : لَا يَأْوِي الضَّالَّةَ إِلَّا ضَالٌّ ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الثَّوْرِيِّ ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفْلَةَ ، أَنَّهُ سَأَلَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ سَوْطٍ وَجَدَهُ ، فَقَالَ : إِنِّي وَجَدْتُ صُرَّةً فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ ، فَذَكَرْتُهَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِي : عَرِّفْهَا حَوْلًا ، فَإِنْ وَجَدْتَ مَنْ يَعْرِفُهَا فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ ، وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا .

وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، عَنْ شَرِيكٍ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ وَجَدَ دِينَارًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَهُ لَهُ ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعَرِّفَهُ فَلَمْ يُعْرَفْ ، فَأَمَرَهُ بِأَكْلِهِ ، ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَغْرُمَهُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا رَوَيْنَا فَاللُّقَطَةُ وَالضَّوَالُّ مُخْتَلِفَانِ فِي الْجِنْسِ وَالْحُكْمِ ، فَالضَّوَالُّ الْحَيَوَانُ : لِأَنَّهُ يَضِلُّ بِنَفْسِهِ ، وَسَنَذْكُرُ حُكْمَهُ ، وَاللُّقَطَةُ غَيْرُ الْحَيَوَانِ ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِالْتِقَاطِ وَاجِدِهَا لَهَا ، وَلَهَا حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا أَنْ تُوجَدَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ فَلَا يَجُوزُ لِوَاجِدِهَا التَّعَرُّضُ لِأَخْذِهَا وَهِيَ فِي الظَّاهِرِ لِمَالِكِ الْأَرْضِ إِذَا ادَّعَاهَا . وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ : مَا كَانَ مِنْهَا فِي طَرِيقٍ مَيْتَاءَ فَعَرِّفْهَا حَوْلًا ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَهِيَ لَكَ ، وَمَا كَانَ مِنْهَا مِنْ خَرَابٍ فَفِيهَا وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ . وَقَوْلُهُ : فِي طَرِيقٍ مَيْتَاءَ يَعْنِي : مَمْلُوكَةً قَدِيمَةً ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِإِتْيَانِ النَّاسِ إِلَيْهَا . وَرُوِيَ فِي طَرِيقٍ مَأْتَى سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِإِتْيَانِ النَّاسِ إِلَيْهَا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تُوجَدَ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ مِنْ مَسْجِدٍ أَوْ طَرِيقٍ أَوْ مَوَاتٍ اللقطة ، فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِمَكَّةَ ، أَوْ بِغَيْرِ مَكَّةَ ، فَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ مَكَّةَ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : ظَاهِرٍ ، وَمَدْفُونٍ ، فَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا مَا لَا يَبْقَى كَالطَّعَامِ الرَّطْبِ فَلَهُ حُكْمٌ نَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ ، وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَبْقَى : كَالدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ ، وَالثِّيَابِ ، وَالْحُلِيِّ ، وَالْقُمَاشِ ، فَهَذِهِ هِيَ اللُّقَطَةُ الَّتِي قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا وَعَرِّفْهَا حَوْلًا ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُكَ بِهَا ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ لِشُرُوطِ تَعْرِيفِهَا ، ثُمَّ لَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ إِنْ لَمْ يَأْتِ صَاحِبُهَا أَنْ يَتَمَلَّكَهَا ، وَإِنْ كَانَ مَدْفُونًا فَضَرْبَانِ : جَاهِلِيٌّ ، وَإِسْلَامِيٌّ . فَإِنْ كَانَ إِسْلَامِيًّا فَلُقَطَةٌ أَيْضًا وَهِيَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلِيًّا فَهُوَ رِكَازٌ يَمْلِكُهُ وَاجِدُهُ وَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ خُمُسِهِ فِي مَصَارِفِ الزَّكَوَاتِ : لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : وَفِي السِّيُوبِ الْخُمُسُ ، يَعْنِي : الرِّكَازَ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : وَلَا أُرَاهُ أَخَذَ إِلَّا مِنَ السَّيْبِ وَهُوَ الْعَطِيَّةُ .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَتِ اللُّقَطَةُ بِمَكَّةَ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَيْسَ لِوَاجِدِهَا أَنْ يَتَمَلَّكَهَا ، وَعَلَيْهِ إِنْ أَخَذَهَا أَنْ يُقِيمَ بِتَعْرِيفِهَا أَبَدًا ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْبِلَادِ .

وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : مَكَّةُ وَغَيْرُهَا سَوَاءٌ فِي اللُّقَطَةِ : اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ الْخَبَرِ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ ، فَلَا يُخْتَلَى خِلَاؤُهَا ، وَلَا يُعَضَدُ شَجَرُهَا ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا ، وَلَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ ، وَفِي الْمُنْشِدِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ : أَنَّهُ صَاحِبُهَا الطَّالِبُ ، وَالنَّاشِدُ هُوَ الْمُعَرِّفُ الْوَاجِدُ لَهَا ، قَالَ الشَّاعِرُ : يَصِيخُ لِلنَّبْأَةِ أَسْمَاعَهُ إِصَاخَةَ النَّاشِدِ لِلْمُنْشِدِ فَكَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا إِلَّا صَاحِبُهَا الَّتِي هِيَ لَهُ دُونَ الْوَاجِدِ ، وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ الْمُنْشِدَ الْوَاجِدُ الْمُعَرِّفُ ، وَالنَّاشِدَ هُوَ الْمَالِكُ الطَّالِبُ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ رَجُلًا يُنْشِدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاشِدُ غَيْرُكَ الْوَاجِدُ ، مَعْنَاهُ لَا وَجَدْتَ ، كَأَنَّهُ دَعَا عَلَيْهِ ، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مَعْنَى قَوْلِهِ : لَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ ، أَيْ : لِمُعَرِّفٍ يُقِيمُ عَلَى تَعْرِيفِهَا وَلَا يَتَمَلَّكُهَا . فَكَانَ فِي كِلَا التَّأْوِيلَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ تَمَلُّكِهَا ، وَلِأَنَّ مَكَّةَ لَمَّا بَايَنَتْ غَيْرَهَا فِي تَحْرِيمِ صَيْدِهَا وَشَجَرِهَا تَغْلِيظًا لِحُرْمَتِهَا ، بَايَنَتْ غَيْرَهَا فِي مِلْكِ اللُّقَطَةِ ، وَلِأَنَّ مَكَّةَ لَا يَعُودُ الْخَارِجُ مِنْهَا غَالِبًا إِلَّا بَعْدَ حَوْلٍ إِنْ عَادَ ، فَلَمْ يَنْتَشِرْ إِنْشَادُهَا فِي الْبِلَادِ كُلِّهَا ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ إِدَامَةُ تَعْرِيفِهَا ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَكَّةَ وَبَيْنَ سَائِرِ الْحَرَمِ فى حكم اللقطة : لِاسْتِوَاءِ جَمِيعِ ذَلِكَ فِي الْحُرْمَةِ . فَأَمَّا عَرَفَةُ وَمُصَلَّى إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ حِلٌّ تَحِلُّ لُقَطَتُهُ قِيَاسًا عَلَى جَمِيعِ الْحِلِّ ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ كَالْحَرَمِ لَا تَحِلُّ لُقَطَتُهُ إِلَّا لِمُنْشِدٍ : لِأَنَّ ذَلِكَ مَجْمَعُ الْحَاجِّ وَيَنْصَرِفُ النِّفَارُ مِنْهُ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ كَالْحَرَمِ ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ إِنْشَادِهَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ اللقطة مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِ إِنْشَادِهَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ عَلَى وَجْهَيْنِ ، أَصَحُّهُمَا جَوَازُهُ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ وَأَنَّهُ مَجْمَعُ النَّاسِ .

مَسْأَلَةٌ ضَوَالَّ الْحَيَوَانِ إِذَا وُجِدَتْ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَبِهَذَا أَقُولُ ، وَالْبَقَرُ كَالْإِبِلِ لِأَنَّهُمَا يَرِدَانِ الْمِيَاهَ وَإِنْ تَبَاعَدَتْ ، وَيَعِيشَانِ أَكْثَرَ عَيْشِهِمَا بِلَا رَاعٍ ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْرِضَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَالْمَالُ وَالشَّاةُ لَا يَدْفَعَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا ، فَإِنْ وَجَدَهُمَا فِي مَهْلَكَةٍ فَلَهُ أَكْلُهُمَا وَغُرْمُهُمَا إِذَا جَاءَ صَاحِبُهُمَا . ( وَقَالَ ) فِيمَا وَضَعَهُ بِخَطِّهِ - لَا أَعْلَمُهُ بِسَمْعٍ مِنْهُ - : وَالْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ كَالْبَعِيرِ : لِأَنَّ كُلَّهَا قَوِيٌّ مُمْتَنِعٌ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ بَعِيدُ الْأَثَرِ فِي الْأَرْضِ ، وَمِثْلُهَا الظَّبْيُ لِلرَّجُلِ وَالْأَرْنَبِ وَالطَّائِرِ لِبُعْدِهِ فِي الْأَرْضِ وَامْتِنَاعِهِ فِي السُّرْعَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ ضَوَالَّ الْحَيَوَانِ إِذَا وُجِدَتْ اللقطة لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تُوجَدَ فِي مِصْرٍ ، أَوْ فِي صَحْرَاءَ ، فَإِنْ وُجِدَتْ فِي مِصْرٍ فَيَأْتِي ، وَإِنْ وُجِدَتْ فِي صَحْرَاءَ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ مِمَّا يَصِلُ بِنَفْسِهِ إِلَى الْمَاءِ وَالرَّعْيِ وَيَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ صِغَارَ السِّبَاعِ ،

إِمَّا لِقُوَّةِ جِسْمِهِ كَالْإِبِلِ ، وَالْبَقَرِ ، وَالْخَيْلِ ، وَالْبِغَالِ ، وَالْحَمِيرِ ، وَإِمَّا لِبُعْدِ أَثَرِهِ كَالْغَزَالِ ، وَالْأَرْنَبِ ، وَالطَّيْرِ ، فَبِهَذَا النَّوْعِ لَا يَجُوزُ لِوَاجِدِهِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِأَخْذِهِ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ مَالِكَهُ : لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ضَوَالِّ الْإِبِلِ : مَا لَكَ وَلَهَا ؟ مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ ، ذَرْهَا حَتَّى تَلْقَى رَبَّهَا ، وَلِأَنَّهَا تَحْفَظُ أَنْفُسَهَا ، فَلَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهَا حَظٌّ فِي أَخْذِهَا ، فَإِنْ أَخَذَهَا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَأْخُذَهَا لُقَطَةً لِيَمْتَلِكَهَا إِنْ لَمْ يَأْتِ صَاحِبُهَا ، فَهَذَا مُتَعَدٍّ وَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا ، فَإِنْ أَرْسَلَهَا لَمْ يَسْقُطِ الضَّمَانُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : قَدْ سَقَطَ الضَّمَانُ عَنْهُ بِالْإِرْسَالِ بِنَاءً عَلَى مَنْ تَعَدَّى فِي وَدِيعَةٍ ثُمَّ كَفَّ عَنِ التَّعَدِّي ، فَعِنْدَهُمَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ عَنْهُ ، وَعِنْدَنَا لَا يَسْقُطُ ، فَإِنْ لَمْ يُرْسِلْهَا وَلَكِنْ دَفَعَهَا إِلَى مَالِكِهَا فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ ضَمَانُهَا بِأَدَائِهَا إِلَى مُسْتَحِقِّهَا ، وَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى الْحَاكِمِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمَالِكِ فَفِي سُقُوطِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ سَقَطَ : لِأَنَّ الْحَاكِمَ نَائِبٌ عَمَّنْ غَابَ ، وَالثَّانِي لَا يَسْقُطُ : لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ لِحَاضِرٍ لَا يُوَلَّى عَلَيْهِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَلَّا يَأْخُذَهَا لُقَطَةً وَلَكِنْ يَأْخُذُهَا حِفْظًا عَلَى مَالِكِهَا ، فَإِنْ كَانَ عَارِفًا بِمَالِكِهَا لَمْ يَضْمَنْ وَيَدُهُ يَدُ أَمَانَةٍ حَتَّى تَصِلَ إِلَى الْمَالِكِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَارِفٍ لِلْمَالِكِ فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا لَا ضَمَانَ : لِأَنَّهُ مِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي : عَلَيْهِ الضَّمَانُ : لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى غَائِبٍ . فَإِنْ كَانَ وَالِيًا كَالْإِمَامِ أَوِ الْحَاكِمِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَتْ لَهُ حَظِيرَةٌ يَحْظُرُ فِيهَا ضَوَالَّ الْإِبِلِ ، فَهَذَا حُكْمُ أَحَدِ الضَّرْبَيْنِ .

فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي مَا لَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ وَيَعْجِزُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْمَاءِ وَالرَّعْيِ ، كَالْغَنَمِ وَالدَّجَاجِ إلتقاطه ، فَلَوْ أَخَذَهُ فَأَكَلَهُ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفٍ غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا ، فَعَلَيْهِ غُرْمُهُ لِمَالِكِهِ إِنْ وَجَدَهُ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ . وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوَدُ : هُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ ، وَيَأْكُلُهُ أَكْلَ إِبَاحَةٍ وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ فِي اسْتِهْلَاكِهِ : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا اسْتَهْلَكَهُ الذِّئْبُ هَدَرٌ لَا يُضْمَنُ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بَيَانَ حُكْمِ الْأَخْذِ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ ، وَلِأَنَّ مَا اسْتَبَاحَ أَخْذَهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ إِذَا لَمْ يَلْزَمْهُ تَعْرِيفُهُ لَمْ يَلْزَمْهُ غُرْمُهُ كَالدَّرَاهِمِ ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ ، وَلِأَنَّهَا لُقَطَةٌ يَلْزَمُهُ رَدُّهَا مَعَ بَقَائِهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ غُرْمُهَا عِنْدَ اسْتِهْلَاكِهَا قِيَاسًا عَلَى اللُّقَطَةِ فِي الْأَمْوَالِ وَلِأَنَّهَا ضَالَّةٌ ، فَوَجَبَ أَنْ تُضْمَنَ بِالِاسْتِهْلَاكِ كَالْإِبِلِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ فَهُوَ أَنَّهُ نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى إِبَاحَةِ الْأَخْذِ وَجَوَازِ الْأَكْلِ دُونَ الْغُرْمِ ، وَأَمَّا الرِّكَازُ فَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ رَدُّهُ فَلِذَلِكَ سَقَطَ غُرْمُهُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الشَّاةُ : لِأَنَّ رَدَّهَا وَاجِبٌ فَصَارَ غُرْمُهَا وَاجِبًا .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ أَخْذِ الشَّاةِ وَمَا لَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِبَاحَةِ أَكْلِهِ وَوُجُوبِ غُرْمِهِ ،

فَكَذَلِكَ صِغَارُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ : لِأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ عَنْ أَنْفُسِهَا كَالْغَنَمِ ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ وَاجِدِ الشَّاةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ اللقطة : أَحَدُهَا : أَنْ يَأْكُلَهَا فَيَلْزَمَهُ غُرْمُ ثَمَنِهَا قَبْلَ الذَّبْحِ عِنْدَ الْأَخْذِ فِي اسْتِهْلَاكِهَا ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مُبَاحًا لَا يَأْثَمُ بِهِ وَإِنْ غُرِمَ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَتَمَلَّكَهَا لِيَسْتَبْقِيَهَا حَيَّةً لِدَرٍّ أَوْ نَسْلٍ فَذَلِكَ لَهُ : لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَبَاحَ تَمَلُّكَهَا مَعَ اسْتِهْلَاكِهَا ، فَأَوْلَى أَنْ يَسْتَبِيحَ تَمَلُّكَهَا مَعَ اسْتِبْقَائِهَا ، ثُمَّ فِي صِحَّةِ ضَمَانِهَا وَجْهَانِ كَالْعَارِيَةِ مَخْرَجًا ، وَفِي اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي ضَمَانِ الصَّدَاقِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَمْلِكُهَا فِيهِ ، وَالثَّانِي أَنَّهُ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا أَكْثَرَ مَا كَانَتْ مِنْ حِينِ وَقْتِ التَّمَلُّكِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَهِيَ بَاقِيَةٌ وَقَدْ أَخَذَ الْوَاجِدُ دَرَّهَا وَنَسْلَهَا ، كَانَ الدَّرُّ وَالنَّسْلُ لِلْوَاجِدِ لِحُدُوثِهِ عَلَى مِلْكِهِ ، وَلِلْمَالِكِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا دُونَ قِيمَتِهَا ، فَإِنْ بَذَلَ لَهُ الْوَاجِدُ قِيمَتَهَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى أَخْذِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا إِلَّا أَنْ يَتَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ فَيَجُوزُ ، فَلَوْ كَانَتِ الشَّاةُ حِينَ رَجَعَ الْمَالِكُ بِهَا زَائِدَةً فِي بَدَنِهَا أَوْ قِيمَتِهَا ، لَمْ يَكُنْ لِلْوَاجِدِ حَقٌّ فِي الزِّيَادَةِ ، وَكَانَتْ لِلْمَالِكِ تَبَعًا لِلْأَصْلِ ، وَلَوْ كَانَتْ نَاقِصَةً رَجَعَ الْمَالِكُ بِنَقْصِهَا عَلَى الْوَاجِدِ ، لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالتَّلَفِ فَكَانَتْ مَضْمُونَةً بِالنَّقْصِ .

فَصْلٌ : وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَسْتَبْقِيَهَا فِي يَدِهِ أَمَانَةً لِصَاحِبِهَا فَذَلِكَ لَهُ : لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَأَوْلَى أَنْ يَحْفَظَهَا لِصَاحِبِهَا ، وَلَا يَلْزَمُهُ تَعْرِيفُهَا : لِأَنَّ مَا جَازَ تَمَلُّكُهُ سَقَطَ تَعْرِيفُهُ وَلَا يَلْزَمُهُ إِخْبَارُ الْحَاكِمِ بِهَا وَلَا الْإِشْهَادُ عَلَيْهَا ، بَلْ إِذَا وَجَدَ صَاحِبَهَا سَلَّمَهَا إِلَيْهِ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ مُدَّةَ إِمْسَاكِهَا لِصَاحِبِهَا لَوْ تَلَفَتَ أَوْ نَقَصَتْ : لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ أَمَانَةٍ كَالْمُعَرَّفِ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَجْهًا آخَرَ : إِنَّهُ يَضْمَنُهَا لِأَنَّ إِبَاحَةَ أَخْذِهَا مَقْصُورٌ عَلَى الْأَكْلِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ دُونَ الِائْتِمَانِ ، وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَا حَدَثَ مَنْ دَرِّهَا وَلَبَنِهَا عَلَى الْمَذْهَبِ لَا يَضْمَنُهُ ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَضْمَنُهُ ، فَإِنْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ مُؤْنَةِ عُلُوفَتِهَا ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ مَعَ وُجُودِ حِمًى لِلْمُسْلِمِينَ تَرْعَى فِيهِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ بِالنَّفَقَةِ وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهَا ، وَإِنْ كَانَ مَعَ عَدَمِ الْحِمَى ، فَإِنْ كَانَ عَنْ إِذْنِ الْحَاكِمِ رَجَعَ بِمَا أَنْفَقَ ، وَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ إِذْنِهِ ، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى اسْتِئْذَانِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِئْذَانِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ لَمْ يَرْجِعْ ، وَإِنْ أَشْهَدَ فَفِي رُجُوعِهِ بِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَرْجِعُ لِلضَّرُورَةِ ، وَالثَّانِي لَا يَرْجِعُ لِئَلَّا يَكُونَ حَاكِمَ نَفْسِهِ ، فَلَوْ أَرَادَ بَعْدَ إِمْسَاكِهَا أَمَانَةً أَنْ يَتَمَلَّكَهَا فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا لَهُ ذَلِكَ كَالِابْتِدَاءِ ، وَالثَّانِي لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِاسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا ، فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَمَلَّكَ دَرَّهَا وَنَسْلَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَمَلَّكَ أَصْلَهَا ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَجْهًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ فَرْعٌ يَتْبَعُ أَصْلَهُ ، فَلَوْ أَرْسَلَهَا بَعْدَ إِمْسَاكِهَا أَمَانَةً ، لَزِمَهُ الضَّمَانُ إِلَّا أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى حَاكِمٍ فَلَا يَضْمَنُ ، وَلَوْ نَوَى تَمَلُّكَهَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ مِلْكَهُ عَنْهَا لِتَكُونَ أَمَانَةً لِصَاحِبِهَا اللقطة ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ ضَمَانُهَا ، وَفِي ارْتِفَاعِ مِلْكِهِ عَنْهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا لَا يَرْتَفِعُ مِلْكُهُ : لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَزُولُ إِلَّا بِقَبُولِ الْمُتَمَلِّكِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَالِكًا لِمَا حَدَثَ مِنْ دَرِّهَا وَلَبَنِهَا لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَرْتَفِعُ مِلْكُهُ عَنْهَا مَعَ بَقَاءِ ضَمَانِهَا ، وَذَلِكَ أَحْوَطُ لِمَالِكِهَا ، فَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ

يَتَمَلَّكَهَا مِنْ غَيْرِ بَذْلِ مَالِكِهَا ، جَازَ أَنْ يَزُولَ مِلْكُهُ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ قَبُولِ مُتَمَلِّكِهَا ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحَادِثُ مَنْ دَرِّهَا وَنَسْلِهَا مِلْكًا لِرَبِّهَا تَبَعًا لِأَصْلِهَا ، وَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ كَالْأَصْلِ .

فَصْلٌ : وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ أَنْ يُرِيدَ بَيْعَهَا ، فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَبِيعَهَا بَعْدَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا ، فَذَلِكَ لَهُ كَمَا لَوْ أَكَلَهَا ، وَيَكُونُ ضَامِنًا لِقِيمَتِهَا دُونَ ثَمَنِهَا : لِأَنَّهُ بَاعَهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، فَلَوْ جَاءَ صَاحِبُهَا بَعْدَ الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي رَقَبَتِهَا حَقٌّ لِنُفُوذِ الْبَيْعِ وَرَجَعَ بِالْقِيمَةِ عَلَى الْوَاجِدِ ، فَلَوْ كَانَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ أَوْ خِيَارُ الشَّرْطِ فِي الْبَيْعِ بَاقِيًا فَأَرَادَ الْمَالِكُ أَنْ يَفْسَخَ وَأَرَادَ الْبَائِعُ الْإِمْضَاءَ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ كَجٍّ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَالِكِ فِي الْفَسْخِ لِاسْتِحْقَاقِهِ الرُّجُوعَ بِعَيْنِ مَالِهِ مَعَ بَقَائِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ فِي الْإِمْضَاءِ : لِأَنَّ خِيَارَ الْعَقْدِ يَسْتَحِقُّهُ الْعَاقِدُ دُونَ غَيْرِهِ ، فَإِذَا أَمْضَى غَرِمَ الْقِيمَةَ دُونَ الثَّمَنِ ، وَإِنْ أَرَادَ بَيْعَهَا لِمَالِكِهَا جَازَ إِنْ كَانَ الْبَيْعُ أَحَظَّ مِنَ الِاسْتِبْقَاءِ لِمَا يَلْزَمُ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِدُ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِبَيْعِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِ حَاكِمٍ ، بِخِلَافِ مَنْ أَرَادَ بَيْعَ مَالِ غَرِيمٍ جَاحِدٍ فَيَسْتَوْفِي مِنْهُ قَدْرَ دِينِهِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ يَبِيعُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، فَمُنِعَ مِنْ تَفَرُّدِهِ بِهِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، وَهَذَا يَبِيعُهُ فِي حَقِّ الْمَالِكِ فَجَازَ كَالْوَكِيلِ ، فَإِنْ أَرَادَ الْمَالِكُ الْفَسْخَ فِي خِيَارِ الْعَقْدِ اسْتَحَقَّهُ وَجْهًا وَاحِدًا لِبَيْعِهَا فِي حَقِّهِ ، فَلَوْ أَرَادَ بَعْدَ بَيْعِهَا لِمَالِكِهَا أَنْ يَتَمَلَّكَ ثَمَنَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَجْهًا وَاحِدًا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا بِعَيْنِهَا بَعْدَ إِمْسَاكِهَا أَمَانَةً فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : لِأَنَّ الثَّمَنَ قَدْ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الضَّوَالِّ وَلَمْ تَخْرُجْ هِيَ مَعَ بَقَائِهَا عَنْ أَنْ تَكُونَ ضَالَّةً . فَلَوْ كَانَتِ الضَّالَّةُ عَبْدًا اللقطة ، فَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فَكَالْبَعِيرِ لَا يَتَعَرَّضُ لِأَخْذِهِ ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا كَالشَّاةِ يَأْخُذُهُ وَيَمْلِكُهُ إِنْ شَاءَ ، وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً صَغِيرَةً فَفِي جَوَازِ تَمَلُّكِهِ لَهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا يَجُوزُ كَالْعَبْدِ الصَّغِيرِ ، وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ قَرْضُ الْإِمَاءِ وَإِنْ جَازَ قَرْضُ الْعَبْدِ : لِأَنَّهَا ذَاتُ فَرْجٍ فَكَانَ حُكْمُهَا أَغْلَظُ ، فَعَلَى هَذَا تُبَاعُ عَلَى مَالِكِهَا إِنْ كَانَ الْبَيْعُ أَحَظَّ ، ثُمَّ هَلْ يَجُوزُ لِلْوَاجِدِ أَنْ يَتَمَلَّكَ ثَمَنَهَا أَمْ لَا ؟ اللقطة عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ كَالْأَصْلِ ، وَالثَّانِي : يَجُوزُ لِأَنَّ مَعْنَى الْأَصْلِ مَفْقُودٌ فِي الثَّمَنِ ، فَلَوْ كَانَ عَبْدًا فَبَاعَهُ الْوَاجِدُ لَهُ ، ثُمَّ حَضَرَ الْمَالِكُ فَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : الْقَوْلُ قَوْلُهُ وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ إِنْ طَلَبَهَا الْمُشْتَرِي : لِأَنَّهُ مُقِرٌّ فِي مِلْكٍ لَمْ يَزَلْ . قَالَ الرَّبِيعُ : وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ : إِنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ : لِأَنَّ بَيْعَ الْوَاجِدِ كَبَيْعِهِ فِي اللُّزُومِ ، فَعَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ قَبُولِ قَوْلِهِ يَكُونُ الْبَيْعُ بَاطِلًا ، وَيَصِيرُ الْعَبْدُ حُرًّا وَيَلْزَمُ بَائِعُهُ الْوَاجِدُ أَنْ يَرُدَّ ثَمَنَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي ، سَوَاءٌ بَاعَهُ فِي حَقِّ الْمَالِكِ أَوْ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَلَوْ كَانَ الْوَاجِدُ قَدْ بَاعَهُ فِي حَقِّ الْمَالِكِ وَضَاعَ الثَّمَنُ مِنْ يَدِهِ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَلَى الْوَاجِدِ الْقَابِضِ لَهُ ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْوَاجِدِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَالِكِ بِثَمَنِ مَا قَدْ حَكَمَ بِنُفُوذِ عِتْقِهِ ، فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي خَرَّجَهُ الرَّبِيعُ أَنَّ قَوْلَ الْمَالِكِ فِيهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ ،

فَيَكُونُ الْبَيْعُ نَافِذًا إِنْ حَلَفَ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ وَالْعَبْدُ عَلَى رِقِّهِ لِلْمُشْتَرِي ، ثُمَّ يَنْظُرُ ، فَإِنْ كَانَ الْوَاجِدُ قَدْ بَاعَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ الثَّمَنَ مَا لَمْ يَصْدُقِ الْمَالِكُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ غُرْمُ الْقِيمَةِ : لِادِّعَاءِ الْمَالِكِ حُرِّيَّتَهُ الَّتِي يَسْقُطُ مَعَهَا اسْتِحْقَاقُ قِيمَتِهِ . وَإِنْ كَانَ الْوَاجِدُ قَدْ بَاعَهُ فِي حَقِّ الْمَالِكِ كَانَ الثَّمَنُ مَوْقُوفًا فِي يَدَيْهِ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَالْمَالِكِ ، فَإِنْ عَادَ الْمُشْتَرِي فَأَكْذَبَ نَفْسَهُ وَأَقَرَّ بِالْعِتْقِ ، فَلَهُ اسْتِرْجَاعُ الثَّمَنِ وَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّةِ الْعَبْدِ ، وَإِنَّ عَادَ الْمَالِكُ فَأَكْذَبَ نَفْسَهُ وَأَقَرَّ بِبَقَاءِ الرِّقِّ ، فَفِي قَبُولِ قَوْلِهِ فِي تَمَلُّكِ الثَّمَنِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي مِلْكِ الثَّمَنِ كَمَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي اسْتِرْقَاقِ مَا أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ فِي تَمَلُّكِ الثَّمَنِ ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي اسْتِرْقَاقِ مَا أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ : لِبَقَاءِ الْمِلْكِ عَلَى الثَّمَنِ وَزَوَالِهِ عَنِ الْحُرِّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ مَنْ يَنْتَفِعُ بِاللُّقَطَةِ

مَسْأَلَةٌ : مَنْ يَنْتَفِعُ بِاللُّقَطَةِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَيَأْكُلُ اللُّقَطَةَ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ وَمَنْ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ ، قَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُبَيَّ بْنَ كَعْبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ مِنْ أَيْسَرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوْ كَأَيْسَرِهِمْ وَجَدَ صُرَّةً فِيهَا ثَمَانُونَ دِينَارًا أَنْ يَأْكُلَهَا ، وَأَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ وَجَدَ دِينَارًا فَأَمَرَهُ أَنْ يُعَرِّفَهُ فَلَمْ يُعْرَفْ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ بِأَكْلِهِ ، فَلَمَّا جَاءَ صَاحِبُهُ أَمَرَهُ بِدَفْعِهِ إِلَيْهِ ، وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِمَّنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ : لِأَنَّهُ مِنْ صُلْبِيَّةِ بَنِي هَاشِمٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ يَجُوزُ لِوَاجِدِ اللُّقَطَةِ بَعْدَ تَعْرِيفِهَا حَوْلًا أَنْ يَتَمَلَّكَهَا وَيَأْكُلَهَا ، غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ إِنْ كَانَ فَقِيرًا ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ إِنْ كَانَ غَنِيًّا أَنْ يَتَمَلَّكَهَا ، وَيَكُونُ مُخَيَّرًا فِيهَا بَيْنَ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي يَدِهِ أَمَانَةً لِصَاحِبِهَا أَبَدًا كَالْوَدِيعَةِ ، وَإِمَّا أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَأَمْضَى صَدَقَتَهُ فَلَهُ ثَوَابُهَا وَلَا غُرْمَ عَلَى الْوَاجِدِ ، وَإِنْ لَمْ يُمْضِ الصَّدَقَةَ فَثَوَابُهَا لِلْوَاجِدِ وَعَلَيْهِ غُرْمُهَا : اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا تَصَدَّقْ بِهَا ، وَهَذَا نَصٌّ . قَالَ : وَلِأَنَّهُ مَالٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَلِفَ فِيهِ حَالُ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ كَالزَّكَاةِ ، وَلِأَنَّهُ مَالُ مُسْلِمٍ فَوَجَبَ أَلَّا يَحِلَّ إِلَّا لِلْمُضْطَرِّ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ اللُّقَطَةِ ، وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِوَاجِدِ اللُّقَطَةِ : فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُكَ بِهَا ، يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ . وَرُوِيَ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَجَدَ صُرَّةً فِيهَا ثَمَانُونَ دِينَارًا ، وَرُوِيَ مِائَةُ دِينَارٍ ، فَأَخْبَرَ بِهَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : عَرِّفْهَا حَوْلًا ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَأُبَيٌّ مِنْ أَيْسَرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوْ كَانَ أَيْسَرَهُمْ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُوسِرًا لَصَارَ بِعِشْرِينَ دِينَارًا

مِنْهَا مُوسِرًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْفَقْرَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيهَا ، وَأَنَّ الْغَنِيَّ لَا يُمْنَعُ مِنْهَا ، وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَجَدَ دِينَارًا ، فَأَتَى بِهِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَجَدْتُ هَذَا الدِّينَارَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : عَرِّفْهُ ثَلَاثًا ، فَعَرَّفَهُ ثَلَاثًا فَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهُ ، فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ ، فَقَالَ : كُلْهُ أَوْ سَائِلْ بِهِ . فَابْتَاعَ مِنْهُ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ شَعِيرًا ، وَبِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ تَمْرًا ، وَقَضَى عَنْهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ ، وَابْتَاعَ بِدِرْهَمٍ لَحْمَا ، وَبَدِرْهَمٍ زَيْتًا ، وَكَانَ الصَّرْفُ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا بِدِينَارٍ ، حَتَّى إِذَا أَكَلَهُ جَاءَ صَاحِبُ الدِّينَارِ يَتَعَرَّفُهُ ، فَقَالَ عَلِيٌّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - : قَدْ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَكْلِهِ ، فَانْطَلَقَ صَاحِبُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِذَا جَاءَنَا شَيْءٌ أَدَّيْنَاهُ إِلَيْكَ وَكَانَ صَاحِبُ الدِّينَارِ يَهُودِيًّا . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَعَلِيٌّ مِمَّنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ : لِأَنَّهُ مِنْ طِينَةِ بَنِي هَاشِمٍ ، وَلَوْ كَانَتِ اللُّقَطَةُ تُسْتَبَاحُ بِالْفَقْرِ دُونَ الْغِنَى لَحَظَرَهَا عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِالْتِقَاطِ جَازَ أَنْ يَرْتَفِقَ بِالْأَكْلِ وَالتَّمَلُّكِ كَالْفَقِيرِ ، وَلِأَنَّ مَا ثَبَتَ لِلْفَقِيرِ فِي اللُّقَطَةِ ثَبَتَ لِلْغَنِيِّ كَالنُّسُكِ وَالصَّدَقَةِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا اسْتَبَاحَ الْفَقِيرُ إِتْلَافَهُ بِشَرْطِ الضَّمَانِ اسْتَبَاحَ الْغَنِيُّ إِتْلَافَهُ بِشَرْطِ الضَّمَانِ كَالْقَرْضِ ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ طَعَامُ الْمُضْطَرِّ لِاسْتِوَائِهِمَا فِيهِ ، وَقَدْ جَعَلَ الْمُضْطَرَّ أَصْلًا ، فَيَقُولُ : كُلُّ ارْتِفَاقٍ بِمَالِ الْغَيْرِ إِذَا كَانَ مَضْمُونًا اسْتَوَى فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ ، كَأَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ لِلْمُضْطَرِّ ، وَلِأَنَّهُ اسْتَبَاحَ إِتْلَافَ مَالِ الْغَيْرِ لِمَعْنًى فِي الْمَالِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ حُكْمُ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ ، كَالنَّحْلِ الصَّائِلِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا اسْتُبِيحَ تَنَاوُلُهُ عِنْدَ الْإِيَاسِ فِي الْأَغْلَبِ مِنْ مَالِكِهِ اسْتَوَى فِيهِ حُكْمُ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ كَالرِّكَازِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ اللُّقَطَةِ فِي يَدِ وَاجِدِهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي حُكْمِ الْمَغْصُوبِ ، فَيَجِبُ انْتِزَاعُهَا قَبْلَ الْحَوْلِ وَبَعْدَهُ مِنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ ، أَوْ فِي حُكْمِ الْوَدَائِعِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا فَقِيرٌ وَلَا أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا غَنِيٌّ ، أَوْ حُكْمِ الْكَسْبِ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهَا مُخَالِفٌ لِأُصُولِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الثَّلَاثَةِ فَكَانَ فَاسِدًا . ثُمَّ يُقَالُ لِأَبِي حَنِيفَةَ : الثَّوَابُ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمَقَاصِدِ بِالْأَعْمَالِ لَا عَلَى أَعْيَانِ الْأَفْعَالِ : لِأَنَّ صُوَرَهَا فِي الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ عَلَى سَوَاءٍ ، كَالْمُرَائِي بِصَلَاتِهِ ، ثُمَّ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ثَوَابُ الْعَمَلِ مَوْقُوفًا عَلَى غَيْرِ الْعَامِلِ فِي اسْتِحْقَاقِهِ وَإِحْبَاطِهِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : تَصَدَّقْ بِهَا فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِدَ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَأَذِنَ لَهُ فِيهِ . وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَلَا مَعْنَى لِلْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللُّقَطَةِ : لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَمَلُّكٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِبَدَلٍ ، وَاللُّقَطَةُ تُؤْخَذُ مَضْمُونَةً بِبَدَلٍ ، فَكَانَ الْغَنِيُّ أَحَقَّ بِتَمَلُّكِهَا لِأَنَّهُ أَوْفَى ذِمَّةً ، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمُضْطَرِّ فَقَدْ جَعَلْنَاهُ أَصْلًا ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَا أُحِبُّ لِأَحَدٍ تَرْكَ لُقَطَةٍ وَجَدَهَا إِذَا كَانَ أَمِينًا عَلَيْهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَظَاهِرُ قَوْلِهِ هَاهُنَا : " وَلَا أُحِبُّ تَرْكَ اللُّقَطَةِ " ، يَقْتَضِي

اسْتِحْبَابَ أَخْذِهَا دُونَ إِيجَابِهِ ، وَقَالَ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " : وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ تَرْكَ اللُّقَطَةِ إِذَا وَجَدَهَا . فَكَانَ ظَاهِرُ هَذَا الْقَوْلِ يَدُلُّ عَلَى إِيجَابِ أَخْذِهَا ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ هَذَيْنِ الظَّاهِرَيْنِ ، وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَطَّانِ وَطَائِفَةٌ يُخْرِجُونَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ أَخْذَهَا اسْتِحْبَابٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى ظَاهِرِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤْتَمَنٍ عَلَيْهَا وَلَا مُسْتَوْدِعٌ لَهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ أَخْذَهَا وَاجِبٌ وَتَرْكَهَا مَأْثَمٌ : لِأَنَّهُ كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ حِرَاسَةُ نَفْسِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ ، وَجَبَ عَلَيْهِ حِرَاسَةُ مَالِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ . وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا : لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ ، إِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي لَا يَأْخُذُهَا إِذَا كَانَتْ تُؤْمَنُ عَلَيْهَا وَيَأْخُذُهَا غَيْرُهُ مِمَّنْ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ فِيهَا ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَوْجَبَ عَلَيْهِ أَخْذَهَا إِذَا كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا ، وَيَأْخُذُهَا غَيْرُهُ مِمَّنْ لَا يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ فِيهَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّعَاوُنِ ، وَعَلَى كِلَا الْحَالَتَيْنِ لَا يُكْرَهُ لَهُ أَخْذُهَا إِذَا كَانَ أَمِينًا عَلَيْهَا . وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا كَرِهَا أَخْذَهَا ، وَرُوِيَ أَنَّ شُرَيْحًا مَرَّ بِدِرْهَمٍ فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ ، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ إِبْطَالُ التَّعَاوُنِ وَقَطْعُ الْمَعْرُوفِ ، وَقَدْ أَخَذَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ الصُّرَّةَ الَّتِي وَجَدَهَا ، وَأَخَذَ عَلِيٌّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الدِّينَارَ ، وَأَخْبَرَا بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا وَلَا كَرِهَهُ لَهُمَا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْكِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ فِيمَنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهَا أَوْ ضَعِيفًا عَنِ الْقِيَامِ بِهَا ، وَنَحْنُ نَكْرَهُ لِغَيْرِ الْأَمِينِ عَلَيْهَا وَلِلضَّعِيفِ عَنِ الْقِيَامِ بِهَا أَنْ يَتَعَرَّضَ لِأَخْذِهَا ، وَإِنَّمَا نَأْمُرُ بِهِ مَنْ كَانَ أَمِينًا قَوِيًّا ، فَلَوْ تَرَكَهَا الْقَوِيُّ الْأَمِينُ حَتَّى هَلَكَتْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَسَاءَ ، فَإِنْ أَخَذَهَا لَزِمَهُ الْقِيَامُ بِهَا ، وَإِنْ تَرَكَهَا بَعْدَ الْأَخْذِ لَزِمَهُ الضَّمَانُ ، وَلَوْ رَدَّهَا عَلَى الْحَاكِمِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ الضَّوَالِّ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِ الضَّوَالِّ فَضَمِنَهَا ، وَغَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ أَخْذِ اللُّقَطَةِ فَلَمْ يَضْمَنْهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " فَعَرَّفَهَا سَنَةً عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ وَالْأَسْوَاقِ وَمَوَاضِعِ الْعَامَّةِ ، وَيَكُونُ أَكْثَرُ تَعْرِيفِهِ فِي الْجُمُعَةِ الَّتِي أَصَابَهَا فِيهَا ، فَيَعْرِفُ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا وَعَدَدَهَا وَوَزْنَهَا وَحِلْيَتَهَا وَيَكْتُبُهَا وَيَشْهَدُ عَلَيْهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : وَاجِدُ اللُّقَطَةِ وَإِنْ كَانَ مُخَيَّرًا فِي أَخْذِهَا ، فَعَلَيْهِ بَعْدَ الْأَخْذِ الْقِيَامُ بِهَا وَالْتِزَامُ الشُّرُوطِ فِي حِفْظِهَا عَلَى مَالِكِهَا ، وَالشُّرُوطِ الَّتِي يُؤْمَرُ بِهَا أَخْذُ اللُّقَطَةِ سَبْعَةُ أَشْيَاءٍ جَاءَ النَّصُّ بِبَعْضِهَا وَالتَّنْبِيهُ عَلَى بَاقِيهَا : أَحَدُهَا : مَعْرِفَةُ عِفَاصِهَا ، وَهُوَ ظَرْفُهَا الَّذِي هِيَ فِيهِ عِنْدَ الْتِقَاطِهَا . وَالشَّرْطُ التَّالِي : مَعْرِفَةُ وِكَائِهَا ، وَهُوَ الْخَيْطُ الْمَشْدُودَةُ بِهِ ، وَبِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ جَاءَ النَّصُّ ، وَلِأَنَّهَا تَتَمَيَّزُ بِمَعْرِفَةِ هَذَيْنِ عَنْ جَمِيعِ أَمْوَالِهِ فَيَأْمَنُ اخْتِلَاطَهَا بِهَا . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : مَعْرِفَةُ عَدَدِهَا تَنْبِيهًا بِالنَّصِّ : لِأَنَّ مَعْرِفَةَ عَدَدِهَا أَحْوَطُ مِنْ تَمَيُّزِهَا عَنِ الظَّرْفِ : لِأَنَّ الظَّرْفَ قَدْ يُشْتَبَهُ .

وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ : مَعْرِفَةُ وَزْنِهَا ، لِيَصِيرَ بِهِ مَعْلُومًا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِهِ أَنَّهُ وَجَبَ غُرْمُهَا . وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ : أَنْ يَكْتُبَ بِمَا وَصَفْنَاهُ مِنْ أَوْصَافِهَا كِتَابًا ، وَأَنَّهُ الْتَقَطَهَا مِنْ مَوْضِعِ كَذَا فِي وَقْتِ كَذَا : لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ ذَكَرَ الْمَكَانَ وَالزَّمَانَ مِمَّا يَذْكُرُهُ الطَّالِبُ مِنْ أَوْصَافِهَا . وَالشَّرْطُ السَّادِسُ : أَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِهَا شَاهِدَيْنِ ، أَوْ شَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ ، لِيَكُونَ وَثِيقَةً عَلَيْهِ خَوْفًا مِنْ حُدُوثِ طَمَعِهِ فِيهَا ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا مَاتَ وَلَمْ يَعْلَمْ وَارِثُهُ بِهَا أَوْ غُرَمَاؤُهُ ، وَلِئَلَّا يَحْدُثَ مِنَ الْوَرَثَةِ طَمَعٌ ، وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَالَ لِوَاجِدِ اللُّقَطَةِ : وَأَشْهِدْ ذَوَيْ عَدْلٍ . وَالشَّرْطُ السَّابِعُ : أَنْ يُعَرِّفَهَا ، لِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ لِوَاجِدِهَا ، وَلِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى عِلْمِ مَالِكِهَا إِلَّا بِالتَّعْرِيفِ لَهَا ، فَإِذَا أَكْمَلَ حَالَ هَذِهِ الشُّرُوطِ السَّبْعَةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ صِفَةِ التَّعْرِيفِ ، فَقَدْ أَقَامَ بِحُقُوقِهَا . وَرُبَّمَا اسْتَغْنَى عَنْ بَعْضِ هَذِهِ الشُّرُوطِ فِي بَعْضِ اللُّقَطَةِ : لِأَنَّهُ رُبَّمَا وَجَدَ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا ، فَلَا يَكُونُ لَهُ عِفَاصٌ وَلَا وِكَاءٌ ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا ، وَالْوَاجِبُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ شَرْطَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا وَثَالِثٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ . أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِمَا تَمْيِيزُهَا عَنْ أَمْوَالِهِ كُلِّهَا بِأَيِّ وَجْهٍ تَمَيَّزَتْ بِهِ ، سَوَاءٌ احْتَاجَ مَعَهُ إِلَى مَعْرِفَةِ عِفَاصٍ وَوِكَاءٍ أَوْ لَمْ يَحْتَجْ ، وَالثَّانِي التَّعْرِيفُ الَّذِي بِهِ يَصِلُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَالِكِ وَإِعْلَامِهِ ، وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَالْإِشْهَادُ عَلَيْهَا . وَلِأَصْحَابِنَا فِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ عَلَى اللُّقَطَةِ وَالْمَلْقُوطِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْإِشْهَادَ فِيهِمَا وَاجِبٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْوَثِيقَةِ وَفِي تَرْكِهِ مِنَ التَّغْرِيرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْإِشْهَادَ فِيهِمَا مُسْتَحَبٌّ : لِأَنَّ الْوَاجِدَ مُؤْتَمَنٌ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِشْهَادُ كَالْوَصِيِّ وَالْمُودِعِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى الْتِقَاطِ الْمَنْبُوذِ وَاجِبٌ ، وَالْإِشْهَادُ عَلَى أَخْذِ اللُّقَطَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ اللُّقَطَةَ كَسْبُ مَالٍ ، فَكَانَ أَمْرُهَا أَخَفَّ ، وَاللَّقِيطُ يَتَعَلَّقُ بِهِ نَسَبٌ وَإِثْبَاتُ حُرِّيَّةٍ فَكَانَ أَمْرُهُ أَغْلَظَ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ لَمَّا كَانَ اكْتِسَابَ مَالٍ لَمْ يَجِبْ فِيهِ الشَّهَادَةُ ، وَلَمَّا كَانَ النِّكَاحُ مُفْضِيًا إِلَى إِثْبَاتِ نَسَبٍ وَجَبَتْ فِيهِ الشَّهَادَةُ ؟ !

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ شُرُوطِهَا فَسَنَشْرَحُ حَالَ الْمَقْصُودِ مِنْهَا وَهُوَ التَّعْرِيفُ ، وَالْكَلَامُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : فِي مُدَّةِ التَّعْرِيفِ . وَالثَّانِي : فِي مَكَانِ التَّعْرِيفِ . وَالثَّالِثُ : فِي صِفَةِ التَّعْرِيفِ . فَأَمَّا مُدَّةُ التَّعْرِيفِ اللُّقَطَةَ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُعَرِّفُهَا حَوْلًا كَامِلًا ، وَلَا يَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ ، وَلَا يُجْزِئُهُ النُّقْصَانُ عَنْهُ ، وَقَالَ شَاذٌّ مِنَ الْفُقَهَاءِ : يَلْزَمُهُ أَنْ يُعَرِّفَهَا ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ ، لَا يُجْزِيهِ أَقَلُّ مِنْهَا : اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَمَرَ وَاجِدَ اللُّقَطَةِ أَنْ يُعَرِّفَهَا حَوْلًا ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعَرِّفَهَا حَوْلًا ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : عَلَيْهِ تَعْرِيفُهَا شَهْرًا وَاحِدًا ، وَرَوَى فِي ذَلِكَ خَبَرًا . وَقَالَ آخَرُ : يُعَرِّفُهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ بِتَعْرِيفِهَا ثَلَاثًا ، وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ تَعْرِيفِهَا حَوْلًا حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُكَ بِهَا ، وَحَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ بِتَعْرِيفِهَا حَوْلًا .

وَلِأَنَّ الْحَوْلَ فِي الشَّرْعِ أَصْلٌ مُعْتَبَرٌ فِي الزَّكَاةِ وَالْحُرِّيَّةِ ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي اللُّقَطَةِ ، وَلِأَنَّ الْحَوْلَ جَمِيعُ فُصُولِ الْأَزْمِنَةِ الْأَرْبَعَةِ وَيَنْتَهِي إِلَى مِثْلِ زَمَانِ وُجُودِهَا ، فَكَانَ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا دُونَهُ تَقْصِيرًا وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مَشَقَّةٌ ، فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ أَنْ يُعَرِّفَهَا حَوْلًا ، ثُمَّ حَوْلًا ، ثُمَّ حَوْلًا ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنِ اخْتَارَ ذَلِكَ فَسَأَلَهُ عَنِ الْجَوَازِ دُونَ الْوُجُوبِ . وَالثَّانِي : يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ أَمَرَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَنْ يُعَرِّفَهَا حَوْلًا ، فَكَانَ الْحَوْلُ وَاحِدًا وَالْأَمْرُ بِهِ ثَلَاثًا . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ أَحْمَدَ عَلَى الشَّهْرِ بِالْخَبَرِ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْ حَوْلِهِ شَهْرٌ ، وَأَمَّا مَنِ اسْتَدَلَّ بِأَنَّهُ أَمَرَ عَلِيًّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَنْ يُعَرِّفَهُ ثَلَاثًا ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : حَمْلُهُ عَلَى الْأَمْرِ ثَلَاثًا بِالتَّعْرِيفِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَمَرَهُ بِتَعْرِيفِهِ بِنَفْسِهِ ثَلَاثًا لِيَسْتَكْمِلَ غَيْرُهُ مُدَّةَ التَّعْرِيفِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ مِنْ ضَرُورَتِهِ مَا أَبَاحَ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ بُلُوغِ أَجَلِهِ ، فَإِنَّ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَسْتَبِيحَ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ مَا يَدْفَعُ بِهِ ضَرُورَةَ وَقْتِهِ ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ حَيْثُ قَالَ : إِذَا صَادَفَ الْمَلِكَ دِينَارٌ وَقَدْ حَلَّتْ لَهُ عِنْدَ الضَّرُورَاتِ اللُّقَطْ دِينَارُكَ اللَّهُ تَوَلَّى نَقْشَهُ كَذَلِكَ الْحِنْطَةُ مِنْ خَيْرِ الْحِنَطْ فَإِذَا وَجَبَ تَعْرِيفُهَا حَوْلًا بِمَا ذَكَرْنَا ، فَأَوَّلُ وَقْتِ الْحَوْلِ مِنِ ابْتِدَاءِ التَّعْرِيفِ لَا مِنْ وَقْتِ الْوُجُودِ للقطة ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَدِيمَ تَعْرِيفَهَا فِي جَمِيعِ نَهَارِهِ ، وَلَكِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَشِيعَ أَمْرَهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ بِالنِّدَاءِ عَلَيْهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ، لَا سِيَّمَا فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ وَأَوَّلِهِ ، ثُمَّ يَصِيرُ التَّعْرِيفُ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا حَتَّى يَصِيرَ فِي الْأُسْبُوعِ مَرَّةً لَا يُقَصِّرُ عَنْهَا ، فَلَوْ عَرَّفَهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ أَمْسَكَ عَنْ تَعْرِيفِهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ ، فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَوْفٍ لِمُدَّةِ التَّعْرِيفِ وَعَلَيْهِ أَنْ يُعَرِّفَهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ أُخْرَى لِيَسْتَكْمِلَ الْحَوْلَ فِي تَعْرِيفِهَا ، ثُمَّ يَنْظُرَ حَالَهُ عِنْدَ إِمْسَاكِهِ لَهَا بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ تَعْرِيفِهَا ، فَإِنْ كَانَ قَدْ نَوَى تَمَلُّكَهَا فَقَدْ ضَمِنَهَا وَلَا يَصِيرُ مَالِكًا لَهَا ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ تَمَلُّكَهَا فَهَلْ يَصِيرُ ضَامِنًا لَهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا قَدْ ضَمِنَهَا : لِأَنَّ إِمْسَاكَهُ عَنِ التَّعْرِيفِ تَقْصِيرٌ ، وَالثَّانِي لَا يُضَمِّنُهَا : لِأَنَّ إِتْيَانَهُ بِالتَّعْرِيفِ يُوجِبُ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءَ جَمِيعِهِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَقْصِيرًا ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا مَكَانُ التَّعْرِيفِ اللقطة فَفِي مَجَامِعِ النَّاسِ وَمَحَافِلِهِمْ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي وَجَدَهَا فِيهِ ، وَإِنْ وَجَدَهَا وَاجِدُهَا فِي صَحْرَاءَ قَفْرٍ أَوْ عَلَى جَادَّتِهَا مِنَ الْبِلَادِ الْمُقَارِبَةِ لَهَا ، وَلْيَكُنْ تَعْرِيفُهَا عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ ، فَقَدْ سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّتَهُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاشِدُ غَيْرُكَ الْوَاجِدُ ، وَلْيُكْثِرْ مِنْ تَعْرِيفِهَا فِي مَحَاطِّ الرِّجَالِ وَمُنَاخِ الْأَسْفَارِ وَفِي الْأَسْوَاقِ ، فَأَمَّا الضَّوَاحِي الْخَالِيَةُ فَلَا يَكُونُ إِنْشَادُهَا فِيهِ تَعْرِيفًا . وَرَوَى الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : وَيَكُونُ أَكْثَرُ تَعْرِيفِهَا فِي الْجُمُعَةِ الَّتِي أَصَابَهَا فِيهِ . وَرَوَى الرَّبِيعُ عَنْ أَنَّهُ قَالَ فِي الْجَمَاعَةِ الَّتِي أَصَابَهَا فِيهَا ، فَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَنْسِبُ الْمُزَنِيَّ

إِلَى الْغَلَطِ فِي رِوَايَتِهِ وَأَنَّ الْأَصَحَّ رِوَايَةُ الرَّبِيعِ : لِأَنَّ الْجُمُعَةَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْأَيَّامِ فِي التَّعْرِيفِ سَوَاءٌ ، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِتَعْرِيفِهَا فِي الْجَمَاعَةِ الَّتِي أَصَابَهَا فِيهِ : لِأَنَّ مَنْ ضَاعَ مِنْهُ شَيْءٌ فِي جَمَاعَةٍ فَالْأَغْلَبُ أَنَّهُ يُلَازِمُ طَلَبَهُ فِي تِلْكَ الْجَمَاعَةِ . وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا : إِنَّ كِلَا الرِّوَايَتَيْنِ صَحِيحَةٌ وَلَهُمْ فِي اسْتِعْمَالِ رِوَايَةِ الْمُزَنِيِّ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّهُ إِنَّمَا خَصَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِكَثْرَةِ التَّعْرِيفِ للقطة فِيهِ عَلَى سَائِرِ الْأَيَّامِ : لِاجْتِمَاعِ الْأَبَاعِدِ فِيهِ وَإِشْهَارِ مَا يَكُونُ فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ رِوَايَةَ الْمُزَنِيِّ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِدَ أَصَابَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَيَكُونُ أَكْثَرُ تَعْرِيفِهِ لَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ : لِأَنَّهَا رُبَّمَا سَقَطَتْ مِمَّنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ إِلَّا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ ، وَرِوَايَةُ الرَّبِيعِ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهُ وَجَدَهَا فِي جَمَاعَةٍ ، فَيَكُونُ أَكْثَرُ تَعْرِيفِهِ لَهَا فِي تِلْكَ الْجَمَاعَةِ : لِأَنَّهَا الْأَغْلَبُ مِنْ بِقَاعِ طَالِبِهَا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا صِفَةُ التَّعْرِيفِ اللُّقَطَةَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَقُولَ : مَنْ ضَاعَ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَلَا يَذْكُرُ جِنْسَهُ ، وَهَذَا أَوْلَى الْأَمْرَيْنِ ، وَإِمَّا أَنْ يُذْكَرَ الْجِنْسُ فَيَقُولُ : مَنْ ضَاعَتْ مِنْهُ دَرَاهِمُ ، أَوْ مَنْ ضَاعَتْ مِنْهُ دَنَانِيرُ ، وَلَا يَصِفُهَا بِجَمِيعِ أَوْصَافِهَا فَيُنَازَعُ فِيهَا ، فَإِنْ وَصَفَهَا بِجَمِيعِ أَوْصَافِهَا مِنَ الْعَدَدِ وَالْوَزْنِ وَذِكْرِ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهَا لَا تُدْفَعُ إِلَى الطَّالِبِ بِمُجَرَّدِ الصِّفَةِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : عَلَيْهِ الضَّمَانُ : لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ الْحَاكِمُ مِمَّنْ يَرَى دَفْعَهَا بِالصِّفَةِ ، فَإِذَا سَمِعَهَا بِالتَّعْرِيفِ مَنْ تَقِلُّ أَمَانَتَهُ أَسْرَعَ إِلَى ادِّعَائِهَا ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُعَرِّفُ لَهَا مَأْمُونًا غَيْرَ مَشْهُورٍ بِالْخَلَاعَةِ وَالْمِزَاحِ حَتَّى لَا يُنْسَبَ عِنْدَ التَّعْرِيفِ إِلَى الْكَذِبِ وَالْمُجُونِ ، فَإِنْ وَجَدَ مُتَطَوِّعًا بِالتَّعْرِيفِ فَهُوَ أَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا مُسْتَعْجِلًا ، فَإِنْ تَطَوَّعَ الْوَاجِدُ بِبَدَلٍ جَعَلَهُ مِنْ مَالِهِ كَانَ مُحْسِنًا ، وَإِنْ دَفَعَهُ دَيْنًا عَلَى صَاحِبِهَا اسْتَأْذَنَ فِيهِ حَاكِمًا لِيَصِحَّ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى اسْتِئْذَانِهِ وَأُشْهِدَ بِالرُّجُوعِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَرْجِعُ ، وَالثَّانِي : لَا يَرْجِعُ .

فَصْلٌ : فَلَوْ ضَاعَتِ اللُّقَطَةُ مِنَ الْوَاجِدِ لَهَا فَالْتَقَطَهَا آخَرُ ، ثُمَّ عَلِمَ الْوَاجِدُ الْأَوَّلُ بِهَا ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ تَمَلَّكَهَا الْأَوَّلُ عِنْدَ اسْتِكْمَالِ تَعْرِيفِهَا حَوْلًا ، فَالْمُلْتَقِطُ الْأَوَّلُ أَحَقُّ بِهَا مِنَ الثَّانِي : لِاسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ اسْتِكْمَالِ الْأَوَّلِ لِتَعْرِيفِهَا حَوْلًا ، فَفِي أَحَقِّهِمَا بِهَا وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ كَجٍّ : أَحَدُهُمَا : الْأَوَّلُ لِتَقَدُّمِ يَدِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الثَّانِي أَحَقُّ بِهَا لِثُبُوتِ يَدِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَهِيَ لَهُ بَعْدَ سَنَةٍ عَلَى أَنَّهُ مَتَى جَاءَ صَاحِبُهَا فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَهُوَ غَرِيمٌ إِنْ كَانَ اسْتَهْلَكَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا اسْتَكْمَلَ تَعْرِيفَهَا حَوْلًا ، كَانَ بَعْدَهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ فِي يَدِهِ أَمَانَةً ، وَبَيْنَ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْحَاكِمِ لِيَحْفَظَهَا عَلَى مَالِكِهَا بِأَنْ يَضَعَهَا فِي بَيْتِ

الْمَالِ أَوْ عَلَى يَدِ أَمِينٍ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : لَا يَجُوزُ لِلْوَاجِدِ بَعْدَ تَعْرِيفِ الْحَوْلِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا اللُّقَطَةَ ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَضَعَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ كَانَ غَنِيًّا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا لَمْ يَجُزْ لِعَجْزِ الْفَقِيرِ عَنِ الْغُرْمِ وَقُدْرَةِ الْغَنِيِّ عَلَيْهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ لِلْفَقِيرِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا دُونَ الْغَنِيِّ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى جَمِيعِهِمْ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُكَ بِهَا ، وَرُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَالَ : فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَهِيَ لَكَ ، وَقَدْ أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يَتَمَلَّكَ الدِّينَارَ وَهُوَ لَا يَجِدُ غُرْمَهُ حَتَّى غَرِمَهُ عَنْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَأَذِنَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنْ يَتَمَلَّكَ الصُّرَّةَ وَهُوَ غَنِيٌّ ، فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلِأَنَّ الْوَاجِدَ لَوْ مُنِعَ بَعْدَ الْحَوْلِ مِنْ تَمَلُّكِهَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ لَا يَرْغَبَ الْوَاجِدُ فِي أَخْذِهَا ، وَإِمَّا أَنْ تَدْخُلَ الْمَشَقَّةُ عَلَيْهِ فِي اسْتِدَامَةِ إِمْسَاكِهَا ، فَكَانَ إِبَاحَةُ التَّمْلِيكِ لَهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ أَحَثُّ عَلَى أَخْذِهَا وَأَحْفَظُ عَلَى مَالِكِهَا لِثُبُوتِ غُرْمِهَا فِي ذِمَّتِهِ ، فَلَا تَكُونُ مُعَرَّضَةً لِلتَّلَفِ وَلِيَكُونَ ارْتِفَاقُ الْوَاجِدِ بِمَنْفَعَتِهَا فِي مُقَابَلَةِ مَا عَانَاهُ فِي حِفْظِهَا وَتَعْرِيفِهَا ، وَهَذِهِ كُلُّهَا مَعَانٍ اسْتَوَى فِيهَا الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ . ثُمَّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي أَخْذِهَا لِلتَّعْرِيفِ وَتَمَلُّكِهَا بَعْدَ الْحَوْلِ فى اللُّقَطَةَ : لِأَنَّهَا كَسْبٌ يَسْتَوِي فِيهَا الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : لَا حَقَّ لِلذِّمِّيِّ فِيهَا ، فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِهَا وَتَمَلُّكِهَا : لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّعْرِيفِ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ عَلَى مُسْلِمٍ وَلَا مِمَّنْ يَمْلِكُ مَرَافِقَ دَارِ الْإِسْلَامِ كَإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ تَمَلُّكِهَا بَعْدَ الْحَوْلِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بِمَاذَا يَصِيرُ مَالِكًا للقطة ، عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا أَنَّهُ يَصِيرُ مَالِكًا لَهَا بِمُضِيِّ الْحَوْلِ وَحْدَهُ ، إِلَّا أَنْ يَخْتَارَ أَنْ تَكُونَ أَمَانَةً ، فَلَا تَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ : لِأَنَّهُ كَسْبٌ عَلَى غَيْرِ بَدَلٍ ، فَأَشْبَهَ الرِّكَازَ وَالِاصْطِيَادَ ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَمْلِكُهَا بَعْدَ مُضِيِّ الْحَوْلِ بِاخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَرِ التَّمَلُّكَ لَمْ يَمْلِكْ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُكَ بِهَا ، فَرَدَّ أَمْرَهَا إِلَى اخْتِيَارِهِ ، وَلِأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ التَّمَلُّكُ بَعْدَ الْحَوْلِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُؤْتَمَنًا ، فَاقْتَضَى أَلَّا يَنْتَقِلَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ إِلَّا بِاخْتِيَارِ مَا أُبِيحَ لَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا بَعْدَ مُضِيِّ الْحَوْلِ إِلَّا بِالِاخْتِيَارِ وَالتَّصَرُّفِ ، وَهُوَ مَا لَمْ يَتَصَرَّفْ غَيْرُ مَالِكٍ : لِأَنَّ التَّصَرُّفَ مِنْهُ كَالْقَبْضِ فَأَشْبَهَ الْهِبَةَ .

فَصْلٌ : فَإِذَا صَارَ مَالِكُهَا كَمَا ذَكَرْنَا فَقَدْ ضَمِنَهَا لِصَاحِبِهَا ، فَمَنْ جَاءَ طَالِبًا لَهَا رَجَعَ بِهَا إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً ، وَلَيْسَ لِلْمُتَمَلِّكِ أَنْ يَعْدِلَ بِهِ مَعَ بَقَائِهَا إِلَى بَدَلِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً رَجَعَ بِبَدَلِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ ذَا مَثَلٍ رَجَعَ بِمِثْلِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذِي مَثَلٍ رَجَعَ بِقِيمَتِهَا حِينَ تَمَلَّكَهَا : لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ صَارَ ضَامِنًا لَهَا ، فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْقِيمَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُتَمَلِّكِهَا : لِأَنَّهُ غَارِمٌ ، فَلَوْ كَانَتْ عِنْدَ مَجِيءِ صَاحِبِهَا بَاقِيَةً بِعَيْنِهَا لَكِنْ قَدْ حَدَثَ فِيهَا نَمَاءٌ مُنْفَصِلٌ ، رَجَعَ بِالْأَصْلِ دُونَ النَّمَاءِ : لِحُدُوثِ النَّمَاءِ عَلَى مِلْكِ الْوَاجِدِ ، فَلَوْ عَرَفَ الْوَاجِدُ صَاحِبَهَا ، وَجَبَ عَلَيْهِ إِعْلَامُهُ بِهَا ، ثُمَّ يَنْظُرُ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ تَمَلُّكِهَا فَمُؤْنَةُ رَدِّهَا عَلَى صَاحِبِهَا دُونَ الْوَاجِدِ كَالْوَدِيعَةِ ، فَإِنْ كَانَ قَصَدَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا الْوَاجِدُ فَمُؤْنَةُ

رَدِّهَا عَلَيْهِ دُونَ صَاحِبِهَا : لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ مَا لَمْ تَصِلْ إِلَى يَدِ صَاحِبِهَا . وَقَالَ الْكَرَابِيسِيُّ : إِذَا تَمَلَّكَ الْوَاجِدُ اللُّقَطَةَ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ لِصَاحِبِهَا ، وَلَكِنْ لَهُ الرُّجُوعُ بِهَا بَعْدَ التَّمَلُّكِ ، وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً بِعَيْنِهَا . اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُكَ بِهَا ، وَرُوِيَ : إِلَّا فَهِيَ لَكَ . فَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِ بَدَلًا ، وَلِأَنَّهُ تَمَلُّكٌ كَالرِّكَازِ ، فَلَمَّا مَلَكَ الرِّكَازَ بِغَيْرِ بَدَلٍ مَلَكَ اللُّقَطَةَ أَيْضًا بِغَيْرِ بَدَلٍ . وَهَذَا قَوْلٌ خَالَفَ فِيهِ نَصَّ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ : لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ عَلِيًّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْغُرْمِ ، فَلَمَّا أَعْسَرَ غَرَمَهُ عَنْهُ ، وَلِأَنَّ مَقْصُودَ اللُّقَطَةِ حِفْظُهَا عَلَى مَالِكِهَا ، وَفِي إِسْقَاطِ الْغُرْمِ اسْتِهْلَاكٌ لَهَا ، وَلِأَنَّ مِلْكَ الْمُسْلِمِ لَا يُسْتَبَاحُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ إِلَّا بِبَدَلٍ ، كَأَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ ، فَأَمَّا الرِّكَازُ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ حِفْظَهُ عَلَى مَالِكِهِ ، وَلِذَلِكَ سَقَطَ تَعْرِيفُهُ وَصَارَ كَسْبًا مَحْضًا لِذَلِكَ وَجَبَ خُمُسُهُ ، فَافْتَرَقَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَسَوَاءٌ قَلِيلُ اللُّقَطَةِ وَكَثِيرُهَا ، فَيَقُولُ مَنْ ذَهَبَتْ لَهُ دَنَانِيرُ إِنْ كَانَتْ دَنَانِيرَ ، وَمَنْ ذَهَبَتْ لَهُ دَرَاهِمُ إِنْ كَانَتْ دَرَاهِمَ ، وَمَنْ ذَهَبَ لَهُ كَذَا ، وَلَا يَصِفُهَا فَيُنَازِعُ فِي صِفَتِهَا ، أَوْ يَقُولُ جُمْلَةً إِنَّ فِي يَدَيَّ لُقَطَةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ اللُّقَطَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا كَانَ لَهُ قِيمَةٌ وَإِذَا ضَاعَ مِنْ مَالِكِهِ طَلَبَهُ اللقطة كَالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ ، فَهَذَا يَجِبُ تَعْرِيفُهُ عَلَى وَاجِدِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا كَانَ تَافِهًا حَقِيرًا لَا قِيمَةَ لَهُ اللقطة كَالتَّمْرَةِ وَالْجَوْزَةِ ، فَهَذَا لَا يَجِبُ تَعْرِيفُهُ ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَمِعَ رَجُلًا يُعَرِّفُ فِي الطَّوَافِ زَبِيبَةً ، فَقَالَ : إِنَّ مِنَ الْوَرَعِ مَا يَمْقُتُهُ اللَّهُ ، وَأَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْحَسَنِ تَمْرَةً وَجَدَهَا وَقَالَ : لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ لَتَرَكْتُهَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا كَانَ لَهُ قِيمَةٌ إِلَّا أَنَّهُ لَا تَتْبَعُهُ نَفْسُ صَاحِبِهِ وَلَا يَطْلُبُهُ إِنْ ضَاعَ مِنْهُ اللقطة ، كَالرَّغِيفِ وَالدَّانَقِ مِنَ الْفِضَّةِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ تَعْرِيفِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجِبُ لِكَوْنِهِ ذَا قِيمَةٍ ، وَالثَّانِي لَا يَجِبُ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَطْلُوبٍ ، ثُمَّ مَا وَجَبَ تَعْرِيفُهُ مِنْ قَلِيلِ ذَلِكَ أَوْ كَثِيرِهِ عَرَّفَهُ حَوْلًا كَامِلًا ، لَا يَجُزْ بِهِ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فِي الْقَلِيلِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْكَثِيرِ . وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ : تَعْرِيفُ الْحَوْلِ يَلْزَمُ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا ، وَمَا دُونُ الْعَشَرَةِ يُعَرِّفُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ . قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ : مَا دُونَ الدِّينَارِ يُعَرِّفُهُ جُمُعَةً . وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي الدِّرْهَمِ : يُعَرِّفُهُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : عَرِّفْهَا حَوْلًا ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا وَجَدَ سَوْطًا أَنْ يُعَرِّفَهُ حَوْلًا ، فَأَمَّا صِفَةُ التَّعْرِيفِ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .


مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " فَإِنْ كَانَ مَوْلِيًّا عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ صِغَرٍ ، ضَمَّهَا الْقَاضِيَ إِلَى وَلِيِّهِ وَفَعَلَ فِيهَا مَا يَفْعَلُ الْمُلْتَقِطُ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا وَجَدَ اللُّقَطَةَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ أَوْ صِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ ، لَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهَا فِي يَدِهِ : لِأَنَّهُ مَنَعَهُ الْحَجْرُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ نَفْسِهِ ، فَأَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ غَيْرِهِ . وَعَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْ يَدِهِ لِيَقُومَ بِتَعْرِيفِهَا حَوْلًا ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا دَفَعَهَا الْوَلِيُّ إِلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِئْ صَاحِبُهَا فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَفْعَلَ بِهَا أَحَظَّ الْأَمْرَيْنِ لِلْمَوْلِيِّ عَلَيْهِ مِنْ تَمَلُّكِهَا لَهُ أَوْ تَرْكِهَا أَمَانَةً لِصَاحِبِهَا ، فَإِنْ رَأَى أَنْ يَتَمَلَّكَهَا لَهُ جَازَ : لِأَنَّهَا كَسْبٌ لَهُ بِوُجُودِهِ لَهَا وَلَيْسَتْ كَسْبًا لِوَلِيِّهِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْلِيُّ عَلَيْهِ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا ، كَانَ الْوَلِيُّ هُوَ الَّذِي يَتَمَلَّكُهَا لَهُ : لِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا قَبُولُ تَمَلُّكٍ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُمَا قَبُولُ وَصِيَّةٍ وَلَا هِبَةٍ ، وَإِنْ كَانَ سَفِيهًا كَانَ هُوَ الْمُمْتَلِكُ لَهَا عَنْ إِذْنِ الْوَلِيِّ بَعْدَ اجْتِهَادِهِ فِي أَنَّ أَحَظَّ الْأَمْرَيْنِ هُوَ التَّمَلُّكُ : لِأَنَّ السَّفِيهَ لَا يُمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ ، بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ، ثُمَّ إِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا فَغُرْمُهَا فِي مَالِ الْمَوْلِيِّ عَلَيْهِ لِدُخُولِهَا فِي مِلْكِ الْمَوْلِيِّ عَلَيْهِ دُونَ الْوَلِيِّ ، وَإِنْ رَأَى الْوَلِيُّ أَنْ أَحَظَّ الْأَمْرَيْنِ لِلْمَوْلِيِّ عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ أَمَانَةً لِصَاحِبِهَا ، لَا يَكُونُ غُرْمُهَا مُسْتَحَقًّا فِي مَالِ الْمَوْلِيِّ عَلَيْهِ ، وَكَانَتْ عَلَى حَالِهَا أَمَانَةً مُقَرَّةً فِي يَدِ الْوَلِيِّ ، فَلَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ أَوْ فُكَّ الْحَجْرُ عَنِ السَّفِيهِ فَأَرَادَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا وَيَنْزِعَهَا مِنْ وَلِيِّهِ بَعْدَ أَنْ نَوَى الْأَمَانَةَ فِيهَا ، كَانَ ذَلِكَ لِلْمَوْلِيِّ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا مِنِ اكْتِسَابِهِ وَهُوَ الْآنَ أَقْوَمُ بِمَصَالِحِهِ ، فَهَذَا حُكْمُهَا إِنْ أَخْذَهَا الْوَلِيُّ مِنَ الْمَوْلِيِّ عَلَيْهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا أَنْ يَأْخُذَهَا الْوَلِيُّ مِنْ يَدِهِ ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ بِهَا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا ، فَقَدْ ضَمِنَهَا لِمَالِكِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهَا ، فَإِنْ تَلِفَتْ فِي يَدِ الْمَوْلِيِّ عَلَيْهِ اللقطة إذا التقطها صبي أو مجنون لَمْ يَخْلُ تَلَفُهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ بِجِنَايَةٍ مِنْهُ ، وَجَبَ غُرْمُهَا فِي مَالِهِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ مَالِهِ غُرْمُ سَائِرِ جِنَايَاتِهِ ، وَإِنْ كَانَ تَلَفُهَا بِغَيْرِ جِنَايَةٍ مِنْهُ ، فَفِي وُجُوبِ غُرْمِهَا فِي مَالِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجِبُ وَيَكُونُ أَخْذُهُ لَهَا عُدْوَانَا مِنْهُ . وَالثَّانِي : لَا يَجِبُ الْغُرْمُ : لِأَنَّ الْوَلِيَّ لَوْ أَخَذَهَا مِنْهُ لَمَا وَجَبَ فِي مَالِهِ غُرْمُهَا ، فَلَوْ لَمْ تَتْلَفْ وَكَانَتْ بَاقِيَةً فِي يَدِهِ حَتَّى انْفَكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ وَصَارَ رَشِيدًا ، فَلَهُ تَعْرِيفُهَا ، وَهَلْ يَكُونُ ضَامِنًا لَهَا فِي مُدَّةِ التَّعْرِيفِ أَمْ لَا ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي غُرْمِهَا قَبْلَ فَكِّ الْحَجْرِ لَوْ تَلِفَتْ ، ثُمَّ لَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا إِنْ شَاءَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " فَإِنْ كَانَ عَبْدًا أُمِرَ بِضَمِّهَا إِلَى سَيِّدِهِ ، فَإِنْ عَلِمَ بِهَا السَّيِّدُ فَأَقَرَّهَا فِي يَدَيْهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ . ( قَالَ ) فِيمَا وَضَعَ بِخَطِّهِ - لَا أَعْلَمُهُ سُمِعَ مِنْهُ - : لَا غُرْمَ عَلَى الْعَبْدِ حَتَى يُعْتَقَ مِنْ قِبَلِ أَنَّ لَهُ أَخْذَهَا " ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) " الْأَوَّلُ أَقْيَسُ إِذَا كَانَتْ فِي الذِّمَةِ ، وَالْعَبْدُ عِنْدِي لَيْسَ بِذِي ذِمَّةٍ " ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا السَّيِّدُ فَهِيَ فِي رَقَبَتِهِ إِنِ اسْتَهْلَكَهَا قَبْلَ السَّنَةِ وَبَعْدَهَا دُونَ مَالِ السَّيِّدِ : لِأَنَّ أَخْذَهُ اللُّقَطَةَ عُدْوَانٌ إِنَّمَا يَأْخُذُ اللُّقَطَةَ مَنْ لَهُ ذِمَّةٌ " ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : " هَذَا أَشْبَهُ بِأَصْلِهِ ، وَلَا يَخُلُو سَيِّدُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلِمَهُ ، فَإِقْرَارُهُ

إِيَاهَا فِي يَدِهِ يَكُونُ تَعَدِّيًا ، فَكَيْفَ لَا يَضْمَنُهَا فِي جَمِيعِ مَالِهِ أَوْ لَا يَكُونُ تَعَدِّيًا ، فَلَا تَعْدُو رَقَبَةَ عَبْدِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ أَخَذَ لُقَطَةً ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِي أَخْذِهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَأْخُذَهَا لِسَيِّدِهِ أَوْ لِنَفْسِهِ ، فَإِنْ أَخَذَهَا لِسَيِّدِهِ جَازَ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِأَخْذِهِ لَهَا ضَمَانٌ : لِأَنَّهُ مُكْتَسِبٌ لِسَيِّدِهِ وَيَدُهُ يَدُ سَيِّدِهِ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَ بِهَا سَيِّدُهُ لِيَضْمَنَهَا إِلَيْهِ ، فَإِذَا عَلِمَ بِهَا أَخَذَهَا السَّيِّدُ مِنْ يَدِهِ وَعَرَّفَهَا حَوْلَا ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا ، وَإِنْ أَقَرَّهَا السَّيِّدُ بَعْدَ عِلْمِهِ فِي يَدِ عَبْدِهِ لِيَقُومَ بِهَا وَبِتَعْرِيفِهَا نُظِرَ حَالُ الْعَبْدِ ، فَإِنْ كَانَ ثِقَةً عَلَيْهَا بِحَيْثُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُؤْتَمَنًا عَلَيْهَا جَازَ وَلَا ضَمَانَ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ فَالسَّيِّدُ مُتَعَدٍّ بِتَرْكِهَا فِي يَدِهِ وَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا فِي مَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ حِينَ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ لَمْ يُعْلِمْهُ بِهَا حَتَّى تَلِفَتْ ، فَإِنْ كَانَ تَلَفُهَا بِجِنَايَةٍ مِنْهُ ضَمِنَهَا الْعَبْدُ فِي رَقَبَتِهِ كَسَائِرِ جِنَايَاتِهِ ، وَإِنْ كَانَ تَلَفُهَا بِغَيْرِ جِنَايَةٍ نُظِرَ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِعْلَامِ سَيِّدِهِ حَتَّى تَلِفَتْ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَغُرْمُهَا هَدَرٌ ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى إِعْلَامِهِ ضَمِنَهَا الْعَبْدُ فِي رَقَبَتِهِ : لِأَنَّهُ صَارَ بِتَرْكِ إِعْلَامِ سَيِّدِهِ بِهَا مُتَعَدِّيًا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا أَخْذُهَا الْعَبْدُ لِنَفْسِهِ لَا لِسَيِّدِهِ اللقطة فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ وَلَا يَصِيرُ بِهِ مُتَعَدِّيًا : لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : ذَلِكَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ، فَجَعَلَهَا كَسْبًا ، فَلَمْ يُمْنَعِ الْعَبْدُ مِنْهُ كَمَا لَا يُمْنَعُ مِنَ الِاصْطِيَادِ وَالْإِحْشَاشِ ، وَعَلَى هَذَا يُعَرِّفُهَا الْعَبْدُ حَوْلًا ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَبْدِ وَالسَّيِّدِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا ، فَإِنْ تَمَلَّكَهَا الْعَبْدُ وَجَبَ غُرْمُهَا فِي ذِمَّتِهِ كَالْقَرْضِ ، وَلِلسَّيِّدِ أَخْذُهَا مِنْهُ لِأَنَّهَا مِنِ اكْتِسَابِهِ ، فَلَوْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ قَدْ تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ صَرْفُ اللُّقَطَةِ فِيهِ : لِأَنَّ دُيُونَ الْعَبْدِ مُسْتَحِقَّةٌ مِنْ كَسْبِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ ، وَإِنَّ تَمَلَّكَهَا السَّيِّدُ كَانَ السَّيِّدُ ضَامِنًا لِغُرْمِهَا فِي ذِمَّتِهِ دُونَ الْعَبْدِ ، وَإِنِ اتَّفَقَا أَنْ تَكُونَ أَمَانَةً لِصَاحِبِهَا ، فَلِلسَّيِّدِ الْخِيَارُ فِي أَنْ يَنْتَزِعَهَا مِنْ يَدِ عَبْدِهِ لِيَحْفَظَهَا ، فَلَوْ تَلِفَتْ فِي يَدِ الْعَبْدِ قَبْلَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا لَمْ يَضْمَنْ أَمَانَةً ، وَإِنِ اسْتَهْلَكَهَا الْعَبْدُ لِنَفْسِهِ نُظِرَ فِي اسْتِهْلَاكِهِ لَهَا ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْحَوْلِ ضَمِنَهَا فِي رَقَبَتِهِ : لِأَنَّ ذَلِكَ عُدْوَانٌ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْحَوْلِ ضَمِنَهَا فِي ذِمَّتِهِ : لِأَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ لَهُ ، فَهَذَا حُكْمُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ .

فَصْلٌ : وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَأْخُذَ اللُّقَطَةَ لِنَفْسِهِ ، وَيَكُونُ بِأَخْذِهَا مُتَعَدِّيًا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ فِي أَخْذِ اللُّقَطَةِ وِلَايَةٌ عَلَى صَاحِبِهَا ، وَلَيْسَ الْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَقْصُودَ اللُّقَطَةِ حِفْظُهَا عَلَى مَالِكِهَا بِالتَّعْرِيفِ فِي الْحَوْلِ وَبِالذِّمَّةِ الْمَرْضِيَّةِ أَنْ تَمَلَّكَتْ بَعْدَ الْحَوْلِ ، وَلَيْسَ الْعَبْدُ مِنْ هَذَيْنِ : لِأَنَّهُ مَقْطُوعٌ لِخِدْمَةِ السَّيِّدِ عَنْ مُلَازَمَتِهِ التَّعْرِيفَ ، وَلَيْسَ بِذِي ذِمَّةٍ فِي اسْتِحْقَاقِ الْغُرْمِ لِتَأْخِيرِهِ إِلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ صَارَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا ، فَعَلَى هَذَا لِلسَّيِّدِ حَالَتَانِ : حَالَةٌ يَعْلَمُ بِهَا ، وَحَالَةٌ لَا يَعْلَمُ بِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ السَّيِّدُ بِهَا فَالْعَبْدُ ضَامِنٌ

لِلُّقَطَةِ فِي رَقَبَتِهِ دُونَ ذِمَّتِهِ : لِأَنَّ أَخْذَهُ لَهَا جِنَايَةٌ مِنْهُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ تَلَفُهَا قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ بِفِعْلِهِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ ، وَإِنْ عَلِمَ بِهَا السَّيِّدُ فَلَهُ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَنْتَزِعَهَا مِنْ يَدِهِ ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ سَقَطَ ضَمَانُهَا عَنِ الْعَبْدِ وَكَانَتْ أَمَانَةً فِي يَدِ السَّيِّدِ ، فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ سَقَطَ ضَمَانُهَا عَنِ الْعَبْدِ يَدْفَعُهَا إِلَى السَّيِّدِ ، وَلَيْسَ السَّيِّدُ مَالِكًا لَهَا ، وَضَمَانُ الْأَمْوَالِ بِالْعُدْوَانِ لَا يَسْقُطُ إِلَّا بِرَدِّهَا عَلَى الْمَالِكِ ، قِيلَ : لِأَنَّ السَّيِّدَ مُسْتَحِقٌّ لِأَخْذِهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ أَخَذَهَا لِسَيِّدِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ ؟ ! فَإِذَا دَفَعَهَا إِلَى السَّيِّدِ سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ ، فَإِذَا صَحَّ أَنَّ ضَمَانَهَا قَدْ سَقَطَ عَنِ الْعَبْدِ بِأَخْذِ السَّيِّدِ لَهَا ، فَفِي يَدِ السَّيِّدِ حِينَئِذٍ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَدُ مُؤْتَمَنٍ لَا يَدُ مُلْتَقِطٍ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ : لِأَنَّهُ غَيْرُ الْوَاجِدِ لَهَا ، فَأَشْبَهَ الْحَاكِمُ الَّذِي لَا يَجُوزُ لَهُ بَعْدَ التَّعْرِيفِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ يَدَهُ مُلْتَقِطٌ ، فَيَجُوزُ لَهُ بَعْدَ التَّعْرِيفِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا : لِأَنَّ يَدَ عَبْدِهِ كَيَدِهِ ، وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ أَنْ لَا يَأْخُذَهَا السَّيِّدُ مِنْ يَدِ عَبْدِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِهَا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَأْمَرَهُ السَّيِّدُ بِإِقْرَارِهَا فِي يَدِهِ فَيَسْتَبْقِيهَا عَنْ إِذْنِ سَيِّدِهِ ، فَإِنْ كَانَ كَذَا نُظِرَ فِي الْعَبْدِ ، فَإِنْ كَانَ ثِقَةً أَمِينًا سَقَطَ ضَمَانُهَا عَنِ الْعَبْدِ بِإِذْنِ السَّيِّدِ لَهُ فِي التَّرْكِ : لِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ كَيَدِ سَيِّدِهِ وَصَارَ كَأَخْذِ السَّيِّدِ ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ غَيْرَ مَأْمُونٍ ضَمِنَهَا السَّيِّدُ ، وَهَلْ يَسْقُطُ ضَمَانُهَا عَنْ رَقَبَةِ الْعَبْدِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : سَقَطَ لِتَصَرُّفِهِ عَنْ إِذْنِ السَّيِّدِ ، وَصَارَ ذَلِكَ تَفْرِيطًا مِنَ السَّيِّدِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ ضَمَانَهَا بَاقٍ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ : لِأَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ عَنِ الْيَدِ الْمُتَقَدِّمَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُقِرَّهَا السَّيِّدُ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُ فِيهَا ، بَلْ يُمْسِكُ عَنْهَا عِنْدَ عِلْمِهِ لَهَا ، فَالَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا أَنَّ السَّيِّدَ يَكُونُ ضَامِنًا لَهَا فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ ، وَنَقَلَ الرَّبِيعُ فِي الْأُمِّ أَنَّ السَّيِّدَ يَكُونُ ضَامِنًا لَهَا فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ وَسَائِرِ مَالِهِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ هَذَيْنِ النَّقْلَيْنِ ، فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى سَهْوِ الْمُزَنِيِّ وَغَلَطِهِ ، وَجَعَلَهَا مَضْمُونَةً عَلَى السَّيِّدِ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ وَسَائِرِ مَالِهِ عَلَى مَا رَوَاهُ الرَّبِيعُ ، وَزَعَمَ أَنَّ الْمُزَنِيَّ قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ ، وَإِنْ كُنْتُ قَدْ قَرَأْتُهُ فَلَمْ أَجِدْ ذَلِكَ فِيهِ ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا : إِنَّ اخْتِلَافَ هَذَا النَّقْلِ بَعْضُ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ ، فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ذَلِكَ مَضْمُونٌ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ وَحْدَهُ : لِأَنَّ رُؤْيَةَ السَّيِّدِ لِجِنَايَةِ عَبْدِهِ وَتَرْكِهِ لِمَنْعِهِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ جِنَايَتِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ السَّيِّدَ لَوْ شَاهَدَ عَبْدَهُ يَقْتُلُ رَجُلًا أَوْ يَسْتَهْلِكُ مَالًا وَقَدِرَ عَلَى مَنْعِهِ فَلَمْ يَمْنَعْهُ ، لَمْ يَضْمَنِ السَّيِّدُ قَاتِلًا وَلَا مُسْتَهْلِكًا وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَمْنَعْهُ غُرْمٌ وَلَا ضَمَانٌ ؟ كَذَلِكَ فِي اللُّقَطَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ مَضْمُونٌ عَلَى السَّيِّدِ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ وَسَائِرِ أَمْوَالِهِ : لِأَنَّ يَدَ السَّيِّدِ

لَوْ عَادَتِ اللُّقَطَةُ إِلَيْهَا مُسْتَحِقَّةً لَهَا فَصَارَ تَرْكُهُ فِي يَدِهِ عُدْوَانًا مِنْهُ ، وَلَيْسَ كَالَّذِي يَجْنِي عَلَيْهِ عَبْدُهُ أَوْ يَسْتَهْلِكُ ، فَلِذَلِكَ ضَمَّنَ اللُّقَطَةَ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ وَسَائِرِ مَالِهِ وَلَمْ يَضْمَنْ جِنَايَةَ الْعَبْدِ وَإِنْ عَلِمَ بِهَا ، وَإِلَّا فَمَضْمُونَةٌ فِي رَقَبَتِهِ دُونَ سَيِّدِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَى السَّيِّدِ فِي سَائِرِ مَالِهِ ، فَلِمَ خَصَصْتُمْ رَقَبَةَ الْعَبْدِ بِهَا وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ مَالِهِ ؟ قُلْنَا : لِأَنَّ تَعَلُّقَهَا بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ مُعَيَّنٌ كَالْجِنَايَةِ ، حَتَّى لَوْ كَانَ عَلَى السَّيِّدِ دَيْنٌ كَانَ مَالِكُ اللُّقَطَةِ أَحَقُّ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ مِنْ سَائِرِ غُرَمَائِهِ كَمَا لَوْ جَنَى ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ سَائِرُ أَمْوَالِهِ : لِأَنَّ مِلْكَ اللُّقَطَةِ وَغَيْرِهَا فِي الْغُرْمِ فِيهَا سَوَاءٌ . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا : لَيْسَ اخْتِلَافُ هَذَا النَّقْلِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ ، وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَافُ حَالَيْهِ ، فَرِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدُ كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا فَلَمْ يَتَعَلَّقْ ضَمَانُهَا إِلَّا بِرَقَبَتِهِ ، وَرِوَايَةُ الرَّبِيعِ أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ وَسَائِرِ مَالِهِ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ كَانَ صَبِيًّا أَوْ عَجَمِيًّا فَصَارَ فِعْلُهُ مَنْسُوبًا إِلَى سَيِّدِهِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ ، وَهَذَا حَكَاهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ ، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ وَاخْتَارَ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَمَرَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ بِأَخْذِ اللُّقَطَةِ فَأَخَذَهَا عَنْ أَمْرِ سَيِّدِهِ ، فَذَلِكَ جَائِزٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ ضَمَانُهَا قَوْلًا وَاحِدًا ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ الْأَمَانَاتِ لَمْ يَضْمَنْهَا السَّيِّدُ بِإِقْرَارِهَا فِي يَدِ الْعَبْدِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا ضَمِنَهَا ، فَأَمَّا إِذَا نَهَاهُ عَنْ أَخْذِهَا فَأَخَذَهَا بَعْدَ نَهْيِ السَّيِّدِ لَهُ ، فَقَدْ كَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يَقُولُ : يَضْمَنُهَا الْعَبْدُ فِي رَقَبَتِهِ قُولًا وَاحِدًا : لِأَنَّ نَهْيَ السَّيِّدِ قَدْ قَطَعَ اجْتِهَادَهُ فِي أَخْذِهَا . وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا : بَلْ يَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ كَمَا لَمْ يَنْهَهُ ، كَالْقَرْضِ الَّذِي لَوْ مَنَعَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ مِنْهُ لَمَا كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لَوْ فَعَلَهُ إِلَّا فِي ذِمَّتِهِ ، فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَالْكَسْبِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ أَخْذُ اللُّقَطَةِ دَاخِلًا فِي عُمُومِ إِذْنِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَكُونُ دَاخَلَا فِيهِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَضْمَنُهَا الْعَبْدُ إِنْ أَخَذَهَا قَوْلًا وَاحِدًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي إِذْنِهِ ، فَعَلَى هَذَا فِي ضَمَانِهِ لَهَا إِنْ أَخَذَهَا قَوْلَانِ .

فَصْلٌ : فَلَوِ الْتَقَطَ الْعَبْدُ لُقَطَةً ثُمَّ عُتِقَ قَبْلَ الْحَوْلِ ، أَنَّهَا تَكُونُ كَسْبًا لِسَيِّدِهِ وَلَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا دُونَهُ : لِأَنَّ أَخْذَهُ لَهَا كَانَ وَهُوَ عَبْدٌ وَهِيَ تُمَلَّكُ بِالْأَخْذِ ، وَإِنَّمَا تَعْرِيفُ الْحَوْلِ شَرْطٌ ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : تَكُونُ كَسْبًا لِلْعَبْدِ : لِأَنَّهَا قَبْلَ التَّعْرِيفِ أَمَانَةٌ وَبَعْدَ التَّعْرِيفِ كَسْبٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِنْ كَانَ حُرًّا غَيْرَ مَأْمُونٍ فِي دِينِهِ فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَأْمُرَ بِضَمِّهَا إِلَى مَأْمُونٍ وَيَأْمُرَ الْمَأْمُونَ وَالْمُلْتَقِطَ بِالْإِنْشَادِ بِهَا . وَالْقَوْلُ الْآخَرُ : لَا يَنْزِعُهَا مِنْ يَدَيْهِ ، وَإِنَّمَا مَنَعْنَا مِنْ هَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّ صَاحِبَهَا لَمْ يَرْضَهُ " ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : " فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ ، فَلَا قَوْلَ لَهُ إِلَّا الْأُوَلُ ، وَهُوَ أَوْلَى بِالْحَقِّ عِنْدِي ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ " ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " وَقَدْ قَطَعَ فِي مَوْضَعٍ آخَرَ بِأَنَّ عَلَى الْإِمَامِ إِخْرَاجَهَا مِنْ يَدِهِ لَا يَجُوزُ فِيهَا غَيْرُهُ ، وَهَذَا أَوْلَى بِهِ عِنْدِي " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا كَانَ وَاجِدُ اللُّقَطَةِ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهَا فَفِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا كَسْبٌ لِوَاجِدِهَا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ كَالرِّكَازِ ، فَتُقَرُّ فِي يَدِهِ وَلَا تُنْتَزَعُ مِنْهُ ، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَضُمُّ إِلَيْهِ أَمِينٌ يُرَاعِيهَا مَعَهُ حِفْظًا لَهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِيهَا بِحَالٍ ، وَيَكُونُ هُوَ الْمُقِيمُ بِحِفْظِهَا وَتَعْرِيفِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ نَظَرٌ فِيهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ فِي الْإِفْصَاحِ : أَنَّ الْحَاكِمَ يَضُمُّ إِلَيْهِ أَمِينًا يُرَاعِي حِفْظَهَا فِي يَدِ الْوَاجِدِ اسْتِظْهَارًا لِلْمَالِكِ وَإِنْ لَمْ تُنْتَزَعْ لِمَا تَعَلَّقَ بِهَا مِنْ حَقِّ الْوَاجِدِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ : أَنَّ الْحَاكِمَ يَنْتَزِعُهَا مِنْ يَدِ الْوَاجِدِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهَا ، وَيَدْفَعُهَا إِلَى مَنْ يُوثَقُ بِهِ مِنْ أُمَنَائِهِ : لِأَنَّ الْحَاكِمَ مَنْدُوبٌ إِلَى حِفْظِ أَمْوَالِ مَنْ غَابَ ، وَلِأَنَّ مَالِكَهَا لَمْ يَرْضَ بِذِمَّةِ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ ، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّ لَمَّا وَجَبَ انْتِزَاعُ الْوَصِيَّةِ مِنْ يَدِهِ لِفِسْقِهِ مَعَ اخْتِيَارِ الْمَالِكِ لَهُ فَلِأَنْ يُخْرِجَ يَدَ الْوَاجِدِ الَّذِي لَمَّ يَخْتَرْهُ أَوْلَى ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِذَا أَخْرَجَهَا الْحَاكِمُ مِنْ يَدِهِ إِلَى أَمِينٍ يَقُومُ بِحِفْظِهَا ، فَفِي الَّذِي يَقُومُ بِتَعْرِيفِهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ : أَنَّ الْأَمِينَ هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِتَعْرِيفِهَا خَوْفًا فِي جِنَايَةِ الْوَاجِدِ فِي تَعْرِيفِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي الْأُمِّ : أَنَّ الْوَاجِدَ هُوَ الْمُعَرِّفُ دُونَ الْأَمِينِ : لِأَنَّ التَّعْرِيفَ مِنْ حُقُوقِ التَّمْلِيكِ وَلَيْسَ فِيهِ تَقْرِيرٌ : لِأَنَّهَا لَا تُدْفَعُ بِالصِّفَةِ ، فَإِذَا عَرَّفَهَا حَوْلًا وَلَمْ يَأْتِ صَاحِبُهَا ، فَإِنْ أَرَادَ الْوَاجِدُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا سُلِّمَتْ إِلَيْهِ وَأَشْهَدَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ بِغُرْمِهَا إِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا كَانَتْ فِي يَدِ الْأَمِينِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْوَاجِدُ لَهَا مَأْمُونًا لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا اى للقطة ، فَإِنَّهَا لَا تُنْتَزَعُ مِنْ يَدِهِ ، وَلَكِنْ يَضُمُّ الْحَاكِمُ إِلَيْهِ أَمِينًا يَجْتَمِعُ مَعَهُ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا لِيَقْوَى بِهِ عَلَى الْحِفْظِ وَالتَّعْرِيفِ .

مَسْأَلَةٌ الْمُكَاتَبُ فِي اللُّقَطَةِ كَالْحُرِّ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَالْمُكَاتَبُ فِي اللُّقَطَةِ كَالْحُرِّ : لِأَنَّ مَالَهُ يُسَلَّمُ لَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْمُكَاتَبَ فِي اللُّقَطَةِ كَالْحُرِّ فِي جَوَازِ أَخْذِهَا وَتَمَلُّكِهَا . وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ : إِنَّهُ كَالْعَبْدِ فِي أَنَّهُ إِنْ أَخَذَهَا لِسَيِّدِهِ جَازَ ، وَإِنْ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ ، فَبَعْضُهُمْ يُخْرِجُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَالْحُرِّ فِي جَوَازِ أَخْذِهَا وَصِحَّةِ تَمَلُّكِهَا لِنُفُوذِ عُقُودِهِ وَتَمَلُّكِ هِبَاتِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ كَالْعَبْدِ : لِأَنَّ مَالِكَ اللُّقَطَةِ لَمْ يَرْضَ بِذِمَّةِ مَنْ لَهُ اسْتِرْقَاقٌ فِي نَفْسِهِ بِالتَّعْجِيزِ وَإِبْطَالِ ذِمَّتِهِ بِالْفَسْخِ ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ اخْتِيَارُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا : إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ فِيهِ هُوَ كَالْحُرِّ إِذَا كَانَتْ كِتَابَتُهُ صَحِيحَةً ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ هُوَ كَالْعَبْدِ إِذَا كَانَتْ كِتَابَتُهُ فَاسِدَةً ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ :

لِأَنَّهُ فِي الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ كَالْحُرِّ فِي رَفْعِ يَدِ سَيِّدِهِ عَنْهُ ، وَفِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ كَالْعَبْدِ الْقِنِّ فِي تَصَرُّفِ سَيِّدِهِ فِيهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُدَبَّرُ فَهُوَ كَالْعَبْدِ الْقِنِّ فِي اللُّقَطَةِ ، وَأَمَّا أُمُّ الْوَلَدِ فَكَالْعَبْدِ فِي اللُّقَطَةِ إِنْ أَخَذْتَهَا لِلسَّيِّدِ جَازَ ، وَإِنْ أَخَذْتَهَا لِنَفْسِهَا فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ ، فَعَلَى هَذَا يَتَعَلَّقُ غُرْمُ اللُّقَطَةِ بِذِمَّتِهَا إِذَا أُعْتِقَتْ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَعْلَمِ السَّيِّدُ بِهَا فَهَلْ يَتَعَلَّقُ غُرْمُهَا بِذِمَّةِ أُمِّ الْوَلَدِ أَمْ بِرَقَبَتِهَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا بِذِمَّتِهَا وَلَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ غُرْمُهَا . وَالثَّانِي : بِرَقَبَتِهَا وَعَلَى السَّيِّدِ غُرْمُهَا وَافْتِكَاكُ رَقَبَتِهَا كَمَا يَفْعَلُ فِي جَنَابَتِهَا ، وَإِنْ عَلِمَ السَّيِّدُ بِهَا فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : فِي ذِمَّتِهَا بَعْدَ الْعِتْقِ . وَالثَّانِي : فِي رَقَبَتِهَا وَعَلَى السَّيِّدِ فِكَاكُهَا بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَةِ اللُّقَطَةِ أَوْ قِيمَتِهَا . وَالثَّالِثُ : أَنَّهَا فِي ذِمَّةِ السَّيِّدِ يَغْرَمُهَا بِجَمِيعِ قِيمَتِهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَالْعَبْدُ نِصْفُهُ حُرٌّ وَنِصْفُهُ عَبْدٌ ، فَإِنِ الْتَقَطَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ مُخَلَّى لِنَفْسِهِ أُقِرَّتْ فِي يَدِهِ ، وَكَانَتْ بَعْدَ السَّنَةِ لَهُ كَمَا لَوْ كَسَبَ فِيهِ مَالَا كَانَ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْيَوْمِ الَذِي لِسَيِّدِهِ أَخَذَهَا مِنْهُ : لِأَنَّ كَسْبَهُ فِيهِ لِسَيِّدِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ نِصْفُهُ حُرٌّ وَنِصْفُهُ مَمْلُوكٌ وَجَدَ لُقَطَةً ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُهَايَأَةً أَوْ غَيْرَ مُهَايَأَةٍ ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُهَايَأَةٍ ، فَنِصْفُ أَكْسَابِهِ لَهُ بِحَقِّ حُرِّيَّتِهِ ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ نَفَقَتِهِ وَنِصْفُ أَكْسَابِهِ لِسَيِّدِهِ ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ نَفَقَتِهِ ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَنِصْفُ اللُّقَطَةِ لَهُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْحُرِّيَّةِ يُقِيمُ عَلَى تَعْرِيفِهِ وَيَتَمَلَّكُهُ بَعْدَ حَوْلِهِ ، وَأَمَّا النِّصْفُ الْآخَرُ فَهُوَ فِيهِ كَالْعَبْدِ ، فَإِنْ أَخَذَهُ لِسَيِّدِهِ جَازَ وَلَمْ يَضْمَنْهُ ، وَإِنْ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ ، وَلِلسَّيِّدِ أَخْذُ ذَلِكَ النِّصْفِ مِنْهُ دُونَ النِّصْفِ الَّذِي أَخَذَهُ بِحُرِّيَّتِهِ ، ثُمَّ يَصِيرَانِ شَرِيكَيْنِ فِيهَا يُقِيمَانِ عَلَى تَعْرِيفِهَا وَيَتَمَلَّكَانِهَا بَعْدَ حَوْلِهَا ، وَإِنْ كَانَ مُهَايَأَةً وَالْمُهَايَأَةُ أَنْ يَكْتَسِبَ لِنَفْسِهِ يَوْمًا وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ ، وَلِسَيِّدِهِ يَوْمًا مِثْلَهُ وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ ، فَيَدْخُلُ فِي الْمُهَايَأَةِ الْأَكْسَابُ الْمَأْلُوفَةُ ، وَهَلْ يَدْخُلُ فِيهَا مَا لَيْسَ بِمَأْلُوفٍ مِنَ الْأَكْسَابِ كَاللُّقَطَةِ وَالرِّكَازِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَدْخُلُ فِيهَا وَهُوَ أَظْهَرُهُمَا : لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْكَسْبِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ وَجَدَهَا فِي يَوْمِ نَفْسِهِ ، فَهُوَ فِيهِ كَالْحُرِّ يَجِبُ عَلَيْهِ تَعْرِيفُهَا وَيَجُوزُ لَهُ تَمَلُّكُهَا ، وَإِنْ وَجَدَهَا فِي يَوْمِ سَيِّدِهِ فَهُوَ فِيهَا كَالْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ جَمِيعِهِ ، فَإِنْ أَخَذَهَا لِسَيِّدِهِ جَازَ ، وَإِنْ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ ، فَهَذَا حُكْمُ دُخُولِهَا فِي الْمُهَايَأَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي الْمُهَايَأَةِ وَلَا الْمَكَاسِبِ النَّادِرَةِ : لِأَنَّهَا قَدْ تُوجَدُ فِي أَحَدِ الزَّمَانَيْنِ دُونَ الْآخَرِ ، فَيَصِيرُ أَحَدُهُمَا مُخْتَصًّا فِي زَمَانِهِ بِمَا لَا يُسَاوِيهِ الْآخَرُ فِي زَمَانِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي اللُّقَطَةِ كَغَيْرِ الْمُهَايَأَةِ عَلَى مَا مَضَى ، وَهَكَذَا حُكْمُهُ لَوْ كَانَ أَقَلَّهُ الْحُرُّ أَوْ أَكْثَرُ مَمْلُوكًا ، فَأَمَّا الْمَمْلُوكُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فِيهِ مُهَايَأَةٌ اشْتَرَكَا فِي قِيمَةِ اللُّقَطَةِ ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فِيهِ مُهَايَأَةٌ ، فَفِي دُخُولِ اللُّقَطَةِ فِي مُهَايَأَتِهِمَا قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَيُفْتِي الْمُلْتَقِطُ إِذَا عَرَفَ الرَّجُلُ الْعِفَاصَ وَالْوِكَاءَ وَالْعَدَدَ وَالْوَزْنَ وَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ أَنْ يُعْطِيَهُ ، وَلَا أُجْبِرُهُ عَلَيْهِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ : لِأَنَّهُ قَدْ يُصِيبُ الصِّفَةَ بِأَنْ يَسْمَعَ الْمُلْتَقِطَ يَصِفُهَا ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنْ يُؤَدِّيَ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا مَعَهَا ، وَلِيَعْلَمَ إِذَا وَضَعَهَا فِي مَالِهِ أَنَّهَا لُقَطَةٌ ، وَقَدْ يَكُونُ لِيَسْتَدِلَّ عَلَى صِدْقِ الْمُعَرَّفِ ، أَرَأَيْتَ لَوْ وَصَفَهَا عَشَرَةً يُعْطُونَهَا ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّهُمْ كَاذِبٌ إِلَّا وَاحِدًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ ادَّعَى لُقَطَةً فِي يَدِ وَاجِدِهَا ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ الْعَادِلَةَ عَلَى مِلْكِهَا وَجَبَ تَسْلِيمُهَا لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً لَكِنْ وَصَفَهَا ، فَإِنْ أَخْطَأَ فِي وَصْفِهَا لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَيْهِ ، وَإِنْ أَصَابَ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهَا مِنَ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ وَالْجِنْسِ وَالنَّعْتِ وَالْعَدَدِ وَالْوَزْنِ ، فَإِنْ لَمْ يَقَعْ فِي نَفْسِهِ صِدْقُهُ لَمْ يَدْفَعْهَا إِلَيْهِ ، وَإِنْ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ أَفْتَيْنَاهُ بِدَفْعِهَا إِلَيْهِ جَوَازًا لَا وَاجِبًا ، فَإِنِ امْتَنَعَ عَنِ الدَّفْعِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ : يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِهَا إِلَيْهِ بِالصِّفَةِ : اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً ، فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا - أَوْ قَالَ بَاغِيهَا - فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ ، فَلَمَّا أَخْبَرَ بِمَعْرِفَةِ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَالْبَيِّنَةِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ . وَرَوَى سُوَيْدُ بْنُ غَفْلَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : فَإِنْ جَاءَ بَاغِيهَا فَعَرَّفَكَ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ وَهَذَا نَصٌّ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ كُلَّ أَمَارَةٍ غَلَبَ بِهَا فِي الشَّرْعِ صِدْقُ الْمُدَّعِي جَازَ أَنْ يُوجِبَ قَبُولَ قَوْلِهِ كَالْقَسَامَةِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ فِي الْأُصُولِ مُخْتَلِفَةٌ ، وَمَا تَعَذَّرَ مِنْهَا فِي الْغَائِبِ مُخَفَّفٌ ، كَالنِّسَاءِ الْمُنْفَرِدَاتِ فِي الْوِلَادَةِ ، وَإِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى اللُّقَطَةِ مُتَعَذِّرَةٌ ، لَا سِيَّمَا عَلَى الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ الَّتِي لَا تُضْبَطُ أَعْيَانُهَا ، فَجَازَ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ الَّتِي هِيَ غَايَةُ الْأَحْوَالِ الْمُمْكِنَةِ أَنْ تَكُونَ بَيِّنَةً فِيهَا ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعَاوِيهِمْ لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ ، لَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيِهِ ، فَلَمْ يَجْعَلِ الدَّعْوَى حُجَّةً وَلَا جَعَلَ مُجَرَّدَ الْقَوْلِ حُجَّةً بَيِّنَةً ، وَلِأَنَّ صِفَةَ الْمَطْلُوبِ لَا تَكُونُ بَيِّنَةً لِلطَّالِبِ كَالْمَسْرُوقِ وَالْمَغْصُوبِ ، وَلِأَنَّ صِفَةَ الْمَطْلُوبِ مِنْ تَمَامِ الدَّعْوَى ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ بَيِّنَةً لِلطَّالِبِ قِيَاسًا عَلَى الطَّلَبِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُحْتَجًّا عَلَيْهِمْ : أَرَأَيْتَ لَوْ وَصَفَهَا عَشَرَةٌ ، أَيُعْطُونَهَا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّهُمْ كَذَبَةٌ إِلَّا وَاحِدًا بِعَيْنِهِ ؟ فَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ دَاوُدَ فَقَالَ : كَمَا لَوِ ادَّعَاهَا عَشَرَةٌ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَيْهَا بَيِّنَةً اللقطة نُقَسِّمُهَا بَيْنَهُمْ ، وَإِنْ كَانَ صِدْقُ جَمِيعِهِمْ مُسْتَحِيلَا ، كَذَلِكَ إِذَا وَصَفُوهَا كُلَّهُمْ . وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ كَذِبَ الْمُدَّعِي أَسْقَطُ لِلدَّعْوَى مِنْ كَذِبِ الشُّهُودِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ إِكْذَابَ الْمُدَّعِي لِنَفْسِهِ مُبْطِلًا لِلدَّعْوَى ، وَإِكْذَابَ الشُّهُودِ لِأَنْفُسِهِمْ غَيْرُ مُبْطِلٍ لِلدَّعْوَى . وَالثَّانِي : أَنَّ الْبَيِّنَةَ هِيَ أَقْصَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمُدَّعِي وَأَقْوَى مَا يَحْكُمُ بِهِ الْحَاكِمُ ، فَدَعَتْ ضَرُورَةُ الْحَاكِمِ فِي الْبَيِّنَةِ إِلَى مَا لَمْ تَدْعُهُ مِنَ الصِّفَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا فَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ لَا لِدَفْعِهَا بِصِفَةِ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ وَوُجُوبِ رَدِّهِ مَعَهُ ، وَلَكِنْ لَمَعَانٍ هِيَ أَخَصُّ بِمَقْصُودِ اللَّفْظِ ، مِنْهَا أَنَّهُ نَبَّهَ بِحِفْظِ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ وَوُجُوبِ رَدِّهِ مَعَ قِلَّتِهِ وَنَدَارَتِهِ عَلَى حِفْظِ مَا فِيهِ وَوُجُوبِ رَدِّهِ مَعَ كَثْرَتِهِ ، وَمِنْهَا أَنْ يَتَمَيَّزَ بِذَلِكَ عَنْ مَالِهِ ، وَمِنْهَا جَوَازُ دَفْعِهَا بِالصِّفَةِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ ، وَعَلَى هَذَا حَمْلُ حَدِيثِ سُوَيْدِ بْنِ غَفْلَةَ الذيَ جَعَلُوهُ نَصًّا ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِهِ فَنَحْنُ مَا جَعَلْنَا الْأَمَارَةَ عَلَى الصِّدْقِ حُجَّةً فِي قَبُولِ الدَّعْوَى ، وَإِنَّمَا الْأَيْمَانُ بَعْدَهَا حُجَّةٌ ، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ فِي اللُّقَطَةِ بَعْدَ الصِّفَةِ فَدَلَّ عَلَى اخْتِلَافِهَا . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ فِي الْأُصُولِ مُخْتَلِفَةٌ فَصَحِيحٌ ، وَلَيْسَ مِنْ جَمِيعِهَا بَيِّنَةٌ تَكُونُ بِمُجَرَّدِ الصِّفَةِ وَلَا يَكُونُ تَعَذُّرُ الْبَيِّنَةِ مُوجِبًا أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ بَيِّنَةً ، أَلَا تَرَى أَنَّ السَّارِقَ تَتَعَذَّرُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ صِفَةُ مَا بِيَدِهِ لِمُدَّعِي سَرِقَتِهِ حُجَّةً ؟

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ دَفْعَهَا بِالصِّفَةِ لَا يَجِبُ ، فَدَفْعُهَا بِالصِّفَةِ وَسِعَهُ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَقَعْ فِي نَفْسِهِ كَذِبُهُ ، فَإِنْ أَقَامَ غَيْرُهُ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهَا بِشَاهِدَيْنِ ، أَوْ شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، أَوْ شَاهِدٍ وَيَمِينٍ ، كَانَ مُقِيمُ الْبَيِّنَةِ أَحَقَّ بِهَا مِنَ الْآخِذِ لَهَا بِالصِّفَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي يَدِ الْوَاصِفِ لَهَا انْتُزِعَتْ مِنْهُ لِمُقِيمِ الْبَيِّنَةِ ، وَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَهْلَكَهَا نُظِرَ فِي الدَّافِعِ لَهَا ، فَإِنْ كَانَ قَدْ دَفَعَهَا بِحُكْمِ حَاكِمٍ رَأَى ذَلِكَ مَذْهَبًا ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الدَّافِعِ ، وَرَجَعَ مُقِيمُ الْبَيِّنَةِ بِغُرْمِهَا عَلَى الْآخِذِ لَهَا بِالصِّفَةِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَفَعَهَا بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ فَلِصَاحِبِ الْبَيِّنَةِ الْخِيَارُ فِي الرُّجُوعِ بِغُرْمِهَا عَلَى مَنْ شَاءَ مِنَ الدَّافِعِ الْمُلْتَقِطِ أَوِ الْآخِذِ الْوَاصِفِ ، فَإِنْ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْآخِذِ لَهَا بِالصِّفَةِ ، فَلَهُ ذَلِكَ لِضَمَانِهِ لَهَا بِالْيَدِ وَاسْتِحْقَاقِ غُرْمِهَا بِالْإِتْلَافِ ، وَقَدْ بَرِئَ الدَّافِعُ لَهَا مِنَ الضَّمَانِ لِوُصُولِ الْغُرْمِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ ، وَلَيْسَ لِلْغَارِمِ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا غَرِمَهُ عَلَى الدَّافِعِ : لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا عَلَيْهِ فَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَتَّى لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى أَحَدٍ ، وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا بِهِ فَالْمَظْلُومُ بِالشَّيْءِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى غَيْرِ ظَالِمِهِ ، وَإِنْ رَجَعَ مُقِيمُ الْبَيِّنَةِ بِغُرْمِهَا عَلَى الدَّافِعِ الْمُلْتَقِطِ نُظِرَ فِي الدَّافِعِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ صَدَقَ الْوَاصِفَ لَهَا عَلَى مِلْكِهَا وَأَكْذَبَ الشُّهُودَ لِصَاحِبِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا ، فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِغُرْمِهَا عَلَى الْآخِذِ لَهَا بِالصِّفَةِ : لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّهُ مَظْلُومٌ بِالْمَأْخُوذِ مِنْهُ ، فَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى غَيْرِ مَنْ ظَلَمَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ صَدَقَ الْوَاصِفَ وَلَا أَكْذَبَ الشُّهُودَ ، فَلَهُ الرُّجُوعُ بِالْغُرْمِ عَلَى الْآخِذِ لَهَا بِالصِّفَةِ لِضَمَانِهِ لَهَا بِالِاسْتِهْلَاكِ ، فَتَكُونُ الْبَيِّنَةُ مُوجِبَةٌ عَلَيْهِ وَلَهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِنْ كَانَتِ اللُّقَطَةُ طَعَامًا رَطْبًا لَا يَبْقَى ، فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَهُ إِذَا خَافَ فَسَادَهُ وَيَغْرِمَهُ لِرَبِّهِ ، ( وَقَالَ ) فِيمَا وَضَعَهُ بِخَطِّهِ - لَا أَعْلَمُهُ سُمِعَ مِنْهُ - : إِذَا خَافَ فَسَادَهُ

أَحْبَبْتُ أَنْ يَبِيعَهُ وَيُقِيمَ عَلَى تَعْرِيفِهِ ، ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : هَذَا أَوْلَى الْقَوْلَيْنِ بِهِ : لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقُلْ لِلْمُلْتَقِطِ شَأْنُكَ بِهَا إِلَّا بَعْدَ سَنَةٍ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ مَهْلَكَةٍ كَالشَّاةِ فَيَكُونُ لَهُ أَكْلُهُ وَيَغْرِمُهُ إِذَا جَاءَ صَاحِبُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الطَّعَامُ الرَّطْبُ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَيْبَسُ فَيَبْقَى كَالرُّطَبِ الَّذِي يَصِيرُ خَمْرًا ، وَالْعِنَبِ الَّذِي يَصِيرُ زَبِيبًا ، فَهَذَا حُكْمُهُ حُكْمُ غَيْرِ الطَّعَامِ فِي وُجُوبِ تَعْرِيفِهِ وَاسْتِبْقَائِهِ ، فَإِنِ احْتَاجَ تَجْفِيفُهُ إِلَى مُؤْنَةٍ ، كَانَتْ عَلَى مَالِكِهِ ، وَيَفْعَلُ الْحَاكِمُ أَحَظَّ الْأَمْرَيْنِ لِلْمَالِكِ مِنْ بَيْعِهِ أَوِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَبْقَى ، كَالطَّعَامِ الَّذِي يَفْسُدُ بِالْإِمْسَاكِ ، كَالْهَرِيسَةِ ، وَالْفَوَاكِهِ ، وَالْبُقُولِ الَّتِي لَا تَبْقَى عَلَى الْأَيَّامِ ، فَقَدْ حَكَى الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا أَنَّهُ قَالَ فِي مَوْضِعٍ : يَأْكُلُهُ الْوَاجِدُ ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : أَحْبَبْتُ أَنْ يَبِيعَهُ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا يُخْرِجُونَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِوَاجِدِهِ أَكْلُهُ ، كَالشَّاةِ الَّتِي لَمَّا تَعَذَّرَ اسْتِبْقَاؤُهَا أُبِيحَ لِوَاجِدِهَا أَكْلُهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَيْسَ لِوَاجِدِهِ أَكْلُهُ ، بِخِلَافِ الشَّاةِ الَّتِي لَا يَجِبُ تَعْرِيفُهَا فَأُبِيحَ لَهُ أَكْلُهَا وَالطَّعَامُ ، وَإِنْ كَانَ رَطْبًا يَجِبُ تَعْرِيفُهُ ، فَلَمْ يَسْتَبِحْ وَاجِدُهُ أَكْلُهُ . وَحَكَى أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ إِنْ كَانَ الْحَاكِمُ مَوْجُودًا يَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهِ لَمْ يَكُنْ لِوَاجِدِهِ أَكْلُهُ ، وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا جَازَ أَكْلُهُ ، وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ : اخْتِلَافُ حَالَيْهِ فِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ وَاجِدِهِ ، فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا مُحْتَاجًا اسْتَبَاحَ أَكْلَهُ ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا لَمْ يَسْتَبِحْهُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِ أَكْلِهِ فَأَكَلَهُ صَارَ ضَامِنًا لِقِيمَتِهِ ، وَعَلَيْهِ تَعْرِيفُ الطَّعَامِ حَوْلًا ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ عَزْلُ قِيمَتِهِ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ أَكْلِهِ أَمْ لَا ؟ اللقطة عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُهُ عَزْلُ الْقِيمَةِ لِئَلَّا يَصِيرَ مُتَمَلِّكًا لِلُقَطَةٍ يَجِبُ تَعْرِيفُهَا قَبْلَ حَوْلِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَجِبُ عَلَيْهِ عَزْلُهَا : لِأَنَّهُ لَوْ عَزَلَهَا فَهَلَكَتْ كَانَتْ مِنْ مَالِهِ ، فَكَانَتْ ذِمَّتُهُ أَحَظَّ لَهَا وَلَمْ يَكُنْ عَزْلُهَا مُفِيدًا ، وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ جَعَلَ فَائِدَةَ عَزْلِهَا لَوْ أَفْلَسَ بَعْدَ عَزْلِ قِيمَتِهَا ، ثُمَّ حَضَرَ الْمَالِكُ كَانَ أَوْلَى بِالْمَعْزُولِ مِنْ قِيمَتِهَا مِنْ جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ ، وَزَعَمَ أَنَّ تَلَفَهَا مِنْ يَدِهِ بَعْدَ وُجُوبِ عَزْلِهَا لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ غُرْمَهَا ، فَصَارَ فِي ضَمَانِهِ لِلثَّمَنِ إِنْ تَلَفَ بَعْدَ وُجُوبِ عَزْلِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّهُ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، وَالثَّانِي : وَهُوَ أَشْبَهُ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ الثَّمَنَ مَعَ وُجُوبِ عَزْلِهِ يَقُومُ مَقَامَ الْأَصْلِ مَعَ بَقَائِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قُلْنَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهُ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ الْحَاكِمَ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى بَيْعَهُ بِنَفْسِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ ، بِخِلَافِ الشَّاةِ إِذَا وَجَدَهَا وَأَرَادَ بَيْعَهَا : لِأَنَّ يَدَهُ عَلَى الشَّاةِ أَقْوَى لِمَا اسْتَحَقَّهُ عَاجِلًا مِنْ أَكْلِهَا وَيَدَهُ عَلَى الطَّعَامِ أَضْعَفُ لِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ تَعْرِيفِهِ ، فَإِنْ أَعْوَزَهُ إِذْنُ الْحَاكِمِ جَازَ بَيْعُهُ لَهُ ، فَلَوْ بَاعَهُ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ كَانَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ أَمَانَةً

وَعَلَيْهِ تَعْرِيفُ الطَّعَامِ حَوْلًا ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهُ فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا الثَّمَنُ دُونَ الْقِيمَةِ ، وَلَوْ لَمْ يَأْتِ صَاحِبُهُ فَلِلْوَاجِدِ أَنْ يَتَمَلَّكَ الثَّمَنَ وَلَوْ هَلَكَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ ، وَقَبْلَ التَّمَلُّكِ لَوْ كَانَ تَالِفًا مِنْ مَالِ رَبِّهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُلْتَقِطِ ، وَهَكَذَا حُكْمُ الثَّمَنِ لَوْ كَانَ الْوَاجِدُ هُوَ الْبَائِعُ عِنْدَ إِعْوَازِ الْحَاكِمِ ، فَأَمَّا إِنْ بَاعَهُ مَعَ وُجُودِ الْحَاكِمِ ، فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ وَلِلْمَالِكِ الْقِيمَةُ دُونَ الثَّمَنِ لِفَسَادِ الْعَقْدِ ، فَإِنْ تَلِفَ الثَّمَنُ مِنْ يَدِ الْوَاجِدِ قَبْلَ الْحَوْلِ ، كَانَ عَلَيْهِ غُرْمُهُ لِتَعَدِّيهِ بِقَبْضِهِ مَعَ فَسَادِ بَيْعِهِ ، فَإِنْ حَضَرَ الْمَالِكُ وَالثَّمَنُ بِقَدْرِ الْقِيمَةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ ، أَخَذَهُ وَهُوَ مُبَلِّغٌ حَقَّهُ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِإِتْمَامِ الْقِيمَةِ وَيَرْجِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي : لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمَّا اشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا ، فَكَانَ ضَامِنًا لِلْقِيمَةِ دُونَ الْمُسَمَّى إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمَالِكُ أَنْ يُسَامِحَ بِفَاضِلِ الْقِيمَةِ ، فَيَكُونُ الْبَاقِي مِنْهُ مَرْدُودًا عَلَى الْمُشْتَرِي ، إِذْ لَيْسَ يَلْزَمُهُ إِلَّا الْقِيمَةُ .

مَسْأَلَةٌ : ( وَقَالَ ) فِيمَا وَضَعَ بِخَطِّهِ - لَا أَعْلَمُهُ سُمِعَ مِنْهُ - : إِذَا وَجَدَ الشَّاةَ ، أَوِ الْبَعِيرَ ، أَوِ الدَّابَّةَ ، أَوْ مَا كَانَتْ بِالْمِصْرِ ، أَوْ فِي قَرْيَةٍ فَهِيَ لُقَطَةٌ يُعَرِّفُهَا سَنَةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى حُكْمُ ضَوَالِّ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ إِذَا وَجَدَهَا فِي الصَّحْرَاءِ ، فَأَمَّا إِذَا وَجَدَهَا فِي الْمِصْرِ أَوْ فِي قَرْيَةٍ ، فَالَّذِي حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ فِيمَا وَجَدَ بِخَطِّهِ أَنَّهَا لُقَطَةٌ لَهُ أَخْذُهَا وَعَلَيْهِ تَعْرِيفُهَا حَوْلًا ، وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي " الْأُمِّ " أَنَّهَا فِي الْمِصْرِ وَالصَّحْرَاءِ سَوَاءٌ ، يَأْكُلُ الْغَنَمَ وَلَا يَعْرِضُ لِلْإِبِلِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، فَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمِصْرَ كَالْبَادِيَةِ يَأْكُلُ الْغَنَمَ وَلَا يَعْرِضُ لِلْإِبِلِ ، وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْهُ فِي " الْأُمِّ " : لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ حَرْقُ النَّارِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا لُقَطَةٌ يَأْخُذُ الْغَنَمَ وَالْإِبِلَ جَمِيعَهَا ، وَيُعَرَّفَا كَسَائِرِ اللُّقَطِ حَوْلًا كَامِلًا ، وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ عَنْهُ وَفِيمَا لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ : لِأَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ضَوَالِّ الْإِبِلِ : مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ يَخْتَصُّ بِالْبَادِيَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْمَاءُ وَالشَّجَرُ دُونَ الْمِصْرِ ، وَهِيَ تَمْنَعُ صِغَارَ السِّبَاعِ عَنْ أَنْفُسِهَا فِي الْبَادِيَةِ ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى مَنْعِ النَّاسِ فِي الْمِصْرِ . وَالشَّاةُ تُؤْكَلُ فِي الْبَادِيَةِ : لِأَنَّ الذِّئْبَ يَأْكُلُهَا وَهُوَ لَا يَأْكُلُهَا فِي الْمِصْرِ ، فَاخْتَلَفَ مَعْنَاهُمَا فِي الْبَادِيَةِ وَالْمِصْرِ فَاخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَ جَوَازَ أَخْذِهَا عَلَى تَسْلِيمِهَا إِلَى الْإِمَامِ ، وَحَمَلَ الْمَنْعَ مِنْ أَخْذِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّمَلُّكِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا قُلْنَا : إِنْ حُكْمَ الْبَادِيَةِ وَالْمِصْرِ سَوَاءٌ فَلَهُ أَخْذُ الْغَنَمِ وَأَكْلُهَا ، وَلَيْسَ يَتَعَرَّضُ لِلْإِبِلِ إِلَّا أَنْ يَعْرِفَ مَالِكَهَا ، وَإِذَا قُلْنَا : إِنَّ حُكْمَ الْمِصْرِ يُخَالِفُ الْبَادِيَةَ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا ، فَلَهُ أَخْذُ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ جَمِيعًا وَيَكُونَانِ لُقَطَةً يَلْزَمُ تَعْرِيفُهَا حَوْلًا ، فَإِنْ تَطَوَّعَ الْوَاجِدُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا لَمْ يَرْجِعْ بِمَا يُنْفِقُ ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهَا أَتَى الْحَاكِمَ حَتَّى يَجْتَهِدَ الْحَاكِمُ رَأْيَهُ فِي الْأَحَظِّ لِصَاحِبِهَا فِي أَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ : إِمَّا أَنْ يَرَى الِاقْتِرَاضَ عَلَى صَاحِبِهَا فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا ، أَوْ يَرَى بَيْعَهَا لِصَاحِبِهَا لِيَكْفِيَ مُؤْنَةَ النَّفَقَةِ عَلَيْهَا ، أَوْ يُرْسِلَهَا فِي الْحِمَى إِنْ كَانَ لِضَوَالِّ الْمُسْلِمِينَ حِمًى ، ثُمَّ يَقُومُ الْوَاجِدُ عَلَى تَعْرِيفِهَا ، إِلَّا أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ رَافِعًا لِيَدِهِ عَنْهَا فَيَسْقُطَ عَنْهُ حُكْمُ

تَعْرِيفِهَا ، وَإِلَّا فَمَا كَانَ مُقِيمًا عَلَى الْتِقَاطِهَا فَتَعْرِيفُهَا حَوْلًا وَاجِبٌ عَلَيْهِ ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا سُلِّمَتْ إِلَيْهِ إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً بَعْدَ أَنْ يَدْفَعَ النَّفَقَةَ إِنْ كَانَ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ ، وَإِنْ بِيعَتْ سُلِّمَ إِلَيْهِ ثَمَنُهَا دُونَ الْقِيمَةِ إِنْ بَاعَهَا حَاكِمٌ أَوْ بِأَمْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْوَاجِدُ هُوَ الْبَائِعُ لَهَا ، فَلِصَاحِبِهَا قِيمَتُهَا دُونَ الثَّمَنِ لِفَسَادِ بَيْعِهِ ، إِلَّا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى اسْتِئْذَانِ حَاكِمٍ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ صَاحِبُهَا بَعْدَ الْحَوْلِ ، فَهَلْ لِوَاجِدِهَا أَنْ يَتَمَلَّكَهَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ حَكَاهَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَحَدُهَا : يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا اعْتِبَارًا بِحُكْمِ اللُّقَطَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ حَرْقُ النَّارِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : إِنْ كَانَ قَدْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا ، وَإِنْ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا لِيَكُونَ ذَلِكَ أَحَثَّ عَلَى الْإِنْفَاقِ وَأَرْفَقَ بِالْفَرِيقَيْنِ .

فَصْلٌ : إِذَا تَرَكَ الرَّجُلُ الدَّابَّةَ أَوِ الْبَعِيرَ حَسْرًا فِي الصَّحْرَاءِ لِعَجْزِهِ عَنِ السَّيْرِ وَعَجْزِ الْمَالِكِ عَنْ حَمْلِهِ ، أَوِ الْمُقَامِ عَلَيْهِ ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَأَحْيَاهُ بِمُقَامِهِ عَلَيْهِ وَمُرَاعَاتِهِ حَتَّى عَادَ إِلَى حَالِهِ فِي السَّيْرِ وَالْعَمَلِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ : فَحُكِيَ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهُ يَكُونُ لِآخِذِهِ وَمُحْيِيهِ دُونَ تَارِكِهِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَارِكُهُ تَرَكَهُ لِيَعُودَ إِلَيْهِ ، فَيَكُونُ التَّارِكُ أَحَقَّ بِهِ . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ : إِنَّ آخِذَهُ الْمُحْيِيَ لَهُ أَحَقُّ مِنْ تَارِكِهِ بِكُلِّ حَالٍ ، سَوَاءٌ تَرَكَهُ لِيَعُودَ إِلَيْهِ أَمْ لَا . وَقَالَ مَالِكٌ : هُوَ عَلَى مِلْكِ تَارِكِهِ دُونَ آخِذِهِ ، لَكِنْ لِآخِذِهِ الرُّجُوعُ بِمَا أَنْفَقَ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ عَلَى مِلْكِ تَارِكِهِ وَلَيْسَ لِوَاجِدِهِ الرُّجُوعُ بِنَفَقَتِهِ : لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ عَالَجَ عَبْدًا قَدْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ بِالْمَرَضِ حَتَّى وَلَوِ اسْتَنْقَذَ مَالًا مِنْ غَرَقٍ أَوْ حَرِيقٍ لَمْ يَمْلِكْهُ ، فَكَذَا الْبَهِيمَةُ . وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ مَنْ أَخْرَجَ مَتَاعًا قَدْ غَرِقَ مِنَ الْبَحْرِ فَقَدْ مَلَكَهُ عَلَى صَاحِبِهِ . وَهَذَا شَاذٌّ مِنَ الْقَوْلِ مَدْفُوعٌ بِالْخَبَرِ وَالْإِجْمَاعِ ، وَلَكِنْ لَوْ وُجِدَ فِي الْبَحْرِ قِطْعَةُ عَنْبَرٍ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ فِيهِ ، كَانَتْ مِلْكًا لِوَاجِدِهَا فِي الْبَرِّ كَانَتْ لُقَطَةً ، لِعِلْمِنَا بِحُصُولِ الْيَدِ عَلَيْهَا قَبْلَهُ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى السَّاحِلِ نَضَبَ الْمَاءُ عَنْهَا ، فَتَكُونُ مِلْكًا لِوَاجِدِهَا : لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ قَدْ أَلْقَاهَا حِينَ نَضَبَ ، وَهَكَذَا لَوْ صَادَ سَمَكَةً مِنَ الْبَحْرِ فَوُجِدَ فِي جَوْفِهَا قِطْعَةُ عَنْبَرٍ كَانَتْ لِلصَّيَّادِ إِذَا كَانَ بَحْرًا قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ فِيهِ الْعَنْبَرُ ، فَأَمَّا الْأَنْهَارُ وَمَا لَا يَكُونُ مِنَ الْبِحَارِ فَإِنَّهَا تَكُونُ لُقَطَةً ، وَهَكَذَا الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَصْنُوعًا أَوْ مَثْقُوبًا فَيَكُونُ لُقَطَةً ، فَأَمَّا اللُّؤْلُؤُ فَلَا يَكُونُ فِي الْبَحْرِ إِلَّا مَعَ صَدَفِهِ ، فَإِنْ وُجِدَ فِيهِ كَانَ مِلْكًا لِوَاجِدِهِ ، وَإِنْ وُجِدَ خَارِجًا عَنْ صَدَفِهِ كَانَ لُقَطَةً .

مَسْأَلَةٌ من أخذ ضَوَالَّ الْإِبِلِ ثم أرسلها

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِذْ حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَوَالَّ الْإِبِلِ فَمَنْ أَخَذَهَا ، ثُمَّ أَرْسَلَهَا ضَمِنَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا قَدْ مَضَى ، وَذَكَرْنَا أَنَّ ضَوَالَّ الْإِبِلِ فِي الصَّحْرَاءِ لَا يَجُوزُ لِوَاجِدِهَا

أَخْذُهَا إِلَّا فِي إِحْدَى حَالَتَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قَدْ نَدَبَهُ لِأَخْذِ الضَّوَالِّ حِفْظًا لَهَا عَلَى أَرْبَابِهَا كَمَا يَفْعَلُهُ الْإِمَامُ فِي الْمَصَالِحِ مِنْ حِفْظِ الْأَمْوَالِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَاجِدُ عَارِفًا لِصَاحِبِهَا فَيَأْخُذُهَا لِيَرُدَّهَا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى تَعْرِيفٍ ، فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ لِلْوَاجِدِ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ أَنْ يَأْخُذَهَا . أَمَّا الْحَالَةُ الْأُولَى فَمَا عَلَيْهِ إِلَّا الْعَمَلُ فِيمَا نُدِبَ إِلَيْهِ ، وَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ فَمُسْتَحَبٌّ لِمَا أُمِرَ النَّاسُ بِهِ مِنَ التَّعَاوُنِ ، إِلَّا أَنْ يَقُولَ بِوُجُوبِ أَخْذِ اللُّقَطَةِ إِذَا خِيفَ هَلَاكُهَا ، فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ وَاجِبًا ، فَإِنْ أَخَذَهَا الْوَاجِدُ فِي غَيْرِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ كَانَ مُتَعَدِّيًا وَصَارَ لِذَلِكَ ضَامِنًا ، فَإِنْ تَلِفَتْ وَجَبَ غُرْمُهَا عَلَيْهِ ، وَإِنْ رَفَعَ يَدَهُ عَنْهَا فَلَهُ فِي رَفْعِ يَدِهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى مَالِكِهَا فَيَسْقُطُ الضَّمَانُ عَنْهُ ، وَالْحَالُ الثَّانِي أَنْ يُرْسِلَهَا مِنْ يَدِهِ ، فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ ، سَوَاءٌ أَرْسَلَهَا حَيْثُ وَجَدَهَا أَوْ فِي غَيْرِهِ . وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ أَرْسَلَهَا حَيْثُ وَجَدَهَا سَقَطَ الضَّمَانُ عَنْهُ . وَلَا أَدْرِي مَا يَقُولَانِهِ فِي إِرْسَالِهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ وُجُودِهَا ، وَبَنَيَا ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهَا فِي ضَامِنَ الْوَدِيعَةِ بِالتَّقْصِيرِ إِذَا كَفَّ عَنْهُ زَالَ عَنْهُ ضَمَانُهَا . وَاسْتِدْلَالًا بِأَنَّ ضَمَانَ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ يَسْقُطُ بِإِرْسَالِهِ ، فَكَذَلِكَ ضَمَانُ الضَّوَالِّ بِالْأَخْذِ يَسْقُطُ بِالْإِرْسَالِ ، وَهَذَا جَمْعٌ مُفْتَرِقٌ وَاسْتِدْلَالٌ فَاسِدٌ وَأَصْلٌ مُنَازِعٌ : لِأَنَّ الصَّيْدَ يُضْمَنُ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِذَا أَرْسَلَهُ صَارَ كَعَوْدِهِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ ، وَلَيْسَ الضَّوَالُّ كَذَلِكَ : لِأَنَّهَا تُضْمَنُ فِي حَقِّ آدَمِيٍّ ، فَلَمْ يَكُنْ إِرْسَالُهَا عَوْدًا إِلَى مُسْتَحِقِّهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّيْدَ لَوْ كَانَ مِلْكًا لِآدَمِيٍّ فَضَمِنَهُ الْمُحْرِمُ ثُمَّ أَرْسَلَهُ ، سَقَطَ عَنْهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْجَزَاءِ وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ حَقُّ الْآدَمِيِّ فِي الْغُرْمِ ، وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى الْإِمَامِ أَوِ الْحَاكِمِ ، فَفِي سُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَسْقُطُ كَعَوْدِهَا إِلَى يَدِ النَّائِبِ عَنِ الْغَائِبِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الضَّمَانَ لَا يَسْقُطُ لِتَعَدِّي الْوَاجِدِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْجَعَالَةِ

بَابُ الْجَعَالَةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ وَلَا جُعْلَ لِمَنْ جَاءَ بِآبِقٍ وَلَا ضَالَّةٍ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ ، وَسَوَاءٌ مَنْ عُرِفَ بِطَلَبِ الضَّوَالِّ وَمَنْ لَا يُعْرَفُ بِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ وَلَيْسَ يَخْلُو مَنْ رَدَّ آبِقًا أَوْ ضَالَّةً الْجَعَالَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَرُدَّهَا بِأَمْرِ مَالِكِهَا أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، فَإِنْ رَدَّ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَالِكِ فَقَدْ كَانَ ضَامِنًا بِالْيَدِ وَسَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ بِالرَّدِّ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ ، سَوَاءٌ كَانَ مَعْرُوفًا بِطَلَبِ الضَّوَالِّ وَمَنْ لَا يُعْرَفُ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِطَلَبِ الضَّوَالِّ فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فِي الْعَبْدِ وَالْبَهِيمَةِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِذَلِكَ فَلَا شَيْءَ لَهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ الْمَرْدُودُ عَبْدًا أَوْ أَمَةً فَلَهُ إِنْ رَدَّ مِنْ مَسَافَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ، وَإِنْ رَدَّهُ مِنْ أَقَلِّ مِنْ مَسَافَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي رَدِّ الْبَهِيمَةِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِرَدِّ الضَّوَالِّ مَعْرُوفًا أَوْ غَيْرَ مَعْرُوفٍ اسْتِدْلَالًا مِنْهُمَا عَلَى اخْتِلَافِ مَذْهَبَيْهِمَا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ جَعَلَ لِمَنْ رَدَّ آبِقَا مِنْ خَارِجِ الْحَرَّةِ دِينَارًا ، وَرَوَى أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ تَارَةً مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَتَارَةً هَكَذَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ رَدَّ آبِقَا فَلَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمَا وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا رَدَّ ضَالَّةً لِرَجُلٍ ، فَقَالَ النَّاسُ : لَقَدْ حَازَ أَجْرًا عَظِيمًا ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : وَلَهُ مَعَ ذَلِكَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا . وَكَانَ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا - أَنَّهُمَا قَالَا : مَنْ رَدَّ آبِقًا فَلَهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ ، فَصَارَ ذَلِكَ مِنْهُمَا إِجْمَاعًا عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْجُعْلِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ مَوْضُوعٌ عَلَى مَا أَدَّى إِلَى حِفْظِهَا وَرِفْقِ أَرْبَابِهَا فِيهَا ، فَلَوْ مَنَعَ الرَّادُّ لَهَا مِنْ جُعْلٍ يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهَا لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ رَدِّهَا ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ إِلَى تَلَفِهَا وَلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ الْغَالِبَةِ فِي طَلَبِهَا . وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ ، وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ كَالْأَعْيَانِ ، بَلْ أَضْعَفُ ، فَلَمَّا كَانَ لَوِ اسْتَهْلَكَ أَعْيَانًا فِي رَدِّ ضَالَّةٍ مِنْ طَعَامٍ أَوْ عَلَفٍ الْجَعَالَةِ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ عِوَضًا ، فَإِذَا اسْتَهْلَكَ مَنَافِعَ نَفْسِهِ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ بِهَا عِوَضًا .

وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ مَا تَطَوَّعَ بِاسْتِهْلَاكِهِ فِي الضَّوَالِّ لَمْ يَرْجِعْ بِعِوَضِهِ كَالْأَعْيَانِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَوْصَلَ الْمَالِكَ إِلَى مِلْكِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ عِوَضًا ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَوْصَلَ الْمِلْكَ إِلَى مَالِكِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ عِوَضًا لِتَطَوُّعِهِ فِي كِلَا الْحَالَيْنِ ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَالِكِ وَمِلْكِهِ تَطَوُّعًا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ بِهِ عِوَضًا ، كَمَا لَوْ أَوْصَلَ الْمَالِكَ إِلَى مِلْكِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَالِكٍ خَاصَّةً أَنَّ مِنْ تَطَوَّعَ بِاصْطِنَاعِ مَعْرُوفٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ جُعْلًا كَغَيْرِ الْمَعْرُوفِ ، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ خَاصَّةً أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْجُعْلِ عَلَى رَدِّ الْعَبْدِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ لِكَوْنِهِ مِلْكًا أَوْ لِكَوْنِهِ آدَمِيًّا ، فَإِنْ كَانَ لِكَوْنِهِ مِلْكًا بَطَلَ اسْتِحْقَاقُهُ وَذَلِكَ لِكَوْنِهِ مِلْكًا : لِأَنَّهُ لَوْ رَدَّ بَهِيمَةً أَوْ لُقَطَةً لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَحِقَّ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ آدَمِيًّا : لِأَنَّهُ لَوْ رَدَّ صَبِيًّا قَدْ ضَاعَ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا ، فَبَطَلَ بِهَذَيْنِ أَنْ يَسْتَحِقَّ فِي رَدِّ الْعَبْدِ شَيْئًا ، قَالَ : أَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ ذَكَرُوهُ مِنْ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : لَمْ يَصِحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنِ الصَّحَابَةِ شَيْءٌ مِنْهُ ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا عَلَى اشْتِرَاطِ ذَلِكَ لِمَنْ جَاءَ بِهِ خَاصَّةً قَبْلَ الْمَجِيءِ لِيَصِيرَ مُسْتَحِقًّا لِلْجُعْلِ بِالشَّرْطِ ، وَإِمَّا لِتَقْرِيرٍ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ فِي الْجَعَالَةِ الْفَاسِدَةِ ، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْإِرْفَاقِ وَالْمَصْلَحَةِ فَمُنْتَقَضٌ بِالطَّعَامِ وَالْعَلَفِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا رَدُّ الضَّالَّةِ عَنْ أَمْرِ مَالِكِهَا فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَجْعَلَ لَهُ عِنْدَ الْأَمْرِ بِرَدِّهَا عِوَضًا فَذَلِكَ مُسْتَحِقٌّ ، فَإِنْ كَانَ عِوَضًا مَعْلُومًا وَعَقْدًا صَحِيحًا اسْتَحَقَّهُ ، وَإِنْ كَانَ عِوَضًا مَجْهُولًا وَعَقْدًا فَاسِدًا اسْتَحَقَّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ [ يُوسُفَ : 72 ] ، وَكَانَ حِمْلُ الْبَعِيرِ عِنْدَهُمْ مَعْلُومًا كَالْوَسْقِ ، وَالضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ لَا يُذْكَرَ مَعَ الْأَمْرِ بِالرَّدِّ عِوَضًا لَا صَحِيحًا وَلَا فَاسِدًا ، بَلْ قَالَ لَهُ فُلَانٌ : جِئْنِي بِعَبْدِي الْآبِقِ . فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ أُجْرَةَ مِثْلِهِ بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ أَمْ لَا ؟ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ لَا أُجْرَةَ لَهُ ، سَوَاءٌ كَانَ مَعْرُوفًا بِأَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ أَوْ لَا ، لِتَرَدُّدِ الْأَمْرَيْنِ بَيْنَ احْتِمَالِ تَطَوُّعٍ وَاسْتِعْجَالٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ : لَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ ، سَوَاءٌ كَانَ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ أَوْ غَيْرَ مَعْرُوفٍ لِاسْتِهْلَاكِ مَنَافِعِهِ بِأَخْذِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ سُرَيْجٍ : أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْرُوفٍ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ اعْتِبَارًا . وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّهُ إِنِ ابْتَدَأَهُ مَالِكُ الْعَبْدِ بِالْأَمْرِ ، فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ ، وَإِنِ اسْتَأْذَنَهُ الْجَانِي بِالضَّالَّةِ فَأَذِنَ لَهُ ، فَلَا أُجْرَةَ لَهُ اقْتِصَارًا عَلَى حُكْمِ أَسْبَقِ الْحَالَيْنِ .

فَصْلٌ : فَلَوِ اخْتَلَفَ مَالِكُ الضَّالَّةِ وَمَنْ رَدَّهَا فِي الْإِذْنِ ، فَقَالَ الْمَالِكُ : رَدَدْتُهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ فَأَنْتَ مُتَطَوِّعٌ بِغَيْرِ أَجْرٍ ، وَقَالَ مَنْ رَدَّهَا : بَلْ رَدَدْتُهَا عَنْ أَمْرِكَ بِأَجْرٍ . فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ لِبَرَاءَةِ

ذِمَّتِهِ ، وَلَوِ اتَّفَقْنَا عَلَى الْإِذْنِ بِالْأَجْرِ فِي عَيْنِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِرَدِّهِ ، وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ عَبَدَهُ سَالِمًا وَادَّعَى الْآخَرُ نَفْيَهُ فَقَالَ الْمَالِكُ : بَلْ فَعَلْتُ ذَلِكَ فِي عَبْدِي غَانِمٌ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْإِذْنَ فِيهِ وَإِنِ اعْتَرَفَ بِهِ فِي غَيْرِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ إِنْ جِئْتَنِي بِعَبْدِي فَلَكَ كَذَا ، وَلَآخَرَ مِثْلُ ذَلِكَ ، وَلِثَالِثٍ مِثْلُ ذَلِكَ ، فَجَاءُوا بِهِ جَمِيعًا ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُ مَا جَعَلَهُ لَهُ ، اتَّفَقَتِ الْأَجْعَالُ أَوِ اخْتَلَفَتْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْجَعَالَةُ حكمها فَمِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ دُونَ اللَّازِمَةِ : لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - : وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ، وَهِيَ تُفَارِقُ الْإِجَارَةَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ الجعالة : أَحَدُهَا جَوَازُ عَقْدِهَا عَلَى عَمَلٍ مَجْهُولٍ ، كَقَوْلِهِ : مَنْ جَاءَ بِعَبْدِي الْآبِقِ فَلَهُ دِينَارٌ ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مَجْهُولَ الْمَكَانِ ، وَفَسَادُ مِثْلِ ذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ ، وَالثَّانِي أَنَّ الْجَعَالَةَ غَيْرُ لَازِمَةٍ وَالْإِجَارَةَ لَازِمَةٌ ، وَالثَّالِثُ أَنَّهَا تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ ، كَقَوْلِهِ : مَنْ جَاءَنِي بِعَبْدِي الْآبِقِ فَلَهُ دِينَارٌ ، وَإِنْ لَمْ يُعَيَّنِ الْجَائِي بِهِ ، فَأَيُّ النَّاسِ جَاءَ بِهِ فَلَهُ الدِّينَارُ ، وَالْإِجَارَةُ لَا تَصِحُّ إِلَّا مَعَ مَنْ يَتَعَيَّنُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا فَارَقَ الْإِجَارَةَ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عَلَى التَّعَاوُنِ وَالْإِرْفَاقِ ، فَكَانَتْ شُرُوطُهَا أَخَفَّ وَحُكْمُهَا أَضْعَفَ .

فَصْلٌ : فَلَوْ قَالَ : مَنْ جَاءَنِي بِعَبْدِي الْآبِقِ فَلَهُ دِينَارٌ الجعالة . فَأَيُّ النَّاسِ جَاءَ بِهِ اسْتَحَقَّ الدِّينَارَ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ ، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ، مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ ، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ ، عَاقِلٍ أَوْ مَجْنُونٍ ، إِذَا كَانَ قَدْ سَمِعَ النِّدَاءَ أَوْ عَلِمَ بِهِ لِدُخُولِهِمْ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ : مَنْ جَاءَنِي ، فَلَوْ جَاءَ الْعَبْدُ بِنَفْسِهِ عِنْدَ عِلْمِهِ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْ سَيِّدِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ شَيْئًا : لِأَنَّ الْجُعْلَ عَلَيْهِ لَا لَهُ ، فَلَوْ جَاءَ بِهِ مَنْ لَمْ يَسْمَعِ النِّدَاءَ وَلَا عَلِمَ بِهِ كَانَ مُتَطَوِّعًا بِحَمْلِهِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ ، فَلَوْ عَلِمَ بِالنِّدَاءِ بَعْدَ الْمَجِيءِ بِهِ وَقَبْلَ دَفْعِهِ إِلَى سَيِّدِهِ اسْتَحَقَّ الدِّينَارَ : لِأَنَّ السَّامِعَ لِلنِّدَاءِ لَوْ جَاءَ بِهِ مِنْ أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ أَوْ أَبْعَدِهَا اسْتَحَقَّهُ ، فَكَذَلِكَ فَلَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ الْجَائِي بِهِ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ كَانَ مُتَطَوِّعًا بِالنَّفَقَةِ وَلَيْسَ لَهُ غَيْرُ الدِّينَارِ ، فَلَوْ جَاءَ بِالْعَبْدِ وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ فِي قَبْضَةِ حَيَاتِهِ اسْتَحَقَّ الدِّينَارَ الجعالة : لِأَنَّهُ مَبْذُولٌ عَلَى حَمْلِهِ ، فَلَوِ اخْتَلَفَ الْعَبْدُ وَحَامِلُهُ فَقَالَ الْعَبْدُ : جِئْتُ بِنَفْسِي . وَقَالَ حَامِلُهُ : بَلْ أَنَا جِئْتُ بِهِ الجعالة . رَجَعَ إِلَى تَصْدِيقِ السَّيِّدِ ، فَإِنْ صَدَّقَ الْحَامِلَ لَمْ يُعْتَبَرْ إِنْكَارُ الْعَبْدِ وَاسْتَحَقَّ الدِّينَارَ ، وَإِنْ صَدَقَ الْعَبْدُ حَلَفَ السَّيِّدُ دُونَ الْعَبْدِ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَلَوِ اخْتَلَفَ السَّيِّدُ وَحَامِلُ الْعَبْدِ فَقَالَ السَّيِّدُ : فَلَمَّا لَمْ تَسْمَعِ النِّدَاءَ فَلَا شَيْءَ لَكَ . وَقَالَ الْحَامِلُ : بَلْ سَمِعْتُهُ وَعَلِمْتُ بِهِ فَلِي الدِّينَارُ الجعالة . فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْحَامِلِ وَلَهُ الدِّينَارُ : لِأَنَّ عِلْمَهُ بِالشَّيْءِ يَرْجِعُ فِيهِ إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ ، فَلَوْ قَالَ سَيِّدُ الْعَبْدِ : مَنْ جَاءَنِي بِعَبْدِي مِنْ سَامِعِي نِدَائِي هَذَا فَلَهُ دِينَارٌ ، فَجَاءَ بِهِ مَنْ عَلِمَ بِنِدَائِهِ وَلَمْ يَسْمَعْهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا ، وَلَوْ قَالَ الْجَائِي بِهِ : سَمِعْتُ النِّدَاءَ ، وَقَالَ السَّيِّدُ : لَمْ تَسْمَعْهُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَائِي بِهِ أَيْضًا .

فَصْلٌ : فَلَوْ أَمَرَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ فَنَادَى : مَنْ جَاءَ بِعَبْدِي فُلَانٍ فَلَهُ دِينَارٌ الجعالة . كَانَ نِدَاءُ الْمُنَادِي كَنِدَاءِ السَّيِّدِ فِي وُجُوبِ الدِّينَارِ عَلَيْهِ لِحَامِلِ عَبْدِهِ ، فَلَوْ أَنْكَرَ السَّيِّدُ أَمْرَ الْمُنَادِي بِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْمُنَادِي ، فَإِنْ قَالَ فِي نِدَائِهِ إِنَّ فُلَانًا قَالَ : مَنْ جَاءَنِي بِعَبْدِي فَلَهُ دِينَارٌ الجعالة ، فَلَا شَيْءَ

عَلَى الْمُنَادِي لِأَنَّهُ جَاهِلٌ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ : مَنْ جَاءَ بِعَبْدِي فُلَانٍ فَلَهُ دِينَارٌ ، فَعَلَى الْمُنَادِي دَفَعُ الدِّينَارِ : لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَنْزِلَ ذَلِكَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ أَوْ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْجَائِي بِالْعَبْدِ قَدْ صَدَّقَ الْمُنَادِي عَلَى أَمْرِ السَّيِّدِ لَهُ ، فَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُنَادِي بِشَيْءٍ .

فَصْلٌ : فَلَوْ قَالَ السَّيِّدُ مَنْ جَاءَنِي بِعَبْدِي الْآبِقِ فَلَهُ دِينَارٌ ، فَجَاءَ بِهِ نَفْسَانِ ، كَانَ الدِّينَارُ بَيْنَهُمَا لِحُصُولِ الْمَجِيءِ بِهِمَا ، وَلَوْ جَاءَ بِهِ عَشَرَةً كَانَ الدِّينَارُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ ، سَوَاءٌ اتَّفَقَتْ أُجُورُهُمْ أَوِ اخْتَلَفَتْ : لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْمَجِيءِ بِهِ ، فَلَوْ قَالَ : يَا زَيْدُ ، إِنْ جِئْتَنِي بِعَبْدِي فَلَكَ دِينَارٌ ، فَجَاءَ بِهِ غَيْرُهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ الدِّينَارَ ، وَلَوْ جَاءَ بِهِ زَيْدٌ وَعَمْرٌو ، نُظِرَ فِي عَمْرٍو ، فَإِنْ قَالَ جِئْتُ بِهِ مُعَيَّنًا لِزَيْدٍ ، فَلِزَيْدٍ جَمِيعُ الدِّينَارِ وَلَا شَيْءَ لِعَمْرٍو : لِأَنَّ لِزَيْدٍ أَنْ يَسْتَعِينَ فِي حَمْلِهِ بِمَنْ شَاءَ ، وَإِنْ قَالَ عَمْرٌو : جِئْتُ بِهِ لِنَفْسِي طَلَبًا لِأُجْرَتِهِ ، فَلِزَيْدٍ نِصْفُ الدِّينَارِ : لِأَنَّ لَهُ نِصْفَ الْعَمَلِ وَلَا شَيْءَ لِعَمْرٍو : لِأَنَّهُ لَمْ يَبْذُلْ لَهُ عَلَى عَمَلِهِ شَيْءٌ ، فَلَوِ اخْتَلَفَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو فَقَالَ زَيْدٌ : جِئْتُ بِهِ مُعَيَّنًا لِي وَقَالَ عَمْرٌو : بَلْ جِئْتُ بِهِ مُسْتَعْجِلًا لِنَفْسِي ، رَجَعَ إِلَى السَّيِّدِ ، فَإِنْ صَدَّقَ زَيْدًا اسْتَحَقَّ الدِّينَارَ كُلَّهُ ، وَإِنْ صَدَّقَ عَمْرًا حَلَفَ السَّيِّدُ دُونَ عَمْرٍو : لِأَنَّهُ الْغَارِمُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا نِصْفُ الدِّينَارِ .

فَصْلٌ : فَلَوْ قَالَ : يَا زَيْدُ ، إِنْ جِئْتَنِي بِعَبْدِي فَلَكَ دِينَارٌ ، وَيَا عَمْرُو إِنْ جِئْتَنِي بِعَبْدِي فَلَكَ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ ، وَيَا بَكْرُ إِنْ جِئْتَنِي بِهِ فَلَكَ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ ، فَإِنْ جَاءَ بِهِ غَيْرُهُمْ ، فَلَا شَيْءَ لَهُ ، وَإِنْ جَاءَ لَهُ أَحَدُهُمْ فَلَهُ مَا جُعِلَ لَهُ ، فَإِنْ جَاءُوا بِهِ جَمِيعًا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُ مَا جَعَلَ لَهُ : لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثَ الْعَمَلِ ، فَيَكُونُ لِزَيْدٌ ثُلُثُ الدِّينَارِ ، وَيَكُونُ لِعَمْرٍو ثُلُثُ الْخَمْسَةِ ، وَيَكُونُ لِبَكْرٍ ثُلُثُ الْعَشَرَةِ ، فَلَوْ قَالَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو : أَعَانَنَا بَكْرٌ فِي حَمْلِهِ فَلَهُ كُلُّ الْعَشَرَةِ ، فَقَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ مَقْبُولٌ : لِأَنَّ لَهُمَا أَنْ يَتْرُكَا الْعَمَلَ لِأَنْفُسِهِمَا وَيَتَطَوَّعَا بِهِ لِغَيْرِهِمَا .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ مَنْ جَاءَنِي بِعَبْدِي فَلَهُ دِينَارٌ ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ ، فَعَلَيْهِ إِعْلَانُ الْإِذْنِ ، فَمَنْ جَاءَ بِهِ فَلَهُ الدِّينَارُ ، وَإِنْ أَعْلَنَهُ فَلَا شَيْءَ لِمَنْ جَاءَ بِهِ بَعْدَ إِعْلَانِ الْإِذْنِ ، سَوَاءٌ عَلِمَ بِرُجُوعِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ إِذَا كَانَ قَدْ شَرَعَ فِي الْمَجِيءِ بِهِ : لِأَنَّ إِعْلَامَ كُلِّ النَّاسِ بِرُجُوعِهِ مُتَعَذِّرٌ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ فِي الرُّجُوعِ أَكْثَرُ مِنَ الْإِعْلَانِ وَالْإِشَاعَةِ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْجَائِي بِهِ شَرَعَ فِي حَمْلِهِ قَبْلَ الرُّجُوعِ ، فَلَهُ الدِّينَارُ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِالرُّجُوعِ ، فَأَمَّا إِنْ قَالَ : يَا زَيْدُ إِنْ جِئْتَنِي بِعَبْدِي فَلَكَ دِينَارٌ ، ثُمَّ رَجَعَ السَّيِّدُ ، فَعَلَيْهِ إِعْلَامُ زَيْدٍ بِرُجُوعِهِ مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي حَمْلِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ ، سَوَاءٌ أَعْلَنَ السَّيِّدُ الرُّجُوعَ أَوْ لَمْ يُعْلِنْهُ : لِأَنَّ إِعْلَامَ زَيْدٍ بِالرُّجُوعِ غَيْرُ مُتَعَذِّرٍ ، فَلَوْ شَرَعَ زَيْدٌ فِي حَمْلِهِ ، ثُمَّ أَعْلَمَهُ السَّيِّدُ بِرُجُوعِهِ قِيلَ لِلسَّيِّدِ : أَنْتَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنَ الْمَجِيءِ بِهِ فَيَسْتَحِقُّ كُلَّ الدِّينَارِ ، أَوْ تَبْذُلَ لَهُ أُجْرَةً مِثْلَمَا فَوَّتَهُ مِنْ عَمَلِهِ : لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرُ لَازِمٍ لَكَ فَلَيْسَ لَكَ إِبْطَالُ عَمَلِهِ عَلَيْهِ كَالْمُضَارَبَةِ إِذَا رَجَعَ فِيهَا رَبُّ الْمَالِ بَعْدَ عَمَلِ الْعَامِلِ لَزِمَهُ تَمْكِينُ الْعَامِلِ مِنْ بَيْعِ مَا اشْتَرَاهُ ، لِئَلَّا يُفَوِّتَ عَلَيْهِ عَمَلَهُ بِالرُّجُوعِ وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ غَيْرَ لَازِمٍ .

فَصْلٌ : وَلَوْ جَاءَ زَيْدٌ بِالْعَبْدِ ، وَقَدْ مَاتَ السَّيِّدُ الجعالة كَانَ لَهُ الدِّينَارُ فِي تَرِكَتِهِ إِذَا وَصَلَ الْعَبْدُ إِلَى وَرَثَتِهِ ، وَلَوْ مَاتَ زَيْدٌ قَبْلَ وُصُولِ الْعَبْدِ إِلَى سَيِّدِهِ ، فَإِنْ تَمَّمَ وَارِثُ زَيْدٍ حَمْلَ الْعَبْدِ إِلَى سَيِّدِهِ فَلَهُ مِنَ الدِّينَارِ الْمُسْتَحَقِّ بِقِسْطِ عَمَلِ زَيْدٍ مِنْهُ : لِأَنَّ عَمَلَهُ لَمْ يَفُتْ وَلَا شَيْءَ لِلْوَارِثِ مِنْهُ لِقِسْطِ عَمَلِ

نَفْسِهِ : لِأَنَّ مَا لَمْ يَلْزَمْ مِنَ الْعُقُودِ يُبْطَلُ بِالْمَوْتِ ، فَلَمْ يَقُمْ عَمَلُ الْوَارِثِ مَقَامَ عَمَلِ الْمَوْرُوثِ ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ الْوَارِثُ بِالْعَبْدِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لِوَارِثِ زَيْدٍ فِيمَا عَمِلَهُ مِنْ حَمْلِ الْعَبْدِ : لِأَنَّ زَيْدًا لَوْ كَانَ حَيًّا فَلَمْ يُتَمِّمْ حَمْلَهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : يَلْزَمُ السَّيِّدُ مِنَ الدِّينَارِ بِقِسْطِ عَمَلِ زِيدٍ فِي حَمْلِهِ لِئَلَّا يُبْطِلَ عَمَلَهُ ، بِخِلَافِ الْحُرِّ الَّذِي بِاخْتِيَارِهِ فَاتَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ غَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ زَيْدًا لَوْ كَانَ عَلَى حَمْلِهِ فَهَرَبَ الْعَبْدُ مِنْهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ لِمَاضِي عَمَلِهِ شَيْئًا ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ تَفْوِيتَ الْعَمَلِ عَلَيْهِ ، فَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى بَلَدِهِ ، فَلَا شَيْءَ لَهُ فِي حَمْلِهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي مَوْتِهِ ، وَهَكَذَا لَوْ مَاتَ بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَى بَلَدِهِ وَقَبْلَ حُصُولِهِ فِي يَدِ سَيِّدِهِ ، وَهَذَا يُوَضِّحُ فَسَادَ ذَلِكَ التَّعْلِيلِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ : يَا زَيْدُ ، إِنْ جِئْتَنِي بِعَبْدِي مِنْ بَغْدَادَ فَلَكَ دِينَارٌ ، فَجَاءَ بِهِ مِنْهَا ، اسْتَحَقَّ ، وَلَوْ جَاءَ بِهِ مِنْ أَبْعَدِ مِنْهَا كَالْمَوْصِلِ لَمْ يَسْتَحِقَّ أَكْثَرَ مِنَ الدِّينَارِ ، وَلَوْ جَاءَ بِهِ مَنْ أَقَلُّ مِنْهَا نَحْوَ وَاسِطٍ اسْتَحَقَّ مِنَ الدِّينَارِ بِقِسْطِهِ : لِأَنَّ بَعْضَ الْعَمَلِ الَّذِي جَعَلَ لَهُ الدِّينَارَ فِي مُقَابَلَتِهِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ إِنَّ مَنْ جَاءَنِي بِعَبْدِي فَلَهُ دِينَارٌ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ مَنْ جَاءَنِي بِعَبْدِي فَلَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ ، كَانَ الْآخِرُ مِنْ قَوْلَيْهِ هُوَ الْمَعْمُولُ عَلَيْهِ ، وَيَكُونُ لِمَنْ جَاءَ بِهِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ ، وَبِعَكْسِ مَنْ قَالَ : مَنْ جَاءَنِي بِهِ فَلَهُ عَشَرَةٌ ، ثُمَّ قَالَ : مَنْ جَاءَنِي بِهِ فَلَهُ دِينَارٌ ، كَانَ لِلْجَائِي بِهِ دِينَارٌ وَاحِدٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ الْتِقَاطِ الْمَنْبُوذِ يُوجَدُ مَعَهُ الشَّيْءُ

بَابُ الْتِقَاطِ الْمَنْبُوذِ يُوجَدُ مَعَهُ الشَّيْءُ بِمَا وَضَعَ بِخَطِّهِ لَا أَعْلَمُهُ سُمِعَ مِنْهُ ، وَمِنْ مَسَائِلَ شَتَّى سَمِعْتُهَا مِنْهُ لَفْظًا . قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَا وَضَعَ بِخَطِّهِ : وَمَا وُجِدَ تَحْتَ الْمَنْبُوذِ مِنْ شَيْءٍ مَدْفُونٍ مِنْ ضَرْبِ الْإِسْلَامِ أَوْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ فَهُوَ لُقَطَةٌ ، أَوْ كَانَتَ دَابَّةً فَهِيَ ضَالَّةٌ ، فَإِنْ وُجِدَ عَلَى دَابَّتِهِ أَوْ عَلَى فِرَاشِهِ أَوْ عَلَى ثَوْبِهِ مَالٌ فَهُوَ لَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، أَمَّا الْمَنْبُوذُ فَهُوَ الطِّفْلُ يُلْقَى : لِأَنَّ النَّبْذَ فِي كَلَامِهِمُ الْإِلْقَاءُ ، وَسُمِّيَ لَقِيطًا لِالْتِقَاطِ وَاجِدِهِ لَهُ ، وَقَدْ تَفْعَلُ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ بِوَلَدِهَا لِأُمُورٍ : مِنْهَا أَنْ تَأْتِيَ بِهِ مِنْ فَاحِشَةٍ فَتَخَافُ الْعَارَ فَتُلْقِيهِ ، أَوْ تَأْتِي بِهِ مِنْ زَوْجٍ تَضْعُفُ عَنِ الْقِيَامِ بِهِ فَتُلْقِيهِ رَجَاءَ أَنْ يَأْخُذَهُ مَنْ يَقُومُ بِهِ ، أَوْ تَمُوتُ الْأُمُّ فَيَبْقَى ضَائِعًا فَيَصِيرُ فَرْضَ كِفَايَةٍ ، وَالْقِيَامُ بِتَرْبِيَتِهِ عَلَى كَافَّةِ مَنْ عَلِمَ بِحَالِهِ حَتَّى يَقُومَ بِكَفَالَتِهِ مِنْهُمْ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ كَالْجَمَاعَةِ إِذَا رَأَوْا غَرِيقًا يَهْلِكُ أَوْ مَنْ ظَفِرَ بِهِ سَبْعٌ فَعَلَيْهِمْ خَلَاصُهُ وَاسْتِنْقَاذُهُ . لِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - : وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [ الْمَائِدَةِ 32 ] وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ شُكْرَهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ أَحْيَاهُمْ ، وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ نَابَ عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ فِي إِحْيَائِهِ . وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [ الْمَائِدَةِ : 2 ] وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَافْعَلُوا الْخَيْرَ [ الْحَجِّ : 177 ] فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّدْبِ عَلَى أَخْذِهِ وَالتَّوَصُّلِ إِلَى حِرَاسَةِ نَفْسِهِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ [ الْقِصَصِ : 8 ] طَلَبًا لِحِفْظِ نَفْسِهِ وَرَغْبَةً فِي ثَوَابِهِ . وَرُوِيَ أَنَّ مَنْبُوذًا وُجِدَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَاسْتَأْجَرَ لَهُ امْرَأَةً تَكْفُلُهُ ، وَاسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ فِي النَّفَقَةِ فَأَشَارُوا أَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبَى جَمِيلَةَ أَنَّهُ قَالَ : أَخَذْتُ مَنْبُوذًا عَلَى عَهْدِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَذَكَرَهُ عَرِيفِي لِعُمَرَ فَأَرْسَلَ إِلَيَّ فَدَعَانِي وَالْعَرِيفُ عِنْدَهُ ، قَالَ عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا ، فَقَالَ عَرِيفِي : إِنَّهُ لَا يَفْهَمُ . فَقَالَ عُمَرُ : مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ ؟ فَقُلْتُ : وَجَدْتُ نَفْسًا مُضَيَّعَةً فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَأْجُرَنِي اللَّهُ - عَزَ وَجَلَّ - فِيهَا . قَالَ : هُوَ حُرٌّ وَوَلَاؤُهُ لَكَ ، وَعَلَيْنَا رَضَاعُهُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا وَجَدَ الرَّجُلُ لَقِيطًا ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَجِدَ مَعَهُ مَالًا أَوْ لَا يَجِدُ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَعَهُ مَالًا تَطَوَّعَ بِأَخْذِهِ وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ تَطَوُّعًا إِمَّا لِعَجْزٍ أَوِ شُحٍّ ، رُفِعَ أَمْرُهُ إِلَى الْحَاكِمِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ وَإِنْ وَجَدَ مَعَهُ مَالًا : لِأَنَّهُ رُبَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ بَاعِثًا عَلَى أَخْذِهِ وَالْقِيَامِ

بِتَرْبِيَتِهِ ، فَذَلِكَ الْمَالُ مِلْكٌ لَهُ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ ، وَإِنْ كَانَ طِفْلًا أَنْ يَكُونَ مَالِكًا بِمِيرَاثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ ، وَإِنَّمَا بِحُكْمٍ يَمْلِكُهُ فِيمَا كَانَ بِيَدِهِ : لِأَنَّ لَهُ يَدًا تُوجِبُ الْمِلْكَ كَالْكَبِيرِ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ وَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ مِلْكِهِ كُلَّمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ ثِيَابٍ أَوْ حُلِيٍّ أَوْ كَانَ تَحْتَهُ مِنْ فِرَاشٍ أَوْ حَصِيرٍ ، أَوْ كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ عِنَانِ فَرَسٍ ، أَوْ كَانَ رَاكِبًا لَهُ مِنْ بَعِيرٍ أَوْ فَرَسٍ ، فَكُلُّ ذَلِكَ مَنْسُوبٌ إِلَى يَدِهِ كَالْكَبِيرِ وَمَحْكُومٌ لَهُ بِهِ فِي مِلْكِهِ .

فَصْلٌ : فَمَا وُجِدَ مُنْفَصِلًا عَنْهُ اللقيط فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَبْعُدَ عَنْهُ كَالْفَرَسِ الْمَرْبُوطِ عَلَى بُعْدٍ أَوْ كِيسٍ مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ ثَوْبٍ ، فَذَلِكَ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إِلَى يَدِهِ كَمَا لَا يَنْسَحِبُ إِلَى يَدِ الْكَبِيرِ وَيَكُونُ لُقَطَةً . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَرِيبًا مِنْهُ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ آهِلًا كَثِيرَ الْمَارَّةِ ، فَهَذَا يَكُونُ لُقَطَةً أَيْضًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ مُنْقَطِعًا قَلِيلَ الْمَارَّةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ : أَنْ يَكُونَ لُقَطَةً كَالْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَمْلِكُ مَا يُقَارِبُهُ مِنَ الْمَالِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ يَدٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّهُ يَكُونُ مِلْكًا لِلَّقِيطِ اعْتِبَارًا بِالظَّاهِرِ مِنْ حَالِهِ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَبِيرِ بِأَنَّ الْكَبِيرَ يَقْدِرُ عَلَى إِمْسَاكِ مَا يُقَارِبُهُ مِنْ مَالٍ أَوْ فَرَسٍ ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلُ ارْتَفَعَتْ يَدُهُ فَزَالَ الْمِلْكُ ، وَالصَّغِيرُ يَضْعُفُ عَنْ إِمْسَاكِ مَا يُقَارِبُهُ ، فَجَازَ أَنْ يَنْتَسِبَ إِلَى مِلْكِهِ وَأَنَّهُ فِي حُكْمِ مَا فِي يَدِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا تَحْتَهُ مِنْ مَالٍ اللقيط فَضَرْبَانِ : مَدْفُونٌ ، وَغَيْرُ مَدْفُونٍ ، فَإِنْ كَانَ مَدْفُونًا فَلَيْسَ بِمِلْكٍ لِلَّقِيطِ : لِأَنَّ الْكَبِيرَ لَوْ كَانَ جَالِسًا عَلَى أَرْضٍ تَحْتَهَا دَفِينٌ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِمِلْكِهِ ، ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ مِنْ ضَرْبِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ لُقَطَةٌ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ ضَرْبِ الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ رِكَازٌ يَمْلِكُهُ الْوَاجِدُ وَعَلَيْهِ خُمُسُهُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَدْفُونٍ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فَوْقَ بِسَاطِهِ وَتَحْتَ جَسَدِهِ ، فَهَذَا مِلْكٌ لِلَّقِيطِ لِكَوْنِهِ فِي يَدِهِ وَتَحْتَ جَسَدِهِ ، فَهَذَا مِلْكٌ لِلَّقِيطِ لِكَوْنِهِ فِي يَدِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ تَحْتَ بِسَاطِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لَهُ كَالْبِسَاطِ إِذَا كَانَ تَحْتَهُ يَكُونُ مِلْكَهُ . وَالثَّانِي : لَا يَكُونُ مِلْكَهُ وَيَكُونُ لُقَطَةً بِخِلَافِ الْبِسَاطِ : لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ أَنْ تَكُونَ مَبْسُوطَةً عَلَى الْأَرْضِ تَحْتَ مَالِكِهَا ، وَجَرَتْ عَادَةُ الْبِسَاطِ أَنْ يُبْسَطَ عَلَى الْأَرْضِ تَحْتَ مَالِكِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمَوْضِعُ الَّذِي هُوَ مَنْبُوذٌ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ مَوَاتًا أَوْ مَسْجِدًا أَوْ طَرِيقًا مَائِلًا فَهُوَ

يُوجَدُ مَعَهُ الشَّيْءُ عَلَى حَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ مِلْكًا فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِسُكْنَاهُ كَالدُّورِ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ لَهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ فِيهَا كَالْكَبِيرِ يَمْلِكُ مَا هُوَ فِيهَا مِنْ دَارٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِسُكْنَاهُ كَالْبَسَاتِينِ وَالضَّيَاعِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَحْكُمُ بِأَنَّهُ مِلْكُهُ مَا لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ عَلَيْهِ يَدٌ كَالدُّورِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَحْكُمُ لَهُ بِذَلِكَ ، بِخِلَافِ الدَّارِ : لِأَنَّ سُكْنَى الدَّارِ تَصَرُّفٌ وَلَيْسَ الْحُصُولُ فِي الْبَسَاتِينِ سُكْنَى وَلَا تَصَرُّفٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِنْ كَانَ مُلْتَقِطُهُ غَيْرَ ثِقَةٍ نَزَعَهُ الْحَاكِمُ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ ثِقَةً وَجَبَ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا وُجِدَ لَهُ وَأَنَّهُ مَنْبُوذٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا كَانَ مُلْتَقِطُ الْمَنْبُوذِ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ خَوْفًا مِنِ اسْتِرْقَاقِهِ وَلَا عَلَى مَالِهِ خَوْفًا مِنِ اسْتِهْلَاكِهِ ، نَزَعَهُ الْحَاكِمُ مِنْ يَدِهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ غَيْرَ الْمَأْمُونِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَاتِ ، وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا حَظَّ لِلْمَنْبُوذِ فِي تَرْكِهِ تَحْتَ يَدِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيْسَ لَوْ كَانَ وَاجِدُ اللُّقَطَةِ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهَا أُقِرَّتْ فِي يَدِهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَهَلَّا كَانَ اللَّقِيطُ كَذَلِكَ ؟ قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللُّقَطَةَ اكْتِسَابٌ ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهَا الْأَمِينُ وَغَيْرُهُ ، وَالْتِقَاطُ الْمَنْبُوذِ وِلَايَةٌ فَاخْتَلَفَ فِيهِ الْأَمِينُ وَغَيْرُهُ . وَالثَّانِي : مَا يُخَافُ عَلَى الْمَنْبُوذِ مِنِ اسْتِرْقَاقِهِ وَإِضَاعَتِهِ أَغْلَظُ مِمَّا يُخَافُ عَلَى الْمَالِ مِنِ اسْتِهْلَاكِهِ وَتَلَفِهِ : لِأَنَّ ذَاكَ بَدَلٌ وَلَيْسَ لِلْحُرِّيَّةِ بَدَلٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَاهُ لَمْ يَخْلُ حَالُ مُلْتَقِطِ الْمَنْبُوذِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ ، أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ مَأْمُونًا عَلَيْهِ وَعَلَى مَالِهِ ، فَيُقَرَّانِ مَعًا فِي يَدِهِ وَهَلْ يَكُونُ لِلْحَاكِمِ عَلَيْهِ نَظَرٌ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ لَا نَظَرَ عَلَيْهِ لَا اجْتِهَادَ لَهُ فِيمَا إِلَيْهِ ، كَمَا أَنَّهُ لَا نَظَرَ فِي اللُّقَطَةِ عَلَى وَاجِدِهَا إِذَا كَانَ أَمِينًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ : أَنَّ لِلْحَاكِمِ عَلَيْهِ فِي الْمَنْبُوذِ نَظَرٌ ، وَلَهُ فِي كَفَالَتِهِ اجْتِهَادٌ : لِأَنَّهُ الْوَالِي عَلَى الْأَطْفَالِ وَخَالَفَ حَالَ اللُّقَطَةِ : لِأَنَّهَا كَسْبٌ وَهَكَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ الْمُلْتَقِطُ خَصْمًا فِيمَا نُوزِعَ فِيهِ الْمَنْبُوذُ مِنْ أَمْوَالِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ خَصْمًا فِيهِ نِيَابَةً عَنِ الْمَنْبُوذِ لِمَكَانِ نَظَرِهِ عَلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَكُونُ خَصْمًا إِلَّا بِإِذْنِ الْحَاكِمِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمُلْتَقِطُ غَيْرَ أَمِينٍ عَلَيْهِ ، فَوَاجِبٌ عَلَى الْحَاكِمِ انْتِزَاعُهَا مِنْ يَدِهِ وَيُرْتَضَى لَهُ مَنْ يَقُومُ بِكَفَالَتِهِ وَحِفْظِ مَالِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ أَمِينًا عَلَيْهِ ، فَلَا يُخَافُ مِنِ اسْتِرْقَاقِهِ لَهُ ، لَكِنَّهُ غَيْرُ أَمِينٍ عَلَى مَالِهِ خَوْفًا مِنِ اسْتِهْلَاكِهِ لَهُ ، فَهَذَا يُقَرُّ الْمَنْبُوذُ فِي يَدِهِ وَيُنْتَزَعُ الْمَالُ مِنْهُ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ لَهُ بِالْتِقَاطِهِ حَقٌّ فِي

كَفَالَتِهِ ، فَمَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَدِّ الْأَمَانَةِ فِيهِ كَانَ مُقَرًّا مَعَهُ ، وَلَيْسَ تُرَاعَى فِيهِ الْعَدَالَةُ فَيَكُونُ جَرْحُهُ فِي شَيْءٍ جَرْحًا فِي كُلِّ شَيْءٍ ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِيهِ الْأَمَانَةُ ، وَقَدْ يَكُونُ أَمِينًا فِي شَيْءٍ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُؤْتَمَنٍ فِي غَيْرِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا كَانَ الْمَالُ الَّذِي لَيْسَ بِمُؤْتَمَنٍ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمَا فِي يَدِهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ كَاللُّقَطَةِ : لِأَنَّهَا جَمِيعًا مَالٌ بِخِلَافِ الْمَنْبُوذِ ؟ قُلْنَا : لِأَنَّ مَالَ اللَّقِيطَةِ كَسْبُ الْمُلْتَقِطِ ، وَلَيْسَ مَالُ الْمَنْبُوذِ كَسْبًا لِلْمُلْتَقِطِ ، وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا عَلَى مَالِهِ غَيْرَ أَمِينٍ عَلَى نَفْسِهِ إِمَّا مِنِ اسْتِرْقَاقِهِ ، وَإِمَّا لِأَنَّهَا ذَاتُ فَرْجٍ لَا يُؤْمَنُ غَيْرُهُ فَيُنْتَزَعُ الْمَنْبُوذُ مِنْهُ ، وَفِي إِقْرَارِ الْمَالِ مَعَهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُقَرُّ مَعَهُ ، وَإِنْ نُزِعَ الْمَنْبُوذُ مِنْهُ كَمَا يُقَرُّ الْمَنْبُوذُ مَعَهُ ، وَإِنْ نُزِعَ الْمَالُ مِنْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُنْتَزَعُ الْمَالُ مِنْهُ مَعَ الْمَنْبُوذِ : لِأَنَّ مَالَهُ تَبَعٌ لَهُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَنْبُوذِ وَبَيْنَ مَالِهِ أَنَّ لِمُلْتَقِطِ الْمَنْبُوذِ حَقًّا فِي كَفَالَتِهِ وَلَيْسَ لَهُ حَقٌّ فِي حِفْظِ مَالِهِ ، وَإِنَّمَا الْحَقُّ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَلَهُ الْكَفَالَةُ ، فَافْتَرَقَا .

فَصْلٌ : ثُمَّ الْحَاكِمُ مَنْدُوبٌ إِلَى الْإِشْهَادِ عَلَى مَنْ أَخَذَ الْمَنْبُوذَ وَمَالُهُ فِي يَدِهِ ، كَمَا كَانَ مَنْدُوبًا إِلَى الْإِشْهَادِ عَلَى مَنْ أَخَذَ الْمَنْبُوذَ وَمَالُهُ فِي يَدِ مُلْتَقِطِ الْمَالِ ، فَإِنْ كَانَ الْقَيِّمُ بِكَفَالَةِ الْمَنْبُوذِ وَحِفْظِ مَالِهِ غَيْرَ الْمُلْتَقِطِ لَهُ لِتَسْلِيمِ الْحَاكِمِ لَهُ إِلَى مَنِ ارْتَضَاهُ لِأَمَانَتِهِ عِنْدَ حَيَاةِ مُلْتَقِطِهِ ، فَالْإِشْهَادُ عَلَيْهِ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ : لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْحَاكِمِ إِلَيْهِ ذَلِكَ حُكْمٌ يُغْنِي عَنِ الْإِشْهَادِ ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُلْتَقِطَ فَفِيهِ وَفِي اللُّقَطَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ مُضِيًّا : أَحَدُهَا : أَنَّ الْإِشْهَادَ وَاجِبٌ فِي اللُّقَطَةِ وَالْمَنْبُوذِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فِيهِمَا جَمِيعًا . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ وَاجِبٌ فِي الْمَنْبُوذِ وَغَيْرُ وَاجِبٍ فِي اللُّقَطَةِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَيَأْمُرُهُ بِالْإِنْفَاقِ مِنْهُ عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ وَمَا أَخَذَ ثَمَنَهُ الْمُلْتَقِطُ وَأَنْفَقَ مِنْهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْحَاكِمِ فَهُوَ ضَامِنٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا وُجِدَ مَعَ اللَّقِيطِ مَالٌ كَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِهِ ، كَمَا يَجِبُ نَفَقَةُ الطِّفْلِ إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ فِي مَالِهِ دُونَ مَالِ أَبِيهِ ، فَإِنْ تَطَوَّعَ الْمُلْتَقِطُ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ اللقيط كَانَ مُحْسِنًا كَالْأَبِ إِذَا تَطَوَّعَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى وَلَدِهِ الْغَنِيِّ ، وَإِنْ أَرَادَ الْمُلْتَقِطُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ لَزِمَهُ اسْتِئْذَانُ الْحَاكِمِ فِيهِ ، سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ لِلْحَاكِمِ عَلَيْهِ نَظَرٌ فِي اللَّقِيطِ أَوْ لَيْسَ لَهُ : لِأَنَّ لِلْحَاكِمِ نَظَرًا فِي مَالِهِ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ ، فَإِنْ أَنْفَقَ بِغَيْرِ إِذْنٍ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى اسْتِئْذَانِهِ أَوْ غَيْرَ قَادِرٍ ، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى اسْتِئْذَانِهِ كَانَ ضَامِنًا لِمَا أَنْفَقَ قَصْدًا أَوْ سَرَفًا : لِأَنَّ الْحَاكِمَ هُوَ الْوَالِي عَلَى الْمَالِ دُونَهُ وَصَارَ ذَلِكَ ، وَإِنْ وَصَلَ إِلَى مَالِكِهِ كَمَنْ أَخَذَ عَلَفَ رَجُلٍ أَعَدَّهُ لِدَابَّتِهِ فَأَطْعَمَهَا إِيَّاهُ ضَمِنَهَا لَهُ وَإِنْ وَصَلَ إِلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ ، فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ : كَالْجَمَّالِ إِذَا هَرَبَ مِنْ مُسْتَأْجِرِهِ فَاكْتَرَى لِنَفْسِهِ عِنْدَ إِعْوَازِ حَاكِمٍ لِيَسْتَأْذِنَهُ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَسْتَرْجِعَ الْمُسْتَأْجِرُ وَلَا يَضْمَنُ الْمُلْتَقِطُ لِضَرُورَتِهَا ، وَالثَّانِي لَا يَرْجِعُ الْمُسْتَأْجِرُ وَيَضْمَنُ

الْمُلْتَقِطُ : لِئَلَّا يَكُونَا حَاكِمَيْ أَنْفُسِهِمَا ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ هَرَبِ الْجَمَّالِ وَبَيْنَ مُلْتَقِطِ الْمَنْبُوذِ ، فَجَعَلَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَرْجِعَ وَجَعَلَ الْمُلْتَقِطَ ضَامِنًا : لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مُضْطَرٌّ إِلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ ، وَلَيْسَ الْمُلْتَقِطُ مُضْطَرٌّ إِلَى الْتِقَاطِهِ ، وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ : لِأَنَّهُ رُبَّمَا وَجَدَهُ ضَائِعًا فِي مَهْلَكَةٍ فَلَزِمَهُ أَخْذُهُ لِنَفْسِهِ .

فَصْلٌ : فَإِنِ اسْتَأْذَنَ الْحَاكِمُ فَهَلْ يَأْذَنُ لَهُ فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ مِنْ يَدِهِ أَوْ يَتَوَلَّاهُ غَيْرُهُ مِنْ أُمَنَائِهِ ؟ اللقيط عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْأَصَحُّ : أَنَّهُ يَأْذَنُ لَهُ فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ أَمِينًا ، إِمَّا بِتَقْدِيرِ مِثَالِهِ ، فَإِنْ زَادَ عَلَى الْقَدْرِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ ضَمِنَ ، وَإِمَّا بِأَنْ رَدَّ ذَلِكَ إِلَى اجْتِهَادِهِ فَمَا ادَّعَاهُ فِيهَا عَنْ قَصْدٍ قُبِلَ مِنْهُ ، وَمَا تَجَاوَزَ الْقَصْدَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ : لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِهِ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا فِيهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنَ الْمُلْتَقِطِ مِنْ مَالِ الْمَنْبُوذِ الْقَدْرُ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِي نَفَقَتِهِ حَتَّى يَتَوَلَّى ذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ أُمَنَاءِ الْحَاكِمِ لِمَا فِيهِ مِنْ فَضْلِ الِاحْتِيَاطِ لَهُ ، ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَمِينَ يَتَوَلَّى شِرَاءَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَنْبُوذُ مِنْ طَعَامٍ وَكِسْوَةٍ ، ثُمَّ يَدْفَعُهُ إِلَى الْمُلْتَقِطِ حَتَّى يُطْعِمَهُ وَيَكْسُوَهُ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَدْفَعُ قَدْرَ النَّفَقَةِ إِلَى الْمُلْتَقِطِ لِيَتَوَلَّى شِرَاءَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ لِمَا لَهُ حَقُّ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ مَالٌ وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَرُمَ تَضْيِيعُهُ عَلَى مَنْ عَرَفَهُ حَتَّى يُقَامَ بِكَفَالَتِهِ فَيَخْرُجُ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْمَأْثَمِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا الْتَقَطَ الْمَنْبُوذَ فَقِيرًا لَا مَالَ لَهُ وَلَمْ يَتَطَوَّعْ أَحَدٌ بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ ، وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ مِنْ وَالٍ وَحَاكِمٍ أَنْ يَقُومَ بِنَفَقَتِهِ : لِأَنَّهَا نَفْسٌ يَجِبُ حِرَاسَتُهَا وَيَحْرُمُ إِضَاعَتُهَا ، وَمِنْ أَيْنَ يُنْفِقُ الْإِمَامُ عَلَيْهِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْأَصَحُّ : مِنْ بَيْتِ الْمَالِ : لِأَنَّهُ رُصِدَ لِلْمَصَالِحِ ، وَهَذَا مِنْهَا ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ - أَنَّهُ قَالَ : " لَئِنْ أَصَابَ النَّاسَ سَنَةٌ لِأُنْفِقَنَّ عَلَيْهِمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ حَتَى لَا أَجِدُ دِرْهَمًا ، فَإِذَا لَمْ أَجِدْ دِرْهَمًا أَلْزَمْتُ كُلَّ رَجُلٍ رَجُلًا " ، وَقَدِ اسْتَشَارَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي النَّفَقَةِ عَلَى اللَّقِيطِ ، فَقَالُوا : مِنْ بَيْتِ الْمَالِ . فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا رُجُوعَ بِمَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى اخْتِلَافِ مَا يَظْهَرُ مِنْ أَحْوَالِهِ لِوُجُوبِهَا فِيهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا لَا تَجِبُ فِي بَيْتِ الْمَالِ : لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا فَتَجِبُ عَلَى سَيِّدِهِ ، أَوْ حُرًّا لَهُ أَبٌ غَنِيٌّ فَتَجِبُ عَلَى أَبِيهِ ، وَبَيْتُ الْمَالِ لَا يَلْزَمُ فِيهِ إِلَّا مَا لَا وَجْهَ لَهُ سِوَاهُ ، فَعَلَى هَذَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَقْتَرِضَ لَهُ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ ، إِمَّا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ وَلَمْ يَنْفَرِدْ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَخُصَّ نَفْسَهُ

وَمَنْ حَضَرَهُ مِنْ ذَوِي الْمَكِنَةِ وَجَعَلَهَا مُقَسَّطَةً عَلَيْهِمْ عَلَى عَدَدِهِمْ جَبْرًا وَلَا يَخُصُّ بِالْإِجْبَارِ عَلَيْهَا وَاحِدًا . قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَرُمَ تَضْيِيعُهُ عَلَى مَنْ عَرَفَهُ حَتَّى يُقَامَ بِكَفَالَتِهِ : لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ ، ثُمَّ يَنْظُرُ ، فَإِنْ بَانَ عَبْدًا رَجَعَ بِهَا عَلَى سَيِّدِهِ ، وَإِنْ بَانَ لَهُ أَبٌ غَنِيٌّ أَخَذَهَا مِنْ أَبِيهِ ، فَإِنْ بَلَغَ وَلَا أَبَ لَهُ وَلَا سَيِّدَ ، فَإِنْ عَلِمَهُ مُكْتَسِبًا رَجَعَ عَلَيْهِ فِي كَسْبِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُكْتَسِبٍ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ فَيَقْضِي ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ أَيِّ الْمَالَيْنِ يَرَاهُ فِيهَا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ أَوِ الْمَسَاكِينِ ، أَوْ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ أَمَرَهُ الْحَاكِمُ أَنْ يَسْتَسْلِفَ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ يَكُونُ عَلَيْهِ دَيْنًا ، فَمَا ادَّعَى قُبِلَ مِنْهُ إِذَا كَانَ مِثْلُهُ قَصْدًا ، ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) لَا يَجُوزُ قَوْلُ أَحَدٍ فِيمَا يَتَمَلَّكُهُ عَلَى أَحَدٍ : لِأَنَّهُ دَعْوَى وَلَيْسَ كَالْأَمِينِ ، يَقُولُ فَيَبْرَأُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي لَقِيطٍ فَقِيرٍ أَمَرَ الْحَاكِمُ مُلْتَقِطَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ مَا يُنْفِقُهُ عَلَيْهِ ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَأْمُرَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ ، فَهَذَا جَائِزٌ وَلَا يَأْخُذُ الْقَرْضَ جُمْلَةً ، وَلَكِنْ يَسْتَقْرِضُ لَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَوْ أَكْثَرَ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ قَدْرَ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ ، وَيُقْبَلُ قَوْلُ الْمُلْتَقِطِ فِي إِنْفَاقِهِ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ غِذَاءٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ ، فَإِذَا مَرَّتْ بِهِ الْأَيَّامُ عَلَى سَلَامَةٍ وَهُوَ فِيهَا نَامِي الْجَسَدِ مُسْتَقِيمُ الْأَحْوَالِ كَانَ الْأَظْهَرُ مِنْ حَالِهِ وَصُولُ النَّفَقَةِ إِلَيْهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَأْمُرَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ مِنْ نَفْسِهِ ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَوَلَّى إِنْفَاقَهُ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ نَصُّهُ هَاهُنَا : يَجُوزُ لِكَوْنِهِ أَمِينًا وَمَا ادَّعَاهُ مِنْ شَيْءٍ يَكُونُ مِثْلُهُ قَصْدًا قُبِلَ مِنْهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَتَّى يَأْخُذَهَا مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأُمَنَاءِ فَيُنْفِقَهَا عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ أَحَدٍ فِيمَا يَدَّعِيهِ دَيْنًا عَلَى غَيْرِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ وَجَدَهُ رَجُلَانِ فَتَشَاحَّاهُ أَقْرَعْتُ بَيْنَهُمَا ، فَمَنْ خَرَجَ سَهْمَهُ دَفَعْتُهُ إِلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ خَيْرًا لَهُ لَمْ يَكُنْ مُقَصِّرًا عَمَّا فِيهِ مَصْلَحَتُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا اشْتَرَكَ نَفْسَانِ فِي الْتِقَاطِ الْمَنْبُوذِ وَهُمَا مِنْ أَهْلِ الْكَفَالَةِ لَهُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْأَمَانَةِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَنَازَعَاهُ وَيَتَشَاحَنَا عَلَيْهِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْحَاكِمَ يَقْرَعُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُمَا لَمَّا اسْتَوَيَا وَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَشْتَرِكَ بَيْنَهُمَا كَانَتِ الْقُرْعَةُ بَيْنَهُمَا لِيَتَمَيَّزَ بِهَا الْأَحَقُّ مِنْ غَيْرِ تُهْمَةٍ . قَالَ تَعَالَى : وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ [ آلِ عِمْرَانَ : 144 ] الْآيَةَ ، ثُمَّ يَتَعَيَّنُ حَقُّ مَنْ قَرَعَ مِنْهُمَا فِي كَفَالَتِهِ ، فَإِنْ أَرَادَ رَفْعَ يَدِهِ عَنْهُ كَانَ لَهُ ، وَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى إِمْسَاكِهِ ، وَيَتَسَلَّمُهُ الْحَاكِمُ مِنْهُ وَهَلْ يَصِيرُ شَرِيكُهُ أَوْلَى بِكَفَالَتِهِ مِنْ غَيْرِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْتِقَاطِهِ ، وَإِنْ تَقَدَّمَ الْآخَرُ بِالْقُرْعَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ بَطَلَتْ كَفَالَتُهُ لِمَا قَرَعَهُ صَاحِبُهُ وَصَارَ غَيْرُهُ سَوَاءً فَيَجْتَهِدُ الْحَاكِمُ

فِيهِ رَأْيَهُ ، فَهَذَا حُكْمُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْإِقْرَاعِ بَيْنَهُمَا عِنْدَ التَّنَازُعِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَنْ خَرَجَ بِالْقُرْعَةِ أَنَفَعَ لَهُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الَّذِي خَرَجَ قُرْعَتُهُ مُقَصِّرًا أَوْ كَانَا سَوَاءً ، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ : لَا قُرْعَةَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ التَّنَازُعِ ، وَلَكِنْ يَجْتَهِدُ الْحَاكِمُ فِيهِمَا رَأْيَهُ فَأَيُّهُمَا رَآهُ أَحَظَّ لَهُ كَانَ أَوْلَى بِكَفَالَتِهِ وَلِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهٌ ، وَإِنْ خَالَفَ نَصَّ الشَّافِعِيِّ غَيْرَ أَنَّ تَسَاوِيَهُمَا يَمْنَعُ مِنْ تَغْلِيبِ أَحَدِهِمَا إِلَّا بِالْقُرْعَةِ ، كَالْبَيِّنَتَيْنِ إِذَا تَعَارَضَتَا .

فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَتَنَازَعَا وَيَتَّفِقَا عَلَى تَسْلِيمِهِ لِأَحَدِهِمَا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُسَلِّمَهُ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ يَدِهِ عَلَيْهِ ، فَهَذَا يَجُوزُ : لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَهُ بِمَثَابَةٍ مَنْ رَآهُ وَلَمْ يَلْتَقِطْهُ وَيَصِيرُ الْمُسْتَلِمُ أَوْلَى وَكَأَنَّهُ الْتَقَطَهُ وَحْدَهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَسْتَقِرَّ أَيْدِيَهُمَا جَمِيعًا عَلَيْهِ حَتَّى يَصِيرَ الْمَلْقُوطُ مَعَهُمَا ثُمَّ يَتَسَلَّمُهُ أَحَدُهُمَا ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ : لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا وَلَيْسَ يَتَجَاوَزُهُمَا كَالشَّقِيقَيْنِ إِذَا سَلَّمَ أَحَدَهُمَا لِصَاحِبِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّ لِلْمُلْتَقِطِ حَقَّ الْكَفَالَةِ وَلَيْسَ لَهُ حَقُّ التَّسْلِيمِ كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الْوَاجِدُ وَحْدَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَسْلِيمُهُ إِلَى غَيْرِهِ حَتَّى يَتَوَلَّى الْحَاكِمُ .

فَصْلٌ : وَلَوِ الْتَقَطَهُ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ اللقيط كَانَا فِي كَفَالَتِهِ سَوَاءً فَيَقْتَرِعَانِ ، وَلَا تُقَدَّمُ الْمَرْأَةُ كَتَقْدِيمِ الْأُمِّ عَلَى الْأَبِ فِي الْحَضَانَةِ : لِأَنَّ فِي الِالْتِقَاطِ وِلَايَةً إِنْ لَمْ يَكُنِ الرَّجُلُ أَحَقَّ لَهَا لَمْ يَكُنْ أَنَقَصَ حَضَانَةَ الْأَبَوَيْنِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُقِيمًا بِالْمِصْرِ ، وَالْآخَرُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ ، دُفِعَ إِلَى الْمُقِيمِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا وَجَدَ اللَّقِيطَ فِي الْمِصْرِ رَجُلَانِ : أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ ، وَالْآخَرُ مِنْ أَهْلِ مِصْرٍ آخَرَ وَهُوَ غَرِيبٌ فِي هَذَا الْمِصْرِ ، فَالْوَاجِدُ لَهُ مِنْ أَهْلِ مِصْرِهِ أَحَقُّ بِكَفَالَتِهِ مِنَ الْغَرِيبِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ : لِأَنَّ قِيَامَهُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ أَشْهَرُ لِحَالِهِ وَأَقْرَبُ إِلَى ظُهُورِ نَسَبِهِ ، وَلَكِنْ لَوِ انْفَرَدَ الْغَرِيبُ بِالْتِقَاطِهِ وَأَرَادَ إِخْرَاجَهُ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ إِلَى بَلَدِهِ ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ أَمِينٍ أَوْ كَانَ الطَّرِيقُ غَيْرَ مَأْمُونٍ ، فَلَا حَقَّ لَهُ فِي كَفَالَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ أَمِينًا وَالطَّرِيقُ مَأْمُونٌ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ بَلَدُهُ قَرِيبًا عَلَى أَقَلِّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِكَفَالَتِهِ إِذَا تَسَاوَى الْبُلْدَانُ ، أَوْ كَانَ بَلَدُ الْمُلْتَقِطِ أَصْلَحَ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ بَلَدُ اللَّقِيطِ مِصْرًا وَبَلَدُ الْمُلْتَقِطِ قَرْيَةً فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا حَقَّ لَهُ فِي كَفَالَتِهِ : لِأَنَّ الْمِصْرَ أَنْفَعُ لَهُ مِنَ الْقَرْيَةِ : لِمَا فِيهِ مِنْ كَثْرَةِ الْعُلُومِ وَالْآدَابِ وَوُفُورِ الصَّنَائِعِ وَالِاكْتِسَابِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَسْتَحِقُّ كَفَالَتَهُ وَإِخْرَاجَهُ إِلَى قَرْيَتِهِ : لِأَنَّ الْقَرْيَةَ رُبَّمَا كَانَتْ أَعَفَّ وَكَانَ أَهْلُهَا أَسْلَمَ وَمَعَايِشُهُمْ أَطْيَبَ ، وَلِأَنَّ حَالَهُ فِي الْقَرْيَةِ أَيْسَرُ مِنْهَا فِي الْمِصْرِ الْكَبِيرِ لِقِلَّةِ مَنْ فِيهَا وَكَثْرَةِ مَنْ فِي الْمِصْرِ ، وَقَلَّمَا يُمْكِنُ أَنْ يَشْعُرَ فِي الْقُرَى بِفَاحِشَةٍ تَخْفَى وَرِيبَةٍ تُكْتَمُ .

وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بَلَدُهُ بَعِيدًا وَأَخْبَارُهُ مُنْقَطِعَةً ، وَالطَّارِئُ إِلَيْهِ أَوْ مِنْهُ نَادِرٌ . كَمَنْ بِالْعِرَاقِ إِذَا أَرَادَ نَقْلَهُ إِلَى الشَّرْقِ أَوِ الْغَرْبِ ، فَلَا حَقَّ لَهُ فِي كَفَالَتِهِ لِإِضَاعَةِ نَسَبِهِ وَخَفَاءِ حَالِهِ ، فَلَوْ قَالَ الْغَرِيبُ : أَنَا أَسْتَوْطِنُ بَلَدَ اللَّقِيطِ ، قُلْنَا : أَنْتَ حِينَئِذٍ أَحَقُّ بِكَفَالَتِهِ ، وَإِنَّمَا تُمْنَعُ مِنْهُ إِذَا أَرَدْتَ الْعَوْدَ إِلَى بَلَدِكَ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ بَلَدُهُ بَعِيدًا عَلَى أَكْثَرِ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، لَكِنَّ أَخْبَارَهُ مُتَّصِلَةٌ وَالْوَارِدُ مِنْهُ كَثِيرٌ ، كَالْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ ، فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِكَفَالَتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا حَقَّ لَهُ فِي كَفَالَتِهِ : لِأَنَّ حَظَّ اللَّقِيطِ فِي بَلَدِهِ أَكْثَرُ وَحَالَهُ فِيهِ أَشْهَرُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِكَفَالَتِهِ لِتَسَاوِي الْبَلَدَيْنِ فِي التَّعْلِيمِ وَالتَّأْدِيبِ ، وَرُبَّمَا كَانَ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ أَنْفَعَ ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَتَعَيَّنُ لِحَاكِمِ بَلَدِ اللَّقِيطِ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى حَاكِمِ بَلَدِ الْمُلْتَقِطِ يَذْكُرُ حَالَهُ وَإِشْهَارَ أَمْرِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِنْ كَانَ قَرَوِيًّا وَبَدَوِيًّا دُفِعَ إِلَى الْقَرَوِيِّ : لِأَنَّ الْقَرْيَةَ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْبَادِيَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا الْتَقَطَهُ رَجُلَانِ : أَحَدُهُمَا قَرَوِيٌّ وَالْآخَرُ بَدَوِيٌّ اللقيط ، فَالْقَرَوِيُّ أَوْلَى لَهُ مِنَ الْبَدَوِيِّ ، سَوَاءٌ وَجَدَاهُ فِي قَرْيَةٍ أَوْ بَادِيَةٍ : لِأَنَّ الْقَرْيَةَ أَمْكَنُ فِي التَّعْلِيمِ وَأَبْلَغُ فِي التَّأْدِيبِ وَأَحْسَنُ فِي الْمَنْشَأِ ، وَقَدْ رَوَى أَبُو حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَنْ بَدَا جَفَا ، وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ ، وَمَنِ اقْتَرَبَ مِنْ أَبْوَابِ السَّلَاطِينِ افْتَتَنَ . مَعْنَى قَوْلِهِ : مَنْ بَدَا جَفَا ، أَيْ : مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ صَارَ فِيهِ جَفَاءُ الْأَعْرَابِ وَقَوْلُهُ : مَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ يُرِيدُ مَنْ يَشْتَغِلُ بِهِ وَيَنْقَطِعُ إِلَيْهِ تَصِيرُ فِيهِ غَفْلَةٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا انْفَرَدَ الْبَدَوِيُّ بِالْتِقَاطِهِ اللقيط فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَجِدَهُ فِي مِصْرٍ أَوْ قَرْيَةٍ ، فَلَا حَقَّ لَهُ فِي كَفَالَتِهِ : لِأَنَّهُ لَا حَظَّ لَهُ فِي نُزُولِ الْبَادِيَةِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَجِدَهُ فِي الْبَادِيَةِ ، فَلَا تَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَسْكُنُ حُلَّةً مُقِيمًا فِيهَا وَلَا يَنْتَجِعُ عَنْهَا فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِكَفَالَتِهِ : لِأَنَّ وَجُودَهُ فِي الْبَادِيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَنْتَجِعُ وَلَا يَلْزَمُ حُلَّةً وَلَا يُقِيمُ فِي مَكَانٍ ، فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِكَفَالَتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَسْتَحِقُّ : لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِ الْبَادِيَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا : لِأَنَّ مُدَاوَمَةَ النَّقْلَةِ وَمُلَازَمَةَ النُّجْعَةِ لَا يَشْتَهِرُ بِهَا حَالُهُ وَلَا يُعْرَفُ مَعَهَا مَكَانُهُ مِمَّا يَلْحَقُهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي بَدَنِهِ وَتَغَيُّرِ الْعَادَةِ فِي نَقْلَتِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِنْ كَانَ عَبْدًا وَحُرًّا دُفِعَ إِلَى الْحُرِّ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا اجْتَمَعَ عَلَى الْتِقَاطِهِ حُرٌّ وَعَبْدٌ اللقيط ، فَالْحُرُّ أَوْلَى بِكَفَالَتِهِ مِنَ الْعَبْدِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَبْدَ مُوَلًّى عَلَيْهِ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ وَالِيًا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْعَبْدَ مَمْنُوعٌ مِنْ كَفَالَتِهِ لِخِدْمَةِ سَيِّدِهِ ، فَلَوِ انْفَرَدَ الْعَبْدُ بِالْتِقَاطِهِ ، فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ فَالسَّيِّدُ هُوَ الْمُلْتَقِطُ : لِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ يَدٌ لَهُ وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِكَفَالَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ لَمْ يَجُزْ ، بِخِلَافِ اللُّقَطَةِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ : لِأَنَّ اللُّقَطَةَ كَسْبٌ وَهَذِهِ وِلَايَةٌ ، فَلَوْ أَخَذَهُ السَّيِّدُ مِنْ عَبْدِهِ وَقَدِ الْتَقَطَهُ بِغَيْرِ إِذْنٍ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ رَفْعِهِ إِلَى الْحَاكِمِ فَهُوَ أَوْلَى : لِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مُقَرَّةً لَمْ يَكُنْ لَهَا حُكْمٌ ، وَصَارَ كَأَنَّ السَّيِّدَ هُوَ الْمُلْتَقِطُ لَهُ ، وَهَكَذَا حُكْمُ الْمُدَبَّرِ فِي الْتِقَاطِهِ كَالْعَبْدِ ، وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَإِنْ عَلَّلْنَا مَنْعَ الْعَبْدِ مِنْهُ بِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْوِلَايَةِ فَالْمُكَاتَبُ مَمْنُوعٌ فِيهِ ، وَإِنْ عَلَّلْنَاهُ بِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ فِيهِ لِخِدْمَةِ السَّيِّدِ فَالْمُكَاتَبُ مُسْتَحِقٌّ لِكَفَالَتِهِ : لِأَنَّهُ أَمْلَكُ مِنَ السَّيِّدِ بِمَنَافِعِ نَفْسِهِ وَلَوْ شَارَكَهُ فِي الْتِقَاطِهِ حُرٌّ ، كَانَ الْحُرُّ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ عَلَى الْعِلَّتَيْنِ لِكَمَالِ الْحُرِّ وَنَقْصِ الْمُكَاتَبِ ، وَأَمَّا الَّذِي نَصِفُهُ حُرٌّ وَنِصْفُهُ عَبْدٌ فَلَهُ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُهَايَأَةٍ فَهُوَ كَالْعَبْدِ لَا حَقَّ لَهُ فِي كَفَالَتِهِ مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْمَالِكُ لِرِقِّهِ لِإِشْرَاكِ حُكْمِهِ ، وَأَنَّ الشَّرِكَةَ فِيهِ مَانِعَةٌ عَنْ كَفَالَتِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ مُهَايَأَةً ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْتِقَاطِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَلْتَقِطَهُ فِي زَمَانِ السَّيِّدِ فَيَكُونَ فِيهِ كَالْعَبْدِ لَا حَقَّ لَهُ فِي كَفَالَتِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَلْتَقِطَهُ فِي زَمَانِ نَفْسِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِكَفَالَتِهِ : لِأَنَّهُ فِي زَمَانِهِ كَالْحُرِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا حَقَّ لَهُ فِي كَفَالَتِهِ لِنَقْصِهِ وَأَنَّهُ سَيَعُودُ إِلَى الْمَنْعِ فِي غَيْرِ زَمَانِهِ وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَوْ شَارَكَهُ الْحُرُّ فِي الْتِقَاطِهِ كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْهُ لِكَمَالِهِ عَلَى مَنْ قَصَّرَ عَنْ حُرِّيَّتِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا وَنَصْرَانِيًّا فِي مِصْرٍ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ كَانَ الْأَقَلَّ دُفِعَ إِلَى الْمُسْلِمِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا اشْتَرَكَ فِي الْتِقَاطِ الْمَنْبُوذِ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَنْبُوذِ مِنْ أَنْ يُجْرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ أَوْ حُكْمُ الْكُفْرِ عَلَى مَا سَنَصِفُهُ ، فَإِنْ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فَالْمُسْلِمُ أَحَقُّ بِكَفَالَتِهِ ، وَهَكَذَا لَوْ تَفَرَّدَ الْكَافِرُ بِالْتِقَاطِهِ اللقيط نُزِعَ مِنْ يَدِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [ النِّسَاءِ : 141 ] ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ فِي بَدَنِهِ أَنْ يَسْتَرِقَّهُ ، وَفِي دِينِهِ أَنْ يَفْتِنَهُ ، وَفِي مَالِهِ أَنْ يُتْلِفَهُ : لِأَنَّ عَدَاوَةَ الدِّينِ تَبْعَثُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَإِنْ جَرَى عَلَى الْمَنْبُوذِ حُكْمُ الْكُفْرِ ، فَإِنِ انْفَرَدَ الْكَافِرُ بِالْتِقَاطِهِ أُقِرَّ فِي يَدِهِ : لِأَنَّ الْكَافِرَ يَلِي عَلَى الْكَافِرِ ، وَإِنِ اشْتَرَكَ فِي الْتِقَاطِهِ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ ، فَعَلَى الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي إِقْرَاعِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا اشْتَرَكَا فِي الْتِقَاطِهِ يُقْرَعُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ ، وَيَكُونُ فِي يَدِ مَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ : يُسَلَّمُ إِلَى الْمُسْلِمِ دُونَ الْكَافِرِ : لِأَنَّ كَفَالَةَ الْمُسْلِمِ أَصْلَحُ ، وَلِمَا يُرْجَى لَهُ بِاعْتِبَارِ الْإِسْلَامِ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَمِيلَ إِلَيْهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَجَعَلْتُهُ مُسْلِمًا وَأَعْطَيْتُهُ مِنْ سُهْمَانِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يُعْرِبَ عَنْ نَفْسِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَعِلَّتُهُ أَنَّ حُكْمَ اللَّقِيطِ فِي إِسْلَامِهِ وَكُفْرِهِ أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِحُكْمِ الدَّارِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا فَهِيَ ضَرْبَانِ : دَارُ الْإِسْلَامِ ، وَدَارُ الشِّرْكِ ، فَأَمَّا دَارُ الْإِسْلَامِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَفَرَّدَ الْمُسْلِمُونَ بِهَا حَتَّى لَا يَدْخُلَهَا مُشْرِكٌ كَالْحَرَمِ ، فَالْمَنْبُوذُ إِذَا الْتُقِطَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الدَّارِ مَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ لِامْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ الشِّرْكِ الظَّاهِرِ فِي أَبَوَيْهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ دَارُ الْإِسْلَامِ قَدْ تَخْلِطُهُمْ فِيهَا أَهْلُ ذِمَّةٍ كَالْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ أَوْ مُعَاهَدُونَ كَأَمْصَارِ الثُّغُورِ ، فَإِذَا الْتُقِطَ الْمَنْبُوذُ فِيهَا كَانَ مُسْلِمًا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ ، وَإِنَّمَا حَكَمْنَا بِإِسْلَامِهِ ظَاهِرًا تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الدَّارِ ، وَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى وَلَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ فِي الْبَاطِنِ قَطْعًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذِمِّيٍّ أَوْ مُعَاهَدٍ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ دَارُ الْإِسْلَامِ قَدْ تَفَرَّدَ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِسُكْنَاهَا حَتَّى لَا يُسَاكِنَهُمْ فِيهَا مُسْلِمٌ وَلَا يَدْخُلَهَا مِثْلَ بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ الشِّرْكِ فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ صُلْحًا أَوْ عَنْوَةً فَأَقَرُّوا أَهْلَهُ فِيهِ عَلَى أَنْ لَا يُخَالِطَهُمْ غَيْرُهُمْ الْتُقِاطَ الْمَنْبُوذُ مِنْهَا ، فَإِذَا الْتُقِطَ الْمَنْبُوذُ فِيهِ كَانَ كَافِرًا فِي الظَّاهِرِ : لِأَنَّ أَهْلَ الدَّارِ كُفَّارٌ ، وَإِنْ كَانَتْ يَدُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ غَالِبَةً وَأَحْكَامُ الْإِسْلَامِ فِيهِمْ جَارِيَةً . وَأَمَّا دَارُ الشِّرْكِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ أَيْضًا : أَحَدُهَا : مَا كَانَ مِنْ بِلَادِهِمُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مُسْلِمٌ ، فَإِذَا الْتُقِطَ الْمَنْبُوذُ مِنْهَا جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الشِّرْكِ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الدَّارِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا كَانَ مِنْ بِلَادِ الشِّرْكِ فِيهَا مُسْلِمُونَ وَلَوْ وَاحِدٌ كَبِلَادِ الرُّومِ ، فَإِذَا الْتُقِطَ الْمَنْبُوذُ فِيهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُشْرِكٌ فِي الظَّاهِرِ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الدَّارِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا فِي الظَّاهِرِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : كَانَ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ الَّتِي غَلَبَ عَلَيْهَا الْمُشْرِكُونَ حَتَّى صَارَتْ دَارَ شِرْكٍ الْتُقِاطَ الْمَنْبُوذُ مِنْهَا : كَطَرَسُوسَ ، وَأَنْطَاكِيَةَ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنَ الثُّغُورِ الْمَمْلُوكَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، فَإِذَا الْتُقِطَ الْمَنْبُوذُ فِيهَا نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا أَحَدُ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ وَاحِدًا جَرَى عَلَى الْمَلْقُوطِ فِيهَا حُكْمُ الْإِسْلَامِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الشِّرْكِ فِي الظَّاهِرِ لِبُعْدِ الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا وَامْتِنَاعِ حُكْمِهِمْ فِيهَا .

فَصْلٌ : فَإِنْ أَجْرَيْنَا عَلَيْهِ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ أَيْنَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ فَقِيرًا ، وَهُوَ

عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ ، وَإِنْ أَجْرَيْنَا عَلَيْهِ حُكْمَ الشِّرْكِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إِذَا كَانَ فَقِيرًا : لِأَنَّ مَا فِي بَيْتِ الْمَالِ مَصْرُوفٌ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ الْمُشْرِكِينَ ، فَإِنْ تَطَوَّعَ أَحَدُ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ كَانَ مُحْسِنًا : لِأَنَّهَا نَفْسٌ لَهَا حُرْمَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يَتَطَوَّعْ أَحَدٌ بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ جَمَعَ الْإِمَامُ أَهْلَ الذِّمَّةِ الَّذِينَ كَانَ الْمَنْبُوذُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَجَعَلَ نَفَقَتَهُ مُقَسَّطَةً عَلَيْهِمْ لِيَكُونَ دَيْنًا لَهُمْ إِذَا ظَهَرَ أَمْرُهُ ، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ أَبٌ رَجَعُوا بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ سَيِّدٌ رَجَعُوا بِهَا عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ كَانَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ يَرْجِعُونَ بِهَا فِي كَسْبِهِ إِذَا بَلَغَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " فَإِذَا أَعْرَبَ عَنْ نَفْسِهِ فَامْتَنَعَ مِنَ الْإِسْلَامِ لَمْ يَبِنْ لِي أَنْ أَقْتُلَهُ وَلَا أُجْبِرَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَإِنْ وُجِدَ فِي مَدِينَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا مُسْلِمَ فِيهُمْ فَهُوَ ذِمِّيٌّ فِي الظَّاهِرِ حَتَّى يَصِفَ الْإِسْلَامَ بَعْدَ الْبُلُوغِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ مَنْ يُجْرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ قَبْلَ بُلُوغِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَنْ يَجْرِي حُكْمُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ بِإِسْلَامِ أَبَوَيْهِ فَيَصِيرُ بِإِسْلَامِهِمَا مُسْلِمًا . وَرَوَى أَبُو الْيَزِيدِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ، وَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ كَمَا تَنَاقَحُ الْإِبِلُ مِنْ بَهِيمَةٍ جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ مِنْ جَدْعَاءَ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَفَرَأَيْتَ مَنْ يَمُوتُ وَهُوَ صَغِيرٌ ؟ قَالَ : اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ فَمَعْنَى قَوْلِهِ : " يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ " يُرِيدُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُ : لِأَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ عَلَى اخْتِلَافِ أَدْيَانِهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُمْ ، ثُمَّ يُهَوِّدُ الْيَهُودُ أَبْنَاءَهُمْ وَيُنَصِّرُ النَّصَارَى أَبْنَاءَهُمْ ، أَيْ : يُعَلِّمُونَهُمْ ذَلِكَ . وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا بِالْإِبِلِ إِذَا نَتَجَتْ مِنْ بَهِيمَةٍ جَمْعَاءَ ، وَالْجَمْعَاءُ هِيَ السَّلِيمَةُ ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاجْتِمَاعِ السَّلَامَةِ لَهَا فِي أَعْضَائِهَا فَتَجْدَعُ أُنُوفَ نِتَاجِهَا وَتَفْقَأُ عُيُونَهَا ، فَأَمَّا إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ فَإِنْ كَانَ الْأَبُ مِنْهُمَا هُوَ الْمُسْلِمُ كَانَ ذَلِكَ إِسْلَامًا لَهُ ، وَإِنْ أَسْلَمَتِ الْأُمُّ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ إِسْلَامَهَا إِسْلَامٌ لَهُ كَالْأَبِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : لِيَكُونَ إِسْلَامُ الْأُمِّ إِسْلَامًا لَهُ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى " وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ فَجَعَلَ اجْتِمَاعَهُمَا مُوجِبًا لِتَهَوُّدِهِ دُونَ انْفِرَادِهِمَا ، وَلِأَنَّهَا لَوْ أَسْلَمَتْ وَهِيَ حَامِلٌ كَانَ ذَلِكَ إِسْلَامًا لِحَمْلِهَا إِذَا وَضَعَتْ كَذَلِكَ إِذَا أَسْلَمَتْ بَعْدَ الْوَضْعِ ، وَلِأَنَّهَا أَحَدُ الْوَالِدَيْنِ ، فَصَارَ الطِّفْلُ بِهَا مُسْلِمًا كَالْأَبِ ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْحُرِّيَّةِ فَقَدْ يُعْتَبَرُ بِالْأَبِ كَمَا يُعْتَبَرُ بِالْأُمِّ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وُلِدَ مِنْهُ كَانَ الْوَلَدُ حُرًّا ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِسْلَامَ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ يَكُونُ إِسْلَامًا لِغَيْرِ الْبَالِغِ مِنْ أَوْلَادِهِمَا ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ إِسْلَامًا لِمَنْ بَلَغَ مِنْهُمْ مَجْنُونًا : لِأَنَّ الْمَجْنُونَ تَبَعٌ لِغَيْرِهِ ، فَأَمَّا الْبَالِغُ الْعَاقِلُ فَلَا يَكُونُ إِسْلَامُ الْأَبَوَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا إِسْلَامًا لَهُ : لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَصِحُّ مِنْهُ ، وَأَمَّا إِذَا بَلَغَ الْكَافِرُ عَاقِلًا ثُمَّ جُنَّ فَهَلْ يَكُونُ إِسْلَامُ أَبَوَيْهِ إِسْلَامًا لَهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : لَا يَكُونُ ذَلِكَ إِسْلَامًا لَهُ : لِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ الْكُفْرَ بِنَفْسِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ فَاسْتَقَرَّ حُكْمُهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا : أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا : لِأَنَّهُ بِزَوَالِ الْعَقْلِ وَخُرُوجِهِ عَنْ حَدِّ التَّكْلِيفِ قَدْ صَارَ تَبَعًا ، فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَاهُ وَصَارَ الطِّفْلُ أَوِ الْمَجْنُونُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا ، ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ ، فَإِنْ أَقَامَا عَلَى الْإِسْلَامِ فَقَدِ اسْتَدَامَ حُكْمُ إِسْلَامِهِمَا ، وَإِنْ رَضِيَا الْكُفْرَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمَا وَصَارَا بِذَلِكَ مُرْتَدَّيْنِ يُقْتَلَانِ إِذَا أَقَامَا عَلَى الرِّدَّةِ ، سَوَاءٌ أَقَرَّا بِالْإِسْلَامِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ أَوْ لَمْ يُقِرَّا بِهِ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : إِنْ كَانَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ قَدْ أَقَرَّا بِالْإِسْلَامِ وَالْتَزَمَا حُكْمَهُ بِفِعْلِ عِبَادَتِهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ جَعَلْتُهُمَا مُرْتَدَّيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ مِنْهُمَا لَمْ أَحْكُمْ بِرِدَّتِهِمَا : لِأَنَّ جَرَيَانَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمَا تَبَعًا أَضْعَفُ مِنْ جَرَيَانِ حُكْمِهِ عَلَيْهِمَا إِقْرَارًا وَعَمَلًا ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [ الطُّورِ : 21 ] فَأَخْبَرَ بِإِيمَانِ الذُّرِّيَّةِ تَبَعًا لِآبَائِهِمْ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَقِلَ حُكْمُ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ ، وَلِأَنَّ مَا أَوْجَبَ إِسْلَامَهُ أَوْجَبَ إِلْزَامَهُ كَالْإِقْرَارِ ، فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ .

فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّانِي أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الِاسْمِ بِإِسْلَامِ السَّابِي لَهُ مِنْ بِلَادِ الشِّرْكِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ السَّبْيُ بَعْدَ الْبُلُوغِ ، فَلَا يَكُونُ بِإِسْلَامِ سَابِيهِ مُسْلِمًا وَيَكُونُ حُكْمُ الْكُفْرِ عَلَيْهِ جَارِيًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ سَبْيُهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَسْبِيًّا مَعَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا ، فَلَا يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ سَابِيهِ : لِأَنَّ إِلْحَاقَ حُكْمِهِ بِأَبَوَيْهِ أَقْوَى مِنْ إِلْحَاقِ حُكْمِهِ بِسَابِيهِ وَيَكُونُ عَلَى حُكْمِ الْكُفْرِ اسْتِصْحَابًا لِدِينِ أَبَوَيْهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُسْبَى وَحْدَهُ دُونَ أَبَوَيْهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ لَا يَتْبَعُ سَابِيَهُ فِي الْإِسْلَامِ وَيَكُونُ حُكْمُهُ فِي الشِّرْكِ حُكْمَ أَبَوَيْهِ : لِأَنَّ يَدَ السَّابِي يَدُ اسْتِرْقَاقٍ فَلَمْ تُوجِبْ إِسْلَامَهُ كَالسَّيِّدِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَتْبَعُ السَّابِيَ فِي إِسْلَامِهِ : لِأَنَّهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ تَبَعٌ لِغَيْرِهِ ، فَهُوَ أَخْرَجَهُ بِسَبْيِهِ عَنْ أَبَوَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لَهُمَا فَصَارَ تَبَعًا لِمَنْ صَارَ إِلَيْهِ بَعْدَهُمَا ، فَعَلَى هَذَا يَجْرِي عَلَيْهِ قَبْلَ بُلُوغِهِ أَحْكَامُ السَّابِي فِي الْعِبَادَاتِ وَالِاقْتِصَاصِ مِنَ الْمُسْلِمِ إِذَا جَنَى عَلَيْهِ ، وَإِذَا مَاتَ صُلِّيَ عَلَيْهِ وَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ بَلَغَ وَاسْتَصْحَبَ الْإِسْلَامَ قَوْلًا وَعَمَلًا ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ صَارَ بِرُجُوعِهِ مُرْتَدًّا ، وَإِنْ وَصَفَ الْكُفْرَ عِنْدَ بُلُوغِهِ فَهَلْ يُحْكَمُ بِارْتِدَادِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَى تَوْجِيهُهُمَا ، فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّانِي .

فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ بِنَفْسِهِ إِقْرَارًا بِهِ وَاعْتِرَافًا بِشُرُوطِهِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ بُلُوغِهِ ، فَهَذَا مُسْلِمٌ لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ بُلُوغِهِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ فِي طُفُولَتِهِ وَعَدَمِ تَمْيِيزِهِ ، فَلَا يَكُونُ بِذَلِكَ مُسْلِمًا : لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِقَوْلِهِ وَلَا يَصِلُ إِلَى مَعْرِفَةِ حَقٍّ مِنْ بَاطِلٍ وَلَا صَحِيحٍ مِنْ فَاسِدٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُرَاهِقًا مُمَيِّزًا يَصِلُ بِذِهْنِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ وَيُمَيِّزُ مَا بَيْنَ الشُّبْهَةِ وَالدَّلِيلِ ما يحكم به علي إسلام اللقيط ، فَفِي الْحُكْمِ بِإِسْلَامِهِ إِذَا وَصَفَهُ عَلَى شُرُوطِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا : لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ : عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَى يُفِيقَ ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَى يَنْتَبِهَ فَرُفِعَ الْقَلَمُ عَنْهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ ، وَجُمِعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَجْنُونِ فِي سُقُوطِ تَكْلِيفِهِ ، وَلِأَنَّ عُقُودَ الْمُعَامَلَاتِ أَخَفُّ حَالًا مِنْ شُرُوطِ الْإِسْلَامِ ، فَلَمَّا امْتَنَعَ قَبْلَ الْبُلُوغِ أَنْ تَصِحَّ مِنْهُ الْعُقُودُ فَأَوْلَى أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ شُرُوطُ الْإِسْلَامِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنْ يَصِيرَ مُسْلِمًا : لِأَنَّهُ قَدْ يَصِلُ إِلَى مَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ كَمَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْبَالِغُ وَخَالَفَ الطِّفْلَ وَالْمَجْنُونَ ، وَلِأَنَّ عَلِيًّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَسْلَمَ قَبْلَ بُلُوغِهِ فَحُكِمَ بِصِحَّةِ إِسْلَامِهِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ بَلَغَ فَرَجَعَ عَنِ الْإِسْلَامِ صَارَ مُرْتَدًّا . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ إِسْلَامَهُ يَكُونُ مَوْقُوفًا ، فَإِنِ اسْتَدَامَ ذَلِكَ بَعْدَ بُلُوغِهِ عُلِمَ أَنَّهُ تَقَدَّمَ إِسْلَامُهُ ، وَإِنْ فَارَقَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَحْتَمِلُ إِسْلَامُ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي قَوْلٍ مِنْ إِسْلَامِهِ إِلَى مَا قَبْلَ الْبُلُوغِ ، وَأَنَّهُ لَمَّا اسْتَدَامَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ عُلِمَ بِهِ صِحَّةُ مَا تَقَدَّمَ إِسْلَامُهُ ، فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّالِثِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ بِالدَّارِ ، وَهَذَا هُوَ اللَّقِيطُ ، وَقَدْ قَسَّمْنَا أَحْوَالَهُ الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهِ بِهَا حُكْمُ الْإِسْلَامِ أَوْ حُكْمُ الشِّرْكِ ، فَإِنْ أَجْرَيْنَا عَلَيْهِ أَحْكَامَ الشِّرْكِ فَبَلَغَ وَوَصَفَ الْإِسْلَامَ بَعْدَ بُلُوغِهِ اسْتَوْثَقَ بِهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ مِنْ حِينَئِذٍ ، وَإِنْ أَقَامَ عَلَى الشِّرْكِ أُقِرَّ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَخْوِيفٍ وَلَا إِرْهَابٍ ، وَإِنْ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ نُجْرِيَهُ عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنِ الْتِقَاطِهِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ الَّتِي لَا يَدْخُلُهَا مُشْرِكٌ ، فَهَذَا لَا يُقْبَلُ مِنْهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ الرُّجُوعُ عَنْهُ ، وَيَكُونُ إِنْ رَجَعَ عَنْهُ مُرْتَدًّا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ ، فَمَا لَمْ يَبْلُغْ فَحُكْمُ الْإِسْلَامِ جَارٍ عَلَيْهِ ، فَإِنْ مَاتَ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ فَعَلَيْهِ دِيَةُ مُسْلِمٍ ، وَفِي وُجُوبِ الِاقْتِصَاصِ مِنْهُ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُقْتَصُّ مِنْهُ لِجَرَيَانِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ لِاحْتِمَالِ حَالِهِ وَأَنَّهُ رُبَّمَا وَصَفَ الْكُفْرَ بَعْدَ بُلُوغِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَاقَ دَمٌ بِالشُّبْهَةِ ، فَإِنْ وَصَفَ الْإِسْلَامَ قَوْلًا وَأَقَامَ عَلَيْهِ فِعْلًا اسْتَقَرَّ حُكْمُ إِسْلَامِهِ وَجَرَى الْقِصَاصُ عَلَى قَاتِلِهِ ، وَإِنْ رَجَعَ عَنْهُ إِلَى الشِّرْكِ أُرْهِبَ وَخُوِّفَ لِرُجُوعِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ أَبَى إِلَّا

أَنْ يَكُونَ مُشْرِكًا سُئِلَ عَنْ سَبَبِ شِرْكِهِ ، فَإِنْ قَالَ : لِأَنَّ أَبِي مُشْرِكٌ وَصِرْتُ لِاتِّبَاعِ أَبِي مُشْرِكًا ، تُرِكَ لِمَا اخْتَارَهُ مِنَ الشِّرْكِ لِاحْتِمَالِهِ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الشِّرْكِ : لِأَنَّنَا لَمْ نَكُنْ حَكَمْنَا بِإِسْلَامِهِ قَطْعًا ، وَإِنَّمَا حَكَمْنَا بِهِ تَغْلِيبًا . فَإِنْ قَالَ : لَسْتُ أَعْرِفُ دِينَ أَبِي وَلَا أَعْلَمُهُ مُسْلِمًا وَلَا مُشْرِكًا وَلَكِنِّي أَخْتَارُ الشِّرْكَ مَيْلًا إِلَيْهِ وَرَغْبَةً فِيهِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُقْبَلُ مِنْهُ : لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَقْطُوعًا بِإِسْلَامِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ : أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ وَيُجْعَلُ إِنْ أَقَامَ عَلَيْهِ مُرْتَدًّا إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ شِرْكَ أَبِيهِ فَيُقْبَلُ مِنْهُ وَيُقَرُّ عَلَيْهِ لِيَكُونَ فِي الشِّرْكِ تَبَعًا وَلَا يَكُونُ مَتْبُوعًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ أَرَادَ الَّذِي الْتَقَطَهُ الطَّعْنَ بِهِ ، فَإِنْ كَانَ يُؤْمَنُ أَنْ يَسْتَرِقَّهُ فَذَلِكَ لَهُ ، وَإِلَّا مَنْعُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا الْتَقَطَهُ مُقِيمٌ ثُمَّ أَرَادَ بَعْدَ حُصُولِهِ فِي كَفَالَتِهِ وَإِقْرَارِهِ فِي يَدِهِ ، جَازَ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ قَدِ اشْتَدَّ بَدَنُهُ بِحَيْثُ يَقْوَى عَلَى السَّيْرِ ، فَإِنْ كَانَ طِفْلًا لَا يَحْتَمِلُ السَّيْرَ لَمْ يَجُزْ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ مَأْمُونًا لَا يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْ غَلَبَةِ مُسْتَرِقٍّ ، فَإِنْ خِيفَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْمُسَافِرُ مَأْمُونًا عَلَيْهِ ، فَلَا يَسْتَرِقُّهُ وَلَا يُسِيءُ إِلَيْهِ ، فَإِنْ خِيفَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ بِنِيَّةِ الْعَوْدِ إِلَى بَلَدِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُرِدِ الْعَوْدَ وَسَافَرَ مُتَنَقِّلًا ، فَفِي تَمْكِينِهِ مِنْهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُمَكَّنُ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ فِي اسْتِحْقَاقِ كَفَالَتِهِ كَالْأَبِ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنَ الْأُمِّ فِي سَفَرٍ نَقَلَتْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ لِمَا فِي نَقْلِهِ مِنْ إِضَاعَةِ مَا كُنَّا نَرْجُوهُ مِنْ ظُهُورِ نَسَبِهِ : وَلِهَذَا الْمَعْنَى جَعَلْنَا الْمُقِيمَ إِذَا شَارَكَ فِي الْتِقَاطِهِ مُسَافِرًا أَوْلَى بِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَجِنَايَتُهُ اللقيط خَطَأٌ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ وَجِنَايَتُهُ ضَرْبَانِ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى مَالٍ فَهِيَ فِي مَالِهِ صَغِيرًا كَانَ اللَّقِيطُ أَوْ كَبِيرًا ، مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ دَفَعَ مِنْهُ غُرْمَ جِنَايَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ كَانَ دَيْنًا عَلَيْهِ إِذَا أَيْسَرَ أَدَّاهُ ، فَإِنْ كَانَتْ جِنَايَتُهُ عَلَى نَفْسِ آدَمِيٍّ فَضَرْبَانِ : عَمْدٌ ، وَخَطَأٌ ، فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً فَعَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَصَبَةٌ يَعْقِلُونَ عَنْهُ فَفِي بَيْتِ الْمَالِ : لِأَنَّ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ عَاقِلَتُهُ . أَلَا تَرَاهُ لَوْ مَاتَ بِلَا وَارِثٍ اللقيط كَانَ مِيرَاثُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ؟

وَإِنْ كَانَتْ جِنَايَتُهُ عَمْدًا يُوجِبُ الْقَوَدَ فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ بَالِغًا وَالْقَوَدُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِي نَفْسٍ كَانَتِ الْجِنَايَةُ أَوْ فِي طَرَفٍ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ صَبِيًّا ، فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُ ، وَفِي مَحَلِّ الدِّيَةِ قَوْلَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي عَمْدِ الصَّبِيِّ هَلْ يُجْرَى مَجْرَى الْخَطَأِ أَوْ مَجْرَى الْعَمْدِ الصَّحِيحِ وَإِنْ سَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ يُجْرَى مَجْرَى الْخَطَأِ ، كَانَتِ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ مُؤَجَّلَةً كَدِيَةِ الْخَطَأِ ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ عَمْدٌ صَحِيحٌ وَإِنْ سَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ كَانَتِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ حَالَةً ، فَإِنْ أَعْسَرَ بِهَا كَانَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي ، فَإِنْ قُتِلَ عَمْدًا فَلِلْإِمَامِ الْقَوَدُ أَوِ الْعَقْلُ ، وَإِنْ كَانَ جُرْحًا حُبِسَ لَهُ الْجَارِحُ حَتَى يَبْلُغَ فَيَخْتَارَ الْقَوَدَ أَوِ الْأَرْشَ ، فَإِنْ كَانَ مَعْتُوهَا فَقِيرًا أَحْبَبْتُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْشَ وَيُنْفِقَهُ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . لَا يَخْلُو حَالُ الْجِنَايَةِ عَلَى اللَّقِيطِ مِنْ أَنْ تَكُونَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً ، فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً فَهِيَ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي فِي نَفْسٍ كَانَتْ أَوْ طَرَفٍ ، وَدِيَتُهُ دِيَةُ حُرٍّ مُسْلِمٍ مَا كَانَ عَلَى حَالِهِ ، اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ مِنْ حُكْمِ الدَّارِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ ، وَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا فَضَرْبَانِ : فِي نَفْسٍ ، أَوْ طَرَفٍ ، فَإِنْ كَانَتْ فِي نَفْسٍ اسْتَحَقَّ فِيهَا دِيَةَ حُرٍّ مُسْلِمٍ ، وَفِي اسْتِحْقَاقِ الْقَوَدِ إِنْ كَانَ الْقَاتِلُ حُرًّا مُسْلِمًا قَوْلَانِ ، أَصَحُّهُمَا عَلَيْهِ الْقَوَدُ اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ مِنْ حَالِهِ وَحَالِ الدِّيَةِ فِي قَتْلِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي لَا قَوَدَ : لِأَنَّهُ حَدٌّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ . وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَحْمِلُ اخْتِلَافَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَيَقُولُ : إِنْ كَانَ قَتْلُهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَجَبَ الْقَوَدُ عَلَى قَاتِلِهِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَلَا يَجِبُ : لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِ حَالِهِ ، وَهَذَا الْفَرْقُ مَسْلُوبُ الْمَعْنَى : لِأَنَّهُ إِنِ اعْتَبَرَ حَالَ الشُّبْهَةِ فَفِي الْحَالَيْنِ ، وَإِنِ اعْتَبَرَ حَالَ الظَّاهِرِ فَفِي الْحَالَيْنِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَجْهٌ ، فَإِنْ قُلْنَا بِإِسْقَاطِ الْقَوَدِ أُخِذَتِ الدِّيَةُ لِبَيْتِ الْمَالِ ، وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الْقَوَدِ كَانَ لِلْإِمَامِ عَنْ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ مُخَيَّرًا فِيمَا يَرَاهُ أَصْلَحُ لِجَمَاعَتِهِمْ مِنَ الْقَوَدِ لِئَلَّا يُسْرِعَ النَّاسُ إِلَى قَتْلِ النُّفُوسِ وَأَخْذِ الدِّيَةِ .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ فِي طَرَفٍ اللقيط ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ بَالِغًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ أَوْ يَقْتَصَّ لِنَفْسِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ غَيْرَ بَالِغٍ ، فَإِنْ قُلْنَا بِإِسْقَاطِ الْقَوَدِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا دِيَةُ الطَّرَفِ ، وَيَأْخُذُهَا الْإِمَامُ لَهُ لِيُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْهَا أَوْ يَضُمَّ إِلَى مَالِهِ إِنْ كَانَ غَنِيًّا ، وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ فَلِلَّقِيطِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا غَنِيًّا ، فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَحْبِسَ الْجَانِيَ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ فَيُخْتَارَ الْقَوَدَ أَوِ الدِّيَةَ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتَاتَ عَلَيْهِ فِي أَمْرِهَا ، كَمَا لَا يَجُوزُ لِأَبِ الطِّفْلِ أَنْ يَقْتَاتَ عَلَيْهِ فِيمَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ قَوَدٍ أَوْ دِيَةٍ .

وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ مَعْتُوهًا فَقِيرًا ، فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ مِنَ الْجَانِي لِيُنْفِقَ مِنْهَا عَلَيْهِ وَيَعْفُوَ عَنِ الْقَوَدِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : ظُهُورُ الْمَصْلَحَةِ بَعْدَ حَاجَتِهِ بِالْفَقْرِ . وَالثَّانِي : بَقَاؤُهُ فِي الْأَغْلَبِ عَلَى عَتَهِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا فَقِيرًا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَحْبِسُ قَاتِلَهُ لِيَخْتَارَ لِنَفْسِهِ مَا شَاءَ مِنْ قَوَدٍ أَوْ دِيَةٍ تَعْلِيلًا بِظُهُورِ عَقْلِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْإِمَامَ يَأْخُذُ لَهُ الدِّيَةَ وَيَعْفُو عَنِ الْقَوَدِ تَعْلِيلًا بِحَاجَتِهِ وَفَقْرِهِ ، وَلَوْ بَلَغَ فَاخْتَارَ الْقَوَدَ وَرَدَّ الدِّيَةَ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا لَهُ ذَلِكَ ، وَالثَّانِي لَيْسَ لَهُ ، وَعَفْوُ الْإِمَامِ كَعَفْوِهِ ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى عَفْوِ الْوَلِيِّ عَنْ نَفَقَتِهِ هَلْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهَا بَعْدَ بُلُوغِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَكُونَ مَعْتُوهًا غَنِيًّا فَعَلَى وَجْهَيْنِ : يَحْبِسُ قَاتِلَهُ لِيَخْتَارَ لِنَفْسِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَإِفَاقَتِهِ فَإِمَّا اعْتِبَارًا بِغِيَابِهِ عَنِ الدِّيَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ وَيَعْفُوَ عَنِ الْقَوَدِ اعْتِبَارًا بِعَتَهِهِ وَعَدَمِ إِفَاقَتِهِ فِي الْأَغْلَبِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَهُوَ فِي مَعْنَى الْحُرِّ اللقيط حَتَّى يَبْلُغَ فَيُقِرَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لَا نَقْطَعُ بِحُرِّيَّةِ اللَّقِيطِ وَلَا نُغَلِّبُ فِيهِ أَحْكَامَ الْعَبْدِ ، أَمَّا عَدَمُ الْقَطْعِ بِحُرِّيَّتِهِ فَلِإِمْكَانِ مَا عَدَاهَا مِنَ الرِّقِّ ، وَأَمَّا إِسْقَاطُهَا تَغْلِيبًا لِأَحْكَامِ الرِّقِّ : فَلِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ الْحُرِّيَّةُ كَمَا كَانَ الْأَغْلَبُ فِيهَا الْإِسْلَامَ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي ظَاهِرِ أَمْرِهِ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ حُرٌّ فِي الظَّاهِرِ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا كَمَا أَجْرَيْنَا عَلَيْهِ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا ، وَلِأَنَّ الرِّقَّ طَارِئٌ وَالْحُرِّيَّةَ أَصْلٌ فَلِأَنْ يَجْرِيَ فِي الظَّاهِرِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ أَوْلَى . وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ مَجْهُولُ الْأَصْلِ لِإِمْكَانِ الْأَمْرَيْنِ وَأَنَّ الرِّقَّ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ نَحْكُمَ بِتَغْلِيبِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَالْكُفْرِ الَّذِي هُوَ بَاطِلٌ ، فَجَازَ تَغْلِيبُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ ، وَمِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ خَرَجَ الْقَوْلَانِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْقَوَدِ مِنَ الْحُرِّ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " فَإِنْ أَقَرَّ بِالرِّقِّ قَبِلْتُهُ وَرَجَعْتُ عَلَيْهِ بِمَا أَخَذَهُ وَجَعَلْتُ جِنَايَتَهُ فِي عُنُقِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِقْرَارُ اللَّقِيطِ قَبْلَ بُلُوغِهِ فَغَيْرُ مَعْمُولٍ عَلَيْهِ ، لَا فِي حُرِّيَّةٍ وَلَا فِي رِقٍّ ، فَإِذَا بَلَغَ صَارَ إِقْرَارُهُ حِينَئِذٍ مُعْتَدًّا ، فَإِنِ ادَّعَى الْحُرِّيَّةَ وَأَنْكَرَ الرِّقَّ اللقيط كَانَ قَوْلُهُ فِيهَا مَقْبُولًا وَصَارَ حُرًّا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ مَا لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً بِرِقِّهِ ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِالرِّقِّ بَعْدَ ادِّعَاءِ الْحُرِيَّةِ كَمَا لَوْ بَلَغَ فَأَقَرَّ بِالْإِسْلَامِ اللقيط لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ الرُّجُوعُ إِلَى الْكُفْرِ ، فَأَمَّا إِذَا أَقَرَّ بِالرِّقِّ ، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ مَجْهُولَ الْأَصْلِ كَانَ إِقْرَارُهُ بِالرِّقِّ مَقْبُولًا ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ حُرًّا فِي الظَّاهِرِ فَفِي قَبُولِ إِقْرَارِهِ بِالرِّقِّ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إِلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ : لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا أُجْرِيَ عَلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الظَّاهِرِ ، وَحَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيُّ فِي جَامِعِهِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ إِقْرَارَهُ بِهِ مَقْبُولٌ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أُجْرِيَ عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ حُكْمُ الْحُرِّيَّةِ كَمَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ بِالْكُفْرِ وَإِنْ أُجْرِيَ عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ ، ثُمَّ يُجْرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الرِّقِّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ أَمْرِهِ إِنْ جَنَى أَوْ جُنِيَ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا فِي الْمَاضِي مِنْ أَمْرِهِ فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مَا سِوَى الْجِنَايَةِ فِيمَا بَعْدُ وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْجِنَايَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ ، أَمَّا الْجِنَايَةُ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا فِيمَا جُنِيَ عَلَيْهِ ، وَالثَّانِي فِيمَا جَنَاهُ عَلَى غَيْرِهِ . فَأَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ فَلَا يَخْلُو مَا أَخَذَهُ مِنْ أَرْشِهَا بِالْحُرِّيَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَسْتَوِيَ أَرْشُهَا بِالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ فَلَا يُرَاجَعُ ، فَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا وَعَرَفَهَا الْجَانِي مِنْ مَالِهِ فَقَدْ غَرِمَ مَا لَزِمَهُ ، وَإِنْ كَانَتْ خَطَأً تَحَمَّلَتْهَا عَاقِلَتُهُ ، فَفِي رُجُوعِ الْعَاقِلَةِ بِهَا قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي تَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ أَرْشُهَا فِي الرِّقِّ أَقَلُّ مِنْ أَرْشِهَا فِي الْحُرِّيَّةِ ، كَأَنَّهَا فِي الْحُرِّيَّةِ أَلْفٌ وَفِي الرِّقِّ مِائَةٌ ، فَيَسْتَرْجِعُ مِنْهُ مَا زَادَ عَلَى أَرْشِ الرِّقِّ وَذَلِكَ بِتِسْعِمِائَةٍ ، فَإِنْ كَانَتْ بِعَيْنِهَا فِي يَدِهِ أَوْ كَانَ بَدَلُهَا مَوْجُودًا مِنْ كَسْبِهِ لِيَسْتَرْجِعَهُ الْجَانِي أَوْ عَاقِلَتُهُ ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَوْجُودَةٍ فِي يَدِهِ وَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ كَسْبِهِ نَظَرَ ، فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ قَدْ أَنْفَقَهَا عَلَيْهِ فِي صِغَرِهِ اسْتَحَقَّ الْجَانِي الرُّجُوعَ بِهَا عَلَى سَيِّدِهِ كَمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهِ ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُنْفِقُ لَهَا عَلَى نَفْسِهِ : لِأَنَّ نَفَقَتَهُ وَاجِبَةٌ عَلَى سَيِّدِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِي نَفَقَتِهِ لَمْ يَلْزَمِ السَّيِّدَ غُرْمُهَا : لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ فِي يَدَيْهِ وَلَا انْصَرَفَتْ فِي وَاجِبٍ عَلَيْهِ ، ثُمَّ يَنْظُرُ ، فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ قَدْ أَخَذَ ذَلِكَ فِي صِغَرِهِ وَلَمْ تَصِرْ إِلَى يَدِهِ لِتَلَفِهِ ، لَمْ يَجِبْ غُرْمُهُ وَكَانَتِ الزِّيَادَةُ هَدَرًا ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْقَابِضُ لَهَا فِي كِبَرِهِ أَوْ دَفَعَهَا الْحَاكِمُ إِلَيْهِ بَعْدَ كِبَرِهِ ، تَعَلَّقَ غُرْمُهَا بِذِمَّتِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَيَسَارِهِ لِغُرُورِهِ وَلَمْ تَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ أَرْشُهَا فِي الرِّقِّ أَكْثَرَ مِنْ أَرْشِهَا فِي الْحُرِّيَّةِ بِأَنْ كَانَتْ فِي الْحُرِّيَّةِ مِائَةٌ وَفِي الرِّقِّ أَلْفٌ ، فَفِي اسْتِحْقَاقِ الزِّيَادَةِ بِالرِّقِّ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَسْتَحِقُّ إِلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ الْجَانِي بِهَا وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهَا مَعَ الْإِنْكَارِ لَهَا لِمَكَانِ التُّهْمَةِ ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي نَجْعَلُهُ فِيهِ حُرًّا فِي الظَّاهِرِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يَخْلُو مَا دَفَعَهُ فِي أَرْشِهَا بِالْحُرِّيَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَسْتَوِيَ أَرْشُهَا فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ ، فَلَيْسَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِلَّا مَا أَخَذَهُ ، ثُمَّ يَنْظُرُ ، فَإِنْ كَانَتْ جِنَايَتُهُ فَقَدْ أَدَّى أَرْشَهَا مِنْ مَالِهِ أَوْ كَسْبِهِ كَذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَتْ خَطَأً أُخِذَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَجَبَ رَدُّهَا فِيهِ : لِأَنَّ جِنَايَةَ الْعَبْدِ فِي عُنُقِهِ دُونَ بَيْتِ الْمَالِ ، وَالسَّيِّدُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَغْرَمَهَا أَوْ يَبِيعَ رَقَبَتَهُ فِيهَا ، فَإِنْ ضَاقَتِ الرَّقَبَةُ عِنْدَ بَيْعِهَا عَنْ غُرْمِ جَمِيعِهَا لَمْ يَلْزَمِ السَّيِّدُ مَا بَقِيَ وَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي حَقِّ بَيْتِ الْمَالِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ أَرْشُهَا بِالرِّقِّ أَكْثَرَ مِنْ أَرْشِهَا بِالْحُرِّيَّةِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ رَقَبَةُ الْعَبْدِ تَتَّسِعُ لِلزِّيَادَةِ فَيَسْتَحِقُّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الرُّجُوعَ بِهَا فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ السَّيِّدُ مِنْهَا .

وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ رَقَبَةُ الْعَبْدِ تَضِيقُ عَنِ الزِّيَادَةِ ، فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : تَكُونُ هَدَرًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا مُسْتَحِقَّةٌ ، فَإِنْ فَدَاهُ السَّيِّدُ وَإِلَّا بِيعَ فِيهَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ أَرْشُهَا بِالرِّقِّ أَقَلَّ مِنْ أَرْشِهَا بِالْحُرِّيَّةِ ، فَفِي قَبُولِ قَوْلِهِ فِي اسْتِرْجَاعِهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَيَسْتَرْجِعُ ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي نَجْعَلُهُ فِيهِ مَجْهُولَ الْأَصْلِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهَا وَلَا يَسْتَرْجِعُ ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي نَجْعَلُهُ فِيهِ حُرًّا فِي الظَّاهِرِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا النَّفَقَةُ الَّتِي أَنْفَقَهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ فِي صِغَرِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لَمْ تَسْتَرْجِعْ مِنَ السَّيِّدِ : لِأَنَّهَا دُفِعَتْ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ ، وَقَدْ جَعَلَ ذَلِكَ مُسْتَحِقًّا فِيهِ ، وَإِنْ كَانَتْ قَرْضًا اقْتَرَضَهُ الْحَاكِمُ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ عَدَدٍ وَجَبَ عَلَى السَّيِّدِ غُرْمُهَا وَرَدَّهَا عَلَيْهِمْ لِوُجُوبِهَا بِحَقِّ الْمِلْكِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ قَذَفَهُ قَاذِفٌ لَمْ أَجِدْ لَهُ حَتَى أَسْأَلَهُ ، فَإِنْ قَالَ أَنَا حُرٌّ حَدَدْتُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي لَقِيطٍ قَذَفَهُ قَاذِفٌ بِالزِّنَا ، فَإِنْ كَانَ اللَّقِيطُ صَغِيرًا فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا لَمْ يَعْجَلْ إِلَى حَدِّ الْقَاذِفِ حَتَّى يَسْأَلَ اللَّقِيطَ الْمَقْذُوفَ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : جَنْبُ الْمُؤْمِنِ حِمًى ، فَإِنْ أَقَرَّ بِالرِّقِّ وَلَمْ يَدَّعِ الْحُرِّيَّةَ ، فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ : لِأَنَّ قَاذِفَ الْعَبْدِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ، فَإِنِ ادَّعَى الْحُرِّيَّةَ ، فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَيْهَا الْقَاذِفُ حُدَّ لَهُ حَدًّا كَامِلًا ، وَإِنْ كَذَّبَهُ وَادَّعَى رِقَّهُ فَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي نَجْعَلُ فِيهِ اللَّقِيطَ مَجْهُولَ الْأَصْلِ يَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْقَاذِفِ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي نَجْعَلُ اللَّقِيطُ فِيهِ حُرًّا فِي الظَّاهِرِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ اللَّقِيطِ وَيُحَدُّ قَاذِفُهُ كَمَا يَقْتُلُ هَذَا الْقَوْلُ قَاتِلَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ قَاذِفِهِ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ قُتِلَ قَاتِلُهُ ، وَفَرَّقَ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ أَصْحَابِنَا بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْقَذْفِ بِأَنَّ الْمَقْذُوفَ حَيٌّ يُمْكِنُهُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى حُرِّيَّتِهِ ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْهَا ضَعُفَ حَالُهُ ، وَالْمَقْتُولُ لَا يُقْدَرُ عَلَى إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى حُرِّيَّتِهِ بَعْدَ قَتْلِهِ فَعَمِلَ فِيهِ عَلَى ظَاهِرِ حَالِهِ كَالدِّيَةِ ، فَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا فِي قَبُولِ قَوْلِهِ فِي الْقَوَدِ إِذَا كَانَ فِي طَرَفٍ ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْقَذْفِ وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ اللَّقِيطِ فِيهِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى حُرِّيَّتِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْقَتْلِ فِي النَّفْسِ وَقَبِلَ قَوْلَهُ فِي حُرِّيَّتِهِ إِلْحَاقًا لَهُ بِالْقَتْلِ الَّذِي هُوَ مِنْ جِنْسِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " قَاذِفُهُ وَإِنْ قَذَفَ حُرًّا حُدَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي لَقِيطٍ قَذَفَ حُرًّا بِالزِّنَا ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ بُلُوغِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ :

لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ بُلُوغِهِ فَمَا لَمْ يَدَّعِ الْمَقْذُوفُ حُرِّيَّتَهُ لَمْ يُكْمِلْ حَدَّهُ وَإِنِ ادَّعَى حُرِّيَّتَهُ ، فَإِنِ اعْتَرَفَ لَهُ اللَّقِيطُ بِالْحُرِّيَّةِ حُدَّ لِقَذْفِهِ حَدًّا كَامِلًا ثَمَانِينَ ، وَإِنْ أَنْكَرَ الْحُرِّيَّةَ وَادَّعَى الرِّقَّ فَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي نَجْعَلُهُ فِيهِ مَجْهُولَ الْأَصْلِ الْقَوْلُ قَوْلُهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا حَدُّ الْعَبِيدِ نِصْفُ الْحَدِّ ، وَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي نَجْعَلُهُ فِيهِ حُرًّا فِي الظَّاهِرِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَقْذُوفِ وَيُحَدُّ لَهُ اللَّقِيطُ حَدًّا كَامِلًا تَغْلِيبًا لِظَاهِرِ حَالِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ اللَّقِيطِ الْقَاذِفِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا حَدُّ الْعَبِيدِ نِصْفُ الْحَدِّ : لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ إِنْ كَانَ عِنْدَ ادِّعَاءِ الرِّقِّ أَقَرَّ لِسَيِّدٍ بِعَيْنِهِ قُبِلَ قَوْلُهُ : وَحُدَّ حَدَّ الْعَبِيدِ لِاسْتِقْرَارِ رِقِّهِ فَتَعَيَّنَ الْمَالِكُ ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ وَادَّعَى رِقًّا مُطْلَقًا لِغَيْرِ سَيِّدٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ ، وَحُدَّ حَدَّ الْأَحْرَارِ ثَمَانِينَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ اللَّقِيطُ حُرٌّ : لِأَنَّ أَصْلَ الْآدَمِيِّينَ الْحُرِّيَّةُ إِلَّا مَنْ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ الْعُبُودِيَّةُ وَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ كَمَا لَا أَبَ لَهُ ، فَإِنْ مَاتَ فَمِيرَاثُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) هَذَا كُلُّهُ يُوجِبُ أَنَّهُ حُرٌّ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَوْلُهُ : الْمَعْرُوفُ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ الْقَاذِفَ إِلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ لِلْمَقْذُوفِ أَنَّهُ حُرٌّ لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا وَلَاءَ عَلَى اللَّقِيطِ لِمُلْتَقِطِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ رِقٌّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْوَلَاءُ ثَابِتٌ عَلَيْهِ لِمُلْتَقِطِهِ دُونَ غَيْرِهِ إِذَا حَكَمَ لَهُ الْإِمَامُ بِوِلَايَةٍ . وَقَالَ مَالِكٌ : وَلَاؤُهُ ثَابِتٌ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَثْبَتَ عَلَيْهِ الْوَلَاءَ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ ثَلَاثَةُ مَوَارِيثَ : مِيرَاثُ عَتِيقِهَا ، وَمِيرَاثُ لَقِيطِهَا ، وَمِيرَاثُ وَلَدِهَا الَّذِي لَاعَنَتْ عَلَيْهِ ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ الْتَقَطَ مَنْبُوذًا : لَكَ وَلَاؤُهُ وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ . قَالَ : وَلِأَنَّهُ مُنْعِمٌ فَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْوَلَاءَ كَالْمُعْتَقِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ ، فَانْتَفَى الْوَلَاءُ بِذَلِكَ عَمَّنْ لَمْ يُعْتِقْ ، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ رِقٌّ لَمْ يَسْتَأْنِفْ عَلَيْهِ وَلَاءٌ كَالْحُرِّ الْأَصْلِيِّ ، وَلِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّ بِالرِّقِّ انْتَفَى عَنْ غَيْرِ الرِّقِّ كَالْمِلْكِ ، وَلِأَنَّ مَنْ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْحُرِّيَّةِ فِي أَصْلِهِ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْحُرِّيَّةِ فِي فَرْعِهِ ، كَالْمَعْرُوفِ بِالْحُرِّيَّةِ طَرْدًا وَبِالْعُبُودِيَّةِ حُكْمًا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبِرِ إِنْ صَحَّ فَحَمْلُهُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا عَلَى مِيرَاثِهِ إِذَا ادَّعَتْهُ وَلَدًا ، أَوْ عَلَى مِيرَاثِهِ إِذَا ادَّعَتْهُ عَبْدًا . وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ - : لَكَ وَلَاؤُهُ وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ . فَيُحْمَلُ عَلَى الْكَفَالَةِ وَالْوِلَايَةِ دُونَ الْوَلَاءِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّهُ مُنْعِمٌ . فَمُنْتَقِضٌ بِمَنِ اسْتَنْقَذَ غَرِيقًا أَوْ أَجَارَ مَظْلُومًا أَوْ مَنَحَ فَقِيرًا ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمِيرَاثُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ كَالْحُرِّ الَّذِي لَا وَارِثَ لَهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالِي - : " وَلَوِ ادَّعَاهُ الَذِي وَجَدَهُ أَلْحَقْتُهُ بِهِ ، فَإِنِ ادَّعَاهُ

آخَرُ أَرَيْتُهُ الْقَافَةَ ، فَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِالْآخَرِ أَرَيْتُهُمُ الْأَوَّلَ ، فَإِنْ قَالُوا إِنَّهُ ابْنُهُمَا لَمْ نَنْسِبْهُ إِلَى أَحَدِهِمَا حَتَّى يَبْلُغَ فَيَنْتَسِبَ إِلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا ، وَإِنْ لَمْ يُلْحَقْ بِالْآخَرِ فَهُوَ ابْنُ الْأَوَّلِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ وَجَدَ لَقِيطًا فَادَّعَاهُ وَلَدًا فَدَعْوَاهُ مَسْمُوعَةٌ وَقَوْلُهُ مَقْبُولٌ ، وَيُحْكَمُ لَهُ بِبُنُوَّتِهِ ، سَوَاءٌ ادَّعَاهُ مَعَ الْتِقَاطِهِ أَوْ بَعْدَهُ : لِأَنَّهُ لَا مُنَازِعَ لَهُ لِيُمْنَعَ مِنْهُ ، وَيَنْبَغِيَ أَنْ يَسْأَلَهُ الْحَاكِمُ اسْتِظْهَارًا مِنْ أَيْنَ صَارَ وَلَدَكَ أَمِنْ أَمَةٍ أَوْ زَوْجَةٍ فِي نِكَاحٍ أَوْ شُبْهَةٍ ، فَإِنْ أَغْفَلَ كُلَّ ذَلِكَ جَازَ : لِأَنَّ قَوْلَهُ فِيهِ مَقْبُولٌ ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ بَعْدَ إِلْحَاقِهِ بِالْوَاجِدِ فَادَّعَاهُ وَلَدًا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى : لِأَنَّ الْأَوَّلَ بِادِّعَائِهِ لَهُ قَدْ صَارَ دَافِعًا لِدَعْوَاهُ وَلَا يُمْنَعُ مِنْهَا لِاحْتِمَالِهَا ، وَأَنَّ إِلْحَاقَهُ بِالْأَوَّلِ إِنَّمَا كَانَ تَغْلِيبًا لِصِدْقِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُنَازِعِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَرَى الثَّانِي مَعَ الْوَلَدِ الْقَافَةُ : لِأَنَّ فِيهَا بَيَانًا عِنْدَ التَّنَازُعِ فِي الْأَنْسَابِ ، فَإِنْ نَفَوْهُ عَنِ الثَّانِي اسْتَقَرَّ لُحُوقُهُ بِالْأَوَّلِ اسْتِصْحَابًا لِسَابِقِ الْحُكْمِ ، وَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِالثَّانِي عَرَضَ عَلَيْهِمُ الْوَلَدَ مَعَ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ نَفَوْهُ عَنِ الْأَوَّلِ لَحِقَ بِالثَّانِي وَانْتَفَى عَنِ الْأَوَّلِ : لِأَنَّ الْقَافَةَ حُجَّةٌ فِي إِثْبَاتِ الْأَنْسَابِ وَكَالْبَيِّنَةِ ، فَكَانَتْ أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهِ بِدَعْوَى الْأَوَّلِ ، فَإِنْ أَقَامَ الْأَوَّلُ بَعْدَ إِلْحَاقِ الْقَافَةِ لَهُ بِالثَّانِي بَيِّنَةً عَلَى الْفِرَاشِ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ عُدُولٍ يَشْهَدْنَ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ لَحِقَ بِالْأَوَّلِ بِبَيِّنَتِهِ وَكَانَ أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِ الْقَافَةِ لَهُ بِالثَّانِي بِشَبَهِهِ : لِأَنَّ حُكْمَ الشَّبَهِ يَسْقُطُ مَعَ ثُبُوتِ الْفِرَاشِ ، أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ وَلَدًا عَلَى فِرَاشِ رَجُلٍ فَادَّعَاهُ آخَرُ وَأَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِهِ لَمْ يَلْحَقْ وَكَانَ وَلَدَ صَاحِبِ الْفِرَاشِ : لِتَقْدِيمِ الْفِرَاشِ عَلَى حُكْمِ الشَّبَهِ .

فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَتِ الْقَافَةُ حِينَ رَأَوْهُ مَعَ الثَّانِي : يُشْبِهُهُ كَشَبَهِهِ بِالْأَوَّلِ . لَمْ يَلْحَقْ بِهِمَا وَلَا بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا : لِعَدَمِ الْبَيَانِ فِي الْقَافَةِ ، وَوَجَبَ أَنْ يُوقَفَ أَمْرُهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْوَلَدُ إِلَى زَمَانِ الِانْتِسَابِ فَيُنْسَبُ إِلَى أَحَدِهِمَا ، وَفِي زَمَانِ انْتِسَابِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : الْبُلُوغُ : لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِلَى أَنْ يُمَيِّزَ بِاسْتِكْمَالِهِ السَّبْعَ أَوِ الثَّمَانِ ، وَهِيَ الْحَالُ الَّتِي يُخَيَّرُ فِيهَا بَيْنَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ تَنَازُعِهِمَا فِي الْحَضَانَةِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا إِذَا عُدِمَ الْبَيَانُ فِي الْقَافَةِ أُقِرَّ عَلَى بُنُوَّةِ الْأَوَّلِ بِمَا تَقَدَّمَ إِلْحَاقُهُ بِهِ إِذَا لَمْ يُقَابِلْ بِمَا يُوجِبُ لُحُوقَهُ بِغَيْرِهِ ، كَالْمَالِكِ إِذَا نُوزِعَ صَاحِبُ الْيَدِ فِيهِ ، ثُمَّ تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ فَأَسْقَطْنَا حُكْمَ تَمَلُّكِهِ لِصَاحِبِ الْيَدِ ، قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْيَدَ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ ، فَجَازَ عِنْدَ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا ، وَلَا تَدُلُّ عَلَى النَّسَبِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا ، وَإِنَّمَا حُكْمُنَا بِمَا سَبَقَ مِنَ الدَّعْوَى دُونَ الْيَدِ ، وَهَذَا فَرْقُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِيهِ دَخَلٌ : لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : فَهَلَّا إِذَا كَانَتِ الدَّعْوَى فِي النَّسَبِ كَالْيَدِ فِي الْمِلْكِ وَجَبَ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا عِنْدَ سُقُوطِ الْحُجَجِ بِالتَّعَارُضِ كَالْيَدِ ؟ وَالْفَرْقُ الثَّانِي أَنَّ الْأَمْوَالَ لَيْسَ لَهَا بَعْدَ تَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ بَيَانٌ يُنْتَظَرُ فَجَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِالْيَدِ بِالضَّرُورَةِ عِنْدَ فَوَاتِ الْبَيَانِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ النَّسَبِ : لِأَنَّ انْتِسَابَ الْوَلَدِ عِنْدَ بُلُوغِهِ حَالٌ مُنْتَظَرَةٌ يَقَعُ الْبَيَانُ بِهَا فَلَمْ يَحْكُمْ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّعْوَى لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ ، وَهَذَا فَرْقُ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَطَّانِ ، وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ فَوْتُ الْبَيَانِ بِمَوْتِ الْوَلَدِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110