كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ فَهُوَ فِي مَعْنَى عَبْدٍ أَوْصَى بِهِ لِرَجُلٍ لَا يَجِبُ لَهُ إِلَّا بِمَوْتِ السَّيِّدِ وَهُوَ عَبْدٌ بِحَالِهِ وَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إِذَا أَسْلَمَ فِي مِلْكِ مُشْرِكٍ يُذِلُّهُ وَقَدْ صَارَ بِالْإِسْلَامِ عَدُوًّا لَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا عَبْدُ الْحَرْبِيِّ إِذَا أَسْلَمَ ، أَوْ عَبْدُ الذِّمِّيِّ ، فَإِنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى مِلْكِهِ وَيُقَالُ لَهُ : إِنْ بِعْتَهُ ، أَوْ أَعْتَقْتَهُ وَإِلَّا بِعْنَاهُ عَلَيْكَ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ( النِّسَاءِ : ) . وَأَمَّا أُمُّ وَلَدِ الْحَرْبِيِّ وَالذِّمِّيِّ إِذَا أَسْلَمَتْ مُنِعَ مِنْهَا وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ بَيْعَ أُمِّ الْوَلَدِ مَمْنُوعٌ مِنْهُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ ، فَكَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ فِي حَقِّ الْكَافِرِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِخْدَامُهَا ، لِئَلَّا يَسْتَذِلَّهَا وَمُكِّنَتْ مِنَ الِاكْتِسَابِ وَالْإِنْفَاقِ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهَا ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْ كَسْبِهَا بَعْدَ النَّفَقَةِ فَضْلٌ كَانَ لِسَيِّدِهَا ، وَإِنْ قَصُرَ الْكَسْبُ عَنْ نَفَقَتِهَا كَانَ السَّيِّدُ مَأْخُوذًا بِتَمَامِهَا وَلَوْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ كَسْبٍ أُخِذَ بِجَمِيعِ نَفَقَتِهَا ، فَإِنْ أَرَادَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَ لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَاكَ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَجُوزُ أَنْ تُسْلِمَ فَتَعُودُ إِلَى فِرَاشِهِ فَإِذَا مَاتَ السَّيِّدُ عَتَقَتْ عَلَيْهِ بِمَوْتِهِ . وَأَمَّا مُدَبَّرُ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ إِذَا أَسْلَمَ يُقَالُ لِسَيِّدِهِ : أَتَرْجِعُ فِي تَدْبِيرِهِ ، أَوْ تُقِيمُ عَلَيْهِ ؟ فَإِنْ رَجَعَ فِي تَدْبِيرِهِ صَارَ عَبْدًا قِنًّا وَبِيعَ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَبِعْهُ ، وَلَمْ يَعْتِقْهُ ، وَإِنْ أَقَامَ عَلَى تَدْبِيرِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ يُبَاعُ عَلَيْهِ لِجَرَيَانِ أَحْكَامِ الرِّقِّ عَلَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَدِيمَ الْكَافِرُ رِقَّ مُسْلِمٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يُبَاعُ عَلَيْهِ ، وَيُمْنَعُ اسْتِخْدَامُهُ ؛ لِأَنَّ اسْتِبْقَاءَهُ عَلَى التَّدْبِيرِ الْمُفْضِي إِلَى عِتْقِهِ أَحَظُّ لَهُ مِنْ نَقْلِهِ بِالْبَيْعِ مِنْ رِقٍّ إِلَى رِقٍّ . فَعَلَى هَذَا يُقَالُ لِسَيِّدِهِ : إِنْ عَجَّلْتَ عِتْقَهُ فَلَكَ وَلَاؤُهُ ، وَإِنْ لَمْ تُعَجِّلْهُ ، وَلَمْ تَرْجِعْ فِي تَدْبِيرِهِ خَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ فِي الِاكْتِسَابِ وَالنَّفَقَةِ ، وَلَكَ بَقِيَّةُ كَسْبِهِ إِنْ فَضَلَ ، وَعَلَيْكَ تَمَامُهُ إِنْ نَقَصَ . فَإِنْ خَرَجْتَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ قَامَ فِيهِ وَكِيلُكَ مَقَامَكَ ، فَإِذَا مُتَّ عَتَقَ مِنْ ثُلُثِكَ ، فَإِنْ خَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ عَتَقَ جَمِيعُهُ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ الثُّلُثُ عَتَقَ مِنْهُ قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ وَرَقَّ بَاقِيهِ ، وَبِيعَ عَلَى وَرَثَتِهِ ، لِئَلَّا يَسْتَدِيمُوا رِقَّ مُسْلِمٍ . وَهَكَذَا حُكْمُ الْمُعْتَقِ بِالصِّفَةِ إِذَا أَسْلَمَ ، وَسَيِّدُهُ كَافِرٌ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْمُدَبَّرِ يُبَاعُ فِي أَحَدِهِمَا ، لِئَلَّا يَسْتَدِيمَ كَافِرٌ اسْتِرْقَاقَ مُسْلِمٍ وَيُقَرُّ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي ، عَلَى مِلْكِهِ ، لِوُجُودِ الْحَظِّ لَهُ فِي حُدُوثِ الصِّفَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى عِتْقِهِ ، فَأَمَّا إِذَا أَسْلَمَ عَبْدُ الْكَافِرِ وَقَدْ أَوْصَى بِهِ لِمُسْلِمٍ ، فَإِنَّهُ يُبَاعُ عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِنْ بَطَلَ بَيْعُهُ الْوَصِيَّةَ لِمُسْلِمٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ تُفْضِي الْوَصِيَّةُ لَهُ إِلَى عِتْقٍ ، بَلْ يَكُونُ بِهَا مُنْتَقِلًا مِنْ رِقٍّ إِلَى رِقٍّ وَهُوَ فِي الْحَالِ مُسْتَبْقًى عَلَى اسْتِرْقَاقِ كَافِرٍ ، فَلِذَلِكَ بِيعَ

عَلَيْهِ ، فَإِنْ أَوْصَى الْكَافِرُ بِعِتْقِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْمُدَبَّرِ لِإِفْضَائِهَا إِلَى عِتْقِهِ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يُبَاعَ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِعِتْقِهِ أَضْعَفُ مِنْ تَدْبِيرِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ فِي تَدْبِيرِ الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ وَلَمْ يَبْلُغْ

مَنْ أَجَازَ وَصِيَّتَهُ أَجَازَ تَدْبِيرَهُ

بَابُ فِي تَدْبِيرِ الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ وَلَمْ يَبْلُغْ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ( مَنْ أَجَازَ وَصِيَّتَهُ أَجَازَ تَدْبِيرَهُ ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْمَحْجُورُ عَلَيْهِمْ فِي حُقُوقِ أَنْفُسِهِمْ ثَلَاثَةٌ : الصَّبِيُّ ، وَالْمَجْنُونُ ، وَالسَّفِيهُ . فَأَمَّا الْمَجْنُونُ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ تَصَرُّفٌ فِي قَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ لِعَدَمِ تَمْيِيزِهِ فَلَا يُنَفَّذُ عِتْقُهُ ، وَلَا يَصِحُّ تَدْبِيرُهُ ، وَلَا وَصِيَّتُهُ . وَأَمَّا السَّفِيهُ فَتَصَرُّفُهُ قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ مَاضٍ ، كَالرَّشِيدِ فِي أَفْعَالِهِ ؟ أَقْوَالِهِ ، وَسَائِرِ عُقُودِهِ ، فَيَصِحُّ عِتْقُهُ وَتَدْبِيرُهُ وَوَصِيَّتُهُ فَأَمَّا بَعْدَ وُقُوعِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ فَلَا يَصِحُّ عِتْقُهُ ، وَلَا كِتَابَتُهُ وَيَصِحُّ تَدْبِيرُهُ وَوَصِيَّتُهُ ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِمَصْلَحَةِ مَالِهِ فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ مَا اسْتَهْلَكَهُ فِي حَيَاتِهِ ، وَيَصِحُّ مِنْهُ مَا عَادَ بِمَصْلَحَةِ آخِرَتِهِ مِنْ تَدْبِيرِهِ وَوَصِيَّتِهِ ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِرَشَادِهِ . وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمَيِّزٍ ، لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ عِتْقٌ ، وَلَا كِتَابَةٌ وَلَا تَدْبِيرٌ ، وَلَا وَصِيَّةٌ وَإِنْ كَانَ مُمَيِّزًا مُرَاهِقًا ، لَمْ يَصِحَّ عِتْقُهُ وَلَا كِتَابَتُهُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِحِفْظِ مَالِهِ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : لِأَنَّ الْقَلَمَ غَيْرُ جَارٍ عَلَيْهِ . فَأَمَّا تَدْبِيرُهُ وَوَصِيَّتُهُ فَفِي صِحَّتِهِمَا مِنْهُ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَصِحُّ مِنْهُ . وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ تَعْلِيلًا بِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُ ، وَلِأَنَّهَا عَقْدٌ فَأَشْبَهَ سَائِرَ عُقُودِهِ ، وَلِأَنَّهُ مُفْضٍ إِلَى الْعِتْقِ فَأَشْبَهَ مُبَاشَرَةَ عِتْقِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَصِحُّ تَدْبِيرُهُ وَوَصِيَّتُهُ تَعْلِيلًا بِإِفْضَائِهِمَا إِلَى مَصْلَحَتِهِ ، وَلِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ أُمِّهِ أَنَّهَا أَتَتْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَأَلَتْهُ عَنْ غُلَامٍ يَافِعٍ ، وَالْيَافِعُ الْمُرَاهِقُ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَشْرُ سِنِينَ وَصَّى لِابْنِ عَمِّهِ فَأَجَازَ عُمَرُ وَصِيَّتَهُ ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا ، وَلِأَنَّ مَنْ صَحَّ تَمْيِيزُهُ لَمْ يُمْنَعِ الْحَجْرُ عَلَيْهِ مِنْ تَدْبِيرِهِ وَوَصِيَّتِهِ كَالسَّفِيهِ ؛ وَلِأَنَّ تَدْبِيرَهُ أَحْفَظُ لِمَالِهِ فِي حَيَاتِهِ ،

وَأَبْلَغُ فِي صَلَاحِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ . فَأَمَّا ارْتِفَاعُ الْقَلَمِ عَنْهُ فَهُوَ مَرْفُوعٌ حَتْمًا عَلَيْهِ ، لِسُقُوطِ التَّكْلِيفِ عَنْهُ وَهُوَ غَيْرُ مَرْفُوعٍ فِيمَا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ تَصِحُّ صَلَاتُهُ وَصِيَامُهُ فَهُوَ مُثَابٌ فِيمَا لَهُ ، وَغَيْرُ مُعَاقَبٍ فِيمَا عَلَيْهِ ، وَإِمْضَاءُ تَدْبِيرِهِ وَوَصِيَّتِهِ مِنْ حُقُوقِهِ الَّتِي يُثَابُ عَلَيْهَا ، فَصَحَّ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ تَعْجِيلُ الْعِتْقِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ . فَأَمَّا السَّكْرَانُ فَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ مِنْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ لِإِكْرَاهِهِ عَلَى الشُّرْبِ أَوْ لِشُرْبِهِ مَا ظَنَّ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْكِرٍ فَكَانَ مُسْكِرًا فَلَا يَصِحُّ تَدْبِيرُهُ وَلَا وَصِيَّتُهُ ؛ لِأَنَّهُ بِالسُّكْرِ غَيْرُ مُمَيِّزٍ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ عَنْ مَعْصِيَةٍ لِإِقْدَامِهِ مُخْتَارًا عَلَى شُرْبِ الْمُسْكِرِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ مُسْكِرٌ فَأَحْكَامُهُ كَأَحْكَامِ الصَّاحِي فِي نُفُوذِ عِتْقِهِ ، وَصِحَّةِ تَدْبِيرِهِ ، وَوُقُوعِ طَلَاقِهِ ، وَإِنْ صَحَّ تَخْرِيجُ ( الْمُزَنِيِّ ) عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ طَلَاقَهُ لَا يَقَعُ وَلَمْ يَصِحَّ تَدْبِيرُهُ وَلَمْ تَنْعَقِدْ وَصِيَّتُهُ وَإِنْ صَحَّ قَوْلُ مَنْ فَرَّقَ مِنْ أَصْحَابِنَا بَيْنَ مَا لَهُ وَعَلَيْهِ وَقَعَ طَلَاقُهُ ، وَلَمْ يَصِحَّ عِتْقُهُ وَلَا تَدْبِيرُهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلِوَلِيِّهِ بَيْعُ عَبْدِهِ عَلَى النَّظَرِ وَكَذَلِكَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) الْقِيَاسُ عِنْدِي فِي الصَّبِيِّ أَنَّ الْقَلَمَ لَمَّا رُفِعَ عَنْهُ وَلَمْ تَجُزْ هِبَتُهُ وَلَا عِتْقُهُ فِي حَيَاتِهِ أَنَّ وَصِيَّتَهُ لَا تَجُوزُ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَالِغُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ وَيُؤْجَرُ عَلَى الطَّاعَةِ وَيَأْثَمُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا صَحَّ مِنَ الصَّبِيِّ وَالسَّفِيهِ التَّدْبِيرُ مِنَ الصَّبِيِّ وَالسَّفِيهِ صَحَّ مِنْهُمَا الرُّجُوعُ فِي التَّدْبِيرِ ، وَيَكُونَانِ فِيهِ كَالْبَالِغِ الرَّشِيدِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ رُجُوعُهُمَا فِيهِ لِحَاجَةٍ ، أَوْ غَيْرِ حَاجَّةٍ ، فَإِذَا صَحَّ الرُّجُوعُ مِنْهُمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَاشِرَ الرُّجُوعَ فِيهِ كَالْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ مِنْهُمَا لَا يَصِحُّ وَلَكِنْ يَأْذَنَانِ لِوَلِيِّهِمَا أَنْ يَبِيعَ الْمُدَبَّرُ فِي حَقِّهِمَا ، فَيَكُونُ بَيْعُ الْوَلِيِّ عَنْ إِذْنِهِمَا رُجُوعًا مِنْهُمَا . فَأَمَّا إِنْ رَجَعَا فِيهِ بِالْقَوْلِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِمَا فَفِيهِ قَوْلَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي صِحَّةِ الرُّجُوعِ بِالْقَوْلِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى الْمِلْكِ . فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ الْوَلِيُّ أَنْ يَرْجِعَ فِي تَدْبِيرِهِمَا فَإِنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ فِيهِ بِالْقَوْلِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِمَا ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ لَا حَجْرَ عَلَيْهِمَا فِي التَّدْبِيرِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْطِلَهُ الْوَلِيُّ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَادَ بَيْعَهُ عَلَيْهِمَا فَإِنْ قَصَدَ بِهِ الرُّجُوعَ فِي التَّدْبِيرِ ، وَلَمْ يَقْصِدِ الْمُصْلِحَةَ لَهُمَا ، لَمْ يَجُزْ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لَا حَجْرَ عَلَيْهِمَا فِيهِ وَإِنْ بَاعَهُ عَلَيْهِمَا فِي مَصْلَحَتِهِمَا صَحَّ ، وَإِنْ أَفْضَى إِلَى إِبْطَالِ تَدْبِيرِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَى الْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِمَا .

فَصْلٌ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنْ وَلَدَ الْمُدَبَّرَةِ وَوَلَدَ الْمُعْتَقَةِ بِصِفَةٍ هَلْ يَكُونُ تَابِعًا لَهُمَا أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : لَا يَتْبَعُهَا فِي تَدْبِيرٍ ، وَلَا عِتْقٍ وَيَكُونُ عَبْدًا قِنًّا لِلسَّيِّدِ ، وَلَا تَفْرِيعَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَكُونُ تَابِعًا لَهُمَا فَيَكُونُ وَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ تَابِعًا لِأُمِّهِ فِي التَّدْبِيرِ وَوَلَدُ الْمُعْتَقَةِ نِصْفُهُ تَابِعًا لِأُمِّهِ فِي الْعِتْقِ وَلَا يَتْبَعُهَا فِي الصِّفَةِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ عِتْقَ التَّدْبِيرِ مُسْتَحَقٌّ بِالْوَفَاةِ وَعِتْقَ الصِّفَةِ مُسْتَحَقٌّ فِي الْحَيَاةِ وَحُكْمُ مَا اسْتُحِقَّ بِالْوَفَاةِ عَامٌّ ، كَالْمِيرَاثِ . وَحُكْمُ مَا اسْتُحِقَّ فِي الْحَيَاةِ قَاصِرٌ كَالْعُقُودِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَوَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ تَابِعٌ لَهَا فِي التَّدْبِيرِ وَالْعِتْقِ ، فَإِنْ مَاتَتِ الْأُمُّ ، أَوْ بَاعَهَا ، أَوْ رَجَعَ فِي تَدْبِيرِهَا كَانَ الْوَلَدُ بَاقِيًا عَلَى تَدْبِيرِهِ وَيُعْتَقُ بِمَوْتِ سَيِّدِهِ ، وَلَوْ رَجَعَ فِي تَدْبِيرِ الْوَلَدِ كَانَتِ الْأُمُّ عَلَى تَدْبِيرِهَا ، وَلَا يُعْتَقُ وَلَدُهَا بِعِتْقِهَا ، وَوَلَدُ الْمُعْتَقَةِ بِالصِّفَةِ تَابِعٌ لَهَا فِي الْعِتْقِ دُونَ الصِّفَةِ ، فَإِنْ مَاتَتِ الْأُمُّ قَبْلَ الصِّفَةِ لَمْ يُعْتَقِ الْوَلَدُ بِوُجُودِ الصِّفَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهَا دُونَ الْوَلَدِ ثُمَّ وُجِدَتِ الصِّفَةُ لَمْ تُعْتَقِ الْأُمُّ ، لِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهَا وَلَمْ يُعْتَقْ وَلَدُهَا ، وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ لِعَدَمِ الْعِتْقِ فِيهَا وَكَذَلِكَ وَلَدُ الْمُكَاتَبَةَ إِذَا جُعِلَ تَابِعًا لِأُمِّهِ كَانَ تَابِعًا لَهَا فِي الْعِتْقِ ، وَلَمْ يَكُنْ تَابِعًا لَهَا فِي الْكِتَابَةِ . فَأَمَّا وَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ فَهُوَ تَابِعٌ لَهَا فِي الْحُكْمِ وَالْعِتْقِ ، فَإِنْ مَاتَتْ أُمُّهُ قَبْلَ مَوْتِ السَّيِّدِ ، يُعْتَقُ وَلَدُهَا بِمَوْتِ السَّيِّدِ . وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
_____

مختصر المكاتب
_____

بيان معنى الكتابة

مُخْتَصَرُ الْمُكَاتَبِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْكِتَابَةُ في الاصطلاح فَهُوَ أَنْ يَعْقِدَ السَّيِّدُ مَعَ عَبْدِهِ عَقْدَ مُعَاوَضَةٍ عَلَى عِتْقِهِ بِمَالٍ يَتَرَاضَيَانِ بِهِ إِلَى نُجُومٍ يَتَّفِقَانِ عَلَيْهَا ، لِيُعْتَقَ بِأَدَائِهَا فَيَمْلِكُ الْعَبْدُ كَسْبَ نَفْسِهِ وَيَمْلِكُ السَّيِّدُ بِهِ مَالَ نُجُومِهِ ، وَفِي تَسْمِيَةِ هَذَا الْعَقْدِ كِتَابَةً وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : الْعُرْفُ الْجَارِي بِكِتَابَتِهِ فِي كِتَابِ وَثِيقَةٍ ، تُوَقَّعُ فِيهَا الشَّهَادَةُ . وَالثَّانِي : لِأَنَّ الْكِتَابَةَ فِي اللُّغَةِ الضَّمُّ وَالْجَمْعُ ، فَسُمِّيَ بِهَا هَذَا الْعَقْدُ لِضَمِّ النُّجُومِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ . وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ الْكِتَابَةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ " ( النُّورِ : ) . وَفِي قَوْلِهِ : ( عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْرِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْكَسْبِ ، وَالِاحْتِرَافِ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ الرُّشْدُ وَالصَّلَاحُ فِي الدِّينِ . وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَطَاوُسٍ وَقَتَادَةَ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ الْكَسْبُ وَالْأَمَانَةُ ، لِيَكُونَ بِالْكَسْبِ قَادِرًا عَلَى الْأَدَاءِ وَبِالْأَمَانَةِ مَوْثُوقًا بِوَفَائِهِ ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ . وَفِي قَوْلِهِ : " وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ " ( النُّورِ : ) ، وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَعْنِي مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ فِي سَهْمِ الرِّقَابِ يُعْطَاهُ الْمُكَاتَبُ لِيَسْتَعِينَ بِهِ فِي أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ لِلسَّيِّدِ ، وَيَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَخْذُهُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا ، وَيَكُونُ هَذَا خِطَابًا لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ . وَالثَّانِي : مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ يَضَعُهُ السَّيِّدُ عَنْهُ ، أَوْ يَرُدُّهُ عَلَيْهِ مَعُونَةً لَهُ كَمَا أَعَانَهُ غَيْرُهُ مِنْ سَهْمِ الرِّقَابِ ، وَيَكُونُ هَذَا خِطَابًا لِلسَّيِّدِ . وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَحَكَى الْكَلْبِيُّ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ عَبْدًا لِحُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى سَأَلَهُ أَنْ يُكَاتِبَهُ ، فَامْتَنَعَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِيهِ .

وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِهَا مِنَ السُّنَّةِ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ دِرْهَمٌ . وَرَوَى سَهْلُ بْنُ حَنِيفٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ أَعَانَ غَارِمًا ، أَوْ غَازِيًا ، أَوْ مُكَاتَبًا فِي كِتَابَتِهِ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ وَلَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ نَبْهَانَ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَاتَبَتْهُ وَقَالَتْ لَهُ : كَمْ بَقِيَ عَلَيْكَ قَالَ : قُلْتُ : أَلْفُ دِرْهَمٍ قَالَتْ : فَعِنْدَكَ مَا تُؤَدِّي . قُلْتُ : نَعَمْ . قَالَتْ : ادْفَعْهَا إِلَى فُلَانٍ ، ابْنِ أُخْتِهَا ، ثُمَّ أَلْقَتِ الْحِجَابَ ، وَقَالَتْ : السَّلَامُ عَلَيْكَ - هَذَا آخِرُ مَا تَرَانِي - سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إِذَا كَانَ لِإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ وَكَانَ عِنْدَهُ مَا يُؤَدِّي فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلِ الصَّحَابَةِ مَا رُوِيَ أَنَّ بَرِيرَةَ كُوتِبَتْ عَلَى تِسْعِ أُوَاقٍ تُؤَدِّي فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةً . وَكَاتَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَبْدًا لَهُ عَلَى خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ . وَكَاتَبَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ مَوْلَاهُ سِيرِينَ أَبَا مُحَمَّدٍ عَلَى مَالٍ تَرَكَ عَلَيْهِ مِنْهُ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ . قِيلَ فِي أَوَّلِ نُجُومِهِ . وَقِيلَ : فِي آخِرِهَا . وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِهَا ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِهَا إِذَا طَلَبَهَا الْعَبْدُ مِنْ سَيِّدِهِ ، الكتابة فَذَهَبَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ، وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى وُجُوبِهَا ، وَأَنْ يُؤْخَذَ بِهَا السَّيِّدُ إِذَا طَلَبَهَا الْعَبْدُ ، بِقَدْرِ قِيمَتِهِ فَمَا زَادَ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ، ( النُّورِ : ) ، وَهَذَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ . ثُمَّ قَالَ : وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ( النُّورِ : ) ، . وَالْإِيتَاءُ وَاجِبٌ فَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ فِيهِمَا وَاحِدَةٌ . وَلِأَنَّ سِيرِينَ سَأَلَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَنْ يُكَاتِبَهُ فَأَبَى عَلَيْهِ فَعَلَاهُ عُمَرُ بِالدُّرَّةِ وَقَالَ : أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ، ( النُّورِ : ) ، فَكَاتَبَهُ ، وَلِأَنَّ الْعُقُودَ الَّتِي تُفْضِي إِلَى صَلَاحِ النُّفُوسِ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الْإِجْبَارُ فِيهَا كَالْمُضْطَرِّ إِلَى طَعَامٍ يُجْبَرُ مَالِكُهُ عَلَى بَيْعِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِ النَّفْسِ ، كَذَلِكَ الْكِتَابَةُ الْمُفْضِيَةُ إِلَى الْعِتْقِ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الْإِجْبَارُ عَلَيْهَا لِمَا فِيهَا مِنْ صَلَاحِ النَّفْسِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ

وَمَنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالتَّابِعِينَ إِلَى أَنَّهَا نَدْبٌ لَا تَجِبُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَصْلَيْ حَظْرٍ يَجْذِبُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى حُكْمِهِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ غَرَرٌ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَوْجُودٍ بِمَعْدُومٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مُعَاوِضٌ عَلَى مِلْكِهِ بِمِلْكِهِ ، فَصَارَ الْأَمْرُ بِالْكِتَابَةِ وَارِدًا بَعْدَ حَظْرِهَا ، فَاقْتَضَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْإِبَاحَةِ دُونَ الْوُجُوبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ الْبَقَرَةِ : ( ) ، وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ، ( الْمَائِدَةِ : ) وَفِي هَذَا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ . وَلِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ يَقْتَضِي عُمُومَ حُكْمِهِ فِي الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَلَا يَتَجَزَّأُ حُكْمُهُ ، فَيَكُونُ بَعْضُهُ وَاجِبًا ، وَبَعْضُهُ نَدْبًا ، فَلَمَّا حُمِلَ عَلَى النَّدْبِ فِيمَا قَلَّ عَنِ الْقِيمَةِ ، وَجَبَ أَنْ يُقْرَنَ مَحْمُولًا عَلَيْهِ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا . وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ ، فَاقْتَضَى هَذَا الظَّاهِرُ أَلَّا يُجْبَرَ السَّيِّدُ عَلَى إِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْ رَقَبَةِ الْعَبْدِ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسِهِ ، وَكَالتَّدْبِيرِ الَّذِي لَا إِجْبَارَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُمَا عِتْقُ صِفَةٍ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِوُجُوبِ الْإِيتَاءِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْدُوبُ إِلَيْهِ شُرُوطًا وَاجِبَةً كَالطَّهَارَةِ لِصَلَاةِ النَّافِلَةِ ، كَذَلِكَ الْإِيتَاءُ فِي الْكِتَابَةِ وَاجِبٌ وَإِنْ كَانَتِ الْكِتَابَةُ غَيْرَ وَاجِبَةٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَخْتَلِفَ الْأَمْرُ بِهَا عِنْدَهُمْ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فَحَمَلُوهُ فِي الْكِتَابَةِ عَلَى الْخُصُوصِ ، وَفِي الْإِيتَاءِ عَلَى الْعُمُومِ ، جَازَ أَنْ يَخْتَلِفَا عِنْدَنَا فِي الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ ، فَحُمِلَ الْكِتَابَةُ عَلَى النَّدْبِ ، وَالْإِيتَاءُ عَلَى الْوُجُوبِ . وَجَوَابٌ ثَالِثٌ : وَهُوَ أَنَّ الْكِتَابَةَ مُعَاوَضَةٌ وَأُصُولُ الشَّرْعِ تَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبَيْعِ وَالْإِيتَاءُ مُوَاسَاةٌ وَأُصُولُ الشَّرْعِ لَا تَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْمُوَاسَاةِ كَالزَّكَاةِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِإِجْبَارِ أَنَسٍ عَلَى كِتَابَةِ سِيرِينَ فَلَا إِجْمَاعَ فِيهِ فَيُسْتَدَلُّ بِهِ ، وَقَوْلُ عُمَرَ لَا يَحُجُّ أَنَسًا فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِ النُّفُوسِ كَالْمُضْطَرِّ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ مَا تَعَلَّقَ بِاخْتِيَارِ الطَّالِبِ فِي مَصَالِحِ نَفْسِهِ بِحَالِ الْمُضْطَرِّ فِي حِفْظِ مَتَاعِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ يَجِبُ عَلَيْهِ حِرَاسَةُ نَفْسِهِ ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى كِتَابَتِهِ فَلَمَّا افْتَرَقَا فِي حُكْمِ الطَّالِبِ ، وَجَبَ أَنْ يَفْتَرِقَا فِي حُكْمِ الْمَطْلُوبِ .

مَسْأَلَةٌ لَا تَصِحُّ كِتَابَةُ الْعَبْدِ حَتَّى يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ( قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ

الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ، قَالَ : وَلَا يَكُونُ الِابْتِغَاءُ مِنَ الْأَطْفَالِ وَلَا الْمَجَانِينَ وَلَا تَجُوزُ الْكِتَابَةُ إِلَّا عَلَى بَالِغٍ عَاقِلٍ ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لَا تَصِحُّ كِتَابَةُ الْعَبْدِ حَتَّى يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا فَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا لَمْ تَصِحَّ كِتَابَتُهُ ، وَوَافَقَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمَجْنُونِ وَخَالَفَ فِي الصَّبِيِّ فَجَوَّزَ كِتَابَتَهُ إِذَا كَانَ مُمَيِّزًا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي جَوَازِ تَصَرُّفِ الصَّبِيِّ بِإِذْنِ وَلَيِّهِ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ : عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ فَلَمْ تَصِحَّ كِتَابَتُهُ كَالْمَجْنُونِ وَكَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ الْخَبَرَ ، وَالْأَصْلُ الَّذِي بَنَاهُ عَلَيْهِ مَدْفُوعٌ . فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ لَا تَجُوزُ كِتَابَتُهُ كَمَا يَجُوزُ تَدْبِيرُهُ ؟ قِيلَ : لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ التَّدْبِيرَ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ السَّيِّدُ ، وَلَا يُرَاعَى فِيهِ قَوْلُ الْمُدَبَّرِ ، فَلَمْ يُرَاعَ فِيهِ الْبُلُوغُ . وَالْعَقْدُ ، وَالْكِتَابَةُ ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِمَا السَّيِّدُ ، وَيُرَاعَى فِيهِمَا قَوْلُ الْمُكَاتَبِ ، فَرُوعِي فِيهَا الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ فَإِنْ كَاتَبَ عَنِ الصَّبِيِّ أَبُوهُ لَمْ يَجُزْ لِعِلَّتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : أَنَّهُ مَمْلُوكٌ وِلَايَتُهُ لِسَيِّدِهِ دُونَ أَبِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْكِتَابَةَ يُمْلَكُ بِهَا التَّصَرُّفُ فِي الْعُقُودِ وَالْحُقُوقِ وَالصَّبِيُّ مِمَّنْ لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ كِتَابَةَ الصَّبِيِّ لَا تَصِحُّ كَالْمَجْنُونِ ، فَكِتَابَةُ السَّيِّدِ كَانَتْ كِتَابَةً بَاطِلَةً ، وَعَتَقَ فِيهَا بِالْأَدَاءِ لِوُجُودِ الصِّفَةِ ؛ لِأَنَّ كِتَابَتَهُ اشْتَمَلَتْ عَلَى عَقْدٍ وَهُوَ قَوْلُهُ : كَاتَبْتُكَ ، وَعَلَى صِفَةٍ وَهُوَ قَوْلُهُ : فَإِذَا أَدَّيْتَ إِلَيَّ آخِرَهَا فَأَنْتَ حُرٌّ ، فَإِذَا بَطَلَ حُكْمُ الْعَقْدِ بَقِيَ حُكْمُ الصِّفَةِ ، فَلِذَلِكَ عَتَقَ بِهَا . قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : وَبُطْلَانُ هَذِهِ الْكِتَابَةِ مَعَ الصَّبِيِّ يَسْلُبُهَا حُكْمُ الصِّفَةِ ، وَحُكْمُ الْفَسَادِ ، وَتَأْثِيرُ هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ فِي حُكْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الصَّبِيَّ فِيهَا إِذَا عَتَقَ بِالْأَدَاءِ لَمْ يَرْجِعِ السَّيِّدُ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ إِنْ كَانَ الْمُؤَدَّى أَقَلَّ مِنْهَا وَلَا يَرْجِعُ الصَّبِيُّ إِذَا عَتَقَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْقِيمَةِ إِنْ كَانَ الْمُؤَدَّى أَكْثَرَ مِنْهَا ، وَلَوْ فَسَدَتِ الْكِتَابَةُ مَعَ الْعَبْدِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ اسْتَحَقَّ السَّيِّدُ عَلَيْهِ قَدْرَ قِيمَتِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُؤَدَّى أَكْثَرَ مِنْهَا رَدَّ الزِّيَادَةَ . وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهَا رَجَعَ بِالْبَقِيَّةِ . وَالْحُكْمُ الثَّانِي : أَنَّ الصَّبِيَّ إِذَا عَتَقَ فِيهَا بِأَدَاءِ مَالِ الْكِتَابَةِ وَبَقِيَ فِي يَدِهِ فَضْلٌ كَانَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْهُ ، وَلَوْ كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ انْتِزَاعُهُ مِنْهُ .

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصَّبِيِّ وَالْبَالِغِ فِي هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ أَنَّ الْبَالِغَ مِنْ أَهْلِ الْعُقُودِ ، فَجَازَ أَنْ يَلْتَزِمَ أَحْكَامَهَا ، وَلَيْسَ الصَّبِيُّ مِنْ أَهْلِ الْعُقُودِ فَلَمْ يَلْتَزِمْ أَحْكَامَهَا . أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَالِغَ لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ مَا قَبَضَهُ عَنْ بَيْعٍ فَاسِدٍ ضَمِنَهُ بِالْقِيمَةِ . وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِ الصَّبِيِّ لَمْ يَضْمَنْهُ ، كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَفْتَرِقَا فِي الْكِتَابَةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَظْهَرُ مَعَانِي الْخَيْرِ فِي الْعَبْدِ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ الِاكْتِسَابُ مَعَ الْأَمَانَةِ فَأُحِبُّ أَلَّا يَمْتَنِعَ مِنْ كِتَابَتِهِ إِذَا كَانَ هَكَذَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ، وَأَنَّ الشَّافِعِيَّ تَأَوَّلَ الْخَيْرَ الْمُرَادَ فِي الْعَبْدِ الِاكْتِسَابَ مَعَ الْأَمَانَةِ ، لِيَكُونَ بِالِاكْتِسَابِ قَادِرًا عَلَى الْأَدَاءِ ، وَبِالْأَمَانَةِ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُوَ حَالُ الْعَبْدِ فِي الْكَسْبِ وَالْأَمَانَةِ إِذَا طَلَبَ الْكِتَابَةَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَجْتَمِعَا فِيهِ فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْكَسْبِ وَالْأَمَانَةِ فَكِتَابَتُهُ نَدْبٌ فَيُسْتَحَبُّ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُجِيبَ إِلَيْهَا ، وَهِيَ الَّتِي أَوْجَبَهَا مِنْ مَالٍ بِوُجُوبِ الْكِتَابَةِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُعْدَمَا فِيهِ ، فَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْكَسْبِ وَلَا مِنْ أَهْلِ الْأَمَانَةِ فَكِتَابَتُهُ مُبَاحَةٌ لَا تَجِبُ وَلَا تُسْتَحَبُّ وَهِيَ إِلَى الْمَنْعِ مِنَ الْجَوَازِ أَقْرَبُ ؛ لِأَنَّهُ لِعَدَمِ الْكَسْبِ عَاجِزٌ وَلِعَدَمِ الْأَمَانَةِ خَائِنٌ ، وَكَرِهَهَا أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ كَمَا تُكْرَهُ مُخَارَجَةُ الْأَمَةِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ مُكْتَسِبًا غَيْرَ أَمِينٍ فَلَا يُسْتَحَبُّ لِعَدَمِ أَمَانَتِهِ ، وَلَا تُكْرَهُ لِوُجُودِ قُدْرَتِهِ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَكُونَ أَمِينًا غَيْرَ مُكْتَسِبٍ ، فَلَا تُسْتَحَبُّ لِعَدَمِ كَسْبِهِ وَظُهُورِ عَجْزِهِ وَلَا تُكْرَهُ لِأَمَانَتِهِ ، وَأَنَّهُ قَدْ يُرَاعَى لِأَجْلِهَا مِنْ سَهْمِ الرِّقَابِ فِي الزَّكَاةِ وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُقَدِّمُ فِي الِاخْتِيَارِ مُكَاتَبَةَ الْأَمِينِ غَيْرِ الْمُكْتَسِبِ عَلَى مُكَاتَبَةِ الْمُكْتَسِبِ غَيْرِ الْأَمِينِ ؛ لِأَنَّ ذَا الْأَمَانَةِ مُعَانٌ وَلَا فَرْقَ فِي الْكِتَابَةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ اسْتِشْهَادًا بِبَرِيرَةَ وَلِصِحَّةِ الْعِتْقِ فِيهِمَا وَجَوَازِ الِاكْتِسَابِ مِنْهُمَا .

مَسْأَلَةٌ مَا جَازَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ جَازَ فِي الْكِتَابَةِ وَمَا رُدَّ فِيهِمَا رُدَّ فِي الْكِتَابَةِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَا جَازَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ جَازَ فِي الْكِتَابَةِ وَمَا رُدَّ فِيهِمَا رُدَّ فِي الْكِتَابَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَمْ تَصِحَّ إِلَّا بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ وَأَجَلٍ

مَعْلُومٍ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى عِوَضٍ مَجْهُولٍ أَوْ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ كَانَتِ الْكِتَابَةُ بَاطِلَةً . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَصِحُّ فِيهَا مِنْ جَهَالَةِ الْعِوَضِ مَا لَا يَصِحُّ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ ، وَهُوَ أَنْ يُكَاتِبَهُ عَلَى ثَوْبٍ لَا يَصِفُهُ فَيَصِحُّ ، وَيَكُونُ لَهُ ثَوْبٌ وَسَطٌ وَعَلَى عَبْدٍ غَيْرِ مَوْصُوفٍ فَيَصِحُّ وَيَكُونُ لَهُ عَبْدٌ وَسَطٌ احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَقْصُودَ الْكِتَابَةِ هُوَ الْعِتْقُ ، وَالْعِتْقُ يَقَعُ بِالصِّفَاتِ الْمَجْهُولَةِ كَوُقُوعِهِ بِالصِّفَاتِ الْمَعْلُومَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ عَقْدٌ تُبْتَغَى بِهِ الْقُرْبَةُ كَالْوَصَايَا ثُمَّ جَازَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْمَجْهُولِ وَالْمَعْلُومِ كَذَلِكَ الْكِتَابَةُ . وَدَلِيلُنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْغَرَرِ . وَقَوْلُهُ : " رُدُّوا الْجَهَالَاتِ إِلَى السُّنَنِ " وَلِأَنَّ كُلَّ جَهَالَةٍ مَنَعَتْ مِنْ صِحَّةِ الْبَيْعِ مَنَعَتْ مِنْ صِحَّةِ الْكِتَابَةِ . كَقَوْلِكَ كَاتَبْتُكَ عَلَى شَيْءٍ ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَارَقَتِ الْوَصِيَّةُ حَيْثُ جَازَتْ بِشَيْءٍ مَجْهُولٍ ، لَمْ تَجُزِ الْكِتَابَةُ بِهِ وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ بَطَلَ بِجَهَالَةِ الْجِنْسِ بَطَلَ بِجَهَالَةِ الصِّفَةِ كَالْبَيْعِ ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَرَّقْنَا بَيْنَ الْعِتْقِ بِالصِّفَةِ وَبَيْنَ الْكِتَابَةِ عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ قَدْ يَقَعْ فِيهَا مَعَ الْجَهَالَةِ بِالصِّفَةِ وَإِنَّمَا اخْتَصَّ بِفَسَادِ الْعَقْدِ فِي الْعِوَضِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْكِتَابَةُ تُوَافِقُ الْبَيْعَ مِنْ وَجْهَيْنِ وَتُخَالِفُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : فَأَمَّا وَجْهَا الْمُوَافَقَةِ : فَأَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ فِيهِمَا مَعْلُومًا فِي الذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ فِي الْكِتَابَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الذِّمَّةِ . وَالْعِلْمُ بِهِ يَكُونُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : يَكُونُ بِذِكْرِ جِنْسِهِ مِنْ دَرَاهِمَ ، أَوْ دَنَانِيرَ ، أَوْ ثِيَابٍ ، أَوْ عَبِيدٍ ثُمَّ يَذْكُرُ صِفَتَهُ ، فَيَصِفُ الْجِنْسَ بِأَوْصَافِ السَّلَمِ إِلَّا فِي الدَّرَاهِمِ فَيَكُونُ إِطْلَاقُهَا مَحْمُولًا عَلَى الْأَغْلَبِ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ ، ثُمَّ يَذْكُرُ الْقَدْرَ فَإِنْ كَانَ مَوْزُونًا ذَكَرَ وَزْنَهُ وَإِنْ كَانَ مَكِيلًا ذَكَرَ كَيْلَهُ وَإِنْ كَانَ مَعْدُودًا ذَكَرَ عَدَدَهُ . فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ فِي الْعِوَضِ صَارَ حِينَئِذٍ مَعْلُومًا فَصَحَّتْ بِهِ الْكِتَابَةُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا بِالشُّهُودِ وَالْأَهِلَّةِ الَّتِي لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ أَنْ يُؤَجِّلُوا إِلَّا بِهَا فَإِنَّ قَدْرَهُ بِمَا يَبْطُلُ بِهِ الْأَجَلُ فِي الْبَيْعِ كَالْعَطَاءِ ، وَالْحَصَادِ بَطَلَتْ بِهِ الْكِتَابَةُ .



فَصْلٌ : وَأَمَّا الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْعِ . فَأَحَدُهَا : أَنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ بِعِوَضٍ مُعَيَّنٍ ، وَمَوْصُوفٍ ، وَالْكِتَابَةُ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِعِوَضٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ ، وَلَا تَصِحُّ بِمُعَيَّنٍ حَاضِرٍ : لِأَنَّ الْمُعَيَّنَ إِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ حِينَ الْعَقْدِ فَهُوَ مِلْكٌ لِلسَّيِّدِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُكَاتِبَهُ بِمِلْكِهِ عَلَى مِلْكِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ كَانَ مِنْ جَوَازِ الْكِتَابَةِ أَبْعَدَ لِفَسَادِهِ فِيهَا وَفِي الْبَيْعِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْعِوَضَ فِي الْبَيْعِ يَصِحُّ مُعَجَّلًا وَمُؤَجَّلًا ، وَلَا يَصِحُّ فِي الْكِتَابَةِ إِلَّا مُؤَجَّلًا لِمَا نَذْكُرُهُ مِنَ الدَّلِيلِ فِي الْخِلَافِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ خِيَارَ الثَّلَاثِ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ بِالشَّرْطِ وَخِيَارَ الْمَجْلِسِ يَدْخُلُ فِيهِ بِالْعَقْدِ ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْكِتَابَةِ مِنْ جِهَةِ السَّيِّدِ خِيَارُ الثَّلَاثِ ، وَلَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَهُمَا فِي الْبَيْعِ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَبْنِ لِيَحْصُلَ الْمَقْصُودُ بِهِ مِنَ النَّمَاءِ وَالِاسْتِزَادَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْكِتَابَةُ لِظُهُورِ الْغَبْنِ فِي مَوْضِعِهِمَا لِأَنَّهُ يُعَاوِضُ فِيهَا عَلَى رَقَبَةِ عَبْدِهِ بِكَسْبِهِ وَكِلَاهُمَا مِنْ مِلْكِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِدُخُولِ الْخِيَارِ الَّذِي يَسْتَدْرِكُ بِهِ الْمُغَابَنَةَ وَجْهٌ . وَالرَّابِعُ : أَنَّ خِيَارَ الْمُكَاتَبِ مُؤَبَّدٌ مَا بَقِيَ عَلَى كِتَابَتِهِ ، وَلَا يَجُوزُ دُخُولُ مِثْلِهِ فِي الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْمُتَرَجِّحَ فِي الْكِتَابَةِ مَصْلَحَةُ الْمُكَاتَبِ دُونَ السَّيِّدِ ، فَثَبَتَ لَهُ مِنَ الْخِيَارِ مَا لَمْ يَثْبُتْ لِلسَّيِّدِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِي خِيَارِهِ الْمُتَبَايِعَانِ ، وَصَارَ الْخِيَارُ فِي الْكِتَابَةِ مُؤَبَّدًا وَإِنْ كَانَ فِي الْبَيْعِ مُقَدَّرًا ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ فِي الْبَيْعِ اسْتِدْرَاكُ الْغَبْنِ الْمَوْجُودِ فِي قَلِيلِ الزَّمَانِ ، فَصَارَ مُقَدَّرًا وَفِي الْكِتَابَةِ الْعَجْزُ عَنِ الْمَالِ الَّذِي يَكُونُ فِي كُلِّ الزَّمَانِ فَصَارَ مُؤَبَّدًا .

مَسْأَلَةٌ لَا يَجُوزُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ نَجْمَيْنِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَجُوزُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ نَجْمَيْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْأَجَلُ فَهُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْكِتَابَةِ ، لَا يَجُوزُ أَنْ تُعْقَدَ حَالَّةً . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ لَيْسَ الْأَجَلُ بِشَرْطٍ فِي صِحَّتِهَا وَتَجُوزُ حَالَّةً وَمُؤَجَّلَةً اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ، وَمِنْ ذَلِكَ دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : عُمُومُ قَوْلِهِ " فَكَاتِبُوهُمْ " ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حَالٍّ وَمُؤَجَّلٍ . والثانِى : قَوْلُهُ : إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ( النُّورِ : ) ، وَالْخَيْرُ الْمَالُ فَجُعِلَ الْعَقْدُ مَشْرُوطًا بِهِ . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ عِتْقٌ بِعِوَضٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَجُوزَ حَالًّا وَمُؤَجَّلًا . كَمَا لَوْ بَاعَ عَبْدَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِثَمَنٍ حَالٍّ أَوْ مُؤَجَّلٍ صَحَّ وَعَتَقَ ، وَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ .

قَالُوا : وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى عَيْنٍ فَصَحَّ حَالًّا وَمُؤَجَّلًا كَالْبَيْعِ . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ قَدْ أَسْقَطَ بِهَا حَقَّهُ مِنْ كَسْبِ عَبْدِهِ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى أَجَلٍ كَالْإِبْرَاءِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ دُخُولَ الْأَجَلِ غَرَرٌ ، فَإِذَا صَحَّ الْعَقْدُ مَعَهُ ، لَزِمَكُمْ عَلَى قَوْلِكُمْ فِي السَّلَمِ أَنْ تَجْعَلُوهُ لِخُلُوِّهِ مِنَ الْأَجَلِ أَصَحَّ ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ فِيهِ : إِذَا جَازَ مُؤَجَّلًا كَانَ حَالًّا أَجْوَزَ ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْغَرَرِ أَبْعَدُ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِلَى قَوْلِهِ : " فِيهِمْ خَيْرًا " ، ( النُّورِ : ) ، . فَسَمَّاهَا كِتَابَةً وَأَفْرَدَهَا بِهَذَا الِاسْمِ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الْعُقُودِ . وَالْعَقْدُ إِذَا أُفْرِدَ بِاسْمٍ وَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ بِمَعْنَى ذَلِكَ الِاسْمِ ، كَالسَّلَمِ سُمِّيَ سَلَمًا ، لِوُجُوبِ تَسْلِيمِ جَمِيعِ الثَّمَنِ كَذَلِكَ الْكِتَابَةُ سُمِّيَتْ كِتَابَةً لِوُجُوبِ الْكِتَابَةِ . وَالْكِتَابَةُ إِنَّمَا نَدَبْنَا إِلَيْهَا فِي الْحُقُوقِ الْمُؤَجَّلَةِ دُونَ الْمُعَجَّلَةِ أَلَا تَرَاهُ قَالَ تَعَالَى : إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ( الْبَقَرَةِ : ) ، وَقَالَ فِي الْمُعَجَّلَةِ : إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ، ( الْبَقَرَةِ : ) ، فَدَلَّ اخْتِصَاصُ هَذَا الْعَقْدِ بِاسْمِ الْكِتَابَةِ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِحُكْمِ التَّأْجِيلِ . وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِعُمُومِ الْآيَةِ وَنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْغَرَرِ . وَالْغَرَرُ : مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ جَوَازَيْنِ أَخْوَفُهُمَا أَغْلَبُهُمَا وَالْكِتَابَةُ الْحَالَّةُ غَرَرٌ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ أَحْوَالِ الْمُكَاتَبِ عَجْزُهُ عَنْهَا فَكَانَ عَقْدُهَا بَاطِلًا وَيَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِ هَذَا الْخَبَرِ قِيَاسٌ . فَنَقُولُ : عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَتَعَذَّرُ فِيهِ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَقْتَ اسْتِحْقَاقِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَبَيْعِ الْعَبْدِ الْآبِقِ ، وَكَالسَّلَمِ إِلَى أَجَلٍ يَتَحَقَّقُ عَدَمُهُ فِيهِ وَلَا يَفْسُدُ بِنِكَاحِ الصَّغِيرَةِ لِأَنَّ تَسْلِيمَهَا يُسْتَحَقُّ عِنْدَ إِمْكَانِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا فَاسِدٌ بِالْبَيْعِ عَلَى مُعْسِرٍ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ وَلَا يُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ . قِيلَ : إِعْسَارُهُ فِي الظَّاهِرِ لَا يُوجِبُ إِعْسَارَهُ فِي الْبَاطِنِ ، لِجَوَازِ أَنْ يَمْلِكَ مَا لَا يُعْلَمُ وَإِعْسَارُ الْمُكَاتَبِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ قَبْلَ كِتَابَتِهِ ، فَافْتَرَقَا فِي تَعْيِينِ الْإِعْسَارِ ، فَلِذَلِكَ افْتَرَقَا فِي الْجَوَازِ . فَإِنْ قِيلَ : يَفْسُدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ إِذَا كَاتَبَهُ عَلَى مَالٍ كَثِيرٍ يُؤَدِّيهِ فِي نَجْمَيْنِ مُقَدَّرَيْنِ بِسَاعَتَيْنِ مِنْ يَوْمٍ تَتَعَذَّرُ مِنْهُ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ ، وَتَصِحُّ كِتَابَتُهُ . وَكَذَلِكَ فِي الْمُعَجَّلِ قِيلَ : يُمْكِنُهُ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِ النَّجْمِ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ ثَلَاثِينَ سَنَةً بِقَدْرِ كِتَابَتِهِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ فِي الْحَالِّ الْمُعَجَّلِ فَافْتَرَقَا .

فَإِنْ قِيلَ : يَفْسُدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ إِذَا بَاعَ عَبْدَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِأَلْفٍ حَالَّةٍ صَحَّ ، وَعَتَقَ وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ دَفْعُ الثَّمَنِ ، قِيلَ : قَدْ خَرَّجَ فِيهِ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجْهًا مُحْتَمَلًا : أَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ لِهَذَا الْمَعْنَى ، فَيَكُونُ الِاعْتِرَاضُ بِهِ فَاسِدًا . وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ جَوَازُهُ ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ فَقَالَ : وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : بِعْتُكَ نَفْسَكَ بِأَلْفٍ فَجَحَدَهُ الْعَبْدُ عَتَقَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِالْعِتْقِ مُدَّعٍ لِلثَّمَنِ . قِيلَ : مَقْصُودُ هَذَا الْبَيْعِ الْعِتْقُ وَقَدْ حَصَلَ . فَإِنْ قِيلَ : وَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ مَقْصُودُهَا الْعِتْقُ فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعِتْقَ فِي الْكِتَابَةِ يَحْصُلُ بَعْدَ الْأَدَاءِ ، وَالْعِتْقَ فِي الْبَيْعِ يَحْصُلُ قَبْلَ الْأَدَاءِ ، فَجَازَ أَنْ تَبْطُلَ الْكِتَابَةُ بِتَعَذُّرِ الْأَدَاءِ وَإِنْ لَمْ يَبْطُلْ بِهِ الْبَيْعُ ، وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِهِ . وَلِأَنَّ الْأَجَلَ فِي الْكِتَابَةِ إِجْمَاعٌ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِأَنَّهُمْ كَاتَبُوا عَبِيدَهُمْ مُجْمِعِينَ فِيهَا عَلَى التَّأْجِيلِ ، وَلَمْ يَعْقِدْهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ حَالَّةً ، وَلَوْ جَازَ حُلُولُهَا لَتَفَرَّدَ بِهَا بَعْضُهُمْ مَعَ اخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ ، وَغَضِبَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى عَبْدٍ لَهُ وَأَرَادَ التَّضْيِيقَ عَلَيْهِ . فَقَالَ : وَاللَّهِ لَأُكَاتِبَنَّكَ عَلَى نَجْمَيْنِ فَلَوْ جَازَتْ حَالَّةً ، أَوْ عَلَى أَقَلَّ مِنْ نَجْمَيْنِ لَكَانَ أَحَقَّ بِالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِ . فَأَمَّا : الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ، ( النُّورِ : ) فَإِنَّ الْخَيْرَ هُوَ الْمَالُ فَهُوَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ أَبْطَلَ هَذَا التَّأْوِيلَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَبْدَ لَا مِلْكَ لَهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ مَالِكًا ، وَلَا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ مَالِكًا ؛ لِأَنَّ سَيِّدَهُ أَخَذَهُ مِنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْمَالَ لَقَالَ : إِنْ عَلِمْتُمْ لَهُمْ خَيْرًا ؛ لِأَنَّ الْمَالَ يَكُونُ لَهُ وَلَا يَكُونُ فِيهِ ، وَإِنَّمَا الَّذِي فِيهِ مَا تَأَوَّلَهُ الشَّافِعِيُّ مِنَ الِاكْتِسَابِ وَالْأَمَانَةِ ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَالُ لَمَا دَلَّ عَلَى جَوَازِ التَّعْجِيلِ ، وَلَكَانَ بِالتَّأْجِيلِ أَحَقَّ حَتَّى يَجِدَ الْمَالَ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْبَيْعِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ وُجُودُ الْمَقْصُودِ بِهِ فِي الْحُلُولِ وَالتَّأْجِيلِ ، وَكَذَلِكَ اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْإِبْرَاءِ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ لَا يَتَعَذَّرُ ، وَلِأَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ عِنْدَنَا بِأَجَلٍ وَإِنْ دَخَلَ فِي الْكِتَابَةِ فَافْتَرَقَا . وَأَمَّا السَّلَمُ : فَقَدْ أَجْمَعْنَا وَهُمْ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْكِتَابَةِ وَالسَّلَمِ لِأَنَّهُمْ مَنَعُوا مِنْ حُلُولِ السَّلَمِ وَجَوَّزُوا حُلُولَ الْكِتَابَةِ ، وَنَحْنُ مَنَعْنَا مِنْ حُلُولِ الْكِتَابَةِ ، وَجَوَّزْنَا حُلُولَ السَّلَمِ فَصَارَا مُفْتَرِقَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنَا مَعًا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَشْهَدَ بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ . ثُمَّ مَعْنَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا أَنَّ الْغَرَرَ يَنْتَفِي عَنْ تَعْجِيلِ السَّلَمِ فَجَوَّزْنَاهُ ، وَيَدْخُلُ فِي حُلُولِ الْكِتَابَةِ فَأَبْطَلْنَاهُ .



فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْأَجَلَ فِي الْكِتَابَةِ شَرْطٌ فَأَقَلُّ مَا تَصِحُّ الْكِتَابَةُ إِلَيْهِ نَجْمَانِ ، وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى نَجْمٍ وَاحِدٍ لَمْ تَصِحَّ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأُمُورٍ مِنْهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي تَعْلِيقِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : الْكِتَابَةُ عَلَى نَجْمَيْنِ . وَهَذَا الْخَبَرُ إِنْ صَحَّ نَصٌّ يَدُلُّ عَلَى إِيجَابِ الْأَجَلِ عَلَى تَقْدِيرِهِ بِنَجْمَيْنِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَجَّلَ الْكِتَابَةَ قَالَ : لَا تَصِحُّ إِلَى أَقَلَّ مِنْ نَجْمَيْنِ فَصَارَ مِنْ إِجْمَاعِ مَنْ قَالَ بِتَأْجِيلِهَا . وَقَدْ غَضِبَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى عَبْدِهِ . وَقَالَ : " وَاللَّهِ لَأُعَاقِبَنَّكَ وَلَأُكَاتِبَنَّكَ عَلَى نَجْمَيْنِ " . لَوْ جَازَتْ إِلَى أَقَلَّ مِنْهُمَا لَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ تَضْيِيقًا عَلَيْهِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّجْمَيْنِ أَقْصَى التَّضْيِيقِ . وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يُكَاتِبُوا مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي مُكَاتَبَةِ عَبِيدِهِمْ عَلَى أَقَلَّ مِنْ نَجْمَيْنِ ، قَدْ كُوتِبَتْ بَرِيرَةُ عَلَى تِسْعَةِ أَنْجُمٍ ، وَكَاتَبَ ابْنُ عُمَرَ عَبْدَهُ عَلَى خَمْسَةِ أَنْجُمٍ ، وَكَاتَبَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَوْلَاهَا نَبْهَانَ عَلَى نَجْمَيْنِ ، وَذَلِكَ أَقَلُّ مَا كَاتَبَتِ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ فَصَارَ ذَلِكَ مِنْهُمْ إِجْمَاعًا ، وَلِأَنَّ الْإِيتَاءَ مِمَّا أَدَّى وَاجِبٌ لِيَسْتَعِينَ بِهِ الْمُكَاتَبُ فِيمَا بَقِيَ ، وَذَلِكَ لَا يَنْتَظِمُ إِلَّا فِي نَجْمَيْنِ يَكُونُ أَحَدُهُمَا لِلْأَدَاءِ وَالْآخَرُ لِلْإِيتَاءِ مَعُونَةً فِي بَاقِي الْأَدَاءِ ، وَلِأَنَّ اشْتِقَاقَ الْكِتَابَةِ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الضَّمِّ وَالْجَمْعِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ كِتَابَةِ الْخَطِّ . فَإِنْ كَانَتْ مُشْتَقَّةً مِنَ الضَّمِّ وَالْجَمْعِ . فَأَقَلُّ مَا يَكُونُ بِهِ الضَّمُّ وَالِاجْتِمَاعُ اثْنَانِ . فَافْتَقَرَتِ الْكِتَابَةُ إِلَى نَجْمَيْنِ . يَنْضَمُّ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ . وَإِنْ كَانَتْ مِنْ كِتَابَةِ الْخَطِّ فَأَقَلُّ مَا تَتَقَيَّدُ بِهِ خَطُّ الْكِتَابَةِ حَرْفَانِ ، فَافْتَقَرَتِ الْكِتَابَةُ الْمُؤَجَّلَةُ إِلَى نَجْمَيْنِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ يَنْعَقِدُ الْخَطُّ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ لَا . قِيلَ : لَا حَرْفَانِ : لَامٌ وَأَلِفٌ . قَالَ الشَّاعِرُ : تَخُطُّ رِجْلَايَ بِخَطٍّ مُخْتَلِفْ تُكَتِّبَانِ فِي الطَّرِيقِ لَامْ أَلِفْ فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ أَقَلُّ مَا يَتَقَيَّدُ بِهِ الْخَطُّ حَرْفَيْنِ ، فَمِنْ شَرْطِهِمَا أَنْ يَكُونَا مُخْتَلِفَيْنِ

مِنْ جِنْسَيْنِ . فَهَلَّا جَعَلْتُمُ اخْتِلَافَ النَّجْمَيْنِ فِي الْقَدْرِ وَالتَّجَانُسِ شَرْطًا اعْتِبَارًا بِتَقْيِيدِ الْخَطِّ ، كَمَا جَعَلْتُمْ أَقَلَّ الْكِتَابَةِ نَجْمَيْنِ اعْتِبَارًا بِتَقْيِيدِ الْخَطِّ . قِيلَ : عَنْ هَذَا جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ يَلْزَمُ تَغَايُرُ أَجْنَاسِ الْحَرْفَيْنِ فِي الْخَطِّ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَسْتُ مِنْ دَدٍ وَلَا دَدٌ مِنِّي ، أَيْ لَسْتُ مِنَ اللَّعِبِ وَلَا اللَّعِبُ مِنِّي ، وَهُمَا حَرْفَانِ مُجَانِسَانِ يَتَقَيَّدُ بِهِمَا الْخَطُّ كَذَلِكَ نَجْمَا الْكِتَابَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ لَزِمَ هَذَا فِي أَقَلِّ مَا يَتَقَيَّدُ بِهِ الْخَطُّ أَنْ يَكُونَ مُتَغَايِرَ الْأَجْنَاسِ فَنَجْمَا الْكِتَابَةِ بِمَثَابَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَرَّرُ النَّجْمَانِ إِلَّا مُتَغَايِرَيْنِ وَإِنْ تَسَاوَى زَمَانُهُمَا ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنَ النَّجْمَيْنِ شَهْرًا فَقَدِ اخْتَلَفَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَجَلَ مُسْتَحِقٌّ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ فَيَـكُونُ أَوَّلُ النَّجْمَيْنِ لَهُمَا بَعْدَ شَهْرٍ وَالْآخَرُ بَعْدَ شَهْرَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَحَلَّهَا مُخْتَلِفٌ ؛ لِأَنَّ حُلُولَ أَحَدِهِمَا فِي شَهْرٍ وَحُلُولَ الْآخَرِ فِي غَيْرِهِ ، فَاخْتَلَفَا مَعَ تَسَاوِيهِمَا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَثَبَتَ مَا قُلْنَا مِنِ اعْتِبَارِ النَّجْمَيْنِ ، وَأَلَّا فَرْقَ بَيْنَ تَسَاوِيهِمَا وَاخْتِلَافِهِمَا وَبَيْنَ طُولِهِمَا وَقِصَرِهِمَا . أَمَّا أَكْثَرُ نُجُومِ الْكِتَابَةِ فَلَا يَنْحَصِرُ بِعَدَدٍ وَيَجُوزُ أَنْ يُكَاتِبَهُ إِلَى مِائَةِ نَجْمٍ ، وَأَكْثَرَ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ مَا لَمْ يَتَجَاوَزْهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ أَقَلِّ النُّجُومِ شَرْطًا فِي تَقْيِيدِ الْأَقَلِّ ، فَهَلَّا جَعَلْتُمْ مَا لَمْ يَتَجَاوَزْهُ الصَّحَابَةُ مِنْ أَقَلِّ النَّجْمِ فِي تَقْيِيدِ الْأَكْثَرِ شَرْطًا فِي تَقْيِيدِ الْأَكْثَرِ ، وَأَكْثَرُ مَا كَاتَبَتِ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ تِسْعَةُ أَنْجُمٍ فِي بَرِيرَةَ ، كَمَا أَنَّ أَقَلَّ مَا كَاتَبُوا عَلَيْهِ نَجْمَانِ فِي نَبْهَانَ ، فَلَزِمَكُمْ أَنْ تُقَدِّرُوا أَكْثَرَهُ بِتِسْعَةِ أَنْجُمٍ ، كَمَا قَدَّرْتُمْ أَقَلَّهُ بِنَجْمَيْنِ أَوْ تُسْقِطُوا تَقْدِيرَ أَقَلِّهِ بِنَجْمَيْنِ ، كَمَا أَسْقَطْتُمْ تَقْدِيرَ أَكْثَرِهِ بِتِسْعَةِ أَنْجُمٍ . قِيلَ : لَا يَلْزَمُ اعْتِبَارُ الْأَقَلِّ بِالْأَكْثَرِ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النُّجُومَ زَمَانٌ فَتُقَدَّرُ أَقَلُّ النُّجُومِ ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ الزَّمَانِ مَحْدُودٌ وَلَمْ يَتَقَدَّرْ أَكْثَرُ النُّجُومِ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الزَّمَانِ غَيْرُ مَحْدُودٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ قِلَّةَ النُّجُومِ مَفْقُودٌ مِنْ جِهَةِ السَّادَةِ فَجَازَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ فِعْلُ السَّادَةِ مِنْ

الصَّحَابَةِ ، وَكَثْرَةُ النُّجُومِ مَفْقُودٌ مِنْ جِهَةِ الْعَبِيدِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ فِعْلُ عَبِيدِ الصَّحَابَةِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ مَوْصُوفَةِ الْوَزْنِ وَالْعَيْنِ إِلَى عَشْرِ سِنِينَ أَوُّلَهَا كَذَا وَآخِرُهَا كَذَا يُؤَدِّي فِي انْقِضَاءِ كُلِّ سَنَةٍ مِنْهَا كَذَا فَجَائِزٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالَّذِي يُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ الْكِتَابَةِ ، شَرْطَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ مَعْلُومًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا . فَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْعِوَضِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ قَدَّمْنَاهَا : أَحَدُهَا : مَعْرِفَةُ الْجِنْسِ . وَالثَّانِي : مَعْرِفَةُ الصِّفَةِ . وَالثَّالِثُ : مَعْرِفَةُ الْقَدْرِ . فَإِنْ جَهِلَا أَوْ أَحَدُهُمَا أَحَدَ الثَّلَاثَةِ مِنْ جِنْسٍ ، أَوْ صِفَةٍ ، أَوْ قَدْرٍ بَطَلَتِ الْكِتَابَةُ . وَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْأَجَلِ فَيَكُونُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : تَقْدِيرُ زَمَانِهِ بِالسِّنِينَ ، أَوْ بِالشُّهُورِ الْهِلَالِيَّةِ . فَيَقُولُ : قَدْ كَاتَبْتُكَ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ فِي عَشْرِ سِنِينَ ، فَإِنْ ذَكَرَ أَوَّلَهَا وَآخِرَهَا كَانَ أَوْكَدَ ، وَإِنْ ذَكَرَ أَوَّلَهَا وَلَمْ يَذْكُرْ آخِرَهَا جَازَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِذِكْرِ الْأَوَّلِ . فَإِنْ ذَكَرَ آخِرَهَا ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَوَّلَهَا جَازَ ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِذِكْرِ الْآخِرِ بَعْدَ أَنْ لَا يَزِيدَ ذِكْرَ آخِرِ الْمُدَّةِ عَلَى الْعَشْرِ وَلَا يَنْقُصَ مِنْهَا ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَوَّلَهَا وَلَا آخِرَهَا فَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَإِنْ كَانَ دَلِيلُ كَلَامِهِ هَاهُنَا لَا يَقْتَضِيهِ أَنْ تَكُونَ الْكِتَابَةُ جَائِزَةً ، لِأَنَّ أَوَّلَ الْآجَالِ الْمُسْتَحَقَّةِ فِي الْعُقُودِ مِنْ وَقْتِ عَقْدِهَا فَصَارَ وَقْتُ الْعَقْدِ أَوَّلَهَا ، وَهُوَ مَعْلُومٌ وَيَصِيرُ آخِرُهَا بِمَعْرِفَةِ الْأَوَّلِ مَعْلُومًا . وَإِنَّمَا نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى ذِكْرِ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا تَأْكِيدًا . وَالثَّانِي مِنَ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ : الْعِلْمُ بِوَقْفِ اسْتِحْقَاقِهَا فِي كُلِّ نَجْمٍ لِبُعْدِ مَا بَيْنَ طَرَفَيْهِ . فَإِذَا كَانَتِ النُّجُومُ عَشْرَ سِنِينَ ، وَجَعَلَ مَحَلَّ كُلِّ نَجْمٍ فِي آخِرِ كُلِّ سَنَةٍ صَحَّ ، وَإِنْ جَعَلَهُ فِي أَوَّلِهَا لَمْ يَصِحَّ ، لَا لِلْجَهْلِ بِوَقْتِ الْمَحَلِّ وَلَكِنْ لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا حَالًّا ، وَالْكِتَابَةُ عَلَى حَالٍّ لَا تَصِحُّ ، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا مُؤَجَّلٌ وَإِنْ جَعَلَهُ فِي وَسَطِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَصِحُّ ، لِأَنَّ وَسَطَ السَّنَةِ مَا بَيْنَ طَرَفَيْهَا فَصَارَ مَجْهُولًا .

وَالثَّانِي : يَصِحُّ وَيَكُونُ الْمَحَلُّ فِي نِصْفِ كُلِّ سَنَةٍ ، لِأَنَّ الْوَسَطَ عَلَى التَّحْقِيقِ مَوْضُوعٌ لِاسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ ، فَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى نَجْمَيْنِ فِي سَنَتَيْنِ لِيَكُونَ مَحَلُّ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا فِي أَوَّلِ السَّنَةِ الْأَوْلَى وَمَحَلُّ الثَّانِي آخِرَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لَمْ يَجُزْ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حُلُولِ الْأَوَّلِ . وَلَوْ جَعَلَ الْمُنَجَّمَ الْأَوَّلَ فِي آخِرِ السَّنَةِ الْأَوْلَى ، وَالثَّانِي فِي أَوَّلِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَصِحُّ ، لِأَنَّهُ بِالِاتِّصَالِ قَدْ صَارَ نَجْمًا وَاحِدًا . وَالثَّانِي : يَصِحُّ لِاسْتِحْقَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي غَيْرِ زَمَانِ الْآخَرِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يُسْتَحَقُّ فِي آخِرِ أَجْزَاءِ السَّنَةِ الْأَوْلَى ، وَالثَّانِي مُسْتَحَقٌّ فِي أَوَّلِ أَجْزَاءِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ ، فَصَارَا مُخْتَلِفَيْنِ وَإِنِ اتَّصَلَا . وَالثَّالِثُ : مِنَ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ : أَنْ يَكُونَ مَا يُسْتَحَقُّ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ فِي كُلِّ نَجْمٍ مَعْلُومًا ، سَوَاءٌ تَسَاوَى مَالُ النُّجُومِ ، أَوِ اخْتَلَفَ ، وَتَسَاوِيهِ أَنْ يَقُولَ : قَدْ كَاتَبْتُكَ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ وَتُؤَدِّيهَا فِي عَشْرِ سِنِينَ فِي آخِرِ كُلِّ سَنَةٍ ، مِنْهَا عَشَرَةُ دَنَانِيرَ . وَاخْتِلَافُهُ ، أَنْ يَقُولَ : عَلَى أَنْ تُؤَدِّيَ فِي آخِرِ السَّنَةِ الْأَوْلَى خَمْسَةَ دَنَانِيرَ وَفِي آخِرِ الثَّانِيَةِ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ ، وَفِي آخِرِ الثَّالِثَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ ، ثُمَّ يَذْكُرُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي السِّنِينَ الْعَشْرِ ، فَيَصِحُّ فِي الْحَالَيْنِ مَعَ التَّسَاوِي وَالتَّفَاضُلِ . فَإِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يَذْكُرْ قَدْرَ مَا يَسْتَحِقُّهُ فِي كُلِّ نَجْمٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْكِتَابَةَ بَاطِلَةٌ لِلْجَهْلِ بِقَدْرِ الِاسْتِحْقَاقِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْكِتَابَةَ جَائِزَةٌ ، وَيَكُونُ الْمَالُ مَقْسُومًا عَلَى أَعْدَادِ النُّجُومِ ، لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ ، فَإِنْ كَانَتِ النُّجُومُ خَمْسَةً اسْتَحَقَّ كُلُّ نَجْمٍ خُمُسَ الْمَالِ ، وَإِنْ كَانَتْ عَشْرًا اسْتَحَقَّ كُلُّ نَجْمٍ عُشْرَ الْمَالِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَعْتِقُ حَتَّى يَقُولَ فِي الْكِتَابَةِ : فَإِذَا أَدَّيْتَ كَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ ، أَوْ يَقُولَ بَعْدَ ذَلِكَ : إِنَّ قَوْلِي كَاتَبْتُكَ كَانَ مَعْقُودًا عَلَى أَنَّكَ إِذَا أَدَّيْتَ فَأَنْتَ حُرٌّ ، كَمَا لَا يَكُونُ الطَّلَاقُ إِلَّا بِصَرِيحٍ أَوْ مَا يُشْبِهُهُ مَعَ النِّيَّةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، لَفْظُ الْكِتَابَةِ كِنَايَةٌ في العتق لَا يَتَحَرَّرُ بِهِ الْعِتْقُ عِنْدَ الْأَدَاءِ ، إِلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا لَفْظٌ صَرِيحٌ فِي الْعِتْقِ . أَوْ نِيَّةٌ يُرِيدُ بِهَا الْعِتْقَ ، فَالصَّرِيحُ أَنْ يَقُولَ فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ : فَإِذَا أَدَّيْتَ آخِرَهَا فَأَنْتَ حُرٌّ ، وَالنِّيَّةُ أَنْ يَقُولَ بَعْدَ الْكِتَابَةِ : قَدْ كَانَ قَوْلِي : كَاتَبْتُكَ مَعْقُودًا عَلَى أَنَّكَ إِنْ أَدَّيْتَ آخِرَهَا فَأَنْتَ حُرٌّ ، فَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ أَحَدُ هَذَيْنِ لَمْ يَتَحَرَّرْ بِهَا الْعِتْقُ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَفْظُ الْكِتَابَةِ صَرِيحٌ يَتَحَرَّرُ بِهِ الْعِتْقُ عِنْدَ الْأَدَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ تَصْرِيحٌ بِالْعِتْقِ وَلَا نِيَّةٌ كَالتَّدْبِيرِ هُوَ صَرِيحٌ فِي تَحْرِيرِ الْعِتْقِ بِالْمَوْتِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى تَصْرِيحٍ وَلَا نِيَّةٍ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّ لَفْظَ الْكِتَابَةِ كِنَايَةٌ يَتَسَاوَى فِيهِ الِاحْتِمَالُ . فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ كِتَابَةَ الْمُرَاسَلَةِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ كِتَابَةَ الْمُخَارَجَةِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ كِتَابَةَ الْعِتْقِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ مَعَ احْتِمَالِهِ صَرِيحًا وَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ فِي الطَّلَاقِ : أَنْتِ خَلِيَّةٌ ، أَوْ بَرِيئَةٌ . فَأَمَّا لَفْظُ التَّدْبِيرِ هل يكون صريح في العتق أم كناية : فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا فِي الْعِتْقِ كَمَا نَصَّ فِي لَفْظِ الْكِتَابَةِ أَنَّهُ كِنَايَةٌ فِي الْعِتْقِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ نَصِّهِ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : أَنْ نَقَلُوا جَوَابَهُ فِي التَّدْبِيرِ إِلَى الْكِتَابَةِ وَجَوَابَهُ فِي الْكِتَابَةِ إِلَى التَّدْبِيرِ وَخَرَّجُوهُ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّفْظَ فِيهِمَا صَرِيحٌ فِي الْعِتْقِ عَلَى مَا قَالَهُ فِي التَّدْبِيرِ وَلَا تَفْتَقِرُ الْكِتَابَةُ إِلَى نِيَّةٍ كَمَا لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَيْهَا التَّدْبِيرُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ اللَّفْظَ فِيهَا كِنَايَةٌ فِي الْعِتْقِ لَا يَقَعُ فِيهِمَا إِلَّا بِنِيَّةٍ أَوْ تَصْرِيحٍ لفظ التدبير عَلَى مَا قَالَهُ فِي الْكِتَابَةِ ، وَلَا يَقَعُ الْعِتْقُ فِي التَّدْبِيرِ إِلَّا بِتَصْرِيحٍ أَوْ نِيَّةٍ كَمَا لَمْ يَصْحَّ فِي الْكِتَابَةِ ، فَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّ الشَّافِعِيَّ إِنَّمَا جَعَلَ التَّدْبِيرَ صَرِيحًا فِي الْعِتْقِ مِنَ الْعَالِمِ ، وَلَوْ كَانَ مِنْ جَاهِلٍ لَكَانَ كِنَايَةً ، وَجَعَلَ الْكِتَابَةَ كِنَايَةً مِنَ الْجَاهِلِ ، وَلَوْ كَانَ مِنَ الْعَالِمِ لَكَانَ صَرِيحًا ، فَسَوَّى بَيْنِ لَفْظِ الْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ ، فَجَعَلَهُمَا صَرِيحِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ كِنَايَتَيْنِ مِنَ الْجُهَّالِ . وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ ، لِأَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ وَكِنَايَتَهُ تَسْتَوِي فِي حَقِّ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ ، كَذَلِكَ الْكِتَابَةُ وَالتَّدْبِيرُ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا ، أَنَّ الْجَوَابَ مِنْهُمَا مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ، فَتَكُونُ لَفْظُ الْكِتَابَةِ كِنَايَةً مِنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ ، وَالتَّدْبِيرُ صَرِيحًا مِنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا كَثْرَةُ التَّدْبِيرِ وَقِلَّةُ الْكِتَابَةِ ، فَصَارَ التَّدْبِيرُ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْعِتْقِ صَرِيحًا ، وَالْكِتَابَةُ لِقِلَّةِ اسْتِعْمَالِهَا فِيهِ كِنَايَةً .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ( وَلَا تَجُوزُ عَلَى الْعَرْضِ حَتَّى يَكُونَ مَوْصُوفًا كَالسَّلَمِ ولا تجوز على العرض مكاتبة العبد ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْكِنَايَةُ عَلَى الْأَعْيَانِ الْحَاضِرَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهَا لَا تَصِحُّ ، لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ فَهِيَ لِسَيِّدِهِ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي يَدِهِ فَأَوْلَى أَنْ لَا تَصِحَّ فِي كِتَابَتِهِ ، وَإِنَّمَا تَصِحُّ الْكِتَابَةُ بِمَا يَسْتَقِرُّ فِي ذِمَّتِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو مَا يُكَاتِبُهُ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا . فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ جَازَ إِذَا كَانَ لَهَا نَقْدٌ غَالِبٌ أَنْ يُكَاتِبَهُ عَلَيْهَا بِالْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ صِفَةٍ لِيَحْمِلَا فِيهَا عَلَى الْعُرْفِ فِي اعْتِبَارِ الْأَغْلَبِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقَدْ غَالَبَ ، فَلَا تَصِحُّ إِلَّا بِوَصْفِهَا ، فَإِنْ أُطْلِقَتْ بَطَلَتْ ، كَالْأَثْمَانِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَثْمَانِ فَإِنْ كَانَ مَا يَصِحُّ ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ سَلَمًا ، صَحَّتِ الْمُكَاتَبَةُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَصِحُّ ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ سَلَمًا ، كَالَّذِي لَا تُضْبَطُ صِفَتُهُ مِنَ الْجَوَاهِرِ لَمْ تَصِحِّ الْمُكَاتَبَةُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يَصِفَ ذَلِكَ فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ كَمَا يَصِفُهُ فِي عَقْدِ السَّلَمِ ، فَإِنْ أَخَلَّ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ بَطَلَتِ الْكِتَابَةُ لِدُخُولِ الْجَهَالَةِ عَلَيْهِ . وَأَسْقَطَ أَبُو حَنِيفَةَ اعْتِبَارَ الصِّفَةِ ، وَخَالَفَ بَيْنَ الْكِتَابَةِ فِيهَا وَالسَّلَمِ ، وَجَوَّزَ الْمُكَاتَبَةَ عَلَى الْحَيَوَانِ حكمها ، وَلَمْ يُجَوِّزْ فِيهِ السَّلَمَ وَهِيَ عِنْدَنَا سَوَاءٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الصِّفَةِ وَنَفْيِ الْجَهَالَةِ ، لِأَنَّ الْغَرَرَ وَإِنْ دَخَلَ فِي الْكِتَابَةِ مِنْ وَجْهٍ فَالْعِوَضُ فِيهِ مُعْتَبَرٌ بِالسَّلَمِ وَالْأَثْمَانِ فِي نَفْيِ الْجَهَالَةِ عَنْهُ .

مَسْأَلَةٌ لَا بَأْسَ أَنْ يُكَاتِبَهُ عَلَى خِدْمَةِ شَهْرٍ وَدِينَارٍ بَعْدَ الشَّهْرِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا بَأْسَ أَنْ يُكَاتِبَهُ عَلَى خِدْمَةِ شَهْرٍ وَدِينَارٍ بَعْدَ الشَّهْرِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْكِتَابَةُ تَجُوزُ عَلَى الْمَنَافِعِ كَمَا تَجُوزُ عَلَى الْأَعْيَانِ لِجَوَازِ الْمُعَاوَضَةِ عَلَيْهَا ، وَلِذَلِكَ جَازَ الصَّدَاقُ بِهَا ، فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْكِتَابَةِ فَقَالَ : قَدْ كَاتَبْتُكَ عَلَى خِدْمَةِ شَهْرٍ وَدِينَارٍ بَعْدَ الشَّهْرِ ، وَوَصَفَ الْخِدْمَةَ بِمَا تُوصَفُ بِهِ الْإِجَارَةُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ انْقِضَاءِ شَهْرِ الْخِدْمَةِ ، وَبَيْنَ مَحَلِّ الدَّيْنَارِ الَّذِي بَعْدَهُ ، وَلَوْ بِيَوْمٍ ، فَيَجْعَلَهُ مُسْتَحِقًّا بَعْدَ انْقِضَاءِ يَوْمٍ مِنْ دُخُولِ الشَّهْرِ الثَّانِي ، فَتَصِحُّ هَذِهِ الْكِتَابَةُ ، لِأَنَّهَا عَلَى نَجْمَيْنِ وَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ ، وَتَغَايُرُ أَجْنَاسِ الْعِوَضِ فِي الْعَقْدِ لَا تَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهِ كَمَا لَا يَمْنَعُ مِنْهَا تَغَايُرُ أَجْنَاسِ الْمُعَوَّضِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا كَانَتْ هَذِهِ الْكِتَابَةُ فَاسِدَةً ، لِأَنَّهَا مَعْقُودَةٌ عَلَى نَجْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : حَالٌّ وَهُوَ الْخِدْمَةُ .

وَالثَّانِي : مُؤَجَّلٌ وَهُوَ الدَّيْنَارُ . قِيلَ : لَا يَلْزَمُ هَذَا ، وَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْخِدْمَةَ لَيْسَتْ حَالَّةً وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ حِينِ الْعَقْدِ ، لِأَنَّهَا مُنْتَظَرَةٌ تُقْبَضُ حَالًّا بَعْدَ حَالٍّ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْكِتَابَةَ عَلَى الْحَالِّ لَمْ تَصِحَّ ، لِتَعَذُّرِ الْأَدَاءِ عَلَى الْمَكَاتَبِ ، وَالْخِدْمَةُ لَيْسَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا وَإِنْ حَلَّتْ ، فَافْتَرَقَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَصِلَ بَيْنَهُمَا ، وَلَا يَفْصِلَ فَيَجْعَلَ مَحَلَّ الدَّيْنَارِ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ الثَّانِي ، فَيَصِيرَ مُتَّصِلًا بِانْقِضَاءِ الْخِدْمَةِ فِي آخِرِ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ ، فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : حَكَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْكِتَابَةَ بَاطِلَةٌ ، لِأَنَّ اتِّصَالَ أَحَدِ النَّجْمَيْنِ بِالْآخَرِ يَجْعَلُهُمَا نَجْمًا وَاحِدًا حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُمَا زَمَانٌ لَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ مُطَالَبَةً . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْكِتَابَةَ جَائِزَةٌ ، لِأَنَّ النَّجْمَيْنِ مَا تَغَايَرَ وَقْتُ اسْتِحْقَاقِهِمَا ، وَاسْتِحْقَاقَ الدَّيْنَارِ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ فِيهِ الْخِدْمَةَ فَصَارَا نَجْمَيْنِ ، فَلِذَلِكَ صَحَّتْ بِهِمَا الْكِتَابَةُ ، وَعَلَى تَعْلِيلِ الْوَجْهَيْنِ لَوْ جَعَلَ مَحَلَّ الدَّيْنَارِ فِي شَهْرِ الْخِدْمَةِ لَمْ تَصِحَّ الْكِتَابَةُ ، وَقَدْ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ نَصًّا . وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ رَكَّبَ الْبَابَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، وَجَوَّزَ فِيهِ الْكِتَابَةَ وَعَلَّلَ فِي جَوَازِهَا بِأَنَّ مَا مَضَى مِنْ شَهْرِ الْخِدْمَةِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِ الدَّيْنَارِ نَجْمٌ ، وَمَا بَقِيَ مِنْهَا بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ نَجْمٌ آخَرُ . وَهَذَا التَّعْلِيلُ فَاسِدٌ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى خِدْمَةِ شَهْرَيْنِ لَمْ تَصِحَّ لِأَنَّهَا كِتَابَةٌ عَلَى نَجْمٍ وَاحِدٍ ، وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ أُجِيزُهَا وَأَجْعَلُ كُلَّ شَهْرٍ مِنْهَا نَجْمًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى أَنْ يَخْدِمَهُ بَعْدَ الشَّهْرِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْدُثُ مَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْعَمَلِ بَعْدَ الشَّهْرِ ، وَلَيْسَ بِمَضْمُونٍ يُكَلَّفُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا كَاتَبَ عَلَى دِينَارٍ بَعْدَ شَهْرٍ وَعَلَى خِدْمَةِ شَهْرٍ بَعْدَ الشَّهْرِ فَهَذِهِ كِتَابَةٌ بَاطِلَةٌ ، وَلَيْسَ بُطْلَانُهَا مِنْ جِهَةِ اتِّصَالِ النَّجْمَيْنِ وَلَكِنْ لِأَنَّ خِدْمَةَ الشَّهْرِ هِيَ مُعَيَّنَةٌ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ نَفْسِهِ ، وَالْعُقُودُ عَلَى الْأَعْيَانِ بِتَأْخِيرِ الْقَبْضِ لَا تَصِحُّ . أَلَا تَرَى لَوِ اشْتَرَى مِنْهُ دَارًا عَلَى أَنْ يَتَسَلَّمَهَا بَعْدَ شَهْرٍ ، أَوِ اكْتَرَاهَا بَعْدَ شَهْرٍ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ لَمْ يَجُزْ ، لِأَنَّهُ عَقَدَ عَلَى عَيْنٍ بَعْدَ أَجْلٍ ، فَلِذَلِكَ بَطَلَ ، كَذَلِكَ الْكِتَابَةُ ، وَلَكِنْ لَوْ كَاتَبَ عَلَى دِينَارٍ بَعْدَ شَهْرٍ وَعَلَى خِدْمَةِ شَهْرٍ مَضْمُونَةٍ فِي ذِمَّتِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ ذَلِكَ

الشَّهْرِ ، صَارَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ تَأْجِيلِ الْخِدْمَةِ وَتَأْجِيلِ الدَّيْنَارِ فَإِنْ فَصَلَ بَيْنَهُمَا صَحَّ ، وَإِنْ وَصَلَ فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ ، لِأَنَّ الْخِدْمَةَ صَارَتْ هَاهُنَا مَضْمُونَةً فِي الذِّمَّةِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى أَنْ بَاعَهُ شَيْئًا حكمه لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَلْزَمُ بِكُلِّ حَالٍ ، وَالْكِتَابَةَ لَا تَلْزَمُ ، مَتَى شَاءَ تَرَكَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ عَقْدَ الْمُعَاوَضَةِ إِذَا جَمَعَ شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ فِي أَحَدِ النَّوْعَيْنِ مُسَاوِيًا لِحُكْمِهِ فِي النَّوْعِ الْآخَرِ . مِثَالُهُ : أَنْ يَشْتَرِيَ دَارًا وَعَبْدًا بِأَلْفٍ فَيَكُونَ هَذَا جَائِزًا لِأَنَّ أَحْكَامَ الْبَيْعِ فِي الْعَبْدِ كَأَحْكَامِهِ فِي الدَّارِ فِي اللُّزُومِ ، وَثُبُوتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِالْعَقْدِ وَخِيَارِ الثَّلَاثَةِ بِالشَّرْطِ ، وَيَكُونَ الثَّمَنُ مُقَسَّطًا عَلَى الْمُثَمَّنَيْنِ ، فَإِنْ سَمَّى فِي الْعَقْدِ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَلْفِ صَحَّ وَكَانَا لِتَفْصِيلِ الثَّمَنِ عَقْدَيْنِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْعَقْدِ فِي أَحَدِ النَّوْعَيْنِ مُخَالِفًا لِحُكْمِهِ فِي النَّوْعِ الْآخَرِ . مِثَالُهُ : أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ عَبْدًا وَيَسْتَأْجِرَ مِنْهُ دَارًا بِأَلْفٍ فَإِنْ فَصَلَ ثَمَنَ الْعَبْدِ مِنْ أُجْرَةِ الدَّارِ صَحَّ ، وَكَانَا عَقْدَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَفْصِلْ وَأَطْلَقَ الْأَلْفَ فِي الْأُجْرَةِ وَالثَّمَنِ ، فَحُكْمُ الْعَقْدِ فِي الْإِجَارَةِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِهِ فِي الْبَيْعِ لِعَدَمِ الْخِيَارِ فِي الْإِجَارَةِ وَثُبُوتِهِ فِي الْبَيْعِ ، فَيَكُونُ فِي الْعَقْدِ عَلَيْهِمَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : صَحِيحٌ مِنْهُمَا وَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُهُ ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْنَعِ اخْتِلَافُ الْأَجْنَاسِ مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ اخْتِلَافُ الْأَحْكَامِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ فِيهِمَا جَمِيعًا ، لِأَنَّ الْعَقْدَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ إِلَّا حُكْمٌ وَاحِدٌ مَتَى خَالَفَ بَعْضُهُ حُكْمَ بَعْضٍ تَنَاقَضَ ، فَبَطَلَ كَمَا لَوِ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ بِأَلْفٍ وَاشْتَرَطَ خِيَارَ الثَّلَاثِ فِي أَحَدِهِمَا بَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِمَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ فَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ كَاتَبَ عَبْدَهُ وَبَاعَهُ دَارًا بِأَلْفٍ ، فَإِنْ فَصَلَ مَالَ الْكِتَابَةِ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ ، صَحَّتِ الْكِتَابَةُ لِتَمَيُّزِهَا ، فَأَمَّا بَيْعُ الدَّارِ فَيَنْظُرُ فِيهِ فَإِنْ قَدَّمَهُ فِي الْعَقْدِ عَلَى لَفْظِ الْكِتَابَةِ بَطَلَ الْبَيْعُ ، وَإِنْ صَحَّتِ الْكِتَابَةُ لِتَقَدُّمِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا وَهُوَ عَبْدٌ وَمَا يَبِيعُهُ السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ بَاطِلٌ . وَإِنْ قَدَّمَ فِي الْعَقْدِ لَفْظَ الْكِتَابَةِ عَلَى لَفْظِ الْبَيْعِ نَظَرَ ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ قَدْ بَدَأَ فَطَلَبَ

الْكِتَابَةَ قَبْلَ إِجَابَةِ السَّيِّدِ صَحَّ الْبَيْعُ إِذَا قَبِلَهُ الْعَبْدُ ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ قَدْ تَجِبُ بِطَلَبِ الْعَبْدِ وَإِجَابَةِ السَّيِّدِ وَصَارَ السَّيِّدُ مُسْتَأْنِفًا بَعْدَهَا لِمُبَايَعَةِ مُكَاتَبِهِ بِالْبَذْلِ ، وَبَيْعُ السَّيِّدِ عَلَى مُكَاتَبِهِ جَائِزٌ كَجَوَازِهِ مَعَ غَيْرِهِ ، وَوَقَفَ تَمَامُ الْبَيْعِ بَعْدَ بَذْلِ السَّيِّدِ عَلَى قَبُولِ الْمُكَاتَبِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْعَبْدُ قَدِ ابْتَدَأَ بِطَلَبِ الْكِتَابَةِ ، وَابْتَدَأَ السَّيِّدُ بِبَذْلِهَا فَعَقْدُ الْكِتَابَةِ لَمْ يَتِمَّ لِوُقُوفِهِ عَلَى قَبُولِ الْمُكَاتَبِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ مُبَايِعًا لِعَبْدِهِ لَا لِمُكَاتَبِهِ ، فَبَطَلَ الْبَيْعُ وَصَحَّتِ الْكِتَابَةُ . فَهَذَا حُكْمُ الْعَقْدِ فِي الْكِتَابَةِ وَالْبَيْعِ إِنْ فَصَلَ الْكِتَابَةَ مِنْ ثَمَنِ الدَّارِ . ، فَأَمَّا إِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْعَقْدِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ . فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ مَا جَمَعَهُ الْعَقْدُ مِنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي الْحُكْمِ بَاطِلٌ ، بَطَلَ الْعَقْدُ هَاهُنَا فِي الْكِتَابَةِ ، وَالْبَيْعِ . وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ جَائِزٌ فِيهِمَا جَمِيعًا أَثْبَتْنَا حُكْمَ الْعَقْدِ فِيهِمَا هَاهُنَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ تَفْصِيلِ الْمُعَوَّضِ فِيهِمَا ، وَهُوَ أَنْ يَنْظُرَ فِي عَقْدِهِ فَإِنْ قَدَّمَ فِيهِ ذِكْرَ الْكِتَابَةِ عَلَى ذِكْرِ الْبَيْعِ ، صَحَّ الْعَقْدُ فِيهِمَا بِصِحَّةِ الْكِتَابَةِ بِتَقَدُّمِهَا فَصَحَّ الْبَيْعُ بَعْدَهَا وَتُقَسَّطُ الْأَلْفُ عَلَى قِيمَةِ الدَّارِ وَكِتَابَةِ الْمِثْلِ ، فَمَا قَابَلَ قِيمَةَ الدَّارِ مِنْهَا كَانَ ثَمَنًا ، وَمَا قَابَلَ كِتَابَةَ الْمِثْلِ كَانَ مَالًا فِي الْكِتَابَةِ ، فَيَجْرِي عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُهُ لَوِ انْفَرَدَ ، وَإِنْ قَدَّمَ فِي الْعَقْدِ ذِكْرَ الْبَيْعِ عَلَى ذِكْرِ الْكِتَابَةِ بَطَلَ الْبَيْعُ ، لِأَنَّهُ صَارَ فِيهِ مُبَايِعًا لِعَبْدِهِ ، وَفِي بُطْلَانِ الْكِتَابَةِ قَوْلَانِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ : أَحَدُهُمَا : تَبْطُلُ الْكِتَابَةُ لِبُطْلَانِ الْبَيْعِ ، إِذَا مُنِعَ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : تَصِحُّ الْكِتَابَةُ وَإِنْ بَطَلَ الْبَيْعُ إِذَا - أُجِيزَ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ . فَعَلَى هَذَا فِيمَا يُقِيمُ بِهِ الْعَبْدُ عَلَى الْكِتَابَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُقِيمُ عَلَيْهَا بِجَمِيعِ الْأَلْفِ وَإِلَّا فَسَخَ . وَالثَّانِي : يُقِيمُ عَلَيْهَا بِقِسْطِهَا مِنْ كِتَابَةِ الْمِثْلِ وَقِيمَةِ الدَّارِ إِذَا قُوبِلَتَا بِالْأَلْفِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ : قَدْ كَاتَبْتُكَ بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ أَبِيعَكَ دَارِي بِأَلْفٍ . فَهَذَا بَاطِلٌ فِي الْكِتَابَةِ وَالْبَيْعِ ، لِأَنَّهُمَا عَقْدَانِ فِي عَقْدٍ حكمه . وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ ، وَلِأَنَّهُ مَا أَطْلَقَ كِتَابَتَهُ حَتَّى شَرَطَ عَلَيْهِ ابْتِيَاعَ مَا لَا يَلْزَمُهُ فَصَارَ مُنَافِيًا لَهُ فَأَبْطَلَهُ . وَلَكِنْ لَوْ قَالَ : قَدْ كَاتَبْتُكَ بِأَلْفٍ وَأَبِيعُكَ دَارِي بِأَلْفٍ صَحَّتِ الْكِتَابَةُ ، وَكَانَ مَا

بَذَلَهُ مِنَ الْبَيْعِ وَعْدًا يَقِفُ عَلَى خِيَارِ الْمُكَاتَبِ إِنِ اسْتُؤْنِفَ عَقْدُهُ لَمْ يُجْعَلْ شَرْطًا فِي الْكِتَابَةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ يُؤَدِّيهَا إِلَيْهِ فِي عَشَرٍ سِنِينَ كَانَ النَّجْمُ مَجْهُولًا لَا يُدْرَى أَفِي أَوَّلِهَا أَوْ آخِرِهَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَكَذَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ عَشْرَةً مَجْهُولٌ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَفِي أَوَّلِ كُلِّ سَنَةٍ أَوْ آخِرِهَا حَتَّى يَقُولَ فِي انْقِضَاءِ كُلِّ سَنَةٍ عَشْرَةً فَتَكُونَ النُّجُومُ مَعْلُومَةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَمَا قَالَاهُ صَحِيحٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّ صِحَّةَ الْكِتَابَةِ مُعْتَبَرَةٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ مَعْقُودَةً عَلَى نَجْمَيْنِ فَصَاعِدًا ، فَإِنْ عُقِدَتْ عَلَى نَجْمٍ فَسَدَتْ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَالُ كُلِّ نَجْمٍ مَعْلُومًا فَإِنْ جُهِلَ فَسَدَتْ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ وَقْتُ الْمَحَلِّ فِي كُلِّ نَجْمٍ مَعْرُوفًا . فَإِنْ جُهِلَ فَسَدَتْ . فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَقَالَ : قَدْ كَاتَبْتُكَ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ يُؤَدِّيهَا فِي عَشْرِ سِنِينَ كَانَتِ الْكِتَابَةُ فَاسِدَةً لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ ، لِأَنَّهَا تَصِيرُ كَالْكِتَابَةِ عَلَى نَجْمٍ وَاحِدٍ ، وَلِأَنَّ مَالَ كُلِّ نَجْمٍ مَجْهُولٌ ، لِأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ مَحَلُّهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَجْهُولٌ . وَلَوْ قَالَ : عَلَى أَنْ تُؤَدِّيَهَا فِي عَشْرَةِ أَنْجُمٍ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ فَسَدَتْ لِمَعْنَيَيْنِ : لِأَنَّ مَالَ كُلِّ نَجْمٍ مَجْهُولٌ ، وَلِأَنَّ مَحَلَّهُ مِنَ السَّنَةِ مَجْهُولٌ . وَلَوْ قَالَ : عَلَى أَنْ تُؤَدِّيَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْهَا عُشْرَهَا فَسَدَتْ لِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ الْجَهْلُ بِوَقْتِ الْمَحَلِّ مِنَ السَّنَةِ . وَلَوْ قَالَ : عَلَى أَنْ تُؤَدِّيَ عُشْرَهَا ، أَوْ قَدْرًا مِنْ عَدَدِ الدَّنَانِيرِ تَتَسَاوَى فِي كُلِّ سَنَةٍ أَوْ تَتَفَاضَلُ تُؤَدِّيهِ عِنْدَ انْقِضَاءِ كُلِّ سَنَةٍ أَوْ فِي آخِرِ كُلِّ سَنَةٍ ، أَوْ فِي مُسْتَهَلِّ شَهْرِ كَذَا فِي كُلِّ سَنَةٍ صَحَّتْ حِينَئِذٍ الْكِتَابَةُ بِاسْتِيفَاءِ هَذِهِ الشُّرُوطِ الْمَانِعَةِ مِنْ دُخُولِ الْجَهَالَةِ فِي الْقَدْرِ وَالْمَحَلِّ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَاتَبَ ثَلَاثَةً كِتَابَةً وَاحِدَةً عَلَى مِائَةٍ مُنَجِّمَةٍ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا أَدَّوْا عَتَقُوا كَانَتْ جَائِزَةً وَالْمِائَةُ مَقْسُومَةً عَلَى قِيمَتِهِمْ يَوْمَ كُوتِبُوا فَأَيُّهُمْ أَدَّى حِصَّتَهُ عَتَقَ وَأَيُّهُمْ عَجَزَ رَقَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ كَاتَبَ ثَلَاثَةَ أَعْبُدٍ لَهُ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ مُنَجَّمَةٍ فَلَا يَخْلُو حَالُ كِتَابَتِهِمْ بِهَا مِنْ أَنْ يُبَيِّنَ كِتَابَةَ كُلِّ عَبْدٍ مِنَ الْمِائَةِ ، أَوْ لَا يُبَيِّنَ :

فَإِنْ بَيَّنَهَا وَجَعَلَ كِتَابَةَ أَحَدِهِمْ خَمْسِينَ دِينَارًا ، وَكِتَابَةَ الثَّانِي ثَلَاثِينَ دِينَارًا ، وَكِتَابَةَ الثَّالِثِ عِشْرِينَ دِينَارًا ، فَكِتَابَةُ جَمِيعِهِمْ جَائِزَةٌ بِاتِّفَاقٍ ، وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَأْخُوذًا بِقَدْرِ كِتَابَتِهِ يَعْتِقُ بِأَدَائِهَا وَيَرِقُّ بِعَجْزِهِ عَنْهَا ، وَلَا يُعْتَبَرُ حُكْمُ أَحَدِهِمْ بِغَيْرِهِ ، وَإِنْ أَطْلَقَ حُكْمَ الْمِائَةِ بَيْنَهُمْ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ كِتَابَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ . فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " وَ " الْإِمْلَاءِ " وَنَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ مِنْهُمَا إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ الْمَعْمُولُ عَلَيْهِ أَنَّ كِتَابَتَهُمْ صَحِيحَةٌ ، وَتُقَسَّطُ الْمِائَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمْ . وَقَالَ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَعَهُ فِي رَجُلٍ بَاعَ ثَلَاثَةَ عَبِيدٍ لَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَبْدٌ يُعِينُهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ ، وَلَمْ يُمَيِّزْ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَبِيدِ أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ فِي الْجَمِيعِ ، لِأَنَّ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَبِيدِ عَلَى مُشْتَرِيهِ مَجْهُولٌ ، وَجَهَالَةُ الثَّمَنِ مُبْطِلَةٌ لِلْعَقْدِ ، وَلَهُ فِيمَنْ تَزَوَّجَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بُطْلَانُ الصَّدَاقِ ، وَصِحَّةُ النِّكَاحِ ، لِأَنَّ فَسَادَ الصَّدَاقِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ النِّكَاحِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الصَّدَاقَ جَائِزٌ وَتُقَسَّطُ الْأَلْفُ بَيْنَهُنَّ عَلَى قَدْرِ مُهُورِ أَمْثَالِهِنَّ ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُنَا فِي الصَّدَاقِ أَنَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابَةِ وَالْبَيْعِ عَلَى طَرِيقَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الْكِتَابَةِ وَالْبَيْعِ ، وَنَقَلَ جَوَابَ كُلِّ عِقْدٍ مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ ، وَخَرَّجَهَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بُطْلَانُ الْكِتَابَةِ وَالْبَيْعِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْبَيْعِ . وَالثَّانِي : جَوَازُ الْكِتَابَةِ وَالْبَيْعِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابَةِ ، لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى جَمْعٍ بَيْنَ بَيْعِ ثَلَاثَةِ أَعْبُدٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ فِي عَقْدٍ ، وَبَيْنَ بَيْعِهِمْ فِي الْكِتَابَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي عَقْدٍ . وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ : وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَلَا يَتَخَرَّجُ فِيهِ قَوْلُ الْكِتَابَةِ ، لِأَنَّ حُكْمَهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ، وَفِي الْكِتَابَةِ قَوْلَانِ لِتَخْرِيجِ قَوْلِ الْبَيْعِ فِيهِ . وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ : أَنَّ الْكِتَابَةَ بَاطِلَةٌ فِي الثَّلَاثَةِ كَبُطْلَانِ الْبَيْعِ فِي الثَّلَاثَةِ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُكَاتَبِينَ الثَّلَاثَةِ قَدْ جَهِلَ فِي الْعَقْدِ مَالَ الْكِتَابَةِ ، وَالْجَهْلُ بِمَالِ الْكِتَابَةِ مُوجِبٌ لِفَسَادِهَا ، كَمَا لَوِ ابْتَدَأَ كِتَابَتَهُ عَلَى مَالٍ مَجْهُولٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْكِتَابَةَ جَائِزَةٌ فِي الْعَبِيدِ الثَّلَاثَةِ ، وَإِنْ بَطَلَ الْبَيْعُ فِي الْعَبِيدِ الثَّلَاثَةِ .

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْكِتَابَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَقْصُودُ بِالْكِتَابَةِ الْقُرْبَةَ وَالْبَرَّ فَخَفَّ حُكْمُهَا . وَالْمَقْصُودُ بِالْبَيْعِ الرِّبْحُ وَالْمُغَابَنَةُ فَتَغَلَّظَ حُكْمُهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ يَنْفُذُ الْعِتْقُ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ كَتَفَرُّدِهِ فِي الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ وَلَا يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ كَانْتِقَالِهِ بِالْبَيْعِ الصَّحِيحِ فَافْتَرَقَا لِخِفَّةِ حُكْمِ الْكِتَابَةِ ، وَتَغْلِيظِ حُكْمِ الْبَيْعِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ كِتَابَتَهُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ فَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّةِ الْكِتَابَةِ فِيهِمْ كَانَتِ الْمِائَةُ دَنَانِيرَ مُقَسَّطَةً بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمْ يَوْمَ كُوتِبُوا ؛ لِأَنَّهُمْ بِالْكِتَابَةِ خَرَجُوا عَنْ تَصَرُّفِ السَّيِّدِ وَتَصَرَّفُوا لِأَنْفُسِهِمْ ، فَلِذَلِكَ اعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُمْ وَقْتَ الْكِتَابَةِ . فَإِذَا قِيلَ : إِنَّ قِيمَةَ أَحَدِهِمْ مِائَةُ دِرْهَمٍ ، وَقِيمَةَ الْآخَرِ مِائَتَا دِرْهَمٍ ، وَقِيمَةَ الثَّالِثِ ثَلَاثُمِائَةِ دِرْهَمٍ كَانَتِ الْمِائَةُ دِينَارٍ مُقَسَّطَةً عَلَى سِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ فَيَكُونُ عَلَى الَّذِي قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ سُدُسُهَا وَعَلَى الَّذِي قِيمَتُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ ثُلُثُهَا وَعَلَى الَّذِي قِيمَتُهُ ثَلَاثُمِائَةِ دِرْهَمٍ نِصْفُهَا ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَأْخُوذًا بِالْقَدْرِ الَّذِي تُقَسَّطُ عَلَيْهِ مِنْهَا ، وَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُ مَا عَلَى صَاحِبِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ ضَمَانُ مَا عَلَى الْآخَرِينَ ، لِأَنَّ كِتَابَتَهُمْ وَاحِدَةٌ فَاشْتَرَكُوا فِي الْتِزَامِهَا وَضَمَانِ مَالِهَا ، وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَأْخُوذًا بِجَمِيعِهَا . وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ عَلَى الْكِتَابَةِ كَالِاجْتِمَاعِ عَلَى الِابْتِيَاعِ ، فَلَمَّا لَمْ يَلْزَمِ الضَّمَانُ فِي الِاجْتِمَاعِ عَلَى الِابْتِيَاعِ لَمْ يَلْزَمِ الضَّمَانُ فِي الِاجْتِمَاعِ عَلَى الْكِتَابَةِ ، وَإِذَا اخْتُصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْتِزَامِ مَالِ كِتَابَتِهِ دُونَ صَاحِبِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الثَّلَاثَةِ فِي الْأَدَاءِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُؤَدُّوا جَمِيعًا مَالَ كِتَابَتِهِمْ ، فَقَدْ عَتَقُوا بِالْأَدَاءِ اتِّفَاقًا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَعْجِزُوا جَمِيعًا عَنِ الْأَدَاءِ فَيَرِقُّوا جَمِيعًا إِذَا أَعْجَزَهُمُ السَّيِّدُ وَهَذَا اتِّفَاقٌ أَيْضًا . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُؤَدِّيَ بَعْضُهُمْ وَيَعْجِزَ بَعْضُهُمْ ، فَيَعْتِقُ مَنْ أَدَّى وَيَرِقُّ مَنْ عَجَزَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : لَا يَعْتِقُ مَنْ أَدَّى إِذَا عَجَزَ بَعْضُهُمْ حَتَّى يُؤَدُّوا جَمِيعَ مَالِ الْكِتَابَةِ ، وَلِمَنْ أَدَّى أَنْ يُجْبِرَ مَنْ عَجَزَ عَلَى الْكَسْبِ وَالْأَدَاءِ ، فَإِنْ أَدَّى الْمُؤَدِّي عَنِ الْعَاجِزِ عَتَقُوا جَمِيعًا حِينَئِذٍ ، وَرَجَعَ الْمُؤَدِّي عَلَى الْعَاجِزِ بِمَا أَدَّى عَنْهُ . قَالُوا : وَإِنَّمَا لَمْ يَعْتِقْ أَحَدُهُمْ بِالْأَدَاءِ حَتَّى يُؤَدُّوا جَمِيعًا جَمِيعَ الْكِتَابَةِ ، اعْتِبَارًا

بِحُكْمِ الصِّفَةِ فِي قَوْلِهِ : " فَإِذَا أَدَّيْتُمْ إِلَيَّ آخِرَهَا فَأَنْتُمْ أَحْرَارٌ . فَوَجَبَ أَنْ لَا يَعْتِقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إِلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الْمَالِ لمن قال لعبيده إن أديتم ألفا فأنتم أحرار كَمَا لَوْ قَالَ لَهُمْ : إِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَنْتُمْ أَحْرَارٌ . لَمْ يَعْتِقُوا حَتَّى يَدْفَعُوا جَمِيعَ الْأَلْفِ ، وَلَوْ دَفَعُوهَا إِلَّا دِرْهَمًا لَمْ يَعْتِقُوا . وَكَمَا لَوْ قَالَ لَهُمْ : إِذَا دَخَلْتُمُ الدَّارَ فَأَنْتُمْ أَحْرَارٌ . لَمْ يَعْتِقْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِدُخُولِهِ ، حَتَّى يَدْخُلُوهَا جَمِيعًا ، فَيَعْتِقُوا حِينَئِذٍ . كَذَلِكَ فِي الْكِتَابَةِ . وَهَذَا الَّذِي قَالَاهُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ فِي الْكِتَابَةِ مُعَاوَضَةٌ وَصِفَةٌ فَإِذَا صَحَّتِ الْكِتَابَةُ غَلَبَ فِيهَا حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ ، وَإِذَا فَسَدَتْ غَلَبَ فِيهَا حُكْمُ الصِّفَةِ . أَلَا تَرَى أَنَّ السَّيِّدَ لَوْ أَبْرَأَ مُكَاتَبَهُ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ عَتَقَ ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ صِفَةُ الْأَدَاءِ ، وَلَوْ مَاتَ السَّيِّدُ فَأَدَّاهَا الْمُكَاتَبُ إِلَى وَلَدِهِ عَتَقَ ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدِ الصِّفَةُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ فَبَطَلَ مَا قَالَاهُ ، وَخَالَفَ مُجَرَّدَ الْعِتْقِ بِالصِّفَاتِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ .

فَصْلٌ : وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ كِتَابَةَ الثَّلَاثَةِ بَاطِلَةٌ فَسَدَ حُكْمُ الْعِوَضِ فِيهَا ، وَبَقِيَ حُكْمُ الصِّفَةِ ، وَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَرْفَعَهَا ، وَيُسْقِطَ حُكْمَهَا ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَأَشْهَدَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ ، ارْتَفَعَ حُكْمُ الْكِتَابَةِ ، وَلَمْ يَعْتِقُوا بِالْأَدَاءِ ، فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيْسَ لَوْ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِصِفَةٍ فَقَالَ : إِنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبْطَالُ هَذَا الْحُكْمِ وَإِسْقَاطُهُ ، وَمَتَى دَخَلَ الْعَبْدُ الدَّارَ عَتَقَ ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ رُجُوعُ السَّيِّدِ وَإِبْطَالُهُ لِلصِّفَةِ ، فَهَلَّا كَانَ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي قَدْ يَغْلِبُ فِيهَا حُكْمُ الْعِتْقِ بِالصِّفَةِ مَمْنُوعًا مِنْ إِبْطَالِهَا ، وَالرُّجُوعِ فِيهَا . قِيلَ : الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ أَلْزَمَ نَفْسَهُ فِي الْعِتْقِ بِالصِّفَاتِ وُقُوعَ الْعِتْقِ بِمُجَرَّدِ الصِّفَةِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِبْطَالُ مَا الْتَزَمَ ، وَهُوَ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ إِنَّمَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْعِتْقَ بِالصِّفَةِ عَلَى شَرْطِ الْعِوَضِ الَّذِي كَاتَبَ عَلَيْهِ ، فَإِذَا بَطَلَ مَا شَرَطَ مِنَ الْعِوَضِ أَسْقَطَ مَا تَعَلَّقُ بِالصِّفَةِ مِنَ الِالْتِزَامِ فَافْتَرَقَا . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِي هَذِهِ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا فَيُبْطِلَهَا ، أَوْ يُقِرَّهَا عَلَى حَالِهَا . فَإِنْ رَجَعَ فِيهَا وَأَبْطَلَهَا سَقَطَ حُكْمُ الصِّفَةِ ، فَإِنْ أَدَّى هَؤُلَاءِ الْعَبِيدُ مَالَ كِتَابَتِهِمْ لَمْ يَعْتِقُوا وَكَانُوا عَلَى رِقِّهِمْ ، وَمَا اسْتَأْدَاهُ السَّيِّدُ مِنْهُمْ لَا يَلْزَمُهُ رَدُّهُ عَلَيْهِمْ ، لِأَنَّهُمْ عَبِيدُهُ وَهُوَ مَالِكٌ لِأَكْسَابِهِمْ . وَإِنْ لَمْ يَرْجِعِ السَّيِّدُ فِي كِتَابَتِهِمْ ، وَلَا أَبْطَلَ مَا عَلَيْهِمْ ، فَإِنْ أَدَّوْا جَمِيعًا مَا عَلَيْهِمْ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ العبيد ، عَتَقُوا بِوُجُودِ الصِّفَةِ وَكَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ قِيمَتُهُمْ يَوْمَ أَدَّوْا فَعَتَقُوا لَا يَوْمَ كُوتِبُوا بِخِلَافِ تَقْوِيمِهِمْ ، لَوْ صَحَّتْ كِتَابَتُهُمْ ، لِأَنَّ يَدَ السَّيِّدِ ارْتَفَعَتْ عَنْهُمْ فِي الْكِتَابَةِ

الْفَاسِدَةِ وَقْتَ الْأَدَاءِ ، وَفِي الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ وَقْتَ الْعَقْدِ ، فَلِذَلِكَ كَانَ التَّقْوِيمُ فِيهَا إِذَا فَسَدَتْ وَقْتَ الْأَدَاءِ ، وَإِذَا صَحَّتْ وَقْتَ الْعَقْدِ ، وَإِذَا وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْرَ قِيمَتِهِ نَظَرَ ، فَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَالِ الْكِتَابَةِ الَّذِي أَدَّاهُ دَفَعَ الْقِيمَةَ إِلَى سَيِّدِهِ ، وَاسْتَرْجَعَ مِنْهُ مَا أَدَّاهُ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِهِ تَقَاصَّا . فَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ رَجَعَ السَّيِّدُ بِالْبَاقِي مِنْهَا ، وَإِنْ كَانَ الْأَدَاءُ أَكْثَرَ رَجَعَ الْمُكَاتَبُ بِالْفَاضِلِ عَنْهَا . فَأَمَّا إِذَا أَدَّى بَعْضُهُمْ مَالَ كِتَابَتِهِ الْفَاسِدَةِ العبيد فَفِي نُفُوذِ عِتْقِهِ بِأَدَائِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْعِتْقِ بِالصِّفَةِ كَمَا لَوْ قَالَ : إِذَا أَدَّيْتُمْ إِلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتُمْ أَحْرَارٌ ، فَأَدَّى بَعْضُهُمْ حِصَّتَهُ مِنْهَا لَمْ يَعْتِقْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَعْتِقُ بِأَدَاءِ حِصَّتِهِ وَحْدَهُ ، لِأَنَّهُ وَإِنْ تَغَلَّبَ فِي فَسَادِ الْكِتَابَةِ حُكْمُ الْعِتْقِ بِالصِّفَةِ ، فَقَدْ بَقِيَ مِنْ أَحْكَامِ الْمُعَاوَضَةِ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ حُكْمِ الصِّفَةِ الْمُجَرَّدَةِ ، فَإِذَا عَتَقَ وَحْدَهُ كَانَ التَّرَاجُعُ بِالْقَيِّمَةِ عَلَى مَا وَصَفْنَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ أَيُّهُمْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ مَاتَ رَقِيقًا كَانَ لَهُ وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَيُّهُمْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ مَاتَ رَقِيقًا كَانَ لَهُ وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ أي العبيد ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا أَرَادَ بِهِ الرَّدَّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ . فَإِنَّهُ يَقُولُ : إِذَا مَاتَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَتَرَكَ وَلَدًا وَوَفَاءً قَامَ وَلَدُهُ مَقَامَهُ فِي الْأَدَاءِ ، وَبَانَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ مَاتَ حُرًّا بِأَدَاءِ وَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ . وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ مِنْ بَعْدُ ، وَإِنْ كَانَ فَسَادُ قَوْلِهِ ظَاهِرًا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى حُكْمِهِ مِنْ حُرِّيَّةٍ ، أَوْ رِقٍّ ، أَوْ إِسْلَامٍ ، أَوْ كُفْرٍ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْ حَالِهِ الَّتِي مَاتَ عَلَيْهَا . وَمَوْتُ هَذَا الْمُكَاتَبِ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عَنْ حُرِّيَّةٍ أَوْ رِقٍّ . فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ أَدَاءِ وَلَدِهِ مَرْقُوقًا ، فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ مَكَانَ وَلَدِهِ أَخًا لَمْ يَعْتِقْ بِأَدَائِهِ عَنْهُ فَكَذَلِكَ إِذَا تَرَكَ وَلَدًا كَانَ بِمَثَابَتِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَدَّوْا فَقَالَ مَنْ قَلَّتْ قِيمَتُهُ : أَدَّيْنَا عَلَى الْعَدَدِ ، وَقَالَ الْآخَرُونَ : عَلَى الْقِيَمِ ، فَهُوَ عَلَى الْعَدَدِ أَثْلَاثًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا أَدَّوْا جَمِيعًا مَالَ كِتَابَتِهِمْ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَسَاوِيهِمْ فِيهِ ، أَوْ تَفَاضُلِهِمْ لَمْ يَخْلُ حَالُ اخْتِلَافِهِمْ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ عِتْقِهِمْ ، أَوْ بَعْدَ عِتْقِهِمْ . فَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ قَبْلَ الْعِتْقِ فَصُورَتُهُ : أَنْ يُكَاتَبُوا جَمِيعًا عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ ، وَهُمْ ثَلَاثَةٌ عَلَى أَنَّ

كِتَابَةَ أَحَدِهِمْ عَلَى عِشْرِينَ دِينَارًا ، وَكِتَابَةَ الْآخَرِ عَلَى ثَلَاثِينَ دِينَارًا ، وَكِتَابَةَ الثَّالِثِ عَلَى خَمْسِينَ دِينَارًا ، فَيُؤَدُّوا مَعًا خَمْسِينَ دِينَارًا . ثُمَّ يَخْتَلِفُونَ فَيَقُولُ مَنْ قَلَّتْ قِيمَتُهُ : أَدَّيْنَاهَا بِالسَّوِيَّةِ أَثْلَاثًا ، فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا ثُلُثُهَا مَحْسُوبًا مَالَ كِتَابَتِهِ ، وَيَقُولُ مَنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهُ : أَدَّيْنَاهَا عَلَى الْقِيَمِ فَلِي نِصْفُهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِينَارًا ، وَلَكَ يَا مَنْ قَلَّتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ ، وَلَكَ يَا مَنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ دِينَارًا ، فَيَكُونُ التَّنَازُعُ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ مُخْتَصًّا وَلَا يَكُونُ السَّيِّدُ فِيهِ خَصْمًا لَهُمْ ، لِأَنَّ تَنَازُعَهُمْ لَا يَقْتَضِي اسْتِرْجَاعَ شَيْءٍ مِنَ السَّيِّدِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ لَهُمْ حَقَّهُمْ ، فَإِنْ تَصَادَقُوا بَعْدَ الِاخْتِلَافِ عَمِلَ عَلَى تُصَادِقِهِمْ ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ تَصْدِيقُ السَّيِّدِ لَهُمْ ، وَإِنْ أَقَامُوا عَلَى التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ فَالَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ ، أَنَّ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلُ مَنْ قَلَّتْ قِيمَتُهُ فِي ادِّعَاءِ التَّسَاوِي ، وَيَكُونُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِتَسَاوِي أَيْدِيهِمْ ، كَثَلَاثَةٍ فِي أَيْدِيهِمْ دَارٌ ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّهَا بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ أَثْلَاثًا ، وَادَّعَى الْآخَرُونَ أَنَّهَا بَيْنَهُمْ عَلَى تُفَاضُلٍ ، فَالْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُ مَنِ ادَّعَى التَّسَاوِيَ دُونَ التَّفَاضُلِ لِتَسَاوِي أَيْدِيهِمْ عَلَيْهَا فَاسْتَوَتْ حُقُوقُهُمْ فِيهَا .

فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمْ بَعْدَ الْعِتْقِ ، وَصُورَتُهُ أَنْ يُؤَدُّوا جَمِيعَ الْمِائَةِ فَيَعْتِقُوا بِهَا فِي الظَّاهِرِ ، ثُمَّ يَدَّعِي مَنْ قَلَّتْ قِيمَتُهُ التَّسَاوِي لِيَرْجِعَ بِالْبَاقِي ، وَيَدَّعِي مَنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهُ التَّفَاضُلَ عَلَى قَدْرِ الْقِيَمِ ، لِيَتَحَرَّرَ عِتْقُهُ بِأَدَائِهِ فَيُنْظَرُ فِي دَعْوَى مَنْ قَلَّتْ قِيمَتُهُ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْفَاضِلِ عَنْهَا ، فَإِنِ ادَّعَى أَنَّهُ أَدَّاهُ عَمَّنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهُ قَرْضًا عَلَيْهِ يَأْخُذُهُ بِرَدِّهِ ، فَالسَّيِّدُ خَارِجٌ مِنْ تَنَازُعِهِمْ ، وَلَا يَكُونُ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى خَصْمًا لَهُمْ ، وَقَدْ عَتَقُوا جَمِيعًا بِذَلِكَ الْأَدَاءِ . وَإِنِ ادَّعَى أَنَّهُ دَفَعَ الْفَضْلَ إِلَى السَّيِّدِ قَرْضًا عَلَيْهِ ، أَوْ وَدِيعَةً عِنْدَهُ صَارَ السَّيِّدُ فِي هَذَا التَّنَازُعِ خَصْمًا لَهُمْ ، فَإِنْ صَدَّقَ الدَّعْوَى لَزِمَهُ الرَّدُّ ، وَإِنْ أَكْذَبَهَا وَصَدَّقَ مَنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهُ فِي عِتْقِهِ بِهَا صَارَ دَاخِلًا فِي التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ ، وَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِ الْأُمِّ : أَنَّ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلُ مَنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، وَيَكُونُ الْمَالُ الْمُؤَدَّى عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمْ ، وَلَا تَرَاجُعَ فِيهِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِي الدَّيْنِ أَنَّ الْمُؤَدَّى فِيهِ بِقَدْرِ الدَّيْنِ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ مُعْتَبَرًا . وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الْأَدَاءِ وُقُوعُ الْعِتْقِ بِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْبَلَ مَا خَالَفَهُ فِي نَقْضِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ : أَنَّ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلُ مَنْ قَلَّتْ قِيمَتُهُ فِي التَّسَاوِي ، وَرَدَّ قَوْلَ مَنْ خَالَفَهُ فِي ادِّعَاءِ التَّفَاضُلِ ، لِأَنَّ الدَّعْوَى إِذَا تَرَدَّدَتْ بَيْنَ يَدٍ وَعُرْفٍ غَلَبَ فِيهَا حُكْمُ الْيَدِ عَلَى الْعُرْفِ .

أَلَا تَرَى أَنَّ دَبَّاغًا وَعَطَّارًا ، لَوْ تَنَازَعَا دِبَاغَةً وَعِطْرًا لَحَكَمَ بَيْنَهُمَا بِالْيَدِ ، وَإِنْ كَانَ الْعِطْرُ فِي الْعُرْفِ لِلْعَطَّارِ وَالدِّبَاغَةُ لِلدَّبَّاغِ ، وَلِأَنَّ رَجُلَيْنِ لَوِ اشْتَرَيَا دَارًا بِأَلْفٍ لِأَحَدِهِمَا رُبُعَهَا وَلِلْآخَرِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا ، وَدَفَعَا إِلَى بَائِعِهَا أَلْفًا ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ صَاحِبُ الرُّبُعِ : الْأَلْفُ الَّتِي دَفَعْنَاهَا بَيْنَنَا نِصْفَيْنِ فَلِيَ الرُّجُوعُ بِالْبَاقِي . وَقَالَ صَاحِبُ الثَّلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ : إِنَّنَا دَفَعْنَاهَا عَلَى قَدْرِ مَا عَلَيْنَا ، فَلَا تَرَاجُعَ ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ مَنِ ادَّعَى التَّسَاوِي اعْتِبَارًا بِالْيَدِ دُونَ الْعُرْفِ وِفَاقًا ، كَذَلِكَ فِي الْكِتَابَةِ حِجَاجًا ، ثُمَّ يَكُونُ الْعِتْقُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا نَافِذًا فِي الثَّلَاثَةِ ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ إِنِ ادُّعِيَتْ أَدَاءً عَنِ الْأَكْثَرِ قِيمَةً قَرْضًا ، فَقَدْ عَتَقَ بِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ ، وَإِنِ ادُّعِيَتْ وَدِيعَةً عِنْدَ السَّيِّدِ أَوْ قَرْضًا فَقَدْ صَدَّقَ السَّيِّدُ لِلْأَكْثَرِ قِيمَةً عَلَى أَدَائِهِ لَهَا ، وَاعْتَرَفَ بِعِتْقِهِ بِهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ السَّيِّدُ قَدْ أَكْذَبَهُ ، وَصَدَّقَ مُدَّعِي التَّسَاوِي ، فَإِذَا جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لَمْ يَعْتِقِ الْأَكْثَرَ قِيمَةً بِمَا ادَّعَاهُ مِنَ التَّفَاضُلِ ، وَكَانَ عَلَى كِتَابَتِهِ ، حَتَّى يُؤَدِّيَ بَقِيَّتَهَا بَعْدَ تَسَاوِيهِمْ فِيهَا ، لِيَعْتِقَ حِينَئِذٍ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَمْ يُقْبَلْ وَسَيِّدَهُ لَمْ يُصَدِّقْهُ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ أَدَّى أَحَدُهُمْ عَنْ غَيْرِهِ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَدَّى أَحَدُهُمْ عَنْ غَيْرِهِ أحد المكاتبين عن الآخر كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ ، فَإِنْ تَطَوَّعَ فَعَتَقُوا لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ ، فَإِنْ أَدَّى بِإِذْنِهِمْ رَجَعَ عَلَيْهِمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : لَيْسَ لِأَحَدِ الْمُكَاتَبِينَ فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ أَوْ فِي عُقُودٍ أَنْ يُؤَدِّيَ كَسْبَهُ إِلَّا مَالَ كِتَابَتِهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمُكَاتَبِينَ مَعَهُ ، سَوَاءٌ أَدَّى عَنْهُ بِأَمْرِهِ ، أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، لِأَنَّهُ إِنْ أَدَّاهُ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ كَانَتْ هِبَةً لَهُ ، وَإِنْ أَدَّاهُ عَنْهُ بِأَمْرِهِ ، كَانَ قَرْضًا عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَصْرِفَ مَالَهُ فِي هِبَةٍ وَلَا قَرْضٍ ، فَإِنْ فَعَلَ وَأَدَّى عَنْ غَيْرِهِ مَالًا إِلَى سَيِّدِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُ السَّيِّدِ فِي قَبْضِهِ ذَلِكَ مِنْهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَنَّهُ أَدَّاهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ، أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ . فَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِذَلِكَ فَالْأَدَاءُ بَاطِلٌ ، وَغَيْرُ مُحْتَسَبٍ بِهِ لِلْمُؤَدَّى عَنْهُ ، وَيَكُونُ مُحْتَسِبًا بِهِ لِلْمُؤَدِّي إِنْ كَانَ مَا عَلَيْهِ قَدْ حَلَّ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَلَّ كَانَ الْمُؤَدِّي بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَسْتَرْجِعَهُ مِنْ سَيِّدِهِ ، أَوْ يَجْعَلَهُ تَعْجِيلًا عَنْ نَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ عَالِمًا بِأَنَّهُ أَدَّى ذَلِكَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ، فَعِلْمُهُ بِهِ كَالْإِذْنِ فِيهِ ، فَيَكُونُ كَالْمُكَاتَبِ إِذَا وَهَبَ أَوْ أَقْرَضَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ المكاتب ، فَيَكُونُ فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَصِحُّ ، لِأَنَّ مَا بِيَدِهِ مُسْتَحَقٌّ فِي كِتَابَتِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ بِهِ إِلَى غَيْرِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَصِحُّ ذَلِكَ وَيَجُوزُ ، لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيمَا بِيَدِهِ لِحَقِّ سَيِّدِهِ ، فَصَحَّ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِإِذْنِهِ كَالْعَبْدِ .

فَإِذَا قُلْنَا : إِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ صَارَ كَمَا لَوْ أَدَّاهُ بِغَيْرِ عِلْمِ سَيِّدِهِ ، فَلَا يُحْتَسَبُ بِهِ الْمُؤَدَّى عَنْهُ وَيُحْتَسَبُ بِهِ لِلْمُؤَدِّي مِنْ كِتَابَتِهِ إِنْ حَلَفَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ إِلَى أَجْلِهَا كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَسْتَرْجِعَهَا مِنْ سَيِّدِهِ ، أَوْ يَجْعَلَهَا عَنْ كِتَابَةِ نَفْسِهِ ، فَلَوْ لَمْ يَسْتَرْجِعْهَا الْمُكَاتَبُ وَلَا عَجَّلَهَا عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى أَدَّى مَا عَلَيْهِ ، فَعَتَقَ ، فَفِي اسْتِحْقَاقِ اسْتِرْجَاعِهَا بَعْدَ عِتْقِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَنْصُوصِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ اسْتِرْجَاعَهَا ، وَالسَّيِّدُ أَوْلَى بِهَا ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى أَدَائِهَا فِي كِتَابَتِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَرْجِعَهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ . وَالرَّدُّ الثَّانِي ، : وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ لَهُ اسْتِرْجَاعَهَا ، لِأَنَّهُ بَعْدَ الْعِتْقِ أَقْوَى مِلْكًا وَتَصَرُّفًا ، فَلَمَّا اسْتَحَقَّ اسْتِرْجَاعَهَا فِي أَضْعَفِ حَالَيْهِ ، كَانَ اسْتِرْجَاعُهَا فِي أَقْوَاهُمَا أَوْلَى . وَإِذَا قُلْنَا : إِنَّ ذَلِكَ صَحِيحٌ جَائِزٌ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِي أَدَاءِ ذَلِكَ عَنْ صَاحِبِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَدَاؤُهُ عَنْهُ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَدَّاهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَمْ يَرْجِعْ فِيهِ ، وَكَانَ مُتَطَوِّعًا بِبَذْلِهِ كَالْهِبَاتِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَدَّاهُ عَنْهُ بِإِذْنِهِ يَرْجِعُ بِهِ كَالْقَرْضِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُؤَدِّي وَالْمُؤَدَّى عَنْهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْجِزَا فَيَرِقَّا فَلَا رُجُوعَ لِلْمُؤَدِّي بِمَا أَدَّى لَا عَلَى سَيِّدِهِ وَلَا عَلَى الْمُؤَدَّى عَنْهُ ، لِأَنَّهُ بِعَوْدِهِ إِلَى الرِّقِّ قَدْ صَارَتْ أَمْوَالُهُ لِسَيِّدِهِ ، وَالسَّيِّدُ لَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ غُرْمٌ فَلَا يَثْبُتُ لِعَبْدِهِ عَلَيْهِ مَالٌ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُؤَدِّيَا فَيَعْتِقَا فَلِلْمُؤَدِّي بَعْدَ عِتْقِهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُؤَدَّى عَنْهُ بَعْدَ عِتْقِهِ بِمَا أَدَّاهُ عَنْهُ إِنْ كَانَ مُوسِرًا ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا أُنْظِرَ بِهِ إِلَى مَيْسَرَتِهِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَعْتِقَ الْمُؤَدَّى عَنْهُ ، وَيَبْقَى الْمُؤَدِّي عَلَى رِقِّهِ فَيُنْظُرُ فِي عِتْقِ الْمُؤَدَّى عَنْهُ ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ مَا أَقْرَضَهُ الْمُؤَدِّي نَفَذَ عِتْقُهُ وَكَانَ الْمَالُ الْمُؤَدَّى عَنْهُ دَيْنًا حَالًّا لِلسَّيِّدِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ عِتْقُهُ بِمَا أَقْرَضَهُ الْمُؤَدِّي فَفِيهِ وَجْهَانِ أَخْرَجَهُمَا أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي إِفْصَاحِهِ احْتِمَالًا : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عِتْقَ الْمُؤَدَّى عَنْهُ قَدْ نَفَذَ ، وَرِقَّ الْمُؤَدِّي قَدِ اسْتَقَرَّ ، وَيَكُونُ الْأَدَاءُ دَيْنًا لِلسَّيِّدِ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُعْتَقِ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْأَدَاءِ وَالْعَجْزِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ الْمُؤَدَّى عَنْهُ بِذَلِكَ الْأَدَاءِ وَيُحْتَسَبُ بِهِ لِلْمُؤَدِّي ، فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ الْبَاقِي عَلَيْهِ فِي كِتَابَتِهِ عَتَقَ وَأُعِيدَ الْمُؤَدَّى عَنْهُ إِلَى رِقِّهِ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ أُعِيدَا مَعًا إِلَى الرِّقِّ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْكَسْبِ .

وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَعْتِقَ الْمُؤَدِّي ، وَلَا يَعْتِقَ الْمُؤَدَّى عَنْهُ ، وَهُوَ عَلَى رِقِّهِ ، فَلِلْمُؤَدَّى عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ فِي يَدِهِ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ ، وَبَدَلُ مَا اقْتَرَضَ فَيُؤَدِّيهَا وَيَتَحَرَّرُ عِتْقُهُ بِهَا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَعْجِزَ عَنْ بَاقِي الْكِتَابَةِ ، وَعَنِ الْقَرْضِ جَمِيعًا فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يُعِيدَهُ إِلَى الرِّقِّ ، وَيَكُونَ قَرْضُ الْمُؤَدِّي دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ إِذَا أُعْتِقَ وَأَيْسَرَ رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ فِي يَدِهِ مَا يَتَصَرَّفُ فِي أَحَدِهَا إِمَّا فِي عِتْقِهِ أَوْ فِي قَرْضِهِ . فَيُقَالُ لِلْمُؤَدِّي : انْتَظِرْهُ بِقَرْضِكَ حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا بِيَدِهِ فِي عِتْقِهِ ، فَإِنْ أَجَابَ فَعَلَى ذَاكَ ، وَإِنِ امْتَنَعَ قِيلَ لِلسَّيِّدِ : انْتَظِرْهُ بِنَفْسِكَ حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا بِيَدِهِ فِي قَرْضِهِ ، فَإِنْ أَجَابَ فَعَلَى ذَاكَ وَإِنِ امْتَنَعَ أَيْضًا وَتَنَازَعَا الْمَوْجُودَ فَالْمُؤَدِّي الْمُقْرِضُ أَحَقُّ بِهِ مِنَ السَّيِّدِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَرْضَ دَيْنٌ مُسْتَقِرٌّ فِي الذِّمَّةِ وَمَالَ الْكِتَابَةِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ فِي الذِّمَّةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ فِي عَوْدِ الْمُقْرِضِ بِهِ حِفْظًا لِحَقِّهِ وَحَقِّ السَّيِّدِ بِعَوْدِهِ إِلَى رِقِّهِ ، وَحِفْظُ الْحَقَّيْنِ أَوْلَى مِنْ تَضْيِيعِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَمَّلَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ الْكِتَابَةَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَمَّلَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ الْكِتَابَةَ ، فَإِنِ اشْتَرَطَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَالْكِتَابَةُ فَاسِدَةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا كَانَتْ جَمَاعَةً فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ لَمْ يَلْزَمْ ضَمَانُ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ لَا بِالْعَقْدِ وَلَا بِالشَّرْطِ . وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : يَلْزَمُ ضَمَانُ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ بِأَصْلِ الْعَقْدِ ، فَإِنْ شَرَطَ فِي الْعَقْدِ كَانَ أَوْكَدَ ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ضَمَانَ مَالِ الْكِتَابَةِ لَا يَصِحُّ . وَالثَّانِي : أَنَّ ضَمَانَ الْمُكَاتَبِ لَا يَصِحُّ . فَأَمَّا ضَمَانُ مَالِ الْكِتَابَةِ فَلَا يَصِحُّ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مِنْ حُكْمِ الضَّمَانِ أَنْ يَلْزَمَ ، وَمَالَ الْكِتَابَةِ لَيْسَ بِلَازِمٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ الضَّمَانَ وَثِيقَةٌ فِي لُزُومِ الْعَقْدِ ، وَالْكِتَابَةَ غَيْرُ لَازِمَةٍ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ . وَأَمَّا ضَمَانُ الْمُكَاتَبِ حكمه فَلَا يَصِحُّ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْكِتَابَةَ قَدْ أَوْقَعَتْ حَجْرًا عَلَيْهِ لِسَيِّدِهِ ، وَضَمَانُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ .

وَالثَّانِي : أَنَّ مَا بِيَدِهِ مُسْتَحَقٌّ فِي كِتَابَتِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصْرِفَهُ فِي غَيْرِهَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ فِي الْكِتَابَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ فِيهَا ضَمَانَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ ، كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَأْخُوذًا بِمَالِ كِتَابَتِهِ لَا غَيْرَ ، وَإِنْ شَرَطَ فِيهَا السَّيِّدُ ضَمَانَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ بَطَلَ الشَّرْطُ وَالْكِتَابَةُ ، لِأَنَّ الشَّرْطَ فِي الْعَقْدِ إِذَا نَافَاهُ أَبْطَلَهُ كَالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبُيُوعِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْحَوَالَةُ بِمَا عَلَى الْمُكَاتَبِ أنواعها فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ مِنْ جِهَةِ السَّيِّدِ فَيُحِيلَ عَلَى مُكَاتَبِهِ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ نُجُومِ كِتَابَتِهِ ، فَالْحَوَالَةُ بَاطِلَةٌ ، لِأَنَّ الْحَوَالَةَ تَكُونُ فِي الْحُقُوقِ اللَّازِمَةِ ، وَمَا عَلَى الْمُكَاتَبِ لَيْسَ بِلَازِمٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ مِنْ جِهَةِ الْمُكَاتَبِ ، فَيُحِيلَ سَيِّدَهُ بِمَا حَلَّ مِنْ نُجُومِ كِتَابَتِهِ ، فَتَصِحَّ الْحَوَالَةُ ، لِأَنَّ دَيْنَ الْمُكَاتَبِ عَلَى غَرِيمِهِ لَازِمٌ ، فَصَارَتِ الْحَوَالَةُ بِدَيْنٍ لَازِمٍ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَاتَبَ عَبْدًا كِتَابَةً فَاسِدَةً فَأَدَّى عَتَقَ وَرَجَعَ السَّيِّدُ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ عَتَقَ وَرَجَعَ عَلَى السَّيِّدِ بِمَا دَفَعَ ، فَأَيُّهُمَا كَانَ لَهُ الْفَضْلُ رَجَعَ بِهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْعِتْقُ ضَرْبَانِ : نَاجِزٌ ، وَعَلَى صِفَةٍ . فَأَمَّا النَّاجِزُ من أنواع العتق فَهُوَ مَا كَانَ وُقُوعُهُ مُقْتَرِنًا بِلَفْظِ الْمُعْتِقِ فَيَقَعُ بَاتًّا لَا رُجُوعَ فِيهِ بَعْدَ نُفُوذِهِ . وَأَمَّا الْمُعَلَّقُ بِصِفَةٍ من أنواع العتق فَضَرْبَانِ : صِفَةٌ مَحْضَةٌ ، وَصِفَةٌ مُعَاوَضَةٌ . فَأَمَّا الصِّفَةُ الْمَحْضَةُ . فَكَقَوْلِهِ : إِذَا دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ، وَإِذَا قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتَ حُرٌّ ، فَإِذَا وُجِدَتِ الصِّفَةُ بِدُخُولِ الدَّارِ وَبِقُدُومِ زَيْدٍ وَقَعَ الْعِتْقُ . وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : إِذَا دَفَعْتَ إِلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَنْتَ حُرٌّ ، كَانَ عِتْقًا بِصِفَةٍ ، وَلَمْ يَكُنْ عِتْقَ مُعَاوَضَةٍ وَإِنْ وَقَعَ الْعِتْقُ بِدَفْعِ مَالٍ ، لِأَنَّ الْمَالَ لِلسَّيِّدِ لَا يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ بِهَذَا الْقَوْلِ وَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ لِنَفْسِهِ ، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ ، فَمَتَى دَفَعَ الْأَلْفَ كَامِلَةً عَتَقَ بِهَا ، لَكِنْ إِنْ قَالَ : إِذَا دَفَعْتَ إِلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ كَانَ الدَّفْعُ عَلَى الْفَوْرِ . فَإِذَا دَفَعَ فِي مَجْلِسِهِ عَتَقَ وَإِنْ تَرَاخَى لَمْ يَعْتِقْ . وَإِنْ قَالَ : مَتَى دَفَعْتَ إِلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ ، كَانَ دَفْعُهَا عَلَى التَّرَاخِي ، فَمَتَى دَفَعَهَا عَاجِلًا ، أَوْ آجِلًا عَتَقَ بِهَا . وَإِذَا كَانَ عِتْقُهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَاقِعًا بِدَفْعِ جَمِيعِ الْأَلْفِ فَلَيْسَ

هَذَا بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ ، يُعْتَبَرُ فِيهِ شُرُوطُ الصِّحَّةِ وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِيهِ مَخْرَجُ الْقَوْلِ مِنْ مَالِكٍ ، جَازَ الْأَمْرُ فَإِذَا عَلَّقَ عِتْقَهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ تَعَلَّقَ بِهِ سِتَّةُ أَحْكَامٍ أي بالصفة المحضة : أَحَدُهَا : لُزُومُ حُكْمِهِ لِلسَّيِّدِ وَالْعَبْدِ ، فَلَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ فَسْخُهُ وَلَا لِلْعَبْدِ رَفْعُهُ ، وَلَا أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى فَسْخِهِ ، لِأَنَّ الصِّفَاتِ لَا يَلْحَقُهَا فَسْخٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ مِنْ هَذَا الْمَالِ ، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى مَا فِي الذِّمَّةِ ، وَهَذَا الْمَالُ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ مَتَى مَاتَ السَّيِّدُ بَطَلَتِ الصِّفَةُ ، وَلَمْ يَعْتِقِ الْعَبْدُ بِدَفْعِ الْأَلْفِ إِلَى غَيْرِهِ ، لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ صِفَةُ قَوْلِهِ : إِنْ دَفَعْتَ إِلَيَّ . وَالرَّابِعُ : أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ بِهَا كَسْبَ نَفْسِهِ ، وَأَكْسَابُهُ تَكُونُ لِسَيِّدِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ بَيْنَهُمَا عَقْدٌ يُوجِبُ تَمَلُّكَ الْكَسْبِ . وَالْخَامِسُ : أَنَّ مَا فَضَلَ فِي يَدِ الْعَبْدِ بَعْدَ عِتْقِهِ بِدَفْعِ الْأَلْفِ فَهُوَ لِسَيِّدِهِ ، لِأَنَّهُ كَانَ مَالِكًا لَهُ قَبْلَ الْعِتْقِ فَلَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ بِالْعِتْقِ . وَالسَّادِسُ : أَنَّهُ لَا تَرَاجُعَ بَيْنَ السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ ، لِأَنَّهُ مُعْتَقٌ بِصِفَةٍ لَمْ يَتَضَمَّنْهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا صِفَةُ الْمُعَاوَضَةِ من أنواع العتق بصفة فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا صَحَّ فِيهِ الْعَقْدُ فَغَلَبَ فِيهِ حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ . وَالثَّانِي : مَا فَسَدَ فِيهِ الْعَقْدُ فَغَلَبَ فِيهِ حُكْمُ الصِّفَةِ . فَأَمَّا الَّتِي يَصِحُّ فِيهَا الْعَقْدُ فَهِيَ الْكِتَابَةُ الصَّحِيحَةُ قَدْ صَحَّتْ صِفَةً ، وَمُعَاوَضَةً ، فَيَغْلِبُ فِيهَا حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ ، لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْبَيْعِ . وَلِأَنَّهُ لَوْ نَوَى فِي الصِّفَةِ أَنَّهُ مَتَى دَفَعَ الْمَالَ عَتَقَ صَحَّ ، وَلَوْ تَغَلَّبَتِ الصِّفَةُ لَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ النِّيَّةُ كَمَا لَوْ نَوَى أَنَّهُ مَتَى دَفَعَ إِلَيْهِ عَبْدُهُ أَلْفًا عَتَقَ لَمْ يَعْتِقْ وَيَتَعَلَّقُ بِهَا سِتَّةُ أَحْكَامٍ تُخَالِفُ مَا قَدَّمْنَاهُ : أَحَدُهَا : لُزُومُ عَقْدِ الْكِتَابَةِ مِنْ جِهَةِ السَّيِّدِ لَا يَجُوزُ لَهُ فَسْخُهَا مَا كَانَ الْعَبْدُ مُقِيمًا عَلَى الْأَدَاءِ ، وَلَيْسَتْ لَازِمَةً مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ ، لِأَنَّ لَهُ الِامْتِنَاعَ مِنَ الْأَدَاءِ الَّذِي يَعْتِقُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ ، وَلَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ ، وَإِنْ مَلَكَ الِامْتِنَاعَ ، لِأَنَّ السَّيِّدَ لَوْ أَنْظَرَهُ بِالْمَالِ عِنْدَ عَجْزِهِ كَانَتِ الْكِتَابَةُ بِحَالِهَا ، فَلَوِ اجْتَمَعَا عَلَى فَسْخِهَا صَحَّ الْفَسْخُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَيْهَا . وَالثَّانِي : صِحَّةُ الْإِبْرَاءِ مِنْهَا ، لِأَنَّ الْمَالَ فِيهَا كَالثَّمَنِ : الَّذِي يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ مِنْهُ وَيَعْتِقُ بِالْإِبْرَاءِ كَمَا يَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ لِسُقُوطِ الْعِوَضِ فِي الْحَالَيْنِ .

وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ مَتَى مَاتَ السَّيِّدُ لَمْ تَبْطُلِ الْكِتَابَةُ ، وَقَامَ الْوَارِثُ فِيهَا مَقَامَهُ ، فَإِذَا أَدَّاهَا الْمُكَاتَبُ إِلَيْهِ عَتَقَ ، لِأَنَّهَا مِنْ جِهَةِ السَّيِّدِ لَازِمَةٌ ، وَالْعُقُودُ اللَّازِمَةُ لَا تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ . وَالرَّابِعُ : أَنَّ الْمُكَاتَبَ قَدْ مَلَكَ بِهَا كَسْبَهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ ، لِأَنَّ سُلْطَانَ السَّيِّدِ قَدْ زَالَ عَنْهُ ، وَنَفَقَتَهُ قَدْ سَقَطَتْ عَنْهُ ، فَصَارَ الْكَسْبُ لِلْمُكَاتَبِ كَمَا صَارَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ . وَالْخَامِسُ : أَنَّ مَا فَضَلَ فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ بَعْدَ عِتْقِهِ بِالْأَدَاءِ كَانَ مِلْكًا لَهُ لَا حَقَّ فِيهِ لِلسَّيِّدِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَهُ قَبْلَ الْعِتْقِ فَأَوْلَى أَنْ يَمْلِكَهُ بَعْدَهُ . وَالسَّادِسُ : أَنْ لَا تَرَاجُعَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْعِتْقِ لِوُقُوعِهِ عَنْ عِوَضٍ صَحِيحٍ ، كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الَّتِي لَا يَصِحُّ فِيهَا الْعَقْدُ فَهِيَ الْكِتَابَةُ الْفَاسِدَةُ حكمها ، قَدْ جَمَعَتْ صِفَةً وَمُعَاوَضَةً ، فَالْمُغَلَّبُ فِيهَا حُكْمُ الصِّفَةِ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ : قَدْ كَاتَبْتُكَ عَلَى أَلْفٍ مُعَاوَضَةً ، وَقَوْلَهُ : فَإِذَا أَدَّيْتَ إِلَيَّ آخِرَهَا فَأَنْتَ حُرٌّ عِتْقٌ بِصِفَةٍ ، فَإِذَا بَطَلَ الْعِوَضُ الْمُسَمَّى بِأَحَدِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَبْطُلُ بِهَا الْكِتَابَةُ ، بَقِيَ حُكْمُ الْعِتْقِ بِالصِّفَةِ ، وَتَعَلَّقَ بِهَا سِتَّةُ أَحْكَامٍ قَدْ تُخَالِفُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَحْكَامِ الْفَصْلَيْنِ ، وَسَطَّرَ الْمُزَنِيُّ بَعْضَهَا مِنْ بَعْدُ ، وَنَحْنُ نَسْتَوْفِي شَرْحَهُ عِنْدَ ذِكْرِهِ بَعْدَ الْإِشَارَةِ إِلَى مَا اقْتَضَاهُ جَمِيعُ الْأَحْكَامِ . فَأَحَدُ الْأَحْكَامِ السِّتَّةِ : أَنَّ الصِّفَةَ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْعِتْقُ حكمها غَيْرُ لَازِمَةٍ ، وَلِلسَّيِّدِ إِبْطَالُهَا بِنَفْسِهِ ، أَوْ بِأَنْ يَرْفَعَهَا إِلَى الْحَاكِمِ فَيُبْطِلَهَا ، فَإِنْ وُجِدَتِ الصِّفَةُ بَعْدَ إِبْطَالِهَا بِنَفْسِهِ ، أَوْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ ، وَدَفَعَ الْمَالَ الْمُتَعَلِّقَ بِهَا لَمْ يَقَعِ الْعِتْقُ بِخِلَافِ الصِّفَاتِ الْمَحْضَةِ ، الَّتِي لَا يَجُوزُ لَهُ إِبْطَالُهَا ، وَيَقَعُ الْعِتْقُ بِوُجُودِهَا لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِالْتِزَامِ الْعِتْقِ بِالصِّفَاتِ الْمَحْضَةِ ، فَلَمْ يَقَعْ إِلَّا بِهَا وَهُوَ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ الْمُقْتَرِنَةِ بِالْمُعَاوَضَةِ ، مُلْتَزِمٌ لَهَا عَلَى شَرْطِ الْعِوَضِ ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ بِالْفَسَادِ بَطَلَ اللُّزُومُ ، وَصَارَ مَوْقُوفًا عَلَى خِيَارِهِ كَالْعُيُوبِ فِي الْبُيُوعِ ، وَفَارَقَا حُكْمَ الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ أَيْضًا الَّتِي لَا يَجُوزُ لَهُ فَسْخُهَا ، لِسَلَامَةِ مَا شَرَطَهُ مِنَ الْعِوَضِ فِيهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْبَرَاءَةَ لَا تَصِحُّ مِنْ هَذَا الْعِوَضِ لِفَسَادِهِ ، وَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي ذِمَّتِهِ فَلَمْ يَصِحَّ الْإِبْرَاءُ مِنْهُ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ ، وَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ : إِنْ دَفَعْتَ إِلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ أَبْرَأَهُ لَمْ يَبْرَأْ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ مَتَى مَاتَ السَّيِّدُ بَطَلَتِ الصِّفَةُ ، وَلَمْ يَعْتِقْ بِالْأَدَاءِ إِلَى الْوَرَثَةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَبْطُلُ ، وَيَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ إِلَى الْوَرَثَةِ . وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :

أَنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ [ مَا لَمْ يَلْزَمْ مِنَ الْعُقُودِ بِالْمَوْتِ ، كَمَا تَبْطُلُ الْكِتَابَةُ بِمَوْتِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ ] مِنْ جِهَتِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ فَسَادَ الْعِوَضِ يُوجِبُ تَغْلِيبَ حُكْمِ الصِّفَةِ . وَالسَّيِّدُ إِذَا عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ بِصِفَةٍ بَطَلَ حُكْمُهَا بِمَوْتِهِ ، كَذَلِكَ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ . وَالرَّابِعُ : أَنَّ الْمُكَاتَبَ يَمْلِكُ بِهَا كَسْبَ نَفْسِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَلْزَمُ فِيهَا الْعِوَضُ بِوُقُوعِ الْعِتْقِ ، فَمَلَكَ بِهَا الْكَسْبَ كَالْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ . فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيْسَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَا يَمْلِكُ النَّمَاءَ وَإِنْ مَلَكَهُ فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ ، فَهَلَّا كَانَ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ كَذَلِكَ ؟ قِيلَ : الْفَرْقُ الْفَاصِلُ بَيْنَهُمَا ، وَهُوَ أَنَّ الْمُشْتَرِي لَا يَمْلِكُ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ مَا كَانَ يَمْلِكُهُ فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَمْلِكِ النَّمَاءَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، وَمَلَكَهُ فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْكِتَابَةُ ، لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَمْلِكُ بِهَا فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ مِنْ عِتْقِ نَفْسِهِ بِالْأَدَاءِ ، مِثْلَ مَا كَانَ يَمْلِكُهُ فِي الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ ، فَلِذَلِكَ مَلَكَ كَسْبَ نَفْسِهِ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ كَمَا يَمْلِكُهُ فِي الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ . وَالْخَامِسُ : أَنَّ مَا فَضَلَ فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ بَعْدَ عِتْقِهِ مِلْكٌ لَهُ دُونَ سَيِّدِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ عَلَى مِلْكِهِ قَبْلَ عِتْقِهِ . وَالسَّادِسُ : أَنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَعْدَ الْعِتْقِ فَيَرْجِعُ السَّيِّدُ عَلَى مُكَاتَبِهِ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ عَتَقَ ، وَيَرْجِعُ الْمُكَاتَبُ عَلَى سَيِّدِهِ بِمَا أَدَّاهُ ، إِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَهْلَكَ عِتْقَ نَفْسِهِ عَلَى بَدَلٍ فَاسِدٍ فَصَارَ كَاسْتِهْلَاكِ الْمُشْتَرِي مَا ابْتَاعَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ يَلْزَمُهُ قِيمَةُ مَا اسْتَهْلَكَهُ ، كَذَلِكَ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ فِي الْقِيمَةِ ، وَمَالِ الْأَدَاءِ ، فَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسَيْنِ لَمْ يَقَعَا قِصَاصًا وَإِنْ جَازَ أَنْ يَتَنَاوَبَا . وَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَفِي وُقُوعِ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى جَمِيعِهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ . أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَقَعُ الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا بِهِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي تَقَابُضِهِ فَصَارَ كَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لِوَارِثِهِ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ بِانْتِقَالِ التَّرِكَةِ إِلَى الْوَارِثِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيْعُهَا فِي دَيْنِهِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِيهِ ، لِانْتِقَالِ الْعَيْنِ إِلَيْهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَصِيرُ قِصَاصًا بِرِضَى أَحَدِهِمَا وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الْآخَرُ ، لِأَنَّ مَنْ

عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَهُ قَضَاؤُهُ مِنْ أَيِّ مَالِهِ شَاءَ ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنٌ لِصَاحِبِهِ فَكَانَ لَهُ قَضَاؤُهُ مِنْ مَالِهِ ، أَوْ مِنْ دَيْنِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَصِيرُ قِصَاصًا بِتَرَاضِيهِمَا ، فَإِنْ أَبَى أَحَدُهُمَا لَمْ يَصِرْ قِصَاصًا كَالْحَوَالَةِ الَّتِي لَا تَتِمُّ إِلَّا بِرِضَى الْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ . وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ لَا يَكُونُ قِصَاصًا وَإِنْ تَرَاضَيَا ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي مَعْنَى بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ حكمه ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ . وَكَمَا لَوْ تَجَانَسَ الْحَقَّانِ وَكَانَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَثْمَانِ لَمْ يَقَعِ الْقِصَاصُ كَذَلِكَ إِذَا كَانَا مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ . فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلُ فَإِنْ قُلْنَا : يَكُونُ قِصَاصًا نُظِرَ فِي الْحَقَّيْنِ . فَإِنْ تَسَاوَيَا بَرِئَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ حَقِّ صَاحِبِهِ ، وَإِنْ تَفَاضَلَا سَقَطَ الْأَقَلُّ مِنَ الْأَكْثَرِ وَرُدَّ الْفَاضِلُ . فَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ رَجَعَ السَّيِّدُ بِالْفَاضِلِ مِنْهَا عَلَى مُكَاتَبِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَدَاءُ أَكْثَرَ رَجَعَ الْعَبْدُ بِالْفَاضِلِ مِنْهُ عَلَى سَيِّدِهِ . وَإِنْ قُلْنَا : لَا يَكُونُ قِصَاصًا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطَالَبَةُ الْآخَرِ بِمَا عَلَيْهِ ، فَإِذَا قَبَضَهُ كَانَ مُخَيَّرًا فِي قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ . فَإِنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا : لَا أَدْفَعُ مَا عَلَيَّ حَتَّى أَقْبِضَ مَالِي ، كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَبْسُ مَا لِصَاحِبِهِ عَلَى حَقِّهِ ، وَلَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهَا فِي تَقْدِيمِ الْقَبْضِ ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي ثُبُوتِ الْحَقَّيْنِ فِي الذِّمَّتَيْنِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ أَبْطَلَ السَّيِّدُ الْكِتَابَةَ وَأَشْهَدَ عَلَى إِبْطَالِهَا أَوْ أَبْطَلَهَا الْحَاكِمُ ثُمَّ أَدَّاهَا الْعَبْدُ لَمْ يَعْتِقْ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَقَوْلِهِ : إِنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ، أَنَّ الْيَمِينَ لَا بَيْعَ فِيهَا بِحَالٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ، وَالْكِتَابَةَ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ إِذَا فَاتَ رَدَّ قِيمَتَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا فِيمَا قَدَّمْنَا ، فِي الْأَحْكَامِ السِّتَّةِ وَقُلْنَا : إِنَّ لِلسَّيِّدِ إِبْطَالَ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ حَتَّى لَا يَعْتِقَ الْعَبْدُ فِيهَا بِالْأَدَاءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبْطَالُ الْعِتْقِ بِالصِّفَةِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا . وَإِذَا أَرَادَ السَّيِّدُ إِبْطَالَ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ ، كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ إِبْطَالِهَا بِنَفْسِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَرْفَعَهَا إِلَى الْحَاكِمِ ، حَتَّى يَحْكُمَ بِإِبْطَالِهَا ، فَإِنْ أَرَادَ إِبْطَالَهَا بِنَفْسِهِ ، جَازَ أَنْ يُبْطِلَهَا بِمَشْهَدِ الْعَبْدِ وَغَيْبَتِهِ فَيَقُولَ : قَدْ أَبْطَلْتُ كِتَابَةَ عَبْدِي ، أَوْ نَقَضْتُهَا وَفَسَخْتُهَا بِلَفْظٍ مَسْمُوعٍ يَشْهَدُ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلَيْسَتِ الشَّهَادَةُ شَرْطًا فِي إِبْطَالِهَا ، لِأَنَّهَا وَثِيقَةٌ تُرَادُ لِقَطْعِ التَّجَاحُدِ ، فَإِنْ نَوَى إِبْطَالَهَا لَمْ تَبْطُلْ ، لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلنِّيَّةِ فِي إِثْبَاتِ عَقْدٍ ، وَلَا فِي إِبْطَالِهِ ، وَإِنْ رَفَعَهَا إِلَى الْحَاكِمِ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبْطَالُهَا إِلَّا بَعْدَ ثَبَاتِ فَسَادِهَا عِنْدَهُ ، وَمَسْأَلَةُ

السَّيِّدِ لَهُ أَنْ يُبْطِلَهَا عَلَيْهِ ، فَيَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَحْكُمَ بِإِبْطَالِهَا ، وَيَقُومَ ذَلِكَ مَقَامَ إِبْطَالِ السَّيِّدِ لَهَا ، فَإِنْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِفَسَادِهَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِبْطَالًا لَهَا لِفَسَادِهَا قَبْلَ حُكْمِهِ ، وَإِبْطَالِهَا هُوَ الَّذِي يَرْفَعُ الْعِتْقَ فِيهَا بِالْأَدَاءِ ، فَإِنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ هُوَ الَّذِي سَأَلَ الْحَاكِمَ أَنْ يَحْكُمَ بِبُطْلَانِهَا لَمْ يَكُنْ لِلْحَاكِمِ إِجَابَتُهُ إِلَى ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ حَقٌّ يَخْتَصُّ بِالسَّيِّدِ لَا يَمْلِكُهُ الْمُكَاتَبُ وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الِامْتِنَاعَ مِنَ الْأَدَاءِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ أَدَّى الْفَاسِدَةَ إِلَى الْوَارِثِ المكاتبة لَمْ يَعْتِقْ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْقَائِلُ إِنْ أَدَّيْتَهَا فَأَنْتَ حُرٌّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : [ وَهَذَا مِمَّا دَخَلَ فِي الْأَحْكَامِ السِّتَّةِ ، وَقُلْنَا : إِنْ مَوْتَ السَّيِّدِ يُبْطِلُ الْكِتَابَةَ الْفَاسِدَةَ ، وَإِنْ لَمْ تَبْطُلْ بِمَوْتِهِ الْكِتَابَةُ الصَّحِيحَةُ ، فَإِنْ أَدَّى الْعَبْدُ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ إِلَى الْوَارِثِ لَمْ يَعْتِقْ ] ، وَإِنْ أَدَّى فِي الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ إِلَى الْوَارِثِ عَتَقَ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا إِذَا صَحَّتْ غَلَبَ فِيهَا حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ ، وَعَقْدُ الْمُعَاوَضَةِ لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ ، وَإِذَا فَسَدَتْ غَلَبَ فِيهَا الْعِتْقُ بِالصِّفَةِ ، وَالْعِتْقُ بِالصِّفَاتِ يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ . كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : إِذَا دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ لَمْ يَعْتِقْ بِدُخُولِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا لَازِمَةٌ إِذَا صَحَّتْ ، وَمَا لَزِمَ مِنَ الْعُقُودِ لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ ، فَإِذَا فَسَدَتْ لَمْ يَلْزَمْ ، وَمَا لَا يَلْزَمُ مِنَ الْعُقُودِ يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ كَالْوَكَالَةِ وَالْمُضَارَبَةِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَخَذَ الْمُكَاتَبُ سَهْمَ الرِّقَابِ فِي الزَّكَاةِ فَأَدَّاهُ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ نَظَرَ فَإِنْ أَدَّاهُ بَعْدَ إِبْطَالِهَا ، بِمَوْتِهِ ، أَوْ بِإِبْطَالِهِ لَهَا فِي حَيَاتِهِ اسْتَرْجَعَ سَهْمَ الرِّقَابِ مِنَ السَّيِّدِ لِخُرُوجِ هَذَا الْعَبْدِ مِنْهُمْ ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ سَهْمَهُمْ ، وَإِنْ لَمْ تَبْطُلْ كِتَابَتُهُ حَتَّى أَدَّى فِيهَا سَهْمَ الرِّقَابِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَفَاءٌ يَعْتِقُ بِهِ اسْتَرْجَعَ مِنَ السَّيِّدِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ وَفَاءٌ يَعْتِقُ بِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ : " اسْتَرْجَعَ مِنَ السَّيِّدِ وَلَمْ يَعْتِقِ الْعَبْدُ بِهِ ، لِأَنَّ فَسَادَهَا يُخْرِجُهُ مِنْ جُمْلَةِ الرِّقَابِ " وَأَرَى أَنْ لَا يَسْتَرْجِعَ مِنْهُ ، لِأَنَّهُ يَجْرِي عَلَى فَاسِدِهَا فِي مِلْكِ الِاكْتِسَابِ وَوُقُوعِ الْعِتْقِ بِهِ حُكْمُ الصِّحَّةِ ، كَذَلِكَ فِي سَهْمِ الرِّقَابِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ لَمْ يَمُتِ السَّيِّدُ وَلَكِنَّهُ حُجِرَ عَلَيْهِ أَوْ غُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ فَتَأَدَّاهَا مِنْهُ لَمْ يَعْتِقْ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا كَانَتِ الْكِتَابَةُ فَاسِدَةً فَجُنَّ السَّيِّدُ ، أَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ بَطَلَتِ الْكِتَابَةُ وَلَمْ يَقَعِ الْعِتْقُ فِيهَا بِالْأَدَاءِ وَإِنْ لَمْ تَبْطُلِ الْكِتَابَةُ الصَّحِيحَةُ ، لِأَنَّ وُقُوعَ الْحَجْرِ بِالْجُنُونِ وَالسَّفَهِ يُبْطِلُ مَا لَا يَلْزَمُ مِنَ الْعُقُودِ كَالْوِكَالَاتِ ، وَلَا يُبْطِلُ بِهَا مَا لَزِمَ ، فَيَصِيرُ بُطْلَانُ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ وَاقِعًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : إِبْطَالُ السَّيِّدِ لَهَا وَالْحَاكِمِ إِنْ سَأَلَهُ . وَالثَّانِي : مَوْتُ السَّيِّدِ . وَالثَّالِثُ : وُقُوعُ الْحَجْرِ عَلَيْهِ بِجُنُونٍ أَوْ سَفَهٍ . فَإِذَا بَطَلَتْ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَقَعِ الْعِتْقُ فِيهَا بِالْأَدَاءِ وَكَانَ الْعَبْدُ عَلَى رِقِّهِ ، وَالْمَالُ الْمُؤَدَّى مِلْكًا لِسَيِّدِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا إِذَا قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ : إِنْ أَعْطَيْتَنِي دِينَارًا فَأَنْتَ حُرٌّ ، ثُمَّ جُنَّ السَّيِّدُ لَمْ يَبْطُلْ مَا عَقَدَهُ مِنْ عِتْقِ عَبْدِهِ بِالدَّيْنَارِ ، لِأَنَّ هَذَا لَازِمٌ لَيْسَ لِلسَّيِّدِ رَفْعُهُ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَبْطُلْ بِالْجُنُونِ ، وَجَرَى مَجْرَى الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ فِي لُزُومِهِ وَبَقَائِهِ بَعْدَ الْجُنُونِ عَلَى حُكْمِهِ ، وَخَالَفَ حُكْمَ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَخْبُولًا عَتَقَ بِأَدَاءِ الْكِتَابَةِ وَلَا يَرْجِعُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَخْبُولًا عَتَقَ بِأَدَاءِ الْكِتَابَةِ وَلَا يَرْجِعُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْكِتَابَةُ الْفَاسِدَةُ لَا تَبْطُلُ بِجُنُونِ الْعَبْدِ وَإِنْ بَطَلَتْ بِجُنُونِ السَّيِّدِ ، فَإِذَا جُنَّ أَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ كَانَ حُكْمُ الْكِتَابَةِ بَاقِيًا يَعْتِقُ بِهَا بِالْأَدَاءِ كَالْعِتْقِ بِالصِّفَةِ . وَالْفَرْقُ فِيهَا بَيْنَ جُنُونِهِ وَجُنُونِ السَّيِّدِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ رَفْعَ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ وَإِنْ مَلَكَهُ السَّيِّدُ ، فَلِذَلِكَ لَا تَبْطُلُ بِجُنُونِ الْعَبْدِ وَإِنْ بَطَلَتْ بِجُنُونِ السَّيِّدِ . وَالثَّانِي : إِنَّ وُقُوعَ الْحَجْرِ عَلَى السَّيِّدِ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ كِتَابَتِهِ ، فَلِذَلِكَ بَطَلَتْ بِوُقُوعِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالَةُ الْعَبْدِ ، لِأَنَّ حَجْرَ الرِّقِّ لَا يُؤَثِّرُ فِي كِتَابَتِهِ ، كَذَلِكَ حُدُوثُ الْحَجْرِ بِجُنُونٍ أَوْ سَفَهٍ ، لَا يُوجِبُ بُطَلَانَ كِتَابَتِهِ ، وَإِذَا لَمْ تَبْطُلْ بِجُنُونِ الْعَبْدِ وَسَفَهِهِ فَأَدَّاهَا السَّيِّدُ مِنْهُ فِي حَالِ جُنُونِهِ عَتَقَ ، فَأَمَّا التَّرَاجُعُ بِالْقِيمَةِ بَعْدَ وُقُوعِ الْعِتْقِ فَيَنْقَسِمُ حَالُ الْعَبْدِ الْمَجْنُونِ فِي عِتْقِهِ بِالْأَدَاءِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُكَاتِبَهُ السَّيِّدُ كِتَابَةً صَحِيحَةً ، ثُمَّ يُجَنَّ الْعَبْدُ فَيُؤَدِّيَ مَالَ كِتَابَتِهِ فِي حَالِ جُنُونِهِ ، فَهَذَا يُعْتَقُ بِالْأَدَاءِ عَنْ كِتَابَةٍ صَحِيحَةٍ فَلَا تَرَاجُعَ بَيْنَهُمَا ، لِأَنَّ الْمُؤَدِّي هُوَ الْمُسْتَحِقُّ بِالْعَقْدِ .

وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُكَاتِبَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ فِي حَالِ جُنُونِهِ وَيَتَأَدَّاهَا مِنْهُ فِي حَالِ جُنُونِهِ . فَهَذَا لَا يُعْتَقُ بِوُجُودِ الصِّفَةِ وَلَا تَرَاجُعَ بَيْنَهُمَا ، لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمُعَاوَضَاتِ وَلَا مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ ضَمَانُ مَالٍ ، فَكَانَتِ الْكِتَابَةُ مَعَهُ بَاطِلَةً ، فَتَجَرَّدَ فِيهَا الْعِتْقُ بِالصِّفَةِ الْمَحْضَةِ ، وَسَقَطَ فِيهَا حُكْمُ الْبَدَلِ . وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ لَا اخْتِلَافَ فِيهِمَا أَنْ لَا تَرَاجُعَ بَيْنَ السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ بِأَدَائِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَسْطُورُ الْمَسْأَلَةِ - أَنْ يُكَاتِبَهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ كِتَابَةً فَاسِدَةً ، ثُمَّ يُجَنَّ الْعَبْدُ ، فَيَتَأَدَّاهَا السَّيِّدُ مِنْهُ فِي حَالِ جُنُونِهِ ، وَيَعْتِقَ بِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ . فَقَدْ نَقَلَ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحَبِهِ بِشَيْءٍ ، وَنَقَلَ الرَّبِيعُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّ السَّيِّدَ يَرْجِعُ عَلَى عَبْدِهِ بَعْدَ إِفَاقَتِهِ بِقِيمَتِهِ ، وَيَرْجِعُ الْعَبْدُ عَلَى سَيِّدِهِ بِمَا تَأَدَّاهُ فِي حَالِ جُنُونِهِ ، وَيَكُونُ الْقِصَاصُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ هَذَيْنِ النَّقْلَيْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ طُرُقٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَتَرَاجَعَانِ عَلَى مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ ، لِأَنَّ مَا اسْتَهْلَكَهُ الْمَجْنُونُ عَنْ مُعَاوَضَةٍ فَاسِدَةٍ لَمْ يَضْمَنْهُ كَالْمَجْنُونِ ، إِذَا اشْتَرَى وَتَسَلَّمَ مَا اشْتَرَى فَاسْتَهْلَكَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ ، وَلَوْ كَانَ عَاقِلًا ضَمِنَهُ ، فَكَذَلِكَ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَتَرَاجَعَانِ الْقِيمَةَ عَلَى مَا نَقَلَهُ الرَّبِيعُ لِوُقُوعِ الْعِتْقِ عَنْ كِتَابَةٍ فَاسِدَةٍ ، وَجُنُونُهُ فِي الْأَدَاءِ كَالصِّحَّةِ فِي وُقُوعِ الْعِتْقِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِمَثَابَتِهِ فِي الْغُرْمِ ، فَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا . وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ : وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ اخْتِلَافَ النَّقْلِينَ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ ، فَنَقَلَ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُمَا لَا يَتَرَاجَعَانِ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ الْعَبْدُ مَجْنُونًا فِي حَالِ الْكِتَابَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي ، وَنَقْلُ الرَّبِيعِ فِي وُجُوبِ التَّرَاجُعِ بَيْنَهُمَا مَحْمُولٌ عَلَى الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ إِذَا طَرَأَ الْجُنُونُ بَعْدَهَا فِي حَالِ الْأَدَاءِ . وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ : وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ نَقْلَ الرَّبِيعِ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي وُجُوبِ التَّرَاجُعِ ، وَنَقْلَ الْمُزَنِيِّ خَطَأٌ ، لِأَنَّهُ زَادَ فِيهِ لَا سَهْوًا مِنْهُ .

وَهَذَا التَّوَهُّمُ مِنْ أَبِي الْعَبَّاسِ هُوَ السَّهْوُ ، لِأَنَّ وَضْعَ الْكَلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى تَصْحِيحِهِ بِإِثْبَاتٍ لِأَنَّهُ قَالَ : وَلَا يَرْجِعُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ ، نَفْيًا لِعُمُومِ الرُّجُوعِ ، وَلَوْ أَرَادَ إِثْبَاتَ الرُّجُوعِ لَقَالَ : وَيَرْجِعُ السَّيِّدُ عَلَى مُكَاتَبِهِ بِالْقِيمَةِ فَعُلِمَ فَسَادُ مَا تَوَهَّمَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ ، وَصِحَّةُ مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ لِصِحَّةِ نَظْمِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَتْ كِتَابَةً صَحِيحَةً فَمَاتَ السَّيِّدُ وَلَهُ وَارِثَانِ واختلفا فأنكر أحدهما وأثبت الآخر فَقَالَ أَحَدُهُمَا : إِنَّ أَبَاهُ كَاتَبَهُ ، وَأَنْكَرَ الْآخَرُ وَحَلَفَ مَا عَلِمَ أَنَّ أَبَاهُ كَاتَبَهُ ، كَانَ نِصْفُهُ مُكَاتَبًا وَنَصِفُهُ مَمْلُوكًا ، يَخْدِمُ يَوْمًا وَيُخَلَّى يَوْمًا ، وَيَتَأَدَّى مِنْهُ الْمُقِرُّ نِصْفَ كُلِّ نَجْمٍ لَا يَرْجِعُ بِهِ أَخُوهُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ عَتَقَ لَمْ يُقَوَّمْ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَقَرَّ أَنَّهُ عَتَقَ بِشَيْءٍ فَعَلَهُ أَبُوهُ وَإِنْ عَجَزَ رَجَعَ رَقِيقًا بَيْنَهُمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ مَاتَ سَيِّدُهُ وَخَلَّفَ ابْنَيْنِ فَادَّعَى الْعَبْدُ أَنَّ أَبَاهُمَا كَاتَبَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي نُجُومٍ وَصَفَهَا ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الِاثْنَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُصَدِّقَاهُ فَيَصِيرَ مُكَاتَبًا مِنْ أَبِيهِمَا فَإِنْ أَدَّى إِلَيْهِمَا عَتَقَ ، وَكَانَ وَلَاؤُهُ لِلْأَبِ يَنْتَقِلُ إِلَيْهِمَا بِالْإِرْثِ ، وَإِنْ عَجَزَ رَقَّ وَصَارَ عَبْدًا لَهُمَا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُكَذِّبَاهُ فَيَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَهُمَا بِاللَّهِ إِنَّهُمَا لَا يَعْلَمَانِ أَنَّ أَبَاهُمَا كَاتَبَهُ ، لِأَنَّهَا يَمِينٌ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْغَيْرِ ، فَكَانَتْ عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْبَتِّ . فَإِنْ نَكَلَا عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَى الْمُكَاتَبِ ، وَحَلَفَ عَلَى الْبَتِّ بِاللَّهِ لَقَدْ كَاتَبَهُ أَبُوهُمَا عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْمَالِ وَالنُّجُومِ ، وَثَبَتَتْ كِتَابَتُهُ ، وَإِنْ نَكَلَ الْمُكَاتَبُ كَانَ عَلَى رِقِّهِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُصَدِّقَهُ أَحَدُهُمَا وَيُكَذِّبَهُ الْآخَرُ ، فَتَصِيرَ حِصَّةُ الْمُصَدِّقِ مِنْهُ ، وَهِيَ النِّصْفُ مُكَاتَبًا وَيَحْلِفَ الْمُكَذِّبُ عَلَى الْعِلْمِ ، وَتَكُونَ حِصَّتُهُ وَهِيَ النِّصْفُ رِقًّا ، وَإِنَّمَا لَزِمَتِ الْكِتَابَةُ فِي حِصَّةِ الْمُصَدِّقِ بِإِقْرَارِهِ ، لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِحَقٍّ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ فِيهِ يَسْتَضْرُّ بِهِ وَلَا يَنْتَفِعُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا بِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ تَصِحُّ كِتَابَةُ بَعْضِهِ ، وَهُوَ لَوْ كَانَ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا مُكَاتَبَةُ حِصَّتِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ شَرِيكِهِ وَفِي جَوَازِهَا بِإِذْنِهِ قَوْلَانِ ، فَهَلَّا كَانَ كَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ . قِيلَ : لِأَنَّ كِتَابَةَ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عَنْ غَيْرِ اخْتِيَارِ صَاحِبِهِ قُصِدَ بِهَا تَبْعِيضُ أَحْكَامِ الْعَبْدِ مَعَ الضَّرَرِ الدَّاخِلِ عَلَى شَرِيكِهِ ، فَمُنِعَ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا إِذَا صَدَّقَ أَحَدُ الِاثْنَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ مِنْهُ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ لَمْ يَبْتَدِئْ فِيهِ تَبْعِيضُ الْأَحْكَامِ وَإِدْخَالُ الضَّرَرِ ، فَكَانَ إِقْرَارُهُ مَاضِيًا ، فَإِذَا نَفَذَ إِقْرَارُ الْمُصَدِّقِ فِي حَقِّهِ نَظَرَ فَإِنْ كَانَ عَدْلًا جَازَ أَنْ يَشْهَدَ

عَلَى أَخِيهِ بِالْكِتَابَةِ مَعَ عَدْلٍ آخَرَ ، لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ لَا يَجُرُّ بِهَا نَفْعًا وَلَا يَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ ضَرَرًا فَقُبِلَتْ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، وَلَا بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ ، لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ يُقْصَدُ بِهَا الْعِتْقُ ، فَلَمْ تَثْبُتْ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ ، فَإِذَا شَهِدَ الْآخَرُ مَعَ غَيْرِهِ صَارَتْ حِصَّةُ الْمُكَذِّبِ مُكَاتَبَةً ، وَكَمَلَتْ كِتَابَةُ جَمِيعِ الْعَبْدِ فَيُؤْخَذُ بِالْأَدَاءِ إِلَيْهِمَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُصَدِّقُ عَدْلًا ، أَوْ كَانَ عَدْلًا فَلَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ شَاهِدًا حَلَفَ الْمُكَذِّبُ عَلَى حِصَّتِهِ وَرَقَّتْ .

فَصْلٌ : فَإِذَا صَارَ نِصْفُ الْعَبْدِ مُكَاتَبًا بِإِقْرَارِ الْمُصَدِّقِ ، وَنَصِفُهُ مَرْقُوقًا بِيَمِينِ الْمُكَذِّبِ أي تصديق وتكذيب الوارثين ، مَلَكَ الْعَبْدُ نِصْفَ كَسْبِهِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْكِتَابَةِ وَعَلَيْهِ نِصْفُ نَفَقَتِهِ ، وَمَلَكَ الْمُكَذِّبُ نِصْفَ كَسْبِهِ بِمَا لَهُ فِيهِ مِنْ رِقٍّ ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ نَفَقَتِهِ ، ثُمَّ لِلْمُكَذِّبِ وَالْعَبْدِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى الْمُهَايَأَةِ لِيَكْتَسِبَ الْعَبْدُ لِنَفْسِهِ يَوْمًا وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فِيهِ ، وَيَكْتَسِبَ لِلْمُكَذِّبِ يَوْمًا وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فِيهِ ، فَهَذَا جَائِزٌ ، وَيَنْفَرِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَسْبِ يَوْمِهِ وَالْتِزَامِ النَّفَقَةِ فِيهِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْكَسْبِ وَالْتِزَامِ النَّفَقَةِ فَيَجُوزَ وَيَكُونَ النِّصْفُ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ مَعَ الْتِزَامِ النِّصْفِ مِنْ نَفَقَتِهِ ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لِلْمُكَذِّبِ مَعَ الْتِزَامِ النِّصْفِ مِنَ النَّفَقَةِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَدْعُوَ أَحَدُهُمَا إِلَى الْمُهَايَأَةِ وَيَمْتَنِعَ الْآخَرُ مِنْهَا ، فَالْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُ الْمُمْتَنِعِ ، لِأَنَّ حَقَّهُ مُعَجَّلٌ فِي الْكَسْبِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ تَأْخِيرُهُ بِالْمُهَايَأَةِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَمْرُهُ فِي الْكَسْبِ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ مُهَايَأَةٍ أَوِ اشْتِرَاكٍ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُؤَدِّيَ فَيَعْتِقَ أَوْ يَعْجِزَ فَيَرِقَّ . فَإِنْ عَجَزَ وَرَقَّ صَارَ جَمِيعُهُ مَرْقُوقًا ، وَمَا أَخَذَهُ الْمُصَدِّقُ مِنْ أَدَائِهِ الَّذِي لَمْ يُعْتَقْ بِهِ يَكُونُ مُخْتَصًّا بِهِ لَا حَقَّ فِيهِ لِأَخِيهِ الْمُكَذِّبِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ مِنْ ذَلِكَ الْكَسْبِ مَا قَابَلَ حَقَّهُ ، وَإِنْ أَدَّى وَعَتَقَ صَارَ نِصْفُهُ حُرًّا ، وَنِصْفُهُ مَمْلُوكًا ، وَلَا يُقَوَّمُ عَلَى الْمُصَدِّقِ ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْنِفِ الْعِتْقَ ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَ فِعْلَ غَيْرِهِ فِيهِ فَصَارَ كَعَبْدٍ ادَّعَى بَعْدَ مَوْتِ سَيِّدِهِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ فَصَدَّقَهُ أَحَدُ ابْنَيْهِ وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ عُتِقَتْ حِصَّةُ الْمُصَدِّقِ ، وَلَمْ تُقَوَّمْ عَلَيْهِ حِصَّةُ الْمُكَذِّبِ ، ثُمَّ الْكَلَامُ بَعْدَ نُفُوذِ الْعِتْقِ فِي نِصْفِهِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي الْوَلَاءِ . وَالثَّانِي : فِي الْمِيرَاثِ . فَأَمَّا الْوَلَاءُ فِي النِّصْفِ الَّذِي انْعَتَقَ فَيَكُونُ لِلْأَبِ ، لِأَنَّهُ عَتَقَ عَنْ كِتَابَتِهِ ، وَهَلْ يَنْفَرِدُ بِهِ الْمُصَدِّقُ ، أَوْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا ، لِأَنَّهُ وَلَاءٌ مِلْكُهُ لِلْأَبِ فَانْتَقَلَ عَنْهُ فَوَجَبَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ ابْنَاهُ ، وَلَا يَخْتَصَّ بِهِ أَحَدُهُمَا كَمَا لَوْ تَحَرَّرَ عِتْقُ جَمِيعِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّهُ يَخْتَصُّ الْمُصَدِّقُ بِوَلَاءِ النِّصْفِ كُلِّهِ ، لِأَنَّ أَخَاهُ قَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَمْلِكَ وَلَاءَ النِّصْفِ الْبَاقِي لَوْ صَدَّقَ ، وَقَدْ صَارَ إِلَيْهِ بِالتَّكْذِيبِ رِقُّ بَاقِيهِ ، فَلَمْ يَمْلِكِ الْوَلَاءَ فِي حَقِّ أَخِيهِ ، وَجَرَى مَجْرَى أَخَوَيْنِ حَلَفَ أَحَدُهُمَا عَلَى دَيْنٍ لِأَبِيهِ مَعَ شَاهِدٍ أَقَامَهُ وَنَكَلَ الْآخَرُ ، اخْتَصَّ الْحَالِفُ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ ، وَلَمْ يُشَارِكْهُ الْأَخُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ شَرِيكًا فِي تَرِكَةِ أَبِيهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى مِثْلِ مَا صَارَ إِلَى أَخِيهِ لَوْ حَلَفَ . وَأَمَّا الْمِيرَاثُ فِي مَوْتِ هَذَا الَّذِي قَدْ عَتَقَ نِصْفُهُ وَرَقَّ نَصِفُهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يُورَثُ مَا لَمْ تَكْمُلْ حُرِّيَّتُهُ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِلْكًا لِلْمُكَذِّبِ الْمَالِكِ لِرِقٍّ نِصْفِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَكُونُ مَوْرُوثًا بِقَدْرِ حُرِّيَّتِهِ ، فَيَكُونُ نِصْفُهُ لِلْمُكَذِّبِ مِلْكًا بِحَقِّ الرِّقِّ ، وَالنِّصْفُ الْمُقَابِلُ لِحُرِّيَّتِهِ لِوَلَدِهِ إِنْ كَانَ لَهُ ، لِأَنَّ النَّسَبَ فِي الْمِيرَاثِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَلَاءِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ مُنَاسِبٌ انْتَقَلَ بِالْوَلَاءِ إِلَى مَالِكِ الْوَلَاءِ ، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ الْمُصَدِّقِ مِنْهُمَا وَالْمُكَذِّبِ كَانَ مِيرَاثُ النِّصْفِ بَيْنَهُمَا ، لِكَوْنِ الْوَلَاءِ لَهُمَا ، وَاخْتُصَّ الْمُكَذِّبُ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ مِلْكًا ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ لِلْمُصَدِّقِ كَانَ مِيرَاثُ النِّصْفِ لَهُ خَاصَّةً ، وَصَارَ مَا خَلَّفَهُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا شَرِكَةً ، نِصْفُهُ بِالْمِلْكِ لِلْمُكَذِّبِ وَنِصْفُهُ بِالْإِرْثِ لِلْمُصَدِّقِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ وَرِثَا مُكَاتَبًا فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ نَصِيبِهِ مِنَ الْكِتَابَةِ ، فَإِنْ أَدَّى إِلَى أَخِيهِ نَصِيبَهُ عَتَقَ وَكَانَ الْوَلَاءُ لِلْأَبِ ، وَإِنْ عَجَزَ قُوِّمَ عَلَيْهِ وَعَتَقَ إِنْ كَانَ مُوسِرًا وَوَلَاؤُهُ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فِنِصْفُهُ حُرٌّ وَنِصْفُهُ رَقِيقٌ لِأَخِيهِ ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : يَعْتِقُ نِصْفُهُ عَجَزَ أَوْ لَمْ يَعْجِزْ ، وَوَلَاؤُهُ لِلْأَبِ : لِأَنَّهُ الَّذِي عَقَدَ كِتَابَتَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ كَاتَبَ عَبْدَهُ ، ثُمَّ مَاتَ السَّيِّدُ قَبْلَ الْأَدَاءِ ، وَتَرَكَ ابْنَيْنِ لَمْ تَبْطُلِ الْكِتَابَةُ بِمَوْتِهِ لِلُزُومِهَا فِي حَقِّهِ ، وَمَا لَزِمَ مِنَ الْعُقُودِ وَلَمْ يَبْطُلْ بِالْمَوْتِ كَالْبُيُوعِ . وَعَلَى الْمُكَاتَبِ أَنْ يُؤَدِّيَ مَالَ الْكِتَابَةِ إِلَى الِابْنَيْنِ ، لِقِيَامِهِمَا فِيهَا مَقَامَ الْأَبِ ، وَلَيْسَ لَهُمَا فَسْخُهَا لِأَنَّ مَا لَزِمَ الْأَبَ كَانَ لَهُمَا أَلْزَمَ . فَإِنْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ إِلَيْهِمَا مَا عَلَيْهِ عَتَقَ ، وَكَانَ وَلَاؤُهُ لِلْأَبِ يَنْتَقِلُ إِلَيْهِمَا بِالْإِرْثِ ، وَإِنْ عَجَزَ وَاسْتَرَقَاهُ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُمَا .

فَأَمَّا إِنْ أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا حِصَّتَهُ ، أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ نَصِيبِهِ عَتَقَ وَبَرِئَ وَكَانَ عِتْقُهُ إِبْرَاءً ، وَإِبْرَاؤُهُ عِتْقًا لِاقْتِرَانِ الْمَالِ بِالرِّقِّ ، فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْإِبْرَاءِ وَالْعِتْقِ مَقَامَ صَاحِبِهِ ، وَسَاوَاهُ فِي حُكْمِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَعْتِقُ بِالْإِبْرَاءِ نَصِيبُ الْمُبَرِّئِ وَيَكُونُ بَاقِيًا عَلَى كِتَابَتِهِ لِأَنَّهُمَا مَعًا يَقُومَانِ مَقَامَ الْأَبِ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْأَبَ لَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ نِصْفِ كِتَابَتِهِ لَمْ يُعْتَقْ فَكَذَلِكَ إِذَا أَبْرَأَهُ أَحَدُهُمَا فِي نَصِيبِهِ وَهُوَ النِّصْفُ لَمْ يُعْتَقْ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّ الِابْنَ قَدْ أَبْرَأَهُ مِنْ جَمِيعِ حَقِّهِ فَشَابَهَ الْأَبَ ، إِذَا أَبْرَأَهُ مِنْ جَمِيعِ كِتَابَتِهِ وَشَابَهَ إِبْرَاءَ الْأَبِ مِنْ بَعْضِ الْكِتَابَةِ أَنْ يُبْرِئَهُ الِابْنُ مِنْ بَعْضِ نَصِيبِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا أَعْتَقَ فَبَرِئَ أَوْ أُبْرِئَ فَعَتَقَ ، فَفِي تَقْوِيمِ بَاقِيهِ عَلَى مُعْتِقِهِ وَمُبْرِئِهِ إِذَا كَانَ مُوسِرًا قَوْلَانِ الوارث ، نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِمَا ، وَنَقَلَهُمَا الْمُزَنِيُّ إِلَى جَامِعِهِ الْكَبِيرِ : أَحَدُهُمَا : لَا تُقَوَّمُ عَلَيْهِ وَيَكُونُ الْبَاقِي عَلَى كِتَابَتِهِ ، لِأَنَّ عَقْدَ الْعِتْقِ كَانَ مِنَ الْأَبِ ، وَلِذَلِكَ كَانَ وَلَاؤُهُ لَهُ ، وَالْوَارِثُ إِنَّمَا وَرِثَ الْمَالَ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَصِيرَ مَالِكًا لِلرَّقَبَةِ بِالْعَجْزِ ، فَإِذَا أَبْرَأَ أَوْ أَعْتَقَ ، كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ تَنْفِيذًا لِعِتْقِ الْأَبِ ، وَتَعْجِيلًا لِمَا أَخَّرَهُ فَلَمْ يُقَوَّمْ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعِتْقَ مَنْسُوبٌ إِلَى أَبِيهِ ، وَلَمْ يُقَوَّمْ عَلَى الْأَبِ لِزَوَالِ مِلْكِهِ بِالْمَوْتِ ، فَعَلَى هَذَا تَعْتِقُ حِصَّةُ الْمُبَرِّئِ فِي حَالِ الْإِبْرَاءِ وَالْعِتْقِ ، وَيَكُونُ نِصْفُهُ الْبَاقِي عَلَى كِتَابَتِهِ يُؤَدِّيهَا إِلَى الْأَخِ ، فَإِنْ أَدَّاهَا عَتَقَ نِصْفُهُ الْبَاقِي وَصَارَ جَمِيعُهُ حُرًّا وَوَلَاؤُهُ لِلْأَبِ يَنْتَقِلُ إِلَيْهِمَا بِالْإِرْثِ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ بَاقِي كِتَابَتِهِ ، رَقَّ نِصْفُهُ ، وَكَانَ مَلِكًا لِلْأَخِ ، وَكَانَ وَلَاءُ نِصْفِهِ الْمُعْتَقِ لِلْأَبِ ، وَهَلْ يَنْفَرِدُ بِهِ الْمُعَتِقُ ، أَوْ يَكُونُ شَرِكَةً بَيْنَهُمَا ، فَفِيهِ وَجْهَانِ مَضَيَا : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ بَيْنَهُمَا ، لِأَنَّهُ مُنْتَقِلٌ عَنِ الْأَبِ إِرْثًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ أَحَدُهُمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَكُونُ لِلْمُعْتِقِ خَاصَّةً ، لِأَنَّ أَخَاهُ قَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى مِلْكِ مِثْلِهِ لَوْ عَجَّلَ الْعِتْقَ ، أَوِ الْإِبْرَاءِ ، فَلَمَّا اخْتَارَ رِقَّهُ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالرِّقِّ وَيُشَارِكَ فِي الْوَلَاءِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَالْإِمْلَاءِ وَأَكْثَرِ كُتُبِهِ أَنَّهُ يُقَوَّمُ عَلَى الْمُعْتِقِ بَاقِيهِ ، لِأَنَّهُ بِتَعَجُّلِ الْعِتْقِ عَادِلٌ عَنْ عِتْقِ الْأَبِ فَصَارَ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا بِحُكْمِ سَرَايَتِهِ لِعِتْقِهِ وَيَسَارِهِ ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَتَعَجَّلُ بِسَرَايَةِ عِتْقِهِ فِي الْحَالِ ، أَوْ تَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى الْعَجْزِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : تَتَعَجَّلُ السِّرَايَةُ لِطُرُوئِهَا عَلَى مَحَلٍّ يَسْرِي فِيهِ الْعِتْقُ ، فَصَارَتْ كَالسِّرَايَةِ فِي عِتْقِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى عَجْزِ الْمُكَاتَبِ ، لِأَنَّ حَقَّ الْأَبِ فِي عِتْقِهِ وَمِلْكِ وَلَائِهِ أَسْبَقُ ، فَلَمْ يَجُزْ إِبْطَالُهُ إِلَّا بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا قُلْنَا بِتَعْجِيلِ السِّرَايَةِ

أَخَذَ الْمُعْتِقُ بِقِيمَةِ حِصَّةِ أَخِيهِ فِي وَقْتِ عِتْقِهِ ، وَبِمَاذَا يَقَعُ الْعِتْقُ فِي هَذَا النِّصْفِ الْمُقَوَّمِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : بِلَفْظِ الْمُعْتِقِ ، وَيَكُونُ مَأْخُوذًا بِالْقِيمَةِ بَعْدَ نُفُوذِ الْعِتْقِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَقَعُ بِاللَّفْظِ وَأَدَاءِ الْقِيمَةِ وَيَكُونُ ذَلِكَ النِّصْفُ قَبْلَ دَفْعِ قِيمَتِهِ عَلَى رِقِّهِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ عِتْقَهُ يَكُونُ مَوْقُوفًا مُرَاعًى ، فَإِنْ دُفِعَتِ الْقِيمَةُ بَانَ أَنَّهُ وَقَعَ بِنَفْسِ اللَّفْظِ ، وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْهَا بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَعْتِقْ ، وَعَلَى أَيِّ الْأَقَاوِيلِ عَتَقَ فَوَلَاءُ هَذَا النِّصْفِ الْمُقَوَّمِ يَكُونُ لِلْمُعْتِقِ خَاصَّةً ، لِأَنَّهُ عَتَقَ بِالتَّقْوِيمِ عَلَيْهِ لَا بِالْكِتَابَةِ . فَأَمَّا وَلَاءُ نِصْفِهِ الَّذِي أَعْتَقَهُ فَلِلْأَبِ ، وَهَلْ يَنْفَرِدُ بِهِ الْمُعْتِقُ ، أَوْ يَكُونُ شَرِكَةً بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ ؟ وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ السِّرَايَةَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْعَجْزِ انْتَظَرَ بِهَا أَدَاءَ الْمُكَاتَبِ ، فَإِنْ أَدَّى كِتَابَةَ بَاقِيهِ ، عَتَقَ وَلَا تَقْوِيمَ فِيهِ ، وَكَانَ جَمِيعُ وَلَائِهِ لِلْأَبِ يَنْتَقِلُ إِلَى الْأَخَوَيْنِ نِصْفَيْنِ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ كِتَابَةِ بَاقِيهِ ، قُوِّمَ حِينَئِذٍ لِوَقْتِهِ ، وَوَقَعَ الْعِتْقُ هَاهُنَا بِاللَّفْظِ مَعَ أَدَاءِ الْقِيمَةِ قَوْلًا وَاحِدًا ، لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَفَ بَعْدَ اللَّفْظِ امْتَنَعَ أَنْ يَقَعَ بِهِ ، وَلَمَّا وَقَفَ عَلَى أَدَاءِ الْكِتَابَةِ دُونَ الْقِيمَةِ ، امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مُرَاعًى بِدَفْعِ الْقِيمَةِ ، وَثَبَتَ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِأَدَائِهَا مَعَ اللَّفْظِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهَا . وَإِذَا كَانَ بِذَلِكَ كَانَ وَلَاءُ نِصْفِهِ الْمُقَوَّمِ مُخْتَصًّا بِهِ لَا حَقَّ فِيهِ لِأَخِيهِ ، وَفِي وَلَاءِ مَا بَاشَرَهُ مِنَ الْعِتْقِ وَالْإِبْرَاءِ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى . فَيَصِيرُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ مَالِكًا لِجَمِيعِ وَلَائِهِ ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي مَالِكًا لِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ إِنْ بَاعَهُ ، وَأَخُوهُ مَالِكًا لِرُبُعِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ( وَالْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . لَا يَعْتِقُ الْمُكَاتَبُ إِلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الْكِتَابَةِ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَمِنَ التَّابِعِينَ : سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَمُجَاهِدٌ وَالزَّهْرِيُّ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ : مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَحْمَدُ . وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : إِذَا كُتِبَتْ صَحِيفَةُ الْمُكَاتَبِ عَتَقَ بِهَا ، وَكَانَ غَرِيمًا بِمَا عَلَيْهِ . وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إِذَا أَدَّى قَدْرَ قِيمَتِهِ عَتَقَ وَكَانَ غَرِيمًا بِمَا فَضَلَ عَنْهَا .

وَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : يَعْتِقُ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى وَيَرِقُّ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ . وَحُكِيَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ : إِذَا أَدَّى ثُلُثَ كِتَابَتِهِ ، عَتَقَ وَكَانَ غَرِيمًا بِالْبَاقِي . وَحُكِيَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إِذَا أَدَّى الشَّطْرَ عَتَقَ ، وَكَانَ غَرِيمًا بِالْبَاقِي . وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لَهُمْ عَلَى اخْتِلَافِ أَقَاوِيلِهِمْ بِحَدِيثِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يُؤَدِّي الْمُكَاتَبُ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهُ دِيَةَ حُرٍّ وَبِقَدْرِ مَا رَقَّ مِنْهُ دِيَةَ عَبْدٍ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عِتْقَهُ لَا يَقِفُ عَلَى أَدَاءِ جَمِيعِ الْمَالِ . وَدَلِيلُنَا : حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ شَيْءٌ . وَهَذَا نَصٌّ ، وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَيُّمَا عَبْدٍ كُوتِبَ عَلَى مِائَةِ أُوقِيَّةٍ فَأَدَّاهَا إِلَّا عَشَرَةَ أَوَاقٍ فَهُوَ عَبْدٌ . أَوْ قَالَ : كُوتِبَ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ فَأَدَّاهَا إِلَّا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فَهُوَ عَبْدٌ " وَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَخْلُو إِمَّا أَنْ يَغْلِبَ فِيهَا حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ ، فَتَجْرِيَ مَجْرَى الْبَيْعِ ، أَوْ يَغْلِبَ فِيهَا حُكْمُ الصِّفَةِ ، فَتَجْرِيَ مَجْرَى الْعِتْقِ بِالصِّفَةِ ، فَإِنْ جَرَتْ مَجْرَى الْبَيْعِ فَالْبَيْعُ لَا يَلْزَمُ إِلَّا بِتَسْلِيمِ جَمِيعِ ثَمَنِهِ ، وَإِنْ جَرَى مَجْرَى الْعِتْقِ بِالصِّفَةِ لَمْ تَقَعْ إِلَّا بِوُجُودِ جَمِيعِ الصِّفَةِ ، فَبَطَلَ بِهَذَا مَا قَالُوهُ . فَأَمَّا حَدِيثُ عِكْرِمَةَ مَعَ ضَعْفِهِ ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ ، لِأَنَّهُ جَعَلَ دِيَتَهُ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهُ ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى قَدْرِ مَا يَعْتِقُ مِنْهُ ، وَيَكُونُ إِنْ صَحَّ مَحْمُولًا عَلَى عِتْقِ أَحَدِ الِابْنَيْنِ عَلَى مَا مَضَى .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ إِلَّا بِجَمِيعِ الْأَدَاءِ فَعَقَدَ السَّيِّدُ الْكِتَابَةَ عَلَى أَنَّهُ كُلَّمَا أَدَّى مِنْهُمَا نَجْمًا ، عَتَقَ مِنْهُ بِقِسْطِهِ كَانَتِ الْكِتَابَةُ فَاسِدَةً لِاقْتِرَانِهَا بِشَرْطٍ يُنَافِيهَا ، فَإِنْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ نَجْمًا مِنْهَا عَتَقَ مِنْهُ بِقِسْطِهِ ، لِوُجُودِ الصِّفَةِ فِيهِ ، وَسَرَى الْعِتْقُ إِلَى بَاقِيهِ ، وَرَجَعَ السَّيِّدُ إِلَى مُكَاتَبِهِ ، وَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الْقِيمَةِ ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ أَفْضَتْ إِلَى عِتْقِ جَمِيعِهِ ، وَرَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْبَعْضِ الَّذِي عَتَقَ مِنْهُ بِالصِّفَةِ ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ مَا عَتَقَ بِالسِّرَايَةِ لِاخْتِصَاصِ الْعِتْقِ فِي الْكِتَابَةِ بِالصِّفَةِ دُونَ السِّرَايَةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ مَاتَ وَلَهُ مَالٌ حَاضِرٌ وَوَلَدٌ مَاتَ عَبْدًا وَلَا يُعْتَقُ بَعْدَ الْمَوْتِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ لَازِمٌ مِنْ جِهَةِ الْمُكَاتَبِ ، فَإِنْ أَرَادَ السَّيِّدُ الْفَسْخَ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْعَجْزِ كَالْبَيْعِ الَّذِي لَا يُفْسَخُ بَعْدَ لُزُومِهِ إِلَّا بِعَيْبٍ إِذَا أَرَادَ الْمُكَاتَبُ الْفَسْخَ لَمْ يَمْلِكْهُ وَلَكِنَّهُ يَمْلِكُ الِامْتِنَاعَ مِنَ الْأَدَاءِ حَتَّى يَسْتَحِقَّ بِهِ السَّيِّدُ الْفَسْخَ . وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : عَقْدُ الْكِتَابَةِ لَازِمَةٌ مِنْ جِهَةِ الْمُكَاتَبِ كَلُزُومِهَا مِنْ جِهَةِ السَّيِّدِ ، وَيُجْبَرُ الْمُكَاتَبُ عَلَى الْأَدَاءِ إِذَا وَجَدَ وَفَاءً ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَقَدِ اخْتَلَفَا فِي إِجْبَارِهِ عَلَى الْكَسْبِ ، فَقَالَ مَالِكٌ : يُجْبَرُ عَلَيْهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ . وَاسْتَدَلَّا عَلَى لُزُومِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُكَاتَبِ بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَقْدَ الْمُعَاوَضَةِ إِذَا لَزِمَ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيْهِ لَزِمَ مِنَ الطَّرَفِ الْآخَرِ كَالْبَيْعِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْعِوَضَ إِذَا كَانَ فِي مُقَابَلَةِ الْعِتْقِ لَزِمَ كَمَا لَوْ بَاعَ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ بِأَلْفٍ لَزِمَتْهُ الْأَلْفُ . وَدَلِيلُنَا شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَالَ إِذَا لَزِمَ صَحَّ ضَمَانُهُ ، وَضَمَانُ مَالِ الْكِتَابَةِ عَنِ الْمُكَاتَبِ لَا يَصِحُّ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَالَ إِذَا كَانَ فِي مُقَابَلَةِ الْعِتْقِ لَمْ يَلْزَمْهُ بَدَلُهُ ، كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : إِنْ دَفَعْتَ إِلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ ، لَمْ يَلْزَمْهُ دَفْعُ الْأَلْفِ ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِلُزُومِ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ ، فَلِأَنَّ جَوَازَ ضَمَانِهِ دَلِيلٌ عَلَى لُزُومِهِ ، وَضَمَانَ مَالِ الْكِتَابَةِ لَا يَصِحُّ ، فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ لُزُومِهِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِبَيْعِ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ . فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جَوَازِ ضَمَانِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا وَمَاتَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ الْأَدَاءِ مَاتَ عَبْدًا [ سَوَاءٌ كَانَ الْبَاقِي قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا ، تَرَكَ وَفَاءً أَوْ لَمْ يَتْرُكْ ، خَلَّفَ وَلَدًا أَوْ لَمْ يُخَلِّفْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ لَمْ

يُخَلِّفْ وَفَاءً مَاتَ عَبْدًا ، وَإِنْ خَلَّفَ وَفَاءً عَتَقَ بِآخِرِ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ ، وَمَاتَ حُرًّا . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ لَمْ يُخَلِّفْ وَلَدًا مَاتَ عَبْدًا ] . وَإِنَّ خَلَّفَ وَلَدًا مَمْلُوكًا وُلِدَ فِي كِتَابَتِهِ مِنْ أَمَتِهِ أُجْبِرَ عَلَى الْأَدَاءِ إِنْ خَلَّفَ وَفَاءً ، لِيَعْتِقَ بِأَدَائِهِ فَيَتْبَعَهُ فِي عِتْقِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُخَلِّفْ وَفَاءً أُجْبِرَ عَلَى الْكَسْبِ ، لِيُؤَدِّيَهُ فَيَعْتِقَ بِهِ تَبَعًا لِأَبِيهِ . وَلَوْ تَرَكَ الْمُكَاتَبُ وَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا حُرٌّ وَالْآخَرُ مَمْلُوكٌ كَانَ مِيرَاثُهُ لِوَلَدِهِ الْمَمْلُوكِ دُونَ الْحَرِّ لِيُؤَدِّيَهُ فِي كِتَابَةِ أَبِيهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا لَمْ يَنْفَسِخْ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنَ ، لَمْ يَنْفَسِخْ بِمَوْتِ الْآخَرِ كَالْبَيْعِ ، لِأَنَّ مَنْ تَمَّتْ بِهِ الْكِتَابَةُ لَمْ يَنْفَسِخْ بِمَوْتِهِ كَالسَّيِّدِ . وَلِأَنَّ مَالَ الْكِتَابَةِ مُتَعَلِّقٌ بِذِمَّتِهِ فِي حَيَاتِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِتَرِكَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَالدَّيْنِ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ الْعِتْقَ وَالْإِبْرَاءَ يَقُومَانِ فِي عِتْقِ الْمُكَاتَبِ مَقَامَ الْأَدَاءِ ، فَإِذَا لَمْ يُعْتَقْ بِإِبْرَائِهِ وَعِتْقِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَعْتِقَ بِالْأَدَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ مَا عَتَقَ بِهِ الْمُكَاتَبُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ لَمْ يَعْتِقْ بِهِ بَعْدَ الْوَفَاةِ كَالْإِبْرَاءِ وَالْعِتْقِ . وَلِأَنَّ مَوْتَ الْمُكَاتَبِ قَبْلَ الْأَدَاءِ حكم يَقْتَضِي أَنْ يَمُوتَ عَبْدًا كَالَّذِي لَمْ يُخَلِّفْ وَفَاءً ، وَلَا وَلَدًا ، وَلِأَنَّ عِتْقَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِآخِرِ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ ، أَوْ يَتَعَلَّقَ بِالْأَدَاءِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِآخِرِ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ لَمْ يَجُزْ ، لِأَنَّهُ تَحْرِيرُ عِتْقٍ قَبْلَ وُجُودِ الْأَدَاءِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَإِنْ عَتَقَ بِالْأَدَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَجُزْ ، لِأَنَّ مَنْ مَاتَ عَبْدًا لَمْ يُعْتَقْ بَعْدَ مَوْتِهِ كَالْعَبْدِ الْقِنِّ ، وَكَمَا لَوْ لَمْ يَلْفِظْ سَيِّدُهُ بِالْعِتْقِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْبَيْعِ : فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْفَسِخْ بَعْدَ الْمَوْتِ بِالْإِعْسَارِ لَمْ يَنْفَسِخْ بِالْيَسَارِ . وَلَمَّا انْفَسَخَتِ الْكِتَابَةُ بِمَوْتِ الْمُعْسِرِ انْفَسَخَتْ بِمَوْتِ الْمُوسِرِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَوْتِ السَّيِّدِ مَعَ افْتِرَاقِهِمَا بِمَا ذَكَرْنَا فِي اللُّزُومِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّ السَّيِّدَ مَوْرُوثٌ ، فَجَازَ أَنْ يَقُومَ وَارْثُهُ مَقَامَهُ فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ فِي حَقِّهِ ، وَالْمُكَاتَبَ غَيْرُ مَوْرُوثٍ فَانْقَطَعَ بِمَوْتِهِ حُكْمُ مَا لَمْ يُبْرِمْ مِنْ عُقُودِهِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِتَعَلُّقِهِ فِي ذِمَّتِهِ كَالدَّيْنِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ

بِتَرِكَتِهِ حَقُّ وَرَثَتِهِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ دَيْنُ كِتَابَتِهِ ، أَلَا تَرَى لَوْ تَرَكَ أَقَلَّ مِنَ الْوَفَاءِ لَمْ يُورَثْ عَنْهُ ، وَصَارَ إِلَى سَيِّدِهِ مِلْكًا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ جَاءَهُ بِالنَّجْمِ فَقَالَ السَّيِّدُ : هُوَ حَرَامٌ ، أَجْبَرْتُ السَّيِّدَ عَلَى أَخْذِهِ أَوْ يُبْرِئُهُ مِنْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا دَفَعَ الْمُكَاتَبُ مَالَ نَجْمٍ مِنْ كِتَابَتِهِ إِلَى سَيِّدِهِ فَقَالَ السَّيِّدُ : هُوَ حَرَامٌ ، لِأَنَّهُ مِنْ غَصْبٍ ، أَوْ رِبًا وَقَالَ الْمُكَاتَبُ : بَلْ هُوَ مَالِي ، وَحَلَالٌ لِي . فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُكَاتَبِ مَعَ يَمِينِهِ دُونَ السَّيِّدِ ، لِأَنَّ ظَاهِرَهُ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ مِلْكِهِ ، وَيَحْلِفُ عَلَيْهِ لِإِمْكَانِ مَا قَالَهُ السَّيِّدُ ، وَهُوَ فِي يَمِينِهِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَحْلِفَ بِاللَّهِ أَنَّ هَذَا الْمَالَ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَا مَغْصُوبٍ ، وَبَيْنَ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ مِلْكُهُ ، فَإِذَا حَلَفَ قِيلَ لِلسَّيِّدِ : إِمَّا أَنْ تَقْبِضَهُ ، أَوْ تُبَرِّئَهُ مِنْهُ . فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيْسَ الْمُفْلِسُ إِذَا حَلَفَ عَلَى مَالٍ ادَّعَاهُ فَأَكْذَبَهُ فِيهِ بَعْضُ غُرَمَائِهِ وَحُكِمَ لَهُ بِالْمَالِ فَإِنَّهُ يُقَسِّمُهُ بَيْنَ مَنْ صَدَّقَهُ مِنْ غُرَمَائِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ أَكْذَبَهُ فِيهِ حَقٌّ لِاعْتِرَافِهِ بِتَحْرِيمِهِ ، فَهَلَّا كَانَ سَيِّدُ الْمُكَاتَبِ كَذَلِكَ . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُفْلِسَ لَا يَسْتَضِرُّ بِامْتِنَاعِ بَعْضِ غُرَمَائِهِ مِنْ أَخْذِهِ ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ إِلَى غَيْرِهِ ، وَالْمُكَاتَبَ يَسْتَضِرُّ بِامْتِنَاعِ سَيِّدِهِ مِنْ أَخْذِهِ ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ إِلَى غَيْرِهِ ، فَلِذَلِكَ أُجْبِرَ السَّيِّدُ عَلَى أَخْذِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُجْبَرْ غَرِيمُ الْمُفْلِسِ . وَمِثَالُ الْمُكَاتَبِ مِنَ الْمُفْلِسِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ إِلَّا غَرِيمٌ وَاحِدٌ قَدِ اعْتَرَفَ بِتَحْرِيمِهِ فَيُجْبَرَ عَلَى أَخْذِهِ ، أَوْ إِبْرَائِهِ ، لِأَنَّهُ يَسْتَضِرُّ فِي الْغَرِيمِ الْوَاحِدِ بِتَرْكِ أَخْذِهِ كَالْمُكَاتَبِ فَصَارَا سَوَاءً .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى أَخْذِهِ إذا لم يثبت أن مال المكاتب من حرام فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : إِمَّا أَنْ يَأْخُذَهُ وَإِمَّا أَنْ يُبْرِئَهُ ، وَإِمَّا أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ الْأَخْذِ وَالْإِبْرَاءِ . فَإِنْ أَخَذَ مِنْهُ الْمَالَ بَرِئَ الْمُكَاتَبُ مِنْهُ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ آخِرِ نُجُومِهِ عَتَقَ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ تَضَاعِيفِهَا كَانَ عِتْقُهُ مُعَلَّقًا بِأَدَاءِ مَا بَقِيَ ، فَإِذَا صَارَ الْمَالُ فِي يَدِ السَّيِّدِ نَظَرَ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنْ تَحْرِيمِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُسَمِّ مُسْتَحِقَّهُ كَانَ مُقَرًّا فِي يَدِهِ عَلَى مُسْتَحَقِّهِ ، وَلَا يُجْعَلُ مِلْكًا لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُنْزَعْ مِنْ يَدِهِ . وَإِنْ سَمَّى مُسْتَحِقَّهُ فَقَالَ : هُوَ مَغْصُوبٌ مِنْ زَيْدٍ لَزِمَهُ بَعْدَ أَخْذِهِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى زَيْدٍ ، لِاعْتِرَافِهِ لَهُ بِمَا صَارَ فِي يَدِهِ ، وَلِأَنَّهُ سَمَّى فَصَارَ كَرَجُلٍ أَقَرَّ بِدَارٍ فِي يَدِ أَبِيهِ أَنَّهَا غَصْبٌ ، ثُمَّ مَاتَ أَبُوهُ فَصَارَتِ الدَّارُ إِلَيْهِ ، لَزِمَهُ رَدُّهَا عَلَى مَنِ اعْتَرَفَ بِغَصْبِهَا مِنْهُ . فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيْسَ لَوْ رَهَنَ رَجُلٌ عَبْدًا فَادُّعِيَتْ عَلَى الْعَبْدِ جِنَايَةٌ صُدِّقَ عَلَيْهَا

الْمُرْتَهِنُ وَكُذِّبَ الرَّاهِنُ ، فَأَحْلَفَ الرَّاهِنَ عَلَيْهَا وَبِيعَ الْعَبْدُ ، ثُمَّ دُفِعَ ثَمَنُهُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَلْزَمْهُ دَفْعُهُ إِلَى مَنْ صَدَّقَهُ عَلَى دَعْوَى الْجِنَايَةِ ، فَهَلَّا كَانَ فِي سَيِّدِ الْمُكَاتَبِ كَذَلِكَ . قِيلَ : لِأَنَّ حَقَّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ يَتَعَيَّنُ فِي مَالِ الْكِتَابَةِ فَلَزِمَ السَّيِّدَ رَدُّهُ عَلَيْهِ وَلَا يَتَعَيَّنُ فِي ثَمَنِ الْعَبْدِ الْجَانِي ، فَلَمْ يَلْزَمِ الْمُرْتَهِنَ رَدُّهُ عَلَيْهِ . وَإِنْ لَمْ يَقْبِضِ السَّيِّدُ ذَلِكَ ، وَلَكِنْ أَبْرَأَ مِنْهُ جَازَ أَنْ يَكُونَ السَّيِّدُ شَاهِدًا عَلَى مُكَاتَبَةِ بَعْضِهِ ، وَلَوْ لَمْ يُبَرِّئْهُ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِهَا قَبْلَ الْإِبْرَاءِ ضَرَرًا ، وَلَا يَدْفَعُ بِهَا بَعْدَهُ ضَرَرًا ، وَتَجُوزُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ ، إِذَا سُمِّيَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ ، وَلَا تَجُوزُ إِنْ لَمْ يُسَمِّهِ ، وَلَا يُمْنَعُ الْمُكَاتَبُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ إِذَا لَمْ تَجُزِ الشَّهَادَةُ ، وَإِنْ لَمْ يَقْبِضِ السَّيِّدُ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَا أَبْرَأَهُ فَلِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَسْتَعْدِيَ الْحَاكِمَ عَلَى سَيِّدِهِ حَتَّى يَأْمُرَهُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قَبْضٍ أَوْ إِبْرَاءٍ . فَإِنْ أَقَامَ عَلَى امْتِنَاعِهِ نَابَ الْحَاكِمُ عَنْهُ فِي الْقَبْضِ دُونَ الْإِبْرَاءِ ، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِسْقَاطٌ وَالْقَبْضَ اسْتِيفَاءٌ ، فَإِذَا قَبَضَهُ الْحَاكِمُ نَظَرَ فَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ قَدْ سَمَّى الْمَغْصُوبَ مِنْهُ سَلَّمَهُ الْحَاكِمُ إِلَيْهِ إِذَا طَالَبَهُ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ اسْتَبْقَاهُ الْحَاكِمُ فِي يَدِهِ ، أَوْ فِي يَدِ أَمِينٍ مِنْ أُمَنَائِهِ ، فَإِنْ جَاءَ مُدَّعِيهِ بِبَيِّنَتِهِ أَقَامَهَا عَلَى غَصْبِهِ مِنْهُ ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مِلْكٌ لَهُ سَلَّمَهُ إِلَيْهِ . وَإِنْ جَاءَ السَّيِّدُ مُطَالِبًا بِإِقْرَارِهِ فِي يَدِهِ ، لَمْ يَدْفَعْهُ الْحَاكِمُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي قَبْضَتِهِ لَمْ يَنْتَزِعْهُ مِنْهُ إِلَّا مَالِكٌ ، وَإِذَا صَارَ فِي يَدِ الْحَاكِمِ لَمْ يَدْفَعْهُ إِلَّا إِلَى مَالِكٍ ، وَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ فَأُخِذَ بِإِقْرَارِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ .

مَسْأَلَةٌ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَلَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : إِنْ شَرَطَ السَّيِّدُ عَلَى مُكَاتَبِهِ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ إِلَّا بِأَمْرِهِ ، وَجَبَ أَنْ يَسْتَأْمِرَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فَهُوَ عَاهِرٌ . وَالْمُكَاتَبُ عَبْدٌ ، وَلِأَنَّ التَّزْوِيجَ اسْتِهْلَاكُ مَالٍ بِالْتِزَامِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ ، وَالْمُكَاتَبُ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فِي التَّزْوِيجِ جَازَ قَوْلًا وَاحِدًا . وَلَوْ أَرَادَتِ الْمُكَاتَبَةُ أَنْ تُخَالِعَ زَوْجَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ لَمْ يَجُزْ لِمَا فِيهِ مِنِ اسْتِهْلَاكِ الْمَالِ ، فَإِنْ أَذِنَ لَهَا السَّيِّدُ فِي الْخُلْعِ ، فَفِي جَوَازِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ ، لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْمَالِ الَّذِي بِيَدِهَا ، لَا يَعْدُوهَا . فَعَلَى هَذَا يَسْتَوِي حُكْمُ النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ فِي جَوَازِهِمَا بِإِذْنِ السَّيِّدِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْخُلْعَ لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ أَذِنَ السَّيِّدُ فِيهِ لِضِعْفِ إِذْنِهِ مَعَهَا . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْخُلْعِ وَالنِّكَاحِ ، أَنَّ الْمُكَاتَبَ قَدْ يَكُونُ مُضْطَرًّا إِلَى النِّكَاحِ ، فَجَازَ ، وَالْمُكَاتَبَةَ غَيْرُ مُضْطَرَّةٍ إِلَى الْخُلْعِ فَلَمْ يَجُزْ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ( وَلَا يَتَسَرَّى بِحَالٍ المكاتب " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمُكَاتَبُ الْإِمَاءَ لِلتِّجَارَةِ وَاكْتِسَابِ الرِّبْحِ ، لِأَنَّ التِّجَارَةَ فِيهِنَّ جَائِزَةٌ . فَإِذَا اشْتَرَى أَمَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَسَرَّى بِهَا ، وَيَسْتَمْتِعَ بِإِصَابَتِهَا بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ ، لِضَعْفِ حُكْمِهِ وَقُصُورِ تَصَرُّفِهِ ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فِي إِصَابَتِهَا وَالتَّسَرِّي بِهَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي الْعَبْدِ ، هَلْ يَمْلِكُ إِذْ مَلَكَ ، أَمْ لَا ؟ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ ، وَإِنْ مَلَكَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَسَرَّى المكاتب ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ ، لِأَنَّ التَّسَرِّيَ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي مِلْكٍ ، وَلَيْسَ الْمُكَاتَبُ مَالِكًا . وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ ، أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ إِذَا مَلَكَ ، فَيَجُوزُ تَسَرِّيهِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ قَوْلًا وَاحِدًا ، كَالنِّكَاحِ ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِمَا فَاسْتَوَيَا . وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَ فِي جَوَازِهِمَا بِإِذْنِ السَّيِّدِ قَوْلَيْنِ كَالْهِبَةِ ، وَلَيْسَ هَذَا التَّخْرِيجُ صَحِيحًا ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْهِبَةَ اسْتِهْلَاكُ مِلْكٍ عَاجِلٍ ، وَالنِّكَاحَ وَالتَّسَرِّيَ قَدْ يُفْضِي إِلَى الِاسْتِهْلَاكِ وَلَا يُفْضِي . وَالثَّانِي : أَنَّ الضَّرُورَةَ مَفْقُودَةٌ فِي الْهِبَةِ ، وَقَدْ تُوجَدُ فِي التَّسَرِّي وَالنِّكَاحِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ وَلَدَتْ مِنْهُ بَعْدَ عِتْقِهِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ كَانَتْ فِي حُكْمِ أُمِّ وَلَدِهِ وَإِنْ وَضَعَتْ لِأَقَلَّ فَلَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ إِلَّا بِوَطْءٍ بَعْدَ الْعِتْقِ وَلَهُ بَيْعُهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا وَطِئَ الْمُكَاتَبُ أَمَةً ، قَدِ اشْتَرَاهَا فِي كِتَابَتِهِ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي وَطْئِهَا ، وَلَا مَهْرَ ، سَوَاءٌ جَوَّزَ لَهُ ذَلِكَ أَوْ مَنَعَ مِنْهُ ، أَمَّا سُقُوطُ الْحَدِّ فَلِوُجُودِ الشُّبْهَةِ فِي تَرَدُّدِهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا أَوْ غَيْرَ مَالِكٍ ، وَأَمَّا سُقُوطُ الْمَهْرِ فَلِأَنَّ مَهْرَهَا مِنْ كَسْبِهِ ، فَلَمْ يَجِبْ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ مَهْرٌ ، فَإِنْ أَحْبَلَهَا وَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَهُوَ لَاحِقٌ بِهِ ، لِأَنَّهُ مِنْ مِلْكٍ أَوْ شُبْهَةِ مِلْكٍ ، وَهُوَ مَمْلُوكٌ لِأَنَّهُ مِنْ بَيْنِ مَمْلُوكَيْنَ ، وَلَا يَمْلِكُهُ السَّيِّدُ لِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ أَبَوَيْهِ ، وَلَا يُعْتَقُ عَلَى الْأَبِ بِالْمِلْكِ لِبَقَاءِ الْأَبِ عَلَى رِقِّهِ ، وَلَيْسَ لِلْأَبِ بَيْعُهُ لِحُرْمَةِ نَسَبِهِ ، وَيَكُونُ تَبَعًا لَهُ فِي الْكِتَابَةِ يُعْتَقُ بِعِتْقِهِ ، وَيَرِقُّ بِرِقِّهِ ، وَهَلْ تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ ، لِأَنَّهَا عَلَقَتْ بِهِ وَهُوَ مَمْلُوكٌ ، فَلَمْ تَنْتَشِرْ حُرْمَتُهُ إِلَيْهَا ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا فِي كِتَابَتِهِ وَبَعْدَ عِتْقِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، لِأَنَّ لِوَلَدِهَا فِي الْحَالِ حُرْمَةً تَمْنَعُ مِنْ

جَوَازِ بَيْعِهِ ، فَانْتَشَرَتْ حُرْمَتُهُ إِلَيْهَا فِي الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِهَا ، فَعَلَى هَذَا يُوقَفُ أَمْرُهَا عَلَى عِتْقِهِ ، فَإِنْ عَتَقَ حَرُمَ بَيْعُهَا ، وَإِنْ عَجَزَ وَرَقَّ صَارَتْ هِيَ وَوَلَدُهَا مِلْكًا لِلسَّيِّدِ ، تَبَعًا لِرِقِّ الْمُكَاتَبِ ، وَلَهُ بَيْعُ جَمِيعِهِمْ ، هَذَا إِذَا كَانَ وَضْعُهَا لِلْوَلَدِ قَبْلَ عِتْقِ الْمُكَاتَبِ . فَأَمَّا إِذَا وَضَعَتْ وَلَدًا بَعْدَ عِتْقِ الْمُكَاتَبِ ، فَلَا يَخْلُو أَنْ تَضَعَهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ ، فَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ مَمْلُوكٌ فِي حَالِ الْعُلُوقِ وَحُرٌّ فِي وَقْتِ الْوِلَادَةِ ، فَعَلَيْهِ الْوَلَاءُ لِأَبِيهِ لِعِتْقِ الْوَلَدِ بَعْدَ رِقِّهِ ، وَهَلْ تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ أَمْ لَا ؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ . وَإِنْ وَضَعَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا كَانَ حُرَّ الْأَصْلِ ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُلُوقُهُ مُتَقَدِّمًا فِي الرِّقِّ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ الْعِتْقِ ، وَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ حُدُوثِهِ ، وَفِي شَكٍّ مِنْ تَقَدُّمِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْيَقِينِ دُونَ الشَّكِّ . فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ عَلَيْهِ وَلَاءٌ ، لِأَنَّهُ لَمْ جْرِ عَلَيْهِ رِقٌّ ، وَتَكُونُ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ قَوْلًا وَاحِدًا ، لِأَنَّهَا عَلَقَتْ بِحُرٍّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُجْبَرُ السَّيِّدُ عَلَى أَنْ يَضَعَ مِنْ كِتَابَتِهِ شَيْئًا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَهَذَا عِنْدِي مِثْلُ قَوْلِهِ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَاحْتَجَّ بِابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَاتَبَ عَبْدًا لَهُ بِخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفًا وَوَضَعَ عَنْهُ خَمْسَةَ آلَافٍ أَحْسَبُهُ قَالَ : مِنْ آخِرِ نُجُومِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، يَجِبُ عَلَى سَيِّدِ الْمُكَاتَبِ أَنْ يَضَعَ عَنْهُ مِنْ كِتَابَتِهِ شَيْئًا ، إِمَّا إِبْرَاءً مِنْهُ أَوْ رَدًّا عَلَيْهِ مِمَّا أَخَذَ مِنْهُ ، تَخْفِيفًا عَنْهُ وَمَعُونَةً لَهُ ، فَإِنْ فَعَلَهُ طَوْعًا وَإِلَّا أُخِذَ بِهِ جَبْرًا ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ ، وَلَا يَجِبُ احْتِجَاجًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ " . وَلَوْ كَانَ الْإِيتَاءُ وَاجِبًا لِعِتْقٍ مَعَ بَقَاءِ ذَلِكَ الدِّرْهَمِ ، فَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِهِ . وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ مُعَاوَضَةٌ ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَحِقَّ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ شَيْئًا غَيْرَ مَشْرُوطٍ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ الْآخَرُ ، كَالْبَيْعِ طَرْدًا لَا يَسْتَحِقُّ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ إِلَّا مَا شَرَطَهُ الْبَائِعُ مِنَ الثَّمَنِ ، وَشَرَطَهُ الْمُشْتَرِي مِنَ الْمُثَمَّنِ ، وَكَالنِّكَاحِ عَكْسًا ، لَمَّا اسْتَحَقَّتِ الزَّوْجَةُ فِيهِ مَا لَمْ يَشْتَرِطْهُ مِنَ الْمُتْعَةِ اسْتَحَقَّ الزَّوْجُ فِيهِ مَا لَمْ يَشْتَرِطْهُ ، مِنْ نِصْفِ الْمَهْرِ بِالطَّلَاقِ وَقَبْلَ الدُّخُولِ .

قَالُوا : وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ بِالشَّرْعِ لَتَقَدَّرَ بِهِ كَالزَّكَاةِ ، فَدَلَّ تَرْكُ تَقْدِيرِهِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ . وَلِأَنَّ وُجُوبَهُ يُفْضِي إِلَى جَهَالَةِ الْبَاقِي ، فَتَصِيرُ الْكِتَابَةُ بِمَجْهُولٍ . وَالْعِوَضُ الْمَجْهُولُ تَبْطُلُ بِهِ الْكِتَابَةُ وَيَمْنَعُ مِنْهُ الشَّرْعُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجِبَ فِي الشَّرْعِ ، وَلِأَنَّ وُجُوبَهُ مُعْتَبَرٌ بِصِفَةِ الْعِتْقِ ، لِأَنَّهُ إِذَا كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفٍ إِذَا أَدَّى آخِرَهَا فَهُوَ حُرٌّ ، فَإِذَا أَسْقَطَ عَنْهُ قَدْرَ الْإِيتَاءِ لَمْ تَكْمُلِ الصِّفَةُ ، وَلَمْ يَقَعِ الْعِتْقُ . وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْإِيتَاءِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ( النُّورِ : ) ، فَأَمَرَ بِالْإِيتَاءِ ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ . فَإِنْ قِيلَ : الْأَمْرُ بِالْإِيتَاءِ مُقْتَرِنٌ بِالْأَمْرِ بِالْكِتَابَةِ ، ثُمَّ كَانَ الْأَمْرُ بِالْكِتَابَةِ مَحْمُولًا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْوُجُوبِ ، كَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْإِيتَاءِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْوُجُوبِ . قِيلَ : قَدْ كَانَ ظَاهِرُ الْأَمْرِ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فِيهَا ، لَكِنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْكِتَابَةِ ، وَبَقِيَ الْوُجُوبُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْإِيتَاءِ . فَإِنْ قِيلَ : فَيُحْمَلُ وُجُوبُ الْإِيتَاءِ عَلَى مَا يُعْطُونَهُ مِنْ سَهْمِ الرِّقَابِ فِي الزَّكَاةِ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لَهُمْ فِيهَا سَهْمًا . قِيلَ : لَا يَصِحُّ حَمْلُ هَذَا الْإِيتَاءِ عَلَى سَهْمِهِمْ فِي الزَّكَاةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَكَاتِبُوهُمْ ( النُّورِ : ) مَحْمُولًا عَلَى شَهَادَةِ الْعَبْدِ ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ : " وَآتُوهُمْ " ( النُّورِ : ) وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى سَادَاتِهِمْ ، لِيَكُونَ إِرْسَالُ الْخِطَابِ فِي الْآخَرِ عَائِدًا إِلَى مَنْ أُرِيدَ بِالْأَوَّلِ ، وَلَا يَكُونُ عَائِدًا إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ . وَإِذَا عَادَ إِلَى سَادَةِ الْعَبِيدِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الزَّكَاةِ ، لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ زَكَاتَهُ إِلَى عَبْدِهِ ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ سَهْمَهُمْ فِي الزَّكَاةِ مُسْتَفَادٌ مِنْ آيَةٍ أُخْرَى ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى حُكْمٍ آخَرَ أَوْلَى . وَالثَّالِثُ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْإِيتَاءِ مِنْ مَالٍ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ . وَلَا يُضِيفُ إِلَى نَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ جَمِيعُ الْأَمْوَالِ لَهُ إِلَّا لِتَشْرِيفِ الْمَالِ وَاسْتَطَابَتِهِ ، وَالزَّكَوَاتُ هِيَ أَوْسَاخُ الذُّنُوبِ ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِهَا أَوْلَى . وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ، أَنْ يَحُطَّ عَنْهُ رُبُعَ الْكِتَابَةِ . وَهَذَا تَفْسِيرٌ وَدَلِيلٌ .

وَلِأَنَّهُ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ ، فَكَانَ إِجْمَاعًا . وَلِأَنَّهُ نَوْعُ مُعَاوَضَةٍ يَسْتَحِقُّ أَحَدُهُمَا فِيهِ عَلَى صَاحِبِهِ حَقًّا غَيْرَ مَشْرُوطٍ أَوْجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْآخَرُ فِيهِ حَقًّا غَيْرَ مَشْرُوطٍ ، كَالَّذِي ذَكَرُوهُ مِنَ النِّكَاحِ ، وَالَّذِي يَسْتَحِقُّ السَّيِّدُ بِغَيْرِ شَرْطِ الْوَلَاءِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ مِثْلَهُ ، وَهُوَ الْإِيتَاءُ . وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَنْ قِيَاسِهِمْ ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ إِذَا بَاعَ عَبْدَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِأَلْفٍ فِي ثُبُوتِ الْوَلَاءِ لَهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعَبْدُ مِثْلَهُ ، لِأَنَّ وَصْفَ الْعِلَّةِ أَنَّهُ نَوْعُ مُعَاوَضَةٍ ، وَهُوَ الْعِتْقُ بِالْعِوَضِ ، وَهَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِي النَّوْعِ ، وَإِنْ شَذَّ عَنْ بَعْضِهِ ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ مُسْتَمِرٌّ فِي الْعُقُودِ طَرْدًا فِي النِّكَاحِ ، وَعَكْسًا فِي الْبُيُوعِ ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ مَعُونَةَ الْمُكَاتَبِينَ عَلَى غَيْرِ سَادَاتِهِمْ مِنْ زَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ ، فَكَانَ وُجُوبُ مَعُونَتِهِمْ عَلَى سَادَاتِهِمْ أَوْلَى ، وَلَا يَجُوزُ صَرْفُ زَكَاتِهِمْ إِلَيْهِمْ ، فَانْصَرَفَ الْوُجُوبُ إِلَى غَيْرِ زَكَاتِهِمْ . وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْخَبَرِ فَلَا يَصِحُّ ، لِأَنَّنَا نَقُولُ مَعَ وُجُوبِ الْإِيتَاءِ أَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ ، وَلَا نَجْعَلُ الدِّرْهَمَ الْبَاقِي قِصَاصًا مِنَ الْإِيتَاءِ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ تَسَاوِي الْحَقَّيْنِ فِي الْجِنْسِ وَالْعِلْمِ بِالْمِقْدَارِ ، وَمِقْدَارُ الْإِيتَاءِ مَجْهُولٌ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ قِصَاصًا مِنْ مَعْلُومٍ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : لَوْ كَانَ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ لَتَقَدَّرَ بِهِ فَفَاسِدٌ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجِبُ بِالشَّرْعِ مَا يَتَقَدَّرُ بِالِاجْتِهَادِ كَالْمُتْعَةِ وَالنَّفَقَةِ ، فَكَذَلِكَ الْإِيتَاءُ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةٍ فِي الْعِوَضِ ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ يَتَعَيَّنُ الْإِيتَاءُ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ ، وَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَدْفَعَهُ مِنْ أَيِّ أَمْوَالِهِ شَاءَ ، فَلَمْ يُؤَدِّ إِلَى الْجَهَالَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْعِوَضِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ إِذَا تَضَمَّنَهَا الْعَقْدُ ، وَلَا تَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهِ إِنْ طَرَأَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ ، كَمَا لَوْ ظَهَرَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ وَأَرْشُهُ مَجْهُولٌ ، وَهُوَ مَحْطُوطٌ مِنْ أَصْلِ الثَّمَنِ ، وَلَا يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ ، وَإِنْ أَدَّى إِلَى جَهَالَةِ الثَّمَنِ ، لِحُدُوثِهِ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقْدِ ، كَذَلِكَ الْإِيتَاءُ فِي الْكِتَابَةِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ هَذَا يُؤَدِّي إِلَى إِبْطَالِ الصِّفَةِ وَيُغَيِّرُ حُكْمَهَا فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَالِ يُؤَدَّى مَعَ وُجُوبِ الْإِيتَاءِ ، وَيَكُونُ رَدًّا أَوْ إِبْرَاءً .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْإِيتَاءِ تَوَجَّهَ الْكَلَامُ بَعْدَهُ فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ :

أَحَدُهَا : فِي جِنْسِ الْإِيتَاءِ الذي يعطيه لعبده الذي كاتبه . وَالثَّانِي : فِي قَدْرِهِ . وَالثَّالِثُ : فِي وَقْتِهِ . فَأَمَّا جِنْسُهُ : فَهُوَ مَا كَاتَبَهُ عَلَيْهِ مِنْ مَالٍ ، فَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى دَرَاهِمَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْتِيَهُ دَنَانِيرَ ، وَلَا عَرْضًا ، وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى دَنَانِيرَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْتِيَهُ دَرَاهِمَ وَلَا عَرْضًا ، حَتَّى يَكُونَ الْإِيتَاءُ مِنْ كِتَابَةِ الدَّرَاهِمِ دَرَاهِمَ ، وَمِنْ كِتَابَةِ الدَّنَانِيرِ دَنَانِيرَ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ( النُّورِ : ) ، فَإِنْ تَرَاضَيَا أَنْ يُؤْتِيَهُ عَنْ كِتَابَةِ الدَّرَاهِمِ دَنَانِيرَ أَوْ عَرْضًا ، أَوْ عَنْ كِتَابَةِ الدَّنَانِيرِ دَرَاهِمَ أَوْ عَرْضًا ، جَازَ ، كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ إِذَا كَانَ دَرَاهِمَ ، فَهِيَ الْمُسْتَحَقَّةُ ، فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ بِهَا دَنَانِيرَ أَوْ عَرْضًا جَازَ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِيتَاءَ مُسْتَحَقٌّ مِنْ جِنْسِ مَالِ الْكِتَابَةِ ، فَهَلْ يَتَعَيَّنُ الْحَقُّ فِي الْمَالِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَتَعَيَّنُ فِي ذَلِكَ الْمَالِ ، وَيَجُوزُ لِلسَّيِّدِ إِذَا أَخَذَ مِنْهُ دَرَاهِمَ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْهَا إِنْ شَاءَ ، أَوْ يُعْطِيَهُ مِثْلَهَا مِنْ غَيْرِهَا ، كَالزَّكَاةِ يَكُونُ مُخَيَّرًا فِي إِخْرَاجِهَا مِنْ عَيْنِ الْمَالِ الْمُزَكَّى ، أَوْ مِنْ مِثْلِهِ مِنْ غَيْرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ حَقَّهُ مُعَيَّنٌ فِي الْمَالِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ، مَعْنَاهُ : الَّذِي آتَاكُمْ مُكَاتَبُوكُمْ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّكَاةِ ، أَنَّ الْإِيتَاءَ حَطِيطَةٌ ، وَالْحَطِيطَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ عَيْنِ الْمَالِ ، وَالزَّكَاةُ مَعُونَةٌ يَسْتَوِي فِيهَا عَيْنُ الْمَالِ وَمِثْلُهُ ، فَلَوْ تَرَاضَيَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْإِيتَاءُ مِنْ غَيْرِهِ جَازَ ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَتَرَاضَيَا بِغَيْرِ الْجِنْسِ ، جَازَ أَنْ يَتَرَاضَيَا بِهِ مِنْ غَيْرِ الْعَيْنِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقَدْرُ الذي يعطاه المكاتب : فَقَدْ حُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِالرُّبُعِ ، وَرَوَاهُ مَرْفُوعًا ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِالشَّرْعِ ، وَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِمَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِيتَاءِ ، مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ ، حَتَّى لَوْ أَعْطَاهُ دِرْهَمًا مِنَ الْوَرِقِ أَجْزَأَ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَتَقَدَّرْ بِشَرْعٍ وَلَا عُرْفٍ اعْتُبِرَ فِيهِ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، أَنَّهُ يَتَقَدَّرُ بِالِاجْتِهَادِ مِنْ مِثْلِ تِلْكَ الْكِتَابَةِ ، كَالْمُتْعَةِ الَّتِي رُوعِيَ فِيهَا عِنْدَ إِطْلَاقِهَا مُتْعَةُ الْمِثْلِ ، اعْتِبَارًا بِحَالِ الزَّوْجَيْنِ ، وَلَمْ يُرَاعَ فِيهَا مَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ ، كَذَلِكَ هَاهُنَا ، لِأَنَّ مَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ قَلِيلٌ لَا يُؤَثِّرُ عَلَى الْمُكَاتَبِ فِي مَعُونَتِهِ .

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اعْتُبِرَ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ : أَحَدُهَا : كَثْرَةُ مَالِ الْكِتَابَةِ وَقِلَّتِهِ ، فَيَكُونُ مَا يُعْطَى مِنَ الْكَثِيرِ أَكْثَرَ وَمِنَ الْقَلِيلِ أَقَلَّ . وَالثَّانِي : قُوَّةُ الْمُكَاتَبِ وَضَعْفُهُ ، فَيُعْطَى الضَّعِيفُ الْكَسْبِ أَكْثَرَ ، وَالْقَوِيُّ الْكَسْبِ أَقَلَّ . وَالثَّالِثُ : يَسَارُ السَّيِّدِ وَإِعْسَارُهُ ، فَيُعْطِيهِ الْمُوسِرُ أَكْثَرَ ، وَالْمُعْسِرُ أَقَلَّ ، فَيَعْتَبِرُ فِي الِاجْتِهَادِ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ ، فَمَا أَدَّى الِاجْتِهَادُ إِلَيْهِ مِنْ قَدْرٍ ، فَهُوَ الْمُسْتَحَقُّ فِي الْإِيتَاءِ ، إِلَّا أَنْ يَتَّفِقَا فِيهِ عَلَى زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ ، فَيَمْضِيَ عَلَى اتِّفَاقِهِمَا فِيمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ . فَإِنِ اخْتَلَفَا فِيهِ قَدَّرَهُ الْحَاكِمُ بِاجْتِهَادِهِ ، وَكَانَ مَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ هُوَ الْقَدْرُ الْمُسْتَحَقُّ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْوَقْتُ الذي يعطى فيه المكاتب : فَلَهُ وَقْتَانِ : وَقْتُ جَوَازٍ وَوَقْتُ وُجُوبٍ . فَأَمَّا وَقْتَ الْجَوَازِ : فَمِنْ وَقْتِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ إِلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ فِيهَا . فَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعَقْدِ ، فَلَا يُجْزِئُ مَا تَقَدَّمَهُ فِيهِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ لَهَا سَبَبٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّعْجِيلُ . فَأَمَّا وَقْتُ الْوُجُوبِ : فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بَعْدَ الْعِتْقِ ، كَالْمُتْعَةِ الَّتِي تُسْتَحَقُّ بَعْدَ الطَّلَاقِ ، وَلِيَكُونَ مُعَانًا فِي وَقْتٍ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ فِيمَا يُعْطَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، أَنَّهُ يَجِبُ قَبْلَ الْعِتْقِ ، وَيَتَعَيَّنُ وُجُوبُهُ فِي آخِرِ نَجْمٍ ، لِأَنَّ الْإِيتَاءَ مَعُونَةٌ عَلَى الْعِتْقِ ، فَلَمْ يُسْتَحَقَّ بَعْدَ الْعِتْقِ ، وَلِأَنَّهُ مُعَانٌ بِمَالَيْنِ ؟ زَكَاةٍ وَإِيتَاءٍ ، وَكَانَتِ الزَّكَاةُ قَبْلَ الْعِتْقِ ، فَكَذَلِكَ الْإِيتَاءُ . فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فَالسَّيِّدُ مَا كَانَ مَالُ الْكِتَابَةِ بَاقِيًا مُخَيَّرٌ بَيْنَ حَالَيْنِ : بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ مَالَ الْإِيتَاءِ نَقْدًا وَبَيْنَ أَنْ يُبَرِّئَ الْمُكَاتَبَ مِنْهُ ، فَإِنْ أَبْرَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَطْلُبَهُ نَقْدًا ، وَإِنْ أَعْطَاهُ نَقْدًا وَطَلَبَ الْمُكَاتَبُ الْإِبْرَاءَ ، فَقَوْلُ الْمُكَاتَبِ أَوْلَى ، لِأَنَّهُ يُرِيدُ تَعْجِيلَ مَا عَلَيْهِ بِالْإِبْرَاءِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ( وَلَوْ مَاتَ السَّيِّدُ وَقَدْ قَبَضَ جَمِيعَ الْكِتَابَةِ حَاصَّ الْمُكَاتَبُ بِالَّذِي لَهُ أَهْلُ الدَّيْنِ وَالْوَصَايَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) يَلْزَمُهُ أَنْ يُقَدِّمَهُ عَلَى الْوَصَايَا عَلَى أَصْلِ قَوْلِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِيتَاءَ وَاجِبٌ كَالدَّيْنِ . فَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنَ السَّيِّدِ

أُخِذَ بِهِ جَبْرًا ، إِنْ تَعَذَّرَ أَخْذُهُ مِنَ السَّيِّدِ حَتَّى يَعْتِقَ بِهِ ، فَأَمَّا تَعَذُّرُهُ مِنْهُ فَيَكُونُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا تَفْلِيسٌ ، أَوْ مَوْتٌ . فَإِنْ أَفْلَسَ السَّيِّدُ وَلَهُ غُرَمَاءُ ، وَحَضَرَ الْمُكَاتَبُ بَعْدَ عِتْقِهِ مُطَالِبًا بِالْإِيتَاءِ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ مَالُ الْكِتَابَةِ أَوْ قَدْرُ الْإِيتَاءِ مِنْهُ مَوْجُودًا فِي يَدِ السَّيِّدِ ، فَالْمُكَاتَبُ مُقَدَّمٌ بِهِ عَلَى جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ ، لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ ، فَكَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْهُمْ ، كَالْبَائِعِ إِذَا وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ قَبْلَ قَبْضِ ثَمَنِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ شَيْءٌ ، فَالْمُكَاتَبُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ فِي الْمَوْجُودِ مِنْ مَالِ السَّيِّدِ .

فَصْلٌ : وَإِنْ مَاتَ السَّيِّدُ وَحَضَرَ الْمُكَاتَبُ مُطَالِبًا يُقَدَّمُ حَقُّهُ عَلَى الْوَرَثَةِ . ثُمَّ نَقَلَ الْمُزَنِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، فَقَالَ : " حَاصَّ الْمُكَاتَبُ بِالَّذِي لَهُ أَهْلُ الدَّيْنِ وَالْوَصَايَا " ، فَاعْتَرَضَ عَلَى قَوْلِهِ بِأَنْ قَالَ : الْإِيتَاءُ وَاجِبٌ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَاصَّ بِهِ أَهْلَ الدَّيْنِ ، وَيَتَقَدَّمَ بِهِ أَهْلَ الْوَصَايَا " . وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ بِأَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ الْمُكَاتَبَ يَتَقَدَّمُ بِهِ عَلَى الْوَرَثَةِ كَأَهْلِ الدَّيْنِ وَالْوَصَايَا ، ثُمَّ يُحَاصُّ بِهِ أَهْلَ الدَّيْنِ ، وَيَتَقَدَّمُ بِهِ عَلَى أَهْلِ الْوَصَايَا لِأَنَّهُ دَيْنٌ فَكَانَ مَضْمُومًا إِلَى الدَّيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَصَايَا بِالدَّيْنِ ، لِأَنَّ الدَّيْنَ يَثْبُتُ بَعْضُهُ بِالْبَيِّنَةِ ، وَبَعْضُهُ بِالْوَصِيَّةِ ، فَصَارَتِ الْوَصَايَا وَالدَّيْنُ سَوَاءً ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُحَاصَّ الْمُكَاتَبُ أَهْلَ الدَّيْنِ وَالْوَصَايَا . وَلَوْ كَانَتِ الْوَصَايَا بِالْعَطَايَا لَتَقَدَّمَ بِهَا عَلَيْهِمْ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ السَّيِّدَ وَصَّى لَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ فَيُحَاصُّ أَهْلَ الدَّيْنِ بِالْوَاجِبِ ، وَأَهْلَ الْوَصَايَا بِالْفَاضِلِ . وَالرَّابِعُ : أَنَّ الْمُكَاتَبَ يُحَاصُّ أَهْلَ الْوَصَايَا بِجَمِيعِ الْإِيتَاءِ ، لِضَعْفِهِ عَنِ الدُّيُونِ الْمُسْتَقِرَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : حُصُولُ الْخِلَافِ فِي اسْتِحْقَاقِهِ . وَالثَّانِي : الْجَهَالَةُ بِقَدْرِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَاوِيَ مَا اتُّفِقَ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ وَقَدْرِهِ . وَالْقَوْلُ بِهَذَا الْوَجْهِ تَعْلِيلًا بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَاسِدٌ ، لِأَنَّنَا قَدْ حَكَمْنَا بِاسْتِحْقَاقِهِ وَقَدْرِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَيْسَ لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ بِحَالٍ لِأَنَّهُ لَا نَظَرَ فِي ذَلِكَ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ إِذَا كَانَتِ الْكِتَابَةُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ ، لِيَسْتَفِيدَ الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّ الْمَنْدُوبَ إِلَى الْكِتَابَةِ هُوَ الْمَنْدُوبُ إِلَى الْعِتْقِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَعْتِقَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُكَاتِبَ وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي مَالَ الْكِتَابَةِ مِنْ أَكْسَابِهِ وَالْيَتِيمُ يَمْلِكُهَا بِغَيْرِ الْكِتَابَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَهْلِكَ رِقَّهُ بِالْكِتَابَةِ . فَأَمَّا بَيْعُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَإِنَّمَا جَازَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَفْعَلَهُ ، لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَا تُسْتَفَادُ بِغَيْرِ الْبَيْعِ ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَفِيدَهَا لَهُ بِالْبَيْعِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْكِتَابَةُ ، لِأَنَّ زِيَادَةَ أَكْسَابِهِ تُمَلَّكُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ الْكِتَابَةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ يَمْلِكُ الْمُكَاتَبُ فِي حَالِ كِتَابَتِهِ مِنْ سَهْمِ الزَّكَاةِ مَا لَا يَمْلِكُهُ فِي رِقِّهِ ، فَاسْتَفَادَ بِالْكِتَابَةِ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ مَعَ الرِّقِّ . قِيلَ : هَذَا مَظْنُونٌ ، وَلَيْسَ مِنْ أَكْسَابِهِ اللَّازِمَةِ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَلَا يَكُونَ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَهْلِكَ رِقَّهُ بِالْمَظْنُونِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَاتَبَهُ الْوَلِيُّ كَانَتْ كِتَابَتُهُ بَاطِلَةً لَا يُعْتَقُ فِيهَا بِالْأَدَاءِ ، سَوَاءٌ أَدَّاهَا إِلَى الْوَلِيِّ أَوْ إِلَى الْيَتِيمِ بَعْدَ بُلُوغِهِ .

مَسْأَلَةٌ لَوِ اخْتَلَفَ السَّيِّدُ وَالْمُكَاتَبُ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوِ اخْتَلَفَ السَّيِّدُ وَالْمُكَاتَبُ في الكتابة تَحَالَفَا وَتَرَادَّا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ الْكِتَابَةِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْعَقْدِ وَاخْتِلَافِهِمَا فِيهِ ، قَدْ يَكُونُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : إِمَّا فِي قَدْرِ الْمَالِ : فَيَقُولُ الْمُكَاتَبُ عَلَى أَلْفٍ ، وَيَقُولُ السَّيِّدُ : عَلَى أَلْفَيْنِ . أَوْ يَخْتَلِفَانِ فِي صِفَتِهِ فَيَقُولُ الْمُكَاتَبُ : عَلَى دَرَاهِمَ سُودٍ ، وَيَقُولُ السَّيِّدُ : عَلَى دَرَاهِمَ بِيضٍ . أَوْ يَخْتَلِفَانِ فِي الْأَجَلِ فَيَقُولُ السَّيِّدُ : إِلَى سَنَةٍ ، وَيَقُولُ الْمُكَاتَبُ : إِلَى سَنَتَيْنِ . أَوْ يَخْتَلِفَانِ فِي عَدَدِ النُّجُومِ ، فَيَقُولُ السَّيِّدُ : الْأَجَلُ سَنَةً قَدِ اتَّفَقْنَا عَلَيْهَا أَنَّهَا فِي نَجْمَيْنِ . وَيَقُولُ الْمُكَاتَبُ فِي أَرْبَعَةِ أَنْجُمٍ فَيَكُونُ اخْتِلَافُهُمَا فِي صِفَةِ الْكِتَابَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الْأَرْبَعَةِ سَوَاءً فِي الْحُكْمِ ، فَإِنْ كَانَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ عُمِلَ عَلَيْهَا ، وَالْبَيِّنَةُ شَاهِدَانِ ، أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ ، أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ ، لِأَنَّهَا فِي حُقُوقِ الْأَمْوَالِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ تَحَالَفَا ، كَمَا يَتَحَالَفُ الْمُتَبَايِعَانِ إِذَا اخْتَلَفَا . فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا ، وَنَكَلَ الْآخَرُ قُضِيَ بِقَوْلِ الْحَالِفِ مِنْهُمَا عَلَى النَّاكِلِ ، فَإِنْ حَلَفَا مَعًا لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ الْعِتْقِ أَوْ بَعْدَهُ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْعِتْقِ وَقَعَ الْفَسْخُ بَيْنَهُمَا ، وَفِيمَا يَقَعُ بِهِ الْفَسْخُ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : بِنَفْسِ التَّحَالُفِ . وَالثَّانِي : بِفَسْخِ الْحَاكِمِ كَمَا قُلْنَا فِي تَحَالُفِ الْمُتَبَايِعَيْنِ ، وَيَعُودُ الْمُكَاتَبُ بَعْدَ الْفَسْخِ عَبْدًا ، وَقَدْ مَلَكَ السَّيِّدُ مَا أَخَذَهُ مِنْهُ فِي الْأَدَاءِ ، وَإِنْ كَانَ تَحَالُفُهُمَا بَعْدَ الْعِتْقِ وَانْفَسَخَتِ الْكِتَابَةُ تَرَاجَعَا ، فَيَرْجِعُ السَّيِّدُ عَلَى مُكَاتَبِهِ بِقِيمَتِهِ ، وَيَرْجِعُ الْمُكَاتَبُ عَلَى السَّيِّدِ بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : تَحَالَفَا فَتَرَادَّا كَمَا يَتَرَادُّ الْمُتَبَايِعَانِ بَعْدَ التَّحَالُفِ عِنْدَ تَلَفِ الْبَيْعِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ فَقَالَ سَيِّدُهُ : قَدْ أَدَّى إِلَيَّ كِتَابَتَهُ وَجَرَّ إِلَيَّ وَلَاءَ وَلَدِهِ مِنْ حُرَّةٍ ، وَأَنْكَرَ مَوَالِي الْحُرَّةِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَوَالِي الْحُرَّةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا تَزَوَّجَ الْمُكَاتَبُ بِحُرَّةٍ فَأَوْلَدَهَا كَانَ أَوْلَادُهُ مِنْهَا أَحْرَارًا تَبَعًا لِأُمِّهِمْ ، فَإِنْ كَانَتْ حُرَّةَ الْأَصْلِ لَا وَلَاءَ عَلَيْهَا وَلَا عَلَى أَوْلَادِهَا بِحَالٍ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْحُرَّةِ وَلَاءٌ لِمُعْتِقٍ ، فَعَلَى الْأَوْلَادِ وَلَاءٌ لِمُعْتِقِ الْأُمِّ . فَإِنْ عَتَقَ الْأَبُ بِالْأَدَاءِ جَرَّ وَلَاءَ أَوْلَادِهِ مِنْ مُعْتِقِ أُمِّهِمْ إِلَى مُعْتِقِهِ ، فَإِنِ اخْتَلَفَ مَوْلَاهُ وَمَوْلَى الْأُمِّ ، فَقَالَ مَوْلَى الْمُكَاتَبِ : قَدْ عَتَقَ بِالْأَدَاءِ وَجَرَّ إِلَيَّ وَلَاءَ أَوْلَادِهِ . وَقَالَ مَوْلَى الْأُمِّ : لَمْ يُعْتَقْ وَوَلَاءُ أَوْلَادِهِ لِي ، نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ حَيًّا فَقَدْ عَتَقَ بِإِقْرَارِ سَيِّدِهِ بِعِتْقِهِ ، وَانْجَرَّ الْوَلَاءُ عَنْ مُعْتِقِ الْأُمِّ إِلَى مُعْتِقِهِ ، وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى سَيِّدِهِ . وَإِنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ قَدْ مَاتَ ، وَاخْتَلَفَ السَّيِّدُ وَمَوْلَى الْأُمِّ بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَإِنْ قَامَتْ بِمَا ادَّعَاهُ سَيِّدُ الْمُكَاتَبِ بَيِّنَةٌ عَمِلَ عَلَيْهَا ، وَانْجَرَّ بِهَا الْوَلَاءُ عَنْ مُعْتِقِ الْأُمِّ إِلَيْهِ ، وَالْبَيِّنَةُ شَاهِدَانِ ، أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ ، أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ ، لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ عَلَى مَالٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَوْلَى الْأُمِّ مَعَ يَمِينِهِ ، وَوَلَاءُ الْأَوْلَادِ لَهُ ، وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى سَيِّدِ الْمُكَاتَبِ فِي عِتْقِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ؟ لِأَنَّهَا حَالٌ لَا يَنْفُذُ فِيهَا عِتْقُهُ ، وَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ رِقِّ الْمُكَاتَبِ ، وَثُبُوتِ الْوَلَاءِ لِمُعْتِقِ الْأُمِّ ، فَلَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهَا بِشَكٍّ مُحْتَمَلٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَ : قَدِ اسْتَوْفَيْتُ مَالِي عَلَى أَحَدِ مُكَاتِبِيَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا فَأَيُّهُمَا خَرَجَ لَهُ الْعِتْقُ عَتَقَ وَالْآخَرُ عَلَى نُجُومِهِ ، وَالْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ دِرْهَمٌ ، فَإِنْ مَاتَ وَعِنْدَهُ وَفَاءٌ ، فَهُوَ وَمَالُهُ لِسَيِّدِهِ ، وَكَيْفَ يَمُوتُ عَبْدًا ثُمَّ يَصِيرُ بِالْأَدَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ حُرًّا ، وَإِذَا كَانَ لَا يُعْتَقُ فِي حَيَاتِهِ إِلَّا بَعْدَ الْأَدَاءِ فَكَيْفَ يَصِحُّ عِتْقُهُ إِذَا مَاتَ قَبْلَ الْأَدَاءِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ كَاتَبَ عَبْدَيْنِ ، ثُمَّ أَقَرَّ بَعْدَ الْكِتَابَةِ أَنَّهُ اسْتَوْفَى

مَا عَلَى أَحَدِهِمَا ، أَخَذَ بِالْبَيَانِ ، فَإِنْ بَيَّنَ أَحَدَهُمَا وَعَيَّنَ عَلَيْهِ عَتَقَ وَكَانَ الْآخَرُ عَلَى كِتَابَتِهِ . فَإِنِ ادَّعَى الْآخَرُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَدَّى فَعَتَقَ حَلَفَ لَهُ السَّيِّدُ ، وَكَانَ عَلَى كِتَابَتِهِ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً بِشَاهِدِينَ أَوْ شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، أَوْ شَاهِدٍ وَيَمِينٍ ، فَيَعْتِقَ بِالْبَيِّنَةِ ، وَيَعْتِقَ الْأَوَّلُ بِالْإِقْرَارِ ، وَإِنْ قَالَ السَّيِّدُ : قَدْ أَشْكَلَ عَلَيَّ الَّذِي أَدَّى ، وَلَسْتُ أَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ ، حَلَفَ لَهُمَا إِذَا تَدَاعِيَاهُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَهُمَا مَعَ بَقَائِهِ ، لِجَوَازِ أَنْ يَتَذَكَّرَ بَعْدَ نِسْيَانِهِ ، ثُمَّ فِيهِمَا بَعْدَ يَمِينِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى كِتَابَتِهِ ، وَلَا يُعْتَقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إِلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِهَا ، وَقَدْ حُكِيَ هَذَا الْوَجْهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَسْتَقِرَّ لَهُ الْأَدَاءُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الدَّعْوَى تُرَدُّ عَلَى الْمُكَاتَبَيْنِ حَتَّى يَتَحَالَفَا عَلَى الْأَدَاءِ ، فَإِنْ حَلَفَا أَوْ نَكَلَا كَانَا عَلَى الْكِتَابَةِ لَا يَعْتِقَانِ إِلَّا بِالْأَدَاءِ ، وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا ، وَنَكَلَ الْآخَرُ قُضِيَ بِالْأَدَاءِ لِلْحَالِفِ مِنْهُمَا دُونَ النَّاكِلِ وَعَتَقَ ، وَكَانَ النَّاكِلُ عَلَى كِتَابَتِهِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ مَاتَ السَّيِّدُ قَبْلَ بَيَانِهِ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ عِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُقْرِعُ بَيْنَ الْمُكَاتَبَيْنِ ، لِأَنَّ إِقْرَارَهُ تَضَمَّنَ عِتْقَ أَحَدِهِمَا ، وَالْعِتْقُ إِذَا أَشْكَلَ تَمَيَّزَ بِالْقُرْعَةِ ، فَإِذَا قَرَعَ أَحَدُهُمَا عَتَقَ ، وَكَانَ الْآخَرُ عَلَى كِتَابَتِهِ يَعْتِقُ بِأَدَائِهَا إِلَى وَرَثَةِ سَيِّدِهِ ، فَإِنِ ادَّعَى أَنَّهُ هُوَ الْمُؤَدِّي حَلَفَ لَهُ الْوَرَثَةُ عَلَى الْعِلْمِ بِاللَّهِ ، أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ أَبَاهُمْ تَأَدَّاهَا مِنْهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا قُرْعَةَ بَيْنَهُمَا ، لِأَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي أَدَاءٍ وَإِبْرَاءٍ ، لَا مَدْخَلَ لِلْقُرْعَةِ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي غَيْرِ الْكِتَابَةِ مِنَ الدُّيُونِ . فَعَلَى هَذَا يَرْجِعُ فِيهِمَا إِلَى بَيَانِ الْوَرَثَةِ وَعَتَقَ مَنْ عَيَّنُوهُ ، وَحَلَفُوا لِلْآخَرِ إِنِ ادَّعَاهُ ، وَإِنْ أَشْكَلَ عَلَى الْوَرَثَةِ كَانَ كَإِشْكَالِهِ عَلَى السَّيِّدِ فِي حَيَاتِهِ ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَدَّى كِتَابَتَهُ فَعَتَقَ وَكَانَتْ عَرْضًا فَأَصَابَ بِهِ السَّيِّدُ عَيْبًا رَدَّهُ وَرَدَّ الْعِتْقَ ( قَالَ ) وَلَوْ فَاتَ الْمَعِيبُ قِيلَ لَهُ : إِنْ جِئْتَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ وَإِلَّا فَلِسَيِّدِكَ تَعْجِيزُكُ كَمَا لَوْ دَفَعْتَ دَنَانِيرَ نَقْصًا لَمْ تَعْتِقْ إِلَّا بِدَفْعِ نُقْصَانِ دَنَانِيرِكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا كَاتَبَهُ عَلَى عَرْضٍ مَوْصُوفٍ يَصِحُّ ثُبُوتُهُ فِي

الذِّمَّةِ ، وَأَمْكَنَ قَبْضُهُ فِي نَجْمَيْنِ فَصَاعِدًا ، وَهُوَ أَنْ يُكَاتِبَهُ عَلَى ثَوْبَيْنِ فَمَا زَادَ صَحَّتِ الْكِتَابَةُ ، وَلَا يَصِحُّ عَلَى ثَوْبٍ وَاحِدٍ ، أَوْ عَبْدٍ وَاحِدٍ ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ قَبْضُهُ فِي نَجْمَيْنِ ، حَتَّى يَكُونَ عَلَى ثَوْبَيْنِ أَوْ عَبْدَيْنِ ، أَوْ عَلَى ثَوْبٍ وَعَبْدٍ ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَالُ الْكِتَابَةِ مِنْ جِنْسَيْنِ ، فَإِذَا انْعَقَدَتِ الْكِتَابَةُ عَلَى هَذَا ، وَأَتَاهُ بِالْعَرْضِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ فِي النَّجْمِ الْأَخِيرِ ، فَعَتَقَ بِآخِرِ دَفْعِهِ ، ثُمَّ وَجَدَ السَّيِّدُ بِهِ عَيْبًا لَمْ يَكُنْ قَدْ عَلِمَ بِهِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَرْضِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْعَرْضُ بَاقِيًا عَلَى حَالِهِ الَّتِي قَبَضَهُ عَلَيْهَا ، فَيَكُونَ لِلسَّيِّدِ الْخِيَارُ فِي إِمْسَاكِهِ ، أَوْ رَدِّهِ ، فَإِنْ أَمْسَكَهُ رَاضِيًا بِعَيْبِهِ اسْتَقَرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ ، وَاسْتَقَرَّ مِلْكُ الْمُكَاتَبِ بِهِ ، كَالْمُشْتَرِي إِذَا رَضِيَ بِعَيْبِ مَا اشْتَرَى . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا امْتَنَعَ وُقُوعُ الْعِتْقِ بِوُجُودِ الْعَيْبِ لِفَوَاتِ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ بِهِ كَمَا لَوْ كَانَ الْبَاقِي مِنَ الْكِتَابَةِ عَشَرَةٍ ، فَأَعْطَاهُ تِسْعَةً لَمْ يَعْتِقْ . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ نُقْصَانَ الْقَدْرِ يَسْتَحِقُّهُ نُطْقًا اقْتَضَاهُ الشَّرْطُ ، فَامْتَنَعَ بِهِ وُقُوعُ الْعِتْقِ ، وَنُقْصَانُ الصِّفَةِ يَسْتَحِقُّهُ حُكْمًا اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ ، فَجَازَ أَنْ يَقَعَ بِهِ الْعِتْقُ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا اقْتَضَاهُ نُطْقُ الشَّرْطِ وَبَيْنَ مَا اقْتَضَاهُ مُطْلَقُ الْعَقْدِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَهَالَةَ بِخِيَارِ الشَّرْطِ تَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْبَيْعِ ، لِاسْتِحْقَاقِهِ نُطْقًا ، وَالْجَهَالَةَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ لَا تَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْبَيْعِ ، لِاسْتِحْقَاقِهِ حُكْمًا وَشَرْعًا . وَإِنْ رَدَّ السَّيِّدُ الْعَرْضَ بِعَيْبِهِ كَانَ لَهُ ذَاكَ ، كَالْمُشْتَرِي فِي رَدِّ مَا وَجَدَ بِهِ عَيْبًا ، وَيَرْتَفِعُ الْعِتْقُ بِالرَّدِّ لَا بِظُهُورِ الْعَيْبِ ، لِأَنَّ رَدَّهُ بِعَيْبِهِ نَقْصٌ يَفُوتُ بِهِ بَعْضُ أَجْزَائِهِ ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَقَعَ بِهِ الْعِتْقُ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ كِتَابَتُهُ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ ، فَأَدَّاهَا إِلَّا قِيرَاطًا لَمْ يَعْتِقْ بِهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يَصِحُّ ارْتِفَاعُ الْعِتْقِ بَعْدَ وُقُوعِهِ ، وَهُوَ كَالطَّلَاقِ إِذَا وَقَعَ لَمْ يَرْتَفِعْ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ خَالَعَ زَوْجَتَهُ عَلَى ثَوْبٍ طَلَّقَهَا بِهِ ، ثُمَّ وَجَدَ بِالثَّوْبِ عَيْبًا رَدَّهُ بِهِ ، وَلَمْ يَرْتَفِعِ الطَّلَاقُ بَعْدَ وُقُوعِهِ ، فَهَلَّا كَانَتِ الْكِتَابَةُ كَذَلِكَ . قِيلَ : إِنَّمَا لَا يَرْتَفِعُ الْعِتْقُ بَعْدَ وُقُوعِهِ إِذَا كَانَ مُسْتَقِرًّا وَهَذَا الْعِتْقُ وَقَعَ مُتَوَهَّمًا ، ثُمَّ بَانَ بِالرَّدِّ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكِتَابَةِ وَالْخُلْعِ وَإِنْ كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ضَيِّقًا أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِي الْخُلْعِ حُكْمُ الطَّلَاقِ ، فَجَازَ أَنْ لَا يَرْتَفِعَ بِعَيْبِ الْعِوَضِ ، وَالْمُغَلَّبَ فِي الْكِتَابَةِ حُكْمُ الْعِوَضِ ، فَجَازَ أَنْ يَرْتَفِعَ الْعِتْقُ بِعَيْبِ الْعِوَضِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ قِيلَ لِلْمُكَاتَبِ بَعْدَ رَدِّ الْعِوَضِ عَلَيْهِ : قَدِ ارْتَفَعَ عِتْقُكَ ، وَأَنْتَ عَلَى كِتَابَتِكَ ، فَإِنْ جِئْتَ سَيِّدَكَ بِبَدَلِ هَذَا الْعِوَضِ سَلِيمًا مِنْ عَيْبٍ اسْتَقَرَّ عِتْقُكَ ، وَإِنْ لَمْ تَأْتِ بِبَدَلِهِ فَلَهُ تَعْجِيزُكَ وَاسْتِرْقَاقُكَ .



فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ الْعِوَضِ الْمَعِيبِ في كتابة العبيد ، أَنْ يَتْلَفَ فِي يَدِ السَّيِّدِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِعَيْبِهِ ، فَالْمُسْتَحَقُّ فِيهِ الرُّجُوعُ بِأَرْشِهِ ، فَيَرْتَفِعُ الْعِتْقُ بِاسْتِحْقَاقِ الْأَرْشِ ، كَمَا يَرْتَفِعُ بِنُقْصَانِ الْقَدْرِ ، وَلَا يَقِفُ عَلَى خِيَارِ السَّيِّدِ ، فَإِنْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ الْأَرْشَ إِلَى سَيِّدِهِ عَتَقَ حِينَئِذٍ بِهِ ، وَإِنِ امْتَنَعَ كَانَ لِلسَّيِّدِ تَعْجِيزُهُ بِهِ وَاسْتِرْقَاقُهُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ الْمَعِيبُ بَاقِيًا فِي يَدِ السَّيِّدِ ، لَكِنْ قَدْ حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ يَمْنَعُهُ مِنْ رَدِّهِ ، فَيَكُونُ وُقُوعُ الْعِتْقِ مَوْقُوفًا عَلَى مَا يَسْتَقِرُّ بَيْنَهُمَا ، لِأَنَّ الْأَرْشَ لَمْ يَسْتَقِرَّ لِإِمْكَانِ الرَّدِّ ، وَالرَّدَّ لَمْ يَسْتَقِرَّ لِحُدُوثِ الْعَيْبِ ، لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَسْتَرْجِعَ الْعِوَضَ مَعِيبًا ، فَيَرُدَّ مِثْلَهُ ، وَبَيْنَ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ اسْتِرْجَاعِهِ وَيَدْفَعَ قَدْرَ أَرْشِهِ . فَإِذَا كَانَ هَكَذَا بُدِئَ بِالسَّيِّدِ وَقِيلَ لَهُ : أَتَرْضَى بِعَيْبٍ ؟ فَإِنْ رَضِيَ بِهِ اسْتَقَرَّ وُقُوعُ الْعِتْقِ ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِالْعَيْبِ قِيلَ لِلْمُكَاتَبِ : أَتَرْضَى أَنْ يُسْتَرْجَعَ الْعِوَضُ بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ ، فَإِنْ رَضِيَ بِاسْتِرْجَاعِهِ كَانَ ارْتِفَاعُ عِتْقِهِ مَوْقُوفًا عَلَى رَدِّ الْعِوَضِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ رَدَّهُ ارْتَفَعَ عِتْقُهُ ، فَإِنْ قَضَاهُ بِمِثْلِهِ سَلِيمًا ، وَإِلَّا عَجَّزَهُ السَّيِّدُ وَاسْتَرَقَّهُ ، وَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ اسْتِرْجَاعِهِ مَعِيبًا فَالْمُسْتَحَقُّ فِيهِ الْأَرْشُ ، فَيَرْتَفِعُ عِتْقُهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ لِلْأَرْشِ ، إِلَّا أَنْ يَسْمَحَ بِهِ السَّيِّدُ ، فَيَصِيرَ كَالْإِبْرَاءِ ، وَيَسْتَقِرَّ بِهِ وُقُوعُ الْعِتْقِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوِ ادَّعَى أَنَّهُ دَفَعَ أُنْظِرَ يَوْمًا وَأَكْثَرُهُ ثَلَاثٌ فَإِنْ جَاءَ بِشَاهِدٍ حَلَفَ وَبَرِئَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا أَنْ يَدَّعِيَ الْمُكَاتَبُ عَلَى سَيِّدِهِ أَنَّهُ دَفَعَ إِلَيْهِ مَالَ كِتَابَتِهِ ، وَيُنْكِرُهُ السَّيِّدُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُكَاتَبِ بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّيِّدِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ مَا قَبَضَ مِنْهُ مَالَ كِتَابَتِهِ ، وَيَكُونُ الْمُكَاتَبُ بَعْدَ يَمِينِ السَّيِّدِ عَلَى حَالِ الْكِتَابَةِ ، فَإِنْ نَكَلَ السَّيِّدُ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَى الْمُكَاتَبِ ، فَإِذَا حَلَفَ بَرِئَ وَعَتَقَ ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُكَاتَبِ بَيِّنَةٌ نَظَرَ ، فَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَتُهُ حَاضِرَةً سُمِعَتْ وَحُكِمَ بِهَا عَلَى سَيِّدِهِ ، وَهِيَ شَاهِدَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ ، أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ ، لِأَنَّهَا عَلَى دَفْعِ مَالٍ ، وَإِنْ أَفْضَتْ إِلَى الْعِتْقِ ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ تُسْمَعَ الشَّهَادَةُ فِيمَا يُفْضِي إِلَى مَا لَا يَثْبُتُ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ ، كَمَا تُسْمَعُ فِي الْوِلَادَةِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ ، وَإِنْ ثَبَتَ بِهَا نَسَبٌ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ ، وَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَتُهُ غَائِبَةً قِيلَ لَهُ : أَتَقْدِرُ عَلَى إِحْضَارِهَا عَنْ قَرِيبٍ ؟ فَإِنْ قَالَ : لَا . قِيلَ : فَأَنْتَ كَمَنْ لَا بَيِّنَةَ لَهُ ، فَيَحْلِفُ السَّيِّدُ ، وَيَكُونُ الْمُكَاتَبُ بَاقِيًا عَلَى كِتَابَتِهِ ، فَإِنِ اسْتَرَقَّهُ السَّيِّدُ بِالْعَجْزِ ثُمَّ حَضَرَتْ بَيِّنَتُهُ مِنْ بَعْدُ جَازَ سَمَاعُهَا ، وَالْحُكْمُ بِعِتْقِهِ ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الْعَادِلَةَ أَحَقُّ بِالْحُكْمِ مِنَ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ . وَإِنْ قَالَ : أَقْدِرُ عَلَى إِحْضَارِ بَيِّنَتِي عَنْ قَرِيبٍ أُنْظِرَ لِإِحْضَارِهَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ،

وَأَكْثَرُهُ ثَلَاثٌ ، لِأَنَّ الْمُهْلَةَ فِي إِحْضَارِ الْبَيِّنَةِ عُرْفُ الْحُكَّامِ فِي الضَّرُورَاتِ ، وَكَانَ غَايَةَ إِنْظَارِهِ ثَلَاثًا ، لِئَلَّا يَخْرُجَ عَنْ حَدِّ الْقِلَّةِ إِلَى حَدِّ الْكَثْرَةِ ، وَيُمْنَعُ السَّيِّدُ فِي زَمَانِ إِنْظَارِهِ مِنْ مُطَالَبَتِهِ وَتَعْجِيزِهِ ، وَيُمَكَّنُ الْعَبْدُ فِيهَا مِنَ اكْتِسَابِهِ ، لِئَلَّا يَفُوتَ عَلَى أَحَدِهِمَا حَقُّهُ ، لَكِنْ يُحْجَرُ عَلَيْهِ فِي كَسْبِهِ إِنْ أَظْهَرَ السَّيِّدُ تَعْجِيزَهُ ، وَلَا يُحْجَرُ إِنْ لَمْ يُظْهِرْ تَعْجِيزَهُ ، فَإِنْ حَضَرَتِ الْبَيِّنَةُ سُمِعَتْ عَلَى مَا مَضَى ، وَإِنْ تَأَخَّرَتْ عَنْ زَمَانِ الْإِنْظَارِ أُحْلِفَ عَلَى مَا مَضَى .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ عَجَزَ أَوْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ بُدِئَ بِهَا عَلَى السَّيِّدِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا اجْتَمَعَ عَلَى الْمُكَاتَبِ دُيُونٌ مِنْ مُعَامَلَةٍ أَوْ أَرْشٍ عَنْ جِنَايَةٍ وَمَالٍ مِنْ كِتَابَةٍ ، فَإِنْ وَجَدَ مَا يَقْضِي بِهِ جَمِيعَ الْحُقُوقِ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ قَضَاءِ جَمِيعِهَا ، وَكَانَ مَا بِيَدِهِ يَعْجِزُ عَنْهَا كَانَ صَرَفَ مَا بِيَدِهِ إِلَى غُرَمَائِهِ وَفِي أَرُوشِ جِنَايَاتِهِ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ إِلَى سَيِّدِهِ ، لِاسْتِقْرَارِ الدُّيُونِ وَالْأَرُوشِ فِي ذِمَّتِهِ وَأَخْذِهِ جَبْرًا بِأَدَائِهِ ، وَلَيْسَ مَالُ الْكِتَابَةِ مُسْتَقِرًّا فِي ذِمَّتِهِ ، وَلَا يُؤْخَذُ بِهِ جَبْرًا بِأَدَائِهِ ، فَلِذَلِكَ قُدِّمَتِ الدُّيُونُ وَأُرُوشُ الْجِنَايَاتِ عَلَى مَالِ الْكِتَابَةِ ، فَإِنْ فَضَلَ بَعْدَ قَضَائِهَا فَضْلٌ أَخَذَهُ السَّيِّدُ مِلْكًا إِنْ عَجَّزَهُ ، وَأَدَاءً إِنْ أَنْظَرَهُ ، وَإِنْ عَجَزَ مَا بِيَدِهِ عَنْ دُيُونِهِ وَجِنَايَاتِهِ قُدِّمَتِ الدُّيُونُ عَلَى الْجِنَايَاتِ لِتَعَلُّقِ الْجِنَايَاتِ بِرَقَبَتِهِ ، وَتَعَلُّقِ الدُّيُونِ بِذِمَّتِهِ ، فَإِذَا اسْتَوْفَى أَرْبَابَ الدُّيُونِ دَفَعَ حِينَئِذٍ فِي جِنَايَاتِهِ ، فَإِنْ عَجَزَ مَا بِيَدِهِ عَنْ دُيُونِهِ أُنْظِرَ بِالْبَاقِي إِلَى وَقْتِ يَسَارِهِ ، وَبِيعَ فِي جِنَايَاتِهِ إِنْ كَانَ أُرُوشُهَا بِقَدْرِ ثَمَنِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ بِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِهَا ، وَكَانَ الْبَاقِي عَلَى رِقِّ سَيِّدِهِ ، وَلَا يُبَاعُ فِي بَاقِي دُيُونِهِ ، لِأَنَّ دُيُونَهُ تَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ ، فَإِنْ أَرَادَ السَّيِّدُ بَعْدَ مَا بِيعَ مِنْهُ فِي جِنَايَاتِهِ أَنْ يَسْتَبْقِيَ الْكِتَابَةَ فِي بَاقِيهِ جَازَ لَهُ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْتَدِئْهَا فِي بَعْضِهِ ، فَيَمْتَنِعَ مِنْهَا ، وَإِنَّمَا بَطَلَتِ الْكِتَابَةُ فِي بَعْضِهِ ، فَجَازَ أَنْ يَضُمَّ الْبَاقِي مِنْهَا ، فَإِذَا أَدَّى كِتَابَةَ بَاقِيهِ عَتَقَ ، وَفِي تَقْوِيمِ بَاقِيهِ عَلَى السَّيِّدِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُقَوَّمُ عَلَيْهِ لِتَقْدِيمِ سَبَبِ الْعِتْقِ قَبْلَ التَّبْعِيضِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُقَوَّمُ عَلَيْهِ الْبَاقِي وَيَسْرِي الْعِتْقُ فِي جَمِيعِهِ ، لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ لِلْإِنْظَارِ كَالِابْتِدَاءِ بِالْعِتْقِ ، لَكِنْ لَوْ بِيعَ بَعْضُهُ فِي حَيَاتِهِ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْهِ مَالُ كِتَابَتِهِ لَزِمَ السَّيِّدُ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ الْكِتَابَةَ فِي بَاقِيهِ ، لِأَنَّهَا إِذَا لَزِمَتْ فِي جَمِيعِهِ لَزِمَتْ فِي بَعْضِهِ ، وَلَا يُقَوَّمُ عَلَيْهِ بَاقِيهِ إِنْ عَتَقَ بِالْأَدَاءِ وَجْهًا وَاحِدًا ، لِأَنَّ عِتْقَهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى خِيَارِهِ بَعْدَ التَّبْعِيضِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا إِذَا مَاتَ هَذَا الْمُكَاتَبُ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ وَجِنَايَاتٌ وَمَالُ كِتَابَةٍ فَقَدْ مَاتَ عَبْدًا ، تَرَكَ وَفَاءً أَوْ لَمْ يَتْرُكْ ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَقَعُ بِالْأَدَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَكَانَ

مَا خَلَّفَهُ مِنَ الْمَالِ مَصْرُوفًا فِي دُيُونِهِ وَجِنَايَاتِهِ ، لَا يَتَقَدَّمُ بِهِ أَرْبَابُ الدُّيُونِ عَلَى أَصْحَابِ الْجِنَايَاتِ ، لِفَوَاتِ رَقَبَتِهِ بِالْمَوْتِ ، فَصَارَتْ أُرُوشُ الْجِنَايَاتِ مُسَاوِيَةً دُيُونَ الْمُعَامَلَاتِ ، فَإِنْ عَجَزَ مَالُهُ عَنْهَا تَحَاصَّ الْفَرِيقَانِ فِي مَالِهِ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمُ الرُّجُوعُ عَلَى السَّيِّدِ بِشَيْءٍ إِنْ بَقِيَ مِنْهَا وَهُوَ غَيْرُ مَأْخُوذٍ بِدَيْنِ عَبْدِهِ ، وَلَا بِجِنَايَتِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ كِتَابَةُ بَعْضِ عَبْدٍ وَالشَّرِيكَانِ فِي الْعَبْدِ يُكَاتِبَانِهِ أَوْ أَحَدِهِمَا

كِتَابَةُ بَعْضِ عَبْدٍ وَالشَّرِيكَانِ فِي الْعَبْدِ يُكَاتِبَانِهِ أَوْ أَحَدِهِمَا مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " لَا يَجُوزُ أَنْ يُكَاتِبَ بَعْضَ عَبْدٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَاقِيهِ حُرًّا ، وَلَا بَعْضًا مِنْ عَبْدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ الشَّرِيكِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يُمْنَعُ مِنَ السَّفَرِ وَالِاكْتِسَابِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي سَيِّدٍ تَفَرَّدَ بِكِتَابَةِ بَعْضِ عَبْدٍ ، فَلَا يَخْلُو حَالَةُ بَاقِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ حُرًّا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِشَرِيكٍ فِيهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِلسَّيِّدِ الَّذِي كَاتَبَهُ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَاقِي الْمُكَاتَبِ حُرًّا ، فَالْكِتَابَةُ عَلَى الْمَرْقُوقِ مِنْهُ جَائِزَةٌ ، لِأَنَّ مَقْصُودَهَا الْحُرِّيَّةُ . فَإِذَا جَازَتْ كِتَابَةُ مَنْ لَا حُرِّيَّةَ فِيهِ كَانَتْ كِتَابَةُ مَنْ فِيهِ حُرِّيَّةٌ أَجْوَزَ ، وَلِأَنَّ تَصَرُّفَهُ قَبْلَ الْكِتَابَةِ مُخْتَلِفٌ وَكَسْبَهُ مُتَبَعِّضٌ ، لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ تَارَةً بِحَقِّ حُرِّيَّتِهِ ، وَلَهُ بِقَدْرِهَا مِنْ كَسْبِهِ ، وَيَتَصَرَّفُ لِسَيِّدِهِ تَارَةً بِحَقِّ مِلْكِهِ ، وَلَهُ بِقَدْرِ ذَلِكَ مِنْ كَسْبِهِ ، فَإِذَا كَاتَبَ بَاقِيهِ اسْتَكْمَلَ جَمِيعَ تَصَرُّفِهِ وَكَسْبِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، فَكَانَ بِالْكِتَابَةِ أَحَقَّ بِهِ ، فَإِذَا صَحَّتْ كِتَابَتُهُ كَمَلَ تَصَرُّفُهُ ، وَجَازَ أَنْ يَسْتَعِينَ بِسَهْمِ الرِّقَابِ مِنَ الصَّدَقَاتِ ، فَإِنْ أَدَّى مَالَ الْكِتَابَةِ كَمَلَ عِتْقُهُ وَتَحَرَّرَ جَمِيعُهُ ، وَإِنْ عَجَزَ وَعَادَ إِلَى الرِّقِّ أَخَذَ السَّيِّدُ مَا فِي يَدِهِ مِنْ كَسْبِ الرِّقِّ ، وَلَمْ يَأْخُذْ مَا فِي يَدِهِ مِنْ كَسْبِ الْحُرِّيَّةِ ، كَمَا لَا يَأْخُذُهُ مِنْهُ لَوْ لَمْ يُكَاتِبْهُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَاقِيهِ مِلْكًا لِشَرِيكٍ فِيهِ أي المكاتب ، فَلَا تَخْلُو كِتَابَةُ هَذَا السَّيِّدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ فِيهِ . أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ . فَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ الشَّرِيكِ أي مكاتبة العبد فَالْكِتَابَةُ فَاسِدَةٌ ، لِمَا فِيهَا مِنْ دُخُولِ الضَّرَرِ عَلَى الشَّرِيكِ بِنُقْصَانِ قِيمَةِ حِصَّتِهِ ، وَجَوَّزَهَا الْحَكَمُ بْنُ عُتْبَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ حِصَّتِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ شَرِيكِهِ ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهٌ ، لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَلْحَقُ الشَّرِيكَ فِيهِ ضَرَرٌ ،

فَجَوَّزْنَاهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، وَالْكِتَابَةُ يَدْخُلُ بِهَا ضَرَرٌ عَلَيْهِ ، فَمَنَعَ مِنْهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ . وَإِنْ كَاتَبَهُ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ ، فَفِي صِحَّةِ كِتَابَتِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ عَلَى مَسَائِلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْكِتَابَةَ صَحِيحَةٌ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ ، لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْهَا دُخُولُ الضَّرَرِ عَلَى الشَّرِيكِ ، وَإِذْنُهُ رِضًا بِالضَّرَرِ فَزَالَ الْمَنْعُ وَصَحَّتِ الْكِتَابَةُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَأَكْثَرِ كُتُبِهِ ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ ، أَنَّ الْكِتَابَةَ فَاسِدَةٌ ، وَإِنْ أَذِنَ فِيهَا الشَّرِيكُ لِأَرْبَعَةِ مَعَانٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ مَوْضُوعَ الْكِتَابَةِ أَنْ يَكْمُلَ بِهَا تَصَرُّفُ الْمُكَاتَبِ ، وَلَا يَكْمُلُ تَصَرُّفُهُ بِكِتَابَةِ بَعْضِهِ ، لِأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ أَنْ يُسَافِرَ لِكِتَابَتِهِ مَنَعَهُ الشَّرِيكُ مِنَ السَّفَرِ ، لِرِقِّهِ ، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ فَاسِدَةً . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ بِكِتَابَةِ بَعْضِهِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِمَالِ الصَّدَقَاتِ المكاتب ، لِأَنَّ الشَّرِيكَ يَأْخُذْ مِنْهُ بِقَدْرِ سَهْمِهِ ، وَالصَّدَقَةُ لَا تَحِلُّ لَهُ ، فَمُنِعَ مِنْهَا حَتَّى تَكْمُلَ كِتَابَةُ جَمِيعِهِ . وَالثَّالِثُ : لِأَنَّهُ إِذَا كُوتِبَ فِي نِصْفِهِ عَلَى أَلْفٍ ، لَمْ يَعْتِقْ إِلَّا بِأَدَاءِ أَلْفَيْنِ ، لِيَأْخُذَ الشَّرِيكُ مِنْهَا أَلْفًا وَالْمُكَاتَبُ أَلْفًا ، وَمَا أَفْضَى إِلَى هَذَا لَمْ تَصِحَّ بِهِ الْكِتَابَةُ كَمَا لَوْ شُرِطَتْ عَلَيْهِ الزِّيَادَةُ لَفْظًا . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ إِذَا عَتَقَ مَا كُوتِبَ عَلَيْهِ سَرَى الْعِتْقُ إِلَى بَاقِيهِ ، فَعَتَقَ بِالْكِتَابَةِ مَا لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا ، فَفَسَدَتْ كَمَا لَوْ قَالَ : كَاتَبْتُكَ عَلَى أَنَّكَ إِذَا أَدَّيْتَ مَالَ كِتَابَتِكَ فَأَنْتَ وَأَخُوكَ حُرَّانِ ، كَانَتْ كِتَابَتُهُ فَاسِدَةً ، لِتَعَدِّي الْعِتْقِ فِيهَا إِلَى مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي عَقْدِهَا ، كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ مِنْهَا أَنَّ الْكِتَابَةَ صَحِيحَةٌ ، فَكَسْبُ الْمُكَاتَبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ ، لِيَأْخُذَ الشَّرِيكُ مِنْهُ بِقَدْرِ مِلْكِهِ ، وَيَأْخُذَ الْمُكَاتَبُ مِنْهُ بِقَدْرِ كِتَابَتِهِ لِيُؤَدِّيَهُ فِيهَا ، فَإِنْ لَمْ يُهَايِئْهُ الشَّرِيكُ قَاسَمَهُ عَلَى كُلِّ كَسْبِهِ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ سَهْمِ الرِّقَابِ فِي الصَّدَقَاتِ مهايئة المكاتب ، وَإِنْ هَايَأَهُ لِيَكْتَسِبَ لِنَفْسِهِ يَوْمًا وَلِلشَّرِيكِ يَوْمًا أي المكاتب ، جَازَ . وَفِي وُجُوبِهَا إِذَا طَلَبَهَا أَحَدُهُمَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تَجِبُ كَمَا تَجِبُ الْقِسْمَةُ إِذَا دَعَا إِلَيْهَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ ، وَأَصْلُهُ قَسْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ نِسَائِهِ ، فَجَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ لَيْلَةً ، وَهِيَ مُهَايَأَةٌ قَدْ أَوْجَبَهَا لِنَفْسِهِ وَعَلَيْهَا ، وَيَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ بَعْدَ الْمُهَايَأَةِ ، أَنْ يَأْخُذَ مِنْ سَهْمِ الرِّقَابِ فِي الصَّدَقَاتِ فِي أَيَّامِ نَفْسِهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا فِي أَيَّامِ سَيِّدِهِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا لَا تَلْزَمُ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ ، لِأَنَّهَا تُفْضِي إِلَى تَأْخِيرِ حَقٍّ مُعَجَّلٍ ، وَتَعْجِيلِ حَقٍّ مُؤَخَّرٍ مهايئة الشريك . وَمَا أَفْضَى إِلَى هَذَا لَمْ يَلْزَمْ ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَارَقَ قِسْمَةَ الشُّرَكَاءِ ، لِأَنَّهُ لَا تَعْجِيلَ فِيهَا وَلَا تَأْخِيرَ . وَأَمَّا قَسْمُ الزَّوْجَاتِ ، فَلَمَّا لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُنَّ ، وَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إِفْرَادِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِحَقِّهَا ، لَزِمَتِ الْمُهَايَأَةُ بَيْنَهُنَّ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَاهُنَا ، لِإِمْكَانِ الِاشْتِرَاكِ مِنْ غَيْرِ مُهَايَأَةٍ فَافْتَرَقَا ، فَإِذَا صَحَّ هَذَا ، وَأَدَّى الْمُكَاتَبُ إِلَى سَيِّدِهِ الَّذِي كَاتَبَهُ مِنْ مَالِ كِتَابَتِهِ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ أَدَاؤُهُ قَبْلَ أَنْ دَفَعَ إِلَى الشَّرِيكِ مِنْهُ قَدْرَ حَقِّهِ لَمْ يَعْتِقْ بِهِ ، لِأَنَّ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَرْجِعَ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْهُ ، فَلَمْ يَكْمُلْ بِهِ الْأَدَاءُ فَلَمْ يَعْتِقْ ، وَإِنْ كَانَ مَا أَدَّاهُ بَعْدَ أَنْ دَفَعَ إِلَى الشَّرِيكِ مِنْهُ قَدْرَ حَقِّهِ عَتَقَ مِنْهُ قَدْرَ مَا كُوتِبَ مِنْهُ بِالْعَقْدِ ، ثُمَّ اعْتُبِرَتْ بِحَالِ سَيِّدِهِ الَّذِي كَاتَبَهُ ، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يَسْرِ عِتْقُهُ إِلَى بَاقِيهِ ، وَكَانَ عَلَى رِقِّهِ لِلشَّرِيكِ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا سَرَى إِلَى الْبَاقِي ، وَيُقَوَّمُ عَلَى الشَّرِيكِ الَّذِي كَاتَبَهُ وَقْتَ الْأَدَاءِ وَصَارَ جَمِيعُ الْمُكَاتَبِ حُرًّا بِالْأَدَاءِ وَالسِّرَايَةِ ، وَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ عَنْ أَدَاءِ كِتَابَتِهِ فَلِسَيِّدِهِ الَّذِي كَاتَبَهُ اسْتِرْقَاقُهُ ، وَيَصِيرُ جَمِيعُ الْمُكَاتَبِ عَبْدًا قِنًّا ، وَيَكُونُ مَا فِي يَدِهِ بَعْدَ التَّعْجِيزِ لِلسَّيِّدِ الْمُكَاتَبِ دُونَ الشَّرِيكِ المكاتب الذي عجز عن الكتابة ، لِأَنَّ الشَّرِيكَ قَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ مِنَ الْكَسْبِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي : إِنَّ كِتَابَتَهُ فَاسِدَةٌ ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ فَلِسَيِّدِهِ أَنْ يُبْطِلَ كِتَابَتَهُ وَيَرْفَعَهَا ، فَإِنْ أَبْطَلَهَا وَرَفَعَهَا لَمْ يُعْتَقْ بِالْأَدَاءِ ، وَكَانَ جَمِيعُهُ مَرْقُوقًا ، وَاقْتَسَمَ سَيِّدَاهُ كَسْبَهُ عَلَى مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ مِنَ اشْتِرَاكٍ أَوْ مُهَايَأَةٍ ، وَإِنْ لَمْ تَبْطُلْ كِتَابَتُهُ وَلَا رَفْعُهَا فَمَتَى ادَّعَى أَنَّهُ أَدَّى قَدْرَ الْكِتَابَةِ إِلَى سَيِّدِهِ الَّذِي كَاتَبَهُ ، نُظِرَ فِيمَا أَدَّاهُ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ مَا أَخَذَهُ الشَّرِيكُ مِنْهُ قَدْرَ حَقِّهِ عَتَقَ بِهِ ، وَوَقَفَ الْعِتْقُ عَلَى قَدْرِ الْكِتَابَةِ ، وَإِنْ كَانَ سَيِّدُهُ مُعْسِرًا ، وَسَرَى إِلَى جَمِيعِهِ الْعِتْقُ إِنْ كَانَ مُوسِرًا ، وَرَجَعَ السَّيِّدُ عَلَى مُكَاتَبِهِ بِقِيمَةِ مَا عَتَقَ مِنْهُ بِالْكِتَابَةِ دُونَ السِّرَايَةِ ، لِوُقُوعِ الْعِتْقِ فِيهِ عَلَى كِتَابَةٍ فَاسِدَةٍ ، وَرَجَعَ الْمُكَاتَبُ عَلَيْهِ بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَضْلٌ تَقَاصَّا ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ تَرَادَّا ، وَإِنْ كَانَ مَا أَدَّاهُ الْمُكَاتَبُ إِلَى سَيِّدِهِ لَمْ يَأْخُذِ الشَّرِيكُ مِنْهُ قَدْرَ حَقِّهِ فَفِي عِتْقِ الْمُكَاتَبِ بِهِ وَجْهَانِ ، حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ : أَحَدُهُمَا : لَا يُعْتَقُ كَمَا لَا يُعْتَقُ بِهِ فِي الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ ، لِاسْتِحْقَاقِ الشَّرِيكِ لِبَعْضِهِ ، فَلَمْ يَكْمُلْ بِهِ الْأَدَاءُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُعْتَقُ بِهِ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ ، وَإِنْ لَمْ يُعْتَقْ بِهِ فِي الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ ، لِأَنَّ الصَّحِيحَةَ يَغْلِبُ فِيهَا حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ ، وَالْعِوَضُ الْمَدْفُوعُ يُسْتَحَقُّ فَلَمْ يَكْمُلْ بِخِلَافِ الْفَاسِدَةِ فَإِنَّهُ يَغْلِبُ فِيهَا حُكْمُ الْعِتْقِ بِالصِّفَةِ ، وَقَدْ وُجِدَتِ الصِّفَةُ ، وَإِنْ لَمْ تُمَلِّكْ ، كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : إِنْ أَعْطَيْتَنِي هَذَا الثَّوْبَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَأَعْطَاهُ ، وَكَانَ مَغْصُوبًا عَتَقَ بِهِ .



فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَاقِيهِ مِلْكًا لِسَيِّدِهِ الَّذِي كَاتَبَهُ ، كَأَنَّهُ كَانَ يَمْلِكُ جَمِيعَهُ فَكَاتَبَ نِصْفَهُ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْكِتَابَةَ فَاسِدَةٌ قَوْلًا وَاحِدًا ، لِأَنَّ مَقْصُودُ الْكِتَابَةِ الْعِتْقَ ، وَلَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُبَعِّضَ عِتْقَ عَبْدِهِ ، فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَعِّضَ كِتَابَتَهُ . وَجَوَّزَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا كِتَابَةَ بَعْضِهِ ، وَخَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلًا ثَانِيًا ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي الْكِتَابَةِ شَرِيكَ غَيْرِهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا شَرِيكَ نَفْسِهِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرِكِ عَلَى أَكْثَرَ مِنَ الْكِتَابَةِ عَلَى حِصَّتِهِ فَكَانَ غَيْرَ تَبْعِيضٍ لِحَقِّهِ ، وَقَادِرٌ فِي مِلْكِهِ جَمِيعُ الْعَبْدِ عَلَى أَنْ يُكَاتِبَهُ بِأَسْرِهِ فَصَارَ مُبَعِّضًا لِحَقِّهِ ، فَإِنْ قُلْنَا : تَجُوزُ كِتَابَتُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَازَ أَنْ يُهَايِئَ الْمُكَاتَبَ عَلَى كَسْبِهِ ، فَيَكْسِبَ لِنَفْسِهِ يَوْمًا يُؤَدِّيهِ فِي كِتَابَتِهِ ، وَيَوْمًا يَأْخُذُهُ مِنْهُ بِحَقِّ مِلْكِهِ ، وَجَازَ أَنْ لَا يُهَايِئَهُ وَيَكُونَ عَلَى الشَّرِكَةِ فِي كَسْبِهِ ، فَإِنْ أَدَّى إِلَيْهِ شَيْئًا احْتَسَبَ مِنَ الْكِتَابَةِ بِنِصْفِهِ الْمُقَابِلِ ، لِمَا كَاتَبَ مِنْهُ ، وَكَانَ لَهُ النِّصْفُ الْبَاقِي لِنَفْسِهِ ، فَإِنْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ فِي الْمُهَايَأَةِ أَوْ مَعَ الْإِشْرَاكِ قَدْرَ كِتَابَتِهِ عَتَقَ نِصْفُهُ بِالْكِتَابَةِ وَبَاقِيهِ بِالسِّرَايَةِ ، سَوَاءٌ كَانَ السَّيِّدُ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا ، لِأَنَّ الْيَسَارَ مُعْتَبَرٌ فِي تَقْوِيمِ حِصَّةِ الشَّرِيكِ ، وَلَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ بِتَقْوِيمِ حِصَّتِهِ إِذَا سَرَى الْعِتْقُ إِلَيْهَا ، لِأَنَّهُ مُوسِرٌ إِذَا مَلَّكَهَا وَلَا يَرْجِعُ عَلَى مُكَاتَبِهِ بِقِيمَةِ بَاقِيهِ إِذَا سَرَى الْعِتْقُ إِلَيْهِ ، وَإِنْ قُلْنَا بِفَسَادِ الْكِتَابَةِ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَقَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ ، فَلِلسَّيِّدِ فَسْخُهَا وَإِبْطَالُهَا بِالْفَسَادِ ، وَلَا يَعْتِقُ الْمُكَاتَبُ فِيهَا بِالْأَدَاءِ ، وَإِنْ لَمْ يَفْسَخْهَا حَتَّى أَدَّى الْمُكَاتَبُ إِلَيْهِ جَمِيعَ مَالِهَا ، نَظَرَ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنِ اسْتَوْفَى السَّيِّدُ مِنْهُ قَدْرَ حَقِّهِ بِالْمِلْكِ عَتَقَ ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَدَاءِ حَقِّهِ مِنْهُ ، فَفِي عِتْقِهِ وَجْهَانِ ، عَلَى مَا حَكَّاهُ ابْنُ سُرَيْجٍ ، فَإِذَا رَجَعَ الْعِتْقُ عَلَى حِصَّةِ الْكِتَابَةِ سَرَى إِلَى بَاقِيهِ ، فَعَتَقَ جَمِيعُهُ ، وَتَرَادَّا الْقِيمَةَ فِي الْأَدَاءِ ، لِوُقُوعِ الْعِتْقِ عَنْ كِتَابَةٍ فَاسِدَةٍ ، وَفِيمَا يَرْجِعُ السَّيِّدُ بِهِ عَلَى مُكَاتَبِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : جَمِيعُ الْقِيمَةِ ، لِوُقُوعِ عِتْقِهِ فِي كِتَابَةٍ فَاسِدَةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ النِّصْفِ الَّذِي كَاتَبَهُ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُعْتَقُ بِالْكِتَابَةِ ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ مَا عَتَقَ بِالسِّرَايَةِ ، لِاخْتِصَاصِ السَّيِّدِ بِهِ فِي حَقِّهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُكَاتِبَاهُ مَعًا حَتَّى يَكُونَا فِيهِ سَوَاءً مكاتبة الشريكين للمكاتب . وَقَالَ فِي كِتَابِ الْإِمْلَاءِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ : وَإِذَا أَذِنَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ أَنْ يُكَاتِبَهُ فَالْكِتَابَةُ جَائِزَةٌ وَلِلَّذِي لَمْ يُكَاتِبْهُ أَنْ يَخْتَدِمَهُ يَوْمًا وَيُخَلَّى وَالْكَسْبَ يَوْمًا ، فَإِنْ أَبْرَأَهُ مِمَّا عَلَيْهِ كَانَ نَصِيبُهُ حُرًّا وَقُوِّمَ عَلَيْهِ الْبَاقِي وَعَتَقَ إِنْ كَانَ مُوسِرًا وَرَقَّ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا ( قَالَ

الْمُزَنِيُّ ) الْأَوَّلُ بِقَوْلِهِ أَوْلَى لِأَنَّهُ زَعَمَ لَوْ كَانَتْ كِتَابَتُهُمَا فِيهِ سَوَاءً فَعَجَّزَهُ أَحَدُهُمَا فَأَنْظَرَهُ الْآخَرُ فُسِخَتِ الْكِتَابَةُ بَعْدَ ثُبُوتِهَا حَتَّى يَجْتَمِعَا عَلَى الْإِقَامَةِ عَلَيْهَا ، فَالِابْتِدَاءُ بِذَلِكَ أَوْلَى ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ كِتَابَةُ نَصِيبِهِ جَائِزَةً كَبَيْعِهِ إِيَّاهُ ، فَلَا مَعْنَى لِإِذْنِ شَرِيكِهِ أَوْ لَا تَجُوزُ ، فَلِمَ جَوَّزَهُ بِإِذْنِ مَنْ لَا يَمْلِكُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ جَازَ أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى كِتَابَتِهِ ، فَتَصِحُّ قَوْلًا وَاحِدًا . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا كَانَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ ، كَمَا لَوْ كَاتَبَهُ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ ؟ قِيلَ : قَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَذْهَبُ إِلَى هَذَا ، وَيُخَرِّجُ كِتَابَتَهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ ، لِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا اجْتَمَعَ فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ عَاقِدَانِ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْعَقْدَيْنِ ، فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالْمُنْفَرِدِ بِكِتَابَتِهِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا إِلَى فَسَادِ هَذَا التَّخْرِيجِ ، وَأَنَّ الْكِتَابَةَ بِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَيْهَا جَائِزَةٌ قَوْلًا وَاحِدًا ، لِكَمَالِ تَصَرُّفِهِ ، وَهُوَ فِي كِتَابَتِهِمَا كَامِلُ التَّصَرُّفِ ، وَيَجُوزُ أَخْذُهُ مِنَ الصَّدَقَاتِ وَهُوَ مِنْ كِتَابَةِ أَحَدِهِمَا مَمْنُوعٌ مِنْهَا ، فَافْتَرَقَا . فَإِذَا صَحَّ جَوَازُ اجْتِمَاعِهِمَا عَلَى كِتَابَتِهِ ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُكَاتِبَاهُ حَتَّى يَكُونَا فِيهِ سَوَاءً ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَرَادَ تَسَاوِيَهُمَا فِي مِلْكِهِ ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، فَتَصِحُّ حِينَئِذٍ مِنْهُمَا مُكَاتَبَتُهُ عَلَى مَالٍ يَتَسَاوَيَانِ فِيهِ ، أَوْ يَتَفَاضَلَانِ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ : حَتَّى يَكُونَا فِيهِ سَوَاءً ، يَعْنِي فِي الْعَبْدِ ، وَلَوْ أَرَادَ الْكِتَابَةَ لَقَالَ : حَتَّى يَكُونَا فِيهَا سَوَاءً ، وَإِنْ تَفَاضَلَا فِي الْمِلْكِ فَكَانَ لِأَحَدِهِمَا ثُلُثُهُ ، وَالْآخَرِ ثُلُثَاهُ لَمْ تَصِحَّ كِتَابَتُهُمَا لِتَفَاضُلِهِمَا وَقُوَّةِ أَحَدِهِمَا ، فَصَارَ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا مَعْدُومًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِ الْأُمِّ : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي مَالِ الْكِتَابَةِ بِحَسْبِ الْمِلْكِ أي الشريكين ، فَإِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، فَكَاتَبَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى أَلْفٍ جَازَ ، وَلَوْ كَاتَبَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى أَلْفٍ ، وَالْآخَرُ عَلَى أَلْفَيْنِ لَمْ يَجُزْ ، لِتَفَاضُلِهِمَا فِي الْمَالِ مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِي الْمِلْكِ ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَكَاتَبَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى أَلْفٍ لَمْ يَجُزْ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْمَالِ مَعَ تَفَاضُلِهِمَا فِي الْمِلْكِ ، وَلَوْ كَاتَبَهُ صَاحِبُ الثُّلُثِ عَلَى أَلْفٍ وَصَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ عَلَى أَلْفَيْنِ جَازَ ، لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْمَالِ وَإِنْ تَفَاضَلَا فِي الْمِلْكِ ، لِيَكُونَ الْكَسْبُ الْمُؤَدَّى بَعْدَ الْكِتَابَةِ مُعْتَبَرًا بِاسْتِحْقَاقِهِمَا لَهُ بِالْمِلْكِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ .

فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا جَازَ أَنْ يَتَفَاضَلَا فِي الْمِلْكِ وَالْمَالِ جَمِيعًا كَمَا يَجُوزُ فِي اجْتِمَاعِهِمَا عَلَى الْبَيْعِ أَنْ يَتَفَاضَلَا فِي الْمِلْكِ وَالثَّمَنِ ؟ قِيلَ : لِأَنَّهُ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْبَيْعِ أَنْ يَمْنَعَ صَاحِبَهُ مِنْهُ . فَجَازَ أَنْ يُفَضَّلَ عَلَيْهِ فِيهِ وَلَهُ مَنْعُهُ مِنَ الْكِتَابَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَضَّلَ عَلَيْهِ فِيهَا ، وَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ تُؤَدَّى مِنَ الْكَسْبِ الَّذِي قَدْ تَسَاوَيَا فِيهِ ، وَالثَّمَنُ فِي الْبَيْعِ يُؤَدَّى مِنْ غَيْرِهِ فَافْتَرَقَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَاتَبَاهُ جَمِيعًا بِمَا يَجُوزُ فَقَالَ : دَفَعْتُ إِلَيْكُمَا مُكَاتَبَتِي وَهِيَ أَلْفٌ فَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ رَجَعَ الْمُنْكِرُ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِ مَا أَقَرَّ بِقَبْضِهِ وَلَمْ يَرْجِعِ الشَّرِيكُ عَلَى الْعَبْدِ بِشَيْءٍ ، وَيَعْتِقُ نَصِيبُ الْمُقِرِّ ، فَإِنْ أَدَّى إِلَى الْمُنْكِرِ تَمَامَ حَقِّهِ عَتَقَ وَإِنْ عَجَزَ رَقَّ نِصْفُهُ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ حُرٌّ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَاتَبَ الشَّرِيكَانِ عَبْدًا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، فَادَّعَى الْمُكَاتَبُ عَلَيْهِمَا أَنَّهُ أَدَّى مَالَ الْكِتَابَةِ إِلَيْهِمَا فَإِنْ صَدَّقَاهُ عَتَقَ عَلَيْهِمَا وَكَانَ وَلَاؤُهُ لَهُمَا ، وَإِنْ كَذَّبَاهُ حَلَفَا ، وَكَانَ عَلَى كِتَابَتِهِ ، فَإِنْ أَدَّاهَا وَإِلَّا عَجَّزَاهُ ، وَعَادَ عَبْدًا ، فَإِنْ صَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ أي المكاتب الذي إدعى الأداء وهو بين شريكين عَتَقَتْ حِصَّةُ الْمُصَدِّقِ ، وَحَلَفَ لَهُ الْمُكَذِّبُ وَكَانَ عَلَى كِتَابَتِهِ فِي حِصَّتِهِ ، وَلِلْمُكَذِّبِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُصَدِّقِ بِنِصْفِ مَا أَقَرَّ بِقَبْضِهِ وَهُوَ الرُّبُعُ لِوُجُوبِ تَسَاوِيهِمَا فِي الْأَدَاءِ ، وَالْمُكَذِّبُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْمُصَدِّقِ بِحُصُولِ حَقِّهِ فِي يَدِهِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْمُكَاتَبِ ، لِأَنَّهُ حَقٌّ تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ ، فَإِنْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمُصَدِّقِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ الْمُصَدِّقُ عَلَى الْمُكَاتَبِ ، لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّ الْمُنْكِرَ ظَلَمَهُ بِأَخْذِهِ . وَإِنْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمُكَاتَبِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْمُصَدِّقِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ ، فَإِذَا أَخَذَ الْمُكَذِّبُ رُبُعَ الْكِتَابَةِ مِنْ أَحَدِهِمَا بَقِيَ لَهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ رُبُعُهَا ، لِأَنَّ لَهُ النِّصْفَ ، فَإِنْ أَدَّاهُ الْمُكَاتَبُ عَتَقَ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ رَقَّ ، وَكَانَ نِصْفُهُ حُرًّا مَمْلُوكًا ، وَلَا يُقَوَّمُ عَلَى الشَّرِيكِ الْمُصَدِّقِ وَإِنْ عَتَقَتْ حِصَّتُهُ بِالتَّصْدِيقِ ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا ، وَعَلَّلَ بِأَنَّ الْعَبْدَ يُبَرِّئُهُ مِنْ ذَلِكَ ، وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ دَخَلٌ ، لِأَنَّ فِي تَكْمِيلِ الْحُرِّيَّةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مَا لَا يَعْتَبِرُ فِيهِ الْإِبْرَاءَ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُصَدِّقِ عَلَى الْمُنْكِرِ ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا لِأَنَّهُ يَسْتَدْفِعُ بِهَا ضَرَرَ اسْتِرْجَاعِ نِصْفِ مَا بِيَدِهِ ، فَصَارَ مَتْهُومَ الشَّهَادَةِ فَرُدَّتْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنِ ادَّعَى أَنَّهُ دَفَعَ جَمِيعَ الْكِتَابَةِ إِلَى أَحَدِهِمَا ، فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ : بَلْ دَفَعَهُ إِلَيْنَا جَمِيعًا ، رَجَعَ عَلَيْهِ شَرِيكُهُ بِنِصْفِ مَا أَقَرَّ بِقَبْضِهِ ، وَعَتَقَ نَصِيبُهُ وَقُوِّمَ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا أَنْ يَدَّعِيَ هَذَا الْمُكَاتَبُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ أَنَّهُ دَفَعَ جَمِيعَ مَالِ الْكِتَابَةِ إِلَى أَحَدِهِمَا لِيَأْخُذَ مِنْهُ النِّصْفَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ وَيَدْفَعَ إِلَى شَرِيكِهِ النِّصْفَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ ، فَلِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي تَصْدِيقِهِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَقُولَ : دَفَعْتَ ذَلِكَ إِلَيْنَا جَمِيعًا ، فَعَتَقَتْ حِصَّتِي بِقَبْضِي ، وَعَتَقَتْ حِصَّةُ شَرِيكِي بِإِقْبَاضِكَ لَهُ ، وَيُنْكِرُ الشَّرِيكُ الْآخَرُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَبَضَ شَيْئًا ، فَتَعْتِقُ حِصَّةُ الْمُصَدِّقِ بِهَذَا الْإِقْرَارِ ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ أَنَّهُ مَا قَبَضَ حَقَّهُ ، وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَيْهِ أَنَّهُ أَقْبَضَهُ ، لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَقُولُ : دَفَعْتُهَا إِلَى الْمُقِرِّ لِيَدْفَعَهَا إِلَيْهِ ، وَالْمُقِرُّ يَقُولُ : إِنَّمَا دَفَعَهَا الْمُكَاتَبُ إِلَيْهِ وَلَمْ يَدَّعِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا تَسْلِيمَهَا إِلَيْهِ ، فَلِذَلِكَ سَقَطَتِ الْيَمِينُ عَنْهُ ، وَهُوَ بَعْدَ إِنْكَارِهِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُكَاتَبِ بِجَمِيعِ حَقِّهِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُقِرِّ بِنِصْفِهِ " وَعَلَى الْمُكَاتَبِ بِنِصْفِهِ ، وَلَا يَرْجِعُ الْمُقِرُّ عَلَى الْمُكَاتَبِ بِمَا أَخَذَهُ الْمُنْكِرُ مِنْهُ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، فَإِنِ اسْتَوْفَى الْمُنْكِرُ حَقَّهُ مِنْهَا أَوْ مِنَ الْمُكَاتَبِ فَقَدْ عَتَقَتْ حِصَّتُهُ وَصَارَ جَمِيعُهُ حُرًّا ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَوْفِهِ كَانَ لَهُ تَعْجِيزُ الْمُكَاتَبِ فِي حِصَّتِهِ وَاسْتِرْقَاقُهَا ، فَأَدَّى لَهُ مُسْتَرِقُّهَا قُوِّمَتْ عَلَى الْمُقِرِّ ، وَسَرَى الْعِتْقُ إِلَى جَمِيعِ الْمُكَاتَبِ ، فَعَتَقَ كُلُّهُ ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَقُولُ : قَدْ عَتَقْتُ بِالْأَدَاءِ ، وَإِنَّمَا أَنْتَ أَيُّهَا الْمُقِرُّ ظَلَمْتَنِي بِتَأْخِيرِ الْأَدَاءِ وَإِبْطَالِ الْعِتْقِ ، وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ أَيْضًا دَخَلٌ ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ عِنْدِي فَرْقٌ يَصِحُّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ مِنْ حَالِ الْمُصَدِّقِ أَنْ يَقُولَ : قَبَضْتُ جَمِيعَ مَالِ الْكِتَابَةِ ، وَدَفَعْتُ إِلَى شَرِيكِي مِنْهُ قَدْرَ حَقِّهِ ، وَهُوَ النِّصْفُ ، وَيُنْكِرُ الشَّرِيكُ قَبْضَ شَيْءٍ مِنْهُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ ، لِأَنَّ الْمُقِرَّ يَدَّعِي عَلَيْهِ تَسْلِيمَ حَقِّهِ إِلَيْهِ ، فَلِذَلِكَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ الْيَمِينَ ، فَإِذَا حَلَفَ فَحِصَّةُ الْمُقِرِّ قَدْ عُتِقَتْ ، وَحِصَّةُ الْمُنْكِرِ عَلَى كِتَابَتِهَا وَلَهُ الْخِيَارُ فِي الرُّجُوعِ بِجَمِيعِ حَقِّهِ ، وَهُوَ نِصْفُ الْكِتَابَةِ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنَ الْمُكَاتَبِ أَوِ الْمُقِرِّ ، لِأَنَّ الْمُقِرَّ مُعْتَرِفٌ بِاسْتِيفَائِهَا ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُقِرِّ عَلَيْهِ ، لِلتُّهْمَةِ فِي دَفْعِ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ ، وَلَا يَصِيرُ شَاهِدًا عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ ، ثُمَّ يَنْظُرُ ، فَإِنْ رَجَعَ الْمُنْكِرُ بِكِتَابَتِهِ عَلَى الْمُقِرِّ لَمْ يَكُنْ لِلْمُقِرِّ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْمُكَاتَبِ لِاعْتِرَافِهِ بِأَنَّ شَرِيكَهُ ظَلَمَهُ بِهَا ، وَإِنْ رَجَعَ الْمُنْكِرَ عَلَى الْمُكَاتَبِ ، فَاسْتَوْفَى مِنْهُ كِتَابَتَهُ رَجَعَ الْمُكَاتَبُ عَلَى الْمُقِرِّ بِمَا أَقَرَّ بِقَبْضِهِ مِنْ حِصَّةِ الشَّرِيكِ الْمُنْكِرِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُكَاتَبُ قَدْ صَدَّقَهُ عَلَى الدَّفْعِ أَوْ أَكْذَبَهُ ، لِأَنَّهُ وَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى الدَّفْعِ فَقَدْ فَرَّطَ فِي تَرْكِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ غَرِمَ ، وَقَدْ عَتَقَ جَمِيعُ الْمُكَاتَبِ ، وَلَوْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ عَنْ أَدَاءِ حِصَّةِ الْمُنْكِرِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُنْكِرِ إِجْبَارُ الْمُكَاتَبِ عَلَى الرُّجُوعِ عَلَى الْمُقِرِّ ، لِأَنَّ رُجُوعَهُ كَسْبٌ لَهُ ، وَالْمُكَاتَبُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْكَسْبِ ، فَإِنْ عَجَّزَهُ وَاسْتَرَقَّهُ كَانَ لِلْمُنْكِرِ حِينَئِذٍ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُقِرِّ بِمَا أَقَرَّ بِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ ذَلِكَ مَالًا لِعَبْدِهِ ، فَكَانَ

السَّيِّدُ أَمْلَكَ بِهِ وَبِسَائِرِ مَا فِي يَدِهِ وَلَا يُعْتَقُ بِهِ بَعْدَ التَّعْجِيزِ ، وَلَوْ كَانَ قَدْ قَبَضَهُ قَبْلَ التَّعْجِيزِ عَتَقَ بِهِ وَيُقَوَّمُ بَاقِيهِ عَلَى الْمُقِرِّ وَيَعْتِقُ عَلَيْهِ بِالسِّرَايَةِ ، فَيَصِيرُ الْمُقِرُّ بَعْدَ التَّعْجِيزِ غَارِمًا لِكِتَابَةِ الْحِصَّةِ وَلِقِيمَتِهَا ، وَلَوْ دَفَعَ ذَلِكَ قَبْلَ التَّعْجِيزِ لَمْ يَلْتَزِمْ إِلَّا مَالَ الْكِتَابَةِ وَحْدَهَا دُونَ الْقِيمَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَذِنَ أَحَدُهُمَا لِشَرِيكِهِ أَنْ يَقْبِضَ نَصِيبَهُ فَقَبَضَهُ ثُمَّ عَجَزَ فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَعْتِقُ نَصِيبُهُ مِنْهُ وَلَا يَرْجِعُ شَرِيكُهُ وَيُقَوَّمُ عَلَيْهِ الْبَاقِي إِنْ كَانَ مُوسِرًا ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَجَمِيعُ مَا فِي يَدَيْهِ لِلَّذِي بَقِيَ لَهُ فِيهِ الرِّقُّ لِأَنَّهُ يَأْخُذُهُ بِمَا بَقِيَ لَهُ مِنَ الْكِتَابَةِ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ وَفَاءٌ عَتَقَ وَإِلَّا عَجَزَ بِالْبَاقِي ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْعَجْزِ فَمَا فِي يَدَيْهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ يَرِثُ أَحَدُهُمَا بِقَدْرِ الْحُرِّيَّةِ وَالْآخِرُ بِقَدْرِ الْعُبُودِيَّةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَعْتِقُ وَيَكُونُ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ فَيُشْرِكَهُ فِيمَا قَبَضَهُ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ بِهِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُهُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) هَذَا أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ أَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَمَا فِي يَدَيْهِ مَوْقُوفٌ مَا بَقِيَ دِرْهَمٌ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ فِيمَا أُذِنَ لَهُ بِقَبْضِهِ إِلَّا بِمَعْنَى : اسْبِقْنِي بِقَبْضِ النِّصْفِ حَتَّى أَسْتَوْفِيَ مِثْلَهُ ، فَلَيْسَ يَسْتَحِقُّ بِالسَّبْقِ مَا لَيْسَ لَهُ كَأَنَّهُ وَزْنٌ لِأَحَدِهِمَا قَبْلَ الْآخَرِ . قَالَ فِي كِتَابِ الْإِمْلَاءِ عَلَى كِتَابِ مَالِكٍ : إِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَيُعْتَقُ نَصِيبُهُ وَالْبَاقِي عَلَى كِتَابَتِهِ ، فَإِنْ أَدَّى فَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ عَجَزَ قُوِّمَ عَلَى الْمُعْتِقِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا وَرَقَّ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قَدْ قَالَ وَلَوْ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا قُوِّمَ عَلَيْهِ الْبَاقِي إِنْ كَانَ مُوسِرًا وَعَتَقَ كُلُّهُ ، وَإِلَّا كَانَ الْبَاقِي مُكَاتَبًا المكاتب ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَبْرَأَهُ كَانَ كَعِتْقِهِ إِيَّاهُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) فَهَذَا أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ وَأَوْلَى بِأَصْلِهِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا كَانَ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ أَحَدَهُمَا فِي الْأَدَاءِ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا فِيهِ ، لِتَسَاوِيهِمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ ، فَإِنْ عَجَّلَ إِلَى أَحَدِهِمَا مَالَ كِتَابَتِهِ ، لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ التَّعْجِيلُ بِإِذْنِ الشَّرِيكِ ، أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِ الشَّرِيكِ لَمْ تَعْتِقْ حِصَّةُ الْمُتَعَجِّلِ ، وَإِنِ اسْتَأْدَى جَمِيعَ كِتَابَتِهِ ، لِأَنَّ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِقَدْرِ حَقِّهِ مِنْهُ وَهُوَ النِّصْفُ ، فَلَمْ يَكْمُلِ الْأَدَاءُ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعِ الْعِتْقُ . وَإِنْ كَانَ التَّعْجِيلُ بِإِذْنِ الشَّرِيكِ في الأداء من العبد المكاتب فَفِي صِحَّتِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ ، أَنَّ التَّعْجِيلَ لَا يَصِحُّ وَلِلشَّرِيكِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُتَعَجِّلِ بِنِصْفِ مَا تَعَجَّلَهُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْآذِنَ لَمْ يَمْلِكْ مَا أَذِنَ فِيهِ ، فَكَانَ وُجُودُ إِذْنِهِ كَعَدَمِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْإِذْنَ بِالتَّعْجِيلِ يَجْرِي مَجْرَى السَّبْقِ فِي الْقَبْضِ مَعَ وُجُودِ الْمَالِ ، وَلَوْ

كَانَ الْمَالُ حَاضِرًا ، فَأَذِنَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ أَنْ يَسْبِقَهُ بِقَبْضِ حَقِّهِ فَقَبَضَهُ ، وَتَلِفَ الْبَاقِي كَانَ لِلشَّرِيكِ الثَّانِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى السَّابِقِ بِنِصْفِ مَا قَبَضَ ، لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالسَّبْقِ مُعْتَبَرٌ بِأَنْ يَتَعَقَّبَهُ قَبْضُ الْآخَرِ ، كَذَلِكَ الْإِذْنُ فِي التَّعْجِيلِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الْأَصَحُّ ، أَنَّ التَّعْجِيلَ صَحِيحٌ ، تُعْتَقُ بِهِ حِصَّةُ الْمُتَعَجِّلِ ، وَلَيْسَ لِلْآذِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْهُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْآذِنَ لَمْ يَمْلِكْ مَا بِيَدِ الْمُكَاتَبِ ، وَإِنَّمَا مَلَكَ الْحَجْرَ عَلَيْهِ بِحَقِّ كِتَابَتِهِ ، فَإِذَا أَذِنَ فِي التَّقْدِيمِ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنَ الْحَجْرِ ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ الرُّجُوعَ وَجَرَى مَجْرَى الْبَائِعِ يَسْتَحِقُّ حَبْسَ الْمَبِيعِ عَلَى قَبْضِ ثَمَنِهِ ، فَإِذَا سَلَّمَهُ سَقَطَ حَقُّهُ فِي احْتِبَاسِهِ ، وَكَالْمُرْتَهِنِ فِي احْتِبَاسِ الرَّهْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ إِذْنَهُ بِالتَّعْجِيلِ كَالْهِبَةِ ، لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَرْجِعَ فِيمَا أَذِنَ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّعْجِيلَ لَمْ يَصِحَّ ، وَإِنْ أَذِنَ بِهِ الشَّرِيكُ في الأداء من المكاتب ، فَلِلشَّرِيكِ أَنْ يَرْجِعَ بِمِثْلِ مَا تَعَجَّلَهُ شَرِيكُهُ ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الْمُكَاتَبِ مِثْلُهُ ، فَدَفَعَهُ إِلَى الشَّرِيكِ الْآذِنِ اسْتَقَرَّ التَّعْجِيلُ الْأَوَّلُ ، وَعَتَقَ جَمِيعُ الْمُكَاتَبِ لِأَدَائِهِ مَالَ كِتَابَتِهِ إِلَيْهِمَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِيَدِهِ غَيْرُ مَا عَجَّلَهُ كَانَ لِلْآذِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُعَجَّلِ بِنِصْفِ مَا فِي يَدِهِ ، فَإِذَا رَجَعَ بِهِ لَمْ يَعْتِقْ مِنَ الْمُكَاتَبِ شَيْءٌ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا حَقَّهُ ، فَإِنْ وَفَّاهُمَا عَتَقَ وَإِنْ عَجَزَ اسْتَرَقَّاهُ . وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي : أَنَّ التَّعْجِيلَ صَحِيحٌ ، وَأَنَّهُ لَا رُجُوعَ لِلْآذِنِ فِيهِ تعجيل الأداء لأحد الشريكين قبل الآخر ، فَقَدْ عَتَقَتْ حِصَّةُ الْمُتَعَجِّلِ ، وَفِي سِرَايَةِ عِتْقِهِ إِلَى حِصَّةِ شَرِيكِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَسْرِي ، وَيَكُونُ بَاقِيهِ عَلَى كِتَابَتِهِ إِنْ أَدَّاهَا إِلَى شَرِيكِهِ عَتَقَ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا رَقَّ ، وَكَانَ نِصْفُهُ حُرًّا ، وَوَلَاؤُهُ لِلْمُتَعَجِّلِ وَنِصْفُهُ مَمْلُوكًا لِلْآذِنِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَسِرْ عِتْقُهُ ، لِتَقَدُّمِ سَبَبِهِ الَّذِي اشْتَرَكَا فِيهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ عِتْقَهُ يَسْرِي فِي بَاقِيهِ إِنْ كَانَ الْمُتَعَجِّلُ مُوسِرًا لِقِيمَتِهِ ، لِاخْتِصَاصِهِ بِمَا عَتَقَ بِهِ ، فَعَلَى هَذَا فِي زَمَانِ سِرَايَتِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَسْرِي لِوَقْتِهِ وَيَعْتِقُ عَلَيْهِ جَمِيعُهُ فِي الْحَالِ ، وَيُؤْخَذُ بِقِيمَتِهِ حِصَّةُ شَرِيكِهِ دُونَ التَّعْجِيلِ ، وَإِنَّمَا تَعَجَّلَ الْعِتْقَ بِالسِّرَايَةِ ، لِأَنَّهُ إِذَا تَعَلَّقَ الْعِتْقُ بِسَبَبَيْنِ رُوعِيَ أَعْجَلُهُمَا فِي وُقُوعِ الْعِتْقِ بِهِ ، كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : إِنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ، وَإِنْ كَلَّمْتَ زَيْدًا فَأَنْتَ حُرٌّ ، فَعَلَى هَذَا تَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ بِالتَّقْوِيمِ ، لِيَعُودَ رَقِيقًا مُقَوَّمًا ، وَفِيمَا يُعْتَقُ بِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ ، وَيَكُونُ وَلَاءُ جَمِيعِهِ لِلْمُتَعَجِّلِ بِالْأَدَاءِ وَالتَّقْوِيمِ وَيَرْجِعُ الْآذِنُ

عَلَى الْمُكَاتَبِ بِمَا فِي يَدِهِ ، فَيَأْخُذُهُ إِنْ كَانَ مِثْلَ مَا تَعَجَّلَ شَرِيكُهُ لِيُسَاوِيهِ فِيمَا أَخَذَ ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ التَّعْجِيلِ كَانَتِ الزِّيَادَةُ بَيْنَ الْآذِنِ بِحَقِّ رِقِّهِ ، وَبَيْنَ الْمُكَاتَبِ بِحَقِّ عِتْقِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ السِّرَايَةَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ أَدَاءِ الْمُكَاتَبِ ، لِأَنَّ لِلْآذِنِ فِيهِ عَقْدٌ قَدْ تَقَدَّمَ ، يَسْتَحِقُّ بِهِ مَالًا وَوَلَاءً فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَوَّتَ عَلَيْهِ ، فَعَلَى هَذَا لِلْمُكَاتَبِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُؤَدِّيَ . وَالثَّانِي : أَنْ يَعْجِزَ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَمُوتَ قَبْلَهُمَا . فَإِنْ أَدَّى عَتَقَ بَاقِيهِ بِالْأَدَاءِ ، وَصَارَ جَمِيعُهُ حُرًّا ، وَوَلَاؤُهُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ ، وَمَا فَضَلَ فِي يَدِهِ بَعْدَ أَدَائِهِ مِلْكٌ لَهُ ، لَا حَقَّ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ ، وَإِنْ عَجَزَ وَقَعَ الْفَسْخُ بِالْعَجْزِ عجز عن الأداء وَلَمْ يَقِفْ عَلَى تَعْجِيزِ الشَّرِيكِ الْآذِنِ لِمَا تَعَلَّقَ بِعِتْقِهِ مِنْ حَقِّ الشَّرِيكِ الْمُتَعَجِّلِ ، وَيَسْتَقِرُّ الْفَسْخُ بِالتَّقْوِيمِ ، وَيَقَعُ الْعِتْقُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ ، وَيَكُونُ مَا بِيَدِ الْمُكَاتَبِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ يَأْخُذُ مِنْهُ الْآذِنُ مِثْلَ مَا أَخَذَهُ الْمُتَعَجِّلُ ، وَيَكُونُ الْبَاقِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُكَاتَبِ ، وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَالْعَجْزِ مَاتَ عَبْدًا ، وَكَانَ نِصْفُ مَا بِيَدِهِ لِلشَّرِيكِ الْآذِنِ بِحَقِّ رِقِّهِ ، وَفِي النِّصْفِ الْبَاقِي قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ لِلشَّرِيكِ الْآذِنِ أَيْضًا ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ مَنْ لَمْ تَكْمُلْ حُرِّيَّتُهُ لَمْ يُورَثْ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ ، أَنَّهُ يُورَثُ بِقَدْرِ حُرِّيَّتِهِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ مُنَاسِبٌ كَانَ الْمَالُ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُنَاسِبٌ كَانَ لِلْمُعْتِقِ مِيرَاثًا . وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ : يَنْتَقِلُ مَالُهُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ ، وَلَا يَكُونُ لِوَارِثِهِ بَحُرِّيَّتِهِ ، وَلَا لِمَالِكِ رِقِّهِ . وَأَمَّا الْمُزَنِيُّ ، فَإِنَّهُ اخْتَارَ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي التَّعْجِيلِ مَا حَكَيْنَاهُ عَنْهُ مِنْ إِبْطَالِهِ ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِمَا يُفِيدُ تَوْجِيهَ الْقَوْلِ الثَّانِي . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ مَاتَ سَيِّدُ الْمُكَاتَبِ فَأَبْرَأَهُ بَعْضُ الْوَرَثَةِ مِنْ حِصَّتِهِ عَتَقَ نَصِيبُهُ عَجَزَ أَوْ لَمْ يَعْجِزْ ، وَوَلَاؤُهُ لِلَّذِي كَاتَبَهُ ، وَلَا أُقَوِّمُ عَلَيْهِ وَالْوَلَاءُ لِغَيْرِهِ ، وَأُعْتِقُهُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ رِقِّهِ فِيهِ : لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ رِقٌّ فَعَجَزَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : فَفِيهَا قَوْلَانِ ، أَحَدُهُمَا هَذَا ، وَالْآخَرُ : يُقَوَّمُ عَلَيْهِ إِذَا عَجَزَ وَكَانَ لَهُ وَلَاؤُهُ كُلُّهُ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ الْأَوْلَى بَطَلَتْ وَأَعْتَقَ هَذَا مِلْكَهُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : الْأَوَّلُ بِمَعْنَاهُ أَشْبَهُ

بِأَصْلِهِ إِذْ زَعَمَ أَنَّهُ إِذَا أَبْرَأَهُ مِنْ قَدْرِ حَقِّهِ مِنْ دَرَاهِمِ الْكِتَابَةِ عَتَقَ نَصِيبُهُ بِمَعْنَى عَقْدِ الْأَبِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُزِيلَ مَا ثَبَتَ وَإِذْ زَعَمَ أَنَّهُ إِنْ عَجَزَ فِيهِ فَقَدْ بَطَلَتِ الْكِتَابَةُ الْأُولَى فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْطُلَ عِتْقُ النَّصِيبِ بِالْإِبْرَاءِ مِنْ قَدْرِ النَّصِيبِ لِأَنَّ الْأَبَ لَمْ يُعْتِقْهُ إِلَّا بِأَدَاءِ الْجَمِيعِ ، فَكَأَنَّ الْأَبَ أَبْرَأَهُ مِنْ جَمِيعِ الْكِتَابَةِ ، وَلَا عِتْقَ بِإِبْرَائِهِ مِنْ بَعْضِ الْكِتَابَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ قَدْ مَضَتْ فِي سَيِّدِ الْمُكَاتَبِ إِذَا مَاتَ ، وَخَلَّفَ ابْنَيْنِ ، فَأَعْتَقَ أَحَدَهُمَا حِصَّتَهُ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُصَوَّرَةٌ فِي إِبْرَاءِ أَحَدِهِمَا مِنْ حِصَّتِهِ ، وَالْإِبْرَاءُ وَالْعِتْقُ سَوَاءٌ ، لِأَنَّ الْعِتْقَ مُوجِبٌ لِلْإِبْرَاءِ ، وَالْإِبْرَاءَ مُوجِبٌ لِلْعِتْقِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْإِطَالَةِ بِالْإِعَادَةِ ، وَتَكَلَّمَ الْمُزَنِيُّ بَعْدَهُ كَلَامًا أَطَالَهُ فِي نُصْرَةِ مَا تَقَدَّمَ ذَكَرَهُ ، ، وَحَذْفُ الْجَوَابِ عَمَّا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ أَخْصَرُ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

بَابٌ فِي وَلَدِ الْمُكَاتَبَةِ

وَلَدُ الْمُكَاتَبَةِ مَوْقُوفٌ فَإِذَا أَدَّتْ فَعَتَقَتْ عَتَقُوا وَإِنْ عَجَزَتْ أَوْ مَاتَتْ قَبْلَ الْأَدَاءِ رَقُّوا

بَابٌ فِي وَلَدِ الْمُكَاتَبَةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَدُ الْمُكَاتَبَةِ مَوْقُوفٌ ، فَإِذَا أَدَّتْ فَعَتَقَتْ عَتَقُوا ، وَإِنْ عَجَزَتْ أَوْ مَاتَتْ قَبْلَ الْأَدَاءِ رَقُّوا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي مُكَاتَبَةٍ ذَاتِ وَلَدٍ حكم ولدها إذا كاتبها سيدها ، فَلَا يَخْلُو أَنْ تَلِدَهُ قَبْلَ الْكِتَابَةِ أَوْ بَعْدَهَا ، فَإِنْ وَلَدَتْهُ قَبْلَ الْكِتَابَةِ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِهَا ، لَا يَتْبَعُهَا فِي الْكِتَابَةِ بِحَالٍ ، لِاسْتِقْرَارِ مِلْكِ السَّيِّدِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ ، وَإِنْ وَلَدَتْهُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ سَيِّدِهَا ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ سَيِّدِهَا لَحِقَ بِهِ ، وَكَانَ حُرًّا ، وَصَارَتْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ ، وَهِيَ عَلَى كِتَابَتِهَا بَعْدَ وِلَادَتِهِ ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عِتْقٌ بِصِفَةٍ ، فَلَا يَبْطُلُ بِمَصِيرِهَا أُمَّ وَلَدٍ ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا : إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ حُرَّةٌ ، ثُمَّ أَوْلَدَهَا كَانَ عِتْقُهَا بِالصِّفَةِ بَاقِيًا ، وَإِنْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَعَلَّقَ عِتْقُهَا بِسَبَبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْأَدَاءُ . وَالْآخَرُ : مَوْتُ السَّيِّدِ . فَأَيُّهُمَا تَعَجَّلَ وَقَعَ بِهِ الْعِتْقُ ، فَإِنْ تَعَجَّلَ الْأَدَاءَ عَتَقَتْ بِالْكِتَابَةِ ، وَإِنْ تَعَجَّلَ مَوْتَ السَّيِّدِ عَتَقَتْ بِالْوِلَادَةِ .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مِنْ غَيْرِ السَّيِّدِ في أم الولد المكاتبة ، وَهُوَ أَنْ تَأْتِيَ بِهِ مِنْ زَوْجٍ أَوْ زِنًى فَهُوَ مَمْلُوكٌ مِثْلُهَا ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَمْ تَرْفَعْ رِقَّهَا ، وَلَا يَكُونُ مِلْكًا لَهَا وَإِنْ كَانَ وَلَدُ الْمُكَاتَبِ مِلْكًا لَهُ ، لِأَنَّ وَلَدَ الْمَمْلُوكَةِ لِمَالِكِ الْأُمِّ ، وَالْمُكَاتَبُ مَالِكٌ لِأُمِّ وَلَدِهِ ، فَصَارَ مَالِكًا لِوَلَدِهِ ، وَالْمُكَاتَبَةُ لَا تَمْلِكُ نَفْسَهَا ، فَلَمْ تَمْلِكْ وَلَدَهَا ، وَإِذَا لَمْ تَمْلِكْ وَلَدَهَا فَهُوَ عَلَى مِلْكِ سَيِّدِهَا ، لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ مَالِكٍ ، لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِأُمِّهِ ، فَصَارَ مَالِكًا لَهُ ، وَإِذَا كَانَ مَالِكًا لَهُ فَهَلْ يَكُونُ تَبَعًا لِأُمِّهِ أَمْ لَا ؟ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنْ لَا يَكُونَ تَبَعًا فِي الْكِتَابَةِ ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَفْتَقِرُ إِلَى إِيجَابٍ وَقَبُولٍ ، فَكَانَ مَوْقُوفًا عَلَى الْقَابِلِ لَا يَتَعَدَّاهُ ، وَخَالَفَ وَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ ، حَيْثُ صَارَ تَبَعًا لَهَا فِي التَّدْبِيرِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَيْسَ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ ، فَجَازَ أَنْ يَسْرِيَ إِلَى الْوَلَدِ كَوَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ . وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدُ

الْمُكَاتَبَةِ تَبَعًا لَهَا فِي الْكِتَابَةِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَلْ يَكُونُ تَبَعًا لَهَا فِي الْعِتْقِ حَتَّى يَعْتِقَ بِعِتْقِهَا وَيُرَقَّ بِرِقِّهَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَكَثِيرٍ مِنْ كُتُبِهِ : أَنَّهُ يَكُونُ تَبَعًا لِأُمِّهِ ، يُعْتَقُ إِنْ عُتِقَتْ ، وَيَرِقُّ إِنْ رَقَّتْ ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ وَلَدَ الْمُكَاتَبِ لَمَّا كَانَ تَبَعًا لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُرِّيَّتُهُ وَرِقُّهُ ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ وَلَدُ الْمُكَاتَبَةِ تَبَعًا لَهَا لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ حُرِّيَّتِهِ وَرِقِّهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ وَلَدَ كُلِّ ذَاتِ رَحِمٍ لَمَّا كَانَ تَبَعًا لَهَا فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لَهَا فِي أَسْبَابِ الْعِتْقِ ، كَوَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ ، أَنَّهُ لَا يَكُونُ تَبَعًا لَهَا . وَيَكُونُ مِلْكًا قِنًّا لِلسَّيِّدِ ، سَوَاءٌ عَتَقَتْ بِالْأَدَاءِ ، أَوْ رَقَّتْ بِالْعَجْزِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ تَبَعًا لَهَا فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ لَمْ يَكُنْ تَبَعًا لَهَا فِي الْعِتْقِ الْحَادِثِ عَنِ الْكِتَابَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ لَمَّا كَانَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ اللُّزُومِ وَالْفَسْخِ لَمْ يَنْتَشِرْ حُكْمُهُ إِلَى الْوَلَدِ ، كَالرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ ، وَخَالَفَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ ، وَخَالَفَ وَلَدُ الْمُكَاتَبِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمِلْكِ ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَأَوْلَادُ الْآدِمِيَّاتِ يَنْقَسِمُونَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : وَلَدُ الْحُرَّةِ حُرٌّ ، وَوَلَدُ الْأَمَةِ الْقَنِّ عَبْدٌ ، وَوَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ تَبَعٌ لَهَا ، وَوَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ وَالْمُعْتَقَةِ بِصِفَةٍ فِي كَوْنِهِمْ تَبَعًا عَلَى قَوْلَيْنِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ جُنِيَ عَلَى وَلَدِهَا المكاتبة فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنْ لِلسَّيِّدِ قِيمَتُهُ وَمَا كَانَ لَهُ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَمْلِكُ وَلَدَهَا وَيُؤْخَذُ السَّيِّدُ بِنَفَقَتِهِ ، وَإِنِ اكْتَسَبَ أَنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْهُ وَوَقَفَ الْبَاقِي ، وَلَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ أَخْذُهُ ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ عِتْقِ أُمِّهِ كَانَ لِسَيِّدِهِ ، وَإِنْ عَتَقَ بِعِتْقِهَا كَانَ مَالُهُ لَهُ ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ السَّيِّدُ جَازَ عِتْقُهُ ، وَإِنْ أَعْتَقَ ابْنَ الْمُكَاتَبِ مِنْ أَمَتِهِ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ ، وَإِنَّمَا فَرَّقْتُ بَيْنَهُمَا : لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ لَا تَمْلِكُ وَلَدَهَا وَإِنَّمَا حُكْمُهُ حُكْمُهَا ، وَالْمُكَاتَبُ يَمْلِكُ وَلَدَهُ مِنْ أَمَتِهِ لَوْ كَانَ يَجْرِي عَلَيْهِ رِقٌّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ أُمَّهُمْ أَحَقُّ بِمَا مَلَكُوا تَسْتَعِينُ بِهِ لِأَنَّهُمْ يُعْتَقُونَ بِعِتْقِهَا ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُهُمَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) الْآخَرُ أَشْبَهُهُمَا بِقَوْلِهِ إِذَا كَانُوا يُعْتَقُونَ بِعِتْقِهَا فَهُمْ أَوْلَى بِحُكْمِهَا ، وَمِمَّا يُثْبِتُ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ : لَوْ وَطِئَ ابْنَةَ مُكَاتَبَتِهِ أَوْ أُمَّهَا كَانَ عَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا ، وَهَذَا يَقْضِي لِمَا وَصَفْتُ مِنْ مَعْنَى وَلَدِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا تَقَرَّرَ الْقَوْلَانِ فِي وَلَدِ الْمُكَاتَبَةِ ، هَلْ يَكُونُ عَبْدًا لِلسَّيِّدِ أَوْ تَبَعًا لِأُمِّهِ ؟ فَإِنْ جَعَلْنَاهُ عَبْدًا تَعَلَّقَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْعَبِيدِ فِي كَسْبِهِ ، وَنَفَقَتِهِ وَعِتْقِهِ ، وَالْجِنَايَةِ

عَلَيْهِ ، وَسَائِرِ أَحْكَامِهِ ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ تَبَعًا لِأُمِّهِ وَأَحْكَامُهُ مُعْتَبَرَةٌ بِمَا سَنَذْكُرُهُ ، وَهِيَ تَشْتَمِلُ عَلَى خَمْسَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ ، وَهِيَ ضَرْبَانِ : نَفْسٌ وَطَرَفٌ ، فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى نَفْسِهِ فَضَرْبَانِ : خَطَأٌ يُوجِبُ الْمَالَ ، وَعَمْدٌ يُوجِبُ الْقَوَدَ ، فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ خَطَأً تُوجِبُ الْمَالَ على ولد الأم المكاتبة فَفِيهِ قِيمَتُهُ ، لِأَنَّهُ قُتِلَ عَبْدًا ، وَإِنْ كَانَ تَبَعًا ، وَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قِيمَتَهُ لِأُمِّهِ تَسْتَعِينُ بِهَا فِي كِتَابَتِهَا ، وَلَا تَكُونُ لِسَيِّدِهَا ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ ، وَوَجْهُهُ شَيْئَانِ : أَحَدُهَا : وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْوَلَدُ تَبَعًا لَهَا يَعْتِقُ بِعِتْقِهَا كَانَتْ أَوْلَى بِقِيمَتِهِ مِنَ السَّيِّدِ الَّذِي لَا يَكُونُ تَبَعًا لَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ قِيمَةُ وَلَدِ الْمُكَاتَبِ لَوْ قُتِلَ تَكُونُ لِلْمُكَاتَبِ دُونَ السَّيِّدِ كَذَلِكَ وَلَدُ الْمُكَاتَبَةِ إِذَا قُتِلَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ قِيمَةَ الْوَلَدِ تَكُونُ لِلسَّيِّدِ دُونَ الْأُمِّ وَوَجْهُهُ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ قِيمَتُهَا لِلسَّيِّدِ لَوْ قُتِلَتْ ، كَانَ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ لَهُ قِيمَةُ وَلَدِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِلسَّيِّدِ دُونَ الْأُمِّ ، فَكَانَ بِقِيمَتِهِ أَحَقَّ مِنَ الْأُمِّ ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَرَّقْنَا بَيْنَ وَلَدِ الْمُكَاتَبِ وَوَلَدِ الْمُكَاتَبَةِ ، لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَمْلِكُ وَلَدَهُ وَالْمُكَاتَبَةَ لَا تَمْلِكُ وَلَدَهَا ، وَاحْتِجَاجُ الْمُزَنِيِّ بِأَنَّهُ تَبَعٌ لِأُمِّهِ لَا يُوجِبُ أَنْ تَخْتَصَّ بِقِيمَتِهِ ، لِأَنَّ وَلَدَ أُمِّ الْوَلَدِ تَبَعٌ لَهَا يُعْتَقُ بِعِتْقِهَا ، وَلَا تَمْلِكُ قِيمَتَهُ إِنْ قُتِلَ . وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ عَمْدًا يُوجِبُ الْقَوَدَ على ولد الأم المكاتبة ، فَإِنْ جَعَلْنَا قِيمَتَهُ فِي الْخَطَأِ لِلسَّيِّدِ ، فَالْقَوَدُ فِي الْعَمْدِ مَرْدُودٌ إِلَى خِيَارِ السَّيِّدِ ، فَإِنِ اقْتَصَّ أَوْ عَفَا فَلَا اعْتِرَاضَ لِلْأُمِّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ جَعَلْنَا قِيمَتَهُ لِلْأُمِّ ، فَإِنِ اقْتَصَّتْ كَانَ لَهَا ، وَلَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ بَيْعُهَا ، وَإِنْ عَفَتْ عَنْهُ إِلَى الْمَالِ كَانَ لَهَا ، تَسْتَعِينُ بِهِ فِي كِتَابَتِهَا ، وَإِنْ عَفَتْ عَنْهُ كَانَ فِي صِحَّةِ عَفْوِهَا قَوْلَانِ ، مِنَ اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ : هَلْ يُوجِبُ الْقَوَدَ وَحْدَهُ ، أَوْ يُوجِبُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْقَوَدِ أَوِ الدِّيَةِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ مُوجِبٌ لِلْقَوَدِ وَحْدَهُ ، وَلَا يُوجِبُ الْمَالَ بِاخْتِيَارِ الْوَلِيِّ كَانَ عَفْوُ الْأُمِّ عَنْهُ جَائِزًا ، أَذِنَ فِيهِ السَّيِّدُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ ، لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْقَوَدِ ، فَيُمْنَعُ مِنَ الْعَفْوِ عَنْهُ ، وَالْمَالُ لَا يَجِبُ إِلَّا بِاخْتِيَارِ الْأُمِّ ، وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُجْبِرَهَا عَلَى تَمَلُّكِهِ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ مُوجِبٌ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ لَمْ يَصِحَّ عَفْوُهَا عَنْهُمَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، لِمَا فِيهِ مِنَ اسْتِهْلَاكِ مَالٍ قَدْ مَلَكَ الْحَجْرَ عَلَيْهَا فِيهِ ، وَفِي صِحَّةِ عَفْوِهَا بِإِذْنِهِ قَوْلَانِ كَالْهِبَةِ .

وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ فِي طَرَفٍ فَهِيَ ضَرْبَانِ أَيْضًا : عَمْدٌ وَخَطَأٌ ولد المكاتبة . فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً يُوجِبُ الْمَالَ ، فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْأَرْشَ فِيهَا لِلسَّيِّدِ . وَالثَّانِي : لِلْأُمِّ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْوَلَدِ ، فَإِنْ عَتَقَ بِعِتْقِ أُمِّهِ كَانَ الْأَرْشُ لَهُ ، وَإِنْ رَقَّ بِرِقِّهَا كَانَ لِلسَّيِّدِ ، وَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا يُوجِبُ الْقَوَدَ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مُسْتَحِقِّ الْأَرْشِ فِي الْخَطَأِ ، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ لِلسَّيِّدِ كَانَ الْقَوَدُ فِي طَرَفِهِ مْسُتَحَقًّا لِلْأُمِّ ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ مَوْقُوفًا عَلَى عِتْقِ الْوَلَدِ وَرِقِّهِ فَلَا حَقَّ لِلْأُمِّ فِي الْقَوَدِ ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ بَيْنَ الْوَلَدِ وَالسَّيِّدِ ، فَإِنِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ جَازَ أَنْ يَسْتَوْفِيَاهُ ، وَإِنْ تَفَرَّدَ بِهِ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ ، لِأَنَّهُ إِنْ تَفَرَّدَ بِهِ الْوَلَدُ جَازَ أَنْ يَكُونَ لِلسَّيِّدِ إِنْ رَقَّ ، وَإِنْ تَفَرَّدَ بِهِ السَّيِّدُ جَازَ أَنْ يَكُونَ لِلْوَلَدِ إِنْ عَتَقَ ، فَلِذَلِكَ مُنِعَ أَحَدُهُمَا مِنَ التَّفَرُّدِ بِهِ حَتَّى يَجْتَمِعَا عَلَيْهِ أَوْ تَسْتَقِرَّ أُمُّ الْوَلَدِ عَلَى عِتْقٍ فَيَكُونَ الْقَوَدَ لَهُ ، أَوْ عَلَى رِقٍّ فَيَكُونَ لِسَيِّدِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الثَّانِي مِنْ أَحْكَامِ الْوَلَدِ فِي كَسْبِهِ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاكْتِسَابِ أي ولد المكاتبة ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : إِنَّ كَسْبَ الْوَلَدِ لِأُمِّهِ تَسْتَعِينُ بِهِ فِي كِتَابَتِهَا ، لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهَا فِي الْعِتْقِ ، يُعْتَقُ بِعِتْقِهَا فَكَانَ كَسْبُهُ مِثْلَ كَسْبِهَا ، وَيَكُونُ لِلْأُمِّ أَنْ تَتَمَلَّكَ أَكْسَابَهُ لِوَقْتِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِنَّ كَسْبَهُ لِلسَّيِّدِ لِأَنَّهُ مَمْلُوكُهُ وَالْأُمُّ إِنَّمَا مَلَكَتْ أَكْسَابَ نَفْسِهَا بِالْعَقْدِ ، وَالْوَلَدُ تَبَعٌ لَهَا فِي الْعِتْقِ دُونَ الْعَقْدِ ولد المكاتبة ، فَخَرَجَتْ أَكْسَابُهُ عَنِ الْعَقْدِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَتَمَلَّكَ أَكْسَابَهُ لِوَقْتِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنْ أَكْسَابَهُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى عِتْقِهِ وَرِقِّهِ ، لِاخْتِصَاصِهِ بِأَكْسَابِهِ ، وَتَرَدَّدُ حَالُهُ بَيْنَ أَنْ يَعْتِقَ فَيَمْلِكَهَا ، أَوْ يَرِقَّ فَتَكُونَ لِسَيِّدِهِ ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ وَقْفُهَا حَتَّى تَسْتَقِرَّ حَالُهُ عَلَى أَحَدِ أَمَرَيْهِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ عَتَقَتِ الْأُمُّ بِمَا أَدَّتْهُ مِنْ كَسْبِهَا مَلَكَ الْوَلَدُ أَكْسَابَ نَفْسِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ عَتَقَ بِعِتْقِ أُمِّهِ ، وَإِنْ رَقَّتِ الْأُمُّ بِالْعَجْزِ وَلَمْ يَكُنْ فِي كَسْبِ الْوَلَدِ وَفَاءٌ بِالْأَدَاءِ مَلَكَ السَّيِّدُ أَكْسَابَ الْوَلَدِ ، لِأَنَّهُ قَدْ رَقَّ بِرِقِّ أُمِّهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي كَسْبِ الْوَلَدِ حِينَ عَجَزَتْ وَفَاءٌ بِمَالِ كِتَابَتِهَا ، فَفِي اسْتِحْقَاقِهَا لَهُ عِنْدَ وَقْفِهِ لِيَتَحَرَّرَ عِتْقُهَا بِأَدَائِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَسْتَحِقُّهُ ، لِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ بَيْنَ الْوَلَدِ وَالسَّيِّدِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْأُمِّ فِيهِ حَقٌّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : تَسْتَحِقُّهُ فِي تَحْرِيرِ عِتْقِهَا ، لِأَنَّهُ وَقْفٌ طَلَبًا لِحَظِّ الْوَلَدِ إِنْ أُعْتِقَ ، فَإِذَا أَخَذَتْهُ الْأُمُّ فَمُعْتَقٌ كَانَ أَحْظَّ لِلْوَلَدِ مِنْ أَنْ يَأْخُذَهُ السَّيِّدُ فَيَرِقَّ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110