كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

كَانَ الْفَسْخُ مَنْ قِبَلِهَا أَوْ مِنْ قِبَلِهِ : لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْهَا سَقَطَ بِهِ مَهْرُهَا ، كَمَا لَوِ ارْتَدَّتْ ، وَإِنَّ كَانَ مِنَ الزَّوْجِ فَهُوَ لِعَيْبٍ فِيهَا فَصَارَ مُضَافًا إِلَيْهَا ، وَيَكُونُ هَذَا فَائِدَةَ الْفَسْخِ الَّتِي تُخَالِفُ حُكْمَ الطَّلَاقِ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ نِصْفُ الْمَهْرِ الَّذِي كَانَ يُلْزِمُهُ بِالطَّلَاقِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَهُوَ لَا يُعْلِمُ بِعَيْبِهَا ، ثُمَّ عَلِمَ ، كَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ ، وَلَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ بِظُهُورِهِ عَلَى الْعَيْبِ : لِأَنَّ النِّكَاحَ انْقَطَعَ بِالطَّلَاقِ ، وَلَمْ يُرْفَعْ بِالْفَسْخِ . نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الْإِمْلَاءِ " ثُمَّ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا ، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا ، وَلَا سُكْنَى : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجِبَ بِالْفَسْخِ قَبْلَهُ .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْفَسْخُ بَعْدَ الدُّخُولِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يَعْلَمَ بِعَيْبِهَا حَتَّى يُصِيبَهَا فَيَكُونُ لَهُ الْفَسْخُ بَعْدَ الْإِصَابَةِ كَمَا كَانَ لَهُ قَبْلَهَا ، فَإِنِ ادَّعَتْ عَلِمَهُ بِالْعَيْبِ قَبْلَ الْإِصَابَةِ وَأَنْكَرَهَا وَأَمْكَنَ الْأَمْرَانِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ : لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ عَدَمُ عِلْمِهِ وَثُبُوتُ خِيَارِهِ ، فَإِذَا فُسِخَ النِّكَاحُ بَعْدَ الْإِصَابَةِ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا بِالْإِصَابَةِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْفَسْخُ مِنْ جِهَتِهَا أَوْ مِنْ جِهَتِهِ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيِسَ لَوْ وَطِئَ أَمَةً قَدِ اشْتَرَاهَا ثُمَّ رَدَّهَا بِعَيْبٍ لَمْ يَلْزَمْهُ بِالْوَطْءِ مَهْرٌ ، فَهَلَّا كَانَتِ الْمَنْكُوحَةُ إِذَا رُدَّتْ بِعَيْبٍ لَمْ يَلْزَمْهُ بِوَطْئِهَا مَهْرٌ ؟ . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْوَطْءَ فِي الْمِلْكِ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْمَهْرِ ، وَفِي النِّكَاحِ مَضْمُونٌ بِالْمَهْرِ : لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْبَيْعِ الرَّقَبَةُ ، وَفِي النِّكَاحِ الْمَنْفَعَةُ ، ثُمَّ أَوْجَبْنَا بِالْإِصَابَةِ مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى ، وَإِنْ كَانَ الْفَسْخُ بَعْدَ الْإِصَابَةِ : لِأَنَّهُ بِعَيْبٍ تَقَدَّمَ عَلَى النِّكَاحِ ، فَصَارَتْ أَفْعَالُهُ مِنْ أَصِلِهِ ، فَسَقَطَ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ صَدَاقٍ مُسَمًّى .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَيْهِ مَهْرَ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى ، فَهَلْ يَرْجِعُ بَعْدَ غُرْمِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ أَوْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا - وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ - : يَرْجِعُ بِهِ : لِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَذَلِكَ لِزَوْجِهَا غُرْمٌ عَلَى وَلِيِّهَا ، وَلِأَنَّ الْغَارَّ قَدْ أَلْجَأَهُ إِلَى الْتِزَامِ الْمَهْرِ بِهَذِهِ الْإِصَابَةِ ، وَلَوْلَاهُ لَمَا لَزِمَهُ الْمَهْرُ إِلَّا بِإِصَابَةٍ مُسْتَدَامَةٍ فِي نِكَاحٍ ثَابِتٍ ، فَجَرَى مَجْرَى الشَّاهِدَيْنِ إِذَا أَلْزَمَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا غُرْمًا ثُمَّ رَجَعَا ، لَزِمَهُمَا غُرْمُ مَا اسْتُهْلِكَ بِشَهَادَتِهِمَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي - قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ - : لَا يَرْجِعُ عَلَى الْغَارِّ : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيٍّ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ، فَإِنْ مَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا وَلَمْ يَجْعَلْ لِلزَّوْجِ الرُّجُوعَ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ فِي إِذْنِ الْوَلِيِّ ، أَوْ عَلَى مَنِ ادَّعَى فِي نِكَاحِهَا أَنَّهُ وَلِيٌّ ، فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا رُجُوعَ بِالْغَرُورِ ، وَلِأَنَّ غُرْمَ الْمَهْرِ بَدَلٌ مِنِ اسْتِهْلَاكِهِ لِلْبُضْعِ وَاسْتِمْتَاعِهِ بِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ بِغُرْمِ مَا أَوْجَبَهُ اسْتِهْلَاكُهُ ، وَإِنْ كَانَ مَغْرُورًا كَالْمَغْرُورِ فِي مَبِيعٍ قَدِ اسْتَهْلَكَهُ ، وَلِأَنْ لَا يُجْمَعَ بَيْنَ تَمَلُّكِ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ ، وَقَدْ يَمْلِكُ الِاسْتِمْتَاعَ

الَّذِي هُوَ مُعَوَّضٌ مُبْدَلٌ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْمَهْرَ الَّذِي هُوَ عِوَضٌ بَدَلٌ ، فَإِذَا قُلْنَا : إِنَّهُ لَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى مَنْ غَرَّهُ ، فَلَا مَسْأَلَةَ ، وَإِذَا قُلْنَا بِالرُّجُوعِ ، فَلَا يَخْلُو مَنْ غَرَّهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجَةَ أَوْ وَلِيَّهَا أَوْ أَجْنَبِيًّا ، فَإِنْ غَرَّهُ الْوَلِيُّ أَوْ أَجْنَبِيٌّ رَجَعَ الزَّوْجُ عَلَيْهِ بَعْدَ غُرْمِهِ بِمَا غَرِمَهُ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ ، فَلَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ قَدْ أَبْرَأَتْهُ مِنْهُ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الزَّوْجِ عَلَى الْغَارِّ ، وَلَوْ رَدَّتْهُ عَلَيْهِ بَعْدَ قَبْضِهِ ، فَفِي رُجُوعِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَرْجِعُ كَالِابْنِ . وَالثَّانِي : يَرْجِعُ : لِأَنَّ رَدَّهَا لَهُ ابْتِدَاءُ هِبَةٍ مِنْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي غَرَّتْهُ لَمْ يَغْرَمْ لَهَا مِنَ الْمَهْرِ مَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا : لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَيَّدٍ ، وَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ سَقَطَ جَمِيعُ مَهْرِهَا بِالْغَرُورِ ، كَمَا يَرْجِعُ بِجَمِيعِهِ عَلَى غَيْرِهَا لَوْ غَرَّهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ - : أَنَّهُ يَسْقُطُ مَهْرُ الْمِثْلِ ، إِلَّا أَقَلَّ مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا فَيَلْتَزِمُهُ لَهَا : لِئَلَّا يَصِيرَ مُسْتَبِيحًا لِبُضْعِهَا بِغَيْرِ بَذْلٍ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْعِدَّةُ للزوجة المردودة بعيب : فَوَاجِبَةٌ عَلَيْهَا بِالْإِصَابَةِ : لِأَنَّهُ فِرَاشٌ يَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا ، وَأَمَّا النَّفَقَةُ للزوجة المردودة بعيب : فَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي الْعِدَّةِ إِنْ كَانَتْ حَائِلًا : لِارْتِفَاعِ الْعَقْدِ الْمُوجِبِ لَهَا ، وَلَا سُكْنَى السكنى للزوجة المردودة بعيب لَهَا وَإِنْ وَجَبَتْ لِلْمَبْتُوتَةِ ، وَفِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لَهَا إِنْ كَانَتْ حَامِلًا قَوْلَانِ : بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي نَفَقَةِ الْحَامِلِ هَلْ وَجَبَتْ لَهَا أَوْ لِحَمْلِهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا وَجَبَتْ لَهَا بِالزَّوْجِيَّةِ ، فَعَلَى هَذَا لَا نَفَقَةَ لِهَذِهِ : لِارْتِفَاعِ عَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ النَّفَقَةَ وَجَبَتْ لِحَمْلِهَا ، فَعَلَى هَذَا لَهَا النَّفَقَةُ : لِأَنَّ حَمْلَهَا فِي اللُّحُوقِ كَحَمْلِ الزَّوْجَةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَا جَعَلْتُ لَهُ فِيهِ الْخِيَارَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ ثُمَّ حَدَثَ بِهَا فَلَهُ الْخِيَارُ : لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى قَائِمٌ فِيهَا : لِحَقِّهِ فِي ذَلِكَ وَحَقِّ الْوَلَدِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَكَذَلِكَ مَا فُسِخَ عَقْدُ نِكَاحِ الْأَمَةِ مِنَ الطَّوْلِ إِذَا حَدَثَ بَعْدَ النِّكَاحِ فَسْخُهُ : لِأَنَّهُ الْمَعْنَى الَّذِي يُفْسَخُ بِهِ النِّكَاحُ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَكَذَلِكَ هِيَ فِيهِ ، فَإِنِ اخْتَارَتْ فِرَاقَهُ قَبْلَ الْمَسِيسِ ، فَلَا مَهْرَ وَلَا مُتْعَةَ ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ حَتَّى أَصَابَهَا فَاخْتَارَتَ فِرَاقَهُ فَلَهَا الْمَهْرُ مَعَ الْفِرَاقِ ، وَالَّذِي يَكُونُ بِهِ مِثْلَ الرَّتْقِ بِهَا أَنْ يَكُونَ مَجْبُوبًا فَأُخَيِّرُهَا مَكَانَهَا ، وَأَيَّهُمَا تَرَكَهُ أَوْ وَطِئَ بَعْدَ الْعِلْمِ فَلَا خِيَارَ لَهُ ( وَقَالَ ) فِي الْقَدِيمِ : إِنْ حَدَثَ بِهِ فَلَهَا الْفَسْخُ وَلَيْسَ لَهُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) أَوْلَى بِقَوْلِهِ : إِنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْحَدِيثِ كَمَا كَانَا فِيهِ سَوَاءٌ قَبْلَ الْحَدِيثِ ( قَالَ ) : وَالْجُذَامُ وَالْبَرَصُ فِيمَا زَعَمَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالطِّبِّ يُعْدِي ، وَلَا تَكَادُ نَفْسُ أَحَدٍ تَطِيبُ أَنْ يُجَامِعَ مَنْ هُوَ بِهِ وَلَا نَفْسُ امْرَأَةٍ بِذَلِكَ مِنْهُ ، وَأَمَّا الْوَلَدُ فَقَلَّمَا يَسْلَمُ ، فَإِنْ سَلِمَ أَدْرَكَ ذَلِكَ نَسْلَهُ - نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى

الْعَافِيَةَ - وَالْجُنُونُ وَالْخَبَلُ لَا يَكُونُ مَعَهُمَا تَأْدِيَةٌ لِحَقِّ زَوْجٍ وَلَا زَوْجَةٍ ، بِعَقْلٍ وَلَا امْتِنَاعٌ مِنْ مُحَرَّمٍ ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ مِثْلِهِ الْقَتْلُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْعَيْبِ إِذَا كَانَ بِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الْعَقْدِ ، فَأَمَّا الْعَيْبُ الْحَادِثُ بَعْدَ الْعَقْدِ لأحد الزوجين ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بِالزَّوْجِ ، فَلِلزَّوْجَةِ الْخِيَارُ فِيمَا حَدَثَ بِهِ مِنَ الْعُيُوبِ ، كَمَا ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْهَا ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالنَّفَقَةِ ، وَكَمَا أَنَّ لَهَا أَنْ تَفْسَخَ بِرِقِّ الزَّوْجِ إِذَا حَدَثَ عِتْقُهَا بَعْدَ الْعَقْدِ ، كَمَا كَانَ لَهَا أَنْ تَفْسَخَ إِذَا تَقَدَّمَتْ حُرِّيَّتُهَا قَبْلَ الْعَقْدِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ حَادِثًا بِالزَّوْجَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ ، فَفِي خِيَارِ الزَّوْجِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا - قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ - : لَا خِيَارَ لَهُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَغْرُورًا بِهِ لِحُدُوثِهِ ، فَإِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ الْغَرُورِ عَنْ نَفْسِهِ بِطَلَاقِهِ فَخَالَفَ مَا تَقَدَّمَ : لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِ مَغْرُورًا ، وَخَالَفَ الزَّوْجَةَ فِيمَا حَدَثَ : لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى الطَّلَاقِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ بِعِتْقِهِ الْمُتَقَدِّمِ دُونَ الْحَادِثِ ، وَكَانَ لَهَا الْخِيَارُ فِي نِكَاحِ الْعَبْدِ بِعِتْقِهَا الْمُتَقَدِّمِ ، وَالْحَادِثِ كَذَلِكَ الْعُيُوبُ يَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ بِالْمُتَقَدِّمِ مِنْهَا دُونَ الْحَادِثِ ، وَيَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ بِالْمُتَقَدِّمِ مِنْهَا وَالْحَادِثِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي - قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ - : لَهُ الْخِيَارُ بِالْعُيُوبِ الْحَادِثَةِ وَالْمُتَقَدِّمَةِ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْخِيَارِ فِي مُقَابَلَةِ مَا تُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ مِنَ الْخِيَارِ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [ الْبَقَرَةِ : 228 ] . فَلَمَّا اسْتَحَقَّتِ الزَّوْجَةُ عَلَيْهِ الْخِيَارَ بِالْعُيُوبِ الْحَادِثَةِ اسْتَحَقَّ الْخِيَارَ عَلَيْهَا بِالْعُيُوبِ الْحَادِثَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْعَقْدُ فِيهِ عَلَى مَنَافِعِهِ اسْتَوَى فِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعُيُوبِ ، وَمَا حَدَثَ كَالْإِجَارَةِ ، فَلِمَا كَانَ لِلزَّوْجِ الْخِيَارُ بِمَا تَقَدَّمَ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ بِمَا حَدَثَ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ ثُبُوتِ الْخِيَارِ بِمَا حَدَثَ مِنَ الْعُيُوبِ فَفُسِخَ بِهِ النِّكَاحُ ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ العيب الذي فيه الْخِيَارِ وَفُسِخَ بِهِ النِّكَاحُ ، فَلَا مَهْرَ فِيهِ لِارْتِفَاعِ الْعَقْدِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْفَسْخُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَةِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ حَادِثًا بَعْدَ الدُّخُولِ العيب الذي فيه الْخِيَارِ وَفُسِخَ بِهِ النِّكَاحُ ، فَلَهَا الْمَهْرُ الْمُسَمَّى : لِاسْتِقْرَارِهِ بِالدُّخُولِ وَحُدُوثِ مَا أَوْجَبَ الْفَسْخَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ .

وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ الْعَقْدِ ، وَقَبْلَ الدُّخُولِ ، وَلَا يَعْلَمُ بِهِ إِلَّا بَعْدَ الدُّخُولِ ، فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى : لِأَنَّهُ لَمَّا ارْتَفَعَ الْعَقْدُ بِعَيْبٍ تَقَدَّمَ عَلَى الدُّخُولِ صَارَ الدُّخُولُ فِي حُكْمِ الْحَادِثِ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْعَقْدِ فَسَقَطَ بِهِ الْمُسَمَّى ، وَاسْتُحِقَّ بِمَا بَعْدَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا فَالْخِيَارُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ ، وَحَدَثَ عَلَى الْفَوْرِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَا : لِأَنَّهَا عُيُوبٌ قَدْ عُرِفَ الْحَظْرُ فِي الْفَسْخِ بِهَا ، مِنْ غَيْرِ فِكْرٍ وَلَا ارْتِيَاءٍ ، فَجَرَى مَجْرَى الْعُيُوبِ فِي الْبَيْعِ الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا الْخِيَارُ عَلَى الْفَوْرِ في العيوب التي يفُسخ بها النِّكَاحُ ، وَخَالَفَ خِيَارَ الْأَمَةِ إِذَا أُعْتِقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ : فِي أَنَّ خِيَارَهَا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى التَّرَاخِي : لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَةِ الْحَظِّ لَهَا إِلَى زَمَانِ فِكْرٍ وَارْتِيَاءٍ ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْفَسْخِ حَتَّى يَأْتِيَ الْحَاكِمُ فَيَحْكُمَ لَهُ بِالْفَسْخِ : لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَلَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِحُكْمٍ ، وَخَالَفَ عِتْقَ الْأَمَةِ تَحْتَ عَبْدٍ فِي جَوَازِ تَفَرُّدِهَا بِالْفَسْخِ : لِأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، فَإِنْ تَصَادَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى الْعَيْبِ فَسَخَ الْحَاكِمُ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ تَنَاكَرَا فَادَّعَاهُ الزَّوْجُ وَأَنْكَرَتْهُ الزَّوْجَةُ كَلَّفَ الْمُدَّعِي بِبَيِّنَةً ، فَإِنْ أَقَامَهَا وَإِلَّا أَحْلَفَ الْمُنْكِرَ وَلَا فَسْخَ : لِأَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ مِنَ الْعُيُوبِ ، فَلَوْ تَصَادَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى الْعَيْبِ ، وَاتَّفَقَا عَلَى الْفَسْخِ عَنْ تَرَاضِي ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ : لِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ التَّنَازُعُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّ مَا اشْتَبَهَ حُكْمُهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ إِلَّا بِالْحَكَمِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلِوَلِيِّهَا مَنْعُهَا مِنْ نِكَاحِ الْمَجْنُونِ ، كَمَا يَمْنَعُهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ ، فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ مِنْ حُكْمٍ بَيْنَهُمَا فِيهِ الْخِيَارُ أَوِ الْفُرْقَةُ ؟ قِيلَ : نَعَمِ الْمَوْلَى يَمْتَنِعُ مِنَ الْجِمَاعِ بِيَمِينٍ لَوْ كَانَتْ عَلَى غَيْرِ مَأْثَمٍ كَانَتْ طَاعَةُ اللَّهِ أَنْ لَا يَحْنَثَ ، فَأُرَخِّصُ لَهُ فِي الْحَنْثِ بِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَجَبَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ وَالْعِلْمُ مُحِيطٌ بِأَنَّ الضَّرَرَ بِمُبَاشَرَةِ الْأَجْذَمِ وَالْأَبْرَصِ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَخْبُولِ أَكْثَرُ مِنْهَا بِتَرْكِ مُبَاشَرَةِ الْمَوْلَى مَا لَمْ يَحْنَثْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا أَوْصَى الْوَلِيُّ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِمَنْ فِيهِ أَحَدُ هَذِهِ الْعُيُوبِ فَامْتَنَعَتْ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا ، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ إِجْبَارُهَا عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ أَبًا : لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ حَقِّهَا مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ زَوَّجَهَا بِهِ لَكَانَ لَهَا الْفَسْخُ ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَهَا الِامْتِنَاعُ قَبْلَ الْعَقْدِ ، فَأَمَّا إِذَا رَضِيَتْ بِمَنْ فِيهِ أَحَدُ هَذِهِ الْعُيُوبِ ، وَامْتَنَعَ الْوَلِيُّ فَالْعُيُوبُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهُمَا : مَا لِلْوَلِيِّ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ نِكَاحِ مَنْ هِيَ فِيهِ ، وَذَلِكَ الْجُنُونُ وَالْخَبَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ عَارٍ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ فَكَانَ لَهُمْ دَفْعُهُ عَنْهُمْ بِالِامْتِنَاعِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَنْعُهَا مِنْ نِكَاحِ مَنْ هِيَ فِيهِ ، وَذَلِكَ الْعَنَتُ ،

وَالْجَبُّ ، وَالْخِصَاءُ : لِأَنَّهُ لَاعَارَ فِيهِ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ بِعَدَمِ الِاسْتِمْتَاعِ الَّذِي هُوَ حَقُّ لَهَا دُونَ الْأَوْلِيَاءِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا فِيهِ ، وَهُوَ الْجُذَامُ وَالْبَرَصُ ، وَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَنْعُهَا مِنْ مَجْذُومٍ وَلَا أَبْرَصَ : لِاخْتِصَاصِهَا بِالِاسْتِمْتَاعِ . وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَهُ مَنْعُهَا مِنْهُمَا لِنُفُورِ النُّفُوسِ مِنْهُمَا ، وَلِتَعَدِّي ذَلِكَ إِلَى نَسْلِهَا فَأَمَّا إِنْ حَدَثَتْ هَذِهِ الْعُيُوبُ فِي الزَّوْجِ بَعْدَ الْعَقْدِ ، فَالْخِيَارُ لَهَا دُونَ الْأَوْلِيَاءِ ، فَإِنْ رَضِيَتْ وَكَرِهَ الْأَوْلِيَاءُ كَانَ رِضَاهَا أَوْلَى ، وَلَا اعْتِرَاضَ لِلْأَوْلِيَاءِ : لِأَنَّ حَقَّهُمْ مُخْتَصٌّ بِطَلَبِ الْكَفَاءَةِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ دُونَ اسْتَدَامَتِهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا مُسْلِمَةٌ فَإِذَا هِيَ كِتَابِيَّةٌ ، كَانَ لَهُ فَسْخُ النِّكَاحِ بِلَا نِصْفِ مَهْرٍ ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا كِتَابِيَّةٌ فَإِذَا هِيِ مُسْلِمَةٌ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ فَسْخُ النِّكَاحِ : لِأَنَّهَا خَيْرٌ مِنْ كِتَابِيَّةٍ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنِ اشْتَرَى أَمَةً عَلَى أَنَّهَا نَصْرَانِيَّةٌ فَإِذَا بَهَا مُسْلِمَةٌ فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهَا ، وَإِذَا اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّهَا مُسْلِمَةٌ فَوَجَدَهَا نَصْرَانِيَّةً الأمة فَلَهُ أَنْ يُرَدَّهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَنَّ خِلَافَ الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ ، هَلْ تَجْرِي مَجْرَى خِلَافِ الْعَيْنِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ، فَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا مُسْلِمَةٌ فَوَجَدَهَا نَصْرَانِيَّةً ، فَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ . وَالثَّانِي : جَائِزٌ . نَصَّ عَلَيْهِ هَاهُنَا . وَهَلْ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا خِيَارَ لَهُ . وَالثَّانِي : لَهُ الْخِيَارُ . نَصَّ عَلَيْهِ هَاهُنَا . وَهَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا نَصْرَانِيَّةٌ فَكَانَتْ مُسْلِمَةً ، كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ . وَالثَّانِي : جَائِزٌ ، وَلَا خِيَارَ لَهُ قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّ الْمُسْلِمَةَ أَعْلَى حَالًا مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ . فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ ، فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنِ اشْتَرَى أَمَةً عَلَى أَنَّهَا مُسْلِمَةٌ فَكَانَتْ نَصْرَانِيَّةً أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ ، وَلَوِ اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّهَا نَصْرَانِيَّةٌ فَكَانَتْ مُسْلِمَةً فَلَيْسَ لَهُ خِيَارٌ كَالنِّكَاحِ ، فَرَدَّ أَصْحَابُنَا ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَقَالُوا لَهُ : فِي الْبَيْعِ الْخِيَارُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْبَيْعِ وُفُوْرُ الثَّمَنِ ، وَالثَّمَنُ يَتَوَفَّرُ بِكَثْرَةِ الطَّالِبِ ، وَطَالِبُ النَّصْرَانِيَّةِ أَكْثَرُ مِنْ

طَالِبِ الْمُسْلِمَةِ : لِأَنَّ النَّصْرَانِيَّةَ يَشْتَرِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَالنَّصَارَى ، وَالْمُسْلِمَةُ لَا يَشْتَرِيهَا إِلَّا الْمُسْلِمُونَ دُونَ النَّصَارَى ، فَإِذَا اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّهَا نَصْرَانِيَّةٌ فَكَانَتْ مُسْلِمَةً كَانَ لَهُ الْخِيَارُ : لِأَنَّهَا أَقَلُّ طَلَبًا فَصَارَتْ أَقَلَّ ثَمَنًا ، وَلَوِ اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّهَا مُسْلِمَةٌ فَكَانَتْ نَصْرَانِيَّةً فَلَهُ الْخِيَارُ لِنَقْصِهَا بِالدِّينِ ، وَأَنَّ الْمُسْلِمَةَ أَحْسَنُ مِنْهَا عِشْرَةً ، وَأَكْثَرُ نَظَافَةً وَطَهَارَةً ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ النِّكَاحُ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْعِشْرَةُ وَحُسْنُ الصُّحْبَةِ وَكَمَالُ الْمُتْعَةِ ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْمُسْلِمَةِ أَوْجَدُ مِنْهُ فِي النَّصْرَانِيَّةِ ، فَافْتَرَقَ حُكْمُ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا تَزَوَّجَتْ مُسْلِمَةٌ رَجُلًا عَلَى أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَكَانَ نَصْرَانِيًّا ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ شَرْطٍ : لَأَنَّ الْمُسْلِمَةَ لَا تَحِلُّ لِكَافِرٍ ، وَلَوْ تَزَوَّجَتْ نَصْرَانِيَّةٌ رَجُلًا عَلَى أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَكَانَ نَصْرَانِيًّا ، فَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ . وَالثَّانِي : جَائِزٌ ، وَلَهَا الْخِيَارُ ، قَوْلًا وَاحِدًا : لِنُقْصَانِ دِينِهِ ، وَأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ فِرَاقَهُ إِلَّا بِالْفَسْخِ . وَلَوْ تَزَوَّجَتْهُ عَلَى أَنَّهُ نَصْرَانِيٌّ فَكَانَ مُسْلِمًا النصرانية ، فَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ . وَالثَّانِي : جَائِزٌ ، وَلَهَا الْخِيَارُ ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ أَفْضَلَ دِينًا : لِأَنَّهَا إِلَى مَنْ وَافَقَهَا فِي الدِّينِ أَرْغَبُ ، وَهِيَ مِمَّنْ خَالَفَهَا فِيهِ أَنْفَرُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا تَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ امْرَأَةً بِغَيْرِ شَرْطٍ يَظُنُّهَا مُسْلِمَةً فَكَانَتْ نَصْرَانِيَّةً ، فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ ، لَا خِيَارَ لَهُ . وَلَوْ تَزَوَّجَهَا يَظُنُّهَا حُرَّةً فَكَانَتْ أَمَةً ، فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ إِذَا كَانَ مِمَّنْ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ ، وَفِي خِيَارِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - : لَا خِيَارَ لَهُ كَالنَّصْرَانِيَّةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - : لَهُ الْخِيَارُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ وَلِيَّ النَّصْرَانِيَّةِ مُتَمَيِّزُ الْهِبَةِ عَنْ وَلِيِّ الْمُسْلِمَةِ ، وَوَلِيَّ الْأَمَةِ لَا يَتَمَيَّزُ عَنْ وَلِيِّ الْحُرَّةِ ، وَلِأَنَّ وَلَدَهُ مِنَ الْأَمَةِ مَرْقُوقٌ ، وَمِنَ النَّصْرَانِيَّةِ مُسْلِمٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْأَمَةِ تَغُرُّ مِنْ نَفْسِهَا

بَابُ الْأَمَةِ تَغُرُّ مِنْ نَفْسِهَا ، مِنَ الْجَامِعِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ الْجَدِيدِ ، وَمِنَ التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ ، وَمِنْ نِكَاحِ الْقَدِيمِ ، وَمِنَ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ ، إِمْلَاءً عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِذَا وَكَّلَ بِتَرْوِيجِ أَمَتِهِ ، فَذَكَرَتْ وَالْوَكِيلُ أَوْ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا حُرَّةٌ ، فَتَزَوَّجَهَا ، ثُمَّ عَلِمَ فَلَهُ الْخِيَارُ ، فَإِنِ اخْتَارَ فِرَاقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلِا نِصْفَ مَهْرٍ وَلَا مُتْعَةَ ، وَإِنْ أَصَابَهَا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ، كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا سَمَّى أَوْ أَقَلَّ : لِأَنَّ فِرَاقَهَا فَسْخٌ وَلَا يُرْجَعُ بِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ وَلَدَتْ فَهُمْ أَحْرَارٌ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُمْ يَوْمَ سَقَطُوا وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا كَانَ حُكْمُهُمْ حُكْمَ أَنْفُسِهِمْ لِسَيِّدِ الْأَمَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ مَضَتْ وَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَتَكُونُ أَمَةً : فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مِمَّنْ لَا يَنْكِحُ الْأَمَةَ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ . وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَنْكِحُ الْأَمَةَ إِلَّا أَنَّهَا مَنْكُوحَةٌ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ . وَإِنْ كَانَتْ مَنْكُوحَةً بِإِذْنِ السَّيِّدِ ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي شَرَطَ حُرِّيَّتَهَا فَقَدْ عُتِقَتْ وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ هُوَ الَّذِي شَرَطَ حُرِّيَّتَهَا إِمَّا هِيَ أَوْ وَكِيلُهُ أَوْ هُمْ فَهِيَ حِينَئِذٍ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ ، وَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ ، حُرًّا كَانَ الزَّوْجُ أَوْ عَبْدًا : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا ، فَإِنْ أَوْلَدَهَا كَانَ وَلَدُهُ حُرًّا : لِأَنَّهُ عَلَى شَرْطِ الْحُرِّيَّةِ ، أَوْ وَلَدُهُ سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا غَرِمَ مَهْرَ الْمِثْلِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ وَقْتَ الْوِلَادَةِ وَرَجَعَ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ : لِأَنَّهُ أَلْجَأَهُ إِلَى غُرْمِهِ ، وَهَلْ يَرْجِعُ بِمَهْرِ مِثْلِهَا عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا ، فَفِي مَا قَدْ لَزِمَهُ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : فِي كَسْبِهِ . وَالثَّانِي : فِي ذِمَّتِهِ ، إِذَا أَيْسَرَ بَعْدَ عِتْقِهِ . وَالثَّالِثُ : فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ سَيِّدُهُ . وَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ الثَّلَاثَةُ مِنْ أَصْلَيْنِ ، فِي كُلِّ أَصْلٍ مِنْهُمَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا نَكَحَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدُهُ ، هَلْ يَكُونُ الْمَهْرُ إِنْ وَطِئَهَا فِي ذِمَّتِهِ أَوْ فِي رَقَبَتِهِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي النِّكَاحِ ، فَنَكَحَ نِكَاحًا فَاسِدًا ، هَلْ يَدْخُلُ فِي

جُمْلَةِ إِذْنِهِ ، وَيَكُونُ الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ فِي كَسْبِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ، ثُمَّ لَا رُجُوعَ لِلْعَبْدِ قَبْلَ غُرْمِ الْمَهْرِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْغَارِّ لَهُ ، فَإِذَا غَرِمَهَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ ، وَفِي رُجُوعِهِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ قَوْلَانِ ، فَهَذَا إِذَا قِيلَ : إِنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : فِي الْأَصْلِ أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا ، فَهَلْ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَإِنْ كَانَ عَبْدًا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ ، يَقُولُ : خِيَارُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْحُرِّ لِمَكَانِ شُرُوطِهِ ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَقُولُ : لَا خِيَارَ لَهُ بِخِلَافِ الْحُرِّ : لِمُسَاوَاتِهِ لَهَا فِي الرِّقِّ ، فَإِذَا قِيلَ : لَهُمَا الْخِيَارُ ، فَاخْتَارَا الْفَسْخَ ، فَالْحُكْمُ فِي الْمَهْرِ ، وَقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى مَا مَضَى . وَإِذَا قِيلَ بِأَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ ، وَإِنِ اخْتَارَ الْمُقَامَ أَوْ قِيلَ إِنَّ لَيْسَ لَهُ خِيَارٌ ، فَالْحُكْمُ فِي الْحَالَيْنِ وَاحِدٌ ، وَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى بِالْعَقْدِ ، وَأَوْلَادُهُ مِنْهَا قَبْلَ عِلْمِهِ أَحْرَارًا ، وَبَعْدَ عِلْمِهِ مَمَالِيكَ ، فَمَنْ وَضَعَتْهُ مِنْهُمْ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ عِلْمِهِ فَهُمْ أَحْرَارٌ : لِأَنَّهُمْ عَلَقُوا قَبْلَ عِلْمِهِ ، وَمَنْ وَضَعَتْهُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَهُمْ مَمَالِيكُ ، وَلَا يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّهُ الْمُسَمَّى بِعَقْدٍ صَحِيحٍ ، وَيَرْجِعُ بِقِيمَةِ مَنْ عَتَقَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَوْلَادِ : لِأَنَّهُ الْتَزَمَهَا بِالْغَرُورِ دُونَ الْعَقْدِ ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا كَانَ الْمَهْرُ فِي كَسْبِهِ قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّهُ نِكَاحٌ قَدْ صَحَّ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ، وَلَا يَكُونُ قِيمَةُ الْوَلَدِ فِي كَسْبِهِ : لِأَنَّ إِذْنَ سَيِّدِهِ بِالنِّكَاحِ لَا يَقْتَضِيهَا . وَأَيْنَ تَكُونُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي رَقَبَتِهِ . وَالثَّانِي : فِي ذِمَّتِهِ إِذَا أُعْتِقَ ، وَيَكُونُ مَا اسْتُحِقَّ مِنَ الْمَهْرِ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ وَفَسَادِهِ مِلْكًا لِلسَّيِّدِ : لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِ أَمَتِهِ ، وَيَكُونُ مَنْ رَقَّ مِنَ الْأَوْلَادِ مِلْكًا لِلسَّيِّدِ ، وَقِيمَةُ مَنْ عَتَقَ مِنْهُمْ لِلسَّيِّدِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الَّذِي غَرَّهُ ، إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُغَرِّمَهَا ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا فَوَلَدُهُ أَحْرَارٌ : لِأَنَّهُ تَزَوَّجَ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ وَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ حَتَّى بِعِتْقٍ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : وَقِيمَةُ الْوَلَدِ فِي مَعْنَاهُ ، وَهَذَا يَدُلُ عَلَى أَنْ لَا غُرْمَ عَلَى مَنْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ بِقَتْلٍ خَطَأٍ أَوْ بِعَتْقٍ حَتَّى يَغْرَمَ لِلْمَشْهُودِ لَهُ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْغَارَّةَ رَجَعَ عَلَيْهَا بِهِ إِذَا أُعْتِقَتْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فَذَكَرْنَا أَنَّ الزَّوْجَ يَرْجِعُ بِمَا غَرِمَهُ مِنْ قِيمَتِهِ عَلَى الْوَلَدِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَفِي رُجُوعِهِ بِمَا غَرِمَهُ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى قَوْلَانِ ، وَرُجُوعُهُ بِذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى مَنْ غَرَّهُ بَعْدَ غُرْمِهِ فَأَمَّا قَبْلَهُ فَلَا رُجُوعَ لَهُ : لِأَنَّهُ لَمْ يَغْرَمْ مَا يَرْجِعُ بِهِ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَبْرَأَ مِنْهُ فَلَا يَرْجِعُ بِهِ .

قَالَ الْمُزَنِيُّ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ بِقَتْلٍ خَطَأٍ ، ثُمَّ رَجَعَ الشُّهُودُ لَمْ يَلْزَمْهُمْ غُرْمُ الدِّيَةِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَغْرَمَهَا الْعَاقِلَةُ ، فَيَرْجِعُ بِهَا حِينَئِذٍ عَلَى الشُّهُودِ ، وَهَذَا صَحِيحٌ : لِأَنَّهُ قَبْلَ الْغُرْمِ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَبْرَأَ الْعَاقِلَةُ ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعُ ، فَإِذَا غَرِمَ الزَّوْجُ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُنْسَبَ الْغَرُورُ إِلَى السَّيِّدِ : لِأَنَّهَا تُعْتَقُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ هِيَ حُرَّةٌ ، فَلَا يَكُونُ غَارًّا ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْغَرُورُ إِمَّا مِنْهَا أَوْ مِنْ وَكِيلِهِ فِي نِكَاحِهَا ، أَوْ مِنْهُمَا مَعًا ، فَإِنْ تَفَرَّدَ الْوَكِيلُ بِغَرُورِ الزَّوْجِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ وَمَهْرِ الْمِثْلِ فِي الْحَالِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا ، وَانْظِرَ إِلَى مَيْسَرَتِهِ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا ، وَإِنْ تَفَرَّدَتِ الْأَمَةُ بِالْغَرُورِ في الزواج يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِقِيمَةِ الْوَلَدِ ، وَبِجَمِيعِ مَهْرِ الْمِثْلِ وَلَا يَتْرُكُ عَلَيْهَا شَيْئًا مِنْهُ : لِأَنَّهُ قَدْ غَرِمَ جَمِيعَهُ لِلسَّيِّدِ ، فَلَمْ يَصِرْ بُضْعُهَا مُسْتَهْلَكًا بِغَيْرِ مَهْرٍ ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِمَّتِهَا لِأَنَّهَا أَمَةٌ تُؤَدِّيهِ إِذَا أَيْسَرَتْ بَعْدَ الْعِتْقِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا كَانَ ذَلِكَ فِي رَقَبَتِهَا تُبَاعُ فِيهِ كَالْعَبْدِ إِذَا نَكَحَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ ، وَلَزِمَهُ الْمَهْرُ بِإِصَابَتِهِ كَانَ فِي رَقَبَتِهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ؟ قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : إِنَّ الرَّقَبَةَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا إِلَّا جِنَايَةٌ ، وَوَطْءُ الْعَبْدِ جِنَايَةٌ تُوجِبُ الْغُرْمَ ، فَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ ، وَلَيْسَ غَرُورُ الْأَمَةِ جِنَايَةً ، وَلَا الْغُرْمُ بِهَا يَتَعَلَّقُ ، وَإِنَّمَا تَعَلَقَّ بِوَطْءِ الزَّوْجِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهَا ، وَإِنِ اشْتَرَكَ الْوَكِيلُ وَالْأَمَةُ فِي الْغَرُورِ كَانَ غُرْمُ الْمَهْرِ وَقِيمَةُ الْأَوْلَادِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ : لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْغَرُورِ ، لَكِنْ مَا وَجَبَ عَلَى الْوَكِيلِ مَنْ نِصْفِ الْغُرْمِ يُؤْخَذُ بِهِ مُعَجَّلًا : لِأَنَّهُ حُرٌّ ، وَمَا وَجَبَ عَلَى الْأَمَةِ مَنْ نِصْفِ الْغُرْمِ تُؤْخَذُ بِهِ إِذَا أَيْسَرَتْ بَعْدَ الْعِتْقِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " إِلَّا أَنْ تَكُونَ مُكَاتِبَةً فَيَرْجِعَ عَلَيْهَا فِي كِتَابَتِهَا : لِأَنَّهَا كَالْجِنَايَةِ ، فَإِنْ عَجَزَتْ فَحَتَّى تُعْتَقَ ، فَإِنْ ضَرَبَهَا أَحَدٌ فَأَلْقَتْ جَنِينًا ، فَفِيهِ مَا فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : قَدْ جَعَلَ الشَّافِعِيُّ جَنِينَ الْمُكَاتِبَةِ كَجَنِينِ الْحُرَّةِ إِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَكَانَتْ مُكَاتِبَةً كَانَ فِي نِكَاحِهَا قَوْلَانِ كَالْأَمَةِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ . وَالثَّانِي : جَائِزٌ . وَهَلْ لَهُ الْخِيَارُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْأَمَةِ . فَإِذَا قِيلَ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ ، وَأَنْ لَا خِيَارَ فِيهِ أَوْ فِيهِ الْخِيَارُ فَاخْتَارَ الْمُقَامَ عَلَيْهِ ، فَالْمَهْرُ الْمُسَمَّى بِالْعَقْدِ وَاجِبٌ ، وَهُوَ لِلْمُكَاتِبَةِ دُونَ سَيِّدِهَا : لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِهَا وَاكْتِسَابُ الْمُكَاتِبَةِ لَهَا بِخِلَافِ الْأَمَةِ ، فَأَمَّا أَوْلَادُهَا الَّذِينَ عُلِّقَتْ بِهِمْ بَعْدَ عِلْمِ الزَّوْجِ بِكِتَابَتِهَا فَفِيهِمْ قَوْلَانِ :

أَحَدُهُمَا : مَمَالِيكُ لِسَيِّدِهَا . وَالثَّانِي : تَبَعٌ لَهَا يُعْتَقُونَ بِعِتْقِهَا إِنْ أَدَّتْ ، وَيَرِقُّونَ بِرِقِّهَا إِنْ عَجَزَتْ . وَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ النِّكَاحِ أَوْ قِيلَ بِصِحَّتِهِ ، وَفِيهِ الْخِيَارُ ، فَاخْتَارَ الْفَسْخَ ، فَالْحُكْمُ فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ ، وَيَنْظُرُ فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الزَّوْجُ فَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّ دَخَلَ بِهَا فَعَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى يَكُونُ ذَلِكَ لِلْمُكَاتِبَةِ دُونَ سَيِّدِهَا ، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ أَوْلَادِهَا وَفِيمَنْ تَكُونُ لَهُ قِيمَتُهُمْ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لِلسَّيِّدِ إِذَا قِيلَ : إِنَّهُمْ عَبِيدُهُ لَوْ رَقُّوا . وَالثَّانِي : لِلْمُكَاتِبَةِ إِذَا قِيلَ : إِنَّهُمْ تَبَعٌ لَهَا ثُمَّ فِيمَا يَأْخُذُهُ مِنْ قِيمَتِهِمْ وَجْهَانِ : أَجِدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - : تَسْتَعِينُ بِهِ فِي كِتَابَتِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ - : أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا ، كَمَا يُوقَفُ الْأَوْلَادُ لَوْ رَقُّوا ، فَإِنْ عُتِقَتْ بِالْأَدَاءِ مَلَكَتْ قِيمَتَهُمْ ، وَإِنْ رَقَّتْ بِالْعَجْزِ كَانَتْ قِيمَتُهُمْ لِلسَّيِّدِ ، وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ بِقِيمَةِ الْأَوْلَادِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ ، فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ هُوَ الَّذِي غَرَّهُ ، رَجَعَ عَلَيْهِ بِهَا بَعْدَ غُرْمِهَا ، سَوَاءٌ غَرِمَهَا لِلْمُكَاتِبَةِ أَوْ لِسَيِّدِهَا ، وَإِنْ كَانَتِ الْمُكَاتِبَةُ هِيَ الَّتِي غَرَّتْهُ ، فَإِنْ قِيلَ : يَجِبُ لِلسَّيِّدِ غُرْمَهَا لِلسَّيِّدِ ، ثُمَّ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْمُكَاتِبَةِ فِي مَالِ كِتَابَتِهَا فَإِنْ عَجَزَتْ وَرَقَّتْ فَبَعْدَ عِتْقِهَا . وَإِنْ قِيلَ : تَجِبُ قِيمَةُ الْأَوْلَادِ لَهَا دُونَ السَّيِّدِ سَقَطَتْ عَنْهُ وَلَمْ يَغْرَمْهَا : لِأَنَّهُ لَوْ غَرِمَهَا لَرَجَعَ بِهَا ، وَأَمَّا الْمَهْرُ فَفِي رُجُوعِ الزَّوْجِ بِهِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى . فَإِنْ قِيلَ : لَا يَرْجِعُ بِهِ ، دَفَعَ جَمِيعَهُ إِلَيْهَا . وَإِنْ قِيلَ : يَرْجِعُ بِهِ ، نَظَرَ فِي الْغَارِّ بِهِ : فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلَ ، غَرِمَ لَهَا مَهْرَهَا وَرَجَعَ بِجَمِيعِهِ عَلَى الْوَكِيلِ ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْغَارَّةُ ، سَقَطَ عَنْهُ الْمُهْرُ : لِأَنَّهُ لَهَا . وَهَلْ يَسْقُطُ جَمِيعُهُ أَمْ لَا ؟ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَسْقُطُ جَمِيعُهُ : لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ عَلَى غَيْرِهَا بِجَمِيعِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَسْقُطُ إِلَّا أَقَلُّ مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا ، فَيَلْزَمُهُ دَفْعُهُ إِلَيْهَا ، وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا : لِأَنْ لَا يَصِيرَ مُسْتَمْتِعًا بِبِضْعِهَا مِنْ غَيْرِ بَذْلٍ .

فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَتْ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا حَامِلًا مِنْ هَذَا الزَّوْجِ الْمَغْرُورِ فَضُرِبَ بَطْنُهَا ، فَأَلْقَتْ حَمْلَهَا جَنِينًا مَيِّتًا ، فَعَلَى الضَّارِبِ فِي جَنِينِهَا غِرَّةُ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ : لِأَنَّهُ حُرٌّ فِي حَقِّهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ لِلزَّوْجِ : لِأَنَّهُ أَبُوهُ وَوَارِثُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الضَّارِبَ فَلَا يَرِثْهُ : لِأَنَّهُ صَارَ قَاتِلًا ، وَلَا تَرِثْهُ الْأُمُّ : لِأَنَّهَا مُكَاتِبَةٌ ، وَيَكُونُ عَلَى الزَّوْجِ فِيهِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ كَالَّذِي يَكُونُ فِي جَنِينٍ مَمْلُوكٍ : لِأَنَّهُ فِيمَا يُسْتَحَقُّ عَلَى الْأَبِ مِنَ الْغُرْمِ فِي حُكْمِ الْجَنِينِ الذي تكون المكاتبة حاملا فيه من الزوج المغرور إذا ضُرِبَ بطنها فألقته جنينا ميتا الْمَمْلُوكِ ، وَفِيمَا يَسْتَحِقُّهُ

الْأَبُ عَلَى الضَّارِبِ مِنَ الدِّيَةِ فِي حُكْمِ الْجَنِينِ الْحُرِّ ، وَفِيمَنْ يَسْتَحِقُّ مَا غَرِمَهُ الْأَبُ مِنْ عُشْرِ قِيمَةِ أُمِّهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ لِلسَّيِّدِ إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْوَلَدَ مِلْكٌ لَهُ لَوْ رَقَّ . وَالثَّانِي : يَكُونُ لِلْأُمِّ الْمُكَاتِبَةِ إِذَا قِيلَ : إِنَّهُ يَكُونُ تَبَعًا لَهَا لَوْ رَقَّ . وَهَلْ تَسْتَعِينُ بِهِ فِي مَالِ كِتَابَتِهَا أَوْ يَكُونُ مَوْقُوفًا بِيَدِهَا ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ ، ثُمَّ يَكُونُ رُجُوعُ الزَّوْجِ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَى مَا مَضَى ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْأَمَةِ تُعْتَقُ وَزَوْجُهَا عَبْدٌ

بَابُ الْأَمَةِ تُعْتَقُ وَزَوْجُهَا عَبْدٌ خيارها في فسخ نكاحها من زوجها ، مِنْ كِتَابٍ قَدِيمٍ ، وَمِنْ إِمْلَاءٍ ، وَكِتَابِ نِكَاحٍ وَطَلَاقٍ ، إِمْلَاءً عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ ، عَنْ رَبِيعَةَ ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنْ بَرِيرَةَ أُعْتِقَتْ ، فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( قَالَ ) وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَيْسَ بَيْعُهَا طَلَاقَهَا إِذْ خَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ بَيْعِهَا فِي زَوْجِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا كَانَتِ الْأَمَةُ ذَاتَ زَوْجٍ فَبِيعَتْ أَوْ أُعْتِقَتْ كَانَ النِّكَاحُ بِحَالِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلَاقًا لَهَا . وَبِهِ قَالَ عُمَرُ ، وَعُثْمَانُ ، وَعَلِيٌّ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَاصٍّ ، وَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ، وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى أَنَّ بَيْعَهَا طَلَاقٌ لَهَا ، وَكَذَلِكَ عِتْقُهَا ، وَلَا نَعْرِفُ قَائِلًا بِهِ مِنَ التَّابِعِينَ إِلَّا مُجَاهِدٍ : اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [ النِّسَاءِ : 23 ] . إِلَى قَوْلِهِ : وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [ النِّسَاءِ : 24 ] . فَحَرَّمَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ إِلَّا أَنْ يُمْلَكْنَ فَيَحْلِلْنَ لِلْمَالِكِ ، وَهَذِهِ قَدْ مُلِكَتْ بِالِابْتِيَاعِ فَوَجَبَ أَنْ تَحِلَّ لِمَالِكِهَا ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا حَلَّتْ ذَاتُ الزَّوْجِ بِالسَّبْيِ لِحُدُوثِ مِلْكِ السَّابِي وَجَبَ أَنْ تَحِلَّ بِالشِّرَاءِ لِحُدُوثِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي . وَالدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ النِّكَاحِ أَنَّ بَرِيرَةَ أُعْتِقَتْ تَحْتَ زَوْجٍ ، فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نِكَاحِهِ ، فَلَوْ كَانَ نِكَاحُهَا قَدْ بَطَلَ بِعِتْقِهَا لِأَخْبَرَهَا بِهِ وَلَمْ يُخَيِّرْهَا فِيهِ ، وَلِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ أَثْبَتُ مِنْ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لِدَوَامِهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَبْطُلْ عَقْدُ الْإِجَارَةِ بِالْعِتْقِ وَالْبَيْعِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَبْطُلَ بِهِمَا عَقْدُ النِّكَاحِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ بَيْعُ الزَّوْجِ وَعِتْقُهُ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ نِكَاحِهِ كَذَلِكَ بَيْعُ الزَّوْجَةِ ، وَعِتْقُهَا لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ نِكَاحِهَا ، وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَلَكَ عَنِ الْبَائِعِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي كَانَ الْبَائِعُ مَالِكَهَا ، فَلَمَّا كَانَ النِّكَاحُ مُقَرًّا عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ كَانَ مُقَرًّا عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَوَارِدَةٌ فِي السَّبَايَا . وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالسَّبَايَا فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ السَّبْيَ لَمَّا أَبْطَلَ الْحُرِّيَّةَ الَّتِي هِيَ أَقْوَى ، كَانَ بِأَنْ يُبْطِلَ النِّكَاحَ أَوْلَى ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَيْعُ وَالْعِتْقُ .

وَالثَّانِي : أَنَّ السَّبْيَ قَدْ أَحْدَثَ حَجْرًا ، فَجَازَ أَنْ يَبْطُلَ بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ نِكَاحِهَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَيْعُ وَالْعِتْقُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النِّكَاحَ بِحَالِهِ ، فَعَلَى الْمُشْتَرِي للعبد إذا علم أنه متزوج من أمة أعتقت وهو ما زال عبدا إِقْرَارُ الزَّوْجِ عَلَى نِكَاحِهِ ، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِنِكَاحِهِ لِتَفْوِيتِ بُضْعِهَا عَلَيْهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : كَانَ عَبْدًا . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا ، يُقَالُ لَهُ مُغِيثٌ ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يَا عَبَّاسُ ، أَلَا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ ، وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا ؟ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ رَاجَعْتِهِ فَإِنَّمَا هُوَ أَبُو وَلَدِكِ ، فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَمْرِكَ ؟ قَالَ : إِنَّمَا أَنَا شَفِيعٌ ، قَالَتْ : فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ . وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ : كَانَ عَبْدًا ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَا يُشْبِهُ الْعَبْدُ الْحُرَّ : لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ ، وَلِأَنَّ لِلسَّيِّدِ إِخْرَاجَهُ عَنْهَا وَمَنْعَهُ مِنْهَا ، وَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ لِوَلَدِهَا ، وَلَا وِلَايَةَ ، وَلَا مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا أُعْتِقَتِ الْأَمَةُ تَحْتَ زَوْجٍ ، وَكَانَ عَبْدًا فَلَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ : لِكَمَالِهَا وَنَقْصِهِ ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبَرِيرَةَ : مَلَكْتِ نَفْسَكِ فَاخْتَارِي . فَأَمَّا إِذَا أُعْتِقَتِ الْأَمَةُ وَزَوْجُهَا حُرٌّ خِيَارِهَا في فسخ النكاح ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي خِيَارِهَا ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهَا . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ : ابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَائِشَةُ . وَمِنَ التَّابِعِينَ : سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ : رَبِيعَةُ ، وَمَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَصَاحِبَاهُ : لَهَا الْخِيَارُ . وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَطَاوُسٌ : اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : خَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيرَةَ ، وَكَانَ زَوْجُهَا حُرًّا ، وَهَذَا نَصٌّ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبَرِيرَةَ : " قَدْ مَلَكْتِ بُضْعَكِ فَاخْتَارِي " فَجَعَلَ عِلَّةَ اخْتِيَارِهَا أَنَّهَا مَلَكَتْ بُضْعَهَا ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ إِذَا أُعْتِقَتْ تَحْتَ حُرٍّ : لِوُجُودِهَا إِذَا أُعْتِقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهَا الْخِيَارُ فِي الْحَالَيْنِ ، قَالَ : وَلِأَنَّهَا أُعْتِقَتْ تَحْتَ زَوْجٍ والزوج عبدا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهَا الْخِيَارُ .

أَصْلُهُ : إِذَا كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا ، وَلِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ عَلَيْهَا بُضْعَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ بِمَهْرٍ مَلَكَهُ غَيْرُهَا فِي الرِّقِّ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهَا فَسْخُهُ ، فَيَصِحُّ أَنْ تَمْلِكَ بِالْحُرِّيَّةِ مَا كَانَ مَمْنُوعًا عَلَيْهَا فِي الْعُبُودِيَّةِ . وَدَلِيلُنَا : مَا رَوَاهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَعَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَ بَرِيرَةَ ، وَكَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا . فَوَجْهُ الدَّلِيلِ فِيهِ أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا انْتَقَلَ مَعَ السَّبَبِ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِذَلِكَ السَّبَبِ كَمَا إِذَا نُقِلَ الْحُكْمُ مَعَ عِلَّةٍ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ ، وَقَدْ نُقِلُ التَّخْيِيرُ بِعِتْقِهَا تَحْتَ عَبْدٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى الْأَسْوَدُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا فَتَعَارَضَتِ الرِّوَايَتَانِ فِي النَّقْلِ ، وَكَانَتْ رِوَايَةُ الْحُرِّيَّةِ أَثْبَتَ فِي الْحُكْمِ ، أَلَا تَرَى لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِحُرِّيَّةِ رَجُلٍ وَشَهِدَ آخَرَانِ بِعُبُودِيَّتِهِ ، كَانَ شَهَادَةُ الْحُرِّيَّةِ أَوْلَى مِنْ شَهَادَةِ الْعُبُودِيَّةِ ، كَذَلِكَ فِي النَّقْلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ . قِيلَ : رِوَايَتُنَا أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا أَوْلَى مِنْ رِوَايَتِهِمْ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ رَاوِي الْعُبُودِيَّةِ عَنْ عَائِشَةَ ثَلَاثَةٌ : عُرْوَةُ ، وَالْقَاسِمُ ، وَعَمْرَةُ ، وَرَاوِي الْحُرِّيَّةِ عَنْهَا وَاحِدٌ ، وَهُوَ الْأَسْوَدُ ، وَرِوَايَةُ الثَّلَاثَةِ أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ الْوَاحِدِ : لِأَنَّهُمْ مِنَ السَّهْوِ أَبْعَدُ ، وَإِلَى التَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ أَقْرَبُ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى [ الْبَقَرَةِ : 282 ] . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : الشَّيْطَانُ مَعَ الْوَاحِدِ ، وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَنْ ذَكَرْنَا أَخَصُّ بِعَائِشَةَ مِنَ الْأَسْوَدِ : لِأَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ هُوَ ابْنُ أُخْتِهَا أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ ، وَالْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ هُوَ ابْنُ أَخِيهَا مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ، وَعَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هِيَ بِنْتُ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ، فَهُمْ مِنْ أَهْلِهَا يَسْتَمِعُونَ كَلَامَهَا مُشَاهَدَةً مِنْ غَيْرِ حِجَابٍ ، وَالْأَسْودُ أَجْنَبِيٌّ لَا يَسْمَعُ كَلَامَهَا إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ، فَكَانَتْ رِوَايَتُهُمْ أَوْلَى مِنْ رِوَايَتِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ نَقْلَ الْعُبُودِيَّةِ يُفِيدُ عِلَّةَ الْحُكْمِ ، وَنَقْلَ الْحُرِّيَّةِ لَا يُفِيدُهَا : لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَجْعَلُ حُرِّيَّةَ الزَّوْجِ عِلَّةً فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ ، وَالْعُبُودِيَّةُ تَجْعَلُهُ عِلَّةٌ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ ، فَكَانَتْ رِوَايَةُ الْعُبُودِيَّةِ أَوْلَى . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ قَدْ وَافَقَ عَائِشَةَ فِي رِوَايَةِ الْعُبُودِيَّةِ صَحَابِيَّانِ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمَا وَافَقَهُمَا فِي رِوَايَةِ الْحُرِّيَّةِ أَحَدٌ ، أَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَرَوَى أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا ، وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَرَوَى عَنْهُ خَالِدٌ الْحِذَاءُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا أَسْوَدَ ، يُقَالُ لَهُ مُغِيثٌ ، كَأَنِّي أَرَاهُ يَطُوفُ خَلْفَهَا بِالْمَدِينَةِ ، وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ ، فَقَالَ

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ : أَلَا تَعْجَبُ مِنْ شِدَّةِ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ ، وَمِنْ شِدَّةِ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا ، قَالَ : فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ رَاجَعْتِهِ ، فَإِنَّمَا هُوَ أَبُو وَلَدِكِ ، فَقَالَتْ : أَتَأْمُرُنِي ؟ فَقَالَ : إِنَّمَا أَنَا شَافِعٌ ، قَالَتْ : فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ . فَأَمَّا تَرْجِيحُهُ بِأَنَّ شُهُودَ الْحُرِّيَّةِ أَوْلَى مِنْ شُهُودِ الْعُبُودِيَّةِ ، كَذَلِكَ رَاوِي الْحُرِّيَّةِ أَوْلَى مِنْ رَاوِي الْعُبُودِيَّةِ . فَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّهُ يُقَالُ : إِنْ عَلِمَ شُهُودُ الْحُرِّيَّةِ بِالْعُبُودِيَّةِ فَشَهَادَتُهُمْ أَوْلَى : لِأَنَّهُمْ أَزْيَدُ عِلْمًا مِمَّنْ عَلِمَ الْعُبُودِيَّةَ ، وَلَمْ يَعْلَمْ مَا يُجَدَّدُ بَعْدَهَا مِنَ الْحُرِّيَّةِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ شُهُودُ الْحُرِّيَّةِ بِالْعُبُودِيَّةِ ، وَكَانَ مَجْهُولَ الْحَالِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ قَدْ تَعَارَضَتَا فَسَقَطَتَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ شَهَادَةَ الْعُبُودِيَّةِ أَوْلَى : لِأَنَّهَا تُخَالِفُ الظَّاهِرَ مَنْ حُكْمِ الدَّارِ ، فَكَانَتْ أَزْيَدَ مِمَّنْ شَهِدَ بِالْحُرِّيَّةِ الَّتِي هِيَ الْغَالِبُ مَنْ حُكْمِ الدَّارِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّقِيطَ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْحُرِّيَّةِ فِي الظَّاهِرِ : لِأَنَّهُ الْغَالِبُ مِنْ حُكْمِ الدَّارِ ، وَلِأَنَّ أَهْلَهَا أَحْرَارٌ ، فَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الِاسْتِشْهَادِ تَرْجِيحٌ . فَإِنْ قَالُوا : تَسْتَعْمِلُ الرِّوَايَتَيْنِ ، فَتَحْمِلُ رِوَايَةَ مَنْ نَقَلَ الْعُبُودِيَّةَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا وَقْتَ الْعَقْدِ ، وَرِوَايَةَ مَنْ نَقَلَ الْحُرِّيَّةَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ حُرًّا وَقْتَ الْعِتْقِ : لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَطْرَأُ عَلَى الرِّقِّ ، وَلَا يَطْرَأُ الرِّقُّ عَلَى الْحُرِّيَّةِ ، فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى مِمَّنِ اسْتَعْمَلَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى . وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ تَأْوِيلٌ يَبْطُلُ بِخَبَرَيْنِ : أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ : أَنَّ أُسَامَةَ رَوَى عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبَرِيرَةَ : " إِنْ شِئْتِ أَنْ تَسْتَقِرِّي تَحْتَ هَذَا الْعَبْدِ ، وَإِنْ شِئْتِ فَارَقْتِيهِ " ، فَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ فِي وَقْتِ التَّخْيِيرِ عَبْدًا . وَالْخَبَرُ الثَّانِي : مَا رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ : أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا ، فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا ، وَلَوْ كَانَ حُرًّا لَمْ يُخَيِّرْهَا . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّنَا نُقَابِلُ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ بِمِثْلِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَانَ حُرًّا قَبْلَ السَّبْيِ وَعَبْدًا بَعْدَ السَّبْيِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَالتَّخْيِيرِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا وَقْتَ الْعِتْقِ وَحُرًّا وَقْتَ التَّخْيِيرِ ، فَتَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ فِي أَحَدِ

الْمَذْهَبَيْنِ ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ أَيْضًا مَا رَوَاهُ ابْنُ مَوْهَبٍ ، عَنِ الْقَاسِمِ ، عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّهُ كَانَ لَهَا غُلَامٌ وَجَارِيَةٌ ، فَأَرَادَتْ عِتْقَهَا ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ابْدَئِي بِالْغُلَامِ ، فَلَمْ يَأْمُرِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَقْدِيمِ عِتْقِ الزَّوْجِ إِلَّا لِفَائِدَةٍ ، وَلَا فَائِدَةَ إِلَّا سُقُوطُ خِيَارِ الزَّوْجَةِ ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لَهَا : ابْدَئِي بِالْغُلَامِ : لِأَنْ لَا يَكُونَ لِلزَّوْجَةِ خِيَارٌ ، فَكَانَ هَذَا نَصًّا صَرِيحًا . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ : أَنَّهَا كَافَأَتْ زَوْجَهَا فِي الْفَضِيلَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ لَهَا بِذَلِكَ خِيَارٌ كَمَا لَوْ أَسْلَمَتْ تَحْتَ مُسْلِمٍ أَوْ أَفَاقَتْ مِنْ جُنُونٍ تَحْتَ عَاقِلٍ ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الْخِيَارُ فِي ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الْخِيَارُ فِي أَثْنَاءِ النِّكَاحِ كَالْعَمَى طَرْدًا ، وَكَالْجَبِّ عَكْسًا ، وَلِأَنَّ مَا لَزِمَ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ مِنْ غَيْرِ عَيْبٍ خِيَارٌ كَالْبَيْعِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ : " قَدْ مَلَكْتِ بُضْعَكِ فَاخْتَارِي " فَهُوَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مَا نَقَلَهُ غَيْرُهُمْ وَلَا وُجِدَ إِلَّا فِي كُتُبِهِمْ ، ثُمَّ يَكُونُ مَعْنَاهُ : قَدْ مَلَكْتِ نَفْسَكِ تَحْتَ الْعَبْدِ فَاخْتَارِي ، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا تَحْتَ الْحُرِّ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الزَّوْجِ إِذَا كَانَ عَبْدًا ، فَالْمَعْنَى فِيهِ نَقْصُهُ بِالرِّقِّ عَنْ كَمَالِهَا بِالْحُرِّيَّةِ ، فَذَلِكَ كَانَ عَيْبًا يُوجِبُ الْخِيَارَ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِتْقُهَا مَعَ الْحُرِّ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ عَلَيْهَا بُضْعَهَا بِمَهْرٍ مَلَكَهُ غَيْرُهَا ، فَلَا تَأْثِيرَ لِهَذَا الْمَعْنَى وَاسْتِحْقَاقِ الْخِيَارِ : لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُكَاتِبَةً وَقْتَ الْعَقْدِ فَمَلَكَتْ مَهْرَهَا ثُمَّ أُعْتِقَتْ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ ، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ اسْتِحْقَاقُهُ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ ، وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْعِلَّةَ : لِأَنَّهَا قَدْ مَلَكَتْ بِالْعِتْقِ مَا مُلِكَ عَلَيْهَا فِي الرِّقِّ : لِأَنَّهَا لَوْ أُوجِرَتْ ثُمَّ عُتِقَتْ لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ خِيَارٌ ، فَلَمْ يَصِحَّ التَّعْلِيلُ بِوَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ ، فَبَطَلَ الِاسْتِدْلَالُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : " فَلِهَذَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - كَانَ لَهَا الْخِيَارُ إِذَا أُعْتِقَتْ ، مَا لَمْ يُصِبْهَا زَوْجُهَا بَعْدَ الْعِتْقِ ، وَلَا أَعْلَمُ فِي تَأَقْيِتِ الْخِيَارِ شَيْئًا يُتَّبَعُ إِلَّا قَوْلَ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَمَسَّهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَا خِيَارَ لَهَا إِذَا أُعْتِقَتْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ زَوْجُهَا عَبْدًا فَلَهَا أَنْ تَخْتَارَ الْفَسْخَ بِحُكْمِ حَاكِمٍ ، وَغَيْرِ حُكْمِهِ الْأَمَةِ تُعْتَقُ وَزَوْجُهَا عَبْدٌ وهل يَكُونُ خِيَارُهَا عَلَى الْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي بِخِلَافِ الْفَسْخِ بِالْعُيُوبِ : لِأَنَّ خِيَارَهَا بِالْعِتْقِ غَيْرُ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى حَاكِمٍ ، وَخِيَارَهَا بِالْعَيْبِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَافْتَقَرَ إِلَى حَاكِمٍ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَلْ يَكُونُ خِيَارُهَا عَلَى الْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ مُعْتَبَرًا بِالْمُكْنَةِ : لِأَنَّهُ خِيَارُ عَيْبٍ ثَبَتَ لِرَفْعِ ضَرَرٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ كَالْخِيَارِ بِالْعِتْقِ فِي الْبُيُوعِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ مُمْتَدٌّ بَعْدَ الْعِتْقِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ هِيَ آخِرُ حَدِّ الْقَلِيلِ ، وَأَوَّلُ حَدِّ الْكَثِيرِ ، وَاعْتِبَارًا بِالْخِيَارِ فِي الْمُصَرَّاةِ ثَلَاثًا ، بِأَنَّهُ جَعَلَ الْخِيَارَ خِيَارَ ثَلَاثٍ .

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي مَا لَمْ تُصَرِّحْ بِالرِّضَى أَوِ التَّمْكِينِ مِنْ نَفْسِهَا : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبَرِيرَةَ : لَمَّا رَأَى مُغِيثًا بَاكِيًا : " لَوْ رَاجَعْتِيهِ فَإِنَّهُ أَبُو وَلَدِكِ " ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ زَمَانٍ مِنْ عِتْقِهَا ، فَلَوْلَا امْتِدَادُ خِيَارِهَا عَلَى التَّرَاخِي لَأَبْطَلَهُ ، وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ خُزَيْمَةَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِإِسْنَادٍ رَفَعَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبَرِيرَةَ : " لَكِ الْخِيَارُ مَا لَمْ يُصِبْكِ " ، وَهَذَا نَصٌّ إِنْ صَحَّ ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَحَفْصَةَ وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمَا فِيهِ خِلَافٌ ، وَلِأَنَّ طَلَبَ الْأَحَظِّ فِي هَذَا الْخِيَارِ مُثْبِتُهُ يَحْتَاجُ إِلَى فِكْرٍ وَارْتِيَاءٍ ، فَتَرَاخَى زَمَانُهُ لِيُعْرَفَ بِامْتِدَادِهِ أَحَظُّ الْأَمْرَيْنِ لَهَا ، وَخَالَفَ خِيَارَ الْعُيُوبِ الَّتِي لَا يُشْتَبَهُ الْأَحُظُّ مِنْهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ أَصَابَهَا فَادَّعَتِ الْجَهَالَةَ ، فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا خِيَارَ لَهَا ، وَالْآخَرُ : لَهَا الْخِيَارُ ، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيْنَا ( قُلْتُ أَنَا ) وَقَدْ قَطَعَ بِأَنَّ لَهَا الْخِيَارَ فِي كِتَابَيْنِ ، وَلَا مَعْنَى فِيهَا لِقَوْلَيْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : فِي أَمَةٍ عَتَقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ فَمَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا ثُمَّ ادَّعَتِ الْجَهَالَةَ ، وَأَرَادَتْ فَسْخَ نِكَاحِهِ فَدَعْوَى الْجَهَالَةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَدَّعِي الْجَهَالَةَ بِالْعِتْقِ ، وَأَنَّهَا لَمْ تَعْلَمْ بِهِ حَتَّى مَكَّنَتْ مِنْ نَفْسِهَا ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُعْلَمَ صِدْقَهَا لِبُعْدِهَا عَنِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ سَيِّدُهَا ، وَقُرْبِ الزَّمَانِ عَنْ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا خَبَرُ عِتْقَهَا ، فَقَوْلُهَا مَقْبُولٌ وَلَهَا الْخِيَارُ : لِأَنَّ خِيَارَ الْعُيُوبِ لَا يُبْطَلُ بِالتَّأْخِيرِ إِذَا جَهِلَتْ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَعْلَمَ كَذَلِكَ بِهَا : لِأَنَّهَا وُجِّهَتْ بِالْعِتْقِ ، أَوْ بُشِّرَتْ بِهِ ، فَعَلِمَتْ أَحْكَامَهَا ، فَقَوْلُهَا مَرْدُودٌ ، وَلَا خِيَارَ لَهَا بَعْدَ التَّمْكِينِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَحْتَمِلَ الْأَمْرَيْنِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا : لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ عِلْمِهَا ، وَثُبُوتُ الْخِيَارِ لَهَا فَلَمْ يُصَدَّقِ الزَّوْجُ فِي إِبْطَالِهِ عَلَيْهَا ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَ فِيهِ وَجْهًا آخَرَ أَنَّ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجِ : لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ ثُبُوتُ النِّكَاحِ فَلَا يَقْبَلُ قَوْلَهَا فِي فَسْخِهِ مَعَ احْتِمَالِ تَخْرِيجِهَا مِنْ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْجَهَالَةِ بِالْحُكْمِ .

فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَدَّعِي الْجَهَالَةَ بِالْحُكْمِ مَعَ عِلْمِهَا بِالْعِتْقِ في الأمة إذا أعتقت تَحْتَ عَبْدٍ فَمَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا ثُمَّ ادَّعَتِ الْجَهَالَةَ بالعتق أو كانت عالمة به فَتَقُولُ : لَمْ أَعْلَمْ بِأَنَّ لِي الْخِيَارَ إِذَا أُعْتِقْتُ فَمَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِي ، وَإِنْ كَانَتْ عَالِمَةً بِالْعِتْقِ فَهُوَ أَيْضًا عَلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ : أَحَدُهَا : أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مِثْلَهَا لَا يَعْلَمُ : لِأَنَّهَا جَلِيبَةٌ أَعْجَمِيَّةٌ فَقَوْلُهَا مَقْبُولٌ ، وَلَهَا الْخِيَارُ . وَالثَّانِي : أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مِثْلَهَا يَعْلَمُ : لِأَنَّهَا مُخَالَطَةٌ لِلْفُقَهَاءِ مُسَائِلَةٌ الْعُلَمَاءَ ، فَقَوْلُهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ ، وَلَا خِيَارَ لَهَا بَعْدَ التَّمْكِينِ .

وَالثَّالِثُ : أَنْ يَحْتَمِلَ الْأَمْرَانِ أَنْ يُعْلَمَ ، وَأَنْ لَا يُعْلَمَ ، فَإِنْ صَدَّقَهَا الزَّوْجُ عَلَى أَنْ لَمْ تَعْلَمْ فَلَهَا الْخِيَارُ ، وَإِنَّ أَكْذَبَهَا فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا : اعْتِبَارًا بِثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهَا ، وَأَنَّهُ حُكْمٌ قَدْ يَخْفَى عَلَى الْعَامَّةِ ، وَلَا يَكَادُ يَعْرِفُهُ إِلَّا الْخَاصَّةُ ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي إِبْطَالِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَا خِيَارَ لَهَا : اعْتِبَارًا بِلُزُومِ النِّكَاحِ ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِي فَسْخِهِ . فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَاخْتَارَ الْأَوَّلَ - وَهُوَ أَصَحُّ - لَكِنَّهُ جَعَلَ نَصَّ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعَيْنِ إِبْطَالًا لِلثَّانِي ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَبْطُلُ الثَّانِي بِذِكْرِ الْأَوَّلِ لَمْ يَبْطُلْ بِإِعَادَةِ الْأَوَّلِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنِ اخْتَارَتْ فِرَاقَهُ وَلَمْ يَمَسَّهَا ، فَلَا صَدَاقَ لَهَا ، فَإِنْ أَقَامَتْ مَعَهُ ، فَالصَّدَاقُ لِلسَّيِّدِ : لِأَنَّهُ وَجَبَ بِالْعَقْدِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا خُيِّرَتِ الْمُعْتَقَةُ تَحْتَ عَبْدٍ فِرَاقَهُ وَلَمْ يَمَسَّهَا ، فَلَهَا حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ تَخْتَارَ الْفَسْخَ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُفْسَخَ قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَيَسْقُطُ مَهْرُهَا : لِأَنَّ الْفَسْخَ إِذَا جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَسْقَطَ مَهْرَهَا كَالرِّدَّةِ ، وَكَمَا لَوْ قَالَ لَهَا ، وَهِيَ غَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ فَشَاءَتْ طَلْقَتَيْنِ لَا مَهْرَ لَهَا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِمَشِيئَتِهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُفْسَخَ بَعْدَ الدُّخُولِ ، فَالْمَهْرُ مُسْتَقِرٌّ بِالدُّخُولِ ، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ الدُّخُولُ قَبْلَ الْعِتْقِ ، وَجَبَ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى : لِأَنَّ فَسْخَ النِّكَاحِ كَانَ بِحَادِثٍ بَعْدَ الدُّخُولِ ، وَإِنْ كَانَ الدُّخُولُ بَعْدَ الْعِتْقِ وَهُوَ أَنْ لَا تَعْلَمَ بِالْعِتْقِ حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا ، فَيَكُونُ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى : لِأَنَّهُ فُسِخَ بِسَبَبٍ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا بَعْدَهُ ، فَصَارَ الْعَقْدُ مَرْفُوعًا بِسَبَبِهِ الْمُتَقَدِّمِ ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ بِالْعِدَّةِ فِي الْإِصَابَةِ مَهْرُ الْمِثْلِ ، كَمَا قُلْنَا فِي الْعَيْبِ ، ثُمَّ يَكُونُ هَذَا الْمَهْرُ لِلسَّيِّدِ سَوَاءٌ كَانَتِ الْإِصَابَةُ قَبْلَ الْعِتْقِ أَوْ بَعْدَهُ .

فَصْلٌ : وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَخْتَارَ الْمُقَامَ إِذَا خُيِّرَتِ الْمُعْتَقَةُ تَحْتَ عَبْدٍ الفسخ أو المقام ، وَالنِّكَاحُ ثَابِتٌ وَالصَّدَاقُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُسَمًّى فِي الْعَقْدِ فَهُوَ لِلسَّيِّدِ دُونَهُمَا . وَقَالَ مَالِكٌ : يَكُونُ الصَّدَاقُ لَهَا ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَهْرَ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ ، وَإِنْ صَارَ مُسْتَقِرًّا بِالدُّخُولِ ، وَالْعَقْدُ فِي مِلْكِ السَّيِّدِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ لَهُ ، كَمَا لَوْ عَقَدَتْهُ فِي حُرِّيَّتِهَا كَانَ الصَّدَاقُ لَهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ يَعْقِدُ عَلَى مَنَافِعِهَا بِالْإِجَارَةِ تَارَةً ، وَبِالنِّكَاحِ أُخْرَى ، فَلَمَّا كَانَ لَوْ

أَجَّرَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا كَانَتِ الْأُجْرَةُ لَهُ دُونَهَا كَذَلِكَ إِذَا زَوَّجَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا ، كَانَ الصَّدَاقُ لَهُ دُونَهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ مُفَوَّضَةً لَمْ يُسَمِّ لَهَا فِي الْعَقْدِ صَدَاقًا حَتَّى أُعْتِقَتْ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِيِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا فَرَضَ مِنْ صَدَاقِ الْمُفَوَّضَةِ هَلْ يَكُونُ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ أَوْ بِالْفَرْضِ . فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ : أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ ، وَإِنْ فَرَضَ بَعْدَهُ : لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْمُسَمَّى فِيهِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلسَّيِّدِ اسْتِحْقَاقُهُ فِي مِلْكِهِ كَالْمُسَمَّى . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالْفَرْضِ لِخُلُوِّ الْعَقْدِ مِنْهُ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلْمُعْتَقَةِ لِاسْتِحْقَاقِهِ بَعْدَ عِتْقِهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ كَانَتْ فِي عِدَّةِ طَلْقَةٍ فَلَهَا الْفَسْخُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ وَاحِدَةً بَعْدَ الدُّخُولِ إذا أعتقت الأمة تحت العبد ، فَلَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ ، وَقَدْ بَقِيَتْ مَعَهُ عَلَى طَلْقَةٍ ، وَصَارَتْ كَزَوْجَةِ الْحُرِّ بَعْدَ الطَّلْقَتَيْنِ : لِأَنَّ الْحُرَّ يَمْلِكُ ثَلَاثًا وَالْعَبْدَ طَلْقَتَيْنِ ، فَإِنْ أُعْتِقَتْ هَذِهِ الْأَمَةُ الْمُطَلَّقَةُ فِي عِدَّتِهَا فَلَهَا الْفَسْخُ : لِأَنَّهَا فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ لِوُقُوعِ طَلَاقِهِ عَلَيْهَا ، وَصِحَّةِ ظِهَارِهِ وَإِيلَائِهِ مِنْهَا ، فَكَانَ لَهَا الْفَسْخُ ، وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً فِي فَسْخٍ : لِأَنَّ الْفَسْخَ لَا يُنَافِي الْفَسْخَ ، وَلِيَسْتَعِيدَ بِالْفَسْخِ قُصُورَ إِحْدَى الْعِدَّتَيْنِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، فَلَهَا بَعْدَ عِتْقِهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُخْتَارَ الْفَسْخُ . وَالثَّانِي : أَنْ يُخْتَارَ الْمُقَامُ . وَالثَّالِثُ : أَنْ تُمْسِكَ ، فَلَا تَخْتَارُ الْفَسْخَ وَلَا الْمُقَامَ ، فَإِنِ اخْتَارَتِ الْفَسْخَ كَانَ ذَلِكَ لَهَا . وَهَلْ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ بَعْدَ الْفَسْخِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ الرَّجْعَةُ : لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ الرَّجْعَةَ بِطَلَاقِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا رَجْعَةَ لَهُ : لِأَنَّ الرَّجْعَةَ تُرَادُ لِلِاسْتِبَاحَةِ ، وَالْفَسْخُ قَدْ مَنَعَ مِنْهَا ، فَلَمْ يَكُنْ لِلرَّجْعَةِ تَأْثِيرٌ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ لَا رَجْعَةَ لَهُ كَانَ تَأْثِيرُ الْفَسْخِ إِسْقَاطَ الرَّجْعَةِ لَا وُقُوعَ الْفُرْقَةِ : لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِالطَّلَاقِ دُونَ الْفَسْخِ ، وَأَوَّلُ عِدَّتِهَا مِنْ يَوْمِ الطَّلَاقِ فِي الرِّقِّ ، وَقَدْ صَارَتْ فِي تَضَاعِيفِهَا حُرَّةً ، فَتَكُونُ عِدَّتُهَا عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عِدَّةُ أَمَةٍ : اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ . وَالثَّانِي : عِدَّةُ حُرَّةٍ : اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ . وَإِنْ قِيلَ : لَهُ الرَّجْعَةُ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ :

إِمَّا أَنْ يُرَاجِعَ أَوْ لَا يُرَاجِعَ ، فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِالطَّلَاقِ دُونَ الْفَسْخِ ، وَفِي عِدَّتِهَا قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى ، وَإِنْ رَاجَعَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِالْفَسْخِ دُونَ الطَّلَاقِ ، وَأَوَّلُ عِدَّتِهَا مِنْ وَقْتِ الْفَسْخِ ، وَهِيَ عِدَّةُ حُرَّةٍ : لِأَنَّهَا بَدَأَتْ بِهَا وَهِيَ حُرَّةٌ ، وَإِنِ اخْتَارَتِ الْمُقَامَ فَلَا تَأْثِيرَ لِهَذَا الِاخْتِيَارِ : لِأَنَّ جَرَيَانَهَا فِي الْفَسْخِ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الرِّضَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : قَدْ بَطَلَ خِيَارُهَا بِالرِّضَا ، وَلَيْسَ لَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ أَنْ تَفْسَخَ : لِأَنَّ أَحْكَامَ الزَّوْجِيَّةِ جَارِيَةٌ عَلَيْهَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا إِنْ رَضِيَتْ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الْجَارِيَةَ فِي عِدَّةِ الْفُرْقَةِ لَا يَلْزَمُهَا حُكْمُ الرِّضَا إِذَا أُعْتِقَتْ كَمَا لَوِ ارْتَدَّ ، وَقَالَ : أَنْتِ بَائِنٌ ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُوَافِقُ فِيهِمَا أَنَّ الرِّضَا غَيْرُ مُؤَثِّرٍ ، فَعَلَى هَذَا لِلزَّوْجِ أَنْ يُرَاجِعَ لَا يَخْتَلِفُ ، فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِالطَّلَاقِ ، وَكَانَ فِي عِدَّتِهَا قَوْلَانِ ، وَإِنْ رَاجَعَ عَادَتْ بِالرَّجْعَةِ إِلَى الزَّوْجِيَّةِ ، فَتَكُونُ حِينَئِذٍ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْمُقَامِ : لِأَنَّ ذَلِكَ الرِّضَا لَمَّا كَانَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ سَقَطَ حُكْمُهُ ، فَإِنِ اخْتَارَتِ الْمُقَامَ كَانَ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ ، وَإِنِ اخْتَارَتِ الْفَسْخَ اسْتَأْنَفَتْ عِدَّةَ حُرَّةٍ مِنْ وَقْتِ الْفَسْخِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَقْتَ الْعِتْقِ اخْتِيَارُ الْمُقَامِ ، وَلَا الْفَسْخُ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُرَاجِعَ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَضَتِ الْعِدَّةُ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِطَلَاقِهِ ، وَفِي عِدَّتِهَا قَوْلَانِ ، وَإِنْ رَاجَعَ كَانَتْ حِينَئِذٍ بِالْخِيَارِ ، فَإِنْ فَسَخَتِ اسْتَأْنَفَتْ مِنْ وَقْتِ الْفَسْخِ عِدَّةَ حُرَّةٍ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْعَبْدُ قَدْ طَلَّقَهَا اثْنَتَيْنِ فَقَدِ اسْتَوْفَى مَا مَلَكَهُ مِنْ طَلَاقِهَا ، فَإِنْ أُعْتِقَتْ فِي الْعِدَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا الْفَسْخُ : لِأَنَّهَا مَبْتُوتَةٌ بِالطَّلَاقِ فَصَارَتْ بَائِنًا ، وَهَكَذَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا الْفَسْخُ إِذَا أُعْتِقَتْ : لِأَنَّهَا بِالْخُلْعِ مَبْتُوتَةٌ ، وَإِنْ بَقِيَ لَهَا مِنَ الطَّلَاقِ وَاحِدَةٌ .

فَصْلٌ : وَإِذَا أُعْتِقَتِ الْأَمَةُ تَحْتَ عَبْدٍ ، فَبَادَرَ الزَّوْجُ فَطَلَّقَهَا قَبْلَ الْفَسْخِ ، فَفِي وُقُوعِ طَلَاقِهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا - رَوَاهُ الرَّبِيعُ - : أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ : لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا لِلْفَسْخِ يَمْنَعُ مِنْ تَصَرُّفِ الزَّوْجِ فِيهَا بِغَيْرِ الطَّلَاقِ ، فَمَنَعَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِالطَّلَاقِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي - نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ - : أَنَّ طَلَاقَهُ وَاقِعٌ : لِأَنَّهَا قَبْلَ الْفَسْخِ زَوْجَةٌ ، وَإِنِ اسْتَحَقَّتِ الْفَسْخَ وَالطَّلَاقَ ، وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفًا فَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْفَسْخِ ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُ مِنْ تَصَرُّفٍ يُضَادُّهُ كَالِاسْتِمْتَاعِ ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ سُرَيْجٍ . وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ : الطَّلَاقُ مَوْقُوفٌ ، فَإِنْ فَسَخَتْ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاقِعًا ، وَإِنْ لَمْ يُفْسَخْ بَانَ أَنَّهُ كَانَ وَاقِعًا كَطَلَاقِ الْمُرْتَدَّةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهِيَ عَلَى وَاحِدَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي أَمَةٍ أُعْتِقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ ، فَإِنْ فَسَخَتْ نِكَاحَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ

يُطَلِّقَهَا ، جَازَ بَعْدَ الْفَسْخِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا : لِأَنَّ الْعِدَّةَ إِذَا كَانَتْ مِنْهُ مُنِعَتْ مِنْ نِكَاحِ غَيْرِهِ ، وَلَمْ تُمْنَعْ مِنْ نِكَاحِهِ ، فَإِذَا نَكَحَهَا كَانَتْ مَعَهُ عَلَى مَا يَمْلِكُ مِنَ الطَّلَاقِ الْكَامِلِ وَهُوَ طَلْقَتَانِ : لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ أَكْثَرَ مِنْهُمَا ، وَلَيْسَ الْفَسْخُ طَلَاقًا ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ طَلَّقَهَا قَبْلَ فَسْخِهَا طَلْقَتَيْنِ فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ كَمَا تَحْرُمُ عَلَى الْحُرِّ بِمَا بَعَدَ ثَلَاثٍ : لِاسْتِيفَائِهِ مَا مَلَكَ مِنَ الطَّلَاقِ ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ نِكَاحَهَا فِي الْعِدَّةِ وَبَعْدَهَا ، سَوَاءٌ فَسَخَتْ بَعْدَ طَلَاقِهِ أَوْ لَمْ تَفْسَخْ ، وَتَكُونُ مَعَهُ عَلَى طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْبَاقِيَةُ لَهُ مِنَ الطَّلْقَتَيْنِ ، فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ قَدْ أُعْتِقَ قَبْلَ أَنْ تَسْتَأْنِفَ نِكَاحَهَا فَفِيمَا يَمْلِكُهُ مِنْ طَلَاقِهَا قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ إِذَا عَتَقَتْ فِي تَضَاعِيفِ عِدَّتِهَا : أَحَدُهُمَا : تَكُونُ مَعَهُ عَلَى طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ : اعْتِبَارًا بِمَا هِيَ مِنْ نِكَاحِهِ الْأَوَّلِ الَّذِي كَانَ فِيهِ عَبْدًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : تَكُونُ مَعَهُ عَلَى اثْنَتَيْنِ : اعْتِبَارًا بِمَا يَمْلِكُهُ فِي نِكَاحِهِ الثَّانِي الَّذِي قَدْ صَارَ بِهِ حُرًّا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَعَلَى السُّلْطَانِ أَنْ لَا يُؤَجِّلَهَا أَكْثَرَ مِنْ مُقَامِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ لِلْمُعْتَقَةِ تَحْتَ عَبْدٍ أَنْ تَخْتَارَ الْفَسْخَ فِي نِكَاحِهِ مِنْ غَيْرِ حَكَمٍ ، فَإِنْ تَرَافَعَ الزَّوْجَانِ فِيهِ إِلَى الْحَاكِمِ أَوِ السُّلْطَانِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَعَلَى السُّلْطَانُ أَنْ لَا يُؤَجِّلَهَا أَكْثَرَ مِنْ مُقَامِهَا " فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ جَوَابٌ مِنْهُ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ خِيَارَهَا فِيهِ عَلَى الْفَوْرِ دُونَ التَّرَاخِي ، فَلَا يُؤَجِّلُهَا أَكْثَرَ مِنْ مُقَامِهَا لِلتَّحَاكُمِ فِيهِ : لِأَنَّهُ الْمُعْتَبَرُ مِنْ مَكِنَةِ الْفَوْرِ . فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ خِيَارَهَا إِلَى ثَلَاثٍ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي ، فَلَيْسَ لَهُ قَطْعُ خِيَارِهَا وَلَا إِبْطَالُ مَا اسْتَحَقَّتْهُ مِنْ مُدَّتِهِ أَوْ مِنْ تَرَاخِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ جَوَابٌ مِنْهُ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا : لِأَنَّ الْحَاكِمَ مَنْصُوبٌ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْخُصُومِ ، فَإِذَا قَاضَاهَا الزَّوْجُ إِلَيْهِ ، وَقَالَ الزَّوْجُ : إِمَّا أَنْ تُمَكِّنِينِي أَوْ تَفْسَخِي لَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُمْهِلَهَا وَيَذْرَهَا مَعَهُ مُعَلِّقَةً لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ وَلَا مُفَارِقَةٍ ، فَيَقُولُ لَهَا : أَنْتِ وَإِنْ كَانَ خِيَارُكِ مُمْتَدًّا عَلَى التَّرَاخِي بِالتَّحَاكُمِ ثَلَاثًا ، وَالْقَضَاءُ يَفْصِلُ ، فَاخْتَارِي تَعْجِيلَ الْفَسْخِ أَوِ الرِّضَا ، فَإِنْ فَسَخَتْ فِي مَجْلِسِهِ ، وَإِلَّا سَقَطَ حَقُّهَا مِنْهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشِّافِعِيُّ : " فَإِنْ كَانَتْ صَبِيَّةً فَحَتَّى تَبْلُغَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : فِي أَمَةٍ صَغِيرَةٍ أُعْتِقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ الْخِيَارُ لها بين فسخ النكاح أو المقام مع زوجها ، فَقَدْ وَجَبَ لَهَا

الْخِيَارُ مَعَ الصِّغَرِ : لِأَنَّ مَا وَجَبَ فِي الْعُقُودِ مِنَ الْحُقُوقِ اسْتَوَى اسْتِحْقَاقُهُ فِي الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ كَالشُّفْعَةِ ، لَكِنْ لَيْسَ لَهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ أَنْ تَخْتَارَ الْفَسْخَ ، بِخِلَافِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ تَخْيِيرٌ يُسْتَحَقُّ فِي الصِّغَرِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَفُوتَ بِانْتِظَارِ الْبُلُوغِ ، فَخَالَفَ خِيَارَ الْعِتْقِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ تَخْيِيرٌ لَا يَلْزَمُ بِهِ حُكْمٌ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَيْسَ لِقَوْلِهِ حُكْمٌ ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَلَيْسَ لِوَلِيِّهَا مِنْ أَبٍ وَلَا مُعْتِقٍ أَنْ يَخْتَارَ عَلَيْهَا ، بِخِلَافِ الشُّفْعَةِ الَّتِي يَكُونُ لِلْوَلِيِّ أَخْذُهَا . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ فِي هَذَا الْخِيَارِ اسْتِهْلَاكًا لَيْسَ فِي الشُّفْعَةِ ، فَجَرَى مَجْرَى اسْتِحْقَاقِ الْقَوَدِ الَّذِي لَيْسَ لِلْوَلِيِّ فِيهِ خِيَارٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الِاسْتِهْلَاكِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنْ لَا خِيَارَ لَهَا وَلَا لِوَلِيِّهَا حَتَّى تَبْلُغَ ، فَإِذَا بَلَغَتْ كَانَ الْبُلُوغُ أَوَّلَ زَمَانِ الْخِيَارِ الأمة الصغيرة تعتق تحت عبد ، فَيَكُونُ فِيهِ حِينَئِذٍ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ فِي الْحَالِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مُمْتَدٌّ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي ، مَا لَمْ تَرْضَ أَوْ تُمَكِّنْ ، فَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يَطَأَهَا مَا بَيْنَ عِتْقِهَا وَبُلُوغِهَا ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تُمَكِّنُ مِنْهُ ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ إِصَابَتِهَا : لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا لِلْفَسْخِ مُغَيِّرٌ لِحُكْمِ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْإِبَاحَةِ ، وَهَذَا الْوَجْهُ مُخَرَّجٌ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي رَوَاهُ الرَّبِيعُ أَنَّ طَلَاقَ الزَّوْجِ قَبْلَ الْفَسْخِ وَبَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ لَا يَقَعُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا خِيَارَ لِأَمَةٍ حَتَّى تَكْمُلَ فِيهَا الْحُرِّيَّةُ أُعْتِقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : لِأَنَّ أَحْكَامَ الرِّقِّ جَارِيَةٌ عَلَيْهَا قَبْلَ اسْتِكْمَالِ الْحُرِّيَّةِ ، فَإِذَا أُعْتِقَ بَعْضُهَا وَرَقَّ بَاقِيهَا ، فَإِنْ قَلَّ فَلَا خِيَارَ لَهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ دُبِّرَتْ أَوْ كُوتِبَتْ ، وَفِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ أَنْ يُعْتَقَ جَمِيعُهَا ، وَقَدْ أُعْتِقَ مِنَ الزَّوْجِ بَعْضُهُ وَإِنْ كَثُرَ ، وَرَقَّ بَاقِيهِ وَإِنْ قَلَّ ، فَلَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ : لِأَنَّ أَحْكَامَ الرِّقِّ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ مَا لَمْ تَكْمُلْ حُرِّيَّتُهُ .

فَصْلٌ : وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ إِذَا زَوَّجَهَا سَيِّدَهَا بِعَبْدٍ عَلَى صَدَاقِ مِائَةِ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا فِي مَرَضِهِ وَقِيمَتُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ ، وَخَلَّفَ مَعَهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ ، وَلَمْ يَدْخُلِ الزَّوْجُ بِهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا بِالْعِتْقِ ، وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا : لِأَنَّ اخْتِيَارَهَا الْفَسْخُ مُفْضٍ إِلَى إِبْطَالِ الْعِتْقِ وَالْفَسْخِ : لِأَنَّهَا إِذَا فَسَخَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بَطَلَ صَدَاقُهَا ، فَصَارَتِ التَّرِكَةُ مِائَتَا دِرْهَمٍ ، قِيمَتُهَا نِصْفُهَا ، فَيُعْتَقُ ثُلْثَاهَا وَيَرِقُّ ثُلُثُهَا ، وَإِذَا رَقَّ ثُلْثُهَا بَطَلَ خِيَارُهَا : لِأَنَّ مَا أَدَّى ثُبُوتُهُ إِلَى

إِبْطَالِهِ ، وَإِبْطَالِ غَيْرِهِ أَبْطَلَ ثُبُوتَ غَيْرِهِ ، فَكَذَلِكَ بَطَلَ الْخِيَارُ وَمَضَى الْعِتْقُ ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ قَدْ ذَكَرْنَاهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ أُعْتِقَ قَبْلَ الْخِيَارِ ، فَلَا خِيَارَ لَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : فِي أَمَةٍ أُعْتِقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ ، فَلَمْ تَخْتَرْ فَسْخَ نِكَاحِهِ حَتَّى أُعْتِقَ : إِمَّا بِأَنْ لَمْ تَعْلَمْ بِعِتْقِهِ ، فَيَكُونُ خِيَارُهَا بَاقِيًا عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا ، وَإِمَّا بِأَنْ عَلِمَتْ ، وَقِيلَ : خِيَارُهَا عَلَى التَّرَاخِي دُونَ الْفَوْرِ ، فَفِي بَقَاءِ خِيَارِهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ خِيَارَهَا ثَابِتٌ : اعْتِبَارًا بِوُجُوبِهِ فِي الِابْتِدَاءِ فَلَمْ يَسْقُطْ مَعَ زَوَالِ سَبَبِهِ إِلَّا بِالِاسْتِبْقَاءِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهَا : لِأَنَّ مَقْصُودَ خِيَارِهَا إِزَالَةُ النَّقْصِ الدَّاخِلِ عَلَيْهَا بِرِقِّهِ ، وَقَدْ زَالَ النَّقْصُ بِعِتْقِهِ ، فَلَمْ يَبْقَ لِاسْتِحْقَاقِ الْخِيَارِ مَعْنًى يَقْتَضِيهِ ، فَلَوْ أُعْتِقَ الزَّوْجَانِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَلَا خِيَارَ لَهُمَا : لِاسْتِوَائِهِمَا فِي التَّكَافُئِ بِالرِّقِّ وَالْعِتْقِ ، وَلَوْ أُعْتِقَ الزَّوْجُ دُونَهَا فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِفَسْخِ نِكَاحِهَا بِعِتْقِهِ وَرِقِّهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ الْفَسْخُ ، لِيَسْتَحِقَّ عَلَيْهَا مِنَ الْخِيَارِ مِثْلَ مَا تَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ فَيَسْتَوِيَانِ فِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا خِيَارَ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ : لِأَنَّ الزَّوْجَ يَقْدِرُ عَلَى إِزَالَةِ الضَّرَرِ بِالطَّلَاقِ ، وَهِيَ لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا بِالْفَسْخِ ، فَافْتَرَقَا فِيهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ أَجَلِ الْعِنِّينِ وَالْخَصِيِّ غَيْرِ الْمَجْبُوبِ وَالْخُنْثَى

بَابُ أَجَلِ الْعِنِّينِ وَالْخَصِيِّ غَيْرِ الْمَجْبُوبِ وَالْخُنْثَى ، مِنَ الْجَامِعِ مِنْ كِتَابٍ قَدِيمٍ ، وَمِنْ كِتَابِ التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ ، عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَجَّلَ الْعِنِّينَ سَنَةً ( قَالَ ) : وَلَا أَحْفَظُ عَمَّنْ لَقِيتُهُ خِلَافًا فِي ذَلِكَ ، فَإِنْ جَامَعَ ، وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : أَمَّا الْعُنَّةُ : فَهِيَ الْعَجْزُ عَنِ الْوَطْءِ لِلِينِ الذَّكَرِ وَعَدَمِ انْتِشَارِهِ ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِيلَاجِهِ فَسُمِّيَ مَنْ بِهِ الْعُنَّةَ عِنِّينًا ، وَفِي تَسْمِيَتِهِ بِذَلِكَ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ سُمِّيَ عِنِّينًا : لِلِينِ ذَكَرِهِ ، يَعْنِي عِنْدَ إِرَادَةِ الْوَطْءِ وَانْعِطَافِهِ ، مَأْخُوذٌ مِنْ عِنَانِ الْفَرَسِ لِلِينِهِ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : أَنَّهُ سُمِّيَ عِنِّينًا : لِأَنَّ ذَكَرَهُ يَعِنُّ عِنْدَ إِرَادَةِ الْوَطْءِ أَنْ يَعْتَرِضَ عَنْ يَمِينِ الْفَرْجِ وَيَسَارِهِ فَلَا يَلِجُ ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَنَنِ ، وَهُوَ الِاعْتِرَاضُ ، يُقَالُ عَنَّ لَكَ الرَّجُلُ إِذَا اعْتَرَضَكَ عَنْ يَمِينِكَ أَوْ يَسَارِكَ . وَالْعُنَّةُ : عَيْبٌ يَثْبُتُ بِهِ لِلزَّوْجَةِ خِيَارُ الْفَسْخِ ، وَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، وَقَوْلُ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ إِلَّا شَاذًّا عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ وَدَاوُدَ : أَنَّهُ لَيْسَ بِعَيْبٍ وَلَا خِيَارَ فِيهِ : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ امْرَأَةَ رِفَاعَةَ لَمَّا تَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : إِنَّ زَوْجِي أَبَتَّ طَلَاقِي ، وَقَدْ تَزَوَّجَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَإِنَّمَا لَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ ؟ لَا ، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقُ عُسَيْلَتَكِ فَلَمْ يَجْعَلِ الْعُنَّةَ فِيهِ عَيْبًا ، وَلَا جَعَلَ لَهَا خِيَارًا . وَرَوَى هَانِئُ بْنُ هَانِئٍ أَنَّ امْرَأَةً شَكَتْ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ زَوْجَهَا لَا يَنْتَشِرُ ، فَقَالَ : وَلَا عِنْدَ الْحَرِّ ، قَالَتْ : لَا ، قَالَتْ : مَا عِنْدَ أَسْتِ هَذَا خَيْرٌ ، ثُمَّ قَالَ : اذْهَبِي فَجِيئِي بِهِ ، فَلَمَّا جَاءَهُ رَآهُ شَيْخًا ضَعِيفًا ، فَقَالَ لَهَا : اصْبِرِي ، فَلَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ يَبْتَلِيَكِ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَعَلَ ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا خِيَارًا .

وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [ الْبَقَرَةِ : 229 ] فَلَمَّا كَانَ الْوَطْءُ حَقًّا لَهُ عَلَيْهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَقًّا لَهَا عَلَيْهِ ، وَقَالَ تَعَالَى : فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [ الْبَقَرَةِ : 229 ] وَهِيَ الْفُرْقَةُ : وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَالْمُغِيرَةِ ، وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ ، أَنَّهُ يُؤَجَّلُ فَإِنْ أَصَابَ وَإِلَّا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ تَقَدَّمَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ عَلِيٍّ بِخِلَافِ هَذَا . قِيلَ : تِلْكَ الرِّوَايَةُ لَيْسَتْ ثَابِتَةً : لِأَنَّ هَانِئَ بْنَ هَانِئٍ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ ، وَلِأَنَّ تِلْكَ لَمْ يَكُنْ زَوْجُهَا عِنِّينًا : لِأَنَّهُ عَجَزَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ : لِضَعْفِ الْكِبَرِ . وَقِيلَ : إِنَّهَا كَانَتْ قَدْ عَنَّسَتْ عِنْدَهُ ، وَالْعِنِّينُ هُوَ الَّذِي لَمْ يُصِبْهَا قَطُّ ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي إِثْبَاتِ الْإِجْمَاعِ : لَا أَحْفَظُ عَمَّنْ لَقِيتُهُ خِلَافًا : وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ لَهَا بِالْجَبِّ خِيَارُ الْفَسْخِ : لِفَقْدِ الْإِصَابَةِ الْمَقْصُودَةِ فَكَذَلِكَ الْعُنَّةُ : وَلِأَنَّ الْعِنِّينَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْمُولِي : لِأَنَّ الْمُولِيَ تَارِكٌ لِلْإِصَابَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ ، وَالْعِنِّينَ تَارِكٌ لَهَا مَعَ الْعَجْزِ ، فَلَمَّا كَانَ لَهَا الْفَسْخُ فِي الْإِيلَاءِ فَلَأَنْ يَكُونَ لَهَا فِي الْعُنَّةِ أَوْلَى : وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهَا بِالرَّتْقِ : لِتَعَذُّرِ الْجِمَاعِ عَلَيْهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى فِرَاقِهَا بِالطَّلَاقِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَجِبَ لَهَا بِعُنَّةِ الزَّوْجِ : لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى فِرَاقِهِ بِالطَّلَاقِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ امْرَأَةِ رِفَاعَةَ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا شَكَتْ ضَعْفَ جِمَاعِهِ ، وَلَمْ تَشْكُ عَجْزَهُ عَنْهُ ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ لَهَا : لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ ، وَلَوْ كَانَ عَاجِزًا لَمَا ذَاقَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عُسَيْلَةَ صَاحِبِهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا : لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ جَاءَنِي هَبَّةً ، وَفِيهِ مَعْنَيَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْهَبَّةَ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ . قَالَهُ ابْنُ وَهْبٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا حِقْبَةٌ مِنَ الدَّهْرِ . قَالَهُ أَبُو زَيْدٍ ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْجَوَابِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهَا ادَّعَتْ ذَلِكَ عَلَى زَوْجِهَا ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الزَّوْجِ اعْتِرَافٌ بِدَعْوَاهَا ، بَلْ أَنْكَرَ عَلَيْهَا قَوْلَهَا فَقَالَ : كَذَبَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنِّي أَعْرُكُهَا عَرْكَ الْأَدِيمِ الْعُكَاظِيِّ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعُنَّةَ عَيْبٌ يَثْبُتُ بِهِ خِيَارُ الْفَسْخِ فَهُوَ مُعْتَبِرٌ بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ أَصَابَهَا قَطُّ ، فَإِنْ أَصَابَهَا مَرَّةً زَالَ عَنْهُ حُكْمُ الْعُنَّةِ ، لِمَا سَنَذْكُرُهُ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى إِيلَاجِ حَشَفَةِ الذَّكَرِ ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى إِيلَاجِ الْحَشَفَةِ - وَإِنِ اسْتَعَانَ بِيَدِهِ - زَالَ عَنْهُ حُكْمُ الْعُنَّةِ ، فَإِذَا تَكَامَلَ الشَّرْطَانِ وَتَصَادَقَ عَلَيْهِمَا الزَّوْجَانِ لَمْ يَتَعَجَّلِ الْفَسْخَ بِهَا وَأُجِّلَ الزَّوْجُ لَهَا سَنَةً كَامِلَةً بِالْأَهِلَّةِ .

وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ : أَنَّهُ يُؤَجَّلُ نِصْفَ سَنَةٍ . وَحُكِيَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ أَنَّهُ يُؤَجَّلُ عَشَرَةَ أَشْهُرٍ ، وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ حَدِيثَةَ الْعَهْدِ مَعَهُ أُجِّلَ لَهَا سَنَةً ، وَإِنَّ كَانَتْ قَدِيمَةَ الْعَهْدِ مَعَهُ أُجِّلَ لَهَا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ فَاسِدَةٌ لَا يَرْجِعُ التَّقْدِيرُ فِيهَا إِلَى أَصْلٍ مِنْ جِهَةٍ ، وَتَقْدِيرُ أَصِلِهِ بِالسَّنَةِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ : لِأَنَّهُ أَجَّلَ الْعِنِّينَ سَنَةً ، وَعُمْرُ لَا يَفْعَلُ هَذَا إِلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ يَكُونُ نَصًّا أَوْ عَنِ اجْتِهَادٍ شَاوَرَ فِيهِ الصَّحَابَةَ : لِأَنَّهُ كَانَ كَثِيرُ الْمَشُورَةِ فِي الْأَحْكَامِ فَيَكُونُ مَعَ عَدَمِ الْخِلَافِ فِيهِ إِجْمَاعًا ، وَإِذَا تَرَدَّدَ بَيْنَ حَالَيْنِ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ لَمْ يَجُزْ بِخِلَافِهِ . وَالثَّانِي : إِنَّ التَّأْجِيلَ إِنَّمَا وَضِعَ لِيُعْلَمَ حَالُهُ ، هَلْ هُوَ مِنْ مَرَضٍ طَارِئٍ فَيُرْجَى زَوَالُهُ ، أَوْ مِنْ نَقْصٍ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ فَلَا يُرْجَى زَوَالُهُ ، فَكَانَتِ السَّنَةُ الْجَامِعَةُ لِلْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ أَجَلًا مُعْتَبَرًا : لِأَنَّ فَصْلَ الشِّتَاءِ بَارِدٌ رَطْبٌ ، وَفَصْلَ الصَّيْفِ حَارٌّ يَابِسٌ ، وَفَصْلَ الرَّبِيعِ حَارٌّ رَطْبٌ ، وَفَصْلَ الْخَرِيفِ بَارِدٌ يَابِسٌ ، فَإِذَا مَرَّ بِالْمَرَضِ مَا يُقَابِلُهُ مِنْ فُصُولِ السَّنَةِ ظَهَرَ ، وَكَانَ سَبَبًا لِبُرْئِهِ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ بَرْدٍ فَفَصْلُ الْحَرِّ يُقَابِلُهُ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ حَرٍّ فَفَصْلُ الْبَرْدِ يُقَابِلُهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ رُطُوبَةٍ فَفَصَلُ الْيُبُوسَةِ يُقَابِلُهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ يُبُوسَةٍ فَفَصْلُ الرُّطُوبَةِ يُقَابِلُهُ ، وَإِنْ كَانَ مُرَكَّبًا مِنْ نَوْعَيْنِ فَمَا خَالَفَهُ فِي النَّوْعَيْنِ ، هُوَ الْمُقَابِلُ لَهُ ، فَإِذَا مَضَتْ عَلَيْهِ الْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ وَهُوَ بِحَالَةٍ لَمْ يَكُنْ مَرَضًا لِمَا قِيلَ عَنْ عُلَمَاءِ الطِّبِّ إِنَّهُ لَا يَسْحَرُ الدَّاءُ فِي الْجِسْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ ، وَعُلِمَ حِينَئِذٍ أَنَّهُ نَقْصٌ لَازِمٌ لِأَصْلِ الْخِلْقَةِ فَصَارَ عَيْبًا يُوجِبُ الْخِيَارَ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُكْمِ الْعُنَّةِ وَأَجَلِهَا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بِمَاذَا يَثْبُتُ الْعُنَّةُ إِنِ ادَّعَتْهَا الزَّوْجَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - : أَنَّهَا لَا تَثْبُتْ إِلَّا بِإِقْرَارِهِ أَوْ بَيِّنَةٍ عَلَى إِقْرَارِهِ ، فَيَكُونُ الْإِقْرَارُ وَحْدَهُ مُعْتَبِرًا فِي ثُبُوتِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ - : أَنَّهَا تَثْبُتْ بِإِقْرَارِهِ ، أَوْ بِنُكُولِهِ لِعَدَمِ إِنْكَارِهِ ، وَلَا يُرَاعِي فِيهِ يَمِينَ الزَّوْجَةِ : لِأَنَّهَا لَا تَعْرِفُ بَاطِنَ حَالِهِ فَتَحْلِفَ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا ، وَحَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَلَمْ يَحْكِ مَا سِوَاهُ - : أَنَّهَا ثَبَتَتْ بِإِقْرَارِهِ عَلَى الزَّوْجَةِ بَعْدَ نُكُولِهِ ، وَإِنْكَارُهُ لَا يَثْبُتُ إِنْ لَمْ يَحْلِفْ بَعْدَ النُّكُولِ ، وَلَا يَمْتَنِعْ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى مَغِيبٍ بِالْإِمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى حَالِهِ ، كَمَا يَحْلِفُ عَلَى كِنَايَاتِ الْقَذْفِ وَالطَّلَاقِ ، وَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْقَذْفَ وَالطَّلَاقَ إِذَا أَنْكَرَ وَنَكَلَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ قُطِعَ مِنْ ذَكَرِهِ فَبَقِيَ مِنْهُ مَا يَقَعُ مَوْقِعَ الْجِمَاعِ حكمه " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِنْ كَانَ مَقْطُوعَ الذَّكَرِ بِأَسْرِهِ ، فَهُوَ الْمَجْبُوبُ ، وَلَهَا الْخِيَارُ فِي فُرْقَتِهَا مِنْ غَيْرِ تَأْجِيلٍ : لِأَنَّ جِمَاعَهُ مَأْيُوسٌ مِنْهُ فَلَمْ يَكُنْ لِلتَّأْجِيلِ مَعْنًى يَنْتَظِرُهُ ، فَإِنْ رَضِيَتْ لِجَبِّهِ ، ثُمَّ سَأَلَتْ أَنْ يُؤَجَّلَ لِلْعُنَّةِ لَمْ يَجُزْ لِاسْتِحَالَةِ الْوَطْءِ مَعَ الْجَبِّ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الرِّضَا . وَإِنْ كَانَ بَعْضُ ذَكَرِهِ مَقْطُوعًا خيار الزوجة فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي مِنْهُ دُونَ قَدْرِ الْحَشَفَةِ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِيلَاجِهِ ، فَهَذَا كَالْمَجْبُوبِ ، وَلَهَا الْخِيَارُ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ تَأْجِيلٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَبْقَى مِنْهُ قَدْرُ الْحَشَفَةِ وَيَقْدِرَ عَلَى إِيلَاجِهِ ، فَعَنْهُ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الْحَالِ : لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِيلَاجِهِ ، فَجَرَى مَجْرَى الذَّكَرِ إِلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ عُنَّةٌ فَيُؤَجَّلُ لَهَا أَجَلَ الْعُنَّةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ عَيْبٌ فِي الْحَالِ وَإِنْ يَكُنْ مَعَهُ عُنَّةٌ : لِنَقْصِ الِاسْتِمْتَاعِ عَنْ حَالِ الذَّكَرِ السَّلِيمِ ، فَإِنْ رَضِيَتْ بِقَطْعِهِ وَأَرَادَتْ تَأْجِيلَ الْعُنَّةِ أُجِّلَ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَلَّا يُعْلَمَ قَدْرُ بَاقِيهِ هَلْ يَكُونُ قَدْرَ الْحَشَفَةِ إِنِ انْتَشَرَ فَيَقْدِرُ عَلَى إِيلَاجِهِ ، أَوْ يَكُونُ أَقَلَّ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِيلَاجِهِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - : أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ أَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ ، فَالْبَاقِي مِنْهُ قَدْرُ الْحَشَفَةِ ، اسْتِصْحَابًا ، بِالْحَالَةِ الْأُولَى ، وَلَا يَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ عَاجِلًا ، إِلَّا أَنْ يُؤَجَّلَ لَهَا أَجَلُ الْعُنَّةِ ، كَالضَّرْبِ الثَّانِي . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - : أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ أَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ ، وَأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْهُ ، أَقَلُّ مِنْ قَدْرِ الْحَشَفَةِ ، فَيَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ فِي الْحَالِ : تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْقَطْعِ دُونَ الْعُنَّةِ كَالضَّرْبِ الْأَوَّلِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْخَصِيُّ فَهُوَ الَّذِي قُطِعَتْ أُنْثَيَاهُ مَعَ الْوِعَاءِ فسخ النكاح في هذه الحالة . وَأَمَّا الْمَسْلُولُ : فَهُوَ الَّذِي أُسِلَّتْ أُنْثَتَاهُ مِنَ الْوِعَاءِ . وَأَمَّا الْمَوْجُورُ : فَهُوَ الَّذِي رُضَّتْ أُنْثَيَاهُ فِي الْوِعَاءِ . وَحُكْمُ جَمِيعِهِمْ سَوَاءٌ ، وَهَلْ يَكُونُ عَيْبًا يَتَعَجَّلُ بِهِ فَسْخُ النِّكَاحِ فِيهِ قَوْلَانِ مَضَيَا ، فَإِنْ جُعِلَ عَيْبًا يُعَجَّلُ بِهِ الْفَسْخُ مِنْ وَقْتِهِ ، فَإِنْ رَضِيَتْ بِهِ الزَّوْجَةُ وَأَرَادَتْ تَأْجِيلَهُ لِلَّعُنَّةِ أُجِّلَ لَهَا بِخِلَافِ الْمَجْبُوبِ : لِإِمْكَانِ الْوَطْءِ مِنْهُ وَاسْتِحَالَتِهِ مِنَ الْمَجْبُوبِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " أَوْ كَانَ خُنْثَى يَبُولُ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ الرِّجَالُ فسخ النكاح في هذه الحالة " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لِلْخُنْثَى حَالَتَانِ : مُشْكِلٌ ، وَغَيْرُ مُشْكِلٍ ، فَأَمَّا الْمُشْكِلُ فَيَأْتِي ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُشَكِلِ فَهُوَ أَنْ يَبُولَ مِنْ ذَكَرِهِ دُونَ فَرْجِهِ ، فَيَكُونُ رَجُلًا ، يَصِحُّ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً ، وَهَلْ

يَكُونُ زِيَادَةُ فَرْجِهِ عَيْبًا فِيهِ يُوجِبُ الْفَسْخَ ، وَفِي الْخِيَارِ فِيهِ قَوْلَانِ مَضَيَا ، فَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ عَيْبًا أُجِّلَ لِلْعُنَّةِ إِنْ ظَهَرَتْ بِهِ . وَإِنْ جُعِلَ كَانَ لَهَا أَنْ تَتَعَجَّلَ بِهِ الْفَسْخَ ، فَإِنْ رَضِيَتْ بِهِ وَظَهَرَتْ عُنَّتُهُ ، أُجِّلَ لَهَا : لِأَنَّ نَقْصَهُ بِالْعُنَّةِ غَيْرُ نَقْصِهِ بِالْخُنُوثَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " أَوْ كَانَ يُصِيبُ غَيْرَهَا وَلَا يُصِيبُهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ مِنْ لَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ من جهة الوطء والعنة والخنوثة : إِمَّا أَنْ تَعْدِمْنَ جَمِيعُهُنَّ ، وَكَانَ يَطَأَهُنَّ كُلَّهُنَّ ، انْتَفَتْ عَنْهُ الْعُنَّةُ عُمُومًا . وَمَا لَمْ تَعْدِمْنَ جَمِيعُهُنَّ وَكَانَ يَطَأَهُنَّ كُلَّهُنَّ ، وَلَا خِيَارَ . وَإِنْ عَدِمْنَ جَمِيعُهُنَّ فَلَا يَطَأُ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ ، فَإِذَا سَأَلُوا تَأْجِيلَهُ أُجِّلَ لَهُمْ حَوْلًا : لِأَنَّهَا مُدَّةٌ يُعْتَبَرُ بِهَا حَالُهُ ، فَاسْتَوَى حُكْمُهَا فِي حُقُوقِهِنَّ كُلِّهِنَّ ، فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ كَانَ لَهُنَّ الْخِيَارُ ، فَإِنِ اجْتَمَعْنَ عَلَى الْفَسْخِ كَانَ ذَلِكَ لَهُنَّ ، وَإِنِ افْتَرَقْنَ أَجْرَى عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ حُكْمَ اخْتِيَارِهَا ، وَإِنْ عَزَمَ بِعْضَهُنَّ دُونَ بَعْضٍ فَوَطَأَ اثْنَتَيْنِ ، وَلَمْ يَطَأِ اثْنَتَيْنِ ثَبَتَتْ عُنَّتُهُ ، فَمَنِ امْتَنَعَ مِنْ وَطْئِهَا ، وَإِنْ سَقَطَتْ عُنَّتُهُ فِي جَمِيعِهِنَّ ، وَلَا خِيَارَ لِمَنْ لَا يَطَأْهَا مِنْهُنَّ : لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِنِّينًا وَغَيْرَ عِنِّينٍ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّهُ لَيْسَ يَمْنَعُ أَنْ يَلْحَقَهُ الْعُنَّةُ مِنْ بَعْضِهِنَّ لِمَا فِي طَبْعِهِ فِي الْمَيْلِ إِلَيْهِنَّ ، وَقُوَّةُ الشَّهْوَةِ لَهُنَّ مُخْتَصُّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِحُكْمِهَا مَعَهُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَخْبَرَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ النِّكَاحِ أَنَّهُ عِنِّينٌ ، فَنَكَحَتْ عَلَى ذَلِكَ ، ثُمَّ أَرَادَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ تَأْجِيلَهُ لِلْعُنَّةِ وَفَسْخِ النِّكَاحِ بِهَا ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْقَدِيمِ : لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ ، وَلَا خِيَارَ لَهَا ، كَمَا لَوْ نَكَحَتْهُ عَالِمَةً بِعَيْنِ ذَلِكَ مِنْ عُيُوبِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي - قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ - : لَهَا الْخِيَارُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْعُيُوبِ : لِأَنَّ الْعُنَّةَ قَدْ تَكُونُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ وَمِنِ امْرَأَةٍ دُونَ امْرَأَةِ ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْعُيُوبِ تَكُونُ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا وَمِنَ النِّسَاءِ كُلِّهِنَّ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَسَأَلَتْ فُرْقَتَهُ أَجَّلْتُهُ سَنَةً مِنْ يَوْمٍ تَرَافَعَا إِلَيْنَا ( قَالَ ) فَإِنْ أَصَابَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فَهِيَ امْرَأَتُهُ " . اعْلَمْ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْخِيَارِ بِالْعُنَّةِ ، وَتَأْجِيلَ الزَّوْجِ فِيهِ لَا يُسَارُ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ : لِأَنَّ الْخِيَارَ مُسْتَحَقٌّ بِاجْتِهَادٍ ، وَتَأْجِيلُ السَّنَةِ عَنِ اجْتِهَادٍ ، وَمَا أُخِّرَ ثُبُوتُهُ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ دُونَ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ لَمْ يَسْتَقِرَّ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ ، فَإِنْ عَلِمَتِ الْمَرْأَةُ بِعُنَّةِ الزَّوْجِ ، كَانَ حَقُّهَا فِي مُرَافَعَتِهِ إِلَى الْحَاكِمِ عَلَى التَّرَاخِي دُونَ الْفَوْرِ : لِأَنَّهُ قَبْلَ التَّأْجِيلِ عَيْبٌ مَظْنُونٌ ، وَلَيْسَ بِمُتَحَقِّقٍ ، فَإِنْ أَجَازَتْ مُحَاكَمَتَهُ سَنَةً ، رَافَعَتُهُ إِلَى الْحَاكِمِ ، اسْتَأْنَفَ بِهَا الْحَوْلَ

مِنْ وَقْتِ التَّرَافُعِ إِلَيْهِ ، وَلَمْ يُحْتَسَبْ بِمَا مَضَى مِنْهُ ، وَخَالَفَ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ : لِأَنَّ تِلْكَ نَصٌّ ، وَهَذِهِ عَنِ اجْتِهَادٍ ، فَلَوْ أَقَرَّ لَهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ بِالْعُنَّةِ أَجَّلَهُ لَهَا ، وَلَمْ يُعَجِّلِ الْفَسْخَ بِإِقْرَارِهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْفَسْخَ يُؤَجَّلُ لِسَنَةٍ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَجَّلَ قَبْلَهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ رُبَّمَا زَالَتِ الْعُنَّةُ ، فَلَمْ يَجُزْ فَسْخُ النِّكَاحِ بِهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " إِذَا تَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً وَلَمْ يُصِبْهَا فِي نِكَاحِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ عَنْ عُنَّةٍ . وَالثَّانِي : بِغَيْرِ عُنَّةٍ . فَإِنْ كَانَ لِعُنَّةٍ كَانَ عَلَى مُضِيٍّ مِنْ تَأْجِيلِهِ لَهَا سَنَةً إِذَا حَاكَمَتْهُ ، فَإِنْ أَصَابَهَا فِي السَّنَةِ أَوْ بَعْدَهَا ، أَوْ قَبْلَ الْفَسْخِ مَرَّةً وَاحِدَةً سَقَطَ حَقُّهَا مِنَ الْفَسْخِ : لِارْتِفَاعِ عُنَّتِهِ بِالْإِصَابَةِ ، فَلَوْ تَرَكَهَا بَعْدَ تِلْكَ الْإِصَابَةِ سِنِينَ كَثِيرَةٍ لَا يَمَسُّهَا ، فَلَا مُطَالَبَةَ لَهَا . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُ يُؤَجَّلُ لَهَا ثَانِيَةً إِذَا عَادَتِ الْعُنَّةُ ثَانِيَةً . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّهَا قَدْ وَصَلَتْ بِإِصَابَةِ الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ إِلَى مَقْصُودِ النِّكَاحِ مِنْ تَكْمِيلِ الْمَهْرِ وَثُبُوتِ الْحَصَانَةِ ، وَلَا يَبْقَ إِلَّا تَلَذُّذُ الزَّوْجِ بِهَا ، وَتِلْكَ شَهْوَةٌ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَإِذَا تَرَكَ الزَّوْجُ إصابة زوجته لِغَيْرِ عُنَّةٍ إِصَابَتَهَا لِغَيْرِ عُنَّةٍ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِصَابَتُهَا مَرَّةً أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ - : أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَجْنُونُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَطْءِ ، وَالْقَرْنَاءُ الَّتِي لَا يُمْكِنُ وَطْئِهَا ، وَلَوْ وَجَبَ الْوَطْءُ لَمَا جَازَ إِلَّا نِكَاحَ مَنْ يُمْكِنُهُ الْوَطْءُ لِمَنْ يُمْكِنُ وَطْئُهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - : أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَطَأَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي نِكَاحِهِ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْخِيَارُ لَهَا فِي الْعُيُوبِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْوَطْءِ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْوَطْءِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَقْصُودُ النِّكَاحِ مِنْ تَكْمِيلِ الْمَهْرِ ، وَالْحَصَانَةِ ، وَطَلَبِ الْوَلَدِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْوَطْءِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَجِبَ فِيهِ الْوَطْءُ . فَإِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ : أَنَّهُ لَا يَجِبُ ، فَلَا خِيَارَ لَهَا وَلَا تَأْجِيلَ . وَإِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجِبُ ، فَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا بِمَرَضٍ أَوْ سِفْرٍ أُنْذِرَ بِالْوَطْءِ إِلَى وَقْتِ مَكِنَتِهِ ، كَمَا يَنْظُرُ بِالدِّينِ مِنْ إِعْسَارِهِ إِلَى وَقْتِ يَسَارِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ أَخَذَهُ

الْحَاكِمُ إِذَا رَافَعَتْهُ الزَّوْجَةُ إِلَيْهِ بِالْوَطْءِ أَوِ الطَّلَاقِ ، كَمَا يَأْخُذُهُ الْمَوْلَى بِهِمَا ، وَلَمْ يُؤَجِّلْهُ : لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِنِّينٍ ، وَلَا يُطَلِّقُ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ ، بِخِلَافِ الْمَوْلَى فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بَلْ يَحْبِسُهُ حَتَّى يَفْعَلَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْوَطْءِ أَوِ الطَّلَاقِ ، فَإِذَا وَطِئَهَا مَرَّةً سَقَطَ لَهَا مُطَالَبَتُهُ بِالْفُرْقَةِ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [ الْبَقَرَةِ : 228 ] وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [ الْبَقَرَةِ : 228 ] فَمِنْ دَرَجَةِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ يَلْزَمَهَا إِجَابَتُهُ إِذَا دَعَاهَا إِلَى الْفِرَاشِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ إِجَابَتَهَا ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ رَفْعُ الْعَقْدِ بِالطَّلَاقِ إِلَيْهِ دُونَهَا كَانَ الْوَطْءُ فِيهِ حَقًّا لَهُ دُونَهَا : وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْوَطْءُ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ حَقًّا لِلْمَالِكِ دُونَ الْمَمْلُوكَةِ ، كَانَ الْوَطْءُ فِي النِّكَاحِ حَقًّا لِلنَّاكِحِ دُونَ الْمَنْكُوحَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَكُونُ إِصَابَتُهَا إِلَّا بِأَنْ يُغَيِّبَ الْحَشَفَةَ أَوْ مَا بَقِيَ مِنَ الذَّكَرِ فِي الْفَرْجِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْإِصَابَةُ الَّتِي تَسْقُطُ بِهَا حُكْمُ الْعُنَّةِ هِيَ تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ فِي الْقُبُلِ حَتَّى يَلْتَقِيَ الْخِتَانَانِ ، فَيَجِبُ الْغُسْلُ ، سَوَاءٌ أَنَزَلَ أَمْ لَمْ يُنْزِلْ : لِأَنَّهَا الْإِصَابَةُ الَّتِي يَكْمُلُ بِهَا الْمَهْرُ الْمُسَمَّى فِي النِّكَاحِ ، وَيَجِبُ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ فِي الشُّبْهَةِ وَالْحَدُّ فِي الزِّنَا ، هَذَا إِذَا كَانَ سَلِيمَ الذَّكَرِ بَاقِيَ الْحَشَفَةِ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَغِيبِ مَا بَعْدَ الْحَشَفَةِ ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَقْطُوعَ الْحَشَفَةِ فَفِيمَا يُعْتَبَرُ بِغَيْبِهِ مِنْ بَقِيَّةِ الذَّكَرِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُعْتَبَرُ تَغْيِيبُ بَاقِيهِ قَدْرَ الْحَشَفَةِ ، لِيَكُونَ بَدَلًا مِنْهَا ، فَسَقَطَ بِهِ حُكْمُ الْعُنَّةِ كَمَا سَقَطَ بِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُعْتَبَرُ تَغْيِيبُ بَاقِيهِ كُلِّهِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ هَاهُنَا : لِأَنَّ الْحَشَفَةَ حَدٌّ لَيْسَ فِي الْبَاقِي ، فَصَارَ جَمِيعُ الْبَاقِي حَدًّا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ حُكْمُ الْعُنَّةِ : لِأَنَّهُ مَحَلٌّ مَحْظُورٌ لَا يُسْتَبَاحُ بِهِ الْعَقْدُ ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِهِ حُكْمُ الْوَطْءِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ ، وَلَوْ وَطِئَهَا فِي الْحَيْضِ وَالْإِحْرَامِ سَقَطَ بِهِ حُكْمُ الْعُنَّةِ ، وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا : لِأَنَّهُ فِي الْمَحَلِّ الْمُسْتَبَاحِ بِالْعَقْدِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا خَيَّرَهَا السُّلْطَانُ ، فَإِنْ شَاءَتْ فِرَاقَهُ فَسَخَ نِكَاحَهَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ : لِأَنَّهُ إِلَيْهَا دُونَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا مَضَتْ لِلْعِنِّينِ سَنَةً مِنْ حِينِ أُجِّلَ فَهِيَ عَلَى حَقِّهَا ، مَا لَمْ تُرَافِعْهُ إِلَى الْحَاكِمِ ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ تَعْجِيلُ مُحَاكَمَتِهِ بَعْدَ السَّنَةِ عَلَى الْفَوْرِ بِخِلَافِ الْفَسْخِ فِي الْعُيُوبِ : لِأَنَّ تَمَكُّنَهَا لِلزَّوْجِ مِنْ نَفْسِهَا فِي الْعُيُوبِ يَمْنَعُ مِنَ الْفَسْخِ ، فَكَانَ الْإِمْسَاكُ كَذَلِكَ ، فَإِنْ حَاكَمَهَا الزَّوْجُ فِي عُنَّتِهِ إِلَى الْحَاكِمِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ : لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ هُوَ مَأْخُوذٌ بِهِ ، وَلَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ ، فَيُطَالِبُ بِهِ فَإِذَا رَافَعَتْهُ إِلَى الْحَاكِمِ بَعْدَ السَّنَةِ ،

تَغَيَّرَ حِينَئِذٍ زَمَانُ خِيَارِهَا فَيَعْرِضُ الْحَاكِمُ عَلَيْهَا الْفَسْخَ ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَنْفَرِدَ بِفَسْخِهِ عِنْدَهُ : لِأَنَّهُ فَسْخٌ بِحُكْمٍ وَيُحَكَّمُ إِلَيْهِ دُونَهَا ، لَكِنْ يَكُونُ الْحَاكِمُ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ إِلَيْهَا لِتَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهَا ، فَيَكُونُ هُوَ الْحَاكِمُ بِهِ ، وَهِيَ الْمُسْتَوْفِيَةُ لَهُ ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا كَانَتْ فُرْقَةً تَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصِلِهِ ، وَلَمْ تَكُنْ طَلَاقًا ، فَإِنْ عَادَ فَزَوَّجَهَا كَانَتْ مَعَهُ عَلَى ثَلَاثٍ . وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : تَكُونُ الْفُرْقَةُ طَلَاقًا ، وَلَا تَكُونُ فَسْخًا . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ مِنْ جِهَتِهَا وَالطَّلَاقُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ ، فَأَشْبَهَتِ الْفُرْقَةَ بِالْإِسْلَامِ ، وَالْفَسْخَ بِالْجُنُونِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ فَسْخٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ الفرقة بسبب العنة : المهر والعدة للزوجة في هذه الحالة ، فَلَا مَهْرَ لَهَا وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : لَهَا الْمَهْرُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ ، وَهَذَا عِنْدَنَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، لَا يُوجِبُ الْمَهْرَ ، وَيُوجِبُ الْعِدَّةَ بِالْإِصَابَةِ ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْعِنِّينِ الْإِصَابَةُ ، وَلَا تَسْتَحِقُّ نِصْفَ الْمُسَمَّى ، وَلِأَنَّ الْمُتْعَةَ لَمْ تَكُنْ مُسَمًّى : لِأَنَّهُ فَسْخٌ مِنْ جِهَتِهَا فَأَسْقَطَ مَهْرَهَا وَمُتْعَتَهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَإِنْ أَقَامَتْ مَعَهُ فَهُوَ تَرْكٌ لِحَقِّهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْفَسْخِ : لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : انْقِضَاءُ السَّنَةِ . وَالثَّانِي : حُكْمُ الْحَاكِمِ . فَأَمَّا الرِّضَا ، فَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُقَامِ ، فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى حُكْمٍ : لِأَنَّهُ يُقِيمُ بِعَقْدٍ سَابِقٍ ، وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى حُكْمٍ فَلَمْ يَكُنِ الْمُقَامُ عَلَيْهِ مُفْتَقِرًا إِلَى حُكْمٍ ، وَهَلْ يَفْتَقِرُ الرِّضَا فِي لُزُومِهِ إِلَى انْقِضَاءِ الْأَجَلِ أَمْ لَا ؟ في فسخ النكاح بسبب العنة فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَفْتَقِرُ الرِّضَا إِلَى انْقِضَاءِ الْأَجَلِ ، فَإِنْ رَضِيَتْ قَبْلَ انْقِضَائِهِ لَمْ يَلْزَمْ : لِأَنَّ الرِّضَا إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ الْفَسْخِ ، وَهِيَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ لَمْ تَسْتَحِقَّ الْفَسْخَ فَلَمْ يَلْزَمْهَا الرِّضَا كَالْأَمَةِ إِذَا رَضِيَتْ بِرِقِّ زَوْجِهَا قَبْلَ عِتْقِهَا لَمْ يَلْزَمْهَا الرِّضَا بِوُجُودِهِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِ الْفَسْخِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى انْقِضَاءِ الْأَجَلِ ، وَيَصِحُّ الرِّضَا قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ : لِأَنَّ الْأَجَلَ مَضْرُوبٌ لِظُهُورِ الْعُنَّةِ ، فَكَانَ الرِّضَا بِهَا مُبْطِلًا لِلْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ لَهَا ، وَإِذَا بَطَلَ الْأَجَلُ لَزِمَ الْعَقْدُ . وَالرِّضَا إِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ : لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِصَرِيحِ الْقَوْلِ ، وَكَانَ أَيْضًا ، بِأَنْ يَعْرِضَ الْحَاكِمُ عَلَيْهَا الْفَسْخَ وَلَا تَخْتَارُ ، فَيَكُونُ تَرْكُهَا لِلِاخْتِيَارِ لِلْفَسْخِ رِضًا مِنْهَا بِالْمُقَامِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ فَارَقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ سَأَلَتْ أَنْ يُؤَجَّلَ ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَكَيْفَ يَكُونُ عَلَيْهَا عِدَّةٌ وَلَمْ تَكُنْ إِصَابَةٌ ، وَأَصْلُ قَوْلِهِ لَوِ اسْتَمْتَعَ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ ، وَقَالَتْ لَمْ يُصِبْنِي وَطَلَّقَ ، فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي عِنِّينٍ أُجِلَّ لِزَوْجَتِهِ ، ثُمَّ رَضِيَتْ بَعْدَ الْأَجَلِ بِعُنَّتِهِ ، فَطَلَّقَهَا ثُمَّ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ ، فَسَأَلَتْ بَعْدَ رَجَعَتِهِ أَنْ يُؤَجَّلَ لَهَا ثَانِيَةً لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ الْمُرْتَجَعَةَ زَوْجَةٌ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ ، وَقَدْ أُجِّلَ فِيهِ مُدَّةً فَرَضِيَتْ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَجَّلَ ثَانِيَةً : لِأَنَّهُ عَيْبٌ إِذَا رَضِيَتْ بِهِ فِي نِكَاحٍ لَزِمَ كَمَا يَلْزَمُهَا إِذَا رَضِيَتْ بِجَبَّهِ وَجُنُونِهِ ، وَهُوَ بِخِلَافِ الْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ إِذَا رَضِيَتْ بِهِ فِي نِكَاحٍ ، ثُمَّ عَادَتْ فِيهِ تَطْلُبُ الْفَسْخَ ، كَانَ لَهَا : لِأَنَّ الْإِعْسَارَ لَيْسَ بِلَازِمٍ ، وَقَدْ يَنْتَقِلُ مِنْهُ إِلَى يَسَارٍ كَمَا يَنْتَقِلُ مِنْ يَسَارٍ إِلَى إِعْسَارٍ ، وَخِلَافِ الْعُنَّةِ الَّتِي ظَاهِرُ حَالِهَا الدَّوَامُ . فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اعْتِرَاضًا مُوَجَّهًا ، فَقَالَ : قَدْ تَجْتَمِعُ الرَّجْعَةُ وَالْعُنَّةُ فِي نِكَاحٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ إِنْ وَطِئَهَا يَثْبُتُ الرَّجْعَةُ فِي نِكَاحٍ وَاحِدٍ وَسَقَطَتِ الْعُنَّةُ ، وَإِنْ لَمْ يَطَأْ ثَبَتَتِ الْعُنَّةُ وَبَطَلَتِ الرَّجْعَةُ وَالْعُنَّةُ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْجَوَابِ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ طُرُقٍ : أَحَدُهَا - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ - : أَنَّ الْمَسْأَلَةَ خَطَأٌ مِنَ النَّاقِلِ لَهَا عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَنَقَلَ مَا لَيْسَ مِنْ قَوْلِهِ ، أَوْ سَهَا عَنْ شَرْطِ زِيَادَةٍ جَلَّ مِنْ نَقْلِهِ فَأَوْرَدَهَا الْمُزَنِيُّ كَمَا وَجَدَهَا فِي النَّقْلِ لَهَا عَنِ الشَّافِعِيِّ ، وَاعْتَرَضَ عَلَيْهَا هُوَ بِمَا هُوَ صَحِيحٌ مُتَوَجِّهٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ الشَّافِعِيَّ فَرَّعَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْجَدِيدِ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ الْخَلْوَةَ يَكْمُلُ بِهَا الْمَهْرُ ، وَيَجِبُ بِهَا الْعِدَّةُ ، فَصَحَّتْ مَعَهَا الرَّجْعَةُ وَلَمْ يَسْقُطْ بِهَا حُكْمُ الْعُنَّةِ ، وَهَذَا الْجَوَابُ غَيْرُ سَدِيدٍ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ تَفَرُّعَهُ فِي كُلِّ زَمَانٍ إِنَّمَا هُوَ عَلَى مُوجَبِ مَذْهَبِهِ فِيهِ ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُفَرِّعَ فِي الْجَدِيدِ عَلَى مَذْهَبٍ قَدْ تَرَكَهُ ، وَإِنْ كَانَ قَائِلًا بِهِ فِي الْجَدِيدِ . وَالثَّانِي : أَنَّ أَبَا حَامِدٍ الْمَرْوَزِيَّ قَالَ : وَحَدَّثَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ : أَنَّ الْخَلْوَةَ يُكْمَلُ بِهَا الْمَهْرُ وَلَا يَجِبُ بِهَا الْعِدَّةُ ، فَبَطَلَ أَنْ يَصِحَّ مَعَهَا الرَّجْعَةُ . وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ - وَهُوَ جَوَابُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا - : أَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْجَدِيدِ أَنْ تَجِبَ الْعِدَّةُ ، وَتَصِحَّ الرَّجْعَةُ ، وَلَا يَسْقُطُ حَكَمُ الْعُنَّةِ ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَطَأَ فِي الدُّبُرِ ، فَيَكْمُلُ بِهِ الْمَهْرُ ، وَيَجِبُ بِهِ الْعِدَّةُ ، وَتَصِحُّ فِيهِ ، وَلَا يَسْقُطُ حُكْمُ الْعُنَّةِ .

وَالثَّانِي : أَنْ يَطَأَ فِي الْقُبُلِ ، فَيُغَيِّبَ بَعْضَ الْحَشَفَةِ وَيَتْرُكَ مَاءَهُ فِيهِ ، فَتَجِبُ بِهِ الْعِدَّةُ ، وَيَكْمُلُ بِهِ الْمَهْرُ ، وَلَا يَسْقُطُ حُكْمُ الْعُنَّةِ : لِأَنَّهُ إِنَّمَا سَقَطَ بِتَغْيِيبِ جَمِيعِ الْحَشَفَةِ . وَالثَّالِثُ : إِنِ اسْتَدْخَلَ مَاءَهُ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ فَيَجِبُ بِهِ الْعِدَّةُ ، وَيَسْتَحِقُّ مَعَهُ الرَّجْعَةَ ، وَلَا يُسْقِطُ بِهِ الْعُنَّةَ ، وَفِي هَذَا عِنْدِي نَظَرٌ . لَكِنْ قَدْ قَالَهُ أَصْحَابُنَا وَفَرَّعُوا عَلَيْهِ ، فَقَالُوا : لَوْ أَنْزَلَ قَبْلَ نِكَاحِهَا ، وَاسْتَدْخَلَتْهُ بَعْدَ نِكَاحِهَا لَمْ تَعْتَدَّ مِنْهُ : لِأَنَّهَا فِي حَالِ الْإِنْزَالِ لَمْ تَكُنْ زَوْجَةً ، وَإِنْ صَارَتْ وَقْتَ الْإِدْخَالِ زَوْجَةً . وَإِنْ كَانَتْ وَقْتَ الْإِنْزَالِ زَوْجَةً ، فَإِنَّمَا أَوْجَبُوا فِيهِ الْعِدَّةَ ، وَأَلْحَقُوا مِنْهُ الْوَلَدَ إِذَا كَانَتْ فِي حَالَتَيْ إِنْزَالِهِ وَاسْتِدْخَالِهِ زَوْجَةً .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا طَلَّقَهَا بَعْدَ الْأَجَلِ وَالرِّضَا طَلَاقًا أَبَانَتْ مِنْهُ ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ نِكَاحَهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ ، فَسَأَلَتْ أَنْ تُؤَجَّلَ فِيهِ الْعُنَّةُ إذا أجل العنين ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا - قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ - : لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَجَّلَ لَهَا ثَانِيَةً ، وَإِنْ كَانَ فِي عَقْدٍ ثَانِي ، كَمَا لَا يَجُوزُ فِي نِكَاحٍ وَاحِدٍ ، وَهَكَذَا لَوْ أَنَّهَا فَسَخَتْ نِكَاحَهُ الْأَوَّلَ بِالْعُنَّةِ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ ثُمَّ تَزَوَّجَتْهُ لَمْ يُؤَجَّلْ لَهَا فِي النِّكَاحِ الثَّانِي : لِأَنَّ عِلْمَهَا بِعُنَّتِهِ كَعِلْمِهَا بِجُذَامِهِ وَبَرَصِهِ ، وَهِيَ لَا تَجُوزُ إِذَا نَكَحَتْهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ أَنْ تَفْسَخَ ، فَكَذَلِكَ فِي الْعُنَّةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي - قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ - : أَنَّهُ يُؤَجَّلُ لَهَا فِي النِّكَاحِ الثَّانِي : لِأَنَّ لِكُلِّ عَقْدٍ حُكْمًا بِنَفْسِهِ ، وَلَيْسَتِ الْعُنَّةُ مِنَ الْعُيُوبِ اللَّازِمَةِ ، وَقَدْ يَجُوزُ زَوَالُهَا فَجَرَى مَجْرَى الْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ الَّتِي يُرْجَى زَوَالُهَا ، وَيَعُودُ اسْتِحْقَاقُ الْفَسْخِ بِهَا . وَلَكِنْ لَوْ أَصَابَهَا فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ فَسَقَطَ بِإِصَابَتِهِ حُكْمُ الْعُنَّةِ ، ثُمَّ طَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَهَا ، ثُمَّ حَدَثَتْ بِهِ الْعُنَّةُ فِي النِّكَاحِ أُجِّلَ لَهَا ، قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّ حُكْمَ عُنَّتِهِ الْأُولَى قَدِ ارْتَفَعَ بِإِصَابَتِهِ ، فَصَارَتْ مُسْتَأْنِفَةً لِنِكَاحِ مَنْ لَيْسَ بِعِنِّينٍ ، فَإِذَا ظَهَرَتْ بِهِ الْعُنَّةُ أُجِّلَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَالَتْ : لَمْ يُصِبْنِي ، وَقَالَ : قَدْ أَصَبْتُهَا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ : لِأَنَّهَا تُرِيدُ فَسْخَ نِكَاحِهَا ، وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ ، فَإِنْ نَكَلَ وَحَلَفَتْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا أُرِيهَا أَرْبَعًا مِنَ النِّسَاءِ عُدُولًا ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِهَا ، فَإِنْ شَاءَ أَحْلَفَهَا ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ، فَإِنْ نَكَلَتْ وَحَلَفَ ، أَقَامَ مَعَهَا : وَذَلِكَ أَنَّ الْعُذْرَةَ قَدْ تَعُودُ فِيمَا يَزْعُمُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ بِهَا إِذَا لَمْ يُبَالَغْ فِي الْإِصَابَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : أَنْ يَخْتَلِفَ الزَّوْجَانِ فِي الْإِصَابَةِ بَعْدَ أَجَلِ الْعُنَّةِ ، فَتَقُولُ الزَّوْجَةُ : لَمْ يُصِبْنِي فَلِيَ الْفَسْخُ ، وَيَقُولُ الزَّوْجُ : قَدْ أَصَبْتُهَا فَلَا فَسْخَ لَهَا ، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا ، فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي الْإِصَابَةِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا خِيَارَ لَهَا : لِأَنَّهُ ثُبُوتُ النِّكَاحِ يَمْنَعُ مِنْ تَصْدِيقِ قَوْلِهَا فِي فَسْخِهِ ، فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَ

خِيَارُهَا ، وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينِ عَلَيْهَا ، فَإِنْ حَلَفَتْ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ نَكَلَتْ فَلَا خِيَارَ لَهَا وَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ . وَهَذَا قَوْلُ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ : يُؤْمَرُ الزَّوْجُ بِمُعَاوَدَةِ خَلْوَتِهَا ، وَيَقْرَبُهُمَا وَقْتَ الْجِمَاعِ امْرَأَةٌ ثِقَةٌ . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : امْرَأَتَانِ ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْ خَلْوَتِهِمَا نُظِرَ فَرْجُهَا ، فَإِنْ كَانَ مَاءُ الرَّجُلِ ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَاؤُهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا . وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اخْتِلَافَهَا فِي إِصَابَةٍ تَقَدَّمَتْ ، فَلَمْ يَدُلُّ عَلَيْهَا مَا حَدَثَ بَعْدَهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ وُجُودَ الْمَاءِ وَعَدَمَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْإِصَابَةِ وَعَدَمِهَا : لِأَنَّهُ قَدْ يُنْزِلُ وَلَا يُولِجُ ، وَقَدْ يُولِجُ وَلَا يُنْزِلُ ، وَحَقُّهَا مُتَعَلِّقٌ بِالْإِيلَاجِ دُونَ الْإِنْزَالِ ، وَحُكِيَ أَنَّ امْرَأَةً ادَّعَتْ عُنَّةَ رَجُلٍ عِنْدَ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ وَاخْتَلَفَ فِي الْإِصَابَةِ ، فَكَتَبَ بِهَا إِلَى مُعَاوِيَةِ يَسْأَلُهُ عَنْهَا فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ : زَوِّجْهُ امْرَأَةً ذَاتَ جَمَالٍ وَحُسْنٍ ، تُوصَفُ بِدِينٍ وَسَتْرٍ ، وَسَيِّقْ إِلَيْهَا مَهْرَهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِتَخْتَبِرَ حَالَهُ . فَفَعَلَ سَمُرَةُ ذَلِكَ ، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ : لَا خَيْرَ عِنْدَهُ ، فَقَالَ سَمُرَةُ : مَا دَنَا ؟ فَقَالَتْ : بَلَى ، وَلَكِنْ إِذَا دَنَا شَرِهَ ، أَيْ أَنْزَلَ قَبْلَ الْإِيلَاجِ . وَهَذَا مَذْهَبٌ لِمُعَاوِيَةَ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ، وَلَا لَهُ فِي الْأُصُولِ نَظِيرٌ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ عِنِّينًا فِي وَقْتٍ وَغَيْرَ عِنِّينٍ فِي وَقْتٍ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا بَطَلَ هَذَانِ الْمَذْهَبَانِ كَانَ مَذْهَبُهُمْ أَبْطَلَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّكُمْ قَبِلْتُمْ بِهِ قَوْلَ الْمُدَّعِي دُونَ الْمُنْكِرِ ، وَالشَّرْعُ وَارِدٌ بِقَبُولِ قَوْلِ الْمُنْكِرِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى إِصَابَةَ الْمُطَلَّقَةِ : لِيُرَاجِعَهَا وَأَنْكَرَتْهُ العنين ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا دُونَهُ ، فَهَلَّا كَانَ فِي الْعُنَّةِ كَذَلِكَ : لِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِصَابَةُ . قِيلَ : الْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْعِلَّةِ فِي قَبُولِ قَوْلِهِ يَدْفَعُ هَذَا الِاعْتِرَاضَ ، وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ ثُبُوتُ النِّكَاحِ ، وَهِيَ تَدَّعِي بِإِنْكَارِ الْإِصَابَةِ اسْتِحْقَاقَ فَسْخِهِ ، فَصَارَتْ هِيَ مُدَّعِيَةٌ وَهُوَ مُنْكِرٌ ، فَكَانَ مَصِيرُ هَذَا الْأَصْلِ يُوجِبُ قَبُولَ قَوْلِهِ دُونَهَا ، عَلَى أَنَّ مَا تَعَذَّرَ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ فِيهِ جَازَ أَنْ يُقْبَلَ فِيهِ قَوْلُ مُدَّعِيهِ إِذَا كَانَ مَعَهُ ظَاهِرٌ يَقْتَضِيهِ كَاللَّوْثِ فِي دَعْوَى الْقَتْلِ ، فَأَمَّا دَعْوَاهُ الْإِصَابَةَ فِي الرَّجْعَةِ ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ دَعْوَى الْإِصَابَةِ فِي الْعُنَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ العنين : أَحَدُهُمَا : أَنَّ دَعْوَى الْإِصَابَةِ فِي الرَّجْعَةِ تَنْفِي مَا أَوْجَبَهُ الطَّلَاقُ مِنَ التَّحْرِيمِ ، وَدَعْوَى الْإِصَابَةِ فِي الْعُنَّةِ تُثْبِتُ مَا أَوْجَبَهُ النِّكَاحُ فِي اللُّزُومِ فَافْتَرَقَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ ادَّعَى الْإِصَابَةَ فِي الْعُنَّةِ مَعَ بَقَاءِ نِكَاحِهِ ، فَصَارَ كَالْمُدَّعِي لِمَا فِي يَدِهِ وَدَعْوَاهُ الْإِصَابَةَ فِي الرَّجْعَةِ بَعْدَ زَوَالِ نِكَاحِهِ ، فَصَارَ كَالْمُدَّعِي لِمَا فِي يَدِ غَيْرِهِ ، فَافْتَرَقَا .



فَصْلٌ : وَإِنَّ كَانَتْ بِكْرًا فَتَقُولُ الزَّوْجَةُ : لَمْ يُصِبْنِي فَلِيَ الْفَسْخُ ، وَيَقُولُ الزَّوْجُ : قَدْ أَصَبْتُهَا : إِمَّا أَنْ يَعْتَرِفَ لَهَا بِالْبَكَارَةِ ، وَإِمَّا أَنْ يُنْكِرَهَا ، وَيَشْهَدَ بِهَا أَرْبَعُ نِسْوَةٍ عُدُولٍ ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا فِي إِنْكَارِ الْإِصَابَةِ : لِأَنَّ الْبَكَارَةَ ظَاهِرَةٌ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهَا فَزَالَتْ عَنْ حُكْمِ الثَّيِّبِ الَّتِي لَا ظَاهِرَ مَعَهَا . فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَهُ إِحْلَافُهَا ، قِيلَ : إِنْ لَمْ يَدَّعِ عَوْدَ بِكَارَتِهَا ، فَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا ، وَإِنِ ادَّعَى عَوْدَ الْبَكَارَةِ بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرَةِ ، فَإِذَا لَمْ يُبَالِغْ بِالْإِصَابَةِ فَتَصِيرُ هَذِهِ الدَّعْوَى مُحْتَمَلَةً ، وَإِنْ خَالَفَتِ الظَّاهِرَ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا ، فَإِنْ حَلَفَتْ حُكِمَ لَهَا بِالْفُرْقَةِ ، وَإِنْ نَكَلَتْ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَ حَقُّهَا مِنَ الْفُرْقَةِ بِالْفُرْقَةِ ، وَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَقْبَلُ قَوْلَهَا إِذَا نَكَلَ ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ ، وَيَحْكُمْ لَهَا بِالْفُرْقَةِ ، كَمَا لَوِ ادَّعَى وَطْأَهَا وَهِيَ ثَيِّبٌ ، وَنَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهَا فَنَكَلَتْ ، حُكِمَ بِقَوْلِهِ فِي سُقُوطِ الْعُنَّةِ وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ أَظْهَرُ - : أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ قَوْلَهَا فِي الْفُرْقَةِ بِغَيْرِ يَمِينٍ مَعَ نُكُولِ الزَّوْجَةِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الزَّوْجَ يَسْتَصْحِبُ لُزُومًا مُتَقَدِّمًا ، جَازَ أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ فِيهِ ، وَالزَّوْجَةُ تَسْتَحِلُّ حُدُوثَ فَسْخٍ طَارِئٍ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِيهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلِلْمَرْأَةِ الْخِيَارُ فِي الْمَجْبُوبِ وَغَيْرِ الْمَجْبُوبِ مِنْ سَاعَتِهَا : لِأَنَّ الْمَجْبُوبَ لَا يُجَامِعُ أَبَدًا وَالْخَصِيُّ نَاقِصٌ عَنِ الرِّجَالِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ ذَكَرٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلِمَتْ فَلَا خِيَارَ لَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِذَا كَانَ الزَّوْجُ مَجْبُوبًا خيار الزوجة في هذه الحالة فَلَهَا الْخِيَارُ ، وَإِنْ كَانَ خَصِيًّا فَعَلَى قَوْلَيْنِ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَهَا الْخِيَارُ فِي الْمَجْبُوبِ مِنْ سَاعَتِهِ وَلَا يُؤَجِّلُ لَهَا : لِأَنَّهُ مَأْيُوسٌ مِنْ جِمَاعِهِ فَلَمْ يَكُنْ لِلتَّأْجِيلِ تَأْثِيرٌ ، وَخَالَفَ الْمَرْجُوَّ جِمَاعُهُ وَالْمُؤَثِّرَ تَأْجِيلُهُ ، فَلَوْ رَضِيَتْ بِعُنَّتِهِ ثُمَّ سَأَلَتْ أَنْ يُؤَجَّلَ لِلْعُنَّةِ لَمْ يَجُزْ : لِتَقَدُّمِ الرِّضَا بِعُنَّتِهِ . وَأَمَّا الْخَصِيُّ فَإِنْ قِيلَ بِأَنَّ الْخِصَاءَ يُوجِبُ الْخِيَارَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، فَلَهَا أَنْ تَتَعَجَّلَهُ مِنْ غَيْرِ تَأْجِيلٍ كَالْمَجْبُوبِ . وَإِنْ قِيلَ : لَا خِيَارَ لَهَا فِي الْقَوْلِ الثَّانِي ، أَوْ قِيلَ : لَهَا الْخِيَارُ ، فَاخْتَارَتِ الْمُقَامَ ، ثُمَّ سَأَلَتْ تَأْجِيلَهُ لِلْعُنَّةِ أُجِّلَ بِخِلَافِ الْمَجْبُوبِ : لِأَنَّ الْإِصَابَةَ مِنَ الْخَصِيِّ مُمْكِنَةٌ ، وَمِنَ الْمَجْبُوبِ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ ، فَافْتَرَقَا فِي تَأْجِيلِ الْعُنَّةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ لَمْ يُجَامِعْهَا الصَّبِيُّ أُجِّلَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) مَعْنَاهُ عِنْدِي : صَبِيٌّ قَدْ بَلَغَ أَنْ يُجَامِعَ مِثْلُهُ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ وَهِمَ الْمُزَنِيُّ فِي نَقْلِهَا ، فَقَالَ : وَلَوْ لَمْ يُجَامِعْهَا أُجِّلَ ، وَهَذَا وَهُمْ مِنْهُ : لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ : وَلَوْ لَمْ يُجَامِعْهَا الْخَصِيُّ يجامع الزوجة فما حكمه أُجِّلَ ، وَقَدْ نَقَلَهُ الرَّبِيعُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، فَعَدَلَ بِالْمَسْأَلَةِ عَنِ الْخَصِيِّ إِلَى الصَّبِيِّ : إِمَّا لِتَصْحِيفٍ ، أَوْ لِسَهْوِ الْكَاتِبِ ، وَإِمَّا زَلَّةً فِي التَّأْوِيلِ ، فَإِنَّهُ قَالَ مَعْنَاهُ عِنْدِي : " صَبِيٌّ قَدْ بَلَغَ أَنْ يُجَامِعَ مِثْلُهُ " وَالصَّبِيُّ لَا يَصِحُّ عُنَّتُهُ سَوَاءٌ رَاهَقَ فَأَمْكَنَ أَنْ يُجَامِعَ ، أَوْ كَانَ غَيْرَ مُرَاهِقٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُجَامِعَ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ غَيْرَ الْبَالِغِ عَاجِزٌ بِالصِّغَرِ دُونَ الْعُنَّةِ ، فَلَا يَدُلُّ عَجْزُهُ عَلَى عُنَّتِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ عُنَّتُهُ إِلَّا بِإِقْرَارِهِ ، وَإِقْرَارُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ مَا لَمْ يَبْلُغْ ، فَانْتَفَى عَنْهُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْعُنَّةِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ بَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْخَصِيُّ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ كَانَ خُنْثَى يَبُولُ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ الرَّجُلُ فَهُوَ رَجُلٌ يَتَزَوَجُ امْرَأَةً ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ تَبُولُ مِنْ حَيْثُ تَبُولُ الْمَرْأَةُ فَهِيَ امْرَأَةٌ تَتَزَوَّجُ رَجُلًا ، وَإِنْ كَانَ مُشْكِلًا لَمْ يُزَوَّجْ ، وَقِيلَ لَهُ : أَنْتَ أَعْلَمُ بِنَفْسِكَ ، فَأَيَّهُمَا شِئْتَ أَنْكَحْنَاكَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ لَا يَكُونُ لَكَ غَيْرُهُ أَبَدًا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) فَبِأَيِّهِمَا تَزَوَّجَ وَهُوَ مُشْكِلٌ كَانَ لِصَاحِبِهِ الْخِيَارُ لِنَقْصِهِ ، قِيَاسًا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْخَصِيِّ لَهُ الذَّكَرُ ، إِنَّ لَهَا فِيهِ الْخِيَارَ لِنَقْصِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْخُنْثَى فَهُوَ الَّذِي لَهُ ذَكَرُ رَجُلٍ وَفَرْجُ امْرَأَةٍ أحواله في النكاح ، فَالذَّكَرُ مُخْتَصٌّ بِالرَّجُلِ ، وَالْفَرْجُ مُخْتَصٌّ بِالْمَرْأَةِ وَلَيْسَ يَخْلُو مُشْتَبَهُ الْحَالِ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا [ النَّبَأِ : 8 ] يَعْنِي ذُكُورًا وَإِنَاثًا ، فَإِذَا جَمَعَ الْخُنْثَى بَيْنَ آلَةِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ مَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْعُضْوَيْنِ وَهُوَ الْبَوْلُ : لِأَنَّ الذَّكَرَ مَخْرَجُ بَوْلِ الرَّجُلِ وَالْفَرْجَ مَخْرَجُ بَوْلِ الْمَرْأَةِ ، فَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْ ذَكَرِهِ وَحْدَهُ فَهُوَ رَجُلٌ ، وَالْفَرْجُ عُضْوٌ زَائِدٌ ، وَإِنْ كَانَ يَبُولُ مَنْ فَرْجِهِ فَهِيَ امْرَأَةٌ ، وَالذَّكَرُ عُضْوٌ زَائِدٌ . رَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الَّذِي لَهُ مَاءُ الرِّجَالِ وَمَاءُ النِّسَاءِ ميراثه : أَنَّهُ يُورَثُ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ . وَقَضَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي الْعِرَاقِ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي خُنْثَى رُفِعَ إِلَيْهِ . فَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا وَيَنْقَطِعَا مَعًا ، فَالْحُكْمُ لِلسَّابِقِ لِقُوَّتِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَخْرُجَا مَعًا وَيَنْقَطِعَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ ، فَالْحُكْمُ لِلْمُتَأَخِّرِ لِقُوَّتِهِ .

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَسْبِقَ خُرُوجُ أَحَدِهِمَا ، وَيَتَأَخَّرَ انْقِطَاعُ الْآخَرِ ، فَالْحُكْمُ لِأَسْبَقِهِمَا خُرُوجًا وَانْقِطَاعًا : لِأَنَّ الْبَوْلَ يَسْبِقُ إِلَى أَقْوَى مَخْرَجَيْهِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَخْرُجَا مَعًا وَيَنْقَطِعَا مَعًا ، وَلَا يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ، فَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ . الثَّانِي : أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْقَدْرِ ، وَيَسْتَوِيَا فِي الصِّفَةِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الصِّفَةِ ، وَيَسْتَوِيَا فِي الْقَدْرِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْقَدَرِ وَالصِّفَةِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ ، فَلَا بَيَانَ فِيهِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْقَدْرِ دُونَ الصِّفَةِ ، فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ لِأَكْثَرِهِمَا . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : تَغْلِيبًا لِقُوَّتِهِ بِالْكَثْرَةِ ، وَقَدْ حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُمَا سَوَاءٌ . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ : لِأَنَّ اعْتِبَارَ كَثْرَتِهِ شَاقٌّ ، وَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَدًّا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ اعْتَبَرَ كَثْرَتَهُ : أَفَيُكَالُ إِذَنْ ؟ ! وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الصِّفَةِ فِي التَّزْرِيقِ وَالشَّرْشَرَةِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اعْتِبَارِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُعْتَبَرُ ، فَإِنَّ تَزْرِيقَ الْبَوْلِ لِلرِّجَالِ وَالشَّرْشَرَةَ لِلنِّسَاءِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ خُنْثَى ، فَقَالَ : أَدْنَوْهُ مِنَ الْحَائِطِ فَإِنْ زَرَقَ فَذَكَرٌ ، وَإِن شَرْشَرَ فَأُنْثَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِهِ : لِأَنَّ هَذَا قَدْ يَكُونُ مِنْ قُوَّةِ الْمَثَانَةِ وَضَعْفِهَا . وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : فَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ ، فَيَنْظُرُ فِيهِمَا فَإِنِ اجْتَمَعَا فِي أَحَدِ الْعُضْوَيْنِ ، فَكَانَ التَّزْرِيقُ مَعَ الْكَثْرَةِ فِي الذَّكَرِ أَوْ كَانَتِ الشَّرْشَرَةُ مَعَ الْكَثْرَةِ فِي الْفَرْجِ ، كَانَ ذَلِكَ بَيَانًا يَزُولُ بِهِ الْإِشْكَالُ ، وَإِذَا اخْتَلَفَا فَكَانَتِ الشَّرْشَرَةُ فِي الْفَرْجِ وَالْكَثْرَةُ فِي الذَّكَرِ ، أَوْ بِالْعَكْسِ ، فَلَا بَيَانَ فِيهِ لِتَكَافُؤِ الْإِمَارَتَيْنِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَبَالِ بَيَانٌ إِمَّا عِنْدَ تَسَاوِي أَحْوَالِهِمَا ، وَإِمَّا عِنْدَ إِسْقَاطٍ فَاخْتَلَفَ فِيهِ مِنَ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَعْدِلُ إِلَى اعْتِبَارِ عَدَدِ الْأَضْلَاعِ في تحديد الخنثى ذكر أو أنثى أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : يَعْتَبِرُ عَدَدَالْأَضْلَاعِ ، فَإِنَّ أَضْلَاعَ الْمَرْأَةِ يَتَسَاوَى مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ وَالْجَانِبِ الْأَيْسَرِ ، وَأَضْلَاعُ الرَّجُلِ يَنْقُصُ مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ ضِلَعٌ : لِمَا حُكِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلَعِ آدَمَ الْأَيْسَرِ ، فَلِذَلِكَ نَقُصُّ مِنْ أَضْلَاعِ الرَّجُلِ الْيُسْرَى ضِلَعٌ ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قِيلَ لِلْمَرْأَةِ ضِلَعٌ أَعْوَجُ ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ . هِيَ الضِّلَعُ الْعَوْجَاءُ لَسْتَ تُقِيمُهَا أَلَا إِنَّ تَقْوِيمَ الضُّلُوعِ انْكِسَارُهَا أَيَجْمَعْنَ ضَعْفًا وَاقْتِدَارًا عَلَى الْهَوَى أَلَيْسَ عَجِيبًا ضَعْفُهَا وَاقْتِدَارُهَا وَتَوْجِيهُ هَذَا الْوَجْهِ فِي اعْتِبَارِ الْأَضْلَاعِ الْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ قَنْبَرًا وَبَرْقَاءَ - وَهُمَا مَوْلَيَاهُ - أَنْ يَعُدَّا أَضْلَاعَ خُنْثَى مُشْكِلٍ ، فَإِنِ اسْتَوَتْ أَضْلَاعُهُ مِنْ جَانِبَيْهِ فَهِيَ امْرَأَةٌ ، وَإِنْ نَقَصَتِ الْيُسْرَى ضِلْعٌ فَهُوَ رَجُلٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا - : أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِالْأَضْلَاعِ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَلَ عَنْهَا إِلَى الِاعْتِبَارِ بِالْمَبَالِ ، وَهُوَ أَلْزَمُ حَالًا مِنَ الْمَبَالِ وَأَقْوَى ، لَوْ كَانَ بِهَا اعْتِبَارٌ لَمَا جَازَ الْعُدُولُ عَنْهَا إِلَى الْمَبَالِ الَّذِي هُوَ أَضْعَفُ مِنْهَا ، وَلَيْسَ الْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ فِيهِ عَنْ عَلِيٍّ ثَابِتًا . وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُ التَّشْرِيحِ مِنْ عُلَمَاءِ الطِّبِّ : إِنَّ أَضْلَاعَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ مُتَسَاوِيَةٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ ، وَأَنَّهَا أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ ضِلْعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ ضِلْعًا ، وَقَدْ أُضِيفَ إِلَى هَذَا الْأَثَرِ مَعَ مَا يَدْفَعُهُ وَيَرُدُّهُ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ خُرَافَةٌ مَصْنُوعَةٌ تَمْنَعُ مِنْهَا الْعُقُولُ ، وَهُوَ أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ خُنْثَى عَلَى صَدَاقِ أَمَةٍ ، وَأَنَّهُ وَطَأَ الْخُنْثَى فَأَوْلَدَهَا ، وَوَطَأَ الْخُنْثَى الْأَمَةَ فَأَوْلَدَهَا ، فَصَارَ الْخُنْثَى أُمًّا وَأَبًا ، فَرُفِعَ إِلَى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ ، فَأَمَرَ بِعَدِّ أَضْلَاعِهِ فَوُجِدَتْ مُخْتَلِفَةً فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ، وَهَذَا مَدْفُوعٌ بِبَدَاهَةِ الْعُقُولِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا مُمَاثَلَةُ الرِّجَالِ فِي طِبَاعِهِمْ وَكَلَامِهِمْ اعتبار ذلك في الخنثى ، وَمُمَاثَلَةُ النِّسَاءِ فِي طِبَاعِهِنَّ وَكَلَامِهِنَّ ، فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ : لِأَنَّ فِي الرِّجَالِ مُؤَنَّثٌ وَفِي النِّسَاءِ مُذَكَّرٌ ، وَكَذَلِكَ اللِّحْيَةُ اعتبار ذلك في الخنثى لَا اعْتِبَارَ بِهَا : لِأَنَّ فِي الرِّجَالِ مَنْ لَيْسَ لَهُ لِحْيَةٌ ، وَفِي النِّسَاءِ مَنْ رُبَّمَا خَرَجَ لَهَا لِحَيَّةٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ قَلَّ مَا يَبْقَى بَعْدَ الْبُلُوغِ إِشْكَالٌ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَنِيُّ وَالْحَيْضُ ، فَإِنِ اجْتَمَعَ لَهُ إِنْزَالُ الْمَنِيِّ وَدَمُ الْحَيْضِ ، فَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ للخنثى : أَحَدُهَا : أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ فَرْجِهِ فَتَكُونُ امْرَأَةً ، وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إِمَارَةٌ تَدُلُّ عَلَى زَوَالِ إِشْكَالِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَخْرُجَا مِنْ ذَكَرِهِ فَيَزُولُ إِشْكَالُهُ بِالْإِنْزَالِ وَحْدَهُ ، وَيَكُونُ رَجُلًا ، وَلَا يَكُونُ الدَّمُ حَيْضًا .

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الدَّمُ مِنْ ذَكَرِهِ ، وَخُرُوجُ الْمَنِيِّ مَنْ فَرْجِهِ ، فَتَكُونُ امْرَأَةً : لِأَنَّ إِنْزَالَ الْمَنِيِّ مِنَ الْفَرْجِ دَلِيلٌ ، وَخُرُوجُ الدَّمِ مِنَ الذَّكَرِ لَيْسَ بِدَلِيلٍ : وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ خُرُوجُ الْمَنِيِّ مِنْ ذَكَرِهِ وَخُرُوجُ الْحَيْضِ مِنْ فَرجِهِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : يُغَلِّبُ حُكْمُ الْحَيْضِ ، وَيَحْكُمُ بِأَنَّهُ امْرَأَةٌ : لِأَنَّ الْحَيْضَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ النِّسَاءِ ، وَالْمَنِيِّ يَكُونُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُغَلِّبُ حُكْمَ الْمَنِيِّ وَيَحْكُمُ بِأَنَّهُ رَجُلٌ : لِأَنَّ الدَّمَ رُبَّمَا كَانَ مِنْ مَرَضٍ ، وَلَمْ يَكُنْ حَيْضًا . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ عَلَى إِشْكَالِهِ ، وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيَانٌ لِتُقَابُلِهُمَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْخُنْثَى إذا زَالَ إِشْكَالُهُ وتبين أنه رجل أو امرأة مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَزُولَ إِشْكَالُهُ ، أَوْ لَا يَزُولَ . فَإِنْ زَالَ إِشْكَالُهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَحَدِ الْأَسْبَابِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ مَا بَانَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ رَجُلًا أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الرِّجَالِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ مِنَ النِّكَاحِ ، وَالْوِلَايَةِ ، وَالشَّهَادَةِ ، وَالدِّيَةِ ، وَالْمِيرَاثِ ، وَزُوِّجَ امْرَأَةً ، وَهَلْ لَهَا الْخِيَارُ لِزِيَادَةِ فَرْجِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مَذْهَبًا ثَالِثًا : أَنَّهُ إِنْ زَالَ إِشْكَالُهُ لِأَنَّهُ يَبُولُ مِنْ ذَكَرِهِ دُونَ فَرْجِهِ ، فَلَا خِيَارَ لَهَا لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ رَجُلٌ ، وَإِنْ زَالَ إِشْكَالُهُ لَسَبْقِ بِوَلِهِ مِنْ ذَكَرِهِ وَلِكَثْرَتِهِ مِنْهُ ، فَلَهَا الْخِيَارُ : لِأَنَّهُ اجْتِهَادٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ ، وَأَنَّهُ رُبَّمَا نَقَضَهُ بَعْضُ الْحُكَّامِ ، وَأَعَادَهُ إِلَى حَالِ الْإِشْكَالِ . وَإِنْ بَانَ امْرَأَةً أَجْرَى عَلَيْهِ أَحْكَامَ النِّسَاءِ فِي النِّكَاحِ ، وَالشَّهَادَةِ ، وَالْوِلَايَةِ ، وَالدِّيَةِ ، وَالْمِيرَاثِ ، وَزُوِّجَتْ رَجُلًا ، وَهَلْ لَهُ الْخِيَارُ لِزِيَادَةِ ذَكَرِهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا : أَحَدُهُمَا : لَا خِيَارَ لَهُ . وَالثَّانِي : لَهُ الْخِيَارُ . وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَ مَذْهَبًا ثَالِثًا : أَنَّهُ إِنْ زَالَ إِشْكَالُهَا لِبَوْلِهَا مِنْ فَرْجِهَا وَحْدَهُ فَلَا خِيَارَ لَهُ ، وَإِنْ زَالَ لِسَبْقِهِ مِنْهُ أَوْ كَثْرَتِهِ ، فَلَهُ الْخِيَارُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الرَّجُلِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ عَلَى إِشْكَالِهِ الخنثى : ولم يتبين أنه رجل أو امرأة لَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَوَّجَ قَبْلَ سُؤَالِهِ وَاخْتِيَارِهِ ، فَإِنْ تَزَوَّجَ رَجُلًا كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا : لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا ، فَإِنْ بَانَ امْرَأَةً لَمْ يَصِحَّ لِتَقَدُّمِ فَسَادِهِ ، وَإِنْ زُوِّجَ امْرَأَةً كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا : لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً ، فَإِنْ بَانَ رَجُلًا لَمْ يَصِحَّ لِتَقَدُّمِ فَسَادِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَلَمْ يَبْقَ مَا يُعْتَبَرُ مِنْ أَحْوَالِهِ غَيْرُ سُؤَالِهِ عَنْ طِبَاعِهِ الْجَاذِبَةِ لَهُ إِلَى

أَحَدِ الْجِنْسَيْنِ سُئِلَ عَنْهَا لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهَا ، كَمَا تُسْأَلُ الْمَرْأَةُ عَنْ حَيْضِهَا فَيَرْجِعُ فِيهِ إِلَى قَوْلِهَا ، فَإِنْ قَالَ : أَرَى طَبْعِي يُحَدِّثُنِي إِلَى طَبْعِ النِّسَاءِ ، وَيَنْفِرُ مَنْ طَبْعِ الرِّجَالِ عُمِلَ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ مَنْ طَبْعِهِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ لَا عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ تَأْنِيثِ كَلَامِهِ أَوْ تَذْكِيرِهِ : لِأَنَّ فِي الرِّجَالِ قَدْ يَكُونُ مُؤَنَّثًا يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ النِّسَاءِ ، وَالْمَرْأَةُ قَدْ تَكُونُ مُذَكَّرَةً تَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ الرِّجَالِ . قَالَ : وَلَا يَعْمَلُ عَلَى مَا يَشْتَهِيهِ ، فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَشْتَهِي الرَّجُلَ ، وَالْمَرْأَةَ قَدْ تَشْتَهِي الْمَرْأَةَ ، وَإِنَّمَا الطِّبَاعُ الْمَذْكُورَةُ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ ، وَالْقَائِمَةُ فِي نَفْسِ الْجِبِلَّةِ النَّافِرَةِ مِمَّا اعْتَادَتْهَا بِغَيْرِ تَصَنُّعٍ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ فِيهَا هُوَ الْمَقْبُولُ إِذْ قَدْ عُدِمَ الِاسْتِدْلَالُ بِغَيْرِ قَوْلِهِ كَالْمَرْأَةِ الَّتِي تُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي حَيْضِهَا وَطُهْرِهَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ قِيلَ لَهُ : أَخْبِرْنَا عَنْ طَبْعِكَ ، فَإِذَا قَالَ : يَجْذِبُنِي إِلَى طِبَاعِ النِّسَاءِ ، قُبِلَ قَوْلُهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ : لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ فَيَحْلِفُ عَلَيْهِ : وَلِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ ، وَحُكِمَ بِأَنَّهُ امْرَأَةٌ وَزُوِّجَ رَجُلًا ، فَإِنْ عَادَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ : قَدِ اسْتَمَالَ طَبْعِي إِلَى طِبَاعِ الرِّجَالِ لَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ ، وَكَانَ عَلَى الْحُكْمِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِهِ امْرَأَةً ، وَعَقْدُ النِّكَاحِ عَلَى صِحَّتِهِ ، وَإِذَا عَلِمَ الزَّوْجُ بِأَنَّهُ خُنْثَى فَلَهُ الْخِيَارُ هَاهُنَا قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّ الْإِشْكَالَ لَمْ يَزُلْ إِلَّا بِقَوْلِهِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِيهِ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَكَانَ أَسْوَأَ حَالًا مِمَّنْ زَالَ إِشْكَالُهُ بِأَسْبَابٍ غَيْرِ كَاذِبَةٍ ، وَلَوْ كَانَ قَدْ قَالَ : هَذَا الْخُنْثَى حِينَ سُئِلَ عَمَّا يَجْذِبُهُ طَبْعُهُ إِلَيْهِ أَرَى طَبْعِي يَجْذِبُنِي إِلَى طِبَاعِ الرِّجَالِ حُكِمَ بِأَنَّهُ رَجُلٌ ، وَقُبِلَ قَوْلُهُ فِي نِكَاحِهِ ، وَفِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ جَمِيعِ أَحْكَامِهِ ، وَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا أُتْهِمَ فِيهِ مِنْ وِلَايَتِهِ وَمِيرَاثِهِ أَمْ لَا إِذَا عَلِمَ الزَّوْجُ بِأَنَّهُ خُنْثَى ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُقْبَلُ مِنْهُ : لِتُهْمَتِهِ فِيهِ ، وَحَكَاهُ الرَّبِيعُ عَنْهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي - وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ - : أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ : لِأَنَّ أَحْكَامَهُ لَا تَتَبَعَّضُ فَيَجْرِي عَلَيْهِ فِي بَعْضِهَا أَحْكَامُ الرِّجَالِ ، وَفِي بَعْضِهَا أَحْكَامُ النِّسَاءِ ، وَإِذَا جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ النِّسَاءِ فِي شَيْءٍ أُجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ النِّسَاءِ فِي كُلِّ شَيْءٍ ، وَإِذَا جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الرِّجَالِ فِي شَيْءٍ أَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الرِّجَالِ فِي كُلِّ شَيْءٍ ، وَإِذَا حُكِمَ بِأَنَّهُ رَجُلُ زُوِّجَ امْرَأَةً ، وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ الرُّجُوعَ ، وَإِذَا عَلِمَتِ الْمَرْأَةُ بِحَالِهِ ، فَلَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ الْإِحْصَانِ الَّذِي بِهِ يُرْجَمُ مَنْ زَنَا

بَابُ الْإِحْصَانِ الَّذِي بِهِ يُرْجَمُ مَنْ زَنَا ، مِنْ كِتَابِ التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَإِذَا أَصَابَ الْحُرُّ الْبَالِغُ أَوْ أُصِيبَتِ الْحُرَّةُ الْبَالِغَةُ ، فَهُوَ إِحْصَانٌ فِي الشِّرْكِ وَغِيَرِهِ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا ، فَلَوْ كَانَ الْمُشْرِكُ لَا يَكُونُ مُحْصَنًا كَمَا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ لَمَا رَجَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مُحْصَنٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْإِحْصَانُ فِي اللُّغَةِ فَهُوَ الْمَنْعُ ، يُقَالُ قَدْ أَحْصَنَتِ الْمَرْأَةُ فَرْجَهَا إِذَا امْتَنَعَتْ مِنَ الْفُجُورِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا [ الْأَنْبِيَاءِ : 91 ] أَيْ مَنَعَتْهُ ، وَيُقَالُ : مَدِينَةٌ حَصِينَةٌ أَيْ مَنِيعَةٌ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ [ الْحَشْرِ : 14 ] أَيْ مَمْنُوعَةٍ ، وَيُقَالُ : امْرَأَةٌ حَصَانٌ إِذَا امْتَنَعَتْ مِنَ الْفُجُورِ : وَفَرَسٌ حَصَانٌ إِذَا امْتَنَعَ بِهِ رَاكِبُهُ ، وَدِرْعٌ حَصِنٌ إِذَا امْتَنَعَ بِهَا لَابِسُهَا : فَسُمِّيَتْ ذَاتُ الزَّوْجِ مُحْصَنَةً : لِأَنَّ زَوْجَهَا قَدْ حَصَّنَهَا وَمَنَعَهَا ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَالْحَصَانَةُ فِي النِّكَاحِ اسْمٌ جَامِعٌ لِشُرُوطٍ مَانِعَةٍ إِذَا تَكَامَلَتْ كَانَ حَدَّ الزِّنَا فِيهَا الرَّجْمُ دُونَ الْجَلْدِ : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ . وَالشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْحَصَانَةِ أَرْبَعَةٌ : أَحَدُهَا : الْبُلُوغُ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ مَمْنُوعًا مُكَلَّفًا . وَالثَّانِي : الْعَقْلُ : لِأَنَّهُ مَانِعٌ مِنَ الْقَبَائِحِ مُوجِبٌ لِتَكْلِيفِ الْعِبَادَاتِ . وَالثَّالِثُ : الْحُرِّيَّةُ الَّتِي تَمْنَعُ مِنَ الْبِغَاءِ وَالِاسْتِرْقَاقِ ، وَأَنَّ كَمَالَ الْحَدِّ فِعْلٌ يَمْنَعُ مِنْهُ نَقْصُ الرِّقِّ . وَالرَّابِعُ : الْوَطْءُ فِي عَقْدِ نِكَاحٍ صَحِيحٍ : لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ السِّفَاحِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ [ النِّسَاءِ : 24 ] أَيْ مُتَنَاكِحِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ . فَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْحَصَانَةِ . فَإِذَا تَكَامَلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ فِي مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ رُجِمَ إِذَا زَنَا .

وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : الْإِسْلَامُ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ فِي الْحَصَانَةِ ، وَلَا يُرْجَمُ الْكَافِرُ إِذَا زَنَا اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا حَصَانَ فِي الشِّرْكِ . وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصِنٍ . وَرُوِيَ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّهَا لَا تُحَصِنُكَ ، وَلِأَنَّ الْإِحْصَانَ مَنْزِلَةُ كَمَالٍ وَتَشْرِيفٍ يُعْتَبَرُ فِيهَا نَقْصُ الرِّقِّ ، فَكَانَ بِأَنْ يُعْتَبَرَ فِيهَا نَقْصُ الْكُفْرِ أَوْلَى : وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ مُعْتَبَرًا فِي حَصَانَةِ الْقَذْفِ حَتَّى لَمْ يُحَدَّ مِنْ قَذَفَ كَافِرًا ، وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي حَصَانَةِ الْحَدِّ حَتَّى لَا يُرْجَمَ الْكَافِرُ إِذَا زَنَا ، وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا ، وَالرَّجْمُ لَا يَجِبُ إِلَّا عَلَى مُحْصَنٍ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا مُحْصَنَانِ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّمَا رَجَمَهُمَا بِالتَّوْرَاةِ وَلَمْ يَرْجُمْهُمَا بِشَرِيعَتِهِ : لِأَنَّهُ أَحْضَرَ التَّوْرَاةَ عِنْدَ رَجْمِهِمَا ، فَلَمَّا ظَهَرَتْ فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ تَلُوحُ رَجَمَهُمَا حِينَئِذٍ . قِيلَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [ الْمَائِدَةِ : 49 ] وَإِنَّمَا أَحْضَرَ التَّوْرَاةَ : لِأَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ فِيهَا آيَةَ الرَّجْمِ ، فَأَنْكَرُوا فَأَحْضَرَهَا لِإِكْذَابِهِمْ . فَإِنْ قِيلَ : فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَبْلَ أَنْ صَارَ الْإِحْصَانُ شَرْطًا فِي الرَّجْمِ ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ يُعْرَفُ فِي الشَّرْعِ وُجُوبُ الرَّجْمِ قَبْلَ اعْتِبَارِ الْحَصَانَةِ ، فَلَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ رَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ أَحْصَنَا فَأَبْطَلَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ هَذَا التَّأْوِيلِ . وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ : أَنَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِالزِّنَا حَدٌّ كَامِلٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ مُحَصَنًا كَالْمُسْلِمِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ قَتْلٍ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِ بِسَبَبٍ وَجَبَ عَلَى الْكَافِرِ إِذَا لَمْ يُقَرَّ عَلَى ذَلِكَ السَّبَبِ كَالْقَوَدِ . وَقَوْلُنَا : إِذَا لَمْ يُقَرَّ عَلَى ذَلِكَ السَّبَبِ : احْتِرَازًا مِنْ تَارِكِ الصَّلَاةِ ، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا : لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ ، وَلَا يُقْتَلُ إِذَا كَانَ كَافِرًا : لِأَنَّهُ يُقَرُّ ، وَلِأَنَّ الرَّجْمَ أَحَدُ حَدَّيِ الزِّنَا

فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ كَالْجِلْدِ : وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى فِي حَدِّ الزِّنَا حُكْمُ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ ، وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ حَدُّ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرَيْنِ الْأَوَّلِيَّيْنِ ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : حَمْلُهُ عَلَى حَصَانَةِ الْقَذْفِ دُونَ الرَّجْمِ . وَالثَّانِي : لَا حَصَانَةَ تَمْنَعُ مِنِ اسْتِبَاحَةِ قَتْلِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ ، فَهُوَ أَنْ لَا يَجُوزَ حَمْلُهُ عَلَى حَصَانَةِ الزِّنَا : لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ وَثِقَ بِدِينِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَحُذَيْفَةُ قَدْ كَانَ مَوْثُوقًا بِدِينِهِ ، أَنَّكَ مَتَى زَنَيْتَ تَحْتَ هَذِهِ الْيَهُودِيَّةِ لَمْ تُرْجَمْ ، وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِهِ : " لَا تُحْصِنُكَ " أَيْ لَا تَتَعَفَّفُ بِكَ عَمَّا تَتَعَفَّفُ الْمُسْلِمَةُ . وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ ذَلِكَ بِحَصَانَةِ الْقَذْفِ . فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ حَدَّ الزِّنَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ حد الزنا ، وَحَدُّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، فَجَازَ أَنْ يُفَرَّقَ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ كَالدِّيةِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ لَمَّا اعْتَبَرَ فِي سُقُوطِ الرَّجْمِ نَقْصَ الرِّقَّ اعْتَبَرَ فِيهِ نَقْصَ الْكُفْرِ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ نَقْصُ الرِّقِّ مُعْتَبَرًا فِي الْحَدِّ الْأَصْغَرِ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي الْحَدِّ الْأَكْبَرِ ، وَلَمَّا كَانَ نَقْصُ الْكُفْرِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ فِي الْحَدِّ الْأَصْغَرِ كَانَ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ فِي الْحَدِّ الْأَكْبَرِ ، وَافْتَرَقَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْإِسْلَامَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي شُرُوطِ الْحَصَانَةِ ، فَالْكَلَامُ فِيهَا مُشْتَمِلٌ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : فِي نِكَاحِ الْحَصَانَةِ . وَالثَّانِي : فِي وَطْءِ الْحَصَانَةِ . وَالثَّالِثُ : فِي زَمَانِ الْحَصَانَةِ . فَأَمَّا نِكَاحُ الْحَصَانَةِ النِّكَاحُ الصَّحِيحِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ الزَّوْجَانِ بَوْلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ ، فَأَمَّا الْمُتْعَةُ وَالْمَنَاكِحُ الْفَاسِدَةُ ، فَلَا تُوجِبُ الْحَصَانَةَ : لِأَنَّ الْحَصَانَةَ لِاعْتِبَارِ الْحُرِّيَّةِ فِيهَا أَغْلَظُ شُرُوطًا مِنْ إِحْلَالِ الْمُطَلِّقِ لِلْأَوَّلِ : لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْمَنَاكِحَ الْفَاسِدَةَ لَا تَحِلُّ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا تُحْصِنَ ، وَلَا وَجْهَ لِمَا قَالَهُ أَبُو ثَوْرٍ : مِنْ أَنَّهَا تُحْصِنُ ، وَكَذَلِكَ التَّسَرِّي بِمِلْكِ الْيَمِينِ ، لَا يُحْصِنُ كَمَا لَا تَحِلُّ الْمُطَلَّقَةُ لِلْمُطَلَّقِ ، وَأَمَّا وَطْءُ الْحَصَانَةِ فَهُوَ تَغِيبُ الْحَشَفَةِ فِي الْفَرْجِ ، سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ إِنْزَالٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ تَلَذَّذَ بِمَا

دُونَ الْفَرْجِ أَوْ وَطَأَ فِي السَبِيلِ الْمَكْرُوهِ لَمْ يَتَحَصَّنَا ، كَمَا لَا يَسْقُطُ بِهِ حُكْمُ الْعُنَّةِ : لِأَنَّهُ وَطْءٌ مَقْصُودٌ فِي الشَّرْعِ ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ إِلَّا بِالْفَرْجِ كَالْإِحْلَالِ لِلْمُطَلِّقِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا زَمَانُ الْحَصَانَةِ فَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْوَطْءُ مُثْبِتًا لِلْحَصَانَةِ ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا وَقْتَ الْوَطْءِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَا كَامِلَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَا نَاقِصَيْنِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ كَامِلًا وَالزَّوْجَةُ نَاقِصَةً . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ نَاقِصًا وَالزَّوْجَةُ كَامِلَةً . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَا كَامِلَيْنِ ، فَكَمَالُهُمَا يَكُونُ بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ وَالْحُرِّيَّةِ ، فَإِذَا كَانَا وَقْتَ الْوَطْءِ بَالِغَيْنِ عَاقِلَيْنِ حُرَّيْنِ ، صَارَا جَمِيعًا بِهِ مُحْصِنَيْنِ ، سَوَاءٌ عُقِدَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا فِي حَالِ الْكَمَالِ أَوْ قَبْلَهُ ، وَسَوَاءٌ بَقِيَ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا أَوِ ارْتَفَعَ ، قَدْ ثَبَتَتِ الْحَصَانَةُ بِوَطْءِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ ، فَأَيُّهُمَا زَنَا رُجِمَ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَا نَاقِصَيْنِ ، وَنُقْصَانُهُمَا أَنْ يَكُونَا صَغِيرَيْنِ أَوْ مَجْنُونَيْنِ أَوْ مَمْلُوكَيْنِ ، فَلَا يَكُونَا بِالْوَطْءِ مُحْصِنَيْنِ مَا كَانَا عَلَى الصِّغَرِ وَالْجُنُونِ وَالرِّقِّ ، فَإِنْ بَلَغَ الصَّغِيرَانِ ، وَأَفَاقَ الْمَجْنُونَانِ ، وَعُتِقَ الْمَمْلُوكَانِ ، فَهَلْ يَصِيرُ بِالْوَطْءِ الْمُتَقَدِّمِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا قَدْ صَارَا مُحْصَنَيْنِ : لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِهِ أَحْكَامُ الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ مِنْ كَمَالِ الْمَهْرِ ، وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ ، وَتَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ ، وَالْإِحْلَالِ لِلْمُطَلِّقِ ، فَكَذَلِكَ الْحَصَانَةُ ، فَإِذَا زَنَيَا رُجِمَا لِتُقَدِّمِ الشَّرَائِطِ عَلَى الزِّنَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - : أَنَّهُمَا لَا يَصِيرَا بِهِ مُحْصَنَيْنِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَا الْوَطْءَ بَعْدَ كَمَالِ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ وَالْحُرِّيَّةِ : لِأَنَّ هَذَا الْوَطْءَ يُوجِبُ الْكَمَالَ ، فَوَجَبَ أَنْ يُرَاعِيَ وُجُودُهُ فِي أَكْمَلِ الْأَحْوَالِ : وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُثْبِتِ الْحَصَانَةَ فِي وَقْتٍ لَمْ يُثْبِتْهَا بَعْدَ وَقْتِهِ ، وَلِهَذَا خَالَفَ مَا سِوَاهَا مِنَ الْإِحْلَالِ ، وَتَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ ، وَكَمَالِ الْمَهْرِ ، وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ : لِثُبُوتِهَا بِهِ فِي وَقْتِهِ وَبَعْدَ وَقْتِهِ ، ثُمَّ هَكَذَا لَوْ كَانَ نَقْصُ الزَّوْجَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا صَغِيرًا وَالْآخِرُ مَجْنُونًا ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَمْلُوكًا وَالْآخِرُ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا ، فَوَطِئَا لَمْ يَصِيرَا بِهِ فِي الْحَالِ مُحْصَنَيْنِ ، وَهَلْ يَصِيرَانِ بِهِ بَعْدَ الْكَمَالِ مُحْصَنَيْنِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ كَامِلًا وَالزَّوْجَةُ نَاقِصَةً الذي يعتبر به الإحصان في هذه الحالة ، فَكَمَالُ الزَّوْجِ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا حُرًّا ، وَنُقْصَانُ الزَّوْجَةِ أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً أَوْ مَجْنُونَةً أَوْ مَمْلُوكَةً ، أَوْ تَجْمَعُ نَقْصَ الصِّغَرِ وَالْجُنُونِ وَالرِّقِّ ، فَقَدْ صَارَ الزَّوْجُ بِذَلِكَ مُحْصَنًا إِذَا كَانَتْ

الصَّغِيرَةُ الَّتِي وَطِئَهَا مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ تُوطَأَ مِثْلُهَا ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَنْ تُوطَأَ مِثْلُهَا لَمْ يَتَحَصَّنْ بِوَطْئِهَا ، فَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَلَا تَكُونُ مُحَصَّنَةً بِهَذَا الْوَطْءِ فِي النُّقْصَانِ بِالصِّغَرِ وَالْجُنُونِ وَالرِّقِّ ، فَإِذَا كَمُلَتْ بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ وَالْحُرِّيَّةِ ، فَهَلْ تَصِيرُ بِهِ مُحَصَّنَةً أَمْ لَا إذا كان الزَّوْجُ كَامِلًا وَالزَّوْجَةُ نَاقِصَةً ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا نَاقِصًا لَمْ يُحَصَّنَا مَعًا فِي الْحَالِ ، وَلَا فِي أَيِّ حَالٍ حَتَّى يَكُونَ الْكَمَالُ مَوْجُودًا فِيهِمَا حَالَ الْوَطْءِ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ مُوجِبَ الْحَصَانَةِ أَنْ يَخْتَلِفَ بِهَا حَدُّ الزِّنَا ، فَيَجِبُ الرَّجْمُ عَلَى الْمُحْصَنِ ، وَالْجَلَدُ عَلَى غَيْرِ الْمُحْصَنِ ، وَإِنِ اخْتَلَفَ حَالُهُمَا وَقْتَ الزِّنَا : فَكَانَ أَحَدُهُمَا مُحْصَنًا وَالْآخَرُ غَيْرُ مُحْصَنٍ الزاني والزانية ، رُجِمَ الْمُحْصَنُ وَجُلِدَ غَيْرُ الْمُحْصَنِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِاخْتِلَافِهِمَا تَأْثِيرٌ فِي حَصَانَةِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ، كَذَلِكَ اخْتِلَافُهُمَا فِي وَقْتِ الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَصِيرَ بِهِ أَحَدُهُمَا مُحْصَنًا دُونَ الْآخَرِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ نَاقِصًا وَالزَّوْجَةُ كَامِلَةً ، وَنُقْصَانُ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةُ كَامِلَةً حالة الطء أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ مَمْلُوكًا أَوْ يَجْمَعُ نَقْصَ الصِّغَرِ وَالْجُنُونِ وَالرِّقِّ ، فَيَطَأُ زَوْجَةً كَامِلَةً بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ وَالْحُرِّيَّةِ ، فَقَدْ صَارَتْ بِوَطْئِهِ مُحْصَنَةً إِذَا كَانَ الصِّغَرُ مِمَّنْ يُوطَأُ مِثْلُهُ ، فَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ لَا يُوطَأُ لَمْ تَتَحَصَّنْ بِوَطْئِهِ ، فَأَمَّا الزَّوْجُ فَلَا يَكُونُ بِهِ مُحْصَنًا فِي حَالِ نَقْصِهِ ، وَهَلْ يَصِيرُ بِهِ مُحْصَنًا بَعْدَ كَمَالِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ . وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : لَا يَتَحَصَّنُ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ . فَأَمَّا الْخُنْثَى إِذَا جَعَلْنَاهُ رَجُلًا يَتَحَصَّنُ بِوَطْءِ امْرَأَةٍ ، وِلَا يَتَحَصَّنُ لَوْ وَطِئَهُ رَجُلٌ ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ امْرَأَةً تُحْصَنَ بِوَطْءِ رَجُلٍ ، وَلَا يَتَحَصَّنُ لَوْ وَطَأَ امْرَأَةً ، وَلَوْ كَانَ عَلَى حَالِ إِشْكَالِهِ لَمْ يَتَحَصَّنْ بِوَطْءِ رَجُلٍ وَلَا بِوَطْءِ امْرَأَةٍ وَلَا بِوَطْءِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ : لِأَنَّ نِكَاحَهُ فِي حَالِ إِشْكَالِهِ بَاطِلٌ وَالْحَصَانَةُ لَا تَثْبُتُ بِالْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ بَاطِلٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
_____كِتَابُ الصَّدَاقِ _____

الدليل على وجوب الصداق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ : يَا رَبِّ عَوْنَكَ : كِتَابُ الصَّدَاقِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " ذَكَرَ اللَّهُ الصَّدَاقَ وَالْأَجْرَ فِي كِتَابِهِ وَهُوَ الْمَهْرُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [ الْبَقَرَةِ : 236 ] فَدَلَّ أَنَّ عُقْدَةَ النِّكَاحِ بِالْكَلَامِ ، وَأَنَّ تَرْكَ الصَّدَاقِ لَا يُفْسِدُهَا " . الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الصَّدَاقِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الصَّدَاقِ فِي النِّكَاحِ : الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ . فَأَمَّا الْكِتَابُ : فَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [ النِّسَاءِ : 4 ] وَفِيمَنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ هَذَا الْخِطَابُ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْأَزْوَاجِ . وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ : لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَمَلَّكُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ صَدَاقَ الْمَرْأَةِ ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِدَفْعِ صَدَاقِهِنَّ إِلَيْهِنَّ . وَهَذَا قَوْلُ أَبِي صَالِحٍ وَفِي " نِحْلَةً " : ثَلَاثُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : يَعْنِي تَدَيُّنًا مِنْ قَوْلِهِمْ : فُلَانٌ يَنْتَحِلُ كَذَا ، أَيْ يَتَدَيَّنُ بِهِ . وَالثَّانِي : بِطِيبِ نَفْسٍ كَمَا تَطِيبُ النَّفْسُ بِالنَّحْلِ الْمَوْهُوبِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ نَحْلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُنَّ بَعْدَ أَنْ كَانَ مِلْكًا لِأَوْلِيَائِهِنَّ ، وَالنَّحْلُ : الْهِبَةُ ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا حَكَّاهُ عَنْ شُعَيْبٍ فِي تَزْوِيجِ مُوسَى بِابْنَتِهِ ، قَالَ : إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ [ الْقَصَصِ : 27 ] وَلَمْ يَقُلْ عَلَى أَنْ تَأْجُرَهَا ، فَجَعَلَ الصَّدَاقَ مِلْكًا لِنَفْسِهِ دُونَهَا ، ثُمَّ قَالَ : فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا يَعْنِي الزَّوْجَاتِ إِنْ طِبْنَ نَفْسًا عَنْ شَيْءٍ مِنْ صَدُقَاتِهِنَّ : لِأَزْوَاجِهِنَّ فِي قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ خِطَابًا لِلْأَزْوَاجِ ، وَلِأَوْلِيَائِهِنَّ فِي قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ خِطَابًا لِلْأَوْلِيَاءِ ، فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا يَعْنِي لَذِيذًا نَافِعًا ، وَقَالَ تَعَالَى : وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا [ النِّسَاءِ : 20 ] أَيْ قَدْ مَلَكْنَ الصَّدَاقَ ، وَإِنِ اسْتَبْدَلْتُمْ بِهِنَّ غَيْرَهُنَّ فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ قِنْطَارًا ، وَفِي الْقِنْطَارِ سَبْعَةُ أَقَاوِيلَ :

أَحَدُهَا : أَنَّهُ أَلْفٌ وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ . وَهُوَ قَوْلُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَلْفٌ وَمِائَتَا دِينَارٍ . وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَالضَّحَّاكِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ أَلْفُ دِينَارٍ . وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالرَّابِعُ : أَنْهُ ثَمَانُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، أَوْ مِائَةُ رِطْلٍ . وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَقَتَادَةَ . وَالْخَامِسُ : أَنَّهُ سَبْعُونَ أَلْفًا . وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ . وَالسَّادِسُ : أَنَّهُ مَلْءُ مَسْكِ ثَوْرٍ ذَهَبًا . وَهُوَ قَوْلُ أَبَى نَضْرَةَ . وَالسَّابِعُ : أَنَّهُ الْمَالُ الْكَثِيرُ . وَهُوَ قَوْلُ الرَّبِيعِ . فَذَكَرَ الْقِنْطَارَ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ : لِأَنَّهُ لَا يُسْتَرْجَعُ إِذَا كَانَ صَدَاقًا ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا إِذَا اسْتَبْدَلَ بِهَا ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَسْتَرْجِعَهُ إِذَا لَمْ يَسْتَبْدِلْ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى وَعِيدًا عَلَى تَحْرِيمِ الِاسْتِرْجَاعِ : أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [ النِّسَاءِ : 20 ] ثُمَّ قَالَ تَعْلِيلًا لِتَحْرِيمِ الِاسْتِرْجَاعِ : وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا تأويله . وَفِي الْإِفْضَاءِ هَاهُنَا تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الْجِمَاعُ . قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ الْخَلْوَةُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَفِي قَوْلِهِ : وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ عَقْدُ النِّكَاحِ الَّذِي اسْتَحَلَّ بِهِ الْفَرْجَ . وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ . وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَابْنِ سِيرِينَ ، وَالضَّحَّاكِ ، وَقَتَادَةَ . وَالثَّالِثُ : مَا رَوَاهُ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ ، عَنْ صَدَقَةَ بْنِ يَسَارٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ النِّسَاءَ عَنْدَكُمْ عَوَانٍ ، أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ ، فَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ حَقٌّ ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ حَقٌّ ، وَمِنْ حَقِّكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا ، وَلَا يَعْصِينَكُمْ فِي مَعْرُوفٍ ، فَإِذَا فَعَلْنَ ذَلِكَ فَلَهُنَّ رِزْقُهُنَ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ . وَقَالَ تَعَالَى : فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتَوْهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً تأويله [ النِّسَاءِ : 24 ] يُرِيدُ الصَّدَاقَ ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْأَجْرِ : لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ مَنْفَعَةٍ . وَفِي قَوْلِهِ " فَرِيضَةً " تَأْوِيلَانِ :

أَحَدُهُمَا : يَعْنِي فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةً . وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ . وَالثَّانِي : أَيْ مُقَدَّرَةً مَعْلُومَةً . وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ . وَأَمَّا السُّنَّةُ : فَمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْبَيْلَمَانِيِّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَدُّوا الْعَلَائِقَ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا الْعَلَائِقُ : قَالَ : مَا تَرَاضَى بِهِ الْأَهْلُونَ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنِ اسْتَحَلَّ بِدِرْهَمَيْنِ فَقَدِ اسْتَحَلَّ . وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَزَوَّجَ أَحَدًا مِنْ نِسَائِهِ وَلَا زَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْ بَنَاتِهِ عَلَى أَكْثَرَ مِنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيِّةً وَنَشًّا . قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَتَدْرُونَ مَا النَّشُّ ؟ النَّشُّ : نِصْفُ أُوقِيَّةٍ عِشْرُونَ دِرْهَمًا ، تَعْنِي خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ : لِأَنَّ الْأُوقِيَّةَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا . وَرَوَى الْمُنْذِرُ بْنُ فَرْقَدٍ قَالَ ، : كُنَّا عِنْدَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، فَقَالَ كَانَ صَدَاقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَشَنًّا ، فَقَالَ لَهُ الْقَاسِمُ بْنُ مَعِينٍ : صَحَّفْتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ : إِنَّمَا هُوَ نَشٌّ ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الشَّاعِرِ . تِلْكَ الَّتِي جَاوَرَهَا الْمِخَشُّ مِنْ نِسْوَةٍ صَدَاقُهُنَّ النَّشُّ فَأَمَّا أَمُّ حَبِيبَةَ ، فَقَدْ كَانَتْ أَكْثَرَ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَاقًا : لِأَنَّ النَّجَاشِيَّ أَصْدَقَهَا عَنْهُ أَرْبَعَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ عِنْدِهِ ، وَبَعَثَ بِهَا إِلَيْهِ مَعَ شُرَحْبِيلَ بْنِ حَسَنَةَ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : أَوَلُ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْعَبْدُ مِنْ ذُنُوبِهِ صَدَاقُ زَوْجَتِهِ . وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ ظَلَمَ زَوْجَتَهُ صَدَاقَهَا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ زَانٍ . قَالَهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيظِ وَالزَّجْرِ . وَاجْتَمَعَتِ الْأُمَمُ عَلَى أَنَّ صَدَاقَ الزَّوْجَاتِ مُسْتَحَقٌّ .

فَصْلٌ : الْقَوْلُ فِي تَعْرِيفِ الصَّدَاقِ وَأَسْمَائِهِ

فَصْلٌ : الْقَوْلُ فِي تَعْرِيفِ الصَّدَاقِ وَأَسْمَائِهِ وَالصَّدَاقُ : هُوَ الْعِوَضُ الْمُسْتَحَقُّ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ . وَلَهُ فِي الشَّرْعِ سِتَّةُ أَسْمَاءٍ جَاءَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا بِثَلَاثَةِ أَسْمَاءٍ : وَهِيَ الصَّدَاقُ وَالْأَجْرُ وَالْفَرِيضَةُ ، وَجَاءَتِ السُّنَّةُ مِنْهَا بِاسْمَيْنِ : الْمَهْرُ وَالْعَلَائِقُ ، وَجَاءَ الْأَثَرُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِاسْمٍ وَاحِدٍ : وَهُوَ الْعَقُورُ وَقَدْ مَضَتْ شَوَاهِدُ ذَلِكَ .

فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ إِذَا لَمْ يُسَمَّ فِيهِ الصَّدَاقُ

فَصْلٌ : الْقَوْلُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ إِذَا لَمْ يُسَمَّ فِيهِ الصَّدَاقُ فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الصَّدَاقَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَاجِبٌ فَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى غَيْرِ صَدَاقٍ سَمَّيَاهُ فِي الْعَقْدِ ، صَحَّ الْعَقْدُ وَإِنْ كَرِهْنَا تَرَكَ التَّسْمِيَةِ فِيهِ . وَإِنَّمَا صَحَّ الْعَقْدُ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ تأويله [ الْبَقَرَةِ : 236 ] . وَفِي مَعْنَى الْآيَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَعْنَاهَا لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ، فَتَكُونُ أَوْ بِمَعْنَى لَمْ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفًا وَتَقْدِيرُهُ : فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ، أَوْ لَمْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً . وَالْمُرَادُ بِالْفَرِيضَةِ هُنَا الصَّدَاقُ ، وَسَمَّاهُ فَرِيضَةً : لِأَنَّهُ قَدْ أَوْجَبَهُ لَهَا ، وَأَصْلُ الْفَرْضِ الْوُجُوبُ ، كَمَا يُقَالُ : فَرَضَ السُّلْطَانُ لِفُلَانٍ الْفَيْءَ أَيْ أَوْجَبَ ذَلِكَ لَهُ ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : كَانَتْ فَرِيضَةً مَا أَتَيْتَ كَمَا كَانَ الزِّنَا فَرِيضَةَ الرَّجْمِ فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَثْبَتَ النِّكَاحَ مَعَ تَرْكِ الصَّدَاقِ ، وَجَوَّزَ فِيهِ الطَّلَاقَ ، وَحَكَمَ لَهَا بِالْمُتْعَةِ إِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْأَوْلَى لِمَنْ كَرِهَ امْرَأَةً أَنْ يُطَلِّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ : لِقَوْلِهِ : لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ [ الْبَقَرَةِ : 236 ] فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى طَلَاقَيِ الْكَارِهِ . وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُحِبُّ الذَّوَّاقَاتِ . يَعْنِي الْفِرَاقَ بَعْدَ الذَّوْقِ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ بِرْوَعَ بِنْتَ وَاشِقٍ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ مَهْرٍ فَحَكَمَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَهْرِ نِسَائِهَا وَالْمِيرَاثِ .

وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ تَزَوَّجَ أَمَّ سُلَيْمٍ عَلَى غَيْرِ مَهْرٍ ، فَأَمْضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِكَاحَهُ . وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ التَّوَاصُلُ وَالْأُلْفَةُ ، وَالصَّدَاقُ فِيهِ تَبَعٌ لِمَقْصُودِهِ ، فَخَالَفَ عُقُودَ الْمُعَاوَضَاتِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ رُؤْيَةَ الْمَنْكُوحَةِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ تَرْكَ الْعِوَضِ فِيهِ لَا يُفْسِدُهُ . فَأَمَّا كَرَاهَتُنَا لِتَرْكِ الصَّدَاقِ تركه في العقد فِي الْعَقْدِ ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا ، فَلِثَلَاثَةِ أُمُورٍ : أَحَدُهَا : لِئَلَّا يَتَشَبَّهُ بِالْمَوْهُوبَةِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أُمَّتِهِ . وَالثَّانِي : لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ الْمُشَاجَرَةِ وَالتَّنَازُعِ إِلَى الْحُكَّامِ . وَالثَّالِثُ : لِيَكُونَ مُلْحَقًا بِسَائِرِ الْعُقُودِ الَّتِي تُسْتَحَقُّ فِيهَا الْمُعَاوَضَاتُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

الْقَوْلُ فِي النِّكَاحِ إِذَا كَانَ بِمَهْرٍ مَجْهُولٍ حَرَامٍ

[ الْقَوْلُ فِي /1 L11206 النِّكَاحِ إِذَا كَانَ بِمَهْرٍ مَجْهُولٍ /1 حَرَامٍ ] مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَلَوْ عَقَدَ بِمَجْهُولٍ أَوْ بِحَرَامٍ ، ثَبَتَ النِّكَاحُ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا عَقَدَ النِّكَاحَ بِمَهْرٍ مَجْهُولٍ أَوْ حَرَامٍ ، كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا . وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . وَقَالَ مَالِكٌ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ : إِنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ بِالْمَهْرِ الْفَاسِدِ ، وَإِنْ صَحَّ بِغَيْرِ مَهْرٍ مُسَمًّى . اسْتِدْلَالًا بِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ : لِفَسَادِ الْمَهْرِ فِيهِ . قَالَ : وَلِأَنَّهُ عَقْدُ نِكَاحٍ بِمَهْرٍ فَاسِدٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَالشِّغَارِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ بِبَدَلٍ فَاسِدٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَالْبَيْعِ . قَالَ : وَلَئِنْ صَحَّ النِّكَاحُ بِغَيْرِ مَهْرٍ ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَبْطُلَ بِفَسَادِ الْمَهْرِ ، كَمَا يَصِحُّ الْبَيْعُ بِغَيْرِ أَجَلٍ وَغَيْرِ خِيَارٍ ، وَيَبْطُلُ بِفَسَادِ الْأَجَلِ وَفَسَادِ الْخِيَارِ . وَدَلِيلُنَا : رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ فَتَضَمَّنَ هَذَا الْخَبَرُ نَفْيَ النِّكَاحِ بِعِدَمِ الْوَلِيِّ وَالشَّاهِدَيْنَ ، وَإِثْبَاتَ النِّكَاحِ بِوُجُودِ الْوَلِيِّ وَالشَّاهِدَيْنِ . وَهَذَا نِكَاحٌ بَوْلِيٍّ وَشَاهِدَيْنَ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا . وَلِأَنَّ فَسَادَ الْمَهْرِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ كَالْمَهْرِ الْمَغْصُوبِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ نِكَاحٍ صَحَّ بِالْمَهْرِ الصَّحِيحِ صَحَّ بِالْمَهْرِ الْفَاسِدِ كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا عَبْدًا فَبَانَ حُرًّا . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي فَسَادِ الْمَهْرِ أَكْثَرُ مِنْ سُقُوطِهِ ، وَلَيْسَ فِي سُقُوطِهِ أَكْثَرُ مِنْ فَقْدِ ذِكْرِهِ ، وَلَوْ فَقَدَ ذِكْرَهُ لَمْ يَبْطُلِ النِّكَاحُ ، فَكَذَلِكَ إِذَا ذَكَرَ فَاسِدًا .

وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّ كُلَّ مَا تَعَلَّقَ بِالْمَهْرِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ ، قِيَاسًا عَلَى تَرْكِهِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ : فَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَبْطُلْ بِفَسَادِ الْمَهْرِ ، وَإِنَّمَا بَطَلَ بِالتَّشْرِيكِ عَلَى مَا بَيَّنَّا . وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْبَيْعِ : فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ يَبْطُلُ بِتَرْكِ الثَّمَنِ فَبَطَلَ بِفَسَادِهِ ، وَالنِّكَاحُ لَا يَبْطُلُ بِتَرْكِ الْمَهْرِ فَلَمْ يَبْطُلْ بِفَسَادِهِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ بِفَسَادِ الْخِيَارِ وَالْأَجَلِ ، وَلَا يَبْطُلُ بِتَرْكِهِمَا . فَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّ الْخِيَارَ وَالْأَجَلَ قَدْ قَابَلَا جُزْءًا مِنَ الثَّمَنِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الثَّمَنَ فِي الْعُرْفِ يَزِيدُ بِدُخُولِ الْخِيَارِ وَالْأَجَلِ ، فَإِذَا بَطَلَا أَوْجَبَ بُطْلَانَ مَا قَابَلَهُمَا مِنَ الثَّمَنِ فَصَارَ الْبَاقِي مَجْهُولًا ، وَجَهَالَةُ الثَّمَنِ تُبْطِلُ الْبَيْعَ ، وَلَيْسَ فِيمَا أَفْضَى إِلَى فَسَادِ الْمَهْرِ أَكْثَرُ مِنْ سُقُوطِهِ ، وَسُقُوطُهُ لَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ .

فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي فَسَادِ الْمَهْرِ لِجَهَالَتِهِ

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي فَسَادِ الْمَهْرِ لِجَهَالَتِهِ ] فَإِذَا ثَبَتَ صِحَّةُ النِّكَاحِ بِجَهَالَةِ الْمَهْرِ وَتَحْرِيمِهِ ، فَالْمَهْرُ بَاطِلٌ بِالْجَهَالَةِ ، وَكُلُّ جَهَالَةٍ مَنَعَتْ مِنْ صِحَّةِ الْبَيْعِ مَنَعَتْ مِنْ صِحَّةِ الْمَهْرِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا أَصْدَقَهَا عَبْدًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَلَا مَوْصُوفٍ ، جَازَ ، وَكَانَ لَهَا عَبْدٌ سِنْدِيٌ : لِأَنَّ الرُّومِيَّ أَعْلَى ، وَالزِّنْجِيَّ أَدْنَى ، وَالسِّنْدِيَّ وَسَطٌ ، فَيُحْكَمُ لَهَا بِهِ : لِأَنَّهُ أَوْسَطُ الْعَبِيدِ . احْتِجَاجًا بِأَنَّ الْمَهْرَ أَحَدُ عِوَضِ النِّكَاحِ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا كَالْبُضْعِ . قَالَ : وَلِأَنَّ جَهَالَةَ مَهْرِ الْمِثْلِ أَكْثَرُ مِنْ جَهَالَةِ الْعَبْدِ : لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ مَجْهُولُ الْجِنْسِ ، مَجْهُولُ الْقَدْرِ ، مَجْهُولُ الصِّفَةِ ، وَالْعَبْدَ مَعْلُومُ الْجِنْسِ مَعْلُومُ الْقَدْرِ ، مَجْهُولُ الصِّفَةِ . فَإِذَا جَازَ أَنْ يَجِبَ فِيهِ عِنْدَكُمْ مَهْرُ الْمِثْلِ فَلَأَنْ يَجِبُ الْعَبْدُ الْمُسَمَّى أَوْلَى . وَدَلِيلُنَا أَنَّهَا جَهَالَةٌ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ فَوَجَبَ أَنْ تَمْنَعَ صِحَّةَ الصَّدَاقِ ، أَصْلُهُ : إِذَا أَصْدَقَهَا ثَوْبًا وَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى فَسَادِ الصَّدَاقِ بِإِطْلَاقِهِ ، وَلِأَنَّهُ عِوَضٌ فِي عَقْدٍ يَبْطُلُ بِجَهَالَةِ الثَّوْبِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ بِجَهَالَةِ الْعَبْدِ كَالْبَيْعِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى جَهَالَةِ الْبُضْعِ فَهُوَ أَنَّ جَهَالَةَ الْبُضْعِ تَمْنَعُ مِنَ الصِّحَّةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ : كُبْرَى وَصُغْرَى وَوُسْطَى ، وَقَالَ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي وَأَطْلَقَ ، كَانَ بَاطِلًا ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْوُسْطَى كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى ، كَذَلِكَ إِذَا أَصْدَقَهَا عَبْدًا ، وَأَطْلَقَ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى عَبْدٍ وَسَطٍ ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَعْلَى وَأَدْنَى . وَأَمَّا مَا اسْتُشْهِدَ بِهِ مِنْ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ ، فَيَفْسُدُ بِجَهَالَةِ الثَّوْبِ ، وَمَهْرُ الْمِثْلِ إِنَّمَا أَوْجَبْنَاهُ : لِأَنَّهُ قِيمَةُ مُتْلَفٍ يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الْبَيْعِ إِذَا وَجَبَتْ فِيهِ قِيمَةُ مُتْلَفٍ ، وَإِنْ جُهِلَتْ .



فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ ، وَإِنْ سَقَطَ الْمَهْرُ بِالْفَسَادِ ، فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ : لِأَنَّ الْبُضْعَ مُفَوَّتٌ بِالْعَقْدِ ، فَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى اسْتِرْجَاعِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ تَعْدِلَ إِلَى قِيمَتِهِ وَهِيَ مَهْرُ الْمِثْلِ ، كَمَنِ اشْتَرَى عَبْدًا بِثَوْبٍ فَمَاتَ فِي يَدِهِ وَرَدَّ بَائِعُهِ الثَّوْبَ بِعَيْبٍ ، رَجَعَ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ حِينَ فَاتَ الرُّجُوعُ بِعَيْنِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَفِيِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا [ النِّسَاءِ : 20 ] دَلِيلٌ عَلَى أَنْ لَا وَقْتَ لِلصَدَاقِ يَحْرُمُ بِهِ : لِتَرْكِهِ النَّهْيَ عَنِ التَّكْثِيرِ ، وَتَرْكِهِ حَدَّ الْقَلِيلِ في الصداق ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَدُّوا الْعَلَائِقَ ، قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْعَلَائِقُ ، قَالَ : مَا تَرَاضَى بِهِ الْأَهْلُونَ ، قَالَ : وَلَا يَقَعُ اسْمُ " عَلَقٍ " إِلَّا عَلَى مَا لَهُ قِيمَةٌ ، وَإِنْ قَلَّتْ مِثْلُ الْفَلْسِ وَمَا أَشْبَهَهُ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ ، فَالْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا ، فَقَالَ : هَلْ مَعَكَ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا ، فَقَالَ : قَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ ، وَبَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنِ اسْتَحَلَّ بِدِرْهَمٍ فَقَدِ اسْتَحَلَّ ، وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : فِي ثَلَاثِ قَبَضَاتِ زَبِيبٍ مَهْرٌ ، وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ لَوْ أَصْدَقَهَا سَوْطًا جَازَ ، وَقَالَ رَبِيعَةُ : قَالَ : دِرْهَمٌ قُلْتُ وَأَقَلُّ ؟ قَالَ : وَنِصْفُ دِرْهَمٍ ، قَالَ : قُلْتُ لَهُ فَأَقَلُّ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَحَبَّةُ حِنْطَةٍ أَوْ قَبْضَةُ حِنْطَةٍ ، ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : فَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا لِشَيْءٍ أَوْ مَبِيعًا بِشَيْءٍ أَوْ أُجْرَةً لِشَيْءٍ ، جَازَ إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مَالِكَةً لِأَمْرِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي أَكْثَرِ الْمَهْرِ . وَالثَّانِي : فِي أَقَلِّهِ .

الْقَوْلُ فِي أَكْثَرِ الصَّدَاقِ

[ الْقَوْلُ فِي /1 L11161 أَكْثَرِ الصَّدَاقِ /1 ] فَأَمَّا أَكْثَرُهُ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا حَدَّ لَهُ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا [ النِّسَاءِ : 20 ] وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْقِنْطَارِ سَبْعَةَ أَقَاوِيلَ . وَحَكَى الشَّعْبِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ : لَا تُغَالُوا فِي صَدَقَاتِ النِّسَاءِ ، فَمَا بَلَغَنِي أَنَّ أَحَدًا سَاقَ أَكْثَرَ مِمَّا سَاقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا جَعَلْتُ الْفَضْلَ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، فَاعْتَرَضَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَاءِ قُرَيْشٍ فَقَالَتْ : يُعْطِينَا اللَّهُ وَتَمْنَعُنَا ، كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا [ النِّسَاءِ : 20 ] فَرَجَعَ عُمَرُ ، وَقَالَ : كُلُّ أَحَدٍ يَصْنَعُ بِمَالِهِ مَا شَاءَ ، فَكُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ حَتَّى امْرَأَةٌ .

وَقَدْ تَزَوَّجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَأَصْدَقَهَا أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ . وَتَزَوَّجَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَصْدَقَهَا مِائَةَ أَلْفٍ ، وَتَزَوَّجَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَائِشَةَ بِنْتَ طَلْحَةَ ، وَأَصْدَقَهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَتَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ التَّيْمِيُّ وَأَصْدَقَهَا مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ ، وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ تَزَوَّجَ بِالْبَصْرَةِ سُكَيْنَةَ بِنْتَ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَصْدَقَهَا أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَمَّامٍ السَّلُولِيُّ : أَبْلِغْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رِسَالَةً مِنْ نَاصِحٍ لَكَ لَا يُرِيدُ خِدَاعَا بُضْعُ الْفَتَاةِ بِأَلْفِ أَلْفٍ كَامِلٍ وَتَبِيتُ سَادَاتُ الْجُنُودِ جِيَاعَا لَوْلَا أَبُو حَفْصٍ أَقُولُ مَقَالَتِي وَأَبُثُّ مَا حَدَّثْتُهُ لَارْتَاعَا

فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي أَقَلِّ الصَّدَاقِ

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي أَقَلِّ الصَّدَاقِ ] فَأَمَّا أَقَلُّ الصَّدَاقِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ ، أَنَّ كُلَّ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا أَوْ مَبِيعًا أَوْ أُجْرَةً أَوْ مُسْتَأْجَرًا ، جَازَ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ : عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ، حَتَّى قَالَ عُمَرُ فِي ثَلَاثِ قَبَضَاتِ زَبِيبٍ مَهْرٌ . وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ : الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ، حَتَّى حُكِيَ أَنَّ سَعِيدًا زَوَّجَ بِنْتَهُ عَلَى صَدَاقِ دِرْهَمَيْنِ . وَبِهِ قَالَ مِنَ الْفُقَهَاءِ : رَبِيعَةُ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ . وَقَالَ مَالِكٌ : أَقَلُّ الصَّدَاقِ مَا تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ : رُبُعُ دِينَارٍ ، أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ ، وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ : أَقَلُّهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ ، أَوْ نِصْفُ دِينَارٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ : أَقَلُّهُ دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، فَإِنْ عَقْدَهُ بِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ ، صَحَّتِ التَّسْمِيَةُ ، وَكُمِّلَتْ عَشَرَةً ، وَمُنِعَتْ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ ، إِلَّا زُفَرَ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ أَبْطَلَ التَّسْمِيَةَ وَأَوْجَبَ مَهْرَ الْمِثْلِ . وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : أَقَلُّهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : أَقَلُّهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا . وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ [ النِّسَاءِ : 24 ] وَلَا يُطْلَقُ اسْمُ الْأَمْوَالِ عَلَى مَا قَلَّ مِنَ الدَّانِقِ وَالْقِيرَاطِ ، فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ابْتِغَاءً بِمَالٍ . وَرَوَى مُبَشِّرُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ

عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تُنْكِحُوا النِّسَاءَ إِلَّا الْأَكْفَاءَ ، وَلَا يُزَوِّجُ إِلَّا الْأَوْلِيَاءُ ، وَلَا مَهْرَ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ . وَهَذَا نَصٌّ . وَلِأَنَّهُ مَالٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ عُضْوٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا كَالنِّصَابِ فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ . وَلِأَنَّهُ أَحَدُ بَدَلَيِ النِّكَاحِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا كَالْبُضْعِ ، وَلِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ يُقَدَّرُ أَقَلُّهُ كَالشُّهُودِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ تأويله [ الْبَقَرَةِ : 237 ] . وَمِنَ الْآيَةِ دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : عَامٌ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ . وَالثَّانِي : خَاصٌّ ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا فَرَضَ لَهَا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ ، وَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ اقْتَضَى أَنْ يَجِبَ لَهَا دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجِبُ لَهَا الْخَمْسَةُ كُلُّهَا ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ . وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْبَيْلَمَانِيِّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَدُّوا الْعَلَائِقَ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا الْعَلَائِقُ ؟ قَالَ : مَا تَرَاضَى بِهِ الْأَهْلُونَ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِيمَا تَرَاضَوْا بِهِ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنِ اسْتَحَلَّ بِدِرْهَمَيْنِ فَقَدِ اسْتَحَلَّ يَعْنِي فَقَدِ اسْتَحَلَّ بِالدِّرْهَمَيْنِ . رَوَى أَبُو هَارُونَ الْعَبْدِيُّ ، عِنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا جُنَاحَ عَلَى امْرِئٍ أَنْ يُصْدِقَ امْرَأَةً ، قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا ، إِذَا أَشْهَدَ وَتَرَاضَوْا . وَرَوَى عَاصِمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ ، عَنْ أَبِيهِ : أَنَّ امْرَأَةً تَزَوَّجَتْ عَلَى نَعْلَيْنِ ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرَضِيتِ مِنْ نَفْسِكِ وَمَالِكِ بِهَاتَيْنِ النَّعْلَيْنِ ؟ فَقَالَتْ : نَعَمْ فَأَجَازَهُ . وَرَوَى أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ خَطَبَ مِنْهُ الْمَرْأَةَ الَّتِي بَذَلَتْ نَفْسَهَا لَهُ : الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ . وَالْخَاتَمُ مِنَ الْحَدِيدِ أَقَلُّ الْجَوَاهِرِ قِيمَةً ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْقَلِيلِ مِنَ الْمَهْرِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَدِيدٍ صِينِيٍّ يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ، وَيَكُونُ ثَمَنُ النَّعْلَيْنِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ .

قِيلَ : لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلْعُرْفِ الْمَعْهُودِ ، لَنُقِلَ ، وَلَيْسَ فِي الْعُرْفِ أَنْ يُسَاوِيَ نَعْلَانِ فِي الْمَدِينَةِ ، وَخَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ . عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ : الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ ، عَلَى طَرِيقِ التَّقْلِيلِ ، وَلَوْ أَرَادَ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّرَةِ لَكَانَ عُدُولُهُ إِلَى الْعَشَرَةِ الْمُقَدَّرَةِ أَسَهْلَ وَأَفْهَمَ ، فَبَطَلَ هَذَا التَّأْوِيلُ . وَرَوَى يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ ، عَنْ صَالِحِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ رُومَانَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَعْطَى امْرَأَةً صَدَاقًا مِلْءَ يَدَيْهِ طَعَامًا كَانَتْ بِهِ حَلَالًا . وَرَوَى قَتَادَةُ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُؤَمِّلِ ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ : إِنَّا كُنَّا لِنَنْكِحُ الْمَرْأَةَ عَلَى الْحَفْنَةِ أَوِ الْحَفْنَتَيْنِ مِنْ دَقِيقٍ . وَرَوَى قَتَادَةُ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : تَزَوَّجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ قُوِّمَتْ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ . وَهَذِهِ كُلُّهَا نُصُوصٌ لَا يَجُوزُ خِلَافُهَا . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ : هُوَ أَنْ كُلَّ مَا صَلَحَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا ، صَلَحَ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا كَالْعَشَرَةِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ ثَبَتَ فِيهِ الْعَشَرَةُ عِوَضًا ، فَصَحَّ أَنْ يَثْبُتَ دُونَهَا عِوَضًا كَالْبَيْعِ ، وَلِأَنَّهُ عِوَضٌ عَلَى إِحْدَى مَنْفَعَتَيْهَا فَلَمْ يَتَقَدَّرْ قِيَاسًا عَلَى أُجْرَةِ مَنَافِعِهَا ، وَلِأَنَّ مَا يُقَابِلُ الْبُضْعَ مِنَ الْبَدَلِ لَا يَتَقَدَّرُ فِي الشَّرْعِ كَالْخُلْعِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ عِوَضٍ لَا يَتَقَدَّرُ أَكْثَرُهُ لَا يَتَقَدَّرُ أَقَلُّهُ قِيَاسًا عَلَى جَمِيعِ الْأَعْوَاضِ ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ : لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عِوَضًا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهَا : أَنَّ ظَاهِرَهَا مَتْرُوكٌ بِالْإِجْمَاعِ : لِأَنَّهُ لَوْ نَكَحَهَا بِغَيْرِ مَهْرٍ حَلَّتْ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا دُونُ الْعَشَرَةِ مَالٌ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ مَالٌ ثُمَّ بَيَّنَ دِرْهَمًا أَوْ دَانِقًا قُبِلَ مِنْهُ ، فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِهِ فِي الْمَهْرِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ ضَعِيفٌ : لِأَنَّهُ رِوَايَةُ مُبَشِّرِ بْنِ عُبَيْدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ وَهُوَ مُدَلِّسٌ . وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ جَابِرٍ مِنْ طَرِيقٍ ثَابِتَةٍ قَوْلًا مُسْنَدًا وَفِعْلًا مُنْتَشِرًا ، مَا يُنَافِيهِ ، فَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِهِ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ إِنْ صَحَّ فِي امْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا ، كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا عَشَرَةً ، فَحُكِمَ لَهَا فِيهِ بِالْعَشَرَةِ .

وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ فَقَوْلُهُمْ : مَالٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ الْبُضْعُ فَاسِدٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يُسْتَبَاحُ الْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ بِالْمَالِ ، وَإِنَّمَا يُسْتَبَاحُ بِإِخْرَاجِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوِ اسْتُبِيحَ بِالْمَالِ لَمَا لَزِمَ رَدُّ الْمَالِ ، وَرَدُّ الْمَالِ لَازِمٌ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَيْسَ يُسْتَبَاحُ بِهِ الْعُضْوُ ، وَإِنَّمَا يُقْطَعُ بِهِ . وَالرَّابِعُ : أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَا يَخْتَصُّ بِاسْتِبَاحَةِ عُضْوٍ ، بَلْ يُسْتَبَاحُ بِهِ جَمِيعُ الْبَدَنِ ، فَبَطَلَ التَّعْلِيلُ بِمَا قَالُوهُ . ثُمَّ الْمَعْنَى فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ أَنَّهُ عَنْ فِعْلٍ كَالْجِنَايَاتِ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا كَسَائِرِ الْجِنَايَاتِ ، وَالْمَهْرُ عِوَضٌ فِي عَقْدِ مُرَاضَاةٍ فَلَمْ يَتَقَدَّرْ كَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ الْبُضْعِ الْمُقَدَّرِ فَفَاسِدٌ بِالْبَدَلِ فِي الْخُلْعِ ، هُوَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ ، وَإِنْ كَانَ فِي مُقَابَلَةِ بُضْعٍ مُقَدَّرٍ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْبُضْعِ أَنَّهُ صَارَ مُقَدَّرًا : لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ ، فَصَارَ مُقَدَّرًا لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ ، وَالْمَهْرُ يَتَجَزَّأُ ، فَصَحَّ أَنْ يَزِيدَ وَصَحَّ أَنْ يَنْقُصَ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الشَّهَادَةِ : فَالْمَعْنَى فِيهَا أَنَّهَا مِنْ شُرُوطِ الْعَقْدِ فَتَقَدَّرَتْ كَمَا تَقَدَّرَتْ بِالزَّوْجِ وَالْوَلِيِّ ، وَلَيْسَ كَالْمَهْرِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَعْوَاضِ الْمُرَاضَاةِ ، وَلَوْ تَقَدَّرَ لَخَرَجَ أَنْ يَكُونَ عَنْ مُرَاضَاةٍ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَقَلَّ الْمَهْرِ وَأَكْثَرَهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ ، فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِمَا تَرَاضَى عَلَيْهِ الزَّوْجَانِ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ ، وَسَوَاءٌ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَقَلَّ ، إِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ جَائِزَةَ الْأَمْرِ . فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً زَوَّجَهَا أَبُوهَا هل يجوز أَنْ يُزَوِّجَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا : لِأَنَّهُ مُعَاوِضٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَرُوعِيَ فِيهِ عِوَضُ الْمِثْلِ كَمَا يُرَاعَى فِي بَيْعِهِ لِمَالِهَا ثَمَنُ الْمِثْلِ ، وَإِنْ لَمْ يُرَاعِ ذَلِكَ فِي بَيْعِهَا لِنَفْسِهَا . وَالْأَوْلَى أَنْ يَعْدِلَ الزَّوْجَانِ عَنِ التَّنَاهِي فِي الزِّيَادَةِ الَّتِي يَقْصُرُ الْعُمُرُ عَنْهَا ، وَعَنِ التَّنَاهِي فِي النُّقْصَانِ الَّذِي لَا يَكُونُ لَهُ فِي النُّفُوسِ مَوْقِعٌ ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا . وَأَنْ يُقْتَدَى بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُهُورِ نِسَائِهِ طَلَبًا لِلْبَرَكَةِ فِي مُوَافَقَتِهِ ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى مَا رَوَتْهُ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا . وَقَدْ جَعَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ مُهُورَ الشَّرِيفَاتِ مِنْ نِسَاءِ قَوْمِهِ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ : اقْتِدَاءً بِصَدَاقِ أُمِّ حَبِيبَةَ . وَقَدْ رَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : خَيْرُهُنَّ أَيَسَرُهُنَّ صَدَاقًا . وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَحْسَنُهُنَّ وَجْهًا وَأَقَلُّهُنَّ مَهْرًا " .

وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " تَيَاسَرُوا فِي الصَّدَاقِ ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُعْطِي الْمَرْأَةَ ، يَبْقَى ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهَا حَسَكَةً . وَفِي الْحَسِيكَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : الْعَدَاوَةُ . وَالثَّانِي : الْحِقْدُ . فَصْلٌ : وَيَجُوزُ الصَّدَاقُ عَيْنًا حَاضِرَةً ، وَدَيْنًا فِي الذِّمَّةِ ؛ حَالًّا وَمُؤَجَّلًا وَمُنَجَّمًا ، وَأَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ رَهْنٌ وَضَامِنٌ ، كَالْأَثْمَانِ وَالْأُجُورِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْجُعْلِ وَالْإِجَارَةِ
جواز أن يتزوجها على تعليم القرآن

بَابُ الْجُعْلِ وَالْإِجَارَةِ ، مِنَ الْجَامِعِ مِنْ كِتَابِ الصَّدَاقِ وَكِتَابِ النِّكَاحِ ، مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَمِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ الْقَدِيمِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِذَا أَنْكَحَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُرْآنِ ، فَلَوْ نَكَحَهَا عَلَى أَنْ يُعَلِّمَهَا قُرْآنًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ ، فَيَكُونُ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ مَهْرًا لَهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : لَا يَجُوزُ . اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ [ النِّسَاءِ : 24 ] وَلَيْسَ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ مَالًا فَلَمْ يَصِحَّ ابْتِغَاءُ النِّكَاحِ بِهِ . وَمَا رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ : لَقَّنْتُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ قُرْآنًا ، فَأَعْطَانِي قَوْسًا ، فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ ، فَقَالَ : أَتُحِبُ أَنْ يُقَوِّسَكَ اللَّهُ بِقَوْسٍ مِنْ نَارٍ ؟ قُلْتُ : لَا ، قَالَ : فَارْدُدْهُ ، فَلَوْ جَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَيْهِ لَمَا تَوَعَّدَهُ عَلَيْهِ ، فَدَلَّ تَحْرِيمُهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ عِوَضًا عَلَى تَحْرِيمِ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِهِ عِوَضًا . وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَكُنْ مَالًا وَلَا فِي مُقَابَلَتِهِ مَالٌ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا ؛ قِيَاسًا عَلَى طَلَاقِ ضَرَّتِهَا ، وَعِتْقِ أَمَتِهِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ قُرْبَةٌ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ ، وَلِأَنَّ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ فَرْضٌ ، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْفُرُوضِ . وَدَلِيلُنَا : مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ : أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَدْ وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ ، وَقَامَتْ قِيَامًا طَوِيلًا ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ إِلَيْهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلْ عِنْدَكَ شَيْءٌ تُصْدِقُهَا ؟ فَقَالَ : مَا عِنْدِي إِلَّا إِزَارِي هَذَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنْ أَخَذَتْهُ مِنْكَ عَرِيتَ ، وَإِنْ تَشُقَّهُ عَرِيتَ ، فَالْتَمِسْ شَيْئًا وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ ، فَالْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلْ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا ، فَقَالَ رَسُولُ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ . وَهَذَا نَصٌّ . وَرَوَى عَطَاءٌ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَعَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ فَقَالَ : اجْلِسِي بَارَكَ اللَّهُ فِيكِ ، ثُمَّ دَعَا رَجُلًا ، فَقَالَ : إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُزَوِّجَكَهَا إِنْ رَضِيتَ ، فَقَالَ : مَا رَضِيتَ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْ رَضِيتُ ، فَقَالَ : هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ ؟ فَقَالَ : لَا وَاللَّهِ ، فَقَالَ : مَا تَحْفَظُ مِنَ الْقُرْآنِ ؛ فَقَالَ : سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا ، فَقَالَ : قُمْ فَعَلِّمْهَا عِشْرِينَ آيَةً ، وَهِيَ امْرَأَتُكَ . فَإِنْ قِيلَ : وَهُوَ تَأْوِيلُ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيِّ مَعْنَى قَوْلِهِ : " قَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ " ، أَيْ لِأَجْلِ فَضِيلَتِكَ بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ . قِيلَ عَنْ هَذَا جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ ؛ لِيَكُونَ صَدَاقًا ، فَلَمَّا لَمْ يَجِدْ جَعَلَ الْقُرْآنَ بَدَلًا مِنْهُ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا . وَالثَّانِي : أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ يَدْفَعُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : قُمْ فَعَلِّمْهَا عِشْرِينَ آيَةً وَهِيَ امْرَأَتُكَ . فَإِنْ قَالُوا - وَهُوَ تَأْوِيلُ مَكْحُولٍ - أَنَّ هَذَا خَاصٌّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قِيلَ عَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُتَزَوِّجَ بِهَا ، فَيَصِيرُ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ ، وَإِنَّمَا كَانَ مُزَوِّجًا لَهَا ، فَلَمْ يَكُنْ مَخْصُوصًا . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا خُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِهِ ، وَإِلَّا كَانَ فِيهِ مُشَارِكًا لِأُمَّتِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَوْلُهُ : " قَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ " مَجْهُولٌ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : " قُمْ فَعَلِّمْهَا عِشْرِينَ آيَةً " هِيَ مَجْهُولَةٌ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَاقًا مَجْهُولًا ، قِيلَ عَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا ؛ لِأَنَّهُ سَأَلَ الرَّجُلَ عَمَّا مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ ، فَذَكَرَ سُوَرًا سَمَّاهَا فَقَالَ : زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ ، يَعْنِي السُّوَرَ الْمُسَمَّاةَ ، وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : " عِشْرِينَ آيَةً " يَعْنِي مِنَ السُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي فِي الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوَّلِهَا ، فَصَارَ الصَّدَاقُ مَعْلُومًا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا النَّقْلِ جَوَازُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ صَدَاقًا ، فَاقْتَصَرَ مِنَ الرِّوَايَةِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ ، وَأَمْسَكَ عَنْ نَقْلِ مَا عُرِفَ دَلِيلُهُ مِنْ غَيْرِهِ .

وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ أَنَّ كُلَّ مَنْفَعَةٍ صَحَّ أَنْ يَبْذُلَهَا الْغَيْرُ عَنِ الْغَيْرِ تَبَرُّعًا جَازَ أَنْ يَبْذُلَهَا مَهْرًا ، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ الْمُبَاحَةِ ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ عَسِيبُ الْفَحْلِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْمَاءُ ، وَهُوَ عَيْنٌ وَلَيْسَتْ بِمَنْفَعَةٍ . فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ : فَنَحْنُ نَقُولُ بِنُطْقِهَا ، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِدَلِيلِهَا ، وَنَحْنُ وَإِنْ قُلْنَا بِدَلِيلِ الْخِطَابِ ، فَقَدْ نَقَلْنَا عَنْهُ نُطْقَ دَلِيلٍ آخَرَ ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ تَارَةً ، وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أُخْرَى . وَحَدِيثُ عُبَادَةَ أَثْبَتُ ، وَأَيُّهُمَا صَحَّ فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيمُهُ لِلْقُرْآنِ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَرْضُهُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى طَلَاقِ امْرَأَتِهِ وَعِتْقِ أَمَتِهِ : فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا ، وَيَنْتَفِعُ بِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا . فَإِنْ قِيلَ : فَهِيَ تَنْتَفِعُ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ ، أَوْ عِتْقِ أَمَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَرِدُ بِهَا . قِيلَ : مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ مَعَ الضَّرَّةِ وَالْأَمَةِ مِثْلُ مَا تَسْتَحِقُّهُ مُنْفَرِدَةً ، فَلَمْ يَعُدْ عَلَيْهَا مِنْهُ نَفْعٌ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ قُرْبَةٌ ، فَمُنْتَقَضٌ بِكَتْبِ الْمَصَاحِفِ وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا ، وَإِنْ كَانَ قُرْبَةً . ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ أَنَّ النِّيَابَةَ فِيهِمَا لَا تَصِحُّ ، وَأَنَّ نَفْعَهُمَا لَا يَعُودُ عَلَى غَيْرِ فَاعِلِيهِمَا ، وَلَيْسَ كَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ ، وَيَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى غَيْرِ فَاعِلِهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَنَّهُ فَرْضٌ فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ ، فَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ فَرْضًا ، فَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ ، وَيَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ الْأُجْرَةُ فِيمَا كَانَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ ، كَغَسْلِ الْمَوْتَى ، وَحَمْلِ الْجَنَائِزِ ، وَحَفْرِ الْقُبُورِ . فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَا أَصْدَقَهَا مِنْهُ مَعْلُومًا تَنْتَفِي عَنْهُ الْجَهَالَةُ ؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ الْمَجْهُولَ حكمه لَا يَصِحُّ .

أَحْوَالُ الصَّدَاقِ بِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ

[ أَحْوَالُ الصَّدَاقِ بِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ ] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُصْدِقَهَا تَعْلِيمَ جَمِيعِ الْقُرْآنِ . وَالثَّانِي : تَعْلِيمَ سُورَةٍ مِنْهُ . وَالثَّالِثُ : تَعْلِيمَ آيَاتٍ مِنْهُ . الْحَالَةُ الْأُولَى : أَنْ يُصْدِقَهَا تَعْلِيمَ جَمِيعِ الْقُرْآنِ ، فَإِنْ أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ جَمِيعِ الْقُرْآنِ فَجَمِيعُهُ مَعْلُومٌ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَ بِأَيِّ قِرَاءَةٍ يُلَقِّنُهَا ، فَإِنَّ حُرُوفَ الْقُرَّاءِ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي ، وَالسُّهُولَةِ وَالصُّعُوبَةِ .

فَإِنْ ذَكَرَ قِرَاءَةً مُعَيَّنَةً لَمْ يَعْدِلْ بِهَا إِلَى غَيْرِهَا ، وَإِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يُعَيِّنْ ، فَفِي الصَّدَاقِ وَجْهَانِ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ صَدَاقٌ بَاطِلٌ ؛ لِاخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ، فَصَارَ مَجْهُولًا كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا ثَوْبًا ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ صَدَاقٌ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ قِرَاءَةٍ تَقُومُ مَقَامَ غَيْرِهَا ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ كُلِّهَا شَافٍ كَافٍ ، وَكَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا قَفِيزًا مِنْ صُبْرَةٍ ، جَازَ ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ مَكَانَهُ مِنَ الصُّبْرَةِ لِتَمَاثُلِهَا ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِيمَا يُلَقِّنُهَا بِهِ مِنَ الْحُرُوفِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ - : أَنَّهُ يُلَقِّنُهَا بِالْأَغْلَبِ مِنْ قِرَاءَةِ الْبَلَدِ ، كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا دَرَاهِمَ كَانَتْ مِنْ غَالِبِ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ - : أَنَّهُ يُلَقِّنُهَا بِمَا شَاءَ مِنَ الْقِرَاءَاتِ الْمُفْرَدَةِ أَوْ بِالْجَائِزِ ، وَأَنَّ كُلَّ قِرَاءَةٍ تَقُومُ مَقَامَ غَيْرِهَا . الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُصْدِقَهَا تَعْلِيمَ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ ، وَإِنْ أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ ، فَلَا يَصِحُّ حَتَّى تَكُونَ السُّورَةُ مَعْلُومَةً ؛ لِاخْتِلَافِ السُّوَرِ بِالطُّولِ وَالْقِصَرِ ، وَأَنَّ فِيهَا الْمُشْتَبِهَ وَغَيْرَ الْمُشْتَبِهِ ، فَإِذَا عَيَّنَ السُّورَةَ كَانَ الْكَلَامُ فِي حُرُوفِ الْقِرَاءَةِ عَلَى مَا مَضَى . الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُصْدِقَهَا تَعْلِيمَ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ ، وَإِنْ أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ ، فَصِحَّةُ ذَلِكَ مُعْتَبَرَةٌ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ السُّورَةُ مَعْلُومَةً ، فَإِنْ كَانَتْ مَجْهُولَةً لَمْ يَجُزْ ، وَكَانَ الصَّدَاقُ بَاطِلًا . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الْآيَاتُ مِنَ السُّورَةِ مَعْلُومَةً مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : عَشْرُ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، أَوْ مِنْ رَأْسِ الْمَائِدَةِ ، أَوْ عَشْرٌ مِنَ الطَّلَاقِ ، فَإِنْ أَطْلَقَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ لِلْجَهْلِ بِتَعْيِينِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : جَائِزٌ ، وَيَتَوَجَّهُ ذَلِكَ إِلَى عَشْرِ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِهَا ، اعْتِبَارًا بِعُرْفِ الْإِطْلَاقِ ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ لِلرَّجُلِ : قُمْ فَعَلِّمْهَا عِشْرِينَ آيَةً وَلَمْ يُعَيِّنْ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ بَاذِلًا أَقْصَرَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ وَهِيَ الْكَوْثَرُ ، ثَلَاثًا فَصَاعِدًا ؛ لِيَكُونَ قَدْرًا يَخْتَصُّ بِالْإِعْجَازِ ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْإِعْجَازِ ، وَتَعْيِينُ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي وُجُودَ الْإِعْجَازِ . وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ : وَهُوَ حَرْفُ الْقِرَاءَةِ ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ الْآيَاتِ الْمَشْرُوطَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ حُرُوفُ الْقِرَاءَةِ فِيهَا لَا تَخْتَلِفُ ، أَوْ كَانَ اخْتِلَافُهَا يَسِيرًا لَا يُؤَثِّرُ فِي زِيَادَةِ الْحُرُوفِ وَنُقْصَانِهَا لَمْ يُلْزَمْ شَرْطَهُ ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ ، فَهُوَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ . فَأَمَّا إِنْ أَصْدَقَهَا أَنْ يُعَلِّمَهَا الْقُرْآنَ شَهْرًا جَازَ ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنِ السُّوَرَ وَالْآيَاتِ ؛ لِأَنَّ

التَّعْلِيمَ قَدْ صَارَ بِتَقْدِيرِ الْمُدَّةِ مَعْلُومًا ، وَإِنْ كَانَ عَيْنُهُ مَجْهُولًا ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ عَلَيَّ أَنْ أَخْدِمَكَ شَهْرًا ، فَيَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنِ الْخِدْمَةَ ، كَمَا يَجُوزُ إِذَا أَطْلَقَ الْمُدَّةَ وَعَيَّنَ الْخِدْمَةَ ، ثُمَّ لَهَا أَنْ تَأْخُذَهُ بِتَعْلِيمِ مَا شَاءَتْ مِنَ الْقُرْآنِ لَا بِمَا شَاءَ الزَّوْجُ ، كَمَنِ اسْتُؤْجِرَ لِخِدْمَةٍ شَهْرًا ، كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ فِيمَا شَاءَ دُونَ الْمُؤَجَّرِ .

فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي صِفَةِ التَّعْلِيمِ

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي صِفَةِ التَّعْلِيمِ ] فَأَمَّا صِفَةُ التَّعْلِيمِ الذى يكون صداقا للمرأة ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَهَا السُّورَةَ آيَةً بَعْدَ آيَةٍ ، حَتَّى إِذَا حَفِظَتِ الْآيَةَ عَدَلَ بِهَا إِلَى مَا بَعْدَهَا حَتَّى تَخْتِمَ السُّورَةَ . وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِذَا حَفِظَتِ السُّورَةَ أَنْ يُدَرِّسَهَا إِيَّاهَا ؛ لِأَنَّ التَّدْرِيسَ مِنْ شُرُوطِ الْحِفْظِ لَا مِنْ شُرُوطِ التَّعْلِيمِ . فَلَوْ شَرَطَتْ عَلَيْهِ حِفْظَ الْقُرْآنِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ حِفْظَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا إِلَيْهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، فَلَهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُعَلِّمَهَا ، فَتَحْفَظَ مَا عَلَّمَهَا بِأَيْسَرِ تَعْلِيمٍ وَأَسْهَلِهِ ، فَهُوَ الْمَقْصُودُ وَقَدْ وَفَّى مَا عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُعَلِّمَهَا ، فَتَتَعَلَّمَ فِي الْحَالِ ، ثُمَّ تَنْسَى مَا تَعَلَّمَتْهُ ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَتَعَلَّمَ جَمِيعَ السُّورَةِ ثُمَّ تَنْسَاهَا ، فَقَدِ اسْتَقَرَّ التَّسْلِيمُ وَوَفَّى مَا عَلَيْهِ مِنَ التَّعْلِيمِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُعَلِّمَهَا ثَانِيَةً . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُلَقِّنَهَا مِنْهُ يَسِيرًا لَا يَخْتَصُّ بِالْإِعْجَازِ كَبَعْضِ آيَةٍ ، فَالتَّسْلِيمُ لَمْ يَسْتَقِرَّ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَهَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُعَلِّمَهَا قَدْرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِعْجَازُ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ تَسْلِيمٌ مُسْتَقِرٌّ ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَدْرُ بِانْفِرَادِهِ مَهْرًا ، فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهُ تَعْلِيمُهَا ثَانِيَةً . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ تَسْلِيمٌ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ ؛ لِأَنَّهُ بَعْضُ جُمْلَةٍ غَيْرِ مُتَمَيِّزَةٍ ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ تَعْلِيمُهَا ثَانِيَةً . وَالْحَالُ الثَّالِثُ : أَنْ يُعَلِّمَهَا فَتَكُونَ بَلِيدَةً ، قَلِيلَةَ الذِّهْنِ ، لَا تَتَعَلَّمُ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ وَعَنَاءٍ ، فَهَذَا عَيْبٌ يَكُونُ الزَّوْجُ فِيهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْمُقَامِ عَلَيْهِ وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ فَيَعْدِلَ إِلَى بَدَلِهِ ، وَفِي بَدَلِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ الْقَدِيمُ - : أُجْرَةُ مِثْلِ التَّعْلِيمِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي - وَهُوَ الْجَدِيدُ - : عَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ . وَسَنَذْكُرُ تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ مِنْ بَعْدُ . وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ لَا تَقْدِرُ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ بِحَالٍ فَفِي الصَّدَاقِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ ؛ لِتَعَذُّرِهِ وَإِعْوَازِهِ ، وَفِيمَا تَسْتَحِقُّهُ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : جَائِزٌ ، وَتَأْتِي بِغَيْرِهَا حَتَّى يُعَلِّمَهُ ؛ لِأَنَّ مَنْ لَهُ حَقٌّ إِذَا عَجَزَ عَنِ اسْتِيفَائِهِ بِنَفْسِهِ اسْتَوْفَاهُ بِغَيْرِهِ ، وَلَا خِيَارَ لَهَا ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ مِنْ جِهَتِهَا . وَهَلْ لِلزَّوْجِ الْخِيَارُ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا خِيَارَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيمٌ قَدِ اسْتَحَقَّتْهُ لِنَفْسِهَا فَجَازَ أَنْ تَسْتَوْفِيَهُ بِغَيْرِهَا ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَهُ الْخِيَارُ فِي الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلِذُّ مِنْ تَعْلِيمِهَا مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَلِذَّ مِنْ تَعْلِيمِ غَيْرِهَا ، فَإِنْ فَسَخَ فَفِيمَا يَلْزَمُهُ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أُجْرَةُ مِثْلِ التَّعْلِيمِ . وَالثَّانِي : مَهْرُ الْمِثْلِ . فَلَوْ أَرَادَتْ - وَهِيَ قَادِرَةٌ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ - أَنْ تَأْتِيَهُ بِغَيْرِهَا لِيُعَلِّمَهَا بَدَلًا مِنْهَا ، فَإِنْ رَاضَاهَا الزَّوْجُ عَلَى ذَلِكَ جَازَ ، وَإِنِ امْتَنَعَ فَفِي إِجْبَارِهِ عَلَى ذَلِكَ وَجْهَانِ ، وَتَعْلِيلُهُمَا مَا ذَكَرْنَا . وَلَوْ لَمْ يُعَلِّمْهَا الْقُرْآنَ حَتَّى تَعَلَّمَتْهُ مِنْ غَيْرِهِ ، فَقَدْ فَاتَ أَنْ تَسْتَوْفِيَهُ بِنَفْسِهَا ، فَيَكُونُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَأْتِيهِ بِغَيْرِهَا حَتَّى يُعَلِّمَهَا الْقُرْآنَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : قَدْ بَطَلَ الصَّدَاقُ ، وَفِيمَا تَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أُجْرَةُ مِثْلِ التَّعْلِيمِ . وَالثَّانِي : مَهْرُ الْمِثْلِ .

فَصْلٌ الْقَوْلُ فِيمَا إِذَا أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ وَهُوَ لَا يَحْفَظُهُ

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِيمَا إِذَا أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ وَهُوَ لَا يَحْفَظُهُ ] وَإِذَا أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ وَهُوَ لَا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ فِي ذِمَّتِهِ ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : عَلَيَّ أَنْ أُحَصِّلَ لَكِ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ ، فَهَذَا صَدَاقٌ جَائِزٌ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْقُرْآنَ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ لَهَا مَنْ يُعَلِّمُهَا الْقُرْآنَ إِمَّا مِنَ النِّسَاءِ أَوْ مِنْ ذَوِي مَحَارِمِهَا مِنَ الرِّجَالِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يُعَلِّمَهَا بِنَفْسِهِ ، أَوْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يُعَلِّمُهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ فِي عَيْنِهِ ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : عَلَيَّ أَنْ أُعَلِّمَكِ الْقُرْآنَ ، نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ جَازَ ، فَإِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى تَعْلِيمِهَا مِنَ الْمُصْحَفِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ لَا يَمْلِكُهَا ، جَازَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَهَا كَذَلِكَ الْقُرْآنُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْفَظُهُ ، فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَحْفَظَهُ فَيُعَلِّمَهَا .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ ، وَيَكُونُ الصَّدَاقُ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّهُ مَنْفَعَةٌ مِنْ مُعَيَّنٍ لَيْسَتْ فِي مِلْكِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا ، كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا خِدْمَةَ عَبْدٍ لَا يَمْلِكُهُ كَانَ بَاطِلًا وَإِنْ جَازَ أَنْ يَمْلِكَ الْعَبْدَ أَوْ يَسْتَأْجِرَهُ . وَخَالَفَ أَنْ يُصْدِقَهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ لَا يَمْلِكُهَا ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ ، وَالْمَنْفَعَةُ هَاهُنَا مُعَيَّنَةٌ ، أَلَا تَرَى لَوْ بَاعَ سِلْمًا ثَوْبًا مَوْصُوفًا فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُهُ جَازَ ، وَلَوْ بَاعَ ثَوْبًا مَعِيبًا لَا يَمْلِكُهُ لَمْ يَجُزْ . فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ . فَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ : أَنَّ الصَّدَاقَ جَائِزٌ ، كَانَتْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَصْبِرَ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ فَيُعَلِّمَهَا ، وَبَيْنَ أَنْ تَتَعَجَّلَ الْفَسْخَ وَتَرْجِعَ عَلَيْهِ بِأُجْرَةِ مِثْلِ التَّعْلِيمِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَبِمَهْرِ الْمِثْلِ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي ، فَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنَا أَسْتَأْجِرُ لَكِ مَنْ يُعَلِّمُكِ القرآن لَمْ يَلْزَمْهَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ مِنْهُ فِي عَيْنِهِ ، كَمَا لَوْ آجَرَهُ عَبْدًا فَزَمِنَ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُقِيمَ عَبْدًا غَيْرَهُ ، وَخَالَفَ أَنْ تُرِيدَ إِبْدَالَ نَفْسِهَا بِغَيْرِهَا ، فَيَكُونُ لَهَا ذَلِكَ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهَا ، فَجَازَ أَنْ تَكُونَ مُخَيَّرَةً فِي اسْتِيفَائِهِ ، وَهُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الزَّوْجِ ، فَلَمْ يَكُنْ مُخَيَّرًا فِي أَدَائِهِ . وَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الثَّانِي : أَنَّ الصَّدَاقَ بَاطِلٌ ، فَلَا فَرْقَ فِي بُطْلَانِهِ بَيْنَ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ مِنْ بَعْدُ أَوْ لَا يَتَعَلَّمَهُ ، وَفِيمَا تَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى : أَحَدُهُمَا : أُجْرَةُ الْمِثْلِ . وَالثَّانِي : مَهْرُ الْمِثْلِ .

فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي تَزَوُّجِ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّةَ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي تَزَوُّجِ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّةَ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ ] وَإِذَا تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ ذِمِّيَّةً عَلَى تَعْلِيمِهَا الْقُرْآنَ ، نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ قَصْدُهَا الِاهْتِدَاءَ بِهِ وَاعْتِبَارَ إِعْجَازِهِ وَدَلَائِلِهِ ، جَازَ ، وَعَلَيْهِ تَعْلِيمُهَا إِيَّاهُ كَالْمُسْلِمَةِ . وَإِنْ كَانَ قَصْدُهَا الِاعْتِرَاضَ عَلَيْهِ وَالْقَدْحَ فِيهِ ، لَمْ يَجُزْ وَكَانَ صَدَاقًا بَاطِلًا ؛ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ صِيَانَةِ الْقُرْآنِ عَنِ الْقَدْحِ وَالِاعْتِرَاضِ . وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ قَصْدَهَا ، فَهُوَ جَائِزٌ فِي ظَاهِرِ الْحَالِ ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ هِدَايَةٌ وَإِرْشَادٌ ، ثُمَّ يَسِيرُ بَحْثَ حَالِهَا فِي وَقْتِ التَّعْلِيمِ ؛ فَإِنْ عَرَفَ مِنْهَا مَبَادِئَ الْهِدَايَةِ أَقَامَ عَلَى تَعْلِيمِهَا ، وَإِنْ عَرَفَ مِنْهَا مَبَادِئَ الِاعْتِرَاضِ وَالْقَدْحِ فَسَخَ الصَّدَاقَ ، وَعَدَلَ إِلَى بَدَلِهِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أُجْرَةُ الْمِثْلِ . وَالثَّانِي : مَهْرُ الْمِثْلِ .

فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي تَزَوُّجِ الذِّمِّيِّ الذِّمِّيَّةَ عَلَى تَعْلِيمِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي تَزَوُّجِ الذِّمِّيِّ الذِّمِّيَّةَ عَلَى تَعْلِيمِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ] إِذَا تَزَوَّجَ الذِّمِّيُّ عَلَى أَنْ يُعَلِّمَهَا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ يعلم الذمية ، كَانَ صَدَاقًا فَاسِدًا ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ غَيَّرَا وَبَدَّلَا ، فَإِنْ تَحَاكَمَا إِلَيْنَا قَبْلَ التَّعْلِيمِ أَبْطَلْنَاهُ ، وَإِنْ تَحَاكَمَا بَعْدَ التَّعْلِيمِ أَمْضَيْنَاهُ ، كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا فَتَقَابَضَاهُ . [ الْقَوْلُ فِي تَزَوُّجِ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّةَ عَلَى تَعْلِيمِ التَّوْرَاةِ أَوِ الْإِنْجِيلِ ] وَلَوْ تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ ذِمِّيَّةً عَلَى تَعْلِيمِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ، أَبْطَلْنَاهُ قَبْلَ التَّعْلِيمِ وَبَعْدَهُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ : أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ يَرَوْنَهُ جَائِزًا فَأَمْضَى مِنْهُ مَا تَقَابَضَاهُ ، وَنَحْنُ نَرَاهُ بَاطِلًا فَأَبْطَلْنَاهُ وَإِنْ تَقَابَضَاهُ .

فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي التَّزَوُّجِ عَلَى تَعْلِيمِ الشِّعْرِ

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي التَّزَوُّجِ عَلَى تَعْلِيمِ الشِّعْرِ ] وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى تَعْلِيمِ الشِّعْرِ : فَإِنْ كَانَ الشِّعْرُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ ، لَمْ يَجُزْ وَكَانَ صَدَاقًا فَاسِدًا لِلْجَهَالَةِ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا ، نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ هِجَاءً وَفُحْشًا لَمْ يَجُزْ وَكَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ ، وَإِنْ كَانَ زُهْدًا وَحِكَمًا وَأَمْثَالًا وَأَدَبًا جَازَ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا . حُكِيَ أَنَّ الْمُزَنِيَّ سُئِلَ عَنْ تَعْلِيمِ الشِّعْرِ أَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا ؟ فَقَالَ : إِنْ كَانَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ : يَوَدُّ الْمَرْءُ أَنْ يُعْطَى مُنَاهُ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا مَا أَرَادَ يَقُولُ الْمَرْءُ فَائِدَتِي وَمَالِي وَتَقْوَى اللَّهِ أَفْضَلُ مَا اسْتَفَادَا وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً وَإِنَّ مِنَ الْبَيَانَ لَسِحْرًا . جَازَ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " أَوْ يَأْتِيهَا بِعَبْدِهَا الْآبِقِ فَعَلَّمَهَا أَوْ جَاءَهَا بِالْآبِقِ " .

فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي التَّزْوِيجِ عَلَى مَنَافِعِ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ

[ الْقَوْلُ فِي /1 L33325 التَّزْوِيجِ عَلَى مَنَافِعِ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ /1 ] قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنَافِعُ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ صَدَاقًا لِزَوْجَتِهِ ، مِثْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَخْدِمَهَا شَهْرًا ، أَوْ يَبْنِيَ لَهَا دَارًا ، أَوْ يَخِيطَ لَهَا ثَوْبًا ، أَوْ يَرْعَى لَهَا غَنَمًا . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنَافِعُ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ صَدَاقًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنَافِعُ الْعَبْدِ صَدَاقًا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنَافِعُ الْحُرِّ صَدَاقًا . اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ [ النِّسَاءِ : 24 ] وَلَيْسَ هَذَا مَالًا ، فَيَصِحُّ ابْتِذَالُ النِّكَاحِ بِهِ ، وَلِأَنَّ تَسْلِيمَ الْمَنْفَعَةِ

لَا يَصِحُّ إِلَّا بِتَسْلِيمِ الرَّقَبَةِ ، وَلَيْسَتْ رَقَبَةُ الْحُرِّ مَالًا ، فَلَمْ يَجِبْ بِتَسْلِيمِ مَنْفَعَتِهِ تَسْلِيمُ مَالٍ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا ، وَرَقَبَةُ الْعَبْدِ مَالٌ مُوجِبٌ بِتَسْلِيمِ مَنْفَعَتِهِ تَسْلِيمَ مَالٍ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ حِينَ تَزَوَّجَ مُوسَى بِابْنَتِهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ [ الْقَصَصِ : 27 ] يَعْنِي عَمَلَ ثَمَانِي حِجَجٍ ، فَأَسْقَطَ ذِكْرَ الْعَمَلِ ، وَاقْتَصَرَ عَلَى الْمُدَّةِ ؛ لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ بَيْنَهُمَا ، وَالْعَمَلُ رَعْيُ الْغَنَمِ ، فَجَعَلَ رَعْيَ مُوسَى ثَمَانِي سِنِينَ صَدَاقًا لِبِنْتِهِ . وَهَذَا نَصٌّ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا فِي غَيْرِ شَرِيعَتِنَا فَلَمْ يَلْزَمْنَا . قِيلَ شَرَائِعُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَازِمَةٌ لَنَا عَلَى قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا ، فَلَمْ يَرِدْ نَسْخٌ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا مَنْسُوخُ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صَدَاقِهَا لِنَفْسِهِ ، وَقَدْ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي شَرِيعَتِنَا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [ النِّسَاءِ : 4 ] قِيلَ عَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَضَافَ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ مَجَازًا لِقِيَامِهِ فِيهِ بِنَفْسِهِ ، وَإِلَّا فَهُوَ مِلْكٌ لَهَا دُونَهُ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ نَسْخُ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِهِ دَلِيلًا عَلَى نَسْخِ جَمِيعِ أَحْكَامِهِ ، كَمَا لَمْ يَكُنْ نَسْخُ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ دَلِيَلًا عَلَى نَسْخِ الصَّلَاةِ الَّتِي كَانَتْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ . فَإِنْ قِيلَ : فَشُعَيْبٌ جَعَلَ الْمَنْفَعَةَ مُقَدَّرَةً بِمُدَّتَيْنِ ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ فِي شَرِيعَتِنَا . قِيلَ : الْمَنْفَعَةُ مُقَدَّرَةٌ بِمُدَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ ثَمَانُ سِنِينَ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كَانَتْ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى ثَمَانِي حِجَجٍ وَاجِبَةٍ ، وَكَانَتْ سَنَتَانِ عِدَةً مِنْهُ ، فَقَضَى اللَّهُ عَنْهُ عِدَتَهُ فَأَتَمَّهَا عَشْرًا . وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ : أَنَّهَا مَنْفَعَةٌ تُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَصَحَّ أَنْ تَثْبُتَ صَدَاقًا كَمَنَافِعِ الْعَبْدِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَصِحُّ عَلَى مَنْفَعَةِ الْعَبْدِ فَصَحَّ عَلَى مَنْفَعَةِ الْحُرِّ كَالْإِجَارَةِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا صَحَّ أَنْ يَثْبُتَ فِي مُقَابَلَةِ مَنَافِعِ الْعَبْدِ صَحَّ أَنْ يَثْبُتَ فِي مُقَابَلَةِ مَنَافِعِ الْحُرِّ كَالدَّرَاهِمِ . أَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهَا . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّهَا مَنْفَعَةٌ لَا تَجِبُ بِتَسْلِيمِهَا تَسْلِيمُ مَالٍ ، فَخَطَأٌ ؛ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ لَيْسَتْ فِي مُقَابَلَةِ الْعِوَضِ ، فَيُرَاعَى أَنْ يَكُونَ مَالًا ، وَإِنَّمَا الْعِوَضُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهَا أَنْ تَكُونَ الرَّقَبَةُ مَالًا أَوْ غَيْرَ مَالٍ ، فَالْإِجَارَةُ عَلَى مَنَافِعِ الْحُرِّ كَالْإِجَارَةِ عَلَى مَنَافِعِ الْعَبْدِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رَقَبَةُ الْحُرِّ مَالًا وَكَانَتْ رَقَبَةُ الْعَبْدِ مَالًا ، فَكَذَلِكَ الصَّدَاقُ ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ أَصْدَقَهَا مَنَافِعَ أُمِّ وَلَدِهِ أَوْ مَنَافِعَ وَقْفِهِ ، جَازَ وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الرَّقَبَةُ مَالًا . فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَصُورَةُ مَسْأَلَتِنَا فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَجَعَلَ صَدَاقَهَا أَنْ يَأْتِيَهَا بِعَبْدِهَا الْآبِقِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مَعْرُوفَ الْمَكَانِ ، تَصِحُّ الْإِجَارَةُ عَلَى الْمَجِيءِ بِهِ ، فَهَذَا صَدَاقٌ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ مَا جَازَتْ عَلَيْهِ الْإِجَارَةُ جَازَ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا كَسَائِرِ الْأَعْمَالِ .

وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَعْرُوفِ الْمَكَانِ ، فَهَذَا لَا تَصِحُّ عَلَيْهِ الْإِجَارَةُ وَتَصِحُّ عَلَيْهِ الْجُعَالَةُ ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَجْهُولُ الْمَكَانِ ، فَيَصِيرُ الصَّدَاقُ بِهِ مَجْهُولًا ، وَالصَّدَاقُ الْمَجْهُولُ بَاطِلٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهِ جُعَالَةٌ غَيْرُ لَازِمَةٍ وَالصَّدَاقُ لَازِمٌ ، فَتَنَافَيَا ، فَبَطَلَ . فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ : إِذَا أَصْدَقَهَا أَنْ يَجِيئَهَا بِعَبْدِهَا الْآبِقِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَدَاقٌ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ أُجْرَةِ الْمَجِيءِ بِالْآبِقِ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الضَّرْبِ الْأَوَّلِ إِذَا كَانَ مَعْرُوفَ الْمَكَانِ أَوْ إِلَى الضَّرْبِ الثَّانِي إِذَا كَانَ مَجْهُولَ الْمَكَانِ ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَرَادَ بِهِ الضَّرْبَ الْأَوَّلَ مَعَ الْعِلْمِ بِمَكَانِ الْآبِقِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُوَافِقًا لِلشَّافِعِيِّ وَلِسَائِرِ أَصْحَابِهِ . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ أَرَادَ بِهِ الضَّرْبَ الثَّانِيَ إِذَا كَانَ مَجْهُولَ الْمَكَانِ وَكَانَتِ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ جُعَالَةً ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِلشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَصَّ عَلَى بُطْلَانِ الصَّدَاقِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ ، وَمُخَالِفًا لِسَائِرِ أَصْحَابِنَا ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ فِي تَعْلِيلِ بُطْلَانِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ أَجْرِ التَعْلِيمِ ، ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : وَبِنِصْفِ أَجْرِ الْمَجِيءِ بِالْآبِقِ ، فَإِنْ لَمْ يُعَلِّمْهَا أَوْ لَمْ يَأْتِهَا بِالْآبِقِ رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا ؛ لَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا يُعَلِّمُهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِذَا أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ ثُمَّ طَلَّقَ . وَالثَّانِي : إِذَا أَصْدَقَهَا أَنْ يَجِيئَهَا بِعَبْدِهَا الْآبِقِ ثُمَّ طَلَّقَ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ ، وَهُوَ أَنْ يُصْدِقَهَا تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ ثُمَّ طَلَّقَ ، فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :

فَصْلٌ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ تَعْلِيمِهَا

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : [ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ تَعْلِيمِهَا ] : أَحَدُهَا : أَنْ يُطَلِّقَ بَعْدَ أَنْ عَلَّمَهَا جَمِيعَ الْقُرْآنِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ طَلَاقِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ ، أَوْ بَعْدَهُ . فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ : فَقَدِ اسْتَقَرَّ لَهَا بِالدُّخُولِ جَمِيعُ الصَّدَاقِ ، وَقَدْ وَفَّاهَا إِيَّاهُ بِتَعْلِيمِ جَمِيعِ الْقُرْآنِ ، فَلَا تَرَاجُعَ بَيْنَهُمَا بِشَيْءٍ . وَإِنْ كَانَ طَلَاقُهُ قَبْلَ الدُّخُولِ : فَقَدِ اسْتَحَقَّ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الصَّدَاقِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ . فَإِنْ كَانَ عَيْنًا حَاضِرَةً رَجَعَ بِنِصْفِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً وَلَهَا مِثْلُهَا رَجَعَ بِنِصْفِ مِثْلِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِثْلٌ رَجَعَ بِقِيمَةِ نِصْفِهَا ، وَلَيْسَ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ عَيْنًا حَاضِرَةً فَيَرْجِعُ بِنِصْفِهَا ،

وَلَا هُوَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ فَيَرْجِعُ بِمِثْلِ نِصْفِهِ ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ نِصْفِهِ ، وَذَلِكَ نِصْفُ أُجْرَةِ مِثْلِ التَّعْلِيمِ .

فَصْلٌ أَنْ يُطَلِّقَهَا قَبْلَ تَعْلِيمِهَا

فَصْلٌ : الْقِسْمُ الثَّانِي : [ أَنْ يُطَلِّقَهَا قَبْلَ تَعْلِيمِهَا ] وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُطَلِّقَهَا قَبْلَ أَنْ يُعَلِّمَهَا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ فَيُنْظَرُ : فَإِنْ كَانَ التَّعْلِيمُ مَشْرُوطًا فِي ذِمَّتِهِ ، اسْتَأْجَرَ لَهَا مِنَ النِّسَاءِ وَمِنْ ذَوِي مَحَارِمِهَا مِنَ الرِّجَالِ مَنْ يُعَلِّمُهَا عَلَى مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْقُرْآنِ ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ . وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيمُ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فِي عَيْنِهِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ لَهُ تَعْلِيمُهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ، كَمَا يَجُوزُ سَمَاعُ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النِّسَاءِ الْأَجَانِبِ ، وَقَدْ كَانَتْ نِسَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثْنَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ الْأَصَحُّ - : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا فِي مُطَاوَلَةِ كَلَامِهَا مِنَ الِافْتِتَانِ بِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُمَا رُبَّمَا خَلَوْا ، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَخْلُوَنَّ أَحَدُكُمْ بِامْرَأَةٍ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ ثَالِثُهُمَا . فَإِذَا قُلْنَا : إِنَّ تَعْلِيمَهَا لَا يَجُوزُ ، نُظِرَ حَالُ الطَّلَاقِ ؛ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ ، رَجَعَتْ عَلَيْهِ - فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ - بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ ، وَفِي قَوْلِهِ الْجَدِيدِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ . وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ : رَجَعَتْ عَلَيْهِ - فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ - بِنِصْفِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ ، وَفِي قَوْلِهِ الْجَدِيدِ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ . وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهَا تُعَلَّمُ الْقُرْآنَ ، لَمْ يَخْلُ الطَّلَاقُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَقَدِ اسْتَقَرَّ لَهَا جَمِيعُ الصَّدَاقِ ، فَعَلَى هَذَا يُعَلِّمُهَا جَمِيعَ الْقُرْآنِ . فَلَوِ اخْتَلَفَ ؛ فَقَالَ الزَّوْجُ : قَدْ عَلَّمْتُكِ الْقُرْآنَ ، وَقَالَتْ : لَمْ تُعَلِّمْنِي ، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ حَافِظَةً لِلْقُرْآنِ فِي الْحَالِ ، أَوْ غَيْرَ حَافِظَةٍ . فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ حَافِظَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا ، وَعَلَيْهِ تَعْلِيمُهَا . وَإِنْ كَانَتْ حَافِظَةً ، وَقَالَتْ : حَفِظْتُ مِنْ غَيْرِكَ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا أَيْضًا مَعَ يَمِينِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ حِفْظَهَا شَاهِدٌ عَلَى صِدْقِهِ . وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَلَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ ، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْقُرْآنِ هَلْ يَتَجَزَّأُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَجَزَّأَ فِي كَلِمَاتِهِ وَحُرُوفِهِ الَّتِي جَزَّأَهَا السَّلَفُ عَلَيْهَا ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُعَلِّمَهَا نِصْفَ الْقُرْآنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ ، وَإِنْ تَجَزَّأَ فِي كَلِمَاتِهِ وَحُرُوفِهِ ، فَلَيْسَ يَتَمَاثَلُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ ، وَأَنَّ بَعْضَهُ أَصْعَبُ مِنْ بَعْضٍ ، وَسُوَرَهُ أَصْعَبُ مِنْ سُوَرِهِ ، وَعَشْرٌ أَصْعَبُ مِنْ عَشْرٍ ، وَقَدْ رُوِيَ

عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا ، فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهُ إِذَا اسْتَحَقَّتِ النِّصْفَ أَنْ يُعَلِّمَهَا شَيْئًا مِنْهُ ؛ لِتَعَذُّرِ تَمَاثُلِهِ ، وَتَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ أُجْرَةِ التَّعْلِيمِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ ، وَبِمِثْلِ نِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ .

فَصْلٌ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ تَعْلِيمِهَا الْبَعْضَ

فَصْلٌ : الْقِسْمُ الثَّالِثُ : [ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ تَعْلِيمِهَا الْبَعْضَ ] وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ أَنْ عَلَّمَهَا بَعْضَ الْقُرْآنِ وَبَقِيَ بَعْضُهُ كان صداق الزوجة تعليمها القرآن ، فَلَا يَخْلُو حَالُ طَلَاقِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ ، أَوْ بَعْدَهُ . فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ : فَقَدِ اسْتَقَرَّ لَهَا جَمِيعُهُ . فَإِنْ قُلْنَا : يُعَلِّمُهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ ، فَعَلَيْهِ تَعْلِيمُهَا مَا بَقِيَ مِنَ الْقُرْآنِ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ بِهِ جَمِيعَ الصَّدَاقِ . وَإِنْ قُلْنَا : لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلِّمَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ تَرَتَّبَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي تَجْزِئَةِ الْقُرْآنِ . فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ مُتَسَاوِي الْأَجْزَاءِ سَقَطَ عَنْهُ مِنَ الصَّدَاقِ بِقَدْرِ مَا عَلَّمَ ، كَأَنَّهُ عَلَّمَهَا النِّصْفَ ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ نِصْفُ الْمَهْرِ ، وَتَرْجِعُ بِبَدَلِ نِصْفِهِ الْبَاقِي عَلَى الْقَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ الْقَدِيمُ - : بِنِصْفِ أُجْرَةِ التَّعْلِيمِ . وَالثَّانِي - وَهُوَ الْجَدِيدُ - : بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ . وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ غَيْرُ مُتَسَاوِي الْأَجْزَاءِ . تَرَتَّبَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَا تَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ بَقِيَّةِ صَدَاقِهَا . فَإِنْ قِيلَ بِالْقَدِيمِ : أَنَّهَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْبَاقِي مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِ التَّعْلِيمِ سَقَطَ هَاهُنَا عَنْهُ مِنَ الصَّدَاقِ بِقَدْرِ أُجْرَةِ مَا عَلَّمَ ، وَبَنَى لَهَا عَلَيْهِ بِقَدْرِ أُجْرَةِ مِثْلِ مَا بَقِيَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ تَقْسِيطِ ذَلِكَ عَلَى الْأُجْرَةِ لَا عَلَى الْأَجْزَاءِ . وَإِنْ قِيلَ بِالْجَدِيدِ : إِنَّهَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْبَاقِي مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا سَقَطَ عَنْهُ مِنَ النِّصْفِ نِصْفُهُ وَهُوَ الرُّبُعُ ؛ لِأَنَّ أَجْزَاءَ النِّصْفِ الَّذِي عَلَّمَهَا قَدْ لَا تُمَاثِلُ أَجْزَاءَ النِّصْفِ الْبَاقِي لَهَا ، فَلِذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ نِصْفُ مَا عَلَّمَهَا وَهُوَ الرُّبُعُ ؛ لِأَنَّهُ مُمَاثِلٌ لِحَقِّهَا ، وَرَجَعَ عَلَيْهَا بِأُجْرَةِ نِصْفِ مَا عَلَّمَهَا وَهُوَ الرُّبُعُ ، وَرَجَعَتْ هِيَ عَلَيْهِ بِالْبَاقِي لَهَا وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَهْرِ الْمِثْلِ . وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ ، وَلَا يَخْلُو مَا عَلَّمَهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلَّمَهَا مِنْهُ النِّصْفَ . وَالثَّانِي : أَكْثَرُ مِنَ النِّصْفِ . وَالثَّالِثُ : أَقَلُّ مِنَ النِّصْفِ .

فَإِنْ عَلَّمَهَا مِنْهُ النِّصْفَ : تَرَتَّبَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي تَسَاوِي الْأَجْزَاءِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهَا مُتَسَاوِيَةٌ فَقَدِ اسْتَوْفَتْ بِالنِّصْفِ حَقَّهَا ، وَلَا تَرَاجُعَ بَيْنَهُمَا . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ تَرَتَّبَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَا تَرْجِعُ بِهِ عِنْدَ فَوَاتِ الصَّدَاقِ . فَإِنْ قِيلَ بِالْقَدِيمِ : إِنَّهَا تَرْجِعُ بِأُجْرَةِ التَّعْلِيمِ تَقَسَّطَ ذَلِكَ عَلَى الْأُجْرَةِ لَا عَلَى الْأَجْزَاءِ . مِثَالُهُ : أَنْ يَقُولَ كَمْ تُسَاوِي أُجْرَةُ مِثْلِ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ ؟ فَإِذَا قِيلَ : عَشَرَةُ دَنَانِيرَ . قِيلَ : فَكَمْ تُسَاوِي أُجْرَةُ مِثْلِ النِّصْفِ الَّذِي عَلَّمَهَا ؟ فَإِنْ قِيلَ : سِتَّةُ دَنَانِيرَ ؛ لِأَنَّهُ أَصْعَبُ النِّصْفَيْنِ ، صَارَتْ مُسْتَوْفِيَةً لِأَكْثَرَ مِنْ حَقِّهَا فَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِالْفَاضِلِ وَهُوَ دِينَارٌ ، وَإِنْ قِيلَ : أُجْرَةُ النِّصْفِ الَّذِي عَلَّمَهَا أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ ؛ لِأَنَّهُ أَخَفُّ النِّصْفَيْنِ صَارَتْ آخِذَةً أَقَلَّ مِنْ حَقِّهَا ، فَتَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْبَاقِي وَهُوَ دِينَارٌ . فَأَمَّا إِذَا قِيلَ بِالْجَدِيدِ : إِنَّهَا تَرْجِعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ سَقَطَ عَنْهُ مِنَ النِّصْفِ الَّذِي عَلَّمَهَا نِصْفُهُ وَهُوَ الرُّبُعُ ، وَرَجَعَ عَلَيْهَا بِأُجْرَةِ مِثْلِ تَعْلِيمِ الرُّبُعِ ، وَرَجَعَتْ عَلَيْهِ بِرُبُعِ مَهْرِ مِثْلِهَا . وَإِنْ كَانَ قَدْ عَلَّمَهَا أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ كَأَنَّهُ عَلَّمَهَا الثُّلُثَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ مُتَسَاوِي الْأَجْزَاءِ ، فَقَدِ اسْتَوْفَتْ بِالنِّصْفِ مِنْهُ حَقَّهَا ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِأُجْرَةِ مِثْلِ الْبَاقِي وَهُوَ السُّدُسُ ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ غَيْرُ مُتَسَاوِي الْأَجْزَاءِ تَرَتَّبَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ : فَإِنْ قِيلَ بِالْقَدِيمِ : إِنَّ الرُّجُوعَ يَكُونُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ ، نُظِرَ أُجْرَةُ مِثْلِ التَّعْلِيمِ ؛ فَإِذَا قِيلَ : عَشَرَةُ دَنَانِيرَ ، نُظِرَ أُجْرَةُ مِثْلِ الثُّلُثَيْنِ الَّذِي عَلَّمَهَا ؛ فَإِنْ كَانَتْ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ فَقَدِ اسْتَوْفَتْ حَقَّهَا وَلَا تَرَاجُعَ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ كَانَتْ سَبْعَةً رَجَعَ عَلَيْهَا بِدِينَارَيْنِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعَةً رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِدِينَارٍ وَإِنْ قِيلَ بِالْجَدِيدِ : إِنَّ الرُّجُوعَ يَكُونُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ سَقَطَ عَنْهُ مِنَ الصَّدَاقِ الثُّلُثُ ، وَهُوَ نِصْفُ مَا عَلَّمَ وَرَجَعَ عَلَيْهَا بِأُجْرَةِ مِثْلِ الثُّلُثِ الْبَاقِي ، وَرَجَعَتْ عَلَيْهِ بِتَمَامِ النِّصْفِ مِنْ صَدَاقِهَا وَهُوَ سُدُسُ مَهْرِ الْمِثْلِ . وَإِنْ كَانَ قَدْ عَلَّمَهَا أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ كَأَنَّهُ عَلَّمَهَا الثُّلُثَ . فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْقُرْآنَ مُتَسَاوِي الْأَجْزَاءِ ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعَلِّمَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَهَا تَمَامَ النِّصْفِ ، وَقَدِ اسْتَوْفَتْ . وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ مُتَسَاوِي الْأَجْزَاءِ ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلِّمَهَا سَقَطَ عَنْهُ مِنَ الصَّدَاقِ بِقِسْطِ مَا عَلَّمَ وَهُوَ الثُّلُثُ ، وَبَقِيَ لَهَا تَمَامُ النِّصْفِ وَهُوَ السُّدُسُ ، فَتَرْجِعُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ بِالسُّدُسِ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ بِالسُّدُسِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ . وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مُتَسَاوِي الْأَجْزَاءِ تَرَتَّبَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الرُّجُوعَ يَكُونُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ ، قُوِّمَتْ أُجْرَةُ الْجَمِيعِ عَلَى مَا وَصَفْنَا ، فَإِذَا

قِيلَ : عَشْرَةٌ نُظِرَتْ أُجْرَةُ الثُّلُثِ ، فَإِنْ قِيلَ : خَمْسَةٌ ، فَقَدِ اسْتَوْفَتْ ، وَإِنْ قِيلَ : ثَلَاثَةٌ ، رَدَّ عَلَيْهَا دِينَارَيْنِ ، وَإِنْ قِيلَ : سِتَّةٌ ، رَدَّتْ عَلَيْهِ دِينَارًا . وَإِذَا قِيلَ : إِنَّ الرُّجُوعَ يَكُونُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ سَقَطَ عَنْهُ مِنَ الصَّدَاقِ نِصْفُ الثُّلُثِ وَهُوَ السُّدُسُ ، وَرَجَعَ عَلَيْهَا بِأُجْرَةِ مِثْلِ السُّدُسِ الْبَاقِي ، وَرَجَعَتْ عَلَيْهِ بِبَقِيَّةِ النِّصْفِ مِنَ الصَّدَاقِ وَهُوَ ثُلُثُ مَهْرِ الْمِثْلِ . وَهَذَا الْكَلَامُ فِي أَحَدِ فَصْلَيِ الْمَسْأَلَةِ ، وَأَرْجُو أَلَّا يَكُونَ قَدْ خَرَجَ بِنَا الِاسْتِيفَاءُ إِلَى الْإِغْمَاضِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي مِنْهُمَا ، وَهُوَ : أَنْ يُصْدِقَهَا الْمَجِيءَ بِعَبْدِهَا الْآبِقِ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا ، فَيَتَرَتَّبُ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الضَّرْبَيْنِ فِي صِحَّةِ الصَّدَاقِ وَفَسَادِهِ . فَإِنْ كَانَ عَلَى الضَّرْبِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الصَّدَاقُ صَحِيحًا بِأَنْ يَكُونَ مَكَانُ الْعَبْدِ مَعْلُومًا ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ جَاءَهَا بِالْعَبْدِ الْآبِقِ ، أَوْ لَمْ يَجِئْهَا بِهِ . فَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَهَا بِعَبْدِهَا : فَلَا يَخْلُو حَالُ طَلَاقِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ ، أَوْ بَعْدَهُ . فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ : فَقَدِ اسْتَكْمَلَتْهُ وَاسْتَوْفَتْهُ ، فَلَا تَرَاجُعَ بَيْنَهُمَا . وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ : فَلَهَا نِصْفُهُ ، وَقَدِ اسْتَوْفَتْ جَمِيعَهُ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ أُجْرَةِ مِثْلِ الْمَجِيءِ بِالْآبِقِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ جَاءَهَا بِالْآبِقِ : فَلَا يَخْلُو طَلَاقُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ . فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ : فَقَدِ اسْتَكْمَلَتْهُ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَهَا بِالْآبِقِ لِيُوَفِّيَهَا الصَّدَاقَ . وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ : لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَجِيئَهَا بِالْآبِقِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الصَّدَاقِ ، وَلَا يَتَبَعَّضُ فَيُؤْخَذُ بِنِصْفِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَفِيمَا تَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا - هُوَ الْقَدِيمُ - : بِنِصْفِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ . وَالثَّانِي - وَهُوَ الْجَدِيدُ - : نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ . وَإِنْ كَانَ عَلَى الضَّرْبِ الَّذِي يَكُونُ الصَّدَاقُ فِيهِ فَاسِدًا ، بِأَنْ يَكُونَ مَكَانُ الْعَبْدِ مَجْهُولًا ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَدْ جَاءَهَا بِالْعَبْدِ أَوْ لَمْ يَجِئْهَا بِهِ . فَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَهَا بِهِ : فَلَا يَخْلُو طَلَاقُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ . فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ : كَانَ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ ، قَوْلًا وَاحِدًا ؛ لِفَسَادِ الصَّدَاقِ ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِأُجْرَةِ مِثْلِ الْمَجِيءِ بِالْآبِقِ ، فَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ تَقَاضَاهُ ، عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ ، وَتَرَادَّا الْفَضْلَ إِنْ كَانَ .

وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ : رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ ، وَرَجَعَ بِأُجْرَةِ مِثْلِ الْمَجِيءِ بِالْآبِقِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ جَاءَهَا بِالْعَبْدِ الْآبِقِ حَتَّى طَلَّقَهَا ، لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ طَلَاقُهُ بَعْدَ الدُّخُولِ ، فَتَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ ، وَلَا يُؤْخَذُ بِالْمَجِيءِ بِالْعَبْدِ ، لِفَسَادِ الصَّدَاقِ فِيهِ ، أَوْ يَكُونَ طَلَاقُهُ قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَتَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ . قَالَ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا : أَوْ بِنِصْفِ أُجْرَةِ الْمَجِيءِ بِالْآبِقِ . وَمِنْ هَذَا التَّخْرِيجِ قِيلَ بِتَجْوِيزِهِ هَذَا الصَّدَاقَ ، وَهُوَ خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي التَّزْوِيجِ عَلَى خِيَاطَةِ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي التَّزْوِيجِ عَلَى خِيَاطَةِ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ ] مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ : " وَكَذَا لَوْ قَالَ نَكَحْتُ عَلَى خِيَاطَةِ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ فَهَلَكَ الثَّوْبُ ، فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ، وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ قَوْلِهِ : لَوْ مَاتَ رَجَعَتْ فِي مَالِهِ بِأَجْرِ مِثْلِهِ فِي تَعْلِيمِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ، وَأَصْدَقَهَا خِيَاطَةَ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ ، فَهَذَا يَجُوزُ إِذَا وُصِفَتِ الْخِيَاطَةُ ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهِ إِجَارَةً ، فَإِنْ تَجَدَّدَ مَا يَمْنَعُ عَنْ خِيَاطَتِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ بِتَلَفِ الثَّوْبِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بِعُطْلَةِ الزَّوْجِ بِزَمَانَةٍ أَوْ عَمَى . فَإِنْ تَلَفَ الثَّوْبُ ، فَفِي بُطْلَانِ الصَّدَاقِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا - : أَنَّ الصَّدَاقَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ فِي تَالِفٍ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا حَصَادَ زَرْعٍ فَهَلَكَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الصَّدَاقَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ مُسْتَوْفًى بِهِ الصَّدَاقُ ، وَلَيْسَ هُوَ الصَّدَاقَ ، فَصَارَ كَمَنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا لِيَسْكُنَهَا ، أَوْ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا فَهَلَكَ قَبْلَ السُّكْنَى وَالرُّكُوبِ ، لَمْ تَبْطُلِ الْإِجَارَةُ ؛ لِهَلَاكِ مَنْ تُسْتَوْفَى بِهِ الْمَنْفَعَةُ ، كَذَلِكَ تَلَفُ الثَّوْبِ قَبْلَ الْخِيَاطَةِ . وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ خَالَعَ زَوْجَتَهُ عَلَى رَضَاعِ وَلَدٍ فَمَاتَ ، هَلْ يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَنَّ الْوَلَدَ يُسْتَوْفَى بِهِ الرَّضَاعُ الْمُسْتَحَقُّ . وَإِنْ تَعَطَّلَ الزَّوْجُ عَنِ الْخِيَاطَةِ بِعَمَى أَوْ بِزَمَانَةٍ مَعَ بَقَاءِ الثَّوْبِ ، فَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ فِي ذِمَّتِهِ ، لَزِمَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَقُومُ بِخِيَاطَتِهِ ، وَلَا يَبْطُلُ الصَّدَاقُ بِزَمَانَتِهِ . وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ فِي عَيْنِهِ بَطَلَ بِزَمَانَتِهِ وَعُطْلَتِهِ ؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ مُسْتَوْفًى مِنْهُ ، فَبَطَلَ بِتَلَفِهِ كَمَوْتِ الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ ، وَانْهِدَامِ الدَّارِ الْمُكْرَاةِ ، فَصَارَ اسْتِيفَاءُ الصَّدَاقِ مُتَعَلِّقًا بِثَلَاثَةِ أَشْخَاصٍ : مُسْتَوْفًى لَهُ ، وَمُسْتَوْفًى بِهِ ، وَمُسْتَوْفًى مِنْهُ . فَالْمُسْتَوْفَى لَهُ : هِيَ الزَّوْجَةُ ، وَمَوْتُهَا لَا يُؤَثِّرُ فِي فَسَادِهِ .

وَالْمُسْتَوْفَى مِنْهُ : هُوَ الزَّوْجُ ، وَمَوْتُهُ مُؤَثِّرٌ فِي فَسَادِهِ . وَالْمُسْتَوْفَى بِهِ : هُوَ الثَّوْبُ ، وَفِي فَسَادِ الصَّدَاقِ بِتَلَفِهِ وَجْهَانِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الصَّدَاقَ لَا يَبْطُلُ بِتَلَفِ الثَّوْبِ ، فَلَهَا أَنْ تَأْتِيَهُ بِثَوْبٍ مِثْلِهِ حَتَّى يَخِيطَهُ . وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الصَّدَاقَ قَدْ بَطَلَ بِتَلَفِ الثَّوْبِ ، فَفِيمَا تَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ الْقَدِيمُ - : أُجْرَةُ الْمِثْلِ . وَالثَّانِي - وَهُوَ الْجَدِيدُ - : مَهْرُ الْمِثْلِ . فَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ عَلَى سَلَامَتِهِ وَالثَّوْبُ بَاقِيًا ، فَطَلَّقَهَا ، كَانَ كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا ، وَقَدْ أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ ، فَيَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ . أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ خَاطَ لَهَا جَمِيعَ الثَّوْبِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الطَّلَاقِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ . فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ : فَقَدِ اسْتَكْمَلَتْهُ وَاسْتَوْفَتْهُ ، فَلَا تَرَاجُعَ بَيْنَهُمَا . وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ : فَقَدْ مَلَكَ الزَّوْجُ نِصْفَ الصَّدَاقِ ، وَقَدِ اسْتَوْفَتْ جَمِيعَهُ ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ أُجْرَةِ الْخِيَاطَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَلَّا يَكُونَ قَدْ خَاطَهُ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ . فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ : أَخَذَ الزَّوْجُ بِخِيَاطَةِ الثَّوْبِ . وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ : فَإِنْ كَانَتْ خِيَاطَةُ الثَّوْبِ تَتَجَزَّأُ أَوْ تَتَبَعَّضُ ، أَخَذَ الزَّوْجُ بِخِيَاطَةِ نِصْفِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَتَجَزَّأُ لَمْ يُؤْخَذْ بِخِيَاطَتِهِ ، وَكَانَ فِيمَا يَلْزَمُهُ لَهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : نِصْفُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ . وَالثَّانِي : نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ قَدْ خَاطَ بَعْضَهُ ، وَبَقِيَ بَعْضُهُ . فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ أَخَذَ بِإِتْمَامِ خِيَاطَتِهِ . وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُهُ ، فَيُرَاعَى قَدْرُ مَا خَاطَهُ ، وَحَالُ تَجْزِئَتِهِ وَتَبْعِيضِهِ ، وَيُرَاعَى فِيهِ مَا رُوعِيَ فِي تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ مِنِ اعْتِبَارِ أَقْسَامِهِ الثَّلَاثَةِ فِي أَنَّ خِيَاطَةَ الْبَعْضِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ النِّصْفَ ، أَوْ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ ، أَوْ أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ ، فَيُحْمَلُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ جَوَابُهُ . وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

صَدَاقُ مَا يَزِيدُ بِبَدَنِهِ وَيَنْقُصُ

صَدَاقُ مَا يَزِيدُ بِبَدَنِهِ وَيَنْقُصُ مِنَ الْجَامِعِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ الصَّدَاقِ ، وَنِكَاحِ الْقَدِيمِ ، وَمِنِ اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ ، وَمِنْ مَسَائِلَ شَتَّى مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَكُلُّ مَا أَصْدَقَهَا فَمَلَكَتْهُ بِالْعُقْدَةِ وَضَمِنَتْهُ بِالدَّفْعِ ، فَلَهَا زِيَادَتُهُ وَعَلَيْهَا نُقْصَانُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، الزَّوْجَةُ مَالِكَةٌ لِجَمِيعِ الصَّدَاقِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقَالَ مَالِكٌ : قَدْ مَلَكَتْ بِالْعَقْدِ نِصْفَهُ ، وَبِالدُّخُولِ بَاقِيَهُ . اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَكُنْ لَهَا إِلَّا نِصْفُهُ ، وَلَوْ كَانَتْ مَالِكَةً لِجَمِيعِهِ مَا زَالَ مِلْكُهَا عَنْ نِصْفِهِ إِلَّا بِعَقْدٍ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَمْلِكْ مِنْهُ إِلَّا النِّصْفَ . أَوْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِلْكُ الصَّدَاقِ مُقَابِلًا لَمِلْكِ الْبُضْعِ لَتَسَاوَيَا فِي التَّأْجِيلِ وَالتَّنْجِيمِ حَتَّى يَجُوزَ تَأْجِيلُ الْبُضْعِ وَتَنْجِيمُهُ كَمَا يَجُوزُ فِي الصَّدَاقِ . أَوْ لَا يَجُوزُ فِي الصَّدَاقِ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْبُضْعِ ، فَلَمَّا اخْتَصَّ الصَّدَاقُ بِجَوَازِ التَّأْجِيلِ وَالتَّنْجِيمِ دُونَ الْبُضْعِ اخْتَصَّ بِتَمْلِيكِ الْبَعْضِ وَإِنْ مَلَكَ جَمِيعَ الْبُضْعِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [ النِّسَاءِ : 4 ] وَفِي ذَلِكَ دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : إِضَافَةُ جَمِيعِ الصَّدَاقِ إِلَيْهِنَّ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مِلْكُ جَمِيعِهِ لَهُنَّ . وَالثَّانِي : أَمْرُهُ بِدَفْعِ جَمِيعِهِ إِلَيْهِنَّ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ حَقًّا لَهُنَّ . وَلِأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ مَلَكَ بِالْعَقْدِ جَمِيعَ الْبُضْعِ فَوَجَبَ أَنْ تُمَلَّكَ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ جَمِيعَ الْمَهْرِ ، كَمَا أَنَّ الْمُشْتَرِي لَمَّا مَلَكَ بِالْعَقْدِ جَمِيعَ الْمَبِيعِ مَلَكَ عَلَيْهِ جَمِيعَ الثَّمَنِ . وَيَتَحَرَّرُ مِنْهُ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَقْدٌ تَضَمَّنَ بَدَلًا وَمُبْدَلًا ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِلْكُ الْبَدَلِ فِي مُقَابَلَةِ مِلْكِ الْمُبْدَلِ كَالْبَيْعِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَحَدُ بَدَلَيِ الْعَقْدِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا بِالْعَقْدِ كَالْبُضْعِ . وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِجَمِيعِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَحَبْسُ نَفْسِهَا بِهِ إِنِ امْتَنَعَ ، وَأَنْ تَضْرِبَ بِجَمِيعِهِ مَعَ غُرَمَائِهِ إِنْ أَفْلَسَ ، دَلَّ عَلَى أَنَّهَا مَالِكَةٌ لِجَمِيعِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لَهَا حُقُوقُ الْمِلْكِ مَعَ عَدَمِ الْمِلْكِ .

فَأَمَّا اسْتِرْجَاعُ الزَّوْجِ نِصْفَهُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَلَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ مَالِكَةً لِمَا اسْتَرْجَعَهُ ، كَمَا لَوِ ارْتَدَّتْ قَبْلَ الدُّخُولِ ، أَوْ فَسَخَتْ نِكَاحَهُ بِعَيْبٍ اسْتَرْجَعَ جَمِيعَهُ ، وَلَمْ يَمْنَعْ أَنْ تَكُونَ مَالِكَةً لِمَا اسْتَرْجَعَهُ ، وَكَمَا يَسْتَرْجِعُ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إِذَا رَدَّ بِعَيْبٍ ، وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ مَالِكًا لَهُ . وَأَمَّا اخْتِلَافُ الصَّدَاقِ وَالْبُضْعِ فِي التَّأْجِيلِ وَالتَّنْجِيمِ ، فَلَا يَقْتَضِي اخْتِلَافَهُمَا فِي التَّمْلِيكِ ، كَمَا أَنَّ بُيُوعَ الْأَعْيَانِ يَجُوزُ التَّأْجِيلُ وَالتَّنْجِيمُ فِي أَثْمَانِهَا ، وَلَا يَجُوزُ فِيهَا ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ تَسَاوِيهِمَا فِي أَنَّهُمَا قَدْ مَلَكَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ .

الْقَوْلُ فِي ضَمَانِ الزَّوْجِ لِلصَّدَاقِ وَقْتُ الضَّمَانِ وَنَوْعُهُ

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي /1 L24204 ضَمَانِ الزَّوْجِ لِلصَّدَاقِ /1 ، /1 L24204 وَقْتُ الضَّمَانِ وَنَوْعُهُ /2 وقت ضمان الزوج لصداق زوجته /2 /1 ] فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مَالِكَةٌ لِجَمِيعِ الصَّدَاقِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الزَّوْجِ حَتَّى تَقْبِضَهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ عَلَيْهِ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَالْمَبِيعِ . وَإِذَا كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الزَّوْجِ فَهُوَ مَضْمُونُ الْأَصْلِ ، وَمَضْمُونُ النَّقْصِ . فَأَمَّا ضَمَانُ الْأَصْلِ : فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ : هَلْ يُضْمَنُ بِمَا فِي مُقَابَلَتِهِ أَوْ بِهِ فِي نَفْسِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ - : أَنَّهُ يُضْمَنُ بِمَا فِي مُقَابَلَتِهِ وَهُوَ الْبُضْعُ ، وَلَيْسَ لِلْبُضْعِ مِثْلٌ فَضُمِنَ بِقِيمَتِهِ وَقِيمَتُهُ مَهْرُ الْمِثْلِ ، فَيَكُونُ الصَّدَاقُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَضْمُونًا عَلَى الزَّوْجِ إِنْ تَلَفَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ - : أَنَّهُ يَكُونُ مَضْمُونًا فِي نَفْسِهِ لَا بِمَا فِي مُقَابَلَتِهِ كَسَائِرِ الْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الصَّدَاقُ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ ، ضَمِنَهُ بِمِثْلِهِ فِي جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ وَصِفَتِهِ وَقَدْرِهِ . وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ كَالثِّيَابِ وَالْعَبِيدِ وَالْمَوَاشِي ، ضَمِنَهُ بِقِيمَتِهِ . وَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : ضَمَانُ عَقْدٍ ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ يَوْمَ أَصْدَقَ . وَالثَّانِي : ضَمَانُ غَصْبٍ ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مَا كَانَتْ مِنْ حِينِ أَصْدَقَ إِلَى أَنْ تَلِفَ . وَأَمَّا ضَمَانُ النَّقْصِ ، فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِاخْتِلَافِ حَالَيْهِ فِي تَمْيِيزِهِ وَاتِّصَالِهِ . فَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ مُتَمَيِّزًا كَتَلَفِ أَحَدِ الثَّوْبَيْنِ وَمَوْتِ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ ، ضَمِنَهُ ضَمَانَ الْأَصْلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ . وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ : كَمَرَضِ الْعَبْدِ وَإِخْلَاقِ الثَّوْبِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَضْمَنُهُ بِأَرْشِ النَّقْصِ . وَهَذَا عَلَى الْقَدِيمِ الَّذِي جَعَلَ تَلَفَ الْأَصْلِ مُوجِبًا لِضَمَانِ قِيمَتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ ضَمَانَهُ لَهُ مُوجِبٌ لِخِيَارِ الزَّوْجَةِ ، بَيْنَ أَنْ تُقِيمَ عَلَيْهِ بِنَقْصٍ أَوْ تَفْسَخَ

وَتَرْجِعَ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ . وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الْجَدِيدِ الَّذِي يَجْعَلُ تَلَفَ الْأَصْلِ مُوجِبًا لِمَهْرِ الْمِثْلِ .

فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي بَيْعِ الصَّدَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي /1 L4455 بَيْعِ الصَّدَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ /1 ] فَإِذَا اسْتَقَرَّ أَنَّ الْأَصْلَ مَضْمُونٌ عَلَى الزَّوْجِ بِمَا ذَكَرْنَا فَلَيْسَ لِلزَّوْجَةِ أَنَّ تُعَاوِضَ عَلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، كَمَا لَا تُعَاوِضُ عَلَى مَا ابْتَاعَتْهُ قَبْلَ الْقَبْضِ . [ الْقَوْلُ فِي النَّمَاءِ الْحَادِثِ مِنَ الصَّدَاقِ فِي يَدِ الزَّوْجِ ] وَإِنْ حَدَثَ مِنَ الصَّدَاقِ فِي يَدِ الزَّوْجِ نَمَاءٌ كَالنِّتَاجِ وَالثَّمَرَةِ ، كَانَ جَمِيعُهُ مِلْكًا لِلزَّوْجَةِ ؛ لِأَنَّهَا مَالِكَةٌ لِجَمِيعِ الْأَصْلِ . وَعِنْدَ مَالِكٍ : أَنَّهَا مَالِكَةٌ لِنِصْفِهِ ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَهُ مَالِكَةٌ لِنِصْفِ الْأَصْلِ .

الْقَوْلُ فِي ضَمَانِ النَّمَاءِ

[ الْقَوْلُ فِي ضَمَانِ النَّمَاءِ ] وَإِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ مَالِكَةً لِجَمِيعِ النَّمَاءِ الْحَادِثِ فِي يَدِ الزَّوْجِ ، فَهَلْ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الزَّوْجِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ؛ تَبَعًا لِأَصْلِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، وَيَكُونُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَلَ الْأَصْلَ دُونَ النَّمَاءِ ، فَأَوْجَبَ ضَمَانَ الْأَصْلِ دُونَ النَّمَاءِ . [ الْقَوْلُ فِي /1 L23518 ضَمَانِ الزَّوْجَةِ لِصَدَاقِهَا /1 ] وَإِذَا قَبَضَتِ الزَّوْجَةُ الصَّدَاقَ ، صَارَ جَمِيعُهُ مِنْ ضَمَانِهَا ، وَكَانَ لَهَا جَمِيعُ مَا حَدَثَ فِيهِ مِنْ نَمَاءٍ . وَقَالَ مَالِكٌ : تَضْمَنُ نِصْفَ الَّذِي مَلَكَتْهُ ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يَكُونُ فِي يَدِهَا أَمَانَةً لِلزَّوْجِ ، وَلَا يَلْزَمُهَا ضَمَانُهُ ، وَلَهُ نِصْفُ النَّمَاءِ . وَبِنَاءُ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ جِئْنَا إِلَى شَرْحِ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ . قَالَ : " وَكُلُّ مَا أَصْدَقَهَا فَمَلَكَتْهُ بِالْعَقْدِ وَضَمِنَتْهُ بِالدَّفْعِ ، فَلَهَا زِيَادَتُهُ وَعَلَيْهَا نُقْصَانُهُ " . وَهَذِهِ جُمْلَةٌ اخْتَصَرَهَا الْمُزَنِيُّ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ بَسَطَهُ ، فَأَحْسَنَ الْمُزَنِيُّ اخْتِصَارَهُ . فَقَوْلُهُ : وَكُلُّ مَا أَصْدَقَهَا فَمَلَكَتْهُ بِالْعَقْدِ ، أَبَانَ عَنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الزَّوْجَةَ مَالِكَةٌ لِجَمِيعِ الصَّدَاقِ بِالْعَقْدِ ، وَرَدَّ بِهِ قَوْلَ مَالِكٍ : إِنَّهَا تَمْلِكُ نِصْفَهُ بِالْعَقْدِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَضَمِنَتْهُ بِالدَّفْعِ ، فَصَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ دَفْعِهِ إِلَيْهَا مَضْمُونٌ عَلَى الزَّوْجِ دُونَهَا . فَإِذَا دُفِعَ إِلَيْهَا سَقَطَ ضَمَانُهُ عَنِ الزَّوْجِ ، وَصَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهَا .

وَأَمَّا قَوْلُهُ : فَلَهَا زِيَادَتُهُ وَعَلَيْهَا نُقْصَانُهُ : فَنُقْصَانُهُ لَا يَكُونُ عَلَيْهَا إِلَّا إِذَا دُفِعَ إِلَيْهَا ، وَإِلَّا فَهُوَ عَلَى الزَّوْجِ دُونَهَا ، وَأَمَّا زِيَادَتُهُ فَهِيَ لَهَا قَبْلَ الدَّفْعِ وَبَعْدَهُ . فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ جَمَعَ بَيْنَ زِيَادَتِهِ وَنُقْصَانِهِ فِي أَنْ جَعَلَ ضَمَانَهَا بِالدَّفْعِ مُوجِبًا لَهَا ، وَهَذَا الشَّرْطُ يَصِحُّ فِي النُّقْصَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ عَلَيْهَا إِلَّا إِذَا ضَمِنَتْهُ بِالدَّفْعِ ، أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا يَصِحُّ هَذَا الشَّرْطُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا لَهَا قَبْلَ دَفْعِهِ إِلَيْهَا وَبَعْدَهُ . فَعَنْ هَذَا ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ جَعْلَ ذَلِكَ لَهَا بَعْدَ الدَّفْعِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لَهَا قَبْلَ الدَّفْعِ . وَالثَّانِي : أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا ، وَتَقْدِيرُهُ : وَكُلُّ مَا أَصْدَقَهَا فَمَلَكَتْهُ بِالْعَقْدِ فَلَهَا زِيَادَتُهُ ، فَإِذَا ضَمِنَتْهُ بِالدَّفْعِ فَعَلَيْهَا نُقْصَانُهُ ، وَمِثْلُ هَذَا يَجُوزُ إِذَا دَلَّ عَلَيْهِ وَضْعُ الْخِطَابِ ، أَوْ شَوَاهِدُ الْأُصُولِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى نَسَقِهِ صَحِيحٌ ، وَالشَّرْطُ فِي حُكْمِهِ مُعْتَبَرٌ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْحَادِثَةَ بَعْدَ الدَّفْعِ تَمْلِكُهَا مِلْكًا مُسْتَقِرًّا ، وَقَبْلَ الدَّفْعِ تَمْلِكُهَا مِلْكًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتْلَفَ الصَّدَاقُ فِي يَدِ الزَّوْجِ فَيَزُولُ مِلْكُهَا عَنِ الزِّيَادَةِ إِنْ قِيلَ : إِنَّهَا تَرْجِعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، فَصَارَ الدَّفْعُ شَرْطًا فِي اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ فَصَحَّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَإِنْ أَصْدَقَهَا أَمَةً أَوْ عَبْدًا صَغِيرَيْنِ فَكَبِرَا ، أَوْ أَعْمَيَيْنِ فَأَبْصَرَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَعَلَيْهَا نِصْفُ قِيمَتِهِمَا يَوْمَ قَبَضَهُمَا إِلَّا أَنْ تَشَاءَ دَفْعَهُمَا زَائِدَيْنِ ، فَلَا يَكُونُ لَهُ إِلَّا ذَلِكَ ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ غَيَّرَتْهُمَا بِأَنْ يَكُونَا كَبِرَا كِبَرًا بَعِيدًا ، فَالصَّغِيرُ يَصْلُحُ لِمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ الْكَبِيرُ ، فَيَكُونُ لَهُ نِصْفُ قِيمَتِهِمَا وَإِنْ كَانَا نَاقِصَيْنِ فَلَهُ نِصْفُ قِيمَتِهِمَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ أَنْ يَأْخُذَهُمَا نَاقِصَيْنِ ، فَلَيْسَ لَهَا مَنْعُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَا يَصْلُحَانِ لِمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ الصَّغِيرُ فِي نَحْوِ ذَلِكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا سَمَّى لِزَوْجَتِهِ صَدَاقًا ثُمَّ طَلَّقَهَا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ سَلَّمَ الصَّدَاقَ إِلَيْهَا . وَالثَّانِي : أَلَّا يَكُونَ قَدْ سَلَّمَهُ إِلَيْهَا . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ سَلَّمَهُ إِلَيْهَا حَتَّى طَلَّقَهَا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : [ بَيَانُ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ ] أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ كَمُسَمًّى مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ . أَوْ مَوْصُوفًا مِنْ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ ، فَلَا يَخْلُو طَلَاقُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ . فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ : فَقَدِ اسْتَحَقَّتْ جَمِيعَهُ ، وَاسْتَقَرَّ مِلْكُهَا عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ مِنْهُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ [ النِّسَاءِ : 21 ] .

وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ أُبْرِئَ مِنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ . وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَعْنَاهُ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ لَكُمْ يَرْجِعُ إِلَيْكُمْ بِالطَّلَاقِ ، وَهَذَا تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ : إِنَّهَا قَدْ مَلَكَتْ جَمِيعَ الصَّدَاقِ بِالْعَقْدِ . وَالثَّانِي : مَعْنَاهُ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ لِلزَّوْجَاتِ لَا يُمْكِنُ أَكْثَرُ مِنْهُ ، هَذَا تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ : إِنَّهَا لَا تَمْلِكُ بِالْعَقْدِ إِلَّا نِصْفَهُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الصَّدَاقِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَالًّا ، أَوْ مُؤَجَّلًا ، أَوْ مُنَجَّمًا . فَإِنْ كَانَ حَالًّا : سَاقَ إِلَيْهَا نِصْفَهُ ، وَقَدْ بَرِئَ مِنْ جَمِيعِهِ . وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا : فَعَلَيْهِ إِذَا حَلَّ الْأَجَلُ أَنْ يَسُوقَ إِلَيْهَا النِّصْفَ ، وَقَدْ بَرِئَ مِنَ الْكُلِّ ، وَلَا يَحُلُّ قَبْلَ أَجَلِهِ إِلَّا بِمَوْتِهِ . وَإِنْ كَانَ مُنَجَّمًا : بَرِئَ مِنْ نِصْفِهِ عَلَى التَّنْجِيمِ ، وَكَانَ النِّصْفُ بَاقِيًا لَهَا إِلَى نُجُومِهِ . فَلَوْ كَانَ إِلَى نَجْمَيْنِ ، فَحَلَّ أَحَدُهُمَا وَقْتَ الطَّلَاقِ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَتَعَجَّلَ النِّصْفَ فِي الْحَالِ فَيُسْتَضَرَّ ، وَلَا أَنْ يُؤَخِّرَ بِهِ إِلَى النِّصْفِ الْمُؤَجَّلِ فَتُسْتَضَرَّ الزَّوْجَةُ ، وَيَبْرَأُ الزَّوْجُ مِنْ نِصْفِ الْحَالِّ وَنِصْفِ الْمُؤَجَّلِ ، وَتَأْخُذُ الزَّوْجَةُ نِصْفَ الْحَالِّ ، وَتَصْبِرُ بِنِصْفِ الْمُؤَجَّلِ حَتَّى يَحُلَّ .

فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ عَيْنًا مَعْلُومَةً كَالْإِمَاءِ وَالْعَبِيدِ وَالْمَوَاشِي وَالشَّجَرِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ وَقْتَ الطَّلَاقِ مِنْ أَحَدِ خَمْسَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا بِحَالِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَدْ تَلِفَ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ قَدْ زَادَ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ قَدْ نَقَصَ . وَالْخَامِسُ : أَنْ يَكُونَ قَدْ زَادَ مِنْ وَجْهٍ ، وَنَقَصَ مِنْ وَجْهٍ . [ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ] . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا بِحَالِهِ لَمْ يَزِدْ وَلَمْ يَنْقُصْ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الطَّلَاقِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ . فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ : فَقَدِ اسْتَقَرَّ لَهَا جَمِيعُهُ ، وَعَلَيْهِ تَسْلِيمُهُ إِلَيْهَا كَامِلًا . وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ : مَلَكَ الزَّوْجُ نِصْفَهُ . وَبِمَاذَا يَصِيرُ مَالِكًا ؟ فِيهِ قَوْلَانِ :

أَحَدُهُمَا - وَهُوَ الْأَظْهَرُ - : أَنَّهُ مَلَكَ بِالطَّلَاقِ نِصْفَ الصَّدَاقِ ، سَوَاءٌ اخْتَارَ تَمَلُّكَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَخْتَرْهُ ، كَمَا أَنَّ الْمُشْتَرِي إِذَا رَدَّ بِالْعَيْبِ مَلَكَ بِالرَّدِّ جَمِيعَ الثَّمَنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي - وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ - : أَنَّهُ مَلَكَ بِالطَّلَاقِ أَنْ يَتَمَلَّكَ نِصْفَ الصَّدَاقِ كَالشَّفِيعِ الَّذِي مَلَكَ بِالشُّفْعَةِ أَنْ يَتَمَلَّكَ . فَإِذَا اخْتَارَ الزَّوْجُ أَنْ يَتَمَلَّكَ نِصْفَ الصَّدَاقِ ، صَارَ بِالِاخْتِيَارِ لَا بِالطَّلَاقِ . فَإِذَا صَارَ الزَّوْجُ مَالِكًا لِلنِّصْفِ ؛ إِمَّا بِالطَّلَاقِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَوْ بِالِاخْتِيَارِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي ، صَارَا شَرِيكَيْنِ فِيهِ . فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُقْسَمُ كَانَا فِيهِ عَلَى الْخُلْطَةِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُقَسَّمُ جَبْرًا ، فَأَيُّهُمَا طَلَبَهَا أُجِيبَ إِلَيْهَا . وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُقَسَّمُ إِلَّا صُلْحًا ، فَأَيُّهُمَا امْتَنَعَ مِنْهَا أُقِرَّ عَلَيْهَا .

فَصْلٌ : [ الْقِسْمُ الثَّانِي ] . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ قَدْ تَلِفَ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : [ إِيضَاحُ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ ] أَنْ يُتْلَفَ قَبْلَ أَنْ يَحْدُثَ مِنْهُ نَمَاءٌ كَعَبْدٍ مَاتَ ، أَوْ دَابَّةٍ نَفَقَتْ ، فَفِيمَا تَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجَةُ أن يتلف الصداق قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ الْجَدِيدُ - : مَهْرُ الْمِثْلِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الصَّدَاقُ تَالِفًا عَلَى مِلْكِ الزَّوْجِ ، سَوَاءٌ تَلِفَ بِحَادِثِ سَمَاءٍ ، أَوْ جِنَايَةِ آدَمِيٍّ ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الطَّلَاقِ ؛ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ . وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَهَا جَمِيعُهُ ، وَيُعْتَبَرُ بِهِ مَهْرُ مِثْلِهَا وَقْتَ الْعَقْدِ ، لَا وَقْتَ الطَّلَاقِ ، وَلَا وَقْتَ تَلَفِ الصَّدَاقِ ؛ لِأَنَّ تَلَفَ الصَّدَاقِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ بِالْعَقْدِ دُونَ الطَّلَاقِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي - وَهُوَ الْقَدِيمُ - : أَنَّهَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الصَّدَاقِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الصَّدَاقُ تَالِفًا عَلَى مِلْكِهَا . وَلَا يَخْلُو حَالُ تَلَفِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَادِثِ سَمَاءٍ ، أَوْ بِجِنَايَةٍ مِنْهُ ، أَوْ بِجِنَايَةٍ مِنْ أَجْنَبِيٍّ . فَإِنْ كَانَ بِحَادِثِ سَمَاءٍ : فَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُهُ ضَمَانَ عَقْدٍ ، فَعَلَى هَذَا عَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ أَصْدَقَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : ضَمَانُ غَصْبٍ ، فَعَلَى هَذَا عَلَيْهِ قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مَا كَانَ قِيمَتُهُ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ أَوْ وَقْتِ التَّلَفِ . وَإِنْ كَانَ تَلَفُهُ بِجِنَايَةٍ مِنْهُ : فَإِنْ قِيلَ إِنَّ ضَمَانَهُ غَصْبٌ ضَمِنَهُ بِأَكْثَرِ قِيمَتِهِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا . وَإِنْ قِيلَ إِنَّ ضَمَانَهُ ضَمَانُ عَقْدٍ فَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْقِيمَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ أَوْ وَقْتِ التَّلَفِ قَوْلًا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110