كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

فَكَسَدَتْ عَلَيَّ ، فَلَقِيتُ أَبَا هُرَيْرَةَ ، فَقَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : نِعْمَ الْأُضْحِيَّةُ الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ ، قَالَ : فَانْتَهَبَهَا النَّاسُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْجَذَعَ مِنَ الْمَعْزِ لَا يُجْزِئُ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنِ ابْنِ خَبَّابٍ عَنْ يَزِيدَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ : خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْعِيدِ ، فَقَالَ : إِنَّ أَوَّلَ نُسُكِ يَوْمِكُمْ هَذَا الصَّلَاةُ ، فَقَامَ إِلَيْهِ خَالِي أَبُو بُرْدَةَ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَانَ يَوْمًا يَشْتَهِرُ فِيهِ اللَّحْمُ ، وَإِنَّا عَجَّلْنَا فَذَبَحْنَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَبْدِلْهَا ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عِنْدَنَا مَاعِزًا جَذَعًا ، فَقَالَ : هِيَ لَكَ وَلَيْسَتْ لِأَحَدٍ بَعْدَكَ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَذَعَ مِنَ الْمَعْزِ لَا يُجْزِئُ غَيْرَهُ ، وَفِي تَخْصِيصِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بُرْدَةَ بِإِجْزَائِهَا عَنْهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ فَاسْتُثْنِيَ وَالثَّانِي : أَنَّهُ عُلِمَ مِنْ صِدْقِ طَاعَتِهِ وَخُلُوصِ نِيَّتِهِ مَا مَيَّزَهُ عَمَّنْ سِوَاهُ . وَاخْتَلَفُوا هَلْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ اجْتِهَادِ رَأْيِهِ أَوْ عَنْ وَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .

مَا يُذْبَحُ فِي الضَّحَايَا مِنَ النَّعَمِ

مَا يُذْبَحُ فِي الضَّحَايَا مِنَ النَّعَمِ فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فِي أَسْنَانِ الضَّحَايَا ، فَالثَّنِيُّ مِنَ الْإِبِلِ مَا اسْتَكْمَلَ خَمْسَ سِنِينَ السن المجزئ في الأضحية ، وَدَخَلَ فِي السَّادِسَةِ ، وَرَوَى حَرْمَلَةُ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَا اسْتَكْمَلَ سِتًّا ، وَدَخَلَ فِي السَّابِعَةِ ، وَلَيْسَ هَذَا قَوْلًا ثَانِيًا يُخَالِفُ الْأَوَّلَ كَمَا وَهِمَ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ، وَلَكِنْ مَا رَوَاهُ الْجُمْهُورُ عَنْهُ هُوَ قَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ إِخْبَارًا عَنِ ابْتِدَاءِ سِنِّ الثَّنِيِّ ، وَمَا رَوَاهُ حَرْمَلَةُ إِخْبَارًا عَنِ ابْتِدَاءِ سِنِّ الثَّنِيِّ ، وَمَا رَوَاهُ حَرْمَلَةُ إِخْبَارًا عَنِ انْتِهَاءِ سِنِّ الثَّنِيِّ ، وَأَمَّا الثَّنِيُّ مِنَ الْبَقَرِ فَهُوَ مَا اسْتَكْمَلَ سَنَتَيْنِ وَدَخَلَ فِي الثَّالِثَةِ السن المجزئ في الأضحية ، وَرَوَى حَرْمَلَةُ مَا اسْتَكْمَلَ ثَلَاثًا ، وَدَخَلَ فِي الرَّابِعَةِ ، وَتَأْوِيلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَأَمَّا الثَّنِيُّ مِنَ الْمَعْزِ فَهُوَ : مَا اسْتَكْمَلَ سَنَةً وَدَخَلَ فِي الثَّانِيةِ السن المجزئ في الأضحية ، وَرَوَى حَرْمَلَةُ مَا اسْتَكْمَلَ سَنَتَيْنِ ، وَتَأْوِيلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَأَمَّا الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ فَهُوَ مَا اسْتَكْمَلَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَدَخَلَ فِي الشَّهْرِ السَّابِعِ السن المجزئ في الأضحية ، وَرَوَى حَرْمَلَةُ مَا اسْتَكْمَلَ سَنَةً وَتَأْوِيلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَالْإِبِلُ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُضَحَّى بِهَا مِنَ الْبَقَرِ ، وَالْبَقَرُ مِنَ الْغَنَمِ ، وَالضَّأْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْمَعْزِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَفْضَلُ الضَّحَايَا الثَّنِيُّ مِنَ الْإِبِلِ ، ثُمَّ الثَّنِيُّ مِنَ الْبَقَرِ ، ثُمَّ الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ ، ثُمَّ الثَّنِيُّ مِنَ الْمَعْزِ .

وَقَالَ مَالِكٌ : الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ أَفْضَلُهَا ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : أَفْضَلُ الذَّبْحِ الْجَذَعَةُ مِنَ الضَّأْنِ ، وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا لَفَدَى بِهِ إِسْحَاقَ ، وَلِأَنَّهَا أَطْيَبُ لَحْمًا وَأَشْهَى إِلَى النُّفُوسِ فَكَانَتْ أَفْضَلَ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ [ الْحَجِّ : 36 ] . رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : أَكْرِمُوا الْإِبِلَ فَإِنَّ فِيهَا رَقْوَ الدَّمِ . وَرَوَى جَابِرٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً إِلَّا أَنْ تَعْسُرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ ، وَلِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنَ الْإِبِلِ عَنْ سَبْعَةٍ ، فَكَانَ أَفْضَلَ مِنْ جَذَعِ الضَّأْنِ الَّذِي هُوَ عَنْ وَاحِدٍ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : أَفْضَلُ الذَّبْحِ الْجَذَعَةُ مِنَ الضَّأْنِ ، فَهُوَ أَنَّهُ أَرَادَ أَفْضَلَ مِنَ الْمَعْزِ ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُضَحُّونَ بِالْغَنَمِ وَيُهْدُونَ الْإِبِلَ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الثَّنِيَّ مِنَ الْإِبِلِ أَفْضَلُ ، فَهُوَ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِنَحْرِهِ ، فَأَمَّا إِذَا اشْتَرَكَ فِيهِ سَبْعَةٌ لِيَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُضَحِّيًا بِسُبُعِهَا كَانَتِ الْجَذَعَةُ مِنَ الضَّأْنِ أَفْضَلَ مِنْ سُبُعِهَا أي البدنة .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَالْعَفْرَاءُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ السَّوْدَاءِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، أَوَّلُ مَا يُضَحَّى بِهِ مِنْ أَلْوَانِ الْغَنَمِ الْبِيضُ ، ثُمَّ الْعُفْرُ ، ثُمَّ الْحُمْرُ ، ثُمَّ الْبُلْقُ ، ثُمَّ السَّوَادُ فَتَكُونُ الْبِيضُ وَمَا قَارَبَهَا مِنَ الْأَلْوَانِ أَفْضَلَ مِنَ السَّوَادِ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ أَبِي وَرَقَةَ عَنْ مَوْلَاتِهِ كَبِيرَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : أَبْرِقُوا فَإِنَّ دَمَ عَفْرَاءَ أَذْكَى عِنْدَ اللَّهِ مِنْ دَمِ سَوْدَاوَيْنِ . وَفِي قَوْلِهِ : أَبْرِقُوا : أَيْ ضَحُّوا بِالْبَرْقَاءِ ، وَهِيَ الشَّاةُ الَّتِي يَخْتَلِطُ بِبَيَاضِ صُوفِهَا طَاقَاتٌ سُودٌ ، وَالْعَفْرَاءُ الَّتِي يَضْرِبُ لَوْنُهَا إِلَى الْبَيَاضِ ، وَلَيْسَتْ صَافِيَةَ الْبَيَاضِ ، وَمِنْهُ قِيلٌ لِلطُّنُبِ : الْعُفْرُ . وَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً شَكَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَا يُبَارَكُ لَهَا فِي غَنَمِهَا فَقَالَ : مَا أَلْوَانُهَا قَالَتْ : سُودٌ فَقَالَ لَهَا : عَفِّرِي أَيِ اخْلِطِيهَا بَعُفْرٍ وَلِأَنَّ لُحُومَ مَا خَالَفَ السَّوَادَ أَطْيَبُ وَأَصَحُّ .

حَكَى ابْنُ قُتَيْبَةَ : أَنَّ مُدَاوَمَةَ أَكْلِ لُحُومِ السَّوَادِ تُحْدِثُ مَوْتَ الْفُجَاءَةِ ، وَقَدْ حَكَى حَرْمَلَةُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي أَلْوَانِ الْغَنَمِ حُوًّا وَقَهْبًا وَحِلْسًا وَقَمَرًا ، وَسَفْعًا ، وَرَقْشًا ، وَزُبْدًا ، فَالْحُوُّ هِيَ السُّودُ الَّتِي خَالَطَهَا حُمْرَةٌ . وَالْقَهْبَاءُ : هِيَ الْبَيْضَاءُ الَّتِي خَالَطَهَا حُمْرَةٌ . وَالْحَلْسَاءُ : الَّتِي ظَهْرُهَا أَحْمَرُ وَعُنُقُهَا أَسْوَدُ ، وَالْقَمَرُ الَّتِي فِي وَجْهِهَا خُطُوطٌ بِيضٌ وَسُودٌ . وَالسَّفْعَاءُ : الَّتِي نَجِدُهَا لَوْنٌ يُخَالِفُ لَوْنَهَا . وَالرَّقْشَاءُ : الْمُنَقَطَّةُ بِبَيَاضٍ وَسَوَادٍ ، وَالزَّبْدَاءُ : الَّتِي اخْتَلَطَ سَوَادُ شَعْرِهَا بِبَيَاضِهِ كَالْبَرْشَاءِ ، إِلَّا أَنَّ الْبَرْشَاءَ أَكْثَرُ اجْتِمَاعِ سَوَادٍ وَبَيَاضٍ ، وَبَاقِي هَذِهِ الْأَلْوَانِ إِنْ ضَحَّى لَمْ يَكُنْ فِيهِ كَرَاهِيَةٌ وَإِنْ كَانَ مَا اخْتَرْنَاهُ مِنَ الْأَلْوَانِ أَفْضَلَ ، فَمِنْهَا مَا كَانَ أَفْضَلَ لِحُسْنِ مَنْظَرِهِ ، وَمِنْهَا مَا كَانَ أَفْضَلَ لِطِيبِ مَخْبَرِهِ : فَإِنِ اجْتَمَعَا كَانَ أَفْضَلَ . وَإِنِ افْتَرَقَا كَانَ طَيِّبُ الْمَخْبَرِ أَفْضَلَ مِنْ حُسْنِ الْمَنْظَرِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ اسْتِسْمَانُ الْهَدْيِ وَاسْتِحْسَانُهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [ الْحَجِّ : 32 ] عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ . أَحَدُهَا : أَنَّ شَعَائِرَ اللَّهِ دِينُ اللَّهِ كُلُّهُ ، وَتَعْظِيمُهَا الْتِزَامُهَا ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا مَنَاسِكُ الْحَجِّ ، وَتَعْظِيمُهَا اسْتِيفَاؤُهَا ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهَا الْبُدْنُ الْمُشْعِرَةُ ، وَتَعْظِيمُهَا اسْتِسْمَانُهَا ، وَاسْتِحْسَانُهَا ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَاخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ وَفِي قَوْلِهِ : فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ثَلَاثُ تَأْوِيلَاتٍ . أَحَدُهَا : أَنَّهُ إِخْلَاصُ الْقُلُوبِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَصْدُ الثَّوَابِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ مَا أَرْضَى اللَّهَ تَعَالَى . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ أَفْضَلَ الرِّقَابِ . فَقَالَ : أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : " لَا تَبْتَعِ إِلَّا مُسِنَّةً ، وَلَا تَبْتَعْ إِلَّا سَمِينَةً ، فَإِنْ أَكَلْتَ أَكَلَتْ طَيِّبًا ، وَإِنْ أَطْعَمْتَ أَطْعَمْتَ طَيِّبًا " ، فَدَلَّ مَا ذَكَرْنَا عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ

الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا أَسْمَنُهَا وَأَحْسَنُهَا : فَإِنْ كَانَتْ غَنَمًا ، فَأَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَكْثَرُهَا سِمَنًا وَحُسْنًا إِلَّا أَنْ تَكُونَ ذَاتَ لَبَنٍ يَزِيدُ ثَمَنُهَا لِكَثْرَةِ لَبَنِهَا ، فَيَكُونُ مَا نَقَصَ ثَمَنُهُ إِذَا كَانَ أَزْيَدَ سِمَنًا وَلَحْمًا أَفْضَلَ ، وَأَمَّا الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ ، فَقَدْ يَزِيدُ ثَمَنُهَا بِالْعَمَلِ تَارَةً وَبِالسِّمَنِ أُخْرَى ، فَتَكُونُ سِمَانَهَا أَفْضَلَ مِنْ عَوَامِلِهَا ، وَإِنْ نَقَصَتْ عَنْ أَثْمَانِهَا : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا لُحُومُهَا فَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَكْثَرَ لَحْمًا وَأَقَلَّ شَحْمًا . وَبَعْضُهَا أَكْثَرَ شَحْمًا وَأَقَلَّ لَحْمًا ، فَذَاتُ اللَّحْمِ أَفْضَلُ ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَحْمُهَا خَشِنًا : لِأَنَّ اللَّحْمَ مَقْصُودٌ ، وَالشَّحْمَ تَبَعٌ ، وَإِنْ كَانَ لَحْمُهَا خَشِنًا فَذَاتُ الشَّحْمِ أَفْضَلُ : لِأَنَّ قَلِيلَ لَحْمِهَا أَنْفَعُ مِنْ كَثِيرِ الْأُخْرَى .

الْعُيُوبُ الَّتِي تُرَدُّ بِهَا الْأُضْحِيَّةُ

الْعُيُوبُ الَّتِي تُرَدُّ بِهَا الْأُضْحِيَّةُ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يَجُوزُ فِي الضَّحَايَا الْعَوْرَاءُ البَّيِّنُ عَوَرُهَا وَلَا الْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا ، وَلَا الْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا ، وَلَا الْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنَقَّى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصْلُ هَذَا مَا رَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ فَيْرُوزٍ ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ مَاذَا يَنْتَفِي مِنَ الضَّحَايَا ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ ، وَقَالَ : أَرْبَعٌ ، وَكَانَ الْبَرَاءُ يُشِيرُ بِيَدِهِ وَيَقُولُ : يَدِي أَقْصَرُ مِنْ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ضِلْعُهَا ، وَالْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا ، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا ، وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنَقَّى فَهَذِهِ أَرْبَعٌ تَضَمَّنَهَا الْخَبَرُ مَنَعَتْ مِنْ جَوَازِ الْأُضْحِيَّةِ . الْقَوْلُ فِي التَّضْحِيَةِ بِالْعَرْجَاءِ مِنْهَا الْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ضِلْعُهَا ، وَالْعَرَجُ فِيهَا مَانِعٌ مِنْ جَوَازِ الْأُضْحِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَ فِي يَدٍ ، أَوْ رِجْلٍ لِلْخَبَرِ : وَلِأَنَّهَا تَقْصُرُ بِالْعَرَجِ عَنْ لُحُوقِ غَيْرِهَا فِي الْمَرْعَى فَتَقِلُّ لَحْمًا : وَلِأَنَّهُ عَيْبٌ يُوكِسُ ثَمَنَهَا ، وَإِذَا لَمْ تُجْزِئِ الْعَرْجَاءُ فَالْقَطْعَاءُ أَوْلَى ، فَإِنْ كَانَ عَرَجُهَا يَسِيرًا نُظِرَ فِيهِ ، فَإِنْ قَصَرَتْ بِهِ عَنْ لُحُوقِ الصِّحَاحِ فِي الْمَشْيِ وَالسَّعْيِ كَانَ عَرَجًا بَيِّنًا لَا يُجْزِئُ ، وَإِنْ لَمْ تَقْصُرْ بِهِ عَنِ الصِّحَاحِ أَجْزَأَتْ . التَّضْحِيَةُ بِالْعَوْرَاءِ

فَصْلٌ : وَمِنْهَا الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا التضحية بالشاة لَا يَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ بِهَا لِلنَّصِّ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ أَذْهَبَ

عُضْوًا مُسْتَطَابًا مِنْ رَأْسِهَا : وَلِأَنَّهَا تَقْصُرُ بِالْعَوَرِ فِي الرَّعْيِ فَيَقِلُّ لَحْمُهَا ، وَلِأَنَّهُ مُوكِسٌ لِثَمَنِهَا وَسَوَاءٌ لَحِقَهَا الْعَوَرُ فَأَذْهَبَ الْعَيْنَ أَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً وَلَا تُبْصِرُ بِهَا ، فَإِنَّهَا الْبَيِّنُ عَوَرُهَا . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَأَقَلُّ الْعَوَرِ الْبَيَاضُ الَّذِي يُغَطِّي النَّاظِرَ فَإِنْ غَطَّى نَاظِرَهَا بِبَيَاضٍ أَذْهَبَ بَعْضَهُ وَبَقِيَ بَعْضُهُ نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ الذَّاهِبُ مِنْ نَاظِرِهَا أَكْثَرَ لَمْ تُجْزِئْ ، وَإِنْ كَانَ الذَّاهِبُ أَقَلَّ أَجْزَأَتْ . التَّضْحِيَةُ بِالْعَمْيَاءِ وَإِذَا لَمْ تُجْزِئِ الْعَوْرَاءُ فَالْعَمْيَاءُ أَوْلَى أَلَّا تُجَزِّئَ . وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ : يَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ بِالْعَمْيَاءِ لِوُرُودِ النَّصِّ عَلَى الْعَوْرَاءِ وَهَذَا مِنْ زَلَلِ الْمُقَصِّرِينَ : لِأَنَّ الْعَمَى مُتَضَعِّفٌ مِنَ الْعَوَرِ فَهِيَ عَوْرَاوَانِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُ نَهَى عَنِ النَّجْفَاءِ ، وَهِيَ الْعَمْيَاءُ الَّتِي قَدِ انْتَجَفَتْ عَيْنَاهَا ، فَأَمَّا الْأُضْحِيَّةُ بِالْحَوْلَاءِ وَالْقَمْتَاءِ فَجَائِزٌ . التَّضْحِيَةُ بِالْعَشْوَاءِ فَأَمَّا الْأُضْحِيَّةُ بِالْعَشْوَاءِ الَّتِي تُبْصِرُ نَهَارًا وَلَا تُبْصِرُ لَيْلًا ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ بِهَا جَائِزَةٌ : لِأَنَّهَا تُبْصِرُ فِي زَمَانِ الرَّعْيِ وَعَيْنُهَا مَعَ الْعَشَاءِ بَاقِيَةٌ ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ عَدَمُ النَّظَرِ فِي زَمَانِ الدَّعَةِ . وَفِيهَا وَجْهٌ آخَرُ لِبَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ : أَنَّهَا لَا تُجْزِئُ ، لِأَنَّهَا فِي أَحَدِ الزَّمَانَيْنِ غَيْرُ نَاظِرَةٍ فَكَانَ نَقْصًا مُؤَثِّرًا .

التَّضْحِيَةُ بِالْمَرِيضَةِ فَصْلٌ : وَمِنْهَا الْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا ، لِأَنَّ مَرَضَهَا مَعَ الْخَبَرِ قَدْ أَوْكَسَ ثَمَنَهَا ، وَأَفْسَدَ لَحْمَهَا ، وَأَضْعَفَ رَاعِيَتَهَا . وَهُوَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا ظَهَرَ مِنْ آثَارِهِ فِي اللَّحْمِ كَالْجَرَبِ ، وَالْبُثُورِ ، وَالْقُرُوحِ ، فَقَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ زَوَالُهُ مَرْجُوًّا أَوْ غَيْرَ مَرْجُوٍّ لِوُجُودِهِ فِي حَالِ الذَّبْحِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا لَمْ تَظْهَرْ آثَارُهُ كَالْمَرَضِ الْكَادِّي لِشِدَّةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ ، فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا مَنَعَ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا ، فَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى حَظْرِهِ ، وَفِي الْجَدِيدِ إِلَى جَوَازِهِ .

فَصَارَ عَلَى قَوْلَيْنِ ، فَأَمَّا الْهُيَامُ وَهُوَ مِنْ دَاءِ الْبَهَائِمِ ، وَذَلِكَ أَنْ يَشْتَدَّ عَطَشُهَا حَتَّى لَا تَرْتَوِيَ مِنَ الْمَاءِ فَقَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ مَانِعٌ : لِأَنَّهُ دَاءٌ مُؤَثِّرٌ فِي اللَّحْمِ .

التَّضْحِيَةُ بِالْعَجْفَاءِ فَصْلٌ : وَمِنْهَا الْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنَقَّى ، وَالْعُجْفَةُ فَرْطُ الْهُزَالِ الْمُذْهِبِ لِلَّحْمِ ، وَالَّتِي لَا تُنَقَّى ، وَالَّتِي لَا مُخَّ لَهَا لِلْعَجَفِ الَّذِي بِهَا ، وَالنِّقَاهُوَ الْمُخُّ . قَالَ الشَّاعِرُ . أَذَابَ اللَّهُ نِقْيَكِ فِي السُّلَامَى عَلَى مَنْ بِالْحَنِينِ تُعَوِّلِينَا فَإِنْ كَانَ الْعَجَفُ الَّذِي بِهَا قَدْ أَذْهَبَ نِقْيَهَا لَمْ يَجُزِ الْأُضْحِيَّةُ بِهَا سَوَاءٌ كَانَ الْعَجَفُ خِلْقَةً أَوْ مُزْمِنًا ، وَإِنْ لَمْ يُذْهِبْ نِقْيَهَا نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ عَجَفُهَا لِمَرَضٍ لَمْ تُجْزِئْ ، وَإِنْ كَانَ خِلْقَةً أَجْزَأَتْ : لِأَنَّهُ فِي الْمَرَضِ دَاءٌ وَفِي الْخِلْقَةِ غَيْرُ دَاءٍ .

التَّضْحِيَةُ بِمَعِيبَةِ الْأُذُنِ فَصْلٌ : وَقَدْ رُوِيَ فِي النَّوَاهِي غَيْرُ حَدِيثِ الْبَرَاءِ ، فَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمَذَانِيِّ ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ النُّعْمَانِ ، عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : لَا يُضَحِّي بِمُقَابَلَةٍ وَلَا مُدَابَرَةٍ وَلَا شَرَقًا وَلَا خَرَقًا . فَأَمَّا الْمُقَابَلَةُ حكم الاضحية بها : فَهِيَ الَّتِي قُطِعَ مِنْ مُقَدَّمِ أُذُنِهَا شَيْءٌ . وَأَمَّا الْمُدَابَرَةُ حكم الاضحية بها : فَهِيَ الَّتِي قُطِعَ مِنْ مُؤَخَّرِ أُذُنِهَا شَيْءٌ . وَأَمَّا الشَّرْقَاءُ حكم الاضحية بها : فَالْمَشْقُوقَةُ الْأُذُنِ بِالطُّولِ . وَأَمَّا الْخَرْقَاءُ حكم الاضحية بها : فَالَّتِي فِي أُذُنِهَا ثُقْبٌ مُسْتَدْبِرٌ ، وَإِنْ كَانَ هَذَا قَدْ أَذْهَبَ مِنَ الْأُذُنِ شَيْئًا لَمْ يُجْزِئْ فِي الضَّحَايَا : لِأَنَّهُ قَدْ أَفْسَدَ مِنْهَا عُضْوًا ، وَإِنْ لَمْ يُذْهِبْ مِنْ أُذُنِهَا شَيْئًا لِاتِّصَالِ الْمَقْطُوعِ بِهَا كَرِهْتُ لِلنَّهْيِ وَإِنْ أَجْزَأَتْ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : لَا يُجْزِئُ مَعَ اتِّصَالِ الْمَقْطُوعِ بِهَا : لِأَنَّهُ بِالْقَطْعِ قَدْ فَسَدَ ، وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا ، فَصَارَ فِي حُكْمِ الْمُنْفَصِلِ ، فَصَارَ نَقْصُ الْأُذُنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : مَا مَنَعَ مِنْ جَوَازِ الْأُضْحِيَّةِ ، وَهُوَ مَا أَذْهَبَ بَعْضَهَا . وَالثَّانِي : مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهَا ، وَهُوَ مَا لَمْ يُذْهِبْ شَيْئًا مِنْهَا . وَالثَّالِثُ : مَا اخْتُلِفَ فِيهِ ، وَهُوَ مَا قَطَعَ فَاتَّصَلَ ، وَلَمْ يَنْفَصِلْ . وَقِيلَ : لَا يَمْنَعُ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ ، وَإِنْ قُطِعَ جَمِيعُهَا : لِأَنَّ الْأُذُنَ غَيْرُ مَأْكُولٍ .

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : إِنْ قَطَعَ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ أَجْزَأَتْ ، وَإِنْ قَطَعَ النِّصْفَ ، فَمَا زَادَ لَمْ تُجْزِ ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِنَصِّ الْخَبَرِ ، وَقَدْ رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : نَهَى عَنِ الْأُضْحِيَّةِ بِالْجَدْعَاءِ وَهِيَ الْمَقْطُوعَةُ الْأُذُنِ ، وَقَالَ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَسْتَشِفَّ الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ أَيْ نَكْشِفَ ، وَرُوِيَ " نَسْتَشْرِفَ " أَيْ نُطَالِعُ وَنَنْظُرُ ، وَلِأَنَّ الْأُذُنَ عُضْوٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَطْعُهُ مُؤَثِّرًا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَخْلَفًا كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ ، فَأَمَّا الَّتِي خُلِقَتْ لَا أُذُنَ لَهَا . قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ : لَا تَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ بِهَا لِأَنَّهُ نَقْصُ عُضْوٍ مِنْ خِلْقَتِهَا ، وَقَدْ رَوَى حَرْمَلَةُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي صِفَاتِ الْأُذُنِ الصَّمْعَاءِ وَالْمَصْعَاءِ وَالْعَرْقَاءِ ، وَالْقَصْوَاءِ ، فَالصَّمْعَاءُ الصَّغِيرَةُ الْأُذُنِ ، وَالْمَصْعَاءُ الْمُمَايَلَةُ الْأُذُنِ لِكِبَرِهَا ، وَالْعَرْقَاءُ الْمُرْتَفِعَةُ الْأُذُنِ إِلَى قَرْنِهَا ، وَالْقَصْوَاءُ الْمَقْطُوعَةُ الْأُذُنِ بِالْعَرْضِ ، فَيَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ بِجَمِيعِهَا إِلَّا بِالْقَصْوَاءِ لِنَقْصِ الْأُذُنِ فِيهَا وَسَلَامَتِهَا فِي غَيْرِهَا .

التَّضْحِيَةُ بِمَقْطُوعَةِ الذَّنَبِ وَالْإِلْيَةِ ثُمَّ هَكَذَا الْمَقْطُوعَةُ الذَّنْبِ لَا يَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ بِهَا لِنَقْصِ عُضْوٍ مِنْهَا ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْأُضْحِيَّةِ بِالْبَتْرَاءِ وَهِيَ الْمَقْطُوعَةُ الذَّنَبِ ، وَهَكَذَا الْمَخْلُوقَةُ لَا ذَنَبَ لَهَا لَا تَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ بِهَا . وَلَا تَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ بِالْمَقْطُوعَةِ الْإِلْيَةِ ، وَتَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ بِالَّتِي خُلِقَتْ مِنْ غَيْرِ إِلْيَةٍ : لِأَنَّ الْمِعْزَى لَا أَلَايَا لَهَا ، وَهِيَ فِي الضَّحَايَا كَالضَّأْنِ . فَأَمَّا الَّتِي انْقَطَعَ سَاقُهَا وَأَثَّرَ فِي أَكْلِهَا وَرَعْيِهَا فَلَا تَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ بِهَا ، وَإِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ مَا قَطَعَ فِي أَكْلٍ وَلَا رَعْيٍ جَازَ .

فَصْلٌ : رَوَى يَزِيدُ أَبُو حَفْصٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ السُّلَمِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ الضَّحَايَا بِالْمُصْفَرَّةِ وَالْمُسْتَأْصَلَةِ الْبَخْقَاءِ وَالْمَشِيقَةِ النهي عن الأضحية . فَأَمَّا الْمُصْفَرَّةُ ، فَهِيَ الْهَزِيلَةُ الَّتِي قَدِ اصْفَرَّ لَوْنُهَا مِنَ الْهُزَالِ ، وَأَمَّا الْمُسْتَأْصَلَةُ فَهِيَ الْمَقْطُوعَةُ الْأُذُنِ مِنْ أَصْلِهَا ، وَأَمَّا الْبَخْقَاءُ فَهِيَ الْعَمْيَاءُ الَّتِي نُجِفَتْ عَيْنُهَا ، وَأَمَّا الْمَشِيقَةُ فَهِيَ الْمُتَأَخِّرَةُ عَنِ الْغَنَمِ لِعَجَفٍ ، أَوْ عَرَجٍ حَتَّى يُشْبِعَهَا الرَّاعِي بِضَرْبِهَا حَتَّى تَلْحَقَ . وَالضَّحَايَا بِهَذَا كُلِّهِ لَا تَجُوزُ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ مَعْنَى الْمَنْعِ وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْ أَمْرَيْنِ إِمَّا مَا أَفْقَدَ عُضْوًا ، وَإِمَّا مَا أَفْسَدَ لَحْمًا ، وَلَا يُمْنَعُ مَا عَدَاهُمَا ، وَإِنْ وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْإِجْزَاءِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

التَّضْحِيَةُ بِمَعِيبَةِ الْقَرْنِ

التَّضْحِيَةُ بِمَعِيبَةِ الْقَرْنِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَيْسَ فِي الْقَرْنِ نَقْصٌ ، فَيُضَحَّى بِالْجَلْحَاءِ وَالْمَكْسُورَةِ الْقَرْنِ أَكْبَرُ مِنْهَا دَمِيَ قَرْنُهَا ، أَوْ لَمْ يَدْمَ ، وَلَا تُجْزِئُ الْجَرْبَاءُ : لِأَنَّهُ مَرَضٌ يُفْسِدُ لَحْمَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ فَقْدُ الْقَرْنِ فِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الضَّحَايَا خِلْقَةً وَبِحَادِثٍ ، فَتَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ بِالْجَلْحَاءِ وَهِيَ الْجَمَّاءُ الَّتِي خُلِقَتْ لَا قَرْنَ لَهَا ، وَبِالْعَضْبَاءِ وَهِيَ الْمَكْسُورَةُ الْقَرْنِ سَوَاءٌ دَمِيَ مَوْضِعُ قَرْنِهَا بِالْكَسْرِ أَوْ لَمْ يَدْمَ . وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : فَقْدُ الْقَرْنِ مَانِعٌ مِنْ جَوَازِ الْأُضْحِيَّةِ خِلْقَةً وَكَسْرًا ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَحِّيَ بِجَلْحَاءَ وَلَا عَضْبَاءَ . وَقَالَ مَالِكٌ : تَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ بِالْجَلْحَاءِ ، وَلَا تَجُوزُ بِالْعَضْبَاءِ إِذَا دَمِيَ مَوْضِعُ قَرْنِهَا الأضحية ، وَاسْتَدَلَّ النَّخَعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْأُضْحِيَّةِ بِالْعَضْبَاءِ . وَدَلِيلُنَا : مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ مَعْنَى الْمَنْعِ ، وَهُوَ مَا أَفْقَدَ عُضْوًا مَأْكُولًا ، أَوْ فَسَّدَ لَحْمًا مَقْصُودًا ، وَلَيْسَ فِي فَقْدِ الْقَرْنِ وَاحِدٌ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ فَكَانَ النَّهْيُ مَحْمُولًا عَلَى الْكَرَاهَةِ دُونَ التَّحْرِيمِ ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْأُضْحِيَّةِ بِالْعَقْصَاءِ وَهِيَ الْمُلْتَوِيَةُ الْقَرْنِ ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الِاخْتِيَارِ دُونَ الْإِجْزَاءِ ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُضْحِيَّةُ بِالْقَرْنَاءِ أَفْضَلُ ، عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ رَوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحَّى بِعَضْبَاءِ الْأُذُنِ . وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ : أَنَّ الْعَضْبَاءَ إِذَا قُطِعَ مِنْهَا النِّصْفُ فَمَا فَوْقَهُ ، فَصَارَ الْمُرَادُ بِهِ نَصًّا قَطْعَ الْأُذُنِ دُونَ الْقَرْنِ وَمِنْ أَعْجَبِ مَا يَقُولُهُ مَالِكٌ : أَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ بِالْمَكْسُورَةِ الْقَرْنِ وَيَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ بِالْمَقْطُوعَةِ الْأُذُنِ ، وَالْقَرْنُ غَيْرُ مَأْكُولٍ وَالْأُذُنُ مَأْكُولَةٌ .

الْقَوْلُ فِي وَقْتِ ذَبْحِ الْأُضْحِيَّةِ

الْقَوْلُ فِي وَقْتِ ذَبْحِ الْأُضْحِيَّةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا وَقْتَ لِلذَّبْحِ يَوْمَ الْأَضْحَى إِلَّا فِي قَدْرِ صَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَلِكَ حِينَ حَلَّتِ الصَّلَاةُ وَقَدَّرَ . خُطْبَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ وَإِذَا كَانَ هَذَا الْقَدْرُ فَقَدْ حَلَّ الذَّبْحُ لِكُلِّ أَحَدٍ حَيْثُ كَانَ فَأَمَّا صَلَاةٌ مَنْ بَعْدَهُ فَلَيْسَ فِيهَا وَقْتٌ .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِهَا فِي الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى لِلْحَاضِرِ وَالْمُسَافِرِ وَاحِدٌ ، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ لَا بِفِعْلِهَا ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَارْتَفَعَتْ حَتَّى خَرَجَتْ عَنْ كَرَاهَةِ التَّنَفُّلِ بِالصَّلَاةِ وَمَضَى بَعْدَ ذَلِكَ قَدْرَ رَكْعَتَيْنِ وَخُطْبَتَيْنِ دَخَلَ وَقْتُ النَّحْرِ ، وَجَازَ ذَبْحُ الْأُضْحِيَّةِ فِيهِ سَوَاءٌ صَلَّى الْإِمَامُ فِي الْمِصْرِ ، أَوْ لَمْ يُصَّلِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَقْدِيرِ زَمَانِ الرَّكْعَتَيْنِ وَالْخُطْبَتَيْنِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ صَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعِيدِ وَخُطْبَتَيْهِ ، فَإِنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْأَوْلَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ بِسُورَةِ " ق " وَفِي الثَّانِيةِ بِسُورَةٍ " اقْتَرَبَتْ " وَكَانَ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَسْتَوْفِي فِيهَا التَّحْمِيدَ وَالْمَوَاعِظَ وَبَيَانَ الْأَضَاحِيِّ وَالْوَصِيَّةِ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَقِرَاءَةِ آيَةٍ ، فَيَكُونُ اعْتِبَارُ وَقْتِ صَلَاتِهِ وَخُطْبَتَيْهِ هُوَ الْمَشْرُوطُ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُعْتَبَرَ بِأَقَلِّ مَا يُجْزِئُ فِي صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ ، وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ فِي خُطْبَتَيْنِ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ كَانَ يُطِيلُ مَرَّةً ، وَيُخَفِّفُ أُخْرَى ، وَيُقَدِّمُ تَارَةً وَيُؤَخِّرُ أُخْرَى ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِتَحْدِيدٍ مَشْرُوعٍ لَا يَخْتَلِفُ . ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بَعْدَ هَذَا ، هَلْ كَانَ وَقْتُهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي اعْتِبَارِ قَدْرِ الصَّلَاةِ يُحَكِّمُهَا فِيمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِيهِمَا سَوَاءٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : فِي أَنَّهُ عَهْدُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعْتَبَرٌ بِصَلَاتِهِ ، وَفِي عَهْدِ مَنْ بَعْدَهُ مُعْتَبَرٌ بِقَدْرِ الصَّلَاةِ ، فَهَذَا شَرْحُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ فِيهِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَمْصَارِ بِصَلَاةِ الْأَئِمَّةِ فِيهَا ، وَفِي الْقُرَى ، وَالْأَسْفَارِ مُعْتَبَرٌ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ ، فَإِنْ ضَحَّى أَهْلُ الْأَمْصَارِ قَبْلَ صَلَاةِ الْأَئِمَّةِ كَانَ شَاةَ لَحْمٍ ، وَلَمْ تَكُنْ أُضْحِيَّةً . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ أَنَّهُ فِي الْأَمْصَارِ مُعْتَبَرٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ وَنَحْرِهِ وَفِي الْقُرَى ، وَالْأَسْفَارِ مُعْتَبَرٌ بِصَلَاةِ الْأَئِمَّةِ فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ بِهِمْ ، فَإِنْ ذَبَحَ أَهْلُ الْأَمْصَارِ قَبْلَ ذَبْحِ الْإِمَامِ كَانَتْ شَاةَ لَحْمٍ وَلَمْ تَكُنْ أُضْحِيَّةً . وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ : وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ أَنَّهُ فِي وَقْتِ جَمِيعِ النَّاسِ مُعْتَبَرٌ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ بِرِوَايَةِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ : لَا ذَبْحَ قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ . وَبِرِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ ، قَالَ : شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلِمَ أَنَّ نَاسًا ذَبَحُوا قَبْلَ الصَّلَاةِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ كَانَ مِنْكُمْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ الأضحية قبل صلاة العيد فَلْيُعِدَ

ذَبِيحَتَهُ ، وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ . قَالُوا : وَتَقْدِيرُهَا بِفِعْلِ الصَّلَاةِ يَقِينٌ وَتَقْدِيرُهَا بِزَمَانِ الصَّلَاةِ اجْتِهَادٌ ، فَكَانَ اعْتِبَارُ وَقْتِهَا بِالْيَقِينِ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِهِ بِالِاجْتِهَادِ : وَلِأَنَّ تَقْدِيرَهَا بِالْفِعْلِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَبِالزَّمَانِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، وَالْأَخْذُ بِالِاتِّفَاقِ أَوْلَى مِنَ الْعَمَلِ بِالِاخْتِلَافِ . وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَبْدِ الْمَجِيدِ ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ يَوْمَ النَّحْرِ خَطِيبًا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : " لَا يَذْبَحَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يُصَلِّيَ " ، فَقَامَ خَالِي فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا يَوْمٌ اللَّحْمُ فِيهِ مَكْرُوهٌ ، وَإِنِّي ذَبَحْتُ نَسِيكَتِي فَأَطْعَمْتُ أَهْلِي وَجِيرَانِي ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَدْ فَعَلْتَ فَأَعِدْ ذَبْحًا آخَرَ قَالَ : عِنْدِي عَنَاقُ لَبَنٍ هِيَ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ ، فَقَالَ : هُوَ خَيْرُ نَسِيكَتَيْكَ لَنْ تُجْزِئَ جَذَعَةٌ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ . فَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ فِيهِ : أَنَّهُ عَلَّقَ التَّحْرِيمَ بِصَلَاةِ الْمُضَحِّي لَا بِصَلَاةِ الْإِمَامِ وَالْمُضَحِّي ، يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الْعِيدَ مُنْفَرِدًا ، وَلَيْسَ يُعْتَبَرُ فِعْلُهُ لِلصَّلَاةِ اتِّفَاقًا ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ وَقْتَ الصَّلَاةِ . وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ تَعَلَّقَتْ بِالْوَقْتِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْقُرَى تَعَلَّقَتْ بِالْوَقْتِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْأَمْصَارِ ، كَالصَّلَاةِ طَرْدًا وَالْكَفَّارَاتِ عَكْسًا : وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ وَقْتًا لِلذَّبْحِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْقُرَى ، كَانَ وَقْتًا لِلذَّبْحِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْأَمْصَارِ ، كَمَا بَعْدَ الصَّلَاةِ طَرْدًا وَعَكْسُهُ دَلَالَةٌ عَلَيْهِمْ فِي أَهْلِ الْقُرَى أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَكُنْ وَقْتًا لِذَبْحِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ لَمْ يَكُنْ وَقْتًا لِذَبْحِ أَهْلِ الْقُرَى ، كَمَا قَبْلَ الْفَجْرِ : وَلِأَنَّ مَا تَوَقَّتَ مِنَ الْعِبَادَاتِ إِذَا تَقَدَّرَ آخِرُهُ بِالْوَقْتِ تَقَدَّرَ أَوَّلُهُ بِالْوَقْتِ كَالصَّلَاةِ طَرْدًا وَالزَّكَاةِ عَكْسًا : وَلِأَنَّ أَحَدَ طَرَفَيْ زَمَانِ الذَّبْحِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا بِالْوَقْتِ كَالطَّرَفِ الْأَخِيرِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : لَا ذَبْحَ قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِمَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ مَضَى ، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ وَقْتُ صَلَاتِهِ وَهُوَ مَا قُلْنَاهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ قَبْلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ الْإِمَامُ كَمَا قَالَ : مَنْ أَدَّى رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ . يُرِيدُ : مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مَنْ وَقْتِ الْعَصْرِ ، وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهُ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْمِصْرِ كَمَا عَدَلُوا بِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْقُرَى ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنِ الْحَدِيثِ الْآخَرِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّ اعْتِبَارَهَا بِفِعْلِ الصَّلَاةِ يَقِينٌ وَبِزَمَانِهَا اجْتِهَادٌ . فَهُوَ أَنَّ

اعْتِبَارَهَا بِزَمَانِ الصَّلَاةِ أَوْلَى : لِأَنَّهُ يَتَمَاثَلُ وَلَا يَخْتَلِفُ وَبِفِعْلِ الصَّلَاةِ يَخْتَلِفُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، فَهُوَ أَنَّ دَلَائِلَ الشَّرْعِ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ دُونَ الْمَذَاهِبِ الْمُتَعَدِّدَةِ : لِحُدُوثِ الْمَذَاهِبِ عَنِ الْأَدِلَّةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُجْعَلَ الْمَذَاهِبُ أَدِلَّةً . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، فَهُوَ أَنَّ فِعْلَهَا مُعْتَبَرٌ بِفَوَاتِ الْجُمُعَةِ ، وَلِذَلِكَ تَعَلَّقَ بِفَوَاتِ فِعْلِهَا دُونَ وَقْتِهَا ، وَلَيْسَ وَقْتُ الْأُضْحِيَّةِ بِمَثَابَتِهَا ، وَعَلَى أَنَّهُمَا يَتَسَاوَيَانِ إِذَا لَمْ يُصَلِّ الْعِيدَ ، وَلَمْ يُصَلِّ الْجُمُعَةَ جَازَ ذَبْحُ الْأُضْحِيَّةِ ، وَجَازَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ ، وَلَوْ تَعَلَّقَا فِي وَقْتِهِمَا بِفِعْلِ الصَّلَاةِ لَمْ تُجْزِئْ إِذَا لَمْ تَقُمِ الصَّلَاةُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَا يُقْطَعُ مِنَ الْحَيَوَانِ عِنْدَ الذَّبْحِ

مَا يُقْطَعُ مِنَ الْحَيَوَانِ عِنْدَ الذَّبْحِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " قَالَ : وَالذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ ، وَهِيَ مَا لَا حَيَاةَ بَعْدَهُ إِذَا قُطِعَ وَكَمَالُهَا بِأَرْبَعٍ : الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ وَالْوَدَجَيْنِ ، وَأَقَلُّ مَا يُجَزِئُ مِنَ الذَّكَاةِ أَنْ يَبِينَ الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ ، وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِفَرْيِ الْأَوْدَاجِ لِأَنَّهَا لَا تُفْرَى إِلَّا بَعْدَ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ وَالْوَدَجَانِ عِرْقَانِ قَدْ يَنْسَلَّانِ مِنَ الْإِنْسَانِ وَالْبَهِيمَةِ ثُمَّ يَحْيَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الذَّكَاةُ فِي اللُّغَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا التَّطَّيْيِبُ مِنْ قَوْلِهِمْ : رَائِحَةٌ ذَكِيَّةٌ ، أَيْ طَيِّبَةٌ ، فَسَمَّى بِهَا ذَبْحَ الْحَيَوَانِ : لِمَا فِيهِ مِنْ تَطْيِيبِ أَكْلِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا الْقَطْعُ ، فَسُمِّيَ بِهَا ذَبْحُ الْحَيَوَانِ لِقَطْعِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهَا الْقَتْلُ فَسُمِّيَ بِهَا ذَبْحُ الْحَيَوَانِ لِقَتْلِهِ ، وَالذَّكَاةُ حَالَتَانِ : كَمَالٌ ، وَإِجْزَاءٌ . فَأَمَّا حَالُ الْكَمَالِ ، فَيَكُونُ بِقَطْعِ أَرْبَعَةٍ : الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ وَالْوَدَجَيْنِ ، فَأَمَّا الْحُلْقُومُ فَهُوَ مَجْرَى النَّفْسِ فِي مُقَدَّمِ الرَّقَبَةِ ، وَأَمَّا الْمَرِيءُ فَهُوَ مَجْرَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ يَلِي الْحُلْقُومَ ، وَبِهِمَا تُوجَدُ الْحَيَاةُ ، وَبِفَقْدِهِمَا تُفْقَدُ الْحَيَاةُ ، وَأَمَّا الْوَدَجَانِ فَهُمَا عِرْقَانِ فِي جَنْبَيِ الْعُنُقِ مِنْ مُقَدَّمِهِ ، وَلَا تَفُوتُ الْحَيَاةُ بِفَوَاتِهِمَا . قَالَ الشَّافِعِيُّ : لِأَنَّهُمَا قَدْ يَنْسَلَّانِ مِنَ الْإِنْسَانِ وَالْبَهِيمَةِ ثُمَّ يَحْيَيَانِ ، وَالْوَدَجَانِ اسْمٌ لَهُمَا فِي الْبَهِيمَةِ ، وَيُسَمَّيَانِ فِي الْإِنْسَانِ الْوَرِيدَيْنِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ ق : 16 ] وَلَكِنْ لَمَّا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِنْسَانِ وَالْبَهِيمَةِ سَمَّاهُ فِيهِمَا بِاسْمٍ وَاحِدٍ إِفْهَامًا لِلْعَامَّةِ ، فَهَذَا حَالُ الْكَمَالِ فِي الذَّكَاةِ بِقَطْعِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ . وَأَمَّا حَالُ الْجَوَازِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ إِجْزَاءَ الذَّبْحِ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ دُونَ

الْوَدَجَيْنِ ، فَإِنْ قَطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ ، وَاسْتَثْنَى الْوَدَجَيْنِ حكم ذبح الاضحية حَلَّ الذَّبْحُ ، وَإِنْ كَانَ اسْتِبْقَاءُ الْوَدَجَيْنِ بَعْدَ قَطْعِ الْحُلْقُومِ مُتَعَذِّرًا لَا يَتَكَلَّفُ : لِأَنَّهُمَا يَكْتَنِفَانِ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ مِنْ جَانِبِهِمَا ، فَإِنْ تَكَلَّفَ وَاسْتَبْقَاهُمَا جَازَ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الذَّبْحُ إِلَّا بِقَطْعِ الْأَرْبَعَةِ كُلِّهَا ، فَإِنِ اسْتَبْقَى مِنْهَا شَيْئًا لَمْ تَحِلَّ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا تَحِلُّ الذَّبِيحَةُ إِلَّا بِقَطْعِ أَكْثَرِ الْأَرْبَعَةِ كُلِّهَا ، إِذَا قَطَعَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَكْثَرَهُ وَتَرَكَ أَقَلَّهُ حَلَّ ، فَإِنْ تَرَكَ مِنْهَا وَاحِدًا لَمْ يَقْطَعْ أَكْثَرَهُ لَمْ تَحِلَّ . وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ لَا تَحِلُّ إِلَّا بِقَطْعِ أَكْثَرِهَا عَدَدًا ، وَهُوَ الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ وَأَحَدُ الْوَدَجَيْنِ احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَا فَرَى الْأَوْدَاجَ فَكُلُوا مَا لَمْ يَكُنْ قَرْضَ نَابٍ أَوْ حَزَّ طَعْنٍ فَجَعَلَ فَرْيَ الْأَوْدَاجِ شَرْطًا فِي الْإِبَاحَةِ : وَلِأَنَّ مَخْرَجَ الدَّمِ مِنَ الْأَوْدَاجِ ، فَكَانَ قَطْعُهَا أَخَصَّ بِالذَّكَاةِ ، وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رَفَاعَةَ ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ ، قَالَ : قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّا لَاقُوا الْعَدُوَّ غَدًا ، أَفَنُذَكِّي بِاللِّيطَةِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوهُ ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ سِنٍّ أَوْ ظُفْرٍ ، فَإِنَّ السِّنَّ عَظْمٌ مِنَ الْأَسْنَانِ ، وَالظُّفْرَ مُدَى الْحَبَشَةِ فَاعْتَبَرَهَا بِمَا أَنْهَرَ الدَّمَ ، وَقَطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءُ مَنْهَرٌ لِلدَّمِ ، فَتَعَلَّقَ بِهِ الْإِجْزَاءُ ، وَلِأَنَّ مَقْصُودَ الذَّكَاةِ فَوَاتُ النَّفْسِ بِأَخَفِّ أَلَمٍ : لِرِوَايَةِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ الْإِحْسَانَ ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ ، وَلِيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ وَالْأَسْهَلُ فِي فَوَاتِ الرُّوحِ انْقِطَاعُ النَّفَسِ ، وَهُوَ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ أَخَصُّ ، وَبِقِطَعِ الْمَرِيءِ ، لِأَنَّهُ مَسْلَكُ الْجَوْفِ ، وَلَيْسَ بَعْدَ قَطْعِهِمَا حَيَاةٌ ، وَالْوَدَجَانِ قَدْ يُسَلَّانِ مِنَ الْإِنْسَانِ وَالْبَهِيمَةِ فَيَعِيشَانِ ، فَكَانَ اعْتِبَارُ الذَّكَاةِ بِمَا لَا تَبْقَى مَعَهُ حَيَاةٌ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِهَا بِمَا تَبْقَى مَعَهُ حَيَاةٌ .

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : مَا فَرَى الْأَوْدَاجَ ، فَكُلُوا فَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَعْمَلِ الظَّاهِرِ : لِأَنَّ فَرْيَ الْأَوْدَاجِ مَعَ بَقَاءِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ غَيْرُ مُبِيحٍ ، فَصَارَ ظَاهِرُهُ مَتْرُوكًا . فَإِنْ قِيلَ : عَدَمُ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِهِ فِي عُمُومِ الشَّرْطِ . قِيلَ : يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْكَمَالِ ، وَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْإِجْزَاءِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّهُ خُصَّ بِمَخْرَجِ الدَّمِ ، فَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّكَاةِ خُرُوجُ الرُّوحِ ، وَخُرُوجُهَا بِانْقِطَاعِ النَّفْسِ مِنَ الْحُلْقُومِ ، وَخُرُوجُ الدَّمِ تَابِعٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ إِجْزَاءَ الذَّكَاةِ يَكُونُ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ ، وَالْمَرِيءِ لَمْ تَصِحَّ الذَّكَاةُ بِقَطْعِ أَحَدِهِمَا ، وَوَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا - وَأَحْسَبُهُ أَبَا سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيَّ - فَأَبَاحَ الذَّكَاةَ بِقَطْعِ أَحَدِهِمَا لِفَقْدِ الْحَيَاةِ بِقَطْعِهِ ، وَهَذَا زَلَلٌ مِنْهُ خَالَفَ بِهِ نَصَّ الشَّافِعِيِّ ، وَمَعْنَى الذَّكَاةِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا مَا عَجَّلَ التَّوْجِيَةَ مِنْ غَيْرِ تَعْذِيبٍ وَفِي قَطْعِ أَحَدِهِمَا إِبْطَالٌ لِلتَّوْجِيَةِ ، وَتَعْذِيبٌ لِلنَّفْسِ ، فَلَمْ تَصِحَّ بِهِ الذَّكَاةُ . وَأَمَّا إِذَا قَطَعَ بَعْضَ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ ، فَإِنْ قَطَعَ أَقَلَّهُمَا لَمْ تَحِلَّ الذَّكَاةُ ، وَإِنْ قَطَعَ أَكْثَرَهُمَا فَفِي إِحْلَالِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهَا لَا تَحِلُّ : لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُقْتَصِرًا عَلَى أَقَلِّ الْأَرْبَعَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَحِلُّ : لِأَنَّ قَطْعَ أَكْثَرِهَا يَقُومُ فِي فَوَاتِ الْحَيَاةِ مَقَامَ جَمِيعِهَا ، فَأَمَّا إِنْ قَطَعَ الْوَدَجَيْنِ دُونَ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ لَمْ تَحِلَّ ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ شَرِيطَةِ الشَّيْطَانِ وَهُوَ الِاقْتِصَارُ عَلَى قَطْعِ الْوَدَجَيْنِ فِي انْهِمَارِ الدَّمِ مَأْخُوذٌ مِنْ شَرْطَةِ الْحَجَّامِ .

مَوْضِعُ النَّحْرِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَوْضِعُ النَّحْرِ فِي الِاخْتِيَارِ فِي السُّنَّةِ فِي اللَّبَّةِ ، وَمَوْضِعُ الذَّبْحِ فِي الِاخْتِيَارِ فِي السُّنَّةِ أَسْفَلُ مَجَامِعِ اللَّحْيَيْنِ فَإِذَا نُحِرَتْ بَقَرَةٌ أَوْ ذُبِحَ بَعِيرٌ فَجَائِزٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْإِبِلِ النَّحْرُ فِي الثُّغْرَةِ ، وَهُوَ عِنْدَ اللَّبَّةِ فِي مَوْضِعِ الصَّدْرِ : لِأَنَّهُ أَرَقُّ وَأَوْحَى ، وَالسُّنَّةُ فِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ الذَّبْحُ فِي أَسْفَلِ مَجَامِعِ اللَّحْيَيْنِ ، وَأَعْلَى الْعُنُقِ : لِأَنَّهُ أَرَقُّ وَأَوْحَى فَيَكُونُ النَّحْرُ قَطْعَ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ مِنْ أَسْفَلِ الْعُنُقِ وَالذَّبْحُ قَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ مِنْ أَعْلَى الْعُنُقِ ، فَصَارَ قَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ مُعْتَبَرًا فِيهِمَا ، وَإِنِ اخْتَلَفَ مَحَلُّ قَطْعِهِمَا بِالسُّنَّةِ وَتَعْجِيلِ التَّوْجِيَةِ ، فَإِنْ خَالَفَ فَذَبَحَ مَا يُنْحَرُ مِنَ الْإِبِلِ ، وَنَحَرَ مَا يُذْبَحُ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ أَجْزَأَ ، وَأَسَاءَ .

وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ ذَبَحَ مَا يُنْحَرُ مِنَ الْإِبِلِ حَلَّ ، وَإِنْ نَحَرَ مَا يُذْبَحُ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرُمَ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ [ الْمَائِدَةِ : 3 ] وَلَمْ يَخُصَّ ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ ، وَلِأَنَّ الذَّبْحَ قَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ مِنْ أَعْلَاهُمَا وَالنَّحْرَ قَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ مِنْ أَسْفَلِهِمَا فَاسْتَوَى حُكْمُ قَطْعِهِمَا فِي الْمَحَلَّيْنِ : وَلِأَنَّ مَا حَلَّ بِالذَّبْحِ حَلَّ بِالنَّحْرِ كَالْإِبِلِ : وَلِأَنَّ مَا حَلَّتْ بِهِ الْإِبِلُ حَلَّتْ بِهِ الْبَقَرُ كَالذَّبْحِ ، فَأَمَّا إِذَا قَطَعَ مَا فَوْقَ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ فِي الرَّأْسِ وَمَا دُونَ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ مِنَ الْجَوْفِ لَمْ تَحِلَّ ، وَإِنْ وَجَا فَصَارَ كَقَطْعِهِمَا بِاثْنَيْنِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : قَالَ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ : الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ ، وَزَادَ عُمَرُ : وَلَا تُعَجِّلُوا الْأَنْفُسَ أَنْ تَزْهَقَ ، وَنَهَى عَنِ النَّخَعِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا قَوْلُهُ : الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ ، فَقَدْ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَرَوَاهُ غَيْرُهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَسْنُونًا عَنِ الرَّسُولِ ، وَمَأْثُورًا عَنِ الصَّحَابَةِ ، وَقَدْ مَضَى حُكْمُ الذَّكَاةِ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : لَا تُعَجِّلُوا الْأَنْفُسَ أَنْ تَزْهَقَ . فَالزَّهَقُ : الْإِسْرَاعُ ، وَالْمُرَادُ بِهِ إِسْرَاعُ خُرُوجِ النَّفْسِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ [ التَّوْبَةُ : 55 ] وَفِي الْمُرَادِ بِنَهْيِ عُمَرَ عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقْطَعَ أَعْضَاءَ الذَّبِيحَةِ قَبْلَ خُرُوجِ نَفْسِهَا لِيَتَعَجَّلَ أَكْلَهَا حكمه كَالَّذِي كَانَتْ تَفْعَلُهُ الْجَاهِلِيَّةُ . وَالثَّانِي : أَنْ يُعَجِّلَ سَلْخَهَا قَبْلَ خُرُوجِ نَفْسِهَا لِيَتَعَجَّلَ أَكْلَهَا حكمه . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُمْسِكَهَا بَعْدَ الذَّبْحِ حَتَّى لَا تَضْطَرِبَ لِيَتَعَجَّلَ خُرُوجَ رُوحِهَا حكمه كَالْيَهُودِ ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ لَا تَمْنَعُ مِنَ الْإِبَاحَةِ لِوُجُودِهَا بَعْدَ الذَّكَاةِ ، وَأَغْلَظُهَا فِي الْكَرَاهَةِ قَطْعُهَا ثُمَّ سَلْخُهَا ثُمَّ إِمْسَاكُهَا ، وَإِنْ لَمْ يَحْرُمِ الْأَكْلُ بِوَاحِدٍ مِنْهَا ، وَأَمَّا نَهْيُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّخْعِ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا تَنْخَعُوا وَلَا تَفَرَّسُوا فَأَمَّا النَّخْعُ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَسْرُ الْعُنُقِ في الذبيحة فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِي : كَسْرُ عَظْمِ الرَّأْسِ فِي قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ .

وَالثَّالِثُ : أَنْ يُبَالِغَ فِي الْقَطْعِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى قَطْعِ النُّخَاعِ ، وَهُوَ عِرْقٌ فِي الصُّلْبِ يَمْتَدُّ إِلَى الْقَفَا ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ . وَأَمَّا الْفَرَسُ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَسْرُ الْعَظْمِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَطْعُ الرَّأْسِ مَأْخُوذٌ مِنِ افْتِرَاسِ السُّبُعِ ، وَلَيْسَ فِي النَّخْعِ وَلَا الْفَرَسِ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ مَانِعٌ مِنَ الْإِبَاحَةِ ، وَإِنْ كَانَا مَكْرُوهَيْنِ لِحُدُوثِهِمَا بَعْدَ كَمَالِ الذَّكَاةِ ، وَإِنْ كَانَتِ الرُّوحُ بَاقِيَةً وَأَشَدُّهُمَا كَرَاهَةً أَشَدُّهُمَا تَعْذِيبًا وَأَلَمًا .

الْقَوْلُ فِي ذَبِيحَةِ الْكِتَابِيِّ لِلْأُضْحِيَّةِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " قَالَ وَأُحِبُّ أَنْ لَا يَذْبَحَ الْمَنَاسِكَ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا مُسْلِمٌ ، فَإِنْ ذَبَحَ مُشْرِكٌ تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ ، أَجْزَأَ عَلَى كَرَاهِيَتِي لِمَا وَصَفْتُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْأَوْلَى بِالْمُضَحِّي وَالْمُهْدِي أَنْ يَتَوَلَّى بِنَفْسِهِ ذَبْحَ أُضْحِيَّتِهِ وَهَدْيِهِ لِرِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاقَ مِائَةَ بَدَنَةٍ ، فَنَحَرَ بِيَدِهِ مِنْهَا ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً ، وَأَمَرَ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَنَحَرَ مَا بَقِيَ . وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَذْبَحُ أُضْحِيَّتَهُ بِالْمُصَلَّى ، قَالَ نَافِعٌ : وَكَانَ عُمَرُ يَفْعَلُ ذَلِكَ . وَقَالَتْ عَائِشَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ نِسَاءَهُ أَنْ يَلِينَ ذَبْحَ هَدْيَهِنَّ : لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ ، فَكَانَ قِيَامُهُ بِهَا أَفْضَلَ مِنِ اسْتِنَابَتِهِ فِيهَا ، فَإِنِ اسْتَنَابَ فِيهَا في ذبح الاضحية جَازَ : لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَنَابَ عَلِيًّا فِي نَحْرِ مَا تَبَقَّى مِنْ هَدْيِهِ ، وَيَخْتَارُ أَنْ يَحْضُرَ ذَبْحَهَا إِذَا اسْتَنَابَ ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِامْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِهِ ، قِيلَ : إِنَّهَا فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ : احْضُرِي ذَبْحَ نَسِيكَتِكِ فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكِ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ وَيَخْتَارُ إِذَا اسْتَنَابَ فِي ذَبْحِهَا أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهَا خِيَارَ الْمُسْلِمِينَ : لِأَنَّ قِيَامَهُمْ بِالْقُرْبِ أَفْضَلُ ، وَمَنِ اسْتَنَابَ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَجْزَأَ ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا ، فَإِنِ اسْتَنَابَ فِي ذَبْحِهَا كَافِرًا لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ مِنَ الْمَجُوسِ أَوْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَهِيَ مَيْتَةٌ لَا تُؤْكَلُ . الْقَوْلُ فِي ذَبِيحَةِ الْكِتَابِيِّ لِلْأُضْحِيَّةِ وَإِنْ كَانَ مَأْكُولُ الذَّبِيحَةِ كَالْكِتَابِيِّ حَلَّتْ ، وَكَانَتْ أُضْحِيَّةً ، وَإِنْ كَانَ قِيَامُ الْكَافِرِ بِهَا مَكْرُوهًا . وَقَالَ مَالِكٌ : هِيَ شَاةُ لَحْمٍ يَحِلُّ أَكْلُهَا ، وَلَا تَكُونُ أُضْحِيَّةً : احْتِجَاجًا لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : لَا يَذْبَحُ ضَحَايَاكُمْ إِلَّا طَاهِرٌ يُرِيدُ إِلَّا مُسْلِمٌ ، وَلِأَنَّهُ كَافِرٌ فَأَشْبَهَ الْمَجُوسِيَّ .

وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ [ الْمَائِدَةِ : 5 ] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الضَّحَايَا وَغَيْرِهَا : وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ صَحَّ أَنْ يَذْبَحَ الْأُضْحِيَّةَ كَالْمُسْلِمِ : وَلِأَنَّهُ ذَبْحٌ يَصِحُّ مِنَ الْمُسْلِمِ فَصَحَّ مِنَ الْكِتَابِيِّ كَالذَّكَاةِ : وَلِأَنَّ مَعُونَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْقُرْبِ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِجْزَاءِ كَاسْتِنَابَتِهِ فِي تَفْرِيقِ الزِّكْوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَذْبَحُ ضَحَايَاكُمْ إِلَّا طَاهِرٌ فَهُوَ أَنَّ مَعْنَاهُ إِلَّا مُطَهِّرًا لِلضَّحَايَا ، وَهُوَ مَنْ تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ ، فَمَنَعَ بِهِ ذَبِيحَةَ الْمَجُوسِيِّ ، وَالْمَعْنَى فِي مَنْعِ الْمَجُوسِيِّ وَالْوَثَنِيِّ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ .

ذَبْحُ الْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ

ذَبْحُ الْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ للأضحية والهدي مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " وَذَبْحُ مَنْ أَطَاقَ الذَّبْحَ مِنَ امْرَأَةٍ حَائِضٍ وَصَبِيٍّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ ذَبْحِ النَّصْرَانِيِّ وَالْيَهُودِيِّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا ذَبْحُ النِّسَاءِ فَجَائِزٌ لَيْسَ فِيهِ كَرَاهَةٌ كَالرِّجَالِ : لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ نِسَاءَهُ أَنْ يَلِينَ ذَبْحَ هَدْيَهِنَّ وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُحَدِّثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ يَرْعَى غَنَمًا لَهُ بِسَفْحِ الْجَبَلِ الَّذِي عِنْدَ سُوقِ الْمَدِينَةِ تَرْعَاهَا جَارِيَةٌ لَهُ ، وَكَادَتْ شَاةٌ مِنْهَا تَمُوتُ ، فَأَخَذَتِ الْجَارِيَةُ حَجَرًا ، فَكَسَرَتْهُ ، وَذَبَحَتْ بِهِ الشَّاةَ ، فَزَعَمَ كَعْبٌ أَنَّهُ اسْتَفْتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ : كُلُوا شَاتَكُمْ فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَحْكَامٍ مِنْهَا : إِبَاحَةُ ذَبَائِحِ النِّسَاءِ . وَالثَّانِي : جَوَازُ الذَّبْحِ بِالْحَجَرِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ مَا ذَبَحَهُ غَيْرُ مَالِكِهِ حَلَّ أَكْلُهُ . وَالرَّابِعُ : أَنَّ ذَكَاةَ مَا أَشَفَى عَلَى الْمَوْتِ جَائِزَةٌ إِذَا كَانَ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْمَرْأَةُ طَاهِرًا أَوْ حَائِضًا غَيْرَ أَنَّ الْحَائِضَ لَا تُكْرَهُ ذَبِيحَتُهَا بِغَيْرِ الضَّحَايَا ، وَاخْتُلِفَ فِي كَرَاهَةِ ذَبْحِهَا لِلضَّحَايَا وَإِنْ أَجْزَأَتْ عَلَى وَجْهَيْنِ . فَأَمَّا الصَّبِيُّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغُ فَذَبِيحَتُهُ مَكْرُوهَةٌ فِي الضَّحَايَا وَغَيْرِهَا ، وَإِنْ أَجْزَأَتْ لِصِغَرِهِ عَنْ مُبَاشَرَةِ الذَّبْحِ : وَلِقُصُورِهِ عَنِ التَّكَالِيفِ وَذَبِيحَتُهُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ ذَبِيحَةِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ : لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ يَصِحُّ مِنْهُ فِعْلُ الْعِبَادَةِ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ كَافِرٍ لَا يَصِحُّ مِنْهُ فِعْلُ الْعِبَادَةِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الصَّبِيُّ مُرَاهِقًا أَوْ غَيْرَ مُرَاهِقٍ فِي إِبَاحَةِ ذَكَاتِهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ ، إِلَّا أَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي ذَبْحِ غَيْرِ الْمُرَاهِقِ أَقْوَى ، وَوَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَخَرَّجَ فِي ذَكَاتِهِ وَجْهًا آخَرَ أَنَّهَا لَا تُؤْكَلُ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي قَتْلِهِ عَمْدًا هَلْ يَجْرِي مِنْهُ مَجْرَى الْخَطَأِ ، فَإِنْ جَعَلَ عَمْدَهُ خَطَأً لَمْ تَحِلَّ ذَكَاتُهُ وَهَذَا زَلَلٌ ، لِأَنَّ الْعَمْدَ وَالْخَطَأَ فِي إِبَاحَةِ الذَّكَاةِ سَوَاءٌ .

ذَبْحُ الْأَخْرَسِ وَالْأَعْمَى

ذَبْحُ الْأَخْرَسِ وَالْأَعْمَى مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا بَأْسَ بِذَبِيحَةِ الْأَخْرَسِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ وَهِيَ غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ : لِأَنَّهُ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ كَالنَّاطِقِ : وَلِأَنَّهُ وَإِنْ عَجَزَ عَنِ التَّسْمِيَةِ فَلَيْسَتْ شَرْطًا فِي الذَّكَاةِ ، وَإِشَارَتُهُ بِهَا تَقُومُ مَقَامَ نُطْقِ الصَّحِيحِ ، فَلَمْ يَكُنْ تَارِكًا لَهَا ، وَيُجْزِئُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ أَخَذَ بِمَذْهَبِهِ فِي وُجُوبِ التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبْحِ أَنْ يُبِيحَ ذَكَاتَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَلَا يُبِيحُهَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ فِي اللُّحُومِ وَالْأَضَاحِيِّ : لِأَنَّ إِشَارَتَهُ بِالتَّسْمِيَةِ تَقُومُ مَقَامَ النُّطْقِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَلَا تَقُومُ مَقَامَهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَفِيمَا قَدْ يَنْفَرِدُ بِهِ لِأَجْلِ هَذَا الْخِلَافِ كِفَايَةٌ . فَأَمَّا ذَبِيحَةُ الْأَعْمَى ، فَمَكْرُوهَةٌ وَإِنْ حَلَّتْ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَخْطَأَ مَحَلَّ الذَّبْحِ ، وَلَا تُمْنَعُ مِنَ الْإِبَاحَةِ كَالْبَصِيرِ إِذَا ذَبَحَ مُغْمِضُ الْعَيْنَيْنِ أَوْ فِي ظُلْمَةٍ .

ذَبْحُ السَّكْرَانِ وَالْمَجْنُونِ

ذَبْحُ السَّكْرَانِ وَالْمَجْنُونِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأَكْرَهُ ذَبِيحَةَ السَّكْرَانِ وَالْمَجْنُونِ فِي حَالِ جُنُونِهِ ، وَلَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهَا حَرَامٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِنَّمَا كَرِهْنَا ذَبِيحَةَ السَّكْرَانِ وَالْمَجْنُونِ لِمَا يُخَافُ مِنْ عُدُولِهِمَا عَنْ مَحَلِّ الذَّبْحِ ، وَمُبَالَغَتِهِمَا فِي الْقَطْعِ إِلَى مَحَلِّ الْكَرَاهَةِ ، وَهِيَ مَعَ الْكَرَاهَةِ مُبَاحَةٌ : لِأَنَّهُمَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْقَصْدُ فِي الذَّكَاةِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَمَنْ هَمَّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي ذَكَاةِ الصَّبِيِّ ، فَخَرَّجَ بِهَا وَجْهًا آخَرَ ، وَهِيَ فِي السَّكْرَانِ وَالْمَجْنُونِ ، فَخَرَّجَ فِي ذَكَاتِهِمَا وَجْهًا آخَرَ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ . أَمَّا الْمَجْنُونُ ، فَمِنْ عَمْدِهِ فِي الْقَتْلِ ، وَأَمَّا السَّكْرَانُ فَمِنْ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ : إِنَّ طَلَاقَهُ لَا يَقَعُ ، وَتَخْرِيجَهُ فِي الْجَمِيعِ فَاسِدٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَيَجِبُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ ذَكَاتَهُمْ تَكُونُ لَحْمًا ، وَلَا تَكُونُ أُضْحِيَّةً عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ فِي الْكَافِرِ .

ذَبَائِحُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى

ذَبَائِحُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا تَحِلُّ ذَبِيحَةُ نَصَارَى الْعَرَبِ ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : ذَبِيحَةُ النَّصَارَى عَلَى أَقْسَامٍ ، وَكَذَلِكَ الْيَهُودُ . أَحَدُهَا : مَا كَانَ مُبَاحًا ، وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ ، وَمَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ قَبْلَ التَّبْدِيلِ ، وَلَمْ يَعْتَقِدْ فِي الْعُزَيْرِ وَالْمَسِيحِ ، أَنَّهُمَا ابْنَا اللَّهِ ، فَتَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ [ الْمَائِدَةِ : 5 ] . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا كَانَ مُحَرَّمًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ دَخَلَ فِي الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ بَعْدَ

التَّبْدِيلِ كَنَصَارَى الْعَرَبِ ، وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ مِنَ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ ، فَذَبَائِحُهُمْ حَرَامٌ لَا تَحِلُّ لِسُقُوطِ حُرْمَتِهِمْ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ ، وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، إِذْ قَالُوا فِي الْعُزَيْرِ وَالْمَسِيحِ إِنَّهُمَا ابْنَا اللَّهِ ، فَفِي إِبَاحَةِ ذَبَائِحِمْ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا : أَحَدُهُمَا : يَحِلُّ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ ذَبَائِحَهُمْ مَعَ إِخْبَارِهِ بِذَلِكَ عَنْهُمْ ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ : لِأَنَّهُ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ خَرَجُوا عَنْ حُكْمِ التَّوْحِيدِ إِلَى الْإِشْرَاكِ بِهِ ، فَتَوَجَّهَتِ الْإِبَاحَةُ إِلَى مَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ ، وَهُوَ عِنْدِي أَظْهَرُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا ذَبِيحَةُ النَّصَارَى بِاسْمِ الْمَسِيحِ حكم فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا ذَبَحُوهُ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَيَذْكُرُوا عَلَيْهِ اسْمَ الْمَسِيحِ ، فَأَكْلُهُ حَلَالٌ ، وَإِنْ كَرِهْنَاهُ : لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى ، فَكَانَ ذِكْرُ الْمَسِيحِ فِيهِ تَبَعًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَذْبَحُوهُ لِلْمَسِيحِ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ كَذَبَائِحِ الْأَوْثَانِ : لِأَنَّهُ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [ الْمَائِدَةِ : 3 ] . حُكْمُ ذَبَائِحِ الْجِنِّ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَبَائِحَ الْجِنِّ " قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : هُوَ أَنْ يَشْرِيَ الرَّجُلَ دَارًا أَوْ يَسْتَخْرِجَ عَنْهَا فَيَذْبَحُ خَوْفًا أَنَّ فِيهَا الْجِنَّ ، فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الضَّرْبَيْنِ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، لِيَسْتَدْفِعَ بِهِ إِصَابَةَ الْجِنِّ حَلَّ أَكْلُهَا ، وَإِنْ ذَبَحَهَا لِلْجِنِّ لِاسْتِدْفَاعِهِمْ حَرُمَ أَكْلُهَا . اسْتِحْبَابُ تَوْجِيهِ الذَّبِيحَةِ إِلَى الْقِبْلَةِ

مَسْأَلَةٌ استحباب توجيه الذبيحة إِلَى الْقِبْلَةِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأُحِبُّ أَنْ يُوَجِّهَ الذَّبِيحَةَ إِلَى الْقِبْلَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِنَّمَا كَانَتِ السُّنَّةُ أَنَّ تُوَجَّهَ ذَبِيحَتُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ فِي اللَّحْمِ وَالضَّحَايَا من السنة في الاضحية لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ضَحُّوا وَطَيِّبُوا بِهَا أَنْفُسَكُمْ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُسْلِمٍ يَسْتَقْبِلُ بِذَبِيحَتِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ ، إِلَّا كَانَ دَمُهَا وَفَرْثُهَا وَصُوفُهَا حَسَنَاتٍ مَحْضُوَرَاتٍ فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .

وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ فَلَمَّا وَجَّهَهُمَا قَرَأَ : وَجَّهْتُ وَجْهِيَ الْآيَتَيْنِ : وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي ذَبْحِهَا أَنْ يَتَوَجَّهَ بِهَا إِلَى جِهَةٍ ، فَكَانَتْ جِهَةُ الْقِبْلَةِ أَفْضَلَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خَيْرُ الْمَجَالِسِ مَا اسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ وَلِأَنَّهَا قُرْبَةٌ ، فَكَانَتِ الْقِبْلَةُ أَخَصَّ بِهَا كَالصَّلَاةِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَهُوَ سَفْحُ دَمٍ ، وَإِلْقَاءُ فَرْثٍ ، وَهِيَ أَنْجَاسٌ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَنْزِيهُ الْقِبْلَةِ عَنْهَا أَوْلَى كَالْبُرُوزِ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ ، قِيلَ : لَيْسَ فِي كَشْفِ الْعَوْرَةِ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ طَاعَةٌ ، فَكَانَ صِيَانَةُ الْقِبْلَةِ عَنْهُ أَوْلَى ، وَفِي ذَبْحِ الضَّحَايَا طَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ ، فَكَانَ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ بِهَا أَوْلَى ، فَافْتَرَقَا ، وَيَخْتَارُ أَنْ يَتَظَاهَرَ بِذَبْحِ الضَّحَايَا وَبِكُلِّ ذَبِيحَةٍ فِيهَا لِلْفُقَرَاءِ نَصِيبٌ لِيَحْضُرُوا ، فَيَنَالُوا مِنْهَا وَيَسْتَسِرُّ بِذَبْحِ مَا يُخْتَصُّ بِأَكْلِهِ مِنَ اللَّحْمِ لِيَقِلَّ فِيهِ التَّحَاشُدُ .

التَّسْمِيَةُ عَلَى الذَّبِيحَةِ

التَّسْمِيَةُ عَلَى الذَّبِيحَةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " وَيَقُولَ الرَّجُلُ عَلَى ذَبِيحَتِهِ بِاسْمِ اللَّهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الذَّبْحِ فِي الضَّحَايَا وَاللَّحْمِ ، وَعِنْدَ إِرْسَالِ الْجَوَارِحِ عَلَى الصَّيْدِ سُنَّةٌ ، وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ ، فَإِنْ تَرَكَهَا ذَاكِرًا أَوْ نَاسِيًا ، حَلَّتِ الذَّبَائِحُ وَصَيْدُ الْجَوَارِحِ . وَقَالَ دَاوُدُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ : هِيَ وَاجِبَةٌ مَعَ الذِّكْرِ وَالنِّسْيَانِ ، فَإِنْ تَرَكَهَا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا

التسمية على الذبيحة
حَرُمَتْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : هِيَ وَاجِبَةٌ مَعَ الذِّكْرِ دُونَ النِّسْيَانِ ، فَإِنْ تَرَكَهَا عَامِدًا حَرُمَتْ ، وَإِنْ تَرَكَهَا نَاسِيًا حَلَّتْ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِمْ قَدْ مَضَى ، وَمِنْهُ مَا رَوَاهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : الْمُسْلِمُ يَذْبَحُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ سَمَّى أَوْ لَمْ يُسَمِّ . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولُ اللَّهِ إِنَّا نَذْبَحُ ، وَنَنْسَى أَنْ نُسَمِّيَ اللَّهَ فَقَالَ : اسْمُ اللَّهِ عَلَى قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ : وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي الذَّكَاةِ مَعَ الذِّكْرِ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِيهَا مَعَ النِّسْيَانِ كَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةً . وَيَخْتَارُ لَهُ فِي الضَّحَايَا خَاصَّةً أَنْ يُكَبِّرَ اللَّهَ تَعَالَى قَبْلَ التَّسْمِيَةِ وَبَعْدَهَا ثَلَاثًا ، لِأَنَّهَا فِي أَيَّامِ التَّكْبِيرِ ، فَيَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ خَاتِمًا بِالْحَمْدِ بَعْدَ التَّكْبِيرِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا أَكْرَهُ الصَّلَاةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهَا إِيمَانٌ بِاللَّهِ . قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : أَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ عَنِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ صَلَّى عَلَيْكَ صَلَّيْتُ عَلَيْهِ

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الذَّبْحِ ، فَلَيْسَتْ وَاجِبَةً إِجْمَاعًا ، وَلَا مَكْرُوهَةً عِنْدَنَا ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اسْتِحْبَابِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : هُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَحَبَّةٍ وَلَا مَكْرُوهَةٍ ، وَكَرِهَهَا مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ احْتِجَاجًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَوْطِنَانِ لَا أَذْكُرُ فِيهِمَا عِنْدَ الذَّبِيحَةِ وَالْعُطَاسِ : وَلِأَنَّهُ يَسِيرُ بِذِكْرِهِ مِمَّا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا ، وَدَلِيَلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [ الشَّرْحِ : 4 ] قِيلِ : مَعْنَاهُ لَا أُذْكَرُ إِلَّا ذُكِرَتْ مَعِيَ ، وَقَالَ تَعَالَى : إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [ الْأَحْزَابِ : 56 ] الْآيَةَ ، فَكَانَ عِنْدَ الْقُرْبِ بِالذَّبَائِحِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَذْكُورًا ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَخَشِيتُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْطَانُ أَدْخَلَ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الْجَهَالَةِ أَنْ كَرِهُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ عِنْدَ الذَّبِيحَةِ لِمَوْضِعِ غَفْلَتِهِمْ أَوْ لَا يَرَى ، لِمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ قَالَ : كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَبَقَنِي ، فَجِئْتُ فَرَأَيْتُهُ سَاجِدًا ، فَأَقَمْتُ طَوِيلًا ، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَبَضَ رُوحَكَ فِي سُجُودِكَ لَمَّا أَطَلْتَ ، فَقَالَ : لَمَّا فَارَقْتُكَ لَقِيَنِي جِبْرِيلُ ، فَأَخْبَرَنِي عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ : مَنْ صَلَّى عَلَيْكَ صَلَّيْتُ عَلَيْهِ ، فَسَجَدْتُ شُكْرًا لِلَّهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَكْرَهُ ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ رَقِيَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ : آمِينَ ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، قَالَ : قَالَ لِي جِبْرِيلُ : رَغِمَ أَنْفُ مَنْ ذُكِرْتَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ ، فَقُلْتُ آمِينَ ، ثُمَّ الثَّانِيةَ فَقَالَ : آمِينَ ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ : قَالَ لِي جِبْرِيلُ رَغِمَ أَنْفُ عَبْدٍ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا ، فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ فَقُلْتُ آمِينَ ، ثُمَّ رَقِيَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ : آمِينَ ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ : قَالَ لِي جِبْرِيلُ : رَغِمَ أَنْفُ عَبْدٍ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرُ لَهُ ، فَقُلْتُ : آمِينَ . وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الرَّسُولِ إِيمَانٌ بِالْمُرْسَلِ ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْإِيمَانُ مَكْرُوهًا ؟ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَوْطِنَانِ لَا أَذْكُرُ فِيهِمَا ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ يَنْهَى عَنْ ذِكْرِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْهِ التَّنْبِيهِ عَلَى ذِكْرِهِ ، كَأَنَّهُ قَالَ . لِمَ لَا أَذْكُرُ فِيهِمَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُذْكَرُ فِيهِمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ : لِأَنَّ ذِكْرَهُ فِي الذَّبِيحَةِ أَنْ يُقْصَدَ بِهَا وَجْهَهُ فِي التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ رَسُولُهُ ، وَذِكْرُهُ فِي الْعُطَاسِ حَمْدٌ لَهُ وَلَيْسَ يُحْمَدُ رَسُولُهُ عِنْدَهُ ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ ، فَلَمْ يَتَوَجَّهِ النَّهْيُ إِلَيْهَا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : إِنَّهُ يَصِيرُ مِمَّا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ، فَهُوَ أَنَّهُ يَصِيرُ بِذَبْحِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ، وَلَا يَكُونُ مِمَّا أُهِلَّ بِهِ لِلَّهِ ، وَمَتَى فَعَلَ هَذَا كَانَ حَرَامًا .

فَأَمَّا إِذَا صَلَّى عِنْدَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ يَكُونُ مِمَّا أُهِلَّ بِهِ لِلَّهِ ، وَلَا يَكُونُ مِمَّا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ قَالَ : اللَّهُمَ مِنْكَ وَإِلَيْكَ ، فَتَقَبَّلْ مِنِّي ، فَلَا بَأْسَ هَذَا دُعَاءٌ ، فَلَا أَكْرَهُهُ " . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وَجْهٍ لَا يَثْبُتُ أَنَّهُ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ ، فَقَالَ فِي أَحَدِهِمَا بَعْدَ ذِكْرِ اللَّهِ : اللَّهُمَّ عَنْ مُحْمَدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ ، وَفِي الْآخِرِ : اللَّهُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَةِ مُحْمَدٍ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مُبَاحٌ وَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ ، وَفِي اسْتِحْبَابِهِ وَجْهَانِ ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهَا رِوَايَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحَّى بِكَبْشٍ أَقْرَنَ فَأَضْجَعَهُ ، وَقَالَ : بِسْمَ اللَّهِ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ، ثُمَّ ضَحَّى بِهِ . وَلِأَنَّ قَوْلَهُ : اللَّهُمَّ مِنْكَ وَإِلَيْكَ قول المضحي ، فَتَقَبَّلْ مِنِّي اعْتِرَافًا بِالنِّعْمَةِ وَامْتِثَالًا لِلْأَمْرِ وَرَغَبًا فِي الدُّعَاءِ : لِأَنَّ قَوْلَهُ : اللَّهُمَّ مِنْكَ اعْتِرَافٌ بِأَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُ وَرَزَقَهُ ، وَقَوْلُهُ : وَإِلَيْكَ : إِبَانَةٌ عَنِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ وَقَوْلُهُ : " فَتَقَبَّلْ مِنِّي " دُعَاءٌ يَسْأَلُ فِيهِ الْقَبُولَ ، وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَكْرُوهًا ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ تَقَبُّلَ مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِكَ وَمُوسَى كَلِيمِكَ وَعِيسَى رُوحِكَ وَمُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ . وَهَذَا لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ إِنْ قَالَهُ ، وَلَا مُسْتَحَبٍّ ، لِأَنَّ قُرْبَ الْأَنْبِيَاءِ لَا يُسَاوِيهِمْ غَيْرُهُمْ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُسْتَحَبَّ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ عِنْدَ الضَّحِيَّةِ : اللَّهُمَّ خُذْ هَذَا عَنْ فُلَانٍ ، فَلَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ : لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ بِمَا قَدْ عَلِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَبْلَ ذِكْرِهِ لَا يَتَضَمَّنُ دُعَاءً ، وَلَا اعْتِرَافًا بِالنِّعْمَةِ ، وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ ابْنِ عَقِيلٍ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَشْتَرِي كَبْشَيْنِ عَظِيمَيْنِ سَمِينَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مُوجِئَيْنِ ، فَيَذْبَحُ أَحَدَهُمَا عَنْ أُمَّتِهِ مَنْ شَهِدَ مِنْهُمْ بِالتَّوْحِيدِ ، وَشَهِدَ لَهُ بِالْبَلَاغِ وَالْآخَرَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ . وَنَقَلَ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ ، فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ هَذَا الْحَدِيثُ ، كَانَ قَوْلُهُ : عَنْ فُلَانٍ مَكْرُوهًا ، وَإِنْ ثَبَتَ لَمْ يَكُنْ مَكْرُوهًا ، وَيَكُونُ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ : فِي أَحَدِهِمَا : عَنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ، وَفِي الثَّانِي : عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ ، وَإِنْ كَانَ الْكَبْشُ الْوَاحِدُ لَا يُجْزِئُ إِلَّا عَنْ وَاحِدٍ ، فَمَحْمُولٌ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ يُجْزِئُ عَنْهُمْ مِثْلُهُ ، كَمَا يُجْزِئُ عَنِّي ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَهُ مِنْهُمْ كَثَوَابِهِ مِنِّي .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَنْدُوبُ إِلَيْهِ مِنَ الضَّحَايَا وَالذَّبَائِحِ بَعْدَمَا ذَكَرْنَا مِنَ السُّنَنِ الْمُخْتَارَةِ ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الِاسْتِحْبَابِ وَالْكَرَاهَةِ فَسَبْعَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنْ تُسَاقَ إِلَى مَذْبَحِهَا سَوْقًا رَفِيقًا ، وَتُضْجَعَ لِذَبْحِهَا اضْجَاعًا قَرِيبًا ، وَلَا يُعَنَّفُ بِهَا فِي سَوْقٍ ، وَلَا اضْجَاعٍ فَيَكْرَهُهَا وَيُنَفِّرُهَا . وَالثَّانِي : أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهَا الْمَاءَ قَبْلَ ذَبْحِهَا خَوْفًا مِنْ عَطَشِهَا الْمُعِينِ عَلَى تَلَفِهَا :

وَلِيَكُونَ ذَلِكَ أَسْهَلَ عِنْدَ سَلْخِهَا وَتَقْطِيعِهَا ، وَلَا يَعْرِضُ عَلَيْهَا الْعَلَفَ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَسْمِنُ بِهِ إِلَى حِينِ الذَّبْحِ ، فَيَكْثُرُ بِهِ الْفَرْثُ إِلَّا أَنْ يَتَأَخَّرَ زَمَانُ الذَّبْحِ فَيَعْرِضُ عَلَيْهَا كَالْمَاءِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُخْفِيَ عَنْهَا إِحْدَادَ الشِّفَارِ الذبيحة فِي وُجُوهِهَا ، فَرُبَّمَا نَفَّرَهَا ، وَقَدْ وَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنْ لَا تُحَدَّ الشِّفَارُ فِي وُجُوهِهَا . وَالرَّابِعُ : أَنْ لَا يَنْحَرَ بَعْضَهَا فِي وُجُوهِ بَعْضٍ الذبائح فَقَدْ جَاءَ فِيهِ الْأَثَرُ : وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا نَفَّرَهَا ذَلِكَ . وَالْخَامِسُ : أَنْ يَعْقِلَ بَعْضَ قَوَائِمِهَا وَيُرْسِلَ بَعْضَهَا وَلَا يَعْقِلَ جَمِيعَهَا فَتُرْهَقَ ، وَلَا يُرْسِلَ جَمِيعَهَا فَتَنْفِرَ . وَالسَّادِسُ : أَنْ يَنْحَرَ الْإِبِلَ قِيَامًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا [ الْحَجِّ : 36 ] أَيْ سَقَطَتْ وَتُذْبَحُ الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ مَضْجُوعَةً ، فَإِنْ خَافَ نُفُورَ الْإِبِلِ إِذَا نُحِرَتْ قِيَامًا ، نَحَرَهَا بَارِكَةً غَيْرَ مَضْجُوعَةٍ . وَالسَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ الذَّبْحُ بِأَمْضَى شِفَارٍ وَجَدَهَا ، وَيُمِرُّهَا ذَهَابًا وَعَوْدَةً فِي قُوَّةِ اعْتِمَادٍ وَسُرْعَةِ تَوْجِيَةٍ لِرِوَايَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، فَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ ، وَلْيُحِدَّ أَحَدَكُمْ شَفْرَتَهُ ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ ثُمَّ هَذِهِ السَّبْعَةُ دَلَائِلُ عَلَى نَظَائِرِهَا .

الْقَوْلُ فِي قَطْعِ رَأْسِ الذَّبِيحَةِ

الْقَوْلُ فِي قَطْعِ رَأْسِ الذَّبِيحَةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِذَا ذَبَحَهَا فَقَطَعَ رَأْسَهَا فَهِيَ ذَكِيَّةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ يُكْرَهُ إِذَا قَطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ وَالْوَدَجَيْنِ أَنْ يَزِيدَ فِي الذَّبْحِ لِوُقُوعِ الذَّكَاةِ بِهَا ، وَإِزْهَاقُ رُوحِهِ بِمَا زَادَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ زَادَ فِي الذَّبْحِ حَتَّى قَطَعَ رَأْسَهَا لَمْ تَحْرُمْ . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ : قَدْ حَرُمَتْ لِأَنَّهَا مَاتَتْ مِنْ مُبِيحٍ وَحَاظِرٍ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ ذَبْحٌ وَاحِدٌ لَا يَتَمَيَّزُ فَكَانَ جَمِيعُهُ مُبِيحًا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ تَمَيَّزَ وَكَانَ حَاظِرًا ، فَالْحَظْرُ طَرَأَ بَعْدَ الذَّكَاةِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهَا ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُغَيِّرَ حُكْمَهَا ، وَعَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ فِيهِ مَا يَمْنَعُ مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ عَلَيْهِ ، إِذْ هُمْ عَلَى اتِّفَاقٍ فِيهِ ، فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ بَعِيرٍ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ بِالسَّيْفِ ، فَقَالَ : يُؤْكَلُ . وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ ذَبَحَ طَيْرًا فَأَبَانَ رَأْسَهُ ، فَقَالَ : يُؤْكَلُ ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ ، وَلَيْسَ لَهُمْ مُخَالِفٌ .

الذَّبْحُ مِنَ الْقَفَا

الذَّبْحُ مِنَ الْقَفَا مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوْ ذَبَحَهَا مِنْ قَفَاهَا ، فَإِنْ تَحَرَّكَتْ بَعْدَ قَطْعِ الرَّأْسِ أُكِلَتْ ، وَإِلَّا لَمْ تُؤْكَلْ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : ذَبُحُ الشَّاةِ مِنَ الْقَفَا مَكْرُوهٌ ، وَإِنَّمَا كَرِهْنَاهُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْذِيبِهَا ، وَالثَّانِي : لِمَا يُخَافُ مِنْ مَوْتِهَا قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى ذَكَاتِهَا ، فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُعْلَمَ مَوْتُهَا بِقَطْعِ الْقَفَا قَبْلَ وُصُولِ السِّكِّينِ إِلَى قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ ، فَتَكُونُ مَيْتَةً لَا تُؤْكَلُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَقِيَتْ فِيهَا عِنْدَ وُصُولِ السِّكِّينِ إِلَى قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ حَيَاةٌ غَيْرُ مُسْتَقِرَّةٍ لِحَيَاةِ الْمَذْبُوحِ لَمْ تُؤْكَلْ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الذَّكَاةَ لَا تُسْتَبَاحُ إِلَّا بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ ، وَقَطْعُ قَفَاهَا يَجْرِي فِي فَوَاتِ نَفْسِهَا مَجْرَى كَسْرِ صُلْبِهَا ، وَبَقْرِ بَطْنِهَا ، وَلَا تَحْصُلُ بِهِ ذَكَاةٌ وَإِنْ وَجَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : إِنْ قَطَعَ حُلْقُومُهَا وَمَرِيئَهَا ، فَهَذِهِ ذَكِيَّةٌ تُؤْكَلُ ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : هِيَ مَيْتَةٌ لَا تُؤْكَلُ . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَمْدًا لَمْ تُؤْكَلْ ، وَإِنْ فَعَلَهُ سَهْوًا أُكِلَتِ احْتِجَاجًا بِأَنَّ قَطْعَ الْقَفَا مُوجٍ ، وَالذَّكَاةَ بَعْدَ التَّوْجِيَةِ لَا تَصِحُّ كَالَّتِي أَخْرَجَ السَّبُعُ حَشَوْتَهَا . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَا كَانَتْ حَيَاتُهُ مُسْتَقِرَّةً وَإِنْ لَمْ تَدُمْ صَحَّتْ ذَكَاتُهُ ، كَالْمَقْطُوعَةِ الْأَطْرَافِ ، وَلِأَنَّهُ لَوِ انْتَهَى بِهَا النَّزْعِ إِلَى حَدِّ الْإِيَاسِ حَلَّتْ ذَكَاتُهَا مَعَ اسْتِقْرَارِ الْحَيَاةِ ، فَلِذَلِكَ قَطَعَ الْقَفَا ، وَخَالَفَ قَطْعَ الْحَشْوَةِ : لِأَنَّ بَقَاءَ الْحَيَاةِ مَعَهَا مُسْتَقِرَّةً كَحَيَاةِ الْمَذْبُوحِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُشْكِلَ حَالُهَا عِنْدَ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ هَلْ كَانَتْ حَيَاتُهَا مُسْتَقِرَّةً أَوْ غَيْرَ مُسْتَقِرَّةٍ ، فَفِي إِبَاحَةِ أَكْلِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهَا غَيْرُ مَأْكُولَةٍ : لِأَنَّ الْأَصْلَ الْحَظْرُ حَتَّى تُعْلَمَ الْإِبَاحَةُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : إِنَّهَا مَأْكُولَةٌ : لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الْحَيَاةُ حَتَّى يُعْلَمَ فَوَاتُهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَإِذَا أَوْجَبَهَا أُضْحِيَّةً وَهُوَ أَنْ يَقُولُ : هَذِهِ أُضْحِيَّةٌ ، وَلَيْسَ شِرَاؤُهَا ، وَالنِّيَّةُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا إِيجَابًا لَهَا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا اشْتَرَى الْأُضْحِيَّةَ نَاوِيًا بِهَا أُضْحِيَّةً لَمْ تَصِرْ أُضْحِيَّةً بِالنِّيَّةِ مَعَ الشِّرَاءِ ، حَتَّى يُوجِبَهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : قَدْ صَارَتْ أُضْحِيَّةً بِالنِّيَّةِ وَالشِّرَاءِ احْتِجَاجًا بِأَنَّ ابْتِيَاعَ السِّلْعَةِ لَمَّا صَارَتْ بِالنِّيَّةِ مَعَ الشِّرَاءِ أَنَّهَا لِلتِّجَارَةِ جَارِيَةً فِي دُخُولِ الزَّكَاةِ ، وَلَمْ يَنْوِ كَانَتْ قِنْيَةً لَا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ كَذَلِكَ الْأُضْحِيَّةُ إِذَا اشْتَرَاهَا إِنْ نَوَى بِهَا الْأُضْحِيَّةَ صَارَتْ أُضْحِيَّةً ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لَمْ تَكُنْ أُضْحِيَّةً . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ الشِّرَاءَ مُوجِبٌ لِلْمِلْكِ وَكَوْنَهَا أُضْحِيَّةً مُزِيلٌ لِلْمِلْكِ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مُوجِبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ وَإِزَالَتِهِ ، فَلَمَّا أَفَادَ الشِّرَاءُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ امْتَنَعَ أَنْ يَزُولَ بِهِ الْمِلْكُ ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا يَنْوِي بِهِ الْعِتْقَ ، أَوْ دَارًا يَنْوِي بِهَا الْوَقْفَ صَحَّ الشِّرَاءُ ، وَلَمْ يَصِرِ الْعَبْدُ حُرًّا ، وَلَا الدَّارُ وَقْفًا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ شِرَاءِ السِّلْعَةِ بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ ، فَهُوَ أَنَّ جَرَيَانَهَا فِي حَوْلِ الزَّكَاةِ مِنْ أَحْكَامِ الْمِلْكِ ، فَجَازَ أَنْ تَقْتَرِنَ بِاسْتِفَادَةِ الْمِلْكِ وَخَالَفَ الْأُضْحِيَّةَ الْمُزِيلَةَ لِلْمِلْكِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا عَلَّقَ قَبْلَ الشِّرَاءِ وُجُوبَ الْأُضْحِيَّةِ ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَجْعَلَهَا بِالشِّرَاءِ أُضْحِيَّةً . وَالثَّانِي : أَنْ يَلْتَزِمَ فِي الذِّمَّةِ أَنْ يَجْعَلَهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ أُضْحِيَّةً . فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ فَصُورَتُهُ : أَنْ يَقُولَ إِنِ اشْتَرَيْتَ شَاةً فَهِيَ أُضْحِيَّةٌ ، فَإِذَا اشْتَرَاهَا لَمْ تَصِرْ أُضْحِيَّةً : لِأَنَّهُ أَوْجَبَهَا قَبْلَ الْمِلْكِ . وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي فَصُورَتُهُ إِنْ أَطْلَقَ ، وَلَمْ يُعَيِّنْ أَنْ يَقُولَ : إِنِ اشْتَرَيْتُ شَاةً فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَجْعَلَهَا أُضْحِيَّةً ، فَهَذَا نَذْرٌ مَضْمُونٌ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ ، فَلَزِمَ وَانْعَقَدَ ، فَإِذَا اشْتَرَى شَاةً ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَهَا أُضْحِيَّةً وَلَا تَصِيرُ بِالشِّرَاءِ أُضْحِيَّةً ، لِأَنَّ النُّذُورَ تَلْزَمُ فِي الذِّمَّةِ قَبْلَ الْمِلْكِ . وَإِنْ عَيَّنَ فَقَالَ : إِنِ اشْتَرَيْتُ هَذِهِ الشَّاةَ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَجْعَلَهَا أُضْحِيَّةً ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَغْلِبُ حُكْمُ التَّعْيِينِ فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْعَلَهَا أُضْحِيَّةً : لِأَنَّهُ أَوْجَبَهَا قَبْلَ الْمِلْكِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَغْلِبَ فِيهَا حُكْمُ النَّذْرِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَجْعَلَهَا أُضْحِيَّةً لِتَعْلِيقِهِ بِالذِّمَّةِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَأَرَادَ أَنْ يُوجِبَ الْأُضْحِيَّةَ بَعْدَ مِلْكِهَا بِشِرَاءٍ ، فَإِنْ أَوْجَبَهَا بِالْقَوْلِ ، فَقَالَ : هَذِهِ أُضْحِيَّةٌ وَجَبَتْ ، وَإِنْ أَوْجَبَهَا بِالنِّيَّةِ فَنَوَى أَنَّهَا أُضْحِيَّةٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ لَا تَصِيرُ بِالنِّيَّةِ أُضْحِيَّةً حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهَا الْقَوْلُ : لِأَنَّهَا إِزَالَةُ مِلْكٍ فَأَشْبَهَ الْعِتْقَ وَالْوَقْفَ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ أُضْحِيَّةً لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ مَعَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [ الْحَجِّ : 37 ] يَعْنِي إِخْلَاصَ الْقُلُوبِ بِالنِّيَّاتِ ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ قَدْ وَجَبَتْ وَيُؤْخَذُ بِذَبْحِهَا ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَمْ تَجِبْ وَلَهُ بَيْعُهَا ، فَإِنْ تَرَكَهَا عَلَى نِيَّتِهِ حَتَّى ضَحَّى بِهَا فَهَلْ تَصِيرُ بِالذَّبْحِ بَعْدَ النِّيَّةِ أُضْحِيَّةً أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَصِيرُ أُضْحِيَّةً بِالذَّبْحِ مَعَ تَقَدُّمِ النِّيَّةِ . وَالثَّانِي : تَصِيرُ لِأَنَّ الذَّبْحَ فِعْلٌ ظَاهِرٌ ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِالنِّيَّةِ صَارَ آكَدَ مِنَ الْقَوْلِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ ، فَصَارَ فِيمَا تَصِيرُ بِهِ أُضْحِيَّةً ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : بِالْقَوْلِ وَحْدَهُ . وَالثَّانِي : بِالنِّيَّةِ وَحْدَهَا . وَالثَّالِثُ : بِالنِّيَّةِ وَالذَّبْحِ . فَأَمَّا الْهَدَايَا فَفِيمَا يُوجِبُهَا الشَّافِعِيُّ قَوْلَانِ ، وَلِأَصْحَابِهِ وَجْهَانِ آخَرَانِ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ ، وَهُوَ الْجَدِيدُ أَنَّهَا لَا تَجِبُ إِلَّا بِالْقَوْلِ ، فَيَقُولُ : قَدْ جَعَلْتُ هَذِهِ الْبَدَنَةَ هَدْيًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الْقَدِيمُ أَنَّهَا تَصِيرُ بِالتَّقْلِيدِ وَالْإِشْعَارِ هَدْيًا ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ : لِأَنَّهُ عِلْمٌ ظَاهِرٌ كَالْقَوْلِ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا تَصِيرُ هَدْيًا بِالنِّيَّةِ ، وَإِنْ لَمْ يُقَلِّدْهَا ، وَيُشْعِرْهَا كَالْأُضْحِيَّةِ . وَالرَّابِعُ : وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي لِأَصْحَابِنَا : أَنَّهَا تَصِيرُ هَدْيًا بِالذَّبْحِ مَعَ النِّيَّةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَإِذَا أَوْجَبَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُبْدِلَهَا بِحَالٍ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَوْجَبَ الْأُضْحِيَّةَ وَعَيَّنَهَا خَرَجَتْ بِالْإِيجَابِ عَنْ مِلْكِهِ ، وَمَنَعَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ مُؤْنَتُهَا وَحِفْظُهَا إِلَى وَقْتِ نَحْرِهَا ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَمَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ وَأَبِي ثَوْرٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٌ : لَا تَخْرُجُ بِالْإِيجَابِ عَنْ مِلْكِهِ ، وَلَا يَمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا ، وَيَكُونُ بِإِيجَابِهَا مُخَيَّرًا بَيْنَ ذَبْحِهَا أَوْ ذَبْحِ غَيْرِهَا : احْتِجَاجًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَهْدَى مِائَةَ بَدَنَةٍ عَامَ حَجِّهِ ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ فَأَشْرَكَهُ فِيهَا ، وَلَوْ خَرَجَتْ بِالْإِيجَابِ عَنْ مِلْكِهِ مَا جَعَلَ فِيهَا شِرْكًا لِغَيْرِهِ : وَلِأَنَّهُ لَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ عِتْقَ

عَبْدٍ فَقَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَهُ لَمْ يَخْرُجْ بِهَذَا الْإِيجَابِ فِي مِلْكِهِ إِجْمَاعًا ، وَكَذَلِكَ إِيجَابُ الْأُضْحِيَّةِ لَا يُخْرِجُهَا عَنْ مِلْكِهِ احْتِجَاجًا . وَلِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِالْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى تَقْتَضِي زَوَالَ الْمِلْكِ ، وَلَا يَمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ كَالزَّكَاةِ إِذَا وَجَبَتْ فِي الْمَالِ . وَلِأَنَّ الْقَصْدَ فِي إِيجَابِهَا مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْفُقَرَاءُ مِنْ لَحْمِهَا وَانْتِفَاعِهِمْ بِلَحْمِ غَيْرِهَا كَانْتِفَاعِهِمْ بِلَحْمِهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا . وَلِأَنَّهَا بَعْدَ الْإِيجَابِ مَمْلُوكَةٌ فَلَمَّا لَمْ تَصِرْ مِلْكًا لِلْفُقَرَاءِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً عَلَى مِلْكِ الْمُضَحِّي . وَدَلِيلُنَا : مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ : أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَوْجَبْتُ عَلَى نَفْسِي بَدَنَةً وَقَدْ طُلِبَتْ مِنِّي بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهَا ، فَقَالَ : انْحَرْهَا وَلَا تَبِعْهَا وَلَوْ طُلِبَتْ بِمَائَةِ بَعِيرٍ . فَلَمَّا مَنَعَهُ مِنَ الْبَيْعِ مَعَ الْمُبَالَغَةِ فِي الثَّمَنِ وَأَمَرَهُ بِالنَّحْرِ دَلَّ عَلَى فَسَادِ الْبَيْعِ وَوُجُوبِ النَّحْرِ . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَوْجَبَ أُضْحِيَّةً فَلَا يَسْتَبْدِلْ بِهَا ، وَلَيْسَ لَهُ مَعَ انْتِشَارِ قَوْلِهِ مُخَالِفٌ فِي الصَّحَابَةِ . وَلِأَنَّهُ يَتَقَرَّبُ بِالْأُضْحِيَّةِ مِنَ النَّعَمِ كَمَا يَتَقَرَّبُ بِالْعَبِيدِ فِي الْعِتْقِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْعِتْقَ مُزِيلٌ لِلْمِلْكِ إِجْمَاعًا ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْأُضْحِيَّةُ مُزِيلَةً لِلْمِلْكِ احْتِجَاجًا . وَلِأَنَّ كُلَّ إِيجَابٍ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالذِّمَّةِ أَوْجَبَ زَوَالَ الْمِلْكِ كَالْوَقْفِ وَالْعِتْقِ . وَلِأَنَّ حُكْمَ الْأُضْحِيَّةِ يَسْرِي إِلَى وَلَدِهَا ، وَكُلُّ حُكْمٍ أَوْجَبَ سِرَايَتهُ إِلَى الْوَلَدِ زَالَ بِهِ الْمِلْكُ كَالْبَيْعِ طَرْدًا وَالْإِجَارَةِ عَكْسًا . وَلِأَنَّ الْمُضَحِّيَ يَضْمَنُ الْأُضْحِيَّةَ لَوْ أَتْلَفَهَا ، وَكُلَّ مَا ضَمِنَهُ الْمُتْلِفُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ خَرَجَ بِهِ الْمَضْمُونُ عَنْ مِلْكِ ضَامِنِهِ كَالْهِبَةِ طَرْدًا وَالْعَارِيَةِ عَكْسًا وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الرَّهْنُ : لِأَنَّهُ يَضْمَنُهُ فِي دَيْنِ نَفْسِهِ ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ الْجَانِي : لِأَنَّهُ يَضْمَنُ جِنَايَتَهُ وَلَا يَضْمَنُ رَقَبَتَهُ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اشْتِرَاكِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْهَدْيِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَلِيًّا سَاقَ الْهَدْيَ مِنَ الْيَمَنِ فَجَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ الْإِيجَابِ شَرِيكًا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ جَعَلَهُ شَرِيكًا فِي نَحْرِهَا لَا فِي التَّقَرُّبِ بِهَا : لِأَنَّهُ نَحَرَ بِنَفْسِهِ مِنْهَا ثَلَاثًا وَسِتِّينَ ثُمَّ أَمَرَ عَلِيًّا بِنَحْرِ بَاقِيهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِإِيجَابِ عِتْقِ الْعَبْدِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَوْجَبَ عِتْقًا لَمْ يَصِرْ حُرًّا وَالشَّاةَ إِذَا أَوْجَبَهَا أُضْحِيَّةً صَارَتْ أُضْحِيَّةً فَافْتَرَقَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا مَنَعَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْعَبْدِ وَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْأُضْحِيَّةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالزَّكَاةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَعَلُّقُ الزَّكَاةِ بِالذِّمَّةِ وَتَعَلُّقُ الْأُضْحِيَّةِ بِالْعَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ بُطْلَانَ الْبَيْعِ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِالْعَيْنِ ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْأُضْحِيَّةُ بِمَثَابَتِهَا لِتَعَلُّقِهَا بِالْعَيْنِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ ، عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ لَحْمَ غَيْرِهَا مِثْلُ لَحْمِهَا فَبُطْلَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِتْقِ إِذَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي عَبْدٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُبَدِّلَهُ بِغَيْرِهِ . وَالثَّانِي : حَقُّ الْآدَمِيِّينَ فِي الْبَيْعِ إِذَا بَاعَ عَبْدًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُبَدِّلَهُ بِغَيْرِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهَا لَمَّا لَمْ تَصِرْ مِلْكًا لِلْفُقَرَاءِ دَلَّ عَلَى بَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حَقَّ الْفُقَرَاءِ قَبْلَ الذَّبْحِ كَحَقِّهِمْ فِيهَا بَعْدَهُ فَلَمْ يَسْلَمِ الِاسْتِدْلَالُ . وَالثَّانِي : أَنَّ بُطْلَانَهُ بِالْوَقْفِ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ وَلَمْ يَصِرْ مِلْكًا لِغَيْرِهِ .

بَيْعُ الْأُضْحِيَّةِ الْوَاجِبَةِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهَا

بَيْعُ الْأُضْحِيَّةِ الْوَاجِبَةِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهَا مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَإِنْ بَاعَهَا فَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّ إِيجَابَهَا إِذَا أَوْجَبَ زَوَالَ مِلْكِهِ عَنْهَا بَطَلَ بَيْعُهَا إِنْ بَاعَهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهَا لِلْمَسَاكِينِ : لِأَنَّهُمْ فِيهَا غَيْرُ مُعَيَّنِينَ ، فَإِنِ اسْتَبْقَى عَيْنَهَا وَبَاعَ نَمَاءَهَا بَطَلَ بَيْعُ النَّمَاءِ كَبُطْلَانِ بَيْعِ الْأَصْلِ : لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِأَصْلِهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ النَّمَاءُ نِتَاجًا أَوْ لَبَنًا أَوْ صُوفًا ، فَإِنْ وَهَبَ النَّمَاءَ صَحَّتْ هِبَةُ اللَّبَنِ وَالصَّوْتِ وَلَمْ تَصِحَّ هِبَةُ النِّتَاجِ ، لِمَا يَلْزَمُ مِنْ نَحْرِهِ وَالتَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ دَمِهِ .

وَكَمَّا لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ رَهْنُهَا : لِأَنَّ مَقْصُودَ الرَّهْنِ بَيْعُهُ فِي الدَّيْنِ ، فَإِنْ أَجَّرَ ظَهْرَهَا لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ الْإِجَارَةَ مُعَاوَضَةٌ عَلَى مَنَافِعِهَا وَالْمَنَافِعُ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ ، وَإِنْ أَعَارَ ظَهْرَهَا جَازَ : لِأَنَّ الْعَارِيَةَ إِرْفَاقٌ يَجُوزُ فِي لَحْمِهَا فَجَازَتْ فِي مَنَافِعِهَا .

تَلَفُ الْأُضْحِيَّةِ بِالرُّكُوبِ

تَلَفُ الْأُضْحِيَّةِ بِالرُّكُوبِ فَصْلٌ : فَلَوْ رَكِبَهَا الْمُسْتَعِيرُ ضَمِنَهَا دُونَ الْمُعِيرِ ، وَلَا يَضْمَنُ أُجْرَتَهَا الْمُسْتَعِيرُ وَلَا الْمُعِيرُ ، وَلَوْ رَكِبَهَا الْمُسْتَأْجِرُ فَتَلِفَتْ ضَمِنَ قِيمَتِهَا لِلْمُؤَجِّرِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ وَضَمِنَ أُجْرَتَهَا الْمُسْتَأْجِرُ دُونَ الْمُؤَجِّرِ ، وَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ مِنَ الْأُجْرَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَضْمَنُ أُجْرَةَ مِثْلِهَا كَضَمَانِهَا عَنْ إِجَارَةٍ فَاسِدَةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَأَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَضْمَنُ أَكْثَرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ أَوِ الْمُسَمَّى : لِأَنَّ فِيهَا حَقًّا لِلْمَسَاكِينِ قَدِ الْتَزَمَ لَهُمْ مَا سَمَّاهُ مِنَ الزِّيَادَةِ ثُمَّ فِي هَذِهِ الْأُجْرَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَسْلُكُ بِهَا مَسْلَكَ الضَّحَايَا كَالْأَصْلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا تُصْرَفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ خَاصَّةً : لِأَنَّ حُقُوقَ الضَّحَايَا فِي الْأَعْيَانِ دُونَ النُّذُورِ . فَأَمَّا إِذَا اشْتَرَى شَاةً وَأَوْجَبَهَا أُضْحِيَّةً ثُمَّ وَجَدَ بِهَا بَعْدَ الْإِيجَابِ عَيْبًا لَمْ يَرُدَّهَا لِفَوَاتِ الرَّدِّ بِالْإِيجَابِ ، وَرَجَعَ بِالْأَرْشِ كَالثَّوْبِ ، وَفِي هَذَا الْأَرْشِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَسْلُكُ بِهِ مَسْلَكَ الضَّحَايَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لِلْمُضَحِّي خَاصَّةً : لِأَنَّهُ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَإِنْ فَاتَتْ بِالْبَيْعِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَ بِجَمِيعِ قِيمَتِهَا مَكَانَهَا ، فَإِنْ بَلَغَ أُضْحِيَّتَيْنِ اشْتَرَاهُمَا : لِأَنَّ ثَمَنَهَا بَدَلٌ مِنْهَا ، وَإِنْ بَلَغَ أُضْحِيَّةً وَزَادَ شَيْئًا لَا يَبْلُغُ أُخْرَى ضَحَّى بِأُضْحِيَّةٍ ، وَأُسْلِكَ الْفَضْلُ مَسْلَكَ الْأُضْحِيَّةِ ، وَأَحَبُّ إِلَيَ لَوْ تَصَدَّقَ بِهِ ، وَإِنْ نَقَصَ عَنْ أُضْحِيَّةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَزِيدَ حَتَى يُوَفِيَهُ أُضْحِيَةً : لِأَنَّهُ مُسْتَهْلِكٌ لِلضَّحِيَّةِ ، فَأَقَلُّ مَا يَلْزَمُهُ أُضْحِيَّةٌ مِثْلُهَا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ تَلَفَ الْأُضْحِيَّةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : مَضْمُونٌ ، وَغَيْرُ مَضْمُونٍ . فَأَمَّا تَلَفُهَا غَيْرُ مَضْمُونٍ : فَهُوَ أَنْ تَمُوتَ عَطَبًا بِغَيْرِ عُدْوَانٍ فَلَا ضَمَانَ فِيهَا : كَمَا لَوْ وَقَفَ دَارًا فَاحْتَرَقَتْ أَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالٍ فَتَلِفَ لَمْ يَضْمَنْهُ كَذَلِكَ مَوْتُ الْأُضْحِيَّةِ غَيْرُ

مَضْمُونٍ ، وَأَمَّا تَلَفُهَا الْمَضْمُونُ فَهُوَ مَا اقْتَرَنَ بِعُدْوَانٍ فَهُوَ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ ، وَلَا يَخْلُو ضَامِنُهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُضَحِّيَ ، أَوْ أَجْنَبِيًّا ، فَإِنْ ضَمِنَهَا أَجْنَبِيٌّ غَيْرُ الْمُضَحِّي ضَمِنَهَا الْمُضَحِّي فِي حُقُوقِ أَهْلِ الضَّحَايَا لَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِخُرُوجِهَا بِالْإِيجَابِ عَنْ مِلْكِهِ لِيَكُونَ الْمُضَحِّي الْمُسْتَحِقَّ لِصَرْفِ ذَلِكَ وَبَدَلِهَا ، وَتَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَى هَذَا الْمُتْلِفِ بِقِيمَتِهَا لَا غَيْرَ ، وَإِنْ كَانَ الضَّامِنُ هُوَ الْمُضَحِّيَ ضَمِنَهَا بِأَكْثَرَ لِأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا وَقْتَ التَّلَفِ أَوْ مِثْلَهَا عِنْدَ النَّحْرِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ : يَضْمَنُهَا بِقِيمَتِهَا لَا غَيْرَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ لَمَّا ضَمِنَهَا الْأَجْنَبِيُّ بِقِيمَتِهَا وَجَبَ أَنْ يَضْمَنَهَا الْمُضَحِّي بِقِيمَتِهَا : لِأَنَّ الضَّمَانَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ التَّالِفِ دُونَ الْمُتْلِفِ ، أَلَا تَرَاهُ يَضْمَنُ رَهْنَهُ إِذَا أَتْلَفَهُ إِذَا كَانَ غَيْرَ ذِي مَثَلٍ كَالْأَجْنَبِيِّ وَبِمَثَلِهِ إِذَا كَانَ ذَا مَثَلٍ كَالْأَجْنَبِيِّ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُتْلِفِ : كَذَلِكَ الْأُضْحِيَّةُ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّهُ قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْأُضْحِيَّةَ بِإِيجَابِهَا وَإِنْ تَعَيَّنَتْ ، فَإِذَا ضَمِنَهَا بِالتَّلَفِ صَارَ ضَامِنًا لَهَا بِأَمْرَيْنِ وَالتَّلَفُّظُ بِالِالْتِزَامِ . وَلِذَلِكَ ضَمِنَ أَكْثَرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ مُوجِبِ الِالْتِزَامِ بِالْمِثْلِ أَوْ مُوجِبِ التَّلَفِ بِالْقِيمَةِ وَغَيْرِهِ يَضْمَنُهَا بِقِيمَتِهَا بِالتَّلَفِ دُونَ الِالْتِزَامِ ، فَلِذَلِكَ ضَمِنَهَا بِالْقِيمَةِ دُونَ الْمِثْلِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ ضَمَانُهَا بِالْقِيمَةِ الأضحية المعينة فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْمِثْلِ أَوِ الْقِيمَةِ فِي حَقِّ الْمُضَحِّي وَجَبَ عَلَى الْمُضَحِّي أَنْ يَعْرِفَ الْقِيمَةَ فِي شِرَاءِ مِثْلِهَا فِي جِنْسِهَا مِنْ بَقَرٍ أَوْ غَنَمٍ ، وَفِي نَوْعِهَا مِنْ ضَأْنٍ أَوْ مَعَزٍ ، وَفِي سِنِّهَا مِنْ جَذَعٍ أَوْ ثَنِيٍّ ، فَلَوْ كَانَتِ الْأُضْحِيَّةُ ثَنِيَّةً مِنَ الْمَعْزِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْرِيَ جَذَعَهُ مِنَ الضَّأْنِ ، وَإِنْ كَانَتْ خَيْرًا مِنْهَا لِتَعَيُّنِ حَقِّ الْمَسَاكِينِ فِي نَوْعِهَا وَسِنِّهَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْقِيمَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ ثَمَنًا لِمِثْلِهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْرِيَ بِهِ مِثْلَهَا ، وَلَا يَلْزَمُهُ إِيجَابُهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ : لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ وَاجِبٍ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهَا ، وَنُظِرَ فِي الشِّرَاءِ فَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهَا بِعَيْنِ الْقِيمَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ صَارَتْ أُضْحِيَّةً بِنَفْسِ الشِّرَاءِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ بِهَا الْأُضْحِيَّةَ ، وَإِنِ اشْتَرَاهَا فِي الذِّمَّةِ نَوَى بِالشِّرَاءِ أَنَّهَا أُضْحِيَّةٌ لَا يَحْتَاجُ بَعْدَهُ إِلَى إِيجَابٍ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ بِالشِّرَاءِ أَنَّهَا أُضْحِيَّةٌ أَوْجَبَهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ أُضْحِيَّةً لَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ : لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا وَلَكِنْ فِي حَقِّ أَهْلِ الضَّحَايَا : لِأَنَّهَا بَدَلٌ عَنْ أَصْلٍ قَدِ اسْتَحَقُّوهُ .

فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَصْرِفَ الْقِيمَةَ فِي الْأَضَاحِيِّ من ضمن قيمة أضحية : لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ لِأَهْلِهَا فَيَشْرِي مِنْهَا وَاحِدَةً مِثْلَهَا ، وَفِيمَا يَشْتَرِيهِ بِبَاقِي الْقِيمَةِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ :

أَحَدُهُمَا : فِي أَمْثَالِهَا ، وَلَا يَعْدِلُ عَنْ مِثْلِهَا إِلَى غَيْرِهَا : لِأَنَّ مَصْرِفَ جَمِيعِهَا وَاحِدٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَصْرِفُهُ فِيمَا هُوَ الْأَحُظُّ لِأَهْلِ الضَّحَايَا مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ أَوْ غَيْرِهِ : لِأَنَّ الزِّيَادَةَ بَعْدَ حُصُولِ الْمِثْلِ كَالِابْتِدَاءِ بِالْأُضْحِيَّةِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ فِي الزِّيَادَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ ثَمَنًا لِلْأُضْحِيَّةِ كَامِلَةً أَوْ أُضْحِيَّتَيْنِ اشْتَرَى بِهَا مَا أَمْكَنَ مِنَ الضَّحَايَا الْكَامِلَةِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا لَا يَجُوزُ مِنَ الضَّحَايَا ، وَإِنْ نَقَصَتِ الزِّيَادَةُ عَنْ ثَمَنِ أُضْحِيَّةٍ كَامِلَةٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ : يَسْلُكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأُضْحِيَّةِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي مُرَادِهِ فِيمَا يَصْنَعُ بِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا سَهْمًا مِنْ أُضْحِيَّةٍ اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَشْتَرِي بِهَا لَحْمًا لِتَعَذُّرِ الشَّرِكَةِ فِي الْحَيَوَانِ ، فَعَدَلَ بِهِ إِلَى اللَّحْمِ الْمَقْصُودِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : تَصَرَّفَ زِيَادَةَ دَرَاهِمَ بِحَالِهَا : لِأَنَّهَا تُلَافِي التَّصَرُّفَ أَصْلًا ، فَجَازَ فِيهِ مِنَ الْقِيمَةِ مَا لَمْ يَجُزْ فِي الْأَصْلِ ، كَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ جَذَعَةٌ فِي الذَّكَاةِ ، فَأَعْطَى قِيمَتَهَا لَمْ تَجُزْ : وَلَوْ أَعْطَى عَنْهَا حِقَّةً وَدَفَعَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا عَنْ نَقْصِ الْحَقِّ أَجْزَأَ . فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ يَصْرِفُ ذَلِكَ فِي سَهْمٍ مِنْ أُضْحِيَّةٍ كَانَ فِي ذَلِكَ السَّهْمِ كَأَهْلِ الضَّحَايَا . وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ يَشْتَرِي بِهِ لَحْمًا أَوْ يَصْرِفُهُ وَرَقًا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَسْلُكُ بِهِ مَسْلَكَ الضَّحَايَا وَيَكُونُ فِيهِ بِمَثَابَتِهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِهِ الْفُقَرَاءُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشَارِكَهُمْ فِيهِ كَمَا لَوْ عَطِبَتْ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ مِنَ الْهَدْيِ ذَبَحَهَا وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا شَيْئًا ، وَإِنْ كَانَتْ لَوْ سَلِمَتْ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا حَسْمًا لِلنَّهْمَةِ كَذَلِكَ هَذِهِ الزِّيَادَةُ .

فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الْأُضْحِيَّةِ الْمَضْمُونَةِ حكم في حالة الزيادة والنقصان أَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ أُضْحِيَّتِهِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْمُضَحِّي قَدْ ضَمِنَهَا إِمَّا مُنْفَرِدًا بِضَمَانِهَا كَمَا لَوْ أَتْلَفَهَا ، وَإِمَّا مُشْتَرِكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ كَمَا لَوْ بَاعَهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الْقِيمَةِ ، وَيَشْرِيَ بِهِ مِثْلَهَا : لِأَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهُ يَضْمَنُهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ مِثْلِهَا ، فَإِذَا عَجَزَتِ الْقِيمَةُ ضَمِنَ الْمِثْلَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الْقِيمَةُ قَدْ تَفَرَّدَ بِضَمَانِهَا أَجْنَبِيٌّ غَيْرُ الْمُضَحِّي مِنْ

غَاصِبٍ أَوْ جَانٍ فَلَا يَلْزَمُ الْأَجْنَبِيَّ أَكْثَرُ مِنَ الْقِيمَةِ ، وَفِي ضَمَانِ الْمُضَحِّي لِمَا زَادَ عَلَيْهَا حَتَّى يَبْلُغَ ثَمَنَ أُضْحِيَّتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُهُ : لِأَنَّهُ قَدِ الْتَزَمَ أُضْحِيَّةً فَلَزِمَهُ إِكْمَالُهَا فَيَصِيرُ بِالِالْتِزَامِ ضَامِنًا لَا بِالتَّلَفِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : هُوَ أَظْهَرُ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ تَمَامُ الْأُضْحِيَّةِ : لِأَنَّهُ لَمْ يُتْلِفْ فَيَضْمَنُ ، وَقَدْ قَامَ مِنْ إِيجَابِهَا بِمَا الْتَزَمَ ، فَلَمْ يَضْمَنْ كَمَا لَوْ لَمْ يَضْمَنْ بِالْمَوْتِ ، فَعَلَى هَذَا لَا تَخْلُو الْقِيمَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ مِنْ خَمْسَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُمْكِنَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا مِنْ جِنْسِ تِلْكَ الْأُضْحِيَّةِ مَا يَكُونُ أُضْحِيَّةً وَإِنْ كَانَتْ دُونَ التَّالِفَةِ ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَتْلَفَ ثَنِيَّةً مِنَ الضَّأْنِ ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِقِيمَتِهَا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا جَذَعًا مِنَ الضَّأْنِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا ثَنِيَّةً مِنَ الْمَعْزِ : لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ الْمُتْلِفِ فَكَانَتْ أَحَقَّ . وَالْحَالُ الثَّانِيةُ : أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا لِدُونِ الْجَذَعَةِ مِنَ الضَّأْنِ أَوِ الثَّنِيَّةِ مِنَ الْمَعْزِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا ثَنِيَّةً مِنَ الْمَعْزِ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا ، وَهِيَ أَوْلَى مِنْ أَقَلَّ مِنَ الْجَذَعَةِ مِنَ الضَّأْنِ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِهَا : لِأَنَّ الثَّنِيَّةَ مِنَ الْمَعْزِ أُضْحِيَّةٌ وَدُونَ الْجَذَعِ لَيْسَ بِأُضْحِيَّةٍ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُمْكِنَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا دُونَ الْجَذَعِ مِمَّا يَكُونُ أُضْحِيَّةً أَوْ سَهْمًا شَائِعًا فِي أُضْحِيَّةٍ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا مَا كِيلَ مِنْ دُونِ الْجَذَعِ ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ شِرَاءِ سَهْمٍ وَجَذَعٍ تَامٍّ : لِأَنَّهُمَا قَدِ اسْتَوَيَا فِي أَنَّهُمَا لَا يَكُونَانِ أُضْحِيَّةً وَاخْتَصَّ مَا دُونَ الْجَذَعِ بِإِرَاقَةِ دَمٍ كَامِلٍ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يُمْكِنَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا سَهْمًا شَائِعًا فِي أُضْحِيَّةٍ أَوْ لَحْمًا ، وَيَشْتَرِيَ بِهَا سَهْمًا فِي أُضْحِيَّةٍ ، وَهُوَ أَحَقُّ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ لَحْمًا ، لِأَنَّ فِي السَّهْمِ الشَّائِعِ إِرَاقَةَ دَمٍ ، وَلَيْسَ فِي اللَّحْمِ ذَلِكَ ، وَخَالَفَ الزِّيَادَةَ حَيْثُ اشْتَرَى بِهَا فِي أَحَدِ الْوُجُوهِ لَحْمًا : لِأَنَّ الزِّيَادَةَ بَعْدَ إِرَاقَةِ الدَّمِ وَهَذِهِ لَمْ يَحْصُلْ قَبْلَهَا إِرَاقَةُ دَمٍ . وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ : أَنْ لَا يُمْكِنَ أَنْ يَشْرِيَ بِهَا حَيَوَانًا وَلَا سَهْمًا مِنْهُ ، وَيُمْكِنَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا لَحْمًا أَوْ يُفَرِّقَهَا وَرَقًا ، فَيَجِبُ أَنْ يَشْرِيَ بِهَا لَحْمًا وَلَا يُفَرِّقَهَا وَرَقًا بِخِلَافِ الزَّائِدِ عَلَى الْقِيمَةِ فِي أَحَدِ الْوُجُوهِ : لِأَنَّ اللَّحْمَ هُوَ مَقْصُودُ الْأُضْحِيَّةِ وَقَدْ وَجَدَ فِي الزِّيَادَةِ مَقْصُودَهَا ، فَجَازَ أَنْ يُفَرِّقَ وَرَقًا ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي النُّقْصَانِ مَقْصُودُهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يُفَرِّقَ لَحْمًا ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

الْقَوْلُ فِي ذَبْحِ وَلَدِ الْأُضْحِيَّةِ الْوَاجِبَةِ

الْقَوْلُ فِي ذَبْحِ وَلَدِ الْأُضْحِيَّةِ الْوَاجِبَةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَإِنْ وَلَدَتِ الْأُضْحِيَّةُ ذُبِحَ مَعَهَا وَلَدُهَا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَوْجَبَ أُضْحِيَّةً حَامِلًا ، فَوَلَدَتْ أَوْ كَانَتْ حَائِلًا

فَحَمَلَتْ ثُمَّ وَلَدَتْ ، كَانَ وَلَدُهَا تَبَعًا لَهَا فِي الْأُضْحِيَّةِ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَهُمَا مَعًا : لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً مَعَهَا وَلَدُهَا ، فَقَالَ : لَا تَشْرَبْ مِنْ لَبَنِهَا إِلَّا مَا فَضَلَ عَنْ وَلَدِهَا ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ فَانْحَرْهَا وَوَلَدَهَا عَنْ سَبْعَةٍ ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ : وَلِأَنَّهَا وَلَدَتْهُ بَعْدَ خُرُوجِهَا عَنْ مِلْكِهِ فَأَشْبَهَ وَلَدَ الْمُعْتَقَةِ وَالْمَبِيعَةِ ، وَخَالَفَ وَلَدَ الْمُسْتَأْجَرَةِ وَالْمَرْهُونَةِ ، فَإِذَا ذَبَحَهُمَا مَعًا وَتَصَدَّقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَأَكَلَ جَازَ ، وَإِنْ تَصَدَّقَ مِنْ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : لَا يَجُوزُ حَتَّى يَتَصَدَّقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا : لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتَا أُضْحِيَّتَيْنِ ، فَلَزِمَهُ أَنْ يَسْلُكَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَسْلَكَ الْأُضْحِيَّةِ كَالْأُضْحِيَّتَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنَ الْأُمِّ دُونَ الْوَلَدِ ، وَمِنَ الْوَلَدِ دُونَ الْأُمِّ : لِأَنَّ وَلَدَهَا بَعْضُهَا ، وَإِذَا تَصَدَّقَ بِبَعْضِ الْأُضْحِيَّةِ أَجْزَأَهُ عَنِ الْبَاقِي . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ إِنْ تَصَدَّقَ مِنَ الْأُمِّ دُونَ الْوَلَدِ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ تَصَدَّقَ مِنَ الْوَلَدِ دُونَ الْأُمِّ لَمْ يُجْزِهِ : لِأَنَّ الْوَلَدَ فَرْعٌ تَابِعٌ وَالْأُمَّ أَصْلٌ مَتْبُوعٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا يَشْرَبْ مِنْ لَبَنِهَا إِلَّا الْفَضْلَ عَنْ وَلَدِهَا ، وَلَا مَا يُنْهِكُ لَحْمَهَا ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِهِ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : يَجُوزُ حِلَابُ الْأُضْحِيَّةِ وَشُرْبُ لَبَنِهَا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ حِلَابُهَا ، وَيُنْضَحُ الْمَاءُ عَلَى ضَرْعِهَا حَتَّى يَذْهَبَ لَبَنُهَا ، كَمَا لَا يَجُوزُ جِزَازُ صُوفِهَا ، وَدَلِيلُنَا مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَلِأَنَّ تَرْكَ لَبَنِهَا مُضِرٌّ بِهَا . وَلِأَنَّهُ يَسْتَخْلِفُ إِنْ حَلَبَ فَكَانَ فِي تَرْكِهِ إِضَاعَةٌ لَهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ وَلَدٍ حَلَبَ جَمِيعَ لَبَنِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِقْصَاءٍ مُضِرٍّ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : دَعُوا دَاعِيَ اللَّبَنِ يَعْنِي إِبْقَاءً يَسِيرًا يَصِيرُ بِهِ دَاعِيَةً كَثِيرًا ، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ وَلَدٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْهَا حَتَّى يَرْتَوِيَ مِنْ لَبَنِهَا كَمَا كَانَ عَلَيْهِ تَمْكِينُ الْأُمِّ مِنْ عَلَفِهَا ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُهُ بَعْدَ تَمْكِينِهِ مِنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ رِيِّهِ مِنْ غَيْرِ فَضْلٍ وَلَا نُقْصَانٍ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْلِبَ مِنْ لَبَنِهَا شَيْئًا لِاسْتِحْقَاقِهِ فِي رِيِّ الْوَلَدِ . وَالْحَالُ الثَّانِيةُ : أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ رِيِّهِ ، فَعَلَيْهِ بَعْدَ تَمْكِينِهِ مِنْ لَبَنِهَا أَنْ يَسْقِيَهُ بَعْدَ رِيِّهِ مِنْ غَيْرِهَا . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ رِيِّهِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِيِّهِ ، ثُمَّ يَحْتَلِبُ الْفَاضِلُ عَنْ رِيِّهِ ، فَإِذَا احْتَلَبَ اللَّبَنُ فَالْأَوْلَى بِهِ وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِجَمِيعِهِ فَالْأَفْضَلُ بَعْدَهُ أَنْ يَسْلُكَ بِهِ مَسْلَكَ اللَّحْمِ فَيَشْرَبُ مِنْهُ وَيَسْقِي غَيْرَهُ ، فَإِنْ

لَمْ يَفْعَلْ وَشَرِبَ جَمِيعَهُ جَازَ وَإِنْ كَرِهْنَاهُ : لِأَنَّ بَقَاءَ لَحْمِهَا نُسِخَ وَتَقَدُّمُ الِانْتِفَاعِ بِهَا مَكْرُوهٌ .

جَزُّ الصُّوفِ

جَزُّ الصُّوفِ الأضحية مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَا يَجُزُّ صُوفَهَا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : يُمْنَعُ مِنْ جِزَازِ صُوفِهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ مُضِرًّا بِهَا لِأَنَّهُ أَحْفَظُ لَهَا وَأَكْمَلُ : وَلِأَنَّهُ يَبْعُدُ اسْتِخْلَافُهُ بِخِلَافِ اللَّبَنِ وَإِنْ كَانَ جِزَازُهُ أَنْفَعَ بِهَا ، فَإِنْ قَرُبَ زَمَانُ نَحْرِهَا تَرَكَهُ عَلَيْهَا حَتَّى يَنْحَرَهَا ، وَإِنْ بَعُدَ زَمَانُ نَحْرِهَا جَزَّهُ عَنْهَا : لِأَنَّهُ أَصْلَحُ لِبَدَنِهَا ، فَإِنْ جَزَّهُ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِتَرْكِهِ فَقَدْ أَسَاءَ وَلَمْ يَضْمَنْ ، وَإِنْ تَرَكَهُ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِجَزِّهِ كَرِهْنَاهُ وَلَمْ يَضْمَنْ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الصُّوفِ بَعْدَ جَزِّهِ : لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ أُضْحِيَّتِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا ، وَيَسَلُكُ بِهِ مَسْلَكَ اللَّبَنِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَإِنْ أَوْجَبَهَا هَدْيًا وَهُوَ تَامٌّ ثَمَّ عَرَضَ لَهُ نَقْصٌ وَبَلَغَ الْمَنْسَكَ أَجْزَأَ إِنَّمَا أُنْظِرَ فِي هَذَا كُلِّهِ إِلَى يَوْمٍ يُوجِبُهُ وَيَخْرُجُ مِنْ مَالِهِ إِلَى مَا جَعَلَهُ لَهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا أَوْجَبَ أُضْحِيَّةً سَلِيمَةً مِنَ الْعُيُوبِ فَحَدَثَ بِهَا قَبْلَ نَحْرِهَا مَا يَمْنَعُ مِنِ ابْتِدَاءِ الْأُضْحِيَّةِ بِهَا أجزأته مِنْ عَوَرٍ أَوْ عَرَجٍ ضَحَّى بِهَا وَأَجْزَأَتْهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ مُوجِبُهَا مِمَّنْ لَا يَلْزَمُهُ الْأُضْحِيَّةَ لِسِفْرٍ أَوْ عُدْمٍ أَجَزْأَهُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَلْزَمُهُ الْأُضْحِيَّةُ بِالْمَقَامِ وَالْيَسَارِ لَمْ يَجُزِهِ ، لِأَنَّ النَّقْصَ فِي الْوَاجِبِ مَرْدُودٌ كَالْمَعِيبِ فِي الزِّكْوَاتِ وَفِي الْمَشْهُورِ تُجْزِئُ كَالْعَيْبِ فِي الصَّدَقَاتِ . وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَوْجَبْتُ أُضْحِيَّةً وَقَدْ أَصَابَهَا عَوَرٌ ، فَقَالَ : ضَحِّ بِهَا فَلَمَّا أَمَرَهُ بِذَبْحِهَا وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ دَلَّ عَلَى إِجْزَائِهَا . وَلِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ عَلَى صِفَةِ الْإِجْزَاءِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ حُدُوثُ نَقْصِهِ مِنَ الْإِجْزَاءِ ، كَالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ إِذَا حَدَثَ بَعْدَهُ نَقْصٌ يَمْنَعُ مِنَ الْكَفَّارَةِ كَانَ مُجْزِيًا كَذَلِكَ نَقْصُ الْأُضْحِيَّةِ ، وَخَالَفَ عَيْبَ الزَّكَاةِ لِوُجُودِهِ عِنْدَ الْإِخْرَاجِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَوْجَبَ فِي ذِمَّتِهِ أُضْحِيَّةً ، عَنْ نَذْرٍ ثُمَّ أَوْجَبَهَا فِي شَاةٍ عَيَّنَهَا وَحَدَثَ بِهَا قَبْلَ الذَّبْحِ نَقْصٌ لَمْ يَجُزِهِ الْأُضْحِيَّةُ بِهَا ، لِأَنَّ سَلَامَةَ مَا تَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ مُسْتَحَقٌّ فِي الذِّمَّةِ تَمْنَعُ حُدُوثَ نَقْصِهِ مِنَ الْإِجْزَاءِ . وَسَلَامَةُ مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالذِّمَّةِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ فِي الذِّمَّةِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ حُدُوثُ نَقْصِهِ مِنَ الْإِجْزَاءِ ، وَإِذَا لَمْ تُجْزِهِ الْمَعِيبَةُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ بِسَلِيمَةٍ ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ ذَبْحُ الْمَعِيبَةِ ، لِأَنَّهُ أَوْجَبَهَا لِيُسْقِطَ بِهَا مَا فِي ذِمَّتِهِ ، فَإِذَا بَطَلَ إِجْزَاؤُهَا بَطَلَ إِيجَابُهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَإِنْ أَوْجَبَهُ نَاقِصًا ذَبَحَهُ وَلَمْ يُجْزِهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا ابْتَدَأَ إِيجَابَ أُضْحِيَّةٍ نَاقِصَةٍ وَجَبَتْ وَلَمْ تَكُنْ أُضْحِيَّةً ، لِأَنَّ نَقْصَهَا يَمْنَعُ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ وَإِيجَابَهَا يُوجِبُ ذَبْحَهَا ، وَأَنْ يَسْلُكَ بِهَا مَسْلَكَ الْأُضْحِيَّةِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ أَخْرَجَهَا عَنْ مِلْكِهِ بِالْإِيجَابِ فَلَمْ تَعُدْ إِلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ بِمَثَابَةِ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا مَعِيبًا عَنْ كَفَّارَتِهِ لَمْ يُجْزِهِ عَنْهَا وَلَمْ يَعُدْ إِلَى رِقِّهِ بَعْدَ الْعِتْقِ ، فَلَوْ أَوْجَبَهَا نَاقِصَةً فَلَمْ يَذْبَحْهَا حَتَّى زَالَ نَقْصُهَا ، فَفِي كَوْنِهَا أُضْحِيَّةً قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : - قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَبَعْضِ الْقَدِيمِ - لَا تَكُونُ أُضْحِيَّةً اعْتِبَارًا بِحَالِ إِيجَابِهَا ، وَإِنْ لَزِمَهُ ذَبْحُهَا كَمَنْ أَعْتَقَ عَنْ كَفَّارَتِهِ عَبْدًا مَعِيبًا فَزَالَ عَيْبُهُ بَعْدَ عِتْقِهِ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ وَإِنْ عَادَ إِلَى سَلَامَتِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : - فِي الْقَدِيمِ : أَنَّهَا تَكُونُ أُضْحِيَّةً مُجْزِيَةً ، لِأَنَّهَا مَا وَصَلَتْ إِلَى الْمَسَاكِينِ إِلَّا سَلِيمَةً ، وَلَوْ أَوْجَبَهَا وَهِيَ مَعِيبَةٌ عَنْ أُضْحِيَّةٍ فِي الذِّمَّةِ بَطَلَ إِيجَابُهَا لِعَدَمِ إِجْزَائِهَا ، وَلَمْ يَلْزَمْ ذَبْحُهَا لِبُطْلَانِ إِيجَابِهَا ، فَلَوْ عَادَتْ إِلَى حَالِ السَّلَامَةِ لَمْ يَصِحَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِيجَابِهَا حَتَّى يَسْتَأْنِفَهُ بَعْدَ السَّلَامَةِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَوْ ضَلَّتْ بَعْدَ مَا أَوْجَبَهَا فَلَا بَدَلَ ، وَلَيْسَتْ بِأَكْثَرَ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ يُوجِبُهُ صَاحِبُهُ فَيَمُوتُ وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ بَدَلٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا أَوْجَبَ أُضْحِيَّةً فَضَلَّتْ مِنْهُ ، فَلَا يَخْلُو أَنْ تَضِلَّ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ أَوْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ ، فَإِنْ ضَلَّتْ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ فِي حِفْظِهَا فَعَلَيْهِ طَلَبُهَا ، فَإِنْ مَاتَتْ ضَمِنَهَا ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَجِدُهَا بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَلَا يَجِدُهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَزِمَهُ بَدَلُهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَظِرَهَا بَعْدَ فَوَاتِ زَمَانِهَا ، فَإِذَا وَجَدَهَا بَعْدَ فَوَاتِ الزَّمَانِ لَزِمَهُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا فَيَصِيرُ بِالتَّفْرِيطِ مُلْتَزِمًا الْأُضْحِيَّتَيْنِ ، وَإِنْ ضَلَّتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ فِي حِفْظِهَا فَلَا تَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَضِلَّ قَبْلَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهَا فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ لَا تُضْمَنُ إِلَّا بِالْعُدْوَانِ . وَلِأَنَّهُ لَيْسَ ضَلَالُهَا بِأَكْثَرَ مِنْ مَوْتِهَا وَهُوَ لَا يَضْمَنُهَا بِالْمَوْتِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَضْمَنَهَا بِالضَّلَالَةِ ثُمَّ يُنْظَرُ ، فَإِنْ كَانَ لِطَلَبِهَا مَؤُونَةٌ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ طَلَبُهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي طَلَبِهَا مَؤُونَةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ طَلَبُهَا ، لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهَا فِي حُقُوقِ الْمَسَاكِينِ ، وَإِنْ ضَلَّتْ بِتَفْرِيطٍ كَانَ عَلَيْهِ طَلَبُهَا بِمَؤُونَةٍ وَغَيْرِ مَؤُونَةٍ .

وَالْحَالَةُ الثَّانِيةُ : أَنْ تَضِلَّ مِنْهُ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا ، لِأَنَّ تَأْخِيرَ نَحْرِهَا تَفْرِيطٌ مِنْهُ يُوجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانَ إِلَّا أَنْ يُؤَخِّرَهَا لِعُذْرٍ فَلَا يَضْمَنُ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ تَضِلَّ مِنْهُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِهَا وَبَقَاءِ بَعْضِهَا ، فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ تَفْرِيطًا مِنْهُ يَلْتَزِمُ بِهِ ضَمَانُهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَكُونُ تَفْرِيطًا لِبَقَاءِ زَمَانِ النَّحْرِ وَجَوَازِ تَأْخِيرِهَا إِلَيْهِ فَلَمْ يُفَرِّطْ فِيهِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَضْمَنُهَا ، وَلَا يَلْزَمُهُ طَلَبُهَا إِنْ كَانَ لَهُ مَؤُوَنَةٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَكُونُ تَفْرِيطًا مِنْهُ ، لِأَنَّ نَحْرَهَا بِدُخُولِ الزَّمَانِ مُسْتَحَقٌّ ، وَتَأْخِيرُهُ رُخْصَةٌ كَتَأْخِيرِ الْحَجِّ بَعْدَ وُجُودِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ مُبَاحٌ ، فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ أَدَائِهِ كَانَ فَرْضُهُ مُسْتَقِرًّا ، فَعَلَى هَذَا يَضْمَنُهَا وَيَلْزَمُهُ طَلَبُهَا بِمَؤُوَنَةٍ وَغَيْرِ مَؤُونَةٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَوْ وَجَدَهَا وَقَدْ مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ كُلُّهَا الأضحية الضائعة إذا ، صَنَعَ بِهَا كَمَا يَصْنَعُ فِي النَّحْرِ كَمَا لَوْ أَوْجَبَ هَدْيَهَا الْعَامَ وَأَخَّرَهَا إِلَى قَابِلٍ ، وَمَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ لِوَقْتٍ فَفَاتَ الْوَقْتُ لَمْ يَبْطُلِ الْإِيجَابُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا وَجَدَ الْأُضْحِيَّةَ الضَّالَّةَ لَزِمَهُ نَحْرُهَا سَوَاءٌ كَانَ قَدْ ضَمِنَهَا بِالتَّفْرِيطِ أَوْ لَمْ يَضْمَنْهَا ، لِخُرُوجِهَا بِالْإِيجَابِ عَنْ مِلْكِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ بَاقِيَةً نَحَرَهَا إِجْمَاعًا ، وَكَانَتْ أَدَاءً لَا قَضَاءَ ، وَإِنْ نَقَصَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ نَحَرَهَا فِي الْحَالِ وَلَمْ يُؤَخِّرْهَا إِلَى انْتِظَارِ مِثْلِهَا فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْمَسَاكِينِ فِي الْحَيَاةِ حَتَّى يَنْحَرَهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً دَفَعَهَا فِي الْحَيَاةِ إِلَى الْمَسَاكِينِ وَلَمْ يَنْحَرْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مَسْنُونَةً بَطَلَ إِيجَابُهَا وَعَادَتْ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ إِلَى مِلْكِهِ . وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ : يَنْتَظِرُ بِهَا إِلَى وَقْتِ مِثْلِهَا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ كَمَا يَنْتَظِرُ بِفَوَاتِ الْحَجِّ قَضَاءَهُ فِي مِثْلِ وَقْتِهِ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ مَا اسْتَحَقَّهُ الْمَسَاكِينُ فِي وَقْتِهِ لَمْ يُسْقِطْ حَقَّهُمْ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ كَزَكَاةِ الْفِطْرِ ، فَبَطَلَ بِهِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَسْنُونِ . وَلِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّهُ الْمَسَاكِينُ عَلَى صِفَةٍ لَمْ تَتَغَيَّرْ صِفَتُهُ بِالتَّأْخِيرِ كَزَكَاةِ الْمَالِ ، فَبَطَلَ بِهِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْوَاجِبِ ، وَلِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّهُ الْمَسَاكِينُ لِوَقْتٍ لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهُ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ كَالنُّذُورِ ، فَبَطَلَ بِهِ مَذْهَبُ مَنْ أَوْجَبَ تَأْخِيرَهُ إِلَى مِثْلِ وَقْتِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ نَحْرِهَا عِنْدَ وُجُودِهَا فَفِي حُكْمِهَا بَعْدَ ذَبْحِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ يَسْلُكُ بِهَا بَعْدَ الذَّبْحِ مَسْلَكَ الضَّحَايَا فِي وَقْتِهَا يَأْكُلُ وَيَتَصَدَّقُ وَيُهْدِي عَلَى حُكْمِهَا فِي الْأَصْلِ إِذَا ذُبِحَتْ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - أَنَّهَا تَكُونُ لِلْمَسَاكِينِ خَاصَّةً لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا وَلَا يَدَّخِرَ : لِأَنَّهَا قَدْ خَرَجَتْ بِفَوَاتِ ذَبْحِهَا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ مِنَ الْأَدَاءِ إِلَى الْقَضَاءِ فَصَارَتْ حَقًّا لِغَيْرِهِ ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُهَا أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً بِالتَّفْرِيطِ أَوْ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفَرِّطٍ فَلَيْسَ بِمُلْتَزِمٍ لِغَيْرِهَا ، وَقَدْ فَعَلَ فِي نَحْرِهَا وَتَفْرِيقِهَا مَا لَزِمَهُ ، فَإِنْ كَانَتْ مَضْمُونَةً بِالْبَدَلِ لِتَفْرِيطٍ فِيهَا فَلَا يَخْلُو حَالُ بَدَلِهَا بَعْدَ وُجُودِهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ فِي ذِمَّتِهِ وَلَمْ يُوجِبْهُ فِي غَيْرِهَا فَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنَ الْبَدَلِ بِوُجُودِهَا كَالْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ إِذَا أَبِقَ ، وَكَانَ الْغَاصِبُ مَأْخُوذًا بِالْقِيمَةِ فَوَجَدَهُ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنَ الْقِيمَةِ بِوُجُودِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيةُ : أَنْ يَكُونَ قَدْ أَوْجَبَ الْبَدَلَ وَعَيْنَهُ فِي غَيْرِهَا وَهُوَ بَاقٍ وَلَمْ يَذْبَحْهُ ، فَقَدْ سَقَطَ إِيجَابُ بَدَلِهَا بِوُجُودِهَا ، وَعَادَ إِلَى مِلْكِهِ كَقِيمَةِ الْمَغْصُوبِ إِذَا أُخِذَتْ ثُمَّ وُجِدَ رُدَّتْ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ بَدَلُهَا قَدْ ذُبِحَ وَفُرِّقَ فِي أَهْلِ الضَّحَايَا قَبْلَ وُجُودِهَا فَيَصِيرُ ذَبْحُ الْبَدَلِ أُضْحِيَّةَ تَطَوُّعٍ ، وَلَا يَعْتَاضُ عَنِ الْبَدَلِ بِاسْتِبْقَاءِ الْأَصْلِ بَلْ يَذْبَحُهُ بَعْدَ الْبَدَلِ فَيَكُونُ أُضْحِيَّتَيْنِ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ وَلَحْمُهُ بَاقِيًا عِنْدَ وُجُودِ الْأَصْلِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ لَحْمَ الْبَدَلِ قَدْ صَارَ أُضْحِيَّةً بِالذَّبْحِ فَيَجِبُ أَنْ يَسْلُكَ بِهِ مَسْلَكَ الضَّحَايَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : قَدْ زَالَ عَنْهُ حُكْمُ الضَّحَايَا قَبْلَ تَفْرِقَتِهِ كَمَا زَالَ حُكْمُهَا عَنْهُ فِي حَيَاتِهِ فَيَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ مِنْ بَيْعٍ وَغَيْرِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوْ أَنَّ مُضَحِّيَيْنِ ذَبَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُضْحِيَّةَ صَاحِبِهِ ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا بَيْنَ قِيمَةِ مَا ذَبَحَ حَيًّا وَمَذْبُوحًا وَأَجْزَأَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَحِيَّتُهُ وَهَدْيُهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَذْبَحَ رَجُلٌ أُضْحِيَّةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ ذَبْحَهَا يُجْزِئُ عَنْ قُرْبَةِ صَاحِبِهَا يَسْلُكُ بِهَا بَعْدَهُ مَسْلَكَ الضَّحَايَا ، وَيَكُونُ الذَّابِحُ ضَامِنًا لِنُقْصَانِ ذَبْحِهَا . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُجْزِئُهُ ذَبْحُ غَيْرِهِ وَيَكُونُ لَحْمًا ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ بَعْدَهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تُجْزِئُهُ عَنْ أُضْحِيَّتِهِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الذَّابِحِ نُقْصَانُ ذَبْحِهِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَالَّذِي أَرَاهُ أَوْلَى مِنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ فِي الضَّمَانِ أَنْ يَنْظُرَ فِي زَمَانِ الذَّبْحِ فَإِنْ كَانَ

مُتَّسِعًا ضَمِنَ الذَّابِحِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ ذَبْحُهَا فِي وَقْتِهِ بِبَقَائِهِ بَعْدَ ذَبْحِهِ ، وَإِنْ ضَاقَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا زَمَانُ الذَّبْحِ لَمْ يَضْمَنِ الذَّابِحُ ، لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ ذَبْحُهَا فِي وَقْتِهِ ، فَأَمَّا مَالِكٌ فَاحْتَجَّ بِأَنَّ الذَّبْحَ قُرْبَةٌ كَالتَّفْرِقَةِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ فَرَّقَهَا غَيْرُهُ لَمْ يُجْزِهِ كَذَلِكَ إِذَا ذَبَحَهَا غَيْرُهُ لَمْ تُجْزِهِ . وَدَلِيلُنَا : أَنَّ مَقْصُودَ الْأُضْحِيَّةِ إِيجَابُهَا فِي حَقِّ الْمَالِكِ وَتَفْرِقَتُهَا فِي حَقِّ الْمَسَاكِينِ وَالذَّبْحُ تَبَعٌ لَهُمَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْمَقْصُودِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَقَدْ وَجَدَ الْمَقْصُودُ أَنْ يَذْبَحَ الْغَيْرُ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْإِجْزَاءِ . وَلِأَنَّ الذَّبْحَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ وَقَصْدٍ ، لِأَنَّهُ لَوْ ذَبَحَهَا الْمَالِكُ سَهْوًا أَجْزَأَتْ كَذَلِكَ إِذَا ذَبَحَهَا غَيْرُهُ عِنْدَ عَدَمِ قَصْدِهِ وَفِي هَذَيْنِ انْفِصَالٌ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الذَّابِحَ لَا يَضْمَنُ نُقْصَانَ ذَبْحِهَا ، لِأَنَّهُ إِرَاقَةُ دَمٍ مَشْرُوعٍ ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ ضَمَانٌ كَالْخِتَانَةِ ، وَقَتْلُ الرِّدَّةِ ، وَلِأَنَّهَا قُرْبَةٌ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِعْلُهَا فَلَمْ يَضْمَنْهَا مَنْ نَابَ عَنْهُ فِيهَا ، كَسَوْقِ الْهَدْيِ إِلَى مَحَلِّهِ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ مَا ضُمِنَ فِي غَيْرِ الْأُضْحِيَّةِ ضُمِنَ فِي الْأُضْحِيَّةِ كَاللَّحْمِ ، وَلِأَنَّ مَا ضُمِنَ لَحْمُهُ ضُمِنَ ذَبْحُهُ كَغَيْرِ الْأُضْحِيَّةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْخِتَانَةِ ، فَهُوَ أَنَّهَا مَا أَحْدَثَتْ نَقْصًا ، وَلَوْ أَحْدَثَتْهُ ضَمِنَ كَذَلِكَ الْأُضْحِيَّةَ لَوْ لَمْ تُحْدِثْ نَقْصًا لَمْ تَضْمَنْ ، فَإِذَا أَحْدَثَهُ ضَمِنَ وَالْمُرْتَدُّ لَا يَضْمَنُ بِغَيْرِ الْعَقْلِ ، فَلَمْ يَضْمَنْ بِالْقَتْلِ ، وَالْأُضْحِيَّةُ تُضَمَّنُ بِغَيْرِ الذَّبْحِ فَضُمِّنَتْ بِالذَّبْحِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى سَوْقِ الْهَدْيِ ، فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ نَقْصًا وَلَوْ عَطَبَ فِي يَدِهِ ضَمِنَ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا وَكَانَ لِلْمُضَحِّيَيْنِ أُضْحِيَّتَانِ فَذَبَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُضْحِيَّةَ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُفَرِّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَحْمَ ذَبِيحَتِهِ فَلَا يُجْزِئُهُ عَنْ نَفْسِهِ ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا ، وَلَا يُجْزِئُ عَنْ صَاحِبِهَا ، لِأَنَّهُ مَا قَامَ بِمَا عَلَيْهِ فِيهَا ، وَيَضْمَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ قِيمَةَ أُضْحِيَّتِهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنَّهُمَا يَتَقَاسَمَانِ الْقِيمَةَ لِخُرُوجِهَا عَنْ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْإِيجَابِ ، وَفِي الْقِيمَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ - إِنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا قَبْلَ الذَّبْحِ المضحي يذبح ماليس له ، وَهِيَ حَيَّةٌ كَالْجَانِي . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - إِنَّهُ يَضْمَنُ أَكْثَرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا وَهِيَ حَيَّةٌ ، أَوْ قِيمَةِ لَحْمِهَا بَعْدَ الذَّبْحِ لِتَعَدِّيهِ بِالتَّفْرِقَةِ كَتَعَدِّيهِ بِالذَّبْحِ ، وَهُوَ عِنْدِي

أَصَحُّ ، فَإِذَا أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِيمَةَ أُضْحِيَّتِهِ صَرَفَهَا فِي مِثْلِهَا وَكَانَ فِي فَضْلِهَا وَنُقْصَانِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَيَكُونُ أَرْشُ الذَّبْحِ دَاخِلًا فِي ضَمَانِ الْقِيمَةِ فَسَقَطَ بِهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ لَحْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَاقِيًا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْخُذَ لَحْمَ أُضْحِيَّتِهِ ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يَتَبَادَلَا بِاللَّحْمِ ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إِلَّا فِي مَسْلَكِ الضَّحَايَا ، وَيَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِأَرْشِ الذَّبْحِ ، وَفِي مَصْرِفِ هَذَا الْأَرْشِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ لِلْمُضَحِّي خَاصَّةً ، لِأَنَّ حَقَّ الْمَسَاكِينِ فِي عَيْنِ الْأُضْحِيَّةِ ، وَلَيْسَ هَذَا الْأَرْشُ مِنْهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ لِلْمَسَاكِينِ خَاصَّةً ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُضَحِّي مِنْهَا إِلَّا مَا يَأْكُلُهُ مِنْ لَحْمِهَا ، وَلَيْسَ هَذَا الْأَرْشُ مِنْهَا . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يَسْلُكَ بِهِ مَسْلَكَ الضَّحَايَا لِاسْتِفَادَتِهِ مِنْهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : فَإِذَا ذَبَحَ لَيْلًا أَجْزَأَهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : ذَبْحُ الْأُضْحِيَّةِ لَيْلًا مَكْرُوهٌ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الذَّبْحِ لَيْلًا ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا أَخْطَأَ مَحَلَّ ذَبْحِهَا بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ ، وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَتِرًا بِهَا وَالْمُظَاهَرَةُ بِهَا أَوْلَى ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا أَعْوَذَهُ الْمَسَاكِينُ فِي اللَّيْلِ ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا تَغَيَّرَ اللَّحْمُ إِذَا اسْتُبْقِيَ إِلَى النَّهَارِ وَصَلَّ ، فَلِهَذِهِ الْمَعَانِي كَرِهْنَا ذَبْحَهَا فِي اللَّيْلِ ، فَإِنْ ذَبَحَهَا فِيهِ أَجْزَأَهُ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُجْزِئُهُ لِمَا قَدَّمْنَاهُ وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [ الْحَجِّ : 28 ] . فَخَصَّ الْأَيَّامَ بِهَا دُونَ اللَّيَالِي . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ [ الْحَجِّ : 36 ] . وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِيهَا . وَلِأَنَّهُ مِنْ زَمَانِ النَّحْرِ فَجَازَتِ الْأُضْحِيَّةُ فِيهِ كَالنَّهَارِ . وَلِأَنَّهُ أَحَدُ مَقْصُودِي الْأُضْحِيَّةِ فَجَازَ لَيْلًا كَالتَّفْرِقَةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ : فَهُوَ أَنَّ اللَّيَالِيَ تَبَعٌ لِلْأَيَّامِ . وَالنَّهْيُ مَحْصُولٌ عَلَيَّ الْكَرَاهَةِ كَمَا نَهَى عَنْ جِدَادِ الثِّمَارِ فِي اللَّيْلِ - مَا يُصْنَعُ بِلَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ مِنْ حَيْثُ الِادِّخَارُ وَالْأَكْلُ وَالطَّعَامُ وَالْإِهْدَاءُ - .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَالضَّحِيَّةُ نُسُكٌ مَأْذُونٌ فِي أَكْلِهِ وَإِطْعَامِهِ وَادِّخَارِهِ .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا فَحُكْمُهَا فِي جَمِيعِ مَا قَدَّمْنَاهُ سَوَاءٌ ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْمَحِلِّ ، فَمَحِلُّ الْهَدْيِ الْحَرَمُ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [ الْحَجِّ : 33 ] . وَمَحِلُّ الضَّحَايَا فِي بَلَدِ الْمُضَحِّي ، وَهَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ ذَبْحُهَا فِيهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي تَفْرِيقِ الزَّكَاةِ فِي غَيْرِ بَلَدِ الْمَالِكِ هَلْ يُجْزِئُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . فَإِنْ قِيلَ : لَا تُجْزِئُ ، تَعَيَّنَ عَلَيْهِ ذَبْحُ الْأُضْحِيَّةِ فِي بَلَدِهِ ، فَإِنْ ذَبَحَهَا فِي غَيْرِ بَلَدِهِ لَمْ يُجْزِهِ . وَإِنْ قِيلَ : تَفْرِيقُهَا فِي غَيْرِ بَلَدِهِ يُجْزِئُ ، لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ ذَبْحُ الْأُضْحِيَّةِ فِي بَلَدِهِ ، وَكَانَ ذَبْحُهَا فِي بَلَدِهِ أَفْضَلَ ، وَفِي غَيْرِ بَلَدِهِ جَائِزٌ . فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا بَعْدَ الْإِيجَابِ إِيجَابُهَا أَنْ تَكُونَ عَنْ نَذْرٍ أَوْ تَطَوُّعٍ ، فَأَمَّا التَّطَوُّعُ فَهُوَ مَا ابْتَدَأَ إِيجَابَهُ فَقَالَ : قَدْ جَعَلْتُ هَذِهِ الْبَدَنَةَ أُضْحِيَّةً ، فَيَجِبُ أَنْ يَذْبَحَهَا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ ، وَكَذَلِكَ الْهَدْيُ ثُمَّ يَسْلُكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأُضْحِيَّةِ ، وَذَلِكَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا . وَالثَّانِي : أَنْ يُطْعِمَ الْفُقَرَاءَ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُهْدِيَ إِلَى الْأَغْنِيَاءِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَدَّخِرَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [ الْحَجِّ : 36 ] . فَنَصَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ عَلَى أَكْلِهِ ، وَإِطْعَامِ الْفُقَرَاءِ ، وَمُهَادَاةِ الْأَغْنِيَاءِ . الْقَوْلُ فِي ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ وَأَمَّا الِادِّخَارُ ، فَالْأَصْلُ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : دَفَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ حَضْرَةَ الْأَضْحَى فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : ادَّخِرُوا الثُّلُثَ ، وَتَصَدَّقُوا بِمَا بَقِيَ ، قَالَتْ : فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَقَدْ كَانَ النَّاسُ يَنْتَفِعُونَ بِضَحَايَاهُمْ يَحْمِلُونَ مِنْهَا الْوَدَكَ ، وَيَتَّخِذُونَ مِنْهَا الْأَسْقِيَةَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَمَا ذَاكَ ؟ قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : نَهَيْتَ عَنِ اقْتِنَاءِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ فَكُلُوا وَتَصَدَّقُوا وَادَّخِرُوا ، فَاشْتَمَلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى

تَحْرِيمِ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ لِأَجَلِ الدَّافَّةِ ثُمَّ عَلَى إِبَاحَةِ الِادِّخَارِ بَعْدَ الدَّافَّةِ ، وَالدَّافَّةُ النَّازِلَةُ يُقَالُ : دَفَّ الْقَوْمُ مَوْضِعَ كَذَا إِذَا نَزَلُوا فِيهِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَعْنَى هَذَا النَّهْيِ وَالْإِبَاحَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ نَهْيُ تَحْرِيمٍ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْمَدِينَةِ الَّتِي دَفَّ الْبَادِيَةُ إِلَيْهَا وَفِي غَيْرِهَا حُرِّمَ بِهِ ادِّخَارُ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ ، وَعَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ، وَكَانَتِ الدَّافَّةُ سَبَبًا لِلتَّحْرِيمِ وَلَمْ تَكُنْ عِلَّةً لِلتَّحْرِيمِ ، ثُمَّ وَرَدَتِ الْإِبَاحَةُ بَعْدَهَا نَسْخًا لِلتَّحْرِيمِ ، فَعَمِلَ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ بِالنَّسْخِ إِلَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَإِنَّهُ بَقِيَ عَلَى حُكْمِ التَّحْرِيمِ فِي الْمَنْعِ مِنِ ادِّخَارِهَا بَعْدَ ثَلَاثٍ وَلَمْ يَحْكُمْ بِالنَّسْخِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ . وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثَةٍ ثُمَّ قَالَ : كُلُوا وَتَزَوَّدُوا وَادَّخِرُوا فَعَلَى هَذَا إِذَا دَفَّ قَوْمٌ إِلَى بَلَدٍ مِنْ فَاقَةٍ لَمْ يُحَرَّمِ ادِّخَارُهُمْ لُحُومَ الْأَضَاحِيِّ لِاسْتِقْرَارِ النَّسْخِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ نَهْيُ تَحْرِيمٍ خَاصٍّ لِمُعَيَّنٍ حَادِثٍ اخْتَصَّ بِالْمَدِينَةِ وَمَنْ فِيهَا دُونَ غَيْرِهِمْ لِنُزُولِ الدَّافَّةِ عَلَيْهِمْ ، وَكَانَتِ الدَّافَّةُ عِلَّةً لِتَحْرِيمٍ ، ثُمَّ ارْتَفَعَ التَّحْرِيمُ بِارْتِفَاعِ مُوجِبِهِ ، وَكَانَتْ إِبَاحَةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِخْبَارًا عَنِ السَّبَبِ وَلَمْ تَكُنْ نَسْخًا ، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا إِذَا حَدَثَ مِثْلُهُ فِي زَمَانِنَا ، فَدَفَّ نَاسٌ إِلَى الْفَاقَةِ ، فَهَلْ يَحْرُمُ عَلَى أَهْلِهِ ادِّخَارُ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ لِأَجْلِهِمْ لِوُجُودِ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ كَمَا حَرُمَ عَلَيْهِمْ بِالْمَدِينَةِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُحَرَّمُ عَلَيْهِمْ لِوُجُودِ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ كَمَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ بِالْمَدِينَةِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُحَرَّمُ ، لِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالدَّافَّةِ كَانَ لِزَمَانٍ عَلَى صِفَةٍ فَصَارَ مَقْصُورًا عَلَيْهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَاهُ مِنْ مَسْلَكِ الضَّحَايَا فِي هَذِهِ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ الْأَكْلِ وَالِادِّخَارِ وَالصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ اشْتَمَلَ حُكْمُهَا عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي مَقَادِيرِهَا ، فَلَيْسَ تَتَقَدَّرُ فِي الْجَوَازِ ، وَإِنَّمَا تَتَقَدَّرُ فِي الِاسْتِحْبَابِ ، لِأَنَّهُ لَوْ أَكَلَ يَسِيرًا مِنْهَا ، وَتَصَدَّقَ بِبَاقِيهَا جَازَ ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِيَسِيرٍ مِنْهَا وَأَكَلَ بَاقِيَهَا جَازَ ، فَأَمَّا مَقَادِيرُهَا فِي الِاسْتِحْبَابِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : - قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ - يَأْكُلُ وَيَدَّخِرُ وَيُهْدِي النِّصْفَ وَيَتَصَدَّقُ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِالنِّصْفِ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [ الْحَجِّ : 28 ] .

فَجَعَلَهَا فِي صِنْفَيْنِ ، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : - قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ - أَنْ يَأْكُلَ ، وَيَدَّخِرَ الثُّلُثَ تقسيم الأضحية ، وَيُهْدِيَ الثُّلُثَ تقسيم الأضحية ، وَيَتَصَدَّقَ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِالثُّلُثِ تقسيم الأضحية لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ فَذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا . وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي : وُجُوبُهَا وَاسْتِحْبَابُهَا ، فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّ الِادِّخَارَ مُبَاحٌ ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا مُسْتَحَبٍّ وَأَنَّ الْهَدِيَّةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ ، فَأَمَّا الْأَكْلُ وَالصَّدَقَةُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّهُمَا مُسْتَحَبَّانِ فَإِنْ أَكَلَ جَمِيعَهَا جَازَ وَإِنْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِهَا جَازَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [ الْحَجِّ : 37 ] . فَجَعَلَ مَقْصُودَهَا التَّقْوَى بَعْدَ الْإِرَاقَةِ دُونَ الْأَكْلِ وَالصَّدَقَةِ . وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَوْ أَكَلَ أَكْثَرَهَا كَانَ جَمِيعُهَا أُضْحِيَّةً كَذَلِكَ إِذَا أَكَلَ جَمِيعَهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطِّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ - : أَنَّ الْأَكْلَ وَالصَّدَقَةَ وَاجِبَانِ ، فَإِنْ أَكَلَ جَمِيعَهَا لَمْ يُجْزِهِ ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِهَا لَمْ يُجْزِهِ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَ الْأَكْلِ وَالصَّدَقَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا وَأَمَرَ بِهِمَا فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهِمَا ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ فِي حَجِّهِ مِائَةَ بَدَنَةٍ ، وَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَأْتِيَهُ مَنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبِضْعَةٍ ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا ، فَطُبِخَتْ فَأَكَلَ مِنْ لَحْمِهَا ، وَحَسَا مِنْ مَرَقِهَا ، فَلَمَّا أَكَلَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ مَعَ كَثْرَتِهَا دَلَّ عَلَى وُجُوبِ أَكْلِهِ مِنْهَا . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : - وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا - أَنَّ الْأَكْلَ مُسْتَحَبٌّ وَالصَّدَقَةَ وَاجِبَةٌ ، فَإِنْ أَكَلَ جَمِيعَهَا لَمْ يُجْزِهِ وَإِنْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِهَا أَجْزَأَهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَجَعَلَهَا لَنَا ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا عَلَيْنَا ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَكْلَنَا مِنْهَا مُبَاحٌ ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَلِأَنَّ حُقُوقَ الْإِنْسَانِ هُوَ مُخَيَّرٌ فِيهَا بَيْنَ الِاسْتِبْقَاءِ وَالْإِسْقَاطِ . وَلِأَنَّ مَوْضُوعَ الْقُرْبِ بِالْأُصُولِ أَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَتْ مُسْتَحَقَّةً لَهُ . وَلِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي الضَّحَايَا : فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا جَارٍ مَجْرَى قَوْلِهِ فِي الزَّكَاةِ : كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [ الْأَنْعَامِ : 141 ] . فَلَمَّا كَانَ أَكْلُهُ مُبَاحًا وَالْإِيتَاءُ وَاجِبًا كَذَلِكَ الْأَكْلُ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ مُبَاحٌ وَالْإِطْعَامُ وَاجِبٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ حُكْمُ الْأَكْلِ وَالصَّدَقَةِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ فَاقْتَصَرَ مِنْهَا عَلَى أَحَدِهَا نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ اقْتِصَارُهُ مِنْهَا عَلَى الصَّدَقَةِ دُونَ الْأَكْلِ فَأَطْعَمَ وَلَمْ يَأْكُلْ لَمْ يَضْمَنْ

عَلَى الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ ، لِأَنَّ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْأَكْلِ نَسَبَهُ فِي تَرْكِ الْأَكْلِ إِلَى الْمَأْثَمِ ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْغُرْمُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ لِلْأَكْلِ رَفَقَ بِهِ فَخَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْغُرْمِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِجْحَافِ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ اقْتِصَارُهُ عَلَى الْأَكْلِ في الأضحية فَأَكَلَ ، وَلَمْ يُطْعِمْ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْإِطْعَامَ مُسْتَحَبًّا ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْآخَرَيْنِ يَكُونُ ضَامِنًا ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمَا ذَكَرْنَا فَعَلَى هَذَا فِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : - وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - يَضْمَنُ جَمِيعَهَا بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ مِثْلِهَا ، لِأَنَّهُ لَمَّا عَدَلَ بِأَكْلِهَا عَنْ حُكْمِ الضَّحَايَا صَارَتْ لَحْمًا ، وَكَانَ إِيجَابُ الْأُضْحِيَّةِ بَاقِيًا ، فَلَزِمَهُ أَنْ يُضَحِّيَ فَعَلَى هَذَا هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ بَدَلِهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَضْمَنُ مِنْهَا قَدْرَ الِاسْتِحْبَابِ فِيمَا يَتَصَدَّقُ بِهِ وَلَا يَضْمَنُ جَمِيعَهَا ، لِأَنَّهُ قَدْ أَرَاقَ دَمَهَا عَلَى اسْمِ الْأُضْحِيَّةِ فَلَمْ يَضْمَنْ مِنْهَا إِلَّا مَا تَعَدَّى بِأَكْلِهِ ، فَضَمِنَ قَدْرَ الِاسْتِحْبَابِ احْتِيَاطًا ، فَعَلَى هَذَا فِي قَدْرِ الِاسْتِحْبَابِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بِالنِّصْفِ ، وَهُوَ الْقَدِيمُ . وَالثَّانِي : الثُّلُثُ ، وَهُوَ الْجَدِيدُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ هَذَا الْبَدَلَ وَجْهًا وَاحِدًا ، لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَمَّا أَكَلَ وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ يَضْمَنُ قَدْرَ الْإِجْزَاءِ ، لِأَنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي الصَّدَقَةِ أَجْزَأَهُ ، فَعَلَى هَذَا يَضْمَنُ مَا يَخْرُجُ عَنْ قَدْرِ التَّافِهِ إِلَى مَا جَرَى الْعُرْفُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ مِنْهَا مِنَ الْقَلِيلِ الَّذِي يُؤَدِّي الِاجْتِهَادُ إِلَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ فَصَارَ فِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : الْكُلُّ . وَالثَّانِي : النِّصْفُ . وَالثَّالِثُ : الرُّبُعُ . وَالرَّابِعُ : الْمُجْزِئُ ، فَإِنْ ضَمِنَ الْكُلِّ لَزِمَهُ ذَبْحُهُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ . فَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْهَا مَعَ الْقُدْرَةِ حَتَّى ذَبَحَهُ بَعْدَهَا فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُجْزِئُهُ ، وَيَكُونُ لَحْمًا مَضْمُونًا بِمَثَلٍ ثَانٍ كَمَا لَوْ أَخَّرَ مِثْلَ الْأُضْحِيَّةِ حَتَّى ذَبَحَهَا بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُجْزِئُ ، لِأَنَّ إِرَاقَةَ دَمِ الْأُضْحِيَّةِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ قَدْ حَصَلَ بِمَا أَكَلَ ، وَإِنَّمَا هَذَا بَدَلٌ مِنَ الْإِطْعَامِ دُونَ الْإِرَاقَةِ ، فَجَازَ فِي غَيْرِ أَيَّامِ النَّحْرِ وَأَنْ ضَمَّنَّاهُ بَعْضَهَا وَلَمْ نُضَمِّنْهُ جَمِيعَهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا ضَمِنَهُ وَرَقًا ، لِأَنَّ حُقُوقَ الْفُقَرَاءِ فِي الْأَكْلِ

دُونَ الْقِيمَةِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ : أَنْ يُفَرِّقَ ثَمَنَ الْأُضْحِيَّةِ وَرَقًا ، وَهَلْ يَلْزَمُ صَرْفُ مَا ضَمِنَهُ فِي سَهْمٍ مِنْ أُضْحِيَّةٍ أَوْ يُفَرِّقُهُ لَحْمًا فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَشْتَرِي بِهِ سَهْمًا مِنْ أُضْحِيَّةٍ لِيَجْمَعَ فِيهِ بَيْنَ إِرَاقَةِ الدَّمِ وَتَفْرِقَةِ اللَّحْمِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُفَرِّقُهُ لَحْمًا ، لِأَنَّهُ أَرْفَقُ ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ إِنْ ذَبَحَ أَوْ فَرَّقَ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ ذَبْحَ سَهْمٍ فِي شَاةٍ لَا يَكُونُ أُضْحِيَّةً فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ زَمَانُ الْأَضَاحِيِّ .

الْأَكْلُ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ الْمَنْذُورَةِ

الْأَكْلُ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ الْمَنْذُورَةِ فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا الْمَنْذُورَةُ فَفِي جَوَازِ أَكْلِهِ مِنْهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا ، لِأَنَّهَا خَرَجَتْ بِالنَّذْرِ عَنْ حُكْمِ التَّطَوُّعِ إِلَى الْوَاجِبِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا ، لِأَنَّهُ تَطَوَّعَ بِالنَّذْرِ فَصَارَ كَتَطَوُّعِهِ بِالْفِعْلِ . وَالْأَصَحُّ عِنْدِي مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يُنْظَرَ فِي النَّذْرِ ، فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا لَمْ يَضْمَنْ فِي الذِّمَّةِ كَقَوْلِهِ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِهَذِهِ الْبَدَنَةِ ، جَازَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ مَضْمُونًا فِي الذِّمَّةِ كَقَوْلِهِ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِبَدَنَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا ، لِأَنَّ مَا وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ كَانَ مُسْتَحَقًّا لِغَيْرِهِ وَمَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالذِّمَّةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ كَغَيْرِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَيْعُ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ

بَيْعُ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَأَكْرَهُ بَيْعَ شَيْءٍ مِنْهُ وَالْمُبَادَلَةَ بِهِ ، وَمَعْقُولٌ مَا أُخْرِجَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى مَالِكِهِ إِلَّا مَا أَذِنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ ثُمَّ رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاقْتَصَرْنَا عَلَى مَا أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ ، ثُمَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنَعْنَا الْبَيْعَ عَلَى أَصْلِ النُّسُكِ أَنَّهُ لِلَّهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا بَيْعُ لَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ فَلَا يَجُوزُ فِي حَقِّ الْمُضَحِّي لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ فَنَصَّ عَلَى أَكْلِهِ وَإِطْعَامِهِ ، فَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِهِ . وَلِأَنَّ الْأَمْوَالَ الْمُسْتَحَقَّةَ فِي الْقُرْبِ لَا يَجُوزُ لِلْمُتَقَرِّبِ بَيْعُهَا الزَّكَوَاتُ وَالْكَفَّارَاتُ ، وَإِنَّمَا خُصَّتِ الضَّحَايَا بِجَوَازِ الْأَكْلِ ، وَلَيْسَ فِي إِبَاحَةِ الْأَكْلِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ كَطَعَامِ الْوَلَائِمِ ، وَأَكْلُ الْغَانِمِينَ طَعَامُ أَهْلِ الْحَرْبِ . وَأَمَّا الْفُقَرَاءُ فَعَلَى الْمُضَحِّي أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِمْ مِنْهَا لَحْمًا ، وَلَا يَدْعُوَهُمْ لِأَكْلِهِ مَطْبُوخًا ، لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي تَمَلُّكِهِ دُونَ أَكْلِهِ لِيَصْنَعُوا بِهِ مَا أَحَبُّوا ، فَإِنْ دَفَعَهُ إِلَيْهِمْ مَطْبُوخًا لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَأْخُذُوهُ نِيئًا ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ تُدْفَعَ إِلَيْهِمْ زَكَاةُ الْفِطْرِ مَخْبُوزًا ، فَإِذَا أَخَذُوهُ

لَحْمًا جَازَ لَهُمْ بَيْعُهُ كَمَا يَجُوزُ لَهُمْ بَيْعُهُ مَا أَخَذُوهُ مِنَ الزِّكْوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ ، وَإِنْ لَمْ يُجْزِ الْمُزَكِّيَ وَالْمُكَفِّرَ بَيْعُهُ . وَهَكَذَا لَا يَجُوزُ لِلْمُضَحِّي أَنْ يُعْطِيَ الْجَازِرَ أُجْرَةَ جِزَارَتَهُ مِنْ لَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُعَاوِضًا بِهِ ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَلِيًّا عَنْهُ . وَلِأَنَّ مَؤُونَةَ مَا يَسْتَحِقُّ إِخْرَاجُهُ لَازِمَةٌ لِلْمُتَقَرِّبِ كَمَؤُونَةِ الْجِدَادِ وَالْحَصَادِ ، فَإِنْ أَعْطَى الْجَازِرَ أُجْرَتَهُ جَازَ أَنْ يُعْطِيَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ لَحْمِهَا صَدَقَةً إِنْ كَانَ مُحْتَاجًا أَوْ هَدِيَّةً إِنْ كَانَ مُسْتَغْنِيًا .

الْقَوْلُ فِي بَيْعِ الْجِلْدِ

الْقَوْلُ فِي بَيْعِ الْجِلْدِ الأضحية فَصْلٌ : فَأَمَّا الْجِلْدُ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْأُضْحِيَّةِ فِي تَحْرِيمِ بَيْعِهِ عَلَى الْمُضَحِّي ، وَفِي جَوَازِ تَفَرُّدِهِ بِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ ، لِأَنَّهُ بَعْضُ الْأُضْحِيَّةِ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ حَتَّى يُشَارِكَ فِيهِ الْفُقَرَاءُ ، لِأَنَّهُ غَيْرُ اللَّحْمِ فَلَزِمَ الْإِشْرَاكُ فِيهِ كَاللَّحْمِ ، فَإِنْ بَاعَهُ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا ، وَقَالَ عَطَاءٌ : يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الْجِلْدِ ، وَتَمَلُّكُ ثَمَنُهُ ، لِأَنَّ مَقْصُودَ الْأُضْحِيَّةِ إِرَاقَةُ الدَّمِ وَإِطْعَامُ اللَّحْمِ . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الْجِلْدِ بِآلَةِ الْبَيْتِ الَّتِي تُعَارُ كَالْقِدْرِ وَالْمِيزَانِ وَالسِّكِّينِ ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِلْآلَةِ وَتَلْزَمُهُ الْإِعَارَةُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ بِالْآلَةِ دُونَ غَيْرِهَا ، وَلَا يَلْزَمُهُ إِعَارَتُهَا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ . وَدَلِيلُنَا : مَا رَوَاهُ مُجَاهِدٌ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَقُومَ عَلَى بَدَنَةٍ ، فَأَقْسِمَ جُلُودَهَا وَجِلَالَهَا ، وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أُعْطِيَ الْجَازِرَ مِنْهَا شَيْئًا ، وَقَالَ : نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا فَقَسَّمَ الْجُلُودَ كَمَا قَسَّمَ اللَّحْمَ ، فَدَلَّ عَلَى اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْحُكْمِ . وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ بَاعَ جِلْدَ أُضْحِيَّتِهِ فَلَا أُضْحِيَّةَ لَهُ ، وَهَذَا إِنِ انْتَشَرَ إِجْمَاعٌ ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَشِرْ حُجَّةٌ ، إِذْ لَيْسَ لَهُ مُخَالِفٌ ، وَلِأَنَّهُ بَعْضُ الْأُضْحِيَّةِ فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ كَاللَّحْمِ ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ لَحْمِهِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ جِلْدِهِ كَدَمِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ .

حُكْمُ تَضْحِيَةِ الْعَبِيدِ

حُكْمُ تَضْحِيَةِ الْعَبِيدِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَا تَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ لِعَبْدٍ وَلَا مُدَبَّرٍ وَلَا أُمِّ وَلَدٍ لِأَنَّهُمْ لَا يُمَلَّكُونَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْمُمَلَّكُونَ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ أضحية وَالْمُدَبِّرِينَ أضحية فَلَا يَمْلِكُونَ إِنْ لَمْ يُمَلَّكُوا ، وَلَا هُمْ مِنْ أَهْلِ الضَّحَايَا ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوا ، فَإِنْ ضَحَّى أَحَدَهُمْ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ كَانَ نَائِبًا عَنْهُ ، وَالْأُضْحِيَّةُ عَنِ السَّيِّدِ لَا عَنْهُ ، وَإِنْ ضَحَّى بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ كَانَ مُتَعَدِّيًا بِالذَّبْحِ فِي مِلْكِ سَيِّدِهِ ، وَتَكُونُ الذَّبِيحَةُ لَحْمًا لِلسَّيِّدِ ، وَلَيْسَ بِأُضْحِيَّةٍ ، وَإِنْ مَلَّكَهُ السَّيِّدُ مَالًا ، فَفِي صِحَّةِ مِلْكِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ الْقَدِيمُ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ - يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ بِتَمْلِيكِ السَّيِّدِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : - وَهُوَ الْجَدِيدُ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - : لَا يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ ، وَيَكُونُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ السَّيِّدِ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الضَّحَايَا مَلَكَ أَوْ لَمْ يَمْلِكْ ، لِأَنَّ لِلسَّيِّدِ عَلَيْهِ حَجْرًا وَإِنْ مَلَكَ ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ أَنْ يُضَحِّيَ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُضَحِّيَ عَنِ السَّيِّدِ فَيَصِحَّ ذَلِكَ مِنَ الْعَبْدِ ، وَيَكُونَ فِي هَذَا الْإِذْنُ بِذَبْحِهَا عَنِ السَّيِّدِ رُجُوعًا مِنْهُ فِي تَمْلِيكِ الْعَبْدِ ، وَيَصِيرَ الْعَبْدُ نَائِبًا عَنْ سَيِّدِهِ فِي الذَّبْحِ ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ بَعْدَ الذَّبْحِ أَنْ يُفَرِّقَ اللَّحْمَ إِلَّا بِإِذْنِ السَّيِّدِ ، لِأَنَّ الْإِذْنَ الْأَوَّلَ كَانَ مَقْصُورًا عَلَى الذَّبْحِ دُونَ التَّفْرِقَةِ فَاحْتَاجَ إِلَى إِذْنٍ فِي التَّفْرِقَةِ ، فَإِنْ كَانَ الْإِذْنُ الْأَوَّلُ فِي الذَّبْحِ وَالتَّفْرِقَةِ صَحَّا جَمِيعًا مِنْهُ بِإِذْنٍ وَاحِدٍ ، وَيَكُونُ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ مَرْدُودِينَ إِلَى اجْتِهَادِ الْعَبْدِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ السَّيِّدُ فِي أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ نَفْسِهِ فَفِي جَوَازِهَا عَنْ نَفْسِهِ قَوْلَانِ إِنْ قِيلَ : إِنَّهُ يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ جَازَ ، وَإِنْ قِيلَ : لَا يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ لَمْ يَجُزْ ، فَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِهِ كَانَتْ أُضْحِيَّةً عَنِ الْعَبْدِ دُونَ السَّيِّدِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا بَعْدَ الذَّبْحِ لِمَا اسْتَحَقَّهُ الْمَسَاكِينُ فِيهَا بِالذَّبْحِ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ إِيجَابِ الْأُضْحِيَّةِ وَتَعَيُّنِهَا صَحَّ رُجُوعُ السَّيِّدِ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ إِيجَابِهَا وَتَعَيُّنِهَا لَمْ يَصِحَّ رُجُوعُ السَّيِّدِ فِيهَا ، لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْمَسَاكِينِ كَالْمَذْبُوحَةِ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ أُضْحِيَّةَ الْعَبْدِ لَا تَجُوزُ فَلِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ مِنْ ذَبْحِهَا قَبْلَ التَّعْيِينِ وَبَعْدَهُ ، وَإِذَا ذَبَحَهَا الْعَبْدُ كَانَتْ ذَبِيحَةَ لَحْمٍ وَلَمْ تَكُنْ أُضْحِيَّةً لِلْعَبْدِ وَلَا لِلسَّيِّدِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ حكم تضحية ، فَيَمْلِكُ إِكْسَابَ نَفْسِهِ غَيْرَ أَنَّ مِلْكَهُ ضَعِيفٌ وَلَا يُمَاثِلُ مِلْكَ الْحُرِّ ، لِأَنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى أَدَائِهِ فِي مَالِ الْكِتَابَةِ وَمَؤُونَةِ نَفْسِهِ وَلِلسَّيِّدِ عَلَيْهِ حَجْرٌ بِمَا اسْتَحَقَّهُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الْمُكَاتَبَةِ ، وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الضَّحَايَا لِقُصُورِهِ مِلْكَهُ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ ، فَلِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ بِحَقِّ حَجْرٍ ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فِي الْأُضْحِيَّةِ ، فَإِنْ مُنِعَ الْعَبْدُ مِنْهَا

إِذَا مَلَكَ كَانَ الْمُكَاتَبُ أَوْلَى بِالْمَنْعِ وَإِنْ جُوِّزَتْ لِلْعَبْدِ إِذَا قِيلَ : إِنَّهُ يَمْلِكُ فَفِي جَوَازِهَا مِنَ الْمُكَاتَبِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : تَجُوزُ مِنْهُ وَتَصِحُّ لَهُ الْأُضْحِيَّةُ بِإِذْنِ السَّيِّدِ ، وَلَيْسَ فِيهَا بِالسَّوَاءِ مِنْ مَالِ الْعَبْدِ إِذَا مَلَكَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا تَصِحُّ ، لِأَنَّ سَيِّدَهُ لَا يَمْلِكُ مَا بِيَدِهِ وَإِنْ مَلَكَ مَا فِي يَدِ عَبْدِهِ ، فَصَحَّ إِذْنُهُ مَعَ عَبْدِهِ وَضَعُفَ مَعَ مُكَاتَبِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا مَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ وَنِصْفُهُ مَمْلُوكٌ أضحية إِذَا مَلَكَ بِنِصْفِهِ الْحُرِّ مَالًا صَحَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمِلْكِ رِقَّةُ حَجْرٍ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ ، وَيَكُونُ أَهْلُ الضَّحَايَا بِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُضَحِّيَ بِغَيْرِ اعْتِرَاضٍ كَمَا لِكَامِلِ الْحُرِّيَّةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَإِذَا نَحَرَ سَبْعَةٌ بَدَنَةً أَوْ بَقَرَةً فِي الضَّحَايَا أَوِ الْهَدْيِ كَانُوا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ وَاحِدٍ أَوْ شَتَّى فَسَوَاءٌ ، وَذَلِكَ يُجْزِي وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ مُضَحِّيًا وَبَعْضُهُمْ مُهْدِيًا أَوْ مُفْتَدِيًا أَجْزَأَ : لِأَنَّ سُبْعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقُومُ مَقَامَ شَاةٍ مُنْفَرِدَةٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ يُرِيدُ بِنَصِيبِهِ لَحْمًا لَا أُضْحِيَّةً وَلَا هَدْيًا ، وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْحُدَيْبِيَّةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهُمْ شَتَّى . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْبَدَنَةُ فِي الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا فَهِيَ عَنْ سَبْعَةٍ وَكَذَلِكَ الْبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ في الضحايا والهدي ، وَيَقُومُ كُلُّ سَبُعٍ مَقَامَ شَاةٍ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ : الْبَدَنَةُ عَنْ عَشَرَةٍ وَكَذَلِكَ الْبَقَرَةُ ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : نَحَرْنَا الْبَدَنَةَ عِنْدَ عَشَرَةٍ ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ عَشَرَةٍ ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : الْبَدَنَةُ فِي الْغَنَائِمِ بِعَشْرٍ مِنَ الْغَنَمِ فَكَذَلِكَ فِي الضَّحَايَا . وَدَلِيلُنَا : مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْحُدَيْبِيَّةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ . وَهَذَا لَا يَكُونُ مِنْهُمْ إِلَّا عَنْ أَمْرِهِ ، عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ رَوَى عَنْ يَحْيَى بْنِ حَسَّانَ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ . فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ مَوْقُوفٌ وَلَيْسَ بِمُسْنَدٍ وَمَتْرُوكٌ ، وَغَيْرُهُ مَعْمُولٌ بِهِ ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى تَعْدِيلِهَا فِي الْغَنَائِمِ بِعَشْرٍ مِنَ الْغَنَمِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ فِي الضَّحَايَا أَصْلًا ، لِأَنَّهُ قَدِ اخْتَلَفَ قَتَادَةُ جُعِلَ بِعَشْرٍ وَتَارَةً بِأَقَلَّ وَتَارَةً بِأَكْثَرَ .

الِاشْتِرَاكُ فِي لَحْمِ الْبَدَنَةِ وَالْبَقَرَةِ مِنْ حَيْثُ الْفَرْضُ وَالتَّطَوُّعُ

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ جَازَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهَا سَبْعَةٌ مِنَ الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا ، وَيَكُونُ كُلُّ سُبْعٍ مِنْهَا ضَحِيَّةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانُوا مُفْتَرِضِينَ أَوْ مُتَطَوِّعِينَ فِي قُرَبٍ مُتَمَاثِلَةٍ أَوْ مُخْتَلِفَةٍ أَوْ بَعْضُهُمْ يُرِيدُ حَقَّهُ لَحْمًا ، وَبَعْضُهُمْ يَكُونُ بِهِ مُتَقَرِّبًا ، وَسَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ وَاحِدٍ أَوْ بُيُوتٍ شَتَّى . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ كَانُوا مُفْتَرِضِينَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِكُوا ، وَإِنْ كَانُوا مُتَطَوِّعِينَ جَازَ أَنْ يَشْتَرِكُوا إِذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ وَاحِدٍ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِكُوا إِذَا كَانُوا مِنْ بُيُوتٍ شَتَّى ، لِأَنَّ التَّطَوُّعَ أَخَفُّ حُكْمًا مِنَ الْفَرْضِ وَأَهْلُ الْبَيْتِ يَشْتَرِكُونَ فِي الْأَكْلِ وَالْإِطْعَامِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا كَانُوا مُتَقَرِّبِينَ جَازَ أَنْ يَشْتَرِكُوا مُفْتَرِضِينَ وَمُتَطَوِّعِينَ سَوَاءٌ أَكَانُوا أَهْلَ بَيْتٍ أَوْ بُيُوتٍ شَتَّى ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ مُتَقَرِّبًا ، وَبَعْضُهُمْ يُرِيدُ سَهْمَهُ لَحْمًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِكُوا ، لِأَنَّ مَصْرِفَ الْقُرَبِ وَاحِدٌ وَمَصْرِفَهَا مَعَ اللَّحْمِ مُخْتَلِفٌ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَالِكٍ حَدِيثُ جَابِرٍ قَالَ : نَحَرْنَا بِالْحُدَيْبِيَّةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ . وَقَدْ كَانُوا أَشْتَاتًا مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى ، وَلَوِ اتَّفَقَتْ قَبَائِلُهُمْ لَمْ تَتَّفِقْ بُيُوتُهُمْ ، وَلَوِ اتَّفَقَتْ لَتَعَذَّرَ أَنْ يَسْتَكْمِلَ عَدَدُ كُلِّ بَيْتٍ سَبْعَةً حَتَّى لَا يَزِيدُونَ عَلَيْهِمْ ، وَلَا يَنْقُصُونَ مِنْهُمْ ، فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الِافْتِرَاضِ وَالِاقْتِرَانِ ، وَرَوَى جَابِرٌ قَالَ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَشْتَرِكَ السَّبْعَةُ فِي بَدَنَةٍ ، وَنَحْنُ مُتَمَتِّعُونَ عَامَ الْوَدَاعِ . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ اشْتِرَاكِ الْمُفْتَرِضِينَ في الأضاحي والهدايا ، لِأَنَّ دَمَ الْمُتَمَتِّعِ فَرْضٌ . وَلِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ السَّبْعَةُ إِذَا كَانُوا مُتَطَوِّعِينَ جَازَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ السَّبْعَةُ إِذَا كَانُوا مُتَطَوِّعِينَ كَالسُّبْعِ مِنَ الْغَنَمِ ، وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ كُلَّ مَا جَازَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ السَّبْعَةُ إِذَا كَانُوا مُتَقَرِّبِينَ جَازَ أَنْ يَشْتَرِكُوا فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ غَيْرَ مُتَقَرِّبٍ كَالسُّبْعِ مِنَ الْغَنَمِ . وَلِأَنَّ سَهْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مُعْتَبَرٌ بِنِيَّتِهِ لَا بِنِيَّةِ غَيْرِهِ ، لِأَنَّهُمْ لَوِ اخْتَلَفَتْ قُرَبُهُمْ ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ سَهْمَهُ عَنْ قِرَانٍ وَبَعْضُهُمْ عَنْ تَمَتُّعٍ ، وَبَعْضُهُمْ عَنْ حَلْقٍ ، وَبَعْضُهُمْ عَنْ لِبَاسٍ ، جَازَ كَذَلِكَ إِذَا جَعَلَ بَعْضُهُمْ سَهْمَهُ لَحْمًا ، لِأَنَّ نِيَّةَ غَيْرِ الْمُتَقَرِّبِ لَا تُؤَثِّرُ فِي نِيَّةِ الْمُتَقَرِّبِ . وَقَوْلُهُ : إِنَّ مَصْرِفَ الْقُرْبِ وَاحِدٌ غَيْرُ مُسَلَّمٍ ، لِأَنَّ مَصْرِفَ الْفَرْضِ غَيْرُ مَصْرِفِ التَّطَوُّعِ وَمَحِلُّ الْهَدْيِ غَيْرُ مَحِلِّ الْأَضَاحِيِّ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا وَنَحَرَ السَّبْعَةُ الْمُشْتَرِكُونَ بَدَنَةً اقتسام ، فَإِنْ كَانُوا مُتَقَرِّبِينَ وَدَفَعُوا لَحْمَهَا إِلَى الْمَسَاكِينِ لِيَكُونُوا هُمُ الْمُقْتَسِمِينَ لَهَا جَازَ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ غَيْرَ مُتَقَرِّبٍ يُرِيدُ سَهْمَهُ لَحْمًا يُقَاسِمُهُمْ عَلَيْهِ ، فَإِنْ قِيلَ فِي الْقِسْمَةِ : إِنَّهَا إِقْرَارُ حَقٍّ وَتَمْيِيزُ نَصِيبٍ جَازَتِ الْقِسْمَةُ وَكَانَ الْمُتَقَرِّبُونَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُقَاسِمُوهُمْ قَبْلَ دَفْعِ سِهَامِهِمْ إِلَى الْمَسَاكِينِ ،

وَبَيْنَ أَنْ يَدْفَعُوهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ إِلَى الْمَسَاكِينِ ، وَيَكُونُ هُمُ الْقَاسِمِينَ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ لَمْ يَجُزِ الْقِسْمَةُ فَإِنْ أَرَادَ الْمُتَقَرِّبُونَ أَنْ يَتَقَاسَمُوهُ لَمْ تَجُزْ لِمَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ لُحُومَ الْقُرَبِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهَا الْمُتَقَرِّبُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الطَّعَامَ الرَّطْبَ لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضِ خَوْفِ الرِّبَا ، وَإِنْ أَرَادَ الْمَسَاكِينُ أَنْ يَتَقَاسَمُوهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَقَاسَمُوهُ لِمَعْنًى وَاحِدٍ ، وَهُوَ خَوْفُ الرِّبَا ، لِأَنَّ بَيْعَهُمْ لَمَّا أَخَذُوهُ مِنَ الْقُرْبِ جَائِزٌ وَإِنْ تَرَكُوهُ حَتَّى يَجِفَّ ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ جَازَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَالْأَضْحَى جَائِزٌ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَيَّامُ مِنًى كُلُّهَا إِلَى الْمَغِيبِ لِأَنَّهَا أَيَّامُ نُسُكٍ قَالَ الْمُزَنِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - - وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ - : أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ ، عَنْ هُشَيْمٍ ، عَنْ يُونُسَ ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ : يُضَحِّي أَيَّامَ التَّشْرِيقِ كُلَّهَا ، وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ ، عَنْ هُشَيْمٍ ، عَنِ الْحَجَّاجِ ، عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : يُضَحِّي فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا أَيَّامُ نَحْرِ الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا فَمُخْتَلَفٌ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : - وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ - أَنَّهَا أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةِ حَتَّى تَغِيبَ شَمْسُهُ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي - مَا قَالَهُ مَالِكٌ - : إِنَّهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى آخِرِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، وَهُوَ يَوْمُ النَّفْرِ الْأَوَّلِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ - أَنَّهَا مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ ، بِرِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ بَلَغَهُمَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : إِنَّ الضَّحَايَا إِلَى هِلَالِ الْمُحَرَّمِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَأْنِيَ ذَلِكَ . وَرَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حَنِيفٍ يَقُولُ : إِنَّهُ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَشْتَرِي أَحَدُهُمُ الْأُضْحِيَّةَ وَيُسَمِّنُهَا ، فَيَذْبَحُهَا بَعْدَ الْأَضْحَى فِي آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [ الْحَجِّ : 28 ] . وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهَا ، وَلَكِنْ لَمَّا جُعِلَ لِلنَّحْرِ أَيَّامًا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ شَهْرًا . وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : أَيَّامُ التَّشْرِيقِ كُلُّهَا ذَبْحٌ .

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَالِكٍ حَيْثُ جَعَلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مِنْهَا ، وَدَلِيلٌ عَلَى مَنِ اسْتَدَامَهَا إِلَى هِلَالِ الْمُحَرَّمِ ، لِاخْتِصَاصِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بِهَا . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَمَرَ بِالنِّدَاءِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ : أَلَا إِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَنَحْرٍ وَذِكْرٍ فَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِ النَّحْرِ بِجَمِيعِهَا ، وَلِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ جَازَ فِيهِ الرَّمْيُ جَازَ فِيهِ النَّحْرُ كَالْيَوْمِ الثَّانِي ، وَكُلَّ يَوْمٍ لَمْ يَجُزْ فِيهِ الرَّمْيُ لَمْ يَجُزْ فِيهِ النَّحْرُ كَالْمُحَرَّمِ ، وَلِأَنَّهَا سُمِّيَتْ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ لِتَشْرِيقِ لُحُومِ الْهَدَايَا فِي شَمْسِهَا ، فَلَوْ كَانَ غَيْرُهَا فِي حُكْمِهَا لَجَازَ انْطِلَاقُ اسْمِ التَّشْرِيقِ عَلَى جَمِيعِهَا ، وَفِي امْتِنَاعِ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ مَا أَدَّى إِلَيْهِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا احْتَجُّوا بِهِ ، فَهُوَ أَنَّ مِثْلَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً فِي الدِّينِ ، وَلَا طَرِيقًا إِلَى الْأَحْكَامِ ، وَلَوْ صَحَّ لَجَازَ فَسْخُهُ بِمَا هُوَ أَثْبَتُ مِنْهُ ، وَاقْتَرَنَ بِهِ الْعَمَلُ بِضِدِّهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصَلَ : يَخْتَارُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُضَحِّيَ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَنْهُمْ مِنْ بَيْتِ مَالِهِمْ بَدَنَةً يَذْبَحُهَا فِي الْمُصَلَّى بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ صَلَاتِهِ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [ الْكَوْثَرِ : 2 ] . وَأَقَلُّ مَا يَنْحَرُهُ شَاةٌ ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ بَعْدَ صَلَاتِهِ شَاةً عَنْ أُمَّتِهِ ، وَيَتَوَلَّى نَحْرَهَا بِنَفْسِهِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأَئِمَّةِ الرَّاشِدِينَ ، وَيُخَلِّيَ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهَا ، فَإِنْ ضَحَّى مِنْ مَالِهِ ذَبَحَ حَيْثُ شَاءَ ، فَفَرَّقَ عَلَى مَا أَرَادَ ، فَأَمَّا غَيْرُ الْإِمَامِ فَيَخْتَارُ أَنْ يُضَحِّيَ فِي مَنْزِلِهِ بِمَشْهَدِ أَهْلِهِ ، لِيَفْرَحُوا بِالذَّبْحِ وَيَسْتَمْتِعُوا بِاللَّحْمِ ، فَإِنْ ضَحَّى بِعَدَدٍ مِنَ الضَّحَايَا ، فَيَخْتَارُ أَنْ يُفَرِّقَهَا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ ، فَيَنْحَرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ بَعْضَهَا ، لِأَنَّهُ أَطْوَلُ اسْتِمْتَاعًا بِلَحْمِهَا ، فَإِنْ ضَحَّى بِرَأْسَيْنِ ، فَيَجِبُ أَنْ يَذْبَحَ أَحَدَهُمَا فِي أَوَّلِ الْأَيَّامِ ، وَالثَّانِي فِي آخِرِ الْأَيَّامِ ، فَإِنْ عَدَلَ عَنِ الِاخْتِيَارِ فَذَبَحَ جَمِيعَهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ ، وَيَخْتَارُ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى الْأَكْلِ مِنْ أَكْبَادِهَا ، وَأَسْنِمَتِهَا اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لِأَنَّهُ مِنْ أَطَايِبِهَا .

فَصْلٌ : وَلَا تَصِحُّ الْأُضْحِيَّةُ عَنِ الْحَمْلِ كَمَا لَا يُزَّكَّى عَنْهُ زَكَاةَ الْفِطْرِ ، وَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّ الطِّفْلِ وَالْمَجْنُونِ الأضحية أَنْ يُضَحِّيَ عَنْهُمَا مِنْ أَمْوَالِهِمَا ، وَيَجِبَ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْهُمَا مِنْ أَمْوَالِهِمَا ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ فَرْضٌ وَالْأُضْحِيَّةَ سُنَّةٌ .

بَابُ الْعَقِيقَةِ

الْقَوْلُ فِي الْعَقِيقَةِ

بَابُ الْعَقِيقَةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ ، عَنْ سِبَاعِ بْنِ وَهْبٍ ، عَنْ أُمِّ كُرْزٍ ، قَالَتْ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْأَلُهُ عَنْ لُحُومِ الْهَدْيِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ لَا يَضُرُّكُمْ ذُكْرَانًا كُنَّ أَوْ إِنَاثًا ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : أَقَرُّو وَالطَّيْرَ عَلَى مَكِنَاتِهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : فَيُعَقُّ عَنِ الْغُلَامِ وَعَنِ الْجَارِيَةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا الْعَقِيقَةُ فَهِيَ شَاةٌ تُذْبَحُ عِنْدَ الْوِلَادَةِ كَانَتِ الْعَرَبُ عَلَيْهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ . الْقَوْلُ فِي الْعَقِيقَةِ اخْتُلِفَ فِيهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَتْ بِسُنَّةٍ وَلَا نَدْبٍ . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَدَاوُدُ : هِيَ وَاجِبَةٌ ، وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ مَسْنُونَةٍ بِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْعَقِيقَةِ ، فَقَالَ : لَا أَحُبُّ الْعُقُوقَ وَبِرِوَايَةِ ابْنِ عَقِيلٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَمَّا وُلِدَ أَرَادَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ أَنْ تَعُقَّ عَنْهُ كَبْشًا ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَعُقِّي عَنْهُ ، وَاحْلِقِي شَعْرَهُ المولود ، وَتَصَدَّقِي بِوَزْنِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ ، فَلَمَّا وَلَدَتِ الْحُسَيْنَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَعَلَتْ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَاسْتَدَلَّ الْحَسَنُ عَلَى وُجُوبِ الْعَقِيقَةِ بِرِوَايَتِهِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْغُلَامُ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ ، فَاذْبَحُوا عَنْهُ يَوْمَ السَّابِعِ . وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِيَنَ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَامِرٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَعَ الْغُلَامِ عَقِيقَتُهُ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا وَأَمِيطُوا عَنْهُ الْأَذَى . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بَعْدَ حَدِيثِ أُمِّ كُرْزٍ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقَّ

عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ ابْنَيْ عَلِيٍّ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ نَهْيَ فَاطِمَةَ عَنْهُ ، لِأَنَّهُ عَقَّ عَنْهُمَا . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَرَفَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ سُئِلَ عَنِ الْعَقِيقَةِ فَقَالَ : لَا أُحِبُّ الْعُقُوقَ ، وَلَكِنْ مَنْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ ، فَأُحِبُّ أَنْ يَنْسُكَ عَنْهُ فَلْيَفْعَلْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَرِهَ الِاسْمَ ، وَنَدَبَ إِلَى الْفِعْلِ . وَلَكِنَّ وَلِيمَةَ النِّكَاحِ مَسْنُونَةٌ ، وَمَقْصُودَهَا طَلَبُ الْوَلَدِ ، فَكَانَ وِلَادَةُ الْوَلَدِ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ الْإِطْعَامُ فِيهِ مَسْنُونًا . وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أُمِّ كُرْزٍ : أَقِرُّوا الطَّيْرَ عَلَى مَكِنَاتِهَا رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْكَافِ - يَعْنِي بِهِ أَمَاكِنَهَا وَأَوْكَارَهَا ، وَرَوَاهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْكَافِ - يَعْنِي : وَقْتَ تَمَلُّكِهَا ، وَاسْتِقْرَارِهَا ، وَفِي الْمُرَادِ بِهِ تَأْوِيلَانِ مُخْتَلِفَانِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ تَأْوِيلُ الشَّافِعِيِّ ، وَمَنْ رَوَاهُ بِكَسْرِ الْكَافِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَعْتَاقُ الطَّيْرَ وَتَزْجُرُهَا تَفَاؤُلًا وَتَطَيُّرًا إِذَا أَرَادُوا حَاجَةً أَوْ سَفَرًا فَيَنْفِرُونَ أَوَّلَ طَائِرٍ يَسْفَحُ لَهُمْ ، فَإِنْ طَارَ ذَاتَ الْيَمِينِ قَالُوا : هَذَا طَائِرُ الْأَيَامِنِ فَيَتَيَمَّنُوا بِهِ ، وَتَوَجَّهُوا ، وَأَيْقَنُوا بِالنَّجَاحِ ، وَإِنْ طَارَ ذَاتَ الشِّمَالِ قَالُوا : هَذَا طَيْرُ الْأَشَائِمِ ، فَتَشَاءَمُوا بِهِ ، وَعَادُوا مُعْتَقَدِينَ لِلْخَيْبَةِ ، فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذَا ، وَقَالَ : إِنَ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْفَأْلَ وَيَكْرَهُ الطِّيَرَةَ . وَرَوَى قَبِيصَةُ بْنُ الْمُخَارِقِ الْهُزَلِيُّ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُ نَهَى عَنِ الطِّيَرَةِ وَالْعِيَافَةِ وَالطَّرْقِ . الْعِيَافَةُ هِيَ : زَجْرُ الطَّيْرِ ، وَالطَّرْقُ : هُوَ الضَّرْبُ ، وَبِهِ سُمِّيَتْ مِطْرَقَةُ الْحَدَّادِ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ مَنْ رَوَاهُ بِالْفَتْحِ فِي الْكَافِ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ النَّهْيَ عَنْ صَيْدِ اللَّيْلِ إِذَا أَوَتِ الطَّيْرُ إِلَى أَمَاكِنِهَا ، وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا فِي مَعْنَى النَّهْيِ عَنْ صَيْدِ اللَّيْلِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِأَنَّهُ وَقْتُ الدَّعَةِ وَالرَّاحَةِ وَقَالَ آخَرُونَ : لِأَنَّ أَوْكَارَهَا مَأْوَى الْهَوَامِّ الْمَخُوفِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَقِيقَةَ سُنَّةٌ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ عَلَى سِتَّةِ فُصُولٍ أَحَدُهَا فِي مِقْدَارِ الْعَقِيقَةِ ، وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُعَقُّ عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ ، وَعِنْدَ مَالِكٍ يُعَقُّ عَنِ الْغُلَامِ شَاةٌ كَالْجَارِيَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْضِيلٍ ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقَّ عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ كَبْشًا كَبْشًا ، وَقَالَ آخَرُونَ : يَعَقُّ

عَنِ الْغُلَامِ ، وَلَا يُعَقُّ عَنِ الْجَارِيَةِ ، لِأَنَّ الْعَقِيقَةَ السُّرُورُ ، وَالسُّرُورُ يَخْتَصُّ بِالْغُلَامِ دُونَ الْجَارِيَةِ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِمَا رِوَايَةُ أُمِّ كُرْزٍ قَالَتْ : أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحُدَيْبِيَّةِ أَسْأَلُهُ عَنْ لُحُومِ الْهَدْيِ ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ ، لَا يَضُرُّكُمْ ذُكْرَانًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا وَالْمُكَافِئَتَانِ : الْمِثْلَانِ . وَرَوَى الْأَعْرَجُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ الْيَهُودَ يَعُقُّونَ عَنِ الْغُلَامِ ، وَلَا يَعُقُّونَ عَنِ الْجَارِيَةِ ، فَعُقُّوا عَنِ الْغُلَامِ شَاتَيْنِ ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةً وَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ ، ثُمَّ عَلَى مَالِكٍ أَنَّهُ لَمَّا فُضِّلَ الْغُلَامُ عَلَى الْجَارِيَةِ فِي مِيرَاثِهِ وَأَحْكَامِهِ ، فُضِّلَ عَلَيْهَا فِي عَقِيقَتِهِ ، وَدَلِيلٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَعُقَّ عَنِ الْجَارِيَةِ أَنَّ الْعَقِيقَةَ لِلتَّبَرُّكِ وَالتَّيَمُّنِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَقْصِدَ التَّيَمُّنَ وَالتَّبَرُّكَ بِهَا بِالذَّبْحِ عَنْهُمَا ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : لَوْ أَطَاعَ اللَّهَ النَّاسُ فِي النَّاسِ لَمْ يَكُنْ نَاسٌ وَمَعْنَى أَطَاعَ أَيْ : اسْتَجَابَ دُعَاءَهُمْ مَعْنَاهُ أَنَّ النَّاسَ يُحِبُّونَ أَنْ يُولَدَ لَهُمُ الذُّكْرَانُ دُونَ الْإِنَاثِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْإِنَاثُ ذَهَبَ النَّسْلُ ، فَلَمْ يَكُنْ نَاسٌ .

فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الثَّانِي : فِي صِفَةِ الْعَقِيقَةِ ، وَهِيَ مِنَ النَّعَمِ كَالضَّحَايَا وَفِي أَسْنَانِهَا مِنَ الْجَذَعِ مِنَ الضَّأْنِ وَالثَّنِيِّ مِنَ الْمَعْزِ ، فَإِنْ عَدَلَ عَنِ الْغَنَمِ إِلَى الْبُدْنِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ كَانَ أَزْيَدَ مِنَ الْمَسْنُونِ وَأَفْضَلَ ، وَإِنْ عَقَّ دُونَ الْجَذَعِ مِنَ الضَّأْنِ وَدُونَ الثَّنِيِّ مِنَ الْمَعْزِ ، فَفِي إِقَامَةِ السُّنَّةِ الْعَقِيقَةُ بِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَقُومُ بِهِ سُنَّةُ الْعَقِيقَةِ اعْتِبَارًا بِالْأُضْحِيَّةِ ، وَتَكُونُ ذَبِيحَةُ لَحْمٍ لَيْسَتْ بِعَقِيقَةٍ ، لِأَنَّهُمَا مَسْنُونَتَانِ ، وَقَدْ قَيَّدَ الشَّرْعُ سِنَّ إِحْدَاهُمَا فَتَقَرَّرَ بِهِ السِّنُّ فِيهِمَا ، فَعَلَى هَذَا لَوْ عَيَّنَ الْعَقِيقَةَ فِي شَاةٍ وَأَوْجَبَهَا وَجَبَتْ كَالْأُضْحِيَّةِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُبَدِّلَهَا بِغَيْرِهَا ، وَيَجِبُ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ لَحْمًا نِيئًا العقيقة ، وَلَا يَخُصَّ بِهَا الْأَغْنِيَاءَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَقُومُ بِمَا دَوَّنَ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ سُنَّةَ الْعَقِيقَةِ ، لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ أَوْكَدُ مِنْهَا لِتَعَلُّقِهَا بِسَبَبٍ رَاتِبٍ وَاحِدٍ عَامٍّ ، فَجَازَ أَنْ تَكُونَ فِي السِّنِّ أَغْلَظَ مِنْهَا ، فَعَلَى هَذَا لَوْ عَيَّنَ الْعَقِيقَةَ فِي شَاةٍ أَوْجَبَهَا لَمْ تَتَعَيَّنْ ، وَكَانَ عَلَى خِيَارِهِ بَيْنَ ذَبْحِهَا أَوْ ذَبْحِ غَيْرِهَا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَخُصَّ بِهَا الْأَغْنِيَاءَ ، وَلَا يَلْزَمَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ ، وَإِنْ أَعْطَاهُمْ مَطْبُوخًا جَازَ .

الْقَوْلُ فِي وَقْتِ الْعَقِيقَةِ

الْقَوْلُ فِي وَقْتِ الْعَقِيقَةِ فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ : فِي وَقْتِ الْعَقِيقَةِ وَوَقْتِ ذَبْحِهَا هُوَ الْيَوْمُ السَّابِعُ لِرِوَايَةِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : الْغُلَامُ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ ، فَاذْبَحُوا عَنْهُ يَوْمَ السَّابِعِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَوَّلِ السَّبْعَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ - أَنَّهُ يَوْمُ الْوِلَادَةِ لِيَكُونَ مَعْدُودًا مِنَ السَّبْعَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ - : أَنَّهُ مِنْ بَعْدِ يَوْمِ الْوِلَادَةِ ، وَلَيْسَ يَوْمُ الْوِلَادَةِ مَعْدُودًا فِيهَا ، فَإِنْ قَدَّمَ ذَبْحَهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَقَبْلَ كَمَالِ السَّبْعَةِ جَازَتْ تَعْجِيلًا ، وَقَامَ بِهَا سُنَّةُ الْعَقِيقَةِ ، وَإِنْ عَجَّلَهَا قَبْلَ الْوِلَادَةِ لَمْ تَقُمْ بِهَا سُنَّةُ الْعَقِيقَةِ ، وَكَانَتْ ذَبِيحَةَ لَحْمٍ ، وَإِنْ أَخَّرَهَا بَعْدَ السَّبْعَةِ كَانَتْ قَضَاءً مُجْزِيًا عَنْ سُنَّتِهِ ، وَيَخْتَارُ أَلَّا يَتَجَاوَزَ بِهَا مُدَّةَ النِّفَاسِ لِبَقَاءِ أَحْكَامِ الْوِلَادَةِ ، فَإِنْ أَخَّرَهَا عَنْ مُدَّةِ النِّفَاسِ فَيَخْتَارُ بَعْدَهَا أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ بِهَا مُدَّةَ الرَّضَاعِ لِبَقَاءِ أَحْكَامِ الطُّفُولَةِ ، فَإِنْ أَخَّرَهَا عَنْ مُدَّةِ الرَّضَاعِ فَيَجِبُ أَلَّا يَتَجَاوَزَ بِهَا مُدَّةَ الْبُلُوغِ لِبَقَاءِ أَحْكَامِ الْمُصَغَّرِ ، فَإِنْ أَخَّرَهَا حَتَّى يَبْلُغَ ، سَقَطَ حُكْمُهَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، وَكَانَ الْوَلَدُ مُجْزِئًا فِي الْعَقِيقَةِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَعُقَّ الْكَبِيرُ عَنْ نَفْسِهِ . رَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ الْمُثَنَّى بْنِ أَنَسٍ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقَّ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ مَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ النُّبُوَّةُ .

فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الرَّابِعُ : فِيمَنْ يَتَحَمَّلُ الْعَقِيقَةَ ، وَالَّذِي يَتَحَمَّلُهَا وَيَخْتَصُّ بِذَبْحِهَا ، هُوَ الْمُلْتَزِمُ لِنَفَقَةِ الْمَوْلُودِ مِنْ أَبٍ أَوْ جَدٍّ أَوْ أُمٍّ أَوْ جَدَّةٍ ، لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَؤُونَةٍ ، وَإِنْ كَانَتْ نَفَقَتُهُ مِنْ مَالِهِ كَأَنْ يَكُونَ غَنِيًّا بِمِيرَاثٍ وَعَطِيَّةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ مَالِهِ ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ كَمَا لَا يَخْرُجُ مِنْهُ الْأُضْحِيَّةُ ، وَكَانَ الْأَبُ أَوْ مَنْ قَامَ مَقَامَهُ فِي الْتِزَامِ النَّفَقَةِ مَنْدُوبًا إِلَى ذَبْحِهَا عَنْهُ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْوَلَدُ فَقِيرًا ، وَلَا يَكُونُ سُقُوطُ النَّفَقَةِ عَنْهُ مُسْقِطًا لِسُنَّةِ الْعَقِيقَةِ عَنْهُ ، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ مُعْسِرًا بِالْعَقِيقَةِ ، ثُمَّ أَيْسَرَ بِهَا نُظِرَ يَسَارُهُ ، فَإِنْ كَانَ فِي وَقْتِهَا الْمَسْنُونِ ، وَهُوَ السَّابِعُ كَانَتْ سُنَّةُ ذَبْحِهَا مُتَوَجَّهًا إِلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ السَّابِعِ وَبَعْدَ مُدَّةِ النِّفَاسِ سَقَطَتْ عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ السَّابِعِ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ مُخَاطِبًا بِسُنَّةِ الْعَقِيقَةِ لِبَقَاءِ أَحْكَامِ الْوِلَادَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَكُونُ مُخَاطِبًا بِسُنَّتِهَا لِمُجَاوِرَةِ الْمَشْرُوعِ مِنْ وَقْتِهَا .

فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الْخَامِسُ : فِيمَا يَصْنَعُ بِالْعَقِيقَةِ بَعْدَ أَنْ يَذْبَحَ . قِيلَ : يَسْلُكُ بِهِ مَسْلَكَ الضَّحَايَا فِي الْأَكْلِ وَالِادِّخَارِ وَالصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ ، فَإِنْ عَدَلَ بِهَا عَنِ الصَّدَقَةِ إِلَى الْأَكْلِ كَانَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ ، وَتَفْضِيلِ لَحْمِهَا . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَسْرِ عَظْمِهَا ، وَطَبْخِ لَحْمِهَا بِالْخَلِّ ، عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ - أَنَّهُ مَكْرُوهٌ تَفَاؤُلًا لَهُ بِالسَّلَامَةِ وَطَيِّبِ الْعَيْشِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : - وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ - أَنَّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ ، لِأَنَّهُ طِيَرَةٌ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهَا ، وَلِأَنَّ ذَبْحَهَا أَعْظَمُ مَنْ كَسْرِ عَظْمِهَا وَمُلَاقَاةُ النَّارِ لَهَا أَكْثَرُ مِنْ طَرْحِ الْخَلِّ عَلَى لَحْمِهَا وَيُكْرَهُ أَنْ تُلَطِّخَ جَبْهَةَ الْمَوْلُودِ وَرَأَسَهُ بِدَمِهَا . وَقَالَ الْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ : مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ مَخْرَجَ الدَّمِ مِنْ أَوْدَاجِهَا بِصُوفِهِ يُلَطِّخُ بِهَا رَأْسَ الْمَوْلُودِ ، ثُمَّ يَغْسِلُ ، رَوَى هَمَّامٌ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ أَنَسٍ .

فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ السَّادِسُ : فِيمَا يَقْتَرِنُ بِالْعَقِيقَةِ مِنَ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ فِي الْمَوْلُودِ : وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنْ يَحْلِقَ شَعْرَهُ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ المولود : وَيَتَصَدَّقَ بِوَزْنِهِ فِضَّةً : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَهَذَا أَحَبُّ مَا صَنَعَ بِالْمَوْلُودِ بَعْدَ الذَّبْحِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ فِي الْإِنَاثِ ، لِأَنَّ حَلْقَ شُعُورِهِنَّ مَكْرُوهٌ . وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَمَرَ فَاطِمَةَ لَمَّا وَلَدَتِ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَنْ تَحْلِقَ رَأْسَيْهِمَا ، وَتَتَصَدِّقَ بِزِنَةِ الشَّعْرِ فِضَّةً ، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ ، وَفَعَلَتْ فِي سَائِرِ أَوْلَادِهَا مِنَ الْإِنَاثِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُسَمَّى فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ المولود لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيَجِبُ أَنْ يُسَمَّى بِأَحْسَنِ الْأَسْمَاءِ المولود ، رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا وُلِدَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بِمَ سَمَّيْتُمُوهُ ؟ قَالُوا : حَرْبًا ، قَالَ : بَلْ سَمَّوْهُ حَسَنًا ، وَلَمَّا وُلِدَ الْحُسَيْنُ قَالَ : سَمَّوْهُ حُسَيْنًا ، وَقَدْ غَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْمَاءً كَثِيرَةً مِنْ أَصْحَابِهِ اخْتَارَهَا لَهُمْ بَعْدَ اشْتِهَارِهِمْ بِهَا مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ الْعُزَّى ، فَسَمَّاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ ، وَمِنْهُمْ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ كَانَ اسْمُهُ رُوزِيَهْ ، فَسَمَّاهُ سَلْمَانَ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُخْتَنَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ ، إِنْ قَوِيَ بَدَنُهُ عَلَى الْخِتَانَةِ ، وَمَنْ أَثْبَتَ رِوَايَةَ هَمَّامٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : وَيُدْمَى فِي السَّابِعِ ، يُؤَوِّلُهَا فِي خِتَانَتِهِ دُونَ تَلْطِيخِهِ بِدَمِ عَقِيقَةٍ المولود . فَإِنْ ضَعُفَ بَدَنُهُ عَنِ الْخِتَانَةِ فِي السَّابِعِ أُخِّرَ حَتَّى يَقْوَى عَلَيْهَا ، فَأَمَّا الْمَرْوَزِيُّ فِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَعَ الْغُلَامِ عَقِيقَتُهُ ، فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا وَأَمِيطُوا عَنْهُ الْأَذَى فَفِي هَذَا الْأَذَى ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَحْلِقُ شَعْرَهُ ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَغْسِلُ رَأْسَهُ مِنْ دَمِ الْعَقِيقَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ خِتَانَتُهُ ، وَهُوَ أَشْبَهُ .

الْقَوْلُ فِي الْفَرَعَةِ وَالْعَتِيرَةِ

الْقَوْلُ فِي الْفَرَعَةِ وَالْعَتِيرَةِ فَصْلٌ : فَأَمَّا الْفَرَعَةُ وَالْعَتِيرَةُ ، فَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ : الْفَرَعَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ : أَوَّلُ مَا تُنْتَجُ النَّاقَةُ ، يَقُولُونَ : لَا تَمْلِكُهَا وَيَذْبَحُونَهَا رَجَاءً لِلْبَرَكَةِ فِي لَبَنِهَا وَنَسْلِهَا ، وَالْعَتِيرَةُ : ذَبِيحَةٌ كَانَ أَهْلُ الْبَيْتِ مِنَ الْعَرَبِ يَذْبَحُونَهَا فِي رَجَبٍ ، وَيُسَمُّونَهَا الْعَتِيرَةَ الرَّجَبِيَّةَ ، وَقَدْ رُوِيَ فِيهَا حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ ، فَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا فَرَعَةَ وَلَا عَتِيرَةَ وَهَذَا نَهْيٌ عَنْهُمَا . وَرَوَى أَبُو قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ نُبَيْشَةَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : إِنَّا كُنَّا نَعْتِرُ عَتِيرَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي رَجَبٍ ، فَمَا تَأْمُرُنَا ؟ فَقَالَ : اذْبَحُوا فِي أَيِّ شَهْرٍ كَانَ . وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : " وَأَطْعِمُوا " قَالَ : إِنَّا كُنَّا نُفَرِّعُ فَرَعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَمَا تَأْمُرُنَا ؟ قَالَ : مِنْ كُلِّ سَائِمَةٍ فَرَعٌ وَهَذَا أَمْرٌ بِهِمَا ، وَلَيْسَ فِيهِمَا نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ ، وَفِي اخْتِلَافِهِمَا تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي النَّهْيِ عَنْهُمَا مَحْمُولٌ عَلَى نَهْيِ الْإِيجَابِ ، وَحَدِيثَ نُبَيْشَةَ فِي الْأَمْرِ بِهِمَا مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : أَنَّ النَّهْيَ عَنْهُمَا عَلَى مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْجِنِّ ، وَالْأَمْرَ بِهِمَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذُبِحَ لِوَجْهِ اللَّهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
_____كِتَابُ الْأَطْعِمَةِ _____

بَابُ مَا يَحْرُمُ مِنْ جِهَةِ مَا لَا تَأْكُلُ الْعَرَبُ

كِتَابُ الْأَطْعِمَةِ بَابُ مَا يَحْرُمُ مِنْ جِهَةِ مَا لَا تَأْكُلُ الْعَرَبُ مِنْ مَعَانِي الرِّسَالَةِ وَمَعَانٍ أَعْرَفَ لَهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَقَالَ فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَإِنَّمَا خُوطِبَ بِذَلِكَ الْعَرَبُ الَّذِينَ يَسْأَلُونَ عَنْ هَذَا ، وَنَزَلَتْ فِيهِمُ الْأَحْكَامُ ، وَكَانُوا يَتْرُكُونَ مِنْ خَبِيثِ الْمَآكِلِ مَا لَا يَتْرُكُ غَيْرُهُمْ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْمَأْكُولَ ضَرْبَانِ : حَيَوَانٌ وَنَبَاتٌ . فَأَمَّا النَّبَاتُ فَيَأْتِي . وَأَمَّا الْحَيَوَانُ فَضَرْبَانِ : بَرِّيٌّ وَبَحْرِيٌّ ، فَأَمَّا الْبَحْرِيُّ فَقَدْ مَضَى ، وَأَمَّا الْبَرِّيُّ فَضَرْبَانِ : دَوَابُّ وَطَائِرٌ ، وَهَذَا الْبَابُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَا حَلَّ مِنْهَا وَحَرُمَ ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : مَا وَرَدَ النَّصُّ بِتَحْلِيلِهِ فِي كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ ، فَهُوَ حَلَالٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا وَرَدَ النَّصُّ بِتَحْرِيمِهِ فِي كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ فَهُوَ حَرَامٌ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : مَا كَانَ غَفْلًا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ بِتَحْلِيلٍ وَلَا تَحْرِيمٍ ، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ أَصْلًا يُعْرَفُ بِهِ حَلَالُهُ وَحَرَامُهُ ، فِي آيَاتَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ وَسُنَّةً عَنْ رَسُولِهِ . فَأَمَّا الْآيَتَانِ فَإِحْدَاهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى : يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ [ الْمَائِدَةِ : 4 ] . فَجُعِلَ الطَّيِّبُ حَلَالًا . وَالثَّانِيةُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [ الْأَعْرَافِ : 157 ] . فَجَعَلَ الطَّيِّبَ حَلَالًا ، وَالْخَبَثَ حَرَامًا ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَعَمَّ مِنَ الْأُولَى ، لِأَنَّ الْأُولَى مَقْصُورَةٌ عَلَى إِحْلَالِ الطَّيِّبَاتِ ، وَهَذِهِ تَشْتَمِلُ عَلَى إِحْلَالِ الطَّيِّبَاتِ وَتَحْرِيمِ الْخَبَائِثِ ، فَجَعَلَ الطَّيِّبَ حَلَالًا ، وَالْخَبَثَ حَرَامًا ، وَهَذَا خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّاسَ سَأَلُوهُ عَمَّا يَحِلُّ لَهُمْ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَهُمْ أَنَّهُ قَدْ أَحَلَّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ، وَلَا يَخْلُو مُرَادُهُ بِالطَّيِّبِ وَالْخَبِيثِ مِنْ

ثَلَاثَةِ أُمُورٍ : إِمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ ، كَمَا قَالَ : أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ يَعْنِي مِنَ الْحَلَالِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مُرَادًا ، لِأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَمَّا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ : الْحَلَالُ الْحَلَالُ ، وَالْحَرَامُ الْحَرَامُ ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ فِيهِ بَيَانٌ لِلْحَلَالِ وَلَا لِلْحَرَامِ ، وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الطَّاهِرَ وَالنَّجِسَ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [ النِّسَاءِ : 43 ] . أَيْ : طَاهِرًا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مُرَادًا ، لِأَنَّ الطَّاهِرَ وَالنَّجِسَ مَعْرُوفٌ بِشَرْعٍ آخَرَ ، فَلَا يَكُونُ فِي هَذَا بَيَانٌ شَرْعِيٌّ يَعْنِي عَنْ غَيْرِهِ . وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا كَانَ مُسْتَطَابَ الْأَكْلِ فِي التَّحْلِيلِ ، وَمُسْتَخْبَثَ الْأَكْلِ فِي التَّحْرِيمِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ إِذَا بَطَلَ مَا سِوَاهُ ، لِأَنَّهُمْ يَتَوَصَّلُونَ بِمَا اسْتَطَابُوهُ إِلَى الْعِلْمِ بِتَحْلِيلِهِ ، وَبِمَا اسْتَخْبَثُوهُ إِلَى الْعِلْمِ بِتَحْرِيمِهِ ، وَإِذَا كَانَ هَذَا أَصْلًا وَصَارَ الْمُسْتَطَابُ حَلَالًا وَالْمُسْتَخْبَثُ حَرَامًا وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ الْعُرْفُ الْعَامُّ ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ عُرْفُ الْوَاحِدِ مِنَ النَّاسِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَطِيبُ مَا يَسْتَخْبِثُهُ غَيْرُهُ ، فَيَصِيرُ حَلَالًا لَهُ وَحَرَامًا عَلَى غَيْرِهِ ، وَالْحَلَالُ وَالْحَرَامُ مَا عَمَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ ، وَلِذَلِكَ اعْتُبِرَ فِيهِ الْعُرْفُ الْعَامُّ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ عُرْفُ جَمِيعِ النَّاسِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ : لِأَنَّهُ خَاطَبَ بِهِ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ فِي بَعْضِ الْأَرْضِ ، فَاحْتِيجَ إِلَى مَعْرِفَةِ مَنْ خُوطِبَ بِهِ مِنَ النَّاسِ ، وَمَعْرِفَةِ مَا أُرِيدَ بِهِ مِنَ الْبِلَادِ ، فَكَانَ أَحَقُّ النَّاسِ بِتَوَجُّهِ الْخِطَابِ إِلَيْهِمُ الْعَرَبَ لِأَنَّهُمُ السَّائِلُونَ الْمُجَابُونَ ، وَأَحَقُّ الْأَرْضِ مِنْ بِلَادِهِمْ ، لِأَنَّهَا أَوْطَانُهُمْ ، وَقَدْ يَخْتَلِفُونَ فِيمَا يَسْتَطِيبُونَ وَيَسْتَخْبِثُونَ بِالضَّرُورَةِ وَالِاخْتِيَارِ ، فَيَسْتَطِيبُ أَهْلُ الضَّرُورَةِ مَا اسْتَخْبَثَهُ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ عُرْفُ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ ، دُونَ أَهْلِ الضَّرُورَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَ الضَّرُورَةِ عُرْفٌ مَعْهُودٌ ، وَهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : بِالْغِنَى وَالْفَقْرِ ، فَيَسْتَطِيبُ الْفَقِيرُ مَا يَسْتَخْبِثُهُ الْغَنِيُّ . وَالثَّانِي : بِالْبَدْوِ وَالْحَضَرِ ، فَيَسْتَطِيبُ الْبَادِيَةُ مَا يَسْتَخْبِثُهُ الْحَاضِرَةُ . وَالثَّالِثُ : بِزَمَانِ الْجَدْبِ وَزَمَانِ الْخِصَبِ ، فَيُسْتَطَابَ فِي زَمَانِ الْجَدْبِ مَا يَسْتَخْبِثُ فِي زَمَانِ الْخِصَبِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ مِنْ جَمْعِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ ، وَهُمُ الْأَغْنِيَاءُ دُونَ الْفُقَرَاءِ ، أَوْ سُكَّانُ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى دُونَ الْبَادِيَةِ ، وَفِي زَمَانِ الْخِصَبِ دُونَ زَمَانِ الْجَدْبِ ، مِنَ الْعَرَبِ دُونَ الْعَجَمِ ، وَبِلَادِهِمْ دُونَ غَيْرِهَا ، فَتَصِيرُ الْأَوْصَافُ الْمُعَيَّنَةُ فِيمَنْ يَرْجِعُ إِلَى اسْتَطَابَتِهِ وَاسْتِخْبَاثِهِ في الأطعمة خَمْسَةً : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونُوا عَرَبًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونُوا فِي بِلَادِهِمْ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى ، دُونَ الْفَلَوَاتِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَكُونُوا أَغْنِيَاءَ مِنْ أَهْلِ السَّعَةِ .

وَالْخَامِسُ : أَنْ يَكُونُوا فِي زَمَانِ الْخِصْبِ وَالسَّعَةِ . فَإِذَا تَكَامَلَتْ فِي قَوْمٍ اسْتَطَابُوا أَكْلَ شَيْءٍ كَانَ حَلَالًا مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ بِتَحْرِيمِهِ ، وَإِنِ اسْتَخْبَثُوا أَكْلَ شَيْءٍ كَانَ حَرَامًا مَا لَمْ يَرِدْ نَصٌّ بِتَحْلِيلِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْأَصْلُ الْمُعْتَبَرُ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى اسْتَطَابَتِهِ ، فَيَكُونُ حَلَالًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى اسْتِخْبَاثِهِ فَيَكُونُ حَرَامًا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَسْتَطِيبَهُ بَعْضُهُمْ وَيَسْتَخْبِثَهُ بَعْضُهُمْ ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ أَكْثَرُهُمْ ، فَإِنِ اسْتَطَابَهُ الْأَكْثَرُونَ كَانَ حَلَالًا ، وَلَمْ يَكُنْ لِاسْتِخْبَاثِ الْأَقَلِّينَ تَأْثِيرٌ . وَإِنِ اسْتَخْبَثَهُ الْأَكْثَرُونَ كَانَ حَرَامًا ، وَلَمْ يَكُنْ لِاسْتِطَابَةِ الْأَقَلِّينَ تَأْثِيرٌ . وَإِنْ تَسَاوَى الْفَرِيقَانِ فِي الِاسْتِطَابَةِ وَالِاسْتِخْبَاثِ ، وَلَمْ يُفَضَّلْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ اعْتُبِرَتْ قُرَيْشٌ ، لِأَنَّهُمْ قُطْبُ الْعَرَبِ وَفِيهِمُ النُّبُوَّةُ ، وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ خُوطِبَ بِالرِّسَالَةِ ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْمُسْتَطِيبِينَ حَلَّ ، وَإِنْ كَانُوا فِي الْمُسْتَخْبِثِينَ حَرُمَ ، وَإِنْ تَسَاوَتْ قُرَيْشٌ فِيهِمُ اعْتُبِرَتْ شِبْهُ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَطَابُ أَشْبَهَ حَلَّ . وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَخْبَثُ أَشْبَهَ حَرُمَ . وَإِنْ تَسَاوَى الْأَمْرَانِ فَفِيهِ وَجْهَانِ ، مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي أُصُولِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ ، هَلْ هِيَ عَلَى الْإِبَاحَةِ أَوِ الْحَظْرِ ؟ . أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ : أَنَّهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ حَتَّى يَرِدَ الشَّرْعُ بِالْحَظْرِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعًا تَكَافُؤُ اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ حَلَالًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا عَلَى الْحَظْرِ حَتَّى يَرِدَ شَرْعٌ بِالْإِبَاحَةِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ تَكَافُؤُ اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ حَرَامًا ، فَأَمَّا السُّنَّةُ فَتَأْتِي .

فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ وَلَا فِي بِلَادِ الْعَجَمِ من الأطعمة ، اعْتَبَرْتَ فِيهِ حُكْمَهُ فِي أَقْرَبِ الْعَرَبِ عِنْدَ مَنْ جَمَعَ الْأَوْصَافَ الْمُعْتَبَرَةَ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ ، فَإِنِ اسْتَطَابُوهُ كَانَ حَلَالًا ، وَإِنِ اسْتَخْبَثُوهُ كَانَ حَرَامًا ، فَإِنِ اخْتَلَفُوا فِيهِ اعْتُبِرَ حُكْمُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ ، فَإِنِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ اعْتَبَرْتَ فِيهِ حُكْمَهُ فِي أَقْرَبِ الشَّرَائِعِ بِالْإِسْلَامِ ، وَهِيَ النَّصْرَانِيَّةُ ، فَإِنِ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَسَمِعْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ الْآيَةَ : يَعْنِي مِمَّا كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ وَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ

عَزَّ وَجَلَّ لِيُحَرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ فِي الْإِحْرَامِ إِلَّا مَا كَانَ حَلَالًا لَهُمْ فِي الْإِحْلَالِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَلَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِ الْغُرَابِ وَالْحِدْأَةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْحَيَّةِ وَالْفَأْرَةِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذَا مَخْرَجُهُ ، وَدَلَّ عَلَى مَعْنًى آخَرَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تَأْكُلُ مِمَا أَبَاحَ رَسُوُلُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتْلَهُ فِي الْإِحْرَامِ شَيْئًا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ مَقْصُودَ الشَّافِعِيِّ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : إِثْبَاتُ أَصْلِهِ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ ، أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِاسْتِطَابَةِ الْعَرَبِ وَاسْتِخْبَاثِهِمْ ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ وَاسْتَوْفَيْنَاهُ . وَالثَّانِي : الرَّدُّ عَلَى مُخَالِفِهِ فِيهِ ، وَهُوَ مَالِكٌ ، فَإِنَّهُ قَالَ كُلُّ الْحَيَوَانِ حَلَالٌ إِلَّا مَا وَرَدَ نَصٌّ بِتَحْرِيمِهِ ، فَأَبَاحَ حَشَرَاتِ الْأَرْضِ مِنَ الْجِعْلَانِ وَالدِّيدَانِ وَهَوَامِّهَا مِنَ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَسِبَاعِ الدَّوَابِّ ، وَبُغَاثِ الطَّيْرِ وَجَوَارِحِهَا ، وَحَلَّلَ لُحُومَ الْكِلَابِ ، وَحَرَّمَ لُحُومَ الْخَيْلِ ، وَجَعَلَ أَصْلَهُ إِحْلَالَ جَمِيعِهَا إِلَّا مَا وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [ الْأَنْعَامِ : 145 ] . وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [ الْمَائِدَةِ : 25 ] . فَعَمَّ وَلَمْ يَخُصَّ قَالَ : وَلَئِنْ كَانَ الْمُعْتَبِرُ بِاسْتِطَابَةِ الْعَرَبِ فَهُمْ يَسْتَطِيبُونَ أَكْلَ جَمِيعِهَا سُئِلَ بَعْضُ الْعَرَبِ عَمَّا يَأْكُلُونَ وَمَا يَذَرُونَ ؟ فَقَالَ : نَأْكُلُ كُلَّ مَا دَبَّ وَدَرَجَ إِلَّا أُمَّ حُبَيْنٍ ، فَقِيلَ لَهُ : لِتَهْنَأْ أُمَمُ حُبَيْنٍ الْعَافِيَةَ . وَدَلِيلُنَا مَعَ تَقْرِيرِ الْأَصْلِ الَّذِي حَرَّرْنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [ الْأَعْرَافِ : 175 ] . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِيهَا خَبِيثًا مُحَرَّمًا ، وَطَيِّبًا حَلَالًا ، وَمَالِكٌ جَعَلَ جَمِيعَهَا حَلَالًا طَيِّبًا . وَرَوَى عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ فَجَعَلَ هَذَا فِي التَّحْرِيمِ أَصْلًا مُعْتَبَرًا ، وَمَالِكٌ لَا يَعْتَبِرُهُ ، وَيَجْعَلُ الْكُلَّ حَلَالًا .

وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : خَمْسٌ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ ، الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ وَمَا أُبِيحُ قَتْلُهُ وَلَمْ يَحْرُمْ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ كَانَ حَرَامًا مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [ الْمَائِدَةِ : 25 ] . وَهُوَ انْفِصَالٌ عَنْهَا ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَحَلَّ بَعْضَ الْحَيَوَانِ وَحَرَّمَ بَعْضَهُ ، وَأَغْفَلَ بَعْضَهُ ، فَكَانَ نَصُّهُ مُتَّبَعًا فِي مَا أَحَلَّ وَحَرَمَ ، وَبَقِيَ الْمُغْفَلُ ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَصْلٍ يُعْتَبَرُ فِيهِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ رَدُّهُ إِلَى التَّحْلِيلِ بِأَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إِلَى التَّحْرِيمِ ، وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَحَدُ أَصْلَيْنِ ، إِمَّا الْقِيَاسُ وَإِمَّا عُرْفُ الْعَرَبِ ، وَمَالِكٌ لَا يَعْمَلُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَنَحْنُ نَعْمَلُ عَلَيْهِمَا ، لِأَنَّنَا نَعْتَبِرُ عُرْفَ الْعَرَبِ ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَى الْقِيَاسِ عِنْدَ التَّكَافُؤِ فَكُنَّا فِي اعْتِبَارِ الْأَصْلَيْنِ أَرْجَحَ مِنْهُ فِي تَرْكِ الْأَصْلَيْنِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ [ الْأَنْعَامِ : 145 ] . فِي وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا أَجِدُ فِيمَا نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ مُحَرَّمًا إِلَّا هَذِهِ الْمَذْكُورَةَ ، وَمَا عَدَاهَا مُحَرَّمٌ بِالسُّنَّةِ . وَالثَّانِي : لَا أَجِدُ فِيمَا اسْتَطَابَتْهُ الْعَرَبُ مُحَرَّمًا إِلَّا هَذِهِ الْمَذْكُورَةَ . وَقَوْلُهُ : إِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَسْتَطِيبُ أَكْلَ جَمِيعِهَا ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي جُفَاةِ الْبَوَادِي ، لِجَدْبِ مَوَاضِعِهِمْ فِي الضَّرُورَاتِ ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مِثْلَهُمْ لَا يُعْتَبَرُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَأَحَلَّ الضُّبُوعَ وَلَهَا نَابٌ ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَأْكُلُهَا وَتَدَعُ الْأَسَدَ وَالنَّمِرَ وَالذِّئْبَ تَحْرِيمًا لَهُ بِالتَّقَذُّرِ ، وَكَانَ الْفَرْقُ بَيْنَ ذَوَاتِ الْأَنْيَابِ أَنَّ مَا عَدَا مِنْهَا عَلَى النَّاسِ لِقُوَّتِهِ بِنَابِهِ حَرَامٌ ، وَمَا لَمْ يَعَدُ عَلَيْهِمْ بِنَابِهِ - الضَّبُعُ وَالثَّعْلَبُ وَمَا أَشْبَهَهُمَا - حَلَالٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا نَهْيُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ ، فَهُوَ أَصْلٌ فِي التَّحْرِيمِ دُونَ الْإِبَاحَةِ ، وَقَدْ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي ذَوَاتِ الْأَنْيَابِ مَأْكُولًا ، فَاحْتِيجَ إِلَى تَعْلِيلِ مَا حَرَّمَ بِهِ ذَوَاتَ الْأَنْيَابِ ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى تَعْلِيلِهِ ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَا قَوِيَتْ أَنْيَابُهُ فَعَدَا بِهَا عَلَى الْحَيَوَانِ طَالِبًا لَهُ غَيْرَ مَطْلُوبٍ ، فَكَانَ عَدَاؤُهُ بِأَنْيَابِهِ عِفَّةَ تَحْرِيمِهِ ، وَقَالَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : هُوَ مَا كَانَ عَيْشُهُ بِأَنْيَابِهِ دُونَ غَيْرِهِ ، لَا يَأْكُلُ إِلَّا مَا يَفْرِسُ مِنَ الْحَيَوَانِ ، فَكَانَ عَيْشُهُ بِأَنْيَابِهِ عِلَّةَ تَحْرِيمِهِ ، وَاخْتِلَافُ التَّعْلِيلَيْنِ يُبَيَّنُ فِي التَّفْضِيلِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ مَا فَرَسَ بِأَنْيَابِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَبْتَدِئْ بِالْعَدْوَى ، وَإِنْ عَاشَ بِغَيْرِ أَنْيَابِهِ ، وَهَذِهِ ثَلَاثُ عِلَلٍ ، أَعَمُّهَا عِلَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَوْسَطُهَا عِلَّةُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَخَصُّهَا عِلَّةُ الْمَرْوَزِيِّ ، فَالْأَسَدُ وَالذِّئْبُ وَالْفَهْدُ وَالنَّمِرُ حَرَامٌ ، لِوُجُودِ الْعِلَلِ الثَّلَاثِ فِيهَا ، لِأَنَّهَا تَبْتَدِئُ الْعَدْوَى بِقُوَّةِ أَنْيَابِهَا وَتَعِيشُ بِفْرِيسَةِ أَنْيَابِهَا ، وَكَذَلِكَ أَمْثَالُهَا مِمَّا اجْتَمَعَتْ فِيهِ الْعِلَلُ الثَّلَاثُ . فَأَمَّا الضَّبُعُ فَحَلَالٌ عِنْدَنَا ، لِعَدَمِ الْعِلَّتَيْنِ فِيهِ ، لِأَنَّهُ لَا يَبْتَدِئُ بِالْعَدْوَى ، وَقَدْ يَعِيشُ بِغَيْرِ أَنْيَابِهِ . وَقِيلَ : إِنَّهُ مِنْ أَحْمَقِ الْحَيَوَانِ ، لِأَنَّهُ يَتَنَاوَمُ حَتَّى يُصْطَادَ . وَقَالَ مَالِكٌ : هُوَ حَرَامٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : مَكْرُوهٌ ، وَالْمَكْرُوهُ عِنْدَهُ مَا يَأْثَمُ بِأَكْلِهِ ، وَلَا يَقْطَعُ بِتَحْرِيمِهِ ، احْتِجَاجًا بِنَهْيِهِ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ ، وَهُوَ ذُو نَابٍ يَفْرِسُ بِهِ ، وَلِأَنَّ مَا فَرَسَ بِأَنْيَابِهِ حَرُمَ أَكْلُهُ كَالسِّبَاعِ . وَدَلِيلُنَا : مَعَ التَّعْلِيلِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ : مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ ابْنِ أَبِي عَمَّارٍ قَالَ : قُلْتُ لِجَابِرٍ : أَرَأَيْتَ الضَّبُعَ أَصَيْدٌ هُوَ ؟ قَالَ :

نَعَمْ قُلْتُ : أَيُؤْكَلُ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قُلْتُ : أَسَمِعْتَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : نَعَمْ وَهَذَا نَصٌّ وَقَدْ وَرَدَ عَنِ الصَّحَابَةِ فِيهِ مَا صَارَ فِي الْحُجَّةِ كَالْإِجْمَاعِ ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا قَالَا : الضَّبُعُ حكم أكل حَلَالٌ ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ الضَّبُعُ شَاةٌ مِنَ الضَّأْنِ ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ : الضَّبُعُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ دَجَاجَةٍ سَمِينَةٍ ، وَقَدِ انْتَشَرَ هَذَا عَنْهُمْ وَلَمْ يَظْهَرْ مُخَالِفٌ لَهُمْ ، فَكَانَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعًا ، أَوْ حُجَّةً فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَلِيلٌ ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَا يُنَجَّسُ بِالذَّبْحِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَحِلَّ أَكْلُهُ كَالنَّعَمِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْخَبَرِ ، فَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّعْلِيلِ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ قِيَاسُهُمْ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّبُّ حكم أكل فَهُوَ عِنْدُنَا حَلَالٌ ، وَعِنْدَ مَالِكٍ حَرَامٌ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَكْرُوهٌ ، وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِرِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : أُتِيَ بِالضَّبِّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَهُ ، وَقَالَ : لَا أَدْرِي لَعَلَّهَا مِنَ الْقُرُونِ الَّتِي مُسِخَتْ . وَاحْتَجَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : مَا تَرَى فِي الضَّبِّ فَقَالَ : لَسْتُ آكُلُهِ وَلَا أُحَرِّمُهُ . وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُمَا دَخَلَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْتَ مَيْمُونَةَ فَأُتِيَ بِضَّبٍّ مَحْنُوذٍ ، فَأَهْوَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ ، فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ لِمَيْمُونَةَ أَخْبِرِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ ، فَقَالُوا : هُوَ ضَبٌّ ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ ، فَقُلْتُ : أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ : لَا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي ، فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ ، قَالَ خَالِدٌ : فَأَجْرَرْتُهُ وَأَكَلْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْتَ مَيْمُونَةَ ، وَمَعَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ، فَإِذَا خَبَّابٌ ، فَقَالَ : مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا ، فَقَالَتْ : أَهْدَتْ إِلَيَّ أُخْتِي ؟ فَقَالَ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، وَلِابْنِ

عَبَّاسٍ : كُلَا ، قَالَا : وَلَا يَأْكُلُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : إِنِّي تَحْضُرُنِي مِنَ اللَّهِ حَاضِرَةٌ . وَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ نَصٌّ عَلَى الْإِبَاحَةِ ، وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ أَحَدَهُمَا ، وَهُوَ لَهُ أَلْزَمُ ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى التَّحْرِيمِ ، وَإِنَّمَا فِيهَا امْتِنَاعٌ مِنَ الْأَكْلِ . وَقَدْ رَوَى أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ ، عَنْ يَزِيدَ الْأَصَمِّ ، أَنَّهُ أَنْكَرَ الرِّوَايَةَ ، أَنَّهُ قَالَ : لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ ، وَقَالَ : مَا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا مُحَلِّلًا وَمُحَرِّمًا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْأَرْنَبُ أكل فَحَلَالٌ : لِأَنَّهُ لَا عَدْوَى فِيهِ ، وَيَعِيشُ بِغَيْرِ أَنْيَابِهِ ، وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ قَالَ : قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : مَنْ حَاضَرَنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا ، فَقَالَ أَبُو ذَرٌّ : أَنَا شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِأَرْنٍ ، فَقَالَ لِلَّذِي جَاءَهُ بِهَا : رَأَيْتُهَا كَأَنَّهَا تَدْمَى ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْكُلْ وَقَالَ لِلْقَوْمِ كُلُوا . وَرَوَى صَفْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، أَوْ مُحَمَّدُ بْنُ صَفْوَانَ قَالَ : اصْطَدْتُ أَرْنَبَيْنِ فَذَبَحْتُهُمَا بِمَرْوَةَ - يَعْنِي بِحَجَرٍ - وَسَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا فَأَمَرَنِي بِأَكْلِهِمَا . فَأَمَّا الثَّعْلَبُ أكل فَهُوَ حَلَالٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ مَكْرُوهٌ كَالضَّبْعِ ، لِأَنَّهُ يَفْرِسُ بِنَابِهِ ، وَهُوَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّعْلِيلَيْنِ مُبَاحٌ ، لِأَنَّهُ لَا عَدْوَى فِيهِ ، وَقَدْ يَعِيشُ بِغَيْرِ أَنْيَابِهِ . وَأَمَّا ابْنُ آوَى حكم أكل فَفِي إِبَاحَتِهِ أَكْلَهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُؤْكَلُ ، وَهُوَ مُقْتَضَى تَعْلِيلِ الشَّافِعِيِّ ، لِأَنَّهُ لَا يَبْتَدِئُ بِالْعَدْوَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُؤْكَلُ ، وَهُوَ مُقْتَضَى تَعْلِيلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، لِأَنَّهُ يَعِيشُ بِأَنْيَابِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْيَرْبُوعُ أكل فَيُؤْكَلُ ، وَقَدْ حَكَمَ فِيهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى الْمُحَرَّمِ بِحُفْرَةٍ ، وَقِيلَ : إِنَّهُ فَأْرُ الْبَرِّ فَيُؤْكَلُ ، وَإِنْ لَمْ يُؤْكَلْ فَأْرُ الْمُدُنِ ، قَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِ الْفَأْرَةِ ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِ الْيَرْبُوعِ .

فَأَمَّا السِّنَّوْرُ فَضَرْبَانِ : أَهْلِيٌّ وَوَحْشِيٌّ . فَأَمَّا الْأَهْلِيُّ فَحَرَامٌ لَا يُؤْكَلُ ، لِرِوَايَةِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ أَكْلِ السِّنَّوْرِ ، وَعَنْ أَكْلِ ثَمَنِهَا ، وَلِأَنَّهَا تَأْكُلُ حَشَرَاتِ الْأَرْضِ ، فَكَانَتْ مِنَ الْخَبَائِثِ . وَأَمَّا السِّنَّوْرُ الْبَرِّيُّ حكم أكل فَفِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ وَجْهَانِ كَابْنِ آوَى : أَحَدُهُمَا : يُؤْكَلُ وَهُوَ مُقْتَضَى تَعْلِيلِ الشَّافِعِيِّ ، لِأَنَّهُ لَا يَبْتَدِئُ بِالْعَدْوَى . وَالثَّانِي : لَا يُؤْكَلُ ، وَهُوَ مُقْتَضَى تَعْلِيلِ الْمَرْوَزِيِّ ، لِأَنَّهُ يَعِيشُ بِأَنْيَابِهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَيُؤْكَلُ الْوَبْرُ وَالْقُنْفُذُ وَالْوَبْرُ دُوَيْبَةٌ سَوْدَاءُ أَكْبَرُ مِنِ ابْنِ عِرْسٍ . وَفِي أَكْلِ ابْنِ عِرْسٍ حكم أكل وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُؤْكَلُ ، عَلَى مُقْتَضَى تَعْلِيلِ الشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِي : لَا يُؤْكَلُ ، عَلَى مُقْتَضَى تَعْلِيلِ الْمَرْوَزِيِّ . فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ أَبَحْتُمْ أَكْلَ الْقُنْفُذِ أكل ؟ وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهَا ذُكِرَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : خَبِيثَةٌ مِنَ الْخَبَائِثِ .

قِيلَ : يُحْتَمَلُ إِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهَا خَبِيثَةُ الْفِعْلِ دُونَ اللَّحْمِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِخْفَاءِ رَأْسِهِ عِنْدَ التَّعَرُّضِ لِذَبْحِهِ ، وَإِبْدَاءِ شَوْكِهِ عِنْدَ أَخْذِهِ . فَأَمَّا أُمُّ حُبَيْنٍ أكل فَفِي إِبَاحَةِ أَكْلِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تُؤْكَلُ ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ تَعْلِيلِ الشَّافِعِيِّ ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ فِيهِ الْجَزَاءَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا لَا تُؤْكَلُ ، وَهُوَ مُقْتَضَى تَعْلِيلِ الْمَرْوَزِيِّ ، وَقَدْ قَالَ فِيهَا الْبَدَوِيُّ مَا قَالَ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا أَكْلُ الْحَمِيرِ ، فَمَا كَانَ مِنْهَا وَحَشِيًّا فَأَكْلُهُ حَلَالٌ ، رَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ مَازِنٍ ، عَنْ مَعْمَرِ بْنِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قُبَالَةَ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : بَيْنَمَا أَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْحُدَيْبِيَّةِ ، وَقَدْ أَحْرَمُ مَنْ أَحْرَمَ مِنْ أَصْحَابِي ، وَلَمْ أُحْرِمْ ، فَإِذَا أَنَا بِحِمَارٍ وَحْشِيٍّ ، فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي فَصَرَعْتُهُ فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهِ ، ثُمَّ لَحِقْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ : أَصَبْتُ حِمَارًا وَحَشِيًّا وَعِنْدِي مِنْهُ فَأَكَلَهُ ، وَقَالَ لِلْقَوْمِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ : كُلُوا فَأَكَلُوا . فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ : عَلَى إِبَاحَةِ أَكْلِ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ زَكَاةَ الصَّيْدِ الْمُمْتَنِعِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ أُصِيبَ مِنْ جَسَدِهِ ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ صَيْدِ الْمُحْرِمِ إِذَا لَمْ يَصِدْهُ لِأَجْلِهِ . وَرَوَى الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ قَالَ : أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرِجْلِ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ ، فَرَدَّهُ عَلَيَّ فَتَعَمَّرَ وَجْهِي ، فَلَمَّا عَرَفَ الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِي قَالَ : مَا بِنَا رَدٌّ عَلَيْكَ ، وَلَكُنَّا قَوْمٌ حُرُمٌ ، فَامْتَنَعَ مِنْ أَكْلِهِ لِإِحْرَامِهِ ، فَإِنَّ الصَّعْبَ صَادَهُ لِأَجْلِهِ بَعْدَ إِحْلَالِهِ مِنَ الْإِحْرَامِ . وَفِي قَوْلِ الصَّعْبِ : رِجْلِ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَعْنِي بِهِ أَحَدَ رِجْلَيْهِ الَّتِي يَمْشِي عَلَيْهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ جَمَاعَةَ حَمِيرٍ يُقَالُ لَهَا : رِجْلٌ ، كَمَا يُقَالُ حَيْطُ نَعَامٍ ، وَسِرْبُ ظِبَاءٍ ، وَهُوَ أَشْبَهُ ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُقْصَدُ وَهُوَ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ بِهَدِيَّةِ عُضْوٍ مِنْ حِمَارٍ . فَأَمَّا الْحَمِيرُ الْأَهْلِيَّةُ فَأَكْلُهَا حَرَامٌ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، هَلْ حُرِّمَتْ بِاسْتِخْبَاثِ الْعَرَبِ لَهَا أَوْ بِالنَّصِّ فِي الْمَنْعِ مِنْهَا : عَلَى وَجْهَيْنِ ، وَبِتَحْرِيمِهَا . قَالَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : أَكْلُهَا حَلَالٌ احْتِجَاجًا بِحَدِيثٍ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ مِسْعَرٍ ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ ، عَنْ أَبِي مَعْقِلٍ قَالَ : " أَخْبَرَنَا رَجُلَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ قَالَا : قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّهُ لَمْ تُبْقِ لَنَا الشِّدَّةُ إِلَّا الْحُمُرَ ، أَفَنَأْكَلُ مِنْهَا ؟ فَقَالَ : أَطْعِمَا أَهْلَكُمَا مِنْ سَمِينٍ ، فَإِنِّي إِنَّمَا قَدَرْتُ عَلَيْكُمْ بِجُوَالِ الْقُرْبَةِ " ، يَعْنِي : أَكَلَةَ الزِّبْلِ وَالْعَذِرَةِ .

قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا أَعْرِفُ مِنْ ثُبُوتِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الِانْفِرَادِ مَا أَعْرِفُ مِنْ ثُبُوتِ نَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَأُحَرِّمُهَا . وَنَهْيُهُ عَنْهَا دَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَةِ الْحُمُرِ الْوَحْشِيَّةِ ، لِأَنَّهُ إِذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ يَجْمَعُ صِنْفَيْنِ ، فَقَدْ أَبَاحَ مَا يَخْرُجُ عَنْ صِنْفِهِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : صَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْبَرَ بُكْرَةً ، وَقَدْ خَرَجُوا بِالشَّاةِ مِنَ الْحِصْنِ ، فَلَمَّا رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا : مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ ، ثُمَّ لَجُّوا إِلَى الْحِصْنِ ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَيْهِ ثَلَاثًا ، وَقَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ ، فَلَمَّا فَتَحُوهَا أَصَابُوا حُمُرًا فَطَبَخُوا مِنْهَا ، فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَلَا إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَاكُمْ عَنْهَا ، فَإِنَّهَا رِجْسٌ ، فَكَفُّوا الْقُدُورَ وَإِنَّهَا لَتَفُورُ . فَاحْتَمَلَ مَا حَكَمُوا بِهِ مِنْ أَكْلِهَا ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَطِيبُونَهَا كَالْحُمُرِ الْوَحْشِيَّةِ ، حَتَّى نُهُوا عَنْهَا بِالنَّصِّ . وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونُوا هَمُّوا بِذَلِكَ لِمَجَاعَةٍ لَحِقَتْهُمْ حَتَّى نُهُوا عَنْهَا بِالْفَتْحِ ، فَلِذَلِكَ مَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا لَحْمُ الْخَيْلِ حكم أكل فَأَكْلُهَا حَلَالٌ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا كُلُّ مَا لَزِمَهُ اسْمُ الْخَيْلِ مِنَ الْعِرَابِ وَالْمَقَادِيفِ وَالْبَرَاذِينِ ، فَأَكْلُهَا حَلَالٌ . وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَأَحْمَدُ وَمُحَمَّدٌ وَإِسْحَاقُ ، وَقَالَ مَالِكٌ : كُلُّهَا حَرَامٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : مَكْرُوهٌ ، احْتِجَاجًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً [ النَّحْلِ : 8 ] . فَكَانَ فِي تَحْرِيمِ أَكْلِهَا دَلِيلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَخْصِيصُ مَنْفَعَتِهَا بِالرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ ، فَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ مَا عَدَاهُ . وَالثَّانِي : ضَمَّهَا إِلَى مَا حَرُمَ أَكْلُهُ مِنَ الْحَمِيرِ ، وَبِرِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، قَالَ : خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى خَيْبَرَ ، فَأَتَتْهُ الْيَهُودُ ، فَشَكَوْا أَنَّ النَّاسَ قَدْ أَسْرَعُوا إِلَى حَظَائِرِهِمْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَلَا لَا تَحِلُّ أَمْوَالُ الْمُعَاهِدِينَ إِلَّا بِحَقِّهَا ، وَحَرَامٌ عَلَيْكُمْ حُمُرُ الْأَهْلِيَّةِ وَخَيْلُهَا وَبِغَالُهَا . وَهَذَا نَصٌّ قَالُوا : وَلِأَنَّهُ ذُو حَافِرٍ أَهْلِيٍّ ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ أَكْلُهُ كَالْحَمِيرِ ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يُسْهَمُ لَهُ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحِلَّ أَكْلُهُ كَالْآدَمِيِّينَ . وَدَلِيلُنَا : مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : أَطْعَمَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لُحُومَ الْخَيْلِ ، وَنَهَانَا عَنْ لُحُومِ الْحَمِيرِ وَهَذَا نَصٌّ .

وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ هَاشِمِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ ، قَالَتْ : نَحَرْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلْنَاهُ . وَلِأَنَّهَا بَهِيمَةٌ لَا تُنْجُسُ بِالذَّبْحِ ، فَلَمْ يَحْرُمْ أَكْلُهَا كَالنَّعَمِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ تَعْيِينَ بَعْضِ مَنَافِعِهَا بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا عَدَاهُ ، كَمَا لَا يَحْرُمُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ خَصَّ الرُّكُوبَ فِي الْخَيْلِ ، وَلُحُومُ الْخَيْلِ لَيْسَتْ بِخَيْلٍ ، وَلَيْسَ جَمْعُهُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَمِيرِ مُوجِبًا لِتَسَاوِيهِمَا فِي التَّحْرِيمِ ، كَمَا لَمْ يَتَسَاوَيَا فِي السَّهْمِ مِنَ الْمَغْنَمِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ فِي الْخَبَرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : ضَعْفُ الْحَدِيثِ ، لِأَنَّ الْوَاقِدِيَّ حَكَى أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَسْلَمَ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ حَرَّمَ أَخْذَهَا مِنْ أَهْلِهَا بِالْعَهْدِ وَلَمْ يُرِدْ تَحْرِيمَ اللَّحْمِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْقِيَاسَيْنِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا يَدْفَعَانِ النَّصَّ فَأُطْرِحَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْعُرْفَ لَمَّا جَرَى بِأَكْلِ الْخَيْلِ ، وَلَمْ يَجْرِ عُرْفٌ بِأَكْلِ الْآدَمِيِّينَ وَالْحَمِيرِ فَافْتَرَقَا فِي الْحُكْمِ ، وَامْتَنَعَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي التَّحْرِيمِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْبِغَالُ فَأَكْلُهَا حَرَامٌ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : حَلَالٌ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْإِبَاحَةِ فِي الْخَيْلِ . وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : وَحَرَامٌ عَلَيْكُمْ لُحُومُ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَخَيْلُهَا وَبِغَالُهَا وَلِأَنَّ اجْتِمَاعَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ يُوجِبُ تَغْلِيبَ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ ، فَوَجَبَ فَيَ الْبِغَالِ أَنْ يُغَلَّبَ تَحْرِيمُ الْحَمِيرِ عَلَى إِبَاحَةِ الْخَيْلِ ، وَهَكَذَا حُكْمُ كُلِّ مُتَوَلَّدٍ مِنْ بَيْنِ مَأْكُولٍ وَغَيْرِ مَأْكُولٍ حَرَامٌ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ التَّحْرِيمِ عَلَى التَّحْلِيلِ كَالسِّمْعِ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الضَّبُعِ وَالذِّئْبِ كَمَا أَنَّ كُلَّ مُتَوَلَّدٍ مِنْ بَيْنِ طَاهِرٍ وَنَجِسٍ ، فَهُوَ نَجِسٌ ، وَكُلَّ حَيَوَانٍ كَانَ أَكْلُ لَحْمِهِ حَرَامًا كَانَ شُرْبُ لَبَنِهِ حَرَامًا إِلَّا أَلْبَانَ النِّسَاءِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَكَذَلِكَ تَتْرُكُ أَكْلَ النَّسْرِ وَالْبَازِي وَالصَّقْرِ وَالشَّاهِينِ حكم ، وَهِيَ مِمَّا يَعْدُو عَلَى حَمَامِ النَّاسِ وَطَائِرِهِمْ ، وَكَانَتْ تَتْرُكُ مِمَّا لَا يَعْدُو مِنَ الطَّائِرِ الْغُرَابَ وَالْحِدَأَةَ وَالرَّخْمَةَ وَالْبُغَاثَةَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْبَهَائِمِ الْمَاشِيَةِ مِنَ الْوَحْشِيَّةِ وَالْإِنْسِيَّةِ . فَأَمَّا الطَّيْرُ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا فِيهِ عَدْوَى عَلَى الطَّائِرِ بِمِخْلَبِهِ وَافْتِرَاسٌ لَهُ بِمَنْسِرِهِ ، كَالْبَازِي وَالصَّقْرِ وَالشَّاهِينِ وَالنَّسْرِ وَالْحِدَأَةِ وَالْعُقَابِ ، فَأَكْلُ جَمِيعِهَا حَرَامٌ ، وَأَبَاحَهَا مَالِكٌ ، وَلَمْ يُحَرِّمْ مِنَ الطَّائِرِ كُلِّهِ شَيْئًا .

وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلَيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَرِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ ، وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : يُؤْكَلُ مَا دَفَّ وَلَا يُؤْكَلُ مَا صَفَّ ، يُرِيدُ مَا حَرَّكَ جَنَاحَهُ كَالْحَمَامِ وَغَيْرِهِ يُؤْكَلُ ، وَمَا صَفَّ جَنَاحَيْهِ ، وَلَمْ يُحَرِّكْهُمَا كَالصُّقُورِ وَالنُّسُورِ ، لَا يُؤْكَلُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ [ تَبَارَكَ : 19 ] . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا لَا عَدْوَى فِيهِ ، فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا اغْتَذَى بِالْمَيْتَةِ وَالْجِيَفِ كَالْبُغَاثِ وَالرَّخْمِ ، فَأَكْلُهَا حَرَامٌ ، لِخُبْثِ غِذَائِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا كَانَ مُسْتَخْبَثًا كَالْخَطَاطِيفِ وَالْخَشَاشِيفِ ، فَأَكْلُهُ حَرَامٌ ، لِخُبْثِ لَحْمِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا لَمْ يَخْبُثْ غِذَاؤُهُ ، وَلَا لَحْمُهُ كَالْحُبَارَى وَالْكَرَوَانِ ، فَأَكْلُهُ حَلَالٌ . رَوَى سَفِينَةُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : أَكَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَحْمَ حُبَارَى . وَيُقَاسُ عَلَى أَصْلِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ - مَا فِي نَظَائِرِهَا ، فَمِنْ ذَلِكَ الْهُدْهُدُ أَكْلُهُ حَرَامٌ ، وَقَدْ وَرَدَ الْخَبَرُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ ، وَكَذَلِكَ الشَّقْرَاقُ وَالْعَقْعَقُ : لِأَنَّهَا مُسْتَخْبَثَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ ، فَأَمَّا الْغُرَابُ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ ؛ الْأَسْوَدُ مِنْهُ وَالْأَبْقَعُ سَوَاءٌ . وَحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ أَبَاحَ أَكْلَهُ ، وَقَالَ : مِنْ دَجَاجَةٍ مَا أَسَمَنَهَا ؟ وَقَالَ آخَرُونَ : يُؤْكَلُ مِنْهُ الْأَسْوَدُ دُونَ الْأَبْقَعِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَاحَ قَتْلَهُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ . وَقَدْ رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : إِنِّي لِأَعْجَبُ مِمَنْ يَأْكُلُ

الْغُرَابَ ، وَقَدْ أَذِنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَتْلِهِ لِلْمُحْرِمِ وَسَمَّاهُ فَاسِقًا ، وَاللَّهِ مَا هُوَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ . وَمَا يُشْبِهُ الْغُرَابَ ، وَلَيْسَ بِغُرَابٍ الزَّاغُ وَالْغُدَافُ ، فَأَمَّا الزَّاغُ فَهُوَ غُرَابٌ الزَّرْعِ ، وَأَمَّا الْغُدَافُ فَهُوَ أَصْغَرُ مِنْهُ أَغْبَرُ اللَّوْنِ كَالرَّمَادِ ، وَلِأَصْحَابِنَا فِي إِبَاحَةِ أَكْلِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَكْلَهَا حَرَامٌ ، لِشَبَهِهَا بِالْغُرَابِ ، وَانْطِلَاقِ اسْمِهِ عَلَيْهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَمِنْهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَنَّ أَكْلَهَا حَلَالٌ ، لِأَنَّهُمَا يَلْقُطَانِ الْحَبَّ ، وَيَأْكُلَانِ الزَّرْعَ وَلَحْمُهُمَا مُسْتَطَابٌ ، وَكُلُّ طَائِرٍ حَرُمَ أَكْلُ لَحْمِهِ حَلَّ أَكْلُ بَيْضِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَكَذَلِكَ تَتْرُكُ الْعَرَبُ اللُّحَكَاءَ وَالْعِظَاءَ وَالْخَنَافِسَ ، فَكَانَتْ دَاخِلَةً فِي مَعْنَى الْخَبَائِثِ وَخَارِجَةً مِنْ مَعْنَى الطَّيِّبَاتِ فَوَافَقَتِ السُّنَّةَ فِيمَا أَحَلُّوا وَحَرَّمُوا مِعَ الْكِتَابِ مَا وَصَفْتُ ، فَانْظُرْ مَا لَيْسَ فِيهِ نَصُّ تَحْرِيمٍ وَلَا تَحْلِيلٍ ، فَإِنْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَأْكُلُهُ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ الْحَلَالِ وَالطَّيِّبَاتِ عَنْدَهُمْ : لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُحَلِّلُونَ مَا يَسْتَطِيبُونَ وَمَا لَمْ يَكُونُوا يَأْكُلُونَهُ بِاسْتِقْذَارِهِ ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى الْخَبَائِثِ ، وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ الضَّبِّ ، وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَافَهُ ، فَقِيلَ : أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لَا وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأُكِلَ مِنْهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا تَرَكَهُ وَأَكَلَهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، حَشَرَاتُ الْأَرْضِ وَهَوَامُّهَا حكم أكل حَرَامٌ ، فَالْهَوَامُّ مَا كَانَ مُؤْذِيًا كَالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ ، وَحَشَرَاتُهَا مَا لَيْسَ بِمُؤْذٍ ، كَالْخَنَافِسِ ، وَالْجُعْلَانِ ، وَالدِّيدَانِ وَالنَّمْلِ ، وَالْوَزَغِ وَالْعِظَاءِ ، وَاللُّحَكَاءِ وَهِيَ دُوَيْبَةٌ كَالسَّمَكَةِ تَسْكُنُ فِي الرِّمَالِ إِذَا أَحَسَّتْ بِالْإِنْسَانِ غَاصَتْ فِيهِ ، وَهِيَ صَقِيلَةُ الْجِلْدَةِ ، وَالْعَرَبُ تُشَبِّهُ أَنَامِلَ الْمَرْأَةِ بِهَا ، وَالْوَزَعُ وَهُوَ كَالسَّمَكَةِ خَشِنَةُ الْجِلْدِ ، وَيَعْرُضُ مُقَدَّمُهَا ، وَيَدُقُّ مُؤَخَّرُهَا ، فَهَذَا كُلُّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ .

وَأَبَاحَ مَالِكٌ أَكْلَ جَمِيعِهِ ، وَكَرِهَ الْحَيَّةَ ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا ، وَكَذَلِكَ الْفَأْرَةَ وَالْغُرَابَ ، وَفِيمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ مَعَهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَقْنَعٌ ، وَسَوَاءٌ فِي تَحْرِيمِ الدِّيدَانِ مَا تَوَّلَدَ فِي الطَّعَامِ أَوْ فِي الْأَرْضِ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ أَبَاحَ أَكْلَ مَا تَوَلَّدَ فِي الطَّعَامِ ، وَحَرَّمَ أَكْلَ مَا تَوَّلَدَ فِي الْأَرْضِ ، وَكِلَاهُمَا مُسْتَخْبَثٌ ، فَاسْتَوَيَا . وَهَكَذَا الذُّبَابُ وَالزَّنَابِيرُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ زَنَابِيرِ الْعَسَلِ وَغَيْرِهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ عَسَلُهَا مَأْكُولًا ، فَهَلَّا كَانَ أَكْلُهَا حَلَالًا ؟ قِيلَ : هِيَ مُسْتَخْبَثَةٌ وَمُؤْذِيَةٌ ، وَلَيْسَ يُمْتَنَعُ أَنْ يَحْرُمَ أَكْلُهَا ، وَإِنْ حَلَّ عَسَلُهَا كَأَلْبَانِ النِّسَاءِ فِي إِبَاحَةِ شُرْبِهِ مَعَ تَحْرِيمِ لُحُومِهِنَّ : فَأَمَّا مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ ، فَيَكْثُرُ تَعْدَادُهُ ، وَهُوَ مَا يَمْنَعُ الْحَرَمُ وَالْإِحْرَامُ مِنْ قَتْلِهِ وَفِيهِ إِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ الْجَزَاءُ إِلَّا يَسْمَعَ . وَمَا تَوَّلَدَ مِنْ بَيْنِ مَأْكُولٍ وَغَيْرِ مَأْكُولٍ ، فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ ، وَيَجِبُ فِيهِ الْجَزَاءُ ، تَغْلِيبًا لِلْحَظْرِ فِي الْأَمْرَيْنِ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْقَاصِّ : لَا جَزَاءَ فِيهِ ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ ، وَوَهِمَ فِيهِ ، لِأَنَّ تَغْلِيبَ الْحَظْرِ مُوجِبُهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

فَصْلٌ : رَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ أَكْلِ الْجَلَّالَةِ وَأَلْبَانِهَا وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ الْجَلَّالَةِ وَالْمُجَثَّمَةِ وَعَنِ الْمَصْبُورَةِ . فَأَمَّا الْجَلَّالَةُ فَهِيَ الَّتِي تَرْعَى الْجِلَّةَ ، وَهِيَ الْبَعْرُ وَالْعَذِرَةُ ، فَحَمَلَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ النَّهْيَ عَلَى التَّحْرِيمِ ، وَبِهِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ . وَعِنْدِي أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ دُونَ التَّحْرِيمِ ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهَا وَارِدٌ ، لِأَجْلِ مَا تَأْكُلُهُ مِنَ الْأَنْجَاسِ ، وَهِيَ تِغْتَذِيهِ فِي كِرْشِهَا ، وَالْعَلْفُ الطَّاهِرُ يَنْجُسُ فِي الْكِرْشِ ، فَسَاوَى فِي حُصُولِهِ مِنْهُ حَالَ النَّجَسِ ، وَلِأَنَّ لُحُومَ مَا تَرْعَى الْأَنْجَاسَ نَتِنٌ ، وَأَكْلُ اللَّحْمِ إِذَا نَتِنَ يَحْرُمُ ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَكُلَّمَا كَانَ أَكْثَرُ غِذَائِهِ رَعْيَ الْأَنْجَاسِ كَانَ أَكْلُ لَحَمِهِ وَشُرْبُ لَبَنِهِ مَكْرُوهًا . فَأَمَّا رُكُوبُهُ فَيُكْرَهُ إِذَا كَانَ عُرْيًا لِنَتَنِ عَرَقِهِ ، وَلَا يُكْرَهُ إِذَا كَانَ مُوَكَّفًا أَوْ مُسَرَّجًا ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مَا يَغْتَذِيهِ طَاهِرًا ، وَإِنِ اغْتَذَى فِي بَعْضِهَا نَجِسًا لَمْ يُكْرَهِ اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ ، وَيُخْتَارُ فِي الْجَلَّالَةِ إِذَا أُرِيدَ شُرْبُ لَبَنِهَا أَوْ أَكْلُ لَحْمِهَا أَنْ تُحْبَسَ عَنِ الْأَقْذَارِ بِالْعَلَفِ الطَّاهِرِ فِي الْبَعِيرِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، وَفِي الْبَقَرَةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ، وَفِي الشَّاةِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ ، وَفِي الدَّجَاجَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَقَادِيرُ تَوْقِيفًا لَا يُزَادُ عَلَيْهِ ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ زَوَالُ مَا أَنْتَنَ مِنْ أَبْدَانِهَا ، وَالْأَغْلَبُ أَنَّهَا تَزُولُ بِهَذِهِ الْمَقَادِيرِ ، فَإِنْ زَالَتْ بِأَقَلَّ مِنْهَا زَالَتِ الْكَرَاهَةُ ، وَإِنْ لَمْ تَزَلْ فِيهَا بَقِيَتِ الْكَرَاهَةُ حَتَّى تَزُولَ مِمَّا زَادَ عَلَيْهَا ، فَإِنْ أُكِلَ

مِنْهَا قَبْلَ عَلْفِهَا نُظِرَ فِي رَائِحَةِ لَحْمِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِأَكْلِ النَّجَاسَةِ كَانَ حَلَالًا ، وَإِنْ تَغَيَّرَ بِهَا فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَمْ يَسْتَوْعِبْ رَائِحَةَ تِلْكَ النَّجَاسَةِ حَلَّ أَكْلُهُ ، وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً قَدِ اسْتَوْعَبَتْ رَائِحَةَ تِلْكَ النَّجَاسَةِ أَوْ قَارَبَهَا ، فَفِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَحَدُهُمَا : مُبَاحٌ ، لِأَنَّهُ مِنْ أَصْلٍ مَأْكُولٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ حَرَامٌ ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مِنَ الْخَبَائِثِ ، وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الْجَدْيِ إِذَا ارْتَضَعَ مِنْ لَبَنِ كَلْبَةٍ أَوْ خِنْزِيرَةٍ حَتَّى نَبَتَ لَهُ لَحْمُهُ كَانَتْ إِبَاحَةُ أَكْلِهِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ : فَأَمَّا الْمُجَثَّمَةُ الَّتِي رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ النَّهْيَ عَنْهَا ، فَهِيَ الَّتِي جَثَمَتْ عَلَى الْمَوْتِ بِضَرْبٍ أَوْ غَيْرِهِ ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الصَّيْدِ الْجَاثِمِ وَالْمَجْثُومِ ، فَالْجَاثِمُ الْمُمْتَنِعُ ، وَيَحِلُّ أَكْلُهُ إِذَا جَثَمَ بِحَدِيدَةٍ ، وَالْمَجْثُومُ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ إِلَّا بِذَكَاةٍ . وَالْمَصْبُورَةُ : هِيَ الَّتِي حُبِسَتْ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ حَتَّى مَاتَتْ ، وَلَا يَحِلُّ أَكْلُهَا فِي مُمْتَنَعٍ ، وَلَا مَقْدُورٍ عَلَيْهِ . وَأَمَّا الْمُخْتَطَفَةُ فَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا اخْتَطَفَهُ السَّبُعُ مِنَ الْحَيَوَانِ حكم أكل أَكْلُهُ حَرَامٌ ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا النُّهْبَةُ لِاخْتِطَافِهَا بِسُرْعَةٍ وَمِنْهُ سُمِّي الْخُطَّافُ لِسُرْعَتِهِ ، قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : لَا تَتَّخِذُوا ذَا الرُّوحِ غَرَضًا وَهُوَ رَمْيُ الْحَيَوَانِ حَتَّى يَمُوتَ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ حَرُمَ أَكْلُهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ مُمْتَنِعٍ حَلَّ أَكْلُهُ ، إِنْ كَانَ بِمُحَدَّدٍ ، وَحَرُمَ إِنْ كَانَ بِمُثْقَلٍ .


فَصْلٌ : فَأَمَّا أَكْلُ الْأَجِنَّةِ تكون في بطن البهائم ، وَهُوَ أَنْ تُذْبَحَ الْبَهِيمَةُ ، فَيُوجَدَ فِي بَطْنِهَا جَنِينٌ ، فَإِنْ كَانَ حَيًّا مَقْدُورًا عَلَى ذَكَاتِهِ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ إِلَّا بِالذَّكَاةِ ، وَإِنْ كَانَ مَيْتًا أَوْ حَيًّا قَصُرَتْ مُدَّةُ حَيَّاتِهِ عَنْ ذَكَاتِهِ ، حَلَّ أَكْلُهُ بِذَكَاةِ أُمِّهُ ، وَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، وَقَالَهُ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ ، وَتَفَرَّدَ أَبُو حَنِيفَةَ فَحَرَّمَ أَكْلَهُ احْتِجَاجًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [ الْمَائِدَةِ : 3 ] . وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ : الْمَيْتَتَانِ : الْحُوتُ وَالْجَرَادُ ، وَالدَّمَانِ : الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ ، وَهَذِهِ مَيْتَةٌ ثَالِثَةٌ : يُوجِبُ الْخَبَرُ أَنْ تَكُونَ مُحَرَّمَةً ، وَلِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يُذَكَّى ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحِلَّ إِلَّا بِالذَّكَاةِ كَالْأُمِّ ، وَلِأَنَّهُ ذَبْحٌ وَاحِدٌ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ ذَكَاةُ الِاثْنَيْنِ كَمَا لَوْ خَرَجَ الْجَنِينُ حَيًّا ، وَلِأَنَّ مَا كَانَ مَوْتُهُ ذَكَاةً فِي غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ كَانَ مَوْتُهُ ذَكَاةً فِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ ، وَمَا لَمْ يَكُنْ مَوْتُهُ ذَكَاةً فِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ ذَكَاةً فِي غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ كَالصَّيْدِ وَالنَّعَمِ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَوْتُ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنَ الْأَجِنَّةِ ذَكَاةً لَمْ يَكُنْ مَوْتُ غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ ذَكَاةً ،

وَلِأَنَّ الْعَقْرَ مِنْ جَمِيعِ الْمُذَكَّى مُعْتَبَرٌ ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ فِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ وَغَيْرِهِ بِاخْتِلَافِ الْمَحَلِّ ، وَلَا يَخْتَلِفُ بِاعْتِبَارِهِ فِي بَعْضِهِ وَإِسْقَاطِهِ فِي بَعْضِهِ ، وَقَدِ اعْتَبَرْتُمُ الْعَقْرَ فِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ وَأَسْقَطْتُمُوهُ فِي غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ [ الْمَائِدَةِ ] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ عُمَرَ : بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ هِيَ أَجِنَّتُهَا إِذَا وُجِدَتْ مَيْتَةً فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهَا يَحِلُّ أَكْلُهَا بِذَكَاةِ الْأُمَّهَاتِ ، وَهَذَا مِنْ أَوَّلِ أَحْكَامِ هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ الْمَشْرُوعَةِ ، وَالْغَالِبُ مِنْ تَأْوِيلِهِمْ هَذَا أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوهُ إِلَّا نَقْلًا . وَمِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَرَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَرَوَاهُ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، وَرِوَايَةُ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ ، وَرِوَايَةُ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ . فَجَعَلَ إِحْدَى الذَّكَاتَيْنِ نَائِبَةً عَنْهُمَا ، أَوْ قَائِمَةً مَقَامَهُمَا ، كَمَا يُقَالُ : مَالُ زَيْدٍ مَالِي ، وَمَالِي مَالُ زَيْدٍ . يُرِيدُ أَنَّ أَحَدَ الْمَالَيْنِ يَنُوبُ عَنِ الْآخَرِ ، وَيَقُومُ مَقَامَهُ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ التَّشْبِيهَ دُونَ النِّيَابَةِ ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ : ذَكَاةُ الْجَنِينِ كَذَكَاةِ أُمِّهِ ، لِأَنَّهُ قَدَّمَ الْجَنِينَ عَلَى الْأُمِّ ، فَصَارَ تَشْبِيهًا بِالْأُمِّ ، وَلَوْ أَرَادَ النِّيَابَةَ لَقَدَّمَ الْأُمَّ عَلَى الْجَنِينِ فَقَالَ : ذَكَاةُ الْأُمِّ ذَكَاةُ جَنِينِهَا - فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ اسْمَ الْجَنِينِ مُنْطَلِقٌ عَلَيْهِ ، إِذَا كَانَ مُسْتَجَنًّا فِي بَطْنِ أُمِّهِ ، فَيَزُولُ عَنْهُ الِاسْمُ إِذَا انْفَصَلَ عَنْهَا ، فَيُسَمَّى وَلَدًا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ [ النَّجْمِ : 32 ] . وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ لَا يُقْدَرُ عَلَى ذَكَاتِهِ ، فَبَطَلَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّشْبِيهِ ، وَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى النِّيَابَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ التَّشْبِيهَ دُونَ النِّيَابَةِ ، لَسَاوَى الْأُمَّ غَيْرُهَا ، وَلَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الْأُمِّ فَائِدَةٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى النِّيَابَةِ دُونَ التَّشْبِيهِ ، لِيَصِيرَ لِتَخْصِيصِ الْأُمِّ تَأْثِيرٌ . وَالثَّالِثُ : لَوْ أَرَادَ التَّشْبِيهَ لَنَصَبَ " ذَكَاةُ أُمِّهِ " لَحَذْفِ كَافِ التَّشْبِيهِ ، وَالرِّوَايَةُ مَرْفُوعَةٌ : ذَكَاةُ أُمِّهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ أَرَادَ النِّيَابَةَ دُونَ التَّشْبِيهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ بِالنَّصْبِ : ذَكَاةَ الْجَنِينِ ذَكَاةَ أُمِّهِ . قِيلَ : هَذِهِ الرِّوَايَةُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ ، وَلَوْ سَلِمَتْ لَكَانَتْ مَحْمُولَةً عَلَى نَصْبِهَا بِحَذْفِ " يَا " النِّيَابَةِ دُونَ كَافِ التَّشْبِيهِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ ، وَلِأَنَّ إِثْبَاتُ الذَّكَاةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى نَفْيِهَا ، لِأَنَّهُمَا ضِدَّانِ ، وَلَا نَفْعَلُ النَّفْيَ مِنَ الْإِثْبَاتِ كَمَا لَا نَفْعَلُ الْإِثْبَاتَ مِنَ النَّفْيِ ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ : ذَكَاةُ الْجَنِينِ بِذَكَاةِ أُمِّهِ ، وَلَوِ احْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ لَكَانَتَا مُسْتَعْمَلَتَيْنِ ، فَتُسْتَعْمَلُ الرِّوَايَةُ الْمَرْفُوعَةُ عَلَى النِّيَابَةِ إِذَا خَرَجَ مَيْتًا ، وَتُسْتَعْمَلُ الرِّوَايَةُ الْمَنْصُوبَةُ عَلَى التَّشْبِيهِ إِذَا خَرَجَ حَيًّا ، فَيَكُونُ أَوْلَى مِمَّنِ اسْتَعْمَلَ إِحْدَاهُمَا ، وَأَسْقَطَ الْأُخْرَى .

وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا نَصٌّ لَا يَحْتَمِلُ هَذَا التَّأْوِيلَ ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ ، عَنْ مُجَالِدٍ ، عَنْ أَبِي الْوَدَّانِيِّ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! نَنْحَرُ النَّاقَةَ ، وَنَذْبَحُ الْبَقَرَةَ أَوِ الشَّاةَ فِي بَطْنِهَا جَنِينٌ مَيِّتٌ ، أَنُلْقِيهِ أَمْ نَأْكُلُهُ ؟ فَقَالَ : كُلُوهُ إِنْ شِئْتُمْ ، فَإِنَّ ذَكَاةَ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ : وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ . رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ : كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُونَ : " ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ " ، وَمَا انْعَقَدَ بِهِ إِجْمَاعُهُمْ لَمْ يَجُزْ فِيهِ خِلَافُهُمْ . وَمِنَ الِاعْتِبَارِ هُوَ أَنَّ الْجَنِينَ يَغْتَذِي بِغِذَاءِ أُمِّهِ ، فَلَمَّا كَانَتْ حَيَاتُهُ بِحَيَاتِهَا جَازَ أَنْ تَكُونَ ذَكَاتُهُ بِذَكَاتِهَا كَالْأَعْضَاءِ . فَإِنْ قِيلَ : فَأَعْضَاؤُهَا لَا تُعْتَبَرُ ذَكَاتُهَا بَعْدَهَا ، وَأَنْتُمْ تَعْتَبِرُونَ ذَكَاةَ الْجَنِينِ إِذَا خَرَجَ حَيًّا ، فَدَلَّ عَلَى افْتِرَاقِهِمَا . قِيلَ : لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا ، لِأَنَّنَا جَعَلْنَا ذَكَاتَهُ بِذَكَاتِهَا ، إِذَا خَرَجَتْ رُوحُهُ ، بِخُرُوجِ رُوحِهَا ، وَإِذَا خَرَجَ حَيًّا لَمْ تَخْرُجْ رُوحُهُ بِخُرُوجِ رُوحِهَا ، فَلَمْ تَحِلَّ بِذَكَاتِهَا . كَذَلِكَ الْأَعْضَاءُ إِذَا خَرَجَتْ مِنْهَا الرُّوحُ بِخَرُوجِ رُوحِهَا حَلَّتْ ، وَلَوْ خَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْهَا بِغَيْرِ خُرُوجِ الرُّوحِ مِنْ أَصْلِهَا لِقَطْعِهَا قَبْلَ ذَبْحِهَا لَمْ تُؤْكَلْ ، فَاسْتَوَيَا ، وَقَدْ يَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ الْمُعَلَّلِ قِيَاسٌ ثَانٍ ، فَيُقَالُ : حَيَوَانٌ خَرَجَتْ رُوحُهُ بِذَكَاةٍ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَأْكُولًا ، كَالْأُمِّ ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنِينُ الْمُتَوَلِّدُ مِنْ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ ، وَحِمَارٍ أَهْلِيٍّ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ بِذَكَاةِ أُمِّهِ ، لِأَنَّنَا أَجْمَعْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأُمِّ ، وَالْأُمُّ تُؤْكَلُ إِذَا لَمْ يَتَوَلَّدْ مِنْ بَيْنِ جِنْسَيْنِ كَذَلِكَ الْجَنِينُ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا مَاتَ بِاخْتِنَاقِهِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ، وَاحْتِبَاسِ نَفْسِهِ ، لَا بِالذَّكَاةِ فَدَخَلَ فِي تَحْرِيمِ الْمُنْخَنِقَةِ . قِيلَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّقَ عَلَى الْأَسْبَابِ الْمُبَاحَةِ أَحْكَامُ الْمَحْظُورَاتِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّقَ عَلَى الْأَسْبَابِ الْمَحْظُورَةِ أَحْكَامُ الْمُبَاحَاتِ وَمَوْتُ الْجَنِينِ بِذَبْحِ أُمِّهِ مُبَاحٌ ، يَتَعَلَّقُ بِهِ إِحْلَالُ الْأُمِّ ، فَتَبِعَهَا فِي الْحُكْمِ ، وَالْمُنْخَنِقَةُ ضِدُّهَا : لِتَحْرِيمِ جَمِيعِهَا ، فَتَعَلَّقَ بِهِ تَحْرِيمُ أَكْلِهَا . وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَّرْنَاهُ أَنَّ الذَّكَاةَ مُعْتَبِرَةٌ بِالْقُدْرَةِ بَعْدَ الْأَسْبَابِ الْمُبَاحَةِ ، وَهِيَ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ . فَقِسْمٌ يُمْكِنُ ذَبْحُهُ ، وَهُوَ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ مِنَ الصَّيْدِ وَالنَّعَمِ ، فَلَا ذَكَاةَ لَهُ إِلَّا فِي حَلْقِهِ وَلَبَّتِهِ .

وَقِسْمٌ مُمْتَنِعٌ لَا يُمْكِنُ ذَبْحُهُ ، وَيُمْكِنُ عَقْرُهُ ، وَهُوَ الصَّيْدُ ، فَذَكَاتُهُ بِعَقْرِهِ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ وَقَعَ مِنْ جَسَدِهِ ، لِتَعَذُّرِ ذَبْحِهِ . وَقِسْمٌ يَتَعَذَّرُ ذَبْحُهُ وَعَقْرُهُ وَهُوَ الْحُوتُ وَالْجَرَادُ : لِأَنَّ مَوْتَ الْحُوتِ بَعْدَ مَوْتِهِ سَرِيعٌ وَعَقْرُ الْجَرَادِ شَاقٌّ ، فَكَانَ مَوْتُهُمَا ذَكَاةً . وَإِنْ كَانَ هَذَا أَصْلًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي الْجَنِينِ ، فَإِنْ لَمْ يُقْدَرْ عَلَى ذَبْحِهِ لِسُرْعَةِ مَوْتِهِ ، كَانَ مَوْتُهُ ذَكَاةً لَهُ ، فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ ، وَإِنْ كَانَ مَقْدُورًا عَلَى ذَبْحِهِ ، لِبَقَاءِ حَيَاتِهِ كَانَتْ ذَكَاتُهُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ ، كَالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنَ الصَّيْدِ وَالنَّعَمِ ، فَيَصِيرُ الْخِلَافُ فِيهِ مَرْدُودًا إِلَى الْأَصْلِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا سَرَى حُكْمُ الْأُمِّ إِلَى جَنِينِهَا فِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْعِتْقِ سَرَى إِلَيْهِ فِي الذَّكَاةِ وَالْإِبَاحَةِ . أَلَا تَرَى أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْأُمِّ إِذَا أَلْقَتْهُ مَيِّتًا ، كَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ ؟ فَصَارَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ مُلْحَقًا بِأُمِّهِ ، فَكَانَتِ الذَّكَاةُ مِنْهَا ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْتَطَعَ عَنْهَا . فَإِنْ قِيلَ : لَوْ لَحِقَ بِهَا فِي الذَّكَاةِ إِذَا خَرَجَ مَيْتًا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الذَّكَاةِ إِذَا خَرَجَ حَيًّا فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : إِنَّمَا حَلَّ إِذَا خَرَجَ مَيْتًا لِفِرَاقِ رُوحِهِ بِذَكَاتِهَا ، وَلَمْ يَحِلَّ إِذَا خَرَجَ حَيًّا ، لِأَنَّ رُوحَهُ لَمْ تَفُتْ بِذَكَاتِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ خُرُوجُهُ حَيًّا فِي الذَّكَاةِ بِخُرُوجِهِ مَيْتًا كَمَا لَا يُعْتَبَرُ فِي الْجِنَايَةِ : لِأَنَّهُ إِذَا خَرَجَ مَيْتًا كَانَتْ دِيَتُهُ مُعْتَبِرَةً بِأُمِّهِ ، وَإِذَا خَرَجَ حَيًّا كَانَتْ دِيَتُهُ مُعْتَبَرَةً بِنَفْسِهِ ، كَذَلِكَ فِي الذَّكَاةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْخَبَرَ خَارِجٌ عَنِ الْمَيْتَةِ : لِأَنَّ مَوْتَهُ بِذَكَاةِ أُمِّهِ ، وَلَوْ مَاتَ بِغَيْرِ ذَكَاتِهَا فَأَلْقَتْهُ مَيْتًا حَرُمَ : لِأَنَّهُ مَيْتَةٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ عُمُومَ الْآيَةِ مَخْصُوصٌ فِي الْجَنِينِ بِالْخَبَرِ ، كَمَا خُصَّتْ فِي الْحُوتِ وَالْجَرَادِ ، وَمُلْحَقٌ بِالْحُوتِ وَالْجَرَادِ : لِمَا ذَكَرْنَا مِنِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْأُمِّ ، فَهُوَ أَنَّ ذَكَاتَهَا مَقْدُورٌ عَلَيْهَا ، فَلَمْ تَحِلَّ إِلَّا بِهَا ، وَذَكَاةُ الْجَنِينِ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهَا ، فَحَلَّ وَلَوْ قَدَرَ عَلَى ذَكَاتِهِ لَمْ يَحِلَّ إِلَّا بِهَا كَالْأُمِّ ، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَيْهِ ، إِذَا خَرَجَ مَيْتًا : لِأَنَّهُ يُقْدَرُ عَلَى ذَكَاتِهِ حَيًّا ، فَاعْتُبِرَتْ : وَلِأَنَّهُ يُقَدَرُ عَلَى ذَكَاتِهِ مَيْتًا فَسَقَطَتْ .

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ حَالَتَيْ مَوْتِهِ وَحَيَاتِهِ ، فَهُوَ أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ حَالَتَيِ الْقُدْرَةِ ، وَالْعَجْزِ فِي الذَّكَاةِ مُطَّرَحَةٌ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهْمَا أَحَقُّ ، كَالصَّيْدِ لَمَّا اخْتَلَفَتْ ذَكَاتُهُ ، فِي الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ اخْتَلَفَ بِهَا حُكْمُ الْجِنْسِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ بِأَنَّ الْعَقْرَ فِي جَمِيعِ الْحَيَوَانِ مُعْتَبَرٌ فِي اخْتِلَافِ الْمَحَلِّ ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَقْرَ فِيهِ مُعْتَبَرٌ ، وَهُوَ ذَبْحُ الْأُمِّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا اعْتُبِرَتِ الذَّكَاةُ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ الْعَقْرُ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، وَهِيَ مُتَعَذَّرَةٌ فِي الْجَنِينِ ، فَسَقَطَتْ بِالْعَجْزِ كَمَا سَقَطَتْ فِي الصَّيْدِ : لِإِمْكَانِهِ فِيهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ إِبَاحَةُ الْجَنِينِ بِذَكَاةِ أُمِّهِ ، فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ كَامِلَ الصُّورَةِ تَجِبُ فِيهِ الْغِرَّةُ ، وَتَصِيرُ بِهِ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ ، فَهَذَا مَأْكُولٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَلَقَةً لَا تَجِبُ فِيهِ الْغِرَّةُ ، مَأْكُولٌ : لِأَنَّ الْعَلَقَةَ دَمٌ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مُضْغَةً قَدِ انْعَقَدَتْ لَحْمًا لَمْ تُشَكَّلْ أَعْضَاؤُهُ ، وَلَمْ تَبِنْ صُورَتُهُ ، فَفِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي وُجُوبِ الْغِرَّةِ وَكَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ . أَحَدُهُمَا : يُؤْكَلُ إِذَا جَرَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الْوَلَدِ وَالثَّانِي : لَا يُؤْكَلُ إِذَا سَلَبَ حُكْمُ الْوَلَدِ ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ : إِنْ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ أُكِلَ ، وَإِنْ لَمْ يُنْفَخْ فِيهِ لَمْ يُؤْكَلْ ، وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَى إِدْرَاكِهِ ، وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى خَلْقِهَا فِيهِ بِتَخْطِيطِ صُورَتِهِ وَتَشَكُّلِ أَعْضَائِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ كَسْبِ الْحَجَّامِ

بَابُ كَسْبِ الْحَجَّامِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَا بَأْسَ بِكَسْبِ الْحَجَّامِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَمَا مَعْنَى نَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّائِلَ عَنْ كَسْبِهِ وَإِرْخَاصِهِ فِي أَنْ يُطْعِمَهُ رَقِيقَهُ وَنَاضِحَهُ ؟ قِيلَ : لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا وَاحِدٌ ، وَهُوَ أَنْ لِلْمَكَاسِبِ حَسَنًا وَدَنِيئًا ، فَكَانَ كَسْبُ الْحَجَّامِ دَنِيئًا فَأَحَبَّ لَهُ تَنْزِيهَ نَفْسِهِ عَنِ الدَّنَاءَةِ لِكَثْرَةِ الْمَكَاسِبِ الَّتِي هِيَ أَجْمَلُ مِنْهُ ، فَلَمَّا زَادَهُ فِيهِ أَمَرَهُ أَنْ يُعْلِفَهُ نَاضِحَهُ وَيُطْعِمَهُ رَقِيقَهُ تَنْزِيهًا لَهُ لَا تَحْرِيمًا عَلَيْهِ ، وَقَدْ حَجَمَ أَبُو طَيْبَةَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُعْطِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ

لَا يُعْطِي إِلَّا مَا يَحِلُّ إِعْطَاؤُهُ ، وَلِآخِذِهِ مِلْكُهُ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا ذَا قَرَابَةٍ لِعُثْمَانَ قَدِمَ عَلَيْهِ ، فَسَأَلَهُ عَنْ مَعَاشِهِ ، فَذَكَرَ لَهُ غَلَّةَ حَجَّامٍ أَوْ حَجَّامَيْنِ ، فَقَالَ : إِنَّ كَسْبَكُمْ لَوَسِخٌ ، أَوْ قَالَ : لَدَنِسٌ ، أَوْ لَدَنِيءٌ ، أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْمَكَاسِبِ دَاعِيَةٌ لِمَا فَطَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ الْخَلْقَ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى الطَّعَامِ ، وَالشَّرَابِ ، وَالْكُسْوَةِ لِنَفْسِهِ ، وَمَنْ يَلْزَمُهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ مِنْ مُنَاسِبٍ وَمُصَاحِبٍ ، وَأُصُولُ الْمَكَاسِبِ الْمَأْلُوفَةِ ثَلَاثَةٌ : زِرَاعَةٌ ، وَتِجَارَةٌ ، وَصِنَاعَةٌ ، فَيَنْبَغِي لِلْمُكْتَسِبِ بِهَا أَنْ يَخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَطْيَبَهَا ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [ الْبَقَرَةِ : 267 ] . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ لَمْ يُبَالِ مِنْ أَيْنَ مَطْعُمُهُ وَلَا مِنْ أَيْنَ مَشْرَبُهُ لَمْ يُبَالِ اللَّهُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ النَّارِ أَدْخَلَهُ . وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَطْيَبِهَا ، فَقَالَ قَوْمٌ : الزِّرَاعَاتُ ، وَهُوَ عِنْدِي أَشْبَهُ : لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِيهَا مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللَّهِ ، فِي عَطَائِهِ ، مُسْتَسْلِمٌ لِقَضَائِهِ . وَقَالَ آخَرُونَ : التِّجَارَةُ أَطْيَبُهَا ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : لِتَصْرِيحِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِحْلَالِهِ فِي كِتَابِهِ ، بِقَوْلِهِ : وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [ الْبَقَرَةِ : 275 ] . وَاقْتِدَاءً بِالصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي اكْتِسَابِهِمْ بِهَا . وَقَالَ آخَرُونَ : الصِّنَاعَةُ ، لِاكْتِسَابِ الْإِنْسَانِ فِيهَا بِكَدِّ يَدَيْهِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَا يُكَفِّرُهُ صَوْمٌ وَلَا صَلَاةٌ ، وَلَكِنْ يُكَفِّرُهُ عَرَقُ الْجَبِينِ فِي طَلَبِ الْحِرْفَةِ . فَأَمَّا الزِّرَاعَةُ فَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي تَحْرِيمٍ وَلَا كَرَاهِيَةٍ ، وَهَذَا أَوَّلُ شَيْءٍ عَلَى أَنَّهَا أَطْيَبُ الْمَكَاسِبِ ، وَأَمَّا التِّجَارَةُ ، فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : حَلَالٍ ، وَهُوَ : الْبُيُوعُ الصَّحِيحَةُ . وَحَرَامٍ : وَهُوَ الْبُيُوعُ الْفَاسِدَةُ . وَمَكْرُوهٍ : وَهُوَ الْغِشُّ وَالتَّدْلِيسُ . وَأَمَّا الصِّنَاعَةُ فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ . حَلَّالٍ : وَهُوَ مَا أُبِيحَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا دَنَسَ فِيهَا كَالْكِتَابَةِ وَالنِّجَارَةِ وَالْبِنَاءِ . وَحَرَامٍ : وَهُوَ مَا حُظِرَ مِنَ الْأَعْمَالِ كَالتَّصَاوِيرِ وَالْمَلَاهِي . وَمَكْرُوهٍ : وَهُوَ مَا بَاشَرَ فِيهِ النَّجَاسَةَ كَالْحَجَّامِ وَالْجَزَّارِ ، وَكَنَّاسِ الْحُشُوشِ وَالْأَقْذَارِ ، وَالنَّصُّ فِيهِ وَارِدٌ فِي الْحَجَّامِ ، وَهُوَ أَصْلُ نَظَائِرِهِ ، وَالنَّصُّ فِيهِ مَا رَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنِ

الزُّهْرِيِّ عَنْ حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَجْرِ الْحَجَّامِ فَنَهَاهُ عَنْهُ ، فَشَكَا مِنْ حَاجَتِهِمْ ، فَقَالَ : اعْلِفْهُ نَاضِحَكَ وَأَطْعِمْهُ رَقِيقَكَ . فَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ إِلَى أَنَّهُ حَرَامٌ عَلَى الْأَحْرَارِ حَلَالٌ لِلْعَبِيدِ : لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ السَّادَةِ دُونَ الْعَبِيدِ ، وَاعْتَمَدُوا فِيهِ عَلَى رِوَايَةِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ ، وَثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ فَلَمَّا وَصَفَهُ بِالْخُبْثِ ، وَقَرَنَهُ بِالْحَرَامِ كَانَ حَرَامًا . وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ وَأَمَرَنِي أَنْ أُعْطِيَ الْحَجَّامَ أُجْرَةً . وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ أَبَا طَيْبَةَ حَجَمَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ ، وَأَمَرَ مَوَالِيَهُ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ . قَالَ جَابِرٌ : وَكَانَ خَرَاجُهُ ثَلَاثَةَ آصَعٍ مِنْ تَمْرٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ ، فَخَفَّفُوا عَنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ صَاعًا . وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ : أَنَّهُ لَوْ حَرُمَ كَسْبُهُ عَلَى آخِذِهِ حَرُمَ دَفْعُهُ عَلَى مُعْطِيهِ ، فَلَمَّا اسْتَجَازَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْمُرَ بِدَفْعِهِ إِلَيْهِ دَلَّ عَلَى جَوَازِ أَخْذِهِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ مُتَطَوِّعًا تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ بِخِدْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِذَلِكَ شَرِبَ دَمَهُ ، فَقَالَ لَهُ : قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ جِسْمَكَ عَلَى النَّارِ ، وَكَانَ مَا أَعْطَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُوَاسَاةً ، وَلَمْ يَكُنْ أُجْرَةً ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : إِنَّ مَا أَعْطَاهُ مُقَابَلَةً عَلَى عَمَلِهِ ، صَارَ عِوَضًا يَنْصَرِفُ عَنْ حُكْمِ الْمُوَاسَاةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ أَبَا طَيْبَةَ كَانَ مَمْلُوكًا لَا يَصِحُّ تَطَوُّعُهُ بِعَمَلِهِ وَلَا يَسْتَحِّلُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَطَوُّعَهُ : وَلِأَنَّهُ لَمْ يَزَلِ النَّاسُ عَلَى هَذَا فِي عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ إِلَى وَقْتِنَا هَذَا فِي سَائِرِ الْأَمْصَارِ يَتَكَسَّبُونَ بِهَذَا ، فَلَا يُنْكِرُهُ مُسْتَحْسِنٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، فَدَلَّ عَلَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بِهِ ، وَارْتِفَاعِ الْخِلَافِ فِيهِ . وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهِ دَاعِيَةٌ ، وَالضَّرُورَةَ إِلَيْهِ مَاسَّةٌ : لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ الْإِنْسَانُ عَلَى حِجَامَةِ نَفْسِهِ إِذَا احْتَاجَ ، وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ الشَّرْعُ : لِمَا فِيهِ مِنْ إِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى الْخَلْقِ ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ : وَلِأَنَّ كُلَّ كَسْبٍ حَلَّ لِلْعَبِيدِ حَلَّ لِلْأَحْرَارِ كَسَائِرِ الْأَكْسَابِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ فَهُوَ أَنَّ اسْمَ الْخُبْثِ يَتَنَاوَلُ الْحَرَامَ تَارَةً وَالدَّنِيءَ أُخْرَى كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ

[ الْبَقَرَةِ : 267 ] يَعْنِي الدَّنِيءَ ، وَكَقَوْلِهِ مِنْ بَعْدُ : وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [ الْبَقَرَةِ : 267 ] ، فَيُحْمَلُ عَلَى الدَّنِيءِ دُونَ الْحَرَامِ : بِدَلِيلِ مَا قُلْنَاهُ ، وَلَيْسَ هُوَ إِلَى الْحَرَامِ بِمُوجِبٍ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي حُكْمِ التَّحْرِيمِ : لِأَنَّهُ لَمَّا ضُمَّ إِلَى مَا يَحْرُمُ عَلَى الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ ، وَهَذَا لَا يَحْرُمُ عَلَى الْعَبِيدِ ، فَجَازَ أَنْ لَا يَحْرُمَ عَلَى الْأَحْرَارِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ ، فَهُوَ مَكْرُوهٌ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عِلَّةِ كَرَاهَتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِمُبَاشَرَةِ الـنَّجَاسَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [ الْمُدَّثِّرِ : 5 ] ، فَعَلَى هَذَا يُكْرَهُ كَسْبُ كُلِّ مُبَاشِرٍ لِلنَّجَاسَةِ مِنْ كَنَّاسٍ ، وَخَرَّازٍ ، وَقَصَّابٍ . وَاخْتَلَفَ قَائِلُ هَذَا ، هَلْ يَكُونُ كَسْبُ الْفَصَّادِ مِنْ جُمْلَتِهِمْ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ مِنْ جُمْلَتِهِمْ ، لِأَنَّهُ يُبَاشِرُ نَجَاسَةَ الدَّمِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ كَسْبَهُ : لِاقْتِرَانِهِ بِعِلْمِ الطِّبِّ ، فَإِنَّهُ قَلَّ مَا يُبَاشِرُ نَجَاسَةَ الدَّمِ . فَأَمَّا الْخَتَّانُ ، فَمَكْرُوهُ الْكَسْبِ كَالْحَجَّامِ ، بَلْ يَزِيدُ عَلَيْهِ فِي مُبَاشَرَةِ الْعَوْرَاتِ ، وَتَكُونُ الْكَرَاهَةُ مَقْصُورَةً عَلَى مُبَاشَرَةِ الْأَنْجَاسِ ، وَمُنْتَفِيَةً عَمَّنْ لَا يُبَاشِرُهَا مَنْ سَمَّاكٍ ، وَدَبَّاغٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ كَرَاهَةَ التَّكَسُّبِ بِهِ لِدَنَاءَتِهِ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : لِأَنَّهُ جَعَلَ مِنَ الْمَكَاسِبِ دَنِيئًا وَحَسَنًا ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ذَا قَرَابَةٍ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدِمَ عَلَيْهِ ، فَسَأَلَهُ عَنْ كَسْبِهِ ، فَقَالَ : غَلَّةُ حَجَّامٍ أَوْ حَجَّامَيْنِ ، فَقَالَ : إِنْ كَسَبَكُمْ لَدَنِيءٌ ، أَوْ قَالَ : لَوَسِخٌ ، فَعَلَى هَذَا يُكْرَهُ مَعَ ذَلِكَ كَسْبُ السَّمَّاكِ ، وَالدَّبَّاغِ ، وَالْحَلَّاقِ ، وَالْقَيِّمِ . وَاخْتُلِفَ‌‌‌‌‌‌‌ عَلَى هَذَا فِي كَسْبِ الْحَجَّامِينَ حكمه عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَكْرُوهٌ ، دَنِيءٌ : لِأَنَّهُ يُشَاهِدُ الْعَوْرَاتِ وَيَتَكَسَّبُ بِحرَانٍ غَيْرِ مُقَدَّرٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُكْرَهُ كَسْبُهُ : لِأَنَّهُ لَا يُبَاشِرُ عَمَلًا ، وَيُمْكِنُهُ غَضُّ طَرْفِهِ عَنِ الْعَوْرَاتِ ، وَلَيْسَ يَتَكَسَّبُ بِمُبَاشَرَتِهَا : فَإِنْ أَرْسَلَ طَرَفَهُ صَارَ كَغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ . وَكَذَلِكَ نَظَائِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَجَمِيعُ هَذَا مَكْرُوهٌ لِلْأَحْرَارِ . فَأَمَّا الْعَبِيدُ فَفِيهِمْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُكْرَهُ لَهُمْ كَالْأَحْرَارِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُكْرَهُ لَهُمْ : لِأَنَّهُمْ أَدْنَى مِنَ الْأَحْرَارِ ، فَلْيَتَأَهَّبُوا أَدْنَى الِاكْتِسَابِ ، فَإِنْ أَخَذَ سَادَاتُهُمْ كَسْبَهُمْ كُرِهَ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوهُ ، وَلَمْ يُكْرَهْ لَهُمْ أَنْ يُطْعِمُوهُ رَقِيقَهُمْ وَبَهَائِمَهُمْ : لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِمُحَيِّصَةَ حِينَ سَأَلَهُ عَنْهُ : أَعْلِفْهُ نَاضِحَكَ وَأَطْعِمْهُ رَقِيقَكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ مَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَمَا يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ مِنَ الْمَيْتَةِ مِنْ غَيْرِ كِتَابٍ

مَسْأَلَةٌ لَا يَحِلُّ أَكْلُ زَيْتٍ مَاتَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ

بَابُ مَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَمَا يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ مِنَ الْمَيْتَةِ مِنْ غَيْرِ كِتَابٍ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَا يَحِلُّ أَكْلُ زَيْتٍ مَاتَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ حكم . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصْلُ هَذَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ ، فَمَاتَتْ فِيهِ ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا ، فَقَالَ : أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ . فَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ وَارِدًا فِي السَّمْنِ إِذَا كَانَ جَامِدًا : لِأَنَّ إِلْقَاءَ مَا حَوْلَهَا لَا يَصِحُّ إِذَا كَانَ ذَائِبًا . وَرَوَى الزُّهْرِيُّ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ السَّمْنِ تَقَعُ فِيهِ الْفَأْرَةُ ، فَقَالَ : إِنْ كَانَ جَامِدًا ، فَأَلْقُوهَا ، وَمَا حَوْلَهَا ، وَإِنْ كَانَ ذَائِبًا فَأَرِيقُوهُ . وَهَذَا الْحَدِيثُ وَارِدٌ فِي الْجَامِدِ وَالْمَائِعِ ، وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ أَثْبَتُ . فَإِذَا مَاتَتْ فَأْرَةٌ أَوْ غَيْرُهَا مِنَ الْحَيَوَانِ فِي سَمْنٍ أَوْ غَيْرِهِ مَنْ دُهْنٍ أَوْ دِبْسٍ أَوْ لَبَنٍ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ جَامِدًا ، أَوْ مَائِعًا . فَإِنْ كَانَ جَامِدًا نَجُسَ بِمَوْتِ الْفَأْرَةِ مَا حَوْلَهَا مِنَ السَّمْنِ : لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ لَاقَتْ مَحَلًّا رَطْبًا ، فَنَجِسَ بِهَا كَمَا يَنْجُسُ الثَّوْبُ الرَّطْبُ إِذَا لَاقَى نَجِسًا يَابِسًا ، وَكَانَ مَا جَاوَزَ مَا حَوْلَ الْمُلَاقِي لِلْفَأْرَةِ طَاهِرًا : لِأَنَّ جُمُودَهُ يَمْنَعُ مِنِ امْتِزَاجِهِ بِالنَّجِسِ . وَإِنْ كَانَ السَّمْنُ مَائِعًا نَجُسَ جَمِيعُهُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا ، سَوَاءٌ تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ ، أَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ ، بِخِلَافِ الْمَاءِ الَّذِي لَا يَنْجُسُ إِذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ ، أَنَّهُ كَالْمَاءِ إِذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَنْجُسْ ، حَتَّى يَتَغَيَّرَ . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْمَاءِ ، وَأَنَّهُ إِذَا اتَّسَعَ ، وَلَمْ يَلْتَقِ طَرَفَاهُ لَمْ يَنْجُسْ ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْمَائِعَ كَالْمَاءِ فِي إِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ ، وَهَذَا أَصْلٌ قَدْ خُولِفَ فِيهِ ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى الْمَائِعِ خُصُوصًا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَإِنْ كَانَ ذَائِبًا فَأَرِيقُوهُ . فَلَمَّا عَمَّ أَمْرُهُ بِالْإِرَاقَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الطَّهَارَةِ : لِأَنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِاسْتِهْلَاكِ الْأَمْوَالِ فِي غَيْرِ تَحْرِيمٍ ، وَقَدْ نَهَى عَنْ إِضَاعَتِهَا : وَلِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَاءِ

أَقْوَى ، لِاخْتِصَاصِهِ بِرَفْعِ الْحَدَثِ ، فَقَوِيَتْ طَهَارَتُهُ عَلَى رَفْعِ النَّجَسِ عَنْهُ ، وَضَعُفَتْ طَهَارَةُ الْمَائِعِ عَنْ دَفْعِ النَّجَسِ عَنْهُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ نَجَاسَةُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ حَرُمَ أَكْلُهُ ، وَأَكْلُ كُلِّ نَجِسٍ وَحَرُمَ شُرْبُهُ ، وَشُرْبُ كُلِّ مَا نَجُسَ . وَقَالَ دَاوُدُ : يَحْرُمُ أَكْلُ السَّمْنِ وَحْدَهُ إِذَا نَجُسَ دُونَ غَيْرِهِ ، تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ النَّصِّ فِي السَّمْنِ ، فَجَعَلَ الْحُكْمَ مَقْصُورًا عَلَيْهِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ حُكْمُ الْفَأْرَةِ مَعَ وُرُودِ النَّصِّ فِيهَا مُتَعَدِّيًا إِلَى نَظَائِرِهَا كَانَ السَّمْنُ فِي تَقْدِيرِ حُكْمِهِ بِمَثَابَتِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ غَيْرَ السَّمْنِ لَمَّا شَارَكَهُ فِي الْإِبَاحَةِ قَبْلَ النَّجَاسَةِ وَجَبَ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي التَّحْرِيمِ بَعْدَ النَّجَاسَةِ ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ .

مَسْأَلَةٌ لَا يَحُلُّ بَيْعُ مَا نَجُسَ مِنَ الزَّيْتِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا يَحِلُّ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ نَجِسٌ بِالْمُجَاوَرَةِ ، فَجَازَ بَيْعُهُ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ ، لَا يَحُلُّ بَيْعُ مَا نَجُسَ مِنَ الزَّيْتِ ، وَالسَّمْنِ ، وَالدِّبْسِ ، وَجَمِيعِ مَا لَمْ تَتَمَيَّزْ نَجَاسَتُهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ بَيْعُهُ : لِأَنَّهُ نَجِسٌ بِالْمُجَاوَرَةِ ، فَجَازَ بَيْعُهُ ، كَالثَّوْبِ النَّجِسِ . وَدَلِيلُنَا : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِإِرَاقَتِهِ ، وَلَوْ جَازَ بِيعُهُ لَمْ يَأْمُرْ بِإِضَاعَتِهِ ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ : حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا وَبَاعُوهَا ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا حَرَّمَ أَكْلَ شَيْءٍ ، حَرَّمَ ثَمَنَهُ . وَقَوْلُهُ : " جَمَّلُوهَا " يَعْنِي أَذَابُوهَا . وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِرَاقَتِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ ، كَالْخَمْرِ . وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ نَجِسٌ ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ كَوُلُوغِ الْكَلْبِ ، وَكَاللَّبَنِ وَالْخَلِّ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى بَيْعِ الثَّوْبِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَيْنَ الثَّوْبِ طَاهِرٌ ، وَنَجَاسَتَهُ مُجَاوِرَةٌ ، فَتَمَيَّزَ عَنْهَا وَعَيْنُ الزَّيْتِ قَدْ نَجُسَ : لِامْتِزَاجِ النَّجَاسَةِ بِهِ . وَإِنَّهَا لَا تَتَمَيَّزُ عَنْهُ كَمَا لَمْ تَتَمَيَّزْ عَنِ الْخَلِّ ، وَاللَّبَنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ أَكْثَرَ مَنَافِعِ الزَّيْتِ ، قَدْ ذَهَبَتْ بَعْدَ نَجَاسَتِهِ : لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الْأَكْلُ ،

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110