كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

آثِمًا بِالرِّضَا وَالْمَشُورَةِ ، وَعَلَى الْمَأْمُورِ الْقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ ، وَيَخْتَصُّ بِالْتِزَامِهَا مَعَ الْكَفَّارَةِ . فَإِنْ غَرَّ الْآمِرُ الْمَأْمُورَ وَقَالَ : اقْتُلْ هَذَا فَإِنَّهُ حَرْبِيٌّ أَوْ مُرْتَدٌّ فَقَتَلَهُ وَكَانَ مُسْلِمًا حكمه فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَالْقَوَدُ عَلَى الْمَأْمُورِ وَاجِبٌ ، وَلَا قَوَدَ عَلَى الْآمِرِ ، فَإِنْ عَفَا عَنِ الْقَوَدِ وَجَبَ عَلَيْهِ الدِّيَةُ ، وَلَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْآمِرِ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إِسْلَامُ أَهْلِهَا ، فَضَعُفَ غُرُورُ الْآمِرِ فِيهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا قَوَدَ عَلَى الْمَأْمُورِ وَلَا عَلَى الْآمِرِ ، وَتَجِبُ عَلَى الْمَأْمُورِ الدِّيَةُ كَالْخَاطِئِ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ كُفْرُ أَهْلِهَا . فَإِذَا غَرِمَ الْمَأْمُورُ الدِّيَةَ فَفِي رُجُوعِهِ بِهَا عَلَى الْآمِرِ الْغَارِّ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ غَرَّ رَجُلًا فِي النِّكَاحِ عَلَى أَنَّ الْمَنْكُوحَةَ حُرَّةٌ فَبَانَتْ أَمَةً ، هَلْ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا غَرَّمَهُ مِنْ صَدَاقِهَا فِيهَا قَوْلَانِ ، كَذَلِكَ هَاهُنَا يَتَخَرَّجُ فِيهِ وَجْهَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَعَلَى السَّيِّدِ الْقَوَدُ إِذَا أَمَرَ عَبْدَهُ صَبِيًّا أَوْ أَعْجَمِيًّا لَا يَعْقِلُ بِقَتْلِ رَجُلٍ فَقَتَلَهُ فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ يَعْقِلُ فَعَلَى الْعَبْدِ الْقَوَدُ وَلَوْ كَانَا لِغَيْرِهِ فَكَانَا يُمَيِّزَانِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِمَا فَهُمَا قَاتِلَانِ وَإِنْ كَانَا لَا يُمَيِّزَانِ فَالْآمِرُ الْقَاتِلُ وَعَلَيْهِ الْقَوَدُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَمَرَ عَبْدَهُ بِالْقَتْلِ . فَامْتَثَلَ أَمْرَهُ فِيهِ فَلِلْعَبْدِ الْمَأْمُورِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يُمَيِّزُ فِي طَاعَةِ سَيِّدِهِ بَيْنَ الْمَحْظُورِ وَالْمُبَاحِ ، إِمَّا لِصِغَرِهِ وَإِمَّا لِأَعْجَمِيَّتِهِ ، فَيَكُونُ السَّيِّدُ الْآمِرُ هُوَ الْقَاتِلَ ، وَيَكُونُ الْعَبْدُ مَعَهُ كَالْآلَةِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا أَوْ كَالْبَهِيمَةِ الَّتِي يُشْلِيهَا فَيَكُونُ الْقَوَدُ فِي الْمَقْتُولِ وَاجِبًا عَلَى السَّيِّدِ دُونَ الْعَبْدِ ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ إِلَى الدِّيَةِ كَانَتْ حَالَّةً فِي مَالِهِ ، وَلَا تَرْتَهِنُ رَقَبَةُ الْعَبْدِ بِهَا ، وَيَكُونُ كَسَائِرِ أَمْوَالِ السَّيِّدِ . وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِهَذَا الْعَبْدِ : اقْتُلْنِي ، فَقَتَلَ سَيِّدَهُ بِأَمْرِهِ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ ، وَيَكُونُ السَّيِّدُ قَاتِلَ نَفْسِهِ . وَلَوْ قَالَ لَهُ السَّيِّدُ : اقْتُلْ نَفْسَكَ فَقَتَلَ نَفْسَهُ عَنْ أَمْرِهِ ، كَانَ السَّيِّدُ هُوَ الْقَاتِلَ لِعَبْدِهِ ، فَيُؤْخَذُ بِمَا يُؤْخَذُ بِهِ قَاتِلُ عَبْدِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنَّ يَكُونَ هَذَا الْعَبْدُ يُمَيِّزُ فِي طَاعَةِ سَيِّدِهِ بَيْنَ الْمُبَاحِ وَبَيْنَ الْمَحْظُورِ ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الْقَتْلَ مَحْظُورٌ لَا يُطَاعُ فِيهِ السَّيِّدُ ، إِمَّا لِبُلُوغِهِ وَعَقْلِهِ ، وَإِمَّا

لِمُرَاهَقَتِهِ وَتَمْيِيزِهِ ، فَيَكُونُ الْعَبْدُ هُوَ الْقَاتِلَ دُونَ السَّيِّدِ ، فَإِنْ كَانَ بَالِغًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ ، وَإِنْ كَانَ مُرَاهِقًا لَمْ يَبْلُغْ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ ، وَتَكُونُ الدِّيَةُ فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهَا . وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لَهُ السَّيِّدُ : اقْتُلْنِي فَقَتَلَ سَيِّدَهُ بِأَمْرِهِ كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الْقَاتِلُ إِلَّا أَنَّهُ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ فِي أَمْرِ السَّيِّدِ إِبْرَاءً مِنَ القَوَدِ ، وَلَا يَثْبُتُ فِي رَقَبَتِهِ الدِّيَةُ ، لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِمُسْتَحِقِّهَا مِنَ الوَرَثَةِ ، وَلَوْ قَالَ لَهُ السَّيِّدُ : اقْتُلْ نَفْسَكَ فَقَتَلَ نَفْسَهُ - كَانَ هُوَ الْقَاتِلَ لِنَفْسِهِ دُونَ السَّيِّدِ . وَهَكَذَا حُكْمُ الْأَبِ مَعَ ابْنِهِ إِذَا أَمَرَهُ بِالْقَتْلِ فِي أَنْ يُرَاعَى تَمْيِيزُ الِابْنِ ، فَإِنْ كَانَ مُمَيِّزًا يَعْلَمُ أَنَّ طَاعَةَ الْأَبِ فِي الْقَتْلِ لَا تَجِبُ ، فَالِابْنُ هُوَ الْقَاتِلُ دُونَ الْأَبِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُمَيِّزُ لِصِغَرِهِ أَوْ بَلَهِهِ ، فَالْأَبُ هُوَ الْقَاتِلُ دُونَ الِابْنِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَمَرَ أَجْنَبِيٌّ عَبْدَ غَيْرِهِ بِالْقَتْلِ ، فَأَطَاعَ الْعَبْدُ غَيْرَ سَيِّدِهِ فِي الْقَتْلِ ، رُوعِيَ حَالُ الْعَبْدِ ، فَإِنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ طَاعَةِ سَيِّدِهِ وَطَاعَةِ غَيْرِهِ لِصِغَرِهِ أَوْ أَعْجَمِيَّتِهِ أَوِ اعْتَقَدَ أَنَّ كُلَّ آمِرٍ مُطَاعٌ كَانَ الْآمِرُ هُوَ الْقَاتِلَ ، وَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَ سَيِّدِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي الْتِزَامِ طَاعَتِهِ ، فَالْعَبْدُ هُوَ الْقَاتِلُ دُونَ الْآمِرِ ، فَإِنْ تَشَبَّهَ الْأَجْنَبِيُّ بِالسَّيِّدِ وَدَلَّسَ نَفْسَهُ عَلَى الْعَبْدِ حِينَ أَمَرَهُ بِالْقَتْلِ كَانَ الْآمِرُ هُوَ الْقَاتِلَ دُونَ الْعَبْدِ إِنْ كَانَ الْعَبْدُ لَا يُفَرِّقُ فِي طَاعَةِ السَّيِّدِ بَيْنَ الْمُبَاحِ وَالْمَحْظُورِ ، وَإِنْ كَانَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَالْعَبْدُ هُوَ الْقَاتِلُ دُونَ الْآمِرِ . وَلَوْ قَالَ الْأَجْنَبِيُّ لِلْعَبْدِ : قَدْ أَمَرَكَ سَيِّدُكَ بِالْقَتْلِ فَقَتَلَ ، كَانَ هَذَا الْقَوْلُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ كَأَمْرِ سَيِّدِهِ ، وَفِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ كَأَمْرِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ عَلَى مَا تَفَصَّلَ مِنَ الحُكْمَيْنِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ قَتَلَ مُرْتَدٌّ نَصْرَانِيًّا ثُمَّ رَجَعَ فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَلَيْهِ الْقَوَدَ وَهُوَ أَوْلَاهُمَا لِأَنَّهُ قَتَلَ وَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ ، وَالثَّانِي : أَنْ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَدْ أَبَانَ أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَاهُمَا فَالْأَوْلَى أَحَقُّ بِالصَّوَابِ وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ فِي رَفْعِ الْقَوَدِ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ نَصْرَانِيًّا يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ لَكَانَ الْقَوَدُ عَلَيْهِ وَإِنْ أَسْلَمَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : فَإِذَا كَانَ النَّصْرَانِيُّ الَّذِي يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ الْحَرَامُ الدَّمِ إِذَا أَسْلَمَ يُقْتَلُ بِالنَّصْرَانِيِّ فَالْمُبَاحُ الدَّمِ بِالرِّدَّةِ أَحَقُّ أَنْ يُقَادَ بِالنَّصْرَانِيِّ وَإِنْ أَسْلَمَ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا قَتَلَ مُرْتَدٌّ نَصْرَانِيًّا صَاحِبَ عَهْدٍ أَوْ جِزْيَةٍ حكم وجوب القود عليه ، فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ : أَنَّ الْقَوَدَ عَلَى الْمُرْتَدِّ وَاجِبٌ ، سَوَاءٌ أَقَامَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : اجْتِمَاعُهُمَا عَلَى الْكُفْرِ ، وَإِنْ تَنَوَّعَ وَاخْتَلَفَ لِأَنَّ جَمِيعَ الْكُفْرِ مِلَّةٌ

وَاحِدَةٌ ، ثُمَّ النَّصْرَانِيُّ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ المُرْتَدِّ ، لِأَنَّهُ يُقَرُّ عَلَى نَصْرَانِيَّتِهِ ، وَالْمُرْتَدُّ لَا يُقَرُّ عَلَى رِدَّتِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ حُدُوثُ إِسْلَامِ النَّصْرَانِيِّ بَعْدَ أَنْ قَتَلَ نَصْرَانِيًّا لَا يَمْنَعُ مِنَ القَوَدِ لِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى الْكُفْرِ عِنْدَ الْقَتْلِ ، كَذَلِكَ تَقَدُّمُ إِسْلَامِ الْمُرْتَدِّ عَلَى قَتْلِهِ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ القَوَدِ ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْإِسْلَامِ عِنْدَ ثُبُوتِهِ أَوْكَدُ مِنْ حُرْمَتِهِ بَعْدَ زَوَالِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا قَوَدَ عَلَى الْمُرْتَدِّ فِي قَتْلِ النَّصْرَانِيِّ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ لَمْ تَزُلْ عَنْهُ بِالرِّدَّةِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا أَجْرَى عَلَى الْمُرْتَدِّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِي غَيْرِ الْقَوَدِ ، بِمَا يُؤْخَذُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ ، وَيُؤْخَذُ بِقَضَاءِ مَا تَرَكَ مِنْ صَلَوَاتِ وَقْتِهِ ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ ، لِأَنْ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ صَغَارُ الْكُفْرِ ، وَتُمْنَعُ الْمُرْتَدَّةُ مِنْ نِكَاحِ كَافِرٍ لِثُبُوتِ حُرْمَةِ الْإِسْلَامِ لَهَا ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ جَارِيًا عَلَيْهِ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ بِقَتْلِ الْكَافِرِ ، وَبِهَذَا يُدْفَعُ احْتِجَاجُ الْمُزَنِيِّ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ كَانَتْ دِيَةُ النَّصْرَانِيِّ فِي مَالِهِ ، سَوَاءٌ قُتِلَ بِالرِّدَّةِ أَوْ رَجَعَ عَنْهَا ، وَيَكُونُ بَاقِي مَالِهِ بَعْدَ الرِّدَّةِ إِنْ قَلَّ لِبَيْتِ الْمَالِ ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْقَوَدَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَوَلِيُّ النَّصْرَانِيِّ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَوَدِ وَالْعَفْوِ ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ إِلَى الدِّيَةِ فَعَلَى مَا مَضَى ، وَإِنْ أَرَادَ الْقَوَدَ فَلِلْمُرْتَدِّ حَالَتَانِ . إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْإِسْلَامِ ، فَيَسْقُطَ قَتْلُ الرِّدَّةِ وَيُقْتَلَ قَوَدًا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُقِيمَ عَلَى رِدَّتِهِ فَيُقَالُ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ : إِنْ عَدَلْتَ إِلَى الدِّيَةِ قَتَلْنَاهُ بِالرِّدَّةِ ، وَإِنْ أَقَمْتَ عَلَى طَلَبِ الْقَوَدِ قَتَلْنَاهُ قَوَدًا ، وَدَخَلَ فِيهِ قَتْلُ الرِّدَّةِ ، وَكَانَ جَمِيعُ مَالِهِ فَيْئًا فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَيُقَدَّمُ قَتْلُهُ بِالْقَوَدِ عَلَى قَتْلِهِ بِالرِّدَّةِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْخَصْمَ فِي الْقَوَدِ آدَمِيٌّ حَاضِرٌ فَكَانَ أَوْكَدَ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِقَتْلِ الرِّدَّةِ أَنْ لَا يُوجَدُ مِنْهُ الْإِقَامَةُ عَلَيْهَا ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي قَتْلِهِ قَوَدًا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا قَتَلَ نَصْرَانِيٌّ مُرْتَدًّا حكمه فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ لِأَصْحَابِنَا : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّهُ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ ، وَلَا دِيَةَ لِأَنَّهُ مُبَاحُ الدَّمِ فَسَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ عَلَى النَّصْرَانِيِّ الْقَوَدَ أَوِ الدِّيَةَ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي قَتْلِهِ قَوَدٌ وَلَا دِيَةٌ ، لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ مُبَاحُ الدَّمِ فِي حُقُوقِ

الْمُسْلِمِينَ دُونَ الْكُفَّارِ ، كَالْقَاتِلِ مُبَاحُ الدَّمِ فِي حُقُوقِ الْأَوْلِيَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ ، فَإِنْ قَتَلَهُ الْأَوْلِيَاءُ لَمْ يَضْمَنُوا ، وَإِنْ قَتَلَهُ غَيْرُهُمْ ضَمِنُوا ، كَذَلِكَ الْمُرْتَدُّ إِنْ قَتَلَهُ أَوْلِيَاؤُهُ الْمُسْلِمُونَ لَمْ يَضْمَنُوهُ ، وَإِنْ قَتَلَهُ غَيْرُهُمْ ضَمِنُوهُ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ : إِنَّهُ مَضْمُونٌ فِي حَقِّ النَّصْرَانِيِّ بِالْقَوَدِ دُونَ الدِّيَةِ ، فَيُقَادُ بِهِ النَّصْرَانِيُّ ، لِأَنَّ الْقَوَدَ مُعْتَبَرٌ بِالْمُعْتَقَدِ ، وَقَدْ تَكَافَآ فِيهِ فَوَجَبَ فَإِنْ عَفَا عَنْهُ سَقَطَتِ الدِّيَةُ ، لِأَنَّهَا بِوُجُوبِ الْحُرْمَةِ ، وَلَا حُرْمَةَ لِنَفْسِ الْمُرْتَدِّ ، فَلَمْ تَجِبْ فِي قَتْلِهِ دِيَةٌ ، وَعَكْسُ مَا قَالَهُ ابْنُ سَلَمَةَ أَشْبَهُ ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَوَدِ أَغْلَظُ مِنْ وُجُوبِ الدِّيَةِ لِأَنَّ عَمْدَ الْخَطَأِ يُوجِبُ الدِّيَةَ ، وَلَا يُوجِبُ الْقَوَدَ ، فَلَوْ قَالَ : إِنَّ الدِّيَةَ وَاجِبَةٌ لِبَيْتِ الْمَالِ دُونَ الْقَوَدِ لَكَانَ أَشْبَهَ بِالْأُصُولِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا وَجَبَ قَتْلُ الزَّانِي الْمُحْصَنِ ، فَقَتَلَهُ رَجُلٌ بِغَيْرِ أَمْرِ الْإِمَامِ حكمه . فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الْقَوَدَ عَلَى قَاتِلِهِ وَاجِبٌ ، لِأَنَّ وَلِيَّ قَتْلِهِ هُوَ الْإِمَامُ ، فَإِذَا تَوَلَّاهُ غَيْرُهُ أُقِيدَ مِنْهُ ، كَالْعَامِلِ إِذَا قَتَلَهُ غَيْرُ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ أُقِيدَ بِهِ . وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ : أَنَّهُ لَا قَوَدَ ، لِرِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أَقْتُلُهُ ؟ أَمْ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ : فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا حَتَّى تَأْتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ كَفَى بِالسَّيْفِ شَا يَعْنِي شَاهِدًا هَذَا فَانْصَرَفَ سَعْدٌ وَهُوَ يَقُولُ : وَاللَّهِ ، لَوْ وَجَدْتُهُ لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَنْصَارِ : أَمَا تَسْمَعُونَ مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ : فَقَالُوا : اعْذُرْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ غَيُورٌ ، وَمَا طَلَّقَ امْرَاةً فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ مِنَّا . فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْهُ أَنَّهُ أَبَاحَ قَتْلَهُ بَعْدَ الْبَيِّنَةِ . وَرَوَى الشَّعْبِيُّ أَنَّ رَجُلًا غَزَا ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ أَخَاهُ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ . فَقَالَتْ لَهُ : أَدْرِكِ امْرَأَةَ أَخِيكَ ، عِنْدَهَا رَجُلٌ يُحَدِّثُهَا ، فَتَسَوَّرَ السَّطْحَ ، فَإِذَا هِيَ تَصْنَعُ لَهُ دَجَاجَةً وَهُوَ يَرْتَجِزُ ، وَيَقُولُ : وَأَشْعَثَ غَرَّهُ الْإِسْلَامُ مِنِّي خَلَوْتُ بِعِرْسِهِ لَيْلَ التَّمَامِ أَبِيتُ عَلَى تَرَائِبِهَا وَيُمْسِي عَلَى جُرْدِ الْأَعِنَّةِ وَالْحِزَامِ كَأَنَّ مَوَاضِعَ الرَّبَلَاتِ مِنْهَا فِئَامٌ يَنْهَضُونَ إِلَى فِئَامِ

فَقَتَلَهُ وَرَمَى بِجِيفَتِهِ إِلَى الطَّرِيقِ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ : أُنْشِدُ اللَّهَ امْرَأً عِنْدَهُ عِلْمُ هَذَا الْقَتِيلِ إِلَّا أَخْبَرَنِي ، فَقَامَ الرَّجُلُ : فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ فَأَهْدَرَ عُمَرُ دَمَهُ ، وَقَالَ : أَبْعَدَهُ اللَّهُ وَسَحَقَهُ . وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ يُقَالُ لَهُ : ابْنُ خَيْبَرِيٍّ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَقَتَلَهُ وَقَتَلَهَا ، فَأَشْكَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ الْقَضَاءُ ، فَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْأَلَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْهَا فَسَأَلَهُ فَقَالَ : لَيْسَتْ هَذِهِ بِأَرْضِنَا حَلَفْتُ عَلَيْكَ لَتُخْبِرْنِي بِهَا فَقَالَ : كَتَبَ بِهَا إِلَيَّ مُعَاوِيَةُ فَقَالَ عَلِىٌّ : يَرْضَوْنَ بِحُكْمِنَا وَيَنْقِمُونَ عَلَيْنَا ، إِنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَلْيُعْطَ بِرُمَّتِهِ . وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : فَلْيَضْرِبْ عَلَى رُمَّتِهِ يَعْنِي بِالسَّيْفِ قَوَدًا . وَالثَّانِي : مَعْنَاهُ فَلْيُسَلَّمْ بِرُمَّتِهِ حَتَّى يُقَادَ مِنْهُ . وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الزَّانِي وَالْقَاتِلِ ، فَقَدْ فَرَّقَ مَنْ خَالَفَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ عَلَى الْقَاتِلِ قَوَدًا وِدِيَةً ، فَلَمْ يَجُزْ تَفْوِيتُ الدِّيَةِ بِالْقَوَدِ ، وَلَيْسَ عَلَى الزَّانِي إِلَّا الْقَتْلُ الَّذِي لَا تَخْيِيرَ فِيهِ ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ أَنْ يُقَالَ : إِنْ وَجَبَ قَتْلُ الزَّانِي بِالْبَيِّنَةِ فَلَا قَوَدَ عَلَى قَاتِلِهِ لِانْحِتَامِ قَتْلِهِ وَإِنْ وَجَبَ بِإِقْرَارِهِ أُقِيدَ مِنْ قَاتَلِهِ لِأَنَّ قَتْلَهُ بِإِقْرَارِهِ غَيْرُ مُنْحَتِمٍ لِسُقُوطِهِ عَنْهُ بِرُجُوعِهِ عَنْ إِقْرَارِهِ . وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ مُحَارِبًا مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ قَتَلَ فِي الْحِرَابَةِ رَجُلًا حكمه فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِقَتْلِهِ دُونَ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ ، لِمَا قَدْ تَعَلَّقَ بِقَتْلِهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ ، وَلِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ أَنْ يَقْتُلَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ لِمَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ حَقِّهِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ . فَإِنْ قَتَلَهُ غَيْرُهُمَا مِنَ الأَجَانِبِ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ : يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ ، وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : وَيُقْتَلُ الذَّابِحُ دُونَ الْمُمْسِكِ كَمَا يُحَدُّ الزَّانِي دُونَ الْمُمْسِكِ .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَمْسَكَ رَجُلًا حَتَّى قَتَلَهُ آخَرُ فَعَلَى الْقَاتِلِ الْقَوَدُ ، فَأَمَّا الْمُمْسِكُ فَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ يَقْدِرُ عَلَى الْقَتْلِ مِنْ غَيْرِ إِمْسَاكٍ ، أَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ يَقْدِرُ عَلَى الْهَرَبِ بَعْدَ الْإِمْسَاكِ فَلَا قَوَدَ عَلَى الْمُمْسِكِ بِالْإِجْمَاعِ . وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقَتْلِ إِلَّا بِالْإِمْسَاكِ ، وَكَانَ الْمَقْتُولُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْهَرَبِ بَعْدَ الْإِمْسَاكِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُمْسِكِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَلَا دِيَةَ ، وَيُعَزَّرُ أَدَبًا . وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِحَبْسِ الْمُمْسِكِ حَتَّى يَمُوتَ ، لِأَنَّهُ أَمْسَكَ الْمَقْتُولَ حَتَّى مَاتَ ، فَوَجَبَ أَنْ يُجَازَى بِمِثْلِهِ ، فَيُحْبَسُ حَتَّى يَمُوتَ . وَقَالَ مَالِكٌ : يُقْتَلُ الْمُمْسِكُ قَوَدًا كَمَا يُقْتَلُ الْقَاتِلُ إِلَّا أَنْ يُمْسِكَ مَازِحًا مُلَاعِبًا فَلَا يُقَادُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [ الْإِسْرَاءِ : 33 ] . وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَتَلَ جَمَاعَةً بِوَاحِدٍ . وَقَالَ : لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ بِهِ أَيْ لَوْ تَعَاوَنُوا عَلَيْهِ . وَالْمُمْسِكُ قَدْ عَاوَنَ عَلَى الْقَتْلِ وَلِأَنَّهُمَا تَعَاوَنَا فِي قَتْلِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْقَوَدِ ، كَمَا لَوِ اشْتَرَكَا فِي قَتْلِهِ ، وَلِأَنَّ مُمْسِكَ الصَّيْدِ لَمَّا جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْقَاتِلِ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ ، وَلَوْ أَمْسَكَهُ أَحَدُ الْمُجْرِمَيْنِ وَقَتَلَهُ الْآخَرُ اشْتَرَكَا فِي الْجَزَاءِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُمْسِكُ الْمَقْتُولِ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْقَاتِلِ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ ، وَيَكُونَا فِيهِ سَوَاءً ، وَلِأَنَّ الْإِمْسَاكَ سَبَبٌ أَفْضَى إِلَى الْقَتْلِ فَلَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُبَاشَرَةِ لِلْقَتْلِ كَالشُّهُودِ إِذَا شَهِدُوا عِنْدَ الْحَاكِمِ عَلَى رَجُلٍ بِالْقَتْلِ فَقُتِلَ ، ثُمَّ رَجَعُوا قُتِلُوا قَوَدًا بِالشَّهَادَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ سَبَبًا كَذَلِكَ الْمُمْسِكُ . وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : يُقْتَلُ الْقَاتِلُ ، وَيُصْبَرُ الصَّابِرُ . قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : يَعْنِي يُحْبَسُ لِأَنَّ الْمَصْبُورَ هُوَ الْمَحْبُوسُ ، يُرِيدُ بِالْحَبْسِ التَّأْدِيبَ لَا كَمَا تَأَوَّلَهُ رَبِيعَةُ عَلَى الْحَبْسِ إِلَى الْمَوْتِ ، وَلِأَنَّ الْإِمْسَاكَ سَبَبٌ ، وَالْقَتْلَ مُبَاشَرَةٌ ، فَإِذَا اجْتَمَعَا وَلَمْ يَكُنْ فِي السَّبَبِ إِلْجَاءٌ كَالشُّهُودِ سَقَطَ حُكْمُ السَّبَبِ بِوُجُودِ الْمُبَاشَرَةِ ، كَمَا لَوْ حَفَرَ رَجُلٌ بِئْرًا فَدَفَعَ رَجُلٌ فِيهَا إِنْسَانًا فَمَاتَ حكمه كَانَ الْقَوَدُ عَلَى الدَّافِعِ دُونَ الْحَافِرِ ، وَلِأَنَّ هَذَا الْقَاتِلَ قَدْ يَصِلُ إِلَى الْقَتْلِ تَارَةً بِالْإِمْسَاكِ وَتَارَةً بِالْحَبْسِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ قَتَلَهُ بَعْدَ الْحَبْسِ لَمْ يُقْتَلِ الْحَابِسُ ، كَذَلِكَ إِذَا قَتَلَهُ بَعْدَ الْإِمْسَاكِ لَمْ يُقْتَلِ الْمُمْسِكُ ، وَلِأَنَّ حُكْمَ الْمُمْسِكِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْمُبَاشِرِ فِي الزِّنَا ، لِأَنَّهُ لَوْ أَمْسَكَ امْرَأَةً حَتَّى زَنَا بِهَا رَجُلٌ ،

وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الزَّانِي دُونَ الْمُمْسِكِ . وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْمُمْسِكِ فِي الْقَتْلِ بِمَثَابَتِهِ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الْقَاتِلِ دُونَ الْمُمْسِكِ . وَلَوْ جَازَ أَنْ يُسَاوِيَهُ فِي الْقَوَدِ جَازَ أَنْ يُسَاوِيَهُ فِي الْحَدِّ . وَلِأَنَّ الْإِمْسَاكَ غَيْرُ مَضْمُونٍ لَوِ انْفَرَدَ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يُضْمَنَ إِذَا تَعَقَّبَهُ الْقَتْلُ . وَلِأَنَّ مَا لَا يُضْمَنُ خَطَؤُهُ لَمْ يُضْمَنْ عَمْدُهُ كَالضَّرْبِ بِمَا لَا يَقْتُلُ . فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قَالَ فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ [ الْإِسْرَاءِ : 33 ] وَالسَّرَفُ أَنْ يَتَجَاوَزَ الْقَاتِلُ إِلَى مَنْ لَيْسَ بِقَاتِلٍ . وَقَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ بِهِ . مَحْمُولٌ عَلَى اشْتِرَاكِهِمْ فِي قَتْلِهِ ، لَأَنَّ الْمُعَاوَنَةَ هِيَ التَّسَاوِي فِي الْفِعْلِ ، وَبِهِ يُجَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْقَتْلِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْمُشْتَرِكِينَ فِي الْقَتْلِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُضْمَنُ إِذَا انْفَرَدَ ، فَضُمِنَ إِذَا شَارَكَ وَالْمُمْسِكُ لَا يُضْمَنُ إِذَا انْفَرَدَ فَلَمْ يُضْمَنْ إِذَا تَعَقَّبَهُ قَاتِلٌ . وَأَمَّا إِمْسَاكُ الْعَبْدِ فَإِنَّمَا يُضْمَنُ بِهِ الْعَبْدُ ، لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْيَدِ إِذَا انْفَرَدَتْ ، وَالْمَقْتُولُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْيَدِ ، وَإِنَّمَا يُضْمَنُ بِالْجِنَايَةِ ، وَلَوْ كَانَ الْإِمْسَاكُ جَارِيًا مَجْرَى مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ لَوَجَبَ إِذَا أَمْسَكَ الْمَجُوسِيُّ شَاةً فَذَبَحَهَا مُسْلِمٌ أَنْ لَا تُؤْكَلَ ، كَمَا لَوِ اشْتَرَكَ فِي ذَبْحِهَا مَجُوسِيٌّ وَمُسْلِمٌ ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ أَكْلِهَا دَلِيلٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُمْسِكِ وَالْمُشَارِكِ . وَمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّهُمَا أَلْجَأا الْحَاكِمَ إِلَى الْقَتْلِ ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ المُمْسِكِ إِلْجَاءٌ فَافْتَرَقَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ ضَرَبَهُ بِمَا الْأَغْلَبُ أَنَّهُ يَقْطَعُ عُضْوًا أَوْ يُوضِحُ رَأْسًا فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَوَدَ يَجِبُ فِي الْقَتْلِ بِالْمَحْدُودِ وَالْمُثَقَّلِ ، كَذَلِكَ الْقِصَاصُ فِي الْجِرَاحِ وَالْأَطْرَافِ يَجِبُ فِي الْمُحَدَّدِ وَالْمُثَقَّلِ ، فَلَوْ رَمَى رَأْسَهُ بِحَجَرٍ فَأَوْضَحَهُ وَمِثْلُهُ يُوضِحُ وَجَبَ فِيهِ الْقِصَاصُ ، وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ لَا يُوضِحُ فِي الْغَالِبِ وَرُبَّمَا أَوْضَحَ فَهُوَ عَمْدٌ شِبْهُ الْخَطَأِ ، فَفِيهِ دِيَةُ الْمُوضِحَةِ دُونَ الْقَوَدِ ، كَذَا لَوْ ضَرَبَ يَدَهُ بِخَشَبَةٍ فَأَبَانَهَا ، كَانَ مِثْلُهَا يَقْطَعُ فِي الْغَالِبِ وَجَبَ فِيهَا الْقِصَاصُ ، وَإِنْ كَانَ مِثْلُهَا لَا يَقْطَعُ فِي الْغَالِبِ وَجَبَ فِيهَا الدِّيَةُ ، كَمَا قُلْنَا فِي تَلَفِ النُّفُوسِ . فَلَوْ ضَرَبَ يَدَهُ فَشُلَّتْ فَلَا قِصَاصَ فِيهَا ، وَعَلَيْهِ دِيَتُهَا لِأَنَّ الشَّلَلَ لَا يُمْكِنُ فِي مِثْلِهِ الْقِصَاصُ ، فَلَوْ شَجَّهُ بِحَجَرٍ فَأَوْضَحَ رَأْسَهُ ، وَسَرَى إِلَى نَفْسِهِ فَمَاتَ .

فَإِنْ كَانَ مِثْلُ الْحَجَرِ يُوضِحُ وَيَقْتُلُ غَالِبًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْمُوضِحَةِ ، وَالْقَوَدُ فِي النَّفْسِ . وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ يُوضِحُ غَالِبًا وَلَا يَقْتُلُ فِي الْغَالِبِ وَجَبَ فِيهِ الْقِصَاصُ فِي الْمُوضِحَةِ ، لِأَنَّهَا عَمْدٌ مَحْضٌ ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ ، وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ : لِأَنَّهُ عَمْدٌ يُشْبِهُ الْخَطَأَ ، وَهَذَا إِذَا حَدَثَ مِنْهُ الْقَتْلُ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ سِرَايَةٍ . فَأَمَّا إِذَا سَرَتِ الْمُوضِحَةُ إِلَى نَفْسِهِ فَالْقِصَاصُ فِيهَا وَفِي النَّفْسِ وَاجِبٌ بِحُدُوثِ الْقَتْلِ عَنْ جُرْحٍ يُوجِبُ الْقِصَاصَ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ سِرَايَتُهُ مُوجِبَةٌ لِلْقِصَاصِ اعْتِبَارًا بِمُوجِبِهَا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا سَقَاهُ سُمًّا فَمَاتَ فَالسُّمُّ عَلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ قَاتِلًا فِي الْغَالِبِ مُنْفَرِدًا وَمَعَ غَيْرِهِ ، فَهَذَا يُوجِبُ الْقَوَدَ ، وَيَكُونُ هَذَا السُّمُّ مِنْ آلَةِ الْقَتْلِ كَالسَّيْفِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ هَذَا السُّمُّ قَاتِلًا بِانْفِرَادِهِ ، وَلَا يَقْتُلُ إِذَا كُسِرَ بِغَيْرِهِ ، فَيَجِبُ بِهِ الْقَوَدُ إِنْ أَفْرَدَهُ ، وَلَا يَجِبُ بِهِ الْقَوَدُ إِنْ كَسَرَهُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَقْتُلَ إِذَا خُلِطَ بِغَيْرِهِ ، وَلَا يَقْتُلَ إِذَا أُفْرِدَ ، فَلَا يَجِبُ بِهِ الْقَوَدُ إِذَا أُفْرِدَ ، وَيَجِبُ بِهِ الْقَوَدُ إِذَا خُلِطَ بِمَا يَقْتُلُ مَعَهُ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَقْتُلُ الْعُضْوَ الضَّعِيفَ ، وَلَا يَقْتُلُ الْجَلْدَ الْقَوِيَّ فَلَا يَجِبُ بِهِ الْقَوَدُ فِي الْجَلْدِ الْقَوِيِّ ، وَيَجِبُ بِهِ الْقَوَدُ فِي الْعُضْوِ الضَّعِيفِ . وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ : أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَقْتُلُ فِي بَعْضِ الْفُصُولِ فِي السَّنَةِ ، وَلَا يَقْتُلُ فِي بَعْضِهَا فَيَجِبُ بِهِ الْقَوَدُ فِي الْفَصْلِ الْقَاتِلِ ، وَلَا يَجِبُ فِي غَيْرِ الْفَصْلِ الْقَاتِلِ . وَالْقِسْمُ السَّادِسُ : أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَقْتُلُ تَارَةً ، وَلَا يَقْتُلُ أُخْرَى فَلَا يَجِبُ بِهِ الْقَوَدُ ، وَتَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ ، وَيَكُونُ كَعَمْدِ الْخَطَأِ ، فَإِنِ اخْتَلَفَ السَّاقِي لِلسُّمِّ وَوَلِيُّ الْمَسْقِيِّ فِي السُّمِّ . فَقَالَ السَّاقِي : لَيْسَ بِقَاتِلٍ عَلَى مَا مَضَى مِنْ أَقْسَامِ مَا لَا يَقْتُلُ . وَقَالَ وَلِيُّ الْمَسْقِيِّ : هُوَ قَاتِلٌ عَلَى مَا مَضَى مِنْ أَقْسَامِ مَا يَقْتُلُ ، فَإِنْ كَانَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ عَلَى مَا ادَّعَاهُ عُمِلَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ عَدِمَا الْبَيِّنَةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّاقِي مَعَ يَمِينِهِ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْ قَوَدٍ وَعَقْلٍ . فَلَوِ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ قَاتِلٌ وَقَالَ السَّاقِي : لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ قَاتِلٌ فَفِيهِ قَوْلَانِ :

أَحَدُهُمَا : لَا قَوَدَ عَلَيْهِ إِذَا حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ ، لِأَنَّهَا شُبْهَةٌ مُحْتَمَلَةٌ ، وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَالْخَاطِئِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : عَلَيْهِ الْقَوَدُ ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِعْلَامِ حَالِهِ فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ مَنْ عَلِمَ بِهِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَقْسَامِ السُّمِّ الْقَاتِلِ وَأَحْكَامِهِ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ وَإِسْقَاطِهِ فَالْكَلَامُ بَعْدَهُ فِي صِفَةِ وَصُولِ السُّمِّ إِلَى الْمَسْمُومِ في حكم القود ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِنَ السَّاقِي إِكْرَاهٌ عَلَى شُرْبِهِ أَوْ أَكْلِهِ فَهُوَ قَاتِلُ عَمْدٍ وَالْقَوَدُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ مِنْهُ إِكْرَاهٌ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَدْفَعَ السُّمَّ مِنْ يَدِهِ إِلَى الْمَسْمُومِ فَيَشْرَبَهُ الْمَسْمُومُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا أَوْ أَبْلَهَ لَا يُمَيِّزُ ، وَيُطِيعُ كُلَّ أَمْرٍ فَعَلَى السَّاقِي الْقَوَدُ ، كَمَا لَوْ أَمَرَ صَبِيًّا أَوْ أَبْلَهَ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ فَقَتَلَهَا كَانَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا مُمَيِّزًا فَلِلسَّاقِي حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يُعْلِمَهُ بِأَنَّهُ سُمٌّ فَيَشْرَبَهُ بَعْدَ إِعْلَامِهِ بِهِ فَلَا قَوَدَ عَلَى السَّاقِي وَلَا دِيَةَ وَيَكُونُ شَارِبُ السُّمِّ هُوَ الْقَاتِلَ لِنَفْسِهِ ، سَوَاءٌ أَعْلَمَهُ السَّاقِي بَعْدَ تَسْمِيَتِهِ بِالسُّمِّ أَنَّهُ قَاتِلٌ أَوْ لَمْ يُعْلِمْهُ ، لِأَنَّ اسْمَ السُّمِّ يَنْطَلِقُ عَلَى مَا يَقْتُلُ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يُعْلِمَهُ عِنْدَ دَفْعِهِ إِلَيْهِ أَنَّهُ سُمٌّ فَهُوَ ضَامِنٌ لِدِيَتِهِ ، وَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ الْقَوَدُ لِمُبَاشَرَةِ الدَّفْعِ وَإِخْفَاءِ الْحَالِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا قَوَدَ عَلَيْهِ لِشُرْبِ الْمَسْمُومِ لَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَهَذَا قِسْمٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَخْلِطَهُ السَّاقِي بِطَعَامٍ لِنَفْسِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَأْكُلَهُ الْمَسْمُومُ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَلَا قَوَدَ عَلَى السَّاقِي وَلَا دِيَةَ ، وَالْآكِلُ هُوَ الْقَاتِلُ نَفْسَهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي أَكْلِ الطَّعَامِ فَيَكُونَ كَمَا لَوْ دَفَعَهُ مِنْ يَدِهِ ، لَأَنَّ الْإِذْنَ فِي الطَّعَامِ أَمْرٌ بِأَكْلِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ ، وَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ قَوْلَانِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَضَعَهُ فِي طَعَامِ الْمَسْمُومِ فَيَأْكُلَهُ الْمَسْمُومُ ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ

بِسُمِّهِ ، فَيَكُونُ السَّاقِي ضَامِنًا لِقِيمَةِ الطَّعَامِ ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالسُّمِّ كَالْمُسْتَهْلِكِ ، وَفِي ضَمَانِهِ لِنَفْسِ الْمَسْمُومِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : يَضْمَنُهَا بِالْقَوَدِ ، وَهَكَذَا يَكُونُ الْقَتْلُ بِالسُّمِّ فِي الْأَغْلَبِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَضْمَنُهَا بِالدِّيَةِ دُونَ الْقَوَدِ لِعَدَمِ الْمُبَاشَرَةِ مِنْ جِهَتِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ ، وَيَكُونُ الْفَرْقُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بَيْنَ وَضْعِ السُّمِّ فِي طَعَامِ السَّاقِي وَوَضْعِهِ فِي طَعَامِ الْمَسْمُومِ أَنَّهُ أَكَلَ طَعَامَ السَّاقِي بِأَمْرِهِ فَصَارَ بِالْأَمْرِ ضَامِنًا لِدِيَتِهِ ، وَأَكَلَ طَعَامَ نَفْسِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلَمْ يَضْمَنْ دِيَتَهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ عَمَدَ عَيْنَهُ بِإِصْبَعِهِ فَفَقَأَهَا اقْتُصَّ مِنْهُ لِأَنَّ الْأُصْبُعَ يَأْتِي مِنْهَا عَلَى مَا يَأْتِي بِهِ السِّلَاحُ مِنَ النَّفْسِ وَإِنْ لَمْ تَنْفَقِئْ وَاعْتَلَّتْ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُهَا أَوِ انْتَجَفَتْ فَفِيهَا الْقِصَاصُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا فَقَأَ عَيْنَ رَجُلٍ بِأُصْبُعِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ ، لِأَنَّ الْإِصْبَعَ يَأْتِي مِنَ العَيْنِ عَلَى مَا يَأْتِي عَلَيْهِ الْحَدِيدُ مِنَ النَّفْسِ ، وَالْعَيْنُ تَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهَا مِنَ الجَسَدِ وَتَنْفَصِلُ كَالْأَعْضَاءِ ، فَوَجَبَ الْقَوَدُ فِيهَا كَالْأَطْرَافِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ [ الْمَائِدَةِ : 45 ] قَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِالرَّفْعِ ، وَقَرَأَ غَيْرُهُ بِالنَّصْبِ ، وَهُوَ عَلَى قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ ابْتِدَاءُ حُكْمٍ فِي شَرِيعَتِنَا ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ إِخْبَارٌ عَنْ شَرِيعَةِ غَيْرِنَا ، وَهِيَ لَازِمَةٌ لَنَا فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ مَا لَمْ يَرِدْ نَسْخٌ ، وَإِذَا كَانَ الْقَوَدُ فِيهَا وَاجِبًا ، فَلَهَا حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ تَنْقَلِعَ الْحَدَقَةُ بِالْفَقْءِ فَيَجُوزُ الِاقْتِصَاصُ مِنْهَا بِالْإِصْبَعِ مُقَابَلَةً لِلْجِنَايَةِ بِمِثْلِهَا ، وَيَجُوزُ قَلْعُهَا بِالْحَدِيدِ ، لِأَنَّهُ أَسْهَلُ وَأَسْرَعُ ، فَإِنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ يُبْصِرُ بِالْعَيْنِ الْأُخْرَى ، جَازَ أَنْ يَتَوَلَّى الِاقْتِصَاصَ بِنَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ أَعْمَى لَا يُبْصِرُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَوَلَّاهُ لِخَوْفِ تَعَدِّيهِ ، وَتَوَلَّاهُ وَكِيلُهُ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تَكُونَ الْحَدَقَةُ بَاقِيَةً فِي مَوْضِعِهَا ، وَأَذْهَبَتِ الْإِصْبَعُ ضَوْءَ بَصَرِهَا أَوْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى رَأْسِهِ فَأَذْهَبَتْ ضَوْءَ بَصَرِهِ ، أَوْ لَطَمَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَذَهَبَ ضَوْءُ نَاظِرِهِ ، فَالْقِصَاصُ فِيهِ وَاجِبٌ ، لِأَنَّ ضَوْءَ الْعَيْنِ يَجْرِي مِنْهَا مَجْرَى الرُّوحِ مِنَ الجَسَدِ ، فَلَمَّا وَجَبَ الْقَوَدُ بِإِفَاتَةِ الرُّوحِ مَعَ بَقَاءِ الْجَسَدِ وَجَبَ الْقِصَاصُ بِإِذْهَابِ الضَّوْءِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ ، فَيُفْعَلُ بِالْجَانِي مِثْلُ فِعْلِهِ بِإِصْبَعٍ كَإِصْبَعِهِ أَوْ لَطْمَةٍ مِثْلِ لَطْمَتِهِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ وَاللَّطْمِ ، وَلَكِنْ لِيُسْتَوْفَى بِاللَّطْمِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ . فَإِنْ ذَهَبَتْ بِالْإِصْبَعِ وَاللَّطْمَةِ ضَوْءُ عَيْنِ الْجَانِي فَقَدِ اسْتَوْفَى مِنْهُ الْقِصَاصَ . وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ بِهَا ضَوْءُ عَيْنِهِ عُدِلَ إِلَى إِذْهَابِ ضَوْئِهَا بِمَا تَبْقَى مَعَهُ الْحَدَقَةُ مِنْ

عِلَاجٍ وَدَوَاءٍ ، فَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ إِلَّا بِذَهَابِ الْحَدَقَةِ فَلَا قِصَاصَ فِيهَا وَعَلَيْهِ دِيَتُهَا ، لِأَنَّ مَا لَمْ يُمْكِنِ الِاقْتِصَاصُ مِنْهُ إِلَّا بِالتَّعَدِّي إِلَى غَيْرِهِ سَقَطَ الْقِصَاصُ فِيهِ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِنْ كَانَ الْجَانِي مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ إِلَّا السَّكْرَانُ فَإِنَّهُ كَالصَّحِيحِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : كُلُّ مَنْ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ قَلَمٌ بِجُنُونٍ أَوْ صِغَرٍ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ إِذَا جُرِحَ أَوْ قُتِلَ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الصَّغِيرُ مُمَيِّزًا أَوْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ : عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَنْتَبِهَ . وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ حَدٌّ فَأَشْبَهَ فِي سُقُوطِهِ عَنِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ سَائِرَ الْحُدُودِ . وَلِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِحُقُوقِ الْأَبْدَانِ لَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِ مُكَلَّفٍ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ، فَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُمَا فَعَلَيْهِمَا الدِّيَةُ ، لِأَنَّ حُقُوقَ الْأَمْوَالِ لَا تَسْقُطُ بِعَدَمِ التَّكْلِيفِ كَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ ، وَلِأَنَّ الْقَصْدَ فِيهَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَلَمْ تَسْقُطْ بِعَدَمِ الْقَصْدِ كَالْخَاطِئِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الدِّيَةِ عَلَيْهِمَا ، لَمْ تَخْلُ جِنَايَتُهُمَا مِنْ أَنْ تَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْخَطَأِ أَوِ الْعَمْدِ ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهِ الْخَطَأِ فَالدِّيَةُ مُتَحَقِّقَةٌ عَلَى عَوَاقِلِهِمَا ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ فَفِي عَمْدِهِمَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَالْخَطَأِ لِعَدَمِ قَصْدِهِمَا فَتَكُونُ الدِّيَةُ مُخَفَّفَةً عَلَى عَوَاقِلِهِمَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ كَعَمْدِ غَيْرِهِمَا ، وَإِنْ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُمَا لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِمَا ، فَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَيْهِمَا مُغَلَّظَةً فِي أَمْوَالِهِمَا حَالَّةً . فَلَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ بَعْدَ صِغَرِهِ ، وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ بَعْدَ قَتْلِهِ ، حكم القود لَمْ يُسْتَحَقَّ عَلَيْهَا الْقِصَاصُ فِيمَا جَنَاهُ فِي الصِّغَرِ وَالْجُنُونِ ، فَلَوِ اخْتَلَفَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ مَعَ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ . فَقَالَ الْقَاتِلُ : قَتَلْتُ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَلَا قَوَدَ عَلَيَّ . وَقَالَ الْوَلِيُّ : قَتَلْتَ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَعَلَيْكَ الْقَوَدُ . فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاتِلِ مَعَ يَمِينِهِ ، لِأَنَّ الصِّغَرَ صِفَةٌ مُتَحَقِّقَةٌ ، وَالْأَصْلُ : أَنَّ جَنْبَ الْمُؤْمِنِ حِمًى . وَلَوْ قَالَ الْقَاتِلُ : كُنْتُ عِنْدَ الْقَتْلِ مَجْنُونًا . وَقَالَ الْوَلِيُّ : بَلْ كُنْتَ مُفِيقًا . فَلَا يَخْلُو حَالُ الْقَاتِلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ لَا يُعْلَمَ لَهُ جُنُونٌ مُتَقَدِّمٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ ، وَعَلَى الْقَاتِلِ الْقَوَدُ : لِأَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ .

وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُعْلَمَ جُنُونُهُ طَبَقًا مُسْتَدِيمًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاتِلِ ، وَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ فِيهِ أَصْلًا فَشَابَهَ دَعْوَى الصِّغَرِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُعْلَمَ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُجَنُّ فِي زَمَانٍ ، وَيُفِيقُ فِي زَمَانٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلُ الْقَاتِلِ مَعَ يَمِينِهِ لِاحْتِمَالِهِ وَأَنَّ جَنْبَهُ حِمًى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْوَلِيِّ مَعَ يَمِينِهِ ، لِأَنَّ السَّلَامَةَ أَغْلَبُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا السَّكْرَانُ مِنْ شُرْبِ الْمُسْكِرِ مِنْ خَمْرٍ أَوْ نَبِيذٍ حكم القود في القتل ، فَالْقَوَدُ عَلَيْهِ إِذَا قَتَلَ وَاجِبٌ لِجَرَيَانِ الْقَلَمِ عَلَيْهِ إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي خَرَّجَهُ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ ظِهَارَ السَّكْرَانِ لَا يَصِحُّ ، وَطَلَاقَهُ لَا يَقَعُ ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِنَّ صَحَّ تَخْرِيجُهُ قَوَدٌ وَتَخْرِيجُهُ مُسْتَنْكَرٌ عِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا ، وَإِنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ لَمْ يَرْوِهِ عَنِ الشَّافِعِيِّ سَوَاءٌ فِي قِدَمٍ وَلَا جَدِيدٍ ، فَيُقَالُ فِيهِ قَوْلًا وَاحِدًا . فَأَمَّا النَّائِمُ إِذَا انْقَلَبَ عَلَى صَغِيرٍ أَوْ مَرِيضٍ فَقَتَلَهُ حكم القود فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُ ، وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ مُخَفَّفَةً عَلَى عَاقِلَتِهِ ، لِأَنَّهُ خَطَأٌ مَحْضٌ ، وَكَذَلِكَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا مَنْ شَرِبَ دَوَاءً فَزَالَ بِهِ عَقْلُهُ فَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّدَاوِي فَهُوَ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ إِنْ أَفَاقَ ، وَكَالْمَجْنُونِ إِنِ اسْتَمَرَّ بِهِ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ زَوَالَ الْعَقْلِ وَاسْتِدَامَةَ الْجُنُونِ فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ الْقَوَدُ كَالسَّكْرَانِ لِمَعْصِيَتِهِمَا بِمَا أَزَالَ عَقْلَهُمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا قَوَدَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ حُكْمَ السَّكْرَانِ أَغْلَظُ لِمَا اقْتَرَنَ بِسُكْرِهِ مِنَ الطَّرَبِ الدَّاعِي إِلَيْهِ فِي حَالِ مَنْ شَرِبَ مَا أَزَالَ الْعَقْلَ ، وَأَحْدَثَ الْجُنُونَ لِفَقْدِ هَذَا الْمَعْنَى فِيهِ ، وَأَنَّهُ نَادِرٌ مِنْ فَاعِلِيهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ قَطَعَ رَجُلٌ ذَكَرَ خُنْثَى مُشْكِلٍ وَأُنْثَيَيْهِ وَشُفْرَيْهِ عَمْدًا حكم القود قِيلَ إِنْ شِئْتَ وَقَفْنَاكَ فَإِنْ بِنْتَ ذَكَرًا أَقَدْنَاكَ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ وَجَعَلْنَا لَكَ حُكُومَةً فِي الشُّفْرَيْنِ وَإِنْ بِنْتَ أُنْثَى فَلَا قَوَدَ لَكَ وَجَعَلْنَا لَكَ دِيَةَ امْرَأَةٍ فِي الشُّفْرَيْنِ وَحُكُومَةً فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ بَقِيَّةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَعْنَاهُ أَنْ يُقَالَ لَهُ وَإِنْ لَمْ تَشَأْ أَنْ تَقِفَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَمْرُكَ وَعَفَوْتَ عَنِ الْقِصَاصِ وَبَرَأْتَ فَلَكَ دِيَةُ شُفْرَيِ امْرَأَةٍ وَحُكُومَةٌ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ لِأَنَّهُ الْأَقَلُّ وَإِنْ قُلْتَ لَا أَعْفُو وَلَا أَقِفُ قِيلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَصَّ مِمَّا لَا يَدْرِي أَيُّ الْقِصَاصِ لَكَ فَلَا بُدَّ لَكَ مِنَ الأَمْرَيْنِ عَلَى مَا وَصَفْنَا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خَمْسُ مُقَدِّمَاتٍ :

إِحْدَاهُمَا : فِي ذَكَرِ الرَّجُلِ الْقَوَدُ فَإِنْ عَفَا عَنْهُ فَفِيهِ دِيَةُ الرَّجُلِ تَامَّةً . وَالثَّانِيَةُ : أَنَّ فِي أُنْثَيَيِ الرَّجُلِ الْقَوَدُ فَإِنْ عَفَا عَنْهُ فَفِيهِ دِيَةُ الرَّجُلِ تَامَّةً . وَالثَّالِثَةُ : أَنْ فِي إِسْكَتَيِ الْمَرْأَةِ - وَهُمَا شُفْرَاهَا - الْقَوَدَ ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ فَفِيهِ دِيَةُ الْمَرْأَةِ تَامَّةً . وَوَهِمَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ فَأَسْقَطَ الْقَوَدَ فِي الشُّفْرَيْنِ : لِأَنَّهُ لَحْمٌ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ يَنْتَهِي إِلَيْهِ . وَهَذَا زَلَلٌ مِنْهُ خَالَفَ بِهِ نَصَّ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " لِأَنَّ الشُّفْرَيْنِ هُمَا الْمُحِيطَانِ بِالْفَرْجِ مِنْ جَانِبَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الشَّفَتَيْنِ مِنَ الفَمِ وَفِي الشَّفَتَيْنِ الْقَوَدُ ، كَذَلِكَ فِي الشُّفْرَيْنِ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الْقَوَدُ فَالدِّيَةُ . وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الشُّفْرَيْنِ دَاخِلُ الْإِسْكَتَيْنِ ، فَيَكُونُ الْمُحِيطُ بِالْفَرْجِ الْإِسْكَتَانِ ، وَدَاخِلُهُمَا الشُّفْرَانِ ، وَالْخِلَافُ فِي الِاسْمِ لَا يُغَيِّرُ الْحُكْمَ . وَالْمُقَدِّمَةُ الرَّابِعَةُ : أَنَّ الْعُضْوَ الزَّائِدَ عَلَى الْخِلْقَةِ لَا يُكَافِئُ عُضْوًا مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ فِي قَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ ، فَلَا يُقَادُ بِالذَّكَرِ الزَّائِدِ ذَكَرًا مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ ، وَفِيهِ حُكُومَةٌ ، وَكَذَلِكَ مَا زَادَ مِنَ الأُنْثَيَيْنِ وَالشُّفْرَيْنِ . وَالْمُقَدِّمَةُ الْخَامِسَةُ : أَنْ لَا يَجُوزَ أَنْ يَقْضِيَ بِالْقَوْلِ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ ، وَلَا بِالدِّيَةِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ ، وَيُعْطِيَ مَعَ الْإِشْكَالِ أَقَلَّ الْحَقَّيْنِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتُ الْخَمْسُ اشْتَمَلَ مَسْطُورُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى خَمْسَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : رَجُلٌ جَنَى عَلَى خُنْثَى مُشْكِلٍ . وَالثَّانِي : امْرَأَةٌ جَنَتْ عَلَى خُنْثَى مُشْكِلٍ . وَالثَّالِثُ : خُنْثَى مُشْكِلٌ جَنَى عَلَى رَجُلٍ . وَالرَّابِعُ : خُنْثَى مُشْكِلٌ جَنَى عَلَى امْرَأَةٍ . وَالْخَامِسُ : خُنْثَى مُشْكِلٌ جَنَى عَلَى خُنْثَى مُشْكِلٍ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ الْمَسْطُورُ إِذَا قَطَعَ رَجُلٌ ذَكَرَ خُنْثَى مُشْكِلٍ وَأُنْثَيَيْهِ وَشُفْرَيْهِ ، وَطَالَبَ بَعْدَ الِانْدِمَالِ بِحَقِّهِ مِنَ القَوَدِ وَالدِّيَةِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ مَعَ بَقَاءِ الْإِشْكَالِ بِالْقَوَدِ حَتَّى يَبِينَ أَمْرُهُ ، فَإِنْ بَانَ رَجُلًا وَجَبَ لَهُ الْقَوَدُ فِي ذَكَرِهِ وَأُنْثَيَيْهِ : لِأَنَّهُمَا مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ فَأُقِيدَ بِمَا كَافَأَهُمَا ، وَأُعْطِيَ حُكُومَةً فِي الشُّفْرَيْنِ ، لِأَنَّهُمَا زَائِدَانِ عَلَى

الْخِلْقَةِ ، فَإِنْ عَفَا عَنِ الْقَوَدِ أُعْطِيَ دِيَتَيْ رَجُلٍ إِحْدَاهُمَا فِي الذَّكَرِ ، وَالْأُخْرَى فِي الْأُنْثَيَيْنِ ، وَحُكُومَةً فِي الشُّفْرَيْنِ . وَإِنْ بَانَ الْخُنْثَى امْرَأَةً فَلَا قَوَدَ عَلَى الرَّجُلِ الْجَانِي فِي ذَكَرِهِ وَلَا فِي أُنْثَيَيْهِ ، لِأَنَّهُمَا زَائِدَانِ فِي خِلْقَةِ الْمَرْأَةِ ، وَأُعْطِيَتْ دِيَةُ امْرَأَةٍ فِي الشُّفْرَيْنِ ، وَحُكُومَةٌ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ . وَإِنْ بَقِيَ الْخُنْثَى عَلَى إِشْكَالِهِ ، وَلَمْ يَتَعَجَّلْ بَيَانَهُ ، وَطَالَبَ بِحَقِّهِ ، نُظِرَ ، فَإِنْ عَفَا عَنِ الْقَوَدِ أُعْطِيَ أَقَلَّ حَقَّيْهِ وَهُوَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى حُكْمِ الْمَرْأَةِ فَيُعْطَى دِيَةً فِي الشُّفْرَيْنِ ، وَحُكُومَةً فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ ، فَإِنْ بَانَ امْرَأَةً فَقَدِ اسْتَوْفَتْ حَقَّهَا ، وَإِنْ بَانَ رَجُلًا كَمُلَ لَهُ دِيَتَا رَجُلٍ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ ، وَحُكُومَةٌ فِي الشُّفْرَيْنِ . فَإِنْ تَعَجَّلَ الطَّلَبَ وَلَمْ يَعْفُ عَنِ الْقَوَدِ كَانَ الْقَوَدُ مَوْقُوفًا عَلَى زَوَالِ الْإِشْكَالِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِعْطَاءِ الْمَالِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : لَا يُعْطَى الْمَالَ ، وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى زَوَالِ الْإِشْكَالِ ، كَمَا وَقَفَ الْقَوَدُ ، لِأَنَّ فِي إِعْطَاءِ الْمَالِ سُقُوطَ الْقَوَدِ ، وَهُوَ يُطَالِبُ بِالْقَوَدِ فَسَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ بِالْمَالِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُعْطَى مِنَ المَالِ أَقَلَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ مَعَ الْقَوَدِ ، لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْقَوَدَ فِي عُضْوٍ ، وَيَسْتَحِقُّ الْمَالَ فِي غَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِي إِعْطَائِهِ عَفْوٌ عَنِ الْقَوَدِ ، وَالَّذِي يُعْطَاهُ مِنَ المَالِ حُكُومَةٌ فِي الشُّفْرَيْنِ كَوُقُوفِ الْقَوَدِ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ ، إِذَا بَانَ رَجُلًا . وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي " جَامِعِهِ " : يُعْطَى دِيَةَ الشُّفْرَيْنِ وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الَّذِي يُعْطَاهُ مَالًا يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ إِنْ أُقِيدَ ، وَقَدْ تَبَيَّنَ رَجُلًا فَيُقَادُ مِنْ ذَكَرِهِ وَأُنْثَيَيْهِ ، وَيَسْتَحِقُّ الْحُكُومَةَ فِي شُفْرَيْهِ ، وَلَوْ أَعْطَاهُ الدِّيَةَ لَا يَسْتَرْجِعُ مِنْهَا مَا زَادَ عَلَى الْحُكُومَةِ ، فَلِذَلِكَ اقْتُصَّ بِهِ عَلَى قَدْرِ الْحُكُومَةِ ، وَرُوعِيَ مَا سَبَقَ مِنْ أَمْرِهِ فَإِنْ بَانَ رَجُلًا أُقِيدَ مِنْ ذَكَرِهِ وَأُنْثَيَيْهِ ، وَقَدِ اسْتَوْفَى حُكُومَةَ شُفْرَيْهِ ، وَإِنْ بَانَ امْرَأَةً سَقَطَ الْقَوَدُ وَكَمُلَ لَهَا دِيَةُ الشُّفْرَيْنِ ، وَحُكُومَةٌ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ تَقْطَعَ امْرَأَةٌ ذَكَرَ خُنْثَى مُشْكِلٍ وَأُنْثَيَيْهِ وَشُفْرَيْهِ حكمه ، فَيَصِيرُ الْقَوَدُ مَوْقُوفًا عَلَى الشُّفْرَيْنِ كَمَا كَانَ الْقَوَدُ فِي جِنَايَةِ الرَّجُلِ مَوْقُوفًا عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ اعْتِبَارًا بِالتَّجَانُسِ . فَإِنْ بَانَ الْخُنْثَى رَجُلًا سَقَطَ الْقَوَدُ فِي الشُّفْرَيْنِ لِزِيَادَتِهِمَا عَلَى الْخِلْقَةِ وَكَانَ لَهُ دِيَتَا رَجُلٍ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ ، وَحُكُومَةٌ فِي الشُّفْرَيْنِ . وَإِنْ بَانَ امْرَأَةً أُقِيدَ مِنَ الشُّفْرَيْنِ ، وَأُعْطِيَ حُكُومَةً فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ .

وَإِنْ بَقِيَ عَلَى إِشْكَالِهِ وَعَفَا عَنِ الْقَوَدِ أُعْطِيَ أَقَلَّ الْحَقَّيْنِ ، وَهُوَ دِيَةُ امْرَأَةٍ فِي الشُّفْرَيْنِ وَحُكُومَةٌ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ ، وَرُوعِيَ مَا تَبَيَّنَ مِنْ أَمْرِهِ ، فَإِنْ بَانَ امْرَأَةً فَقَدِ اسْتَوْفَتْ حَقَّهَا ، وَإِنْ بَانَ رَجُلًا كَمُلَ لَهُ دِيَتَا رَجُلٍ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ ، وَحُكُومَةٌ فِي الشُّفْرَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْفُ عَنِ الْقَوَدِ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى الشُّفْرَيْنِ ، وَأُعْطِيَ إِذَا قِيلَ بِإِعْطَاءِ الْمَالِ مَعَ الْوَقْفِ عَلَى الْقَوَدِ حُكُومَةً فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ ، فَإِنْ بَانَ امْرَأَةً أُقِيدَ مِنَ الشُّفْرَيْنِ ، وَقَدِ اسْتَوْفَى حُكُومَةَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ . وَإِنْ بَانَ رَجُلًا أُسْقِطَ الْقَوَدُ فِي الشُّفْرَيْنِ ، وَكَمُلَ لَهُ دِيَتَا رَجُلٍ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ ، وَحُكُومَةٌ فِي الشُّفْرَيْنِ ، فَلَوِ اشْتَرَكَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْخُنْثَى رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فَقَطَعَا مَعًا ذَكَرَهُ وَأُنْثَيَيْهِ وَشُفْرَيْهِ سَقَطَ عَنِ الرَّجُلِ الْقَوَدُ فِي الشُّفْرَيْنِ ، وَكَانَ الْقَوَدُ مَعَهَا مَوْقُوفًا عَلَى التَّعْيِينِ . فَإِنْ بَانَ رَجُلًا أُقِيدَ بِذَكَرِهِ وَأُنْثَيَيْهِ مِنَ الرَّجُلِ ، وَأُخِذَ مِنَ المَرْأَةِ نِصْفُ حُكُومَةِ الشُّفْرَيْنِ مَعَ النِّصْفِ مِنْ دِيَتَيْ رَجُلٍ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ ، لِأَنَّهَا أَحَدُ جَانِبَيْنِ ، وَإِنْ بَانَ امْرَأَةً أُقِيدَ بِشُفْرَيْهِ مِنَ المَرْأَةِ ، وَكَانَ عَلَى الرَّجُلِ نِصْفُ حُكُومَةِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ مَعَ النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ امْرَأَةٍ عَلَى الشُّفْرَيْنِ : لِأَنَّهُ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ خُنْثَى مُشْكِلٌ جَنَى عَلَى رَجُلٍ فَقَطَعَ ذَكَرَهُ وَأُنْثَيَيْهِ حكمه . فَإِنْ طَلَبَ الْقَوَدَ وُقِفَ عَلَى الْبَيَانِ . فَإِنْ بَانَ رَجُلًا أُقِيدَ مِنْ ذَكَرِهِ وَأُنْثَيَيْهِ . وَإِنْ بَانَ امْرَأَةً فَلَا قَوَدَ ، عَلَيْهَا دِيَتَانِ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ . فَإِنْ بَقِيَ الْخُنْثَى عَلَى إِشْكَالِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ بِمَالٍ إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقَوَدِ ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مَعَ الْقَوَدِ مَالًا بِخِلَافِ مَا مَضَى وَلَكِنْ لَوْ عَفَا عَنِ الْقَوَدِ فِي الْأُنْثَيَيْنِ ، وَطَلَبَ الْقَوَدَ فِي الذَّكَرِ أُعْطِيَ دِيَةَ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَوُقِفَ الْقَوَدُ فِي الذَّكَرِ عَلَى الْبَيَانِ ، فَإِنْ بَانَ رَجُلًا أُقِيدَ مِنْهُ ، وَإِنْ بَانَ امْرَأَةً أُخِذَ مِنْهَا دِيَةُ الذَّكَرِ وَسَقَطَ فِيهِ الْقَوَدُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ : فَهُوَ خُنْثَى مُشْكِلٌ جَنَى عَلَى امْرَأَةٍ فَقَطَعَ شُفْرَيْهَا حكمه فَإِنْ طَلَبَتِ الْقَوَدَ وُقِفَ عَلَى الْبَيَانِ . فَإِنْ بَانَ امْرَأَةً أُقِيدَ مِنْ شُفْرَيْهَا . وَإِنْ كَانَ رَجُلًا فَلَا قَوَدَ ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ دِيَةُ امْرَأَةٍ فِي الشُّفْرَيْنِ ، فَلَوْ قَطَعَ مَعَ شُفْرَيِ الْمَرْأَةِ أَعْلَى الرُّكَبِ وَهُوَ مَنَابِتُ الشَّعْرِ لَمْ يُسْتَحَقَّ فِيهِ قَوَدٌ ، لِأَنَّهُ لَحْمٌ لَيْسَ لِانْتِهَائِهِ حَدٌّ ، وَوَجَبَتْ فِيهِ حُكُومَةٌ وَلَمْ تَجِبْ فِيهِ دِيَةٌ ، لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِغَيْرِهِ ، فَإِنْ قُطِعَ مَعَ الشُّفْرَيْنِ وَجَبَ

الْقَوَدُ فِي الشُّفْرَيْنِ ، وَالْحُكُومَةُ فِي الرَّكَبِ ، فَإِنْ سَقَطَ الْقَوَدُ فِي الشُّفْرَيْنِ ، وَجَبَ فِي الشُّفْرَيْنِ دِيَةٌ ، وَفِي الرَّكَبِ حُكُومَةٌ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الْخَامِسُ : وَهُوَ خُنْثَى مُشْكِلٌ جَنَى عَلَى خُنْثَى مُشْكِلٍ فَقَطَعَ ذَكَرَهُ وَأُنْثَيَيْهِ وَشُفْرَيْهِ حكمه وُقِفَ الْقَوَدُ عَلَى الْبَيَانِ وَلَهُمَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَبِينَا رَجُلَيْنِ فَيُسْتَحَقُّ الْقَوَدُ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ ، وَحُكُومَةٌ فِي الشُّفْرَيْنِ إِلَّا أَنْ يُمْكِنَ الْقَوَدُ مِنْهُمَا لِتَمَاثُلِهِمَا فِي الزِّيَادَةِ مِنْهُمَا ، فَيُقَادُ مِنَ الزَّائِدِ بِالزَّائِدِ عِنْدَ التَّمَاثُلِ كَمَا قِيدَ مِنَ الأَصْلِ بِالْأَصْلِ لِأَجْلِ التَّمَاثُلِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَبِينَا امْرَأَتَيْنِ فَيُقَادُ مِنَ الشُّفْرَيْنِ ، وَيُؤْخَذُ حُكُومَةٌ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ إِلَّا أَنْ يَتَمَاثَلَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيُقَادَا بِالزَّائِدِ كَمَا قِيدَ بِالْأَصْلِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَبِينَ أَحَدُهُمَا رَجُلًا وَالْآخَرُ امْرَأَةً فَيَسْقُطُ الْقَوَدُ لِاخْتِلَافِ التَّجَانُسِ وَعَدَمِ التَّمَاثُلِ فِي الْأَصْلِ وَالزَّائِدِ . وَيُنْظَرُ فِي الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، فَإِنْ بَانَ رَجُلًا أُعْطِيَ دِيَتَيْ رَجُلٍ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ ، وَحُكُومَةً فِي الشُّفْرَيْنِ . وَإِنْ بَانَ امْرَأَةً أُعْطِيَتْ دِيَةَ امْرَأَةٍ فِي الشُّفْرَيْنِ ، وَحُكُومَةً فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ . فَإِنْ مَاتَا مَعَ بَقَاءِ إِشْكَالِهِمَا جَازَ أَنْ يُعْتَبَرَ بَعْدَ الْمَوْتِ بَيَانُ حَالِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ دُونَ الْجَانِي : لِأَنَّ بَيَانَ الْجَانِي مَوْقُوفٌ عَلَى الْقَوَدِ وَقَدْ سَقَطَ بِالْمَوْتِ ، وَبَيَانَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الدِّيَةِ وَهِيَ مُسْتَحَقَّةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ ، فَإِنْ لَمْ يَبِنْ بَعْدَ الْمَوْتِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ وَجَبَ أَقَلُّ الْحَقَّيْنِ . فَإِنِ اخْتَلَفَ وَارِثُهُمَا فَادَّعَى وَارِثُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَكْثَرَهُمَا ، وَاعْتَرَفَ وَارِثُ الْجَانِي بِأَقَلِّهِمَا لَمْ يَكُنْ لِلدَّعْوَى وَالْإِقْرَارِ تَأْثِيرٌ ، أَلَا تَرَى أَنْ يَصِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَالَ الْخُنْثَى بِمَا يُوَافِقُ قَوْلَهُ ، فَإِنْ أَخَلَّا بِالصِّفَةِ اطُّرِحَ قَوْلُهُمَا وَوَجَبَ أَقَلُّ الْحَقَّيْنِ ، وَإِنْ وَصَفَاهُ بِمَا يُوَافِقُ قَوْلَهُمَا وَعَدِمَا الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ عُرِضَتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِمَا ، فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَنَكَلَ الْآخَرُ قُضِيَ بِيَمِينِ الْحَالِفِ عَلَى النَّاكِلِ ، وَإِنْ حَلَفَا مَعًا تَعَارَضَتِ الْيَمِينَانِ وَسَقَطَتَا ، وَأَوْجَبْنَا أَقَلَّ الْحَقَّيْنِ اعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا خُلِقَ لِرَجُلٍ ذَكَرَانِ ، فَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْ أَحَدِهِمَا ، وَلَا يَبُولُ مِنَ الآخَرِ ، فَالذَّكَرُ هُوَ الَّذِي يَبُولُ مِنْهُ ، وَفِيهِ الْقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ ، وَلَا قَوَدَ فِي الْآخَرِ ، وَفِيهِ حُكُومَةٌ . وَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْهُمَا فَأَكْثَرُهُمَا بَوْلًا وَأَقْوَاهُمَا خُرُوجًا هُوَ الذَّكَرُ ، وَفِيهِ الْقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ ، وَفِي الْآخَرِ حُكُومَةٌ ، فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الْبَوْلِ فَالَّذِي يَنْتَشِرُ مِنْهُمَا وَيَنْقَبِضُ هُوَ الذَّكَرُ .

وَإِنْ كَانَا فِي الِانْتِشَارِ وَالِانْقِبَاضِ سَوَاءٌ ، فَالثَّابِتُ فِي مَحَلِّ الذَّكَرِ الْمُنْفَرِدِ هُوَ الذَّكَرُ وَالْمُنْحَرِفُ زَائِدٌ ، فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي مَحَلِّ الذَّكَرِ ، وَلَمْ يَتَمَيَّزْ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ بِوَصْفٍ زَائِدٍ فَهُمَا جَمِيعًا ذَكَرٌ زَائِدٌ لَا يَجِبُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَوَدٌ ، وَفِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَزِيَادَةُ حُكُومَةٍ ، لِأَنَّهُ أَزْيَدُ مِنْ نِصْفِ ذَكَرٍ ، فَإِنْ قُطِعَا مَعًا وَجَبَ فِيهِمَا الْقَوَدُ ، وَزِيَادَةُ حُكُومَةٍ فِي الزِّيَادَةِ كَالْكَفَّيْنِ عَلَى ذِرَاعٍ .

بَابُ الْخِيَارِ فِي الْقِصَاصِ

مَسْأَلَةٌ قَتْلُ الْعَمْدِ مُوجِبٌ لِلْقَوَدِ وَلِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ إِلَى الدِّيَةِ

بَابُ الْخِيَارِ فِي الْقِصَاصِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : ثُمَّ أَنْتُمْ يَا بَنِي خُزَاعَةَ قَدْ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلٍ وَأَنَا وَاللَّهِ عَاقِلُهُ فَمَنْ قَتَلَ قَتِيلًا بَعْدَهُ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الْعَقْلَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَتْلُ الْعَمْدِ مُوجِبٌ لِلْقَوَدِ وَلِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ إِلَى الدِّيَةِ ، وَلَا يَفْتَقِرَ إِلَى مُرَاضَاةِ الْقَاتِلِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : قَتْلُ الْعَمْدِ مُوجِبٌ لِلْقَوَدِ وَحْدَهُ وَلَا تَجِبُ لَهُ الدِّيَةُ إِلَّا بِمُرَاضَاةِ الْقَاتِلِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [ الْمَائِدَةِ : 45 ] وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنْ لَا يَجِبَ فِي النَّفْسِ غَيْرُ النَّفْسِ . وَقَالَ تَعَالَى : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ [ الْبَقَرَةِ : 178 ] وَفِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْقِصَاصِ إِيجَابُ مَا لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الأَبْدَالِ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ . وَلِأَنَّ الْقَتْلَ مُوجِبٌ لِلْقَوَدِ فِي عَمْدِهِ ، وَالدِّيَةِ فِي خَطَئِهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنِ الدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ إِلَى غَيْرِهَا إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ لَمْ يَجِبْ أَنْ يُعْدَلَ عَنِ الْقَوَدِ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ . وَلِأَنَّ الْقَتْلَ يُسْتَحَقُّ بِالْقَوَدِ تَارَةً ، وَبِالدَّفْعِ عَنِ النَّفْسِ أُخْرَى ، فَلَمَّا لَمْ يُمْلَكْ بَدَلُ قَتْلِهِ دَفْعًا لَمْ يُمْلَكْ بَدَلُ قَتْلِهِ قَوَدًا . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [ الْبَقَرَةِ : 178 ] مَعْنَاهُ : فَمَنْ عَفَا لَهُ عَنِ الْقِصَاصِ فَلْيُتْبِعِ الْوَلِيُّ الدِّيَةَ بِمَعْرُوفٍ ، وَيُؤَدِّيَهَا الْقَاتِلُ بِإِحْسَانٍ فَجَعَلَ لِلْوَلِيِّ الْإِتْبَاعَ ، وَعَلَى الْقَاتِلِ الْأَدَاءُ ، فَلَمَّا تَفَرَّدَ الْقَاتِلُ بِالْأَدَاءِ وَجَبَ أَنْ يَنْفَرِدَ الْوَلِيُّ بِالْإِتْبَاعِ وَلَا يَقِفَ عَلَى الْمُرَاضَاةِ .

وَحَدِيثُ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ أَنْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : ثُمَّ أَنْتُمْ يَا خُزَاعَةُ قَدْ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلٍ وَأَنَا - وَاللَّهِ - عَاقِلُهُ ، فَمَنْ قَتَلَ قَتِيلًا بَعْدَهُ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا ، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الْعَقْلَ . فَجَعَلَ الْوَلِيَّ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ وَهَذَا نَصٌّ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ : إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا وَإِنْ أَحَبُّوا فَادَوْا وَالْمُفَادَاةُ لَا تَكُونُ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ . قِيلَ : هَذِهِ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ ، وَتُحْمَلُ الْمُفَادَاةُ فِيهَا عَلَى بَذْلِ الدِّيَةِ الَّتِي لَا تُسْتَحَقُّ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ ، وَيُحْمَلُ خَبَرُنَا فِي خِيَارِ الْوَلِيِّ عَلَى أَصْلِ الدِّيَةِ الَّتِي لَا تَفْتَقِرُ إِلَى مُرَاضَاةٍ لِيُسْتَعْمَلَ الْخَبَرَيْنِ ، وَلَا يَسْقُطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ ، وَلِأَنَّ الْقَوَدَ قَدْ يَسْقُطُ بِعَفْوِ الْوَلِيِّ إِذَا كَانَ وَاحِدًا ، وَيَعْفُو أَحَدُهُمْ إِذَا كَانُوا جَمَاعَةً ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ سُقُوطَهُ بِعَفْوِ أَحَدِهِمْ مُوجِبٌ لِلدِّيَةِ بِغَيْرِ مُرَاضَاةٍ فَكَذَلِكَ يَكُونُ وُجُوبُهَا بِعَفْوِ جَمِيعِهِمْ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّهُ قَوَدٌ سَقَطَ بِالْعَفْوِ عَنْهُ فَلَمْ تَقِفِ الدِّيَةُ فِيهِ عَلَى مُرَاضَاةٍ كَمَا لَوْ عَفَا عَنْهُ أَحَدُهُمْ . وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْقَوَدِ لَا يَمْنَعُ مِنِ اخْتِيَارِ الدِّيَةِ كَمَا لَوْ قَطَعَ كَفًّا كَامِلَةَ الْأَصَابِعِ ، وَفِي كَفِّهِ أَرْبَعَةُ أَصَابِعَ كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ . فَإِنْ أَحَبَّ الدِّيَةَ أَخَذَ دِيَةً كَامِلَةً ، وَإِنْ أَحَبَّ الْقِصَاصَ اقْتُصَّ عِنْدَهُمْ بِالْكَفِّ النَّاقِصَةِ ، وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهَا ، وَعِنْدَنَا يُقْتَصُّ مِنْهَا ، وَيُؤْخَذُ دِيَةُ الْأُصْبُعِ النَّاقِصَةِ مِنْ كَفِّ الْجَانِي ، وَلِأَنَّ لِلْقَتْلِ بَدَلَيْنِ ، أَغْلَظُهُمَا الْقَوَدُ وَأَخَفُّهُمَا الدِّيَةُ فَلَمَّا مَلَكَ الْقَوَدَ الْأَغْلَظَ بِغَيْرِ مُرَاضَاةٍ كَانَ بِأَنْ يَمْلِكَ الدِّيَةَ الْأَخَفَّ بِغَيْرِ مُرَاضَاةٍ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ قَتْلَ الْعَمْدِ أَغْلَظُ وَقَتْلَ الْخَطَأِ أَخَفُّ ، فَلَمَّا مَلَكَ الدِّيَةَ فِي أَخَفِّهِمَا فَأَوْلَى أَنْ يَمْلِكَهَا فِي أَغْلَظِهِمَا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَتَيْنِ : فَهُوَ أَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِيهِمَا لَا يَمْنَعُ مِنَ العَفْوِ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ كَالْمُرَاضَاةِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى إِتْلَافِ الْمَالِ فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ - الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ - إِلَّا بَدَلٌ وَاحِدٌ ، وَلِلْقَتْلِ بَدَلَانِ فَافْتَرَقَا . وَقَوْلُهُمْ : لَمَّا لَمْ يَمْلِكِ الْعُدُولَ عَنْ دِيَةِ الْخَطَأِ إِلَّا بِالْمُرَاضَاةِ كَذَلِكَ الْقَوَدُ الْعَمْدُ . فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْقَوَدَ أَغْلَظُ وَالِدِّيَةَ أَخَفُّ فَمَلَكَ إِسْقَاطَ الْأَغْلَظِ بِالْأَخَفِّ ، وَلَمْ يَمْلِكْ إِسْقَاطَ الْأَخَفِّ بِالْأَغْلَظِ ، وَمَا اعْتَبَرُوهُ مِنْ قَتْلِ الدَّفْعِ الَّذِي لَا يَمْلِكُ فِيهِ الدِّيَةَ فَلَا يُشْبِهُ قَتْلَ الْقَوَدِ ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ بِقَتْلِ الدَّفْعِ إِحْيَاءَ نَفْسِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْدِلَهَا بِالدِّيَةِ مُرَاضَاةً وَلَا اخْتِيَارًا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَتْلُ الْقَوَدِ ، لِأَنَّهُ مَلَكَ بِهِ اسْتِيفَاءَ حَقٍّ يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهُ

بِالْمُرَاضَاةِ ، فَجَازَ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهُ بِغَيْرِ مُرَاضَاةٍ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الدِّيَةِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ لَا يَقِفُ عَلَى مُرَاضَاةِ الْقَاتِلِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا يُوجِبُهُ قَتْلُ الْعَمْدِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُوجِبٌ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ مِنَ القَوَدِ ، أَوِ الدِّيَةِ ، وَكِلَاهُمَا بَدَلٌ مِنَ النَّفْسِ ، وَلَيْسَتِ الدِّيَةُ بَدَلًا مِنَ القَوَدِ ، وَالْوَلِيُّ فِيهِمَا بِالْخِيَارِ ، كَالْحَالِفِ مُخَيَّرٌ فِي الْكَفَّارَةِ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالْكُسْوَةِ وَالْعِتْقِ . وَوَجْهُ ذَلِكَ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُ النَّبِيِّ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَمَنْ قَتَلَ بَعْدَهُ قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ ، إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا ، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الْعَقْلَ وَتَخَيُّرُهُمْ بَيْنَ الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلًا مِنَ القَتْلِ كَالْكَفَّارَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ مِنْ نَفْسِ الْمَقْتُولِ دُونَ الْقَاتِلِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ قَتَلَتْ رَجُلًا وَجَبَ عَلَيْهَا دِيَةُ الرَّجُلِ ، فَلَوْ جُعِلَتِ الدِّيَةُ بَدَلًا مِنَ القَوَدِ صَارَتْ بَدَلًا مِنْ نَفْسِ الْقَاتِلِ دُونَ الْمَقْتُولِ ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا قَتَلَتْ رَجُلًا أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهَا دِيَةُ امْرَأَةٍ ، إِذًا ثَبَتَ أَنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ مِنْ نَفْسِ الْمَقْتُولِ جَرَتْ مَجْرَى الْقَوَدِ فَصَارَا وَاجِبَيْنِ بِالْقَتْلِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ قَتْلَ الْعَمْدِ مُوجِبٌ لِلْقَوَدِ وَحْدَهُ ، وَهُوَ بَدَلُ النَّفْسِ ، فَإِنْ عُدِلَ عَنْهُ إِلَى الدِّيَةِ كَانَتْ بَدَلًا مِنَ القَوَدِ فَيَصِيرُ بَدَلًا عَنِ النَّفْسِ . وَوَجْهُهُ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الَّذِي يَجِبُ لَهُ الْقِصَاصُ وَحْدَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ قَتْلَ الْخَطَأِ لَمَّا أَوْجَبَ بَدَلًا وَاحِدًا ، وَهُوَ الدِّيَةُ اعْتِبَارًا بِالْمُتْلَفَاتِ الَّتِي لَيْسَ بِهَا مِثْلٌ ، اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ قَتْلُ الْعَمْدِ مُوجِبًا لِبَدَلٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ الْقَوَدُ اعْتِبَارًا بِالْمُتْلَفَاتِ الَّتِي لَهَا مِثْلٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ كَانَ الْقَوَدُ مُسْتَحَقًّا عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ وَتَرَتَّبَ اسْتِحْقَاقُ الدِّيَةِ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ . فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ قَتْلَ الْعَمْدِ مُوجِبٌ لِأَحَدِ شَيْئَيْنِ إِمَّا الْقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ فَلِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ فِي الِاخْتِيَارِ وَالْعَفْوِ سَبْعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَخْتَارَ الْقَوَدَ ، فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُ مِنَ الدِّيَةِ إِلَّا أَنْ يَقْتَصَّ ، فَإِنْ عَدَلَ عَنِ الْقَوَدِ إِلَى الدِّيَةِ اسْتَحَقَّهَا ، لِأَنَّهُ قَدْ عَدَلَ بِهَا عَنِ الْأَغْلَظِ إِلَى الْأَخَفِّ .

وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَخْتَارَ الدِّيَةَ فَيُعْطَاهَا ، وَيَسْقُطَ حَقُّهُ مِنَ القَوَدِ لِمَا فِي الْعُدُولِ إِلَيْهِ مِنَ الانْتِقَالِ عَنِ الْأَخَفِّ إِلَى الْأَغْلَظِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَخْتَارَ الْقَوَدَ وَالدِّيَةَ فَلَا يَكُونُ لِاخْتِيَارِهِ تَأْثِيرٌ ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يُعَيِّنْ بِالِاخْتِيَارِ أَحَدَهُمَا . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقَوَدِ فَيَتَعَيَّنُ حَقُّهُ فِي الدِّيَةِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْهَا إِلَى الْقَوَدِ إِلَّا بَعْدَ سُقُوطِهِ بِالْعَفْوِ ، وَلِأَنَّهُ انْتِقَالٌ عَنِ الْأَخَفِّ إِلَى الْأَغْلَظِ . وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ : أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الدِّيَةِ فَلَهُ الْقَوَدُ ، وَلَا يَكُونُ لِعَفْوِهِ عَنِ الدِّيَةِ تَأْثِيرٌ ، وَلَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنَ القَوَدِ إِلَى الدِّيَةِ ، لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنَ الأَغْلَظِ إِلَى الْأَخَفِّ . وَالْحَالُ السَّادِسَةُ : أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ فَيَصِحُّ عَفْوُهُ عَنْهُمَا وَلَا يَسْتَحِقُّ بَعْدَ الْعَفْوِ وَاحِدًا مِنْهُمَا مِنْ قَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ . وَالْحَالُ السَّابِعَةُ : أَنْ يَقُولَ قَدْ عَفَوْتُ عَنْ حَقِّي فَيَكُونُ عَفْوًا عَنِ الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ مَعًا لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُمَا . وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ قَتْلَ الْعَمْدِ مُوجِبٌ لِلْقَوَدِ وَحْدَهُ وَلَا تَجِبُ الدِّيَةُ إِلَّا بِالِاخْتِيَارِ بَدَلًا مِنَ القَوَدِ فَلِلْوَلِيِّ فِي اخْتِيَارِهِ وَعَفْوِهِ سَبْعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَخْتَارَ الْقَوَدَ فَلَا يَسْقُطُ بِهَذَا الِاخْتِيَارِ حَقُّهُ مِنِ اخْتِيَارِ الدِّيَةِ وَقْتَ اسْتِحْقَاقِهَا لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ اخْتِيَارَهَا بَعْدَ سُقُوطِ حَقِّهِ مِنَ القَوَدِ ، فَصَارَ كَالْإِبْرَاءِ مِنَ الحَقِّ قَبْلَ وُجُوبِهِ ، لَا يُبْرِئُهُ مِنْ ذَلِكَ الْحَقِّ بَعْدَ وُجُوبِهِ ، وَلَا يَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ بِهَذَا الِاخْتِيَارِ ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ وَلَيْسَ بِحَقٍّ عَلَيْهِ فَصَارَ هَذَا الِاخْتِيَارُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَخْتَارَ الدِّيَةَ فَيَكُونُ فِي اخْتِيَارِهَا إِسْقَاطٌ لِحَقِّهِ مِنَ القَوَدِ فَيُحْكَمُ لَهُ بِالدِّيَةِ وَيَسْقُطُ الْقَوَدُ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَخْتَارَ الْقَوَدَ وَالدِّيَةَ فَلَا يَكُونُ لِهَذَا الِاخْتِيَارِ تَأْثِيرٌ فِي الْقَوَدِ وَلَا فِي الدِّيَةِ ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يُعَيِّنْ بِالِاخْتِيَارِ أَحَدَهُمَا فَيَسْتَوِي حُكْمُ الِاخْتِيَارِ ، وَهَذِهِ الْأَحْوَالُ الثَّلَاثُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا ، وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ فِي الْأَحْوَالِ الْأَرْبَعِ فِي الْعَفْوِ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقَوَدِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَخْتَارَ الدِّيَةَ مَعَ عَفْوِهِ عَنِ الْقَوَدِ ، فَيَسْقُطُ حَقُّهُ مِنَ القَوَدِ بِالْعَفْوِ وَتَجِبُ لَهُ الدِّيَةُ بِالِاخْتِيَارِ .

وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْعَفْوِ عَنِ الْقَوَدِ ، وَلَا يُعِلَّهُ بِاخْتِيَارِ الدِّيَةِ فَيَسْقُطُ الْقَوَدُ بِالْعَفْوِ عَنْهُ وَفِي الدِّيَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : نَصَّ عَلَيْهِ فِي جِرَاحِ الْعَمْدِ - أَنَّ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ الدِّيَةَ مِنْ بَعْدُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ " الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ " أَنَّهُ قَدْ سَقَطَ حَقُّهُ مِنَ الدِّيَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَهَا مِنْ بَعْدُ . وَأَصْلُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُدَّعِي إِذَا قَامَ شَاهِدًا وَامْتَنَعَ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهِ ، وَعُرِضَتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُنْكَرِ فَنَكَلَ عَنْهَا ، فَهَلْ تُرَدُّ عَلَى الْمُدَّعِي أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ : أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الدِّيَةِ فَلَا يَكُونُ لِعَفْوِهِ تَأْثِيرٌ فِي الْقَوَدِ وَلَا فِي الدِّيَةِ ، لِأَنَّ الْقَوَدَ لَمْ يُعْفَ عَنْهُ ، وَالدِّيَةَ لَمْ يَسْتَحِقَّهَا مَعَ بَقَاءِ الْقَوَدِ ، فَلَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ عَنْهَا . وَالْحَالُ السَّادِسَةُ : أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقَوَدِ فَيَسْقُطُ الْقَوَدُ بِعَفْوِهِ عَنْهُ ، وَفِي سُقُوطِ الدِّيَةِ بِعَفْوِهِ عَنْهُمَا قَوْلَانِ حَكَاهُمَا أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي " جَامِعِهِ " . أَحَدُهُمَا : يَصِحُّ عَفْوُهُ عَنْهَا لِاقْتِرَانِهِ بِالْعَفْوِ عَنِ الْقَوَدِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْهَا ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي وَقْتِ الِاخْتِيَارِ بَعْدَ الْقَوَدِ . فَعَلَى هَذَا إِنِ اخْتَارَ الدِّيَةَ فِي الْحَالِ وَجَبَتْ لَهُ ، فَإِنِ اخْتَارَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ القَوْلَيْنِ . وَالْحَالُ السَّابِعَةُ : أَنْ يَعْفُوَ عَنْ حَقِّهِ فَيَسْقُطُ الْقَوَدُ ، لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ وَلَا يَسْقُطُ الدِّيَةَ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّهَا ، فَإِنْ عَجَّلَ اخْتِيَارَهَا وَجَبَتْ لَهُ وَإِنْ لَمْ يُعَجِّلْهُ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَجِبُ لَهُ الدِّيَةُ إِنِ اخْتَارَهَا . وَالثَّانِي : لَا تَجِبُ لَهُ وَقَدْ سَقَطَ حَقُّهُ مِنْهَا بِتَأْخِيرِ الِاخْتِيَارِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ الْعَقْلَ يُورَثُ كَالْمَالِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ الْعَقْلَ يُورَثُ كَالْمَالِ وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَكُلُّ وَارِثٍ وَلِيَ زَوْجَةً أَوِ ابْنَةً لَا يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنْ وِلَايَةِ الدَّمِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الدِّيَةُ فَمُوَرَّثَةٌ مِيرَاثَ الْأَمْوَالِ بَيْنَ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنْ ذَوِي الْأَنْسَابِ وَالْأَسْبَابِ ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ الْعَقْلَ مَوْرُوثٌ . إِلَّا حِكَايَةً شَاذَّةً عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ لَمْ يُوَرِّثِ الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ وَالْإِخْوَةَ مِنَ الأُمِّ شَيْئًا مِنَ الدِّيَةِ وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . رَوَى سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ خَطَأً

فَقَضَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِدِيَتِهِ عَلَى عَاقِلَتِهِ فَجَاءَتِ امْرَأَتُهُ تَطْلُبُ مِيرَاثَهَا مِنْ عَقْلِ زَوْجِهَا فَقَالَ عُمَرُ : لَا أَعْلَمُ لَكِ شَيْئًا ، إِنَّمَا الدِّيَةُ لِلْعَصَبَةِ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ عَنْهُ ، فَقَامَ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلَابِيُّ فَقَالَ : كَتَبَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُنِي أَنْ أُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضِّبَابِيِّ مِنْ عَقْلِ زَوْجِهَا أَشْيَمَ فَوَرَّثَهَا عُمَرُ . وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : الْمَرْأَةُ تَرِثُ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا وَعَقْلِهِ وَيَرِثُ هُوَ مِنْ مَالِهَا وَعَقْلِهَا . وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى أَنَّ الْعَقْلَ مِيرَاثٌ بَيْنَ وَرَثَةِ الْقَتِيلِ عَلَى فَرَائِضِهِمْ . وَرَوَى الشَّعْبِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَّثَ امْرَأَةً مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا ، وَوَرَّثَ زَوْجًا مِنْ دِيَةِ امْرَأَتِهِ .

فَصْلٌ الْقَوَدُ مَوْرُوثٌ مِيرَاثَ الْأَمْوَالِ بَيْنَ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ عَلَى فَرَائِضِهِمْ

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْقَوَدُ فَهُوَ عِنْدَنَا مَوْرُوثٌ مِيرَاثَ الْأَمْوَالِ بَيْنَ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَلَى فَرَائِضِهِمْ . وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَرِثُهُ رِجَالُ الْعَصَبَاتِ مِنْ ذَوِي الْأَنْسَابِ دُونَ النِّسَاءِ وَدُونَ الْأَسْبَابِ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : يَرِثُهُ ذَوُوا الْأَنْسَابِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ دُونَ ذَوِي الْأَسْبَابِ . وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [ الْإِسْرَاءِ : 33 ] وَالْوَلِيُّ يَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ مِنَ العَصَبَاتِ فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا حَقَّ فِيهِ لِغَيْرِهِمْ ، وَلِأَنَّ الْقَوَدَ مَوْضُوعٌ لِدَفْعِ الْعَارِ فَأَشْبَهَ وِلَايَةَ النِّكَاحِ فِي اخْتِصَاصِهَا بِرِجَالِ الْعَصَبَاتِ ، وَلِأَنَّ النِّسَاءَ لَوْ وَرِثْنَ الْقَوَدَ لَتَحَمَّلْنَ الْعَقْلَ كَالْعَصَبَاتِ ، وَهُنَّ لَا يَتَحَمَّلْنَ الْعَقْلَ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ مِيرَاثُهُمْ مِنَ القَوَدِ كَالْأَجَانِبِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ قَتَلَ قَتِيلًا بَعْدَهُ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا ، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الْعَقْلَ .

وَمِنْ هَذَا الْخَبَرِ دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَهْلَ عِبَارَةٌ عَنِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنْ ذَوِي الْأَنْسَابِ وَالْأَسْبَابِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ خَيَّرَهُمْ بَيْنَ الدِّيَةِ وَالْقَوَدِ ، وَالدِّيَةُ تَكُونُ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ فَكَذَلِكَ الْقَوَدُ . وَرَوَى الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ حُصَيْنٍ عَنِ ابْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : وَلِأَهْلِ الْقَتِيلِ أَنْ يَنْحَجِزُوا الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ ، وَلَوْ كَانَتِ امْرَأَةً وَمَعْنَى قَوْلِهِ : لِيَنْحَجِزُوا أَنْ يَتْرُكُوا يَعْنِي بِتَرْكِهِمْ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ مِنْ قَوَدٍ وِدِيَةٍ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ وَرِثَ الدِّيَةَ وَرِثَ الْقَوَدَ كَالْعَصَبَةِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ حَقٍّ وَرِثَهُ الْعَصَبَةُ وَرِثَهُ غَيْرُهُمْ مِنَ الوَرَثَةِ كَالدِّيَةِ . فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [ الْإِسْرَاءِ : 33 ] فَقَدْ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْوَلِيِّ عَلَى الْمَرْأَةِ كَمَا يَنْطَلِقُ عَلَى الرَّجُلِ ، لِأَنَّهَا تَلِيهِ وَإِنْ لَمْ تَلِ عَلَيْهِ ، وَلَوْ تَنَاوَلَتْ مَنْ يَلِي عَلَيْهِ لَخَرَجَ مِنْهُمُ الْأَبْنَاءُ وَالْإِخْوَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مُبَاشَرَةُ الِاسْتِيفَاءِ ، وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالنِّكَاحِ فِي وَضْعِهِ لِنَفْيِ الْعَارِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، لِأَنَّ الْقَوَدَ يُسْتَحَقُّ لِلتَّشَفِّي لَا لِنَفْيِ الْعَارِ ، عَلَى أَنَّ وِلَايَةَ النِّكَاحِ لَا تُورَثُ إِنَّمَا تُسْتَفَادُ بِالنَّسَبِ ، وَالْقَوَدُ مَوْرُوثٌ فَافْتَرَقَا . وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ اخْتِصَاصِ الْقَوَدِ ، مَنْ يَتَحَمَّلُ الْعَقْلَ فَاسِدٌ بِالْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالصِّغَارِ وَالْفُقَرَاءِ كُلُّ هَؤُلَاءِ يَرِثُونَ الْقَوَدَ ، وَلَا يَتَحَمَّلُونَ الْعَقْلَ كَذَلِكَ النِّسَاءُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَوَدَ مَوْرُوثٌ كَالْمَالِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْقَتِيلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَنْ يَكُونَ لَهُ وَرَثَةٌ يَسْتَحِقُّونَ جَمِيعَ مَالِهِ فَلَهُمُ الْخِيَارُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ : إِمَّا الْقَوَدُ ، أَوِ الدِّيَةُ أَوِ الْعَفْوُ عَنْهُمَا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وَارِثٌ بِحَالٍ فَالْإِمَامُ وَلِيُّهُ لِأَنَّهُ مَوْرُوثٌ لِبَيْتِ الْمَالِ ، وَلِلْإِمَامِ الِاخْتِيَارُ فِي اعْتِبَارِ الْأَصْلَحِ مِنْ أَمْرَيْنِ : الْقَوَدِ ، أَوِ الدِّيَةِ ، وَهَلْ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْعَفْوِ عَنْهُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ الْخِيَارُ فِي الْعَفْوِ عَنْهُمَا كَالْوَرَثَةِ . وَالثَّانِي : لَا خِيَارَ لَهُ فِي الْعَفْوِ عَنْهُمَا : لِأَنَّهُ نَائِبٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْقِطَ الْحَقَّ بِغَيْرِ بَدَلٍ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنَ الوَرَثَةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ بَعْضَ تَرِكَتِهِ كَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ

فَلَيْسَ لِهَذَا الْوَارِثِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْقَوَدِ ، لِأَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ بِالْمِيرَاثِ ، وَشَرِيكُهُ فِي اسْتِيفَائِهِ الْإِمَامُ ، لِأَنَّ بَاقِيَ التَّرِكَةِ مِيرَاثٌ لِبَيْتِ الْمَالِ . فَإِنِ اتَّفَقَ الْوَارِثُ وَالْإِمَامُ عَلَى الْقَوَدِ وَجَبَ ، وَإِنْ أَرَادَهُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ سَقَطَ ، وَاسْتَحَقَّ الدِّيَةَ ، وَكَانَ الْوَارِثُ فِي حَقِّهِ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ الِاسْتِيفَاءِ وَالْعَفْوِ ، وَفِي خِيَارِ الْإِمَامِ فِي حَقِّ بَيْتِ الْمَالِ فِيهِمَا وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى .

مَسْأَلَةٌ إِذَا كَانَ وَرَثَةُ الْقَتِيلِ أَهْلَ رُشْدٍ فَلَيْسَ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْقَوَدِ دُونَ شُرَكَائِهِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَا يُقْتَلُ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمْ وَيُحْبَسُ الْقَاتِلُ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ وَيَبْلُغَ الطِّفْلُ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَعْتُوهٌ فَحَتَّى يُفِيقَ أَوْ يَمُوتَ فَيَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا كَانَ وَرَثَةُ الْقَتِيلِ أَهْلَ رُشْدٍ لَا وِلَايَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، فَلَيْسَ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْقَوَدِ دُونَ شُرَكَائِهِ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْذِنَ مَنْ حَضَرَ وَيَنْتَظِرَ مَنْ غَابَ ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الْعَقْلَ فَأَمَّا إِنْ كَانَ فِيهِمْ مَوْلًى عَلَيْهِ لِعَدَمِ رُشْدِهِ بِجُنُونٍ أَوْ صِغَرٍ ورثة القتيل فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ . فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْقَوَدَ مَوْقُوفٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ الرَّشِيدُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّغِيرُ وَيُفِيقَ الْمَجْنُونُ ، وَيَجْتَمِعُونَ عَلَى اسْتِيفَائِهِ ، وَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّ الصَّغِيرِ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ فِي الِاسْتِيفَاءِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : يَجُوزُ لِلرَّشِيدِ مِنْهُمْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِاسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ وَلَا يَنْتَظِرَ بُلُوغَ الصَّغِيرِ وَإِفَاقَةَ الْمَجْنُونِ ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَحِقُّهُ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا جَازَ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ فِي اسْتِيفَائِهِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [ الْإِسْرَاءِ : 33 ] فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ الْوَلِيُّ الْوَاحِدُ . وَلِأَنَّ ابْنَ مُلْجِمٍ قَتَلَ عَلِيًّا رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَاقْتَصَّ مِنْهُ ابْنُهُ الْحَسَنُ ، وَقَدْ شَارَكَهُ مِنْ إِخْوَتِهِ صِغَارٌ لَمْ يَبْلُغُوا ، وَلَمْ يَقِفِ الْقَوَدُ عَلَى بُلُوغِهِمْ وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَصَارَ إِجْمَاعًا عَلَى جَوَازِ تَفَرُّدِهِ بِهِ . قَالَ : وَلِأَنَّ لِلْقَوَدِ حَقًّا يَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ فَجَازَ إِذَا لَمْ يَتَبَعَّضْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ بَعْضُهُمْ كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ ، وَلِأَنَّ الْقَوَدَ إِذَا وَجَبَ لِجَمَاعَةٍ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَتَفَرَّدَ بِاسْتِيفَائِهِ وَاحِدٌ ، كَالْقَتِيلِ إِذَا لَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا اسْتَحَقَّ قَوَدَهُ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ ، وَكَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِاسْتِيفَائِهِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَنْ قَتَلَ بَعْدَهُ قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا ، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الْعَقْلَ فَجَعَلَ ذَلِكَ لِجَمَاعَتِهِمْ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ بَعْضُهُمْ ، لِمَا فِيهِ مِنَ

الْعُدُولِ عَنْ مُقْتَضَى الْخَبَرِ . وَلِأَنَّ الْقَوَدَ إِذَا تَعَيَّنَ لِجَمَاعَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ بَعْضُهُمْ ، كَمَا لَوْ كَانُوا جَمِيعًا أَهْلَ رُشْدٍ . وَلِأَنَّ الْقَوَدَ أَحَدُ بَدَلَيِ النَّفْسِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ بَعْضُ الْوَرَثَةِ كَالدِّيَةِ . وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَنْفَرِدْ بِاسْتِيفَاءِ الدِّيَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِاسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ كَالْأَجَانِبِ . وَأَمَّا الْآيَةُ فَمَحْمُولَةٌ عَلَى الْوَلِيِّ إِذَا كَانَ وَاحِدًا . وَأَمَّا تَفَرُّدُ الْحَسَنِ بِقَتْلِ ابْنِ مُلْجِمٍ لَعَنَهُ اللَّهُ فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي شُرَكَائِهِ مِنَ البَالِغِينَ مَنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهُ ، لِأَنَّ عَلِيًّا خَلَّفَ حِينَ قُتِلَ عَلَى مَا حَكَاهُ بَعْضُ أَهْلِ النَّقْلِ سِتَّةَ عَشَرَ ذَكَرًا وَسِتَّ عَشْرَةَ أُنْثَى فَيَكُونُ جَوَابُهُمْ عَنْ تَرْكِ اسْتِئْذَانِهِ لِلْأَكَابِرِ جَوَابَنَا فِي تَرْكِ وُقُوفِهِ عَلَى بُلُوغِ الْأَصَاغِرِ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ ابْنَ مُلْجِمٍ انْحَتَمَ قَتْلُهُ لِسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ ، لِأَنَّ مَنْ قَتَلَ إِمَامَ عَدْلٍ فَقَدْ سَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا فَصَارَ مَحْتُومَ الْقَتْلِ ، لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ فَلَا يَلْزَمُ اسْتِئْذَانُ الْوَرَثَةِ فِيهِ . وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ : أَنَّ ابْنَ مُلْجِمٍ اسْتَحَلَّ قَتْلَ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَصَارَ بِاسْتِحْلَالِهِ قَتْلَهُ كَافِرًا ، لِأَنَّ مَنِ اسْتَحَلَّ قَتْلَ إِمَامِ عَدْلٍ كَانَ كَافِرًا فَقَتَلَهُ الْحَسَنُ لِكُفْرِهِ وَلَمْ يَقْتُلْهُ قَوَدًا ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْقَظَ عَلِيًّا مِنْ نَوْمِهِ فِي بَعْضِ الْأَسْفَارِ ، وَقَدْ سِيقَتِ الرِّيحُ عَلَيْهِ التُّرَابُ ، فَقَالَ : قُمْ يَا أَبَا تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ : أَتَعْرِفُ أَشْقَى الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ قَالَ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : أَشْقَى الْأَوَّلِينَ عَاقِرُ نَاقَةِ صَالِحٍ ، وَأَشْقَى الْآخِرِينَ مَنْ خَضَّبَ هَذِهِ مِنْ هَذَا ، وَأَشَارَ إِلَى خِضَابِ لِحْيَتِهِ مِنْ دَمِ رَأْسِهِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَسَنُ عَرَفَ بِهَذَا الْخَبَرِ كُفْرَ ابْنِ مُلْجِمٍ لَعَنَهُ اللَّهُ لِاعْتِقَادِهِ اسْتِبَاحَةَ قَتْلِ عَلِيٍّ فَقَتَلَهُ بِذَلِكَ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى وِلَايَةِ النِّكَاحِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ وِلَايَةَ النِّكَاحِ يَسْتَحِقُّهَا الْأَكَابِرُ دُونَ الْأَصَاغِرِ ، فَجَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهَا الْأَكَابِرُ وَالْقَوَدُ يَسْتَحِقُّهُ الْأَكَابِرُ وَالْأَصَاغِرُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ الْأَكَابِرُ . وَالثَّانِي : أَنَّ وِلَايَةَ النِّكَاحِ يَسْتَحِقُّهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَجَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهَا أَحَدُهُمْ . وَالْقَوَدُ يَسْتَحِقُّهُ جَمِيعُهُمْ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ بَعْضُهُمْ .

فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ تَفَرُّدِ الْإِمَامِ بِالْقَوَدِ فِيمَنْ وَرِثَهُ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَعَيَّنْ مُسْتَحِقُّهُ وَكَانَ لِلْكَافَّةِ ، تَفَرَّدَ بِهِ مَنْ وَلِيَ أُمُورَهُمْ ، وَهَذَا قَدْ تَعَيَّنَ مُسْتَحِقُّهُ فَافْتَرَقَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُقُوفُ الْقَوَدِ عَلَى بُلُوغِ الصَّبِيِّ وَإِفَاقَةِ الْمَجْنُونِ وَجَبَ حَبْسُ الْقَاتِلِ إِلَى وَقْتِ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ لِيُحْفَظَ حَقُّهُمَا بِحَبْسِهِ وَلَا يُطْلَقُ ، وَإِنْ أَعْطَى كَفِيلًا بِنَفْسِهِ ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لَا يُمْلَكُ اسْتِيفَاؤُهُ إِلَّا مِنْهُ ، وَالْمُتَوَلِّي لِحَبْسِهِ الْإِمَامُ دُونَ الْوَلِيِّ ، لِأَنَّ أَمْرَ الْحَاكِمِ أَنْفَذُ مِنْ أَمْرِهِ ، فَإِنْ أَرَادَ الْوَلِيُّ أَنْ يُلَازِمَهُ لَمْ يُمْنَعْ ، وَلَا يَقِفُ حَبْسُ الْحَاكِمِ لَهُ عَلَى الِاسْتِعْدَاءِ إِلَيْهِ ، وَيَنْفَرِدُ بِهِ إِذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ الْقَتْلُ لِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حِفْظِ الْحُقُوقِ عَلَى مَنْ يُوَلَّى عَلَيْهِ ، وَلَوْ كَانَ فِي الْوَرَثَةِ رَشِيدٌ غَائِبٌ لَمْ يَلْزَمِ الْحَاكِمَ حَبْسُ الْقَاتِلِ إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِدْعَاءِ إِلَيْهِ ، لِأَنَّ مُسْتَحِقَّ الْقَوَدِ رَشِيدٌ لَا يُوَلَّى عَلَيْهِ ، وَهَكَذَا لَوْ غَصَبَ دَارًا لِغَائِبٍ جَازَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَنْزِعَهَا مِنَ الغَاصِبِ إِنْ كَانَ مَالِكُهَا مُوَلِّيًا عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَزِعَهَا مِنْهُ إِنْ كَانَ مَالِكُهَا رَشِيدًا ، فَإِنْ أَرَادَ وَلِيُّ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقَوَدِ إِلَى غَيْرِ مَالٍ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ أَرَادَ الْعَفْوَ عَنِ الْقَوَدِ إِلَى الدِّيَةِ نُظِرَ فِي الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ ، فَإِنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ غَيْرَ مُحْتَاجَيْنِ إِلَى الْمَالِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ الْعَفْوُ عَنِ الْقَوَدِ ، وَإِنْ عَفَا بَطَلَ عَفْوُهُ ، وَإِنْ كَانَا فَقِيرَيْنِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ لَهُمَا مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُمَا ، فَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقَوَدِ لِاسْتِغْنَائِهِمَا مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُمَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمَا مَنْ يَلْتَزِمُ نَفَقَتَهُمَا وَهُمَا مِنْ ذَوِي الْفَاقَةِ إِلَى قَدْرِ نَفَقَتِهِمَا ، فَفِي جَوَازِ عَفْوِ وَلِيِّهِمَا عَنِ الْقَوَدِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لِلضَّرُورَةِ اعْتِبَارًا بِمَصْلَحَتِهِمَا . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّهِمَا ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا ثَالِثًا أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ الْمُوَلَّى فَإِنْ كَانَ مُنَاسِبًا أَوْ وَصِيًّا لَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ ، وَإِنْ كَانَ حَاكِمًا صَحَّ عَفْوُهُ ، لِأَنَّهُ حَكَمٌ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِاجْتِهَادِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ أَيُّهُمْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ كَانَ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الدِّيَةِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَأَيُّهُمْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ كَانَ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الدِّيَةِ وَإِنْ عَفَا عَلَى غَيْرِ مَالٍ كَانَ الْبَاقُونَ عَلَى حُقُوقِهِمْ مِنَ الدِّيَةِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِنْ عَفَا عَلَى غَيْرِ مَالٍ كَانَ الْبَاقُونَ عَلَى حُقُوقِهِمْ مِنَ الدِّيَةِ إِذَا كَانَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ جَمَاعَةً فَعَفَا أَحَدُهُمْ عَنِ الْقَوَدِ سَقَطَ جَمِيعُ الْقَوَدِ فِي حُقُوقِ جَمَاعَتِهِمْ ، وَلَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَقْتَصَّ سَوَاءٌ عَفَا أَقَلُّهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ .

وَقَالَ مَالِكٌ : يَجُوزُ لِمَنْ لَمْ يَعْفُ أَنْ يَقْتَصَّ وَلَوْ كَانَ وَاحِدًا مِنْ جَمَاعَةٍ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَوْ سَقَطَ حَقُّهُ بِعَفْوِ غَيْرِهِ لَكَانَ السُّلْطَانُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ، وَلِأَنَّ الْقَوَدَ مَوْضُوعٌ لِنَفْيِ الْمَعَرَّةِ كَحَدِّ الْقَذْفِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يَسْقُطُ بِعَفْوِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ ، كَذَلِكَ الْقَوَدُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِمَثَابَتِهِمْ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَفْوُ بَعْضِهِمْ عَنِ الدِّيَةِ مُؤَثِّرًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَفْوُهُ عَنِ الْقَوَدِ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ وَهُوَ مَحْمُولٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ عَلَى عَفْوِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ ، لِأَنَّهُ جَاءَ بِذِكْرِ الشَّيْءِ مُنْكِرًا ، وَجَعَلَ عَفْوَهُ مُوجِبًا لِاتِّبَاعِ الدِّيَةِ بِمَعْرُوفٍ ، وَأَنْ تُؤَدَّى إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ وَيُحْمَلُ عَلَى عُمُومِ الْعَفْوِّ مِنَ الوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَنْ قَتَلَ بَعْدَهُ قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا ، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الْعَقْلَ فَجَعَلَ الْخِيَارَ فِي الْقَوَدِ لِجَمِيعِ أَهْلِهِ لَا لِبَعْضِهِمْ ، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَطَالَبَ أَوْلِيَاؤُهُ بِالْقَوَدِ فَقَالَتْ أُخْتُ الْمَقْتُولِ وَهِيَ زَوْجَةُ الْقَاتِلِ : عَفَوْتُ عَنْ حَقِّي مِنَ القَوَدِ ، فَقَالَ عُمَرُ : اللَّهُ أَكْبَرُ ، عُتِقَ الرَّجُلُ . يَعْنِي مِنَ القَوَدِ ، وَلَمْ يُخَالِفْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ أَحَدٌ مَعَ انْتِشَارِهِ فِيهِمْ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ ، وَلِأَنَّ الْقَوَدَ أَحَدُ بَدَلَيِ النَّفْسِ فَلَمْ يَكُنْ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِاسْتِيفَاءِ جَمِيعِهِ كَالدِّيَةِ ، وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ قَدْ مَلَكَ بِالْعَفْوِ بَعْضَ نَفْسِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَوِيَ فِي الْبَاقِي مِنْهَا كَالْعِتْقِ ، وَلِأَنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ فِي نَفْسِ الْقَاتِلِ إِيجَابُ الْقَوَدِ وَإِسْقَاطُهُ فَوَجَبَ أَنْ يَغْلِبَ حُكْمُ الْإِسْقَاطِ عَلَى الْإِيجَابِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوَدَ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ ، وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الشُّبَهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ لِسُقُوطِ مَا وَجَبَ مِنْهُ بَدَلًا وَهُوَ الدِّيَةُ ، وَلَيْسَ لِلْإِيجَابِ مَا سَقَطَ مِنْهُ بَدَلٌ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَقَدْ مَضَى . وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوَدِ وَحَدِّ الْقَذْفِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّهُمْ فِي الْقَوَدِ مُشْتَرِكُونَ وَفِي الْحَدِّ مُنْفَرِدُونَ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمْ بِاسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ وَجَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِاسْتِيفَاءِ الْحَدِّ ، وَإِنَّمَا اشْتَرَكُوا جَمِيعًا فِي الْقَوَدِ وَانْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي الْحَدِّ لِأَمْرَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ مَلَكُوا الْقَوَدَ مِيرَاثًا عَنْ مَيِّتِهِمْ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ نَفْسِهِ فَاشْتَرَكُوا فِيهِ كَالدِّيَةِ وَمَلَكُوا الْحَدَّ نِيَابَةً عَنْ مَيِّتِهِمْ لِنَفْيِ الْعَارِ عَنْهُ فَانْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْقَوَدَ بَدَلٌ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْعَفْوِ حَقُّ مَنْ لَمْ يَعْفُ ، فَلِذَلِكَ مَا اشْتَرَكُوا وَلَيْسَ لِلْحَدِّ بَدَلٌ فَانْفَرَدَ ، وَلِئَلَّا يَسْقُطَ بِالْعَفْوِ حَقُّ مَنْ لَمْ يَعْفُ ، وَأَمَّا الدِّيَةُ فَإِنَّمَا لَمْ تُسْقِطْ بِالْعَفْوِ حَقَّ مَنْ لَمْ يَعْفُ ، لِأَنَّهَا تَتَبَعَّضُ فَصَحَّ أَنْ يَنْفَرِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاسْتِيفَائِهِ حَقَّهُ ، لِأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى اسْتِيفَاؤُهُ إِلَى حَقِّ شَرِيكِهِ وَالْقَوَدُ لَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يُمْكِنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنْهُ إِلَّا بِالتَّعَدِّي إِلَى حَقِّ شَرِيكِهِ ، فَسَرَى الْعَفْوُ عَنِ الْقَوَدِ وَلَمْ يَسْرِ الْعَفْوُ عَنِ الدِّيَةِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَفْوَ أَحَدِهِمْ مُوجِبٌ لِسُقُوطِ الْقَوَدِ فِي حَقِّ جَمِيعِهِمُ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى الدِّيَةِ ، أَمَّا مَنْ لَمْ يَعْفُ فَقَدْ مَلَكُوا حُقُوقَهُمْ مِنَ الدِّيَةِ بِسُقُوطِ الْقَوَدِ وَلَا يَقِفُ مِلْكُ الدِّيَةِ عَلَى اخْتِيَارِهِمْ لِأَنَّ الْقَتْلَ قَدْ صَارَ فِي حُقُوقِهِمْ بِسُقُوطِ الْقَوَدِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ جَارِيًا مَجْرَى قَتْلِ عَمْدِ الْخَطَأِ الَّذِي لَا يَجِبُ فِيهِ قَوَدٌ ، وَيَمْلِكُ بِهِ الدِّيَةَ بِنَفْسِ الْقَتْلِ كَذَلِكَ هَاهُنَا ، وَأَمَّا الدِّيَةُ فِي حَقِّ الْعَافِي فَمُعْتَبَرَةٌ بِعَفْوِهِ عَنِ الْقَوَدِ ، فَإِنْ قَرَنَهُ بِاخْتِيَارِ الدِّيَةِ وَجَبَ لَهُ حَقُّهُ مِنْهَا ، وَإِنْ لَمْ يَقْرِنْهُ بِاخْتِيَارِ الدِّيَةِ كَانَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ القَوْلَيْنِ فِي الَّذِي أَوْجَبَهُ قَتْلُ الْعَمْدِ ، ثُمَّ عَلَى مَا مَضَى مِنَ التَّفْصِيلِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَإِنْ عَفَوْا جَمِيعًا وَعَفَا الْمُفْلِسُ يُجْنَى عَلَيْهِ أَوْ عَلَى عَبْدِهِ الْقِصَاصُ جَازَ ذَلِكَ لَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الدَّيْنِ وَالْوَصَايَا مَنْعُهُمْ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يُمْلَكُ بِالْعَمْدِ إِلَّا بِمَشِيئَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ حَيًّا وَبِمَشِيئَةِ الْوَرَثَةِ إِنْ كَانَ مَيِّتًا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ يُشْبِهُ هَذَا الِاعْتِلَالُ أَصْلَهُ لِأَنَّهُ احْتَجَّ فِي أَنَّ الْعَفْوَ يُوجِبُ الدِّيَةَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالُ عَفَا إِنْ صُولِحَ عَلَى مَالٍ لِأَنَّ الْعَفْوَ تَرْكٌ بِلَا عِوَضٍ فَلَمْ يَجُزْ إِذَا عَفَا عَنِ الْقَتْلِ الَذِي هُوَ أَعْظَمُ الْأَمْرَيْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ فِي مَالِ الْقَاتِلِ أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ وَلَوْ كَانَ إِذَا عَفَا لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ لِلْعَافِي مَا يُتْبِعُهُ بِمَعْرُوفٍ وَلَا عَلَى الْقَاتِلِ مَا يُؤَدِّيهِ بِإِحْسَانٍ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : فَهَذَا مَالٌ بِلَا مَشِيئَةٍ ، أَوَلَا تَرَاهُ يَقُولُ إِنَّ عَفْوَ الْمَحْجُورِ القصاص جَائِزٌ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ فِي مَالِهِ ، وَعَفْوُهُ الْمَالَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ نَقْصٌ فِي مَالِهِ وَهَذَا مَالٌ بِغَيْرِ مَشِيئَةٍ فَأَقْرَبُ إِلَى وَجْهِ مَا قَالَ عِنْدِي فِي الْعَفْوِ الَّذِي لَيْسَ لِأَهْلِ الدَّيْنِ مَنْعُهُ مِنْهُ هُوَ أَنْ يُبَرِئَّهُ مِنَ القِصَاصِ وَيَقُولُ بِغَيْرِ مَالٍ فَيَسْقُطَانِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الْوَارِثِ لِقَتْلِ الْعَمْدِ فِي عَفْوِهِ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ جَائِزَ الْأَمْرِ مَالِكَ التَّصَرُّفِ عفو الْوَارِثِ لِقَتْلِ الْعَمْدِ فَيَصِحُّ عَفْوُهُ عَنِ الْقَوَدِ وَعَنِ الدِّيَةِ جَمِيعًا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ قَلَمٌ كَالصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ عفو الْوَارِثِ لِقَتْلِ الْعَمْدِ ، فَلَا يَصِحُّ عَفْوُهُ عَنِ الْقَوَدِ وَلَا عَنِ الدِّيَةِ جَمِيعًا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حَجْرٌ مِنْ وَجْهٍ وَإِنْ جَرَى عَلَيْهِ الْقَلَمُ ، فَهَذَا قَدْ يُسْتَحَقُّ مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَعَلَّقَ بِتَرِكَةِ الْمَقْتُولِ دُيُونٌ وَوَصَايَا فَتَتَعَلَّقُ بِدَيْنِهِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِتَرِكَتِهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، فَيَصِيرُ الْوَارِثُ فِي حُكْمِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِيهَا حَتَّى تُقْضَى الدُّيُونُ وَتُنَفَّذَ الْوَصَايَا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْوَارِثُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ فِي حُقُوقِ غُرَمَائِهِ حَتَّى يَسْتَوْعِبُوا مَالَهُ فِي دُيُونِهِمْ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْوَارِثُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ ، لِسَفَهٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ حِفْظًا لِمَالِهِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ الْوَارِثُ مَرِيضًا يُمْنَعُ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ مِنَ العَطَاءِ إِلَّا فِي ثُلْثِهِ فَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ يَصِحُّ عَفْوُهُمْ عَنِ الْقَوَدِ إِلَى الدِّيَةِ ، لِأَنَّ الْقَوَدَ لَا يُؤَثِّرُ فِي حُقُوقِهِمْ وَالْعَفْوَ عَنْهُ أَرْفَقُ بِهِمْ وَفِي صِحَّةِ عَفْوِهِمْ عَنِ الدِّيَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَصِحُّ مِنْ جَمِيعِهِمْ ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ قَتْلَ الْعَمْدِ فِيهِ مُوجِبًا لِلْقَوَدِ وَحْدَهُ وَالدِّيَةُ لَا تَجِبُ إِلَّا بِاخْتِيَارِ الْوَارِثِ ، فَيَصِحُّ عَفْوُهُ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا فَيُعَارَضُ فِيهِ وَلَا يَمْلِكُهَا إِلَّا بِالِاخْتِيَارِ ، وَهُوَ لَا يُجْبَرُ عَلَى الِاخْتِيَارِ ، لِأَنَّهُ اكْتِسَابٌ عَمَّا لَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ الْوَصَايَا وَالْهِبَاتِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ عَفْوَ الثَّلَاثَةِ بَاطِلٌ لَا يَصِحُّ ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ قَتْلَ الْعَمْدِ فِيهِ مُوجِبًا لِلْقَوَدِ ، أَوِ الدِّيَةَ ، لِأَنَّهُ عَفْوٌ عَنْ مَالٍ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ . فَأَمَّا الْمَرِيضُ فَعَفْوُهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مُعْتَبَرٌ مِنْ ثُلْثِهِ ، فَإِنِ احْتَمَلَ ثُلْثُهُ جَمِيعَ الدِّيَةِ صَحَّ عَفْوُهُ عَنْهَا ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ غَيْرَهَا صَحَّ عَفْوُهُ عَنْ ثُلْثِهَا وَبَطَلَ عَنْ بَاقِيهَا فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الرَّدُّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَنْعِهِ مِنَ الدِّيَةِ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ .

وَالثَّانِي : فِي اخْتِيَارِهِ لِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ قَتْلَ الْعَمْدِ مُوجِبٌ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ مِنَ القَوَدِ أَوِ الدِّيَةِ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فَسَلِمَ كَلَامُهُ فِيهِ ، وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فَالْتَبَسَ عَلَيْهِ حَتَّى اخْتَلَطَ تَعْلِيلُهُ ، وَضَعُفَ دَلِيلُهُ وَفِي كَشْفِهِ إِطَالَةٌ يُقْتَصَرُ فِيهَا عَلَى سَبْرِهِ عِنْدَ تَأَمُّلِهِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

بَابُ الْقِصَاصِ بِالسَّيْفِ وَغَيْرِهِ

مَسْأَلَةٌ مَا أَوْجَبَ الْقِصَاصَ مِنَ الجِنَايَاتِ

بَابُ الْقِصَاصِ بِالسَّيْفِ وَغَيْرِهِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا قَالَ : وَإِذَا خَلَّى الْحَاكِمُ الْوَلِيَّ وَقَتَلَ الْقَاتِلَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْمُرَ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى سَيْفِهِ فَإِنْ كَانَ صَارِمًا وَإِلَّا أَمَرَهُ بِصَارِمٍ لِئَلَّا يُعَذِّبَهُ ثُمَّ يَدَعُهُ وَضَرْبَ عُنُقِهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : مَا أَوْجَبَ الْقِصَاصَ مِنَ الجِنَايَاتِ ضَرْبَانِ : طَرَفٌ ، وَنَفْسٌ . فَأَمَّا الطَّرَفُ فَلَا يُمْكِنُ مُسْتَحِقُّ الْقِصَاصِ مِنَ اسْتِيفَائِهِ بِنَفْسِهِ ، لِمَا يَخَافُ مِنْ تَعَدِّيهِ إِلَى مَا لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ ، وَأَمَّا النَّفْسُ فَيَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَتَوَلَّى اسْتِيفَاءَ الْقَوَدِ مِنْهَا بِنَفْسِهِ إِذَا قَدَرَ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ لِلْآيَةِ وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا وَكَمَا يَسْتَوْفِي جَمِيعَ حُقُوقِهِ بِنَفْسِهِ ، وَلِأَنَّ الْقَوَدَ مَوْضُوعٌ لِلتَّشَفِّي فَكَانَتِ الْمُبَاشَرَةُ فِيهِ أَشْفَى ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاسْتِيفَاؤُهُ لِلْقَوَدِ مُعْتَبَرٌ بِسِتَّةِ شُرُوطٍ الولى : أَحَدُهَا : أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ لِيُمَيِّزَ الْعَمْدَ الْمَحْضَ مِنْ عَمْدِ الْخَطَأِ ، وَلِيَتَعَيَّنَ بِالْحُكْمِ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ ، وَلِئَلَّا يَتَسَرَّعَ النَّاسُ إِلَى اسْتِبَاحَةِ الدِّمَاءِ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي شروط مستوفي القصاص : أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْفِيهِ رَجُلًا فَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً مُنِعَتْ ، لِمَا فِيهِ مِنْ بَذْلَتِهَا وَظُهُورِ عَوْرَتِهَا . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ شروط مستوفي القصاص : أَنْ يَكُونَ ثَابِتَ النَّفْسِ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ ، فَإِنْ ضَعُفَتْ مُنِعَ . وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ شروط مستوفي القصاص : أَنْ يَعْرِفَ الْقَوَدَ وَيُحْسِنَ إِصَابَةَ الْمَفْصِلِ ، فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ مُنِعَ . وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ شروط مستوفي القصاص : أَنْ يَكُونَ قَوِيَّ الْيَدِ نَافِذَ الضَّرْبَةِ ، فَإِنْ ضَعُفَتْ يَدُهُ لِشَلَلٍ أَوْ مَرَضٍ مُنِعَ . فَإِذَا تَكَامَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْخَمْسَةُ وَصَارَ بِهَا مِنْ أَهْلِ الِاسْتِيفَاءِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْوَلِيِّ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا أَوْ عَدَدًا ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا قَامَ بِاسْتِيفَائِهِ ، وَإِنْ كَانُوا عَدَدًا خَرَجَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَتَكَامَلْ فِيهِ شُرُوطُ الِاسْتِيفَاءِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِكَ الْبَاقُونَ فِيهِ حَتَّى يَتَوَلَّاهُ أَحَدُهُمْ ، فَإِنْ سَلَّمُوهُ لِأَحَدِهِمْ كَانَ أَحَقَّهُمْ بِهِ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِيهِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ ، فَمَنْ قَرَعَ كَانَ أَحَقَّهُمْ بِاسْتِيفَائِهِ ، فَإِذَا تَعَيَّنَ الِاسْتِيفَاءُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمُ اعْتُبِرَ فِي اسْتِيفَائِهِ عَشَرَةُ أَشْيَاءَ :

أَحَدُهَا : حُضُورُ الْحَاكِمِ القصاص الَّذِي حَكَمَ لَهُ بِالْقَوَدِ ، أَوْ نَائِبٌ عَنْهُ لِيَكُونَ حُضُورُهُ تَنْفِيذًا لِحُكْمِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَحْضُرَهُ شَاهِدَانِ لِيَكُونَا بَيِّنَةً فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ أَوْ فِي التَّعَدِّي بِظُلْمٍ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَحْضُرَ مَعَهُ مِنَ الأَعْوَانِ مَنْ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِمْ أَعَانُوا ، فَرُبَّمَا حَدَثَ مَا يَحْتَاجُ إِلَى كَفٍّ وَرَدْعٍ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يُؤْمَرَ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ بِمَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاةِ يَوْمِهِ ، لِيَحْفَظَ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الإِضَاعَةِ . وَالْخَامِسُ : أَنْ يُؤْمَرَ بِالْوَصِيَّةِ فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ مِنَ الحُقُوقِ ، لِيَحْفَظَ بِهَا حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ . وَالسَّادِسُ : أَنْ يُؤْمَرَ بِالتَّوْبَةِ مِنْ ذُنُوبِهِ ، لِيَزُولَ عِنْدَ مَآثِمِ الْمَعَاصِي . وَالسَّابِعُ : أَنْ يُسَاقَ إِلَى مَوْضِعِ الْقِصَاصِ سَوْقًا رَفِيقًا ، وَلَا يُكَلَّمُ بِخَنَا وَلَا شَتْمٍ . وَالثَّامِنُ : أَنْ تُسْتَرَ عَوْرَتُهُ بِشِدَادٍ حَتَّى لَا تَبْرُزَ لِلْأَبْصَارِ . وَالتَّاسِعُ : أَنْ تُشَدَّ عَيْنَيْهِ بِعِصَابَةٍ حَتَّى لَا يَرَى الْقَتْلَ وَيُتْرَكُ مَمْدُودَ الْعُنُقِ ، حَتَّى لَا يَعْدِلَ السَّيْفُ عَنْ عُنُقِهِ . وَالْعَاشِرُ : أَنْ يَكُونَ سَيْفُ الْقِصَاصِ صَارِمًا لَيْسَ بِكَالٍّ وَلَا مَسْمُومٍ ، لِأَنَّ الْكَالَّ وَالْمَسْمُومَ يُفْسِدُ لَحْمَهُ وَيَمْنَعُ مِنْ غُسْلِهِ ، فَيُرَاعَى سَيْفُ الْوَلِيِّ ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الصِّفَةِ الْمَطْلُوبَةِ وَإِلَّا الْتَمَسَ سَيْفًا عَلَى صِفَتِهِ أَوْ أُعْطِيَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا هَذِهِ الشُّرُوطَ وَالْأَوْصَافَ إِحْسَانًا فِي الِاسْتِيفَاءِ ، وَمَنْعًا مِنَ التَّعْذِيبِ ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْإِحْسَانَ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ . وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ " نَهَى عَنْ تَعْذِيبِ الْبَهَائِمِ " فَكَانَ النَّهْيُ عَنْ تَعْذِيبِ الْآدَمِيِّينَ أَحَقُّ .

مَسْأَلَةٌ مَحَلُّ الْقِصَاصِ مِنَ النَّفْسِ فَهُوَ الْعُنُقُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِنْ ضَرَبَهُ بِمَا لَا يُخْطَئُ بِمِثْلِهِ مِنْ قَطْعِ رِجْلٍ أَوْ وَسَطٍ عُزِّرَ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَلِي الْعُنُقَ مِنْ رَأْسِهِ أَوْ كَتِفِهِ فَلَا عُقُوبَةَ عَلَيْهِ وَأَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى أَنْ يَأْمُرَ مَنْ يُحْسِنُ ضَرْبَ الْعُنُقِ لِيُوجِيَهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا مَحَلُّ الْقِصَاصِ مِنَ النَّفْسِ فَهُوَ الْعُنُقُ يُضْرَبُ بِالسَّيْفِ مِنْ جِهَةِ الْقَفَا ، لِأَنَّهُ أَمْكَنُ وَالسَّيْفُ فِيهِ أَمْضَى حَتَّى يَقْطَعَ الْمَرِيءَ وَالْوَدَجَيْنِ ، وَلَا يُرَاعِي قَطْعَ الْحُلْقُومِ إِذَا لَمْ يَنْتَهِ السَّيْفُ إِلَيْهِ ، لِأَنَّ فِي قَطْعِ الْمَرِيءِ وَالْوَدَجَيْنِ تَوْجِئَةً ، وَإِنْ كَانَ قَطْعُ الْحُلْقُومِ مَعَهُ أَوْجَى ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ بِهِ إِلَى الذَّبْحِ الْمُعْتَبَرِ فِي تَذْكِيَةِ الْبَهَائِمِ :

لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْحُرْمَةِ وَاخْتِلَافِهِمَا فِي الْحُكْمِ ، فَإِنْ وَصَلَ بِالضَّرْبَةِ الْوَاحِدَةِ إِلَى مَحَلِّ التَّوْجِئَةِ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَزِدْ ، وَإِنْ لَمْ تَصِلْ إِلَى مَحَلِّ التَّوْجِئَةِ ضَرَبَهُ ثَانِيَةً ، فَإِنْ لَمْ تَصِلِ الثَّانِيَةُ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَالِ سَيْفِهِ فَيُعْطَى غَيْرَهُ مِنَ السُّيُوفِ الصَّارِمَةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَعْفِ يَدِهِ ، فَيُعْدَلُ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ ذَوِي الْقُوَّةِ .

فَصْلٌ : فَإِنْ ضَرَبَهُ فَوَقَعَ السَّيْفُ فِي غَيْرِ عُنُقِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ ولى الدم : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقَعَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَجُوزُ الْغَلَطُ فِي مِثْلِهِ كَضَرْبِهِ لِرِجْلِهِ أَوْ ظَهْرِهِ أَوْ بَطْنِهِ ، فَيُعَزَّرُ لِتَعَدِّيهِ ، وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى الْغَلَطِ فِيهِ ، وَلَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ لِاسْتِحَالَةِ صِدْقِهِ ، وَالْيَمِينُ تَدْخُلُ فِيمَا احْتَمَلَ الصِّدْقَ وَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِيمَا قَطَعَ أَوْ جَرَحَ ، وَلَا غُرْمَ لِأَرْشٍ وَلَا دِيَةٍ : لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ إِتْلَافَ نَفْسِهِ ، وَإِنْ تَعَدَّى بِالسَّيْفِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَقَعَ السَّيْفُ فِي مَوْضِعٍ يَجُوزُ الْغَلَطُ بِمِثْلِهِ كَأَعْلَى الْكَتِفِ وَأَسْفَلِ الرَّأْسِ - سُئِلَ ، فَإِنْ قَالَ : عَمَدْتُ ، عُزِّرَ وَمُنِعَ . وَإِنْ قَالَ : أَخْطَأْتُ أُحْلِفَ عَلَى الْخَطَأِ لِإِمْكَانِهِ وَلَمْ يُعَزَّرْ وَلَمْ يُمْنَعْ مِنَ القِصَاصِ ، فَإِنْ تَابَ بَعْدَ عَمْدِهِ وَأَرَادَ الْعَوْدَ إِلَى الْقِصَاصِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ حَقِّهِ مِنَ الاسْتِيفَاءِ بِقَوْلِهِ : وَأَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى أَنْ يَأْمُرَ مَنْ يُحْسِنُ ضَرْبَ الْعُنُقِ لِيُوجِيَهُ . يُرِيدُ بِهِ الِاسْتِنَابَةَ فِيهِ . وَقَالَ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " : يُمَكِّنُهُ الْحَاكِمُ مِنَ الاسْتِيفَاءِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ ، فَخَرَّجَهُ الْبَصْرِيُّونَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ ، وَخَرَّجَهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَالْمَنْعُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ بَانَ لِلْحَاكِمِ أَنَّهُ لَا يُحْسِنُ الْقِصَاصَ ، وَالتَّمْكِينُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ يُحْسِنُ الْقِصَاصَ .

فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ الْجَانِي قَدْ قَطَعَ يَدَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَقَتَلَهُ ، فَأَرَادَ الْوَلِيُّ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ القَطْعِ وَالْقَتْلِ جَازَ أَنْ يَتَوَلَّى الْقَتْلَ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقَطْعَ بِنَفْسِهِ ، وَإِذَا مُنِعَ مِنَ القَطْعِ وَالْقَتْلِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ غَيْرِ اعْتِرَاضٍ إِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ أَمْرَانِ : الْإِمَاتَةُ ، وَشُرُوطُ الِاسْتِيفَاءِ . فَلَوْ بَادَرَ الْوَلِيُّ وَقَدْ عَدِمَ شُرُوطَ الِاسْتِيفَاءِ فَاقْتَصَّ بِنَفْسِهِ مِنَ النَّفْسِ وَالْأَطْرَافِ لَمْ يُضْمَنْ قَوَدًا وَلَا دِيَةً ، لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَا اسْتَحَقَّ وَيُعَزِّرُهُ الْحَاكِمُ لِافْتِيَاتِهِ . وَلَوْ كَانَ الْوَلِيُّ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِيفَاءِ فَامْتَنَعَ مِنَ اسْتِيفَائِهِ بِنَفْسِهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ وَجَازَ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ ، فَإِنِ اسْتَنَابَ وَإِلَّا اخْتَارَ لَهُ الْحَاكِمُ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ فِي مُبَاشَرَةِ الِاسْتِيفَاءِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَوْفِهِ النَّائِبُ إِلَّا بِأُجْرَةٍ أُعْطِيَ أُجْرَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، لِأَنَّهُ مِنَ المَصَالِحِ الْعَامَّةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَا يُعْطَاهُ كَانَتْ أُجْرَتُهُ فِي مَالِ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ

دُونَ الْمُقْتَصِّ لَهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَكُونُ الْأُجْرَةُ فِي مَالِ الْمُقْتَصِّ لَهُ دُونَ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ .

مَسْأَلَةٌ التَّوْكِيلُ فِي الْقِصَاصِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ( قَالَ ) وَلَوْ أُذِنَ لِرَجُلٍ فَتَنَحَّى بِهِ فَعَفَاهُ الْوَلِيُّ فَقَتَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ ، فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَيْسَ لَهُ عَلَى الْقَاتِلِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يَحْلِفَ بِاللَّهِ مَا عَلِمَهُ عَفَا وَلَا عَلَى الْعَافِي . وَالثَّانِي : أَنْ لَيْسَ عَلَى الْقَاتِلِ قَوَدٌ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ عَلَى أَنَّهُ مُبَاحٌ وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ وَلَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْوَلِيِّ لِأَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ وَهَذَا أَشْبَهُهُمَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : فَالْأَشْبَهُ أَوْلَى بِهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا التَّوْكِيلُ فِي الْقِصَاصِ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : تَوْكِيلٌ فِي إِثْبَاتِهِ . وَالثَّانِي : تَوْكِيلٌ فِي اسْتِيفَائِهِ . وَقَدْ ذَكَرْنَا كِلَا الضَّرْبَيْنِ فِي كِتَابِ " الْوَكَالَةِ " ، وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَيْهِمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . أَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ التَّوْكِيلُ فِي إِثْبَاتِ الْقِصَاصِ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ إِلَّا أَبَا يُوسُفَ وَحْدَهُ ، فَإِنَّهُ مَنَعَ مِنْهُ ، لِأَنَّهُ حَدٌّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّ الشُّبْهَةَ مَا اخْتَصَّتْ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْفَاعِلِ فَلَمْ يَتَعَدَّ إِلَى التَّوْكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ ، وَلِأَنَّ التَّوْكِيلَ فِي الْإِثْبَاتِ مُخْتَصٌّ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَإِثْبَاتِ الْحُجَّةِ ، وَهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ الْمُوَكِّلُ وَتَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ . فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ التَّوْكِيلِ فِي إِثْبَاتِ الْقِصَاصِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ إِلَّا بِإِذْنِ مُوَكِّلِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ إِلَّا ابْنَ أَبِي لَيْلَى وَحْدَهُ ، فَإِنَّهُ جَوَّزَ لَهُ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ وَحْدَهُ بَعْدَ إِثْبَاتِهِ ، لِأَنَّهُ مَقْصُودُ الْإِثْبَاتِ ، فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ فِي الْبَيْعِ يَجُوزُ لَهُ قَبْضُ الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ لِأَنَّهُ مَقْصُودُ الْبَيْعِ وَهَذَا فَاسِدٌ : لِأَنَّ فِعْلَ الْمُوَكِّلِ مَقْصُورٌ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ التَّوْكِيلُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَدَّاهُ وَلِأَنَّ إِثْبَاتَ الْقِصَاصِ يَقِفُ مُوجِبُهُ عَلَى خِيَارِ الْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ ، وَلِأَنَّ فِي اسْتِيفَائِهِ لِلْقِصَاصِ إِتْلَافَ مَا لَا يُسْتَدْرَكُ وَخَالَفَ قَبْضُ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْبَيْعِ قَبْضُ الثَّمَنِ ، وَالْمَقْصُودَ فِي الْقِصَاصِ مُخْتَلِفٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ رَدَّ الثَّمَنِ مُسْتَدْرَكٌ ، وَرَدَّ الْقِصَاصِ غَيْرُ مُسْتَدْرَكٍ ، فَعَلَى هَذَا لَوِ اقْتَصَّ الْوَكِيلُ كَانَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ ، وَيَنْتَقِلُ حَقُّ الْمُوَكِّلِ إِلَى الدِّيَةِ لِفَوَاتِ الْقِصَاصِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : وَهُوَ التَّوْكِيلُ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ حكمه فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ بِمَشْهَدِ الْمُوَكِّلِ فَيَصِحُّ الْوَكِيلُ ، لِأَنَّهَا اسْتِنَابَةٌ فِي مُبَاشَرَةِ الِاسْتِيفَاءِ وَالْمُوَكِّلُ هُوَ الْمُسْتَوْفِي . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُوَكِّلَهُ فِي اسْتِيفَائِهِ مَعَ غَيْبَتِهِ عَنْهُ ، فَظَاهِرُ مَا قَالَهُ هَاهُنَا صِحَّةُ الْوِكَالَةِ ، وَظَاهَرُ مَا قَالَهُ فِي كِتَابِ الْوِكَالَةِ فَسَادُهَا ، فَخَرَّجَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَسَادُهَا . وَالثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ جَوَازِهَا وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ ، وَمَنْ عَدَلَ بِهِمَا مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَى اخْتِلَافِ تَأْوِيلَيْنِ ، وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ مِنْ صِحَّةِ الْوِكَالَةِ وَفَسَادِهَا إِذَا اسْتَوْفَاهُ الْوَكِيلُ كَانَ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّ مُوَكِّلِهِ لِتَصَرُّفِهِ فِيهِ عَنْ إِذْنِهِ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَصُورَةُ مَسْأَلَتِنَا أَنْ يُوَكِّلَهُ فِي الْقِصَاصِ ، ثُمَّ يَعْفُوَ عَنْهُ وَيَسْتَوْفِيَهُ الْوَكِيلُ مِنْهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ الموكل : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْفُوَ بَعْدَ اقْتِصَاصِ الْوَكِيلِ ، فَيَكُونُ عَفْوُهُ بَاطِلًا ، لِأَنَّ عَفْوَهُ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ كَعَفْوِهِ عَنْ دَيْنٍ قَدِ اسْتَوْفَاهُ وَكِيلُهُ وَيَكُونُ عَفْوُهُ بَعْدَ الْقَبْضِ بَاطِلًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَعْفُوَ قَبْلَ أَنْ يَقْتَصَّ الْوَكِيلُ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ مَسَافَةُ الْوَكِيلِ أَبْعَدَ مِنْ زَمَانِ الْعَفْوِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ عَلَى مَسَافَةِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ ، وَيَعْفُوَ الْمُوَكِّلُ قَبْلَ الْقِصَاصِ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ ، فَيَكُونُ عَفْوُهُ بَاطِلًا لَا حُكْمَ لَهُ كَمَا لَوْ رَمَى سِلَاحَهُ عَلَى الْمُقْتَصِّ مِنْهُ ، ثُمَّ عَفَا عَنْهُ قَبْلَ وُصُولِ السِّلَاحِ إِلَيْهِ كَانَ عَفْوُهُ هَدَرًا : لِأَنَّهُ عَفْوٌ عَمَّا لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ مَسَافَةُ الْوَكِيلِ أَقْصَرَ مِنْ زَمَانِ الْعَفْوِ ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ عَلَى مَسَافَةِ خَمْسَةِ أَيَّامٍ وَيَعْفُوَ الْمُوَكِّلُ قَبْلَ اقْتِصَاصِ الْوَكِيلِ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْلَمَ الْوَكِيلُ بِعَفْوِ مُوَكِّلِهِ قَبْلَ الْقِصَاصِ فَيَبْطُلُ حُكْمُ الْإِذْنِ وَيَصِيرُ قَاتِلًا بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ ، وَيَكُونُ الْمُوَكِّلُ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الدِّيَةِ إِنْ لَمْ يَعْفُ عَنْهَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْقَوْلَيْنِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَعْلَمَ الْوَكِيلُ بِعَفْوِ الْمُوَكِّلِ حَتَّى يَقْتَصَّ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ مُسْتَصْحِبٌ حَالَةَ إِبَاحَةٍ ، فَكَانَتْ أَقْوَى شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ ، وَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ :

أَحَدُهُمَا : لَا دِيَةَ عَلَيْهِ اسْتِصْحَابًا لِحَالِ الْإِبَاحَةِ كَالْقَوَدِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : عَلَيْهِ الدِّيَةُ ، لِأَنَّهُ صَادِقُ الْحَظْرِ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ ، فَصَارَ بِعَمْدِ الْخَطَأِ أَشْبَهَ ، وَكَالْحَرْبِيِّ إِذَا أَسْلَمَ وَقَتَلَهُ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِإِسْلَامِهِ ضَمِنَهُ بِالدِّيَةِ دُونَ الْقَوَدِ ، قَدْ أَسْلَمَ الْيَمَانُ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ الْيَمَانِ فَقَتَلَهُ قَوْمٌ مِنَ المُسْلِمِينَ لَمْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِهِ فَقَضَى عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدِيَتِهِ ، وَمِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ خَرَّجَ أَصْحَابُنَا بَيْعَ الْوَكِيلِ بَعْدَ عَزْلِهِ وَقَبْلَ عِلْمِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ بَيْعَهُ بَاطِلٌ لِمُصَادَفَتِهِ حَالَ الْعَزْلِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ صَحِيحٌ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِعَزْلِهِ ، وَمَسْأَلَةُ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي نَسْخِ الْحُكْمِ هَلْ يَلْزَمُ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالنَّسْخِ ، أَمْ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ بِنَسْخِهِ : عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَلْزَمُ إِلَّا بَعْدَ انْتِشَارِهِ وَالْعِلْمِ بِهِ ، لِأَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اسْتَدَارُوا فِي صَلَاتِهِمْ إِلَى الْكَعْبَةِ حِينَ بَلَغَهُمْ تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ إِلَيْهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ فَرْضَ النَّسْخِ لَازِمٌ لِلْكَافَّةِ مَعَ الْبَلَاغِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَشِرْ فِي جَمِيعِهِمْ وَلَا عَلِمَهُ أَكْثَرُهُمْ ، لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْجَمَاعَةِ وَاحِدٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ القَوْلَيْنِ ، فَإِنْ قِيلَ بِالْأَوَّلِ إِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ مِنْ قَوَدٍ وَلَا عَقْلٍ إذا استوفى القصاص ثم عفا الولي فَقَتْلُ الْوَكِيلِ لِلْجَانِي يَكُونُ قَوَدًا وَيَكُونُ عَفْوُ الْمُوَكِّلِ بَاطِلًا . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي الْوَكِيلِ هَلْ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ أَمْ لَا الوكاله بالقصاص : عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَجْرَى عَلَى قَتْلِهِ حُكْمَ اسْتِيفَائِهِ قَوَدًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ كَمَنْ رَمَى دَارَ الْحَرْبِ فَقَتَلَ مُسْلِمًا ضَمِنَهُ وَكَفَّرَ عَنْهُ . وَإِنْ قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي إِنَّ الْوَكِيلَ ضَامِنٌ لِلدِّيَةِ ، فَعَفْوُ الْمُوَكِّلِ صَحِيحٌ وَحَقُّهُ فِي الدِّيَةِ إِذَا اسْتَوْجَبَهَا عَلَى مَا مَضَى مِنَ التَّفْصِيلِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْجَانِي قَاتِلِ أَبِيهِ يَرْجِعُ بِهَا فِي مَالِهِ وَلَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى وَكِيلِهِ ، وَيَرْجِعُ أَوْلِيَاءُ الْقَاتِلِ الْمَقْتُولِ بِدِيَتِهِ عَلَى الْوَكِيلِ ، وَهَلْ تَكُونُ حَالَّةً فِي مَالِ الْوَكِيلِ أَوْ مُؤَجَّلَةً عَلَى عَاقِلَتِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ : تَكُونُ حَالَّةً فِي مَالِهِ مَعَ الْكَفَّارَةِ ، لِأَنَّهُ عَامِدٌ فِي فِعْلِهِ وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقَوَدُ فِيهِ بِشُبْهَتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنُ أَبِيَ هُرَيْرَةَ تَكُونُ مُؤَجَّلَةً عَلَى عَاقِلَتِهِ وَالْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ ، لِأَنَّهُ قَتَلَهُ مُعْتَقِدًا لِاسْتِبَاحَةِ قَتْلِهِ فَصَادَفَ الْحَظْرَ : فَصَارَ خَاطِئًا فَإِذَا أُغْرِمَ الْوَكِيلُ الدِّيَةَ فَفِي رُجُوعِهِ عَلَى مُوَكِّلِهِ بِهَا قَوْلَانِ ، كَالزَّوْجِ الْمَغْرُورِ إِذَا أُغْرِمَ مَهْرَ الْمِثْلِ بِالْغُرُورِ هَلْ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَارِمِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ، لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ قَدْ صَارَ بِعَفْوِهِ غَارًّا

لِلْوَكِيلِ حِينَ لَمْ يُعْلِمْهُ بِعَفْوِهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْوَكِيلُ مُسْتَعْمَلًا أَوْ مُتَطَوِّعًا ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي الْأَطْرَافِ إِذَا اقْتَصَّ مِنْهَا الْوَكِيلُ بَعْدَ الْعَفْوِ .

مَسْأَلَةٌ لَا تُقْتَلُ الْحَامِلُ حَتَّى تَضَعَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَا تُقْتَلُ الْحَامِلُ حَتَّى تَضَعَ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِهَا مُرْضِعٌ فَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ لَوْ تُرِكَتْ بِطِيبِ نَفْسِ الْوَلِيِّ حَتَّى يُوجَدَ لَهُ مُرْضِعٌ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قُتِلَتْ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : إِذَا لَمْ يُوجَدْ لِلْمَوْلُودِ مَا يَحْيَا بِهِ لَمْ يَحِلَّ عِنْدِي قَتْلُهُ بِقَتْلِ أُمِّهِ حَتَّى يُوجَدَ مَا يَحْيَا بِهِ فَتُقْتَلَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى حَامِلٍ أَوْ وَجَبَ عَلَيْهَا وَهِيَ حَائِلٌ فَحَمَلَتْ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهَا حَامِلًا حَتَّى تَضَعَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ [ الْإِسْرَاءِ : 33 ] وَفِي قَتْلِ الْحَامِلِ سَرَفٌ لِلتَّعَدِّي بِقَتْلِ الْحَمْلِ مَعَهَا ، وَلِأَنَّ الْغَامِدِيَّةَ أَقَرَّتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالزِّنَا وَهِيَ حَامِلٌ ، وَقَالَتْ : طَهِّرْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ لَهَا : اذْهَبِي حَتَّى تَضَعِي حَمْلَكِ وَأَمَرَ عُمَرُ بِرَجْمِ امْرَأَةٍ أَقَرَّتْ بِالزِّنَا وَهِيَ حَامِلٌ فَرَدَّهَا عَلِيٌّ ، وَقَالَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : إِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا ، فَقَالَ عُمَرُ : لَوْلَا عَلِيٌّ لَهَلَكَ عُمَرُ . وَقِيلَ : بَلْ كَانَ الْقَائِلُ ذَلِكَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : كَادَ النِّسَاءَ يَعْجِزْنَ أَنْ يَلِدْنَ مِثْلَكَ . وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَلِأَنَّهُ قَدْ تَقَابَلَ فِي الْحَامِلِ حَقَّانِ : أَحَدُهُمَا : يُوجِبُ تَعْجِيلَ قَتْلِهَا وَهُوَ الْقِصَاصُ . وَالثَّانِي : اسْتِبْقَاءُ حَيَاتِهَا وَهُوَ الْحَمْلُ ، فَقُدِّمَ حَقُّ الْحَمْلِ فِي الِاسْتِيفَاءِ عَلَى حَقِّ الْقِصَاصِ فِي التَّعْجِيلِ لِأَنَّ فِي تَعْجِيلِ قَتْلِهَا إِسْقَاطَ أَحَدِ الْحَقَّيْنِ وَفِي إِنْظَارِهَا اسْتِيفَاءَ الْحَقَّيْنِ ، فَكَانَ الْإِنْظَارُ أَوْلَى مِنَ التَّعْجِيلِ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْحَمْلِ أَوْ فِي آخِرِهِ ، عُلِمَ ذَلِكَ بِحَرَكَةِ الْحَمْلِ أَوْ لَمْ يُعْلَمْ إِلَّا بِقَوْلِهَا لِيُسْتَبْرَأَ صِحَّةُ دَعْوَاهَا . وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ : لَا تُقْبَلُ دَعْوَاهَا لِلْحَمْلِ حَتَّى يَشْهَدَ بِهِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ عُدُولٍ ، وَيُعَجَّلُ قَتْلُهَا إِنْ لَمْ يَشْهَدْنَ لَهَا ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [ الْبَقَرَةِ : 228 ] فَكَانَ هَذَا الْوَعِيدُ عَلَى مَا وَجَبَ مِنْ قَبُولِ قَوْلِهَا فِيهِ ، وَتَحْلِفُ عَلَيْهِ إِنِ اتُّهِمَتْ ، فَإِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا أُمْهِلَتْ حَتَّى تُرْضِعَ وَلَدَهَا اللَّبَأَ الَّذِي لَا يَحْيَا الْمَوْلُودُ إِلَّا بِهِ ، وَيَتَعَذَّرُ وُجُودُهُ مِنْ غَيْرِهَا فِي الْأَغْلَبِ ، فَإِذَا أَرْضَعَتْهُ مَا لَا يَحْيَا إِلَّا بِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِي رَضَاعِهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ لَا يُوجَدُ لَهُ مُرْضِعٌ سِوَاهَا ، فَالْوَاجِبُ الصَّبْرُ عَلَيْهَا حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رَضَاعَةَ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَّرْنَاهَا لِحِفْظِ حَيَاتِهِ حَمْلًا فَأَوْلَى أَنْ نُؤَخِّرَهَا لِحِفْظِ

حَيَاتِهِ مَوْلُودًا ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْغَامِدِيَّةِ حِينَ عَادَتْ إِلَيْهِ بَعْدَ وَضْعِ حَمْلِهَا : اذْهَبِي حَتَّى تُرْضِعِيهِ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُوجَدَ لَهُ مُرْضِعٌ قَدْ تَعَيَّنَتْ وَسُلِّمَ إِلَيْهَا مُلَازِمَةً لِرَضَاعِهِ فَيُقْتَصُّ مِنْهَا فِي الْحَالِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي بَقِيَّةِ نِفَاسِهَا ، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِلْوَلَدِ عَلَيْهَا حَقٌّ وَلَا لِحَيَاتِهِ بِهَا تَعَلُّقٌ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُوجَدَ لَهُ مَنْ لَا يَتَرَتَّبُ لِرَضَاعِهِ مِنَ النِّسَاءِ عَلَى الدَّوَامِ ، أَوْ يُوجَدُ لَهُ بَهِيمَةٌ ذَاتُ لَبَنٍ يَكْتَفِي بِلَبَنِهَا وَلَا يُوجَدُ لِرَضَاعِهِ أَحَدُ النِّسَاءِ ، فَيُقَالُ لِوَلِيِّ الْقِصَاصِ : الْأَوْلَى بِكَ أَنْ تَصْبِرَ عَلَيْهَا لِتَقُومَ بِرَضَاعِهِ ، لِئَلَّا يَخْتَلِفَ عَلَيْهِ لَبَنُ النِّسَاءِ إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ لَهُ إِحْدَاهُنَّ ، أَوْ يُعْدَلْ بِهِ إِلَى لَبَنِ بَهِيمَةٍ وَلَبَنُ النِّسَاءِ أَوْثَقُ لَهُ ، وَلَا يَلْزَمُكَ الصَّبْرُ ، لِأَنَّ فِيمَا يُوجَدُ مِنْ لَبَنِ الْبَهِيمَةِ وَمَنْ لَا يَتَرَتَّبُ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ حِفْظٌ لِحَيَاتِهِ فَإِنْ صَبَرَ مُخْتَارًا أُخِّرَ قَتْلُهَا ، وَإِنِ امْتَنَعَ وَطَلَبَ التَّعْجِيلَ قُتِلَتْ وَلَمْ تُؤَخَّرْ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِهَا مُرْضِعٌ فَأَحَبُّ إِلَيَّ لَوْ تُرِكَتْ بِطِيبِ نَفْسِ الْوَلِيِّ حَتَّى يُوجَدَ لَهُ مُرْضِعٌ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قُتِلَتْ . وَلَيْسَ كَمَا تَوَهَّمَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ أَرَادَ إِذَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ مُرْضِعٌ أَبَدًا . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ سَيُوجَدُ لَهُ مُرْضِعٌ يَتَرَتَّبُ لِرَضَاعِهِ ، وَلَكِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي الْحَالِ وَلَا تَسَلَّمَتْهُ ، فَفِي تَعْجِيلِ قَتْلِهَا قَبْلَ تَعْيِينِ مُرْضِعَةٍ وَتَسْلِيمِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ أَظْهَرُهُمَا : تَعْجِيلُ قَتْلِهَا ، إِلَّا أَنْ يَرْضَى الْوَلِيُّ بِإِنْظَارِهَا إِلَى تَعْيِينِ الْمُرْضِعِ وَتَسْلِيمِهِ لِأَنَّنَا لَا نَأْمَنُ عَلَى الْمَوْلُودِ مِنْ تَلَفِ النَّفْسِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجِبُ تَأْخِيرُ قَتْلِهَا حَتَّى يَتَعَيَّنَ الْمُرْضِعُ وَتَتَسَلَّمُهُ ، رَضِيَ بِهِ الْوَلِيُّ أَوْ لَمْ يَرْضَ : لِأَنَّهُ رُبَّمَا تَأَخَّرَ تَعْيِينُ الْمُرْضِعِ وَتَسْلِيمُهُ إِلَيْهَا زَمَانًا لَا يَصْبِرُ الْمَوْلُودُ فِيهِ عَلَى فَقْدِ الرَّضَاعِ فَيَتْلَفُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَوْ عَجَّلَ الْإِمَامُ فَاقْتَصَّ مِنْهَا حَامِلًا فَعَلَيْهِ الْمَأْثَمُ فَإِنْ أَلْقَتْ جَنِينًا ضَمِنَهُ الْإِمَامُ عَلَى عَاقِلَتِهِ دُونَ الْمُقْتَصِّ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : بَلْ عَلَى الْوَلِيِّ لِأَنَّهُ اقْتَصَّ لِنَفْسِهِ مُخْتَارًا فَجَنَى عَلَى مَنْ لَا قِصَاصَ لَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ بِغُرْمِ مَا أَتْلَفَ أَوْلَى مِنْ إِمَامٍ حَكَمَ لَهُ بِحَقِّهِ فَأَخَذَهُ وَمَا لَيْسَ لَهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا عُجِّلَ قَتْلُ الْحَامِلِ قَوَدًا وَلَمْ تُمْهَلْ حَتَّى تَضَعَ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا بَعْدَ الْقَتْلِ مِنْ أَنْ تُلْقِيَ وَلَدًا ، أَوْ لَا تُلْقِيَهُ ، فَإِنْ لَمْ تُلْقِ وَلَدًا فَلَا ضَمَانَ فِي الْحَمْلِ ، لِأَنَّهُ مَوْهُومٌ وَيُنْظَرُ حَالُهَا ، فَإِنْ كَانَتْ أَمَارَاتُ الْحَمْلِ ظَاهِرَةً عَلَيْهَا كَانَ قَاتِلُهَا آثِمًا إِذَا عَلِمَ

بِالْأَمَارَاتِ ، لِأَنَّهُ عَجَّلَ بِقَتْلٍ وَجَبَ تَأْخِيرُهُ وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ أَمَارَاتُهُ فَلَا مَأْثَمَ فِيهِ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ خُلُوُّهَا مِنَ الحَمْلِ وَإِنْ أَلْقَتْ وَلَدًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ حَيًّا يَبْقَى بَعْدَ قَتْلِهَا فَلَا ضَمَانَ فِيهِ لِبَقَاءِ حَيَاتِهِ ، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَهَا رُوعِيَ أَمْرُهُ فِيمَا بَيْنَ وَضْعِهِ وَمَوْتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَزَلْ فِيهِ ضَمِنًا يَحْدُثُ بِهِ ضَعْفٌ بَعْدَ ضَعْفٍ ، فَالظَّاهِرُ مِنْ مَوْتِهِ أَنَّهُ كَانَ بِقَتْلِ أُمَّهِ فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالدِّيَةِ ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا بَيْنَ وَضْعِهِ وَمَوْتِهِ سَلِيمًا يَزْدَادُ قُوَّةً بَعْدَ قُوَّةٍ ثُمَّ مَاتَ ، فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ مَوْتِهِ أَنَّهُ عَنْ سَبَبٍ حَادِثٍ بَعْدَ وِلَادَتِهِ فَلَا يَضْمَنُ دِيَتَهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَضَعَهُ جَنِينًا لَا يَبْقَى لَهُ حَيَاةٌ فَيَكُونُ مَضْمُونًا : لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ إِلْقَائِهِ أَنَّهُ كَانَ بِقَتْلِ أُمِّهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حَيَاتَهُ كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِحَيَاتِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ فَقَدَ غِذَاءَهُ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ مَضْمُونًا نُظِرَ فِيهِ ، فَإِنْ وَضَعَتْهُ مَيِّتًا وَجَبَ فِيهِ غُرَّةُ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ قِيمَتُهَا خَمْسُونَ دِينَارًا هِيَ عُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ : وَنِصْفُ عُشْرِ دِيَةِ أَبِيهِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْجَنِينُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ، وَإِنِ اسْتَهَلَّ الْجَنِينُ صَارِخًا ضُمِنَ بِكَمَالِ دِيَتِهِ ، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا ضُمِنَ بِدِيَةِ رَجُلٍ ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى ضُمِنَ بِدِيَةِ امْرَأَةٍ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْجَنِينَ مَضْمُونٌ بِالْغُرَّةِ إِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ ، وَبِالدِّيَةِ إِنِ اسْتَهَلَّ كَانَ لُزُومُهَا مَقْصُورًا عَلَى الْإِمَامِ لِحُكْمِهِ بِالْقِصَاصِ ، وَعَلَى الْوَلِيِّ لِاسْتِيفَائِهِ الْقِصَاصَ ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا فِي الْحَمْلِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ استيفاء القصاص من الحامل : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْلَمَ الْوَلِيُّ بِالْحَمْلِ وَلَا يَعْلَمَ بِهِ الْإِمَامُ ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْوَلِيِّ دُونَ الْإِمَامِ لِمُبَاشَرَتِهِ لِقَتْلٍ عُلِمَ حَظْرُهُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَعْلَمَ الْإِمَامُ بِالْحَمْلِ وَلَا يَعْلَمَ بِهِ الْوَلِيُّ ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْإِمَامِ لِحُكْمِهِ بِقَتْلٍ عُلِمَ حَظْرُهُ ، كَالشُّهُودِ بِالْقَتْلِ إِذَا اسْتَوْفَاهُ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ رَجَعُوا ضَمِنُوهُ دُونَ الْحَاكِمِ . وَقَالَ الْمُزَنِيُّ فِي هَذَا الْقِسْمِ : يَكُونُ ضَمَانُهُ عَلَى الْوَلِيِّ دُونَ الْإِمَامِ لِمُبَاشَرَتِهِ . وَهُوَ فَاسِدٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَعْلَمَ الْإِمَامُ وَالْوَلِيُّ بِالْحَمْلِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْإِمَامِ دُونَ الْوَلِيِّ ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ : عَلَى الْوَلِيِّ دُونَ الْإِمَامِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّ الْوَلِيَّ مُطَالِبٌ بِحَقِّهِ وَالْإِمَامَ هُوَ الْمُمَكِّنُ مِنْهُ وَالْحَاكِمُ بِهِ ، فَكَانَ بِالْتِزَامِ الضَّمَانِ أَحَقَّ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ لَا يَعْلَمَ الْإِمَامُ وَلَا الْوَلِيُّ بِالْحَمْلِ ، فَفِي مَا يُلْزِمُ الضَّمَانَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ :

أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْوَلِيِّ ، لِمُبَاشَرَتِهِ لَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْإِمَامِ دُونَ الْوَلِيِّ ، بِتَسْلِيطِهِ عَلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ ، أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْإِمَامِ وَعَلَى الْوَلِيِّ نِصْفَيْنِ لِوُجُودِ التَّسْلِيطِ مِنَ الإِمَامِ وَوُجُودِ الْمُبَاشَرَةِ مِنَ الوَلِيِّ ، فَصَارَا فِيهِ شَرِيكَيْنِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا اسْتَقَرَّ تَعْيِينُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّقْسِيمِ كَانَ مَا ضَمِنَهُ الْوَلِيُّ مِنْ دِيَتِهِ أَوْ غُرَّتِهِ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، لِأَنَّهُ مِنْ خَطَئِهِ الَّذِي تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ عَنْهُ ، وَكَانَتِ الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ ، لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّلُ الْعَقْلَ دُونَ الْكَفَّارَةِ . فَأَمَّا مَا ضَمِنَهُ الْإِمَامُ مِنَ الدِّيَةِ أَوِ الْغُرَّةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى عَاقِلَتِهِ يَتَحَمَّلُونَهُ عَنْهُ ، لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ ضَمِنَ جَنِينَ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَرْهَبَهَا فَأَلْقَتْهُ مَيِّتًا قَالَ لَعَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - : عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَا تَبْرَحْ حَتَّى تَضْرِبَهَا عَلَى قَوْمِكَ . يَعْنِي مِنْ قُرَيْشٍ ، لِأَنَّهُمْ عَاقِلَةُ عُمَرَ وَكَمَا يَتَحَمَّلُونَ عَنْهُ الْعَقْلَ لَوْ لَمْ يَكُنْ إِمَامًا فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ كَغَيْرِ الْإِمَامِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : تَكُونُ الدِّيَةُ أَوِ الْغُرَّةُ مَضْمُونَةً فِي بَيْتِ الْمَالِ ، لِأَنَّهُ يَكْثُرُ مِنَ الإِمَامِ لِمَا يَتَوَلَّاهُ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي لَا يَجِدُ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا وَالِاجْتِهَادِ فِيهَا بُدًّا ، فَلَوْ تَحَمَّلَتْ عَاقِلَتُهُ مَا لَزِمَهُ مِنْ خَطَأِ اجْتِهَادِهِ عَجَزُوا عَنْهُ وَلَمْ يُطِيقُوهُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي مَالِ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُمْ وَيَقُومُ بِمَصَالِحِهِمْ مِنَ المُسْلِمِينَ ، فَلِذَلِكَ كَانَ فِي بَيْتِ مَالِهِمْ . فَإِنْ قِيلَ : لَيْسَ هَذَا مِنْ مَصَالِحِهِمْ ، فَيَكُونُ فِي بَيْتِ مَالِهِمْ . قِيلَ : لَمَّا كَانَ سَبَبُهُ الْقِصَاصَ الَّذِي فِيهِ حِفْظُ حَيَاتِهِمْ وَصَلَاحُ أَنْفُسِهِمْ كَانَ مُوجِبُ الْخَطَأِ فِيهِ مِنْ جُمْلَةِ مَصَالِحِهِمْ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَا ضَمِنَهُ مِنَ الدِّيَةِ أَوِ الْغُرَّةِ عَلَى تَأْجِيلِ الْخَطَأِ ، وَفِي الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : فِي بَيْتِ الْمَالِ كَالدِّيَةِ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي مَعْنَى الْوُجُوبِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَكُونُ فِي مَالِ الْإِمَامِ دُونَ بَيْتِ الْمَالِ ، لِأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ عَاقِلَتُهُ وَالْعَاقِلَةُ تَتَحَمَّلُ الدِّيَةَ دُونَ الْكَفَّارَةِ .

مَسْأَلَةٌ إِذَا قَتَلَ الْوَاحِدُ جَمَاعَةً إِمَّا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ أو في أوقات شتى

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَوْ قَتَلَ نَفَرًا قُتِلَ لِلْأَوَّلِ وَكَانَتِ الدِّيَاتُ لِمَنْ بَقِيَ فِي مَالِهِ فَإِنْ خَفِيَ الْأَوَّلُ مِنْهُمْ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَيُّهُمْ قَتَلَ أَوَّلًا قُتِلَ بِهِ وَأُعْطِيَ الْبَاقُونَ الدِّيَاتِ مِنْ مَالِهِ .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا قَتَلَ الْوَاحِدُ جَمَاعَةً إِمَّا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ بِأَنْ أَلْقَى عَلَيْهِمْ حَائِطًا ، أَوْ أَلْقَاهُمْ فِي نَارٍ ، أَوْ غَرَّقَهُمْ فِي سَفِينَةٍ ، أَوْ قَتَلَهُمْ فِي أَوْقَاتٍ شَتَّى وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَجَبَ أَنْ يُقْتَلَ بِأَحَدِهِمْ ، وَتُؤْخَذَ مِنْ مَالِهِ دِيَاتُ الْبَاقِينَ . وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : يُقْتَلُ بِجَمَاعَتِهِمْ وَقَدِ اسْتَوْفَوْا بِهِ حُقُوقَهُمْ ، وَلَا دِيَةَ لَهُمْ فِي مَالِهِ فَإِنْ بَادَرَ أَحَدُهُمْ فَقَتَلَهُ كَانَ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ وَحُقُوقِهِمْ وَبَنَى أَبُو حَنِيفَةَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ غَيْرَ الْقَوَدِ ، وَأَنَّ الدِّيَةَ لَا تُسْتَحَقُّ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْقَاتِلَ إِذَا فَاتَ الِاقْتِصَاصُ مِنْهُ بِالْمَوْتِ لَمْ يَجِبْ فِي مَالِهِ دِيَةٌ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي الْأَصْلِ الْأَوَّلِ ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ فِي الْأَصْلِ الثَّانِي ، وَاسْتَدَلَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ الْجَمَاعَةَ إِنْ كَانُوا كُفُؤًا لِلْوَاحِدِ إِذَا قَتَلُوهُ قُتِلُوا بِهِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ كُفُؤًا لِلْجَمَاعَةِ إِذَا قَتَلَهُمْ قُتِلَ بِهِمْ ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ إِذَا تَرَادَفَ عَلَى نَفْسٍ وَاحِدَةٍ تَدَاخَلَ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ ، كَالْعَبْدِ إِذَا قَتَلَهُ جَمَاعَةٌ ، وَكَالْمُحَارِبِ إِذَا قَتَلَ فِي الْحِرَابَةِ جَمَاعَةً ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ حَدٌّ ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَدَاخَلَ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ ، كَحَدِّ الزِّنَا وَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ وَلِأَنَّهُمُ اشْتَرَكُوا فِي عَيْنٍ ضَاقَتْ عَنْ حُقُوقِ جَمِيعِهِمْ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا فِيهَا أُسْوَةً كَغُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ فَمَنْ جَعَلَ نَفْسًا بِأَنْفُسٍ خَالَفَ الظَّاهِرَ وَقَالَ تَعَالَى وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا وَمَنْ قَتَلَهُ بِجَمَاعَتِهِمْ أَبْطَلَ سُلْطَانَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، وَلِأَنَّهَا جِنَايَاتٌ لَا يَتَدَاخَلُ خَطَؤُهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَدَاخَلَ عَمْدُهَا ، كَالْأَطْرَافِ لِأَنَّ وَاحِدًا لَوْ قَطَعَ أَيْدِيَ جَمَاعَةٍ قُطِعَ عِنْدَنَا بِأَحَدِهِمْ ، وَأُخِذَ مِنْهُ دِيَاتُ الْبَاقِينَ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُقْطَعُ يَدُهُ بِجَمَاعَتِهِمْ ثُمَّ يُؤْخَذُ مِنْ مَالِهِ إِنَّ كَانُوا عَشَرَةً تِسْعُ دِيَاتِ يَدٍ تُقْسَمُ بَيْنَ جَمَاعَتِهِمْ ، فَصَارَ هَذَا الِاخْتِلَافُ إِجْمَاعًا عَلَى أَنْ لَا تَتَدَاخَلَ الْأَطْرَافُ ، وَلِأَنَّهَا جِنَايَاتٌ لَا تَتَدَاخَلُ فِي الْأَطْرَافِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَتَدَاخَلَ فِي النُّفُوسِ كَالْخَطَأِ ، وَلِأَنَّ جِنَايَاتِ الْعَمْدِ أَغْلَظُ مِنَ الخَطَأِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ أَضْعَفَ مِنْ مُوجِبِ الْخَطَأِ ، وَلِأَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ إِذَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهَا لَمْ تَتَدَاخَلْ كَالدُّيُونِ ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ مَوْضُوعٌ لِإِحْيَاءِ النُّفُوسِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ فَلَوْ قُتِلَ الْوَاحِدُ بِالْجَمَاعَةِ لَكَانَ فِيهِ إِغْرَاءٌ بِقَتْلِ الْجَمَاعَةِ ، لِأَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ بَعْدَ قَتْلِ الْأَوَّلِ شَيْئًا فِي جَمِيعِ مَنْ قَتَلَ ، وَلِيُسَارِعَ النَّاسُ بَعْدَ ابْتِدَائِهِمْ بِالْقَتْلِ إِلَى قَتْلِ النُّفُوسِ وَلَمْ يَكُفُّوا ، وَلَمْ يَصِرِ الْقِصَاصُ حَيَاةً ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ وَانْفِصَالٌ عَنْ جَمْعِهِ بَيْنَ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ ، وَقَتْلِ الْوَاحِدِ بِالْجَمَاعَةِ .

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى قَتْلِ الْعَبْدِ وَالْمُحَارِبِ ، فَإِنْ جُعِلَ الْأَصْلُ فِيهِ الْعَبْدَ . فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا تَدَاخَلَتْ جِنَايَاتُ خَطَئِهِ تَدَاخَلَتْ جِنَايَاتُ عَمْدِهِ ، وَإِنْ جُعِلَ الْأَصْلُ قَتْلَ الْمُحَارِبِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَدَاخُلِ جِنَايَتِهِ فَذَهَبَ ابْنُ سُرَيْجٍ إِلَى أَنَّهَا لَا تَتَدَاخَلُ ، وَيَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ بِالْأَوَّلِ ، وَيُؤْخَذُ مِنْ مَالِهِ دِيَاتُ الْبَاقِينَ ، وَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى تَدَاخُلِهَا ، لِأَنَّهَا صَارَتْ بِانْحِتَامِ قَتْلِهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَحُقُوقُهُ تَتَدَاخَلُ وَإِذَا قِيلَ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ لَمْ يَنْحَتِمْ قَتْلُهُ ، فَكَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَحُقُوقُهُمْ لَا تَتَدَاخَلُ وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْحُدُودِ وَقِيَاسِهِمْ عَلَى غُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ . فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِغُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ عَيْنٌ يَسْتَوْفُونَ حُقُوقَهُمْ مِنْهَا ، فَاسْتَهَمُوا فِي الْمَوْجُودِ مِنْهَا . وَلَوْ كَانَ الْقَاتِلُ مُفْلِسًا لَكَانَ الْأَوْلِيَاءُ مَعَهُ بِمَثَابَتِهِمْ وَإِذَا فَارَقَ الْمُفْلِسُ يَسَارَهُ وَجَدَ الْأَوْلِيَاءُ سَبِيلًا إِلَى اسْتِيفَاءِ حُقُوقِهِمْ ، فَافْتَرَقَ الْجَمْعَانِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ قَاتِلَ الْجَمَاعَةِ يُقْتَلُ بِأَحَدِهِمْ لَمْ يَخْلُ حَالُ قَتْلِهِ لِجَمَاعَتِهِمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقْتُلَهُمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَقْتُلَهُمْ فِي دُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُشْكِلَ حَالُ قَتْلِهِ لَهُمْ وَمَنْ يُقَدَّمُ قَتْلُهُ مِنْهُمْ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَقْتُلَهُمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَأَحَقُّهُمْ بِالِاقْتِصَاصِ مِنْهُ وَلِيُّ الْأَوَّلِ ، فَلَا يُخَاطَبُ أَوْلِيَاءُ الْبَاقِينَ إِلَّا بَعْدَ عَرْضِ الْقِصَاصِ عَلَى الْأَوَّلِ ، فَإِنْ طَلَبَهُ اقْتَصَّ مِنْهُ لِلْأَوَّلِ وَكَانَ فِي مَالِهِ دِيَاتُ الْبَاقِينَ ، فَإِنِ اتَّسَعَ مَالُهُ لِجَمِيعِ دِيَاتِهِمُ اسْتَوْفَوْهَا وَإِنْ ضَاقَ عَنْهَا اسْتَهَمُوا فِيهَا بِالْحِصَصِ ، وَصَارَ الْمُتَقَدِّمُونَ وَالْمُتَأَخِّرُونَ فِيهَا أُسْوَةً ، وَإِنَّمَا تَقَدَّمَ الْأَسْبَقُ فِي الْقِصَاصِ ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِي الدِّيَةِ ، لِأَنَّ مَحَلَّ الدِّيَةِ فِي الذِّمَّةِ ، وَهِيَ تَتَّسِعُ لِجَمِيعِهَا ، فَشَارَكَ الْمُتَأَخِّرُ الْأَسْبَقَ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الذِّمَّةِ ، وَمَحَلُّ الْقَوَدِ الرَّقَبَةُ ، وَهِيَ تَضِيقُ عَنِ اقْتِصَاصِ الْجَمَاعَةِ وَلَا تَتَّسِعُ إِلَّا لِوَاحِدٍ ، فَيُقَدَّمُ الْأَسْبَقُ بِهَا عَلَى الْمُتَأَخِّرِ ، فَإِنْ عَفَا الْأَوَّلُ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الدِّيَةِ عُرِضَ الْقِصَاصُ عَلَى الثَّانِي ، فَإِنِ اسْتَوْفَاهُ رَجَعَ الْأَوَّلُ وَمَنْ بَعْدَ الثَّانِي بَدِيَاتِهِمْ فِي مَالِ الْقَاتِلِ ، وَإِنْ عَفَا الثَّانِي عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الدِّيَةِ عُرِضَ الْقِصَاصُ عَلَى الثَّالِثِ ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ فِي وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ إِلَى آخِرِهِمْ ، فَلَوْ عَمَدَ الْإِمَامُ فَقَتَلَهُ لِلْأَخِيرِ فَقَدْ أَسَاءَ وَأَثِمَ إِنْ عَلِمَ بِتَقَدُّمِ غَيْرِهِ ، وَلَا يَأْثَمُ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ ، وَهَكَذَا لَوْ بَادَرَ وَلِيُّ الْأَخِيرِ فَقَتَلَهُ قِصَاصًا لَمْ يَضْمَنْهُ ، وَعُزِّرَ عَلَيْهِ وَرَجَعَ الْبَاقُونَ بَدِيَاتِهِمْ فِي مَالِ الْقَاتِلِ ، وَلَوْ كَانَ وَلِيُّ الْأَوَّلِ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ غَائِبًا

وَقَفَ الِاقْتِصَاصُ مِنَ القَاتِلِ عَلَى إِفَاقَةِ الْمَجْنُونِ وَبُلُوغِ الصَّبِيِّ ، وَقُدُومِ الْغَائِبِ ثُمَّ عَرَضَ الْإِمَامُ عَلَيْهِمِ الْقِصَاصَ عَلَى مَا مَضَى ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَظِرْ بِهِ الْإِمَامُ بُلُوغَ الصَّبِيِّ وَإِفَاقَةَ الْمَجْنُونِ وَقُدُومَ الْغَائِبِ وَعَجَّلَ قَتْلَهُ قِصَاصًا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَقْتُلَهُ لَهُمْ ، أَوْ يَقْتُلَهُ لِأَوْلِيَاءِ مَنْ بَعْدَهُمْ ، فَإِنْ قَتَلَهُ لَهُمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قِصَاصًا فِي حَقِّهِمْ وَلَا حَقِّ غَيْرِهِمْ ، لِأَنَّ لَهُمُ الْعُدُولَ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الدِّيَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَوِّتَ عَلَيْهِمْ حَقَّهُمْ مِنْهَا وَيَصِيرُ الْإِمَامُ ضَامِنًا لِدِيَةِ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ ، لِأَنَّ قَتْلَهُ لَمْ يَكُنْ قِصَاصًا ، وَهَلْ تَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ أَوْ فِي بَيْتِ الْمَالِ ؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ القَوْلَيْنِ ، وَإِنْ قَتَلَهُ لِمَنْ حَضَرَ أَوْلِيَاؤُهُ عَنْ أَمْرِهِمْ جَازَ وَقَدْ أَسَاءَ بِتَقْدِيمِهِمْ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهُمْ ، وَإِنْ قَتَلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ كَانَ عَلَى مَا مَضَى مِنْ قَتْلِهِ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالْغَائِبِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَتَلَ الْجَمَاعَةَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَإِنْ سَلَّمُوا الْقَوَدَ لِأَحَدِهِمْ كَانَ أَحَقَّهُمْ بِهِ ، وَرَجَعَ الْبَاقُونَ بِالدِّيَاتِ فِي تَرِكَتِهِ ، وَإِنْ تَشَاحُّوا فِيهِ وَطَلَبَ كُلُّ وَاحِدٍ أَنْ يُقَادَ بِقَتِيلِهِ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ وَاخْتَصَّ بِقَتْلِهِ مَنْ قَرَعَ مِنْهُمْ ، وَرَجَعَ الْبَاقُونَ بَدِيَاتِهِمْ فِي تَرِكَتِهِ ، فَإِنْ بَادَرَ أَحَدُهُمْ فَاقْتَصَّ مِنْهُ بِقَتِيلِهِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ ، فَإِنْ كَانَ بِأَمْرِ الْإِمَامِ فَقَدْ أَسَاءَ الْإِمَامُ وَلَمْ يُعَزَّرِ الْمُقْتَصُّ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ عُزِّرَ ، وَقَدِ اسْتَوْفَى بِالِاقْتِصَاصِ حَقَّهُ وَرَجَعَ الْبَاقُونَ بَدِيَاتِهِمْ فِي تَرِكَتِهِ ، فَإِنْ ضَاقَتِ اقْتَسَمُوهَا بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ فِي التَّقَدُّمِ ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُقْتَصِّ مِنْهُ غُرْمًا ضَرَبُوا بِدُيُونِهِمْ مَعَ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِينَ بَدِيَاتِهِمْ فِي التَّرِكَةِ لِيَتَوَزَّعُوهَا بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يُشْكِلَ حَالُ قَتْلِهِ لَهُمْ هَلْ تَرَتَّبُوا ، أَوِ اشْتَرَكُوا ؟ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْتَرِفَ أَوْلِيَاءُ جَمِيعِهِمْ بِالْإِشْكَالِ ، فَيُقَالُ لَهُمْ : إِنْ سَلَّمْتُمِ الْقِصَاصَ لِأَحَدِكُمْ كَانَ أَحَقَّكُمْ بِهِ وَإِنْ تَشَاحَحْتُمْ أُقْرِعَ بَيْنَكُمْ وَاقْتَصَّ مِنْهُ مَنْ قَرَعَ مِنْكُمْ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَخْتَلِفُوا وَيَدَّعِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ الْأَوَّلُ ، فَإِنْ كَانَتْ لِأَحَدِهِمْ بَيِّنَةٌ عُمِلَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ عَدِمُوهَا رُجِعَ إِلَى الْجَانِي الْقَاتِلِ ، فَإِنِ اعْتَرَفَ بِالتَّقَدُّمِ لِأَحَدِهِمْ كَانَ أَحَقَّهُمْ بِالْقِصَاصِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ لِتَكَافُئِهِمْ ، وَاخْتَصَّ بِالْقِصَاصِ مَنْ قَرَعَ مِنْهُمْ ، فَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ بِالتَّقَدُّمِ لِأَحَدِهِمْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا ، لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مُتَّهَمَيْنِ فِيهَا فَإِنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا بِجُرْحٍ سَقَطَ حَقُّهُمَا مِنَ القِصَاصِ بِالِاعْتِرَافِ بِهِ لِغَيْرِهِمَا ، وَالِاعْتِبَارُ بِالتَّقَدُّمِ أَنْ يُرَاعَى وَقْتُ الْمَوْتِ لَا وَقْتُ الْجِنَايَةِ ، فَلَوْ قَطَعَ يَدَ زَيْدٍ ثُمَّ قَطَعَ يَدَ عَمْرٍو فَمَاتَ عَمْرٌو ثُمَّ مَاتَ زَيْدٌ اسْتَحَقَّ زَيْدٌ الْقِصَاصَ فِي الْيَدِ دُونَ عَمْرٍو ، لِأَنَّ قَطْعَ يَدِهِ أَسْبَقُ وَاسْتَحَقَّ عَمْرٌو الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ دُونَ زَيْدٍ ، لِأَنَّ مَوْتَهُ أَسْبَقُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ وَقَتَلَ آخَرَ قُطِعَتْ يَدُهُ بِالْيَدِ وَقُتِلَ بِالنَّفْسِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ وَقَتَلَ آخَرَ قُطِعَتْ يَدُهُ بِالْيَدِ وَقُتِلَ بِالنَّفْسِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا قَطَعَ الْجَانِي يَدَ رَجُلٍ ، ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ قُطِعَتْ يَدُهُ لِلْأَوَّلِ ، وَقُتِلَ لِلثَّانِي . وَقَالَ مَالِكٌ : يُقْتَلُ بِالثَّانِي وَيَدْخُلُ فِيهِ الْقَطْعُ ، لِأَنَّ الْقَتْلَ أَعَمُّ فَاسْتَوْعَبَ الْحَقَّيْنِ وَلِأَنَّ الْغَرَضَ إِفَاتَةُ نَفْسِهِ وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَمِثْلُهُ وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ وَالْقَتْلِ فِي الرِّدَّةِ قُتِلَ بِالرِّدَّةِ وَدَخَلَ فِيهِ قَطْعُ السَّرِقَةِ ، كَذَلِكَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْيَدِ وَعَلَى النَّفْسِ ، يَجِبُ أَنْ يَدْخُلَ قَطْعُ الْيَدِ فِي قَتْلِ النَّفْسِ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا وَقَالَ تَعَالَى فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ، فَوَجَبَ أَنْ يُجَازَى بِالْأَمْرَيْنِ ، وَيُسْتَوْفَى مِنْهُ الْحَقَّانِ ، وَلِأَنَّ الْقَطْعَ وَالْقَتْلَ حَقَّانِ لِشَخْصَيْنِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَدَاخَلَا كَالدُّيُونِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ تَدَاخُلُهُمَا فِي الدِّيَةِ امْتَنَعَ تَدَاخُلُهُمَا فِي الْقَوَدِ ، وَلِأَنَّ الْخَطَأَ أَخَفُّ مِنَ العَمْدِ وَهُمَا لَا يَتَدَاخَلَانِ فِي الْخَطَأِ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَتَدَاخَلَا فِي الْعَمْدِ فَبَطَلَ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ الْأَوَّلُ ، وَلَا يَكُونُ نَكَالًا وَمِثْلَهُ ، لِأَنَّهُ جَزَاءٌ ، فَاجْتِمَاعُ قَطْعِ السَّرِقَةِ وَقَتْلِ الرِّدَّةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَدَاخُلِهِمَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَتَدَاخَلَانِ وَيُسْتَوْفَيَانِ ، فَيُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ وَيُقْتَلُ بِالرِّدَّةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَتَدَاخَلَانِ ، لِأَنَّهُمَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَجَازَ تَدَاخُلُهُمَا ، وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ لَا تَتَدَاخَلُ ، وَهَكَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ زَنَا بِكْرًا ثُمَّ زَنَا ثَيِّبًا ، هَلْ يَدْخُلُ الْجَلْدُ فِي الرَّجْمِ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْحُكْمِ وَاتِّفَاقِهِمَا فِي الْمُوجِبِ عَلَى وَجْهَيْنِ .

فَصْلٌ : وَلَوِ ابْتَدَأَ الْجَانِي فَقَتَلَ رَجُلًا ، ثُمَّ قَطَعَ يَدَ آخَرَ اقْتُصَّ مِنْ يَدِهِ بِالْقَطْعِ ، ثُمَّ مِنْ نَفْسِهِ بِالْقَتْلِ وَيُقَدَّمُ الْقَطْعُ وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنِ الْقَتْلِ وَإِنْ تَقَدَّمَ ، بِخِلَافِ الْقَتِيلَيْنِ فِي تَقْدِيمِ الْأَسْبَقِ فَالْأَسْبَقِ ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقَوَدِ فِي الْقَتِيلَيْنِ ، فَقُدِّمَ أَسْبَقُهُمَا ، وَيُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقَوَدِ فِي الْيَدِ وَالنَّفْسِ فَرُبَّمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُمَا . وَلَوْ قُدِّمَ الْقَتْلُ سَقَطَ الْقَطْعُ ، وَإِذَا قُدِّمَ الْقَطْعُ لَمْ يَسْقُطِ الْقَتْلُ ، فَلِذَلِكَ قُدِّمَ الْقَطْعُ وَإِنْ تَأَخَّرَ عَلَى الْقَتْلِ وَإِنْ تَقَدَّمَ ، وَلَكِنْ مِثَالُ الْقَتْلَيْنِ مِنَ الأَطْرَافِ أَنْ يَقْطَعَ طَرَفَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ مِنَ اثْنَيْنِ مِثْلَ أَنْ تُقْطَعَ مِنْ رَجُلٍ يُمْنَى يَدَيْهِ ، وَمِنْ آخَرَ يُمْنَى يَدَيْهِ فَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مِنَ اليَدِ الْوَاحِدَةِ ، فَيُقَدَّمُ الِاقْتِصَاصُ مِنْهَا لِأَسْبَقِهِمَا كَالْقَتْلَيْنِ لِتَعَذُّرِ الْقِصَاصِ ، فَإِنْ عَفَا الْأَوَّلُ اقْتُصَّ مِنْهَا لِلثَّانِي .

فَإِنْ قِيلَ فَالْمَقْتُولُ كَانَ كَامِلَ الْأَطْرَافِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْتَصَّ لَهُ مِنْ نَفْسٍ كَامِلَةِ الْأَطْرَافِ . قِيلَ : كَمَالُ النُّفُوسِ لَا يُعْتَبَرُ بِكَمَالِ الْأَطْرَافِ ، لِأَنَّ الْقَاتِلَ لَوْ كَانَ كَامِلَ الْأَطْرَافِ وَالْمَقْتُولُ نَاقِصَ الْأَطْرَافِ قُتِلَ بِهِ مَعَ كَمَالِ أَطْرَافِهِ وَلَوْ كَانَ الْقَاتِلُ نَاقِصَ الْأَطْرَافِ وَالْمَقْتُولُ كَامِلَ الْأَطْرَافِ قُتِلَ بِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي زِيَادَةِ أَطْرَافِهِ : لِأَنَّ دِيَةَ النَّفْسِ وَإِنْ نَقَصَتْ أَطْرَافُهَا كَدِيَةِ النَّفْسِ وَإِنْ كَمُلَتْ أَطْرَافُهَا .

فَصْلٌ : وَإِذَا ابْتَدَأَ الْجَانِي فَقَطَعَ إِصْبَعَ رَجُلٍ مِنْ يَدِهِ الْيُمْنَى ، وَقَطَعَ مِنْ آخَرَ يَدَهُ الْيُمْنَى قُدِّمَ الْقِصَاصُ فِي الْإِصْبَعِ لِتَقَدُّمِ اسْتِحْقَاقِهِ ، فَإِنِ اقْتَصَّ صَاحِبُ الْأُصْبُعِ مِنْهَا اقْتُصَّ بَعْدَهُ لِصَاحِبِ الْيَدِ وَقَدِ اقْتُصَّ مِنْ يَدٍ نَقَصَتْ إِصْبَعًا بِيَدِهِ الْكَامِلَةِ فَيُرْجَعُ بَعْدَ الْقِصَاصِ عَلَى الْجَانِي بِدِيَةِ إِصْبَعٍ وَهِيَ عُشْرُ الدِّيَةِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ القِصَاصِ فِي النَّفْسِ إِذَا نَقَصَتْ أَطْرَافُهَا ، لِأَنَّ الْكَمَالَ مُعْتَبَرٌ فِي تَكَافُؤِ الْأَطْرَافِ ، وَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي تَكَافُؤِ النُّفُوسِ ، لِأَنَّ دِيَةَ الْأَطْرَافِ مُسَاوِيَةٌ لِدِيَةِ النَّفْسِ الْكَامِلَةِ الْأَطْرَافِ ، فَلَوْ عَفَا صَاحِبُ الْإِصْبَعِ عَنِ الْقِصَاصِ كَانَ لَهُ دِيَتُهَا وَقُطِعَ لِصَاحِبِ الْيَدِ ، وَلَا شَيْءَ لَهُ سِوَاهُ ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ فِي يَدٍ كَامِلَةٍ بِيَدِهِ الْكَامِلَةِ ، وَلَوْ تَرَتَّبَ الْقَطْعَانِ بِالضِّدِّ ، فَبَدَأَ الْجَانِي فَقَطَعَ مِنْ رَجُلٍ يَدَهُ الْيُمْنَى ثُمَّ مِنْ آخَرَ إِصْبَعًا مِنْ يَدِهِ الْيُمْنَى قَدَّمَ الْقِصَاصَ لِصَاحِبِ الْيَدِ عَلَى الْقِصَاصِ لِصَاحِبِ الْإِصْبَعِ ، لِتَقَدُّمِ قَطْعِ الْيَدِ عَلَى قَطْعِ الْإِصْبَعِ اعْتِبَارًا بِالْأَسْبَقِ . فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا قَدَّمْتُمُ الْقِصَاصَ فِي الْإِصْبَعِ ، وَإِنْ تَأَخَّرَتْ عَلَى الْقِصَاصِ فِي الْيَدِ لِيَسْتَوْفِيَ بِهِ الْحَقَّانِ كَمَا قَدَّمْتُمُ الْقِصَاصَ فِي الْيَدِ ، وَإِنْ تَأَخَّرَ عَلَى الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ لِاسْتِيفَاءِ الْحَقَّيْنِ . قِيلَ : لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ اعْتِبَارِ الْكَمَالِ فِي تَكَافُؤِ الْأَطْرَافِ وَسُقُوطِ اعْتِبَارِهِ فِي تَكَافُؤِ النُّفُوسِ ، وَقَدِ اسْتَحَقَّ صَاحِبُ الْيَدِ بِكَمَالِ يَدِهِ الِاقْتِصَاصَ مِنْ يَدٍ كَامِلَةٍ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْتَصَّ لَهُ مِنْ يَدٍ نَاقِصَةٍ مَعَ إِمْكَانِ الِاقْتِصَاصِ مِنْهُمَا وَهِيَ كَامِلَةٌ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَاقْتَصَّ صَاحِبُ الْيَدِ سَقَطَ الْقِصَاصُ لِصَاحِبِ الْإِصْبَعِ وَرَجَعَ بِدِيَتِهَا ، وَإِنْ عَفَا صَاحِبُ الْيَدِ عَنِ الْقِصَاصِ رَجَعَ بِدِيَتِهَا وَاقْتُصَّ لِصَاحِبِ الْإِصْبَعِ ، وَهَكَذَا قَطْعُ الْأُنْمُلَةِ مِنْ رَجُلٍ وَقَطْعُ تِلْكَ الْإِصْبَعِ مِنْ آخَرَ يَكُونُ عَلَى قِيَاسِ الْإِصْبَعِ مَعَ الْكَفِّ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَإِنْ مَاتَ الْمَقْطُوعَةُ يَدُهُ الْأَوَّلُ بَعْدَ أَنِ اقْتَصَّ مِنَ اليَدِ فَقِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ عِنْدِي أَنَّ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ الدِّيَةِ فِي مَالِ قَاطِعِهِ لِأَنَّ الْمَقْطُوعَ قَدِ اسْتَوْفَى قَبْلَ مَوْتِهِ مَا فِيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ بِاقْتِصَاصِهِ بِهِ قَاطِعَهُ .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ وَقَتَلَ آخَرَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ قِصَاصًا لِلْأَوَّلِ ، وَقُتِلَ قَوَدًا لِلثَّانِي ثُمَّ مَاتَ الْأَوَّلُ مِنْ سِرَايَةِ يَدِهِ ، صَارَ الْقَطْعُ قَتْلًا وَقَدْ فَاتَ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ بِالْقَوَدِ الثَّانِي فَوَجَبَ لِلْمَقْطُوعِ دِيَةُ نَفْسِهِ بِسِرَايَةِ الْقَطْعِ إِلَيْهَا ، وَقَدْ أَخَذَ بِالِاقْتِصَاصِ مِنْ يَدِهِ مَا يُقَابِلُ نِصْفَ دِيَةِ نَفْسِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَرْجِعَ وَلِيُّهُ فِي تَرِكَةِ الْجَانِي بِنِصْفِهَا لِيَصِيرَ مُسْتَوْفِيًا بِالْقَطْعِ وَالْأَخْذِ بِمَا يُقَابِلُ جَمِيعَ دِيَةِ النَّفْسِ ، وَلَوْ كَانَ الْجَانِي قَطَعَ مِنَ الأَوَّلِ إِحْدَى أَصَابِعِهِ وَقَتَلَ آخَرَ فَاقْتُصَّ لِلْأَوَّلِ مِنْ إِصْبَعِهِ ، وَقُتِلَ لِلثَّانِي ثُمَّ مَاتَ الْأَوَّلُ مِنْ سِرَايَةِ إِصْبَعِهِ كَانَ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَرْجِعَ فِي تَرِكَةِ الْجَانِي تِسْعَةَ أَعْشَارِ دَيْنِهِ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى بِقَطْعِ الْإِصْبَعِ عُشْرَهَا ، فَصَارَ مُسْتَوْفِيًا لِجَمِيعِ الدِّيَةِ وَلَوْ كَانَ الْجَانِي قَطَعَ يَدَيْ رَجُلٍ ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ فَقُطِعَتْ يَدَاهُ لِلْأُولَى وَقُتِلَ لِلثَّانِي ثُمَّ سَرَتْ يَدُ الْمَقْطُوعِ إِلَى نَفْسِهِ فَمَاتَ فَلَا شَيْءَ لِوَلِيِّهِ ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى بِقَطْعِ الْيَدِ كَمَالَ الدِّيَةِ ، لِأَنَّ فِي الْيَدَيْنِ جَمِيعَ الدِّيَةِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَطَعَ إِحْدَى يَدَيْ رَجُلٍ فَاقْتُصَّ مِنْهَا ثُمَّ سَرَتْ إِلَى نَفْسِهِ فَمَاتَ كَانَ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ نَفْسِ الْقَاطِعِ ، لِأَنَّ الْقَطْعَ صَارَ قَتْلًا ، فَإِنْ عَفَا عَنِ الْقَوَدِ فِي النَّفْسِ إِلَى الدِّيَةِ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِنِصْفِ الدِّيَةِ ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى بِقَطْعِ الْيَدِ مَا يُقَابِلُ نِصْفَ الدِّيَةِ ، فَصَارَ مُسْتَوْفِيًا لِجَمِيعِ الدِّيَةِ ، وَلَوْ كَانَ الْمَقْطُوعُ يَدُهُ ، أَخَذَ دِيَةَ يَدِهِ وَلَمْ يَقْتَصَّ ثُمَّ سَرَى الْقَطْعُ إِلَى نَفْسِهِ فَمَاتَ سَقَطَ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ ، لِأَنَّ عُدُولَهُ إِلَى دِيَةِ الْقَطْعِ عَفْوٌ عَنِ الْقَوَدِ فِي النَّفْسِ ، وَلَوْ قَطَعَ يَدَيْ رَجُلٍ فَاقْتُصَّ مِنْهُمَا ثُمَّ سَرَى الْقَطْعُ إِلَى نَفْسِهِ فَمَاتَ ، كَانَ لِوَلِيِّهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ ، فَإِنْ عَفَا إِلَى الدِّيَةِ لَمْ يَسْتَحِقَّهَا ، لِأَنَّهُ بِقَطْعِ الْيَدَيْنِ قَدِ اسْتَوْفَاهُمَا ، وَهَذَا مَوْضِعٌ يَجِبُ فِيهِ الْقَوَدُ وَلَا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ ، وَهُوَ نَادِرٌ . وَلَوْ كَانَ الْمَقْطُوعُ أَخَذَ دِيَةَ يَدِهِ ثُمَّ سَرَتْ إِلَى نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهِ قَوَدٌ وَلَا دِيَةٌ ، لِسُقُوطِ الْقَوَدِ بِدِيَةِ الْقَطْعِ وَاسْتِيفَاءِ دِيَةِ النَّفْسِ بِدِيَةِ الْيَدَيْنِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَطَعَ إِحْدَى يَدَيْ رَجُلٍ فَأَخَذَ الْمَقْطُوعُ دِيَتَهَا نِصْفَ الدِّيَةِ ثُمَّ عَادَ الْجَانِي إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ قَبْلَ انْدِمَالِ يَدِهِ فَفِيمَا يَلْزَمُهُ بِقَتْلِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِي النَّفْسِ ، لِأَخْذِهِ نِصْفَ الدِّيَةِ فِي قَطْعِ الْيَدِ ، وَيَرْجِعُ وَلَيُّهُ بِنِصْفِ الدِّيَةِ ، وَهُوَ الْبَاقِي مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ عَلَيْهِ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ فَعَلَيْهِ جَمِيعُ دِيَةِ النَّفْسِ وَجَعَلَ جِنَايَةَ الْوَاحِدِ كَجِنَايَةِ الِاثْنَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ إِنْ عَفَا عَنِ الْقَوَدِ إِلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ ، لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تَكُونُ تَبَعًا لِلْأَعْضَاءِ فَلَمْ يُوجِبْ

سُقُوطُ الْقَوَدِ فِي الْيَدِ سُقُوطَهُ فِي النَّفْسِ ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ إِلَّا نِصْفَ الدِّيَةِ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ مَا فِيهِ نِصْفُهَا .

فَصْلٌ : إِذَا قَطَعَ نَصْرَانِيٌّ يَدَ مُسْلِمٍ فَاقْتَصَّ الْمُسْلِمُ مِنَ النَّصْرَانِيِّ ثُمَّ مَاتَ الْمُسْلِمُ مِنْ سِرَايَةِ الْقَطْعِ كَانَ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ نَفْسِ النَّصْرَانِيِّ ، لِأَنَّ الْقَطْعَ قَدْ صَارَ بِالسِّرَايَةِ نَفْسًا ، فَإِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ كَانَ فِيمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى النَّصْرَانِيِّ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ الدِّيَةِ ، لِأَنَّ دِيَةَ الْمُسْلِمِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَدِيَةَ النَّصْرَانِيِّ ثُلْثُهَا أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَقَدِ اقْتَصَّ مِنْ إِحْدَى يَدَيْهِ بِنِصْفِهَا وَهُوَ أَلْفَا دِرْهَمٍ ، وَقَدْرُهُمَا سُدْسُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ ، فَصَارَ الْبَاقِي لَهُ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَشْبَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى النَّصْرَانِيِّ بِنِصْفِ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا رَضِيَ الْمُسْلِمُ أَنْ يَأْخُذَ يَدَ النَّصْرَانِيِّ بِيَدِهِ وَدِيَةُ الْيَدِ نِصْفُ دِيَةِ النَّفْسِ صَارَ الْبَاقِي لَهُ نِصْفَ الدِّيَةِ أَلَا تَرَاهُ لَوِ ابْتَدَأَ النَّصْرَانِيُّ بِقَتْلِ الْمُسْلِمِ فَرَضِيَ وَلِيُّهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ كَانَتْ نَفْسُهُ بِنَفْسِ الْمُسْلِمِ وَلَمْ يَرْجِعْ وَلِيُّهُ بِفَاضِلِ دِيَتِهِ ، كَذَلِكَ فِي الْيَدِ ، وَلَوْ كَانَ النَّصْرَانِيُّ قَطَعَ يَدَيِ الْمُسْلِمِ فَاقْتَصَّ الْمُسْلِمُ مِنْهَا ثُمَّ مَاتَ الْمُسْلِمُ كَانَ لِوَلِيِّهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ إِلَى الدِّيَةِ كَانَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ أَيْضًا : أَحَدُهُمَا : يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِثُلْثَيِ الدِّيَةِ : لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ مِنْهَا بِالْيَدَيْنِ دِيَةَ نَصْرَانِيٍّ قَدْرُهَا أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ ثُلْثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ فَبَقِيَ لَهُ ثُلْثَاهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ فِي يَدَيِ النَّصْرَانِيِّ دِيَةَ نَفْسِهِ فَصَارَ فِي الِاقْتِصَاصِ مِنْهَا كَالْمُقْتَصِّ مِنْ نَفْسِهِ ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَوْ قَطَعَتِ امْرَأَةٌ يَدَ رَجُلٍ فَاقْتَصَّ مِنْهَا ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ كَانَ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ نَفْسِ الْمَرْأَةِ ، فَإِنْ عَفَا عَنْهَا إِلَى الدِّيَةِ رَجَعَ عَلَيْهَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ ، لِأَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ وَقَدْ أَخَذَ بِيَدِهَا نِصْفَ دِيَتِهَا وَهِيَ رُبْعُ دِيَةِ الرَّجُلِ فَبَقِيَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا . وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الدِّيَةِ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ بِالْيَدِ نِصْفَ الدِّيَةِ ، وَالدِّيَتَانِ مَعَ تَفَاضُلِهِمَا يَتَمَاثَلَانِ فِي الْقِصَاصِ ، وَلَوْ قَطَعَتِ الْمَرْأَةُ يَدَيِ الرَّجُلِ فَاقْتَصَّ مِنْهَا ثُمَّ مَاتَ : فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَرْجِعُ وَلِيُّهُ عَلَيْهَا إِنْ لَمْ يَقْتَصَّ مِنْ نَفْسِهَا بِنِصْفِ الدِّيَةِ ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي بِشَيْءٍ لِاقْتِصَاصِهِ مِنْ يَدَيْنِ يَجِبُ فِيهَا دِيَةُ النَّفْسِ .

فَصْلٌ : سِرَايَةُ الْجِنَايَةِ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْجَانِي ، وَسِرَايَةُ الْقِصَاصِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَى الْمُقْتَصِّ ، فَإِذَا قَطَعَ رَجُلٌ يَدَ رَجُلٍ فَاقْتَصَّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنَ الجَانِي ، ثُمَّ مَاتَ الْمَجْنِيُّ

عَلَيْهِ مِنَ القَطْعِ ، كَانَتْ نَفْسُهُ مَضْمُونَةً عَلَى الْجَانِي ، وَلَوْ مَاتَ الْجَانِي مِنَ القِصَاصِ كَانَتْ نَفْسُهُ هَدَرًا لَا يَضْمَنُهَا الْمُقْتَصُّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : سِرَايَةُ الْقِصَاصِ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُقْتَصِّ كَمَا أَنَّ سِرَايَةَ الْجِنَايَةِ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْجَانِي ، فَإِذَا مَاتَ الْجَانِي مَعَ سِرَايَةِ الْقِصَاصِ ضَمِنَ الْمُقْتَصُّ جَمِيعَ دِيَةِ نَفْسِهِ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا حَدَثَ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْمُبَاشِرِ كَالْجَانِي . وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ مُبَاحٌ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ لِتَخْيِيرِ وَلِيِّهِ بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ كَضَرْبِ الرَّجُلِ لِزَوْجَتِهِ وَالْأَبِ لِوَلَدِهِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ مَا حَدَثَ مِنَ التَّلَفِ عَنْ ضَرْبِ الزَّوْجِ وَالْأَبِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِمَا كَذَلِكَ مَا حَدَثَ عَنِ الْقِصَاصِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَى الْمُقْتَصِّ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ [ الشُّورَى : 41 ] وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا : مَنْ مَاتَ مِنْ حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ فَلَا دِيَةَ لَهُ ، الْحَقُّ قَتَلَهُ . وَلَيْسَ لَهُمَا مُخَالِفٌ فَصَارَ إِجْمَاعًا ، وَلِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّ قَطْعُهُ بِالنَّصِّ لَمْ يُضْمَنْ سِرَايَتُهُ كَالسَّرِقَةِ ، وَلِأَنَّ السِّرَايَةَ مُعْتَبَرَةٌ بِأَصْلِهَا فَإِنْ كَانَ مَضْمُونًا لِحَظْرِهِ ضُمِنَتْ سِرَايَتُهُ ، وَإِنْ كَانَ هَدَرًا لِإِبَاحَتِهِ لَمْ يُضْمَنْ سِرَايَتُهُ اعْتِبَارًا بِالْمُسْتَقَرِّ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ بِأَنَّ مَنْ أَوْقَدَ نَارًا فِي مِلْكِهِ فَتَعَدَّتْ إِلَى جَارِهِ ، أَوْ أَجْرَى الْمَاءَ فِي أَرْضِهِ فَجَرَى إِلَى أَرْضِ غَيْرِهِ لَمْ يَضْمَنْ ، وَلَوْ أَوْقَدَ النَّارَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَأَجْرَى الْمَاءَ فِي غَيْرِ أَرْضِهِ ضُمِنَ بِتَعَدِّيهِمَا ، وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ لَمْ يَضْمَنْ مَا سَقَطَ فِيهَا وَلَوْ حَفَرَهَا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ ضَمِنَ مَا سَقَطَ فِيهَا كَذَلِكَ سِرَايَةُ الْقِصَاصِ عَنْ مُبَاحٍ فَلَمْ يَضْمَنْ وَسِرَايَةُ الْجِنَايَةِ عَنْ مَحْظُورٍ فَضُمِنَتْ ، وَهَذَا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ السِّرَايَتَيْنِ ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ ضَرْبِ الزَّوْجِ وَالْأَبِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِصَاصِ تَقْدِيرُ الْقِصَاصِ بِالشَّرْعِ نَصًّا ، فَلَمْ يَضْمَنْ وَالضَّرْبُ عَنِ اجْتِهَادٍ فَضَمِنَ ، كَمَا لَا يُضْمَنُ مَا حَدَثَ عَنْ جَلْدِ الزَّانِي وَيُضْمَنُ ضَرْبُ التَّعْزِيرِ .

فَصْلٌ : إِذَا قَطَعَ رَجُلٌ يَدَ رَجُلٍ فَاقْتَصَّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنَ الجَانِي ثُمَّ سَرَى الْقَطْعَانِ إِلَى النَّفْسِ ، فَمَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ وَمَاتَ الْجَانِي ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَقَدَّمَ مَوْتُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَلَى مَوْتِ الْجَانِي ، فَيُجْزِي قَطْعُ الْقِصَاصِ وَسِرَايَتُهُ عَنْ قَطْعِ الْجَانِي وَسِرَايَتِهِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَامَتِ السِّرَايَةُ فِي الْجِنَايَةِ مَقَامَ الْمُبَاشَرَةِ وَجَبَ أَنْ تَقُومَ السِّرَايَةُ فِي الْقِصَاصِ مَقَامَ الْمُبَاشَرَةِ ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَى الْجَانِي أَخْذُ نَفْسِهِ وَقَدْ أَخَذَهَا وَلِيُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِسِرَايَةِ قَوَدِهِ ، هَذَا مَا قَالَهُ أَصْحَابُنَا وَعِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ سِرَايَةَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَوْفِيَ بِهَا سِرَايَةَ الْجَانِي وَهِيَ

مَضْمُونَةٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَوْتُ الْجَانِي قَبْلَ مَوْتِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عند سراية جرحيهما ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُجْزِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ سِرَايَةِ الْقِصَاصِ فِي الْقَوَدِ عَمَّا حَدَثَ بَعْدَهُ مِنْ سِرَايَةِ الْجِنَايَةِ ، لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْقِصَاصِ مِنْ قِبَلِ اسْتِحْقَاقِهِ لَا يُجْزِي بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ سَلَفًا ، وَالسَّلَفُ فِي الْقِصَاصِ لَا يَجُوزُ ، فَعَلَى هَذَا يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَةِ الْجَانِي نِصْفُ الدِّيَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ تَجْزِي سِرَايَةُ الْقِصَاصِ وَإِنْ تَقَدَّمَتْ عَمَّا وَجَبَ بِالسِّرَايَةِ عَنِ الْجِنَايَةِ وَإِنْ تَأَخَّرَتْ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ السِّرَايَتَيْنِ تَابِعَةٌ لِأَصْلِهَا ، وَقَطْعَ الْقِصَاصِ مُتَأَخِّرٌ ، فَجَرَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ سِرَايَتِهِ حُكْمُ الْمُتَأَخِّرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ إِذَا اشْتَرَكَ اثْنَانِ فِي قَتْلِ نَفْسٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَوْ قَتَلَهُ عَمْدًا وَمَعَهُ صَبِيٌّ أَوْ مَعْتُوهٌ أَوْ كَانَ حُرٌّ وَعَبْدٌ قَتَلَا عَبْدًا أَوْ مُسْلِمٌ وَنَصْرَانِيٌّ قَتَلَا نَصْرَانِيًّا أَوْ قَتَلَ ابْنَهُ وَمَعَهُ أَجْنَبِيٌّ فَعَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْقِصَاصُ الْقِصَاصُ وَعَلَى الْآخَرِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ وَعُقُوبَةٌ إِنْ كَانَ الضَّرْبُ عَمْدًا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَشَبَّهَ الشَّافِعِيُّ أَخْذَ الْقَوَدِ مِنَ البَالِغِ دُونَ الصَّبِيِّ بِالْقَاتِلَيْنِ عَمْدًا يَعْفُو الْوَلِيُّ عَنْ أَحَدِهِمَا ، إِنَّ لَهُ قَتْلَ الْآخَرِ ، فَإِنْ قِيلَ وَجَبَ عَلَيْهِمَا الْقَوَدُ فَزَالَ عَنْ أَحَدِهِمَا بِإِزَالَةِ الْوَلِيِّ ، قِيلَ : فَإِذَا أَزَالَهُ الْوَلِيُّ عَنْهُ أَزَالَهُ عَنِ الْآخَرِ ، فَإِنْ قَالَ : لَا قِيلَ : فِعْلُهُمَا وَاحِدٌ فَقَدْ حَكَمْتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِحُكْمِ نَفْسِهِ لَا بِحُكْمِ غَيْرِهِ . ( قَالَ : ) فَإِنْ شَرَكَهُ قَاتِلٌ خَطَأً فَعَلَى الْعَامِدِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ وَجِنَايَةُ الْمُخْطِئِ عَلَى عَاقِلَتِهِ . وَاحْتَجَّ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي مَنْعِ الْقَوَدِ مِنَ العَامِدِ إِذَا شَارَكَهُ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ ، فَقَالَ : إِنْ كُنْتَ رَفَعْتَ عَنْهُ الْقَوَدَ لِأَنَّ الْقَلَمَ عَنْهُمَا مَرْفُوعٌ وَأَنَّ عَمْدَهُمَا خَطَأٌ عَلَى عَاقِلَتِهِمَا فَهَلَّا أَقَدْتَ مِنَ الأَجْنَبِيِّ إِذَا قَتَلَ عَمْدًا مَعَ الْأَبِ لِأَنَّ الْقَلَمَ عَنِ الْأَبِ لَيْسَ بِمَرْفُوعٍ وَهَذَا تَرْكُ أَصْلِكَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : قَدْ شَرَكَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ فِيمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ رَفْعَ الْقِصَاصِ عَنِ الْخَاطِئِ وَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ وَاحِدٌ فَكَذَلِكَ حُكْمُ مَنْ شَارَكَهُمْ بِالْعَمْدِ وَاحِدٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا اشْتَرَكَ اثْنَانِ فِي قَتْلِ نَفْسٍ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوِ انْفَرَدَ بِقَتْلِهِ قُتِلَ بِهِ كَحُرَّيْنِ قَتَلَا حُرًّا أَوْ عَبْدَيْنِ قَتَلَا عَبْدًا ، أَوْ كَافِرَيْنِ قَتَلَا كَافِرًا ، فَعَلَيْهِمَا إِذَا اشْتَرَكَا فِي قَتْلِهِ الْقَوَدُ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوِ انْفَرَدَ بِقَتْلِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ .

وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوِ انْفَرَدَ بِقَتْلِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَوَدُ ، كَحُرَّيْنِ قَتَلَا عَبْدًا ، أَوْ مُسْلِمَيْنِ قَتَلَا كَافِرًا ، فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِمَا إِذَا اشْتَرَكَا لِسُقُوطِ الْقَوَدِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا انْفَرَدَ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَجِبَ الْقَوَدُ عَلَى أَحَدِهِمَا لَوِ انْفَرَدَ ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْآخَرِ إِذَا انْفَرَدَ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ سُقُوطُ الْقَوَدِ عَنْهُ لَوِ انْفَرَدَ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ ، كَالْأَبِ إِذَا شَارَكَ أَجْنَبِيًّا فِي قَتْلِ وَلَدِهِ ، وَكَالْحُرِّ إِذَا شَارَكَ عَبْدًا فِي قَتْلِ عَبْدِهِ ، وَكَالْمُسْلِمِ إِذَا شَارَكَ كَافِرًا فِي قَتْلِ كَافِرٍ ، فَيَسْقُطُ الْقَوَدُ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ لَا فِي فِعْلِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ سُقُوطُ الْقَوَدِ عَنْهُ لَوِ انْفَرَدَ لِمَعْنًى فِي فِعْلِهِ كَالْخَاطِئِ إِذَا شَارَكَ عَامِدًا فِي الْقَتْلِ أَوْ تَعَمَّدَ الْخَطَأَ إِذَا شَارَكَ عَمْدًا مَحْضًا فَيَسْقُطُ الْقَوَدُ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي فِعْلِهِ لَا فِي نَفْسِهِ ، فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي شَرِيكِ مَنْ سَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الضَّرْبَيْنِ ، هَلْ تُوجِبُ الشَّرِكَةُ سُقُوطَ الْقَوَدِ عَنْهُ بِسُقُوطِهَا عَنْ شَرِيكِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ الْقَوَدُ عَنْهُ بِسُقُوطِهِ عَنْ شَرِيكِهِ عن القاتل ، سَوَاءٌ كَانَ سُقُوطُ الْقَوَدِ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ كَالْأَبِ إِذَا شَارَكَ أَجْنَبِيًّا ، أَوْ لِمَعْنًى فِي فِعْلِهِ كَالْخَاطِئِ إِذَا شَارَكَ عَامِدًا . وَالثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَسْقُطُ الْقَوَدُ عَنْهُ لِسُقُوطِهِ عَنْ شَرِيكِهِ ، سَوَاءٌ سَقَطَ الْقَوَدُ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ كَالْأَبِ إِذَا شَارَكَ أَجْنَبِيًّا ، أَوْ لِمَعْنًى فِي فِعْلِهِ كَالْخَاطِئِ إِذَا شَارَكَ عَامِدًا . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إِذَا شَارَكَ مَنْ سَقَطَ الْقَوَدُ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ القاتل كَالْأَبِ إِذَا شَارَكَ أَجْنَبِيًّا لَمْ يَسْقُطِ الْقَوَدُ عَنِ الْأَجْنَبِيِّ ، وَإِنْ شَارَكَ مَنْ سَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ لِمَعْنًى فِي فِعْلِهِ كَالْخَاطِئِ إِذَا شَارَكَ عَامِدًا لَمْ يَجِبِ الْقَوَدُ عَلَى الْعَامِدِ ، فَصَارَ الْخِلَافُ مَعَ مَالِكٍ فِي شَرِيكِ الْخَاطِئِ ، عِنْدَهُ يُقْتَلُ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُقْتَلُ ، وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي شَرِيكِ الْأَبِ ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُقْتَلُ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُقْتَلُ . فَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ شَرِيكَ الْخَاطِئِ يُقْتَلُ ، بِأَنَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ إِذَا انْفَرَدَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ إِذَا شَارَكَ فَمَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ قَوَدٌ ، كَشَرِيكِ الْأَبِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَتَعَدَّى حُكْمُ الْخَاطِئِ إِلَى الْعَامِدِ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ لَجَازَ أَنْ يَتَعَدَّى حُكْمُ الْعَامِدِ إِلَى الْخَاطِئِ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُ الدِّيَةِ بِمُشَارَكَةِ الْخَاطِئِ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهَا حُكْمُ الْقَوَدِ .

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ شَرِيكَ الْخَاطِئِ لَا يُقْتَلُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا إِنَّ فِي قَتِيلِ الْعَمْدِ الْخَطَأِ قَتِيلِ السَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةً مِنَ الإِبِلِ مُغَلَّظَةً ، وَهَذَا الْقَتِيلُ قَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ عَمْدٌ وَخَطَأٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ فِيهِ الدِّيَةَ دُونَ الْقَوَدِ ، وَلِأَنَّهَا نَفْسٌ خَرَجَتْ بِعَمْدٍ وَخَطَأٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ فِيهَا الْقَوَدُ ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ الْوَاحِدُ عَمْدًا وَجَرَحَهُ خَطَأً : وَلِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ فِي النَّفْسِ مُوجِبٌ وَمُسْقِطٌ يَغْلِبُ حُكْمُ الْمُسْقِطِ عَلَى حُكْمِ الْمُوجَبِ ، كَالْحُرِّ إِذَا قَتَلَ مَنْ نِصْفُهُ مَمْلُوكٌ وَنِصْفُهُ حُرٌّ ، وَلِأَنَّ سُقُوطَ الْقَوَدِ فِي الْخَطَأِ يَجْرِي فِي حَقِّ الْقَاتِلِ مَجْرَى عَفْوِ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ ، وَسُقُوطُهُ عَنِ الْأَبِ يَجْرِي مَجْرَى الْعَفْوِ عَنْ أَحَدِ الْقَاتِلَيْنِ ، وَعَفْوُ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ يُوجِبُ سُقُوطَ الْقَوَدِ فِي حَقِّ مَنْ بَقِيَ مِنَ الأَوْلِيَاءِ وَالْعَفْوُ عَنْ أَحَدِ الْقَتَلَةِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْقَوَدِ عَمَّنْ بَقِيَ مِنَ القَتَلَةِ ، وَهَذَا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ عَنْ جَمِيعِهِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ . وَقَوْلُهُ : " لَوْ تَعَدَّى الْخَطَأُ إِلَى الْعَمْدِ لَتَعَدَّى الْعَمْدُ إِلَى الْخَطَأِ " فَهُوَ خَطَأٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَأَنَّ اجْتِمَاعَ الْإِيجَابِ وَالْإِسْقَاطِ يَقْتَضِي تَغْلِيبَ حُكْمِ الْإِسْقَاطِ عَلَى الْإِيجَابِ . وَقَوْلُهُ : " لَمَّا لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُ الدِّيَةِ لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُ الْقَوَدِ " لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، لِأَنَّ الدِّيَةَ تَتَبَعَّضُ وَالْقَوَدُ لَا يَتَبَعَّضُ . فَإِذَا ثَبَتَ سُقُوطُ الْقَوَدِ عَنِ الْعَامِدِ لِسُقُوطِهِ عَنِ الْخَاطِئِ فَعَلَى الْعَامِدِ نِصْفُ الدِّيَةِ مُغَلَّظَةً حَالَّةً فِي مَالِهِ ، وَعَلَى عَاقِلَةِ الْخَاطِئِ نِصْفُ الدِّيَةِ مُخَفَّفَةً إِلَى أَجَلِهَا .

فَصْلٌ : وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ شَرِيكَ الْأَبِ حكمه فى القصاص لَا يُقْتَلُ بِأَنَّهُ شَارَكَ مَنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَوَدُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الْقَوَدُ كَشَرِيكِ الْخَاطِئِ ، وَلِأَنَّ مُشَارَكَةَ الْأَبِ كَمُشَارَكَةِ الْمَقْتُولِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْمَقْتُولَ لَوْ شَارَكَ قَاتِلَهُ لَسَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ ، كَذَلِكَ الْأَبُ إِذَا شَارَكَ الْأَجْنَبِيَّ وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الْقَوَدُ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ شَرِيكَ الْأَبِ يُقْتَلُ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [ الْإِسْرَاءِ : 33 ] وَلِأَنَّهَا نَفْسٌ مَضْمُونَةٌ خَرَجَتْ بِعَمْدٍ مَحْضٍ ، فَلَمْ يَكُنْ سُقُوطُ الْقَوَدِ عَنْ أَحَدِ الْقَاتِلَيْنِ مُوجِبًا لِسُقُوطِهِ عَنِ الْآخَرِ ، كَالْعَفْوِ عَنْ أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْقَوَدِ عَنْهُمَا ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُ الْأَبِ بِمُشَارَكَةِ الْأَجْنَبِيِّ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُ الْأَجْنَبِيِّ بِمُشَارَكَةِ الْأَبِ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ عَنْهُ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْخَاطِئِ فَهُوَ أَنَّ سُقُوطَهُ عَنِ الْخَاطِئِ لِمَعْنًى فِي فِعْلِهِ ، وَقَدِ امْتَزَجَ الْفِعْلَانِ فِي السِّرَايَةِ فَلَمْ يَتَمَيَّزَا ، وَسُقُوطُهُ عَنِ الْأَبِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ وَقَدْ تَمَيَّزَ الْقَاتِلَانِ فَلَمْ يَسْتَوِيَا ، وَجَمْعُهُ بَيْنَ شَرِكَةِ الْأَبِ وَشَرِكَةِ الْمَقْتُولِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ شَرِيكَ الْمَقْتُولِ يُقْتَلُ ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الْأَصَحُّ لَا يُقْتَلُ ، وَإِنْ قُتِلَ شَرِيكُ الْأَبِ ، لِأَنَّ شَرِكَةَ الْمَقْتُولِ إِبْرَاءٌ وَلَيْسَتْ شَرِكَةُ الْأَبِ إِبْرَاءً .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْبَالِغُ الْعَاقِلُ إِذَا شَارَكَ فِي الْقَتْلِ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا القاتل ، فَإِنْ كَانَ قَتْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ عَلَى صِفَةِ الْخَطَأِ فَلَا قَوَدَ عَلَى شَرِيكِهِ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخَطَأُ مِنْ بَالِغٍ عَاقِلٍ سَقَطَ بِهِ الْقَوَدُ عَنِ الْعَامِدِ ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَسْقُطَ بِهِ غَيْرُ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ ، وَإِنْ كَانَ قَتْلُ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ عَلَى صِفَةِ الْعَمْدِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي عَمْدِهِمَا هَلْ يَكُونُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً : عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَمْدَهَا خَطَأٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَمْدًا لَتَعَلَّقَ بِهِ الْقَوَدُ وَالْمَأْثَمُ ، وَبِسُقُوطِهِمَا عَنْهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْخَطَأِ ، فَعَلَى هَذَا لَا قَوَدَ فِي الْعَمْدِ عَلَى الْبَالِغِ الْعَاقِلِ إِذَا شَارَكَهُمَا ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ حَالَّةً فِي مَالِهِ ، وَعَلَيْهِمَا نِصْفُ دِيَةِ الْخَطَأِ مُخَفَّفَةً عَلَى عَوَاقِلِهِمَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ عَمْدَهَا عَمْدٌ ، لِأَنَّهُمَا قَدْ يُمَيِّزَانِ مَضَارَّهُمَا مِنْ مَنَافِعِهِمَا ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ جَعَلَ لِلصَّبِيِّ تَمْيِيزًا فِي اخْتِيَارِ الْأَبَوَيْنِ ، وَقَدَّمَهُ لِلصَّلَاةِ إِمَامًا ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَمْدُهُ لِلْأَكْلِ فِي الصِّيَامِ عَمْدًا وَعَمْدُهُ لِلْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ عَمْدًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَمْدُهُ لِلْقَتْلِ عَمْدًا ، وَلَوْ جَعَلَ عَمْدَ الصَّبِيِّ عَمْدًا وَعَمْدَ الْمَجْنُونِ خَطَأً لَكَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَشْبَهُ ، لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ تَصِحُّ مِنَ الصَّبِيِّ وَلَا تَصِحُّ مِنَ المَجْنُونِ ، لَكِنَّ الْقَوْلَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مُطْلَقٌ فَأَطْلَقْنَاهُ مَعَ الْفَرْقِ الَّذِي أَرَاهُ ، فَعَلَى هَذَا يَجِبُ عَلَى الْعَامِدِ إِذَا شَارَكَهُمَا فِي الْقَتْلِ الْقَوَدُ بِخُرُوجِ النَّفْسِ بِعَمْدٍ مَحْضٍ ، وَلَا قَوَدَ عَلَيْهِمَا ، لِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِالْأَبْدَانِ سَاقِطٌ عَنْهُمَا ، وَعَلَيْهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ مُغَلَّظَةً حَالَّةً مِنْ أَمْوَالِهِمَا ، لِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِالْأَمْوَالِ وَاجِبٌ عَلَيْهَا ، فَصَارَ سُقُوطُ الْقَوَدِ وَعَنْهُمَا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِمَعْنًى فِي فِعْلِهِمَا فَلِذَلِكَ سَقَطَ الْقَوَدُ عَمَّنْ شَارَكَهُمَا ، وَسُقُوطُهُ عَنْهُمَا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي مَعْنًى فِي أَنْفُسِهِمَا ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ الْقَوَدُ عَلَى مَنْ شَارَكَهُمَا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْعَامِدُ إِذَا شَارَكَ فِي الْقَتْلِ سَبُعًا أَوْ ذِئْبًا أَوْ نَمِرًا القاتل لَمْ يَخْلُ حَالُ الرَّجُلِ الْعَامِدِ ، وَمَنْ شَارَكَهُ مِنْ سَبُعٍ أَوْ ذِئْبٍ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُوجِئًا وَالسَّبُعُ جَارِحًا ، فَعَلَى الرَّجُلِ الْقَوَدُ ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ إِلَى الدِّيَةِ فَعَلَيْهِ جَمِيعُهَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ جَارِحًا وَالسَّبُعُ مُوجِئًا ، فَيُنْظَرُ ، فَإِنْ تَقَدَّمَتْ تَوْجِئَةُ السَّبُعِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الرَّجُلِ مِنْ قَوَدٍ وَلَا أَرْشٍ ، وَإِنْ تَقَدَّمَتْ جِرَاحَةُ الرَّجُلِ ضَمِنَ الْجِرَاحَةَ وَحْدَهَا بِقَوَدِهَا أَوْ أَرْشِهَا .

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَا مُوجَئَيْنِ فَيُنْظَرُ ، فَإِنْ تَقَدَّمَتْ تَوْجِئَةُ السَّبُعِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الرَّجُلِ مِنْ قَوَدٍ وَلَا عَقْلٍ ، وَإِنْ تَقَدَّمَتْ تَوْجِئَةُ الرَّجُلِ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ أَوْ جَمِيعُ الدِّيَةِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَا جَارِحَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ ، فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الرَّجُلِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا : وَهُوَ أَظْهَرُهُمَا ، عَلَيْهِ الْقَوَدُ لِخُرُوجِ النَّفْسِ بِالْعَمْدِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا قَوَدَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ لَا تَمْيِيزَ لِلسَّبُعِ ، فَصَارَ كَاشْتِرَاكِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ ، وَهَكَذَا مُشَارَكَتُهُ لِلْحَيَّةِ إِذَا نَهَشَتْ يَكُونُ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : تَجِبُ . وَالثَّانِي : لَا تَجِبُ ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ حَالَّةً فِي مَالِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا اشْتَرَكَ فِي قَتْلِ الْعَبْدِ سَيِّدُهُ وَعَبْدٌ آخَرُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّيِّدِ مِنْ قَوَدٍ وَلَا قِيمَةٍ ، وَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الْعَبْدِ الْمُشَارِكِ لَهُ قَوْلَانِ ، بِنَاءً عَلَى شَرِيكِ السَّبُعِ ، لِأَنَّ فِعْلَ السَّيِّدِ غَيْرُ مَضْمُونٍ ، كَمَا كَانَ فِعْلُ السَّبُعِ غَيْرَ مَضْمُونٍ . أَحَدُهُمَا : يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ لِخُرُوجِ النَّفْسِ بِعَمْدٍ مَحْضٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا قَوَدَ عَلَيْهِ لِمُشَارَكَةِ مَنْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَهَكَذَا لَوْ أَنَّ مُسْلِمًا جَرَحَ مُرْتَدًّا ثُمَّ أَسْلَمَ فَجَرَحَهُ مُسْلِمٌ آخَرُ وَمَاتَ فَلَا قَوَدَ عَلَى الْأَوَّلِ ، لِأَنَّ جُرْحَهُ فِي الرِّدَّةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ ، وَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الثَّانِي قَوْلَانِ : لِأَنَّهُ شَارَكَ مَنْ لَمْ يُضْمَنْ : أَحَدُهُمَا : يُقَادُ مِنْهُ . وَالثَّانِي : لَا قَوَدَ عَلَيْهِ ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ رُجَلًا قُطِعَتْ يَدُهُ قَوَدًا وَقَطَعَ آخَرُ يَدَهُ الْأُخْرَى ظُلْمًا وَمَاتَ الْمَقْطُوعُ فَقَدْ خَرَجَتِ النَّفْسُ عَنْ قِصَاصٍ مُبَاحٍ وَظُلْمٍ مَحْظُورٍ ، فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى ظَالِمِهِ بِالْقَطْعِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَقْتَصُّ مِنْ نَفْسِهِ . وَالثَّانِي : لَا يَقْتَصُّ مِنْ نَفْسِهِ ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ اليَدِ وَجَبَ لَهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا كَلَامُ الْمُزَنِيِّ فَيَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا حَكَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي مُنَاظَرَتِهِ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي شَرِيكِ الصَّبِيِّ حكمه فى القصاص ، لِمَ أُسْقِطُ عَنْهُ الْقَوَدَ : فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ لِأَنَّ الْقَلَمَ عَنْهُ مَرْفُوعٌ ، فَأَجَابَهُ الشَّافِعِيُّ

بِأَنَّ شَرِيكَ الْأَبِ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ عِنْدَكَ ، وَلَيْسَ الْقَلَمُ مَرْفُوعًا عَنِ الْأَبِ ، فَأَبْطَلَ عَلَيْهِ تَعْلِيلَهُ بِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ . قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : لَا يُلْزَمُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ هَذِهِ الْمُنَاقَضَةَ ، لِأَنَّهَا نَقِيضُ الْعَكْسِ دُونَ الطَّرْدِ ، وَالنَّقِيضُ إِنَّمَا يُلْزَمُ فِي الطَّرْدِ بِأَنْ تُوجَدَ الْعِلَّةُ وَلَا حُكْمَ ، وَلَا يُلْزَمُ فِي الْعَكْسِ بِأَنْ يُوجَدَ الْحُكْمُ وَلَا عِلَّةَ ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِمْ نَقْضَ الْعِلَّةِ بِطَرْدِهَا وَعَكْسِهَا ، فَأَلْزَمَهُمُ الشَّافِعِيُّ عَلَى مَذْهَبِهِمْ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ التَّعْلِيلَ إِذَا كَانَ لِعَيْنٍ انْتَقَضَ بِإِيجَادِ الْعِلَّةِ وَلَا حُكْمَ ، وَلَا يَنْتَقِضُ بِإِيجَادِ الْحُكْمِ وَلَا عِلَّةَ ، وَإِذَا كَانَ التَّعْلِيلُ لِجِنْسٍ انْتَقَضَ بِإِيجَادِ الْعِلَّةِ وَلَا حُكْمَ بِإِيجَادِ الْحُكْمِ وَلَا عِلَّةَ ، وَتَعْلِيلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ قَدْ كَانَ لِلْجِنْسِ دُونَ الْعَيْنِ ، فَصَحَّ انْتِقَاضُهُ بِكِلَا الْأَمْرَيْنِ . وَالْفَصْلُ الثَّانِي مِنْ كَلَامِ الْمُزَنِيِّ أَنِ اعْتُرِضَ بِهِ عَلَى الشَّافِعِيِّ فَقَالَ قَدْ شَارَكَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِيمَا أُنْكِرَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ رَفَعَ الْقِصَاصَ عَنِ الْخَاطِئِ حَتَّى أَسْقَطَ بِهِ الْقَوَدَ عَنِ الْعَامِدِ ، وَرَفَعَ الْقِصَاصَ عَنِ الصَّبِيِّ وَلَمْ يُسْقِطْ بِهِ الْقَوَدَ عَنِ الْبَالِغِ ، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ وَهْمٌ مِنَ المُزَنِيِّ ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي عَمْدِ الصَّبِيِّ هَلْ يَكُونُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً ، فَجَعَلَهُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ عَمْدًا فَلَمْ يَسْقُطْ بِهِ الْقَوَدُ عَنِ الْبَالِغِ إِذَا شَارَكَهُ لِوُجُودِ الشُّبْهَةِ فِي الْفَاعِلِ دُونَ الْفِعْلِ ، بِخِلَافِ الْخَاطِئِ وَإِنْ جُعِلَ عَمْدُهُ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي خَطَأً سَقَطَ بِهِ الْقَوَدُ عَنِ الْبَالِغِ لِوُجُودِ الشُّبْهَةِ فِي الْقَتْلِ دُونَ الْفَاعِلِ كَالْخَاطِئِ ، فَكَانَ اعْتِرَاضُهُ زَلَلًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ إِنْ بَادَرَ أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ فَقَتَلَ الْقَاتِلَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَوْ قَتَلَ أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ الْقَاتِلَ بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا قِصَاصَ بِحَالٍ لِلشُّبْهَةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا يَحْتَمِلُ أَيَّ وَلِيٍّ قَتَلَ كَانَ أَحَقَّ بِالْقَتْلِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يُنْزِلُونَهُ مَنْزِلَةَ الْحَدِّ لَهُمْ عَنْ أَبِيهِمْ إِنْ عَفُوا إِلَّا وَاحِدًا كَانَ لَهُ أَنْ يَحُدَّهُ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَجْهَلُ عُزِّرَ وَقِيلَ لِلْوُلَاةِ مَعَهُ لَكُمْ حِصَصُكُمْ وَالْقَوْلُ مِنْ أَيْنَ يَأْخُذُونَهَا وَاحِدٌ مِنْ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا لَهُمْ مِنْ مَالِ الْقَاتِلِ يَرْجِعُ بِهَا وَرَثَةُ الْقَاتِلِ فِي مَالِ قَائِلِهِ وَمَنْ قَالَ هَذَا فَإِنْ عَفَوْا عَنِ الْقَاتِلِ الدِّيَةَ رَجَعَ وَرَثَةُ قَاتِلِ الْمَقْتُولِ عَلَى قَاتِلِ صَاحِبِهِمْ بِحِصَّةِ الْوَرَثَةِ مَعَهُ مِنَ الدِّيَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي حِصَصِهِمْ أَنَّهَا لَهُمْ فِي مَالِ أَخِيهِمُ الْقَاتِلِ قَاتِلِ أَبِيهِمْ لِأَنَّ الدِّيَةَ إِنَّمَا كَانَتْ تَلْزَمُهُ لَوْ كَانَ لَمْ يَقْتُلْهُ وَلِيٌّ فَإِذَا قَتَلَهُ وَلِيٌّ فَلَا يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ

الْقَتْلُ وَالْغُرْمُ . وَالْقَوْلُ الثَانِي أَنَّ عَلَى مَنْ قَتَلَ مِنَ الأَوْلِيَاءِ قَاتِلَ أَبِيْهِ الْقِصَاصَ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عَلَى الْقَتْلِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَأَصْلُ قَوْلِهِ إِنَّ الْقَاتِلَ لَوْ مَاتَ كَانَتِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَيْسَ تَعَدِّي أَخِيهِ بِمُبْطِلٍ حَقَّهُ وَلَا بِمُزِيلِهِ عَمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ وَلَا قَوَدَ لِلشُّبْهَةِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَوَدَ لَا يَسْتَحِقُّهُ الْأَوْلِيَاءُ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَيْهِ ، وَأَنْ لَيْسَ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ ، فَإِنْ بَادَرَ أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ فَقَتَلَ الْقَاتِلَ انْقَسَمَتْ حَالُهُ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ عَنْ إِذَنْ أَخِيهِ وَشَرِيكِهِ فِيهِ ، فَلَا يَكُونُ بِقَتْلِهِ مُتَعَدِّيًا ، وَقَدِ اسْتَوْفَى الْقَوَدَ فِي حَقِّهِمَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بَعْدَ عَفْوِ أَخِيهِ وَعِلْمِهِ بِعَفْوِهِ فَهُوَ مُتَعَدٍّ بِهَذَا الْقَتْلِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ عَلَيْهِ الْقَوَدَ لِسُقُوطِهِ فِي حَقِّهِمَا بِعَفْوِ أَحَدِهِمَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَخِيهِ إِذْنٌ وَلَا عَفْوٌ ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَحْكُمَ لَهُ الْحَاكِمُ بِالْقَوَدِ ، فَالصَّحِيحُ أَنْ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ لِنُفُوذِ حُكْمِهِ بِمُخْتَلَفٍ فِيهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ بِالْمَنْعِ مِنَ القَوَدِ ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ عَلَيْهِ الْقَوَدَ لِنُفُوذِ حُكْمِهِ بِرَفْعِ الشُّبْهَةِ فِيهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ لَا يَكُونَ مِنَ الحَاكِمِ فِيهِ حُكْمٌ بِتَمْكِينٍ وَلَا مَنْعٍ ، فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ شَرِيكٌ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفْسِ الَّتِي قَتَلَهَا ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الشَّرِكَةُ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ عَنْهُ كَالْأَمَةِ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ ، إِذَا وَطِئَهَا أَحَدُهُمَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ لِشُبْهَةِ الشَّرِكَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا قَتَلَ نَفْسًا اسْتُحِقَّ بَعْضُهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَادَ مِنْ نَفْسِهِ الَّتِي لَمْ يُسْتَحَقَّ بَعْضُهَا ، لِعَدَمِ التَّكَافُؤِ كَمَا لَا يُقَادُ الْحُرُّ بِمَنْ نِصْفُهُ عَبْدٌ وَنِصْفُهُ حُرٌّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ ، وَإِنْ كَانَ شَرِيكًا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوَدَ يَجِبُ فِي قَتْلِ بَعْضِ النَّفْسِ كَمَا يَجِبُ فِي قَتْلِ جَمِيعِهَا ، لِأَنَّ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْقَتْلِ يُقَادُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَهُوَ مُتْلِفٌ لِبَعْضِ النَّفْسِ ، كَمَا يُقَادُ بِهِ إِذَا

انْفَرَدَ بِقَتْلِهِ ، كَذَلِكَ هَذَا الشَّرِيكُ قَدْ صَارَ قَاتِلًا لِبَعْضِ النَّفْسِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ بَعْضِهَا فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ . وَالثَّانِي : أَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ لِبَعْضِ النَّفْسِ كَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْقَوَدِ مِنْ بَعْضِ الْجَسَدِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوِ اسْتَحَقَّ الْقَوَدَ مِنْ بَعْضِ الْجَسَدِ فَقَتَلَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ ، كَذَلِكَ إِذَا اسْتَحَقَّ بَعْضَ نَفْسِهِ فَقَتَلَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ قَوْلٌ فِيمَا ذَكَرْنَا صِحَّةَ حُكْمِهِ مِنَ الأَقْسَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِيجَابًا وَإِسْقَاطًا .

فَصْلٌ : إِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ تَفَرَّعَ الْحُكْمُ عَلَيْهِمَا فَإِذَا قُبِلَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ ، أَنَّهُ لَا قَوَدَ عَلَى الْوَلِيِّ الْقَاتِلِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ نِصْفُهَا ، وَهُوَ مَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ دِيَةِ أَبِيهِ إِذَا جَعَلَ الدَّيْنَ الْمُتَمَاثِلَ تَمَامًا ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ نِصْفُ دِيَةِ قَاتِلِ أَبِيهِ ، وَبَقِيَ لِأَخِيهِ نِصْفُ دِيَةِ أَبِيهِ ، وَفِي انْتِقَالِ حَقِّهِ مِنْ هَذَا النِّصْفِ عَنْ قَاتِلِ أَبِيهِ إِلَى أَخِيهِ الْقَاتِلِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهَا لَا تَنْتَقِلُ وَيَرْجِعُ الْأَخُ بِحَقِّهِ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ فِي تَرِكَةِ قَاتِلِ أَبِيهِ ، وَيَرْجِعُ وَرَثَةُ قَاتِلِ الْأَبِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ عَلَى الْأَخِ الْقَاتِلِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَنْتَقِلْ حَقُّ الْأَخِ الَّذِي لَيْسَ بِقَاتِلٍ إِلَى الْأَخِ الْقَاتِلِ ، لِأَنَّ حَقَّهُ عَلَى قَاتِلِ أَبِيهِ فَلَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى قَاتِلِهِ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ غَيْرُ أَخِيهِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَبْرَأَ وَرَثَةُ قَاتِلِ الْأَبَ لِلْأَخِ الْقَاتِلِ بَرِئَ ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ أَخُوهُ لَمْ يَبْرَأْ ، لِأَنَّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الهَدِيَّةِ مُسْتَحَقٌّ لِوَرَثَةِ قَاتِلِ أَبِيهِ دُونَ أَخِيهِ ، وَلَوْ أَبْرَأَ الْأَخُ وَرَثَةَ قَاتِلِ أَبِيهِ بَرِئُوا لِأَنَّ حَقَّهُ عَلَى قَاتِلِ أَبِيهِ دُونَ أَخِيهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ قَدِ انْتَقَلَ حَقُّ الْأَخِ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ عَنْ قَاتِلِ أَبِيهِ إِلَى أَخِيهِ الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالْقَتْلِ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِمَا مِنْ قَتْلِ أَبِيهِمَا كَمَا لَوْ كَانَتْ لَهُمَا وَدِيعَةٌ فَأَخَذَهَا أَحَدُهُمَا مِنَ المُودِعِ كَانَ قَابِضًا لِحَقِّهِمَا ، وَلِلْأَخِ مُطَالَبَتُهُ بِحَقِّهِ مِنْهَا دُونَ الْمُودِعِ ، فَعَلَى هَذَا قَدْ بَرِئَ وَرَثَةُ قَاتِلِ الْأَبِ مِنْ جَمِيعِ الدِّيَةِ وَصَارَ مَا عَلَى الْقَاتِلِ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ لِأَخِيهِ دُونَهُ ، فَلَوْ أَبْرَأَهُ أَخُوهُ بَرِئَ وَلَوْ أَبْرَأَهُ وَرَثَةُ قَاتِلِ أَبِيهِ لَمْ يَبْرَأْ ، وَإِذَا قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الْقَوَدَ عَلَى وَلِيِّ الْقَاتِلِ وَاجِبٌ فَلِوَرَثَةِ الْقَاتِلِ لِأَبِيهِ الْخِيَارُ ، بَيْنَ أَنْ يَقْتَصُّوا أَوْ يَعْفُوا عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الدِّيَةِ ، أَوْ يَعْفُوا عَنِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ . فَإِنِ اقْتَصُّوا فَقَدِ اسْتَوْفَوْا حَقَّهُمْ قَوَدًا ، وَعَلَيْهِمْ فِي تَرِكَةِ أَبِيهِمْ دِيَةُ قَتِيلِهِ يَكُونُ نِصْفُهَا لِوَلِيِّهِ الْبَاقِي ، وَنِصْفُهَا لِوَرَثَةِ وَلِيِّهِ الْمَقْتُولِ قَوَدًا ، وَإِنْ عَفَوْا عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الدِّيَةِ ورثة المقتول وَجَبَتْ لَهُمْ دِيَةُ أَبِيهِمْ عَلَى قَاتِلِهِ ، وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ فِي تَرِكَةِ أَبِيهِمْ دِيَةُ مَقْتُولِهِ ، فَيَبْرَءُوا مِنْ نِصْفِهَا وَهُوَ حَقُّ الْقَاتِلِ ، وَيَبْقَى لَهُمْ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَفِي انْتِقَالِ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ نِصْفِهَا لِلْوَلِيِّ الَّذِي لَيْسَ بِقَاتِلٍ إِلَى مَنْ لَهُمْ عَلَيْهِ نِصْفُهَا وَهُوَ الْوَلِيُّ الْقَاتِلُ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى ، لَوْ قِيلَ بِسُقُوطِ الْقَوَدِ حُكْمًا وَتَفْرِيعًا فَإِنْ عَفَوْا عَنِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ جَمِيعًا سَقَطَ

فِي قَتْلِ أَبِيهِمْ وَوَجَبَ فِي تَرِكَتِهِ دِيَةُ قَتِيلِهِ لِوَلِيِّهِ لِيَسْتَوِيَ فِيهَا الْقَاتِلُ وَغَيْرُ الْقَاتِلِ ، وَيَجْرِيَ قَتْلُ أَبِيهِمْ بَعْدَ عَفْوِهِمْ مَجْرَى مَوْتِهِ ، وَلَوْ مَاتَ الْقَاتِلُ وَجَبَتِ الدِّيَةُ فِي تَرِكَتِهِ ، وَإِنْ سَقَطَ الْقَوَدُ بِمَوْتِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا مَاتَ الْقَاتِلُ سَقَطَتْ عَنْهُ الدِّيَةُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ سَقَطَتْ عَنْهُ دِيَةُ قَتِيلِهِ ، وَوَجَبَ لَهُ الْقِصَاصُ عَلَى قَاتِلِهِ ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ بِالْمُرَاضَاةِ عِنْدَ النُّزُولِ عَنِ الْقِصَاصِ الْمُمْكِنِ ، وَالْمَوْتُ قَدْ مَنَعَ إِمْكَانَ الْقِصَاصِ فَمَنَعَ مِنْ وُجُوبِ الدِّيَةِ ، وَاسْتِدْلَالًا بَعْدَهُ بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ سُقُوطَ الْقِصَاصِ بِتَلَفِ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ يُوجِبُ سُقُوطَ الدِّيَةِ ، كَالْعَبْدِ الْجَانِي إِذَا مَاتَ قَبْلَ الْقِصَاصِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوِ انْتَقَلَ الْقِصَاصُ مِنْ نَفْسِهِ إِلَى الدِّيَةِ عِنْدَ تَلَفِهِ ، لَصَارَتْ نَفْسُهُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ ، وَمَا أَحَدٌ يَضْمَنُ نَفْسَهُ ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُهَا غَيْرُهُ . وَدَلِيلُنَا مَعَ بِنَائِهِ عَلَى أَصْلِنَا فِي أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ مِنْ غَيْرِ مُرَاضَاةٍ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَنْ قَتَلَ بَعْدَهُ قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ ، إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا ، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الْعَقْلَ وَمَنْ خُيِّرَ بَيْنَ حَقَّيْنِ ، إِذَا فَاتَهُ أَحَدُهُمَا تَعَيَّنَ حَقُّهُ فِي الْآخَرِ ، وَلِأَنَّ سُقُوطَ الْقِصَاصِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ مُسْتَحِقِّهِ يُوجِبُ الِانْتِقَالَ إِلَى الدِّيَةِ ، كَمَا لَوْ عَفَا بَعْضُ الْوَرَثَةِ انْتَقَلَ حَقُّ مَنْ لَمْ يَعْفُ إِلَى الدِّيَةِ ، وَلِأَنَّ الدِّيَةَ لَمَّا وَجَبَتْ فِي أَخَفِّ الْقَتْلَيْنِ مِنَ الخَطَأِ كَانَ وُجُوبُهَا فِي أَغْلَظِهِمَا مِنَ العَمْدِ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ مُمَاثَلَةٌ لِجِنْسٍ مُتْلَفٍ ، فَوَجَبَ إِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ أَنْ يُسْتَحَقَّ الِانْتِقَالُ إِلَى بَدَلِهِ مِنَ المَالِ ، كَمَنِ اسْتَهْلَكَ ذَا مِثْلٍ مِنَ الطَّعَامِ فَأَعْوَزَ انْتَقَلَ إِلَى قِيمَتِهِ . فَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى مَوْتِ الْعَبْدِ الْجَانِي فَلَمْ تَسْقُطِ الدِّيَةُ بِمَوْتِهِ ، وَلَكِنْ لِتَعَذُّرِ وَجُودِهَا بِعَدَمِ مِلْكِهِ وَقَفَ اسْتِحْقَاقُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الْحُرُّ مُعْسِرًا . وَقَوْلُهُ : إِنَّ نَفْسَهُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَضْمَنَهَا حَيًّا بِبَذْلِ الدِّيَةِ جَازَ أَنْ يَضْمَنَهَا مَيِّتًا بِوُجُوبِ الدِّيَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَضْمَنُ الدِّيَةَ بَدَلًا مِنْ نَفْسِ قَتِيلِهِ لَا مِنْ نَفْسِهِ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ قَطَعَ يَدَهُ مِنْ مَفْصِلِ الْكُوعِ فَلَمْ يَبْرَأْ حَتَّى قَطَعَهَا آخَرُ مِنَ المِرْفَقِ ثَمَّ مَاتَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَوْ قَطَعَ يَدَهُ مِنْ مَفْصِلِ الْكُوعِ فَلَمْ يَبْرَأْ حَتَّى قَطَعَهَا آخَرُ مِنَ المِرْفَقِ ثَمَّ مَاتَ فَعَلَيْهِمَا الْقَوَدُ ، يُقْطَعُ قَاطِعُ الْكَفِّ مِنَ الكُوعِ وَيَدِ الْآخَرِ مِنَ المِرْفَقِ ثُمَّ يُقْتَلَانِ لِأَنَّ أَلَمَ الْقَطْعِ الْأَوَّلِ وَاصِلٌ إِلَى الْجَسَدِ كُلِّهِ .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا تَوَالَتْ جِنَايَتَانِ فَأَزَالَتِ الثَّانِيَةُ مِنْهُمَا مَحَلَّ الْأُولَى ، مِثْلَ أَنْ يَقْطَعَ أَحَدُهُمَا يَدَهُ مِنْ مَفْصِلِ الْكُوعِ ، وَيَقْطَعُ الثَّانِي بَقِيَّتَهَا مِنَ الكَتِفِ أَوِ الْمِرْفَقِ أَوْ يَقْطَعَ أَحَدُهُمَا إِصْبَعَهُ وَيَقْطَعَ الثَّانِي بَقِيَّةَ كَفِّهِ ، أَوْ يَكُونَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي قَطْعِ الْقَدَمِ وَالسَّاقِ ، ثُمَّ يَمُوتُ الْمَقْطُوعُ وَدَمُهُ سَائِلٌ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمَا قَاتِلَانِ وَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ وَفِي النَّفْسِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْأَوَّلُ قَاطِعٌ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْيَدِ دُونَ النَّفْسِ . وَالثَّانِي : يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ دُونَ الْيَدِ ، احْتِجَاجًا بِأَنَّ السِّرَايَةَ تَحْدُثُ عَنْ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ ، فَإِذَا زَالَ مَحَلُّهَا زَالَتْ سِرَايَتُهَا لِانْقِطَاعِ مَادَّتِهَا ، أَلَّا تَرَى أَنَّ سِرَايَةَ الْأَكَلَةِ تَزُولُ بِقَطْعِ مَحَلِّهَا ، فَصَارَ انْقِطَاعُهَا كَالِانْدِمَالِ ، وَصَارَ الثَّانِي كَالْمُنْفَرِدِ ، أَوِ الْمُوجِئِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْقَاتِلَ دُونَ الْأَوَّلِ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ الْمَوْتَ بِالسِّرَايَةِ حَادِثٌ عَنْ أَلَمِهَا ، وَأَلَمُ الْقَطْعِ الْأَوَّلِ قَدْ سَرَى فِي الْحَالِ إِلَى الْجَسَدِ كُلِّهِ قَبْلَ الْقَطْعِ الثَّانِي ، فَانْتَقَلَ مَحَلُّهُ إِلَى الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ مَادَّةُ الْحَيَاةِ فَإِذَا حَدَثَ الْقَطْعُ الثَّانِي أَحْدَثَ أَلَمًا ثَانِيًا زَادَ عَلَى الْأَلَمِ الْأَوَّلِ ، فَصَارَ الْمَوْتُ حَادِثًا عَنْهُمَا لَا عَنِ الثَّانِي مِنْهُمَا ، كَمَنْ سَجَّرَ تَنُّورًا بِنَارٍ حَمِيَ بِهَا ثُمَّ أَخْرَجَ سَجَارَهُ وَسَجَرَهُ بِأُخْرَى تَكَامَلَ حِمَاهُ بِهِمَا لَمْ يَكُنْ تَكَامُلُ الْحَمِيِّ مَنْسُوبًا إِلَى السَّجَارِ الثَّانِي ، وَإِنْ زَالَتِ السَّجَارُ الْأَوَّلُ ، بَلْ كَانَ مَنْسُوبًا إِلَيْهِمَا ، كَذَلِكَ تَكَامُلُ الْأَلَمِ فِي الْقَلْبِ لَمْ يَكُنْ بِالْقَطْعِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ، بَلْ كَانَ بِالثَّانِي وَالْأَوَّلِ . فَإِنْ قِيلَ : فَزِيَادَةُ الْأَلَمِ الْأَوَّلِ مُنْقَطِعَةٌ وَزِيَادَةُ الْأَلَمِ الثَّانِي مُسْتَدِيمَةٌ ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ مَنْسُوبًا إِلَى الْأَلَمِ الثَّانِي لِاتِّصَالِ مَادَّتِهِ دُونَ الْأَلَمِ الْأَوَّلِ لِانْقِطَاعِ مَادَّتِهِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي زِيَادَةَ الْأَلَمِ الثَّانِي وَقِلَّةَ الْأَوَّلِ ، وَلَيْسَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ مَانِعًا مِنْ تَسَاوِيهِمَا فِي الْقَتْلِ ، كَمَا لَوْ جَرَحَاهُ فَكَانَتْ جِرَاحَةُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ أَلَمًا كَانَا سَوَاءً فِي قَتْلِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ انْقِطَاعَ أَسْبَابِ الْأَلَمِ لَا يَمْنَعُ مِنْ مُسَاوَاةِ مَا بَقِيَتْ أَسْبَابُهُ فِي إِضَافَةِ الْقَتْلِ إِلَيْهِمَا ، كَمَا لَوْ ضَرَبَهُ أَحَدُهُمَا بِخَشَبَةٍ وَجَرَحَهُ الْآخَرُ بِسَيْفٍ كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي قَتْلِهِ ، وَإِنْ كَانَ أَثَرُ الْخَشَبَةِ مُرْتَفِعًا وَأَثَرُ السَّيْفِ بَاقِيًا ، وَفِي هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ دَلِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ وَانْفِصَالٌ عَنِ الِاعْتِرَاضِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ قَطْعِ الْأَكَلَةِ لِانْقِطَاعِ سِرَايَتِهَا فَالْمَقْصُودُ بِهِ قَطْعُ الزِّيَادَةِ دُونَ الْإِزَالَةِ ، وَأَنْ لَا يَسْرِيَ إِلَى مَا جَاوَزَهُ ، وَأَمَّا الِانْدِمَالُ فَلَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ زَوَالِ الْأَلَمِ ، وَالْقَطْعُ لَا يُزِيلُ الْأَلَمَ وَإِنَّمَا يَقْطَعُ زِيَادَتَهُ فَافْتَرَقَا .

وَأَمَّا التَّوْجِئَةُ فَلَا بَقَاءَ لِلنَّفْسِ مَعَهَا ، فَارْتَفَعَ بِهَا حُكْمُ السِّرَايَةِ ، وَنَاظَرَنِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْأَشْعَرِيُّ ، وَقَدِ اسْتَدْلَلْتُ فِيهَا بِمَا تَقَدَّمَ ، فَاعْتَرَضَ عَلَيَّ بِأَنَّ الْأَلَمَ عَرَضٌ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ فَاسْتَحَالَ أَنْ يَبْقَى مَعَ انْقِطَاعِ مَادَّتِهِ فَأَجَبْتُهُ عَنْهُ بِأَنَّ الْأَلَمَ لَمَّا وَصَلَ إِلَى الْقَلْبِ صَارَ مَحَلًّا لَهُ ، فَتَوَالَتْ مِنْهُ مَوَادُّهُ كَمَا يَتَوَالَى مِنْ مَحَلِّ الْقَطْعِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُمَا قَاتِلَانِ فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الأَوَّلِ ، فَيَقْطَعَ يَدَهُ بِالْجِنَايَةِ وَيَقْتُلَهُ بِالسِّرَايَةِ ، فَأَمَّا الثَّانِي فَإِنْ كَانَ أَقْطَعَ الْكَفِّ فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَقْطَعَ ذِرَاعَهُ مِنَ المِرْفَقِ بِالْجِنَايَةِ وَيَقْتُلَهُ بِالسِّرَايَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ كَفُّهُ بَاقِيَةً عَلَى ذِرَاعِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ ، وَفِي جَوَازِ قَطْعِ ذِرَاعِهِ قَبْلَ قَتْلِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ هَاهُنَا يَجُوزُ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ إِفَاتَةُ نَفْسِهِ فَلَمْ تُعْتَبَرْ زِيَادَتُهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْطَعَ ، لِأَنَّهُ إِيجَابُ قِصَاصٍ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ قِصَاصٌ ، وَهَكَذَا كُلُّ جُرْحٍ إِذَا انْفَرَدَ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ كَالْجَائِفَةِ وَالْمَأْمُومَةِ إِذَا صَارَتَا نَفْسًا ، فَفِي جَوَازِ الْقِصَاصِ مِنْهُ عِنْدَ إِرَادَةِ قَتْلِهِ قَوْلَانِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِذَا تَشَاحَّ الْوُلَاةُ قِيلَ لَهُمْ لَا يَقْتُلُهُ إِلَّا وَاحِدٌ مِنْكُمْ فَإِنْ سَلَّمْتُمْ لِوَاحِدٍ أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ جَازَ قَتْلُهُ وَإِنْ تَشَاحَحْتُمْ أَقْرَعْنَا بَيْنَكُمْ فَأَيُّكُمْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ خَلَّيْنَاهُ وَقَتْلَهُ وَيُضْرَبُ بِأَصْرَمِ سَيْفٍ وَأَشَدِّ ضَرْبٍ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَهِيَ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : صِفَةُ الْقِصَاصِ وَقَدِ اسْتَوْفَيْنَاهُ ، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي طَرَفٍ اسْتَوْفَاهُ الْإِمَامُ ، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسٍ اسْتَوْفَاهُ الْأَوْلِيَاءُ . وَالْفَصْلُ الثَّانِي : فِي مُسْتَحِقِّهِ مِنَ الأَوْلِيَاءِ وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِأَحْوَالِهِمْ ، وَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ : أَحَدُهُمْ : أَنْ لَا يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْقِصَاصِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُمْ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْقِصَاصِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُمْ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَهْلِهِ وَبَعْضُهُمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ فَإِنْ كَانُوا جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ كَانُوا إِذَا جَازَ أَمْرُهُمْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُوَكِّلُوا مَنْ يَخْتَارُونَهُ مِنْ أَهْلِ الْقِصَاصِ ، وَبَيْنَ أَنْ يُفَوِّضُوهُ إِلَى الْإِمَامِ لِيَسْتَنِيبَ لَهُمْ مَنْ يَخْتَارُهُ ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَهْلِهِ وَبَعْضُهُمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ خَرَجَ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ ، وَبَقِيَ أَهْلُهُ هُمُ الْمُبَاشِرُونَ لَهُ

وَيَكُونُ التَّنَازُعُ فِيهِ مَقْصُورًا عَلَيْهِمْ ، فَإِنْ قَالَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ أَنَا أَدْخُلُ فِي التَّنَازُعِ لِأَسْتَنِيبَ مَنْ يُبَاشِرُهُ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ ذَلِكَ لِمُشَارَكَتِهِ لَهُمْ فِي الِاسْتِحْقَاقِ . وَالثَّانِي : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلتَّشَفِّي ، فَكَانَ مُبَاشَرَةُ الْمُسْتَحِقِّ لَهُ أَوْلَى مِنْ مُبَاشَرَةِ النَّائِبِ عَنْ مُسْتَحِقِّهِ ، وَإِنْ كَانُوا جَمِيعًا مِنْ أَهْلِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِكُوا فِي اسْتِيفَائِهِ ، لِأَنَّهُ قَتْلُ وَاحِدٍ لَمْ يَقْتَصَّ مِنْهُ إِلَّا وَاحِدٌ وَتَوَلَّاهُ أَحَدُهُمْ ، فَإِنْ فَوَّضُوهُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَانَ أَحَقَّهُمْ بِاسْتِيفَائِهِ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَخْتَارُوا أَشَدَّهُمْ وَأَقْوَاهُمْ وَأَدْيَنَهُمْ ، فَإِنْ عَدَلُوا عَنْهُ إِلَى أَدْوَنِهِمْ جَازَ ، وَإِنْ تَنَازَعُوا فِيهِ وَتَشَاجَرُوا عَلَيْهِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ ، فَإِذَا خَرَجَتِ الْقَرْعَةُ لِأَحَدِهِمْ صَارَ أَحَقَّهُمْ بِاسْتِيفَائِهِ ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ بَعْدَ خُرُوجِ قُرْعَتِهِ إِلَّا عَنْ إِذْنٍ مِنْ جَمِيعِهِمْ ، لِأَنَّ الْإِقْرَاعَ بَيْنَهُمْ لَا يَكُونُ إِذْنًا مِنْهُمْ فِي الِاسْتِيفَاءِ ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِهِ مُبَاشَرَةُ الِاسْتِيفَاءِ ، وَيَكُونُ الِاسْتِيفَاءُ مَوْقُوفًا عَلَى اتِّفَاقِهِمْ .

بَابُ الْقِصَاصِ بِغَيْرِ السَّيْفِ

مَسْأَلَةٌ إِنْ طَرَحَهُ فِي نَارٍ حَتَّى يَمُوتَ طُرِحَ فِي النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ

بَابُ الْقِصَاصِ بِغَيْرِ السَّيْفِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَإِنْ طَرَحَهُ فِي نَارٍ حَتَّى يَمُوتَ طُرِحَ فِي النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ استيفاء القصاص . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بِجَمِيعِ مَا يَقْتُلُ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيدٍ وَغَيْرِ حَدِيدٍ ، وَذَكَرْنَا خِلَافَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنْ لَا قِصَاصَ إِلَّا فِي الْقَتْلِ بِالْحَدِيدِ وَالنَّارِ ، وَلَا قَوَدَ فِي الْقَتْلِ بِمُثَقَّلَاتٍ وَغَيْرِهَا إِلَّا بِمُثَقَّلِ الْحَدِيدِ وَحْدَهُ ، فَأَمَّا اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فَمُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْقَتْلِ ، فَإِنْ كَانَ بِالْحَدِيدِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ إِلَّا بِمِثْلِهِ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ الْحَدِيدِ كَانَ الْوَلِيُّ مُخَيَّرًا فِي اسْتِيفَائِهِ بِمِثْلِهِ أَوْ بِالْحَدِيدِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا قَتَلَهُ بِمُثَقَّلِ الْحَدِيدِ أَوْ بِالنَّارِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ مِنْهُ إِلَّا بِمُحَدَّدِ الْحَدِيدِ دُونَ مُثَقَّلِهِ ، وَدُونَ النَّارِ ، اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا قَوَدَ إِلَّا بِالسَّيْفِ . وَرُوِيَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا قَوَدَ إِلَّا بِحَدِيدَةٍ . وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ حَرَّقَ قَوْمًا بِالنَّارِ ادَّعَوْهُ إِلَهًا فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْعَبَّاسِ : لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أَقْتُلْهُمْ إِلَّا بِالسَّيْفِ ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْقَتْلِ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِيفَائِهِ بِغَيْرِ السَّيْفِ كَالْمُرْتَدِّ وَكَالْقَاتِلِ بِالسَّيْفِ ، وَلِأَنَّ تَفْوِيتَ النُّفُوسِ الْمُبَاحَةِ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِالْمُحَدَّدِ كَالذَّبَائِحِ ، مَعَ أَنَّ نُفُوسَ الْآدَمِيِّينَ أَغْلَظُ حُرْمَةً مِنْ نُفُوسِ الْبَهَائِمِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ الْبَقَرَةِ : ] ، وَقَالَ تَعَالَى : وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا الشُّورَى : ] .

وَرَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ حَرَّقَ حَرَّقْنَاهُ وَمَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ . وَرَوَى أَنَسٌ أَنَّ رَجُلًا مِنَ اليَهُودِ شَدَخَ رَأْسَ جَارِيَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَتَلَهَا ، وَأَخَذَ حُلِيَّهَا ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشَدَخَ رَأْسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ حَتَّى قُتِلَ . وَلِأَنَّ كُلَّ آلَةٍ قَتَلَ مِثْلُهَا جَازَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ بِمِثْلِهَا كَالسَّيْفِ . وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ مَوْضُوعٌ لِلْمُمَاثَلَةِ وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي النَّفْسِ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ تُعْتَبَرَ فِي آلَةِ الْقَتْلِ . وَلِأَنَّ الْقَتْلَ مُسْتَحَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى تَارَةً وَلِلْآدَمِيِّينَ تَارَةً ، فَلَمَّا تَنَوَّعَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى نَوْعَيْنِ بِالْحَدِيدِ تَارَةً ، وَبِالْمُثَقَّلِ فِي رَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ ، وَجَبَ أَنْ يَتَنَوَّعَ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ نَوْعَيْنِ بِمُثَقَّلٍ وَغَيْرِ مُثَقَّلٍ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَحَدُ الْقَتْلَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَوَّعَ اسْتِيفَاءُ نَوْعَيْنِ كَالْقَتْلِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : لَا قَوَدَ إِلَّا بِالسَّيْفِ . وَقَوْلُهُ : إِلَّا بِحَدِيدَةٍ ، فَمَحْمُولٌ عَلَى الْقَتْلِ إِذَا كَانَ بِسَيْفٍ أَوْ حَدِيدَةٍ ، وَرِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنْ لَا يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ " فَوَارِدٌ فِي غَيْرِ الْقِصَاصِ ، لِأَنَّ الْقِصَاصَ مُمَاثَلَةٌ لَيْسَ بِعَذَابٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِيفَاءُ حَقٍّ ، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى قَتْلِ الْمُرْتَدِّ . وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الذَّبَائِحِ مَعَ فَسَادِهِ يُرْجَمُ الزَّانِي الْمُحْصَنُ فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِيهِ ، وَأَنَّ مَحَلَّ الذَّبْحِ مُعَيَّنٌ ، فَجَازَ أَنْ تَكُونَ الْآلَةُ مُعَيَّنَةً ، وَلَمَّا اعْتُبِرَتِ الْمُمَاثَلَةُ بِمَحَلِّ الْجِنَايَةِ اعْتُبِرَتْ بِمِثْلِ آلَتِهَا .

فَصْلٌ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْقِصَاصِ بِكُلِّ مَا يُقْتَلُ بِمِثْلِهِ

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْقِصَاصِ بِكُلِّ مَا يُقْتَلُ بِمِثْلِهِ ، فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ بِكُلِّ مَا قَتَلَ ، إِلَّا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَنْ يُقْتَلَ بِالسِّحْرِ ، أَوْ بِاللِّوَاطِ ، أَوْ بِسَقْيِ الْخَمْرِ انتفاء المماثله فى القصاص فى هذه الاشياء ، فَلَا يُقْتَلُ بِالسِّحْرِ وَإِنْ قَتَلَ وَلَا يُقْتَلُ بِاللِّوَاطِ وَإِنْ لَاطَ بِهِ ، وَلَا يُقْتَلُ بِسَقْيِ الْخَمْرِ وَإِنْ سَقَاهُ ، وَيُعْدَلُ إِلَى قَتْلِهِ بِالسَّيْفِ . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّهُ يُقْتَلُ فِي قَتْلِ اللِّوَاطِ بِإِيلَاجِ خَشَبَةٍ ، وَفِي سَقْيِ الْخَمْرِ بِسَقْيِ الْخَلِّ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَتِ الْمُمَاثَلَةُ لِحَظْرِهَا عَلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْعُدُولِ عَنْهَا مُمَاثَلَةٌ ، كَانَ السَّيْفُ أَحَقَّ ، فَأَمَّا إِذَا قَتَلَ بِالسُّمِّ الْمَهْرِيِّ احْتَمَلَ الْقِصَاصُ بِمِثْلِهِ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : جَوَازُهُ اعْتِبَارًا بِإِمْكَانِهِ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ غُسْلُهُ ، كَذَلِكَ وَهُوَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ رُبَّمَا تَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى مَنْ بَاشَرَ غُسْلَهُ وَتَكْفِينَهُ .

فَصْلٌ : نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْمُزَنِيُّ مِنْ حَرْقِهِ بِالنَّارِ استيفاء القصاص بالنار ، فَيَكُونُ الْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ حَرْقِهِ بِالنَّارِ إِلَى قَتْلِهِ بِالسَّيْفِ ، فَلَهُ ذَاكَ : لِأَنَّهُ أَوْجَى وَأَسَلُّ ، فَيَضْرِبُ عُنُقَهُ ، وَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ ، فَإِنْ عَدَلَ عَنِ الْعُنُقِ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ جَسَدِهِ أَسَاءَ وَعُزِّرَ ، وَقَدِ اسْتَوْفَى قِصَاصَهُ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ بِإِحْرَاقِهِ بِالنَّارِ كَانَ لَهُ ، وَرُوعِيَ مَا فَعَلَهُ الْجَانِي مِنْ إِحْرَاقِهِ فَإِنَّهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ أَلْقَى عَلَيْهِ نَارًا ، فَيَكُونُ الْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُلْقِيَ عَلَيْهِ النَّارَ حَتَّى يَمُوتَ وَبَيْنَ إِلْقَائِهِ فِي النَّارِ ، لِأَنَّهُ أَوْجَى . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَدْ أَلْقَاهُ فِي النَّارِ ، فَلِوَلِيِّهِ أَنْ يُلْقِيَهُ فِي النَّارِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْقِيَ عَلَيْهِ النَّارَ ، لِأَنَّهُ أَغْلَظُ عَذَابًا ، وَإِذَا أَلْقَاهُ فِي النَّارِ كَانَ لَهُ أَنْ يُلْقِيَهُ فِي مِثْلِهَا وَمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهَا ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْقِيَهُ فِيمَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهَا ، لِأَنَّهُ أَغْلَظُ عَذَابًا ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ بِسَيْفٍ ، كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ بِمِثْلِهِ وَمَا هُوَ أَمْضَى ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ بِمَا هُوَ أَقَلُّ ، وَيُخْرَجُ مِنَ النَّارِ إِذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُشْوَى جِلْدُهُ ، لِيُمْكِنَ غُسْلُهُ وَتَكْفِينُهُ ، وَلَا تَمَاثُلَ بِالْمُحَرَّقِ إِنْ أَكْلَتَهُ النَّارُ لِمَا عَلَيْنَا مِنِ اسْتِيفَاءِ جَسَدِهِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِنْ ضَرَبَهُ بِحَجَرٍ فَلَمْ يُقْلِعْ عَنْهُ حَتَّى مَاتَ أُعْطِيَ وَلِيُّهُ حَجَرًا مِثْلَهُ فَقَتَلَهُ بِهِ ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : إِنْ لَمْ يَمُتْ مِنْ عَدَدِ الضَّرْبِ قُتِلَ بِالسَّيْفِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا قَتَلَهُ بِحَجَرٍ يَقْتُلُ مِثْلُهُ فِي الْغَالِبِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ بِمِثْلِهِ ، وَكَانَ لِوَلِيِّهِ الْخِيَارُ إِنْ شَاءَ عَدَلَ إِلَى الِاقْتِصَاصِ مِنْهُ بِالسَّيْفِ ، لِأَنَّهُ أَوْجَى ، وَإِنْ شَاءَ رَمَاهُ بِحَجَرٍ مِثْلِهِ فِي مِثْلِ الْمَوْضِعِ الَّذِي رَمَاهُ مِنْ بَدَنِ الْمَقْتُولِ إِنْ كَانَ فِي الرَّأْسِ رَمَاهُ عَلَى رَأْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الظَّهْرِ رَمَاهُ عَلَى ظَهْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَطْنِ رَمَاهُ عَلَى بَطْنِهِ ، وَلَا يَعْدِلُ عَنْ مَوْضِعِ الرَّمْيِ إِلَى غَيْرِهِ ، فَإِنْ رَمَاهُ بِمِثْلِ مَا رَمَى فَمَاتَ فَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ ، وَإِنْ لَمْ يَمُتْ الاستيفاء فى القصاص فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُوَالِي رَمْيَهُ بِالْحَجَرِ وَيُكَرِّرُهُ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَنْتَهِيَ إِلَى حَالَةٍ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ يَمُوتُ مِنْهَا ، وَلَا تَطُولُ حَيَاتُهُ بَعْدَهَا ، فَيُمْسِكُ عَنْهُ كَمَا يُمْسَكُ عَنِ الْمَضْرُوبِ الْعُنُقِ

إِذَا بَقِيَتْ فِيهِ حَيَاةٌ ، وَلَوْ قَتَلَهُ بِرَمْيِهِ حَتَّى يَمُوتَ كَانَ لَهُ وَجْهٌ كَالزَّانِي . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنْ يَعْدِلَ إِلَى قَتْلِهِ بِالسَّيْفِ إِذَا لَمْ يَمُتْ مِنْ رَمْيَةٍ بِمِثْلِ مَا رَمَى ، لِأَنَّ السَّيْفَ أَوْجَى ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ قَدْ ضَرَبَهُ بِعَصًا حَتَّى مَاتَ ضُرِبَ بِمِثْلِهَا وَبِمِثْلِ عَدَدِهَا ، فَإِنْ ضَرَبَهُ ذَلِكَ الْعَدَدَ فَلَمْ يَمُتْ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُوَالِي عَلَيْهِ الضَّرْبَ حَتَّى يَمُوتَ . وَالثَّانِي : يَعْدِلُ إِلَى قَتْلِهِ بِالسَّيْفِ إِذَا لَمْ يَمُتْ مِنْ رَمْيَةٍ بِمِثْلِ مَا رَمَى ، لِأَنَّ السَّيْفَ أَوْجَى ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ قَدْ ضَرَبَهُ بِعَصًا حَتَّى مَاتَ ضُرِبَ بِمِثْلِهَا وَبِمِثْلِ عَدَدِهَا ، فَإِنْ ضَرَبَهُ ذَلِكَ الْعَدَدَ فَلَمْ يَمُتْ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُوَالِي عَلَيْهِ الضَّرْبَ حَتَّى يَمُوتَ . وَالثَّانِي : يَعْدِلُ إِلَى قَتْلِهِ بِالسَّيْفِ ، لَوْ أَلْقَاهُ مِنْ جَبَلٍ حَتَّى تَرَدَّى فَمَاتَ ، أَوْ مِنْ جِدَارٍ أَوْ سَطْحِ دَارٍ وَأَرَادَ الْوَلِيُّ قَتْلَهُ فَعَلَ ، وَإِنْ أَرَادَ إِلْقَاءَهُ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَعَلَ ، فَإِنْ لَمْ يَمُتْ فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُلْقَى حَتَّى يَمُوتَ . وَالثَّانِي : يَعْدِلُ بِهِ إِلَى قَتْلِهِ بِالسَّيْفِ ، فَلَوْ أَلْقَاهُ مِنْ جِدَارٍ فَتَلَقَّاهُ رَجُلٌ مِنَ الأَرْضِ بِسَيْفِهِ فَقَدَّهُ نِصْفَيْنِ رُوعِيَ مَدَى الْعُلُوِّ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ مَنْ أُلْقِيَ مِنْهُ فَالْمُسْتَقْبِلُ لَهُ بِسَيْفِهِ هُوَ الْقَاتِلُ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَدَى بَعِيدًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ مَنْ أُلْقِيَ مِنْهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُلْقِيَ هُوَ الْقَاتِلُ ، لِأَنَّهُ بِإِلْقَائِهِ كَالْمُوجِي . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْمُسْتَقْبِلَ لَهُ بِالسَّيْفِ هُوَ الْقَاتِلُ ، لِمُبَاشَرَةِ التَّوْجِئَةِ .

مَسْأَلَةٌ : ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : هَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمَحْبُوسِ بِلَا طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ حَتَّى مَاتَ كيفية القصاص في هذه الحالة : إِنَّهُ يُحْبَسُ فَإِنْ لَمْ يَمُتْ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ قُتِلَ بِالسَّيْفِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا أَرَادَ الْوَلِيُّ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ حَبْسِهِ إِلَى قَتْلِهِ بِالسَّيْفِ كَانَ لَهُ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَحْبِسَهُ بِلَا طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ جَازَ أَنْ يَحْبِسَهُ فِي ذَلِكَ الْمَحْبِسِ وَفِي غَيْرِهِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي اخْتِلَافِ الْمَحَابِسِ زِيَادَةٌ ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُهُ إِذَا حُبِسَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَمُوتَ كَأَنَّهُ قَدْ حَبَسَ الْمَقْتُولَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مَاتَ فِيهَا ، فَحُبِسَ هُوَ فَمَاتَ

فِي خَمْسَةِ أَيَّامٍ ، فَالْوَاجِبُ إِخْرَاجُهُ لِيُوَارَى وَيُدْفَنَ ، وَلَا يُتْرَكُ بَقِيَّةَ الْمُدَّةِ فَيَتَغَيَّرُ لَحْمُهُ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَمُوتَ فِي مِثْلِهَا فَقَدْ تَسَاوَيَا فِي الْمُدَّةِ وَالتَّلَفِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُحْبَسَ مِثْلَ تِلْكَ الْمُدَّةِ فَلَا يَمُوتُ فِيهَا فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُسْتَدَامُ حَبْسُهُ حَتَّى يَمُوتَ . وَالثَّانِي : يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ .

فَصْلٌ : فَإِنْ حَبَسَهُ فِي بَيْتٍ مَفْعًى فَنَهَشَتْهُ أَفْعَى فَمَاتَ حبس القاتل المقتول نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَتْ أَفَاعِيهِ تَغِيبُ عَنْهُ وَتَعُودُ إِلَيْهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُقِيمَةً فِيهِ نُظِرَ حَالُ الْبَيْتِ ، فَإِنْ كَانَ وَاسِعًا يَزِيدُ عَلَى طُولِ الْجُبَّةِ وَمُنْتَهَى نَفْخِهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، لِتَمَكُّنِهِ مِنَ البُعْدِ عَنْهَا إِذَا قَرَبَتْ ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا يَقْصُرُ عَنْ طُولِهَا وَمَدَى نَفْخِهَا رُوعِيَ الْبَيْتُ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ كُوًى وَنِقَابٌ تَتَسَرَّبُ فِيهِ الْأَفَاعِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْأَفْعَى أَنْ تَغِيبَ عَنْ مُشَاهَدَةِ الْإِنْسَانِ ، وَإِنْ كَانَ مُمْلِسًا لَا كُوَّةَ فِيهِ وَلَا نَقْبَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ دِيَتِهِ ، وَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ ، لِأَنَّهُ كَعَمْدِ الْخَطَأِ إِلَّا إِنْ نَهَشَتْهُ الْأَفْعَى بِيَدِهِ ، وَهِيَ مِنَ الأَفَاعِي الْقَاتِلَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا يُقَادُ بِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُقَادُ بِالسَّيْفِ ، لِأَنَّ الْأَفَاعِيَ غَيْرُ مُتَمَاثِلَةٍ وَلَا نَهَشَاتِهَا مُتَسَاوِيَةٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُقَادَ بِإِنْهَاشِ الْأَفْعَى لَهُ ، فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْأَفْعَى مَوْجُودَةً لَمْ يُعْدَلْ إِلَى غَيْرِهَا ، وَإِنْ فُقِدَتِ الْتُمِسَ مِثْلُهَا ، فَإِنْ نَهَشَتْهُ فَمَاتَ فَقَدِ اسْتَوْفَى ، وَإِنْ لَمْ يَمُتْ فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُعَادُ عَلَيْهِ نَهَشُهَا حَتَّى يَمُوتَ . وَالثَّانِي : يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ . فَأَمَّا إِذَا حَبَسَهُ فِي بَيْتٍ مَعَ سَبُعٍ حَتَّى افْتَرَسَهُ حبس القاتل المقتول فَهَذَا قَاتِلٌ ، لِأَنَّ ضَرَاوَةَ السَّبُعِ طَبْعٌ لَا تَزُولُ فِي الْأَغْلَبِ ، وَفِي الْقَوَدِ مِنْهُ بِإِضْرَارِ السَّبُعِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي نَهْشَةِ الْأَفْعَى لِعَدَمِ التَّمَاثُلِ فِي الْجِنَايَةِ وَالْقُيُودِ ، وَيُمْنَعُ السَّبُعُ مِنْ أَكْلِ لَحْمِهِ بَعْدَ قَتْلِهِ لِحُرْمَتِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَكَذَا قَالَ لَوْ غَرَّقَهُ فِي الْمَاءِ وَكَذَلِكَ يُلْقِيهِ فِي مَهْوَاةٍ فِي الْبُعْدِ أَوْ مِثْلِ سُدَّةِ الْأَرْضِ وَكَذَا عَدَدُ الضَّرْبِ بِالصَّخْرَةِ فَإِنْ مَاتَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ فَالْقِيَاسُ عَلَى مَا مَضَى فِي أَوَّلِ الْبَابِ أَنْ يَمْنَعَهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ حَتَّى يَمُوتَ كَمَا قَالَ فِي النَّارِ وَالْحَجَرِ وَالْخَنْقِ بِالْحَبْلِ حَتَّى يَمُوتَ إِذَا كَانَ مَا صَنَعَ بِهِ مِنَ المُتْلَفِ الْحَيِّ .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ صَحِيحٌ مَوْلَى الْغَرِيقِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ قَتْلِ الْمُغَرِّقِ بِالسَّيْفِ لِأَنَّهُ أَوْجَى وَبَيْنَ تَغْرِيقِهِ ، لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي التَّغْرِيقِ مُمْكِنَةٌ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُغَرِّقَهُ فِي ذَلِكَ الْمَاءِ وَفِي غَيْرِهِ ، فَإِنْ غَرَّقَهُ فِي مَاءٍ مِلْحٍ كَانَ لَهُ أَنْ يُغَرِّقَهُ فِي مَاءِ الْمِلْحِ وَفِي الْعَذْبِ ، لِأَنَّ الْعَذْبَ أَسْهَلُ ، وَإِنْ غَرَّقَهُ فِي الْعَذْبِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُغَرِّقَهُ فِي الْمِلْحِ ، لِأَنَّهُ أَشَقُّ ، وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَوْمَ رُبِطَ حَتَّى لَا يَنْجُوَ مِنْهُ ثُمَّ يُخْرَجُ بَعْدَ مَوْتِهِ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُوَارَى ، سَوَاءٌ فُعِلَ ذَلِكَ بِالْغَرِيقِ الْأَوَّلِ أَوْ لَمْ يُفْعَلْ ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَاءِ مِنْ حِيتَانِهِ مَا يَأْكُلُ غَرَقًا ، فَإِنْ لَمْ يَأْكُلِ الْحِيتَانُ الْغَرِيقَ الْأَوَّلَ لَمْ يُلْقَ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ إِلَّا فِي مَاءٍ يُؤْمَنُ أَنْ يَأْكُلَهُ حِيتَانُهُ ، وَإِنْ أَكَلَتَهُ الْحِيتَانُ فَفِي جَوَازِ إِلْقَائِهِ فِيهِ لِتَأْكُلَهُ حِيتَانُهُ وَجْهَانِ إِذَا اقْتَصَرَتِ الْحِيتَانُ عَلَى إِفَاتَةِ نَفْسِهِ دُونَ اسْتِهْلَاكِ جَسَدِهِ ، فَإِنِ اسْتَهْلَكَتْهُ لَمْ يَجُزْ لِوُجُوبِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي مُوَارَاةِ جَسَدِهِ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَمَاتَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَمَاتَ فَعَلَ بِهِ الْوَلِيُّ مَا فَعَلَ بِصَاحِبِهِ القاتل فَإِنْ مَاتَ وَإِلَّا قُتِلَ بِالسَّيْفِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَلِيُّ الْمَقْطُوعِ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ إِذَا سَرَتْ إِلَى نَفْسِهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَضْرِبَ عُنُقَهُ ، فَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ ، لِأَنَّ النَّفْسَ يُقْتَصُّ مِنْ تَلَفِهَا بِالسِّرَايَةِ كَمَا يُقْتَصُّ مِنْ تَلَفِهَا بِالتَّوْجِيَةِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ يَدَيْهِ وَرِجْلِهِ وَيَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ فَيَجُوزُ ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الِاقْتِصَاصُ مِنْهَا مَعَ عَدَمِ السِّرَايَةِ كَانَ مَعَ السِّرَايَةِ أَوْلَى ، فَإِنِ اقْتَصَّ وَعَفَى عَنِ النَّفْسِ إِلَى الدِّيَةِ لَمْ يَسْتَحِقَّهَا ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى بِقَطْعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ أَكْثَرَ مِنْهَا ، وَهَذَا مِنَ المَوَاضِعِ النَّادِرَةِ الَّتِي يَجُوزُ أَنْ يُقْتَصَّ فِيهَا مِنَ النَّفْسِ وَلَا يُمَلَّكَ دِيَتُهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا عَفَا عَنِ النَّفْسِ بَعْدَ الِاقْتِصَاصِ مِنَ الطَّرَفِ ولى الدم لَزِمَتْهُ دِيَةُ الْأَطْرَافِ ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْأَطْرَافَ تَبَعٌ لِلنَّفْسِ ، فَإِذَا سَقَطَ بِالْعَفْوِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ الَّتِي هِيَ أَصْلٌ سَقَطَ فِي الْأَطْرَافِ التَّابِعَةِ لَهَا ، لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَتَبَعَّضُ فَصَارَ أَخْذًا لَهَا بِغَيْرِ قِصَاصٍ ، فَلَزِمَهُ دِيَتُهَا ، وَلَا دِيَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِلْأَطْرَافِ مَعَ الْعَفْوِ عَنِ النَّفْسِ . وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَا لَمْ يُضْمَنْ مِنَ الأَطْرَافِ إِذَا انْدَمَلَتْ فَأَوْلَى أَنْ لَا يُضْمَنَ إِذَا سَرَتْ ، لِأَنَّ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ يَسْقُطُ بِالِانْدِمَالِ كَمَا يَسْقُطُ بِالْعَفْوِ ، وَلِأَنَّهُمَا حَقَّانِ يُسْتَوْفَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا انْفَرَدَ ، فَجَازَ مَعَ الْعَفْوِ عَنْ أَحَدِهِمَا أَنْ يُسْتَوْفَى الْآخَرُ مِنْهُمَا كَالطَّرَفَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ ، وَكَالدَّيْنِ ، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ سَقَطَ فِيهِ الضَّمَانُ .

وَالْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِدُخُولِ الْأَطْرَافِ فِي النَّفْسِ : هُوَ أَنَّ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ يَنْفَرِدُ عَنِ الْآخَرِ فَلَمْ يَصِرْ بَعْضًا مِنْهُ وَلَا تَابِعًا لَهُ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ اليَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ ثُمَّ يَقْتُلُهُ قِصَاصًا مِنْ نَفْسِهِ ، فَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَنَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْقَوَدِ فِي الْأَطْرَافِ وَالنَّفْسِ ، وَيَقْتَصُّ مِنْ نَفْسِهِ دُونَ أَطْرَافِهِ ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ لِلطَّرَفِ بَدَلَيْنِ الْقَوَدَ وَالدِّيَةَ ، فَلَمَّا دَخَلَتْ دِيَةُ الْأَطْرَافِ فِي دِيَةِ النَّفْسِ ، وَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ قَوَدُ الْأَطْرَافِ فِي قَوَدِ النَّفْسِ ، لِأَنَّهُ أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ فَأَشْبَهَ الدِّيَةَ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ كُلَّ طَرَفٍ اقْتُصَّ مِنْهُ لَوِ انْفَرَدَ عَنِ النَّفْسِ جَازَ الِاقْتِصَاصُ مِنْهُ وَإِنِ اقْتُصَّ مِنَ النَّفْسِ ، كَمَا لَوْ قَتَلَ النَّفْسَ بِالتَّوْجِئَةِ ، كَذَلِكَ إِذَا قَتَلَهَا بِالسِّرَايَةِ ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُوَافِقُ إِذَا عَادَ إِلَيْهِ فَذَبَحَهُ بَعْدَ قَطْعِ أَطْرَافِهِ أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْ نَفْسِهِ وَأَطْرَافِهِ ، وَإِنَّمَا يُخَالِفُ فِي ذَهَابِ النَّفْسِ بِالسِّرَايَةِ إِلَى الْقِصَاصِ فِيمَا يُسْقِطُ الْقِصَاصَ فِي الْأَطْرَافِ ، وَإِنْ كَانَ أَبُو يُوسُفَ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا ، وَيُسْقِطُ الْقِصَاصَ مِنَ الأَطْرَافِ فِيهِمَا ، ثُمَّ يُقَالُ لِأَبِي حَنِيفَةَ : إِذَا لَمْ يَسْقُطِ الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ بِالتَّوْجِئَةِ الَّتِي لَمْ تَحْدُثْ عَنِ الْأَطْرَافِ فَلِأَنْ لَا تَسْقُطَ بِالسِّرَايَةِ الْحَادِثَةِ عَنِ الْأَطْرَافِ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْقِصَاصِ مُسْتَحَقَّةٌ ، وَالْأَطْرَافُ بِالْأَطْرَافِ أَشْبَهُ بِالْمُمَاثَلَةِ مِنَ النَّفْسِ بِالْأَطْرَافِ . وَالْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الدِّيَةِ مَعَ فَسَادِهِ بِالْقَتْلِ تَوْجِئَةً هُوَ أَنَّ الْقِصَاصَ أَوْسَعُ حُكْمًا مِنَ الدِّيَةِ ، لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ لَوْ قَتَلُوا وَاحِدًا قُتِلُوا بِهِ جَمِيعًا ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ مَعَ الْعَفْوِ إِلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْ أَطْرَافِهِ ثُمَّ مِنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ مِنَ النَّفْسِ وَفِي جَوَازِ مُبَاشَرَتِهِ لِقَطْعِ الْأَطْرَافِ إِذَا اتَّصَلَتْ بِالنَّفْسِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ كَمَا لَوِ انْفَرَدَتْ ، وَيَسْتَنِيبُ مَنْ يَسْتَوْفِي لَهُ الْقِصَاصَ فِي الْأَطْرَافِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ لِاتِّصَالِهَا بِالنَّفْسِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهَا ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْجَوَائِفِ إِذَا صَارَتْ نَفْسًا ، هَلْ يُقْتَصُّ مِنْهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ، فَلَوْ كَانَ الْجَانِي حِينَ قَطَعَ يَدَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَرِجْلَيْهِ جَنَى عَلَيْهِ أَجْنَبِيٌّ فَقَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ كَانَ لِلْجَانِي أَنْ يَقْتَصَّ لِيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ، أَوْ يَأْخُذَ دِيَتَهُمَا ، وَيَسْقُطَ عَنْهُ الْقِصَاصُ فِيهِمَا لِعَدَمِهِمَا ، وَكَانَ مَا أَخَذَهُ مِنْ دِيَتِهِمَا إِذَا اقْتَصَّ مِنْ نَفْسِهِ خَالِصًا لِوَرَثَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَطْعُ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ مُسْتَحَقًّا لِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِهِ ، لِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوهَا قِصَاصًا لَا مَالًا ، وَهَكَذَا لَوْ قَطَعَ

أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ يَدَيِ الْجَانِي وَرِجْلَيْهِ قِصَاصًا ثُمَّ جَنَى عَلَيْهِ أَجْنَبِيٌّ فَقَتَلَهُ اقْتَصَّ مِنْهُ فِي النَّفْسِ ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ كَانَ عَلَيْهِ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ ، وَهُوَ أَنْ يُنْظَرَ قَطْعُ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فِي الْقِصَاصِ إِنِ انْدَمَلَتَا كَانَ عَلَى مَا قَابَلَهُ جَمِيعُ الدِّيَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْدَمِلَا كَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، تَخْتَصُّ بِهَا وَرَثَتُهُ ، وَلَا شَيْءَ فِيهَا لِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِهِ ، لِاسْتِيفَائِهِمْ بِقَطْعِ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ دِيَةِ نَفْسِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَوْ كَانَ أَجَافَهُ أَوْ قَطَعَ ذِرَاعَهُ فَمَاتَ القاتل أجاف المقتول كَانَ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِهِ عَلَى أَنْ يَقْتُلَهُ فَأَمَّا عَلَى أَنْ لَا يَقْتُلَهُ فَلَا يُتْرَكُ وَإِيَّاهُ . ( وَقَالَ ) فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : فِيْهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا هَذَا وَالْآخَرُ لَا نَقُصُّهُ مِنْ ذَلِكَ بِحَالٍ لَعَلَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ أَنْ يَدَعَ قَتْلَهُ فَيَكُونَ قَدْ عَذَّبَهُ بِمَا لَيْسَ فِي مِثْلِهِ قِصَاصٌ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَدْ أَبَى أَنْ يُوَالِيَ عَلَيْهِ بِالْجَوَائِفِ كَمَا وَالَى عَلَيْهِ بِالنَّارِ وَالْحَجَرِ وَالْخَنْقِ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْحَبْلِ حَتَّى يَمُوتَ ، فَفَرَّقَ بَيْنَ ذَلِكَ وَالْقِيَاسُ عِنْدِي عَلَى مَعْنَاهُ أنْ يُوَالِيَ عَلَيْهِ بِالْجَوَائِفِ إِذَا وَالَى بِهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَمُوتَ كَمَا يُوَالِي عَلَيْهِ بِالْحَجَرِ وَالنَّارِ وَالْخَنْقِ حَتَّى يَمُوتَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) أَوْلَاهُمَا بِالْحَقِّ عِنْدِي فِيمَا كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ جِرَاحٍ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ فِيهِ الْقِصَاصُ أَوْ بَرِئَ إِنْ أَقْصَصْتُهُ مِنْهُ فَإِنْ مَاتَ وَإِلَّا قَتَلْتُهُ بِالسَّيْفِ وَمَا لَا قِصَاصَ فِي مِثْلِهِ لَمْ أَقُصُّهُ مِنْهُ وَقَتَلْتُهُ بِالسَّيْفِ قِيَاسًا عَلَى مَا قَالَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي الْجَائِفَةِ وَقَطْعِ الذِّرَاعِ أَنَّهُ لَا يَقُصُّهُ مِنْهُمَا بِحَالٍ وَيَقْتُلُهُ بِالسَّيْفِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لَا يَخْلُو حَالُ الْجُرْحِ إِذَا صَارَ نَفْسًا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ إِذَا انْفَرَدَ أَوْ لَا يُوجِبُهُ ، فَإِنْ أَوْجَبَ الْقِصَاصَ إِذَا انْفَرَدَ كَالْمُوضِحَةِ وَقَطْعِ الْأَطْرَافِ مِنْ مَفْصِلٍ فَيَجُوزُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُمَا وَمِنَ النَّفْسِ بَعْدَهَا عَلَى مَا مَضَى ، وَإِنْ لَمْ يُوجِبِ الْقِصَاصَ إِذَا انْفَرَدَ عَنِ النَّفْسِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُوجِيًا فِي الْغَالِبِ كَشَدْخِ الرَّأْسِ بِالْحِجَارَةِ ، فَيُوجِبُ الْقِصَاصَ إِذَا صَارَ نَفْسًا ، وَإِنْ لَمْ يُوجِبْهُ إِذَا انْفَرَدَ ، لِأَنَّهُ مُوجٍ فِي الْقِصَاصِ كَمَا كَانَ مُوجِيًا فِي الْجِنَايَةِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقْتَصَّ مِنَ اليَهُودِيِّ الَّذِي شَدَخَ رَأْسَ الْأَنْصَارِيَّةِ بِشَدْخِ رَأْسِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا كَانَ غَيْرَ مُوجٍ كَالْجَائِفَةِ وَالْمَأْمُومَةِ وَقَطْعِ الْأَطْرَافِ مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ ، فَإِذَا صَارَتْ نَفْسًا جَازَ أَنْ يُقْتَصَّ مِنَ النَّفْسِ . فَأَمَّا الِاقْتِصَاصُ مِنَ الجَوَائِفِ وَقَطْعِ الْأَطْرَافِ مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ ، فَإِنْ أَرَادَهُ مَعَ عَفْوِهِ عَنِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ لَمْ يَجُزْ ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالْعَفْوِ عَنِ النَّفْسِ كَالْمُنْفَرِدِ عَنِ السِّرَايَةِ إِلَى النَّفْسِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ كَالْمُنْفَرِدِ ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ مَعَ الِاقْتِصَاصِ مِنَ النَّفْسِ فَفِي جَوَازِهِ قَوْلَانِ :

أَحَدُهُمَا : وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ لَا يَجُوزُ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَعْفُو بَعْدَ الِاقْتِصَاصِ مِنْهُمَا عَنِ النَّفْسِ فَيَصِيرُ مُقْتَصًّا فِيمَا لَا قِصَاصَ فِيهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهَا لِدُخُولِهَا فِي النَّفْسِ ، فَخَالَفَتْ مَا انْفَرَدَ عَنْهَا ، وَلَيْسَ مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ جَوَازِ الْعَفْوِ عَنِ النَّفْسِ مَانِعًا مِنْ دُخُولِهَا فِي حُكْمِ النَّفْسِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ لَوْ أَرَادَ الْقِصَاصَ عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَعْفُوَ بَعْدَ حَزِّ رَقَبَتِهِ بِالسَّيْفِ حَزًّا لَا قِصَاصَ فِيهِ ، ثُمَّ يَعْفُوَ بَعْدَ فِعْلِ مَا لَا قِصَاصَ فِيهِ ، وَلَا يَمْنَعُ هَذَا التَّوَهُّمُ مِنْ جَوَازِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ كَذَلِكَ فِي الْجَوَائِفِ ، وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ الْمُزَنِيُّ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ .

فَصْلٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ : قَدْ أَبَى أَنْ يُوَالِيَ عَلَيْهِ بِالْجَوَائِفِ كَمَا يُوَالِي عَلَيْهِ بِالنَّارِ وَالْحَجَرِ وَالْخَنْقِ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْحَبْلِ حَتَّى يَمُوتَ فَفَرَّقَ بَيْنَ ذَلِكَ إِذَا وَالَى بِهَا عَلَيْهِ . وَالْقِيَاسُ عِنْدِي عَلَى مَعْنَاهُ أَنْ يُوَالِيَ عَلَيْهِ الْجَوَائِفَ ، وَالْكَلَامُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا الْجَمْعِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَقْتَصُّ مِنْهُ بِالْحِجَارَةِ إِذَا صَارَتْ نَفْسًا قَوْلًا وَاحِدًا ، وَفِي الِاقْتِصَاصِ مِنَ الجَوَائِفِ إِذَا صَارَتْ نَفْسًا قَوْلَانِ : وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْحِجَارَةَ مُوجِيَةٌ فَجَازَ الِاقْتِصَاصُ بِهَا ، وَالْجَوَائِفُ غَيْرُ مُوجِئَةٍ فَعُدِلَ عَنْهَا . وَالثَّانِي . أَنَّ الْحِجَارَةَ يَجُوزُ أَنْ تُوَالَى إِلَى التَّلَفِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُوَالَى الْجَوَائِفُ إِلَى التَّلَفِ قَوْلًا وَاحِدًا . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا قَدَّمْنَاهُ ، وَأَنَّ مُوَالَاةَ الْحِجَارَةِ مُوجٍ وَمُوَالَاةُ الْجَوَائِفِ غَيْرُ مُوجٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ لِلْحِجَارَةِ تَأْثِيرًا إِذَا أُعِيدَتْ فِي مَوَاضِعِهَا ، وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ بِهَا إِلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا وَإِنْ تَأَثَّرَتْ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

بَابُ الْقِصَاصِ فِي الشِّجَاجِ وَالْجِرَاحِ وَالْأَسْنَانِ وَمَنْ بِهِ نَقْصٌ أَوْ شَلَلٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ

مَسْأَلَةٌ الْقِصَاصُ دُونَ النَّفْسِ

بَابُ الْقِصَاصِ فِي الشِّجَاجِ وَالْجِرَاحِ وَالْأَسْنَانِ وَمَنْ بِهِ نَقْصٌ أَوْ شَلَلٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَالْقِصَاصُ دُونَ النَّفْسِ شَيْئَانِ : جُرْحٌ يُشَقُّ ، وَطَرَفٌ يُقْطَعُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ وَهُوَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَاجِبٌ كَوُجُوبِهِ فِي النَّفْسِ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ الْبَقَرَةِ : ] وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ الْبَقَرَةِ : ] وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [ الْمَائِدَةِ : 45 ] فَجَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عُمُومَ الْقِصَاصِ فِيمَا اسْتُحِقَّ مِنَ الوُجُوهِ الثَّلَاثِ ، وَهِيَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ وَالْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ ، وَالْقِصَاصُ فِي الْجُرُوحِ ، وَلَا قِصَاصَ فِيمَا عَدَاهَا ، وَهِيَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا أَوْجَبَ الْأَرْشَ دُونَ الْقِصَاصِ إِمَّا بِمُقَدَّرٍ كَالْجَائِفَةِ أَوْ بِغَيْرِ مُقَدَّرٍ كَالْحَارِضَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا لَا يُوجِبُ أَرْشًا وَلَا قِصَاصًا كَالضَّرْبِ الَّذِي لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْجَسَدِ ، فَصَارَتِ الْجِنَايَاتُ عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ ، يَجِبُ الْقِصَاصُ مِنْهَا فِي ثَلَاثَةٍ ، وَالْأَرْشُ فِي أَرْبَعٍ ، وَالْعَفْوُ عَنْهُ فِي الْخَامِسِ ، وَفِيهِ يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ أَدَبًا . فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَالْمُكَافَأَةُ فِي الْقِصَاصِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي الْأَحْكَامِ . وَالثَّانِي : فِي الْأَوْصَافِ . فَأَمَّا الْمُكَافَأَةُ فِي الْأَحْكَامِ فَهُوَ اعْتِبَارُ التَّكَافُؤِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ ، فَهَذَا مُعْتَبَرٌ فِي جَمِيعِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَوَدُ مِنَ الأَقْسَامِ فِي النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ وَالْجِرَاحِ ، فَإِذَا مَنَعَ الرِّقُّ وَالْكُفْرُ مِنَ القِصَاصِ فِي النَّفْسِ مَنَعَ مِنْهُ فِي الْأَطْرَافِ وَالْجِرَاحِ ، فَلَا يُؤْخَذُ طَرَفُ حُرٍّ وَلَا مُسْلِمٍ بِطَرَفِ عَبْدٍ وَلَا كَافِرٍ وَكَذَلِكَ فِي الْجِرَاحِ . وَأَمَّا الْمُكَافَأَةُ فِي الْأَوْصَافِ فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ المكافأه فى القصاص :

أَحَدُهَا : فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ . وَالثَّانِي : فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ . وَالثَّالِثُ : فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ ، فَلَا يُعْتَبَرُ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ فِي الْقِصَاصِ مِنَ النَّفْسِ ، فَيُقْتَصَرُ مِنَ الصَّحِيحِ بِالْمَرِيضِ ، وَمِنَ الْمَرِيضِ بِالصَّحِيحِ ، وَمِنَ الْكَامِلِ بِالْأَقْطَعِ ، وَمِنَ الْأَقْطَعِ بِالْكَامِلِ ، وَمِنَ السَّلِيمِ بِالْأَشَلِّ ، وَمِنَ الْأَشَلِّ بِالسَّلِيمِ ، وَمِنَ الْأَعْمَى بِالْبَصِيرِ ، وَمِنَ الْبَصِيرِ بِالْأَعْمَى ، وَمِنَ الْكَبِيرِ بِالصَّغِيرِ ، وَالْعَاقِلِ بِالْمَجْنُونِ ، وَلَا يَقْتَصُّ مِنَ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ بِالْكَبِيرِ ، وَلَا بِالْعَاقِلِ ، لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُمَا بِالصِّغَرِ وَالْجُنُونِ . وَأَمَّا الْأَطْرَافُ فَيُعْتَبَرُ فِي الْقِصَاصِ مِنْهَا السَّلَامَةُ مِنَ النُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهَا الصِّحَّةُ وَالْمَرَضُ ، وَلَا الصِّغَرُ وَالْكِبَرُ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ الْيَدُ الْكَامِلَةُ الْأَصَابِعِ بِالْيَدِ النَّاقِصَةِ الْأَصَابِعِ ، وَلَا الْيَدُ الزَّائِدَةُ الْأَصَابِعِ بِالْيَدِ الْكَامِلَةِ حَتَّى يَقَعَ التَّسَاوِي فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ ، وَتُؤْخَذُ الْيَدُ الْكَبِيرَةُ بِالْيَدِ الصَّغِيرَةِ ، وَالْيَدُ الصَّغِيرَةُ بِالْيَدِ الْكَبِيرَةِ ، وَالْيَدُ الصَّحِيحَةُ بِالْيَدِ الْمَرِيضَةِ إِذَا سَلِمَتْ مِنْ شَلَلٍ ، وَيَأْخُذُ الْيَدَ الْمَرِيضَةَ إِذَا سَلِمَتْ مِنْ شَلَلٍ بِالْيَدِ الصَّحِيحَةِ ، وَلَا تُؤْخَذُ سَلِيمَةٌ بِشَلَّاءَ ، وَتُؤْخَذُ الشَّلَّاءُ بِالسَّلِيمَةِ إِذَا رَضِيَ مُسْتَحِقُّ الْقِصَاصِ بِهَا . وَأَمَّا الْجِرَاحُ فَيُعْتَبَرُ فِي الْقِصَاصِ فِيهَا الصِّغَرُ وَالْكِبَرُ وَالزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ ، فَلَا يُؤْخَذُ بِالصَّغِيرِ إِلَّا صَغِيرٌ ، وَبِالنَّاقِصِ إِلَّا نَاقِصٌ ، وَبِالْكَبِيرِ إِلَّا كَبِيرٌ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَإِذَا شَجَّهُ مُوضِحَةً فَبَرِئَ حُلِقَ مَوْضِعُهَا مِنْ رَأْسِ الشَّاجِّ ثُمَّ شُقَّ بِحَدِيدَةٍ قَدْرَ عَرْضِهَا وَطُولِهَا فَإِنْ أُخِذَتْ رَأْسُ الشَّاجِّ كُلُّهُ وَبَقِيَ شَيْءٌ مِنْهُ أُخِذَ مِنْهُ أَرْشُهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِذَا قَدْ مَضَى الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ فَمَا دُونَهَا ضَرْبَانِ : طَرَفٌ يُقْطَعُ بِطَرَفٍ ، وَجُرْحٌ يُشَقُّ بِجُرْحٍ . فَأَمَّا الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ فَقَدْ مَضَى وُجُوبُهُ ، وَسَيَأْتِي اسْتِيفَاؤُهُ . وَأَمَّا الْجِرَاحُ فَقَدَّمَ الشَّافِعِيُّ فِيهِ شِجَاجَ الرَّأْسِ وَهِيَ إِحْدَى عَشْرَةَ شَجَّةً فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ : الْحَارِصَةُ . وَالدَّامِيَةُ . وَالدَّامِعَةُ . وَالْبَاضِعَةُ . وَالْمُتَلَاحِمَةُ . وَالسِّمْحَاقُ .

وَالْمُوضِحَةُ . وَالْهَاشِمَةُ . وَالْمُنَقِّلَةُ . وَالْمَأْمُومَةُ . وَالدَّامِغَةُ . فَأَمَّا الْحَارِصَةُ : فَهِيَ الَّتِي تَحْرِصُ جِلْدَ الرَّأْسِ أَيْ تَكْشِطُهُ وَلَا تُدْمِيهِ ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ حَرَصَ الْقَصَّارُ الثَّوْبَ : إِذَا شَقَّهُ . ثُمَّ تَلِيهَا الدَّامِيَةُ : وَهِيَ الَّتِي تَخْدِشُ الْجِلْدَ حَتَّى يُدْمِي ، وَلَا يَجْرِي . ثُمَّ تَلِيهَا الدَّامِعَةُ وَهِيَ الَّتِي يَجْرِي دَمُهَا كَجَرَيَانِ الدُّمُوعِ . ثُمَّ تَلِيهَا الْبَاضِعَةُ ، وَهِيَ الَّتِي تَبْضَعُ اللَّحْمَ أَيْ : تَشُقُّهُ . ثُمَّ تَلِيهَا الْمُتَلَاحِمَةُ ، وَهِيَ الَّتِي تَغُوصُ فِي اللَّحْمِ ، وَقَدْ يُسَمِّيهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ الْبَازِلَةُ ، لِأَنَّهَا تَبْزُلُ أَيْ يُشَقُّ فِيهَا اللَّحْمُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْبَازِلَةُ بَيْنَ الْبَاضِعَةِ وَالْمُتَلَاحِمَةِ ، وَهِيَ الَّتِي يَتَبَزَّلُ الدَّمُ مِنْهَا فَتَكُونُ أَقْوَى مِنَ الدَّامِعَةِ ، لِأَنَّ دَمَ الْبَازِلَةِ مَا اتَّصَلَ ، وَدَمَ الدَّامِعَةِ مَا انْقَطَعَ ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِالْمَعْنَى وَالِاشْتِقَاقِ ، فَيَصِيرُ الشِّجَاجُ عَلَى هَذَا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ شَجَّةً . ثُمَّ تَلِيهَا السِّمْحَاقُ وَهِيَ الَّتِي تَسْتَوْعِبُ جَمِيعَ اللَّحْمِ حَتَّى تَصِلَ إِلَى سِمْحَاقِ الرَّأْسِ ، وَهِيَ جِلْدَةٌ رَقِيقَةٌ تَغْشَى عَظْمَ الرَّأْسِ ، مَأْخُوذَةٌ مِنْ سَمَاحِيقِ الْبَطْنِ وَهُوَ الشَّحْمُ الرَّقِيقُ ، وَغَيْرُ سَمَاحِيقَ إِذَا كَانَ رَقِيقًا وَقَدْ يُسَمِّيهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ الْمِلْطَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا بَيْنَ الْمُتَلَاحِمَةِ وَالسِّمْحَاقِ فَيَصِيرُ الشِّجَاجُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ شَجَّةً . ثُمَّ تَلِيهَا الْمُوضِحَةُ : وَهِيَ الَّتِي تُوضِحُ عَظْمَ الرَّأْسِ حَتَّى يَظْهَرَ . ثُمَّ تَلِيهَا الْهَاشِمَةُ : وَهِيَ الَّتِي تَزِيدُ عَلَى الْمُوضِحَةِ حَتَّى تَهْشِمَ الْعَظْمَ : أَيْ تَكْسِرُهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ بَيْنَ الْمُوضِحَةِ وَالْهَاشِمَةِ شَجَّةً تُسَمَّى الْمُفَرِّشَةُ ، وَهِيَ الَّتِي إِذَا أَوْضَحَتْ صَدَعَتِ الرَّأْسَ وَلَمْ تُهَشِّمْهُ ، فَيَصِيرُ شِجَاجُ الرَّأْسِ عَلَى هَذَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ شَجَّةً . ثُمَّ تَلِيهَا الْمُنَقِّلَةُ : وَهِيَ الَّتِي تَزِيدُ عَلَى الْهَاشِمَةِ بِنَقْلِ الْعِظَامِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ . ثُمَّ تَلِيهَا الْمَأْمُومَةُ ، وَيُقَالُ لَهَا الْآمَّةُ : وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إِلَى أُمِّ الدِّمَاغِ وَهِيَ جِلْدَةٌ رَقِيقَةٌ مُحِيطَةٌ بِالدِّمَاغِ . ثُمَّ تَلِيهَا الدَّامِغَةُ ، وَهِيَ الَّتِي خَرَقَتْ غِشَاوَةَ الدِّمَاغِ حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى مُخِّهِ . فَهَذِهِ إِحْدَى عَشْرَةَ شَجَّةً فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ مِنْهَا سِتَّةٌ قَبْلَ الْمُوضِحَةِ وَأَرْبَعَةٌ بَعْدَهَا ، وَهِيَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ شَجَّةً فِي قَوْلِ آخَرِينَ ، مِنْهَا ثَمَانِيَةُ قَبْلَ الْمُوضِحَةِ ، وَخَمْسَةٌ بَعْدَهَا ،

وَلَيْسَ فِيمَا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ قِصَاصٌ وَلَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ ، وَفِيهَا حُكُومَةٌ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ ، وَلَيْسَ فِيمَا بَعْدَ الْمُوضِحَةِ قِصَاصٌ ، وَفِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ إِلَّا الْمُفَرِّشَةُ عَلَى قَوْلِ مَنْ زَادَهَا فَفِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْمُوضِحَةِ مِنْهَا حُكُومَةٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ . فَأَمَّا الْمُوضِحَةُ فَيَجْتَمِعُ فِيهَا الْقِصَاصُ إِنْ شَاءَ وَالْأَرْشُ الْمُقَدَّرُ إِنَّ عُدِلَ إِلَيْهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، فَصَارَتِ الشِّجَاجُ مُنْقَسِمَةً عَلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ القصاص فى الشجاج : قِسْمٌ لَا قِصَاصَ فِيهِ وَلَا يَتَقَدَّرُ أَرْشُهُ ، وَهُوَ مَا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ ، وَيَجِبُ فِيهِ حُكُومَةٌ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ حُكْمِهَا . وَقِسْمٌ لَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ وَيَتَقَدَّرُ أَرْشُهُ وَهُوَ بَعْدَ الْمُوضِحَةِ فَيَجِبُ فِي الْهَاشِمَةِ عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ بَعِيرًا ، وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلْثُ الدِّيَةِ ، ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ بَعِيرًا وَثُلُثٌ ، وَكَذَلِكَ فِي الدَّامِغَةِ ، وَكِتَابُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَجْعَلُ الدَّامِغَةَ وَالْمَأْمُومَةَ سَوَاءً ، وَيَجْعَلُهَا الدَّامِغَةَ غَيْرَ مُعَمَّمَةٍ وَهِيَ الثَّالِثَةُ الَّتِي تَلِي الدَّامِيَةَ ، وَلِقَوْلِهِ وَجْهٌ ، لِأَنَّهَا لَوْ زَادَتْ عَلَى الْمَأْمُومَةِ لَزَادَتْ عَلَى أَرْشِهَا . وَقِسْمٌ يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ وَيَتَقَدَّرُ أَرْشُهُ وَهُوَ الْمُوضِحَةُ يَجِبُ فِيهَا خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا أَرَادَ الْقِصَاصَ مِنَ المُوضِحَةِ فَيُقَدَّرُ اعْتِبَارُهَا مِنْ رَأْسِ الْمَشْجُوجِ فَاعْتُبِرَ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : مَوْضِعُهَا مِنْ رَأْسِهِ هَلْ هِيَ فِي مُقَدَّمِهِ ، أَوْ مُؤَخَّرِهِ ، أَوْ عَنْ يَمِينِهِ ، أَوْ عَنْ يَسَارِهِ وَفِي يَافُوخِهِ أَوْ فِي هَامَتِهِ ، أَوْ قَرَعَتِهِ ، لِاسْتِحْقَاقِ الْمُمَاثَلَةِ فِي مَحَلِّهَا ، فَلَا يُؤْخَذُ مُقَدَّمٌ بِمُؤَخَّرٍ وَلَا مُؤَخَّرٌ بِمُقَدَّمٍ وَلَا يُمْنَى بِيُسْرَى ، كَمَا لَا يُؤْخَذُ يُمْنَى الْيَدَيْنِ يُسْرَاهَا . وَالثَّانِي : أَنْ يُقَدَّرَ مَا بَيْنَ طَرَفَيْهَا طُولًا لِئَلَّا يُزَادَ عَلَيْهَا أَوْ يُنْقَصَ مِنْهَا ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا عُدْوَانٌ وَالنَّقْصَ مِنْهَا بَخْسٌ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُقَدَّرَ مَا بَيْنَ جَانِبَيْهَا عَرْضًا لِأَنَّهُ قَدْ يُوضَحُ بِالشَّيْءِ الْغَلِيظِ فَتُعَوَّضُ الْمُوِضِحَةُ وَيُوضَعُ بِالشَّيْءِ الدَّقِيقِ فَيَقِلُّ عَرْضُهَا فَيُعْتَبَرُ مِنْ مُوضِحِهِ الْمَشْجُوجِ لِهَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ عُمْقُهَا ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الصِّحَّةِ الْوُصُولُ إِلَى الْعَظْمِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْعُمْقِ ، لِأَنَّهُ قَدْ تَغْلُظُ جِلْدَةُ الرَّأْسِ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ وَتَرِقُّ مِنْ آخَرَ ، فَصَارَ عِتْقُ الرَّأْسِ فِي سُقُوطِ اعْتِبَارِهِ جَارِيًا مَجْرَى مِسَاحَةِ الْأَطْرَافِ الَّتِي لَا تُعْتَبَرُ فِي الْقِصَاصِ ، ثُمَّ يُعْدَلُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الشِّجَاجِ فَيُحْلَقُ شَعْرُ رَأْسِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَشْجُوجُ أَشْعَرَ أَوْ مَحْلُوقًا ، لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ مَوْضِعِهَا عَنْ رَأْسِ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ ، فَيُعْلَمُ فِي رَأْسِ الشَّاجِّ مَا قَدَّمْنَا اعْتِبَارَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَشْجُوجِ ، وَهُوَ مَوْضِعُهَا ، وَطُولُهَا ،

وَعَرْضُهَا ، وَيُخَطُّ عَلَيْهِ بِسَوَادٍ أَوْ حُمْرَةٍ ، وَيُبْضَعُ الْقِصَاصُ بِالْمُوسَى ، وَلَمْ يُضْرَبْ بِالسَّيْفِ وَإِنْ كَانَ الْجَانِي شَجَّ بِالسَّيْفِ : لِأَنَّ ضَرْبَ السَّيْفِ رُبَّمَا هَشَّمَ وَلَا يَسْتَوْفِيهِ الْمَشْجُوجُ بِنَفْسِهِ وَيَسْتَنِيبُ فِيهِ مَنْ يُؤْمَنُ تَعَدِّيهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَنِبْ نَدَبَ الْإِمَامُ مَأْمُومًا يَنُوبُ عَنْهُ فِي اسْتِيفَائِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا يُعْتَبَرُ فِي الِاقْتِصَاصِ في الموضحة فِيهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي بَعْضِ الرَّأْسِ أَوْ فِي جَمِيعِهِ . فَإِنْ كَانَتْ فِي بَعْضِهِ اقْتُصَّ بِقَدْرِهَا فِي مَحَلِّهَا مِنْ رَأْسِ الشَّاجِّ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي جَمِيعِهِ قَدْ أَخَذَتْ طُولًا مَا بَيْنَ الْجَبْهَةِ وَالْقَفَا ، وَأَخَذَتْ عَرْضًا مَا بَيْنَ الْأُذُنَيْنِ ، لَمْ يَخْلُ رَأْسُ الشَّاجِّ وَالْمَشْجُوجِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَمَاثَلَ رَأْسَاهُمَا فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ ، فَاسْتِيعَابُ الْقِصَاصِ مُمْكِنٌ ، فَإِذَا كَانَتْ طُولًا مَا بَيْنَ الْجَبْهَةِ وَالْقَفَا اقْتُصَّ مِنَ الشَّاجِّ طُولُ رَأْسِهِ مِنْ جَبْهَتِهِ إِلَى قَفَاهُ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْقِصَاصِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُبْدَأُ بِهِ مِنَ المَوْضِعِ الَّذِي بَدَأَ بِهِ الْجَانِي ، إِمَّا مِنْ نَاحِيَةِ الْجَبْهَةِ أَوِ الْقَفَا لِيُمَاثِلَ فِي الِابْتِدَاءِ كَمَا يُمَاثِلُ فِي الِاسْتِيفَاءِ ، فَإِنْ أَشْكَلَ رُجِعَ إِلَى الْجَانِي دُونَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا : أَنَّ الْمُسْتَوْفَى لَهُ الْقِصَاصُ ، مُخَيَّرٌ فِي الِابْتِدَاءِ بِأَيِّ الْمَوْضِعَيْنِ شَاءَ ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ بَعْضِهَا فِي أَيِّ الْمَوْضِعَيْنِ شَاءَ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَشْجُوجِ أَصْغَرَ مِنْ رَأْسِ الشَّاجِّ القصاص في شج الرأس ، فَيُسْتَوْفَى بِمِقْدَارِهَا مِنْ رَأْسِ الشَّاجِّ ، وَيُتْرَكُ لَهُ بَاقِي رَأْسِهِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَشْجُوجِ . مِثَالُهُ : أَنْ يَكُونَ طُولُ رَأْسِ الشَّاجِّ عِشْرِينَ إِصْبَعًا ، وَطُولُ رَأْسِ الْمَشْجُوجِ خَمْسَةَ عَشَرَ إِصْبَعًا ، فَيُقْتَصُّ مِنْ رَأْسِ الشَّاجِّ قَدْرَ خَمْسَةَ عَشَرَ إِصْبَعًا وَيَبْقَى مِنْ رَأْسِهِ مِقْدَارَ خَمْسِ أَصَابِعَ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ فِيهَا ، لِفَضْلِهَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ ، وَيَكُونُ مَحَلُّ هَذَا الْمَتْرُوكِ بِنَاءً عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الوَجْهَيْنِ فِي الِابْتِدَاءِ بِمَوْضِعِ الْقِصَاصِ . فَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِنَّهُ يُبْدَأُ فِي الْقِصَاصِ بِالْمَوْضِعِ بِدَايَةَ الْجَانِي نُظِرَ ، فَإِنْ بُدِأَ بِمُقَدَّمِ الرَّأْسِ كَانَ الْمَتْرُوكُ مِنْ مُؤَخَّرِهِ ، وَإِنْ بُدِأَ بِمُؤَخَّرِهِ كَانَ الْمَتْرُوكُ مِنْ مُقَدَّمِهِ . وَإِنْ قِيلَ : بِالْوَجْهِ الثَّانِي الَّذِي هُوَ أَصَحُّ : إِنَّ الْمُقْتَصَّ لَهُ مُخَيَّرٌ فِي الِابْتِدَاءِ بِأَيِّ الْمَوْضِعَيْنِ شَاءَ كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ :

إِمَّا أَنْ يَسْتَوْفِيَ قِصَاصَهُ مِنْ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ ، وَيَتْرُكَ فَاضِلَهُ مِنْ مُؤَخَّرِهِ ، أَوْ يَسْتَوْفِيَهُ مِنْ مُؤَخَّرِهِ ، وَيَتْرُكَ فَاضِلَهُ مِنْ مُؤَخَّرِهِ ، أَوْ يَسْتَوْفِيَهُ مِنْ مُؤَخَّرِهِ ، وَيَتْرُكَ فَاضِلَهُ مِنْ مُقَدَّمِهِ ، أَوْ يَسْتَوْفِيَهُ مِنْ وَسَطِهِ وَيَتْرُكَ فَاضِلَهُ مِنْ مُقَدَّمِهِ وَمُؤَخَّرِهِ ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ مِنْ طَرَفَيْهِ وَيَتْرُكَ فَاضِلَهُ مِنْ وَسَطِهِ لَمْ يَجُزْ ، لِأَنَّهُ إِذَا فُصِلَ بَيْنَهُمَا صَارَتَا مُوضِحَتَيْنِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ مُوضِحَةٍ بِمُوضِحَتَيْنِ ، وَيَجِيءُ عَلَى تَخْرِيجِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي دِيَةِ هَذَا الْقَاتِلِ أَنْ يَجُوزَ لَهُ ذَلِكَ لِيَجْرِيَ عَلَى كُلِّ مَوْضِعٍ مِنَ الجِنَايَةِ حُكْمَ الْمُوضِحَةِ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّعْلِيلِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَشْجُوجِ أَكْبَرَ مِنْ رَأْسِ الشَّاجِّ . مِثَالُهُ : أَنْ يَكُونَ طُولُ رَأْسِ الْمَشْجُوجِ عِشْرِينَ إِصْبَعًا ، وَطُولُ رَأْسِ الشَّاجِّ خَمْسَةَ عَشْرَةَ إِصْبَعًا ، فَيَسْتَوْعِبُ فِي الِاقْتِصَاصِ طُولَ رَأْسِ الشَّاجِّ ، وَقَدْرُهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمُوضِحَةِ ، فَلَا يَسْتَوْفِي الرُّبْعَ الْبَاقِيَ مِنَ الجَبْهَةِ وَلَا مِنَ القَفَا ، وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الرَّأْسِ ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْقِصَاصِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَصَّ فِي مُوضِحَةِ الْوَجْهِ مِنَ الرَّأْسِ ، وَلَا فِي مُوضِحَةِ الرَّأْسِ مِنَ الوَجْهِ ، وَيُرْجَعُ عَلَى الْجَانِي بِقِسْطِ ذَلِكَ مِنْ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ وَهُوَ رُبْعُ أَرْشِهَا ، لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْهَا رُبْعُهَا ، وَلَوْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهَا ثُلْثَهَا رَجَعَ بِثُلْثِ أَرْشِهَا ، وَخَرَّجَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ احْتِمَالَ وَجْهٍ ثَانٍ ، أَنَّهُ يَرْجِعُ عَنِ الْبَاقِي مِنْهَا بِجَمِيعِ أَرْشِ الْمُوِضِحَةِ ، لِأَنَّ أَرْشَ الْمُوضِحَةِ يَكْمُلُ فِيمَا قَلَّ مِنْهَا وَكَثُرَ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ، وَالْفَصْلُ فِيهَا أَنَّ اسْمَ الْمُوضِحَةِ يَنْطَلِقُ عَلَى صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا ، فَاسْتَوَى الْأَرْشُ فِي جَمِيعِهَا ، وَلَا يَنْطَلِقُ عَلَى الْبَاقِي مِنْ هَذِهِ الْمُوضِحَةِ اسْمُ الْمُوضِحَةِ ، وَإِنَّمَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ بَعْضِهَا فَلَمْ يُسْتَحَقَّ فِيهِ إِلَّا بَعْضُ أَرْشِهَا ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَتْ مُوضِحَةُ الْمَشْجُوجِ بَيْنَ قَرْنَيْ رَأْسِهِ ، وَكَانَ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ رَأْسِ الشَّاجِّ أَضْيَقَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ مَا بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ إِلَى مَا يُجَاوِزُهُمَا . وَإِنْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الرَّأْسِ ، لِخُرُوجِهِ عَنْ مَحَلِّ الْقِصَاصِ وَرَجَعَ بِقِسْطِهِ مِنْ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا اسْتُوفِيَ الْقِصَاصُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لَمْ يُعْتَبَرْ بَعْدَ الِاقْتِصَاصِ اخْتِلَافُ الشَّجَّتَيْنِ قَبْلَ الِانْدِمَالِ ، فَلَوِ انْدَمَلَ جُرْحُ الْمَشْجُوجِ شَائِنًا ظَاهِرَ الْعَظْمِ غَيْرَ مُلْتَحِمِ الْجِلْدِ وَانْدَمَلَ جُرْحُ الشَّاجِّ حَسَنًا قَدْ تَغَطَّى لَحْمُهُ وَالْتَحَمَ جِلْدُهُ فَلَا شَيْءَ لِلْمَشْجُوجِ فِي زِيَادَةِ الشَّيْنِ لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ فِي الْقِصَاصِ وَقَدِ اسْتَوْفَاهُ . وَكَذَلِكَ لَوِ انْعَكَسَ فَكَانَ الشَّيْنُ فِي جِرَاحَةِ الشَّاجِّ دُونَ الْمَشْجُوجِ ، وَكَانَتْ زِيَادَةُ الشَّيْنِ هَدَرًا كَمَا تَكُونُ سِرَايَتُهَا هَدَرًا ، فَلَوْ تَجَاوَزَ مُسْتَوْفِي الْقِصَاصِ مِقْدَارَ الْمُوضِحَةِ ، وَأَخَذَ أَكْثَرَ مِنْهَا مِنْ رَأْسِ الشَّاجِّ كَانَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الزِّيَادَةِ إِنْ عَمَدَ ، وَأَرْشُ

الْمُوضِحَةِ كَامِلَةً إِنْ أَخْطَأَ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَاقِي مِنْ مُوضِحَةِ الْمَشْجُوجِ حَيْثُ رَجَعَ مِنْ أَرْشِهَا بِقِسْطِ الْبَاقِي مِنْهَا . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ مُجَاوَزَةَ الْقِصَاصِ إِلَى الزِّيَادَةِ لَمَّا أَوْجَبَ اخْتِلَافَ الْحُكْمِ فِي الْمُسْتَحَقِّ وَالْعُدْوَانِ تَمَيَّزَا ، فَصَارَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُوضِحَةً غَيْرَ الْأُخْرَى ، فَلِذَلِكَ كَمُلَ أَرْشُهَا وَمَا نَقَصَ عَنِ اسْتِيفَاءٍ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَالْعُدْوَانِ فَلَمْ يَتَمَيَّزْ ، وَصَارَ مُوضِحَةً وَاحِدَةً فَرَجَعَ بِقِسْطِ بَاقِيهَا مِنْ أَرْشِهَا ، فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مِنِ اضْطِرَابِ الْمُسْتَوْفَى مِنْهُ عِنْدَ الْقِصَاصِ كَانَتْ هَدَرًا ، فَلَوِ اخْتَلَفَا وَالْحَالُ مُشْتَبَهٌ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسْتَوْفِي : لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا ثَانِيًا مِنَ المَقْلُوفِ إِذَا قُطِعَ وَاخْتُلِفَ فِي وُجُودِ جِنَايَةٍ عِنْدَ الْقَطْعِ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسْتَقَادِ مِنْهُ إِذَا قِيلَ فِي الْمَقْلُوفِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ وَلِيِّهِ وَإِنْ كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا لَائِحًا ، فَلَوْ كَانَتْ مُوضِحَةُ الْمَشْجُوجِ قَدْ وُضِحَ وَسَطُهَا حَتَّى بَرَزَ الْعَظْمُ وَتَلَاحَمَ طَرَفَاهَا حَتَّى بَقِيَ عَلَيْهِ اللَّحْمُ وَجَبَ الْقِصَاصُ فِيمَا وَضَحَ عَنِ الْعَظْمِ ، وَالْأَرْشُ دُونَ الْقِصَاصِ فِيمَا تَلَاحَمَ مِنَ الطَّرَفَيْنِ ، لِأَنَّ الْمُتَلَاحِمَةَ لَمَّا سَقَطَ فِيهَا الْقِصَاصُ إِذَا انْفَرَدَتْ سَقَطَ فِيهَا إِذَا اتَّصَلَتْ بِالْمُوضِحَةِ وَكَانَتْ حُكُومَتُهَا أَقَلَّ مِنْ قِسْطِهَا وَأَرْشِ الْمُوضِحَةِ لِنُقْصَانِهَا عَنْ حُكْمِ الْمُوضِحَةِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَوْضَحَهُ مُوضِحَتَيْنِ وَأَكْثَرَ ، كَانَ الْمَشْجُوجُ مُخَيَّرًا فِيهَا بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ . أَحَدُهَا : أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الِاقْتِصَاصِ عَنْ جَمِيعِهَا إِلَى الدِّيَةِ ، فَيَسْتَحِقُّ فِي كُلِّ مُوضِحَةٍ أَرْشًا ، كَمَا يَسْتَوِي فِيهِ أَرْشُ مَا صَغُرَ مِنْهَا وَمَا كَبُرَ ، وَسَوَاءٌ تَقَارَبَتْ أَوْ تَبَاعَدَتْ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ جَمِيعِهَا فَيُقَادَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ إِنْ شَاءَ أَوْ فِي أَيَّامٍ شَتَّى إِلَّا أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِ الشَّاجِّ إِنِ اقْتَصَّ مِنْ جَمِيعِهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ، إِمَّا الْمَرَضَ أَوْ شِدَّةَ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ فَلَا يُجْمَعُ عَلَيْهِ بَيْنَ الِاقْتِصَاصِ مِنْ جَمِيعِهِمَا ، وَيَقْتَصُّ مِنْ وَاحِدَةٍ ، فَإِذَا انْدَمَلَتِ اقْتَصَّ مِنْ غَيْرِهَا ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَتِ الْمُوضِحَةُ وَاحِدَةً قَدِ اسْتَوْعَبَتْ طُولَ الرَّأْسِ وَعَرْضَهُ وَخِيفَ عَلَى نَفْسِهِ إِنِ اقْتَصَّ مِنْ جَمِيعِهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ جَازَ أَنْ يُفَرِّقَ الِاقْتِصَاصَ مِنْهَا ، وَيَسْتَوْفِيَ فِي وَقْتٍ بَعْدَ وَقْتٍ ، وَلَوْ قِيلَ يَسْتَوْفِي الْمُوضِحَةَ الْوَاحِدَةَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَإِنْ خِيفَ مِنْهَا كَمَا يَقْطَعُ الْيَدَ قِصَاصًا وَإِنْ خِيفَ مِنْهَا كَانَ لَهُ وَجْهٌ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ بَعْضِهَا وَيَعْفُوَ إِلَى الدِّيَةِ عَنْ بَاقِيهَا ، فَيَكُونُ مُخَيَّرًا فِي الِاقْتِصَاصِ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ شَائِنٍ وَغَيْرِ شَائِنٍ ، وَيَرْجِعُ بِأُرُوشِ بَاقِيهَا مُتَسَاوِيَةً عَلَى أَعْدَادِهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَكَذَا كُلُّ جُرْحٍ يُقْتَصُّ مِنْهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَالْجِرَاحُ مَا كَانَ فِي الْجَسَدِ ، وَالشِّجَاجُ مَا كَانَ فِي

الرَّأْسِ ، وَقَدْ مَضَى حُكْمُ الشِّجَاجِ فِي الرَّأْسِ وَأَنَّهُ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ ، وَأَرْشٌ مُقَدَّرٌ وَهُوَ الْمُوضِحَةُ . وَقِسْمٌ لَا قِصَاصَ فِيهِ وَيَجِبُ فِيهِ مُقَدَّرٌ وَهُوَ مَا فَوْقَ الْمُوضِحَةِ ، وَهَذَا حُكْمُ شِجَاجِ الرَّأْسِ وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي الْوَجْهِ وَاللَّحْيَيْنِ يَكُونُ فِي حُكْمِ شِجَاجِ الرَّأْسِ وَإِنْ كَانَ جُرْحًا ، وَيَصِيرُ الْوَجْهُ وَالرَّأْسُ فِي حُكْمِ الشِّجَاجِ ، وَالْجِرَاحِ ، سَوَاءٌ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي مُوضِحَةِ الْوَجْهِ ، وَالْمُقَدَّرُ مِنَ الأَرْشِ في الهاشمة والمنقلة فَيَجِبُ فِي مُوضِحَةِ الْوَجْهِ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ ، وَفِي هَاشِمَتِهِ عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ ، وَفِي مُنَقِّلَتِهِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الإِبِلِ . فَأَمَّا جِرَاحُ الْبَدَنِ فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ يَجِبْ فِيهِ مُقَدَّرٌ وَلَا يَجِبْ فِيهِ الْقِصَاصُ وَهُوَ الْجَائِفَةُ الْوَاصِلَةُ إِلَى الْجَوْفِ ، لَا قِصَاصَ فِيهَا ، وَفِيهَا ثُلْثُ الدِّيَةِ . وَقِسْمٌ لَا قِصَاصَ فِيهِ وَلَا مُقَدَّرَ وَهُوَ مَا عَدَا الْمُوضِحَةَ وَالْجَائِفَةِ مِنَ البَاضِعَةِ وَالْمُتَلَاحِمَةِ : لِأَنَّ مَا لَا يَجِبُ فِيهِ مِنَ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ قِصَاصٌ وَلَا مُقَدَّرٌ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجِبَ فِيهِ مِنَ البَدَنِ قِصَاصٌ وَلَا مُقَدَّرَ ، لِشَرَفِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ ، وَأَنَّ الشَّيْنَ فِيهِمَا أَقْبَحُ مِنَ الشَّيْنِ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ وَلَا يَجِبُ فِيهِ الْمُقَدَّرُ وَهُوَ الْمُوضِحَةُ إِذَا كَانَتْ فِي ذِرَاعٍ أَوْ عَضُدٍ أَوْ سَاقٍ أَوْ فَخِذٍ يَجِبُ فِيهَا الْقِصَاصُ لِإِمْكَانِهِ كَالرَّأْسِ ، وَتَجِبُ حُكُومَةٌ وَلَا تَجِبُ فِيهَا مُقَدَّرٌ بِخِلَافِ الرَّأْسِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ شَرَفِ الرَّأْسِ وَقُبْحِ شَيْنِهِ ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْصُوصِهِ . وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ : لَا قِصَاصَ فِي مُوضِحَةِ الْبَدَنِ ، لِأَنَّهَا لَمَّا خَالَفَتْ مُوضِحَةَ الرَّأْسِ فِي الْأَرْشِ الْمُقَدَّرِ خَالَفَتْهَا فِي الْقَوَدِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ مَذْهَبًا وَحِجَاجًا . أَمَّا الْمَذْهَبُ ، فَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " : إِنَّ الْمُوضِحَةَ إِذَا كَانَتْ عَلَى السَّاقِ لَمْ تَصْعَدْ إِلَى الْفَخِذِ وَلَمْ تَنْزِلْ إِلَى الْقَدَمِ ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الذِّرَاعِ لَمْ تَصْعَدْ إِلَى الْعَضُدِ وَلَمْ تَنْزِلْ إِلَى الْكَتِفِ . وَأَمَّا الْحِجَاجُ فَهُوَ : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي الْبَدَنِ جُرْحٌ مُقَدَّرٌ وَهُوَ الْجَائِفَةُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ وَهُوَ الْمُوضِحَةُ كَالرَّأْسِ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ جَرَحَهُ فَلَمْ يُوضِحْهُ مِنْهُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ جَرَحَهُ فَلَمْ يُوضِحْهُ مِنْهُ أَقُصُّ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا شَقَّ مِنَ المُوضِحَةِ ، فَإِنْ أَشْكَلَ لَمْ أَقُدْ إِلَّا مِمَّا اسْتُيْقِنَ .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مُوضِحَةَ الرَّأْسِ مِنَ الشِّجَاجِ السِّتَّةِ وَهِيَ : الْحَارِصَةُ ، وَالدَّامِيَةُ ، وَالدَّامِغَةُ ، وَالْبَاضِعَةُ ، وَالْمُتَلَاحِمَةُ وَالسِّمْحَاقُ ، لَا قِصَاصَ فِيهَا ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَوْرَهَا فِي اللَّحْمِ وَقُصُورَهَا عَنْ حَدِّ الْعَظْمِ يَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ لِعَدَمِ الْغَايَةِ فِيهِ كَالْجَائِفَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ إِثْبَاتَ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ يَنْقُصُ إِلَى أَنْ يَصِيرَ الِاقْتِصَاصُ مِنْهَـا مُوضِحَةً لِاخْتِلَافِ الْحَلْقَةِ فِي جِلْدَةِ الرَّأْسِ لِأَنَّهَا تَغْلُظُ مِنْ قَوْمٍ وَتَرِقُّ مِنْ آخَرِينَ وَلَا بُدَّ فِي الِاقْتِصَاصِ مِنْ تَقْدِيرِ عُمْقِهَا حَتَّى لَا يَتَجَاوَزَ ، وَقَدْ يَكُونُ عُمْقُهَا مِنْ رَأْسِ الْمَشْجُوجِ يَبْلُغُ إِلَى الْمُوضِحَةِ مِنْ رَأْسِ الشَّاجِّ ، فَنَكُونُ قَدِ اقْتَصَصْنَا مِنَ المُتَلَاحِمَةِ بِالْمُوضِحَةِ وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ ، فَلِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ سَقَطَ الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَمُقْتَضَى أُصُولِهِ ، وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " وَغَيْرِهِ ، وَقَالَ فِي كِتَابِ " حَرْمَلَةَ " : لِأَنَّ ذَلِكَ فِي لَحْمٍ ، غَيْرَ أَنَّ الْمُزَنِيَّ نَقَلَ عَنْهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ : وَلَوْ جَرَحَهُ فَلَمْ يُوضِحْهُ اقْتُصَّ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا شَقَّ مِنَ المُوضِحَةِ ، وَظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ وَهْمٌ مِنَ المُزَنِيِّ فِي نَقْلِهِ ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِ ، وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّ الْمُزَنِيَّ أَضْبَطُ مَنْ نَقَلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَثْبَتُهُمْ رِوَايَةً . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى قَوْلٍ ثَانٍ ، فَيَكُونُ الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَيْسَ بِقَوْلٍ ثَانٍ بِخِلَافِ نَصِّهِ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى اسْتِيفَائِهِ إِذَا أَمْكَنَ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَا قِصَاصَ ، وَلَيْسَ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مِنْهُ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الشَّاجُّ قَدْ جَرَحَ الْمَشْجُوجَ مُوضِحَةً وَمُتَلَاحِمَةً فَيُنْظَرُ عُمْقُ الْمُوضِحَةِ مِنْ رَأْسِ الْمَشْجُوجِ وَعُمْقِ الْمُتَلَاحِمَةِ ، فَإِذَا كَانَ عُمْقُ الْمُوضِحَةِ أَنْمُلَةً وَعُمْقُ الْمُتَلَاحِمَةِ نِصْفَ أَنْمُلَةٍ عُلِمَ أَنَّ الْمُتَلَاحِمَةَ مِنْ رَأْسِهِ هِيَ نِصْفُ مُوضِحَةٍ ، فَيُقْتَصُّ مِنْ رَأْسِ الشَّاجِّ مُوضِحَةً وَيُنْظَرُ عُمْقُهَا فَإِنْ كَانَ أَنْمُلَةً فَقَدِ اسْتَوْفَى فِي عُمْقِ جِلْدَةِ الرَّأْسِ ، فَإِذَا أَرَدْنَا الِاقْتِصَاصَ مِنَ المُتَلَاحِمَةِ بَعْدَ الْمُوضِحَةِ اقْتُصَّ إِلَى نِصْفِ أَنْمُلَةٍ مِنْ جِلْدِ رَأْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الشَّاجِّ أَرَقَّ جِلْدًا وَلَحْمًا وَكَانَ عُمْقُ مُوضِحَتِهِ نِصْفَ أَنْمُلَةٍ

اقْتُصَّ مِنْ مُتَلَاحِمَتِهِ رُبْعُ أَنْمُلَةٍ لِيَكُونَ نِصْفَ مُوضِحَةٍ كَمَا كَانَتْ مِنَ المَشْجُوجِ نِصْفَ مُوضِحَةٍ ، لَا يُمْكِنُ الِاقْتِصَاصُ مِنْهَا إِذَا لَمْ يَنْضَمَّ إِلَيْهَا مُوضِحَةٌ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَشْجُوجِ وَالْقِصَاصِ مِنَ الشَّاجِّ ، وَإِذَا تَقَدَّرَتِ الْمُتَلَاحِمَةُ فِي الْقِصَاصِ إِمَّا بِالنِّصْفِ عَلَى مَا مَثَّلْنَاهُ ، أَوْ بِالثُّلْثِ إِنْ نَقَصَ ، أَوْ بِالثُّلُثَيْنِ إِنْ زَادَ تَقَدَّرَ أَرْشُهَا بِقِسْطِهَا مِنْ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ ثُلُثَيْنِ ، وَإِذَا لَمْ يَتَقَدَّرِ الْمُتَلَاحِمَةُ مِنَ المُوضِحَةِ فِي الْقِصَاصِ لَمْ يَتَقَدَّرْ أَرْشُهَا وَكَانَ فِيهَا حُكُومَةٌ يُقَدِّرُهَا الْحَاكِمُ بِاجْتِهَادِهِ كَمَا يُقَدِّرُ حُكُومَاتِ سَائِرِ الْجِرَاحِ الَّذِي لَا قِصَاصَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ . وَحَكَى أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَلَمْ أَرَهُ فِي شَرْحِهِ : أَنَّهُ إِذَا أَشْكَلَ مَوْرُ الْمُتَلَاحِمَةِ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ قَدْرُ عُمْقِهَا اعْتُبِرَ مَا يُتَيَقَّنُ قَدْرُ مَوْرِهَا وَمَا يُشَكُّ فِيهِ وَجُمِعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَقْوِيمِ الْحُكُومَةِ لِيُعْتَبَرَ بِيَقِينِ الْمَوْرِ صِحَّةُ التَّقْوِيمِ فِي الْحُكُومَةِ وَيُعْتَبَرَ بِتَقْوِيمِ الْحُكُومَةِ حُكْمُ الشَّكِّ فِي الْمَوْرِ ، فَإِذَا تَيَقَّنَّا أَنَّ مَوْرَ الْمُتَلَاحِمَةِ نِصْفُ عُمْقِ الْمُوضِحَةِ وَشَكَكْنَا فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ اعْتَبَرْنَا تَقْوِيمَ الْحُكُومَةِ ، فَنَجِدُهُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ قَدْرُ نِصْفِ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ فَيَتَّفِقَانِ فِي وُجُوبِ النِّصْفِ وَيَدُلُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صِحَّةِ الْآخَرِ ، وَيَكُونُ الشَّكُّ فِي زِيَادَةِ الْمَوْرِ مُطَّرَحًا بِالتَّقْوِيمِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ تَقْوِيمُ الْحُكُومَةِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ فَيُوجِبُ مَا زَادَ عَلَى نِصْفِ الْأَرْشِ ، وَيَكُونُ التَّقْوِيمُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَا شَكَكْنَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْمَوْرِ عَلَى النِّصْفِ ، قَدْ صَارَ بِالتَّقْوِيمِ مَعْلُومًا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ تَقْوِيمُ الْحُكُومَةِ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ وَيُسْتَدَلُّ بِيَقِينِ الْمَوْرِ عَلَى أَنَّ تَقْوِيمَ الْحُكُومَةِ خَطَأٌ ، لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يُغَيَّرُ بِالِاجْتِهَادِ وَيُسْتَفَادُ بِالتَّقْوِيمِ إِسْقَاطُ الشَّكِّ فِيمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ تُقْطَعُ الْيَدُ بِالْيَدِ وَالرِّجْلُ بِالرِّجْلِ مِنَ المَفَاصِلِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَتُقْطَعُ الْيَدُ بِالْيَدِ وَالرِّجْلُ بِالرِّجْلِ مِنَ المَفَاصِلِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ كَوُجُوبِهِ فِي النُّفُوسِ : لِأَنَّ الْأَطْرَافَ مَفَاصِلُ يُمْكِنُ الْمُمَاثَلَةُ بِهَا ، فَإِذَا قَطَعَ يَدَهُ فَلَهُ خَمْسَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقْطَعَهَا مِنْ مَفْصِلِ الْكُوعِ ، فَيُقْتَصُّ مِنْهَا ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ ، وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ ، إِذَا كَانَتْ سَلِيمَةً مِنْ نَقْصٍ أَوْ شَلَلٍ ، فَيُقْتَصُّ مِنَ الكَبِيرَةِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110