كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

أَنْ تُسَاوِيَهَا فِي الْعِدَّةِ بِالْأَقْرَاءِ ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَنَا فُرْقَةٌ وَاحِدَةٌ : وَلِأَنَّ الْأَمَةَ مُسَاوِيَةٌ لِلْحُرَّةِ فِي أَحْكَامِ النِّكَاحِ مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ ، وَالْكِسْوَةِ ، وَالسُّكْنَى فَوَجَبَ أَنْ تُسَاوِيَهَا فِي عِدَّةِ النِّكَاحِ . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يُطَلِّقُ الْعَبْدُ تَطْلِيقَتَيْنِ وَتَعْتَدُّ الْأَمَةُ حَيْضَتَيْنِ . وَرَوَى مُظَاهِرُ بْنَ أَسْلَمَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُفِيدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : طَلَاقُ الْأَمَةِ طَلْقَتَانِ ، وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَثْبَتُ : لِأَنَّ فِي حَدِيثِ مُظَاهِرِ بْنِ أَسْلَمَ الْتِوَاءً ؛ وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ قَالَ : يُطَلِّقُ الْعَبْدُ تَطْلِيقَتَيْنِ وَتَعْتَدُّ الْأَمَةُ حَيْضَتَيْنِ ، وَوَافَقَهُ عَلِيٌّ ، وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا ؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ مَوْضُوعٌ عَلَى التَّفَاضُلِ فِيمَا عَدَا بِحَسَبِ التَّفَاضُلِ فِي الْمُسْتَبْرَأِ : لِأَنَّ اسْتِبْرَاءَ الْأَمَةِ فِي الْمِلْكِ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ لِنَقْصِهَا بِالرِّقِّ وَعَدَمِ الْعَقْدِ ، وَاسْتِبْرَاءَ الْحُرَّةِ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ لِكَمَالِهَا بِالْحُرِّيَّةِ وَالْعَقْدِ ، وَنِكَاحُ الْأَمَةِ مُنَزَّلٌ مِنْهَا : لِأَنَّهَا قَدْ سَاوَتِ الْحُرَّةَ فِي الْعَقْدِ ، وَشَارَكَتِ الْأَمَةَ فِي الرِّقِّ فَصَارَتْ مُقْتَصِرَةً عَنِ الْحُرَّةِ بِالرِّقِّ وَمُتَقَدِّمَةً عَلَى الْأَمَةِ بِالْعَقْدِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ مَنْزِلَتَيْهِمَا فِي الْحُرْمَةِ فَتَزِيدُ عَلَى الْأَمَةِ قُرْءًا بِالْعَقْدِ ، وَتَنْقُصُ عَنِ الْحُرَّةِ قُرْءًا بِالرِّقِّ فَيَكُونُ عَلَيْهَا قُرْآنِ . فَأَمَّا الْآيَةُ فَمَخْصُوصَةُ الْعُمُومِ بِمَا ذَكَرْنَا . وَأَمَّا الْحَمْلُ فَإِنَّمَا سَاوَتِ الْأَمَةُ فِيهِ الْحُرَّةَ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ . وَأَمَّا أَحْكَامُ النِّكَاحِ فَهِيَ فِي أَكْثَرِهَا مُخَالِفَةٌ لِلْحُرَّةِ ، وَكَذَلِكَ فِي أَكْثَرِ الْعِدَّةِ .

فَصْلٌ عِدَّةُ الْأَمَةِ بِالشُّهُورِ فَعِدَّةُ وَفَاةٍ وَعِدَّةُ طَلَاقٍ

فَصْلٌ : وَأَمَّا عِدَّةُ الْأَمَةِ بِالشُّهُورِ فَعِدَّةُ وَفَاةٍ ، وَعِدَّةُ طَلَاقٍ . فَأَمَّا عِدَّةُ الْوَفَاةِ للأمة فَعَلَيْهَا نِصْفُ مَا عَلَى الْحُرَّةِ شَهْرَانِ وَخَمْسُ لَيَالٍ ؛ لِأَنَّ عِدَّةَ الْحُرَّةِ الوفاة أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ ، وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ . وَأَمَّا عِدَّةُ الطَّلَاقِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَقْرَاءِ لِصِغَرٍ أَوْ إِيَاسٍ فَهِيَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ عَلَى الْحُرَّةِ : وَفِيمَا تَعْتَدُّ بِهِ الْأَمَةُ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ أَقَيْسُ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِنِصْفِهَا ، شَهْرًا وَنِصْفًا لِيُجْزِئَهَا عَلَى الصِّحَّةِ كَالْعِدَّةِ مِنَ الْمَوْتِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : تَعْتَدُّ شَهْرَيْنِ بَدَلًا مِنْ قُرْأَيْنِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَهْرٍ فِي مُقَابِلِهِ قُرْءٌ .

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَحْوَطُ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ الزَّمَانِ الَّذِي يُطَهِّرُ فِيهِ اسْتِبْرَاءُ الرَّحِمِ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " يَكُونُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ، ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَقَةً ، ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مُضْغَةً وَهُوَ فِي حَالِ الْمُضْغَةِ يَتَخَلَّقُ وَيَتَصَوَّرُ وَتَظْهَرُ أَمَارَاتُهُ مِنَ الْحَرَكَةِ وَمِنْ غِلَظِ الْجَوْفِ ، وَذَلِكَ عِنْدَ انْقِضَاءِ الشَّهْرِ الثَّالِثِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ أُعْتِقَتِ الْأَمَةُ قَبْلَ مُضِيِّ الْعِدَّةِ مدة عدتها أَكْمَلَتْ عِدَّةَ حُرَّةٍ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ وَقَعَ وَهِيَ فِي مَعَانِي الْأَزْوَاجِ فِي عَامَّةِ أَمْرِهَا وَيَتَوَارَثَانِ فِي عِدَّتِهَا بِالْحَرِيَّةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي أَمَةٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ، وَأَعْتَقَهَا سَيِّدُهَا فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْ طَلَاقِ الزَّوْجِ وَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهَا مِنْ عِتْقِ السَّيِّدِ ، وَلَا يَخْلُو حَالُ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَقَدَّمَ الْعِتْقُ عَلَى الطَّلَاقِ فَعَلَيْهَا عِدَّةُ حُرَّةٍ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا ، وَهِيَ حُرَّةٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَتَقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَذَلِكَ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : إِمَّا بِأَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ لَهَا : إِذَا أُعْتِقْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ . وَإِمَّا بِأَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ لَهَا : إِذَا طُلِّقْتِ فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَيَلْزَمُهَا فِي اجْتِمَاعِ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ أَحَدُ هَذِهِ الْوُجُوهِ : أَنْ تَعْتَدَّ عِدَّةَ حُرَّةٍ : لِأَنَّهَا لَمْ تَعْتَدَّ بِالْعِدَّةِ إِلَّا وَهِيَ حُرَّةٌ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَتَقَدَّمَ الطَّلَاقُ عَلَى الْعِتْقِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقَعَ الْعِتْقُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ عَلَى حُكْمِ الرِّقِّ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهَا مَا حَدَثَ مِنَ الْعِتْقِ : لِأَنَّ مَا يَقْتَضِي زَمَانَهُ يَقْتَضِي حُكْمَهُ كَمَا لَوْ حَاضَتِ الصَّغِيرَةُ بَعْدَ شُهُورِهَا وَأَيِسَتِ الْكَبِيرَةُ بَعْدَ أَقْرَائِهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تُعْتَقَ فِي تَضَاعِيفِ عِدَّتِهَا وَقَبْلَ انْقِضَائِهَا فَتَبْنِي عِدَّتَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ عَلَى مَا مَضَى مِنْهَا قَبْلَ الْعِتْقِ ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَلْ تَقْضِي عِدَّةَ أَمَةٍ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ أَوْ عِدَّةَ حُرَّةٍ اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ أمة طلقها زوجها وأعتقها سيدها ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا فَمَذْهَبُهُ فِي الْجَدِيدِ كُلِّهِ ، وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهَا تَعْتَدُّ عِدَّةَ حُرَّةٍ ، وَلَهُ فِي الْجَدِيدِ قَوْلٌ ثَانٍ : أَنَّهَا تَعْتَدُّ عِدَّةَ حُرَّةٍ فَتَرَتَّبَ لَهُ فِي اعْتِدَادِهَا مِنَ الطَّلَاقَيْنِ ثَلَاثُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا تَعْتَدُّ فِيهَا عِدَّةَ أَمَةٍ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ فِي الرِّقِّ لَا يُعْتَبَرُ بِحُدُوثِ الْعِتْقِ كَأُمِّ الْوَلَدِ .

وَالثَّانِي : أَنَّ مَا تَبَعَّضَ كَانَ مُعْتَبَرًا بِحَالِ الْوُجُوبِ كَالْحُدُودِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيُّ أَنَّهَا تَعْتَدُّ فِيهَا عِدَّةَ حُرَّةٍ اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا اخْتَلَفَ بِهِ الْعِدَّةُ كَانَ مُعْتَبَرًا بِالِانْتِهَاءِ دُونَ الِابْتِدَاءِ كَالشُّهُورِ وَالْأَقْرَاءِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الِاحْتِيَاطَ لِلْعِدَّةِ أَوْلَى مِنَ الِاحْتِيَاطِ لِلْمُعْتَدَّةِ كَالْمُسْتَرِيبَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهَا تَعْتَدُّ فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ عِدَّةَ أَمَةٍ وَفِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ عِدَّةَ حُرَّةٍ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْبَائِنَ كَالْأَجْنَبِيَّةِ يَقْطَعُ التَّوَارُثَ وَسُقُوطَ النَّفَقَةِ ، وَالرَّجْعِيَّةَ كَالزَّوْجَةِ لِاسْتِحْقَاقِ التَّوَارُثِ ، وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ فَافْتَرَقَا فِي الْعِدَّةِ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي حُكْمِ الزَّوْجِيَّةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا انْتَقَلَتِ الرَّجْعِيَّةُ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ وَلَمْ تَنْتَقِلْ إِلَيْهَا الْبَائِنُ وَجَبَ أَنْ تَنْتَقِلَ مِنْ عِدَّةِ الرِّقِّ إِلَى عِدَّةِ الْحُرَّةِ وَلَا تَنْتَقِلُ إِلَيْهَا الْبَائِنُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ كَانَتْ تَحْتَ عَبْدٍ فَاخْتَارَتْ فِرَاقَهُ كَانَ ذَلِكَ فَسْخًا بِغَيْرِ طَلَاقٍ ، وَتُكْمِلُ مِنْهُ الْعِدَّةَ مِنَ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : فِي عَبْدٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ، وَهِيَ أَمَةٌ فَتُعْتَقُ بَعْدَ طَلَاقِهِ ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَلَا يَخْلُو طَلَاقُهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا فَإِنْ كَانَ بَائِنًا ، فَقَدْ وَقَعَتْ بِهِ الْفُرْقَةُ الْبَائِنَةُ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى فَسْخِ النِّكَاحِ بِالْعِتْقِ لِارْتِفَاعِهِ بِالطَّلَاقِ ، فَإِنْ فَسَخَتْ لَمْ يَكُنْ لِفَسْخِهَا تَأْثِيرٌ ، وَقَدْ كَانَتْ فِي ابْتِدَاءِ عِدَّتِهَا أَمَةً ، وَصَارَتْ فِي انْتِهَائِهَا حُرَّةً ، فَهَلْ تُبْنَى عَلَى عِدَّةِ أَمَةٍ أَمْ عَلَى عِدَّةِ حُرَّةٍ : عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ طَلَاقُهَا رَجْعِيًّا فَلَهَا بِالْعِتْقِ خِيَارُ الْفَسْخِ : لِأَنَّهَا تَحْتَهُ وَحُكْمُ الزَّوْجِيَّةِ جَارٍ عَلَيْهَا بِالرَّجْعَةِ فَلِذَلِكَ جَازَ لَهَا الْفَسْخُ بِخِلَافِ الْبَائِنِ ، وَهِيَ فِيهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ تَعْجِيلِهِ وَبَيْنَ تَأْخِيرِهِ فَإِنْ أَرَادَتْ تَعْجِيلَهُ كَانَ لَهَا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا بِالطَّلَاقِ جَارِيَةٌ فِي فَسْخٍ فَلَمْ يُنَافِ الْفَسْخَ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا تَسْتَفِيدُ بِهِ قُصُورَ إِحْدَى الْعِدَّتَيْنِ ، فَإِذَا فَسَخَتْ ، فَهَلْ يَكُونُ فَسْخُهَا قَاطِعًا لِرَجْعَةِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَقْطَعُ رَجْعَةَ الزَّوْجِ : لِأَنَّهَا مِنْ أَحْكَامِ طَلَاقِهِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ رَاجَعَ الزَّوْجُ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِالْفَسْخِ فَدُونَ الطَّلَاقِ فَيَكُونُ ابْتِدَاءُ عِدَّتِهَا مِنْ وَقْتِ الْفَسْخِ وَتَعْتَدُّ عِدَّةَ حُرَّةٍ : لِأَنَّهَا بَدَأَتْ بِالْعِدَّةِ وَهِيَ حُرَّةٌ ، وَإِنْ لَمْ يُرَاجِعِ الزَّوْجُ فَالْفُرْقَةُ وَقَعَتْ بِالطَّلَاقِ دُونَ الْفَسْخِ فَيَكُونُ أَوَّلُ عِدَّتِهَا مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ ، وَقَدْ بَدَأَتْ بِهَا وَهِيَ أَمَةٌ ، ثُمَّ صَارَتْ فِي

تَضَاعِيفِهَا حُرَّةً فَهَلْ تَعْتَدُّ عِدَّةَ أَمَةٍ أَوْ عِدَّةَ حُرَّةٍ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْفَسْخَ قَدْ قَطَعَ رَجْعَةَ الزَّوْجِ عَنْهَا ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ فِي الْإِبَاحَةِ فَمَنَعَ مِنْهَا كَمَا يَمْنَعُ مِنْ رَجْعَةِ مَنِ ارْتَدَّتْ ، فَعَلَى هَذَا يُغَلَّبُ فِي الْفُرْقَةِ حُكْمُ الطَّلَاقِ أَوْ حُكْمُ الْفَسْخِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُغَلَّبُ حُكْمُ الطَّلَاقِ لِتَقَدُّمِهِ ، فَعَلَى هَذَا هَلْ تَعْتَدُّ عِدَّةَ أَمَةٍ أَوْ عِدَّةَ حُرَّةٍ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُغَلَّبُ حُكْمُ الْفَسْخِ لِقُوَّتِهِ فَعَلَى هَذَا تَعْتَدُّ عِدَّةَ حُرَّةٍ قَوْلًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ مَا وَقَعَ إِلَّا بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ لَكِنَّهَا تَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ وَلَا تُبْدِئُهَا مِنْ وَقْتِ الْفَسْخِ : لِأَنَّ الْفَسْخَ قَدْ أَبْطَلَ الرَّجْعَةَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَوَّلَ بِهِ الْعِدَّةُ . فَصْلُ : وَإِنْ أَخَّرَتِ الْفَسْخَ وَلَمْ تُعَجِّلْهُ كَانَتْ عَلَى حَقِّهَا مِنْهُ مَا لَمْ يُرَاجِعْهَا الزَّوْجُ وَلَا يَكُونُ إِمْسَاكُهَا عَنْهُ اخْتِيَارًا لِلزَّوْجِ وَرِضًا بِالْمُقَامِ مَعَهُ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ تُطَلَّقْ : لِأَنَّ مَنْ لَمْ تُطَلَّقْ يُؤَثِّرُ رِضَاهَا فِي الِاسْتِبَاحَةِ فَأَثَّرَ سُقُوطُ الْخِيَارِ ، وَالْمُطَلَّقَةُ لَا يُؤَثِّرُ رِضَاهَا فِي الِاسْتِبَاحَةِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي سُقُوطِ الْخِيَارِ فَعَلَى هَذَا الزَّوْجِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يُرَاجِعَهَا حَتَّى تَمْضِيَ الْعِدَّةُ فَتَكُونَ الْفُرْقَةُ وَاقِعَةً بِالطَّلَاقِ ، وَلَيْسَ لَهَا الْفَسْخُ : لِأَنَّ لَا تَأْثِيرَ لَهُ مَعَ زَوَالِ الْعَقْدِ ، وَهِيَ تُبْنَى عَلَى عِدَّةِ أَمَةٍ أَوْ عَلَى عِدَّةِ حُرَّةٍ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُرَاجِعَهَا الزَّوْجُ فَتَسْتَحِقَّ الْفَسْخَ حِينَئِذٍ : لِأَنَّ الرَّجْعَةَ قَدْ رَفَعَتْ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ فَصَارَتْ كَزَوْجَةٍ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهَا طَلَاقٌ ، فَإِنْ فَسَخَتِ اسْتَأْنَفَتْ عِدَّةَ حُرَّةٍ مِنْ وَقْتِ الْفَسْخِ لَا يَخْتَلِفُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ أَحْدَثَ لَهَا رَجْعَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا وَلَمْ يُصِبْهَا بَنَتْ عَلَى الْعِدَّةِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ لَمْ تُمْسَسْ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : هَذَا عِنْدِي غَلَطٌ بَلْ عِدَّتُهَا مِنَ الطَّلَاقِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَاجَعَهَا بَطَلَتْ عِدَّتُهَا وَصَارَتْ فِي مَعْنَاهَا الْمُتَقَدِّمِ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ لَا بِنِكَاحٍ مُسْتَقْبَلٍ فَهُوَ فِي مَعْنَى مَنِ ابْتَدَأَ طَلَاقَهَا مَدْخُولًا بِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : فِي مُطَلِّقٍ رَاجَعَ زَوْجَتَهُ ، ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ رَجْعَتِهِ عدتها فَلَا يَخْلُو حَالُهُ بَعْدَ الرَّجْعَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَ أَوْ لَمْ يُصِبْ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَصَابَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ ، ثُمَّ طَلَّقَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْتَأْنِفَ الْعِدَّةَ مِنَ الطَّلَاقِ الْثَانِي ، وَقَدِ انْهَدَمَ مَا مَضَى مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ بِالْإِصَابَةِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ حَتَّى طَلَّقَهَا لَمْ يَسْقُطْ بِالثَّانِي مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ .

وَقَالَ دَاوُدُ : قَدْ سَقَطَتِ الْعِدَّةُ عَنْهَا وَحَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ : لِأَنَّ الطَّلَاقَ الْأَوَّلَ قَدِ ارْتَفَعَ بِالرَّجْعَةِ فَسَقَطَتْ بَقِيَّةُ الْعِدَّةِ ، ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ رَجْعَةٍ حَلَّتْ مِنْ إِصَابَتِهِ فَصَارَ كَطَلَاقٍ فِي نِكَاحٍ خَلَا مِنْ إِصَابَةٍ فَلَا يَجِبُ فِيهِ عِدَّةٌ ، وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ خَرَقَ بِهِ الْإِجْمَاعَ : لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ وَفَسَادِ الْأَنْسَابِ ، وَأَنْ يَنْكِحَ الْمَرْأَةَ فِي يَوْمٍ عِشْرُونَ زَوْجًا يَدْخُلُ بِهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَلَا تَعْتَدُّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ : لِأَنَّهُ يَتَزَوَّجُهَا وَيَدْخُلُ بِهَا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا ، ثُمَّ يَرْتَجِعُهَا ، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا ، فَتَسْقُطُ الْعِدَّةُ وَتَنْكِحُ آخَرَ فَتَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا إِلَى عِشْرِينَ زَوْجًا ، وَمَا أَفْضَى إِلَى هَذَا فَالشَّرْعُ مَانِعٌ مِنْهُ ؟ وَلِذَلِكَ مَنَعَ الشَّرْعُ أَنْ تَنْكِحَ الْمَرْأَةُ زَوْجَيْنِ لِمَا فِيهِ مِنِ اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ وَفَسَادِ الْأَنْسَابِ ، وَقَوْلُ دَاوُدَ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ مَنْ شَاءَتْ مِنَ الْأَزْوَاجِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَسْقُطُ عَنْهَا فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّ مَا بَيْنَ الرَّجْعَةِ وَالطَّلَاقِ الثَّانِي غَيْرُ مُحْتَسَبٍ بِهِ مِنَ الْعِلَّةِ ؛ لِأَنَّهُ زَمَانٌ قَدْ كَانَتْ فِرَاشًا فِيهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَعْتَدَّ بِهِ ، لِأَنَّ الْفِرَاشَ إِبَاحَةٌ وَالْعِدَّةَ تَحْرِيمٌ فَصَارَا ضِدَّيْنِ فَامْتَنَعَ أَنْ يَجْتَمِعَا ، فَأَمَّا مَا مَضَى مِنَ الْعِدَّةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ مُطَلِّقٍ رَاجَعَ زَوْجَتَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ رَجْعَتِهِ الْأَوَّلِ ، وَقَبْلَ الرَّجْعَةِ ، فَهَلْ تَعْتَدُّ بِهِ وَتَبْنِي عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِهِ وَتَبْنِي عِدَّةَ الطَّلَاقِ الثَّانِي عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ وَيَكُونُ الطَّلَاقُ الثَّانِي قَدْ تَقَدَّمَ الرَّجْعَةَ إِذَا لَمْ يَتَعَقَّبْهَا دُخُولٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّهَا لَا تَعْتَدُّ بِمَا مَضَى قَبْلَ الرَّجْعَةِ وَتَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ مِنَ الطَّلَاقِ الثَّانِي ، وَتَكُونُ الرَّجْعَةُ قَدْ هَدَمَتْ عِدَّةَ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ كَمَا لَوْ تَعَقَّبَهَا دُخُولٌ ، فَإِذَا قِيلَ بِالْأَوَّلِ أَنَّهَا تُبْنَى عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ ، لَا تَسْتَأْنِفُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فَدَلِيلُهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا [ الْبَقَرَةِ : ] فَلَوْ أَوْجَبَتِ اسْتِئْنَافَ الْعِدَّةِ لَصَارَ مُمْسِكًا لَهَا إِضْرَارًا بِهَا ، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَقْصُودَ الرَّجْعَةِ هُوَ الْإِصَابَةُ وَهِيَ أَضْعَفُ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ وَلَيْسَتْ بِأَقْوَى مِنْهُ فَلَمَّا كَانَ الطَّلَاقُ يَرْفَعُ عَقْدَ النِّكَاحِ إِذَا خَلَا مِنْ إِصَابَةٍ فَأَوْلَى أَنْ يَرْفَعَ الرَّجْعَةَ إِذَا خَلَتْ مِنْ إِصَابَةٍ فَإِذَا رَفَعَهَا صَارَ كَطَلَاقٍ بَعْدَ طَلَاقٍ لَمْ يَتَخَلَّلْهَا رَجْعَةٌ ، وَذَلِكَ يُوجِبُ لِبِنَاءِ الْعِدَّةِ دُونَ الِاسْتِئْنَافِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ اسْتِئْنَافَ الْعِدَّةِ مِنَ الطَّلَاقِ الثَّانِي مُفْضٍ إِلَى سُقُوطِ الْعِدَّةِ بِالطَّلَاقِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ خَلَا مِنْ إِصَابَةٍ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ هَذَا ، حُمِلَ الطَّلَاقُ الثَّانِي عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ .

وَإِذَا قِيلَ بِالثَّانِي : إِنَّهَا تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ مِنَ الطَّلَاقِ الثَّانِي ، وَلَا تَبْنِي عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ فَدَلِيلُهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [ الْبَقَرَةِ : ] وَهَذِهِ مُطَلَّقَةٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ الرَّجْعَةَ قَدْ رَفَعَتْ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ فَارْتَفَعَ بِهَا حُكْمُ الطَّلَاقِ فَصَارَ الطَّلَاقُ الثَّانِي هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالتَّحْرِيمِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِوُجُوبِ الْعِدَّةِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهَا قَدْ تَسْرِي فِي الْعِدَّةِ بِطَلَاقِهِ كَمَا تَسْرِي فِيهَا بِرِدَّتِهِ ، وَالْعِدَّةُ تَرْتَفِعُ بِرَجْعَتِهِ كَمَا تَرْتَفِعُ بِإِسْلَامِهِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ إِسْلَامِهِ اسْتَأْنَفَ الْعِدَّةَ وَلَمْ يَبْنِ كَذَلِكَ إِذَا طَلَّقَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ اسْتَأْنَفَ الْعَدَّةَ وَلَمْ تَبْنِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَوْجِيهِ الْقَوْلَيْنِ بَعْدَمَا قَدَّمْنَا مِنْ إِبْطَالِ قَوْلِ دَاوُدَ فِي إِسْقَاطِهِ الْعِدَّةِ بِالطَّلَاقِ بَعْدَ الرَّجْعَةِ ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ : إِنَّهَا تَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ نُظِرَ فِيمَا مَضَى مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الرَّجْعَةِ ، فَإِنْ كَانَ قُرْءًا وَاحِدًا اعْتَدَّتْ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّانِي بِقُرْأَيْنِ فَلَوْ كَانَ قَدْ مَضَى لَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ ، وَقَبْلَ الطَّلَاقِ الثَّانِي قُرْآنِ لَمْ تَعْتَدَّ بِهِمَا لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بَعْدَ الرَّجْعَةِ فِرَاشًا ، وَزَمَانُ الِافْتِرَاشِ غَيْرُ مُحْتَسَبٍ فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ كَانَ الْمَاضِي مِنَ الْعِدَّةِ قَبْلَ الرَّجْعَةِ قُرْأَيْنِ اعْتَدَّتْ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّانِي بِقُرْءٍ وَاحِدٍ وَحَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَاضِي لَهَا قَبْلَ الرَّجْعَةِ قُرْءًا وَاحِدًا وَبَعْضَ الثَّانِي لَمْ تَحْتَسِبْ بِبَعْضِ الثَّانِي : لِأَنَّ الْقُرْءَ لَا يَتَبَعَّضُ وَاحْتُسِبَ قُرْءٌ وَاحِدٌ ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي : إِنَّهَا تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ كَامِلَةٍ عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا حَتَّى لَوْ رَاجَعَهَا فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنِ اسْتِكْمَالِ الْعِدَّةِ هَدَمَتِ الرَّجْعَةُ جَمِيعَ مَا مَضَى وَلَزِمَهَا اسْتِئْنَافُ عِدَّةٍ كَامِلَةٍ .

فَصْلٌ : ثُمَّ يَتَفَرَّعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَرْعَانِ : أَحَدُهُمَا : فِيمَنْ خَالَعَ زَوْجَتَهُ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا وَجَرَتْ فِي عِدَّتِهَا ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ نِكَاحَهَا فِي الْعِدَّةِ حكم من جَازَ . وَقَالَ الْمُزَنِيُّ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَهَا فِي عِدَّتِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ كَمَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ : لِأَنَّ الْعِدَّةَ مِنْهُ حِفْظٌ لِمَائِهِ ، فَلَمْ يَمْنَعِ اسْتِئْنَافَ عَقْدِهِ كَمَا لَوِ اعْتَدَّتْ مِنْهُ عَنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ جَازَ أَنْ يَنْكِحَهَا فِي عِدَّتِهَا وَلَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِئَلَّا يَخْتَلِطَ مَاؤُهُمَا : وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا تَسْقِ بِمَائِكَ زَرْعَ غَيْرِكَ إِذَا ثَبَتَ جَوَازُ نِكَاحِهِ لَهَا فِي الْعِدَّةِ فَطَلَّقَهَا بَعْدَ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ إِصَابَةٍ الزوج لو راجع زوجته في العدة بَنَتْ عَلَى مَا مَضَى مِنْ عِدَّةِ الْخُلْعِ وَلَمْ تَسْتَأْنِفِ الْعَدَّةَ مِنَ الطَّلَاقِ الثَّانِي قَوْلًا وَاحِدًا .

وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَبُو يُوسُفَ : تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ مِنَ الطَّلَاقِ الثَّانِي وَلَا تَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ عِدَّةِ الْخُلْعِ كَمَا لَا تَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ اسْتَأْنَفَ نِكَاحَهَا بِعَقْدٍ ثَانٍ خَلَا مِنْ دُخُولٍ ، فَلَمْ يَجِبْ بِالطَّلَاقِ فِيهِ عِدَّةٌ ، وَلَزِمَهَا أَنْ تَأْتِيَ بِالْبَاقِي مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ ، وَلَيْسَتِ الْمُطَلَّقَةُ كَذَلِكَ : لِأَنَّهُ رَاجَعَهَا فَصَارَتْ مَعَهُ بَعْدَ الرَّجْعَةِ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ وَقَدِ اسْتَقَرَّ فِي حُكْمِ الدُّخُولِ فَجَرَى عَلَى مَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ حُكْمُ الدُّخُولِ فَجَازَ أَنْ تَسْتَأْنِفَ الْعِدَّةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّانِي ، وَهَذَا فَرْقٌ ، وَدَلِيلٌ ، وَلَكِنْ نُحَرِّرُهُ قِيَاسًا ، فَنَقُولُ : كُلُّ عَقْدٍ لَمْ يُوجِبِ الْعِدَّةَ بِانْفِرَادِهِ لَمْ يُوجِبْهَا بِانْضِمَامِهِ إِلَى غَيْرِهِ كَالْعَقْدِ الْفَاسِدِ هل يوجب العدة .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَرْعُ الثَّانِي فَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ ثُمَّ يُرَاجِعَهَا ، ثُمَّ يُخَالِعَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ مِنْ غَيْرِ إِصَابَةٍ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ صَارَ كَمَا لَوْ طَلَّقَ ، ثُمَّ رَاجَعَ ، ثُمَّ طَلَّقَ فَهَلْ تَبْنِي عَلَى الْعِدَّةِ أَوْ تَسْتَأْنِفُهَا عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَالطَّلَاقِ أَيْضًا فَتَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْفَسْخَ جِنْسٌ يُخَالِفُ جِنْسَ الطَّلَاقِ فَاقْتَضَى اخْتِلَافُهُمَا فِي الْجِنْسِ أَنْ لَا يَبْنِيَ عِدَّةَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ، وَتَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ بَعْدَ الْخُلْعِ وَلَا تَبْنِيهَا عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأُولَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ كَانَ طَلَاقًا لَا يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ ، ثَمَّ عُتِقَتْ فَفِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَبْنِيَ عَلَى الْعِدَّةِ الْأُولَى وَلَا خِيَارَ لَهَا وَلَا تَسْتَأْنِفُ عِدَةً ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي مَعَانِي الْأَزْوَاجِ ، وَالثَّانِي أَنْ تُكْمِلَ عِدَّةَ حُرَّةٍ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : هَذَا أَوْلَى بِقَوْلِهِ وَمِمَّا يَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْمَرْأَةِ تَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ ثُمَّ تَحِيضُ : إِنَّهَا تَسْتَقْبِلُ الْحَيْضَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي بَعْضِ عِدَّتِهَا حُرَّةً وَهِيَ تَعْتَدُّ عِدَّةَ أَمَةٍ وَكَذَلِكَ قَالَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِ صَلَاتِهِ مُقِيمًا ، وَيُصَلِّي صَلَاةَ مُسَافِرٍ ، وَقَالَ : هَذَا أَشْبَهُ الْقَوْلَيْنِ بِالْقِيَاسِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَمَا احْتَجَّ بِهِ مِنْ هَذَا يَقْضِي عَلَى أَنْ لَا يَجُوزَ لِمَنْ دَخَلَ فِي صَوْمِ ظِهَارٍ ، ثُمَّ وَجَدَ رَقَبَةً أَنْ يَصُومَ وَهُوَ مِمَّنْ يَجِدُ رَقَبَةً وَيُكَفِّرُ بِالصِّيَامِ وَلَا لِمَنْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَجِدُ الْمَاءَ وَيُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ كَمَا قَالَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي عِدَّتِهَا مِمَّنْ تَحِيضُ وَتَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ فِي نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَقَاوِيلِهِ ، وَقَدْ سَوَّى الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا يَدْخُلُ

فِيهِ الْمَرْءُ ، وَبَيْنَ مَا لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ فَجَعَلَ الْمُسْتَقْبِلَ فِيهِ كَالْمُسْتَدْبِرِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ مَضَتْ وَذَكَرْنَا حُكْمَ عِتْقِهَا فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ وَالْبَائِنِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَالطَّلَاقُ إِلَى الرَّجَالِ ، وَالْعِدَّةُ بِالنِّسَاءِ وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَعْنَى الْقُرْآنِ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَثَرِ وَمَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فِيمَا سِوَى هَذَا مِنْ أَنَّ الْأَحْكَامَ تُقَامُ عَلَيْهِمَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُرَّ الْمُحْصَنَ يَزْنِي بِالْأَمَةِ فَيُرْجَمَ ، وَتُجْلَدَ الْأَمَةُ خَمْسِينَ وَالزِّنَا مَعْنًى وَاحِدٌ ، فَاخْتَلَفَ حُكْمُهُ لِاخْتِلَافِ حَالِ فَاعِلِيهِ ، فَكَذَلِكَ يُحْكَمُ لِلْحُرِّ حُكْمَ نَفْسِهِ فِي الطَّلَاقِ ثَلَاثًا وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَتُهُ أَمَةً ، وَعَلَى الْأَمَةِ عِدَّةُ أَمَةٍ وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِمَا : أَحَدُهُمَا : فِي الْعِدَّةِ أَنَّهَا تُعْتَبَرُ فِيهَا حَالُ الزَّوْجَةِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : فِي الطَّلَاقِ هَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ حَالَةُ الزَّوْجِ فِي حُرِّيَّتِهِ وَرِقِّهِ أَوْ حَالُ الزَّوْجَةِ ؟ فَاعْتَبَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِحَالِ الزَّوْجَةِ ، وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ بِحَالِ الزَّوْجِ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي حَالِ الْفَصْلَيْنِ بِمَا أَغْنَى عَنِ الْإِعَادَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ عِدَّةِ الْوَفَاةِ

بَابُ عِدَّةِ الْوَفَاةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ الْآيَةَ ، فَدَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا عَلَى الْحُرَّةِ غَيْرِ ذَاتِ الْحَمْلِ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ وَقَدْ وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِنِصْفِ شَهْرٍ " قَدْ حَلَلْتِ فَانْكِحِي مَنْ شِئْتِ " قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَوْ وَضَعَتْ وَزَوْجُهَا عَلَى سَرِيرِهِ لَمْ يُدْفَنْ لَحَلَّتْ ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : إِذَا وَضَعَتْ حَلَّتْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْأَصْلُ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ بِحَوْلٍ كَامِلٍ ، قَالَ اللَّهُ : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [ الْبَقَرَةِ : ] فَكَانَتِ الْعِدَّةُ سَنَةً وَلَهَا فِي الْعِدَّةِ النَّفَقَةُ فَنُسِخَتِ النَّفَقَةُ بِالْمِيرَاثِ ، وَنُسِخَتِ السَّنَةُ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَقَالَ اللَّهُ : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [ الْبَقَرَةِ : ] فَصَارَ الْحَوْلُ بِهَا مَنْسُوخًا فَإِنْ قِيلَ : فَنَسْخُ الشُّهُورِ بِالْحَوْلِ أَوْلَى مِنْ نَسْخِ الْحَوْلِ بِالشُّهُورِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ آيَةَ الْحَوْلِ مُتَأَخِّرَةٌ فِي التِّلَاوَةِ عَنْ آيَةِ الشُّهُورِ ، وَالْمُتَأَخِّرُ هُوَ النَّاسِخُ لِمَا تَقَدَّمَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْحَوْلَ أَعَمُّ مِنَ الشُّهُورِ وَأَزْيَدُ ، وَالْأَخْذُ بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى مِنَ الْأَخْذِ بِالنُّقْصَانِ ، قِيلَ : هَذَا لَا يَصِحُّ مَعَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ آيَةَ الشُّهُورِ مُتَأَخِّرَةٌ فِي التَّنْزِيلِ عَنْ آيَةِ الْحَوْلِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً عَلَيْهَا فِي التِّلَاوَةِ وَالنَّسْخِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِالْمُتَأَخِّرَةِ فِي التَّنْزِيلِ لَا بِالْمُتَأَخِّرَةِ فِي التِّلَاوَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ تِلَاوَةً مَا تَأَخَّرَ تَنْزِيلُهُ وَتَأَخَّرَ تِلَاوَةً مَا تَقَدَّمَ تَنْزِيلُهُ مِثْلُ قَوْلِهِ : سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [ الْبَقَرَةِ : ] نَزَلَتْ بَعْدَ قَوْلِهِ : قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [ الْبَقَرَةِ : ] وَهُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ فِي التِّلَاوَةِ وَكَقَوْلِهِ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ [ الْأَحْزَابِ : ] مُتَقَدِّمٌ فِي التَّنْزِيلِ عَلَى قَوْلِهِ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ [ الْأَحْزَابِ : ] وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ فِي التِّلَاوَةِ .

فَإِنْ قِيلَ : فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّ آيَةَ الشُّهُورِ مُتَقَدِّمَةٌ فِي التَّنْزِيلِ عَلَى آيَةِ الْحَوْلِ . قُلْنَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : نَقْلٌ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ ، وَرَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْحَوْلَ تَقَدَّمَ فِعْلُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَثَبَتَ حُكْمُهُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ فَكَانَ مَا خَالَفَهُ طَارِئًا عَلَيْهِ ، قَالَ لَبِيدٌ . إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرَ فَثَبَتَ بِذَلِكَ تَقَدُّمُ الْحَوْلِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَصَدْرِ الْإِسْلَامِ فَلِذَلِكَ صَارَتْ آيَةُ الشُّهُورِ بَعْدَهَا ، فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ قُدِّمَتْ تِلَاوَةُ مَا تَأَخَّرَ تَنْزِيلُهُ ، وَهَلَّا كَانَتِ التِّلَاوَةُ مُتَرَتِّبَةً عَلَى التَّنْزِيلِ ؟ قِيلَ : قَدْ فَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا تَارَةً وَأَمَرَ بِهَذَا تَارَةً بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ : فَإِنَّ تَرْتِيبَ التِّلَاوَةِ عَلَى التَّنْزِيلِ ، فُقُدِّمَتْ تِلَاوَةُ مَا تَقَدَّمَ تَنْزِيلُهُ وَأُخِّرَتْ تِلَاوَةُ مَا تَأَخَّرَ تَنْزِيلُهُ فَقَدِ انْقَضَى ، وَإِنْ قُدِّمَتْ تِلَاوَةُ مَا تَأَخَّرَ تَنْزِيلُهُ فَلِسَبْقِ الْقَارِئِ إِلَى تِلَاوَتِهِ وَمَعْرِفَةِ الثَّابِتِ مِنْ حُكْمِهِ حَتَّى إِنْ لَمْ يُقِرَّ مَا بَعْدَهُ مِنْ مَنْسُوخِ الْحُكْمِ أَجْزَأَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ السُّنَّةَ الْوَارِدَةَ تَدُلُّ عَلَى نَسْخِ الْحَوْلِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ بِخَبَرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأُخِرِ أَنْ تَحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَالثَّانِي : مَا رَوَتْهُ زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّهَا أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ : جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بِنْتِي تُوُفِّيَ زَوْجُهَا وَقَدْ رَمِدَتْ

عَيْنُهَا أَفَأَكْحُلُهَا فَقَالَ : لَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا قَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ حَوْلًا ، ثُمَّ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ ، وَإِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى إِلْقَائِهَا لِلْبَعْرَةِ عَلَى قَبْرِهِ ، فَقِيلَ : مَعْنَاهَا أَنَّنِي قَدْ أَدَّيْتُ حَقَّكَ وَأَلْقَيْتُهُ عَنِّي كَإِلْقَاءِ هَذِهِ الْبَعْرَةِ ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ : أَنَّ مَا لَقِيتُهُ فِي الْحَوْلِ مِنَ الشِّدَّةِ هِيَ فِي عِظَمِ حَقِّكَ عَلَيَّ كَهَوَانِ هَذِهِ الْبَعْرَةِ فَأَتَتِ السُّنَّةُ بِهَذَيْنِ الْخَبِرَيْنِ ، وَإِنَّ آيَةَ الشُّهُورِ نَاسِخَةٌ لَآيَةِ الْحَوْلِ ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِفَةِ النَّسْخِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا نَسَخَتْ جَمِيعَ الْحَوْلِ ثُمَّ ثَبَتَ بِهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ ، وَهَذَا مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ آيَةَ الشُّهُورِ نَسَخَتْ مِنْ آيَةِ الْحَوْلِ مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَبَقِيَ الْحَوْلُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ، فَيَكُونُ وُجُوبُهَا بِآيَةِ الْحَوْلِ ، وَآيَةُ الشُّهُورِ مَقْصُورَةٌ عَلَى نَسْخِ الزِّيَادَةِ ، وَمُؤَكِّدَةٌ لِوُجُوبِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ تَأْثِيرٌ فِي حُكْمٍ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَعِدَّةُ الْوَفَاةِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ زَوْجَةٍ مِنْ صَغِيرَةٍ ، أَوْ كَبِيرَةٍ ، عَاقِلَةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ ، مَدْخُولٍ بِهَا وَغَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا كَالطَّلَاقِ ، وَهَذَا قَوْلٌ تَفَرَّدَ بِهِ ، وَقَدْ خَالَفَهُ فِيهِ سَائِرُ الصَّحَابَةِ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا تَقْتَضِيهِ عُمُومُ الْآيَةِ أَنَّهَا لَمَّا اسْتَكْمَلَتِ الْمَهْرَ بِالْمَوْتِ كَالدُّخُولِ اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ بِهِ الْعِدَّةُ كَالدُّخُولِ ؛ وَلِأَنَّ غَايَةَ النِّكَاحِ اسْتِيعَابُ زَمَانِهِ بِالْمَوْتِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْلَبَ حُكْمُ كَمَالِهِ بِسُقُوطِ الْعِدَّةِ كَمَا لَمْ يُسْلَبِ اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَمَسُّكُ الْمَيِّتِ بِعِصْمَتِهَا وَقَطْعُ الْمُطَلِّقِ لَهَا فَلَزِمَ مِنْ حَقِّهِ بَعْدَ الْمَوْتِ مَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ حَقِّهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُطَلِّقَ حَيٌّ يَسْتَظْهِرُ لِنَفْسِهِ أَنْ أُلْحِقَ بِهِ نَسَبٌ أَوْ نُفِيَ عَنْهُ فَكَانَتِ الْعِدَّةُ فِي حَقِّهِ مَقْصُورَةً عَلَى الِاسْتِبْرَاءِ ، وَلَيْسَ مَعَ عَدَمِ الدُّخُولِ اسْتِبْرَاءٌ ، وَذَلِكَ مَعْدُومٌ مِنْ جِهَةِ الْمَيِّتِ فَاسْتَظْهَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بِوُجُوبِ الْعِدَّةِ فِي حَقِّهِ تَعَبُّدًا فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الدُّخُولُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْعِدَّةِ بِالْوَفَاةِ عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ حَائِلًا ، أَوْ حَامِلًا ، فَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا فَعِدَّتُهَا بِالشَّهْرِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ ذَاتِ الْأَقْرَاءِ أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ لِلْآيَةِ ، وَلِأَنَّ الْأَقْرَاءَ فِي حَقِّ

حَيٍّ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِيفَائِهَا لِنَفْسِهِ فَقَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى عِدَّةَ الْمَيِّتِ بِالشُّهُورِ لِتَكُونَ مُسْتَوْفَاةً بِزَمَانٍ فِيهِ اسْتِظْهَارٌ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى زَادَ عَلَى شُهُورِ الطَّلَاقِ ، وَإِذَا كَانَتْ بِالشُّهُورِ فِي الْحَالَيْنِ فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرَةِ أَيَّامٍ . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةُ لَيَالٍ فَأَسْقَطَ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ عَدَدًا يَنْطَلِقُ عَلَى اللَّيَالِي دُونَ الْأَيَّامِ : لِأَنَّهُ قَالَ وَعَشْرًا " بِحَذْفِ الْهَاءِ فَتَنَاوَلَتْ مَا كَانَ مُؤَنَّثًا فِي اللَّفْظِ وَهُوَ اللَّيَالِي : لِأَنَّ عَدَدَ الْمُؤَنَّثِ فِي الْآحَادِ مَحْذُوفُ الْهَاءِ ، وَلَوْ أَرَادَ الْأَيَّامَ لَقَالَ وَعَشْرَةً بِإِثْبَاتِ الْهَاءِ كَمَا قَالَ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا [ الْحَاقَّةِ : ] وَهَذَا الْمَذْهَبُ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَيَّامَ دَاخِلَةٌ فِيمَا قَبِلَ الْعَاشِرِ فَلَمْ يَمْتَنِعْ دُخُولُهَا فِي الْعَاشِرِ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِجَمِيعِ الْعَدَدِ وَاحِدٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ إِطْلَاقَ اللَّيَالِي يَقْتَضِي دُخُولَ الْأَيَّامِ مَعَهَا ، وَإِطْلَاقَ الْأَيَّامِ يَقْتَضِي دُخُولَ اللَّيَالِي مَعَهَا . وَوَجْهٌ ثَالِثٌ : قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّ الْهَاءَ تَدُلُّ عَلَى الْمُذَكَّرِ ، وَعَدَمَهَا يَدُلُّ عَلَى الْمُؤَنَّثِ إِذَا كَانَ الْعَدَدُ مُفَسِّرًا ، فَيُقَالُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ ، وَعَشْرُ لَيَالٍ ، فِيمَا إِذَا أُطْلِقَ الْعَدَدُ مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ لَمْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْمُذَكَّرَ وَالْمُؤَنَّثَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَنْ صَامَ رَمَضَانَ ، وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ أَرَادَ الْأَيَّامَ الَّتِي يَكُونُ الصَّوْمُ فِيهَا دُونَ اللَّيَالِي .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَتِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا حَامِلًا فَعِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا سَوَاءٌ تَعَجَّلَ أَوْ تَأَخَّرَ ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ . قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَوْ وَضَعَتْ وَزَوْجُهَا عَلَى السَّرِيرِ حَلَّتْ ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ، وَحُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ مِنَ الشُّهُورِ أَوِ الْحَمْلِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى اعْتِدَادِهَا بِالْحَمْلِ مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ الْآيَةُ مُشْتَرَكَةٌ قَالَ : أَيُّ آيَةٍ ؟ قُلْتُ : وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [ الطَّلَاقِ : ] الْمُطَلَّقَةُ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا ، قَالَ : نَعَمْ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ حَدِيثَ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ مِنْ طُرُقٍ شَتَّى بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَمَعَانٍ

مُتَّفِقَةٍ أَنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ أَبَقُوا وَأَنَّهُ لَقِيَهُمْ فِي الطَّرِيقِ فَقَتَلُوهُ فَوَضَعَتْ سُبَيْعَةُ حَمْلَهَا بَعْدَ قَتْلِ زَوْجِهَا بِنَحْوٍ مِنْ نِصْفِ شَهْرٍ ، فَمَرَّ بِهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ وَكَانَ يُرِيدُ خِطْبَتَهَا وَقَدْ كَرِهَتْهُ : لِأَنَّهُ شَيْخٌ وَقَدْ خَطَبَهَا شَابٌّ فَقَالَ : أَرَاكِ قَدْ تَصَنَّعْتِ لِلْأَزْوَاجِ : وَإِنَّمَا عَلَيْكِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ فَقَالَ : كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ : قَدْ حَلَلْتِ قَدْ حَلَلْتِ فَانْكِحِي مَنْ شِئْتِ . وَقَوْلُهُ كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ يَعْنِي أَخْطَأَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ . كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأَيْتَ بِوَاسِطٍ غَلَسَ الظَّلَامِ مِنَ الرَّبَابِ خَيَالًا قِيلَ : وَكَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ بَعْدَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ الَّتِي لَمْ يَعِشْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهَا إِلَّا شُهُورًا . وَرَوَى أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ هَذَا الْحَدِيثَ ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا : يَا سُبَيْعَةُ أَرْبِعِي بِنَفْسِكَ فَتَأَوَّلَهُ مَنْ أَلْزَمَهَا أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ أَقِيمِي فِي رَبْعِكِ لِبَقَائِهَا فِي الْعِدَّةِ ، وَتَأَوَّلَهُ مَنْ قَالَ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهِ اسْكُنِي أَيَّ رَبْعٍ شِئْتِ : لِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَصَحُّ لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ اخْتَلَفَا فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إِذَا كَانَتْ حَامِلًا . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : وَضْعُ الْحَمْلِ فَأَرْسَلُوا أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَتْ لَهُمْ قِصَّةَ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ فَرَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى قَوْلِهَا . وَاسْتَدَلَّ ابْنُ مَسْعُودٍ لِذَلِكَ بِمَعْنًى صَحِيحٍ ، فَقَالَ : لَمَّا لَحِقَهَا التَّغْلِيظُ إِذَا تَأَخَّرَ ، لَحِقَهَا التَّخْفِيفُ إِذَا تَقَدَّمَ ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تُعْتَبَرِ الْأَقْرَاءُ مَعَ الْحَمْلِ لَمْ تُعْتَبَرِ الشُّهُورُ مَعَ الْحَمْلِ : لِأَنَّ الْعِدَّةَ لَا يُجْمَعُ فِيهَا بَيْنَ جِنْسَيْنِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَتَحِلُّ إِذَا وَضَعَتْ قَبْلَ أَنْ تَطْهُرَ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَمَفْسُوخٍ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ وَحَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي النِّفَاسِ ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ : هِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْأَزْوَاجِ حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ نِفَاسِهَا وَتَغْتَسِلَ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ اللَّهِ : وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [ الطَّلَاقِ : ]

وَلِحَدِيثِ سُبَيْعَةَ ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَلُ كُلِّ ذَاتِ حَمْلٍ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا فَلَمْ تَجُزِ الزِّيَادَةُ فِي عِدَّتِهَا عَلَى نَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَلِأَنَّ وَضْعَ الْحَمْلِ قَدْ تَحَقَّقَتْ بِهِ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ وَتَأْثِيرُ النِّفَاسِ بَعْدَهُ فِي تَحْرِيمِ الْوَطْءِ وَهَذَا غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ كَالْحَائِضِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَمَفْسُوخٍ ، يَعْنِي فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِيهِمَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ : لِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ ؛ لِأَنَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ تَجِبُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ دَخَلَ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ ، وَعِدَّةُ الْوَفَاةِ لَا تَجِبُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِالْفَاسِدِ دُخُولٌ فَلَا عِدَّةَ فِيهِ ، وَإِنِ اقْتَرَنَ بِهِ دُخُولٌ وَجَبَتْ فِيهِ عِدَّةُ الطَّلَاقِ بَعْدَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا ، فَإِذَا مَاتَ عَنْهَا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِمَوْتِهِ فَاسْتَأْنَفَتْ عِدَّةَ الْفُرْقَةِ لَا عِدَّةَ الْمَوْتِ ، فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَبِوَضْعِ الْحَمْلِ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ فَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ فَصَارَتْ مُخَالِفَةً لِعِدَّةِ الْوَفَاةِ ، وَإِنَّمَا يَجْتَمِعَانِ فِي شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي ابْتِدَاءِ الْعِدَّةِ أَنَّهَا مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ . وَالثَّانِي : فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ فَمِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِيمَا سِوَاهُمَا مِنَ الْأَحْكَامِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَيْسَ لِلْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا نَفَقَةٌ ، قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : لَا نَفَقَةَ لَهَا حَسْبُهَا الْمِيرَاثُ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : لِأَنَّ مَالِكَهُ قَدِ انْقَطَعَ بِالْمَوْتِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : هَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ فِي الْبِابِ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ ، وَهُوَ فِي الْبَابِ الثَّالِثِ مَشْرُوحٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : لَا نَفَقَةَ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا حَامِلًا كَانَتْ أَوْ حَائِلًا . وَبِهِ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَجُمْهُورُ التَّابِعِينَ ، وَالْفُقَهَاءِ ، وَحُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ لَهَا النَّفَقَةَ إِذَا كَانَتْ حَامِلًا لِقَوْلِ اللَّهِ : وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [ الطَّلَاقِ : ] وَكَالْمُطَلَّقَةِ الْحَامِلِ وَاعْتِبَارًا بِوُجُوبِ السُّكْنَى . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنْ لَا نَفَقَةَ لَهَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّمَا النَّفَقَةُ لِلَّتِي يَمْلِكُ زَوْجُهَا رَجْعَتَهَا وَلَيْسَ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا رَجْعَةٌ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا نَفَقَةٌ : وَلِأَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ مُتَجَدِّدٌ مَعَ الْأَوْقَاتِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِالْوَفَاةِ كَنَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ ؛ وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا لِلنَّفَقَةِ

لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ لِحَمْلِهَا ، أَوْ لَهَا ، فَإِنْ كَانَ لَهَا فَهِيَ لَا تَسْتَحِقُّهَا لَوْ كَانَتْ حَائِلًا فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ حَامِلًا ؛ لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ التَّمْكِينِ الْمُرْتَفِعِ بِالْمَوْتِ ، وَإِنْ كَانَتْ بِحَمْلِهَا فَالْحَمْلُ لَوْ وُلِدَ لَمْ يَسْتَحِقَّ نَفَقَةً ، فَقَبْلَ الْوِلَادَةِ أَوْلَى أَنْ لَا يَسْتَحِقَّهَا : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ وَارِثًا فِي الْحَالَيْنِ ، وَقَدِ انْقَطَعَ مِلْكُ الْأَبِ فِي الْحَالَيْنِ : وَلِأَنَّ أُجْرَةَ الرِّضَاعِ تَالِيَةٌ لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ لِقَوْلِهِ : فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [ الطَّلَاقِ : ] فَلَمَّا سَقَطَتْ أُجْرَةُ الرِّضَاعِ بِالْمَوْتِ سَقَطَتْ بِهِ النَّفَقَةُ . فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ فَهِيَ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ وَلَا يَتَوَجَّهُ إِلَى الْمَيِّتِ خِطَابٌ فَصَارَتْ مَحْمُولَةً عَلَى الطَّلَاقِ اعْتِبَارًا بِأُجْرَةِ الرَّضَاعِ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى فَرَّقْنَا بَيْنَ عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ . وَأَمَّا السُّكْنَى فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ كَالنَّفَقَةِ فَاسْتَوَيَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّفَقَةَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ : لِأَنَّهُمَا لَوِ اتَّفَقَا عَلَى تَرْكِهَا سَقَطَتْ ، وَالسُّكْنَى مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى : لِأَنَّهَا لَوِ اتَّفَقَا عَلَى تَرْكِهِ وَالْخُرُوجِ مِنْ مَسْكَنِهَا لَمْ يَسْقُطْ ، فَافْتَرَقَا فِي الْوُجُوبِ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي التَّغْلِيظِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ : هَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ فِي الْبَابِ الثَّانِي ، وَهَذَا أَصَحُّ وَهُوَ فِي الْبَابِ الثَّالِثِ مَشْرُوحٌ ، فَالْمُرَادُ بِهِ تَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ لِسُقُوطِ النَّفَقَةِ هَاهُنَا بِأَنَّ مِلْكَهُ قَدِ انْقَطَعَ بِالْمَوْتِ أَصَحُّ مِمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْبَابِ الثَّانِي مِنْ وُجُوبِ السُّكْنَى إِثْبَاتًا لِمِلْكِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَقَدْ شَرَحَهُ فِي الْبَابِ الثَّالِثِ : أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا المتوفى عنها زوجها وَلَا سُكْنَى لِاسْتِوَائِهِمَا فِي التَّعْلِيلِ بِأَنَّ مِلْكَهُ قَدْ زَالَ بِالْمَوْتِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا فَإِنْ مَاتَ نِصْفَ النَّهَارِ وَقَدْ مَضَى مِنَ الْهِلَالِ عَشْرُ لَيَالٍ أَحْصَتْ مَا بَقِيَ مِنَ الْهِلَالِ ، فَإِنْ كَانَ عِشْرِينَ حَفِظَتْهَا ، ثُمَّ اعْتَدَّتْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ بِالْأَهِلَّةِ ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الشَّهْرَ الرَّابِعَ ، فَأَحْصَتْ عِدَّةَ أَيَامِهِ فَإِذَا كَمُلَ لَهَا ثَلَاثُونَ يَوْمًا بَلَيَالِيهَا ، فَقَدْ أَوْفَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ، وَاسْتَقْبَلَتْ عَشْرًا بِلَيَالِيهَا فَإِذَا أَوْفَتْ لَهَا عَشْرًا إِلَى السَّاعَةِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا فَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَى حُكْمُ هَذِهِ الْعِدَّةِ فِي الْمُطَلَّقَةِ إِذَا اعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ وَذَكَرْنَا مَا فِيهَا مِنْ خِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ ، وَهِيَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ بِمَثَابَةٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو

حَالُ الْوَفَاةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي مُسْتَهَلِّ شَهْرٍ أَوْ فِي تَضَاعِيفِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ فِي مُسْتَهَلِّ شَهْرٍ وَمَعَ أَوَّلِ هِلَالِهِ اعْتَدَّتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بِالْأَهِلَّةِ بِحَسَبِ وَجُودِهَا مِنْ كَمَالٍ وَنُقْصَانٍ ، ثُمَّ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ الْخَامِسِ ، وَإِنْ كَانَ فِي تَضَاعِيفِ الشَّهْرِ اعْتَدَّتْ بَاقِيَهُ ، فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ احْتَسَبَتْهَا وَاعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ بَعْدَهَا بِالْأَهِلَّةِ ، ثُمَّ اسْتَكْمَلَتْ شَهْرَ الْوَفَاةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا عَدَدًا سَوَاءٌ كَانَ كَامِلًا أَوْ نَاقِصًا فَتَأْتِي مِنَ الشَّهْرِ الرَّابِعِ بِعِشْرِينَ يَوْمًا تَكْمِلَةَ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَاضِي مِنْهُ عِشْرِينَ يَوْمًا لِكَمَالِهِ ، أَوْ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِنُقْصَانِهِ ، ثُمَّ تَعْتَدُّ بَعْدَ كَمَالِ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ إِلَى مِثْلِ سَاعَةٍ مِنَ الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ زَوْجُهَا فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ زِيدَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ قِيلَ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِتَمَسُّكِهِ بِعِصْمَتِهَا وَحِفْظِهِ لِزِمَامِهَا بِخِلَافِ الْمُطَلِّقِ الَّذِي أَبَتَّ عِصْمَتَهَا وَقَطَعَ زِمَامَهَا فَجُوزِيَ عَلَيْهِ بِالزِّيَادَةِ فِيهَا لِحِفْظِ حُرْمَتِهِ وَالرِّعَايَةِ لِحُسْنِ صُحْبَتِهِ . وَالثَّانِي : لِيَكُونَ فَقْدُ الزَّوْجِ فِي اسْتِيفَاءِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا مَجْبُورًا بِالزِّيَادَةِ فِي عِدَّتِهَا ، فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ قَدَّرَهَا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ ، قِيلَ : لِمَصْلَحَةٍ اسْتَأْثَرَ بِهَا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الزَّمَانِ الَّذِي يَتَكَامَلُ فِيهِ خَلْقُ الْوَلَدِ وَيُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : يَكُونُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ نُطْفَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، ثُمَّ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، ثُمَّ مُضْغَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ فَصَارَ نَفْخُ الرُّوحِ فِي الْعَشْرِ الَّتِي بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، فَلِذَلِكَ قُدِّرَتْ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَأْتِيَ فِيهَا بِحَيْضٍ كَمَا لَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَأْتِيَ فِي الْحَيْضِ بِشُهُورٍ وَلِأَنَّ كُلَّ عِدَّةٍ حَيْثُ جَعَلَهَا اللَّهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : لَا يُعْتَبَرُ الْحَيْضُ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ فَإِذَا اعْتَدَّتْ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَلَمْ تَرَ فِيهَا حَيْضًا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا سَوَاءٌ كَانَتْ عَادَتَهَا الْحَيْضُ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَمْ لَا . وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا أَنْ تَحِيضَ فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالشُّهُورِ ، وَإِنْ لَمْ تَحِضْ فِيهَا حَيْضَةً ، وَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا أَنْ تَحِيضَ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ حَيْضَةً لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ إِذَا لَمْ تَكُنْ مِنْهَا حَيْضَةٌ ، وَمَكَثَتْ مُعْتَدَّةً بَعْدَهَا حَتَّى تَحِيضَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ تَأَخُّرَ حَيْضِهَا رِيبَةٌ ، وَالْمُسْتَرِيبَةُ تَمْكُثُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَتَّى تَزُولَ رِيبَتُهَا كَالْمُعْتَدَّةِ بِالْأَقْرَاءِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [ الْبَقَرَةِ : ] . فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ أَنْ لَا يَتَرَبَّصْنَ أَكْثَرَ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ :

فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [ الْبَقَرَةِ : ] . يَعْنِي فِي التَّزْوِيجِ ، وَمَالِكٌ يَجْعَلُ الْجُنَاحَ عَلَيْهَا بَاقِيًا ، وَلِأَنَّهَا قَدْ تَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ مِنَ الطَّلَاقِ تَارَةً ، وَفِي الْوَفَاةِ أُخْرَى ، فَلَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي شُهُورِ الطَّلَاقِ غَيْرُهَا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي شُهُورِ الْوَفَاةِ غَيْرُهَا ؛ وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ قَدْ تَكُونُ بِالشُّهُورِ تَارَةً وَبِالْأَقْرَاءِ أُخْرَى ، فَلَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الشُّهُورِ الْأَقْرَاءُ لَمْ يُعْتَبَرِ الْحَيْضُ فِي الشُّهُورِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا أَنْ تَحِيضَ فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً فَلَمْ تَحِضْ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ إِلَّا حَيْضَةً انْقَضَتْ عِدَّتُهَا ، وَإِنْ خَالَفَ الْعَادَةَ ، كَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ تَحِضْ فِيهَا حَيْضَةً . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إِنَّ تَأَخُّرَ حَيْضِهَا رِيبَةٌ . قِيلَ : الرِّيبَةُ : إِنَّمَا تَكُونُ بِانْتِفَاخِ الْجَوْفِ وَدُرُورِ اللَّبَنِ وَالْإِحْسَاسِ بِالْحَرَكَةِ ، وَلَيْسَ تَأَخُّرُ الْحَيْضِ رِيبَةً كَمَا لَا يَكُونُ تَأَخُّرُهَا عَنْ كُلِّ شَهْرٍ رِيبَةً .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " إِلَّا أَنَّهَا إِنِ ارْتَابَتِ اسْتَبْرَأَتْ نَفْسَهَا مِنَ الرِّيبَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الْمُرْتَابَةِ حكم المرتابة في المتوفى عنها زوجها فِي الْمُطَلَّقَةِ ، وَقَدْ أَعَادَهَا فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَالرِّيبَةُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَمَارَاتِ الْحَمْلِ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا فِي الرِّيبَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ . أَحَدُهَا : أَنْ تَحْدُثَ الرِّيبَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَهِيَ بَاقِيَةٌ فِي عِدَّتِهَا فَإِنْ نَكَحَتْ قَبْلَ زَوَالِهَا بَطَلَ نِكَاحُهَا . وَالثَّانِي : أَنْ تَحْدُثَ الرِّيبَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عَدَّتِهَا وَبَعْدَ نِكَاحِهِمَا فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ ، وَيُوقَفُ عَلَى مَا يَكُونُ فِي حَالِ الْحَمْلِ فَإِنِ انْفَشَّ ثَبَتَ النِّكَاحُ ، وَإِنْ وَلَدَتْ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ ، وَهُوَ لَاحِقٌ بِالثَّانِي ، وَإِنْ كَانَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ وَهُوَ لَاحِقٌ بِالْأَوَّلِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَحْدُثَ الرِّيبَةُ بَعْدَ الْعِدَّةِ وَقَبْلَ النِّكَاحِ فَفِي بُطْلَانِ النِّكَاحِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ - أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ يُوقَفُ عَلَى مَا تَبَيَّنَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ طَلَّقَهَا مَرِيضًا ثَلَاثًا فَمَاتَ مِنْ مَرَضِهِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَقَدْ قِيلَ لَا تَرِثُ مَبْتُوتَةً وَهَذَا مِمَّا أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَقَالَ فِي

مَوْضِعٍ آخَرَ وَهَذَا قَوْلٌ يَصِحُّ لِمَنْ قَالَ بِهِ ، قُلْتُ : فَالِاسْتِخَارَةُ شَكٌّ وَقَوْلُهُ يَصِحُّ إِبْطَالًا لِلشَّكِّ ( وَقَالَ ) فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى : إِنَّ الْمَبْتُوتَةَ لَا تَرِثُ وَهَذَا أَوْلَى بِقَوْلِهِ وَبِمَعْنَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَّثَ الزَّوْجَةَ مِنْ زَوْجٍ يَرِثُهَا لَوْ مَاتَتْ قَبْلَهُ ، فَلَمَّا كَانَتْ إِنْ مَاتَتْ لَمْ يَرِثْهَا وَإِنْ مَاتَ لَمْ تَعْتَدَّ مِنْهُ عِدَّةً مِنْ وَفَاتِهِ خَرَجَتْ مِنْ مَعْنَى حُكْمِ الزَّوْجَةِ مِنَ الْقُرْآنِ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ وَرَّثَ رَجُلَيْنِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفَ مِنِ ابْنٍ ادَّعَيَاهُ وَوَرَّثَ الِابْنَ إِنْ مَاتَا قَبْلَهُ الْجَمِيعَ ، فَقَالَ الشَّافَعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنَّمَا يَرِثُ النَّاسُ مِنْ حَيْثُ يُورَثُونَ ، يَقُولُ الشَّافِعِيُّ فَإِنْ كَانَا يَرِثَانِهِ نِصْفَيْنِ بِالْبُنُوَّةِ فَكَذَلِكَ يَرِثُهُمَا نِصْفَيْنِ بِالْأُبُوَّةِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : فَكَذَلِكَ إِنَمَا تَرِثُ الْمَرْأَةُ الزَّوْجَ مِنْ حَيْثُ يَرِثُ الزَّوْجُ الْمَرْأَةَ بِمَعْنَى النِّكَاحِ ، فَإِذَا ارْتَفَعَ النِّكَاحُ بِإِجْمَاعٍ ارْتَفَعَ حُكْمُهُ ، وَالْمُوَارَثَةُ بِهِ وَلَمَّا أَجْمَعُوا أَنَّهُ لَا يَرِثُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزَوْجٍ كَانَ كَذَلِكَ أَيْضًا لَا تَرِثُهُ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : فَإِنْ قِيلَ قَدْ وَرَّثَهَا عُثْمَانُ ، قِيلَ : وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي حَيَاتِهِ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِنْ مَاتَ أَنْ يُوَرِّثَهَا مِنْهُ ، وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ : لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أَرَ أَنْ تَرِثَ مَبْتُوتَةً وَهَذَا اخْتِلَافٌ وَسَبِيلُهُ الْقِيَاسُ وَهُوَ مَا قُلْنَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَتِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ " الْفَرَائِضِ " ، وَفِي كِتَابِ " الطَّلَاقِ " وَأَعَادَ ذِكْرَهَا فِي كِتَابِ " الْعِدَدِ " لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْمِيرَاثِ ، وَالطَّلَاقِ ، وَالْعِدَّةِ . وَجُمْلَتُهُ : أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا فِي الْمَرَضِ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا ، فَإِنْ كَانَ الْمَرِيضُ هِيَ الزَّوْجَةُ الْمُطَلَّقَةُ فَلَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ مَاتَ الزَّوْجُ أَوِ الزَّوْجَةُ ، وَإِنْ كَانَ الْمَرِيضُ هُوَ الزَّوْجُ الْمُطَلِّقُ ، فَإِنْ مَاتَتِ الزَّوْجَةُ لَمْ يَرِثْهَا ، وَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ فَفِي تَوْرِيثِهَا مِنْهُ أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : - وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - لَا مِيرَاثَ لَهَا بِحَالٍ ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِنْ مَاتَ فِي عِدَّتِهَا وَرِثَتْهُ وَاعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْعِدَّةِ لَمْ تَرِثْهُ ، وَهَذَا قَوْلُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ .

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهَا تَرِثُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ ، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ لَمْ تَرِثْ ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى . وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ : تَرِثُ أَبَدًا وَإِنْ تَزَوَّجَتْ . وَبِهِ قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ، وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي تَوْجِيهِ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ وَمِنَ التَّفْرِيعِ فِي ذَلِكَ مَا أَغْنَى عَنِ الْإِعَادَةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ طَلَّقَ إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ ثَلَاثًا فَمَاتَ وَلَا تُعْرَفُ : اعْتَدَّتَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ، تُكَمِّلُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِيهَا ثَلَاثَ حِيَضٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : فِي رَجُلٍ طَلَّقَ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ ثُمَّ مَاتَ فَطَلَاقُهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : مُعَيَّنٍ ، وَمُبْهَمٍ ، فَإِنْ كَانَ طَلَاقُهُ مُعَيَّنًا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُبَيِّنَ قَبْلَ مَوْتِهِ أَوْ لَا يُبَيِّنُ ، فَإِنْ بَيَّنَ الْمُطَلَّقَةَ مِنْهُمَا قَبْلَ مَوْتِهِ فَقَدْ زَالَ حُكْمُ الْإِشْكَالِ وَأُجْرِيَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ حُكْمُهَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ ، وَأُجْرِيَ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا حُكْمُهَا فِي الْمِيرَاثِ وَالْعِدَّةِ ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ وَكَانَ عِنْدَ الْوَرَثَةِ بَيَانٌ عُمِلَ عَلَى بَيَانِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْوَرَثَةِ بَيَانٌ فَقَدْ أُشْكِلَتِ الْمُطَلَّقَةُ مِنَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا مِنْ أَنْ تَتَّفِقَ أَحْوَالُهَا أَوْ تَخْتَلِفَ ، فَإِنِ اتَّفَقَتْ أَحْوَالُهُمَا فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَالْمُطَلَّقَةُ مِنْهُمَا لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا ، وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا عَلَيْهَا الْعِدَّةُ ، وَإِذَا أَشْكَلَتَا اعْتَدَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا اسْتِظْهَارًا لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا عِدَّةَ الْوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا حَيْضٌ لِتَنْقَضِيَ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا وَلَا يَضُرُّ اعْتِدَادُ الْمُطَلَّقَةِ فِي حُكْمِ الِاسْتِظْهَارِ مَعَ حُدُوثِ الْإِشْكَالِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْعِدَّةُ يَقِينًا لَكِنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِيهِمَا ، فَعَلَى الْمُطَلَّقَةِ عِدَّةُ الطَّلَاقِ وَعَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا مَعَ اتِّفَاقِهِمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : إِمَّا أَنْ يَكُونَا مِنْ ذَوَاتِ الْحَمْلِ ، أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ ، أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ ، فَإِنْ كَانَتَا مِنْ ذَوَاتِ الْحَمْلِ فَقَدِ اتَّفَقَا فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ ، وَعِدَّةِ الْوَفَاةِ ؛ لِأَنَّ عِدَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَضْعُ الْحَمْلِ فَأَيَّتُهُمَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا ، وَإِنْ كَانَتَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الطَّلَاقِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا ، فَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا فَلَا يَخْلُو مَوْتِ الزَّوْجِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا ، فَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا زَوْجَةٌ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ ، وَيُحْكَمُ لَهَا بِالْمِيرَاثِ ؛ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا فَعَلَى هَذَا تَعْتَدُّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ اعْتِدَادًا يَشْتَرِكَانِ فِي وُجُوبِهِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمَا حَيْضٌ ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ

فَالْمُطَلَّقَةُ مِنْهُمَا قَدْ بَانَتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا هِيَ الزَّوْجَةُ الْمُعْتَدَّةُ ، وَلَكِنَّ إِشْكَالَهُمَا قَدْ أَوْجَبَ أَنْ تَعْتَدَّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا حَيْضٌ وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا فَلَا يَخْلُو مَوْتُ الزَّوْجِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَمُوتَ عَقِيبَ الطَّلَاقِ قَبْلَ مُضِيِّ شَيْءٍ مِنَ الْعِدَّةِ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ ، وَعِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ وَعِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ ، وَقَدْ أَشْكَلَتْ فَأَوْجَبَ إِشْكَالُهُمَا الِاحْتِيَاطَ فِي عِدَّتِهِمَا ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَعْتَدَّ كُلُّ وَاحِدَةٍ بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ أَوْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ ، فَإِنْ مَضَتْ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ مَكَثَتْ تَمَامَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ اسْتِكْمَالًا لِعِدَّةِ الْوَفَاةِ ، وَإِنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ قَبْلَ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ مَكَثَتْ تَمَامَ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ اسْتِكْمَالَا لِعِدَّةِ الطَّلَاقِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : " اعْتَدَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فِيهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ " ، لِأَنَّ الْإِشْكَالَ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنَ الْعِدَّتَيْنِ قَدْ أَوْجَبَ حَمْلَهُمَا عَلَى أَغْلَظِ الْأَمْرَيْنِ احْتِيَاطًا فِي الْعِدَّةِ وَاسْتِظْهَارًا لِلْعِبَادَةِ كَمَنْ أَشْكَلَتْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ مِنْ صَلَاتَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَقْضِيَهُمَا عِنْدَ الْإِشْكَالِ كَذَلِكَ هَاهُنَا الْحَالُ . الثَّانِيَةُ : أَنْ يَمُوتَ الزَّوْجُ بَعْدَ مُضِيِّ الْعِدَّةِ وَبَقَاءِ بَعْضِهَا ، كَأَنَّهُ مَاتَ وَقَدْ مَضَى مِنَ الْعِدَّةِ قُرْءُ وَبَقِيَ قُرْآنِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَنْ تَعْتَدَّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فِيهِمَا حَيْضَتَانِ ، فَإِنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ قَبْلَ حَيْضَتَانِ مَكَثَتْ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ حَيْضَتَيْنِ لِتَنْقَضِيَ بِالْحَيْضَتَيْنِ عِدَّةُ الطَّلَاقِ وَبِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ عِدَّةُ الْوَفَاةِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَمُوتَ الزَّوْجُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَيْسَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ عِدَّةٌ وَعَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا حَيْضٌ ؛ لِأَنَّهَا عِدَّةُ وَفَاةٍ مَحْضَةٍ اخْتَصَّتْ بِإِحْدَاهُمَا ، وَإِنَّمَا اشْتَرَكَا فِي الْتِزَامِهِمَا بِحُكْمِ الْإِشْكَالِ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ فَعِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ ، وَعِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَتَعْتَدُّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الْإِشْكَالِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا فَهَذَا حُكْمُهُمَا مَعَ اتِّفَاقِ أَحْوَالِهِمَا . فَأَمَّا إِنِ اخْتَلَفَتْ أَحْوَالُهُمَا فَكَانَتْ إِحْدَاهُمَا مَدْخُولًا بِهَا وَالْأُخْرَى غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا ، أَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا حَامِلًا ، وَالْأُخْرَى حَائِلًا ، أَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ ، وَالْأُخْرَى مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ ، فَأُجْرِيَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُكْمُهَا الَّذِي أَجْرَتْهُ عَلَيْهَا لَوْ شَارَكَتْهَا الْأُخْرَى فِي صِفَتِهَا فَتُجْرِي عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا حُكْمَهَا كَمَا لَوْ كَانَتِ الْأُخْرَى مَدْخُولًا بِهَا وَتُجْرِي عَلَى غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا حُكْمَهَا لَوْ كَانَتِ الْأُخْرَى غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا ، وَتُجْرِي عَلَى الْحَامِلِ حُكْمَهَا لَوْ كَانَتِ الْأُخْرَى حَامِلًا ، وَيَجْرِي عَلَى الْحَائِلِ حُكْمُهَا لَوْ كَانَتِ الْأُخْرَى حَائِلًا ، وَيَجْرِي عَلَى ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ حُكْمُهَا لَوْ كَانَتِ الْأُخْرَى ذَاتَ الْأَقْرَاءِ ، وَعَلَى ذَاتِ الشُّهُورِ حُكْمُهَا لَوْ كَانَتِ الْأُخْرَى ذَاتَ شُهُورٍ .



فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ طَلَاقُ الزَّوْجِ مِنْهَا ، كَأَنَّهُ قَالَ : إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ ، وَلَمْ يُشِرْ بِالطَّلَاقِ إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَلَهُ تَعْيِينُهُ فِيمَنْ شَاءَ بَعْدَ وُقُوعِهِ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ . وَقَالَ دَاوُدُ : لَا يَقَعُ الْمُبْهَمُ وَلَا يَتَعَيَّنُ إِذَا عَيَّنَهُ ؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يَسْتَقِرَّ حُكْمُهُ بِاللَّفْظِ لَمْ يَسْتَقِرَّ حُكْمُهُ بَعْدَ اللَّفْظِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ : النِّكَاحُ ، وَالطَّلَاقُ ، وَالرَّجْعَةُ . وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ مَوْقُوفًا عَلَى الصِّفَاتِ وَالْمُبْهَمُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، وَلِأَنَّ حُكْمَ اللَّفْظِ مُسْتَقِرٌّ فِي طَلَاقِ إِحْدَاهُمَا ، وَإِنَّمَا وُقِفَ تَعَيُّنُ الْمُطَلَّقَةِ عَلَى خِيَارٍ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أُخِذَ بِالتَّعْيِينِ فِيمَنْ شَاءَ مِنْهُمَا ، وَهَلْ يَكُونُ وَطْؤُهُ تَعْيِينًا لِلطَّلَاقِ فِي غَيْرِ الْمَوْطُوءَةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، فَإِذَا عُيِّنَ الطَّلَاقُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَهَلْ يَكُونُ وُقُوعُهُ فِي وَقْتِ اللَّفْظِ أَمْ مِنْ وَقْتِ التَّعْيِينِ عَلَى وَجْهَيْنِ ، فَإِنْ فَاتَ التَّعْيِينُ مِنْ جِهَتِهِ فَهَلْ لِلْوَارِثِ تَعْيِينُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ . فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَمَاتَ الرَّجُلُ قَبْلَ التَّعْيِينِ . فَإِنْ قِيلَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِاللَّفْظِ فَأَوَّلُ الْعِدَّةِ مِنْ حِينِ تَلَفَّظَ بِالطَّلَاقِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَمَا لَوْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ فِيهِ مُعَيَّنًا فِي اعْتِبَارِهِ تَلَفَّظَ بِالطَّلَاقِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَمَا لَوْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ فِيهِ مُعَيَّنًا فِي اعْتِبَارِهِ بَائِنًا ، أَوْ رَجْعِيًّا ، وَفِي اعْتِبَارِهِ مَا بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْمَوْتِ ، وَإِنْ قِيلَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِالتَّعْيِينِ فَأَوَّلُ الْعِدَّةِ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَمَا لَوْ مَاتَ عَقِيبَ الطَّلَاقِ الْمُعَيَّنِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا مَاتَ عَنْ زَوْجَتِهِ فَنَكَحَتْ بَعْدَ شَهْرَيْنِ مِنْ عِدَّتِهِ وَأَصَابَهَا مَعَ دُخُولِ الشُّبْهَةِ عَلَيْهِ وَجَاءَتْ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَعَدِمَتِ الْقَافَةُ فِي إِلْحَاقِهِ بِهِ عُلِمَ أَنَّهُ قَدِ انْقَضَتْ عِدَّةُ إِحْدَاهُمَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ ، وَلَزِمَهَا عِدَّةُ الْآخَرِ كَانَ الْحَمْلُ لَاحِقًا بِالْمَيِّتِ اعْتَدَّتْ مِنَ الثَّانِي بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ ، وَإِنْ كَانَ لَاحِقًا بِالثَّانِي اعْتَدَّتْ لِلْأَوَّلِ بَقِيَّةَ عِدَّتِهِ شَهْرَيْنِ وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ ، وَإِذَا أَشْكَلَ فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ أَوْ شَهْرَيْنِ وَعَشَرَةِ أَيَّامٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ مُقَامٍ الْمُطَلَّقَةِ فِي بَيْتِهَا وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا

بَابُ مُقَامٍ الْمُطَلَّقَةِ فِي بَيْتِهَا وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا مِنْ كِتَابِ الْعِدَدِ وَغَيْرِهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُطَلَّقَاتِ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكٍ حِينَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ زَوْجَهَا قُتِلَ وَأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْهَا فِي مَسْكَنٍ يَمْلِكُهُ " امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ " وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الْفَاحِشَةُ الْمُبَيِّنَةُ أَنْ تَبْدُوَ عَلَى أَهْلِ زَوْجِهَا فَإِذَا بَدَتْ فَقَدْ حَلَّ إِخْرَاجُهَا ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ مَعْنَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَمَرَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ مَعَ مَا جَاءَ عَنْ عَائَشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا أَرْسَلَتْ إِلَى مَرْوَانَ فِي مُطَلَّقَةٍ انْتَقَلَهَا " اتَّقِ اللَّهَ وَارْدُدِ الْمَرْأَةَ إِلَى بَيْتِهَا " قَالَ مَرْوَانُ : أَمَا بَلَغَكِ شَأْنُ فَاطِمَةَ ؟ فَقَالَتْ : لَا عَلَيْكَ أَنْ تَذْكُرَ فَاطِمَةَ ، فَقَالَ : إِنْ كَانَ بِكِ شَرٌّ فَحَسْبُكِ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ مِنَ الشَّرِّ ، وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ تَعْتَدُّ الْمَبْتُوتَةُ فِي بَيْتِهَا ، فَقِيلَ لَهُ : فَأَيْنَ حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ ؟ فَقَالَ قَدْ فَتَنَتِ النَّاسَ كَانَتْ فِي لِسَانِهَا ذَرَابَةٌ فَاسْتَطَالَتْ عَلَى أَحْمَائِهَا فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : فَعَائِشَةُ ، وَمَرْوَانُ ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ يَعْرِفُونَ حَدِيثَ فَاطِمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ ابْنِ أُمَّ مَكْتُومٍ كَمَا حَدَّثَتْ وَيَذْهَبُونَ إِلَى ذَلِكَ ، إِنَّمَا كَانَ لِلشَّرِّ وَكَرِهَ لَهَا ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرُهُ أَنَّهَا كَتَمَتِ السَّبَبَ الَّذِي بِهِ أَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ غَيْرِ زَوْجِهَا خَوْفًا أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ سَامِعٌ فَيَرَى أَنَّ لِلْمَبْتُوتَةِ أَنْ تَعْتَدَّ حَيْثُ شَاءَتْ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : فَلَمْ يَقُلْ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَدِّي حَيْثُ شِئْتِ بَلْ خَصَّهَا إِذْ كَانَ زَوْجُهَا غَائِبًا فَبِهَذَا كُلِّهِ أَقُولُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَتُهُ أَنَّ عِدَّةَ الزَّوْجَاتِ مِنْ وَجْهَيْنِ مِنْ وَفَاةٍ ، وَمِنْ طَلَاقٍ . فَأَمَّا عِدَّةُ الْوَفَاةِ فَلَا نَفَقَةَ فِيهَا ، وَفِي السُّكْنَى قَوْلَانِ : نَذْكُرُهُمَا مِنْ بَعْدُ . وَأَمَّا عِدَّةُ الطَّلَاقِ فَضَرْبَانِ . رَجْعِيٌّ وَبَائِنٌ ، فَأَمَّا الرَّجْعِيَّةُ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى المطلقة لِبَقَاءِ أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ عَلَيْهَا . وَأَمَّا الْبَائِنُ فَلَهَا حَالَتَانِ : حَائِلٌ وَحَامِلٌ .

فَأَمَّا الْحَامِلُ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى المطلقة لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [ الطَّلَاقِ : ] . وَأَمَّا الْحَائِلُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ المطلقة لَهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا . وَمِنَ التَّابِعِينَ : شُرَيْحٌ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ : أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ ، وَعَطَاءٌ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الزُّهْرِيُّ ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : أَنَّ لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةَ . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ ، وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا . وَمِنَ التَّابِعِينَ : سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، وَالْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ بِالْمَدِينَةِ . فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي النَّفَقَةِ فَيَأْتِي . وَأَمَّا السُّكْنَى فَاسْتَدَلَّ مَنْ أَسْقَطَهُ بِمَا رَوَاهُ مُجَاهِدٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ : بَتَّ زَوْجِي طَلَاقِي فَلَمْ يَجْعَلْ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى ، وَقَالَ : إِنَّمَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى لِمَنْ يَمْلِكُ زَوْجُهَا رَجْعَتَهَا . وَرَوَى أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ : أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ طَلَّقَهَا الْبَتَّةَ ، وَهُوَ غَائِبٌ بِالشَّامِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا وَكِيلُهُ بِشَعِيرٍ فَسَخِطَتْهُ ، فَقَالَ : وَاللَّهِ مَا لَكَ عَلَيَّ مِنْ شَيْءٍ ، وَإِنَّمَا نَتَطَوَّعُ عَلَيْكِ ، فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ ، ثُمَّ قَالَ : تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي ، قِيلَ : لِأَنَّهَا كَانَتْ تُدَاوِي الْجَرْحَى ، اعْتَدِّي فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى تَضَعِينَ ثِيَابَكِ حَيْثُ شِئْتِ قَالُوا : وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى يَجْرِيَانِ مَجْرًى وَاحِدًا لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي

الْوُجُوبِ وَفِي السُّقُوطِ : لِأَنَّهَا فِي حَالِ الزَّوْجِيَّةِ لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى ، فَإِنْ نَشَزَتْ سَقَطَتِ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى ، فَإِنْ طُلِّقَتْ رَجْعِيَّةً فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى ، فَإِنْ طُلِّقَتْ مَبْتُوتَةً فَلَيْسَ لَهَا نَفَقَةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا السُّكْنَى . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ مَا أَسْقَطَ النَّفَقَةَ تُسْقِطُ السُّكْنَى كَالْمَوْتِ وَالنُّشُوزِ : وَلِأَنَّ السُّكْنَى مِنْ مُوجِبَاتِ النِّكَاحِ ، وَالْمَبْتُوتَةُ قَدْ سَقَطَ حَقُّهَا مِنْ مُوجِبَاتِ النِّكَاحِ كَالنَّفَقَةِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [ الطَّلَاقِ : ] يَعْنِي مِنْ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِنَّ بَعْدَ طَلَاقِهِنَّ . لِأَنَّ بُيُوتَهُنَّ لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهُنَّ مِنْهَا بِحَالٍ وَلَوْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ، وَالْفَاحِشَةُ الْمُبَيِّنَةُ هَاهُنَا مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنْ تَبْدُوَ عَلَى أَهْلِ زَوْجِهَا ، فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ السُّكْنَى فِي عُمُومِ الْمُطَلَّقَاتِ فَإِنْ قِيلَ : الْمُرَادُ بِهِ الرَّجْعِيَّةُ دُونَ الْمَبْتُوتَةِ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [ الطَّلَاقِ : ] يَعْنِي رَجْعَةً . فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يُحْدِثُهُ نِكَاحًا . وَالثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَامًّا فِي الرَّجْعِيَّةِ وَالْمَبْتُوتَةِ ، وَآخِرُهُ خَاصًّا فِي الرَّجْعِيَّةِ دُونَ الْمَبْتُوتَةِ ، وَقَالَ تَعَالَى : أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجِدِكُمْ [ الطَّلَاقِ : ] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الزَّوْجَاتِ وَالْمُطَلَّقَاتِ وَإِنْ كَانَ بِالْمُطَلَّقَاتِ أَخَصَّ : لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا دَلِيلٌ عَلَيْهِ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِفُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكٍ ، وَهِيَ أُخْتُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ حِينَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ زَوْجَهَا قُتِلَ ، وَلَمْ يَتْرُكْهَا فِي مَسْكَنٍ يَمْلِكُهُ امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ فَلَمَّا أَوْجَبَ السُّكْنَى لَهَا فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ فَأَوْلَى أَنْ تَجِبَ لَهَا فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ ؛ وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْ طَلَاقٍ فَوَجَبَ لَهَا السُّكْنَى كَالرَّجْعِيَّةِ . فَأَمَّا حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَكَانَ لِإِخْرَاجِهَا مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا بِسَبَبٍ كَتَمَتْهُ وَقَدْ وَرَدَ مِنْ طَرِيقَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا رَوَاهُ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ قَالَ : دَخَلْتُ الْمَدِينَةَ فَسَأَلْتُ عَنْ أَفْقَهِ النَّاسِ بِهَا فَقَالُوا : سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ سُكْنَى الْمَبْتُوتَةِ ، فَقَالَ : لَهَا السُّكْنَى ، فَذَكَرْتُ لَهُ حَدِيثَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ ، فَقَالَ : تِلْكَ امْرَأَةٌ فَتَنَتِ النَّاسَ كَانَ فِي لِسَانِهَا ذَرَابَةٌ فَاسْتَطَالَتْ عَلَى أَحْمَائِهَا فَنَقَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِطُولِ لِسَانِهَا وَالثَّانِي : مَا رُوِيَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ فَانْتَقَلَهَا أَبُوهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَأَرْسَلَتْ عَائِشَةُ إِلَى مَرْوَانَ اتَّقِ اللَّهَ وَارْدُدِ الْمَرْأَةَ إِلَى

بَيْتِهَا ، تَعْنِي أَنَّ سُكْنَاهَا وَاجِبٌ ، فَقَالَ مَرْوَانُ ، أَوَمَا بَلَغَكِ شَأْنُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ ؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا : لَا عَلَيْكَ أَلَّا تَذْكُرَ فَاطِمَةَ تَعْنِي أَنَّ تِلْكَ كَانَ لَهَا قِصَّةٌ أُخْرِجَتْ لَهَا ، فَقَالَ مَرْوَانُ : إِنْ كَانَ بِكِ الشَّرُّ يَعْنِي الَّذِي كَانَ مِنْ فَاطِمَةَ حِينَ أُخْرِجَتْ فَحَسْبُكِ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ مِنَ الشَّرِّ ، يَعْنِي أَنَّنِي أَخْرَجْتُهَا لِأَجْلِ الشَّرِّ الَّذِي أُخْرِجَتْ فَاطِمَةُ مِنْ أَجْلِهِ ، وَقَوْلُ فَاطِمَةَ : لَمْ يَجْعَلْ لِي نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى : فَلِأَنَّهَا حِينَ كَتَمَتِ السَّبَبَ ، وَرَأَتِ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَقَلَهَا إِلَى بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ تَصَوَّرَتْ أَنَّهُ نَقَلَهَا لِإِسْقَاطِ سُكْنَاهَا ، وَهَذَا أَدَلُّ شَيْءٍ عَلَى وُجُوبِ السُّكْنَى : لِأَنَّهُ لَوْ أَسْقَطَهَا لَأَرْسَلَهَا لِتَسْكُنَ حَيْثُ شَاءَتْ ، وَرِوَايَتُهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّمَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى لِلَّتِي يَمْلِكُ زَوْجُهَا رَجْعَتَهَا يَعْنِي أَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمَا مَعًا بِمَجْمُوعِهِمَا يَكُونُ لِلَّتِي يَمْلِكُ زَوْجُهَا رَجْعَتَهَا : لِأَنَّ الْمَبْتُوتَةَ لَا تَسْتَحِقُّهَا ، وَإِنَّمَا تَسْتَحِقُّ أَحَدَهُمَا . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْجَمْعِ بَيْنَ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى فِي الْوُجُوبِ وَالْإِسْقَاطِ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ السُّكْنَى فِي الزَّوْجِيَّةِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَالنَّفَقَةِ : لِأَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى فِي الْعِدَّةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَا تَسْقُطُ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى النُّقْلَةِ فَسَقَطَتْ بِسُقُوطِ النَّفَقَةِ مَا كَانَ مِنْ سُكْنَى الزَّوْجِيَّةِ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي الْمَعْنَى وَلَمْ يَسْقُطْ سُكْنَى الْعِدَّةِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْعِلَّةِ ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى وَفَّيَا فِي الْعِدَّةِ بَيْنَ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ سُكْنَى الْعِدَّةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ تَسْقُطْ بِالْبَذَاءَةِ وَالشَّرِّ . قِيلَ : الْبَذَاءَةُ وَالشَّرُّ غَيْرُ مُوجِبٍ لِسُقُوطِهَا ، وَإِنَّمَا تُوجِبُ النُّقْلَةُ فِيهَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ وُجُوبُ السُّكْنَى فِي عِدَّةِ الْمَبْتُوتَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ : لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حِفْظِ الْأَنْسَابِ فَاسْتَوَى فِيهَا الْمُسْلِمَةُ وَالْكَافِرَةُ . فَأَمَّا الْأَمَةُ الْمَبْتُوتَةُ فِي الْعِدَّةِ فَلِلسَّيِّدِ فِي زَمَانِ عِدَّتِهَا حَقُّ الِاسْتِخْدَامِ ، فَإِنْ رَفَعَ السَّيِّدُ يَدَهُ عَنْهَا وَجَبَ لَهَا السُّكْنَى تَحْصِينًا لِمَاءِ الزَّوْجِ ، وَإِنْ لَمْ يَرْفَعْ يَدَهُ وَأَرَادَ اسْتِخْدَامَهَا لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا نَهَارًا مِنْ زَمَانِ الِاسْتِخْدَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْهَا مَعَ زَوَالِهِ ، وَلِلزَّوْجِ أَنْ يُحَصِّنَهَا لَيْلًا إِنْ شَاءَ وَفِي أَخْذِهِ بِهِ جَبْرًا وَجْهَانِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَهَا السُّكْنَى فِي مَنْزِلِهِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ أَوْ لَا يَمْلِكُهَا فَإِنْ كَانَ بِكَرَاءٍ فَهُوَ عَلَى الْمُطَلِّقِ وَفِي مَالِ الزَّوْجِ الْمَيِّتِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ السُّكْنَى ، فَأَمَّا مَوْضِعُهَا فَمُخْتَلَفٌ بِحَسَبِ الْعِدَّةِ ، فَإِنْ كَانَتْ فِي طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ فَمَوْضِعُهَا غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ ، وَهُوَ إِلَى خِيَارِ الزَّوْجِ فِي إِسْكَانِهَا حَيْثُ شَاءَ مِنَ الْمَوَاضِعِ الْمَأْمُونَةِ : لِأَنَّهُ سُكْنَى زَوْجِيَّةٍ يُسْتَحَقُّ مَعَ النَّفَقَةِ

فَأَشْبَهَتْ حَالَهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ ، وَقَدْ كَانَ مُخَيَّرًا فِي نَقْلِهَا كَذَلِكَ بَعْدَهُ ، وَيَكُونُ هَذَا السُّكْنَى مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، وَإِنْ كَانَتِ الْعِدَّةُ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ فَمَوْضِعُهَا مُتَعَيَّنٌ لَا يَجُوزُ نَقْلُهَا مِنْهُ لِغَيْرِ مُوجِبٍ وَهِيَ الَّتِي يَجْعَلُهَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لِتَحْصِينِ الْمَاءِ وَحِفْظِ النَّسَبِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمَوْضِعُ الْمُعَيَّنُ لِسُكْنَاهَا هُوَ الْمَسْكَنُ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [ الطَّلَاقِ : ] يَعْنِي مِنْ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِنَّ ، وَإِضَافَتُهَا إِلَيْهِنَّ لِاسْتِحْقَاقِهِنَّ سُكْنَاهَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ لِلزَّوْجِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ لَهَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهَا . فَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِلزَّوْجِ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِخْرَاجُهَا مِنْهُ إِلَّا بِالْبَذَاءَةِ ، وَالِاسْتِطَالَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [ الطَّلَاقِ : ] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ أَنْ تَبْدُوَ عَلَى أَهْلِ زَوْجِهَا . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : الْفَاحِشَةُ الْمُبَيِّنَةُ هِيَ الزِّنَا ، وَإِخْرَاجُهَا مِنْهُ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا ، وَفِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ تَأْوِيلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْرَجَهَا مِنْ مَنْزِلِ زَوْجِهَا لِاسْتِطَالَةِ وَذَرَابَةِ لِسَانِهَا ، فَإِذَا خَرَجَتْ لِهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهَا مِنَ السُّكْنَى وَوَجَبَ نَقْلُهَا إِلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ الْمُمْكِنَةِ مِنْهُ لِتَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى الْمَوْضِعِ الْمُسْتَحَقِّ كَمَا تُنْقَلُ الزَّكَاةُ عِنْدَ تَعَذُّرِ مُسْتَحِقِّيهَا فِي الْبَلَدِ الَّذِي هِيَ فِيهِ إِلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إِلَيْهِ مِنْهُ ، وَلَوْ بَذَأَ عَلَيْهَا أَحْمَاؤُهَا نُقِلَ أَحْمَاؤُهَا عَنْهَا ، وَلَمْ تُنْقَلْ هِيَ ، لِتَكُونَ النُّقْلَةُ عَنْهُ لِمَنْ بَذَأَ أَوِ اسْتَطَالَ ، فَإِنْ كَانَ مَسْكَنُ الزَّوْجِ يَضِيقُ عَنْهُ أُقِرَّتْ فِيهِ وَأُخْرِجَ الزَّوْجُ مِنْهُ وَلَمْ تُجْبَرْ إِذَا انْفَرَدَتْ فِيهِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهُ لِاسْتِطَالَةٍ وَلَا بَذَاءَةٍ لِتَفَرُّدِهَا بِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَسْكَنُ لَهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهُ لِاسْتِطَالَةٍ وَلَا غَيْرِهَا ، وَأُخْرِجَ مِنْهُ الزَّوْجُ إِنْ كَانَ نَازِلًا فِيهِ ، وَلَهَا مُطَالَبَةُ الزَّوْجِ بِأُجْرَتِهِ : لِأَنَّ سُكْنَاهَا عَلَى الزَّوْجِ لَا عَلَيْهَا ، فَإِنْ لَمْ تُطَالِبْهُ بِالْأُجْرَةِ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةُ السُّكْنَى فَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تَسْتَحِقُّهَا : لِأَنَّهَا دَيْنٌ كَالنَّفَقَةِ لَوْ وَجَبَتْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : قَدْ سَقَطَتْ : لِأَنَّهَا مِنَ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ فَصَارَ الْإِمْسَاكُ عَنْهَا عَفْوًا وَإِنْ كَانَ الْمَسْكَنُ لِغَيْرِهِمَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ بِإِجَارَةٍ أَوْ عَارِيَّةٍ ، فَإِنْ كَانَ بِإِجَارَةٍ فَهِيَ لَازِمَةٌ وَلَا تَخْرُجُ مِنْهُ كَمَا لَا تَخْرُجُ مِنْ مِلْكٍ ، وَالْأُجْرَةُ عَلَيْهِ دُونَهَا ، فَإِنْ حَدَثَ اسْتِطَالَةٌ وَبَذَاءَةٌ فَعَلَى مَا مَضَى ، وَإِنْ كَانَ عَارِيَةً فَهِيَ غَيْرُ لَازِمَةٍ لِلْمُعِيرِ ، فَإِنْ أَقَامَ عَلَى الْعَارِيَةِ لَمْ يَجُزْ إِخْرَاجُهَا مِنْهُ وَإِنْ رَجَعَ عَنْهَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى اسْتَدَامَتِهَا لِأَجْلِ الطَّلَاقِ وَجَازَ

إِخْرَاجُهَا مِنْهُ بِغَيْرِ اسْتِطَالَةٍ وَلَا بَذَاءَةٍ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُعِيرُ أَجْنَبِيًّا أَوْ أَبًا أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمَا ، وَوَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَنْقُلَهَا إِلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ الْمُمْكِنَةِ مِنْهُ ، إِمَّا بِشِرَاءٍ ، أَوْ إِجَارَةٍ ، أَوْ عَارِيَةٍ ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى أُجْرَةٍ تَأْخُذُهَا لِتَسْكُنَ حَيْثُ شَاءَتْ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ فِيهِ إِسْقَاطًا لِتَعْيِينِ الْمَسْكَنِ الْمُسْتَحَقِّ تَعْيِينُهُ . فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : " وَفِي تَرِكَةِ الزَّوْجِ الْمَيِّتِ " فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَهُ عَلَى وُجُوبِ سُكْنَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْمَبْتُوتَةِ إِذَا مَاتَ زَوْجُهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي اسْتِحْقَاقِهَا السُّكْنَى فِي تَرِكَتِهِ قَوْلًا وَاحِدًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلِزَوْجِهَا إِذَا تَرَكَهَا فِيمَا يَسَعُهَا مِنَ الْمَسْكَنِ وَسَتَرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أَنْ يَسْكُنَ فِي سِوَى مَا يَسَعُهَا المطلقة ، قَالَ الْمُزَنِيُّ : هَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ ، وَذَلِكَ عِنْدِي أَوْلَى وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي هَذَا الْبَابِ ، وَقَالَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ : لَا يُغْلِقُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا حُجْرَةً إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ بَالِغٍ مِنَ الرِّجَالِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ سُكْنَى الْمَبْتُوتَةِ ، ثُمَّ مَضَى الْكَلَامُ بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ السُّكْنَى ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي قَدْرِ الْمَسْكَنِ وَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِمَسْكَنِ مِثْلِهَا فِي الْعُرْفِ ؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يَتَقَدَّرْ لُغَةً وَلَا شَرْعًا تَقَدَّرَ بِالْعُرْفِ الْمَعْهُودِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ رُوعِيَ فِيهِ عَدَمُهَا لَا عُرْفُ الزَّوْجِ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ ، وَسُكْنَى الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي يُرَاعَى فِيهَا حَالُ الزَّوْجِ دُونَهَا : لِمَا تَوَجَّهَ فِي هَذَا السُّكْنَى مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهَا ، فَإِنْ كَانَتْ جَلِيلَةَ الْقَدْرِ كَثِيرَةَ الْجِهَازِ وَالْخَدَمِ احْتَاجَتْ إِلَى مَسْكَنِ مِثْلِهَا مِنْ دَارٍ وَاسِعَةٍ ذَاتِ حُجَرٍ يَسَعُهَا وَيَسَعُ جِهَازَهَا وَخَدَمَهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَوْسَاطِ النَّاسِ ذَاتَ جِهَازٍ مُقْتَصِدٍ وَخَادِمٍ وَاحِدٍ فَدَارٌ مُقْتَصِدَةٌ لِمِثْلِهَا مِنْ غَيْرِ حُجْرَةٍ تَزِيدُ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ دُنَاةِ النَّاسِ فَمَنْزِلٌ لَطِيفٌ أَوْ بَيْتٌ فِي خَانٍ مُشْتَرَكٍ بِحَسَبِ الْعُرْفِ فِي قَدْرِهِ وَمَوْضِعِهِ مِنْ أَطْرَافِ الْبَلَدِ ، فَهَذَا هُوَ الْمَسْكَنُ الْمُعْتَبَرُ فِي سُكْنَاهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ وَلَا يُعْتَبَرُ مَا كَانَ يَسْكُنُهَا الزَّوْجُ فِيهِ قَبْلَ الطَّلَاقِ : لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ جَلِيلَةَ الْقَدْرِ فَتَقْنَعُ مِنْ زَوْجِهَا لِمَا هُوَ أَقَلُّ مِنْ مَسْكَنِ مِثْلِهَا فَلَا يَلْزَمُهَا أَنْ تَسْكُنَ بَعْدَ الطَّلَاقِ فِي مِثْلِهِ ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ دُنَاةِ النَّاسِ فَيُسْكِنُهَا الزَّوْجُ فِيمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ حَقِّهَا فَلَا يَلْزَمُهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ أَنْ يُسْكِنَهَا فِي مِثْلِهِ فَلَا يُرَاعَى مَا اقْتَضَتْ بِهِ الزَّوْجَةُ وَلَا مَا تَبَرَّعَ بِهِ الزَّوْجُ بَلْ يُرَاعَى الْعُرْفَ فِي مَسْكَنِ مِثْلِهَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا لَمْ يَخْلُ مَسْكَنُهَا وَقْتَ الطَّلَاقِ مسكن المعتدة مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مَسْكَنَ مِثْلِهَا ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُقِرَّهَا فِيهِ وَلَا تَخْرُجُ مِنْهُ : لِأَنَّ حَقَّهَا قَدْ تَعَيَّنَ فِيهِ بِطَلَاقِهَا فِيهِ فَلَمْ يَجُزْ إِخْرَاجُهَا مِنْهُ وَلَمْ تَنْتَقِلْ عَنْ حَقِّهَا فَوَجَبَ إِخْرَاجُ الزَّوْجِ مِنْهُ .

وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ مَسْكَنِ مِثْلِهَا ، فَإِنْ قَنِعَتْ بِهِ أُقِرَّتْ فِيهِ ، وَلَمْ تَخْرُجْ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ تَقْنَعْ وَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُكْمِلَ حَقَّهَا فِي مَسْكَنِ مِثْلِهَا ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى دَارٍ تُلَاصِقُهَا تُضَافُ إِلَيْهَا فَعَلَ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُخْرَجَ مِنْ دَارِهَا إِلَّا لِلِارْتِفَاقِ بِمَا أُضِيفَ إِلَيْهَا مِنْ بَابٍ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَارٍ تُلَاصِقُهَا اسْتَأْجَرَ لَهَا مَسْكَنَ مِثْلِهَا فِي أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ مِنْ دَارِ طَلَاقِهَا ، وَكَانَ انْتِقَالُهَا إِلَيْهَا لِعُذْرٍ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ فَجَازَ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ مَسْكَنِ مِثْلِهَا فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلِلزَّوْجِ إِذَا تَرَكَهَا فِيمَا يَسَعُهَا مِنَ الْمَسْكَنِ وَسَتَرَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أَنْ يَسْكُنَ فِي سِوَى مَا يَسَعُهَا " . وَتَفْصِيِلُهُ أَنْ يُرَاعِيَ حَالَ الْمَسْكَنِ ، فَإِنْ كَانَ دَارًا ذَاتَ حُجْرَةٍ تَنْفُذُ إِلَيْهَا سَكَنَتْ فِيهَا مَسْكَنَ مِثْلِهَا ، وَالزَّوْجُ فِي الْأُخْرَى بَعْدَ سَدِّ الْمَنْفَذِ أَوْ غَلْقِهِ ، فَإِنْ كَانَ مَسْكَنُ مِثْلِهَا الدَّارَ سَكَنَتْهَا وَالزَّوْجُ فِي الْحُجْرَةِ ، وَإِنْ كَانَ مَسْكَنُ مِثْلِهَا الْحُجْرَةَ سَكَنَتْهَا وَالزَّوْجُ فِي الدَّارِ ، وَتَكُونُ الدَّارُ وَالْحُجْرَةُ كَدَارَيْنِ مُتَجَاوِرَتَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلدَّارِ حُجْرَةٌ ، وَكَانَ لَهَا عُلُوٌّ كَانَ الْعُلُوُّ كَالْحُجْرَةِ ، فَإِنْ كَانَ مَسْكَنُ مِثْلِهَا الْعُلُوَّ سَكَنَتْهُ وَالزَّوْجُ فِي السُّفْلِ ، وَقُطِعَ مَا بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ بِغَلْقِ بَابٍ أَوْ سَدِّهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلدَّارِ عُلُوُّ فَلَهَا حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ تَكُونَ وَاسِعَةً تَكْتَفِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجَانِبٍ مِنْهَا ، فَإِنْ قُطِعَ بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ بِحَاجِزٍ مِنْ بِنَاءٍ مَكِينٍ أَوْ خَشَبٍ وَثِيقٍ جَازَ أَنْ تَنْفَرِدَ الزَّوْجَةُ بِالسُّكْنَى فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ ، وَالزَّوْجُ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا دُونَ مَحْرَمٍ ، وَلَا نِسَاءٍ ثِقَاتٍ ؛ لِأَنَّهَا بِالْقَطْعِ قَدْ صَارَتْ كَالدَّارَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يُقْطَعْ بَيْنَهُمَا بِحَاجِزٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِأَحَدِ الْجَانِبَيْنِ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ أَوْ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يَخْلُو رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تَكُونَ الدَّارُ ضَيِّقَةً لَا تَحْتَمِلُ أَنْ تُقْطَعَ بِحَاجِزٍ فَلَهَا حَالَتَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ ذَاتَ بُيُوتٍ يُمْكِنُ إِذَا أُسْكِنَ أَحَدُهُمَا فِي بَيْتٍ مِنْهَا ، وَسَكَنَ الْآخَرُ فِي بَيْتٍ آخَرَ أَنْ لَا تَقَعَ عَيْنُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَيَجُوزُ أَنْ تَسْكُنَ الزَّوْجَةُ فِي بَيْتٍ مِنْهَا إِذَا كَانَ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ بَالِغٌ ، أَوْ نِسَاءٌ ثِقَاتٌ ؛ لِتَكُونَ مَحْفُوظَةً بِمُرَاقَبَةِ ذِي الْمَحْرَمِ الْبَالِغِ وَالنِّسَاءِ الثِّقَاتِ ، وَيَسْكُنُ الزَّوْجُ فِي بَيْتٍ آخَرَ مِنَ الدَّارِ وَإِنْ كَرِهْنَا ذَلِكَ لَهُ حَذَرًا مِنْ أَنْ تَقَعَ عَيْنُهُ عَلَيْهَا . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ تَكُونَ الدَّارُ ذَاتَ بَيْتٍ وَاحِدٍ إِذَا اجْتَمَعَا فِيهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ لَا تَقَعَ عَيْنُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَسْكُنَ مَعَهُ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ أَوْ نِسَاءٌ ثِقَاتٌ : لِأَنَّ الْعَيْنَ لَا تُحْفَظُ عِنْدَ إِرْسَالِهَا ، قَدْ صَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجْهَ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ ، وَكَانَ رَدِيفَهُ بِمِنَى عَنِ الْخَثْعَمِيَّةِ حِينَ جَعَلَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ ،

وَقَالَ : شَابٌّ وَشَابَّةٌ وَخِفْتُ أَنْ يُدْخِلَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمَا فَقَدْ مَنَعَ ذَلِكَ وَهُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْمُحَرَّمِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ كَانَ عَلَى زَوْجِهَا دَيْنٌ لَمْ يَبِعْ مَسْكَنَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا للزوجة وَذَلِكَ أَنَّهَا مَلَكَتْ عَلَيْهِ سُكْنَى مَا يُخْفِيهَا حِينَ طَلَّقَهَا كَمَا يَمْلِكُ مَنْ يَكْتَرِي " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : لِأَنَّ حَقَّهَا فِي السُّكْنَى مُتَعَلِّقٌ بِذِمَّتِهِ ، وَفِي عَيْنِ مَسْكَنِهِ فَكَانَ أَوْكَدَ مِنَ الدُّيُونِ الْمُخْتَصَّةِ بِذِمَّتِهِ فَلَمْ يَجُزْ لِأَجْلِ ذَلِكَ أَنْ يُبَاعَ مَسْكَنُهَا فِي دَيْنِهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ، فَإِنْ بَاعَهُ فِي دَيْنٍ أَوْ غَيْرِ دَيْنِ نُظِرَ حَالُ الْعِدَّةِ ، فَإِنْ كَانَتْ مَجْهُولَةَ الْمُدَّةِ لِكَوْنِهَا حَامِلًا أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ : لِأَنَّ الْجَهْلَ بِسُكْنَى الْمُدَّةِ الْمُسْتَحَقَّةِ مُفْضٍ إِلَى الْجَهْلِ بِثَمَنِ الْمَبِيعِ فَصَارَ بِهِ الْبَيْعُ بَاطِلًا ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْلُومَةَ الْمُدَّةِ لِكَوْنِهَا بِالشُّهُورِ فَصَارَتْ سُكْنَاهَا مُسْتَحَقَّةً فِي الْعِدَّةِ كَاسْتِحْقَاقِهَا فِي الْإِجَارَةِ ، وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي بَيْعِ الدَّارِ الْمُؤَاجَرَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ فَعَلَى هَذَا بَيْعُهَا فِي الْعِدَّةِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ بَيْعَهَا فِي الْإِجَارَةِ جَائِزٌ ، فَعَلَى هَذَا فِي بَيْعِهَا إِذَا اسْتُحِقَّتْ فِي الْعِدَّةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا : بَيْعُهَا جَائِزٌ فِي الْعِدَّةِ لِجَوَازِهِ فِي الْإِجَارَةِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ بَيْعَهَا لَا يَجُوزُ فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ جَازَ فِي الْإِجَارَةِ : لِأَنَّ الْمُعْتَدَّةَ قَدْ تَمُوتُ فَيَعُودُ السُّكْنَى إِلَيْهِ فَيَصِيرُ فِي حُكْمِ مَنْ بَاعَ دَارًا وَاسْتَثْنَى سُكْنَاهَا لِنَفْسِهِ ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا فَكَذَلِكَ مَا أَفْضَى إِلَيْهِ وَصَارَ بِخِلَافِ مَوْتِ الْمُسْتَأْجِرِ الَّذِي لَا يَقْتَضِي عَوْدَ السُّكْنَى إِلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْمُعْتَدَّةُ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ تَنْتَقِلَ عِدَّتُهَا مِنَ الشُّهُورِ إِلَى الْأَقْرَاءِ لِكَوْنِهَا مُرَاهِقَةً يَجُوزُ أَنْ يَتَعَجَّلَ حَيْضُهَا وَمُؤْيِسَةً يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الْحَيْضُ إِلَيْهَا فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ : لِأَنَّ الْمُدَّةَ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْجَهَالَةِ وَالْعِلْمِ : وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَنْتَقِلَ مِنَ الشُّهُورِ إِلَى الْأَقْرَاءِ لِكَوْنِهَا صَغِيرَةً لَا يَجُوزُ أَنْ تَحِيضَ قَبْلَ شُهُورِ عِدَّتِهَا كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا كَالْإِجَارَةِ ، وَلَيْسَ لِمَا ذَكَرَ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِحُدُوثِ الْمَوْتِ وَجْهٌ : لِأَنَّ أَحْكَامَ الْعُقُودِ مَحْمُولَةٌ عَلَى السَّلَامَةِ كَمَا تُحْمَلُ إِجَارَةُ الدَّارِ وَالْعَبْدِ عَلَى الصِّحَّةِ اعْتِبَارًا بِالسَّلَامَةِ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ تَبْطُلَ بِانْهِدَامِ الدَّارِ وَمَوْتِ الْعَبْدِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ كَانَ فِي مَنْزِلٍ لَا يَمْلِكُهُ وَلَمْ يَكْتَرِهِ فَلِأَهْلِهِ إِخْرَاجُهَا وَعَلَيْهِ غَيْرُهُ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا طَلَّقَهَا وَهِيَ فِي مَنْزِلٍ لَا يَمْلِكُهُ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْجَرًا أَوْ مُعَارًا ، فَإِنْ كَانَ مُسْتَأْجَرًا فَقَدْ مَلَكَ سُكْنَاهُ فَيَلْزَمُ إِقْرَارُهَا فِيهِ كَمَا تُقَرَّ فِي مِلْكِهِ مَا لَمْ تَنْقَضِ الْإِجَارَةُ ، وَإِنْ كَانَ الْمَنْزِلُ مُعَارًا فَمَا لَمْ يَرْجِعْ فِيهِ الْمُعِيرُ فَهِيَ مُقَرَّةٌ عَلَى السُّكْنَى مَا أَقَرَّهَا الْمَالِكُ ، فَإِنْ رَجَعَ الْمُعِيرُ أَوِ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ فَقَدِ اسْتَحَقَّ إِخْرَاجَهَا مِنْهُ ، وَلِمَالِكِهِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَبْذُلَهُ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ ، فَعَلَى الزَّوْجِ بَذْلُهَا لَهُ وَتُقَرُّ الْمُعْتَدَّةُ فِيهِ إِلَى انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا مِنْهُ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَمْتَنِعَ الْمَالِكُ فِي بَذْلِ الْمَنْزِلِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ ، وَيُقِيمُ عَلَى اسْتِرْجَاعِهِ أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِهِ فَهُوَ فِي الْحَالَيْنِ مَانِعٌ مِنْهُ : لِأَنَّ طَلَبَ الزِّيَادَةِ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ فِي حُكْمِ الْمَانِعِ ، وَإِذَا صَارَ مَانِعًا مِنْ إِقْرَارِهَا فِي مَنْزِلِهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ وَوَجَبَ نَقْلُهَا وَعَلَى الْمُطَلِّقِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ لَهَا مَسْكَنَ مِثْلِهَا فِي أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ بِالْمَسْكَنِ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ فَإِنْ أَجَابَ الْمَالِكُ إِلَى بَذْلِهِ بَعْدَ نَقْلِهَا مِنْهُ نُظِرَ فِي بَذْلِهِ ، فَإِنْ كَانَ بِعَارِيَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَادَ إِلَيْهِ لِجَوَازِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعَارِيَةِ فَيَنْقُلَهَا ثَانِيَةً ، وَإِنْ كَانَ بِإِجَارَةٍ نُظِرَ فِي الْمَسْكَنِ الَّذِي انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ فَإِنْ كَانَ عَارِيَةً أُعِيدَتْ إِلَى الْمَسْكَنِ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ لِجَوَازِ أَنْ يَرْجِعَ الْمُعِيرُ فَتُخْرَجَ مِنْهُ فَتَكُونَ فِي عَوْدِهَا إِلَى مَنْزِلِ الطَّلَاقِ مَعَ لُزُومِ سُكْنَاهُ أَحَقَّ مِنْ غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا مُسْتَأْجِرَيْنِ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تُقَرُّ فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الِاسْتِقْرَارِ فِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تُعَادُ إِلَى الْمَنْزِلِ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الطَّلَاقِ فِيهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا مَاتَ الزَّوْجُ فِي تَضَاعِيفِ عِدَّتِهَا وَأَرَادَ الْوَرَثَةُ أَنْ يَقْتَسِمُوا مَسْكَنَهَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ قِسْمَةَ مُنَاقَلَةٍ فَيَأْخُذَ بَعْضُهُمُ الدَّارَ ، وَيَأْخُذَ الْبَاقُونَ غَيْرَهَا جَازَ ، سَوَاءٌ قِيلَ : إِنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ أَوْ تَمْيِيزُ نَصِيبٍ لِاسْتِحْقَاقِ السُّكْنَى فِي تَرِكَتِهِمْ بِخِلَافِ الْمُشْتَرَى فِي الْبَيْعِ وَلَهَا سُكْنَى الدَّارِ فِي بَقِيَّةِ عِدَّتِهَا ، وَلَا يَرْجِعُ مَنْ صَارَتِ الدَّارُ فِي سَهْمِهِ بِأُجْرَةِ سُكْنَاهَا عَلَى شُرَكَائِهِ : لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْقِسْمَةِ بَعْدَ أَنْ صَارَتْ مَسْكَنَ الْمَنْفَعَةِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : يَقْتَسِمُوهَا قِسْمَةَ إِجَارَةٍ فَيُقَسِّمُ كُلُّ وَاحِدٍ حِصَّتَهُ فِيهَا مُجَازَةً ، فَهَذَا فِي ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَحْجِزَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا حَازَهُ بِحَاجِزٍ فَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ ، سَوَاءٌ قِيلَ : إِنَّ

الْقِسْمَةَ بَيْعٌ أَوْ تَمْيِيزُ نَصِيبٍ ؛ لِأَنَّهَا اسْتَحَقَّتْ سُكْنَى دَارٍ غَيْرِ مُحَجَّزَةٍ بِالْقِسْمَةِ فَلَمْ يَجُزْ إِدْخَالُ الضَّرَرِ عَلَيْهَا بِالْقِسْمَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَحْجِزَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حِصَّتَهُ وَيَقْتَصِرُ عَلَى عَلَامَةٍ يَتَمَيَّزُ بِهَا مَا حَازَهُ فَتَجُوزُ هَذِهِ الْقِسْمَةُ : لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ بِهَا ضَرَرٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " إِلَّا أَنْ يُفْلِسَ فَتَضْرِبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِأَقَلِّ قِيمَةِ سُكْنَاهَا وَتُتْبِعُهُ بِفَضْلِهِ مَتَى أَيْسَرَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا أَنْ يُفْلِسَ زَوْجُ الْمُعْتَدَّةِ وَتَسْتَحِقَّ سُكْنَى الْعِدَّةِ حكم السكن للزوجة فَلِلزَّوْجِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَمْلِكَ مَسْكَنَ عِدَّتِهَا . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَمْلِكَهُ . فَإِنْ كَانَ مَالِكَهُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْحَجْزِ عَلَيْهِ بِفَلَسِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الطَّلَاقِ أَوْ بَعْدَهُ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الطَّلَاقِ فَقَدْ سَبَقَ اسْتِحْقَاقُ الْغُرَمَاءِ لِذَلِكَ الْمَسْكَنِ عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا لِسُكْنَى الْعِدَّةِ : فَيَكُونُونَ أَحَقَّ بِهِ مِنْهَا وَيَضْرِبُ مَعَهُمْ بِأُجْرَةِ سُكْنَاهَا وَإِنْ كَانَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَالْمُطَلَّقَةُ أَحَقُّ بِسُكْنَى الدَّارِ فِي عِدَّتِهَا مِنَ الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا قَدْ تَعَلَّقَ لِذِمَّةِ الزَّوْجِ وَتَعَيَّنَ فِيهِ الْمَسْكَنُ فَاخْتُصَّتْ بِهِ فِي مُدَّةِ السُّكْنَى دُونَهُمْ كَمَا يُخْتَصُّ الْمُرْتَهَنُ بِثَمَنِ الرَّهْنِ دُونَهُمْ لِثُبُوتِ حَقِّهِ فِي الْعَيْنِ وَالذِّمَّةِ وَانْفِرَادِ حُقُوقِهِمْ بِالذِّمَّةِ دُونَ الْعَيْنِ .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ غَيْرَ مَالِكٍ لِمَسْكَنِ عِدَّتِهَا وأراد الغرماء الحجر عليه بدينهم ضَرَبَتْ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِأُجْرَتِهِ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ وَكَانَتْ أُسْوَةَ جَمِيعِهِمْ فِي مَالِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى حَجْرِهِ لِلْغُرَمَاءِ أَوْ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ : لِأَنَّهُ وَإِنْ تَقَدَّمَ عَلَى الْحَجْرِ فَقَدْ صَارَ الْحَجْرُ لَهَا وَلَهُمْ وَإِنْ تَأَخَّرَ فَهُوَ سَبَبٌ قَدْ يُقَدَّمُ عَلَى الْحَجْرِ وَهُوَ النِّكَاحُ فَصَارَ كَالْمُسْتَحَقِّ قَبْلَ الْحَجْرِ ، وَخَالَفَ مَا اشْتَرَاهُ بَعْدَ حَجْرِهِ فِي أَنَّ بَائِعَهُ لَا يَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِثَمَنِهِ لَا مُسْتَحْدِثَ السَّبَبِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بَعْدَ وُقُوعِ الْحَجْرِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهَا تَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِأُجْرَةِ سُكْنَاهَا فَلَهَا حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ تَكُونَ مُقَدَّمَةً بِالشُّهُورِ لِصِغَرٍ أَوْ إِيَاسٍ فَتَضْرِبَ مَعَهُمْ بِأُجْرَةِ مَسْكَنِهَا فِي شُهُورِ الْعِدَّةِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تَكُونَ عِدَّتُهَا غَيْرَ مُقَدَّرَةٍ بِالشُّهُورِ ؛ لِأَنَّهَا حَامِلٌ أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ لَهَا عَادَةٌ فِي الْحَمْلِ وَالْأَقْرَاءِ ، أَوْ تَكُونَ مُبْتَدَأَةً فَإِنْ كَانَ لَهَا عَادَةٌ فِي الْحَمْلِ وَالْأَقْرَاءِ أَنْ يَكُونَ حَمْلُهَا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ ، وَأَنْ يَكُونَ لَهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ قُرْءٌ فَتَحْمِلُ فِي سُكْنَى الْعِدَّةِ الَّتِي تَضْرِبُ بِهَا مَعَ الْغُرَمَاءِ عَلَى عَادَتِهَا فِي الْحَمْلِ وَالْأَقْرَاءِ فَإِنْ

كَانَتْ حَامِلًا كَانَتْ مُدَّةُ سُكْنَاهَا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ تَزِيدَ أَوْ تَنْقُصَ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ كَانَ مُدَّةُ سُكْنَاهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ تَزِيدَ أَوْ تَنْقُصَ اعْتِبَارًا بِغَالِبِ عَادَتِهَا لِيَنْظُرَ مَا يَكُونُ مِنْهَا فِي انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهَا عَادَةٌ فِي الْحَمْلِ وَلَا فِي الْأَقْرَاءِ فَقَدْ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ أَنَّهَا تَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِأَقَلِّ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَهِيَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، وَبِأَقَلَّ مُدَّةٍ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ المطلقة في عدتها ، وَهِيَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَسَاعَتَانِ اعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ فِيمَا تَسْتَحِقُّهُ ، وَعِنْدِي : أَنَّهَا تَضْرِبُ مَعَهُمْ فِي الْغَالِبِ مِنْ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَهِيَ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ ، وَبِالْغَالِبِ مِنْ مُدَّةِ الْأَقْرَاءِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ : لِأَنَّهُ لَمَّا حُمِلَتِ الْمُعْتَادَةُ عَلَى غَالِبِ عَادَتِهَا مَعَ جَوَازِ النُّقْصَانِ وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْيَقِينِ فِي الْأَقَلِّ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ غَيْرُ الْمُعْتَادَةِ مَحْمُولَةً عَلَى الْغَالِبِ مِنْ عَادَةِ غَيْرِهَا ، وَلَا تُحْمَلُ عَلَى الْيَقِينِ فِي النُّقْصَانِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا تَضْرِبُ بِهِ مَعَ الْغُرَمَاءِ ، وَكَانَ مُقَدَّرًا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فِي الْأَقْرَاءِ وَبِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ مَعَ الْحَمْلِ نُظِرَ أُجْرَةُ مِثْلِ سُكْنَاهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فَإِنْ كَانَتْ سِتِّينَ دِرْهَمًا نُظِرَ مَالُ الْمُفْلِسِ مَعَ دُيُونِهِ ، فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ نِصْفِهَا ضَرَبَتْ مَعَهُمْ بِثُلْثِهَا وَذَلِكَ عِشْرُونَ دِرْهَمًا فَإِذَا أَخَذَتْهَا تَوَلَّى الزَّوْجُ اسْتِئْجَارَ الْمَسْكَنِ لَهَا بِذَلِكَ دُونَهَا : لِأَنَّ حَقَّهَا فِي السُّكْنَى دُونَ الْأُجْرَةِ فَإِذَا سَكَنَتْ تِلْكَ الْمُدَّةَ سَكَنَتْ بَعْدَهَا فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ؛ لِأَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُحَصِّنَهَا فِي الْعِدَّةِ حَيْثُ يَشَاءُ إِذَا أَقَامَ لَهَا بِالسُّكْنَى ، فَإِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ سَقَطَ خِيَارُهُ ، وَكَانَ الْأَمْرُ لَهَا فِي السُّكْنَى حَيْثُ تَشَاءُ مِنَ الْمَوَاضِعِ الْمَأْمُونَةِ عَلَى مِثْلِهَا وَكَانَ مَا بَقِيَ لَهَا مِنْ أُجْرَةِ السُّكْنَى مُعْتَبَرَ الْمِقْدَارِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، وَلَا يَخْلُو حَالُهَا فِي انْقِضَائِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَنْقَضِيَ فِي مُدَّةٍ مِثْلِ الْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ لَهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَتَضَعُ حَمْلَهَا فِي تِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَيَنْقَضِي أَقَرَاؤُهَا فِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فَقَدِ اسْتَوْفَتْ مَا اسْتَحَقَّتْهُ مَعَ الْغُرَمَاءِ ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي دَيْنًا لَهَا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ يُرْجَعُ بِهِ عَلَيْهِ إِذَا أَيْسَرَ الزوجة المطلقة في عدتها . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فِي أَقَلَّ مِنَ الْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ لَهَا فَتَضَعَ حَمْلَهَا فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، وَتَقْضِيَ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ فِي شَهْرَيْنِ فَتَصِيرَ مُدَّةُ الْعِدَّةِ ثُلْثَيِ الْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ فَتَرُدُّ عَلَى الْغُرَمَاءِ ثُلُثَ مَا أَخَذَتْهُ : لِأَنَّهَا ضَرَبَتْ مَعَهُمْ بِمَا هِيَ مُسْتَحِقَّةٌ لِثُلُثَيْهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فِي أَكْثَرَ مِنَ الْعِدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ لَهَا فَتَضَعَ حَمْلَهَا فِي سَنَةٍ وَتَقْضِيَ أَقَرَاءَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَتَزِيدَ عِدَّتُهَا ثُلُثَ الْعِدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ لَهَا فَهَلْ تَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ أَوْ يَكُونُ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّهَا تَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ كَمَا لَوْ ظَهَرَ غَرِيمٌ ضَرَبَ مَعَهُمْ بِقَدْرِ حَقِّهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا لَا تَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ وَيَكُونُ مَعَ بَقِيَّةِ السُّكْنَى دَيْنًا عَلَى

الزَّوْجِ بِخِلَافِ الْغَرِيمِ إِذَا حَدَثَ : لِأَنَّهَا ضَرَبَتْ بِهَذَا الْقَدْرِ مَعَ الْعِلْمِ بِجَوَازِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ وَخَالَفَ الْغَرِيمُ الَّذِي لَمْ يَعْلَمْ بِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ رَجَعَتْ بِهَا عَلَى الْغُرَمَاءِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي مُدَّةِ الْأَقْرَاءِ لَمْ يُرْجَعْ بِهَا عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْحَمْلِ مُشَاهَدٌ يُمْكِنُ أَنْ تَقُومَ بِهِ بَيِّنَةٌ ، وَمُدَّةَ الْأَقْرَاءِ مَظْنُونَةٌ لَا تَقُومُ بِهَا بَيِّنَةٌ وَيُرْجَعُ إِلَى قَوْلِهَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ دُونَ غَيْرِهِ فَافْتَرَقَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ فِي مَوْتِهِ فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا مَا وَصَفْتُ وَمَنْ قَالَهُ احْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفُرَيْعَةَ : امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَالثَّانِي أَنَّ الِاخْتِيَارَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَسْكُنُوهَا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَقَدْ مَلَكُوا دُونَهُ فَلَا سُكْنَى لَهَا كَمَا لَا نَفَقَةَ لَهَا المرأة المتوفي عنها زوجها ، وَمَنْ قَالَهُ قَالَ : إِنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفُرَيْعَةَ : " امْكُثِي فِي بَيْتِكِ مَا لَمْ يُخْرِجْكِ مِنْهُ أَهْلُكِ " لِأَنَّهَا وَصَفَتْ أَنَّ الْمَنْزِلَ لَيْسَ لِزَوْجِهَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : هَذَا أَوْلَى بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا حَامِلًا وَغَيْرَ حَامِلٍ ، وَقَدِ احْتَجَّ بَأَنَّ الْمِلْكَ قَدِ انْقَطَعَ عَنْهُ بِالْمَوْتِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : وَكَذَلِكَ قَدِ انْقَطَعَ عَنْهُ السُّكْنَى بِالْمَوْتِ وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّ مَنْ وَجَبَتْ لَهُ نَفَقَةٌ وَسُكْنَى مِنْ " وَلَدٍ وَوَالِدٍ عَلَى رَجُلٍ فَمَاتَ انْقَطَعَتِ النَّفَقَةُ لَهُمْ وَالسُّكْنَى لَأَنَّ مَالَهُ صَارَ مِيرَاثًا لَهُمْ ، فَكَذَلِكَ امْرَأَتُهُ وَوَلَدُهُ وَسَائِرُ وَرَثَتِهِ يَرِثُونَ جَمِيعَ مَالِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا النَّفَقَةُ فَلَا تَجِبُ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ إِجْمَاعًا حَامِلًا كَانَتْ أَوْ حَائِلًا للزوجة ، وَفِي وُجُوبِ السُّكْنَى للزوجة المتوفى عنها زوجها قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا سُكْنَى لَهَا . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعِرَاقِيِّينَ وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَهَا السُّكْنَى . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ ، وَعُثْمَانُ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَأُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَسْقَطَ السُّكْنَى بِأَنَّ السُّكْنَى تَجْرِي مَجْرَى النَّفَقَةِ : لِأَنَّهَا تَجِبُ بِوُجُوبِهَا فِي الزَّوْجِيَّةِ وَتَسْقُطُ بِسُقُوطِهَا فِي النُّشُوزِ ، وَقَدْ سَقَطَتِ النَّفَقَةُ بِالْمَوْتِ فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِهِ السُّكْنَى وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّ مَا اسْتُحِقَّ فِي مُدَّةِ الزَّوْجِيَّةِ سَقَطَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ كَالنَّفَقَةِ : وَلِأَنَّ مِلْكَهُ قَدِ انْتَقَلَ بِمَوْتِهِ إِلَى وَارِثِهِ فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَجِبَ السُّكْنَى عَلَى الزَّوْجِ لِزَوَالِ مِلْكِهِ كَمَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ ، وَأَنْ لَا تَجِبَ عَلَى الْوَارِثِ الْمَالِكِ : لِأَنَّهُ غَيْرُ زَوْجٍ كَمَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ : وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَتْ لَهَا السُّكْنَى حَامِلًا لَوَجَبَتْ لَهَا النَّفَقَةُ حَامِلًا

كَالْمَبْتُوتَةِ ، وَفِي سُقُوطِ نَفَقَتِهَا فِي الْحَالَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى سُقُوطِ سُكْنَاهَا فِي الْحَالَيْنِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ بِالْمَوْتِ سُكْنَى الْأَقَارِبِ لِسُقُوطِ نَفَقَاتِهِمْ وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِهِ سُكْنَى الزَّوْجَاتِ لِسُقُوطِ نَفَقَاتِهِمْ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَ السُّكْنَى بِمَا رَوَتْهُ زَيْنَبُ بِنْتُ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنَّ الْفُرَيْعَةَ بِنْتَ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ أُخْتَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ أَبَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِطَرَفِ الْقَدُومِ لَحِقَهُمْ فَقَتَلُوهُ ، قَالَتْ : فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي فِي بَنِي خُدْرَةَ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَتْرُكْنِي فِي مَسْكَنٍ يَمْلِكُهُ وَلَا نَفَقَةٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : نَعَمْ ، فَخَرَجْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ دَعَانِي أَوْ أَمَرَ بِي فَدُعِيتُ لَهُ ، فَقَالَ : كَيْفَ ؟ فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ ، فَقَالَ : امْكُثِي فِي بَيْتِكَ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ . فَاعْتَدَّتْ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا : فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرْسَلَ إِلَيَّ وَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرْتُهُ فَاتَّبَعَهُ وَقَضَى بِهِ ، فَلَوْ لَمْ تَسْتَحِقَّ السُّكْنَى عَلَى الزَّوْجِ لَمَا أَعَادَهَا إِلَى مَسْكَنٍ قَدِ اسْتَعَارَهُ وَلَمْ يَمْلِكْهُ . فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ أَذِنَ لَهَا فِي النُّقْلَةِ ثُمَّ مَنَعَهَا فَفِيهَا تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَانَ لِسَهْوٍ أُسْقِطَ مِنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ كَانَ لِاجْتِهَادٍ نُقِلَ عَنْهُ . فَإِنْ قِيلَ : فَعَلَى هَذَا يَكُونُ نَسْخًا وَالنَّسْخُ قَبْلَ الْفِعْلِ لَا يَجُوزُ . قِيلَ : إِنَّمَا لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ قَبْلَ زَمَانِ فِعْلِهِ ، وَيَجُوزُ قَبْلَ فِعْلِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ إِذَا وَجَبَتْ بِمَوْتِ الزَّوْجِ تَحْصِينًا لِمَائِهِ وَحِفْظًا لِحُرْمَتِهِ كَانَتْ أَوْكَدَ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْمُخْتَصَّةِ بِتَحْصِينِ مَائِهِ دُونَ حُرْمَتِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بِوُجُوبِ السُّكْنَى أَحَقَّ مِنَ الطَّلَاقِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّهَا عِدَّةٌ مِنْ نِكَاحٍ فَوَجَبَ أَنْ تَسْتَحِقَّ فِيهَا السُّكْنَى كَالطَّلَاقِ : وَلِأَنَّهَا لَمَّا خُصَّتْ بِالسُّكْنَى فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ مَعَ قُدْرَةِ الزَّوْجِ عَلَى نَفْيِ وَلَدِهَا بِاللِّعَانِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَخْتَصَّ بِالسُّكْنَى فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ مَعَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى نَفْيِ وَلَدِهَا بِاللِّعَانِ : وَلِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ التَّعَبُّدُ ، وَالِاسْتِبْرَاءَ تَبَعٌ ، وَالْمُغَلَّبَ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ الِاسْتِبْرَاءُ وَالتَّعَبُّدَ تَبَعٌ : لِأَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا تَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةُ الطَّلَاقِ فَلَمَّا وَجَبَ السُّكْنَى فِي الِاسْتِبْرَاءِ كَانَ أَوْلَى أَنْ تَجِبَ فِي التَّعَبُّدِ : لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ أَوْكَدُ وَلِفَحْوَى هَذَا الْمَعْنَى فَرَّقْنَا بَيْنَ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَبَيْنَ سُكْنَى الْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلِوَرَثَتِهِ أَنْ يُسْكِنُوهَا حَيْثُ شَاءُوا إِذَا

كَانَ مَوْضِعُهَا حِرْزًا وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ وَلِلسُّلْطَانِ أَنْ يَخُصَّهَا حَيْثُ تَرْضَى لِئَلَّا يَلْحَقَ بِالزَّوْجِ مَنْ لَيْسَ لَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا أَنَّ السُّكْنَى فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ عَلَى قَوْلَيْنِ فَلِلْمُعْتَدَّةِ بَعْدَ الْوَفَاةِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ عَلَى حَالَةِ الزَّوْجِيَّةِ إِلَى حِينِ الْوَفَاةِ فَتَعْتَدَّ بِالْمَوْتِ ، فَهَذِهِ الَّتِي فِي وُجُوبِ سُكْنَاهَا قَوْلَانِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تَكُونَ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ فَيَمُوتُ زَوْجُهَا ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَتَعْتَدُّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ وَلَهَا السُّكْنَى قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّهَا عِدَّةُ طَلَاقٍ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِالْوَفَاةِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِهَا حُكْمُ السُّكْنَى ، فَإِنْ كَانَتْ فِي مَسْكَنِ زَوْجِهَا اسْتَكْمَلَتْ فِيهِ عِدَّتَهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِهِ أَخَذَتْ مِنْ تَرِكَتِهِ قَدْرَ أُجْرَتِهِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ تَكُونَ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ فَيَمُوتُ زَوْجُهَا ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَتُعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ دُونَ الطَّلَاقِ : لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ وَتَسْقُطُ نَفَقَتُهَا كَمَا تَسْقُطُ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ ، فَأَمَّا السُّكْنَى فَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِهِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ كَانَ وُجُوبُهُ لِهَذِهِ أَوْلَى ، وَإِنْ قِيلَ بِسُقُوطِهِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ كَانَ فِيهِ لِهَذِهِ الرَّجْعِيَّةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا سُكْنَى لَهَا : لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَوْكَدَ حَالًا مِنَ الزَّوْجَاتِ . وَالثَّانِي : أَنَّ لَهَا السُّكْنَى وَإِنْ لَمْ تَجِبْ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ اسْتِصْحَابًا لِوُجُوبِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ عِدَّتِهَا كَالْبَائِنِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا تَفَرَّعَتْ أَحْكَامُ السُّكْنَى عَلَى الْقَوْلَيْنِ ، فَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِهَا اسْتَقَرَّتْ فِي تَرِكَةِ الزَّوْجِ وَرُوعِيَ حَالُ مَسْكَنِهَا المعتدة ، فَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِلزَّوْجِ أُخِذَ الْوَرَثَةُ جَبْرًا بِإِقْرَارِهَا فِيهِ وَأُخِذَتْ جَبْرًا إِنِ امْتَنَعَتْ بِالسُّكْنَى فِيهِ ، وَإِنْ رَاضَاهَا الْوَرَثَةُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ أَحَدُهُمَا أَوِ السُّلْطَانُ جَبْرًا بِذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَا يُضَاعُ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَسْكَنُهَا مِلْكًا لِلزَّوْجِ وَجَبَ فِي تَرِكَتِهِ أُجْرَةُ مَسْكَنِهَا ، وَقُدِّمَتْ بِهِ عَلَى الْوَصَايَا وَالْمِيرَاثِ ، فَإِنْ زَاحَمَهَا الْغُرَمَاءُ اسْتَهَمُوا فِي التَّرِكَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي فَلَسِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ تَرِكَةٌ يَحْتَمِلُ السُّكْنَى لَمْ يَلْزَمِ الْوَرَثَةَ دَفْعُهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَدَفَعَهَا السُّلْطَانُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِقَامَةِ مَا تَعَبَّدَ بِهِ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ دَفْعُهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ سَكَنَتِ الْمُعْتَدَّةُ حَيْثُ شَاءَتْ ، وَحَفِظَتْ فِي نَفْسِهَا حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَحَقَّ الْمَيِّتِ . وَإِنْ قِيلَ بِسُقُوطِ السُّكْنَى فَلَا حَقَّ لَهَا فِي تَرِكَتِهِ وَلَا عَلَى وَرَثَتِهِ وَلَا فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَلَهَا أَنْ تَسْكُنَ حَيْثُ شَاءَتْ : لِأَنَّهُ إِذَا أَسْقَطَ حَقَّهَا مِنَ السُّكْنَى سَقَطَ مَا عَلَيْهَا مِنْهُ إِلَّا أَنْ

تَجِدَ مُتَطَوِّعًا بِسُكْنَاهَا فَتَصِيرَ السُّكْنَى وَاجِبًا عَلَيْهَا وَلَيْسَ يَخْلُو الْمُتَطَوِّعُ بِسُكْنَاهَا مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ : أَحَدُهَا : الْوَارِثُ يَتَطَوَّعُ بِسُكْنَاهَا إِمَّا مِنَ التَّرِكَةِ إِنْ كَانَتْ أَوْ مِنْ مَالِهِ تَحْصِينًا لِمَاءِ مَيِّتِهِ فَيَلْزَمُهَا إِجَابَتُهُ إِذَا أَقَامَ لَهَا بِهِ أَوْ بَذَلَ لَهَا أُجْرَتَهُ ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ مَسْكَنُ طَلَاقِهَا كَانَ أَوْلَى وَإِنْ أَعْوَزَهُ فَأَقْرَبُ الْمَسَاكِنِ بِهِ ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ مَسْكَنُ طَلَاقِهَا فَعَدَلَ بِهَا إِلَى غَيْرِهِ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : السُّلْطَانُ لِمَا يَرَاهُ مِنْ حِفْظِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حِرَاسَةِ الْأَنْسَابِ قَدْ خَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ فِي عِدَّتِهَا حِينَ أَمَرَهَا أَنْ تَسْكُنَ فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَيَدْفَعُ سُكْنَاهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ : لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ الَّتِي لَهُ فِعْلُهَا وَإِنْ لَمْ تَجِبْ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَجْنَبِيٌّ يَتَطَوَّعُ بِسُكْنَاهَا فَنَنْظُرُ حَالَهُ ، فَإِنْ كَانَ مَتْهُومًا ذَا رِيبَةٍ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا ، وَإِنْ كَانَ سَلِيمًا ذَا دِينٍ قَامَ بَذْلُهُ لِسُكْنَاهَا مَقَامَ بَذْلِ الْوَرَثَةِ وَلَزِمَهَا أَنْ تَسْكُنَ حَيْثُ يُسْكِنُهَا إِذَا كَانَ مَسْكَنَ مِثْلِهَا وَأَمِنَتْ عَلَى نَفْسِهَا فَيَكُونُ وُجُوبُ السُّكْنَى عَلَيْهَا مَشْرُوطًا بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ ، فَإِنْ رَضِيَتْ بِدُونِ مَسْكَنِ مِثْلِهَا جَازَ ، وَإِنْ رَضِيَتْ بِمَا لَا يَأْمَنُهُ عَلَى نَفْسِهَا لَمْ يَجُزْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ أُذِنَ لَهَا أَنْ تَنْتَقِلَ فَنُقِلَ مَتَاعُهَا وَخَدَمُهَا وَلَمْ تَنْتَقِلْ بِبَدَنِهَا حَتَّى مَاتَ أَوْ طَلَّقَ اعْتَدَّتْ فِي بَيْتِهَا الَّذِي كَانَتْ فِيهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا أُذِنَ لِمُسْتَحَقَّةِ السُّكْنَى فِي الْعِدَّةِ أَنْ تَنْتَقِلَ مِنْ دَارِهِ إِلَى أُخْرَى ثُمَّ مَاتَ أَوْ طَلَّقَ السكنى للمعتدة من طلاق أو وفاة ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ وَهِيَ مُقِيمَةٌ فِي الدَّارِ الْأُولَى بِبَدَنِهَا ، وَرَحْلِهَا ، وَخَدَمِهَا اعْتَدَّتْ فِيهَا ، وَلَمْ تَعْتَدَّ فِي الثَّانِيَةِ وَلَمْ يَكُنْ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِذْنِ بِالنَّقْلِ بِأَثَرٍ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَنْتَقِلَ فِي الْعِدَّةِ إِلَى الدَّارِ الثَّانِيَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْتُ أَوِ الطَّلَاقُ بَعْدَ الِانْتِقَالِ إِلَى الدَّارِ الثَّانِيَةِ بِبَدَنِهَا وَرَحْلِهَا وَخَدَمِهَا اعْتَدَتْ فِي الدَّارِ الثَّانِيَةِ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَعُودَ فِي الْعِدَّةِ إِلَى الدَّارِ الْأُولَى وَإِنْ كَانَ الْمَوْتُ أَوِ الطَّلَاقُ بَعْدَ أَنْ نَقَلَتْ رَحْلَهَا وَخَدَمَهَا إِلَى الدَّارِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ مُقِيمَةٌ بِبَدَنِهَا فِي الدَّارِ الْأُولَى اعْتَدَّتْ فِي الدَّارِ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْتُ أَوِ الطَّلَاقُ بَعْدَ أَنِ انْتَقَلَتْ بِبَدَنِهَا إِلَى الدَّارِ الثَّانِيَةِ ، وَبَقِيَ رَحْلُهَا وَخَدَمُهَا فِي الدَّارِ الْأُولَى اعْتَدَّتْ فِي الدَّارِ الثَّانِيَةِ اعْتِبَارًا بِبَدَنِهَا دُونَ رَحْلِهَا وَخَدَمِهَا ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَيْمَانِ لَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَا سَكَنْتُ هَذِهِ الدَّارَ ، فَانْتَقَلَ مِنْهَا بِبَدَنِهِ دُونَ رَحْلِهِ وَخَدَمِهِ بَرَّ وَلَوْ نَقَلَ رَحْلَهُ وَخَدَمَهُ وَهُوَ مُقِيمٌ بِبَدَنِهِ حَنِثَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الِاعْتِبَارُ فِي الْأَيْمَانِ بِرَحْلِهِ وَمَالِهِ دُونَ بَدَنِهِ ، فَإِذَا حَلَفَ لَا يَسْكُنُهَا فَنَقَلَ رَحْلَهُ وَخَدَمَهُ وَهُوَ مُقِيمٌ بِبَدَنِهِ بَرَّ ، وَلَوِ انْتَقَلَ بِبَدَنِهِ وَخَلَّفَ فِيهَا رَحْلَهُ وَخَدَمَهُ

حَنِثَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَأَسْكُنَنَّ هَذِهِ الدَّارَ ، فَالْبِرُّ يَتَعَلَّقُ بِرَحْلِهِ ، وَخَدَمِهِ دُونَ بَدَنِهِ . وَقَالَ مَالِكٌ : وَإِنْ قَالَ : وَاللَّهِ لَأَسْكُنَنَّهَا تَعَلَّقَ الْبِرُّ بِنَقْلِ رَحْلِهِ وَخَدَمِهِ دُونَ بَدَنِهِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ . وَلَوْ قَالَ : وَاللَّهِ لَأَسْكُنَنَّ هَذِهِ الدَّارَ تَعَلَّقَ الْبِرُّ بِبَدَنِهِ دُونَ رَحْلِهِ وَخَدَمِهِ كَمَا قُلْنَا ، وَالصَّحِيحُ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَبَرُ مِنَ الْأَيْمَانِ مِنَ الْعِدَّةِ بِنَقْلِهِ الْبَدَنَ دُونَ الرَّحْلِ وَالْخَدَمِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ [ النُّورِ : ] فَأَخْبَرَ أَنَّ بُيُوتَ الْمَتَاعِ غَيْرُ مَسْكُونَةٍ وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [ إِبْرَاهِيمَ : ] فَأَخْبَرَ بِإِقَامَتِهِمْ فِيهِ مَعَ خُلُوِّهِمْ مِنْ رَحْلِهِمْ وَمَالِهِمْ فَثَبَتَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْبَدَنِ دُونَ الرَّحْلِ وَالْمَالِ : وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُسَافِرُ بِبَدَنِهِ دُونَ مَالِهِ يَزُولُ عَنْهُ حُكْمُ الْمُقَامِ وَتَجْرِي عَلَيْهِ صِفَةُ السَّفَرِ مِنِ اسْتِبَاحَةِ الرُّخَصِ ، وَلَوْ أَقَامَ بِبَدَنِهِ دُونَ مَالِهِ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِقَامَةِ فِي حَظْرِ الرُّخَصِ دَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِ السُّكْنَى ، وَالِانْتِقَالِ بِالْبَدَنِ دُونَ الْمَالِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنِ اعْتِبَارِ الِانْتِقَالِ بِالْبَدَنِ دُونَ الرَّحْلِ وَالْمَالِ فَطُلِّقَتْ بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنَ الدَّارِ الْأُولَى وَقَبْلَ وُصُولِهَا إِلَى الدَّارِ الثَّانِيَةِ المعتدة التى وجبت لها السكنى فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي الدَّارِ الثَّانِيَةِ : لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ هِيَ الْمَسْكَنَ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا بِالْخِيَارِ فِي أَنْ تَعْتَدَّ فِي الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةِ : لِأَنَّهَا بَيْنَهُمَا . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يُعْتَبَرَ بِالْقُرْبِ فَيَرْجِعَ حُكْمُهُ ، فَإِنْ كَانَتْ إِلَى الدَّارِ الْأُولَى أَقْرَبَ اعْتَدَّتْ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَتْ إِلَى الثَّانِيَةِ أَقْرَبَ اعْتَدَّتْ فِيهَا ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ أَبِي الْفَيَّاضِ ، وَلَكِنْ لَوِ انْتَقَلَتْ بِبَدَنِهَا إِلَى الدَّارِ الثَّانِيَةِ ، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى الْأُولَى لِتُقِلَّ رَحْلَهَا فَطَلَّقَهَا وَهِيَ فِيهَا اعْتَدَّتْ فِي الثَّانِيَةِ : لِأَنَّ عَوْدَهَا إِلَى الْأُولَى لَمْ يَكُنْ بِمُقَامٍ وَنُقْلَةٍ فَصَارَتْ كَالْمُطَلَّقَةِ إِذَا دَخَلَتْ دَارَ جَارٍ لِحَاجَةٍ .

فَصْلٌ : وَلَوْ طَلَّقَهَا فِي الدَّارِ الْأُولَى وَاحِدَةً ثُمَّ كَمَّلَ طَلَاقَهَا ثَلَاثًا فِي الدَّارِ الثَّانِيَةِ مكان العدة عَادَتْ إِلَى الدَّارِ الْأُولَى فَأَكْمَلَتْ فِيهَا بَقِيَّةَ الْعِدَّةِ الْأُولَى : لِأَنَّ أَوَّلَ عِدَّتِهَا مِنَ الطَّلَاقِ الْمَبْتُوتِ فِي الثَّانِيَةِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ فِي الْأُولَى فَلِذَلِكَ لَزِمَهَا الِاعْتِدَادُ فِيهَا آخِرًا كَمَا اعْتَدَّتْ فِيهَا أَوَّلًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ خَرَجَ مُسَافِرًا بِهَا أَوْ أَذِنَ لَهَا فِي

الْحَجِّ فَزَايَلَتْ مَنْزِلَهُ فَمَاتَ أَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَسَوَاءٌ ، وَلَهَا الْخِيَارُ فِي أَنْ تَمْضِيَ لِسَفَرِهَا ذَاهِبَةً وَجَائِيَةً وَلَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَ سَفَرَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا أَنْ يَأْذَنَ لِزَوْجَتِهِ فِي السَّفَرِ ، إِمَّا مَعَهُ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ ثُمَّ يَمُوتَ عَنْهَا أَوْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ إِذْنِهِ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ خُرُوجِهَا مِنْ مَنْزِلِهِ لَزِمَهَا أَنْ تُقِيمَ ، وَتَعْتَدَّ فِيهِ سَوَاءٌ بَرَزَتْ بِرَحْلِهَا أَمْ لَا ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْ مَنْزِلِهِ فَفِيمَا تَسْتَقِرُّ بِهِ دُخُولَهَا فِي السَّفَرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ ، وَالظَّاهِرُ مِنْ مَنْصُوصِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ بِخُرُوجِهَا مِنْ مَنْزِلِهِ قَدِ اسْتَقَرَّ لَهَا السَّفَرُ بِإِذْنِهِ وَإِنْ كَانَتْ فِي بُنْيَانِ بَلَدِهِ اعْتِبَارًا بِمُفَارَقَةِ الْمَنْزِلِ الْمَسْكُونِ فَلَا يَلْزَمُهَا بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْهُ أَنْ تُقِيمَ ، وَلَهَا أَنْ تَتَوَجَّهَ بَعْدَ الطَّلَاقِ فِي سَفَرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ دُخُولُهَا فِي السَّفَرِ إِلَّا بِمُفَارَقَةِ آخِرِ بُنْيَانِ الْبَلَدِ اعْتِبَارًا بِمُفَارَقَةِ الْبَلَدِ الْمُسْتَوْطَنِ لِتَصِيرَ بِحَيْثُ يُسْتَبَاحُ قَصْرُ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهَا مَا لَمْ تُفَارِقْ آخِرَ بُنْيَانِ الْبَلَدِ حَتَّى مَاتَ أَوْ طَلَّقَهَا أَنْ تَعُودَ إِلَيْهِ ، وَتَعْتَدَّ فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ ، فَإِنْ طُلِّقَتْ وَقَدْ فَارَقَتْ آخِرَ بُنْيَانِ الْبَلَدِ لَمْ يَلْزَمْهَا الْعَوْدُ إِلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : حَكَاهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَسْتَقِرُّ دُخُولُهَا فِي السَّفَرِ إِلَّا أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى مَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ اعْتِبَارًا بِالسَّفَرِ الَّذِي تُسْتَبَاحُ فِيهِ الرُّخَصُ فَمَا لَمْ تَبْلُغْ إِلَيْهِ فَعَلَيْهَا إِذَا مَاتَ أَوْ طَلَّقَ أَنْ تَعُودَ فِي مَنْزِلِهَا ، فَإِنْ بَلَغَتْ مَسَافَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ حِينَ مَاتَ أَوْ طَلَّقَ لَمْ يَلْزَمْهَا الْعَوْدُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا اسْتَقَرَّتْ فِي السَّفَرِ الَّذِي يَسْقُطُ بِهِ وُجُوبُ الْعَوْدِ إِلَى بَلَدِهَا إِذَا مَاتَ أَوْ طَلَّقَ المعتدة عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى خِيَارِهَا فِي الْعَوْدِ وَالتَّوَجُّهِ ، وَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِالسَّفَرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : سَفَرُ عَوْدٍ ، وَسَفَرُ نُقْلَةٍ . فَأَمَّا سَفَرُ الْعَوْدِ فَهُوَ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فِي السَّفَرِ إِلَى بَلَدِ الْحَجِّ ، أَوْ زِيَارَةٍ ، أَوْ قَضَاءِ حَاجَةٍ ثُمَّ تَعُودُ مِنْهُ فَهِيَ بَعْدَ حُدُوثِ الْمَوْتِ أَوِ الطَّلَاقِ مُخَيَّرَةٌ بَيْنَ التَّوَجُّهِ أَوِ الْعَوْدِ إِذَا كَانَتْ فِي الْحَالَيْنِ آمِنَةً لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ أَصْحَابُنَا لِتَسَاوِيهِمَا فِي أَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَوْطَنَةٍ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَالْأَوْلَى بِهَا أَنْ تَقْصِدَ أَقْرَبَ الْبَلَدَيْنِ إِلَيْهَا لِتَقْضِيَ عِدَّتَهَا فِي الْحَضَرِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَضَائِهَا فِي السَّفَرِ ، فَإِنْ قَصَدَتْ أَبْعَدَ الْبَلَدَيْنِ جَازَ وَلَا حَرَجَ عَلَيْهَا . وَأَمَّا سَفَرُ النُّقْلَةِ مسكن المعتدة في حالة حدوث الموت أو الطلاق فى سفر النقلة فَهُوَ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فِي السَّفَرِ إِلَى بَلَدٍ لِتَسْتَوْطِنَهُ وَتُقِيمَ فِيهِ فَفِيهِ عِنْدُ حُدُوثِ الْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ، كَمَا لَوْ أَمَرَهَا أَنْ تَنْتَقِلَ مِنْ دَارٍ إِلَى أُخْرَى :

أَحَدُهَا : عَلَيْهَا أَنْ تَتَوَجَّهَ إِلَى الْبَلَدِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَتَعْتَدَّ فِيهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَعُودَ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ : لِأَنَّهَا لَمَّا فَارَقَتِ الْأَوَّلَ صَارَ الثَّانِي هُوَ الْوَطَنَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا بِالْخِيَارِ فِي التَّوَجُّهِ وَالْعَوْدِ لِخُرُوجِهَا عَنْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي تَنْتَقِلُ إِلَيْهِ أَقْرَبَ فَعَلَيْهَا التَّوَجُّهُ إِلَيْهِ لِتَعْتَدَّ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَتْ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي فَارَقَتْهُ أَقْرَبَ كَانَتْ مُخَيَّرَةً بَيْنَ الْعَوْدِ وَالتَّوَجُّهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا تُقِيمُ فِي الْمِصْرِ الَّذِي أَذِنَ لَهَا فِي السَّفَرِ إِلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَذِنَ لَهَا فِي الْمُقَامِ فِيهِ أَوِ النُّقْلَةِ إِلَيْهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَيْهَا إِذَا بَلَغَتْ ذَلِكَ الْمِصْرَ فَإِنْ كَانَ أَخْرَجَهَا مُسَافِرَةً أَقَامَتْ مَا يُقِيمُ الْمُسَافِرُ ، ثَمَّ رَجَعَتْ وَأَكْمَلَتْ عِدَّتَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا وَصَلَتْ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي أَذِنَ لَهَا بِالسَّفَرِ إِلَيْهِ ، وَقَدْ عَرَفَتْ مَوْتَهُ ، أَوْ طَلَاقَهُ فِي طَرِيقِهَا فَاخْتَارَتِ التَّوَجُّهَ إِلَى الْبَلَدِ ، أَوْ عَرَفَتْهُ بَعْدَ وُصُولِهَا إِلَى الْبَلَدِ فَالْحُكْمُ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ ، وَلَا يَخْلُو حَالَةُ إِذْنِهِ لَهَا فِي السَّفَرِ مِنْ خَمْسَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فِي النُّقْلَةِ إِلَيْهِ مُسْتَوْطِنَةً لَهُ فَعَلَيْهَا أَنْ تَقْضِيَ فِيهِ عِدَّتَهَا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِيهِ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ لَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ وَطَنًا فَصَارَ كَطَلَاقِهِ لَهَا فِي بَدَنِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَأْذَنَ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ إِلَيْهِ لِحَاجَةٍ تَتَقَدَّرُ بَعْدَ دُخُولِهَا بِالْفَرَاغِ مِنْهَا إِمَّا لِحَجٍّ يُؤَدَّى ، أَوْ دَارٍ تُبْنَى لَهَا فَلَهَا الْمُقَامُ حَتَّى تُؤَدِّيَ حَجَّتَهَا وَتَبْنِيَ دَارَهَا ، وَتَسْتَكْمِلَ ، ثُمَّ لَهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ فَرَاغُهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، فَلَهَا أَنْ تَضَعَ بِنَفْسِهَا مَا شَاءَتْ مِنْ مُقَامٍ أَوْ عَوْدٍ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً فِي عِدَّتِهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ حَاجَتِهَا ، وَيُمْكِنُ إِذَا عَادَتْ إِلَى بَلَدِهَا أَنْ تَقْضِيَ فِيهِ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا فَعَلَيْهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ أَنْ تَعُودَ إِلَى بَلَدِهَا ، فَتَقْضِيَ فِيهِ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً فِي عِدَّتِهَا ، وَإِنْ عَادَتْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الْعِدَّةِ مَا تَقْضِيهِ فِي بَلَدِهَا ، فَفِي وُجُوبِ الْعَوْدِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجِبُ عَلَيْهَا الْعَوْدُ لِيَكُونَ قَضَاءَ عِدَّتِهَا . فِيمَا قَرُبَ مِنَ الْبَلَدِ إِذَا تَعَذَّرَ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَلَدِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَلْزَمُهَا الْعَوْدُ : لِأَنَّهَا لَا تُدْرِكُ قَضَاءَ الْعِدَّةِ فِي الْمِصْرِ ، وَتَكُونُ فِيهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُقَامِ وَالْعَوْدِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَأْذَنَ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ إِلَيْهِ لِمَا لَا يُفْتَقَرُ إِلَى مُقَامٍ فِيهِ مِنْ رِسَالَةٍ تُؤَدَّى أَوْ خَبَرٍ يُعْرَفُ ، فَلَيْسَ لَهَا بَعْدَ دُخُولِهِ أَنْ تُقِيمَ فِيهِ إِلَّا مُقَامَ الْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِلْمُهَاجِرِ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَخْرُجَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ إِنْ كَانَ الْمَسِيرُ مُمْكِنًا ، وَالطَّرِيقُ مَأْمُونًا لِتَعُودَ إِلَى بَلَدِهَا فَتَقْضِيَ فِيهِ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا ، فَإِنْ أَخَّرَهَا بَعْدَ الثَّلَاثِ عُذْرٌ مِنْ مَرَضٍ ، أَوْ خَوْفٍ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهَا فِي الْمُقَامِ مَا كَانَ عُذْرُهَا بَاقِيًا ، فَإِذَا زَالَتْ فَإِنْ كَانَتِ الْعِدَّةُ قَدِ انْقَضَتْ صَنَعَتْ بِنَفْسِهَا مَا شَاءَتْ وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً ، وَأَمْكَنَ أَنْ تَقْضِيَ بَقِيَّتَهَا بِبَلَدِهَا لَزِمَهَا الْعَوْدُ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ تُدْرِكْ بَقِيَّتَهَا فِي بَلَدِهَا فَفِي وُجُوبِ الْعَوْدِ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَأْذَنَ لَهَا أَنْ تُقِيمَ فِيهِ مُدَّةً قَدَّرَهَا كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا : أَقِيمِي شَهْرًا فَهَلْ لَهَا إِذَا أُدْخِلَتْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ طَلَاقِهِ أَنْ تُقِيمَ فِيهِ تِلْكَ الْمُدَّةَ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ أَنْ تُقِيمَ تِلْكَ الْمُدَّةَ لِتَقَدُّمِ الْإِذْنِ بِهَا ، وَعَلَيْهَا بَعْدَ انْقِضَائِهَا أَنْ تَعُودَ إِلَى بَلَدِهَا إِنْ أَدْرَكَتْ فِيهِ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا ، وَإِنْ لَمْ تُدْرِكْهَا فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَدْ بَطَلَ الْإِذْنُ بِالْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ لِاسْتِحْقَاقِ الْعِدَّةِ فِي الْوَطَنِ ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُقِيمَ إِلَّا مُقَامَ الْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا أَنْ يَقْطَعَهَا عُذْرٌ فَتُقِيمَ مَا بَقِيَ عُذْرُهَا . وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ : أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فِي السَّفَرِ عَنْهُ إِذْنًا مُطْلَقًا لَا يَتَضَمَّنُ مُقَامًا وَلَا عَوْدًا فَتُرَاعِيَ شَوَاهِدَ الْأَحْوَالِ فِيهِ فَإِنْ دَلَّتْ عَلَى الْمُقَامِ أَقَامَتْ ، وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى الْعَوْدِ عَادَتْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي شَوَاهِدِ الْأَحْوَالِ دَلِيلٌ اقْتَضَى مُطْلَقُ الْإِذْنِ أَنْ يَكُونَ سَفَرَ مُقَامٍ : لِأَنَّ الْعَوْدَ سَفَرٌ آخَرُ يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنٍ فِيهِ فَيَلْزَمُهَا قَضَاءُ الْعِدَّةِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي سَافَرَتْ إِلَيْهِ ، ثُمَّ لَهَا الْخِيَارُ بَعْدَ الْمُدَّةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ أَذِنَ لَهَا فِي زِيَارَةٍ أَوْ نُزْهَةٍ المعتدة من وفاة فَعَلَيْهَا أَنْ تَرْجِعَ ؛ لِأَنَّ الزِّيَارَةَ لَيْسَتْ مُقَامًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ تَأْوِيلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهَا صُورَةٌ فِي الْإِذْنِ لَهَا بِالزِّيَارَةِ وَالنُّزْهَةِ فِي بَلَدِهَا ، وَلَمْ يُرِدِ الزِّيَارَةَ وَالنُّزْهَةَ فِي غَيْرِ بَلَدِهَا إِذَا مَاتَ أَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ خُرُوجِهَا لِلزِّيَارَةِ وَالنُّزْهَةِ أَنْ تَعُودَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَتَعْتَدَّ فِيهِ وَلَا تَقُمْ عَلَى زِيَارَتِهَا وَنُزْهَتِهَا بِخِلَافِ إِذْنِهِ لَهَا فِي الِانْتِقَالِ مِنْ دَارٍ إِلَى أُخْرَى ، وَلَوْ مَاتَ أَوْ طَلَّقَ قَبْلَ خُرُوجِهَا لِلزِّيَارَةِ

وَالنُّزْهَةِ المأذون لها بالزيارة والنزهة لَمْ يَكُنْ لَهَا الْخُرُوجُ ، وَأَقَامَتْ فِي مَنْزِلِهِ لِلْعِدَّةِ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْبَلَدِ لَكَانَ حُكْمُهُ كَحُكْمِ غَيْرِهِ مِنَ السَّفَرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ تَأْوِيلُ مَنْ جَعَلَ اسْتِقْرَارَ سَفَرِهَا بِمَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي زِيَارَةٍ أَوْ نُزْهَةٍ عَلَى أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، فَعَلَيْهَا إِذَا مَاتَ أَوْ طَلَّقَ بَعْدَ خُرُوجِهَا وَقَبْلَ وُصُولِهَا أَنْ تَعُودَ ، وَلَوْ كَانَ بَعْدَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَمْ يَلْزَمْهَا الْعَوْدُ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ تَأْوِيلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ وَإِلَيْهِ أَذْهَبُ أَنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي الزِّيَارَةِ وَالنُّزْهَةِ فِي بَلَدٍ آخَرَ ، فَإِذَا مَاتَ أَوْ طَلَّقَ بَعْدَ وُصُولِهَا أَوْ فِي طَرِيقِهَا المأذون لها بالنزهة فَعَلَيْهَا بَعْدَ الْوُصُولِ أَنْ تَعُودَ لِوَقْتِهَا لِحُصُولِ الزِّيَارَةِ وَالنُّزْهَةِ عِنْدَ الْوُصُولِ فَلَا تُقِيمُ إِلَّا مُقَامَ الْمُسَافِرِ ، وَلَا يَجْعَلُ لِلزِّيَارَةِ وَالنُّزْهَةِ حَدًّا زَائِدًا عَلَى مُقَامِ الْمُسَافِرِ ، فَيَكُونُ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودَ بِالْمَسْأَلَةِ . وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ : وَهُوَ تَأْوِيلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي الزِّيَارَةِ وَالنُّزْهَةِ فِي بَلَدٍ آخَرَ ، فَإِذَا مَاتَ أَوْ طَلَّقَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ سَفَرِهَا وَقَبْلَ وُصُولِهَا المأذون لها بالزيارة والنزهة لَزِمَهَا الْعَوْدُ وَلَوْ كَانَ السَّفَرُ غَيْرَ زِيَارَةٍ أَوْ نُزْهَةٍ لَمْ يَلْزَمْهَا الْعَوْدُ وَلَعَلَّ فُرْقَةَ بَيْنِهِمَا ظُهُورُ الْحَاجَةِ فِي الْأَسْفَارِ وَعَدَمُهَا فِي الزِّيَارَةِ وَالنُّزْهَةِ ، وَهَذَا تَفْرِيقٌ لَا أَجِدُ لَهُ فِي التَّحْقِيقِ وَجْهًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا تَخْرُجُ إِلَى الْحَجِّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَا إِلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ المعتدة من وفاة إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ وَيَكُونَ مَعَ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ اجْتِمَاعَ الْعِدَّةِ وَالْإِحْرَامِ يَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَقَدَّمَ وُجُوبُ الْعِدَّةِ بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ ثُمَّ تُحْرِمُ بِالْحَجِّ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَعَلَيْهَا أَنْ تُقِيمَ لِاسْتِكْمَالِ الْعِدَّةِ ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ تَحُجَّ فِي تَضَاعِيفِهَا وَإِنْ خَافَتِ الْفَوَاتَ لِتُقَدِّمِ وُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَى الْإِحْرَامِ ، فَإِنِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَوَقْتُ الْحَجِّ مُمْكِنٌ خَرَجَتْ لِأَدَائِهِ ، وَإِنْ فَاتَهَا الْحَجُّ جَرَى عَلَيْهَا حُكْمُ فَوَاتِهِ ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَتَقَدَّمَ إِحْرَامُهَا بِالْحَجِّ عَنْ إِذْنِهِ ، ثُمَّ تَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا بِطَلَاقِهِ أَوْ مَوْتِهِ قَبْلَ أَدَائِهِ فَفَرْضُ الْحَجِّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعِدَّةِ ، فَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ مُضَيَّقًا خَرَجَتْ لِلْحَجِّ ، وَإِنْ كَانَ مُتَّسِعًا كَانَتْ مُخَيَّرَةً بَيْنَ تَقْدِيمِ الْعِدَّةِ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْحَجِّ ، وَبَيْنَ تَقْدِيمِ الْخُرُوجِ لِلْحَجِّ عَلَى الْمُقَامِ لِلْعِدَّةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْخُرُوجِ لِلْحَجِّ فَيَلْزَمُهَا الْمُقَامُ لِلْعِدَّةِ ، وَإِنْ فَاتَهَا الْحَجُّ : لِأَنَّ فَوَاتَ الْحَجِّ يُقْضَى وَفَوَاتَ الْعِدَّةِ لَا يُقْضَى ، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ فَكَانَتْ أَوْكَدَ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُفْرَدَةِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [ الْبَقَرَةِ : ] وَحَقِيقَةُ الْإِتْمَامِ

إِكْمَالُ مَا دَخَلَ فِيهِ ؛ وَلِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ مُتَقَابِلَتَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَرَجَّحَ حُكْمُ أَسْبِقِهِمَا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَقَدَّمَتِ الْعِدَّةُ عَلَى الْإِحْرَامِ غُلِّبَ حُكْمُ الْعِدَّةِ ، كَذَلِكَ إِذَا تَقَدَّمَ الْإِحْرَامُ عَلَى الْعِدَّةِ ، وَجَبَ أَنْ يُغَلَّبَ حُكْمُ الْإِحْرَامِ ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ أَغْلَظُ أَحْكَامًا مِنَ الْعِدَّةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَضْعُفَ عَنْهَا عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ . وَاسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ فَوَاتَ الْحَجِّ يُقْضَى فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّتِهِ ، وَتَغْلِيظُ حُكْمِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ عَلَى ضَعْفِهِ وَاسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ الْعِدَّةَ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الضَّعْفِ دُونَ الْقُوَّةِ : لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةَ أَوْكَدُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَتَقَدَّمَ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ عَلَى الْعِدَّةِ ، ثُمَّ تَطْرَأَ الْعِدَّةُ بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ بَعْدَ إِتْمَامِ الْحَجِّ فَيَكُونَ حُكْمُهَا فِي الْعِدَّةِ مَنْ سَافَرَتْ عَنْ إِذْنِهِ ثُمَّ وَجَبَتِ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا بَعْدَ السَّفَرِ بِمَوْتِهِ ، أَوْ طَلَاقِهِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَعُودَ إِلَى بَلَدِهَا فَتَقْضِيَ فِيهِ عِدَّتَهَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ تَتَقَدَّمَ الْعِدَّةُ عَلَى الْإِحْرَامِ ، ثُمَّ تَسْتَأْنِفَ الْإِحْرَامَ بَعْدَ كَمَالِ الْعِدَّةِ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ وَلَيْسَتْ مِنَ الْعِدَدِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا تَبَعًا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ مَا اعْتَرَضَ عَلَيْهَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ بَعْدَ كَمَالِ الْعِدَّةِ ، وَالْكَلَامُ فِي حَجِّهَا هَلْ يَفْتَقِرُ إِلَى ذِي مَحْرَمٍ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ أَنْ تُحْرِمَ لِلْحَجِّ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ سَوَاءٌ كَانَ فَرْضًا أَوْ تَطَوُّعًا تَمَسُّكًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إِنْ كَانَ الْحَجُّ فَرْضًا لَمْ يَكُنِ الْمَحْرَمُ فِيهِ شَرْطًا إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا ، وَإِذَا كَانَ تَطَوُّعًا لَمْ تَخْرُجْ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْغَرَضِ ، وَإِنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ مُعْتَبَرٌ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ ، وَلَوْ كَانَ الْمَحْرَمُ شَرْطًا لَكَانَ مِنْ شُرُوطِ الِاسْتِطَاعَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْوُجُوبِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ : يُوشِكُ أَنْ تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنَ الْحِيرَةِ تَأَمُّ الْبَيْتَ لَا جِوَارَ مَعَهَا لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ فَلَوْلَا جَوَازُهُ لِمَا أَقَرَّ عَلَيْهِ ؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ السَّفَرِ يُسْقِطُ اشْتِرَاطَ الْمَحْرَمِ فِيهِ كَالْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الشِّرْكِ ، وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ مُسْتَوْفَاةً وَتَأَوَّلْنَا الْخَبَرَ عَلَى التَّطَوُّعِ دُونَ الْفَرْضِ ، كَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا تَصُومَنَّ امْرَأَةٌ وَزَوْجُهَا حَاضِرٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَحُمِلَ عَلَى صَوْمِ التَّطَوُّعِ دُونَ الْفَرْضِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ صَارَتْ إِلَى بَلَدٍ أَوْ مَنْزِلٍ بِإِذْنِهِ وَلَمْ يَقُلْ لَهَا : أَقِيمِي ثُمَّ طَلَّقَهَا ، فَقَالَ : لَمْ أَنْقُلْكِ ، وَقَالَتْ : نَقَلْتَنِي فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا إِلَّا أَنْ تُقِرَّ هِيَ أَنَّهُ كَانَ لِلزِّيَارَةِ أَوْ مُدَّةٍ

تُقِيمُهَا فَيَكُونَ عَلَيْهَا أَنْ تَرْجِعَ وَتَعْتَدَّ فِي بَيْتِهِ وَفِي مُقَامِهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ تُقِيمَ إِلَى الْمُدَّةِ كَمَا جُعِلَ لَهَا أَنْ تُقِيمَ فِي سَفَرِهَا إِلَى غَايَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذِهِ مَسْأَلَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى فُصُولٍ قَدِ اخْتَلَطَ فِيهَا كَلَامُ أَصْحَابِنَا ، وَنَسَبُوا الْمُزَنِيَّ إِلَى السَّهْوِ فِي نَقْلِهِ وَالْخَطَأِ فِي جَوَابِهِ لِشُبْهَةٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِمْ فِي تَفْرِيقِ أُصُولِهَا ، وَسَنُوَضِّحُهَا بِمَا تَزُولُ بِهِ الشُّبْهَةُ وَيَصِحُّ فِيهَا نَقْلُ الْمُزَنِيِّ وَجَوَابُهُ ، وَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَقْدِيرِ الْجَوَابِ فِي خَمْسَةِ فُصُولٍ قَدْ ذَكَرْنَاهَا مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَيْهَا ، وَنَحْنُ نُعِيدُهَا لِنَبْنِيَ حُكْمَ اخْتِلَافِهِمْ عَلَيْهَا : أَحَدُهَا : أَنَّهُ إِذَا أَذِنَ لَهَا فِي سَفَرِالنُّقْلَةِ فَانْتَقَلَتْ ، ثُمَّ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ قَضَتِ الْعِدَّةَ فِي بَلَدِ النُّقْلَةِ ، وَلَمْ يَلْزَمْهَا الْعَوْدُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ إِنْ أَذِنَ لَهَا فِي سَفَرِ الْعَوْدَةِ ، ثُمَّ وَجَبَتِ الْعِدَّةُ بَعْدَ وُصُولِهَا لَزِمَهَا الْعَوْدُ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُقِيمَ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ إِذَا أَذِنَ لَهَا فِي السَّفَرِ إِلَيْهِ إِذْنًا مُطْلَقًا لَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ بِنُقْلَةٍ وَلَا عَوْدٍ ثم وجبت العدة حُمِلَ عَلَى سَفَرِ النُّقْلَةِ دُونَ الْعَوْدِ : لِأَنَّ الْعَوْدَ سَفَرٌ آخَرُ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى إِذْنٍ آخَرَ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ إِذَا أَذِنَ لَهَا فِي السَّفَرِ إِلَيْهِ لِنُزْهَةٍ أَوْ زِيَارَةٍ ثم وجبت العدة كَانَ سَفَرَ عَوْدٍ ، وَلَمْ يَكُنْ سَفَرَ مُقَامٍ . وَالْخَامِسُ : أَنَّهُ إِذَا أَذِنَ لَهَا فِي السَّفَرِ إِلَيْهِ لِتُقِيمَ شَهْرًا ، ثُمَّ تَعُودَ ثم وجبت العدة ، فَهَلْ لَهَا بَعْدَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ أَنْ تُقِيمَ تِلْكَ الْمُدَّةَ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا ، فَهَذِهِ خَمْسَةُ فُصُولٍ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي جَوَابِهَا مَعَ اتِّفَاقِ الزَّوْجَيْنِ عَلَيْهَا ، فَإِنِ اخْتَلَفَا فِيهَا اشْتَمَلَ اخْتِلَافُهُمَا عَلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَدَّعِيَ الزَّوْجَةُ سَفَرَ النُّقْلَةِ ، وَيَدَّعِيَ الزَّوْجُ سَفَرَ الْعَوْدِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ الزَّوْجِ فِي حَيَاتِهِ ، وَمَعَ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ : لِأَنَّ سَفَرَ النُّقْلَةِ وَاحِدٌ ، وَسَفَرَ الْعَوْدِ اثْنَانِ ، فَكَانَ الْقَوْلُ فِي الثَّانِي قَوْلَ مُنْكِرٍ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَدَّعِيَ الزَّوْجَةُ سَفَرَ الْعَوْدِ وَيَدَّعِيَ عَلَيْهَا سَفَرَ النُّقْلَةِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ خَالَفَهَا مِنَ الزَّوْجِ فِي حَيَاتِهِ ، وَالْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ : لِأَنَّهَا تَدَّعِي فِيهِ سَفَرًا ثَانِيًا فَكَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ مُنْكِرِهِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ تَدَّعِيَ فِي السَّفَرِ الْمُطْلَقِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّقْلَةُ ، وَيَدَّعِيَ عَلَيْهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّقْلَةُ ، فَقَوْلُهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي حَيَاتِهِ وَوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ : لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُمْ دُونَهَا ، فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ تَسْتَوِي حُكْمُ الِاخْتِلَافِ فِيهَا مَعَ الزَّوْجِ وَالْوَرَثَةِ ، وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ : أَنْ تَدَّعِيَ الزَّوْجَةُ سَفَرًا لِمُدَّةٍ ، وَيَدَّعِيَ عَلَيْهَا أَنَّهُ سَفَرٌ لِلنُّزْهَةِ فَإِنْ

قِيلَ : إِنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ مُقَامِ تِلْكَ الْمُدَّةِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الِاخْتِلَافِ تَأْثِيرٌ لِوُجُوبِ الْعَوْدِ فِيهِمَا لِلْوَقْتِ ، وَإِنْ قِيلَ : بِمُقَامِهَا تِلْكَ الْمُدَّةَ ، فَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهَا مَعَ الْوَرَثَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا وَإِنْ كَانَ مَعَ الزَّوْجِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَعَ تَسَاوِي الظَّاهِرِ فِي اخْتِلَافِهِمَا مُبَايَنَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الزَّوْجَانِ فَإِذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا رَجَعَ إِلَى الزَّوْجِ الْإِذْنُ فِي صِفَةِ إِذْنِهِ مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ فِي أَصْلِ إِذْنِهِ ، وَإِذَا كَانَ مَعَ الْوَرَثَةِ رَجَعَ فِيهِ إِلَى مَنْ سَوَّمَهُ بِالْإِذْنِ ، وَهِيَ الزَّوْجَةُ دُونَ الْوَرَثَةِ . وَالْقِسْمُ السَّادِسُ : أَنْ تَدَّعِيَ الزَّوْجَةُ سَفَرَ النُّزْهَةِ وَيَدَّعِيَ عَلَيْهَا أَنَّهُ سَفُرُ الْمُدَّةِ . فَإِنْ قِيلَ لَا تُقِيمُ تِلْكَ الْمُدَّةَ فَلَا تَأْثِيرَ لِاخْتِلَافِهِمَا لِوُجُوبِ الْعَوْدِ فِيهِمَا . وَإِنْ قِيلَ بِمُقَامِهَا تِلْكَ الْمُدَّةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ إِنْ كَانَ حَيًّا وَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ الْوَرَثَةِ إِنْ كَانَ مَيِّتًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فَهَذَانِ قِسْمَانِ يَخْتَلِفُ فِيهِمَا حُكْمُ الزَّوْجِ وَالْوَرَثَةِ وَإِنِ اتَّفَقَ حُكْمُهُمَا فِي تِلْكَ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ مِنَ التَّعْلِيلِ الْمُوجِبِ لِلْفَرْقِ وَالتَّسْوِيَةِ مَا يَمْنَعُ مِنْ مُخَالَفَتِهِ لِيَسْلَمَ الْمُزَنِيُّ مِنْ خَطَأٍ فِي النَّقْلِ لِحَمْلِ مُرَادِهِ عَلَى مَا وَافَقَهُ مِنْ تِلْكَ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الزَّوْجِ وَوَرَثَتِهِ وَيَسْلَمَ أَصْحَابُنَا مِنَ الْوَهْمِ فِي الشُّبْهَةِ الدَّاخِلَةِ عَلَيْهِمْ فِي تَخْطِئَتِهِ لِحَمْلِ جَوَابِهِ عَلَى مَا وَافَقَهُ مِنَ الْقِسْمَيْنِ الْمُتَأَخِّرَيْنِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الزَّوْجِ وَوَرَثَتِهِ ، وَقَدْ يَتَفَرَّعُ عَلَى الْأَقْسَامِ السِّتَّةِ أَقْسَامٌ لَا تَخْرُجُ عَنْ أَحْكَامِ الْأَقْسَامِ السِّتَّةِ إِذَا حُقِّقَ تَعْلِيلُهَا فَاسْتُغْنِيَ بِالْمَذْكُورِ عَنِ الْمُغْفَلِ ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَتَنْتَوِي الْبَدَوِّيةُ حَيْثُ يَنْتَوِي أَهْلُهَا سكن المعتدة البدوية ؛ لِأَنَّ سَكَنَ الْبَادِيَةِ إِنَّمَا هُوَ سُكْنَى مُقَامِ غِبْطَةٍ وَظَعْنِ غِبْطَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ : لِأَنَّ الْبَادِيَةَ تُخَالِفُ الْحَاضِرَةَ فِي السُّكْنَى مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : صِفَةُ الْمَسَاكِنِ : لِأَنَّ بُيُوتَ الْبَادِيَةِ خِيَامُ نُقْلَةٍ ، وَبُيُوتَ الْحَاضِرَةِ أَبْنِيَةُ مُقَامٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْبَادِيَةَ يَنْتَقِلُونَ لِلنُّجْعَةِ طَلَبَ الْكَلَأِ ، وَالْحَاضِرَةَ يُقِيمُونَ فِي أَمْصَارِهِمْ مُسْتَوْطِنِينَ فَإِذَا طُلِّقَتِ الْبَدَوِيَّةُ اعْتَدَّتْ فِي الْبَيْتِ الَّذِي هُوَ مَسَاكِنُهَا مِنْ خِيَامِ النُّقْلَةِ وَأَقَامَتْ فِيهِ مَا أَقَامَ قَوْمُهَا ، فَإِنِ انْتَقَلُوا فَلَهُمْ سَبْعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَنْتَقِلَ جَمِيعُ الْحَيِّ فَتَنْتَقِلَ بِانْتِقَالِهِمْ مُنْتَجِعَةً بِنَجِيعِهِمْ : لِأَنَّ فِي مُقَامِهَا بَعْدَهُمْ خَوْفًا عَلَيْهَا : وَلِأَنَّ حَالَ الْبَادِيَةِ هِيَ الْأَوْطَانُ لَا الْمَكَانُ .

وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تَنْتَقِلَ رِجَالُهُمْ وَتُقِيمَ نِسَاؤُهُمْ لِحَرْبٍ يَقْصِدُونَهَا فَيَلْزَمُهَا أَنْ تُقِيمَ مَعَ نِسَائِهِمْ إِذَا آمَنَّ عَلَى أَنْفُسِهِنَّ : وَلِأَنَّ انْتِقَالَ الرِّجَالِ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَسَفَرِ الْحَاضِرَةِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ تَنْتَقِلَ نِسَاؤُهُمْ وَيُقِيمَ رِجَالُهُمْ لِخَوْفٍ مِنْ عَدُوٍّ يَقْصِدُهُمْ ، فَتَنْتَقِلُ هَذِهِ مَعَ النِّسَاءِ ، وَلَا تُقِيمُ مَعَ الرِّجَالِ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَنْتَقِلَ بَعْضُ الْحَيِّ ، وَفِيهِ أَهْلُهَا وَأَهْلُ الزَّوْجِ وَيُقِيمَ بَاقِي الْحَيِّ وَلَيْسَ فِيهِ أَهْلُهَا وَلَا أَهْلُ الزَّوْجِ فَهَذِهِ تَنْتَقِلُ بِانْتِقَالِ أَهْلِهَا وَلَا تُقِيمُ بِإِقَامَةِ غَيْرِهِمْ . وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ : أَنْ يُقِيمَ أَهْلُهَا وَأَهْلُ الزَّوْجِ ، وَيَنْتَقِلَ مَنْ عَدَاهُمْ فَهَذِهِ تُقِيمُ مَعَ الْمُقِيمِينَ مِنْ أَهْلِهَا وَلَا تَنْتَقِلُ مَعَ الْمُنْتَقِلِينَ مِنْ غَيْرِهِمْ . وَالْحَالُ السَّادِسَةُ : أَنْ يَنْتَقِلَ أَهْلُهَا وَيُقِيمَ أَهْلُ الزَّوْجِ فَعَلَيْهَا أَنْ تُقِيمَ مَعَ أَهْلِ الزَّوْجِ ، وَلَا تَنْتَقِلَ مَعَ أَهْلِهَا : لِأَنَّهَا أَخَصُّ بِمَسْكَنِ الزَّوْجِ فِي الْعِدَّةِ مِنْ مَسْكَنِ أَهْلِهَا . وَالْحَالُ السَّابِعَةُ : أَنْ يَنْتَقِلَ أَهْلُ الزَّوْجِ وَيُقِيمَ أَهْلُهَا ، فَتَكُونُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الِانْتِقَالِ مَعَ أَهْلِ الزَّوْجِ لِاخْتِلَاطِ بَيْتِهَا بِبُيُوتِهِمْ ، أَوْ تُقِيمُ مَعَ أَهْلِهَا بِمَكَانِهِمْ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِمَكَانِ الطَّلَاقِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تَخْرُجُ مِنَ الْبَذَاءِ عَلَى أَهْلِ زَوْجِهَا خروج المعتدة لعذر كَانَ الْعُذْرُ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى أَوْ أَكْثَرَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : لِأَنَّ أَحْكَامَ الْإِعْذَارِ مُخَالِفَةٌ لِأَحْكَامِ الْإِخْبَارِ . وَالْإِعْذَارُ ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ يَجِبُ عَلَيْهَا الِانْتِقَالُ مَعَهُ ، وَهُوَ مَا أَدَّى إِلَى الْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهَا إِمَّا مِنْ تَلَفِ مُهْجَةٍ ، وَإِمَّا مِنْ إِتْيَانِ فَاحِشَةٍ ، فَهَذِهِ تُؤْخَذُ بِالنُّقْلَةِ جَبْرًا لِتَحْصِينِ نَفْسِهَا ، وَفَرَجِهَا . وَضَرْبٌ يَجُوزُ لَهَا الِانْتِقَالُ مَعَهُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ وَهُوَ مَا أَدَّى إِلَى الْخَوْفِ عَلَى مَالِهَا مِنْ تَلَصُّصٍ أَوْ أَذِيَّةِ جَارٍ فِي شَتْمٍ أَوْ سَفَهٍ ، فَتَكُونُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُقَامِ وَالنُّقْلَةِ ، وَلَا تُجْبَرُ عَلَى أَحَدِهِمَا مَعَ أَمْنِهَا عَلَى النَّفْسِ وَالْفَرْجِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيُخْرِجُهَا السُّلْطَانُ فِيمَا يَلْزَمُهَا ، فَإِذَا فَرَغَتْ رَدَّهَا خروج المعتدة بامر السلطان " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : لِأَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا لَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِغْنَاءِ الْحُقُوقِ مِنْهَا ، وَالْحُقُوقُ ضَرْبَانِ : حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى كَالْحُدُودِ ، وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ كَالْأَمْوَالِ . فَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى مَطَالِبِهِمْ ، فَإِنْ أَخَّرُوهَا فِي الْعِدَّةِ كَانَتْ عَلَى حَالِهَا مُقِيمَةً إِلَى انْقِضَائِهَا ، وَإِنْ طَالَبُوهَا بِحُقُوقِهِمْ لَمْ يُمْنَعُوا ، فَإِنْ خَرَجَتْ خروج المعتدة لقضاء حقوق الآدميين إِلَيْهِمْ مِنْ حُقُوقِهِمْ فِي دُيُونٍ قَضَتْهَا ، أَوْ وَدَائِعَ رَدَّتْهَا أُقِرَّتْ فِي مَسْكَنِهَا ، وَإِنِ اقْتَضَتِ الْمُحَاكَمَةُ

عِنْدَ التَّنَاكُرِ رُوعِيَ حَالُهَا ، فَإِنْ كَانَتْ بَرَزَةً أَخْرَجَهَا السُّلْطَانُ لِلْمُحَاكَمَةِ ، ثُمَّ رَدَّهَا إِلَى الْعِدَّةِ بَعْدَ انْبِرَامِ الْحُكْمِ ، وَإِنْ كَانَتْ خَفِرَةً أَنْفَذَ السُّلْطَانُ إِلَيْهَا مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ خُصُومِهَا فِي مَسْكَنِهَا كَمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الْمُعْتَدَّةِ مِنِ اعْتِبَارِ الْبُرُوزِ وَالْخَفَرِ فِي إِخْرَاجِهَا وَإِقْرَارِهَا . وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحُدُودِ فَيُعَجَّلُ اسْتِيفَاؤُهَا وَلَا يُؤَخَّرُ بِالْعِدَّةِ استيفاء الحدود من المعتدة ، وَإِنْ خَرَجَتْ بِالْمَرَضِ : لِأَنَّ اسْتِيفَاءَهَا فِي الْمَرَضِ مُفْضٍ إِلَى تَلَفِهَا بِخِلَافِ الْعِدَّةِ ، فَإِذَا أَرَادَ السُّلْطَانُ اسْتِيفَاءَ الْحُدُودِ مِنْهَا رُوعِيَ حَالُهَا أَيْضًا فِي الْبُرُوزِ وَالْخَفَرِ ، فَإِنْ كَانَتْ خَفِرَةً أَقَامَ الْحَدَّ عَلَيْهَا فِي مَنْزِلِهَا فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا أُنَيْسُ اغْدُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا وَإِنْ كَانَتْ بَرَزَةً أَخْرَجَهَا لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا ، قَوْلُهُ تَعَالَى : لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [ الطَّلَاقِ : ] وَالزِّنَا مِنْ أَكْبَرِ الْفَوَاحِشِ فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ بِمَا فِي الزِّنَا فَكَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ وَالْأَقْرَاءِ رُجِمَتْ ، وَلَمْ يُنْتَظَرْ بِهَا انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ ، وَالْعِدَّةُ مَوْضُوعَةٌ لِمَنْعِهَا مِنَ الْأَزْوَاجِ وَرَجْمُهَا أَمْنَعُ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْحَمْلِ أُخِّرَتْ حَتَّى تَضَعَ أَوْ يَنْفَشَّ حَمْلُهَا ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يُقَامُ عَلَى حَامِلٍ ، وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا فِي الزِّنَا جُلِدَتْ ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا فَفِي تَغْرِيبِهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا تُغَرَّبُ إِلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ تَغْلِيبًا لِحَقِّ الزَّوْجِ فِي تَحْصِينِ مَائِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تُغَرَّبُ حَوْلًا إِلَى أَحْصَنِ الْمَوَاضِعِ وَيُرَاعَى تَحْصِينُهَا فِي التَّغْرِيبِ فِي بَقِيَّةِ الْعِدَّةِ ، فَإِنِ اسْتَكْمَلَتْ حَوْلَ التَّغْرِيبِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَجَبَ رَدُّهَا إِلَى مَنْزِلِهَا لِتَقْضِيَ فِيهِ بَقِيَّةَ الْعِدَّةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيُكْتَرَى عَلَيْهِ إِذَا غَابَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّ فِي السُّكْنَى حَقًّا لَهَا فِي الْمَسْكَنِ وَحَقًّا عَلَيْهَا فِي الْمُقَامِ فِيهِ ، فَإِنْ مَلَكَ الزَّوْجُ مَسْكَنًا لَزِمَهُ إِقْرَارُهَا فِيهِ إِذَا كَانَ فِيهِ طَلَاقُهَا مسكن المعتدة ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ مَسْكَنًا اكْتَرَاهُ بِمَالِهِ إِنْ حَضَرَ ، وَاكْتَرَاهُ السُّلْطَانُ عَلَيْهِ إِنْ غَابَ إِذَا وَجَدَ لَهُ مَالًا المسكن للمعتدة على زوجها : لِأَنَّ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْحُقُوقَ مِمَّنْ غَابَ عَنْهَا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ مَالًا اقْتَرَضَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِيهِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : إِمَّا أَنْ يَقْتَرِضَ عَلَيْهِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ فَيَكُونَ دَيْنًا عَلَى الزَّوْجِ يَأْخُذُهُ بِأَدَائِهِ إِذَا قَدِمَ ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فِي اكْتِرَاءِ مَسْكَنٍ تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِأُجْرَتِهِ إِذَا قَدِمَ ، وَبَيْنَ أَنْ يُقْرِضَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أُجْرَةَ مَسْكَنٍ يُطَالِبُهُ بِهِ إِذَا حَضَرَ ، فَإِنْ كَانَ السُّلْطَانُ هُوَ الْمُقْتَرِضَ عَلَيْهِ ، إِمَّا مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ اكْتَرَى لَهَا مَسْكَنًا تَرْضَاهُ لِنَفْسِهَا ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْحَالَيْنِ أَنْ تَتَجَاوَزَ بِهِ مَسْكَنَ مِثْلِهَا .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا بِالْمَدِينَةِ فِيمَا مَضَى أَكْرَى مَنْزِلًا إِنَّمَا كَانُوا يَتَطَوَّعُونَ بِإِنْزَالِ مَنِازِلِهِمْ وَبِأَمْوَالِهِمْ مَعْ مَنَازِلِهِمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالَّذِي أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِذَلِكَ أَنَّ الْحَاكِمَ يَكْتَرِي عَلَى الْغَائِبِ مَسْكَنًا إِذَا لَمْ يَجِدْ مُتَطَوِّعًا بِمَسْكَنٍ المسكن للمعتدة ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ لَمْ يَكْتَرِ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ مَسْكَنًا عَلَى زَوْجِهَا وَلَا فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ بَعْدَهُ ، فَلِأَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ كَانُوا يَتَطَوَّعُونَ بِإِعَارَةِ مَنَازِلِهِمْ وَلَا يَكْرُونَهَا ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ فِي زَمَانِنَا مَوْجُودًا فِي عُرْفِ بَعْضِ الْبِلَادِ اسْتَعَارَهُ الْحَاكِمُ لَهَا وَلَمْ يَكْتَرِهِ عَلَى زَوْجِهَا ، وَإِنَّمَا اكْتَرَاهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ مُعِيرًا ؛ وَسَوَاءٌ وُجِدَ الْمُعِيرُ فِي بَلَدٍ عُرْفُهُ الْعَارِيَةُ أَوِ الْكِرَاءُ ، وَأَمَّا الزَّوْجُ إِذَا طَلَّقَهَا وَهِيَ فِي مَسْكَنٍ مُعَارٍ فَأَرَادَ نَقْلَهَا مِنْهُ إِلَى مَسْكَنٍ يَكْتَرِيهِ المرأة المعتدة ، فَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ عُرْفُ أَهْلِهِ الْعَارِيَةُ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَقْلُهَا مِنْهُ مَا لَمْ يَرْجِعْ أَهْلُهُ فِي إِعَارَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ عُرْفُ أَهْلِهِ الْكِرَاءُ فَفِي جَوَازِ نَقْلِهَا مِنْهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ لَهُ نَقْلُهَا مَا لَمْ يَرْجِعْ أَهْلُهُ فِي إِعَارَتِهِ كَالْبَلَدِ الْمَعْهُودِ إِعَارَتُهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَهُ نَقْلُهَا مِنْهُ كَيْ لَا يَلْحَقَهُ مِنَ الْمِنَّةِ فِيهِ مَا لَا يَلْحَقُهُ فِي الْبَلَدِ الْمَعْهُودِ إِعَارَتُهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ تَكَارَتْ فَإِنَّ الْكِرَاءَ كَانَ لَهَا مِنْ يَوْمِ تَطْلُبُهُ وَمَا مَضَى حَقُّ تَرِكَتِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا طَالَبَتِ الْمُعْتَدَّةُ بِالسُّكْنَى بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ حُكِمَ لَهَا بِسُكْنَى مَا بَقِيَ مِنَ الْعِدَّةِ ، وَسَقَطَ حَقُّهَا فِيمَا مَضَى قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ هَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَبْتُوتَةُ ذَاتَ حَمْلٍ وَطَالَبَتْ نَفَقَتَهَا بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ الْمُدَّةِ حُكِمَ لَهَا بِنَفَقَةِ مَا مَضَى وَمَا بَقِيَ ، وَهَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي نَفَقَةِ الْحَامِلِ فَخَالَفَ فِيمَا مَضَى بَيْنَ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَجْمَعُ بَيْنَ الْحَوْلَيْنِ ، وَيُخَرِّجُ اخْتِلَافَ نَصِّهِ فِيهِمَا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُحْكَمُ لَهَا بِالسُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي النَّفَقَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يُحْكَمُ لَهَا بِالسُّكْنَى وَلَا بِالنَّفَقَةِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي السُّكْنَى ، وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إِلَى حَمْلِ الْجَوَابِ مِنْهُمَا عَلَى ظَاهِرِهِ فَيُحْكَمُ لَهَا فِيمَا مَضَى بِالنَّفَقَةِ وَلَا يُحْكَمُ لَهَا بِالسُّكْنَى . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ السُّكْنَى تَشْتَمِلُ عَلَى حَقٍّ لَهَا ، وَعَلَى حَقٍّ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ لَهَا الْمَسْكَنَ وَعَلَيْهَا الْمُقَامُ ، فَإِذَا تَرَكَتِ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهَا فِي تَحْصِينِ مَاءِ الزَّوْجِ حَيْثُ

يَشَاءُ ، وَأَقَامَتْ حَيْثُ شَاءَتْ سَقَطَ الْحَقُّ الَّذِي لَهَا كَمَا أَسْقَطَتِ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهَا : لِأَنَّ الْحَقَّيْنِ إِذَا تَقَابَلَا كَانَ سُقُوطُ أَحَدِهِمَا مُوجِبًا لِسُقُوطِ الْآخَرِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ نَفَقَةُ الْحَامِلِ : لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهَا تَفَرَّدَتْ بِهِ إِمَّا بِحَمْلِهَا ، وَإِمَّا لَهَا لِأَجْلِ الْحَمْلِ ، وَلَيْسَ مُقَابَلَةَ حَقٍّ عَلَيْهَا فَلَمْ يَسْقُطْ بِمُضِيِّ زَمَانِهِ لِوُجُودِ مَعْنَى اسْتِحْقَاقِهَا كَالدُّيُونِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَا سُكْنَى لَهَا بِمَا مَضَى قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ ، وَلَهَا السُّكْنَى فِيمَا بَقِيَ بَعْدَهَا ، وَكَانَ زَوْجُهَا غَائِبًا أَتَتِ الْحَاكِمَ حَتَّى يَحْكُمَ لَهَا بِالسُّكْنَى لِيَكُونَ دَيْنًا لَهَا عَلَى الزَّوْجِ ، فَإِنْ عَدَلَتْ عَنِ الْحَاكِمِ نفقة المعتدة الحامل التى وجبت لها السكنى وَهِيَ قَادِرَةٌ عَلَيْهِ لَمْ تَرْجِعْ ، وَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى الْحَاكِمِ ، وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَى نَفْيِهَا بِالرُّجُوعِ لَمْ يَرْجِعْ وَإِنْ أَشْهَدَتْ عَلَى نَفْسِهَا أَنَّهَا تَتَكَارَى مَسْكَنًا عَلَى زَوْجِهَا فَفِي رُجُوعِهَا عَلَيْهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تَرْجِعُ عَلَيْهِ لِلضَّرُورَةِ . وَالثَّانِي : لَا تَرْجِعُ : لِأَنَّ مَا كَانَ الْحَاكِمُ شَرْطًا فِيهِ لَمْ يَثْبُتْ مَعَ عَدَمِهِ كَالْعُنَّةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَأَمَّا امْرَأَةُ صَاحِبِ السَّفِينَةِ إِذَا كَانَتْ مُسَافِرَةً مَعَهُ فَكَالْمَرْأَةِ الْمُسَافِرَةِ إِنْ شَاءَتْ مَضَتْ وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ إِلَى مَنْزِلِهِ فَاعْتَدَّتْ بِهِ المرأة المعتدة " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ الزَّوْجُ صَاحِبَ سَفِينَةٍ فَسَافَرَ بِزَوْجَتِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا فَلَا يَخْلُو حَالُ صَاحِبِ السَّفِينَةِ مِنْ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ لَهُ مَسْكَنٌ غَيْرُ السَّفِينَةِ فِي بَلَدٍ مُسْتَوْطَنَةٍ إِذَا عَادَ مِنْ سَفَرِهِ ، فَتَكُونُ الْمُطَلَّقَةُ فِي عِدَّتِهَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَعْتَدَّ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ إِذَا اتَّسَعَتْ وَبَيْنَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى بَلَدِهِ فَتَعْتَدَّ فِي مَنْزِلِهِ ، كَمَا قُلْنَا فِي الْمُسَافِرَةِ فِي الْبَرِّ إِذَا طُلِّقَتْ بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْ بَلَدِهَا . وَالثَّانِي : لَا يَكُونُ لَهَا مَسْكَنٌ غَيْرُ سَفِينَتِهِ فَهِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَعْتَدَّ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ ، وَبَيْنَ أَنْ تَصْعَدَ إِلَى الْبَرِّ فَتَعْتَدَّ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ ، ثُمَّ فِيهِ إِنْ صَعِدَتْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّ لَهَا إِذَا صَعِدَتْ أَنْ تَعْتَدَّ فِي أَيِّ بَلَدٍ شَاءَتْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهَا تَعْتَدُّ فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي طَلَّقَهَا فَأَمَّا مُقَامُهَا مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ فَمُعْتَبَرٌ بِحَالِ السَّفِينَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً كَالْمَرَاكِبِ الْبَحْرِيَّةِ إِذَا انْفَرَدَتْ فِي مَوْضِعٍ مِنْهَا ، وَحَجَزَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَلَمْ تَقَعْ عَيْنُهُ عَلَيْهَا جَازَ أَنْ

تَعْتَدَّ مَعَهُ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَا حَاجِزَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا ذُو مَحْرَمٍ جَازَ أَنْ تَعْتَدَّ فِيهَا إِذَا سَتَرَتْ عَنْهُ نَفْسَهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ لَمْ يَجُزْ كَالدَّارِ الصَّغِيرَةِ وَكَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَصْعَدَ إِلَى الْأَرْضِ ، فَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى الصُّعُودِ فَهِيَ حَالُ ضَرُورَةٍ فَتَعْتَدَّ فِيهَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ سُكْنَى الْمُعْتَدَّةِ فِي الْمَسْكَنِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ تَعْتَدَّ فِيهِ فَأَرَادَتِ الْخُرُوجَ مِنْهُ خروج المعتدة من المسكن فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : خُرُوجُ نُقْلَةٍ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ يُخَافُ بِهَا عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ فَيَجُوزُ مَعَهَا الِانْتِقَالُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إِلَيْهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ لِحَاجَةٍ تَعُودُ عَلَيْهِ بَعْدَ قَضَائِهَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ أَوْ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ . فَإِنْ كَانَتْ فِي عِدَّةِ وَفَاةٍ جَازَ أَنْ يُخْرَجَ بِهَا فِي حَوَائِجِهَا وَتَعُودَ لَيْلًا إِلَى مَسْكَنِهَا وَرَوَى مُجَاهِدٌ ، قَالَ : اسْتُشْهِدَ رِجَالٌ يَوْمَ أُحُدٍ فَجَاءَ نِسَاؤُهُمْ ، وَكُنَّ مُتَجَاوِرَاتٍ فِي دَارٍ فَجِئْنَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقُلْنَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْتَوْحِشُ اللَّيْلَ فَنَبِيتُ عِنْدَ إِحْدَانَا ، فَإِذَا أَصْبَحْنَا تَبَدَّدْنَا إِلَى بُيُوتِنَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَحَدَّثْنَ عِنْدَ إِحْدَاكُنَّ مَا بَدَا لَكُنَّ ، فَإِذَا أَرَدْتُنَّ النَّوْمَ فَلْتَأْتِ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْكُنَّ إِلَى بَيْتِهَا وَإِنَّمَا لَمْ يُفْسِحْ لَهُنَّ فِي مُفَارَقَةِ مَنَازِلِهِنَّ لَيْلًا وَفَسَحَ لَهُنَّ فِي مُفَارَقَتِهَا نَهَارًا ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ زَمَانُ الْخَلَوَاتِ وَالِاسْتِخْفَاءِ بِالْفَوَاحِشِ فَمَنَعَهُنَّ تَحْصِينًا لَهُنَّ وَحِفْظًا لِمِيَاهِ أَزْوَاجِهِنَّ فِي زَمَانِ الْحَذَرِ مِنَ اللَّيْلِ ، وَرَخَّصَ لَهُنَّ فِي زَمَانِ الْأَمْنِ مِنَ النَّهَارِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ بَاتٍّ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهَا لَيْلًا لِمَا ذَكَرْنَا ، وَفِي جَوَازِ خُرُوجِهَا نَهَارًا لِلْحَاجَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَخْرُجَ نَهَارًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [ الطَّلَاقِ : ] . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ مَالِكٍ : يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ نَهَارًا ، وَإِنْ لَمْ يُسْتَحَبَّ كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا : لِمَا رَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ : طُلِّقَتْ خَالَتِي ، فَأَرَادَتْ أَنْ تَجُدَّ نَخْلَهَا فَزَجَرَهَا رَجُلٌ عَنِ الْخُرُوجِ ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ ، فَقَالَ : بَلَى فَجُذِّيَ نَخْلَكِ فَلَعَلَّكِ أَنْ تَتَصَدَّقِي أَوْ تَفْعَلِي خَيْرًا مَعْرُوفًا ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : نَخْلُ الْأَنْصَارِ قَرِيبٌ مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَالْجُدَادُ يَكُونُ نَهَارًا فَأَذِنَ فِيهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْإِحْدَادِ

بَابُ الْإِحْدَادِ مِنْ كِتَابَيِ الْعِدَدِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَمَّا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَكَانَتْ هِيَ وَالْمُطَلَّقَةُ الَّتِي لَا يَمْلِكُ زَوْجُهَا رَجْعَتَهَا مَعًا فِي عِدَّةٍ ، وَكَانَتَا غَيْرَ ذَوَاتَيْ زَوْجَيْنِ أَشْبَهَ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ إِحْدَادٌ كَهُوَ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ فَأُحِبُّ ذَلِكَ لَهَا وَلَا يَبِينُ أَنْ أُوجِبَهُ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ تَخْتَلِفَانِ فِي حَالٍ ، وَإِنِ اجْتَمَعَتَا فِي غَيْرِهِ وَلَوْ لَمْ يَلْزَمِ الْقِيَاسُ إِلَّا بَاجْتِمَاعِ كُلِّ الْوُجُوهِ بَطَلَ الْقِيَاسُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَقَدْ جَعَلَهُمَا فِي الْكِتَابِ الْقَدِيمِ فِي ذَلِكَ سَوَاءً ، وَقَالَ فِيهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْإِحْدَادُ تعريفه فَهُوَ الِامْتِنَاعُ وَالزِّينَةُ مِنْ لِبَاسٍ وَغَيْرِ لِبَاسٍ إِذَا كَانَ يَبْعَثُ عَلَى شَهْوَةِ الرِّجَالِ لَهَا ، وَسُمِّيَ إِحْدَادًا لِمَا فِيهِ مِنَ الِامْتِنَاعِ كَمَا سُمِّيَ الْحَدِيدُ حَدِيدًا : لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ بِهِ وَسُمِّيَ حَدَّ الزِّنَى : لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ مُعَاوَدَتِهِ فَلَا يَجِبُ الْإِحْدَادُ عَلَى غَيْرِ مُعْتَدَّةٍ . فَأَمَّا الْمُعْتَدَّاتُ فَثَلَاثٌ ، مُعْتَدَّةٌ يَجِبُ الْإِحْدَادُ عَلَيْهَا ، وَمُعْتَدَّةٌ لَا يَجِبُ الْإِحْدَادُ عَلَيْهَا ، وَمُعْتَدَّةٌ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِ الْإِحْدَادِ عَلَيْهَا . فَأَمَّا الْمُعْتَدَّةُ الَّتِي يَجِبُ الْإِحْدَادُ عَلَيْهَا فَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَيَجِبُ الْإِحْدَادُ عَلَيْهَا ، قَالَ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّ الْإِحْدَادَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ لَمَّا أَتَاهَا نَعْشُ زَوْجِهَا جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسَلَّبِي ثَلَاثًا فَدَلَّ عَلَى اقْتِصَارِهِ بِنَاءً عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَنَّ مَا عَدَاهَا غَيْرُ وَاجِبٍ . وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهِ فِي الْعِدَّةِ بِأَسْرِهَا مَا رَوَاهُ حُمَيْدُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ ، وَهِيَ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ حِينَ تُوُفِّيَ أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ فَدَعَتْ بِطِيبٍ فِيهِ صُفْرَةُ خَلُوقٍ فَمَسَّتْ بِعَارِضَيْهَا ، ثُمَّ قَالَتْ : وَاللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنِّي

سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا . قَالَتْ زَيْنَبُ ، وَدَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ مِنْهُ ، وَقَالَتْ وَاللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ : لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا . قَالَتْ زَيْنَبُ : فَسَمِعْتُ أُمِّي أُمَّ سَلَمَةَ تَقُولُ : جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بِنْتِي تُوَفِّيَ زَوْجُهَا ، وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا فَنَكْحُلُهَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَا ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرِ وَعَشْرٌ ، وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ قَالَ حُمَيْدٌ ، قُلْتُ : لِزَيْنَبَ مَا تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ ؟ فَقَالَتْ زَيْنَبُ : كَانْتِ الْمَرْأَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا دَخَلَتْ حِفْشًا ، وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا ، وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا وَلَا شَيْئًا حَتَّى يَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ ، ثُمَّ تَأْتِي بِدَابَّةٍ أَوْ حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَائِرٍ فَقَلَّمَا تَقْبِضُ بِشَيْءٍ إِلَّا مَاتَ يَعْنِي لِطُولِ أَظْفَارِهَا ، ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعْرَةً فَتَرْمِي بِهَا ، ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا ، وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ تَدُلُّ كُلُّهَا عَلَى وُجُوبِ الْإِحْدَادِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ ، وَقَدْ فَسَّرَ الشَّافِعِيُّ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْغَرِيبِ فَقَالَ : " الْحِفْشُ هُوَ الْبَيْتُ الصَّغِيرُ الذَّلِيلُ مِنَ الشَّعْرِ وَالْبِنَاءِ وَغَيْرِهِ " . وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ : " هُوَ الْبَيْتُ الصَّغِيرُ السُّمْكِ ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ هَلَّا جَلَسَ فِي حِفْشِ أُمِّهِ وَسُمِّيَ حِفْشًا لِصِغَرِهِ . وَأَنَّهُ يَجْمَعُهَا ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْمَرْأَةِ حَفَشَتْ زَوْجَهَا إِذَا حَلَّلَتْهُ بِنَفْسِهَا . وَقِيلَ لِلزَّوْجِ الْحِفْشُ ، وَقَوْلُهَا : فَتَقْبِضُ فِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ الْقَبْضُ بِالْكَفِّ ، وَرَوَى غَيْرُهُ فَتَقْتَضُّ الْقَضَّ مِنَ الَّذِي هُوَ الْكَسْرُ ، لِأَنَّ الْقَبْضَ الَّذِي هُوَ الْأَخْذُ بِالْكَفِّ يَئُولُ إِلَى الْقَضِّ الَّذِي هُوَ الْكَسْرُ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِمَا يُئُولُ إِلَيْهِ ، وَأَمَّا الْبَعْرَةُ فَفِي إِلْقَائِهَا تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ تَأْوِيلُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تُرِيدُ بِإِلْقَائِهَا أَنَّهَا قَدْ أَلْقَتْ حُقُوقَهُ عَنْهَا بِأَدَائِهَا كَإِلْقَاءِ الْبَعْرَةِ . وَالثَّانِي : تَعْنِي بِإِلْقَائِهَا أَنَّ مَا مَضَى عَلَيْهَا مِنْ بُؤْسِ الْحَوْلِ هَيِّنٌ فِي وُجُوبِ حَقِّهِ كَهَوَانِ الْبَعْرَةِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ لِأَسْمَاءَ : تَسَلَّبِي ثَلَاثًا فَهُوَ مَحْمُولٌ إِنْ صَحَّ عَلَى أَنَّهُ كَرَّرَ الْقَوْلَ عَلَيْهَا تَسَلَّبِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَأْكِيدًا لِأَمْرِهِ ، فَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ ذَلِكَ كَثِيرًا وَفِي مَعْنَى تَسَلَّبِي تَأْوِيلَانِ :

أَحَدُهُمَا : نَزْعُ الْحُلِيِّ وَالزِّينَةِ ، حَكَاهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَالثَّانِي : لُبْسُ الثِّيَابِ السُّودِ ، وَهِيَ تُسَمَّى السِّلَابَ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : يَخْمِشْنَ حُرَّ أَوْجُهٍ صِحَاحٍ فِي السُّلُبِ السُّودِ وَفِي الْأَمْسَاحِ

فَصْلٌ : وَأَمَّا الَّتِي لَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا فَهِيَ الرَّجْعِيَّةُ لَا يَجِبُ الْإِحْدَادُ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا زَوْجَةٌ تَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ الزَّوْجَاتِ ، وَفِي اسْتِحْبَابِ الْإِحْدَادِ لَهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُسْتَحَبُّ لَهَا لِيَظْهَرَ بِالْإِحْدَادِ أَسَفٌ عَلَيْهِ فَيَحْنُوَ عَلَيْهَا ، وَيَرْغَبَ فِي مُرَاجَعَتِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُسْتَحَبُّ لَهَا ، وَتُنْدَبُ إِلَى التَّصَنُّعِ لَهُ بِالزِّينَةِ لِيَمِيلَ إِلَيْهَا فَيَرْغَبَ فِي مُرَاجَعَتِهَا .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِي وُجُوبِ الْإِحْدَادِ عَلَيْهَا فَهِيَ الْمَبْتُوتَةُ ، وَالْمُخْتَلِعَةُ ، وَالْمُلَاعِنَةُ فَالْإِحْدَادُ مُسْتَحَبٌّ لَهُنَّ وَفِي وُجُوبِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيِّ أَنَّ الْإِحْدَادَ فِي عِدَّةِ الْبَنَاتِ وَاجِبٌ كَوُجُوبِهِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ ؛ لِأَنَّهُمَا عِدَّتَانِ عَنْ نِكَاحٍ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِمَا فِيهَا لِزَوْجٍ : وَلِأَنَّ عِدَّةَ الْمَبْتُوتَةِ أَغْلَظُ مِنْ عِدَّةِ الْوَفَاةِ : لِأَنَّهَا تُمْنَعُ مِنَ الْخُرُوجِ نَهَارًا وَلَا تُمْنَعُ مِنْ عِدَّةِ الْوَفَاةِ ، فَكَانَتْ بِالْإِحْدَادِ أَوْلَى . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا كَالرَّجْعِيَّةِ ؛ لِأَنَّهَا فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ : وَلِأَنَّ النِّكَاحَ مَوْضُوعٌ ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ : اسْتَنْكَحَهُ الْمَرَضُ إِذَا دَاوَمَهُ ، فَإِذَا مَاتَ عَنْهَا فَقَدِ اسْتَوْفَى مُدَّةَ نِكَاحِهِ فَوَجَبَ الْإِحْدَادُ فِي عِدَّتِهِ لِرِعَايَةِ حُرْمَتِهِ ، وَخَالَفَ الْمَبْتُوتَةَ : لِأَنَّهُ قَدْ أَبَى عِصْمَتَهَا فَلَمْ يَجِبِ الْإِحْدَادُ فِي عِدَّتِهِ لِقَطْعِ حُرْمَتِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَاعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي فُرْقَةِ الْإِحْدَادِ بَيْنَ عِدَّةِ الْمَوْتِ هل يجب فيه الإحداد وَعِدَّةِ الطَّلَاقِ : لِأَنَّهُمَا قَدْ يَخْتَلِفَانِ فِي حَالٍ ، وَإِنِ اجْتَمَعَا فِي غَيْرِهِ فَأَنْكَرَ الْمُزَنِيُّ هَذَا التَّعْلِيلَ فِي فُرْقَتِهِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُمَا قَدْ يَخْتَلِفَانِ فِي حَالٍ إِذَا اجْتَمَعَا فِي أُخْرَى ، فَقَالَ : كُلُّ مَا قِيسَ عَلَى أَصْلٍ فَهُوَ مُشْتَبِهٌ لَهُ مِنْ وَجْهٍ ، وَإِنْ خَالَفَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَجَعَلَ الْمُزَنِيُّ اجْتِمَاعَهُمَا فِي حَالٍ يُوجِبُ اشْتِرَاكَهُمَا وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي أُخْرَى ثُمَّ قَالَ : لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْقِيَاسِ إِلَّا بِاجْتِمَاعِ كُلِّ الْوُجُوهِ لَبَطَلَ الْقِيَاسُ . وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ لِلْمُزَنِيِّ : أَمَّا آخِرُ كَلَامِكَ فِي أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقِيَاسِ

اجْتِمَاعُ كُلِّ الْوُجُوهِ فَصَحِيحٌ : لِأَنَّ اشْتِرَاكَ الشَّيْئَيْنِ الْمَتْبُوعَيْنِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ مُمْتَنِعٌ ، وَلَوِ اشْتَرَكَا لَمْ يَتَنَوَّعَا ، وَأَمَّا أَوَّلُ كَلَامِكَ فِي اعْتِرَاضِكَ فَلَيْسَ إِذَا اجْتَمَعَ الشَّيْئَانِ مِنْ وَجْهٍ ، وَاخْتَلَفَا مِنْ وَجْهٍ وَجَبَ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ لِأَجْلِ الِاجْتِمَاعِ ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا فِيهِ لِأَجْلِ الِاخْتِلَافِ عَلَى إِرْسَالِ هَذَا الْقَوْلِ وَإِطْلَاقِهِ : لِأَنَّهُ لَوْ غُلِّبَ حُكْمُ الِاجْتِمَاعِ لِمَا اخْتَلَفَ حُكْمَانِ : لِأَنَّهُ مَا مِنْ شَيْئَيْنِ فِي الْعَالَمِ إِلَّا وَقَدْ يَشْتَرِكَانِ فِي الْحُدُوثِ ، وَلَوْ غُلِّبَ حُكْمُ الِاخْتِلَافِ لِمَا اجْتَمَعَ حُكْمَانِ : لِأَنَّهُ مَا مِنْ نَوْعٍ إِلَّا وَقَدْ يُخَالِفُ غَيْرَهُ ، وَإِنَّمَا يُجْمَعُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إِذَا اجْتَمَعَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي غَيْرِهِ ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ وَإِنِ اجْتَمَعَا فِي غَيْرِهِ ، وَهَذَا هُوَ مُرَادُ الشَّافِعِيِّ فَلَمْ يَكُنْ لِاعْتِرَاضِ الْمُزَنِيِّ عَلَيْهِ وَجْهٌ ، فَإِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ فِي وُجُوبِ الْإِحْدَادِ فِي الْعِدَّةِ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ الْبَائِنَةِ عَنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ فِي الْعِدَّتَيْنِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ ، وَإِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ لَزِمَ فِي عِدَّةِ الْمَوْتِ ، وَلَمْ يَلْزَمْ فِي عِدَّةٍ الطَّلَاقِ عَلَى مَا رَجَّحَهُ الشَّافِعِيُّ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا تَجْتَنِبُ الْمُعْتَدَّةُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَأُمُّ الْوَلَدِ مَا تَجْتَنِبُ الْمُعْتَدَّةُ ، وَيَسْكُنَّ حَيْثُ شِئْنَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَوَطْءِ شُبْهَةٍ لَا إِحْدَادَ عَلَيْهِمَا ، وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ بَعْدَ مَوْتِ سَيِّدِهَا ، وَالْأَمَةُ الْمُسْتَبْرَأَةُ فِي مِلْكٍ الحداد للأمة وأم الولد : لِأَنَّ الْإِحْدَادَ فِيهَا تَأَكَّدَتْ حُرْمَتُهُ مِنْ عُقُودِ الْمَنَاكِحِ الصَّحِيحَةِ رِعَايَةً لِحَقِّ الزَّوْجِ وَحِفْظًا لِحُرْمَتِهِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَقْصُودٌ فِيمَنْ ذَكَرْنَا مِنْ غَيْرِ الزَّوْجَاتِ حُكْمَهُنَّ فِي الْإِحْدَادِ . وَالْفَصْلُ الثَّانِي : فِي السُّكَّنْى فَلَا سُكْنَى لِلْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ وَلَا لِلْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبِ السُّكْنَى قَبْلَ الْعِدَّةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجِبَ فِي الْعِدَّةِ ، وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبِ السُّكْنَى قَبْلَ الْعِدَّةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجِبَ فِي الْعِدَّةِ وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ لَا سُكْنَى لَهَا : لِأَنَّ سُكْنَاهَا وَجَبَ بِالرِّقِّ فَسَقَطَ بِالْعِتْقِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ سُكْنَى سَكَنَّ حَيْثُ شِئْنَ فَإِنْ أَحَبَّ الْوَاطِئُ بِشُبْهَةٍ أَوْ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ تَحْصِينَ مَائِهِ فَبَذَلَ السُّكْنَى أُجْبِرَتِ الْمُعْتَدَّةُ عَلَى السُّكْنَى حَيْثُ شَاءَ الْوَاطِئُ ، وَكَذَلِكَ وَرَثَةُ السَّيِّدِ فِي أُمِّ الْوَلَدِ إِذَا بَذَلُوا سُكْنَاهَا لِتَحْصِينِهَا سَكَنَتْ حَيْثُ شَاءُوا لِئَلَّا تُدْخِلَ عَلَيْهِمْ نَسَبًا لَيْسَ مِنْهُمْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنَّمَا الْإِحْدَادُ فِي الْبَدَنِ وَتَرْكِ زِينَةِ الْبَدَنِ وَهُوَ أَنْ تُدْخِلَ عَلَى الْبَدَنِ شَيْئًا مِنْ غَيْرِهِ أَوْ طِيبًا يَظْهَرُ عَلَيْهَا فَيَدْعُوَ إِلَى شَهْوَتِهَا "

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : لِأَنَّ الْإِحْدَادَ مُخْتَصٌّ بِالْبَدَنِ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ إِدْخَالِ الزِّينَةِ عَلَيْهِ الَّتِي تَتَحَرَّكُ بِهَا شَهْوَةُ الْجِمَاعِ ، إِمَّا شَهْوَتُهَا لِلرِّجَالِ ، وَإِمَّا شَهْوَةُ الرِّجَالِ لَهَا : لِأَنَّهُ لَمَّا حَرَّمَ نِكَاحَهَا وَوَطْأَهَا حَرَّمَ دَوَاعِيَهَا كَالْمُحْرِمَةِ ، وَدَاوَعِيهَا مَا اخْتَصَّ بِالْبَدَنِ لَا مَا فَارَقَهُ مِنْ مَسْكَنٍ وَفَرْشٍ : لِأَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهَا فِي اسْتِحْسَانِ مَا سَكَنَتْ وَافْتَرَشَتْ ، وَإِنَّمَا الْحَرَجُ فِيمَا زَيَّنَتْ بِهِ بَدَنَهَا وَتَحَرَّكَتْ بِهِ الشَّهْوَةُ لَهَا وَمِنْهَا ، فَوَافَقَتِ الْمُحْرِمَةَ فِي حَالٍ ، وَفَارَقَتْهَا فِي حَالٍ ، فَأَمَّا حَالُ الْمُوَافِقَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَحْرِيمُ الِاسْتِبَاحَةِ بِوَطْءٍ أَوْ عَقْدٍ . وَالثَّانِي : حَظْرُ مَا حَرَّكَ الشَّهْوَةَ مِنْ طِيبٍ وَتَرْجِيلٍ . وَأَمَّا حَالُ الْمُفَارَقَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي مَعْنَى الْحَظْرِ ، وَأَنَّهُ فِي الْمُحْرِمَةِ مَا أَزَالَ الشَّعَثَ ، وَلِذَلِكَ مُنِعَتْ مِنْ أَخْذِ الشَّعْرِ وَتَقْلِيمِ الْأَظَافِرِ وَأُبِيحَ لَهَا الْحُلِيُّ وَالزِّينَةُ ، وَمَعْنَى الْحَظْرِ فِي الْمُعْتَدَّةِ اسْتِعْمَالُ الزِّينَةِ ، وَلِذَلِكَ مُنِعَتْ مِنَ الْحُلِيِّ وَزِينَةِ الثِّيَابِ ، وَأُبِيحُ لَهَا أَخْذُ الشَّعْرِ وَتَقْلِيمُ الْأَظَافِرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْمَحْظُورَ عَلَى الْمُحْرِمَةِ يُوجِبُ الْفِدْيَةَ عَلَيْهَا ، وَالْمَحْظُورَ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ لَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ عَلَيْهَا الزينة : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِأُمِّ سَلَمَةَ فِي إِحْدَادِهَا أَنْ تَكْتَحِلَ بِالصَّبِرِ لَيْلًا وَتَمْسَحَهُ نَهَارًا ، وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِالْفِدْيَةِ وَأَذِنَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنْ يَحْلِقَ شَعْرَهُ فِي إِحْرَامِهِ ، وَأَمَرَهُ بِالْفِدْيَةِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى أَنَّ الْفِدْيَةَ فِي الْإِحْرَامِ لَمَّا وَجَبَتْ فِي فَاسِدِهِ وَجَبَتْ فِي مَحْظُورَاتِهِ ، وَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الْفِدْيَةُ فِي فَاسِدِ الْعِدَّةِ لَمْ تَجِبْ فِي مَحْظُورَاتِهَا ، وَسَنَصِفُ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْدَادِ كَمَا وَصَفْنَا كُلَّ نَوْعٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَمِنْ ذَلِكَ الدُّهْنُ كُلُّهُ فِي الرَّأْسِ ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ الْأَدْهَانِ فِي تَرْجِيلِ الشَّعْرِ وِإِذْهَابِ الشَّعَثِ سَوَاءٌ ، وَهَكَذَا الْمُحْرِمُ يَفْتَدِي بِأَنْ يَدْهِنَ رَأْسَهُ ، أَوْ لِحْيَتَهُ بِزَيْتٍ لِمَا وَصَفْتُ ، وَأَمَّا مَدُّ يَدَيْهَا فَلَا بَأْسَ إِلَّا الطِّيبَ للمعتدة كَمَا لَا يَكُونُ بِذَلِكَ بَأْسٌ لِلْمُحْرِمِ وَإِنْ خَالَفَتِ الْمُحْرِمَ فِي بَعْضِ أَمْرِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الدُّهْنُ فَمِمَّا تَسْتَوِي فِيهِ الْمُعْتَدَّةُ وَالْمُحْرِمَةُ لِوُجُودِ مَعْنَاهُمَا فِيهِ : لِأَنَّهُ يُحْدِثُ الزِّينَةَ فَمُنِعَتْ مِنْهُ الْمُعْتَدَّةُ ، وَيُزِيلُ الشَّعَثَ فَمُنِعَتْ مِنْهُ الْمُحْرِمَةُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : طِيبٍ ، وَغَيْرِ طِيبٍ ، فَأَمَّا الطِّيبُ فَنَوْعَانِ : مَا كَانَ طِيبًا لِذَاتِهِ كَالْبَانِ . الثَّانِي : مَا أُدْخِلَ عَلَيْهِ الطِّيبُ كَالْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ ، وَهُمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ ، وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ أَنْ تَسْتَعْمِلَهُ فِي الشَّعْرِ وَالْبَدَنِ استعمال المعتدة الدهن : لِأَنَّهُ طِيبٌ وَتَرْجِيلٌ .

وَأَمَّا غَيْرُ الطِّيبِ فَكَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهَا اسْتِعْمَالُهُ فِي تَرْجِيلِ الشَّعْرِ لِمَا يُحْدِثُ فِيهِ مِنْ حُسْنِ مَنْظَرِهِ وَشِدَّةِ بَصِيصِهِ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا اسْتِعْمَالُهُ فِي بَدَنِهَا : لِأَنَّ فِيهِ تَنْمِيسَ الْبَدَنِ وَاجْتِذَابَ الْوَسَخِ ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ زِينَةٌ تُمْنَعُ بِهِ الْمُعْتَدَّةُ وَلَا إِزَالَةُ الشَّعَثِ تُمْنَعُ بِهِ الْمُحْرِمَةُ ، فَلَوْ قَرِعَ رَأْسُهَا حَتَّى ذَهَبَ شَعْرُهَا جَازَ أَنْ تَسْتَعْمِلَهُ فِي رَأْسِهَا كَمَا تَسْتَعْمِلُهُ فِي بَدَنِهَا : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِذَهَابِ الشَّعْرِ كَالْبَدَنِ وَلَوْ حَلَقَتْهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَدْهِنَهُ : لِأَنَّ شَعْرَهَا يَنْبُتُ بَصِيصًا مُرَجَّلًا ، وَلَوْ نَبَتَ فِي وَجْهِهَا شَعْرُ لِحْيَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَسْتَعْمِلَهُ فِيهَا وَإِنْ نُفِخَتْ بِاللِّحْيَةِ لِمَا فِي الدُّهْنِ مِنْ تَرْجِيلِهَا وَبَصِيصِ شَعْرِهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَكُلُّ كُحْلٍ كَانَ زِينَةً فَلَا خَيْرَ فِيهِ لَهَا ، فَأَمَّا الْفَارِسِيُّ وَمَا أَشْبَهَهُ إِذَا احْتَاجَتْ إِلَيْهِ فَلَا بَأْسَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزِينَةٍ بَلْ يَزِيدُ الْعَيْنَ مَرَهًا وَقُبْحًا وَمَا اضْطُرَّتْ إِلَيْهِ مِمَّا فِيهِ زِينَةٌ مِنَ الْكُحْلِ اكْتَحَلَتْ بِهِ لَيْلًا وَتَمْسَحُهُ نَهَارًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ ، وَحَظْرُ الْكُحْلِ مُخْتَصٌّ بِالْمُعْتَدَّةِ دُونَ الْمُحْرِمَةِ : لِأَنَّهُ زِينَةٌ وَلَا يُزِيلُ الشَّعَثَ ، وَهُوَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا فِيهِ زِينَةٌ كَالْإِثْمِدِ وَهُوَ الْأَسْوَدُ ، وَالصَّهْرُ وَهُوَ الْأَصْفَرُ فَهُوَ زِينَةٌ : لِأَنَّ الْأَسْوَدَ يَصِيرُ عِنْدَ الِاكْتِحَالِ بِهِ كَالْخُطَّةِ السَّوْدَاءِ فِي أُصُولِ أَهْدَابِ الْعَيْنَيْنِ بَيْنَ بَيَاضَيْنِ ، بَيَاضِ الْعَيْنِ ، وَبَيَاضِ الْمُحَاجِرِ فَصَارَ تَحْسِينًا لَهَا وَزِينَةً ، فَأَمَّا الْأَصْفَرُ فَإِنَّهُ يُصَفِّرُ مَوْضِعَهُ وَيُحَسِّنُهُ كَالْخِضَابِ فَلِأَجْلِ الزِّينَةِ مُنِعَتْ مِنْهُ الْمُعْتَدَّةُ ، رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ ، قَالَتْ : جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بِنْتِي تُوُفِّيَ زَوْجُهَا عَنْهَا وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَيْهَا فَنَكْحُلُهَا ؟ فَقَالَ : لَا ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَا ؛ وَلِأَنَّ التَّزَيُّنَ بِذَلِكَ مِمَّا يَعْطِفُ أَبْصَارَ الرَّجُلِ فَيَدْعُوهُمْ إِلَى شَهْوَتِهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مِنْهُ مَا لَا زِينَةَ فِيهِ كَالْفَارِسِيِّ ، وَهُوَ الْأَبْيَضُ مِنَ الْبُرُودِ وَالْعَنْزَرُوتِ وَالتُّوتْيَا فَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِهِ المعتدة ؛ لِأَنَّهُ لَا تَحْسِينَ فِيهِ بَلْ يَزِيدُ الْعَيْنَ مَرَهًا وَقُبْحًا ، وَلَا وَجْهَ لِمَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ زِينَةٌ لِبِيضِ النِّسَاءِ ، وَلَيْسَ بِزِينَةٍ لِسُمْرِهِنَّ وَسُودِهِنَّ كَنِسَاءِ مَكَّةَ فَيُمْنَعُ مِنْهُ الْبِيضُ وَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ السُّمْرُ وَالسُّودُ ، بَلْ هُوَ فِي جَمِيعِ النِّسَاءِ إِلَى اخْتِلَافِ أَلْوَانِهِنَّ مُبَاحٌ ، وَلَوِ اخْتَلَفَ حُكْمُهُ لِاخْتِلَافِ الْأَلْوَانِ لِلنِّسَاءِ لَكَانَ الْأَبْيَضُ بِالسُّمْرِ وَالسُّودِ أَحْرَى أَنْ يَكُونَ زِينَةً مِنْهُ بِالْبِيضِ ، وَلَكَانَ الْأَسْوَدُ مِنْهُ مُخْتَلِفَ الْحُكْمِ فِي الْبِيضِ وَالسُّودِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ : لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِلَوْنِهِ لَا بِلَوْنِ مُسْتَعْمِلِهِ ، فَإِنِ اسْتَعْمَلَتِ الْمُعْتَدَّةُ كُحْلَ الزِّينَةِ فِي غَيْرِ عَيْنِهَا مِنْ يَدِهَا جَازَ : لِأَنَّهُ يَزِيدُ مَا سِوَى الْعَيْنِ مِنَ الْبَدَنِ تَشْوِيهًا وَقُبْحًا إِلَّا الْأَصْفَرَ مِنْهُ الَّذِي لَهُ لَوْنٌ إِذَا طُلِيَ بِهِ الْجَسَدُ كَالصَّبِرِ حَسَّنَهُ فَتَمَنَّعَ مِنْهُ فِيمَا ظَهَرَ مِنَ الْجَسَدِ كَالْوَجْهِ وَلَا تُمْنَعُ مِنْهُ فِيمَا يُظَنُّ لِامْتِدَادِ الْأَبْصَارِ إِلَى مَا ظَهَرَ دُونَ مَا بَطَنَ فَإِنِ

اضْطُرَّتِ الْمُعْتَدَّةُ إِلَى اسْتِعْمَالِ كُحْلِ الزِّينَةِ لِمَرَضٍ بِعَيْنِهَا اسْتَعْمَلَتْهُ لَيْلًا وَمَسَحَتْهُ نَهَارًا : رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَنَا حَادَّةٌ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ ، وَقَدْ جَعَلْتُ عَلَى عَيْنِي صَبِرًا ، فَقَالَ : مَا هَذَا يَا أُمَّ سَلَمَةَ ، فَقَالَتْ : إِنَّمَا هُوَ صَبِرٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ ، قَالَ : إِنَّهُ يُشِبُّ الْوَجْهُ فَلَا تَجْعَلِيهِ إِلَّا بِاللَّيْلِ وَتَنْزِعِيهِ بِالنَّهَارِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَكَذَلِكَ الدِّمَامُ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَهِيَ حَادَّةٌ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ فَقَالَ " مَا هَذَا يَا أُمَّ سَلَمَةَ ؟ " فَقَالَتْ إِنَّمَا هُوَ صَبْرٌ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ " اجْعَلِيهِ بِاللَّيْلِ وَامْسَحِيهِ بِالنَّهَارِ " ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : الصَّبْرُ يَصْفَرُّ فَيَكُونُ زِينَةً وَلَيْسَ بِطِيبٍ فَأَذِنَ لَهَا فِيهِ بِاللَّيْلِ حَيْثُ لَا يُرَى وَتَمْسَحُهُ بِالنَّهَارِ حَيْثُ يُرَى ، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالدِّمَامُ هُوَ مَا يُغْشَى بِهِ الْجَسَدُ ، أَوْ يُطْلَى عَلَيْهِ حَتَّى يُغَيِّرَ لَوْنَهُ وَيُحَسِّنَهُ كَإِسْفِيذَاجِ الْعَرَائِسِ الَّذِي يُبَيِّضُ اللَّوْنَ ، وَكَالْحُمْرَةِ الَّتِي يُوَرَّدُ بِهَا الْخَدُّ وَالْوَجْهُ ، فَهُوَ مَحْظُورٌ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ فِي الْإِحْدَادِ كَالصَّبْرِ الَّذِي نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ سَلَمَةَ عَنْهُ سُمِّيَ دِمَامًا مِنْ قَوْلِهِمْ قِدْرٌ مَدْمُومَةٌ إِذَا طَلَى عَلَيْهَا الْكَلْكُونَ أَوْ نَحْوَهُ ، فَهَذَا مِمَّا يُمْنَعُ مِنْهُ الْمُعْتَدَّةُ فِي الْإِحْدَادِ الدمام أو الصبر : لِأَنَّهُ زِينَةٌ ، وَلَا تُمْنَعُ مِنْهُ الْمُحْرِمَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُزِيلُ الشَّعَثَ ، وَهَكَذَا الْخِضَابُ تُمْنَعُ مِنْهُ بِالْحِنَّاءِ ، أَوِ الْكَتَمِ سَوَاءٌ تُرِكَ عَلَى حُمْرَتِهِ أَوْ غُيِّرَ حَتَّى اسْوَدَّ لِأَنَّهُمَا مَعًا زِينَةٌ وَتَحْصِينٌ . رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَنْ تَكْتَحِلَ أَوْ تَخْتَضِبَ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ لَوْنٍ طُلِيَ بِهِ الْجَسَدُ فَحَسَّنَهُ مُنِعَتْ مِنْهُ الْمُعْتَدَّةُ فِي إِحْدَادِهَا : لِأَنْ لَا يَدْعُوَ شَهْوَةَ الرِّجَالِ إِلَيْهَا : لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِهِ إِلَّا التَّصَنُّعَ لَهُمْ بِالزِّينَةِ ، فَإِنِ اسْتَعْمَلَتْهُ فِيمَا خَفِيَ مِنْ جَسَدِهَا وَوَارَتْهُ ثِيَابُهَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهَا : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِأُمِّ سَلَمَةَ فِي الصَّبْرِ لَيْلًا وَنَهَاهَا عَنْهُ نَهَارًا : لِأَنَّهُ يَخْفَى بِاللَّيْلِ عَنِ الْأَبْصَارِ وَيُرَى فِي النَّهَارِ فَكَذَلِكَ مَا أَخْفَاهُ ثِيَابُهَا وَلَمْ تَرَهُ الْأَبْصَارُ غَيْرَ أَنَّهَا إِنْ فَعَلَتْهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ كُرِهَ ، فَإِنْ كَانَ لِحَاجَةٍ لَمْ يُكْرَهْ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الطِّيبُ فَتُمْنَعُ الْمُعْتَدَّةُ فِي إِحْدَادِهَا مِنِ اسْتِعْمَالِ جَمِيعِهِ مِنْ ذِي لَوْنٍ فِي بَخُورٍ وَطَلْيٍ : لِأَنَّهُ زِينَةٌ ، وَلِأَنَّهُ يُحَرِّكُ الشَّهْوَةَ ، وَيَسْتَوِي فِي حَظْرِهِ الْمُعْتَدَّةُ وَالْمُحْرِمَةُ : لِأَنَّهُ يُزِيلُ شَعَثَ الْمُحْرِمَةِ ، وَيُحْدِثُ الزِّينَةَ فِي الْمُعْتَدَّةِ فَإِنْ أَرَادَتِ الْمُعْتَدَّةُ أَنْ تَتَطَيَّبَ فِيمَا خَفِيَ مِنْ جَسَدِهَا لَمْ يَجُزْ بِخِلَافِ الْخِضَابِ ؛ لِأَنَّ الطِّيبَ رَائِحَتُهُ تَظْهَرُ فَتُحَرِّكُ الشَّهْوَةَ بِخِلَافِ الْخِضَابِ ، وَهَكَذَا لَوْ أَرَادَتْ أَنْ تَتَطَيَّبَ لَيْلًا دُونَ النَّهَارِ وَلَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ

يُحَرِّكُ شَهْوَتَهَا وَإِنْ لَمْ يُحَرِّكْ شَهْوَةَ غَيْرِهَا ، وَالْخِضَابُ لَا يُحَرِّكُ إِلَّا شَهْوَةَ غَيْرِهَا فَافْتَرَقَا . فَأَمَّا الْمَبْتُوتَةُ فِي الْعِدَّةِ فَالطِّيبُ مَحْظُورٌ عَلَيْهَا إِنْ وَجَبَ الْإِحْدَادُ عَلَيْهَا ، وَفِي حَظْرِهِ إِنْ لَمْ يَجِبِ الْإِحْدَادُ عَلَيْهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَحْرُمُ كَمَا لَا يَحْرُمُ غَيْرُهُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْدَادِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَحْرُمُ عَلَيْهَا لِاخْتِصَاصِهِ مِنْ بَيْنِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْدَادِ بِتَحْرِيكِ شَهْوَتِهَا وَشَهْوَةِ الرِّجَالِ لَهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَفِي الثِّيَابِ زِينَتَانِ إِحْدَاهُمَا جَمَالُ اللَّابِسِينَ وَتَسْتُرُ الْعَوْرَةَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [ الْأَعْرَافِ : ] فَالثِّيَابُ زِينَةٌ لِمَنْ لَبِسَهَا فَإِذَا أَفْرَدَتِ الْعَرَبُ التَّزَيُّنَ عَلَى بَعْضِ اللَّابِسِينَ دُونَ بَعْضٍ ، فَإِنَّمَا مِنَ الصَّبْغِ خَاصَّةً وَلَا بَأْسَ أَنْ تَلْبَسَ الْحَادُّ كُلَّ ثَوْبٍ مِنَ الْبَيَاضِ لَأَنَّ الْبَيَاضَ لَيْسَ بِمُزَيِّنٍ الثياب المباح لبسه للمعتدة وَكَذَلِكَ الصُّوفُ وَالْوَبَرُ وَكُلُّ مَا نُسِجَ عَلَى وَجْهِهِ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ صَبْغٌ مِنْ خَزٍّ أَوْ غَيْرِهِ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ صَبْغٍ لَمْ يُرَدْ بِهِ تَزْيِينُ الثَّوْبِ مِثْلِ السَّوَادِ وَمَا صُبِغَ لِيُقَبِّحَ لِحُزْنٍ أَوْ لِنَفْيِ الْوَسَخِ عَنْهُ ، وَصِبَاغُ الْغَزْلِ بِالْخُضْرَةِ يُقَارِبُ السَّوَادَ لَا الْخُضْرَةَ الضَّافِيَةَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ زِينَةٍ أَوْ شَيْءٍ فِي ثَوْبٍ وَغَيْرِهِ فَلَا تَلْبَسْهُ الْحَادُّ الثياب المحظور لبسه على المعتدة " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدِ اسْتَوْفَيْنَا نَقْلَ هَذَا الْفَصْلِ ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوحٌ ، وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَى عِلَلِهِ . وَجُمْلَةُ الثِّيَابِ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَ عَلَى جِهَتِهِ لَمْ تَدْخُلْ عَلَيْهِ زِينَةٌ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ زِينَةً يَتَزَيَّنُ بِهَا اللَّابِسُ ، وَيَسْتُرُ بِهَا الْعَوْرَةَ عَلَى مَا سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الزِّينَةِ فِي قَوْلِهِ : خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [ الْأَعْرَافِ : ] وَذَلِكَ هُوَ الْبَيَاضُ مِنْ جَمِيعِ الثِّيَابِ فَمِنْهَا الْقُطْنُ أَرْفَعُهُ وَأَدْوَنُهُ وَمِنْهَا الْكَتَّانُ أَرْفَعُهُ وَأَدْوَنُهُ سَمَّاهُ الشَّافِعِيُّ ثِيَابَ الْوَرَعِ ، وَمِنْهَا الْوَبَرُ أَرْفَعُهُ وَهُوَ الْخَزُّ وَأَدْوَنُهُ وَهُوَ الْمِعْزَى ، وَمِنْهَا الصُّوفُ أَرْفَعُهُ وَأَدْوَنُهُ ، وَمِنْهَا الْإِبْرَيْسَمُ وَهُوَ رَفِيعُ الْجِنْسِ فَيَجُوزُ لَهَا لُبْسُ الْبَيَاضِ كُلِّهِ مَقْصُورًا وَخَامًا ؛ لِأَنَّ الْقِصَارَةَ كَالْغَسْلِ فِي إِنْقَاءِ الثَّوْبِ وَإِذْهَابِ وَسَخِهِ ، فَإِنْ كَانَ عَلَى بَيَاضِ الثِّيَابِ طُرُزٌ ، فَإِنْ كَانَتْ أَعْلَامًا كِبَارًا لَمْ يَجُزْ أَنْ تَلْبَسَهَا ؛ لِأَنَّهَا زِينَةٌ ظَاهِرَةٌ قَدْ أُدْخِلَتْ عَلَى الثَّوْبِ ، وَإِنْ كَانَتْ صِغَارًا خَفِيَّةً فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا زِينَةٌ تَمْنَعُ مِنْ لُبْسِهَا .

وَالثَّانِي : أَنَّهَا عَفْوٌ لَا تَمْنَعُ مِنْ لُبْسِهَا لِخَفَائِهَا . وَالثَّالِثُ : أَنَّهَا إِنْ رُكِّبَتْ بَعْدَ النَّسْجِ كَانَتْ زِينَةً مَحْضَةً تَمْنَعُ مِنْ لُبْسِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ نَسِيجَةً مَعَهَا لَمْ تَمْنَعْ مِنْ لُبْسِهَا : لِأَنَّهَا غَيْرُ مَزِيدَةٍ فِي الثَّوْبِ .

فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مِنَ الثِّيَابِ مَا غَيَّرَ بَيَاضَهَا بِالْأَصْبَاغِ الْمُلَوَّنَةِ حَتَّى تَصِيرَ زِينَةً الثياب المحظور لبسه على المعتدة فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُمْزَجَ لَوْنُهُ بِالنُّقُوشِ كَالْوَشْيِ وَالسَّقْلَاطُونِ أَوْ بِالتَّخْطِيطِ كَالْعَتَّابِيِّ فَهُوَ إِدْخَالُ زِينَةٍ مَحْضَةٍ عَلَى الثَّوْبِ وَتَسْتَوِي جَمِيعُ الْأَلْوَانِ فِي حَظْرِهِ عَلَى الْحَادِّ مِنْ سَوَادٍ وَغَيْرِ سَوَادٍ سَوَاءٌ كَانَ نَقْشُهُ نَسْجًا أَوْ تَرْكِيبًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُصْبَغَ جَمِيعُهُ لَوْنًا وَاحِدًا فَأَلْوَانُ الْأَصَابِغِ تَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا كَانَ زِينَةً مَحْضَةً وَهُوَ الْأَحْمَرُ صَافِيهِ وَمُشَبَّعُهُ ، وَالْأَصْفَرُ صَافِيهِ وَمُشَبَّعُهُ فَلُبْسُهُ مَحْظُورٌ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ فِي الْإِحْدَادِ ؛ لِأَنَّهُ زِينَةٌ ، وَلَيْسَ بِمَحْظُورٍ عَلَى الْمُحْرِمَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُزِيلُ الشَّعَثَ . رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا تَلْبَسِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا الْمُعَصْفَرَ وَلَا الْمَمْشُوقَ ، وَلَا الْحُلِيَّ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مِنَ الصَّبْغِ مَا لَمْ يَكُنْ زِينَةً وَكَانَ شِعَارًا فِي الْإِحْدَادِ وَلِإِخْفَاءِ الْوَسَخِ ، وَهُوَ السَّوَادُ صَافِيهِ وَمُشَبَّعُهُ فَلَا يُمْنَعُ الْحَادُّ لُبْسَهُ : لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَزِدْهَا قُبْحًا لَمْ يُكْسِبْهَا جَمَالًا وَهُوَ لُبْسُ الْإِحْدَادِ وَشِعَارُهُ حَتَّى اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ لُبْسِهِ فِي الْإِحْدَادِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجِبُ لِاخْتِصَاصِهِ بِشِعَارِ الْحُزْنِ وَالْمَصَائِبِ . وَالثَّانِي : يُسْتَحَبُّ وَلَا يَجِبُ لِاخْتِصَاصِ الْوُجُوبِ بِمَا يَجْتَنِبُهُ دُونَ مَا يَسْتَعْمِلُهُ ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ حِينَ أَتَاهَا نَعْيُ زَوْجِهَا جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ تَسَلَّبِي فَأَحَدُ تَأْوِيلَيْهِ : أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ لُبْسَ السَّوَادِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لُبْسُهُ وَاجِبًا فِي الْإِحْدَادِ لِأَمْرِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ نَزْعَ الْحُلِيِّ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ لُبْسُهُ وَاجِبًا : لِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ أَمْرٌ ، وَيَكُونُ نَزْعُ الْحُلِيِّ وَاجِبًا لِمَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِ مِنَ النَّهْيِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مِنَ الْأَلْوَانِ مَا يَخْتَلِفُ حَالُ مُشَبَّعِهِ وَصَافِيهِ ، وَهُوَ الْخُضْرَةُ وَالزُّرْقَةُ فَإِنْ كَانَا صَافِيَيْنِ مُشْرِقَيْنِ فَهُمَا زِينَةٌ كَالْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ ، فَتُمْنَعُ الْحَادُّ مِنْ لُبْسِهَا لِاخْتِصَاصِهَا بِالزِّينَةِ ، وَإِنْ كَانَا مُشَبَّعَيْنِ بَيْنَ بَيْنَ ، كَمُشَبَّعِ الْحُلِيِّ وَالْأَخْضَرِ فَهُمَا كَالسَّوَادِ

يَدْخُلَانِ عَلَى الثَّوْبِ لِإِخْفَاءِ الْوَسَخِ فَلَا تُمْنَعُ الْحَادُّ مِنْ لُبْسِهَا ، وَيُفَارِقَانِ السَّوَادَ فِي وُجُوبِ لُبْسِهِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَلَا فَرْقَ فِي أَلْوَانِ الزِّينَةِ الْمَحْظُورَةِ عَلَيْهَا مِنْ صَبْغِ الْغَزْلِ بِهَا قَبْلَ نَسْجِهِ ، وَبَيْنَ صَبْغِ الثَّوْبِ بِهَا بَعْدَ نَسْجِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا فِي الْحَالَيْنِ زِينَةٌ ، وَوَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَفَرَّقَ بَيْنَ مَا صُبِغَ قَبْلَ النَّسْجِ وَبَعْدَهُ فَمَنَعَ مِنَ الْمَصْبُوغِ بَعْدَ نَسْجٍ ، وَأَبَاحَ الْمَصْبُوغَ قَبْلَ نَسْجِهِ وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي شَرْحِهِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عُمُومُ نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُبْسِ الْمُعَصْفَرِ الْمَمْشُوقِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَصْبُوغَ قَبْلَ النِّسَاجَةِ أَحْسَنُ ، وَهُوَ بِذَوِي النَّبَاهَةِ أَخَصُّ ، فَكَانَ بِالْحَظْرِ أَحَقَّ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْحُلِيُّ مَحْظُورٌ عَلَيْهَا فِي الْإِحْدَادِ المرأة المعتدة لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ ؛ وَلِأَنَّ نَزْعَهُ أَحَدُ التَّأْوِيلَيْنِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَسْمَاءَ : تَسَلَّبِي وَهَذَا مِمَّا تُخْتَصُّ بِهِ الْمُعْتَدَّةُ بِحَظْرِهِ دُونَ الْمُحْرِمَةِ : لِأَنَّهُ زِينَةٌ وَلَيْسَ لَهُ فِي زَوَالِ الشَّعَثِ تَأْثِيرٌ ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ حُلِيُّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاللُّؤْلُؤِ أَوِ الْجَوَاهِرِ ، وَسَوَاءٌ مَا كَثُرَ مِنْهُ كَالْخَلَاخِلَةِ وَالْأَسْوِرَةِ وَمَا قَلَّ كَالْخَوَاتِيمِ وَالْأَقْرَاطِ ، فَأَمَّا إِنْ تَحَلَّتْ بِالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ تحلى المعتدة بغير الذهب فَإِنْ كَانَ مُمَوَّهًا بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ أَوْ كَانَ مُشَابِهًا لِلْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ إِلَّا بَعْدَ شِدَّةِ التَّأَمُّلِ فَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنْ لُبْسِهِ أَيْضًا كَمَا تُمْنَعُ مِنْ لُبْسِ حُلِيِّ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ فِي لِبَاسِهِ وَتَحْسِينِهَا الدَّاعِي إِلَى اسْتِحْسَانِهَا ، فَإِنَّهُ الْمَقْصُودُ بِلُبْسِ الْحُلِيِّ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ . وَمَا الْحُلِيُّ إِلَّا زِينَةٌ لِنَقِيضَةٍ يُتِمُّ مِنْ حُسْنٍ إِذَا الْحُسْنُ قَصَّرَا فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْجَمَالُ مُوَفَّرًا كَحُسْنِكِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَنْ يُزَوَّدَا فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُشَبَّهْ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَتَمَيَّزَ عَنْهُمَا فِي النَّظَرِ رُوعِيَ فِيهِ حَالُ الْمُعْتَدَّةِ ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ جَرَتْ عَادَتُهُمْ أَنْ يَتَحَلَّوْا بِالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ مُنِعَتْ مِنْ لُبْسِهِ فِي الْإِحْدَادِ : لِأَنَّهُ زِينَةٌ لَهُمْ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ لَا يَتَحَلَّوْنَ بِهِ ، وَإِنَّمَا يَسْتَعْمِلُونَهُ لِمَا يَتَصَوَّرُونَ فِيهِ مِنَ الْحِرْزِ وَالنَّفْعِ جَازَ لَهَا لُبْسُهُ : لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزِينَةٍ لَهَا ، فَإِذَا أَرَادَتِ الْمُعْتَدَّةُ فِي إِحْدَادِهَا أَنْ تَلْبَسَ حُلِيَّهَا لَيْلًا وَتَنْزِعَهُ نَهَارًا جَازَ ذَلِكَ لَكِنْ إِنْ فَعَلَتْ ذَاكَ لِإِحْرَازِهِ لَمْ يُكْرَهْ وَإِنْ فَعَلَتْهُ لِغَيْرِ إِحْرَازٍ وَحَاجَةٍ كُرِهَ وَإِنْ لَمْ يَحْرُمْ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا عَدَا زِينَةَ جَسَدِهَا مِنْ زِينَةِ مَنْزِلِهَا وَزِينَةِ فُرِشِهَا ما يباح للمعتدة فى الحداد فَلَا تُمْنَعُ مِنْهُ : لِأَنَّهُ لَيْسَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا عَلَى الْإِحْدَادِ مِنَ الْأَجَانِبِ مَنْ يَرَاهَا فِيهِ فَيُحَسِّنُهَا ، وَكَذَلِكَ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا أَنْ تَنَامَ عَلَى فِرَاشٍ أَوْ تَضَعَ رَأْسَهَا عَلَى وِسَادَةٍ المرأة المعتدة ، وَلَا تُمْنَعُ مِنْ أَكْلِ اللَّحْمِ وَالْحَلْوَاءِ وَسَائِرِ الْمَآكِلِ الْمُشْتَهَاةِ المرأة المعتدة لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ .

فَأَمَّا أَكْلُ مَا فِيهِ طِيبٌ مِنَ الْحَلْوَاءِ أَوِ الطَّبِيخِ فَهُوَ مَحْظُورٌ عَلَيْهَا المرأة المعتدة : لِأَنَّهُ يُحَرِّكُ شَهْوَتَهَا لِلرِّجَالِ وَإِنْ لَمْ تَتَحَرَّكْ لَهَا شَهْوَةُ الرِّجَالِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَكَذَلِكَ كُلُّ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ كَبِيرَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ مُسْلِمَةٍ أَوْ ذِمِّيَّةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى ثَلَاثَةِ مَسَائِلَ : أَحَدُهَا : فِي الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ ، فَأَمَّا الْحُرَّةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا وُجُوبَ الْإِحْدَادِ عَلَيْهَا ، وَأَمَّا الْأَمَةُ فَهِيَ فِي الْإِحْدَادِ كَالْحُرَّةِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ ، فَأَمَّا السُّكْنَى فَإِنْ تَرَكَ السَّيِّدُ اسْتِخْدَامَهَا وَجَبَ لَهَا السُّكْنَى كَالْحُرَّةِ وَلَزِمَهَا الْجَمْعُ بَيْنَ السُّكْنَى وَالْإِحْدَادِ ، وَإِنِ اسْتَخْدَمَهَا لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا لِحَقِّهِ فِي الْمِلْكِ ، وَسَقَطَتِ السُّكْنَى وَلَزِمَ الْإِحْدَادُ ، وَلَا يَكُونُ سُقُوطُ السُّكْنَى مُوجِبًا لِسُقُوطِ الْإِحْدَادِ : لِأَنَّ مَقْصُودَ الْإِحْدَادِ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : إِظْهَارُ الْحُزْنِ عَلَى الزَّوْجِ رِعَايَةً لِحُرْمَتِهِ . وَالثَّانِي : تَرْكُ مَا يُحَرِّكُ الشَّهْوَةَ مِنَ الزِّينَةِ ، لِأَنْ لَا تَشْتَهِيَ وَيَشْتَهِيَهَا الرِّجَالُ وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ مَا يُخَالِفُ فِيهِ مَعْنَى الْحُرَّةِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ السَّيِّدُ مِنَ الْخِدْمَةِ .

فَصْلٌ : وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ ، فَأَمَّا الْكَبِيرَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا وُجُوبَ الْإِحْدَادِ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ ، فَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ ، وَالْإِحْدَادُ فِيهَا كَالْكَبِيرَةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَيْسَ عَلَيْهَا الْإِحْدَادُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَلِأَنَّ الْإِحْدَادَ تَعَبُّدٌ مَحْضٌ لَا حَقَّ فِيهِ لِلزَّوْجِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ الصَّغِيرَةَ كَالْعِبَادَاتِ . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَذَكَرَتْ لَهُ أَنَّ بِنْتَهَا مَاتَ زَوْجُهَا ، وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا أَفَتَكْحُلُهَا ؟ فَقَالَ : لَا وَلَمْ يَسْأَلْهَا عَنْ صِغَرِهَا وَكِبَرِهَا فَدَلَّ عَلَى اسْتِوَاءِ الْأَمْرَيْنِ : وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ وَجَبَ أَنْ تُؤْخَذَ بِأَحْكَامِ تِلْكَ الْعِدَّةِ كَالْكَبِيرَةِ . فَأَمَّا رَفْعُ الْقَلَمِ عَنْهَا فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ وُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ أَحْكَامِهَا ، وَأَمَّا كَوْنُ الْإِحْدَادِ تَعَبُّدًا مَحْضًا فَهُوَ كَالْعِدَّةِ فِيهِ تَعَبُّدٌ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الزَّوْجِ إِمَّا لِرِعَايَةِ حُرْمَتِهِ ، وَإِمَّا لِصَرْفِ الرِّجَالِ عَنِ الرَّغْبَةِ فِيهَا فِي عِدَّتِهِ ، وَهَذَانِ مِمَّا لَا يَفْتَرِقُ فِيهِمَا حُكْمُ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ . فَأَمَّا الْمُسْلِمَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا وُجُوبَ الْإِحْدَادِ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ . وَأَمَّا الذِّمِّيَّةُ فَهِيَ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ وَالْإِحْدَادِ كَالْمُسْلِمَةِ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ زَوْجُهَا مُسْلِمًا فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَيْسَ عَلَيْهَا الْإِحْدَادُ ، وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا ذِمِّيًّا فَلَا عِدَّةَ وَلَا حِدَادَ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ : عَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْهُمَا وَلَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا مِنْهُمَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَلَمَّا خَصَّ الْمُؤْمِنَةَ بِالذِّكْرِ دَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِهَا بِالْحُكْمِ : وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ فَسَقَطَتْ بِالْكُفْرِ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ : وَلِأَنَّهَا لَمَّا أُقِرَّتْ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ كَانَ إِقْرَارُهَا عَلَى تَرْكِ الْإِحْدَادِ أَوْلَى . وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْمُتَوَفَّى زَوْجُهَا لَا تَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ وَلَا الْمُمَشَّقَ وَلَا الْحُلِيَّ وَلَا تَكْتَحِلُ وَلَا تَخْتَضِبُ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ فَدَلَّ عَلَى اشْتِرَاكِهِمَا فِيهِ : وَلِأَنَّهَا بَائِنٌ بِالْوَفَاةِ فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهَا الْعِدَّةُ وَالْإِحْدَادُ كَالْمُسْلِمَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْإِحْدَادَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِرِعَايَةِ الْحُرْمَةِ وَإِمَّا لِحِفْظِ الشَّهْوَةِ ، وَإِنْ كَانَتِ الذِّمِّيَّةُ أَقَلَّ رِعَايَةً لِلْحُرْمَةِ فَهِيَ أَقْوَى شَهْوَةً لِقِلَّةِ الْمُرَاقَبَةِ ، فَكَانَتْ بِالْإِحْدَادِ أَوْلَى مِنَ الْمُسْلِمَةِ . فَأَمَّا الْخَبَرُ فَلَمْ يُذْكَرِ الْإِيمَانُ فِيهِ شَرْطًا ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ تَنْبِيهًا عَلَى الْأَدْنَى ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [ الْأَحْزَابِ : ] فَلَمْ يَكُنْ ذِكْرُ الْإِيمَانِ فِيهِنَّ شَرْطًا ، وَكَانَ تَنْبِيهًا يَسْتَوِي فِيهِ مَنْ آمَنَ وَمَنْ كَفَرَ . وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّهُ تَعَبُّدٌ ، فَهُوَ أَنَّ التَّعَبُّدَ مَا اقْتَرَنَ بِهِ حَقُّ الزَّوْجِ جَازَ أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُؤْخَذْ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ تَزَوَّجَتْ نَصْرَانِيَّةٌ نَصْرَانِيًّا فَأَصَابَهَا أَحَلَّهَا لِزَوْجِهَا الْمُسْلِمِ وَيُحْصِنُهَا ؛ لِأَنَّهُ زَوْجٌ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا ، وَلَا يَرْجُمُ إِلَّا مُحْصَنًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى خَمْسَةِ فُصُولٍ : قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي كُلِّ فَصْلٍ مِنْهَا : أَحَدُهَا : أَنَّ مَنَاكِحَ الْمُشْرِكِينَ صَحِيحَةٌ وَأَبْطَلَهَا مَالِكٌ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [ الْمَسَدِ : ] فَجَعَلَهَا زَوْجَةً بِنِكَاحِ الشِّرْكِ ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ إِقْرَارُهُمْ عَلَيْهَا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ جَازَ وَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهَا فِي شِرْكِهِمْ .

وَالْفَصْلُ الثَّانِي : وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي مَنَاكِحِهِمْ المشركين حَتَّى إِنْ طَلَّقَهَا فِي الشِّرْكِ ثَلَاثًا ثُمَّ أَسْلَمَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَقَعُ بَيْنَهُمْ طَلَاقٌ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فِي فَسَادِ مَنَاكِحِهِمْ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [ الْبَقَرَةِ : ] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ . وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ : ثُبُوتُ إِحْصَانِهِمْ بِالْإِصَابَةِ فِي مَنَاكِحِهِمْ المشركين . وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا إِحْصَانَ لَهُمْ ، وَدَلِيلُنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا " وَلَا يَرْجُمُ إِلَّا مُحْصَنًا ؛ وَلِأَنَّهَا إِصَابَةٌ فِي نِكَاحٍ يُقِرُّ عَلَيْهَا أَهْلُهُ فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ بِهَا الْحَصَانَةُ كَالْمُسْلِمَةِ . وَالْفَصْلُ الرَّابِعُ : أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا طَلَّقَ الذِّمِّيَّةَ ثَلَاثًا ، وَنَكَحَتْ بَعْدَهُ ذَمِّيًّا أَحَلَّهَا لِلْمُسْلِمِ بَعْدَ طَلَاقِهِ لَهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ : لَا يُحِلُّهَا وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [ الْبَقَرَةِ : ] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ : وَلِأَنَّهُ نِكَاحٌ يُقِرُّ عَلَيْهِ الزَّوْجُ فَجَازَ أَنْ يُسْتَبَاحَ بِالْإِصَابَةِ فِيهِ نِكَاحُ الْأَوَّلِ كَالْمُسْلِمِ . وَالْفَصْلُ الْخَامِسُ : وُجُوبُ الْعِدَّةِ عَلَى الذِّمِّيَّةِ مِنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ : عَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنَ الْمُسْلِمِ وَلَيْسَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنَ الْكَافِرِ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي سَبْيِ هَوَازِنَ : أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ وَقَدْ كُنَّ ذَوَاتِ أَزْوَاجٍ فِي الشِّرْكِ ؛ وَلِأَنَّ عَلَيْهَا أَنْ تَحْفَظَ أَنْسَابَ الْمُشْرِكِينَ كَمَا تَحْفَظُ أَنْسَابَ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ [ الْبَقَرَةِ : ] وَلِتَمْيِيزِ أَنْسَابِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْسَابِ الْمُشْرِكِينَ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْأَحْكَامِ فَاسْتَوَيَا فِي الْعِدَّةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ اجْتِمَاعِ الْعِدَّتَيْنِ وَالْقَافَةِ

بَابُ اجْتِمَاعِ الْعِدَّتَيْنِ وَالْقَافَةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَإِذَا تَزَوَّجَتْ فِي الْعِدَّةِ وَدَخَلَ بِهَا الثَّانِي فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بِنِيَّةِ عِدَّتِهَا مِنَ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ تَعْتَدُّ مِنَ الثَّانِي ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : لَأَنَّ عَلَيْهَا حَقَّيْنِ بِسَبَبِ الزَّوْجَيْنِ وَكَذَلِكَ كُلُّ حَقَّيْنِ لَزِمَا مِنْ وَجْهَيْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، وُجُوبُ الْعِدَّةِ تَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ قَبْلَ انْقِضَائِهَا ، فَإِنْ نَكَحَتْ فِي عِدَّتِهَا كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا بِالْإِجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ عَنِ النَّصِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ [ الْبَقَرَةِ : ] وَلِفَسَادِ الْعَقْدِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَخْلُوَ مِنْ وَطْءٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ وَطْءٌ . فَإِنْ خَلَا مِنَ الْوَطْءِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا فِيهِ لَكِنْ يُعَزَّرَانِ إِنْ عَلِمَا بِالتَّحْرِيمِ ، وَلَا يُعَزَّرَانِ إِنْ جَهِلَاهُ ، وَالتَّعْزِيرُ لِإِقْدَامِهِمَا عَلَى التَّعَرُّضِ لِمَحْظُورِ النِّكَاحِ ، وَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَقْدٍ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ فَلَا يُسْتَحَقُّ بِهِ مَهْرٌ ، وَلَا نَفَقَةٌ ، وَلَا سُكْنَى وَلَا تَصِيرُ فِيهِ فِرَاشًا وَلَا يَثْبُتُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ ، وَلَا يَجِبُ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا عِدَّةٌ ، وَلَا تَنْقَطِعُ بِهِ عِدَّةُ الْأَوَّلِ ، وَتَكُونُ جَارِيَةً فِيهَا . فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيْسَ الرَّجْعَةُ فِي الْعِدَّةِ تَقْطَعُ عِدَّةَ الْمُطَلَّقِ حَتَّى إِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ لَمْ يَحْتَسِبْ بِمَا بَيْنَ الرَّجْعَةِ ، وَالطَّلَاقِ الثَّانِي مِنَ الْعِدَّةِ فَهَلَّا كَانَتِ الْمَنْكُوحَةُ فِي الْعِدَّةِ قَاطِعَةً لِلْعِدَّةِ مَا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا . قُلْنَا : لِأَنَّ الْمُرْتَجَعَةَ تَكُونُ فِرَاشًا فَلَمْ يُحْتَسَبْ بِمُدَّةِ الْفِرَاشِ مِنَ الْعِدَّةِ ، وَالْمَنْكُوحَةُ فِي الْعِدَّةِ لَا تَكُونُ فِرَاشًا فَجَازَ أَنْ يُحْتَسَبَ بِمُدَّةِ الِاجْتِمَاعِ مِنَ الْعِدَّةِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَكْمَلَتِ الْعِدَّةَ قَبْلَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا فَقَدْ حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ ، وَكَانَ لِلنَّاكِحِ لَهَا فِي الْعِدَّةِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ وَأَحْسَبُ مَالِكًا يَقُولُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ مَا لَمْ تَنْكِحْ غَيْرَهُ .



فَصْلٌ : فَإِنْ وَطِئَهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَا عَالِمَيْنِ بِالتَّحْرِيمِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَا جَاهِلَيْنِ بِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْوَاطِئُ عَالِمًا وَالْمَوْطُوءَةُ جَاهِلَةً . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ الْوَاطِئُ جَاهِلًا وَالْمَوْطُوءَةُ عَالِمَةً . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَا عَالِمَيْنِ بِالتَّحْرِيمِ فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا حَدَّ عَلَيْهِمَا لِشُبْهَةِ الْعَقْدِ على معتدة الغير بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْوَاطِئِ لِأُمِّهِ بَعْدَ النِّكَاحِ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَقَدْ مَضَى مِنَ الْحِجَاجِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ هَاهُنَا ، وَقَدْ رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ قَالَ : رَأَيْتُ عَمِّي وَمَعَهُ رَايَةٌ ، فَقُلْتُ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ ، فَقَالَ : أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَجُلٍ أَعْرَسَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ أَنْ أَقْتُلَهُ وَآتِيَهُ بِرَأْسِهِ وَأُخَمِّسَ مَالَهُ . وَالْعَرْسَةُ اسْمٌ لِلْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ فَاحْتَمَلَ تَخْمِيسَ مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ فَصَارَ مُرْتَدًّا وَصَارَ مَالُهُ بِالرِّدَّةِ فَيْئًا وَاحْتَمَلَ إِنْ لَمْ يَسْتَحِلَّهُ فَقَتَلَهُ حَدًّا وَخَمَّسَ مَالَهُ عُقُوبَةً ؛ لِأَنَّ الْعُقُوبَاتِ كَانَتْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ بِالْأَمْوَالِ ، فَدَلَّ ذِكْرُ الْحَسَبِ عَلَى تَعَلُّقِ الْقَتْلِ بِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَرَدَ النَّصُّ بِتَحْرِيمِهِ ارْتَفَعَتِ الشُّبْهَةُ فِي إِبَاحَتِهِ وَارْتِفَاعُ الشُّبْهَةِ فِي الْوَطْءِ يُوجِبُ الْحَدَّ كَالزِّنَا ، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا ، فَهُوَ كَالزِّنَا لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الْمَهْرُ ، وَلَا يَجِبُ فِيهِ الْعِدَّةُ وَلَا يُلْحَقُ فِيهِ النَّسَبُ ، وَلَا يَقْطَعُ عِدَّةَ الْأَوَّلِ وَيَسْرِي فِي عِدَّتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ بِهَذَا الْوَطْءِ فِرَاشًا لَهُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَا جَاهِلَيْنِ بِالتَّحْرِيمِ : إِمَّا لِجَهْلِهِمَا بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ ، وَإِمَّا لِجَهْلِهِمَا بِالتَّحْرِيمِ مَعَ عِلْمِهِمَا بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ فَهُمَا سَوَاءٌ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا ، لِأَنَّ فِي الْجَهْلِ بِالتَّحْرِيمِ شُبْهَةً تَدْرَؤُهَا الْحُدُودُ نكاح معتدة الغير والدخول عليها وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْوَاطِئِ أَحْكَامُهُ فِي النِّكَاحِ فَيُسْتَحَقُّ فِيهِ الْمَهْرُ وَيُلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ وَتَجِبُ بِهِ الْعِدَّةُ وَتُقْطَعُ بِهِ عِدَّةُ الْأَوَّلِ مَا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الثَّانِي ، لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بِوَطْءِ الشُّبْهَةِ فِرَاشًا لَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِرَاشًا لَهُ وَمُعْتَدَّةً مِنْ غَيْرِهِ ، لِأَنَّ الْعِدَّةَ تُنَافِي الْفِرَاشَ ، فَإِذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا صَارَتْ بِالتَّفْرِقَةِ دَاخِلَةً فِي عِدَّةِ الْأَوَّلِ لِارْتِفَاعِ الْفِرَاشِ بِهَا فَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْهَا ، ثُمَّ تَعْتَدُّ مِنْ إِصَابَةِ الثَّانِي وَيَجُوزُ إِذَا كَمُلَتْ عِدَّةُ الْأَوَّلِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا الثَّانِي ، وَإِنْ كَانَتْ فِي عِدَّتِهِ وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ ، وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهَا قَدْ حَرُمَتْ عَلَى الثَّانِي أَبَدًا إِذَا كَانَ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ ، وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ مَعَ الْعِلْمِ بِالتَّحْرِيمِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ قَالَهُ حِكَايَةً عَنْ مَالِكٍ ، أَوْ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ . فَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ حَكَاهُ عَنْ غَيْرِهِ .

وَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ : قَالَهُ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ وَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا ، هَلْ يَكُونُ تَفْرِيقُ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا شَرْطًا فِي هَذَا التَّحْرِيمِ الْمُؤَبَّدِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَكُونُ شَرْطًا ، وَقَدْ حَرُمَتْ أَبَدًا سَوَاءٌ افْتَرَقَا بِأَنْفُسِهِمَا أَوْ فَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَ التَّحْرِيمِ لَا تَقِفُ عَلَى الْحُكْمِ كَالنَّسَبِ وَالرَّضَاعِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْحُكْمَ شَرْطٌ فِي تَأْبِيدِ هَذَا الْحُكْمِ كَاللِّعَانِ ، وَاحْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ بِأَمْرَيْنِ : هُمَا دَلِيلٌ ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْعَالَمِ وَالْجَاهِلِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَالِمَ بِالتَّحْرِيمِ مَزْجُورٌ فَاسْتَغْنَى عَنِ الزَّجْرِ بِتَأْبِيدِ تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ وَالْجَاهِلَ بِهِ غَيْرُ مَزْجُورٍ بِالْحَدِّ فَزُجِرَ بِتَأْبِيدِ التَّحْرِيمِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْجَاهِلَ بِالتَّحْرِيمِ مُفْسِدٌ لِلنَّسَبِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِيهِ فَزُجِرَ عَلَى إِفْسَادِهِ بِتَأْبِيدِ التَّحْرِيمِ ، وَالْعَالِمَ بِهِ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلنَّسَبِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُشَارِكٍ فِيهِ فَلَمْ يُزْجَرْ بِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ لِعَدَمِ إِفْسَادِهِ ، فَهَذَا دَلِيلُ مَا قَالَهُ عُمَرُ ، وَمَذْهَبُ مَنْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ : لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَعَ الْجَهْلِ وَالْعِلْمِ جَمِيعًا ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ مَعَ الْعِلْمِ أَغْلَظُ مَأْثَمًا ، ثُمَّ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ فَكَانَتْ مَعَ ارْتِفَاعِ الْمَأْثَمِ بِالْجَهْلِ أَوْلَى أَنْ لَا يَحْرُمَ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْوَطْءَ لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْمَوْطُوءَةِ عَلَى الْوَاطِئِ ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ غَيْرِهَا عَلَى الْوَاطِئِ وَتَحْرِيمَهَا عَلَى غَيْرِ الْوَاطِئِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ حَلَالَ الْوَطْءِ وَحَرَامَهُ مِنْ نِكَاحٍ وَزِنًا لَا يُوجِبُ تَأْبِيدَ تَحْرِيمِ الْمَوْطُوءَةِ عَلَى الْوَاطِئِ ، وَهَذَا الْوَطْءُ مُلْحَقٌ بِأَحَدِهِمَا وَلَيْسَ لِلْفَرْقَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ وَجْهٌ : لِأَنَّ الزَّجْرَ لَا يَكُونُ بِالتَّحْرِيمِ فَبَطَلَ بِهِ الْفَرْقُ الْأَوَّلُ ، وَالْجَاهِلُ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلنَّسَبِ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَضِيفُ وَلَدَهُ إِلَى نَفْسِهِ ، وَالْعَالِمُ هُوَ الْمُفْسِدُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَضَافَ وَلَدَهُ إِلَى غَيْرِهِ فَبَطَلَ بِهِ الْفَرْقُ الثَّانِي .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَاطِئُ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ وَالْمَوْطُوءَةُ جَاهِلَةً بِهِ ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ دُونَهَا وَلَهَا الْمَهْرُ معتدة الغير إذا تزوجت في العدة : لِأَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِشُبْهَتِهَا وَلَا يُلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ وَلَا تَجِبُ بِهِ الْعِدَّةُ ؛ لِأَنَّهُمَا يُعْتَبَرَانِ بِشُبْهَةٍ دُونَهُمَا وَلَا يَنْقَطِعُ بِوَطْئِهِ عِدَّةُ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ بِهِ فِرَاشًا وَيَكُونُ مَا مَضَى مِنْ مُدَّةِ اجْتِمَاعِهِمَا مُحْتَسِبًا بِهِ مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ فَتُبْنَى عَلَيْهَا حَتَّى تَسْتَكْمِلَهَا وَيَجْرِي عَلَى هَذَا الْوَطْءِ فِي حَقِّ الْوَاطِئِ حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَفِي حَقِّ

الْمَوْطُوءَةِ حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّانِي ، وَمَا وَجَبَ مِنَ الْمَهْرِ فِيهِمَا فَهُوَ لِلْمَوْطُوءَةِ ، وَلَا يَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَالِ . وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يَكُونُ مَهْرُهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا مَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِغَيْرِهَا . وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الَّذِي عَمِلَ بِهِ الشَّافِعِيُّ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَاطِئُ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ ، وَالْمَوْطُوءَةُ عَالِمَةً بِهِ معتدة الغير إذا تزوجت في العدة فَالْحَدُّ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ دُونَ الْوَاطِئِ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ مُعْتَبَرٌ بِشُبْهَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَلَا مَهْرَ لَهَا ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ مُعْتَبَرٌ بِشُبْهَتِهَا ، وَالْوَلَدَ لَاحِقٌ بِهِ ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ ؛ لِأَنَّهُمَا مُعْتَبَرَانِ بِشُبْهَةٍ ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْإِصَابَةُ قَاطِعَةً لِعِدَّةِ الْأَوَّلِ : لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بِهَا فِرَاشًا لِلثَّانِي ، فَإِذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا دَخَلَتْ فِي عِدَّةِ الْأَوَّلِ ، وَبَنَتْ عَلَى مَا مَضَى مِنْهَا حَتَّى تَسْتَكْمِلَهَا وَتَسْتَأْنِفَ بَعْدَهَا عِدَّةَ الثَّانِي ، وَتَجْرِي عَلَى هَذِهِ الْإِصَابَةِ فِي حَقِّ الْمَوْطُوءَةِ حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ، وَفِي حَقِّ الْوَاطِئِ حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّانِي ، فَتَصِيرُ إِصَابَةُ الثَّانِي قَاطِعَةً لِعِدَّةِ الْأَوَّلِ فِي قِسْمَيْنِ إِذَا جَهِلَا التَّحْرِيمَ أَوْ جَهِلَهُ الْوَاطِئُ دُونَهَا ، وَغَيْرَ قَاطِعَةٍ لِعِدَّتِهِ فِي قِسْمَيْنِ إِذَا عَلِمَا بِالتَّحْرِيمِ أَوْ عَلِمَهُ الْوَاطِئُ دُونَهَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ وَوَجَبَتْ عَلَيْهَا عِدَّتَانِ عِدَّةٌ مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ ، وَعِدَّةٌ مِنْ وَطْءِ الثَّانِي لَمْ تَتَدَاخَلِ الْعِدَّتَانِ ، وَأَكْمَلَتْ عِدَّةَ الْأَوَّلِ لِتُقَدِّمِهِ وَصِحَّةِ عَقْدِهِ ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَتْ بَعْدَهَا عِدَّةَ الثَّانِي . وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ . وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : تَتَدَاخَلُ الْعِدَّتَانِ وَلَا يَلْزَمُهَا أَكْثَرُ مِنْ عِدَّةٍ وَاحِدَةٍ ، وَيَكُونُ الْبَاقِي مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ دَاخِلًا فِي عِدَّةِ الثَّانِي اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [ الطَّلَاقِ : ] فَلَمْ يُوجِبْ عَلَى الْحَامِلِ عِدَّةً غَيْرَ وَضْعِ الْحَمْلِ ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [ الْبَقَرَةِ : ] فَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهَا غَيْرَهَا فِي عُمُومِ الْأَحْوَالِ . قَالُوا : وَلِأَنَّهُمَا عِدَّتَانِ تَرَادَفَتَا فَوَجَبَ أَنْ تَتَدَاخَلَا كَمَا لَوْ كَانَتَا مِنْ وَاحِدٍ ؛ وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ تُرَادُ لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ ، فَإِذَا عُرِفَ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا عُرِفَ فِي حَقِّهِمَا فَلَمْ يَسْتَفِدْ بِالزِّيَادَةِ مَا لَمْ يَسْتَفِدْ قَبْلَهَا ؛ وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ تَتَّصِلُ بِسَبَبِهَا وَلَا تَتَأَخَّرُ عَنْهُ وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِتَدَاخُلِهِمَا حَتَّى لَا تَتَأَخَّرَ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا عَنْ سَبَبِهَا ؛ وَلِأَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ يَجُوزُ لِمُخَالِعِهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي عِدَّتِهَا ، وَلَوْ وُطِئَتْ فِيهَا بِشُبْهَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَلَوْلَا أَنَّهَا فِي عِدَّةٍ مِنْهُمَا

لَجَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ، فَاقْتَضَى هَذَا الْمَنْعُ تَدَاخُلَ الْعِدَّتَيْنِ ، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ أَجَلٌ يُقْضَى بِمُرُورِ الزَّمَانِ ، فَإِذَا اجْتَمَعَ أَجَلَانِ فِي دَيْنٍ لِرَجُلَيْنِ تَدَاخَلَا كَذَلِكَ إِذَا اجْتَمَعَتْ عِدَّتَانِ . وَدَلِيلُنَا إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ مَنْقُولٌ عَنِ اثْنَيْنِ أَمْسَكَ الْبَاقُونَ عَنْ مُخَالَفَتِهِمَا . أَحَدُهُمَا : عَنْ عُمَرَ ، رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ طُلَيْحَةَ كَانَتْ تَحْتَ رُشَيْدٍ الثَّقَفِيِّ فَطَلَّقَهَا الْبَتَّةَ فَنَكَحَتْ فِي عِدَّتِهَا فَضَرَبَهَا عُمَرُ وَضَرَبَ زَوْجَهَا بِالْمِخْفَقَةِ ضَرَبَاتٍ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ قَالَ : أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ فِي عِدَّتِهَا فَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا الَّذِي تَزَوَّجَهَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ، وَاعْتَدَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا مِنْ زَوْجِهَا الْأَوَّلِ ثُمَّ الْآخَرِ ، وَكَانَ خَاطِبًا مِنَ الْخُطَّابِ وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ، وَاعْتَدَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا مِنْ زَوْجِهَا الْأَوَّلِ ثُمَّ اعْتَدَّتْ مِنَ الْآخَرِ ، ثُمَّ لَمْ يَنْكِحْهَا أَبَدًا . وَالثَّانِي : عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ : أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَاعْتَدَّتْ مِنْهُ حَتَّى إِذَا بَقِيَ مِنْ عِدَّتِهَا نَكَحَهَا رَجُلٌ فِي آخِرِ عَدَّتِهَا وَبَنَى بِهَا فَأُتِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي ذَلِكَ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّتِهَا الْأُولَى ، ثُمَّ تَسْتَأْنِفَ عِدَّةَ الثَّانِي ، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَهِيَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَتْ نَكَحَتْ وَإِنْ شَاءَتْ فَلَا . قَالَ الشَّافِعِيُّ : أَنَا أَقُولُ بِقَوْلِهِمَا فِي أَنْ لَا تَتَدَاخَلَ الْعِدَّتَانِ وَأَقُولُ بِقَوْلِ عَلِيٍّ فِي أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ عَلَى الثَّانِي إِذَا كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا ، وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَثَبَتَ إِجْمَاعًا . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ خَالَفَهُمَا ابْنُ مَسْعُودٍ . قِيلَ : لَيْسَ بِثَابِتٍ مَعَ اشْتِهَارِ هَاتَيْنِ الْقِصَّتَيْنِ مِنْ إِمَامَيْنِ لَوْ خَالَفَهُمَا غَيْرُهُمَا لَاشْتُهِرَ كَاشْتِهَارِهِمَا وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّهُمَا حَقَّانِ مَقْصُورَانِ لِآدَمِيِّينَ فَوَجَبَ إِذَا تَرَادَفَا أَنْ لَا يَتَدَاخَلَا ، كَمَا لَوْ قَتَلَ رَجُلَيْنِ قُتِلَ بِأَحَدِهِمَا وَأُخِذَتْ مِنْهُ دِيَةُ الْآخَرِ فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قُتِلَ لَهُمَا وَتُؤْخَذُ مِنْهُ الدِّيَةُ تَكُونُ بَيْنَهُمَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ يُمْنَى رَجُلَيْنِ اقْتَصَّ مِنْ يَمِينِهِ لِأَحَدِهِمَا ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ دِيَةُ يَمِينِ الْآخَرِ فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ، وَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي النَّفْسِ ، وَلَيْسَ تَدَاخُلُ أَحَدِ الْحَقَّيْنِ فِي الْآخَرِ عَلَى كُلِّ الْمَذْهَبَيْنِ فِي النُّفُوسِ ، وَالْأَطْرَافِ ؛ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَحْبُوسَةٌ عَلَى الزَّوْجِ فِي حَقَّيْنِ نِكَاحٍ وَعِدَّةٍ ، فَلَمَّا امْتَنَعَ اشْتِرَاكُ الزَّوْجَيْنِ امْتَنَعَ تَدَاخُلُ الْعِدَّتَيْنِ ؛ وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي التَّعَبُّدِ وَحَقِّ الزَّوْجِ فِي حِفْظِ مَائِهِ ، وَحَقِّ الزَّوْجَةِ فِي السُّكْنَى فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَتَدَاخَلَ مَعَ اخْتِلَافِ مُسْتَحِقِّهِمَا ؛ لِأَنَّهُ إِنْ غُلِّبَ فِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ تَتَدَاخَلْ كَالْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ ، وَإِنْ غُلِّبَ فِيهَا حَقُّ الْآدَمِيِّينَ لَمْ تَتَدَاخَلْ كَالدُّيُونِ ، وَالْقِصَاصِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ فِي عِدَّةٍ أَنْ تَتَدَاخَلَ بِاخْتِلَافِ مَنْ عَلَيْهِ الْعِدَّةُ لَمْ

تَتَدَاخَلْ بِاخْتِلَافِ مَنْ لَهُ الْعِدَّةُ ؛ وَلِأَنَّهَا لَوْ وُطِئَتْ بِالشُّبْهَةِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ لَمْ تَتَدَاخَلِ الْعِدَّتَانِ ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْوَطْءُ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَجَبَ أَنْ لَا تَتَدَاخَلَ الْعِدَّتَانِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَتَيْنِ فَهُوَ أَنَّ صِيغَةَ اللَّفْظِ تَضْمَنُ عِدَّةً وَاحِدَةً فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى عِدَّتَيْنِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى تَدَاخُلِ الْعِدَّتَيْنِ مِنْ وَاحِدٍ فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُ اسْتِبْرَاءٌ مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ فَجَازَ أَنْ يَتَدَاخَلَ ، وَإِذَا كَانَ مِنِ اثْنَيْنِ فَهُوَ اسْتِبْرَاءٌ مِنْ مَائَيْنِ فَلَمْ يَتَدَاخَلَا . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّهُ إِذَا عُرِفَ بَرَاءَةُ رَحِمِهَا عَنْ أَحَدِهِمَا عُرِفَ بَرَاءَتُهُ فِي حَقِّهِمَا . فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْعِدَّةَ اسْتِبْرَاءٌ وَتَعَبُّدٌ فَإِذَا عُرِفَ الِاسْتِبْرَاءُ لَمْ يَسْقُطْ مَعَهُ التَّعَبُّدُ كَعِدَّةِ الصَّغِيرَةِ وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا فِي الْوَفَاةِ . وَقَوْلُهُمْ : إِنَّ الْعِدَّةَ تَتَّصِلُ بِسَبَبِهَا وَلَا تَنْفَصِلُ عَنْهُ فَفَاسِدٌ بِمَسْأَلَتِنَا لِانْفِصَالِ عِدَّةِ الْأَوَّلِ فِي مُدَّةِ وَطْءِ الثَّانِي ، ثُمَّ بِالْمُطَلَّقَةِ فِي الْحَيْضِ وَلَيْسَ الْحَيْضُ وَإِنَّهَا تَسْتَقْبِلُ الْعِدَّةَ بِمَا بَعْدَ حَيْضِ الطَّلَاقِ ، وَمَا قَالُوهُ مِنْ تَحْرِيمِ الْمُخْتَلِعَةِ عَلَيْهِ إِذَا وُطِئَتْ فِي عِدَّتِهَا ، فَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْ نِكَاحِهَا ؛ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ بَعْدَ عِدَّتِهِ حَتَّى تَقْضِيَ عِدَّةَ غَيْرِهِ ، فَصَارَتْ كَالْمُحَرَّمَةِ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ . وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ بِتَدَاخُلِ الْأَجَلَيْنِ فَلَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَجَلَ فِي الدَّيْنِ حَقٌّ لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ ، وَلَهُ إِسْقَاطُهُ بِالتَّعْجِيلِ ، وَالْأَجَلُ فِي الْعِدَّةِ حَقٌّ عَلَى مَنْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ ، وَلَا يَجُوزُ إِسْقَاطُهُ بِالْعَفْوِ فَافْتَرَقَا . وَالثَّانِي : أَنَّ مَقْصُودَ الْآجَالِ مَا بَعْدَهَا مِنَ الْحُقُوقِ وَهِيَ غَيْرُ مُتَدَاخِلَةٍ ، وَالْعِدَدُ هِيَ الْحُقُوقُ الْمَقْصُودَةُ ، فَاقْتَضَى قِيَاسُهُ أَنْ لَا يَتَدَاخَلَ .

فَصْلٌ : فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قُلْتُمْ بِتَدَاخُلِ الْعِدَّتَيْنِ فِي ثَلَاثِ مَسَائِلَ فَلَزِمَكُمْ أَنْ تَقُولُوا بِهِ فِي جَمِيعِ الْمَسَائِلِ . إِحْدَاهُنَّ : فِي زَوْجَةٍ لِرَجُلٍ وَطِئَهَا أَجْنَبِيٌّ بِشُبْهَةٍ ، فَدَخَلَتْ فِي عِدَّةِ الْوَاطِئِ ، ثُمَّ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ الْوَاطِئِ اسْتَأْنَفَتْ عِدَّةَ الطَّلَاقِ ، وَدَخَلَتْ فِيهَا عِدَّةُ الْوَاطِئِ بِشُبْهَةٍ . وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ لِأَصْحَابِنَا فِيهَا وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعِدَّتَيْنِ لَا يَتَدَاخَلَانِ كَمَا لَمْ يَتَدَاخَلَا فِي غَيْرِهِمَا ، وَيَكُونُ هَذَا أَصْلًا مُسْتَمِرًّا وَتَأْتِي بِمَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الْوَطْءِ لِتَقَدُّمِهَا ثُمَّ تَسْتَأْنِفُ عِدَّةَ الطَّلَاقِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَسْتَأْنِفُ عِدَّةَ الطَّلَاقِ ، وَيَسْقُطُ بِهَا الْبَاقِي مِنْ عِدَّةِ الْوَطْءِ ، وَلَا تَدْخُلُ بَقِيَّتُهَا فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ .

وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَسْأَلَةِ الْخِلَافِ : أَنَّ الْعِدَّةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ طَرَأَتْ عَلَى نِكَاحٍ فَجَازَ أَنْ يُسْقِطَ حُكْمُهَا لَهُ سَعَفَهَا بِعِدَّةِ النِّكَاحِ لِقُوَّتِهِ ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ طَرَأَتْ عِدَّةٌ عَلَى عِدَّةٍ فَلَزِمَتَا مَعًا ، وَلَمْ يَتَدَاخَلَا ؛ لِأَنَّ فِي تَدَاخُلِهِمَا سُقُوطَ إِحْدَاهُمَا . وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إِنْ قَالُوا : قَدْ قُلْتُمْ فِي مُشْرِكٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فِي الشِّرْكِ ثَلَاثًا ، فَتَزَوَّجَتْ فِي عِدَّتِهَا وَوَطِئَهَا الثَّانِي ، ثُمَّ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا أَنَّهَا تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ تُدْخِلُ فِيهَا مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ ، فَكَانَ هَذَا تَدَاخُلُ عِدَّتَيْنِ فِي حَقِّ الْمُشْرِكِينَ ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ، فَإِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَمْ يَتَدَاخَلْ عِدَّتَاهُمَا : لِأَنَّهُ يَلْزَمُنَا حِفْظُ أَنْسَابِهِمْ كَمَا يَلْزَمُنَا حِفْظُ أَنْسَابِنَا وَإِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعِدَّتَيْنِ لَا يَتَدَاخَلَانِ فِي حَقِّ الْمُشْرِكِينَ كَمَا لَا يَتَدَاخَلَانِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تَتَدَاخَلُ الْعِدَّتَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُنَا أَنْ نَحْفَظَ أَنْسَابَ الْمُشْرِكِينَ فَلَمْ تَتَدَاخَلِ الْعِدَّتَانِ فِي حُقُوقِهِمْ ، وَإِنَّمَا تُوجَبُ الْعِدَّةُ عَلَى الْمُشْرِكِ حِفْظًا لِنَسَبِ مَنْ يَتَزَوَّجُهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَسْتَبْرِئُ الْمَسْبِيَّةَ حِفْظًا لِنَسَبِ مَنْ يَسْتَمْتِعُ بِهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ . وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إِنْ قَالُوا : قَدْ قُلْتُمْ فِي رَجُلٍ وَطِئَ أَمَةً اشْتَرَاهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا ثُمَّ بَاعَهَا لَزِمَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِقُرْءٍ وَاحِدٍ ، وَإِنْ لَزِمَهَا الِاسْتِبْرَاءُ بِقُرْأَيْنِ وَيَدْخُلُ أَحَدُ الِاسْتِبْرَاءَيْنِ فِي الْآخَرِ كَذَلِكَ تَدَاخُلُ الْعِدَّتَيْنِ . وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ لِأَصْحَابِنَا أَيْضًا فِيهَا وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَلَيْهَا الِاسْتِبْرَاءَ بِقُرْأَيْنِ لِلْمُسْتَبْرَأَيْنِ ، وَلَا تَتَدَاخَلُ ، وَهَذَا أَصَحُّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَيْسَ عَلَيْهِمَا إِلَّا اسْتِبْرَاءٌ وَاحِدٌ ، وَيَتَدَاخَلُ الِاسْتِبْرَاءَانِ ، وَإِنْ لَمْ تَتَدَاخَلِ الْعِدَّتَانِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الِاسْتِبْرَاءُ أَخَفُّ مِنَ الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ بِقُرْءٍ وَاحِدٍ ، وَالْعِدَّةَ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ فَجَازَ أَنْ يَتَدَاخَلَ الِاسْتِبْرَاءُ لِضَعْفِهِ وَلَمْ تَتَدَاخَلِ الْعِدَّةُ لِقُوَّتِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ يَجِبُ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ فَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْبَائِعِ اسْتِبْرَاءٌ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ ، وَوَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي لِحُدُوثِ مِلْكِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعِدَّةُ ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْفِرَاشِ فَلَمْ يُؤَثِّرِ ارْتِفَاعُهُ فِي سُقُوطِهَا ، وَهُوَ الْعِلَّةُ فِي وُجُوبِهَا .



فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْعِدَّتَيْنِ من شخصين مختلفين ، وَأَنَّهُمَا لَا يَتَدَاخَلَانِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ لِصِغَرٍ ، أَوْ إِيَاسٍ فَهِيَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ إِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَيُنْظَرُ فِي الْمَاضِي مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ ، فَإِنْ كَانَ شَهْرًا وَاحِدًا اعْتَدَّتْ بِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ ، شَهْرَانِ مِنْهَا تَسْتَكْمِلُ بِهَا عِدَّةَ الطَّلَاقِ ، وَلِلْمُطَلِّقِ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِيهِمَا إِنْ كَانَ طَلَاقُهُ رَجْعِيًّا وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ عِدَّةُ الْوَطْءِ وَلِلْوَاطِئِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِيهَا ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ ، وَإِنْ مَضَى لَهَا مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ شَهْرَانِ اعْتَدَّتْ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ شَهْرٌ مِنْهَا تَسْتَكْمِلُ بِهِ عِدَّةَ الطَّلَاقِ وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ عِدَّةُ الْوَطْءِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَيُنْظَرُ فِي الْمَاضِي مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ ، فَإِنْ كَانَ قُرْءًا اعْتَدَّتْ بِخَمْسَةِ أَقْرَاءٍ ، مِنْهَا قُرْآنِ تَسْتَكْمِلُ بِهِمَا عِدَّةَ الطَّلَاقِ ، وَثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ عِدَّةُ الْوَطْءِ وَإِنْ مَضَى مِنْهَا قُرْآنِ اعْتَدَّتْ بِأَرْبَعَةِ أَقْرَاءٍ مِنْهَا قُرْءٌ تَسْتَكْمِلُ بِهِ عِدَّةَ الطَّلَاقِ ، وَثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ عِدَّةُ الْوَطْءِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْحَمْلِ فَيُنْظَرُ فِي الْحَمْلِ ، فَإِنْ لَحِقَ بِالْأَوَّلِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْهُ بِوَضْعِهِ وَاسْتَأْنَفَتْ لِلثَّانِي ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ ، وَإِنْ لَحِقَ بِالثَّانِي انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْهُ بِوَضْعِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَاحِقًا بِهِ ، وَتَنْقَضِي بِهِ عِدَّتُهَا مِنْ غَيْرِهِ فَلِذَلِكَ تَقَدَّمَتْ بِهِ عِدَّةُ الثَّانِي وَلَزِمَهَا أَنْ تَسْتَكْمِلَ مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ وَلَا اعْتِبَارَ بِادِّعَائِهِ لَهُ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ حَقٌّ لِلْوَلَدِ فَإِنْ نَفَاهُ لَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ إِلَّا أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهُ فَيَنْتَفِيَ بِاللِّعَانِ وَلَا يُلْحَقُ بِالْأَوَّلِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَحِقَ بِالْأَوَّلِ فَنَفَاهُ بِاللِّعَانِ لَمْ يُلْحَقْ بِالثَّانِي ، وَتَكُونُ عِدَّةُ مَنْ نَفَاهُ قَدِ انْقَضَتْ بِوَضْعِهِ ؛ لِأَنَّهُ نُفِيَ بَعْدَ لُحُوقٍ ، وَلَكِنْ لَوْ لَمْ يُلْحَقْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ تَنْقَضِ بِوَضْعِهِ عِدَّةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَكَانَ عَلَيْهِمَا أَنْ تَسْتَكْمِلَ مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ ، وَتَسْتَأْنِفَ عِدَّةَ الثَّانِي وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُلْحَقَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَعَدِمَتِ الْقَافَةُ وُقِفَ إِلَى زَمَانِ الِانْتِسَابِ ، وَكَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ ؛ لِأَنَّ إِحْدَى الْعِدَّتَيْنِ قَدِ انْقَضَتْ بِوَضْعِهِ وَبَقِيَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ الْأُخْرَى ، فَإِنْ كَانَتِ الْأُولَى فَهِيَ بَقِيَّتُهَا ، وَإِنْ كَانَتِ الثَّانِيَةُ فَهِيَ جَمِيعُهَا فَإِذَا اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ كَانَتْ يَقِينًا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا اجْتِمَاعُ الْعِدَّتَيْنِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ الْعِدَّةُ الْأُولَى عَنْ عَقْدٍ ، وَالْعِدَّةُ الثَّانِيَةُ عَنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الْأُولَى عَنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ ، وَالثَّانِيَةُ عَنْ عَقْدٍ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْعِدَّتَيْنِ عَنْ عَقْدٍ .

فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْعِدَّةُ الْأُولَى عَنْ عَقْدٍ ، وَالثَّانِيَةُ عَنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ فَصُورَتُهُ فِي رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا ثُمَّ وَطِئَهَا فِي عِدَّتِهَا فَهَذَا الْوَطْءُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَلَا تَصِحُّ بِهِ الرَّجْعَةُ ، وَهُوَ حَلَالٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَتَصِحُّ بِهِ الرَّجْعَةُ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ " الرَّجْعَةِ " وَإِذَا كَانَ هَذَا الْوَطْءُ مُحَرَّمًا فَلَا حَدَّ فِيهِ لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ وَأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ فِي أَحْكَامِ الزَّوْجَاتِ لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ ، وَاسْتِحْقَاقِ التَّوَارُثِ ، وَذَلِكَ مِنْ أَقْوَى الشُّبُهَاتِ فِي إِسْقَاطِ الْحَدِّ مَعَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ لَكِنْ يُعَزَّرَانِ إِنْ عَلِمَا تَحْرِيمَهُ وَلَا يُعَزَّرَانِ إِنْ جَهِلَاهُ ، وَعَلَيْهِمَا أَنْ تَعْتَدَّ مِنْ هَذَا الْوَطْءِ : لِأَنَّهُ وَطْءُ شُبْهَةٍ يُوجِبُ لُحُوقَ النَّسَبِ ، وَيَدْخُلُ فِي عِدَّةِ الْوَطْءِ مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّهُمَا عِدَّتَانِ لِحِفْظِ مَاءٍ وَاحِدٍ فَتَدَاخَلَتَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ حَامِلًا . فَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتٍ الشُّهُورِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ يَدْخُلُ فِيهَا مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ ، فَإِنْ كَانَ الْوَطْءُ بَعْدَ أَنْ مَضَى مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ شَهْرٌ وَبَقِيَ مِنْهَا شَهْرَانِ كَانَ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ ، وَالشَّهْرُ الثَّانِي مِنَ الْعِدَّتَيْنِ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ ، وَمِنْ عِدَّةِ الْوَطْءِ وَلَهَا فِيهِمَا النَّفَقَةُ ، وَلَهُ فِيهِمَا الرَّجْعَةُ ، وَإِنْ وَطِئَهَا فِيهِمَا لَمْ يُحَدَّ وَكَانَ الشَّهْرُ الثَّالِثُ مُخْتَصًّا بِعِدَّةِ الْوَطْءِ لَا نَفَقَةَ لَهَا فِيهِ وَلَا رَجْعَةَ لَهُ فِيهِ ، وَإِنْ وَطِئَهَا فِيهِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ ، وَأَجْزَأَهَا عَنِ الْعِدَّتَيْنِ فَإِنْ كَانَ الْوَطْءُ بَعْدَ أَنْ مَضَى قُرْآنِ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ كَانَ الْقُرْءُ الْأَوَّلُ آخِرَ عِدَّةِ الطَّلَاقِ ، وَأَوَّلَ عِدَّةِ الْوَطْءِ وَلَهُ فِيهِ الرَّجْعَةُ وَعَلَيْهِ فِيهِ النَّفَقَةُ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ إِنْ وَطِئَ فِيهِ ، وَكَانَ الْقُرْآنِ الْآخَرَانِ مُخْتَصَّيْنِ بِعِدَّةِ الْوَطْءِ لَيْسَ لَهُ فِيهَا رَجْعَةٌ وَلَا عَلَيْهِ فِيهِمَا نَفَقَةٌ وَإِنْ وَطِئَهَا فِيهِمَا حُدَّ . وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا لَمْ يَخْلُ حَمْلُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا قَبْلَ الطَّلَاقِ أَوْ حَادِثًا بَعْدَ الْوَطْءِ ، فَإِنْ كَانَ مُتَقَدِّمًا قَبْلَ الطَّلَاقِ فَعِدَّتُهَا مِنَ الطَّلَاقِ تَكُونُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ ، وَعِدَّتُهَا مِنَ الْوَطْءِ تَكُونُ بِالْأَقْرَاءِ ، وَهُمَا جِنْسَانِ وَفِي تَدَاخُلِهِمَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَتَدَاخَلَانِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ ، فَعَلَى هَذَا تَنْقَضِي عَدَّتَاهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَلَهُ الرَّجْعَةُ مَا لَمْ تَضَعْ وَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ ، وَإِنْ وَطِئَهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَتَدَاخَلَانِ : لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْجِنْسَيْنِ يَقْتَضِي اخْتِلَافَ الْحُكْمَيْنِ

فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَدَاخَلَا مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَالْحُكْمِ ، وَهَكَذَا لَوْ زَنَا بِكْرًا ثُمَّ زَنَا ثَيِّبًا فَفِي تَدَاخُلِ الْحَدَّيْنِ وَجْهَانِ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا مُنِعَ مِنْ تَدَاخُلِ هَاتَيْنِ الْعِدَّتَيْنِ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا فِي الْحَمْلِ مِنْ أَنْ تَرَى عَلَيْهِ دَمًا أَوْ لَا تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَرَ دَمًا انْقَضَتْ عِدَّةُ الطَّلَاقِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ ، وَلَهُ مَا لَمْ تَضَعْ أَنْ يُرَاجِعَ وَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ ، فَإِذَا وَضَعَتِ اسْتَأْنَفَتْ عِدَّةَ الْوَطْءِ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ بَعْدَ النِّفَاسِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا رَجْعَةٌ وَلَا عَلَيْهِ فِيهَا نَفَقَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ تَرَى عَلَى الْحَمْلِ دَمًا فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، هَلْ يَكُونُ دَمُهَا عَلَى الْحَمْلِ حَيْضًا أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ : يَكُونُ دَمًا فَعَادَ وَلَا يَكُونُ حَيْضًا ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ تَرَ عَلَى الْحَيْضِ دَمًا فِي أَنَّ عِدَّتَهَا مِنَ الطَّلَاقِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ ، وَمِنَ الْوَطْءِ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ بَعْدَ النِّفَاسِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ الدَّمَ عَلَى الْحَمْلِ يَكُونُ حَيْضًا ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ عِدَّتُهَا مِنَ الطَّلَاقِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَعِدَّتُهَا مِنَ الْوَطْءِ تَكُونُ بِالْأَقْرَاءِ الَّتِي عَلَى الْحَمْلِ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَعْتَدَّ هَذِهِ الْحَامِلُ بِالْأَقْرَاءِ الَّتِي عَلَى الْحَمْلِ ، وَإِنْ لَمْ تَعْتَدَّ غَيْرُهَا بِهِ ؛ لِأَنَّ عَلَى هَذِهِ عِدَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا بِالْحَمْلِ فَجَازَ أَنْ تَكُونَ الْأُخْرَى بِالْأَقْرَاءِ الَّتِي عَلَى الْحَمْلِ وَغَيْرُهَا لَيْسَ عَلَيْهَا إِلَّا عِدَّةٌ وَاحِدَةٌ فَلَمْ تَعْتَدَّ إِلَّا بِالْحَمْلِ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ فَإِنِ اسْتَكْمَلَتْ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ قَبْلَ وَضْعِ الْحَمْلِ فَقَدْ مَضَتْ عِدَّةُ الْوَطْءِ وَتَصِيرُ هَذَا الْمَوْضِعَ مُتَقَدِّمَةً عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَتَنْقَضِي عِدَّةُ الطَّلَاقِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَلَهُ الرَّجْعَةُ مَا لَمْ تَضَعْ وَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ ، وَإِنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا قَبْلَ اسْتِكْمَالِ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ انْقَضَتْ عِدَّةُ الطَّلَاقِ بِوَضْعِهِ ، وَسَقَطَتْ عَنْهُ النَّفَقَةُ وَبَطَلَتِ الرَّجْعَةُ ، وَلَزِمَهَا أَنْ تُكْمِلَ بَعْدَ الْوَضْعِ مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الْوَطْءِ ، وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ حَادِثًا بَعْدَ الْوَطْءِ فَعِدَّةُ الطَّلَاقِ بِالْأَقْرَاءِ ، وَعِدَّةُ الْوَطْءِ بِالْحَمْلِ المرأة المعتدة التي وطئت شبهة ، وَفِي تَدَاخُلِهِمَا مَعَ اخْتِلَافِ جِنْسِهِمَا مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَتَدَاخَلَانِ ، فَعَلَى هَذَا تَنْقَضِي عِدَّتَاهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ ، وَلَهُ مَا لَمْ تَضَعِ الرَّجْعَةُ ، وَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَتَدَاخَلَانِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ تَرَ عَلَى الْحَمْلِ دَمًا أَوْ رَأَتْهُ وَلَمْ تَجْعَلْهُ حَيْضًا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنَ الْوَطْءِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ ، وَتَكُونُ عِدَّةُ الْوَطْءِ هَاهُنَا مُتَقَدِّمَةً عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ ، فَإِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا اسْتَكْمَلَتْ مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَاضِي مِنْهَا قَبْلَ الْوَطْءِ قُرْءٌ أَتَتْ بِقُرْأَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَاضِيَ مِنْهَا قُرْآنِ أَتَتْ بِقُرْءٍ وَاحِدٍ ، وَلَهُ أَنْ يُرْجِعَهَا فِي الْبَاقِي مِنْ أَقْرَاءِ الطَّلَاقِ بَعْدَ الْحَمْلِ ، وَعَلَيْهِ فِيهِ النَّفَقَةُ ، وَفِي مُرَاجَعَتِهَا وَوُجُوبِ نَفَقَتِهَا قَبْلَ وَضْعِ الْحَمْلِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : لَا رَجْعَةَ لَهُ ، وَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا عِدَّةُ مَنْ وَطِئَ فَعَلَى هَذَا لَوْ وَطِئَهَا فِي الْحَمْلِ حُدَّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَهُ الرَّجْعَةُ وَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَقَّبَ الْحَمْلُ عِدَّةَ الطَّلَاقِ جَرَى عَلَى مُدَّةِ الْحَمْلِ أَحْكَامُ عِدَّةِ الطَّلَاقِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ وَطِئَهَا فِي الْحَمْلِ لَمْ يُحَدَّ ، وَإِنْ رَأَتْ عَلَى الْحَمْلِ دَمًا وَجَعَلْنَاهُ حَيْضًا اعْتَدَّتْ بِالْأَقْرَاءِ عَلَى الْحَمْلِ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَبِوَضْعِ الْحَمْلِ مِنْ عِدَّةِ الْوَطْءِ ، فَإِنْ سَبَقَ وَضْعَ الْحَمْلِ انْقَضَتْ بِهِ عِدَّةُ الْوَطْءِ ، وَأَتَتْ بِالْبَاقِي مِنْ أَقْرَاءِ الطَّلَاقِ ، وَكَانَ فِي الرَّجْعَةِ وَالنَّفَقَةِ وَالْوَطْءِ عَلَى مَا مَضَى ، وَإِنْ سَبَقَتِ الْأَقْرَاءُ عَلَى وَضْعِ الْحَمْلِ انْقَضَتْ بِهَا عِدَّةُ الطَّلَاقِ ، وَانْقَضَتْ بِوَضْعِ الْحَمْلِ عِدَّةُ الْوَطْءِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْعِدَّةُ الْأُولَى عَنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ ، وَالْعِدَّةُ الثَّانِيَةُ عَنْ عَقْدِ نِكَاحٍ ، فَصُورَتُهُ فِي رَجُلٍ وَطِئَ امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ أَوْ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ مِنْهُ فَإِنْ دَخَلَ بِهَا سَقَطَتْ عِدَّةُ الْوَطْءِ بِدُخُولِهِ ، وَعَلَيْهَا إِنْ طَلَّقَ أَنْ تَسْتَأْنِفَ الْعِدَّةَ مِنْ طَلَاقِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى طَلَّقَهَا فَهَلْ تَكُونُ مُدَّةُ النِّكَاحِ قَاطِعَةً لِعِدَّةِ الْوَطْءِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ ، وَخَرَجَ بِهِ عَنِ الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَا تُقْطَعُ عِدَّةُ الْوَطْءِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ حَتَّى يَطَأَ فِيهِ كَالْعَقْدِ الْفَاسِدِ وَجَعَلَهَا فِي مُدَّةِ النِّكَاحِ جَارِيَةً فِي عِدَّةِ الْوَطْءِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الْقِيَاسُ الْمُطَّرِدُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عِدَّةَ الْوَطْءِ قَدِ انْقَطَعَتْ بِعَقْدِ النِّكَاحِ إِذَا كَانَ صَحِيحًا ، وَإِنْ لَمْ يَطَأْ فِيهِ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بِهِ فِرَاشًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِرَاشًا وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ وَخَالَفَتِ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ فِرَاشًا فِيهِ إِلَّا بِالْوَطْءِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَنْقَطِعْ بِهِ الْعِدَّةُ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا قَطَعَ الْعَقْدُ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْعِدَّةِ أَكْمَلَتْ بَعْدَ الطَّلَاقِ عِدَّةَ الْوَطْءِ وَبَنَتْ عَلَى مَا مَضَى مِنْهُ وَحَلَّتْ بَعْدَهَا لِلْأَزْوَاجِ ، وَلَمْ يَلْزَمْهَا مِنَ الطَّلَاقِ عِدَّةٌ : لِأَنَّهُ فِي نِكَاحٍ تَجَرَّدَ عَنْ دُخُولٍ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْعِدَّتَانِ عَنْ عَقْدَيْنِ ، فَصُورَتُهُ فِي رَجُلٍ خَالَعَ زَوْجَتَهُ بَعْدَ الدُّخُولِ عَلَى طَلْقَةٍ أَوْ طَلْقَتَيْنِ ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ ، وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ الْمُزَنِيُّ خِلَافًا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ ، فَإِنْ طَلَّقَ فِي هَذَا الْعَقْدِ الثَّانِي لَمْ يَخْلُ أَنْ تَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ ، أَوْ بَعْدَهُ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَقَدْ سَقَطَ بِالدُّخُولِ مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ فِي الْخُلْعِ ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَسْتَأْنِفَ الْعِدَّةَ مِنَ الطَّلَاقِ الثَّانِي ، وَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فِي الْعَقْدِ الثَّانِي حَتَّى طَلَّقَ وَلَمْ يُلْزِمْهَا فِيهِ عِدَّةً ، وَلَمْ يُسْقِطْ بِهِ مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ ، وَأَسْقَطَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ وَإِذَا لَمْ يَسْقُطْ لَزِمَهَا

إِكْمَالُ الْعِدَّةِ الْأُولَى ، وَهَلْ يَكُونُ الْعَقْدُ الثَّانِي - مَعَ خُلُوِّهِ مِنَ الْوَطْءِ - قَاطِعًا لِلْعِدَّةِ الْأُولَى أَمْ لَا ؟ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : لَا تَقْطَعُهَا وَتَكُونُ جَارِيَةً فِي عِدَّتِهَا حَتَّى تَسْتَكْمِلَهَا ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْعِدَّةَ قَدِ انْقَطَعَتْ بِالْعَقْدِ ، وَيَكُونُ الْبِنَاءُ عَلَى الْعِدَّةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ ، وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ، وَإِنَّمَا أُعِيدَتْ لِاقْتِضَاءِ التَّسْلِيمِ لَهَا .

فَصْلٌ : وَإِذَا زَوَّجَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ ، ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى السَّيِّدِ حَتَّى تَقْضِيَ عِدَّتَهَا فَإِذَا قَضَتْهَا حَلَّتْ لَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ بَعْدَ الْعِدَّةِ ، وَلَوْ بَاعَهَا السَّيِّدُ فِي الْعِدَّةِ صَحَّ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا بِالْعِدَّةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ لَهَا كَالْمُحَرَّمَةِ بِنَسَبٍ ، أَوْ رَضَاعٍ ، فَإِذَا قَضَتْ عِدَّتَهَا لَمْ تَحِلَّ لِلْمُشْتَرِي إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ بِخِلَافِ الْبَائِعِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْبَائِعَ عَادَتْ إِلَيْهِ بِمِلْكٍ مُتَقَدِّمٍ قَدِ اسْتَبْرَأَهَا فِيهِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا ثَانِيَةً ، لِأَنَّهُ مَا اسْتَحْدَثَ مِلْكًا ثَانِيًا ، وَإِنَّمَا طَرَأَ عَلَى مِلْكِهِ فِرَاشَ الزَّوْجِ ، وَقَدِ ارْتَفَعَ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مِنْهُ فَعَادَتْ إِلَى إِبَاحَتِهِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِبْرَاءٌ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحْدَثَ مِلْكًا يُوجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءَ فِي حَقِّهِ ، وَعِدَّةُ الْمُطَلِّقِ كَانَتْ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَصَارَ كَعِدَّتَيْنِ مِنِ اثْنَيْنِ لَا يَتَدَاخَلَانِ كَذَلِكَ لَا يَتَدَاخَلُ الِاسْتِبْرَاءُ وَالْعِدَّةُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا وَطِئَ الرَّجُلُ أَمَةَ غَيْرِهِ بِشُبْهَةٍ يَظُنُّهَا أَمَةَ نَفْسِهِ لَحِقَ بِهِ وَلَدُهَا ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ وَكَانَتْ عِدَّتُهَا مِنْ إِصَابَةِ الِاسْتِبْرَاءِ بِحَيْضَةٍ وَلَا يَلْزَمُهَا عِدَّةُ الزَّوْجَاتِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ وَلَا ظَنَّهَا الْوَاطِئُ زَوْجَةً ، فَإِنْ ظَنَّهَا عِنْدَ وَطْئِهِ لَهَا أَنَّهَا زَوْجُهُ فَهَلْ تَكُونُ عِدَّتُهَا مِنْ إِصَابَتِهِ عِدَّةَ زَوْجَةٍ ، أَوِ اسْتِبْرَاءَ أَمَةٍ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : اسْتِبْرَاءُ أَمَةٍ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ اعْتِبَارًا بِالْمَوْطُوءَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : عِدَّةُ الزَّوْجِيَّةِ اعْتِبَارًا بِالْوَطْءِ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ الَّتِي اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْأَمَةِ الْمَوْطُوءَةِ مَمْلُوكَةً ، وَلَمْ تَكُنْ حُرَّةً لَزِمَ الْأَمَةَ الْمَوْطُوءَةَ عِدَّةُ أَمَةٍ ، وَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَفِيمَا يَلْزَمُ الْأَمَةَ الْمَوْطُوءَةَ مِنَ الْعِدَّةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجِ عِدَّهُ حُرَّةٍ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ اعْتِبَارًا بِاعْتِقَادِ الْوَاطِئِ وَطْءَ زَوْجَتِهِ حُرَّةً . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا عِدَّةُ أَمَةٍ ؛ لِأَنَّ عِدَّةَ الزَّوْجِيَّةِ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ الْمَوْطُوءَةِ دُونَ الْوَاطِئِ ، فَأَمَّا إِذَا وَطِئَ زَوْجَةَ غَيْرِهِ يَظُنُّهَا أَمَةَ نَفْسِهِ فَعَلَيْهَا مِنْ وَطْئِهِ عِدَّةُ حُرَّةٍ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ أَصْحَابُنَا وَلَا اعْتِبَارَ فِيهَا بِمُعْتَقَدِهِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ

الْحُرَّةَ لَا تَسْتَبْرِئُ نَفْسَهَا إِلَّا بِعِدَّةٍ ، وَالْأَمَةُ قَدْ تَسْتَبْرِئُ نَفْسَهَا بِغَيْرِ عِدَّةٍ ، فَجَازَ أَنْ يَخْتَلِفَ حَالُ الْأَمَةِ وَلَا يَخْتَلِفَ حَالُ الْحُرَّةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوِ اعْتَدَّتْ بِحَيْضَةٍ ، ثُمَّ أَصَابَهَا الثَّانِي وَحَمَلَتْ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا اعْتَدَّتْ بِالْحَمْلِ ، فَإِذَا وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ نَكَحَهَا الْآخَرُ ، فَهُوَ مِنَ الْأَوَّلِ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لَأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ فَارَقَهَا الْأَوَّلُ وَكَانَ طَلَاقُهُ لَا يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ فَهُوَ لِلْآخَرِ وَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ وَتَدَاعَيَاهُ أَوْ لَمْ يَتَدَاعَيَاهُ وَلَمْ يُنْكِرَاهُ وَلَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا أُرِيَهُ الْقَافَةُ فَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِالْأَوَّلِ فَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْهُ وَتَبْتَدِئُ عِدَّةً مِنَ الثَّانِي وَلَهُ خِطْبَتُهَا فَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِالثَّانِي فَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْهُ وَتَبْتَدِئُ فَتُكَمِّلُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ وَلِلْأَوَّلِ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي مُطَلَّقَةٍ نَكَحَتْ فِي عِدَّتِهَا فَقَدْ ذَكَرْنَا بُطْلَانَ نِكَاحِهَا ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الثَّانِي كَانَتْ جَارِيَةً فِي عِدَّتِهَا ، وَكَانَ وُجُودُ النِّكَاحِ فِي النِّكَاحِ كَعَدَمِهِ ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي انْقَطَعَتْ عِدَّةُ الْأَوَّلِ بِدُخُولِ الثَّانِي لَا بِعَقْدِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِالدُّخُولِ صَارَتْ فِرَاشًا لَهُ وَبِالْفِرَاشِ تَنْقَطِعُ الْعِدَّةُ ، فَإِذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الثَّانِي ارْتَفَعَ فِرَاشُهُ ، وَلَزِمَهَا أَنْ تَعْتَدَّ مِنْ وَطْئِهِ بَعْدَ أَنْ تُكْمِلَ بَقِيَّةَ عِدَّةِ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَامِلًا بَدَّلَتْ بِبَقِيَّةِ عِدَّةِ الْأَوَّلِ مِنْ بَعْدِ فُرْقَةِ الثَّانِي ، فَإِذَا أَكْمَلَتْهَا اسْتَأْنَفَتْ بَعْدَهَا عِدَّةَ الثَّانِي بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ كَامِلَةٍ ، وَهَذَا قَدْ مَضَى وَإِنْ كَانَتْ حِينَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الثَّانِي حَامِلًا فَلِحَمْلِهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُلْحَقَ بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُلْحَقَ بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ لَا يُلْحَقَ بِالْأَوَّلِ وَلَا بِالثَّانِي . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يُمْكِنَ لُحُوقُهُ بِالْأَوَّلِ وَالثَّانِي . فَأَمَّا الْحَالُ الْأُولَى : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ لَاحِقًا بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي : فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَرْبَعِ سِنِينَ فَمَا دُونَهَا مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ دُخُولِ الثَّانِي ، فَهُوَ لَاحِقٌ بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ مَا بَيْنَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ إِلَى أَرْبَعِ سِنِينَ اعْتِبَارًا بِالْوُجُودِ عَلَى مَا سَنُوَضِّحُهُ ، فَكَانَتِ السِّتَّةُ أَشْهُرٍ حَدًّا لِأَقَلِّهِ فَلَمْ يَكُنْ مَا دُونَهَا مُدَّةً لِلْحَمْلِ ، وَكَانَتِ الْأَرْبَعُ سِنِينَ حَدًّا لِأَكْثَرِهِ فَلَمْ يَكُنْ مَا زَادَ عَلَيْهَا مُدَّةً لِلْحَمْلِ فَلِذَلِكَ لَحِقَ بِالْأَوَّلِ لِوُجُودِهِ فِي مُدَّةِ حَمْلِهِ ، وَانْتَفَى عَنِ الثَّانِي لِقُصُورِهِ عَنْ مُدَّةِ حَمْلِهِ ، وَيَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ خَمْسَةُ أَحْكَامٍ : النَّسَبُ ، وَالْعِدَّةُ ، وَالرَّجْعَةُ ، وَالتَّزْوِيجُ ، وَالنَّفَقَةُ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110