كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

فَالْجُنُونُ عُذْرٌ ، وَلَيْسَتْ فِيهِ عَاصِيَةٌ ، فَهَلَّا كَانَتْ نَفَقَتُهَا مَعَ تَعَذُّرِ الِاسْتِمْتَاعِ بَاقِيَةً كَمَا لَوْ مَرِضَتْ أَوْ صَلَّتْ أَوْ صَامَتْ ؟ قِيلَ : حُقُوقُ الْأَمْوَالِ بَيْنَ الْآدَمِيِّينَ يَسْتَوِي فِي وُجُوبِهَا وسُقُوطِهَا حُكْمُ الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي وَالْمَعْذُورِ وَغَيْرِ الْمَعْذُورِ ، أَلَّا تَرَى أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ تَلَفَتِ السِّلْعَةُ فِي يَدِهِ لِجَائِحَةٍ سَمَائِيَّةٍ ، فَهُوَ مَعْذُورٌ مُطِيعٌ ، وَقَدْ سَقَطَ مَا فِي مُقَابَلَتِهَا مِنَ الثَّمَنِ ، كَمَا لَوِ اسْتَهْلَكَهَا بِنَفْسِهِ فَصَارَ عَاصِيًا غَيْرَ مَعْذُورٍ ؟ كَمَا أَنَّ الزَّوْجَةَ لَوْ سَافَرَتْ فِي الْحَجِّ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مُطِيعَةً كَمَا لَوْ هَرَبَتْ نَاشِزًا فِي مَعْصِيَةٍ ، فَكَذَلِكَ حَالُ الْمَجْنُونَةِ . فَأَمَّا الْمَرِيضَةُ : فَهِيَ غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا الْمَرَضُ مَنْعَهُ مِنْهَا كَمَا يَمْنَعُ الْحَيْضُ ، وَلَوْ مَنَعَتْهُ فِي الْمَرَضِ مَا أَمْكَنَ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهِ مِنَ الْمَرِيضَةِ مِنْ نَظَرٍ وَقُبْلَةٍ وَلَمْسٍ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا ، فَأَمَّا مَا وَجَبَ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ ، فَالشَّرْعُ قَدِ اسْتَثْنَى زَمَانَهُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ كَمَا أَنَّ زَمَانَ النَّوْمِ مُسْتَثْنَى ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا إِيلَاءَ عَلَيْهِ فِيهَا ، وَقِيلَ لَهُ : اتَّقِ اللَّهَ فِيهَا ، فِءْ أَوْ طَلِّقْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا قَوْلُهُ : " لَا إِيلَاءَ عَلَيْهِ " فَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْإِيلَاءُ فِيهِمَا : لِأَنَّ الْإِيلَاءَ يَمِينٌ يَصِحُّ مِنَ الزَّوْجِ فِي الْعَاقِلَةِ ، فَصَحَّتْ مِنْهُ فِي الْمَجْنُونَةِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنْ لَا يَطْلُبَ بِحُكْمِ إِيلَائِهِ فِيهِمَا ، وَإِنْ صَحَّ إِيلَاؤُهُ مِنْهُمَا وَإِذَا مَضَى عَلَى الزَّوْجِ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَهِيَ عَلَى جُنُونِهَا ، أَوْ آلَى مِنْهَا وَهِيَ عَاقِلَةٌ ، فَانْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ وَقَدْ جُنَّتْ ، فَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ ، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ مُطَالَبَةُ الزَّوْجِ بِفَيْئِهِ ، وَلَا طَلَاقٍ : لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ حَقٌّ لَهَا يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى شُهْرَتِهَا فِي الْعَفْوِ عَنْهُ أَوِ الْمُطَالَبَةِ بِهِ ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهَا مَعَ الْجُنُونِ مُطَالَبَةٌ ، وَلَا لِلْوَلِيِّ فِيهِ مُدْخَلٌ فَيُطَالِبُ ، لَكِنْ يُقَالُ لِلزَّوْجِ : يَنْبَغِي لَكَ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْكَ الْمُطَالَبَةُ بِحَقِّهَا أَنْ تَتَّقِيَ اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا فَتَفِيءُ أَوْ تُطَلِّقُ لِيَكُونَ خَارِجًا مِنْ حَقِّ الْإِيلَاءِ أَنْ لَوْ كَانَتْ مُطَالَبَتُهُ حَتَّى لَا تَكُونَ مُرْتَهِنًا بِحَقٍّ بِقَدْرٍ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ بِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " فَإِنْ قَذَفَهَا أَوِ انْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا قِيلَ لَهُ إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَنْفِيَ وَلَدَهَا فَالْتَعِنْ فَإِذَا الْتَعَنَ ، وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ وَنُفِيَ عَنْهُ الْوَلَدُ ، فَإِنْ كَذَّبَ نَفْسَهُ لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَلَمْ يُعَزَّرْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ الْمَجْنُونَةَ بِالزِّنَا ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [ النُّورِ : 4 ] وَالْمُحْصَنَةُ الْكَامِلَةُ بِالْعَقْلِ وَالْعَفَافِ : وَلِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ يَجِبُ لِلُحُوقِ الْمَعَرَّةِ بِالْمَقْذُوفَةِ ، وَالْمَجْنُونَةُ لَا يَلْحَقُهَا بِالزِّنَا عَارٌ : لِأَنَّهَا لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ الْقَبِيحِ وَالْحَسَنِ وَلَا بَيْنَ الْمُبَاحِ وَالْمَحْذُورِ : وَلِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى الْقَاذِفِ فِي مُقَابَلَةِ حَدِّ الزِّنَا عَلَى الْمَقْذُوفِ ، وَالْمَجْنُونَةُ لَوْ ثَبَتَ زِنَاهَا لَمْ تُحَدَّ فَلَمْ يَجِبْ عَلَى قَاذِفِهَا

حَدٌّ ، فَإِنْ لَمْ يُرِدِ الزَّوْجُ أَنْ يُلَاعِنَ ، فَلَا يُقَالُ ، وَإِنْ أَرَادَ اللِّعَانَ لَمْ يَخْلُ حَالُ زَوْجَتِهِ الْمَجْنُونَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ ذَاتَ وَلَدٍ أَوْ خَلِيَّةً مَنْ وَلَدٍ ، فَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ وَلَدٍ ، كَانَ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهَا : لِيَبْقَى بِاللِّعَانِ وَلَدَهَا ، فَإِذَا لَاعَنَ انْتَفَى عَنْهُ الْوَلَدُ وَوَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى التَّأْيِيدِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَفِي جَوَازِ اللِّعَانِ فِيهِمَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُلَاعِنُ لِتَسْتَفِيدَ بِلِعَانِهِ تَحْرِيمَ التَّأْبِيدِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ أَصَحُّ - : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ : لِأَنَّ مَعْقُودَ اللِّعَانِ دَرَأُ الْحَدِّ وَنَفِيُ الْوَلَدِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ اللِّعَانِ ، وَقَدْ عَدَمَ الْوَلَدَ وَلَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِ بِقَذْفِهَا حَدٌّ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُلَاعِنَ ، فَلَوْ عَادَ هَذَا الزَّوْجُ بَعْدَ نَفْيِ الْوَلَدِ بِلِعَانِهِ فَأَكْذَبَ نَفْسَهُ ، لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَلَمْ يَزَلِ التَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ : لِأَنَّ لُحُوقَ الْوَلَدِ حَقٌّ عَلَيْهِ وَزَوَالَ التَّحْرِيمِ حَقٌّ لَهُ ، وَمَنْ أَقَرَّ بِمَا عَلَيْهِ لَزِمَهُ ، وَمَنْ أَقَرَّ بِمَا لَهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ، فَأَمَّا تَعْزِيرُهُ بَعْدَ رُجُوعِهِ ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا : لَمْ يُعَزَّرْ ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : يُعَزَّرُ ، وَلَيْسَ هَذَا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ ، وَإِنَّمَا التَّعْزِيرُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَعْزِيرُ قَذْفٍ . وَالثَّانِي : تَعْزِيرُ أَذَى . فَأَمَّا تَعْزِيرُ الْقَذْفِ : فَهُوَ فِي قَذْفِ مَنْ لَمْ تَكْمُلْ حَالُهُ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ كَالْكُفَّارِ وَالْعَبِيدِ ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْحُرِّ فِي قَذْفِهِمْ حَدٌّ ، لَكِنْ يَجِبُ فِيهِ التَّعْزِيرُ بَدَلًا مِنَ الْحَدِّ ، وَيَكُونُ حَقًا لِلْمَقْذُوفِ يَرْجِعُ إِلَى خِيَارِهِ فِي اسْتِيفَائِهِ أَوِ الْعَفْوِ عَنْهُ . وَأَمَّا تَعْزِيرُ الْأَذَى : فَهُوَ فِي قَذْفِ غَيْرِ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الصِّغَارِ وَالْمَجَانِينِ فَهَذَا التَّعْزِيرُ فِيهِ لِمَكَانِ الْأَذَى يَسْتَوْفِيهِ الْإِمَامُ إِنْ رَأَى ، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَعْزِيرِ الْقَذْفِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وُجُوبُ هَذَا وَإِبَاحَةُ ذَاكَ . وَالثَّانِي : رَدُّ هَذَا إِلَى خِيَارِ الْمَقْذُوفِ ، وَرَدُّ ذَاكَ إِلَى الْإِمَامِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، كَانَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا لَمْ يُعَزَّرْ مَحْمُولًا عَلَى تَعْزِيرِ الْأَذَى ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ الصَّبِيَّةَ عَبْدًا وَلَا غَيْرَ كُفْءٍ وَلَا مَجْنُونًا وَلَا مَخْبُولًا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ الصَّبِيَّةَ عَبْدًا ، وَلَا غَيْرَ كُفْءٍ ، وَلَا مَجْنُونًا ، وَلَا مَخْبُولًا ، وَلَا مَجْذُومًا ، وَلَا أَبْرَصَ ، وَلَا مَجْبُوبًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . عَلَى الْأَبِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَهُ أَنْ يَطْلُبَ الْحَظَّ لَهَا فِي اخْتِيَارِ الْأَزْوَاجِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَهُ الصَّغِيرَةَ عَبْدًا ، وَلَا مُدَبَّرًا ، وَلَا مُكَاتَبًا ، وَلَا مَنْ فِيهِ جُزْءٌ مِنَ الرِّقِّ وَإِنْ قَلَّ لِنَقْصِهِمْ بِالرِّقِّ عَنْ حَالِ الْأَحْرَارِ ، أَوْ لَا يُزَوِّجَهَا غَيْرَ كُفْءٍ : لِمَا يَلْحَقُهَا مِنَ الْعَارِ ، وَلَا يُزَوِّجَهَا مَجْنُونًا : لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا ، وَلَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا ، وَلَا يُزَوِّجَهَا مَخْبُولًا ، وَالْمَخْبُولُ هُوَ الزَّائِلُ الْعَقْلِ كَالْمَجْنُونِ إِلَّا أَنَّ الْمَجْنُونَ هُوَ الْمُجَنَّدُ الَّذِي لَا يُؤْمَنُ عَدَاؤُهُ وَالْمَخْبُولُ هُوَ

السَّاكِنُ الْمَأْمُونُ الْعَدْوَى ، وَلَا يُزَوِّجَهَا مَجْذُومًا ، وَلَا أَبْرَصَ : لِأَنَّ النَّفْسَ تَعَافُهُمَا ، وَرُبَّمَا حَدَثَ مِنْهُمَا عَدْوَى إِلَيْهَا وَإِلَى الْوَلَدِ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : فِرُّوا مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكُمْ مِنَ الْأَسَدِ . وَلَا يُزَوِّجَهَا خَصِيًّا وَلَا مَجْبُوبًا : لِنَقْصِهِمَا بِالْخِصَا وَالْجَبِّ عَنْ كَمَالِ الِاسْتِمْتَاعِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا تَزْوِيجُ بِنْتِهِ الْكَبِيرَةِ بِأَحَدِ هَؤُلَاءِ ، فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَيَجِبُ اسْتِئْذَانُهَا ، فَإِنِ اسْتَأْذَنَهَا فِيهِمْ وَأَعْلَمَهَا بِهِمْ ، جَازَ ، وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا لَا يَلْزَمُهُ اسْتِئْذَانُهَا ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهَا فِيهِمْ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنِ اسْتَأْذَنَهَا فِيهِمْ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ : لِأَنَّهُ عَنْ إِذْنٍ كَالثَّيِّبِ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّ اسْتِئْذَانَهَا يَجِبُ وَأَشْبَهَتِ الصَّغِيرَةَ .

فَصْلٌ : فَإِنْ زَوَّجَ بِنْتَهُ بِمَنْ فِيهِ أَحَدُ هَذِهِ الْعُيُوبِ ، وَكَانَتْ هِيَ مِنْ ذَوَاتِ هَذِهِ الْعُيُوبِ ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَخْتَلِفَ عَيْبُهُمَا أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مَجْذُومًا وَهِيَ بَرْصَاءَ ، أَوْ مَجْنُونًا وَهِيَ رَتْقَاءَ ، فَلَمْ يَجُزْ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَتَمَاثَلَ عَيْبُهُمَا فَيَكُونَا مَجْنُونَيْنِ ، أَوْ أَبْرَصِيْنِ ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَجُوزُ لِتَكَافُئِهِمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ : لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعَافُ مِنْ غَيْرِهِ مَا لَا يَعَافُ مِنْ نَفْسِهِ ، وَقَدْ يُؤَمَنُ الْمَجْنُونُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلَا يُؤَمَنُ عَلَى غَيْرِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا وَزَوَّجَ بِنْتَهُ بِمَنْ لَا يَجُوزُ أَنَّ يُزَوِّجَهَا بِهِ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الْعُيُوبِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُزَوِّجَهَا بِهِمْ عَالِمًا بِعُيُوبِهِمْ ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ : لِأَنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى عَقْدٍ هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَالِمٍ بِعُيُوبِهِمْ وَنَقْصِهِمْ ، فَفِي الْعَقْدِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ : لِمَا ذَكَرْنَا . وَالثَّانِي : جَائِزٌ ، وَيُسْتَحَقُّ فِيهِ خِيَارُ الْفَسْخِ : لِأَنَّ شِرَاءَ الْوَكِيلِ مَا يَرَاهُ مَعِيبًا بَعْدَ الْعَقْدِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ ، وَلَكِنْ يُوجِبُ خِيَارَ الْفَسْخِ ، فَعَلَى هَذَا يَجِبُ عَلَى الْأَبِ فَسْخُ الْعَقْدِ فِي الْحَالِ أَوْ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى خِيَارِهَا إِذَا بَلَغَتْ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْسَخَ : لِيَسْتَدْرِكَ بِالْفَسْخِ مَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ فِي وَقْتِ الْعَقْدِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْفَسْخُ مَوْقُوفًا عَلَى خِيَارِهَا إِذَا بَلَغَتْ فِيهِ : لِأَنَّ لَهَا فِي الْعَقْدِ حَقًا ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ تَفْوِيتُهُ عَلَيْهَا بِفَسْخِهِ .

مَسْأَلَةٌ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُكْرِهَ أَمَتَهُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ بِنِكَاحٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكْرِهَ أَمَتَهُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ بِنِكَاحٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : لِلسَّيِّدِ أَنْ يُجْبِرَ أَمَتَهُ عَلَى النِّكَاحِ : لِيَكْتَسِبَ بِذَلِكَ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ ، وَلَا يُجْبَرُ السَّيِّدُ عَلَى نِكَاحِهَا إِذَا طَلَبَتْ : لِأَنَّهَا فِرَاشٌ لَهُ ، وَإِذَا كَانَ لِلسَّيِّدِ إِجْبَارُهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكْرِهَهَا عَلَى نِكَاحِ مَجْنُونٍ ، وَلَا مَجْذُومٍ ، وَلَا أَبْرَصَ ، وَلَا مَجْبُوبٍ إكراه السيد أمته على النكاح : لِأَنَّهَا تَمْلِكُ فِي حَقِّ النِّكَاحِ حَقَّ الِاسْتِمْتَاعِ : بِدَلِيلِ أَنَّ لَهَا الْمُطَالَبَةَ بِحَقِّ الْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ دُونَ السَّيِّدِ ، وَاسْتِمْتَاعُهَا بِمَنْ ذَكَرْنَا مِنْ ذَوِي النَّقْصِ وَالْعُيُوبِ لَا يَكْمُلُ لِنُفُورِ النَّفْسِ عَنْهُمْ ، فَمُنِعَ السَّيِّدُ مِنْ تَزْوِيجِهَا بِهِمْ ، فَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَهُ تَزْوِيجُهَا بِهِ ، وَكَذَلِكَ بِمَنْ لَا يُكَافِئُ الْحُرَّةَ فِي حَالٍ أَوْ نَسَبٍ : لِكَمَالِ اسْتِمْتَاعِهَا بِهِمْ مَعَ كَوْنِهِمْ أَكْفَاءَهَا . فَإِنْ خَالَفَ السَّيِّدُ وَزَوَّجَهَا بِمَنْ ذَكَرْنَا مِنْ ذَوِي النَّقْصِ وَالْعُيُوبِ ، فَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ . وَالثَّانِي : جَائِزٌ ، وَيُسْتَحَقُّ فِيهِ الْفَسْخُ ، وَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يَفْسَخَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَرْدُودٌ إِلَى خِيَارِهَا ، فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ السَّيِّدُ بَيْعَهَا عَلَى مَجْنُونٍ وَمَجْذُومٍ وَأَبْرَصَ وَمَجْبُوبٍ ، فَلَهُ ذَاكَ وَلَيْسَ لَهَا الِامْتِنَاعُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ : أَنَّ مَقْصُودَ النِّكَاحِ الِاسْتِمْتَاعُ ، فَأَثَّرَ فِيهِ مَا مَنَعَ مِنْهُ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُ مَنْ لَا يَحِلُّ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا مِنَ الْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ فِي الْبَيْعِ إِلَّا الْمِلْكُ دُونَ الِاسْتِمْتَاعِ ، وَلِذَلِكَ جَازَ مِلْكُ مَنْ لَا يَحِلُّ مِنَ الْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ ، فَجَازَ لَهُ بَيْعُهَا عَلَى مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا عَلَى امْرَأَةٍ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قُلْنَا فِي الْأَمَةِ : إِنَّ لَهَا الْقَسْمَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَى الزَّوْجِ ، وَلَيْسَ لَهَا فِي الْمَالِ قَسَمٌ عَلَى السَّيِّدِ .

مَسْأَلَةٌ وَلَا يُزَوِّجَ أَحَدٌ أَحَدًا مِمَّنْ بِهِ إِحْدَى هَذِهِ الْعِلَلِ وَلَا مَنْ لَا يُطَاقُ جِمَاعُهَا وَلَا أَمَةٌ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يُزَوِّجَ أَحَدٌ أَحَدًا مِمَّنْ بِهِ إِحْدَى هَذِهِ الْعِلَلِ ، وَلَا مَنْ لَا يُطَاقُ جِمَاعُهَا ، وَلَا أَمَةٌ : لِأَنَّهُ مِمَنْ لَا يَخَافُ الْعَنَتَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : لِمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مَنْعَ الْأَبِ وَالسَّيِّدِ مِنْ تَزْوِيجِ بِنْتِهِ وَأَمَتِهِ بِمَنْ ذَكَرْنَا عَيْبَهُ ، يُمْنَعُ السَّيِّدُ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَهُ وَعَبْدَهُ بِهِمْ ، فَلَا يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ بِمَجْنُونَةٍ ، وَلَا مَنْ بِهِ الْعُيُوبُ الَّتِي ذَكَرْنَا : لِتَعَذُّرِ اسْتِمْتَاعِهِ بِهِنَّ ، وَعَدَمِ الْحَظِّ لَهُ فِي نِكَاحِهِنَّ ، وَكَذَلِكَ لَا يُزَوِّجُهُ بِأَمَةٍ يَسْتَرِقُّ وَلَدُهُ مِنْهَا : لِأَنَّهَا لَا تَحِلُّ إِلَّا لِخَوْفِ الْعَنَتِ ، وَهُوَ مَأْمُونٌ فِي الصَّغِيرِ ، فَإِنْ زَوَّجَهُ بِوَاحِدَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ ، فَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ . وَالثَّانِي : جَائِزٌ . وَفِي الْفَسْخِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَلَى الْأَبِ تَعْجِيلَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى اخْتِيَارِ الِابْنِ إِذَا بَلَغَ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْعَبْدُ ، فَهَلْ لِلسَّيِّدِ إِجْبَارُهُ عَلَى النِّكَاحِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ لَهُ إِجْبَارٌ : لِأَنَّهُ مِنْ مَلَاذِهِ وَشَهَوَاتِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَهُ إِجْبَارُهُ كَمَا يُجْبِرُ أَمَتَهُ ، وَلِمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ : أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ ، بِأَنَّ لَهُ فِي تَزْوِيجِ الْأَمَةِ اكْتِسَابَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ ، وَعَلَيْهِ فِي تَزْوِيجِ الْعَبْدِ الْتِزَامُ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ فَافْتَرَقَا ، وَإِذَا جُوِّزَ لَهُ إِجْبَارُ عَبْدِهِ عَلَى النِّكَاحِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنَّ يُكْرِهَهُ عَلَى نِكَاحِ مَنْ بِهَا أَحَدُ هَذِهِ الْعُيُوبِ : لِنُفُورِ النَّفْسِ عَنْهُمْ وَتَعَذُّرِ اسْتِمْتَاعِهِ بِهِنَّ ، وَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ بِالْأَمَةِ : لِأَنَّهَا تُكَافِئُهُ ، وَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي نِكَاحِهِ بِهَا عَيْبٌ لَيْسَ مِنْهُ . وَهَلْ لِلْأَبِ وَالسَّيِّدِ إِذَا كَانَ فِي ابْنِهِ وَعَبْدِهِ أَحَدُ هَذِهِ الْعُيُوبِ أَنْ يُزَوِّجَهُ بِمَنْ يُسَاوِيهِ فِي الْعُيُوبِ ؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ .

مَسْأَلَةٌ يُنْكِحُ أَمَةَ الْمَرْأَةِ وَلَيُّهَا بِإِذْنِهَا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُنْكِحُ أَمَةَ الْمَرْأَةِ وَلَيُّهَا بِإِذْنِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ أَمَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهَا تَزْوِيجُ أَمَتِهَا بِنَفْسِهَا حَتَّى يَأْذَنَ وَلِيُّهَا فِي تَزْوِيجِهَا : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهَا تَزْوِيجُ نَفْسِهَا ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا تَزْوِيجُ أَمَتِهَا . وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ : بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ لَهَا تَزْوِيجَ نَفْسِهَا ، فَجَازَ لَهَا أَنْ تُزَوِّجَ أَمَتَهَا . وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ بَالِغَةً ، أَوْ صَغِيرَةً ، فَإِنْ كَانَتْ - أَعْنِي هَذِهِ السَّيِّدَةَ - بَالِغَةً رَشِيدَةً : لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ أَوْلِيَائِهَا تَزْوِيجُ أَمَتِهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا وَسَوَاءً كَانَتِ السَّيِّدَةُ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا ، وَسَوَاءً كَانَ الْوَلِيُّ أَبًا أَوْ عَصَبَةً مِمَّنْ يُجْبِرُهَا عَلَى النِّكَاحِ أَمْ لَا ؟ لِأَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ فِي مَالِهَا ، وَهِيَ رَشِيدَةٌ لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا ، فَإِذَا أَذِنَتْ لِوَلِيِّهَا الَّذِي هُوَ أَحَقُّ الْأَوْلِيَاءِ بِنِكَاحِهَا فِي تَزْوِيجِ أَمَتِهَا ، جَازَ لَهُ تَزْوِيجُهَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ مُنَاسِبٌ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ بِإِذْنِهَا ، وَلَا يُرَاعَى إِذْنُ الْأَمَةِ مَعَ إِذْنِ السَّيِّدَةِ : لِأَنَّ الْأَمَةَ تُخَيَّرُ عَلَى النِّكَاحِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِئْذَانُهَا فِيهِ .

فَصْلٌ إِنْ كَانَتِ السَّيِّدَةُ صَغِيرَةً غَيْرَ بَالِغَةٍ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ أَوْلِيَائِهَا سِوَى الْأَبِ وَالْجَدِّ تَزْوِيجُ أَمَتِهَا

فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَتِ السَّيِّدَةُ صَغِيرَةً غَيْرَ بَالِغَةٍ : لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ أَوْلِيَائِهَا سِوَى الْأَبِ وَالْجَدِّ تَزْوِيجُ أَمَتِهَا ، وَفِي جَوَازِهِ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ - : يَجُوزُ لَهُمَا تَزْوِيجُهَا كَمَا يُزَوِّجَانِ سَيِّدَتَهَا مَعَ مَا فِيهِ مِنَ اكْتِسَابِ الْمَهْرِ لَهَا وَالنَّفَقَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمَا تَزْوِيجُهَا حَتَّى تُبَلَّغَ السَّيِّدَةُ فَتَأْذَنُ : لِأَنَّ تَزْوِيجَ الْأَمَةِ مُفْضٍ إِلَى نُقْصَانِ ثَمَنِهَا ، وَرُبَّمَا أَدَّى الْحَبَلُ إِلَى تَلَفِهَا ، وَذَلِكَ ضَرَرٌ يُمْنَعُ مِنْهُ . وَهَلْ لِلْأَبِ إِذَا كَانَ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ أَمَةٌ أَنْ يُزَوِّجَهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ اعْتِبَارًا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَعْلِيلِهِمَا .

فَصْلٌ أَمَّا إِذَا كَانَ لَهُمَا عَبْدٌ فَأَذِنَتْ لَهُ فِي التَّزْوِيجِ ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ صَغِيرًا لَمْ يَجُزْ

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَانَ لَهُمَا عَبْدٌ فَأَذِنَتْ لَهُ فِي التَّزْوِيجِ ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ صَغِيرًا لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ الصَّغِيرَ يُمْنَعُ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ ، وَفِي الْمُتَوَلِّي لِتَزْوِيجِهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : وَلِيُّهَا فِي النِّكَاحِ كَالْأَمَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : مَنْ تَأْذَنُ لَهُ مِنَ النَّاسِ : لِأَنَّ وَلِيَّ النِّكَاحِ يُرَاعَى فِي الزَّوْجَةِ دُونَ الزَّوْجِ . وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ بَالِغًا ، فَالصَّحِيحُ : أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِإِذْنِهَا وَحْدَهَا ، كَالسَّيِّدِ ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ وَلَيُّهَا ، فَيَجُوزُ لَهُ بِاجْتِمَاعِ الْإِذْنَيْنِ أَنْ يَتَزَوَّجَ : لِأَنَّ إِذْنَ الْمَرْأَةِ فِي النِّكَاحِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِوَلِيٍّ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الْعَبْدَ مَمْنُوعٌ مِنَ النِّكَاحِ بِحَقِّ الْمِلْكِ ، فَاسْتَوَى إِذْنُ الْمَالِكِ وَالْمَالِكَةِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ .

مَسْأَلَةٌ أَمَةُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ مَمْنُوعَةٌ مِنَ السَّيِّدِ حَتَى يَقْضِيَ دَيْنًا إِنْ كَانَ عَلَيْهِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَمَةُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ مَمْنُوعَةٌ مِنَ السَّيِّدِ حَتَى يَقْضِيَ دَيْنًا إِنْ كَانَ عَلَيْهِ وَيَحْدُثَ لَهُ حَجْرًا ثُمَّ هِيَ أَمَتُهُ ، وَلَوْ أَرَادَ السَّيِّدُ أَنْ يُزَوِّجَهَا دُونَ الْعَبْدِ ، أَوِ الْعَبْدُ دُونَ السَّيِّدِ ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ مَا فِي يَدِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَالْمَرْهُونِ عَلَى مَا فِي ذِمَّتِهِ مِنْ دُيُونِ مُعَامَلَاتِهِ : لِضَعْفِ ذِمَّتِهِ بِالرِّقِّ ، فَصَارَ مَا فِي يَدِهِ مُسْتَحَقًّا فِي دُيُونِهِ ، وَلَوِ اشْتَرَى أَمَةً مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ العبد المأذون له ، لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ وَطْؤُهَا بِحَالٍ : لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُهَا ، فَأَمَّا السَّيِّدُ إِذَا أَرَادَ وَطْأَهَا ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ مِنْ مُعَامَلَاتِهِ ، فَالسَّيِّدُ مَمْنُوعٌ مِنْ وَطْئِهَا لِتَعَلُّقِ دَيْنِهِ بِهَا ، كَمَا يُمْنَعُ مِنْ وَطْءِ الْمَرْهُونَةِ لِمَا يُفْضِي إِلَيْهِ وَطْؤُهَا مِنَ الْإِحْبَالِ الَّذِي رُبَّمَا أَدَّى إِلَى التَّلَفِ ، وَكَذَلِكَ يُمْنَعُ مِنْ تَزْوِيجِهَا لِإِفْضَائِهِ إِلَى نُقْصَانِ ثَمَنِهَا ، وَسَوَاءً كَانَ الدَّيْنُ الْبَاقِي مِنْ ثَمَنِهَا أَوْ مِنْ ثَمَنِ غَيْرِهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قِيمَةِ مُتْلَفٍ فَتَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَا فِي يَدِهِ ، فَإِنْ قَضَى الْعَبْدُ جَمِيعَ دُيُونِهِ أَوْ قَضَاهَا السَّيِّدُ عَنْهُ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَبْدَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُعِيدَ الْحَجْرَ عَلَيْهِ ، وَيَمْنَعَهُ مِنَ التِّجَارَةِ ، فَيَجُوزُ لِلسَّيِّدِ حِينَئِذٍ أَنْ يَطَأَ الْأَمَةَ الَّتِي اشْتَرَاهَا الْعَبْدُ ، وَأَنْ يُزَوِّجَهَا إِنْ شَاءَ ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ ، وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ تَزْوِيجُهَا بِإِذْنِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّ الرِّقَّ يَمْنَعُ مِنْ وِلَايَةِ النِّكَاحِ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ : لِأَنَّ الرِّقَّ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْوِلَايَةِ بِنَفْسِهِ وَلَا يَمْنَعُ مِنَ النِّيَابَةِ عَنْ غَيْرِهِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يُعِيدَ الْحَجْرَ عَلَيْهِ بَعْدَ قَضَاءِ دَيْنِهِ فَفِي جَوَازِ وَطْءِ السَّيِّدِ لَهَا وَتَزْوِيجِهِ إِيَّاهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ الْأَصَحُّ - : يَجُوزُ لَهُ : لِزَوَالِ مَا تَعَلَّقَ بِهَا مِنْ حَقٍّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَغْتَرَّ النَّاسُ بِالْإِذْنِ الْمُتَقَدِّمِ ، فَيُعَامِلُونَهُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ حَتَّى يَتَعَلَّقَ الْحَجْرُ وَيَظْهَرَ الرُّجُوعُ .

مَسْأَلَةٌ لَا وِلَايَةَ لِلْعَبْدِ بِحَالٍ وَلَوِ اجْتَمَعَا عَلَى تَزْوِيجِهِمَا لَمُ يَجُزْ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَا وِلَايَةَ لِلْعَبْدِ بِحَالٍ وَلَوِ اجْتَمَعَا عَلَى تَزْوِيجِهِمَا لَمُ يَجُزْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ وِلَايَةَ النِّكَاحِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ مُنَاسَبِيهِ لِنَقْصِهِ بِالرِّقِّ . فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ وِلَايَةَ نَفْسِهِ ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْلِكَ الْوِلَايَةَ عَلَى غَيْرِهِ ، وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ وَالْمَكَاتَبُ ، وَمِنْ فِيهِ جُزْءٌ مِنَ الرِّقِّ وَإِنْ قَلَّ : لِأَنَّ أَحْكَامَ الرِّقِّ عَلَيْهِمْ جَارِيَةٌ ، وَتَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ عَنْهُ إِلَى مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُمْ نَسَبًا مِنَ الْأَحْرَارِ . وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ وَمَنْ ذَكَرْنَا وَكِيلًا نَائِبًا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ أَمْ لَا ؟ وَعَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا نَائِبًا عَلَى الْوَلِيِّ فِي الْبَذْلِ وَمِنَ الزَّوْجِ فِي الْقَبُولِ . وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الطِّيبِ بْنِ سَلَمَةَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ أَنْ يَنُوبَ فِيهِ عَنِ الْوَلِيِّ فِي الْبَذْلِ ، وَلَا عَنِ الزَّوْجِ فِي الْقَبُولِ . وَقَدْ مَضَى تَعْلِيلُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنُوبَ فِيهِ عَنِ الْوَلِيِّ فِي الْبَذْلِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنُوبَ فِيهِ عَنِ الزَّوْجِ فِي الْقَبُولِ : لِأَنَّ النِّيَابَةَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَةِ وِلَايَةٌ ، وَمِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ وَكَالَةٌ ، وَالْعَبْدُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا ، فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : " وَلَوِ اجْتَمَعَا عَلَى تَزْوِيجِهَا لَمْ يَجُزْ " فَيَعْنِي أَنَّ السَّيِّدَ وَالْعَبْدَ لَوِ اجْتَمَعَا عَلَى تَزْوِيجِ الْأَمَةِ الَّتِي اشْتَرَاهَا الْعَبْدُ قَبْلَ قَضَاءِ دَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ ، وَلَيْسَ لِاجْتِمَاعِ الْعَبْدِ مَعَ سَيِّدِهِ قُوَّةٌ يَسْتَحِقُّ بِهَا السَّيِّدُ تَزْوِيجَ الْأَمَةِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ بِانْفِرَادِهِ .

مَسْأَلَةٌ فِي بَابِ الْخِيَارِ مِنْ قِبَلِ النَّسَبِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " فِي بَابِ الْخِيَارِ مِنْ قِبَلِ النَّسَبِ ، لَوِ انْتَسَبَ الْعَبْدُ لَهَا أَنَّهُ حُرٌّ ، فَنَكَحَتْهُ ، وَقَدْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ ، ثُمَّ عَلِمَتْ أَنَّهُ عَبْدٌ أَوِ انْتَسَبَ إِلَى نَسَبٍ وُجِدَ دُونَهُ ، وَهِيَ فَوْقَهُ ، فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ : لِأَنَّهُ مَنْكُوحٌ بِعَيْنِهِ وَغَرَّرَ بِشَيْءٍ وُجِدَ دُونَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ النِّكَاحَ مَفْسُوخٌ كَمَا لَوْ أَذِنَتْ فِي رَجُلٍ بَعَيْنِهِ فَزُوِّجَتْ غَيْرَهُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : قَدْ قُطِعَ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ دُونَ مَا انْتَسَبَ إِلَيْهِ وَهُوَ كُفْءٌ ، لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَا لِوَلِيِّهَا الْخِيَارُ ، وَفِي ذَلِكَ إِبْطَالُ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى : مَنْ أَذِنَتْ لَهُ فِي رَجُلٍ بِعَيْنِهِ فَزُوِّجَتْ غَيْرَهُ فَقَدْ بَطَلَ الْفَسْخُ فِي قَيَّاسِ قَوْلِهِ ، وَثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ رَجَلًا عَلَى أَنَّهُ حُرٌّ فَكَانَ عَبْدًا ، فَإِنْ نَكَحَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ ، وَإِنْ نَكَحَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ نُظِرَ فِي الشَّرْطِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِالْعَقْدِ وَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ أَوْ تَأَخَّرَ عَنْهُ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ ، وَإِنِ اقْتَرَنَ بِالْعَقْدِ فَفِي بُطْلَانِ النِّكَاحِ قَوْلَانِ ، وَهَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَتْ عَلَى أَنَّهُ ذُو نَسَبٍ شَرِيفٍ كَهَاشِمِيٍّ أَوْ قُرَشِيٍّ ، فَكَانَ غَيْرَ ذِي نِسَبٍ ، أَعْجَمِيًّا أَوْ نَبَطِيًّا ، وَكَانَ الشَّرْطُ مُتَقَارِبًا لِلْعَقْدِ فَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ ، وَهَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَتْهُ عَلَى أَنَّهُ شَابٌّ فَكَانَ شَيْخًا ، أَوْ

عَلَى أَنَّهُ طَوِيلٌ فَكَانَ قَصِيرًا ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ جَمِيلٌ فَكَانَ قَبِيحًا ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ أَبْيَضُ فَكَانَ أَسْوَدَ ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ غَنِيٌّ فَكَانَ فَقِيرًا ، فَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ ، وَهَكَذَا لَوْ نَكَحَهَا عَلَى شَرْطٍ أَدْنَى فَكَانَ أَعْلَى ، مِثْلُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهُ عَبَدٌ فَكَانَ حُرًّا أَوْ عَلَى قِبْطِيٍّ فَكَانَ عَرَبِيًّا ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ شَيْخٌ فَكَانَ شَابًّا ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ قَصِيرٌ فَكَانَ طَوِيلًا ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ قَبِيحٌ فَكَانَ جَمِيلًا ، أَوْ عَلَى ضِدِّ مَا ذَكَرْنَا : فَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ ، وَحُكْمُ الشَّرْطِ إِذَا وُجِدَ زَائِدًا عَلَيْهِ كَحُكْمِهِ إِذَا وُجِدَ نَاقِصًا عَنْهُ ، وَسَوَاءً كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْحُرِّيَّةِ أَوْ فِي النَّسَبِ أَوْ فِي الصِّفَةِ أَوْ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الصِّفَةَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ تَجْرِي مَجْرَى الْعَيْنِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ : لِجَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهَا ، وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدِ الْعَيْنَ ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الِاقْتِصَارُ عَلَى صِفَةِ الْعَيْنِ حَتَّى تُشَاهَدَ تِلْكَ الْعَيْنُ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ خِلَافُ الصِّفَةِ فِي النِّكَاحِ جَارٍ فِي إِبْطَالِ النِّكَاحِ مَجْرَى خِلَافِ الْعَيْنِ فِي الْبَيْعِ فِي إِبْطَالِ الْبَيْعِ . وَالثَّانِي : أَنَّ إِذْنَ الْمَرْأَةَ فِي نِكَاحِهِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَتَكُونُ بِخِلَافِهَا فَجَرَى مَجْرَى إِذْنِهَا لِوَلِيِّهَا أَنَّ يُزَوِّجَهَا مَنْ هُوَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَيُزَوِّجُهَا مَنْ هُوَ عَلَى خِلَافِهَا ، وَلَوْ كَانَ هَكَذَا لَكَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا ، فَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ - : أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ ، وَوَجْهُهُ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا صِفَاتٌ لَا يَفْتَقِرُ صِحَّةُ النِّكَاحِ إِلَى ذِكْرِهَا ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَبْطُلَ النِّكَاحُ بِخِلَافِهَا كَالصَّدَاقِ إِذَا وُصِفَ فَكَانَ بِخِلَافِ صِفَتِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَنْكُوحٌ بِعَيْنِهِ وَغَرَّرَ بِشَيْءٍ وُجِدَ دُونَهُ فَصَارَ ذَلِكَ مِنْهُ تَدْلِيسًا يُنْقِصُ ، وَتَدْلِيسُ الْعُيُوبِ فِي الْعُقُودِ يُوجِبُ الْخِيَارَ وَلَا يُوجِبُ الْفَسْخَ ، كَالْعُيُوبِ فِي الْبَيْعِ ، كَذَلِكَ النِّكَاحُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ ، فَإِنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الزَّوْجُ قَدْ دَخَلَ بِهَا ، فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا ، فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا : لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِهِ . وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي : إِنِ النِّكَاحَ جَائِزٌ فَكَانَ قَدْ شَرَطَتْهُ حُرًّا فَكَانَ عَبْدًا ، فَلَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ ، سَوَاءً كَانَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً : لِنَقْصِهِ فِي النِّكَاحِ عَنْ أَحْكَامِ الْحُرِّ : لِأَنَّ اسْتِمْتَاعَهَا بِهِ غَيْرُ تَامٍّ لِخِدْمَةِ سَيِّدِهِ ، وَنَفَقَتَهُ نَفَقَةُ مُعْتَبَرٍ لِأَجْلِ رِقِّهِ ، فَإِنْ أَقَامَتْ عَلَى نِكَاحِهِ ، فَلَهَا الْمُسَمَّى ، وَإِنْ فَسَخَتْ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَعَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ بِالْإِصَابَةِ دُونَ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ . فَهَذَا حُكْمُ غُرُورِهِ لَهَا بِالْحُرِّيَّةِ ، فَأَمَّا إِذَا غَرَّهَا بِالنَّسَبِ ، فَشَرَطَ لَهَا أَنَّهُ شَرِيفُ النَّسَبِ هَاشِمِيٌّ ، أَوْ قُرَشِيٌّ ، فَبَانَ أَنَّهُ أَعْجَمِيٌّ أَوْ نَبَطِيٌّ ، نُظِرَ فِي نَسَبِهِمَا : فَإِنْ كَانَتْ شَرِيفَةً مِثْلَ النَّسَبِ الَّذِي شَرَطَتْهُ ، فَلَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ ، ثُمَّ الْكَلَامُ

فِي الْمَهْرِ إِنْ أَقَامَتْ أَوْ فَسَخَتْ عَلَى مَا مَضَى . وَإِنْ كَانَ دُونَ النَّسَبِ الَّذِي شَرَطَتْهُ وَمِثْلَ النَّسَبِ الَّذِي هِيَ عَلَيْهِ أَوْ دُونَهُ ، فَهَلْ لَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَهَا الْخِيَارُ لِمَكَانِ الشَّرْطِ ، وَأَنَّ لَهَا عِوَضًا فِي كَوْنِ وَلَدِهَا إِذَا نُسِبَ شَرِيفًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا خِيَارَ لَهَا : لِأَنَّ خِيَارَهَا يَثْبُتُ بِدُخُولِ النَّقْصِ عَلَيْهَا ، وَهَذَا كُفْءٌ فِي النَّسَبِ ، فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا بِهِ نَقْصٌ ، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا فِيهِ خِيَارٌ . فَأَمَّا إِذَا غَرَّهَا بِمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ ، نُظِرَ : فَإِنْ بَانَ أَنَّهُ عَلَى مِمَّا شَرَطَ ، فَلَا خِيَارَ لَهَا : لِأَنَّ الْخِيَارَ إِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِالنُّقْصَانِ دُونَ الزِّيَادَةِ ، وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ أَنْقَصَ مِمَّا شَرَطَ ، فَفِي خِيَارِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَهَا الْخِيَارُ لِأَجْلِ الشَّرْطِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا خِيَارَ : لِأَنَّ النُّقْصَانَ لَا يَمْنَعُ مِنْ مَقْصُودِ الْعَقْدِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ مَنْ شَرَطَ هَذَا " فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهِ فَقَالَ " مَنْ أَسْقَطَ خِيَارَهَا : مَعْنَاهُ أَنَّهَا ظَلَمَتْ نَفْسَهَا بِاشْتِرَاطِ مَا لَمْ يَثْبُتْ لَهَا فِيهِ خِيَارٌ ، وَقَدْ تَسْتَغْنِي بِالْمُشَاهَدَةِ عَنِ اشْتِرَاطِهِ ، وَقَالَ : " مَنْ أَثْبَتَ خِيَارَهَا " أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الشُّرُوطِ النَّاقِصَةِ ، وَأَنَّهَا ظَلَمَتْ نَفْسَهَا بِمَا شَرَطَتْهُ مِنْ نُقْصَانِ أَحْوَالِهِ وَأَوْصَافِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا نَكَحَتْ نِكَاحًا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ لَكِنِ اعْتَقَدَتْ فِيهِ كَمَالَ الْأَحْوَالِ فَبَانَ بِخِلَافِهَا مِنْ نُقْصَانِ الْأَحْوَالِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ نُقْصَانُ أَحْوَالِهِ غَيْرَ كُفْءٍ لَهَا كَأَنَّهَا حُرَّةٌ وَهُوَ عَبْدٌ ، أَوْ هَاشِمِيَّةٌ وَهُوَ نَبَطِيٌّ ، أَوْ غَنِيَّةٌ وَهُوَ فَقِيرٌ ، فَلَهَا الْخِيَارُ : لِأَنَّ نِكَاحَ غَيْرِ الْكُفْءِ لَا يَلْزَمُ إِلَّا بِالْقَبُولِ وَالرِّضَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَعَ نُقْصَانِ أَحْوَالِهِ كُفُؤًا لَهَا ، فَلَا خِيَارَ لَهَا فِي غَيْرِ الرِّقِّ ، وَهَلْ لَهَا الْخِيَارُ فِي رِقِّهِ إِذَا وَجَدَتْهُ عَبْدًا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا خِيَارَ لَهَا : لِأَنَّ كَوْنَهُ كُفُؤًا لَهَا يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِ النَّقْصِ وَالْعَارِ عَلَيْهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَهَا : لِأَنَّ نَقْصَ الرِّقِّ مُؤْتَمَرٌ فِي حُقُوقِ النِّكَاحِ بِمَا لِسَيِّدِهِ مِنْ مَنْعِهِ مِنْهَا بِخِدْمَتِهِ وَإِخْرَاجِهِ فِي سَفَرِهِ وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ لَهَا إِلَّا نَفَقَةُ مُعْسِرٍ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَثْبُتَ لَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي غَرَّتْهُ بِنَسَبٍ ، فَوَجَدَهَا دُونَهُ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا إِنْ شَاءَ فَسَخَ بِلَا مَهْرٍ وَلَا مُتْعَةَ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا . وَالثَّانِي : لَا خِيَارَ لَهُ إِنْ كَانَتْ حُرَّةً : لِأَنَّ بِيَدِهِ طَلَاقَهَا وَلَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْعَارِ مَا يَلْزَمُهَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : قَدْ جَعَلَ لَهُ الْخِيَارَ إِذَا غَرَّتْهُ فَوَجَدَهَا أَمَةً كَمَا جَعَلَ لَهَا الْخِيَارَ إِذَا غَرَّهَا فَوَجَدَتْهُ عَبْدًا ، فَجَعَلَ مَعْنَاهُمَا فِي الْخِيَارِ بِالْغَرُورِ وَاحِدًا ، وَلَمْ

يَلْتَفِتْ إِلَى أَنَّ الطَّلَاقَ إِلَيْهِ وَلَا إِلَى أَنْ لَا عَارَ فِيهَا عَلَيْهِ ، وَكَمَا جَعَلَ لَهَا الْخِيَارَ بِالْغَرُورِ فِي نَقْصِ النَّسَبِ عَنْهَا وَجَعَلَهُ لَهَا فِي الْعَبْدِ ، فَقِيَاسُهُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ الْخِيَارَ بِالْغَرُورِ فِي نَقْصِ النَّسَبِ عَنْهُ ، كَمَا جَعَلَهُ لَهُ فِي الْأَمَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى غَرُورُ الزَّوْجِ لِلْمَرْأَةِ ، فَأَمَّا غَرُورُ الْمَرْأَةِ لِلزَّوْجِ ، فَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى شَرْطٍ فَيَكُونُ بِخِلَافِهِ فَيَنْقَسِمُ الشَّرْطُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ فِي الْحُرِّيَّةِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِي النَّسَبِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ فِي الصِّفَةِ . فَأَمَّا الشَّرْطُ فِي الْحُرِّيَّةِ : فَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَتَكُونُ أَمَةً ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مِمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ ، بِأَنْ يَكُونَ وَاجِدًا لِلطَّوْلِ أَوْ غَيْرَ خَائِفٍ لَلَعَنَتِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ : لِأَنَّهُ نِكَاحُ الْحُرِّ لِلْأَمَةِ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ : عَدَمِ الطَّوْلِ ، وَخَوْفِ الْعَنَتِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ ؛ لِوُجُودِ الشَّرْطَيْنِ فِيهِ مِنْ عَدَمِ الطَّوْلِ وَخَوْفِ الْعَنَتِ فَلَهَا حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ تَكُونَ قَدْ نَكَحَتْهُ ، بِغَيْرِ إِذَنْ سَيِّدِهَا فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تَنْكِحَهُ بِإِذْنِ سَيِّدِهَا ، فَلِلشَّرْطِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لِلْعَقْدِ . وَالثَّانِي : غَيْرَ مُقَارَنٍ . فَإِنْ لَمْ يُقَارِنِ الْعَقْدَ بَلْ تَقَدَّمَهُ أَوْ تَأَخَّرَ عَنْهُ ، فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ . وَإِنِ اقْتَرَنَ بِالْعَقْدِ ، فَلَا يَخْلُو الْغَارُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ السَّيِّدَ أَوْ غَيْرَهُ ، فَإِنْ كَانَ الْغَارُّ هُوَ السَّيِّدَ ، فَقَالَ الزَّوْجُ عِنْدَ عَقْدِهِ : هِيَ حُرَّةٌ ، قَدْ عَتَقَتْ بِقَوْلِهِ هَذَا ، وَصَارَ الزَّوْجُ بِهَذَا الْغَرُورِ عَاقِدًا عَلَى حُرَّةٍ ، فَصَحَّ نِكَاحُهَا ، وَهِيَ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهَا كَالْحُرَّةِ ، وَإِنْ كَانَ الْغَارُّ غَيْرَ السَّيِّدِ ، فَهِيَ حِينَئِذٍ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فِي الْغَرُورِ بِاسْتِكْمَالِ مَا فَصَّلْنَا مِنَ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ قَدْ نَكَحَتْ بِإِذْنِ سَيِّدِهَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ مُقَارِنًا لِلْعَقْدِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ الْغَارُّ غَيْرَ السَّيِّدِ فَيَكُونُ فِي النِّكَاحِ حِينَئِذٍ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ . وَالثَّانِي : جَائِزٌ .

وَتَوْجِيهُهُمَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ غَرُورِ الزَّوْجِ لِلزَّوْجَةِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا قُلْنَا بِبُطْلَانِ النِّكَاحِ ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الزَّوْجُ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ، وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ ، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا ، وَلَا يَكُونُ لِلْعَقْدِ تَأْثِيرٌ فِي لُزُومِ شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ ، وَإِنْ دَخَلَ الزَّوْجُ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا لِفَسَادِ الْعَقْدِ ، وَلَهَا حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ أَحْبَلَهَا . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ حَائِلًا لَمْ تَحْبَلْ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَحْبَلَهَا تَعَلَّقَ بِدُخُولِهِ بِهَا حُكْمَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَلَيْهِ لِلسَّيِّدِ مُهْرَ مِثْلِهَا بِالْإِصَابَةِ دُونَ الْمُسَمَّى : لِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِحْقَاقِ مَا سُمِّيَ فِيهِ ، فَصَارَ مُسْتَهْلِكًا لِبُضْعِهَا لِشُبْهَةٍ ، فَلَزِمَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ . وَالثَّانِي : وُجُوبُ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا : لِأَنَّهَا إِصَابَةٌ تُوجِبُ لُحُوقَ النَّسَبِ ، فَأَوْجَبَتِ الْعِدَّةَ ، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي زَمَانِ الْعِدَّةِ : لِارْتِفَاعِ الْعَقْدِ الَّذِي تَسْتَحِقُّ بِهِ النَّفَقَةَ . فَإِذَا غُرِّمَ الزَّوْجُ بِالْإِصَابَةِ مَهْرَ الْمِثْلِ ، فَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ - : يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَارِّ : لِأَنَّهُ أَلْجَأَهُ إِلَى غُرْمِهِ ، فَصَارَ كَالشَّاهِدِ إِذَا أَوْجَبَ بِشَهَادَتِهِ غُرْمًا ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهَا لَزِمَهُ غُرْمُ مَا أَغْرَمَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَارِّ : لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ اسْتِمْتَاعِهِ الَّذِي لَا يَنْفَكُّ مِنْ غُرْمٍ ، إِمَّا الْمُسَمَّى إِنْ صَحَّ الْعَقْدُ ، أَوْ مَهْرُ الْمِثْلِ إِنْ فَسَدَ ، فَإِذَا قُلْنَا : لَا رُجُوعَ لِلزَّوْجِ بِالْمَهْرِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ تَفَرَّدَ بِإِلْزَامِهِ لِلسَّيِّدِ . وَإِنْ قُلْنَا : يَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ وَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ قَبْلَ غُرْمِهِ لِجَوَازِ أَنْ يُبَرِّئَهُ السَّيِّدُ مِنْهُ ، فَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ ، كَالضَّامِنِ إِذَا أُبْرِئُ مِنَ الضَّمَانِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِشَيْءٍ ، وَإِنْ أَغْرَمَهُ السَّيِّدُ الْمَهْرَ رَجَعَ بِهِ الزَّوْجُ حِينَئِذٍ عَلَى مَنْ غَرَّهُ ، وَمَنْ يُؤَثِّرُ غُرُورُهُ اثْنَانِ : الْأَمَةُ وَوَكِيلُ السَّيِّدِ : لِأَنَّ السَّيِّدَ لَوْ غَرَّهُ لَعَتَقَتْ ، وَإِنْ غَرَّهُ أَجْنَبِيٌّ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ فِي الْعَقْدِ تَأْثِيرٌ ، فَإِنْ كَانَتِ الْأَمَةُ هِيَ الْغَارَّةَ كَانَ الْغُرْمُ فِي ذِمَّتِهَا إِذَا أُعْتِقَتْ وَأَسَرَّتْ إِذْنَهُ ، وِإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ هُوَ الْغَارَّ أُغْرِمَ فِي الْحَالَةِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا ، وَأُنْظِرُ بِهِ إِلَى وَقْتِ يَسَارِهِ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ قَدْ أَحْبَلَهَا فَفِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لَهَا مُدَّةَ حَمْلِهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَهَا النَّفَقَةُ إِذَا قِيلَ : إِنَّ نَفَقَةَ الْحَامِلِ لِحَمْلِهَا لَا لَهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا نَفَقَةَ لَهَا إِذَا قِيلَ : إِنْ نَفَقَةَ الْحَامِلِ لَهَا لَا لِحَمْلِهَا ، فَإِذَا وَضَعَتْ تَعَلَّقَ بِمَوْلِدِهَا ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : لُحُوقُهُ بِالزَّوْجِ لِشُبْهَةِ الْعَقْدِ . وَالثَّانِي : كَوْنُهُ حُرًّا مِنْ حِينِ عُلُوقِهِ : لِأَنَّ اشْتِرَاطَ حُرِّيِّتِهَا يَتَضَمَّنُ حُرِّيَّةَ وَلَدِهَا : لِأَنَّ الْحُرَّةَ لَا تَلِدُ إِلَّا حُرًّا . وَالثَّالِثُ : أَنْ تَغْرُمَ لِلسَّيِّدِ قِيمَةَ وَلَدِهَا يَوْمَ وَضَعَتْهُ : لِأَنَّ وَلَدَ الْأَمَةِ مَمْلُوكًا لِسَيِّدِهَا ، وَقَدْ صَارَ الزَّوْجُ مُسْتَهْلَكًا لِرِقِّهِ بِمَا يَحْدُثُ مِنْ عِتْقِهِ ، فَلَزِمَهُ غُرْمُ قِيمَتِهِ وَاعْتَبَرْنَاهَا يَوْمَ وَضْعِهِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ عَتَقَ وَقْتَ عُلُوقِهِ : لِأَنَّهُ لَا يَقُومُ إِلَّا بَعْدَ الْوَضْعِ ، فَإِذَا غَرِمَ الزَّوْجُ قِيمَةَ الْوَلَدِ رَجَعَ بِهَا عَلَى مَنْ غَرَّهُ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِنْ كَانَ فِي رُجُوعِهِ بِالْمَهْرِ قَوْلَانِ .

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْمَهْرَ مُسْتَحَقٌّ فِي نِكَاحِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ : لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُرْجَعُ بِهِ فِي الْغَرُورِ بِالْأَمَةِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قِيمَةُ الْوَلَدِ : لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ إِلَّا فِي وَلَدِ الْأَمَةِ دُونَ الْحُرَّةِ ، فَصَارَ الْغَرُورُ هُوَ الْمُوجِبَ لِغُرْمِهِ ، فَلِذَلِكَ رَجَعَ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ قَوْلًا وَاحِدًا ، فَصَارَ وَطْؤُهَا وَإِحْبَالُهَا مُوجِبًا لِخَمْسَةِ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : مَهْرُ الْمِثْلِ . وَالثَّانِي : الْعِدَّةُ . وَالثَّالِثُ : لُحُوقُ الْوَلَدِ . وَالرَّابِعُ : حُرِّيَّتُهُ . وَالْخَامِسُ : غُرْمُ قِيمَتِهِ . فَهَذَا إِذَا قِيلَ بُطْلَانُ النِّكَاحِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا قُلْنَا بِصِحَّةِ النِّكَاحِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي ، فَهَلْ لِلزَّوْجِ فِيهِ خِيَارُ الْفَسْخِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : حَكَاهُمَا الْمُزَنِيُّ ، وَلَمْ يَحْكِ الْقَوْلَيْنِ فِي أَصْلِ النِّكَاحِ بَلِ اكْتَفَى بِمَا حَكَاهُ فِي غَرُورِ النِّكَاحِ : أَحَدُهُمَا : لَا خِيَارَ لَهُ بِالْغَرُورِ ، وَإِنْ ثَبَتَ لِلزَّوْجَةِ الْخِيَارُ بِالْغَرُورِ : لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى طَلَاقِهَا وَلَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْعَارِ مَا يَلْحَقُهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَهُ الْخِيَارُ لِإِحْدَى عِلَّتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : أَنَّ مَا أَوْجَبَ لِلزَّوْجَةِ خِيَارَ الْفَسْخِ أَوْجَبَهُ لِلزَّوْجِ كَعُيُوبِ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بِيَدِهِ فَكَذَلِكَ فِي الْغَرُورِ . وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ : مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْ نَقْصِ اسْتِرْقَاقِ وَلَدِهِ وَنُقْصَانِ اسْتِمْتَاعِهِ ، فَإِذَا قُلْنَا لَهُ الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ فَاخْتَارَ الْفَسْخَ كَانَ حُكْمُهُ بَعْدَ الْفَسْخِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَإِذَا قِيلَ بِفَسَادِ الْعَقْدِ فِي أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا وَلَمْ يُحَبِّلْهَا تَعَلَّقَ بِدُخُولِهِ حُكْمَانِ : مَهْرُ الْمِثْلِ ، وَالْعِدَّةُ ، وَإِنْ أَحَبَلَهَا تَعَلَّقَ بِإِحْبَالِهِ لَهَا مَعَ حُكْمَيِ الدُّخُولِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ : لُحُوقُ الْوَلَدِ ، وَحُرِّيَّتُهُ ، وَغُرْمُ قِيمَتِهِ ، وَيَرْجِعُ بِمَا غَرِمَهُ مِنْ قِيمَتِهِ ، وَفِي رُجُوعِهِ بِمَا غَرِمَهُ مِنَ الْمَهْرِ قَوْلَانِ ، وَإِنْ أَقَامَ عَلَى النِّكَاحِ وَلَمْ يَخْتَرِ الْفَسْخَ ، وَقُلْنَا : لَيْسَ لَهُ خِيَارٌ ، فَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ ، وَلَهَا الْمَهْرُ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ ، وَيَكُونُ أَوْلَادُهُ الَّذِينَ عَلَقَتْ بِهِمْ قَبْلَ عِلْمِهِ بِرِقِّهَا أَحْرَارًا ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُمْ ، وَمَنْ عَلَقَتْ بِهِمْ بَعْدَ عِلْمِهِ بِرِقِّهَا مَمَالِيكُ لِلسَّيِّدِ إِنْ لَمْ يَكُنِ الزَّوْجُ عَرَبِيًّا ، وَإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ - : يَكُونُونَ أَحْرَارًا ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُمْ ، وَمَنْ عَلَقَتْ بِهِمْ بَعْدَ عِلْمِهِ بِرِقِّهَا مَمَالِيكُ لِلسَّيِّدِ : لِأَنْ لَا يَجْرِيَ عَلَى عَرَبِيٍّ صَغَارٌ ، وَالرِّقُّ أَعْظَمُ صَغَارٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَكُونُونَ مَمَالِيكَ لِلسَّيِّدِ : لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْجَمِيعِ وَاحِدٌ ، وَتَمَيُّزُ مَنْ عَلَقَتْ بِهِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِرِقِّهَا مُعْتَبَرٌ بِمُدَّةِ الْوَضْعِ ، فَمَنْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ عِلْمِهِ ،

فَالْعُلُوقُ بِهِ قَبْلَ الْعِلْمِ فَيَكُونُ حُرًّا ، وَمَنْ وَضَعَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَالْعُلُوقُ بِهِ فِي الظَّاهِرِ بَعْدَ الْعِلْمِ اعْتِبَارًا بِأَقَلِّ الْحَمْلِ فَيَكُونُ مَمْلُوكًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ غَرُورُ الزَّوْجِ بِالْحُرِّيَّةِ .

فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي غَرُورِ الزَّوْجِ بِالنَّسَبِ

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي غَرُورِ الزَّوْجِ بِالنَّسَبِ ] وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ غَرُورُ الزَّوْجِ بِالنَّسَبِ فَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا هَاشِمِيَّةٌ فَتَكُونُ عَرَبِيَّةً ، أَوْ عَلَى أَنَّهَا عَرَبِيَّةٌ فَتَكُونُ نَبَطِيَّةً أَوْ أَعْجَمِيَّةً ، فَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ . وَالثَّانِي : جَائِزٌ . فَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ النِّكَاحِ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ لِلْعَقْدِ تَأْثِيرٌ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَعَلَيْهِ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى . وَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . أَحَدُهُمَا : يَرْجِعُ بِهِ : لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ اسْتِمْتَاعِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ وَهُوَ أَحَدُ ثَلَاثَةٍ : إِمَّا الْوَلِيُّ ، أَوْ وَكِيلُهُ ، أَوِ الزَّوْجَةُ ، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ أَوْ وَكِيلُهُ هُوَ الْغَارُّ رَجَعَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْغُرْمِ لِجَمِيعِ الْمَهْرِ ، وَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ هِيَ الْغَارَّةَ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَرْجِعُ عَلَيْهِمَا بِجَمِيعِهِ أَيْضًا كَمَا يَرْجِعُ عَلَى الْوَلِيِّ وَالْوَكِيلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَتْرُكُ عَلَيْهَا مِنْهُ يَسِيرًا ، وَأَقَلُّهُ أَقَلُّ مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِبَاقِيهِ : لِئَلَّا يَصِيرَ مُسْتَبِيحًا لِبُضْعِهَا بِغَيْرِ بَذْلٍ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ قَدْ رَجَعَ الْمَهْرُ إِلَيْهِمَا ، رَجَعَ عَلَيْهَا بِجَمِيعِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، وَتَرَكَ عَلَيْهِمَا مِنْهُ قَدْرَ أَقَلِّ الْمُهُورِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي ، وَإِنْ كَانَ مَا دَفَعَ الْمَهْرَ إِلَيْهَا فَلَا مَعْنَى لِأَنْ يَدْفَعَ الْمَهْرَ إِلَيْهَا ثُمَّ يَسْتَرْجِعُهُ ، فَلَا يَدْفَعُ إِلَيْهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ شَيْئًا ، وَيَدْفَعُ إِلَيْهَا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي قَدْرَ أَقَلِّ الْمُهُورِ ، وَ سَوَاءً فِي إِصَابَةِ هَذِهِ الْغَارَّةِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَحْبَلَهَا أَوْ لَمْ يُحَبِلْهَا فِي أَنَّ وَلَدَهَا إِذَا أُلْحِقَ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ غُرْمٌ : لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ رِقٌّ .

فَصْلٌ : وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ نُظِرَ فِي نَسَبِ الزَّوْجِ ، فَإِنْ كَانَ مِثْلَ نَسَبِهَا الَّذِي ظَهَرَ لَهَا ، فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْفَسْخِ : لِأَنَّهُ لَا عَارَ عَلَيْهِ وَلَا مَعَرَّةَ تَلْحَقُهُ ، وَإِنْ كَانَ كَالنَّسَبِ الَّذِي شَرَطَهُ وَأَعْلَى مِنَ النَّسَبِ الَّذِي ظَهَرَ لَهَا ، فَخِيَارُهُ فِي فَسْخِهِ مُعْتَبَرٌ بِخِيَارِهِ فِي غَرُورِهِ بِالرِّقِّ بِهِ وَبِالْحَرِيَّةِ وَتَعْلِيلِ اسْتِحْقَاقِهِ . فَإِنْ قِيلَ : لَا خِيَارَ لَهُ إِذَا كَانَ مَغْرُورًا بِالْحُرِّيَّةِ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ الْخِيَارُ إِذَا كَانَ مَغْرُورًا بِالنَّسَبِ ، وَإِنْ قِيلَ : لَهُ الْخِيَارُ إِذَا كَانَ مَغْرُورًا بِالْحُرِّيَّةِ ، فَهَلْ لَهُ الْخِيَارُ إِذَا كَانَ مَغْرُورًا بِالنَّسَبِ ؟ مُعْتَبَرٌ بِاخْتِلَافِ الْعِلَّةِ إِذَا كَانَ مَغْرُورًا بِالْحُرِّيَّةِ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْعِلَّةَ فِي خِيَارِهِ إِذَا غُرَّ بِالْحُرِّيَّةِ أَنْ

يَثْبُتَ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ مِثْلَ مَا ثَبَتَ لِلزَّوْجَةِ ، فَلَهُ فِي غَرُورِ النَّسَبِ خِيَارُ الْفَسْخِ ، كَمَا كَانَ لِلزَّوْجَةِ وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْعِلَّةَ فِي الْغَرُورِ بِالْحُرِّيَّةِ دُخُولُ النَّقْصِ عَلَيْهِ فِي اسْتِرْقَاقِ وَلَدِهِ وَنُقْصَانِ اسْتِمْتَاعِهِ ، فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْغُرُورِ بِالنَّسَبِ : لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ نَقْصٌ فِي الِاسْتِمْتَاعِ وَلَا فِي الْوَلَدِ : لِأَنَّ وَلَدَهُ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فِي نَسَبِهِ لَا إِلَيْهِمَا : لِأَنَّ وَلَدَ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْعَجَمِيَّةِ عَرَبِيٌّ ، وَوَلَدَ الْعَجَمِيِّ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ عَجَمِيٌّ ، وَفِي كَشْفِ هَذَا التَّعْلِيلِ وَحَمْلِ الْجَوَابِ عَلَيْهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْخِيَارِ مُقْنِعٌ لِمَا أَوْرَدَهُ الْمُزَنِيُّ ، فَأَمَّا إِذَا غَرَّتْهُ بِنَسَبٍ ، فَوَجَدَهُ أَعْلَى مِنْهُ ، نُظِرَ : فَإِنْ شَرَطَتْ أَنَّهَا عَرَبِيَّةٌ فَكَانَتْ هَاشِمِيَّةً ، فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ ، وَلَا خِيَارَ : لِأَنَّ الْهَاشِمِيَّةَ عَرَبِيَّةٌ وَإِنِ ازْدَادَتْ شَرَفًا فَلَمْ تَكُنِ الصِّفَةُ الْمَشْرُوطَةُ مُخَالِفَةً ، وَإِنْ شَرَطَتْ أَنَّهَا نَبَطِيَّةٌ أَوْ عَجَمِيَّةٌ فَكَانَتْ هَاشِمِيَّةً أَوْ عَرَبِيَّةً فَالصِّفَةُ مُخَالَفَةٌ لِلشَّرْطِ ، فَيَكُونُ النِّكَاحُ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ . وَالثَّانِي : جَائِزٌ ، فَلَا خِيَارَ لَهُ .

فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي غَرُورِ الزَّوْجِ بِالصِّفَةِ

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي غَرُورِ الزَّوْجِ بِالصِّفَةِ ] وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ غَرُورُ الزَّوْجِ بِالصِّفَةِ فَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ ، فَتَكُونُ ثَيِّبًا ، أَوْ عَلَى أَنَّهَا شَابَّةٌ فَتَكُونُ عَجُوزًا ، أَوْ عَلَى أَنَّهَا جَمِيلَةٌ فَتَكُونُ قَبِيحَةً ، إِلَى مَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى مِنَ الصِّفَاتِ ، فَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا . وَفِي رُجُوعِهِ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى فِي غَرُورِ النَّسَبِ مِنَ اعْتِبَارِ حَالِ مَنْ غَرَّهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ خِيَارُهُ فِي غَرُورِهَا مُعْتَبَرًا بِخِيَارِهَا فِي غَرُورِهِ ، وَفِي خِيَارِهَا لَوْ غَرَّهَا الزَّوْجُ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا خِيَارَ لَهَا ، فَعَلَى هَذَا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ خِيَارٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَهَا الْخِيَارُ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا بِخِيَارِهِ إِذَا كَانَ مَغْرُورًا بِالْحُرِّيَّةِ ، وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا خِيَارَ لَهُ فِيهِ ، فَعَلَى هَذَا أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ خِيَارٌ إِذَا غُرَّ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَهُ الْخِيَارُ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا بِعِلَّةِ الْخِيَارِ فِي هَذَا الْقَوْلِ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ خِيَارِ الزَّوْجَةِ ، فَلَهُ الْخِيَارُ فِي نُقْصَانِ هَذِهِ الصِّفَاتِ ، كَمَا كَانَ لِلزَّوْجَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهَا تُدْخِلُ النَّقْصَ عَلَيْهِ فِي رِقِّ الْوَلَدِ وَنُقْصَانِ الِاسْتِمْتَاعِ ، فَلَا خِيَارَ لَهُ هَاهُنَا لِعَدَمِ النَّقْصِ فِيهِمَا ، فَأَمَّا إِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى شَرْطٍ فَكَانَتْ أَعْلَى مِنْهُ ، مِثْلُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا ثَيِّبٌ فَتَكُونُ بِكْرًا ، أَوْ عَلَى أَنَّهَا عَجُوزٌ فَتَكُونُ شَابَّةً ، أَوْ عَلَى أَنَّهَا قَصِيرَةٌ فَتَكُونُ طَوِيلَةً ، أَوْ عَلَى أَنَّهَا قَبِيحَةٌ فَتَكُونُ جَمِيلَةً ، وَمَا شَاءَ كُلُّ هَذِهِ الصِّفَاتِ ، فَفِي النِّكَاحِ أَيْضًا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ .

وَالثَّانِي : جَائِزٌ وَلَا خِيَارَ لَهُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ شَرْطٍ فَظَنَّهَا عَلَى صِفَةٍ فَكَانَتْ بِخِلَافِهَا ، فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ فِيمَا سِوَى الرِّقِّ وَالْكُفْرِ ، وَلَا خِيَارَ فِيهِ لِلزَّوْجِ فِيمَا سِوَى عُيُوبِ الْفَسْخِ مِنَ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ وَالرَّتَقِ وَالْقَرَنِ ، وَأَمَّا الرِّقُّ وَالْكُفْرُ وَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَيَظُنَّ أَنَّهَا حُرَّةٌ فَتَكُونُ أَمَةً ، وَيَظُنُّهَا مُسْلِمَةً فَتَكُونُ كَافِرَةً ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ : لِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِلطَّوْلِ ، أَوْ غَيْرُ خَائِفٍ لَلَعَنَتِ ، أَوْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِلُّ لِمُسْلِمٍ كَالْوَثَنِيَّةِ ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ فِي الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ لِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ يَحِلُّ مِمَّنْ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ لِعَدَمِ الطَّوْلِ وَخَوْفِ الْعَنَتِ ، وَيَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ هَذِهِ الْكَافِرَةِ ، وَلِأَنَّهَا كِتَابِيَّةٌ ، فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ وَصْفًا فَوَجَدَ خِلَافَهُ ، فَأَمَّا الْخِيَارُ ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ : إِنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِهِ ، وَقَالَ فِي نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ فِي فَسْخِهِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى طَرِيقَيْنِ : أَحَدُهُمَا : نَقْلُ جَوَابِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى ، وَتَخْرِيجُهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ نِكَاحِ الْأَمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ : لِأَنَّ الْكِتَابِيَّةَ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْأَمَةِ الَّتِي يُسْتَرَقُّ وَلَدُهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ فِي فَسْخِ نِكَاحِ الْأَمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ ، عَلَى مَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِيَّةِ : لِأَنَّ الْأَمَةَ أَغْلَظُ حَالًا بِاسْتِرْقَاقِ وَلَدِهَا . وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ لِأَصْحَابِنَا أَنْ حَمَلُوا جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِ ، فَلَمْ يَجْعَلُوا لَهُ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ خِيَارًا ، وَجَعَلُوا لَهُ فِي نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ خِيَارًا ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ خِيَارًا يُمَيَّزُونَ بِهِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِذَا خَالَفُوا صَارَ غَرُورًا ، فَثَبَتَ الْخِيَارُ فِي نِكَاحِهِمْ ، وَلَيْسَ لِلْمَمْلُوكِينَ خِيَارٌ يَتَمَيَّزُونَ بِهِ فَلَزِمَهُمْ غُرُورٌ يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ فِي مَنَاكِحِهِمْ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْمَرْأَةِ لَا تَلِي عُقْدَةَ النِّكَاحِ

بَابُ الْمَرْأَةِ لَا تَلِي عُقْدَةَ النِّكَاحِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " قَالَ بَعْضُ النَّاسِ زَوَّجَتْ عَائِشَةُ ابْنَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ، وَهُوَ غَائِبٌ بِالشَّامِ ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : أَمِثْلِي يُفْتَاتُ عَلَيْهِ فِي بَنَاتِهِ ؟ ( قَالَ ) فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا زَوَّجَتْهَا بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، قِيلَ : فَكَيْفَ يَكُونُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَكَّلَ عَائِشَةَ لِفَضْلِ نَظَرِهَا إِنْ حَدَثَ حَدَثٌ أَوْ رَأَتْ فِي مَغِيبِهِ لِابْنَتِهِ حَظًّا أَنْ تُزَوِّجَهَا احْتِيَاطًا ، وَلَمْ يَرَ أَنَّهَا تَأْمُرُ بِتَزْوِيجِهَا إِلَّا بَعْدَ مُؤَامَرَتِهِ ، وَلَكِنْ تُوَاطِئُ وَتَكْتُبُ إِلَيْهِ ، فَلَمَّا فَعَلَتْ قَالَ : هَذَا وَإِنْ كُنْتُ قَدْ فَوَّضْتُ إِلَيْكِ ، فَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَفْتَاتِي عَلِيَّ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ زَوِّجِي ، أَيْ وَكِّلِي مَنْ يُزَوِّجُ ، فَوَكَّلَتْ قَالَ : فَلَيْسَ لَهَا هَذَا فِي الْخَبَرِ ، قِيلَ : لَا ، وَلَكِنْ لَا يُشْبِهُ غَيْرَهُ : لِأَنَّهَا رَوَتْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ بَاطِلًا ، أَوْ كَانَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُزَوِّجَ بِكْرًا وَأَبُوهَا غَائِبٌ دُونَ إِخْوَتِهَا أَوِ السُّلْطَانِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ) مَعْنَى تَأْوِيلِهِ فِيمَا رَوَتْ عَائِشَةُ عِنْدِي غَلَطٌ : وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ إِنْكَاحُ الْمَرْأَةِ وَوَكِيلُهَا مِثْلُهَا ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ بِأَنْ تُوَكَّلَ ، وَهِيَ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ إِنْكَاحُهَا ، وَلَوْ قَالَ إِنَهُ أَمَرَ مَنْ يُنَفِّذُ رَأْيَ عَائِشَةَ فَأَمَرَتْهُ فَأَنْكَحَ خَرَجَ كَلَامُهُ صَحِيحًا : لِأَنَّ التَّوْكِيلَ لِلْأَبِ حِينَئِذٍ ، وَالطَّاعَةَ لِعَائِشَةَ ، فَيَصِحُّ وَجْهُ الْخَبَرِ عَلَى تَأْوِيلِهِ الَّذِي يَجُوزُ عِنْدِي ، لَا أَنَّ الْوَكِيلَ وَكِيلٌ لَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَلَكِنَّهُ وَكِيلٌ لَهُ فَهَذَا تَأْوِيلُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِوَلِيٍّ ذَكَرٍ ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَعْقِدَ نِكَاحَ نَفْسِهَا ، فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَلِيَ نِكَاحَ غَيْرِهَا لَا بِوِلَايَةٍ وَلَا بِوَكَالَةٍ ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهَا فِيهِ بَذْلٌ وَلَا قَبُولٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّاهُ لِنَفْسِهَا وَلِغَيْرِهَا نِيَابَةً وَوَكَالَةً تَكُونُ فِيهِ بَاذِلَةً أَوْ قَابِلَةً ، فَأَمَّا نِكَاحُ نَفْسِهَا قَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِيهِ ، وَأَمَّا نِكَاحُ غَيْرِهَا نِيَابَةً وَوَكَالَةً فَاسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ أَنْ تَتَوَكَّلَ فِيهِ وَتُبَاشِرَ غَيْرَهُ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ زَوَّجَتْ بِنْتَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ، وَكَانَ غَائِبًا بِالشَّامِ بِمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، فَلَمَّا قَدِمَ ، قَالَ : أَمِثْلِي يُفْتَاتُ عَلَيْهِ فِي بَنَاتِهِ : وَأَمْضَى النِّكَاحَ ، قَالَ : وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَجَازَ أَنْ تَتَوَلَّاهُ الْمَرْأَةُ كَالْبَيْعِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ الْبُضْعُ ، فَصَحَّ أَنْ تُبَاشِرَهُ الْمَرْأَةُ قِيَاسًا عَلَى شِرَاءِ الْأَمَةِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ ، فَجَازَ اشْتِرَاكُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِيهِ كَالْإِجَارَةِ .

وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : وَلَا تَنْكِحُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ وَلَا تَنْكِحُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا وَهَذَا نَصٌّ . وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ : أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ إِذَا هَوَى فَتًى مِنْ بَنِي أَخِيهَا فَتَاةً مِنْ بَنَاتِ أَخِيهَا أَرْسَلَتْ سِرًّا ، وَقَعَدَتْ مِنْ وَرَائِهِ ، وَتَشَهَّدَتْ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا النِّكَاحُ ، قَالَتْ : يَا فُلَانُ انْكِحْ وَلِيَّتَكَ فُلَانَةً ، فَإِنَّ النِّسَاءَ لَا يَنْكِحْنَ . وَهَذَا أَمْرٌ مُنْتَشِرٌ فِي الصَّحَابَةِ لَا يُعْرَفُ فِيهِ مُخَالِفٌ ، وَلِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَرْأَةِ فِي حَقِّ نَفْسِهَا أَقْوَى مِنْ تَصَرُّفِهَا فِي حَقِّ غَيْرِهَا ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا وِلَايَةٌ فِي حَقِّ غَيْرِهَا ، وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَعْقِدَهُ الْمَرْأَةُ لِنَفْسِهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ تَعْقِدَهُ لِغَيْرِهَا كَعَقْدِ الْإِمَامَةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ ، فَهُوَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا لَوْ زَوَّجَتْهَا بِوِلَايَةِ النَّسَبِ لَكَانَ بِالْمَنْكُوحَةِ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْوِلَايَةِ مِنْهَا مِنْ إِخْوَةٍ وَأَعْمَامٍ : لِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ قَدْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ وَأَوْلَادُهُمْ أَحَقُّ بِنِكَاحِهَا مِنْ عَائِشَةَ الَّتِي هِيَ أُخْتُهُ وَعَمَّةُ الْمَنْكُوحَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ زَوَّجَتْهَا بِوَكَالَةِ أَبِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَمَا افْتَاتَتْ عَلَيْهِ فِي بَنَاتِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهَا هِيَ الرَّاوِيَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ وَهِيَ لَا تُخَالِفُ مَا رَوَتْهُ . الرَّابِعُ : أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا خَطَبَتْ فِي الْمَنَاكِحِ ، قَالَتْ : " يَا فُلَانُ انْكِحْ وَلِيَّتَكَ ، فَإِنَّ النِّسَاءَ لَا يَنْكِحْنَ " . وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مَا يُمْكِنُ فَيُحْمَلُ عَلَى أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَكَّلَ عَنْ نَفْسِهِ مَنْ يَقُومُ بِتَزْوِيجِ بِنْتِهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى رَأْيِ عَائِشَةَ فِي اخْتِيَارِ مَنْ يُزَوِّجُهَا بِهِ ، فَأَشَارَتْ عَلَيْهِ عَائِشَةُ بِتَزْوِيجِهَا مُنْذِرَ بْنَ الزُّبَيْرِ . فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ أَنْكَرَ وَقَدْ وَكَّلَ . قِيلَ : لِأَنَّ مُنْذِرًا قَدْ كَانَ خَطَبَ إِلَيْهِ فَكَرِهَهُ لِعُجْبٍ ذَكَرَهُ فِيهِ ، فَأَحَبَّتْ عَائِشَةُ مَعَ مَا عَرَفَتْهُ مِنْ فَضْلِ مُنْذِرٍ أَنَّهُ يَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتُزَوِّجُ بِنْتَ أَخِيهَا بِابْنِ أُخْتِهَا : لِأَنَّ مُنْذِرَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَمُّهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَائِشَةُ حِينَ اخْتَارَتْ مُنْذِرًا سَأَلَتِ السُّلْطَانَ أَنْ يُزَوِّجَهَا لِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بِغَيْبَتِهِ لَا تَزُولُ وِلَايَتُهُ وَيَنُوبُ السُّلْطَانُ عَنْهُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَيَنُوبُ عَنْهُ مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَعِنْدَ مَالِكٍ ، فَكَرِهَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ إِنْ لَمْ يُسْتَأْذَنْ فِيهِ وَيُطَالِعْ بِهِ وَيَكُونُ إِضَافَةُ

الْعَقْدِ إِلَى عَائِشَةَ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْعَاقِدَةَ لِمَكَانِ اخْتِيَارِهَا وَسِفَارَتِهَا ، كَمَا يُضَافُ الْعَقْدُ إِلَى السَّفِيرِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ، فَيُقَالُ فُلَانَةُ الدَّلَّالَةُ قَدْ زَوَّجَتْ فُلَانًا بِفُلَانَةٍ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَدْ بَاشَرَتِ الْعَقْدَ وَتَوَلَّتْهُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَكَّلَ عَائِشَةَ فِي أَنْ تُوَكِّلَ عَنْهُ مَنْ يُزَوِّجُ بِنْتَهُ ، فَوَكَّلَتْ عَائِشَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حِينَ اسْتَقَرَّ رَأْيُهَا عَلَى تَزْوِيجِ مُنْذِرٍ مِنْ زَوَجِهَا عَنْهُ ، فَكَانَ الْوَكِيلُ الْمُتَوَلِّي لِلْعَقْدِ وَكِيلًا لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ لَا لِعَائِشَةَ كَمَا تَوَهَّمَ الْمُزَنِيُّ فَقَالَ : إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُزَوِّجَ فَوَكِيلُهَا بِمَثَابَتِهَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ ، وَهِيَ لَمْ تُوكِّلْ عَنْ نَفْسِهَا ، وَإِنَّمَا وَكَّلَتْ عَنْ أَخِيهَا ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ وَكِيلًا فِي تَوْكِيلِ مَنْ يُزَوِّجُ عَنِ الْمُوَكِّلِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْأَقْيِسَةِ الثَّلَاثَةِ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَشِرَاءِ الْأَمَةِ ، فَهُوَ أَنَّهَا عُقُودٌ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى وِلَايَةٍ ، فَجَازَ أَنْ تَتَوَلَّاهَا الْمَرْأَةُ بِخِلَافِ النِّكَاحِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْكَلَامِ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ وَالْخِطْبَةُ قَبْلَ الْعَقْدِ

النِّكَاحُ لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِصَرِيحِ اللَّفْظِ دُونَ كِتَابَتِهِ

بَابُ الْكَلَامِ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ وَالْخِطْبَةُ قَبْلَ الْعَقْدِ مِنَ الْجَامِعِ مِنْ كِتَابِ التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ ، وَمِنْ كِتَابِ مَا يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " أَسْمَى اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - النِّكَاحَ فِي كِتَابِهِ بِاسْمَيْنِ : النِّكَاحُ ، وَالتَّزْوِيجُ ، وَدَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِمَا يُشْبِهُ الطَّلَاقَ ، وَلَمْ نَجِدْ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ إِحْلَالَ نِكَاحٍ إِلَّا بِنِكَاحٍ أَوْ تَزْوِيجٍ ، وَالْهِبَةُ الهبة في النكاح لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُجْمَعٌ أَنْ يَنْعَقِدَ لَهُ بِهَا النِّكَاحُ بِأَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لَهُ بِلَا مَهْرٍ ، وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ إِلَّا بِاسْمِ التَّزْوِيجِ أَوِ النِّكَاحِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : النِّكَاحُ لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِصَرِيحِ اللَّفْظِ دُونَ كِتَابَتِهِ ، وَصَرِيحُهُ لفظ النكاح لَفْظَانِ : زَوَّجْتُكَ ، وَأَنْكَحْتُكَ ، فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ إِلَّا بِهِمَا سَوَاءً ذُكِرَ فِيهِ مَهْرًا ، أَوْ لَمْ يُذْكَرْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِالْكِتَابَةِ كَانْعِقَادِهِ بِالصَّرِيحِ . فَجَوَّزَ انْعِقَادَهُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ ، وَالْهِبَةِ ، وَالتَّمْلِيكِ ، وَلَمْ يُجِزْهُ بِالْإِحْلَالِ وَالْإِبَاحَةِ ، وَاخْتَلَفَ الرُّوَاةُ عَنْهُ فِي جَوَازِهِ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ ، وَسَوَاءً ذَكَرَ الْمَهْرَ ، أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ ذَكَرَ مَعَ هَذِهِ الْكِتَابَاتِ الْمَهْرَ صَحَّ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ لَمْ يَصِحَّ ، فَاسْتَدَلُّوا عَلَى انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِالْكِتَابَةِ بِرِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ : أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ ، فَصَمَتَ ، ثُمَّ عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ ، وَهُوَ صَامِتٌ ، فَقَامَ رَجُلٌ - أَحْسَبُهُ قَالَ : مِنَ الْأَنْصَارِ - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا : فَقَالَ : لَكَ شَيْءٌ : قَالَ : لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ اذْهَبْ فَالْتَمِسْ شَيْئًا وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ ، فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ ، فَقَالَ : وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا إِلَّا ثَوْبِي هَذَا ، أَشُقُّهُ بَيْنِي وَبَيْنَهَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَلَيْكَ ، مَا فِي ثَوْبِكَ فَضْلٌ عَنْكَ ، فَهَلْ تَقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا ، فَقَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : مَاذَا ؟ قَالَ : سُورَةَ كَذَا وَكَذَا ، قَالَ : فَقَدْ أَمْلَكْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ ، قَالَ : فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَمْضِي وَهِيَ تَتْبَعُهُ . فَدَلَّ صَرِيحُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ انْعِقَادَ النِّكَاحِ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ ، وَصَارَ حُكْمُ الْكِنَايَةِ فِي انْعِقَادِهِ النكاح كَالصَّرِيحِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يُقْصَدُ بِهِ التَّمْلِيكُ ، فَجَازَ أَنْ يَنْعَقِدَ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ كَالْبَيْعِ ، أَوْ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ الْبُضْعُ ، فَجَازَ أَنْ يُسْتَفَادَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ كَتَمْلِيكِ الْإِمَاءِ ، وَلِأَنَّ مَا انْعَقَدَ بِهِ نِكَاحُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْعَقَدَ بِهِ نِكَاحُ أُمَّتِهِ كَالنِّكَاحِ ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ طَرَفَيِ النِّكَاحِ ، فَجَازَ أَنْ يُسْتَفَادَ بِالصَّرِيحِ وَالْكِتَابَةِ كَالطَّلَاقِ .

وَلِأَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِالْعَجَمِيَّةِ : لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْعَرَبِيَّةِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْعَقْدِ مَعْنَى اللَّفْظِ دُونَ اللَّفْظِ ، وَالتَّمْلِيكُ فِي مَعْنَى النِّكَاحِ ، فَصَحَّ بِهِ الْعَقْدُ كَالنِّكَاحِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [ الْأَحْزَابِ : 50 ] . فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى النِّكَاحَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ خَالِصًا لِرَسُولِهِ دُونَ أُمَّتِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهَا اللَّهُ لَهُ خَالِصَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا إِذْنٌ فِيهِ ، فَلَمْ يَكُنْ فِي مُجَرَّدِ الطَّلَبِ دَلِيلٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ . قِيلَ : قَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ وَهَبَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ ، فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا أُمُّ شَرِيكٍ . قَالَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ . قَالَتْهُ عَائِشَةُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ أُمُّ الْمَسَاكِينِ . قَالَهُ الشَّعْبِيُّ . فَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ إِلَى مَا شَاءَ لَهُ مِنَ التَّخْصِيصِ ، لَكَانَ فِعْلُهُ دَلِيلًا عَلَيْهِ . وَقَالَ آخَرُونَ : لَمْ يَكُنْ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ . وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ . وَتَأْوِيلُ مَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ إِنْ وَهَبَتْ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ . وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ فَهُوَ بِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ " أَنْ وَهَبَتْ " عَلَى الْمَاضِي ، وَتَأْوِيلُهُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ سِيَاقُ الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى التَّخْصِيصِ لِأَنَّ قَوْلَهُ : وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ [ الْأَحْزَابِ : 50 ] حِكَايَةٌ لِلْحَالِ ، وَقَوْلُهُ : إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا إِخْبَارٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ ، ثُمَّ قَالَ : خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ مُوَاجَهَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ بِالْحِكْمَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَسُولِهِ طَلَبٌ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا إِلَّا عَلَى ابْتِدَاءِ الْحُكْمِ وَبَيَانِ التَّخْصِيصِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا خُصَّ بِسُقُوطِ الْمَهْرِ : لِيَكُونَ اخْتِصَاصُهُ بِهِ مُفِيدًا ، وَلَمْ يُخَصَّ أَنْ يَعْقِدَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ : لِأَنَّ اخْتِصَاصَهُ بِهِ غَيْرُ مُفِيدٍ ، قِيلَ : بَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْأَمْرَيْنِ اعْتِبَارًا بِعُمُومِ الْآيَةِ ، وَلِيَكُونَ اخْتِصَاصُهُ بِحُكْمِ اللَّفْظِ فِي سُقُوطِ الْمَهْرِ هُوَ الْمُفِيدُ لِاخْتِصَاصِهِ بِنَفْسِ اللَّفْظِ : لِأَنَّهُ لَوِ انْعَقَدَ نِكَاحُ غَيْرِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ لَتَعَدَّى حُكْمُهُ إِلَى غَيْرِهِ ، فَيَبْطُلُ التَّخْصِيصُ ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ أَبُو شَيْبَةَ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ : إِنَّ النِّسَاءَ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ لَا يَمْلِكْنَ مِنْ أُمُورِهِنَّ شَيْئًا إِنَّكُمْ إِنَّمَا أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكِتَابِ اللَّهِ ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ

بِالْمَعْرُوفِ ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا ، وَأَنْ لَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِأَحَدٍ تَكْرَهُونَهُ ، فَإِنْ فَعَلْنَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ، فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ أَنْ تَضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ ، قَالُوا : اللَّهُمَّ نَعَمْ ، قَالَ : اللَّهُمَّ فَاشْهَدْ . فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُهُ : وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكِتَابِ اللَّهِ وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا لَفْظُ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْتَحِلَّ الْفُرُوجَ إِلَّا بِهِمَا . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ لَمْ يَنْعَقِدْ بِلَفْظِ الْهِبَةِ كَالْإِجَارَةِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَمْ يَنْعَقِدْ بِلَفْظِ الْهِبَةِ كَالْبَيْعِ ، وَلِأَنَّ لَفْظَ الْهِبَةِ مَوْضُوعٌ لِعَقْدٍ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ ، فَلَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ النِّكَاحُ كَالرَّهْنِ ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ طَرَفَيِ الْعَقْدِ فَلَمْ يَصِحَّ بِلَفْظِ الْهِبَةِ كَالطَّلَاقِ ، وَلِأَنَّ مَا كَانَ صَرِيحًا فِي عَقْدٍ لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِي غَيْرِهِ كَالْإِجَارَةِ وَالْبَيْعِ ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِي النِّكَاحِ لَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ النِّكَاحُ كَالْإِبَاحَةِ وَالْإِحْلَالِ ، وَلِأَنَّ هِبَةَ الْمَنَافِعِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا عِوَضٌ فَهِيَ كَالْعَارِيَةِ ، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا عِوَضٌ جَرَتْ مَجْرَى الْإِجَارَةِ عِنْدَهُمْ ، وَالنِّكَاحُ لَا يَنْعَقِدُ بِالْعَارِيَةِ وَالْإِجَارَةِ فَكَذَلِكَ بِمَا اقْتَضَاهُمَا مِنَ الْهِبَةِ ، وَلِأَنَّ الْحَقِيقَةَ فِي عَقْدٍ لَوْ صَارَتْ حَقِيقَةً فِي غَيْرِهِ لَبَطَلَتْ حَقَائِقُ الْعُقُودِ : لَأَنَّ لَفْظَ الْكِتَابَةِ تَقُومُ مَقَامَ التَّصْرِيحِ بِالنِّيَّةِ ، وَهِيَ مِمَّا لَا يَعْلَمُهَا الشُّهُودُ وَالْمَشْرُوطُونَ فِي النِّكَاحِ إِلَّا بِالِاخْتِيَارِ ، فَلَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ النِّكَاحُ كَالْإِقْرَارِ ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ يُنَافِيَانِ النِّكَاحَ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ أَمَةً ثُمَّ ابْتَاعَهَا أَوِ اسْتَوْهَبَهَا بَطَلَ نِكَاحُهَا ، وَمَا نَافَى النِّكَاحَ لَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ النِّكَاحُ كَالطَّلَاقِ ، وَلِأَنَّهُ لَفْظٌ يُوضَعُ لِإِسْقَاطِ مَا فِي الذِّمَمِ ، فَلَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ النِّكَاحُ كَالْإِبْرَاءِ ، وَلِأَنَّهُ لَوِ انْعَقَدَ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ لَانْعَقَدَ الْبَيْعُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ ، وَفِي امْتِنَاعِ هَذَا إِجْمَاعٌ وَامْتِنَاعِ ذَلِكَ حِجَاجٌ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : " قَدْ مَلَكْتَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ " فَهُوَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيَّ قَالَ : وَهِمَ فِيهِ مَعْمَرٌ ، فَإِنَّهُ مَا رَوَى " قَدْ مَلَكْتَهَا " إِلَّا مَعْمَرٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ ، وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ ، وَفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرَآنِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَثْبَتُ لِكَثْرَةِ عَدَدِ الرُّوَاةِ ، وَإِنَّهُمْ خَمْسَةُ عُلَمَاءَ ، ثُمَّ تَسْتَعْمِلُ الرِّوَايَتَيْنِ فَتُحْمَلُ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى قَدْ " زَوَّجْتُكَهَا " عَلَى حَالِ الْعَقْدِ ، وَمَنْ رَوَى " قَدْ مَلَكْتَهَا " عَلَى الْإِخْبَارِ بِعَقْدٍ عَمَّا مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى أَحْكَامِ الْبَيْعِ بِأَنَّهُ عَقْدٌ يُقْصَدُ بِهِ التَّمْلِيكُ ، فَهُوَ أَنَّ لِأَصْحَابِنَا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَصِحُّ : لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ أَحْكَامِ الْبَيْعِ ، فَلَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ الْبَيْعُ ، فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ الْأَصْلُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْبَيْعَ يَنْعَقِدُ بِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُعْتَبَرُ فِي انْعِقَادِ الْبَيْعِ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ وُجُودَ التَّمْلِيكِ فِيهِ عَلَى عُمُومِهِ ، وَقُصُورُهُ فِي النِّكَاحِ عَلَى الْعُمُومِ : لِأَنَّهُ يَمْلِكُ كُلَّ الْمَبِيعِ ، وَلَا

يَمْلِكُ مِنَ الْمَنْكُوحَةِ إِلَّا الِاسْتِمْتَاعَ ، وَهَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى شِرَاءِ الْإِمَاءِ ، وَأَمَّا تَعْلِيلُهُمْ بِنِكَاحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ تَعْلِيلٌ يَدْفَعُ النَّصَّ فَكَانَ مُطَّرَحًا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا خَصَّ سُقُوطَ الْمَهْرِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِاللَّفْظِ الَّذِي يَقْتَضِي سُقُوطَ الْمَهْرِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي لَفْظِ النِّكَاحِ أَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ ، وَالْبَيْعُ وَالْهِبَةُ صَرِيحَانِ فِي غَيْرِهِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الطَّلَاقِ فِي وُقُوعِهِ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ ، هُوَ أَنَّ النِّكَاحَ قَدْ غَلُظَ بِشُرُوطٍ لَمْ تُعْتَبَرْ فِي الطَّلَاقِ ، فَلَمْ يَصِحَّ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ فِي تَخْفِيفِ شُرُوطِهِ ، عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ شَهَادَةٌ مَشْرُوطَةٌ لَا تَتَحَقَّقُ فِي الْكِنَايَةِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ بِالْكِنَايَةِ ، وَلَيْسَ فِي الطَّلَاقِ شَهَادَةٌ مَشْرُوطَةٌ فَوَقَعَ بِالْكِنَايَةِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِعَقْدِهِ بِالْعَجَمِيَّةِ النكاح فَشَرْحٌ لِمَذْهَبِنَا فِيهِ بَيَانٌ لِلِانْفِصَالِ عَنْهُ ، وَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا - حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَاييِنِيُّ ، وَلَمْ يُتَابِعْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ - : أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِالْعَجَمِيَّةِ ، سَوَاءً كَانَ عَاقِدُهُ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَوْ لَا يُحْسِنُهَا كَمَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ لَا يَجُوزُ بِالْعَجَمِيَّةِ وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ ، فَعَلَى هَذَا سَقَطَ السُّؤَالُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ مَشْهُورٌ ، قَالَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا - : أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِالْعَجَمِيَّةِ سَوَاءً كَانَ عَاقِدُهُ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَوْ لَا يُحْسِنُهَا : لِأَنَّ لَفْظَهُ بِالْعَجَمِيَّةِ صَرِيحٌ ، فَخَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْكِنَايَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ : لِأَنَّ فِي كِنَايَةِ الْعَرَبِيَّةِ احْتِمَالًا ، وَلَيْسَ فِي صَرِيحِ الْعَجَمِيَّةِ احْتِمَالٌ ، وَخَالَفَ الْقُرْآنَ الْمُعْجِزَ : لِأَنَّ إِعْجَازَهُ وَنَظْمَهُ ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَزُولُ عَنْهُ إِذَا عُدِلَ عَنْ لَفْظِهِ الْعَرَبِيِّ إِلَى الْكَلَامِ الْعَجَمِيِّ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ - : أَنَّهُ إِنْ كَانَ عَاقِدُهُ يُحْسُنُ الْعَرَبِيَّةَ ، لَمْ يَنْعَقِدْ بِالْعَجَمِيَّةِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ انْعَقَدَ بِالْعَجَمِيَّةِ ، كَأَذْكَارِ الصَّلَاةِ تُجْزِئُ بِالْعَجَمِيَّةِ لِمَنْ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ ، وَلَا تُجْزِئُ لِمَنْ يُحَسِنُهَا ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ حَالِ الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ ، وَالْعَادِلُ عَنْ صَرِيحِ النِّكَاحِ إِلَى كِتَابَتِهِ قَادِرٌ ، وَالْعَادِلُ عَنْهُ إِلَى الْعَجَمِيَّةِ عَاجِزٌ فَاقِدٌ . فَإِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ : أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِالْعَجَمِيَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ كَانَ عَاقِدُهُ إِذَا لَمْ يُحْسِنِ الْعَرَبِيَّةَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُوَكِّلَ عَرَبِيًّا فِي عَقْدِهِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ فَيَعْقِدُهُ بِنَفْسِهِ . وَإِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الثَّانِي : أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِالْعَجَمِيَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ كَانَ عَاقِدُهُ إِذَا لَمْ يُحْسِنِ الْعَرَبِيَّةَ ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِذَا كَانَ يَحْسُنُ الْعَرَبِيَّةَ بَيْنَ أَنْ يَعْقِدَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَهُوَ أَوْلَى : لِأَنَّهُ لِسَانُ الشَّرِيعَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَعْقِدَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ ، وَبِأَيِّ اللِّسَانَيْنِ عَقَدَهُ ، فَلَا يَصِحُّ حَتَّى يَكُونَ شَاهِدًا عَقْدُهُ بِعِرْفَانِهِ ، فَإِنْ عَقَدَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَشَاهِدَاهُ عَجَمِيَّانِ ، أَوْ عَقَدَهُ بِالْعَجَمِيَّةِ وَشَاهِدَاهُ عَرَبِيَّانِ ( النكاح ) لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّهُمَا إِذَا لَمْ يَعْرِفَا لِسَانَ الْعَقْدِ لَمْ يَشْهَدَا عَلَيْهِ إِلَّا بِالِاسْتِخْبَارِ عَنْهُ ، فَجَرَى بَيْنَهُمَا مَجْرَى الْكِنَايَةِ .

وَإِذَا قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّالِثِ : أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِالْعَجَمِيَّةِ مَعَ الْعَجْزِ ، وَلَا يَنْعَقِدُ بِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَلِيِّ الْبَاذِلِ وَالزَّوْجِ الْقَابِلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : إِحْدَاهَا : أَنْ يَكُونَا عَرَبِيَّيْنِ ، فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْعَرَبِيَّةِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَا عَجَمِيَّيْنِ ، فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا إِنْ بَاشَرَاهُ بِأَنْفُسِهِمَا إِلَّا بِالْعَجَمِيَّةِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا عَرَبِيًّا وَالْآخَرُ أَعْجَمِيًّا ، فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا بِالْعَرَبِيَّةِ : لِأَنَّ الْعَجَمِيَّ لَا يُحْسِنُهَا ، وَلَا بِالْعَجَمِيَّةِ : لِأَنَّ الْعَرَبِيَّ لَا يُحْسِنُهَا ، فَكَانَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَنْ يُوَكِّلَا مَنْ يَعْرِفُ أَحَدَ اللِّسَانَيْنِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْعَجَمِيُّ مِنْهُمَا الْعَرَبِيَّةَ ، فَيَجْتَمِعَا عَلَى عَقْدِهِ بِهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيُّ الْعَجَمِيَّةَ : لِيَجْتَمِعَا عَلَى عَقْدِهِ بِهَا : لِأَنَّ مَنْ أَحْسَنَ الْعَرَبِيَّةَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْعَقْدُ بِالْعَجَمِيَّةِ ، وَيَجُوزُ لِمَنْ يُحْسِنُ الْعَجَمِيَّةَ أَنْ يَعْقِدَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا اخْتَصَّ الْعَرَبِيُّ فِيهِ بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ ، وَتَفَرَّدَ الْعَجَمِيُّ بِاللَّفْظِ الْعَجَمِيِّ . قِيلَ : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَعْرِفُ لَفْظَ صَاحِبِهِ فَيُقَابِلُهُ عَلَيْهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ الْفَرْجُ مُحَرَّمٌ قَبْلَ الْعَقْدِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَالْفَرْجُ مُحَرَّمٌ قَبْلَ الْعَقْدِ ، فَلَا يَحِلُّ أَبَدًا إِلَّا بِأَنْ يَقُولَ الْوَلِيُّ قَدْ زَوَّجْتُكَهَا أَوْ أَنْكَحْتُكَهَا ، وَيَقُولُ الْخَاطِبُ قَدْ قَبِلْتُ تَزْوِيجَهَا أَوْ نِكَاحَهَا ، أَوْ يَقُولُ الْخَاطِبُ زَوِّجْنِيهَا ، وَيَقُولُ الْوَلِيُّ قَدْ زَوَّجْتُكَهَا ، فَلَا يَحْتَاجُ فِي هَذَا إِلَى أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ قَدْ قَبِلْتُ ، وَلَوْ قَالَ قَدْ مَلَّكْتُكَ نِكَاحَهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَقَبِلَ ، لَمْ يَكُنْ نِكَاحًا ، وَإِذَا كَانَتِ الْهِبَةُ أَوِ الصَّدَقَةُ تُمْلَكُ بِهَا الْأَبْدَانُ وَالْحُرَّةُ لَا تُمْلَكُ ، فَكَيْفَ تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي النِّكَاحِ : فَإِنْ قِيلَ : مَعْنَاهَا زَوَّجْتُكَ ، قِيلَ : فَقَوْلُهُ قَدْ أَحْلَلْتُهَا لَكَ أَقْرَبُ إِلَى زَوَّجْتُكَهَا وَهُوَ لَا يُجِيزُهُ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . اعْلَمْ أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ بَعْدَ حُضُورِ الْوَلِيِّ وَ الشَّاهِدَيْنِ ، لَا يَتَمَيَّزُ إِلَّا بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : تَعْيِينُ الْمَنْكُوحَةِ . وَالثَّانِي : تَعْيِينُ اللَّفْظِ . وَالثَّالِثُ : صِفَةُ الْعَقْدِ . [ الْقَوْلُ فِي تَعْيِينِ الْمَنْكُوحَةِ ] فَأَمَّا تَعْيِينُ الْمَنْكُوحَةِ ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِمَا تَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهَا ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : إِمَّا بِالْإِشَارَةِ ، وَإِمَّا بِالِاسْمِ ، وَإِمَّا بِالصِّفَةِ . فَأَمَّا الْإِشَارَةُ ، فَلَا تَكُونُ إِلَّا إِلَى حَاضِرَةٍ ، فَيَقُولُ : زَوَّجْتُكَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ ، فَيَصِحُّ النِّكَاحُ عَلَيْهَا ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ لَهَا اسْمٌ ، وَلَهَا حَالَانِ : مُوَافِقٌ ، وَمُخَالِفٌ . فَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا : فَقَدْ أَكَّدَ بِالْإِشَارَةِ بِهَا قَرْنَهُ بِهَا مِنْ مُوَافَقَةِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ وَالصِّفَةِ ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا بِأَنْ سَمَّاهَا حَفْصَةَ بِنْتَ زَيْدٍ وَهِيَ

عَمْرَةُ بِنْتُ بَكْرٍ ، أَوْ وَصَفَهَا بِالطَّوِيلَةِ وَهِيَ قَصِيرَةٌ ، صَحَّ الْعَقْدُ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهَا ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ مُخَالَفَةُ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ وَالصِّفَةِ : لِأَنَّ الْإِشَارَةَ أَبْلَغُ فِي التَّعْيِينِ مِنْ كُلِّ اسْمٍ وَصِفَةٍ . وَأَمَّا الِاسْمُ فَقَدْ يَتَعَيَّنُ بِهِ الْغَائِبَةُ إِذَا لَمْ يُشَارِكْهَا فِيهِ غَيْرُهَا ، وَهُوَ فِي الْأَغْلَبِ إِذَا انْفَرَدَ عَنْ نَسَبٍ لَا يَقَعُ بِهِ التَّمَنِّي ، فَإِنْ قُرِنَ بِهِ النَّسَبُ ، نُظِرَ : فَإِنْ لَمْ يُشَارِكْهَا فِيهِ غَيْرُهَا مِنَ النِّسَاءِ تَمَيَّزَتْ بِهِ ، وَصَحَّ الْعَقْدُ عَلَيْهَا بِمَا تَمَيَّزَتْ بِهِ مِنَ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الزَّوْجُ وَالْوَلِيُّ الْإِشَارَةَ إِلَى الْمَنْكُوحَةِ ، أَوْ إِنْ لَمْ يَتَمَيَّزِ الِاسْمُ وَالنَّسَبُ عَنْ غَيْرِهِمَا مِنَ النِّسَاءِ لِمُشَارَكَتِهَا فِيهِ لِغَيْرِهَا ، نُظِرَ : فَإِنْ نَوَى الزَّوْجُ وَالْوَلِيُّ فِي نُفُوسِهِمَا فَالْإِشَارَةُ لِلْمَنْكُوحَةِ ، صَحَّ الْعَقْدُ ، وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ عُقُودِ الْمَنَاكِحِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ : لِاشْتِبَاهِ الْمَنْكُوحَةِ بِغَيْرِهَا ، وَصَارَ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ : قَدْ زَوَّجْتُكَ امْرَأَةً . وَأَمَّا الصِّفَةُ : فَلَا تَكُونُ بِانْفِرَادِهَا مُمَيِّزَةً لِلْمَنْكُوحَةِ عَنْ غَيْرِهَا ؛ لِاشْتِرَاكِ النَّاسِ فِي الصِّفَاتِ ؛ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهَا مَعَ مَا يَقَعُ بِهِ التَّمْيِيزُ مِنِ اسْمٍ ، أَوْ نَسَبٍ ، أَوْ نِيَّةٍ ، مِثْلُ سَوْدَةَ بِنْتِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ وَلَهُ بَنَاتٌ فِيهِنَّ الْمَنْكُوحَةُ . أَمَّا الِاسْمُ إِذَا لَمْ يَشْتَرِكْنَ فِيهِ فَنَقُولُ : حَفْصَةُ ، أَوْ عَمْرَةُ . وَأَمَّا بِالصِّفَةِ ، إِذَا لَمْ يَشْتَرِكْنَ فِيهَا فَيَقُولُ : الطَّوِيلَةُ ، أَوِ الْقَصِيرَةُ ، أَوْ يَقُولُ : السَّوْدَاءُ أَوِ الْبَيْضَاءُ ، أَوْ يَقُولُ : الصَّغِيرَةُ أَوِ الْكَبِيرَةُ ، فَتَصِيرُ الصِّفَةُ مُمَيِّزَةً لِلْمَنْكُوحَةِ وَلَوْلَاهَا لَاشْتَبَهَتْ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا بِنْتٌ جَازَ أَنْ يَقُولَ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي ، وَلَا يَذْكُرَ لَهَا اسْمًا وَلَا صِفَةً : لِأَنَّهَا قَدْ تَعَيَّنَتْ فِي الْعَقْدِ ، فَصَحَّ ، فَإِنْ ذَكَرَ مَعَ ذَلِكَ اسْمًا أَوْ صِفَةً : فَقَالَ : بِنْتِي حَفْصَةَ ، أَوْ قَالَ : بِنْتِي الطَّوِيلَةَ ، فَقَدْ أَكَّدَ إِنْ وَافَقَ الِاسْمَ وَالصِّفَةَ ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ إِنْ خَالَفَ الِاسْمَ وَالصِّفَةَ قَوْلُهُ : عَمْرَةُ وَقَدْ سَمَّاهَا حَفْصَةَ ، وَكَانَتْ قَصِيرَةً وَقَدْ وَصَفَهَا طَوِيلَةً : لِأَنَّ الِاسْمَ قَدْ يَنْتَقِلُ ، وَالْقَصِيرَةُ قَدْ تَكُونُ طَوِيلَةً بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَنْ هِيَ أَصْغَرُ مِنْهَا . وَإِنْ كَانَ لِلْأَبِ الْمُزَوِّجِ عِدَّةُ بَنَاتٍ ، لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ بِأَنْ يَقُولَ : زَوَّجْتُكَ بِنْتِي ، حَتَّى يُمَيِّزَهَا عَنْ سَائِرِهِنَّ : إِمَّا بِنْيَةٍ يَتَّفِقُ الْأَبُ وَالزَّوْجُ بِهَا عَلَى إِرَادَةِ إِحْدَاهُنَّ بِعَيْنِهَا ، وَإِمَّا بِاسْمٍ ، أَوْ صِفَةٍ ، فَيَقُولُ : بِنْتِي حَفْصَةَ ، فَيَصِفُهَا بِالِاسْمِ ، أَوْ أَنْ يَقُولَ : بِنْتِي الصَّغِيرَةَ ، فَتَصِيرُ بِالصِّفَةِ مُتَمَيِّزَةً ، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ حِينَئِذٍ عَلَيْهَا . فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُتَّفِقًا فَيَقُولُ : قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي حَفْصَةَ الصَّغِيرَةَ ، وَالصَّغِيرَةُ هِيَ حَفْصَةُ ، وَالْكَبِيرَةُ هِيَ عَمْرَةُ ، فَيُسَمِّي الْمَنْكُوحَةَ بِاسْمِهَا وَيَصِفُهَا بِصِفَتِهَا ، فَقَدْ أَكَّدَ الِاسْمَ بِالصِّفَةِ ، فَكَانَ أَبْلَغَ فِي التَّمْيِيزِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا فَسَمَّى الْمَوْصُوفَةَ بِغَيْرِ اسْمِهَا ، وَوَصَفَ الْمُسَمَّاةَ بِغَيْرِ صِفَتِهَا : لِأَنَّ حَفْصَةَ هِيَ الْكَبِيرَةُ ، وَقَدْ وَصَفَهَا بِالصَّغِيرَةِ ، وَعَمْرَةُ هِيَ الصَّغِيرَةُ ، وَقَدْ وَصَفَهَا بِالْكَبِيرَةِ ، فَيَكُونُ الْمُعَوَّلُ عَلَى الصِّفَةِ دُونَ الِاسْمِ : لِأَنَّ الصِّفَةَ لَازِمَةٌ ، وَالِاسْمَ مُنْتَقِلٌ فَيَقَعُ الْعَقْدُ

عَلَى الصَّغِيرَةِ الَّتِي اسْمُهَا عَمْرَةُ . وَإِنْ سَمَّى فِي الْعَقْدِ حَفْصَةَ ، فَلَوْ مَيَّزَ الْمَنْكُوحَةَ مِنْ بَنَاتِهِ بِصِفَتِهِنَّ ، فَقَالَ : زَوَّجْتُكَ بِنْتِي الصَّغِيرَةَ الطَّوِيلَةَ ، فَإِنْ وَافَقَتِ الصِّفَتَانِ فَقَدْ أَكَّدَ إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ بِالْأُخْرَى ، فَكَانَ أَبْلَغَ فِي التَّمْيِيزِ ، وَإِنْ خَالَفَتِ الصِّفَاتُ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ : لِأَنَّ كِلْتَا الصِّفَتَيْنِ لَازِمَتَانِ ، وَلَيْسَ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا فِي تَمْيِيزِ الْمَنْكُوحَةُ بِأَوْلَى مِنَ اعْتِبَارِ الْأُخْرَى ، فَصَارَتِ الْمَنْكُوحَةُ مِنْهُمَا مَجْهُولَةً ، فَلِذَلِكَ بَطَلَ النِّكَاحُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي : وَهُوَ تَعْيِينُ اللَّفْظِ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ ، فَلَفْظَتَانِ لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ إِلَّا بِهِمَا وَهُمَا النِّكَاحُ ، وَالتَّزْوِيجُ : لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ جَاءَ بِهِمَا . أَمَّا النِّكَاحُ فَبِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [ النِّسَاءِ : 3 ] . وَأَمَّا التَّزْوِيجُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا [ الْأَحْزَابِ : 37 ] . لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا فِي اللُّغَةِ مُتَشَابِهَانِ . أَمَّا التَّزْوِيجُ : فَهُوَ ضَمُّ شَكْلٍ إِلَى شَكْلٍ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ : أَحَدُ زَوْجَيِ الْخُفِّ ، وَأَحَدُ زَوْجَيِ الْحَمَامِ ، إِذَا أُرِيدَ وَاحِدٌ مِنَ اثْنَيْنِ مُتَشَاكِلَيْنِ ، فَإِنْ أُرِيدَا مَعًا قِيلَ زَوْجُ الْخُفِّ ، وَزَوْجُ الْحَمَامِ . وَأَمَّا النِّكَاحُ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَالتَّزْوِيجِ : ضَمُّ شَكْلٍ إِلَى شَكْلٍ ، وَمِنْهُ كَقَوْلِهِمْ : أَنْكَحْنَا الْفِرَاءَ فَسَوْفَ تَرَى ، أَيْ جَمَعْنَا بَيْنَ الْحِمَارِ الْوَحْشِ وَإِيتَانِهِ فَسَتَرَى مَا يُوَلَدُ مِنْهُمَا . قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ : أَيُّهَا الْمُنْكِحُ الثُّرَيَّا سُهَيْلًا عَمْرَكَ اللَّهَ ، كَيْفَ يَلْتَقَيَانِ هِيَ شَامِيَّةٌ إِذَا مَا اسْتَقَلَّتْ وَسُهَيْلٌ إِذَا اسْتَقَلَّ يَمَانِ أَيْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ أَنْ يَجْتَمِعَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَنَاكَحَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لُزُومُ شَيْءٍ ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ اسْتَنْكَحَهُ الْمَدَنِيُّ ، أَيْ لَزِمَهُ ، فَسُمِّيَ النِّكَاحُ نِكَاحًا لِلُزُومِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ ، وَلَيْسَ فِي مَعْنَى هَاتَيْنِ اللَّفْظَتَيْنِ غَيْرُهُمَا ، فَصَارَ تَعْلِيلُهُمَا غَيْرَ مُتَعَدٍّ لِلنَّصِّ عَلَيْهِمَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْوَلِيُّ وَالزَّوْجُ مُخَيَّرَانِ فِي أَنْ يَعْقِدَاهُ بِلَفْظِ التَّزْوِيجِ ، فَيَقُولُ الْوَلِيُّ : قَدْ زَوَّجْتُكَ ، وَيَقُولُ الزَّوْجُ : قَدْ قَبِلْتُ تَزْوِيجَهَا ، أَوْ يَعْقِدَاهُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ فَيَقُولُ الْوَلِيُّ : قَدْ أَنْكَحْتُكَ ، وَيَقُولُ الزَّوْجُ : قَدْ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا ، أَوْ يَعْقِدُهُ أَحَدُهُمَا بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالْآخَرُ بِلَفْظِ التَّزْوِيجِ ، فَيَقُولُ الْوَلِيُّ : قَدْ زَوَّجْتُكَ ، وَيَقُولُ الزَّوْجُ : قَدْ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا ، فَيَكُونُ الْعَقْدُ بِأَيْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَقْدًا صَحِيحًا .



فَصْلٌ : وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ : وَهُوَ صِفَةُ الْعَقْدِ وَكَيْفِيَّتِهِ ، فَقَدْ يَنْعَقِدُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ ، إِمَّا بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ ، وَإِمَّا بِالطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ ، وَلَهُمَا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْقِدَ لَهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي . وَالثَّانِي : بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ . وَالثَّالِثُ : بِلَفْظِ الْأَمْرِ . فَإِنْ عَقَدَاهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْقِدَاهُ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ . وَالثَّانِي : بِالطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ . فَأَمَّا عَقْدُهُ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ ، فَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ الْوَلِيُّ ، فَيَقُولُ : قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى صَدَاقِ أَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَيَقُولُ الزَّوْجُ : قَدْ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا عَلَى هَذَا الصَّدَاقِ ، فَيَكُونُ قَدِ ابْتَدَأَ بِهِ الْوَلِيُّ بَذْلًا ، وَمَا أَجَابَهُ الزَّوْجُ قَبُولًا ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا ، فَلِلزَّوْجِ فِي قَبُولِهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقُولَ : قَبِلْتُ نِكَاحَهَا عَلَى هَذَا الصَّدَاقِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَقُولَ : قَبِلْتُ وَلَا يَذْكُرُ الصَّدَاقَ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَقُولَ : قَبِلْتُ وَلَا يَذْكُرُ النِّكَاحَ وَلَا الصَّدَاقَ . فَأَمَّا الْحَالُ الْأُولَى : وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : قَبِلْتُ نِكَاحَهَا عَلَى هَذَا الصَّدَاقِ ، فَقَدِ انْعَقَدَ النِّكَاحُ عَلَى الصَّدَاقِ الْمُسَمَّى إِذَا كَانَ قَبُولُ الزَّوْجِ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ بَذَلِ الْوَلِيِّ ، وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ : قَبِلْتُ نِكَاحَهَا عَلَى صَدَاقِ خَمْسِمِائَةٍ ، وَقَدْ بَذَلَهَا الْوَلِيُّ لَهُ بِصَدَاقِ أَلْفٍ انْعَقَدَ الصَّدَاقُ ، وَلَمْ تَلْزَمْ فِيهِ أَحَدُ الصَّدَاقَيْنِ ، وَكَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ : لِأَنَّ الْأَلْفَ لَمْ يَقْبَلْهَا الزَّوْجُ وَالْخَمْسِمِائَةَ لَمْ يَرْضَ بِهَا الْمَوْلَى . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَنْعَقِدُ عَلَى صَدَاقِ خَمْسِمِائَةٍ : لِأَنَّهَا أَقَلُّ فَصَارَا مُجْتَمِعَيْنِ عَلَيْهَا ، وَإِنْ تَفَرَّدَ الْوَلِيُّ بِالزِّيَادَةِ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَا . وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ : وَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا ، وَلَا يَذْكُرَ قَبُولَ الصَّدَاقِ ، فَيَصِحُّ النِّكَاحُ بِقَبُولِهِ ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُسَمَّى : لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْقَبُولِ ، وَلِيَكُونَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَلْزَمُ فِيهِ الصَّدَاقُ الْمُسَمَّى بِقَبُولِ النِّكَاحِ وَالَّذِي يَتَضَمَّنُهُ كَالْبَيْعِ إِذَا قَالَ : بِعْتُكَ عَبْدِي بِأَلْفٍ ، فَقَالَ الْمُشْتَرِي : قَبِلْتُ هَذَا الْبَيْعَ لَزِمَهُ ذَلِكَ الثَّمَنُ ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فِي قَبُولِهِ ، كَذَلِكَ النِّكَاحُ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِثَمَنٍ ، فَكَانَ قَبُولُهُ الْبَيْعَ قَبُولًا لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الثَّمَنِ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فِي قَبُولِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ النِّكَاحُ : لِأَنَّهُ قَدْ يَصِحُّ بِغَيْرِ الصَّدَاقِ فَلَمْ يَكُنْ قَبُولُهُ لِنِكَاحٍ قَبُولًا لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الصَّدَاقِ حَتَّى يُصَرِّحَ بِهِ فِي قَبُولِهِ . وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ : وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : قَبِلْتُ وَيُمْسِكُ ، فَلَا يَذْكُرُ النِّكَاحَ وَلَا الصَّدَاقَ فِي قَبُولِهِ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ هَاهُنَا ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ صَرِيحًا فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " وَرَوَاهُ الْبُوَيْطِيُّ ، وَقَالَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي كِتَابِ " التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ مِنْ كُتُبِ الْأَمَالِي " : إِنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُ : قَبِلْتُ إِنَّمَا هُوَ جَوَابٌ لِلْبَذْلِ الصَّرِيحِ وَجَوَابُ الصَّرِيحِ يَكُونُ صَرِيحًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ [ الْأَعْرَافِ : 44 ] أَيْ نَعَمْ وَجَدْنَاهُ ، وَكَقَوْلِهِ : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [ الْأَعْرَافِ : 172 ] أَيْ بَلَى أَنْتَ رَبُّنَا ، وَكَمَا لَوِ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَسَأَلَهُ الْحَاكِمُ عَنْهَا ، وَقَالَ لَهُ عَلَيْكَ أَلْفٌ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، كَانَ إِقْرَارًا مِنْهُ بِالْأَلْفِ وَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ : نَعَمْ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِي النِّكَاحِ قَدْ قَبِلْتُ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْبَذْلِ الصَّرِيحِ قَبُولًا صَرِيحًا ، فَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ : قَبِلْتُ نِكَاحَهَا . وَالثَّانِي : إِنَّ الْبَذْلَ وَالْقَبُولَ مُعْتَبَرٌ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ ، كَاعْتِبَارِهِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ الْبَائِعُ : بِعْتُكَ عَبْدِي هَذَا بِأَلْفٍ ، فَقَالَ الْمُشْتَرِيَ : قَبِلْتُ ، فَإِنَّ الْبَيْعَ قَدِ انْعَقَدَ ، وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى قَوْلِهِ : قَبِلْتُ هَذَا الْبَيْعَ ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ بِمَثَابَتِهِ ، قَدْ زَوَّجْتُكَهَا ، فَقَالَ الزَّوْجُ : قَبِلْتُ أَنْ يَنْعَقِدَ النِّكَاحُ ، فَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ : قَبِلْتُ نِكَاحَهَا ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِذَا جَعَلْنَاهُ قَبُولًا صَحِيحًا يَكُونُ قَبُولًا لِلنِّكَاحِ وَالصَّدَاقِ جَمِيعًا : لِأَنَّ الْقَبُولَ مُطْلَقٌ ، فَرَجَعَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ النِّكَاحِ وَالصَّدَاقِ ، وَخَالَفَ قَوْلَهُ : قَبِلْتُ نِكَاحَهَا ، حَيْثُ جَعَلْنَاهُ رَاجِعًا إِلَى قَبُولِ النِّكَاحِ الَّذِي سَمَّاهُ دُونَ الصَّدَاقِ الَّذِي أَغْفَلَهُ : لِأَنَّ مَعَ التَّسْمِيَةِ تَصِيرُ تَخْصِيصًا وَمَعَ الْإِطْلَاقِ يَكُونُ عُمُومًا . وَإِذَا قِيلَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ ، وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ ، فَدَلِيلُهُ : مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِصَرِيحِ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى . وَقَوْلُهُ : قَبِلْتُ ، فِيهِ مَعْنَى التَّصْرِيحِ ، وَلَيْسَ بِصَرِيحٍ فَيَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ وَجَازَ أَنْ يَنْعَقِدَ بِهِ الْبَيْعُ : لِأَنَّهُ يَتِمُّ بِالصَّرِيحِ وَبِمَعْنَى الصَّرِيحِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ ، وَلَيْسَ إِطْلَاقُ جَوَابِ الصَّرِيحِ يَكُونُ صَرِيحًا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ ، أَلَا تَرَى لَوْ قَالَتِ امْرَأَةٌ لِزَوْجِهَا : طَلِّقْنِي ثَلَاثًا ، فَقَالَ : نَعَمْ ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي طَلَاقِهَا ، وَإِنْ كَانَ جَوَابًا ، وَلَوْ قَالَ : نَعَمْ أَنْتِ طَالِقٌ لَمْ تَكُنْ ثَلَاثًا وَإِنْ سَأَلَتْهُ ثَلَاثًا ، فَلَمْ يَسْلَمِ الِاسْتِدْلَالُ بِالْبَيْعِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، وَلَا كَانَ إِطْلَاقُ الْجَوَابِ كَالصَّرِيحِ ، لِمَا ذَكَرْنَا ، فَأَمَّا إِذَا قُرِنَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا بِوَاسِطٍ مِنْ حَاكِمٍ أَوْ خَطِيبٍ ، فَقَالَ لِلْوَلِيِّ : زَوَّجْتَهُ فُلَانَةَ ، فَقَالَ : نَعَمْ ، فَقَالَ الزَّوْجُ : قَبِلْتُ نِكَاحَهَا ، فَقَالَ : نَعَمْ ، لَمْ يَنْعَقِدِ النِّكَاحُ قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّ صَرِيحَ اللَّفْظِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَنْعَقِدُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ وَاعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ فِي أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ لِلْبَائِعِ بِعْتَهُ عَبْدَكَ هَذَا بِأَلْفٍ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، وَقَالَ لِلْمُشْتَرِي : أَشْتَرَيْتَهُ بِالْأَلْفِ ، فَقَالَ : نَعَمْ ، إِنَّ الْبَيْعَ مُنْعَقِدٌ ، فَكَذَلِكَ النِّكَاحُ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ مَعْنَى الصَّرِيحِ لَا يَقُومُ فِي النِّكَاحِ مَقَامَ الصَّرِيحِ ، وَيَقُومُ فِي الْبَيْعِ مَقَامَ الصَّرِيحِ ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ لَمَّا خَالَفَ الْبَيْعَ فِي تَغْلِيظِهِ بِالْوَلِيِّ

خَالَفَهُ فِي تَغْلِيظِهِ بِصَرِيحِ اللَّفْظِ دُونَ مَعْنَاهُ ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ " نَعَمْ " إِقْرَارٌ ، وَبُضْعَ الْمَنْكُوحَةِ لَا يُمْلَكُ بِالْإِقْرَارِ فَهَذَا حُكْمُ عَقْدِ النِّكَاحِ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ .


فَصْلٌ : فَأَمَّا عَقْدُهُ بِالطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ ، فَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ الزَّوْجُ فَيَقُولُ لِلْوَلِيِّ : زَوِّجْنِي بِنْتَكَ عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ ، فَيَقُولُ الْأَبُ : قَدْ زَوَّجْتُكَهَا عَلَى هَذَا الصَّدَاقِ ، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ وَلَا يَحْتَاجُ الزَّوْجُ إِلَى أَنْ يَعُودَ فَيَقُولُ : قَدْ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا وَوَافَقَهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ إِذَا ابْتَدَأَ الْمُشْتَرِي ، فَقَالَ : بِعْنِي عَبْدَكَ بِأَلْفٍ ، فَقَالَ : قَدْ بِعْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ بِهَا حكم البيع ، صَحَّ الْبَيْعُ ، وَلَمْ يَحْتَجِ الْمُشْتَرِي أَنْ يَقُولَ بَعْدَهُ : قَدْ قَبِلْتُ . وَخَالَفَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْبَيْعِ فَقَالَ : لَا يَصِحُّ حَتَّى يَعُودَ الْمُشْتَرِي فَيَقُولُ : قَدْ قَبِلْتُ ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ شُرُوطَ النِّكَاحِ أَغْلَظُ مِنْ شُرُوطِ الْبَيْعِ ، فَكَانَ مَا يَصِحُّ بِهِ النِّكَاحُ أَوْلَى أَنْ يَصِحَّ بِهِ الْبَيْعُ ، فَإِذَا صَحَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَمَامِ الْعَقْدِ بِالطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ كَتَمَامِهِ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ كَانَ الْبَذْلُ هُوَ مَا ابْتَدَأَ بِهِ الْوَلِيُّ ، وَالْقَبُولُ مَا أَجَابَ بِهِ الزَّوْجُ ، فَإِنَّ الطَّلَبَ مَا ابْتَدَأَ بِهِ الزَّوْجُ ، وَالْإِيجَابَ مَا أَجَابَ بِهِ الْوَلِيُّ ، فَيَكُونُ النِّكَاحُ مُنْعَقِدًا مِنْ جِهَةِ الْوَلِيِّ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا بِالْبَذْلِ إِنْ كَانَ مُبْتَدِئًا ، أَوْ بِالْإِيجَابِ إِنْ كَانَ مُجِيبًا . وَمِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا بِالطَّلَبِ إِنْ كَانَ مُبْتَدِئًا ، وَبِالْقَبُولِ إِنْ كَانَ مُجِيبًا ، فَصَارَ طَلَبُ الزَّوْجِ فِي الِابْتِدَاءِ قَبُولًا فِي الِانْتِهَاءِ ، وَقَبُولُهُ فِي الِانْتِهَاءِ طَلَبًا فِي الِابْتِدَاءِ ، وَصَارَ بَذْلُ الْوَلِيِّ فِي الِابْتِدَاءِ إِيجَابًا فِي الِانْتِهَاءِ وَإِيجَابُهُ فِي الِانْتِهَاءِ بَذْلًا فِي الِابْتِدَاءِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ إِيجَابُ الْوَلِيِّ بَعْدَ طَلَبِ الزَّوْجِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ كَمَا ذَكَرْنَا فِي قَبُولِ الزَّوْجِ بَعْدَ بَذْلِ الْوَلِيِّ : إِحْدَاهَا : أَنْ يَقُولَ الْوَلِيُّ : قَدْ زَوَّجْتُكَهَا عَلَى هَذَا الصَّدَاقِ الَّذِي بَذَلْتَهُ ، فَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ عَلَى الصَّدَاقِ وَالَّذِي سَمَّاهُ الزَّوْجُ ، وَهُوَ أَلْفٌ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنَّ يَقُولَ الْوَلِيُّ قَدْ زَوَّجْتُكَهَا ، وَلَا يَقُولَ عَلَى هَذَا الصَّدَاقِ ، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ ، وَلَا يَلْزَمُ فِيهِ ذَلِكَ الْمُسَمَّى مِنَ الصَّدَاقِ : لِأَنَّ الْوَلِيَّ مَا صَرَّحَ بِالْإِجَابَةِ إِلَيْهِ . وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَكُونُ مُنْعَقِدًا عَلَى الصَّدَاقِ الْمَبْذُولِ . وَإِذَا بَطَلَ الْمُسَمَّى عِنْدَنَا كَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ ، فَلَوْ كَانَ الْأَبُ قَالَ : زَوَّجْتُكَهَا عَلَى صَدَاقِ أَلْفَيْنِ لَمْ يَلْزَمْ وَاحِدٌ مِنَ الصَّدَاقَيْنِ ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَيَكُونُ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ ، وَلَوْ كَانَ الْأَبُ قَالَ : قَدْ زَوَّجْتُكَهَا عَلَى صَدَاقِ خَمْسِمِائَةٍ لَمْ يَلْزَمْ وَاحِدٌ مِنَ الصَّدَاقَيْنِ عِنْدَنَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَلْزَمُ أَقَلُّهُمَا وَيَصِيرُ الْأَبُ مُبَرِّئًا لَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَقُولَ الْوَلِيُّ بَعْدَ طَلَبِ الزَّوْجِ : قَدْ فَعَلْتُ ، أَوْ يَقُولَ : قَدْ أَجَبْتُكَ وَلَا يَقُولُ : قَدْ زَوَّجْتُكَهَا ، فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ عِنْدَنَا قَوْلًا وَاحِدًا ، بِخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي قَبُولِ الزَّوَاجِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْوَلِيَّ هُوَ الْمُمَلِّكُ لِبُضْعِ الْمَنْكُوحَةِ ، وَالزَّوْجَ هُوَ الْمُتَمَلِّكُ فَكَانَ اعْتِبَارُ

الصَّرِيحِ فِي لَفْظِ الْمُمَلِّكِ أَقْوَى مِنَ اعْتِبَارِهِ فِي لَفْظِ الْمُتَمَلِّكِ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَكُونُ النِّكَاحُ مُنْعَقِدًا عَلَى أَصْلِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا ابْتَدَأَ الْوَلِيُّ فَقَالَ : زَوَّجْتُ بِنْتِي عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ ، فَقَالَ الزَّوْجُ : قَدْ تَزَوَّجْتُهَا عَلَى هَذَا الصَّدَاقِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ حَتَّى يَعُودَ الْوَلِيُّ فَيَقُولُ : قَدْ زَوَّجْتُكَهَا : لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي الِابْتِدَاءِ زَوَّجْتُ بِنْتِي لَيْسَ بِبَذْلٍ مِنْهُ وَلَا إِجَابَةً ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِخْبَارٌ ، وَالنِّكَاحُ لَا يَنْعَقِدُ مِنْ جِهَةِ الْوَلِيِّ إِلَّا بِالْبَذْلِ إِنْ كَانَ مُبْتَدِئًا ، أَوْ بِالْإِيجَابِ إِنْ كَانَ مُجِيبًا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ مَا ابْتَدَأَ بِهِ الْوَلِيُّ مِنَ الِاسْتِخْبَارِ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِي الْعَقْدِ ، وَيَكُونُ جَوَابُ الزَّوْجِ طَلَبًا ، فَلِذَلِكَ مَا افْتَقَرَ إِلَى إِيجَابِ الْوَلِيِّ ، بِأَنْ يَعُودَ فَيَقُولُ : قَدْ زَوَّجْتُكَ فَيَصِيرُ النِّكَاحُ مُنْعَقِدًا بِالطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ ، وَهَكَذَا لَوِ ابْتَدَأَ الزَّوْجُ فَقَالَ لِلْوَلِيِّ : زَوِّجْنِي بِنْتَكَ ، فَقَالَ : قَدْ زَوَّجْتُكَهَا لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ : لِأَنَّ مَا ابْتَدَأَ بِهِ الزَّوْجُ اسْتِخْبَارٌ ، وَالْعَقْدُ لَا يَتِمُّ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ إِلَّا بِالطَّلَبِ إِنْ كَانَ مُبْتَدِئًا ، أَوْ بِالْقَبُولِ إِنْ كَانَ مُجِيبًا ، وَلَيْسَ اسْتِخْبَارُهُ طَلَبًا وَلَا قَبُولًا ، فَإِنْ عَادَ الزَّوْجُ فَقَالَ : قَدْ قَبِلْتُ تَزْوِيجَهَا ، صَحَّ الْعَقْدُ حِينَئِذٍ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ ، فَهَذَا حُكْمُ الْعَقْدِ بِاللَّفْظِ الْمَاضِي فِي الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ وَفِي الطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا عَقْدُهُ بِاللَّفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ ( النكاح ) ، فَمِثَالُهُ : أَنَّ بَذْلَ الْوَلِيِّ أَنْ يَقُولَ : أُزَوِّجُكَ بِنْتِي ، فَيَقُولُ الزَّوْجُ : أَتَزَوَّجُهَا ، فَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ بِقَوْلِ الْوَلِيِّ وَلَا بِقَوْلِ الزَّوْجِ : لِأَنَّ قَوْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَعَدٌ بِالْعَقْدِ وَلَيْسَ بِعَقْدٍ ، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ قَالَ : قَدْ تَزَوَّجْتُهَا ، صَارَ قَوْلُهُ طَلَبًا ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الْوَلِيِّ وَعْدًا ، فَإِنْ عَادَ الْوَلِيُّ فَقَالَ : قَدْ زَوَّجْتُكَهَا صَحَّ الْعَقْدُ بِالطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ . وَلَوْ بَدَأَ الزَّوْجُ فَقَالَ لِلْوَلِيِّ : أَتَزَوَّجُ بِنْتَكَ ، فَقَالَ الْوَلِيُّ : أُزَوِّجُكَهَا لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا : لِأَنَّ قَوْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَعَدٌ بِالْعَقْدِ ، وَلَيْسَ بِعَقْدٍ ، وَلَوْ كَانَ الْوَلِيُّ قَالَ : قَدْ زَوَّجْتُكَهَا ، صَارَ قَوْلُهُ بَذْلًا ، فَإِنْ عَادَ الزَّوْجُ فَقَالَ : قَدْ قَبِلْتُ تَزْوِيجَهَا ، صَحَّ الْعَقْدُ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ ، وَهَكَذَا إِنْ دَخَلَ عَلَى اللَّفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ ، فَقَالَ الْوَلِيُّ : أَأُزَوِّجُكَ بِنْتِي ؟ أَوْ قَالَ : أَأَتَزَوَّجُ بِنْتَكَ ؟ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ بِوَاحِدٍ مِنَ اللَّفْظَيْنِ : لِأَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ لِلْوَعْدِ ، فَكَانَ أَضْعَفَ مِنْ مُجَرَّدِ الْوَعْدِ ، فَإِنْ تَعَقَّبَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا مَا يَكُونُ بَذْلًا أَوْ طَلَبًا رُوعِيَ فِي مُقَابَلَةِ الطَّلَبِ الْإِيجَابُ ، وَفِي مُقَابَلَةِ الْبَذْلِ الْقَبُولُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا عَقْدُهُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ ( النكاح ) ، فَمِثَالُهُ : إِنْ بَدَأَ الْوَلِيُّ أَنْ يَقُولَ لِلزَّوْجِ : تَزَوَّجْ بِنْتِي ، فَيَقُولُ الزَّوْجُ : قَدْ تَزَوَّجْتُهَا ، فَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ حَتَّى يَعُودَ الْوَلِيُّ فَيَقُولُ قَدْ زَوَّجْتُكَهَا ، وَلَوْ بَدَأَ الزَّوْجُ فَقَالَ لِلْوَلِيِّ : زَوِّجْنِي بِنْتَكَ ، فَقَالَ : قَدْ زَوَّجْتُكَهَا ، صَحَّ الْعَقْدُ وَلَمْ يَحْتَجِ الزَّوْجُ أَنْ يُعِيدَهُ فِيهِ قَبُولًا . وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا ابْتَدَأَ بِهِ الْوَلِيُّ مَنْ لَفْظِ الْأَمْرِ أَنَّهُ لَا يَصِحٌّ بِهِ الْعَقْدُ ، وَبَيْنَ مَا ابْتَدَأَ بِهِ الزَّوْجُ مِنْ لَفْظِ الْأَمْرِ أَنَّهُ يَصِحُّ بِهِ الْعَقْدُ ، أَنَّ الْمُرَاعَى مِنْ جِهَةِ الْوَلِيِّ الْبَذْلُ إِنِ ابْتَدَأَ ، وَالْإِيجَابُ إِنْ أَجَابَ ، وَلَيْسَ فِي أَمْرِهِ بَذْلٌ وَلَا إِيجَابٌ فَلَمْ يَصِحَّ بِهِ الْعَقْدُ ، وَالْمُرَاعَى مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ الطَّلَبُ إِنِ ابْتَدَأَ ، وَالْقَبُولُ إِنْ أَجَابَ ، وَأَمْرُهُ تَضَمَّنَ الطَّلَبَ وَإِنْ لَمْ يَتَضَمَّنِ الْقَبُولَ ، فَصَحَّ بِهِ الْعَقْدُ وَتَمَّ بِالطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ .



فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ صِفَةِ الْعَقْدِ وَكَيْفِيَّتِهِ فَلِتَمَامِهِ وَإِبْرَامِهِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ قَبُولُ الزَّوْجِ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ بَذْلِ الْوَلِيِّ من شروط إبرام وتمام عقد النكاح ، فَإِنْ تَرَاخَى مَا بَيْنَهُمَا بِسُكُوتٍ وَإِنْ قَلَّ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِبَلْعِ رِيقٍ أَوِ انْقِطَاعِ نَفَسٍ ، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ ، وَإِنْ تَخَلَّلَتْهُ هَذِهِ السَّكْتَةُ : لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَ بَذْلِ الْوَلِيِّ وَقَبُولِ الزَّوْجِ كَلَامٌ لَيْسَ بَذْلًا وَلَا قَبُولًا من شروط إبرام وتمام عقد النكاح ، فَإِنْ تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا كَلَامٌ لَيْسَ مِنْهُمَا لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ : لِأَنَّ خُرُوجَهُمَا إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ قَطْعٌ لِحُكْمِ مَا تَقَدَّمَ ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ الْوَلِيُّ : قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي فَاقْبَلِ النِّكَاحَ مِنِّي ، لَمْ يَكُنْ هَذَا قَطْعًا لِحُكْمِ بَذْلِهِ : لِأَنَّهُ حَثٌّ مِنْهُ عَلَى الْقَبُولِ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي ، فَقُلْ لِي قَدْ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا ، لَمْ يَكُنْ قَطْعًا لِحُكْمِ بَذْلِهِ : لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ " فَاقْبَلِ النِّكَاحَ مِنِّي " فَأَمَّا إِذَا قَالَ : قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي فَأَحْسِنْ إِلَيْهَا أَوْ قَالَ فَاسْتَوْصِي بِهَا خَيْرًا ، كَانَ هَذَا قَطْعًا لِبَذْلِهِ : لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْبَذْلِ وَلَا بِالْقَبُولِ ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ : قَدْ زَوَّجْتُكَهَا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ إِمْسَاكٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ ، صَحَّ الْعَقْدُ ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَطْعًا : لِأَنَّهُ ، وَإِنْ تَضَمَّنَ صِفَةَ الْوَصِيَّةِ ، فَهُوَ بَيَانٌ لِحُكْمِ الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ عِنْدَ قَبُولِ الزَّوْجِ مِنْ أَهْلِ الْعَقْدِ ، فَإِنْ قَبِلَ الزَّوْجُ وَقَدْ مَاتَ الْوَلِيُّ أَوْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ : لِبُطْلَانِ بَذْلِهِ بِخُرُوجِهِ مِنْ أَهْلِ الْعَقْدِ . فَإِذَا تَكَامَلَتْ شُرُوطُ الْعَقْدِ عَلَى مَا وَصَفْنَا فَقَدِ انْعَقَدَ بِإِجْزَاءٍ لَا يَثْبُتُ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ بِالْعَقْدِ ، وَلَا خِيَارُ الثَّلَاثِ بِالشَّرْطِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ : لِأَنَّ الْخِيَارَ مَوْضُوعٌ لِاسْتِدْرَاكِ الْمُعَايِنَةِ فِي الْأَعْوَاضِ ، وَلَيْسَ النِّكَاحُ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ لِجَوَازِهِ مَعَ الْإِخْلَالِ بِذِكْرِ الْعِوَضِ مِنَ الصَّدَاقِ ، فَإِنْ شُرِطَ فِيهِ خِيَارُ الثَّلَاثِ أَبْطَلَهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَبْطُلُ الْخِيَارُ ، وَلَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الشُّرُوطَ الْمُنَافِيَةَ لِلْعُقُودِ تُبْطِلُهَا كَالشُّرُوطِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
خطبة النكاح قبل الخطبة سنة مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأُحِبُّ أَنْ يُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْ خُطْبَتِهِ وَكُلِّ أَمْرٍ طَلَبَهُ سِوَى الْخُطْبَةِ حَمْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ وَالصَّلَاةَ عَلَى رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْوَصِيَّةَ بِتَقْوَى اللَّهِ ثُمَّ يَخْطِبُ ، وَأُحِبُّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَأَنْ يَقُولَ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ : أَنْكَحْتُكَ عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ إِمْسَاكٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ خُطْبَةَ النِّكَاحِ قَبْلَ الْخِطْبَةِ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةُ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ ، وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ : خُطْبَةُ النِّكَاحِ وَاجِبَةٌ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا عَقَدَ لِنَفْسِهِ نِكَاحًا إِلَّا بَعْدَ خُطْبَةٍ ، فَكَانَ الْخَاطِبُ فِي تَزْوِيجِهِ خَدِيجَةَ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ ، وَكَانَ الْخَاطِبُ بِتَزْوِيجِهِ بِعَائِشَةَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ ، وَزَوَّجَ فَاطِمَةَ

بِعَلِيٍّ فَخَطَبَا جَمِيعًا ، وَلِأَنَّهُ عَمَلٌ مَقْبُولٌ قَدِ اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْأَمْصَارِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ ، فَكَانَ إِجْمَاعًا لَا يُسَوِّغُ خِلَافًا ، وَلِأَنَّ مَا وَقَعَ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُسْتَبْشَرُ [ بِهِ مِنَ الزِّنَا وَيُعْلَنُ مِنَ النِّكَاحِ ] كَانَ وَاجِبًا فِي النِّكَاحِ ، كَالْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مِنَ اسْتِحْبَابِهَا دُونَ وُجُوبِهَا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ [ النِّسَاءِ : 25 ] . فَجُعِلَ الْإِذْنُ شَرْطًا دُونَ الْخُطْبَةِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ زَوَّجَ الْوَاهِبَةَ لِنَفْسِهَا مِنْ خَاطِبِهَا قَالَ : قَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ ، فَلَمْ يَخْطُبْ . وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ خَطَبَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُمَامَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، فَأَنْكَحُهُ وَلَمْ يَخْطُبْ . وَرُوِيَ أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - زَوَّجَ بَعْضَ بَنَاتِ أَخِيهِ الْحَسَنِ وَهُوَ يَتَعَرَّقُ عَظْمًا ، أَيْ لَمْ يَخْطُبْ تَشَاغُلًا بِهِ . وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ زَوَّجَ بِنْتَهُ ، فَمَا زَادَ عَلَى أَنْ قَالَ : قَدْ زَوَّجْتُكَهَا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِهِ مِنْ إِمْسَاكٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ ، وَلِأَنَّ الْخُطْبَةَ لَوْ وَجَبَتْ فِي النِّكَاحِ لَبَطَلَ بِتَرْكِهَا ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ تَرَكُهَا دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا دُونَ وُجُوبِهَا ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عُقْدٌ فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الْخُطْبَةُ كَسَائِرِ الْعُقُودِ ، فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْخَبَرِ فَلَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ الْأَمْرِ فَيَلْزَمُ ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ أَبْتَرُ وَلَيْسَ فِي هَذَا الْقَوْلِ دَلِيلٌ عَلَى الْوُجُوبِ عَلَى أَنَّ لِلْخَبَرِ سَبَبًا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا عَقَدَ نِكَاحًا إِلَّا بَعْدَ خُطْبَةٍ ، فَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ نَكَحَ بَعْضَ نِسَائِهِ بِغَيْرِ خُطْبَةٍ ، وَقَدْ زَوَّجَ الْوَاهِبَةَ بِغَيْرِ خُطْبَةٍ ، وَلَيْسَ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ الْعَمَلِ الْمَنْقُولِ إِجْمَاعًا لِمَا رُوِّينَا مِنْ خِلَافِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ وَلَا فِي كَوْنِهَا فَرْقًا بَيْنَ الزِّنَا وَالنِّكَاحِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهَا كَالْوَلَائِمِ .

فَصْلٌ الْخُطْبَةِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ اسْتِحْبَابُ الْخُطْبَةِ فى النكاح ، فَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : حَمْدُ اللَّهِ ، وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : الصَّلَاةُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالثَّالِثُ : الْوَصِيَّةُ بِتَقْوَى اللَّهِ وَطَاعَتِهِ . وَالرَّابِعُ : قِرَاءَةُ آيَةٍ ، وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ مُخْتَصَّةً بِذِكْرِ النِّكَاحِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ [ النُّورِ : 32 ] وَكَقَوْلِهِ : وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا [ الْفَرْقَانِ : 54 ] . الْآيَةُ ، فَإِنْ قَرَأَ آيَةً لَا تَتَعَلَّقُ بِذِكْرِ النِّكَاحِ جَازَ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا التَّبَرُّكُ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى . وَقَدْ رُوِيَتْ خُطْبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِيهَا : الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَعِينُهُ

وَنَسْتَهْدِيهِ ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [ الْأَحْزَابِ : 70 ، 71 ] الْآيَةَ إِلَى آخِرِهَا . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - أَنَّهُ خَطَبَ ، فَقَالَ : الْمَحْمُودُ لِلَّهِ وَالْمُصْطَفَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَخَيْرُ مَا افْتُتِحَ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ الْآيَةَ . وَرُوِيَ مِنْ خُطَبِ بَعْضِ السَّلَفِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ شُكْرًا لِأَنْعُمِهِ وَأَيَادِيهِ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ شَهَادَةً تَبْلُغُهُ وَتُرْضِيهِ ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَاةً تُزَلِّفُهُ وَتُحْظِيهِ ، وَاجْتِمَاعُنَا هَذَا مِمَّا قَضَاهُ اللَّهُ وَأَذِنَ فِيهِ وَالنِّكَاحُ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَضِيَهُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ [ النُّورِ : 32 ] الْآيَةَ ، فَتَكُونُ الْخُطْبَةُ عَلَى مَا وَصَفْنَا . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَأُحِبُّ أَنْ يَقُولَ الْوَلِيُّ مِثْلَ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ : قَدْ أَنْكَحْتُهَا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِهِ مِنْ إِمْسَاكٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ الْخُطْبَةِ نُظِرَ فِي الْخَاطِبِ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ خُطْبَةَ النِّكَاحِ وَهُوَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ فِي زَمَانِنَا كَانَتْ خُطْبَتُهُ نِيَابَةً عَنْهُمَا ، وَإِنْ خَطَبَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ خُطْبَةَ النِّكَاحِ فَيُخْتَارُ أَنْ يَخْطُبَا مَعًا : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْدُوبٌ إِلَى مِثْلِ مَا نُدِبَ إِلَيْهِ الْآخَرُ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا زَوَّجَ عَلِيًّا خَطَبَا جَمِيعًا . وَالْأَوْلَى أَنْ يَبْدَأَ الزَّوْجُ بِالْخُطْبَةِ ، ثُمَّ يَعْقُبُهُ الْوَلِيُّ بِخُطْبَتِهِ : لِيَكُونَ الزَّوْجُ طَالِبًا وَيَكُونَ الْوَلِيُّ مُجِيبًا ، فَإِنْ بَدَأَ الْوَلِيُّ بِالْخُطْبَةِ ، ثُمَّ خَطَبَ الزَّوْجُ بَعْدَهُ ، جَازَ . فَإِنْ تَقَدَّمَتْ خُطْبَتُهُمَا قَبْلَ الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ ، أَوْ قَبْلَ الطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ ، ثُمَّ عُقِدَ النِّكَاحُ بَعْدَ الْخُطْبَتَيْنِ بِالْبَذْلِ أَوْ بِالْقَبُولِ أَوْ بِالطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ : فَقَدْ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَاييِنِيُّ : إِنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ : لِأَنَّ مَا تَخَلَّلَهُمَا مِنَ الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ فِي الْعَقْدِ فَلَمْ يَفْسَدْ بِهِ الْعَقْدُ . وَهَذَا خَطَأٌ ، وَالصَّحِيحُ - وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِنَا كُلِّهِمْ - أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَطَاوُلُ مَا بَيْنَ الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ . وَالثَّانِي : أَنَّ أَذْكَارَ الْخُطْبَةِ لَيْسَتْ مِنَ الْبَذْلِ وَلَا مِنَ الْقَبُولِ ، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْخُطْبَةَ الثَّانِيَةَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا فِي الْعَقْدِ فَلَمْ يَفْسَدْ بِهَا الْعَقْدُ فَصَحِيحٌ إِذَا كَانَتْ فِي مَحِلِّهَا قَبْلَ الْعَقْدِ ، فَأَمَّا فِي خِلَالِ الْعَقْدِ فَلَمْ يُنْدَبْ إِلَيْهَا فَجَازَ أَنْ يَفْسَدَ بِهَا الْعَقْدُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ مَا يَحِلُّ مِنَ الْحَرَائِرِ وَيَحْرُمُ وَلَا يَتَسَرَّى الْعَبْدُ وَغَيْرُ ذَلِكَ
لا يحل من الحرائر سوى أربع

بَابُ مَا يَحِلُّ مِنَ الْحَرَائِرِ وَيَحْرُمُ ، وَلَا يَتَسَرَّى الْعَبْدُ وَغَيْرُ ذَلِكَ ، مِنَ الْجَامِعِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ وَكِتَابِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَالرَّجُلِ يَقْتُلُ أَمَتَهُ وَلَهَا زَوْجٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ : " انْتَهَى اللَّهُ تَعَالَى بِالْحَرَائِرِ إِلَى أَرْبَعٍ تَحْرِيمًا : لِئَلَّا يَجْمَعَ أَحَدٌ غَيْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . أَكْثَرُ مَا يَحِلُّ لِلْحُرِّ نِكَاحُ أَرْبَعٍ لَا يَجُوزُ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِنَّ . وَهُوَ قَوْلُ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ . وَحُكِيَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ نُسِبَ إِلَى مَقَالَتِهِ مِنَ الْقَاسِمِيَّةِ وَطَائِفَةٍ مِنَ الزَّائِدِيَّةِ : أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ تِسْعٍ : اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ [ النِّسَاءِ : 3 ] بِوَاوِ الْجَمْعِ ، وَالْمَثْنَى مُبْدَلٌ مِنِ اثْنَيْنِ ، وَالثُّلَاثُ مُبْدَلٌ مِنْ ثَلَاثٍ ، وَالرُّبَاعُ مُبْدَلٌ مِنْ أَرْبَعٍ ، فَصَارَ مَجْمُوعُ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثِ وَالْأَرْبَعِ تِسْعًا ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ عَنْ تِسْعٍ وَاللَّهُ - تَعَالَى - يَقُولُ : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [ الْأَحْزَابِ : 21 ] وَلِأَنَّهُ لَمَّا سَاوَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَائِرَ أُمَّتِهِ فِيمَا يَسْتَبِيحُهُ مِنَ الْإِمَاءِ وَجَبَ أَنْ يُسَاوِيَهُمْ فِي حَرَائِرِ النِّسَاءِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ [ النِّسَاءِ : 3 ] . وَفِيهِ دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَا خَرَجَ هَذَا الْمَخْرَجَ مِنَ الْأَعْدَادِ ، كَانَ الْمُرَادُ بِهِ أَفْرَادَهَا دُونَ مَجْمُوعِهَا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ : أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ [ فَاطِرٍ : 1 ] إِفْرَادَ هَذِهِ الْأَعْدَادِ ، وَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ جَنَاحٌ ، وَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ جَنَاحَانِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ ثَلَاثَةٌ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ أَرْبَعَةٌ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي عَدَدِ النِّكَاحِ كَذَلِكَ . وَالثَّانِي : أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ أَجْمَعُوا فِيمَنْ قَالَ : قَدْ جَاءَنِي النَّاسُ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ : أَنَّ مَفْهُومَ كَلَامِهِ أَنَّهُمْ جَاءُوا عَلَى إِفْرَادِ هَذِهِ الْأَعْدَادِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ ، وَثَلَاثَةً ثَلَاثَةً ، وَأَرْبَعَةً أَرْبَعَةً ، وَلَمْ يَرِدْ بِمَجْمُوعِهَا تِسْعَةٌ ، فَكَذَلِكَ مَفْهُومُ الْآيَةِ . وَالدَّلِيلُ الثَّانِي : مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ " الْوَاوَ " الَّتِي فِيهَا لَيْسَتْ وَاوَ جَمْعٍ ، وَإِنَّمَا هِيَ وَاوُ تَخْيِيرٍ بِمَعْنَى أَوْ ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ مَثْنَى أَوْ ثُلَاثَ أَوْ رُبَاعَ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ذِكْرَ التِّسْعَةِ بِلَفْظِهِمَا أَبْلَغُ فِي الِاخْتِصَارِ ، وَأَقْرَبُ إِلَى الْأَفْهَامِ مِنْ ذِكْرِهَا بِهَذَا الْعَدَدِ الْمُشَكَلِ الَّذِي لَا يُفِيدُ تَفْرِيقُهُ .

وَالثَّانِي : قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ : فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [ النِّسَاءِ : 3 ] . وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ تِسْعًا وَلَمْ يُرِدِ اثْنَيْنِ عَلَى الِانْفِرَادِ : لَقَالَ : فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَثَمَانٍ : لِيَعْدِلَ عَنِ التِّسْعِ إِلَى أَقْرَبِ الْأَعْدَادِ إِلَيْهِمْ لَا لِأَبْعَدِهِ مِنْهُمْ : لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَدْلِ فِي تِسْعٍ وَيَقْدِرُ عَلَى الْعَدْلِ فِي ثَمَانٍ ، وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا قَالُوهُ لَكَانَ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْعَدْلِ فِي تِسْعٍ حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْكِحَ إِلَّا وَاحِدَةً ، وَلَمَا جَازَ لَهُ اثْنَتَانِ وَلَا ثَلَاثٌ وَلَا أَرْبَعٌ . وَهَذَا مَدْفُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ ، ثُمَّ الدَّلِيلِ مَعَ نَصِّ السُّنَّةِ : أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ الثَّقَفِيَّ أَسْلَمَ ، وَمَعَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ وَأَسْلَمَ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ ، وَأَسْلَمَ مَعَهُ خَمْسٌ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ : أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ وَاحِدَةً وَلِأَنَّهُ مَا جَمَعَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ تَقْيِيدًا بِفِعْلِهِ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ مَعَ رَغْبَتِهِمْ فِي الِاسْتِكْثَارِ وَحِرْصِهِمْ عَلَى طَلَبِ الْأَوْلَادِ ، وَأَنَّهُمْ قَدِ اسْتَكْثَرُوا مِنَ الْإِمَاءِ وَاقْتَصَرُوا عَلَى أَرْبَعٍ مِنَ النِّسَاءِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى حَظْرِ مَا عَدَاهُ ، فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَدْ خُصَّ فِي النِّكَاحِ بِمَا حَرُمَ عَلَى سَائِرِ أُمَّتِهِ : لِأَنَّهُ قَدْ أُبِيحَ لَهُ النِّسَاءُ مِنْ غَيْرِ عَدَدٍ مَحْصُورٍ ، وَمَا أُبِيحَ لِلْأُمَّةِ إِلَّا عَدَدٌ مَحْصُورٌ ، وَلَيْسَ وَإِنْ مَاتَ مِنْ تِسْعٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هِيَ الْعَدَدَ الْمَحْصُورَ ، فَقَدْ جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ إِحْدَى عَشْرَةَ ، وَمَاتَ عَنْ تِسْعٍ ، وَكَانَ يَقْسِمُ لِثَمَانٍ . وَأَمَّا الْإِمَاءُ فَلَمْ يُحْصَرْنَ بِعَدَدٍ مُمْكِنٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْحُرِّ نِكَاحُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ ، فَنَكَحَ خَمْسًا ، نُظِرَ : فَإِنْ عَقَدَ عَلَيْهِنَّ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ خمس نساء بَطَلَ نِكَاحُ جَمِيعِهِنَّ : لِأَنَّ الْمُحَرَّمَةَ مِنَ الْخَمْسِ غَيْرُ مُتَعَيِّنَةٍ ، فَبَطَلَ نِكَاحُ الْجَمِيعِ . وَإِنْ عَقَدَ عَلَيْهِنَّ مُنْفَرِدَاتٍ خمس نساء بَطَلَ نِكَاحُ الْخَامِسَةِ الْأَخِيرَةِ ، وَصَحَّ نِكَاحُ مَنْ تَقَدَّمَهَا . فَلَوْ تَزَوَّجَ ثَلَاثًا فِي عَقْدٍ وَاثْنَتَيْنِ فِي عَقْدٍ صَحَّ نِكَاحُ الثَّلَاثِ لِتَقَدُّمِهِنَّ ، وَبَطَلَ نِكَاحُ الِاثْنَتَيْنِ لِتَأَخُّرِهَمَا ، فَلَوْ أُشْكِلَ الْمُتَقَدِّمُ مِنَ الْعَقْدِ بَطَلَ نِكَاحُ الْخَمْسِ كُلِّهِنَّ . فَلَوْ نَكَحَ ثَلَاثًا فِي عَقْدٍ ، وَاثْنَتَيْنِ فِي عَقْدٍ ، وَوَاحِدَةً فِي عَقْدٍ وَأُشْكِلَ الْمُتَقَدِّمَاتُ مِنْهُنَّ ، صَحَّ نِكَاحُ الْوَاحِدَةِ : لِأَنَّهَا تَتَنَزَّلُ فِي أَحْوَالِهَا كُلِّهَا عَلَى الصِّحَّةِ ، وَبَطَلَ نِكَاحُ الثَّلَاثِ وَالِاثْنَيْنِ لِنُزُولِهِنَّ بَيْنَ حَالَتَيْ صِحَّةٍ وَفَسَادٍ ، وَبَيَانُ تَنْزِيلِهِنَّ فِي الْأَحْوَالِ : أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ نِكَاحُ الثَّلَاثِ ثُمَّ الِاثْنَيْنِ ثُمَّ الْوَاحِدَةِ صَحَّ نِكَاحُ الثَّلَاثِ وَالْوَاحِدَةِ وَبَطَلَ نِكَاحُ الِاثْنَتَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ نِكَاحُ الِاثْنَتَيْنِ ثُمَّ الثَّلَاثِ ثُمَّ الْوَاحِدَةِ صَحَّ نِكَاحُ الِاثْنَتَيْنِ وَالْوَاحِدَةِ وَبَطَلَ نِكَاحُ الثَّلَاثِ ، وَإِنْ تَقَدَّمَ نِكَاحُ الْوَاحِدَةِ ثُمَّ الثَّلَاثِ ثُمَّ الِاثْنَتَيْنِ صَحَّ نِكَاحُ الْوَاحِدَةِ وَالثَّلَاثِ وَبَطَلَ نِكَاحُ الِاثْنَتَيْنِ وَصَارَتِ الْوَاحِدَةُ ثَانِيَةً فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا فَصَحَّ نِكَاحُهَا ، وَلَمَّا رُدِّدَ نِكَاحُ الثَّلَاثِ وَالِاثْنَتَيْنِ بَيْنَ حَالَتَيْ صِحَّةٍ وَفَسَادٍ بَطَلَ نِكَاحُهُنَّ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا عَلَى الْأَحْرَارِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَمِلْكُ الْيَمِينِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْأَحْرَارِ الَّذِينَ يَمْلِكُونَ الْمَالَ ، وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ الْمَالَ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . لَا يَحِلُّ لِلْعَبْدِ أَنْ يَنْكِحَ أَكْثَرَ مِنِ اثْنَتَيْنِ عَلَى الشَّطْرِ مِنَ اسْتِبَاحَةِ الْحُرِّ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ : عُمَرُ ، وَعُثْمَانُ ، وَعَلِيٌّ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ . وَمِنَ التَّابِعِينَ : الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَعَطَاءٌ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ : أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ . وَقَالَ مَالِكٌ : الْعَبْدُ كَالْحُرِّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ أَرْبَعٍ . وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ ، وَرَبِيعَةُ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَدَاوُدُ : اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ [ النِّسَاءِ : 3 ] وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِعَانُ الْحَرَائِرِ أَرْبَعًا مُسَاوَاةً بِعَدَدِ مَنْ أُبِيحَ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ ، ثُمَّ كَانَ لِعَانُ الْعَبْدِ أَرْبَعًا كَالْحُرِّ وَجَبَ أَنْ يَسْتَبِيحَ أَرْبَعًا كَالْحُرِّ ، وَلِأَنَّ نِكَاحَ الْعَبْدِ أَوْسَعُ مِنْ نِكَاحِ الْحُرِّ : لِأَنَّهُ قَدْ يَنْكِحُ الْأَمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ وَيَجْمَعُ بَيْنَ أَمَتَيْنِ بِخِلَافِ الْحُرِّ ، فَلَمْ يَجُزْ - وَهُوَ أَوْسَعُ حُكْمًا - أَنْ يَضِيقَ فِي الْعَدَدِ عَنْ حُكْمِ الْحُرِّ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْعَبْدُ مُسَاوِيًا لِلْحُرِّ فِي أَعْيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ وَجَبَ أَنْ يُسَاوِيَهُ فِي أَعْدَادِ الْمَنْكُوحَاتِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ [ الرُّومِ : 28 ] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُسَاوٍ لِلْحُرِّ ، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عُمَرَ قَالَ : يُطَلِّقُ الْعَبْدُ تَطْلِيقَتَيْنِ وَيَنْكِحُ اثْنَتَيْنِ وَتَعْتَدُّ الْأَمَةُ حَيْضَتَيْنِ ، وَصَرَّحَ بِمِثْلِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ ذَكَرْنَا ، وَلَيْسَ فِيهِمْ مُخَالِفٌ . وَالثَّانِي : مَا رَوَاهُ اللَّيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ : أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْكِحَ الْعَبْدُ أَكْثَرَ مِنِ اثْنَتَيْنِ . فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَلِأَنَّ مَا نَقَصَ فِي عَدْلِهِ وَمَعْنَاهُ شَاطَرَ الْعَبْدُ فِيهِ الْحُرَّ كَالْحُدُودِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا نَقَصَ الْأَحْرَارُ فِيمَا اسْتَبَاحُوهُ مِنَ الْعَدَدِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَعْضِهِمْ عَنْهُ ، وَجَبَ أَنْ يَنْقُصَ الْعَبْدُ فِيهِ عَنِ الْحُرِّ لِنَقْصِهِ عَنْهُ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ فَسِيَاقُ الْكَلَامِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْأَحْرَارِ دُونَ الْعَبِيدِ : لِأَنَّ قَوْلَهُ أَوَّلُهُ : وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى [ النِّسَاءِ : 3 ] . مُتَوَجَّهٌ إِلَى الْأَحْرَارِ : لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ عَلَى الْأَيْتَامِ ، وَقَوْلُهُ : فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [ النِّسَاءِ : 3 ] . مُتَوَجَّهٌ إِلَى الْأَحْرَارِ : لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَنْكِحَ مَا طَابَ لِنَفْسِهِ ، وَقَوْلُهُ : فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [ النِّسَاءِ : 3 ] مُتَوَجَّهٌ إِلَى الْأَحْرَارِ : لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِاللِّعَانِ فَهُوَ غَيْرُ مَوْضُوعٍ عَلَى التَّفَاضُلِ وَلَا هُوَ الْعِلَّةُ فِي عَدَدِ الْمَنْكُوحَاتِ وَإِنِ اتَّفَقَا ، وَإِنَّمَا يَجْرِي مَجْرَى الْيَمِينِ عِنْدَنَا وَالْبَيِّنَةِ عِنْدَ غَيْرِنَا .

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ حُكْمَ الْعَبْدِ فِي النِّكَاحِ أَوْسَعُ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّهُ أَوْسَعُ حُكْمًا فِيمَا طَرِيقُهُ النَّقْصُ ، وَأَضْيَقُ حُكْمًا فِيمَا طَرِيقُهُ الْكَمَالُ ، وَاسْتِبَاحَتُهُ لِلْأَمَةِ نَقْصٌ فَاتَّسَعَ حُكْمُهُ فِيهِ وَالْعَدَدُ كَمَالٌ فَضَاقَ حُكْمُهُ فِيهِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ لَمَّا سَاوَاهُ فِي أَعْيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ ، سَاوَاهُ فِي عَدَدِ الْمَنْكُوحَاتِ فَبَاطِلٌ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَاوِي الْأُمَّةَ فِي أَعْيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ وَلَا يُسَاوِيهِ فِي عَدَدِ الْمَنْكُوحَاتِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ مُتَسَاوِ الْعَدَدِ مُتَفَاضِلٌ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَنْكِحُ أَكْثَرَ مِنِ اثْنَتَيْنِ فَحُكْمُهُ إِنْ نَكَحَ ثَلَاثًا ( العبد ) كَحُكْمِ الْحُرِّ إِذَا نَكَحَ خَمْسًا عَلَى مَا بَيَّنَاهُ وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ وَالْمَكَاتَبُ وَمَنْ رَقَّ بَعْضُهُ إِنْ نَكَحَ ثَلَاثًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ إِذَا فَارَقَ الْأَرْبَعَ ثَلَاثًا تَزَوَّجَ مَكَانَهُنَّ فِي عِدَّتِهِنَّ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِذَا فَارَقَ الْأَرْبَعَ ثَلَاثًا تَزَوَّجَ مَكَانَهُنَّ فِي عِدَّتِهِنَّ : لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَحَلَّ لِمَنْ لَا امْرَأَةَ لَهُ أَرْبَعًا ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : لَا يَنْكِحُ أَرْبَعًا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الْأَرْبَعِ : لِأَنِّي لَا أُجِيزُ أَنْ يَجْتَمِعَ مَاؤُهُ فِي خَمْسٍ ، أَوْ فِي أُخْتَيْنِ ( قُلْتُ ) فَأَنْتَ تَزْعُمُ لَوْ خَلَا بِهِنَّ وَلَمْ يُصِبْهُنَّ أَنَّ عَلَيْهِنَّ الْعِدَّةَ فَلَمْ يَجْتَمِعْ فِيهِنَّ مَاؤُهُ فَأُبِيحَ لَهُ النِّكَاحُ ، وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ حُكْمِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فَجَعَلَ إِلَيْهِ الطَّلَاقَ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةَ ، فَجَعَلْتَهُ يَعْتَدُّ مَعَهَا ثُمَّ نَاقَضْتَ فِي الْعِدَّةِ ( قَالَ ) وَأَيْنَ ؟ قُلْتُ : إِذْ جَعَلَتْ عَلَيْهِ الْعِدَّةَ كَمَا جَعَلْتَهَا عَلَيْهَا ، أَفَيَجْتَنِبُ مَا تَجْتَنِبُ الْمُعْتَدَّةُ مِنَ الطِّيبِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الْمَنْزِلِ ؟ قَالَ : لَا ، قُلْتُ ، فَلَا جَعَلْتَهُ فِي الْعِدَّةِ بِمَعْنَاهَا ، وَلَا فَرَّقْتَ بِمَا فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَقَدْ جَعَلَهُنَّ اللَّهُ مِنْهُ أَبْعَدَ مِنَ الْأَجْنَبِيَّاتِ : لِأَنَهُنَّ لَا يَحْلِلْنَ لَهُ إِلَا بَعْدَ نِكَاحِ زِوْجٍ وَطَلَاقِهِ أَوْ مَوْتِهِ وَعِدَّةٍ تَكُونُ بَعْدَهُ ، وَالْأَجْنَبِيَّاتُ يَحْلِلْنَ لَهُ مِنْ سَاعَتِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا كَانَ لَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ فَطَلَّقَهُنَّ وَأَرَادَ أَنْ يَعْقِدَ عَلَى أَرْبَعٍ سِوَاهُنَّ ، أَوْ عَلَى أُخْتِ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ لَمْ يَخْلُ طَلَاقُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ جَازَ لَهُ عَقِيبَ طَلَاقِهِنَّ ، سَوَاءً كَانَ طَلَاقُهُ ثَلَاثًا أَوْ دُونَهَا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهِنَّ لَمْ يَخْلُ طَلَاقُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا ، فَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْعَقْدُ عَلَى أَحَدٍ حَتَّى يَنْقُصَ عَدَدُهُنَّ : لِأَنَّهُنَّ مِنَ الزَّوْجَاتِ مَا كُنَّ فِي عَدَدِهِنَّ لِوُقُوعِ طَلَاقِهِ وَظِهَارِهِ عَلَيْهِنَّ ، وَحُصُولِ التَّوَارُثِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ ، فَلَوِ انْقَضَتْ عِدَّةُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ جَازِ الْعَقْدُ عَلَى أُخْتِهَا أَوْ عَلَى خَامِسَةٍ غَيْرِهَا ، وَلَوِ انْقَضَتْ عِدَّةُ اثْنَتَيْنِ جَازَ لَهُ الْعَقْدُ عَلَى اثْنَتَيْنِ ، وَلَوِ انْقَضَتْ عِدَّةُ ثَلَاثٍ جَازَ لَهُ الْعَقْدُ عَلَى ثَلَاثٍ ، وَلَوِ انْقَضَتْ عِدَّةُ الْأَرْبَعِ جَازَ لَهُ الْعَقْدُ عَلَى الْأَرْبَعِ ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا إِمَّا أَنْ يَكُونَ ثَلَاثًا أَوْ دُونَهَا بِعِوَضٍ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ : هَلْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ فِي عَدَدِهِنَّ بِأَرْبَعٍ سِوَاهُنَّ أَوْ بِأُخْتِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ؟ قبل إنقضاء عدتهن وكان الطلاق بائناً فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى جَوَازِهِ . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ : زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ . وَمِنَ التَّابِعِينَ : سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالزُّهْرِيُّ .

وَمِنَ الْفُقَهَاءِ : مَالِكٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهِنَّ . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ . وَمِنَ التَّابِعِينَ : سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ وَهَذَا نَصٌّ لِمَا بِهِ يُعْقَدُ فِي أُخْتَيْنِ ، وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ فِي حَقِّهِ مِنْ طَلَاقِهِ ، فَلَمْ يَحِلَّ لَهُ الْعَقْدُ عَلَى أُخْتِهَا كَالرَّجْعِيَّةِ ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ : " مِنْ حَقِّهِ " مِنْ أَنْ يَدَّعِيَ الْمُطَلِّقُ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا وَيُنْكِرَ ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُطَلِّقِ فِي اسْتِبَاحَةِ عَقْدِهِ عَلَى أُخْتِهَا ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهَا فِي بَقَاءِ عِدَّتِهَا ، وَتَكُونُ مُعْتَدَّةً فِي حَقِّهَا لَا فِي حَقِّهِ ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ : " مِنْ طَلَاقِهِ " مِنْ رَدَّتِهَا ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا وَإِنْ كَانَتِ الْمُرْتَدَّةُ فِي عِدَّتِهَا حكم الزواج من أختها وَمِنْ أَنْ يَطَأَ أَمَةً ثُمَّ يَبِيعُهَا حكم الزواج من أختها ، فَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَمَةُ تَسْتَبْرِئُ نَفْسَهَا مِنْ وَطْئِهِ ، قَالَ : وَلِأَنَّ كُلَّ جَمْعٍ مُنِحَ مِنْهُ عَقْدُ النِّكَاحِ مُنِعَتْ مِنْهُ الْعِدَّةُ كَالْجَمْعِ بَيْنَ زَوْجَيْنِ : لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ حَرَّمَ عَلَيْهَا نِكَاحَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَزْوَاجِ كَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِ نِكَاحَ أُخْتِهَا مِنَ النِّسَاءِ ، ثُمَّ كَانَ تَحْرِيمُ غَيْرِهِ بَاقِيًا عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُ أُخْتِهَا بَاقِيًا عَلَيْهِ فِي الْعِدَّةِ . وَدَلِيلُنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ [ النِّسَاءِ : 3 ] . وَقَدْ يَطِيبُ لَهُ نِكَاحُ أُخْتِهَا فِي عِدَّتِهَا ، وَلِأَنَّهُ جَمْعٌ حُرِّمَ عَلَى الزَّوْجِ بِالْعَقْدِ فَوَجَبَ أَنْ يَرْتَفِعَ بِالطَّلَاقِ كَالْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَالْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ لَمَّا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهَا نِكَاحُ غَيْرِهِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ ، وَالْمُطَلَّقَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ لَمَّا حَرُمَ عَلَيْهَا نِكَاحُ غَيْرِهِ حَرُمَ عَلَيْهِ . قِيلَ : إِنَّمَا حَرُمَ عَلَيْهَا بَعْدَ الدُّخُولِ نِكَاحُ غَيْرِهِ : لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ وَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَدٍّ ، وَلِأَنَّهَا مَبْتُوتَةٌ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ أُخْتِهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ ، فَحَلَّ لَهُ نِكَاحُ أُخْتِهَا قَبْلَ الْعِدَّةِ كَالْمُخْبَرَةِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، وَلِأَنَّهَا فُرْقَةٌ يُمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ طَلَاقِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُبِيحَ مَا حَرُمَ مِنَ الْجَمْعِ بِعُقْدَةٍ كَالْوَفَاةِ ، وَلِأَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ إِلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ ، فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ نِكَاحُ أُخْتِهَا لِأَجْلِهَا كَالْأَجْنَبِيَّةِ ، وَلِأَنَّ الْمَبْتُوتَةَ مِنَ الْعِدَّةِ أَغْلَظُ تَحْرِيمًا عَلَيْهِ مِنَ الْأَجْنَبِيَّةِ : لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّةَ تَحِلُّ بِالْعَقْدِ فِي الْحَالِ ، وَهَذِهِ لَا تَحِلُّ لَهُ إِلَّا بِعَقْدٍ بَعْدَ عِدَّتَيْنِ وَزَوْجٍ ، فَلَمْ يَجُزْ وَهِيَ أَغْلَظُ تَحْرِيمًا مِنَ الْأَجَانِبِ أَنْ يَحْرُمَ بِهَا مَا لَا يَحْرُمُ بِالْأَجَانِبِ ، وَلِأَنَّ الْعَدَّةَ تَخْتَصُّ بِالْمَرْأَةِ دُونَ الزَّوْجِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [ الْبَقَرَةِ : 228 ] . فَلَوْ مَنَعَتْ مِنَ النِّسَاءِ مَا مَنَعَتْ مِنَ الرِّجَالِ لَلَزِمَ مِنَ الْعِدَّةِ كَمَا أُلْزِمَتْ ، وَلَوْ لَزِمَ مِنْ أَحْكَامِ الْعِدَّةِ كَمَا لَزِمَهَا لَزِمَهُ سَائِرُ أَحْكَامِهَا مِنْ تَحْرِيمِ الطِّيبِ وَالزِّينَةِ كَمَا لَزِمَهَا ، وَفِي الْمَنْعِ مِنْ إِبْرَاءِ أَحْكَامِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا فِيمَا سِوَى النِّكَاحِ مَنْعٌ مِنْ إِجْرَاءِ حُكْمِهَا عَلَيْهِ فِي تَحْرِيمِ النِّكَاحِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ [ النِّسَاءِ : 23 ] . فَهُوَ أَنَّ الطَّلَاقَ مُفَرِّقٌ فَكَيْفَ يَصِيرُ بِهِ جَامِعًا ، وَالْجَمْعُ مِنَ الِاجْتِمَاعِ ، وَالْفُرْقَةُ ضِدَّ الِاجْتِمَاعِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرَّجْعِيَّةِ ، فَتِلْكَ زَوْجَتُهُ يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ ، وَظِهَارُهُ ، وَتَسْتَحِقُّ بَيْنَهُمَا

التَّوَارُثَ ، وَهَذِهِ قَدْ صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً : لِأَنَّهَا لَا يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ وَلَا ظِهَارُهُ ، وَلَا يَتَوَارَثَانِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي تَحْرِيمِ الْجَمْعِ ، كَمَا لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ وَالْعَقْدِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَيْهَا ، فَالْمَعْنَى فِيهَا أَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ ، وَالْمُعْتَدَّةُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهَا نِكَاحُ غَيْرِهِ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ مَاؤُهُ بِمَاءِ غَيْرِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّجُلُ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَدٍّ ، وَلَيْسَ فِي عَقْدِهِ عَلَى غَيْرِهَا اخْتِلَاطُ مَائَيْنِ فَافْتَرَقَا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى إِبْطَالِ مَذْهَبِهِمْ بِثَلَاثَةِ فُصُولٍ ذَكَرْنَا مِنْهَا فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا فِيهِ مِنْ وُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَى الزَّوْجِ ، وَقَدْ أَوْجَبَهَا اللَّهُ عَلَيْهَا دُونَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا بِالطَّلَاقِ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْأَجْنَبِيَّةِ ، فَكَيْفَ تَبْقَى عَلَى حُكْمِ الزَّوْجِيَّةِ . وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ : وَهُوَ الَّذِي تَفَرَّدَ بِهِ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَتَحَرَّرَ كَلَامُهُ فِيهِ مِنْ مُقْتَضَاهُ : أَنَّهُ لَا يَخْلُو تَحْرِيمُهُمْ لِنِكَاحِ أُخْتِهَا فِي عِدَّتِهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِعَقْدِ النِّكَاحِ ، أَوْ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ مَاؤُهُ فِي أُخْتَيْنِ . فَإِنْ كَانَ لِعَقْدِ النِّكَاحِ ، فَقَدِ ارْتَفَعَ بِطَلَاقِ الثَّلَاثِ . وَإِنْ كَانَ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ مَاؤُهُ فِي أُخْتَيْنِ فَهُمْ يَقُولُونَ : إِنَّهُ لَوْ خَلَا بِهَا مَنْ طَلَّقَهَا حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُ أُخْتِهَا فِي عِدَّتِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعْ مَاؤُهُ فِي أُخْتَيْنِ ، فَبَطَلَ التَّعْلِيلُ بِكِلَا الْأَمْرَيْنِ ، وَاعْتَرَضُوا عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ بِالْفَسَادِ ، فَقَالُوا : نَحْنُ حَرَّمْنَا الْمَدْخُولَ بِهَا بِاجْتِمَاعِ الْمَائَيْنِ ، وَتَعَلَّلَ غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا مِنْ هَذَا الْحُكْمِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى ، وَنَقْضُ الْعِلَّةِ أَنْ يَكُونَ بِوُجُودِهَا مَعَ عَدَمِ الْحُكْمِ ، وَلَا يَكُونُ النَّقْضُ بِوُجُودِ الْحُكْمِ مَعَ عَدَمِ الْعِلَّةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَبِلَ تَعْلِيلًا بِالرِّدَّةِ لَكَانَ نَقْضُ الْعِلَّةِ بِأَنْ لَا تُقْبَلَ مَعَ وُجُودِ الرِّدَّةِ ، وَلَمْ يَكُنْ نَقْضُهَا بِأَنْ تُقْبَلَ مَعَ عِدَّةِ الرِّدَّةِ بِقَتْلٍ أَوْ زِنًا ، كَذَلِكَ هَاهُنَا يَحْرُمُ الْمَدْخُولُ بِهَا لِاجْتِمَاعِ الْمَائِينَ ، وَلَا يُنْقَضُ هَذَا التَّعْلِيلُ لِتَحْرِيمِ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا لِعِلَّةٍ أُخْرَى ، وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ الْعِلَلَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيلُ عَامًّا لِجِنْسِ الْحُكْمِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ خَاصًّا لِأَعْيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ . فَإِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ لِجِنْسِ الْحُكْمِ ، كَتَعْلِيلِ الرِّبَا بِأَنَّهُ مَطْعُومٌ انْتُقِضَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ بِوُجُوبِ الْحُكْمِ وَلَا عِلَّةَ ، كَمَا تُنْقَضُ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ وَلَا حُكْمَ ، حَتَّى إِنْ وُجِدَ الرِّبَا فِيمَا لَيْسَ بِمَطْعُومٍ كَانَ نَقْضًا ، كَمَا لَوْ وُجِدَ مَطْعُومٌ لَيْسَ فِيهِ رِبًا كَانَ نَقْضًا ، وَإِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ لِأَعْيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ كَتَعْلِيلِ الْبُرِّ بِأَنَّ فِيهِ الرِّبَا لِأَنَّهُ مَطْعُومٌ انْتُقِضَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ بِوُجُودِهَا مَعَ عَدَمِ الْحُكْمِ حَتَّى إِنْ وُجِدَ مَطْعُومٌ لَا رِبًا فِيهِ كَانَ نَقْضًا ، وَلَمْ يُنْتَقَضْ بِوُجُودِ الْحُكْمِ ، وَلَا عِلَّةَ حَتَّى إِذَا ثَبَتَ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْوَرَقِ وَلَيْسَ بِمَطْعُومٍ لَمْ يَكُنْ نَقْضًا . وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ إِلْزَامِ النَّقْضِ فِي تَعْلِيلِهِمْ بِاجْتِمَاعِ الْمَائَيْنِ إِنَّمَا هُوَ تَعْلِيلٌ لِجِنْسِ الْحُكْمِ الْعَامِّ فَانْتُقِضَ بِوُجُودِ الْحُكْمِ وَلَا عِلَّةَ ، كَمَا يُنْتَقَضُ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ وَلَا حُكْمَ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ قَتَلَ الْمَوْلَى أَمَتَهُ أَوْ قَتَلَتْ نَفْسَهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ قَتَلَ الْمَوْلَى أَمَتَهُ أَوْ قَتَلَتْ نَفْسَهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الزَّوْجَةَ إِذَا هَلَكَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا حكم المهر فَلَهَا جَمِيعُ الْمَهْرِ : لِأَنَّهَا قَدِ اسْتَهْلَكَتْهُ بِالدُّخُولِ ، سَوَاءً مَاتَتْ أَوْ قُتِلَتْ ، وَسَوَاءً كَانَتْ حُرَّةً ، أَوْ أَمَةً ، فَأَمَّا إِذَا هَلَكَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ هَلَاكُهَا بِالْمَوْتِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ هَلَاكُهَا بِالْقَتْلِ . فَإِنْ كَانَ هَلَاكُهَا بِالْمَوْتِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ : أَنَّ لَهَا الْمَهْرَ سَوَاءً كَانَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً : لِأَنَّ غَايَةَ النِّكَاحِ مُدَّةُ الْحَيَاةِ ، فَإِذَا حَدَثَ الْمَوْتُ ، فَقَدِ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْعَقْدِ فَاسْتَحَقَّتْ بِهَا جَمِيعَ الْمَهْرِ . وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ : إِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَلَهَا جَمِيعُ الْمَهْرِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَلَا شَيْءَ لَهَا ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْحُرَّةَ فِي قَبْضِ الزَّوْجِ : لِأَنَّهَا مُخَيَّرَةٌ عَلَى الْمُقَامِ مَعَهُ ، فَإِذَا مَاتَتِ اسْتَحَقَّتْ جَمِيعَ الْمَهْرِ ، كَالسِّلْعَةِ إِذْا تَلِفَتْ بَعْدَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي لَهَا اسْتُحِقَّ عَلَيْهِ ثَمَنُهَا ، وَالْأَمَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي قَبْضِ السَّيِّدِ دُونَ الزَّوْجِ : لِأَنَّهَا لَا تُخَيَّرُ عَلَى الْمُقَامِ مَعَهُ إِلَّا بِاخْتِيَارِ السَّيِّدِ ، فَلَمْ تَسْتَحِقَّ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الدُّخُولِ مَهْرًا كَالسِّلْعَةِ إِذَا بَلَغَتْ فِي يَدِ بَائِعِهَا سَقَطَ عَنِ الْمُشْتَرِي ثَمَنُهَا .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ هَلَاكُهَا بِالْقَتْلِ دُونَ الْمَوْتِ الزوجة حكم مهرها ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ هِيَ الْقَاتِلَةَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَقْتُلَهَا غَيْرُهَا . فَإِنْ قَتْلَهَا غَيْرُهَا فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقْتُلَهَا الزَّوْجُ يقتل الزوجة قبل الدخول فما حكم مهرها ، فَعَلَيْهِ مَهْرُهَا حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً ، بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا : لِأَنَّ الْحُرَّةَ كَالْمَقْبُوضَةِ ، وَالْأَمَةَ وَإِنْ كَانَتْ فِي حُكْمِ غَيْرِ الْمَقْبُوضَةِ ، فَقَدِ اسْتَهْلَكَهَا مُسْتَحِقُّ قَبْضِهَا ، فَلَزِمَهُ مَهْرُهَا كَمَا يَلْزَمُ مُشْتَرِيَ السِّلْعَةِ إِذَا اسْتَهْلَكَهَا فِي يَدِ بَائِعِهَا جَمِيعُ ثَمَنِهَا ، وَيَصِيرُ الِاسْتِهْلَاكُ قَبْضًا كَذَلِكَ الْقَتْلُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَقْتُلَهَا أَجْنَبِيٌّ غَيْرَ الزَّوْجِ حكم مهرها ، فَحُكْمُ قَتْلِهِ لَهَا فِي حَقِّ الزَّوْجِيَّةِ حُكْمُ الْمَوْتِ ، فَيَكُونُ لَهَا الْمَهْرُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ يَكُونُ لَهَا الْمَهْرُ إِنْ كَانَتْ حُرَّةً ، وَلَا يَكُونُ لَهَا الْمَهْرُ إِنْ كَانَتْ أَمَةً . وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْقَاتِلَةَ لِنَفْسِهَا حكم مهرها الزوجة فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأَمَةِ : أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا إِذَا قَتَلَتْ نَفْسَهَا أَوْ قَتَلَهَا غَيْرُهَا . وَقَالَ فِي الْحُرَّةِ : إِنَّ لَهَا الْمَهْرَ إِنْ قَتَلَتْ نَفْسَهَا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ النَّصِّ فِيهِمَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ - : أَنَّ اخْتِلَافَ النَّصِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ يُوجِبُ حَمْلَهُمَا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا مَهْرَ لَهَا حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً : لِأَنَّ الْفَسْخَ جَائِزٌ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَأُسْقِطَ مَهْرُهَا كَالرِّدَّةِ وَالرَّضَاعِ .

وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ وَقَعَتْ بِالْمَوْتِ ، وَخَالَفَتِ الرَّضَاعَ وَالرِّدَّةَ : لِمَا فِيهِمَا مِنَ التُّهْمَةِ لِاخْتِيَارِ الْفُرْقَةِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقَتْلِ تُهْمَةٌ بِاخْتِيَارِ الْفُرْقَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ ، وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ - : أَنَّ الْجَوَابَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَتَكُونُ لَهَا الْمَهْرُ إِنْ كَانَتْ حُرَّةً ، وَلَا يَكُونُ لَهَا الْمَهْرُ إِنْ كَانَتْ أَمَةً ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ فَرْقِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّ الْحُرَّةَ فِي حُكْمِ الْمَقْبُوضَةِ : لِأَنَّ الزَّوْجَ يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا مَتَى شَاءَ ، فَصَارَ التَّسْلِيمُ مِنْ جِهَتِهَا مَوْجُودًا ، فَاسْتَحَقَّتِ الْمَهْرَ بِحُدُوثِ التَّلَفِ وَالْأَمَةُ بِخِلَافِهَا : لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا إِذَا شَاءَ حَتَّى يَرْضَى السَّيِّدُ ، فَصَارَ التَّسْلِيمُ مِنْ جِهَتِهَا غَيْرَ مَوْجُودٍ فَسَقَطَ الْمَهْرُ . وَالْفَرْقُ الثَّانِي : أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ نِكَاحِ الْحُرَّةِ الْأُلْفَةُ وَالْمُوَاصَلَةُ دُونَ الْوَطْءِ : لِجَوَازِ عَقْدِهِ عَلَى مَنْ لَا يُمَكِنُ وَطْئُهَا مِنْ صَغِيرَةٍ وَرَتْقَاءَ ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ قَبْلَ الدُّخُولِ فَثَبَتَ لَهَا الْمَهْرُ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْوَطْءُ دُونَ الْمُوَاصَلَةِ : لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إِلَّا مِنْ خَوْفِ الْعَنَتِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ حَاصِلٍ لَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَسَقَطَ الْمَهْرُ . وَالْفَرْقُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْحُرَّةَ قَدْ تَسْتَنْفِدُ مِيرَاثَهَا ، فَجَازَ أَنْ يَغْرَمَ مَهْرَهَا ، وَالْأَمَةُ لَمْ تَسْتَنْفِدْ مِيرَاثَهَا فَلَمْ يَغْرَمْ مَهْرَهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ إِنْ بَاعَهَا حَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا فَلَا مَهْرَ لَهُ حَتَّى يَدْفَعَهَا إِلَيْهِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَإِنْ بَاعَهَا حَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا ، فَلَا مَهْرَ لَهُ حَتَّى يَدْفَعَهَا إِلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا زَوَّجَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ ثُمَّ بَاعَهَا ، صَحَّ الْبَيْعُ وَلَمْ يَبْطُلِ النِّكَاحُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَائِشَةَ اشْتَرَتْ بَرِيْرَةَ ، وَهِيَ ذَاتُ زَوْجٍ ، فَأَثْبَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشِّرَاءَ ، وَلَمْ يُبْطِلِ النِّكَاحَ ، وَخَيَّرَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ . وَالثَّانِي : أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ تَنَاوَلَ الِاسْتِمْتَاعَ ، وَعَقْدَ الْبَيْعِ تَنَاوَلَ الرَّقَبَةَ ، فَتَنَاوَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَقْدَيْنِ غَيْرَ مَا تَنَاوَلَهُ الْآخَرُ ، فَصَحَّا مَعًا ، كَمَا لَوْ أَجَّرَهَا ثُمَّ بَاعَهَا ، فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيِسَ لَوْ أَجَّرَهَا ثُمَّ بَاعَهَا الأمة كَانَ بَيْعُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ ، فَهَلَّا كَانَ يَبِيعُهَا بَعْدَ تَزْوِيجِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ ، قُلْنَا : إِنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ حَائِلَةٌ : لِأَنَّ السَّيِّدَ يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهَا لَهُ ، فَجَازَ أَنْ يَبْطُلَ بَيْعُهَا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَيَدُ الزَّوْجِ غَيْرُ حَائِلَةٍ : لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهَا إِلَيْهِ ، فَصَحَّ بَيْعُهَا قَوْلًا وَاحِدًا .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْبَيْعِ وَصِحَّةُ النِّكَاحِ الامة ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بَعْدَ دُخُولِ الزَّوْجِ بِهَا فَقَدِ اسْتَحَقَّ الزَّوْجُ مَهْرَهَا ، سَوَاءً كَانَ مُسَمَّى فِي الْعَقْدِ أَوْ غَيْرَ مُسَمَّى : لِاسْتِقْرَارِهِ بِالدُّخُولِ الْمَوْجُودِ فِي مِلْكِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ قَبْلَ دُخُولِ الزَّوْجِ بِهَا ، فَالْمُشْتَرِي يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهَا إِلَى الزَّوْجِ كَمَا لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ الْبَائِعُ ، فَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْهَا الْمُشْتَرِي إِلَى الزَّوْجِ فَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ مُطَالَبَتُهُ ، وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ قَبَضَهُ مِنْهُ كَانَ لِلزَّوْجِ اسْتِرْجَاعُهُ ، فَإِنْ سَلَّمَهَا الْمُشْتَرِي إِلَى الزَّوْجِ حَتَّى دَخَلَ بِهَا اسْتَقَرَّ الْمَهْرُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ صَحِيحًا مُسَمًّى فِي الْعَقْدِ ، فَيَكُونُ مُسْتَحَقًّا لِلْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي : لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ بِالْعَقْدِ الْمَوْجُودِ فِي مِلْكِهِ ، فَصَارَ كَالْكَسْبِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْمَبِيعِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ فَاسِدًا مُسَمًّى فِي الْعَقْدِ ، فَيَحْكُمُ الْحَاكِمُ لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ ، وَيَكُونُ مُسْتَحَقًّا لِلْبَائِعِ أَيْضًا دُونَ الْمُشْتَرِي : لِأَنَّ فَسَادَهُ مَعَ التَّسْمِيَةِ فِي الْعَقْدِ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَهُ بِالْعَقْدِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ عِوَضُهُ لَمْ يُسَمَّ لَهَا فِي الْعَقْدِ مَهْرًا ، لَا صَحِيحَ وَلَا فَاسِدَ ، فَيَفْرِضُ الْحَاكِمُ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ ، وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ كَالْمُسَمَّى : لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَا يُعَرَّى عَنْ مَهْرٍ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي : لِاسْتِحْقَاقِهِ بِالْعَقْدِ الْمَوْجُودِ فِي مِلْكِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالدُّخُولِ دُونَ الْعَقْدِ : لِأَنَّهُ لَوِ اسْتُحِقَّ جَمِيعُهُ بِالْعَقْدِ بَعْدَ الدُّخُولِ لَاسْتُحِقَّ نِصْفُهُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَهُوَ لَا يُسْتَحَقُّ قَبْلَ الدُّخُولِ شَيْئًا مِنْهُ ، فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا بِالدُّخُولِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَهْرُ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ لِوُجُودِ الدُّخُولِ فِي مِلْكِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ مَوْجُودًا فِي مِلْكِ الْبَائِعِ . وَمِثْلُ هَذَا إِذَا أَعْتَقَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ الْمُزَوَّجَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَلَمْ يُسَمَّ لَهَا مَهْرًا ، وَدَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ بَعْدَ الْعِتْقِ ثُمَّ فَرَضَ لَهَا الْمَهْرَ فَيَكُونُ مُسْتَحِقُّهُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : السَّيِّدُ الْمُعْتِقُ إِذَا قَيلَ : إِنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ . وَالثَّانِي : الزَّوْجَةُ الْمُعْتَقَةُ إِذَا قِيلَ : إِنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالدُّخُولِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

إِنْ طَلَبَ أَنْ يُبَوِّئَهَا مَعَهُ بَيْتًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى السَّيِّدِ

قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَإِنْ طَلَبَ أَنْ يُبَوِّئَهَا مَعَهُ بَيْتًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى السَّيِّدِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِذَا قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْمَهْرِ فَنَذْكُرُ الْكَلَامَ فِي النَّفَقَةِ ، أَمَّا إِذَا كَانَ الزَّوْجُ غَيْرَ مُمَكَّنٍ مِنَ الدُّخُولِ بِهَا الأمة نفقتها ، فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ كَمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مَهْرٌ ، وَإِنْ كَانَ مُمَكَّنًا مِنَ الدُّخُولِ بِهَا الأمة نفقتها لَمْ يَجُزْ أَنْ يُمْنَعَ بَعْدَ التَّمْكِينِ مِنْ زَمَانِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا ، وَزَمَانُ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا أَقَلُّ

مِنْ زَمَانِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْحُرَّةِ : لِأَنَّ الْحُرَّةَ عَلَيْهَا تَمْكِينُ نَفْسِهَا مِنَ الزَّوْجِ لَيْلًا وَنَهَارًا ، وَالْأَمَةَ يَلْزَمُ تَمْكِينُهَا مِنَ الزَّوْجِ لَيْلًا وَلَا يَلْزَمُ تَمْكِينُهَا مِنْهُ نَهَارًا . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْأَمَةَ قَدِ اسْتَحَقَّ السَّيِّدُ اسْتِخْدَامَهَا وَالزَّوْجُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا ، وَلِذَلِكَ جَازَ لِلسَّيِّدِ بَعْدَ تَزْوِيجِهَا أَنْ يُؤَجِّرَهَا ، وَلَيْسَتِ الْحُرَّةُ مُسْتَحِقَّةً لِخِدْمَةِ نَفْسِهَا ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تُؤَجِّرَ نَفْسَهَا ، وَإِذَا اجْتَمَعَ فِي مَنْفَعَةِ الْأَمَةِ حَقَّانِ حَقُّ الِاسْتِخْدَامِ لِلسَّيِّدِ وَحَقُّ الِاسْتِمْتَاعِ لِلزَّوْجِ وَجَبَ أَنْ يُرَاعَى زَمَانُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَيَسْتَوْفِيهِ مُسْتَحِقُّهُ ، فَوَجَدْنَا اللَّيْلَ بِالِاسْتِمْتَاعِ أَحَقَّ مِنَ النَّهَارِ ، فَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِاسْتِمْتَاعِ الزَّوْجِ وَوَجَدْنَا النَّهَارَ بِالِاسْتِخْدَامِ أَخَصَّ مِنَ اللَّيْلِ ، فَجَعَلَنَا النَّهَارَ لِاسْتِخْدَامِ السَّيِّدِ ، وَلَوْ كَانَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الِاسْتِخْدَامِ بِالنَّهَارِ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ مِنْهَا ، وَهِيَ عِنْدُ الزَّوْجِ كَالْغَزْلِ وَالنِّسَاجَةِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُمَا مِنْ صَنَائِعِ الْمَنَازِلِ ، فَهَلْ يُجْبَرُ السَّيِّدُ إِذَا وَصَلَ إِلَى حَقِّهِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ وَالِاسْتِخْدَامِ أَنْ يُسْكِنَهَا مَعَ الزَّوْجِ نَهَارًا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ - : يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَيُجْبَرُ عَلَيْهِ لِوُصُولِهِ إِلَى حَقِّهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَاييِنِيِّ - : إِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ : لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ هَذَا الِاسْتِخْدَامِ إِلَى غَيْرِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مَعَ الزَّوْجِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُمَكِّنَهُ السَّيِّدُ مِنْهَا لَيْلًا وَنَهَارًا ، فَعَلَى الزَّوْجِ نَفَقَتُهَا كَامِلَةً لِكَمَالِ الِاسْتِمْتَاعِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهَا لَيْلًا وَنَهَارًا ، فَلَيْسَ عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَتُهَا وَلَا شَيْءٌ مِنْهَا لِفَوَاتِ اسْتِمْتَاعِهِ بِهَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْهَا لَيْلًا فِي زَمَانِ الِاسْتِمْتَاعِ ، وَيَمْنَعَهُ مِنْهَا نَهَارًا فِي زَمَانِ الِاسْتِخْدَامِ ، فَفِي نَفَقَتِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - : أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ وَيَلْتَزِمُهَا السَّيِّدُ : لِأَنَّ الزَّمَانَ الَّذِي تُسْتَحَقُّ بِهِ النَّفَقَةُ ، وَهُوَ النَّهَارُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ السَّيِّدُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - : أَنَّ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا بِقِسْطِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فِي اللَّيْلِ وَعَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا بِقِسْطِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الِاسْتِخْدَامِ لَهَا فِي النَّهَارِ : لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّمَانَيْنِ حَظًّا مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى النَّفَقَةِ ، فَلَمْ يَلْزَمِ السَّيِّدَ قِسْطُ اللَّيْلِ كَمَا لَمْ يَلْزَمِ الزَّوْجَ قِسْطُ النَّهَارِ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ وَطِئَ رَجُلٌ جَارِيَةَ ابْنِهِ فَأَوْلَدَهَا كَانَ عَلَيْهِ مَهْرُهَا وَقِيمَتُهَا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ وَطِئَ رَجُلٌ جَارِيَةَ ابْنِهِ ، فَأَوْلَدَهَا كَانَ عَلَيْهِ مَهْرُهَا وَقِيمَتُهَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : قِيَاسُ قَوْلِهِ أَنْ لَا تَكُونَ مِلْكًا لِأَبِيهِ وَلَا أُمَّ وَلَدٍ بِذَلِكَ ، وَقَدْ أَجَازَ أَنْ يُزَوِّجَهُ أَمَتَهُ فَيُولِدَهَا ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بِأَنْ يُولِدَهَا مِنْ خِلَالِ أُمِّ وَلَدٍ بِقِيمَةٍ فَكَيْفَ بِوَطْءٍ حَرَامٍ ؟ وَلَيْسَ بِشَرِيكٍ فِيهَا فَيَكُونَ فِي مَعْنَى مَنْ أَعْتَقَ شَرِكًا لَهُ فِي أَمَةٍ وَهُوَ لَا يَجْعَلُهَا أُمَّ وَلَدٍ لِلشَّرِيكِ إِذَا أَحْبَلَهَا وَهُوَ

مُعْسِرٌ وَهَذَا مِنْ ذَلِكَ أَبْعَدُ ( قَالَ ) وَإِنْ لَمْ يُحَبِّلْهَا فَعَلَيْهِ عُقْرُهَا ، وَحَرُمْتَ عَلَى الِابْنِ ، وَلَا قِيمَةَ لَهُ بِأَنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ ، وَقَدْ تُرْضِعُ امْرَأَةُ الرَّجُلِ بِلَبَنِهِ جَارِيَتَهُ الصَّغِيرَةَ ، فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ وَلَا قِيمَةَ لَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ فَقَدْ أَثِمَ بِوَطْئِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [ الْمُؤْمِنُونَ : 5 ، 6 ] . وَلَا مِلْكَ يَمِينٍ ، فَلَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْئُهَا ، فَإِنْ قِيلَ : فَلَوْ كَانَ هَذَا الْأَبُ مَنْ يَسْتَحِقُّ عَلَى ابْنِهِ أَنْ يُعِفَّهُ ، فَكَانَ لَهُ بِاسْتِحْقَاقِ الْإِعْفَافِ أَنْ يَطَأَ جَارِيَتَهُ إِذَا مَنَعَهُ مِنَ الْإِعْفَافِ ، كَمَا إِذَا مُنِعَ مِنْ حَقِّ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى اسْتِعْفَافِهِ . قِيلَ : لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ مُنِعَ مِنَ الْإِعْفَافِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ يَتَعَيَّنُ حَقُّ إِعْفَافِهِ فِي هَذِهِ الْأَمَةِ ، وَإِنَّ لِلِابْنِ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى إِعْفَافِهِ بِغَيْرِهَا مِنَ الْإِمَاءِ أَوِ النِّسَاءِ ، فَلِذَلِكَ صَارَتْ مَعَ اسْتِحْقَاقِهِ مُحَرَّمَةً ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ وَطْءُ الْأَبِ لَهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُحَبِّلَهَا ، أَوْ لَا يُحَبِّلَهَا ، فَالْكَلَامُ فِي وَطْئِهَا يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : فِي وُجُوبِ الْحَدِّ . وَالثَّانِي : فِي وُجُوبِ الْمَهْرِ . وَالثَّالِثُ : فِي ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ . وَالرَّابِعُ : فِي وُجُوبِ الْقِيمَةِ .

الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِوَطْءِ جَارِيَةِ ابْنِهِ

[ الْقَوْلُ فِي /1 L10370 L10426 L26265 L24136 وُجُوبِ الْحَدِّ بِوَطْءِ جَارِيَةِ ابْنِهِ /1 ] فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : فِي وُجُوبِ الْحَدِّ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْأَمَةِ الْمَوْطُوءَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الِابْنُ قَدْ وَطِئَهَا قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَطَأْهَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الِابْنُ قَدْ وَطِئَهَا ، فَلَا حَدَّ عَلَى الْأَبِ فَيَ وَطْئِهَا . وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَحُكِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ ، وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِ : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ لَمَّا حُدَّ الِابْنُ بِوَطْئِهِ جَارِيَةَ الْأَبِ مَعَ وُجُودِ الشُّبْهَةِ فِي مَالِهِ الَّذِي يَسْقُطُ بِهَا عَنْهُ قَطَعُ السَّرِقَةِ ، وَجَبَ أَنْ يُحَدَّ الْأَبُ بِوَطْئِهِ جَارِيَةَ الِابْنِ ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ شُبْهَةٌ فِي مَالِهِ يَسْقُطُ بِهَا عَنْهُ قَطْعُ السَّرِقَةِ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَوْلَادُكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ فَكُلُوا مَنْ طَيَّبِ كَسْبِكِمْ فَلَمَّا تَمَيَّزَ الْأَبُ فِي مَالِ الِابْنِ بِهَذَا الْحُكْمِ قَوِيَتْ شُبْهَتُهُ فِيهِ عَنْ شُبْهَةِ الِابْنِ فِي مَالِ الْأَبِ ، فَوَجَبَ لِقُوَّةِ شُبْهَتِهِ عَلَى شُبْهَةِ الِابْنِ أَنْ يُدْرَأَ بِهَا عَنْهُ الْحَدُّ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبَهَاتِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا مَنَعَ الِابْنُ مِنْ نَفْسِ أَبِيهِ قَوَدًا ، مَنَعَ مِنْهُ حَدًّا : لِأَنَّ الْأَبَ لَوْ قَتَلَ ابْنَهُ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ ، وَلَوْ قَذَفَهُ لَمْ يُحَدَّ بِهِ ، وَيُقْتَلُ الِابْنُ بِأَبِيهِ وَيُحَدُّ بِقَذْفِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ الْحَدُّ عَنِ الْأَبِ بِوَطْئِهِ جَارِيَةَ الِابْنِ ، وَأَنْ لَا يَسْقُطَ الْحَدُّ عَنِ الِابْنِ بِوَطْئِهِ جَارِيَةَ الْأَبِ : لِأَنَّ الْحَدَّ إِنْ أُلْحِقَ بَحَدِّ الْقَذْفِ لَمْ يَجِبْ ، وَإِنْ أُلْحِقَ بِالْقَوْدِ فِي النَّفْسِ لَمْ يَجِبْ ، وَهَذَا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ ، وَلِأَنَّ عَلَى الِابْنِ إِعْفَافَ أَبِيهِ لَوِ احْتَاجَ ، وَلَيْسَ عَلَى الْأَبِ إِعْفَافُ ابْنِهِ إِذَا احْتَاجَ ، فَلَمَّا كَانَ الْوَطْءُ جِنْسًا يَجِبُ عَلَى الِابْنِ تَمْكِينُ أَبِيهِ مِنْهُ ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْأَبِ تَمْكِينُ ابْنِهِ مِنْهُ وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ

الْحَدُّ عَنِ الْأَبِ : لِأَنَّهُ لَهُ حَقٌّ مِنْ جِنْسِهِ ، وَلَا يَسْقُطُ عَنِ الِابْنِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقٌّ مِنْ جِنْسِهِ ، وَهَذَا أَيْضًا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ . فَأَمَّا السَّرِقَةُ ، فَإِنَّمَا سَقَطَ الْقَطْعُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَالِ الْآخَرِ : لِتَسَاوِيهِمَا فِي شُبْهَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَالِ الْآخَرِ : لِأَنَّ نَفَقَةَ الِابْنِ قَدْ تَجِبُ فِي مَالِ الْأَبِ كَمَا تَجِبُ نَفَقَةُ الْأَبِ فِي مَالِ الِابْنِ فَاسْتَوَيَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَدُّ الْوَطْءِ لِاخْتِصَاصِ الْأَبِ فِيهِ بِالشُّبْهَةِ دُونَ الِابْنِ ، كَمَا يَسْتَحِقُّهُ الْأَبُ عَلَى الِابْنِ مِنَ الْإِعْفَافِ وَلَا يَسْتَحِقُّهُ الِابْنُ عَلَى الْأَبِ ، فَافْتَرَقَا ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ، فَفِي تَعْزِيرِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُعَزَّرُ : لِيَرْتَدِعَ هُوَ وَغَيْرُهُ عَنْ مِثْلِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُعَزَّرُ : لِأَنَّ التَّعْزِيرَ بَدَلٌ مِنَ الْحَدِّ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ حَدٌّ ، فَكَذَلِكَ لَيْسَ عَلَيْهِ تَعْزِيرٌ ، فَهَذَا حُكْمُ وَطْءِ الْأَبِ لَهَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الِابْنُ قَدْ وَطِئَهَا . فَأَمَّا إِذَا كَانَ الِابْنُ قَدْ وَطِئَهَا ، ثُمَّ وَطِئَهَا الْأَبُ بَعْدَهُ ، فَفِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ الْحَدُّ ، إِذَا عَلِمَ بِالتَّحْرِيمِ أَنَّهَا مِمَّنْ لَا تَحِلُّ لَهُ أَبَدًا بِخِلَافِ الَّتِي لَمْ يَطَأْهَا الِابْنُ ، فَصَارَتْ مِنْ حَلَائِلِ أَبْنَائِهِ فَلَزِمَهُ الْحَدُّ كَمَا يَلْزَمُهُ فِي وَطْءِ زَوْجَةِ ابْنِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا حَدَّ عَلَيْهِ : لِأَنَّهَا وَإِنْ وَطِئَهَا ، فَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ أَمْوَالِهِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا شُبْهَةُ أَبِيهِ . وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ تَخْرِيجُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ وَطَأَ أُخْتَهُ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ .

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي /1 L11180 L24136 وُجُوبِ الْمَهْرِ عَلَى مَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ /1 ] أَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي : فِي وُجُوبِ الْمَهْرِ ، فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِوُجُودِ الْحَدِّ وَسُقُوطِهِ ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ، فَعَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ : لِكَوْنِهِ وَطْءُ شُبْهَةٍ فِي حَقِّهِ يُوجِبُ دَرْءَ الْحَدِّ ، فَاقْتَضَى لُزُومَ الْمَهْرِ : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا وَيَكُونُ الْمَهْرُ حَقًّا لِابْنِهِ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ مِنَ اكْتِسَابِ أَمَتِهِ ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنِ الْحَدَّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ، فَقَدْ سَقَطَتْ شُبْهَتُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، فَيُنْظَرُ فِي شُبْهَةِ الْأَمَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً قَهْرَهَا الْأَبُ عَلَى نَفْسِهَا ثَبْتَ شُبْهَتُهَا فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهَا ، فَوَجَبَ الْمَهْرُ فِي وَطْئِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا شُبْهَةٌ فِي حَقِّ نَفْسِهَا ، وَكَانَتْ مُطَاوِعَةً ، فَلَوْ كَانَتْ حُرَّةً لَمَا وَجَبَ الْمَهْرُ ، وَإِذْ هِيَ أَمَةٌ ، فَفِي وُجُوبِ الْمَهْرِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا مَهْرَ لَهَا : لِأَنَّهَا بِالْمُطَاوَعَةِ قَدْ صَارَتْ بَغِيًّا وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ . وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَهَا الْمَهْرُ وَيَمْلِكُهُ الِابْنُ : لِأَنَّهُ مِنْ أَكْسَابِهِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِمُطَاوَعَتِهَا ، وَخَالَفَتِ الْحُرَّةُ الَّتِي تَمْلِكُ مَا أَبَاحَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا وَلَا تَمْلِكُهُ الْأَمَةُ ، أَلَّا تَرَى أَنَّ الْحُرَّةَ لَوْ بَذَلَتْ

قُطِعَ طَرَفٌ مِنْ أَطْرَافِهَا لَمْ يَضْمَنْهُ الْقَاطِعُ : لِأَنَّ الْبَاذِلَ لَهُ مَالِكٌ ، وَلَوْ بَذَلَتْهُ الْأَمَةُ ضِمْنَهُ الْقَاطِعُ : لِأَنَّ الْبَاذِلَ لَهُ غَيْرُ مَالِكٍ ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ سُرَيْجٍ .

فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي تَحْرِيمِ الْجَارِيَةِ بَعْدَ وَطْءِ أَبِيهِ

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي /1 L10981 تَحْرِيمِ الْجَارِيَةِ بَعْدَ وَطْءِ أَبِيهِ /1 ] وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ : وَهُوَ ثُبُوتُ التَّحْرِيمِ ، فَالتَّحْرِيمُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَحْرِيمُهَا عَلَى الِابْنِ . وَالثَّانِي : تَحْرِيمُهَا عَلَى الْأَبِ . فَأَمَّا تَحْرِيمُهَا عَلَى الِابْنِ فَمُعْتَبَرٌ بِوَطْءِ الْأَبِ ، فَإِنْ كَانَ مُوجِبًا لِلْحَدِّ لَمْ يَحْرُمْ بِهِ عَلَى الِابْنِ : لِأَنَّ الزِّنَا لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ حَرُمَتْ بِهِ عَلَى الِابْنِ : لِأَنَّ الشُّبْهَةَ قَدْ صَرَفَتْهُ إِلَى حُكْمِ الْوَطْءِ الْحَلَّالِ ، وَأَمَّا تَحْرِيمُهَا عَلَى الْأَبِ فَإِنَّ حُكْمَهَا مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الِابْنِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَطِئَهَا حَرُمَتْ عَلَى الْأَبِ كَزَوْجَةِ الِابْنِ إِذَا وَطِئَهَا الْأَبُ بِشُبْهَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِمَا مَعًا ، وَإِنْ كَانَ بِحَالِ الِابْنِ فَإِنْ وَطِئَهَا حَلَّتْ لِلْأَبِ أَنْ يَطَأَهَا بِحَقِّ مِلْكِهِ ، فَلَوْ كَانَ الِابْنُ قَدْ قَبَّلَهَا أَوْ وَطِئَهَا دُونَ الْفَرْجِ ، فَفِي تَحْرِيمِهَا عَلَى الْأَبِ قَوْلَانِ .

فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي /1 L24136 وُجُوبِ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ /1 ] وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ : وَهُوَ وُجُوبُ قِيمَتِهَا عَلَى الْأَبِ ، فَلَا يَجِبُ سَوَاءً حَرَّمَهَا عَلَى الِابْنِ أَوْ لَمْ يُحَرِّمْهَا . وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ : إِنْ حَرَّمَهَا عَلَى الِابْنِ وَجَبَتْ قِيمَتُهَا عَلَيْهِ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَهْلَكَةٍ عَلَيْهِ بِالتَّحْرِيمِ : لِأَنَّهُ قَدْ يَصِلُ إِلَى ثَمَنِهَا بِالْبَيْعِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ بِالتَّحْرِيمِ غُرْمٌ ، كَمَا لَوْ أَرْضَعَتْ زَوْجَةُ الرَّجُلِ أَمَتَهُ بِلَبَنِهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَلْزَمْهَا غُرْمُ قِيمَتِهَا لِوُصُوِلِهِ إِلَى ثَمَنِهَا ، لَكِنْ لَوْ كَانَتْ بِكْرًا فَافْتَضَّهَا الْأَبُ لَزِمَهُ أَرْشُ بَكَارَتِهَا : لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَهْلَكَ عُضْوًا مِنْ بَدَنِهَا ، فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ وَطْئِهِ إِذَا لَمْ تَحْبَلْ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَحْبَلَهَا الْأَبُ بِوَطْئِهِ ، فَالْأَحْكَامُ الْأَرْبَعَةُ لَازِمَةٌ لَهُ ، وَيَخْتَصُّ بِإِحْبَالِهِ لَهَا أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : لُحُوقُ الْوَلَدِ بِهِ . وَالثَّانِي : كَوْنُهَا أُمَّ وَلَدٍ . وَالثَّالِثُ : وُجُوبُ قِيمَتِهَا . وَالرَّابِعُ : وُجُوبُ قِيمَةِ الْوَلَدِ . فَأَمَّا لُحُوقُ الْوَلَدِ بِهِ : فَإِنْ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهِ ، لَمْ يَلْحَقْ بِهِ الْوَلَدُ : لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ لِارْتِفَاعِ الشُّبْهَةِ ، وَلُحُوقُ الْوَلَدِ يَكُونُ مَعَ وُجُودِ الشُّبْهَةِ ، فَتَنَافَيَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَوَجَبَ الْحَدُّ فَصَارَ زَانِيًا ، وَوَلَدُ الزِّنَا لَا يَلْحَقُ الزَّانِي : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ وَيَكُونُ الْوَلَدُ مَرْفُوقًا لِلِابْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ عَلَى الْأَبِ لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ : لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِي إِدْرَاءِ الْحَدِّ

مُوجِبَةٌ لِلُحُوقِ الْوَلَدِ ، وَإِذَا لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ صَارَ حُرًّا : لِأَنَّهُ مِنْ شُبْهَةِ مِلْكٍ ، فَكَانَ حُكْمُهُ كَحُكْمِ الْوَلَدِ مِنْ مِلْكٍ كَمَا أَنَّ الْوَلَدَ مِنْ شُبْهَةِ نِكَاحٍ فِي نِكَاحِ الْوَالِدَيْنِ نِكَاحٌ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا كَوْنُهَا أُمَّ وَلَدٍ فَمُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْوَلَدِ ، فَإِنْ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ لَمْ تَصِرْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ ، وَإِنْ لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ ، فَهَلْ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ أَمْ لَا أمة ألإبن إذا أحبلها الأب بوطئها ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ - : أَنَّهَا تُعْتَبَرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ ، وَبِهِ قَالَ الرَّبِيعُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي - وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ - : أَنَّهَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ . وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ . فَإِذَا قِيلَ بِالْأَوَّلِ إِنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ - وَهُوَ اخْتِيَارُ الرَّبِيعِ ، وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا - فَوَجْهُهُ هُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَحِقَ بِهِ وَلَدُهَا بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ كَلُحُوقِهِ بِهِ فِي الْمَالِكِ وَجَبَ أَنْ تَصِيرَ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ ، كَمَا تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ بِالْمِلْكِ . وَإِذَا قِيلَ بِالثَّانِي : إِنَّهَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ - وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ - فَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَوْلَدَهَا فِي غَيْرِ مِلْكٍ ، فَلَمْ تَصِرْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ ، وَإِنْ عَتَقَ الْوَلَدُ كَالْغَارَّةِ الَّتِي يَتَزَوَّجُهَا بِشَرْطِ الْحُرِّيَّةِ ، فَتَكُونُ أَمَةً ، فَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْهَا حُرٌّ وَلَا تَصِيرُ لَهُ أَمَّ وَلَدٍ . فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِصِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنْ قَالَ : قَدْ أَجَازَ الشَّافِعِيُّ لِلِابْنِ أَنَّ يُزَوِّجَ أَبَاهُ بِأَمَتِهِ ، وَلَوْ أَوْلَدَهَا هَذَا الْوَطْءُ الْحَلَّالُ لَمْ تَصِرْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ ، فَكَيْفَ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ بِوَطْءٍ حَرَامٍ ؟ وَالثَّانِي : أَنْ قَالَ : لَيْسَ الْأَبُ شَرِيكًا فِيهَا فَيَكُونُ كَوَطْءِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ إِذَا كَانَ مُوسِرًا ، فَتَصِيرُ بِهِ إِذَا أَوْلَدَهَا أُمَّ وَلَدٍ : لِأَنَّ الشَّرِيكَ مَالِكٌ ، وَلَيْسَ لِلْأَبِ مِلْكٌ . وَالثَّالِثُ : أَنْ قَالَ : لَمَّا لَمْ تَصِرْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ لِلشَّرِيكِ إِذَا كَانَ مُعْسِرًا وَلَهُ مِلْكُ فُلَانٍ لَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ لِلْأَبِ ، وَلَيْسَ لَهُ مِلْكٌ أَوْلَى ، فَانْفَصَلَ أَصْحَابُنَا عَنِ اسْتِدْلَالِ الْمُزَنِيِّ ، تَرْجِيحًا لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ . فَإِنْ قَالُوا : أَمَّا اسْتِدْلَالُهُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ لِلِابْنِ أَنْ يُزَوِّجَ أَبَاهُ بِأَمَتِهِ ، وَلَا تَصِيرُ بِالْإِحْبَالِ أُمَّ وَلَدٍ فَمَدْفُوعٌ عَنْهُ ، وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ دَفْعِهِ عَنْهُ ، فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَنْسِبَانِ الْمُزَنِيَّ إِلَى السَّهْوِ وَالْغَفْلِ فِي نَقْلِهِ ، وَإِنَّهُ غَلِطَ فِي تَزْوِيجِهِ لِجَارِيَةِ أَبِيهِ إِلَى تَزْوِيجِهِ لِجَارِيَةِ ابْنِهِ ، وَمَنَعُوا أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأَبُ بِجَارِيَةِ الِابْنِ ، وَإِنْ حَلَّ لِلِابْنِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِجَارِيَةِ الْأَبِ ، وَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ قَالَ ذَلِكَ نَصًّا فِي " الدَّعْوَى وَالنِّيَّاتِ " لِأَنَّ عَلَى الِابْنِ أَنْ يَعِفَّ أَبَاهُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَوِّجَهُ بِأَمَتِهِ ، وَلَيْسَ عَلَى الْأَبِ أَنْ يَعِفَّ ابْنَهُ فَجَازَ أَنْ يُزَوِّجَهُ بِأَمَتِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ وُجُوبُ إِعْفَافِهِ عَلَى الِابْنِ يَمْنَعُهُ مِنَ التَّزْوِيجِ بِأَمَةِ الِابْنِ : لِأَنَّ الْحُرَّ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ الْأَمَةَ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ : عَدَمِ الطَّوْلِ ، وَخَوْفِ الْعَنَتِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ مُوسِرًا لَمْ يَعْدَمِ الطَّوْلَ ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا صَارَ بِوُجُوبِ إِعْفَافِهِ عَلَى الِابْنِ وَاجِدًا لِلطَّوْلِ ، فَعَلَى هَذَا اسْتِدْلَالُهُ مَدْفُوعٌ بِغَلَطِهِ ، وَقَالَ

آخَرُونَ : بَلْ نَقْلُ الْمُزَنِيِّ صَحِيحٌ فِي تَزْوِيجِ الْأَبِ بِجَارِيَةِ ابْنِهِ ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ هَذَا النَّقْلِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَامٌّ فِي جَوَازِ تَزْوِيجِهِ بِهَا ، وَأَنَّهُ قَوْلٌ ثَانٍ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الِابْنَ إِعْفَافُ أَبِيهِ كَمَا لَا يَلْزَمُ الْأَبَ إِعْفَافُ ابْنِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ جَوَّزَ تَزْوِيجَهُ بِهَا فِي مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ لَا عَلَى الْعُمُومِ ، وَإِنْ كَانَ إِعْفَافُهُ عَلَى الِابْنِ وَاجِبًا ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِ الْخُصُوصِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ تَزْوِيجُهُ بِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَبَاهُ كَانَ مَمْلُوكًا فَزَوَّجَهُ بِأَمَتِهِ : لِأَنَّ إِعْفَافَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ، وَلَوْ كَانَ حُرًّا لَمْ يَجُزْ . وَالثَّانِي : أَنَّ الِابْنَ كَانَ مُعْسِرًا لَا يَمْلِكُ غَيْرَ الْأَمَةِ وَهُوَ إِلَيْهَا مُحْتَاجٌ فَزَوَّجَهُ بِأَمَتِهِ : لِأَنَّهُ مُعْسِرٌ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِعْفَافُ أَبِيهِ ، وَلَوْ كَانَ مُوسِرًا لَمْ يَجُزْ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا كَانَ لَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْمَخْصُوصِ أَوْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوَجْهِ الْعَامِّ فَتَزْوِيجُ أَبِيهِ بِأَمَتِهِ لَمْ تَصِرْ بِإِحْبَالِ الْأَبِ أُمَّ وَلَدٍ ، فَإِنْ صَارَتْ بِإِحْبَالِهِ لَهَا فِي غَيْرِ نِكَاحٍ أُمَّ وَلَدٍ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ إِذَا وَطِئَهَا بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ نِكَاحٍ أمة الإبن كَانَ الْوَلَدُ حُرًّا ، فَانْتَشَرَتْ حُرْمَتُهُ ، وَتَعَدَّتْ إِلَى أُمِّهِ ، فَصَارَتْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ ، وَإِذَا وَطِئَهَا فِي نِكَاحٍ كَانَ الْوَلَدُ مَمْلُوكًا لَيْسَ لَهُ حُرْمَةُ حُرِّيَّةٍ تَقْعُدُ إِلَى الْأُمِّ ، فَلَمْ تَصِرْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ الثَّانِي : فِي أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ ، فَخَالَفَ الشَّرِيكُ الْمَالِكَ فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِهِ : لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَتْ حِصَّةُ غَيْرِ الْوَاطِئِ أُمَّ وَلَدٍ لِلْوَاطِئِ ، وَلَيْسَتْ مِلْكًا لَهُ وَلَا لَهُ فِيهَا شُبْهَةُ مِلْكٍ ، فَلَأَنْ تَصِيرُ جَارِيَةُ الِابْنِ أُمَّ وَلَدٍ لِلْأَبِ : لِأَنَّ لَهُ فِيهَا شُبْهَةَ مِلْكٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا مِلْكٌ أَوْلَى . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ الثَّالِثُ : بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَصِرْ حِصَّةُ الشَّرِيكِ بِاعْتِبَارِ الْوَاطِئِ أُمَّ وَلَدٍ لِلشَّرِيكِ الْوَاطِئِ وَلَهُ مِلْكٌ ، فَلَأَنْ لَا تَصِيرَ لِلْأَبِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ مِلْكٌ أَوْلَى ، فَهُوَ خَطَأٌ : لِأَنَّ إِعْسَارَ الْأَبِ مُخَالِفٌ لِإِعْسَارِ الشَّرِيكِ : لِأَنَّ الْأَبَ تَقْوَى شُبْهَتُهُ بِإِعْسَارِهِ لِوُجُوبِ إِعْفَافِهِ وَالشَّرِيكُ تَضْعُفُ شُبْهَتُهُ بِإِعْسَارِهِ فِي أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى عِتْقُهُ إِلَى حِصَّةِ الشَّرِيكِ ، ثُمَّ يَسَارُ الْأَبِ مُخَالِفٌ لِيَسَارِ الشَّرِيكِ : لِأَنَّ الْأَبَ لَا يَخْلُ عَفَافُهُ لِيَسَارِهِ ، وَالشَّرِيكُ يَتَعَدَّى عِتْقُهُ إِلَى حِصَّةِ شَرِيكِهِ لِيَسَارِهِ ، فَصَارَ إِعْسَارُ الْأَبِ مُسَاوِيًا لِيَسَارِ الشَّرِيكِ لَا لِإِعْسَارِهِ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ يَسَارَهُ مُوجَبٌ لِكَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ فَكَذَلِكَ الْأَبُ .

فَصْلٌ وُجُوبُ قِيمَتِهَا عَلَى الْأَبِ عَلَى ضَرْبَيْنِ

فَصْلٌ : فَأَمَّا وُجُوبُ قِيمَتِهَا عَلَى الْأَبِ أمة الإبن إذا أحبلها الأب ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنْ يَلْحَقَ بِهِ وَلَدُهَا . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَلْحَقَ بِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ وَلَدُهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَمُوتَ بِالْوِلَادَةِ ، أَوْ لَا تَمُوتَ ، فَإِنْ لَمْ تَمُتْ بِالْوِلَادَةِ ، فَلَيْسَ عَلَيْهَا قِيمَتُهَا : لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى رِقِّ الِابْنِ ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى بَيْعِهَا وَأَخْذِ ثَمَنِهَا وَإِنْ مَاتَتْ بِالْوِلَادَةِ ، فَفِي وُجُوبِ قِيمَتِهَا عَلَيْهِ لِأَجْلِ اسْتِهْلَاكِهِ لَهَا لَا أَجْلِ كَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ قَوْلَانِ ، ذَكَرْنَاهُمَا فِي كِتَابِ " الْغَصْبِ " : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ غُرْمُ قِيمَتِهَا ، لِتَلَفِهَا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَلْزَمُهُ غُرْمُ قِيمَتِهَا : لِأَنَّ نُشُوءَ الْوَلَدِ الَّذِي حَدَثَ بِهِ مَوْتُهَا لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ وَلِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهَا بِغَيْرِهِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ قَبِلَ الْأَوَّلَ أَنَّهُ غَارِمٌ لِلْقِيمَةِ لَزِمَتْهُ قِيمَتُهَا أَكْثَرَ مَا كَانَتْ مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ الْمُحْبِلِ ، وَإِلَى وَقْتِ التَّلَفِ ، وَإِنْ نَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ وَلَمْ تَمُتْ ضِمْنَ نَقْصَ قِيمَتِهَا كَالْمَغْصُوبَةِ . وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي : لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُ قِيمَتِهَا وَلَا ضَمَانُ نَقْصِهَا ، فَهَذَا حُكْمُ ضَمَانِهَا إِذَا لَمْ يَلْحَقْ بِهِ وَلَدُهَا . فَأَمَّا إِذَا لَحِقَ بِهِ وَلَدُهَا ، فَإِنْ جَعَلْنَاهَا لَهُ أُمَّ وَلَدٍ ضَمِنَ قِيمَتَهَا يَوْمَ الْعُلُوقِ : لِأَنَّهَا بِهِ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ ، وَسَوَاءً مَاتَتْ بِالْوِلَادَةِ أَوْ لَمْ تَمُتْ ، وَسَوَاءً كَانَ الْأَبُ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا ، وَلَا وَجْهَ لِمَا فَرَّقَ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بَيْنَ يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ ، كَوَطْءِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ : لِأَنَّنَا جَعَلْنَاهَا أُمَّ وَلَدٍ لِلْأَبِ لِحُرْمَةِ الْوَلَدِ بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ ، فَاسْتَوَتِ الْحَالُ فِي يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ ، وَلَوْ جَعَلْنَاهَا فِي اعْتِبَارِ الْوَاطِئِ أُمَّ وَلَدٍ ، لَأَدْخَلْنَا عَلَى الشَّرِيكِ الضَّرَرَ ، وَلَمْ تَرْفَعْهُ عَنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهَا لِلْأَبِ أُمَّ وَلَدٍ ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَمُوتَ بِالْوِلَادَةِ فَيَلْزَمُهُ غُرْمُ قِيمَتِهَا قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ الَّتِي لَمْ يَلْحَقْ بِهِ وَلَدُهَا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ : لِأَنَّ وَلَدَ هَذِهِ لَاحِقٌ بِهِ ، فَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهَا مُتَّصِلًا بِهِ وَوَلَدُ تِلْكَ غَيْرُ لَاحِقٍ بِهِ ، فَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهَا مُنْفَصِلًا عَنْهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا تَمُوتَ ، فَلَا يَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا مُدَّةً لَا فِي حَالِ الْحَمْلِ وَلَا بَعْدَ الْوَضْعِ . وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَاييِنِيُّ : يُؤْخَذُ بِقِيمَتِهَا مُدَّةَ الْحَمْلِ إِلَى أَنْ تَضَعَ ، فَإِذَا وَضَعَتِ اسْتَرْجَعَ الْقِيمَةَ : لِأَنَّ الِابْنَ مَمْنُوعٌ مِنْ بَيْعِهَا بِإِحْبَالِ الْأَبِ لَهَا ، لِكَوْنِ وَلَدِهَا حُرًّا ، فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهَا مَعَ الْوَلَدِ لِحُرِّيَّتِهِ ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ وَلَدِهَا فِي الْبَيْعِ : لِأَنَّ بَيْعَ الْحَامِلِ دُونَ وَلَدِهَا لَا يَصِحُّ ، فَصَارَتْ مَمْنُوعَةً مِنْ تَصَرُّفِ الْمَالِكِ ، فَجَرَى عَلَيْهَا حُكْمُ الْمَغْصُوبَةِ إِذَا أَبِقَتْ يُؤْخَذُ الْغَاصِبُ بِقِيمَتِهَا حَتَّى إِذَا عَادَتْ رُدَّتِ الْقِيمَةُ كَذَلِكَ هَذِهِ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الْقَيِّمَةَ ، إِنَّمَا تُسْتَحَقُّ عِنْدَ اسْتِهْلَاكِ الْعَيْنِ ، وَتَعَذُّرِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمِلْكِ ، وَالْعَيْنُ هَاهُنَا مَوْجُودَةٌ وَالتَّصَرُّفُ فِيهَا بِغَيْرِ

الْبَيْعِ مُمْكِنٌ ، فَلَمْ يَجُزْ مَعَ بَقَائِهَا فِي يَدِهِ وَتَصَرُّفِهِ فِيهَا أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ قِيمَتِهَا ، بِخِلَافِ الْمَغْصُوبَةِ إِذَا أَبِقَتْ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهَا يَدٌ ، وَلَا هُوَ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي مَنَافِعِهَا قَادِرٌ ، وَلَيْسَ مَا اقْتَضَاهُ الشَّرْعُ مِنْ تَأْخِيرِ بَيْعِهَا إِلَى وَقْتِ الْوَضْعِ مُوجِبًا لِأَخْذِ الْقِيمَةِ : لِأَنَّهُ تَأْخِيرٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى التَّسْلِيمِ ، كَالْمَغْصُوبَةِ إِذَا هَرَبَتْ إِلَى مَكَانٍ مَعْرُوفٍ ، يُؤْخَذُ الْغَاصِبُ بِرَدِّهَا ، وَلَا يُؤْخَذُ بِقِيمَتِهَا كَذَلِكَ هَذِهِ فِي مُدَّةِ حَمْلِهَا ، فَهَذَا وَجْهٌ لَمْ يُفْسِدْ مَا قَالَهُ مِنْ وَجْهٍ ثَانٍ ، وَهُوَ أَنَّ الْقِيمَةَ إِنَّمَا تُسْتَحَقُّ إِذَا مُلِكَتْ مِلْكًا مُسْتَقِرًّا فِي الظَّاهِرِ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ إِذَا أَبِقَتْ يُحْكَمُ بِقِيمَتِهَا تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْفَوَاتِ وَهَذِهِ الْقِيمَةُ لَا تُمْلَكُ مِلْكًا مُسْتَقِرًّا ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ فِي يَدِهِ إِمَّا كَالْعَارِيَةِ ، وِإِمَّا كَالرَّهْنِ وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِوَاجِبٍ ، فَلِمَاذَا يُحْكَمُ بِهَا غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ وَلَا مُعَارَةٍ ، وَلَا مَرْهُونَةٍ ، يَفْسَدُ مِنْ وَجْهٍ ثَالِثٍ ، وَهُوَ أَنَّهُ يَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ الرَّقَبَةِ وَالْقِيمَةِ ، وَأَحَدُهُمَا بَدَلٌ مِنَ الْآخَرِ ، فَلَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا .

فَصْلٌ وُجُوبُ قِيمَةِ الْوَلَدِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ

فَصْلٌ : وَأَمَّا وُجُوبُ قِيمَةِ الْوَلَدِ ولد أمة الإبن إذا استولدها الأب فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لَا يَلْحَقُ بِالْأَبِ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِبَقَاءِ رِقِّهِ ، وَلَا يُعْتَقُ عَلَى الِابْنِ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنَاسِبٍ ، وَلَوْ نَاسَبَهُ لَنَاسَبَهُ بِالْأُخُوَّةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ حُرًّا قَدْ لَحِقَ بِالْأَبِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا تُجْعَلَ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ ، وَيَسْتَبْقِيهَا عَلَى رِقِّ الِابْنِ ، فَيَجِبُ عَلَى الْأَبِ غُرْمُ قِيمَتِهِ : لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَهْلَكَ رِقَّهُ بِالْحُرِّيَّةِ ، وَاعْتَبَرَ قِيمَتَهُ وَقْتَ الْوِلَادَةِ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : وَقْتَ التَّرَافُعِ إِلَى الْقَاضِي وَهَذَا خَطَأٌ : لِتَقَدُّمِ اسْتِهْلَاكِهِ بِالْحُرِّيَّةِ عَلَى وَقْتِ التَّرَافُعِ إِلَى الْقَاضِي : لِأَنَّهُ عَتَقَ وَقْتَ الْعُلُوقِ ، وَلَكِنْ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْوُصُولَ إِلَى قِيمَتِهِ إِلَّا عِنْدَ الْوِلَادَةِ ، فَلِذَلِكَ اعْتَبَرْنَاهَا فِيهِ ، وَلَوْ أَمْكَنَ الْوُصُولُ إِلَى قِيمَتِهِ وَقْتَ الْعُلُوقِ لَاعْتَبَرْنَاهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَجْعَلَ أُمَّهُ أُمَّ وَلَدٍ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَضَعَهُ بَعْدَ دَفْعِ قِيمَتِهَا ، فَلَا يَلْزَمُ الْأَبَ قِيمَةُ وَلَدِهَا : لِأَنَّهَا بِدَفْعِ الْقِيمَةِ قَدِ اسْتَقَرَّتْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ ، فَصَارَتْ وَاضِعَةً لَهُ فِي مِلْكِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَضَعَهُ قَبْلَ دَفْعِ قِيمَتِهَا ، وَفِي وُجُوبِ قِيمَتِهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ ، مَتَى تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ فَأَصَحُّ قَوْلَيْهِ : أَنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ بِنَفْسِ الْعُلُوقِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ قِيمَةُ الْوَلَدِ : لِأَنَّهَا تَضَعُهُ بَعْدَ كَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ بِالْعُلُوقِ مَعَ دَفْعِ الْقِيمَةِ ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ قِيمَةُ الْوَلَدِ : لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَقْتَ الْوِلَادَةِ أُمَّ وَلَدٍ . فَهَذَا حُكْمُ وَطْءِ الْأَبِ جَارِيَةَ ابْنِهِ ، وَذَلِكَ لَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ بِنْتِهِ ، أَوْ بِنْتِ ابْنِهِ ، أَوِ ابْنِ بِنْتِهِ ، أَوْ مَنْ سَفَلَ مِنْ أَوْلَادِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا وَطِئَ الِابْنُ جَارِيَةَ أَبِيهِ ، فَهُوَ زَانٍ ، وَالْحَدُّ عَلَيْهِ وَاجِبٌ إِنْ لَمْ يَجْهَلِ التَّحْرِيمَ ، بِخِلَافِ الْأَبِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي التَّسْمِيَةِ فِي الْإِعْفَافِ ، وَفِي الْحُرْمَةِ فِي الْقِصَاصِ فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الزِّنَا فِي وُجُوبِ الْحَدِّ وَاسْتِحْقَاقِ الْمَهْرِ إِنْ أَكْرَهَهَا ، وَفِيهِ إِنْ طَاوَعَتْهُ

قَوْلَانِ : لَا يَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا ، وَلَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَفِي وُجُوبِ قِيمَتِهَا قَوْلَانِ : وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِهَا : لِإِسْلَامِهِ حَدِيثًا أَوْ قُدُومِهِ مِنْ بَادِيَةٍ ، صَارَ ذَلِكَ شُبْهَةً لَهُ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ فِي الْإِكْرَاهِ وَالْمُطَاوَعَةِ وَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ مَمْلُوكًا فِي حَالِ الْعُلُوقِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ شُبْهَةُ مِلْكٍ كَالْأَبِ وَلَا اعْتَقِدَ حُرِّيَّةَ الْمَوْطُوءَةِ كَالْغَارَّةِ ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْوَلَدُ فِي حَالِ الْعَلُوقِ مَمْلُوكًا ، لَكِنَّهُ يُعْتَقُ عَلَى الْأَبِ : لِأَنَّهُ ابْنُ ابْنِهِ ، وَمَنْ مَلَكَ ابْنَ ابْنِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ ، وَلَا يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ عَلَى الِابْنِ : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْلِكْ رِقَّهُ لَمْ يَمْلِكْ قِيمَتَهُ ، وَلَا تَصِيرُ الْأَمَةُ أُمَّ الْوَلَدِ لِلِابْنِ فِي الْحَالِ ، وَلَا إِنْ مَلَكَهَا فِي ثَانِي حَالٍ : لِأَنَّهَا مَا عَلَقَتْ مِنْهُ بِحُرٍّ ، وَإِنَّمَا صَارَ بَعْدَ الْوَضْعِ حُرًّا فَلَمْ يَتَعَدَّ إِلَيْهَا حَكَمُ حُرِّيَّتِهِ ، كَمَا لَوْ أَوْلَدَهَا مِنْ نِكَاحٍ ثُمَّ مَلَكَهَا أمة الأب لَمْ تَصِرْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ : لِأَنَّهَا عَلَقَتْ مِنْهُ بِمَمْلُوكٍ . هَكَذَا حُكْمُ الِابْنِ إِذَا وَطِئَ جَارِيَةَ أَبِيهِ ، أَوْ جَدِّهِ أَوْ جَدَّتِهِ ، أَوْ وَطِئَ الْأَخُ جَارِيَةَ أَخِيهِ .

فَصْلٌ : وَإِذْ قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي وَطْءِ الْأَبِ جَارِيَةَ ابْنِهِ ، وَوَطْءِ الِابْنِ جَارِيَةَ أَبِيهِ قَدْ ذُكِرَ مَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ إِعْفَافِ صَاحِبِهِ . أَمَّا الِابْنُ إعفافه ونفقته فَلَا يَجِبُ عَلَى الْأَبِ إِعْفَافُهُ وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ : لِأَنَّ نَفَقَةَ الِابْنِ بَعْدَ الْكِبَرِ مُسْتَصْحِبَةٌ لِحَالِ الصِّغَرِ الَّتِي لَا يُرَاعَى فِيهَا الْإِعْفَافُ ، فَاسْتَقَرَّ فِيهِ حُكْمُ مَا بَعْدَ الْكِبَرِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الصِّغَرِ ، فَأَمَّا الْأَبُ إعفافه ونفقته فَوُجُوبُ إِعْفَافِهِ عَلَى الِابْنِ مُعْتَبَرٌ بِوُجُوبِ نَفَقَتِهِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ مُوسِرًا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَلَا إِعْفَافُهُ ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا نُظِرَ فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنِ الْكَسْبِ بِزَمَانَةٍ أَوْ هَرَمٍ ، وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ . وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ ، فَفِي وُجُوبِ نَفَقَتِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : تَجِبُ اعْتِبَارًا بِفَقْرِهِ . وَالثَّانِي : لَا تَجِبُ اعْتِبَارًا بِقُدْرَتِهِ . فَإِنْ لَمْ تَجِبْ نَفَقَةُ الْأَبِ لَمْ يَجِبْ إِعْفَافُهُ ، وَإِنْ وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ إِلَى الزَّوْجَةِ حَاجَةٌ لِضَعْفِ شَهْوَتِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الِابْنِ تَزْوِيجُهُ ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى النِّكَاحِ لِقُوَّةِ شَهْوَتِهِ فَفِي وُجُوبِ إِعْفَافِهِ عَلَى الِابْنِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا - نَقَلَهُ ابْنُ خَيْرَانَ وَتَأَوَّلَهُ غَيْرُهُ مِنْ كَلَامِ الْمُزَنِيِّ هَاهُنَا - : أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِعْفَافُهُ وَإِنْ وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ . وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، اعْتِبَارًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بِالِابْنِ ، فِي أَنَّ وُجُوبَ نَفَقَتِهِ لَا تَقْتَضِي وُجُوبَ إِعْفَافِهِ لَوِ احْتَاجَ . وَالثَّانِي : بِالْأُمِّ نفقتها وإعفافها ، فِي أَنَّ وُجُوبَ نَفَقَتِهَا لَا تَقْتَضِي وُجُوبَ إِعْفَافِهَا لَوِ احْتَاجَتْ . وَإِنْ كَانَ إِعْفَافُهُ مُعْتَبَرًا بِالطَّرَفِ الْأَدْنَى سَقَطَ بِالِابْنِ ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا بِالطَّرَفِ الْأَعْلَى سَقَطَ بِالْأُمِّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي " الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ " وَهُوَ اخْتِيَارُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّ إِعْفَافَهُ وَاجِبٌ كَنَفَقَتِهِ : لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [ لُقْمَانَ : 15 ] وَإِنْكَاحُهُ مِنَ الْمَعْرُوفِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا وُقِيَتْ نَفْسُ الْأَبِ بِنَفْسِ الِابْنِ ، فَلَمْ يُقْتَصَّ مِنَ الْأَبِ بِالِابْنِ ، فَأَوْلَى أَنْ تُوقَى نَفْسُهُ بِمَالِ الِابْنِ فِي وُجُوبِ إِعْفَافِهِ عَلَى الِابْنِ ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَرَّقْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِابْنِ فِي

الْإِعْفَافِ لِلِافْتِرَاقِ بَيْنَهُمَا فِي الْقِصَاصِ ، فَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ فِي الْإِعْفَافِ : هُوَ أَنَّ إِعْفَافَ الْأَبِ إِلْزَامٌ ، فَوَجَبَ عَلَى الِابْنِ ، وَإِعْفَافَ الْأُمِّ اكْتِسَابٌ فَلَمْ يَجِبْ عَلَى الِابْنِ .
القول فيمن يجب إعفافه من الآباء فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ وُجُوبُ الْأَبِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ ، فَالْكَلَامُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : فِيمَنْ يَجِبُ إِعْفَافُهُ مِنَ الْآبَاءِ . وَالثَّانِي : فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعْفَافُ مِنَ الْأَبْنَاءِ . وَالثَّالِثُ : فِيمَا يَكُونُ بِهِ الْإِعْفَافُ . [ الْقَوْلُ /1 L13355 فِيمَنْ يَجِبُ إِعْفَافُهُ مِنَ الْآبَاءِ /2 فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ /2 /1 ] فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِيمَنْ يَجِبُ إِعْفَافُهُ مِنَ الْآبَاءِ : فَهُوَ كُلُّ وَالِدٍ فِيهِ بَعْضِيَّةٌ وَإِنْ عَلَا ، وَسَوَاءً كَانَ ذَا عَصَبَةٍ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ كَأَبِي الْأَبِ ، أَوْ كَانَ ذَا رَحِمٍ كَأَبِي الْأُمِّ ، وَهُمَا فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالْإِعْفَافِ سَوَاءٌ ، وَهَكَذَا أَبُو أَبِي الْأَبِ وَأَبُو أَبِي الْأُمِّ ، وَهَكَذَا أَبُو أُمِّ الْأَبِ وَأَبُو أُمِّ الْأُمِّ هُمَا سَوَاءٌ فِي الزَّوْجِ وَسَوَاءٌ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالْإِعْفَافِ ، وَهَكَذَا لَوِ اخْتَلَفَ دَرْجُهُمَا ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَبَا أَبٍ ، وَالْآخَرُ أَبَا أُمٍّ ، وَجَبَتْ نَفَقَتُهَا وَإِعْفَافُهَا إِذَا أَمْكَنَ تَحَمُّلُ الْوَلَدِ لَهُمَا . فَأَمَّا إِذَا اجْتَمَعَ أَبَوَانِ وَضَاقَتْ حَالُ الِابْنِ عَنْ نَفَقَتِهِمَا وَإِعْفَافِهِمَا ، وَأَمْكَنَهُ الْقِيَامُ بِأَحَدِهِمَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الدَّرَجِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَتَفَاضَلَا . فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا عَصَبَةً وَالْآخَرُ ذَا رَحِمٍ كَأَبِي أَبِي الْأَبِ وَأَبِي أُمِّ الْأُمِّ ، فَالْعَصَبَةُ مِنْهُمَا أَحَقُّ بِتَحَمُّلِ نَفَقَتِهِ وَإِعْفَافِهِ مِنْ ذِي الرَّحِمِ لِقُوَّةِ سَبَبِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا ذَا رَحِمٍ كَأَبِي أُمِّ الْأَبِ ، وَأَبِي أَبِ الْأُمِّ فَهُمَا سَوَاءٌ فِي الدَّرَجَةِ وَالرَّحِمِ ، وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوِيَ أَبَوَانِ فِي الدَّرَجَةِ وَالتَّعْصِيبِ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الدَّرَجَةِ وَالرَّحِمِ ، وَإِذْ كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا : لِاسْتِوَائِهِمَا فِي كَيْفِيَّةِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا ، إِذَا أَعْجَزَهُ الْقِيَامُ بِهِمَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُنْفِقُ عَلَى أَحَدِهِمَا يَوْمًا ، وَعَلَى الْآخَرِ يَوْمًا لِتَكْمُلَ نَفَقَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي يَوْمِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ عِنْدِي أَصَحُّ - : يُنْفِقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي كُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ نَفَقَتِهِ : لِتَكُونَ النَّفَقَةُ فِي كُلِّ يَوْمٍ بَيْنَهُمَا ، فَأَمَّا الْإِعْفَافُ فَلَا يَجِيءُ فِيهِ هَذَانِ الْوَجْهَانِ : لِأَنَّ الْمُهَايَاةَ بَيْنَهُمَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا يُمْكِنُ ، وَالْقِسْمَةَ بَيْنَهُمَا فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لَا يُمْكِنُ ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنَا وَجَبَ مَعَ اسْتِوَاءِ سَيِّدِهِمَا أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَهُمَا فِيهِ ، فَأَيُّهُمَا قُرِعَ كَانَ أَحَقَّ بِالْإِعْفَافِ مِنَ الْآخَرِ ، وَأَمَّا إِنْ تَفَاضَلَا فِي الدَّرَجِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْأَقْرَبُ عَصَبَةً وَالْأَبْعَدُ ذَا رَحِمِ ، كَأَبِي الْأَبِ وَأَبِي أُمِّ الْأُمِّ فَيَكُونُ أَبُو الْأَبِ أَحَقَّ بِالنَّفَقَةِ وَالْإِعْفَافِ مِنْ أَبِي أُمِّ الْأُمِّ لِاخْتِصَاصِهِ بِسَبَبِيِ الْقُرْبَى وَالتَّعْصِيبِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْأَقْرَبُ ذَا رَحِمٍ وَالْأَبْعَدُ عَصَبَةً ، كَأَبِي الْأُمِّ وَأَبِي أَبِي الْأَبِ . فَقَدْ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَاييِنِيُّ : هُمَا سَوَاءٌ : لِأَنَّ الْأَقْرَبَ مِنْهُمَا نَاقِصُ الرَّحِمِ ، وَالْأَبْعَدَ مِنْهُمَا زَائِدٌ بِالتَّعْصِيبِ ، فَتَقَابَلَ السَّبَبَانِ ، فَاسْتَوَيَا . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عِنْدِي غَيْرُ صَحِيحٍ ، بَلِ الْأَقْرَبُ مِنْهُمَا أَحَقُّ ، وَإِنْ كَانَ ذَا رَحِمٍ مِنَ الْأَبْعَدِ ، وَإِنْ كَانَ ذَا تَعْصِيبٍ : لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ وَالْإِعْفَافِ هُوَ الْوِلَايَةُ دُونَ التَّعْصِيبِ ، فَلَمَّا تَسَاوَتِ الدَّرَجُ وَقَوِيِ أَحَدُهُمَا بِالتَّعْصِيبِ ، كَانَ أَحَقَّ كَأَخَوَيْنِ أَحَدُهُمْ لِأَبٍ وَأُمٍّ ، وَالْآخَرُ لِأَبٍ . وَإِذَا اخْتَلَفَ الدَّرَجُ كَانَ الْأَقْرَبُ أَحَقَّ ، وَإِنْ قَوِيَ الْآخَرُ لِتَعْصِيبٍ كَأَخٍ لِأَبٍ وَابْنِ أَخٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ .

فَصْلٌ : الْقَوْلُ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعْفَافُ ] وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي : فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعْفَافُ مِنَ الْأَبْنَاءِ ، فَهُمُ الْبَنُونَ ، ثُمَّ الْبَنَاتُ ، ثُمَّ بَنَوْهُمَا وَإِنْ بَعُدُوا ، فَيَجِبُ عَلَى الِابْنِ إِذَا كَانَ حُرًّا مُوسِرًا ، دُونَ الْبِنْتِ وَإِنْ كَانَتْ مُوسِرَةً ، كَمَا يَتَحَمَّلُ الْأَبُ نَفَقَةَ ابْنِهِ دُونَ الْأُمِّ ، فَإِنْ أُعْسِرَ بِهِ الِابْنُ تَحَمَّلَتْهُ الْبِنْتُ ، كَمَا لَوْ أُعْسِرَ الْأَبُ تَحَمَّلَتْهُ الْأُمُّ ، فَلَوْ كَانَ لِلْأَبِ ابْنَانِ مُوسِرَانِ نَفَقَتَهُ وَإِعْفَافَهُ تَحَمَّلَا بَيْنَهُمَا نَفَقَتَهُ وَإِعْفَافَهُ ، فَيَحْمِلُ كُلُّ وَاحِدٍ نِصْفَ الْإِعْفَافِ ، وَفِي كَيْفِيَّةِ تَحَمُّلِهِ لِنِصْفِ النَّفَقَةِ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى ، فَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا الإبنان حكم نفقة الأب وإعفافه تَحَمَّلَ ذَلِكَ الْمُوسِرُ مِنْهُمَا دُونَ الْمُعْسِرِ ، فَلَوْ أُيْسِرَ الْمُعْسِرُ وَأُعْسِرَ الْمُوسِرِ الإبنان فعلي من تجب النفقة والإعفاف للأب تَحَوَّلْتِ النَّفَقَةُ مِنَ الْمُعْسِرِ إِلَى الْمُوسِرِ ، فَأَمَّا الْإِعْفَافُ فَإِنْ كَانَ قَدْ عَجَزَ مَنْ أُعْسِرَ سَقَطَ عَمَّنْ أُيْسِرَ إِلَّا مَا يَسْتَحِقُّ بِالْإِعْفَافِ مِنْ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَحْمِلْهُ مَنْ أُعْسِرَ وَجَبَ أَنْ يَلْتَزِمَهُ مَنْ أُيْسِرَ ، فَلَوْ كَانَ لِلْأَبِ بِنْتٌ وَابْنُ ابْنٍ وَهُمَا مُوسِرَانِ فعلي من تجب نفقة الأب وإعفافه كَانَ ابْنُ الِابْنِ أَحَقَّ بِتَحَمُّلِهَا مِنَ الْبِنْتِ كَمَا يَكُونُ الْجَدُّ أَحَقَّ بِتَحَمُّلِ النَّفَقَةِ مِنَ الْأُمِّ ، فَلَوْ كَانَ لَهُ ابْنُ بِنْتٍ وَبِنْتُ ابْنٍ فعلي من تجب تحمل نفقة وإعفاف الأب ، فَفِي أَحَقِّهِمَا بِتَحَمُّلِ الْإِعْفَافِ وَالنَّفَقَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : ابْنُ الْبِنْتِ : لِأَنَّهُ ذَكَرٌ . وَالثَّانِي : بِنْتُ الِابْنِ لِإِدْلَائِهَا بِذَكَرٍ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُمَا سَوَاءٌ : لِأَنَّ الذَّكَرَ يُدَلَى بِأُنْثَى ، وَالْأُنْثَى مُدْلِيَةٌ بِذَكَرٍ ، فَصَارَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجِهَتَيْنِ ذَكَرٌ وَأُنْثَى ، فَلَوْ أَعَفَّ الِابْنُ أَبَاهُ ثُمَّ أَيْسَرَ الْأَبُ سَقَطَتْ عَنِ الِابْنِ نَفَقَتُهُ وَنَفَقَةُ مَنْ أَعَفَّهُ بِهَا مِنْ زَوْجَةٍ أَوْ أَمَةٍ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلِابْنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى أَبِيهِ بِالْأَمَةِ إِنْ كَانَ قَدْ أَعَفَّهُ بِهَا وَلَا بِصَدَاقِ الْحُرَّةِ إِنْ كَانَ قَدْ زَوَّجَهُ بِهَا : لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَحِقُّهُ بِسَبَبٍ لَا يُعْتَبَرُ اسْتَدَامَتُهُ كَمَا لَا يُعْتَبَرُ اسْتِدَامَةُ عَدَمِ الطَّوْلِ وَخَوْفِ الْعَنَتِ بَعْدَ نِكَاحِ الْأَمَةِ .

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِيمَا يَكُونُ بِهِ الْإِعْفَافُ ] وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِيمَا يَكُونُ بِهِ الْإِعْفَافُ فَهُوَ مَا خَصَّ الْفَرْجَ مِنَ اسْتِمْتَاعٍ بِحُرَّةٍ يُزَوِّجُهُ بِهَا ، أَوْ تَسَرِّي بِأَمَةٍ يُمَلِّكُهُ إِيَّاهَا وَالْخِيَارُ فِيهِ بَيْنَ التَّزْوِيجِ وَالتَّسَرِّي إِلَى الِابْنِ دُونَ الْأَبِ ، فَإِنْ

أَرَادَ الِابْنُ أَنْ يُزَوِّجَهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ الْأَبَ رَشِيدٌ لَا يُوَلَّى عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ يَتَزَوَّجُ الْأَبُ ، وَيَلْتَزِمُ الِابْنُ صَدَاقَ الزَّوْجَةِ ثُمَّ نَفَقَتَهَا وَكِسْوَتَهَا ، وَلَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يُغَالِيَ فِي صَدَاقِ زَوْجَتِهِ ، وَفِيمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ ذَلِكَ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَقَلُّ صَدَاقِ مَنْ تُكَافِئُهُ مِنَ النِّسَاءِ اعْتِبَارًا بِحَالِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : مَنْ يَسْتَمْتِعُ بِهَا مِنْ جَمِيعِ النِّسَاءِ اعْتِبَارًا بِحَاجَتِهِ ، وَلَيْسَ عَلَى الِابْنِ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى تَزْوِيجِ مَنْ لَا مُتْعَةَ فِيهَا مِنَ الْأَطْفَالِ ، وَعَجَائِزِ النِّسَاءِ ، وَذَوَاتِ الْعُيُوبِ الَّتِي يُفْسَخُ بِهَا النِّكَاحُ وَمَنْ تَشَوَّهَ خَلْقُهَا : لِنُفُورِ النَّفْسِ عَنْهَا ، وَتَعَذُّرِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ ، لَكِنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ ، فَأَمَّا الْأَمَةُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَهُ بِهَا : لِأَنَّ الْأَمَةَ لَا يَتَزَوَّجُهَا إِلَّا مَنْ عَدِمَ الطَّوْلَ وَهُوَ بِالِابْنِ وَاجِدٌّ لِلطَّوْلِ ، فَهَذَا حُكْمُ إِعْفَافِهِ بِالتَّزْوِيجِ . فَأَمَّا إِعْفَافُهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ الأب : فَالِابْنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَهَبَ لَهُ أَمَةً مِنْ إِمَائِهِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا بِبَذْلٍ وَقَبُولٍ وَإِقْبَاضٍ ، لِيَنْتَقِلَ بِصِحَّةِ الْهِبَةِ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ وَاسْتِقْرَارِهَا بِالْقَبْضِ فِي مِلْكِ الِابْنِ إِلَى مِلْكِ الْأَبِ وَبَيْنَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي ابْتِيَاعِ أَمَةٍ يَدْفَعُ عَنْهُ ثَمَنَهَا ، فَإِنِ ابْتَاعَهَا الِابْنُ لَهُ ، نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ صَحَّ الشِّرَاءُ لَهُ ، وَجَازَ لَهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا : لِاسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَالشِّرَاءُ لِلِابْنِ دُونَ الْأَبِ : لِأَنَّ الشِّرَاءَ لِلرَّشِيدِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَا يَصِحُّ ، فَإِنِ اسْتَأْنَفَ الِابْنُ هِبْتَهَا لَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، صَارَتْ مِلْكًا لَهُ بِالْهِبَةِ دُونَ الشِّرَاءِ ، وَجَازَ لَهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا ثُمَّ عَلَى الِابْنِ الْتِزَامُ نَفَقَتِهَا وَكِسْوَتِهَا كَالْحُرَّةِ ، فَلَوْ أَذِنَ الِابْنُ لِأَبِيهِ فِي وَطْءِ أَمَةٍ لَهُ لَمْ يَهَبْهَا لَهُ لَمْ يَجُزْ لِلْأَبِ وَطْئُهَا : لِأَنَّ الْأَمَةَ لَا يَجُوزُ وَطْئُهَا إِلَّا بِمِلْكِ يَمِينٍ أَوْ عَقْدِ نِكَاحٍ ، وَالْأَبُ لَمْ يَمْلِكْهَا بِهَذَا الْإِذْنِ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِوُجُودِ الطَّوْلِ ، فَلَوْ زَوَّجَهُ الِابْنُ أَوْ سَرَّاهُ فَأَعْتَقَ الْأَبُ أَوْ طَلَّقَ لَمْ يَلْزَمِ الِابْنَ أَنْ يُزَوِّجَهُ وَيُسِرَّ بِهِ ثَانِيَةً بَعْدَ طَلَاقِهِ : لِأَنَّ الْأَبَ قَدِ اسْتَهْلَكَ بِنَفْسِهِ مَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ ذَلِكَ ، فَلَوْ أُلْزِمَ الِابْنُ مَثَلَهُ لِفَعَلَ الْأَبُ مِثْلَهُ فَأَدَّى إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ ، وَلَكِنْ لَوْ مَاتَتِ الزَّوْجَةُ أَوِ الْأَمَةُ حَتْفَ أَنْفِهَا ، فَفِي وُجُوبِ إِعْفَافِهِ عَلَى الِابْنِ ثَانِيَةً وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجِبُ عَلَيْهِ : لِبَقَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إِلَى تَفْوِيتِ حَقِّهِ مِنْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ غَيْرُ الْأُولَى : لِأَنَّهُ عَقْدٌ يُوضَعُ لِلتَّأْبِيدِ فِي الْأَغْلَبِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ [ الْمُؤْمِنُونَ : 5 ] الْآيَةَ ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الإبنان فعلي من تجب النفقة والإعفاف للأب أَرَادَ الْأَحْرَارَ : لِأَنَّ الْعَبِيدَ لَا يَمْلِكُونَ ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ ، فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ فَدَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ مَالًا بِحَالٍ ، وَإِنَمَا يُضَافُ إِلَيْهِ مَالُهُ ، كَمَا يُضَافُ إِلَى الْفَرَسِ سَرْجُهُ ، وَإِلَى الرَّاعِي غَنَمُهُ ( فَإِنْ قِيلَ ) فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : أَنَّ الْعَبْدَ يَتَسَرَّى ( قِيلَ ) وَقَدْ رُوِيَ خِلَافُهُ ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - : لَا يَطَأُ الرَّجُلُ إِلَّا وَلِيدَةً : إِنْ شَاءَ بَاعَهَا ، وَإِنْ شَاءَ وَهَبَهَا ، وَإِنْ شَاءَ صَنَعَ بِهَا مَا شَاءَ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِنَّمَا أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا هَلْ لِلْعَبْدِ أَنْ يُسَرَّى وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ هَلْ يَمْلِكُ إِذَا مَلَكَ أَمْ لَا ؟ فَلَا يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ السَّيِّدُ لَمْ يَمْلِكْ ، وَيَكُونُ جَمِيعُ مَا يَكْتَسِبُهُ مِنْ صَيْدٍ أَوْ إِحْشَاشٍ أَوْ بِصَنْعَةٍ أَوْ عَمَلٍ مِلْكًا لِسَيِّدِهِ دُونَهُ ، وَإِنْ مَلَكَهُ السَّيِّدُ فَهَلْ يَمْلِكُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ إِنَّهُ يَمْلِكُ إِذَا مَلَكَ . وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ مِلْكِهِ العبد ، عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ، فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَكُونُ مِلْكًا ضَعِيفًا ، لَا يَتَحَكَّمُ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِ السَّيِّدِ وَلِلسَّيِّدِ اسْتِرْجَاعُهُ . وَقَالَ مَالِكٌ : هُوَ مِلْكٌ قَوِيٌّ يَتَحَكَّمُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ ، لَكِنْ لِلسَّيِّدِ اسْتِرْجَاعُهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي - قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ - : أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِذَا مَلَكَ . وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي كِتَابِ " الْبُيُوعِ " . فَإِذَا تَقَرَّرَ الْقَوْلَانِ ، وَأَرَادَ الْعَبْدُ أَنْ يَتَسَرَّى بِأَمَةٍ ، فَإِنْ لَمْ يُمَلِّكْهُ السَّيِّدُ إِيَّاهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فِيهِ : لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنَّ يَسْتَبِيحَ إِلَّا وَطْءَ زَوْجَةٍ ، أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْأَمَةُ الْمَأْذُونُ لِلْعَبْدِ فِي وَطْئِهَا زَوْجَةً لَهُ ، وَلَا مِلْكَ يَمِينٍ ، فَلَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطِئُهَا لِمُجَرَّدِ الْإِذْنِ ، كَمَا لَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَطَأَهَا بِإِذْنِ السَّيِّدِ ، وَإِنْ مَلَّكَهُ السَّيِّدُ إِيَّاهَا ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ يَصِيرُ مَالِكًا لَهَا ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا مُتَسَرِّيًا لَهَا مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ السَّيِّدُ فِي وَطْئِهَا ، وَإِنْ صَارَ مَالِكًا لَهَا : لِأَنَّهُ مِلْكٌ ضَعِيفٌ ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي وَطْئِهَا جَازَ لَهُ حِينَئِذٍ التَّسَرِّي بِهَا مَا لَمْ يَرْجِعِ السَّيِّدُ فِي مِلْكِهِ أَوْ إِذْنِهِ . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَجَازَ لِعِكْرِمَةَ أَنْ يَتَسَرَّى بِهَا بِجَارِيَةٍ أَعْطَاهُ إِيَّاهَا وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْعَبْدَ يَتَسَرَّى ، وَإِنْ رَجَعَ السَّيِّدُ فِي مِلْكِهِ حَرُمَ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يَتَسَرَّى بِهَا لِزَوَالِ السَّبَبِ الَّذِي اسْتَبَاحَ بِهِ التَّسَرِّيَ ، فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ قَدْ أَوْلَدَهَا الأمة التي أذن له السيد أن يتسري بها صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَحَرُمَ عَلَيْهِ بَيْعُهَا ، فَإِنْ رَجَعَ السَّيِّدُ عَلَيْهِ بِهَا جَازَ لِلسَّيِّدِ بِيعُهَا : لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ فِي حَقِّ الْعَبْدِ لَا فِي حَقِّ السَّيِّدِ . هَذَا كُلُّهُ حُكْمُ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ . فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ ، فَلَا يَمْلِكُهَا الْعَبْدُ ، وَإِنْ مَلَّكَهُ السَّيِّدُ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَسَرَّى بِهَا وَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ ، وَالْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ أَجَازَ لِعِكْرِمَةَ أَنْ يَتَسَرَّى بِجَارِيَةٍ أَعْطَاهُ إِيَّاهَا ، فَالْمَرْوِيُّ خِلَافُهُ ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ زَوَّجَهُ بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا عِكْرِمَةُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَدَّ طَلَاقًا لَا يَقَعُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ ، فَأَمَرَهُ بِالْمُقَامِ عَلَيْهَا ، فَكِرَهَ عِكْرِمَةُ ذَاكَ ، فَأَبَاحَهُ أَنْ يَتَسَرَّى بِهَا تَطَيُّبًا لِنَفْسِهِ وَمُعْتَقِدًا أَنَّ الْإِبَاحَةَ لِعَقْدِ النِّكَاحِ . وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُ مَا ذُكِرَ ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ : لَا يَطَأُ الرَّجُلُ إِلَّا وَلِيدَةً ، إِنْ شَاءَ بَاعَهَا ، وَإِنْ شَاءَ وَهَبَهَا ، وَإِنْ شَاءَ صَنَعَ بِهَا مَا شَاءَ . يُرِيدُ بِذَلِكَ الْأَحْرَارَ دُونَ الْعَبِيدِ لَكِنْ إِنْ وَطِئَهَا الْعَبْدُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ .



فَصْلٌ : فَلَوْ زَوَّجَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ بِأَمَتِهِ ، ثُمَّ بَاعَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا أَوْ وَهَبَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا ، كَانَ النِّكَاحُ بِحَالِهِ ، وَلَوْ وَهَبَ الْعَبْدَ لِزَوْجَتِهِ وَأَقْبَضَهَا إِيَّاهُ ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ يَمْلِكُهُ بِالْهِبَةِ وَيَبْطُلُ النِّكَاحُ : لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَصِحُّ أَنَّ تَمْلِكَ زَوْجَهَا ، فَيَكُونُ بَعْدَ الْمِلْكِ زَوْجًا لَهَا ، وَهَكَذَا لَوْ وَهَبَتِ الْأَمَةُ لِزَوْجِهَا مِلْكَهَا وَبَطَلَ نِكَاحُهَا ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ : لَا يَصِحُّ الْهِبَةُ وَيَكُونُ النِّكَاحُ بِحَالِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَا يَحِلُّ أَنْ يَتَسَرَّى الْعَبْدُ وَلَا مَنْ لَمْ تَكْمُلْ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ بِحَالٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا التَّسَرِّي تعريفه فَهُوَ الِاسْتِمْتَاعُ بِالْأَمَةِ : لِأَنَّهَا تُسَمَّى إِذَا كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْمُتَعِ سُرِّيَّةً ، وَفِي تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ السُّرِّ وَهُوَ الْجِمَاعُ : لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ السُّرُورِ : لِأَنَّهَا تُسِرُّ الْمُسْتَمْتِعَ بِهَا . فَأَمَّا تَسَرِّي الْعَبْدِ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْمُدَبَّرِ وَالْمُخَارِجِ وَالْمُعَتَقِ عَلَى صِفَةٍ لَمْ تُوجَدْ وَالْمُكَاتَبِ حكم تسريه بأمة ، فَأَمَّا مَنْ تَبَعَّضَتْ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ وَالرِّقُّ حكم تسريه ، فَكَانَ نِصْفُهُ حُرًّا وَنِصْفُهُ مَمْلُوكًا ، فَهُوَ يَمْلِكُ بَعْضَهُ الْحُرَّ مِنْ إِكْسَابِهِ مِثْلَ مَا يَمْلِكُهُ السَّيِّدُ بِنِصْفِهِ الْمَمْلُوكِ ، فَإِنْ هَايَأَهُ السَّيِّدُ عَلَى يَوْمٍ وَيَوْمٍ ، كَانَ مَا كَسَبَهُ فِي يَوْمِهِ مِلْكًا لَهُ ، وَمَا كَسَبَهُ فِي يَوْمِ سَيِّدِهِ مِلْكًا لِسَيِّدِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُهَايِئْهُ كَانَ نِصْفُ مَا كَسَبَهُ الْعَبْدُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَلِكًا لِنَفْسِهِ ، وَنِصْفُهُ مِلْكًا لِلسَّيِّدِ ، فَإِذَا اشْتَرَى بِمَا مَلَكَهُ مِنْ كَسْبِهِ أَمَةً المبعض مَلَكَهَا مِلْكًا مُسْتَقِرًّا : لِأَنَّهُ مَلَكَ بِحُرِّيَّتِهِ بِتَمْلِيكِ سَيِّدِهِ لَكِنْ لَيْسَ لَهُ وَطْئُهَا بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ ، وَإِنْ مَلَكَهَا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَحْكَامَ الرِّقِّ عَلَيْهِ أَغْلَبُ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ ، فَكَذَلِكَ فِي تَسَرِّيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْحُرِّيَّةَ لَا تَتَمَيَّزُ فِي أَعْضَائِهِ مِنَ الرِّقِّ ، فَكُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ مُشْتَرَكُ الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَطَأَ بِعُضْوٍ بَعْضُهُ مَرْقُوقٌ لِلسَّيِّدِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ جَمِيعُهُ مَرْقُوقًا ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَالشَّرْطُ فِي إِبَاحَةِ تَسَرِّيهِ إِذْنُ السَّيِّدِ دُونَ تَمْلِيكِهِ ، وَإِنِ افْتَقَرَ فِي الْعَبْدِ إِلَى تَمْلِيكِهِ وَإِذْنِهِ : لِأَنَّ هَذَا مَالِكٌ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى تَمْلِيكِهِ ، وَالْعَبْدُ غَيْرُ مَالِكٍ فَافْتَقَرَ إِلَى تَمْلِيكِهِ ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ جَازَ تَسَرِّيهِ ، فَإِنْ أَوْلَدَهَا المبعض إن أولد أمته صَارَتْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ وَحَرُمَ بَيْعُهَا بِكُلِّ حَالٍ : لِأَنَّهَا مُلِّكَتْ بَحْرِيَّتِهِ فَجَرَى عَلَيْهَا حُكْمُ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ ، وَكَانَ أَوْلَادُهُ مِنْهَا أَحْرَارًا : لِاخْتِصَاصِهِمْ بِحُرِّيَّتِهِ دُونَ رِقِّهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يُفْسَخُ نِكَاحُ حَامِلٍ مِنْ زِنًا ، وَأُحِبُّ أَنْ تُمْسَكَ حَتَّى تَضَعَ ، وَقَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ ، قَالَ : طَلِّقْهَا ، قَالَ : إِنِّي أُحِبُّهَا قَالَ : فَأَمْسِكْهَا وَضَرَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَجُلًا وَامْرَأَةً فِي زِنًا ، وَحَرَصَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَأَبَى الْغُلَامُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّنَا نَكْرَهُ لِلْعَفِيفِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالزَّانِيَةِ وَنَكْرَهُ لِلْعَفِيفَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ

بِالزَّانِي : لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا الْآيَةَ [ النُّورِ : 3 ] وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : فَعَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، فَالْكَلَامُ فِي نِكَاحِ الزَّانِيَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : فِي الرَّجُلِ إِذَا زَنَا بِامْرَأَةٍ ، هَلْ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا أَمْ لَا ؟ . وَالْفَصْلُ الثَّانِي : فِي زَوْجَةِ الرَّجُلِ إِذَا زَنَتْ ، هَلْ يَبْطُلُ نِكَاحُهَا أَمْ لَا ؟ . فَأَمَّا : الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الرَّجُلِ إِذَا زَنَا بِامْرَأَةٍ ، فَيَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا . وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ . وَذُكِرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهَا قَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أَبَدًا ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِحَالٍ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَقَتَادَةُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ : إِنْ تَابَا مِنَ الزِّنَا حَلَّ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ، وَإِنْ لَمْ يَتُوبَا لَمْ يَحِلَّ . قَالُوا : وَالتَّوْبَةُ أَنْ يَخْلُوَ أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ ، فَلَا يَهُمُّ بِهِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [ النُّورِ : 3 ] فَكَانَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمَنْعِ وَتَعَقَّبَ مِنَ التَّحْرِيمِ نَصًّا لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَنْسَابِ : وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [ النِّسَاءِ : 24 ] . فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْعَفِيفَةِ وَالزَّانِيَةِ . وَرَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ وَهَذَا نَصٌّ : وَلِأَنَّهُ مُنْتَشِرٌ فِي الصَّحَابَةِ بِالْإِجْمَاعِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ ، فَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : إِذَا زَنَى رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً ، وَكَانَ لَهَا ابْنُ عَمٍّ مِنْ غَيْرِهَا وَلَهَا بِنْتٌ مِنْ غَيْرِهِ ، فَفَجَرَ الْغُلَامُ بِالْجَارِيَةِ وَظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ ، فَلَمَّا قَدِمَ عُمَرُ مَكَّةَ رَفَعَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُمَا فَاعْتَرَفَا ، فَجَلْدَهُمَا عُمَرُ الْحَدَّ ، وَعَرَضَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَأَبَى الْغُلَامُ . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَمَةٌ وَعَبْدٌ فَظَهَرَ بِالْأَمَةِ حَمْلٌ ، فَاتَّهَمَ بِهَا الْغُلَامَ ، فَسَأَلَهُ فَأَنْكَرَ ، وَكَانَ لِلْغُلَامِ إِصْبَعٌ زَائِدَةٌ ، فَقَالَ لَهُ : إِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ لَهُ إِصْبَعٌ زَائِدَةٌ جِلْدَتُكَ ، فَقَالَ : نَعَمْ ، فَوَضَعَتْ وَلَدًا لَهُ إِصْبَعٌ زَائِدَةٌ ، فَجَلَدَهُ ثُمَّ زَوَّجَهُ بِهَا . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ سُئِلَ أَيَتَزَوَّجُ الزَّانِي بِالزَّانِيَةِ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، وَلَوْ سَرَقَ رَجُلٌ مِنْ كَرْمٍ عِنَبًا ، لَكَانَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ ، فَهَذَا قَوْلُ مَنْ ذَكَرْنَا ، وَ لَمْ يَصِحَّ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُهُ ، فَصَارَ إِجْمَاعًا . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ :

أَحَدُهَا : أَنَّهَا نَزَلَتْ مَخْصُوصَةً فِي رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا : أُمُّ مَهْزُولٍ مِنْ بَغَايَا الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ ذَوَاتِ الرَّايَاتِ ، وَشَرَطَتْ لَهُ أَنَّ تُنْفِقَ عَلَيْهِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فِيهِ ، وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَمُجَاهِدٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ : أَنَّ الزَّانِيَ لَا يَزْنِي إِلَّا بِزَانِيَةٍ وَالزَّانِيَةَ لَا يَزْنِي بِهَا إِلَّا زَانٍ . وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْوِلَايَةَ عَامَّةٌ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الزَّانِيَةِ عَلَى الْعَفِيفِ ، وَنِكَاحِ الْعَفِيفَةِ عَلَى الزَّانِي ، ثُمَّ نَسَخَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ . وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي زَوْجَةِ الرَّجُلِ إِذَا زَنَتْ هَلْ يَنْفَسِخُ نِكَاحُهَا أَمْ لَا ؟ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ : أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ لَا يَنْفَسِخُ بِزِنَاهَا . وَهُوَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ إِلَّا حِكَايَةً عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ : أَنَّ نِكَاحَهَا قَدْ بَطَلَ . وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ لِتَحْرِيمِ اجْتِمَاعِ الْمَائَيْنِ فِي فَرْجٍ . وَدَلِيلُنَا مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَا رَوَاهُ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ ، قَالَ : طَلِّقْهَا ، قَالَ : إِنِّي أُحِبُّهَا ، قَالَ : اسْتَمْتِعَ بِهَا فَكَنَّى بِقَوْلِهِ " لَا تَرُدُّ يَدَ لَامَسٍ " عَنِ الزِّنَا ، فَأَمَرَهُ بِطَلَاقِهَا ، وَلَوِ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا بِالزِّنَا لَمَا احْتَاجَ إِلَى طَلَاقٍ ، ثُمَّ لَمَّا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ يُحِبُّهَا أَذِنَ لَهُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا ، وَلَوْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ ، لَنَهَاهُ عَنِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا وَلَأَعْلَمَهُ تَحْرِيمَهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ " لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ " : أَنَّهَا لَا تَرُدُّ مُتَصَدِّقًا طَلَبَ مِنْهَا مَالَهُ . قِيلَ : هَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ هَذَا ، لَقَالَ : لَا تَرُدُّ يَدَ مُلْتَمِسٍ : لِأَنَّ الطَّالِبَ يَكُونُ مُلْتَمِسًا ، وَاللَّامِسَ يَكُونُ مُبَاشِرًا ، فَلَمَّا عَدَلَ إِلَى يَدِ لَامِسٍ ، خَرَجَ عَنْ هَذَا التَّأْوِيلِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ تَتَصَدَّقُ بِمَالِهِ لَمَا خَرَجَ قَوْلُهُ فِيهَا مَخْرَجَ الذَّمِّ ، وَلَمَا أَمَرَ بِطَلَاقِهَا ، وَلَأَمَرَهُ بِإِحْرَازِ مَالِهِ مِنْهَا . وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدًا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَعَلَّ عِرْقًا نَزْعَهُ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ كِنَايَةً عَنْ زِنَاهَا بِأَسْوَدَ ، فَلَمْ يُحَرِّمْهَا عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ الْعَجْلَانِيَّ أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَلَاعَنَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَجْعَلْهَا بِالزِّنَا حَرَامًا . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا تَزْنُوا فَتَزْنِي نِسَاؤُكُمْ : فَإِنَّ بَنِي فُلَانٍ زَنَوْا فَزَنَتْ نِسَاؤُهُمْ .

فَدَلَّ هَذَا عَلَى بَقَائِهِمْ مَعَ الْأَزْوَاجِ بَعْدَ الزِّنَا ، فَأَمَّا تَحْرِيمُ اجْتِمَاعِ الْمَائَيْنِ فِي فَرْجٍ فَنَحْنُ عَلَى تَحْرِيمِهِمَا ، وَإِذَا اجْتَمَعَا ثَبَتَ حُكْمُ الْحَلَالِ مِنْهُمَا ، وَسَقَطَ حُكْمُ الْحَرَامِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي الزِّنَا هَلْ يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ أَمْ لَا ؟ فَالْكَلَامُ فِي هَذَا يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي الزِّنَا : هَلْ يَنْتَشِرُ عَنْهُ حُرْمَتُهُ فِي تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ حَتَّى تَحْرُمَ عَلَيْهِ أُمَّهَاتُهَا وَبَنَاتُهَا ، وَيَحْرُمَ عَلَى آبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ أَمْ لَا ؟ وَالْكَلَامُ فِي هَذَا بَابٌ مُفْرَدٌ يَأْتِي ، نَحْنُ نَذْكُرُهُ فِيهِ . الْفَصْلُ الثَّانِي : هَلْ لِمَا ذَكَرْنَاهُ حُرْمَةٌ تَجِبُ بِهَا الْعِدَّةُ أَمْ لَا ؟ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ مِنْهُ سَوَاءً كَانَتْ حَامِلًا مِنَ الزِّنَا أَوْ حَائِلًا ، وَسَوَاءً كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ فَيَحِلُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا فِي الْحَالِ ، أَوْ كَانَتْ خَلِيَّةً فَيَجُوزُ لِلزَّانِي وَغَيْرِهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْعَقْدَ عَلَيْهَا فِي الْحَالِ حَامِلًا كَانَتْ أَوْ حَائِلًا ، غَيْرَ أَنَّنَا نَكْرَهُ لَهُ وَطْئَهَا فِي حَالِ حَمْلِهَا حَتَّى تَضَعَ . وَقَالَ مَالِكٌ وَرَبِيعَةُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ : عَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْ وَطْءِ الزِّنَا بِالْإِقْرَارِ إِنْ كَانَتْ حَائِلًا وَوَضْعِ الْحَمْلِ إِنْ كَانَتْ حَامِلًا ، فَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ حَرُمَ عَلَيْهِ وَطْئُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ بِالْإِقْرَارِ أَوِ الْحَمْلِ ، وَإِنْ كَانَتْ خَلِيَّةً حَرُمَ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ نِكَاحُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا بِالْإِقْرَارِ أَوِ بِالْحَمْلِ . وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَأَبُو يُوسُفَ : إِنْ كَانَتْ حَامِلًا حَرُمَ نِكَاحُهَا حَتَّى تَضَعَ ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا لَمْ يَحْرُمْ نِكَاحُهَا وَلَمْ تَعْتَدَّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَحْرُمُ نِكَاحُهَا حَامِلًا وَلَا حَائِلًا ، لَكِنْ إِنْ نَكَحَهَا حَامِلًا حَرُمَ عَلَيْهِ وَطْئُهَا حَتَّى تَضَعَ . فَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ بِقَبُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا غَيْرَ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ " . وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَسْقِ بِمَائِكَ زَرْعَ غَيْرِكَ . وَالدَّلِيلُ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ وَأَنَّ عُمَرَ حِينَ جَلَدَ الْغُلَامَ وَالْجَارِيَةَ حَرَصَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ عِدَّةٍ فَأَبَى الْغُلَامُ ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ مِنَ الْمَاءِ إِنَّمَا يَكُونُ لِحُرْمَتِهِ وَلُحُوْقِ النَّسَبِ بِهِ وَلَا حُرْمَةَ لِهَذَا الْمَاءِ تَقْضِي

لُحُوقَ النَّسَبِ ، فَلَمْ تَجِبْ مِنْهُ الْعِدَّةُ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى عَنِ الزِّنَا سَائِرُ أَحْكَامِ الْوَطْءِ الْحَلَّالِ مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّسَبِ وَالْإِحْسَانِ وَالْإِحْلَالِ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ انْتَفَى عَنْهُ حُكْمُهُ فِي الْعِدَّةِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُ مَالِكٍ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : أَلَّا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ فَهَذَا وَارِدٌ فِي سَبْيِ أَوْطَاسٍ وَكُنَّ مَنْكُوحَاتٍ ، وَلِلْإِمَاءِ حُكْمٌ يُخَالِفُ الْحَرَائِرَ فِي الِاسْتِبْرَاءِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ أَبِي يُوسُفَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَالْمُرَادُ بِهِ مِنَ الزَّوْجَاتِ الْمُطَلَّقَاتِ ، بِدَلِيلِ مَا فِي الْآيَةِ مِنْ وُجُوبِ نَفَقَاتِهِنَّ وَكِسْوَتِهِنَّ مِنْ قَوْلِهِ : أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [ الطَّلَاقِ : 6 ] . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ أَبِي حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ : لَا تَسْقِ بِمَائِكَ زَرْعَ غَيْرِكَ فَإِنَّمَا أَرَادَ فَرْعًا يُنْسَبُ إِلَى غَيْرِهِ وَهُوَ الْحَلَالُ الَّذِي يَلْحَقُ بِالْوَاطِئِ وَالْحَرَامُ الَّذِي يُضَافُ إِلَى أَحَدٍ ، فَلَمْ يَتَوَجَّهِ النَّهْيُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَارِدٌ فِي رَجُلٍ يَمْلِكُ أَمَةً وَسَأَلَ هَلْ يَطَأُهَا ، فَقَالَ : لَا تَسْقِ بِمَائِكَ زَرْعَ غَيْرِكَ إِشَارَةً إِلَى مَاءِ الْبَائِعِ ، وَذَاكَ حَلَالٌ بِخِلَافِ الزِّنَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

نِكَاحُ الْعَبْدِ وَطَلَاقُهُ

نِكَاحُ الْعَبْدِ وَطَلَاقُهُ ، مِنَ الْجَامِعِ مِنْ كِتَابٍ قَدِيمٍ وَكِتَابٍ جَدِيدٍ ، وَكِتَابُ التَّعْرِيضِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَيَنْكِحُ الْعَبْدُ اثْنَتَيْنِ ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلَيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْعَبْدِ ، وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ أَكْثَرَ مِنَ اثْنَتَيْنِ ، وَخَالَفَ مَالِكٌ فَيَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ أَرْبَعٍ كَالْحُرِّ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ وَالْمَكَاتَبُ وَمَنْ فِيهِ جُزْءٌ مِنَ الرِّقِّ وَإِنْ قَلَّ لَمْ تَكْمُلْ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ ، وَسَوَاءً جَمَعَ بَيْنَ حُرَّتَيْنِ أَوْ أَمَتَيْنِ ، أَوْ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ تَقَدَّمَتِ الْحُرَّةُ عَلَى الْأَمَةِ أَوْ تَأَخَّرَتْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأَمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ كَالْحُرِّ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الْحُرَّ أَغْلَظُ حُكْمًا فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ : لِكَمَالِهِ وَنَقْصِهِمَا مِنَ الْعَبْدِ الَّذِي قَدْ سَاوَى الْأَمَةَ فِي نَقْصِهَا : لِأَنَّ نِكَاحَ الْحُرِّ مَشْرُوطٌ بِخَوْفِ الْعَنَتِ وَعَدَمِ الطَّوْلِ ، فَنِكَاحُ الْعَبْدِ غَيْرُ مَشْرُوطٍ بِخَوْفِ الْعَنَتِ ، فَلَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ الطَّوْلِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَقَالَ عُمَرُ : يُطَلِّقُ تَطْلِيقَتَيْنِ العبد ، وَتَعْتُدُّ الْأَمَةُ حَيْضَتَيْنِ ، وَالَّتِي لَا تَحِيضُ شَهْرَيْنِ ، أَوْ شَهْرًا وَنِصْفًا ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : إِذَا طَلَّقَ الْعَبْدُ امْرَأَتَهُ اثْنَتَيْنِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ، وَعِدَّةُ الْحُرَّةِ ثَلَاثُ حِيَضٍ ، وَالْأَمَةِ عدتها حَيْضَتَانِ ، وَسَأَلَ نُفَيْعٌ عُثْمَانَ وَزَيْدًا ، فَقَالَ : طَلَّقْتُ امْرَأَةً لِي حُرَّةً تَطْلِيقَتَيْنِ ، فَقَالَا : حَرُمَتْ عَلَيْكَ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَبِهَذَا كُلِّهِ أَقُولُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ مِنَ الطَّلَاقِ إِلَّا اثْنَتَيْنِ فِي الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ ، وَيَمَلِكُ الْحُرُّ ثَلَاثًا فِي الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ طلاقاً ، فَيَكُونُ الطَّلَاقُ مُعْتَبَرًا بِالزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الطَّلَاقُ مُعْتَبَرٌ بِالزَّوْجَاتِ دُونَ الْأَزْوَاجِ ، فَيَمْلِكُ زَوْجُ الْحُرَّةِ ثَلَاثَ طَلْقَاتٍ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا ، وَزَوْجُ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَيْنِ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا : اسْتِدْلَالًا سَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ مُسْتَوْفٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [ الطَّلَاقِ : 1 ] فَجُعِلَ الطَّلَاقُ مُعْتَبَرًا بِالْعِدَّةِ ، ثُمَّ كَانَتِ الْعِدَّةُ مُعْتَبَرَةً بِالنِّسَاءِ دُونَ الْأَزْوَاجِ ، فَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ . وَلِمَا رَوَى عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : طَلَاقُ الْأَمَةِ اثْنَتَانِ ، وَحَيْضَتُهَا اثْنَتَانِ ، وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ فَجَعَلَ الطَّلَاقَ وَالْعِدَّةَ مُعْتَبَرًا بِالْمُطَلَّقَةِ وَالْمُعْتَدَّةِ : وَلِأَنَّ

الْحُرَّ لَمَّا مَلَكَ اثْنَا عَشْرَةَ طَلْقَةً فِي الْحَرَائِرِ الْأَرْبَعِ وَجَبَ أَنْ يَمْلِكَ الْعَبْدُ سِتَّ طَلْقَاتٍ فِي الْحُرَّتَيْنِ : لِيَكُونَ عَلَى النِّصْفِ فِي عَدَدِ الطَّلَقَاتِ ، كَمَا كَانَ عَلَى النِّصْفِ فِي عَدَدِ الزَّوْجَاتِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ [ الرُّومِ : 28 ] إِنْكَارًا لِتَسَاوِيهِمَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَمْوَالِ ، فَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْمِلْكِ . وَرُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ طَلَاقُ الْعَبْدِ ، فَقَالَ : طَلْقَتَانِ ، قَالَتْ : وَعِدَّةُ الْأَمَةِ ، قَالَ : حَيْضَتَانِ . وَرَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يُطَلِّقُ الْعَبْدُ تَطْلِيقتَيْنِ وَتَعْتَدُّ الْأَمَةُ حَيْضَتَيْنِ . وَكَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ خَاطِبًا عَلَى الْمِنْبَرِ . وَرَوَى يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي نُفَيْعٌ أَنَّهُ كَانَ مَمْلُوكًا وَتَحْتَهُ حُرَّةٌ فَطَلَّقَهَا طَلْقَتَيْنِ ، وَسَأَلَ عُثْمَانَ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ ، فَقَالَا : طَلَاقُكَ طَلَاقُ عَبْدٍ ، وَعِدَّتُهَا عِدَّةُ حُرَّةٍ . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْكَ ، وَلَيْسَ لِمَنْ ذَكَرْنَا ، فَخَالَفَ مِنَ الصَّحَابَةِ فَكَانَ إِجْمَاعًا ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ الْحُرُّ رَجْعَتَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَمْلِكَ الْعَبْدُ رَجْعَةً وَاحِدَةً : لِأَنَّهُ فِيمَا يَمْلِكُ بِالنِّكَاحِ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الْحُرِّ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْآيَةِ فَالْمَقْصُودُ بِهَا وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي الْعِدَّةِ : لِأَنَّهُ فِي الْعَدَّةِ مُعْتَبَرٌ بِالْعِدَّةِ . وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا : لِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنَ أَزْوَاجِ الْإِمَاءِ الْعَبِيدُ ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ الْحُرُّ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ طَلْقَةً وَجَبَ أَنْ يَمْلِكَ الْعَبْدُ سِتَّ طَلْقَاتٍ فَخَطَأٌ : لِأَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ زَوْجَتَيْنِ ، وَالْحُرَّ يَمْلِكُ فِي الزَّوْجَتَيْنِ سِتَّ طَلْقَاتٍ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَاوِيَهُ الْعَبْدُ فِيهِنَّ ، وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِنِصْفِهِنَّ ، وَكَانَ قِيَاسُهُ أَنْ يَمْلِكَ ثَلَاثَ طَلْقَاتٍ فِي الزَّوْجَتَيْنِ لَكِنِ لَمَّا لَمْ يَتَبَعَّضِ الطَّلَاقُ فَيَصِيرُ مَالِكًا لِطَلْقَةٍ وَنِصْفٍ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ كَمَا الْكَسْرِ ، فَصَارَ مَالِكًا لِأَرْبَعِ طَلْقَاتٍ فِي الزَّوْجَتَيْنِ ، فَكَانَ هَذَا اسْتِدْلَالًا بِأَنْ يَكُونَ لَنَا دَلِيلٌ أَشْبَهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ تَزَوَّجَ عَبْدٌ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ ، فَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ ، وَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا إِذَا عَتَقَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَنْ لَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذَنْ سَيِّدِهِ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فَهُوَ عَاهِرٌ فَإِنْ تَزَوُّجَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَقَدْ ذَكَرْنَا بُطْلَانَ نِكَاحِهِ ، وَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ جَعَلَهُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ سَيِّدِهِ ، وَمِلْكِ إِمْضَائِهِ وَجَعَلَ لِسَيِّدِهِ اسْتِئْنَافَ

فَسْخِهِ ، وَذَكَرْنَا مِنْ حَالِ الْمَهْرِ أَنْ يَنْكِحَ بِإِذْنِهِ وَغَيْرِ إِذْنِهِ مَا أَقْنَعَ ، فَأَمَّا إِذَا دَعَا الْعَبْدُ سَيِّدَهُ إِلَى تَزْوِيجِهِ ، فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي إِجْبَارِ السَّيِّدِ عَلَى إِنْكَاحِهِ قَوْلَيْنِ . فَلَوْ أَرَادَ السَّيِّدُ إِجْبَارَ عَبْدِهِ عَلَى التَّزْوِيجِ ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ عَلَى قَوْلَيْنِ . فَأَمَّا الْأَمَةُ إِذَا أَرَادَ السَّيِّدُ إِجْبَارَهَا عَلَى التَّزْوِيجِ فَلَهُ ذَلِكَ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَلَوْ دَعَتِ الْأَمَةُ السَّيِّدَ إِلَى تَزْوِيجِهَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ إِذَا كَانَتْ تَحِلُّ لَهُ : لِأَنَّهَا فِرَاشٌ لَهُ لَوِ اسْتَمْتَعَ بِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِلُّ لَهُ : لِكَوْنِهَا أُخْتَهُ أَوْ خَالَتَهُ أَوْ عَمَّتَهُ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ ، فَهَلْ يُجْبَرُ السَّيِّدُ عَلَى تَزْوِيجِهَا إِذَا دَعَتْهُ إِلَيْهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي إِجْبَارِهِ عَلَى تَزْوِيجِ الْعَبْدِ ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَتِ الْأَمَةُ مِلْكًا لِامْرَأَةٍ إجبارها علي تزويجها كَانَ فِي إِجْبَارِهَا عَلَى تَزْوِيجِهَا وَجْهَانِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فَنَكَحَ نِكَاحًا فَاسِدًا العبد فَفِيهَا قَوْلَانِ ، أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَإِذْنِهِ لَهُ بِالتِّجَارَةِ ، فَيُعْطِي مِنْ مَالٍ إِنْ كَانَ لَهُ وَإِلَّا فَمَتَى عَتَقَ ، وَالْآخَرُ : كَالضَّمَانِ عَنْهُ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَبِيعَهُ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا مِمَّا قَدْ ذَكَرْنَاهُ ، وَأَنَّ الْفَاسِدَ مِنْ مَنَاكِحِ الْعَبْدِ هَلْ تَدْخُلُ فِي مُطْلَقِ إِذْنِ السَّيِّدِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَذَكَرْنَا مِنَ التَّفْرِيعِ عَلَيْهِمَا مَا أَجْزَأَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ مَا يَحْرُمُ وَمَا يَحِلُّ مِنْ نِكَاحِ الْحَرَائِرِ وَمِنَ الْإِمَاءِ وَالْجَمْعِ بَيْنَهُنَّ

بيان أَصْلُ مَا يَحْرُمُ بِهِ النِّسَاءُ

بَابُ مَا يَحْرُمُ وَمَا يَحِلُّ مِنْ نِكَاحِ الْحَرَائِرِ وَمِنَ الْإِمَاءِ ، وَالْجَمْعِ بَيْنَهُنَّ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ، مِنَ الْجَامِعِ مِنْ كِتَابِ مَا يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ ، وَمِنَ النِّكَاحِ الْقَدِيمِ ، وَمِنَ الْإِمْلَاءِ ، وَمِنَ الرَّضَاعِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : " أَصْلُ مَا يَحْرُمُ بِهِ النِّسَاءُ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا بِأَنْسَابٍ ، وَالْآخَرُ بِأَسْبَابٍ ، مِنْ حَادِثِ نِكَاحٍ أَوْ رَضَاعٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْمُحَرَّمَاتُ مِنَ النِّسَاءِ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : ضَرْبٌ حَرُمَتْ أَعْيَانُهُنَّ عَلَى التَّأْبِيدِ المحرمات من النساء ، وَضَرْبٌ حَرُمَ تَحْرِيمَ جَمْعٍ المحرمات من النساء ، فَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ الْأَعْيَانِ عَلَى التَّأْبِيدِ ، فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : بِأَنْسَابٍ . وَالثَّانِي : بِأَسْبَابٍ . فَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ بِالْأَنْسَابِ فَالتَّجْرِيمُ طَارِئٌ عَلَيْهِنَّ ، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِمَا فِي كِتَابِهِ ، فَنَصَّ عَلَى تَحْرِيمِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ امْرَأَةً : سَبْعٌ مِنْهُنَّ حَرُمْنَ بِأَنْسَابٍ ، وَسَبْعٌ مِنْهُنَّ حَرُمْنَ بِأَسْبَابٍ . فَأَمَّا السَّبْعُ الْمُحَرَّمَاتُ بِالْأَنْسَابِ فَضَرْبَانِ : ضَرْبٌ حَرُمْنَ بِرَضَاعٍ ، وَضَرْبٌ حَرُمْنَ بِنِكَاحٍ ، وَهُنَّ الْمَذْكُورَاتُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ [ النِّسَاءِ : 23 ] فَذَكَرَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ بِالرَّضَاعِ من الأنساب اثْنَتَيْنِ ، ثُمَّ قَالَ : وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [ النِّسَاءِ : 23 ] وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى : وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [ النِّسَاءِ : 22 ] فَذَكَرَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ بِالنِّكَاحِ خَمْسًا : أَرْبَعٌ مِنْهُنَّ تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ وَخَامِسَةٌ تَحْرِيمَ جَمْعٍ ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ، فَقَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَ السَّبْعِ الْمُحَرَّمَاتِ بِالْأَنْسَابِ لِتَغْلِيظِ حُرْمَتِهِنَّ ، وَأَنَّ تَحْرِيمَهُنَّ لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْ وُجُودِهِنَّ ، فَأَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِذِكْرِهَا الْأُمُّ من المحرمات بالنسب الأم : لِأَنَّهَا أَغْلَظُ حُرْمَةً فَحَرَّمَهَا بِقَوْلِهِ : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا التَّحْرِيمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إِلَى مَاذَا تُوُجِّهُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ : أَنَّهُ مُتَوَجَّهٌ إِلَى الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ مَعًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مُتَوَجَّهٌ إِلَى الْعَقْدِ . فَأَمَّا الْوَطْءُ فَمُحَرَّمٌ بِالْعَقْلِ ، وَالْأَوَّلُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ أَصَحُّ : لِأَنَّ الْعَقْلَ لَوْ أَوْجَبَ تَحْرِيمَ

وَطْئِهَا لَمَا مَنَعَ أَنْ يَكُونَ الشَّرْعُ وَارِدًا بِهِ وَمُؤَكِّدًا لَهُ ، وَإِذَا حَرُمَتِ الْأُمُّ ، فَكَذَلِكَ أُمَّهَاتُهَا وَإِنْ عَلَوْنَ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ كَأُمِّ الْأُمِّ وَجَدَّتِهَا ، وَمِنْ قِبَلِ الْأَبِ كَأُمِّ الْأَبِ وَجَدَّاتِهِ لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ حَرُمْنَ بِالِاسْمِ أَوْ بِمَعْنَاهُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : حَرُمْنَ بِالِاسْمِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : لِأَنَّ كُلًّا تُسَمَّى أُمًّا . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ اسْمُ الْأُمِّ مُنْطَلِقًا عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حَقِيقَةً لُغَةً وَشَرْعًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : حَرُمْنَ لِمَعْنَى الِاسْمِ وَهُوَ وُجُودُ الْوِلَادَةِ وَالْعَصَبَةِ فِيهِنَّ ، فَحَرُمْنَ كَالْأُمِّ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى دُونَ حَقِيقَةِ الِاسْمِ ، وَيَكُونُ انْطِلَاقُ اسْمِ الْأُمِّ عَلَيْهِنَّ مَجَازًا فِي اللُّغَةِ ، وَحُكْمًا فِي الشَّرْعِ . فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَطِئَ أُمَّهُ بِعَقْدٍ أَوْ غَيْرِ عَقْدٍ ، حُدَّ حَدَّ الزِّنَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَجَعْلَ الْعَقْدَ شُبْهَةً فِي إِدْرَائِهِ عَنْهُ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ النَّصَّ الْمَقْطُوعَ بِهِ يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِ الشُّبْهَةِ عَلَيْهِ ، لَا خُرُوجِهِ مِنْ أَنْ يُكُونَ نَصًّا قَاطِعًا . وَالثَّانِي مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ : الْبَنَاتُ ، فَهُنَّ مُحْرِمَاتٌ عَلَى الْآبَاءِ ، وَهَلْ تَنَاوَلَ النَّصُّ فِيهِنَّ تَحْرِيمَ الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ مَعًا أَمْ لَا ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ ، ثُمَّ كَذَلِكَ بَنَاتُ الْبَنَاتِ وَالْأَبْنَاءِ ، وَإِنْ سَفَلْنَ ، ثُمَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : حَرُمْنَ بِالِاسْمِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : لِأَنَّ كُلًّا يُسَمَّى بِنْتًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : بِمَعْنَى الِاسْمِ مِنْ وُجُودِ الْوِلَادَةِ وَالْبَعْضِيَّةِ ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَطِئَ بِنْتَهُ بِعَقْدٍ أَوْ غَيْرِ عَقْدٍ ، حُدَّ ، وَأَدْرَأَ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْهُ الْحَدَّ بِالْعَقْدِ . وَالثَّالِثُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ : الْأَخَوَاتُ ، فَنِكَاحُهُنَّ حَرَامٌ ، وَسَوَاءً كَانَتْ أُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ ، أَوْ أُخْتًا لِأَبٍ ، أَوْ أُخْتًا لِأُمٍّ ، وَهِيَ بَاسِمِ الْأَخَوَاتِ مُحَرَّمَاتٌ ، فَلَوْ وَطِئَ رِجْلٌ أُخْتَهُ نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ بِعَقْدِ نِكَاحٍ حُدَّ ، وَإِنْ كَانَ بِمِلْكِ يَمِينٍ ، فَفِي وُجُوبِ حَدِّهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُحَدُّ كَالنِّكَاحِ . وَالثَّانِي : لَا يُحَدُّ لِوَطْئِهِ بِالْمِلْكِ ، فَإِنْ حُدَّ لِوَطْئِهِ بِالنِّكَاحِ لِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ ، فَزَالَتِ الشُّبْهَةُ وَالْمِلْكُ ثَابِتٌ فِيهَا فَثَبَتَتْ شُبْهَتُهُ ، وَالْأَمَةُ تُحَدُّ فِي وَطْئِهَا بِنِكَاحٍ وَمِلْكٍ : لِأَنَّ مِلْكَهَا يَزُولُ بِشِرَائِهَا ، وَمِلْكُ الْأُخْتِ لَا يَزُولُ ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهَا الْعَقْدُ وَيَلْحَقْ بِهِ وَلَدُهَا وَإِنْ ضَرَّ وَتَصِيرُ الْأُخْتُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ ، وَلَيْسَ يَلْحَقُ وَلَدٌ مَعَ وُجُوبِ الْحَدِّ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَهُوَ إِذَا وَطِئَ أُخْتَهُ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ ، فَإِنْ وَطِئَ الذِّمِّيُّ مُسْلِمَةً عَلَى مِلْكِهِ كَانَ فِي حَدِّهِ قَوْلَانِ ، وَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ . وَالرَّابِعُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ : وَهُوَ أَخَوَاتُ الْأَبِ ، وَسَوَاءً كُنَّ لِأَبٍ وَأُمٍّ ، أَوْ لِأَبٍ ، أَوْ لِأُمٍّ ، وَكُلُّهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ بِالِاسْمِ ، ثُمَّ عَمَّاتُ الْأَبِ وَالْأُمِّ ، وَعَمَّاتُ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ ، كُلُّهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ كَالْعَمَّاتِ ،

وَهَلْ حَرُمْنَ بِالِاسْمِ أَوْ بِمَعْنَاهُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، فَإِنْ وَطِئَ إِحْدَاهُنَّ أَخَوَاتُ الْأَبِ بِعَقْدِ نِكَاحٍ حُدَّ ، وَإِنْ كَانَ بِمِلْكِ يَمِينٍ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ . وَالْخَامِسُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ : الْخَالَاتُ ، وَهُنَّ أَخَوَاتُ الْأُمِّ ، وَسَوَاءً كُنَّ لِأَبٍ وَأُمٍّ ، أَوْ لِأَبٍ ، أَوْ لِأُمٍّ ، وَكُلُّهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ بِالِاسْمِ خَالَاتُ الْأَبِ وَالْأُمِّ ، ثُمَّ خَالَاتُ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ ، كُلُّهُنَّ مُحْرِمَاتٌ كَالْخَالَاتِ ، وَهَلْ حَرُمْنَ بِالِاسْمِ أَوْ بِمَعْنَاهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ ، فَإِنْ وَطِئَ إِحْدَاهُنَّ الْخَالَاتُ بِعَقْدِ نِكَاحٍ حُدَّ ، وَإِنْ كَانَ بِمِلْكِ يَمِينٍ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ : وَالسَّادِسُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ : بَنَاتُ الْإِخْوَةِ ، وَسَوَاءً كَانَ الْإِخْوَةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ ، أَوْ لِأَبٍ ، أَوْ لِأُمٍّ ، وَكُلُّهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ بِالِاسْمِ ، ثُمَّ بَنَاتُ بَنِي الْإِخْوَةِ ، وَبَنَاتُ بَنَاتِ الْإِخْوَةِ ، وَإِنْ سَفَلْنَ ، كُلُّهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ كَبَنَاتِ الْإِخْوَةِ ، وَهَلْ حَرُمْنَ بِالِاسْمِ أَوْ بِمَعْنَاهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ ، فَإِنْ وَطِئَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بَنَاتُ الْإِخْوَةِ بِعَقْدِ نِكَاحٍ حُدَّ ، وَإِنْ كَانَ بِمِلْكِ يَمِينٍ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ : وَالسَّابِعُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ : بَنَاتُ الْأَخَوَاتِ ، سَوَاءً كَانَتِ الْأَخَوَاتُ لِأَبٍ وَأُمٍّ ، أَوْ لِأَبٍ ، أَوْ لِأُمٍّ ، وَكُلُّهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ بِالِاسْمِ ، وَكَذَلِكَ بَنَاتُ بَنِي الْأَخَوَاتِ ، وَإِنْ سَفَلْنَ ، كُلُّهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ كَبَنَاتِ الْأَخَوَاتِ ، وَهَلْ حَرُمْنَ بِالِاسْمِ أَوْ بِمَعْنَاهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ ، وَالْوَلَدُ يَلْحَقُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ ، إِذَا كَانَ الْوَطْءُ بِمِلْكِ يَمِينٍ .

مَسْأَلَةٌ مَا حَرُمَ مِنَ النَّسَبِ حَرُمَ مِنَ الرِّضَاعِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَا حَرُمَ مِنَ النَّسَبِ حَرُمَ مِنَ الرِّضَاعِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ بِالرَّضَاعِ ، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى اثْنَتَيْنِ : الْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ بِالرَّضَاعِ مَقْصُورًا عَلَيْهِمَا ، كَمَا قَالَ دَاوُدُ وُقُوفًا عَلَى النَّصِّ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّيًا عَنْهُمَا إِلَى غَيْرِهِمَا كَذَوَاتِ الْأَنْسَابِ ، وَلِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلَادَةِ . وَرُوِيَ غَيْرُهَا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ وَجَبَ إِجْرَاءُ الرَّضَاعِ فِي التَّحْرِيمِ عَلَى حُكْمِ النِّسَبِ ، فَيَحْرُمُ بِالرَّضَاعِ سَبْعٌ كَمَا يَحْرُمُ بِالنَّسَبِ الْأُمَّهَاتُ وَالْبَنَاتُ وَالْأَخَوَاتُ وَالْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ . وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَرْضَعَتْ وَلَدًا بِلَبَنٍ مِنْ زَوْجٍ ، فَالْوَلَدُ الْمُرْضَعُ ابْنٌ لَهَا وَلِلزَّوْجِ : لِأَنَّ اللَّبَنَ حَادِثٌ عَنْهَا بِسَبَبٍ يَنْتَسِبُ إِلَى الزَّوْجِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْمُرْضَعُ ابْنًا لَهَا كَالْمَوْلُودِ مِنْهُمَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ الْمُرْضِعَةُ أُمًّا لَهُ ، وَكَانَ أُمَّهَاتُهَا جَدَّاتِهِ مِنْ أُمٍّ ، وَأَبَاؤُهَا أَجْدَادَهُ مِنْ أُمٍّ ، وَبَنَاتُهَا أَخَوَاتِهَا مِنْ أُمٍّ ، وَإِخْوَتُهَا أَخْوَالَهُ مِنْ أُمٍّ ، وَأَخَوَاتُهَا خَالَاتِهِ مِنْ أُمٍّ ، وَكَانَ الزَّوْجُ أَبًا لَهُ ، وَآبَاؤُهُ

أَجْدَادَهُ مِنْ أَبٍ ، وَأُمَّهَاتُهِ جَدَّاتِهِ مِنْ أَبٍ ، وَبَنُوهُ إِخْوَتَهُ مِنْ أَبٍ ، وَإِخْوَتُهُ أَعْمَامَهُ ، وَأَخَوَاتُهُ عَمَّاتِهِ ، كَذَلِكَ عَلَى تَرْتِيبِ الْأَنْسَابِ ، فَيَكُونُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَحْكَامِ ، فَتَصِيرُ الْمُحَرَّمَاتُ بِالرَّضَاعِ سَبْعًا ، كَمَا كَانَ الْمُحَرَّمَاتُ بِالْأَنْسَابِ سَبْعًا ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِنَّ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الْمُتَفَرِّعَاتِ عَلَى الْمُنَاسِبَاتِ ، فَتَكُونُ أُخْتُ الْأَبِ مِنَ الرَّضَاعِ عَمَّتَهُ مُحَرَّمَةً ، سَوَاءً كَانَتْ أُخْتًا مَنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ ، وَكَذَلِكَ أُخْتُ الْجَدِّ مِنَ الرَّضَاعِ وَآبَائِهِ مُحَرَّمَةً كَالْعَمَّةِ ، سَوَاءً كَانَتْ أُخْتًا مَنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ ، وَهَلْ يَحْرُمُ بِاسْمِ الْعَمَّةِ أَوْ بِمَعْنَاهَا ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ وَتَكُونُ أُخْتُ الْأُمِّ مِنَ الرَّضَاعِ خَالَةً مُحَرَّمَةً ، سَوَاءً كَانَتْ أُخْتًا بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ ، وَكَذَلِكَ أُخْتُ الْجَدَّةِ وَأُمُّهَا كَالْخَالَةِ فِي التَّحْرِيمِ سَوَاءً كَانَتْ أُخْتًا مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ ، وَهَلْ يَحْرُمُ بِاسْمِ الْخَالَةِ أَوْ بِمَعْنَاهَا عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُ سَائِرِ الْقَرَابَاتِ مِنَ الرَّضَاعِ يُحْمَلُ عَلَى حُكْمِ الْقَرَابَاتِ مِنَ النَّسَبِ ، فَلَوْ وَطِئَ الرَّجُلُ أُمَّهُ مِنَ الرَّضَاعِ بِعَقْدِ نِكَاحٍ حُدَّ ، وَإِنْ كَانَ بِمِلْكِ يَمِينٍ فَعَلَى قَوْلَيْنِ ، وَفِي الْأُمِّ الْمُنَاسِبَةِ يُحَدُّ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِنْ كَانَ مِنْ مِلْكِهَا : لِأَنَّهَا تَعْتِقُ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ ، فَارْتَفَعَتْ شُبْهَتُهُ بِزَوَالِ الْمِلْكِ فَحُدَّ ، وَالْأُمُّ الْمُرْضِعَةُ لَا تَعْتِقُ بِالْمِلْكِ ، فَكَانَتْ شُبْهَتُهُ بَاقِيَةً مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ فَلَمْ يُحَدَّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَهَكَذَا لَوْ وَطِئَ أُخْتَهُ مِنَ الرَّضَاعِ أَوْ خَالَتَهُ أَوْ عَمَّتَهُ مِنَ الرِّضَاعِ بِعَقْدٍ حُدَّ ، وَإِنْ كَانَ بِمِلْكِ يَمِينٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ ، مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ ، وَالْوَلَدُ يَلْحَقُ إِذَا كَانَ وَطْأُهُ لِوَاحِدَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ بِمِلْكِ يَمِينٍ قَوْلًا وَاحِدًا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَاهُ مِنْ تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ بَعْدَ مَا قَدَّمْنَا مِنَ التَّحْرِيمِ بِالنَّسَبِ ، فَقَدْ مَضَى مِنَ الْمَنْصُوصِ عَلَى تَحْرِيمِهِنَّ فِي الْآيَةِ تَسِعٌ : سَبْعٌ مِنَ النَّسَبِ ، وَاثْنَتَانِ مِنَ الرَّضَاعِ ، وَبَقِيَ مِنَ الْمَنْصُوصِ عَلَى تَحْرِيمِهِنَّ فِي الْآيَةِ خُمْسٌ حَرَّمَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى تَحْرِيمَ مُصَاهَرَةٍ بِعَقْدِ نِكَاحٍ : إِحْدَاهُنَّ أُمُّ الزَّوْجَةِ من محرمات النكاح بسبب المصاهرة بِقَوْلِهِ : وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ . وَالثَّانِيَةُ : بِنْتُ الزَّوْجَةِ من محرمات النكاح بسبب المصاهرة : وَهِيَ الرَّبِيبَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ . وَالثَّالِثَةُ : زَوْجَةُ الِابْنِ من محرمات النكاح بسبب المصاهرة ، وَهِيَ حَلِيلَتُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ . وَالرَّابِعَةُ : زَوْجَةُ الْأَبِ من محرمات النكاح بسبب المصاهرة بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ بِالزِّنَا وَالسِّفَاحِ ، فَإِنْ كَانَ نِكَاحُهُنَّ حَلَالًا لِأَنَّهُنَّ لَمْ يَكُنَّ حَلَائِلَ . وَالْخَامِسَةُ : الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ . فَهَؤُلَاءِ الْخَمْسُ حَرُمْنَ بِالْقُرْآنِ ، ثُمَّ جَاءَتِ السُّنَّةُ بِتَحْرِيمِ اثْنَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا .

وَالثَّانِيَةُ : تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا . وَسَنَذْكُرُ السُّنَّةَ الْوَارِدَةَ ، فَصَارَ الْمُحَرَّمَاتُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ سَبْعًا ، كَمَا كَانَ الْمُحَرَّمَاتُ بِالْأَنْسَابِ سَبْعًا ، وَكَمَا صَارَتِ الْمُحَرَّمَاتُ بِالرَّضَاعِ سَبْعًا ، وَهَؤُلَاءِ السَّبْعُ الْمُحَرَّمَاتُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ يَنْقَسِمُ حُكْمُهُنَّ فِي التَّحْرِيمِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ حَرُمْنَ بِالْعَقْدِ تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ . وَقِسْمٌ حَرُمْنَ بِالْعَقْدِ تَحْرِيمَ جَمْعٍ . وَقِسْمٌ حَرُمْنَ بِالْعَقْدِ تَحْرِيمَ جَمْعٍ وَبِالدُّخُولِ تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ . فَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ بِالْعَقْدِ تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ فَهُنَّ ثَلَاثٌ : إِحْدَاهُنَّ : أُمُّ الزَّوْجَةِ ، هِيَ حَرَامٌ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ عَلَى الْبِنْتِ سَوَاءً دَخَلَ بِالْبِنْتِ أَمْ لَا ، أَقَامَ مَعَهَا أَوْ فَارَقَهَا ، قَدْ صَارَتْ أُمُّهَا حَرَامًا عَلَيْهِ أَبَدًا ، وَكَذَلِكَ أَمُّ الْأُمِّ وَمَنْ عَلَا مِنْ جَدَّاتِهَا حَرُمْنَ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَهَلْ يَحْرُمْنَ بِالِاسْمِ أَوْ بِمَعْنَاهُ ؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ ، فَإِنْ وَطِئَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِعَقْدٍ حُدَّ ، وَإِنْ كَانَ بِمِلْكِ يَمِينٍ فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ . وَالثَّانِيَةُ : زَوْجَةُ الْأَبِ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الِابْنِ بِعَقْدِ الْأَبِ عَلَيْهَا تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ ، سَوَاءً دَخَلَ الْأَبُ بِهَا أَمْ لَا ، وَكَذَلِكَ زَوْجَةُ الْجَدِّ وَمَنْ عَلَا مِنَ الْأَجْدَادِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ ، وَهَلْ حَرُمْنَ بِالِاسْمِ أَوْ بِمَعْنَاهُ ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ ، فَإِنْ وَطِئَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِعَقْدٍ حُدَّ ، وَإِنْ كَانَ بِمِلْكِ يَمِينٍ فَعَلَى قَوْلَيْنِ . رَوَى عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ مَرَّ بِي خَالِي وَمَعَهُ لِوَاءٌ ، فَقُلْتُ : يَا خَالِي ، أَيْنَ تَذْهَبُ ؟ فَقَالَ : بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ آتِيهِ بِرَأْسِهِ . وَالثَّالِثَةُ : زَوْجَةُ الِابْنِ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْأَبِ لِعَقْدِ الِابْنِ عَلَيْهَا تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ ، سَوَاءً دَخَلَ بِهَا الِابْنُ أَمْ لَا ، وَهِيَ الْحَلِيلَةُ ، وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهَا الْحَلِيلَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا سُمِّيَتْ حَلِيلَةً : لِأَنَّهَا تَحِلُّ لِلزَّوْجِ . وَالثَّانِي : لِأَنَّهَا تَحُلُّ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَحُلُّ بِهِ الزَّوْجُ . وَالثَّالِثُ : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحِلُّ إِزَارَ صَاحِبِهِ . وَإِذَا حَرُمَتْ حَلِيلَةُ الِابْنِ ، فَكَذَلِكَ حَلِيلَةُ ابْنِ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ تَحْرُمُ عَلَى الْأَبِ وَإِنْ عَلَا ، وَهَلْ تَحْرُمُ بِالِاسْمِ أَوْ بِمَعْنَاهُ ؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ ، فَإِنْ وَطِئَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِعَقْدٍ حُدَّ ، وَإِنْ كَانَ بِمِلْكِ يَمِينٍ فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ . فَإِنْ كَانَ الِابْنُ قَدْ وَطِئَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ ، وَالْأَبُ قَدْ وَطِئَهَا بِالزَّوْجِيَّةِ حُدَّ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَأَمَّا

الْقَوْلَانِ إِذَا كَانَ الْأَبُ قَدْ وَطِئَهَا بِالزَّوْجِيَّةِ ، وَالِابْنُ قَدْ وَطِئَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ ، فَيُصَوَّرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ بِحَدِّهِ فَلَزِمَهُمَا فِي الْمَعْنَى . وَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ بِالْعَقْدِ تَحْرِيمَ جَمْعٍ ، مِنْهُنَّ ثَلَاثٌ : إِحْدَاهُنَّ : الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ، فَإِذَا عَقَدَ عَلَى امْرَأَةٍ حَرُمَ عَلَيْهِ أُخْتُهَا ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْأُخْتُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ، أَوْ لِلْأَبِ ، أَوْ لِلْأُمِّ ، فَإِذَا فَارَقَ الَّتِي تَزَوَّجَهَا مِنْهُمَا حَلَّ لَهُ أُخْتُهَا . وَالثَّانِيَةُ : الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ، وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّةِ أَبِيهَا وَجَدِّهَا ، وَعَمَّةِ أُمِّهَا وَجَدَّتِهَا ، ثُمَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحْرِيمِهِمَا بِالِاسْمِ أَوْ بِمَعْنَاهُ . وَالثَّالِثُ : الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا ، وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَالَةِ أُمِّهَا وَجَدَّاتِهَا ، وَخَالَةِ أَبِيهَا وَأَجْدَادِهَا ، ثُمَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحْرِيمِهِمَا بِالِاسْمِ أَوْ بِمَعْنَاهُ . وَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ بِالْعَقْدِ تَحْرِيمَ عَقْدٍ وَبِالدُّخُولِ تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ ، فَجِنْسٌ وَاحِدٌ ، وَهُنَّ الرَّبَائِبُ . وَالرَّبِيبَةُ بِنْتُ الزَّوْجَةِ ، فَإِذَا عَقَدَ عَلَى امْرَأَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ ابْنَتُهَا تَحْرِيمَ جَمْعٍ ، فَإِذَا دَخَلَ بِالْأُمِّ حَرُمَتْ عَلَيْهِ ابْنَتُهَا تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ ، وَكَذَلِكَ بِنْتُ بِنْتِهَا ، وَبِنْتُ ابْنِهَا وَإِنْ سَفُلَتْ تَحْرُمُ بِالْعَقْدِ تَحْرِيمَ جَمْعٍ ، وَبِالدُّخُولِ تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ ، ثُمَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحْرِيمِهَا بِالِاسْمِ أَوْ بِمَعْنَاهُ . فَإِنْ قِيلَ : لِمَاذَا حَرَّمْتُمْ بِنْتَ الرَّبِيبَةِ كَالرَّبِيبَةِ : فَهَلَّا حَرَّمْتُمْ بِنْتَ حَلِيلَةِ الِابْنِ كَالْحَلِيلَةِ ؟ . قُلْنَا : لَا تَحْرُمُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ بِنْتَ الرَّبِيبَةِ يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الرَّبِيبَةِ فَحُرِّمَتْ كَالرَّبِيبَةِ ، وَبَنَتَ الْحَلِيلَةِ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْحَلِيلَةِ فَلَمْ تُحَرَّمْ . وَالثَّانِي : هُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرِ فِي تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ إِنَّمَا هُوَ يَصِيرُ الزَّوْجُ الْوَاحِدُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ ذِي نَسَبَيْنِ كَحَلِيلَةِ الِابْنِ مَعَ الْأَبِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي بِنْتِ الرَّبِيبَةِ فَحُرِّمَتْ كَالرَّبِيبَةِ ، وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي بِنْتِ الْحَلِيلَةِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَجْمَعِ الْوَاحِدُ ذَاتَ نَسَبَيْنِ ، وَلَا اجْتَمَعَ فِي الْوَاحِدَةِ ذُو نَسَبَيْنِ ، فَلَمْ يُحَرَّمْ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ تحريم الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فَحَرَامٌ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ ، وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ الأختين ، وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ بِالشِّرَاءِ جَازَ ، إِذَا لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْتِمْتَاعِ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْمِلْكِ التَّحَوُّلُ دُونَ الِاسْتِمْتَاعِ : وَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَمْلِكَ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْئُهَا مِنْ أَخَوَاتِهِ وَعَمَّاتِهِ ، وَخَالَفَ عَقْدَ النِّكَاحِ الَّذِي مَقْصُودُهُ الِاسْتِمْتَاعُ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ أُخْتٍ وَعَمَّةٍ ، فَلِذَلِكَ بَطَلَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ ، وَلَمْ يَبْطُلِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ ، فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ ، فَيَطَأَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لَمْ يَجُزْ . وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ .

وَقَالَ دَاوُدُ : يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَيَ الِاسْتِمْتَاعِ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَرُبَّمَا أُضِيفَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ : وَاسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ أُخْتَيْنِ ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [ النِّسَاءِ : 3 ] فَأَطْلَقَ مِلْكَ الْيَمِينِ ، وَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ ، ثُمَّ قَالَ : وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ النِّكَاحِ نَوْعَانِ : تَحْرِيمُ عَدَدٍ ، وَتَحْرِيمُ جَمْعٍ . فَأَمَّا الْعَدَدُ : فَهُوَ تَحْرِيمُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ في النكاح . وَأَمَّا تَحْرِيمُ الْجَمْعِ : فَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ في النكاح . فَلَمَّا لَمْ يَعْتَبِرْ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ تَحْرِيمَ الْعَدَدِ وَجَازَ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِأَيِّ عَدَدٍ شَاءَ مِنَ الْإِمَاءِ ، وَجَبَ أَنْ لَا يَعْتَبِرَ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِأُخْتَيْنِ . قَالَ دَاوُدُ : وَلِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْتِمْتَاعِ غَيْرُ مُمْكِنٍ : لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ إِلَّا أَنْ يَطَأَ إِحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ مُمْكِنٌ ، فَلِذَلِكَ حَلَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِالْمِلْكِ لِتَعَذُّرِهِ ، وَحَرُمَ فِي النِّكَاحِ لِإِمْكَانِهِ ، وَهَذَا خَطَأٌ . وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ تَحْرِيمِهَا بِنِكَاحٍ أَوْ مِلْكٍ : وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ مُسْتَفِيضٌ فِي الصَّحَابَةِ كَالْإِجْمَاعِ . رَوَى مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ : أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ، فَسَأَلَهُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ ، فَقَالَ عُثْمَانُ : أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ ، وَالتَّحْرِيمُ أَوْلَى ، فَخَرَجَ السَّائِلُ فَلَقِيَ رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَةِ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : لَوْ كَانَ مِنَ الْأَمْرِ إِلَيَّ شَيْءٌ ثُمَّ وَجَدْتُ رَجُلًا يَفْعَلُ هَذَا لَجَعَلْتُهُ نَكَالًا . قَالَ مَالِكٌ : قَالَ الزُّهْرِيُّ : أُرَاهُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ . وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَائِشَةَ ، وَعَمَّارٍ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ خِلَافٌ فَصَارَ إِجْمَاعًا ، وَلِأَنَّ التَّحْرِيمَ ضَرْبَانِ : تَحْرِيمُ تَأْبِيدٍ في النكاح كَتَحْرِيمِ أُمَّهَاتِ الْمَوْطُوءَةِ وَبَنَاتِهَا ، وَتَحْرِيمُ جَمْعٍ في النكاح كَتَحْرِيمِ أَخَوَاتِ الْمَوْطُوءَةِ وَعَمَّاتِهَا . فَلَمَّا كَانَ تَحْرِيمُ التَّأْبِيدِ مُعْتَبَرًا فِي وَطْءِ الْإِمَاءِ كَالنِّكَاحِ وَجَبَ بِأَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ مُعْتَبَرًا فِي وَطْئِهِنَّ كَالنِّكَاحِ ، وَلِأَنَّ ثُبُوتَ الْفِرَاشِ بِالْوَطْءِ أَقْوَى مِنْ ثُبُوتِهِ بِالْعَقْدِ : لِأَنَّهُ يَثْبُتُ فِي فَاسِدِ الْوَطْءِ إِذَا كَانَ عَنْ شُبْهَةٍ ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِهِ ، وَلَا يَثْبُتُ فِي فَاسِدِ الْعَقْدِ ، وَإِنْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِهِ ، فَلَمَّا ثَبَتَ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ فِي الْعَقْدِ كَانَ تَحْرِيمُهُ فِي الْوَطْءِ أَوْلَى : وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ فِي النِّكَاحِ إِنَّمَا كَانَ لِيُدْفَعَ بِهِ تَوَاصُلُ ذَوِي الْأَرْحَامِ فَلَا يَتَقَاطَعُونَ : لِأَنَّ الضَّرَائِرَ مِنَ النِّسَاءِ مُتَقَاطِعَاتٌ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ كَوُجُودِهِ فِيهِمَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي التَّحْرِيمِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110