كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

قَالَ الشَّافِعِيُّ : يَعْنِي أَنَّ خِيَانَةَ الصَّدَقَةِ تُهْلِكُ الْمَالَ الَّذِي تُخَالِطُهُ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَا أَخَذَ الْعَامِلُ مِنْ عِمَالَتِهِ فَهُوَ غُلُولٌ " ، فَإِنْ قَبِلَ السَّاعِي هَدِيَّةً عَلَى تَرْكِ حَقٍّ أَوْ دَفْعِ ظُلْمٍ فَعَلَيْهِ رَدُّهَا ، وَإِنْ قَبِلَهَا لِشُكْرٍ كَانَ فِي إِنْعَامٍ كَانَ مِنْهُ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : كَانَتْ فِي الصَّدَقَاتِ لَا يَسَعُهُ عِنْدِي غَيْرُهُ ، إِلَّا أَنْ يُكَافِئَهُ بِقَدْرِهَا عَلَيْهَا فَيَسَعُهُ تَمَوُّلُهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ تَعْجِيلِ الصَّدَقَةِ

بَابُ تَعْجِيلِ الصَّدَقَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكَرًا ، فَجَاءَتْهُ إِبِلٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ . قَالَ أَبُو رَافِعٍ : فَأَمَرَنِي أَنْ أَقْضِيَهُ إِيَّاهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ : الْعِلْمُ يُحِيطُ أَنَّهُ لَا يُقْضَى مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ وَالصَّدَقَةُ لَا تَحِلُّ لَهُ ، إِلَّا وَقَدْ تَسَلَّفَ لِأَهْلِهَا مَا يَقْضِيهِ مِنْ مَالِهِمْ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَالِفِ بِاللَّهِ " فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلَيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ " وَعَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَحْلِفُ وَيُكَفِّرُ ثُمَّ يَحْنَثُ ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَبْعَثُ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ إِلَى الَّذِي تُجْمَعُ عِنْدَهُ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمَيْنِ ، قَالَ : فَبِهَذَا نَأْخُذُ . قَالَ الْمُزَنِيُّ : وَنَجْعَلُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَا هُوَ أَوْلَى بِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسَلَّفَ صَدَقَةَ الْعَبَّاسِ قَبْلَ حُلُولِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : يَجُوزُ عِنْدَنَا تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ ، وَالْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ . وَقَالَ رَبِيعَةُ وَدَاوُدُ : لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا جَمِيعًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجِبُ تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ دُونَ الْكَفَّارَةِ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ دُونَ الزَّكَاةِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا : وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ تَقْدِيمِ الزَّكَاةِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا زَكَاةَ عَلَى مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ " ، فَنَفَى وُجُوبَ الزَّكَاةِ وَاسْمَهَا ، وَإِذَا كَانَ الِاسْمُ مَنْفِيًّا لَمْ يَكُنِ الْإِجْزَاءُ وَاقِعًا . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ تَعْجِيلُ زَكَاةٍ قَبْلَ وُجُوبِهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجُوزَ كَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ ، لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ فِعْلُهَا قَبْلَ وُجُوبِهَا كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ بِعَدَدٍ وَأَمَدٍ ، فَالْعَدَدُ النِّصَابُ ، وَالْأَمَدُ الْحَوْلُ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْعَدَدِ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْأَمَدِ ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَفْتَقِرُ إِلَى مَنْ تَجِبُ لَهُ وَإِلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَجَّلَهَا مَنْ تَجِبُ لَهُ وَهُوَ أَنْ يُعْطِيَ غَنِيًّا وَيَنْتَظِرَ فَقْرَهُ ، كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَجِّلَهَا مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا

ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مَا رَوَاهُ حُجَيَّةُ بْنُ عَدِيٍّ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الْعَبَّاسَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَرَوَى أَبُو الْبَخْتَرِيِّ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ مِنَ الْعَبَّاسِ صَدَقَةَ عَامَيْنِ وَرَوَى مِقْسَمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَسْلَفَنَا الْعَبَّاسُ صَدَقَةَ الْعَامِ وَالْعَامِ الْمُقْبِلِ فَإِنْ قِيلَ : فَتَعْجِيلُ زَكَاةِ عَامَيْنِ عِنْدَكُمْ لَا يَجُوزُ ؟ قُلْنَا : فِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْأَظْهَرُ جَوَازُ تَعْجِيلِهَا أَعْوَامًا إِذَا بَقِيَ بَعْدَ الْمُعَجَّلِ نِصَابٌ اسْتِدْلَالًا بِظَاهِرِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ أَكْثَرَ مِنْ عَامٍ وَاحِدٍ . فَعَلَى هَذَا عَنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ تَعَجَّلَ ذَلِكَ فِي عَامَيْنِ مُتَوَالِيَيْنِ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ فِي رَأْسِ الْحَوْلِ زَكَاةَ الْعَامِ الْمَاضِي وَهِيَ وَاجِبَةٌ وَزَكَاةَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَهِيَ تَعْجِيلٌ ، فَنَقَلَ الرَّاوِي أَنَّهُ اسْتَسْلَفَ مِنْهُ زَكَاةَ عَامَيْنِ ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكَرًا ، فَلَمَّا جَاءَتْهُ إِبِلٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَقْضِيَهُ فَلَمَّا رَدَّ الْقَرْضَ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَدِ اقْتَرَضَ لِأَهْلِ الصَّدَقَةِ ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ مَالَ الصَّدَقَةِ فِي غَيْرِ أَهْلِهَا ، مَعَ أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لَهُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالدَّلَالَةُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الصَّدَقَةَ إِذَا وَجَبَتْ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَجَبَتْ لَأَهِلَ السُّهْمَانِ ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَتَعَجَّلَهَا مَنْ تَجِبُ لَهُ قَبْلَ وُجُوبِهَا لَهُ ، جَازَ أَنْ يُعَجِّلَهَا مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ قَبْلَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْقَرْضَ الْمُعَجَّلَ بَدَلٌ وَالزَّكَاةَ مُبْدَلٌ ، فَلَمَّا جَازَ تَعْجِيلُ الْبَدَلِ عَنِ الزَّكَاةِ كَانَ تَعْجِيلُ الْمُبْدَلِ وَهِيَ الزَّكَاةُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْمُبْدَلَ أَكْمَلُ حَالًا مِنَ الْبَدَلِ ، فَكَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَائِلُ .

أَحَدُهَا : جَوَازُ تَعْجِيلِ الصَّدَقَةِ . وَالثَّانِي : جَوَازُ قَرْضِ الْحَيَوَانِ . وَالثَّالِثَ : جَوَازُ السَّلَمِ فِيهِ أي الحيوان . وَالرَّابِعُ : أَنَّ مَنِ اقْتَرَضَ حَيَوَانًا كيفية رده فَعَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : عَلَيْهِ رَدُّ قِيمَتِهِ كَالْغَصْبِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ اقْتَرَضَ بَكَرًا فَرَدَّ رَبَاعِيًا وَذَلِكَ أَزْيَدُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ مَالَ الصَّدَقَةِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ ، قِيلَ : إِنْ كَانَ ذَلِكَ أَزْيَدَ فِي السِّنِّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْقَصَ فِي الْجَوْدَةِ فَتَكُونَ زِيَادَةُ السِّنِّ مُقَابِلَةً لِنُقْصَانِ الْجَوْدَةِ ، فَهَذَا جَوَابٌ . أَوْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مِمَّنْ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ ، فَكَانَ مَا قَابَلَ دَيْنَهُ قَضَاءً وَمَا زَادَ عَلَيْهِ صَدَقَةً ، وَهَذَا جَوَابٌ ثَانٍ . أَوْ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ لِيُرَغِّبَ النَّاسَ فِي قَرْضِ الْفُقَرَاءِ ، وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ هَذَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ ، وَهَذَا جَوَابٌ ثَالِثٌ ، ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى : أَنَّهُ حَقٌّ فِي مَالٍ يَجِبُ لِسَبَبَيْنِ يَخْتَصَّانِ بِهِ جَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى أَحَدِ سَبَبَيْهِ ، كَالْكَفَّارَةِ الَّتِي يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا بَعْدَ الْيَمِينِ وَقَبْلَ الْحِنْثِ . وَقَوْلُنَا : " حَقٌّ فِي مَالٍ " احْتِرَازًا مِنْ صَوْمِ الْكَفَّارَةِ . وَقَوْلُنَا " يَجِبُ بِسَبَبَيْنِ " احْتِرَازًا مِنَ الْأُضْحِيَةِ ، وَقَوْلُنَا " يَخْتَصَّانِ بِهِ " احْتِرَازًا مِنَ الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ ، لِأَنَّهُمَا لَا يَخْتَصَّانِ بِالزَّكَاةِ ، وَالْحَوْلُ وَالنِّصَابُ يَخْتَصَّانِ بِالزَّكَاةِ ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ ، يَجِبُ بِالْحَوْلِ وَيَجِبُ بِغَيْرِ حَوْلٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ تَقْدِيمُ مَا يَجِبُ بِالْحَوْلِ قَبْلَ حَوْلِهِ كَالدِّيَةِ الَّتِي يَكُونُ عَمْدُهَا حَالًا وَعَطَاهَا مُؤَجَّلًا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ أَجَلِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ ضَرْبَانِ : حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَحَقٌّ لِآدَمِيٍّ ، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ ضَرْبَانِ : حَقٌّ عَلَى بَدَنٍ وَحَقٌّ فِي مَالٍ ، فَمَا كَانَ عَلَى الْبَدَنِ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ ، وَمَا كَانَ فِي مَالٍ كَالدُّيُونِ يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ ، كَذَلِكَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ضَرْبَانِ : حَقٌّ عَلَى بَدَنٍ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ ، وَحَقٌّ فِي مَالٍ كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا : أَنَّ كُلَّ مَالٍ يَحُلُّ بِانْقِضَاءِ مُدَّةٍ يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ تِلْكَ الْمُدَّةِ كَالدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ ، وَلِأَنَّ الْآجَالَ إِنَّمَا تَثْبُتُ رِفْقًا بِمَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ لَا يَرْتَفِقَ بِهِ وَيُؤَدِّيَ الْحَقَّ قَبْلَ أَجَلِهِ ، فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ ، وَأَرْفَقَ صَاحِبَ الْحَقِّ بِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ الْإِجْزَاءُ فِي مَوْقِعِهِ الْجَوَابُ ، أَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا زَكَاةَ عَلَى مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَالْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْوُجُوبِ دُونَ الْإِجْزَاءِ بِدَلِيلِ مَا مَضَى . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ ، فَقَدْ كَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا ، وَيُجِيزُ تَعْجِيلَ زَكَاةِ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ ، إِذَا عَلِمَ أَنَّ فِيهَا عَلَى غَالِبِ الْعَادَةِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَمْنَعُ مِنْ تَعْجِيلِ زَكَاتِهَا ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِشَيْئَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ تَجِبُ زَكَاتُهَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ ، وَتِلْكَ بِسَبَبَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ حَالَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ عِنْدَ تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ مُخَالِفٌ لِحَالِهِ عِنْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ ، لِأَنَّهُ عِنْدَ التَّعْجِيلِ قَصَلٌ وَبَلَحٌ وَالْمَوَاشِي فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فَالْمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ أَنَّهَا مِنْ أَفْعَالِ الْأَبْدَانِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى النِّصَابِ فَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ قَدَّمَ الْحَقَّ قَبْلَ وُجُودِ أَحَدِ سَبَبَيْهِ ، وَجَازَ قَبْلَ الْحَوْلِ وَبَعْدَ النِّصَابِ لِوُجُودِ أَحَدِ سَبَبَيْهِ كَالْكَفَّارَةِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَى مَنْ تَجِبُ لَهُ قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ لَمْ يَجُزْ أَخْذُهَا مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهَا ، وَلَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إِلَى مَنْ تَجِبُ لَهُ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهَا عَلَى أَنَّ دَفْعَ الزَّكَاةِ إِلَى الْأَغْنِيَاءِ عَيْبٌ ، لِأَنَّهُ مَالٌ مَصْرُوفٌ فِي ذَوِي الْحَاجَاتِ ، وَهُوَ مَالٌ مَأْخُوذٌ مِنْ أَرْبَابِهِ عَلَى وَجْهِ الْمُوَاسَاةِ ، وَقَدْ تُوجَدُ الْمُوَاسَاةُ فِي التَّعْجِيلِ وَلَا تُوجَدُ الْحَاجَةُ فِي الْغِنَى ، فَأَمَّا تَعْجِيلُ زَكَاةِ الْفِطْرِ فَلَا تَجُوزُ قَبْلَ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَتَجُوزُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَقَبْلَ شَوَّالٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا تَسَلَّفَ الْوَالِي لَهُمْ فَهَلَكَ مِنْهُ قَبْلَ دَفْعِهِ إِلَيْهِمْ وَقَدْ فَرَّطَ أَوْ لَمْ يُفَرِّطْ فَهُوَ ضَامِنٌ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّ فِيهِمْ أَهْلَ رُشْدٍ لَا يُوَلَّى عَلَيْهِمْ وَلَيْسَ كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ الَّذِي يَأْخُذُ لَهُ مَا لَا صَلَاحَ لَهُ إِلَّا بِهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا تَعَجَّلَ وَالِي الزَّكَاةِ زَكَاةَ رَجُلٍ مِنْ مَالِهِ قَبْلَ حَوْلِهِ فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَعَجَّلَهَا بِاخْتِيَارِهِ وَنَظَرِهِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَتَعَجَّلَهَا بِمَسْأَلَةٍ ، فَإِنْ تَعَجَّلَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ بَلْ غَلَبَ فِي اجْتِهَادِهِ ؛ لِمَا رَأَى مِنْ حَالِ الْمَسَاكِينِ أَنْ يَسْتَسْلِفَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِمْ رَجَاءً لِمَصَالِحِهِمْ فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ ، وَلَا يَخْلُو حَالُ مَا تَعَجَّلَهُ تَعَجَّلَ وَالِي الزَّكَاةِ زَكَاةَ رَجُلٍ مِنْ مَالِهِ قَبْلَ حَوْلِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ فَرَّقَهُ فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ عِنْدَ أَخْذِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا فِي يَدِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ قَدْ تَلِفَ فِي يَدِهِ فَأَمَّا إِنْ كَانَ قَدْ فَرَّقَهُ فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ ، فَلِلدَّافِعِ أَعْنِي رَبَّ الْمَالِ ، وَلِلْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ أَعْنِي أَهْلَ السُّهْمَانِ عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ، وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ وَقَعَتِ الزَّكَاةُ مَوْقِعَهَا ، وَأَجْزَأَتْ رَبَّ الْمَالِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِافْتِقَارِهِ وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مِمَّنْ

لَا يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ ، فَعَلَى الْوَالِي اسْتِرْجَاعُهَا مِمَّنْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ وَرَدُّهَا عَلَى مَنْ أَخَذَهَا مِنْهُ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِبَقَاءِ مَالِهِ ، وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ وَالِاسْتِعَانَةَ فَعَلَى الْوَالِي اسْتِرْجَاعُهَا مِمَّنْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهَا وَلَا يُرُدَّهَا عَلَى مَنْ أَخَذَهَا مِنْهُ ، لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ ، لَكِنْ يُفَرِّقُهَا فِي أَهْلِهَا وَمُسْتَحِقِّيهَا . وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِافْتِقَارِهِ ، وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ لِبَقَاءِ فَقْرِهِ ، فَلِلدَّافِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْوَالِي ، وَيَرْجِعَ الْوَالِي بِهَا عَلَى مَنْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْوَالِي قَدْ فَرَّقَهَا حِينَ أَخَذَهَا ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ تَفْرِيقُهَا فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ ، إِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ رَدَّهَا عَلَيْهِ ، فَأَمَّا إِنْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ قَبْلَ الْحَوْلِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا ، فَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ضَمِنَ لِأَهْلِ السُّهْمَانِ ، وَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ضَمِنَهَا لِرَبِّ الْمَالِ ، وَسَوَاءٌ تَلِفَتْ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ أَوْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَإِنْ تَلِفَتْ فِي يَدِ السَّاعِي بَعْدَ الْحَوْلِ الزكاة يُنْظَرُ فِي حَالِ رَبِّ الْمَالِ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّاعِي لِرَبِّ الْمَالِ ، وَلَا لِأَرْبَابِ السُّهْمَانِ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ يَدُ الْمَسَاكِينِ ، وَمَا تَلِفَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ قَبْلَ صَرْفِهِ إِلَيْهِمْ لَا يَضْمَنُهُ ، وَلَا يَضْمَنُ لِرَبِّ الْمَالِ ، لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ حَالَ الْحَوْلُ وَرَبُّ الْمَالِ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ لَكِنَّ السَّاعِيَ لَمْ يَصْرِفْهَا إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا حَتَّى افْتَقَرَ رَبُّ الْمَالِ وَتَلِفَتِ الزَّكَاةُ فِي يَدِ السَّاعِي ، فَإِنْ لَمْ يُطَالِبْهُ بِرَدِّهِ إِلَيْهِ بَعْدَ فَقْرِهِ حَتَّى تَلِفَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّاعِي لِرَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْحَوْلَ قَدْ حَالَ ، وَرَبُّ الْمَالِ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ ، وَلَا يَضْمَنُ لِلْفُقَرَاءِ لِأَنَّهُ أَمِينُهُمْ ، وَإِنْ طَالَبَهُ رَبُّ الْمَالِ فَلَمْ يَرُدَّهُ أَوْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ حَتَّى تَلِفَ فِي يَدِ السَّاعِي لَزِمَهُ ضَمَانُهُ لِرَبِّ الْمَالِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِلَّا بِتَفْرِيطٍ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا ، وَيَكُونُ مِنْ مَالِ أَهْلِ السُّهْمَانِ ، وَيُجْزِئُ ذَلِكَ رَبَّ الْمَالِ احْتِجَاجًا لِشَيْئَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ يَدَ الْوَالِي كَيَدِ أَهْلِ السُّهْمَانِ بِدَلِيلِ أَنَّ الزَّكَاةَ تَسْقُطُ عَنْ رَبِّ الْمَالِ بِدَفْعِهَا إِلَيْهِ كَمَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِدَفْعِهَا إِلَيْهِمْ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَا تَلِفَ فِي أَيْدِي أَهْلِ السُّهْمَانِ مَضْمُونًا لَمْ يَكُنْ مَا تَلِفَ فِي يَدِ الْوَالِي مَضْمُونًا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْوَالِيَ فِي حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلِيِّ فِي حَقِّ الْيَتِيمِ ، ثُمَّ كَانَ وَلِيُّ الْيَتِيمِ إِذَا تَعَجَّلَ لَهُ حَقًّا مُؤَجَّلًا لَمْ يَضْمَنْهُ ، كَذَلِكَ وَالِي أَهْلِ السُّهْمَانِ إِذَا تَعَجَّلَ لَهُمْ حَقًّا مُؤَجَّلًا لَمْ يَضْمَنْهُ ، وَهَذَا غَلَطٌ ، وَدَلِيلُنَا شَيْئَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاكِيًا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَمَّا الْعَبَّاسُ فَصَدَقَتُهُ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا " . فَأَخْبَرَ أَنَّهَا فِي ضَمَانِهِ وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُفَرِّطُ ، فَثَبَتَ أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُفَرِّطْ . وَالثَّانِي : وَهُوَ دَلِيلُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ أَهْلَ السُّهْمَانِ أَهْلُ رُشْدٍ لَا يُوَلَّى عَلَيْهِمْ ، لِأَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ فِيمَا بِأَيْدِيهِمْ تَصَرُّفَ غَيْرِهِمْ ، وَالْإِمَامُ وَالْوَلِيُّ مُتَصَرِّفٌ بِإِذْنِهِمْ ، وَلَيْسَ كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ الَّذِي يَتَصَرَّفُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَلَا يَتَفَرَّقُ الْيَتِيمُ فِي مَالِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، فَصَارَ وَالِي أَهْلِ السُّهْمَانِ كَالْوَكِيلِ يَضْمَنُ مَا أَخَذَهُ بِغَيْرِ إِذْنٍ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إِنَّ يَدَهَمْ كَيَدِهِ قِيلَ صَحِيحٌ ، لَكِنْ بَعْدَ الْوُجُوبِ عَلَى مَا أَذِنَ لَهُ ، فَأَمَّا فِيمَا قَبْلُ فَلَا ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِ بَيْنَ وَلِيِّ الْيَتِيمِ وَوَالِي أَهْلِ السُّهْمَانِ فَمَا ذَكَرْنَا يُوجِبُ تَفْرِيقَ جَمْعِهِ بَيْنَهُمَا ، يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْيَتِيمَ لَوْ نَهَى وَلِيَّهُ عَنْ تَعْجِيلِ حَقِّهِ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى نَهْيِهِ ، لِأَنَّهُ مُوَلًّى عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَهْلُ السُّهْمَانِ ، لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُوَلًّى عَلَيْهِمْ ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي أَحَدِ شَطْرَيِ الْمَسْأَلَةِ ، وَهُوَ أَنْ يُعَجِّلَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا تَعَجَّلَهَا بِمَسْأَلَةٍ الصدقة فَلَا يَخْلُو حَالُ مَنْ سَأَلَهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَبُّ الْمَالِ ، وَأَهْلُ السُّهْمَانِ ، أَوْ هُمَا مَعًا ، فَإِنْ سَأَلَهُ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَتَعَجَّلَهَا مِنْ دُونِ أَهْلِ السُّهْمَانِ فَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ صَرَفَهَا فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ . وَالثَّانِيَةُ : أَنْ تَكُونَ فِي يَدِهِ . وَالثَّالِثَةُ : أَنْ تَكُونَ قَدْ تَلِفَتْ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ صَرَفَهَا فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ فَلِلدَّافِعِ وَالْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ مَضَتْ . أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ فَلَا رُجُوعَ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا تَجِبَ عَلَى الدَّافِعِ وَلَا يَسْتَحِقُّهَا الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ ، فَلِلدَّافِعِ أَعْنِي رَبَّ الْمَالِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ أَعْنِي أَهْلَ السُّهْمَانِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْوَالِي ، لِأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَ الْوَالِي أَنْ يَتَعَجَّلَهَا مِنْهُ صَارَ الْوَالِي فِي الدَّفْعِ نَائِبًا عَنْهُ ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي يَدِ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ اسْتَرْجَعَهَا بِعَيْنِهَا ، وَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَهْلَكَهَا نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَتْ ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا

اسْتَرْجَعَ مِثْلَهَا ، وَإِنْ كَانَتْ حَيَوَانًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا فِيمَنِ اقْتَرَضَ حَيَوَانًا هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِهِ ، أَوْ رَدُّ قِيمَتِهِ ، أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَسْتَرْجِعُ مِثْلَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَسْتَرْجِعَ قِيمَتَهُ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ ، فَلِلدَّافِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا ، وَعَلَيْهِ صَرْفُهَا فِي أَهْلِهَا وَمُسْتَحِقِّيهَا ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً اسْتَرْجَعَهَا بِعَيْنِهَا ، وَهَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ دَفْعُهَا فِي الزَّكَاةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَدْفَعُهَا بِعَيْنِهَا لِيُعَيِّنَهَا بِالتَّعْجِيلِ ، وَالثَّانِي : أَنَّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ دَفْعِهَا أَوْ دَفْعِ غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّهَا بَعْدَ الِاسْتِرْجَاعِ مِنْ جُمْلَةِ مَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ قَدِ اسْتَهْلَكَهَا اسْتَرْجَعَ مِنْهُ مِثْلَهَا وَجْهًا وَاحِدًا . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ ، فَلِلدَّافِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ ، فَإِذَا رَجَعَ بِهَا كَانَ لَهُ تَمَلُّكُهَا وَلَمْ يَلْزَمْهُ إِخْرَاجُهَا ، لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ قَدِ اسْتَهْلَكَهَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِمِثْلِهَا إِنْ كَانَتْ ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا ، وَإِنْ كَانَتْ حَيَوَانًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ ، لِأَنَّهُ يَسْتَرْجِعُهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَالْقِسْمِ الثَّانِي ، وَخَالَفَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ الَّذِي يَكُونُ اسْتِرْجَاعُهُ لَهَا فِي حَقِّ الْفُقَرَاءِ ، وَإِنْ كَانَتِ الزَّكَاةُ بَاقِيَةً فِي يَدِ الْوَالِي فَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا قَبْلَ الْحَوْلِ مَا لَمْ يُفَرِّقْهَا الْوَالِي ، فَإِنْ فَرَّقَهَا فَلَا رُجُوعَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُهُ ، أَوْ حَالُ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ عَلَى مَا مَضَى ، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهَا عَلَى الْوَالِي قَبْلَ الْحَوْلِ مَا لَمْ يُفَرِّقْهَا ، لِأَنَّهُ إِذَا سَأَلَ الْوَالِي تَعْجِيلَهَا فَالْوَالِي نَائِبٌ عَنْهُ ، فَجَازَ أَنْ يَرْجِعَ فِي اسْتِنَابَتِهِ وَإِنْ تَلِفَتِ الزَّكَاةُ مِنْ يَدِ الْوَالِي فَلَا ضَمَانَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ إِلَّا بِتَفْرِيطٍ ، لِأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُ وَاسْتَنَابَهُ صَارَ أَمِينَهُ ، وَالْأَمِينُ غَيْرُ ضَامِنٍ مَا لَمْ يُفَرِّطْ ، وَعَلَى رَبِّ الْمَالِ إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ عِنْدَ وُجُوبِهَا ؛ لِأَنَّ مَا عَجَّلَهُ لَمْ يَصِلْ إِلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ ، وَلَا إِلَى مَنِ اسْتَنَابَهُ أَهْلُ السُّهْمَانِ ، فَإِنْ كَانَ الْوَالِي قَدْ تَعَدَّى فِيهَا أَوْ فَرَّطَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا فِي حَقِّ رَبِّ الْمَالِ ، وَيَضْمَنُ قِيمَةَ الْحَيَوَانِ وَجْهًا وَاحِدًا ، لِأَنَّهُ يَضْمَنُهُ ضَمَانَ غَصْبٍ ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ إِذَا سَأَلَهُ رَبُّ الْمَالِ .

فَصْلٌ : وَإِنْ سَأَلَهُ أَهْلُ السُّهْمَانِ أَنْ يَتَعَجَّلَ لَهُمْ دُونَ رَبِّ الْمَالِ لقبض الزكاة فَعَلَى الْأَقْسَامِ الْمَاضِيَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَقْسَامَ فِيهَا مُتَمَاثِلَةٌ وَإِنَّمَا الْأَجْوِبَةُ مُخْتَلِفَةٌ ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إِعَادَةِ الْأَقْسَامِ وَإِنْ تَكَرَّرَتْ لِيَصِحَّ تَقْسِيمُ الْمَسْأَلَةِ ، وَيَبِينُ جَوَابُ كُلِّ قِسْمٍ ، فَأَحَدُ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ : أَنْ يَكُونَ الْوَالِي قَدْ صَرَفَهَا فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ فِي يَدِهِ .

وَالثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ قَدْ تَلِفَتْ مِنْ يَدِهِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ صَرَفَهَا فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ فَلِلدَّافِعِ وَالْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ عَلَى مَا مَضَى ، أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَا مَعًا مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ فَلَا يَرْجِعُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَا مَعًا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الزَّكَاةِ فَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْوَالِي ، وَيَرْجِعَ بِهَا الْوَالِي عَلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ ، بِخِلَافِ مَا مَضَى قَبْلُ ؛ لِأَنَّ الْوَالِي هُوَ الْآخِذُ وَلَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ رَبِّ الْمَالِ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ مَا أَخَذَهُ ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً اسْتَرْجَعَهَا بِعَيْنِهَا ؟ وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً فَإِنْ كَانَتْ وَرِقًا أَوْ ذَهَبًا اسْتَرْجَعَ مِثْلَهَا ، وَإِنْ كَانَتْ حَيَوَانًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ كَالْقَرْضِ ، لِأَنَّهُ يَسْتَرْجِعُهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لِلزَّكَاةِ فَعَلَى الْوَالِي اسْتِرْجَاعُهَا مِنَ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ ، وَصَرْفُهَا فِي غَيْرِهِ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّهَا ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ اسْتِرْجَاعُهَا ؛ لِأَنَّ إِخْرَاجَهَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً اسْتَرْجَعَهَا الْوَالِي بِعَيْنِهَا وَصَرَفَهَا فِي مُسْتَحِقِّيهَا مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ ، وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً اسْتَرْجَعَ مِثْلَهَا وَإِنْ كَانَتْ حَيَوَانًا ، لِأَنَّهُ يَسْتَرْجِعُهَا فِي حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَرْجِعَ مَا يُصْرَفُ مَصْرَفَ الزَّكَاةِ وَهُوَ الْعَيْنُ دُونَ الْقِيمَةِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ ، فَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْوَالِي ، وَلِلْوَالِي أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً اسْتَرْجَعَهَا بِعَيْنِهَا ، وَإِنْ تَلِفَتْ وَهِيَ حَيَوَانٌ فَعَلَى وَجْهَيْنِ كَالْقَرْضِ ، لِأَنَّهُ يَسْتَرْجِعُهَا فِي حَقِّ رَبِّ الْمَالِ لَا فِي حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ . أَحَدُهُمَا : يَسْتَرْجِعُ الْقِيمَةَ . وَالثَّانِي : يَسْتَرْجِعُ الْمِثْلَ ، وَإِنْ كَانَتِ الزَّكَاةُ فِي يَدِ الْوَالِي فَعَلَيْهِ صَرْفُهَا فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ سَأَلَهُ أَنْ يَتَعَجَّلَهَا إِلَّا أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُهُ عِنْدَ الْحَوْلِ ؛ لَأَنَّ يَدَ الْوَالِي هَاهُنَا يَدٌ لِأَهْلِ السُّهْمَانِ ، وَهُنَاكَ يَدٌ لِرَبِّ الْمَالِ ، وَإِنْ كَانَتِ الزَّكَاةُ قَدْ تَلِفَتْ مِنْ يَدِ الْوَالِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُفَرِّطْ ، وَهِيَ تَالِفَةٌ مِنْ مَالِ أَهْلِ السُّهْمَانِ ، لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُمْ ، وَقَدْ أَدَّى ذَلِكَ رَبُّ الْمَالِ ، فَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُ رَبِّ الْمَالِ عِنْدَ الْحُلُولِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْوَالِي ، وَيَرْجِعَ بِهَا الْوَالِي فِي مَالِ أَهْلِ السُّهْمَانِ ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً اسْتَرْجَعَهَا بِعَيْنِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً وَهِيَ حَيَوَانٌ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : لِأَنَّهُ يَرْجِعُ بِهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ . فَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ إِذَا سَأَلَهُ أَهْلُ السُّهْمَانِ ، وَلَوْ رَأَى الْإِمَامُ بِأَطْفَالِ الْمَسَاكِينِ حَاجَةً إِلَى التَّعْجِيلِ وَكَانُوا أَيْتَامًا فَاسْتَسْلَفَ لَهُمْ فَتَلِفَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اسْتِسْلَافِهِ وَضَمَانِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : لَيْسَ لِلْوَالِي أَنْ يَسْتَسْلِفَ لِغَيْرِ الْبَالِغِينَ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ ضَامِنًا ؛ لِأَنَّ لَهُمْ حَقًّا فِي خُمُسِ الْخُمُسِ وَسَهْمًا فِيهِ لَيَسْتَغْنُونَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَسْلِفَ لَهُمْ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِنْ تَلِفَ ، لِأَنَّهُمْ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّونَ أَخْذَ الزَّكَاةِ عِنْدَ وُجُوبِهَا فَجَازَ تَعْجِيلُهَا فِيهِمْ قَبْلَ وُجُوبِهَا كَالْبَالِغِينَ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِلْوَالِي النَّظَرُ عَلَى الْبَالِغِينَ مِنْهُمْ ، فَلَأَنْ يَكُونَ لَهُ النَّظَرُ عَلَى أَيْتَامِهِمْ أَوْلَى ، وَيَقُومُ نَظَرُهُ لَهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ مَقَامَ إِذْنِهِمْ فِي التَّعْجِيلِ وَمَسْأَلَتِهِمْ .

فَصْلٌ : وَإِنْ سَأَلَهُ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَتَعَجَّلَ مِنْهُ وَسَأَلَهُ أَهْلُ السُّهْمَانِ أَنْ يَتَعَجَّلَ لَهُمْ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ مَسْأَلَةُ رَبِّ الْمَالِ ، كَمَا لَوْ تَفَرَّدَ بِمَسْأَلَتِهِ ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ التَّقْسِيمِ وَالْجَوَابِ ؛ لَأَنَّ التَّعْجِيلَ كَانَ بِاخْتِيَارِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَوِ امْتَنَعَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ ، فَوَجَبَ أَنْ نُغَلِّبَ فِيهِ مَسْأَلَتَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ مَسْأَلَةُ أَهْلِ السُّهْمَانِ ، كَمَا لَوْ تَفَرَّدُوا بِالْمَسْأَلَةِ ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ التَّقْسِيمِ وَالْجَوَابِ ، لِأَنَّهُمَا قَدْ يَتَنَاوَبَا بِالْمَسْأَلَةِ وَانْفَرَدَ أَهْلُ السُّهْمَانِ بِالِارْتِفَاقِ فَوَجَبَ أَنْ يُغَلَّبَ فِيهِ مَسْأَلَتُهُمْ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوِ اسْتَسْلَفَ لِرَجُلَيْنِ بَعِيرًا فَأَتْلَفَاهُ وَمَاتَا قَبْلَ الْحَوْلِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمَا لِأَهْلِ السُّهْمَانِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا لَمْ يَبْلُغَا الْحَوْلَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمَا فِي صَدَقَةٍ قَدْ حَلَّتْ فِي حَوْلٍ لَمْ يَبْلُغَاهُ ، وَلَوْ مَاتَا بَعْدَ الْحَوْلِ كَانَا قَدِ اسْتَوْفَيَا الصَّدَقَةَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . أَمَّا قَوْلُهُ : " لَوِ اسْتَسْلَفَ لِرَجُلَيْنِ بَعِيرًا " فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْمَسْأَلَةِ ، بَلْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَسْتَسْلِفَ لِرَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ أَوْ أَكْثَرَ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَسْتَسْلِفَ بَعِيرًا أَوْ بَقَرَةً أَوْ شَاةً ، وَالْجَوَابُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، وَجُمْلَتُهُ : أَنَّ الْوَالِي إِذَا تَعَجَّلَ مِنْ رَجُلٍ بَعِيرًا ، وَدَفَعَهُ إِلَى فَقِيرٍ ، لِمَا رَأَى مِنْ حَاجَتِهِ وَشِدَّةِ خَلَّتِهِ ، ثُمَّ مَاتَ الْفَقِيرُ ، لَمْ يَخْلُ حَالُ مَوْتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :

إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ مَوْتِهِ أَوْ بَعْدَهُ ، أَوْ شَكَّ هَلْ كَانَ مَوْتُهُ قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ ، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْحَوْلِ فَلَا تَرَاجُعَ ، وَالزَّكَاةُ مُجْزِأَةٌ ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ مُسْتَحِقِّي الزَّكَاةِ عِنْدَ وُجُوبِهَا ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْحَوْلِ وَجَبَ اسْتِرْجَاعُهَا مِنْ تَرِكَتِهِ ؛ لِأَنَّ تَعْجِيلَ الزَّكَاةِ مَوْقُوفٌ بَيْنَ الْإِجْزَاءِ وَالِاسْتِرْجَاعِ ، وَذَلِكَ لَا يُجْزِي رَبَّ الْمَالِ ، فَكَانَ لَهُ الِاسْتِرْجَاعُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ لَهُ اسْتِرْجَاعُهَا ، بَلْ تَكُونُ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ ، فَجَعَلَهَا مَوْقُوفَةً بَيْنَ الْإِجْزَاءِ عَنِ الْفَرْضِ أَوِ التَّطَوُّعِ ، وَهَذَا غَلَطٌ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ إِسْقَاطُ الْفَرْضِ ، فَإِذَا لَمْ يَسْقُطْ وَجَبَ اسْتِرْجَاعُهَا ، كَمَنْ دَفَعَهَا إِلَى رَجُلٍ ظَاهِرُهُ الْإِسْلَامُ فَبَانَ كَافِرًا ، كَانَ لَهُ اسْتِرْجَاعُهَا ؛ لِأَنَّ إِسْقَاطَ الْفَرْضِ الْمَقْصُودِ بِالدَّفْعِ لَمْ يَحْصُلْ ، كَذَلِكَ فِيمَا عَجَّلَ ، وَإِنْ شَكَّ فِي مَوْتِهِ هَلْ كَانَ قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ فَفِي جَوَازِ اسْتِرْجَاعِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تُسْتَرْجَعُ مِنْهُ اعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ فِي التَّعْجِيلِ ، لِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ الْحَوْلِ فَتُجْزِي ، وَقَبْلَ الْحَوْلِ فَلَا تُجْزِي ، وَفَرْضُ الزَّكَاةِ لَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تُسْتَرْجَعُ مِنْهُ اعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ فِي الِاسْتِرْجَاعِ ، لِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ الْحَوْلِ فَتُسْتَرْجَعُ ، وَبَعْدَ الْحَوْلِ فَلَا تُسْتَرْجَعُ ، وَمَا قَدْ مُلِّكَ بِالْقَبْضِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِرْجَاعُهَا بِالشَّكِّ ، فَعَلَى هَذَا يُجْزِي ذَلِكَ رَبَّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِرْجَاعَ إِذَا لَمْ يَجِبْ بِالْإِخْرَاجِ ثَانِيَةً لَا يَجِبُ ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ الِاسْتِرْجَاعِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الِاسْتِرْجَاعِ لأموال الزكاة ، فَلَا يَخْلُو حَالُ مَا تَعَجَّلَهُ لِلْفَقِيرِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا أَوْ مَعْدُومًا ، فَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا قَالَ الشَّافِعِيُّ : يَعُودُ بِمِثْلِهِ ، فَأَطْلَقَ هَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَسْتَحِقَّ الرُّجُوعَ فِي حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ ، فَيَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِمِثْلِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ مُسْتَحَقٌّ بِمَا يَنْصَرِفُ فِي الزَّكَاةِ ، وَالزَّكَاةُ لَا تَنْصَرِفُ فِيهَا إِلَّا غَيْرُ الْحَيَوَانِ دُونَ قِيمَتِهِ ، فَلَمْ يَجُزِ الرُّجُوعُ إِلَّا بِالْحَيَوَانِ دُونَ قِيمَتِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَسْتَحِقَّ الرُّجُوعَ فِي حَقِّ رَبِّ الْمَالِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا يَعُودُ بِمِثْلِهِ حَيَوَانًا ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ الرِّفْقُ وَالْمُوَاسَاةُ ، فَجَرَى مَجْرَى فَرْضِ الْحَيَوَانِ الَّذِي يُرْجَعُ فِيهِ بِالْمِثْلِ لَا بِالْقِيمَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَقْيَسُ ، يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ ، وَحَمَلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ يَعُودُ بِمِثْلِهِ عَلَى مَا لَهُ مِثْلٌ ، فَإِذَا وَجَبَتِ الْقِيمَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَفِي اعْتِبَارِ زَمَانِ الْقِيمَةِ وَجْهَانِ :

أَصَحُّهُمَا : وَقْتُ الدَّفْعِ وَالتَّعْجِيلُ لِأَنَّهُ بِالدَّفْعِ مَلَكَ . وَالثَّانِي : وَقْتُ التَّلَفِ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا بَعْدَ الدَّفْعِ لَرَجَعَ بِهِ ، فَإِذَا كَانَ تَالِفًا رَجَعَ بِقِيمَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَا تَعَجَّلَهُ الْفَقِيرُ مَوْجُودًا بَعْدَ مَوْتِهِ ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ زَائِدًا أَوْ نَاقِصًا أَوْ بِحَالِهِ لَمْ يَزِدْ وَلَمْ يَنْقُصْ ، فَإِنْ كَانَ بِحَالِهِ اسْتُرْجِعَ مِنْهُ ، فَإِنْ رَأَى الْوَالِي أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى وَارِثِهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ جَازَ وَإِنْ كَانَ زَائِدًا فَالزِّيَادَةُ ضَرْبَانِ : مُتَمَيِّزَةٌ وَغَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ كَالسِّمَنِ وَالْكِبَرِ ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِهِ وَزِيَادَتُهُ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَمَيَّزَتْ بِمَنْعِ الْعَيْنِ ، وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُتَمَيِّزَةٌ كَاللَّبَنِ وَالنِّتَاجِ ، رَجَعَ بِهِ دُونَ زِيَادَتِهِ ، وَتَكُونُ الزِّيَادَةُ لِوَارِثِهِ ؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ قَدْ مَلَكَ الْعَيْنَ بِالدَّفْعِ ، فَكَانَتِ الزِّيَادَةُ حَادِثَةً عَنْ مِلْكِهِ ، فَكَانَ أَمَلَكَ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ ، كَالْمَبِيعِ إِذَا رُدَّ بِعَيْبٍ ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا فَالنُّقْصَانُ ضَرْبَانِ : مُتَمَيِّزٌ وَغَيْرُ مُتَمَيِّزٍ ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ كَالْمَرَضِ وَالْهُزَالِ ، رَجَعَ بِهِ نَاقِصًا ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ أَرْشَ نُقْصَانِهِ ، لِأَنَّهُ تَطَوَّعَ بِتَعْجِيلِهِ ، فَإِنْ رَأَى الْوَالِي أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى وَارِثِهِ لَمْ يَجُزْ لِنَقْصِهِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ النَّقْصِ عَلَى وَصْفِ مَالِ الدَّافِعِ ، وَإِنْ كَانَ النَّقْصُ مُتَمَيِّزًا كَبَعِيرَيْنِ تَلِفَ أَحَدُهُمَا وَبَقِيَ الْآخَرُ ، رَجَعَ بِالْبَاقِي وَبِمِثْلِ التَّالِفِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، وَبِقِيمَتِهِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي ، وَفِي اعْتِبَارِ قِيمَةِ زَمَانِهِ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَيْسَرَا قَبْلَ الْحَوْلِ فَإِنْ كَانَ يُسْرُهُمَا مِمَّا دُفِعَ إِلَيْهِمَا فَإِنَّمَا بُورِكَ لَهُمَا فِي حَقِّهِمَا ، فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمَا وَإِنْ كَانَ يُسْرُهُمَا مِنْ غَيْرِ مَا أُخِذَ مِنْهُمَا مَا دُفِعَ إِلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ الْحَوْلَ لَمْ يَأْتِ إِلَّا وَهُمَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الصَّدَقَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا ، وَهُوَ أَنْ يَتَعَجَّلَ الْوَالِي الصَّدَقَةَ لَأَهْلِ السُّهْمَانِ ، وَيَدْفَعَهَا إِلَى فَقِيرٍ أَوْ فَقِيرَيْنِ ، فَيَسْتَغْنِيَ مِنْ تَعْجِيلِهَا ، فَلَا يَخْلُو حَالُ اسْتِغْنَائِهِ وَيَسَارِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْحَوْلِ ، أَوْ بَعْدَهُ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْحَوْلِ فَلَا يَسْتَرْجِعُ مِنْهُ مَا تَعَجَّلَهُ ، سَوَاءٌ كَانَ يَسَارُهُ مِمَّا تَعَجَّلَهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ وَقْتَ الْوُجُوبِ ، وَإِنْ كَانَ يَسَارُهُ قَبْلَ الْحَوْلِ ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَعَجَّلَهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِ ، فَإِنْ كَانَ يَسَارُهُ مِمَّا تَعَجَّلَهُ لَمْ يَسْتَرْجِعْ مِنْهُ لِأَمْرَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَ الْحَوْلِ فَقِيرًا ، جَازَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ مَا يَسْتَغْنِي بِهِ ، فَإِذَا كَانَ غَنِيًّا بِهِ فَلَا مَعْنَى لِاسْتِرْجَاعِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ إِذَا اسْتَرْجَعَ مِنْهُ صَارَ فَقِيرًا يَسْتَحِقُّ أَخْذَ الزَّكَاةِ ، فَلَا مَعْنَى لِأَخْذِهَا مِنْهُ وَرَدِّهَا عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ يَسَارُهُ مِنْ غَيْرِ مَا تَعَجَّلَهُ وَجَبَ اسْتِرْجَاعُ مَا أَخَذَهُ ، بِخِلَافِ قَوْلِ أَبِي

حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ تَعَجَّلَ الزَّكَاةَ لِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِهَا ، وَيَسَارُهُ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لَهَا ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ يَسَارُهُ مِمَّا تَعَجَّلَهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ ، الْمَعْنَيَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا قَبْلُ ، فَلَوْ تَعَجَّلَهَا وَهُوَ فَقِيرٌ فَاسْتَغْنَى مِنْ غَيْرِهَا قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ افْتَقَرَ عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ كيفية استرجاع الزكاة من الفقير الذي استغنى ثم افتقر فَفِي اسْتِرْجَاعِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا تُسْتَرْجَعُ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ حَالَ الدَّفْعِ وَحَالَ الْوُجُوبِ . وَالثَّانِي : تُسْتَرْجَعُ لِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ بِاسْتِغْنَائِهِ فَلَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهَا فِي يَدِهِ ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ، وَلَكِنْ لَوْ تَعَجَّلَهَا وَهُوَ غَنِيٌّ وَشَرَطَ أَنَّهُ إِنِ افْتَقَرَ عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ فَهِيَ لَهُ ، فَحَالَ الْحَوْلُ وَهُوَ فَقِيرٌ لَمْ يَجُزْ وَوَجَبَ اسْتِرْجَاعُهَا مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ الِارْتِفَاقُ بِأَخْذِهَا ، وَالْغَنِيُّ لَا يَرْتَفِقُ بِهَا فَلَمْ تَقَعِ الزَّكَاةُ مَوْقِعَهَا ، فَإِنْ قِيلَ : لَوْ أَوْصَى لِوَارِثٍ فَلَمْ يَمُتِ الْمُوصِي حَتَّى صَارَ الْمُوصَى لَهُ غَيْرَ وَارِثٍ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ ، اعْتِبَارًا بِحَالِ الْوُجُوبِ ، فَهَلَّا قُلْتُمْ لِمَنْ عَجَّلَ زَكَاتَهُ لِغَنِيٍّ ثُمَّ افْتَقَرَ عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ بِجَوَازِ التَّعْجِيلِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْوُجُوبِ ، قِيلَ : هُمَا فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تُمَلَّكُ بِالْمَوْتِ ، فَاعْتُبِرَ حَالُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ ، وَالتَّعْجِيلُ يُمَلَّكُ بِالدَّفْعِ ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِرُّ الْمِلْكُ بِالْحَوْلِ ، فَاعْتُبِرَ حَالُهُ وَقْتَ الدَّفْعِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ عَجَّلَ رَبُّ الْمَالِ زَكَاةَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ قَبْلَ الْحَوْلِ وَهَلَكَ مَالُهُ قَبْلَ الْحَوْلِ فَوَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ عِنْدَ الْمُعْطَى ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَعْطَى مِنْ مَالِهِ مُتَطَوِّعًا لِغَيْرِ ثَوَابٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، وَجُمْلَةُ مَا يَتَعَجَّلُهُ الْفُقَرَاءُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَعَجَّلَهُ الْوَالِي لَهُمْ ، فَقَوْلُهُ فِي التَّعْجِيلِ مَقْبُولٌ عَلَيْهِمْ سَوَاءٌ شَرَطَ التَّعْجِيلَ أَمْ لَا ؛ لِأَنَّ الْوَالِي أَمِينٌ عَلَيْهِمْ ، فَكَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا عَلَيْهِمْ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَتَوَلَّى رَبُّ الْمَالِ تَعْجِيلَهُ إِلَيْهِمْ ، فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ تَعْجِيلٌ ، فَيَقُولُ : هَذَا تَعْجِيلُ زَكَاتِي ، فَمَتَى تَلِفَ مَالُهُ قَبْلَ الْحَوْلِ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ بِمَا عَجَّلَهُ ، سَوَاءٌ شَرَطَ عَلَيْهِمُ الرُّجُوعَ بِهِ عِنْدَ تَلَفِ مَالِهِ أَمْ لَا ؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّعْجِيلِ وَمُوجِبُهُ الرُّجُوعُ بِهِ عِنْدَ تَلَفِ مَالِهِ ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى اشْتِرَاطِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ تَعْجِيلٌ ، فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ إِذَا تَلِفَ مَالُهُ ، إِلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْفَقِيرُ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ وَأَنَّ ذَلِكَ تَعْجِيلٌ ، فَيَسْتَحِقَّ الرُّجُوعَ ، وَلَا يَكُونُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ مَقْبُولًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ عَطِيَّتِهِ التَّمْلِيكُ ، لِأَنَّهُ إِنْ قَالَ : هَذِهِ زَكَاتِي فَظَاهِرُ الزَّكَاةِ مَا وَجَبَتْ ، وَإِنْ قَالَ : صَدَقَةُ تَطَوُّعٍ . فَبِالدَّفْعِ قَدْ مُلِّكَتْ ، فَإِنْ أَطْلَقَ فَوَجْهُ إِطْلَاقِهِ إِلَى أَحَدِ هَذَيْنِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ

الْقَوْلَ قَوْلُ الْفَقِيرِ إِنْ كَانَ حَيًّا أَوْ قَوْلُ وَارِثِهِ إِنْ كَانَ مَيِّتًا ، فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ بِمُجَرَّدِهِ ، أَوْ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ تَعَالَى ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الدَّفْعِ لَا يُوجِبُ الرُّجُوعَ ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ تَكْذِيبٌ لِلدَّعْوَى ، فَلَمْ تَجِبْ فِيهَا يَمِينٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَبِهِ قَالَ أَبُو يَحْيَى الْبَلْخِيُّ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى مُحْتَمَلَةٌ وَمَا فِي يَدِهِ مُدَّعًى ، فَافْتَقَرَ إِلَى دَفْعِ الدَّعْوَى بِيَمِينٍ ، فَعَلَى هَذَا يَحْلِفُ هُوَ أَوْ وَارِثُهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ ، لَا عَلَى الْبَتِّ ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يَشْتَرَطِ التَّعْجِيلَ ، إِمَّا مَعَ يَمِينِهِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، أَوْ بِلَا يَمِينٍ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي ، فَاخْتَلَفَا فِي الشَّرْطِ ، فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ : شَرَطْتُ التَّعْجِيلَ فَلِيَ الرُّجُوعُ ، وَقَالَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ : لَمْ تَشْتَرِطِ التَّعْجِيلَ فَلَا رُجُوعَ لَكَ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَهُ الرُّجُوعُ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى أَصْلِ مِلْكِهِ مَا لَمْ يُقِرَّ بِمَا يُزِيلُهُ عَنْهُ ، وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مُنْفَرِدٌ بِالْمِلْكِ مُدَّعٍ لِمَا يُزِيلُهُ عَنْهُ فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى الْبَتِّ ، وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ بِالْأَخْذِ ، وَادُّعِيَ عَلَيْهِ الِاسْتِحْقَاقُ ، فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ تَمَلُّكِهِ مَا لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ بِخِلَافِهِ .

فَصْلٌ : إِذَا كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَعَجَّلَ زَكَاتَهَا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ أَتْلَفَ قَبْلَ الْحَوْلِ دِرْهَمًا ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ مَالَهُ نَقَصَ عَنِ النِّصَابِ عِنْدَ الْحَوْلِ ، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ لَمْ يَشْتَرَطِ التَّعْجِيلَ فَلَا رُجُوعَ لَهُ ، وَإِنْ شَرَطَ التَّعْجِيلَ فَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَرْجِعُ لِنُقْصَانِ مَالِهِ عَنِ النِّصَابِ . وَالثَّانِي : لَا يَرْجِعُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي إِتْلَافِ دِرْهَمٍ لِاسْتِرْجَاعِ خَمْسَةٍ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ مَاتَ الْمُعْطِي قَبْلَ الْحَوْلِ ، وَفِي يَدَيْ رَبِّ الْمَالِ مِائَتَا دِرْهَمٍ إِلَّا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ وَمَا أَعْطَى كَمَا تَصَدَّقَ بِهِ أَوْ أَنْفَقَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا كَانَ مَعَ رَجُلٍ نِصَابٌ فَعَجَّلَ زَكَاتَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ وَدَفَعَهَا إِلَى فَقِيرٍ فَمَاتَ الْفَقِيرُ قَبْلَ الْحَوْلِ ، وَمَعَ رَبِّ الْمَالِ أَقَلُّ مِنْ نِصَابٍ فَلَا يَخْلُو حَالُ رَبِّ الْمَالِ فِيمَا عَجَّلَهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا

أَنْ يَشْتَرِطَ التَّعْجِيلَ ، أَوْ لَا يَشْتَرِطُ ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطِ التَّعْجِيلَ فَلَا رُجُوعَ لَهُ وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْبَاقِي مَعَهُ دُونَ النِّصَابِ ، وَيَكُونُ مَا عَجَّلَهُ كَالَّذِي وَهَبَهُ أَوْ أَنْفَقَهُ ، فَإِنْ شَرَطَ التَّعْجِيلَ رَجَعَ بِمَا عَجَّلَهُ فِي تَرِكَةِ الْفَقِيرِ ، وَصَارَ مَالُهُ مَعَ مَا اسْتَرْجَعَهُ نِصَابًا كَامِلًا ، فَإِنْ كَانَ مَا اسْتَرْجَعَهُ دَرَاهِمَ عَنْ دَرَاهِمَ ، أَوْ دَنَانِيرَ عَنْ دَنَانِيرَ ، فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ ، سَوَاءٌ اسْتَرْجَعَ عَيْنَ مَالِهِ أَوْ مِثْلَهُ ؛ لِأَنَّ التَّعْجِيلَ لَمَّا لَمْ يَجُزْ صَارَ قَرْضًا فِي ذِمَّةِ الْفَقِيرِ ، وَالْقَرْضُ دَيْنٌ يَجِبُ ضَمُّهُ إِلَى الْمَالِ النَّاضِّ وَيُزَكَّيَانِ ، وَإِنْ كَانَ مَا اسْتَرْجَعَهُ مَاشِيَةً عَنْ مَاشِيَةٍ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَسْتَرْجِعَ الَّذِي عَجَّلَهُ نَفْسَهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَسْتَرْجِعَ مِثْلَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُوجَبُ فِيهِ الرُّجُوعُ بِمِثْلِ الْحَيَوَانِ الْمُعَجَّلِ ، فَإِنِ اسْتَرْجَعَ مِثْلَهُ وَلَمْ يَسْتَرْجِعْهُ بِعَيْنِهِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى ، وَيَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ فِيمَا يَأْتِي بَعْدَ اسْتِرْجَاعِ مَا عَجَّلَ ، لَا الْبَدَلُ الْمَأْخُوذَ عَنِ التَّعْجِيلِ ، كَالْبَدَلِ الْمَأْخُوذِ عَنِ الْبَيْعِ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَبَاعَ مِنْهَا شَاةً بِشَاةٍ اسْتَأْنَفَ الْحَوْلَ ، فَكَذَلِكَ فِيمَا عَجَّلَ ، فَإِنِ اسْتَرْجَعَ مَا عَجَّلَهُ بِعَيْنِهِ فَفِي إِيجَابِ زَكَاتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ مَا عَجَّلَهُ مَضْمُومٌ إِلَى مَا بَعْدَهُ ، وَحُكْمُ الْحَوْلِ جَازَ عَلَيْهِمَا ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ عَجَّلَ شَاةً مِنْ أَرْبَعِينَ فَحَالَ الْحَوْلُ عَلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ وَالشَّاةُ الْمُعَجَّلَةُ لَزِمَتْهُ الزَّكَاةُ ، وَكَانَتِ الشَّاةُ الْمُعَجَّلَةُ مَضْمُومَةً إِلَى الْمَالِ الْبَاقِي ، كَذَلِكَ إِذَا وَجَبَ اسْتِرْجَاعُ الشَّاةِ الْمُعَجَّلَةِ ضُمَّتْ إِلَى الْمَالِ الْبَاقِي . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ، وَيَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ حِينَ تَمَّ النِّصَابُ بِمَا اسْتَرْجَعَهُ ؛ لِأَنَّ مَا عَجَّلَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ زَكَاةً لَا تَرْجِعُ أَوْ قَرْضًا يُرْتَجَعُ ، فَلَمَّا بَطَلَ كَوْنُهُ زَكَاةً ثَبَتَ كَوْنُهُ قَرْضًا ، وَمَنْ أَقْرَضَ حَيَوَانًا لَمْ تَلْزَمْهُ زَكَاتُهُ ، وَلَوْ أَقْرَضَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ لَزِمَهُ زَكَاتُهَا ، فَلِذَلِكَ قُلْنَا : إِنَّهُ لَوْ كَانَ مَا ارْتَجَعَهُ دَرَاهِمَ عَنْ دَرَاهِمَ ضُمَّ وَزُكِّيَ ، وَلَوْ كَانَ حَيَوَانًا عَنْ حَيَوَانٍ لَمْ يُضَمَّ وَلَمْ يُزَكَّ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ زَكَاةَ الْمَوَاشِي لَا تَجِبُ إِلَّا بِالسَّوْمِ ، وَالسَّوْمُ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَّا بِمَا فِي الذِّمَّةِ ، وَلَيْسَ السَّوْمُ مُعْتَبَرًا فِي الدَّرَاهِمِ ، فَصَحَّ إِيجَابُ زَكَاةِ مَا كَانَ مِنْهَا فِي الذِّمَّةِ ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي مَوْتِ آخِذِ التَّعْجِيلِ قَبْلَ الْحَوْلِ وَهُوَ الْفَقِيرُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا مَاتَ دَافِعُ التَّعْجِيلِ قَبْلَ الْحَوْلِ وَهُوَ رَبُّ الْمَالِ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَلْ يَبْنِي وَرَثَتُهُ عَلَى حَوْلِهِ أَمْ يَسْتَأْنِفُونَ الْحَوْلَ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ : يَبْنُونَ عَلَى حَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ مَالًا بِالْإِرْثِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ بِحُقُوقِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ وَلَهُ شِقْصٌ قَدِ اسْتَحَقَّ بِهِ الشُّفْعَةَ فَإِنَّ وَرَثَتَهُ يَمْلِكُونَ الشِّقْصَ مَعَ حَقِّهِ مِنَ الشُّفْعَةِ ، وَلَوْ مَاتَ وَلَهُ دَيْنٌ بِرَهْنٍ انْتَقَلَ الدَّيْنُ إِلَى مِلْكِ وَرَثَتِهِ مَعَ

حَقِّهِ مِنَ الرَّهْنِ ، فَكَذَلِكَ الْحَوْلُ مِنْ حُقُوقِ مِلْكِهِ ، فَإِذَا انْتَقَلَ الْمِلْكُ إِلَى وَرَثَتِهِ وَجَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ بِحَقِّهِ وَهُوَ الْحَوْلُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ : أَنَّهُمْ يَسْتَأْنِفُونَ الْحَوْلَ وَلَا يَبْنُونَ ؛ لِأَنَّ الْحَوْلَ ثَبَتَ مَعَ بَقَاءِ الْمَالِكِ ، وَيَرْتَفِعُ بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ ، وَلَا يَبْنِي مَنِ اسْتَفَادَ مِلْكَهُ عَلَى حَوْلِ مَنْ كَانَ مَالِكًا ، كَمَنِ اتَّهَبَ مَالَا أَوِ ابْتَاعَهُ ، فَمَنْ قَالَ بِهَذَا أَجَابَ عَنِ احْتِجَاجِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنْ قَالَ : حُقُوقُ الْمِلْكِ ضَرْبَانِ : حَقٌّ لِلْمَالِكِ كَالشُّفْعَةِ وَالرَّهْنِ ، وَحَقٌّ عَلَى الْمِلْكِ كَالْحَوْلِ ، فَمَا كَانَ حَقًّا لِلْمَالِكِ انْتَقَلَ لِلْوَارِثِ مَعَ حَقِّهِ ، وَمَا كَانَ حَقًّا عَلَى الْمِلْكِ انْتَقَلَ الْمِلْكُ إِلَى الْوَارِثِ دُونَ حَقِّهِ . يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ مَاتَ عَنْ عَبْدٍ جَنَى عَلَيْهِ قَبْلَ أَخْذِ أَرْشِهِ انْتَقَلَ الْعَبْدُ إِلَى مِلْكِ الْوَارِثِ مَعَ اسْتِحْقَاقِ أَرْشِهِ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ هُوَ لَهُ ، وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ بِصِفَةٍ فَقَالَ : إِنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ وُجُودِ الصِّفَةِ فَانْتَقَلَ الْعَبْدُ إِلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ ثُمَّ وُجِدَتِ الصِّفَةُ لَمْ يُعْتَقْ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ ، كَذَلِكَ الْحَوْلُ هُوَ حَقٌّ عَلَى الْمَالِكِ فَلَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى الْوَرَثَةِ بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ . فَلَمَّا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ فَلِلْوَرَثَةِ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقْتَسِمُوا الْمَالَ قَبْلَ حَوْلِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ شَائِعًا بَيْنَهُمْ إِلَى انْقِضَاءِ حَوْلِهِ ، فَإِنِ اقْتَسَمُوهُ قَبْلَ الْحَوْلِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَتْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِيمَا عَجَّلَهُ الْمَيِّتُ ، فَإِنْ شَرَطَ فِيهِ التَّعْجِيلَ كَانَ لَهُمُ اسْتِرْجَاعُهُ وَالِاقْتِسَامُ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ التَّعْجِيلَ لَمْ يَكُنْ لَهُمُ اسْتِرْجَاعُهُ ، وَإِنْ كَانَتْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا فَأَكْثَرَ لَزِمَتْهُمُ الزَّكَاةُ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُمْ يَبْنُونَ عَلَى حَوْلِ مَيِّتِهِمْ ، كَانَ مَا عَجَّلَهُ الْمَيِّتُ مُجْزِئًا عَنْ زَكَاتِهِمْ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُمْ يَسْتَأْنِفُونَ الْحَوْلَ فَهَلْ يُجْزِيهِمْ تَعْجِيلُ مَيِّتِهِمْ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي " الْأُمِّ " أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَامُوا مَقَامَهُ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ وَاقْتِضَاءِهِ قَامُوا مَقَامَهُ فِي تَعْجِيلِ زَكَاتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا : أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُمْ ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا اسْتَأْنَفُوا الْحَوْلَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يُجْزِهِمْ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّعْجِيلِ قَبْلَ الْمَوْتِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَعْجِيلًا قَبْلَ وُجُوبِ النِّصَابِ وَالْحَوْلِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الْمَيِّتُ قَدْ شَرَطَ التَّعْجِيلَ كَانَ لَهُمُ اسْتِرْجَاعُهُ وَالِاقْتِسَامُ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطِ التَّعْجِيلَ لَمْ يَكُنْ لَهُمُ اسْتِرْجَاعُهُ ، هَذَا إِذَا اقْتَسَمَ الْوَرَثَةُ الْمَالَ قَبْلَ الْحَوْلِ ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَقْتَسِمُوهُ حَتَّى حَالَ حَوْلُهُ فَإِنْ كَانَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا فَعَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ ، وَيَكُونُ الْإِجْزَاءُ فِيمَا عَجَّلَهُ الْمَيِّتُ عَلَى مَا مَضَى ، إِنْ قِيلَ : إِنَّهُمْ يَبْنُونَ أَجْزَأَهُمْ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُمْ يَسْتَأْنِفُونَ فَعَلَى وَجْهَيْنِ ، وَإِنْ كَانَتْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ ، وَإِنَّمَا الْمَالُ

الْمُشَاعُ بَيْنَهُمْ نِصَابٌ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَالِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَاشِيَةً أَوْ غَيْرَهَا ، فَإِنْ كَانَتْ مَاشِيَةً وَجَبَتْ عَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ ، لِأَنَّهُمْ خُلَطَاءُ فِي نِصَابٍ فَيَكُونَ الْإِجْزَاءُ فِيمَا عَجَّلَهُ الْمَيِّتُ عَلَى مَا مَضَى إِنْ بَنَوْا أَجْزَأَهُمْ ، وَإِنِ اسْتَأْنَفُوا فَعَلَى وَجْهَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ غَيْرَ مَاشِيَةٍ فَهَلْ عَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْخُلْطَةِ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ : أَنَّ الْخُلْطَةَ لَا تَصِحُّ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي الخلطة في مال الزكاة لَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ شَرَطَ التَّعْجِيلَ اسْتَرْجَعُوهُ ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطِ التَّعْجِيلَ لَمْ يَسْتَرْجِعُوهُ ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ : إِنَّ الْخُلْطَةَ تَصِحُّ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي عَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ ، وَيَكُونُ الْإِجْزَاءُ فِي التَّعْجِيلِ عَلَى مَا مَضَى ، إِنْ قِيلَ : إِنَّهُمْ يَبْنُونَ أَجْزَأَهُمْ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُمْ يَسْتَأْنِفُونَ فَعَلَى وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : يُجْزِئُهُمْ . وَالثَّانِي : لَا يُجْزِئُهُمْ ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ شَرَطَ التَّعْجِيلَ فَلَهُمُ اسْتِرْجَاعُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطِ التَّعْجِيلَ فَلَيْسَ لَهُمُ اسْتِرْجَاعُهُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَ رَجُلٌ لَهُ مَالٌ لَا تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ ، فَأَخْرَجَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ فَقَالَ : إِنْ أَفَدْتُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَهَذِهِ زَكَاتُهَا لَمْ يُجْزِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَهَا بِلَا سَبَبِ مَالٍ تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ ، فَيَكُونُ قَدْ عَجَّلَ شَيْئًا لَيْسَ عَلَيْهِ إِنْ حَالَ عَلَيْهِ فِيهِ حَوْلٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا مَلَكَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَعَجَّلَ زَكَاةَ نِصَابٍ ، كَأَنْ مَلَكَ أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ عَجَّلَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ زَكَاةَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، أَوْ مَلَكَ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ مِنَ الْغَنَمِ فَأَخْرَجَ شَاةً زَكَاةَ أَرْبَعِينَ مِنَ الْغَنَمِ ، ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَ التَّعْجِيلِ تَمَامَ النِّصَابِ لَمْ يُجْزِهِ التَّعْجِيلُ عَنْ زَكَاتِهِ ؛ لِأَنَّ تَعْجِيلَ الزَّكَاةِ يُجْزِئُ إِذَا كَانَ أَحَدَ سَبَبَيْ وُجُوبِهَا مَوْجُودًا وَهُوَ النِّصَابُ ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لَمْ يُجْزِهِ ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَ كَفَّارَةَ يَمِينِهِ قَبْلَ حِنْثِهِ وَيَمِينِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا صَارَ أَصْلًا مُقَرَّرًا تَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ جَمِيعُ فُرُوعِهِ ، فَمِنْ ذَلِكَ إِذَا اشْتَرَى سِلْعَةً بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَعَجَّلَ زَكَاةَ أَلْفٍ عَنْهَا وَعَنْ رِبْحِهَا فَبَاعَهَا عِنْدَ الْحَوْلِ بِأَلْفٍ أَجْزَأَهُ مَا عَجَّلَهُ عَنِ الْأَلْفِ ؛ لِأَنَّ أَحَدَ السَّبَبَيْنِ وَهُوَ النِّصَابُ مَوْجُودٌ ، وَالرِّبْحُ الزَّائِدُ تَبَعٌ لِلنِّصَابِ فِي حَوْلِهِ فَجَازَ مَا عَجَّلَهُ عَنِ النِّصَابِ وَعَنْ رِبْحِهِ ، فَلَوْ كَانَ قَدْ بَاعَ السِّلْعَةَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ بِأَلْفٍ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ يَسْتَأْنِفُ بِالرِّبْحِ الْحَوْلَ لَمْ يُجْزِهِ التَّعْجِيلُ عَنِ الرِّبْحِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ تَبَعًا ، وَإِنْ قَالَ يَبْنِي عَلَى حَوْلِ الْمِائَتَيْنِ أَجْزَأَهُ التَّعْجِيلُ الْأَوَّلُ عَنِ الرِّبْحِ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ تَبَعًا ، فَلَوْ مَلَكَ أَلْفًا فَعَجَّلَ زَكَاتَهَا ثُمَّ تَلِفَتْ فَمَلَكَ بَعْدَهَا أَلْفًا لَمْ يُجْزِهِ التَّعْجِيلُ الْأَوَّلُ عَنِ الْأَلْفِ الثَّانِي

؛ لِأَنَّهُ تَعْجِيلٌ قَبْلَ الْمِلْكِ ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ أَلْفٌ ثُمَّ مَلَكَ أَلْفًا ، وَعَجَّلَ زَكَاةَ أَلْفٍ ، ثُمَّ تَلِفَ أَحَدُ الْأَلْفَيْنِ أَجْزَأَهُ مَا عَجَّلَهُ عَنِ الْأَلِفِ الْبَاقِيَةِ ، لِوُجُودِهَا قَبْلَ التَّعْجِيلِ .

فَصْلٌ : وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ ، رَجُلٌ مَعَهُ مِائَتَا شَاةٍ ، فَعَجَّلَ أَرْبَعَ شِيَاهٍ عَنْ أَرْبَعِمِائَةٍ شَاتَيْنِ مِنْهُمَا عَنْ هَاتَيْنِ الْمِائَتَيْنِ وَشَاتَيْنِ عَنْ نِتَاجِهَا إِنْ بَلَغَ مِائَتَيْنِ ، فَحَالَ الْحَوْلُ وَقَدْ نَتَجَتْ مِائَتَيْنِ ، تَمَامَ أَرْبَعِمِائَةٍ ، فَقَدْ أَجْزَأَتْهُ الشَّاتَانِ عَنِ الْمِائَتَيْنِ الْمَأْخُوذَةِ ، وَهَلْ يَجْزِيهِ الشَّاتَانِ الْأُخْرَيَانِ عَنِ الْمِائَتَيْنِ النِّتَاجِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّ السِّخَالَ إِذَا نَتَجَتْ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ كَانَتْ كَالْمَوْجُودَةِ فِي ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْأَرْبَعَمِائَةٍ لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْحَوْلِ أَجْزَأَهُ تَعْجِيلُ أَرْبَعِ شِيَاهٍ ، فَكَذَلِكَ إِذَا نَتَجَتْ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّ التَّعْجِيلَ عَنْهَا سَابِقٌ لِوُجُودِهَا ، كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ دُونَ الْأَرْبَعِينَ فَعَجَّلَ شَاةً مِنْهَا ثُمَّ تَمَّتْ أَرْبَعِينَ بِنِتَاجِهَا لَمْ يُجْزِهِ ، كَذَلِكَ هَذَا لَا يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّ التَّعْجِيلَ عَنْهَا سَابِقٌ لِوُجُودِهَا كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ دُونَ الْأَرْبَعِينَ فَعَجَّلَ شَاةً مِنْهَا ثُمَّ تَمَّتْ أَرْبَعِينَ بِنِتَاجِهَا لَمْ يُجْزِهِ هَكَذَا فَإِنْ قِيلَ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ النِّتَاجِ وَالرِّبْحِ ، حَيْثُ جَوَّزْتُمْ تَعْجِيلَ الرِّبْحِ قَبْلَ وُجُودِهِ ، وَمَنَعْتُمْ مِنْ تَعْجِيلِ النِّتَاجِ قَبْلَ وُجُودِهَا ، وَكِلَاهُمَا تَبَعٌ لِأَصْلِهُ فِي حَوْلِهِ ؟ قِيلَ : هُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي الْحَوْلِ ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي التَّعْجِيلِ . وَوَجْهُ افْتِرَاقِهِمَا فِيهِ أَنَّ النِّصَابَ فِي مَالِ التِّجَارَةِ يُعْتَبَرُ عِنْدَ الْحَوْلِ لَا فِيمَا قَبْلُ ، أَلَا تَرَى لَوْ نَقَصَتْ قِيمَةُ السِّلْعَةِ عَنِ النِّصَابِ قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ تَمَّتْ نِصَابًا عِنْدَ الْحَوْلِ لَمْ يَكُنِ النَّقْصُ الْمُتَقَدِّمُ مَانِعًا مِنْ إِيجَابِ الزَّكَاةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَاشِيَةُ ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ فِيهَا مُعْتَبَرٌ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ ، أَلَا تَرَى لَوْ نَقَصَتْ عَنِ النِّصَابِ قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ تَمَّتْ نِصَابًا عِنْدَ الْحَوْلِ لَمْ يَكُنِ النَّقْصُ الْمُتَقَدِّمُ مَانِعًا مِنْ إِيجَابِ الزَّكَاةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَاشِيَةُ ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ فِيهَا مُعَيَّنٌ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ ، أَلَا تَرَى لَوْ نَقَصَتْ عَنِ النِّصَابِ قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ تَمَّتْ نِصَابًا عِنْدَ الْحَوْلِ كَانَ النَّقْصُ الْمُتَقَدِّمُ مَانِعًا مِنْ إِيجَابِ الزَّكَاةِ ، فَلِذَلِكَ مَا افْتَرَقَا فِي التَّعْجِيلِ ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَعَجَّلَ زَكَاتَهَا شَاةً ، ثُمَّ نَتَجَتْ أَرْبَعِينَ ، ثُمَّ مَاتَتِ الْأُمَّهَاتُ وَبَقِيَ النِّتَاجُ ، فَإِنْ قِيلَ : فِيمَا قِيلَ : بِجَوَازِ التَّعْجِيلِ عَنِ الْأَصْلِ وَالنِّتَاجِ ، كَانَتِ الشَّاةُ الَّتِي عَجَّلَهَا عَنِ الْأُمَّهَاتِ مُجْزِأَةً عَنِ النِّتَاجِ ، فَإِنْ قِيلَ : بِإِبْطَالِ التَّعْجِيلِ فِيمَا تَقَدَّمَ لَمْ تَكُنِ الشَّاةُ الَّتِي عَجَّلَهَا عَنِ الْأُمَّهَاتِ مُجْزِيَةً عَنِ النِّتَاجِ ، وَلَزِمَهُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهَا ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَنَتَجَتْ أَرْبَعِينَ سَخْلًا فَعَجَّلَ مِنْهَا شَاةً ثُمَّ مَاتَتِ الْأُمَّهَاتُ وَبَقِيَتِ السِّخَالُ أَجْزَأَتْهُ الشَّاةُ الْمُعَجَّلَةُ عَنِ السِّخَالِ الْبَاقِيَةِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ، لِوُجُودِهَا قَبْلَ التَّعْجِيلِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا عَجَّلَ شَاتَيْنِ مِنْ مِائَتَيْ شَاةٍ فَحَالَ الْحَوْلُ وَقَدْ زَادَتْ شَاةً أُخِذَ مِنْهَا شَاةٌ ثَالِثَةٌ فَيُجْزِي عَنْهُ مَا أَعْطَى مِنْهُ ، وَلَا يُسْقِطُ تَقْدِيمُهُ الشَّاتَيْنِ الْحَقَّ عَلَيْهِ فِي الشَّاةِ الثَّالِثَةِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْحَوْلِ ، كَمَا لَوْ أُخِذَ مِنْهَا شَاتَيْنِ فَحَالَ الْحَوْلُ وَلَيْسَ فِيهَا إِلَّا شَاةٌ رَدَّ عَلَيْهِ شَاةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا عَجَّلَ بِزَكَاةِ مَالِهِ قَبْلَ الْحَوْلِ فَقَدْ مَلَكَهَا الْمَسَاكِينُ بِالْأَخْذِ وَيَسْتَقِرُّ مِلْكُهُمْ عَلَيْهَا بِالْوُجُوبِ ، لَكِنَّهَا فِي حُكْمِ مِلْكِهِ قَبْلَ الْحَوْلِ حَتَّى يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ ، فَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ ضَمَّ مَا عَجَّلَ إِلَى مَا بِيَدِهِ وَزَكَّاهُمَا مَعًا ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً عَجَّلَ مِنْهَا شَاةً ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ وَالشَّاةُ الْمُعَجَّلَةُ لَزِمَتْهُ الزَّكَاةُ ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ مِائَتَا شَاةٍ فَعَجَّلَ زَكَاتَهَا شَاتَيْنِ ظَنًّا مِنْهُ بِأَنَّهُمَا قَدْرُ زَكَاتِهِ فَلَمْ يَحُلِ الْحَوْلُ حَتَّى نَتَجَتْ شَاةٌ وَصَارَتْ مَعَ التَّعْجِيلِ مِائَتَيْ شَاةٍ وَشَاةٍ ، كَانَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ شَاةٍ ثَانِيَةٍ اعْتِبَارًا بِقَدْرِ مَالِهِ عِنْدَ الْحَوْلِ ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ مِائَتَا شَاةٍ وَشَاةٍ فَعَجَّلَ زَكَاتَهَا ثَلَاثَ شِيَاهٍ فَلَمْ يَحُلِ الْحَوْلُ حَتَّى تَلِفَ مِنْ غَنَمِهِ شَاةٌ ، وَبَقِيَ مَعَهُ مَعَ مَا عَجَّلَهُ مِائَتَا شَاةٍ ، كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرْجِعَ مِنَ التَّعْجِيلِ شَاةً ، اعْتِبَارًا بِقَدْرِ مَالِهِ عِنْدَ الْحَوْلِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : مَا عَجَّلَهُ كَالتَّالِفِ لَا يَجِبُ ضَمُّهُ إِلَى مَا فِي يَدِهِ وَلَا يَجُوزُ إِذَا كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً أَنْ يُعَجِّلَ مِنْهَا شَاةً ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ يَقِلُّ عَنِ النِّصَابِ ، فَإِنْ عَجَّلَ مِنْهَا شَاةً كَانَتْ كَالتَّالِفَةِ وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيمَا بَقِيَ ؛ لِنَقْصِهِ عَنِ النِّصَابِ ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ شَاةً ، جَازَ أَنْ يُعَجِّلَ مِنْهَا شَاةً ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ نِصَابٌ ، وَكَذَا نَقُولُ فِي نُصُبِ الزَّكَوَاتِ كُلِّهَا ، احْتِجَاجًا بِأَنَّ التَّعْجِيلَ خَارِجٌ عَنْ مِلْكِهِ دَاخِلٌ فِي مِلْكِ آخِذِهِ ، لِجَوَازِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ وَانْتِفَاعِهِ بِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْزَمَهُ زَكَاةُ مَالٍ هُوَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ، وَلَا أَنْ يُضَمَّ إِلَى جُمْلَةِ مَالِهِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ : " أَنَّ الْعَبَّاسَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فِي تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ ، فَرَخَّصَ لَهُ وَلَمْ يَسْأَلْهُ هَلِ الْبَاقِي بَعْدَ التَّعْجِيلِ نِصَابٌ ، أَوْ دُونَ النِّصَابِ ؟ فَدَلَّ عَلَى تَسَاوِي الْحُكْمِ فِيهِمَا ، وَلِأَنَّ التَّعْجِيلَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ كَالْأَمْوَالِ الْمُتْلَفَةِ فَلَا يَلْزَمُهُ زَكَاتُهَا ، أَوِ الْمَوْجُودَةِ فِي مِلْكِهِ فَيَلْزَمُهُ زَكَاتُهَا ، فَلَمَّا أَجْزَأَهُ التَّعْجِيلُ عَنْ زَكَاتِهِ ثَبَتَ أَنَّهَا كَالْمَوْجُودَةِ فِي مِلْكِهِ ؛ لِأَنَّ مَا أَتْلَفَهُ غَيْرُ مُجْزٍ فِي الزَّكَاةِ ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا تُعَجَّلُ لِلْمَسَاكِينِ رِفْقًا بِهِمْ وَنَظَرًا لَهُمْ ، وَفِي إِخْرَاجِ الْقَدْرِ الْمُعَجَّلِ مِنَ الزَّكَاةِ إِضْرَارٌ بِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا عَجَّلَ شَاةً عَنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ

ثُمَّ نُتِجَتْ شَاةٌ ، فَقَدَ أَسْقَطَ عَلَيْهِمْ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ شَاةً ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعَجِّلْ لَزِمَتْهُ شَاتَانِ ، وَإِذَا عَجَّلَ لَزِمَتْهُ شَاةٌ ، فَيَصِيرُ إِضْرَارُهُ بِالنَّقْصِ أَكْثَرَ مِنْ نَفْعِهِ بِالتَّعْجِيلِ ، وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنِ الْمَوْضُوعِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ مِنْ خُرُوجِ ذَلِكَ عَنْ مِلْكِهِ فَهُوَ أَنْ يُقَالَ : التَّعْجِيلُ وَإِنْ كَانَ خَارِجًا عَنْ مِلْكِهِ فَهُوَ فِي حُكْمِ مِلْكِهِ ، لِإِجْزَائِهِ عَنْ فَرْضِهِ ، وَقَدْ يَلْتَزِمُ زَكَاةَ مَا فِي مِلْكِهِ حُكْمًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ قَبْضًا كَالدَّيْنِ الثَّابِتِ لَهُ فِي الذِّمَمِ الْمَالِيَّةِ ، هُوَ فِي مِلْكِهِ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ ، وَزَكَاتُهُ لَازِمَةٌ لَهُ كَذَلِكَ فِيمَا عَجَّلَ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَهُوَ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ .

بَابُ النِّيَّةِ فِي إِخْرَاجِ الصَّدَقَةِ

بَابُ النِّيَّةِ فِي إِخْرَاجِ الصَّدَقَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " إِذَا وَلِيَ إِخْرَاجَ زَكَاتِهِ لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا بِنِيَّةِ أَنَّهُ فَرْضٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِنِيَّةٍ ، فَإِنْ أَخْرَجَهَا بِغَيْرِ نِيَّةٍ لَمْ يُجْزِهِ ، وَبِهِ قَالَ كَافَّةُ الْعُلَمَاءِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ : أَنَّ إِخْرَاجَهَا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الزَّكَاةَ إِذَا وَجَبَتْ صَارَتْ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ ، وَالدُّيُونُ فِي الذِّمَمِ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ فِي الْأَدَاءِ كَدُيُونِ الْآدَمِيِّينَ ، وَلِأَنَّ وَلِيَّ الْيَتِيمِ يُخْرِجُ الزَّكَاةَ عَنْهُ وَالْيَتِيمَ لَا نِيَّةَ لَهُ ، وَالْوَالِي يَأْخُذُهَا كَرْهًا مِنْ مَالِ مَنِ امْتَنَعَ وَالْمُكْرَهُ لَا نِيَّةَ لَهُ ، فَلَوْ كَانَتِ النِّيَّةُ وَاجِبَةٌ مَا أَجْزَأَتِ الزَّكَاةُ عَنْ هَذَيْنِ لِفَقْدِ النِّيَّةِ مِنْهُمَا ، وَفِي إِجْزَائِهِمَا عَنْهُمَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [ الْبَيِّنَةِ : ] ، فَجَعَلَ الْإِخْلَاصَ وَهُوَ النِّيَّةُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعِبَادَةِ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى . فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَيْسَ لَهُ مَا لَمْ يَنْوِهِ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَنَوَّعُ فَرْضًا وَهُوَ الزَّكَاةُ وَنَفْلًا وَهُوَ التَّطَوُّعُ ، فَوَجَبَ أَنْ تَفْتَقِرَ إِلَى النِّيَّةِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ ، إِنَّمَا هُوَ حَقٌّ لَاحِقٌ لِآدَمِيٍّ فَلَمْ تَلْزَمْ فِيهِ النِّيَّةُ ، وَالزَّكَاةُ عِبَادَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ فِيهَا النِّيَّةٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مُتَعَلِّقًا بِالْبَدَنِ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ ، لَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ ، فَكَذَلِكَ مَا تَعَلَّقَ بِالْمَالِ ، وَمَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مُتَعَلِّقًا بِالسِّرِّ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ ، فَكَذَلِكَ مَا تَعَلَّقَ بِالْمَالِ . وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ إِخْرَاجِ الْوَلِيِّ زَكَاةَ الْيَتِيمِ ، وَأَخْذِ الْوَالِي زَكَاةَ الْمُمْتَنِعِ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ وَلِيَّ الْيَتِيمِ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِالْإِخْرَاجِ ، فَأَجْزَأَتْ نِيَّتُهُ ، وَالْوَالِي الْعَادِلُ لَا يَأْخُذُ مِنَ الْمَالِ إِلَّا مَا وَجَبَ أَخْذُهُ فَلِذَلِكَ أَجْزَأَهُ أَخْذُهُ ، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ النِّيَّةِ فَفِي مَحَلِّهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : عِنْدَ إِخْرَاجِهَا وَدَفْعِهَا ، فَإِنْ نَوَى قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ لَمْ يُجْزِهِ كَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ . وَالثَّانِي : عِنْدَ عَزْلِهَا وَقَبْلَ دَفْعِهَا كَالصِّيَامِ ، وَكَذَا فِي مَحَلِّ نِيَّةِ الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ ، فَحَصَلَتِ الْعِبَادَاتُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : عِبَادَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ فِي ابْتِدَائِهَا كَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ ، وَعِبَادَةٌ لَا

تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ فِي ابْتِدَائِهَا بَلْ يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا كَالصِّيَامِ ، وَعِبَادَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا وَهِيَ الزَّكَاةُ وَالْكَفَّارَةُ ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَوْ نَوَى عِنْدَ الدَّفْعِ أَجْزَأَهُ ، وَلَوْ نَوَى بَعْدَهُ لَمْ يُجْزِهِ ، وَلَكِنْ لَوْ نَوَى بَعْدَ دَفْعِهَا إِلَى وَكِيلِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ قَبْلَ صَرْفِهَا إِلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ أَجْزَأَهُ وَإِنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ بَعْدَ صَرْفِهَا إِلَيْهِمْ لَمْ يُجْزِهِ ، لِأَنَّهَا صَارَتْ مُسْتَهْلَكَةً . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يُجْزِئُهُ ذَهَبٌ عَنْ وَرِقٍ ، وَلَا وَرِقٌ عَنْ ذَهَبٍ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِخْرَاجُ الْقِيَمِ فِي الزَّكَوَاتِ لَا يَجُوزُ ، وَكَذَا فِي الْكَفَّارَاتِ حَتَّى يُخْرِجَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ بَدَلًا أَوْ مُبْدَلًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْقِيَمِ فِي الزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارِاتِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عِتْقًا ، فَكُلُّ مَالٍ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُتَمَوَّلًا ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ سُكْنَى دَارٍ ، أَوْ مِنْ جِنْسٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ ، كَإِخْرَاجِ نِصْفِ صَاعِ تَمْرٍ بَدَلًا عَنْ صَاعٍ مِنْ زَبِيبٍ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي إِخْرَاجِ الْقِيمَةِ ، هَلْ هِيَ الْوَاجِبُ أَوْ بَدَلٌ عَنِ الْوَاجِبِ ؛ عَلَى مَذْهَبَيْنِ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْوَرِقِ عَنِ الذَّهَبِ ، وَالذَّهَبِ عَنِ الْوَرِقِ لَا غَيْرَ ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ : " أَغْنُوهُمْ عَنِ الْمَسْأَلَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ " . وَالْإِغْنَاءُ قَدْ يَكُونُ بِدَفْعِ الْقِيمَةِ ، كَمَا يَكُونُ بِدَفْعِ الْأَصْلِ ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ " فَنَصَّ عَلَى دَفْعِ الْقِيمَةِ . وَبِمَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ قَالَ لِأَهْلِ الْيَمَنِ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالِيًا عَلَيْهِمْ : " ائْتُونِي بِخَمِيسٍ أَوْ لَبِيسٍ آخُذُهُ مِنْكُمْ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ ، وَأَنْفَعُ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ " فَأَمَرَهُمْ بِدَفْعِ الثِّيَابِ بَدَلًا عَنِ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ ، وَهُوَ لَا يَقُولُ ذَلِكَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا تَوْقِيفًا ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُزَكًّى فَجَازَ إِخْرَاجُ قِيمَتِهِ كَمَالِ التِّجَارَةِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ الْقِيمَةَ مَالٌ فَجَازَ إِخْرَاجُهَا فِي الزَّكَاةِ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ فِي الزَّكَاةِ الْعُدُولُ عَنِ الْعَيْنِ إِلَى الْجِنْسِ ، وَهُوَ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ غَنَمِهِ مِنْ غَيْرِهَا جَازَ

الْعُدُولُ مِنْ جِنْسٍ إِلَى جِنْسٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ لَمَّا لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ مِنَ الْعَيْنِ إِلَى الْجِنْسِ لَمْ يُجْزِ الْعُدُولُ مِنْ جِنْسٍ إِلَى جِنْسٍ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ : رِوَايَةُ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْحَبِّ حَبًّا ، وَمِنَ الْغَنَمِ غَنَمًا ، وَمِنَ الْإِبِلِ إِبِلًا ، وَمِنَ الْبَقَرِ بَقَرًا فَاقْتَضَى ظَاهِرُ أَمْرِهِ أَنْ لَا يَجُوزَ الْأَخْذُ مِنْ غَيْرِهِ . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ : فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ ، عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَخَيَّرَهُ بَيْنَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ دُونَ غَيْرِهِمَا ، وَالْمُخَالِفُ فَخَيَّرَهُ بَيْنَهُمَا أَوْ بَيْنَ قِيمَةِ أَحَدِهِمَا ، وَظَاهِرُ الْخَبَرِ يَمْنَعُ مِنْهُمَا . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ " وَفِيهِ دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَمَرَ أَنْ يَأْخُذَ ابْنَ لَبُونٍ عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ عِنْدَ عَدَمِ بِنْتِ مَخَاضٍ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يُجِيزُ أَخْذَهُ عَلَى وَجْهِ الْقِيمَةِ مَعَ وُجُودِ بِنْتِ مَخَاضٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ نَصَّ عَلَى شَيْئَيْنِ عَلَى التَّرْتِيبِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يُجِيزُ ثَالِثًا وَهُوَ الْقِيمَةُ ، وَيُسْقِطُ التَّرْتِيبَ ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ جَذَعَةً وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ ، وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ إِنِ اسْتَيْسَرَ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا " وَفِيهِ دَلِيلَانِ كَالَّذِي قَبْلَهُ ، ثُمَّ قُدِّرَ الْبَدَلُ مِنَ الدَّرَاهِمِ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا ، وَالْقِيمَةُ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ بِالشَّرْعِ كَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ ، وَإِنَّمَا الْبَدَلُ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ كَالدِّيَاتِ ، وَهَذَا دَلِيلٌ ثَالِثٌ مِنَ الْخَبَرِ ، وَهُوَ أَقْوَاهَا ، وَلِأَنَّهُ عَدْلٌ عَنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِهِ فَلَمْ يُجْزِهِ كَسُكْنَى دَارِهِ ، وَهُوَ أَنْ يُسْكِنَهَا الْفُقَرَاءَ مُدَّةً تَكُونُ أُجْرَتُهَا قَدْرَ زَكَاتِهِ ، وَلِأَنَّهُ إِخْرَاجُ قِيمَةٍ فِي الزَّكَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَ نِصْفَ صَاعٍ تَمْرًا وَسَطًا عَنْ صَاعِ تَمْرٍ رَدِيءٍ ، أَوْ أَخْرَجَ شَاةً سَمِينَةً عَنْ شَاتَيْنِ مَهْزُولَتَيْنِ ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ فِي مَالٍ يَخْرُجُ عَلَى وَجْهِ الطُّهْرَةِ فَلَمْ يَجُزْ إِخْرَاجُ قِيمَتِهِ كَالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ ، فَإِنْ قِيلَ : هُوَ بَاطِلٌ بِجَزَاءِ الصَّيْدِ يَجُوزُ عِنْدَكُمْ إِخْرَاجُ قِيمَتِهِ ، قِيلَ : غَلَطٌ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَيْسَتْ مُخْرَجَةً ، وَإِنَّمَا يَتَعَذَّرُ بِهَا الْبَدَلُ الْمُخْرَجُ ، أَلَا تَرَاهُ يُقَوِّمُ الْجَزَاءَ دَرَاهِمَ ثُمَّ تُصْرَفُ الدَّرَاهِمَ فِي طَعَامٍ وَلَا تُخْرَجُ الدَّرَاهِمُ ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَشْتَمِلُ عَلَى مُقَدَّرٍ مَأْخُوذٍ وَهُوَ الزَّكَاةُ ، وَمُقَدَّرٍ مَتْرُوكٍ وَهُوَ النِّصَابُ ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْقَدْرَ الْمَتْرُوكَ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْإِبِلِ ثَنَايَا تَسَاوِي خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ دُونَ الثَّنَايَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمِقْدَارُ الْمَأْخُوذُ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ .

وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ مُقَدِّرِي الزَّكَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقِيمَ غَيْرَهُ مَقَامَهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُ كَالنِّصَابِ ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَشْتَمِلُ عَلَى مَالٍ مُزَكًّى وَقَدْرٍ مُؤَدًّى ، فَلَمَّا كَانَ الْمَالُ الْمُزَكَّى مَخْصُوصًا فِي بَعْضِ الْأَمْوَالِ دُونَ بَعْضٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَدْرُ الْمُؤَدَّى مَخْصُوصًا فِي بَعْضِ الْأَمْوَالِ دُونَ بَعْضٍ . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا : أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الزَّكَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي مَالٍ مَخْصُوصٍ كَالْمَالِ الْمُزَكَّى ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ أَغْنُوهُمْ عَنِ الْمَسْأَلَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ . فَهُوَ مُجْمَلٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ قَدْرَ مَا يَسْتَغْنُونَ بِهِ ، وَلَا جِنْسَهُ ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ مُفَسَّرًا ، فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى . وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ فَإِنْ لَمْ تَكُنِ ابْنَةُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ فَهُوَ دَلَالَةٌ عَلَيْهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا . وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ وَارِدٌ فِي الْجِزْيَةِ لَا فِي الزَّكَاةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ فِي الزَّكَاةِ مِنَ الْحَبِّ حَبًّا ، ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِالْجِزْيَةِ فَقَالَ : خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ مِنْ مَعَافِرِ الْيَمَنِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ مُعَاذٌ " آخُذُهُ مِنْكُمْ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ " وَذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْجِزْيَةِ ، قِيلَ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُعَاذٌ عَقَدَ مَعَهُمُ الْجِزْيَةَ عَلَى أَخْذِ الشَّعِيرِ مِنْ زُرُوعِهِمْ ، يُوَضِّحُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْجِزْيَةِ لَا مِنَ الزَّكَاةِ أَنَّ مُعَاذًا قَالَ : " فَإِنَّهُ أَنْفَعُ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ " وَالزَّكَاةُ لَا يَجُوزُ نَقْلُهَا مِنْ جِيرَانِ الْمَالِ إِلَى غَيْرِهِمْ ، سِيَّمَا عِنْدَ مُعَاذٍ الَّذِي يَقُولُ : " أَيُّمَا رَجُلٍ انْتَقَلَ مِنْ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ إِلَى غَيْرِ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ فَعُشْرُهُ وَصَدَقَتُهُ فِي مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ " . فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ فِي الْجِزْيَةِ الَّتِي يَجُوزُ نَقْلُهَا . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَالِ التِّجَارَةِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي قِيمَةِ الْفَرْضِ ، وَتُخْرَجُ زَكَاةُ الْقِيمَةِ إِلَّا أَنَّهَا تَجِبُ فِي الْفَرْضِ وَتُخْرَجُ قِيمَةُ الْفَرْضِ ، وَإِنَّ قِيَاسَهُمْ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَبَاطِلٌ بِإِخْرَاجِ نِصْفِ صَاعٍ عَنْ صَاعٍ ، وَشَاةٍ عَنْ شَاتَيْنِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ ، فَلِذَلِكَ جَازَ إِخْرَاجُهُ ، وَلَيْسَتِ الْقِيمَةُ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ إِخْرَاجُهَا ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : لَمَّا جَازَ الْعُدُولُ مِنَ الْعَيْنِ إِلَى الْجِنْسِ جَازَ الْعُدُولُ مِنْ جِنْسٍ إِلَى جِنْسٍ ، فَهَذَا قِيَاسُ الْعَكْسِ ، عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ مِنْ جِنْسِ مَالِهِ لَا مِنْ عَيْنِ مَالِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ عَادِلًا عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ أَخْرَجَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَقَالَ : إِنْ كَانَ مَالِي الْغَائِبُ سَالِمًا فَهَذِهِ زَكَاتُهُ أَوْ نَافِلَةٌ فَكَانَ مَالُهُ سَالِمًا لَمْ يُجْزِئْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِالنِّيَّةِ قَصْدَ فَرْضٍ خَالِصٍ إِنَّمَا جَعَلَهَا مُشْتَرَكَةً بَيْنَ فَرْضٍ وَنَافِلَةٍ ، وَلَوْ قَالَ عَنْ مَالِي الْغَائِبِ إِنْ كَانَ سَالِمًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَالِمًا فَنَافِلَةٌ أَجَزَأَتْ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ إِعْطَاءَهُ عَنِ الْغَائِبِ هَكَذَا وَإِنْ لَمْ يَقُلْهُ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : الْمَالُ الْغَائِبُ عَنْ مَالِكِهِ كيفية زكاته حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِرًّا فِي بَلَدٍ مَعَ وَكِيلٍ أَوْ نَائِبٍ ، فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ عَنْ حَوْلِهِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ بِهِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ : أَنْ يَكُونَ الْمَالُ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ بِبَلَدٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ سَائِرٌ فِي بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ لَا يُعْرَفُ مَكَانُهُ وَلَا تُعْلَمُ سَلَامَتُهُ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ قَبْلَ وُصُولِهِ ؟ فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ غَائِبٌ لَزِمَتْهُ زَكَاةُ فِطْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِمَكَانِهِ . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِطْرَةَ الْعَبْدِ فِي ذِمَّةِ سَيِّدِهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ فَلَزِمَهُ إِخْرَاجُهَا مَعَ غَيْبَتِهِ ، وَزَكَاةُ الْمَالِ فِي عَيْنِهِ أَوْ مِنْ جِنْسِهِ فَلَمْ يَلْزَمْ إِخْرَاجُهَا مَعَ غَيْبَتِهِ وَلَوْ كَانَ فِي فِطْرَةِ الْعَبْدِ تَرْتِيبٌ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِخْرَاجَهَا لَا يَلْزَمُهُ فَتَطَوَّعَ بِهِ وَجَبَ اعْتِبَارُ نِيَّتِهِ لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهَا ، فَنَبْدَأُ بِمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ ثُمَّ نُعْقِبُهُ بِفُرُوعِهِ ، نَقَلَ الْمُزَنِيُّ مَسْأَلَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يُخْرِجَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَيَقُولَ : إِنْ كَانَ مَالِي الْغَائِبُ سَالِمًا فَهَذِهِ زَكَاتُهُ أَوْ نَافِلَةٌ فَكَانَ سَالِمًا لَمْ يُجْزِهِ ، لِأَنَّهُ أَشْرَكَ فِي نِيَّتِهِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ ، وَمِنْ شَرْطِ الزَّكَاةِ إِخْلَاصُ النِّيَّةِ لِلْفَرْضِ . وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقُولَ هَذِهِ زَكَاةُ مَالِي الْغَائِبِ إِنْ كَانَ سَالِمًا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَالِمًا فَنَافِلَةٌ ، فَكَانَ مَالُهُ سَالِمًا أَجْزَأَهُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَخْلَصَ النِّيَّةَ مَعَ سَلَامَةِ الْمَالِ ، وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلٍ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْمَالِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَهَا بِنِيَّةِ الْفَرْضِ أَوْ أَطْلَقَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، وَقَالَ : هَذِهِ زَكَاةُ مَالِي الْغَائِبِ كَانَ مُوجَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ عَنْ مَالِي الْغَائِبِ إِنْ كَانَ سَالِمًا ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الشَّرْطُ مِنْ مُوجِبِهِ كَانَ ذِكْرُهُ تَأْكِيدًا ، أَوْ لَمْ يَكُنْ مُؤَثِّرًا فِي الْإِجْزَاءِ .

فَصْلٌ : إِذَا كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ غَائِبَةٌ وَمِائَتَا دِرْهَمٍ حَاضِرَةٌ ، فَأَخْرَجَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَقَالَ : هَذِهِ عَنْ مَالِي الْغَائِبِ إِنْ كَانَ سَالِمًا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَالِمًا فَعَنْ مَالِي الْحَاضِرِ كَانَ كَمَا نَوَى ، وَكَانَ عَنْ أَحَدِ الْمَالَيْنِ عَلَى مَا شَرَطَ ، فَإِنْ كَانَ مَالُهُ الْغَائِبُ سَالِمًا كَانَتِ الزَّكَاةُ عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا كَانَتْ عَنِ الْحَاضِرِ ، وَكَذَا أَيْضًا لَوْ قَالَ هَذِهِ زَكَاةُ مَالِي الْغَائِبِ إِنْ كَانَ سَالِمًا أَوْ عَنِ الْحَاضِرِ أَجْزَأَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَخْلَصَ نِيَّةَ الْفَرْضِ ، وَإِلَّا جَعَلَ

الِاشْتِرَاكَ فِي نَقْلِهَا مِنْ فَرْضٍ إِلَى فَرْضٍ وَذَلِكَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ الْفَرْضِ فِيهَا لَا يَلْزَمُ ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَارَقَتِ الصَّلَاةَ ؛ لِأَنَّ تَغْيِيرَ الْفَرْضِ فِيهَا يَلْزَمُ ، فَلَوْ جَعَلَ نِيَّةَ الصَّلَاةِ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ فَرْضَيْنِ لَمْ يَجُزْ ، فَلَوْ قَالَ هَذَا عَنْ مَالِي الْغَائِبِ فَتَلِفَ الْمَالُ الْغَائِبُ لَمْ يُجْزِهِ عَنِ الْحَاضِرِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرِكْهُ فِي نِيَّتِهِ .

فَصْلٌ : إِذَا كَانَ لَهُ ذُو قَرَابَةِ يَرِثُهُ مِنْ وَالِدٍ أَوْ وَلَدٍ وَكَانَ بَعِيدًا لِغَيْبَةٍ فَقَالَ : إِنْ كَانَ مَاتَ وَوَرِثْتُ مَالَهُ فَهَذِهِ زَكَاتُهُ لَمْ يُجْزِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْنِ ذَلِكَ عَلَى أَصْلٍ ، كَالْمَالِ الْغَائِبِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَالِ الْغَائِبِ الْبَقَاءُ ، وَفِي ذِي الْقَرَابَةِ الْحَيَاةُ ، وَلِهَذِهِ الْمَسَائِلِ أَمْثِلَةٌ فِي صِيَامِ يَوْمَيِ الشَّكِّ ؛ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ نَذْكُرُهَا فِي كِتَابِ " الصِّيَامِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

فَصْلٌ : إِذَا وَرِثَ مَالًا فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ سِنِينَ كَثِيرَةً كيف يزكيه ؟ فَعَلَيْهِ زَكَاتُهُ مِنْ يَوْمِ وَرِثَهُ ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي مِلْكِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَوْصَى لِحَمْلِ امْرَأَةٍ بِمَالٍ تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ ، وَمَاتَ فَوَضَعَتْ حَمْلَهَا لِأَرْبَعِ سِنِينَ مَلَكَ الْمَالَ ، وَفِي زَكَاةِ مَا مَضَى وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُخْرِجُ زَكَاةَ مَا مَضَى . وَالثَّانِي : لَا زَكَاةَ فِيمَا مَضَى وَيَسْتَأْنِفُ حَوْلَهُ مِنْ وَقْتِ الْوَضْعِ ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَا مُخْرَجَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْوَصِيَّةِ هَلْ تُمْلَكُ بِمَوْتِ الْمُوصِي أَوْ بِالْمَوْتِ وَالْقَبُولِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَخْرَجَهَا لِيُقَسِّمَهَا وَهِيَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فَهَلَكَ مَالُهُ ، كَانَ لَهُ حَبْسُ الدَّرَاهِمِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَقُلْنَا إِنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُهُ عِنْدَ تَلَفِ مَالِهِ بَعْدَ الْحَوْلِ المزكي مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ أَوْ بَعْدَهُ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ ، فَعَلَيْهِ دَفْعُ مَا أَخْرَجَهُ مِنَ الزَّكَاةِ ، وَلَيْسَ لَهُ حَبْسُهُ ؛ لِأَنَّهُ بِتَأْخِيرِهَا بَعْدَ الْإِمْكَانِ مُفَرِّطٌ فَلَزِمَهُ ضَمَانُهَا ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْإِمْكَانِ حَبَسَ مَا بِيَدِهِ وَجَمَعَهُ إِلَى بَاقِي مَالِهِ ، فَإِنْ بَلَغَ نِصَابًا أَخْرَجَ زَكَاتَهُ لَا غَيْرَ ؛ لِأَنَّهُ دُونَ مَا هَلَكَ ، وَإِنْ كَانَ دُونَ النِّصَابِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْإِمْكَانِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ ضَاعَتْ مِنْهُ الَّتِي أَخْرَجَهَا مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ رَجَعَ إِلَى مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ ، فَإِنْ كَانَ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ زَكَّاهُ وَإِلَّا فَلَا شَيْ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهِيَ فِي مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ الْمَاضِيَةِ ، لَكِنْ فِي تَلَفِ الزَّكَاةِ الْمُخْرَجَةِ دُونَ الْأَصْلِ الْمُتَبَقِّي ، كَأَنَّهُ أَخْرَجَ زَكَاتَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَتَلِفَتْ مِنْ يَدِهِ ، فَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ الْإِمْكَانِ فَعَلَيْهِ

إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ كَامِلَةً ، وَإِنْ تَلِفَتْ قَبْلَ الْإِمْكَانِ لَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ ، فَاعْتُبِرَ مَا بَقِيَ فَإِنْ كَانَ نِصَابًا زَكَّاهُ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : عَلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ بِقِسْطِ مَا بَقِيَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْإِمْكَانِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا أَخَذَ الْوَالِي مِنْ رَجُلٍ زَكَاتَهُ بِلَا نِيَّةٍ فِي دَفْعِهَا إِلَيْهِ أَجْزَأَتْ عَنْهُ كَمَا يُجْزِئُ فِي الْقَسْمِ لَهَا أَنْ يُقَسِّمَهَا عَنْهُ وَلِيُّهُ أَوِ السُّلْطَانُ وَلَا يُقَسِّمُهَا بِنَفْسِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا إِيجَابَ النِّيَّةِ فِي دَفْعِ الزَّكَاةِ ، فَإِذَا ثَبَتَ وَجُوبُهَا فَلَا يَخْلُو حَالُ رَبِّ الْمَالِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَدْفَعَهَا طَوْعًا ، أَوْ تُؤْخَذَ مِنْ مَالِهِ كَرْهًا حال رب المال ، فَإِنْ دَفَعَهَا طَوْعًا فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : إِمَّا أَنْ يُفَرِّقَهَا بِنَفْسِهِ ، أَوْ يَدْفَعَهَا إِلَى وَكِيلِهِ لِيَدْفَعَهَا عَنْهُ ، أَوْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْوَالِي ، فَإِنْ فَرَّقَهَا بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ نِيَّةٍ عِنْدَ دَفْعِهَا ، أَوْ عِنْدَ عَزْلِهَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَنْوِ لَمْ يُجْزِهِ ، فَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى وَكِيلِهِ فَلَهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : إِمَّا أَنْ يَنْوِيَا مَعًا أَوْ لَا يَنْوِيَا ، أَوْ يَنْوِي الْمُوَكِّلُ دُونَ الْوَكِيلِ ، أَوْ يَنْوِي الْوَكِيلُ دُونَ الْمُوَكِّلِ ، فَإِنْ نَوَيَا مَعًا فَنَوَى الْمُوَكِّلُ عِنْدَ دَفْعِهَا إِلَى الْوَكِيلِ ، وَنَوَى الْوَكِيلُ عِنْدَ تَفْرِيقِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ أَجْزَأَتْهُ الزَّكَاةُ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِيَا وَلِأَحَدٍ مِنْهُمَا لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ عَنْ زَكَاتِهِ ، لِفَقْدِ النِّيَّةِ ، وَإِنْ دَفَعَهَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا وَنَفْلًا ، وَإِنْ نَوَى الْمُوَكِّلُ دُونَ الْوَكِيلِ فَفِي إِجْزَائِهِمَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُجْزِئُهُ ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَحَلَّ النِّيَّةِ عِنْدَ الدَّفْعِ وَالتَّفْرِقَةِ . وَالثَّانِي : يُجْزِئُهُ ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَحَلَّ النِّيَّةِ عِنْدَ الْعَزْلِ وَهُوَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي تَفْرِيقِ الزَّكَاةِ ، فَلَوْ كُلِّفَ الْمُوَكِّلُ النِّيَّةَ عِنْدَ تَفْرِقَةِ الْوَكِيلِ لَشَقَّ عَلَيْهِ ، وَأَدَّاهُ إِلَى الْمَنْعِ مِنَ الِاسْتِنَابَةِ ، وَإِنْ نَوَى الْوَكِيلُ دُونَ الْمُوَكِّلِ لَمْ يُجْزِهِ ؛ لِأَنَّ دَفْعَهُ إِلَى الْوَكِيلِ قَدْ يَكُونُ فَرْضًا وَنَفْلًا ، فَافْتَقَرَ إِلَى نِيَّةٍ يُفَرِّقُ بِهَا بَيْنَ الدَّفْعَيْنِ ، وَإِنْ رَفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ فَلَهَا أَيْضًا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَنْوِيَا جَمِيعًا فَيُجْزِئُهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَنْوِيَ رَبُّ الْمَالِ دُونَ الْإِمَامِ فَيُجْزِئُهُ وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ يَدَ الْإِمَامِ يَدٌ لِلْمَسَاكِينِ .

وَالثَّالِثُ : أَنْ يَنْوِيَ الْإِمَامُ دُونَ رَبِّ الْمَالِ فَيُجْزِئُهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَأْخُذُ مِنَ الْمَالِ إِلَّا مَا وَجَبَ ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ لَا يَنْوِيَ رَبُّ الْمَالِ وَلَا الْإِمَامُ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الصَّحِيحُ وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْإِمَامِ يَتَوَجَّهُ إِلَى الْفَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْخُذُ إِلَّا مَا وَجَبَ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِهِ : لَا يُجْزِئُهُ لِفَقْدِ النِّيَّةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الْأَدَاءِ .

فَصْلٌ : فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا طَوْعًا أي الزكاة : أَخَذَهَا الْإِمَامُ مِنْ مَالِهِ قَهْرًا ، وَيُجْزِئُهُ فِي الْحُكْمِ ، نَوَى الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَنْوِ ، وَهَلْ يُجْزِئُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ؛ عَلَى وَجْهَيْنِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا امْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهَا ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُؤْخَذَ كَرْهًا بَلْ يُحْبَسُ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا ، فَإِنْ أُخِذَتْ كَرْهًا لَمْ يُجْزِهِ ، وَاسْتَدَلَّ بِشَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ لَا يَصِحُّ أَدَاؤُهَا إِلَّا بِنِيَّةٍ ، وَمَعَ الْإِكْرَاهِ لَا تَصِحُّ مِنْهُ النِّيَّةُ . وَالثَّانِي : أَنَّ أَخْذَهَا كَرْهًا لَا يَصِحُّ إِلَّا لِطَالِبٍ مُعَيَّنٍ ، وَمُسْتَحَقُّ الزَّكَاةِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ ، وَهَذَا خَطَأٌ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ، [ التَّوْبَةِ : ] ، فَكَانَ هَذَا الْأَمْرُ بِالْأَخْذِ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْمُطِيعِ وَالْمُمْتَنِعِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي كُلِّ سَائِمَةٍ إِبِلٍ ، فِي أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ ، وَلَا تُفَرَّقُ إِبِلٌ عَنْ حِسَابِهَا ، مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا فَلَهُ أَجْرُهَا ، وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ ؛ عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا ، لَيْسَ لِآلِ مُحَمَّدٍ فِيهَا نَصِيبٌ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ فِي مَالِهِ يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْبَرَ عَلَيْهِ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ كَالدُّيُونِ ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ يَتَوَلَّاهُ الْإِمَامُ لِأَهْلِ السُّهْمَانِ ، فَجَازَ أَنْ يُجْبَرَ عَلَيْهِ عِنْدَ الِامْتِنَاعِ مِنْهُ كَالْأَعْشَارِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ الْأَوَّلِ بِفَقْدِ النِّيَّةِ ، يَقْصِدُ بِهَا الْفَرْقَ بَيْنَ التَّطَوُّعِ وَالْفَرْضِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْإِكْرَاهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : إِنَّ مُسْتَحِقَّهَا غَيْرُ مُعَيَّنٍ ، قِيلَ : أَوْصَافُهُمْ مُعَيَّنَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ أَشْخَاصُهُمْ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ ، وَلَوْلَا تَعْيِينُ أَوْصَافِهِمْ لَمَا جَازَ أَنْ يُفَرِّقَهَا فِيهِمْ لِجَهْلِهِ بِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأُحِبُّ أَنْ يَتَوَلَّى الرَّجُلُ قِسْمَتَهَا عَنْ نَفْسِهِ ، لِيَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَدَائِهَا عَنْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَالْأَمْوَالُ ضَرْبَانِ : ظَاهِرَةٌ كَالْمَوَاشِي وَالزُّرُوعِ ، وَبَاطِنَةٌ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ما يتولى رب المال دفعه بنفسه وما لا يتولى فيه ذلك ؛ فَأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَلَا يَلْزَمُهُ دَفْعُ زَكَاتِهَا إِلَى الْإِمَامِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَهَا بِنَفْسِهِ ، أَوْ يَدْفَعَهَا إِلَى وَكِيلِهِ ، أَوْ إِلَى الْإِمَامِ

الْعَادِلِ ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْجَوَازِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ : بَيْنَ نَفْسِهِ أَوْ وَكِيلِهِ أَوِ الْإِمَامِ . فَأَمَّا الْأَوْلَى وَالْأَفْضَلُ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ وَكِيلِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ فِعْلِ نَفْسِهِ ، وَفِي شَكٍّ مِنْ فِعْلِ وَكِيلِهِ ، وَالْإِمَامُ أَيْضًا أَوْلَى مِنْ وَكِيلِهِ ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَسْقُطُ عَنْهُ بِدَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ ، وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْهَا إِلَى الْمَسَاكِينِ ، وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِدَفْعِهَا إِلَى الْوَكِيلِ حَتَّى يَدْفَعَهَا إِلَى الْمَسَاكِينِ فَأَمَّا هُوَ وَالْإِمَامُ فَفِي أَوْلَاهُمَا بِتَفْرِيقِهَا إِذَا كَانَتْ بَاطِنَةً وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ دَفْعَهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْلَى مِنْ تَفْرِيقِهَا بِنَفْسِهِ ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَعْرَفُ بِمُسْتَحِقِّيهَا مِنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا تَسْقُطُ عَنْهُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ، وَإِذَا فَرَّقَهَا بِنَفْسِهِ سَقَطَتْ عَنْهُ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُفَرِّقَهَا بِنَفْسِهِ أَوْلَى ، لِمَا عَلَّلَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ فِعْلِ نَفْسِهِ ، وَفِي شَكٍّ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ ، فَأَمَّا الْأَمْوَالُ الظَّاهِرَةُ فَلِلْإِمَامِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ عَادِلًا فِي الزَّكَاةِ وَفِي غَيْرِهَا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ جَائِرًا فِي الزَّكَاةِ وَفِي غَيْرِهَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ عَادِلًا فِي الزَّكَاةِ جَائِرًا فِي غَيْرِهَا . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ جَائِرًا فِي الزَّكَاةِ عَادِلًا فِي غَيْرِهَا ، فَإِنْ كَانَ جَائِرًا فِي الزَّكَاةِ وَفِي غَيْرِهَا ، أَوْ جَائِرًا فِي الزَّكَاةِ عَادِلًا فِي غَيْرِهَا ، لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَيْهِ ، وَفَرَّقَهَا رَبُّ الْمَالِ بِنَفْسِهِ ، فَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ الْجَائِرِ فِيهَا لَمْ تُجْزِهِ ، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ قِسْمِ الصَّدَقَاتِ ، وَإِنْ كَانَ عَادِلًا فِي الزَّكَاةِ وَفِي غَيْرِهَا فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ يَجِبُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَيْهِ ، فَإِنْ فَرَّقَهَا رَبُّ الْمَالِ بِنَفْسِهِ أَوْ وَكِيلُهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ لَا يَجِبُ دَفْعُهَا إِلَيْهِ ، وَإِنْ فَرَّقَهَا بِنَفْسِهِ أَوْ وَكِيلُهُ جَازَ ، لَكِنَّ دَفْعَهَا إِلَيْهِ فِي الْمَالِ الظَّاهِرِ أَوْلَى مِنْ تَفْرِيقِهَا بِنَفْسِهِ أَوْ وَكِيلِهِ وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِيَكُونَ خَارِجًا مِنَ الْخِلَافِ فِي الْإِجْزَاءِ ، وَعَلَى الْيَقِينِ مِنْ أَدَائِهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، وَإِنْ كَانَ عَادِلًا فِي الزَّكَاةِ جَائِرًا فِي غَيْرِهَا وَجَبَ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ دَفْعُهَا إِلَيْهِ وَلَمْ يَجُزْ تَفْرِيقُهَا بِنَفْسِهِ . رُوِيَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سَأَلْتُ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ فَقُلْتُ : عِنْدِي مَالٌ مُجْتَمِعٌ يَعْنِي : مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ ، وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ كَمَا تَرَى ، فَمَا أَصْنَعُ بِهِ ؟ قَالَ : ادْفَعْهُ إِلَيْهِمْ قَالَ : وَسَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَسَأَلْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ . وَسَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ .

فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ ، فَلَا يَجِبُ دَفْعُهَا إِلَيْهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَهَا بِنَفْسِهِ ، وَفِي الْأُولَى وَجْهَانِ : أَحَدُهَا : دَفْعُهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْلَى . وَالثَّانِي : تَفْرِيقُهَا بِنَفْسِهِ أَوْلَى ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الزَّكَاةِ وَمَنْ سَأَلَ فَوْقَهَا فَلَا يُعْطِهِ وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ . وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

بَابُ مَا يُسْقِطُ الصَّدَقَةَ عَنِ الْمَاشِيَةِ

بَابُ مَا يُسْقِطُ الصَّدَقَةَ عَنِ الْمَاشِيَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ وَإِذَا كَانَ هَذَا ثَابِتًا فَلَا زَكَاةَ فِي غَيْرِ سَائِمَةٍ . وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَيْسَ فِي الْبَقَرِ وَالْإِبِلِ الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ حَتَّى تَكُونَ سَائِمَةً ، وَالسَّائِمَةُ الرَّاعِيَةُ . وَذَلِكَ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهَا أَمْرَانِ : أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا مُؤْنَةٌ فِي الْعَلَفِ ، وَيَكُونَ لَهَا نَمَاءُ الرَّعْيِ ، فَأَمَّا إِنْ عُلِفَتْ فَالْعَلَفُ مُؤْنَةٌ تُحْبِطُ بِفَضْلِهَا وَقَدْ كَانَتِ النَّوَاضِحُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ خُلَفَائِهِ ، فَلَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا رَوَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ مِنْهَا صَدَقَةً وَلَا أَحَدًا مِنْ خُلَفَائِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : الْمَاشِيَةُ ضَرْبَانِ : سَائِمَةٌ وَمَعْلُوفَةٌ . فَالسَّائِمَةُ : الرَّاعِيَةُ ، وَسُمِّيَتْ سَائِمَةً لِأَنَّهَا تَسِمُ الْأَرْضَ بِرَعْيِهَا ، وَالسِّمَةُ الْعَلَامَةُ ، وَلِهَذَا قِيلَ لِأَوَّلِ الْمَطَرِ : وَسْمِيٌّ ؛ لِأَنَّهُ يُعَلِّمُ الْأَرْضَ بِآثَارِهِ ، فَالسَّائِمَةُ مِنَ الْمَاشِيَةِ فِيهَا الزَّكَاةُ إِجْمَاعًا . فَأَمَّا الْمَعْلُوفَةُ مِنَ الْغَنَمِ وَالْعَوَامِلِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ مَالِكٌ : الزَّكَاةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ كَالسَّائِمَةِ . وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ : مَعْلُوفَةُ الْغَنَمِ لَا زَكَاةَ فِيهَا ، وَمَعْلُوفَةُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ فِيهَا الزَّكَاةُ ، لِقَوْلِهِ " فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ " فَخَصَّهَا بِالذِّكْرِ فَوَجَبَ اخْتِصَاصُهَا بِالْحُكْمِ ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَ زَكَاةَ الْمَعْلُوفَةِ حكمه بِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ وَلَمْ يُفَرِّقْ . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَجُوزُ فِي الْأُضْحِيَةِ فَجَازَ أَنْ تَجِبَ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالسَّائِمَةِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ السَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ إِلَّا فِي قِلَّةِ الْمُؤْنَةِ فِي السَّائِمَةِ ، وَكَثْرَتِهَا فِي الْمَعْلُوفَةِ ، وَقِلَّةُ الْمُؤْنَةِ وَكَثْرَتُهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي إِسْقَاطِ الزَّكَاةِ ، وَإِنَّمَا تُؤَثِّرُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ إِذَا كَثُرَتْ مُؤْنَتُهَا بِالسَّقْيِ قَلَّتْ زَكَاتُهَا ، وَإِذَا قَلَّتْ مُؤْنَتُهَا كَثُرَتْ زَكَاتُهَا ، فَكَانَ تَأْثِيرُ الْمُؤْنَةِ فِي تَغْيِيرِ الْقَدْرِ لَا فِي إِسْقَاطِ الْفَرْضِ .

وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لِلْغَنَمِ صِفَتَانِ : السَّوْمُ ، وَالْعَلَفُ ، فَلَمَّا عَلَّقَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ بِإِحْدَى الصِّفَتَيْنِ انْتَفَتْ عَنِ الْأُخْرَى ، فَصَرَّحَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَرَوَى عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَيْسَ فِي الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَيْسَ فِي الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ . وَرَوَى مُجَاهِدٌ ، عَنْ طَاوُسٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ . فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ الثَّلَاثَةُ نُصُوصٌ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا . فَإِنْ قَالُوا : إِنَّمَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهَا زَكَاةٌ لِأَنَّهَا لَمْ تَبْلُغْ نِصَابًا فِي الْغَالِبِ . فَفِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّا إِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَهُمْ غَالِبًا فِي الْبَقَرِ فَلَيْسَ بِغَالِبٍ فِي الْإِبِلِ ، وَقَدْ يَمْلِكُ دُونَ النِّصَابِ سَائِمَةً ، وَتَمَامَ النِّصَابِ مَعْلُوفَةٌ ، فَيَصِيرَانِ نِصَابًا كَامِلًا ، فَعُلِمَ أَنَّ نَصَّهُ عَلَى الْعَوَامِلِ لِسُقُوطِ الزَّكَاةِ فِيهَا لَا غَيْرَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ خَصَّ الْمَعْلُوفَةَ بِنَفْيِ الزَّكَاةِ عَنْهَا ، وَحَمْلُ الْخَبَرِ عَلَى مَا دُونَ النِّصَابِ يُسْقِطُ فَائِدَةَ التَّخْصِيصِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْلُوفَةَ وَالسَّائِمَةَ يَتَسَاوَيَانِ فِي ذَلِكَ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا صَدَقَةَ فِي الْإِبِلِ الْجَارَّةِ وَلَا الْقَتُوبَةِ . وَالْجَارَّةُ الَّتِي تُجَرُّ بِأَزِمَّتِهَا وَتُقَادُ . وَالْقَتُوبَةُ : الَّتِي يُوضَعُ عَلَى ظُهُورِهَا الْأَقْتَابُ ، هَكَذَا قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي " غَرِيبِ الْحَدِيثِ " وَلِأَنَّهُ جِنْسٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ بِحَوْلٍ وَنِصَابٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يُشَرِّعَ نَوْعَيْنِ : نَوْعٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، وَنَوْعٌ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَلِأَنَّهُ مُبْتَذَلٌ فِي مُبَاحٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجِبَ فِيهِ الزَّكَاةُ ، كَالثِّيَابِ وَالْعَقَارِ ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا تَجِبُ فِي الْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ كَالْمَوَاشِي وَالزُّرُوعِ . وَتَسْقُطُ فِي غَيْرِ النَّامِيَةِ كَالْآلَةِ وَالْعَقَارِ ، وَالْعَوَامِلُ مَفْقُودَةُ النَّمَاءِ فِي الدَّرِّ وَالنَّسْلِ ، وَإِنَّمَا يُنْتَفَعُ بِهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ النَّمَاءِ ، كَمَا يُنْتَفَعُ بِالْعَقَارِ عَلَى جِهَةِ السُّكْنَى ، فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ عَنْهَا الزَّكَاةُ كَسُقُوطِهَا عَنِ الْعَقَارِ .

فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِعُمُومِ الْخَبَرِ فَأَخْبَارُنَا تَخُصُّهُ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى السَّائِمَةِ فَالْمَعْنَى فِيهَا حُصُولُ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ كَثْرَةَ الْمُؤْنَةِ تُؤَثِّرُ فِي قَدْرِ الْفَرْضِ لَا فِي إِسْقَاطِهِ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ : إِنَّمَا لَمْ تَسْقُطِ الزَّكَاةُ عَنْهَا لِكَثْرَةِ الْمُؤْنَةِ ، وَإِنَّمَا أَسْقَطْنَاهَا لِفَقْدِ النَّمَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَتِ الْعَوَامِلُ تَرْعَى مُدَّةً وَتُتْرُكَ أُخْرَى ، أَوْ كَانَتْ غَنَمًا تُعْلَفُ فِي حِيِنٍ وَتَرْعَى فِي آخَرَ ، فَلَا يَبِينُ لِي أَنَّ فِي شَيْءٍ مِنْهَا صَدَقَةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . الْمَاشِيَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ أحوال الماشية في الزكاة : سَائِمَةٌ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ فَفِيهَا الزَّكَاةُ . وَمَعْلُوفَةٌ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا . وَسَائِمَةٌ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ مَعْلُوفَةٌ فِي بَعْضِهِ الواجب فيها فَالْوَاجِبُ أَنْ يُنْظَرَ فِي الْعَلَفِ ، فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا يَقُومُ الْبَدَنُ بِفَقْدِهِ كَيَوْمٍ أَوْ بَعْضَهُ وَهِيَ فِي بَاقِي الْحَوْلِ كُلِّهِ سَائِمَةٌ ، فَالْحُكْمُ لِلسَّوْمِ ، وَالزَّكَاةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ ، وَلَا تَأْثِيرَ لِهَذَا الْقَدْرِ فِي الْمَعْلُوفَةِ ، وَإِنْ كَثُرَتِ الْعُلُوفَةُ فِي زَمَانٍ لَا يَقُومُ الْبَدَنُ بِفَقْدِهَا فِيهِ كَشَهْرٍ أَوْ أُسْبُوعٍ أَوْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، لِأَنَّهَا إِنْ لَمْ تَأْكُلْ ثَلَاثًا تَلِفَتْ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا ، سَوَاءٌ كَانَ زَمَانُ السَّوْمِ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ زَمَانُ السَّوْمِ أَكْثَرَ فَفِيهَا الزَّكَاةُ ، وَإِنْ كَانَ زَمَانُ الْعُلُوفَةِ أَكْثَرَ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا ، اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْأَغْلَبِ كَالزَّرْعِ الْمَسْقِيِّ بِمَاءِ السَّمَاءِ وَمَاءِ الرِّشَا ، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ فِي السَّوْمِ إِيجَابًا وَفِي الْعُلُوفَةِ إِسْقَاطًا ، وَهُمَا إِذَا اجْتَمَعَا فِي الزَّكَاةِ غَلَبَ حُكْمُ الْإِسْقَاطِ . وَالثَّانِي : أَنَّ سَوْمَ جَمِيعِ الْمَاشِيَةِ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ كَسَوْمِ بَعْضِ الْمَاشِيَةِ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ سَوْمَ بَعْضِهَا فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ مُسْقِطٌ لِلزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهَا الْأَغْلَبُ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَوْمُ جَمِيعِهَا فِي بَعْضِ الْحَوْلِ مُسْقِطًا لِلزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهَا الْأَغْلَبُ ، بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً ، مِنْهَا تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ سَائِمَةً فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ ، وَشَاةٌ مَعْلُوفَةٌ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ السَّوْمُ أَغْلَبَ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْإِسْقَاطِ ، كَذَلِكَ مَنْ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً ، إِذَا سَمَتْ كُلُّهَا فِي بَعْضِ الْحَوْلِ ، وَعُلِفَتْ فِي بَعْضِهِ ، لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ السَّوْمُ أَغْلَبَ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْإِسْقَاطِ ، فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الزُّرُوعِ فَلِلشَّافِعِيِّ فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا اعْتِبَارَ بِالْأَغْلَبِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا الِاعْتِبَارُ بِالْأَغْلَبِ . فَعَلَى هَذَا السُّؤَالُ سَاقِطٌ .

وَالثَّانِي : الِاعْتِبَارُ بِالْأَغْلَبِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الزَّرْعَ لَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ إِسْقَاطٍ وَإِيجَابٍ ، فَلِذَلِكَ اعْتُبِرَ حُكْمُ الْأَغْلَبِ فِيهِ ، وَالْمَاشِيَةُ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ إِسْقَاطٍ وَإِيجَابٍ ، فَلِذَلِكَ غَلَبَ حُكْمُ الْإِسْقَاطِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ قَالَ : وَلَا صَدَقَةٌ فِي خَيْلٍ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَاشِيَةِ عَدَا الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ بِدَلَالَةِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ . قَالَ الْمُزَنِيُّ : قَالَ قَائِلُونَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ الْمُسْتَعْمَلَةِ وَغَيْرِ الْمُسْتَعْمَلَةِ وَمَعْلُوفَةٍ وَغَيْرِ مَعْلُوفَةٍ سَوَاءٌ فَالزَّكَاةُ فِيهَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ فِيهَا الزَّكَاةَ وَهُوَ قَوْلُ الْمَدَنِيِّينَ . يُقَالُ لَهُمْ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ : وَكَذَلِكَ فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ كَمَا فَرَضَهَا فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ فَزَعَمْتُمْ أَنَّ مَا اسْتُعْمِلَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ وَهِيَ ذَهَبٌ وَوَرِقٌ ، كَمَا أَنَّ الْمَاشِيَةَ إِبِلٌ وَبَقَرٌ فَإِذَا أَزَلْتُمُ الزَّكَاةَ عَمَّا اسْتُعْمِلَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ فَأَزِيلُوهَا عَمَّا اسْتُعْمِلَ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ ؛ لِأَنَّ مَخْرَجَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ وَاحِدٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : أَمَّا الرَّقِيقُ فَلَا يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ أَنْ لَا زَكَاةَ فِي أَعْيَانِهِمْ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا لِلتِّجَارَةِ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي قِيمَتِهِمْ ، أَوْ فِي الْفِطْرِ فَتَجِبُ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْهُمْ ، وَلِهَذَا مَوْضِعٌ . فَأَمَّا الْخَيْلُ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا بِحَالٍ كَالْحَمِيرِ وَالْبِغَالِ ، سَوَاءٌ كَانَتْ سَائِمَةً أَوْ مَعْلُوفَةً ذُكُورًا أَوْ إِنَاثًا ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ ، وَعَلِيٌّ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ ، وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ : إِنْ كَانَتْ مَعْلُوفَةً فَلَا زَكَاةَ فِيهَا كَالْمَاشِيَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ سَائِمَةً : فَإِنْ كَانَتْ ذُكُورًا فَلَا زَكَاةَ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَتْ إِنَاثًا أَوْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَفِيهَا الزَّكَاةُ ، وَرَبُّهَا بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخْرَجَ عَنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَهَا وَأَخْرَجَ رُبُعَ عُشْرِ الْقِيمَةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ نِصَابٍ ، احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَابِرٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فِي كُلِّ فَرَسٍ سَائِمَةٍ دِينَارٌ ، وَلَيْسَ فِي الْمُرَابِطَةِ شَيْءٌ وَبِرِوَايَةِ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : الْخَيْلُ ثَلَاثٌ : لِرَجُلٍ أَجْرٌ ، وَلِآخَرَ شَيْنٌ ، وَعَلَى آخَرَ وِزْرٌ ، فَأَمَّا الَّذِي لَهُ الْأَجْرُ فَالَّذِي يُمْسِكُهَا تَعَفُّفًا وَتَجَمُّلًا ، فَلَا يَنْسَى حَقَّ اللَّهِ فِي ظُهُورِهَا وَرِقَابِهَا ، وَمِمَّا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ

قَالَ : خَيْرُ الْمَالِ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ ، وَمُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ خِيَارِ الْمَالِ كَانَ وُجُوبُهَا فِيهِ أَوْلَى مِنْ وُجُوبِهَا فِي شِرَارِهِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُ ذُو أَرْبَعَةٍ : أَهْلِيٌّ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَوَجَبَ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالْغَنَمِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا تَجِبُ فِي الْمَاشِيَةِ لِظَهْرِهَا وَنَسْلِهَا ، وَفِي الْخَيْلِ السَّائِمَةِ هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيهَا ، فَاقْتَضَى أَنْ تَجِبَ الزَّكَاةُ فِيهَا . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ ، وَرَوَى أَبُو الزِّنَادِ ، عَنِ الْأَعْرَجِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ إِلَّا صَدَقَةَ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ ، وَرَوَى عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ ، عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ . وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا صَدَقَةَ فِي فَرَسٍ وَلَا عَبْدٍ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ فِي الْجَبْهَةِ وَلَا فِي النَّخَّةِ وَلَا فِي الْكَسْعَةِ صَدَقَةٌ . فَالْجَبْهَةُ : الْخَيْلُ ، وَالْكَسْعَةُ : الْحَمِيرُ ، فَأَمَّا النَّخَّةُ فَأَبُو عُبَيْدَةَ يَرْوِيهَا بِضَمِّ النُّونِ وَهِيَ الرَّقِيقُ ، وَالْكِسَائِيُّ يَرْوِيهَا بِفَتْحِ النُّونِ ، وَقَالَ : هِيَ الْبَقَرُ الْعَوَامِلُ بِلُغَةِ الْحِجَازِ ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ : النَّخَّةُ أَنْ يَأْخُذَ الْمُصَدِّقُ دِينَارًا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَأَنْشَدَ : عَمِّي الَّذِي مَنَعَ الدِّينَارَ ضَاحِيَةً دِينَارَ نَخَّةِ كَلْبٍ وَهْوَ مَشْهُودُ وَرُوِيَ أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ كَتَبُوا إِلَى عُمَرَ فَقَالُوا : قَدْ كَثُرَ عِنْدَنَا الْخَيْلُ وَالرَّقِيقُ فَزَكِّهِ لَنَا ، فَقَالَ : لَا آخُذُ شَيْئًا لَمْ يَأْخُذْهُ صَاحِبَايَ ، وَسَأَسْتَشِيرُ . فَاسْتَشَارَهُمْ فَقَالُوا : حَسَنٌ ، وَعَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَاكِتٌ ، فَقَالَ : مَا تَقُولُ يَا أَبَا الْحَسَنِ ؟ فَقَالَ : لَا بَأْسَ إِنْ لَمْ تَكُنْ جِزْيَةً رَاتِبَةً مِنْ بَعْدِكَ ،

فَأَخَذَ عُمَرُ مِنْ كُلِّ عَبْدٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ، وَرَزَقَهُ جَرِيبَيْنِ ، وَمِنْ كُلِّ فَرَسٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ، وَرَزَقَهُ عَشْرَةَ أَجْرِبَةٍ شَعِيرًا . قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ : فَأَعْطَاهُمْ أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَ مِنْهُمْ ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ : وَلَمْ تَكُنْ جِزْيَةً ، ثُمَّ صَارَ جِزْيَةً رَاتِبَةً فِي زَمَنِ الْحَجَّاجِ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ وَلَا يُعْطَوْنَ . فَالدَّلَالَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَبَدْأَهُمْ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَالَ : لَمْ يَأْخُذْ صَاحِبَايَ ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَأَخَذَاهَا . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ اسْتَشَارَ ، وَلَوْ كَانَ نَصٌّ مَا اسْتَشَارَ . وَالرَّابِعُ : أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ : إِنْ أَمِنْتَ أَنْ لَا تَكُونَ جِزْيَةً رَاتِبَةً فَافْعَلْ ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَكَانَتْ رَاتِبَةً . وَالْخَامِسُ : أَنَّ عُمَرَ أَعْطَاهُمْ فِي مُقَابَلَتِهَا رِزْقًا ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى : أَنْ يُقَالَ : كُلُّ جِنْسٍ مِنَ الْحَيَوَانِ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي ذُكُورِهِ إِذَا انْفَرَدَتْ لَا تَجِبُ فِي ذُكُورِهِ وَإِنَاثِهِ كَالْحَمِيرِ وَالْبِغَالِ ، وَعَكْسُهُ الْمَوَاشِي ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يُسْهَمُ لَهُ فَشَابَهَ الذُّكُورَ ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَا يُضَحَّى بِهِ فَأَشْبَهَ الْحَمِيرَ ، وَلِأَنَّهُ ذُو حَافِرٍ فَشَابَهَ الذُّكُورَ ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَمْ يَجِبْ فِيهِ مِنْ جِنْسِهِ فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ كَالدَّجَاجِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ جَابِرٍ : فَرِوَايَةُ غَوْرَكٍ السَّعْدِيِّ وَهُوَ مَجْهُولٌ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ ، فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ اسْتِعْمَالًا وَتَرْجِيحًا . فَأَمَّا الِاسْتِعْمَالُ فِي زَكَاةِ التِّجَارَةِ ، وَيَكُونُ ذِكْرُ الدِّينَارِ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيبِ ، فَإِنْ قِيلَ : قَدْ نَصَّ عَلَى السَّوْمِ ، وَالسَّوْمُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي زَكَاةِ التِّجَارَةِ ، قِيلَ : إِنَّمَا ذَكَرَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِيُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَنَمِ ، فَلَا يَظُنُّ أَنْ سَوْمَهَا مُسْقِطٌ لِزَكَاةِ التِّجَارَةِ كَمَا أَسْقَطَهَا مِنَ النَّعَمِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ . وَأَمَّا التَّرْجِيحُ : فَقَدْ عَارَضَهُ قَوْلُهُ : عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ بَعْضِهِ وَهُوَ الرَّقِيقُ ، مُخْتَلَفٌ فِي اسْتِعْمَالِ بَعْضِهِ وَهُوَ الْخَيْلُ ، وَخَبَرُهُمْ مُخْتَلَفٌ فِي اسْتِعْمَالِ جَمِيعِهِ ، فَكَانَ خَبَرُنَا أَوْلَى . وَالثَّانِي : أَنَّ خَبَرَهُمْ مُتَقَدِّمٌ وَخَبَرَنَا مُتَأَخِّرٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : ( عَفَوْتُ ) يَدُلُّ عَلَى إِيجَابٍ مُتَقَدِّمٍ ، وَالْمُتَأَخِّرُ أَوْلَى ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَالْجَوَابُ عَنْهُ قَرِيبٌ مِنْ جَوَابِ مَا تَقَدَّمَ ، أَوْ يُحْمَلُ

عَلَى الْجِهَادِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ وَلَا تَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي ظُهُورِهَا وَرِقَابِهَا وَالزَّكَاةُ لَا تَجِبُ فِي الظَّهْرِ ، وَإِنَّمَا الْجِهَادُ عَلَى الظَّهْرِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ خَيْرُ الْمَالِ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ فَالْمُرَادُ بِهِ الْإِخْبَارُ عَنْ فَضْلِ الْجِنْسِ دُونَ إِيجَابِ الزَّكَاةِ ، وَقَدْ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي خِيَارِ الْمَالِ كَالْمَعْلُوفَةِ ، وَتَجِبُ فِي شَرَارِهِ كَمِرَاضِ السَّائِمَةِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى النَّعَمِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي ذُكُورِهَا ، فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ فِي إِنَاثِهَا ، وَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ فِي ذُكُورِ الْخَيْلِ لَمْ تَجِبْ فِي إِنَاثِهَا ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ زَكَاةَ الْمَاشِيَةِ وَجَبَ لِظُهُورِهَا وَنَسْلِهَا فَغَيْرُ صَحِيحٍ ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ لِدَرِّهَا وَنَسْلِهَا ، وَالْخَيْلُ لَا دَرَّ لَهَا فَلَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ فِيهَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ الْمُبَادَلَةِ بِالْمَاشِيَةِ وَالصَّدَقَةِ مِنْهَا

بَابُ الْمُبَادَلَةِ بِالْمَاشِيَةِ وَالصَّدَقَةِ مِنْهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا بَادَلَ إِبِلًا بِإِبِلٍ أَوْ غَنَمًا بَغَنَمٍ أَوْ بَقَرًا بِبَقَرٍ أَوْ صِنْفًا بِصِنْفٍ غَيْرِهَا ، فَلَا زَكَاةَ حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ عَلَى الثَّانِيَةِ مِنْ يَوْمِ يَمْلِكُهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : أَمَّا الْمُبَادَلَةُ فَهُوَ مُبَايَعَةُ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ ، كَمَا أَنَّ الْمُنَاقَلَةَ مِنْ مُبَايَعَةِ الْأَرْضِ بِأَرْضٍ مِثْلِهَا ، وَالْمُصَارَفَةُ ، وَالْمُرَاطَلَةُ : هِيَ مُبَايَعَةُ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ ، فَإِذَا بَادَلَ نِصَابًا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ بِنِصَابٍ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ اسْتَأْنَفَ الْحَوْلَ مِنْ وَقْتِ الْمُبَادَلَةِ ، سَوَاءٌ بَادَلَ جِنْسًا بِمِثْلِهِ أَوْ بِغَيْرِ جِنْسِهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمَاشِيَةِ أَوْ غَيْرِهَا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْأَثْمَانِ اسْتَأْنَفَ كَقَوْلِنَا ، وَإِنْ كَانَ فِي الْأَثْمَانِ مِثْلَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بَنَى ؛ لِأَنَّ الْأَثْمَانَ لَا تَتَغَيَّرُ عِنْدَهُ ، وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ بَادَلَ جِنْسًا بِجِنْسٍ آخَرَ كَإِبِلٍ بِبَقَرٍ اسْتَأْنَفَ ، وَإِنْ بَادَلَ جِنْسًا بِمِثْلِهِ كَإِبِلٍ بِإِبِلٍ ، أَوْ بَقَرٍ بِبَقَرٍ بَنَى عَلَى حَوْلِهِ ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ ، وَفِي خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ شَاةٌ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا بَادَلَ أَوْ لَمْ يُبَادِلْ ، وَلِأَنَّهُ مَلَكَ نِصَابًا مِنْ جِنْسٍ حَالَ حَوْلُهُ فَوَجَبَ أَنْ تَجِبَ زَكَاتُهُ ، أَصْلُهُ مَا لَمْ يُبْدَلْ بِهِ ، قَالَ : وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ بَادَلَ سِلْعَةً بِسِلْعَةٍ فِي مَالِ التِّجَارَةِ بَنَى عَلَى الْحَوْلِ وَلَمْ يَسْتَأْنِفْ ، فَكَذَلِكَ فِي غَيْرِ التِّجَارَةِ . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا زَكَاةَ عَلَى مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَالْمَالُ الْحَاصِلُ بِالْمُبَادَلَةِ لَمْ يَحُلْ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ . وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ عِنْدَ رَبِّهِ وَهَذَا أَظْهَرُ نَصًّا وَأَنْفَى لِلِاحْتِمَالِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ ، وَلِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي نَفْسِهِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَوْلُهُ مِنْ يَوْمِ مِلْكِهِ ، كَمَا لَوْ بَادَلَ إِذَا اتَّهَبَ أَوِ اشْتَرَى إِبِلًا بِذَهَبٍ ، وَلِأَنَّهُ بَادَلَ مَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَوْلُهُ مِنْ يَوْمِ مِلْكِهِ ، كَمَا لَوْ بَادَلَ جِنْسًا بِجِنْسٍ غَيْرِهِ ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْعُمُومِ فَمَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَا ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى مَا لَمْ يُبَادَلْ فَالْمَعْنَى فِيهِ حُلُولُ الْحَوْلِ وَتَكَامُلُ النَّمَاءِ ، وَأَمَّا مَالُ التِّجَارَةِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ زَكَاةَ مَالِ التِّجَارَةِ أتؤخذ من قِيمَتِهِ أو من عَيْنِهِ ؟ فِي قِيمَتِهِ لَا فِي عَيْنِهِ ، وَالْقِيمَةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْحَالَيْنِ لَمْ تَنْقَطِعْ بِالْمُبَادَلَةِ ، وَزَكَاةُ هَذَا الْمَالِ فِي عَيْنِهِ ، وَالْعَيْنُ قَدْ زَالَتْ بِالْمُبَادَلَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ نَمَاءَ التِّجَارَةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْبَيْعِ وَالتَّصَرُّفِ ، فَإِذَا بَادَلَ لِوُفُورِ النَّمَاءِ ، وَنَمَاءُ الْمَوَاشِي يَفُوتُ بِالْبَيْعِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْحَوْلِ ، فَإِذَا بَادَلَ اسْتَأْنَفَ لِفَقْدِ النَّمَاءِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَكْرَهُ الْفِرَارَ مِنَ الصَّدَقَةِ ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الصَّدَقَةُ بِالْمِلْكِ وَالْحَوْلِ لَا بِالْفِرَارِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا مَلَكَ الرَّجُلُ نِصَابًا فِي الْحَوْلِ ، ثُمَّ أَخْرَجَ بَعْضَ النِّصَابِ عَنْ مِلْكِهِ قَبْلَ حُلُولِ الْحَوْلِ ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِرَارًا مِنَ الزَّكَاةِ ، أَوْ غَيْرَ فِرَارٍ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فِرَارًا وَإِنَّمَا فَعَلَهُ مَعْذُورًا ، كَمَنْ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ دَيْنُ دِرْهَمٍ قَضَاهُ قَبْلَ الْحَوْلِ ، أَوْ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً أَكْثَرَ الْحَوْلِ وَعَلَيْهِ شَاةٌ مِنْ سَلَمٍ حَلَّتْ قَبْلَ الْحَوْلِ ، قَضَاهَا مِنَ الْأَرْبَعِينَ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ لِنُقْصَانِ النِّصَابِ ، وَلَا يُكْرَهُ عَلَيْهِ لِوُجُوبِ مَا فَعَلَهُ ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِرَارًا كَمَنْ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً بَاعَ مِنْهَا قَبْلَ الْحَوْلِ شَاةً ، أَوْ مِائَتَا دِرْهَمٍ أَنْفَقَ مِنْهَا دِرْهَمًا هَرَبًا مِنَ الزَّكَاةِ وَفِرَارًا مِنَ الْوُجُوبِ ، فَفِرَارُهُ مَكْرُوهٌ ، وَهُوَ مُسِيءٌ بِهِ ، وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ . وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ : عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ لِفِرَارِهِ اسْتِدْلَالًا بِشَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَاعَدَ لِمَنْ تَعَرَّضَ لِإِسْقَاطِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنَعَ الْوَاجِبَ فِيهِ بِإِتْلَافِ مَالِهِ ، فَقَالَ تَعَالَى : إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ . [ الْقَلَمِ : إِلَى ] ، وَذَاكَ أَنَّ الْقَوْمَ أَرَادُوا أَنْ يَتَعَجَّلُوا أَخْذَ ثِمَارِهَا قَبْلَ عِلْمِ الْمَسَاكِينِ بِهَا لِيَمْنَعُوهُمُ الْوَاجِبَ فِيهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ، [ الْقَلَمِ : ، ] ، فَإِذَا كَانَ الْوَعِيدُ عَلَيْهِ مُسْتَحَقًّا كَانَ فِعْلُهُ مُحَرَّمًا ، وَفِعْلُ الْمُحَرَّمَاتِ لَا يَمْنَعُ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى الْوَاجِبَاتِ . وَالثَّانِي : أَنَّ إِسْقَاطَ الْمَالِ كَاجْتِلَابِ الْمَالِ ، فَلَمَّا كَانَ اجْتِلَابُ الْمَالِ لَا يُحْمَلُ بِوَجْهٍ مُحَرَّمٍ ، مِثْلَ أَنْ يَقْتُلَ مُورِثًا فَلَا يَرِثُهُ ، كَذَلِكَ إِسْقَاطُ الْمَالِ لَا يَحْصُلُ بِوَجْهٍ مُحَرَّمٍ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ " وَمَا أَتْلَفَهُ لِأَجْلِ الْفِرَارِ لَمْ يَحُلْ عَلَيْهِ الْحَوْلُ ، وَالْبَاقِي دُونَ النِّصَابِ ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا تَلْزَمَهُ الزَّكَاةُ ، فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ

الْبَاقِي لَا زَكَاةَ فِيهِ إِذَا نَقَصَ عَنِ النِّصَابِ ، دَلَّلْنَا عَلَيْهِ بِأَنْ نَقُولَ : لِأَنَّهُ مَالٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ نَقَصَ عَنِ النِّصَابِ قَبْلَ الْحَوْلِ فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ عَنْهُ الزَّكَاةُ ، كَمَا لَوْ كَانَ النَّاقِصُ لِعُذْرٍ ، فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَا أَتْلَفَهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ ، دَلَّلْنَا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَالٌ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ قَبْلَ الْحَوْلِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجِبَ فِيهِ الزَّكَاةُ كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ بِشَهْرٍ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَاقَبَهُمْ عَلَى تَرْكِهِمْ الِاسْتِثْنَاءَ ، وَهُوَ قَوْلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ عَزَمُوا عَلَى الْفِعْلِ وَلَمْ يَفْعَلُوا ، وَالْعِقَابُ إِنِ اسْتَحَقُّوهُ فَبِفِعْلِهِمْ لَا بِعَزْمِهِمْ ، فَلَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ . وَأَمَّا قَوْلُهَ إِنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ بِسَبَبٍ مُحَرَّمٍ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الرَّجُلِ فِي مَالِهِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ ، وَإِنَّمَا قَصْدُهُ مَكْرُوهٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ رَدَّ أَحَدَهُمَا بِعَيْبٍ قَبْلَ الْحَوْلِ اسْتَأْنَفَ بِهَا الْحَوْلَ ، وَلَوْ أَقَامَتْ فِيِ يَدِهِ حَوْلًا ثُمَّ أَرَادَ رَدَّهَا بِالْعَيْبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّهَا نَاقِصَةً عَمَّا أَخَذَهَا عَلَيْهِ وَيَرْجِعُ بِمَا نَقَصَهَا الْعَيْبُ مِنَ الثَّمَنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا بَادَلَ نِصَابًا مِنَ الْمَاشِيَةِ بِنِصَابٍ مِنَ الْمَاشِيَةِ مُبَادَلَةً صَحِيحَةً ، ثُمَّ أَصَابَ أَحَدُهُمَا بِمَا صَارَ إِلَيْهِ عَيْبًا ، فَأَرَادَ رَدَّهُ بِهِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ ظُهُورُ الْعَيْبِ قَبْلَ الْحَوْلِ . وَالثَّانِي : بَعْدَهُ . فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْحَوْلِ فَلَهُ الرَّدُّ بِهِ ، فَإِذَا اسْتَرْجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَاشِيَتَهُ اسْتَأْنَفَ لَهَا الْحَوْلَ مِنْ حِينِ رَجَعَتْ ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ فَسْخٌ يَقْطَعُ الْمِلْكَ ، وَلَا يَرْفَعُ الْعَقْدَ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَرُدُّ الْعَيْنَ الْمَعِيبَةَ دُونَ النَّمَاءِ الْحَادِثِ ، فَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَحِقًّا الْمِلْكَ مَا ارْتَجَعَهُ ، وَمَنِ اسْتَحْدَثَ مِلْكًا اسْتَأْنَفَ حَوْلَهُ ، وَإِنْ كَانَ ظُهُورُ الْعَيْبِ بَعْدَ الْحَوْلِ ظهور العيب في الماشية بعد التبادل فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْرَجَ زَكَاتَهَا قَبْلَ ظُهُورِ الْعَيْبِ . وَالثَّانِي : لَمْ يُخْرِجْهَا . فَإِنْ كَانَ قَدْ أَخْرَجَهَا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْرَجَهَا مِنْ نَفْسِ الْمَالِ وَوَسَطِهِ ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَخْرَجَهَا مِنْ نَفْسِ الْمَالِ فَهَلْ لَهُ رَدُّ مَا بَقِيَ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ جَوَازِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي الْمَرْدُودِ بِالْعَيْبِ إِذَا تَلِفَ بَعْضُهُ ، فَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ يَرْجِعُ بِأَرْشِ الْعَيْبِ وَلَا رَدَّ لَهُ .

وَالثَّانِي : يَرُدُّ مَا بَقِيَ وَيَرْجِعُ مِنَ الثَّمَنِ بِمَا قَابَلَهُ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخْرَجَهَا مِنْ غَيْرِ الْمَالِ فَلَهُ الرَّدُّ قَوْلًا وَاحِدًا ، سَوَاءٌ قِيلَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا فِي الْعَيْنِ غَيْرُ مُنْبَرِمٍ ، فَلَا وَجْهَ لِمَنْ خَرَّجَ وَجْهًا آخَرَ فِي الْمَنْعِ مِنَ الرَّدِّ إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَيْنِ . فَهَذَا إِذَا أَخْرَجَ زَكَاتَهَا ، وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْ زَكَاتَهَا حَتَّى ظَهَرَ عَلَى الْعَيْبِ فَلَا رَدَّ لَهُ ؛ لِأَنَّا إِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ فَالْعَيْنُ مُرْتَهَنَةٌ بِهَا ، وَرَدُّ الْمَرْهُونِ بِالْعَيْبِ لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِهَا فِي الْعَيْنِ فَالْحَقُّ إِذَا وَجَبَ فِي عَيْنٍ لَمْ يُجَرِّدْهَا بِعَيْبٍ ، لَا كَمَنِ ابْتَاعَ عَبْدًا فَجَنَى ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا ، فَإِنْ أَخْرَجَ زَكَاتَهَـا بَعْدَ ظُهُورِ الْعَيْبِ نُظِرَ : فَإِنْ تَطَاوَلَ الزَّمَانُ بَعْدَ إِمْكَانِ الرَّدِّ فَلَا رَدَّ لَهُ وَلَا أَرْشَ ، وَإِنْ لَمْ يَتَطَاوَلِ الزَّمَانُ بَلْ بَادَرَ إِلَى إِخْرَاجِ زَكَاتِهَا عِنْدَ ظُهُورِ الْعَيْبِ فَهَلْ لَهُ الرَّدُّ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَرُدُّ لِقُرْبِ الْوَقْتِ وَوُجُودِ الرَّدِّ عُقَيْبَ الْعَيْبِ . وَالثَّانِي : لَا يَرُدُّ ؛ لِأَنَّ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ اشْتِغَالٌ بِغَيْرِ الرَّدِّ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ كَانَتِ الْمُبَادَلَةُ فَاسِدَةً تبادل الماشية في الزكاة زَكَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزُلْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا كَانَتْ مُبَادَلَتُهُمَا فَاسِدَةً فَمِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَزُلْ عَمَّا خَرَجَ عَنْ يَدِهِ ، فَيَبْنِي عَلَى حَوْلِهِ وَيُزَكِّي عِنْدَ حُلُولِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : هَلْ كَانَ ذَلِكَ كَالْمَالِ الْمَغْصُوبِ هُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ وَلَا يُزَكِّيهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَالَ الْمَغْصُوبَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ ، وَهَذَا الْمَالُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَغْصُوبَ لَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهِ عِوَضٌ يَنْتَفِعُ بِهِ ، وَهَذَا فِي مُقَابَلَتِهِ عِوَضٌ يَنْتَفِعُ بِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ حَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا ثُمَّ بَادَلَ بِهَا أَوْ بَاعَهَا أي الزَّكَاةُ فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا ، أَنَّ مُبْتَاعَهَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ الْبَيْعَ بِنَقْصِ الصَّدَقَةِ ، أَوْ يُجِيزَ الْبَيْعَ ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا قَالَ : فَإِنْ أَعْطَى رَبُّ الْمَالِ الْبَائِعَ الْمُصَدِّقِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِيهَا مِنْ مَاشِيَةِ غَيْرِهَا فَلَا خِيَارَ لِلْمُبْتَاعِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مِنَ الْبَيْعِ شَيْءٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ مَا يَمْلِكُ وَمَا لَا يَمْلِكُ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يُجَدِّدَا بَيْعًا مُسْتَأْنَفًا " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : صُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : فِي رَجُلٍ مَعَهُ نِصَابٌ بَاعَهُ بَعْدَ وُجُوبِ زَكَاتِهِ كَأَرْبَعِينَ شَاةً ، أَوْ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً ، أَوْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ ، أَوْ عِشْرِينَ دِينَارًا أَوْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ . فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَبِيعَهَا بَعْدَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ عَنْهَا . وَالثَّانِي : أَنْ يَبِيعَهَا بَعْدَ اشْتِرَاطِ الزَّكَاةِ مِنْهَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَبِيعَ جَمِيعَهَا بَيْعًا مُطْلَقًا ، فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ إِذَا بَاعَهَا بَعْدَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ عَنْهَا فَالْبَيْعُ فِي جَمِيعِهَا جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ حَقَّ الْمَسَاكِينِ مِنْهَا ، وَصَارَ جَمِيعُهَا مِلْكًا لَهُ خَالِصًا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَبِيعَهَا وَيَشْتَرِطَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَدَاءَ الزَّكَاةِ مِنْهَا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَبِيعَهُ الْجَمِيعَ وَيَشْتَرِطَ عَلَيْهِ دَفْعَ الزَّكَاةِ ، فَهَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ ، وَشَرْطٌ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي تَحَمُّلَ الزَّكَاةِ عَنْهُ ، وَذَلِكَ يُنَافِي مُوجِبَ الْعَقْدِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَسْتَثْنِيَ قَدْرَ الزَّكَاةِ مِنَ الْبَيْعِ ، وَيُوقِعَ الْعَقْدَ عَلَى مَا سِوَى قَدْرِ الزَّكَاةِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مِمَّا تَتَمَاثَلُ أَجْزَاؤُهُ كَالْحُبُوبِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ، فَهَذَا بَيْعٌ جَائِزٌ سَوَاءٌ كَانَ قَدْرَ الزَّكَاةِ مُعَيَّنًا أَوْ شَايِعًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَتَفَاضَلُ أَعْيَانُهُ وَلَا تَتَفَاضَلُ أَجْزَاؤُهُ كَالْمَاشِيَةِ ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُعَيِّنَ مَا اسْتَثْنَاهُ لِلزَّكَاةِ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يُعَيِّنَ ، فَإِنْ عَيَّنَ قَدْرَ الزَّكَاةِ مِنْهَا وَقَالَ : قَدْ بِعْتُكَ هَذِهِ الْأَرْبَعِينَ الشَّاةَ إِلَّا هَذِهِ الشَّاةَ وَأَشَارَ إِلَيْهَا فَهَذَا بَيْعٌ جَائِزٌ لِتَمَيُّزِ الْمَبِيعِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ قَدْرَ الزَّكَاةِ بَلْ قَالَ بِعْتُكَهَا إِلَّا شَاةً لَمْ يُشِرْ إِلَيْهَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْغَنَمِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُخْتَلِفَةَ الْأَسْنَانِ أَوْ مُتَسَاوِيَةً ، فَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْغَنَمُ فَكَانَ بَعْضُهَا صِغَارًا وَبَعْضُهَا كِبَارًا فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ ، لِلْجَهْلِ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ تَسَاوَتِ الْغَنَمُ فِي الْأَسْنَانِ وَتَقَارَبَتْ فِي الْأَوْصَافِ ، فَكَانَ جَمِيعُهَا كِبَارًا أَوْ صِغَارًا فَفِي الْبَيْعِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ بِهَذَا الْوَصْفِ شَابَهَتِ الْحُبُوبَ . وَالثَّانِي : وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ تَسَاوَتْ فِي الْأَسْنَانِ فَقَدْ تَخْتَلِفُ فِي السِّمَنِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحُبُوبُ الْمُتَمَاثِلَةُ الْأَجْزَاءِ ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي جَعْلِ إِبِلِ الصَّدَقَةِ صَدَاقًا .

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَبِيعَ جَمِيعَهَا بَيْعًا مُطْلَقًا . فَهَلِ الْأَدَاءُ مِنْ غَيْرِ مَا اسْتَثْنَى فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلَيْنِ ، كُلُّ أَصْلٍ مِنْهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُ الْأَصْلَيْنِ اخْتِلَافُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الزَّكَاةِ ، هَلْ تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ ؟ وَالْأَصْلُ الثَّانِي : اخْتِلَافُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ إِذَا جَمَعَتْ شَيْئَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ حَلَالًا وَحَرَامًا ، أَوْ مِلْكًا وَمَغْصُوبًا ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ فَالْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَدْرُ الزَّكَاةِ . وَالثَّانِي : مَا عَدَا قَدْرَ الزَّكَاةِ ، فَأَمَّا قَدْرُ الزَّكَاةِ فَفِي بَيْعِهِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي الزَّكَاةِ هَلْ وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ ؟ أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ إِذَا قِيلَ : إِنَّهَا وَجَبَتْ فِي الْعَيْنِ وُجُوبَ اسْتِحْقَاقٍ . وَالثَّانِي : جَائِزٌ إِذَا قِيلَ : إِنَّهَا وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ وُجُوبًا لَا تَعَلُّقَ لِلْعَيْنِ بِهَا ، فَإِذَا قِيلَ بِجَوَازِ الْبَيْعِ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ فَهُوَ فِي الْبَاقِي أَجْوَزُ ، وَإِذَا قِيلَ : بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ ، فَفِيمَا عَدَا قَدْرِ الزَّكَاةِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ . أَحَدُهُمَا : جَائِزٌ . وَالثَّانِي : بَاطِلٌ ، وَلِبُطْلَانِهِ عِلَّتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنَّ اللَّفْظَةَ جَمَعَتْ حَلَالًا وَحَرَامًا ، فَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَاشِيَةً يَتَقَسَّطُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهَا ، أَوْ حُبُوبًا يَتَقَدَّرُ الثَّمَنُ عَلَى أَجْزَائِهَا . وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ بَاطِلٌ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتْ مَاشِيَةً يَتَقَسَّطُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهَا فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ ، وَإِنْ كَانَتْ حُبُوبًا يَتَقَدَّرُ الثَّمَنُ عَلَى أَجْزَائِهَا فَالْبَيْعُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ مَنْ بَاعَ قَفِيزَيْنِ أَحَدُهُمَا مَمْلُوكٌ وَالْآخَرُ مَغْصُوبٌ بِدِرْهَمَيْنِ ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ ثَمَنَ الْمَمْلُوكِ دِرْهَمٌ ، وَلَيْسَ فِيهِ جَهَالَةٌ ، وَلَوْ بَاعَهُ عَبْدَيْنِ أَحَدُهُمَا مَمْلُوكٌ وَالْآخَرُ مَغْصُوبٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَثَمَنُ الْمَمْلُوكِ مَجْهُولٌ ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ يَتَقَسَّطُ عَلَى قِيمَتِهَا ، فَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ فِي الْجَمِيعِ ارْتَفَعَ الْعَقْدُ وَكَانَ الْمَبِيعُ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ ، وَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ ، وَجَوَازِ الْبَيْعِ فِي الْبَاقِي ، فَإِذَا اشْتَرَى بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالْفَسْخِ لِدُخُولِ النَّقْصِ وَتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ، فَإِنْ فَسَخَ رَجَعَ الْمَبِيعُ إِلَى الْبَائِعِ وَالثَّمَنُ إِلَى الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ أَقَامَ فَهَلْ يَأْخُذُ الْبَاقِي بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوْ بِحِسَابِ مَا بَقِيَ وَقَسَّطَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، كَمَنِ ابْتَاعَ عَبْدًا فَقُطِعَتْ يَدُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ ، فَلِلْمُشْتَرِي أَخْذُهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، وَإِلَّا فُسِخَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِحِسَابِ مَا بَقِيَ وَقِسْطُهُ مِنْ ثَمَنِهِ ، كَمَنِ ابْتَاعَ قَفِيزَيْنِ فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا أَخَذَ الْبَاقِيَ بِنِصْفِ الثَّمَنِ ، وَإِذَا قِيلَ بِجَوَازِ الْبَيْعِ فِي الْجَمِيعِ نُظِرَ فَإِنْ أَخْرَجَ الْبَائِعُ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهِ لَزِمَ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ ، وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهَا مِنْ مَالِهِ حَتَّى أَخَذَهَا الْإِمَامُ مِنَ الْمَالِ الْمَبِيعِ بَطُلَ الْبَيْعُ حِينَئِذٍ فِي الْقَدْرِ الْمَأْخُوذِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا بَقِيَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ يَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى مَا مَضَى وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي إِسْحَاقَ : لِأَنَّهُ يَجْعَلُ حُدُوثَ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ بَعْدَ الْقَبْضِ كَالْمُقْتَرِنِ بِالْعَقْدِ ، وَهَذَا مَذْهَبٌ تَفَرَّدَ بِهِ ، وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ لَا يَجْعَلُ حُدُوثَ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ كَالْمُقْتَرِنِ بِالْعَقْدِ ، بَلْ لَا تُفَرَّقُ الصَّفْقَةُ فِي الْحَادِثِ ، قَوْلًا وَاحِدًا لِعَدَمِ الْعِلَّتَيْنِ فِي جَوَازِ بُطْلَانِهِ ، ثُمَّ عَلَى مَا مَضَى . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلِ الْبَيْعُ فِيمَا بَقِيَ جَائِزٌ قَوْلًا وَاحِدًا ، لِأَنَّنَا أَبْطَلْنَا بَيْعَ مَا بَقِيَ هُنَاكَ ، إِمَّا لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ ، أَوْ لِأَنَّ اللَّفْظَةَ جَمَعَتْ حَلَالَانِ وَحَرَامًا وَهُمَا مَعْدُودَانِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ : لِأَنَّ الْعَقْدَ جَمَعَ حَلَالًا كُلَّهُ ، وَالثَّمَنُ فِي وَقْتِ الْعَقْدِ مَعْلُومٌ وَإِنَّمَا سَقَطَ بَعْضُهُ .

فَصْلٌ : فَلَوْ بَاعَ بَعْضَ مَالِهِ الَّذِي وَجَبَتْ زَكَاتُهُ ، فَإِذَا قِيلَ بِجَوَازِ الْبَيْعِ فِي الْجَمِيعِ فَهَاهُنَا أَوْلَى بِالْجَوَازِ ، وَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ فِي الْجَمِيعِ فَهَاهُنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : جَائِزٌ : لِأَنَّ قَدْرَ الزَّكَاةِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ . وَالثَّانِي : بَاطِلٌ : لِأَنَّ حَقَّ الْمَسَاكِينِ مُتَعَلِّقٌ بِجَمِيعِ الْمَالِ وَشَائِعٌ فِيهِ لَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ ، فَكَانَ حُكْمُ بَعْضِهِ كَحُكْمِ جَمِيعِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَصْدَقَهَا أَرْبَعِينَ شَاةً بِأَعْيَانِهَا فَقَبَضَتْهَا أَوْ لَمْ تَقْبِضْهَا ، وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَأَخَذَتْ صَدَقَتْهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْغَنَمِ وَبِنِصْفِ قِيمَةِ الَّتِي وَجَبَتْ فِيهَا ، وَكَانَتِ الصَّدَقَةُ مِنْ حِصَّتِهَا مِنَ النِّصْفِ وَلَوْ أَدَّتْ عَنْهَا مِنْ غَيْرِهَا رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِهَا : لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهَا شَيْءٌ ، هَذَا إِذَا لَمْ تَزِدْ وَلَمْ تَنْقُصْ ، وَكَانَتْ بِحَالِهَا يَوْمَ أَصْدَقَهَا أَوْ يَوْمَ قَبَضَتْهَا مِنْهُ وَلَوْ لَمْ تُخْرِجْهَا بَعْدَ الْحَوْلِ حَتَّى أَخَذْتَ نِصْفِهَا فَاسْتَهْلَكْتَهُ ، أَخَذَ مِنَ النِّصْفِ الَّذِي فِي يَدَيْ زَوْجِهَا شَاةً وَرَجَعَ عَلَيْهَا بِقِيمَتِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَأَصْدَقَهَا أَرْبَعِينَ مِنَ الْغَنَمِ كيف تزكي مالها فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ مَوْصُوفَةً .

وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ عَيْنًا حَاضِرَةً فَإِنْ كَانَتْ مَوْصُوفَةً بِالذِّمَّةِ ، فَلَا زَكَاةَ عَلَى الزَّوْجَةِ ، وَإِنْ مَلَكَتْ جَمِيعَ الصَّدَاقِ بِالْعَقْدِ ، وَلَوْ أَصْدَقَهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَكَانَ الزَّوْجُ مَلِيًّا بِهَا لَزِمَهَا الزَّكَاةُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ السَّوْمَ شَرْطٌ فِي زَكَاةِ الْغَنَمِ لَا يَصِحُّ وُجُودُهُ فِي الذِّمَّةِ ، فَلَمْ تَجِبْ فِيهَا الزَّكَاةُ ، وَلَيْسَ السَّوْمُ شَرْطًا فِي الدَّرَاهِمِ فَوَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ ، وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ عَيْنًا حَاضِرًا كَأَنَّهُ أَصْدَقَهَا أَرْبَعِينَ بِأَعْيَانِهَا فَقَدْ مَلَكَتْهَا الزَّوْجَةُ بِالْعَقْدِ مِلْكًا تَامًّا : لِأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ مَلَكَ عَلَيْهَا مَا فِي مُقَابَلَتِهِ وَهُوَ الْبُضْعُ ، فَاقْتَضَى أَنْ تَمْلِكَ عِوَضَهُ ، وَإِنْ مَلَكَتْ جَمِيعَ الصَّدَاقِ بِالْعَقْدِ ، جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الزَّكَاةِ ، وَاسْتُؤْنِفَ لَهُ الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ الْعَقْدِ ، سَوَاءٌ كَانَ فِي قَبْضِ الزَّوْجَةِ أَوْ فِي يَدِ الزَّوْجِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : " لَا يَلْزَمُهَا زَكَاتُهُ مَا لَمْ تَقْبِضْهُ ، فَإِذَا قَبَضَتْهُ اسْتَأْنَفَتْ حَوْلَهُ " وَهَذَا غَلَطٌ : لِأَنَّ يَدَ الزَّوْجِ عَلَى الصَّدَاقِ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَصَرُّفِهَا فِيهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ غَيْرِهِ كَالْمَقْبُوضِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ كَالْمَقْبُوضِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حُكْمَ الْحَوْلِ جَارٍ عَلَى صَدَاقِهَا سَوَاءٌ كَانَ فِي يَدِ الزَّوْجِ أَوْ فِي يَدِهَا فَمَا لَمْ يُطَلِّقْهَا الزَّوْجُ فَلَا مَسْأَلَةَ ، وَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ لَمْ يَخْلُ حَالُ طَلَاقِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّدَاقِ وَالْغَنَمِ الَّتِي أَصْدَقَ عَلَى مِلْكِهَا ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِنِصْفِ مَا أَصْدَقَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ، [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَإِذَا وَجَبَ لَهُ الرُّجُوعُ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ لَمْ يَخْلُ حَالَ طَلَاقِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ حُلُولِ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْحُلُولِ فَقَدْ مَلَكَ الزَّوْجُ نِصْفَ الصَّدَاقِ وَبَقِيَ لَهَا نِصْفُهُ ، وَبَطَلَ حُكْمُ مَا مَضَى مِنَ الْحَوْلِ إِنِ اقْتَسَمَا ، وَلَا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ : لِأَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ نِصَابٍ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لَهُمَا مِنَ النِّصَابِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَسِمْهَا كَانَا خَلِيطَيْنِ فِي نِصَابٍ يُزَكِّيَانِهِ بِالْخُلْطَةِ ، إِلَّا أَنَّ حَوْلَ الزَّوْجَةِ أَسْبَقُ مِنْ حَوْلِهِ فَتَكُونُ كَمَنْ لَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً أَقَامَتْ بِيَدِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ بَاعَ نِصْفَهَا وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ ، فَهَذَا إِنْ كَانَ طَلَاقُ الزَّوْجِ قَبْلَ الْحَوْلِ ، وَإِنْ كَانَ طَلَاقُهُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَقَدْ وَجَبَتْ زَكَاةُ الْغَنَمِ عَلَى الزَّوْجَةِ ، لِحُلُولِ الْحَوْلِ ، وَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهَا . وَالثَّانِي : أَنْ تُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِنْهَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا تُخْرِجُ عَنْهَا . فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ أَنْ تُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهَا ، وَالثَّانِي أَنْ تُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِنْهَا ، وَالثَّالِثُ أَنْ لَا تُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهَا . فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ الْأَرْبَعِينَ الَّتِي أَصْدَقَ لِوُجُودِ الصَّدَاقِ بِكَمَالِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ نِصْفَهُ بِطَلَاقِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَقَدِ اسْتَحَقَّ الْمَسَاكِينُ

مِنْهَا شَاةً إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَيْنِ ، فَإِذَا أَعْطَتْ بَدَلَ تِلْكَ الشَّاةِ مِنْ مَالِهَا فَقَدِ اسْتَحْدَثَتْ مِلْكَهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ فَلَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ الرُّجُوعُ بِنِصْفِهَا ، كَالْأَبِ إِذَا وَهَبَ لِابْنِهِ مَالًا فَبَاعَهُ ثُمَّ ابْتَاعَهُ لَمْ يَرْجِعِ الْأَبُ بِهِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَبَ يَرْجِعُ بِمَا وَهَبَ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا وَلَا يَرْجِعُ بِبَدَلِهِ إِنْ كَانَ تَالِفًا ، وَبَيْعُ الِابْنِ إِتْلَافٌ يُبْطِلُ الرُّجُوعَ ، وَابْتِيَاعُهُ اسْتِحْدَاثُ مِلْكٍ فَلَمْ يُوجِبِ الرُّجُوعَ وَلِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا أَصْدَقَ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا ، وَيُبْدِلَهُ إِنْ كَانَ تَالِفًا ، فَإِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ مَوْجُودَةً وَالرُّجُوعُ لَمْ يَبْطُلْ ، كَانَ الرُّجُوعُ بِهَا أَوْلَى مِنَ الْعُدُولِ إِلَى بَدَلِهَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ قَدْ أَدَّتِ الزَّكَاةَ مِنْهَا ، فَطَلَّقَ الزَّوْجُ وَهِيَ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ شَاةً ، فَفِي كَيْفِيَّةِ رُجُوعِ الزَّوْجِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْمَوْجُودِ بِقِيمَةِ نِصْفِ الْأَرْبَعِينَ ، وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ : لِأَنَّ الرُّجُوعَ إِلَى الْقِيمَةِ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ ، فَإِذَا أَمْكَنَ الرُّجُوعُ إِلَى الْعَيْنِ وَأَخَذَ نِصْفَ الصَّدَاقِ مِنْهَا فَلَا مَعْنَى لِلِاجْتِهَادِ وَالْعُدُولِ إِلَى الْقِيمَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْمَوْجُودِ وَنِصْفِ قِيمَةِ الشَّاةِ التَّالِفَةِ ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنَ " الْأُمِّ " : لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَمِيعُ الصَّدَاقِ مَوْجُودًا رَجَعَ بِنِصْفِهِ ، وَلَوْ كَانَ تَالِفًا رَجَعَ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ ، فَوَجَبَ إِذَا كَانَ بَعْضُهُ مَوْجُودًا وَبَعْضُهُ تَالِفًا أَنْ يَعْتَبِرَ حُكْمَ مَا كَانَ مَوْجُودًا بِحُكْمِهِ عَلَى الِانْفِرَادِ فَيَرْجِعُ بِنِصْفِهِ ، وَحُكْمُ مَا كَانَ مِنْهُ تَالِفًا بِحُكْمِهِ عَلَى الِانْفِرَادِ فَيَرْجِعُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الرُّجُوعِ بِنِصْفِ الْمَوْجُودِ وَنِصْفِ قِيمَةِ التَّالِفِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ نِصْفِ الْمَوْجُودِ وَيَأْخُذَ نِصْفَ قِيمَةِ الْجَمِيعِ ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ ، وَإِنَّمَا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ ذَلِكَ : لِأَنَّ فِي رُجُوعِهِ بِنِصْفِ الْمَوْجُودِ وَنِصْفِ قِيمَةِ التَّالِفِ تَفْرِيقًا لِصَفْقَتِهِ ، فَصَارَ ذَلِكَ عَيْبًا يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ زَكَاتُهَا بَاقِيَةً لَمْ تُخْرِجْهَا بَعْدُ فَيُمْنَعَانِ مِنَ الْقِسْمَةِ حَتَّى تُخْرِجَ عَنْهَا الزَّكَاةَ ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمَسَاكِينِ بِهَا ، فَإِنْ أَخْرَجَتْ زَكَاتَهَا مِنْ غَيْرِهَا اقْتَسَمَاهَا عَلَى مَا مَضَى ، فَإِنْ أَخْرَجَتْ زَكَاتَهَا مِنْهَا كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَإِنِ اقْتَسَمَاهَا قَبْلَ إِخْرَاجِ زَكَاتِهَا فَفِي الْقِسْمَةِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي الزَّكَاةِ هَلْ وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ ؟ أَحَدُهُمَا : الْقِسْمَةُ بَاطِلَةٌ ، إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِهَا فِي الْعَيْنِ : لِأَنَّ الْمَسَاكِينَ شُرَكَاءُ بِقَدْرِ الزَّكَاةِ ، وَإِذَا اقْتَسَمَ شَرِيكَانِ مِنْ ثَلَاثَةٍ لَمْ تَصِحَّ الْقِسْمَةُ ، فَعَلَى هَذَا يُوقَفُ أَمْرُهَا حَتَّى تُؤَدَّى زَكَاتُهَا ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهَا عَلَى مَا مَضَى .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْقِسْمَةَ جَائِزَةٌ إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ وَارْتِهَانِ الْعَيْنِ بِهَا : لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْقِسْمَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا ضَرَرٌ بِالْمُرْتَهِنِ ، فَعَلَى هَذَا لَا تَخْلُو حَالُهُمَا عِنْدَ مُطَالَبَةِ الْوَالِي بِالزَّكَاةِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَاقِيًا فِي أَيْدِيهِمَا جَمِيعًا ، أَوْ تَالِفًا مِنْهُمَا جَمِيعًا ، أَوْ يَكُونَ مَا فِي يَدِ الزَّوْجَةِ بَاقِيًا ، وَمَا فِي يَدِ الزَّوْجِ تَالِفًا ، أَوْ مَا فِي يَدِ الزَّوْجَةِ تَالِفًا وَمَا فِي يَدِ الزَّوْجِ بَاقِيًا . فَالْحَالَةُ الْأُولَى : أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا فِي أَيْدِيهِمَا جَمِيعًا ، فَيَأْخُذُ الْوَالِي الزَّكَاةَ مِمَّا فِي يَدِ الزَّوْجَةِ دُونَ الزَّوْجِ : لِأَنَّ الزَّكَاةَ عَلَيْهَا وَجَبَتْ ، فَإِذَا أَخَذَ الزَّكَاةَ مِنْهَا اسْتَقَرَّ مِلْكُ الزَّوْجِ عَلَى مَا حَصَلَ لَهُ بِالْقِسْمَةِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَالِفًا مِنْهُمَا جَمِيعًا ، فَأَيُّهُمَا يُطَالَبُ بِالزَّكَاةِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْوَالِيَ يُطَالِبُ الزَّوْجَةَ بِهَا دُونَ الزَّوْجِ : لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهَا اسْتَقَرَّ . وَالثَّانِي : أَنَّ لِلْوَالِي مُطَالَبَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا : لِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِيمَا كَانَ بِأَيْدِيهِمَا ، فَإِنْ طَالَبَ الزَّوْجَةَ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا عَلَى الزَّوْجِ ، وَإِنْ طَالَبَ الزَّوْجَ وَأَغْرَمَهُ رَجَعَ بِهَا عَلَى الزَّوْجَةِ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ مَا فِي يَدِ الزَّوْجَةِ بَاقِيًا وَمَا فِي يَدِ الزَّوْجِ تَالِفًا فَيَأْخُذُ الْوَالِي الزَّكَاةَ مِمَّا فِي يَدِ الزَّوْجَةِ ، وَلَا مُطَالَبَةَ لَهُ عَلَى الزَّوْجِ . وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَكُونَ مَا فِي يَدِ الزَّوْجَةِ تَالِفًا ، وَمَا فِي الزَّوْجِ بَاقِيًا ، فَيَأْخُذُ الْوَالِي الزَّكَاةَ مِمَّا فِي يَدِ الزَّوْجِ : لِأَنَّهُ إِذَا تَعَذَّرَ أَخْذُ الزَّكَاةِ مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَجَبَ أَخْذُهَا مِنَ الْمَالِ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ ، فَإِذَا أَخَذَ الزَّكَاةَ مِمَّا بِيَدِهِ فَهَلْ تَبْطُلُ الْقِسْمَةُ بِذَلِكَ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقِسْمَةَ تَبْطُلُ بِذَلِكَ : لِأَنَّ الْوَالِيَ إِنَّمَا أَخَذَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ فَصَارَ قَدْرُ الزَّكَاةِ كَالْمُسْتَحَقِّ مِنْهَا وَقْتَ الْقِسْمَةِ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا بَطَلَتِ الْقِسْمَةُ فَهُوَ بِمَثَابَةِ وُجُودِ الزَّوْجِ بَعْضَ الصَّدَاقِ وَعَدَمِ بَعْضِهِ فَيَكُونُ عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْقِسْمَةَ لَا تَبْطُلُ : لِأَنَّ الْوُجُوبَ كَانَ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجَةِ ، وَأَخْذُ الْوَالِي كَانَ بَعْدَ صِحَّةِ الْقِسْمَةِ فَلَمْ يَكُنِ الْأَخْذُ الْحَادِثُ مُبْطِلًا لِلْقِسْمَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَتِ الزَّوْجَةُ شَاةً فِيمَا حَصَلَ فِي يَدِ الزَّوْجِ بِالْقِسْمَةِ ، فَعَلَى هَذَا لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الزَّوْجَةِ بِقِيمَةِ الشَّاةِ الْمَأْخُوذَةِ إِنْ كَانَتْ مِثْلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهَا ، فَإِنْ كَانَ الْوَالِي قَدْ أَخَذَ مِنْهُ أَفْضَلَ مِنَ الْوَاجِبِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِالْفَضْلِ الَّذِي ظَلَمَهُ الْوَالِي بِهِ .

بَابُ رَهْنِ الْمَاشِيَةِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ

بَابُ رَهْنِ الْمَاشِيَةِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ رَهَنَهُ مَاشِيَةً وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ أُخِذَتْ مِنْهَا ، وَمَا بَقِيَ فَرَهْنٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا كَانَ مَعَ رَجُلٍ نِصَابٌ وَجَبَتْ زَكَاتُهُ ، كَأَرْبَعِينَ شَاةً حَالَ حَوْلُهَا ، فَرَهَنَهَا قَبْلَ أَدَاءِ زَكَاتِهَا فَهُوَ كَالْبَيْعِ عَلَى مَا مَضَى ، فَيَكُونُ الرَّهْنُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَيْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : جَائِزٌ إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الرَّهْنَ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ جَائِزٌ فَهُوَ فِي الْبَاقِي أَجْوَزُ ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ بَاطِلٌ فَهَلْ يَبْطُلُ فِي الْبَاقِي أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ، فَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فَالرَّهْنُ فِي الْبَاقِي جَائِزٌ ، وَإِنْ قِيلَ : تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ لَا يَجُوزُ فَفِي بِبُطْلَانِ رَهْنِ الْبَاقِي وَجْهَانِ : بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ عِلَّةِ هَذَا الْقَوْلِ ، فَإِنْ قِيلَ : الْعِلَّةُ فِيهِ جَهَالَةُ الثَّمَنِ فَالرَّهْنُ جَائِزٌ : لِأَنَّهُ لَا ثَمَنَ فِيهِ ، وَإِنْ قِيلَ : الْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّ الْعَقْدَ جَمَعَ حَلَالًا وَحَرَامًا فَرَهْنُ الْبَاقِي بَاطِلٌ ، فَلَوْ أَخَذَ الْوَالِي الزَّكَاةَ مِنْهَا بَطَلَ الرَّهْنُ فِي الشَّاةِ الْمَأْخُوذَةِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَيَكُونُ الرَّهْنُ فِي الْبَاقِي عَلَى نَحْوِ مَا مَضَى فِي الْبَيْعِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ بَاعَهُ بَيْعًا عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُ إِيَّاهَا كَانَ لَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ ، كَمَنْ رَهَنَ شَيْئًا لَهُ وَشَيْئًا لَيْسَ لَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا شَرَطَ رَهْنَ الْغَنَمِ الَّتِي حَالَ حَوْلُهَا فِي عَقْدِ بَيْعٍ زكاتها فَإِنْ قِيلَ : رَهْنُ الْجَمِيعِ جَائِزٌ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ ، وَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ لِحُصُولِ الرَّهْنِ لَهُ عَلَى مَا شَرَطَهُ ، وَإِنْ قِيلَ : الرَّهْنُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ بَاطِلٌ وَفِي الْبَاقِي جَائِزٌ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ ، لَكِنْ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يُمْضِيَ الْبَيْعَ بِرَهْنِ الْبَاقِي وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ لِنُقْصَانِ الرَّهْنِ ، وَإِنْ قِيلَ بِبُطْلَانِ الرَّهْنِ فِي الْجَمِيعِ فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ :

أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ كَبُطْلَانِ الرَّهْنِ : لِأَنَّ الرَّهْنَ مُلْحَقٌ بِالْبَيْعِ كَالْأَجَلِ ، وَفَسَادُ الْأَجَلِ مُبْطِلٌ لِلْبَيْعِ ، كَذَلِكَ الرَّهْنُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَبْطُلُ ، لِأَنَّهُمَا عَقْدَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَجُوزُ إِفْرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَبُطْلَانُ أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ لَا يَقْتَضِي بُطْلَانَ الْآخَرِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ لِفَوَاتِ الرَّهْنِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ حَالَ عَلَيْهَا حَوْلٌ وَجَبَتْ فِيهَا الصَّدَقَةُ ، فَإِنْ كَانَتْ إِبِلًا فَرِيضَتُهَا الْغَنَمُ بِيعَ مِنْهَا فَاسْتَوْفَيْتَ صَدَقَتَهَا ، وَكَانَ مَا بَقِيَ رَهْنًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا رَهَنَ مَاشِيَةً قَبْلَ حَوْلِهَا بلغت نصاب الزكاة : زكاتها في هذه الحالة فَرَهْنُهَا صَحِيحٌ ، وَتَجْرِي فِي الْحَوْلِ ، فَإِذَا حَالَ حَوْلُهَا وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ : لِأَنَّ مِلْكَ الرَّاهِنِ عَلَيْهَا تَامٌّ ، وَإِنَّمَا هُوَ نَاقِصُ التَّصَرُّفِ ، وَنُقْصَانُ التَّصَرُّفِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الزَّكَاةَ فِيهَا وَاجِبَةٌ لَمْ يَخْلُ حَالُ الدَّيْنِ الْمَرْهُونِ بِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَالًا ، أَوْ مُؤَجَّلًا ، فَإِنْ كَانَ حَالًا وَجَبَتِ الزَّكَاةُ ، فَدَفَعَهَا الرَّاهِنُ مِنْ مَالِهِ ، كَانَ الرَّهْنُ بِحَالِهِ وَإِنْ أَبَى الرَّاهِنُ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ مَالِهِ ، وَامْتَنَعَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ رَهْنِهِ ، فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُوسِرًا بِهَا أُجْبِرَ عَلَى دَفْعِهَا مِنْ مَالِهِ ، لِأَنَّهَا مِنْ مُؤْنَةِ الرَّهْنِ ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بِهَا فَعَلَى قَوْلَيْنِ : إِنْ قِيلَ الزَّكَاةُ فِي الْعَيْنِ بُدِئَ بِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ وَقُدِّمَتْ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهَا فِي الذِّمَّةِ بَدَأَ بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَكَانَتِ الزَّكَاةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ . وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا لَمْ يَخْلُ حَالُ الزَّكَاةِ وَالدَّيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ حَوْلُ الزَّكَاةِ أَسْبَقَ مِنْ حَوْلِ الدَّيْنِ فأيهما يقدم ، فَيَبْدَأُ بِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْهَا قَبْلَ الدَّيْنِ ، إِلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ الرَّاهِنُ بِدَفْعِ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِهَا ، فَيَكُونُ الرَّهْنُ عَلَى جُمْلَتِهِ ، وَإِنْ أَبَى الرَّاهِنُ أُخِذَتِ الزَّكَاةُ مِنَ الرَّهْنِ : لِأَنَّ وُجُوبَهَا أَسْبَقُ مِنْ وُجُوبِ الدَّيْنِ ، فَكَانَتْ أَحَقَّ بِالتَّقْدِمَةِ ، وَإِذَا أُخِذَتِ الزَّكَاةُ بَطَلَ الرَّهْنُ فِيهَا ، وَكَانَ الرَّهْنُ ثَابِتًا فِي الْبَاقِي ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ لِنُقْصَانِ الرَّهْنِ : لِأَنَّ هَذَا النُّقْصَانَ بِسَبَبٍ حَادِثٍ فِي يَدِهِ ، كَمَا لَوِ ارْتَهَنَ عَبْدًا فَقُتِلَ فِي يَدِهِ بِرِدَّةٍ ، أَوْ قُطِعَ بِسَرِقَةٍ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ حُلُولُ الدَّيْنِ أَسْبَقَ مِنْ حُلُولِ الزَّكَاةِ فأيهما يقدم ، فَيُقَدِّمُ الدَّيْنَ لِتَقَدُّمِ اسْتِحْقَاقِهِ ، فَإِنْ بِيعَ الرَّهْنُ قَبْلَ الْحَوْلِ فَلَا زَكَاةَ ، وَإِنْ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ فَفِيهِ الزَّكَاةُ ، وَيُطَالَبُ بِهَا الرَّاهِنُ لِأَنَّهَا مِنْ مُؤْنَةِ الرَّهْنِ كَالسَّقْيِ ، وَالْعُلُوفَةِ ، وَأُجْرَةِ الرُّعَاةِ ، وَالْحَفَظَةِ .

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ حُلُولُ الدَّيْنِ وَحُلُولُ الزَّكَاةِ مَعًا فأيهما يقدم لَا يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ، فَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ ، فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُوسِرًا بِهَا قَادِرًا عَلَى دَفْعِهَا مِنْ غَيْرِ الرَّهْنِ أُخِذَتْ مِنْ مَالِهِ وَكَانَ الرَّهْنُ مَعْرُوفًا فِي دَيْنِهِ ، وَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُعْسِرًا لَا يَجِدُ غَيْرَ الرَّهْنِ وَلَا يَمْلِكُ سِوَاهُ فَهَلْ يَبْدَأُ بِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ أَوْ بِدَيْنِ الْمُرْتَهِنِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ ، فَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَيْنِ وَجَبَ تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ ، وَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِهَا فِي الذِّمَّةِ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْمُرْتَهِنِ ، وَقَدْ خَرَجَ قَوْلٌ ثَالِثٌ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ وَيُقَسَّطُ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَا نَتَجَ مِنْهَا خَارِجًا مِنَ الرَّهْنِ وَلَا يُبَاعُ مِنْهَا مَاخِضٌ حَتَّى تَضَعَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الرَّاهِنُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ مِنْ غَيْرِ الزَّكَاةِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُمَا فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ لِتَعَلُّقِهِمَا بِمَا قَبْلَهُمَا ، فَإِذَا رَهَنَ جَارِيَةً فَوَلَدَتْ أَوْ مَاشِيَةً فَنَتَجَتْ فَالْوَلَدُ وَالنِّتَاجُ خَارِجٌ مِنَ الرَّهْنِ الزكاة في هذه الحالة ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : " يَكُونُ ذَلِكَ رَهْنًا تَبَعًا لِأَصْلِهِ " وَسَنَذْكُرُ الْحِجَاجَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ النِّتَاجُ تَابِعًا لِلْأُمَّهَاتِ فِي الزَّكَاةِ فَهَلَّا كَانَ تَابِعًا لَهَا فِي الرَّهْنِ : قِيلَ : : لِأَنَّ الرَّهْنَ عَقْدٌ وَالنِّتَاجُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ ، وَالزَّكَاةُ لِأَجْلِ الْمِلْكِ وَالنِّتَاجُ دَاخِلٌ فِي الْمِلْكِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النِّتَاجَ لَا يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ : وَلَا تُبَاعُ مَاخِضٌ حَتَّى تَضَعَ ، وَلَهَا مُقَدِّمَةٌ وَهِيَ اخْتِلَافُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْحَمْلِ هَلْ يَكُونُ تَبَعًا أَوْ يُأْخَذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ ؟ في بيع الأمة المزوجة فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ : أَنَّهُ يَكُونُ تَبَعًا لَا حُكْمَ لَهُ بِنَفْسِهِ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ : لِأَنَّ عِتْقَ الْأُمِّ يَسْرِي إِلَيْهِ كَمَا يَسْرِي إِلَى جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ وَلَا يَسْرِي إِلَيْهِ إِذَا كَانَ مُنْفَصِلًا ، فَعُلِمَ أَنَّهُ قَبْلَ الِانْفِصَالِ يَكُونُ تَبَعًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُأْخَذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ وَيُفْرَدُ حُكْمُهُ بِنَفْسِهِ : لِأَنَّ عِتْقَ الْحَمْلِ لَا يَسْرِي إِلَى عِتْقِ أُمِّهِ ، وَلَوْ كَانَ كَسَائِرِ أَعْضَائِهَا لَسَرَى عِتْقُهُ إِلَى عِتْقِهَا . فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ فَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ : أَنْ تَكُونَ الْمَاشِيَةُ الْمَرْهُونَةُ حَوَامِلَ وَيَأْبَى الرَّاهِنُ الْبَيْعَ حَتَّى تَضَعَ ، ثُمَّ يَبِيعُهَا حَوَامِلَ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا عِنْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ وَحُلُولِ الْحَقِّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ حَوَامِلَ فِي الْحَالَيْنِ ، أَوْ حَوَايِلَ فِي الْحَالَيْنِ ، حَوَامِلَ فِي الْوَسَطِ أَوْ حَوَامِلَ عِنْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ ، حَوَايِلَ عِنْدَ حُلُولِ الْحَقِّ ، أَوْ حَوَايِلَ عِنْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ حَوَامِلَ عِنْدَ حُلُولِ الْحَقِّ .

فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ : أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهَا وَهِيَ حَوَامِلُ وَيَحِلَّ الْحَقُّ وَهِيَ أَيْضًا حَوَامِلُ الماشية المرهونة ، فَالْوَاجِبُ أَنْ تُبَاعَ وَهِيَ حَوَامِلُ ، سَوَاءٌ قِيلَ : إِنَّ الْحَمْلَ تَبَعٌ أَوْ لَهُ قِسْطٌ مِنَ الثَّمَنِ : لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ تَبَعًا فِي الْعَقْدِ كَانَ تَبَعًا لِلْبَيْعِ ، وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِي الْعَقْدِ كَانَ دَاخِلًا فِي الْبَيْعِ ، لِاسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهَا وَهِيَ حَوَايِلُ ثُمَّ تَحْمِلُ وَتَضَعُ وَيَحِلُّ الْحَقُّ وَهِيَ حَوَايِلُ ، فَالْوَاجِبُ أَنْ تُبَاعَ الْأُمَّهَاتُ دُونَ النِّتَاجِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا ، لِاسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهَا وَهِيَ حَوَامِلُ ثُمَّ تَضَعَ وَيَحُلَّ الْحَقُّ وَهِيَ حَوَايِلُ الماشية المرهونة فَهَلْ تُبَاعُ مَعَ الْأُمَّهَاتِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : إِنْ قِيلَ : إِنَّ الْحَمْلَ تَبَعٌ فَهِيَ خَارِجَةٌ عَنِ الرَّهْنِ لَا تُبَاعُ مَعَ الْأُمَّهَاتِ : لِأَنَّهَا دَخَلَتْ فِي الْعَقْدِ عِنْدَ اتِّصَالِهَا تَبَعًا ، فَإِذَا انْفَصَلَتْ لَمْ تَكُنْ تَبَعًا وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْحَمْلَ يَنْفَرِدُ حُكْمُهُ بِنَفْسِهِ وَيَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الْعَقْدِ بِيعَتْ مَعَ الْأُمَّهَاتِ لِاشْتِمَالِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهَا وَهِيَ حَوَايِلُ وَيَحِلَّ الْحَقُّ وَهِيَ حَوَامِلُ الماشية المرهونة فَهَلْ تُبَاعُ وَهِيَ حَوَامِلُ أَمْ حَتَّى تَضَعَ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : إِنْ قِيلَ : إِنَّ الْحَمْلَ تَبَعٌ بِيعَتْ حَوَامِلُ ، فَإِنْ تَأَخَّرَ بَيْعُهَا حَتَّى وَضَعَتْ لَمْ يُبَعِ الْحَمْلُ مَعَهَا ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْحَمْلَ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الْعَقْدِ وَيَنْفَرِدُ حُكْمُهُ بِنَفْسِهِ لَمْ تُبَعْ وَهِيَ حَوَامِلُ حَتَّى تَضَعَ ، فَإِذَا وَضَعَتْ بِيعَتْ : لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ بَيْعُهَا دُونَ حَمْلِهَا ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَبِيعَهَا مَعَ حَمْلِهَا ، فَوَجَبَ الْوُقُوفُ إِلَى حِينِ الْوَضْعِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ زَكَاةِ الثِّمَارِ

بَابُ زَكَاةِ الثِّمَارِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْمَازِنِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الثِّمَارِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ ، فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ، [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَأَوْجَبَ بِأَمْرِهِ الْإِنْفَاقَ مِمَّا أَخْرَجَ مِنَ الْأَرْضِ ، وَالثِّمَارُ خَارِجَةٌ مِنْهَا ، ثُمَّ قَالَ : وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ، [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفَقَةِ الصَّدَقَةُ الَّتِي يَحْرُمُ إِخْرَاجُ الْخَبِيثِ فِيهَا ، وَلَوْ لَمْ يُرِدِ الصَّدَقَةَ لَجَازَ إِخْرَاجُ خَبِيثِهَا وَطَيِّبِهَا وَقَالَ تَعَالَى : وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ، [ الْأَنْعَامِ : ] . وَأَمَّا السُّنَّةُ . فَرِوَايَةُ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَا سَقَتِ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ ، وَمَا سُقِيَ بِنَضْحٍ أَوْ غَرْبٍ فَنِصْفُ الْعُشْرِ وَالثِّمَارُ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ السَّقْيِ ، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً فِي عُمُومِ الْوُجُوبِ ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِهَا ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ مَا يَجِبُ فِيهِ .



فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُهَا فِي الثِّمَارِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ فِي ثَمَرِ النَّخْلِ متىتُجبِ الزَّكَاة فيه أَوِ الْكَرْمِ دُونَ مَا عَدَاهُمَا مِنَ الثِّمَارِ ، إِذَا بَلَغَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا ، وَلَا شَيْءَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ . هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ جَابِرٌ وَابْنُ عُمَرَ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْعُشْرُ وَاجِبٌ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ نِصَابٍ زكاة الثمار اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [ الْأَنْعَامِ : ] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَبِعُمُومِ قَوْلِهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فِيمَا سَقَتِ الْسَمَاءُ الْعُشْرُ وَرِوَايَتُهُ عَنْ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ عَنْ رَجُلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا سَقَتِ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ ، وَمَا سُقِيَ بِنَضْحٍ أَوْ غَرْبٍ فَنِصْفُ الْعُشْرِ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ فِي مَالٍ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِهِ الْحَوْلُ ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِهِ النِّصَابُ ، كَخُمُسِ الْغَنَائِمِ وَالرِّكَازِ ، وَلِأَنَّ لِلزَّكَاةِ شَرْطَيْنِ الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْحَوْلُ فِي الثِّمَارِ مُعْتَبَرًا ، لَمْ يَكُنِ النِّصَابُ فِيهَا مُعْتَبَرًا . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّهُ أَحَدُ شَرْطَيِ الزَّكَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِي الثِّمَارِ كَالْحَوْلِ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي ابْتِدَائِهِ وَقْصٌ يُعْفَى عَنْهُ : لَكَانَ فِي انْتِهَائِهِ وَقْصٌ يُعْفَى عَنْهُ كَالْمَاشِيَةِ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي أَثْنَائِهِ عَفْوٌ اقْتَضَى أَنْ لَا يَكُونَ فِي ابْتِدَائِهِ عَفْوٌ . وَدَلِيلُنَا : رِوَايَةُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ فَتَعَلَّقَ الْخَبَرُ بِنَفْيِ الصَّدَقَةِ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ ، وَدَلِيلُهُ بَيَّنَهَا فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَمَا زَادَ ، وَهُوَ مَوْضِعُ وِفَاقٍ ، وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ وَجَابِرٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا زَكَاةَ فِي زَرْعٍ وَلَا نَخْلٍ وَلَا كَرْمٍ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَرْثِ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَإِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا وَهَذِهِ نُصُوصٌ لَا

احْتِمَالَ فِيهَا ، فَإِنْ قِيلَ : مَا دُونَ الْخَمْسَةِ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ أَلَا تَرَى أَنَّا نَأْخُذُهُ مِنَ الْمُكَاتَبِ وَالذِّمِّيِّ ، وَإِنْ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُمَا الزَّكَاةُ ، قِيلَ : هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ وَرَدَ بِتَسْمِيَةِ الْعُشْرِ زَكَاةً ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ : لَا زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَرْثِ . . . إِلَى قَوْلِهِ : فَإِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ نَفَى عَمَّا دُونَ الْخَمْسَةِ مَا أَثْبَتَهُ فِي الْخَمْسَةِ ، فَلَمْ يَصِحَّ تَأْوِيلُهُمْ : وَلِأَنَّهُ جِنْسُ مَالٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ النِّصَابُ كَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ ، وَلِأَنَّهُ حَقُّ مَالٍ يَجِبُ صَرْفُهُ فِي الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ النِّصَابُ كَالْمَوَاشِي ، وَلِأَنَّ كُلَّ حَقٍّ تَعَلَّقَ بِمَالٍ مَخْصُوصٍ اعْتُبِرَ فِيهِ قَدْرٌ مَخْصُوصٌ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَعَكْسُهُ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ ، وَلِأَنَّ النِّصَابَ إِنَّمَا اعْتُبِرَ فِي الْمَوَاشِي لِيَبْلُغَ الْمَالُ حَدًّا يَتَّسِعُ لِلْمُوَاسَاةِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الثِّمَارِ ، فَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ فَعَامٌّ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَخَصُّ ، وَأَمَّا الْخَبَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ فِيمَا سَقْتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ فَعَنْهُ جَوَابَانِ : تَرْجِيحٌ وَاسْتِعْمَالٌ ، فَأَمَّا التَّرْجِيحُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُ فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ بَيَانٌ فِي الْإِخْرَاجِ مُجْمَلٌ فِي الْمِقْدَارِ ، وَقَوْلُهُ : لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ بَيَانٌ فِي الْمِقْدَارِ مُجْمَلٌ فِي الْإِخْرَاجِ ، فَكَانَ بَيَانُ الْمِقْدَارِ مِنْ خَبَرِنَا قَاضِيًا عَلَى إِجْمَالِ الْمِقْدَارِ مِنْ خَبَرِهِمْ ، كَمَا أَنَّ بَيَانَ الْإِخْرَاجِ مِنْ خَبَرِهِمْ قَاضٍ عَلَى إِجْمَالِ الْإِخْرَاجِ مِنْ خَبَرِنَا . وَالثَّانِي : أَنَّ خَبَرَهُمْ مُتَّفَقٌ عَلَى تَخْصِيصِ بَعْضِهِ : لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يُوجِبُ فِي الْحَشِيشِ وَالْقَصَبِ وَالْحَطَبِ وَلَا فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ شَيْئًا ، وَخَبَرُنَا خَبَرٌ مُتَّفَقٌ عَلَى تَخْصِيصِ بَعْضِهِ ، فَكَانَ أَوْلَى مِنْ خَبَرِهِمْ . وَأَمَّا الِاسْتِعْمَالُ فَفِي الْخَمْسَةِ الْأَوْسُقِ : لِأَنَّهُ أَعَمُّ وَخَبَرُنَا أَخَصُّ فَيُسْتَعْمَلَانِ مَعًا وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى خُمُسِ الْغَنِيمَةِ وَالرِّكَازِ ، فَالْمَعْنَى فِي الْغَنِيمَةِ : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرِ النِّصَابُ فِي شَيْءٍ مِنْ جِنْسِهَا بِحَالٍ لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا فِيهَا بِكُلِّ حَالٍ ، وَلَمَّا كَانَ النِّصَابُ مُعْتَبَرًا فِي بَعْضِ أَجْنَاسِ الزَّكَاةِ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي جَمِيعِ أَجْنَاسِهَا . وَأَمَّا الرِّكَازُ معناها مقدار زكاتها فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَا تَعَبٍ ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ النِّصَابُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الثِّمَارُ الَّتِي يَلْحَقُ فِيهَا تَعَبٌ وَيَلْزَمُ فِيهَا عِوَضٌ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَوْلِ فَمُنْتَقِضٌ عَلَى أَصْلِهِمْ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ ، يَعْتَبِرُونَ فِيهَا النِّصَابَ وَلَا يَعْتَبِرُونَ الْحَوْلَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْحَوْلِ أَنَّهُ قُصِدَ بِهِ تَكَامُلُ النَّمَاءِ ، وَالثِّمَارُ يَتَكَامَلُ نَمَاؤُهَا قَبْلَ الْحَوْلِ ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْحَوْلِ

فِي الثِّمَارِ أَوْ إِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي غَيْرِهَا ، وَالنِّصَابُ إِنَّمَا اعْتُبِرَ لِيَبْلُغَ الْمَالُ قَدْرًا يَتَّسِعُ لِلْمُوَاسَاةِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الثِّمَارِ ، كَوُجُودِهِ فِي غَيْرِهَا . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَوْ كَانَ فِي ابْتِدَائِهَا عَفْوٌ لَكَانَ فِي انْتِهَائِهَا عَفْوٌ فَمُنْتَقِضٌ عَلَى أَصْلِنَا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْمَوَاشِي حَيْثُ دَخَلَ الْعَفْوُ فِي أَثْنَاءِ نِصَابِهَا : لِأَنَّ إِيجَابَ الْكَثِيرِ فِي جَمِيعِ الزِّيَادَةِ مَشَقَّةٌ تَلْحِقُ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ وَأَهْلَ السُّهْمَانِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَبِهَذَا نَأْخُذُ ، وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا بِصَاعِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّاعُ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : إِذَا ثَبَتَ أَنْ لَا زَكَاةَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَهِيَ وَاجِبَةٌ فِي الْخَمْسَةِ فَصَاعِدًا ، وَاعْتِبَارُهَا وَقْتَ الِادِّخَارِ لَا وَقْتَ الْوُجُوبِ : لِأَنَّ زَكَاةَ الثِّمَارِ تَجِبُ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ ، وَالْخَمْسَةُ الْأَوْسُقِ تُعْتَبَرُ بِحَالِ الِادِّخَارِ ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ مِمَّا تَصِيرُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ تَمْرًا ، وَالْكَرْمُ مِمَّا يَصِيرُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ زَبِيبًا ، وَالزَّرْعُ مَا يَصِيرُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ حَبًّا ، فَإِنْ كَانَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ رَطْبًا وَعِنَبًا يَصِيرُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا فَلَا زَكَاةَ فِيهِ ، فَأَمَّا الْوَسْقُ فَهُوَ فِي اللُّغَةِ : حِمْلُ الْبَعِيرِ وَالنَّاقَةِ قَالَ الشَّاعِرُ : أَيْنَ الشَّظَاظَانِ وَأَيْنَ الْمَرْبَعَهْ ؟ وَأَيْنَ وَسْقُ النَّاقَةِ الْجَلَنْقَعَهْ ؟ إِلَّا أَنَّ الْوَسْقَ فِي الشَّرِيعَةِ : سِتُّونَ صَاعًا بِصَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالصَّاعُ : أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْمُدُّ : رِطْلٌ وَثُلُثٌ بِالْعِرَاقِيِّ ، فَتَكُونُ الْخَمْسَةُ الْأَوْسُقِ ثَلَاثَمِائَةِ صَاعٍ ، وَهِيَ أَلْفُ مُدٍّ وَمِائَتَا مُدٍّ ، وَأَلْفٌ وَسِتُّمِائَةِ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ ذَلِكَ تَحْدِيدٌ يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِزِيَادَةِ رِطْلٍ وَنُقْصَانِهِ أَوْ تَقْرِيبٍ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ نُقْصَانُ رِطْلٍ أَوْ رِطْلَيْنِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَقْرِيبٌ : لِأَنَّ الْوَسْقَ عِنْدَهُمْ حِمْلُ النَّاقَةِ وَإِنَّمَا قُدِّرَ بِالصَّاعِ تَقْرِيبًا . وَالثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ ذَلِكَ تَحْدِيدٌ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا فَحَدَّهُ بِذَلِكَ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ وَافَقَنَا أَنَّ الْوَسْقَ سِتُّونَ صَاعًا ، وَالصَّاعُ : أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ ، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي قَدْرِ الْمُدِّ وَالصَّاعِ ، فَقَالَ الصَّاعُ : ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ ، وَالْمُدُّ : رِطْلَانِ ، وَسَنَذْكُرُ الْحِجَاجَ لَهُ وَعَلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ زَكَاةِ الْفِطْرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالْخَلِيطَانِ فِي أَصْلِ النَّخْلِ يَصْدُقَانِ صَدَقَةَ الْوَاحِدِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ الْخُلْطَةِ فِيمَا عَدَا الْمَوَاشِي مِنَ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ، فَقَالَ فِي الْقَدِيمِ لَا تَصِحُّ الْخُلْطَةُ فِيهَا ، وَإِنَّمَا تَصِحُّ فِي الْمَوَاشِي دُونَ مَا عَدَاهَا ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ : الْخُلْطَةُ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي كَالْخُلْطَةِ فِي الْمَوَاشِي ، وَذَكَرَ تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ ، فَإِذَا قُلْنَا : إِنَّ الْخُلْطَةَ لَا تَصِحُّ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي رُوعِيَ مِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ ، فَإِنْ بَلَغَ نِصَابًا وَجَبَتْ زَكَاتُهُ ، وَإِنْ نَقَصَ عَنِ النِّصَابِ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ ، وَإِذَا قُلْنَا إِنَّ الْخُلْطَةَ تَصِحُّ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي مِنَ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ صَحَّتْ فِيهَا خُلْطَةُ الْأَعْيَانِ وَهِيَ الشَّرِكَةُ ، وَهَلْ تَصِحُّ فِيهَا خُلْطَةُ الْأَوْصَافِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا لَا تَصِحُّ حَتَّى يَكُونَا شَرِيكَيْنِ فِي أَصْلِ النَّخْلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تَصِحُّ إِذَا تَلَاصَقَتِ الْأَرْضَانِ وَكَانَ شِرْبُهُمَا وَاحِدًا وَالْقَيِّمُ بِهِمَا وَاحِدًا وَفُحُولُ لِقَاحِهِمَا وَاحِدَةً ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْخُلْطَةِ فِي الْمَاشِيَةِ بِالْأَوْصَافِ مَعَ تَمَيُّزِ الْأَمْوَالِ ، هَلْ سُمُّوا خُلَطَاءَ لُغَةً أَوْ شَرْعًا : فَمَنْ قَالَ سُمُّوا خُلَطَاءَ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ مَنَعَ مِنَ الْخُلْطَةِ هَاهُنَا . وَمَنْ قَالَ سُمُّوا خُلَطَاءَ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ جَوَّزَ الْخُلْطَةَ هَاهُنَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ وَرِثُوا نَخْلًا فَاقْتَسَمُوهَا بَعْدَمَا حَلَّ بَيْعُ ثَمَرِهَا فِي جَمَاعَتِهَا خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَعَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ : لِأَنَّ أَوَّلَ وُجُوبِهَا كَانَ وَهُمْ شُرَكَاءُ اقْتَسَمُوهَا قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ بَيْعُ ثَمَرِهَا فَلَا زَكَاةَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ حَتَّى تَبْلُغَ حِصَّتُهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) هَذَا عِنْدِي غَيْرُ جَائِزٍ فِي أَصْلِهِ لِأَنَّ الْقَسْمَ عِنْدَهُ كَالْبَيْعِ وَلَا يَجُوزُ قَسْمُ التَّمْرِ جُزَافًا وَإِنْ كَانَ مَعَهُ نَخْلٌ ، كَمَا لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ عَرْضٌ بِعَرْضٍ مَعَ كُلِّ عَرْضٍ ذَهَبٌ تَبَعٌ لَهُ أَوْ غَيْرُ تَبَعٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : فِي رَجُلٍ مَاتَ وَخَلَّفَ نَخْلًا مُثْمِرًا قَدْرُ ثَمَرَتِهَا خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَأَكْثَرُ زكاته في هذه الحالة ، فَلَا يَخْلُو حَالُ مَوْتِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ ، أَوْ قَبْلَهُ ، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاتُهَا ، وَعَلَى الْوَرَثَةِ إِخْرَاجُهَا عَنْهُ وَقْتَ صِرَامِهَا ، وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ الِاقْتِسَامُ لَهَا قَبْلَ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ عَنْهَا ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمَسَاكِينِ بِهَا ، فَإِنِ اقْتَسَمُوا قَبْلَ إِخْرَاجِ زَكَاتِهَا كَانَ فِي الْقِسْمَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلَةٌ إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَيْنِ .

وَالثَّانِي : جَائِزَةٌ إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ ، فَإِذَا جَاءَ السَّاعِي مُطَالِبًا بِالزَّكَاةِ لَمْ تَخْلُ حَالُ حِصَصِهِمْ مِنَ الثَّمَرِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ حِصَصُ جَمِيعِهِمْ بَاقِيَةً . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ حِصَصُ جَمِيعِهِمْ تَالِفَةً . وَالثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ حِصَصُ بَعْضِهِمْ بَاقِيَةً وَحِصَصُ بَعْضِهِمْ تَالِفَةً ، فَإِنْ كَانَتْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَاقِيَةً فِي يَدِهِ أَخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الزَّكَاةَ بِقِسْطِ مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الثَّمَرَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ حِصَّةُ بَعْضِهِمْ بَاقِيَةً وَحِصَصُ الْبَاقِينَ تَالِفَةً أَخَذَ الزَّكَاةَ مِنَ الْحِصَّةِ الْبَاقِيَةِ وَرَجَعَ صَاحِبُهَا عَلَى مَا فِي يَدِ شُرَكَائِهِ بِقَدْرِ حِصَصِهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ ، وَفِيهَا وَجْهٌ آخَرُ : أَنَّ ذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلْقِسْمَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الصَّدَاقِ ، وَإِنْ كَانَتْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَالِفَةً نَظَرَ ، فَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ تَرِكَةٌ سِوَى الزَّكَاةِ يَتَّسِعُ لِأَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهَا أَخَذَ الزَّكَاةَ مَنْ تَرِكَتِهِ ، وَلَا مُطَالَبَةَ لَهُ عَلَى وَرَثَتِهِ : لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي ذِمَّتِهِ ، فَكَانَ الرُّجُوعُ بِهَا فِي تَرِكَتِهِ أَوْلَى مِنَ الرُّجُوعِ بِهَا عَلَى وَرَثَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ تَلَفُ الْمَالِ الْمُزَكَّى مِنْ جِهَتِهِمْ : لِأَنَّ أَخْذَهَا مِنْ تَرِكَتِهِ أَنْقَصُ كَمَا لَوْ تَرَكَ دَيْنًا وَعَيْنًا وَجَبَ الرُّجُوعُ بِهَا فِيمَا تَرَكَ مِنَ الْعَيْنِ دُونَ مَا خَلَّفَ دُونَ الدَّيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكِ الْمَيِّتُ سِوَى الثَّمَرَةِ الَّتِي اقْتَسَمَ بِهَا الْوَرَثَةُ نَظَرَ ، فَإِنْ كَانَ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ مُوسِرِينَ بِهَا أَخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْرَ حِصَّتِهِ مِنْهَا ، كَمَا لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي أَيْدِيهِمْ ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ مُوسِرًا بِهَا وَبَعْضُهُمْ مُعْسِرًا أَخَذَ مِنَ الْمُوسِرِ ، وَكَانَ دَيْنًا لِلْمُوسِرِ عَلَى شُرَكَائِهِ بِقَدْرِ حِصَصِهِمْ كَمَا لَوْ بَقِيَتْ حِصَّةُ أَحَدِهِمْ .

فَصْلٌ : وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ ثماره فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ لِلْوَرَثَةِ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقْتَسِمُوا الثَّمَرَةَ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَقْتَسِمُوهَا فَإِنْ لَمْ يَقْتَسِمُوهَا وَهِيَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَعَلَى الْقَدِيمِ حَيْثُ مَنَعَ مِنَ الْخُلْطَةِ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي لَا زَكَاةَ فِيهَا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، وَعَلَى الْجَدِيدِ حَيْثُ جَوَّزَ عَلَيْهِمُ الزَّكَاةَ لِوُجُودِ الْخُلْطَةِ فِي نِصَابٍ ، وَإِنِ اقْتَسَمُوهَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقْتَسِمُوهَا قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ قِسْمَةً جَائِزَةً ، فَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ الْخُلْطَةِ وَيُرَاعَى حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى انْفِرَادِهِ ، فَإِنْ بَلَغَتْ نِصَابًا فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَقْتَسِمُوهَا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ ، فَعَلَى الْقَدِيمِ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ : لِأَنَّ مِلْكَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَقَلُّ مِنْ نِصَابٍ ، فَعَلَى هَذَا الْقِسْمَةُ جَائِزَةٌ إِذَا وَقَعَتْ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ ، وَعَلَى الْجَدِيدِ عَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ لِوُجُودِ الْخُلْطَةِ فِي نِصَابٍ ، فَعَلَى هَذَا فِي قِسْمَتِهِمْ قَبْلَ أَدَاءِ زَكَاتِهَا وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ عَلَى مَا مَضَى .



فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى الشَّافِعِيَّ ذَكَرَ حَالَ قِسْمَتِهِمْ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ وَبَعْدَهُ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ وَقَالَ : هَذَا غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى أَصْلِهِ : لِأَنَّ الْقِسْمَةَ عِنْدَهُ بَيْعٌ ، وَبَيْعُ الثِّمَارِ بِالثِّمَارِ جُزَافًا لَا يَجُوزُ ، فَكَذَلِكَ الْقِسْمَةُ ، قَالَ وَلَئِنْ أَجَازَهَا : لِأَنَّ مَعَهَا جُذُوعًا لَمْ يَجُزْ أَيْضًا كَمَا لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ بَيْعُ ثَوْبٍ وَدِرْهَمٍ بِثَوْبٍ وَدِرْهَمٍ ، سَوَاءٌ كَانَ مَا فِيهِ الرِّبَا تَبَعًا لَهُ أَوْ غَيْرَ تَبَعٍ ، فَهَذَا اعْتِرَاضُ الْمُزَنِيِّ ، وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْقِسْمَةِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ إِقْرَارُ حَقٍّ وَتَمْيِيزُ نَصِيبٍ قَالَهُ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ قِسْمَةُ الثِّمَارِ بِالثِّمَارِ كَيْلًا وَوَزْنًا وَجُزَافًا ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ سَقَطَ اعْتِرَاضُ الْمُزَنِيِّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَبَعٌ فَعَلَى هَذَا قَدْ تَصِحُّ قِسْمَةُ ثِمَارِ النَّخْلِ بين الورثة إذا مَاتَ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ بَيْنَهُمْ مِنْ وُجُوهٍ يَسْقُطُ بِهَا اعْتِرَاضُ الْمُزَنِيِّ وَإِنْكَارُهُ عَلَى الشَّافِعِيِّ تَصَوُّرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَصْحِيحَ الْقِسْمَةِ ، فَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ بَادِيَةُ الصَّلَاحِ صَحَّتِ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ فِي التَّرِكَةِ نَخْلٌ مُثْمِرٌ وَعُرُوضٌ ، فَيَبِيعُ أَحَدُهُمْ حِصَّتَهُ مِنَ الْعُرُوضِ بِحِصَّةِ شَرِيكِهِ مِنَ النَّخْلِ وَالثَّمَرَةِ ، فَيَصِيرُ لِأَحَدِهِمْ جَمِيعُ النَّخْلِ وَالثَّمَرَةِ وَلِلْآخَرِ جَمِيعُ الْعُرُوضِ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ النَّخْلُ نَوْعَيْنِ حَامِلًا وَحَائِلًا فَيَبِيعُ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ مِنَ النَّخْلِ الْحَائِلِ بِحِصَّةِ شَرِيكِهِ مِنَ النَّخْلِ الْحَامِلِ وَالثَّمَرَةِ فَيَحْصُلُ النَّخْلُ الْحَامِلُ بِثَمَرَتِهِ لِأَحَدِهِمَا وَالنَّخْلُ الْحَائِلُ بِانْفِرَادِهِ لِلْآخَرِ ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ غَيْرُ مُقْنِعَيْنِ : لِأَنَّهُمَا بَيْعُ جِنْسٍ بِغَيْرِهِ ، وَلَيْسَا قِسْمَةَ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَلَكِنْ ذَكَرَهُمَا أَصْحَابُنَا فَذَكَرْنَاهُمَا . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ فِي مَعْنَاهُمَا : أَنْ تَكُونَ النَّخْلُ فِي التَّقْدِيرِ نَخْلَيْنِ شَرْقِيٍّ وَغَرْبِيٍّ فَيَبِيعُ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ مِنَ النَّخْلِ الْغَرْبِيِّ وَثَمَرَتِهِ بِدِينَارٍ ، وَيَبْتَاعُ مِنْ شَرِيكِهِ حِصَّةً مِنَ النَّخْلِ الشَّرْقِيِّ وَثَمَرَتِهِ بِدِينَارٍ ، فَيَحْصُلُ النَّخْلُ الشَّرْقِيُّ مَعَ ثَمَرَتِهِ لِأَحَدِهِمَا وَعَلَى الشَّرِكَةِ دِينَارٌ وَالنَّخْلُ الْغَرْبِيُّ مَعَ ثَمَرَتِهِ لِلْآخَرِ وَعَلَيْهِ لِشَرِيكِهِ دِينَارٌ فَيَتَقَاضَيَانِ الدِّينَارَ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَبِيعَ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ مِنَ النَّخْلِ الشَّرْقِيِّ بِحِصَّةِ شَرِيكِهِ مِنْ ثَمَرَةِ النَّخْلِ الْغَرْبِيِّ ، وَيَبْتَاعُ حِصَّةَ شَرِيكِهِ مِنَ النَّخْلِ الْغَرْبِيِّ بِحِصَّتِهِ مِنْ ثَمَرَةِ النَّخْلِ الشَّرْقِيِّ ، فَيَصِيرُ النَّخْلُ الشَّرْقِيُّ مَعَ ثَمَرَتِهِ لِأَحَدِهِمَا وَالنَّخْلُ الْغَرْبِيُّ مَعَ ثَمَرَتِهِ لِلْآخَرِ . وَالْخَامِسُ : أَنْ يَبِيعَ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ مِنَ النَّخْلِ الشَّرْقِيِّ بِحِصَّةِ شَرِيكِهِ مِنْ ثَمَرَةِ النَّخْلِ الشَّرْقِيِّ ، وَيَبْتَاعَ حِصَّتَهُ شَرِيكُهُ مِنَ النَّخْلِ الْغَرْبِيِّ بِحِصَّتِهِ مِنَ النَّخْلِ الْغَرْبِيِّ ، فَيَحْصُلُ لِأَحَدِهِمَا النَّخْلُ الشَّرْقِيُّ مَعَ ثَمَرَةِ النَّخْلِ الْغَرْبِيِّ ، وَلِلْآخَرِ النَّخْلُ الْغَرْبِيُّ مَعَ ثَمَرَةِ النَّخْلِ الشَّرْقِيِّ ، فَتَحْصُلُ ثَمَرَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نَخْلِ شَرِيكِهِ ، وَلَهُ تَبْقِيَتُهَا إِلَى وَقْتِ الصِّرَامِ ، إِلَّا

أَنْ يَشْتَرِطَا فِي الْقِسْمَةِ قَطْعَهَا فِي الْحَالِ ، فَهَذَا فِي الثَّمَرَةِ إِذَا كَانَتْ بَادِيَةَ الصَّلَاحِ فَأَمَّا الَّتِي لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا بَعْدُ فَتَخْرِيجُ هَذِهِ الْوُجُوهِ فِي صِحَّةِ قِسْمَتِهَا يُبْنَى عَلَى أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَبِيعَهَا مُفْرَدَةً مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ لَا يَصِحُّ . وَالثَّانِي : أَنْ يَبِيعَهَا تَبَعًا لِلنَّخْلِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ يَصِحُّ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ شَرْطَ الْقَطْعِ مَعَ الْإِشَاعَةِ فِيهَا لَا يَصِحُّ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَبِيعَهَا مُفْرَدَةً مِنْ صَاحِبِ النَّخْلِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ عَلَى وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : لَا يَصِحُّ كَغَيْرِهِ . وَالثَّانِي : يَصِحُّ لِحُصُولِ الثَّمَرَةِ وَالْأَصْلُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَيَصِيرُ تَبَعًا لِلْأَصْلِ ، فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْأُصُولُ صَحَّ فِي قِسْمَتِهَا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ عَلَى وَجْهَيْنِ وَالْخَامِسُ لَا يَصِحُّ وَذَلِكَ يَتَبَيَّنُ بِالتَّأَمُّلِ وَالْفِكْرِ فَتَأَمَّلْهُ تَجِدْهُ صَحِيحًا ، وَعَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ جَارِيًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَثَمَرُ النَّخْلِ يَخْتَلِفُ ، فَثَمَرُ النَّخْلِ يَجِدُ بِتَهَامَةَ وَهِيَ بِنَجْدٍ بُسْرٌ وَبَلَحٌ فَيَضُمُّ بَعْضَ ذَلِكَ إِلَى بَعْضٍ : لِأَنَّهَا ثَمَرَةُ عَامٍ وَاحِدٍ وَلَوْ كَانَ بَيْنَهَا الشَهْرُ وَالشَّهْرَانِ وَإِذَا أَثْمَرَتْ فِي عَامٍ قَابِلٍ لَمْ يُضَمَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى الْعَادَةَ فِي الثِّمَارِ أَنْ تُدْرِكَ حَالًا بَعْدَ حَالٍ ، وَلَا تُدْرِكُ دَفْعَةً وَاحِدَةً ، لِمَا فِي إِدْرَاكِهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً مِنَ الْإِضْرَارِ بِأَرْبَابِهَا ، وَإِذَا أَدْرَكَتْ حَالًا بَعْدَ حَالٍ كَانَ أَمْتَعَ بِهَا وَأَنْفَعَ لِأَرْبَابِهَا ، وَأَجْرَى الْعَادَةَ فِي ثِمَارِ الْبِلَادِ الْحَامِيَةِ كَتِهَامَةَ وَالْحِجَازِ أَنْ يَتَعَجَّلَ اطِّلَاعُهَا وَإِدْرَاكُهَا : لِغِلَظِ الْهَوَاءِ وَشِدَّةِ الْحَرِّ ، وَفِي ثِمَارِ الْبِلَادِ الرَّطْبَةِ كَنَجْدٍ وَالْعِرَاقِ أَنْ يَتَأَخَّرَ اطِّلَاعُهَا وَإِدْرَاكُهَا لِرِقَّةِ الْهَوَاءِ وَقُوَّةِ الْبَرْدِ ، لِمَصْلَحَةٍ عَلِمَهَا وَحِكْمَةٍ اسْتَأْثَرَ بِهَا ، وَأَجْرَى فِي عَادَةِ النَّخْلِ أَنْ يَكُونَ مِنْ بُدُوِّ إِخْرَاجِهَا وَاطِّلَاعِهَا إِلَى مُنْتَهَى نُضْجِهَا وَإِدْرَاكِهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ، وَقِيلَ : إِنَّ النَّخْلَ يَحُولُ فِي السَّنَةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ فِي بَاقِي السَّنَةِ حَامِلٌ إِمَّا ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا . فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ ضَمِّ ثِمَارِ الْعَامِ الْوَاحِدِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ أَوْ بُلْدَانٍ شَتَّى ، فَثَمَرُ النَّخْلِ يَجِدُ بِتِهَامَةٍ وَهُوَ بِنَجْدٍ بُسْرٌ وَبَلَحٌ ، وَجُمْلَتُهُ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ النَّخْلَيْنِ الْمُتَغَايِرَيْنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَتَّفِقَ إِطْلَاعُهُمَا .

أَوْ يَخْتَلِفَ إِطْلَاعُهُمَا ، وَتَغَايُرُهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : إِمَّا فِي النَّوْعِ كَالنَّخْلِ الْبَرِّيِّ وَالنَّخْلِ الْمَعْقِلِيِّ . وَإِمَّا فِي الْمَوْضِعِ كَالنَّخْلِ الْتِهَامِيِّ وَالنَّخْلِ النَّجْدِيِّ ، وَإِنِ اتَّفَقَ أَطْلَاعُ النَّخْلَيْنِ ضُمَّ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ سَوَاءٌ اتَّفَقَ إِدْرَاكُهُمَا أَوِ اخْتَلَفَ لِأَنَّهَا ثَمَرَةُ عَامٍ ، وَإِنِ اخْتَلَفَ أَطْلَاعُهُمَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الثَّانِيَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : إِمَّا أَنْ تَطْلُعَ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ الْأَوَّلِ . أَوْ تَطْلُعَ بَعْدَ جِدَادِ الْأُولَى . أَوْ تَطْلُعَ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِ الْأُولَى وَقَبْلَ جِدَادِهَا . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ إِذَا أَطْلَعَتِ الثَّانِيَةُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِ الْأُولَى أَوْ مَعَهُ ، كَانَ نَخْلُ تِهَامَةَ أَطْلَعَ وَصَارَ بُسْرًا لَمْ يُبْدِ صَلَاحَهُ بِصُفْرَةٍ وَلَا حُمْرَةٍ ، ثُمَّ أَطْلَعَ نَخْلُ نَجْدٍ فَهَذَا يُضَمُّ ، لِأَنَّهَا ثَمَرَةُ عَامٍ ، وَلِأَنَّ اتِّفَاقَ أَطْلَاعِهِمَا مُتَعَذِّرٌ ، بَلِ النَّخْلَةُ الْوَاحِدَةُ قَدْ يَخْتَلِفُ أَطْلَاعُهَا ، فَكَيْفَ بِنَخْلٍ مُتَغَايِرٍ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : إِذَا أَطْلَعَتِ الثَّانِيَةُ بَعْدَ جِدَادِ الْأُولَى كَانَ نَخْلُ تِهَامَةَ أَطْلَعَ وَصَارَ تَمْرًا يَابِسًا وَجُدَّ عَنْ نَخْلِهِ وَصُرِمَ ، ثُمَّ أَطْلَعَ النَّخْلُ الْآخَرُ ، فَلَا تُضَمُّ هَذِهِ الثَّانِيَةُ إِلَى الْأَوْلَى : لِأَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ فِي ثَمَرَةِ الْعَامِ الْوَاحِدِ بِهَذَا ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهَا وَبِقَاعُهَا ، وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا تُضَمُّ فَقَدْ أَخْطَأَ نَصَّ الْمَذْهَبِ ، وَجَهِلَ عَادَةَ الثَّمَرِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : إِذَا أَطْلَعَتِ الثَّانِيَةُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِ الْأُولَى وَقَبْلَ جِدَادِهَا ، كَانَتِ الْأُولَى أَطْلَعَتْ وَصَارَتْ رَطْبًا ثُمَّ أَطْلَعَتِ الثَّانِيَةُ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ضَمِّهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : لَا تُضَمُّ وَيَكُونُ بُدُوُّ الصَّلَاحِ عَلَمًا فِي ضَمِّ الثِّمَارِ ، اسْتِدْلَالًا بِمَذْهَبٍ وَحِجَاجٍ . أَمَّا الْمَذْهَبُ : فَمَا رَوَاهُ حَرْمَلَةُ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : " وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ ثَمَرٌ مُخْتَلِفٌ فَبَدَا الصَّلَاحُ فِي بَعْضِهَا وَبَعْضُهَا بُسْرٌ وَبَلَحٌ ، ضُمَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ ، لِأَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً عِنْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ " فَجَعَلَ عِلَّةَ الضَّمِّ بُدُوَّ الصَّلَاحِ . وَأَمَّا الْحِجَاجُ : فَهُوَ أَنَّ ضَمَّ الثِّمَارِ في الزكاة كَضَمِّ السِّخَالِ ، فَلَمَّا اعْتُبِرَ فِي ضَمِّ السِّخَالِ وَجُودُهَا قَبْلَ الْحَوْلِ : لِأَنَّ بِالْحَوْلِ تَجِبُ الزَّكَاةُ ، وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي ضَمِّ الثِّمَارِ بُدُوُّ الصَّلَاحِ : لِأَنَّ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ تَجِبُ الزَّكَاةُ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تُضَمُّ فَيَكُونُ جَفَافُ الثَّمَرَةِ وَأَوَانُ جِدَادِهَا عَلَمًا فِي ضَمِّ الثِّمَارِ ، اسْتِدْلَالًا بِمَذْهَبٍ وَحِجَاجٍ ، أَمَّا الْمَذْهَبُ : فَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ : " وَلَوْ كَانَ لَهُ نَخْلٌ فِي بَعْضِهَا طَلْعٌ ، وَفِي بَعْضِهَا بَلَحٌ ، وَفِي بَعْضِهَا بُسْرٌ ، وَفِي بَعْضِهَا رُطَبٌ ، فَأَدْرَكَ الرُّطَبَ فَجَدَّهُ ، وَأَدْرَكَ الْبُسْرَ فَجَدَّهُ ، ثُمَّ أَدْرَكَ الْبَلَحَ فَجَدَّهُ ، ثُمَّ أَدْرَكَ الطَّلْعَ فَجَدَّهُ ، ضُمَّتْ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ ، لِأَنَّهَا ثَمَرَةُ عَامٍ وَاحِدٍ " وَأَمَّا الْحِجَاجُ : فَهُوَ أَنَّ لِلثَّمَرَةِ حَالَيْنِ حَالَ ابْتِدَاءٍ وَهُوَ الْأَطْلَاعُ وَحَالَ انْتِهَاءٍ وَهُوَ الْجَفَافُ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الضَّمُّ مُعْتَبَرًا بِالِابْتِدَاءِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا بِالِانْتِهَاءِ ، فَمَنْ قَالَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الصَّحِيحُ انْفَصَلَ عَمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " بِأَنْ قَالَ : إِنَّمَا جَمَعَ الشَّافِعِيُّ فِي الضَّمِّ بَيْنَ الطَّلْعِ وَالرُّطَبِ وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْأَطْلَاعِ وَالرُّطَبِ ، وَقَدْ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ طَلْعٍ وَرُطَبٍ كَأَنَّ ابْتِدَاءَ أَطْلَاعِهِ قَبْلَ الْإِرْطَابِ ، وَانْفَصَلَ عَنِ الْحِجَاجِ بِأَنْ قَالَ لِلثَّمَرَةِ حَالَةٌ ثَالِثَةٌ هِيَ بُدُوُّ صَلَاحِهَا ، وَاعْتِبَارُهَا أَوْلَى : لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِهَا يَتَعَلَّقُ .

فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " إِذَا أَثْمَرَتْ فِي عَامٍ قَابِلٍ لَمْ تُضَمَّ ضم الثمار في الزكاة " يَعْنِي : أَنَّهُ إِذَا تَقَدَّمَ أَطْلَاعُ التِّهَامِيِّ ثُمَّ أَطْلَعَ بَعْدُ النَّجْدِيُّ فَجَدُّ التِّهَامِيِّ وَالنَّجْدِيِّ بُسْرٌ وَبَلَحٌ ، ثُمَّ أَطْلَعَ التِّهَامِيُّ ثَانِيَةً قَبْلَ جِدَادِ النَّجْدِيِّ ، كَانَ هَذَا الْأَطْلَاعُ الثَّانِي مِنَ النَّخْلِ التِّهَامِيِّ ثَمَرَةَ عَامٍ ثَانٍ ، لَا يُضَمُّ إِلَى النَّجْدِيِّ ، وَإِنْ أَطْلَعَ قَبْلَ إِرْطَابِهِ : لِأَنَّ هَذَا النَّجْدِيَّ قَدْ ضُمَّ إِلَى التِّهَامِيِّ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ التِّهَامِيِّ الثَّانِي : لِأَنَّهُ يَكُونُ ضَمًّا بَيْنَ التِّهَامِيِّ الْأَوَّلِ وَالتِّهَامِيِّ الثَّانِي .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا كَانَ آخِرُ أَطْلَاعُ ثَمَرٍ أَطْلَعَتْ قَبْلَ أَنْ يُجَدَّ فَالْأَطْلَاعُ الَّتِي بَعْدَ بُلُوغِ الْآخِرَةِ كَأَطْلَاعِ تِلْكَ النَّخْلِ عَامًا آخَرَ لَا تُضَمُّ إِلَّا طِلَاعَةً إِلَى الْعَامِ قَبْلَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَلَامٌ غَلْقٌ ، وَالرِّوَايَةُ فِي نَقْلِهِ مُخْتَلِفَةٌ ، فَرُوِيَ فَإِذَا كَانَ آخِرُ أَطْلَاعِ ثَمَرٍ أَطْلَعَتْ قَبْلَ نَجْدٍ يَعْنِي قَبْلَ أَنْ تُجَدَّ ، وَرُوِيَ قِبَلَ نَجْدٍ يَعْنِي نَاحِيَةَ نَجْدٍ ، فَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى قَبْلَ أَنْ تُجَدَّ وَتُقْطَعَ ، يَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ : وَإِذَا كَانَ أَطْلَاعُ آخِرِ ثَمَرٍ أَطْلَعَتْ بِنَجْدٍ قَبْلَ عَامِ أَنْ تُجَدَّ ثَمَرُ تِهَامَةَ فَمَا أَطْلَعَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ ثِمَارِ تِهَامَةَ فَهُوَ ثَمَرَةٌ عَامٍ ثَانٍ لَا يُضَمُّ ، لِأَنَّكَ قَدْ ضَمَمْتَ النَّجْدِيَّةَ إِلَى التِّهَامِيَّةِ الْأُولَةِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَضُمَّ التِّهَامِيَّةَ الثَّانِيَةَ إِلَى النَّجْدِيَّةِ لِأَنَّكَ تَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ ضَمَّ التِّهَامِيَّةَ الثَّانِيَةَ إِلَى التِّهَامِيَّةِ الْأُولَةِ ، وَهِيَ الْفَرْعُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ وَهَذَا تَأْوِيلُ مَنْ جَعَلَ الْجَفَافَ عَلَى الضَّمِّ ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى نَاحِيَةِ نَجْدٍ ، يَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ وَإِذَا كَانَ آخِرُ أَطْلَاعٍ ثُمَّ أَطْلَعَتْ بِنَجْدٍ فَمَا أَطْلَعَ مِنْ ثِمَارِ نَجْدٍ بَعْدَ بُلُوغِ هَذِهِ النَّجْدِيَّةِ فَهُوَ ثَمَرَةُ عَامٍ آخَرَ لَا يُضَمُّ إِلَيْهِ ، وَهَذَا تَأْوِيلُ مَنْ جَعَلَ بُدُوَّ الصَّلَاحِ عَلَمَ الضَّمِّ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُتْرَكُ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ جَيِّدُ التَّمْرِ عند أخذ الزكاة مِنَ الْبَرْدِيِّ وَالْكَبِيسِ ، وَلَا يُؤْخَذُ الْجَعْرُورُ وَلَا مُصْرَانُ الْفَأْرَةِ وَلَا عِذْقُ ابْنِ حُبَيْقٍ ، وَيُؤْخَذُ وَسَطٌ مِنَ التَّمْرِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَمْرَهُ بَرْدِيًّا كُلَّهُ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ ، أَوْ جَعْرُورًا كُلَّهُ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ أَسْمَاءُ التَّمْرِ بِالْحِجَازِ ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو ثَمَرُ الرَّجُلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ نَوْعًا أَوْ أَنْوَاعًا ، فَإِنْ كَانَتْ نَوْعًا وَاحِدًا أُخِذَ مِنْهُ الزَّكَاةُ جَيِّدًا كَانَ أَوْ رَدِيئًا ، وَإِنْ كَانَتْ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ أَنْوَاعًا قَلِيلَةً مُتَمَيِّزَةً ، كَنَوْعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ ، فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهَا ضم التمر في الزكاة ، وَيَشُقُّ أَخْذُ الزَّكَاةِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَتَسَاوَى الْأَنْوَاعُ فِي الْقَدْرِ فَيَكُونُ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا عَشْرَةَ أَوْسُقٍ ، لَا يَزِيدُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ ، فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ مِنْ وَسَطِهِ لَا مِنْ جَيِّدِهِ وَلَا مِنْ رَدِيئِهِ : لِأَنَّ فِي أَخْذِهَا مِنْ جَيِّدِهِ إِضْرَارًا بِهِ ، وَفِي أَخْذِهَا مِنْ رَدِيئِهِ إِضْرَارًا بِالْمَسَاكِينِ وَفِي أَخْذِهَا مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مَشَقَّةً ، فَدَعَتْهُ الضَّرُورَةُ إِلَى أَخْذِهَا مِنَ الْوَسَطِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَتَفَاضَلَ الْأَنْوَاعُ فِي الْقَدْرِ وَيَزِيدُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ ، فَيَكُونُ نَوْعٌ مِنْهَا عَشْرَةَ أَوْسُقٍ ، وَنَوْعٌ آخَرُ عِشْرِينَ وَسْقًا ، وَنَوْعٌ آخَرُ ثَلَاثِينَ وَسْقًا ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْأَغْلَبِ وَالْأَكْثَرِ ، وَيَكُونُ الْأَقَلُّ تَبَعًا ، سَوَاءٌ كَانَ الْأَغْلَبُ جَيِّدًا أَوْ رَدِيئًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُؤْخَذُ مِنَ الْوَسَطِ : لِأَنَّهُ أَعْدَلُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَ لَهُ نَخْلٌ مُخْتَلِفَةٌ وَاحِدٌ يَحْمِلُ فِي وَقْتٍ وَالْآخَرُ حِمْلَيْنِ ، أَوْ سَنَةً حِمْلَيْنِ زكاته في هذه الحالة ، فَهُمَا مُخْتَلِفَانِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْعَادَةُ الْجَارِيَةُ فِي النَّخْلِ وَالْأَشْجَارِ فَهِيَ : أَنْ تَحْمِلَ فِي السَّنَةِ حِمْلًا وَاحِدًا فَإِنْ شَذَّ بَعْضُهَا عَنِ الْجُمْلَةِ وَفَارَقَ مَأْلُوفَ الْعَادَةِ وَحَمَلَ فِي السَّنَةِ حِمْلَيْنِ لَمْ يُضَمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ ، وَتَمَيَّزَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِهِ : لِأَنَّهُمَا ثَمَرَتَانِ ، فَلَوْ كَانَ لَهُ نَخْلٌ آخَرُ فَحَمَلَ حِمْلًا وَاحِدًا عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ ضَمَّهُ إِلَى مَا وَافَقَهُ مِنْ حِمْلَيْ تِلْكَ الشَّاذَّةِ ، فَإِنْ وَافَقَ الْحِمْلَ الْأَوَّلَ ضُمَّ إِلَيْهِ دُونَ الثَّانِي ، وَإِنْ وَافَقَ الثَّانِي ضُمَّ إِلَيْهِ دُونَ الْأَوَّلِ .

بَابُ كَيْفَ تُؤْخَذُ زَكَاةُ النَّخْلِ وَالْعِنَبِ بِالْخَرْصِ

بَابُ كَيْفَ تُؤْخَذُ زَكَاةُ النَّخْلِ وَالْعِنَبِ بِالْخَرْصِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ التَّمَّارُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عَتَّابِ بْنِ أُسَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي زَكَاةِ الْكَرْمِ " يُخْرَصُ كَمَا يُخْرَصُ النَخْلُ ثمَ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ زَبِيبًا كَمَا تُؤَدَّى زَكَاةُ النَّخْلِ تَمْرًا " وَبِإِسْنَادِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ مَنْ يُخْرِصُ عَلَى النَّاسِ كُرُومَهُمْ وَثِمَارَهُمْ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِيَهُودِ خَيْبَرَ حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ أُقِرُّكُمْ عَلَى مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ عَلَى أَنَّ التَّمْرَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ قَالَ : فَكَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فَيَخْرُصُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ يَقُولُ إِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي فَكَانُوا يَأْخُذُونَهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا بَدَا صَلَاحُ ثِمَارِ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ كيف يخرصان فَقَدْ تَعَلَّقَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ بِهِمَا ، وَوَجَبَ خَرْصُهُمَا لِلْعِلْمِ بِقَدْرِ زَكَاتِهِمَا ، فَيَخْرُصُهُما رُطَبًا وَيَنْظُرُ الْخَارِصُ كَمْ يَصِيرُ تَمْرًا فَيُثْبِتُهَا تَمْرًا ، ثُمَّ يُخَيِّرُ رَبَّ الْمَالِ فِيهَا ، فَإِنْ شَاءَ كَانَتْ فِي يَدِهِ أَمَانَةً إِلَى وَقْتِ الْجِدَادِ وَلَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا ، وَإِنْ شَاءَ كَانَتْ فِي يَدِهِ مَضْمُونَةً وَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا ضِمْنَهَا ، فَيُسْتَفَادُ بِالْخَرْصِ الْعِلْمُ بِقَدْرِ الزَّكَاةِ فِيهَا ، وَاسْتِبَاحَةُ رَبِّ الْمَالِ التَّصَرُّفَ فِي الثَّمَرَةِ إِنْ شَاءَ بِشَرْطِ الضَّمَانِ ، هَذَا مَذْهَبُنَا ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَبُو بَكْرٍ ، وَعُمَرُ كَرَّمَ اللَّهُ وُجُوهَهُمَا ، وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ : خَرْصُ الثِّمَارِ حكمه لَا يَجُوزُ احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْخَرْصِ وَرِوَايَةُ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ كُلِّ ذِي ثَمْرَةٍ بِخَرْصٍ قَالُوا وَلِأَنَّ الْخَرْصَ تَخْمِينٌ وَحَدْسٌ : لِأَنَّ الْخَارِصَ لَا يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى أَصْلٍ مُقَدَّرٍ وَلَا يَعْمَلُ عَلَى مِثَالٍ مُتَقَدِّمٍ ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى مَا يَقْوَى فِي نَفْسِهِ وَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ ، وَقَدْ يُخْطِئُ فِي أَكْثَرِهِ وَإِنْ أَصَابَ فِي بَعْضِهِ فَلَمْ يَجُزِ الْأَخْذُ بِهِ وَلَا الْعَمَلُ عَلَيْهِ ، قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ خَرْصُ الثِّمَارِ لِيُعْلَمَ بِهِ قَدْرُ الصَّدَقَةِ لَجَازَ خَرْصُ الزُّرُوعِ لِيُعْلَمَ بِهِ قَدْرُ الصَّدَقَةِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ فِي الزُّرُوعِ لَمْ يَجُزْ فِي الثِّمَارِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّهُ جِنْسٌ تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيرُ ثَمَرَتِهِ بِالْخَرْصِ كَالزَّرْعِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ خَرْصَ الثِّمَارِ بَعْدَ جِدَادِهَا أَقْرَبُ إِلَى الْإِصَابَةِ مِنْ خَرْصِهَا عَلَى رُءُوسِ نَخْلِهَا ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ فِي أَقْرَبِهِمَا مِنَ الْإِصَابَةِ لَمْ يَجُزْ فِي أَبْعَدِهِمَا ، قَالُوا وَلِأَنَّ الْخَرْصَ عِنْدَكُمْ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمَانِ : أَحَدُهُمَا : الْعِلْمُ بِقَدْرِ الصَّدَقَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ : لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَوِ ادَّعَى غَلَطًا أَوْ نُقْصَانًا صَدَقَ . وَالْحُكْمُ الثَّانِي : تَضْمِينُ رَبِّ الْمَالِ قَدْرَ الصَّدَقَةِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بَيْعُ رُطَبٍ بِتَمْرٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ بَيْعُ حَاضِرٍ بِغَائِبٍ ، فَإِذَا كَانَ مَا يُسْتَفَادُ بِالْخَرْصِ مِنَ الْحُكْمَيْنِ مَعًا بَاطِلًا ثَبَتَ أَنَّ الْخَرْصَ غَيْرُ جَائِزٍ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ الْخَرْصِ وُرُودُ السُّنَّةِ بِهِ ، قَوْلًا وَفِعْلًا وَامْتِثَالًا . فَأَمَّا الْقَوْلُ فَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ عَنْ عَتَّابِ بْنِ أُسَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْكَرْمِ : يُخْرَصُ كَمَا يُخْرَصُ النَّخْلُ ثُمَّ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ زَبِيبًا كَمَا تُؤَدَّى زَكَاةُ النَخْلِ تَمْرًا فَجَعَلَ الْخَرْصَ عَلَمًا لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ ، وَجَعَلَ لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ أَنْ يُؤَدُّوا زَبِيبًا وَتَمْرًا عَلَى مَا خَرَجَ بِالْخَرْصِ ، وَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ مِنَ الْمَالِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ . وَأَمَّا الْفِعْلُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَصَ حَدِيقَةَ امْرَأَةٍ بِوَادِي الْقُرَى عَشْرَةَ أَوْسُقٍ فَلَمْ تَزِدْ وَلَمْ تَنْقُصْ وَأَمَّا الِامْتِثَالُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ خَرَّاصُونَ مَشْهُورُونَ

يُنْفِذُهُمْ لِخَرْصِ الثِّمَارِ ، مِنْهُمْ حُوَيِّصَةُ ، وَمُحَيِّصَةُ ، وَسَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ ، وَعَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ ، وَأَبُو بُرْدَةَ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَقِيلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، أَيْضًا فَكَانُوا يَتَوَجَّهُونَ لِخَرْصِ الثِّمَارِ : امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ وَاتِّبَاعًا لِرَسْمِهِ ، وَرَوَى سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا خَرَصْتُمْ فَدَعُوا لَهُمُ الثُّلُثَ ، فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا لَهُمُ الثُلُثَ فَدَعُوا لَهُمُ الرُّبُعَ ، وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ تَأْوِيلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ يَتْرُكُ لَهُمُ الثُّلُثَ أَوِ الرُّبُعَ مِنَ الزَّكَاةِ لِيَتَوَلَّوْا إِخْرَاجَهُ فِي فُقَرَاءِ جِيرَانِهِمْ ، بَلْ قَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ فِي الْمَالِ الْوَصِيَّةَ وَالْعَرِيَّةَ . وَالثَّانِي : أَنْ يُخْرَصَ عَلَيْهِمْ جَمِيعُهُ ثُمَّ يُدْفَعُ إِلَيْهِمُ الثُّلُثُ أَوِ الرُّبُعُ لِيَتَصَرَّفُوا فِيهِ وَيَأْكُلُوهُ ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ . وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ لِلْخَرَّاصِ : " إِذَا بُعِثْتُمُ احْتَاطُوا لِأَهْلِ الْأَمْوَالِ فِي النَّائِبَةِ وَالْوَاطِئَةِ وَمَا يَجِبُ فِي الثَمَرَةِ مِنَ الْحَقِّ " ، وَفِي النَّائِبَةِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : الْأَصْنَافُ . وَالثَّانِي : مَا يَنُوبُ الْأَمْوَالَ كَالْجَوَائِحِ . وَفِي الْوَاطِئَةِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْوَاطِئَةَ الْمَارَّةُ وَالسَّابِلَةُ ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِوَطْئِهِمِ الطَّرِيقَ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْوَاطِئَةَ سُقَاطَةُ الثَّمَرِ وَمَا يَقَعُ مِنْهُ فِي الْأَرْضِ فَيُوطَأُ ، حَكَاهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ وَاخْتَارَهُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهَا الْوَطَايَا وَاحِدُهَا وَطِيَّةٌ ، وَهِيَ تَجْرِي مَجْرَى الْعَرِيَّةِ ، وَسُمِّيَتْ وَطِئَةً : لِأَنَّ صَاحِبَهَا وَطِأَهَا لِنَفْسِهِ أَوْ لِأَهْلِهِ ، فَلَا تَدْخُلُ فِي الْخَرْصِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الضَّرِيرِ . وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى خَيْبَرَ خَارِصًا فَخَرَصَ أَرْبَعِينَ أَلْفَ وَسْقٍ ، ثُمَّ خَيَّرَ الْيَهُودَ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذُوهُ وَيَدْفَعُوا عِشْرِينَ أَلْفَ وَسْقٍ وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَدْفَعَ إِلَيْهِمْ عِشْرِينَ أَلْفَ وَسْقٍ ، فَقَالُوا هَذَا هُوَ الْحَقُّ وَبِهِ قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ .

وَفِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : " إِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي " وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ . وَرُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ الْيَهُودَ جَمَعُوا لَهُ حُلِيًّا مِنْ حُلِيِّ نِسَائِهِمْ وَسَأَلُوهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْهُمُ الْخَرْصَ وَيَأْخُذَ مِنْهُمُ الْحُلِيَّ فَأَبَى عَلَيْهِمْ وَقَالَ : إِنَّ الرِّشْوَةَ سُحْتٌ ، وَإِنَّكُمْ أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ وَإِنَّ بُغْضِي لَكُمْ لَا يَحْمِلُنِي عَلَى الْحَيْفِ عَلَيْكُمْ ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ رَضِيعًا مِنْهُمْ وَحَلِيفًا لَهُمْ ، فَإِنْ قَالُوا : الِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْخَبَرِ لَا يَصِحُّ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً فِي جَوَازِ الْخَرْصِ : لِأَنَّهُ وَرَدَ عَامَ خَيْبَرَ سَنَةَ سَبْعٍ قَبْلَ بُدُوِّ تَحْرِيمِ الرِّبَا ، ثُمَّ نَزَلَ تَحْرِيمُ الرِّبَا نَاسِخًا لَهُ : لِأَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا نَزَلَ أَخِيرًا ، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَ ثُمَّ قَالَ : إِنَّ آخِرَ آيَةٍ نَزَلَتْ آيَةُ الرِّبَا فَمَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُثْبِتَهَا ، قِيلَ : إِنْ كَانَتْ آيَةُ الرِّبَا نَزَلَتْ أَخِيرًا فَتَحْرِيمُ الرِّبَا كَانَ مُتَقَدِّمًا بِالسُّنَّةِ قَبْلَ حُكْمِ الْخَرْصِ الثمار ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ : بِيعَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَهُوَ بِخَيْبَرَ قِلَادَةٌ فِيهَا ذَهَبٌ وَخَرَزٌ مِنَ الْمَغْنَمِ بِذَهَبٍ ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : " لَا حَتَّى تَمِيزَ " لَا يَجُوزُ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ تَحْرِيمُ الرِّبَا مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْخَرْصِ ، وَلَوْ كَانَ مَانِعًا مِنْهُ مَا عَمِلَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَبْعَثُ ابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ خَارِصًا عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ بَعَثَ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ خَارِصًا عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ فَسُحِرَ حَتَّى تَكَوَّعَتْ يَدُهُ ، ثُمَّ أَجْلَاهُمْ عُمَرُ عَنْهَا ، وَلَيْسَ ، لَهَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ . فَإِنْ قِيلَ : فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ إِنَّمَا خَرَصَ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ ثِمَارَ الْمُسَاقَاةِ لَا ثِمَارَ الزَّكَاةِ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَتَحَهَا سَاقَاهُمْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ثَمَرِهَا ، وَأَنْتُمْ تَمْنَعُونَ مِنَ الْخَرْصِ فِي الْمُسَاقَاةِ ، فَكَيْفَ يَصِحُّ اسْتِدْلَالُكُمْ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْخَرْصِ فِي الزَّكَاةِ : قِيلَ : خَرْصُ ثِمَارِ خَيْبَرَ كَانَ لِأَجْلِ الزَّكَاةِ ، وَلِأَجْلِ الْمُسَاقَاةِ : لِأَنَّ نِصْفَ ثِمَارِهَا كَانَ لَهُمْ بِالْمُسَاقَاةِ ، وَنِصْفَهَا لِلْمَسَاكِينِ بِالْغَنِيمَةِ ، وَالزَّكَاةُ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَاجِبَةٌ ، وَتَضْمِينُهَا لِلْيَهُودِ الْعَامِلِينَ فِيهَا جَائِزٌ ، فَكَانَ الْخَبَرُ دَالًّا عَلَى وُجُوبِ الْخَرْصِ فِي الزَّكَاةِ ، وَدَالًّا عَلَى جَوَازِ الْخَرْصِ فِي الْمُسَاقَاةِ ، وَلَنَا فِيهِ كَلَامٌ نَذْكُرُهُ ، وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْخَرْصِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى وَالنَّظَرِ وُجُودُ الرِّفْقِ بِهِ ، وَدُخُولُ الضَّرَرِ بِفَقْدِهِ : لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَمْنَعَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي ثِمَارِهِمْ ، أَوْ يُمَكِّنُوا فَإِنْ مَنَعُوا مِنْهَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى فَوَاتِ الْبُغْيَةِ الْعَظِيمَةِ فِي إِتْمَامِهَا وَمِنَ النَّاسِ مِنِ ابْتِيَاعِهَا وَفَوَاتِ شَهْوَتِهِمْ مِنْ أَكْلِهَا ، وَإِنْ مَكَّنُوا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُمَكِّنُوا بِخَرْصٍ أَوْ بِغَيْرِ خَرْصٍ فَإِنْ مَكَّنُوا بِغَيْرِ خَرْصٍ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى إِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى الْمَسَاكِينِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِضَاعَةِ حُقُوقِهِمْ ،

وَتَمْحِيقِ صَدَقَتِهِمْ ، وَإِنْ مَكَّنُوا بِخَرْصٍ ارْتَفَقَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ بِتَعْجِيلِ الْمَنْفَعَةِ ، وَارْتَفَقَ الْمَسَاكِينُ بِحِفْظِ الصَّدَقَةِ ، فَكَانَ الْخَرْصُ رِفْقًا بِالْفَرِيقَيْنِ وَفِي الْمَنْعِ مِنْهُ ضَرَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ خَبَرِ ابْنِ جَابِرٍ فَهُوَ وَارِدٌ فِي الْبَيْعِ ، بِدَلِيلِ نَهْيِهِ عَنِ الْمُزَابَنَةِ وَإِرْخَاصِهِ فِي الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا تَمْرًا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ الْخَرْصَ تَخْمِينٌ وَحَدْسٌ لِاخْتِلَافِهِ فَغَلَطٌ ، إِنَّمَا هُوَ اجْتِهَادٌ وَلَيْسَ وُجُودُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ : لِأَنَّهُ اجْتِهَادٌ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَمَّا لَمْ يَجُزِ الْخَرْصُ فِي الزُّرُوعِ لَمْ يَجُزْ فِي الثِّمَارِ ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ لِلزَّرْعِ حَائِلًا يَمْنَعُ مِنْ خَرْصِهِ ، وَلَيْسَ لِثَمَرِ النَّخْلِ حَائِلٌ يَمْنَعُ مِنْ خَرْصِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْحَاجَةَ غَيْرُ دَاعِيَةٍ إِلَى خَرْصِ الزُّرُوعِ : لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِمَا قَبْلَ الْحَصَادِ غَيْرُ مَقْصُودٍ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَمَّا لَمْ يَجُزْ خَرْصُهَا عَلَى الْأَرْضِ بَعْدَ الْجِدَادِ لَمْ يَجُزْ قَبْلَهُ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا عَلَى الْأَرْضِ يُمْكِنُ كَيْلُهُ ، فَلَمْ يَجُزْ خَرْصُهُ : لِأَنَّ الْكَيْلَ نَصٌّ وَالْخَرْصَ اجْتِهَادٌ ، وَمَا عَلَى النَّخْلِ لَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ فَجَازَ خَرْصُهُ : لِأَنَّ فَقْدَ النَّصِّ مُبِيحٌ لِلِاجْتِهَادِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا عَلَى الْأَرْضِ يُمْكِنُ أَخْذُ زَكَاتِهِ فِي الْحَالِ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَقْدِيرِهِ بِالْخَرْصِ ، وَمَا عَلَى النَّخْلِ لَا يُمْكِنُ أَخْذُ زَكَاتِهِ فِي الْحَالِ فَاحْتَاجَ إِلَى تَقْدِيرٍ بِالْخَرْصِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ مَا يُقْصَدُ بِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْقَدْرِ بَاطِلٌ وَمِنَ التَّضْمِينِ فَاسِدٌ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ : إِنَّمَا أَبْطَلْتُمُ الْخَرْصَ : لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَوِ ادَّعَى غَلَطًا أَوْ نُقْصَانًا صَدَقَ وَهَذَا فَاسِدٌ بَعْدَ الْمَاشِيَةِ : لِأَنَّهَا تُعَدُّ عَلَى رَبِّهَا وَلَوِ ادَّعَى غَلَطًا يُمْكِنُ مِثْلُهُ صَدَقَ ، وَأَبْطَلْتُمُ التَّضْمِينَ : لِأَنَّهُ بَيْعُ رُطَبٍ حَاضِرٍ بِثَمَنٍ غَائِبٍ ، وَهَذَا لَيْسَ بِبَيْعٍ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الزَّكَاةَ تُخْرَجُ مَنْ تَمْرِهَا لَا مِنْ رُطَبِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا ضُمِّنَهُ مِنَ الزَّكَاةِ هُوَ الْوَاجِبُ فِيهَا ، لَا أَنَّهُ بَدَلُ الْوَاجِبِ مِنْهَا ، فَثَبَتَ جَوَازُ الْخَرْصِ بِمَا ذَكَرْنَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا ثِمَارُ الْبَصْرَةِ وحكم خرصها فَقَدْ أَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ خَرْصَهَا غَيْرُ جَائِزٍ ، لِكَثْرَتِهَا وَمَا يَلْحَقُ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَيَلْزَمُ مِنَ الْمُؤْنَةِ فِي خَرْصِهَا ، وَلِمَا جَرَتْ عَادَةُ أَرْبَابِ الثِّمَارِ بِهَا مِنْ تَفْرِيقٍ عُظْمِ مَا يَرُدُّ إِلَيْهِمِ الثُّنْيَا مِنْهَا وَتَجَاوُزِهِمْ فِيهِ حَدَّ الصَّدَقَةِ ، وَلِإِبَاحَتِهِمْ فِي تَعَارُفِهِمُ الْأَكْلَ مِنْهَا لِلْمُجْتَازِ بِهَا ، فَرَأَى السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنْ تُؤْخَذَ صَدَقَتُهَا مِنَ الْكُرِّ حَتَّى عِنْدَ دُخُولِ ثَمَرِهَا الْبَصْرَةَ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَرْفَقَ بِأَرْبَابِهَا وَأَحْظَى لِلْمَسَاكِينِ ، وَأَخْذُ الصَّدَقَةِ تَمْرًا مَكْنُوزًا مِنْهَا وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُمْ جَعَلُوا الظُّرُوفَ وَمُؤْنَةَ الْعَمَلِ فِيهَا عِوَضًا عَنْ

الشَّيْءِ الَّذِي لَا يُضَايَقُونَ فِي قَدْرِهِ ، وَلَا يَمْنَعُونَ رَمْيَ الثُّنْيَا مِنْ جُمْلَةٍ ، هَذَا فِي ثِمَارِ النَّخْلِ ، فَأَمَّا الْكُرُومُ فَهُمْ وَغَيْرُهُمْ فِيهَا سَوَاءٌ تُخْرَصُ عَلَيْهِمْ كَمَا تُخْرَصُ عَلَى النَّاسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَوَقْتُ الْخَرْصِ إِذَا حَلَّ الْبَيْعُ وَذَلِكَ حِينَ يُرَى فِي الْحَائِطِ الْحُمْرَةُ أَوِ الصُّفْرَةُ وَكَذَلِكَ حِينَ يَتَمَوَّهُ الْعِنَبُ وَيُوجَدُ فِيهِ مَا يُوكَلُ مِنْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي جَوَازِ الْخَرْصِ ، فَأَمَّا وَقْتُ الْخَرْصِ فَهُوَ حِينَ تَجِبُ الزَّكَاةُ ، وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ يَكُونُ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ ، وَبُدُوُّ الصَّلَاحِ فِي الثِّمَارِ أَنْ تَحْمَرَّ أَوْ تَصْفَرَّ ، وَفِي الْعِنَبِ أَنْ يَتَمَوَّهُ أَوْ يَسْوَدَّ إِذَا اسْتُطِيعَ أَكْلُهُ ، وَبَدَتْ مَنْفَعَتُهُ ، وَإِنَّمَا وَجَبَتِ الزَّكَاةُ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ العلة في ذلك ، وَلَمْ تَجِبْ فِيمَا قَبْلُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالزَّكَاةِ الْمُوَاسَاةُ بِالْمَالِ الْمُنْتَفِعِ بِهِ ، وَمَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ غَالِبًا ، فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الزَّكَاةَ اسْتِحْدَاثُ حَقٍّ شَائِعٍ فِي الثَّمَرَةِ ، وَمَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِحْدَاثُ حَقٍّ شَائِعٍ فِيهِ : لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِاشْتِرَاطِ الْقَطْعِ ، وَاشْتِرَاطُ الْقَطْعِ لَا يَصِحُّ فِي الْمَشَاعِ ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ ثُمَّ لَمْ يَجُزِ الْخَرْصُ قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وُرُودُ السُّنَّةِ وَهُوَ مَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى خَيْبَرَ خَارِصًا إِذَا حَانَ أَكْلُ الثِّمَارِ " . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْخَرْصِ حِفْظُ الصَّدَقَةِ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَانْتِفَاعُ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ بِالتَّصَرُّفِ ، وَقَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ لَيْسَ لِلْمَسَاكِينِ حَقٌّ يُحْفَظُ عَلَيْهِمْ ، وَلِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ التَّصَرُّفُ فِي ثِمَارِهِمْ ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزِ الْخَرْصُ قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ ، فَلَوْ خَرَصَهَا السَّاعِي قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ كَانَ خَرْصُهُ بَاطِلًا ، وَأَعَادَ الْخَرْصَ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ ، فَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ حَائِطَانِ بَدَا صَلَاحُ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يَبْدُ صَلَاحُ الْآخِرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُخْرَصَانِ مَعًا وَيَكُونُ حُكْمُ الصَّلَاحِ جَارِيًا عَلَيْهِمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُ نَفْسِهِ فَيُخْرَصُ مَا بَدَا صَلَاحُهُ دُونَ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَا بَدَا صَلَاحُهُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَلَا يُخْرَصُ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُ الْآخَرِ فَيُخْرَصَانِ مَعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَأْتِي الْخَارِصُ النَّخْلَةَ فَيُطِيفُ بِهَا حَتَى يَرَى كُلَّ مَا فِيهَا ثُمَّ يَقُولُ خَرْصُهَا رُطَبًا كَذَا وَكَذَا ، وَيَنْقُصُ إِذَا صَارَ تَمْرًا كَذَا وَكَذَا فَيَبْنِيهَا عَلَى كَيْلِهَا تَمْرًا وَيَصْنَعُ ذَلِكَ بِجَمِيعِ الْحَائِطِ وَهَكَذَا الْعِنَبُ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي وَقْتِ الْخَرْصِ فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْخَرْصِ فَعَلَى مَا وَصَفَهُ الشَّافِعِيُّ ، وَهُوَ : أَنْ يَأْتِيَ الْخَارِصُ فَيُطِيفُ بِكُلِّ نَخْلَةٍ حَتَّى يَرَى مَا فِيهَا ، وَيُقَدِّرَهُ رُطَبًا وَيَنْظُرَ كَمْ يَصِيرُ تَمْرًا ، ثُمَّ يَفْعَلُ كَذَلِكَ بِجَمِيعِ النَّخْلِ ، فَإِنْ كَانَ النَّخْلُ نَوْعًا وَاحِدًا جَازَ أَنْ يَخْرُصَ جَمِيعَ ثِمَارِهَا رُطَبًا وَيُحْصِيَهُ ، ثُمَّ يَنْظُرَ كَمْ يَصِيرُ تَمْرًا وَيُثْبِتُهُ ، وَإِذَا كَانَ النَّخْلُ أَنْوَاعًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْصِيَ جَمِيعَ خَرْصِهِ رُطَبًا ثُمَّ يَجْعَلُهُ تَمْرًا ، حَتَّى يَخْرُصَ كُلَّ نَوْعٍ مِنْهَا رُطَبًا ثُمَّ يَجْعَلُهُ تَمْرًا حَتَّى يَخْرُصَ كُلَّ نَوْعٍ مِنْهَا رُطَبًا وَيَرُدُّهُ إِلَى الْقَدْرِ الَّذِي يَصِيرُ تَمْرًا : لِأَنَّ الرُّطَبَ قَدْ يَخْتَلِفُ فِي نُقْصَانِهِ لِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ ، فَمِنْهُ مَا يَعُودُ إِلَى نِصْفِهِ وَمِنْهُ مَا يَعُودُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ ، فَإِذَا أَحْصَى جَمِيعَ الْأَنْوَاعِ رُطَبًا ثُمَّ جَعَلَهَا تَمْرًا وَنُقْصَانُهُ مُخْتَلِفٌ أَشْكَلَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَصِحَّ لَهُ وَإِذَا كَانَ نَوْعًا صَحَّ لَهُ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَيُطِيفُ بِكُلِّ نَخْلَةٍ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْخَرْصِ أَوِ اسْتِظْهَارٍ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ اسْتِظْهَارٌ وَاحْتِيَاطٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا شَرْطٍ لَازِمٍ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ لَا سِيَّمَا مَعَ كَثْرَةِ النَّخْلِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ شَرْطٌ فِي الْخَرْصِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهِ : لِأَنَّ الْخَرْصَ اجْتِهَادٌ يُلْزِمُ بَذْلَ الْمَجْهُودِ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ بَارِزَةً عَنِ السَّعَفِ ظَاهِرَةً مِنَ الْجَرِيدِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْعِرَاقِ فِي تَدْلِيَةِ الثِّمَارِ لَمْ تَكُنْ إِطَافَةُ الْخَارِصِ بِكُلِّ نَخْلَةٍ شَرْطًا ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ اسْتِظْهَارًا وَاحْتِيَاطًا : لِأَنَّ جَمِيعَ ثَمَرِهَا مَرْئِيٌّ ، وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ مُسْتَتِرَةً بِالسَّعَفِ مُغَطَّاةً بِالْجَرِيدِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْحِجَازِ كَانَ إِطَافَةُ الْخَارِصِ بِالنَّخْلَةِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْخَرْصِ هل : لِأَنَّ ثَمَرَهَا خَفِيٌّ .

فَصْلٌ : فَإِذَا عَرَفَ الْخَارِصُ مَبْلَغَ قَدْرِهَا بِالْخَرْصِ رُطَبًا وَعِنَبًا وَمَا تَصِيرُ إِلَيْهِ تَمْرًا وَزَبِيبًا ترك شيئا للمالك عند الخرص ، فَقَدْ كَانَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ يَرَى أَنَّهُ يَتْرُكُ عَلَيْهِمْ مِنْ زَكَاتِهَا الثُّلُثَ أَوِ الرُّبُعَ ، لِخَبَرِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ لِيَتَوَلَّوْا إِخْرَاجَهُ فِي فُقَرَاءِ أَهْلِهِمْ ، وَأَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْ جِيرَانِهِمْ ، وَيُثْبِتُ عَلَيْهِمْ مَا بَقِيَ ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْجَدِيدِ وَقَالَ : لَا يَتْرُكُ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْ زَكَاتِهَا وَيُثْبِتُ عَلَيْهِمْ جَمِيعَهَا تَمْرًا عَلَى مَا خَرَجَ بِهِ الْخَرْصُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " ثُمَّ يُخَلِّي بَيْنَ أَهْلِهِ وَبَيْنَهُ ، فَإِذَا صَارَ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا أَخَذَ الْعُشْرَ عَلَى خَرْصِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ .

إِذَا خَرَصَ الثِّمَارَ عَلَى أَرْبَابِهَا وَعَرَفَ قَدْرَهَا بَعْدَ جَفَافِهَا أَثْبَتَ قَدْرَ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمْ وَخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ثِمَارِهِمْ ، لِيَقُومُوا بِحِفْظِهَا وَيَتَوَلَّوْا أَمْرَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا فَإِنِ اخْتَارُوا أَنْ تَكُونَ بِأَيْدِيهِمْ أَمَانَةُ فَعَلَ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمُ التَّصَرُّفُ فِيهَا ، وَإِنِ اخْتَارُوا أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً عَلَيْهِمْ ضَمَّنَهُمْ قَدْرَ زَكَاتِهَا ، وَجَازَ لَهُمُ التَّصَرُّفُ فِيهَا ، فَإِذَا تَصَرَّفُوا ضَمَّنَهَا فَيَكُونُ التَّضْمِينُ مُبِيحًا لِلتَّصَرُّفِ ، وَالتَّصَرُّفُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَبُّ الْمَالِ مِمَّنْ لَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ سَفَهٍ تضمينه للزكاة فَلَا يَجُوزُ تَضْمِينُهُ إِلَّا أَنْ يَضْمَنَهَا وَلَيُّهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ ذَكَّرَ أَهْلَهُ أَنَّهُ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ أَذْهَبَتْهُ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ صُدِّقُوا فَإِنِ اتُّهِمُوا حَلَفَوا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا خَرَصَ الْخَارِصُ ثَمَرَةَ رَجُلٍ وَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ أَمَانَةً أَوْ مَضْمُونَةً فَادَّعَى تَلَفَهَا ، أَوْ تَلِفَ شَيْءٌ مِنْهَا بِجَائِحَةِ سَمَاءٍ كَبَرْدٍ أَوْ جَرَادٍ أَوْ جِنَايَةِ آدَمِيٍّ كَسَرِقَةٍ أَوْ حَرِيقٍ لَمْ تَخْلُ دَعْوَاهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُعْلَمَ اسْتِحَالَتُهَا وَكَذِبُهَا ، فَلَا تُسْمَعُ بِحَالٍ ، وَتُؤْخَذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُعْلَمَ صِدْقُهَا وَحُدُوثُهَا ، فَهِيَ مَسْمُوعَةٌ وَقَوْلُهُ فِيهَا مَقْبُولٌ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ ، وَلَا زَكَاةَ ، سَوَاءٌ أَخَذَهَا أَمَانَةً أَوْ ضَمَانًا : لِأَنَّهُ إِنْ أَخَذَهَا أَمَانَةً فَالْأَمِينُ لَا يُضَمَّنُ إِلَّا بِالتَّعَدِّي ، وَإِنْ أَخَذَهَا مَضْمُونَةً فَالضَّمَانُ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا بِالتَّصَرُّفِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ وَإِنْ شُرِطَ عَلَيْهِ إِلَّا بِالتَّصَرُّفِ : لِأَنَّ أَصْلَ الزَّكَاةِ أَمَانَةٌ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ ، وَمَا كَانَ أَصْلُهُ غَيْرَ مَضْمُونٍ لَمْ يُلْزَمُ فِيهِ الضَّمَانُ بِالشَّرْطِ فَإِنْ قِيلَ : مَا الْفَائِدَةُ فِي ضَمَانِهِ قُلْنَا : جَوَازُ التَّصَرُّفِ الْمُؤَدِّي إِلَى الضَّمَانِ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ مَا ادَّعَاهُ مُجَوَّزًا لَا يُقْطَعُ بِصِدْقِهِ وَلَا كَذِبِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيمَا ادَّعَاهُ : لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَمَا ادَّعَاهُ مُمْكِنٌ بِهِ ، فَإِنِ اتُّهِمَ أُحْلِفَ وَفِي الْيَمِينِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : اسْتِظْهَارٌ ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ الزَّكَاةُ . وَالثَّانِي : وَاجِبَةٌ فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا أُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ بِالْوُجُوبِ الْمُتَقَدِّمِ لَا بِالنُّكُولِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ دَعْوَاهُ مَسْمُوعَةٌ وَقَوْلَهُ مَقْبُولٌ نُظِرَ ، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الثَّمَرَةِ شَيْءٌ فَلَا مُطَالَبَةَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ بَقِيَ بَعْضُهَا نُظِرَ فِي الْبَعْضِ ، فَإِنْ كَانَ نِصَابًا فَفِيهِ الزَّكَاةُ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَعَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْإِمْكَانِ هَلْ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ أَوْ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ ؟ فَإِنْ قِيلَ : هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ ، وَإِنْ قِيلَ : مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فَلَا زَكَاةَ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : عَلَيْهِ زَكَاةُ مَا بَقِيَ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَجَعَلَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الثِّمَارِ مُعْتَبَرًا بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ دُونَ الْإِمْكَانِ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ قَالَ قَدْ أَحْصَيْتُ مَكِيلَةَ مَا أَخَذْتُ وَهُوَ كَذَا وَمَا بَقِيَ كَذَا وَهَذَا خَطَأٌ فِي الْخَرْصِ صَدَّقَ ، لِأَنَّهَا زَكَاةٌ هُوَ فِيهَا أَمِينٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ خُرِصَتْ عَلَيْهِ ثَمَرَتُهُ وَسُلِّمَتْ إِلَيْهِ أَمَانَةً أَوْ مَضْمُونَةً فَادَّعَى غَلَطًا فِي الْخَرْصِ أَوْ نُقْصَانًا فِي الثَّمَرَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَذْكُرَ قَدْرَ الْغَلَطِ وَالنُّقْصَانِ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَذْكُرَ قَدْرَهُ فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ قَدْرَهُ وَقَالَ : أَنَا أَعْلَمُ بِالْغَلَطِ لَكِنْ أَجْهَلُ قَدْرَهُ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ لِلْجَهْلِ بِهَا وَأُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ عَلَى مَا ثَبَتَ بِهِ الْخَرْصُ ، وَإِنْ ذَكَرَ قَدْرَ الْغَلَطِ وَالنُّقْصَانِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا يُغْلَطُ بِمِثْلِهِ فِي الْعَادَةِ كَأَنَّهُ قَالَ خَرْصُهَا عَلَى مِائَةِ وَسْقٍ وَهِيَ تِسْعُونَ وَسْقًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَإِنْ كَانَ مُتَّهَمًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَا ادَّعَاهُ كَثِيرًا لَا يُغْلَطُ بِمِثْلِهِ فِي الْعَادَةِ ، كَأَنَّهُ قَالَ خَرْصُهَا مِائَةُ وَسْقٍ وَهِيَ خَمْسُونَ وَسْقًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقُولَ : غَلِطَ الْخَارِصُ عَلَيَّ بِهَذَا فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ وَلَا يُسْمَعُ قَوْلُهُ : لِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَى الْخَارِصِ مَا لَا يُغْلَطُ بِمِثْلِهِ فَقَدْ نَسَبَهُ إِلَى الْخِيَانَةِ وَالْكَذِبِ بَعْدَ الْأَمَانَةِ وَالصِّدْقِ ، وَرَامَ نَقْضَ حُكْمٍ ثَابِتٍ بِدَعْوَى مُجَرَّدَةٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَقُولَ غَلِطَ الْخَارِصُ عَلَيَّ بِهَذَا وَلَكِنْ يَقُولُ : لَمْ أَجِدْ إِلَّا هَذَا فَقَوْلُهُ مَقْبُولٌ : لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَكْذِيبٌ لِلْخَارِصِ : لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَلِفَ بَعْدَ الْخَرْصِ فَيَكُونُ الْخَارِصُ مُصِيبًا وَالنُّقْصَانُ مَوْجُودًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ قَالَ سُرِقَ بَعْدَ مَا صَيَّرْتُهُ إِلَى الْجَرِينِ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ مَا يَبِسَ وَأَمْكَنَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى الْوَالِي أَوْ إِلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ فَقَدْ ضَمِنَ مَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ فَفَرَّطَ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ بَعْدَ هَذَا : وَلَوِ اسْتَهْلَكَ رَجُلٌ ثَمْرَةً وَقَدْ خَرِصَ عَلَيْهِ أَخَذَ بِثَمَنِ عُشْرِ وَسَطِهَا وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ أَنَّ ثَمَرَتَهُ قَدْ سُرِقَتْ بعد خرصها للصدقة ، فَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تُسْرَقَ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ بُسْرًا أَوْ رُطَبًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَإِنْ كَانَ مُتَّهَمًا ، وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ .

وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تُسْرَقَ بَعْدَ يُبْسِهَا وَإِحْرَازِهَا وَتَخْزِينِهَا فِي جَرِينِهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُمْكِنَهُ أَدَاءُ زَكَاتِهَا فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا . وَفِي كَيْفِيَّةِ إِمْكَانِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ الْقُدْرَةُ عَلَى دَفْعِهَا إِلَى الْوَالِي وَحْدَهُ دُونَ أَهْلِ السُّهْمَانِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهُ الْقُدْرَةُ عَلَى دَفْعِهَا إِلَى الْوَالِي وَحْدَهُ أَوْ إِلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ كَمَا قُلْنَا فِي زَكَاةِ الْمَوَاشِي ، لِأَنَّهَا مِنَ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يُمْكِنَهُ أَدَاءُ زَكَاتِهَا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي يَدِهِ أَمَانَةً أَوْ ضَمَانًا ، فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ بَعْدَمَا سُرِقَ ، فَإِنْ كَانَ نِصَابًا زَكَّاهُ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَا بَقِيَ قَوْلًا وَاحِدًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَالْجَرِينُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ هُوَ : الْمَوْضِعُ الَّذِي تُجْمَعُ فِيهِ الثَّمَرَةُ لِيَتَكَامَلَ جَفَافُهَا وَيُسَمُّونَهُ الْمِرْبَدَ أَيْضًا ، وَهُوَ بِلُغَةِ الشَّامِ الْأَنْدُرُ وَبِلُغَةِ الْعِرَاقِ الْجُوخَارُ وَالْبَيْدَرُ وَبِلُغَةِ آخَرِينَ الْمِسْطَاحُ وَبِلُغَةِ آخَرِينَ الطِّبَابَةُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنِ اسْتَهْلَكَهُ رُطَبًا أَوْ بُسْرًا بَعْدَ الْخَرْصِ ضَمِنَ مَكْمِلَةَ خَرْصِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا خُرِصَتْ عَلَيْهِ ثَمَرَتُهُ وَتُرِكَتْ فِي يَدِهِ لِتَصِيرَ تَمْرًا فَاسْتَهْلَكَهَا بُسْرًا أَوْ رُطَبًا فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا ثُمَّ يُنْظَرُ ، فَإِنْ سُلِّمَتْ إِلَيْهِ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْهُ عُشْرُهَا تَمْرًا مِنْ أَوْسَطِهَا نَوْعًا عَلَى مَا مَضَى ، فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي أَوْسَطِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ السَّاعِي بِبَيِّنَةٍ أَقَلُّهَا شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ ، فَإِنْ أَقَامَ شَاهِدًا لَمْ يَكُنْ لِلسَّاعِي أَنْ يَحْلِفَ مَعَهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لِمَالِكٍ دُونَ غَيْرِهِ وَإِنْ سُلِّمَتْ إِلَيْهِ أَمَانَةً فِي يَدِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُطَالَبُ بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا رُطَبًا أَوْ مَكِيلَتِهَا تَمْرًا : لِأَنَّ لَهُمْ أَوْفَرَ الْحَظَّيْنِ مِنَ الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ ، كَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أُضْحِيَةً ثُمَّ أَتْلَفَهَا لَزِمَهُ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ مِثْلِهَا . وَالثَّانِي : أَنْ يُطَالَبَ بِمَكِيلَتِهَا تَمْرًا : لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ أَصَابَ حَائِطَهُ عَطَشٌ يُعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ تَرَكَ ثَمَرَهُ أَضَرَّ بِالنَّخْلِ وَإِنْ قَطَعَهَا بَعْدَ أَنْ يَخْرُصَ بَطَلَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ ثَمَنِهَا ، كَانَ لَهُ قَطْعُهَا وَيُؤْخَذُ ثَمَنُ عُشْرِهَا أَوْ عُشْرُهَا مَقْطُوعَةً . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا أَصَابَ حَائِطَهُ عَطَشٌ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ ، وَوُجُوبِ زَكَاتِهِ ، وَكَانَ فِي تَرْكِ الثَّمَرَةِ عَلَى النَّخْلِ إِضْرَارٌ بِهَا وَبِالنَّخْلِ ، أَوْ بِهِمَا ، فَلَهُ قَطْعُ مَا أَضَرَّ بِنَخْلِهِ مِنَ الثَّمَرَةِ بَعْدَ مُطَالَعَةِ الْعَامِلِ وَاسْتِئْذَانِهِ أَنَّهُ قُدِّرَ عَلَيْهِ لِتَزُولَ عَنْهُ التُّهْمَةُ ، فَإِنِ اسْتَضَرَّ بِجَمِيعِ الثَّمَرَةِ قَطَعَهَا ، وَإِنِ اسْتَضَرَّ بِبَعْضِهَا ، قَطَعَ مَا اسْتَضَرَّ بِهِ مِنْهَا ، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ : لِأَنَّ فِي قَطْعِهَا نَظَرًا لِرَبِّ الْمَالِ فِي حِفَاظِ مَالِهِ ، وَنَظَرًا لِلْمَسَاكِينِ : لِأَنْ لَا يَضُرَّ بِالنَّخْلِ لَمْ تَخُلْ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ . إِمَّا أَنْ يَقْطَعَهَا بِإِذْنِ الْعَامِلِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، فَإِنْ قَطَعَهَا بِإِذْنِهِ وَأَرَادَ الْعَامِلُ أَخْذَ الْعُشْرِ مِنْهَا خَرْصًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْقِسْمَةِ . أَحَدُهَا : تَجُوزُ إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْقِسْمَةَ إِقْرَارُ حَقٍّ وَتَمْيِيزُ نَصِيبٍ فَعَلَى هَذَا يَخْرُصُ ثُمَّ يَأْخُذُ الْعَامِلُ عُشْرَهَا مِنْ ثَمَرَاتِ نَخَلَاتٍ بِعَيْنِهَا ، وَيَفْعَلُ مَا هُوَ أَحْظَى لِلْمَسَاكِينِ ، مِنْ تَفْرِيقِهِ عَلَيْهِمْ أَوْ صَرْفِ ثَمَنِهِ فِيهِمْ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ ، فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي لِلْعَامِلِ أَنْ يَقْبِضَ حَقَّ الْمَسَاكِينِ مَشَاعًا فِي جَمِيعِ الثَّمَرَةِ لِيَتَعَيَّنَ حَقُّهُمْ فِيهَا : لِأَنَّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ الزَّكَاةَ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ ، لِأَنَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّ الزَّكَاةَ فِي الذِّمَّةِ فَالْحَقُّ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهَا ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهَا فَيَ الْعَيْنِ فَلِرَبِّ الْمَالِ إِسْقَاطُ حَقِّهِمْ بِالدَّفْعِ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا ، فَإِذَا قَبَضَ الْعَامِلُ حَقَّهُمْ مَشَاعًا فِيهَا ، فَقَدْ تَعَيَّنَ وَلَمْ يَجُزْ لِرَبِّ الْمَالِ نَقْلُ حَقِّهِمْ إِلَى غَيْرِهَا بِحَالٍ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَامِلَ يَقْبِضُ حَقَّهُمْ مَشَاعًا فِي جَمِيعِ الثَّمَرَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي ، فَقَبْضُهُ يُعَيِّنُ حَقَّ الْمَسَاكِينِ فِيهَا ، فَإِذَا قُطِعَتِ الثَّمَرَةُ كُلُّهَا نَظَرَ الْعَامِلُ فِي حَقِّ الْمَسَاكِينِ مِنْهَا ، فَإِنْ كَانَ الْحَظُّ لَهُمْ فِي بَيْعِهِ مَعَ جُمْلَةِ الثَّمَرَةِ وَصَرْفِ ثَمَنِهِ فِيهِمْ ، وَكَّلَ رَبَّ الْمَالِ فِي بَيْعِهِ إِنْ كَانَ ثِقَةً أَوْ وَكَّلَ أَمِينًا ثِقَةً ، وَيُقَدَّمُ إِلَيْهِ بِصَرْفِ ثَمَنِهِ فِيهِمْ بَعْدَ يُبْسِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُمُ الْأَخَصُّ فِي إِيصَالِهِ رُطَبًا أَوْ بُسْرًا إِلَيْهِمْ قَاسَمَهُ الْعَامِلُ عَلَيْهِمْ كَيْلًا أَوْ وَزْنًا ، وَفَرَّقَ فِيهِمْ مَا حَصَلَ مِنْ حَقِّهِمْ بِالْقِسْمَةِ بَعْدَ الِاسْتِظْهَارِ فِيمَا أَخَذَ ، لِيَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَخْذِ الْحَقِّ أَوْ فَوْقَهُ ، فَإِنْ قِيلَ : فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَجُوزُ قِسْمَةُ الرُّطَبِ كَيْلًا وَلَا وَزْنًا فَلِمَ جَوَّزْتُمُوهُ ؟ قِيلَ : إِنَّمَا لَمْ يَجُزْ لِأَجْلِ الرِّبَا ، وَحُصُولُ الرِّبَا ، وَالتَّفَاضُلُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالْمَسَاكِينِ : لِأَنَّهُ لَوْ أَعْطَاهُمْ مَكَانَ وَسْقٍ وَسْقَيْنِ جَازَ ، فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ الرِّبَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بَيْنَهُمَا فَلِمَ مَنَعْتُمْ مِنْ قِسْمَتِهَا خَرْصًا ، وَهَلَّا أَجَزْتُمُوهُ كَمَا أَجَزْتُمُوهُ كَيْلًا ؟ قِيلَ : مَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ لَا يَجُوزُ خَرْصُهُ : لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَصِلَ بِيَقِينٍ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا يُطْلَبُ بِالظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ .



فَصْلٌ : وَإِنْ قَطَعَ رَبُّ الْمَالِ الثَّمَرَةَ بِغَيْرِ إِذَنِ الْعَامِلِ فَقَدْ أَسَاءَ ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً أَوْ تَالِفَةً ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً نَظَرَ الْعَامِلُ فِي أَحَظِّ الْأَمْرَيْنِ لِلْمَسَاكِينِ مِنْ قِسْمَتِهَا وَأَخْذِ ثَمَنِ عُشْرِهَا ، فَإِنْ كَانَ قَسْمُهَا أَحظَّ لَهُمْ قَسَّمَهُ وَفَرَّقَ الْعُشْرَ عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ كَانَ بَيْعُهَا أَحَظَّ بَاعَهَا ، أَوْ وَكَّلَ فِي بَيْعِهَا وَصَرْفِ ثَمَنِ عُشْرِهَا فِيهِمْ ، وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ تَالِفَةً فَعَلَيْهِ قِيمَةُ عُشْرِهَا حِينَ أَتْلَفَهَا رُطَبًا : لِأَنَّ الرُّطَبَ لَا مِثْلَ لَهُ فَلَزِمَتْهُ الْقِيمَةُ ، فَإِنْ قِيلَ : لَوْ أَتْلَفَهَا رُطَبًا مِنْ غَيْرِ عَطَشٍ لَزِمَهُ عُشْرُهَا تَمْرًا فَهَلَّا لَزِمَهُ فِي إِتْلَافِ الْعَطَشِ عُشْرُهَا تَمْرًا . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَخَفِ الْعَطَشَ وَلَمْ يَكُنْ فِي تَرْكِهَا ضَرَرٌ لَزِمَهُ تَرْكُهَا وَأَخَذَ الْعُشْرَ مِنْ ثَمَرِهَا ، فَإِذَا خَافَ الْعَطَشَ كَانَ لَهُ قَطْعُهَا وَلَمْ يَلْزَمْهُ تَرْكُهَا فَلَمْ يُطَالَبْ بِعُشْرِهَا تَمْرًا : لِأَنَّهُ غَيْرُ مَا لَزِمَهُ ، فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ ثَمَنُ عُشْرِهَا أَوْ عُشْرُهَا مَقْطُوعَةً ، فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ . أَحَدُهَا : أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ ثَمَنَ عُشْرِهَا إِنْ رَأَى حَظَّ الْمَسَاكِينِ فِي أَخْذِ عُشْرِهَا مِنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْهُ ثَمَنَ عُشْرِهَا إِنْ تَلِفَتْ يَعْنِي : قِيمَةَ الْعُشْرِ ، فَعَبَّرَ عَنِ الْقِيمَةِ بِالثَّمَنِ أَوْ عُشْرُهَا رُطَبًا إِنْ بَقِيَتْ ، فَالْأَوَّلُ مِنَ التَّأْوِيلَيْنِ فِي الثَّمَرَةِ الْمَوْجُودَةِ . وَالثَّانِي : عَلَى اخْتِلَافِ حَالِهَا لَوْ وُجِدَتْ أَوْ عُدِمَتْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَنْ قَطَعَ مِنْ ثَمْرِ نَخْلَةٍ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ بَيْعُهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهِ عُشْرٌ وَأَكْرَهُ ذَلِكَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَأْكُلَهُ أَوْ يَطْعَمَهُ أَوْ يُخَفِّفَهُ عَنْ نَخْلِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ ، فَإِذَا أَقْطَعَ ثَمَرَةَ نَخْلَةٍ قَبْلَ بُدُوَّةِ صَلَاحِهَا وَوُجُوبِ زَكَاتِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، كَمَنْ أَتْلَفَ مَالَهُ قَبْلَ حَوْلِهِ ، لَكِنَّهُ إِنْ قَطَعَهَا لِتُفِيدَ فِي التَّخْفِيفِ عَنْ نَخْلِهَا لِحَاجَةٍ فِي أَكْلِهَا لَمْ يُكْرَهْ لَهُ ، وَإِنْ قَطَعَهَا مِرَارًا مِنَ الزَّكَاةِ كَرِهْنَا ذَلِكَ لَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ ، وَإِنْ خَالَفَنَا مَالِكٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ ، فَأَمَّا طَلْعُ الْفُحُولِ فَلَا يُكْرَهُ لَهُ قَطْعُهُ بِحَالٍ : لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الثَّمَرَةِ ، وَطَلْعُ الْفُحُولِ لَا يَصِيرُ ثَمَرَةً .

فَصْلٌ : وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ جِدَادِ اللَّيْلِ وَهُوَ صِرَامُ النَّخْلِ لَيْلًا لِيَكُونَ الصِّرَامُ نَهَارًا بِسَبَبٍ فَيَسْأَلُ النَّاسُ مِنْ ثَمَرَتِهَا ، فَيُسْتَحَبُّ ذَلِكَ فِيمَا وَجَبَتْ زَكَاتُهُ أَوْ لَمْ تَجِبْ ، وَحُكِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالنَّخَعِيِّ : أَنَّ الصَّدَقَةَ مِنَ الْمَالِ وَقْتَ الصِّرَامِ وَالْحَصَادِ وَاجِبَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [ الْأَنْعَامِ : ] ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ . وَالْمُرَادُ بِمَا ذَكَرُوا مِنَ الْآيَةِ الزَّكَاةُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ أَكَلَ رُطَبًا ضَمِنَ عُشْرَهُ تَمْرًا مِثْلَ وَسَطِهِ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ، وَقُلْنَا إِنَّ مَنْ أَتْلَفَ ثَمَرَةَ نَفْسِهِ رُطَبًا بَعْدَ خَرْصِهَا عَلَيْهِ وَتَرْكِهَا فِي يَدِهِ لَزِمَهُ عُشْرُهَا تَمْرًا إِنْ أَخَذَهَا مَضْمُونَةً ، فَإِنْ أَخَذَهَا أَمَانَةً فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ عُشْرِهَا تَمْرًا أَوْ قِيمَتِهَا رُطَبًا . وَالثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ : عَلَيْهِ عُشْرُهَا تَمْرًا وَإِنَّمَا أَعَادَهَا الشَّافِعِيُّ : لِأَنَّ الْأُولَى بَعْدَ الْخَرْصِ وَذَكَرَ هَذِهِ قَبْلَ الْخَرْصِ وَهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي كَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي أَنَّ مَنْ أَتْلَفَهَا بَعْدَ الْخَرْصِ أُخِذَ مِنْهُ عُشْرُ خَرْصِهَا وَمَنْ أَتْلَفَهَا قَبْلَ الْخَرْصِ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ فِي قَدْرِهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ كَانَ لَا يَكُونُ تَمْرًا أَعْلَمَ الْوَالِيَ لِيَأْمُرَ مَنْ يَبِيعُ مَعَهُ عُشْرَهُ رُطَبًا ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ خَرَصَهُ لِيَصِيرَ عَلَيْهِ عُشْرُهُ ، ثُمَّ صَدَّقَ رَبَّهُ فِيمَا بَلَغَ رَطْبُهُ وَأَخَذَ عُشْرَ ثَمَنِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . مَا لَا يَتَمَيَّزُ مِنَ الثِّمَارِ زكاته ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ لَا يَصِيرُ تَمْرًا لِضَعْفِهِ . وَضَرْبٌ يَصِيرُ تَمْرًا لَكِنْ لَا يُجَفَّفُ لِقِلَّةِ مَنْفَعَتِهِ ، وَكِلَاهُمَا سَوَاءٌ يُؤْخَذُ عُشْرُهَا رُطَبًا ، أَوْ ثَمَنُ عُشْرِهَا فَإِنْ كَانَتْ ثَمَرَةُ الرَّجُلِ لَا يَصِيرُ تَمْرًا أَوْ كَرْمُهُ لَا يَصِيرُ زَبِيبًا أَعَلَمَ الْوَالِيَ وَطَالَعَهُ بِهِ ، لِتَزُولَ تُهْمَتُهُ عَنْهُ ، ثُمَّ يَكُونُ الْجَوَابُ فِيمَا يَصْنَعُهُ الْوَالِي مَعَهُ عَلَى مَا مَضَى فِيمَنْ أَرَادَ قَطْعَ ثَمَرَتِهِ لِأَجْلِ الْعَطَشِ سَوَاءٌ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُقَاسِمَهُ عَلَيْهَا خَرْصًا كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنْ أَرَادَ بَيْعَهَا كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَبِيعَهَا عَلَيْهِ ، أَوْ يُوَكِّلَهُ فِي بَيْعِهَا ، أَوْ يَبِيعَهَا عَلَى غَيْرِهِ ، أَوْ يُوَكِّلَ الْغَيْرَ فِي بَيْعِهَا فِي نِصَابِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : إِذَا تَلِفَتْ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ رُطَبًا وَجَبَتْ زَكَاتُهَا : لِأَنَّ مَا لَا يُجَفَّفُ مِنَ الرُّطَبِ فَالرُّطَبُ غَايَتُهُ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْأَوْسُقِ فِي حَالِ غَايَتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : نِصَابُهُ أَنْ يَبْلُغَ قَدْرًا يَجِيءُ مِنْ ثَمَرِهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ : لِأَنَّ هَذَا نَادِرٌ مِنْ جِنْسِهِ فَاعْتُبِرَ حُكْمُهُ بِغَالِبِ جِنْسِهِ فَعَلَى هَذَا هَلْ يُعْتَبَرُ بِنَفْسِهِ فِي جَفَافِهِ أَوْ يُعْتَبَرُ بِجَفَافِ الْغَالِبِ مِنْ جِنْسِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُعْتَبَرَ قَدْرُ نِصَابِهِ بِجَفَافِهِ فِي نَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَإِذَا بَلَغَ قَدْرًا يَجِيءُ مِنْ رُطَبِهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ تَمْرًا فَهُوَ النِّصَابُ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ ، وَإِنَّ نَقَصَ عَنْهُ فَلَا زَكَاةَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُعْتَبَرُ قَدْرُ نِصَابِهِ بِجَفَافِ غَيْرِهِ مِنْ جِنْسِهِ لِتَعَذُّرِ جَفَافِهِ فِي نَفْسِهِ كَجِرَاحِ الْحُرِّ ، وَشِجَاجِهِ الَّذِي لَمْ يُقَدَّرْ إِرْشُهُ لَمَّا تَعَذَّرَ تَقْوِيمُهُ حُرًّا قُوِّمَ لَوْ كَانَ عَبْدًا ، فَإِذَا بَلَغَ هَذَا الرُّطَبُ قَدْرًا يَجِيءُ مِنْ غَيْرِهِ مِنِ الْأَرْطَابِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ تَمْرًا فَهُوَ النِّصَابُ ، وَلَا شَيْءَ فِيمَا دُونَهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ أَكَلَ أَخَذَ مِنْهُ قِيمَةَ عُشْرِهِ رُطَبًا " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا كَانَتْ ثَمَرَتُهُ لَا تَصِيرُ تَمْرًا فَاسْتَهْلَكَهَا رُطَبًا فَلَا يَلْزَمُهُ مِثْلُ عُشْرِهَا رُطَبًا : لِأَنَّ الرُّطَبَ لَا مِثْلَ لَهُ ، فَإِنْ أَكَلَهَا قَبْلَ خَرْصِهَا عَلَيْهِ رُجِعَ فِي قَدْرِهَا إِلَيْهِ ، فَإِنِ اتُّهِمَ أُحْلِفَ اسْتِظْهَارًا ، وَإِنْ أَكَلَهَا بَعْدَ الْخَرْصِ أُخِذَ مِنْهُ قِيمَةُ عُشْرِ خَرْصِهَا رُطَبًا ، فَإِنْ ذَكَرَ زِيَادَةً عَنِ الْخَرْصِ أَوِ ادَّعَى نُقْصَانًا مُحْتَمَلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيهِ : لِأَنَّهُ أَمِينٌ ، فَإِنِ اتُّهِمَ أُحْلِفَ وَفِي هَذِهِ الْيَمِينِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَاجِبَةٌ . وَالثَّانِي : اسْتِظْهَارٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَا قُلْتُ فِي التَّمْرِ فَكَانَ فِي الْعِنَبِ فَهُوَ مِثْلُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ . حُكْمُ التَّمْرِ وَالْعِنَبِ أحكامهما في الزكاة سَوَاءٌ فِي الزَّكَاةِ وَأَحْكَامِهَا وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَسَائِلِهَا : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَهُمَا فِي الْخَبَرِ وَشَبَّهَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ بَعَثَ مَعَ ابْنِ رَوَاحَةَ غَيْرَهُ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَفِي كُلٍّ أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ خَارِصَانِ أَوْ أَكْثَرُ وَقَدْ قِيلَ : يَجُوزُ خَارِصٌ وَاحِدٌ كَمَا يَجُوزُ حَاكِمٌ وَاحِدٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ : " وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ خَارِصَانِ أَوْ أَكْثَرُ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَارِصَ الْوَاحِدَ يُجْزِئُ ، وَقَوْلُهُ : وَقَدْ قِيلَ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَارِصٌ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَارِصَ الْوَاحِدَ لَا يُجْزِئُ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ يَصِحُّ الْخَرْصُ بِهِ ، فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يَقُولَانِ : يَجُوزُ خَارِصٌ وَاحِدٌ ، وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ آخَرُ ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولَانِ : الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا ، أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ : إِنَّهُ لَا يُجْزِئُ إِلَّا خَارِصَانِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ مَعَ ابْنِ رَوَاحَةَ غَيْرَهُ ، وَقَدْ قِيلَ : بَعَثَ مَعَهُ سَهْلَ بْنَ أَبِي حَثْمَةَ ، فَإِذَا كَانَ جَوَازُ الْخَرْصِ حُكْمًا مُسْتَفَادًا بِالشَّرْعِ ، وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ عَلَى مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ ، وَلِأَنَّ الْخَرْصَ اجْتِهَادٌ فِي مَعْرِفَةِ الْقَدْرِ وَتَمْيِيزِ الْحُقُوقِ فَشَابَهَ التَّقْوِيمَ وَخَالَفَ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ ، لِأَنَّهُمَا يَقِينٌ لَا اجْتِهَادَ فِيهِمَا ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ التَّقْوِيمَ لَا يُجْزِئُ فِيهِ إِلَّا مُقَوِّمَانِ فَكَذَا الْخَرْصُ لَا يُجْزِئُ فِيهِ إِلَّا خَارِصَانِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُجْزِئُ خَارِصٌ وَاحِدٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ ابْنَ رَوَاحَةَ خَارِصًا فَخَرَصَ خَيْبَرَ وَقَالَ : " إِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي " . وَرُوِيَ أَنَّهُ بَعَثَ مَعَهُ غَيْرَهُ ، فَلَوْ أَنَّ الِاثْنَيْنِ شَرْطٌ لَمَا بَعَثَهُ مُنْفَرِدًا ، وَلَوْ كَانَا شَرْطًا فِي عَامٍ لَكَانَا شَرْطًا فِي كُلِّ عَامٍ ، وَلِأَنَّ الْخَارِصَ مُجْتَهِدٌ فِي تَقْدِيرِ الْحُقُوقِ ، وَتَنْفِيذُ الْحُكْمِ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ

دُونَ غَيْرِهِ فَشَابَهَ الْحَاكِمَ ، وَخَالَفَ الْمُقَوِّمَ حَيْثُ لَمْ يُنَفَّذِ الْحُكْمُ بِهِ إِلَّا بِتَنْفِيذِ الْحَاكِمِ لَهُ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ يُجْزِئُ حَاكِمٌ وَاحِدٌ ، فَكَذَلِكَ يُجْزِئُ خَارِصٌ وَاحِدٌ ، سَوَاءٌ كَانَ رَبُّ الْمَالِ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ، لَا كَمَا غَلِطَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَفَرَّقَ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ ، فَلَمْ يُجَوِّزْ خَرْصَ مَالِ الصَّغِيرِ إِلَّا بِاثْنَيْنِ ، وَجَوَّزَ خَرْصَ مَالِ الْكَبِيرِ بِوَاحِدٍ : لِأَنَّهُ رَأَى الشَّافِعِيَّ فِي " الْأُمِّ " فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ، وَهَذَا غَلَطٌ : لِأَنَّ الْخَرْصَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ كَالْحُكْمِ يُجْزِئُ بِوَاحِدٍ فِي مَالِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ أَوْ يَكُونَ كَالتَّقْوِيمِ ، وَالتَّقْوِيمُ لَا يُجْزِئُ إِلَّا بِاثْنَيْنِ فِي مَالِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ . وَالشَّافِعِيُّ إِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي " الْأُمِّ " فِي جَوَازِ تَضْمِينِ الْكَبِيرِ ثِمَارَهُ بِالْخَرْصِ دُونَ الصَّغِيرِ ، فَوُهِمَ عَلَيْهِ ، فَهَذَا التَّأْوِيلُ فِي إِعْدَادِ الْخَرْصِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا صِفَةُ الْخَارِصِ فَلَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ شُرُوطٍ فِيهِمْ : أَحَدُهَا : الْبُلُوغُ . وَالثَّانِي : الْعَدَالَةُ من صفات الخارص : لِأَنَّ الْفَاسِقَ غَيْرُ مَقْبُولِ الْقَوْلِ عَلَى غَيْرِهِ . وَالثَّالِثُ : الْعِلْمُ بِالْخَرْصِ من صفات الخارص : لِأَنَّ الْجَاهِلَ بِهِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ . وَالرَّابِعُ : مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ الذُّكُورِيَّةُ وَالْحُرِّيَّةُ من صفات الخارص ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْخَارِصَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا كَالْحَاكِمِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً وَلَا عَبْدًا وَاعْتُبِرَ فِيهِ كَوْنُهُ رَجُلًا حُرًّا ، وَإِنْ قُلْنَا لَا يَجُوزُ إِلَّا خَارِصَانِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا امْرَأَتَيْنِ وَلَا عَبْدَيْنِ : لِأَنَّ فِي الْخَرْصِ وِلَايَةُ حُكْمٍ ، فَلَمْ يَجُزِ تَفَرُّدُ الْعَبِيدِ وَالنِّسَاءِ بِهَا ، وَلَكِنْ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا امْرَأَةً أَوْ عَبْدًا لِيَكُونَ الرَّجُلُ مُخْتَصًّا بِالْوِلَايَةِ وَالْمَرْأَةُ أَوِ الْعَبْدُ مُشَارِكًا لَهُ فِي التَّقْدِيرِ وَالْحَزْرِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَيَّالًا وَوَزَّانًا . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّ فِي الْخِرَاصِ اجْتِهَادٌ يُفَارِقُ يَقِينَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فَشَابَهَ الْحُكْمَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا تُؤْخَذُ صَدَقَةُ شَيْءٍ مِنَ الشَّجَرِ غَيْرُ الْعِنَبِ وَالنَّخْلِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنْهُمَا وَكِلَاهُمَا قُوتٌ وَلَا شَيْءَ فِي الزَيْتُونِ : لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ أُدْمًا وَلَا فِي الْجَوْزِ وَلَا فِي اللَّوْزِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَكُونُ أُدْمًا وَيُيَبَّسُ وَيُدَّخَرُ : لِأَنَّهُ فَاكِهَةٌ : لِأَنَّهُ كَانَ بِالْحِجَازِ قُوتًا عَلِمْنَاهُ وَلِأَنَّ الْخَبَرَ فِي النَّخْلِ وَالْعِنَبِ خَاصٌّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ مَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ نَوْعَانِ زَرْعٌ وَشَجَرٌ ، فَالزَّرْعُ يَأْتِي حُكْمُهُ ، وَالشَّجَرُ خرصه ، وزكاته يَنْقَسِمُ فِي الْحُكْمِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ ، قِسْمٌ لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ زَكَاتَهُ وَاجِبَةٌ ، وَهُوَ النَّخْلُ وَالْكَرْمُ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِمَا ، وَقِسْمٌ لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهِ وَإِنْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ وَهُوَ الرُّمَّانُ ، وَالسَّفَرْجَلُ ، وَالتِّفَّاحُ ، وَالْمِشْمِشُ ، وَالْكُمَّثْرَى ، وَالْجَوْزُ ، وَالْخَوْخُ ، وَاللَّوْزُ ، وَمَا عَدَا مَا ذُكِرَ فِي الْقِسْمِ الْمَاضِي وَمَا يُذْكَرُ فِي الْقِسْمِ الْآتِي ، وَقِسْمٌ اخْتَلَفَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي بَعْضِهِ وَعَلَّقَ الْقَوْلَ فِي بَعْضِهِ ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَجْنَاسٍ الزَّيْتُونُ ،

وَالْوَرْسُ ، وَالزَّعْفَرَانُ وَالْقُرْطُمُ ، وَعَلَّقَ الْقَوْلَ فِي خَامِسٍ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا وَهُوَ الْعَسَلُ ، فَأَمَّا الزَّيْتُونُ فَلَهُ فِي إِيجَابِ زَكَاتِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ فِيهِ الزَّكَاةُ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ " ، [ الْأَنْعَامِ : ] ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِإِتْيَانِ الْحَقِّ رَاجِعًا إِلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ مِنْ قَبْلُ . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ بِالشَّامِ أَنْ يَأْخُذَ زَكَاةَ الزَّيْتُونِ . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : فِي الزَّيْتُونِ الْعُشْرُ ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا فِي أَصْحَابِهِ فَكَانَ إِجْمَاعًا ، وَلِأَنَّ عَادَةَ أَهْلِ بِلَادِهِ جَارِيَةٌ بِادِّخَارِهِ وَاقْتِنَائِهِ كَالشَّامِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَكْثُرُ نَبَاتُ الزَّيْتُونِ بِهَا ، فَجَرَى مَجْرَى التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ ، فَاقْتَضَى أَنْ تَجِبَ فِيهِ الزَّكَاةُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ . وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ لَا زَكَاةَ فِيهِ ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ : " لَا تَأْخُذِ الْعُشْرَ إِلَّا مِنْ أَرْبَعَةٍ : الْحِنْطَةِ ، والشَعِيرِ ، وَالنَّخْلِ ، وَالْعِنَبِ " ، فَأَثْبَتَ الزَّكَاةَ فِي الْأَرْبَعَةِ وَنَفَاهَا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مَوْجُودًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا افْتَتَحَهُ مِنْ مَخَالِيفِ الْيَمَنِ وَأَطْرَافِ الشَّامِ ، فَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَخَذَ زَكَاةَ شَيْءٍ مِنْهُ ، وَلَوْ وَجَبَتْ زَكَاتُهُ لَنُقِلَتْ عَنْهُ قَوْلًا وَفِعْلًا كَمَا نُقِلَتْ زَكَاةُ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ قَوْلًا وَفِعْلًا ، وَلِأَنَّهُ وَإِنْ كَثُرَ مِنْ بِلَادِهِ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَاتُ مُنْفَرِدًا كَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ ، وَإِنَّمَا يُؤْكَلُ أُدْمًا ، وَالزَّكَاةُ تَجِبُ فِي الْأَقْوَاتِ وَلَا تَجِبُ فِي الْإِدَامِ ، فَإِذَا ثَبَتَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ فَلَا مَسْأَلَةَ ، وَإِنْ قُلْنَا فِيهِ الزَّكَاةُ فَلَا شَيْءَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ لِلْخَبَرِ ، فَإِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ حِينَئِذٍ ، وَلَا يَجُوزُ خَرْصُهُ : لِأَنَّ الزَّيْتُونَ مُسْتَتِرٌ بِوَرَقِهِ لَا يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِمُشَاهَدَتِهِ ، وَلَيْسَ كَالنَّخْلِ وَالْكَرْمِ الْبَارِزِ الثَّمَرَ الَّذِي يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِهِ ، ثُمَّ لَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَصِيرُ زَيْتًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُوَنَ مِمَّا لَا يَصِيرُ زَيْتًا ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَصِيرُ زَيْتًا اعْتُبِرَ فِيهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ مِنْهُ ، وَأُخِذَ عُشْرُهُ زَيْتُونًا ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَصِيرُ زَيْتًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُعْتَبَرُ فِيهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ زَيْتًا : لِأَنَّ الزَّيْتَ حَالَةَ ادِّخَارِهِ كَالتَّمْرِ ، فَعَلَى هَذَا يُؤْخَذُ عُشْرُهُ زَيْتًا لَا غَيْرَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُعْتَبَرُ فِيهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ زَيْتُونًا : لِأَنَّ الزَّيْتَ مُسْتَخْرَجٌ مِنَ الزَّيْتُونِ بِصَنْعَةٍ وَعِلَاجٍ فَلَمْ يَكُنْ كَحَالِهِ كَالدِّبْسِ وَالدَّقِيقِ ، فَعَلَى هَذَا يُأْخَذُ عُشْرُهُ زَيْتُونًا لَا غَيْرَ .



فَصْلٌ : وَأَمَّا الْوَرْسُ فَقَدْ عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ الْقَوْلَ فِيهِ فَقَالَ : إِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ قُلْتُ بِهِ ، وَالْحَدِيثُ مَا رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ الْخُفَّاشِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ خُفَّاشٍ بِخَطِّ مُعَيْقِيبٍ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ أَبِي بَكْرٍ إِلَى أَهْلِ خُفَّاشٍ ، أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُخْرِجُوا الْعُشْرَ مِنَ الْوَرْسِ وَالذُّرَةِ ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْكُمْ ، فَعَلَّقَ فِي الْقَدِيمِ إِيجَابَ زَكَاةِ الْوَرْسِ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ ، فَإِنْ صَحَّ كَانَتْ زَكَاتُهُ عَلَى الْقَدِيمِ وَاجِبَةً فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ مِنْ غَيْرِ وَقْصٍ مَعْفُوٍّ ، لِعُمُومِ الْأَثَرِ فِيهِ . وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ لَا زَكَاةَ فِيهِ بِحَالٍ لِضِعْفِ الْأَثَرِ الْمَرْوِيِّ وَاحْتِمَالِهِ التَّأْوِيلَ لَوْ صَحَّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الزَّعْفَرَانُ هل فيه زكاة فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ : " إِنْ كَانَ الْعُشْرُ فِي الْوَرْسِ ثَابِتًا احْتَمَلَ أَنْ يُقَالَ فِي الزَّعْفَرَانِ الْعُشْرُ ، لِأَنَّهُمَا طَيِّبَانِ وَلَيْسَا كَثِيرًا ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ : لَا شَيْءَ فِي الزَّعْفَرَانِ : لِأَنَّ الْوَرْسَ شَجَرٌ لَهُ سَاقٌ وَهُوَ ثَمَرَةٌ وَالزَّعْفَرَانُ يَنْبُتُ " فَجَعَلَ الْوَرْسَ لَا شَيْءَ فِيهِ فَالزَّعْفَرَانُ أَوْلَى ، وَإِنْ قُلْنَا فِي الْوَرْسِ الزَّكَاةُ فَالزَّعْفَرَانُ عَلَى قَوْلَيْنِ وَعَلَى الْجَدِيدِ لَا زَكَاةَ فِيهِمَا بِحَالٍ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْقُرْطُمُ وَعُصْفُرُهُ هل فيه زكاة فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ : " وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ فِيهِ الْعُشْرُ كَانَ مَذْهَبًا " فَعَلَّقَ الْقَوْلَ فِيهِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ الْعُشْرَ مِنَ الْقُرْطُمِ وَالصَّحِيحُ أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهِ كَالزَّعْفَرَانِ لِخُرُوجِ كُلِّ ذَلِكَ عَنِ الْأَقْوَاتِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْعَسَلُ زكاته ومقدار مايزكى منه فَقَدْ عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ الْقَوْلَ فِيهِ فَجَعَلَ ذَلِكَ قَوْلًا لَهُ فِي إِيجَابِ عُشْرِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا أُخِذَ مِنْ غَيْرِ أَرْضِ الْخَرَاجِ ، تَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا مِنْ بَنِي سَلِمَةَ أَتُوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُشُورِ نَحْلٍ لَهُمْ فَأَخَذَهَا مِنْهُمْ ، وَحَمَى لَهُمْ وَادِيًا . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رِيَابٍ قَالَ : قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمْتُ ثُمَّ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : اجْعَلْ لِقَوْمِي مَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، قَالَ : فَفَعَلَ وَاسْتَعْمَلَنِي عَلَيْهِمْ ، ثَمَّ اسْتَعْمَلَنِي أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، قَالَ : فَكَلَّمْتُ قَوْمِي فِي الْعَسَلِ وَقُلْتُ لَهُمْ زَكُّوهُ فَإِنَّهُ لَا خَيْرَ فِي ثَمَرَةٍ لَا تُزَكَّى ، فَقَالُوا : كَمْ تَرَى فَقُلْتُ : الْعُشْرُ ، فَأَخَذْتُ مِنْهُمُ الْعُشْرَ فَأَتَيْتُ بِهِ عُمَرَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَبَضَهُ وَجَعَلَهُ فِي صَدَقَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَالصَّحِيحُ عَلَى الْقَدِيمِ ، وَصَرِيحُ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنَ الدَّلِيلِ فِي إِسْقَاطِ زَكَاةِ الزَّيْتُونِ . وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ قَوْمًا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُشُورِ نَحْلٍ لَهُمْ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَحْمِيَ وَادِيًا لَهُمْ يُقَالُ لَهُ : سَلَمَةُ فَحَمَاهُ لَهُمْ ، فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخُطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَيْهِ سُفْيَانُ بْنُ وَهْبٍ فِي ذَلِكَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ إِنْ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110