كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ فَهُوَ أَنَّهُ كَانَ فِي جَيْشِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحُنَيْنٍ وَأَنْفَذَهُ إِلَى أَوْطَاسَ - وَهُوَ وَادٍ بِقُرْبِ حُنَيْنٍ - حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ فِيهِ قَوْمًا مِنْ هَوَازِنَ ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ جَيْشِهِ ، وَمُسْتَحِقِّ الْغَنِيمَةِ فَلِذَلِكَ قَسَمَ لَهُ وَخَالَفَ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ . وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَهُوَ : إِنْ صَحَّ مِمَّا لَا يَقُولُ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ : لِأَنَّهُ جَعَلَ اسْتِحْقَاقَ الْغَنِيمَةِ مُعْتَبَرًا بِفُقُوءِ الْقَتْلَى ، وَفُقُوءُهُمْ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ : فَلَمْ تَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الظَّفَرِ بِالْمَدَدِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بُطْلَانُهُ بِالْمَدَدِ اللَّاحِقِ بَعْدَ الْقَسْمِ . وَالثَّانِي : أَنَّ أَسْبَابَ الظَّفَرِ مَا تَقَدَّمَتْ أَوْ قَارَبَتْ ، وَلَوْ كَانَتْ مِمَّا تَأَخَّرَتْ لَكَانَتْ بِمَنْ أَقَامَ وَلَمْ يَنْفِرْ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهَا لَا تُمَلَّكُ إِلَّا بِالْقِسْمَةِ : فَهُوَ أَنَّهُ أَصْلٌ لَهُمْ يُخَالِفُهُمْ فِيهِ كَالْخِلَافِ فِي قُرْعَةٍ ، وَاحْتِجَاجُهُمْ فِيهِ بِأَنَّ الْقَرْيَةَ لِلْآخَرِينَ فَنَحْنُ نَجْعَلُهَا لِلْأَوَّلِينَ ، وَقَوْلُهُمْ إِنَّ بَيْعَهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَا يَجُوزُ ، فَنَحْنُ نُجَوِّزُهُ إِذَا اخْتَارَ الْغَانِمُ تَمَلُّكَهَا ، وَنَجْعَلُ بَيْعَهَا اخْتِيَارًا لِتَمَلُّكِهَا ، فَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُمْ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ وَلَا اسْتِشْهَادٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيُسْهَمُ لِلْبِرْذَوْنِ كَمَا يُسْهَمُ لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ وَلِلْفَارِسِ سَهْمٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لَا اخْتِلَافَ أَنَّ الْفَارِسَ يُفَضَّلُ فِي الْغَنِيمَةِ عَلَى الرَّاجِلِ ، لِفَضْلِ عَنَائِهِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ تَفْضِيلِهِ ، فَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ، وَأَهْلُ مَكَّةَ ، وَمَالِكٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ فِي أَهْلِ الشَّامِ ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ فِي أَهْلِ مِصْرَ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَنَّ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ ، سَهْمٌ لَهُ ، وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَاحِدٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ دُونَ أَصْحَابِهِ ، وَلَا يُعْرَفُ لَهُ مُوَافِقٌ عَلَيْهِ ، أَنَّ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ : سَهْمٌ لَهُ وَسَهْمٌ لِفَرَسِهِ : لِئَلَّا يُفَضَّلَ فَرَسُهُ عَلَيْهِ ، وَلِلرَّاجِلِ وَاحِدٌ سهمه من الغنيمة ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِيهَا فِي كِتَابِ " قَسْمِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ " بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ . وَقَدْ رَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ لِلرَّجُلِ وَلِفَرَسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ ، سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ . وَرَوَى يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ خَيْبَرَ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ بِأَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ ، سَهْمٌ لَهُ ، وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ ، وَسَهْمٌ لِأُمِّهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مِنْ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى .

فَصْلٌ : وَلَا فَرْقَ فِي الْخَيْلِ بَيْنَ عِتَاقِهَا وَهِجَانِهَا وَبَيْنَ سَوَابِقِهَا وَبَرَاذِينِهَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ ، سَهْمَيْنِ لَهُمَا ، وَسَهْمًا لِفَارِسِهِمَا .

وَقَالَ سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ : يُسْهَمُ لِلْخَيْلِ الْعِتَاقِ ، وَلَا يُسْهَمُ لِلْبَرَاذِينِ الْهِجَانِ ، وَيُعْطَى فَارِسُهَا سَهْمُ رَاجِلٍ . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : يُسْهَمُ لِلْبِرْذَوْنِ الْهَجِينِ نِصْفُ سَهْمِ الْعَرَبِيِّ الْعَتِيقِ ، فَيُعْطَى فَارِسُ الْبِرْذَوْنِ سهمه سَهْمَيْنِ وَيُعْطَى فَارِسُ الْعَرَبِيِّ الْعَتِيقِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْبَرَاذِينِ وَالْعِتَاقِ ، بِأَنَّ الْبِرْذَوْنَ يَثْنِي يَدَهُ إِذَا شَرِبَ وَلَا يَثْنِيهَا الْعَتِيقُ : احْتِجَاجًا بِأَنَّ الْبَرَاذِينَ لَا تُعْنَى عَنَاءَ الْعِتَاقِ وَالسَّوَابِقِ فِي طَلَبٍ وَلَا هَرَبٍ : فَشَابَهَتِ الْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ [ الْأَنْفَالِ : 60 ] . فَعَمَّ الْحُكْمُ فِي ارْتِبَاطِ الْخَيْلِ بِمَا يَجْعَلُ مِنْ رَهْبَةِ الْعَدُوِّ بِهَا ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي عُمُومِ الْخَيْلِ وَفِي قَوْلِهِ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ تأويلها [ الْأَنْفَالِ : 60 ] . فِيهِ أَرْبَعَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْقُوَّةَ التَّصَافِي وَاتِّفَاقُ الْكَلِمَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْقُوَّةَ الثِّقَةُ بِالنَّصْرِ وَالرَّغْبَةُ فِي الثَّوَابِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْقُوَّةَ السِّلَاحُ ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ . وَالرَّابِعُ : أَنَّ الْقُوَّةَ فِي الرَّمْيِ . وَرَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [ الْأَنْفَالِ : 60 ] . أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ ثَلَاثًا . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ارْبُطُوا الْخَيْلَ فَإنَ ظُهُورَهَا عِزٌّ وَبَطُونَهَا لَكُمْ كَنْزٌ ، فَعَمَّ بِالْخَيْلِ جَمِيعَ الْجِنْسِ ؛ وَلِأَنَّ عِتَاقَ الْخَيْلِ أَجْرَى وَأَسْبَقُ ، وَبَرَاذِينَهَا أَكَرُّ وَأَصْبَرُ ، فَكَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لَيْسَ فِي الْآخَرِ : فَتَقَابَلَا ؛ وَلِأَنَّ عِتَاقَ الْخَيْلِ عِرَابٌ ، وَبَرَاذِينَهَا أَعَاجِمُ ، وَلَيْسَ يُفَرَّقُ فِي الْفُرْسَانِ بَيْنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ أي في الغنيمة ، وَكَذَلِكَ الْخَيْلُ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ شَدِيدِ الْخَيْلِ وَضَعِيفِهِ فَكَذَلِكَ فِي السَّابِقِ وَالْمُتَأَخِّرِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَا يُعْطَى إِلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا ذَكَرَ ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَأَحْمَدُ : يُسْهَمُ لِفَرَسَيْنِ وَلَا يُسْهَمُ لِأَكْثَرَ مِنْهُمَا : لِأَنَّهُ قَدْ يَعْطَبُ الْوَاحِدُ فَيَحْتَاجُ إِلَى ثَانٍ ، فَصَارَ مُعَدًّا لِلْحَاجَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْهَمَ لَهُ ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ مَوْجُودٌ فِي الثَّالِثِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْطَبُ الثَّانِي ، وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ أَنْ يُسْهَمَ لِثَالِثٍ ، فَكَذَلِكَ الثَّانِي وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ حَضَرَ بِأَفْرَاسٍ سهمانهم فَلَمْ يَأْخُذْ إِلَّا سَهْمَ فَرَسٍ وَاحِدٍ ، وَكَذَلِكَ حَضَرَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَلَمْ يُعْطُوا إِلَّا سَهْمَ فَرَسٍ وَاحِدٍ ، وَبِذَلِكَ جَرَتْ سِيرَةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِهِ : وَلِأَنَّهُ لَا يُقَاتِلُ إِلَّا عَلَى فَرَسٍ وَاحِدٍ وَمَا عَدَاهُ زِينَةٌ أَوْ عُدَّةٌ ، فَلَمْ يَقَعِ الِاسْتِحْقَاقُ إِلَّا فِي الْمُبَاشِرِ بِالْعَمَلِ كَخِدْمَةِ الزَّوْجَةِ لَمَّا بَاشَرَهَا الْوَاحِدُ ، وَكَانَ مَنْ عَدَاهُ زِينَةً ، أَوْ عُدَّةً لَمْ يَسْتَحِقَّ إِلَّا نَفَقَةَ خَادِمٍ وَاحِدٍ .



فَصْلٌ : فَإِذَا قَاتَلَ الْمُسْلِمُ عَلَى فَرَسٍ مَغْصُوبٍ أَخَذَ بِهِ سَهْمَ فَارِسٍ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ ، ثُمَّ نَظَرَ فِي مَالِكِهِ ؛ فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا حَاضِرًا كَانَ سَهْمُ الْفَرْسِ ، وَهُوَ سَهْمَانِ مِنَ الثَّلَاثَةِ مِلْكًا لِرَبِّ الْفَرَسِ دُونَ غَاصِبِهِ : لِأَنَّهُ إِذَا حَضَرَ بِهِ الْوَقْعَةَ اسْتَحَقَّ سَهْمَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ يَسْتَحِقُّهُ وَإِنْ قَاتَلَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ، وَإِنْ كَانَ مَالِكُ الْفَرَسِ غَيْرَ حَاضِرٍ كَانَ سَهْمُهُ لِغَاصِبِهِ دُونَ مَالِكِهِ ، وَلِلْمَالِكِ عَلَى الْغَاصِبِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَالِكُهُ ذِمِّيًّا حَاضِرًا : لَأَنَّ سَهْمَ الْفَرَسِ صَارَ مُسْتَحَقًّا بِالْقِتَالِ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْغَاصِبِ دُونَ الْمَالِكِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيُرْضَخُ لِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ وَالْمَرَأَةِ وَالْعَبْدِ وَالْمُشْرِكِ إِذَا قَاتَلَ وَلِمَنِ اسْتُعِينَ بِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ إِذَا حَضَرَ الْوَقْعَةَ رُضِخَ لَهُ ، وَلَمْ يُسْهِمْ ، وَهُوَ الصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : يُسْهَمُ لِجَمِيعِ مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ وَإِنْ كَانُوا صِبْيَانًا وَنِسَاءً وَعَبِيدًا ، احْتِجَاجًا بِمَا رَوَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْهَمَ لَهُمْ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ نَجْدَةَ الْحَرُورِيَّ كَتَبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنِ النِّسَاءِ هَلْ كُنَّ يَشْهَدْنَ الْحَرْبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَلْ كَانَ يُضْرَبُ لَهُنَّ سَهْمٌ ؟ فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ كُنَّ يَحْضُرْنَ الْحَرْبَ ، وَيَسْقِينَ الْمَاءَ ، وَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى ، فَكَانَ يُرْضَخُ لَهُنَّ وَلَا يُسْهَمُ ، وَلِأَنَّ السَّهْمَ حَقٌّ يُقَابِلُ فَرْضَ الْجِهَادِ فَاقْتَضَى أَنْ يَسْقُطَ مِنْ حَقِّ مَنْ لَمْ يُفْتَرَضْ عَلَيْهِ الْجِهَادُ ، وَخَالَفَ أَصْحَابُ الْأَعْذَارِ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَرْضَى الَّذِينَ يُسْهَمُ لَهُمْ إِذَا حَضَرُوا : لِأَنَّ فَرْضَهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ بِالْحُضُورِ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِأَصْحَابِ الْأَعْذَارِ أَنْ يُوَلُّوا عَنِ الْوَقْعَةِ ، وَجَازَ لِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ أَنْ يُوَلِّيَ عَنْهَا ، وَمَا رَوَاهُ الْأَوْزَاعِيُّ مِنَ السَّهْمِ لَهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى الرَّضْخِ : لِأَنَّ السَّهْمَ النَّصِيبُ ، وَهَكَذَا مَنِ اسْتَعَانَ بِهِ الْإِمَامُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ هل يسهم له ؟ رُضِخَ لَهُمْ ، وَلَمْ يُسْهَمْ ، لِرِوَايَةِ مِقْسَمٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعَانَ بِقَوْمٍ مِنْ يَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ ، فَرَضَخَ لَهُمْ وَلَمْ يُسْهِمْ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَرْضَخُ لَهُمْ وَلَا يُسْهَمُ ، فَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقُّ الرَّضْخِ مُسْلِمًا ، كَانَ رَضْخُهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَهَلْ يَكُونُ مِنْ أَصْلِهَا ؟ أَوْ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا ، وَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ وَهُوَ خُمْسُ الْخُمْسِ ، سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ ، وَهَلْ يَكُونُ مِنْ أَصْلِهَا أَوْ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْمُسْلِمِ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيُسْهَمُ لِلتَّاجِرِ إِذَا قَاتَلَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَلِلتَّاجِرِ إِذَا خَرَجَ مَعَ الْمُجَاهِدِينَ سهمه من الغنيمة ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقْصِدَ الْجِهَادَ بِخُرُوجِهِ ، وَتَكُونَ التِّجَارَةُ تَبَعًا لِجِهَادِهِ ، فَهَذَا يُسْهَمُ لَهُ إِذَا حَضَرَ الْوَقْعَةَ ، وَسَوَاءٌ قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ ، يَكُونُ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ الَّذِينَ لَمْ يَتَّجِرُوا ، كَمَا لَوْ قَصَدَ الْحَجَّ فَاتَّجَرَ كَانَ لَهُ حَجَّةٌ ، وَلَا تُؤَثِّرُ فِيهِ تِجَارَتُهُ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقْصِدَ التِّجَارَةَ ، وَيَتَخَلَّفَ فِي الْمُعَسْكَرِ تَشَاغُلًا بِهَا ، فَهَذَا لَا يُسْهَمُ اعْتِبَارًا بِقَصْدِهِ وَعَدَمِ أَثَرِهِ فِي الْوَقْعَةِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَقْصِدَ التِّجَارَةَ وَيَشْهَدَ الْوَقْعَةَ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُقَاتِلَ فَيُسْهَمَ لَهُ ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ لِبَلَائِهِ فِي الْحَرْبِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يُقَاتِلَ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُسْهَمُ لَهُ لِقَوْلِهِ : الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ كَثَّرَ وَهَيَّبَ ، وَتِجَارَتُهُ مَنْفَعَةٌ تَعُودُ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ ، فَلَمْ يُحْرَمْ بِهَا سَهْمُهُ مَعَهُمْ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يُسْهَمُ لَهُ وَلَا يُعْطَى رَضْخًا . كَالْأَتْبَاعِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُهَاجِرِ أُمِّ قَيْسٍ مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ، وَلِأَنَّ مَا قَصَدَهُ بِالْخُرُوجِ مِنْ فَضْلِ التِّجَارَةِ قَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ بِهِ مُفَضَّلًا عَلَى ذَوِي النِّيَّاتِ فِي الْجِهَادِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَتُقَسَّمُ الْغَنِيمَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، قَسَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ غَنِمَهَا وَهِيَ دَارُ حَرْبِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ ، وَحُنَيْنٍ ، وَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ أَبُو يُوسُفَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَّمَ غَنَائِمَ بَدْرٍ بَعْدَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ وَقَوْلُهُ : الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ أَسْهَمَ لِعُثْمَانَ وَطَلْحَةَ وَلَمْ يَشْهَدَا بَدْرًا . فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ فَقَدْ خَالَفَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُعْطِي أَحَدًا لَمْ يَشْهَدِ الْوَقْعَةَ ، وَلَمْ يُقَدِّمْ مَدَدًا عَلَيْهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) مَا قَسَّمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - غَنَائِمَ بَدْرٍ إِلَّا بِسَيْرِ شِعْبٍ مِنْ شِعَابِ الصَّفْرَاءِ ، قَرِيبٍ مِنْ بَدْرٍ ، فَلَمَّا تَشَاحَّ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَنِيمَتِهَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ . فَقَسَّمَهَا بَيْنَهُمْ وَهِيَ لَهُ تَفَضُّلًا وَأَدْخَلَ مَعَهُمْ ثَمَانِيَةَ أَنْفَارٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ ، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ . بَعْدَ بَدْرٍ وَلَمْ نَعْلَمْهُ أَسْهَمَ لِأَحَدٍ لَمْ يَشْهَدِ الْوَقْعَةَ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ ، وَمَنْ أَعْطَى مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ وَغَيْرِهِمْ ، فَمِنْ مَالِهِ أَعْطَاهُمْ لَا مِنَ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ ، وَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ مِنْ وَقْعَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ ، وَابْنِ الْحَضْرَمِيِّ فَذَلِكَ قَبْلَ بَدْرٍ وَلِذَلِكَ

كَانَتْ وَقْعَتُهُمْ فِي آخِرِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَتَوَقَّفُوا فِيمَا صَنَعُوا حَتَّى نَزَلَتْ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ وَلَيْسَ مِمَّا خَالَفَ فِيهِ الْأَوْزَاعِيُّ فِي شَيْءٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا ذَكَرَ ، الْأَوْلَى بِالْإِمَامِ أَنْ يُعَجِّلَ قِسْمَةَ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، إِذَا لَمْ يَخَفْ ضَرَرًا ، فَإِنْ أَخَّرَهَا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ . قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُؤَخِّرُ قَسْمَهَا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَلَا يُقَسِّمْهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ . وَقَالَ مَالِكٌ : يُعَجِّلُ قِسْمَةَ الْأَمْوَالِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَيُؤَخِّرُ قَسْمَ السَّبْيِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ قَسْمَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ بِرِوَايَةِ مِقْسَمٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَّمَ غَنَائِمَ بَدْرٍ بَعْدَ مُقْدَمِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ ، وَأَعْطَى عُثْمَانَ وَطَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ مِنْهَا : وَلِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ حِينَ غَنِمَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ بَعْدَ قَتْلِهِ لَمْ يُقَسِّمْ غَنِيمَتَهُ حَتَّى قَدِمَ بِهَا الْمَدِينَةَ ، وَكَانَتْ أَوَّلَ مَالٍ غَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ . قَالُوا : وَقَدْ رَوَى مَكْحُولٌ قَالَ : مَا قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَنِيمَتَهُ قَطُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَلَا يَقُولُ مَكْحُولٌ هَذَا قَطْعًا وَهُوَ تَابِعِيٌّ إِلَّا عَنِ اتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ وَاسْتِدَامَةِ قَبْضَتِهِمْ ، فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعُوا مِنْ قَسْمِهَا كَمَا مُنِعُوا مِنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ ، وَلِأَنَّهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ مُعَرَّضَةٌ لِلِاسْتِرْجَاعِ : فَلَمْ يَجُزْ قَسْمُهَا كَمَا لَوْ كَانَتِ الْحَرْبُ قَائِمَةً . وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ سَيْفَ أَبِي جَهْلٍ بِبَدْرٍ ، وَالنَّفْلُ مِنَ الْقَسْمِ . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى بَدْرٍ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا حُفَاةً عُرَاةً جِيَاعًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ حُفَاةٌ فَاحْمِلْهُمْ ، وَعُرَاةٌ فَاكْسُهُمْ ، وَجِيَاعٌ فَأَشْبِعْهُمْ ، فَانْقَلَبَ الْقَوْمُ حَيْثُ انْقَلَبُوا وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْحِمْلُ وَالْحِمْلَانِ ، وَقَدْ كَسَاهُمْ ، وَأَطْعَمَهُمْ ، وَانْقِلَابُهُمْ مِنْ بَدْرٍ بِهَذَا يَكُونُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَسَّمَهَا بِبَدْرٍ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَّمَ غَنَائِمَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ يَوْمَ الْمُرَيْسِيعِ عَلَى مِيَاهِهِمْ ، وَوَقَفَتْ جُوَيْرِيَةُ فِي سَهْمِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ ، وَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا ، وَقَسَّمَ غَنَائِمَ خَيْبَرَ لَهَا ، وَعَامَلَ عَلَيْهَا أَهْلَهَا ، وَقَسَّمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ مَعَ السَّبْيِ بِأَوْطَاسَ ، وَهُوَ وَادِي حُنَيْنٍ ، وَأَعْطَى مِنْهَا الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ ، وَقَدْ نَقَلَ أَهْلُ السِّيَرِ وَالْمَغَازِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا غَنِمَ غَنِيمَةً قَطُّ إِلَّا قَسَّمَهَا حَيْثُ غَنِمَهَا ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ صَحَّتْ فِيهِ الْغَنِيمَةُ لَمْ يُمْنَعْ فِيهِ مِنَ الْقِسْمَةِ كَدَارِ الْإِسْلَامِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ غَنِيمَةٍ صَحَّ قَسْمُهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ تُكْرَهْ قِسْمَتُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ كَالثِّيَابِ ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَافَقَ عَلَى تَعْجِيلِ قِسْمَتِهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَلِأَنَّ فِي تَعْجِيلِ قِسْمَتِهَا فَى دَارِ الْحَرْبِ تَعْجِيلَ الْحُقُوقِ إِلَى

مُسْتَحِقِّيهَا ، فَكَانَ أَوْلَى مِنْ تَأْخِيرِهَا ، وَلِأَنَّ حِفْظَ مَا قُسِّمَ أَسْهَلُ وَالْمَؤُونَةَ فِي نَقْلِهِ أَخَفُّ فَكَانَ أَوْلَى . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ قَسَّمَ غَنَائِمَ بَدْرٍ بِالْمَدِينَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّا رَوَيْنَا خِلَافَهُ ، فَتَعَارَضَتِ الرِّوَايَتَانِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ تَشَاجَرُوا فِيهَا ، فَأَخَّرَهَا لِتَشَاجُرِهِمْ ، حَتَّى جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [ الْأَنْفَالِ : 1 ] . فَحِينَئِذٍ قَسَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى رَأْيِهِ ، وَأَدْخَلَ فِيهِمْ ثَمَانِيَةً لَمْ يَشْهَدُوا بَدْرًا ، ثَلَاثَةً مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ، وَخَمْسَةً مِنَ الْأَنْصَارِ . وَأَمَّا حَدِيثُ مَكْحُولٍ مُرْسَلٌ ، وَالنَّقْلُ الْمَشْهُورُ بِخِلَافِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَأْخِيرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ غَنِيمَةَ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا كَانَتْ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمُ فَشَكُّوا فِي اسْتِبَاحَتِهَا ، فَأَخَّرُوهَا حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلُوهُ عَنْهَا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [ الْبَقَرَةِ : 217 ] الْآيَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ لَمْ يَعْلَمْ مُسْتَحِقَّ الْغَنِيمَةِ وَكَيْفَ تُقَسَّمُ ، فَأَخَّرَهَا حَتَّى اسْتَعْلَمَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا لَمْ يُقْبَضْ مِنَ الْمَبِيعَاتِ مَضْمُونٌ عَلَى بَائِعِهِ ، فَمَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، وَهَذَا غَيْرُ مَضْمُونٍ فَافْتَرَقَا . وَالثَّانِي : أَنَّ يَدَ الْغَانِمِينَ أَثْبَتُ : لِأَنَّ يَدَ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الدَّارِ ، وَيَدَ الْغَانِمِينَ عَلَيْهِ بِالِاسْتِيلَاءِ وَالْمُشَاهَدَةِ ، فَصَارَ كَرَجُلٍ فِي دَارِ رَجُلٍ ، وَفِي يَدِهِ ثَوْبٌ ، فَادَّعَاهُ صَاحِبُ الدَّارِ : لِأَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ أَحَقُّ مِنْ صَاحِبِ الدَّارِ : لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّارِ يَدُهُ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ ، وَيَدُ الْقَابِضِ مِنْ طَرِيقِ الْمُشَاهِدَةِ فَكَانَتْ أَقْوَى وَكَانَ بِالْمِلْكِ أَحَقَّ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهَا مُعَرَّضَةٌ لِلِاسْتِرْجَاعِ ، فَهُوَ أَنَّهَا كَذَلِكَ فِيمَا اتَّصَلَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ جَوَازِ قِسْمَتِهَا ، فَكَذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، فَأَمَّا مَعَ بَقَاءِ دَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ يَسْتَقِرَّ الظَّفَرُ فَيَسْتَقِرَّ عَلَيْهَا مِلْكٌ لِلْغَانِمِينَ أَوْ يَدٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا وَيَعْلِفُوا دَوَابَّهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، فَإِنْ خَرَجَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَفِي يَدِهِ شَيْءٌ صَيَّرَهُ إِلَى الْإِمَامِ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : يَجُوزُ لِأَهْلِ الْجِهَادِ إِذَا دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ ما يحل لهم أَنْ يَأْكُلُوا طَعَامَهُمْ ، وَيَعْلِفُوا دَوَابَّهُمْ مَا أَقَامُوا فِي دَارِهِمْ ، وَلَا يُحْتَسَبُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ سَهْمِهِمْ ، لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ : دُلِّيَ جِرَابٌ مِنْ شَحْمِ يَوْمِ خَيْبَرَ ، قَالَ فَأَتَيْتُهُ فَالْتَزَمْتُهُ وَقُلْتُ : لَا أُعْطِي الْيَوْمَ مِنْهُ أَحَدًا شَيْئًا ، ثُمَّ الْتَفَتُّ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْتَسِمُ ، فَدَلَّ تَبَسُّمُهُ مِنْهُ وَتَرْكُهُ عَلَيْهِ عَلَى إِبَاحَتِهِ لَهُ . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى قَالَ : أَصَبْنَا طَعَامًا يَوْمَ خَيْبَرَ ، قَالَ : فَكَانَ الرَّجُلُ يَجِيءُ فَيَأْخُذُ مِنْهُ مِقْدَارَ مَا يَكْفِيهِ وَيَنْصَرِفُ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى إِبَاحَتِهِ ، وَلِأَنَّ أَزْوَادَ الْمُجَاهِدِينَ تَنْفَدُ ، وَيَصْعُبُ نَقْلُهَا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ إِلَيْهِمْ ، وَلَا يَظْفَرُونَ بِمَنْ يَبِيعُهَا عَلَيْهِمْ ، فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى إِبَاحَتِهَا لَهُمْ . فَإِذَا ثَبَتَ إِبَاحَتُهَا لَهُمْ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ تُعْتَبَرُ الْحَاجَةُ فِي اسْتِبَاحَتِهَا أَمْ لَا ؟ أي الأكل والعلف في بلاد المشركين عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّ الْحَاجَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي اسْتِبَاحَتِهَا وَأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا وَيَعْلِفُوا دَوَابَّهُمْ مَعَ الْحَاجَةِ وَالْغِنَى وَالْوُجُودِ وَالْعَدَمِ ، وَاعْتِبَارًا بِطَعَامِ الْوَلَائِمِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : إِنَّهُمْ لَا يَسْتَبِيحُونَهُ إِلَّا مَعَ الْحَاجَةِ : اعْتِبَارًا بِأَكْلِ الْمُضْطَرِّ مِنْ طَعَامِ غَيْرِهِ هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ إِلَّا عِنْدَ حَاجَتِهِ ، وَاعْتِبَارُهُ بِالْمُضْطَرِّ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَا يَسْتَبِيحُ إِلَّا عِنْدَ خَوْفِ التَّلَفِ وَهَذَا مُبَاحٌ ، وَإِنْ لَمْ يَخَفِ التَّلَفَ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُضْطَرَّ ضَامِنٌ ، وَهَذَا غَيْرُ ضَامِنٍ فَافْتَرَقَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ إِبَاحَةِ الْأَكْلِ ، جَازَ أَنْ يَأْكُلَ مَا يَقْتَاتُهُ وَمَا يَتَأَدَّمُ بِهِ ، وَيَتَفَكَّهُ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَا يَقْتَصِدُ عَلَى الْأَقْوَاتِ وَحْدَهَا بِاتِّفَاقٍ مِنْ أَصْحَابِنَا ، وَهُوَ حُجَّةُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي اعْتِبَارِ الْحَاجَةِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَدَّخِرَ من طعام الغنيمة مِنْهُ إِذَا اتَّسَعَ قَدْرُ مَا يَقْتَاتُهُ مُدَّةَ مُقَامِهِ ، فَإِنْ ضَاقَ كَانَ أُسْوَةَ غَيْرِهِ فِيهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَذْبَحَ الْمَوَاشِيَ لِيَأْكُلَهَا من الغنيمة ، وَلَا يَذْبَحْهَا لِغَيْرِ الْأَكْلِ ، رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَبْحِ الْبَهَائِمِ إِلَّا لِمَأْكَلِهِ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّخِذَ جُلُودَهَا حِذَاءً وَلَا سِقَاءً لِاخْتِصَاصِ الْإِبَاحَةِ بِالْأَكْلِ ، فَأَشْبَهَ طَعَامَ الْوَلَائِمِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الْمَأْكُولَةِ وَالْمَشْرُوبِ إِلَى مَلْبُوسٍ وَمَرْكُوبٍ ، فَأَمَّا الْأَدْوِيَةُ في بلاد المشركين وبيان حكم الأخذ منها ؟ فَضَرْبَانِ : طِلَاءٌ وَمَأْكُولٌ .

فَأَمَّا الطِّلَاءُ مِنَ الدُّهْنِ وَالضِّمَادِ فَمَحْسُوبٌ عَلَيْهِ إِنِ اسْتَعْمَلَهُ ، وَأَمَّا الْمَأْكُولُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ إِلَّا بِقِيمَةٍ مَحْسُوبَةٍ عَلَيْهِ مِنْ سَهْمِهِ لِخُرُوجِهَا عَنْ مَعْهُودِ الْمَأْكُولِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا مُبَاحَةٌ لَهُ وَغَيْرُ مَحْسُوبَةٍ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ ضَرُورَتَهُ إِلَيْهَا أَدْعَى ، فَكَانَتِ الْإِبَاحَةُ أَوْلَى . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ لَا تُؤْكَلُ إِلَّا تَدَاوِيًا ، حُسِبَتْ عَلَيْهِ مِنْ سَهْمِهِ ، وَإِنْ أُكِلَتْ لِدَوَاءٍ غَيْرَ دَوَاءٍ لَمْ تُحْسَبْ عَلَيْهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا عُلُوفَةُ دَوَابِّهِمْ وَبَهَائِهِمْ وحكم علفها من مال أهل الحرب فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فِي جِهَادِهِ ، مِنْ فَرَسٍ يُقَاتِلُ عَلَيْهِ ، وَبَهِيمَةٍ يَحْمِلُ عَلَيْهَا رَحْلَهُ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَعْلِفَهَا مِنْ مَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ مَا تَعْتَلِفُهُ الْبَهَائِمُ مِنْ شَعِيرٍ وَتِبْنٍ وَقَثٍّ ، وَلَا يَتَعَدَّى الْعُرْفَ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ : لِأَنَّ ضَرُورَتَهَا فِيهِ كَضَرُورَتِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا اسْتُصْحِبَ لِلزِّينَةِ وَالْفُرْجَةِ كَالْفُهُودِ وَالنُّمُورِ وَالْبُزَاةِ الْمُعَدَّةِ لِلِاصْطِيَادِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْلِفَهَا مِنْ مَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ : لِأَنَّهَا غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ فِي الْجِهَادِ ، فَإِنْ أُطْعِمْهَا كَانَ مَحْسُوبًا عَلَيْهَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا حَمَلَهُ لِلِاسْتِظْهَارِ بِهِ لِحَاجَةٍ رُبَّمَا دَعَتْ إِلَيْهِ كَالْجَنِيبَةِ الَّتِي يَسْتَظْهِرُ بِهَا لِرُكُوبِهِ ، أَوْ بِهَائِمَ يَسْتَظْهِرُ بِهَا لِحُمُولَتِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْلِفَهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ : لِأَنَّهَا عُدَّةٌ يَقْوَى بِهَا عَلَيْهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّى بِهَا مَالَ نَفْسِهِ ، وَإِنَّ عَلْفَهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ كَانَ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ مِنْ سَهْمِهِ اعْتِبَارًا لِحَاجَتِهِ فِي الْحَالِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا ، وَكَمَا لَا يُسْهَمُ إِلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ وَإِنِ اسْتَظْهَرَ بِغَيْرِهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَجَاوَزَ الْعُلُوفَةَ إِلَى إِنْعَالِ دَوَابِّهِ ، وَلَا أَنْ يُوقِحَ حَوَافِرَهَا وَيَدْهِنَ أَشَاعِرَهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا عَدَا الطَّعَامَ وَالْعُلُوفَةَ مِنَ الثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ وَالْآلَةِ وَالْمَتَاعِ الانتفاع به قبل الغنيمة فَجَمِيعُهُ غَنِيمَةٌ مُشْتَرَكَةٌ يُمْنَعُ مِنْهَا ، وَإِنِ احْتَاجَ إِلَيْهَا ، فَإِنْ لَبِسَ ثَوْبًا مِنْهَا فَأَخْلَقَهُ ، أَوْ رَكِبَ دَابَّةً فَهَزَلَهَا : اسْتَرْجَعَ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَزِمَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ ، وَغَرِمَ نَقْصَهُ كَالْغَاصِبِ . رَوَى رُوَيْفِعُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَرْكَبْ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إِذَا أَعْجَفَهَا رَدَّهَا فِيهِ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ فَلَا يَلْبَسْ ثَوْبًا مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إِذَا خَلِقَ رَدَّهُ فِيهِ ، وَلِأَنَّ الْمُضْطَرَّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ للطعام يَسْتَبِيحُ أَكْلَ الطَّعَامِ دُونَ الثِّيَابِ ، فَكَذَلِكَ الْمُجَاهِدُ فِي دَارِ

الْحَرْبِ فَإِنِ اشْتَدَّتْ ضَرُورَةُ بَعْضِ الْمُجَاهِدِينَ إِلَى ثَوْبٍ يَلْبَسُهُ اسْتَأْذَنَ فِيهِ الْإِمَامَ ، وَأَعْطَاهُ مِنَ الثِّيَابِ مَا يَدْفَعُ بِهِ ضَرُورَتَهُ ، وَيَكُونُ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ مِنْ سَهْمِهِ ، وَإِذَا نُفِقَتْ دَابَّتُهُ أَوْ قُتِلَتْ فِي الْمَعْرَكَةِ بعض المجاهدين لَمْ يَسْتَحِقَّ بَدَلَهَا مِنَ الْمَغْنَمِ ، كَمَا لَوْ مَاتَ الْمُجَاهِدُ أَوْ قُتِلَ لَمْ يَلْزَمْ غُرْمُ دِيَتِهِ ، فَإِنِ اشْتَدَّتْ ضَرُورَتُهُ إِلَى مَا يَرْكَبُهُ لِقِتَالٍ أَوْ غَيْرِهِ ، اسْتَأْذَنَ الْإِمَامَ حَتَّى يُعْطِيَهُ إِمَّا مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ نَفْلًا ، وَإِمَّا مِنَ الْغَنِيمَةِ سَلَفًا مِنْ سَهْمِهِ ، يَفْعَلُ مِنْهَا مَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ ، فَإِنْ شَرَطَ لَهُمُ الْإِمَامُ أَنَّ مَنْ قُتِلَ فَرَسُهُ فِي الْمَعْرَكَةِ كَانَ لَهُ مِثْلُهَا أَوْ ثَمَنُهَا ، جَازَ لِيُحَرِّضَهُمْ عَلَى الْإِقْدَامِ ، وَوَفَّى بِشَرْطِهِ وَدَفَعَ إِلَيْهِمْ مِثْلَهَا أَوْ ثَمَنَهَا بِحَسَبِ الشَّرْطِ ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى حُكْمِ ضَمَانِ الْمُسْتَهْلِكِ فِي غُرْمِ قِيمَةِ الدَّابَّةِ ، وَجَازَ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى الْمِثْلِ وَالثَّمَنِ : لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عُمُومِ الْمَصَالِحِ الَّتِي يَتَّسِعُ حُكْمُهَا ، وَيَكُونُ مَا يَدْفَعُهُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ ، سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُعَدِّ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ .

فَصْلٌ : وَيَجُوزُ أَنْ يُتَابِعَ الْمُجَاهِدُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَا أَخَذُوهُ مِنْ طَعَامِهِمْ رِطْلًا بِرِطْلَيْنِ ، وَلَا يَكُونُ رِبًا إِذَا بَاعَهُ مُجَاهِدٌ عَلَى مُجَاهِدٍ : لِأَنَّهُ مُبَاحُ الْأَصْلِ بَيْنَهُمْ فَسَقَطَ فِيهِ حُكْمُ الرِّبَا ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ ، وَإِنْ كَانَ تَحْرِيمُ الرِّبَا عِنْدَهُ فِي دَارِ الْمُشْرِكِينَ كَتَحْرِيمِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ بِذَهَبٍ وَلَا وَرِقٍ ، وَيَكُونُ مَقْصُورًا عَلَى بَيْعِ الْمَأْكُولِ بِمَأْكُولٍ كَمَا كَانَ مَقْصُورًا عَلَى إِبَاحَةِ الْمَأْكُولِ ، فَإِنْ تَأَخَّرَ قَبْضُ الْبَدَلِ فِيهِ سَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ لِإِبَاحَةِ أَصْلِهِ ، فَإِنْ أَرَادَ الْمُجَاهِدُ أَنْ يَبِيعَهُ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِمُجَاهِدٍ : لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِأَكْثَرَ مِنْهُ ، وَلَا بِثَمَنِهِ ، وَلَا بِثَمَنٍ فِي الذِّمَّةِ ، وَيَكُونُ مَبِيعًا بَاطِلًا عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا ، وَإِنْ عُقِدَ عَلَى شُرُوطِ الصِّحَّةِ : لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْأَكْلِ دُونَ الْبَيْعِ كَطَعَامِ الْوَلَائِمِ ، وَهَكَذَا لَوْ دَفَعَهُ الْمُجَاهِدُ قَرْضًا لِغَيْرِهِ ، مُنِعَ إِنْ كَانَ مُقْتَرِضُهُ غَيْرَ مُجَاهِدٍ ، وَلَمْ يُمْنَعْ إِنْ كَانَ مُقْتَرِضُهُ مُجَاهِدًا ، وَيَصِيرُ مُقْتَرِضُهُ أَحَقَّ بِهِ وَلَا يَسْتَحِقُّ اسْتِرْجَاعَ بَدَلِهِ ، وَإِذَا أَرَادَ الْمُجَاهِدُ أَنْ يَبِيعَ طَعَامًا لَهُ حَمَلَهُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى مُجَاهِدٍ أَوْ غَيْرِ مُجَاهِدٍ جَازَ ، وَحُرِّمَ لَهُ فِيهِ الرِّبَا ، وَإِنْ أَقْرَضَهُ اسْتَحَقَّ اسْتِرْجَاعَ بَدَلِهِ : بِخِلَافِ الْمَأْخُوذِ مِنْ طَعَامِ أَهْلِ الْحَرْبِ : لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِإِبَاحَةِ هَذَا وَحَظْرِ ذَاكَ .

فَصْلٌ : وَإِذَا خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَمَعَهُمْ مِنْ بَقَايَا مَا أَخَذُوهُ مِنْ طَعَامِهِمْ ، فَفِي وُجُوبِ رَدِّهِ إِلَى الْمَغْنَمِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : نَصَّ عَلَيْهِ هَاهُنَا أَنَّ عَلَيْهِمْ رَدَّهُ إِلَى الْمَغْنَمِ لِارْتِفَاعِ الْحَاجَةِ ، فَإِنِ اسْتَهْلَكُوهُ كَانَ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ مِنْ سِهَامِهِمْ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي سِيَرِ الْأَوْزَاعِيِّ ، لَا يَلْزَمُهُمْ رَدُّهُ : لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَقَدْ رَوَى نَافِعٌ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ جَيْشًا غَنِمُوا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَعَامًا وَعَسَلًا ، فَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمُ الْخُمْسُ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ : مَا بَقِيَ مَعَهُمْ مِنَ الطَّعَامِ قَبْلَ قَسْمِ الْغَنِيمَةِ رَدُّوهُ فِي الْغَنَائِمِ ، وَمَا بَقِيَ بَعْدَ قِسْمَتِهَا بَاعُوهُ وَتَصَدَّقُوا بِثَمَنِهِ ، وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِنْ لَمْ يَجِبْ رَدُّهُ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ كَانُوا أَحَقَّ بِهِ قَبْلَ الْغُنْمِ ، وَيَجُوزُ لَهُمْ بَيْعُهُ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ بَيْعُهُ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ مِنْهَا ، وَتَكُونُ أَيْدِيهِمْ عَلَيْهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَدَ اسْتِبَاحَةٍ ، وَفِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَدَ مِلْكٍ ، وَإِنْ وَجَبَ رَدُّهُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي : رَدُّوهُ إِلَى الْمَغْنَمِ قَبْلَ الْقَسْمِ ، وَعَلَى الْإِمَامِ بَعْدَ الْقَسْمِ ، وَلَيْسَ لَهُمْ بَيْعُهُ وَلَا التَّصَدُّقُ بِثَمَنِهِ : لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلْغَانِمِينَ ، وَتَكُونُ أَيْدِيهِمْ عَلَيْهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَدَ اسْتِبَاحَةٍ ، وَفِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَدَ حَظْرٍ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَأْكُلُوهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَلَا يَأْكُلُوهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ بَيْعُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَلَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَا كَانَ مِنْ كُتُبِهِمْ فِيهِ طِبٌّ أَوْ مَا لَا مَكْرُوهَ فِيهِ كتب المشركين المغنومة بِيعَ ، وَمَا كَانَ فِيهِ شِرْكٌ أُبْطِلَ وَانْتُفِعَ بِأَوْعِيَتِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : كُتُبُهُمْ مَغْنُومَةٌ عَنْهُمْ : لِأَنَّهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَهِيَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا لَيْسَ بِمَحْظُورٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مَا فِيهِ طِبٌّ ، أَوْ حِسَابٌ ، أَوْ شِعْرٌ ، أَوْ أَدَبٌ فَتُتْرَكُ عَلَى حَالِهَا وَتُقَسَّمُ فِي الْمَغْنَمِ مَعَ سَائِرِ أَمْوَالِهِمْ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا كَانَ مَحْظُورًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُتُبِ شِرْكِهِمْ وَشُبَهِ كُفْرِهِمْ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُتْرَكَ عَلَى حَالِهَا ، وَكَذَلِكَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ : لِأَنَّهُمَا قَدْ بُدِّلَا وَغُيِّرَا عَمَّا أَنْزَلَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ ، فَجَرَتْ فِي الْمَنْعِ مِنْ تَرْكِهَا عَلَى حَالِهَا مَجْرَى كُتُبِ شِرْكِهِمْ ، فَتُغْسَلُ وَلَا تُحْرَقُ بِالنَّارِ ، وَإِنِ اخْتَارَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِحْرَاقَهَا : لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ فِيهَا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يُصَانُ عَنِ الْإِحْرَاقِ ، وَلِأَنَّ فِي أَوْعِيَتِهَا إِذَا غُسِلَتْ مَنْفَعَةً لَا يَجُوزُ اسْتِهْلَاكُهَا عَلَى الْغَانِمِينَ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَسْلُهَا مُزِّقَتْ ، حَتَّى يَخْفَى مَا فِيهَا مِنَ الشِّرْكِ ، ثُمَّ بِيعَتْ فِي الْمَغْنَمِ إِنْ كَانَ لَهَا قِيمَةٌ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا خُمُورُهُمْ أي أهل الكتاب الذين قاتلهم المسلمين فَتُرَاقُ وَلَا تُبَاعُ عَلَيْهِمْ ، وَلَا عَلَى غَيْرِهِمْ لِتَحْرِيمِهَا ، وَتَحْرِيمِ أَثْمَانِهَا ، فَأَمَّا أَوَانِيهَا فَإِنْ أَمْكَنَ حَمْلُهَا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لِنَفَاسَتِهَا وَكَثْرَةِ أَثْمَانِهَا ضُمَّتْ إِلَى الْغَنَائِمِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَمْلُهَا ، فَإِنْ غَلَبَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى دَارِهِمْ قُسِّمَتْ بَيْنَهُمْ لِيَنْتَفِعُوا بِهَا بَعْدَ غَسْلِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَغْسِلُوا عَلَى دَارِهِمْ كُسِّرَتْ وَلَمْ تُتْرَكْ عَلَيْهِمْ صِحَاحًا : لِئَلَّا يُعَاوَدَ الِانْتِفَاعُ بِهَا فِي مَحْظُورٍ . وَأَمَّا خَنَازِيرُهُمْ أهل الكتاب المغنومة فَتُقْتَلُ سَوَاءً كَانَتْ مُؤْذِيَةً أَوْ غَيْرَ مُؤْذِيَةٍ ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ : تُقْتَلُ إِنْ كَانَ فِيهَا عَدْوَى ، وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ تَرْكَهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا عَدْوَى ، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَعْجِيلَ قَتْلِهَا خَوْفَ ضَرَرِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ عَادِيَةً ، وَإِنْ وَجَبَ قَتْلُهَا عَادِيَّةً وَغَيْرَ عَادِيَةٍ :

لِأَنَّ الْخَمْرَ تُرَاقُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ عَدْوَى ، فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ قَتْلُهَا تَرَكَهَا كَمَا يَتْرُكُهُمْ إِذَا تَعَذَّرَ قَتْلُهُمْ . وَأَمَّا جَوَارِحُ الصَّيْدِ فَمَا كَانَ مُبَاحَ الْأَثْمَانِ مِنَ الْفُهُودِ وَالنُّمُورِ وَالْبُزَاةِ قُسِّمَتْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ مَعَ الْغَنَائِمِ ، فَأَمَّا الْكِلَابُ المغنومة من أهل الكتاب فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ ، فَلَا يُتَعَرَّضُ لِأَخْذِهِ ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِيهَا فَمَا كَانَ مِنْهَا عَقُورًا مُؤْذِيًا قُتِلَ ، وَتُرِكَ مَا عَدَاهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : يَكُونُ مُنْتَفَعًا بِهَا : إِمَّا فِي صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ حَرْثٍ : فَيَجُوزُ أَخْذُهَا لِيَخْتَصَّ بِهَا مِنَ الْغَانِمِينَ أَهْلِ الِانْتِفَاعِ بِهَا ، فَيُدْفَعُ كِلَابُ الصَّيْدِ إِلَى أَهْلِ الصَّيْدِ خَاصَّةً ، وَتُدْفَعُ كِلَابُ الْمَاشِيَةِ إِلَى أَهْلِ الْمَاشِيَةِ ، وَكِلَابُ الْحَرْثِ إِلَى أَهْلِ الْحَرْثِ ، وَلَا يُعَوَّضُ بَقِيَّةُ الْغَانِمِينَ عَنْهَا : لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْغَانِمِينَ مَنْ يَنْتَفِعُ بِهَا أَعَدَّهَا لِأَهْلِ الْخُمْسِ : لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ يَنْتَفِعُ بِهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَا كَانَ مِثْلُهُ مُبَاحًا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ مِنْ شَجَرٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ صَيْدٍ فِي بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا وُجِدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَا يَكُونُ مِثْلَهُ مُبَاحًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ : صَيْدٌ ، وَأَشْجَارٌ ، وَأَحْجَارٌ ، وَثِمَارٌ ، وَنَبَاتٌ ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ آثَارُ الْمِلْكِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الصَّيْدُ مَوْسُومًا أَوْ مُقَرَّطًا ، أَوْ تَكُونَ الْأَشْجَارُ مَقْطُوعَةً ، وَأَنْ تَكُونَ الْأَحْجَارُ مَصْنُوعَةً ، وَأَنْ تَكُونَ الثِّمَارُ مَقْطُوفَةً ، وَأَنْ يَكُونَ النَّبَاتُ مَجْذُوذًا ، فَهَذِهِ آثَارٌ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ ، فَتَكُونُ غَنِيمَةً لَا يَنْفَرِدُ بِهَا وَاجِدُهَا : لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْآثَارِ تَمْنَعُ مِنَ اسْتِبَاحَتِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَخَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ الْمُبَاحِ فِي دَارِ الشِّرْكِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَلَى خَلْقِهِ الْأَصْلِيِّ لَيْسَ فِيهَا آثَارُ يَدٍ وَلَا صَنْعَةٌ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ فِي أَمْلَاكِهِمْ ، فَهِيَ غَنِيمَةٌ لَا يَمْلِكُهَا وَاجِدُهَا : اعْتِبَارًا بِأُصُولِهَا إِلَّا الصَّيْدَ ، فَإِنْ كَانَ مَرْبُوطًا فَهُوَ فِي حُكْمِهَا غَنِيمَةٌ ، وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَهُوَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ ، وَمَا فِيهِ مِنْ أَحْجَارٍ وَأَشْجَارٍ وَثِمَارٍ وَنَبَاتٍ وَعَسَلِ نَحْلٍ وَصَيْدٍ مُبَاحٍ تَبَعٌ لِأَصْلِهِ ، يَأْخُذُهُ وَاجِدُهُ وَلَا يَكُونُ غَنِيمَةً . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَكُونُ جَمِيعُهُ غَنِيمَةً يُمْنَعُ وَاجِدُهُ مِنْهُ إِلَّا الْحَشِيشَ وَحْدَهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ الْمَاءُ وَالنَّارُ وَالْكَلَأُ وَمَا عَدَاهُ غَنِيمَةٌ تُقَسَّمُ بَيْن

الْغَانِمِينَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ ذُو قِيمَةٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَغْنُومًا كَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَا كَانَ أَصْلُهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ عَلَى الْإِبَاحَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَالْحَشِيشِ ، وَلِأَنَّهَا دَارٌ يُسْتَبَاحُ حَشِيشُهَا : فَاسْتَبَاحَ مَا لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ مِلْكٌ مِنْ مُبَاحِهَا كَدَارِ الْإِسْلَامِ ، وَلِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ أَغْلَظُ حَظْرًا مِنْ دَارِ الشِّرْكِ : فَكَانَ مَا اسْتُبِيحَ فِيهَا أَوْلَى أَنْ يُسْتَبَاحَ فِي دَارِ الشِّرْكِ . وَالْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ مَعَ انْتِقَاضِهِ بِالْحَشِيشِ أَنَّ مَعْنَى أَصْلِهِ أَنَّهُ مَمْلُوكٌ وَهَذَا غَيْرُ مَمْلُوكٍ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا مَعَادِنُ بلاد أهل الحرب إن غنمها المسلمون بِلَادِهِمْ : فَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً فَهِيَ غَنِيمَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي مَوَاتٍ مُبَاحٍ فَهِيَ كَمَعَادِنِ مَوَاتِنَا ، وَنُظِرَ مَا فِيهِ : فَإِنْ كَانَ ظَهَرَ بِعَمَلٍ تَقَدَّمَ فَهُوَ غَنِيمَةٌ لَا يَمْلِكُهُ آخِذُهُ ، وَإِنْ كَانَ كَامِنًا فَهُوَ مِلْكُهُ أَخَذَهُ . وَأَمَّا الرِّكَازُ فَإِنْ كَانَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ فَهُوَ غَنِيمَةٌ ، وَإِنْ كَانَ فِي مَوَاتٍ مُبَاحٍ أَوْ طَرِيقٍ سَابِلٍ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ طَابِعٌ قَرِيبُ الْعَهْدِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرْبَابُهُ أَحْيَاءً فَهَذَا غَنِيمَةٌ لَا يَمْلِكُهَا وَاجِدُهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ طَابِعٌ قَدِيمٌ ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرْبَابُهُ أَحْيَاءً ، فَهَذَا رِكَازٌ يَمْلِكُهُ وَاجِدُهُ ، وَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ خُمْسِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : مَا اسْتُشْكِلَ وَاحْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ غَنِيمَةً اعْتِبَارًا بِالدَّارِ . وَالثَّانِي : يَكُونُ رِكَازًا اعْتِبَارًا بِالْمَالِ . وَأَمَّا مَا وُجِدَ مِنْ عِدَّةِ الْمُحَارِبِينَ وَآلَةِ الْقِتَالِ مِنْ خِيَمٍ وَسِلَاحٍ ، فَعَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لِأَهْلِ الْحَرْبِ فَيَكُونُ غَنِيمَةً . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَكُونَ لُقَطَةً . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مَشْكُوكًا فِيهِ ، فَيُنْظَرَ فَإِنْ وُجِدَ فِي مُعَسْكَرِ أَهْلِ الْحَرْبِ كَانَ غَنِيمَةً ، وَإِنْ وَجَدَهُ فِي مُعَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ لُقَطَةً اعْتِبَارًا بِالْيَدِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ فَإِنْ أُشْكِلَ بُلُوغُهُمْ فَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ فَحُكْمُهُ حُكْمُ طِفْلٍ ، وَمَنْ أَنْبَتَ فَهُوَ بَالِغٌ ، وَالْإِمَامُ فِي الْبَالِغِينَ بِالْخَيَارِ بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَهُمْ بِلَا قَطْعِ يَدٍ

وَلَا عُضْوٍ ، أَوْ يُسْلِمَ أَهْلُ الْأَوْثَانِ وَيُؤَدِّيَ الْجِزْيَةَ أَهْلُ الْكِتَابِ ، أَوْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ أَوْ يُفادِيَهُمْ بِمَالٍ أَوْ بِأَسْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، أَوْ يَسْتَرِقَّهُمْ : فِإِنِ اسْتَرَقَّهُمْ أَوْ أَخَذَ مِنْهُمْ فَسَبِيلُهُ سَبِيلُ الْغَنِيمَةِ : أَسَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ بَدْرٍ فَقَتَلَ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ ، وَالنَّضِرَ بْنَ الْحَارِثِ ، وَمَنَّ عَلَى أَبِي عَزَّةَ الْجُمَحِيِّ : عَلَى أَنْ لَا يُقَاتِلَهُ ، فَأَخْفَرَهُ وَقَاتَلَهُ يَوْمَ أُحُدٍ : فَدَعَا عَلَيْهِ أَنْ لَا يُفْلِتَ ، فَمَا أَسَرَ غَيْرَهُ ، ثُمَّ أَسَرَ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ الْحَنَفِيَّ فَمَنَّ عَلَيْهِ ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ وَفَدَى النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِرَجُلَيْنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْأَسْرَى ضَرْبَانِ : ذُرِّيَّةٌ ، وَمُقَاتِلَةٌ . فَأَمَّا الذُّرِّيَّةُ فَهُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ من الأسرى ، فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ ، وَيُسْتَرَقُّونَ عَلَى مَا سَيَأْتِي حُكْمُهُ ، وَأَمَّا الْمُقَاتِلَةُ من الأسرى فَهُمُ الرِّجَالُ ، وَكُلُّ مَنْ بَلَغَ مِنَ الذُّكُورِ فَهُوَ رَجُلٌ ، سَوَاءٌ اشْتَدَّ وَقَاتَلَ أَمْ لَا ؟ وَيَكُونُ الْإِنْبَاتُ فِيهِمْ بُلُوغًا ، أَوْ فِي حُكْمِ الْبُلُوغِ ؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكَّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَحَكَمَ أَنَّ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي قُتِلَ ، وَمَنْ لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِ اسْتُرِقَّ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : هَذَا حُكْمُ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ ، يَعْنِي سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ، وَالْإِمَامُ فِي رِجَالِهِمْ إِذَا أَقَامُوا عَلَى شِرْكِهِمْ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ - يَجْتَهِدُ فِيهَا رَأْيَهُ - لِيَفْعَلَ أَصْلَحَهَا ، فَيَكُونُ خِيَارَ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ لَا خِيَارَ شَهْوَةٍ وَتَحَكُّمٍ . وَخِيَارُهُ فِي الْأَرْبَعَةِ بَيْنَ أَنْ يُقْتَلَ ، أَوْ يُسْتَرَقَّ ، أَوْ يُفَادَى عَلَى مَالٍ أَوْ أَسْرَى ، أَوْ يَمُنَّ بِغَيْرِ فِدَاءٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَنْ يُقْتَلَ ، أَوْ يُسْتَرَقَّ ، أَوْ يُفَادَى عَلَى مَالٍ أَوْ أَسْرَى ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمُنَّ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَنْ يُقْتَلَ ، أَوْ يُسْتَرَقَّ ، أَوْ يُفَادَى عَلَى مَالٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفَادَى بِأَسْرَى ، وَلَا أَنْ يَمُنَّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ : أَنْ يُقْتَلَ ، أَوْ يُسْتَرَقَّ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفَادَى ، وَلَا أَنْ يَمُنَّ ، فَصَارَ الْقَتْلُ وَالِاسْتِرْقَاقُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِمَا ، أَمَّا الْقَتْلُ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [ التَّوْبَةِ : 5 ] . وَقَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ صَبْرًا يَوْمَ بَدْرٍ ، فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ : مَنْ لِلصَّبِيَّةِ ، فَقَالَ : النَّارُ ، وَقَتَلَ النَّضِرَ بْنَ الْحَارِثِ يَوْمَ بَدْرٍ صَبْرًا . وَأَمَّا الِاسْتِرْقَاقُ فَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَرَقَّ سَبْيَ بَنِي قُرَيْظَةِ ، وَبَنِي الْمُصْطَلِقِ ، وَهَوَازِنَ يَوْمَ حُنَيْنٍ . وَأَمَّا الْفِدَاءُ وَالْمَنُّ لأسرى المشركين ، فَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُمَا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي فِدَاءِ أَسْرَى بَدْرٍ : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ، تُرِيدُونَ عَرَضَ

الدُّنْيَا [ الْأَنْفَالِ : 67 ] يَعْنِي الْمَالَ وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [ الْأَنْفَالِ : 67 ] . يَعْنِي الْعَمَلَ بِمَا يُفْضِي إِلَى ثَوَابِ الْآخِرَةِ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَاوَرَ فِيهِمْ أَصْحَابَهُ ، فَأَشَارَ أَبُو بَكْرٍ بِاسْتِبْقَائِهِمْ وَأَخْذِ فِدَائِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ ، وَأَشَارَ عُمَرُ بِقَتْلِهِمْ : لِأَنَّهُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ وَأَعْدَاءُ رَسُولِهِ ، فَعَمِلَ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ ، وَفَادَى كُلَّ أَسِيرٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ ، فَأَنْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ مَا فَعَلَهُ مِنَ الْفِدَاءِ ، وَقَالَ : لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [ الْأَنْفَالِ : 68 ] . وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لِأَنَّهُ سَيَحِلُّ الْمَغَانِمَ لَكُمْ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ مِنْ فِدَاءِ الْأَسْرَى عَذَابٌ عَظِيمٌ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي : لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ أَنْ لَا يُؤَاخِذَ أَحَدًا بِعَمَلٍ أَتَاهُ عَلَى جَهَالَةٍ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ ، مِنَ الْفِدَاءِ عَذَابٌ عَظِيمٌ قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ : قَالَ : وَإِذَا مَنَعَ مِنَ الْفِدَاءِ كَالْمَنْعِ مِنَ الْمَنِّ أَوْلَى ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ [ مُحَمَّدٍ : 4 ] . وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ ضَرَبَ رِقَابَهُمْ صَبْرًا بَعْدَ الْقُدْرَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قِتَالُهُمُ الْمُفْضِي إِلَى ضَرْبِ رِقَابِهِمْ فِي الْمَعْرَكَةِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ يَعْنِي بِالْإِثْخَانِ الْجِرَاحَ ، وَبِشَدِّ الْوَثَاقِ الْأَسْرَ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ الْأَسْرِ : فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً وَالْمَنُّ الْعَفْوُ ، وَالْفِدَاءُ مَا فُودِيَ بِهِ الْأَسِيرُ ، مِنْ مَالٍ أَوْ أَسِيرٍ ، ثُمَّ قَالَ : حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا تأويلها فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَوْزَارُ الْكُفْرِ بِالْإِسْلَامِ . وَالثَّانِي : أَثْقَالُ السِّلَاحِ بِالظَّفَرِ ، فَوَرَدَ بِإِبَاحَةِ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ نَصُّ الْقُرْآنِ الَّذِي لَا يَجُوزُ دَفْعُهُ ، ثُمَّ جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ ، وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنَّ عَلَى ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ بَعْدَ أَنْ رَبَطَهُ إِلَى سَارِيَةِ الْمَسْجِدِ أَسْرًا ، فَمَضَى وَأَسْلَمَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ ، وَمَنَّ عَلَى أَبِي عَزَّةَ الْجُمَحِيِّ يَوْمَ بَدْرٍ ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَعُودَ لِقِتَالِهِ ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى مَكَّةَ قَالَ : سَخِرْتُ مِنْ مُحَمَّدٍ ، وَعَادَ إِلَى قِتَالِهِ فِي أُحُدٍ ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ لَا يُفْلِتَ ، فَمَا أُسِرَ يَوْمَئِذٍ غَيْرُهُ ، فَقَالَ : امْنُنْ عَلَيَّ فَقَالَ : هَيْهَاتَ ، تَرْجِعُ إِلَى قَوْمِكَ فَتَقُولُ سَخِرْتُ مِنْ مُحَمَّدٍ مَرَّتَيْنِ ، لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَينِ وَضَرَبَ عُنُقَهُ وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى طَرِيقِ الْخَبَرِ : لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ يُلْدَغُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى طَرِيقِ التَّحْذِيرِ . وَيَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ الْفِدَاءِ بِالْأَسْرَى ، مَا رَوَاهُ عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَادَى يَوْمَ بَدْرٍ رَجُلًا بِرَجُلَيْنِ ، وَعَلَى الْفِدَاءِ بِالْمَالِ مَا فَادَى بِهِ أَسْرَى بَدْرٍ .

فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ أَنْكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ قَبْلَ وُرُودِ إِبَاحَتِهِ ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْإِبَاحَةُ فَزَالَ الْإِنْكَارُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَيَّدَ إِنْكَارَهُ بِشَرْطٍ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : حَتَى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ معناها وَفِي إِثْخَانِهِ دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَثْرَةُ الْقَتْلِ . وَالثَّانِي : الِاسْتِيلَاءُ وَالظَّفَرُ ، وَقَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمَا ، فَزَالَ الْإِنْكَارُ وَارْتَفَعَ الْمَنْعُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِمَامَ أَوْ أَمِيرَ الْجَيْشِ مُخَيَّرٌ فِي الْأَسْرَى بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ ، يَفْعَلُ مِنْهُمَا أَصْلَحَهَا فِي كُلِّ أَسِيرٍ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُقَدِّمَ عَرْضَ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ ، فَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا : نَظَرَ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَظِيمَ الْعَدَاوَةِ شَدِيدَ النِّكَايَةِ ، فَهُوَ الْمَنْدُوبُ إِلَى قَتْلِهِ : فَيَقْتُلُهُ صَبْرًا ، يَضْرِبُ الْعُنُقَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَضَرْبَ الرِّقَابِ [ مُحَمَّدٍ : 4 ] . وَقَوْلِهِ : فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ [ الْأَنْفَالِ : 12 ] . وَلَا يُمَثِّلُ بِهِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْمُثْلَةِ ، وَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْإِحْسَانَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى فِي الْقَتْلِ : فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ مَثَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعُرَنِيِّينَ ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ ، وَأَرْجُلَهُمْ ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ ، وَأَلْقَاهُمْ فِي حَرِّ الرَّمْضَاءِ ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي مُتَقَدَّمِ الْأَمْرِ ثُمَّ نُهِيَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ جَزَاءً وَقِصَاصًا : لِأَنَّهُمْ قَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَثَّلُوا بِهِ : فَقَاتَلَهُمْ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [ النَّحْلِ : 126 ] . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْرِقَهُمْ بِالنَّارِ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَا يُعَذِّبُ بِعَذَابِ اللَّهِ غَيْرُ اللَّهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ جَمَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ حِينَ قَاتَلَ أَهْلَ الرِّدَّةِ بِالْيَمَامَةِ جَمَاعَةً مِنَ الْأَسْرَى ، وَأَلْقَاهُمْ فِي حُفَيْرَةٍ وَأَحْرَقَهُمْ بِالنَّارِ ، وَأَخَذَ رَأْسَ زَعِيمِهِمْ فَأَوْقَدَهُ تَحْتَ قِدْرِهِ ، قِيلَ عَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنْكَرَا ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ وَبَرِئَا إِلَى اللَّهِ مِنْ فِعْلِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا كَانَتْ حَالًا لَمْ يَنْتَشِرْ فِيهَا حُكْمُ النَّهْيِ ، فَفَعَلَ خَالِدٌ مِنْ ذَلِكَ مَا اقْتَضَاهُ حُكْمُ السِّيَاسَةِ عِنْدَهُ : لِأَنَّهُ كَانَ فِي مُتَقَدَّمِ الْإِسْلَامِ ، وَكَانُوا أَوَّلَ قَوْمٍ تَظَاهَرُوا

بِالرِّدَّةِ بَعْدَ قَبْضِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَآمَنُوا بِمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ ، فَأَظْهَرَ بِمَا فَعَلَ مِنْ إِحْرَاقِهِمْ بِالنَّارِ ، أَعْظَمَ الْعُقُوبَاتِ لِارْتِكَابِهِمْ أَعْظَمَ الْكُفْرِ ، ثُمَّ عَلِمَ بِالنَّهْيِ فَكَفَّ وَامْتَنَعَ ، فَإِنِ ادَّعَى وَاحِدٌ مِمَّنْ أَمَرَ الْإِمَامُ بِقَتْلِهِ أَنَّهُ غَيْرُ بَالِغٍ ، نُظِرَ ، فَإِنْ لَمْ يَنْبُتْ شَعْرُ عَانَتِهِ قُبِلَ قَوْلُهُ ، وَإِنْ نَبَتَ شَعْرُ عَانَتِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ ، وَفِي قَبُولِ قَوْلِهِ مَعَ الْبَيِّنَةِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْإِنْبَاتِ هَلْ يَكُونُ بُلُوغًا أَوْ دَلَالَةً عَلَيْهِ ؟ فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ بُلُوغٌ لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ وَقُتِلَ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ دَلَالَةٌ عَلَى الْبُلُوغِ سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَكْمِلْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَلَمْ يُقْتَلْ ، فَهَذَا حُكْمُ الْقَتْلِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الِاسْتِرْقَاقُ للأسرى وبيان أحواله وحكمه فَمَنْ عُلِمَ أَنَّهُ قَوِيُّ الْبَطْشِ ذَلِيلُ النَّفْسِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِرْقَاقِ ، وَلَهُ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَجُوزُ إِقْرَارُهُ بِالْجِزْيَةِ كَأَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، أَوْ مَنْ لَهُ شُبْهَةُ كِتَابٍ كَالْمَجُوسِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَرَقَّ ، وَيُقَرَّ عَلَى كُفْرِهِ بِالرِّقِّ كَمَا يُقَرُّ عَلَيْهِ بِالْجِزْيَةِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يُقَرُّ عَلَى كُفْرِهِ بِالْجِزْيَةِ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ ، فَفِي جَوَازِ إِقْرَارِهِ عَلَى كُفْرِهِ بِالِاسْتِرْقَاقِ أي الأسير وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَسُنَّةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجُوزُ أَنْ يُسْتَرَقَّ وَيُقَرَّ عَلَى كُفْرِهِ بِالرِّقِّ ، وَإِنْ لَمْ يُقَرَّ عَلَيْهِ بِالْجِزْيَةِ : لِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ إِقْرَارُهُ بِالْأَمَانِ جَازَ إِقْرَارُهُ بِالِاسْتِرْقَاقِ ، كَالْكِتَابِيِّ طَرْدًا وَكَالْمُرْتَدِّ عَكْسًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ : إِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِقْرَارُهُ بِالِاسْتِرْقَاقِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ إِقْرَارُهُ بِالْجِزْيَةِ ، وَيَبْقَى خِيَارُ الْإِمَامِ فِيهِ بَيْنَ الْقَتْلِ أَوِ الْفِدَاءِ أَوِ الْمَنِّ ، وَلَا فَرْقَ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ بَيْنَ الْعَرَبِ مِنْهُمْ وَالْعَجَمِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانُوا عَجَمًا جَازَ اسْتِرْقَاقُهُمْ ، وَإِنْ كَانُوا عَرَبًا وَجَبَ قَتْلُهُمْ وَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ لِمُبَالَغَةِ الْعَرَبِ فِي عَدَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِخْرَاجِهِ مِنْ بَلَدِهِ ، فَصَارُوا بِذَلِكَ أَغْلَظَ جُرْمًا وَصَارَ قَتْلُهُمْ مُحَتَّمًا ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحْدُهُمَا : أَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ عُقُوبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْكُفْرِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهَا الْعَرَبِيُّ وَالْعَجَمِيُّ كَالْقَتْلِ . وَالثَّانِي : أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ إِذَا كَانَ أَعْجَمِيًّا ، جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ إِذَا كَانَ عَرَبِيًّا كَأَهْلِ الْكِتَابِ فَهَذَا حُكْمُ الِاسْتِرْقَاقِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفِدَاءُ بِالْمَالِ ، فَمَنْ عُلِمَ أَنَّهُ كَثِيرُ الْمَالِ ، مَأْمُونُ الْعَاقِبَةِ ، وَافْتَدَى نَفْسَهُ بِمَالٍ ، قُبِلَ مِنْهُ الْفِدَاءُ ، وَأَطْلَقَهُ عَلَيْهِ ، وَكَانَ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ غَنِيمَةً تُقَسَّمُ بَيْنَ

الْغَانِمِينَ ، وَيَكُونُ الَّذِي اسْتَأْسَرَهُ فِي فِدَائِهِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْغَانِمِينَ سَوَاءً كَمَا يَكُونُ الْغَانِمُ لِلْمَالِ وَغَيْرُهُ فِيهِ سَوَاءً . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ كَانَ فِدَاءُ أَسْرَى بَدْرٍ بِأَخْذِهِ مَنِ اسْتَأْسَرَهُمْ ، وَلِذَلِكَ سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ ، وَقَدْ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ ، وَهُوَ زَوْجُ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنْفَذَتْ فِي جُمْلَةِ فِدَائِهِ قِلَادَةً كَانَتْ لَهَا جَهَّزَتْهَا بِهَا خَدِيجَةُ ، فَلَمَّا أَبْصَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَفَهَا وَرَقَّ لَهَا ، وَقَالَ : إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا مَالَهَا فَافْعَلُوا فَلَوْلَا حَقُّهُمْ فِيهِ لَتَفَرَّدَ بِالرَّدِّ ، وَلَمَا سَأَلَهُمْ ، فَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ : اسْتِطَابَةً لِقُلُوبِهِمْ وَإِنْ كَانَ أَمْرُهُ فِيهِ نَافِذًا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرَّ حُكْمُ الْأَسْرَى وَالْغَنَائِمِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ حَقٌّ لِجَمِيعِهِمْ لَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ فَاسْتَطَابَ نُفُوسَهُمْ فِيهِ . وَأَمَّا الْفِدَاءُ وَالْأَسْرَى : فَهُوَ لِمَنْ كَانَ فِي أَيْدِي قَوْمِهِ أَسْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَهُمْ مُشْفِقُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَسْرَى وَمُفْتَدُونَ لَهُ بِمَنْ فِي أَيْدِيهِمْ ، فَيُفَادِي بِهِ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ بِهِ أَكْثَرَ مِنْهُ ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَادَى كُلَّ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِرَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُفَادِيَ كُلَّ رَجُلٍ إِلَّا بِرَجُلٍ جَازَ ، وَلَوْ دَعَتْهُ الضَّرُورَةُ أَنْ يُفَادِيَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِرَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَعَلَ ، فَهَذَا حُكْمُ الْفِدَاءِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمَنُّ بِغَيْرِ الْفِدَاءِ ، فَهُوَ فِيمَنْ عُلِمَ مِنْهُ مَيْلٌ إِلَى الْإِسْلَامِ ، أَوْ طَاعَةٌ فِي قَوْمِهِ : يَتَأَلَّفُهُمْ بِهِ فَهُوَ الَّذِي يُمَنُّ عَلَيْهِ ، كَمَا مَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ : فَعَادَ مُسْلِمًا فِي عَدَدٍ مِنْ قَوْمِهِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَظْهِرَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يَعُودَ إِلَى قِتَالِهِ ، كَمَا شَرَطَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَبِي عَزَّةَ الْجُمَحِيِّ ، فَلَمْ يَفِ بِهِ وَعَادَ لِقِتَالِهِ ، وَظَفِرَ بِهِ فَضَرَبَ رَقَبَتَهُ . فَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي الْأَسْرَى عَبْدٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُمَنَّ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ مَالٌ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَدَّ عَلَيْهِمْ غَنَائِمُهُمْ وَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى اسْتِرْقَاقِهِ : لِأَنَّهُ مُسْتَرَقٌّ ، وَكَانَ الْإِمَامُ فِيهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُقَسِّمَهُ بَيْنَ الْغَنَائِمِ مَعَ الْأَمْوَالِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَقْتُلَهُ إِنْ خَالَفَ عَاقِبَتَهُ وَيُعَوِّضَ الْغَانِمِينَ عَنْهُ : لِأَنَّهُ مَالٌ بِخِلَافِ مَنْ قَتَلَهُ مِنَ الْأَحْرَارِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْتَدِيَ بِهِ أَسْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَيُعَوِّضَ عَنْهُ الْغَانِمِينَ ، وَسَنَذْكُرُ مَنْ أَسْلَمَ .

فَصْلٌ : فَإِنْ قَتَلَ مُسْلِمٌ أسيره هَذَا الْأَسِيرَ فَلَا يَخْلُو حَالُ قَتْلِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ . إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ نُفُوذِ حُكْمِ الْإِمَامِ فِيهِ ، أَوْ يَكُونَ قَبْلَهُ . فَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ نُفُوذِ حُكْمِ الْإِمَامِ فِيهِ ، فَلَا يَخْلُ حُكْمُهُ مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ :

أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ حَكَمَ بِقَتْلِهِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى قَاتِلِهِ ، لَكِنْ يُعَزَّرُ لِافْتِيَاتِهِ عَلَى الْإِمَامِ فِي قَتْلِ مَنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِقَتْلِهِ وَإِنْ كَانَ قَتْلُهُ مُبَاحًا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قَدِ اسْتَرَقَّهُ فَيَضْمَنُهُ قَاتِلُهُ بِقِيمَتِهِ عَبْدًا ، وَتَكُونُ الْقِيمَةُ مِنَ الْغَنِيمَةِ تُقَسَّمُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قَدْ فَادَى بِهِ عَلَى مَالٍ أَوْ أَسْرَى فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقْتُلَهُ قَبْلَ فَرْضِ الْإِمَامِ فِدَاءً فَيَضْمَنَ دِيَتَهُ مِنْ مَالِ الْغَنِيمَةِ : لِأَنَّهُ صَارَ لَهُ بِالْفِدَاءِ أَمَانٌ فَيَضْمَنُ دِيَتَهُ ، وَصَارَ بَقَاءُ الْفِدَاءِ مُوجِبًا لِصَرْفِ الدِّيَةِ إِلَى الْغَنِيمَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَقْتُلَهُ بَعْدَ فَرْضِ الْإِمَامِ فِدَاءً وَقَبْلَ إِطْلَاقِهِ أي يقتل الأسير فَيَضْمَنُهُ بِالدِّيَةِ لِوَرَثَتِهِ دُونَ الْغَانِمِينَ لِاسْتِيفَاءِ فِدَائِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَقْتُلَهُ بَعْدَ قَبْضِ فِدَائِهِ وَإِطْلَاقِهِ إِلَى مَأْمَنِهِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِعَوْدِهِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَسْرِهِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : مِنْ أَقْسَامِ الْأَصْلِ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قَدْ مَنَّ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ بَعْدَ الْمَنِّ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقْتُلَهُ قَبْلَ حُصُولِهِ فِي مَأْمَنِهِ فَيَضْمَنَهُ بِالدِّيَةِ لِوَرَثَتِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَقْتُلَهُ بَعْدَ حُصُولِهِ فِي مَأْمَنِهِ فَلَا يَضْمَنَهُ وَيَكُونَ دَمُهُ هَدْرًا . وَأَمَّا إِذَا قَتَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْإِمَامُ فِيهِ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْأَرْبَعَةِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ : لَكِنْ يُعَزَّرُ أَدَبًا ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : يَضْمَنُهُ بِالدِّيَةِ لِلْغَانِمِينَ لِافْتِيَاتِهِ عَلَيْهِمْ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ مَا لَمْ يَحْدُثْ حَظْرٌ فَأَشْبَهَ الْمُرْتَدَّ . وَالثَّانِي : أَنَّ قَتْلَ الْإِمَامِ لَهُ لَمَّا لَمْ يُوجِبْ ضَمَانًا لَمْ يُوجِبْ قَتْلَ غَيْرِهِ كَالْحَرْبِيِّ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْأَسْرِ رُقُّوا ، وَإِنْ أَسْلَمُوا قَبْلَ الْأَسْرِ فَهُمْ أَحْرَارٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ إِسْلَامِهِمْ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَبْلَ أَسْرِهِمْ ، فَيَسْقُطَ خِيَارُ الْإِمَامِ فِيهِمْ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ وَلَا يُسْتَرَقَّ وَلَا يُفَادَى ، وَهُمْ كَمَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ الْقِتَالِ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ ، وَسَوَاءٌ أَسْلَمُوا وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الْهَرَبِ ، أَوْ كَانُوا فِي حِصَارٍ ، أَوْ مَضِيقٍ قَدْ أُحِيطَ بِهِمْ ، وَلَوْ فِي بِئْرٍ : لِأَنَّهُمْ قَبْلَ الْإِسَارِ يَجُوزُ أَنْ يَتَخَلَّصُوا فَجَرَى عَلَى إِسْلَامِهِمْ حُكْمُ الِاخْتِيَارِ ،

وَقَدْ أَسْلَمَ ابْنَا شُعْبَةَ الْيَهُودِيَّانِ فِي حِصَارٍ فَأَحْرَزَا بِإِسْلَامِهِمَا دِمَاءَهُمَا وَأَمْوَالَهُمَا ، وَهَكَذَا مَنْ بَذَلَ الْجِزْيَةَ قَبْلَ الْإِسَارِ حُقِنَ بِهَا دَمُهُ ، وَحَرُمَ بِهَا اسْتِرْقَاقُهُ ، وَصَارَتْ لَهُ بِهَا ذِمَّةٌ كَسَائِرِ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، فَإِنْ أَقَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَنَعْنَا عَنْهُ نُفُوسَنَا وَغَيْرَنَا ، وَإِنْ أَقَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَنَعْنَا عَنْهُ نُفُوسَنَا ، وَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ نَمْنَعَ مِنْهُ غَيْرَنَا .

فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُسْلِمُوا بَعْدَ الْإِسَارِ وَحُصُولِهِمْ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ ، فَيَسْقُطُ الْقَتْلُ عَنْهُمْ بِإِسْلَامِهِمْ ، وَيَحْقِنُوا بِهِ دِمَاءَهُمْ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمَوَالَهُمْ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ مُوجِبٌ لِحَقْنِ دِمَائِهِمْ ، فَإِنْ بَذَلُوا الْجِزْيَةَ بَعْدَ الْإِسَارِ وَلَمْ يُسْلِمُوا نُظِرِ فِيهِمْ ، فَإِنْ كَانُوا مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ لَمْ تُقْبَلْ جِزْيَتُهُمْ ، وَلَمْ تُحْقَنْ بِهَا دِمَاؤُهُمْ ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَفِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَقَبُولِ الْجِزْيَةِ بَعْدَ الْإِسَارِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَحَدُهُمَا : تُحْقَنُ بِهَا دِمَاؤُهُمْ بَعْدَ الْإِسَارِ كَمَا تُحْقَنُ بِهَا دِمَاؤُهُمْ قَبْلَ الْإِسَارِ كَالْإِسْلَامِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تُحْقَنُ بِهَا دِمَاؤُهُمْ بَعْدَ الْإِسَارِ وَإِنْ حُقِنَتْ بِهَا قَبْلَهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ [ التَّوْبَةِ : 29 ] . وَلَيْسَ لَهُمْ بَعْدَ الْإِسَارِ يَدٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا سَقَطَ قَتْلُهُمْ بَعْدَ الْإِسَارِ بِالْإِسْلَامِ ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا : فَإِنْ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْإِسَارِ رُقُّوا ، وَإِنْ أَسْلَمُوا قَبْلَ الْإِسَارِ فَهُمْ أَحْرَارٌ ، وَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا رَقِيقًا بِالْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ اسْتِرْقَاقٍ ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : إِنَّهُمْ لَا يَصِيرُونَ رَقِيقًا حَتَّى يُسْتَرَقُّوا ، فَخَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ قَدْ رُقُّوا بِالْإِسْلَامِ : لِأَنَّ كُلَّ أَسِيرٍ حَرُمَ قَتْلُهُ رُقَّ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ خِيَارُ الْإِمَامِ فِي الْفِدَاءِ وَالْمَنِّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهُمْ لَا يُرَقُّونَ إِلَّا بِالِاسْتِرْقَاقِ : لِأَنَّ سُقُوطَ الْخِيَارِ مِنَ الْقَتْلِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَهُ فِي الْبَاقِي كَالْكَفَّارَةِ ، إِذَا سَقَطَ خِيَارُهُ فِي الْعِتْقِ لِعَدَمِهِ لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُهُ فِيمَا عَدَاهُ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْإِمَامُ عَلَى خِيَارِهِ فِيهِ بَيْنَ الِاسْتِرْقَاقِ أَوِ الْفِدَاءِ أَوِ الْمَنِّ ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ الْعُقَيْلِيَّ أُسِرَ وَأُوثِقَ فِي الْحَرَّةِ ، فَمَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : بِمَ أُخِذْتُ وَأُخِذَتْ سَابِقَةُ الْحَاجِّ ، فَقَالَ : بِجَرِيرَتِكَ وَجَرِيرَةِ حُلَفَائِكَ مِنْ ثَقِيفٍ ، فَقَالَ : إِنِّي جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِي ، وَعَطْشَانُ فَأَسْقِنِي ، فَأَطْعَمَهُ وَسَقَاهُ ، فَقَالَ لَهُ : أَسْلِمْ ، فَأَسْلَمَ ، فَقَالَ : لَوْ قُلْتَهَا قَبْلَ هَذَا لَأَفْلَحْتَ كُلَّ الْفَلَاحِ ، وَفَادَاهُ بِرَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ . فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرَقُّ بِالْإِسْلَامِ حَتَّى يُسْتَرَقَّ ، وَأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ فِي الْفِدَاءِ وَالْمَنِّ .

وَقَوْلُهُ : وَأُخِذَتْ سَابِقَةُ الْحَاجِّ يَعْنِي بِهَا نَاقَةً كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَابِقَةَ الْحَاجِّ ، أَخَذَهَا الْمُشْرِكُونَ وَصَارَتْ إِلَى الْعُقَيْلِيِّ ، فَأُخِذَتْ مِنْهُ بَعْدَ أَسْرِهِ ، فَأَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ سَابِقَةَ الْحَاجِّ قَدْ أُخِذَتْ مِنِّي فَفِيمَ أُوخَذُ بَعْدَهَا ، فَقَالَ لَهُ : بِجَرِيرَتِكَ وَجَرِيرَةِ قَوْمِكَ ، يَعْنِي بِجِنَايَتِكَ وَجِنَايَةِ قَوْمِكَ : لِأَنَّهُمْ نَقَضُوا عَهْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يُؤْخَذُ بِجِنَايَةِ غَيْرِهِ مِنْ قَوْمِهِ . قِيلَ : لَمَّا كَانَ مِنْهُمْ وَمُشَارِكًا لَهُمْ فِي أَفْعَالِهِمْ صَارَ مُشَارِكًا لَهُمْ فِي الْأَخْذِ بِجِنَايَتِهِمْ ، فَأَمَّا إِنْ سَقَطَ عَنْهُ الْقَتْلُ ، بِهِ الْإِسَارُ بِبَذْلِ الْجِزْيَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ لَمْ يُرَقَّ بِبَذْلِهَا قَوْلًا وَاحِدًا ، حَتَّى يُسْتَرَقَّ وَكَانَ الْإِمَامُ فِيهِ عَلَى خِيَارِهِ بَيْنَ اسْتِرْقَاقِهِ وَمُفَادَاتِهِ وَالْمَنِّ عَلَيْهِ : بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ بَقَاءَ كُفْرِهِ يُوجِبُ إِبْقَاءَ أَحْكَامِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا الْتَقَوْا وَالْعَدُوَّ فَلَا يُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ " مَنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَلَمْ يَفِرَّ وَمَنْ فَرَّ مِنَ اثْنَيْنِ فَقَدْ فَرَّ " ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) هَذَا عَلَى مَعْنَى التَّنْزِيلِ فَإِذَا فَرَّ الْوَاحِدُ مِنَ الِاثْنَيْنِ فَأَقَلَّ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقَتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ بِحَضْرَتِهِ أَوْ مُبِينَةٍ عَنْهُ فَسَوَاءٌ ، وَنِيَّتُهُ فِي التَّحْرِيفِ وَالتَّحَيُّزِ لِيَعُودَ لِلْقِتَالِ الْمُسْتَثْنَى الْمُخْرِجِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ ، فَإِنْ كَانَ هَرَبُهُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى خِفْتُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْجِهَادَ حكمه قبل التقاء الزحفين وبعده مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ قَبْلَ الْتِقَاءِ الزَّحْفَيْنِ ، وَمِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ إِذَا الْتَقَى الزَّحْفَانِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [ الْأَنْفَالِ : 45 ] . فَأَمَرَ بِمُصَابَرَةِ الْعَدُوِّ بَعْدَ لِقَائِهِ ، وَالثَّبَاتِ لِقِتَالِهِ ، وَقَالَ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا [ آلِ عِمْرَانَ : 200 ] . الْآيَةَ ، وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : اصْبِرُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ ، وَصَابِرُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ ، وَرَابِطُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ . وَالثَّانِي : اصْبِرُوا عَلَى دِينِكُمْ ، وَصَابِرُوا الْوَعْدَ الَّذِي وَعَدَكُمْ ، وَ " رَابِطُوا " عَدُوِّي وَعَدُّوَكُمْ ، وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ . وَقَوْلُهُ : لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [ آلِ عِمْرَانَ : 200 ] . أَيْ لِتُفْلِحُوا ، وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : لِتُؤَدُّوا فَرْضَكُمْ . وَالثَّانِي : لِتُنْصَرُوا عَلَى عَدُوِّكُمْ .

وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ فِي ابْتِدَاءِ فَرْضِ الْجِهَادِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُصَابِرَ فِي الْقِتَالِ عَشَرَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ [ الْأَنْفَالِ : 65 ] . وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَعْلَمُونَ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ . وَالثَّانِي : لَا يَعْلَمُونَ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْقِتَالِ ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَخَ ذَلِكَ عَنْهُمْ عِنْدَ كَثْرَتِهِمْ وَاشْتِدَادِ شَوْكَتِهِمْ لِعِلْمِهِ بِدُخُولِ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ ، فَأَوْجَبَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ لَاقَى الْمُشْرِكِينَ مُحَارِبًا أَنْ يَقِفَ بِإِزَاءِ رَجُلَيْنِ بَعْدَ أَنْ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ بِإِزَاءِ عَشَرَةٍ تَخْفِيفًا وَرُخْصَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى : الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [ الْأَنْفَالِ : 66 ] . وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : بِمَعُونَةِ اللَّهِ . وَالثَّانِي : بِمَشِيئَةِ اللَّهِ ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَعَ الصَّابِرِينَ عَلَى الْقِتَالِ فِي مَعُونَتِهِمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ . وَالثَّانِي : مَعَ الصَّابِرِينَ عَلَى الطَّاعَةِ فِي قَبُولِ عَمَلِهِمْ وَإِجْزَالِ ثَوَابِهِمْ ، فَصَارَ فَرْضًا عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مُسْلِمٍ لَاقَى عَدُوَّهُ زَحْفًا فِي الْقِتَالِ أَنْ يُقَاتِلَ رَجُلَيْنِ مُصَابِرًا لِقِتَالِهِمَا ، وَلَا يَلْزَمُهُ مُصَابَرَةَ أَكْثَرَ مِنْ رَجُلَيْنِ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْوَاحِدَ إِذَا انْفَرَدَ أَنْ يُصَابِرَ قِتَالَ رَجُلَيْنِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ الْجَمَاعَةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا لَاقَوْا عَدُوَّهُمْ أَنْ يُصَابِرُوا قِتَالَ مِثْلَيْ عَدَدِهِمْ . هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ حَالِهِمْ ، وَمَوْعِدٌ مِنْهُ إِذَا صَابَرُوا مِثْلَيْ عَدَدِهِمْ أَنْ يَغْلِبُوا ، وَلَيْسَ بِأَمْرٍ مَفْرُوضٍ اعْتِبَارًا بِلَفْظِ الْقُرْآنِ ، وَأَنَّهُ خَارِجٌ مَخْرَجَ الْخَبَرِ دُونَ الْأَمْرِ . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَقَتَادَةُ : هُوَ خَارِجٌ مَخْرَجَ الْأَمْرِ ، لَكِنَّهُ خَاصٌّ فِي أَهْلِ بَدْرٍ دُونَ غَيْرِهِمْ ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ فَاسِدٌ : لِأَنَّهُ لَوْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْخَبَرِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ بِخِلَافِ مُخْبَرِهِ وَقَدْ يُوجَدُ أَحْيَانًا خِلَافُهُ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَصَّ بِأَهْلِ بَدْرٍ لِنُزُولِ الْآيَةِ بَعْدَ بَدْرٍ ، وَأَنَّ مَنْ قَاتَلَ بِبَدْرٍ إِنْ لَمْ يُخَفَّفْ عَنْهُمْ لَمْ يُغْلَظْ عَلَيْهِمْ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مَحْمُولٌ عَلَى الْعُمُومِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ فَرْضَ الْمُصَابَرَةِ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَقِفُوا مُصَابِرِينَ لِقِتَالِهِمْ مِثْلَيْهِمْ ، وَلَا يَلْزَمَهُمْ مُصَابَرَةُ أَكْثَرَ مِنْ مِثْلَيْهِمْ فَلَهُمْ فِي الْقِتَالِ حَالَتَانِ :

إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَرْجُوا الظَّفَرَ بِهِمْ إِنْ صَابَرُوهُمْ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِمْ مُصَابَرَةُ عَدُوِّهُمْ حَتَّى يَظْفَرُوا بِهِمْ ، سَوَاءٌ قَلُّوا أَوْ كَثُرُوا ، وَهَذَا أَكْثَرُ مُرَادِ الْآيَةِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يَرْجُوا الظَّفَرَ بِهِمْ ، فَهَاهُنَا يُعْتَبَرُ الْمُشْرِكُونَ ، فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ مِثْلَيِ الْمُسْلِمِينَ جَازَ أَنْ يُوَلُّوا الْمُسْلِمِينَ عَنْهُمْ ، وَيَرْجِعُوا عَنْ قِتَالِهِمْ ، فَإِنْ أَقَامُوا عَلَى الْمُصَابَرَةِ وَالْقِتَالِ في قتال المشركين كَانَ مُقَامُهُمْ أَفْضَلَ إِنْ لَمْ يَتَحَقَّقُوا التَّلَفَ ، وَفِي جَوَازِهِ إِنْ تُحُقِّقَ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُوَلُّوا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَابِرُوا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يُصَابِرُوا ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُوَلُّوا ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ لِوَجْهَيْنِ فِيمَنْ أُرِيدَتْ نَفْسُهُ ، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَنْعُ عَنْهُمَا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، وَإِنْ كَانُوا مِثْلَيِ الْمُسْلِمِينَ المشركين فَأَقَلُّ جُرْمٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُوَلُّوا عَنْهَا وَيَنْهَزِمُوا مِنْهُمْ إِلَّا فِي حَالَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَتَحَرَّفُوا لِقِتَالٍ . وَالثَّانِيَةُ : أَنْ يَتَحَيَّزُوا إِلَى فِئَةٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ [ الْأَنْفَالِ : 15 - 16 ] الْآيَةَ ، فَدَلَّ هَذَا الْوَعِيدُ عَلَى أَنَّ الْهَزِيمَةَ لِغَيْرِ هَذَيْنِ مِنْ كَبَائِرِ الْمَعَاصِي ، وَقَدْ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكَبَائِرَ ، فَذَكَرَ فِيهَا الْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ لَمْ يَفِرَّ ، وَمَنْ فَرَّ مِنَ اثْنَيْنِ فَقَدْ فَرَّ " . فَأَمَّا التَّحَرُّفُ لِلْقِتَالِ فَهُوَ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الْقِتَالِ إِلَى مَوْضِعٍ هُوَ أَصْلَحُ لِلْقِتَالِ ، بِأَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ مَضِيقٍ إِلَى سَعَةٍ ، وَمِنْ حَزْنٍ إِلَى سُهُولَةٍ ، وَمِنْ مَعْطَشَةٍ إِلَى مَاءٍ ، وَمِنَ اسْتِقْبَالِ الرِّيحِ وَالشَّمْسِ إِلَى اسْتِدْبَارِهِمَا ، وَمِنْ مَوْضِعِ كَمِينٍ إِلَى حِرْزٍ أَوْ يُوَلِّيَ هَارِبًا لِيَعُودَ طَالِبًا : لِأَنَّ الْحَرْبَ هَرَبٌ وَطَلَبٌ وَكَرٌّ وَفَرٌّ ، فَهَذَا وَمَا شَاكَلَهُ هُوَ التَّحَرُّفُ لِقِتَالٍ . وَأَمَّا التَّحَيُّزُ إِلَى فِئَةٍ فَهُوَ أَنْ يُوَلِّيَ لِيَنْضَمَّ إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَعُودَ مَعَهُمْ مُحَارِبًا ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الطَّائِفَةُ قَرِيبَةً أَوْ بَعِيدَةً . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " قَرِيبَةً أَوْ مُبِينَةً " يَعْنِي مُتَأَخِّرَةً ، حَتَّى لَوِ انْهَزَمَ مِنَ الرُّومِ إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ الْحِجَازِ ، كَانَ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ . رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ : أَنَا فِئَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ ، فَإِنِ انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ مِثْلَيْ عَدَدِهِمْ غَيْرَ مُتَحَرِّفِينَ لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزِينَ إِلَى فِئَةٍ فَهُمْ عُصَاةٌ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَسَقَةٌ فِي دِينِهِمْ ، إِلَّا أَنْ يَتُوبُوا .

وَهَلْ يَكُونُ مِنْ شُرُوطِ التَّوْبَةِ مُعَاوَدَةُ الْقِتَالِ اسْتِدْرَاكًا لِتَفْرِيطِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا مُعَاوَدَةَ الْقِتَالِ اسْتِدْرَاكًا لِتَفْرِيطِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَيْسَ مِنْ صِحَّتِهَا الْعَوْدُ ، وَلَكِنْ يَنْوِي أَنَّهُ مَتَى عَادَ لَمْ يَنْهَزِمْ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْلِمُونَ فُرْسَانًا وَالْمُشْرِكُونَ رَجَّالَةً ، فِي جَوَازِ انْهِزَامِهِمْ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ مِثْلَيْ عَدَدِهِمْ ، أَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ رَجَّالَةً وَالْمُشْرِكُونَ فُرْسَانًا فِي تَحْرِيمِ انْهِزَامِهِمْ مِنْ مِثْلِ عَدَدِهِمْ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الرَّجُلُ الْوَاحِدُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، إِذَا لَقِيَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَإِنْ طَلَبَاهُ وَلَمْ يَطْلُبْهُمَا جَازَ لَهُ أَنْ يَنْهَزِمَ عَنْهُمَا : لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَأَهِّبٍ لِقِتَالِهِمَا ، وَإِنْ طَلَبَهُمَا وَلَمْ يَطْلُبَاهُ فَفِي جَوَازِ انْهِزَامِهِ عَنْهُمَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، يَجُوزُ أَنْ يَنْهَزِمَ عَنْهُمَا بِخِلَافِ الْجَمَاعَةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ : لِأَنَّ فَرْضَ الْجِهَادِ فِي الْجَمَاعَةِ دُونَ الِانْفِرَادِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْهَزِمَ عَنْهُمَا إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ ، أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ كَالْجَمَاعَةِ : لِأَنَّ طَلَبَهُ لَهُمَا قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِ حُكْمَ الْجَمَاعَةِ .

فَصْلٌ : فَإِنْ تَحَقَّقَتِ الْجَمَاعَةُ الْمُقَاتِلَةُ لِمِثْلَيْ عَدُوِّهِمْ أَنَّهُمْ إِنْ صَابَرُوهُمْ هَلَكُوا ، فَفِي جَوَازِ هَزِيمَتِهِمْ مِنْهُمْ غَيْرَ مُتَحَرِّفِينَ لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزِينَ إِلَى فِئَةٍ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَنْهَزِمُوا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [ الْبَقَرَةِ : 195 ] . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَنْهَزِمُوا : لِأَنَّ فِي التَّعَرُّضِ لِلْجِهَادِ أَنْ يَكُونَ قَاتِلًا أَوْ مَقْتُولًا : لِأَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى اسْتِدْرَاكِ الْمَأْثَمِ فِي هَزِيمَتِهِمْ أَنْ يَنْوُوا التَّحَرُّفَ لِقِتَالٍ ، أَوِ التَّحَيُّزَ إِلَى فِئَةٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَنَصَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ مَنْجَنِيقًا أَوْ عَرَادَةً وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ فِيهِمُ النِّسَاءَ وَالْوِلْدَانَ ، وَقَطَعَ أَمْوَالَ بَنِي النَّضِيرِ ، وَحَرَّقَهَا وَشَنَّ الْغَارَةَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ غَارِّينَ ، وَأَمَرَ بِالْبَيَاتِ وَالتَّحْرِيقِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا ذَكَرَ ، وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَاتِلَ الْمُشْرِكِينَ بِكُلِّ مَا عَلِمَ أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى الظَّفَرِ بِهِمْ مِنْ نَصْبِ الْمَنْجَنِيقِ وَالْعَرَادَةِ عَلَيْهِمْ ، وَقَدْ نَصَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الطَّائِفِ حِينَ حَاصَرَهَا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ مَنْجَنِيقًا أَوْ عَرَادَةً ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشُنَّ عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ وَهُمْ غَارُّونَ لَا يَعْلَمُونَ ، قَدْ شَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْغَارَةَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ غَارِّينَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَضَعَ عَلَيْهِمُ الْبَيَاتَ لَيْلًا ، وَيَحْرِقَ عَلَيْهِمْ دِيَارَهُمْ وَيُلْقِيَ عَلَيْهِمُ

النِّيرَانَ وَالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ ، وَيَهْدِمَ عَلَيْهِمُ الْبُيُوتَ ، وَيُجْرِيَ عَلَيْهِمُ السَّيْلَ ، وَيَقْطَعَ عَنْهُمُ الْمَاءَ ، وَيَفْعَلَ بِهِمْ جَمِيعَ مَا يُفْضِي إِلَى هَلَاكِهِمْ ، وَلَا يَمْنَعُ مَنْ فِيهِمْ مِنَ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ، وَإِنْ أَفْضَى إِلَى هَلَاكِ نِسَائِهِمْ وَأَطْفَالِهِنَّ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَمْنَعْهُ مَنْ فِي بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْهُمْ مِنْ شَنِّ الْغَارَاتِ عَلَيْهِمْ ، وَلَا مِنْ ثَقِيفٍ مِنْ نَصْبِ الْمَنْجَنِيقِ عَلَيْهِمْ ، وَلِأَنَّ نَهْيَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ إِنَّمَا كَانَ فِي السَّبْيِ الْمَغْنُومِ أَنْ يُقْتَلُوا صَبْرًا ، وَلِأَنَّهُمْ غَنِيمَةٌ ، فَأَمَّا وَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهِيَ دَارُ إِبَاحَةٍ يَصِيرُونَ فِيهَا تَبَعًا لِرِجَالِهِمْ . رَوَى الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ دَارِ الشِّرْكِ فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ ، فَقَالَ : " هُمْ مِنْهُمْ " يَعْنِي فِي حُكْمِهِمْ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ فِيهِمْ أُسَارَى مُسْلِمُونَ فهل تحرق ديارهم ويقاتلوا بكل وسيلة ؟ ، فَلَا يَخْلُو جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَخَافُوا اصْطِدَامَ الْعَدُوِّ أَوْ يَأْمَنُوهُ ، فَإِنْ خَافُوا اصْطِدَامَهُ جَازَ أَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ مَا يُفْضِي إِلَى هَلَاكِهِمْ ، وَإِنْ هَلَكَ مَعَهُمْ مَنْ بَيْنَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ : لِأَنَّ سَلَامَةَ الْأَكْثَرِ مَعَ تَلَفِ الْأَقَلِّ أَوْلَى . وَإِنْ أَمِنُوا اصْطِدَامَهُمْ نُظِرَ فِي عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَسْرَى ، فَإِنْ كَثُرَ وَعُلِمَ أَنَّهُمْ لَا يُسَلِّمُونَ إِنْ رَمَوْا كُفَّ عَنْ رَمْيِهِمْ وَتَحْرِيقِهِمْ ، وَإِنْ قَلُّوا وَأَمْكَنَ أَنْ يُسَلِّمُوا إِنْ رَمَوْا جَازَ رَمْيُهُمْ ، وَقَدْ تَوَقَّى الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ : لِأَنَّ إِبَاحَةَ الدَّارِ يَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الْإِبَاحَةِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا حَظْرٌ كَمَا أَنَّ حَظْرَ دَارِ الْإِسْلَامِ يَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الْحَظْرِ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مُبَاحُ الدَّمِ ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنَعَتْ دَارُ الْإِسْلَامِ مَا فِيهَا وَأَبَاحَتْ دَارُ الشِّرْكِ مَا فِيهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَقَطَعَ بِخَيْبَرَ وَهِيَ بَعْدَ النَّضِيرِ وَالطَّائِفِ وَهِيَ آخِرُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَقِيَ فِيهَا قِتَالًا ، فَبِهَذَا كُلِّهِ أَقُولُ وَمَا أُصِيبَ بِذَلِكَ مِنَ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ فَلَا بَأْسَ : لِأَنَّهُ عَلَى غَيْرِ عَمْدٍ فَإِنْ كَانَ فِي دَارِهِمْ أُسَارَى مُسْلِمُونَ أَوْ مُسْتَأْمَنُونَ كَرِهْتُ النَّصْبَ عَلَيْهِمِ بِمَا يَعُمُّ مِنَ التَّحْرِيقِ وَالتَّغْرِيقِ احْتِيَاطًا غَيْرَ مُحَرَّمٍ لَهُ تَحْرِيمًا بَيِّنًا : وَذَلِكَ أَنَّ الدَّارَ إِذَا كَانَتْ مُبَاحَةً فَلَا يَبِينُ أَنْ يَحْرُمَ بِأَنْ يَكُونَ فِيهَا مُسْلِمٌ يَحْرُمُ دَمُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا ذُكِرَ يَجُوزُ أَنْ يَقْطَعَ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ نَخْلَهُمْ وَشَجَرَهُمْ ، وَيَسْتَهْلِكَ عَلَيْهِمْ زَرْعَهُمْ وَثَمَرَهُمْ ، إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى الظَّفَرِ بِهِمْ ، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ ذَلِكَ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [ الْبَقَرَةِ : 60 ] . وَهَذَا فَسَادٌ ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ بَعَثَ جَيْشًا إِلَى الشَّامِ وَنَهَاهُمْ عَنْ قَطْعِ شَجَرِهَا ، وَلِأَنَّهَا قَدْ تَصِيرُ دَارَ إِسْلَامٍ ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ . وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَاصَرَ بَنِي النَّضِيرِ فِي حُصُونِهِمْ بِالْبُوَيْرَةِ حِينَ نَقَضُوا

عَهْدَهُمْ فَقَطَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ عَدَدًا مِنْ نَخْلِهِمْ ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرَاهُمْ إِمَّا بِأَمْرِهِ وَإِمَّا لِإِقْرَارِهِ . وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ قَطْعِهَا أي نخل بني النضير : فَقِيلَ : لِإِضْرَارِهِمْ بِهَا ، وَقِيلَ : لِتَوْسِعَةِ مَوْضِعِهَا لِقِتَالِهِمْ فِيهِ ، فَقَالُوا وَهُمْ يَهُودُ أَهْلِ الْكِتَابِ : يَا مُحَمَّدُ ، أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ نَبِيٌّ تُرِيدُ الصَّلَاحَ ، فَمِنَ الصَّلَاحِ عَقْرُ الشَّجَرِ وَقَطْعُ النَّخْلِ ؟ وَقَالَ شَاعِرُهُمْ سِمَاكٌ الْيَهُودِيُّ : أَلَسْنَا وَرِثْنَا كِتَابَ الْحَكِيمِ عَلَى عَهْدِ مُوسَى وَلَمْ يَصْدِفِ وَأَنْتُمْ رِعَاءٌ لِشَاءٍ عِجَافٍ بِسَهْلِ تِهَامَةَ وَالْأَخْيَفِ تَرَوْنَ الرِّعَايَةَ مَجْدًا لَكُمْ لَدَى كُلِّ دَهْرٍ لَكُمْ مُجْحِفِ فَيَا أَيُّهَا الشَّاهِدُونَ انْتَهُوا عَنِ الظُّلْمِ وَالْمَنْطِقِ الْمُؤْنِفِ لَعَلَّ اللَّيَالِيَ وَصَرْفَ الدُّهُورِ يُدْرِكْنَ عَنِ الْعَادِلِ الْمُنْصِفِ بِقَتْلٍ النَّضِيرِ وَإِجْلَائِهَا وَعَقْرِ النَّخِيلِ وَلَمْ تُخْطَفِ فَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ : هُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ فَضَيَّعُوهُ وَهُمْ عُمْيٌ عَنِ التَّوْرَاةِ نُورُ كَفَرْتُمْ بِالْقُرْآنِ وَقَدْ أُتِيتُمْ بِتَصْدِيقِ الَّذِي قَالَ النَّذِيرُ فَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَلْ لَنَا فِيمَا قَطَعْنَا مِنْ أَجْرٍ ؟ أَوْ هَلْ عَلَيْنَا فِيمَا قَطَعْنَا مِنْ وِزْرٍ ؟ فَحِينَئِذٍ أَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلَهُ تَعَالَى : مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ معنى اللينة أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ [ الْحَشْرِ : 5 ] . وَفِي اللِّينَةِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا الْعَجْوَةُ مِنَ النَّخْلِ : لِأَنَّهَا أُمُّ الْإِنَاثِ ، كَمَا أَنَّ الْعِتْقَ أُمُّ الْفُحُولِ ، وَكَانَتَا مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ ، وَلِذَلِكَ شَقَّ عَلَيْهِمْ قَطْعُهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهَا الْفَسِيلَةُ : لِأَنَّهَا أَلْيَنُ مِنَ النَّخْلَةِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهَا جَمِيعُ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ لِلِينِهَا بِالْحَيَاةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا [ الْأَعْرَافِ : 56 ] . فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى الظَّفَرِ بِالْمُشْرِكِينَ ، وَقُوَّةُ الدِّينِ كَانَ صَلَاحًا ، وَلَمْ يَكُنْ فَسَادًا ، وَفِي الْآيَةِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا بِالْإِيمَانِ . وَالثَّانِي : لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِالْجَوْرِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا بِالْعَدْلِ .

وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ فَعَلَ بَعْدَ بَنِي النَّضِيرِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِهِمْ ، فَقَطَعَ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ نَخْلًا ، وَقَطَعَ عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ وَهِيَ آخِرُ غَزَوَاتِهِ الَّتِي قَاتَلَ فِيهَا لُزُومًا عَلَى بَقَاءِ الْحُكْمِ فِي قَطْعِهَا وَأَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ النُّفُوسِ أَعْظَمُ وَقَتْلَهَا أَغْلَظُ ، فَلَمَّا جَازَ قَتْلُ نُفُوسِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ ، كَانَ قَطْعُ نَخْلِهِمْ وَشَجَرِهِمْ عَلَيْهِمْ أَوْلَى ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِجَوَابِهِ مَا ذَكَرْنَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُ نَخْلِهِمْ وَشَجَرِهِمْ فِي مُحَارَبَتِهِمْ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ أي المشركين في حال القتال : أَحَدُهَا : أَنْ نَعْلَمَ أَنْ لَا نَصِلَ إِلَى الظَّفَرِ بِهِمْ إِلَّا بِقَطْعِهَا ، فَقَطْعُهَا وَاجِبٌ : لِأَنَّ مَا أَدَّى إِلَى الظَّفَرِ بِهِمْ وَاجِبٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَقْدِرَ عَلَى الظَّفَرِ بِهِمْ وَبِهَا مِنْ غَيْرِ قَطْعِهَا ، فَقَطْعُهَا مَحْظُورٌ : لِأَنَّهَا مَغْنَمٌ ، وَاسْتِهْلَاكُ الْغَنَائِمِ مَحْظُورٌ ، وَعَلَى هَذَا حَمْلُ نَهْيِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ قَطْعِ الشَّجَرِ بِالشَّامِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ لَا يَنْفَعَهُمْ قَطْعُهَا ، وَيَنْفَعَنَا قَطْعُهَا ، فَقَطْعُهَا مُبَاحٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : لَا يَنْفَعُهُمْ قَطْعُهَا ، وَلَا يَنْفَعُنَا قَطْعُهَا ، فَقَطْعُهَا مَكْرُوهٌ ، وَلَيْسَ بِمَحْظُورٍ ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي هَدْمِ مَنَازِلِهِمْ عَلَيْهِمْ ، عَلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ معناها [ الْحَشْرِ : 2 ] . وَفِيهِ ثَلَاثُ تَأْوِيلَاتِ : أَحَدُهَا : بِأَيْدِيهِمْ فِي نَقْضِ الْمُوَادَعَةِ ، وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُقَابَلَةِ ، وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ . وَالثَّانِي : بِأَيْدِيهِمْ فِي إِخْرَابِ دَوَاخِلِهَا ، حَتَّى لَا يَأْخُذَهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ ، وَبِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فِي إِخْرَابِ ظَوَاهِرِهَا ، حَتَّى يَصِلُوا إِلَيْهَا ، وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ . وَالثَّالِثُ : بِأَيْدِيهِمْ فِي تَرْكِهَا ، وَبِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ بِإِجْلَائِهِمْ عَنْهَا ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَكِنْ لَوِ الْتَحَمُوا فَكَانَ يَتَكَامَلُ الْتِحَامُهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ رَأَيْتُ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا وَكَانُوا مَأْجُورِينَ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الدَّفْعُ عَنْ أَنْفُسِهِمِ ، وَالْآخَرُ : نَكِايةُ عَدُوِّهِمْ ، وَلَوْ كَانُوا غَيْرَ مُلْتَحِمِينَ فَتَرْسُوا بِأَطْفَالِهِمْ الكفار ، فَقَدْ قِيلَ : يُضْرَبُ الْمُتَتَرِّسُ مِنْهُمْ وَلَا يُعْمَدُ الطِّفْلُ وَقَدْ قِيلَ يُكَفُّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا ذَكَرَ إِذَا تَتَرَّسَ الْمُشْرِكُونَ بِأَطْفَالِهِمْ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ شَرْعَنَا يَمْنَعُ مِنْ تَعَمُّدِ قَتْلِهِمْ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ فِي الْتِحَامِ الْقِتَالِ مَعَ إِقْبَالِهِمْ عَلَى حَرْبِنَا فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ قِتَالِهِمْ وَلَا حَرَجَ فِيمَا أَفْضَى مِنْهُ إِلَى قَتْلِ أَطْفَالِهِمْ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ تَرْكَ قِتَالِهِمْ بِهَذَا مُفْضٍ إِلَى تَرْكِ جِهَادِهِمْ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ مُقْبِلُونَ عَلَى حَرْبِنَا فَحَرُمَ أَنْ نُوَلِّيَ عَنْهُمْ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَتَتَرَّسُوا بِهِمْ فِي غَيْرِ الْتِحَامِ الْقِتَالِ عِنْدَ مُتَارِكَتِهِمْ لَنَا ، وَقَدْ بَدَأْنَا بِقِتَالِهِمْ وَهُمْ فِي حِصَارِنَا ، فَخَافُونَا فِيهِ فَفَعَلُوا ذَلِكَ ، لِنَمْتَنِعَ عَنْ رَمْيِهِمْ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ مَكْرًا مِنْهُمْ ، فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَرْكَ حِصَارِهِمْ ، وَلَا الِامْتِنَاعُ مِنْ رَمْيِهِمْ وَلَوْ أَفْضَى إِلَى قَتْلِ أَطْفَالِهِمْ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَفْعَلُوهُ دَفْعًا عَنْهُمْ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ حِصَارِهِمْ ، وَفِي الْمَنْعِ مِنْ رَمْيِهِمْ وَضَرْبِهِمْ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ رَمْيِهِمْ كَالْمُقَاتِلِينَ تَغْلِيبًا لِفَرْضِ الْجِهَادِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنْ يَمْنَعَ مِنْ رَمْيِهِمْ ، وَيُؤَخَّرَ الْكَفُّ عَنْهُمْ بِخِلَافِ الْمُقَاتِلِينَ : لِأَنَّ جِهَادَهُمْ نَدْبٌ وَجِهَادُ الْمُقَاتِلِينَ فَرْضٌ ، وَإِذَا قَابَلَ النَّدْبَ حَظْرٌ كَانَ حُكْمُ الْحَظْرِ أَغْلَبَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ تَتَرَّسُوا بِمُسْلِمٍ رَأَيْتُ أَنْ يَكُفَّ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا مُلْتَحِمِينَ : فَيُضْرَبُ الْمُشْرِكَ وَيَتَوَقَّى الْمُسْلِمَ جَهْدَهُ ، فَإِنْ أَصَابَ فِي هَذِهِ الْحَالِ مُسْلِمًا : قَالَ فِي كِتَابِ حُكْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ : أَعْتَقَ رَقَبَةً ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ : إِنْ كَانَ عَلِمَهُ مُسْلِمًا : فَالدِّيَّةُ مَعَ الرَّقَبَةِ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ هَذَا عِنْدِي بِمُخْتَلِفٍ ، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ : إِنْ كَانَ قَتَلَهُ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مُحَرَّمُ الدَّمِ مَعَ الرَّقَبَةِ ، فَإِذَا ارْتَفَعَ الْعِلْمُ فَالرَّقَبَةُ دُونَ الدِّيَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا أَنْ يَتَتَرَّسَ الْمُشْرِكُونَ بِمَنْ فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، إِمَّا لِيَدْفَعُونَا عَنْهُمْ ، وَإِمَّا لِيَفْتَدُوا بِهِمْ نُفُوسَهُمْ ، فَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي الْكَفِّ عَنْهُمْ . وَالثَّانِي : فِي ضَمَانِ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : فِي الْكَفِّ عَنْهُمْ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ الْتِحَامِ الْحَرْبِ ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُفَّ عَنْ رَمْيِهِمْ قَوْلًا وَاحِدًا ، بِخِلَافٍ مَا لَوْ تَتَرَّسُوا بِأَطْفَالِهِمْ فِي جَوَازِ رَمْيِهِمْ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ : لَأَنَّ نَفْسَ الْمُسْلِمِ مَحْظُورَةٌ لِحُرْمَةِ دِينِهِ ، وَنُفُوسَ أَطْفَالِهِمْ مَحْظُورَةٌ لِحُرْمَةِ الْمَغْنَمِ ، وَلَوْ كَانَ فِي

دَارِهِمْ مُسْلِمٌ ، وَلَمْ يَتَتَرَّسُوا بِهِ جَازَ رَمْيُهُمْ بِخِلَافِ لَوْ تَتَرَّسُوا بِهِ : لِأَنَّهُمْ إِذَا تَتَرَّسُوا بِهِ كَانَ مَقْصُودًا ، وَإِذَا لَمْ يَتَتَرَّسُوا بِهِ فَهُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ ، فَهَذَا حُكْمُهُ فِي وُجُوبِ الْكَفِّ عَنْ رَمْيِهِمْ ، فَأَمَّا الْكَفُّ عَنْ حِصَارِهِمْ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَأْمَنَ عَلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْتُلُوهُمْ ، فَيَجُوزُ حِصَارُهُمْ وَالْمُقَامُ عَلَى قِتَالِهِمْ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَأْمَنَ عَلَيْهِمْ ، وَيَغْلِبَ فِي الظَّنِّ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَهُمْ ، إِنْ أَقَمْنَا عَلَى قِتَالِهِمْ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْنَا فِي الْكَفِّ عَنْهُمْ ضَرَرٌ ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُفَّ عَنْ حِصَارِهِمُ اسْتِبْقَاءً لِنُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ : لِئَلَّا يَتَعَجَّلَ بِقَتْلِهِمْ ضَرَرًا وَلَيْسَ فِي مُتَارَكَتِهِمْ ضَرَرٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَلَيْنَا فِي الْكَفِّ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ضَرَرٌ لِخَوْفِنَا مِنْهُمْ عَلَى حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ وَحَرَمِهِمْ ، فَلَا يَجِبُ الْكَفُّ عَنْهُمْ وَلَا الِامْتِنَاعُ عَنْ قِتَالِهِمْ ، فَإِنْ قَتَلُوهُمُ اسْتِدْفَاعًا لِأَكْثَرِ الضَّرَرَيْنِ بِأَقَلِّهِمَا وَكَانَ وُجُوبُ الْمُقَامِ عَلَى قِتَالِهِمْ مُعْتَبَرًا بِالضَّرَرِ الْمُخَوِّفِ مِنْهُمْ ، فَإِنْ كَانَ مُعَجَّلًا وَجَبَ الْمُقَامُ عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا لَمْ يَجُزِ الْمُقَامُ إِلَّا عِنْدَ تَجَدُّدِهِ وَحُدُوثِهِ ، فَهَذَا حُكْمُ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ إِذَا تَتَرَّسُوا بِهِمْ قَبْلَ الْتِحَامِ الْقِتَالِ .

فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَتَتَرَّسُوا بِهِمْ بَعْدَ الْتِحَامِ الْقِتَالِ أي يتترسوا بالمسلمين ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَ الْمُسْلِمُونَ عَنْهُمْ لِأَجْلِ الْأَسْرَى : لِأَنَّ فَرْضَ قِتَالِهِمْ قَدْ تَعَيَّنَ بِالْتِقَاءِ الزَّحْفَيْنِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْمِيَهُمُ الْمُسْلِمُونَ مَا أَقَامُوا عَلَى حَرْبِهِمْ ، وَيَتَعَمَّدُوا بِالرَّمْيِ وَيَتَوَقَّوْا رَمْيَ مَنْ تَتَرَّسُوا بِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ وَلَّوْا عَنِ الْحَرْبِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُمْكِنَ اسْتِنْقَاذُ الْأَسْرَى مِنْهُمْ إِنِ اتَّبَعُوا ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَتَّبِعُوا حَتَّى يَسْتَنْقِذَ الْأَسْرَى مِنْهُمْ ، لِمَا يَلْزَمُ مِنْ حِرَاسَةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [ الْمَائِدَةِ : 32 ] . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يُمْكِنَ اسْتِنْقَاذُ الْأَسْرَى مِنْهُمْ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَخَافَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ اتِّبَاعِهِمْ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ ، وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَكُفُّوا عَنْهُمْ إِذَا انْهَزَمُوا لِتَحْرِيمِ التَّغْرِيرِ بِالْمُسْلِمِينَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَخَافَهُمُ الْمُسْلِمُونَ إِلَّا كَخَوْفِهِمْ فِي الْمَعْرَكَةِ ، فَلَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُمْ وَلَا يَجِبُ الْكَفُّ عَنْهُمْ ، وَأَمِيرُ الْجَيْشِ فِيهِمْ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ فِي اعْتِمَادِ الْأَصْلَحِ مِنَ اتِّبَاعِهِمْ ، أَوِ الْكَفِّ عَنْهُمْ .



فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي ضَمَانِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْمِدَ قَتْلَهُ وَيَعْلَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقْتُلَهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ دَعَتْهُ إِلَى قَتْلِهِ ، فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ : لَأَنَّ دَارَ الشِّرْكِ لَا تُبِيحُ دَمَ مُسْلِمٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَدْعُوَهُ الضَّرُورَةُ إِلَى قَتْلِهِ أي في الحرب وهو مسلم ، لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى دَفْعِ الشِّرْكِ عَنْ نَفْسِهِ ، فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ ، حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ تَخْرِيجًا مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الْمُكْرَهِ إِذَا قَتَلَ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ الْقَوَد إِذَا قَتَلَ كَوُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الْمُكْرِهِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الضَّرُورَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا قَوَدَ عَلَيْهِ إِذَا قَتَلَ : لِأَنَّهُ لَا قَوَدَ عَلَى الْمُكْرَهِ ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ ، وَتَكُونُ هَذِهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ مَعَ الْكَفَّارَةِ : لِأَنَّهَا دِيَةُ عَمْدٍ سَقَطَ الْقَوَدُ فِيهِ بِشُبْهَةٍ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَعْمِدَ قَتْلَهُ وَلَا يَعْلَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَلَا دِيَةَ ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [ النِّسَاءِ : 92 ] . فَاقْتَصَرَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ دُونَ الدِّيَةِ : لِأَنَّ دَارَ الْكُفْرِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَعْمِدَ قَتْلَهُ ، وَلَا يَعْلَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ يَجْهَلُ بِحَالِهِ مَعَ الْغَالِبِ مِنْ حُكْمِ الدَّارِ شُبْهَةٌ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ ، وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ ، وَتَكُونُ دِيَةَ عَمْدٍ يَتَحَمَّلُهَا فِي مَالِهِ . وَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ : عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ دُونَ الدِّيَةِ لِجَهْلِهِ بِإِسْلَامِهِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ لَا يَعْمِدَ قَتْلَهُ وَيَعْلَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ ، فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ، وَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا دِيَةَ عَلَيْهِ تَغْلِيبًا لِإِبَاحَةِ الدَّارِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : عَلَيْهِ الدِّيَةُ تَغْلِيبًا لِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ ، وَتَكُونُ دِيَةَ خَطَأٍ تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " لَوْ رَمَى فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَصَابَ مُسْتَأْمَنًا وَلَمْ يَقْصِدْهُ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا رَقَبَةٌ ، وَلَوْ كَانَ عَلِمَ بِمَكَانِهِ ثُمَّ رَمَاهُ غَيْرَ مُضْطَرٍّ إِلَى الرَّمْيِ ، فَعَلَيْهِ رَقَبَةٌ وَدِيَةٌ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَتُهُ أَنَّ حُكْمَ الْمُسْتَأْمَنِ وَالذِّمِّيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي تَحْرِيمِ دِمَائِهِمَا كَالْمُسْلِمِ إِنْ تَتَرَّسُوا بِهِمْ يَجِبُ تَوَقِّيهِمْ ، كَمَا يَجِبُ تَوَقِّي الْمُسْلِمِ فَإِنْ أُصِيبَ أَحَدُهُمْ قَتِيلًا كَانَ فِي حُكْمِ الْمُسْلِمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [ النِّسَاءِ : 92 ] . وَيَسْتَوِي أَحْكَامُهَا إِلَّا فِي شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْقَوَدُ لِسُقُوطِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ . وَالثَّانِي : قَدْرُ الدِّيَةِ لقتل الذمي في دار الحرب لِاخْتِلَافِهِمَا بِالْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ ، وَهُمَا فِيمَا عَدَاهُنَّ سَوَاءٌ ، فَإِنْ وَجَبَ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ وَجَبَا فِي قَتْلِ الذِّمِّيِّ ، وَإِنْ وَجَبَ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ الْقَوَدُ وَالْكَفَّارَةُ ، وَجَبَ فِي دِيَةِ الذِّمِّيِّ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ ، فَإِنْ وَجَبَ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ الْكَفَّارَةُ دُونَ الدِّيَةِ كَانَ الذِّمِّيُّ بِمَثَابَتِهِ يَجِبُ فِي قَتْلِهِ الْكَفَّارَةُ دُونَ الدِّيَةِ ، وَيَسْتَوِي الْمُسْتَأْمَنُ وَالذِّمِّيُّ فِي ضَمَانِهِمَا بِالدِّيَةِ أَوْ بِالْكَفَّارَةِ ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ الذِّمِّيَّ يَلْزَمُنَا دَفْعُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَنْهُ ، وَالْمُسْتَأْمَنَ لَا يَلْزَمُنَا دَفْعُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَنْهُ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ أَدْرَكُونَا وَفِي أَيْدِينَا خَيْلُهُمْ أَوْ مَاشِيَتُهُمْ لَمْ يَحِلَّ قَتْلُ شَيْءٍ مِنْهَا وَلَا عَقْرُهُ إِلَّا أَنْ يُذْبَحَ لِمَأْكَلِهِ ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لِغَيْظِهِمْ بِقَتْلِهِمْ طَلَبْنَا غَيْظَهُمْ بِقَتْلِ أَطْفَالِهِمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا غَنِمْنَا خَيْلَهُمْ وَمَوَاشِيَهُمِ ثُمَّ أَدْرَكُونَا وَلَمْ نَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِمْ عَنْهَا جَازَ تَرْكُهَا عَلَيْهِمْ ، وَلَمْ يَجُزْ قَتْلُهَا وَعَقْرُهَا طَلَبًا لِغَيْظِهِمْ ، أَوْ قَصْدًا لِإِضْعَافِهِمْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ قَتْلُهَا وَعَقْرُهَا لِإِحْدَى حَالَتَيْنِ ، إِمَّا لِغَيْظِهِمْ ، وَإِمَّا لِإِضْعَافِهِمُ احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا أَفْضَى إِلَى إِضْعَافِهِمْ جَازَ اسْتِهْلَاكُهُ عَلَيْهِمْ كَالْأَمْوَالِ . وَالثَّانِي : أَنَّ نَمَاءَ الْحَيَوَانِ لَا يَمْنَعُ مِنْ إِتْلَافِهِ عَلَيْهِمْ كَالْأَشْجَارِ . وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ إِلَّا لِمَأكَلِهِ ، وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ أَوْ تُتَّخَذَ غَرَضًا . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا بِغَيْرِ حَقِّهَا سَأَلَهُ اللَّهُ عَنْ قَتْلِهَا ، قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا حَقُّهَا ؟ : قَالَ : أَنْ يَذْبَحَهَا فَيَأْكُلَهَا وَلَا يَقْطَعَ رَأْسَهَا وَيَرْمِيَ بِهَا ، وَهَذِهِ أَخْبَارٌ تَمْنَعُ مِنْ عَقْرِهَا وَقَتْلِهَا ، وَلِأَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ إِذَا قُدِرَ عَلَى اسْتِنْقَاذِهِ ، لَمْ يَحِلَّ قَتْلُهُ إِذَا عَجَزَ عَنِ اسْتِنْقَاذِهِ كَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ ، وَلِأَنَّهُ

لَوْ جَازَ قَتْلُهَا لِغَيْظِهِمْ بِهَا كَانَ غَيْظُهُمْ بِقَتْلِ نِسَائِهِمْ أَكْثَرَ ، وَذَلِكَ مَحْظُورٌ وَلَوْ قَتَلَهُ لِإِضْعَافِهِمْ كَانَ إِضْعَافُهُمْ بِقَتْلِ أَوْلَادِهِمْ وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ : فَبَطَلَ الْمَعْنَيَانِ فِي قَتْلِ الْبَهَائِمِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِهْلَاكِ الْأَمْوَالِ وَقَطْعِ الْأَشْجَارِ ، فَأَبُو حَنِيفَةَ يَمْنَعُ مِنْ قَطْعِ الْأَشْجَارِ وَيُبِيحُ قَتْلَ الْحَيَوَانِ ، وَالشَّافِعِيُّ يُبِيحُ قَطْعَ الْأَشْجَارِ وَيَمْنَعُ مِنْ قَتْلِ الْحَيَوَانِ ، فَصَارَا مُجْمِعَيْنِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَشْجَارِ وَالْحَيَوَانِ ، وَإِنْ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ فِي الْمُبَاحِ مِنْهُمَا وَالْمَحْظُورِ ، فَصَارَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُمْتَنِعًا ، وَإِبَاحَةُ الْأَشْجَارِ وَحَظْرُ الْحَيَوَانِ أَوْلَى مِنْ عَكْسِهِ : لِأَنَّ لِلْحَيَوَانِ حُرْمَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : لِمَالِكِهِ ، وَالْأُخْرَى لِخَالِقِهِ ، فَإِذَا سَقَطَتْ حُرْمَةُ الْمَالِكِ لِكُفْرِهِ ، بَقِيَتْ حُرْمَةُ الْخَالِقِ فِي بَقَائِهِ عَلَى حَظْرِهِ ، وَلِذَلِكَ مُنِعَ مَالِكُ الْحَيَوَانِ مِنْ تَعْطِيشِهِ وَإِجَاعَتِهِ : لِأَنَّهُ إِنْ أَسْقَطَ حُرْمَةَ مَالِكِهِ بَقِيَتْ حُرْمَةُ خَالِقِهِ ، وَحُرْمَتُهُ أَكْبَرُ مِنْ حُرْمَةِ الْأَمْوَالِ ، وَأَكْثَرُ مِنْ حَقِّ الْمَالِكِ وَحْدَهُ ، فَإِذَا سَقَطَ حُرْمَةُ مَالِكِهِ لِكُفْرِهِ جَازَ اسْتِهْلَاكُهُ لِزَوَالِ حُرْمَتِهِ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَحْرُمْ عَلَى مَالِكِ الْمَالِ وَالشَّجَرِ اسْتِهْلَاكُهُ ، وَإِنْ حَرُمَ عَلَيْهِ اسْتِهْلَاكُ حَيَوَانِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " لَوْ قَاتَلُونَا عَلَى خَيْلِهِمْ فَوَجَدْنَا السَّبِيلَ إِلَى قَتْلِهِمْ بِأَنْ نَعْقِرَ بِهِمْ فَعَلْنَا : لِأَنَّهَا تَحْتَهُمْ أَدَاةٌ لِقَتْلِنَا ، وَقَدْ عَقَرَ حَنْظَلَةُ بْنُ الرَّاهِبِ بِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ يَوْمَ أُحُدٍ فَانْعَكَسَتْ بِهِ فَرَسُهُ فَسَقَطَ عَنْهَا فَجَلَسَ عَلَى صَدْرِهِ لِيَقْتُلَهُ فَرَآهُ ابْنُ شَعُوبٍ فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ ، وَاسْتَنْقَذَ أَبَا سُفْيَانَ مِنْ تَحْتِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا ذَكَرَ إِذَا قَاتَلُونَا عَلَى خَيْلِهِمْ جَازَ لَنَا أَنْ نَعْقِرَهَا عَلَيْهِمْ ، لِنَصِلَ بِعُقْرِهَا إِلَى قَتْلِهِمْ وَالظَّفَرِ بِهِمْ : لِأَنَّهُمْ مُمْتَنِعُونَ بِهَا فِي الطَّلَبِ وَالْهَرَبِ أَكْثَرَ مِنَ امْتِنَاعِهِمْ بِحُصُونِهِمْ وَسِلَاحِهِمْ ، فَصَارَتْ أَذًى لَنَا فَجَازَ اسْتِهْلَاكُهَا لِأَجْلِ الْأَذَى ، كَمَا جَازَ اسْتِهْلَاكُ مَا صَالَ مِنَ الْبَهَائِمِ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزِ اسْتِهْلَاكُ مَا لَمْ يَصِلْ ، وَقَدْ عَقَرَ حَنْظَلَةُ بْنُ الرَّاهِبِ فَرَسَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَاسْتَعْلَى عَلَيْهِ لِيَقْتُلَهُ فَرَآهُ ابْنُ شَعُوبٍ فَبَدَرَ إِلَى حَنْظَلَةَ وَهُوَ يَقُولُ : لَأَحْمِيَنَّ صَاحِبِي وَنَفْسِي بِطَعْنَةٍ مِثْلِ شُعَاعِ الشَّمْسِ ثُمَّ طَعَنَ حَنْظَلَةَ فَقَتَلَهُ ، وَاسْتَنْقَذَ أَبَا سُفْيَانَ مِنْهُ فَخَلَصَ أَبُو سُفْيَانَ وَهُوَ يَقُولُ : فَمَا زَالَ مُهْرِي مَزْجَرَ الْكَلَبِ مِنْهُمْ لَدَى غُدْوَةٍ حَتَّى دَانَتْ لِغُرُوبِ أُقَاتِلُهُمْ وَأَدَّعِي يَالَ غَالِبِ وَأَدْفَعُهُمْ عَنِّي بُرِكُنِ صَلِيبِ وَلَوْ شِئْتُ نَحَّتْنِي كُمَيْتٌ لِحَمْرَةٍ وَلَمْ أَحْمِلِ النَّغْمَاءَ لِابْنِ شَعُوبِ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ شَعُوبٍ فَقَالَ مُجِيبًا لَهُ حِينَ لَمْ يَشْكُرْهُ : وَلَوْلَا دِفَاعِي يَا ابْنَ حَرْبٍ وَمَشْهَدِي لَأَلْفَيْتَ يَوْمَ النَّعْفِ غَيْرَ مُجِيبِ وَلَوْلَا مَكَرِّي الْمُهْرَ بِالنَّعْفِ قَرْقَرَتْ ضِبَاعٌ عَلَيْهِ أَوْ ضِرَاءُ كَلِيبِ

وَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى حَنْظَلَةَ وَقَدْ عَقَرَ فَرَسَ أَبِي سُفْيَانَ فَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ رَاكِبُ الْفَرَسِ مِنْهُمُ امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا كَانَا يُقَاتِلَانِ عَلَيْهَا ، جَازَ عَقْرُهَا مِنْ تَحْتِهِمَا كَمَا لَوْ كَانَ رَاكِبُهَا رَجُلًا مُقَاتِلًا ، وَإِنْ كَانَا لَا يُقَاتِلَانِ عَلَيْهَا لَمْ يَجُزْ عَقْرُهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَرْكُوبَةٍ .

فَصْلٌ : وَلَوْ أَدْرَكُونَا وَمَعَنَا خَيْلُهُمْ وَهُمْ رَجَّالَةٌ إِنْ أُطْلِقَتْ عَلَيْهِمْ وَرَكِبُوهَا قَهَرُونَا بِهَا جَازَ عَقْرُهَا لِاسْتِدْفَاعِ الْأَذَى بِهَا ، كَمَا لَوْ كَانُوا رُكْبَانًا عَلَيْهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فِي كِتَابِ حُكْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ : وَإِنَّمَا تَرَكْنَا قَتْلَ الرُّهْبَانِ اتِّبَاعًا لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَقَالَ فِي كِتَابِ السِّيَرِ : وَيُقْتَلُ الشُّيُوخُ وَالْأُجَرَاءُ وَالرُّهْبَانُ ، قُتِلَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ ابْنَ خَمْسِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ فِي شِجَارٍ لَا يَسْتَطِيعُ الْجُلُوسَ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : فَلَمْ يُنْكِرْ قَتْلَهُ ( قَالَ : ) وَرُهْبَانُ الدِّيَاتِ وَالصَّوَامِعِ وَالْمَسَاكِنِ سَوَاءٌ : وَلَوْ ثَبَتَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خِلَافُ هَذَا لَأَشْبَهَ أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُمْ بِالْجِدِّ عَلَى قِتَالِ مَنْ يُقَاتِلُهُمْ ، وَلَا يَتَشَاغَلُونَ بِالْمُقَامِ عَلَى الصَّوَامِعِ عَنِ الْحَرْبِ ، كَالْحُصُونِ لَا يُشْغَلُونَ بِالْمُقَامِ بِهَا عَمَّا يَسْتَحِقُّ النِّكَايَةَ بِالْعَدُوِّ ، وَلَيْسَ أَنَّ قِتَالَ أَهْلِ الْحُصُونِ حَرَامٌ ، وَكَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَطْعِ الشَّجَرِ الْمُثْمِرِ : وَلَعَلَّهُ لِأَنَّهُ قَدْ حَضَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْطَعُ عَلَى بَنِي النَّضِيرِ ، وَحَضَرَهُ يَتْرُكُ ، وَعَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَدَهُمْ بِفَتْحِ الشَّامِ ، فَتَرَكَ قَطْعَهُ لِتَبْقَى لَهُمْ مَنْفَعَتُهُ إِذَا كَانَ وَاسِعًا لَهُمْ تَرَكَ قَطْعَهُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : هَذَا أَوْلَى الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي بِالْحَقِّ : لِأَنَّ كُفْرَ جَمِيعِهِمْ وَاحِدٌ ، وَكَذَلِكَ سَفْكُ دِمَائِهِمْ بِالْكُفْرِ فِي الْقِيَاسِ وَاحِدٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ الظَّفَرِ بِهِمْ يَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : الْمُقَاتِلَةُ أَوْ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ فَهُوَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ ، وَيَجُوزُ قَتْلُهُمْ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ خِيَارِ الْإِمَامِ فِيهِمْ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُمْ أَهْلُ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ ممن لم يقاتل من المشركين مِنْهُمْ دُونَ الْقِتَالِ ، فَيَجُوزُ قَتْلُهُمْ أَيْضًا شُبَّانًا كَانُوا أَوْ شُيُوخًا ، قَدَرُوا عَلَى الْقِتَالِ أَوْ لَمْ يَقْدِرُوا : لِأَنَّ التَّدْبِيرَ عِلْمٌ بِالْحَرْبِ ، وَالْقِتَالُ عَمَلٌ ، وَالْعِلْمُ أَصْلٌ لِلْعَمَلِ ، وَقَدْ أَفْصَحَ الْمُتَنَبِّي حَيْثُ قَالَ : الرَّأْيُ قَبْلَ شَجَاعَةِ الشُّجْعَانِ هُوَ أَوَّلٌ وَهِيَ الْمَحَلُّ الثَّانِي وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ أَنْكَى وَأَضَرُّ وَهُوَ مِنَ الشَّيْخِ أَقْوَى وَأَصَحُّ ، هَذَا دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ أَشَارَ عَلَى هَوَازِنَ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَنْ يَتَجَرَّدُوا لِلْقِتَالِ ، وَلَا يُخْرِجُوا مَعَهُمُ الذَّرَارِيَ ، فَخَالَفَهُ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّضْرِيُّ وَخَرَجَ بِهِمْ فَهُزِمُوا فَقَالَ دُرَيْدٌ فِي ذَلِكَ :

وَأَمَرْتُهُمْ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى فَلَمْ يَستَبِينُوا الرُّشْدَ إِلَّا ضُحَى الْغَدِ وَظُفِرَ بِدُرَيْدٍ وَكَانَ فِي شِجَارٍ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً ، وَقِيلَ : مِائَةٍ وَخَمْسٍ وَسِتِّينَ ، فَقُتِلَ ، وَقِيلَ : ذُبِحَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرَاهُ فَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ : فَدَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ قَتْلِ ذَوِي الْآرَاءِ وَإِنْ كَانُوا شُيُوخًا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مِنَ الذَّرَارِي مِنَ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَلُوا فِي الْمَعْرَكَةِ إِلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا فَيُقْتَلُوا دَفْعًا لِأَذَاهُمِ ، فَأَمَّا بَعْدَ الْأَسْرِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَلُوا ، سَوَاءٌ قَاتَلُوا أَوْ لَمْ يُقَاتِلُوا لِنَفْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالذَّرَارِي وَالْوِلْدَانِ ، وَلِأَنَّهُمْ سَبَايَا مُسْتَرَقُّونَ قَدْ مَلَكَهُمُ الْغَانِمُ كَالْأَمْوَالِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَنِ اعْتَزَلَ الْقِتَالَ وَالتَّدْبِيرَ مِنْ رِجَالِهِمْ أي من المشركين ، إِمَّا لِعَجْزٍ كَالزَّمْنَيِّ وَذَوِي الْهَرَمِ مِنَ الشُّيُوخِ ، وَإِمَّا لِتَدَيُّنٍ كَالرُّهْبَانِ ، وَأَصْحَابِ الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ ، شَبَابًا كَانُوا أَوْ شُيُوخًا ، فَفِي إِبَاحَةِ قَتْلِهِمْ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَالَهُ فِي كِتَابِ حُكْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : اقْتُلُوا الشَّرْخَ وَاتْرُكُوا الشَّيْخَ ، الشَّرْخُ : الشَّبَابُ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : عَلَى شَرْخِ الشَّبَابِ تَحِيَّةٌ فَإِذَا لَقِيتَ دَدًا فَقَطْ مِنْ دَدِ وَالَدَّدُ : اللَّهْوُ وَاللَّعِبُ ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَسْتُ مِنْ دَدٍ وَلَا دَدٌ مِنِّي وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : انْطَلِقُوا بِسْمِ اللَّهِ ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ، لَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا ، وَلَا طِفْلًا ، وَلَا صَغِيرًا ، وَلَا امْرَأَةً ، وَلَا تَغْلُوا ، وَخَيِّمُوا غَنَائِمَكُمْ ، وَأَحْسِنُوا ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُ الْمُحْسِنِينَ . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِزِيَادِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، وَشُرَحْبِيلَ بْنِ حَسَنَةَ لَمَّا بَعَثَهُمْ إِلَى الشَّامِ : أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ ، اغْزُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَقَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ ، وَلَا تَغُلُّوا ، وَلَا تَغْدِرُوا ، وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ ، وَلَا تَعْصُوا مَا تُؤَمِّرُونَ ، وَلَا تَقْتُلُوا الْوِلْدَانَ وَلَا النِّسَاءَ وَلَا الشُّيُوخَ ، وَسَتَجِدُونَ أَقْوَامًا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الصَّوَامِعِ فَدَعُوهُمْ ، وَمَا حَبَسُوا لَهُ أَنْفُسَهُمْ ، وَسَتَجِدُونَ أَقْوَامًا اتَّخَذَ الشَّيْطَانُ فِي أَوْسَاطِ رُءُوسِهِمْ أَفْحَاصًا ، فَإِذَا وَجَدْتُمُوهُمْ فَاضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ ، وَالْأَفْحَاصُ أَنْ يَحْلِقُوا أَوْسَاطَ رُءُوسِهِمْ يُقَالُ لَهُمُ : الشَّمَامِسَةُ ، ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ ، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ فِي الْغَزْوِ لَمْ يُقْتَلْ فِي الْأَسْرِ كَالذَّرَارِي . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ ، يَجُوزُ أَنْ يُقْتَلُوا لِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [ التَّوْبَةِ : 5 ] .

وَرَوَى الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : اقْتُلُوا شُيُوخَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَاسْتَحْيُوا شَرْخَهُمْ ، يَعْنِي اسْتَبْقُوا شَبَابَهُمْ أَحْيَاءً وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ [ الْقَصَصِ : 4 ] . فَأَمَرَ بِقَتْلِ الشُّيُوخِ وَاسْتِبْقَاءِ الشَّبَابِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا نَفْعَ فِي قَتْلِ الشُّيُوخِ ، وَفِي الشَّبَابِ نَفْعٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ رُجُوعَ الشَّبَابِ عَنْ كُفْرِهِ أَقْرَبُ مِنْ رُجُوعِ الشَّيْخِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالشَّرْخِ غَيْرَ الْبَالِغِينَ وَهُوَ أَشْبَهُ : لِأَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ جَازَ قَتْلُهُ ، وَإِنْ قَعَدَ عَنِ الْقِتَالِ كَالْمُقَاتِلِ ، وَلِأَنَّ مَنِ اسْتَحَقَّ سَهْمًا إِذَا كَانَ مُسْلِمًا جَازَ قَتْلُهُ وَإِذَا كَانَ كَافِرًا كَالْمُقَاتِلِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ قِيلَ بِالْأَوَّلِ : إِنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ كَانُوا كَالْأَسِيرِ إِذَا أَسْلَمَ ، فَهَلْ يُرَقُّونَ أَوْ يَكُونُ الْإِمَامُ فِيهِمْ عَلَى خِيَارِهِ ؟ أي الشباب بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ : أَنْ يَسْتَرِقَّهُمْ ، أَوْ يُفَادِيَ بِهِمْ ، أَوْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ ، وَإِنْ قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي : إِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ كَانُوا كَالْأَسْرَى إِذَا لَمْ يُسْـلِمُوا ، فَيَكُونُ الْإِمَامُ فِيهِمْ عَلَى خِيَارِهِ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ : أَنْ يَقْتُلَ ، أَوْ يَسْتَرِقَّ ، أَوْ يُفَادِيَ ، أَوْ يَمُنَّ ، فَأَمَّا الْأُجَرَاءُ فَإِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَيَكُونُ الْإِمَامُ فِيهِمْ عَلَى خِيَارِهِ بَيْنَ الْأَحْكَامِ الْأَرْبَعَةِ : لِأَنَّهُمْ أَعْوَانٌ عَلَيْنَا أَوْ مُقَاتِلَةٌ لَنَا . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَتْلِ الْعُسَفَاءِ وَالْوُصَفَاءِ ، وَالْعُسَفَاءُ : الْأَجْزَاءُ . وَالْوُصَفَاءُ : جَمْعُ وَصَيْفٍ ، قِيلَ : إِنَّمَا نَهَى عَنْ قَتْلِهِمْ لِئَلَّا يَقَعَ التَّشَاغُلُ بِهِمْ عَنْ قَتْلِ الْمُقَاتِلَةِ : لِأَنَّهُمْ أَذَلُّ نُفُوسًا ، وَأَقَلُّ نِكَايَةً ، وَأَنَّهُمْ لَا يَفُوتُونَ إِنْ هَرَبُوا ، وَلَا يَمْتَنِعُونَ إِنْ طَلَبُوا ، وَعَلَى مِثْلِ هَذَا حُمِلَ نَهْيُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ قَتْلِ أَصْحَابِ الصَّوَامِعِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا أمَّنَهُمْ مُسْلِمٌ حُرٌّ بَالِغٌ أَوْ عَبْدٌ يُقَاتِلُ أَوْ لَا يُقَاتِلُ أَوِ امْرَأَةٌ ، فَالْأَمَانُ جَائِزٌ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْمُسْلِمُونَ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا أَمَانُ الْمُشْرِكِينَ فَجَائِزٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ تأويلها [ التَّوْبَةِ : 6 ] . فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : إِنِ اسْتَغَاثَكَ فَأَغِثْهُ . وَالثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ إِنِ اسْتَأْمَنَكَ فَأَمِّنْهُ ، حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ، فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَعْنِي سُورَةَ بَرَاءَةَ خَاصَّةً لِيَعْلَمَ مَا فِي حُكْمِ النَّاقِضِ لِلْعَهْدِ وَحُكْمَ الْمُقِيمِ عَلَيْهِ ، وَالسِّيرَةَ فِي الْمُشْرِكِينَ وَالْفَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ . وَالثَّانِي : يَعْنِي جَمِيعَ الْقُرْآنِ لِيَهْتَدِيَ بِهِ مِنْ ضَلَالِهِ ، وَيَرْجِعَ بِهِ عَنْ كُفْرِهِ . ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ، يَعْنِي بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْأَمَانِ إِنْ أَقَامَ عَلَى الشِّرْكِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ

قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ [ التَّوْبَةِ : 6 ] . فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَعْلَمُونَ الرُّشْدَ مِنَ الْغَيِّ . وَالثَّانِي : لَا يَعْلَمُونَ اسْتِبَاحَةَ دِمَائِهِمْ عِنْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ أَمَانِهِمْ ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ أَمَانِهِمْ ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ فِي عَقْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْهُدْنَةَ مَعَ قُرَيْشٍ بِالْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ عَلَى أَنْ يَأْمَنُوا الْمُسْلِمِينَ ، وَيَأْمَنَهُمُ الْمُسْلِمُونَ . فَإِذَا صَحَّ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ جَوَازُ الْأَمَانِ فَهُوَ ضَرْبَانِ : عَامٌّ وَخَاصٌّ ، فَأَمَّا الْعَامُّ فَهُوَ الْهُدْنَةُ الَّـتِي تُعْقَدُ أَمَانًا لِلْكَافَّةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، وَهَذِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّاهَا إِلَّا وُلَاةُ الْأَمْرِ ، فَإِنْ كَانَتْ لِكَافَّةِ الْمُشْرِكِينَ فِي جَمِيعِ الْأَقَالِيمِ لَمْ يَصِحَّ عَقْدُهَا ، إِلَّا مِنَ الْإِمَامِ الْوَالِي عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ كَانَتْ لِأَهْلِ إِقْلِيمٍ صَحَّ عَقْدُهَا مِنَ الْإِمَامِ ، أَوْ مِنْ وَالِي ذَلِكَ الْإِقْلِيمِ لِقِيَامِهِ فِيهِ مَقَامَ الْإِمَامِ ، وَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِهِمَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِحَالٍ ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ وَمُدَّتِهَا . وَأَمَّا الْأَمَانُ الْخَاصُّ : فَهُوَ أَنْ يُؤَمَّنَ مِنَ الْكُفَّارِ آحَادٌ لَا يَتَعَطَّلُ بِهِمْ جِهَادٌ نَاحِيَتَهُمْ كَالْوَاحِدِ وَالْعَشَرَةِ إِلَى الْمِائَةِ وَأَهْلِ قَافِلَةٍ ، فَإِنْ كَثُرُوا حَتَّى تَعَطَّلَ بِهِمْ جِهَادُهُمْ صَارَ عَامًّا ، وَهَذَا الْأَمَانُ الْخَاصُّ يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَهُ الْوَاحِدُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ الْعُقَلَاءِ ، سَوَاءٌ كَانَ شَرِيفًا أَوْ مَشْرُوفًا ، عَالِمًا كَانَ أَوْ جَاهِلًا ، قَوِيًّا كَانَ أَوْ ضَعِيفًا ، لِرِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَمَّنَ كَافِرًا فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ : لَا يُخَيِّرُ أَمَانَهُ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْجَرَّاحُ : لَيْسَ ذَلِكَ لَكُمَا : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : يُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ ، فَإِنْ أَمَّنَتْهُ امْرَأَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ أَمَانُهَا جَائِزًا كَالرَّجُلِ . رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ السَّائِبِ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهَا قَالَتْ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، " إِنِّي أَجَرْتُ حَمَوَيْنِ لِي " ، وَزَعَمَ ابْنُ أُمِّي أَنَّهُ قَاتِلُهُمَا ، يَعْنِي أَخَاهَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَامَ الْفَتْحِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ . وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : لَمَّا أُسِرَ أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ قَالَتْ زَيْنَبُ - عَلَيْهَا السَّلَامُ - إِنِّي أَجَرْتُ أَبَا الْعَاصِ . فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَارَتْ زَيْنَبُ . وَاحْتَمَلَ أَمَانُ زَيْنَبَ لَهُ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَبْلَ أَسْرِهِ فَيَكُونَ أَمْنًا بِأَمَانِهَا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَدْ أَمَّنَتْهُ بَعْدَ أَسْرِهِ ، فَيَكُونَ آمِنًا بِتِجَارَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا بِأَمَانِهَا ؛ لِأَنَّ أَمَانَ الْأَسِيرِ مَنٌّ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ الْمَنُّ إِلَّا لِوُلَاةِ الْأَمْرِ ، وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبَبَ مَنِّهِ عَلَيْهِ أَمَانَ بِنْتِهِ زَيْنَبَ لَهُ رِعَايَةً لِحَقِّهَا فِيهِ .



فَصْلٌ : وَأَمَّا أَمَانُ الْعَبْدِ فَجَائِزٌ كَالْحُرِّ ، سَوَاءٌ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ ، وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَمَانَهُ إِذَا كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ : وَأَبْطَلَهُ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ فِي الْقِتَالِ احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَمَانَ أَحَدُ حَالَتَيِ الْقِتَالِ ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إِذْنٍ كَالْقِتَالِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْأَمَانَ عُقِدَ ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إِذْنٍ كَالنِّكَاحِ . وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الْحَسَنُ ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادَةَ ، عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ ، أَيْ عَبِيدُهُمْ : لِأَنَّهُمْ أَدْنَى مِنَ الْأَحْرَارِ يَدًا وَحُكْمًا ، فَسَوَّى فِي الْأَمَانِ بَيْنَ مَنْ عَلَا مِنَ الْأَحْرَارِ أَوْ دَنَا مِنَ الْعَبِيدِ . فَإِنْ قِيلَ : الْمُرَادُ بِهِ أَدْنَاهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ جِوَارًا ، قِيلَ : لَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى الْجَارِ الْقَرِيبِ الدَّارِ : لِأَنَّ الْعَبْدَ يُسَاوِيهِ فِيهِ وَكَانَ جَعْلُهُ عَلَى الْعَبْدِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِدُخُولِهِ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ غَيْرِ إِضْمَارٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَعْلَمَ بِهِ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ مُسَاوَاتِهِ لِلْحُرِّ فِيهِ وَإِنْ خَالَفَهُ فِيمَا عَدَاهُ . وَرَوَى فُضَيْلُ بْنُ زَيْدٍ الرَّقَاشِيُّ قَالَ : جَهَّزَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَيْشًا كُنْتُ فِيهِ ، فَحَضَرْتُ مَوْضِعًا يُقَالُ لَهُ صِرْيَاجُ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى رَامَهُرْمُزَ ، فَرَأَيْنَا أَنَّا سَنَفْتَحُهَا الْيَوْمَ فَرَجَعْنَا حَتَّى نُقِيلَ فَبَقِيَ عَبْدٌ مِنَّا فَوَاطَأَهُمْ وَوَاطَئُوهُ ، فَكَتَبَ لَهُمْ أَمَانًا فِي صَحِيفَةٍ ، وَشَدَّهَا مَعَ سَهْمٍ رَمَاهُ إِلَيْهِمْ . فَأَخَذُوهَا وَخَرَجُوا بِأَمَانِهِ ، فَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى عُمَرَ ، فَقَالَ : الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ذِمَّتُهُ ذِمَّتُهُمْ . وَهَذَا نَصٌّ لَمْ يُخَالَفْ فِيهِ فَكَانَ إِجْمَاعًا ، وَلِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَصَحَّ أَمَانُهُ كَالْمَرْأَةِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ أَمَانُهُ إِذَا كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ صَحَّ أَمَانُهُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ كَأَمَانِ الْوَلَدِ مَعَ إِذَنِ الْوَالِدَيْنِ وَأَمَانِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِإِذْنِ صَاحِبِ الدَّيْنِ ، يَسْتَوِي فِي أَمَانِهِ وُجُودُ الْإِذْنِ فِي الْقِتَالِ وَعَدَمُهُ ، وَلِأَنَّ الْقِتَالَ ضِدُّ الْأَمَانِ ، فَإِذَا صَحَّ أَمَانُ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْقِتَالِ وَهُوَ ضِدُّ حَالِهِ : فَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَمَانُ غَيْرِ الْمَأْذُونِ لَهُ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِحَالِهِ أَوْلَى . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْقِتَالِ فَهُوَ أَنَّ فِي الْقِتَالِ تَغْرِيرًا يَفُوتُ بِهِ مَنَافِعُ سَيِّدِهِ ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ الْأَمَانُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى النِّكَاحِ : فَهُوَ أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ غَيْرُ عَاقِدِهِ ، فَوَقَفَ عَلَى إِذَنْ سَيِّدِهِ ، وَعَقْدُ الْأَمَانِ يَدْخُلُ فِيهِ غَيْرُ الْعَاقِدِ ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْعَبْدُ وَالسَّيِّدُ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ خَرَجُوا إِلَيْنَا بِأَمَانِ صَبِيٍّ أَوْ مَعْتُوهٍ : كَانَ عَلَيْنَا رَدُّهُمْ إِلَى مَأْمَنِهِمْ : لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَنْ يَجُوزُ أَمَانُهُ لَهُمْ ، وَمَنْ لَا يَجُوزُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَعْتُوهَ حكم عقد أمانهما لَا حُكْمَ لِقَوْلِهِمَا لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُمَا ، فَلَمْ يَصِحَّ عَقْدُ أَمَانِهِمَا : كَمَا لَمْ يَصِحَّ سَائِرُ عُقُودِهِمَا ، فَإِنْ دَخَلَ بِأَمَانِهِمَا كَافِرٌ نُظِرَتْ حَالُهُ ، فَإِنْ عَلِمَ بُطْلَانَ أَمَانِهِمَا فِي شَرْعِنَا : فَهُوَ كَالدَّاخِلِ بِغَيْرِ أَمَانٍ ، فَيَجُوزُ قَتْلُهُ وَاسْتِرْقَاقُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بُطْلَانَ أَمَانِهِمَا فِي شَرْعِنَا لَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَوَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ رَدُّهُ إِلَى مَأْمَنِهِ : لِأَنَّهُ قَدْ تَمَكَّنَ مِنْ شُبْهَةٍ تُوجِبُ حَقْنَ دَمِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَانَ فِي يَدِ الْمُشْرِكِينَ أَسِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّنَ فِي حَالِ أَسْرِهِ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ نُظِرَ ، فَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْأَمَانِ لَمْ يَصِحَّ : لِأَنَّ عُقُودَ الْمُكْرَهِ بَاطِلَةٌ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُكْرَهٍ ، قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ : صَحَّ أَمَانُهُ وَأُطْلِقَ جَوَابُهُ بِهَذَا ، وَعِنْدِي أَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَمَانُهُ بِحَالِ مَنْ أَمَّنَهُ ، فَإِنْ كَانَ فِي أَمَانٍ مِنَ الْمُشْرِكِ صَحَّ أَمَانُهُ لِذَلِكَ الْمُشْرِكِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي أَمَانٍ مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ أَمَانُهُ لَهُ : لِأَنَّ الْأَمَانَ مَا اقْتَضَى التَّسَاوِيَ فِيهِ ، فَإِذَا صَحَّ أَمَانُهُ فِيهِ كَانَ فِي أَمَانِ الْمُسْلِمِينَ مَا كَانَ مُقِيمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ ، إِنْ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ رُوعِيَ عَقْدُ أَمَانِهِ ، فَإِنْ شَرَطَ فِيهِ أَمَانَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، كَانَ آمِنًا فِيهَا ، وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا أَمَانٌ ، وَكَانَ مَقْصُورًا عَلَى أَمَانِهِ مِنْهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ : لِأَنَّ بُطْلَانَ الْعَقْدِ يَتَوَجَّهُ إِلَى دَارِ الْعَقْدِ لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ فِي الْحُكْمِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ الْأَمَانُ ، فَالْحُكْمُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى خَمْسَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : مَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْأَمَانُ وَهُوَ ضَرْبَانِ : لَفْظٌ وَإِشَارَةٌ . فَأَمَّا اللَّفْظُ مما ينعقد به الأمان : فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا كَانَ صَرِيحًا ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ : أَنْتَ آمِنٌ ، أَوْ فِي أَمَانٍ ، أَوْ قَدْ أَمَّنْتُكَ ، أَوْ يَقُولُ : أَنْتَ مُجَارٌ ، أَوْ قَدْ أَجَرْتُكَ ، أَوْ يَقُولُ : لَا بَأْسَ عَلَيْكَ ، فَهَذَا وَمَا شَاكَلَهُ صَرِيحٌ فِي عَقْدِ الْأَمَانِ لَا يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى نِيَّةٍ ، وَلَوْ قَالَ : لَا خَوْفَ عَلَيْكَ كَانَ صَرِيحًا ، وَلَوْ قَالَ : لَا تَخَفْ لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا : لِأَنَّ قَوْلَهُ : لَا خَوْفَ عَلَيْكَ نَفْيٌ لِلْخَوْفِ فَكَانَ صَرِيحًا ، وَقَوْلَهُ : لَا تَخَفْ نَهْيٌ عَنِ الْخَوْفِ فَلَمْ يَكُنْ صَرِيحًا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا كَانَ كِنَايَةً يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى الْإِرَادَةِ ، فَمِثْلُ قَوْلِهِ : أَنْتَ عَلَى مَا تُحِبُّ ، أَوْ كُنْ كَيْفَ شِئْتَ ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَا أَحَبَّهُ مِنَ الْكُفْرِ ، أَوْ عَلَى مَا تُحِبُّهُ مِنَ الْأَمَانِ ، فَلِذَلِكَ صَارَ كِنَايَةً إِلَى مَا شَاكَلَ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُحْتَمَلَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا وَلَا كِنَايَةً ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ : سَتَذُوقُ وَبَالَ

أَمْرِكَ ، وَسَتَرَى عَاقِبَةَ كُفْرِكَ ، أَوْ سَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْكَ ، فَهَذَا وَمَا شَاكَلَهُ وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْأَمَانُ . وَأَمَّا الْإِشَارَةُ من أركان عقد الأمان فَضَرْبَانِ : مَفْهُومَةٌ ، وَغَيْرُ مَفْهُومَةٍ . فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَفْهُومَةٍ لَمْ يَصِحَّ بِهَا الْأَمَانُ لَا صَرِيحًا وَلَا كِنَايَةً ، وَإِنْ كَانَتْ مَفْهُومَةً انْعَقَدَ بِهَا الْأَمَانُ إِنْ أَرَادَ الْمُشِيرُ ، وَلَا يَنْعَقِدُ بِهَا إِنْ لَمْ يُرِدْهُ ، لَكِنْ يَجِبُ أَنْ يُرَدَّ بِهَا إِلَى مَأْمَنِهِ ، وَيَكُونَ كِنَايَةً يُرْجَعُ إِلَى قَوْلِهِ فِيمَا أَرَادَ . فَإِنْ قِيلَ : لَوْ أَشَارَ بِالْعِتْقِ وَالْبُطْلَانِ ارْتَفَعَا مَعَ الْإِرَادَةِ ، فَكَيْفَ صَحَّ بِهِمَا عَقْدُ الْأَمَانِ مَعَ الْإِرَادَةِ ؟ قِيلَ : لِأَنَّ الْأَمَانَ يَنْتَقِضُ بِالْقَوْلِ وَالْإِشَارَةِ ، فَصَحَّ عَقْدُهُ بِالْقَوْلِ وَالْإِشَارَةِ ، وَبِذَلِكَ خَالَفَ مَا عَدَاهُ مِنَ الْعِتْقِ وَالْبُطْلَانِ ، وَلَا يَتِمُّ الْأَمَانُ بَعْدَ بَذْلِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَبْذُولِ لَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى قَبُولِهِ ، وَذَلِكَ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَبْتَدِئَ بِالطَّلَبِ وَالِاسْتِجَارَةِ فَيَبْذُلَهُ لَهُ بَعْدَ طَلَبِهِ . وَإِمَّا أَنْ يُعَقِّبَ الْبَذْلَ الْمُبْتَدَأَ بِالْقَبُولِ أَوْ بِالدُّعَاءِ وَالشُّكْرِ أَوْ بِالْإِشَارَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ فَيَتِمَّ ، وَيَقُومُ ذَلِكَ مَقَامَ الْقَبُولِ الصَّرِيحِ : لِأَنَّ حُقُوقَ الْأَمَانِ مُشْتَرَكَةٌ فَلَمْ تَلْزَمْ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ : فَرُوعِيَ فِيهِ أَحْكَامُ الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ .

فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الثَّانِي : مَنْ يَنْعَقِدُ مَعَهُ الْأَمَانُ ، وَهُوَ مَنْ لَمْ يَحْصُلْ فِي الْأَسْرِ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ ، وَيَمْنَعُ الْأَمَانُ مِنْ أَسْرِهِ وَاسْتِرْقَاقِهِ وَفِدَائِهِ اسْتِصْحَابًا لِحَالِهِ قَبْلَ أَمَانِهِ . فَأَمَّا الْأَسِيرُ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ أي مع الأمان : أَحَدُهَا : أَنْ يَصِيرَ فِي قَبْضَةِ الْإِمَامِ ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُؤَمِّنَهُ غَيْرُ الْإِمَامِ ، لِمَا أَوْجَبَهُ الْأَسْرُ مِنَ اجْتِهَادِ الْإِمَامِ ، فَلَمْ يَصِحَّ الِافْتِيَاتُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ أَمَّنَهُ الْإِمَامُ صَحَّ أَمَانُهُ ، وَمُنِعَ الْإِمَامُ مِنْ قَتْلِهِ ، وَلَمْ يُمْنَعْ مِنَ اسْتِرْقَاقِهِ وَفِدَائِهِ : لِأَنَّ مَا أَوْجَبَهُ إِسْلَامُهُ مِنْ أَمَانِهِ أَوْكَدُ مِنْ بَذْلِ الْأَمَانِ لَهُ ، فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعِ الْإِسْلَامُ مِنَ اسْتِرْقَاقِهِ وَفِدَائِهِ كَانَ أَوْلَى لَا يَمْنَعُ مِنْهُمَا عَقْدُ أَمَانِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَصِيرَ فِي قَبْضَةِ أَمِيرِ الثَّغْرِ ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُؤَمِّنَهُ إِلَّا الْإِمَامُ لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ ، أَوْ أَمِيرُ الثَّغْرِ لِأَنَّهُ فِي وِلَايَتِهِ ، فَأَيُّهُمَا سَبَقَ بِأَمَانِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ نَقْضُهُ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا فِي يَدِ مَنْ أَسَرَهُ ، وَلَمْ يِصِرْ فِي قَبْضَةِ الْإِمَامِ فَلَا يَخْلُو حَالُ مَنْ أَمَّنَهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُؤَمِّنَهُ الَّذِي هُوَ فِي أَسْرِهِ فَيَصِحُّ أَمَانُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ أَمَانُ مَنْ صَارَ فِي قَبْضَةِ الْإِمَامِ : لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ أَسِيرَهُ صَحَّ أَنْ يُؤَمِّنَهُ ، وَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَقْتُلَ

مَنْ فِي أَسْرِ الْإِمَامِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُؤَمِّنَهُ ، وَيَمْنَعُ الْأَمَانُ مِنْ قَتْلِهِ ، فَأَمَّا اسْتِرْقَاقُهُ وَفِدَاؤُهُ فَلَا يَرْتَفِعُ بِهِ مَا كَانَ بَاقِيًا فِي أَسْرِهِ ، فَإِنْ فَكَّ أَسْرَهُ امْتَنَعَ اسْتِرْقَاقُهُ وَفِدَاؤُهُ ، فَيَكُونُ الْقَتْلُ مُرْتَفِعًا بِلَفْظِ الْأَمَانِ ، وَالِاسْتِرْقَاقُ وَالْفِدَاءُ مُرْتَفِعَانِ بِزَوَالِ الْيَدِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُؤَمِّنَهُ الْإِمَامُ فَيَصِحُّ أَمَانُهُ وَيَرْتَفِعُ بِالْأَمَانِ قَتْلُهُ : لِأَنَّ أَمَانَ الْإِمَامِ أَعَمُّ ، وَلَا يَرْتَفِعُ بِهِ اسْتِرْقَاقُهُ وَفِدَاؤُهُ ، وَلَا إِنْ فَكَّ أَسْرَهُ : بِخِلَافِ أَمَانِ الَّذِي أَسَرَهُ : لِأَنَّ يَدَ الْإِمَامِ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ، وَيَدَ الَّذِي أَسَرَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُؤَمِّنَهُ أَمِيرُ الثَّغْرِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَسِيرُ مِنْ ثَغْرِهِ صَحَّ أَمَانُهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ ثَغْرِهِ لَمْ يَصِحَّ أَمَانُهُ لِخُرُوجِهِ عَنْ وِلَايَتِهِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يُؤَمِّنَهُ غَيْرُهُمْ ، مِمَّنْ لَا يَدَ لَهُ وَلَا وِلَايَةَ . فَلَا يَصِحُّ أَمَانُهُ ، وَلَا يَرْتَفِعُ بِهِ قَتْلٌ وَلَا اسْتِرْقَاقٌ وَلَا فِدَاءٌ : لِأَنَّ الْأَسْرَ قَدْ أَثْبَتَ فِيهِ حَقًّا لِغَيْرِهِ ، فَلَمْ يَمْلِكْ إِسْقَاطَهُ بِأَمَانِهِ ، وَصَارَ كَأَمَانِهِ لِمَنْ فِي أَسْرِ الْإِمَامِ .

فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ : دُخُولُ مَالِهِ فِي عَقْدِ الْأَمَانِ وَهُوَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْأَمَانُ مُطْلَقًا لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ دُخُولَ الْمَالِ ، فَيَقُولُ : قَدْ أَمَّنْتُكَ عَلَى نَفْسِكَ ، فَيَدْخُلُ فِي مَالِهِ فِي الْأَمَانِ عَلَى نَفْسِهِ مَا يَلْبَسُهُ مِنْ ثِيَابِهِ الَّتِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا ، وَمَا يَسْتَعْمِلُهُ مِنْ آلَتِهِ الَّتِي لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا ، وَمَا يُنْفِقُهُ فِي مُدَّةِ أَمَانِهِ اعْتِبَارًا بِضَرُورَتِهِ وَالْعُرْفِ الْجَارِي ، فَمَنْ لَمْ يُنْسَبْ إِلَى يَسَارٍ وَإِعْسَارٍ ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا عَدَاهُ مِنْ أَمْوَالِهِ ، فَأَمَّا مَرْكُوبُهُ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ دَخَلَ فِي أَمَانِهِ ، وَإِنِ اسْتَغْنَى عَنْهُ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ ، وَكَانَ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِهِ غَنِيمَةً ، وَكَذَلِكَ ذَرَارِيهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَاذِلُ لِهَذَا الْأَمَانِ الْإِمَامَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَبْذُلَ لَهُ الْأَمَانَ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ ، فَيَشْتَرِطَ لَهُ دُخُولَ مَالِهِ فِي أَمَانِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَالُهُ حَاضِرًا ، فَيَصِحُّ أَنْ يُؤَمِّنَهُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ : لِأَنَّ الْمَالَ تَبَعٌ ، فَإِذَا صَحَّ الْأَمَانُ لِلْأَصْلِ كَانَ فِي التَّبَعِ أَصْلَحَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمَالُ غَائِبًا ، فَلَا يَصِحُّ بَذْلُ الْأَمَانِ لَهُ إِلَّا مِنَ الْإِمَامِ بِحَقِّ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ ، وَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَا وِلَايَةَ لَهُمْ ، وَكَذَلِكَ ذَرَارِيهِ إِنْ كَانُوا حُضُورًا مَعَهُ صَحَّ أَنْ يَبْذُلَ الْأَمَانَ لَهُمْ وَغَيْرَهُ ، وَإِنْ كَانُوا غُيَّبًا لَمْ يَصِحَّ بَذْلُ الْأَمَانِ لَهُمْ إِلَّا مِنَ الْإِمَامِ أَوْ مَنْ قَامَ مَقَامَهُ مِنْ وُلَاةِ الثُّغُورِ ، وَلَا يَصِحُّ مِمَّنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ : لِأَنَّهُ اجْتِهَادٌ فِي نَظَرٍ .

فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الرَّابِعُ : الْمَوْضِعُ الَّذِي يَنْعَقِدُ عَلَيْهِ الْأَامَانُ ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :

أَحَدُهَا : أَنْ يُبْذَلَ لَهُ الْأَمَانُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا ، فَيَصِحُّ وَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ آمِنًا فِي جَمِيعِهَا ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَاذِلُ لَهُ وَالِيًا أَوْ غَيْرَ وَالٍ : لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُبْذَلَ لَهُ الْأَمَانُ فِي بَلَدٍ خَاصٍّ ، فَيَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ آمِنًا فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ ، وَفِي الطَّرِيقِ إِلَيْهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَا أَمَانَ لَهُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْبِلَادِ اعْتِبَارًا بِالشَّرْطِ ، وَأَنَّ الطَّرِيقَ إِلَيْهِ مُسْتَحَقٌّ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ الْأَمَانِ مُطْلَقًا غَيْرَ عَامٍّ وَلَا مُعَيَّنًا ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ مُعْتَبَرًا بِحَالِ الْبَاذِلِ لِلْأَمَانِ ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ هُوَ الْإِمَامَ ، فَيَقْتَضِي إِطْلَاقُ أَمَانِهِ أَنْ يَكُونَ آمِنًا فِي جَمِيعِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ لِدُخُولِ جَمِيعِهَا فِي نَظَرِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْبَاذِلُ لَهُ وَالِيَ الْإِقْلِيمِ ، فَيَكُونَ بُطْلَانُ الْأَمَانِ مُوجِبًا لِأَمَانِهِ فِي بِلَادِ عَمَلِهِ ، وَلَا يَكُونَ لَهُ أَمَانٌ فِي غَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ لِقُصُورِ نَظَرِهِ عَلَيْهَا ، فَإِنْ عُزِلَ عَنْ بَعْضِهَا لَمْ يَزُلْ أَمَانُهُ مِنْهَا ، وَإِنْ قُلِّدَ غَيْرَهَا لَمْ يَدْخُلْ أَمَانُهُ فِيهَا اعْتِبَارًا بِعَمَلِهِ وَقْتَ أَمَانِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْبَاذِلُ لَهُ أَحَدَ الْمُسْلِمِينَ ، فَيَكُونَ بُطْلَانُ أَمَانِهِ مَقْصُورًا عَلَى الْبَلَدِ الَّذِي يَسْكُنُهُ بَاذِلُ الْأَمَانِ ، فَإِنْ كَانَ مَصْرًا لَمْ يَتَجَاوَزْ إِلَى قُرَاهُ ، وَإِنْ كَانَ قَرْيَةً لَمْ يَتَجَاوَزْهَا إِلَى مَصْرِهَا اعْتِبَارًا بِمَا يُضَافُ إِلَيْهِ ، وَيَكُونُ طَرِيقُهُ مِنْهَا إِلَى دَارِ الْحَرْبِ دَاخِلًا فِي أَمَانِهِ مُجْتَازًا لَا مُقِيمًا اعْتِبَارًا بِقَدَرِ الْحَاجَةِ .

فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الْخَامِسُ : مُدَّةُ الْأَمَانِ وَهِيَ مُقَدَّرَةُ الْأَكْثَرِ بِالشَّرْعِ ، وَمُقَدَّرَةُ الْأَقَلِّ بِالْعَقْدِ ، فَأَمَّا أَكْثَرُهَا فَفِيهِ نَصٌّ وَاجْتِهَادٌ ، فَأَمَّا النَّصُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [ التَّوْبَةِ : 2 ] . هَذَا أَمَانٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُشْرِكِينَ ، وَفِي قَوْلِهِ : فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : تَصَرَّفُوا فِيهَا كَيْفَ شِئْتُمْ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : سَافِرُوا فِيهَا حَيْثُ شِئْتُمْ ، وَأَمَّا الِاجْتِهَادُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ بِهِ سَنَةً إِلَّا بِجِزْيَةٍ إِنْ كَانَ مِنْ أَهِلْهَا ، فَيَصِيرَ بِبَذْلِهَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَفِيمَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَسَنَةٍ وَجْهَانِ مدة الامان : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ أَمَانُهُ فِيهَا لِمُجَاوَزَتِهَا النَّصَّ كَالسَّنَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ أَمَانُهُ فِيهَا لِقُصُورِهَا عَنْ مُدَّةِ الْجِزْيَةِ كَالنَّصِّ فِي الْأَرْبَعَةِ ، فَإِذَا اسْتَقَرَّ أَكْثَرَ مُدَّتِهِ بِالشَّرْعِ لَمْ يَخْلُ حَالٌ مِنَ الْأَمَانِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا ، فَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا لَمْ يُقَيَّدْ بِمُدَّةٍ ، حُمِلَ عَلَى أَكْثَرِ الْمُدَّةِ الْمَشْرُوعَةِ نَصًّا ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَدَّرَةِ

اجْتِهَادًا : لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّرْ بِهِ وَقْتَ الْأَمَانِ حُكْمُ مُجْتَهِدٍ ، فَانْعَقَدَتْ عَلَى مُدَّةِ النَّصِّ دُونَ الِاجْتِهَادِ ، وَلَيْسَ لَهُ فِيمَا بَعْدَهَا أَمَانٌ يَمْنَعُ الشَّرْعُ مِنْهُ ، لَكِنْ لَا يَنْتَقِضُ أَمَانُهُ إِلَّا بَعْدَ إِعْلَامِهِ انْقِضَاءَ الْمُدَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَيَجِبُ أَنْ يُرَدَّ بَعْدَهَا إِلَى مَأْمَنِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَمَانُ مُقَيَّدًا بِمُدَّةٍ أقسامه فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُقَدَّرَ بِالْمُدَّةِ الْمَشْرُوعَةِ نَصًّا وَاجْتِهَادًا ، فَيَجِبُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهَا بِمَقَامِهِ ، فَإِنْ كَانَ أَمَانُهُ فِي بَلَدٍ بِعَيْنِهِ : جَازَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْمُدَّةَ بِمَقَامِهِ فِيهِ ، وَلَهُ بَعْدَ انْقِضَائِهَا الْأَمَانُ فِي مُدَّةِ عَوْدِهِ إِلَى بَلَدِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَمَانُ عَامًّا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا انْتَقَضَ أَمَانُهُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَمَانٌ فِي قَدْرِ مَسَافَةٍ لِاتِّصَالِ دَارِ الْإِسْلَامِ بِدَارِ الْحَرْبِ ، فَصَارَ مَا اتَّصَلَ بِدَارِ الْحَرْبِ مِنْ بِلَادِ أَمَانِهِ ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى مُدَّةِ مَسَافَةِ الِانْتِقَالِ مِنْهَا بِخِلَافِ الْبَلَدِ الْمُعَيَّنِ ، وَلَا يَجُوزُ إِذَا تَجَاوَزَهَا أَنْ يُسْبَى حَتَّى يُرَدَّ إِلَى مَأْمَنِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تُقَدَّرَ مُدَّةُ أَمَانِهِ بِأَقَلَّ مِنَ الْمُدَّةِ الْمَشْرُوعَةِ ، كَإِعْطَائِهِ أَمَانَ شَهْرٍ فَلَا يَتَجَاوَزُ مُدَّةَ الشَّرْطِ إِلَى مُدَّةِ الشَّرْعِ اعْتِبَارًا بِمُوجِبِ الْعَقْدِ ، وَيَكُونُ بَعْدَ انْقِضَائِهَا عَلَى مَا مَضَى . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تُقَدَّرَ مُدَّةُ أَمَانِهِ بِأَكْثَرَ مِنَ الْمُدَّةِ الْمَشْرُوعَةِ ، كَإِعْطَائِهِ أَمَانَ سَنَةٍ أَوْ أَمَانَ الْأَبَدِ فَيَبْطُلُ الْأَمَانُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمُدَّةِ الْمَشْرُوعَةِ نَصًّا وَاجْتِهَادًا وَيَصِيرُ مَقْصُورًا عَلَى الْمُدَّةِ الْمَشْرُوعَةِ نَصًّا وَاجْتِهَادًا ، وَيَصِحُّ فِيهَا قَوْلًا وَاحِدًا ، وَخَرَّجَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِيهِ قَوْلًا ثَانِيًا : مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ إِذَا جَمَعَتْ صَحِيحًا وَفَاسِدًا تَعْلِيلًا بِتَفْرِيقِهَا بِأَنَّ اللَّفْظَةَ تَعُمُّهَا ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا التَّخْرِيجِ : لِأَنَّهُ مِنْ عُقُودِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي هِيَ أَوْسَعُ مِنْ أَحْكَامِ الْعُقُودِ الْخَاصَّةِ ، وَيَجِبُ إِعْلَامُهُ بِحُكْمِنَا وَهُوَ عَلَى أَمَانِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ ، فَإِذَا عَلِمَ زَالَ الْأَمَانُ ، وَوَجَبَ رَدُّهُ إِلَى مَأْمَنِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا دَخَلَ مُشْرِكٌ دَارَ الْإِسْلَامِ وَادَّعَى دُخُولَهَا بِأَمَانِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِهَا ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَسْرِهِ قُبِلَ فِيهِ إِقْرَارُ مَنِ ادَّعَى أَمَانَهُ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَسْرِهِ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِالْأَمَانِ : لِأَنَّهُ قَبْلَ الْأَسْرِ يَمْلِكُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ أَمَانَهُ فَمَلَكَ الْإِقْرَارَ بِهِ ، وَلَا يَمْلِكُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ أَمَانَهُ بَعْدَ الْأَسْرِ ، فَلَمْ يَمْلِكِ الْإِقْرَارَ بِهِ كَالْحَاكِمِ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا حَكَمَ بِهِ فِي وِلَايَتِهِ ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ بَعْدَ عَزْلِهِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِهِ ، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى أَمَانِهِ شَاهِدَانِ عَدْلَانِ ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ ؛ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ بِهَا الْقَتْلَ عَنْ نَفْسِهِ ، وَبَيِّنَةُ الْقَتْلِ شَاهِدَانِ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي أَسِيرٍ قَدْ أَسْلَمَ فَادَّعَى تَقَدُّمَ إِسْلَامِهِ قَبْلَ أَسْرِهِ : طُولِبَ بِالْبَيِّنَةِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقْبَلَ فِي بَيِّنَتِهِ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ : لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ لِنَفْيِ الِاسْتِرْقَاقِ وَالْفِدَاءِ دُونَ الْقَتْلِ ، وَذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ الثَّابِتَةِ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ فَلِذَلِكَ مَا افْتَرَقَ حُكْمُ الْبَيِّنَتَيْنِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ أَنَّ عِلْجًا دَلَّ مُسْلِمِينَ عَلَى قَلْعَةٍ عَلَى أَنَّ لَهُ جَارِيَةً سَمَّاهَا ، فَلَمَا انْتَهَوْا إِلَيْهَا ، صَالَحَ صَاحِبَ الْقَلْعَةِ عَلَى أَنْ يَفْتَحَهَا لَهُمْ وَيُخَلُّوا بَيْنَهْ وَبَيْنَ أَهْلِهِ

فَفَعَلَ فَإِذَا أَهْلُهُ تِلْكَ الْجَارِيَةُ ، فَأَرَى أَنْ يُقَالَ لِلدَلِيلِ : إِنْ رَضِيتَ الْعِوَضَ عَوَّضْنَاكَ بِقِيمَتِهَا ، وَإِنْ أَبَيْتَ قِيلَ لِصَاحِبِ الْقَلْعَةِ أَعْطَيْنَاكَ مَا صَالَحْنَا عَلَيْهِ غَيْرَكَ بِجَهَالَةٍ ، فَإِنْ سَلَّمْتَهَا عَوَّضْنَاكَ ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ نَبَذْنَا إِلَيْكَ وَقَاتَلْنَاكَ ، فَإِنْ كَانَتْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ الظَّفَرِ أَوْ مَاتَتْ عُوِّضَ ، وَلَا يَبِينُ ذَلِكَ فِي الْمَوْتِ كَمَا يَبِينُ إِذَا أَسْلَمَتْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصْلُ هَذَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ وَوَالِي الْجِهَادِ أَنْ يَبْذُلَ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا يُفْضِي إِلَى ظَفَرِهِمْ بِالْمُشْرِكِينَ مَا يَرَاهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ ، لِقِيَامِهِ بِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ : مَنْ دَلَّنَا عَلَى أَقْرَبِ الطُّرُقِ ، أَوْ مَنْ أَوْصَلَنَا إِلَى قَلْعَةٍ ، أَوْ أَرْشَدَنَا إِلَى مَغْنَمٍ ، أَوْ أَظْفَرَنَا بِأَسْبَابِ الْفَتْحِ مِنَ احْتِلَالِ مَضِيقٍ وَشِعْبٍ حَصُونٍ ، أَوْ كَانَ عَيْنًا لَنَا عَلَيْهِمْ وَنَقَلَ أَخْبَارَهُمْ ، فَلَهُ كَذَا وَكَذَا فَهَذِهِ جُعَالَةٌ يَصِحُّ عَقْدُهَا لِمَنْ أَجَابَ إِلَيْهَا مِنْ مُسْلِمٍ وَمُشْرِكٍ ، لِعَوْدِهَا بِنَفْعٍ لِلْجَاعِلِ وَالْمُسْتَجْعِلِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ فِيهَا مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ، وَمِنْ أَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَصِحَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ مَعْلُومًا ، إِمَّا مُعَيَّنًا ، أَوْ فِي الذِّمَّةِ : فَالْمُعَيَّنُ أَنْ يَقُولَ : فَلَهُ هَذَا الْعَبْدُ ، وَفِي الذِّمَّةِ أَنْ يَقُولَ : فَلَهُ مِائَةُ دِينَارٍ ، فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا لَمْ يَصِحَّ : لِأَنَّ مَا أَمْكَنَ نَفْيُ الْجَعَالَةِ عَنْهُ مَنَعَتِ الْجَهَالَةُ مِنْ صِحَّتِهِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ ، وَإِنْ كَانَ الْعِوَضُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ صَحَّتِ الْجَعَالَةُ ، وَإِنْ كَانَ الْعِوَضُ فِيهَا مَجْهُولًا وَبِمَا لَيْسَ فِي الْحَالِ مَمْلُوكًا : فَتَكُونُ الْجَعَالَةُ بِأَمْوَالِهِمْ مُخَالِفَةً لِلْجَعَالَةِ بِأَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : جَوَازُهَا مَجْهُولٌ . وَالثَّانِي : جَوَازُهَا بِغَيْرِ مَمْلُوكٍ . وَدَلِيلُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَالَحَ بَنِي النَّضِيرِ عَلَى أَنْ يَأْخُذُوا مَا تَسْتَوْقِرُّهُ الْإِبِلُ إِلَّا الْمَالَ وَالسِّلَاحَ ، وَهَذَا مَجْهُولٌ وَغَيْرُ مَمْلُوكٍ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ فِي الْبَدْأَةِ الرُّبُعَ ، وَفِي الرَّجْعَةِ الثُّلُثَ ، وَذَلِكَ مِنْ غَنِيمَةٍ مَجْهُولَةٍ وَغَيْرِ مَمْلُوكَةٍ . وَرَوَى عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَثُلَتْ لِي الْحِيرَةُ كَأَنْيَابِ الْكِلَابِ ، وَأَنْتُمْ سَتَفْتَحُونَهَا ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَبْ لِي بِنْتَ بِقَيْلَةَ . فَقَالَ : هِيَ لَكَ ، فَلَمَّا فَتَحَهَا أَصْحَابُهُ أَعْطُوهُ الْجَارِيَةَ ، فَقَالَ أَبُوهَا أَتَبِيعُهَا ، فَقَالَ : نَعَمْ بِأَلْفٍ فَأَعْطَاهُ الْأَلْفَ فَقِيلَ لَهُ لَوْ طَلَبْتَ ثَلَاثِينَ أَلْفًا أَعْطَاكَ ، فَقَالَ : وَهَلْ عَدَدٌ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفٍ .

وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ حَاصَرَ مَدِينَةَ السُّوسِ ، فَصَالَحَهُ دِهْقَانُهَا عَلَى أَنْ يَفْتَحَ لَهُ الْمَدِينَةَ ، وَيُؤَمِّنَ مِائَةَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِهَا ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى : إِنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ يَخْـدَعَهُ اللَّهُ عَنْ نَفْسِهِ ، فَلَمَّا عَزَلَهُمْ قَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى : أَفَرَغْتَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَأَمَّنَهُمْ أَبُو مُوسَى ، وَقَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ ، وَأَمَرَ بِقَتْلِ الدِّهْقَانِ قَالَ : أَتَغْدُرُ بِي وَقَدْ أَمَّنْتَنِي ؟ قَالَ : أَمَّنْتُ الْعِدَّةَ الَّذِينَ سَمَّيْتَ ، وَلَمْ تُسَمِّ نَفْسَكَ فَنَادَى بِالْوَيْلِ وَبَذَلَ مَالًا كَثِيرًا ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ وَقَتَلَهُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ مَا ذَكَرْنَا : فَصُورَةُ مَسْأَلَتِنَا فِي عِلْجٍ اشْتَرَطَ أَنْ يَدُلَّ الْمُسْلِمِينَ علـى قَلْعَةٍ عَلَى أَنْ يُعْطُوهُ جَارِيَةً مِنْهَا سَمَّاهَا : فَدَلَّهُمْ عَلَيْهَا ، فَهَذَا شَرْطٌ صَحِيحٌ تَصِحُّ بِهِ الْجَعَالَةُ مَعَ الْجَهَالَةِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ ، وَلَا يَخْلُو حَالُ الْقَلْعَةِ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَيْهَا مِنْ أَنْ يَظْفَرَ الْمُسْلِمُونَ بِفَتْحِهَا ، أَوْ لَا يَظْفَرُوا ، فَإِنْ لَمْ يَظْفَرُوا بِفَتْحِهَا فَلَا شَيْءَ لِلدَّلِيلِ : لِأَنَّهُ لَمَّا شَرَطَ جَارِيَةً مِنْهَا صَارَتْ جَعَالَتُهُ مُسْتَحَقَّةً بِشَرْطَيْنِ : الدَّلَالَةُ ، وَالْفَتْحُ ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّهَا بِأَحَدِ الشَّرْطَيْنِ ، وَلَوْ جَعَلَ شَرْطَهُ فِي الْجَعَالَةِ شَيْئًا فِي غَيْرِ الْقَلْعَةِ اسْتَحَقَّهُ بِالدَّلَالَةِ ، وَإِنْ تَعَذَّرَ فَتْحُهَا : لِأَنَّهَا مُعَلَّقَةٌ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الدَّلَالَةُ وَقَدْ وُجِدَتْ ، وَإِنْ ظَفِرُوا بِالْقَلْعَةِ وَفَتَحُوهَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَظْفَرُوا بِفَتْحِهَا عَنْوَةً ، حَالُ الْجَارِيَةِ فِيهَا مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ لَا تَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقَلْعَةِ ، وَلَا فِيهَا فَلَا شَيْءَ لِلدَّلِيلِ لِاشْتِرَاطِ مَعْدُومٍ ، وَيُسْتَحَبُّ لَوْ أُعْطِيَ رَضْخَا ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ ، فَلَوْ وُجِدَتِ الْجَارِيَةُ فِي غَيْرِ الْقَلْعَةِ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَتْ مَنْ أَهْلِ الْقَلْعَةِ كَانَ كَوُجُودِهَا فِي الْقَلْعَةِ فَيَسْتَحِقُّهَا الدَّلِيلُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْقَلْعَةِ فَلَا حَقَّ لِلدَّلِيلِ فِيهَا : لِأَنَّهُ اشْتَرَطَ جَارِيَةً مِنَ الْقَلْعَةِ ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ مِنْهَا وَلَا مِنْ أَهْلِهَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الْجَارِيَةُ مَوْجُودَةً فِي الْقَلْعَةِ بَاقِيَةً عَلَى شِرْكِهَا ، فَيَسْتَحِقُّهَا الدَّلِيلُ ، وَلَا حَقَّ فِيهِ لِلْغَانِمِينَ ، وَلَا يُعَاوِضُهُمُ الْإِمَامُ عَنْهَا لِاسْتِحْقَاقِهَا قَبْلَ الْفَتْحِ ، فَصَارَتْ كَأَمْوَالِ مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ الْفَتْحِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ الْجَارِيَةُ مَوْجُودَةً فِي الْقَلْعَةِ ، وَقَدْ أَسْلَمَتْ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ إِسْلَامُهَا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا فَهِيَ حُرَّةٌ ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهَا فَلَا يَسْتَحِقُّهَا الدَّلِيلُ ، لِمَنْعِ الشَّرْعِ مِنْهَا وَيَسْتَحِقُّ قِيمَتَهَا : لِأَنَّ شَرْعَنَا مَنَعَهُ مِنْهَا ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُعَاوَضَ عَنْهَا بِقِيمَتِهَا ، وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّلِيلُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ إِسْلَامُهَا بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا ، فَهِيَ مُسْتَرَقَّةٌ لَا يَرْتَفِعُ رِقُّهَا بِالْإِسْلَامِ وَلِلدَّلِيلِ حَالَتَانِ . إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا فَيَسْتَحِقَّ الْجَارِيَةَ .

وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ كَافِرًا فَفِيهِ قَوْلَانِ ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْكَافِرِ إِذَا ابْتَاعَ عَبْدًا مُسْلِمًا : فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ : إِنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ فَعَلَى هَذَا لَا يَسْتَحِقُّ الْجَارِيَةَ ، وَتُدْفَعُ إِلَيْهِ قِيمَتُهَا ، فَإِنْ أَسْلَمَ مِنْ بَعْدُ لَمْ يَسْتَحِقَّهَا لِانْتِقَالِ حَقِّهِ مِنْهَا إِلَى قِيمَتِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ ، وَيَمْنَعُ مِنْ إِقْرَارِهِ عَلَى مِلْكِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَسْتَحِقُّ الدَّلِيلُ الْجَارِيَةَ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا ، وَيُمْنَعُ مِنْهَا ، حَتَّى يَبِيعَهَا ، أَوْ يُسْلِمَ فَيَسْتَحِقُّهَا ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَحَدَ هَذِهِ الثَّلَاثِ بِيعَتْ عَلَيْهِ جَبْرًا وَدُفِعَ إِلَيْهِ ثَمَنُهَا . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ تُوجَدَ الْجَارِيَةُ فِي الْقَلْعَةِ مَيِّتَةً فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا كَلَامًا مُحْتَمَلًا فِي غُرْمِ الْقِيمَةِ لَهُ خَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ قِيمَتُهَا كَمَا لَوْ أَسْلَمَتْ : لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْهَا فِي الْحَالَيْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا قِيمَةَ لَهُ : لِأَنَّ الْمَيِّتَةَ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهَا ، وَخَالَفَتِ الَّتِي أَسْلَمَتْ لِمَنْعِ الشَّرْعِ مِنْهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْلِيمِهَا ، وَعِنْدِي أَنَّ الْأَوْلَى مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يَنْظُرَ ، فَإِنْ كَانَ مَوْتُهَا بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْلِيمِهَا اسْتَحَقَّ قِيمَتَهَا ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسَلُّمِهَا فَلَا قِيمَةَ لَهُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ الشَّافِعِيِّ مَحْمُولًا عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ ، فَهَذَا حُكْمُ فَتْحِ الْقَلْعَةِ عَنْوَةً .

فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تُفْتَحَ صُلْحًا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا تَدْخُلَ الْجَارِيَةُ فِي الصُّلْحِ ، فَيَكُونَ الْحُكْمُ فِيهَا عَلَى مَا مَضَى مِنْ فَتْحِهَا عَنْوَةً . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنَّ تَدْخُلَ فِي الصُّلْحِ ، وَهُوَ أَنْ يُصَالِحَنَا عَلَى فَتْحِهَا عَلَى أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ ، وَتَكُونَ هِيَ مِنْ أَهْلِهِ ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَقَدْ تَعَلَّقَ بِهَا حَقَّانِ : أَحَدُهُمَا : لِلدَّلِيلِ فِي عَقْدِ جَعَالَتِهِ . وَالثَّانِي : لِصَاحِبِ الْقَلْعَةِ فِي عَقْدِ صُلْحِهِ ، وَكِلَا الْعَقْدَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : الْأَوَّلُ صَحِيحٌ ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ اعْتِبَارًا بِعَقْدَيِ النِّكَاحِ وَعَقْدَيِ الْبَيْعِ : لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ، فَصَحَّ أَسْبَقُهُمَا ، وَهَذَا الْقَوْلُ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حُكْمَ هَذَا الْعَقْدِ أَوْسَعُ مِنْ حُكْمِ الْعُقُودِ الْخَاصَّةِ ، لِجَوَازٍ بِمَجْهُولٍ وَغَيْرِ مَمْلُوكٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْأَوَّلَ لَوْ كَفَى أَمْضَيْنَا صُلْحَ الثَّانِي ، وَلَوْ فَسَدَ لَمْ يَمْضِ إِلَّا بِعَقْدٍ

مُسْتَجَدٍّ ، وَإِذَا كَانَا صَحِيحَيْنِ وَالْجُمَعُ بَيْنَهُمَا غَيْرَ مُمْكِنٍ لِتَنَافِيهِمَا ، وَالِاشْتِرَاكُ بَيْنَهُمَا غَيْرَ جَائِزٍ لِامْتِنَاعِهِ : فَيَبْدَأُ بِخِطَابِ الدَّلِيلِ لِتَقَدُّمِ عَقْدِهِ فَيُقَالُ لَهُ : جَعَلْنَا لَكَ جَارِيَةً وَصَالَحْنَا غَيْرَكَ عَلَيْهَا عَنْ جَهَالَةٍ بِهَا ، وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنْزِلَكَ عَنْهَا جَبْرًا ، لِتَقَدُّمِ حَقِّكَ فِيهَا ، أَفَتَرْضَى أَنْ تَعْدِلَ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا مِنْ جَوَارِي الْقَلْعَةِ أَوْ إِلَى قِيمَتِهَا ، فَإِنْ رَضِيَ بِذَلِكَ فَعَلْنَاهُ ، وَأَمْضَيْنَا صُلْحَ الْقَلْعَةِ عَلَيْهَا ، وَإِنِ امْتَنَعَ الدَّلِيلُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا قُلْتَ لِصَاحِبِ الْقَلْعَةِ : قَدْ صَالَحْنَاكَ عَلَيْهَا بَعْدَ أَنْ جَعَلْنَاهَا لِغَيْرِكَ عَلَى جَهَالَةٍ ، أَفَتَرْضَى بِأَخْذِ غَيْرِهَا فِي صُلْحِكَ أَوْ ثَمَنِهَا ، فَإِنْ رَضِيَ بِذَلِكَ فَعَلْنَاهُ وَدَفَعْنَاهَا إِلَى الدَّلِيلِ ، وَإِنِ امْتَنَعَ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى انْتِزَاعِهَا مِنْ يَدِهِ لِمَا عَقَدْنَاهُ مِنْ صُلْحِهِ ، وَقِيلَ : قَدْ تَقَدَّمُ فِيهَا حَقُّ الدَّلِيلِ عَلَى حَقِّكَ ، وَعَلَيْنَا بِعَقْدِ صُلْحِكَ الَّذِي لَا تَقْدِرُ عَلَى إِمْضَائِهِ أَنْ نُعِيدَكَ إِلَى مَأْمَنِكَ ، ثُمَّ تَكُونَ مِنْ بَعْدِهِ لَكَ حَرْبًا ، فَإِذَا رُدَّ إِلَى مَأْمَنِهِ مُكِّنَ مِنَ التَّحَصُّنِ وَالِاحْتِرَازِ عَلَى مِثْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ صُلْحِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ ، وَلَا نُقْصَانٍ مِنْهُ ، وَكُنَّا لَهُ بَعْدَ التَّحَصُّنِ حَرْبًا ، وَإِنْ فُتِحَتِ الْقَلْعَةُ عَنْوَةً كَانَ حُكْمُ الْجَارِيَةِ فِي تَسْلِيمِهَا إِلَى الدَّلِيلِ مُسْتَحَقًّا عَلَى مَا مَضَى ، وَإِنْ لَمْ نَفْتَحْهَا عَنْوَةً ، وَعُدْنَا عَنْهَا فَلَا شَيْءَ لِلدَّلِيلِ : لِمَا ذَكَرْنَا . وَيُسْتَحَبُّ ، أَنْ لَوْ رَضَخَ لَهُ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ ، فَلَوْ عُدْنَا إِلَى الْقَلْعَةِ بَعْدَ الِانْصِرَافِ عَنْهَا وَفَتَحْنَاهَا عَنْوَةً فَهَلْ يَسْتَحِقُّ الدَّلِيلُ الْجَارِيَةَ أَمْ لَا ؟ من دل المسلمين على قلعة واشترط جارية معينة عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَسْتَحِقُّهَا : لِأَنَّهَا لَمْ تُفْتَحْ بِدَلَالَتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَسْتَحِقُّهَا : لِأَنَّ الْوُصُولَ إِلَى فَتْحِهَا بِدَلَالَتِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ غَزَتْ طَائِفَةٌ بِغَيْرِ أَمْرِ الْإِمَامِ كَرِهْتُهُ : لِمَا فِي إِذْنِ الْإِمَامِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِغَزْوِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ ، وَيَأْتِيهِ الْخَبَرُ عَنْهُمْ : فَيُعِينُهُمْ حَيْثُ يَخَافُ هَلَاكَهُمْ ، فَيُقْتَلُونَ ضَيْعَةً ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَلَا أَعْلَمُ ذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ الْجَنَّةَ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ : إِنْ قُتِلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، صَابِرًا مُحْتَسِبًا : قَالَ " فَلَكَ الْجَنَّةُ " ، قَالَ فَانْغَمَسَ فِي الْعَدُوِّ فَقَتَلُوهُ ، وَأَلْقَى رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ دِرْعًا كَانَ عَلَيْهِ ، حِينَ ذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَنَّةَ ، ثُمَّ انْغَمَسَ فِي الْعَدُوِّ فَقَتَلْوهُ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا حَلَّ لِلْمُنْفَرِدِ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى مَا الْأَغْلَبُ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَهُ كَانَ هَذَا أَكْثَرَ مِمَّا فِي الِانْفِرَادِ مِنَ الرَّجُلِ وَالرِّجَالِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ وَرَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ سَرِيَّةً وَحْدَهُمَا ، وَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ سَرِيَّةً وَحْدَهُ ، فَإِذَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَسَرَّى وَاحِدٌ : لِيُصِيبَ غِرَّةً وَيُسْلِمَ بِالْحِيلَةِ ، أَوْ يُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَحُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى أَنَ مَا أَوْجَفَ الْمُسْلِمُونَ غَنِيمَةٌ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا ذَكَرَ ، يُكْرَهُ أَنْ يَغْزُوَ قَوْمٌ بِغَيْرِ إِذَنِ الْإِمَامِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَعْرَفُ بِجِهَادِ الْعَدُوِّ مِنْهُمْ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ : أَعَانَهُمْ وَأَمَدَّهُمْ ، فَعَلَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ يُكْرَهُ لَهُمْ ذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَعَلَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي يُكْرَهُ لَهُمْ ذَلِكَ فِي حُقُوقِ أَنْفُسِهِمْ ، إِنْ غَزَوْا بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِمْ ، وَسَوَاءٌ كَانُوا فِي مَنَعَةٍ أَوْ غَيْرِ مَنَعَةٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا فِي مَنَعَةٍ ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ : الْمَنَعَةُ عَشَرَةٌ ، وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَدَدَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْإِبَاحَةِ : قَدْ أَنْفَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ وَرَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ سَرِيَّةً وَحْدَهُمَا ، وَأَنْفَذَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ سَرِيَّةً وَحْدَهُ : لِقَتْلِ خَالِدِ بْنِ سُفْيَانَ الْهُذَلِيِّ وَهُوَ فِي الْعُدَّةِ وَالْعَدَدِ ، وَأَنْفَذَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ لِقَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ فَقَتَلَهُ ، وَأَنْفَذَ نَفَرًا لِقَتْلِ ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ فَقَتَلُوهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقِلَّةِ أَكْثَرُ مِنْ بَذْلِ النَّفْسِ وَجِهَادِ الْعَدُوِّ ، وَهَذَا غَيْرُ مَحْظُورٍ : قَدْ حَثَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْقِتَالِ وَذَكَرَ الْجَنَّةَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنْ قُتِلْتُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مَا الَّذِي لِي ؟ قَالَ : الْجَنَّةُ فَانْغَمَسَ فِي الْعَدُوِّ حَتَّى قُتِلَ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ لَمْ يَخْلُ حَالُ مَا أَخَذُوهُ مِنَ الْمَالِ الطائفة التي غزت بغير إذن الإمام مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَأْخُذُوهُ عَنْوَةً بِقِتَالٍ ، فَهَذَا غَنِيمَةٌ يُخَمِّسُهُ الْإِمَامُ وَيَقْتَسِمُوا أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَتْرُكُهُ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُخَمِّسُهُ . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي أَخْذِ خُمْسِهِ مِنْهُمْ ، أَوْ تَرْكِ جَمِيعِهِ عَلَيْهِمْ ، أَوْ تَخْمِيسِهِ ، وَقَسْمِ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ بَيْنَهُمْ . وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى وُجُوبِ تَخْمِيسِهِ بِمَا مَضَى ، وَلَا تَأْدِيبَ عَلَيْهِمْ . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : يُؤَدِّبُهُمُ الْإِمَامُ عُقُوبَةً لَهُمْ وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الِانْتِقَامِ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ تَأْدِيبٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَأْخُذُوا الْمَالَ صُلْحًا بِغَيْرِ قِتَالٍ ، فَهَذَا الْمَالُ فَيْءٌ لَا يَسْتَحِقُّونَهُ : يَكُونُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِأَهْلِ الْفَيْءِ ، وَخُمْسُهُ لِأَهْلِ الْخُمْسِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَأْخُذُوا الْمَالَ اخْتِلَاسًا بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلَا صُلْحٍ .

قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : يَكُونُ ذَلِكَ فَيْئًا لَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِ : لِوُصُولِهِ بِغَيْرِ إِيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ ، وَعِنْدِي أَنَّهُ يَكُونُ غَنِيمَةً يَمْلِكُونَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ : لِأَنَّهُمْ مَا وَصَلُوا إِلَيْهِ عَفْوًا حَتَّى غَرَّرُوا بِأَنْفُسِهِمْ فَصَارَ كُلُّ تَغْرِيرِهِمْ بِهَا إِذَا قَاتَلُوا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَنْ سَرَقَ مِنَ الْغَنِيمَةِ مِنْ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ حَضَرَ الْغَنِيمَةَ لَمْ يُقْطَعْ : لِأَنَّ لِلْحُرِّ سَهْمًا ، وَيُرْضَخُ لِلْعَبْدِ ، وَمَنْ سَرَقَ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَفِي أَهْلِهَا أَبُوهُ أَوِ ابْنُهُ لَمْ يُقْطَعْ ، وَإِنْ كَانَ أَخُوهُ أَوِ امْرَأَتُهُ قُطِعَ ، ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَفِي كِتَابِ السَّرِقَةِ إِنْ سَرَقَ مِنَ امْرَأَتِهِ لَمْ يُقْطَعْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْغَنَائِمَ إِذَا أُحْرِزَتْ بَعْدَ إِجَازَتِهَا لَمْ يَجُزْ لِأَحَدِ الْغَانِمِينَ وَغَيْرِهِمْ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهَا قَبْلَ قَسْمِهَا ، وَلِمُسْتَحَقِّهَا مُطَالَبَةُ الْإِمَامِ بِقَسْمِهَا فِيهِمْ ، فَإِنْ هَتَكَ حِرْزَهَا مَنْ سَرَقَ مِنْهَا نِصَابَ الْقَطْعِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ خُمْسُهَا بَاقِيًا فِيهَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا ، فَلَا قَطْعَ عَلَى السَّارِقِ مِنْهَا ، سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْغَانِمِينَ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ : لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنَ الْغَانِمِينَ فَلَهُ فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهَا سَهْمٌ ، وَفِي خُمْسِهَا مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ حَقٌّ ، وَهِيَ شُبْهَةٌ وَاحِدَةٌ يَسْقُطُ بِهَا عَنْهُ الْقَطْعُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَخْرُجَ خُمْسُهَا مِنْهَا فَتَصِيرَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا مُفْرَدًا لِلْغَانِمِينَ ، وَخُمْسُهَا مُفْرَدًا لِأَهْلِ الْخُمْسِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ السَّرِقَةُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُ السَّارِقِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ مِنْ ذِي سَهْمٍ ، كَالرَّجُلِ الْحُرِّ ، وَذِي رَضْخٍ كَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ فَهُمَا سَوَاءٌ : لِأَنَّ الرَّضْخَ يَسْتَحِقُّ وَإِنْ نَقَصَ عَنِ السَّهْمِ كَنُقْصَانِ سَهْمِ الرَّاجِلِ عَنْ سَهْمِ الْفَارِسِ فَكَانَا حَقَّيْنِ وَاجِبَيْنِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَسْرِقَ مِنْهَا مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ حَقِّهِ ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ ، لَهُمْ فِي تَعْلِيلِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا شُبْهَةٌ فِي هَتْكِ حِرْزِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهَا شُبْهَةٌ فِي أَخْذِ حَقِّهِ مِنْهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَسْرِقَ مِنْهَا مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَطْعًا أَكْثَرُ مِنْ حَقِّهِ ، فَفِي وُجُوبِ قَطْعِهِ فِي الزِّيَادَةِ ، إِذَا بَلَغَتْ نِصَابًا وَجْهَانِ ، أَشَارَ إِلَيْهِمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ فِي شَرْحِهِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُقْطَعُ وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ مَنْ عَلَّلَ بِالشُّبْهَةِ فِي هَتْكِ الْحِرْزِ : لِأَنَّ الْمَالَ صَارَ بِهَا فِي غَيْرِ حِرْزٍ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُقْطَعُ وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ مَنْ عَلَّلَ بِالشُّبْهَةِ فِي أَخْذِ الْحَقِّ : لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَ فِيهَا حَقٌّ ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَكُونَ لَهُ رَجُلُ دِينٍ ، فَيَتَوَصَّلَ إِلَى هَتْكِ حِرْزِهِ ، وَيَأْخُذُ الزِّيَادَةَ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ : فَيَكُونَ قَطْعُهُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ السَّارِقُ مِمَّنْ لَمْ يَحْضُرِ الْوَقْعَةَ ، وَلَا يَتَّصِلُ بِمَنْ حَضَرَهَا سرقة الغنيمة : فَيَجِبُ قَطْعُهُ فِيهَا لِارْتِفَاعِ شُبْهَتِهِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُقْطَعُ : لِأَنَّهَا عَنْ أَصْلٍ مُبَاحٍ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ السَّارِقُ مِمَّنْ لَمْ يَحْضُرِ الْوَقْعَةَ ، لَكِنْ لَهُ اتِّصَالٌ بِمَنْ حَضَرَهَا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ اتِّصَالُهُمَا لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ بَيْنَهُمَا ؛ كَالْأَخِ يُقْطَعُ إِذَا سَرَقَ مِنْ أَخِيهِ ، كَذَلِكَ إِذَا سَرَقَ مِنْ غَنِيمَةٍ حَضَرَهَا أَخُوهُ قُطِعَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ اتِّصَالُهُمَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ بَيْنَهُمَا كَالْوَلَدِ مَعَ الْأَبَوَيْنِ لَا يُقْطَعُ أَحَدُهُمَا فِي مَالِ الْآخَرِ ، وَكَالْعَبْدِ مَعَ سَيِّدِهِ لَا يُقْطَعُ فِي مَالِهِ ، كَذَلِكَ إِذَا سَرَقَ مِنْ غَنِيمَةٍ حَضَرَهَا وَاحِدٌ مَاتَ وَالِدَيْهِ ، أَوْ مَوْلُودَيْهِ لَمْ يُقْطَعْ ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَضَرَهَا عَبْدُهُ ، أَوْ سَيِّدُهُ لَمْ يُقْطَعْ ، فَأَمَّا الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ إذا سرق كل منهما من الآخر فَفِي قَطْعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَالِ صَاحِبِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُقْطَعُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَعَلَى هَذَا لَا يُقْطَعُ فِي الْغَنِيمَةِ إِذَا حَضَرَهَا زَوْجٌ ، أَوْ زَوْجَةٌ ، وَلَا إِذَا حَضَرَهَا عَبْدٌ أَوْ زَوْجَةٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُقْطَعُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، فَعَلَى هَذَا يُقْطَعُ فِي الْغَنِيمَةِ وَإِنْ حَضَرَهَا هَؤُلَاءِ ، فَهَذَا حُكْمُ السَّرِقَةِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ .

فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَسْرِقَ مِنْ خُمْسِ الْغَنِيمَةِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ خُمْسُ الْخُمْسِ وَهُوَ سَهْمُ الْمَصَالِحِ مِنْهَا بَاقِيًا فِيهَا فَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِهَا : لِأَنَّ لَهُ فِيهَا مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ حَقًّا فَصَارَ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْقَطْعِ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ أَوْ لَمْ يَحْضُرْهَا : لِأَنَّ سَهْمَ الْمَصَالِحِ عَامٌّ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ سَهْمُ الْمَصَالِحِ وَهُوَ خُمْسُ الْخُمْسِ أُفْرِدَ ، فَسَرَقَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْخُمْسِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلٍ ذَلِكَ ، وَمُسْتَحِقِّيهِ كَذَوِي الْقُرْبَى ، وَالْيَتَامَى ، وَالْمَسَاكِينِ ، وَابْنِ السَّبِيلِ ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ وَيَكُونُ كَالْغَانِمِ إِذَا سَرَقَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ ، وَلَا مُسْتَحِقِّيهِ فَفِي وُجُوبِ قَطْعِهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : يُقْطَعُ كَأَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ إِذَا سَرَقَ مِنْهَا غَيْرُ مُسْتَحِقِّهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُقْطَعُ : لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مِنْ مُسْتَحِقِّيهِ فِي ثَانِي حَالٍ : بِخِلَافِ الْغَنِيمَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مِنْ مُسْتَحِقِّيهَا فِي ثَانِي حَالٍ . رَوَى إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : ادْرَءُوا الْحُدُودَ ، فَإِنَّ الْإِمَامَ لَأَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ ، فَإِذَا وَجَدْتُمْ لِمُسْلِمٍ مَخْرَجًا فَادْرَءُوا عَنْهُ الْحَدَّ مَا اسْتَطَعْتُمْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَا افْتُتِحَ مِنْ أَرْضِ مَوَاتٍ فَهِيَ لِمَنْ أَحْيَاهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فَتْحُ بِلَادِ الْمُشْرِكِينَ ضَرْبَانِ : عَنْوَةٌ ، وَصُلْحٌ . فَأَمَّا بِلَادُ الْعَنْوَةِ حكم أرضها فَضَرْبَانِ : عَامِرٌ ، وَمُوَاتٌ . فَأَمَّا الْعَامِرُ فَمِلْكٌ لِلْغَانِمِينَ لَا يُشْرِكُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ ، وَأَمَّا الْمَوَاتُ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَذُبُّوا عَنْهُ ، وَيَمْنَعُوا مِنْهُ فَيَكُونَ كَالذَّبِّ فِي حُكْمِ الْعَامِرِ يَخْتَصُّ بِهِ الْغَانِمُونَ دُونَ غَيْرِهِمْ : لِأَنَّ الذَّبَّ عَنْهُ كَالتَّحْجِيرِ عَلَيْهِ ، وَالْمُتَحَجِّرُ عَلَى الْمَوَاتِ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ ، كَذَلِكَ حُكْمُ هَذَا الْمَوَاتِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَذُبُّوا عَنْهُ فَيَكُونَ فِي حُكْمِ مُوَاتِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ ، مَنْ أَحْيَاهُ مِنْهُمْ مَلَكَهُ وَلَا يَخْتَصُّ بالْغَانِمِينَ . وَأَمَّا بِلَادُ الصُّلْحِ حكم أرضها فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى الْأَرَضِينَ لَنَا ، وَيُقِرَّهَا مَعَهُمْ بِخَرَاجٍ يُؤَدُّونَهُ إِلَيْنَا ، فَيَكُونَ مَوَاتُهَا كَمَوَاتِنَا يَمْلِكُهُ مَنْ أَحْيَاهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ : لِاسْتِوَائِهِمْ فِيهِ ، وَتَصِيرَ الْأَرْضُ بِهَذَا الصُّلْحِ دَارَ الْإِسْلَامِ ، وَلَا يَمْلِكُونَ مَا أَحْيَوْهُ مِنْ هَذَا الْمَوَاتِ ، كَمَا لَا يُمَلِّكُوهُ أَهْلَ الذِّمَّةِ إِذَا أَحْيَوْهُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَهُمْ ، وَيُقَرُّونَ عَلَيْهَا بِخَرَاجٍ يُؤَدُّونَهُ عَنْهَا ، فَتَكُونُ الْأَرْضُ بَاقِيَةً عَلَى مِلْكِهِمْ ، وَلَا تَصِيرُ بِهَذَا الصُّلْحِ دَارَ إِسْلَامٍ ، وَيَكُونُ مَوَاتُهَا كَمَوَاتِ دَارِ الْحَرْبِ ، إِنْ أَحْيَوْهُ مَلَكُوهُ ، وَإِنْ أَحْيَاهُ الْمُسْلِمُونَ لَمْ يَمْلِكُوهُ : لِأَنَّ الْيَدَ مُرْتَفِعَةٌ عَنْ دَارِهِمْ ، وَالصُّلْحُ إِنَّمَا أَوْجَبَ الْكَفَّ عَنْهُمْ وَأَخْذَ الْخَرَاجِ مِنْهُمْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَا فَعَلَ الْمُسْلِمُونَ بَعْضُهُمْ بِبِعْضٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَزِمَهُمْ حُكْمُهُ : حَيْثُ كَانُوا إِذَا جُعِلَ ذَلِكَ لِإِمَامِهِمْ لَا تَضَعُ الدَّارُ عَنْهُمْ حَدَّ اللَّهِ وَلَا حَقًّا لِمُسْلِمٍ ، ( وَقَالَ ) فِي كِتَابِ السِّيَرِ : وَيُؤَخَّرُ الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَرْجِعُوا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : كُلُّ مَعْصِيَةٍ وَجَبَ بِهَا الْحَدُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ ، وَجَبَ بِهَا الْحَدُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَوِ الذِّمِّيِّ ، سَوَاءٌ كَانَ فِيهَا الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَكُنْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجِبُ بِهَا الْحَدُّ إِنْ كَانَ الْإِمَامُ فِيهَا ، وَلَا يَجِبُ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا : احْتِجَاجًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنَعَتْ دَارُ الْإِسْلَامَ مَا فِيهَا ، وَأَبَاحَتْ دَارُ الشِّرْكِ مَا فِيهَا وَفَرَّقَ بَيْنَ الدَّارَيْنِ فِي الْإِبَاحَةِ وَالْحَظْرِ ، كَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي السَّبْيِ وَالْقَتْلِ : فَأَوْجَبَ ذَلِكَ وُقُوعَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي وُجُوبِ الْحَدِّ . وَدَلِيلُنَا عُمُومُ الْآيَاتِ فِي الْحُدُودِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسَتْرِ اللَّهِ : فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِ ، فَعَمَّ وَلَمْ يَخُصَّ ، وَلِأَنَّهَا حُدُودٌ تَجِبُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ : فَاقْتَضَى أَنْ تَجِبَ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَمَا لَوْ حَضَرَ الْإِمَامُ ، وَلِأَنَّهَا حُدُودٌ تَجِبُ بِحُضُورِ الْإِمَامِ : فَاقْتَضَى أَنْ تَجِبَ بِغَيْبَةِ الْإِمَامِ كَدَارِ الْإِسْلَامِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَتِ الدَّارَانِ فِي تَحْرِيمِ الْمَعَاصِي : وَجَبَ أَنْ تَسْتَوِيَا فِي لُزُومِ الْحُدُودِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَخْتَلِفْ أَحْكَامُ الْعِبَادَاتِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ، وَالصِّيَامِ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ : وَجَبَ أَنْ لَا تَخْتَلِفَ أَحْكَامُ الْمَعَاصِي بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ . فَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَحْمُولٌ عَلَى إِبَاحَةِ مَا تَصِحُّ اسْتِبَاحَتُهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ ، وَلَيْسَ بِمَحْمُولٍ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهُ مِنَ الْكَبَائِرِ وَالْمَعَاصِي .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُودُ الْحُدُودِ فِيهَا نُظِرَ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَنْ يَسْتَحِقُّ إِقَامَتَهَا أُخِّرَتْ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ حَتَّى يُقِيمَهَا الْإِمَامُ اقامة الحدود فى دار الحرب ، وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَنْ يُقِيمُهَا وَهُوَ الْإِمَامُ ، أَوْ مَنْ وَلَّاهُ الْإِمَامُ إِقَامَتَهَا مِنْ وُلَاةِ الثُّغُورِ وَالْأَقَالِيمِ ، نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ يَمْنَعُهُ مِنْ إِقَامَتِهَا لِتَشَاغُلِهِ بِتَدْبِيرِ الْحَرْبِ ، أَوْ لِحَاجَتِهِ إِلَى قِتَالِ الْمَحْدُودِ أُخِّرَ حَدُّهُ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ قُدِّمَ حَدُّهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَلَيْسَ مَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ مِنَ اخْتِلَافِ جَوَابِهِ فِيهِ مَحْمُولًا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ اخْتِلَافِ حَالَيْنِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَجُوزُ إِقَامَةُ الْحُدُودِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَعَلَى الْإِمَامِ تَأْخِيرُهَا احْتِجَاجًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ أَنْ لَا يُقِيمُوا الْحُدُودَ فِي دَارِ الشِّرْكِ حَتَّى يَعُودُوا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَتَدَاخَلَهُ مِنَ الْأَنَفَةِ وَالْحَمِيَّةِ مَا يَبْعَثُهُ عَلَى الرِّدَّةِ اعْتِصَامًا بِأَهْلِ الْحَرْبِ ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُفَرِّقْ ، وَلِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ حُقُوقًا مِنْ عِبَادَاتٍ ، وَحُدُودٍ فِي مَعَاصٍ ، فَإِذَا لَمْ تَمْنَعْ دَارُ الشِّرْكِ مِنَ اسْتِيفَاءِ حُقُوقِهِ لَمْ تَمْنَعْ مِنْ

إِقَامَةِ حُدُودِهِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ خَبَرِ عُمَرَ إِنْ صَحَّ فَهُوَ أَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ لِئَلَّا يَقَعَ التَّشَاغُلُ بِإِقَامِهَا عَنْ تَدْبِيرِ الْحَرْبِ وَجِهَادِ الْعَدُوِّ . وَقَوْلُهُ : إِنَّهُ رُبَّمَا بَعَثَتْهُ الْحَمِيَّةُ عَلَى الرِّدَّةِ ، فَلَوْ كَانَ لِهَذَا الْمَعْنَى لَا تُقَامُ عَلَيْهِمُ الْحُدُودُ لَمَّا أُقِيمَتْ عَلَى أَهْلِ الثُّغُورِ ، وَلَمَّا اسْتُوفِيَتْ مِنْهُمُ الْحُقُوقُ ، وَلَأَفْضَى إِلَى تَعْطِيلِ الْحُدُودِ ، وَإِسْقَاطِ الْحُقُوقِ ، وَهَذَا مَدْفُوعٌ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ الْمُسْتَهْلَكَةُ عَلَيْهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، فَإِنْ كَانَتْ لِأَهْلِ الْحَرْبِ فَهِيَ مُبَاحَةٌ بِالْكُفْرِ ، وَالْمُحَارَبَةُ لَا تَضْمَنُ أَمْوَالَهُمْ ، وَلَا نُفُوسَهُمْ ، وَإِنْ كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ فَضَرْبَانِ أَمْوَالٌ ، وَنُفُوسٌ . فَأَمَّا الْأَمْوَالُ فَيَأْتِي ضَمَانُهَا . وَأَمَّا النُّفُوسُ كَمُسْلِمٍ قَتَلَ مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فِي حَرْبٍ ، وَقَدْ مَضَى حُكْمُهُ وَذَكَرْنَا أَقْسَامَهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : يَكُونُ فِي غَيْرِ حَرْبٍ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَعْلَمَ بِإِسْلَامِهِ فَيُنْظُرَ فِي قَتْلِهِ ، فَإِنْ قَتَلَهُ خَطَأً ضَمِنَهُ بِالْكَفَّارَةِ دُونَ الدِّيَةِ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [ النِّسَاءِ : 92 ] . وَإِنْ قَتَلَهُ عَمْدًا فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ، وَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ - لَا دِيَةَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ الْجَهْلَ بِإِسْلَامِهِ يَغْلِبُ حُكْمَ الدَّارِ فِي سُقُوطِ دِيَتِهِ كَمَا غَلَبَ حُكْمُهَا فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : - وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - ضَمِنَ دِيَتَهُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ قَصْدِهِ ، وَلَا يُؤَثِّرُ سُقُوطُ الْقَوَدِ الَّذِي يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ فِي سُقُوطِ الدِّيَةِ الَّتِي لَا تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَقْتُلَهُ عَالِمًا بِإِسْلَامِهِ فَيَلْزَمَهُ بِقَتْلِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَا كَانَ لَازِمًا لَهُ بِقَتْلِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ : إِنْ كَانَ بِعَمْدٍ مَحْضٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ ، وَالْكَفَّارَةُ ، وَإِنْ كَانَ بِعَمْدِ الْخَطَأِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً وَالْكَفَّارَةُ ، وَإِنْ كَانَ بِخَطَأٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ مُخَفَّفَةً وَالْكَفَّارَةُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ مُسْلِمًا أَوْ أَسْلَمَ فِيهَا سَوَاءٌ هَاجَرَ أَوْ لَمْ يُهَاجِرْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قَوَدَ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِمَامٌ ، فَأَمَّا الدِّيَةُ فَإِنْ دَخَلَهَا وَهُوَ مُسْلِمٌ غَيْرُ مَأْسُورٍ ضَمِنَ عَمْدَهُ بِالدِّيَةِ دُونَ الْكَفَّارَةِ ، وَضَمِنَ

خَطَأَهُ بِالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ ، وَإِنْ كَانَ مَأْسُورًا لَمْ يَضْمَنْ دِيَتَهُ فِي عَمْدٍ وَلَا خَطَأٍ ، وَضَمِنَ بِالْكَفَّارَةِ فِي الْخَطَأِ دُونَ الْعَمْدِ : لِأَنَّ الْأَسِيرَ قَدْ صَارَ فِي أَيْدِيهِمْ كَالْمَمْلُوكِ لَهُمْ ، وَإِنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَهَاجَرَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ كَالدَّاخِلِ إِلَيْهَا مُسْلِمًا ، وَإِنْ لَمْ يُهَاجِرْ إِلَيْهَا كَانَتْ نَفْسُهُ هَدْرًا لَا يُضْمَنُ بِقَوْدٍ وَلَا دِيَةٍ ، وَتَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ دُونَ الْعَمْدِ : احْتِجَاجًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا [ الْأَنْفَالِ : 72 ] . وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ ، وَهَذَا مُوجِبٌ لِإِهْدَارِ دَمِهِ قَالَ : وَلِأَنَّهُ دَمٌ لَمْ يُحْقَنْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُضْمَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَالْحَرْبِيِّ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا ، وَهَذَا مَظْلُومٌ بِالْقَتْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فِي الْقَوَدِ وَالدِّيَةَ ، وَلِأَنَّهُ إِسْلَامٌ صَارَ الدَّمُ بِهِ مَحْقُونًا ، فَوَجَبَ أَنْ يَصِيرَ بِهِ مَضْمُونًا كَالْمُهَاجِرِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ دَارٍ يَنْهَدِرُ الدَّمُ فِيهَا بِالرِّدَّةِ ، يُضْمَنُ الدَّمُ فِيهَا بِالْإِسْلَامِ كَدَارِ الْإِسْلَامِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ وُرُودُهَا فِي الْمِيرَاثِ : لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ يَتَوَارَثُونَ بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ ، ثُمَّ نُسِخَتْ حِينَ تَوَارَثُوا بِالْإِسْلَامِ دُونَ الْهِجْرَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَهُوَ إِنَّمَا تَبَرَأَ مِنْ أَفْعَالِهِ ، وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ هَدْرَ دَمِهِ كَمَا قَالَ : مَنْ غَشِّنَا فَلَيْسَ مِنَّا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ فَهُوَ أَنَّ هَذَا هَدْرُ دَمٍ مَحْقُونٍ ، فَلَمْ يَكُنْ لِاخْتِلَافِ الدَّارِ تَأْثِيرٌ ، وَدَمُ الْحَرْبِيِّ مُبَاحٌ فَلَا يَكُنْ لِاخْتِلَافِ الدَّارِ تَأْثِيرٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ خَلْفَ الَّذِينَ يُقَاتِلُوهُ أُمَّةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ خَلْفَ التُّرْكِ وَالْخَزَرِ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ ، فَلَا يُقَاتَلُونَ حَتَّى يُدْعَوْا إِلَى الْإِيمَانِ ، فَإِنْ قُتِلَ مِنْهُمْ أَحَدٌ قَبْلَ ذَلِكَ فَعَلَى مَنْ قَتَلَهُ الدِّيَةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَالْكَفَّارَةُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَنْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ كيف يبدأ قتالهم ، وَهُمْ مَنْ نَعْرِفُهُمُ الْيَوْمَ كَالرُّومِ وَالتُّرْكِ ، وَالْهِنْدِ ، وَمَنْ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ مِنَ الْكُفَّارِ ، وَدَعْوَةُ الْإِسْلَامِ أَنْ يَبْلُغَهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحِجَازِ نَبِيًّا أَرْسَلَهُ إِلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ بِمُعْجِزَةٍ دَلَّتْ عَلَى صِدْقِهِ يَدْعُوهُمْ إِلَى تَوْحِيدِهِ وَتَصْدِيقِ رَسُولِهِ ، وَطَاعَتِهِ فِي الْعَمَلِ بِمَا يَأْمُرُهُ بِهِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ ، وَأَنَّهُ يُقَاتِلُ مَنْ خَالَفَهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِهِ أَوْ يُعْطِيَ الْجِزْيَةَ إِنْ كَانَ كِتَابِيًّا ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَحَدَ هَذَيْنِ ، أَوْ كَانَ غَيْرَ كِتَابِيٍّ فَلَمْ يُؤْمِنَ اسْتَبَاحَ قَتْلُهُ ، فَهَذِهِ صِفَةُ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ ، فَإِذَا كَانُوا مِمَّنْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ ، لَمْ يَجِبْ أَنْ يُدْعُوا إِلَيْهَا ثَانِيَةً إِلَّا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِظْهَارِ ، وَالْإِنْذَارِ وَجَازَ أَنْ

يُبْدَأَ بِقِتَالِهِمْ زَحْفًا وَمُصَافَّةً ، وَجَازَ أَنْ يُبْدَأَ بِهِ غُرَّةً وَبَيَاتًا : قَدْ شَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْغَارَةَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ فِي نِعَمِهِمْ بِالْمُرَيْسِيعِ : فَقَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ ، وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ ، وَقَالَ حِينَ سَارَ إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ : اللَّهُمَّ اطْوِ خَبَرَنَا عَنْهُمْ : حَتَّى لَا يَعْلَمُوا بِنَا إِلَّا فَجْأَةً : لَمَّا قَدِمَهُ مِنَ اسْتِدْعَائِهِمْ ، فَلَمْ يَعْلَمُوا بِهِ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِمْ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مِنَ الْكُفَّارِ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ كيف يبدأ بقتالهم ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا الْيَوْمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ إِلَّا أَنْ يَكُنْ خَلْفَ الَّذِينَ يُقَاتِلُوهُ أُمَّةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ خَلْفَ التُّرْكِ وَالْخَزَرِ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ " . وَهَذَا وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا فِي وَقْتِ الشَّافِعِيِّ ، فَهُوَ الْآنَ أَبْعَدُ : لِأَنَّ الْإِسْلَامَ فِي زِيَادَةٍ تَحْقِيقًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [ التَّوْبَةِ : 33 ] . فَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْآنَ قَوْمٌ لَمْ تُبْلِغْهُمُ الدَّعْوَةُ لَمْ يَجُزِ الِابْتِدَاءُ بِقِتَالِهِمْ إِلَّا بَعْدَ إِظْهَارِ الدَّعْوَةِ لَهُمْ وَاسْتِدْعَائِهِمْ بِهَا إِلَى الْإِسْلَامِ ، وَدِمَاؤُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ مَحْقُونَةٌ ، وَأَمْوَالُهُمْ مَحْظُورَةٌ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [ الْإِسْرَاءِ : 15 ] . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [ النِّسَاءِ : 165 ] . وَعَلَى هَذَا كَانَتْ سِيرَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُشْرِكِينَ . رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ ، أَوْ سَرِيَّةٍ وَأَمَرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ : إِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ، وَإِنْ أَبَوْا فَادْعُهُمْ إِلَى إِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ، وَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ إِنْذَارِهِمْ بِالدَّعْوَةِ قَبْلَ قِتَالِهِمْ أَنْفُسَهُمْ من لم تبلغه الدعوة مَا تَضَمَّنَتْهُ دَعْوَتُهُمْ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا هُمْ فِيهِ مَحْجُوجُونَ بِعُقُولِهِمْ دُونَ السَّمْعِ ، وَهُوَ مُعْجِزَاتُ الرُّسُلِ وَحُجَجُهُمُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِهِمْ فِي الرِّسَالَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا هُمْ فِيهِ مَحْجُوجُونَ بِالسَّمْعِ دُونَ الْعَقْلِ ، وَهُوَ مَا تَضَمَّنَهُ التَّكْلِيفُ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا اخْتُلِفَ فِيهِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ ، هَلْ هُمْ فِيهِ مَحْجُوجُونَ بِالْعَقْلِ أَوْ بِالسَّمْعِ ، عَلَى وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا مَعَ تَقَدُّمِ خِلَافِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِيهِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - وَزَعَمَ أَنَّهُ مِنَ الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - أَنَّهُمْ مَحْجُوجُونَ فِيهِ بِالْعَقْلِ دُونَ السَّمْعِ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ ، وَزَعَمَ أَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - أَنَّهُمْ مَحْجُوجُونَ فِيهِ بِالسَّمْعِ وَإِنْ وَصَلُوا إِلَى مَعْرِفَتِهِ بِالْعَقْلِ ، وَبِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ قَالَ أَكْثَرُ الْبَصْرِيِّينَ ، وَبِالْوَجْهِ الثَّانِي قَالَ أَكْثَرُ الْبَغْدَادِيِّينَ ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا فِي التَّكْلِيفِ هَلِ اقْتَرَنَ بِالْعَقْلِ ، أَوْ تَعَقَّبَهُ ؟ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ اقْتَرَنَ بِالْعَقْلِ جَعَلَهُمْ مَحْجُوجِينَ فِي التَّوْحِيدِ بِالْعَقْلِ دُونَ السَّمْعِ ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ تَعَقَّبَ الْعَقْلَ جَعَلَهُمْ مَحْجُوجِينَ بِالسَّمْعِ دُونَ الْعَقْلِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَقْنِ دِمَائِهِمْ قَبْلَ بَلَاغِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِمْ من لم تبلغهم الدعوة ضُمِنَتْ دِمَاؤُهُمْ بِالدِّيَةِ إِنْ قُتِلُوا وَلَمْ تَكُنْ هَدْرًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تُضْمَنُ دِمَاؤُهُمْ وَتَكُونُ هَدْرًا احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَنْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ إِيمَانٌ وَلَا أَمَانٌ كَانَ دَمُهُ هَدْرًا كَالْحَرْبِيِّ ، وَلَيْسَ لِهَؤُلَاءِ إِيمَانٌ وَلَا أَمَانٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ الدِّيَةَ أَحَدُ مُوجَبِيِ الْقَتْلَ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ فِي حَقِّهِمْ كَالْقَوَدِ . وَدَلِيلُنَا شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَنْ لَمْ يَظْهَرْ عِنَادُهُ فِي الدِّينِ مَعَ تَكْلِيفِهِ لَمْ يَنْهَدِرْ دَمُهُ كَالْمُسْلِمِ . وَالثَّانِي : أَنَّ حُرْمَةَ النُّفُوسِ أَعْلَى مِنْ حُرْمَةِ الْأَمْوَالِ ، فَلَمَّا وَجَبَ رَدُّ أَمْوَالِهِمْ عَلَيْهِمْ وَجَبَ ضَمَانُ نُفُوسِهِمْ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَا إِيمَانَ لَهُمْ وَلَا أَمَانَ هُوَ أَنَّ لَهُمْ أَمَانًا وَلِذَلِكَ حَرُمَ قَتْلُهُمْ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْقَوَدِ فَهُوَ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ ، وَلَا تَسْقُطُ الدِّيَةُ بِالشُّبْهَةِ فَافْتَرَقَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ ضَمَانُ دِيَاتِهِمْ ، فَقَدْ أَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا ذِكْرَ الدِّيَةِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مِقْدَارِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ الديه لمن لم تبلغهم دعوة الاسلام : أَحَدُهَا : أَنَّهَا الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ دِيَةُ الْمُسْلِمِ تَمَسُّكًا بِالظَّاهِرِ مِنْ إِطْلَاقِ الشَّافِعِيِّ ، وَاحْتِجَاجًا بِنَفْيِ الْكُفْرِ عَنْهُمْ قَبْلَ بَلَاغِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ : إِنَّهَا دِيَةُ كَافِرٍ إِنْ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا ، كَانَتْ ثُلْثَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ ، وَإِنْ كَانَ مَجُوسِيًّا أَوْ وَثَنِيًّا ، فَثُلُثَا دِيَةِ الْمُسْلِمِ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ : لِأَنَّ قُصُورَ الدَّعْوَةِ عَنْهُمْ مُوجِبٌ لِحَقْنِ دِمَائِهِمْ ، وَلَيْسَ بِمُثْبِتٍ لِإِيمَانِهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - إِنْ يَتَمَسَّكُوا بِدِينٍ أَصْلُهُ بَاطِلٌ ، كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَدِيَةُ كَافِرٍ لَيْسَ لَهُ كِتَابٌ كَدِيَةِ الْمَجُوسِيِّ ، وَإِنْ تَمَسَّكُوا بِدِينٍ أَصْلُهُ

حَقٌّ كَالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ فَدِيَةُ مُسْلِمٍ : لِأَنَّ فِيهِ عَلَى أَصْلِ الْإِيمَانِ قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِالنَّسْخِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا قَتْلُنَا مَنْ لَا نَعْلَمُ هَلْ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ ، أَوْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ هل تضمن دماؤهم ، فَفِي ضَمَانِ دِمَائِهِمْ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ ، هَلْ كَانَ النَّاسُ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ عَلَى أَصْلِ الْإِيمَانِ حَتَّى كَفَرُوا بِالرَّسُولِ أَوْ كَانُوا عَلَى أَصْلِ الْكُفْرِ حَتَّى آمَنُوا بِالرُّسُلِ ؟ . فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ : أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى أَصْلِ الْإِيمَانِ حَتَّى كَفَرُوا بِالرُّسُلِ ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ مَحْجُوجُونَ فِي التَّوْحِيدِ بِالْعَقْلِ دُونَ السَّمْعِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ دِمَاءُ مَنْ جُهِلَتْ حَالُهُمْ مَضْمُونَةً بِدِمَائِهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ عَلَى أَصْلِ الْكُفْرِ حَتَّى آمَنُوا بِالرُّسُلِ ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ مَحْجُوجُونَ فِي التَّوْحِيدِ بِالسَّمْعِ دُونَ الْعَقْلِ ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ دِمَاءُ مَنْ جُهِلَتْ حَالُهُمْ هَدْرًا لَا تُضْمَنُ بِقَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ ، وَمِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [ الْبَقَرَةِ : 213 ] . عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى آمَنَ مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ ، حَتَّى كَفَرَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ ، وَالضَّحَاكِ ، وَالْأَكْثَرِينَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ مَا أَحْرَزَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ

بَابُ مَا أَحْرَزَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " لَا يَمْلِكُ الْمُشْرِكُونَ مَا أَحْرَزُوهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِحَالٍ أَبَاحَ اللَّهُ لِأَهْلِ دِينِهِ مِلْكَ أَحْرَارِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَذَرَارِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، فَلَا يُسَاوُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَبَدًا : قَدْ أَحْرَزُوا نَاقَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَحْرَزَتْهَا مِنْهُمُ الْأَنْصَارِيَّةُ ، فَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - شَيْئًا ، وَجَعَلَهَا عَلَى أَصْلِ مِلْكِهِ فِيهَا ، وَأَبَقَ لِابْنِ عُمَرَ عَبْدٌ وَعَارَ لَهُ فَرَسٌ فَأَحْرَزَهُمَا الْمُشْرِكُونَ ، ثُمَّ أَحْرَزَهُمَا عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ فَرُدَّا عَلَيْهِ ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَالِكُهُ أَحَقُّ بِهِ قَبْلَ الْقَسْمِ وَبَعْدَهُ ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِي أَنَّ الْمُشْرِكِينَ إِذَا أَحْرَزُوا عَبْدًا لِمُسْلِمٍ فَأَدْرَكَهُ وَقَدْ أَوْجَفَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَسْمِ أَنَّهُ لِمَالِكِهِ بِلَا قِيمَةٍ ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَمَا وَقَعَ فِي الْمَقَاسِمِ : فَقَالَ مِنْهُمْ قَائِلٌ بِقَوْلِنَا ، وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُعَوِّضَ مَنْ صَارَ فِي سَهْمِهِ مِنْ خُمُسِ الْخُمْسِ ، وَهُوَ سَهْمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا يُوَافِقُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ ، وَقَالَ غَيْرُنَا : هُوَ أَحَقُّ بِهِ بِالْقِيمَةِ - إِنْ شَاءَ - وَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالَ مُسْلِمٍ فَلَا يُغْنَمُ ، أَوْ مَالَ مُشْرِكٍ فَيُغْنَمُ ، فَلَا يَكُونُ لِرَبِّهِ فِيهِ حَقٌّ ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ الْحُرَّ ، وَلَا الْمُكَاتَبَ ، وَلَا أُمَّ الْوَلَدِ ، وَلَا الْمُدْبِرَ ، وَيَمْلِكُونَ مَا سِوَاهُمْ فَإِنَّمَا يَتَحَكَّمُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا أَحْرَزَ الْمُشْرِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِغَارَةٍ ، أَوْ سَرِقَةٍ هل يملكونها لَمْ يَمْلِكُوهُ ، سَوَاءٌ أَدْخَلُوهُ دَارَ الْحَرْبِ أَوْ لَمْ يُدْخِلُوهُ ، فَإِنْ بَاعُوهُ عَلَى مُسْلِمٍ كَانَ صَاحِبُهُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ مُشْتَرِيهِ بِغَيْرِ ثَمَنٍ ، وَإِنْ غَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ اسْتَرْجَعَهُ صَاحِبُهُ بِغَيْرِ بَدَلٍ ، وَسَوَاءٌ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا ، وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُعَوِّضَ مَنْ حَصَلَ ذَلِكَ فِي سَهْمِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ قِيمَتَهُ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ لِمَا فِي نَقْصِ الْقِسْمَةِ مِنْ لُحُوقِ الْمَشَقَّةِ ، فَإِنْ لَمْ تُلْحَقْ مِنْهُ مَشَقَّةٌ نَقَصَهَا وَلَمْ يُعَوِّضْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : قَدْ مَلَكَ الْمُشْرِكُونَ مَا أَغَارَ عَلَيْهِمْ جَمَاعَتُهُمْ دُونَ آحَادِهِمْ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ، إِذَا أَدْخَلُوهُ دَارَ الْحَرْبِ ، فَإِنْ بَاعُوهُ صَحَّ بَيْعُهُ ، وَكَانَ لِمَالِكِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ مُشْتَرِيهِ بِثَمَنِهِ ، وَإِنْ غَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمُ اسْتَرْجَعَهُ صَاحِبُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَمْ يَسْتَرْجِعْهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ إِلَّا بِالْقِيمَةِ احْتِجَاجًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ لَهُ يَوْمَ فَتْحِ

مَكَّةَ : أَلَا تَنْزِلُ دَارَكَ ؟ فَقَالَ : وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رَبْعٍ فَلَوْلَا زَوَالُ مُلْكِهِ عَنْهَا بِغَلَبَةِ عَقِيلٍ عَلَيْهَا لَاسْتَبْقَاهَا عَلَى مِلْكِهِ وَنَزَلَهَا . وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ فِي سِيَرِ الْأَوْزَاعِيِّ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عِمَارَةَ ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ ، عَنْ مِقْسَمٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عَبْدٍ وَبَعِيرٍ أَحْرَزَهُمَا الْعَدُوُّ ثُمَّ ظَفِرَ بِهِمَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِصَاحِبَتِهِمَا : إِنْ أَصَبْتِهِمَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، فَهُمَا لَكِ بِغَيْرِ شَيْءٍ ، وَإِنْ وَجَدْتِهِمَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَهُمَا لَكِ بِالْقِيمَةِ . قَالُوا : وَهَذَا نَصٌّ وَلِأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ مَلَكَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ، جَازَ أَنْ يَمْلِكَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَالْبُيُوعِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَالٍ أُخِذَ قَهْرًا عَلَى وَجْهِ التَّدَيُّنِ ، مِلْكُهُ أَخْذُهُ كَالْمُسْلِمِ مِنَ الْمُشْرِكِ ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا [ الْأَحْزَابِ : 27 ] . فَامْتَنَّ عَلَيْنَا بِأَنْ جَعَلَ أَمْوَالَهُمْ لَنَا وَلَوْ جَعَلَ أَمْوَالَنَا لَهُمْ لَسَاوَيْنَاهُمْ وَبَطَلَ فِيهِ الِامْتِنَانُ . وَرَوَى أَبُو قِلَابَةَ ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ غَارُوا عَلَى سَرْحِ الْمَدِينَةِ ، وَأَخَذُوا الْعَضْبَاءَ نَاقَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَامْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ ، فَانْفَلَتَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنَ الْوَثَاقِ ، فَرَكِبَتْ نَاقَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَجَتْ مِنْ طَلَبِهِمْ حَتَّى قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ ، وَكَانَتْ قَدْ نَذَرَتْ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا أَنْ تَنْحَرَهَا ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : بِئْسَ مَا جَازَتْهَا ، لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ ، وَأَخَذَ نَاقَتَهُ مِنْهَا ، فَلْوَ مَلَكَهَا الْمُشْرِكُونَ بِالْغَارَةِ لِمَلَكَتْهَا الْأَنْصَارِيَّةُ بِالْأَخْذِ ، وَلَمَا اسْتَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِرْجَاعَهَا ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبٍ نَفْسٍ مِنْهُ ، فَلَمَّا لَمْ يَحِلَّ بِهَذَا الْخَبَرِ مَالُهُ لِمُسْلِمٍ ، كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَحِلَّ مَالُهُ لِمُشْرِكٍ ، وَيَتَحَرَّرُ مِنَ اسْتِدْلَالِ هَذَا الْخَبَرِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : إِنَّمَا مَنَعَ الْإِسْلَامُ مِنْ غَصْبِهِ مَا لَمْ يُمَلَّكْ بِغَصْبِهِ كَالْمُسْلِمِ مَعَ الْمُسْلِمِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ تَغَلُّبٌ لَا يُمَلَّكُ بِهِ الْمُسْلِمُ عَلَى الْمُسْلِمِ ، فَلَمْ يُمَلَّكْ بِهِ الْمُشْرِكُ عَلَى الْمُسْلِمِ كَالسَّبْيِ ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يُمَلَّكْ عَلَى الْمُسْلِمِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَمْ يُمَلَّكْ عَلَيْهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ كَالْمُدَبَّرِ ، وَالْمُكَاتَبِ ، وَأُمِّ الْوَلَدِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رَبْعٍ ؟ ، فَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَشَأَ فِي دَارِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ كَفَلَهُ بَعْدَ مَوْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، فَوَرِثَهَا عَقِيلٌ دُونَ عَلِيٍّ لِكُفْرِ عَقِيلٍ وَإِسْلَامِ عَلِيٍّ ، وَعِنْدَنَا لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ فَبَاعَهَا عَقِيلٌ بِمِيرَاثِهِ لَا بِغَصْبِهِ وَحَكَى ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ قَالَ : أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ وَرِثَهُ ابْنَاهُ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ دُونَ عَلِيٍّ ، فَلِذَلِكَ تَرَكْنَا حَقَّنَا مِنَ الشَّعْبِ .

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ أَنَّ رَاوِيَهُ الْحَسَنُ بْنُ عِمَارَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ كَثِيرُ الْوَهْمِ وَالْغَلَطِ ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ بِدَلِيلِنَا أَشْبَهَ : لِأَنَّهُ جَعَلَهُ لَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَلَوْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ لَمَا اسْتَحَقَّهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَخَذَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ بِالْقِيمَةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ أَوْجَبَ الْقِيمَةَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ ، وَأَنْتُمْ لَا تُوجِبُوهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ ؟ قِيلَ : نَحْنُ نُوجِبُهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ إِذَا تَعَذَّرَ نَقْضُ الْقِسْمَةِ ، لَكِنْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ لَا عَلَى الْمَالِ فَصَارَ الْخَبَرُ دَلِيلَنَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْبُيُوعِ ، فَهُوَ جَوَازُ أَنْ يُمَلَّكَ بِهَا الْمُسْلِمُ عَلَى الْمُسْلِمِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى قَهْرِ الْمُسْلِمِ الْمُشْرِكَ فَهُوَ أَنَّهُ قَهْرٌ مُبَاحٌ ، وَذَلِكَ مَحْظُورٌ مَعَ انْتِقَاضِهِ بِالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَبِالسَّبْيِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ إِلَيْنَا بِأَمَانٍ فَأَوْدَعَ وَتَرَكَ مَالًا ثُمَّ قُتِلَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، فَجَمِيعُ مَالِهِ مَغْنُومٌ ( وَقَالَ ) فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ : مَرْدُودٌ إِلَى وَرَثَتِهِ : لِأَنَّهُ مَالٌ لَهُ أَمَانٌ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا عِنْدِي أَصَحُّ : لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ حَيًّا لَا يُغْنَمُ مَالُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ مَالٌ لَهُ أَمَانٌ فَوَارِثُهُ فِيهِ بِمَثَابَتِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي حَرْبِيٍّ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ وَمَعَهُ مَالٌ وَذُرِّيَّةٌ فَلَا يَخْلُو حَالُ أَمَانِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْرُطَ لَهُ فِي أَمَانِ نَفْسِهِ الْأَمَانَ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ وَمَالِهِ فَيَكُونَ أَمَانُهُ عَامًّا فِي الْجَمِيعِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَخُصَّ بِالْأَمَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَيَسْتَثْنِي مِنْهُ خُرُوجَ ذُرِّيَّتِهِ وَمَالِهِ مِنْ أَمَانِهِ ، فَيَكُونَ الْأَمَانُ مَخْصُوصًا عَلَى نَفْسِهِ ، وَتَكُونَ ذُرِّيَّتُهُ وَمَالُهُ غَنِيمَةً لِأَهْلِ الْفَيْءِ : لِأَنَّهُ وَاصَلَ بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلَا يَمْنَعُ أَمَانُهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ غَنِيمَتِهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَمَالِهِ لِخُصُوصِهِ فِيهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْأَمَانُ مُطْلَقًا لَمْ يُسَمَّ فِيهِ الْمَالُ وَالذُّرِّيَّةُ بِالدُّخُولِ فِيهِ وَلَا بِالْخُرُوجِ مِنْهُ فَيُرَاعَى لَفْظُ الْأَمَانِ . فَإِنْ قِيلَ فِيهِ : لَكَ الْأَمَانُ : اقْتَضَى هَذَا الْإِطْلَاقُ عُمُومَ أَمَانِهِ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ وَمَالِهِ : لِأَنَّ مَنْ خَافَ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ وَمَالِهِ لَمْ يَكُنْ آمِنًا ، وَإِنْ قِيلَ فِي أَمَانِهِ : لَكَ الْأَمَانُ عَلَى نَفْسِكَ : اقْتَضَى ذِكْرُ نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ الْأَمَانُ مَخْصُوصًا فِيهَا دُونَ مَا سِوَاهَا مِنَ الْمَالِ وَالذُّرِّيَّةِ اعْتِبَارًا بِخُصُوصِ التَّسْمِيَةِ ، وَأَطْلَقَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ جَوَابَهُ فِي دُخُولِ ذُرِّيَّتِهِ وَمَالِهِ فِي أَمَانِهِ ، وَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ أَصَحُّ ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّعْلِيلِ .



فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ أَمَانُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ عَلَى التَّقْسِيمِ الْمَذْكُورِ كَانَ أَمَانُهُ عَلَى نَفْسِهِ مُقَدَّرًا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ الحربى اذا دخل دار الاسلام وَفِيمَا بَيْنُ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَالسَّنَةِ وَجْهَانِ : وَكَانَ أَمَانُهُ عَلَى مَالِهِ غَيْرَ مُقَدَّرٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُؤَبَّدًا وَفِي أَمَانِهِ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَتَقَدَّرُ بِمِثْلِ مُدَّتِهِ اعْتِبَارًا بِهِ : لِأَنَّهُ أَمَانٌ عَلَى نَفْسِ آدَمِيٍّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يَتَأَبَّدَ وَلَا يَتَقَدَّرَ بِمُدَّةٍ كَالْمَالِ : لِأَنَّهُمَا تَبَعٌ فَاسْتَوَيَا فِي الْحُكْمِ ، فَإِنْ عَادَ هَذَا الْمُسْتَأْمَنُ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ وَخَلَّفَ ذُرِّيَّتَهُ وَمَالَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ انْقَسَمَ حُكْمُ عَوْدِهِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعُودَ إِلَيْهَا لِتِجَارَةٍ أَوْ لِحَاجَةٍ ، فَيَكُونَ عَلَى أَمَانِهِ فِي نَفْسِهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَمَالِهِ ، وَلَا يَنْتَقِضَ بِدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ كَالذِّمِّيِّ إِذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ تَاجِرًا كَانَ عَلَى ذِمَّتِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَعُودَ إِلَيْهَا مُسْتَوْطِنًا فَيَرْتَفِعَ أَمَانُهُ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِبَارًا بِقَصْدِهِ ، وَيَكُونَ الْأَمَانُ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ وَمَالِهِ بَاقِيًا : لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ الْأَمَانُ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ وَمَالِهِ دُونَ نَفْسِهِ : لِأَنَّ حَرْبِيًّا لَوْ أَنْفَذَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ذُرِّيَّتَهُ وَمَالَهُ عَلَى أَمَانٍ أَخَذَهُ لَهُمَا دُونَ نَفْسِهِ صَحَّ كَمَا يَصِحُّ أَنْ يَأْخُذَهُ لِنَفْسِهِ دُونَ ذُرِّيَّتِهِ وَمَالِهِ ، فَإِذَا جَمَعَ فِي الْأَمَانِ بَيْنَ ذُرِّيَّتِهِ وَمَالِهِ فَارْتَفَعَ فِي نَفْسِهِ لَمْ يَرْتَفِعْ فِي ذُرِّيَّتِهِ وَمَالِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَعُودَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ نَاقِضًا لِلْأَمَانِ مُحَارِبًا لِلْمُسْلِمِينَ فَيَنْتَقِضُ أَمَانُهُ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ ، وَلَا يُنْتَقَضُ فِي ذُرِّيَّتِهِ : لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَالِ مُعْتَبَرَةٌ بِهِ وَحُرْمَةَ الذُّرِّيَّةِ مُعْتَبَرَةٌ بِهِمْ وَلَوْ كَانَ الْأَمَانُ مُنْفَرِدًا عَلَى مَالِهِ لَمْ يَنْتَقِضْ لِمُحَارَبَتِهِ وَقِتَالِهِ ، وَكَانَ بِخِلَافِ مَا لَوْ جَمَعَهُمَا الْأَمَانُ : لِأَنَّهُمَا إِذَا اجْتَمَعَا كَانَ حُكْمُهُمَا مُشْتَرِكًا ، وَإِذَا انْفَرَدَ بِالْمَالِ كَانَ حُكْمُهُمَا مُخْتَلِفًا .

فَصْلٌ : فَإِنْ مَاتَ هَذَا الْحَرْبِيُّ وَلَهُ أَمَانٌ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ وَمَالِهِ من دخل دار الإسلام بأمان لَمْ يَنْتَقِضْ أَمَانُ وَرَثَتِهِ بِمَوْتِهِ كَمَا لَا يَنْتَقِضُ بِنَقْضِ الْأَمَانِ ، وَكَانَ مَالُهُ مَوْرُوثًا لِوَرَثَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ دُونَ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، لِارْتِفَاعِ التَّوَارُثِ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَوْتُ هَذَا الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَإِذَا صَارَ مَوْرُوثًا فَلِوَرَثَتِهِ حَالَتَانِ . إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ لَهُمْ أَمَانٌ عَلَى أَمْوَالِهِمْ ، فَيُنْقَلَ إِلَيْهِمْ هَذَا الْمِيرَاثُ عَلَى أَمَانِهِ كَمَوْتِ الذِّمِّيِّ إِذَا كَانَ وَارِثُهُ ذِمِّيًّا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ وَرَثَتُهُ مِمَّنْ لَا أَمَانَ لَهُمْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ ، فَفِي بَقَاءِ الْأَمَانِ عَلَى الْمَالِ بَعْدَ مَوْتِ مَالِكِهِ قَوْلَانِ :

أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ - أَنَّهُ يَزُولُ بِمَوْتِ مَالِكِهِ ، وَيَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ بِغَيْرِ أَمَانٍ فَيَصِيرُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ فَيْئًا ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ : إِنَّهُ مَغْنُومٌ . يُرِيدُ أَنَّهُ فَيْءٌ ؛ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَانَ لِمَالِكٍ لَهُ أَمَانٌ فَصَارَ لِمَالِكٍ لَيْسَ لَهُ أَمَانٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْأَمَانُ عَلَى النَّفْسِ لَا يُوَرَّثُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمَانُ عَلَى الْمَالِ لَا يُوَرَّثُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ يَكُونُ الْأَمَانُ عَلَى الْمَالِ بَاقِيًا وَلَا يَنْتَقِضُ بِمَوْتِ مَالِكِهِ ، وَيَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ بِأَمَانِهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ الْأَمَانُ بِالْمَالِ دُونَ الْمَالِكِ ، لَمْ يَنْتَقِضْ بِاخْتِلَافِ الْمَالِكِ ، كَمَا لَوِ ارْتَفَعَ أَمَانُ مَالِكِهِ بِعَوْدِهِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ مُسْتَوْطِنًا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَالَ يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ بِحُقُوقِهِ كَمَا لَوِ اسْتَحَقَّتْ بِهِ شُفْعَةٌ ، أَوْ كَانَ فِي دِيَتِهِ رَهْنٌ ، وَأَمَانُ هَذَا الْمَالِ مِنْ حُقُوقِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ بِحَقِّ أَمَانِهِ إِلَى وَارِثِهِ ، فَهَذَا تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ ، وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ يَمْنَعُ مِنْ تَخْرِيجِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَيَحْمِلُهُ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ : فَالْمَوْضِعُ الَّذِي جَعَلَهُ مَغْنُومًا إِذَا شَرَطَ أَمَانَهُ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي جَعَلَهُ بَاقِيًا عَلَى وَرَثَتِهِ إِذَا شَرَطَ أَمَانَهُ فِي مُدَّةِ حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ ، وَلَيْسَ هَذَا بِمَانِعٍ مِنَ اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ : لِأَنَّهُمَا مِنْ إِطْلَاقِ الْأَمَانِ إِذَا لَمْ يَتَقَيَّدْ بِشَرْطٍ ، وَهُوَ فِي تَقْيِيدِهِ بِالشَّرْطِ عَلَى مَا حَكَاهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَنْ خَرَجَ إِلَيْنَا مِنْهُمْ مُسْلِمًا ، أَحْرَزَ مَالَهُ وَصِغَارَ وَلَدِهِ : حَصَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَنِي قُرَيْظَةَ : فَأَسْلَمَ ابْنَا شُعْبَةَ : فَأَحْرَزَ لَهُمَا إِسْلَامُهُمَا أَمْوَالَهُمَا وَأَوْلَادَهُمَا الصِّغَارَ وَسَوَاءَ الْأَرْضِ وَغَيْرَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ عُصِمَ دَمُهُ بِالْإِسْلَامِ ، وَأُحْرِزَ لَهُ جَمِيعُ أَمْوَالِهِ ، وَصَارَ إِسْلَامًا لِجَمِيعِ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ ، يَعْصِمُهُمُ الْإِسْلَامُ مِنَ السَّبْيِ وَالِاسْتِرْقَاقِ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ حَمْلٌ مِنْ زَوْجَتِهِ أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي الْمَنْعِ مِنَ اسْتِرْقَاقِهِ ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنَ اسْتِرْقَاقِ أُمِّهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ إِسْلَامُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ دَارِ الْإِسْلَامِ ، لِخَوْفٍ أَوْ غَيْرِ خَوْفٍ ، مَا لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْقُدْرَةِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَالُهُ مَنْقُولًا أَوْ غَيْرَ مَنْقُولٍ ، كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ يَدٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ . وَقَالَ مَالِكٌ : قَدْ عُصِمَ دَمُهُ وَصِغَارُ أَوْلَادِهِ بِإِسْلَامِهِ ، وَمَلَكَ مِنْ أَمْوَالِهِ مَا عَلَيْهِ يَدُهُ ، وَلَمْ يَمْلِكْ مِنْهَا مَا لَيْسَ عَلَيْهِ يَدُهُ ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْمُشْرِكَ لَا يَصِحُّ مِلْكُهُ ، وَمَا كَانَتْ عَلَيْهِ صَارَ قَاهِرًا لَهُ بِإِسْلَامِهِ فَمَلَكَهُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : قَدْ مَلَكَ بِإِسْلَامِهِ مَا فِي

يَدِهِ وَيَدِ وَكِيلِهِ مِنْ مَنْقُولٍ وَغَيْرِ مَنْقُولٍ ، وَلَا يَمْلِكُ مَا عَدَاهُ ، وَمَنَعَ إِسْلَامُهُ مِنَ اسْتِرْقَاقِ صِغَارِ أَوْلَادِهِ ، وَلَا يَمْنَعُ مِنَ اسْتِرْقَاقِ حَمْلِهِ : لِأَنَّهُ تَبَعُ أُمِّهُ ، يُعْتَقُ بِعِتْقِهَا . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ وَرَوَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَاصَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ ، فَأَسْلَمَ ابْنَا شُعْبَةَ الْيَهُودِيَّانِ : فَأَحْرَزَ لَهُمَا إِسْلَامُهُمَا أَمْوَالَهُمَا وَأَوْلَادَهُمَا ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ زَالَتْ أَيْدِيهِمَا عَنْهُ بِخُرُوجِهِمَا ، فَدَلَّ عَلَى اسْتِوَاءِ الْحُكْمِ فِي الْأَمْرَيْنِ ، وَلِأَنَّهُ مَالُ مَنْ قَدْ أَسْلَمَ قَبْلَ الْأَسْرِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُغْنَمَ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ يَدُهُ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يُغْنَمْ مَالُهُ إِذَا كَانَتْ يَدُهُ عَلَيْهِ لَمْ يُغْنَمْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ يَدُهُ عَلَيْهِ كَالْمُسْلِمِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ لَا يُسْتَرَقُّ : هُوَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ إِسْلَامُهُ قَبْلَ الْأَسْرِ فَلَمْ يَجُزِ اسْتِرْقَاقُهُ كَالْمَوْلُودِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَجُزِ اسْتِرْقَاقُهُ لَمْ يَجُزِ اسْتِرْقَاقُهُ حَمْلًا كَالْمُسْلِمِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ مَالِكٍ : إِنَّ الْمُشْرِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَ مَالًا وَلَا نِكَاحًا ، فَهُوَ أَنَّهُ مُجَرَّدُ مَذْهَبٍ يَدْفَعُهُ النَّصُّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [ الْمَسَدِ : ا ، 2 ] . فَأَضَافَ مَالَهُ إِلَيْهِ إِضَافَةَ مِلْكٍ ، ثُمَّ قَالَ : وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [ الْمَسَدِ : 4 ] . فَأَضَافَ امْرَأَتَهُ إِلَيْهِ إِضَافَةَ عَقْدٍ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكَ لَا يُمْنَعُ مَنْ مِلْكِ الْمَالِ وَالنِّكَاحِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : إِنَّ الْحَمْلَ كَالْأَعْضَاءِ التَّابِعَةِ : لِأَنَّ الْعِتْقَ يَسْرِي إِلَيْهِ ، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ تَبَعًا فِي حَالٍ فَقَدْ تَفْرَّدَ بِحُكْمِهِ فِي حَالٍ : لِأَنَّ عِتْقَهُ لَا يَتَعَدَّى عَنْهُ ، فَتَعَارَضَ الْأَمْرَانِ فِي اسْتِدْلَالِهِ ، وَسَلِمَ مَا دَلَّلْنَا بِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا زَوْجَةُ الْحَرْبِيِّ إِذَا أَسْلَمَ فَلَا يَمْنَعُ إِسْلَامُهُ مِنَ اسْتِرْقَاقِهَا : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَعَدَّ إِسْلَامُهُ إِلَيْهَا لَمْ يَعْصِمْهَا إِسْلَامُهُ مِنَ اسْتِرْقَاقِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا ، فَفِي جَوَازِ اسْتِرْقَاقِهَا قَبْلَ وَضْعِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّ حَمْلَهَا مُسْلِمٌ ، فَلَزِمَ حِفْظُ حُرْمَتِهِ فِيهَا حَتَّى يُفَارِقَهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يُسْتَرَقَّ ، لِامْتِيَازِ حُكْمَيْهِمَا ، فَإِنْ لَمْ تُسْبَ كَانَ النِّكَاحُ بَاقِيًا ، وَإِنْ سُبِيَتْ بَطَلَ نِكَاحُهَا بِالسَّبْيِ ، كَمَا لَوْ كَانَ زَوْجُهَا حَرْبِيًّا : لِأَنَّهَا لَمَّا سَاوَتْ زَوْجَةَ الْحَرْبِيِّ فِي الِاسْتِرْقَاقِ سَاوَتْهَا فِي بُطْلَانِ النِّكَاحِ ، وَلَكِنْ لَوْ دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ ، فَتَزَوَّجَ فِيهَا حَرْبِيَّةً هل يجوز استرقاقها ، فَفِي جَوَازِ سَبْيِهَا وَاسْتِرْقَاقِهَا وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ أَنْ تُسْبَى وَتُسْتَرَقَّ ، وَلَا يَعْصِمُهَا إِسْلَامُ الزَّوْجِ مِنْهُ ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ كُفْرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ سَبْيُهَا وَلَا اسْتِرْقَاقُهَا ، اعْتِصَامًا بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ : لِأَنَّ عَقْدَ هَذَا فِي الْإِسْلَامِ فَكَانَ أَقْوَى ، وَعَقْدَ ذَلِكَ فِي الشِّرْكِ فَكَانَ أَضْعَفَ . وَلَوِ اسْتَأْجَرَ الْمُسْلِمُ أَرْضًا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ غُنِمَتْ كَانَ مِلْكُ الْمُسْلِمِ فِي مَنَافِعِهَا بَاقِيًا ، وَإِنْ غُنِمَتْ بِخِلَافِ نِكَاحِ الزَّوْجَةِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَنَافِعَ تُضْمَنُ بِالْيَدِ ، وَالِاسْتِمْتَاعَ لَا يُضْمَنُ بِالْيَدِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مِلْكَ الْمَنَافِعِ وَالرَّقَبَةِ يَجُوزُ أَنْ يَفْتَرِقَا ، وَمِلْكَ الِاسْتِمْتَاعِ وَالنِّكَاحِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَفْتَرِقَا .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَعْتَقَ الْمُسْلِمُ عَبْدًا ذِمِّيًّا ثَبَتَ عَلَيْهِ الْوَلَاءُ ، فَلَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَرَقَّ لِأَنَّ فِي اسْتِرْقَاقِ رَقَبَتِهِ إِبْطَالَ وَلَاءِ الْمُسْلِمِ ، فَخَالَفَ مَنَافِعَ الْأَرْضِ الَّتِي لَا تَبْطُلُ عَلَى الْمُسْلِمِ بِغَنِيمَةِ رَقَبَتِهَا ، فَمُنِعَ وَلَاءُ الْمُسْلِمِ مِنَ الِاسْتِرْقَاقِ ، وَلَمْ نَمْنَعْ مَنَافِعَ الْمُسْلِمِ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَالِاسْتِرْقَاقِ ، وَلَوْ أَعْتَقَ ذِمِّيٌّ عَبْدًا ذِمِّيًّا ثُمَّ لَحِقَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ بِدَارِ الْحَرْبِ هل يجوز استرقاقه ، فَفِي جَوَازِ اسْتِرْقَاقِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ : لِأَجْلِ وَلَائِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْوَلَاءُ لِمُسْلِمٍ : لَأَنَّ مَالَ الذِّمِّيِّ لَا يُغْنَمُ ، كَمَا أَنَّ مَالَ الْمُسْلِمِ لَا يُغْنَمُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يُسْتَرَقَّ مَعَ وَلَاءِ الذِّمِّيِّ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَرَقَّ مَعَ وَلَاءِ الْمُسْلِمِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : هُوَ أَنَّ الذِّمِّيَّ يَجُوزُ أَنْ يَحْدُثَ عليهَ اسْتِرْقَاقٌ ، فَجَازَ أَنْ يُسْتَرَقَّ مَوْلَاهُ الْمُسْلِمُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْدُثَ عَلَيْهِ رِقٌّ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَرِقَّ مَوْلَاهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ فَاشْتَرَى مِنْهُمْ دَارًا أَوْ أَرْضًا أَوْ غَيْرَهَا ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى الدَّارِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي ، وَقَالَ أَبُو حُنَيْفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ : الْأَرْضُ وَالدَّارُ فَيْءٌ وَالرَّقِيقُ وَالْمَتَاعُ لِلْمُشْتَرِي " . قَالَ االْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمُسْلِمُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي دَارِهِمْ دُورًا وَأَمْوَالًا فَلَا يَغْنَمْهَا الْمُسْلِمُونَ إِذَا فُتِحَتْ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَصِحُّ الشِّرَاءُ ، وَتُغْنَمُ إِذَا فُتِحَتْ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ مُقِيمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ ، لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْمُشْرِكَ لَا يَصِحُّ مِلْكُهُ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُغْنَمُ مَا لَا يُنْقَلُ مِنَ الْأَرَضِينَ ، وَلَا يُغْنَمُ مَا يُنْقَلُ مِنَ الْأَمْوَالِ : لِأَنَّ مَا لَا يُنْقَلُ تَبَعٌ لِلدَّارِ ، وَمَا يُنْقَلُ تَبَعٌ لِلْمَالِكِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمِلْكَ الْوَاحِدَ لَا يَتَبَعَّضُ فِي الْمَنْقُولِ وَغَيْرِهِ كَالَّذِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَتَبَعَّضَ لَكَانَ اسْتِيفَاءُ الْمِلْكِ عَلَى مَا لَا يُنْقَلُ لِلْعَجْزِ عَنْ نَقْلِهِ أَشْبَهَ مِنَ اسْتِبْقَائِهِ عَلَى مَا يُنْقَلُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى نَقْلِهِ ، فَلَمَّا كَانَ فَاسِدًا كَانَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَفْسَدَ .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ بَاقِيًا عَلَى رِقِّ سَيِّدِهِ ، وَلَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ العبد الحربي عُتِقَ بِإِسْلَامِهِ : لِأَنَّ أَبَا بَكْرَةَ خَرَجَ فِي حِصَارِ الطَّائِفِ مَعَ سِتَّةَ عَشَرَ عَبْدًا لِثَقِيفٍ ، فَأَسْلَمُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعِتْقِهِمْ ، وَقِيلَ لَهُ : أَبُو بَكْرَةَ : لِأَنَّهُ نَزَلَ مِنْ حِصْنِ الطَّائِفِ فِي بَكْرَةٍ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ إِسْلَامِهِ فِي الدَّارَيْنِ أَنَّهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَقْهُورٌ ، وَفِي دَارِ الْإِسْلَامِ قَاهِرٌ .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَهْدَى رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ هَدِيَّةً لِرَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا تَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُهْدِيَهَا فِي حَالِ الْقِتَالِ وَقِيَامِ الْحَرْبِ ، فَتَكُونَ الْهَدِيَّةُ غَنِيمَةً لَا يَمْلِكُهَا الْمُهْدَى لَهُ : لِأَنَّهَا مِنْ خَوْفِ الْقِتَالِ فِي ظَاهِرِ الْحَالِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُهْدِيَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ ، فَتَكُونَ هَدِيَّةً لِلْمُهْدَى إِلَيْهِ خَاصَّةً ، وَلَا تَكُونَ غَنِيمَةً : لِأَنَّ انْقِضَاءَ الْحَرْبِ قَدْ أَزَالَ حُكْمَ الْخَوْفِ ، وَصَارَ كَالَّذِي مَلَكَهُ مِنْهُمْ بِابْتِيَاعٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ عَنْوَةً : فَخَلَّى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَأَرَاضِيهِمْ وَدِيَارِهِمْ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لِأَنَّهُ عَفَا عَنْهُمْ وَدَخَلَهَا عَنْوَةً وَلَيْسَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا كَغَيْرِهِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : مَا دَخَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْوَةً : مَا دَخَلَهَا إِلَّا صُلْحًا ، وَالَّذِينَ قَاتَلُوا وَأَذِنَ فِي قَتْلِهِمْ بَنُو نَفَاثَةَ ، قَتَلَةُ خُزَاعَةَ ، وَلَيْسَ لَهُمْ بِمَكَّةَ دَارٌ إِنَّمَا هَرَبُوا إِلَيْهَا ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ دَفَعَ فَادَّعَوْا أَنَّ خَالِدًا بَدَأَهُمْ بِالْقِتَالِ ، وَلَمْ يُنْفِذْ لَهُمُ الْأَمَانَ وَادَّعَى خَالِدٌ أَنَّهُمْ بِدَءُوهُ ثُمَّ أَسْلَمُوا قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ لَهُمْ عَلَى شَيْءٍ ، وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ صَارَ إِلَى قَبُولِ الْأَمَانِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَهُ فَهُوَ آمِنٌ ، فَمَالُ مَنْ يَغْنَمُ وَلَا يَقْتَدِي إِلَّا بِمَا صَنَعَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَمَا كَانَ لَهُ خَاصَّةً فَمُبَيَّنٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَكَيْفَ يَجُوزُ قَوْلُهُمَا بِجَعْلِ بَعْضِ مَالِ الْمُسْلِمِ فَيْئًا وَبَعْضِهِ غَيْرَ فَيْءٍ ؟ أَمْ كَيْفَ يُغْنَمُ مَالُ مُسْلِمٌ بِحَالٍ ؟ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ) : قَدْ أَحْسَنَ وَاللَّهِ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا وَجَوَّدَ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي فَتْحِ مَكَّةَ ، هَلْ كَانَ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا ؟ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ صُلْحًا بِأَمَانٍ عَلَّقَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَرْطٍ شَرَطَهُ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ غَدَاةَ يَوْمِ الْفَتْحِ ، قَبْلَ دُخُولِ مَكَّةَ عَلَى إِلْقَاءِ سِلَاحِهِمْ ، وَإِغْلَاقِ أَبْوَابِهِمْ ، وَوَافَقَ الشَّافِعِيَّ عَلَى فَتْحِهَا صُلْحًا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ . وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : إِنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً ، فَمَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَهْلِهَا ، فَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ لِعَفْوِهِ عَنْهُمْ ، وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا ، هَلْ كَانَ عَفْوُهُ عَنْهُمْ خَاصًّا أَوْ عَامًّا لِجَمِيعِ الْوُلَاةِ : فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : كَانَ هَذَا خَاصًّا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَعْفُوَ عَمَّا فَتَحَهُ عَنْوَةً وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ . وَقَالَ غَيْرُهُ : بَلْ عَفْوُهُ عَامٌّ فِي الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ ، يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَعْفُوا عَمَّا فَتَحُوهُ عَنْوَةً كَمَا جَازَ عَفْوُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ ، وَقَدْ فَتَحَهَا عَنْوَةً ، وَهَذَا هُوَ تَأْثِيرُ الْخِلَافِ فِي فَتْحِهَا عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا : أَنَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى فَتْحِهَا صُلْحًا لَمْ يَجْعَلْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْفُوَ عَمَّا فَتَحَ عَنْوَةً ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى فَتْحِهَا عَنْوَةً جَعَلَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْفُوَ عَمَّا فَتَحَهُ عَنْوَةً ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى فَتْحِهَا عَنْوَةً بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ [ الْفَتْحِ : 1 ، 2 ] يَعْنِي مَكَّةَ ، وَالْفَتْحُ الْمُبِينُ الْأَقْوَى ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْعَنْوَةُ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [ النَّصْرِ : 1 ، 2 ] ، وَظَاهِرُ النَّصْرِ هُوَ الْغَلَبَةُ وَالْقَهْرُ ، وَبِقَوْلِهِ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ، [ الْفَتْحِ : 24 ] . فَصَرَّحَ الْقَوْلَ بِالظَّفَرِ فَدَلَّ عَلَى الْعَنْوَةِ ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ [ التَّوْبَةِ : 13 ] . وَهَذَا تَوْبِيخٌ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ : قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ، وَهَذَا أَمْرٌ بِالْقِتَالِ ، فَصَارَ حَتْمًا لَا يَجُوزُ عَلَى الرَّسُولِ خِلَافُهُ ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ [ مُحَمَّدٍ : 35 ] . فَنَهَاهُ عَنِ السَّلْمِ مَعَ قُوَّتِهِ ، وَقَدْ كَانَ فِي دُخُولِ مَكَّةَ قَوِيًّا ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْخَمْسُ مِنْ دَلَائِلِهِمْ ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ مِنَ السُّنَّةِ بِنَقْلِ السِّيرَةِ الَّتِي نَقَلَهَا الرُّوَاةُ ، فَتَمَسَّكُوا بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا ، فَمِنْ ذَلِكَ ، وَهُوَ سَبَبُ الْفَتْحِ أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا نَقَضَتْ صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ بِمَنْ قَتَلَتْ مِنْ خُزَاعَةَ ، وَأَتَى وَفْدُ خُزَاعَةَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَنْصِرِينَ ، وَهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ ، ثُمَّ قَالَ عَمْرٌو فَأَنْشَدَهُ : اللَّهُمَّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدًا حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا حَتَّى أَتَى عَلَى شِعْرِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : نُصِرْتَ يَا عَمْرُو بْنَ سَالِمٍ ، وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ، وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَحَقَّقَ هَذِهِ الْيَمِينَ بِمَسِيرِهِ بَعْدَ رَدِّ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ خَائِبًا ، وَسَارَ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ فِيهِمْ أَلْفَا دَارِعٍ وَدَخَلَ بِهِمْ مَكَّةَ ، وَعَلَى رَأْسِهِ مِغْفَرٌ ،

وَرَايَاتُهُ مَنْشُورَةٌ ، وَسُيُوفُهُ مَشْهُورَةٌ ، قَالُوا : وَهَذِهِ صِفَةُ الْعَنْوَةِ الَّتِي حَلَفَ بِهَا أَنْ يَغْزُوَهُمْ . قَالَ : وَقَدْ رَوَى أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ عَنْوَةً ، وَهُوَ مِنْ أَخَصِّ أَصْحَابِهِ وَأَقْرَبِهِمْ مِنْهُ ، فَكَانَ ذَلِكَ نَصًّا . قَالُوا : وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ : شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتْحَ مَكَّةَ فَقَالَ لِي : يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ، ادْعُ الْأَنْصَارَ فَدَعَوْتُهُمْ ، فَأَتَوْهُ مُهَرْوِلِينَ فَقَالَ لَهُمْ : إِنَّ قُرَيْشًا قَدْ أَوْبَشَتْ أَوْبَاشَهَا ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاحْصُدُوهُمْ حَصْدًا ، حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الصَّفَا فَكَانَ أَمْرُهُ بِالْقَتْلِ نَافِيًا لِعَقْدِ الصُّلْحِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ : مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ ، ، وَلَوْ كَانَ دُخُولُهُ عَنْ صُلْحٍ كَانَ جَمِيعُ النَّاسِ آمِنِينَ بِالْعَقْدِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ طَافَ بِالْبَيْتِ ، وَفِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَا تَرَوْنِي صَانِعًا بِكُمْ ؟ قَالُوا : أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ ، فَاصْنَعْ بِنَا صُنْعَ أَخٍ كَرِيمٍ ! فَقَالَ : اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ ، وَمَثَلِي وَمَثَلُكُمْ ، كَمَا قَالَ يُوسُفُ لِإِخْوَتِهِ : لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [ يُوسُفَ : 92 ] . وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ بِالْعَفْوِ آمَنُوا لَا بِالصُّلْحِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ أُمَّ هَانِئٍ أَمَّنَتْ يَوْمَ الْفَتْحِ رَجُلَيْنِ فَهَمَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِقَتْلِهِمَا ، فَمَنَعَتْهُ ، وَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَتْهُ فَقَالَ قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ ، وَلَوْ كَانَ صُلْحًا لَاسْتَحَقَّا الْأَمَانَ لَا بِالْإِجَارَةِ ، وَلَمَا اسْتَجَازَ عَلِيٌّ أَنْ يَهُمَّ بِقَتْلِهِمَا . قَالُوا : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، أَنَّهَا قَالَتْ : كُلُّ الْبِلَادِ فُتِحَتْ بِالسَّيْفِ إِلَّا الْمَدِينَةَ ، فَإِنَّهَا فُتِحَتْ بِالْقُرْآنِ ، أَوْ قَالَتْ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ بِالسَّيْفِ عَنْوَةً . قَالُوا : وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ الْفِيلَ عَنْ مَكَّةَ ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي ، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، ثُمَّ هِيَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، فَدَلَّ تَسْلِيطُهُ عَلَيْهَا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُحَارِبًا فِيهَا ، غَيْرَ مُصَالِحٍ . قَالُوا : وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ حِمَاسَ بْنَ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ أَعَدَّ سِلَاحًا لِلْقِتَالِ يَوْمَ الْفَتْحِ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ : وَاللَّهِ مَا أَرَى أَنَّكَ تَقُومُ بِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ ، فَقَالَ لَهَا : إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَخْدِمَكَ بَعْضَهُمْ ، وَخَرَجَ مُرْتَجِزًا يَقُولُ : إِنْ تُقْبِلُوا الْيَوْمَ فَمَا لِي عِلَّهْ هَذَا سِلَاحٌ كَامِلٌ وَأَلَّهْ

وَذُو غِزَارَيْنِ سَرِيعُ السَّلَّهْ وَلَحِقَ بِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو ، فِيمَنْ يُقَاتِلُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي قُرَيْشٍ وَعَادَ مُنْهَزِمًا ، فَدَخَلَ بَيْتَهُ وَقَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَغْلِقِي عَلَيَّ الْبَابَ ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ : فَأَيْنَ مَا كُنْتَ تَعِدُنَا ؟ فَقَالَ : إِنَّكِ لَوْ شَهِدْتِ يَوْمَ الْخَنْدَمَهْ إِذْ فَرَّ صَفْوَانٌ وَفَرَّ عِكْرِمَهْ وَأَبُو يَزِيدَ قَائِمٌ كَالْمُؤْتِمَهْ وَاسْتَقْبَلَتْهُمْ بالسُّيُوفِ الْمُسَامَهْ يَقْطَعْنَ كُلَّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمَهْ ضَرْبًا فَلَا تُسْمَعُ إِلَّا غَمْغَمَهْ لَهُمْ نَهِيتٌ خَلْفَنَا وَهَمْهَمَهْ لَمْ تَنْطِقِي فِي اللَّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ فَدَلَّ عَلَى دُخُولِهَا بِالْقِتَالِ . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ صَالَحَهُمْ عَلَى دُخُولِهَا لَتَرَدَّدَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمُ الرُّسُلُ ، وَلَكَتَبَ فِيهِ الصُّحُفَ ، كَمَا فَعَلَ مَعَهُمْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَهُوَ لَمْ يَلْبَثْ حَتَّى دُخُولِهَا بِعَسْكَرِهِ قَهْرًا ، فَكَيْفَ يَكُونُ صُلْحًا . وَدَلِيلُنَا عَلَى دُخُولِهَا صُلْحًا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [ الْفَتْحِ : 22 ] . يَعْنِي ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، أَهْلَ مَكَّةَ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا وَلَوْ قَاتَلُوا لَمْ يُنْصَرُوا ، وَقَالَ تَعَالَى : وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ [ الْفَتْحِ : 24 ] . فَأَخْبَرَ بِكَفِّ الْفَرِيقَيْنِ ، وَالْكَفُّ يَمْنَعُ مِنَ الْعَنْوَةِ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ يُرِيدُ بِهِ الِاسْتِعْلَاءَ وَالدُّخُولَ ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَعْلِيًا فِي دُخُولِهِ ، وَقَالَ تَعَالَى : لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [ الْفَتْحِ : 27 ] وَالْمُحَارِبُ لَا يَكُونُ آمِنًا ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ دُخُولُهَا صُلْحًا لَا عَنْوَةً ، وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرَّعْدِ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ [ الرَّعْدِ : 31 ] . الْآيَةَ فَأَخْبَرَ بِإِصَابَةِ الْقَوَارِعِ وَلَهُمْ إِلَى أَنْ يَحُلَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرِيبًا مِنْهُمْ فَصَارَ غَايَةَ قَوَارِعَهُمْ ، وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ مَكَّةَ إِلَى أَنْ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَرِّ الظَّهْرَانِ ، فَانْتَهَتِ الْقَوَارِعُ ، فَصَارَ مَا بَعْدَهَا غَيْرَ قَارِعَةٍ ، وَالْمُخَالِفُ يَجْعَلُ مَا بَعْدُ بَحْلُولِهِ أَعْظَمَ الْقَوَارِعِ ، وَفِي هَذَا إِبْطَالٌ لِقَوْلِهِ ، وَفِيهَا مُعْجِزَةٌ وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِالشَّيْءِ قَبْلَ كَوْنِهِ : لِأَنَّ سُورَةَ الرَّعْدِ مَكِّيَّةٌ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ نَقْلُ السِّيرَةِ فِي الدُّخُولِ إِلَيْهَا وَاتِّفَاقُ الرُّوَاةِ عَلَيْهَا ، وَهُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ تَأَهَّبَ لِلْمَسِيرِ إِلَيْهَا أَخْفَى أَمْرَهُ وَقَالَ اللَّهُمَّ خُذْ عَلَى أَبْصَارِهِمْ حَتَّى لَا يَرَوْنِي إِلَّا بَغْتَةً ، وَسَارَ مُحِثًّا حَتَّى نَزَلَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ ، وَهِيَ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَدْ لَقِيَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِالسُّقْيَا ، فَسَارَ مَعَهُ وَأَمَرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنْ يُوقِدَ نَارًا ، فَأُوقِدَتْ عَشَرَةُ آلَافِ نَارٍ أَضَاءَتْ بِهَا بُيُوتُ مَكَّةَ ، وَفَعَلَ ذَلِكَ

إِرْهَابًا لَهُمْ وَإِيثَارًا لِلْبُقْيَا عَلَيْهِمْ ، لِيَنْقَادُوا إِلَى الصُّلْحِ وَالطَّاعَةِ ، وَلَوْ أَرَادَ اصْطِلَامَهُمْ لَفَاجَأَهُمْ بِالدُّخُولِ ، وَلَكِنَّهُ أَنْذَرَ وَحَذَّرَ فَلَمَّا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مَنْ نَزَلَ بِهِمْ خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ ، وَبُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ يَتَحَسَّسُونَ الْأَخْبَارَ ، وَقَالَ الْعَبَّاسُ وَأَشْيَاخُ قُرَيْشٍ : وَاللَّهِ لَئِنْ دَخَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْوَةً إِنَّهُ لَهَلَاكُ قُرَيْشٍ آخِرَ الدَّهْرِ ، فرِكَبَ بَغْلَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشَّهْبَاءَ وَتَوَجَّهَ إِلَى مَكَّةَ : لِيُعْلِمَ قُرَيْشًا حَتَّى يَسْتَأْمِنُوهُ ، فَبَيْنَمَا هُوَ بَيْنَ الْأَرَاكِ لَيْلًا ، إِذَا سَمِعَ كَلَامَ أَبِي سُفْيَانَ ، فَعَرَفَ صَوْتَهُ ، فَتَعَارَفَا وَاسْتَخْبَرَهُ عَنِ الْحَالِ ، فَأَخْبَرَهُ بِنُزُولِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عَشَرَةِ آلَافٍ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهَا فَاسْتَشَارَهُ ، فَقَالَ : تَأْتِيهِ فِي جِوَارِي فَتُسْلِمُ ، وَتَسْتَأْمِنُهُ لِنَفْسِكَ وَقَوْمِكَ ، وَأَرْدَفَهُ عَلَى عَجُزِ الْبَغْلَةِ ، وَعَادَ مُسْرِعًا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِحَالِهِ فَقَالَ : اذْهَبْ بِهِ فَقَدْ أَمَّنَاهُ حَتَّى تَأْتِيَنِي بِهِ مِنَ الْغَدِ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَاهُ بِهِ ، فَأَسْلَمَ وَعَقَدَ مَعَهُ الْأَمَانَ لِأَهْلِ مَكَّةَ ، عَلَى أَنْ لَا يُقَاتِلُوهُ ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبُّ الْفَخْرَ ، فَقَالَ : - عَلَيْهِ السَّلَامُ - : مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفَيانَ فَهُوَ آمِنٌ ، مَنْ دَخَلَ دَارَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فَهُوَ آمِنٌ ، مَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ ، مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ فَكَانَ عَقْدُ الْأَمَانِ مُتَعَلِّقًا بِهَذَا الشَّرْطِ . وَهَذَا يُخَالِفُ حُكْمَ الْعَنْوَةِ فَدَلَّ عَلَى انْعِقَادِ الصُّلْحِ وُجُودُ هَذَا الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَّنَ أَبَا سُفْيَانَ ، وَعَقَدَ مَعَهُ أَمَانَ قُرَيْشٍ عَلَى الشُّرُوطِ الْمُقَدَّمَةِ ، أَنْفَذَهُ إِلَى مَكَّةَ مَعَ الْعَبَّاسِ ، ثُمَّ اسْتَدْرَكَ مَكْرَ أَبِي سُفْيَانَ ، وَأَنْفَذَ إِلَى الْعَبَّاسِ أَنْ يَسْتَوْقِفَ أَبَا سُفْيَانَ بِمَضِيقِ الْوَادِي : لِيَرَى جُنُودَ اللَّهِ ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ : أَغَدْرًا يَا بَنِي هَاشِمٍ ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ : بَلْ أَنْتَ أَغْدَرُ وَأَفْجَرُ ، وَلَكِنْ لِتَرَى جُنُودَ اللَّهِ فِي إِعْزَازِ دِينِهِ وَنُصْرَةِ رَسُولِهِ ، فَلَوْ كَانَ دُخُولُهُ عَنْوَةً لَمْ يَقُلْ أَبُو سُفْيَانَ : أَغَدْرًا ، وَلَمْ يَجْعَلِ اسْتِيقَافَهُ غَدْرًا ، فَلَمَّا أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ كَتَائِبِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِلْعَبَّاسِ : لَقَدْ أُوتِيَ ابْنُ أَخِيكَ مُلْكًا عَظِيمًا ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ : وَيْحَكَ إِنَّهَا النُّبُوَّةُ ، فَقَالَ : نَعَمْ إِذًا ، ثُمَّ أَرْسَلَهُ الْعَبَّاسُ إِلَى مَكَّةَ مُنْذِرًا لِقَوْمِهِ بِالْأَمَانِ ، فَأَسْرَعَ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ ، فَصَرَخَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، هَذَا مُحَمَّدٌ قَدْ جَاءَ بِمَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ ، قَالُوا : فَمَهْ ، قَالَ : مَنْ دَخَلَ دَارِي فَهُوَ آمِنٌ ، قَالُوا : وَمَا تُغْنِي عَنَّا دَارُكَ ، قَالَ : مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ ، مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ ، مَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ ، فَحِينَئِذٍ كَفُّوا وَاسْتَسْلَمُوا ، وَهَذَا مِنْ شَوَاهِدِ الصُّلْحِ دُونَ الْعَنْوَةِ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ رَايَةَ الْأَنْصَارِ كَانَتْ مَعَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ عِنْدَ دُخُولِهِ مَكَّةَ ، فَقَالَ سَعْدٌ ، وَهُوَ يُرِيدُ دُخُولَهَا : الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَهْ الْيَوْمَ تُسْبَى الْحُرْمَهْ الْيَوْمَ يَوْمٌ يُذِلُّ اللَّهُ قُرَيْشًا .

فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَزَلَهُ عَنِ الرَّايَةِ وَسَلَّمَهَا إِلَى ابْنِهِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ وَقَالَ : الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَرْحَمَهْ الْيَوْمَ تُسْتَرُ فِيهِ الْحُرْمَهْ الْيَوْمَ يُعِزُّ اللَّهُ قُرَيْشًا . فَجَعْلَهُ يَوْمَ مَرْحَمَةٍ ، وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ مَلْحَمَةٍ ، فَدَلَّ عَلَى الصُّلْحِ دُونَ الْعَنْوَةِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدَّمَ أَمَامَهُ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ ، وَمَعَهُ رَايَتُهُ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ الْعُلْيَا ، وَهِيَ أَعْلَى مَكَّةَ ، وَفِيهَا دَارُ أَبِي سُفْيَانَ ، وَأَنْفَذَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ لِيَدْخُلَ مِنَ اللَّيْطِ ، وَهِيَ أَسْفَلَ مَكَّةَ ، وَفِيهَا دَارُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ ، وَوَصَّاهُمَا أَنْ لَا يُقَاتِلَا إِلَّا مَنْ قَاتَلَهُمَا عَلَى مَا قَرَّرَهُ مِنَ الشَّرْطِ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ ، فَأَمَّا الزُّبَيْرُ فَلَمْ يُقَاتِلْهُ أَحَدٌ ، وَدَخَلَ حَتَّى غَرَسَ الرَّايَةَ بِالْحَجُونِ ، وَأَمَّا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَإِنَّهُ لَقِيَهُ جَمْعٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَحُلَفَائِهِمْ بَنِي بَكْرٍ ، فِيهِمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ ، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو ، وَقَاتَلُوهُ ، فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قَتَلَ مِنْ قُرَيْشٍ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ رَجُلًا ، وَمِنْ هُذَيْلَ أَرْبَعَةَ رِجَالٍ ، وَلُّوا مُنْهَزِمِينَ ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَارِقَةَ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ ، قَالَ : مَا هَذَا ، وَقَدْ نَهَيْتُ خَالِدًا عَنِ الْقِتَالِ ، فَقِيلَ لَهُ : إِنَّ خَالِدًا قُوتِلَ فَقَاتَلَ ، فَقَالَ : قَضَى اللَّهُ خَيْرًا ، وَأَنْفَذَ إِلَيْهِ أَنْ يَرْفَعَ السَّيْفَ ، وَهَذَا مِنْ دَلَائِلِ الصُّلْحِ دُونَ الْعَنْوَةِ : لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَنْوَةً لَمْ يَذْكُرِ الْقِتَالَ ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي يَوْمِ الْفَتْحِ حِينَ سَارَ لِدُخُولِ مَكَّةَ كَانَ يَسِيرُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ ، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ ، وَلَوْ دَخَلَهَا مُحَارِبًا لَرَكِبَ فَرَسًا ، ثُمَّ قَصَّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّ كَلْبَةً أَقْبَلَتْ مِنْ مَكَّةَ ، فَاسْتَلْقَتْ عَلَى ظَهْرِهَا ، وَانْفَتَحَ فَرْجُهَا ، وَدُرَّ لَبَنُهَا فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ : ذَهَبَ كَلْبُهُمْ ، وَأَقْبَلَ خَيْرُهُمْ وَسَيَتَضَرَّعُونَ إِلَيْكَ بِالرَّحِمِ ، ثُمَّ خَرَجَ نِسَاءُ مَكَّةَ فَلَطَّخْنَ وُجُوهَ الْخَيْلِ بِالْخَلُوقِ ، وَفِيهِمْ قُتَيلَةُ بِنْتُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ ، فَاسْتَوْقَفَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَقَفَ لَهَا ، وَكَانَ قَتَلَ أَبَاهَا النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ صَبْرًا ، فَأَنْشَدَتْهُ : يَا رَاكِبًا إِنَّ الْأَثِيلَ مَظِنَّةٌ عَنْ صُبْحِ خَامِسَةٍ وَأَنْتَ مُوَفَّقُ بَلِّغْ بِهِ مَيْتًا فَإْنَّ تَحِيَّةً مَا إِنْ تَزَالُ بِهَا الرَّكَائِبُ تَخْفُقُ مِنِّي إِلَيْهِ وَعَبْرَةٌ مَسْفُوحَةٌ جَادَتْ لِمَانِحِهَا وَأُخْرَى تُخْنَقُ أَمُحَمَّدٌ هَا أَنْتَ صِنْوُ نَجِيبَةٍ مِنْ قَوْمِهَا وَالْفَحْلُ فَحُلٌ مُعْرِقُ فَالنَّضْرُ أَقْرَبُ مَنْ قَتَلْتَ قَرَابَةً وَأَحَقُّهُمْ إِنْ كَانَ عِتْقًا يُعْتَقُ مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ وَرُبَّمَا مَنَّ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَوْ كُنْتُ سَمِعْتُ شِعْرَهَا مَا قَتَلْتُهُ ، وَلَمَّا رَأَى الْخَلُوقَ عَلَى خَيْلِهِ ، وَالنِّسَاءُ يَمْسَحُونَ وُجُوهَ الْخَيْلِ بِخُمُورِهِنَّ ، قَالَ : لِلَّهِ دَرُّ حَسَّانَ ، كَأَنَّمَا يَنْطِقُ عَنْ

رُوحِ الْقُدُسِ ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ : كَأَنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُرِيدُ قَوْلَهُ : عَدِمْنَا خَيْلَنَا إِنْ لَمْ تَرَوْهَا تُثِيرُ النَّقْعَ مَوْعِدُهَا كَدَاءُ تُنَازِعُنَا الْأَعِنَّةُ مُسْرِعَاتٍ يُلَطِّمُهُنَّ بِالْخُمُرِ النِّسَاءُ فَإِنْ أَعْرَضْتُمُ عَنَّا اعْتَمَرْنَا وَكَانَ الْفَتْحُ وَانْكَشَفَ الْغِطَاءُ وَإِلَّا فَاصْبِرُوا لِجَلَادِ يَوْمٍ يُعِزُّ اللَّهُ فِيهِ مَنْ يَشَاءُ فَقَالَ : نَعَمْ ، وَدَخَلَ مَكَّةَ وَابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ ، وَهُوَ ضَرِيرٌ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَهُوَ يَقُولُ : يَا حَبَّذَا مَكَةُ مِنْ وَادِي أَرْضٌ بِهَا أَهْلِي وَعُوَّادِي بِهَا أَمْشِي بِلَا هَادِي أَرْضٌ بِهَا تَرْسَخُ أَوْتَادِي فَدَلَّتْ هَذِهِ الْحَالُ فِي اسْتِقْبَالِ النِّسَاءِ وَسُكُونِ النُّفُوسِ إِلَيْهِ وَالرُّؤْيَا الَّتِي قَصَّهَا عَلَى الصُّلْحِ دُونَ الْعَنْوَةِ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَثْنَى يَوْمَ الْفَتْحِ قَتْلَ سِتَّةٍ مِنَ الرِّجَالِ ، وَأَرْبَعٍ مِنَ النِّسَاءِ ، وَإِنْ تَعَلَّقُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ . فَأَمَّا الرِّجَالُ : فَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ ، وَهَبَّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ ، وَمَقِيسُ بْنُ صُبَابَةَ ، وَالْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْدٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ . وَأَمَّا النِّسْوَةُ : فَهِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ ، وَسَارَّةُ مَوْلَاةُ عَمْرِو بْنِ هَاشِمٍ ، وَبِنْتَانِ لِابْنِ خَطَلٍ ، فَقُتِلَ مِنَ الرِّجَالِ ثَلَاثَةٌ : ابْنُ خَطَلٍ تَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ، فَقَتَلَهُ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ ، وَأَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ ، وَأَمَّا مَقِيسُ بْنُ صُبَابَةَ فَقَتَلَهُ نُمَيْلَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، وَأَمَّا الْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْدٍ فَقَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَقُتِلَتْ إِحْدَى بِنْتَيِ ابْنِ خَطَلٍ ، وَاسْتُؤْمِنَ لِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ ، فَدَلَّ اسْتِثْنَاءُ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ عَلَى عُمُومِ الْأَمَانِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَمَانٌ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى اسْتِثْنَاءٍ ، وَقَدْ قَالَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى فِي هَذَا الصُّلْحِ مَا عَيَّرَ بِهِ قُرَيْشًا فَقَالَ : وَأَعْطَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ مِنَّا مَوَاثِيقًا عَلَى حُسْنِ التَّصَافِ وَأَعْطَيْنَا الْمَقَادَةَ حِينَ قُلْنَا تَعَالَوُا بَارِزُونَا بِالثِّقَافِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ ضُرِبَتْ لَهُ بِالْحَجُونِ قُبَّةٌ أَدَمٌ عِنْدَ رَايَتِهِ الَّتِي رَكَزَهَا الزُّبَيْرُ ، فَقِيلَ لَهُ : هَلَّا نَزَلْتَ فِي دُورِكَ ، فَقَالَ : وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رَبْعٍ ، وَلَوْ كَانَ دُخُولُهُ مَكَّةَ عَنْوَةً لَكَانَ رِبَاعُ مَكَّةَ كُلُّهَا لَهُ ، ثُمَّ بَدَأَ بِالطَّوَافِ عَلَى نَاقَتِهِ الْقُصْوَى ، وَكَانَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا ، وَكَانَ أَعْظَمَهَا هُبَلُ ، وَهُوَ تُجَاهَ الْكَعْبَةِ ، فَكَانَ كُلَّمَا مَرَّ بِصَنَمٍ مِنْهَا أَشَارَ إِلَيْهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ ، وَقَالَ : جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ، إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ، فَيَسْقُطُ الصَّنَمُ لِوَجْهِهِ وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ أَتَاهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَأَسْلَمُوا طَوْعًا وَكَرْهًا ، وَبَايَعُوهُ ، وَلَيْسَ هَذِهِ حَالَ مَنْ قَاتَلَ وَقُوتِلَ ، فَدَلَّتْ عَلَى الصُّلْحِ وَالْأَمَانِ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

قَالَ لَمْ تَحِلَّ لِي غَنَائِمُ مَكَّةَ ، وَالْعَنْوَةُ تُوجِبُ إِحْلَالَ غَنَائِمِهَا ، فَدَلَّ عَلَى دُخُولِهَا صُلْحًا ، وَفَقَدَتْ أُخْتُ أَبِي بَكْرٍ عُقْدًا لَهَا ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : ذَهَبَتْ أَمَانَاتُ النَّاسِ ، وَلَوْ حَلَّتِ الْغَنَائِمُ لَمْ يَكُنْ أَخْذُهُ خِيَانَةً ، تَذْهَبُ بِهَا الْأَمَانَةُ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا لَمْ تَحِلَّ غِنَائِمُهَا لِأَنَّهَا حَرَمُ اللَّهِ الَّذِي يُمْنَعُ مَا فِيهِ ، فَعَنْهُ ثَلَاثُ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ عُمُومَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [ الْأَنْفَالِ : 41 ] يَمْنَعُ مِنْ تَخْصِيصِ الْحَرَمِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْنَعِ الْحَرَمُ مِنَ الْقَتْلِ ، وَهُوَ أَغْلَظُ مِنَ الْمَالِ ، حَتَّى قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ قَتَلَ كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْ غَنَائِمِ الْأَمْوَالِ ، وَلَوْ مَنَعَهُمُ الْحَرَمُ مِنْ ذَلِكَ لَمَا احْتَاجُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أَمَانٍ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ مَا فِي الْكَعْبَةِ مِنَ الْمَالِ أَعْظَمُ حُرْمَةً ، مِمَّا فِي مَنَازِلِ الرِّجَالِ . وَقَدْ رَوَى مُجَالِدٌ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ : لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ وَجَدَ فِي الْكَعْبَةِ مَالًا كَانَتِ الْعَرَبُ تُهْدِيهِ ، فَقَسَّمَهُ فِي قُرَيْشٍ ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَعَاهُ لِلْعَطَاءِ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ ، ثُمَّ دَعَا حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ فَقَالَ : خُذْ كَمَا أَخَذَ قَوْمُكَ ، فَقَالَ حَكِيمٌ : آخُذُ خَيْرًا أَوْ أَدَعُ ؟ قَالَ : بَلْ تَدَعُ . قَالَ : وَمِنْكَ ؟ قَالَ : وَمِنِّي الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى ، فَقَالَ : حَكِيمٌ : لَا آخُذُ مِنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ أَبَدًا ، فَلَمَّا لَمْ تَمَنَعِ الْكَعْبَةُ مَا فِيهَا وَحُرْمَةُ الْحَرَمِ بِهَا كَانَ الْحَرَمُ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ مَا فِيهِ ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ مَا فِي الْحَرَمِ أَمْوَالٌ لِمَنْ قَدِ اسْتَأْمَنُوهُ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِالْأَمَانِ ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَا فِي الْكَعْبَةِ مَالٌ لِمُسْتَأْمَنٍ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ بِالْأَمَانِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا لَمْ يَغْنَمْهَا ، وَإِنْ مَلَكَ غَنَائِمَهَا : لِأَنَّهُ عَفَا عَنْهَا ، كَمَا عَفَا عَنْ قَتْلِ النُّفُوسِ ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ وَلِلْأُمَّةِ بَعْدَهُ أَنْ يَعْفُوا عَنِ الْقِتَالِ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةِ الْمُعْتَبَرَةِ بِالْمَصْلَحَةِ ، وَلَيْسَ لَهُ وَلِلْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ أَنْ يَعْفُوا عَنِ الْغَنَائِمِ ، إِلَّا بِطِيبِ أَنْفُسِ الْغَانِمِينَ : لِأَنَّ مِنْ حُقُوقِهِمْ ، أَلَّا تَرَاهُ لَمَّا أَرَادَ الْعَفْوَ عَنْ سَبْيِ هَوَازِنَ اسْتَطَابَ نُفُوسَ الْغَانِمِينَ ، حَتَّى ضَمِنَ لِمَنْ لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِحَقِّهِ سِتَّ قَلَائِصَ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ ، وَمَا اسْتَطَابَ فِي غَنَائِمِ مَكَّةَ نَفْسَ أَحَدٍ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تُمْلَكْ لِأَجْلِ الْأَمَانِ الَّذِي انْعَقَدَ بِهِ الصُّلْحُ ، فَلَمْ يَحْتَجْ فِيهَا إِلَى اسْتِطَابَةِ النُّفُوسِ ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْفُذُ السَّرَايَا مِنْ مَكَّةَ إِلَى مَا حَوْلَهَا مِنْ عَرَفَاتٍ وَغَيْرِهَا ، فَيَأْتُوهُ بِغَنَائِمِهَا : لِأَنَّهَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَمَانٌ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا كَانَ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ يَعْتَمِدُهُ أَنَّ نَقْلَ الْمُوجِبِ يُغْنِي عَنْ نَقْلِ الْمُوجَبِ ، وَمُوجِبُ الْعَنْوَةِ الْقَتْلُ وَالْغَنِيمَةُ ، وَمُوجِبُ الصُّلْحِ الْعَفْوُ وَالْمَنُّ ، فَلَمَّا عَفَا وَمَنَّ ، وَلَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَغْنَمْ ، وَأَنْكَرَ حِينَ رَأَى خَالِدًا قَدْ قُتِلَ كَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى الصُّلْحِ ، وَمَانِعًا مِنَ الْعَنْوَةِ وَصَارَ الصُّلْحُ كَالْمَنْقُولِ لِنَقْلِ مُوجِبِهِ مِنَ الْعَفْوِ .

فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [ النَّصْرِ : 1 ] فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْفَتْحَ يَنْطَلِقُ عَلَى الصُّلْحِ وَالْعَنْوَةِ : لِقَوْلِهِمْ : فُتِحَتْ مَكَّةُ صُلْحًا ، وَفُتِحَتْ عَنْوَةً ؛ لِأَنَّ الْفَتْحَ هُوَ الظَّفَرُ بِالْبَلَدِ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ ظَفَرٌ بِمُمْتَنَعٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ فُتُوحِهِ كُلِّهَا ، فَكَانَتْ خَبَرًا عَنْ مَاضِيهَا قَالَ مُقَاتِلٌ : نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْحِ الطَّائِفِ ، وَالطَّائِفُ آخِرُ فُتُوحِهِ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ آخِرَ وَطْأَةٍ وَطِئَهَا اللَّهُ بِوَجٍّ يَعْنِي آخَرَ مَا أَظْفَرَ اللَّهُ بِالْمُشْرِكِينَ بِوَجٍّ ، وَوَجٌّ هِيَ الطَّائِفُ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فَرِحَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَبَكَى الْعَبَّاسُ لَهَا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَا يُبْكِيكَ يَا عَمِّ ؟ قَالَ : نُعِيَتْ إِلَيْكَ نَفْسُكَ قَالَ : إِنَّهُ لَكُمَا تَقُولُ ، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ سُورَةَ التَّوْدِيعِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [ الْفَتْحِ : ا ] . فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا حَكَاهُ الشَّعْبِيُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ : لِأَنَّهُ أَصَابَ فِيهَا مَا لَمْ يُصِبْ فِي غَيْرِهَا بُويِعَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ ، وَأُطْعِمُوا نَخْلَ خَيْبَرَ ، وَظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ ، تَصْدِيقًا لِخَبَرِهِ وَبَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي فَتْحِ مَكَّةَ ، وَالْفَتْحُ يَكُونُ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ [ الْفَتْحِ : 24 ] . فَهُوَ أَنَّ الْكَفَّ يَمْنَعُ مِنَ الْقِتَالِ ، وَقَوْلُهُ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [ الْفَتْحِ : 24 ] . فَهُوَ أَنَّهُ قَدْ أَظْفَرَهُ بِهِمْ حِينَ لَمْ يُقَاتِلُوهُ وَاسْتَسْلَمُوا عَفْوًا ، فَكَانَ أَبْلَغَ الظَّفَرِ بَعْدَ الْمُحَارَبَةِ ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَنَّ قَوْلَهُ بِبَطْنِ مَكَّةَ يَعْنِي الْحَرَمَ ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَضْرِبَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحُدَيْبِيَةِ قَدْ كَانَ فِي الْحِلِّ ، وَمُصَلَّاهُ فِي الْحَرَمِ ، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِمَكَّةَ عَنِ الْحَرَمِ ، وَهَذَا تَكَلُّفٌ فِي الْجَوَابِ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ [ التَّوْبَةِ : 14 ] . فَهُوَ أَنَّهُ أُمِرَ بِقِتَالِهِمْ إِنِ امْتَنَعُوا ، وَبِالْكَفِّ عَنْهُمْ إِنِ اسْتَسْلَمُوا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا [ الْأَنْفَالِ : 61 ] . وَهُمْ يَوْمَ الْفَتْحِ اسْتَسْلَمُوا وَلَمْ يَمْتَنِعُوا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ [ مُحَمَّدٍ : 35 ] . فَهُوَ أَنَّ النَّهْيَ تَوَجَّهَ إِلَى أَنْ يَدْعُوَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الصُّلْحِ ، وَهُمْ مَا دَعَوْا إِلَيْهِ وَإِنَّمَا دَعَا إِلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ ، فَخَرَجَ عَنِ النَّهْيِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِصِفَةِ مَسِيرِهِ وَقَسَمِهِ بِاللَّهِ أَنْ يَغْزُوَهُمْ وَدُخُولِهِ إِلَيْهِ بِسُيُوفٍ مَشْهُورَةٍ وَرَايَاتٍ مَنْشُورَةٍ ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ الصُّلْحَ وَالْأَمَانَ تَحَدَّدَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ ، فَلَا اعْتِبَارَ بِمَا كَانَ قَبْلَهُ ، وَقَسَمُهُ أَنْ يَغْزُوَهُمْ فَقَدْ قَالَ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَاسْتَثْنَى عَلَى أَنَّهُ قَدْ غَزَاهُمْ ؛ لِأَنَّهُ قَهَرَهُمْ وَدَخَلَ عَلَيْهِمْ غَالِبًا . وَالثَّانِي : أَنَّ نَشْرَ الرَّايَاتِ وَسَلَّ السُّيُوفِ مِنْ عَادَاتِ الْجُيُوشِ فِي الصُّلْحِ وَالْعَنْوَةِ ، وَإِنَّمَا يَقَعُ بَيْنَ الْفَرْقِ فِي الْحَالَتَيْنِ بِالْقِتَالِ وَالْمُحَارَبَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ دَخَلَهَا عَنْوَةً مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَهَا عَلَى كُرْهٍ مِنْهُمْ وَظُهُورٍ عَلَيْهِمْ صَارَ مَوْصُوفًا بِالْعَنْوَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْعَنْوَةَ الْخُضُوعُ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [ طَهَ : 111 ] . أَيْ : خَضَعَتْ ، وَهُمْ قَدْ خَضَعُوا حِينَ اسْتَسْلَمُوا لِأَمَانِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : احْصُدُوهُمْ حَصْدًا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الصَّفَا فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ نُزُولِهِ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ وَعَقْدِ الْأَمَانِ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ : لِأَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ الْمُنْذِرِ رَوَى أَنَّهُ قَالَ : احْصُدُوهُمْ غَدًا حَصْدًا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الصَّفَا ، وَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي كِتَابِ " الْأَمْوَالِ " عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ ثَابِتٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَنْ قَاتَلَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَسْفَلَ مَكَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ وَبُنِيَ نُفَاثَةَ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : لَوْ كَانَ صُلْحًا لَأَمِنَ جَمِيعُ النَّاسِ وَلَمْ يَخُصَّهُ بِمَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ وَأَغْلَقَ بَابَهُ ، فَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَ عَقْدَ الْأَمَانِ مُعَلَّقًا بِهَذَا الشَّرْطِ ، فَصَارَ خَاصًّا فِي اللَّفْظِ عَامًّا فِي الْحُكْمِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ لِقُرَيْشٍ : أَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ ، فَهُوَ لِأَنَّهُ أَمَّنَهُمْ بَعْدَ الْخَوْفِ ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ إِسَاءَتِهِمْ ، وَصَفَحَ عَنْهُمْ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِمْ ، فَصَارُوا بِتَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ ، طُلَقَاءَ وَبِالْإِحْسَانِ عُتَقَاءَ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ ، فَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَيْنِ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمَا شَرْطُ الْأَمَانِ : لِأَنَّهُمَا كَانَا شَاكَّيْنِ فِي سِلَاحِهِمَا ، وَقَدْ عَلَّقَ شَرْطَ الْأَمَانِ بِإِلْقَاءِ السِّلَاحِ ، وَغَلْقِ الْأَبْوَابِ ، فَبَقِيَا عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ : فَلِذَلِكَ اسْتَجَازَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يَقْتُلَهُمَا حَتَّى اسْتَجَارَا بِأُمِّ هَانِئٍ ، فَأَمَّنَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " كُلُّ الْبِلَادِ فُتِحَتْ بِالسَّيْفِ إِلَّا الْمَدِينَةَ " فَهُوَ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ الْبِلَادِ فُتِحَتْ بِالْخَوْفِ مِنَ السَّيْفِ إِلَّا الْمَدِينَةَ وَلَمْ تَرِدِ الْعَنْوَةُ وَالصُّلْحُ : لِأَنَّهُ قَدْ فَتَحَ بَعْضَ الْبِلَادِ صُلْحًا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ الْفِيلَ عَنْ مَكَّةَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ ، فَهُوَ

مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْفِيلَ لَمْ يَظْفَرْ بِهَا ، وَلَا دَخَلَهَا ، وَأَظْفَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِهَا حَتَّى دَخَلَهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ حِمَاسِ بْنِ قَيْسٍ ، وَمَا أَنْشَدَهُ مِنْ شِعْرِهِ : فَهُوَ أَنَّهُ كَانَ حَلِيفَ بَنِي بَكْرٍ الَّذِينَ قَاتَلُوا خَالِدًا ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ قُرَيْشٍ الْقَابِلِينَ لِأَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَدْ آمَنَ مَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ وَأَغْلَقَ بَابَهُ ، فَلَئِنْ دَلَّ أَوَّلُ أَمْرِهِ عَلَى الْعَنْوَةِ ، فَلَقَدْ دَلَّ آخِرُهُ عَلَى الصُّلْحِ ، وَابْتَدَأَ بِالْقِتَالِ بِجَهْلِهِ بِعَقْدِ الْأَمَانِ ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى شَرْطِ الْأَمَانِ حِينَ عَلِمَ بِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ عَقْدَ الصُّلْحِ مَا تَرَدَّدَتْ فِيهِ الرُّسُلُ وَكُتِبَ فِيهِ الصُّحُفَ كَالْحُدَيْبِيَةِ ، فَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ صُلْحٌ عَلَى الْمُوَادَعَةِ وَالْكَفِّ ، فَاحْتَاجَ إِلَى الرُّسُلِ وَكَتْبِ الصُّحُفِ : وَهَذَا أَمَانُ اسْتِسْلَامٍ وَتَمْكِينٍ عُلِّقَ بِشَرْطٍ ، فَاسْتَغْنَى فِيهِ عَنْ تَرَدُّدِ الرُّسُلِ وَكَتْبِ الصُّحُفِ ، وَاقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى أَخْبَارِ أَبِي سُفْيَانَ ، وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ بِحَالِهِ ، وَذِكْرِهِ لِقُرَيْشٍ مَا تَعَلَّقَ بِشَرْطِهِ ، وَاقْتَصَرَ مِنْ قَبُولِهِمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ دُونَ الرِّضَا وَالِاخْتِبَارِ .

فَصْلٌ : وَإِذْ قَدْ مَضَتْ دَلَائِلُ الْفَتْحِ فِي الْعَنْوَةِ وَالصُّلْحِ ، فَالَّذِي أَرَاهُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ نَقْلُ هَذِهِ السِّيرَةِ وَشُرُوطِ الْأَمَانِ فِيهَا لِمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ ، وَأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهُ مَنْ قَاتَلَ : أَنَّ أَسْفَلَ مَكَّةَ دَخْلَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْوَةً ، وَأَعْلَى مَكَّةَ دَخَلَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ صُلْحًا : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ عَقْدِ الْأَمَانِ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ ، وَبَعَثَ الزُّبَيْرَ مِنْ أَعْلَاهَا ، وَأَمَرَهُمَا أَنْ لَا يُقَاتِلَا إِلَّا مَنْ قَاتَلَهُمَا ، فَأَمَّا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَإِنَّهُ دَخَلَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ فَقُوتِلَ فَقَاتَلَ ، فَلَمْ يُوجَدْ فِيهِمْ قَبُولُهُ الشَّرْطَ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : إِنَّمَا قَاتَلَهُ بَنُو بَكْرٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بِمَكَّةَ دَارٌ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ فِي مُقَاتَلَةِ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ ، وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ ، وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو ، وَهُمْ مِنْ أَكَابِرِ قُرَيْشٍ وَأَعْيَانِ أَهْلِ مَكَّةَ وَهِيَ دَارُهُمْ ، وَأَمَّا الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ فَإِنَّهُ دَخَلَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ فَلَمْ يُقَاتِلْهُ أَحَدٌ ، وَلَا قَاتَلَ أَحَدًا ، فَوَجَدَ شَرْطَ الْأَمَانِ مِنْهُمْ : فَانْعَقَدَ الصُّلْحُ لَهُمْ ، وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَمِيعُ جَيْشِهِ مِنْ جِهَةِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ ، فَصَارَ حُكْمُ جَبْهَتِهِ هُوَ الْأَغْلَبُ ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ الْتَزَمَ أَمَانَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ ، وَاسْتَأْنَفَ أَمَانَ مَنْ قَاتَلَ ، وَلِذَلِكَ اسْتَجَدَّ لِعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ أَمَانًا ، وَأَمَّنَ مَنْ أَجَارَتْهُ أُمُّ هَانِئٍ ، وَلَمْ يَغْنَمْ أَسْفَلَ مَكَّةَ ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ كَانَ عَلَى جِبَالِهَا وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا ، فَهَذَا مَا اقْتَضَاهُ نَقْلُ السِّيرَةِ وَشَوَاهِدُ حَالِهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لَمَّا قَاتَلَ خَالِدٌ وَقَتَلَ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ خَالِدًا قَاتَلَ وَقَتَلَ بِغَيْرِ حَقٍّ ، فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا ، قَالَهُ لِخَالِدٍ فِي غَيْرِ يَوْمِ الْفَتْحِ : لِأَنَّهُ بَعَثَهُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْفَتْحِ سَرِيَّةً مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَنِي جُذَيْمَةَ مِنْ كِنَانَةَ ، وَكَانُوا أَسْفَلَ مِنْ مَكَّةَ عَلَى لَيْلَةٍ مِنْهَا نَاحِيَةَ يَلَمْلَمَ لِيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ ، فَأَتَاهُمْ وَقَدْ أَسْلَمُوا وَصَلُّوا ، فَقَتَلَ مَنْ ظَفَرَ بِهِ مِنْهُمْ ، فَلَمَّا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110