كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

فَقَالَ : أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا، فَقُلْتُ : لَا أَمْلِكُ قَالَ : فَأَعْطَانِي خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ وَقَالَ : أَطْعِمْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ الْخَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا سِتُّونَ مُدًّا ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّعِيرَ وَالْبُرَّ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ مِنْ مُدِّ بُرٍّ لَا يُجْزِئُ فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا عَانَهُ بِهَذَا الْقَدْرِ لِيُتَمِّمَ بَاقِيَهُ مِنْ عِنْدِهِ . قِيلَ : هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَالَ أَطْعِمْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا . وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَضْرِبُ نَحْرَهُ وَيَنْتِفُ شَعْرَهُ وَيَقُولُ : هَلِكْتُ وَأَهْلَكْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا الَّذِي أَهْلَكَكَ، قَالَ : وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَقَالَ : أَعْتِقْ رَقَبَةً فَقَالَ : لَا أَجِدُ فَقَالَ : صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَقَالَ : لَا أَسْتَطِيعُ فَقَالَ : أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَقَالَ : لَا أَمْلِكُ فَأْتِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ فَقَالَ : خُذْهُ فَأَطْعِمْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَقَالَ : وَاللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنِّي ، فَقَالَ : كُلْهُ أَنْتَ وَأَهْلُكَ . قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ : وَالْعَرَقُ ؛ مَا بَيْنَ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا إِلَى عِشْرِينَ صَاعًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمِسْكِينُ صَاعًا وَلَا نِصْفَهُ ، وَالْعَرَقُ كَالزِّنْبِيلِ مِنْ خُوصٍ لَيْسَ لَهُ عُرًى . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ مِنْ حِنْطَةٍ وَبِغَيْرِ إِدَامِهِ ، وَوَافَقَهُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ فَكَانَ إِجْمَاعًا . وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّهُ تَكْفِيرٌ بِإِطْعَامٍ، فَلَمْ يَتَقَدَّرْ حَقُّ الْمِسْكِينِ بِصَاعٍ ، كَالْبُرِّ ، وَلِأَنَّهُ حَبٌّ مُخْرَجٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَاسْتَوَى فِي قَدْرِهِ الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ كَالزَّكَاةِ ، وَلِأَنَّ مَا تَقَدَّرَتْ بِهِ النَّفَقَةُ جَازَ أَنْ تَتَقَدَّرَ بِهِ الْكَفَّارَةُ كَالدَّيْنِ . وَمِنَ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا بَدَلًا مِنْ صِيَامِ سِتِّينَ يَوْمًا، فَجَعَلَ مَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْإِطْعَامِ فِي مُقَابَلَةِ مَا كَانَ يُعَانِيهِ وَيَنْزِفُهُ فِي الصِّيَامِ، وَالَّذِي كَانَ يُعَانِيهِ جُوعُهُ فِي صِيَامِهِ فِي نَهَارِهِ تَرَفُهُ فِيهَا بِغَدَائِهِ، فَلَزِمَ أَنْ يَسُدَّ جَوْعَةَ الْمِسْكِينِ بِمِثْلِهِ، وَالْغَدَاءُ الَّذِي يَسُدُّ الْجَوْعَةَ فِي الْأَغْلَبِ مُدٌّ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَدْرُ الْمَدْفُوعُ إِلَى كُلِّ مِسْكِينٍ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ الَّذِي كَانَ يُتْرِفُهُ بِهِ فِي صِيَامِهِ وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي إِفْطَارِهِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ فَهُوَ أَنَّهُ قَدْ عَارَضَهُ حَدِيثُ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ ، فَنَسْتَعْمِلُ الْحَدِيثَيْنِ وَنَسْتَعْمِلُ حَدِيثَ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ وَدَفْعَ الْوَسْقِ إِلَيْهِ عَلَى أَنْ

يَدْفَعَ مِنْهُ إِلَى الْمَسَاكِينِ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا وَيَأْكُلَ الْبَاقِيَ ، وَحَدِيثُ أَوْسٍ عَلَى أَنَّهُ اقْتَصَرَ بِهِ عَلَى الْقَدْرِ الْوَاجِبِ عَلَى أَنَّ الدَّارَقُطْنِيَّ قَدْ رَوَى حَدِيثَ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ أَنَّهُ دُفِعَ إِلَيْهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا . أَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى كَفَّارَةِ الْأَذَى فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا قَلَّ عَدَدُ الْمَسَاكِينِ فِيهَا جَازَ أَنْ يَزِيدَ قَدْرُ الطَّعَامِ فِيهَا، وَلَمَّا كَثُرَ عَدَدُ الْمَسَاكِينِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ جَازَ أَنْ يَقِلَّ قَدْرُ الطَّعَامِ فِيهَا . وَأَمَّا مَالِكٌ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ التَّكْفِيرَ بِالْإِطْعَامِ يُوجِبُ تَقْدِيرَهُ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ تَقْدِيرُ الْإِطْعَامِ بِمُدٍّ مِنْ جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ فَهِيَ الْأَجْنَاسُ الْمُزَكَّاةُ مِنَ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ الْمُقْتَاتَةِ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرَجَ مِنْ غَيْرِ الْمُزَكَّاةِ، وَإِنَّ كُلَّ مُقْتَاتٍ إِلَّا الْأَقِطِ فَفِي جَوَازِ إِخْرَاجِهِ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ وَفِي الْكَفَّارَاتِ إِذَا كَانَ قُوتًا لِلْمُزَكِّي وَالْمُكَفِّرِ قَوْلَانِ مَضَيَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أُخْرِجَ مِنْ أَغْلَبِهَا قُوتًا فِي الْكَفَّارَةِ ، فَأَمَّا فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا ، وَإِذَا وَجَبَ أَنْ يُخُرِجَ مِنْ غَالِبِ الْقُوتِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْأَظْهَرُ، مِنْ غَالِبِ قُوتِ بَلَدِهِ ؛ لِأَنَّ النَّفْعَ بِهِ أَعَمُّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدِ بْنِ حَرْبَوَيْهِ مِنْ غَالِبِ قُوتِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ عَنْ مَالٍ وَبَدَنٍ، فَلَمَّا كَانَ مَا وَجَبَ عَنِ الْمَالِ يَخْرُجُ مِنْ غَالِبِ مَالِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا يَخْرُجُ عَنِ الْبَدَنِ مِنْ غَالِبِ قُوتِ بَدَنِهِ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ غَالِبُ الْقُوتِ شَعِيرًا فَأَخْرَجَ مَا هُوَ أَغْلَى مِنْهُ كَالتَّمْرِ وَالْبُرِّ أَجْزَأَهُ ، فَإِنْ كَانَ غَالِبُهُ بُرًّا فَأَخْرَجَ مَا هُوَ دُونَ مِنْهُ كَالشَّعِيرِ فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا لَا يُجْزِئُ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ جُمْلَةَ سِتِّينَ مُدًّا أَوْ أَكْثَرَ لِأَنَّ أَخْذَهُمُ الطَّعَامَ يَخْتَلِفُ، فَلَا أَدْرِي لَعَلَّ أَحَدَهُمْ يَأْخُذُ أَقَلَّ وَغَيْرَهُ أَكْثَرَ، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا سَنَّ مِكْيَلَةَ طَعَامٍ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ كَفَّارَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَدَفْعُ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ حُمِلَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُعْطِيَهُمْ وَلَا يُمَلِّكَهُمْ إِيَّاهُ بِالسَّوِيَّةِ، وَيَقُولُ : خُذُوهُ أَوْ كُلُوهُ، فَلَا يُجْزِئُهُ لَا يَخْتَلِفُ لِأَنَّهُ إِنْ قَالَ خُذُوهُ فَقَدْ يَأْخُذُ بَعْضُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ مُدٍّ فَلَا تُحْتَسَبُ الزِّيَادَةُ وَيَأْخُذُ بَعْضُهُمْ أَقَلَّ مِنْ مُدٍّ فَلَا يُجْزِيهِ النُّقْصَانُ ، وَإِنْ قَالَ : كُلُوهُ فَمَا مَلَّكَهُمْ وَإِنَّمَا أَبَاحَهُمْ، وَالتَّكْفِيرُ يُوجِبُ تَمْلِيكَ الْفُقَرَاءِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُمَلِّكَهُمْ ذَلِكَ، وَيُسَوِّيَ بَيْنَهُمْ فِيهِ، فَيَدْفَعُ إِلَى سِتِّينَ مِسْكِينًا سِتِّينَ مُدًّا وَيَقُولُ : قَدْ مَلَّكْتُكُمْ هَذَا بَيْنَكُمْ بِالتَّسْوِيَةِ فَاقْتَسِمُوهُ إِنْ شِئْتُمْ فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطَّيْبِ بْنِ سَلَمَةَ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يُجْزِيهُ ، لِأَنَّ التَّمْلِيكَ قَدْ حَصَلَ وَالتَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ قَدْ وُجِدَتْ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقِسْمَةُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَكَلَّفَهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ لَا يُجْزِيهِ حَتَّى يُفْرِدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ حَقِّهِ وَهُوَ مُدٌّ : لِأَنَّهُ مَعَ الْإِشَاعَةِ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ وَيَحْتَاجُ إِلَى مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ الَّتِي لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَكَلَّفَهَا كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ رُطَبًا لِمَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ مُؤْنَةِ تَجْفِيفِهِ، وَلَا سُنْبُلًا لِمَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ مُؤْنَةِ دِيَاسَتِهِ وَتَصْفِيَتِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ دَقِيقًا وَلَا سَوِيقًا وَلَا خُبْزًا حَتَّى يُعْطِيَهُمُوهُ حَبًّا في الكفارة " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصَّ عَلَى الْحُبُوبِ فَلَا يُجْزِيهِ غَيْرُهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْحَبَّ أَكْثَرُ مَنْفَعَةً ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ ادِّخَارُهُ وَزَرْعُهُ وَاقْتِنَاؤُهُ ، فَإِذَا صَارَ دَقِيقًا أَوْ سَوِيقًا أَوْ خُبْزًا نَقَصَتْ مَنَافِعُهُ، وَإِخْرَاجُ النَّاقِصِ فِي مَوْضِعِ الْكَامِلِ غَيْرُ مُجْزِئٍ . وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيُّ يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْخُبْزِ لِأَنَّهُ مُهَيَّأٌ لِلِاقْتِيَاتِ، مُسْتَغْنٍ عَنْ مَؤُونَةٍ وَعَمَلٍ، وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ الِاقْتِيَاتَ أَحَدُ مَنَافِعِهِ، وَإِذَا كَمُلَ اقْتِيَاتُهُ بِالْخُبْزِ فَقَدْ فَوَّتَ كَثِيرًا مِنْ مَنَافِعِهِ الَّتِي رُبَّمَا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا أَدْعَى وَالنَّفْسُ إِلَيْهَا أَشْهَى . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَسَوَاءٌ مِنْهُمُ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَأَنَّ الصَّغِيرَ رُبَّمَا كَانَ أَمَسَّ حَاجَةً ، وَلِأَنَّ الْإِطْعَامَ فِي مُقَابَلَةِ الْعِتْقِ الَّذِي يَسْتَوِي فِيهِ عِتْقُ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَكَذَلِكَ الْإِطْعَامُ يَسْتَوِي فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ إِلَّا أَنَّ الصَّغِيرَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ قَبْضُ مَا يُعْطَى حَتَّى يَقْبِضَهُ وَلَيُّهُ مِنَ الْمُكَفِّرِ أَوْ مِنَ الصَّبِيِّ بَعْدَ دَفْعِهِ إِلَيْهِ فَيُجْزِئُ ، فَإِنْ أَكَلَهُ الصَّبِيُّ أَوْ أَتْلَفَهُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى وَلِيِّهِ لَمْ يُجْزِهِ وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ كَفَّارَتَهُ أَوْ زَكَاتَهُ إِلَى أَحَدٍ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ مِنْ وَالِدَيْهِ وَمِنْ مَوْلُودِهِ . فَالْوَالِدُونَ هُمُ الْآبَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ وَالْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ وَنَفَقَاتُهُمْ تَجِبُ عَلَيْهِ بِشَرْطَيْنِ : الْفَقْرُ وَالزَّمَانَةُ . وَالْمَوْلُودُونَ : هُمُ الْبَنُونَ وَالْبَنَاتُ وَبَنُو الْبَنِينَ وَبَنُو الْبَنَاتِ وَنَفَقَاتُهُمْ تَجِبُ بِشَرْطَيْنِ : الْفَقْرُ وَالصِّغَرُ أَوِ الزَّمَانَةُ مَعَ الْكِبَرِ ، فَإِذَا وَجَبَتْ نَفَقَاتُهُمْ بِمَا ذَكَرْنَا كَانَ مَا دَفَعَهُ إِلَيْهِمْ مِنْ زَكَاةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ غَيْرَ مُجْزِئٍ لِأَمْرَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ بِهِ أَغْنِيَاءُ وَالزَّكَاةُ وَالْكَفَّارَةُ لَا يُدْفَعَانِ إِلَى غَنِيٍّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَعُودُ عَلَيْهِ نَفْعُ مَا دَفَعَ ؛ لِأَنَّهُ تَسْقُطُ عَنْهُ نَفَقَاتُهُمْ بِهَا فَصَارَ كَأَنَّهُ صَرَفَهَا إِلَى نَفْسِهِ فَلَمْ تُجْزِهِ . وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ ذَلِكَ إِلَى زَوْجَتِهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ ؛ لَكِنْ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَدْفَعَ ذَلِكَ إِلَى زَوْجِهَا لِعَدَمِ الْمَعْنَيَيْنِ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِهَا غَنِيًّا وَلَا يَلْزَمُهَا نَفَقَتُهُ، وَلِأَنَّهُ لَا يُسْقِطُ بِهَا عَنْهَا شَيْئًا كَانَ يَلْزَمُهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَهُوَ ذَا يَعُودُ نَفْعُهُ إِلَيْهَا لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُنْفِقَهُ عَلَيْهَا . قِيلَ : لَيْسَ يَجِبُ لَهَا بِذَلِكَ حَقٌّ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ فَقِيرًا فَلَيْسَ يَصِيرُ بِمَا أَخَذَهُ مِنْهَا غَنِيًّا فَلَيْسَ يَجِبُ لَهَا فِي الْحَالَيْنِ إِلَّا نَفَقَةُ مُعْسِرٍ ، وَعَوْدُهُ إِلَيْهَا إِنْ أَنْفَقَهُ عَلَيْهَا بِمَعْنًى يَعُودُ إِلَى اخْتِيَارِهِ فَصَارَ كَعَوْدِهِ بِهِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ . فَإِنْ كَانَ الْوَالِدُونَ وَالْمَوْلُودُونَ فُقَرَاءَ غَيْرَ زُمَنَاءَ فَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ الْجَدِيدِ وَأَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ نَفَقَاتِهِمْ لَا تَجِبُ فَيَجُوزُ دَفْعُ الْكَفَّارَةِ وَالزَّكَاةِ إِلَيْهِمْ . وَإِنْ قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي مِنَ الْقَدِيمِ أَنَّ نَفَقَاتِهِمْ تَجِبُ بِالْفَقْرِ وَحْدَهُ لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَيْهِمْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا عَبْدًا وَلَا مُكَاتَبًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لَا يَجُوزُ دَفْعُ الْكَفَّارَةِ وَلَا الزَّكَاةِ إِلَى عَبْدِ غَيْرِهِ وَلَا إِلَى عَبْدِ نَفْسِهِ لِمَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ فَصَارَ ذَلِكَ دَفْعًا إِلَى سَيِّدِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْهَا بِوُجُوبِ نَفَقَتِهِ عَلَى سَيِّدِهِ ، وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الْكَفَّارَةِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ ذَا مَالٍ فَهُوَ غَنِيٌّ بِمَالِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذِي مَالٍ فَيَقْدِرُ عَلَى تَعْجِيزِ نَفْسِهِ فَيَصِيرُ غَنِيًّا بِسَيِّدِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ مِنَ الزَّكَاةِ إِلَى الْأَغْنِيَاءِ وَهُمُ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا ، وَأَحَدُ صِنْفَيِ الْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ فَجَازَ أَنْ يُدْفَعَ مِنْهَا إِلَى الْمُكَاتَبِ ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يُدْفَعَ مِنَ الْكَفَّارَةِ إِلَى غَنِيٍّ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُدْفَعَ مِنْهَا إِلَى الْمُكَاتَبِ ، وَحُكْمُ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ كَحُكْمِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ فِي أَنْ لَا يَجُوزَ دَفْعُ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ إِلَيْهِمَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا أَحَدًا عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . فِي الْكَفَّارَاتِ وَالزَّكَوَاتِ لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إِلَى كَافِرٍ سَوَاءً كَانَ حَرْبِيًّا أَوْ ذِمِّيًّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إِلَى كَافِرٍ سَوَاءً كَانَ حَرْبِيًّا أَوْ ذِمِّيًّا، وَاخْتَارَ أَبُو حَنِيفَةَ دَفْعَ الْكَفَّارَةِ وَزَكَاةَ الْفِطْرِ إِلَى الذِّمِّيِّ دُونَ الْحَرْبِيِّ، وَمَنَعَ مِنْ دَفْعِ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ إِلَّا لِمُسْلِمٍ ، وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي قِسْمِ الصَّدَقَاتِ .

وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ : أَنَّهُ حَقٌّ مُخْرَجٌ بَاسِمِ التَّكْفِيرِ فَلَمْ يَجُزْ وَضْعُهُ فِي الْكُفَّارِ كَالْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَجُزْ دَفْعُ زَكَاةِ الْمَالِ إِلَيْهِ لَمْ يَجُزْ دَفْعُ الْكَفَّارَةِ إِلَيْهِ كَالْحَرْبِيِّ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " ( وقَالَ ) فِي الْقَدِيمِ لَوْ عَلِمَ بَعْدَ إِعْطَائِهِ أَنَّهُ غنِيٌ أَجْزَأَهُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا أَقْيَسُ لِأَنَّهُ أَعْطَى مَنْ لَمْ يَفْرِضْهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بَلْ حَرَّمَهُ عَلَيْهِ، وَالْخَطَأُ عِنْدَهُ فِي الْأَمْوَالِ فِي حُكْمِ الْعَمْدِ إِلَّا فِي الْمَأْثَمِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ مَضَتْ فِي قِسْمِ الصَّدَقَاتِ ، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ إِذَا أَعْطَى مِنَ الزَّكَوَاتِ أَوِ الْكَفَّارَةِ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ فَبَانَ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ ، فَإِنْ خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ بِكَوْنِهِ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّ الرِّقَّ وَالْكُفْرَ أَمَارَةٌ ظَاهِرَةٌ قَلَّ مَا يَخْفَيَانِ مَعَهَا، فَإِنَّ الْخَطَأَ فِيهَا لِتَقْصِيرٍ مِنْهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ لِكَوْنِهِ غَنِيًّا ، فَإِنْ لَمْ يَجْتَهِدْ فِيهِ عِنْدَ الدَّفْعِ إِلَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ لِتَقْصِيرِهِ ، وَإِنِ اجْتَهَدَ فَفِي إِجْزَائِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ يُجْزِئُهُ : لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى اجْتِهَادِهِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ مَعَ وُجُودِ الِاجْتِهَادِ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ وَقَفَا عَلَيْهِ وَسَأَلَاهُ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ : إِنْ شِئْتُمَا فَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ ثُمَّ أَعْطَاهُمَا رُجُوعًا إِلَى قَوْلِهِمَا وَعَمَلًا عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ أَحْوَالِهِمَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ : لِأَنَّ الْخَطَأَ فِي الْمُسْتَحِقِّ يَمْنَعُ مِنَ الْإِجْزَاءِ كَمَا لَوْ بَانَ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا ، وَلِأَنَّ الْخَطَأَ فِي دَفْعِ الْحُقُوقِ إِلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهَا لَا يَقْتَضِي الْبَرَاءَةَ مِنْهَا كَالْوَدَائِعِ إِذَا دُفِعَتْ إِلَى غَيْرِ أَرْبَابِهَا وَالدُّيُونِ إِذَا أُدِّيَتْ إِلَى غَيْرِ أَصْحَابِهَا ، وَمِثْلُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمُجْتَهِدُ فِي الْقِبْلَةِ إِذَا تَيَقَّنَ الْخَطَأَ ، وَالْمُتَيَمِّمُ إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ ، وَالْمُصَلَّى إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ فِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ أَوْ نَسِيَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ وَمَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الشُّهُورُ فِي رَمَضَانَ فَبَانَ أَنَّهُ صَامَ شَعْبَانَ فَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا قَوْلَانِ كَدَفْعِ الْكَفَّارَةِ إِلَى مَنْ بَانَ أَنَّهُ غَنِيٌّ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَيُكَفِّرُ بِالطَّعَامِ قَبْلَ الْمَسِيسِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْكَفَّارَةِ قَبْلَهَا ، وَلَوْ أَعْطَى مِسْكِينًا مُدَّيْنِ مُدًّا عَنْ ظِهَارِهِ وَمُدًّا عَنِ الْيَمِينِ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُمَا كَفارَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا تَحْرِيمُ الْمَسِيسِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ وَالصِّيَامِ فَمِمَّا أَجَابَهُ النَّصُّ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [ الْمُجَادَلَةِ : ، ] وَأَمَّا تَحْرِيمُ الْمَسِيسِ قَبْلَ الْإِطْعَامِ في كفارة الظهار فَقَدْ جَوَّزَهُ مَالِكٌ وَسُفْيَانُ الَثَّوْرِيُّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَيَّدَ الْعِتْقَ وَالصِّيَامَ بِتَحْرِيمِ الْمَسِيسِ قَبْلَهُمَا فَبَقِيَا عَلَى تَقْيِيدِهِمَا وَأَطْلَقَ الْإِطْعَامَ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِتَحْرِيمِ الْمَسِيسِ قَبْلَهُ فَحُمِلَ عَلَى إِطْلَاقِهِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْمَسِيسَ قَبْلَ الْإِطْعَامِ يُحَرَّمُ كَتَحْرِيمِهِ قَبْلَ الْعِتْقِ وَالصِّيَامِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ تَكْفِيرٌ عَنْ ظِهَارِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ مِنْ جِنْسِهِ كَالشَّهَادَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى مُقَيَّدٍ وَاحِدٍ كَانَ حَمْلُهُ عَلَى مُقَيَّدَيْنِ أَوْلَى لِأَنَّهُمَا أَوْكَدُ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَزِمَ لِتَغْلِيظِ حَالِ الظِّهَارِ أَنْ يُكَفِّرَ قَبْلَ وُجُودِ الْمَسِيسِ فِي التَّكْفِيرِ بِالصِّيَامِ وَهُوَ أَطْوَلُ وَزَمَانُهُ أَضَرُّ كَانَ تَأْخِيرُهُ عَنِ التَّكْفِيرِ بِالْإِطْعَامِ مَعَ قُرْبِهِ أَحَقَّ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ إِلَّا كَفَّارَةً كَامِلَةً مِنْ أَيِّ الْكَفَّارَاتِ كَفَّرَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَعِّضَ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ وَلَا غَيْرَهَا مِنَ الْكَفَّارَاتِ فَيُعْتِقُ بَعْضَ رَقَبَةٍ وَيُتِمُّهَا بِبَعْضِ الصَّوْمِ أَوْ يَصُومُ بَعْضَ الصِّيَامِ وَيُتِمُّ بِالْإِطْعَامِ حَتَّى يُكْمِلَهَا مِنْ أَحَدِ الْأَجْنَاسِ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ كَمَّلَ عِتْقَ رَقَبَةٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ كَمَّلَ صَوْمَ شَهْرَيْنِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ كَمَّلَ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَتَّبَ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ فِي ثَلَاثَةِ أَجْنَاسٍ وَخَيَّرَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَجْنَاسٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ التَّرْتِيبُ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنَ الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ وَلَا التَّخْيِيرُ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَجْنَاسٍ ثَلَاثَةٍ، وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ بِتَبْعِيضِ الْأَجْنَاسِ أَوْ تَفْرِيقِهَا جَامِعًا بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ، وَالْإِضْرَارُ يَمْنَعُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا . فَإِنْ قِيلَ : أَوَلَسْتُمْ تَقُولُونَ فِيمَنْ وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا يَكْفِيهِ أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُهُ وَيَتَيَمَّمُ لِبَاقِيهِ وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَل . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : ظَاهِرٍ وَمَعْنًى ؛ أَمَّا الظَّاهِرُ فَلِأَنَّهُ فِي الْكَفَّارَةِ قَالَ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا إِلَى أَنْ قَالَ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [ الْمُجَادَلَةِ : ، ] فَجَعَلَ الصِّيَامَ بَدَلًا مِنْ جَمِيعِ الرَّقَبَةِ الْكَامِلَةِ الَّتِي كَانَتْ فَرَضَهُ فَي التَّكْفِيرِ، وَقَالَ فِي التَّيَمُّمِ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [ الْمَائِدَةِ : ] فَذَكَرَ مَاءً مُنْكَرًا فَصَارَ فَرْضَهُ ؛ أَيْ مَا وَجَدَهُ . وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ التَّيَمُّمَ قَدْ يَنُوبُ تَارَةً عَنْ طَهَارَةِ بَعْضِهِ فِي الْحَدَثِ وَلَا تُمَاثِلُ

الطَّهَارَةُ فِي الْبَعْضِ عِتْقَ الْبَعْضِ وَصَوْمَ الْبَعْضِ، فَجَازَ فِي الْوَاجِدِ لِبَعْضِ الْمَاءِ أَنْ يَنُوبَ عَنْ بَاقِيهِ وَصَحَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ صَوْمُ الْكَفَّارَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنُوبُ عَنْ بَعْضِ الْعِتْقِ فَلَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَكُلُّ الْكَفَّارَاتِ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَخْتَلِفُ وَفِي فَرْضِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَيْفَ يَكُونُ بِمُدِّ مَنْ لَمْ يُولَدْ فِي عَهْدِهِ أَوْ مُدٍّ أُحْدِثَ بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا قُلْتُ مُدًّا لِكُلِّ مِسْكِينٍ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُكَفِّرِ فِي رَمَضَانَ فَإِنَّهُ أَتَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَرَقٍ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا فَقَالَ لِلْمُكَفِّرِ كَفِّرْ بِهِ، وَقَدْ أَعْلَمَهُ أَنَّ عَلَيْهِ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَهَذَا مَدْخَلُهُ، وَكَانَتِ الْكَفَّارَةُ بِالْكَفَّارَةِ أَشْبَهَ فِي الْقِيَاسِ مِنْ أَنْ نَقِيسَهَا عَلَى فِدْيَةٍ فِي الْحَجِّ، وَقَالَ بَعْضٌ النَاسِ الْمُدُّ رِطْلَانِ بِالْحِجَازِيِّ، وَقَدِ احْتَجَجْنَا فِيهِ مَعَ أَنَّ الْآثَارَ عَلَى مَا قُلْنَا فِيهِ وَأَمْرُ النَّاسِ بِدَارِ الْهِجْرَةِ وَمَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ بِهَذَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَقَالُوا أَيْضًا لَوْ أَعْطَى مِسْكِينًا وَاحِدًا طَعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا فِي سِتِّينَ يَوْمًا في الكفارة أَجْزَأَهُ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : لَئِنْ أَجْزَأَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَهُوَ وَاحِدٌ لَيُجْزِئُهُ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ فَقِيلَ لَهُ أَرَأَيْتَ لَوْ قَالَ قَائِلٌ قَالَ اللَّهُ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ شَرْطَانِ : عَدَدٌ وَشَهَادَةٌ فَأَنَا أُجِيزُ الشَّهَادَةَ دُونَ الْعَدَدِ فَإِنْ شَهِدَ الْيَوْمَ شَاهِدٌ ثُمَّ عَادَ لِشَهَادَتِهِ فَهِيَ شَهَادَتَانِ، فَإِنْ قَالَ لَا حَتَّى يَكُونَا شَاهِدَيْنِ فَكَذَلِكَ لَا حَتَّى يَكُونُوا سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَقَالَ أَيْضًا لَوْ أَطْعَمَهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ أَجْزَأَهُ، فَإِنْ أَجْزَأَ فِي غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ أَوْصَى اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِالْأَسِيرِ فَلِمَ لَا يُجْزِئُ أَسِيرُ الْمُسْلِمِينَ الْحَرْبِيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُونَ إِلَيْهِمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَعْدَادِ الْأَمْدَادِ، وَإِنَّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا وَاحِدًا فِي جَمِيعِ الْكَفَّارَاتِ إِلَّا فِدْيَةَ الْأَذَى فَإِنَّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّيْنِ ، فَأَمَّا مِقْدَارُ الْمُدِّ وَهُوَ مُدُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْرُهُ رِطْلٌ وَثُلُثٌ بِالْعِرَاقِيِّ فِي جَمِيعِ الْكَفَّارَاتِ . وَقَالَ مَالِكٌ جَمِيعُ الْكَفَّارَاتِ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا كَفَّارَةَ الظِّهَارِ فَإِنَّهَا بِالْمُدِّ الْحَجَّاجِيِّ ، وَأَصْلُ هَذَا صَاعُ الزَّكَاةِ وَقَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " لَوْ غَدَّاهُمْ أَوْ عَشَّاهُمْ وَإِنْ تَفَاوَتَ أَكْلُهُمْ فَأَشْبَعَهُمْ أَجْزَأَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : يَعْنِي بِهَذَا أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ قَالُوا أَنَّهُ لَوْ غَدَّى الْمَسَاكِينَ وَعَشَّاهُمْ في الكفارة هل يجزأه أَجَزْأَهُ وَإِنْ لَمْ يُجْزِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ . قَالُوا : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِطْعَامِ سَدُّ الْجَوْعَةِ

وَإِصْلَاحُ الْخَلَّةِ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْإِطْعَامِ بِالْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ كَوُجُودِهِ بِالْعَطَاءِ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ صَرْفُهُ فِي الْمَسَاكِينِ لَزِمَ فِيهِ الْعَطَاءُ وَالتَّمْلِيكُ كَالْكُسْوَةِ، وَلِأَنَّهُ قُوتٌ وَجَبَ صَرْفُهُ إِلَى الْمَسَاكِينِ فَوَجَبَ أَنْ يُرَاعَى فِيهِ التَّمْلِيكُ كَالزَّكَاةِ ، وَلِأَنَّ اسْتِهْلَاكَ الطَّعَامِ كَانَ عَلَى مِلْكِهِ فَلَمْ يُجْزِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ أَصْلًا إِذَا أَبَاحَ الْمَسَاكِينَ إِطْعَامَهُمْ ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ فِي الْكَفَّارَةِ مُسْتَحَقَّةٌ عِنْدَ إِخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ، وَنِيَّةُ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ مُتَعَذِّرَةٌ لِأَنَّهُ إِنْ نَوَى عِنْدَ التَّقْدِيمِ كَانَتْ نِيَّةً قَبْلَ الْإِخْرَاجِ، وَإِنْ نَوَى عِنْدَ الْأَكْلِ كَانَتْ نِيَّةً بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ . وَإِنْ نَوَى مَعَ كُلِّ لُقْمَةٍ شَقَّ ، وَلِأَنَّ التَّمْلِيكَ أَعَمُّ مَنْفَعَةً مِنَ الْأَكْلِ ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِدْخَالِهِ عَلَى بَيْعِهِ وَعَلَى أَكْلِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ حَقُّهُمْ مِنْ عُمُومِ الْمَنَافِعِ بِأَخْذِهَا وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ أَعْطَاهُمْ قِيمَةَ الطَّعَامِ عَرَضًا في الكفارة هل يجزأه أَجْزَأَ، فَإِنَّهُ أَتْرَكَ مَا نَصَّتِ السُّنَّةُ مِنَ الْمِكْيَلَةِ فَأَطْعَمَ سِتِّينَ صَبِيًّا، أَوْ رِجَالًا مَرْضَى، أَوْ مَنْ لَا يُشْبِعُهُمْ إِلَّا أَضْعَافُ الْكَفَّارَةِ، فَمَا يَقُولُ إِذَا أُعْطِيَ عَرَضًا مَكَانَ الْمِكْيَلَةِ لَوْ كَانَ مُوسِرًا يُعْتِقُ رَقَبَةً فَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهَا فَإِنْ أَجَازَ هَذَا فَقَدْ أَجَازَ الْإِطْعَامَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الرَّقَبَةِ وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا رَقَبَةٌ فَلِمَ جَوَّزَ الْعَرَضَ ؟ وَإِنَّمَا السُّنَّةُ مِكْيَلَةُ طَعَامٍ مَعْرُوفَةٌ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ هَذَا أَنْ يُحِيلَ الصَّوْمَ وَهُوَ مُطِيقٌ لَهُ إِلَى الضِّدِّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا قَالَهُ احْتِجَاجًا فِي جَوَازِ إِخْرَاجِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَوَاتِ وَكَذَلِكَ فِي الْكَفَّارَاتِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي الْمَنْعِ مِنْ إِخْرَاجِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَوَاتِ وَكَذَلِكَ فِي الْكَفَّارَاتِ . وَمِنَ الْقِيَاسِ فِي غَيْرِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ أَحَلَّهَا بِهَا وَلَمْ يَجُزْ إِخْرَاجَ الْقِيمَةِ فِي الْعِتْقِ . فَإِنْ قَالُوا : وَالْمَعْنَى فِي الْعِتْقِ أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ لِلْعَبْدِ وَلَيْسَ فِي الْعِتْقِ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعَبْدُ ، فَإِذَا أَخْرَجَ قِيمَتَهُ صَارَتْ مَصْرُوفَةً فِي غَيْرِ مُسْتَحَقِّهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قِيمَةُ الطَّعَامِ وَالْكُسْوَةِ لِأَنَّهُ انْصَرَفَ فِي مُسْتَحِقِّ الطَّعَامِ وَالْكُسْوَةِ . قُلْنَا : لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى الْمُسْتَحِقِّ غَيْرُهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ الْحَقَّ إِلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ فِي أَنَّهُ يَصْرِفُ الْحَقَّ إِلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى صَاحِبِ الْحَقِّ قِيمَتَهُ بَدَلَ حَقِّهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ . فَإِنْ قَالُوا : أَوَلَيْسَ الْقِيَاسُ يُجَوِّزُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى صَاحِبِ الْحَقِّ قِيمَةَ حَقِّهِ عَنْ تَرَاضٍ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى الْمَسَاكِينِ قِيمَةَ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ عَنْ تَرَاضٍ قِيلَ : لِأَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ تَتَعَيَّنُ فَجَازَ أَنْ يَقَعَ التَّرَاضِي عَلَى الْقِيمَةِ، وَالْكَفَّارَةُ مُسْتَحَقَّةٌ لِغَيْرِ مُعِيَّنٍ فَلَمْ يَصِحَّ التَّرَاضِي عَلَى الْقِيمَةِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . نُجِزَ كِتَابُ الظِّهَارِ .

_____

كتاب اللعان
_____

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مُخْتَصَرٌ مِنَ الْجَامِعِ مِنْ كِتَابَيْ لِعَانٍ جَدِيدٍ وَقَدِيمٍ وَمَا دَخَلَ فِيهِمَا مِنَ الطَّلَاقِ مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَمِنَ اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا اللِّعَانُ معناه فَمَأْخُوذٌ مِنَ اللَّعْنِ : وَهُوَ الْإِبْعَادُ وَالطَّرْدُ ، يُقَالُ : لَعَنَ اللَّهُ فُلَانًا ، أَيْ أَبْعَدَهُ اللَّهُ وَطَرَدَهُ . قَالَ الشَّمَّاخُ : ذَعَرْتُ بِهِ الْقَطَا وَنَفَيْتُ عَنْهُ مَقَامَ الذِّئْبِ كَالرَّجُلِ اللَّعِينِ أَيِ الطَّرِيدَ الْبَعِيدَ : فَسُمِّيَ اللِّعَانُ لِعَانًا ؛ لِأَنَّهُ مُوجِبٌ لِبُعْدِ أَحَدِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْقَطْعِ بِكَذِبِ أَحَدِهِمَا وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ . وَقِيلَ : بَلْ سُمِّيَ لِعَانًا لِمَا فِيهِ مِنْ لَعْنِ الزَّوْجِ لِنَفْسِهِ ، وَيُقَالُ : الْتَعَنَ الرَّجُلُ ، إِذَا لَعَنَ نَفْسَهُ ، وَلَاعَنَ ، إِذَا لَاعَنَ زَوْجَتَهُ ، وَيُقَالُ : رَجُلٌ لَعَنَةٌ - بِتَحْرِيكِ الْعَيْنِ - إِذَا كَانَ كَثِيرَ اللَّعْنِ ، وَرَجُلٌ لَعْنَةٌ - بِتَسْكِينِ الْعَيْنِ - إِذَا لَعَنَهُ النَّاسُ كَثِيرًا ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ ، وَمَعْنَاهُ احْذَرُوا الْبَوْلَ وَالْغَائِطَ عَلَى الطُّرُقَاتِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى لَعْنِ النَّاسِ لَهُ .

فَصْلٌ اللِّعَانُ حُكْمٌ وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ فِي الْأَزْوَاجِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حَدِّ الزِّنَا وَالْقَذْفِ عَلَى الْعُمُومِ

فَصْلٌ : وَاللِّعَانُ حُكْمٌ وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ فِي الْأَزْوَاجِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حَدِّ الزِّنَا وَالْقَذْفِ عَلَى الْعُمُومِ . وَالْأَصْلُ فِيهِ اللعان : الْكِتَابُ ، وَالسَّنَةُ ، وَالْإِجْمَاعُ . فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [ النُّورِ : ، ] فَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِعَانَ الزَّوْجِ ، ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدَهَا لِعَانَ

الزَّوْجَةِ قَالَ : وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ . فَقَوْلُهُ : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ يَعْنِي بِالزِّنَا ، فَكَانَ ذَلِكَ مُضْمَرًا دَلَّ عَلَيْهِ الْمُظْهَرُ . وَقَوْلُهُ : وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ أَيْ : وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ يَشْهَدُونَ لَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ . وَقَوْلُهُ : فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ أَيْ : فَيَمِينُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ أَيْمَانٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا . فَعَبَّرَ عَنِ الْيَمِينِ بِالشَّهَادَةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هِيَ شَهَادَةٌ مَحْضَةٌ اعْتِبَارًا بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ ، وَلِأَنَّ الْعَدَدَ فِيهَا مُوَافِقٌ لِعَدَدِ الشُّهُودِ فِي الزِّنَا ، وَلِذَلِكَ مَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ لِعَانِ الْكَافِرِ وَالْمَمْلُوكِ ، لِرَدِّ شَهَادَتِهِمَا ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ مَرْدُودَةٌ ، وَيَمِينَهُ لِنَفْسِهِ مَقْبُولَةٌ ، وَالْعَرَبُ قَدْ تُعَبِّرُ عَنِ الْيَمِينِ بِالشَّهَادَةِ . قَالَ قَيْسُ بْنُ الْمُلَوَّحِ : فَأَشْهَدُ عِنْدَ اللَّهِ أَنِّي أُحِبُّهَا فَهَذَا لَهَا عِنْدِي فَمَا عِنْدَهَا لِيَا أَيْ أَحَلِفُ بِاللَّهِ ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ يَأْتِي الْكَلَامُ فِيهَا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ . وَأَمَّا السُّنَّةُ : فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي قِصَّتَيْنِ ، إِحْدَاهُمَا فِي عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ ، وَالثَّانِيَةُ فِي هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ ، فَأَمَّا قِصَّةُ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ فَقَدْ رَوَاهَا الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنِ الزَّهْرِيِّ . وَرَوَاهَا الْأَوْزَاعِيُّ ، عَنِ الزَّهْرِيِّ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ : أَنْ عُوَيْمِرًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، رَجُلٌ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَصْنَعُ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ قُرْآنًا ، فَأَمَرَهُمَا بِالْمُلَاعَنَةِ فَلَاعَنَهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : انْظُرُوا ، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَدْعَجَ الْعَيْنَيْنِ ، عَظِيمَ الْإِلْيَتَيْنِ ، خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ ، فَلَا أَحْسَبُ عُوَيْمِرًا إِلَّا قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أُحَيْمَرَ كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ ، فَلَا أَحْسَبُ عُوَيْمِرًا إِلَّا قَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا . فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي نَعَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ تَصْدِيقِ عُوَيْمِرٍ ، وَكَانَ بَعْدُ يُنْسَبُ إِلَى أُمِّهِ .

وَقَوْلُهُ : وَحَرَةٌ : هِيَ دُوَيْبَّةٌ . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : وَلَقَدْ صَارَ أَمِيرًا بِمِصْرَ وَإِنَّهُ يُنْسَبُ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ . وَأَمَّا قِصَّةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ : فَقَدْ رَوَاهَا هِشَامٌ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِذَا رَأَى أَحَدُنَا الرَّجُلَ عَلَى امْرَأَتِهِ يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ ؟ قَالَ : فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ ، قَالَ : فَقَالَ هِلَالٌ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لِيُنْزِلَنَّ اللَّهُ فِي أَمْرِي مَا يُبَرِّئُ بِهِ ظَهْرِيَ مِنَ الْحَدِّ ، قَالَ : فَنَزَلَ جِبْرَائِيلُ فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ حَتَّى بَلَغَ : وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَرْسَلَ رَسُولَهُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِمَا فَجَاءَا ، فَقَامَ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ فَشَهِدَ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ ؟ فَقَامَتْ فَشَهِدَتْ . فَلَمَّا كَانَتْ عِنْدَ الْخَامِسَةِ ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَوْقِفُوهَا فَإِنَّهَا مُوجِبَةٌ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَتَلَكَّأَتْ وَنَكَصَتْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا سَتَرْجِعُ ، ثُمَّ قَالَتْ : لَا أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ الْيَوْمِ ، فَمَضَتْ ، فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا . قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَبْصِرُوهَا ، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ ، سَابِغَ الْإِلْيَتَيْنِ ، خَدَلَّجَ السَّاقِينَ ، فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ ، فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ . فَهَاتَانِ الْقِصَّتَانِ وَرَدَتَا فِي اللِّعَانِ ، فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ قِصَّةَ الْعَجْلَانِيِّ أَسْبَقُ مِنْ قِصَّةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : إِنَّ قِصَّةَ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَسْبَقُ مِنْ قِصَّةِ الْعَجْلَانِيِّ ، وَالنَّقْلُ فِيهِمَا مُشْتَبَهٌ مُخْتَلِفٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصَوَابِ ذَلِكَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ إِلَى قَوْلِهِ : أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ الْقَذْفِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مِنْ زَوْجٍ ، أَوْ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ فَتَعَلَّقَ بِقَذْفِهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ ، وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِ ، وَهُوَ ثَمَانُونَ جَلْدَةً إِنْ كَانَ حُرًّا ، وَرَدُّ شَهَادَتِهِ ، وَثُبُوتُ فِسْقِهِ ، وَلَا تَنْتِفِي عَنْهُ أَحْكَامُ الْقَذْفِ إِلَّا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا بِتَصْدِيقِهَا ، وَإِمَّا بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى زِنَاهَا بِأَرْبَعَةِ شُهُودٍ يَصِفُونَ مُشَاهِدَةَ زِنَاهَا ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ وَيَزُولُ فِسْقُهُ .

وَأَصْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ النُّورِ : ] . وَإِنْ كَانَ الْقَاذِفُ زَوْجًا تَعَلَّقَ بِقَذْفِهِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَحْكَامِ الثَّلَاثَةِ : الْحَدُّ ، وَرَدُّ الشَّهَادَةِ ، وَالتَّفْسِيقُ ، فَيَصِيرُ مُشَارِكًا لِلْأَجْنَبِيِّ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِقَذْفِهَا ، وَلَهُ إِسْقَاطُ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءٍ ، يُشَارِكُ الْأَجْنَبِيَّ فِي اثْنَيْنِ مِنْهَا ، وَيَخْتَصُّ بِالثَّالِثِ ، فَأَمَّا الِاثْنَانِ الْمُسَاوِي لِلْأَجْنَبِيِّ فِيهِمَا : أَحَدُهُمَا : تَصْدِيقُهَا لَهُ . وَالثَّانِي : إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى زِنَاهَا . فَيَسْقُطُ عَنْهُ بِكُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ . فَأَمَّا الثَّالِثُ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ لِأَجْلِ الزَّوْجِيَّةِ : فَهُوَ اللِّعَانُ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْقُرْآنِ الْوَارِدِ فِيهِ مِمَّا يَسْقُطُ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ ، فَأَمَّا ارْتِفَاعُ الْفِسْقِ فَمُعْتَبَرٌ بِحَالِهَا ، فَإِنْ لَمْ تُلَاعِنْ بَعْدُ وَحُدَّتِ ارْتَفَعَ عَنْهُ الْفِسْقُ ، لِأَنَّ لِعَانَهُ قَدْ صَارَ كَالْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا فِي وُجُوبِ الْحَدِّ . وَإِنْ لَاعَنَتْ وَلَمْ تُحَدَّ احْتَمَلَ ارْتِفَاعُ فِسْقِهِ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَدِ ارْتَفَعَ فِسْقُهُ ؛ لِأَنَّهُ كَالْبَيِّنَةِ فِي حَقِّهِ لِسُقُوطِ حَدِّهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَرْتَفِعُ فِسْقُهُ ؛ لِأَنَّ لِعَانَهَا مُعَارِضٌ لِلِعَانِهِ ، وَهُوَ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ حَدِّهَا بِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : لِمَ اخْتَصَّ الزَّوْجُ بِالْقَذْفِ دُونَ الْأَجْنَبِيِّ ؟ قِيلَ : لِأَنَّ الزَّوْجَ مُضْطَرٌّ إِلَى إِزَالَةِ الْمَعَرَّةِ عَنْ فِرَاشِهِ وَنَفْيِ النَّسَبِ الَّذِي لَيْسَ مِنْهُ ، فَصَارَ مَعْذُورًا فِي الْقَذْفِ ، فَجَازَ أَنْ يُجْعَلَ لَهُ مِنْ نَفْيِهِ سَبِيلٌ إِلَى سُقُوطِ الْحَدِّ وَرَفْعِ الْمَعَرَّةِ وَنَفْيِ النَّسَبِ ، وَلَيْسَ الْأَجْنَبِيُّ مُضْطَرًّا ، فَلَمْ يَكُنْ فِي الْقَذْفِ مَعْذُورًا فَصَارَ أَغْلَظَ حُكْمًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " فَكَانَ بَيِّنًا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ أَخْرَجَ الزَّوْجَ مِنْ قَذْفِ الْمَرْأَةِ بِالْتِعَانِهِ ، كَمَا أَخْرَجَ قَاذِفَ الْمُحْصَنَةِ غَيْرِ الزَّوْجَةِ بِأَرْبَعَةِ شُهُودٍ مِمَا قَذَفَهَا بِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الْقَاذِفِ لِزَوْجَتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تُصَدِّقَهُ عَلَى الْقَذْفِ ، وَتَصْدِيقُهَا أَنْ تُقِرَّ بِالزِّنَا الَّذِي رَمَاهَا بِهِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ حُكْمُ الْقَذْفِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ لِرَفْعِ الْفِرَاشِ وَنَفْيِ النَّسَبِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ إِذَا صَدَّقَتْ ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ ، وَالشَّهَادَةُ لَا تُقَامُ عَلَى مُقِرٍّ وَالْكَلَامُ مَعَهُ يَأْتِي .

وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تَكُونَ مُنْكِرَةً لِلزِّنَا لَكِنَّهُ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهَا بِالزِّنَا . فَيَسْقُطُ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ قَبْلَ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَبَعْدَهَا لِرَفْعِ الْفِرَاشِ وَنَفْيِ النَّسَبِ ، وَقَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ مَعَ وُجُودِ الْبَيِّنَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ [ النُّورِ : ] . وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ - وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَاعَنَ بَيْنَ الْعَجْلَانِيِّ وَامْرَأَتِهِ وَبَيْنَ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَزَوْجَتِهِ وَلَمْ يَسْأَلْهُمَا أَلَكُمَا بَيِّنَةٌ أَمْ لَا ؟ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ فِي الْحَالَيْنِ ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ يُفِيدُ مَا لَا تُفِيدُهُ الشَّهَادَةُ مِنْ رَفْعِ الْفِرَاشِ وَنَفْيِ النَّسَبِ ، فَصَارَتِ الشَّهَادَةُ مَقْصُورَةً عَلَى إِسْقَاطِ حَقِّهَا ، وَفِي اللِّعَانِ إِثْبَاتُ حَقِّهِ وَإِسْقَاطُ حَقِّهَا ، فَجَازَ مَعَ وُجُودِهَا لِعُمُومِ حُكْمِهِ ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَخَارِجَةٌ مَخْرَجَ الشَّرْطِ لَا مَخْرَجَ الْخَبَرِ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُصَدِّقَةٍ لَهُ وَلَيْسَ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَيْهَا بِالزِّنَا ، فَيَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ بِإِجْمَاعٍ ، وَهِيَ الْحَالُ الَّتِي لَاعَنَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الْعَجْلَانِيِّ وَامْرَأَتِهِ وَبَيْنَ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَزَوْجَتِهِ ، وَلَيْسَ اللِّعَانُ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ وَإِنْ جَازَ لَهُ ، وَلَا إِذَا لَاعَنَ وَجَبَ اللِّعَانُ عَلَيْهَا وَإِنْ جَازَ أَنْ تُلَاعِنَ ، بَلِ الزَّوْجُ بِالْخِيَارِ فِي لِعَانِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُلَاعِنْ حُدَّ لِلْقَذْفِ ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهَا وَلَا لِعَانَ ، وَإِنْ لَاعَنَ الزَّوْجُ سَقَطَ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ وَوَجَبَ حَدُّ الزِّنَا عَلَيْهَا ، فَإِنْ لَاعَنَتْ سَقَطَ عَنْهَا حَدُّ الزِّنَا ، وَلَا يُجْبَرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى اللِّعَانِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : اللِّعَانُ وَاجِبٌ عَلَيْهَا ، فَإِنِ امْتَنَعَ الزَّوْجُ مِنَ اللِّعَانِ يُحْبَسُ حَتَّى يُلَاعِنَ ، فَإِذَا لَاعَنَ وَجَبَ اللِّعَانُ عَلَى الزَّوْجَةِ ، فَإِنْ لَاعَنَتْ وَإِلَّا حُبِسَتْ حَتَّى تُقِرَّ ، وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا . وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى وُجُوبِ اللِّعَانِ عَلَيْهِمَا وَسُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ [ النُّورِ : ] الْآيَةَ وَفِيهَا دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَابَلَ الْقَذْفَ بِاللِّعَانِ فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمْ يُورِدْ لِلْحَدِّ ذِكْرًا فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِهِ ، قَالَ : وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ تَكُونُ نَسْخًا ، وَالنَّسْخُ لَا يَثْبُتُ بِقِيَاسٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ ، قَالَ : وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى اللِّعَانِ فِي قَذْفِ الْأَزْوَاجِ وَعَلَى الْحَدِّ فِي قَذْفِ الْأَجَانِبِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ نَقْلُ اللِّعَانِ إِلَى الْأَجَانِبِ لَمْ يَجُزْ نَقْلُ الْحَدِّ إِلَى الْأَزْوَاجِ ، قَالَ : وَلِأَنَّ قَذْفَ الزَّوْجِ لَوْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْحَدَّ لَمَا جَازَ لَهُ إِسْقَاطُهُ بِنَفْسِهِ ، وَلَوْ وَجَبَ حَدُّ الزِّنَا عَلَيْهَا كَالْبَيِّنَةِ لَمَا كَانَ لَهَا سَبِيلٌ إِلَى إِسْقَاطِهِ عَنْهَا ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحَدَّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمَا ، قَالَ : وَلِأَنَّ اللِّعَانَ الْقَذْفُ ، فَلَوْ كَانَ الْحَدُّ قَدْ وَجَبَ بِالْقَذْفِ لَمَا سَقَطَ بِتَكْرَارِ الْقَذْفِ .

وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [ النُّورِ : ] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْأَجَانِبِ وَالْأَزْوَاجِ ، فَإِنْ قِيلَ : هَذَا مَنْسُوخٌ فِي الْأَزْوَاجِ بِآيَةِ اللِّعَانِ ، قِيلَ : آيَةُ اللِّعَانِ تَقْتَضِي زِيَادَةَ حُكْمٍ فِي قَذْفِ الْأَزْوَاجِ ، وَوُرُودُ الزِّيَادَةِ لَا تُوجِبُ سُقُوطَ الْأَصْلِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ قَذَفَ زَوْجَتَهُ : الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ يُكَرِّرُهَا عَلَيْهِ مِرَارًا ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ فِي قَذْفِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ اللِّعَانِ ؛ لِأَنَّ نُزُولَهَا أَسْقَطَ عَنْهُ الْمُطَالَبَةَ بِالْحَدِّ كَمَا أَسْقَطَ عَنْهُ الْمُطَالَبَةَ بِالْبَيِّنَةِ ، فَاقْتَضَى أَنَّ يَكُونَ نُزُولُهَا مُوجِبًا لِسُقُوطِ الْحَدِّ كَمَا كَانَ مُوجِبًا لِسُقُوطِ الْبَيِّنَةِ ، قِيلَ : هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللِّعَانَ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ يَمِينًا عَلَى قَوْلِنَا أَوْ شَهَادَةً عَلَى قَوْلِهِمْ ، وَكِلَاهُمَا لَا يَقَعَانِ إِلَّا عَنْ مُطَالَبَةٍ بِحَقِّ تَقَدُّمِهِمَا ، وَلَا يُجْبَرُ أَحَدٌ عَلَيْهِمَا . وَالثَّانِي : أَنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ بِاللِّعَانِ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِهِ عِنْدَ عَدَمِ اللِّعَانِ كَالْبَيِّنَةِ . وَلِأَنَّ مَا دَلَّ عَلَى تَحْقِيقِ الْقَذْفِ لَمْ يَمْنَعْ عَدَمُهُ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ كَالْبَيِّنَةِ فَيَصِيرُ هَذَا الِانْفِصَالُ قِيَاسًا مُجَوِّزًا ؛ وَلِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ الْقَذْفِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِوِفَاقِ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَلَوْلَا وُجُوبُهُ قَبْلَ الْإِكْذَابِ لَمَا جَازَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ بِالْإِكْذَابِ ، لِأَنَّ تَكْذِيبَ نَفْسِهِ تَنْزِيهٌ لَهَا مِنَ الْقَذْفِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجِبَ بِهِ حَدُّ الْقَذْفِ . وَتَحْرِيرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسًا : أَنَّ كُلَّ قَاذِفٍ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهِ بِإِكْذَابِ نَفْسِهِ ، وَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهِ بِابْتِدَاءِ قَذْفِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ ، وَلِأَنَّ كُلَّ قَذْفٍ وَجَبَ بِهِ الْحَدُّ عَلَى غَيْرِ الزَّوْجِ ، وَجَبَ بِهِ الْحَدُّ عَلَى الزَّوْجِ كَالْعَبْدِ وَالْمَكَاتَبِ . فَإِنْ قِيلَ : الْعَبْدُ وَالْمَكَاتَبُ مِمَّنْ لَا يَصِحُّ اللِّعَانُ مِنْهُمَا ، قِيلَ : عِنْدَنَا يَصِحُّ اللِّعَانُ مِنْهُمَا فَلَمْ تَسْلَمْ هَذِهِ الْمُمَانَعَةُ ، ثُمَّ تَفْسُدُ عَلَيْهِمْ بِالْحُرِّ إِذَا كَانَ تَحْتَهُ أَمَةٌ وَهُوَ مِنْ أَضَلِّ اللِّعَانِ ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْقَذْفِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ وَجْهَيِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ ذُكِرَ فِي آيَةِ اللِّعَانِ مَا لَهُ مِنَ الْحَقِّ فِي قَذْفِهِ ، وَذُكِرَ فِي آيَةِ الْقَذْفِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ فِي قَذْفِهِ ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي قَذْفِهِ حَقٌّ لَهُ وَحَقٌّ عَلَيْهِ فَلَمْ يَتَنَافَيَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ آيَةِ الْقَذْفِ ، وَمَخْصُوصٌ بِزِيَادَةِ حُكْمٍ فِي اللِّعَانِ فَلَمْ يَتَعَارَضَا .

أَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : إِنَّهَا زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ فَتُعْتَبَرُ نَسْخًا فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ كِلَيْهِمَا نَصٌّ فَلَمْ يَكُنْ نَاسِخًا . وَالثَّانِي : أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ لَا تَكُونُ عِنْدَنَا نَسْخًا ، لِأَنَّ النَّسْخَ يَكُونُ فِيمَا لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ، وَالْجَمْعُ هَاهُنَا مُمْكِنٌ فَلَمْ تُعْتَبَرْ نَسْخًا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : لَمَّا لَمْ يَجُزْ نَقْلُ اللِّعَانِ إِلَى الْأَجَانِبِ لَمْ يَجُزْ نَقْلُ الْحَدِّ إِلَى الْأَزْوَاجِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ آيَةَ الْقَذْفِ عَامَّةٌ ، فَدَخَلَ فِيهَا الْأَزْوَاجُ ، وَآيَةُ اللِّعَانِ خَاصَّةٌ ، فَخَرَجَ مِنْهَا الْأَجَانِبُ ، فَلَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُ إِحْدَى الْآيَتَيْنِ بِالْأُخْرَى . وَالثَّانِي : أَنَّ عِلَّةَ الْحَدِّ الْقَذْفُ ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْأَزْوَاجِ فَسَاوَى فِيهِ الْأَجَانِبَ ، وَعِلَّةَ اللِّعَانِ الزَّوْجِيَّةُ ، وَهُوَ مَعْدُومٌ فِي الْأَجْنَبِيِّ فَخَالَفَ فِيهِ الْأَزْوَاجَ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ مَا كَانَ لَهُ إِسْقَاطُهُ بِنَفْسِهِ ، فَهُوَ أَنَّ اللِّعَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ يَمِينًا عَلَى قَوْلِنَا أَوْ شَهَادَةً عَلَى قَوْلِهِمْ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَدْخَلٌ فِي الْإِبْرَاءِ مِنَ الْحُقُوقِ فَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَسْقُطَ بِهِ الْحَدُّ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّ اللِّعَانَ تَكْرِيرُ الْقَذْفِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِهِ حَدُّ الْقَذْفِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَمِينٌ أَوْ شَهَادَةٌ ، وَلَا يَكُونُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا قَذْفًا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِاللِّعَانِ عِنْدَنَا عَلَى طَرِيقِ الْجَوَازِ وَعِنْدَهُمْ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ ، وَالْقَذْفُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْحُكْمَيْنِ ، فَبَطَلَ بِهَذَيْنِ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ أَنْ لَيْسَ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَلْتَعِنَ حَتَى تَطْلُبَ الْمَقْذُوفَةُ ، كَمَا لَيْسَ عَلَى قَاذِفِ الْأَجْنَبِيَّةِ حَدٌّ حَتَّى تَطْلُبَ حَدَّهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ عَلَى خَمْسَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، لَا يَجِبُ إِلَّا بِالْمُطَالَبَةِ وَيَسْقُطُ بِالْعَفْوِ وَيَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ بِالْمَوْتِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ : أَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُحَصَّنَةِ يَجِبُ بِغَيْرِ مُطَالَبَةٍ ، وَلَا يَسْقُطُ بِالْعَفْوِ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الْمُحَصَّنَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ إِلَّا بِالْمُطَالَبَةِ ، وَلَا يَسْقُطُ بِالْعَفْوِ وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ بِالْمَوْتِ .

وَالرَّابِعُ : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّهُ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْآدَمِيِّ لَا يَجِبُ إِلَّا بِالْمُطَالَبَةِ وَيَسْقُطُ بِالْعَفْوِ . وَالْخَامِسُ : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ : أَنَّهُ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْآدَمِيِّ ، فَإِنْ سَمِعَهُ الْإِمَامُ وَشَاهِدَانِ وَجَبَ بِغَيْرِ مُطَالَبَةٍ ، وَإِنْ سَمِعَهُ الْإِمَامُ وَحْدَهُ لَمْ يَجِبْ إِلَّا بِالْمُطَالَبَةِ ، وَيَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ قَبْلَ التَّرَافُعِ إِلَى الْإِمَامِ ، وَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ بَعْدَ التَّرَافُعِ إِلَيْهِ . وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [ النُّورِ : ] وَهَذَا خِطَابٌ مُتَوَجَّهٌ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْحُكَّامِ ، وَكُلُّ خِطَابٍ تُوُجِّهَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ فِي حَقٍّ ، كَانَ ذَلِكَ الْحَقُّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَقَوْلِهِ : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا [ النُّورِ : ] وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا [ الْمَائِدَةِ : ] وَلِأَنَّهُ حَقٌّ لَا يَنْتَقِلُ إِلَى مَالٍ فَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَالزِّنَا . وَلِأَنَّهُ حَدٌّ يُفَرَّقُ عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ فَأَشْبَهَ حَدَّ الْخَمْرِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ لَوَجَبَ إِذَا قَذَفَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ فَقَالَ : زَنَيْتُ أَنْ لَا يُحَدَّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ حَقٌّ ، فَلَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي قَذْفِهِ ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ : أَلَا إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا . وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ : أَنَّهُ أَضَافَ أَعْرَاضَنَا إِلَيْنَا كَإِضَافَةِ دِمَائِنَا وَأَمْوَالِنَا ، ثُمَّ كَانَ مَا وَجَبَ فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، فَكَذَلِكَ مَا وَجَبَ فِي الْأَعْرَاضِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كَأَبِي ضَمْضَمٍ كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِكَ . فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى أَنَّ مَا وَجَبَ عَنْ عَرْضِهِ مِنْ حَقِّهِ ، وَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ عَفْوِهِ . وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ حَقٌّ عَلَى بَدَنٍ إِذَا ثَبَتَ بِالِاعْتِرَافِ لَمْ يَسْقُطْ بِالرُّجُوعِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَالْقِصَاصِ . وَقِيَاسٌ ثَانٍ : أَنَّهُ حَقٌّ لَا يَسْتَوْفِيهِ الْإِمَامُ إِلَّا بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ حُقُوقِ

الْآدَمِيِّينَ كَالدُّيُونِ ، فَإِنْ قَالُوا : يُنْتَقَضُ بِالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ وَلَا يُسْتَوْفَى إِلَّا بِالْمُطَالَبَةِ ، ثُمَّ هُوَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى : قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنَّ يَقْطَعَ السَّارِقَ مِنْ غَيْرِ مُطَالَبَةٍ إِذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ سَرِقَتُهُ ، فَعَلَى هَذَا سَقَطَ السُّؤَالُ . وَالثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ إِلَّا بِالْمُطَالَبَةِ بِالْمَالِ لَا بِالْقَطْعِ ، وَالتَّعْلِيلُ مَوْضُوعٌ عَلَى أَنَّ مَا لَا يُسْتَوْفَى إِلَّا بِالْمُطَالَبَةِ فَهُوَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ . فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ الْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ . وَقِيَاسٌ ثَالِثٌ : وَهُوَ أَنَّهُ مَعْنًى وُضِعَ لِرَفْعِ الْمَعَرَّةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَطَلَبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْمَنَاكِحِ ، وَلِأَنَّ الدَّعْوَى فِيهِ مَسْمُوعَةٌ وَالْيَمِينَ فِيهِ مُسْتَحَقَّةٌ ، وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُسْمَعُ فِيهَا الدَّعْوَى وَلَا تُسْتَحَقُّ فِيهَا الْأَيْمَانُ . أَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّ الْخِطَابَ فِي اسْتِيفَائِهِ مُتَوَجَّهٌ إِلَى الْوُلَاةِ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْحُكَّامِ ، فَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِخِطَابِهِمْ ، أَنْ يَقُومُوا بِاسْتِيفَائِهَا لِمُسْتَحِقِّيهَا لِأَنَّهُمْ إِمَّا أَنْ يَعْجِزُوا عَنْهَا إِنْ ضَعُفُوا ، أَوْ يَتَعَدُّوا فِيهَا إِنْ قَوَوْا ، فَكَانَ اسْتِيفَاءُ الْوُلَاةِ لَهَا أَعْدَلَ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى حَدِّ الزِّنَا وَالْخَمْرِ فَهُوَ الْمُعَارَضَةُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ ، إِمَّا بِأَنَّهُ يَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ ، وَإِمَّا بِأَنَّهُ يُسْتَوْفَى مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ ، فَخَالَفَهُ حَدُّ الْقَذْفِ الَّذِي لَا يَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ وَلَا يُسْتَوْفَى إِلَّا بِالْمُطَالَبَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي قَذْفِ نَفْسِهِ كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَهُوَ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي قَذْفِ نَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ بِقَذْفِ نَفْسِهِ مُقِرًّا بِالزِّنَا فَلَزِمَهُ حَدُّهُ دُونَ الْقَذْفِ ، وَحَدُّ الزِّنَا لِلَّهِ تَعَالَى فَكَانَ مَأْخُوذًا بِهِ . وَحَدُّ الْقَذْفِ لِنَفْسِهِ فَكَانَ سَاقِطًا عَنْهُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمُحَصَّنَةِ يَجِبُ بِالطَّلَبِ وَيَسْقُطُ بِالْعَفْوِ ، وَقَذْفُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا فَلَهُمَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تُمْسِكَ الزَّوْجَةُ عَنِ الْمُطَالَبَةِ ، وَيُمْسِكَ الزَّوْجُ عَنِ اللِّعَانِ ، فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ وَالِاسْتِبَاحَةِ ، وَحُكْمُ الْقَذْفِ مَوْقُوفٌ لَا يَسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْإِمْسَاكُ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تَطْلُبَ الزَّوْجَةُ بِالْحَدِّ مَعَ إِمْسَاكِ الزَّوْجِ عَنِ اللِّعَانِ ، فَيُقَالُ لِلزَّوْجِ : أَنْتَ مُخَيَّرٌ فِي اللِّعَانِ ، فَإِنِ الْتَعَنْتَ وَإِلَّا حُدِدْتَ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَدْعُوَ الزَّوْجُ إِلَى اللِّعَانِ مَعَ إِمْسَاكِ الزَّوْجَةِ عَنْ طَلَبِ الْحَدِّ ، فَلَا

يَخْلُو إِمْسَاكُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِعَفْوٍ أَوْ لِتَوَقُّفٍ . فَإِنْ كَانَ إِمْسَاكُهَا لِتَوَقُّفٍ عَنِ الْمُطَالَبَةِ مِنْ غَيْرِ عَفْوٍ عَنْهُ ، جَازَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُلَاعِنَ لِيُسْقِطَ بِهِ الْحَدَّ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلِيَرْفَعَ بِهِ الْفِرَاشَ ، وَيَنْفِيَ بِهِ النَّسَبَ ، وَإِنْ كَانَ إِمْسَاكُهَا لِعَفْوٍ عَنِ الْحَدِّ ، نُظِرَ فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ يُرِيدُ الزَّوْجُ نَفْيَهُ بِاللِّعَانِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَلْتَعِنَ لِنَفْيِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِي عَنْهُ إِلَّا بِلِعَانٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَلَدٌ يُنْفَى ، فَفِي جَوَازِ لِعَانِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ أَنْ يَلْتَعِنَ لِرَفْعِ الْفِرَاشِ بِالتَّحْرِيمِ الْمُؤَبَّدِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَيْسَ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِلِعَانِهِ فَائِدَةً ، وَتَحْرِيمُهَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِطَلَاقِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَمَّا لَمْ يَخُصَّ اللَّهُ أَحَدًا مِنَ الْأَزْوَاجِ دُونَ غَيْرِهِ وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ سُنَّةٌ وَلَا إِجْمَاعٌ كَانَ عَلَى كُلِّ زَوْجٍ جَازَ طَلَاقُهُ وَلَزِمَهُ الْفَرْضُ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ زَوْجَةٍ لَزِمَهَا الْفَرْضُ ، وَلِعَانُهُمْ كُلُّهُمْ سَوَاءٌ لَا يَخْتَلِفُ الْقَوْلُ فِيهِ وَالْفُرْقَةُ وَنَفْيُ الْوَلَدِ ، وَتَخْتَلِفُ الْحُدُودُ لِمَنْ وَقَعَتْ لَهُ وَعَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . اللِّعَانُ يَمِينٌ تَصِحُّ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ صَحَّ طَلَاقُهُ وَظِهَارُهُ ، وَمَعَ كُلِّ زَوْجَةٍ صَحَّ مِنْهَا فِعْلُ الزِّنَا ، سَوَاءٌ كَانَا مُسْلِمَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالْآخِرُ كَافِرًا ، وَسَوَاءٌ كَانَا حُرَّيْنِ أَوْ مَمْلُوكَيْنِ ، أَوْ أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ مَمْلُوكًا ، وَسَوَاءٌ كَانَا عَفِيفَيْنِ أَوْ مَحْدُودَيْنِ فِي قَذْفٍ أَوْ أَحَدُهُمَا عَفِيفًا وَالْآخَرُ مَحْدُودًا ، وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعَيْنِ : الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ : رَبِيعَةُ ، وَمَالِكٌ ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَصَاحِبَاهُ : اللِّعَانُ شَهَادَةٌ لَا تَصِحُّ إِلَّا مِنْ مُسْلِمَيْنِ حُرَّيْنِ ، عَفِيفَيْنِ مذهب الحنفية ، فَإِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا ، أَوْ مَمْلُوكَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا ، أَوْ مَحْدُودَيْنِ فِي قَذْفٍ أَوْ أَحَدُهُمَا ، لَمْ يَصِحَّ لِعَانُهُ . وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ [ النُّورِ : ] فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ : وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ . فَاسْتَثْنَاهُمْ مِنَ الشُّهَدَاءِ بِأَنْ جَعَلَهُمْ شُهَدَاءَ لِأَنْفُسِهِمْ ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْجُمْلَةِ دَاخِلٌ فِي جِنْسِهَا .

وَالثَّانِي : قَوْلُهُ : فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ وَعَلَّقَ عَلَيْهِ عَدَدَ الشَّهَادَةِ فِي الزِّنَا ، فَدَلَّ اللَّفْظُ وَالْعَدَدُ عَلَى أَنَّهُ شَهَادَةٌ . وَقَالَ : وَلِأَنَّ مَا لَا يَصِحُّ إِلَّا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا وَكَانَ شَهَادَةً اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الشَّهَادَاتِ ، قَالَ : وَلِأَنَّهُ رَفْعُ حُكْمِ الْقَذْفِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَهَادَةً كَالْبَيِّنَةِ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا كَافِرًا أَوْ مَمْلُوكًا أَوْ مَحْدُودًا . بِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : أَرْبَعٌ مِنَ النِّسَاءِ لَا لِعَانَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ : النَّصْرَانِيَّةُ وَالْيَهُودِيَّةُ تَحْتَ مُسْلِمَيْنِ ، وَالْحُرَّةُ تَحْتَ مَمْلُوكٍ ، وَالْمَمْلُوكَةُ تَحْتَ حُرٍّ قَالُوا : هَذَا نَصٌّ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَكْمُلِ الْحَدُّ بِقَذْفِهَا لَمْ يَصِحَّ اللِّعَانُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا كَالصَّغِيرَةِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ اللِّعَانَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ كَالْحَدِّ فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ إِلَّا بِقَذْفِ حُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ لَمْ يَصْحَّ اللِّعَانُ إِلَّا مِنْ حُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ يَمِينٌ وَلَيْسَ شَهَادَةً : مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي زَوْجَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ جَاءَتْ بِوَلَدِهَا عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ : لَوْلَا مَا مَضَى مِنَ الْأَيْمَانِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ فَسَمَّى اللِّعَانَ يَمِينًا ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَحْلِفَ لَهَا ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ يُلَاعِنُ عَنْ حَقٍّ لِنَفْسِهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ يَمِينٌ وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَهَادَةً لَمَا لَزِمَ تَكْرَارُهُ أَرْبَعًا ؛ لَأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُكَرَّرُ ، وَالْأَيْمَانَ قَدْ تُكَرَّرُ ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا يَتَضَمَّنُهَا لَعْنٌ وَلَا غَضَبٌ ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُسَاوِي الرَّجُلَ فِي الشَّهَادَةِ وَتُسَاوِيهِ فِي الْأَيْمَانِ ، وَهِيَ فِي اللِّعَانِ مُسَاوِيَةٌ لِلرَّجُلِ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ يَمِينٌ ، وَلِأَنَّ لَفْظَ اللِّعَانِ أَنْ يَقُولَ : أَشْهَدُ بِاللَّهِ ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ قَوْلَ الْإِنْسَانِ فِي غَيْرِ اللِّعَانِ : أَشْهَدُ بِاللَّهِ ، أَنَّهُ يَمِينٌ ، فَكَذَلِكَ فِي اللِّعَانِ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَهَادَةً لَمَا صَحَّ لِعَانُ الْفَاسِقَيْنِ ، وَلَا مِنَ الْأَعْمَيَيْنِ التَّحَصُّنُ وَقَدْ وَافَقَ عَلَى صِحَّةِ لِعَانِ هَذَيْنِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَمِينٌ وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ مِنَ الْكَافِرَيْنِ وَالْمَمْلُوكَيْنِ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ [ النُّورِ : ] وَلَمْ يُفَرِّقْ ، وَلِأَنَّ كُلَّ زَوْجٍ صَحَّ طَلَاقُهُ صَحَّ لِعَانُهُ كَالْحُرِّ الْمُسْلِمِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا خَرَجَ بِهِ الزَّوْجُ مِنْ قَذْفِهِ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ خَرَجَ بِهِ مِنَ الْقَذْفِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَهْلُ الشَّهَادَةِ كَالْبَيِّنَةِ ، وَلِأَنَّهُ مَا وَقَعَتْ بِهِ الْفُرْقَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ وَقَعَتْ بِهِ الْفُرْقَةُ بَيْنَ الْكَافِرَيْنِ وَالْمَمْلُوكَيْنِ كَالطَّلَاقِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ فِي أَنَّهُ شَهَادَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا أَضَافَ الشَّهَادَةَ إِلَى نَفْسِهِ خَرَجَتْ مِنْ حُكْمِ الشَّهَادَاتِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ لِنَفْسِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الِاسْتِثْنَاءِ ، فَمِنْ حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ .

أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ مِنْهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ يُعَبَّرُ عَنِ الْيَمِينِ بِالشَّهَادَةِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [ الْمُنَافِقُونَ : ، ] إِلَى قَوْلِهِ : اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَعَبَّرَ عَنْ أَيْمَانِهِمْ بِالشَّهَادَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا سُلِبَ لَفْظُ الشَّهَادَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ حُكْمَ الشَّهَادَاتِ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكِمُ الْأَيْمَانِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَثْبَتَ قَوْلَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ تَكْرَارَ لَفْظِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ قَرَنَهُ بِاللِّعَانِ وَالْغَضَبِ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ وَصَلَهُ بِذِكْرِ اللَّهِ ، فِي قَوْلِهِ : أَشْهَدُ بِاللَّهِ ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَمِينٌ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّ مَا لَمْ يَصِحَّ إِلَّا بِلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ كَانَ شَهَادَةً ، فَهُوَ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ اللِّعَانِ بِغَيْرِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ : أَحْلِفُ بِاللَّهِ ، وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ ، وَأُولِي بِاللَّهِ . كَمَا يَقُولُ : أَشْهَدُ بِاللَّهِ - لِأَنَّ هَذَا صَرِيحٌ فِي الْيَمِينِ فَكَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ إِلَّا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ مَأْخُوذٌ مِنْهُ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْجَوَابُ مُتَوَجِّهًا ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَرَنَ لَفْظَ الشَّهَادَةِ بِذِكْرِ اللَّهِ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الشَّهَادَاتِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ، وَأُلْحِقَ بِالْأَيْمَانِ الْمُضَافَةِ إِلَى اسْمِ اللَّهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّهُ قَدْ يَرْفَعُ حُكْمَ الْقَذْفِ كَالْبَيِّنَةِ ، فَهُوَ أَنَّ الْإِقْرَارَ قَدْ يَرْفَعُ حُكْمَ الْقَذْفِ وَلَا يَكُونُ بَيِّنَةً . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَبَا يَحْيَى السَّاجِيَّ قَالَ : هَذَا حَدِيثٌ لَا يُثْبِتُهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ ، وَإِذَا قَالَ إِمَامٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ هَذَا ، سَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مُرْسَلٌ ، وَلَيْسَتِ الْمَرَاسِيلُ عِنْدَنَا حُجَّةً ، وَذَلِكَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ شُعَيْبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، وَجَدَّهُ الْأَدْنَى لَيْسَ لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ ، فَإِذَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ لِأَنَّهُ جَدُّهُ الْأَدْنَى ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَارَ مُرْسَلًا لَا يَلْزَمُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ .

وَالثَّالِثُ : أَنَّنَا نُسَلِّمُ الْحَدِيثَ ، وَنَحْمِلُ قَوْلَهُ : لَا لِعَانَ بَيْنَ أَرْبَعٍ ، إِلَّا عِنْدَ حَاكِمٍ ، فَإِنْ قِيلَ : فَغَيْرُهُمْ لَا يَجُوزُ لِعَانُهُ إِلَّا عِنْدَ الْحَاكِمِ ، فَمَا فَائِدَةُ التَّخَصُّصِ ؟ قِيلَ : فَائِدَتُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ فِيهِمْ - لِنَقْصِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالرِّقِّ - جَوَازُ لِعَانِ الْعَبْدِ عِنْدَ سَيِّدِهِ ، وَلِعَانِ الْكَافِرِ فِي أَهْلِ دِينِهِ ، فَنَفَى النَّصُّ هَذَا التَّوَهُّمَ ، عَلَى أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيَّ قَالَ : لَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ وَالْقَوْلُ بِهِ ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الصَّغِيرَةِ : فَهُوَ أَنَّ لِلصَّغِيرَةِ حَالَتَيْنِ : حَالَةٌ يُمْكِنُ وَطْؤُهَا ، فَاللِّعَانُ فِيهَا يَصِحُّ وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى بُلُوغِهَا ، لِأَنَّ قَذْفَهَا بِالزِّنَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً لَا يُمْكِنُ وَطْءُ مِثْلِهَا ، فَالْقَذْفُ هُنَا مُسْتَحِيلٌ لِلْعِلْمِ بِكَذِبِهِ ، فَخَرَجَ عَنِ الْقَذْفِ الْمُحْتَمِلِ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ ، فَإِذَا اسْتَحَالَ صِدْقُهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقُولَ : أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ كَمَنْ يَجُوزُ صِدْقُهُ ، فَلَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ . أَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّ اللِّعَانَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ كَالْحَدِّ فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ ؛ فَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ ، بَلْ لِعَانُ الزَّوْجِ يَمِينٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فِي سُقُوطِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ ؛ وَكَالشَّهَادَةِ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ لِوُجُوبِ حَدِّ الزِّنَا عَلَيْهَا ، وَالشَّهَادَةُ تُسْمَعُ عَلَى الْكَافِرَةِ وَالْمَمْلُوكَةِ ، فَكَذَا اللِّعَانُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ اللِّعَانِ يَمِينًا يَصِحُّ مِنَ الْكَافِرَيْنِ وَالْمَمْلُوكَيْنِ كَمَا يَصِحُّ مِنَ الْحُرَّيْنِ وَالْمُسْلِمَيْنِ ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : كَانَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ جَازَ طَلَاقُهُ وَلَزِمَهُ الْفَرْضُ ، وَكَذَلِكَ عَلَى كُلِّ زَوْجَةٍ لَزِمَهَا الْفَرْضُ ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : جَازَ طَلَاقُهُ ، أَيْ : كَانَ مُكَلَّفًا ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُكَلَّفِ بِالصِّغَرِ وَالْجُنُونِ لَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ ، فَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ لِعَانُهُ ، وَقَوْلُهُ : وَلَزِمَهُ الْفَرْضُ ، أَرَادَ بِهِ التَّكْلِيفَ ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِعِبَارَتَيْنِ فَسَّرَ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى ، وَكَذَلِكَ لِعَانُهَا لَا يَصِحُّ مِنْهَا إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مُكَلَّفَةٍ بِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ ، وَإِنْ صَحَّ أَنْ يُلَاعِنَ الزَّوْجُ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِرَفْعِ الْفِرَاشِ وَنَفْيِ النَّسَبِ ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلِعَانُهُمْ كُلُّهُمْ سَوَاءٌ ، لَا يَخْتَلِفُ الْقَوْلُ فِيهِ وَلَا الْفُرْقَةُ وَنَفْيُ الْوَلَدِ وَهَذَا صَحِيحٌ ، لَيْسَ يَخْتَلِفُ اللِّعَانُ بِالْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ كَمَا تَخْتَلِفُ حُدُودُ الْقَذْفِ ، وَلَا بِالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ كَمَا تَخْتَلِفُ الْحُدُودُ وَالطَّلَاقُ . وَجَمِيعُهُمْ فِي صِفَةِ اللِّعَانِ وَأَحْكَامِهِ سَوَاءٌ ، ثُمَّ قَالَ : وَتَخْتَلِفُ الْحُدُودُ لِمَنْ وَقَعَتْ لَهُ وَعَلَيْهِ وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِنَّمَا يَخْتَلِفُ حَدُّ الْقَذْفِ فِي الْمَقْذُوفِ بِالْإِيجَابِ وَالْإِسْقَاطِ ، فَإِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ كَامِلًا بِالْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَجَبَ عَلَى قَاذِفِهِ الْحَدُّ ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا بِالرِّقِّ أَوِ الْكُفْرِ ، يَسْقُطُ الْحَدُّ ، وَيَلْزَمُ التَّعْزِيرُ ، وَيَخْتَلِفُ حَدُّ الْقَذْفِ فِي الْقَاذِفِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ ، فَإِنْ كَانَ حُرًّا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ الْكَامِلُ ثَمَانُونَ جَلْدَةً سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا ، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا وَجَبَ عَلَيْهِ نِصْفُ الْحَدِّ أَرْبَعُونَ جِلْدَةً ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَسَوَاءٌ قَالَ : زَنَتْ أَوْ رَأَيْتُهَا تَزْنِي أَوْ يَا زَانِيَةُ كَمَا يَكُونُ ذَلِكَ سَوَاءٌ إِذَا قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ ، كُلُّ قَذْفٍ أَوْجَبَ الْحَدَّ مِنَ الْأَجْنَبِيَّةِ كَانَ قَذْفًا يَجُوزُ بِهِ اللِّعَانُ مِنَ الزَّوْجَةِ ، سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ كَقَوْلِهِ : رَأَيْتُهَا تَزْنِي ، أَوْ كَانَ بِغَيْرِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ كَقَوْلِهِ : قَدْ زَنَتْ ، أَوْ يَا زَانِيَةُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ إِلَّا أَنْ يَقْذِفَهَا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ إِنْ كَانَتْ حَائِلًا ، وَيَجُوزُ بِغَيْرِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ إِنْ كَانَتْ حَامِلًا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ وَالْعَجْلَانِيَّ قَذَفَا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ ، وَقَالَ هِلَالٌ : رَأَتْ عَيْنِي وَسَمِعَتْ أُذُنِي . فَنَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ ، فَكَانَتْ مَقْصُورَةً عَلَى سَبَبِهَا ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ كَالشَّهَادَةِ فِي سُقُوطِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ وَوُجُوبِ حَدِّ الزِّنَا عَلَيْهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ فِيهَا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ كَالشَّهَادَةِ . وَدَلِيلُنَا : عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ الْآيَةَ ، فَاقْتَضَى حُكْمُ الْعُمُومِ أَنْ يَصِحَّ اللِّعَانُ مِنْ كُلِّ رَامٍ لِزَوْجَتِهِ ، فَإِنْ قَالُوا : اللَّفْظُ الْعَامُّ وَارِدٌ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ . وَالِاعْتِبَارُ بِخُصُوصِ السَّبَبِ ، قِيلَ : هَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ ، بَلْ عِنْدَنَا أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ السَّبَبَ قَدْ كَانَ مَوْجُودًا وَلَا حُكْمَ ثُمَّ وَرَدَ اللَّفْظُ فَتَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ ، فَكَانَ اعْتِبَارُ مَا وُجِدَ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ أَوْلَى مِنَ اعْتِبَارِ مَا لَمْ يُوجَدِ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ إِنَّمَا يَقَعُ بِمَا يُنَافِي اللَّفْظَ وَلَا يَقَعُ بِمَا يُوَافِقُهُ ، وَالسَّبَبُ مُوَافِقٌ لَهُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُخَصَّصًا ، وَلِأَنَّ كُلَّ قَذْفٍ صَحَّ بِهِ اللِّعَانُ إِذَا كَانَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ ، صَحَّ بِهِ اللِّعَانُ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ كَالْحَامِلِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ قَذْفٍ صَحَّ بِهِ لِعَانُ الْحَامِلِ صَحَّ بِهِ الْحَائِلُ قِيَاسًا عَلَى لَفْظِ الشَّهَادَةِ . وَلِأَنَّ لِعَانَ الْأَعْمَى صَحِيحٌ وَإِنِ اسْتَحَالَ مِنْهُ الشَّهَادَةُ ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ اللِّعَانِ بِكُلِّ قَذْفٍ وَجَبَ بِمِثْلِهِ الْحَدُّ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الزَّوْجَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ حَائِلًا أَوْ حَامِلًا ، فَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا غَيْرَ ذَاتِ حَمْلٍ فَيَنْقَسِمُ حَالُهَا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : يَجُوزُ أَنْ يَقْذِفَهَا وَيُلَاعِنَ مِنْهَا ، وَذَلِكَ فِي أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : إِمَّا أَنْ يَرَاهَا تَزْنِي ، وَإِمَّا أَنْ تُقِرَّ عِنْدَهُ بِالزِّنَا ، وَإِمَّا أَنْ يُخْبِرَهُ بِزِنَاهَا ثِقَةٌ يَقَعُ فِي نَفْسِهِ صِدْقُهُ . وَإِمَّا أَنْ يَسْتَفِيضَ فِي النَّاسِ أَنَّهَا تَزْنِي وَيَرَى مَعَ هَذِهِ الِاسْتِفَاضَةِ رَجُلًا قَدْ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا فِي أَوْقَاتِ الرِّيَبِ فَيَتَحَقَّقُ بِهِ صِدْقُ الِاسْتِفَاضَةِ ، فَيَجُوزُ لَهُ فِي هَذِهِ

الْأَحْوَالِ الْأَرْبَعِ أَنْ يَقْذِفَهَا بِالزِّنَا وَيُلَاعِنَ مِنْهَا ، فَإِنْ أَمْسَكَ عَنْ قَذْفِهَا وَلِعَانِهَا جَازَ ، وَكَانَا عَلَى الزَّوْجِيَّةِ وَحَالِ الْإِبَاحَةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : إِنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ ، فَقَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : طَلِّقْهَا ، قَالَ : إِنِّي أُحِبُّهَا ، قَالَ : فَأَمْسِكْهَا ، فَأَبَاحَ إِمْسَاكَهَا مَعَ مَا كَنَّى عَنْهُ مِنْ زِنَاهَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنَّ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْذِفَهَا وَلَا أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهَا وَهِيَ الْعَفِيفَةُ ، وَهِيَ الَّتِي لَمْ يَرَهَا تَزْنِي وَلَا أَقَرَّتْ بِالزِّنَا ، وَلَا اسْتَفَاضَ فِي النَّاسِ زِنَاهَا وَلَا أَخْبَرَهُ ثِقَةٌ بِزِنًا ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ قَذْفُهَا ، وَلَا أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهَا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [ النُّورِ : ] . نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْإِفْكِ عَلَى عَائِشَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا - ، وَحُكْمُهَا عَامٌّ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مُخْتَلَفٌ فِي جَوَازِ قَذْفِهَا وَلِعَانِهَا ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَفِيضَ فِي النَّاسِ زِنَاهَا ، وَلَا يَرَى مَعَ الِاسْتِفَاضَةِ رَجُلًا يَدْخُلُ عَلَيْهَا وَلَا يَخْرُجُ مِنْ عِنْدِهَا اللعان ، فَفِي جَوَازِ قَذْفِهَا ، وَلِعَانِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِفَاضَةَ أَقْوَى مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً . وَإِنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ تَكُونَ الِاسْتِفَاضَةُ لَوْثًا فِي الْقَسَامَةِ يُحْلَفُ بِهَا عَلَى الْقَتْلِ ، جَازَ أَنْ تَكُونَ مِنْ شَوَاهِدِ الْقَذْفِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْذِفَهَا بِهِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الِاسْتِفَاضَةَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَشْتَهِرَ عَنْ قَوْلٍ وَاحِدٍ يَتَخَرَّصُ عَلَيْهَا بِالْكَذِبِ . وَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا أَظْهَرُ عِنْدِي ، فَأَمَّا إِنْ رَأَى رَجُلًا يَخْرُجُ مِنْ عِنْدِهَا الزوج الملاعن لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْذِفَهَا ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا لِحَاجَةٍ أَوْ رُبَّمَا وَلَجَ عَلَيْهَا فَلَمْ تُطِعْهُ ، فَهَذَا حُكْمُ الْحَائِلِ .

فَصْلٌ : أَمَّا الْحَامِلُ فَيَنْقَسِمُ حَالُهَا خَمْسَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهَا بِغَيْرِ قَذْفٍ ، وَهُوَ أَنْ تَأْتِيَ بِوَلَدٍ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهَا لِيَنْفِيَ وَلَدًا يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ حَتَّى لَا يُلْحِقَهُ بِالْفِرَاشِ فَيَخْتَلِطَ بِنَسَبِهِ مَنْ لَا يُنَاسِبُهُ ، وَيَجْعَلَهُ مَحْرَمًا لِبَنَاتِهِ وَهُنَّ أَجْنَبِيَّاتٌ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يُلَاعِنَ وَإِنْ لَمْ يَقْذِفْ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ زَوْجٍ قَبْلَهُ أَوْ أُكْرِهَتْ عَلَى نَفْسِهَا فَلَا تَكُونُ زَانِيَةً . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مُلَاعَنَتُهَا لَكِنْ بَعْدَ الْقَذْفِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَهَا وَاسْتَبْرَأَهَا وَوَجَدَ مَعَهَا رَجُلًا يَزْنِي بِهَا ثُمَّ أَتَتْ بِحَمْلٍ بَعْدَهُ ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ بِالتَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهَا لِئَلَّا يَدْخُلَ نَسَبَهُ مَنْ لَا يُنَاسِبُهُ ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ إِلَّا أَنْ

يَقْذِفَ ، فَيَصِيرُ الْقَذْفُ لِوُجُوبِ اللِّعَانِ الَّذِي لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهِ وَاجِبًا عَلَيْهِ ، وَلَوْلَا الْحَمْلُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يُلَاعِنَهَا أَوْ يُمْسِكَ ، وَهُوَ أَنْ يَطَأَهَا وَلَا يَسْتَبْرِيَهَا ، وَيَرَى رَجُلًا يَزْنِي بِهَا ، فَيَكُونُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ اللِّعَانِ بَعْدَ الْقَذْفِ أَوِ الْإِمْسَاكِ ، فَأَمَّا نَفْيُ الْوَلَدِ فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ جَازَ أَنْ يَنْفِيَهُ ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفِيَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ جَازَ أَنْ يُغَلِّبَ فِي نَفْيِهِ حُكْمَ الشَّبَهِ لِأَجْلِ مَا شَاهَدَ مِنَ الزِّنَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ لِلشَّبَهِ فِي زَوْجَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ وَضَعَتْ وَلَدَهَا تَأْثِيرًا وَقَالَ : لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ مُلَاعَنَتُهَا وَلَا نَفْيُ وَلَدِهَا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى إِصَابَتِهَا وَلَا يَرَاهَا تَزْنِي ، وَلَا يُخْبَرُ عَنْهَا بِالزِّنَا ، وَلَا يَرَى فِي وَلَدِهَا شَبَهًا مُنْكَرًا ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ لِعَانُهَا وَنَفْيُ وَلَدِهَا لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَلَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللَّهُ الْجَنَّةَ ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ هُوَ يَرَاهُ احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَفَضَحَهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ . وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ : مَا اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ مُلَاعَنَتِهَا : أَنْ تَأْتِيَ بِوَلَدٍ أَسْوَدَ مِنْ بَيْنِ أَبْيَضَيْنِ ، أَوْ أَبْيَضَ مِنْ بَيْنِ أَسْوَدَيْنِ وَلَا يَرَاهَا تَزْنِي ، وَلَا يُخْبَرُ بِزِنَاهَا ، فَفِي جَوَازِ لِعَانِهِ مِنْهَا وَنَفْيِ وَلَدِهَا بِهَذَا الشَّبَهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لِعَانُهَا وَنَفْيُ وَلَدِهَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : إِنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى نَعْتِ كَذَا فَلَا أَرَاهُ إِلَّا وَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا ، فَجَعَلَ لِلشَّبَهِ تَأْثِيرًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهَا ، وَلَا أَنْ يَنْفِيَ وَلَدَهَا ، لِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي فَزَارَةَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ فَقَالَ : هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : مَا أَلْوَانُهَا ؟ قَالَ : حُمْرٌ ، قَالَ : فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : أَنَّى تَرَاهُ ؟ قَالَ : عَنْ أَنْ يَكُونَ عِرْقًا نَزَعَهُ ، فَقَالَ : كَذَلِكَ هَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ عِرْقًا نَزَعَهُ . أَيْ عَسَى أَنْ يَكُونَ فِي آبَائِهِ مَنْ رَجَعَ بِهَذَا الشَّبَهِ إِلَيْهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَقَالَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَالطِّلَاقِ إِمْلَاءً عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ ، وَلَوْ جَاءَتْ بِحَمْلٍ وَزَوْجُهَا صَبِيٌّ دُونَ الْعَشْرِ لَمْ يَلْزَمْهُ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ يُحِيطُ أَنَّهُ لَا يُولَدُ لِمِثْلِهِ وَإِنْ كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ وَأَكْثَرَ ، وَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُولَدَ لَهُ كَانَ لَهُ حَتَّى يَبْلُغَ فَيَنْفِيَهُ بِلِعَانٍ ، أَوْ يَمُوتَ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَيَكُونَ وَلَدَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيَانُ أَقَلِّ الزَّمَانِ الَّذِي يَحْتَلِمُ فِيهِ الْغِلْمَانُ وَهُوَ عَشْرُ سِنِينَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً اعْتِبَارًا بِالْوُجُودِ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَرَ غُلَامًا احْتَلَمَ لِأَقَلَّ مِنْهَا بِدَلِيلِنَا عَلَيْهِ وُرُودُ السُّنَّةِ بِاعْتِبَارِ الْعَشْرِ فِي أَحْكَامِ الْبُلُوغِ . وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مُرُوهُمْ بِالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشَرٍ ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ وَلِأَنَّ أَقَلَّ زَمَانِ الِاحْتِلَامِ مُعْتَبَرٌ بِالْوُجُودِ ، وَقَدْ وُجِدَ مَنِ احْتَلَمَ لِعَشْرٍ وَإِنْ نَدَرَ ، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ حَدًّا لِأَقَلِّهِ كَالْحَيْضِ لِتِسْعٍ ، وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وُلِدَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ ، وَلَوْ وُجِدَ مَنِ احْتَلَمَ لِأَقَلَّ مِنْهَا فَجَعَلْنَاهُ حَدًّا ، لَكِنْ لَمْ يُوجَدْ ، كَمَا لَمْ تُوجَدْ مَنْ تَحِيضُ لِأَقَلَّ مِنْ تِسْعٍ وَلَوْ وُجِدَتْ لَصَارَتْ حَدًّا ، فَإِنْ قِيلَ : لِمَ صَارَ أَقَلُّ زَمَانِ الْحَيْضِ تِسْعًا وَأَقَلُّ زَمَانِ الِاحْتِلَامِ عَشْرًا . قِيلَ : قَدْ كَانَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا ، وَيَجْعَلُ أَقَلَّ زَمَانِهِمَا تِسْعَ سِنِينَ ، وَيَحْمِلُ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ فِي الْعَشْرِ عَلَى أَنَّهَا حَدُّ لُحُوقِ الْوَلَدِ تَقْرِيبًا لِأَقَلِّ زَمَانِهِ وَإِنْ قَلَّ الِاحْتِلَامُ عَلَى التَّحْقِيقِ لِتِسْعِ سِنِينَ كَالْحَيْضِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا اسْتَوَيَا فِي الْبُلُوغِ بِالسِّنِينَ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً ، وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْبُلُوغِ بِالْحَيْضِ وَالِاحْتِلَامِ لِتِسْعِ سِنِينَ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ جَاءَتِ امْرَأَةُ الْغُلَامِ بِوَلَدٍ لِتِسْعِ سِنِينَ وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ التِّسْعِ - هِيَ مُدَّةُ أَقَلِّ الْحَمْلِ - لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ ، وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا مُتَقَدِّمُوهُمْ وَمُتَأَخِّرُوهُمْ إِلَى أَنَّ أَقَلَّ زَمَانِ الِاحْتِلَامِ عَشْرُ سِنِينَ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلُّ زَمَانِ الْحَيْضِ تِسْعًا لِأَنَّ أَقَلَّهَا مُعْتَبَرٌ بِالْوُجُودِ ، وَقَدْ وُجِدَ الْحَيْضُ لِتِسْعٍ وَلَمْ يُوجَدِ الِاحْتِلَامُ لِأَقَلَّ مِنْ عَشْرٍ ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْوُجُودِ ، ثُمَّ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ دَمَ الْحَيْضِ يُرْخِيهِ الرَّحِمُ بَعْدَ اجْتِمَاعِهِ لِضَعْفِ الْجَسَدِ عَنْ إِمْسَاكِهِ ، وَمَنِيُّ الِاحْتِلَامِ يَخْرُجُ لِقُوَّةِ الْجِسْمِ عَنْ دَفْعِهِ فَصَارَ بَيْنَهُمَا شَبَهٌ لِزِيَادَةِ الْقُوَّةِ بِهِمَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ أَقَلَّ زَمَانِ الِاحْتِلَامِ عَشْرُ سِنِينَ فَمَتَى وَضَعَتْ زَوْجَةُ الْغُلَامِ وَلَدًا وصور لحوق الولد بالغلام ونفيه . نَظَرْنَا ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ وِلَادَتِهَا أَقَلُّ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ لَمْ يُلْحَقْ بِهِ الْوَلَدُ وَكَانَ مُنْتَفِيًا عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا مِنْ مَائِهِ ، وَإِذَا اسْتَحَالَ لُحُوقُ النَّسَبِ بِالْفِرَاشِ انْتَفَى عَنْهُ ، كَمَنْ وَضَعَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ وَإِنْ وَلَدَتْهُ

لِأَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا أُلْحِقَ بِهِ الْوَلَدُ ، لِأَنَّ الْعَشْرَ سِنِينَ أَقَلُّ زَمَانِ الِاحْتِلَامِ ، وَالسِّتَّةَ أَشْهُرٍ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ ، فَصَارَ لُحُوقُهُ مُمْكِنًا ، وَالْأَنْسَابُ تُلْحَقُ بِالْإِمْكَانِ ، وَإِنْ وَلَدَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ ، وَأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَهَا لَمْ يُلْحَقْ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْعُلُوقَ يَصِيرُ لِأَقَلَّ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ . فَلِذَلِكَ انْتَفَى عَنْهُ ، كَمَنْ وَلَدَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ ، وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ الشَّافِعِيُّ فَهُوَ مَعْلُومٌ مِنْ أُصُولِ مَذْهَبِهِ فَلِذَلِكَ أَطْلَقَهُ ، فَلَوْ مَاتَ الزَّوْجُ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ لِنَفْيِهِ عَنْهُ ، وَاعْتَدَّتْ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ . وَإِذَا لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ لِعَشْرِ سِنِينَ وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِهِ حَتَّى يَبْلُغَ ، فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ جَعَلْتُمُوهُ فِي حُكْمِ الْبُلُوغِ فِي لُحُوقِ الْوَلَدِ بِهِ ، وَلَمْ تَجْعَلُوهُ فِي حُكْمِ الْبُلُوغِ فِي اللِّعَانِ ؟ وَمِنَ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْبُلُوغِ فِي شَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَ لُحُوقِ الْوَلَدِ وَنَفْيِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ لُحُوقَ الْوَلَدِ مُعْتَبَرٌ بِالْإِمْكَانِ ، وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا فَأَلْحَقْنَاهُ ، وَنَفْيَ الْوَلَدِ مُعْتَبَرٌ بِالْيَقِينِ ، وَلَسْنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ بُلُوغِهِ فَمَنَعْنَاهُ مِنْ نَفْيِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ لُحُوقَ الْوَلَدِ بِهِ حَقٌّ عَلَيْهِ فَأَلْحَقْنَاهُ بِهِ مَعَ الْإِمْكَانِ ، وَنَفْيَ النَّسَبِ حَقٌّ لَهُ . فَلَمْ يُسْتَبَحْ نَفْيُهُ بِالْإِمْكَانِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا مُنِعَ مِنْ نَفْيِهِ بَعْدَ لُحُوقِهِ كَانَ نَفْيُهُ مُعْتَبَرًا بِبُلُوغِهِ ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : إِمَّا بِاسْتِكْمَالِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً يَصِيرُ بِهَا بَالِغًا . وَإِمَّا بِأَنْ يَرَى احْتِلَامَهُ بِإِنْزَالِ الْمَنِيِّ فَيَصِيرُ بَالِغًا . وَإِمَّا بِأَنْ يَدَّعِيَ الِاحْتِلَامَ فَيُحْكَمُ بِبُلُوغِهِ وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِي حَيْضِهَا . فَإِذَا نَفَاهُ بِاللِّعَانِ بَعْدَ بُلُوغِهِ انْتَفَى عَنْهُ ، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَلَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يُلَاعِنُوا عَنْهُ ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِنْ زَوْجٍ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ ، وَلَوْ وَضَعَتِ الْوَلَدَ بَعْدَ مَوْتِهِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ ، كَذَلِكَ لَوْ وَضَعَتْهُ بَعْدَ لِعَانِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوِ اسْتَلْحَقَهُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بَعْدَ اللِّعَانِ لَحِقَ بِهِ ، وَلَوِ اسْتَلْحَقَ الْمَوْلُودَ لَأَقَلَّ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ فَافْتَرَقَا فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْقَطَّانِ عَنْهُ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ قَامَ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ فِي اللِّعَانِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَسْأَلَةً مَخْصُوصَةً ، وَهُوَ أَنْ يُنْكِرَ الزَّوْجُ وِلَادَتَهَا لَهُ ، وَيَقُولَ : الْتَقَطْتِيهِ وَلَمْ تَلِدِيهِ ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ حَتَّى تُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى وِلَادَتِهِ ، فَلَوْ مَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ قَامَ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ فِي أَنْ يَحْلِفُوا أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهُ ، فَإِنْ نَكَلُوا حَلَفَتْ عَلَى وِلَادَتِهِ وَلَحِقَ بِالزَّوْجِ ، فَإِنْ نَكَلَتْ فَفِي وُقُوفِ الْيَمِينِ عَلَى بُلُوغِ الْوَلَدِ وَجْهَانِ مَضَيَا فِي مَوَاضِعَ تَقَدَّمَتْ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ كَانَ بَالِغًا مَجْبُوبًا كَانَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِلِعَانٍ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ لَا يُحِيطُ أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ لَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْمَجْبُوبُ : فَهُوَ الْمَقْطُوعُ الذَّكَرِ ، وَأَمَّا الْخَصْيُّ : فَهُوَ الْمَقْطُوعُ الْخِصْيَتَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ الْخَصْيُ بَاقِيَ الذَّكَرِ فَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِهِ ، وَلَا يَنْتَفِي عَنْهُ إِلَّا بِاللِّعَانِ ؛ لِأَنَّ إِيلَاجَ الذَّكَرِ يَحْتَلِبُ الْمَنِيَّ مِنَ الظَّهْرِ ، وَإِنْ كَانَ مَجْبُوبَ الذَّكَرِ فَالَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ الْوَلَدَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِلِعَانٍ ، وَعَلَّلَ بِأَنَّ الْعِلْمَ لَا يُحِيطُ أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ لَهُ ، يَعْنِي أَنَّنَا لَا نَتَيَقَّنُ عَدَمَ إِنْزَالِهِ ، وَنَقَلَ الرَّبِيعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " . وَعَلَّلَ فَقَالَ : " لِأَنَّ الْعِلْمَ لَا يُحِيطُ أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ لَهُ " وَهَذَا التَّعْلِيلُ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْوَلَدِ عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ هَذَا التَّعْلِيلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ أَنَّ تَعْلِيلَ الْمُزَنِيِّ هُوَ الصَّحِيحُ ، وَأَنَّ الْوَلَدَ لَاحِقٌ بِهِ لَا يَنْتَفِي عَنْهُ إِلَّا بِلِعَانٍ ، لِأَنَّنَا لَسْنَا نَقْطَعُ يَقِينًا بِعَدَمِ الْإِنْزَالِ ، وَإِنَّمَا الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يُنْزِلُ ، وَقَدْ يَجُوزُ فِي الْمُمْكِنِ إِذَا سَاحَقَ فَرْجَ الْمَرْأَةِ أَنْ يُنْزِلَ ثُمَّ يَجْتَذِبُ الْفَرَجُ الْمَاءَ إِذَا أَنْزَلَ ، ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ تَحْبَلَ الْبِكْرُ بِأَنْ يَجْتَذِبَ فَرْجُهَا مَنِيَّ الرَّجُلِ إِذَا أَنْزَلَ خَارِجَ الْفَرْجِ وَتُلْحِقَ بِهِ وَلَدَهَا ، كَذَلِكَ وَلَدُ الْمَجْبُوبِ يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ ذَلِكَ فِيهِ فَيَلْحَقَ بِهِ الْوَلَدُ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَلْحَقُ مِنْ طَرِيقِ الْإِمْكَانِ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا فِي الْوُجُودِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَجْبُوبُ خَصِيًّا مَمْسُوحَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ الْوَلَدُ ؛ لِأَنَّ الْأُنْثَيَيْنِ مَحَلُّ الْمَنِيِّ الَّذِي يَتَدَفَّقُ بَعْدَ انْفِصَالِهِ مِنَ الظَّهْرِ ، فَإِذَا عَدِمَ الْمَمْسُوحُ الذَّكَرِ الَّذِي يَجْتَذِبُ بِهِ مِنَ الظَّهْرِ وَعَدِمَ الْأُنْثَيَيْنِ الَّذَيْنِ يَجْتَمِعُ فِيهِمَا مَاءُ الظَّهْرِ ، اسْتَحَالَ الْإِنْزَالُ فَلَمْ يَلْحَقْ بِهِ الْوَلَدُ ، وَإِنْ كَانَ بَاقِيَ الْأُنْثَيَيْنِ لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ لِإِمْكَانِ إِنْزَالِ الْمَنِيِّ لِقُرْبِ مَخْرَجِهِ فَاسْتَغْنَى عَنِ اجْتِذَابِ الذَّكَرِ لَهُ مِنَ الظَّهْرِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيُّ أَنَّ فِي أَصْلِ الذَّكَرِ إِذَا جُبَّ ثُقْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَخْرَجُ الْبَوْلِ ، وَالْآخَرُ : مَخْرَجُ الْمَنِيِّ ، فَإِذَا كَانَ مَخْرَجُ الْمَنِيِّ قَدِ انْسَدَّ وَالْتَحَمَ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ الْوَلَدُ لِاسْتِحَالَةِ إِنْزَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُ الْمَنِيِّ بَاقِيًا كَمَخْرَجِ الْبَوْلِ لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ ، لِجَوَازِ إِنْزَالِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ قَالَ قَذَفْتُكِ وَعَقْلِي ذَاهِبٌ فَهُوَ قَاذِفٌ إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ يُصِيبُهُ فَيُصَدَّقُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُهُ إِذَا قَالَ : قَذَفْتُكِ وَعَقْلِي ذَاهِبٌ ، مِنْ أَنْ يُعْلَمَ ذَهَابُ عَقْلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ أَوْ لَا يُعْلَمَ ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ لَهُ حَالٌ يَذْهَبُ فِيهَا عَقْلُهُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي ذَهَابِ عَقْلِهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّاسِ الصِّحَّةُ حَتَّى يُعْلَمَ مَا عَدَاهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الظَّاهِرَ فِيهِ كَوْنُهُ عَلَى الْحَالِ الَّتِي هُوَ الْآنَ عَلَيْهَا ، فَإِنْ أَرَادَ إِحْلَافَ الْمَقْذُوفِ عَلَى صِحَّةِ عَقْلِهِ عِنْدَ قَذْفِهِ كَانَ إِحْلَافُ الْمَقْذُوفِ مُعْتَبَرًا بِحَالِ الْقَاذِفِ ، فَإِنْ عُلِمَ صِحَّةُ عَقْلِهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِحْلَافُ الْمَقْذُوفِ ، وَجَازَ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْطَعْ بِصِحَّةِ عَقْلِهِ مِنْ قَبْلُ كَانَ لَهُ إِحْلَافُ الْمَقْذُوفِ بِأَنَّ الْقَاذِفَ كَانَ صَحِيحَ الْعَقْلِ عِنْدَ قَذْفِهِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ صَحِيحَ الْعَقْلِ ؛ لِأَنَّ الْمُرَاعَى فِي حَقِّهِ صِحَّةُ الْعَقْلِ عِنْدَ قَذْفِهِ ، وَإِنْ نَكِلَ الْمَقْذُوفُ عَنِ الْيَمِينِ ، حَلَفَ الْقَاذِفُ أَنَّهُ كَانَ ذَاهِبَ الْعَقْلِ عِنْدَ قَذْفِهِ وَسَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ بَعْدَ سُقُوطِهِ .

فَصْلٌ : فَإِنْ عُلِمَ ذَهَابُ عَقْلِهِ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْقَذْفِ مِنْ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَقُومَ بِهِ بَيِّنَةٌ أَوْ لَا تَقُومَ ، فَإِنْ لَمْ تَقُمْ بِهِ بَيِّنَةٌ لِمَنِ ادَّعَى الْقَذْفَ ، فَقَالَ : كَانَ هَذَا الْقَذْفُ مِنِّي وَأَنَا ذَاهِبُ الْعَقْلِ ، أَوْ قَالَ : قَذَفْتُكِ هَذَا الْقَذْفَ وَأَنَا ذَاهِبُ الْعَقْلِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، لَا يَخْتَلِفُ ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا ، لِأَنَّ جَنْبَهُ حِمًى ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ قَذْفٌ يُوجِبُ الْحَدَّ ، وَإِنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بِالْقَذْفِ بَيِّنَةٌ ، فَقَالَ عِنْدَ ثُبُوتِهَا عَلَيْهِ : كُنْتُ عِنْدَ قَذْفِي هَذَا ذَاهِبَ الْعَقْلِ ، فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ بِالْقَذْفِ ، أَنَّهُ كَانَ صَحِيحَ الْعَقْلِ عِنْدَ قَذْفِهِ ، فَالْحَدُّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ لِدَعْوَاهُ تَأْثِيرٌ فِي سُقُوطِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُقِيمَ الْقَاذِفُ بَيِّنَةً أَنَّهُ كَانَ ذَاهِبَ الْعَقْلِ عِنْدَ قَذْفِهِ ، فَيُحْكَمُ بِهَا إِذَا شَهِدَتْ بِذَهَابِ عَقْلِهِ فِي قَذْفٍ قَذَفَهَا بِهِ وَلَمْ يَسْقُطِ الْحَدُّ عَنْهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا قَذْفَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي صِحَّةٍ ، وَالْآخَرُ فِي مَرَضٍ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ لَا يُقِيمَ الْمَقْذُوفُ بَيِّنَةً عَلَى صِحَّةِ عَقْلِهِ عِنْدَ الْقَذْفِ ، وَلَا يُقِيمَ الْقَاذِفُ بَيِّنَةً عَلَى ذَهَابِ عَقْلِهِ عِنْدَ الْقَذْفِ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْقَاذِفِ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ :

لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ مَشْرُوطٌ بِصِحَّةِ الْعَقْلِ وَذَلِكَ مُحْتَمَلٌ ، فَصَارَتْ شُبْهَةً فِي إِدْرَائِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَقْذُوفِ مَعَ يَمِينِهِ اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ فِي الصِّحَّةِ ، وَيُحَدُّ الْقَاذِفُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ زَوْجًا فَيُلَاعِنُ ، وَهَذَا قَوْلٌ مُخَرَّجٌ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِهِ . فَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ : هُوَ مُخَرَّجٌ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي قَطْعِ الْمَلْفُوفِ فِي ثَوْبٍ إِذَا ادَّعَى قَاطِعُهُ أَنَّهُ كَانَ مَيِّتًا ، وَادَّعَى وَلِيُّهُ أَنَّهُ كَانَ حَيًّا . وَقَالَ ابْنُ سُرَاقَةَ : هُوَ مُخَرَّجٌ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي اللَّفْظِ إِذَا قَذَفَ وَادَّعَى أَنَّهُ عَبْدٌ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يُقِرَّ بِالْقَذْفِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَيَدَّعِيَ فِيهِ ذَهَابَ الْعَقْلِ فَيُقْبَلُ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَبَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَهُ بَعْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ فَلَا يُقْبَلُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، أَنَّ الْبَيِّنَةَ قَدْ تَقَرَّرَتْ بِشَهَادَةٍ تُوجِبُ الْحَدَّ وَالْإِقْرَارَ لَهُ بِتَجَرُّدٍ عَنْ دَعْوَى تُسْقِطُ الْحَدَّ ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ بِخِلَافِ الْحُقُوقِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَيُلَاعِنُ الْأَخْرَسُ إِذَا كَانَ يَعْقِلُ الْإِشَارَةَ ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : لَا يُلَاعِنُ ، وَإِنْ طَلَّقَ وَبَاعَ بِإِيمَاءٍ أَوْ بِكِتَابٍ يُفْهَمُ جَازَ . قَالَ : وَأُصْمِتَتْ أُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ فَقِيلَ لَهَا : لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا فَأَشَارَتْ أَنْ نَعَمْ ، فَرُفِعَ ذَلِكَ فَرَأَيْتُ أَنَّهَا وَصِيَّةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْخَرَسُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ لِعِلَّةٍ ، فَإِنْ كَانَ مَنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ مَوْجُودًا مَعَ الْوِلَادَةِ ، فَهَذَا مُسْتَقِرٌّ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ ، فَيَكُونُ هَذَا الْأَخْرَسُ فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَقْوَالِهِ مُعْتَبَرًا بِهَا حَالَ الْإِشَارَةِ ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَفْهُومِ الْإِشَارَةِ ، وَلَا مَقْرُوءِ الْكِتَابَةِ لعان الأخرس لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ عَقْدٌ وَلَا قَذْفٌ وَلَا لِعَانٌ ، وَإِنْ كَانَ مَفْهُومَ الْإِشَارَةِ ، مَقْرُوءَ الْكِتَابَةِ صَحَّتْ عُقُودُهُ اتِّفَاقًا . وَاخْتُلِفَ فِي صِحَّةِ قَذْفِهِ وَلِعَانِهِ ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى صِحَّةِ قَذْفِهِ بِالْإِشَارَةِ وَلِعَانِهِ بِهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَصِحُّ مِنْهُ قَذَفٌ وَلَا لِعَانٌ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِ قَذْفِهِ بِأَنَّ الْإِشَارَةَ كِنَايَةٌ . وَالْقَذْفُ لَا يَثْبُتُ بِالْكِنَايَاتِ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِعَانَهُ لَا يَصِحُّ بِأَنَّ اللِّعَانَ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ ، وَالشَّهَادَةُ لَا تَصِحُّ مِنَ الْأَخْرَسِ .

وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنْ تَوَرَّعَ بِأَنْ قَالَ مَا افْتَقَرَ إِلَى لَفْظِ الشَّهَادَةِ لَمْ يَصِحَّ مِنَ الْأَخْرَسِ كَالشَّهَادَةِ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ مَنْ صَحَّ طَلَاقُهُ وَظِهَارُهُ صَحَّ قَذْفُهُ وَلِعَانُهُ كَالنَّاطِقِ ، وَلِأَنَّ مَا اخْتَصَّ بِهِ مِنَ الْحُقُوقِ تَقُومُ إِشَارَتُهُ فِيهِ مَقَامَ نُطْقِهِ كَالْعُقُودِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ مِنْهُ النِّكَاحُ مَعَ تَأْكِيدِهِ بِالْوَلِيِّ وَالشَّاهِدَيْنِ ، فَأَوْلَى أَنْ يَصِحَّ مِنْهُ مَا هُوَ أَخَفُّ مِنَ الْقَذْفِ وَاللِّعَانِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ مِنْهُ الطَّلَاقُ مَعَ جَوَازِ نِيَابَةِ وَكِيلِهِ فِيهِ فَأَوْلَى أَنْ يَصِحَّ مِنْهُ مَا لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهِ مِنْ قَذْفٍ وَلِعَانٍ ، وَلِأَنَّ الْخَرَسَ أَنْ لَا تَمْنَعَ مِنَ الْيَمِينِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَمْنَعَ مِنَ اللِّعَانِ كَالطَّرَشِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِالْقَذْفِ كِنَايَةٌ وَلَا يَثْبُتُ بِهَا ، فَهُوَ أَنَّهَا كِنَايَةٌ مِنَ النَّاطِقِ ، وَصَرِيحٌ مِنَ الْأَخْرَسِ ، كَمَا يَصِحُّ النِّكَاحُ بِإِشَارَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ بِالْكِنَايَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالشَّهَادَةِ . فَاللِّعَانُ عِنْدَنَا يَمِينٌ ، وَيَمِينُ الْأَخْرَسِ تَصِحُّ بِالْإِشَارَةِ ، وَالشَّهَادَةُ فَقَدْ جَوَّزَهَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ بِإِشَارَتِهِ ، فَيَكُونُ الْأَصْلُ عَلَى قَوْلِهِ غَيْرَ مُسَلَّمٍ ، وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا : أَنَّهُ لَا تَصِحُّ شَهَادَتُهُ وَإِنْ صَحَّ قَذْفُهُ وَلِعَانُهُ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ غَيْرَهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الشَّهَادَةِ ، وَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْقَذْفِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْقَذْفَ وَاللِّعَانَ يَخْتَصَّانِ بِهِ ، فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى إِمْضَائِهِ بِإِشَارَتِهِ ، كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ ، وَالشَّهَادَةُ لَا تَخْتَصُّ بِهِ فَلَمْ تَدْعُ الضَّرُورَةُ إِلَى إِمْضَائِهَا بِإِشَارَتِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْخَرَسُ الْحَادِثُ لِعِلَّةٍ هل يؤخذ الْحُكْمِ بِإِشَارَتِهِ طَرَأَتْ فَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى عُلَمَاءِ الطِّبِّ ، فَإِنْ شَهِدَ عُدُولُهُمْ بِدَوَامِهِ وَعَدَمِ بُرْئِهِ جَرَى عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حُكْمِ الْخَرَسِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ فِي اعْتِبَارِ الْمَفْهُومِ مِنْ إِشَارَتِهِ وَالْمَقْرُوءِ مِنْ كِتَابَتِهِ ، وَقَدْ أُصْمِتَتْ أُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي مَرَضِ مَوْتِهَا ، فَأَشَارَتْ بِوَصَايَا أَمْضَتْهَا الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَنْصَارِيَّةِ الَّتِي شَدَخَ الْيَهُودِيُّ رَأْسَهَا فَأُصِمَّتْ بِإِشَارَتِهَا إِلَى قَاتِلِهَا . وَإِنْ شَهِدَ عُلَمَاءُ الطِّبِّ بِزَوَالِهِ وَحُدُوثِ بُرْئِهِ لَمْ يَجْرِ عَلَى إِشَارَتِهِ حُكْمٌ وَكَانَ كَالنَّاطِقِ الْمُشِيرِ ، وَإِنْ أَشْكَلَ عَلَى الطِّبِّ ، وَجَبَ التَّوَقُّفُ عَنْهُ وَتَرْكُ الْحُكْمِ بِإِشَارَتِهِ حَتَّى يَنْتَهِيَ بِتَطَاوُلِ الْمُدَّةِ إِلَى زَمَانٍ تَيْأَسُ فِيهِ مِنْ بُرْئِهِ فَيُحْكَمُ حِينَئِذٍ بِخَرَسِهِ وَاعْتِبَارِ إِشَارَتِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا حُكِمَ بِخَرَسِهِ وَاعْتِبَارِ إِشَارَتِهِ فِي قَذْفِهِ وَلِعَانِهِ ، تَعَلَّقَ بِلِعَانِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا يَتَعَلَّقُ بِلِعَانِ النَّاطِقِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْأَرْبَعَةِ : وَهِيَ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ ، وَتَحْرِيمُ التَّأْبِيدِ ،

وَإِسْقَاطُ الْحَدِّ ، وَنَفْيُ النَّسَبِ ، فَلَوْ نَطَقَ بَعْدَ خَرَسِهِ وَعَادَ إِلَى حَالِ الصِّحَّةِ ، سُئِلَ عَنْ إِشَارَتِهِ بِالْقَذْفِ وَاللِّعَانِ فِي حَالِ خَرَسِهِ ، وَفِي سُؤَالِهِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ سُؤَالَهُ اسْتِظْهَارٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ لِنُفُوذِ الْحُكْمِ بِإِشَارَتِهِ عَلَى ظَاهِرِ الصِّحَّةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ سُؤَالَهُ وَاجِبٌ ، لِأَنَّ فِي الْإِشَارَةِ احْتِمَالًا يَلْزَمُ الْكَشْفُ عَنْ حَقِيقَتِهِ ، فَإِذَا سُئِلَ كَانَ لَهُ فِي الْجَوَابِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْتَرِفَ بِالْقَذْفِ وَاللِّعَانِ ، فَيَسْتَقِرُّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْأَرْبَعَةِ ، وَيَكُونُ جَوَابُهُ مُوَافِقًا لِحَالِ إِشَارَتِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُنْكِرَ الْقَذْفَ وَاللِّعَانَ ، فَقَدْ جَرَى عَلَيْهِ بِالْإِشَارَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا رَجَعَ عَنْهُ بِالْإِنْكَارِ ، فَصَارَ كَالنَّاطِقِ إِذَا لَاعَنَ ثُمَّ رَجَعَ يُقْبَلُ رُجُوعُهُ فِيمَا لَهُ مِنَ التَّخْفِيفِ ، وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ فِيمَا عَلَيْهِ مِنَ التَّغْلِيظِ وَالَّذِي لَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْأَرْبَعَةِ شَيْئَانِ : وُقُوعُ الْفُرْقَةِ ، وَتَحْرِيمُ التَّأْبِيدِ ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِمَا بِإِنْكَارِ اللِّعَانِ لِتُوَجُّهِ التُّهْمَةِ إِلَيْهِ فِيهِمَا ، وَالَّذِي عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْأَرْبَعَةِ شَيْئَانِ : وُجُوبُ الْحَدِّ ، وَلُحُوقُ النَّسَبِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِمَا بِإِنْكَارِ اللِّعَانِ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْهُ ، فَإِنْ قَالَ عِنْدَ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَلُحُوقِ الْوَلَدِ بِهِ : أَنَا أُلَاعِنُ الْآنَ جَازَ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ نُطْقًا ، وَيَنْتَفِيَ عَنْهُ الْوَلَدُ ، وَيَسْقُطَ عَنْهُ الْحَدُّ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُقِرَّ بِالْقَذْفِ وَيُنْكِرَ اللِّعَانَ ، فَقَدْ جَرَى عَلَيْهِ الْقَذْفُ وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِهِ ، وَأَحْكَامُ اللِّعَانِ وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لَهُ ، فَيُعْرَضُ عَلَيْهِ اللِّعَانُ ، فَإِنْ أَجَابَ إِلَيْهِ كَانَ لِعَانًا ثَانِيًا بَعْدَ أَوَّلٍ تَتَأَكَّدُ بِهِ أَحْكَامُ اللِّعَانِ الْأَوَّلِ وَإِنْ لَمْ يُجِبْ فِيهِ ، صَارَ كَالْمُنْكِرِ لِلْقَذْفِ وَاللِّعَانِ ، يَعُودُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِهِ مَا لَهُ مِنَ الْحَدِّ وَلُحُوقِ الْوَلَدِ تَغْلِيظًا بَعْدَ التَّخْفِيفِ ، وَلَا يُعُودُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِهِ مَا عَلَيْهِ مِنْ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ ، وَتَحْرِيمِ التَّأْبِيدِ ؛ لِأَنَّهُ تَخْفِيفٌ بَعْدَ التَّغْلِيظِ ، وَالْحُكْمُ فِي خَرَسِ الزَّوْجَةِ كَالْحُكْمِ فِي خَرَسِ الزَّوْجِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ كَانَتْ مَغْلُوبَةً عَلَى عَقْلِهَا فَالْتَعَنَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ وَنُفِيَ الْوَلَدُ إِنِ انْتَفَى مِنْهُ وَلَا تُحَدُّ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَنْ عَلَيْهِ الْحُدُودُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ بِالزِّنَا وَهِيَ عَاقِلَةٌ فَجُنَّتْ قَبْلَ لِعَانِهِ ، أَوْ قَذَفَهَا وَهِيَ مَجْنُونَةٌ ، فَحُكْمُ لِعَانِهِ مِنْهَا فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي حُكْمِ الْقَذْفِ ، فَإِنْ قَذَفَهَا عَاقِلَةً ثُمَّ جُنَّتْ وَجَبَ الْحَدُّ ، وَإِنْ قَذَفَهَا بَعْدَ جُنُونِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْ قَذْفِهِ هَذَا نَظَرْنَا ، فَإِنْ كَانَ لَهَا وَلَدٌ أَرَادَ أَنْ يَنْفِيَهُ ، فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهَا فِي حَالَةِ جُنُونِهَا ، وَيَتَعَلَّقُ بِلِعَانِهِ الْأَحْكَامُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِلِعَانِهِ مِنَ الْعَاقِلَةِ : مِنْ سُقُوطِ الْحَدِّ ، وَنَفْيِ الْوَلَدِ ، وَوُقُوعِ الْفُرْقَةِ ، وَتَحْرِيمِ التَّأْبِيدِ ، لِتَعَلُّقِ هَذِهِ

الْأَحْكَامِ كُلِّهَا بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ لِعَانُهَا بِسُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهَا ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْ جُنُونُهَا مِنْ لِعَانِهِ مِنْهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ ، فَهُوَ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِحَدِّ الْقَذْفِ أَوْ تَعْزِيرِهِ مَا كَانَتْ فِي جُنُونِهَا ، وَفِي جَوَازِ لِعَانِهِ مِنْهَا قَبْلَ إِفَاقَتِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ - أَنَّهُ يُلَاعِنُ لِيَتَعَجَّلَ بِهِ سُقُوطَ الْحَدِّ أَوِ التَّعْزِيرِ ، وَلِيَسْتَفِيدَ بِهِ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ وَتَحْرِيمَ التَّأْبِيدِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي أَوَّلِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ مَا لَمْ تُطَالِبْ بِالْحَدِّ أَوِ التَّعْزِيرِ ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى الْمُطَالَبَةِ بِهِ مَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ عَلَى جُنُونِهَا ، وَلَا مَعْنَى لِاسْتِفَادَةِ الْفُرْقَةِ بِهِ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَيْهَا بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فَاسْتُغْنِيَ بِهِ مِنَ اللِّعَانِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ طَلَبَهُ وَلِيُّهَا أَوْ كَانَتِ امْرَأَتُهُ أَمَةً فَطَلَبَهُ سَيِّدُهَا لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا كَانَتِ الْمَقْذُوفَةُ مَجْنُونَةً ، فَطَلَبَ وَلَيُّهَا حَدَّ الْقَاذِفِ ، أَوْ كَانَتْ أَمَةً فَطَالَبَهُ سَيِّدُهَا فَلَا حَقَّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْمُطَالَبَةِ بِحَدٍّ وَلَا لِعَانٍ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مَوْقُوفًا عَلَى طَلَبِهَا بَعْدَ الْإِفَاقَةِ ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ مَوْضُوعٌ لِلتَّشَفِّي ، فَكَانَ مَوْقُوفًا عَلَى مُطَالَبَتِهَا دُونَ الْوَلِيِّ كَالْقِصَاصِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْأَبْدَانِ دُونَ الْأَمْوَالِ فَلَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ الْمُطَالَبَةُ بِهِ ، كَمَا لَيْسَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْقَسَمِ وَلَا يَحِقُّ الْإِيلَاءُ ، وَمِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَارَقَ الْمُطَالَبَةَ بِحُقُوقِ الْأَمْوَالِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " فَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَعْفُوَ عَنْهُ فَطَلَبَهُ وَلِيُّهَا القذف ، كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَعِنَ أَوْ يُحَدَّ لِلْحُرَّةِ الْبَالِغَةِ وَيُعَزَّرَ لِغَيْرِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَهُوَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمَوْرُوثَةِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ وَلَا تُوَرَّثُ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ حَدٌّ لَا يَرْجِعُ إِلَى مَالِكٍ فَأَشْبَهَ حَدَّ الزِّنَا : وَلِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا وَالْقَذْفِ مُتَقَابِلَانِ لِتَنَافِي اجْتِمَاعِهِمَا فِي الْقَاذِفِ وَالْمَقْذُوفِ ، ثُمَّ كَانَ حَدُّ الزِّنَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَا تُوَرَّثُ فَكَذَلِكَ حَدُّ الْقَذْفِ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّهُ حَقٌّ عَلَى الْبَدَنِ إِذَا ثَبَتَ بِاعْتِرَافِهِ لَمْ يَسْقُطْ بِرُجُوعِهِ فَوَجَبَ أَنْ

يَكُونَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمَوْرُوثَةِ كَالْقِصَاصِ ؛ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ لَا يَسْتَوْفِيهِ الْإِمَامُ إِلَّا بِالْمُطَالَبَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَوْرُوثًا كَالْأَمْوَالِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قُذِفَتْ أَمَةٌ بَعْدَ مَوْتِهَا وَجَبَ لَهُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهَا ، وَقَذْفُهَا فِي الْحَيَاةِ أَغْلَظُ فَكَانَ بِأَنْ يَسْتَحِقَّ بَعْدَ الْمَوْتِ أَجْدَرَ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إِلَى مَالٍ ، فَهُوَ أَنَّ الْحُقُوقَ تَتَنَوَّعُ فَتَكُونُ تَارَةً فِي مَالٍ ، وَتَارَةً عَلَى بَدَنٍ ، وَلَوِ اخْتَصَّ الْآدَمِيِّينَ بِالْمَالِ دُونَ الْبَدَنِ لَاخْتَصَّ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى بِالْبَدَنِ دُونَ الْمَالِ ، وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى تَجْمَعُ الْأَمْوَالَ وَالْأَبْدَانَ ، فَكَذَلِكَ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ ، وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي أَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ قَدْ مَضَى . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : إِنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الزِّنَا لِتَنَافِي اجْتِمَاعِهِمَا ، فَهُوَ أَنَّ تَنَافِيَ اجْتِمَاعِهِمَا يُوجِبُ تَنَافِيَ حُكْمِهِمَا وَلَا يُوجِبُ تَسَاوِيَهِ ، وَعَلَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَدْ نَاقَضَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا حَيْثُ أَسْقَطَ حَدَّ الزِّنَا بِمَوْتِ الزَّانِي ، وَأَسْقَطَ الْقَذْفَ بِمَوْتِ الْمَقْذُوفِ ، وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى تَسْقُطُ بِمَوْتِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَلَا تَسْقُطُ بِمَوْتِ غَيْرِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمَوْرُوثَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُسْتَحِقِّ مِيرَاثِهِ حد القذف عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ بِالْأَنْسَابِ وَالْأَسْبَابِ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ كَالْأَمْوَالِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ الْوَرَثَةُ بِالْأَنْسَابِ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ دُونَ الْوَرَثَةِ بِالْأَسْبَابِ كَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ ، لِارْتِفَاعِ سَبَبِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَصَارَا بِانْقِطَاعِ السَّبَبِ كَالْأَجَانِبِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ ذُكُورُ الْعَصِبَاتِ دُونَ إِنَاثِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ أَخَصُّ بِدُخُولِ الْعَارِ عَلَيْهِمْ ، كَمَا يَخْتَصُّونَ لِأَجْلِ ذَلِكَ بِالْوِلَايَةِ عَلَى النِّكَاحِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا وَرِثَهُ مَنْ ذَكَرْنَا : اسْتَحَقُّوهُ عَلَى الِاجْتِمَاعِ وَالِانْفِرَادِ ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ الْمُسْتَحَقِّ بَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى الِاجْتِمَاعِ دُونَ الِانْفِرَادِ ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِحَاضِرٍ مُطَالِبٍ أَنْ يَقْبِضَ وَلَهُ شَرِيكٌ غَائِبٌ أَوْ قَدْ عَفَى ، وَيَجُوزُ لِوَارِثِ حَدِّ الْقَذْفِ إِذَا كَانَ لَهُ شَرِيكٌ غَائِبٌ أَوْ قَدْ عَفَى أَنْ يَنْفَرِدَ بِاسْتِيفَاءِ الْحَدِّ كُلِّهِ لِنَفْيِ الْمَعَرَّةِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَتَبَعَّضُ الْحَدُّ بِقَدْرِ مِيرَاثِهِ . وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَطَّانِ : حَدُّ الْقَذْفِ يَتَبَعَّضُ فَيُسْتَوْفَى مِنْهُ بِقَدْرِ مِيرَاثِهِ وَلَا يُسْتَوْفَى جَمِيعُهُ ، وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الْمَعَرَّةِ إِنَّمَا يَكُونُ بِحَدٍّ مُقَدَّرٍ فَامْتَنَعَ تَبْعِيضُهُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْأَمَةُ الْمَقْذُوفَةُ إِذَا مَاتَتْ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَوْتَهَا مُسْقِطٌ لِلتَّعْزِيرِ عَنْ قَاذِفِهَا ؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ لَا تُوَرَّثُ ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ مَالُهَا إِلَى سَيِّدِهَا بِالْمِلْكِ دُونَ الْإِرْثِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ ، وَلَيْسَ التَّعْزِيرُ مَالًا يَمْلِكُهُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ وَلَا بَعْدَ الْمَوْتِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالْمَوْتِ كَالْحَدِّ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ ، فَعَلَى هَذَا فِي مُسْتَحَقِّهِ بَعْدَ مَوْتِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : سَيِّدُهَا ؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِمَالِهَا . وَالثَّانِي : الْأَحْرَارُ مِنْ عَصَبَتِهَا ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِنَفْيِ الْعَارِ الْمُخْتَصِّ بِهِمْ دُونَ السَّيِّدِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوِ الْتَعَنَ وَأَبَيْنَ اللِّعَانَ فَعَلَى الْحُرَّةِ الْبَالِغَةِ الْحَدُّ وَالْمَمْلُوكَةِ نِصْفُ الْحَدِّ ، وَنَفْيُ نِصْفِ سَنَةٍ ، وَلَا لِعَانَ عَلَى الصِّبْيَةِ ؛ لِأَنَهُ لَا حَدَّ عَلَيْهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : كَمَا قَالَ : " إِذَا تَزَوَّجَ الْحُرُّ أَرْبَعَ زَوْجَاتٍ ، إِحْدَاهُنَّ حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ ، وَالثَّانِيَةُ حُرَّةٌ كِتَابِيَّةٌ ، وَالثَّالِثَةُ أَمَةٌ مُسْلِمَةٌ ، وَالرَّابِعَةُ صَغِيرَةٌ بَالِغَةٌ ، وَقَذَفَهُنَّ بِالزِّنَا ، فَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : فِي حُكْمِ قَذْفِهِ لَهُنَّ . وَالثَّانِي : فِي حُكْمِ لِعَانِهِ مِنْهُنَّ . وَالثَّالِثُ : فِي حُكْمِهِنَّ إِذَا لَاعَنَ مِنْهُنَّ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي حِكَمِ الْقَذْفِ لَهُنَّ : فَعَلَيْهِ الْحَدُّ بِقَذْفِ الْحُرَّةِ الْمُسَالِمَةِ لِكَمَالِهَا ، وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ فِي قَذْفِ الْكِتَابِيَّةِ وَالْأَمَةِ وَالصَّغِيرَةِ لِنَقْصِهِنَّ ، وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي اللِّعَانِ مِنْهُنَّ : فَلَهُ أَنْ يَلْتَعِنَ مِنَ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ إِجْمَاعًا ، لِيُسْقِطَ الْحَدَّ عَنْ نَفْسِهِ بِالْتِعَانِهِ ، وَلَهُ عِنْدَنَا أَنْ يَلْتَعِنَ مِنَ الْكِتَابِيَّةِ وَالْأَمَةِ لِيُسْقِطَ التَّعْزِيرَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْتِعَانِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهُمَا إِذَا لَمْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَلَمْ يَكْمُلِ الْحَدُّ فِي قَذْفِهِمَا ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ . وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ : فَلَهَا حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا لِصِغَرِهَا ، كَالَّتِي لَهَا سَنَةٌ ، فَلَا يَكُونُ رَمْيُهَا بِالزِّنَا قَذْفًا ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ مَا احْتَمَلَ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ ، وَقَذْفُ هَذِهِ كَذِبٌ مَحْضٌ لَا يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ فَكَانَ سَبًّا وَلَمْ يَكُنْ قَذْفًا ، فَكَانَ التَّعْزِيرُ الْمُسْتَحَقُّ فِيهِ تَعْزِيرَ سَبٍّ وَلَمْ يَكُنْ تَعْزِيرَ

قَذْفٍ ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهُ ، لِأَنَّ السَّبَّ لَا لِعَانَ فِيهِ ، وَإِنَّمَا اللِّعَانُ فِي الْقَذْفِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَفِي تَعْزِيرِهِ عَلَيْهِ قَبْلَ بُلُوغِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُعَزَّرُ حَتَّى تَبْلُغَ فَتُطَالِبَ . وَالثَّانِي : يُعَزَّرُ قَبْلَ بُلُوغِهَا ؛ لِأَنَّ تَعْزِيرَ الْقَذْفِ حَدٌّ مَوْقُوفٌ عَلَى بُلُوغِهَا ، وَتَعْزِيرَ السَّبِّ أَدَبٌ يَجُوزُ اسْتِيفَاؤُهُ قَبْلَ بُلُوغِهَا ، فَعَلَى هَذَا فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَوْقُوفُ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى الْمُطَالَبَةِ مِنَ الْوَلِيِّ لِقِيَامِهِ بِحُقُوقِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى الْإِمَامِ فِي اسْتِيفَائِهِ لِقِيَامِهِ بِالْمَصَالِحِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ مِثْلُهَا مِمَّنْ تُجَامَعُ ، لِأَنَّهَا ابْنَةُ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ ، فَيَكُونُ رَمْيُهَا بِالزِّنَا قَذْفًا لِاحْتِمَالِهِ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ ، وَيَكُونُ التَّعْزِيرُ فِيهِ بَدَلًا مِنْ حَدِّ الْكَبِيرَةِ . وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى بُلُوغِهَا لِتَكُونَ هِيَ الْمُطَالِبَةَ بِهِ فَيُعَزَّرُ لَهَا إِلَّا أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهَا ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهَا قَبْلَ بُلُوغِهَا ، فَفِي جَوَازِ لِعَانِهِ وَجْهَانِ مَضَيَا .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ : فِي حُكْمِهِنَّ بَعْدَ لِعَانِهِ مِنْهُنَّ : فَعَلَى الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ حَدُّ الزِّنَا إِنْ لَمْ تُلَاعِنْ ، فَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا فَجَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ ، وَإِنْ كَانَتْ مُحْصَنَةً فَالرَّجْمُ ، فَأَمَّا الْأَمَةُ فَلَا رَجْمَ عَلَيْهَا ، وَعَلَيْهَا نِصْفُ الْحَدِّ خَمْسُونَ جَلْدَةً ، وَفِي تَغْرِيبِهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَغْرِيبَ عَلَيْهَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِسَيِّدِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : تُغَرَّبُ ، وَفِي قَدْرِ تَغْرِيبِهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : عَامٌ كَامِلٌ كَالْحُرَّةِ . وَالثَّانِي : نِصْفُ عَامٍ . كَمَا عَلَيْهَا نِصْفُ الْجَلْدِ ، وَفِي نَفَقَتِهَا مُدَّةَ تَغْرِيبِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : فِي بَيْتِ الْمَالِ لِمَنْعِ سَيِّدِهَا مِنْهَا . وَالثَّانِي : عَلَى سَيِّدِهَا لِأَنَّهُ يَمْلِكُ اسْتِخْدَامَهَا بَعْدَ تَغْرِيبِهَا . وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهَا ، وَهَلْ لَهَا إِذَا بَلَغَتْ أَنْ تُلَاعِنَ بَعْدَ لِعَانِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ لَهَا أَنْ تُلَاعِنَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا بِلِعَانِ الزَّوْجِ حَدٌّ فَيَسْقُطُ بِلِعَانِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَهَا أَنْ تُلَاعِنَ لِتَنْفِيَ بِلِعَانِهَا الْمَعَرَّةَ عَنْ نَفْسِهَا ، وَهَذَا شَرْحُ مَذْهَبِنَا فِي وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَا عَلَى الزَّوْجَةِ بِلِعَانِ الزَّوْجِ مَا لَمْ تُلَاعِنْ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْوَاجِبُ عَلَيْهَا اللِّعَانُ دُونَ الْحَدِّ ، فَإِنِ امْتَنَعَتْ عَنِ اللِّعَانِ حُبِسَتْ حَتَّى تُلَاعِنَ ، وَلَمْ تُحَدَّ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ : كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ ، أَوْ قَتْلٌ بِغَيْرِ نَفْسٍ فَمَنَعَ هَذَا الْخَبَرُ مِنْ قَتْلِهَا بِغَيْرِ هَذِهِ الثَّلَاثِ خِصَالٍ . وَوُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهَا بِلِعَانِ الزَّوْجِ مُفْضٍ إِلَى قَتْلِهَا إِنْ كَانَتْ مُحَصْنَةً ، وَفِيهِ إِثْبَاتُ مَا نَفَاهُ الْخَبَرُ ، وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ لَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ عَلَى غَيْرِ الزَّوْجَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ بِهِ حَدٌّ عَلَى الزَّوْجَةِ كَالْأَيْمَانِ طَرْدًا وَالشَّهَادَةِ عَكْسًا ، قَالُوا : وَلِأَنَّ اللِّعَانَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَمِينٌ ، وَهُوَ لَا يَحْكُمُ بِالنُّكُولِ عَلَيْهَا ، وَفِي حَدِّهَا إِنِ امْتَنَعَتْ مِنَ اللِّعَانِ حَكَمَ عَلَيْهَا بِالنُّكُولِ ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ فِي الْقَوْلِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ [ النُّورِ : ] وَذِكْرُ الْعَذَابِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ ، يُوجِبُ حَمْلَهُ عَلَى جِنْسٍ أَوْ مَعْهُودٍ ، فَلَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى جِنْسِ الْعَذَابِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْمَعْهُودِ وَهُوَ الْحَدُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ النُّورِ : ] . فَإِنْ قِيلَ : فَالْحَبْسُ مَعْهُودٌ فِي عَذَابِ مَنِ امْتَنَعَ مِنَ الْحُقُوقِ . قُلْنَا : لَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى الْحَبْسِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحَبْسَ لَمْ يُسَمَّ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ عَذَابًا وَقَدْ سُمِّيَ الْحَدُّ عَذَابًا ، قَالَ تَعَالَى : فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [ النِّسَاءِ : ] يَعْنِي الْحَدَّ ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى عُرْفِ الشَّرْعِ أَوْلَى . وَالثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِعَانَهَا يَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ الْوَاجِبَ بِلِعَانِ الزَّوْجِ ، وَالْحَبْسُ لَمْ يَجِبْ بِلِعَانِ الزَّوْجِ ، وَإِنَّمَا وَجَبَ بِامْتِنَاعِهَا ، فَلَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ مَا خَرَجَ بِهِ الزَّوْجُ مِنْ قَذْفِهِ جَازَ أَنْ يَجِبَ بِهِ الْحَدُّ عَلَى زَوْجَتِهِ كَالْبَيِّنَةِ ، وَلِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِبَيِّنَةِ الزَّوْجِ ثَبَتَ بِلِعَانِهِ كَالْحَبْسِ ، وَلِأَنَّهَا أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يُدْرَأَ بِلِعَانِهَا الْحَدُّ كَالزَّوْجِ ، وَلِأَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ اسْتُفِيدَ صِدْقُهُ فِيهِ كَالْمُتَلَاعِنَيْنَ ، وَلِأَنَّ لِعَانَ الزَّوْجِ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ الزِّنَا وَنَفْيَ الْوَلَدِ ، فَلَمَّا تَعَلَّقَ بِلِعَانِهِ نَفْيُ الْوَلَدِ وَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ ثُبُوتُ الزِّنَا . لِأَنَّهُ أَحَدُ مَقْصُودَيِ اللِّعَانِ ، وَثُبُوتُ الزِّنَا مِنْهَا يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَيْهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِالْخَبَرِ فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَضَمَّنَ قَتْلَهَا بِزِنَاهَا بَعْدَ إِحْصَانِهَا وَبِذَلِكَ تُقْتَلُ لَا بِغَيْرِهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إِنَّ مَا لَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ عَلَى غَيْرِ الزَّوْجَةِ لَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ عَلَى الزَّوْجَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي اللِّعَانِ حُكْمُ الزَّوْجَةِ بِغَيْرِهَا

لِاخْتِصَاصِ اللِّعَانِ بِالْأَزْوَاجِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَيْمَانِ مُبَايَنَتُهَا لِلِعَانٍ فِي نَفْيِ النَّسَبِ فَتُبَايِنُهَا فِي وُجُوبِ الْحَدِّ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ حَدَّهَا حُكْمٌ عَلَيْهَا بِالنُّكُولِ الَّذِي لَا يَرَاهُ الشَّافِعِيُّ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّنَا نَحُدُّهَا بِلِعَانِ الزَّوْجِ لَا بِنُكُولِهَا عَنِ اللِّعَانِ ؛ لِأَنَّ لِعَانَهَا يُسْقِطُ عَنْهَا الْحَدَّ بَعْدَ وُجُوبِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا بِلِعَانِ الزَّوْجِ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ سَوَاءٌ لَاعَنَتْ أَوْ حُدَّتْ إِذَا كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا ، وَلَهَا السُّكْنَى زَمَانَ عِدَّتِهَا ، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا إِنْ كَانَتْ حَائِلًا ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ حَامِلًا نُظِرَ ، فَإِنْ نَفَى حَمْلَهَا بِلِعَانٍ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا ، وَإِنْ لَمْ يَنْفِهِ فَلَهَا النَّفَقَةُ كَحَمْلِ الْمَبْتُوتَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَا أُجْبِرُ الذِّمِّيَّةَ عَلَى اللِّعَانِ إِلًا أَنْ تَرْغَبَ فِي حُكْمِنَا فَتَلْتَعِنُ ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ حَدَدْنَاهَا إِنْ ثَبَتَتْ عَلَى الرِّضَا بِحُكْمِنَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : أَوْلَى بِهِ أَنْ يَحُدَّهَا لِأَنَّهَا رَضِيَتْ وَلَزِمَهَا حُكْمُنَا وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ - إِذَا بُتَّ عَلَيْهَا فَأَبَتِ الرِّضَا بِهِ سَقَطَ عَنْهَا - لَمْ يَجْرِ عَلَيْهَا حُكْمُنَا أَبَدًا لِأَنَّهَا تَقْدِرُ - إِذَا لَزِمَهَا بِالْحُكْمِ مَا تَكْرَهُ - أَنْ لَا تُقِيمَ عَلَى الرِّضَا وَلَوْ قَدَرَ اللَّذَانِ حَكَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِمَا بِالرَّجْمِ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى أَنْ لَا يَرْجُمَهُمَا بِتَرْكِ الرِّضَا لَفَعَلَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَقَالَ ) فِي الْإِمْلَاءِ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ : إِنْ أَبَتْ أَنْ تُلَاعِنَ حَدَدْنَاهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا قَذَفَ الذِّمِّيُّ زَوْجَتَهُ ثُمَّ تَرَافَعَا إِلَى حَاكِمِنَا فَفِي وُجُوبِ حُكْمِهِ بَيْنَهُمَا جَبْرًا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا ، وَعَلَيْهِمَا إِذَا حَكَمَ أَنْ يَلْتَزِمَا حُكْمَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ [ الْمَائِدَةِ : ] . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمْ فِي الْحُكْمِ ، وَهُمْ إِذَا حَكَمَ بَيْنَهُمْ مُخَيَّرُونَ فِي الِالْتِزَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [ الْمَائِدَةِ : ] فَإِنْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ ، أَوْ قُلْنَا : إِنَّهُ مُخَيَّرٌ فَحَكَمَ ، كَانَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ إِنِ اعْتَرَفَ بِالْقَذْفِ ، وَكَانَ تَعْزِيرَ قَذْفٍ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِنَقْصِهَا بِالْكُفْرِ وَإِنْ سَاوَاهَا فِيهِ وَلَهُ إِسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ ، فَإِذَا الْتَعَنَ سَقَطَ تَعْزِيرُ الْقَذْفِ وَوَجَبَ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَا إِنْ لَمْ تَلْتَعْنَ وَهُوَ الْحَدُّ الْكَامِلُ : جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ إِنْ كَانَتْ بِكْرًا . وَالرَّجْمُ إِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ كَانَتِ امْرَأَتُهُ مَحْدُودَةً فِي زِنًا فَقَذَفَهَا بِذَلِكَ الزِّنَا أَوْ بِزِنًا كَانَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ عُزِّرَ إِنْ طَلَبَتْ ذَلِكَ وَلَمْ يَلْتَعِنْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْمَحْدُودَةَ فِي الزِّنَا لَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهَا سَوَاءٌ كَانَ زَوْجًا أَوْ أَجْنَبِيًّا وَسَوَاءٌ حُدَّتْ بِإِقْرَارِهَا أَوْ بِبَيِّنَةٍ شَهِدَتْ عَلَيْهَا لِثُبُوتِ مَا قُذِفَتْ بِهِ مِنَ الزِّنَا ، فَصَارَ الْقَذْفُ صِدْقًا وَخَرَجَ عَنْ أَنْ يَحْتَمِلَ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ ، وَلِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لِدُخُولِ الْمَعَرَّةِ وَهَتْكِ الْحَصَانَةِ ، وَالْمَحْدُودَةُ قَدْ دَخَلَتِ الْمَعَرَّةُ عَلَيْهَا بِالزِّنَا دُونَ الْقَذْفِ ، وَارْتَفَعَتْ بِهِ حَصَانَتُهَا فَسَقَطَ الْحَدُّ فِي قَذْفِهَا وَهَكَذَا لَوْ تَقَدَّمَ الْقَذْفُ ثُمَّ قَامَتْ عَلَيْهَا بَيِّنَةٌ بِالزِّنَا ، لَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهَا ، لِثُبُوتِ زِنَاهَا بِالْبَيِّنَةِ ، سَوَاءٌ حُدَّتْ بِهَا أَوْ لَمْ تُحَدَّ وَسَوَاءٌ أَقَامَهَا الْقَاذِفُ أَوْ غَيْرُهُ ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَى قَاذِفِهَا حَدٌّ عُزِّرَ ، وَكَانَ تَعْزِيرَ سَبٍّ وَأَذًى لَا تَعْزِيرَ قَذْفٍ لِتَحَقُّقِ الْقَذْفِ بِالْبَيِّنَةِ ، فَإِنْ كَانَ الْقَاذِفُ زَوْجًا وَأَرَادَ أَنْ يَلْتَعِنَ فَالَّذِي رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا : عُزِّرَ إِنْ طَلَبَتْ ذَلِكَ وَلَمْ يَلْتَعِنْ ، وَرَوَى الرَّبِيعُ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " عُزِّرَ إِنْ طَلَبَتْ ذَلِكَ أَوْ يَلْتَعِنُ ، فَرِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ تَمْنَعُ مِنَ اللِّعَانِ ، وَرِوَايَةُ الرَّبِيعِ تُجَوِّزُهُ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ طُرُقٍ : أَحَدُهَا : وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ الرَّبِيعَ وَهِمَ فِي رِوَايَتِهِ ، وَرِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ هِيَ الصَّحِيحَةُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْتَعِنَ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللِّعَانَ يُرَادُ لِتَصْدِيقِ الْقَذْفِ ، وَقَدْ ثَبَتَ صِدْقُهُ بِالْبَيِّنَةِ فَسَقَطَ حُكْمُ اللِّعَانِ . وَالثَّانِي : أَنَّ اللِّعَانَ مَوْضُوعٌ لِرَفْعِ مَا أَوْجَبَهُ الْقَذْفُ ، وَهُوَ تَعْزِيرُ سَبٍّ لَا تَعْزِيرَ قَذْفٍ . وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ : طَرِيقَةُ أَبِي الْقَاسِمِ الدَّارِكِيِّ ، وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْقَطَّانِ تَصْحِيحُ الرِّوَايَتَيْنِ وَتَخْرِيجُهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَلْتَعِنُ عَلَى مَا رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ وَوَجْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَلْتَعِنُ عَلَى مَا رَوَاهُ الرَّبِيعُ ؛ لِأَنَّهُ أَجَازَ تَحْقِيقَ قَذْفِهِ بِالِالْتِعَانِ إِذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ ، فَأَوْلَى أَنْ يُحَقِّقَهُ بِالِالْتِعَانِ مَعَ مُوَافَقَةِ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّهُ أَثْبَتُ لِصِدْقِهِ وَأَنْفَى لِكَذِبِهِ . وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ : أَنَّ اخْتِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ : فَرِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ فِي مَنْعِهِ مِنَ الِالْتِعَانِ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهُ قَذَفَهَا بِزِنًا كَانَ قَبْلَ زَوْجِيَّتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ إِسْقَاطَ حَدِّهِ بِاللِّعَانِ ، فَكَذَلِكَ التَّعْزِيرُ ، وَرِوَايَةُ الرَّبِيعِ فِي أَنَّهُ يُلَاعِنُ أَرَادَ بِهِ إِذَا قَذَفَ بِزِنًا أَضَافَهُ إِلَى الزَّوْجِيَّةِ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً ثُمَّ أَعَادَ الْقَذْفَ بِذَلِكَ الزِّنَا ، فَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ وَلَهُ إِسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ ، وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ . وَأَنَّ

رِوَايَةَ الْمُزَنِيِّ تُحْمَلُ فِي مَنْعِهِ مِنَ اللِّعَانِ إِذَا لَمْ يَنْفِ بِهِ وَلَدًا ، وَرِوَايَةُ الرَّبِيعِ فِي جَوَازِ الِالْتِعَانِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنْفِيَ بِهِ وَلَدًا ، وَلِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَنْتَفِي إِلَّا بِاللِّعَانِ وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ بِهَذَا الْقَذْفِ وَإِنْ سَقَطَ حَدُّهُ بِالْبَيِّنَةِ فَلِذَلِكَ جُوِّزَ لَهُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا قَذَفَهَا وَالْتَعَنَ مِنْهَا وَامْتَنَعَتْ بَعْدَهُ مِنَ اللِّعَانِ فَحُدَّتْ ثُمَّ قَذَفَهَا الزَّوْجُ بِالزِّنَا ثَانِيَةً لَمْ يُحَدَّ لَهَا ؛ لِأَنَّ لِعَانَهُ مِنْهَا كَالْبَيِّنَةِ فِي حَدِّهَا وَثُبُوتِ صِدْقِهِ ، وَيُعَزَّرُ تَعْزِيرَ السَّبِّ وَالْأَذَى ، وَلَيْسَ لَهُ إِسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَلَوْ قَذَفَهَا أَجْنَبِيٌّ بِالزِّنَا حُدَّ لَهَا وَإِنْ لَمْ يُحَدَّ الزَّوْجُ ، وَكَانَ لِعَانُهُ مِنْهَا كَالْبَيِّنَةِ الْمُسْقِطَةِ لِحَصَانَتِهَا فِي حَقِّهِ لَا فِي حُقُوقِ الْأَجَانِبِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ لَمْ يَنْفِ زَوْجُهَا بِاللِّعَانِ وَلَدًا أَوْ نَفَاهُ وَقَدْ مَاتَ فَلَا حَدَّ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ فِي قَذْفِهَا ، وَإِنْ نَفَى بِهِ وَلَدًا بَاقِيًا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ، فَوَافَقَ فِي حَدِّهِ مَعَ بَقَاءِ الْوَلَدِ الْمَنْفِيِّ ، وَخَالَفَ فِيهِ مَعَ عَدَمِهِ ، وَجَعَلَ لِعَانَ الزَّوْجِ مُسْقِطًا لِحَصَانَتِهَا فِي حَقِّهِ وَحُقُوقِ الْأَجَانِبِ كَالْبَيِّنَةِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِرِوَايَةِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : فَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَقَضَى بِأَنْ لَا يُدْعَى وَلَدُهَا لِأَبٍ ، وَلَا تُرْمَى وَلَا وَلَدُهَا ، فَمَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ ؛ لِأَنَّهَا حُدَّتْ لِامْتِنَاعِهَا عَنِ اللِّعَانِ فَلَمْ تَسْقُطْ حَصَانَتُهَا مَعَ الْأَجَانِبِ كَمَا لَوْ كَانَ وَلَدُهَا الْمَنْفِيُّ بَاقِيًا ، وَالْفَصْلُ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْأَجْنَبِيِّ فِي اللِّعَانِ وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْبَيِّنَةِ ، أَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ عَامَّةٌ فَسَقَطَتْ مَعَ عُمُومِ النَّاسِ ، وَاللِّعَانَ حُجَّةٌ خَاصَّةٌ فَسَقَطَتْ بِهِ حَصَانَتُهَا مَعَ الْأَزْوَاجِ لَا مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَإِنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ قَذَفَهَا فَجَاءَتْ بِشَاهِدَيْنِ لَاعَنَ ، وَلَيْسَ جُحُودُهُ الْقَذْفَ إِكْذَابًا لِنَفْسِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِالْقَذْفِ بَعْدَ إِنْكَارِهِ ، لَمْ يَكُنْ إِنْكَارُهُ إِكْذَابًا لِنَفْسِهِ فِي لِعَانِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِنْكَارِ يَقُولُ : لَمْ أَقْذِفْهَا بِالزِّنَا وَقَدْ تَكُونُ زَانِيَةً وَإِنْ لَمْ يَقْذِفْهَا ، فَلِذَلِكَ لَاعَنَ ، وَلَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ فِي إِنْكَارِهِ فَقَالَ : مَا زَنَتْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ بَعْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ بِالْقَذْفِ . مِثَالُ ذَلِكَ مِنَ الْوَدِيعَةِ إِذَا ادَّعَيْتَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ قَالَ : لَيْسَ لَكَ فِي يَدِي وَدِيعَةٌ ، أَوْ لَا تَسْتَحِقُّ مَعِي وَدِيعَةً ، فَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِأَنَّهُ قَدْ أَوْدَعَهُ فَادَّعَى تَلَفَهَا قَبْلَ قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُكَذِّبْ نَفْسَهُ فِي الْأَوَّلِ ، وَلَوْ قَالَ : لَمْ تُودِعْنِي ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ بِالْوَدِيعَةِ قَدْ أَوْدَعْتِنِي وَتَلِفَتْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِنَفْسِهِ فِي الْأَوَّلِ . كَذَلِكَ حُكْمُ اللِّعَانِ بَعْدَ إِنْكَارِ الْقَذْفِ لَا يَكُونُ مُكَذِّبًا لِنَفْسِهِ بِإِنْكَارِ الْقَذْفِ فَلِذَلِكَ لَاعَنَ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، هَلْ يَكُونُ إِنْكَارُهُ إِكْذَابًا لِلْبَيِّنَةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ .

أَحَدُهُمَا : لَا يَكُونُ إِكْذَابًا لَهَا كَمَا لَا يَكُونُ إِكْذَابًا لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ : إِنَّ الْقَذْفَ مَا احْتَمَلَ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ ، وَأَنَا صَادِقٌ فِي أَنَّهَا زَنَتْ ، فَلَمْ أَكُنْ قَاذِفًا ، وَالشُّهُودُ قَدْ صَدَقُوا فِيمَا شَهِدُوا بِهِ عَلَيَّ مِنْ قَوْلِي أَنَّهَا زَنَتْ ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَهَا بَعْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ قَذْفٍ يَسْتَجِدُّهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُكَذِّبًا لِلْبَيِّنَةِ بِإِنْكَارِ الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّهَا شَهِدَتْ عَلَيْهِ بِقَوْلٍ قَدْ نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ بِإِنْكَارِهِ ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ مَعْنَى الْقَذْفِ تَأْوِيلٌ لَا يُقْبَلُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، فَلِذَلِكَ كَانَ إِكْذَابًا لِلْبَيِّنَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِكْذَابًا لِنَفْسِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ بَعْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ إِلَّا بِقَذْفٍ يَسْتَجِدُّهُ ، وَهَذَا هُوَ فَائِدَةُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ قَذَفَهَا ثُمَّ بَلَغَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ وَلَا لِعَانٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، قَذْفُ الصَّبِيِّ لَا يُوجِبُ حَدًّا وَلَا يُبِيحُ لِعَانًا ؛ لِأَنَّهُ وَبِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمٌ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَدٌّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ حَدٌّ وَلَا قَطْعٌ ، فَكَذَلِكَ فِي الْقَذْفِ ، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ مُرَاهِقًا يُؤْذِي قَذْفُ مِثْلِهِ عُزِّرَ أَدَبًا ، كَمَا يُؤَدَّبُ فِي مَصَالِحِهِ ، وَإِنْ كَانَ طِفْلًا لَا يُؤْذِي قَذْفُهُ لَمْ يُعَزَّرْ ، فَلَوْ جَاءَتْ زَوْجَتُهُ بِوَلَدٍ ، وَهُوَ ابْنُ عَشْرٍ يَجُوزُ أَنْ يُولَدَ لِمِثْلِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيهِ بِالْقَذْفِ الْمُتَقَدِّمِ قَبْلَ بُلُوغِهِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ قَذْفًا بَعْدَ الْبُلُوغِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ عَلَى الْقَذْفِ الْأَوَّلِ حُكْمٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ قَذَفَهَا فِي عِدَّةٍ يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا فِيهَا فَعَلَيْهِ اللِّعَانُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا قَذَفَ الرَّجْعِيَّةَ فِي الْعِدَّةِ فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَمْ يَسْلُبْ مِنْ أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ إِلَّا شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَحْرِيمُ الْوَطْءِ مَا لَمْ يُرَاجِعْ . وَالثَّانِي : جَرَيَانُهَا فِي الْفَسْخِ إِنْ لَمْ يُرَاجِعْ حَتَّى تَبَيَّنَ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ثُمَّ هِيَ فِيمَا عَدَاهُمَا جَارِيَةٌ فِي أَحْكَامِ الزَّوْجَاتِ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ ، وَالْإِيلَاءِ ، وَالظِّهَارِ ، وَالتَّوَارُثِ ، وَلُحُوقِ النَّسَبِ ، وَكَذَلِكَ فِي اللِّعَانِ ، وَبِهَذَا خَالَفَتِ الْمَبْتُوتَةُ الْمَسْلُوبَةُ لِأَحْكَامِ الزَّوْجَاتِ ، ثُمَّ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ قَبْلَ الرَّجْعَةِ وَبَعْدَهَا وَمِنْ غَيْرِ رَجْعَةٍ ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ ، أَوْ قَدِ انْقَضَتْ ، فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا وَقَفَ حُكْمُ اللِّعَانِ قَبِلَ رَجْعَتِهِ كَمَا وَقَفَتْ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ فَلَمْ تَجِبْ قَبْلَ الرَّجْعَةِ ؟ وَلَمْ يَحْتَسِبْ فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ مَا قَبْلَ الرَّجْعَةِ .

قِيلَ : لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمَعْنَى فِيهِمَا يُوجِبُ وُقُوعَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، وَهُوَ أَنَّ اللِّعَانَ مَوْضُوعٌ لِرَفْعِ الْمَعَرَّةِ وَنَفْيِ النَّسَبِ ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ قَبْلَ الرَّجْعَةِ كَوُجُودِهِ بَعْدَهَا ، وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ تَجِبُ بِالْعَوْدِ الَّذِي هُوَ اسْتِبَاحَةُ الْوَطْءِ ، وَمُدَّةُ الْإِيلَاءِ يُعْتَدُّ بِهَا إِذَا أَمْكَنَ الْوَطْءُ فِيهَا ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ قَبْلَ الرَّجْعَةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَهَا ، فَلِذَلِكَ افْتَرَقَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ بَانَتْ فَقَذَفَهَا بِزِنًا نَسَبَهُ إِلَى أَنَّهُ كَانَ وَهِيَ زَوْجَتُهُ حُدَّ وَلَا لِعَانَ ، إِلَّا أَنْ يَنْفِيَ بِهِ وَلَدًا أَوْ حَمْلًا فَيَلْتَعِنَ . فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ لَاعَنْتَ بَيْنَهُمَا وَهِيَ بَائِنٌ إِذَا ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ ؟ قِيلَ : كَمَا أَلْحَقْتُ الْوَلَدَ لِأَنَهَا كَانَتْ زَوْجَتَهُ فَكَذَلِكَ لَاعَنْتُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهَا كَانَتْ زَوْجَتَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا إِنْ وَلَدَتْ بَعْدَ بَيْنُونَتِهَا كَهِيَ وَهِيَ تَحْتَهُ ، وَإِذَا نَفَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَلَدَ وَهِيَ زَوْجَةٌ ، فَإِذَا زَالَ الْفِرَاشُ كَانَ الْوَلَدُ بَعْدَمَا تَبِينُ أَوْلَى أَنْ يُنْفَى أَوْ فِي مِثْلِ حَالِهِ قَبْلَ أَنْ تَبِينَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا بَانَتْ مِنْهُ زَوْجَتُهُ إِمَّا بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ ، وَإِمَّا بِالْخُلْعِ ، وَإِمَّا بِالْفَسْخِ ، وَإِمَّا بِطَلَاقٍ رَجْعِيٍّ لَمْ يُرَاجِعْ فِيهِ حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ فَصَارَتْ بِهَذِهِ الْأُمُورِ بَائِنًا ، ثُمَّ قَذَفَهَا بِزِنًا نِسْبَةً إِلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْهَا وَهِيَ زَوْجَتُهُ فَالْحَدُّ عَلَيْهِ وَاجِبٌ ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي جَوَازِ لِعَانِهِ مِنْهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ : لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ سَوَاءٌ أَرَادَ أَنْ يَنْفِيَ بِهِ نَسَبًا أَوْ لَمْ يُرِدْ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ ، سَوَاءٌ أَرَادَ أَنْ يَنْفِيَ بِهِ نَسَبًا أَوْ لَمْ يُرِدْ . وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ - وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - : إِنْ أَرَادَ أَنْ يَنْفِيَ بِهِ نَسَبًا كَانَ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَنْفِيَ بِهِ نَسَبًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ ، فَأَمَّا عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ ، فَاسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ اللِّعَانِ فِي الْحَالَيْنِ بِأَنَّهُ قَذْفٌ مُضَافٌ إِلَى الزَّوْجِيَّةِ فَجَازَ اللِّعَانُ مِنْهُ قِيَاسًا عَلَى نَفْيِ النَّسَبِ ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ عَلَى مَنْعِهِ مِنَ اللِّعَانِ فِي الْحَالَيْنِ : بِأَنَّهُ قَذْفٌ صَادَفَ أَجْنَبِيَّةً فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهُ كَالْحَائِلِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ جَوَازِهِ لِنَفْيِ النَّسَبِ وَالْمَنْعِ مِنْهُ فِي عَدَمِهِ ، أَنَّ اللِّعَانَ مَوْضُوعٌ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ فِي إِحْدَى حَالَتَيْنِ ، إِمَّا لِمَعَرَّةٍ بِزِنَاهَا فِي نِكَاحِهِ ، وَإِمَّا لِنَفْيِ نَسَبِ مَنْ لَا يَلْحَقُ بِهِ . وَالثَّانِي : قَدْ زَالَ عَارُهَا عَنْهُ ، وَلَمْ يُنْفَ وَلَدُهَا عَنْهُ ، فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يُلَاعِنَ مَعَ وُجُودِ النَّسَبِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى نَفْيِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُلَاعِنَ مَعَ عَدَمِ النَّسَبِ لِزَوَالِ

مَعَرَّتِهَا عَنْهُ بِالْفُرْقَةِ ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَيْهِمَا وَانْفِصَالٌ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمَا ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى الْبَتِّيِّ خَاصَّةً فِي عَدَمِ النَّسَبِ أَنَّهُ قَذْفٌ لَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهِ فَلَا تُلَاعَنُ مِنْهُ كَالْأَجْنَبِيَّةِ ، وَيَدُلُّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ خَاصَّةً مَعَ وُجُودِ النَّسَبِ أَنَّهُ قَذْفٌ اضْطُرَّ إِلَيْهِ فَجَازَ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهُ كَمَا لَوْ كَانَتْ زَوْجَهُ ؛ لَأَنَّ وَلَدَهَا يَلْحَقُ بِهِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ كَمَا يَلْحَقُ بِهِ قَبْلَهَا . فَإِنْ قِيلَ : يَفْسُدُ بِأُمِّ الْوَلَدِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهَا وَإِنِ اضْطُرَّ إِلَى نَفْيِ نَسَبِ وَلَدِهَا ، قِيلَ : يَقْدِرُ عَلَى نَفْيِ نَسَبِهِ بِغَيْرِ اللِّعَانِ وَهُوَ دَعْوَى الِاسْتِبْرَاءِ فَلَمْ يُضْطَرَّ إِلَى اللِّعَانِ بِخِلَافِ الزَّوْجِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ لِعَانِهِ مِنْ ذَاتِ الْوَلَدِ الْمُنَاسِبِ خَاصَّةً لَمْ يَخْلُ حَالُ النَّسَبِ اللَّاحِقِ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَلَدًا مُنْفَصِلًا أَوْ حَمْلًا مُتَّصِلًا ، فَإِنْ كَانَ وَلَدًا قَدْ وَضَعَتْهُ جَازَ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِهِ وَسَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ بِلِعَانِهِ ، وَإِنْ كَانَ حَمْلًا مُتَّصِلًا لَمْ تَضَعْهُ فَفِي جَوَازِ لِعَانِهِ مِنْهَا قَبْلَ وَضْعِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَاخْتَارَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ أَنَّ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْ حَمْلِهَا كَمَا يُلَاعِنُ مِنْ وَلَدِهَا ، لِأَنَّ مَنْ لَاعَنَ مِنْ ذَاتِ الْوَلَدِ لَاعَنَ مِنْ ذَاتِ الْحَمْلِ كَالزَّوْجِ ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا مَاتَ قَبْلَ وَضْعِهَا فَلَمْ يَقْدِرِ الْوَرَثَةُ عَلَى لِعَانِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ فِي " جَامِعِهِ الْكَبِيرِ " أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْ حَمْلِهَا حَتَّى تَضَعَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ غِلَظًا أَوْ رِيحًا ، فَإِنْ وَضَعَتْهُ لَاعَنَ مِنْهُ ، وَسَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ ، وَإِنِ انْفَشَى حَدٌّ وَلَمْ يُلَاعِنْ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي بِنَاءِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي الْحَمْلِ ، هَلْ يَكُونُ مُتَحَقِّقًا تَسْتَحِقُّ بِهِ تَعْجِيلَ النَّفَقَةِ قَبْلَ وَضْعِهِ ، أَوْ يَكُونُ مَظْنُونًا لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ إِلَّا بَعْدَ وَضْعِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي الْحَمْلِ ، هَلْ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ أَوْ يَكُونُ تَبَعًا .

فَصْلٌ : فَإِذَا لَاعَنَ مِنَ الْمَبْتُوتَةِ لِنَفْيِ النَّسَبِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، هَلْ يَثْبُتُ بِلِعَانِهِ التَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ لِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ لِلشَّافِعِيِّ - عَلَى وَجْهَيْنِ : حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ ، وَكَذَلِكَ الْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةٍ إِذَا لَاعَنَ مِنْ وَلَدِهَا . أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ : أَنَّهَا تَحْرُمُ بِهِ عَلَى التَّأْبِيدِ كَالْمَنْكُوحَةِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي نَفْيِ النَّسَبِ وَسُقُوطِ الْحَدِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ عَلَى التَّأْبِيدِ ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ التَّأْبِيدِ تَابِعٌ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ ، وَهَذَا اللِّعَانُ لَمْ تَقَعْ بِهِ الْفُرْقَةُ فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ تَحْرِيمُ الْأَبَدِ ، فَعَلَى هَذَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ حَتَّى لَا تَحِلَّ لَهُ إِلَّا بَعْدَ زَوْجِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا لَا تَحِلُّ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ لِيُكْمِلَ بِهِ عَدَدَ الطَّلَاقِ الْمُتَقَدِّمَ لِأَنَّهُ أَضْعَفُ أَحْوَالِ اللِّعَانِ أَنْ يَكُونَ كَالطَّلَاقِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَحِلُّ لَهُ قَبْلَ زَوْجٍ إِذَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الثَّلَاثَ بِطَلَاقِهِ الْمُتَقَدِّمِ ؛ لِأَنَّ هَذَا اللِّعَانَ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْفُرْقَةِ ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي التَّحْرِيمِ ، وَلَوْ أَثَّرَ لَكَانَ تَأْثِيرٌ فِي تَحْرِيمِ التَّأْبِيدِ أَوْلَى .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ فِي حَالِ نِكَاحِهَا بِزِنًا نَسَبَهُ إِلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْهَا قَبْلَ نِكَاحِهَا ، فَقَالَ : زَنَيْتِ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ لِعَانِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : بِنَاءً عَلَى خِلَافِهِمْ فِي جَوَازِ لِعَانِهِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِلَى جَوَازِ لِعَانِهِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَهَا وَهِيَ زَوْجَةٌ ، لِذَلِكَ مَنَعَ مِنْ جَوَازِ اللِّعَانِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ اعْتِبَارًا بِحَالِ الزِّنَا ، وَأَنَّهَا كَانَتْ غَيْرَ زَوْجَتِهِ وَلِذَلِكَ جَوَّزَ اللِّعَانَ بَعْدَ الْفُرْقَةِ فَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ بِاللِّعَانِ حَالَ الزِّنَا دُونَ الْقَذْفِ ، وَاعْتَبَرَ أَبُو حَنِيفَةَ حَالَ الْقَذْفِ دُونَ الزِّنَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ [ النُّورِ : ] فَجَازَ أَنْ يَلْتَعِنَ كُلُّ قَاذِفٍ لِزَوْجَتِهِ ، وَلِأَنَّهُ قَاذِفٌ لِزَوْجَتِهِ فَجَازَ لِعَانُهُ كَالزِّنَا فِي الزَّوْجِيَّةِ ، قَالَ : وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُلَاعِنَ مِنَ الزِّنَا الْحَادِثِ فِي نِكَاحِهِ لِئَلَّا يَلْتَحِقَ بِهِ وَلَدُ الزِّنَا جَازَ فِي الزِّنَا الْمُتَقَدِّمِ أَنْ يُلَاعِنَ لِهَذَا الْمَعْنَى . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ [ النُّورِ : ] الْآيَةَ ، وَهَذَا فِي الزِّنَا الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ أَجْنَبِيَّةٌ فَحُدَّ وَلَمْ يَلْتَعِنْ ، وَلِأَنَّهُ قَذْفٌ بِزِنًا هِيَ فِيهِ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُلَاعِنَ بِهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا ، وَلِأَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ مُسْتَقِرَّةٌ عَلَى أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الزِّنَا لَا بِحَالِ الْقَذْفِ . أَلَا تَرَى لَوْ قَالَ لِمُعْتَقٍ : زَنَيْتَ قَبْلَ عِتْقِكَ ، وَلِبَالِغٍ : زَنَيْتَ قَبْلَ بُلُوغِكَ ، وَلِمُسْلِمٍ : زَنَيْتَ قَبْلَ إِسْلَامِكَ ، لَمْ يُحَدَّ الْقَاذِفُ اعْتِبَارًا بِحَالِ الزِّنَا دُونَ حَالِ الْقَذْفِ ، وَكَذَلِكَ فِي اللِّعَانِ بِالْقَذْفِ فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ فَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِحَالِ الزِّنَا دُونَ الْقَذْفِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَاذِفٌ بِالزِّنَا لِغَيْرِ زَوْجَتِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا دَلِيلٌ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ ، فَالْمَعْنَى فِي الزَّوْجَةِ ضَرُورَتُهُ إِلَى قَذْفِهَا لِرَفْعِ الْمَعَرَّةِ وَنَفْيِ النَّسَبِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَذِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَعَرَّةَ عَلَيْهِ ، وَلَا ضَرَرَ يَلْحَقُهُ فِيمَا لَمْ يَكُنْ فِي نِكَاحِهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّهُ قَدْ يَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا مِنَ الزِّنَا الْمُتَقَدِّمِ إِذَا وَضَعَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ عَقْدِهِ فَاضْطُرَّ إِلَى قَذْفِهَا وَالْتِعَانِهِ مِنْهَا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ الْتِعَانِهِ ، مِنْهَا إِنْ كَانَتْ ذَاتَ وَلَدٍ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - : يَجُوزُ حِينَئِذٍ لِلضَّرُورَةِ أَنْ يُلَاعِنَ لِأَنَّهُ

إِذَا جَازَ أَنْ يَنْفِيَ نَسَبًا بِزِنًا كَانَ عَلَى فِرَاشِهِ فَأَوْلَى أَنْ يَنْفِيَهُ بِزِنًا كَانَ قَبْلَ نِكَاحِهِ . وَلَا سَبِيلَ إِلَى نَفْيِهِ إِلَّا بِقَذْفِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهَا إِنْ كَانَتْ ذَاتَ وَلَدٍ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهَا وَإِنْ خَلَتْ مِنْ وَلَدٍ ؛ لِأَنَّهُ زِنًا مِنْ أَجْنَبِيَّةٍ ، وَلَا ضَرُورَةَ بِهِ إِلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ وَلَدٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَقْذِفَهَا بِزِنًا مُطْلَقٍ فَيُلَاعِنَ مِنْهُ وَلَا يَنْسِبُهُ إِلَى مَا قَبْلَ الزَّوْجِيَّةِ فَيَمْنَعُهُ مِنَ اللِّعَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ قَالَ : أَصَابَكِ رَجُلٌ فِي دُبُرِكِ الزوج حُدَّ أَوْ لَاعَنَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا لِعَانَ ، وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّهُ الْإِتْيَانُ فِي الدُّبُرِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ عِنْدَهُ ، فَلَمْ يُوجِبْهُ فِي الْقَذْفِ بِهِ . وَقَالَ الْمُزَنِيُّ : يَجِبُ فِي فِعْلِهِ وَفِي الْقَذْفِ بِهِ الْحَدُّ . وَلَا يَجُوزُ فِيهِ اللِّعَانُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحَبِّلُهَا بِمَائِهِ وَلَا يَقْدَحُ فِي نَسَبِهِ ، فَصَارَ كَالْوَاطِئِ دُونَ الْفَرْجِ ، وَهَذَا خَطَأٌ . وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى فَاعِلِهِ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوهُ وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْفَرْجَيْنِ فَجَازَ أَنْ يَجِبَ - بِالْإِيلَاجِ فِيهِ - الْحَدُّ كَالْقُبُلِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِ حَدِّ الْقَذْفِ فِي الرَّمْيِ بِهِ ، أَنَّهُ إِيلَاجٌ يُوجِبُ الْحَدَّ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْقَذْفِ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ كَالْقُبُلِ ، وَلِأَنَّ فِعْلَهُ أَقْبَحُ وَالْمَعَرَّةَ بِهِ أَفْضَحُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ اللِّعَانِ فِيهِ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلِأَنَّهُ قَذْفٌ يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ ، فَجَازَ فِيهِ اللِّعَانُ كَالْقُبُلِ ، فَإِذَا لَاعَنَ بِهِ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ وَثَبَتَ التَّحْرِيمُ بِهِ ، وَفِي جَوَازِ نَفْيِ الْوَلَدِ بِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَاقَةَ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفِيَهُ ؛ لِاسْتِحَالَةِ الْعُلُوقِ مِنْهُ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يَنْفِيَهُ لِأَنَّهُ قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَسْبِقَ الْإِنْزَالَ فَيَسْتَدْخِلَهُ الْفَرَجُ فَيَعْلَقَ بِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا قَذَفَهَا بِسِحَاقِ النِّسَاءِ فَلَا حَدَّ فِيهِ وَلَا لِعَانَ مِنْهُ ، لِأَنَّ فِعْلَهُ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ دُونَ الْحَدِّ ، فَكَذَلِكَ الْقَذْفُ بِهِ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ دُونَ الْحَدِّ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : وَطِئَكِ رَجُلَانِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ عُزِّرَ وَلَمْ يُحَدَّ لِاسْتِحَالَتِهِ فَصَارَ كَذِبًا صَرِيحًا ، وَخَرَجَ عَنِ الْقَذْفِ الْمُحْتَمِلِ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ ، وَاخْتُصَّ التَّعْزِيرُ لِلْأَذَى وَلَمْ يَجْرِ فِيهِ اللِّعَانُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ قَالَ لَهَا : يَا زَانِيَةُ بِنْتَ الزَّانِيَةِ - وَأُمُّهَا

حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ - فَطَلَبَتْ حَدَّ أُمِّهَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهَا ، وَحُدَّ لِأَنَّهَا إِذَا طَلَبَتْهُ أَوْ وَكِيلُهَا وَالْتَعَنَ لِامْرَأَتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حُبِسَ حَتَّى يَبْرَأَ جِلْدُهُ فَإِذَا بَرَأَ حُدَّ إِلَّا أَنْ يَلْتَعِنَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِقَوْلِهِ : يَا زَانِيَةُ بِنْتَ الزَّانِيَةِ قَاذِفًا لَهَا وَلِأُمِّهَا بِلَفْظَيْنِ فَقَوْلُهُ : يَا زَانِيَةُ ، هُوَ قَذْفٌ لِزَوْجَتِهِ وَلَيْسَ فِيهِ قَذْفٌ لِأُمِّهَا . وَقَوْلُهُ : بَنَتَ الزَّانِيَةِ ، هُوَ قَذْفٌ لِأُمِّهَا وَلَيْسَ فِيهِ قَذْفٌ لَهَا ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ لَهَا حَدَّانِ لَا تَعَلُّقَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ وَجَعَلَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ قَذْفًا وَاحِدًا وَأَوْجَبُوا فِيهِ حَدًّا وَاحِدًا ، وَأُجْرِيَ مَجْرَى قَوْلِهِ لَهُمَا : يَا زَانِيَتَانِ ، فَجَمَعُوا بَيْنَ قَذْفِهِمَا بِلَفْظِةٍ وَاحِدَةٍ ، وَبَيْنَ قَذْفِهِمَا بِلَفْظَتَيْنِ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ ، وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ مَتَى قَذَفَهُمَا بِلَفْظَيْنِ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدَّانِ ، وَإِنْ قَذْفَهُمَا بِلَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ - : يَجِبُ عَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ كَقَوْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ ، لِأَنَّ لَفْظَةَ الْقَذْفِ وَاحِدَةٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : - قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ - : يَجِبُ عَلَيْهِ حَدَّانِ ، لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ اثْنَتَانِ وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَعْلِيلِ هَذَا الشَّرْحِ إِبْطَالٌ لِقَوْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ ، وَإِذَا تَقَرَّرَ عَلَيْهِ بِهَذَيْنِ الْقَذْفَيْنِ حَدَّانِ : أَحَدُهُمَا لِزَوْجَتِهِ ، وَالْآخِرُ لِأُمِّهَا ، فَحَدُّ الْأُمِّ يَسْقُطُ عَنْهُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا بِإِقْرَارِهَا بِالزِّنَا ، وَإِمَّا بِأَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهَا بِالزِّنَا ، وَحَدُّ الزَّوْجَةِ يَسْقُطُ عَنْهُ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ : إِمَّا بِإِقْرَارِهَا ، وَإِمَّا بِالْبَيِّنَةِ ، وَإِمَّا بِاللِّعَانِ ، فَإِنْ سَقَطَ الْحَدَّانِ عَنْهُ بِإِقْرَارٍ أَوْ بِبَيِّنَةٍ بَرِئَ مِنْ حَقِّهِمَا ، وَإِنْ سَقَطَ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ حَقُّ الْآخَرِ ، وَإِنْ لَمْ يَسْقُطْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِإِقْرَارٍ وَلَا بِبَيِّنَةٍ وَاجْتَمَعَ الْحَدَّانِ عَلَيْهِ فَلَهُمَا إِذَا كَانَ الْقَاذِفُ مُطَالَبًا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ حَاضِرَةً وَأُمُّهَا غَائِبَةً فَيُحَدُّ لِلْبِنْتِ إِلَّا أَنْ يَلْتَعِنَ ، وَلَا يَقِفُ عَلَى حُضُورِ الْأُمِّ ، فَإِذَا حَضَرَتِ الْأُمُّ حُدَّ لَهَا ، وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ : إِنْ حُدَّ لِلُزُوجَةِ لَمْ يُحَدَّ لِلْأُمِّ ؛ لِأَنَّهُمْ يُوجِبُونَ حَدًّا وَاحِدًا ، وَإِنِ الْتَعَنَ مِنَ الزَّوْجَةِ حُدَّ لِلْأُمِّ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تَكُونَ الْأُمُّ حَاضِرَةً ، وَالزَّوْجَةُ غَائِبَةً ، فَيُحَدُّ لِلْأُمِّ ، وَلَا يَقِفُ حَدُّهَا عَلَى حُضُورِ الزَّوْجَةِ فَإِذَا حَضَرَتْ حُدَّ لَهَا إِلَّا أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهَا ، وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ : لَا يُحَدُّ لَهَا وَلَا يَلْتَعِنُ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ عِنْدَهُمْ وَاحِدٌ فَلَمْ يُوجِبُوا ثَانِيًا وَقَدْ صَارَ مَجْلُودًا فِي حَدٍّ فَلَمْ يَجُزْ عِنْدَهُمْ أَنْ يُلَاعِنَ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ تَكُونَا حَاضِرَتَيْنِ مُطَالِبَتَيْنِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْأُمَّ تُقَدَّمُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِحَقِّهَا عَلَى الْبِنْتِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَقُوَّةِ حَقِّهَا ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِقَذْفِهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَوُجُوبَهُ لِبِنْتِهَا وَهِيَ زَوْجَتُهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْحَدِّ لَهَا مَخْرَجٌ ، وَلَهُ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ لِزَوْجَتِهِ مَخْرَجٌ بِاللِّعَانِ ، فَصَارَتْ بِهَذَيْنِ أَحَقَّ بِالتَّقَدُّمِ ، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ : تُقَدَّمُ مُطَالَبَةُ الزَّوْجَةِ عَلَى مُطَالَبَةِ أُمِّهَا ، وَلِهَذَا الْقَوْلِ عِنْدِي وَجْهٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدَّمَ قَذْفَ الزَّوْجَةِ عَلَى قَذْفِ أُمِّهَا فِي قَوْلِهِ : يَا زَانِيَةُ بِنْتَ الزَّانِيَةِ فَصَارَتْ لِتَقَدُّمِ قَذْفِهَا أَحَقَّ بِالتَّقَدُّمِ ، فَإِنْ قُدِّمَتِ الْأُمُّ فِي الْمُطَالَبَةِ فَحُدَّ لَهَا ثُمَّ طَالَبَتْهُ الْبِنْتُ ، فَإِنْ أَجَابَ فِي مُطَالَبَتِهَا إِلَى اللِّعَانِ الْتَعَنَ مِنْهَا لِوَقْتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُجِبْ إِلَى اللِّعَانِ حُبِسَ وَلَمْ يُجْلَدْ لِوَقْتِهِ حَتَّى يَبْرَأَ جِلْدُهُ ثُمَّ يُحَدُّ لَهَا ، وَلَا يُوَالَى عَلَيْهِ بَيْنَ حَدَّيْنِ فَيُفْضِي إِلَى التَّلَفِ ، وَهَكَذَا لَوْ قُدِّمَتِ الزَّوْجَةُ فِي الْمُطَالَبَةِ فَإِنِ الْتَعَنَ مِنْهَا حُدَّ لِلْأُمِّ لِوَقْتِهِ ، وَإِنْ حُدَّ لِلزَّوْجَةِ وَلَمْ يَلْتَعِنَ مِنْهَا لَمْ يُحَدَّ فِي وَقْتِهِ لِلْأُمِّ ، وَحُبِسَ لَهَا حَتَّى يَبْرَأَ جِلْدُهُ ثُمَّ يُحَدُّ لِئَلَّا يُوَالَى عَلَيْهِ بَيْنَ حَدَّيْنِ ، فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيْسَ لَوْ قُطِعَ يَمِينُ يَدٍ مِنْ رَجُلٍ ، وَيُسْرَى يَدٍ مِنْ آخَرَ ، اقْتَصَصْنَا مِنْ يُمْنَاهُ وَيُسْرَاهُ لِوَقْتِهِ ، وَجَمَعْنَا عَلَيْهِ بَيْنَ قِصَاصَيْنِ وَإِنْ أَفْضَى إِلَى تَلَفِهِ ، فَهَلَّا كَانَ فِي الْحَدِّ كَذَلِكَ ؟ قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحَدَّ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ ، فَوَجَبَ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ بِزِيَادَةٍ ، وَالْقِصَاصَ مُقَدَّرٌ بِالْجِنَايَةِ فَجَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ لَا يَخْتَلِطُ بِزِيَادَةٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ الْقِصَاصَيْنِ لِأَنَّهُمَا قَدْ يَجْتَمِعَانِ فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ ، وَلَمْ يُجْمَعْ بَيْنَ الْحَدَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَمَتَى أَبَى اللِّعَانَ فَحَدَدْتُهُ إِلَّا سَوْطًا ثَمَّ قَالَ : أَنَا ألْتَعِنُ قَبِلْتُ رُجُوعَهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ فِيمَا مَضَى مِنَ الضَّرْبِ ، كَمَا يَقْذِفُ الْأَجْنَبِيَّةَ وَيَقُولُ : لَا آتِي بِشُهُودٍ فَيُضْرَبُ بَعْضَ الْحَدِّ ثُمَّ يَقُولُ : أَنَا آتِي بِهِمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ لَهُ ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إِذَا لَمْ تَلْتَعِنْ فَضُرِبَتْ بَعْضَ الْحَدِّ ثَمَّ تَقُولُ : أَنَا أَلْتَعِنُ ، قَبِلْنَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا امْتَنَعَ الزَّوْجُ بَعْدَ قَذْفِهِ مِنَ اللِّعَانِ فَحُدَّ بَعْضَ الْحَدِّ أَوْ أَكْثَرَهُ إِلَّا سَوْطًا ثُمَّ أَجَابَ إِلَى اللِّعَانِ كَانَ لَهُ أَنْ يَلْتَعِنَ ، وَهَكَذَا الزَّوْجَةُ إِذَا لَاعَنَهَا وَامْتَنَعَتْ مِنَ اللِّعَانِ بَعْدَهُ فَحُدَّتْ بَعْضَ الْحَدِّ ثُمَّ أَجَابَتْ إِلَى اللِّعَانِ جَازَ لَهَا أَنْ تَلْتَعِنَ ، وَحَكَى بَعْضُ أَصْحَابِ الْخِلَافِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَتَى أَجَابَ الزَّوْجُ إِلَى اللِّعَانِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي حَدِّهِ لَمْ يُجَبْ إِلَيْهِ ، وَاسْتُوفِيَ ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجَةُ ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِأَصْلِهِ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ بِقَذْفِ الزَّوْجِ حَدًّا عَلَيْهِ ، وَيَحْبِسُهُ حَتَّى يُلَاعِنَ ، وَلَا يُوجِبُ بِلِعَانِهِ حَدًّا عَلَيْهَا وَيَحْبِسُهَا حَتَّى تُلَاعِنَ فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمَحْكِيُّ عَنْهُ مَذْهَبًا لَهُ نَاقَضَ أَصْلَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَذْهَبًا لَهُ فَنَسْتَدِلُّ عَلَى فَسَادِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبًا لِغَيْرِهِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ اللِّعَانِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْحَدِّ ، شَيْئَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللِّعَانَ فِي إِدْرَاءِ الْحَدِّ كَالْبَيِّنَةِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ بَيِّنَتَهُ تُقْبَلُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي حَدِّهِ ، فَكَذَلِكَ الْتِعَانُهُ يُقْبَلُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُسْقِطَ بِاللِّعَانِ جَمِيعَ الْحَدِّ ، كَانَ إِسْقَاطُهُ بَعْضَ الْحَدِّ بِهِ أَوْلَى فَإِنْ قِيلَ : فَاللِّعَانُ عِنْدَكُمْ يَمِينٌ وَالْيَمِينُ إِذَا نَكَلَ عَنْهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثُمَّ أَجَابَ إِلَيْهَا بَعْدَ رَدِّهَا عَلَى الْمُدَّعِي لَمْ يَجُزْ أَنْ تُعَادَ إِلَيْهِ ، فَهَلَّا كَانَ اللِّعَانُ بَعْدَ النُّكُولِ عَنْهُ كَذَلِكَ ؟ قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْيَمِينَ حُجَّةٌ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَإِذَا نَكَلَ عَنْهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ صَارَتْ حُجَّةً لِلْمُدَّعِي ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُعَادَ إِلَيْهِ ، وَاللِّعَانُ حَقٌّ لَهُ لَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ ، فَإِذَا أَجَابَ إِلَيْهِ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ أُجِيبَ إِلَيْهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَقَالَ قَائِلٌ : كَيْفَ لَاعَنْتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْكُوحَةٍ نِكَاحًا فَاسِدًا بِوَلَدٍ وَاللَّهُ يَقُولُ : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ فَقُلْتُ لَهُ : قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ فَلَمْ يَخْتَلِفِ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ مَالِكُ الْإِصَابَةِ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ أَوْ مِلْكِ الْيَمِينِ ، قَالَ : نَعَمْ ، هَذَا الْفِرَاشُ . قُلْتُ : وَالزِّنَا لَا يَلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ وَلَا يَكُونُ بِهِ مَهْرٌ وَلَا يُدْرَأُ فِيهِ حَدٌّ ؟ قَالَ نَعَمْ . قُلْتُ : فَإِذَا حَدَثَتْ نَازِلَةٌ لَيْسَتْ بِالْفِرَاشِ الصَّحِيحِ وَلَا الزِّنَا الصَّرِيحِ وَهُوَ النِّكَاحُ الْفَاسِدُ ، أَلَيْسَ سَبِيلُهَا أَنْ نَقِيسَهَا بِأَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ بِهَا شَبَهًا ؟ قَالَ : نَعَمْ . قُلْتُ : فَقَدْ أَشْبَهَ الْوَلَدُ عَنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ الْوَلَدَ عَنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ فِي إِثْبَاتِ الْوَلَدِ وَإِلْزَامِ الْمَهْرِ وَإِيجَابِ الْعِدَّةِ ، فَكَذَلِكَ يَشْتَبِهَانِ فِي النَّفْيِ بِاللِّعَانِ ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : لَا يُلَاعِنُ إِلَّا حُرَّانِ مُسْلِمَانِ لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ ، وَتَرَكَ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ وَاعْتَلَّ بِأَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ وَإِنَّمَا هُوَ يَمِينٌ ، وَلَوْ كَانَ شَهَادَةً مَا جَازَ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ وَلَكَانَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ شَهَادَةِ الرَّجُلِ وَلَا كَانَ عَلَى شَاهِدٍ يَمِينٌ وَلَمَا جَازَ الْتِعَانُ الْفَاسِقَيْنِ ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا لَا تَجُوزُ ، فَإِنْ قِيلَ : قَدْ يَتُوبَانِ فَيَجُوزَانِ . قِيلَ : فَكَذَلِكَ الْعَبْدَانِ الصَّالِحَانِ قَدْ يُعْتَقَانِ فَيَجُوزَانِ مَكَانَهُمَا ، وَالْفَاسِقَانِ لَوْ تَابَا لَمْ يُقْبَلَا إِلَّا بِعْدَ طُولِ مُدَّةٍ يُخْتَبَرَانِ فِيهَا فَلَزِمَهُمْ أَنْ يُجِيزُوا لِعَانَ الْأَعْمَيَيْنِ النَّحِيفَيْنِ ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا عِنْدَهُمْ لَا تَجُوزُ أَبَدًا كَمَا لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْمَحْدُودَيْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَهُ ، يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنَ الْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا وَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنْفِيَ بِلِعَانِهِ نَسَبًا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعَنَ بَيْنَهُمَا إِنْ لَمْ يَنْفِ نَسَبًا .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ إِلَّا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ يَقَعُ فِيهِ طَلَاقُهُ وَيَصِحُّ فِيهِ ظِهَارُهُ ، وَلَا يُلَاعِنُ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ ، وَلَا فِي مَوْطُوءَةٍ بِشُبْهَةٍ وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ نَسَبٍ يَلْحَقُهُ ؛ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَيْسَتْ هَذِهِ زَوْجَتَهُ ، وَلِأَنَّهُ قَذْفٌ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ فَلَمْ يَجُزْ فِيهِ اللِّعَانُ كَالْأَجْنَبِيِّ ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ مَوْضُوعٌ لِلْفُرْقَةِ فَلَمْ يَصِحَّ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ كَالطَّلَاقِ ، وَلِأَنَّ مَنِ انْتَفَى عَنْهَا أَحْكَامُ النِّكَاحِ مِنَ الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ ، وَالْإِيلَاءِ انْتَفَى عَنْهَا أَحْكَامُ اللِّعَانِ كَالْأَجْنَبِيَّةِ ، وَكَغَيْرِ ذَاتِ الْوَلَدِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ، وَهَذِهِ فِي حُكْمِ الْأَزْوَاجِ فِي دَرْءِ الْحَدِّ ، وَوُجُوبِ الْمَهْرِ وَلُحُوقِ النَّسَبِ ، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ مِثْلَهُنَّ فِي جَوَازِ اللِّعَانِ ، وَلِأَنَّهَا ذَاتُ فِرَاشٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْيِ نَسَبِهِ بِغَيْرِ اللِّعَانِ ، فَجَازَ لَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ كَالزَّوْجَةِ ، وَخَالَفَتِ الْأَمَةُ الَّتِي يَقْدِرُ عَلَى نَفْيِ وَلَدِهَا بِالِاسْتِبْرَاءِ ، وَلِأَنَّ لُحُوقَ النَّسَبِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أَقْوَى ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُ بِالْعَقْدِ ، وَلُحُوقُهُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ أَضْعَفُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُ إِلَّا بِالْإِصَابَةِ ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَنْفِيَ بِاللِّعَانِ - أَقْوَى السَّبَبَيْنِ - كَانَ أَنْ يَنْفِيَ أَضْعَفَهُمَا أَوْلَى ؛ وَلِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ بِاللِّعَانِ شَيْئَانِ : رَفْعُ الْفِرَاشِ وَنَفْيُ النَّسَبِ ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِرَفْعِ الْفِرَاشِ جَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِنَفْيِ النَّسَبِ ؛ لِأَنَّ مَا قَدَرَ عَلَى رَفْعِ شَيْئَيْنِ قَدَرَ عَلَى رَفْعِ أَحَدِهِمَا ، وَلِأَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ مُسْتَقِرَّةٌ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ مُعْتَبَرَةٌ بِأَحْكَامِهَا فِي الصِّحَّةِ ، فَلَمَّا جَازَ نَفْيُ النَّسَبِ فِي صَحِيحِ الْمَنَاكِحِ كَانَ نَفْيُهُ فِي فَاسِدِهَا أَوْلَى . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ مَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ مِنْهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بِأَنَّهُ قُذْفٌ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ : فَهُوَ أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْأَزْوَاجِ فِي لُحُوقِ النَّسَبِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ زَوْجًا . فَلِذَلِكَ خَالَفَ فِيهِ الْأَجْنَبِيَّ لِاخْتِصَاصِهِ بِنَسَبٍ يُضْطَرُّ فِيهِ إِلَى نَفْيِهِ بِلِعَانٍ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْفُرْقَةِ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الطَّلَاقَ يُمْلَكُ بِالْعَقْدِ ، فَلَمْ يَثْبُتْ إِلَّا فِي صَحِيحِهِ دُونَ فَاسِدِهِ ، وَاللِّعَانَ يُمْلَكُ بِحُدُوثِ الزِّنَا ، فَجَازَ أَنْ يُمْلَكَ بِهِ فِي صَحِيحِ الْعَقْدِ وَفَاسِدِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الطَّلَاقَ مُخْتَصٌّ بِالْفُرْقَةِ ، وَالنِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى وُقُوعِ الْفُرْقَةِ ، وَاللِّعَانَ مَوْضُوعٌ لِنَفْيِ الْمَعَرَّةِ ، وَوُقُوعِ الْفُرْقَةِ ، وَنَفْيِ لِحَوْقِ النَّسَبِ ، فَصَحَّ فِيهِ اللِّعَانُ لِبَقَاءِ سَبَبِهِ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى مَنَعْنَاهُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْ غَيْرِ ذَاتِ وَلَدِ النَّسَبِ لِزَوَالِ أَسْبَابِهِ كُلِّهَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ اللِّعَانِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَوَطْءِ الشُّبْهَةِ وما يتعلق به من احكام ، تَعَلَّقَ بِالْتِعَانِهِ فِيهِمَا مِنْ أَحْكَامِ اللِّعَانِ الْأَرْبَعَةِ حُكْمَانِ :

أَحَدُهُمَا : دَرْءُ الْحَدِّ . وَالثَّانِي : نَفْيُ النَّسَبِ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ لِعَدَمِ النِّكَاحِ ، وَهَلْ يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمُ التَّأْبِيدِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَتَأَبَّدُ تَحْرِيمُهَا ، لِأَنَّ التَّحْرِيمَ تَابِعٌ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ . وَالثَّانِي : يَتَأَبَّدُ تَحْرِيمُهَا ، لِأَنَّ سُقُوطَ بَعْضِ أَحْكَامِ اللِّعَانِ لَا تُوجِبُ سُقُوطَ بَاقِيهَا ، وَقَدْ مَضَى ذِكْرُ الْوَجْهَيْنِ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

بَابُ أَيْنَ يَكُونُ اللِّعَانُ

بَابُ أَيْنَ يَكُونُ اللِّعَانُ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَاعَنَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ : فَإِذَا لَاعَنَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا فِي مَكَّةَ فَبَيْنَ الْمَقَامِ وَالْبَيْتِ أَوْ بِالْمَدِينَةِ فَعَلَى الْمِنْبَرِ أَوْ بِبَيْتٍ فَفِي مَسْجِدِهِ وَكَذَا كُلُّ بَلَدٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا اللِّعَانُ فَلَا يَصِحُّ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَاعَنَ بَيْنَ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ وَامْرَأَتِهِ وَبَيْنَ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي أَيَّامِهِ لِعَانٌ غَيْرُ هَذَيْنِ - فَتَوَلَّاهُ بَيْنَهُمَا ، وَلَمْ يَرُدَّهُ إِلَيْهِمَا وَلِأَنَّ اللِّعَانَ يَمِينٌ عِنْدَنَا - وَشَهَادَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ حَقٌّ إِلَّا بِحُكْمٍ ، فَإِذَا ثَبَتَ اخْتِصَاصُهُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ ، فَاللِّعَانُ مَوْضُوعٌ لِلزَّجْرِ حَتَّى لَا يُقْدِمَ الْمُتَلَاعِنَانِ عَلَى دَعْوَى كَذِبٍ وَارْتِكَابِ مَحْظُورٍ ، فَوَجَبَ تَغْلِيظُهُ بِمَا يَزْجُرُ عَنْهُ وَيَمْنَعُ مِنْهُ ، وَتَغْلِيظُهُ يَكُونُ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ : بِالتَّكْرَارِ ، وَبِالْمَكَانِ ، وَبِالزَّمَانِ ، وَبِالْجَمَاعَةِ . فَأَمَّا التَّكْرَارُ : فَهُوَ إِعَادَةُ لَفْظِهِ بِالشَّهَادَةِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ يَقُولُ فِيهَا : أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا ، وَيَلْعَنُ نَفْسَهُ فِي الْخَامِسَةِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ، وَتُكَرِّرُ الزَّوْجَةُ شَهَادَتَهَا بِاللَّهِ إِنَّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، وَتَأْتِي فِي الْخَامِسَةِ بِغَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ، وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ نَصِّ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ : فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [ النُّورِ : ] . وَتَكْرَارُ هَذَا الْعَدَدِ مُسْتَحَقٌّ وَشَرْطٌ فِي صِحَّةِ اللِّعَانِ ، فَإِنْ تُرِكَ بَعْضُهُ وَإِنْ قَلَّ لَمْ يَصِحَّ اللِّعَانُ وَلَمْ يَتِمَّ ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ تُرِكَ أَقَلُّهُ جَازَ ، وَإِنْ تُرِكَ أَكْثَرُهُ لَمْ يَجُزْ ، وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ يَأْتِي . وَأَمَّا تَغْلِيظُهُ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَالْجَمَاعَةِ فَهُوَ مَشْرُوعٌ يُؤْمَرُ بِهِ الْمُتَلَاعِنَانِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ ، وَلَا يُسْتَحَبُّ وَنَحْنُ نَدُلُّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَشْرُوعٌ ، فَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى تَغْلِيظِهِ بِالْمَكَانِ وَاخْتِصَاصِهِ بِأَشْرَفِ الْبِقَاعِ الَّتِي يُتَوَقَّى فِيهَا الْإِقْدَامُ عَلَى الْفُجُورِ ، فَرِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَاعَنَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْمِنْبَرِ فَدَلَّ اخْتِصَاصُهُ بِالْمِنْبَرِ عَلَى تَغْلِيظِهِ بِهِ لِشَرَفِهِ ، وَلِعَظَمِ الْعُقُوبَةِ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعَاصِي فِيهِ .

وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَنْ حَلَفَ يَمِينًا فَاجِرَةً عَلَى مِنْبَرِي هَذَا ، وَلَوْ عَلَى سِوَاكٍ مَنْ أَرَاكٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ وَمَرَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِقَوْمٍ يُحَلِّفُونَ رَجُلًا بَيْنَ الْبَيْتِ وَالْمَقَامِ فَقَالَ : أَفِي دَمٍ ؟ قِيلَ : لَا . قَالَ : أَفَعَلَى عَظِيمٍ مِنَ الْمَالِ ؟ قِيلَ : لَا . قَالَ : لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَتَهَاوَنَ النَّاسُ بِهَذَا الْمَكَانِ ، وَإِذَا تَغَلَّظَتْ بِهِ الْأَيْمَانُ فَأَوْلَى أَنْ تُغَلَّظَ بِهِ فِي اللِّعَانِ . أَمَّا تَغْلِيظُهُ بِالزَّمَانِ فَهُوَ بَعْدَ الْعَصْرِ ، وَقِيلَ : إِنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ [ الْمَائِدَةِ : ] قِيلَ : إِنَّهُ أَرَادَ بِهَا صَلَاةَ الْعَصْرِ ، وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ ؛ رَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا ثُمَّ خَانَهُ ، وَرَجُلٌ حَلَفَ بَعْدَ الْعَصْرِ يَمِينًا فَاجِرَةً لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ، وَرَجُلٌ فَضُلَ عَنْهُ مَاءٌ بِالْفَلَاةِ فَلَمْ يَدْفَعْهُ إِلَى أَخِيهِ . وَأَمَّا تَغْلِيظُهُ بِالْجَمَاعَةِ فَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ جَمَاعَةٌ أَقَلُّهُمْ أَرْبَعَةٌ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ النُّورِ : ] ، وَالْعَذَابُ هُوَ الْحَدُّ ، فَكَذَلِكَ اللِّعَانُ لِتَعَلُّقِهِ بِهِ ؛ وَلِأَنَّ اللِّعَانَ رَوَاهُ أَحْدَاثُ الصَّحَابَةِ ، كَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ ، وَلَا يَحْضُرُ مِنَ الْأَحْدَاثِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ إِلَّا مَعَ أَضْعَافِهِمْ مِنْ ذَوِي الْأَسْنَانِ ، وَلِيَكُونَ اجْتِمَاعُ النَّاسِ فِيهِ أَزْجَرَ وَأَرْدَعَ وَلِيَكُونُوا حُجَّةً إِنْ تَنَاكَرَ الْمُتَلَاعِنَانِ .

مَسْأَلَةٌ : " قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : قَالَ : وَيَبْدَأُ فَيُقِيمُ الرَّجُلَ قَائِمًا وَالْمَرْأَةَ جَالِسَةً فَيَلْتَعِنُ ثُمَّ يُقِيمُ الْمَرْأَةَ قَائِمَةً فَتَلْتَعِنُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَائِضًا فَعَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . الِابْتِدَاءُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ قَبْلَ الزَّوْجَةِ مُسْتَحَقٌّ بِالشَّرْعِ وَهُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ ، فَإِنْ تَقَدَّمَتِ الزَّوْجَةُ بِلِعَانِهَا لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ . وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : تَقْدِيمُ الزَّوْجِ مَشْرُوعٌ وَلَيْسَ بِمَشْرُوطٍ ، فَإِنْ تَقَدَّمَتِ الزَّوْجَةُ جَازَ ، وَكَانَ مُعْتَدًّا بِهِ . وَهَذَا فَاسِدٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ [ النُّورِ : ] فَجَعَلَ لِعَانَهَا إِدْرَاءً لِلْعَذَابِ عَنْهَا وَهُوَ الْحَدُّ عِنْدَنَا وَالْحَبْسُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالْإِدْرَاءُ عَنْهَا يَكُونُ لِمَا وَجَبَ عَلَيْهَا . وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا فِي النَّصِّ الْمُخَالِفِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : نَصُّ التَّنْزِيلِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ التَّعْلِيلِ فِي إِدْرَاءِ الْعَذَابِ عَنْهَا بَعْدَ وُجُوبِهِ عَلَيْهَا .

وَالثَّانِي : نَصُّ السُّنَّةِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ ابْتَدَأَ فِي السَّعْيِ بِالصَّفَا ، وَقَالَ : ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ تَغْلِيظُهُ بِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى شَرْحِ كُلِّ فَصْلٍ مِنْهَا ، أَمَّا تَغْلِيظُهُ بِتَكْرَارِ الْعَدَدِ فَسَنَذْكُرُ شَرْحَهُ مِنْ بَعْدُ ، وَأَمَّا تَغْلِيظُهُ بِالْمَكَانِ اللعان فَفِي أَشْرَفِ مَكَانٍ فِي الْبَلَدِ الَّذِي يَتَلَاعَنَانِ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَبَيْنَ الْمَقَامِ وَالْبَيْتِ ، وَيُسَمَّى هَذَا الْمَوْضِعُ الْحَطِيمَ ، قِيلَ : لِأَنَّهُ يُحَطِّمُ الْعُصَاةَ ، وَإِنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَفِي مَسْجِدِهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ : هَاهُنَا عَلَى الْمِنْبَرِ . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : عِنْدَ الْمِنْبَرِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحَاكِمَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُلَاعِنَ بَيْنَهُمَا عَلَى الْمِنْبَرِ أَوْ عِنْدَهُ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّهُ لَا يُلَاعِنُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْمِنْبَرِ ؛ لِأَنَّهُ مَقَامُ عُلُوٍّ وَشَرَفٍ ، وَاللِّعَانُ نَكَالٌ وَخِزْيٌ فَاخْتَلَفَ مَقَامُهُمَا لِتَنَافِيهِمَا ، وَحُمِلَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْمِنْبَرِ ، أَيْ عِنْدَهُ ؛ وَلِأَنَّهَا حُرُوفُ صِفَاتٍ يُخْلِفُ بَعْضُهَا بَعْضًا . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ ، فَيُلَاعِنُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْمِنْبَرِ إِنْ كَثُرَ النَّاسُ ، وَعِنْدَ الْمِنْبَرِ إِنْ قَلُّوا ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مُشَاهَدَةُ الْحَاضِرِينَ لَهُمَا ، وَسَمَاعُ لِعَانِهِمَا ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ وَإِنْ كَانَ نَكَالًا أَنْ يَكُونَ فِي مَقَامِ شَرَفٍ ، كَمَا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي الْبِقَاعِ الشَّرِيفَةِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي النَّكَالِ . وَإِنْ كَانَ هَذَا اللِّعَانُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَ فِي مَسْجِدِهَا الْأَقْصَى ، وَفِي مَوْضِعِ الِاخْتِيَارِ مِنْهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيِّ ، وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْقَطَّانِ : عِنْدَ الصَّخْرَةِ ؛ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ بِقَاعِهِ وَالْوَجْهِ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ وَطَائِفَةٍ : أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْمِنْبَرِ أَوْ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَخَصُّ بِالشُّهْرَةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبِلَادِ فَفِي جَوَامِعِهَا ، لِأَنَّهَا أَشْرَفُ بِقَاعِ الْعِبَادَاتِ ، وَيَكُونُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ أَوْ عَلَيْهِ عَلَى مَا مَضَى ، وَأَمَّا تَغْلِيظُهُ بِالزَّمَانِ فَمِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ ، وَإِقَامَةِ جَمَاعَتِهَا ، وَلَا يَلْتَعِنَانِ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا وَقَبْلَ إِقَامَتِهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ [ الْمَائِدَةِ : ] وَلِأَنَّ مَا بَعْدَ الصَّلَاةِ وَقْتٌ لِلدُّعَاءِ ، وَلِارْتِفَاعِ الْأَعْمَالِ ، وَأَمَّا تَغْلِيظُهُ بِالْجَمَاعَةِ ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُمْ أَرْبَعَةٌ ، فَمَا زَادَ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ الْبَيِّنَةِ فِي الزِّنَا ، وَيَكُونُوا عُدُولًا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لِيَجْتَمِعَ الْأَشْهَادُ بِحُضُورِهِمْ ، وَالْبَيِّنَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِشَهَادَتِهِمْ .



فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ تَغْلِيظِ اللِّعَانِ شَرْعًا بِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فَهِيَ فِي اللُّزُومِ وَالِاخْتِيَارِ مُنْقَسِمَةٌ أَقْسَامًا : أَحَدُهَا : مَا كَانَ شَرْطًا مُسْتَحَقًا فِيهِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ ، وَهُوَ تَكْرَارُ شَهَادَتِهِمَا أَرْبَعًا ، وَفِي الْخَامِسَةِ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الزَّوْجِ وَغَضَبُ اللَّهِ عَلَى الزَّوْجَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا كَانَ مُسْتَحَبًّا وَلَمْ يَكُنْ شَرْطًا مُسْتَحَقًا وَهُوَ شَيْئَانِ . أَحَدُهُمَا : تَغْلِيظُهُ بِالزَّمَانِ ، وَتَغْلِيظُهُ بِالْجَمَاعَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ ، وَهُوَ تَغْلِيظُهُ بِالْمَكَانِ اللعان ، وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ ، نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " عَلَى مَا حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ شَرْطٌ مُسْتَحَقٌّ لَا يَتِمُّ اللِّعَانُ إِلَّا بِهِ إِلْحَاقًا بِتَكْرَارِ اللَّفْظِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ وَلَا يُؤَثِّرُ تَرْكُهُ فِي صِحَّةِ اللِّعَانِ وَجَوَازِهِ إِلْحَاقًا بِالزَّمَانِ وَالْجَمَاعَةِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ وُجُوبُ الِابْتِدَاءِ بِلِعَانِ الزَّوْجِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَ حُضُورِ الزَّوْجَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لِعَانٌ بَيْنَهُمَا فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بَعْدَ اجْتِمَاعِهِمَا ، وَأَقَلُّ مَا فِي اجْتِمَاعِهِمَا أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَيْثُ يَسْمَعُ كَلَامَ صَاحِبِهِ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَرَاهُ مَعَ سَمَاعٍ لِعَانِهِ لِيَسْتَطِيعَ الْإِشَارَةَ إِلَيْهِ ، فَإِنْ تَبَاعَدَا عَنْ هَذَا الْمَوْقِفِ فَلَمْ يَرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَلَا سَمِعَ كَلَامَهُ ، فَأَوْلَى الْأُمُورِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَيْثُ يَجْمَعُ أَرْبَعَةً مِنْ شُهُودِ اللِّعَانِ بَيْنَ رُؤْيَتِهِمَا وَسَمَاعِ كَلَامِهِمَا ، فَإِنْ تَبَاعَدَا عَنْ هَذَا الْمَوْقِفِ الثُّنَائِيِّ ، وَتَبَاعَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ رُؤْيَةِ صَاحِبِهِ وَعَنْ جَمْعِ الشُّهُودِ بَيْنَ رُؤْيَتِهِمَا وَسَمَاعِ كَلَامِهِمَا جَازَ ، لِأَنَّ لِعَانَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ مَوْتِ صَاحِبِهِ جَائِزٌ ، وَالْمَوْتُ قَاطِعٌ لِلِاجْتِمَاعِ ، لَكِنْ إِنْ بَعُدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ عُذْرٍ كَانَ مَكْرُوهًا ، وَإِنْ كَانَ بِعُذْرٍ لَمْ يُكْرَهْ ، وَمِنَ الْأَعْذَارِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ حَائِضًا ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَدْخُلَ الْمَسْجِدَ لَكِنْ تَقِفُ فِي أَقْرَبِ بَوَّابَةٍ مِنَ الْمِنْبَرِ الَّذِي يُلَاعِنُ فِيهِ الزَّوْجُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا اسْتَقَرَّ هَذَا الشَّرْحُ اخْتِيَارًا وَجَوَازًا ابْتَدَأَ الْحَاكِمُ بِالزَّوْجِ فَأَقَامَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ أَوْ عِنْدَهُ وَالزَّوْجَةُ جَالِسَةٌ ، لِيَكُونَ قِيَامُ الزَّوْجِ أَشْهَرَ لَهُ فِي النَّاسِ لِيُشَاهِدَهُ جَمِيعُهُمْ فَيَنْزَجِرَ وَلِيَرَاهُ وَيَسْمَعَهُ جَمِيعُهُمْ فَيَشْهَدُوا ، فَإِذَا الْتَعَنَ عَلَى مَا سَنَصِفُهُ نَزَلَ عَنْ مَقَامِهِ وَجَلَسَ وَقَامَتِ الزَّوْجَةُ فِي مِثْلِ مَقَامِهِ وَلَاعَنَتْ مِثْلَ لِعَانِهِ عَلَى مَا سَنَصِفُهُ مِنَ اخْتِلَافِ اللَّفْظِ فِيهِمَا ، فَإِنِ الْتَعَنَا جَالِسَيْنِ كُرِهَ وَأَجْزَأَهُ إِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ ، وَلَمْ يُكْرَهْ إِنْ كَانَ لِعُذْرٍ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " أَوْ كَانَتْ مُشْرِكَةً الْتَعَنَتْ فِي الْكَنِيسَةِ وَحَيْثُ تُعَظِّمُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا تَرَافَعَ إِلَى حُكَّامِنَا زَوْجَانِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي لِعَانٍ لَاعَنَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَوَاضِعِ الْمُعَظَّمَةِ عِنْدَهُمَا ، وَلَمْ يُلَاعِنْ فِي مَسَاجِدِنَا وَإِنْ كَانَتْ أَعْظَمَ حُرْمَةً ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِمَوَاضِعِ اللِّعَانِ مَا يَعْتَقِدُهُ الْمُتَلَاعِنَانِ مِنْ تَعْظِيمِهِمَا وَعِظَمِ الْمَآثِمِ فِي هَتْكِ حُرْمَتِهَا ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ لَا يَرَوْنَ لِتَعْظِيمِ مَسَاجِدِنَا مَا يَرَوْنَهُ مِنْ تَعْظِيمِ بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ فَلِذَلِكَ خَصَّهُمْ بِالِالْتِعَانِ فِيهَا فَإِنْ كَانَا يَهُودِيَّيْنِ لَاعَنَ بَيْنَهُمَا فِي الْكَنِيسَةِ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ مَوَاضِعِهِمْ ، وَإِنْ كَانَا نَصْرَانِيَّيْنِ لَاعَنَ بَيْنَهُمَا فِي بِيَعِهِمْ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ مَوَاضِعِهِمْ ، وَإِنْ كَانَا مَجُوسِيَّيْنِ لَاعَنَ بَيْنَهُمَا فِي بَيْتِ نِيرَانِهِمْ ، وَجَازَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْضُرَهَا فِي لِعَانِهِمْ ، لِأَنَّ حُضُورَهَا لَيْسَ بِمَحْظُورٍ ، وَإِنَّمَا إِظْهَارُ الْمَعَاصِي فِيهَا مَحْظُورٌ ، فَإِذَا لَمْ يُشَاهِدْهَا فِي بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ جَازَ الدُّخُولُ إِلَيْهَا .

فَصْلٌ : وَإِذَا غَلُظَ لِعَانُ الذِّمِّيِّينَ بِمَا يُعَظِّمُونَ مِنَ الْأَمْكِنَةِ كَانَ تَغْلِيظُهُ بِمَا يُعَظِّمُونَ مِنَ الْأَيْمَانِ مُعْتَبَرًا بِخُلُوِّهِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ ، فَمَا خَلَى مِنْ مَعْصِيَةٍ جَازَ تَغْلِيظُ أَيْمَانِهِمْ بِهِ كَقَوْلِهِ فِي لِعَانِ الْيَهُودِيَّيْنِ : - أَشْهَدُ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى ، وَفِي لِعَانِ النَّصْرَانِيَّيْنِ : أَشْهَدُ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى ، فَقَدْ رَوَى جَابِرٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَرَادَ إِحْلَافَ الْيَهُودِ عِنْدَ إِنْكَارِهِمْ آيَةَ الرَّجْمِ قَالَ لَهُمْ : " بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى " فَأَمَّا مَا فِيهِ مِنْ أَيْمَانِهِمْ مَعْصِيَةٌ ، فَلَا يَجُوزُ تَغْلِيظُ لِعَانِهِمْ بِهِ كَقَوْلِ الْيَهُودِ : فِي عُزَيْرٍ : إِنَّهُ ابْنُ اللَّهِ ، وَقَوْلِ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ ، أَوْ كَيَمِينِ غَيْرِهِمْ بِأَصْنَامِهِمْ وَأَوْثَانِهِمْ ، وَهَكَذَا لَا يَجُوزُ إِحْلَافُ الْيَهُودِ بِمُوسَى ، وَلَا إِحْلَافُ النَّصَارَى بِعِيسَى ، كَمَا لَا يَجُوزُ إِحْلَافُ الْمُسْلِمِينَ بِمُحَمَّدٍ ، لِأَنَّ الْأَيْمَانَ بِالْمَخْلُوقِينَ مَحْظُورٌ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : ( وَإِنْ شَاءَتِ الْمُشْرِكَةُ أَنْ تَحْضُرَهُ فِي الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا حَضَرَتْهُ إِلَّا أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا يَكُونُ فِي لِعَانِ الْكِتَابِيَّةِ إِذَا كَانَتْ تَحْتَ مُسْلِمٍ فَيُلَاعِنُ الزَّوْجُ فِي الْمَسْجِدِ . فَأَمَّا الْكِتَابِيَّةُ فَلِعَانُهَا فِيمَا تُعَظِّمُهُ مِنْ بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ أَوْلَى مِنْ لِعَانِهَا فِي مَسَاجِدِنَا ، فَإِنْ وَافَقَهَا الزَّوْجُ عَلَى الْتِعَانِهِمَا فِي مَسَاجِدِنَا لَمْ يُمْنَعْ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ يُجَوِّزُ إِدْخَالَ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِلَى جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يُجَوِّزُ إِدْخَالَهُمْ إِلَى جَمِيعِهَا وَإِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَمَالِكٌ يَمْنَعُ مِنْ إِدْخَالِهِمْ إِلَى جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ كَمَا يُمْنَعُونَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِمَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [ التَّوْبَةِ : ] فَنَصُّهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .

وَدَلِيلُنَا عَلَى مَالِكٍ : قَدْ رَبَطَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ إِلَى سَارِيَةٍ فِي مَسْجِدِهِ إِلَى أَنْ سَمِعَ سُورَةَ طه فَأَسْلَمَ وَقَالَ : كَانَ قَلْبِي يَتَصَدَّعُ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَالِكٍ .

فَصْلٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " إِذَا جُعِلَ لِلْمُشْرِكَةِ أَنْ تَحْضُرَهُ فِي الْمَسْجِدِ وَعَسَى بِهَا مَعَ شِرْكِهَا أَنْ تَكُونَ حَائِضًا كَانَتِ الْمُسْلِمَةُ بِذَلِكَ أَوْلَى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا الْكَلَامُ مِنَ الْمُزَنِيِّ بَيَانٌ عَمَّا يَذْهَبُ إِلَيْهِ مِنْ جَوَازِ دُخُولِ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْمَسَاجِدِ ، كَمَا يَجُوزُ دُخُولُ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِلَيْهَا وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ جُنُبٌ وَحَائِضٌ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّنَا إِذَا لَمْ نَعْلَمْ أَنَّ الدَّاخِلَ جُنُبٌ وَلَا حَائِضٌ لَمْ تُمْنَعْ ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِجُنُبٍ وَلَا حَائِضٍ ، وَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُ جُنُبٌ أَوْ حَائِضٌ قَدْ أُمِنَ تَنْجِيسُ الْمَسْجِدِ بِدَمِهَا ، فَفِي جَوَازِ تَمْكِينِهِمْ مِنْ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُمْنَعُونَ مِنْهَا وَلَا يُمَكَّنُونَ كَمَا يُمْنَعُ الْمُسْلِمُ ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ اسْتِدْلَالُهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُمْ يُمَكَّنُونَ وَلَا يُمْنَعُونَ مِنَ الدُّخُولِ مَعَ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ إِلَّا أَنْ لَا يُؤْمَنَ بِتَنْجِيسِ الْمَسْجِدِ بِدَمِ الْحَيْضِ ، فَيُمْنَعُوا وَإِنْ خَالَفُوا فِيهِ الْمُسْلِمِينَ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُسْلِمَ مُلْتَزِمٌ لِحُرْمَةِ الْمَسْجِدِ وَتَعْظِيمِهِ فَلَزِمَهُ اجْتِنَابُهُ مَعَ تَغْلِيظِ حَدَثِهِ ، وَلَيْسَ الْمُشْرِكُ مُلْتَزِمًا لِهَذِهِ الْحُرْمَةِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ اجْتِنَابُهُ مَعَ حَدَثِهِ ، فَإِنِ اخْتَلَفَ الزَّوْجُ الْمُسْلِمُ وَالزَّوْجَةُ الذِّمِّيَّةُ فِي مَوْضِعِ لِعَانِهِمَا مِنْ مَسْجِدٍ أَوْ كَنِيسَةٍ ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجِ دُونَهَا لِأَنَّ التَّغْلِيظَ عَلَيْهَا فِي اللِّعَانِ حَقٌّ لَهُ عَلَيْهَا ، فَإِنْ دَعَتْ إِلَى لِعَانِهَا فِي الْمَسْجِدِ وَقَالَ الزَّوْجُ فِي الْكَنِيسَةِ ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ أَوْلَى لِيَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ فِي التَّغْلِيظِ عَلَيْهَا ، وَإِنْ دَعَتِ الزَّوْجَةُ إِلَى لِعَانِهَا فِي الْكَنِيسَةِ وَدَعَى الزَّوْجُ إِلَى لِعَانِهَا فِي الْمَسْجِدِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنَ التَّغْلِيظِ عَلَيْهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ وَلَا دِينَ لَهُمَا تَحَاكَمَا إِلَيْنَا لَاعَنَ بَيْنَهُمَا فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا كَانَ الزَّوْجَانِ الْمُشْرِكَانِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَيْسَ لَهُمَا دِينٌ مَعْرُوفٌ اللعان كَالزَّنَادِقَةِ وَالدَّهْرِيَّةِ لَاعَنَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا فِي مَجْلِسِهِ إِذَا تَرَافَعَا إِلَيْهِ وَسَقَطَ تَغْلِيظُ لِعَانِهِمَا بِالْمَكَانِ لِاسْتِوَاءِ الْأَمَاكِنِ كُلِّهَا عِنْدَهُمْ وَأَنَّهُمْ لَا يُمَيَّزُونَ بِتَعْظِيمِ مَكَانٍ مِنْهَا ، فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يُحَلِّفُهُمَا بِاللَّهِ وَهُمَا لَا يَعْتَقِدَانِ تَوْحِيدَهُ وَلَا يُثْبِتَانِ قُدْرَتَهُ وَلَا عِقَابَهُ ، وَالْيَمِينُ تُوضَعُ زَجْرًا لِمَنِ اعْتَرَفَ بِاللَّهِ وَخَافَ عَذَابَهُ لِيَتَوَقَّاهُمَا فِي الْإِقْدَامِ بِهَا عَلَى الْمَعَاصِي ،

فَهَلَّا عَدَلَ عَنْ إِحْلَافِهِمْ بِاللَّهِ تَعَالَى إِلَى مَا يَكُونُ تَوَقِّيهِمْ لَهُ أَكْثَرَ وَحَذَرُهُمْ مِنْهُ أَعْظَمَ ، قِيلَ : الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى مَعْصِيَةٌ قَدْ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهَا ، وَلَيْسَ إِذَا كَانَ تَوَقِّيهِمْ لِغَيْرِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَقْتَضِي تَسْوِيغَ إِحْلَافِهِمْ بِهِ ، وَأَنَّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَتَوَقَّى الْحَلِفَ بِسُلْطَانِهِ أَكْثَرَ مِنْ تَوَقِّي الْحَلِفِ بِاللَّهِ ، وَيَجِبُ إِحْلَافُهُمْ بِاللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّوْهُ ، وَلَا يَجُوزُ إِحْلَافُهُمْ بِسُلْطَانِهِمْ وَإِنْ تَوَقَّوْهُ ، كَذَلِكَ حَالُ مَنْ لَا دِينَ لَهُ مِنَ الْكَفَّارِ يَحْلِفُونَ فِي أَيْمَانِهِمْ بِاللَّهِ وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّوْهُ . وَيُسْتَفَادُ بِهَا فِي اللِّعَانِ وَغَيْرِهِ ثُبُوتُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ وَتَأْيِيدِ التَّحْرِيمِ وَنَفْيِ النَّسَبِ لِتَجْرِيَ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ إِكْرَاهًا وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدُوهَا دِينًا ، وَيَكُونُوا مُؤَاخَذِينَ بِعِقَابِ اجْتِرَائِهِمْ مَعَ عِقَابِ كُفْرِهِمْ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِنْ أَغْلَطَ عَلَيْهِمْ بِمَا يُعَظِّمُونَهُ مِنْ بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ - وَإِنْ كَانَتْ مُوَاطِنَ كَفْرِهِمْ - هَلَّا غَلَّظَ عَلَيْهِمْ بِمَا يُعَظِّمُونَهُ مِنْ أَيْمَانِهِمْ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ مَعَاصِيهِمْ . قِيلَ : لَيْسَتْ بِيَعُهُمْ وَكَنَائِسُهُمْ مَعْصِيَةً ، إِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ مَا يُبْدُونَهُ فِيهَا مِنْ كُفْرِهِمْ وَيَتَظَاهَرُونَ بِهِ مِنْ شِرْكِهِمْ فَجَازَ الدُّخُولُ إِلَيْهَا إِذَا لَمْ يُجَاهِرُونَا فِيهَا بِكُفْرِهِمْ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ أَيْمَانِهِمْ بِمَا يُعَظِّمُونَهُ مِنْ أَوْثَانِهِمْ وَأَصْنَامِهِمْ لِكَوْنِهَا مَعَاصِيَ يُسْتَحَقُّ الْعِقَابُ عَلَيْهَا فَافْتَرَقَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ - .

بَابُ سُنَّةِ اللِّعَانِ وَنَفْيِ الْوَلَدِ وَإِلْحَاقِهِ بِالْأُمِّ

بَابُ سُنَّةِ اللِّعَانِ وَنَفْيِ الْوَلَدِ وَإِلْحَاقِهِ بِالْأُمِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كِتَابَيْ لِعَانٍ جَدِيدٍ وَقَدِيمٍ وَمِنِ اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : أَخْبَرَنَا مَالِكٌ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَجُلًا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا فَفَرَّقَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ ، وَقَالَ سَهْلٌ وَابْنُ شِهَابٍ : فَكَانَتْ تِلْكَ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اللِّعَانَ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ ، وَخَامِسٌ مُخْتَصٌّ بِالزَّوْجَةِ وَحْدَهَا ، فَأَحَدُ الْأَرْبَعَةِ : دَرْءُ الْحَدِّ عَنِ الزَّوْجِ ، وَالثَّانِي : نَفْيُ النَّسَبِ عَنْهُ . الثَّالِثُ : وُقُوعُ الْفُرْقَةِ ، وَالرَّابِعُ : تَحْرِيمُ التَّأْبِيدِ ، وَالْخَامِسُ الْمُخْتَصُّ بِالزَّوْجَةِ : وُجُودُ حَدِّ الزِّنَا عَلَيْهَا إِلَّا أَنْ تُلَاعِنَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الَّذِي يَخْتَصُّ بِاللِّعَانِ حُكْمَانِ ، وُقُوعُ الْفُرْقَةِ ، وَنَفْيُ النَّسَبِ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ سُقُوطُ الْحَدِّ عَنِ الزَّوْجِ ، وَلَا وُجُوبُ الْحَدِّ عَنِ الزَّوْجَةِ ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ اللِّعَانَ عَلَيْهِمَا بِحَبْسِهَا عَلَيْهِ عِنْدَ امْتِنَاعِهِمَا ، وَلَا يُوقِعُ عِنْدَهُ تَحْرِيمَ التَّأْبِيدِ ؛ لِأَنَّهُ يَحِلُّهَا لَهُ إِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي وُجُوبِ الْحَدَّيْنِ ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ فِي تَأْبِيدِ التَّحْرِيمِ ، وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : الْمُتَلَاعِنَانِ إِذَا تَفَرَّقَا لَمْ يَجْتَمِعَا أَبَدًا ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ : اللِّعَانُ مُخْتَصٌّ بِنَفْيِ النَّسَبِ وَحْدَهُ وَلَا يُوقِعُ الْفُرْقَةَ إِلَّا بِطَلَاقِ الزَّوْجِ فَتَقَعُ الْفُرْقَةُ بِالطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّ الْعَجْلَانِيَّ طَلَّقَ حِينَ لَاعَنَ فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا بِالطَّلَاقِ وَقَدْ رَوَى أَبُو مَالِكٍ ، عَنْ عَاصِمٍ ، عَنْ زِرٍّ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - : أَنَّهُمَا قَالَا : " مَضَتِ السُّنَّةُ أَنْ لَا يَجْتَمِعَ الْمُتَلَاعِنَانِ أَبَدًا " وَذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَأَنَّهُمَا رَوَيَاهُ نُطْقًا ، وَسَيَأْتِي مِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِمَا مَا يَدْفَعُ قَوْلَهُمَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا اسْتَقَرَّ ثُبُوتُ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ بِاللِّعَانِ ، فَنَفْيُ النَّسَبِ مُخْتَصٌّ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْفُرْقَةِ بِمَاذَا تَقَعُ ؟ بين الْمُتَلَاعِنَيْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تَقَعُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ وَكَذَلِكَ الْأَحْكَامُ

الْخَمْسَةُ ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ لِعَانُ الزَّوْجَةِ بِإِسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهَا لَا غَيْرَ ، وَأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِالْفُرْقَةِ يَكُونُ تَنْفِيذًا وَلَا يَكُونُ إِيقَاعًا . وَقَالَ مَالِكٌ ، وَرَبِيعَةُ ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، وَدَاوُدُ : إِنَّ الْفُرْقَةَ تَقَعُ بِلِعَانِ الزَّوْجَيْنِ وَلَا تَقَعُ بِلِعَانِ أَحَدِهِمَا ، وَيَكُونُ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِالْفُرْقَةِ تَنْفِيذًا لَا إِيقَاعًا ، فَخَالَفُوا الشَّافِعِيَّ فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِلِعَانِهِمَا وَوَافَقُوهُ فِي أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِهَا تَنْفِيذٌ وَلَيْسَ بِإِيقَاعٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْفُرْقَةُ لَا تَقَعُ إِلَّا بِلِعَانِهِمَا وَتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا ، فَيَكُونُ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِهَا إِيقَاعًا لَهَا لَا تَنْفِيذًا ، وَيَكُونُ إِيقَاعُهُ الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا وَاجِبًا عَلَيْهِ ، وَاسْتَدَلُّوا جَمِيعًا عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَقَعُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَاعَنَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ، فَلَمَّا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ لِعَانِهِمَا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَقَعُ بِلِعَانِ أَحَدِهِمَا ، وَجَعَلَ مَالِكٌ حُكْمَهُ بِالْفُرْقَةِ بَعْدَ لِعَانِهِمَا تَنْفِيذًا ، وَجَعَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ إِيقَاعًا ، وَلِأَنَّ الْعَجْلَانِيَّ قَالَ : إِنْ أَمْسَكْتُهَا فَقَدْ كَذَبْتُ عَلَيْهَا وَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا ، وَلَوْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِلِعَانِهِ لَأَنْكَرَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قَالَهُ مِنْ إِمْسَاكِهَا ، وَمَا أَوْقَعَهُ مِنْ طَلَاقِهَا ، وَفِي إِقْرَارِهِ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ تَقَعْ بَيْنَهُمَا ، وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّهَا فُرْقَةٌ لَا يَثْبُتُ سَبَبُهَا إِلَّا عِنْدَ الْحَاكِمِ ، فَلَمْ تَقَعْ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ ، كَالْعُنَّةِ الَّتِي لَمْ يَثْبُتُ سَبَبُهَا فِي ضَرْبِ الْمُدَّةِ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ ، وَلَمْ تَقَعِ الْفُرْقَةُ فِيهَا إِلَّا بِحُكْمٍ ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ سَبَبٌ يَخْرُجُ بِهِ الْقَاذِفُ مِنْ قَذْفِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَقَعَ الْفُرْقَةُ إِلَّا بِحُكْمٍ كَالْبَيِّنَةِ . وَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَقَعُ إِلَّا بِمَا يَخْتَصُّ بِأَلْفَاظِهَا مِنْ صَرِيحٍ أَوْ كِنَايَةٍ ، وَلَيْسَ فِي اللِّعَانِ صَرِيحٌ وَلَا كِنَايَةٌ ، وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْعَجْلَانِيِّ حِينَ عَرَضَ عَلَيْهِ اللَّعْنَةَ الْخَامِسَةَ بَعْدَ الشَّهَادَاتِ الْأَرْبَعِ : " إِنَّهَا الْمُوجِبَةُ " إِبَانَةً عَنْهَا فِي وُقُوعِ أَحْكَامِ اللِّعَانِ بِهَا ، فَدَلَّ ثُبُوتُهَا بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ . وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : الْمُتَلَاعِنَانِ إِذَا تَفَرَّقَا لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا . وَقَدْ رَوَى أَبُو مَالِكٍ ، عَنْ عَاصِمٍ ، عَنْ زِرٍّ ، عَنْ عَلِيٍّ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا قَالَا : مَضَتِ السُّنَّةُ أَنْ لَا يَجْتَمِعَ الْمُتَلَاعِنَانِ أَبَدًا . وَذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَجْعَلْ لِغَيْرِهِمَا تَأْثِيرًا فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا . وَهَذَا يَدْفَعُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ : " حِسَابُكُمَا عَلَى اللَّهِ ، لَا سَبِيلَ

لَكَ عَلَيْهَا " قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَالِي ؟ قَالَ : " لَا مَالَ لَكَ ، إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا ، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَهُوَ أَبْعَدُ لَكَ " . فَكَانَ قَوْلُهُ : لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا إِخْبَارًا عَنْ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا ، وَلَيْسَ بِإِيقَاعٍ لِلْفِرْقَةِ ، لِأَنَّ إِيقَاعَ الْفُرْقَةِ أَنْ يَقُولَ : " قَدْ فَرَّقْتُ بَيْنَكُمَا " فَدَلَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ عَلَى تَقَدُّمِهَا قَبْلَ خَبَرِهِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّهَا فُرْقَةٌ تَجَرَّدَتْ عَنْ عِوَضٍ ، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ تَفَرُّدُ الزَّوْجَةِ بِهَا جَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ الزَّوْجُ بِهَا كَالطَّلَاقِ ، وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ يَمْنَعُ إِقْرَارَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْحَاكِمِ فِيهِ تَنْفِيذًا لَا إِيقَاعًا كَالْبَيِّنَةِ عَلَى الطَّلَاقِ وَالْإِقْرَارِ بِهِ ، وَلِأَنَّ الْأَقْوَالَ الْمُؤَثِّرَةَ فِي الْفُرْقَةِ لَا يُفْتَقَرُ إِلَى وُجُودِهَا مِنْ جِهَتِهَا كَالطَّلَاقِ ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ يَمِينٌ عِنْدِنَا وَشَهَادَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالْحُكْمُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُ بِتَنْفِيذٍ وَلَيْسَ بِإِيقَاعٍ ، وَلِأَنَّ حُكْمَ التَّنْفِيذِ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ كَالْحَاكِمِ بِشَهَادَةٍ أَوْ يَمِينٍ ، وَحُكْمَ الْإِيقَاعِ لَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ الطَّلَبِ كَالْفَسْخِ فِي الْعُنَّةِ وَالْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ ، وَفُرْقَةُ اللِّعَانِ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى طَلَبٍ فَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِهَا بِالتَّنْفِيذِ دُونَ الْإِيقَاعِ ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ ، وَيَنْتَفِي بِهِ النَّسَبُ ، فَلَمَّا اخْتَصَّ نَفْيُ النَّسَبِ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ بِمَثَابَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ حُكْمَيِ اللِّعَانِ . فَإِنْ مَنَعُوا مِنْ نَفْيِ اللِّعَانِ النَّسَبَ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ ، وَادَّعَوْا أَنَّهُ لَا يَنْتَفِي إِلَّا بِالْحُكْمِ بَعْدَ لِعَانِهِمَا . كَانَ فَاسِدًا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ لِعَانَ الزَّوْجِ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ النَّسَبِ ، وَلِعَانَ الزَّوْجَةِ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ النَّسَبِ ، وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَلَّقَ نَفْيُهُ إِلَّا بِقَوْلِ النَّافِي دُونَ الْمُثْبِتِ اعْتِبَارًا بِالْمُوَافَقَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ وَنَفْيِهِ بِالزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِهِ وَنَفَتْهُ ، لَمْ يُؤَثِّرْ نَفْيُهَا ، وَلَوْ نَفَاهُ وَأَقَرَّتْ بِهِ لَمْ يُؤَثِّرْ إِقْرَارُهَا ، وَلَوِ اسْتَلْحَقَهُ بَعْدَ نَفْيِهِ بِلِعَانِهِمَا أُلْحِقَ بِهِ وَإِنْ أَقَامَتْ عَلَى نَفْيِهِ عَنْهُ ، فَاقْتَضَى بِهَذَيْنِ أَنْ يَكُونَ نَفْيُ النَّسَبِ مُخْتَصًّا بِلِعَانِ الزَّوْجِ ، وَإِذَا اخْتَصَّ بِهِ كَانَتِ الْفُرْقَةُ بِمَثَابَتِهِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَّقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ لِعَانِهِمَا ، فَهُوَ أَنَّهَا قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ لَا يُدَّعَى فِيهَا الْعُمُومُ فَاحْتَمَلَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَكَانِ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ ، وَيَحْتَمِلُ وَهُوَ الْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ أَخْبَرَهُمَا بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِيهِ : " وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِأُمِّهِ ، وَقَدْ كَانَ لَاحِقًا بِهَا " وَإِنَّمَا أَخْبَرَ بِلُحُوقِهِ بِهَا دُونَ الزَّوْجِ ، وَأَمَّا حَدِيثُ الْعَجْلَانِيِّ وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ وُقُوعَ الطَّلَاقِ مِنْهُ ، فَقَدْ أَنْكَرَهُ بِقَوْلِهِ : " لَا سَبِيلَ

لَكَ عَلَيْهَا أَبَدًا " وَلَوْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِالطَّلَاقِ لَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا سَبِيلٌ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْعُنَّةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ ، الْمُعَارَضَةُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ . إِمَّا لِأَنَّ الْفُرْقَةَ فِي الْعُنَّةِ لَا تَمْضِي إِلَّا بَعْدَ الطَّلَبِ ، وَفِي اللِّعَانِ تَمْضِي بِغَيْرِ طَلَبٍ فَصَارَتْ تِلْكَ الْفُرْقَةُ إِيقَاعًا وَهَذِهِ تَنْفِيذًا . وَإِمَّا لِأَنَّ الْعُنَّةَ يَجُوزُ إِقْرَارُهُمَا عَلَيْهَا ، وَلَا يَجُوزُ إِقْرَارُهُمَا بَعْدَ اللِّعَانِ فَصَارَتْ تِلْكَ الْفُرْقَةُ إِيقَاعًا وَهَذِهِ تَنْفِيذًا ، وَهُوَ جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْبَيِّنَةِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ ، وَلَا كِنَايَةٍ فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ذَلِكَ مُرَاعَى فِي الطَّلَاقِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْفُسُوخِ . وَالثَّانِي : أَنَّ اللِّعَانَ صَرِيحٌ فِي أَحْكَامِهِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَمَعْنَى قَوْلِهِمَا فُرْقَةٌ بِلَا طَلَاقِ الزَّوْجِ ( قَالَ ) : وَتَفْرِيقُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرُ فُرْقَةِ الزَّوْجِ إِنَّمَا هُوَ تَفْرِيقُ حُكْمٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَصَدَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْكَلَامِ الرَّدَّ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ تَفْرِيقَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ كَانَ إِيقَاعًا بِحُكْمٍ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُوقِعِ الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا بِمُجَرَّدِ اللِّعَانِ حَتَّى يُوقِعَهَا الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهَا مَعَهُ . وَقُلْنَا : إِنَّ حُكْمَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ تَنْفِيذًا وَإِخْبَارًا بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ . وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : بَيَانُ حُكْمِ الْفُرْقَةِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ . وَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَسْخٌ وَلَيْسَتْ بِطَلَاقٍ وَلِذَلِكَ تَعَلَّقَ بِهَا تَحْرِيمُ التَّأْبِيدِ . وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ : هِيَ فُرْقَةُ طَلَاقٍ بَائِنٍ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَأَبَّدْ تَحْرِيمُهَا عِنْدَهُ ، وَأَحَلَّهَا لَهُ إِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ . وَفِي هَذَا الْقَوْلِ تَنَاقُضٌ ، لِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَقَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِالْحَاكِمِ ، دُونَ الزَّوْجِ ، وَالطَّلَاقُ يَمْلِكُهُ الزَّوْجُ دُونَ الْحَاكِمِ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّمَا الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ " . فَتَنَاقَصَ فِي قَوْلِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ فَعَلْتُمْ مِثْلَ هَذِهِ الْمُنَاقَضَةِ لِأَنَّكُمْ جَعَلْتُمُ الْفُرْقَةَ وَاقِعَةً بِالزَّوْجِ دُونَ الْحَاكِمِ ، وَالزَّوْجُ لَا يَقَعُ مِنْهُ إِلَّا الطَّلَاقُ ، قِيلَ : قَدْ يَصِحُّ مِنَ الزَّوْجِ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ سَبَبٍ ، وَالْفَسْخُ إِذَا كَانَ عَنْ سَبَبٍ ، كَالْفَسْخِ بِالْعُيُوبِ ، وَهَذِهِ الْفُرْقَةُ لِسَبَبٍ فَكَانَتْ فَسْخًا وَلَمْ تَكُنْ طَلَاقًا ، فَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْقَوْلِ تَنَاقُضٌ ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِمَا يَخْتَصُّ مِنْ أَلْفَاظِهِ مِنْ صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ ، وَهَذِهِ الْفُرْقَةُ لَا تَقَعُ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ وَلَا كِنَايَتِهِ ،

وَلَا يَكُونُ اللِّعَانُ مِنْ غَيْرِ الْمُلْتَعِنِ صَرِيحًا فِي الطَّلَاقِ وَلَا كِنَايَةً ، وَلِأَنَّ لِفُرَقَةِ الطَّلَاقَ عَدَدًا لَيْسَ فِي فُرْقَةِ اللِّعَانِ وَحُكْمًا يُخَالِفُ حُكْمَ اللِّعَانِ ، لِأَنَّهَا لَا تَحِلُّ فِي الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ وَتَحِلُّ فِيمَا دُونَهُ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ ، وَهُوَ يَقُولُ فِي فُرْقَةِ اللِّعَانِ : إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ إِلَّا أَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ ، فَسَلَبَهُ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّلَاقَيْنِ وَاعْتَبَرَ فِيهِ مِنَ التَّكْذِيبِ مَا لَا يَعْتَبِرُ فِي وَاحِدٍ مِنَ الطَّلَاقَيْنِ ، فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ اللِّعَانُ طَلَاقًا ، كَمَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ لِعَانًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " ( قَالَ ) وَإِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ ؟ فَحَكَمَ عَلَى الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ حُكْمًا وَاحِدًا وَأَخْرَجَهُمَا مِنَ الْحَدِّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَرَّقَ بَيْنَ الْعَجْلَانِيِّ وَامْرَأَتِهِ قَالَ : " اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ " قَالَهَا ثَلَاثًا . وَمُرَادُ الشَّافِعِيِّ بِذِكْرِهِ بَيَانُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحُكْمَ يَكُونُ بِالظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْبَاطِنَ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بِعَيْنِهِ ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ حَالُ عِلْمِهِ ، وَحَكَمَ بِالظَّاهِرِ مِنْ أَحْوَالِهِمَا . وَالْحُكْمُ الثَّانِي : أَنَّهُ سَوَّى فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا وَإِنْ عَلِمَ كَذِبَ أَحَدِهِمَا وَصِدْقَ الْآخَرِ وَلَمْ يَجْعَلْ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي ذَلِكَ تَأْثِيرًا فِي اخْتِلَافِ الْحُكْمِ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ اشْتِبَاهَ أَحْوَالِهِمَا مَنَعَ مِنْ تَمْيِيزِهِمَا فِيهِ ، وَصَارَ حُكْمُ الصَّادِقِ مِنْهُمَا وَالْكَاذِبِ سَوَاءً فِي الظَّاهِرِ وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْبَاطِنِ . وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ : مَا أَمَرَهُمَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ مِنَ التَّوْبَةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَمْحِيصُ الْمَآثِمِ يَكُونُ بِالتَّوْبَةِ لَا بِالْحُكْمِ . وَالثَّانِي : قَبُولُ التَّوْبَةِ مِمَّنْ عُلِمَ أَنَّ بَاطِنَهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِهِ ، فَكَانَ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ ، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ بَاطِنَ مُعْتَقِدِهِ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ تَوْبَتِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أُدَيْعَجَ فَلَا أَرَاهُ إِلَّا قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا " فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ ، فَقَالَ عَلْيِهِ السَّلَامُ : " إِنَّ أَمْرَهُ لَبَيِّنٌ لَوْلَا مَا حَكَمَ اللَّهُ " فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَمْ يَسْتَعْمِلْ دَلَالَةَ صِدْقِهِ عَلَيْهَا وَحَكَمَ بِالظَّاهِرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْوُلَاةِ ذَكَرَهُ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَلَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللَّهُ جَنَّتَهُ ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ احْتَجَبَ اللَّهُ مِنْهُ وَفَضَحَهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَوَّلِينَ وَالَآخِرِينَ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثَانِ : أَحَدُهُمَا : فِي لِعَانِ الْعَجْلَانِيِّ . وَالثَّانِي : فِي لِعَانِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ ، نَحْنُ نَذْكُرُهُمَا وَتَفْسِيرَهُمَا وَمُرَادَ الشَّافِعِيِّ بِالِاسْتِدْلَالِ بِهِمَا ، وَأَمَّا الْمَرْوِيُّ فِي لِعَانِ الْعَجْلَانِيِّ ، فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الْتِعَانِهِمَا : " أَبْصِرُوهَا ، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْحَمَ ، أَدْعَجَ ، عَظِيمَ الْإِلْيَتَيْنِ فَلَا أَرَاهُ إِلَّا قَدْ صَدَقَ ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أُحَيْمِرَ كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ فَلَا أَرَاهُ إِلَّا كَاذِبًا " ، قَالَ : فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ . الْأَسْحَمُ : الْأَسْوَدُ ، وَالْأَدْعَجُ : شَدِيدُ سَوَادٍ الْحَدَقَةِ ، وَالْأُحَيْمِرُ : تَصْغِيرُ أَحْمَرَ ، وَالْوَحَرَةُ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : دُوَيْبَّةٌ كَالْوَزَعَةِ ، وَقَالَ غَيْرُهُ : هِيَ الْقَطَاةُ ، أَمَّا الْمَرْوِيُّ فِي لِعَانِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ ، فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الْتِعَانِهِمَا : إِنْ أَتَتْ بِهِ أُصَيْهَبَ ، أُثَيْبَجَ ، أَحْمَشَ السَّاقِينَ ، فَهُوَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ . . وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ ، جَعْدًا ، جَمَالِيًّا ، خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ ، سَابِغَ الْإِلْيَتَيْنِ فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ ، فَجَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ ، جَعْدًا ، جَمَالِيًّا ، خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ ، سَابِغَ الْإِلْيَتَيْنِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ قَالَ عِكْرِمَةُ : فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَمِيرًا عَلَى مِصْرَ وَمَا يُدْعَى لِأَبٍ . قَوْلُهُ : أُصَيْهِبُ : تَصْغِيرُ أَصْهَبَ وَهُوَ الْأَشْقَرُ . وَأُثَيْبَجُ : هُوَ الَّذِي لَهُ ثَبْجَةٌ ، وَهِيَ لَحْمَةٌ نَاتِئَةٌ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ ، وَالْكَاهِلِ ، وَفَوْقَ الظَّهْرِ . وَأَحْمَشُ السَّاقَيْنِ : دَقِيقُهُمَا . وَالْأَوْرَقُ : الْأَسْمَرُ يُقَالُ فِي الْبَهَائِمِ : أَوْرَقُ ، وَفِي الْآدَمِيِّينَ : أَسْمَرُ . وَالْجَعْدُ : يَعْنِي جَعْدَ شَعْرِ الرَّأْسِ ، وَالْجَمَالِيُّ مِنَ النَّاسِ : مَنْ رَوَاهُ بِفَتْحِ الْجِيمِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الْجَمَالِ ، وَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَهُوَ الْعَظِيمُ الْخَلْقِ ، مُشْتَقًّا مِنَ الْجَمَلِ . وَسَابِغُ الْإِلْيَتَيْنِ : تَامُّهُمَا . وَخَدَلَّجُ السَّاقَيْنِ : عَظِيمُهُمَا . فَهَذَا تَفْسِيرُ الْحَدِيثَيْنِ ، وَالْمَقْصُودُ فِي الْمُسْتَفَادِ مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ : أَحَدُهُمَا : حُكْمُ الْحَاكِمِ فِي الظَّاهِرِ لَا يُغَيِّرُ الْأَمْرَ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنَّ الْحُكْمَ بِالظَّاهِرِ يُحِيلُ الْأَمْرَ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ ، وَدَلِيلُ الْخَبَرِ يَدْفَعُ قَوْلَهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ حُكْمَ الشَّبَهِ يَقْتَضِي لُحُوقَهُ بِأَشْبَهِهِمَا بِهِ ثُمَّ لَمْ يُلْحِقْهُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ وُجُودِ الشَّبَهِ ، لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الظَّاهِرِ مَانِعٌ مِنْ لُحُوقِهِ . وَالْحُكْمُ الثَّانِي الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ لِلشَّبَهِ تَأْثِيرًا فِي لُحُوقِ

الْأَنْسَابِ ، يُوجِبُ الْحُكْمَ بِالْقِيَافَةِ عِنْدَ إِشْكَالِهَا ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ مِنْ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ إِنْ كَانَ عَلَى شَبَهِهِ ، وَمِنْ شَرِيكِ بْنِ السَّحْمَاءِ إِنْ كَانَ عَلَى شَبَهِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يَكُونُ دَلِيلًا وَمَا أَلْحَقَهُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ وُجُودِ الشَّبَهِ ؟ . قِيلَ : لِأَنَّ نَفْيَهُ بِاللِّعَانِ نَعَرٌ ، وَإِلْحَاقَهُ بِالشُّبْهَةِ اسْتِدْلَالٌ ، وَالِاسْتِدْلَالُ لَا يُسْتَعْمَلُ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ ، وَيُسْتَعْمَلُ إِذَا انْفَرَدَ . وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ الْمُسْتَفَادُ مِنْهَا : أَنَّ وَلَدَ الزِّنَا لَا يَلْحَقُ بِالزَّانِي مَعَ وُجُودِ الشَّبَهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَشْبَهَ الْوَلَدُ شَرِيكًا ، وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ مِنْهُ بِالشَّبَهِ وَلَمْ يُلْحِقْهُ بِهِ فِي الْحُكْمِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ - .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَاللِّعَانُ أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ لِلزَّوْجِ : قُلْ أَشْهَدُ بِاللَّهِ ، إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ زَوْجَتِي فُلَانَةَ بِنْتَ فُلَانٍ مِنَ الزِّنَا وَيُشِيرُ إِلَيْهَا إِنْ كَانَتْ حَاضِرَةً ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَقُولُهَا حَتَّى يُكْمِلَ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ يَقِفُهُ الْإِمَامُ وَيُذَكِّرُهُ اللَّهَ تَعَالَى وَيَقُولُ : إِنِّي أَخَافُ إِنْ لَمْ تَكُنْ صَدَقْتَ أَنْ تَبُوءَ بِلَعْنَةِ اللِّهِ ، فَإِنْ رَآهُ يُرِيدُ أَنْ يُمْضِيَ أَمْرَ مَنْ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى فِيهِ وَيَقُولُ : إِنْ قَوْلَكَ وَعَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ مِنَ الْكَاذِبِينَ مُوجِبَةٌ ، فَإِنْ أَبِي تَرَكَهُ وَقَالَ : قُلْ وَعَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ مِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ فُلَانَةَ مِنَ الزَّنَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ صِفَةُ اللِّعَانِ ، وَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ بِلِعَانِ الزَّوْجِ قَبْلَ لِعَانِ الزَّوْجَةِ ، لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَرَدَا بِهِ ، فَإِنْ قَدَّمَ لِعَانَ الزَّوْجَةِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ وَاعْتَدَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ لِعَانَ الزَّوْجِ إِثْبَاتٌ لِقَذْفِهِ ، وَلِعَانَ الزَّوْجَةِ نَفْيٌ لِمَا أَثْبَتَهُ الزَّوْجُ فَلَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ إِثْبَاتِهِ ، فَيَبْدَأُ الْإِمَامُ بِالزَّوْجِ ، أَوْ مَنْ يَسْتَنِيبُهُ الْإِمَامُ مِنَ الْحُكَّامِ فَيَقُولُ لَهُ : قُلْ أَشْهَدُ بِاللَّهِ ، إِنَّنِي لِمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ زَوْجَتَيْ فُلَانَةَ بِنْتَ فُلَانٍ مِنَ الزِّنَا ، فَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً عَنْ مَقَامِهِ ، إِمَّا بِمَوْتٍ أَوْ بِحَيْضٍ أَوْ كُفْرٍ ، وَقَفَتْ لِأَجْلِهِمَا عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ سَقَطَ حُكْمُ الْإِشَارَةِ إِلَيْهَا لِلْغَيْبَةِ ، وَرَفَعَ فِي نَسَبِهَا بَعْدَ ذِكْرِ الزَّوْجِيَّةِ لِمَا تَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهَا وَلَا يُشَارِكُهَا فِيهِ أَحَدٌ سِوَاهَا لِيَنْتَفِيَ الِاحْتِمَالُ فِي تَوْجِيهِ اللِّعَانِ إِلَيْهَا .

بَابُ كَيْفَ اللِّعَانُ

بَابُ كَيْفَ اللِّعَانُ مِنْ كِتَابِ اللِّعَانِ وَالطَّلَاقِ وَأَحْكَامِ الْقُرْآنِ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " وَلَمَّا حَكَى سَهْلٌ شُهُودَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ مِعَ حَدَاثَتِهِ وَحَكَاهُ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - اسْتَدْلَلْنَا عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْضُرُ أَمْرًا يُرِيدُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَتْرَهُ وَلَا يَحْضُرُهُ إِلَّا وَغَيْرُهُ حَاضِرٌ لَهُ ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ حُدُودِ الزِّنَا يَشْهَدُهَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَقَلُّهُمْ أَرْبَعَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي شَهَادَةِ الزِّنَا أَقَلُّ مِنْهُمْ ، وَهَذَا يُشْبِهُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الزَّانِيَيْنِ : وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَفِي حِكَايَةِ مَنْ حَكَى اللِّعَانَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جُمْلَةً بِلَا تَفْسِيرٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا نَصَبَ اللِّعَانَ حِكَايَةً فِي كِتَابِهِ ، فَإِنَّمَا لَاعَنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ بِمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي تَغْلِيظِ اللِّعَانِ بِحُضُورِ الَّذِينَ أَقَلُّهُمْ أَرْبَعَةٌ بِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الدَّلِيلِ . وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْحُدُودِ الَّتِي يَخْفَى أَثَرُهَا بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ كَحَدِّ الزِّنَا وَالْقَذْفِ ما يشترط فيها من حضور الشهود ، فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِأَرْبَعَةٍ كَالزِّنَا ، كَانَ أَقَلَّ مَنْ شَهِدَ حَدَّهُ أَرْبَعَةٌ ، وَمَا يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ كَالْقَذْفِ ، فَالشَّاهِدَانِ أَقَلُّ مَنْ يَحْضُرُ اسْتِيفَاءَهُ ، فَأَمَّا مَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ لا يشترط في استيفائه حضور الشهود ، فَلَيْسَ يُؤْمَرُ فِي اسْتِيفَائِهِ بِحُضُورِ الشُّهُودِ ، لِأَنَّ شَوَاهِدَ اسْتِيفَائِهِ تُغْنِي عَنِ الشَّهَادَةِ . وَإِنْ كَانَتْ حَاضِرَةً أَشَارَ إِلَيْهَا ، وَهَلْ يَحْتَاجُ مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى ذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ أَمْ لَا ؟ كيفية الملاعنة عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْإِشَارَةِ مَعَ ذِكْرِ الزَّوْجِيَّةِ ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ كَالشَّهَادَةِ ، فَيَقُولُ : أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لِمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ زَوْجَتِي هَذِهِ مِنَ الزِّنَا ، فَيَكُونُ مُقْتَصِرًا عَلَى شَرْطَيْنِ : الزَّوْجِيَّةِ وَالْإِشَارَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَحْتَاجُ مَعَ ذِكْرِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْإِشَارَةِ إِلَى شَرْطٍ ثَالِثٍ هُوَ الِاسْمُ دُونَ النَّسَبِ فَيَقُولُ : أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لِمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ زَوْجَتَيْ فُلَانَةً هَذِهِ مِنَ الزِّنَا لِيَتَوَجَّهَ اللِّعَانُ إِلَى حَاضِرٍ مُسَمًّى ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْضُرُ مَعَهَا مَنْ يَجُوزُ أَنْ تَنْصَرِفَ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ .

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ ، وَحَكَاهُ فِي جَامِعِهِ الَّذِي نَقَلَ فِيهِ مَنْصُوصَاتِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَحْتَاجُ مَعَ ذِكْرِ الزَّوْجِيَّةِ وَالِاسْمِ وَالْإِشَارَةِ إِلَى شَرْطٍ رَابِعٍ وَهُوَ النَّسَبُ فَيَقُولُ : زَوْجَتَيْ فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ هَذِهِ ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ مَوْضُوعٌ عَلَى التَّأْكِيدِ وَنَفْيِ الِاحْتِمَالِ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا يَذْكُرُهُ الزَّوْجُ فِي الشَّهَادَةِ الْأُولَى مِنْ لِعَانِهِ ، أَمَرَهُ الْحَاكِمُ أَنْ يُكَرِّرَ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ يُعِيدُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنْهَا مِثْلَ مَا قَالَهُ فِي الْأُولَى ، فَإِذَا أَكْمَلَ أَرْبَعًا بَقِيَتِ الْخَامِسَةُ وَهِيَ اللَّعْنَةُ ، فَوَقَفَهُ قَبْلَهَا وَوَعَظَهُ ، وَذَكَّرَهُ اللَّهَ تَعَالَى ، وَخَوَّفَهُ مِنْ عِقَابِهِ ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ الْخَامِسَةَ هِيَ اللَّعْنَةُ الْمُوجِبَةُ ، وَإِنِّي أَخَافُ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا أَنْ تَبُوءَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ ، وَأَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ حَتَّى لَا يُسْرِعَ إِلَيْهَا ، فَإِنْ رَآهُ يُرِيدُ أَنْ يَمْضِيَ فِي لِعَانِهِ لَا يَرْجِعُ عَنْهُ ، قَالَ لَهُ : قُلْ وَعَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ مِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا ، فَإِذَا قَالَهَا فَقَدْ أَكْمَلَ بِهَا جَمِيعَ لِعَانِهِ مَا لَمْ يَكُنْ نَسَبًا يُرِيدُ نَفْيَهُ . فَإِنْ كَانَ نَسَبًا يُرِيدُ نَفْيَهُ قَالَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّهَادَاتِ الْأَرْبَعِ وَاللَّعْنَةِ الْخَامِسَةِ : وَأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ حَاضِرًا مِنْ زِنًا وَمَا هُوَ مِنِّي . وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ حَمْلٍ قَالَ : وَأَنَّ حَمْلَهَا لَحَمْلٌ مِنْ زِنًا مَا هُوَ مِنِّي ، فَتَضَمَّنَ نَفْيُ النَّسَبِ فِي لِعَانِهِ شَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِضَافَتُهُ إِلَى الزِّنَا . وَالثَّانِي : نَفْيُهُ عَنْهُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضِيفَهُ إِلَى الزَّانِي إِنْ كَانَ قَدْ سَمَّاهُ فِي لِعَانِهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِيمَنْ يُسَمَّى فِي الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الزِّنَا لَا يُلْحَقُ بِالزَّانِي ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ . فَصْلٌ : فَإِذَا فَرَغَ مِنْ لِعَانِ الزَّوْجِ عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ أَجْلَسَهُ وَأَقَامَ الزَّوْجَةَ فِي مَقَامِهِ وَقَالَ لَهَا : قَوْلِي أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنَّ زَوْجِي هَذَا لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَا ، وَهَلْ يُحْتَاجُ - مَعَ ذِكْرِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْإِشَارَةِ - إِلَى ذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ أَمْ لَا ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ . إِلَّا أَنْ يَكُونَ غَائِبًا فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ اسْمِهِ وَنَسَبِهِ بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ وَلَا يُشَارِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ نَفَى بِلِعَانِهِ نَسَبًا فَهَلْ تُؤْمَرُ بِذِكْرِهِ فِي لِعَانِهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّهَا لَا تَذْكُرُهُ فِي لِعَانِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِذِكْرِهِ فِي لِعَانِهَا حُكْمٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ تَذْكُرُهُ فِي لِعَانِهَا لِتُقَابِلَ الزَّوْجَ عَلَى مَثَلِ لِعَانِهِ فِي نَفْيِ مَا أَثْبَتَ مِنَ الزِّنَا وَإِثْبَاتِ مَا نَفَى مِنَ النَّسَبِ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَقُولُ : أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنِّي

لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا ، وَأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مِنْ زِنًا مَا هُوَ مِنِّي ، فَأَثْبَتَ الزِّنَا وَنَفَى النَّسَبَ ، وَهِيَ تَقُولُ : أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنْ هَذَا الزِّنَا ، وَأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مِنْهُ مَا هُوَ مِنْ زِنًا ، فَنَفَتِ الزِّنَا وَأَثْبَتَتِ الْوَلَدَ ، فَإِذَا قَالَتْ ذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ الْأُولَى ، أَمَرَهَا أَنْ تُعِيدَ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، فَإِذَا أَكْمَلَتِ الرَّابِعَةَ وَقَفَهَا وَوَعَظَهَا بِمِثْلِ مَا وَعَظَ بِهِ الزَّوْجَ ، وَأَمَرَ رَجُلًا مِنْ ذَوِي مَحَارِمِهَا أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَمِهَا فِي الْخَامِسَةِ لِتَرْجِعَ عَنْهَا وَلَا تُسْرِعَ إِلَيْهَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا ذُو مَحْرَمٍ أَمَرَ امْرَأَةً بِذَلِكَ ، فَإِنْ رَآهَا تُرِيدُ إِتْمَامَهُ ، قَالَ لَهَا فِي الْخَامِسَةِ : قَوْلِي وَعَلَيَّ غَضَبُ اللَّهِ إِنْ كَانَ زَوْجِي هَذَا مِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَا ، وَأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ لَيْسَ مَنْ زِنًا ؛ فَإِذَا قَالَتِ الْخَامِسَةَ فَقَدْ أَكْمَلَتْ لِعَانَهَا وَأَسْقَطَتْ بِهِ مَا وَجَبَ عَلَيْهَا مِنْ حَدِّ الزِّنَا بِلِعَانِ الزَّوْجِ ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ سِوَى سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهَا عِنْدَنَا ، وَإِنْ جَعَلَهُ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ شَرْطًا فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنَ الْخِلَافِ مَعَهُمَا .

فَصْلٌ : فَإِنْ خَالَفَ الْحَاكِمُ فِي لِعَانِهِمَا اللعان بين الزوجين مَا وَصَفْنَا ، اشْتَمَلَ خِلَافُهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُخَالِفَ فِي لَفْظِ الشَّهَادَةِ ، فَيَأْمُرَهُمَا بَدَلًا مِنْ أَشْهَدُ بِاللَّهِ ، أَنْ يَقُولَا : أُقْسِمُ بِاللَّهِ أَوْ أَحْلِفُ بِاللَّهِ ، أَوْ أُولِي بِاللَّهِ ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُجْزِئُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مُخَالَفَةُ النَّصِّ وَتَغْلِيظُ الشَّهَادَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُجْزِئُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللِّعَانَ يَمِينٌ فَكَانَ أَلْفَاظُ الْأَيْمَانِ بِهِ أَخَصَّ . وَالثَّانِي : أَنَّ الشَّهَادَةَ كِنَايَةٌ وَالْيَمِينَ صَرِيحٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَهُمَا فِي لَفْظِ اللَّعْنِ وَالْغَضَبِ فِي الْخَامِسَةِ ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْدِلَ عَنْ لَفْظِهِمَا إِلَى غَيْرِهِمَا ، فَيَقُولُ بَدَلًا مِنَ اللَّعْنَةِ فِي الزَّوْجِ الْإِبْعَادَ ، وَمِنَ الْغَضَبِ فِي الزَّوْجَةِ السَّخَطَ ، فَلَا يُجْزِيهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِتَغْيِيرِ النَّصِّ . وَالثَّانِي : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالنَّصِّ صَرِيحًا فَصَارَ مَا سِوَاهُ كِفَايَةً وَإِنْ وَافَقَ مَعْنَاهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَنْقُلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ جِهَتِهِ إِلَى الْجِهَةِ الْأُخْرَى ، فَيَنْظُرَ فِيهِ ، فَإِنْ نَقَلَ اللَّعْنَ مِنَ الزَّوْجِ إِلَى الزَّوْجَةِ حَتَّى قَالَتْ : وَعَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهَا : عَلَيَّ غَضَبُ اللَّهِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْغَضَبَ أَغْلَظُ مِنَ اللَّعْنِ ؛ لِأَنَّ الْغَضَبَ انْتِقَامٌ ، وَاللَّعْنَ

إِبْعَادٌ ، وَكُلُّ مُنْتَقَمٍ مِنْهُ مُبْعَدٌ ، وَلَيْسَ كُلُّ مُبْعَدٍ مُنْتَقَمًا مِنْهُ ، فَصَارَ الْغَضَبُ أَغْلَظَ ، وَلِذَلِكَ غَلُظَ بِهِ لِعَانُ الزَّوْجَةِ لِأَنَّ الزِّنَا مِنْهَا أَقْبَحُ وَالْمَعَرَّةَ مِنْهَا أَفْضَحُ . وَإِنْ نَقَلَ الْغَضَبَ إِلَى الزَّوْجِ حَتَّى قَالَ : وَعَلَيَّ غَضَبُ اللَّهِ ، بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ : وَعَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ ، فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُجْزِئُ لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ . وَالثَّانِي : يُجْزِئُ ؛ لِأَنَّهُ أَغْلَظُ مِنَ النَّصِّ مَعَ دُخُولِهِ فِيهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَهُمَا فِي تَرْتِيبِ اللَّفْظِ فَيَجْعَلَ مَا فِي الْخَامِسَةِ مِنَ اللَّعْنِ وَالْغَضَبِ قَبْلَ الشَّهَادَاتِ أَوْ فِي تَضَاعِيفِهَا ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُجْزِئُهُ لِمُخَالَفَةِ التَّرْتِيبِ فِيهِ . وَالثَّانِي : يُجْزِئُهُ لِوُجُودِ التَّغْلِيظِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَهُمَا فِي الْعَدَدِ ، فَإِنْ كَانَ خِلَافُهُ فِي الزِّيَادَةِ فَزَادَ عَلَى الشَّهَادَاتِ الْأَرْبَعِ خَامِسَةً ، أَوْ عَلَى اللَّعْنَةِ وَالْغَضَبِ فِي الْخَامِسَةِ سَادِسَةً ، فَقَدْ أَسَاءَ وَأَجْزَأَ ، وَإِنْ كَانَ خِلَافُهُ فِي النُّقْصَانِ فَتَرَكَ بَعْضَ الشَّهَادَاتِ الْأَرْبَعِ ، أَوْ تَرَكَ الْخَامِسَةَ فِي اللَّعْنِ وَالْغَضَبِ لَمْ يَجُزْ ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ اللِّعَانِ ، سَوَاءٌ تَرَكَ أَكْثَرَهُ أَوْ أَقَلَّهُ ، وَيُنْقَضُ حُكْمُهُ فِيهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ تَرَكَ أَقَلَّهُ أَجْزَأَهُ وَإِنْ أَسَاءَ ، وَلَا وَيُنْقَضُ حُكْمُهُ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللِّعَانَ مِمَّا اخْتُلِفَ فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِهِ ، وَمَا اسْتَقَرَّ فِيهِ الْخِلَافُ سَاغَ فِيهِ الِاجْتِهَادُ ، وَالْحُكْمُ إِذَا نَفَذَ بِاجْتِهَادٍ مُسَوَّغٍ لَمْ يُنْقَضْ . وَالثَّانِي : أَنَّ إِدْرَاكَ مُعْظَمِ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَ إِدْرَاكِ جَمِيعِهِ ، كَمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ رَاكِعًا كَانَ فِي الِاعْتِدَادِ بِالرَّكْعَةِ كَالْمُدْرِكٍ لَهُ مُحْرِمًا ، كَذَلِكَ أَكْثَرُ اللِّعَانِ يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ مَقَامَ جَمِيعِهِ وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ [ النُّورِ : ، ] فَعَلَّقَ الْحُكْمَ فِيهِ بِخَمْسٍ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَلَّقَ بِأَقَلَّ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ نَسْخًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ الْقُرْآنُ بِالِاجْتِهَادِ ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَاعَنَ بَيْنَ الْعَجْلَانِيِّ وَامْرَأَتِهِ وَبَيْنَ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَامْرَأَتِهِ بِخَمْسٍ ثُمَّ فَرَّقَ ، وَالْحُكْمُ إِذَا عُلِّقَ بِسَبَبٍ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى سَبَبِهِ ، وَلِأَنَّ الِاقْتِصَارَ مِنَ اللِّعَانِ عَلَى بَعْضِهِ يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمِهِ كَالِاقْتِصَارِ عَلَى أَقَلِّهِ ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا تَعَلَّقَ بِعَدَدٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِبَعْضِهِ كَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ فَكَذَلِكَ أَعْدَادُ اللِّعَانِ ، وَلِأَنَّ مَا شُرِعَ عَدَدُهُ فِي دَرْءِ الْحَدِّ لَمْ يَجُزِ الِاقْتِصَارُ مِنْهُ عَلَى بَعْضِهِ كَالشَّهَادَةِ ؛ وَلِأَنَّ اللِّعَانَ إِمَّا أَنْ

يَكُونَ يَمِينًا ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى بَعْضِ مَا شُرِعَ فِيهَا مِنَ الْعَدَدِ كَالْقَسَامَةِ ، أَوْ يَكُونَ شَهَادَةً فَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِ عَدَدِهَا كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ حُصُولَ الِاخْتِلَافِ مُسَوِّغٌ لِلِاجْتِهَادِ ، فَهُوَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى الْخَمْسِ ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِهَا أَوْ بِمَا بَعْدَهَا وَمَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ لَمْ يَسُغِ الِاجْتِهَادُ فِيهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ أَنَّ إِدْرَاكَ مُعْظَمِ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَ إِدْرَاكِ جَمِيعِهِ فَهُوَ أَنَّهُ فَاسِدٌ بِإِدْرَاكِ ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ مِنْ أَرْبَعٍ لَا يَقُومُ مَقَامَ إِدْرَاكِ الْأَرْبَعِ ؛ إِنَّمَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ الرَّكْعَةَ الْأَوْلَى بِإِدْرَاكِ أَكْثَرِهَا ؛ لِأَنَّهُ تَحَمَّلَ عَنْهُ مَا فَاتَهُ مِنْهَا وَقَامَ مَقَامَهُ فِيهَا ، وَلِذَلِكَ لَوِ انْفَرَدَ بِهَا مِنْ غَيْرِ إِمَامٍ لَمْ يُدْرِكْهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ قَذَفَهَا بِأَحَدٍ يُسَمِّيهِ بِعَيْنِهِ وَاحِدًا أَوِ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ قَالَ مَعَ كُلِّ شَهَادَةٍ : إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا بِفُلَانٍ أَوْ فُلَانٍ ، وَقَالَ عِنْدَ اللِّعَانِ : وَعَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ مِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا بِفُلَانٍ أَوْ بِفُلَانٍ وَفُلَانٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا سَمَّى فِي قَذْفِ زَوْجَتِهِ الزَّانِيَ بِهَا ، فَقَالَ : زَنَى بِكِ فُلَانٌ سَقَطَ حَدُّ الْقَذْفِ عَنْهُ إِذَا ذَكَرَهُ فِي لِعَانِهِ عَلَى مَا وَصَفَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَسْقُطُ حَدُّ قَذْفِهِ بِذِكْرِهِ فِي لِعَانِهِ ، فَإِنْ قَدَّمَتِ الزَّوْجَةُ الْمُطَالَبَةَ فَلَاعَنَ مِنْهَا حُدَّ بَعْدَهُ لِلْأَجْنَبِيِّ ، وَإِنْ قَدَّمَ الْأَجْنَبِيُّ الْمُطَالَبَةَ فَحُدَّ لَهُ لَمْ يُلَاعِنْ مِنْ زَوْجَتِهِ ، وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْمَحْدُودَ فِي قَذْفٍ لَا يُلَاعِنُ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ حَدَّهُ بِقَذْفِهِ لِلْأَجْنَبِيِّ لَا يَسْقُطُ بِلِعَانِهِ ، بِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ لِأَنَّ قَذْفَ الْأَجْنَبِيِّ لَا يَسْقُطُ حَدُّهُ بِاللِّعَانِ كَمَا لَوْ أَفْرَدَهُ بِالْقَذْفِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ وَأَجْنَبِيٍّ : زَنَيْتُمَا لَمْ يَسْقُطْ قَذْفُ الْأَجْنَبِيِّ بِاللِّعَانِ ، كَذَلِكَ لَوْ قَالَ : زَنَيْتِ بِهِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَرْمُونْ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لِمِنَ الصَّادِقِينَ [ النُّورِ : ] وَفِي الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَدِلَّةٍ : أَحَدُهَا : تَخْلِيصُهُ مِنْ قَذْفِهِ بِلِعَانِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عَلَى عُمُومِهِ فِيمَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهُمْ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ جَعَلَ اللِّعَانَ كَالشَّهَادَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ وَالشَّهَادَةُ تَسْقُطُ حَدُّهَا عَنْهُ ، فَكَذَلِكَ اللِّعَانُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ أَثْبَتَ صِدْقَهُ بِاللِّعَانِ ، وَصِدْقُهُ يَمْنَعُ مِنْ حَدِّهِ . وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَاعَنَ بَيْنَ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَزَوْجَتِهِ ؛ وَقَدْ قَذَفَهَا بِشَرِيكِ بْنِ السَّحْمَاءِ فَلَمْ يَحُدَّهُ لَهُ بَعْدَ لِعَانِهِ فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِ الْحَدِّ بِلِعَانِهِ ؛ وَلِأَنَّ قَذْفَ زَوْجَتِهِ بِزَانٍ يَمْنَعُ مِنْ

حَدِّهِ بَعْدَ اللِّعَانِ كَغَيْرِ الْمُسَمَّى ؛ وَلِأَنَّ مَا سَقَطَ بِهِ حَدُّ الزَّوْجَةِ مَعَ غَيْرِ الْمُسَمَّى سَقَطَ بِهِ حَدُّهَا وَحَدُّ الْمُسَمَّى كَالْبَيِّنَةِ ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ حَدٍّ اسْتَفَادَ إِسْقَاطَهُ بِالْبَيِّنَةِ اسْتَفَادَ إِسْقَاطَهُ بِاللِّعَانِ كَحَدِّ الْقَذْفِ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يُضْطَرُّ إِلَى تَسْمِيَةِ الزَّانِي كَمَا يُضْطَرُّ إِلَى قَذْفِ زَوْجَتِهِ ، وَضَرُورَتُهُ إِلَى تَسْمِيَتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : لِيَكُونَ أَدَلَّ عَلَى التَّحْقِيقِ ، وَأَنْفَى لِلظَّنِّ . وَالثَّانِي : لِيَكُونَ فِي شَبَهِ الْوَلَدِ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الصِّدْقِ فِي قَذْفِهِ ، كَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى صِدْقِ الْعَجْلَانِيِّ وَهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ . وَالثَّالِثُ : لِيَكُونَ تَعْيِينُهُ فِي الْقَذْفِ وَاللِّعَانِ أَزْجَرَ لِلنَّاسِ عَنِ الزِّنَا بِذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ حَذَرًا مِنْ فَضِيحَةِ التَّسْمِيَةِ فِي الْقَذْفِ وَاللِّعَانِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِعُمُومِ الْآيَةِ ، فَالْمُلَاعِنُ مَخْصُوصٌ مِنْهَا بِدَلِيلِ الزَّوْجِيَّةِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى انْفِرَادِ الْأَجْنَبِيِّ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ قَذْفٌ لَا مَدْخَلَ لِلِعَانٍ فِيهِ ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ لَهُمَا : زَنَيْتُمَا ، فَنَحْنُ نَرْجِعُ إِلَى بَيَانِ هَذَا الْقَذْفِ ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ أَحَدَهُمَا زَنَى بِصَاحِبِهِ فَهِيَ مَسْأَلَتُنَا الَّتِي اخْتَلَفْنَا فِيهَا وَنَحْنُ نُجَوِّزُ فِيهِ اللِّعَانَ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَنَى بِغَيْرِ الْآخَرِ ، مَنَعْنَا مِنَ اللِّعَانِ فِي قَذْفِ الْأَجْنَبِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِقَذْفِهِ زَوْجَتَهُ فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ فَنَفَاهُ أَوْ بِهَا حَمْلٌ فَانْتَفَى مِنْهُ قَالَ مَعَ كُلِّ شَهَادَةٍ : أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا ، وَإِنَّ هَذَا الْوَلَدَ وَلَدُ زِنًا مَا هُوَ مِنِّي " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ لَا يَنْتَفِي عَنْهُ بِلِعَانِهِ مِنَ الزَّوْجَةِ إِلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ فِي لِعَانِهِ فِي الشَّهَادَاتِ الْأَرْبَعِ ، وَفِي اللَّعْنَةِ الْخَامِسَةِ ، فَإِنْ أَخَلَّ بِذِكْرِهِ فِي أَحَدِ الْخَمْسَةِ لَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ ، وَصِفَةُ نَفْيِهِ فِي لِعَانِهِ أَنْ يَقُولَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ : وَأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مِنْ زِنًا مَا هُوَ مِنِّي ، فَيَجْمَعُ فِي نَفْيِهِ بَيْنَ شَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا : إِضَافَتُهُ إِلَى الزِّنَا وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ ، فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ اعْتُبِرَ حَالُ الشَّرْطِ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي ، وَهُوَ أَنْ قَالَ : وَإِنَّ هَذَا الْوَلَدَ لَيْسَ مِنِّي ، وَلَمْ يَقُلْ : إِنَّهُ وُلِدَ مِنْ زِنًا ، لَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ ، لِمَا فِيهِ مِنَ الِاحْتِمَالِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ يُشْبِهُنِي فِي خَلْقِي أَوْ خُلُقِي أَوْ فِعْلِي ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يُجْعَلْ قَوْلُهُ لِابْنِهِ : لَسْتَ بِابْنِي قَذْفًا لِأُمِّهِ لِمَا فِيهِ مِنْ هَذَا الِاحْتِمَالِ ، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى الشَّرْطِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنْ قَالَ : وَأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ لَوُلِدَ مِنْ زِنًا ، وَلَمْ يَقُلْ : مَا هُوَ مِنِّي ، فَفِي انْتِفَائِهِ عَنْهُ بِذَلِكَ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ : قَدِ انْتَفَى عَنْهُ ، لِأَنَّ وَلَدَ الزِّنَا لَا يَلْحَقُ

بِهِ ، فَكَانَ قَوْلُهُ : مَا هُوَ مِنِّي تَأْكِيدًا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِوَلَدِهِ : أَنْتَ وَلَدُ زِنًا ، كَانَ قَاذِفًا لِأُمِّهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَبِهِ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ : لَا يَنْتَفِي عَنْهُ بِذَلِكَ حَتَّى يَقُولَ : مَا هُوَ مِنِّي ؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى نَفْيِ الِاحْتِمَالِ ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ مِنْ زِنًا وَيَكُونُ مِنْهُ ، بِأَنْ يَكُونَ قَدْ زَنَى قَبْلَ تَزَوُّجِهِ بِهَا وَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ عَقْدِهِ فَيَكُونُ لَاحِقًا بِهِ ؛ وَلِأَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ يَرَى أَنَّ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ زِنًا وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ فِيهِ لَاحِقًا ، وَلَا يُؤْمَنُ مِنَ الْمُلَاعِنِ اعْتِقَادُ مَذْهَبِهِ ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ لِإِزَالَةِ الِاحْتِمَالِ أَنْ يُضِيفَ إِلَى قَوْلِهِ أَنَّهُ وَلَدُ زِنًا : مَا هُوَ مِنِّي وَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْوَلَدَ حَتَّى اسْتَكْمَلَ لِعَانَهُ وَلِعَانَ الزَّوْجَةِ قِيلَ : قَدْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ وَلَمْ يَنْتِفِ الْوَلَدُ ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْفِيَهُ اسْتَأْنَفَ لِوَقْتِهِ لِعَانًا خَاصًّا لِنَفْيِ الْوَلَدِ كَامِلًا بِالشَّهَادَاتِ وَاللَّعْنَةِ الْخَامِسَةِ . وَلَمْ تُلَاعِنْ مَعَهُ الزَّوْجَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلِعَانِهَا فِي نَفْيِ الْوَلَدِ وَلَا فِي إِثْبَاتِهِ ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ بِإِسْقَاطِ الزِّنَا عَنْهَا وَقَدْ سَقَطَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ لِعَانِهَا ، وَهَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَفِي كِتَابِ " الْأُمِّ " وَقَالَ فِي " الْإِمْلَاءِ " : تُعِيدُ الزَّوْجَةُ لِعَانَهَا بَعْدَ إِعَادَةِ الزَّوْجِ ، وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ عَلَى الْوُجُوبِ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الِاخْتِيَارِ حَتَّى لَا يَنْفَرِدَ الزَّوْجُ . بِلِعَانٍ لَا تُسَاوِيهِ فِيهِ الزَّوْجَةُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ كَانَ حَمْلًا قَالَ : وَإِنَّ هَذَا الْحَمْلَ إِنْ كَانَ بِهَا حَمْلٌ لَحَمْلٌ مِنْ زِنًا مَا هُوَ مِنِّي " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي جَوَازِ اللِّعَانِ مِنَ الْحَمْلِ إِذَا كَانَ النِّكَاحُ ثَابِتًا وَحَدُّ الْقَذْفِ وَاجِبًا وَسَوَاءٌ قِيلَ : إِنَّ الْحَمْلَ مُتَحَقَّقٌ أَوْ مَظْنُونٌ ، وَفِي جَوَازِ لِعَانِهِ مِنَ الْحَمْلِ بَعْدَ طَلَاقِهِ وَقَبْلَ وَضْعِهِ قَوْلَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيهِ : هَلِ الْحَمْلُ مُتَحَقَّقٌ أَوْ مَظْنُونٌ ؟ . فَإِنْ أَرَادَ نَفْيَهُ فِي لِعَانِهِ مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ قَالَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ : وَإِنَّ هَذَا الْحَمْلَ إِنْ كَانَ بِهَا حَمْلٌ لَحَمْلٌ مِنْ زِنًا مَا هُوَ مِنِّي مِثْلَ مَا قَالَ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ بَعْدَ وَضْعِهِ ، فَإِنْ أَغْفَلَ ذِكْرَهُ فِي لِعَانِهِ كَانَ كَإِغْفَالِ الْوَلَدِ فِيهِ ، فَلَا يَنْتَفِي عَنْهُ ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُعِيدَ اللِّعَانَ لِنَفْيِهِ جَازَ أَنْ يُعِيدَهُ وَإِنْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِاللِّعَانِ الْأَوَّلِ قَوْلًا وَاحِدًا ؛ لِيَسْتَدْرِكَ بِهِ مَا كَانَ مُجَوَّزًا فِي لِعَانِهِ الْأَوَّلِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : - " فَإِنْ قَالَ هَذَا فَقَدْ فَرَغَ مِنَ اللِّعَانِ فَإِنْ أَخْطَأَ الْإِمَامُ فَلَمْ يَذْكُرْ نَفْيَ الْوَلَدِ أَوِ الْحَمْلِ فِي اللِّعَانِ قَالَ لِلزَّوْجِ : إِنْ أَرَدْتَ نَفْيَهِ أَعَدْتَ اللِّعَانَ ، وَلَا تُعِيدُ الْمَرْأَةُ بَعْدَ إِعَادَةِ الزَّوْجِ اللِّعَانَ إِنْ كَانَتْ فَرَغَتْ مِنْهُ بَعْدَ الْتِعَانِ الزَّوْجِ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لَيْسَ عَلَى الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ الْتِعَانِهِمَا حَدٌّ وَلَا تَعْزِيرٌ لِقَذْفٍ وَلَا زِنًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُعَزَّرَانِ بَعْدَ الِالْتِعَانٍ لِتَحَقُّقِ الْكَذِبِ فِي اجْتِمَاعِهِمَا عَلَيْهِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ الْكَذِبَ لَا يَتَعَيَّنُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا ، وَمَنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ كَذِبُهُ لَمْ يُعَزَّرْ كَالشَّهَادَتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ الْمُتَدَاعِيَتَيْنِ ، وَكَالْيَمِينِ فِي اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ لَا تَعْزِيرَ فِيهَا عَلَى الْبَيِّنَتَيْنِ وَإِنِ اخْتَلَفَا وَلَا عَلَى الْحَالِفَيْنَ وَإِنْ تَكَاذَبَا . كَذَلِكَ فِي الْتِعَانِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ كَأَحَدِهِمَا ، وَلِأَنَّ التَّعْزِيرَ مَوْضُوعٌ لِلزَّجْرِ وَالنَّكَالِ ، وَمَا فِي اللِّعَانِ مِنَ الزَّجْرِ وَالنَّكَالِ أَعْظَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ أَخْطَأَ وَقَدْ قَذَفَهَا بِرَجُلٍ وَلَمْ يَلْتَعِنْ بِقَذْفِهِ فَأَرَادَ الرَّجُلُ حَدَّهُ أَعَادَ عَلَيْهِ اللِّعَانَ وَقَالَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ : وَإِلَّا حُدَّ لَهُ إِنْ لَمْ يَلْتَعِنْ ، وَفِي الْإِمْلَاءِ عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ : وَلَمَّا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الزَّوْجِ يَرْمِي الْمَرْأَةَ بِالْقَذْفِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ أَنْ يُسَمِّيَ مَنْ يَرْمِيهَا بِهِ أَوْ لَمْ يُسَمِّهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجَمُلَتُهُ أَنَّهُ إِذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِرَجُلٍ سَمَّاهُ هل يحد الزوج بقذفه هذا الرجل ؟ فَلَا يَخْلُو فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ . وَالثَّانِي : أَنْ يَلْتَعِنَ . وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا يَفْعَلَ وَاحِدًا مِنْهُمَا . فَأَمَّا الْحَالُ الْأَوْلَى : وَهُوَ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِمَا بِالزِّنَا ، فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ لَهُمَا وَوَجَبَ حَدُّ الزِّنَا عَلَيْهِمَا ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُلَاعِنَ بَعْدَ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الزِّنَا جَازَ لِيَرْفَعَ بِهِ الْفِرَاشَ ، وَيَنْفِيَ بِهِ النَّسَبَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ اللِّعَانُ فِيمَا لَمْ يَثْبُتْ مِنَ الزِّنَا كَانَ فِيمَا ثَبَتَ أَجَوْزَ . فَصْلٌ : أَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ : وَهُوَ أَنْ يَلْتَعِنَ ، فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِي لِعَانِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَذْكُرَ فِيهِ مَنْ رَمَاهُ بِهَا أَوْ لَا يَذْكُرُ ، فَإِنْ ذَكَرَهُ فِي لِعَانِهِ سَقَطَ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ لَهُمَا ، وَوَجَبَ بِهِ حَدُّ الزِّنَا عَلَى الزَّوْجَةِ ، وَلَمْ يَجِبْ بِهِ حَدُّ الزِّنَا عَلَى الْمُسَمَّى مَعَهَا ، فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ لَا يَتَسَاوَيَانِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا بِاللِّعَانِ كَمَا اسْتَوَيَا فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا بِالْبَيِّنَةِ ؟ قِيلَ : لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَامَّةٌ فِي حُقُوقِ الْأَزْوَاجِ وَالْأَجَانِبِ ، وَاللِّعَانَ خَاصٌّ فِي حُقُوقِ الْأَزْوَاجِ دُونَ الْأَجَانِبِ .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِلزَّوْجَةِ إِسْقَاطُهُ بِلِعَانِهَا جَازَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهَا ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْأَجْنَبِيِّ إِسْقَاطُهُ بِلِعَانِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْأَجْنَبِيَّ الْمُسَمَّى فِي لِعَانِهِ حِينَ طَالَبَ بِحَدِّ قَذْفِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ فِي " الْإِمْلَاءِ " وَ " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " : وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ فِي اللِّعَانِ تَبَعٌ لِلزَّوْجَةِ ، لِأَنَّ اللِّعَانَ لَا يَصِحُّ مَعَهُ لَوْ أُفْرِدَ بِالْقَذْفِ ، فَإِذَا سَقَطَ حَدُّ الزَّوْجَةِ بِاللِّعَانِ سَقَطَ حَدُّ مَنْ تَبِعَهَا فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَذْفٌ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ فَإِذَا تَحَقَّقَ بِاللِّعَانِ فِعْلُهُ مِنْ أَحَدِهِمَا تَحَقَّقَ مِنَ الْآخَرِ ، لِأَنَّ الزِّنَا لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ زَانِيَيْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ ، يُحَدُّ لِلْأَجْنَبِيِّ إِذَا لَمْ يُسَمِّهِ فِي لِعَانِهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَنْ لَمْ يُسَمَّ فِي اللِّعَانِ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ بِاللِّعَانِ كَالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَسْقُطْ قَذْفُ الْأَجْنَبِيِّ بِعَفْوِ الزَّوْجَةِ لَمْ يَسْقُطِ اللِّعَانُ مِنْهَا ، وَخَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَبَعًا لَهَا ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذِكْرُ الْأَجْنَبِيِّ فِي اللِّعَانِ شَرْطًا فِي سُقُوطِ قَذْفِهِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذِكْرُهُ فِيهِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ شَرْطًا ، فَإِذَا أَخَلَّ بِذِكْرِهِ قِيلَ لَهُ : عَلَيْكَ لَهُ حَدُّ الْقَذْفِ إِلَّا أَنْ تَلْتَعِنَ ثَانِيَةً مِنْ قَذْفِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُفْرِدَ اللِّعَانَ بِقَذْفِهِ وَهُوَ لَوِ انْفَرَدَ بِالْقَذْفِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفْرَدَ بِاللِّعَانِ ؟ قِيلَ : لِأَنَّ الْقَذْفَ إِذَا شَارَكَ فِيهِ الزَّوْجَةَ جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي الِالْتِعَانِ مِنْهُ مُشَارِكًا لِلزَّوْجَةِ ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ يُؤَثِّرُ فِي إِعَادَةِ اللِّعَانِ مِنْ قَذْفِهِ بِإِعَادَةِ ذِكْرِ الزَّوْجَةِ فِيهِ وَلَا يُفْرَدُ بِالذِّكْرِ دُونَهَا كَمَا لَوْ ذَكَرَهُ فِي اللِّعَانِ الْأَوَّلِ ، وَلَيْسَ عَلَى الزَّوْجَةِ إِعَادَةُ اللِّعَانِ لِسُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهَا بِاللِّعَانِ الْأَوَّلِ ، وَلَيْسَ لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يُلَاعِنَ بَعْدَ لِعَانِ الزَّوْجِ بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ ، لِأَنَّ الزَّوْجَةَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَا بِلِعَانِ الزَّوْجِ فَجَازَ أَنْ يَتَلَاعَنَ بَعْدَ لِعَانِهِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بِهِ حَدٌّ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُلَاعِنَ بَعْدَ لِعَانِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : فَهُوَ أَنْ لَا يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ وَلَا يُلَاعِنَ الزوج إذا قذف زوجته ، فَقَدْ صَارَ قَاذِفًا لِاثْنَيْنِ وَقَذْفُ الِاثْنَيْنِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقْذِفَهُمَا بِزِنَائَيْنِ بِلَفْظَيْنِ فَيَقُولُ : زَنَيْتَ يَا زَيْدُ ، وَزَنَيْتَ يَا عَمْرُو ، أَوْ يَقُولُ لِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ : زَنَيْتَ يَا رَجُلُ بِغَيْرِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ ، وَزَنَيْتِ يَا امْرَأَةُ بِغَيْرِ هَذَا الرَّجُلِ ، فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدُّ الْقَذْفِ وَلَا يَدْخُلُ أَحَدُ الْحَدَّيْنِ فِي الْآخَرِ .

وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَقْذِفَهُمَا بِزِنَائَيْنِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فَيَقُولُ لِرَجُلَيْنِ أَوِ امْرَأَتَيْنِ زَنَيْتُمَا ، فَفِي الْحَدِّ لَهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ ، يُحَدُّ لَهُمَا حَدًّا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ بِقَذْفِهِمَا وَاحِدٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ - : يُحَدُّ لَهُمَا حَدَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُ قَاذِفٌ لِاثْنَيْنِ بِزِنَائَيْنِ فَصَارَ كَقَذْفِهِ لَهُمَا بِلَفْظَيْنِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَقْذِفَهُمَا بِزِنَاءٍ وَاحِدٍ الزوج إذا قذف زوجته فَيَقُولَ لِامْرَأَةٍ : زَنَيْتِ بِهَذَا الرَّجُلِ ، أَوْ يَقُولَ لِرَجُلٍ : زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْمَرْأَةِ ، فَالصَّحِيحُ وَمِمَّا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ حَدٌّ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّهُ قَذْفٌ بِزِنًا وَاحِدٍ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالزِّنَائَيْنِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ قَذْفَ الِاثْنَيْنِ بِالزِّنَا الْوَاحِدِ قَذْفٌ وَاحِدٌ ، وَقَذْفَ الِاثْنَيْنِ بِزِنَائَيْنِ قَذْفَانِ فَجَازَ أَنْ يَجِبَ فِي الْقَذْفِ الْوَاحِدِ حَدٌّ وَاحِدٌ ، وَفِي الْقَذْفَيْنِ حَدَّانِ ، وَإِذَا وَجَبَ فِي الْقَذْفِ بِالزِّنَا الْوَاحِدِ حَدٌّ وَاحِدٌ فَهُوَ مُشْتَرِكٌ فِي حَقِّ الْمَقْذُوفَيْنِ بِهِ ، فَأَيُّهُمَا طَالَبَ بِالْحَدِّ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ كَامِلًا ، لَا يَسْقُطُ بِعَفْوِ أَحَدِهِمَا حَتَّى يَعْفُوَا عَنْهُ مَعًا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الزَّوْجَةِ وَالْأَجْنَبِيِّ فِي قَذْفِ الزَّوْجِ لَهُمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُصَدِّقَاهُ عَلَى الزِّنَا فَيَسْقُطُ حَدُّ الْقَذْفِ عَنِ الزَّوْجِ وَيَجِبُ حَدُّ الزِّنَا عَلَيْهِمَا ، وَلِلزَّوْجِ أَنْ يُلَاعِنَ إِنْ شَاءَ لِرَفْعِ الْفِرَاشِ وَنَفْيِ النَّسَبِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُكَذِّبَاهُ وَيُطَالِبَاهُ بِحَدِّهِمَا فَيُحَدُّ لَهُمَا حَدًّا وَاحِدًّا عَلَى الْأَصَحِّ مِنَ الْمَذْهَبِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ ، وَلَوْ طَالَبَهُ أَحَدُهُمَا وَعَفَا عَنْهُ الْآخَرُ حُدَّ لِلطَّالِبِ حَدًّا كَامِلًا وَلَهُ إِسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ ، سَوَاءٌ طَالَبَتْهُ بِهِ الزَّوْجَةُ أَوِ الْأَجْنَبِيُّ لِاخْتِصَاصِهِ بِالزَّوْجَةِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ تُصَدِّقَهُ الزَّوْجَةُ وَيُكَذِّبَهُ الْأَجْنَبِيُّ . فَقَدْ سَقَطَ حَدُّ الْقَذْفِ عَنِ الزَّوْجِ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ لِتَصْدِيقِهَا ، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ لِتَكْذِيبِهِ ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ كَامِلًا ، وَيَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهُ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ لِاخْتِصَاصِهِ بِالزَّوْجِيَّةِ وَوَجَبَ عَلَى الزَّوْجَةِ حَدُّ الزِّنَا بِإِقْرَارِهَا وَحَدُّ الْقَذْفِ لِلْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِالْإِقْرَارِ قَاذِفَةً لَهُ وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يُصَدِّقَهُ وَتُكَذِّبَهُ الزَّوْجَةُ ، فَيَسْقُطُ عَنِ الزَّوْجِ حَدُّ الْقَذْفِ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ لِتَصْدِيقِهِ ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ لِتَكْذِيبِهَا ، وَوَجَبَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ حَدُّ الزِّنَا بِإِقْرَارِهِ وَحَدُّ الْقَذْفِ لِلزَّوْجَةِ ؟ لِأَنَّهُ صَارَ بِالْإِقْرَارِ قَاذِفًا لَهَا ، وَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْقَذْفِ بِالْتِعَانِ الزَّوْجِ مِنْهَا ، لِأَنَّ اللِّعَانَ لَا يُسْقِطُ حَدَّ الْقَذْفِ إِلَّا فِي حَقِّ الزَّوْجِ دُونَ الْأَجَانِبِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : وَرَمَى الْعَجْلَانِيُّ امْرَأَتَهُ بِابْنِ عَمِّهِ أَوْ بِابْنِ عَمِّهَا شَرِيكِ بْنِ السَّحْمَاءِ وَذَكَرَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ رَآهُ عَلَيْهَا ، وَقَالَ فِي الطَّلَاقِ مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ : فَالْتَعَنَ وَلَمْ يُحْضِرْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَرْمِيَّ بِالْمَرْأَةِ فَاسْتَدْلَلْنَا عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا الْتَعَنَ لَمْ يَكُنْ عَلَى الزَّوْجِ لَلَذِيَ قَذَفَهُ بِامْرَأَتِهِ حَدٌّ وَلَوْ كَانَ لَهُ لَأَخَذَهُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَبَعَثَ إِلَى الْمَرْمِيِّ فَسَأَلَهُ ، فَإِنْ أَقَرَّ حُدَّ ، وَإِنْ أَنْكَرَ حُدَّ لَهُ الزَّوْجُ . وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ : وَسَأَلَ ، النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرِيكًا فَأَنْكَرَ فَلَمْ يُحَلِّفْهُ وَلَمْ يَحُدَّهُ بِالْتِعَانِ غَيْرِهِ وَلَمْ يَحُدَّ الْعَجْلَانِيَّ الْقَاذِفَ لَهُ بِاسْمِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا رِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ هَاهُنَا عَنِ الشَّافِعِيِّ : قَالَ : رَمَى الْعَجْلَانِيُّ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ السَّحْمَاءِ ، فَقَدْ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ : إِنَّ الْمُزَنِيَّ غَلَطَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا النَّقْلِ وَإِنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ هُوَ الَّذِي قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ السَّحْمَاءِ دُونَ الْعَجْلَانِيِّ ، وَقَدْ حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " عَنْ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ ، وَالْمَقْصُودُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا لَاعَنَ سَقَطَ عَنْهُ حَدُّ الْمَقْذُوفِ بِزَوْجَتِهِ سَوَاءٌ سَمَّاهُ فِي لِعَانِهِ أَوْ لَمْ يُسَمِّهِ ، لِأَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ السَّحْمَاءِ ، وَلَمْ يُسَمِّهِ فِي لِعَانِهِ فَلَمْ يَحُدَّهُ لَهُ ، وَلَوْ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهِ لِأَعْلَمَ شَرِيكًا بِهِ لِيَسْتَوْفِيَهُ إِنْ شَاءَ ، وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ إِذَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْتِعَانِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُحَدُّ ، وَوَجْهُهُ مَا قَدَّمْنَاهُ وَلَيْسَ فِي تَرْكِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِعْلَامَ شَرِيكٍ دَلِيلٌ عَلَى سُقُوطِ الْحَدِّ ، لِأَنَّ شَرِيكًا قَدْ عَلِمَ بِالْحَالِ فَأَمْسَكَ وَلَمْ يُطَالِبْ ، وَلِأَنَّ الْمَدِينَةَ مَعَ صِغَرِهَا وَقِلَّةِ أَهْلِهَا ، وَاشْتِهَارِ لِعَانِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ فِي قَذْفِهِ بِمَحْضَرٍ مِنْ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ ، وَلَا يَخْفَى عَلَى شَرِيكٍ وَهُوَ حَاضِرٌ بِالْمَدِينَةِ أَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالْقَذْفِ ، فَإِذَا عَلِمَ وَأَمْسَكَ لَمْ يَلْزَمْهُ إِعْلَامُهُ ، وَلَا اسْتِيفَاءُ الْحَدِّ لَهُ . فَصْلٌ : أَمَّا الْمَقْصُودُ الثَّانِي بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ ، فَهُوَ مَا ظَهَرَ مِنَ اخْتِلَافِ النَّقْلِ فِيهَا ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ : وَلَمْ يُحْضِرْ رَسُولُ اللَّهِ الْمَرْمِيَّ بِالْمَرْأَةِ . وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ : وَسَأَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرِيكًا فَأَنْكَرَ ، فَصَارَ ظَاهِرُ هَذَا النَّقْلِ مُخْتَلِفًا ؛ لِأَنَّهُ حَكَى أَنَّ شَرِيكًا لَمْ يَحْضُرْ ثُمَّ إِنَّهُ حَضَرَ وَسُئِلَ ، وَإِثْبَاتُ الشَّيْءِ وَنَفْيُهُ مُتَنَافٍ مُسْتَحِيلٌ . وَعَنْ هَذَا جَوَابَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا النَّقْلِ خِلَافٌ مُسْتَحِيلٌ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ : لَمْ يُحْضِرْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرِيكًا - يَعْنِي وَقْتَ اللِّعَانِ . وَقَوْلُهُ : وَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرِيكًا ، يَعْنِي وَقْتَ وَضْعِ الْوَلَدِ عَلَى شَبَهِهِ لِقُوَّةِ الشُّبْهَةِ فِي صِحَّةِ قَذْفِهِ فَلَمْ يُمْتَنَعْ ذَلِكَ وَلَمْ يُسْتَحَلَّ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَخَذَ عَنِ الْوَاقِدِيِّ أَوْ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُحْضِرْ شَرِيكًا وَلَا سَأَلَهُ . فَذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " وَفَرَّعَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ سَمِعَ مِنْ غَيْرِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْضَرَ شَرِيكًا ، أَوْ حَضَرَ فَسَأَلَهُ فَأَنْكَرَ فَذَكَرَهُ فِي الْإِمْلَاءِ عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ وَفَرَّعَ عَلَيْهِ . وَلَمْ يَرْجِعْ عَمَّا أَخَذَهُ عَنِ الْوَاقِدِيِّ إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ بِصِحَّةِ أَحَدِ النَّقْلَيْنِ ، وَإِمَّا لِأَنْ يُبَيِّنَ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّقْلَيْنِ ، وَإِمَّا لِسَهْوِهِ عَنِ الْأَوَّلِ لِتَشَاغُلِهِ بِالْمُسْتَقْبَلِ فَكَانَ هَذَا سَبَبَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ نَقْلُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " ( وَقَالَ ) فِي اللِّعَانِ لَيْسَ لِلْإِمَامِ إِذَا رُمِيَ رَجُلٌ بِزِنًا أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : وَلَا تَجَسَّسُوا فَإِنْ شُبِّهَ عَلَى أَحَدٍ أَنَّ النَّبِيَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ أُنَيْسًا إِلَى امْرَأَةِ رَجُلٍ فَقَالَ " إِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا " فَتِلْكَ امْرَأَةٌ ذَكَرَ أَبُو الزَّانِي بِهَا أَنَّهَا زَنَتْ فَكَانَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْأَلَ ، فَإِنْ أَقَرَّتْ حُدَّتْ وَسَقَطَ الْحَدُّ عَمَّنْ قَذَفَهَا ، وَإِنْ أَنْكَرَتْ حُدَّ قَاذِفُهَا وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ قَاذِفُهَا زَوْجَهَا ( قَالَ ) وَلَمَّا كَانَ الْقَاذِفُ لِامْرَأَتِهِ إِذَا الْتَعَنَ لَوْ جَاءَ الْمَقْذُوفُ بِعَيْنِهِ لَمْ يُؤْخَذْ لَهُ الْحَدُّ لَمْ يَكُنْ لِمَسْأَلَةِ الْمَقْذُوفِ مَعْنًى إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ لِيُحَدَّ وَلَمْ يَسْأَلْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا سَأَلَ الْمَقْذُوفَةَ وَاللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ لِلْحَدِّ الَّذِي يَقَعُ لَهَا إِنْ لَمْ تُقِرَّ بِالزِّنَا وَلَمْ يَلْتَعِنِ الزَّوْجُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا سَمِعَ قَذْفًا بِالزِّنَا فَإِنَّهُ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَعَيَّنَ فِيهِ الْقَاذِفُ وَلَا يَتَعَيَّنَ الْمَقْذُوفُ كَأَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ : زَنَى رَجُلٌ مِنْ جِيرَانِي ، أَوْ زَنَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ ، فَالْقَاذِفُ مُتَعَيَّنٌ وَالْمَقْذُوفُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ ، فَلَا حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ لِلْجَهْلِ بِمُسْتَحَقِّ الْحَدِّ ، وَلَا يَسْأَلُ عَنْ تَعْيِينِ الْمَقْذُوفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [ الْمَائِدَةِ : ] . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَتَعَيَّنَ فِيهِ الْمَقْذُوفُ وَلَا يَتَعَيَّنَ الْقَاذِفُ . وَمِثَالُهُ : أَنْ يَقُولَ رَجُلٌ : سَمِعْتُ مَنْ يَقُولُ : إِنَّ فُلَانًا زَنَى ، أَوْ سَمِعْتُ النَّاسَ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110