كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

وَيَقُولُ الْمُكْتَرِي ، بَلِ اكْتَرَيْتُ مِنْكَ جَمِيعَ هَذِهِ الدَّارِ شَهْرَ رَمَضَانَ بِعَشَرَةٍ ، فَإِنْ عَدِمَا الْبَيِّنَةَ تَحَالَفَا ، وَبَدَأَ الْحَاكِمُ بِإِحْلَافِ الْمُكْرِي ، كَمَا يَبْدَأُ بِإِحْلَافِ الْبَائِعِ . فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا فَنَكَلَ الْآخَرُ ، قَضَى لِلْحَالِفِ مِنْهُمَا عَلَى النَّاكِلِ . وَإِنْ حَلَفَا مَعًا فَقَدْ تَسَاوَيَا ، وَلَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا ، وَفِيمَا يَبْطُلُ بِهِ الْعَقْدُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَبْطُلُ بِنَفْسِ التَّحَالُفِ كَمَا يَرْتَفِعُ نِكَاحُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ بِنَفْسِ اللِّعَانِ ، حَتَّى يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِإِبْطَالِهِ ، لِأَنَّ التَّحَالُفَ لِتَصْحِيحِ الْعَقْدِ دُونَ إِبْطَالِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ بِالْحُكْمِ لِأَجْلِ التَّعَارُضِ . فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِإِبْطَالِهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْرِضَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِمْضَاءَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ . فَيَقُولُ لِلْمُكْتَرِي : قَدْ حَلَفَ الْمُكْرِي عَلَى مَا ادَّعَى ، فَتُمْضِيهِ ؟ فَإِذَا قَالَ : لَا . قَالَ لِلْمُكْرِي : قَدْ حَلَفَ الْمُكْتَرِي عَلَى مَا ادَّعَى فَتُمْضِيهِ ؟ فَإِذَا قَالَ : لَا ، حُكِمَ بِالْفَسْخِ بَيْنَهُمَا . وَلَوْ تَرَاضَيَا عَلَى مَا ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا أَمْضَاهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَإِذَا امْتَنَعَا مِنَ الْإِمْضَاءِ ، وَحُكِمَ بَيْنَهُمَا بِالْفَسْخِ فَفِي انْفِسَاخِ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَنْفَسِخُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ كَمَا لَوْ فَسَخَهُ بِتَحَالُفِهِمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَنْفَسِخُ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ ، لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُحِيلُ الشَّيْءَ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ . وَيُنْظَرُ فِي التَّحَالُفِ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ مُضِيِّ شَيْءٍ مِنَ الْمُدَّةِ اسْتَرْجَعَ الْمُكْتَرِي أُجْرَتَهُ ، وَاسْتَرْجَعَ الْمُكْرِي دَارَهُ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ ، أَوْ بَعْضِهَا لَزِمَ الْمُكْتَرِي أُجْرَةُ مِثْلِ سُكْنَاهُ ، لِاسْتِهْلَاكِهِ لِمَنْفَعَتِهَا عَنْ عَقْدٍ قَدْ حُكِمَ بِفَسَادِهِ .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ لَهُمَا عِنْدَ التَّحَالُفِ بَيِّنَةٌ المتكاريين فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ تُحْضَرَ الْبَيِّنَةُ قَبْلَ التَّحَالُفِ ، فَتُسْمَعُ وَيُمْنَعُ حُضُورُهَا مِنَ التَّحَالُفِ ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ أَوْلَى مِنَ الْيَمِينِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنَّ تُحْضَرَ الْبَيِّنَةُ بَعْدَ التَّحَالُفِ ، فَيَكُونُ سَمَاعُهَا مَحْمُولًا عَلَى مَا أَوْجَبَهُ التَّحَالُفُ مِنْ فَسْخِ الْعَقْدِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ قَدِ انْفَسَخَ بِهِ الْعَقْدُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لَمْ تُسْمَعِ الْبَيِّنَةُ .

وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ قَدِ انْفَسَخَ بِهِ الْعَقْدُ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ سُمِعَتْ ، لِأَنَّ تَصَادُقَهُمَا أَقْوَى مِنْ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ مِنْهُمَا ، وَتَصَادُقُهُمَا غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ إِذَا قِيلَ بِفَسْخِ الْعَقْدِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ، وَمَعْمُولٌ بِهِ إِذَا قِيلَ بِفَسْخِ الْعَقْدِ فِي الظَّاهِرِ ، دُونَ الْبَاطِنِ ، كَذَلِكَ الْبَيِّنَةُ ، فَإِذَا سُمِعَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لَمْ يَخْلُ أَنْ تَكُونَ لِأَحَدِهِمَا أَوْ لَهُمَا : فَإِنْ كَانَتْ لِأَحَدِهِمَا سُمِعَتْ ، وَحُكِمَ بِهَا لِمُقِيمِهَا سَوَاءٌ شَهِدَتْ لِلْمُكْرِي ، أَوْ لِلْمُكْتَرِي . فَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً شَهِدَتْ لَهُ بِمَا ادَّعَى لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ أَسْبَقُ تَارِيخًا مِنَ الْأُخْرَى ، فَإِنْ شَهِدَتْ إِحْدَاهُمَا بِأَنَّهُمَا تَعَاقَدَا مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَشَهِدَتِ الْأُخْرَى أَنَّهُمَا تَعَاقَدَا مَعَ زَوَالِهَا مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ ، فَالْعَقْدُ هُوَ السَّابِقُ مِنْهُمَا ، لِأَنَّ الثَّانِي بَعْدَ صِحَّةِ الْأَوَّلِ بَاطِلٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَشْهَدَ الْبَيِّنَتَانِ بِالْعَقْدِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي الْأَمْوَالِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : إِسْقَاطُ الْبَيِّنَتَيْنِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِتُكَاذُبِهِمَا فِي الشَّهَادَةِ ، فَسَقَطَتْ بِالتَّكَاذُبِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْبَيِّنَةَ مَا بَانَ بِهَا الْحُكْمُ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِهَا بَيَانٌ رُدَّتْ ، لِأَنَّهُ لَا بَيَانَ فِيهَا لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ ، وَيُحْكَمُ بِمَنْ قَرَعَ مِنْهُمَا ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ، أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شُهُودًا ، فَأَسْهَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا " وَقَالَ اللَّهُمَّ أَنْتَ تَقْضِي بَيْنَهُمَا " . وَالثَّانِي : أَنَّ اشْتِبَاهَ الْحُقُوقِ الْمُتَسَاوِيَةِ ، يُوجِبُ تَمْيِيزَهَا بِالْقُرْعَةِ ، كَدُخُولِهَا فِي الْقِسْمَةِ فِي السَّفَرِ بِإِحْدَى نِسَائِهِ ، وَفِي عِتْقِ عَبِيدِهِ ، إِذَا اسْتَوْعَبُوا التَّرِكَةَ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنْ يُقَّسَمَ الْمِلْكُ بَيْنَهُمَا بِالْبَيِّنَتَيْنِ ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابُهُ لِأَمْرَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ، أَنَّ رَجُلَيْنِ تَدَاعَيَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعِيرًا ، أَوْ دَابَّةً ، وَشَهِدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدَانِ ، فَجَعَلَهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْبَيِّنَةَ أَقْوَى مِنَ الْيَدِ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُمَا إِذَا تَسَاوَيَا فِي الْيَدِ جُعِلَ بَيْنَهُمَا ، فَوَجَبَ إِذَا تَسَاوَيَا فِي الْبَيِّنَةِ ، أَنْ يَكُونَ أَوْلَى ، بِأَنْ يُجْعَلَ بَيْنَهُمَا ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى تَخْرِيجِهَا فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي الْأَمْوَالِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَخْرِيجِ قَوْلٍ رَابِعٍ وَهُوَ : وَقَفَهُمَا عَلَى الْبَيَانِ ، فَخَرَّجَهُ الْبَغْدَادِيُّونَ قَوْلًا رَابِعًا لِلشَّافِعِيِّ ، وَامْتَنَعَ الْبَصْرِيُّونَ مِنْ تَخْرِيجِهِ قَوْلًا رَابِعًا ، لِأَنَّ وَقْفَ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْبَيَانِ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِالْبَيَانِ دُونَ الْبَيِّنَةِ ، وَإِنَّمَا يُوقَفُ الْمَالُ عَلَى الْبَيَانِ دُونَ الْبَيِّنَةِ ، وَهَذَا أَشْبَهُ ، فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلُ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ لَمْ يُخَرَّجْ فِي تَعَارُضِهِمَا فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ إِلَّا قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِسْقَاطُهُمَا وَيَتَحَالَفُ الْمُتَدَاعِيَانِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : الْإِقْرَاعُ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ ، وَالْحُكْمُ بِشَهَادَةِ مَنْ قَرَعَ مِنْهُمَا . وَفِي إِحْلَافِ مَنْ قَرَعَتْ بَيِّنَتُهُ قَوْلَانِ ، مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقُرْعَةِ هَلْ دَخَلَتْ تَرْجِيحًا لِلدَّعْوَى أَوْ لِلْبَيِّنَةِ ؟ فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ أَنَّهَا دَخَلَتْ تَرْجِيحًا لِلْبَيِّنَةِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَمِينَ عَلَى مَنْ قَرَعَتْ بَيِّنَتُهُ ، لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْبَيِّنَةِ وَلَا يَمِينَ مَعَ الْبَيِّنَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا دَخَلَتْ تَرْجِيحًا لِلدَّعْوَى ، فَيَجِبُ إِحْلَافُ الْمُدَّعِي . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِيمَا ثَبَتَ بِهِ الْحُكْمُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بِالْيَمِينِ مَعَ الْبَيِّنَةِ ، وَتَكُونُ يَمِينُهُ بِاللَّهِ أَنَّهُ مَا شَهِدَتْهُ بَيِّنَتُهُ حَقٌّ ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ بِيَمِينِهِ تَرْجِيحًا بِالْبَيِّنَةِ ، وَتَكُونُ يَمِينُهُ بِاللَّهِ ، لَقَدِ اكْتَرَيْتُ مِنْهُ الدَّارَ بِكَذَا . وَلَا يَجِيءُ فِيهِ تَخْرِيجُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ ، أَنَّهُ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا بِالْبَيِّنَتَيْنِ ، لِأَنَّ قِسْمَةَ الْعَقْدِ لَا تَصِحُّ ، وَلَا يَجِيءُ فِيهِ تَخْرِيجُ الْقَوْلِ الرَّابِعِ إِنْ صَحَّ تَخْرِيجُهُ ، أَنَّهُ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى الْبَيَانِ لِتَعَذُّرِهِ فِي الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُفَصَّلَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا بِالتَّحَالُفِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ الْبَيِّنَتَانِ مُطْلَقَتَيْنِ لَيْسَ فِيهِمَا تَارِيخٌ يَدُلُّ عَلَى اجْتِمَاعِهِمَا أَوْ تَقَدُّمِ إِحْدَاهُمَا ، فَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ ، أَنَّهُ يُحْكَمُ بِأَزْيَدِ الْبَيِّنَتَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْأُجْرَةِ حُكِمَ بِأَكْثَرِهِمَا قَدْرًا . وَإِنْ كَانَ فِي الْكِرَاءِ حُكِمَ بِأَكْثَرِهِمَا قَدْرًا .

كَمَا لَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِأَلْفٍ ، وَبَيِّنَةٌ بِأَلْفَيْنِ ، حُكِمَ بِالْأَلْفَيْنِ ، وَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ : أَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ مُتَعَارِضَتَانِ تَتَسَاوَى فِيهَا الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ ، لِأَنَّ عَقْدَ الْكِرَاءِ بِعَشَرَةٍ يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِهِ بِعِشْرِينَ ، وَكَرَاءُ الْبَيْتِ بِعَشَرَةٍ يَمْنَعُ مِنْ كَرَاءِ الدَّارِ بِعِشْرِينَ ، فَيَكُونُ تَعَارُضُهُمَا مَحْمُولًا عَلَى الْقَوْلَيْنِ ، يُسْقَطَانِ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فِي الثَّانِي .

فَصْلٌ : وَإِذَا تَنَازَعَ الْمُكْرِي ، وَالْمُكْتَرِي ، فِي شَيْءٍ مِنْ آلَةِ الدَّارِ ، وَادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِلْكًا ، لِنَفْسِهِ انْقَسَمَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا يَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُكْرِي ، وَهُوَ كُلُّ مَا كَانَ مُتَّصِلًا بِالدَّارِ مِنْ آلَاتِهَا ، كَالْأَبْوَابِ ، وَالدِّهْلِيزَاتِ ، وَالرُّفُوفِ الْمُتَّصِلَةِ ، وَالسَّلَالِيمِ الْمُسَمَّرَةِ ، فَالْقَوْلُ فِي مِلْكِهَا قَوْلُ الْمُكْرِي ، مَعَ يَمِينِهِ لِاتِّصَالِهَا بِالدَّارِ الَّتِي هُوَ مَالِكُهَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا يَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُكْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ ، وَهُوَ قُمَاشُ الدَّارِ وَفَرْشُهَا مِنَ الْبُسُطِ ، وَالْحُصْرِ ، وَالصَّنَادِيقِ ، لِأَنَّهُ مِنْ آلَةِ السُّكْنَى وَالْمُكْتَرِي أَحَقُّ بِالسُّكْنَى . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا يَتَحَالَفَانِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ آلَةِ الدَّارِ مُنْفَصِلًا عَنِ الدَّارِ كَالرُّفُوفِ ، وَالسَّلَالِيمِ الْمُنْفَصِلَةِ ، وَإِغْلَاقِ الْأَبْوَابِ ، وَأَطْبَاقِ التَّنَانِيرِ فَالْعُرْفُ فِيهَا مُتَقَابِلٌ ، وَالْيَدُ فِيهِ مُشْتَرَكَةٌ ، فَيُجْعَلُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ تَحَالُفِهِمَا . وَلَوْ كَانَتْ مُنْشَأَةً بَيْنَ نَهْرٍ وَضَيْعَةٍ ، فَادَّعَاهَا صَاحِبُ الْمَاءِ وَقَالَ : هِيَ الْجَامِعَةُ لِمَاءِ نَهْرِي ، وَقَالَ صَاحِبُ الضَّيْعَةِ : هِيَ الْمَانِعَةُ لِلْمَاءِ عَنْ ضَيْعَتِي ، فَهُمَا فِيهَا مُتَسَاوِيَانِ ، فَيَتَحَالَفَانِ عَلَيْهَا ، وَتُجْعَلُ بَعْدَ الْأَيْمَانِ بَيْنَهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوِ ادَعَى دَارًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ ، فَقَالَ : لَيْسَتْ بِمِلْكٍ لِي ، وَهِيَ لِفُلَانٍ ، فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا صَيَّرْتُهَا لَهُ ، وَجَعَلْتُهُ خَصْمًا عَنْ نَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا كُتِبَ إِقْرَارُهُ ، وَقِيلَ لِلمُدَعِي أَقِمِ الْبَيِّنَةَ ، فَإِنْ أَقَامَهَا قَضَى بِهَا عَلَى الَذِي هِيَ فِي يَدَيْهِ ، وَيُجْعَلُ فِي الْقَضِيَّةِ أَنَّ الْمُقِرَ لَهُ بِهَا عَلَى حُجَّتِهِ ، ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : قَدْ قُطِعَ بِالْقَضَاءِ عَلَى غَائِبٍ وَهُوَ أَوْلَى بِقَوْلِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي دَارٍ فِي يَدَيْ رَجُلٍ ، يَتَصَرَّفُ فِيهَا فَادَّعَاهَا عَلَيْهِ رَجُلٌ ، وَقَالَ : هِيَ لِي فَقَالَ صَاحِبُ الْيَدِ : لَيْسَتْ هَذِهِ الدَّارُ لِي ، وَهِيَ لِغَيْرِي فَلَهُ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ مَنْ جَعَلَهَا لَهُ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَذْكُرَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ مَنْ جَعَلَهَا لَهُ ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ جَوَابًا .

وَقِيلَ لَهُ : قَدْ تُوَجَّهُ عَلَيْكَ جَوَابٌ عَدَلْتَ عَنْهُ ، فَإِنْ أَقَمْتَ عَلَى هَذَا ، جُعِلْتَ نَاكِلًا وَأُحْلِفَ الْمُدَّعِي ، وَحُكِمُ لَهُ بِانْتِزَاعِ الدَّارِ مِنْ يَدِكَ ، فَإِنْ عَادَ فَادَّعَاهَا لِنَفْسِهِ بَعْدَ إِنْكَارِهِ ، فَفِي قَبُولِ قَوْلِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ : أَحَدُهُمَا : لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ بَعْدَ إِنْكَارِهِ ؟ لِأَنَّهُ قَدِ اعْتَرَفَ بِهَا لِغَيْرِهِ وَيُجْعَلُ كَالنَّاكِلِ ، وَيَحْلِفُ مُدَّعِيهَا ، وَيُحْكَمُ بِهَا لَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهَا ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهَا مَنْ جَعَلَهَا لَهُ ، فَصَارَ إِقْرَارُهُ كَعَدَمِهِ ، فَيَحْلِفُ عَلَيْهَا أَنَّهَا لَهُ ، وَيُحْكَمُ لَهُ بِالدَّارِ لِأَجْلِ يَدِهِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِمُدَّعِيهَا بَيِّنَةٌ ، فَتُسْمَعُ مِنْهُ ، وَيُحْكَمُ بِهَا لَهُ . وَإِنْ سَمَّى صَاحِبَ الْيَدِ مَنْ جَعَلَ الدَّارَ لَهُ ، وَقَالَ : هِيَ لِفُلَانٍ ، لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا ، أَوْ غَائِبًا . فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ أَنْ يَقْبَلَ الْإِقْرَارَ أَوْ يُنْكِرَهُ ، فَإِنْ قَبِلَ الْإِقْرَارَ ، صَارَتِ الْيَدُ لَهُ ، وَانْتَقَلَتِ الْخُصُومَةُ إِلَيْهِ وَتَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الدَّعْوَى ، فَإِنْ أَنْكَرَ مُدَّعِيهَا ، حَلَفَ لَهُ وَكَانَ أَحَقَّ بِالدَّارِ بِيَمِينِهِ وَيَدِهِ ، إِلَّا أَنْ يُقِيمَ مُدَّعِيهَا بَيِّنَةً ، فَيُحْكَمُ بِهَا لَهُ بِبَيِّنَتِهِ ؟ لِأَنَّهَا أَوْلَى مِنْ يَدٍ وَيَمِينٍ . فَإِنْ أَقَامَ صَاحِبُ الْيَدِ الْبَيِّنَةَ صَارَ أَحَقَّ بِهَا بِبَيِّنَتِهِ ، وَيَدِهِ مِنْ بَيِّنَةٍ بِغَيْرِ يَدٍ . فَإِنْ طَلَبَ مُدَّعِيهَا إِحْلَافَ صَاحِبِ الْيَدِ عَلَيْهَا ، بَعْدَ أَنْ حُكِمَ بِهَا لِلْمُقِرِّ لَهُ ، فَفِي إِجَابَتِهِ إِلَى إِحْلَافِ صَاحِبِ الْيَدِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِيمَنْ أَقَرَّ بِدَارٍ فِي يَدِهِ لِزَيْدٍ ، ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا لِعَمْرٍو ، وَكَانَ زَيْدٌ أَحَقُّ بِهَا مِنْ عَمْرٍو بِالْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ ، وَهَلْ يُؤْخَذُ الْمُقِرُّ بِغُرْمِ قِيمَتِهَا لِعَمْرٍو بِالْإِقْرَارِ الثَّانِي ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُؤْخَذُ بِغُرْمِ قِيمَتِهَا لِعَمْرٍو ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَهْلَكَهَا عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ لِزَيْدٍ ، فَعَلَى هَذَا إِيجَابُ الْمُدَّعِي إِلَى إِحْلَافِ صَاحِبِ الْيَدِ ، لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لَهُ لَزِمَهُ الْغُرْمُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا غُرْمَ عَلَيْهِ ، لِبَقَاءِ الدَّارِ وَتَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ بِهَا . فَعَلَى هَذَا لَا يَحْلِفُ صَاحِبُ الْيَدِ وَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ غُرْمٌ . فَصْلٌ : فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ مَنْ جُعِلَتْ لَهُ الدَّارُ إِقْرَارَ صَاحِبِ الْيَدِ وَأَنْكَرَهَا ، لَمْ يَخْلُ حَالُ صَاحِبِ الْيَدِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا عَلَى إِقْرَارِهِ ، أَوْ رَاجِعًا عَنْهُ . فَإِنْ أَقَامَ عَلَى إِقْرَارِهِ بِهَا لِمَنْ أَنْكَرَهَا ، وَلَمْ يَقْبَلْهَا طُولِبَ مُدَّعِيَهَا بِبَيِّنَتِهِ ، فَإِنْ أَقَامَهَا ، حُكِمَ لَهُ بِالدَّارِ ، وَإِنْ عَدِمَهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ : أَنَّ الْحَاكِمَ يُنَصِّبُ لَهَا أَمِينًا يَحْفَظُهَا عَلَى مَالِكِهَا ، حِفْظَ اللُّقَطَةِ ، حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ بِهَا ، إِمَّا لِمُدَّعِيهَا ، أَوْ لِغَيْرِهِ ، فَيُحْكَمُ بِهَا لَهُ ،

وَلَا تُدْفَعُ ، إِلَى الْمُدَّعِي بِيَمِينِهِ ، لِأَنَّ يَمِينَهُ هِيَ يَمِينُ رَدٍّ بَعْدَ النُّكُولِ ، وَلَمْ يُحْكَمْ بِنُكُولِ مَنْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ ، فَإِنْ طَلَبَ الْمُدَّعِي إِحْلَافَ صَاحِبِ الْيَدِ ، فَفِي إِجَابَتِهِ إِلَى إِحْلَافِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِإِيقَافِهِمَا عَلَى مَنْ لَا يَدَّعِيهَا ، وَالْوَاجِبُ أَنْ يَحْلِفَ الْمُدَّعِي عَلَيْهَا ، وَتُدْفَعُ إِلَيْهِ الدَّارُ بَعْدَ يَمِينِهِ فَإِنْ حَضَرَ مُدَّعٍ لَهَا بَعْدَ تَسْلِيمِهَا إِلَى الْأَوَّلِ بِيَمِينِهِ ، وَنَازَعَهُ فِيهَا فَهَلْ يَكُونُ مُنَازِعًا فِيهَا لِذِي يَدٍ ، أَوْ لِغَيْرِ ذِي يَدٍ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ مُنَازِعًا لِذِي يَدٍ لِتَقَدُّمِ الْحُكْمِ بِهَا لَهُ ، فَصَارَتْ يَدًا فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِيهَا إِنْ أَنْكَرَ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَكُونُ مُنَازِعًا لِغَيْرِ ذِي يَدٍ ، لِأَنَّهَا دُفِعَتْ إِلَيْهِ بِيَمِينٍ مِنْ غَيْرِ يَدٍ ، فَيَحْلِفَانِ عَلَيْهَا ، وَتَكُونُ بَيْنَهُمَا كَالْمُتَدَاعِيَيْنِ لِمَا لَيْسَ فِي أَيْدِيهِمَا وَإِنْ رَجَعَ صَاحِبُ الْيَدِ عَنْ إِقْرَارِهِ حِينَ رَدَّ عَلَيْهِ وَادَّعَاهَا لِنَفْسِهِ ، أَوْ أَقَرَّ بِهَا لِغَيْرِهِ ، فَفِي قَبُولِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : لَا يُقْبَلُ مِنْهُ ، سَوَاءٌ ادَّعَاهَا لِنَفْسِهِ ، أَوْ أَقَرَّ بِهَا لِغَيْرِهِ ، لِأَنَّ إِقْرَارَهُ الْأَوَّلَ قَدْ أَكْذَبَ الثَّانِي ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ كَمَا لَوْ أَقَامَ عَلَى إِقْرَارِهِ الْأَوَّلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُقْبَلُ مِنْهُ سَوَاءً ادَّعَاهَا لِنَفْسِهِ ، أَوْ أَقَرَّ بِهَا لِغَيْرِهِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِإِقْرَارِهِ حَقٌّ لِمُعَيَّنٍ ، فَعَلَى هَذَا إِنِ ادَّعَاهَا لِنَفْسِهِ ، كَانَ هُوَ الْخَصْمُ فِيهَا وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا لِغَيْرِهِ ، انْتَقَلَتِ الْخُصُومَةُ إِلَيْهِ ، وَكَانَتِ الْمُنَازَعَةُ مَعَ ذِي يَدٍ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ ذُو يَدٍ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ بِهَا لِغَيْرِهِ ، وَلَا يَقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَاهَا لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ مَتْهُومٌ فِي ادِّعَائِهَا لِنَفْسِهِ ، وَغَيْرُ مَتْهُومٍ فِي الْإِقْرَارِ بِهَا لِغَيْرِهِ .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْيَدِ قَدْ أَقَرَّ بِهَا فِي الِابْتِدَاءِ لِغَائِبٍ ، لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُدَّعِي مِنْ أَنْ تَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ أَوْ لَا بَيِّنَةَ لَهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ كَانَ الْحُكْمُ مَوْقُوفًا عَلَى قُدُومِ الْغَائِبِ ، وَالدَّارُ مُقَرَّةٌ فِي يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ ، فَإِنْ طَلَبَ الْمُدَّعِي إِحْلَافَ صَاحِبِ الْيَدِ ، فَفِي إِجَابَتِهِ إِلَى إِحْلَافِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ . فَإِنْ قِيلَ : لَا يَمِينَ عَلَيْهِ ، انْقَطَعَتِ الْخُصُومَةُ بَيْنَهُمَا ، وَكَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى قُدُومِ الْغَائِبِ . وَإِنْ قِيلَ : بِوُجُوبِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ ، فَفِي كَيْفِيَّةِ يَمِينِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَحْلِفُ أَنَّ الدَّارَ لِلْغَائِبِ فُلَانٍ ، لِتَكُونَ يَمِينُهُ مُوَافَقَةٌ لِإِقْرَارِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَحْلِفُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِهَذَا الْمُدَّعِي فِيهَا لِتَكَوُّنَ يَمِينُهُ مُعَارَضَةً لِلدَّعْوَى .

فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ مِنْ مُطَالَبَةِ الدَّاعِي ، وَإِنْ نَكَلَ أُحْلِفَ الْمُدَّعِي ، وَحُكِمَ لَهُ بِقِيمَةِ الدَّارِ . فَإِنْ قَدِمَ الْغَائِبُ الْمُقَرُّ لَهُ ، كَانَ لَهُ مُنَازَعَتُهُ فِي الدَّارِ ، وَإِنْ صَارَ إِلَى قِيمَتِهَا ، فَإِنْ أَفْضَى النِّزَاعُ إِلَى الْحُكْمِ بِالدَّارِ لِلْغَائِبِ ، اسْتَقَرَّ مِلْكُ الْمُدَّعِي عَلَى الْقِيمَةِ وَإِنْ أَفْضَى إِلَى الْحُكْمِ بِالدَّارِ لِلْمُدَّعِي أُخِذَ بِرَدِّ الْقَيِّمَةِ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ ، لِئَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَ مِلْكِ الدَّارِ وَقِيمَتِهَا . وَإِنْ كَانَ لِمُدَّعِي الدَّارِ بَيِّنَةٌ ، عِنْدَ الْإِقْرَارِ بِهَا لِلْغَائِبِ سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ ، وَقُضِيَ لَهُ بِالدَّارِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ الْمُقَرِّ لَهُ ، أَوْ قَضَاءٌ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ لَهُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ الْمُقَرِّ لَهُ ، فَعَلَى هَذَا لَا يُحْكَمُ لِلْمُدَّعِي بِالْبَيِّنَةِ ، حَتَّى يَحْلِفَ مَعَهَا لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ يُوجِبُ إِحْلَافَ الْمُدَّعِي مَعَ بَيِّنَتِهِ ، لِجَوَازِ أَنْ يَدَّعِيَ الْغَائِبُ انْتِقَالَهَا إِلَيْهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ ، فَيَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ مَا شَهِدْتُ بِهِ شُهُودٌ الْحَقُّ وَأَنَّهَا لَبَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ ، وَيَكُونُ حَلِفُهُ لِصِدْقِ شُهُودِهِ تَبَعًا لِحَلِفِهِ بِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ ، وَلَوْلَا ذَاكَ لَمَا حَلَفَ بِصِدْقِ الشُّهُودِ ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِحْلَافُهُ عَلَى صِدْقِهِمْ وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ ، وَإِنْ وَهِمُ الْمُزَنِيُّ فِي كَلَامِهِ أَنَّ قَوْلَهُ قَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ ، وَهُوَ وَهْمٌ مِنْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ الْحَاضِرِ ، دُونَ الْغَائِبِ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ ، لِأَنَّهُ قَالَ : قَضَى لَهُ عَلَى الَّذِي هِيَ فِي يَدَيْهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ قَضَاءٌ عَلَى الْحَاضِرِ ، لِأَنَّ الدَّعْوَى تَوَجَّهَتْ إِلَيْهِ ، فَتَوَجَّهُ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ . فَعَلَى هَذَا يُحْكَمُ بِالدَّارِ لِلْمُدَّعِي بِبَيِّنَتِهِ دُونَ يَمِينِهِ ، وَنَسَبَ الْمَرْوَزِيُّ الْمُزَنِيَّ إِلَى الْغَلَطِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ ، وَهُوَ قَضَاءٌ عَلَى الْحَاضِرِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ وَهِمَ فِي تَخْرِيجِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَلَعَمْرِي أَنَّهُ وَهِمَ فِيمَا أَوْهَمَ مِنَ الْقَوْلَيْنِ ، وَهُوَ فِيمَا رَآهُ مِنَ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ مُحْتَمَلٌ ، فَإِذَا قَدِمَ الْغَائِبُ ، بَعْدَ الْحُكْمِ بِالدَّارِ لِلْمُدَّعِي وَاعْتَرَفَ بِهَا وَنَازَعَ فِيهَا وَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ مُنَازَعٍ ذِي يَدٍ ، لِأَنَّهَا انْتُزِعَتْ مِنْ يَدٍ مَنْسُوبَةٍ إِلَيْهِ ، وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ لِلْحَاكِمِ ، إِذَا حَكَمَ بِالدَّارِ

لِلْمُدَّعِي بِبَيِّنَتِهِ أَنْ يَكْتُبَ فِي قَضَائِهِ لِلْمُدَّعِي صِفَةَ الْحَالِ ، وَأَنَّهُ حَكَمَ بِبَيِّنَتِهِ ، وَأَنَّهُ جَعَلَ الْغَائِبَ فِيهَا عَلَى حُجَّتِهِ .

فَصْلٌ : فَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الْيَدِ ، حِينَ انْتُزِعَتِ الدَّارُ مِنْ يَدِهِ بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي ، أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةَ الْغَائِبِ بِمِلْكِهِ لِلدَّارِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِي إِقَامَتِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ ثَابِتَ الْوِكَالَةِ عَنِ الْغَائِبِ ، فَيَسْمَعُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ لِلْغَائِبِ بِالْمِلْكِ ، لِأَنَّهُ وَكِيلُهُ فِيهَا ، وَيَحْكُمُ لِلْغَائِبِ ، لِأَنَّ لَهُ مَعَ الْبَيِّنَةِ يَدًا لَيْسَتْ لِلْمُدَّعِي . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ وَكِيلًا لِلْغَائِبِ وَلَا يَتَعَلَّقُ لَهُ بِالدَّارِ حَقٌّ عَلَى الْغَائِبِ مِنْ إِجَارَةٍ ، وَلَا رَهْنٍ ، فَلَا تُسْمَعُ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ لِلْغَائِبِ ، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي إِقَامَتِهَا ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْغَائِبُ مُنْكِرًا لَهَا ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهَا بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي ، حَتَّى يَقْدُمَ الْغَائِبُ ، فَيَدَّعِي كَمَنْ شَهِدُوا فِي تَرِكَةٍ بِقَسْمٍ وَمَالِ مُفْلِسٍ يُبَاعُ عَلَيْهِ أَنَّ عَبْدًا مِنْ جُمْلَتِهِ مِلْكٌ لِغَائِبٍ لَمْ يَدَّعِهِ ، لَمْ تُسْمَعِ الشَّهَادَةُ ، وَقُسِمَ بَيْنَ وَرَثَةِ الْمَيِّتِ وَغُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ ، وَإِنْ أَرَادَ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ ، بِمِلْكِ الْغَائِبِ لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنْهَا بِالْإِجَارَةِ أَوْ بِالرَّهْنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ مِنْهُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تُسْمَعُ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ فِيهَا لِتَعَلُّقِ حَقَّهُ بِهَا ، وَيُقْضَى بِمِلْكِهَا لِلْغَائِبِ ، وَيُقْضَى عَلَيْهِ لِصَاحِبِ الْيَدِ بِالْإِجَارَةِ ، وَالرَّهْنِ ، وَيَكُونُ الْقَضَاءُ بِهَا لِغَيْرِ مُدَّعٍ ، تَبَعًا لِلْقَضَاءِ لِحَقِّ الْحَاضِرِ عَلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا تُسْمَعَ بَيِّنَةُ الْحَاضِرِ وَإِنِ ادَّعَى الْإِجَارَةَ وَالرَّهْنَ ، لِأَنَّهُمَا تَبَعٌ لِمِلْكِ الْأَصْلِ ، فَلَمْ تَصِحَّ فِيهِ الْإِجَارَةُ ، وَلَا الرَّهْنُ ، إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ مِلْكِ الْغَائِبِ ، وَمِلْكِ الْغَائِبِ لَا يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ إِلَّا بَعْدَ مُطَالَبَتِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَقَامَ رَجُلٌ بَيِّنَةً أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ كَانَتْ فِي يَدَيْهِ أَمْسِ ، لَمْ أَقْبَلْ ، قَدْ يَكُونُ فِي يَدَيْهِ مَا لَيْسَ لَهُ ، إِلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً أَنَّهُ أَخَذَهَا مِنْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ دَارٌ فَادُّعِيَتْ عَلَيْهِ وَأَقَامَ مُدَّعِيهَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِهِ أَمْسِ ، كَالَّذِي نَقْلَهُ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ ، أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لِلْمُدَّعِي فِي هَذِهِ الْبَيِّنَةِ بِأَنَّ الدَّارَ كَانَتْ بِيَدِهِ بِالْأَمْسِ ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ مَعَ يَمِينِهِ . وَنَقَلَ أَبُو يَعْقُوبَ الْبَوِيطِيِّ أَنَّ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي مَسْمُوعَةٌ ، وَيُقْضَى لَهُ بِالدَّارِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِهِ ، فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يُخَرِّجُ سَمَاعَهَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ أَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ لَا تُسْمَعُ وَلَا يُحْكَمُ بِهَا لِلْمُدَّعِي ، وَتَكُونُ الدَّارُ مُقَرَّةً فِي يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ فِي وَقْتِ الدَّعْوَى لِأَمْرَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْيَدَ غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِلْمِلْكِ ، وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ بِظَاهِرِهَا عَلَى الْمِلْكِ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ تَكُونَ بِغَيْرِ مِلْكٍ ، لِدُخُولِهَا بِغَصْبٍ ، أَوْ إِجَارَةٍ ، فَإِذَا زَالَتْ بِيَدٍ طَارِئَةٍ ، صَارَتِ الثَّابِتَةُ أَوْلَى مِنَ الزَّائِلَةِ لِجَوَازِ انْتِقَالِهَا بِمِلْكٍ طَارِئٍ مِنِ ابْتِيَاعٍ ، أَوْ هِبَةٍ فَبَطَلَ بِزَوَالِهَا مَا أَوْجَبَهُ ظَاهِرُهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْبَيِّنَةَ تُسْمَعُ فِيمَا تَصِحُّ فِيهِ الدَّعْوَى ، وَلَوْ قَالَ الْمُدَّعِي كَانَتْ هَذِهِ الدَّارُ فِي يَدِي بِالْأَمْسِ ، لَمْ تُسْمَعْ هَذِهِ الدَّعْوَى فَوَجَبَ إِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِذَلِكَ أَنْ لَا يُسْمَعَ ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُطَابَقَةً لِلدَّعْوَى فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ مَا نَقَلَهُ " الْبُوَيْطِيُّ " أَنَّ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي مَسْمُوعَةٌ وَيُحْكَمُ بِهَا عَلَى الْيَدِ الطَّارِئَةِ ، لِتَقَدُّمِهَا ، إِلَّا أَنْ يُقِيمَ صَاحِبُ الْيَدِ بَيِّنَةً أَنَّهَا انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ بِحَقٍّ مِنْ هِبَةٍ أَوْ بَيْعٍ ، لِأَنَّ الْيَدَ دَالَّةٌ عَلَى الْمِلْكِ ، فَجَرَتْ مَجْرَاهُ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى أَنَّ الدَّارَ كَانَتْ لَهُ بِالْأَمْسِ حُكِمَ لَهُ بِهَا ، كَذَلِكَ إِذَا أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِهِ بِالْأَمْسِ ، وَذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا إِلَى إِبْطَالِ مَا نَقَلَهُ الْبُوَيْطِيُّ ، وَنَسَبُوهُ إِلَى مَذْهَبٍ لِنَفْسِهِ ، وَلَيْسَ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ كُتُبَ الشَّافِعِيِّ تَدُلُّ نُصُوصُهَا عَلَى خِلَافِهِ ، وَكَذَلِكَ مَا نَقَلَهُ عَنْهُ سَائِرُ أَصْحَابِهِ تَعْلِيلًا ، بِمَا قَدَّمْنَاهُ ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ ، أَنَّهُ كَانَ مَالِكًا لَهَا بِالْأَمْسِ ، فَيُحْكَمُ بِهَا ، وَبَيْنَ أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً بِأَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِهِ بِالْأَمْسِ ، وَلَا يُحْكَمُ بِهَا ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ يُوجِبُ دَوَامَهُ إِلَّا بِحُدُوثِ سَبَبٍ يُوجِبُ انْتِقَالَهُ وَثُبُوتُ الْيَدِ لَا تُوجِبُ دَوَامَهَا ، لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ بِإِجَارَةٍ تَرْتَفِعُ بِانْقِضَاءِ مُدَّتِهَا ، فَافْتَرَقَا فِي الْقَبُولِ ، لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْمُوجِبِ . وَإِذَا وَجَبَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنْ تَكُونَ الْبَيِّنَةُ بِالْيَدِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، غَيْرَ مَسْمُوعَةٍ مَعَ مَا حَدَثَ مِنَ الْيَدِ الطَّارِئَةِ ، فَإِنَّمَا لَا تُسْمَعُ إِذَا كَانَتْ مَقْصُورَةً عَلَى تَقَدُّمِ الْيَدِ فَإِنْ شَهِدَتْ مَعَ تَقَدُّمِ الْيَدِ بِالسَّبَبِ الَّذِي انْتَقَلَتْ بِهِ إِلَى الْيَدِ الطَّارِئَةِ مِنْ غَصْبٍ ، أَوْ وَدِيعَةٍ ، أَوْ عَارِيَةٍ وَجَبَ سَمَاعُهَا وَالْحُكْمُ بِهَا ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ، لَا إِلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً أَنَّهُ أَخَذَهَا مِنْهُ ، . يَعْنِي بِمَا لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ ، إِمَّا بِمُبَاحٍ مِنْ وَدِيعَةٍ ، أَوْ عَارِيَةٍ ، أَوْ بِمَحْظُورٍ مِنْ غَصْبٍ وَتَغَلُّبٍ ، لِأَنَّهُ قَدْ بَانَ بِالْبَيِّنَةِ ، أَنَّ الْيَدَ الطَّارِئَةَ غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِلْمِلْكِ فَثَبَتَ بِهَا حُكْمُ الْيَدِ الْمُتَقَدِّمَةِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ غَصَبَهُ إِيَّاهَا وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِهَا فَهِيَ لِلْمَغْصُوبِ وَلَا يَجُوزُ إِقْرَارُهُ فِيمَا غَصَبَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا كَانَتْ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَتَدَاعَاهَا رَجُلَانِ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : هَذِهِ الدَّارُ لِي غَصَبَنِي عَلَيْهَا صَاحِبُ الْيَدِ ، وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً .

وَقَالَ الْآخَرُ : " هَذِهِ الدَّارُ لِي ، أَقَرَّ لِي بِهَا صَاحِبُ الْيَدِ ، وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً : حُكِمَ بِالدَّارِ لِلْمَغْصُوبِ فِيهِ ، دُونَ الْمُقِرِّ لَهُ ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ صَاحِبُ الْيَدِ بِالْبَيِّنَةِ غَاصِبًا ، وَإِقْرَارُ الْغَاصِبِ مَرْدُودٌ . وَكَذَلِكَ لَوِ ادَّعَاهَا الْآخَرُ أَنَّهُ ابْتَاعَهَا مِنْهُ ، كَانَ بَيْعُ الْغَاصِبِ ، مَرْدُودًا فَإِنْ قِيلَ : فَيَجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ غُرْمُ قِيمَتِهَا لِمَنْ أَقَرَّ لَهُ بِهَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ كَمَنْ أَقَرَّ بِدَارٍ لِزَيْدٍ ، ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا لِعَمْرٍو ، وَغَرِمَ لِعَمْرٍو قِيمَتَهَا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ قِيلَ : لَا غُرْمَ عَلَيْهِ هَاهُنَا ، قَوْلًا وَاحِدًا . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ ، أَنَّ اسْتِهْلَاكَ الدَّارِ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، كَانَ بِالْبَيِّنَةِ فَلَا يَلْزَمُ الْمُقِرَّ غُرْمُ مَا اسْتَهْلَكَهُ غَيْرُهُ . وَفِي مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ كَانَ الْمُقِرُّ قَدِ اسْتَهْلَكَهَا عَلَى الثَّانِي بِإِقْرَارِهِ الْأَوَّلِ ، فَلَزِمَهُ غُرْمُ مَا اسْتَهْلَكَ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَتِ الدَّارُ فِي يَدَيْ رَجُلٍ ، فَتَدَاعَاهَا رَجُلَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا : هَذِهِ الدَّارُ لِي أَوْدَعْتُكَ إِيَّاهَا ، وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً . وَقَالَ الْآخَرُ : هَذِهِ الدَّارُ لِي ، أَجَّرْتُكَ إِيَّاهَا وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً . فَصَارَا مُتَدَاعِيَيْنِ لِمِلْكِهَا ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي حُكْمِ يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ ، فَتَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ بِالْمِلْكِ لِتَنَافِي شَهَادَتِهِمَا فَخَرَجَ فِي تَعَارُضِهِمَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : إِسْقَاطُ الْبَيِّنَتَيْنِ ، وَالرُّجُوعُ إِلَى قَوْلِ صَاحِبِ الْيَدِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : الْإِقْرَاعُ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ ، وَالْحُكْمُ بِمَنْ قَرَعَ مِنْهُمَا فَإِنْ قَرَعَتْ بَيِّنَةُ مُدَّعِي الْوَدِيعَةِ ، انْتُزِعَتْ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَإِنْ قَرَعَتْ بَيِّنَةُ مُدَّعِي الْإِجَارَةِ ، فَإِنْ كَانَتِ الْمُدَّةُ بَاقِيَةً ، أُقِرَّتْ فِي يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّتِهَا ، وَأَخَذَ بِأُجْرَتِهَا ، فَإِنِ انْقَضَتْ مُدَّتُهَا انْتُزِعَتْ مِنْ يَدِهِ ، وَأَخَذَ بِالْأُجْرَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : اسْتِعْمَالُ الْبَيِّنَتَيْنِ ، وَجَعْلُ الدَّارِ بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ نِصْفَيْنِ ، نِصْفُهَا لِمُدَّعِي الْوَدِيعَةِ ، يَنْتَزِعُهُ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ وَنِصْفُهَا لِمُدَّعِي الْإِجَارَةِ يُقِرُّهُ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ ، إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْأُجْرَةِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا ادَعَى عَلَيْهِ شَيْئَا كَانَ فِي يَدَيِ الْمَيِّتِ ، حَلَفَ عَلَى عِلْمِهِ ، وَقَالَ فِي كِتَابِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى : وَإِذَا اشْتَرَاهُ حَلَفَ عَلَى الْبَتِّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي مَوَاضِعَ ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْيَمِينَ إِذَا تَوَجَّهَتْ

عَلَى الْإِنْسَانِ فِي فِعْلِ نَفْسِهِ ، كَانَتْ عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتِّ ، سَوَاءٌ كَانَتْ عَلَى إِثْبَاتٍ أَوْ نَفْيٍ . وَالْإِثْبَاتُ أَنْ يَحْلِفَ وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا الْعَبْدَ لِي إِمَّا بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، وَإِمَّا بِالرَّدِّ بَعْدَ النُّكُولِ . وَأَمَّا النَّفْيُ ، فَإِنْ حَلَفَ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَا حَقَّ لَكَ فِي هَذَا الْعَبْدِ فَإِنْ أَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ ، عَلَى الْعِلْمِ فِي الْإِثْبَاتِ ، فَقَالَ : وَاللَّهِ إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ لِي وَأَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ لَيْسَ هُوَ بِمِلْكٍ لَكَ . فَقَدْ أَكَّدَهَا ، لِأَنَّ إِثْبَاتَ الْعِلْمِ زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ ، وَإِنْ أَحْلَفَهُ عَلَى الْعِلْمِ فِي النَّفْيِ فَقَالَ : وَاللَّهِ لَا أَعْلَمُ أَنَّ لَكَ عَلِيَّ شَيْئًا وَلَا أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ لَكَ ، لَمْ تَصِحَّ الْيَمِينُ ، لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ وَإِحَاطَةٍ فِيمَا اخْتَصَّ بِنَفْسِهِ مِنْ إِثْبَاتٍ ، وَنَفْيٍ ، فَلَمْ تَصِحَّ يَمِينُهُ فِي النَّفْيِ ، إِلَّا بِالْقَطْعِ وَالْبَتِّ ، كَمَا لَا تَصِحَّ يَمِينُهُ فِي الْإِثْبَاتِ ، إِلَّا بِالْقَطْعِ . فَأَمَّا إِذَا حَلَفَ فِي تَوَجُّهِ الدَّعْوَى عَلَى غَيْرِهِ ، كَالْوَارِثِ إِذَا ادَّعَى عَلَى مَيِّتِهِ دَعْوَى ، فَأَنْكَرَهَا ، فَيَمِينُهُ يَمِينُ نَفْيٍ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ ، فَيَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْقَطْعِ ، لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَهُ إِلَى الْيَقِينِ وَالْإِحَاطَةِ فَيَقُولُ : وَاللَّهِ لَا أَعْلَمُ أَنَّ لَكَ عَلَيَّ شَيْئًا مِمَّا ادَّعَيْتَهُ ، فَإِنْ أَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتِّ ، فَقَالَ : وَاللَّهِ مَا لَكَ عَلَيَّ شَيْءٌ مِمَّا ادَّعَيْتَهُ ، كَانَ تَجَاوُزًا مِنَ الْحَاكِمِ ، وَقَدْ وَقَعَتِ الْيَمِينُ مَوْقِعَهَا ، لِأَنَّهَا أَغْلَظُ مِنَ الْيَمِينِ الْمُسْتَحَقَّةِ عَلَيْهِ ، وَهِيَ تَؤُولُ بِهِ إِلَى الْعِلْمِ . وَلَوِ ادَّعَى شَيْئًا لِمَيِّتِهِ ، وَتَوَجَّهَتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِ ، حَلَفَ عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتِّ ، كَمَا لَوِ ادَّعَاهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَدَّعِيَهُ إِلَّا بَعْدَ إِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِهِ ، فَاسْتَوَى يَمِينُ الْإِثْبَاتِ فِي فِعْلِهِ ، وَفِعْلِ غَيْرِهِ ، وَاخْتَلَفَتْ يَمِينُ النَّفْيِ فِي فِعْلِهِ ، وَفِعْلِ غَيْرِهِ . وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

بَابُ الدَّعْوَى فِي الْمِيرَاثِ

بَابُ الدَّعْوَى فِي الْمِيرَاثِ مِنِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ هَلَكَ نَصْرَانِيٌ وَلَهُ ابْنَانِ : مُسْلِمٌ وَنَصْرَانِيٌ ، فَشَهِدَ مُسْلِمَانِ لِلْمُسْلِمِ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ مُسْلِمًا ، وَلِلنَّصْرَانِيِّ مُسْلِمَانِ أَنَ أَبَاهُ مَاتَ نَصْرَانِيًّا ، صَلَّى عَلَيْهِ فَمَنْ أَبْطَلَ الْبَيِّنَةَ الَّتِي لَا تَكُونُ إِلَّا بِأَنْ يُكَذِّبَ بَعْضُهُمْ بَعْضَا ، جَعَلَ الْمِيرَاثَ لِلنَّصْرَانِيِّ ، وَمَنْ رَأَى الْإِقْرَاعَ أَقْرَعَ ، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ كَانَ الْمِيرَاثُ لَهُ ، وَمَنْ رَأَى أَنْ يُقَسَّمَ إِذَا تَكَافَأَتْ بَيِّنَتَاهُمَا ، جَعَلَهُ بَيْنَهُمَا ، وَإِنَّمَا صَلَى عَلَيْهِ بِالْإِشْكَالِ كَمَا يُصَلَّى عَلَيْهِ لَوِ اخْتَلَطَ بِمُسْلِمِينَ مَوْتًى قَالَ الْمُزَنِيُّ : أَشْبَهُ بِالْحَقِّ عِنْدِي أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَصْلُ دِينِهِ النَّصْرَانِيَّةُ فَاللَّذَانِ شَهِدَا بِالْإِسْلَامِ أَوْلَى ، لِأَنَّهُمَا عَلِمَا إِيمَانًا حَدَثَ خَفِي عَلَى الْآخَرِينَ ، وَإِنْ لَمْ يُدْرَ مَا أَصْلُ دِينِهِ وَالْمِيرَاثُ فِي أَيْدِيهِمَا ، فَبَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَوْ رَمَى أَحَدُهُمَا طَائِرًا ثُمَّ رَمَاهُ الثَّانِي ، فَلَمْ يَدْرِ أَبْلَغَ بِهِ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعًا أَوْ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ ، جَعَلْنَاهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ . قَالَ الْمُزَنِيُّ : وَهَذَا وَذَاكَ عِنْدِي فِي الْقِيَاسِ سَوَاءٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي اخْتِلَافِ الِاثْنَيْنِ فِي دِينِ الْأَبِ ، أَنَّهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُعْرَفَ دِينُ الْأَبِ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يُعرَفَ ، فَإِنْ عُرِفَ دِينُ الْأَبِ أَنَّهُ نَصْرَانِيٌّ ، فَتَرَكَ ابْنَيْنِ مُسْلِمًا وَنَصْرَانِيًّا ، وَادَّعَى الْمُسْلِمُ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ مُسْلِمًا فَهُوَ أَحَقُّ بِمِيرَاثِهِ ، وَشَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ شَاهِدَانِ عَدْلَانِ . وَادَّعَى النَّصْرَانِيُّ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ نَصْرَانِيًّا ، وَهُوَ أَحَقُّ بِمِيرَاثِهِ ، وَشَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ شَاهِدَانِ عَدْلَانِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الشَّهَادَتَانِ وَاخْتِلَافُهُمَا إِذَا أَمْكَنَ فِيهِ الْقَضَاءُ فَلَمْ يَتَعَارَضَا ، فَإِذَا عُلِمَ فِيهِ التَّكَاذُبَ تَعَارَضَتَا ، وَلَا يَخْلُو حَالُ هَاتَيْنِ الشَّهَادَتَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحُدُهَا : أَنْ تَكُونَ مُطَلَّقَتَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَا مُقَيَّدَتَيْنِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ بِالْإِسْلَامِ مُطْلَقَةٌ ، وَبِالنَّصْرَانِيَّةِ مُقَيَّدَةٌ .

وَالرَّابِعُ : أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ بِالْإِسْلَامِ مُقَيَّدَةٌ ، وَبِالنَّصْرَانِيَّةِ مُطْلَقَةٌ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَتَانِ مُطْلَقَتَيْنِ ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ شُهُودُ الْمُسْلِمِ : إِنَّ أَبَاهُ مُسْلِمٌ ، وَيَقُولُ شُهُودُ النَّصْرَانِيِّ إِنَّ أَبَاهُ نَصْرَانِيٌّ ، فَالتَّصَادُقُ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ مُمْكِنٌ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ نَصْرَانِيًّا ، فَيُسْلِمُ ، وَيَكُونُ مُسْلِمًا ، فَيَتَنَصَّرُ ، فَتَكُونُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ صَادِقَةٌ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا تَعَارُضَ فِيهَا وَحُكِمَ بِشَهَادَةِ الْإِسْلَامِ ، لِأَنَّهَا أَزْيَدُ عِلْمًا ، لِأَنَّ نَصْرَانِيَّتَهُ أَصْلٌ ، وَإِسْلَامُهُ حَادِثٌ ، فَصَارَ كَالشَّهَادَةِ بِجَرْحٍ وَالتَّعْدِيلِ يُحْكَمُ بِالْجَرْحِ عَلَى التَّعْدِيلِ ، وَيُجْعَلُ الْمُسْلِمُ وَارِثًا دُونَ النَّصْرَانِيِّ . فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : فَهُوَ أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَتَانِ مُقَيَّدَتَيْنِ ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ شُهُودُ الْمُسْلِمِ ، إِنَّ أَبَاهُ مَاتَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ قَائِلًا بِالشَّهَادَتَيْنِ عِنْدَ خُرُوجِ رُوحِهِ . وَيَقُولُ شُهُودُ النَّصْرَانِيِّ إِنَّ أَبَاهُ مَاتَ عَلَى دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ ، قَائِلًا بِالتَّثْلِيثِ عِنْدَ خُرُوجِ رُوحِهِ . فَهَذَا تَعَارُضٌ فِي شَهَادَتِهِمَا ، لِتَكَاذُبِهِمَا بِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَمُوتَ مُسْلِمًا نَصْرَانِيًّا وَلِلشَّافِعِيِّ فِي تَعَارُضِ الشَّهَادَتَيْنِ فِي الْأَمْوَالِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ ذَكَرَهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ : أَحَدُهَا : إِسْقَاطُ الْبَيِّنَتَيْنِ بِالتَّعَارُضِ ، لِتَكَاذُبِهِمَا ، فَيَكُونُ الْمِيرَاثُ لِلنَّصْرَانِيِّ دُونَ الْمُسْلِمِ اسْتِصْحَابًا لِأَصْلِ دِينِهِ فِي النَّصْرَانِيَّةِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ الْمُسْلِمُ بِاللَّهِ أَنَّ أَبَاهُ لَمْ يُسْلِمْ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : الْإِقْرَاعُ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ ، وَالْحُكْمُ بِالْقَارِعَةِ مِنْهَا لِأَنَّ فِي الْقُرْعَةِ تَمْيِيزًا لِمَا اشْتَبَهَ ، وَهَلْ يَحْتَاجُ مَنْ قَرَعَتْ بَيِّنَتُهُ إِلَى يَمِينٍ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْقُرْعَةِ هَلْ تُرَجَّحُ بِهَا الدَّعْوَى أَوِ الْبَيِّنَةُ ، فَإِنْ قَرَعَتْ بَيِّنَةُ الْمُسْلِمِ كَانَ هُوَ الْوَارِثُ وَإِنْ قَرَعَتْ بَيِّنَةُ النَّصْرَانِيِّ كَانَ هُوَ الْوَارِثُ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : اسْتِعْمَالُ الْبَيِّنَتَيْنِ وَجَعْلُ التَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ تَخْرِيجِ هَذَا الْقَوْلِ فِي الْمِيرَاثِ كَتَخْرِيجِهِ فِي الْأَمْوَالِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ ، وَطَائِفَةٍ مَعَهُ أَنَّ تَخْرِيجَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ صَحِيحٌ اسْتِشْهَادًا بِذِكْرِ الشَّافِعِيِّ لَهُ ، وَاحْتِجَاجًا مِنْ قَوْلِهِ " بِأَنَّ رَجُلَيْنِ لَوْ رَمَيَا طَائِرًا ، فَسَقَطَ مَيِّتًا ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمَا أَثْبَتَهُ بِرَمْيهِ أَنَّهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ إِثْبَاتُهُ مِنْ أَحَدِهِمَا ، كَذَلِكَ الْمِيرَاثُ " . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَطَائِفَةٌ مَعَهُ أَنَّ تَخْرِيجَهُ لَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَشْتَرِكَ مُسْلِمٌ وَنَصْرَانِيٌّ فِي مِيرَاثِ مَيِّتٍ ، لِأَنَّهُ إِنْ مَاتَ نَصْرَانِيًّا وَرِثَهُ النَّصْرَانِيُّ دُونَ الْمُسْلِمِ ، وَإِنْ مَاتَ مُسْلِمًا وَرِثَهُ الْمُسْلِمُ دُونَ النَّصْرَانِيِّ ،

فَإِذَا قُسِّمَ بَيْنَهُمَا عَلِمْنَا قَطْعًا أَنَّ أَحَدَهُمَا قَدْ أُعْطِيَ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ ، وَمُنِعَ الْآخَرُ مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ وَلَيْسَ كَالْمَالِ الَّذِي يَصِحُّ اشْتِرَاكُهُمَا فِي سَبَبِهِ ، فَيَشْتَرِكَانِ فِي تَمَلُّكِهِ . وَكَذَلِكَ الطَّائِرُ إِذَا رَمَيَاهُ ، جَازَ أَنْ يَكُونَ تَكَامَلَ إِثْبَاتُهُ بِرَمْيِهِمَا ، فَصَحَّ فِيهِ اشْتِرَاكُهُمَا ، وَجُعِلَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا فِي أَحَدِ الْأَقَاوِيلِ مِنْ قِسْمَةٍ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ حَكَاهُ عَنْ مَذْهَبِ مَنْ يَرَاهُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِتَوْرِيثِ الْغَرْقَى بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ، وَلَمْ يَحْكِهِ عَنْ نَفْسِهِ ، لِأَنَّهُ لَا يَرَى ذَلِكَ فِي الْغَرْقَى وَقَدْ تَكَلَّمَ عَلَى ضَعْفِهِ وَوَهَائِهِ ، فَقَالَ : لَوْ قَسَمْتُ كُنْتُ لَمْ أَقَضِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدَعْوَاهُ ، وَلَا بِبَيِّنَتِهِ وَكُنْتُ عَلَى يَقِينِ خَطَأٍ ، يُنْقَصُ مَنْ هُوَ لَهُ عَنْ كَمَالِ حَقِّهِ ، وَإِعْطَاءِ الْآخَرِ مَا لَيْسَ لَهُ . فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ بِالْإِسْلَامِ مُطْلَقَةٌ ، وَبِالنَّصْرَانِيَّةِ مُقَيَّدَةٌ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ شُهُودُ الْمُسْلِمِ أَنَّ أَبَاهُ مُسْلِمٌ ، وَيَقُولَ شُهُودُ النَّصْرَانِيِّ ، إِنَّ أَبَاهُ مَاتَ عَلَى دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ ، قَائِلًا بِالتَّثْلِيثِ عِنْدَ خُرُوجِ رُوحِهِ ، فَلَا تَعَارُضَ فِي الشَّهَادَتَيْنِ لِأَنَّهُ قَدْ يُسْلِمُ ، ثُمَّ يَرْتَدُّ بَعْدَ إِسْلَامِهِ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ ، فَتَصِحُّ الشَّهَادَتَانِ ، وَيُحْكَمُ بِارْتِدَادِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ ، فَلَا يَرِثُهُ وَاحِدٌ مِنِ ابْنَيْهِ وَيَكُونُ مَالُهُ فَيْئًا لِبَيْتِ الْمَالِ ، لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَرِثُهُ مُسْلِمٌ وَلَا نَصْرَانِيٌّ . فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ بِالْإِسْلَامِ مُقَيَّدَةٌ ، وَبِالنَّصْرَانِيَّةِ مُطْلَقَةٌ فَيَقُولُ شُهُودُ الْمُسْلِمِ إِنَّ أَبَاهُ مَاتَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ قَائِلًا بِالشَّهَادَتَيْنِ عِنْدَ خُرُوجِ رُوحِهِ ، وَيَقُولُ شُهُودُ النَّصْرَانِيِّ إِنَّ أَبَاهُ نَصْرَانِيٌّ فَلَا تَعَارُضَ فِي شَهَادَتِهِمَا لِحُدُوثِ إِسْلَامِهِ بَعْدَ نَصْرَانِيَّتِهِ ، فَيَكُونُ مِيرَاثُهُ لِلْمُسْلِمِ دُونَ النَّصْرَانِيِّ ، فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ إِنْ شَهِدَ شُهُودُ الْمُسْلِمِ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ مُسْلِمًا ، وَشَهِدَ شُهُودُ النَّصْرَانِيِّ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ نَصْرَانِيًّا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ تُحْمَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ عَلَى التَّقْيِيدِ ، أَوْ عَلَى الْإِطْلَاقِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّقْيِيدِ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا شَهِدَتْ بِدِينِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ . فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الشَّهَادَتَانِ مُتَعَارِضَتَيْنِ ، فَتَكُونُ مَحْمُولَةً عَلَى الْأَقَاوِيلِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، لِأَنَّهُمَا اسْتَصْحَبَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَالِهِ ، وَلَمْ يَقْطَعَا بِدِينِهِ عِنْدَ خُرُوجِ رُوحِهِ .

فَعَلَى هَذَا لَا تَعَارُضَ فِي الشَّهَادَتَيْنِ وَيَكُونُ الْمِيرَاثُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ، تَعْلِيلًا بِمَا قَدَّمْنَاهُ . فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : فِي التَّفْصِيلِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْأَبُ مَجْهُولَ الدَّيْنِ ، فَيَشْهَدُ شَاهِدَانِ بِإِسْلَامِهِ ، وَيَشْهَدُ شَاهِدَانِ بِنَصْرَانِيَّتِهِ ، فَيَسْتَوِي مَعَ الْجَهْلِ بِدِينِهِ إِطْلَاقُ الشَّهَادَتَيْنِ ، وَتَقْيِيدُهُمَا فِي التَّعَارُضِ ، وَإِنْ كَانَتَا فِي التَّقْيِيدِ مُتَكَاذِبَتَيْنِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا فِي الْإِطْلَاقِ صَادِقَتَيْنِ ، لَكِنَّ الْجَهْلَ بِدِينِهِ ، يَمْنَعُ مِنَ الْحُكْمِ بِإِحْدَاهُمَا مَعَ التَّصَادُقِ ، فَجَرَى عَلَيْهِمَا حُكْمُ الْمُعَارَضَةِ فِي التَّكَاذُبِ ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْأَقَاوِيلِ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ . أَحَدُهُمَا : إِسْقَاطُ الْبَيِّنَتَيْنِ وَيُرَدَّانِ إِلَى دَعْوَى بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ . وَالثَّانِي : الْإِقْرَاعُ بَيْنَهُمَا ، وَالْحُكْمُ بِالْقَارِعَةِ مِنْهُمَا وَفِي إِحْلَافِ مَنْ قَرَعَتْ بَيِّنَتُهُ قَوْلَانِ : وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : الْمُخْتَلَفُ فِي تَخْرِيجِهِ اسْتِعْمَالُ الْبَيِّنَتَيْنِ ، وَقَسَمَ الْمِيرَاثَ بَيْنَهُمَا بِالْبَيِّنَةِ نِصْفَيْنِ . فَعَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيِّ ، وَمَنْ تَابَعَهُ ، يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا بِالْبَيِّنَتَيْنِ إِرْثًا ، وَيُفْصَلُ بِهَا الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا . وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا يَصِحُّ اسْتِعْمَالُهَا ، لِيَقِينِ الْخَطَأِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ، وَيَسْقُطَانِ عِنْدَ اسْتِحَالَةِ الْحُكْمِ بِهِمَا ، وَإِذَا سَقَطَتِ الْبَيِّنَتَانِ ، وَدِينُ الْمَيِّتِ مَجْهُولٌ ، فَفِي التَّرِكَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهَا تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا مِلْكًا بِالتَّحَالُفِ دُونَ الْبَيِّنَةِ لِتَكَافُئِهِمَا وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ ، أَنَّهَا تُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا بَدْءًا ، وَتُقَرُّ مَعَهُمَا أَمَانَةً يُمْنَعَانِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا ، حَتَّى يُبَيَّنَ مُسْتَحِقُّهَا مِنْهَا أَوْ يَصْطَلِحَا عَلَيْهَا كَالْمَيِّتِ عَنْ زَوْجَتَيْنِ ، إِحْدَاهُمَا مُطْلَقَةٌ قَدْ أَشْكَلَتْ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهَا تُقَرُّ مَنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ قَبْلَ التَّنَازُعِ ، وَالتَّحَالُفِ ، فَإِنْ كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمَا أَوْ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا ، أَوْ فِي يَدِ أَجْنَبِيٍّ ، أُقِرَّتْ عَلَى حَالِهَا كَمَا كَانَتْ إِقْرَارُ يَدٍ وَأَمَانَةٍ ، مِنْ غَيْرِ قِسْمَةٍ . وَوَهِمَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ فَأَقَرَّهَا فِي يَدِهِ مِلْكًا . وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهَا مُتَعَيِّنٌ بِالْمِيرَاثِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ لِلْيَدِ فِي تَمَلُّكِهَا تَأْثِيرٌ ، وَقَدْ يَكُونُ فِي يَدِ أَجْنَبِيٍّ ، لَا يَدَّعِي مِيرَاثَهَا ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ مِلْكًا لَهُ .



فَصْلٌ : فَأَمَّا حُكْمُ الْمَيِّتِ المختلف في ديانته أو مجهول الدين ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ ، وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا مَا لَمْ يَحْكُمْ بِرِدَّتِهِ ، لِأَنَّ أَمْرَهُ مُشْتَبِهٌ ، فَجَرَى مَجْرَى جَمَاعَةٍ مَاتُوا ، وَفِيهِمْ كَافِرٌ قَدْ أَشْكَلَ ، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ هل يصلى عليه ؟ فَإِنَّهُ يُصَلَّى عَلَى جَمِيعِهِمْ ، وَيُدْفَنُوا فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِإِسْلَامِهِ ، وَلَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ لِمَا اسْتَشْهَدَ بِأَنَّهُ مِنَ الْجَمَاعَةِ الْمَوْتَى ، إِذَا عُلِمَ أَنَّ فِيهِمْ كَافِرًا قَدْ أَشْكَلَ ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ عَلَى جَمِيعِهِمْ وِفَاقٌ ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يُسْتَظْهَرُ لَهُ ، وَلَا يُسْتَظْهَرُ عَلَيْهِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ كَانَتْ دَارٌ فِي يَدَيْ رَجُلٍ وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى حَالِهَا ، فَادَّعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْمُدَعِيَيْنِ أَنَّهُ وَرِثَهَا مِنْ أَبِيهِ ، فَمَنْ أَبْطَلَ الْبَيِّنَةَ تَرَكَهَا فِي يَدَيْ صَاحِبِهَا ، وَمَنْ رَأَى الْإِقْرَاعَ أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا أَوْ يَجْعَلَهَا بَيْنَهُمَا مَعًا ، وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ شَنَاعَةٌ ، وَأَجَابَ بِهَذَا الْجَوَابِ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ الْبَيِّنَتَانِ أَنْ تَكُونَا صَادِقَتَيْنِ فِي مَوَاضِعَ ، ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فِي مِثْلِ هَذَا لَوْ قَسَمْتُهُ بَيْنَهُمَا كُنْتُ لَمْ أَقْضِ لُوَاحِدِ مِنْهُمَا بِدَعْوَاهُ وَلَا بِبَيِّنَتِهِ ، وَكُنْتُ عَلَى يَقِينٍ خَطَإٍ بِنَقْصِ مَنْ هُوَ لَهُ عَنْ كَمَالِ حَقِّهِ أَوْ بِإِعْطَاءٍ الْآخَرِ مَا لَيْسَ لَهُ ، ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : وَقَدْ أَبْطَلَ الشَّافِعِيُّ الْقُرْعَةَ فِي امْرَأَتَيْنِ ، مُطَلَّقَةٍ ، وَزَوْجَةٍ ، وَأَوْقَفَ الْمِيرَاثَ حَتَى يَصْطَلِحَا ، وَأَبْطَلَ فِي ابْنَيْ أَمَتِهِ اللَّذَيْنِ أَقَرَّ أَنَّ أَحَدَهُمَا ابْنُهُ الْقُرْعَةَ فِي النَّسَبِ وَالْمِيرَاثِ ، فَلَا يُشْبِهُ قَوْلُهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْقُرْعَةَ وَقَدْ قَطَعَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى عَلَى كِتَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي امْرَأَةٍ أَقَامَتِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَصْدَقَهَا هَذِهِ وَقَبَضَتْهَا وَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ وَقَبَضَهَا قَالَ : أُبْطِلُ الْبَيِّنَتَيْنِ لَا يَجُوزُ إِلَّا هَذَا أَوِ الْقُرْعَةُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : هَذَا لَفْظُهُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَ الْقُرْعَةَ لَا تُشْبِهُ قَوْلُهُ فِي الْأَمْوَالِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَقَدْ قَالَ الْحُكْمُ فِي الثَّوْبِ لَا يُنْسَجُ إِلَّا مَرَةً وَالثَّوْبُ الْخَزُّ يُنْسَجُ مَرَتَيْنِ سَوَاءٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صُورَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى أَعَادَهَا لِغَرَضٍ زَادَهُ فِيهَا ، لِأَنَّهُ قَالَ : " وَلَوْ كَانَتْ دَارٌ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا ، فَادَّعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ " ، فَإِذَا تَدَاعَى الِابْنَانِ الْمُسْلِمُ وَالنَّصْرَانِيُّ ، فِي مِيرَاثِ دَارٍ عَنْ أَبِيهِمَا ، وَالدَّارُ فِي يَدَيْ رَجُلٍ غَيْرِ أَبِيهِمَا ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ وَرِثَهَا عَنْ أَبِيهِ لِمُوَافَقَتِهِ عَلَى دِينِهِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ هَاتَيْنِ الْبَيِّنَتَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَحْكُمَ بِإِحْدَاهِمَا لِأَحَدِهِمَا فَتُنْتَزَعُ بِهَا الدَّارُ مِنْ يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ ، وَتُدْفَعُ إِلَى مُسْتَحِقِّ مِيرَاثِ الْأَبِ ، لِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِمِلْكِهَا لِلْأَبِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَحْكُمَ بِهَا ، وَيَجْعَلَ الْمِيرَاثَ يَلِيهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّفْصِيلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ ، فَتُنْتَزَعُ بِهَا الدَّارُ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ ، وَتُدْفَعُ إِلَى الِابْنَيْنِ بِالْإِرْثِ .

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَسْقُطَ الْبَيِّنَتَانِ ، وَلَا يُحْكَمُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، فَتَكُونُ الدَّارُ مُقَرَّةٌ فِي يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ مِلْكًا . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا انْتُزِعَتْ مِنْ يَدِهِ ، وَأُزِيلَتْ عَنْ مِلْكِهِ ، لِاجْتِمَاعِ الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى أَنَّهَا لِلْمَيِّتِ دُونَهُ قِيلَ : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا بَيَانٌ لِمُسْتَحِقِّهَا مِنْ أَحَدِ الِابْنَيْنِ ، سَقَطَ الْحُكْمُ بِهِمَا فِي الدَّارِ ، كَمَا سَقَطَ الْحُكْمُ بِهِمَا لِأَحَدِ الِابْنَيْنِ ، وَصَارَا كَشَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى دَارٍ فِي يَدَيْ رَجُلٍ ، أَنَّهَا لِأَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ وَجَبَ إِقْرَارُهَا فِي يَدِهِ ، وَإِنْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِعَدَمِ مِلْكِهِ ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تُعَيِّنْ مُسْتَحِقَّهَا ، فَبَطَلَتْ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا .

فَصْلٌ : وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي مَسْأَلَةٍ مُسْتَأْنِفَةٍ ، أَنْ تَكُونَ الدَّارُ فِي يَدَيْ رَجُلٍ ، فَيَدَّعِيهَا اثْنَانِ لَيْسَا بِأَخَوَيْنِ ، فَيَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، هَذِهِ الدَّارُ لِأَبِي وَرِثْتُهَا مِنْهُ ، وَيُنْكِرُهُ الْآخَرُ وَيَدَّعِيهَا لِأَبِيهِ ، وَرِثَهَا عَنْهُ ، وَيُقِيمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى مَا ادَّعَاهُ فَقَدْ تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ ، وَتَكَاذَبَتَا لِاسْتِحَالَةِ أَنْ تَكُونَ كُلُّ الدَّارِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَبَوَيْهِمَا ، فَتَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ كَتَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي الْأَمْوَالِ : أَحَدُهَا : وَتَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِ الْيَدِ فَإِنْ صَدَّقَ أَحَدَهُمَا دَفَعَهَا إِلَيْهِ وَفِي وُجُوبِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ ، لِلْمُكَذَّبِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَمِينَ عَلَيْهِ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لَمْ يَغْرَمْ . وَالثَّانِي : عَلَيْهِ الْيَمِينُ إِذَا قِيلَ : إِنَّهُ لَوْ أَقَرَّ غَرِمَ ، وَإِنْ صَدَّقَهَا دَفَعَ الدَّارَ إِلَيْهِمَا ، وَهَلْ يَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَإِنْ كَذَّبَهُمَا وَادَّعَاهَا لِنَفْسِهِ ، حَلَفَ لَهُمَا ، وَأُقِرَّتِ الدَّارُ عَلَى مِلْكِهِ ، وَلَا يَكُونُ قِيَامُ الْبَيِّنَةِ بِمِلْكِهَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَبَوَيْنِ مُوجِبًا لِزَوَالِ مِلْكِهِ وَرَفْعِ يَدَهُ ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنِ اشْتِبَاهِ مُسْتَحِقِّهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : فِي الْأَصْلِ الْإِقْرَاعُ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ ، وَالْحُكْمُ بِهَا لِمَنْ قَرَعَ مِنْهُمَا ، وَفِي إِحْلَافِهِ مَعَ الْقُرْعَةِ ، قَوْلَانِ ، وَلَا تُنْتَزَعُ الدَّارُ إِلَّا بَعْدَ الْقُرْعَةِ ، لِأَنَّ بِالْقُرْعَةِ تَمْتَازُ الْبَيِّنَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ فَإِنْ جُعِلَتِ الْيَمِينُ بَعْدَ الْقُرْعَةِ شَرْطًا فِي الِاسْتِحْقَاقِ لَمْ تُنْتَزَعْ إِلَّا بَعْدَ يَمِينِهِ ، وَإِنْ لَمْ تُجْعَلْ شَرْطًا انْتُزِعَتْ بِغَيْرِ يَمِينٍ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : اسْتِعْمَالُ الْبَيِّنَتَيْنِ ، وَقَسْمُ الدَّارِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَى تَخْرِيجِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَإِنِ اخْتُلِفَ فِي تَخْرِيجِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ الدَّارُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ أَبَوَيْهِمَا ، فَجَازَ أَنْ تُقَسَّمَ بَيْنَهُمَا كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الِاشْتِرَاكُ ، وَلَا يَسْتَحِيلُ بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ الْمُسْتَحَقِّ عَنْ شَخْصٍ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَمُوتَ مُسْلِمًا كَافِرًا .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمُزَنِيِّ فَإِنَّ كَلَامَهُ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ :

أَحَدُهَا : بَيَانُ مَا هُوَ الْأَصَحُّ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ ، وَأَنَّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلَامُهُ إِسْقَاطُهُمَا ، وَالْعَمَلُ بِمَا يُوجِبُهُ مُجَرَّدُ الدَّعْوَى وَالْيَدِ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ الْقِسْمَةَ بِقَوْلِهِ ، أَنَّ اسْتِعْمَالَهُمَا فِي الْقِسْمَةِ مَنْعٌ لِيَقِينِ الْخَطَأِ فِي إِعْطَاءِ أَحَدِهَا أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ ، وَإِعْطَاءِ الْآخَرِ مَا لَيْسَ بِحَقِّهِ وَلِأَصْحَابِنَا عَنْ هَذَا جَوَّابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ شَنَّعَ مَعَ الْقَطْعِ بِتَكَاذُبِ الْبَيِّنَتَيْنِ وَلَيْسَ بِشَنْعٍ فِي جَوَازِ تَصَادُقِهِمَا ، فَتَبْطُلُ الْقِسْمَةُ فِي التَّكَاذُبِ وَلَا تَبْطُلُ مَعَ جَوَازِ التَّصَادُقِ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ شَنَّعَ فِي الْبَاطِنِ ، لِامْتِنَاعِهِ وَلَيْسَ بِشَنِعٍ فِي الظَّاهِرِ لِأَنَّنَا نُبْطِلُ السَّبَبَ الْمُتَضَادَّ ، وَنَحْكُمُ بِالْبَيِّنَةِ فِي الْمَالِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّمَا أَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ وَيَتَوَلَى اللَّهُ السَّرَائِرَ " . فَمِنْ ثَمَّ أَبْطَلَ الْمُزَنِيُّ الْإِقْرَاعَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِيمَنْ مَاتَ عَنْ زَوْجَةٍ مُطْلَّقَةٍ ، قَدِ اشْتَبَهَتْ أَنَّهُ لَا قُرْعَةَ بَيْنَهُمَا ، فَكَذَلِكَ بِأَنَّ مِثْلَهُ فِي إِبْطَالِ الْقُرْعَةِ فِي الْبَيِّنَتَيْنِ ، وَلِأَصْحَابِنَا عَنْ هَذَا جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَبْطَلَ الْقُرْعَةَ فِي الزَّوْجَتَيْنِ وَالْوَلَدَيْنِ ، لِأَنَّهُ قَدْ رَجَعَ فِي الزَّوْجَتَيْنِ إِلَى بَيَانِ الْوَرَثَةِ ، وَفِي الْوَلَدَيْنِ إِلَى بَيَانِ اتِّفَاقِهِ وَلَا يُؤْخَذُ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي الْبَيِّنَتَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ دُخُولَ الْقُرْعَةِ فِي الزَّوْجَتَيْنِ وَالْوَلَدَيْنِ تَكُونُ فِي أَصْلِ الدَّعْوَى الَّتِي لَمْ يَرِدْ بِهَا شَرْعٌ ، وَفِي الْبَيِّنَتَيْنِ فِيمَا وَرَدَ بِمِثْلِهِ الشَّرْعُ . وَالْفَصْلُ الثَّانِي : أَنِ اخْتَارَ الْمُزَنِيُّ لِنَفْسِهِ اسْتِعْمَالَ الْبَيِّنَتَيْنِ وَقَسْمَ الْمِلْكِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، لِتَكَافُئِهِمَا وَأَنْ لَا بَيَانَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ بَعْدَهُمَا فِيمَا أَمْكَنَ مِنْ صِدْقِهِمَا ، أَوْ قُطِعَ فِيهِ بِتَكَاذُبِهِمَا ، وَاسْتَشْهَدَ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي الْمُتَنَازِعَيْنِ لِثَوْبٍ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ نَسْجُهُ فِي مِلْكِهِ إِنْ سَوَّى بَيْنِ مَا لَا يُنْتَجُ إِلَّا مَرَّةً ، كَالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ ، الَّذِي يُقْطَعُ فِيهِ بِتَكَاذُبِ الْبَيِّنَتَيْنِ ، وَبَيْنَ مَا يَجُوزُ أَنَّ يُنْسَجَ مَرَّتَيْنِ كَالْخَزِّ ، وَالدِّيبَاجِ ، الَّذِي يُمْكِنُ فِيهِ التَّصَادُقُ ، وَلِأَصْحَابِنَا عَنْ هَذَا جَوَّابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا حُجَّةَ أَنْ يَحْتَجَّ لِمَذْهَبِهِ بِمَذْهَبِ غَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا يَحْتَجُّ لِمَذْهَبِهِ بِأَمَارَاتِ الْأَدِلَّةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ قَصْدَ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ سَمَاعِ الدَّاخِلِ فِيمَا يَتَكَرَّرُ نَتْجُهُ ، وَلَا يَتَكَرَّرُ رَدًّا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ ، فِي فَرْقِهِ بَيْنَهُمَا بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ فِيمَا يَتَكَرَّرُ نَسْجُهُ وَرَدِّهَا فِيمَا لَا يَتَكَرَّرُ . وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ : أَنْ أَوْرَدَ عَنِ الشَّافِعِيِّ مَسْأَلَةً فِيمَنْ مَاتَ عَنْ دَارٍ ادَّعَتْ زَوْجَتُهُ أَنَّهُ أَصْدَقَهَا ، وَادَّعَى أَجْنَبِيٌّ أَنَّهُ ابْتَاعَهَا ، وَأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ : " لَيْسَ إِلَّا إِسْقَاطُ الْبَيِّنَتَيْنِ ، أَوِ الْقُرْعَةُ " وَقَدْ أَبْطَلَ الْقُرْعَةَ ، فَثَبَتَ إِسْقَاطُ الْبَيِّنَتَيْنِ وَإِسْقَاطُ الْقُرْعَةِ ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْقَسَمِ وَلِأَصْحَابِنَا عَنْ هَذَا جَوَابَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُزَنِيَّ يَبْنِي هَذَا عَلَى أَصْلٍ لَمْ يُخَالَفْ فِيهِ ، وَهُوَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ إِذَا نَصَّ عَلَى قَوْلَيْنِ ثُمَّ عَمِلَ بِأَحَدِهِمَا ، أَنَّهُ يَكُونُ إِبْطَالًا لِلْقَوْلِ الْآخَرِ . وَعِنْدَ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ إِبْطَالًا لِلْآخَرِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ تَرْجِيحًا لَهُ عَلَى الْآخَرِ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَهْلِ مَذْهَبِهِ فِي نَظَائِرِهَا ، وَهُوَ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْبَيِّنَتَيْنِ ، فَإِنْ تَقَدَّمَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى حُكِمَ بِالْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الْمُتَأَخِّرَةِ ، سَوَاءٌ كَانَتْ بَيِّنَةُ الصَّدَاقِ ، أَوْ بَيِّنَةُ الِابْتِيَاعِ ، لِفَسَادِ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ أَشَكَلَ كَانَتْ عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ فِي إِسْقَاطِهَا فِي أَحَدِهِمَا وَالْإِقْرَاعِ بَيْنَهُمَا فِي الثَّانِي ، وَاسْتِعْمَالِهَا فِي الثَّالِثِ ، وَجَعَلَ نِصْفَ الدَّارِ صَدَاقًا ، وَنِصْفَهَا ابْتِيَاعًا ، فَلَمْ يَسْلَمْ لَهُ دَلِيلٌ وَلَا صَحَّ لَهُ اسْتِشْهَادٌ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . مَسْأَلَةٌ ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ كَانَتْ دَارٌ فِي يَدَيْ أَخَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ ، فَأَقَرَّا أَنَّ أَبَاهُمَا هَلَكَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا كُنْتُ مُسْلِمًا وَكَانَ أَبِي مُسْلِمَا ، وَقَالَ الْآخَرُ أَسْلَمْتُ قَبْلَ مَوْتِ أَبِي ، فَهِيَ لِلَّذِي اجْتَمَعَا عَلَى إِسْلَامِهِ ، وَالْآخَرُ مُقِرٌّ بِالْكُفْرِ مُدَّعٍ الْإِسْلَامَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ مَاتَ مُسْلِمًا ، وَتَرَكَ ابْنَيْنِ أَحَدُهُمَا مُتَّفَقٌ عَلَى إِسْلَامِهِ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ ، وَاخْتَلَفَا فِي إِسْلَامِ الْآخَرِ ، فَقَالَ الْآخَرُ : أَسْلَمْتُ أَنَا قَبْلَ مَوْتِ أَبِي ، فَالتَّرِكَةُ بَيْنَنَا . وَقَالَ الْمُسْلِمُ : بَلْ أَسْلَمْتَ أَنْتَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي ، فَالتَّرِكَةُ دُونَكَ ، وَالْبَيِّنَةُ مَعْدُومَةٌ ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ مَنِ ادَّعَى تَقَدُّمَ إِسْلَامِهِ إِذَا أَنْكَرَهُ أَخُوهُ لِأَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ حُدُوثِ إِسْلَامِهِ ، وَفِي شَكٍّ مِنْ تَقَدُّمِهِ ، فَكَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ أَخِيهِ ، الَّذِي أَنْكَرَ تَقَدُّمَ إِسْلَامِهِ ، لِأَنَّهُ يُسْتَصْحَبُ فِيهِ اسْتِدَامَةُ أَصْلٍ مُتَحَقَّقٍ ، بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ الْآخَرُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْأَخُ صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ ، وَيَمِينِهِ عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْقَطْعِ بِاللَّهِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ أَخَاهُ أَسْلَمَ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ لِأَنَّهَا يَمِينُ نَفْيٍ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ . وَهَكَذَا لَوْ مَاتَ حَرٌّ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ ، أَحَدُهُمَا مُتَّفَقٌ عَلَى حُرِّيَّتِهِ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ ، وَالْآخَرُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، فَادَّعَى تَقَدُّمَ عِتْقِهِ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ ، لِيَكُونَا شَرِيكَيْنِ فِي مِيرَاثِهِ ، وَادَّعَى الْحُرُّ أَنَّ أَخَاهُ أُعْتِقَ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِجَمِيعِ الْمِيرَاثِ ، كَانَ الْقَوْلُ مَعَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ ، قَوْلُ الْحُرِّ مَعَ يَمِينِهِ ، بِاللَّهِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ أَخَاهُ أُعْتِقَ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ ، وَهُوَ أَحَقُّ بِجَمِيعِ الْمِيرَاثِ بَعْدَ يَمِينِهِ ، لِأَنَّهُ يَسْتَصْحِبُ أَصْلَ رِقٍّ مَعْلُومٍ ، لَمْ يُدَّعَ تَقَدُّمُ هَذَا إِذَا كَانَ مَوْتُ

الْأَبِ مُتَّفَقًا عَلَى مَوْتِهِ ، وَالِاخْتِلَافِ فِي وَقْتِ إِسْلَامِ الِابْنِ ، أَوْ عِتْقِهِ ، فَأَمَّا إِذَا اتَّفَقَا عَلَى وَقْتِ إِسْلَامِ الِابْنِ ، أَوْ عِتْقِهِ ، وَالْخِلَافُ فِي وَقْتِ مَوْتِ الْأَبِ . فَقَالَ الِابْنُ أَسْلَمْتُ أَنَا ، أَوْ أُعْتِقْتُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَمَاتَ أَبِي فِي شَوَّالٍ فَنَحْنُ شَرِيكَانِ فِي مِلْكِهِ . وَقَالَ الْآخَرُ : صَدَقْتَ أَنَّكَ أَسْلَمْتَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَلَكِنْ مَاتَ أَبُونَا فِي شَعْبَانَ . فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَخِ الَّذِي ادَّعَى حُدُوثَ مَوْتِ الْأَبِ فِي شَوَّالٍ ، دُون مَنِ ادَّعَى تَقَدُّمَ مَوْتِ الْأَبِ فِي شَعْبَانَ . وَيَكُونَانِ شَرِيكَيْنِ فِي الْمِيرَاثِ لِأَنَّهُ اسْتَصْحَبَ اسْتِدَامَةَ أَصْلٍ مَعْلُومٍ ، هُوَ بَقَاءُ الْحَيَاةِ حَتَّى يُعْلَمَ تَقَدُّمُ الْمَوْتِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ خَالَفْتَ هَذَا الْأَصْلَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَلْفُوفِ إِذَا ادَّعَى وَلَيُّهُ أَنَّهُ كَانَ حَيًّا وَقْتَ الْجِنَايَةِ وَادَّعَى الْجَانِي أَنَّهُ كَانَ مَيِّتًا ، جَعَلْتُمُ الْقَوْلَ قَوْلَ الْجَانِي فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَأَسْقَطْتُمْ قَوْلَ وَلِيِّهِ ، فِي اسْتِصْحَابِ أَصْلِ الْحَيَاةِ ؟ قِيلَ : بَيْنَهُمَا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَرْقٌ وَإِنْ سَوَّيَا بَيْنَهُمَا فِي الْقَوْلِ الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ تَقَابَلَ فِي الْحَيَاةِ عَلَى الْمَلْفُوفِ أَصْلَانِ : أَحَدُهُمَا : اسْتِصْحَابُ حَيَاةِ الْمَلْفُوفِ . وَالثَّانِي : اسْتِصْحَابُ بَرَاءَةِ ذِمَّةِ الْجَانِي ، فَجَازَ أَنْ يُغَلَّبَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْجَانِي ، وَجَازَ أَنْ يُغَلَّبَ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي بَقَاءُ حَيَاةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَلَيْسَ فِي دَعْوَى مَوْتِ الْأَبِ ، إِلَّا اسْتِصْحَابُ أَصْلٍ وَاحِدٍ هُوَ اسْتِدَامَةُ حَيَاتِهِ وَلَا يُقَابِلُهُ أَصْلٌ يُعَارِضُهُ ، فَلِذَلِكَ كَانَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ فِي اسْتِصْحَابِ الْحَيَاةِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ قَالَتِ امْرَأَةُ الْمَيِّتِ وَهِيِ مُسْلِمَةٌ زَوْجِي مُسْلِمٌ وَقَالَ وُلْدُهُ وَهُمْ كُفَّارٌ بَلْ كَافِرٌ وَقَالَ أَخُو الزَّوْجِ وَهُوَ مُسْلِمٌ بَلْ مُسْلِمٌ ، فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ ، فَالْمِيرَاثُ مَوْقُوفٌ حَتَّى يُعْرَفَ إِسْلَامُهُ مِنْ كُفْرِهِ بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي مَيِّتٍ مَجْهُولِ الدِّينِ ، تَرَكَ زَوْجَةً وَأَخًا مُسْلِمَيْنِ ، وَابْنًا كَافِرًا ، فَادَّعَتِ الزَّوْجَةُ ، وَالْأَخُ أَنَّهُ مَاتَ مُسْلِمًا فَالْمِيرَاثُ لَهُمَا ، وَادَّعَى الِابْنُ أَنَّهُ مَاتَ كَافِرًا فَالْمِيرَاثُ لَهُ .

فَإِنْ عَدِمَتِ الْبَيِّنَةُ ، كَانَ مِيرَاثُهُ مَوْقُوفًا ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَمْرُهُ ، فَيُعْمَلَ عَلَى الْبَيَانِ ، أَوْ يَتَصَادَقُوا عَلَيْهِ ، فَيُعْمَلَ عَلَى التَّصَادُقِ ، أَوْ يَصْطَلِحُوا عَلَيْهِ ، فَيُجَازُ الصُّلْحُ ، فَإِنْ وُجِدَتِ الْبَيِّنَةُ فَإِنْ تَفَرَّدَ بِهَا أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ مُدَّعِي إِسْلَامِهِ ، أَوْ كُفْرِهِ ، عُمِلَ عَلَيْهَا ، فَإِنْ شَهِدَتْ بِإِسْلَامِهِ ، كَانَ مِيرَاثُهُ لِزَوْجَتِهِ ، وَأَخِيهِ الْمُسْلِمَيْنِ ، وَإِنْ شَهِدَتْ بِكُفْرِهِ كَانَ مِيرَاثُهُ لِابْنِهِ الْكَافِرِ ، وَإِنْ تَعَارَضَتْ فِيهِ بَيِّنَتَانِ شَهِدَتْ إِحْدَاهُمَا بِكُفْرِهِ ، وَشَهِدَتِ الْأُخْرَى ، بِإِسْلَامِهِ ، كَانَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنِ اعْتِبَارِ الشَّهَادَتَيْنِ ، وَهِيَ تَنْقَسِمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَتَقَيَّدَ الشَّهَادَتَانِ عَلَى مُضَادَّةٍ يَتَكَاذَبَانِ فِيهَا . وَالثَّانِي : أَنْ تَتَقَيَّدَ عَلَى تَصَادُقٍ لَا تَكَاذُبَ فِيهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَا مُطْلَقَيْنِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : إِذَا كَانَتَا مُقَيَّدَتَيْنِ عَلَى مُضَادَّةٍ يَكُونَانِ فِيهَا مُتَكَاذِبَيْنِ ، بِأَنْ تَشْهَدَ إِحْدَاهُمَا ، أَنَّهُ مَاتَ عَلَى كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ ، وَتَشْهَدُ الْأُخْرَى أَنَّهُ مَاتَ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ ، فَهُوَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَثَالِثٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ : أَحَدُهَا : إِسْقَاطُهُمَا وَيَكُونُ الْأَمْرُ مَوْقُوفًا عَلَى بَيَانٍ ، أَوْ إِصْلَاحٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : الْإِقْرَاعُ بَيْنَهُمَا ، وَالْحُكْمُ لِمَنْ قَرَعَ مِنْهُمَا . وَالثَّالِثُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ : اسْتِعْمَالُهُمَا . فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ بَنَاهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ مِنَ الْوَجْهَيْنِ ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ ، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَخْرِيجُ هَذَا الْقَوْلِ هَاهُنَا وَجْهًا وَاحِدًا ، وَإِنْ جَازَ تَخْرِيجُهُ فِي الْوَجْهَيْنِ ، لِأَنَّ الِابْنَيْنِ فِيمَا تَقَدَّمَ شَرِيكَانِ وَالْأَخُ وَالِابْنُ هَاهُنَا مُتَدَافِعَانِ ، فِصْحَّ الِاشْتِرَاكُ هُنَاكَ وَبَطَلَ هَاهُنَا . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ تَتَقَيَّدَ الشَّهَادَتَانِ ، بِغَيْرِ مُضَادَّةٍ يَتَكَاذَبَانِ فِيهَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنْ تَشْهَدَ إِحْدَاهُمَا ، أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا فِي رَجَبٍ ، وَتَشْهَدُ الْأُخْرَى أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا فِي شَعْبَانَ ، فَيُحْكَمُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى إِسْلَامِهِ لِحُدُوثِهِ بَعْدَ كُفْرِهِ وَيَكُونُ مِيرَاثُهُ لِزَوْجَتِهِ ، وَأَخِيهِ الْمُسْلِمَيْنِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَشْهَدَ إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا فِي رَجَبٍ ، وَتَشْهَدُ الْأُخْرَى أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا فِي شَعْبَانَ ، فَيُحْكَمُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى كُفْرِهِ بَعْدَ إِسْلَامِهِ ، فَيَحْكُمُ بِرِدَّتِهِ ، وَلَا يَرِثُهُ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ وَرَثَتِهِ ، وَيَكُونُ مِيرَاثُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَتَانِ مُطْلَقَتَيْنِ بِأَنْ تَشْهَدَ إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا وَتَشْهَدَ الْأُخْرَى أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ لِوَقْتِ إِسْلَامِهِ ، وَوَقْتِ كُفْرِهِ ، فَقَدْ

تَعَارَضَتَا ، وَيَكُونُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَقَاوِيلِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ، لِأَنَّهُ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ إِذْ لَيْسَ لَهُ فِي أَحَدِ الدَّيْنَيْنِ أَصْلٌ يَتَرَجَّحُ بِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا هَلَكَ مَجْهُولُ الدِّينِ ، وَتَرَكَ أَبَوَيْنِ كَافِرَيْنِ ، وَابْنَيْنِ مُسْلِمَيْنِ ، فَادَّعَى أَبَوَاهُ أَنَّهُ مَاتَ كَافِرًا ، وَادَّعَى الِابْنَانِ أَنَّهُ مَاتَ مُسْلِمًا وَلَا بَيِّنَةَ لِأَحَدِهِمَا ، فَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلُ الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ مَعَ أَيْمَانِهِمَا لِأَنَّ كُفْرَهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ مَعْلُومٌ بِكُفْرِهِمَا ، فَلَمْ يُقْبَلْ دَعْوَى الِابْنَيْنِ فِي حُدُوثِ إِسْلَامِهِ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ اسْتِصْحَابُ كُفْرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَكُونُ مِيرَاثُهُ مَوْقُوفًا لِتَسَاوِي الْحَالَيْنِ بَعْدَ بُلُوغِهِ فِي إِسْلَامِهِ ، وَكُفْرِهِ ، لِأَنَّ مَا قَبْلَ بُلُوغِهِ هُوَ فِيهِ تَبَعٌ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بَعْدَ بُلُوغِهِ ، لَوْ كَانَ أَبَوَاهُ مُسْلِمَيْنِ ، وَابْنَاهُ كَافِرَيْنِ . فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ لِلْأَبَوَيْنِ كُفْرٌ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ، حُكِمَ بِإِسْلَامِ وَلَدَيْهِمَا ، وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِمَا ، وَكَانَا أَحَقَّ بِمِيرَاثِهِ مِنِ ابْنَيْهِ ، وَإِنْ عُلِمَ كَفْرُ الْأَبَوَيْنِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يُولَدَ قَبْلَ إِسْلَامِهِمَا فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْكَفْرِ قَبْلَ الْبُلُوغِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُولَدَ بَعْدَ إِسْلَامِهِمَا فَيَكُونُ مُسْلِمًا قَبْلَ الْبُلُوغِ فَهُمَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ النِّزَاعُ فِي زَمَانِ وِلَادَتِهِ ، فَيَدَّعِي وَالِدَاهُ أَنَّهُ وُلِدَ بَعْدَ إِسْلَامِهِمَا ، وَيَدَّعِي ابْنَاهُ أَنَّهُ وُلِدَ قَبْلَ إِسْلَامِهِمَا ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْأَبَوَيْنِ مَعَ أَيْمَانِهِمَا فِي إِسْلَامِهِ ، لِأَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ حُدُوثِ وِلَادَتِهِمْ ، وَفِي شَكٍّ مِنْ تَقَدُّمِهَا . وَإِنْ كَانَ النِّزَاعُ فِي إِسْلَامِ الْأَبَوَيْنِ ، فَيَدَّعِي أَبَوَاهُ أَنَّهُمَا أَسْلَمَا قَبْلَ وِلَادَتِهِ ، وَيَدَّعِي ابْنَاهُ أَنَّهُمَا أَسْلَمَا بَعْدَ وِلَادَتِهِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الِابْنَيْنِ فِي إِسْلَامِ الْأَبَوَيْنِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ مَعَ أَيْمَانِهِمَا لِأَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ حُدُوثِ إِسْلَامِهِمَا وَفِي شَكٍّ مِنْ تُقَدِّمُهُ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَقَامَ رَجُلٌ بَيِّنَةً أَنَّ أَبَاهُ هَلَكَ وَتَرَكَ هَذِهِ الدَّارَ مِيرَاثًا لَهُ وَلِأَخِيهِ ، أَخْرَجْتُهَا مِنْ يَدَيْ مَنْ هِيَ فِي يَدَيْهِ ، وَأَعْطَيْتُهُ مِنْهَا نَصِيبَهُ ، وَأَخْرَجْتُ نَصِيبَ الْغَائِبِ ، وَأُكْرِي لَهُ حَتَى يَحْضُرَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهَا لِأَبِيهِ مَاتَ عَنْهَا وَوَرِثَهَا هُوَ وَأَخُوهُ ، وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً كَامِلَةً ، وَكَمَالُهَا أَنْ يُشْهَدَ لَهُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَحُدُّهَا : أَنْ يُشْهَدَ بِالدَّارِ لِأَبِيهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُشْهَدَ بِمَوْتِ أَبِيهِ ، وَأَنَّهُ وَرِثَهُ هُوَ وَأَخُوهُ .

وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُمَا عَلَى مَا سَنَصِفُ ، فَتَكْمُلُ الْبَيِّنَةُ إِذَا شَهِدَتْ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ ، وَبِكَمَالِهَا يُوجِبُ انْتِزَاعَ الدَّارِ مِمَّنْ هِيَ فِي يَدِهِ ، وَيُدْفَعُ إِلَى الْحَاضِرِ حَقُّهُ مِنْهُمَا وَهُوَ النِّصْفُ وَتُوقَفُ حِصَّةُ الْغَائِبِ ، وَهِيَ النِّصْفُ عَلَى قُدُومِهِ ، وَاعْتِرَافِهِ وَتُؤَخَّرُ حِصَّتُهُ حِفْظًا لِمَنَافِعِهَا عَلَيْهِ ، وَلَا تُقَرُّ حِصَّةُ الْغَائِبِ فِي يَدَيْ مَنْ كَانَتْ فِي يَدَيْهِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تُقَرُّ حِصَّتُهُ فِي يَدَيْ مَنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ ، وَلَا تُنْتَزَعُ مِنْهُ ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تُسْمَعُ بِمِلْكٍ إِلَّا بَعْدَ صِحَّةِ الدَّعْوَى ، وَالدَّعْوَى لَا تُسْمَعُ إِلَّا مِنْ مَالِكٍ ، أَوْ وَكِيلٍ فِيهِ ، وَلَمْ يَدَّعِ حِصَّةَ الْغَائِبِ مَالِكٌ وَلَا وَكِيلٌ فَلَمْ تُسْمَعِ الْبَيِّنَةُ لَهُ ، وَلَيْسَ كَوْنُ الْحَاضِرِ شَرِيكًا لَهُ فِي الْمِيرَاثِ بِمُوجِبٍ لِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ فِي حَقِّهِمَا ، كَالشَّرِيكَيْنِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ ، إِذَا أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ بِدَارٍ فِي شَرِكَتِهَا انْتَزَعَ بِهَا حَقَّ الْحَاضِرِ ، وَأَقَرَّ حَقَّ الْغَائِبِ فِي يَدَيْ مَنْ كَانَتْ فِي يَدَيْهِ ، كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي شَرِكَةِ الْمِيرَاثِ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى هِيَ لِلْمَيِّتِ ، سُمِعَتْ مِنْ وَارِثِهِ ، لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ فِيهَا بَعْدَ مَوْتِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيهِ دِينٌ قَضَى مِنْهَا فَوَجَبَ انْتِزَاعُهَا فِي حَقِّ الْمَيِّتِ ، وَإِعْطَاءُ الْحَاضِرِ حِصَّتَهُ مِنْهَا ، وَوَقْفُ الْبَاقِي عَلَى الْغَائِبِ ، وَخَالَفَ الشَّرِيكَيْنِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الشَّرِيكَ مَالِكٌ بِنَفْسِهِ لَا عَنْ غَيْرِهِ ، فَكَانَتِ الدَّعْوَى فِي حَقِّهِ مَوْقُوفَةً عَلَيْهِ ، وَالِابْنُ مُدَّعٍ لَهَا عَنْ أَبِيهِ الَّذِي لَا تَصِحُّ مِنْهُ الدَّعْوَى ، إِلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ بِهَا جَمِيعَ حَقِّهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَخَوَيْنِ ، مُرْتَبِطٌ بِحَقِّ الْآخَرِ لَا يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا بِشَيْءٍ ، دُونَ صَاحِبِهِ ، لِذَلِكَ كَانَ مَا تَلَفَ مِنَ الشَّرِكَةِ تَالِفًا مِنْهَا ، وَمَا بَقِيَ شَرِكَةً بَيْنَهُمَا ، وَحَقُّ الشَّرِيكَيْنِ كَالْمُتَمَيِّزِ مَعَ الْخُلْطَةِ ، يَجُوزُ أَنْ يَتْلَفَ لِأَحَدِهِمَا مَا يَسَلَمُ لِلْآخَرِ ، فَافْتَرَقَ بِهَذَيْنِ حُكْمُ الْأَخَوَيْنِ ، وَحُكْمُ الشَّرِيكَيْنِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، وَقَدِمَ الْآخَرُ الْغَائِبُ ذَكَرَ لَهُ الْحَاكِمُ ، مَا حَكَمَ لَهُ بِمِيرَاثِهِ مِنْ نِصْفِ الدَّارِ ، فَإِنِ ادَّعَاهَا سَلَّمَ إِلَيْهِ نِصْفَهَا وَإِنْ أَنْكَرَهَا وَقَالَ : لَا حَقَّ لِي فِيهَا ، رَدَّ النِّصْفَ عَلَى مَنْ فِي يَدِهِ ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ إِنْكَارُهُ فِي حَقِّ أَخِيهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ بَيِّنَةً عَادِلَةً . فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا مَا ادَّعَاهُ الِابْنُ ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ سُلِّمَ إِلَيْهِ حَقُّهُ مِنْهُ ، وَهُوَ النِّصْفُ ، وَفِي قَبْضِ حِصَّةِ الْغَائِبِ مِنَ الْغَرِيمِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُقْبَضُ وَيُوضَعُ عَلَى يَدِ أَمِينٍ كَمَا تُقْبَضُ الْأَعْيَانُ مِنَ الدَّارِ ، وَمَا لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ ثِيَابٍ وَحَيَوَانٍ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُقْبَضُ الدَّيْنُ ، وَإِنْ وَجَبَ قَبْضُ الْأَعْيَانِ وَيُسْتَبْقَى فِي ذِمَّةِ الْغَرِيمِ بِخِلَافِ الْمُعَيَّنِ ، لِأَنَّ قَبْضَهُ لِلْغَائِبِ مُعْتَبَرٌ بِالْأَحْوَطِ ، وَاسْتِبْقَاؤُهُ فِي ذِمَّةٍ مَضْمُونَةٍ أَوْلَى مِنْ قَبْضِهِ بِتَرْكِهِ أَمَانَةً إِلَّا أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ عَلَى غَيْرِ مَلْيٍّ ، فَيُقْبَضُ وَجْهًا وَاحِدًا . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ عَدَدُهُمْ وَقَفَ مَالَهُ وَتَلوَّمَ بِهِ ، وَيَسْأَلُ عَنِ الْبُلْدَانِ الَّتِي وَطِنَهَا هَلْ لَهُ فِيهَا وَلَدٌ ؟ فَإِذَا بَلَغَ الْغَايَةَ الَّتِي لَوْ كَانَ لَهُ فِيهَا وَلَدٌ لَعَرَفَهُ ، وَادَّعَى الِابْنُ أَنْ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ أَعْطَاهُ الْمَالَ بِالضَّمِينِ وَحُكِيَ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ لَهُ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ لَهُ وَارِثَا غَيْرَهُ فَإِذَا جَاءَ وَارِثٌ غَيْرُهُ أَخَذَ الضُّمَنَاءُ بِحَقِّهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْبَيِّنَةِ الْكَامِلَةِ إِذَا أَقَامَهَا الِابْنُ الْحَاضِرُ وَوُجُوبُ الْحُكْمِ بِهَا لِلْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ ، فَأَمَّا الْبَيِّنَةُ النَّاقِصَةُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَشْهَدَ بِالدَّارِ لِلْمَيِّتِ ، وَلَا تَشْهَدَ لِلْحَاضِرِ بِالْبُنُوَّةِ ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ حَقٌّ لِلْحَاضِرِ ، وَلَا لِلْغَائِبِ ، وَتَكُونُ الدَّارُ مُقَرَّةً فِي يَدِي مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ ، لِأَنَّ دَعْوَاهَا لَمْ تُسْمَعْ مِنْ مُسْتَحِقٍّ لَهَا فَلَمْ يَكُنْ لِبَيِّنَتِهِ تَأْثِيرٌ ، حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ثُبُوتِ نَسَبِهِ . فَإِذَا أَقَامَهَا وَثَبَتَ نَسَبُهُ بِهَا ، اسْتَغْنَى عَنْ إِعَادَةِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةَ ، وَإِنْ كَانَا قَبْلَ ثُبُوتِ النَّسَبِ ، لِأَنَّ مَا قَدَّمَهُ مِنَ الدَّعْوَى قَدْ تَضَمَّنَتِ الدَّارَ وَالنَّسَبَ عَلَى وَجْهٍ صَحَّ بِهِ سَمَاعُهَا وَلَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَتُهُ الْأَوْلَى بِالدَّارِ وَالنَّسَبِ ، حُكِمَ لَهُ بِهَا كَذَلِكَ ، إِذَا شَهِدَتِ الْأَوْلَى بِالدَّارِ ، وَشَهِدَتِ الثَّانِيَةُ بِالنَّسَبِ حُكِمَ بِهِمَا . وَلَوِ اسْتَأْنَفَ الدَّعْوَى ، وَأَعَادَ الْبَيِّنَةَ كَانَ أَوْلَى . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ بِالدَّارِ لِلْمَيِّتِ ، وَتَشْهَدَ لِلْحَاضِرِ بِالْبُنُوَّةِ ، وَلَا تَشْهَدَ أَنْ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ ، فَقَدْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ بِهِمَا وَكَانَ مَالِكًا لِنَصِيبٍ مَجْهُولٍ مِنَ الدَّارِ ، لَا يُعْلَمُ قَدْرُهُ . وَلَهُ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَقْدِرَ عَلَى إِقَامَةِ بَيِّنَةٍ بِأَنْ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ . الثَّانِيَةُ : أَنْ يَعْجِزَ . فَإِنْ قَدَرَ عَلَى إِقَامَتِهَا ، وَشَهِدَتْ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ ، بِأَنْ لَا وَارِثَ غَيْرُهُ نَظَرَ فِي الْبَيِّنَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ بِالْمَيِّتِ ، عَلَى قَدِيمِ الْوَقْتِ وَحُدُوثِهِ فِي حَضَرِهِ وَسَفَرِهِ سُمِعَتْ ، وَحُكِمَ لَهُ بِالْمِيرَاثِ ، وَلَمْ يُطَالَبْ بِضَمِينٍ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَقَامَ بَيِّنَةً إِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِمُوجِبِهَا ، أُعْمِلَتْ . وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الظَّاهِرَةِ دُونَ الْبَاطِنَةِ لَمْ تَصِحَّ شَهَادَتُهُمْ ، بِأَنْ لَا وَارِثَ

غَيْرُهُ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الْبَاطِنِ وَلَدٌ ، لَا يَعْلَمُونَ بِهِ فَلَمْ يَصِلُوا بِمَعْرُوفِ الظَّاهِرِ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا قَدْ يَكُونُ فِي الْبَاطِنِ ، فَلَمْ يُحْكَمْ بِهِ وَصَارَ كَمَنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً بِأَنْ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ . وَإِذَا لَمْ يُقِمْهَا مُنِعَ مِنْ حَقِّهِ فِي الدَّارِ لِلْجَهْلِ بِمِقْدَارِهِ ، وَلَزِمَ الْحَاكِمُ أَنْ يَسْتَكْشِفَ عَنْ حَالِ الْمَيِّتِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي وَطِئَهَا ، وَيُكَاتِبُ حُكَّامَهَا بِالْمَسْأَلَةِ عَنْ حَالِهِ ، هَلْ خَلَّفَ فِيهَا وَلَدًا أَوْ وَارِثًا وَيُلْزَمُ بِهِ فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى حَالُ وَارِثٍ لَهُ فِي مِثْلِهِ ، فَإِنْ حَضَرَتْهُ بَيِّنَةٌ جَازَ أَنْ يَسْمَعَهَا الْحَاكِمُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى ، وَعَلَى غَيْرِ خَصْمٍ ، لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ عَلَى مَا قَدْ لَزِمَ مِنَ الْكَشْفِ فَكَانَتْ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِتَقْيِيدِ مَا قَدْ حَكَمَ بِهِ ، وَالْبَيِّنَةُ تَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ بِهِ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ ، لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ عَلَى نَفْيٍ فَحُمِلَتْ عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْقَطْعِ ، فَإِنْ شَهِدُوا أَنْ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ قُبِلُوا وَكَانَتْ شَهَادَتُهُمْ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْعِلْمِ ، دُونَ الْقَطْعِ ، وَدُفِعَ إِلَيْهِ الْمِيرَاثُ بَعْدَ تَمَامِ الشَّهَادَةِ ، مِنْ غَيْرِ ضَمِينٍ . وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لِلْحَاكِمِ بَيِّنَةٌ ، وَبَلَغَ زَمَانَ الْإِيَاسِ مِنَ الظَّفَرِ بِهَا ، وَأَنْ يَظْهَرَ مَا لَمْ يَظْهَرَ دَفَعَ إِلَيْهِ الْمَالَ ، إِنْ لَمْ يُقِرَّ بِغَيْرِهِ ، فَإِنْ أَقَرَّ بِأَخٍ لَهُ غَائِبٍ أَعْطَاهُ نِصْفَ الدَّارِ وَالتَّرِكَةِ ، وَكَانَ نِصْفُهَا مَوْقُوفًا عَلَى قُدُومِ الْغَائِبِ . فَأَمَّا مُطَالَبَةُ الْحَاضِرِ بِإِقَامَةِ ضَمِينٍ فِيهَا ، دُفِعَ إِلَيْهِ احْتِيَاطًا ؟ لِظُهُورِ شَرِيكٍ قَدْ يَكُونُ لَهُ فِي الْمِيرَاثِ حَقٌّ ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الضَّمِينِ وَقَالَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ : مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : أَنْ خَرَّجُوا اخْتِلَافَ نَصِّهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجِبُ لِيَكُونَ نُفُوذُ الْحُكْمِ عَلَى الْأَحْوَطِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُسْتَحَبُّ ، فَلَا تَجِبُ لِأَنَّهَا وَثِيقَةٌ لِغَيْرِ مُطَالِبٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : إِنْ كَانَ هَذَا الْوَارِثُ مِمَّنْ لَا يَسْقُطُ بِغَيْرِهِ كَالِابْنِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إِقَامَةُ ضَمِينٍ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُسْقَطُ بِغَيْرِهِ كَالْأَخِ ، وَجَبَ عَلَيْهِ إِقَامَةُ ضَمِينٍ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : إِنْ كَانَ أَمِينًا لَمْ يُجِبْ عَلَيْهِ إِقَامَةُ ضَمِينٍ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ أَمِينٍ وَجَبَ عَلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ : لِمَ قُلْتُمْ تُقَسِّمُونَ مَالَ الْمُفْلِسِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بَعْدَ إِشَاعَةِ أَمْرِهِ مِنْ غَيْرِ ضَمِينٍ مَعَ جَوَازِ ظُهُورِ غَرِيمٍ .

قِيلَ : لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، بِأَنَّ حُقُوقَ الْغُرَمَاءِ مُتَحَقِّقَةٌ وَحَقُّ هَذَا الْوَارِثِ غَيْرُ مُتَحَقَّقٍ ، فَإِذَا دَفَعَ الْحَاكِمُ الْمَالَ إِلَيْهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا كَتَبَ قِصَّتَهُ ، وَذَكَرَ فِيهَا أَنَّ دَفْعَ الْمَالِ إِلَيْهِ بَعْدَ الْكَشْفِ الظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ قَاطِعٍ بِأَمْرِ الِاسْتِحْقَاقِ لِيَكُونَ إِنْ ظَهَرَ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمِيرَاثِ غَيْرُ مَدْفُوعٍ بِنُفُوذِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِإِبْطَالِ حَقِّهِ مِنْهُ ، لِيَكُنْ مِنَ الْمُطَالَبَةِ وَإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الِابْنِ أَوْ مَعَهُ زَوْجَةٌ وَلَا يَعْلَمُونَهُ فَارَقَهَا ، أَعْطَيْتُهَا رُبُعَ الثُّمُنِ لِأَنَّ مِيرَاثَهَا مَحْدُودٌ لِلْأَكْثَرِ وَالْأَقَلِ الثُّمُنُ وَرُبُعُ الثُّمُنِ وَمِيرَاثُ الِابْنِ غَيْرُ مَحْدُودٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو مُدَّعِي الْمِيرَاثِ ، إِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِسَبَبِ مِيرَاثِهِ ، وَعَدَمِ الْبَيِّنَةِ ، بِأَنْ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يُسْقَطُ بِحَالٍ كَالِابْنِ ، فَيُوقَفُ أَمْرُهُ فِي الْحَالِ عَلَى الْكَشْفِ ، وَلَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ مِنَ التَّرِكَةِ شَيْءٌ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ قَدْرٌ مُتَيَقَّنٌ ، فَإِنْ لَمْ يَبِنْ بَعْدَ كَشْفِ الْحَاكِمِ وَارِثٌ غَيْرُهُ ، دُفِعَ إِلَيْهِ الْمِيرَاثُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَالِ الضَّمِينِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يَرِثَ فِي حَالٍ كَالْأَخِ ، فَيُوقَفُ أَمْرُهُ عَلَى الْكَشْفِ ، فَإِنْ لَمْ يَبِنْ لِلْحَاكِمِ بَعْدَ طُولِ الْكَشْفِ وَارِثٌ سِوَاهُ ، وَلَمْ يُقِمُ الْبَيِّنَةَ بِأَنْ لَا وَارِثَ لَهُ سِوَاهُ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الِابْنِ فِي دَفْعِ الْمِيرَاثِ إِلَيْهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِهِمْ : أَنَّهُ يُدْفَعُ إِلَيْهِ كَالِابْنِ ، لِأَنَّ لَمْ يُعْلَمْ وَارِثٌ غَيْرُهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى الْأَبَدِ ، حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ بِأَنْ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ بِخِلَافِ الِابْنِ ، لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الِابْنَ وَارِثٌ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا بِيَقِينٍ ، وَالْأَخُ مَشْكُوكٌ فِيهِ ، هَلْ هُوَ وَارِثٌ ، أَوْ غَيْرُ وَارِثٍ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرِثَ إِلَّا بِيَقِينٍ ، وَهَكَذَا حُكْمُ ابْنِ الِابْنِ لِجَوَازِ سُقُوطِهِ بِالِابْنِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ ، وَلَهُ فَرْضٌ مُقَدَّرٌ كَالْأَبَوَيْنِ ، وَالزَّوْجَيْنِ ، فَيُدْفَعُ إِلَيْهِ أَقَلُّ فَرْضِهِ ، لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ بِيَقِينٍ وَيُوقَفُ أَكْثَرُهُ عَلَى الْكَشْفِ ، فَإِنْ كَانَ أَبًا دُفِعَ إِلَيْهِ السُّدُسَ مَعُولًا . وَإِنْ كَانَتْ أُمًّا فَكَذَلِكَ يُدْفَعُ السُّدُسُ مَعُولًا ، وَإِنْ كَانَ زَوْجًا ، دُفِعَ إِلَيْهِ الرُّبُع مَعُولًا ، وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَةً دَفَعَ إِلَيْهَا رُبُعَ الثَّمَنِ مَعُولًا ، لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ وَاحِدَةً مِنْ أَرْبَعٍ

فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ بَعْدَ طُولِ الْكَشْفِ مَنْ يَحْجُبُ هَؤُلَاءِ عَنْ أَعْلَى الْفَرْضَيْنِ صَارَ كَالِابْنِ يُدْفَعُ إِلَيْهِ بَاقِي فَرْضِهِ الْأَعْلَى بِضَمِينٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوُجُوهِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا مَاتَتْ زَوْجَتُهُ وَابْنُهُ مِنْهَا ، فَقَالَ أَخُوهَا : مَاتَ ابْنُهَا ثَمَّ مَاتَتْ ، فَلِي مِيرَاثِي مَعَ زَوْجِهَا ، وَقَالَ زَوْجُهَا : بَلْ مَاتَتْ فَأُحْرِزُ أَنَا وَابْنِي الْمَالَ ثُمَّ مَاتَ ابْنِي فَالْمَالُ لِي ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَخِ لأنَهُ وَارِثٌ لِأُخْتِهِ وَعَلَى الَذِي يَدَّعِي أَنَّهُ مَحْجُوبٌ الْبَيِّنَةُ وَعَلَى الْأَخِ ، فِيمَا يَدَّعِي أَنَّ أُخْتَهُ وَرِثَتِ ابْنَهَا الْبَيِّنَةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي امْرَأَةٍ ذَاتِ زَوْجٍ ، وَابْنٍ ، وَأَخٍ ، مَاتَتْ وَابْنُهَا ، وَاخْتَلَفَ زَوْجُهَا ، وَأَخُوهَا فَقَالَ الْأَخُ : مَاتَ ابْنُهَا قَبْلَهَا وَقَالَ الزَّوْجُ : بَلْ مَاتَتِ الزَّوْجَةُ قَبْلَ ابْنِهَا ، فَكَانَ مِيرَاثُهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا ، ثُمَّ مَاتَتْ بَعْدَهُ ، فَكَانَ مِيرَاثُهَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ ، فَلَكَ مِيرَاثُ زَوْجٍ هُوَ النِّصْفُ ، وَلِي مَعَكَ مِيرَاثُ أَخٍ ، هُوَ النِّصْفُ وَقَالَ الزَّوْجُ : بَلْ مَاتَتِ الزَّوْجَةُ قَبْلَ ابْنِهَا ، فَوَرِثْتُهَا مَعَ ابْنِهَا دُونَكَ ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ ، فَوَرِثْتُهُ دُونَكَ . فَإِنْ كَانَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ بِمَا ادَّعَاهُ ، حُكِمَ بِهَا ، وَإِنْ عُدِمَتِ الْبَيِّنَةُ ، كَانَ تَنَازُعُهُمَا فِي تَقَدُّمِ الْمَوْتِ ، وَتَأَخُّرِهِ مُعْتَبَرًا بِالْغَرْقَى ، وَالْهَدْمَى ، فَيُقْطَعُ التَّوَارُثُ بَيْنَ الْمَيِّتِينَ ، وَيَجْعَلُ تَرِكَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْحَيِّ مِنْ وَرَثَتِهِ فَيُجْعَلُ تَرِكَةُ الِابْنِ لِأَبِيهِ ، كَأَنَّهُ لَا أُمَّ لَهُ ، وَيُجْعَلُ تَرِكَةُ الْأُمِّ بَيْنَ زَوْجِهَا وَأَخِيهَا ، كَأَنَّهُ لَا ابْنَ لَهَا ، فَيُعْطَى زَوْجُهَا النِّصْفُ وَالنِّصْفُ الْبَاقِي لِلْأَخِ . فَإِنْ قِيلَ : فَالزَّوْجُ يَدَّعِي مِنْ تَرِكَتِهَا مَعَ الِابْنِ الرُّبُعَ ، فَلِمَ أُعْطِيَ النِّصْفَ وَهُوَ لَا يَدَّعِيهِ ؟ قِيلَ : هُوَ وَإِنِ ادَّعَى الرُّبُعَ بِمِيرَاثِهِ عَنْهَا ، فَقَدِ ادَّعَى بَاقِيهِ بِمِيرَاثِهِ عَنْ أَبِيهِ مَعَ اخْتِلَافِ السَّبَبَيْنِ ، فَصَارَ بِإِعْطَاءِ النِّصْفِ مَدْفُوعًا عَنِ اسْتِحْقَاقِ الْكُلِّ ، فَصَارَ مُعْطًى بَعْضَ مَا ادَّعَى وَلَمْ يُعْطَ أَكْثَرَ مِنْهُ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ وَرِثَ هَذِهِ الْأَمَةَ مِنْ أَبِيهِ ، وَأَقَامَتِ امْرَأَةٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ أَصْدَقَهَا إِيَّاهَا ، فَهِيَ لِلْمَرْأَةِ كَمَا يَبِيعُهَا وَلَمْ يُعْلَمْ شُهُودُ الْمِيرَاثِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي أَمَةٍ تَنَازَعَهَا ابْنٌ مَيِّتٌ ، وَزَوْجَتُهُ ، فَقَالَ الِابْنُ : هَذِهِ الْأَمَةُ لِي وَرِثْتُهَا مَعَكِ عَنْ أَبِي ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ : هَذِهِ الْأَمَةُ لِي مَلَكْتُهَا عَنْ أَبِيكَ بِصَدَاقِي . فَإِنْ عُدِمَتِ الْبَيِّنَةُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الِابْنِ مَعَ يَمِينِهِ ، لِأَنَّهَا عَلَى أَصْلِ مِلْكِ الْأَبِ ، وَمَوْرُوثِهِ عَنْهُ ، وَدَعْوَى الزَّوْجَةِ لَهَا صَدَاقًا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ ، كَمَا لَوِ ادَّعَتْهَا ابْتِيَاعًا .

وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى مَا ادَّعَاهُ ، فَشَهِدَتْ بَيِّنَةُ الِابْنِ أَنَّ أَبَاهُ خَلَّفَهَا مِيرَاثًا ، وَشَهِدَتْ بَيِّنَةُ الزَّوْجَةِ أَنَّهُ جَعَلَهَا لَهَا صَدَاقًا ، حُكِمَ لِلزَّوْجَةِ دُونَ الِابْنِ ، لِأَنَّ بَيِّنَتَهَا أَعْلَمَتْ زِيَادَةً لَمْ تُعْلِمْهَا بَيِّنَةُ الِابْنِ فَكَانَ الْحُكْمُ بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى ، كَمَا لَوِ ادَّعَتْ بِالِابْتِيَاعِ كَانَتْ بَيِّنَةُ الِابْتِيَاعِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ الْوَرَثَةِ . وَلِأَنَّ الْمَيِّتَ لَوْ كَانَ حَيًّا فَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ فِي أَمَةٍ يَمْلِكُهَا أَنَّهُ بَاعَهَا ، أَوْ أَصْدَقَهَا قُضِيَ بِهَا عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَنْكَرَهَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الدَّعْوَى فِي وَقْتٍ قَبْلَ وَقْتٍ

بَابُ الدَّعْوَى فِي وَقْتٍ قَبْلَ وَقْتٍ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ رَجُلٍ ، فَأَقَامَ رَجُلٌ بَيِّنَةً أَنَّهُ مُنْذُ سِنِينَ ، وَأَقَامَ الَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ مِنْذُ سَنَةٍ فَهُوَ لِلَذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ وَلَمْ أَنْظُرْ إِلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ وَحَدِيثِهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ أَنْ يَجْعَلَ الْمِلْكَ لِلْأَقْدَمِ أَوْلَى ، كَمَا جَعَلَ مِلْكَ النِّتَاجِ أَوْلَى ، وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ النِّتَاجِ قَدْ أَخْرَجَهُ مِنْ مِلْكِهِ ، كَمَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْمِلْكِ الْأَقْدَمِ أَخْرَجَهُ مِنْ مِلْكِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلَيْنِ تَدَاعَيَا عَيْنًا مَنْقُولَةً ، كَعَبْدٍ ، أَوْ دَابَّةٍ ، أَوْ غَيْرِ مَنْقُولَةٍ كَدَارٍ أَوْ عَقَارٍ . وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ سَنَةٍ ، وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ شَهْرٍ ، أَوْ أَطْلَقَ الشَّهَادَةَ بِالْمِلْكِ فِي الْحَالِ أَوْ فِي مُدَّةٍ هِيَ أَقْصَرُ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمِلْكِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِي يَدَيْ أَحَدِهِمَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ فِي أَيْدِيهِمَا . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : إِذَا كَانَ الْمِلْكُ فِي يَدَيْ غَيْرِهِمَا وَلِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ بِقَدِيمِ الْمِلْكِ مُنْذُ سَنَةٍ ، وَالْآخَرُ بَيِّنَةٌ لِحَدِيثِ الْمِلْكِ مُنْذُ شَهْرٍ ، فَفِيهِمَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ : أَنَّهُمَا سَوَاءٌ ، لَا يَتَرَجَّحُ مَنْ شَهِدَتْ بِقَدِيمٍ عَلَى الْأُخْرَى لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا تَنَازَعَا مِلْكَهَا فِي الْحَالِ ، فَلَمْ تُؤَثِّرْ بَيِّنَةُ مَا شَهِدَتْ بِمَا قَبِلَهَا ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَنَازَعٍ فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الشَّهَادَةَ بِحَدِيثِ الْمِلْكِ ، لَمْ تُنْفَ بِقَدِيمِ الْمِلْكِ وَإِنْ أَثْبَتَتْهُ الْأُخْرَى فَصَارَتَا مُتَكَافِئَتَيْنِ .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَظْهَرُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيِّ ، أَنَّ الشَّهَادَةَ بِقَدِيمِ الْمِلْكِ أَرْجَحُ ، وَالْحَكَمُ بِهَا أَوْلَى لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا قَدْ تَعَارَضَتَا فِي أَقَلِّ الْمُدَّتَيْنِ ، وَأَثْبَتَتِ الْمُتَقَدِّمَةُ مِلْكًا لَمْ يُعَارَضْ فِيهِ ، فَوَجَبَ وَقَفُ الْمُتَعَارِضِ ، وَأَمْضَى مَا لَيْسَ فِيهِ تَعَارُضٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ ثُبُوتَ مِلْكِ الْمُتَقَدِّمِ يَمْنَعُ أَنْ يَمْلِكَهُ الْمُتَأَخِّرُ إِلَّا عَنْهُ ، وَلَمْ تَتَضَمَّنْهُ الشَّهَادَةُ ، فَلَمْ يَحْكُمْ بِهَا ، فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ . فَإِنْ قِيلَ بِتَسَاوِيهِمَا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ، صَارَتَا مُتَعَارِضَتَيْنِ فَيَكُونُ فِيهِمَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : إِسْقَاطُهَا وَالرُّجُوعُ إِلَى صَاحِبِ الْيَدِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : الْإِقْرَاعُ بَيْنَهُمَا ، وَالْحُكْمُ لِمَنْ قَرَعَ مِنْهُمَا . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : اسْتِعْمَالُهَا ، وَقَسْمُ الشَّيْءِ بَيْنَهُمَا ، وَهَذَا الْقَوْلُ يَجِيءُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِمَكَانِ الِاشْتِرَاكِ . فَإِنْ قِيلَ بِتَرْجِيحِ الْبَيِّنَةِ بِقَدِيمِ الْمِلْكِ عَلَى الْبَيِّنَةِ بِحَدِيثِهِ ، وَجُعِلَ الْحُكْمِ فِيهَا أَوْلَى ، ثَبَتَ لِصَاحِبِهَا الْمِلْكُ مِنَ الْمُدَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَحُكِمَ لَهُ بِمَا حَدَثَ عَنِ الْمِلْكِ مِنْ نِتَاجٍ ، وَنَمَاءٍ وَغَلَّةٍ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ ، وَإِلَى وَقْتِهِ ، ثُمَّ يُبْنَى عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ مَا جَعَلَهُ الْمُزَنِيُّ أَصْلًا ، وَهُوَ إِنْ تَنَازَعَا دَابَّةً ، فَيُقِيمُ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ نِتْجُهَا فِي مِلْكِهِ ، وَيُقِيمُ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ ، وَلَا يَقُولُونَ نَتَجَهَا فِي مِلْكِهِ . حَكَى الْمُزَنِيِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَهَا لِمَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ ، أَنَّهُ نَتَجُهَا فِي مِلْكِهِ ، وَجَعَلَهُ شَاهِدًا عَلَى الْحُكْمِ بِقَدِيمِ الْمِلْكِ دُونَ حَدِيثِهِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي النِّتَاجِ : هَلْ يَتَرَجَّحُ بِالْبَيِّنَةِ قَوْلًا وَاحِدًا ، أَوْ يَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالشَّهَادَةِ بِقَدِيمِ الْمِلْكِ ؟ وَذَهَبَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَابْنُ خَيْرَانَ إِلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا ، وَأَنَّهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي التَّعَارُضِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَتَرَجَّحُ الْبَيِّنَةُ بِقَدِيمِ الْمِلْكِ ، وَبِالنِّتَاجِ عَلَى الْبَيِّنَةِ الْخَالِيَةِ مِنْهُمَا . وَحَكَى أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالنِّتَاجِ لَيْسَتْ مِنْ مَنْصُوصَاتِ الشَّافِعِيِّ ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَهَا الْمُزَنِيِّ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ . وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا إِلَى صِحَّةِ نَقْلِهِ ، وَأَنَّ بَيِّنَةَ النِّتَاجِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَقْوَى مِنَ الْبَيِّنَةِ بِقَدِيمِ الْمِلْكِ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَلَئِنْ لَمْ يَكُنِ النِّتَاجُ مَسْطُورًا ، فَقَدْ نَقَلَهُ عَنْهُ سَمَاعًا ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ النِّتَاجِ وَقَدِيمِ الْمِلْكِ فِي الْقُوَّةِ ، بِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالنِّتَاجِ عَلَى مِلْكِهِ تَنْفِي أَنْ يَتَقَدَّمَ

عَلَيْهِمَا مِلْكٌ لِغَيْرِهِ ، فَصَارَ النِّتَاجُ بِهَذَا الْفَرْقِ أَقْوَى مِنْ قَدِيمِ الْمِلْكِ ، فَلِذَلِكَ رُجِّحَتِ الْبَيِّنَةُ بِالنِّتَاجِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَكَانَ تَرْجِيحُهَا بِقَدِيمِ الْمِلْكِ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَهَكَذَا لَوْ تَنَازَعَا ثَوْبًا ، وَأَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ لَهُ ، نَسَجَهُ فِي مِلْكِهِ ، وَأَقَامَ الْآخَرُ ، الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ لَهُ ، وَلَمْ يَقُولُوا نَسَجَهُ فِي مِلْكِهِ كَانَ كَالْبَيِّنَةِ بِالنِّتَاجِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الشَّرْحِ . فَأَمَّا إِذَا شَهِدَتْ بَيِّنَةُ أَحَدِهِمَا بِسَبَبِ الْمِلْكِ مِنْ الِابْتِيَاعِ ، أَوْ مِيرَاثٍ وَشَهِدَتِ الْأُخْرَى بِالْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ سَبَبِهِ ، فَيَكُونُ التَّرْجِيحُ بِذِكْرِ السَّبَبِ كَالتَّرْجِيحِ بِقَدِيمِ الْمِلْكِ ، فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّسْجَ مُلْحَقٌ بِالنِّتَاجِ وَذِكْرَ السَّبَبِ مُلْحَقٌ بِقَدِيمِ الْمِلْكِ . فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : إِذَا كَانَ الْمِلْكُ فِي يَدَيْ أَحَدِهِمَا وَشَهِدَتْ بَيِّنَةُ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ لَهُ مُنْذُ سَنَةٍ ، وَشَهِدَتْ بَيِّنَةُ الْآخَرِ أَنَّهُ لَهُ مُنْذُ شَهْرٍ ، فَإِنْ كَانَتِ الْبَيِّنَةُ بِقَدِيمِ الْمِلْكِ لِصَاحِبِ الْيَدِ ، حُكِمَ لَهُ بِالْمِلْكِ ، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ تَرَجَّحَ بِالْيَدِ ، وَبِقَدِيمِ الْمِلْكِ ، إِنْ كَانَتِ الْبَيِّنَةُ بِقَدِيمِ الْمِلْكِ الْخَارِجِ ، دُونَ صَاحِبِ الْيَدِ تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا بِالْيَدِ وَتَرَجَّحُ الْآخَرُ بِقَدِيمِ الْمِلْكِ فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا أَنَّهَا تَكُونُ لِصَاحِبِ الْيَدِ تَرْجِيحًا بِيَدِهِ عَلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ ، وَتَابَعَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، فَإِنَّهُ حَكَمَ بِبَيِّنَةِ صَاحِبِ الْيَدِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَإِنْ كَانَ يَرَى أَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ صَاحِبِ الْيَدِ ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ ، إِذَا لَمْ تُفِدْ إِلَّا مَا أَفَادَتِ الْيَدُ . فَأَمَّا إِذَا أَفَادَتْ زِيَادَةً عَلَى مَا أَفَادَتْهُ الْيَدُ ، فَإِنَّهُ يُقَدِّمُهَا عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ ، وَقَدْ أَفَادَتْ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ زِيَادَةً عَلَى مَا أَفَادَتْهُ يَدُهُ ، فَلِذَلِكَ قَدَّمَهَا عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ ، تَكُونُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا . وَذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمِرْوَزِيِّ ، وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : إِلَى أَنَّ التَّرْجِيحَ بِقَدِيمِ الْمِلْكِ أَوْلَى مِنَ التَّرْجِيحِ بِالْيَدِ ، فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَحْكُمُ بِقَدِيمِ الْمِلْكِ إِذَا رَجَحَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ . وَالثَّانِي : يَحْكُمُ لِصَاحِبِ الْيَدِ إِذَا لَمْ تَتَرَجَّحْ بِهِ الْبَيِّنَةُ ، وَاحْتَجَّ فِي تَرْجِيحِ قَدِيمِ الْمِلْكِ عَلَى التَّرْجِيحِ بِالْيَدِ ، بِأَنَّهُ لَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةُ مُدَّعٍ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ كَانَتْ لَهُ بِالْأَمْسِ حُكِمَ لَهُ بِمِلْكِ الدَّارِ فِي الْيَوْمِ اسْتِدَامَةً لِمِلْكِهِ ، وَلَوْ شَهِدَتْ لَهُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِهِ بِالْأَمْسِ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِالْيَدِ فِي الْيَوْمِ ، وَلَمْ يُوجِبِ اسْتِدَامَةَ يَدِهِ . وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ قَائِلِهِ ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ تُزَادُ لِإِثْبَاتِ الْيَدِ ، فَإِذَا تَرَجَّحَتْ إِحْدَاهُمَا بِالْيَدِ ، وَافَقَتْ مُوجِبَهَا ، وَخَالَفَتْ مُوجَبَ الْأَصْلِ ، فَكَذَلِكَ تَرَجَّحَتِ الْبَيِّنَةُ بِهَا ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي قَدِيمِ الْمِلْكِ وَحَدِيثِهِ .

فَأَمَّا مَا اسْتُشْهِدَ بِهِ مِنْ قَدِيمِ الْيَدِ ، وَقَدِيمِ الْمِلْكِ ، فَهُمَا سَوَاءٌ لَا يُحْكَمُ فِيهِمَا بِاسْتِدَامَةِ الْيَدِ ، وَلَا بِاسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنَّهُ كَانَ مَالِكًا لَهَا بِالْأَمْسِ ، وَإِلَى وَقْتِهِ ، لِأَنَّ النِّزَاعَ فِي مِلْكِهَا ، فَالْوَقْتُ دُونَ مَا تَقَدَّمَ ، فَصَارَتِ الشَّهَادَةُ بِالْمُتَقَدِّمِ مِنْ غَيْرِ التَّنَازُعِ ، فَلَمْ يُحْكَمْ بِهَا ، لِأَنَّهُ قَدْ يَمْلِكُ مَا يَزُولُ عَنْهُ مِلْكُهُ فِي الْيَوْمِ فَإِنْ كَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَرَى الْحُكْمَ بِهَا فِي الْيَوْمِ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ ، خُولِفَ فِيهِ تَعْلِيلًا بِمَا ذَكَرْنَا . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا رَجَّحْتُمُ الْبَيِّنَةَ بِالْيَدِ ، فَهَلَّا رَجَّحْتُمْ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ ؟ قِيلَ : لِأَنَّ زِيَادَةَ الْعَدَدِ لَمْ تُفِدْ زِيَادَةً عَلَى مَا أَفَادَتْهُ زِيَادَةُ الْبَيِّنَةِ ، وَالْيَدُ أَفَادَتْ مِنْ زِيَادَةِ التَّصَرُّفِ مَا لَمْ تُفِدِ الْبَيِّنَةُ ، فَلِذَلِكَ تَرَجَّحَتِ الْبَيِّنَةُ بِالْيَدِ ، وَلَمْ تَتَرَجَّحْ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ . فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : إِذَا كَانَ الْمِلْكُ فِي أَيْدِيهِمَا ، وَكَانَ دَارًا ، فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنَّ جَمِيعَ الدَّارِ لَهُ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَتَكَافَأَ الْبَيِّنَتَانِ ، وَلَا تَشْهَدَ إِحْدَاهُمَا بِقَدِيمِ الْمِلْكِ ، فَقَدْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَتَهُ بِمِلْكِ جَمِيعِ الدَّارِ الَّتِي نِصْفُهَا بِيَدِهِ ، وَنِصْفُهَا بِيَدِ الْآخَرِ ، فَصَارَ لَهُ فِيمَا بِيَدِهِ بَيِّنَةُ دَاخِلٍ ، وَفِيمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ بَيِّنَةُ خَارِجٍ ، فَتَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ فِي الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ تَعَارُضَهُمَا مُوجِبٌ لِسُقُوطِهِمَا حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ ، وَأُقِرَّتِ الدَّارُ فِي أَيْدِيهِمَا مِلْكًا بِالْيَدِ وَالتَّحَالُفِ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ تَعَارُضَهُمَا مُوجِبٌ لِاسْتِعْمَالِهِمَا وَقَسْمِ الْمِلْكِ بَيْنَهُمَا ، فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِمَا ، وَتُجْعَلُ الدَّارُ بَيْنَهُمَا مِلْكًا بِالْبَيِّنَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَشْهَدَ بَيِّنَةُ أَحَدِهِمَا بِقَدِيمِ الْمِلْكَ وَتَشْهَدَ بَيِّنَةُ الْآخَرِ بِحَدِيثِ الْمِلْكِ ، فَإِنْ لَمْ تُجْعَلِ الشَّهَادَةُ بِقَدِيمِ الْمِلْكِ تَرْجِيحًا لِلْبَيِّنَةِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، فَالْجَوَابُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ تَكَافُؤِ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي جَعْلِ الدَّارِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، بِالْيَدِ وَالْيَمِينِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَبِالْبَيِّنَةِ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي ، وَإِنْ تَرَجَّحَتِ الشَّهَادَةُ بِقَدِيمِ الْمَالِكِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي خَلُصَ لِصَاحِبِهَا النِّصْفُ الَّذِي فِي يَدِهِ ، وَتَقَابَلَ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ ، تَرْجِيحُ بَيِّنَةٌ بِقَدِيمِ الْمِلْكِ ، وَتَرْجِيحِ بَيِّنَةِ الْآخَرِ بِالْيَدِ ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يُحْكَمُ بِهِ لِمَنْ تَرَجَّحَتْ بَيِّنَتُهُ بِقَدِيمِ الْمِلْكِ ، فَتَصِيرُ جَمِيعُ الدَّارِ لَهُ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ التَّرْجِيحَ بِتَقْدِيمِ الْمِلْكِ أَقْوَى مِنَ التَّرْجِيحِ بِالْيَدِ ، وَعَلَى الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ يُحْكَمُ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ لِصَاحِبِ الْيَدِ ، لِأَنَّهُ يَجْعَلُ التَّرْجِيحَ بِالْيَدِ أَقْوَى مِنَ التَّرْجِيحِ بِقَدِيمِ الْمِلْكِ ، فَتَصِيرُ الدَّارُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بِغَيْرِ أَيْمَانٍ قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بَيْنَهُمَا فِي النِّصْفَيْنِ بِتَرْجِيحِ الْبَيِّنَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ إِسْقَاطٍ لَهُمَا وَلَا قِسْمَةٍ بِاسْتِعْمَالِهَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الدَّعْوَى عَلَى كِتَابِ أَبِي حَنِيفَةَ

بَابُ الدَّعْوَى عَلَى كِتَابِ أَبِي حَنِيفَةَ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَإِذَا أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى هَذِهِ الدَّارَ مِنْهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ ، وَأَقَامَ الْآخَرُ بَيِّنَةً أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِمِائَتِي دِرْهَمٍ وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ بِلَا وَقْتٍ ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَهَا بِنِصْفِ الثَّمَنِ الَّذِي سَمَّى شُهُودَهُ وَيَرْجِعُ بِالنِّصْفِ ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : إِنً الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ فِي الْبَيْعِ ، ( قَالَ الْمُزَنِيُّ : ) هَذَا أَشْبَهُ بِالْحَقِّ عِنْدِي لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ قَدْ تَكَافَأَتَا ، وَلِلْمُقِرِّ لَهُ بِالدَّارِ سَبَبٌ لَيْسَ لِصَاحِبِهِ كَمَا يَدَّعِيَانِهَا جَمِيعًا بِبَيِّنَةٍ وَهِيَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا ، فَتَكُونَ لِمَنْ هِيَ فِي يَدَيْهِ لِقُوَّةِ سَبَبِهِ عِنْدَهُ عَلَى سَبَبِ صَاحِبِهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَقَدْ قَالَ لَوْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى دَابَّةٍ أَنَّهُ نَتَجَهَا أَبْطَلْتُهُمَا وَقَبِلْتُ قَوْلَ الَّذِي هِيَ فِي يَدَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : جَمَعَ الْمُزَنِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ بَيْنَ ثَلَاثِ مَسَائِلَ نَقَلَهَا عَنِ الشَّافِعِيِّ : فَالْأُولَى : بَائِعُ وَمُشْتَرِيَانِ . وَالثَّانِيَةُ : بَائِعَانِ وَمُشْتَرِيَانِ . وَالثَّالِثَةُ : مُشْتَرٍ وَبَائِعَانِ . فَأَمَّا الْأُولَى : هِيَ مَسْأَلَتُنَا فَصُورَتُهَا فِي رَجُلَيْنِ تَدَاعَيَا ابْتِيَاعَ دَارٍ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : اشْتَرَيْتُهَا مِنْهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَنَقَدْتُهُ الثَّمَنَ ، وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً ، وَقَالَ الْآخَرُ : إِنَّمَا اشْتَرَيْتُهَا مِنْهُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، وَنَقَدْتُهُ الثَّمَنَ ، وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فِي الْبَيِّنَةِ بَيَانٌ عَلَى تَقَدُّمِ أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ ، عَلَى الْآخَرِ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا بَيَانٌ ، فَإِنْ بَانَ بِهِمَا تَقْدِيمُ أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ عَلَى الْآخَرِ ، بِأَنَّ تَشْهَدَ بَيِّنَةُ أَحَدِهِمَا ، أَنَّهُ ابْتَاعَهَا مِنْهُ فِي رَجَبٍ وَتَشْهَدَ بَيِّنَةُ الْآخَرِ أَنَّهُ ابْتَاعَهَا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ ، وَتَشْهَدُ بَيِّنَةُ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ ابْتَاعَهَا مِنْهُ ، فِي يَوْمِ السَّبْتِ ، وَتَشْهَدُ بَيِّنَةُ الْآخَرِ أَنَّهُ ابْتَاعَهَا مِنْهُ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ ، فَهُمَا فِي تَقَارُبِ هَذَيْنِ الزَّمَانَيْنِ وَتَبَاعُدِهِ سَوَاءٌ ، فَيَحْكُمُ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ ، وَإِبْطَالِ الثَّانِي ، لِأَنَّهُ قَدْ زَالَ بِالْأَوَّلِ مِلْكُ الْبَائِعِ ، فَصَارَ فِي الثَّانِي

بَائِعًا لِغَيْرِ مِلْكٍ فَيَرْجِعُ الثَّانِي عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ ، لِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِقَبْضِهِ لَهُ وَيَكُونُ الْأَوَّلُ أَحَقُّ بِالدَّارِ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى مِلْكِهِ فِي الدَّارِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ غَيْرُ مَالِكٍ حَتَّى يَقُولَ الشُّهُودُ أَنَّهُ بَاعَهَا ، وَهُوَ مَالِكُهَا ، أَوْ يَقُولُوا إِنَّهَا لِهَذَا الْمُشْتَرِي بِابْتِيَاعِهَا مِنْ هَذَا الْبَائِعِ ، فَتَدُلُّ لَهُ الشَّهَادَةُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي ، وَصِحَّةِ عَقْدِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيِّنَتَيْنِ بَيَانٌ عَلَى تَقَدُّمِ أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ ، وَذَلِكَ يَكُونُ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَارِيخٌ ، أَوْ تُؤَرَّخُ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى ، أَوْ تُؤَرَّخُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إِلَى وَقْتٍ وَاحِدٍ ، لَا يَتَقَدَّمُ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى ، فَيَكُونُ بَيَانُ التَّقَدُّمِ مَعْدُومًا عَلَى الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَخْلُ حَالُ الدَّارِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : إِحْدَاهَا : أَنْ تَكُونَ فِي يَدِ الْبَائِعِ . وَالثَّانِيَةِ : أَنْ تَكُونَ فِي يَدِ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ فِي أَيْدِيهِمَا . وَالرَّابِعُ : أَنْ تَكُونَ فِي يَدِ أَجْنَبِيٍّ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْحَالَةُ الْأَوْلَى : وَهُوَ أَنْ تَكُونَ فِي يَدِ الْبَائِعِ الدار التي ادعى رجلين أن كل واحد منهما اشتراها : فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَصْدِيقِ الْبَائِعِ ، لِإِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ هَلْ يُوجِبُ تَرَجِّيَهَا عَلَى الْأُخْرَى عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيِّ ، وَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ ، أَنَّ تَصْدِيقَ الْبَائِعِ لِإِحْدَاهُمَا مَقْبُولٌ ، تَتَرَجَّحُ بِهِ بَيِّنَتُهُ ، لِأَنَّهُ أَصْلُ ذُو يَدٍ ، فَعَلَى هَذَا يَرْجِعُ إِلَى بَيَانِهِ فِي أَيِّ الْعَقْدَيْنِ تَقَدَّمَ وَلَا يَرْجِعُ إِلَى بَيَانِهِ أَيُّهُمَا بَاعَ ، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْبَيِّعَانِ بِالْبَيِّنَةِ ، فَيُرْجَعُ إِلَيْهِ بِالتَّقَدُّمِ مِنْهُمَا ، فَإِذَا بَيَّنَ أَحَدَهُمَا التَّقَدُّمَ كَانَ الْبَيْعُ لَهُ ، وَلَا يَمِينَ عَلَى الْآخَرِ ، لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ لَمْ يَقْبَلْ ، وَلَيْسَ يَغْرَمُ لِلْآخَرِ الْقِيمَةَ ، وَإِنَّمَا يَرُدُّ عَلَيْهِ الثَّمَنَ ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَلْزَمْهُ الْيَمِينُ ، وَإِنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ بَيَانٌ ، أُحْلِفَ وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُحَلِّفَهُ يَمِينًا تَخُصُّهُ ، لِأَنَّهُ لَوْ بَيَّنَ بَعْدَ إِنْكَارِهِ قُبِلَ مِنْهُ ، فَلِذَلِكَ لَزِمَتْهُ الْيَمِينُ ، فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ فِي الْبَيَانِ ، لَمْ يَكُنْ فِيهِ بَيَانٌ ، لِأَنَّهُ بَيَانُهُ فِي التَّقَدُّمِ ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَقَدِّمًا عَلَى الْآخَرِ فِي حَالِهِ . وَقَالَ أَبُو حَامِدِ الْإِسْفَرَايِينِيُّ ، تَكُونُ الدَّارُ بَيْنَهُمَا بِتَصْدِيقِهِ لَهُمَا . فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ وَهُوَ يَرَى أَنَّ بَيَانَ الْبَائِعِ مَقْصُورٌ عَلَى الْمُتَقَدِّمِ بِالْعَقْدِ فَقَدْ وَهِمَ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِهِمَا فِي التَّقَدُّمِ ، وَإِنْ قَالَهُ ، لِأَنَّهُ يَرَى أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى بَيَانِ الْبَائِعِ لِأَيِّهِمَا بَاعَ فَهُوَ ارْتِكَابُ مَذْهَبٍ لَا يَقْتَضِيهِ الْمَذْهَبُ لِمَا بَيَّنَاهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ ، وَعَامَّةُ أَصْحَابِنَا أَنَّ تَصْدِيقَ الْبَائِعِ لِأَجْلِ يَدِهِ ، غَيْرُ مَقْبُولٍ ، فِي تَرْجِيحِ بَيِّنَةِ أَحَدِهِمَا ، لِاتِّفَاقِ الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى زَوَالِ مِلْكِهِ ،

فَبَطَلَ بِهِمَا حُكْمُ يَدِهِ ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى يَدٍ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَالِكَةٌ ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ يَدُ مِلْكٍ ، فَعَلَى هَذَا يَجْرِيَ عَلَى الْبَيِّنَتَيْنِ حُكْمُ الْمُتَعَارِضَتَيْنِ فِي الظَّاهِرِ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ لَا يَتَعَارَضَا فِي الْبَاطِنِ بِأَنْ يَتَقَدَّمَ أَحَدُ الْعَقْدَيْنِ عَلَى الْآخَرِ ، فَيَكُونُ فِي تَعَارُضِهِمَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهُمَا : إِسْقَاطُهَا ، فَيَرْجِعُ إِلَى قَوْلِ الْبَائِعِ لَا تَرْجِيحًا لِلْبَيِّنَةِ لِأَنَّهُمَا قَدْ أُسْقِطَتَا ، وَلَكِنْ لِأَنَّهَا دَعْوَى عَلَيْهِ فِي ابْتِيَاعٍ مِنْهُ ، فَإِنْ كَذَّبَهُمَا حَلَفَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَغَرِمَ لَهُ مَا شَهِدَتْ بِهِ بَيِّنَتُهُ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي دَفَعَهُ ، وَالدَّارُ بَاقِيَةٌ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ ، وَإِنْ صَدَقَ أَحَدُهُمَا ، وَكَذَبَ الْآخَرُ ، كَانَتِ الدَّارُ مَبِيعَةٌ عَلَى الْمُصَدِّقِ ، دُونَ الْمُكَذِّبِ ، فَإِنْ طَلَبَ الْمُكَذِّبُ إِحْلَافَ الْبَائِعِ ، نُظِرَ فَإِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَ بِالدَّعْوَى عَلَى الْمُصَدِّقِ كَانَ لَهُ إِحْلَافُ الْبَائِعِ ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَحَقَّ الْيَمِينَ بِإِنْكَارِهِ قَبْلَ دَعْوَى الْمُصَدِّقِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ مِنْهَا بِتَصْدِيقِهِ لِغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَتْ دَعْوَاهُ بَعْدَ تَصْدِيقِ الْآخَرِ ، فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ إِلَّا عَلَى تَخْرِيجٍ يَذْكُرُهُ ، لِأَنَّهَا دَعْوَى فِي حَلَالٍ لَا يَنْفُذُ فِيهَا إِقْرَارُهُ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ الَّذِي شَهِدَتْ بِهِ بَيِّنَتُهُ ، فَلَوْ عَادَ الْبَائِعُ ، فَصَدَّقَ الثَّانِي بَعْدَ تَصْدِيقِ الْأَوَّلِ ، كَانَ الْبَيْعُ لِلْأَوَّلِ ، لِتَقَدُّمِ إِقْرَارِهِ ، وَنُظِرَ فِي قِيمَةِ الدَّارِ ، فَإِنْ كَانَتْ بِقَدْرِ الثَّمَنِ الَّذِي شَهِدَتْ بِهِ بَيِّنَةُ الثَّانِي ، لَمْ يُغَرَّمْ لِلثَّانِي إِلَّا الثَّمَنَ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَكْثَرُ مِنَ الثَّمَنِ فَفِي وُجُوبِ غُرْمِ زِيَادَةِ الْقِيمَةِ بَعْدَ رَدِّ الثَّمَنِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَغْرَمُهَا . وَالثَّانِي : يَغْرَمُهَا . وَمِنْ هَاهُنَا يَجِيءُ تَخْرِيجُ قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَحْلِفَ لِلْمُكَذِّبِ لِأَنَّهُ إِذَا غَرِمَ مَعَ الْإِقْرَارِ حَلَفَ مَعَ الْإِنْكَارِ ، وَلَوْ صَدَّقَ الْبَائِعُ لَهُمَا جَمِيعًا ، جُعِلَتِ الدَّارُ بَيْنَهُمَا ، وَيَكُونُ نِصْفُهَا مَبِيعًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ الثَّمَنِ الَّذِي شَهِدَتْ بِهِ بَيِّنَتُهُ ، إِنِ اتَّفَقُوا عَلَى قَدْرِهِ ، وَإِنْ عَدَلُوا إِلَى غَيْرِهِ ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ يَأْخُذُ نِصْفَ الدَّارِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْبَائِعُ إِنْ صَدَّقَ الْمُشْتَرِيَانِ عَلَى قَدْرِهِ ، وَإِنْ كَذَّبَاهُ ، حَلَّفَاهُ عَلَيْهِ ، وَأُبْطِلَ الْبَيْعُ ، وَلَا يُعْتَبَرُ الثَّمَنُ الَّذِي شَهِدَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ إِلَّا فِي دَفْعِهِ دُونَ عَقْدِ الْبَيْعِ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ قَبُولَهُمَا فِي الْبَيْعِ ، فَسَقَطَ حُكْمُ الثَّمَنِ الَّذِي شَهِدَا بِهِ وَإِنْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا فِي دَفْعِهِ ، لِأَنَّ تَعَارُضَهُمَا فِي الْبَيْعِ لَا فِي دَفْعِ الثَّمَنِ فَهُوَ حُكْمُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي إِسْقَاطِ الْبَيِّنَتَيْنِ بِالتَّعَارُضِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : الْإِقْرَاعُ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ الدار التي ادعى رجلين أن كل واحد منهما اشتراها ، فَأَيَّتُهُمَا قَرَعَتْ حُكِمَ بِهَا وَكَانَ الْبَيْعُ لِمَنْ شَهِدَتْ لَهُ ، وَفِي إِحْلَافِهِ مَعَ الْقُرْعَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَحْلِفُ إِنْ قِيلَ : إِنَّ الْقُرْعَةَ مُرَجِّحَةٌ لِدَعْوَاهُ .

وَالثَّانِي : لَا يَمِينَ إِنْ قِيلَ إِنَّ الْقُرْعَةَ مُرَجِّحَةٌ لِبَيِّنَتِهِ ، وَلِلْمَقْرُوعِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ الَّذِي شَهِدَتْ بِهِ بَيِّنَتُهُ وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : اسْتِعْمَالُ الْبَيِّنَتَيْنِ ، وَقَسْمُ الدَّارِ بِهِمَا بَيْنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ لِيَكُونَ نِصْفُهَا مَبِيعًا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَهُوَ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ فِي إِمْضَاءِ الْبَيْعِ فِي نِصْفِ الدَّارِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ أَوْ فَسْخِهِ ، لِأَنَّهُ ابْتَاعَ جَمِيعَ الدَّارِ فَجَعَلَ لَهُ نِصْفَهَا وَلَهُمَا فِي الْخِيَارِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : إِحْدَاهَا : أَنْ يَخْتَارَ الْإِمْضَاءَ فَيَكُونَا شَرِيكَيْنِ . وَالثَّانِيَةُ : أَنْ يَخْتَارَ الْفَسْخَ ، فَيَصِحُّ فَسْخُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْهُمَا ، وَيَتَوَفَّرُ سَهْمُهُ بِالْفَسْخِ عَلَى الْمُتَأَخِّرِ ، فَيَسْقُطُ خِيَارُهُ فِي الْفَسْخِ ، لِأَنَّ الْبَيْعَ قَدْ تَكَامَلَ لَهُ فِي جَمِيعِ الدَّارِ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُمْضِيَ أَحَدُهُمَا ، وَيَفْسَخُ الْآخَرَ ، فَقَدْ زَالَ مِلْكُ الْفَاسِخِ ، وَنُظِرَ فَإِنْ فُسِخَ قَبْلَ رِضَا الْآخَرِ بِالنِّصْفِ يَغْرَمُ سَهْمَهُ عَلَى التَّرَاضِي وَأَخْذِ جَمِيعِ الدَّارِ بِجَمِيعِ ثَمَنِ بَيِّنَتِهِ ، وَإِنْ فُسِخَ بَعْدَ رِضَا الرَّاضِي لَمْ يَعُدْ سَهْمُ الْفَاسِخِ عَلَى الرَّاضِي ، لِاسْتِقْرَارِ الْحُكْمِ فِي ابْتِيَاعِهِ النِّصْفَ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الدَّارُ فِي يَدَيْ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ الدار التي ادعى رجلين أن كل واحد منهما اشتراها ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ تَتَرَجَّحُ بَيِّنَتُهُ بِيَدِهِ ، أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي التَّرْجِيحِ بِيَدِ الْبَائِعِ ، إِذَا صَدَّقَ أَحَدَهُمَا بِتَرْجِيحِ يَدِ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّهَا تُرَجِّحُ بَيْنَ الْبَائِعِ إِذَا صَدَّقَهُ فَيَحْكُمُ لَهُ بِبَيِّنَتِهِ ، وَيَدِهِ وَيَرْجِعُ الْآخَرُ بِالثَّمَنِ الَّذِي شَهِدَتْ بِهِ بَيِّنَتُهُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَصْمًا لِصَاحِبِ الْيَدِ فِي الدَّارِ وَيُحَلِّفَهُ إِذَا أَنْكَرَهُ ، وَإِنْ صَدَّقَهُ سَلَّمَ الدَّارَ إِلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ بِالثَّمَنِ الَّذِي شَهِدَتْ بِهِ بَيِّنَتُهُ إِنْ كَانَ مِثْلَ الثَّمَنِ فِي ابْتِيَاعِ حَقِّهِ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالْبَاقِي ، لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَى الثَّانِي ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الزِّيَادَةَ ، لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي دَفَعَ ، وَيَكُونُ دَرَكٌ لِلثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ ، دُونَ الْبَائِعِ ، وَلَا يَكُونُ عَلَى الْبَائِعِ دَرَكُ الْأَوَّلِ ، وَلَا الثَّانِي لِأَنَّ الثَّانِي مَلَكَهَا عَنِ الْأَوَّلِ ، وَالْأَوَّلُ قَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا عَنِ الْبَائِعِ فَلِذَلِكَ سَلِمَ الْبَائِعُ مَنْ دَرَكَهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا تَتَرَجَّحُ الْبَيِّنَةُ بِيَدِ الْبَائِعِ إِذَا صَدَّقَ أَحَدَهُمَا ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ حُكْمُ يَدِهِ ، وَتَتَعَارَضُ الْبَيِّنَتَانِ فِي حَقِّهِمَا ، فَتَكُونُ عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ : أَحَدُهَا : يَسْقُطَانِ وَيَرْجِعُ إِلَى الْبَائِعِ فِي إِقْرَارِهِ ، وَإِنْكَارِهِ عَلَى مَا مَضَى . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَقْرَعُ بَيْنَهُمَا ، وَيَحْكُمُ لِمَنْ قَرَعَ مِنْهُمَا عَلَى مَا مَضَى .

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : يَقْسِمُ بَيْنَهُمَا بِاسْتِعْمَالِهِمَا عَلَى مَا مَضَى . وَذَكَرَ الرَّبِيعُ قَوْلًا رَابِعًا : أَنَّ تَعَارُضَ الْبَيِّنَتَيْنِ يُوجِبُ إِبْطَالَ الصَّفْقَتَيْنِ الدار التي ادعى رجلين أن كل واحد منهما اشتراها ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَيِّعَيْنِ بَاطِلًا كَالْمُتَدَاعِيَيْنِ نِكَاحَ امْرَأَةٍ يُقِيمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا ، يُبْطِلُ النِّكَاحَانِ بِتَعَارُضِهِمَا ، فَأَنْكَرَ أَصْحَابُنَا هَذَا الْقَوْلَ وَنَسَبُوهُ إِلَى الرَّبِيعِ تَخْرِيجًا لِنَفْسِهِ ، وَمَنَعُوا مِنِ اعْتِبَارِهِ بِالنِّكَاحِ ، لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، بِأَنَّ نِكَاحَ الْمَرْأَةِ ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ زَوْجَيْنِ ، وَشِرَاءُ الدَّارِ بين مشترين يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ مُشْتَرِيَيْنِ ، فَبَطَلَ النِّكَاحَانِ ، لِامْتِنَاعِ الشَّرِكَةِ ، وَلَمْ يَبْطُلِ الْبَيِّعَانِ مَعَ جَوَازِ الشَّرِكَةِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الدَّارُ فِي يَدَيِ الْمُشْتَرِيَيْنِ الدار التي ادعى رجلين أن كل واحد منهما اشتراها فَقَدْ تَسَاوَيَا فِي الْيَدِ وَالْبَيِّنَةِ ، وَلَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فِي يَدٍ وَلَا بَيِّنَةٍ ، فَإِنْ لَمْ يَتَرَجَّحْ يَدُ أَحَدِهِمَا لَمْ يَتَرَجَّحْ أَيْدِيَهُمَا ، وَصَارَتْ بَيَّنَتَاهُمَا مُتَعَارِضَتَيْنِ ، فَيَكُونُ تَعَارُضُهُمَا مَحْمُولًا عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ فِي إِسْقَاطِهَا وَالْإِقْرَاعِ بَيْنَهُمَا ، أَوِ اسْتِعْمَالِهَا ، وَإِنْ رَجَّحَتَا يَدَ أَحَدِهِمَا رَجَّحَتَا أَيْدِيَهُمَا ، وَصَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةَ دَاخِلٍ فِي النِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِهِ ، وَبَيِّنَةَ خَارِجٍ فِي النِّصْفِ الَّذِي بِيَدِ صَاحِبِهِ ، فَيُجْعَلُ ابْتِيَاعُ الدَّارِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَهَلْ يَحْلِفُ لِصَاحِبِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَيَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْبَائِعِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ ، وَكَانَ خِيَارُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ : وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الدَّارُ فِي يَدِ أَجْنَبِيٍّ الدار التي ادعى رجلين أن كل واحد منهما اشتراها ، فَلَا تَخْلُو يَدُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : إِحْدَاهَا : أَنْ يَكُونَ نِيَابَةً عَنِ الْبَائِعِ ، فَيَكُونُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي يَدِ الْبَائِعِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ نِيَابَةً عَنْ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ ، فَيَكُونُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ نِيَابَةً عَنْهُمَا ، فَيَكُونُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي أَيْدِيهِمَا . وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَكُونَ لِنَفْسِهِ غَيْرُ ثَابِتٍ فِيهَا عَنْ غَيْرِهِ فَلَا تَتَوَجَّهُ الدَّعْوَى عَلَيْهِ فِي الْبَيْعِ ، لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى غَيْرِهِ ، وَلَا تُوجِبُ بَيِّنَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا انْتِزَاعَ الدَّارِ مِنْ يَدِهِ ، لِأَنَّ بَيْعَ غَيْرِهِ لِلدَّارِ لَا يَجْعَلُهُ مَالِكًا لَهَا وَصَاحِبُ الْيَدِ أَحَقُّ بِالدَّارِ مِنْ بَائِعِهَا ، وَلَا تَتَوَجَهُ عَلَيْهِ مُطَالَبَةُ الْبَائِعِ بِهَا ، لِأَنَّ قِيَامَ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ ، وَسَقَطَ أَنْ يَكُونَ لِلْبَائِعِ عَلَيْهِ يَمِينٌ وَلَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ مُطَالَبَةُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ بِهَا ، لِأَنَّهُ يَدَّعِي مِلْكَهَا ، عَنِ الْبَائِعِ ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ الْمُطَالَبَةُ بِهَا ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يُطَالِبَ بِهَا النَّائِبُ عَنْهُ ، فَتَسْقُطُ الْمُطَالَبَةُ عَنْ صَاحِبِ الْيَدِ ، لِأَجْلِ الْبَيِّنَةِ ، وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ ، وَيَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ الَّذِي شَهِدَتْ بِهِ بَيِّنَتُهُ ، فَإِذَا حُكِمَ بِإِبْطَالِ

الْبَيْعَيْنِ ، وَأَخَذَ الْبَائِعُ بِرَدِّ الثَّمَنَيْنِ جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الدَّعْوَى ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيِّنَةِ الشَّاهِدَةِ بِالْبَيْعِ شَهَادَةٌ لِلْبَائِعِ ، بِمِلْكِ الْمَبِيعِ ، فَأَمَّا إِذَا شَهِدَتْ البينة الشاهدة للبائع بملك ما باع فعارضهما صاحب اليد لَهُ بِمِلْكِ مَا بَاعَ ، فَإِنْ عَارَضَهُمَا صَاحِبُ الْيَدِ بِبَيِّنَتِهِ ، كَانَتْ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ أَوْلَى ، لِأَنَّهَا بَيِّنَةُ دَاخِلٍ قَدْ تَلَتْهَا بَيِّنَةُ خَارِجٍ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِصَاحِبِ الْيَدِ بَيِّنَةٌ رُفِعَتْ يَدُهُ ، وَثَبَتَ أَنَّ الْبَائِعَ بَاعَ مِلْكَهُ ، وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ بِمِلْكِهِ فِي إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ حُكِمَ بِالْبَيْعِ ، دُونَ الْمِلْكِ وَرَجَعَ بِالثَّمَنِ وَبَطَلَ حُكْمُ التَّعَارُضُ فِيهِمَا . وَإِنْ شَهِدَتْ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْمِلْكِ وَالْبَيْعِ ، ثَبَتَ حُكْمُ التَّعَارُضِ فِيهِمَا ، وَكَانَ عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ ، وَقَدْ أَطَلْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِاسْتِيفَائِهَا ، لِأَنَّهَا مِنَ الْأُصُولِ فِي الدَّعَاوَى . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ اشْتَرَى هَذَا الثَوْبَ مِنْ فُلَانٍ وَهُوَ مَلَكَهُ بِثَمَنٍ مُسَمًّى وَنَقَدَهُ ، وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ فُلَانٍ وَهُوَ يَمْلِكُهُ بِثَمَنٍ مُسَمَّى وَنَقَدَهُ ، فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِهِ لِلَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ لِفَضْلِ كَيْنُونَتِهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ : ) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْتُ مِنْ قَوْلِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا بَائِعَانِ ، وَمُشْتَرِيَانِ وَصُورَتُهَا أَنْ يَتَنَازَعَ رَجُلَانِ فِي ثَوْبٍ ، يَدَّعِي أَحَدُهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ زَيْدٍ ، وَهُوَ مَالِكُهُ بِثَمَنٍ سَمَّاهُ وَنَقَدَهُ إِيَّاهُ ، وَيُقِيمُ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً بِالْمِلْكِ وَالْبَيْعِ ، وَيَدَّعِي الْآخَرُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ عَمْرٍو ، وَهُوَ مَالِكُهُ بِثَمَنٍ سَمَّاهُ وَنَقَدَهُ إِيَّاهُ ، وَيُقِيمُ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً بِالْمِلْكِ وَالْبَيْعِ ، فَلَا يَخْلُو الثَّوْبُ مِنْ خَمْسَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِي أَيْدِيهِمَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ فِي أَيْدِيهِمَا . وَالْخَامِسُ : أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ أَجْنَبِيٍّ . فَأَمَّا الْحَالَةُ الْأَوْلَى : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ فِي يَدِ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فَبَيِّنَتُهُ أَرْجَحُ وَجْهًا وَاحِدًا ، لِأَنَّهَا بَيِّنَةُ دَاخِلٍ تَنْدَفِعُ بِهَا بَيِّنَةُ خَارِجٍ فَيَصِحُّ بَيْعُهُ ، وَيُؤْخَذُ بِتَسْلِيمِ الثَّوْبِ إِلَى مُشْتَرِيهِ مِنْهُ ، وَيَبْطُلُ بَيْعُ الْآخَرِ ، وَيُؤْخَذُ بِرَدِّ الثَّمَنِ عَلَى مُشْتَرِيهِ مِنْهُ ، وَلَا يَمِينَ لِلْبَائِعِ الْآخَرِ ، وَلَا لِلْمُشْتَرِي عَلَى مَنْ تَرَجَّحَتْ بَيِّنَتُهُ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي ، لِأَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ لَهُمَا بِالْبَيِّنَةِ ، تَرْجِيحًا بِالْيَدِ وَلَا يَمِينَ مَعَ الْبَيِّنَةِ .



فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ فِي يَدِ الْبَائِعَيْنِ ، فَلَا تَخَاصُمَ بَيْنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ ، فَقِيلَ : إِنَّهُ لَا يَدَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا يَدَّعِيهِ وَخَصْمُهُ فِيهِ هُوَ الْبَائِعُ عَلَيْهِ ، لِيُسَلِّمَ إِلَيْهِ مَا بَاعَهُ عَلَيْهِ وَلِلْبَائِعِ حِينَئِذٍ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَتَنَازَعَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، أَنَّهُ مَالِكٌ لِجَمِيعِهِ وَبَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ فِي الْبَيْعِ ، هِيَ بَيِّنَةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَائِعَيْنِ فِي الْمِلْكِ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةُ دَاخِلٍ فِي النِّصْفِ الَّذِي بِيَدِهِ ، وَبَيِّنَةُ خَارِجٍ فِي النِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ ، فَيَحْكُمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِهِ بِبَيِّنَتِهِ وَيَدِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ عَارَضَتْهُ فِيهِ بَيِّنَةُ خَارِجٍ وَهَلْ يَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِحْلَافُ صَاحِبِهِ ، أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : مِنْ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ هَلْ يَسْقُطَانِ ، أَوْ يُسْتَعْمَلَانِ ؟ فَإِنْ قِيلَ : بِإِسْقَاطِهِمَا فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَحْلِفَ لِصَاحِبِهِ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيمَا بِيَدِهِ ، وَلَا يَحْلِفُ أَنَّهُ مَالِكٌ لِمَا بِيَدِهِ ، لِأَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى إِنْكَارِهِ وَلَيْسَ يَحْلِفُ عَلَى إِثْبَاتِهِ ، وَإِنْ قِيلَ : بِاسْتِعْمَالِ الْبَيِّنَتَيْنِ فَلَا يَمِينَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ ، لِأَنَّ مِنْ حُكِمَ لَهُ بِالْبَيِّنَةِ لَمْ يَحْلِفْ مَعَهَا ، ثُمَّ يَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَائِعَيْنِ مَالِكًا لِنِصْفِهِ ، وَبَائِعًا لِجَمِيعِهِ ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ فِي نِصْفِهِ وَالرُّجُوعِ بِنِصْفِ ثَمَنِهِ ، وَبَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ فِي جَمِيعٍ ، وَالرُّجُوعِ بِجَمِيعِ ثَمَنِهِ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَتَصَادَقَ الْبَائِعَانِ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالِكٌ لِنِصْفِهِ ، فَيَنْقَطِعُ التَّخَاصُمُ بَيْنَهُمَا بِالتَّصَادُقِ ، وَفِي انْقِطَاعِ خُصُومَةِ الْمُشْتَرِيَيْنِ بِانْقِطَاعِهَا بَيْنَ الْبَائِعَيْنِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدِ انْقَطَعَتِ الْخُصُومَةُ بِتَصَادُقِهِمَا ، وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالِكًا لِنِصْفِهِ ، وَبَائِعًا لِجَمِيعِهِ ، فَلَزِمَهُ تَسْلِيمُ مَا مَلَكَ وَدَرَكُ مَا لَمْ يَمْلِكْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْخُصُومَةَ بَاقِيَةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي مِلْكَ جَمِيعِ الثَّوْبِ ، وَقَدْ صَارَ إِلَى نِصْفِهِ مَعَ بَقَائِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، وَيَكُونُ مُخَاصِمًا فِيهِ لِمَنْ بِيَدِهِ النِّصْفُ الْآخَرُ فَإِنْ كَانَ قَدْ تَسَلَّمَ مُشْتَرَيَهُ ، كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمًا لِصَاحِبِهِ فِيهِ فَيَتَحَالَفَانِ عَلَيْهِ ، وَلَا تُسْتَعْمَلُ بَيِّنَتَاهُمَا فِيهِ ، لِأَنَّهَا لَا تُفِيدُهُمَا أَكْثَرَ مِنْ قَسْمٍ بَيْنَهُمَا . فَإِنْ حَلَفَا أَوْ نَكَلَا كَانَ بَيْنَهُمَا ، وَانْقَطَعَ تَخَاصُمُهُمَا ، وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا ، وَنَكَلَ الْآخَرُ ، حُكِمَ بِجَمِيعِهِ لِلْحَالِفِ وَلَمْ يَلْزَمْ لِبَائِعِهِ عَلَيْهِ إِلَّا نِصْفُ ثَمَنِهِ ، وَإِنْ صَارَ مَالِكًا لِجَمِيعِهِ لِأَنَّ الْبَائِعَ مُقِرٌّ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِلَّا نِصْفَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْتَرِيهِ قَدْ سَاقَ الثَّمَنَ إِلَيْهِ ، لَمْ يُطَالِبْهُ الْبَائِعُ إِلَّا بِنِصْفِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَاقَ جَمِيعَ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِرْجَاعُ شَيْءٍ مِنْهُ ، لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِاسْتِحْقَاقِهِ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي النَّاكِلِ رُجُوعُهُ بِدَرْكِهِ عَلَى بَائِعِهِ ، لِأَنَّهُ

مُسْتَحَقٌّ مِنْ يَدِهِ بِنُكُولِهِ ، وَلَوْ حَلَفَ لَكَانَ مُقَرًّا فِي يَدِهِ ، وَلَوْ لَمْ يَتَسَلَّمُ الْمُشْتَرِي ، وَكَانَ بَاقِيًا مِنْ يَدِ الْبَائِعَيْنِ وُقِفَتِ الْخُصُومَةُ بَيْنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ ، وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مُطَالَبَةُ مُبَايِعِهِ ، فَيَتَسَلَّمُ مَا ابْتَاعَهُ مِنْهُ ، وَهُوَ لَا يَقْدِرُ إِلَّا عَلَى تَسْلِيمِ نِصْفِهِ الَّذِي فِي يَدِهِ ، فَإِذَا قَبَضَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهُ ، تَخَاصَمَ فِيهِ الْمُشْتَرِيَانِ ، وَكَانَ حُكْمُهُمَا فِي التَّخَاصُمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ فِي يَدِ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ فترجحت بينته بيده وجها واحدا ، تَرَجَّحَتْ بَيِّنَتُهُ بِيَدِهِ وَجْهًا وَاحِدًا ، بِخِلَافِ يَدِهِ لَوْ كَانَ الْبَائِعُ عَلَيْهَا وَاحِدًا فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، لِأَنَّهُمَا فِي الشِّرَاءِ مَعَ اثْنَيْنِ يَجْعَلُ يَدَهُ بِيَدِ بَائِعِهِ الَّذِي لَمْ يُنْقَلْ مِلْكُهُ إِلَّا إِلَيْهِ ، فَصَارَتْ يَدُهُ كَيْدَ أَحَدِ الْبَائِعَيْنِ ، فَحُكِمَ لَهُ بِالْجَمِيعِ ، لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ بِالْجَمِيعِ بَيِّنَةُ دَاخِلٍ ، وَبَيِّنَةُ الْآخَرِ فِي الْجَمِيعِ بَيِّنَةُ خَارِجٍ ، وَلَزِمَهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ وَرَجَعَ الْآخَرُ عَلَى صَاحِبِهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، وَلَيْسَ لَهُ مُخَاصَمَةُ صَاحِبِهِ فِي الشِّرَاءِ ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ ابْتِيَاعُهُ لِجَمِيعِ الثَّوْبِ ، لِحُكْمٍ بَاتٍّ ، وَيَنْقَطِعُ التَّنَازُعُ بَيْنَ الْبَائِعَيْنِ كَانْقِطَاعِهِ بَيْنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ لِنُفُوذِ الْحُكْمِ بِالْبَيِّنَةِ وَالْيَدِ لِلْبَائِعِ ، وَالْمُشْتَرِي مِنْهُ عَلَى الْبَائِعِ الْآخَرِ وَالْمُشْتَرِي مِنْهُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ فتكافأ في البينة واليد ، فَقَدْ تَكَافَئَا فِي الْبَيِّنَةِ وَالْيَدِ ، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةُ دَاخِلٍ فِي نِصْفِهِ ، وَبَيِّنَةُ خَارِجٍ مِنْ نِصْفِهِ ، فَيُحْكَمُ بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَتَكُونُ الْخُصُومَةُ فِيهِ بَيْنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ ، وَلَا خُصُومَةَ فِي الْحَالِ بَيْنَهُمَا ، وَبَيْنَ الْبَائِعَيْنِ ، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِحْلَافُ صَاحِبِهِ قَوْلًا وَاحِدًا ، لِأَنَّهُ لَوْ صَدَّقَهُ عَلَيْهِ ، لَزِمَهُ تَسْلِيمُ مَا بِيَدِهِ وَفِي كَيْفِيَّةِ يَمِينِهِ قَوْلَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ ، فَإِنْ قِيلَ : بِاسْتِعْمَالِهِمَا كَانَتْ يَمِينُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى النَّفْيِ دُونَ الْإِثْبَاتِ ، فَيَحْلِفُ بِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيمَا بِيَدِي ، وَلَا يَحْلِفُ إِنِّي مَالِكٌ لِمَا بِيَدِي ، لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهُ بِالْبَيِّنَةِ ، فَلَا يَمِينَ مَعَ الْبَيِّنَةِ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ تَعَارُضَهُمَا مُوجِبٌ لِإِسْقَاطِهِمَا ، كَانَتْ يَمِينُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْإِثْبَاتِ دُونَ النَّفْيِ ، فَيَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ تَمَلَّكَهُ بِالِابْتِيَاعِ مِنْ فُلَانٍ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ بِالْبَيِّنَةِ ، فَصَارَ مَالِكًا بِالثَّمَنِ ، فَإِنْ حَلَفَا كَانَ الثَّوْبُ بَيْنَهُمَا مِلْكًا ، وَإِنْ نَكَلَا كَانَ الثَّوْبُ بَيْنَهُمَا يَدًا ، فَلَا رُجُوعَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالدَّرَكِ عَلَى مُبَايِعِهِ ، سَوَاءٌ حَلَفَا أَوْ نَكَلَا ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ادِّعَاءِ جَمِيعِهِ مِلْكًا بِالِابْتِيَاعِ مُصَدَّقٌ لِمُبَايِعِهِ عَلَى مِلْكِهِ . وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا ، وَنَكَلَ الْآخَرُ ، حُكِمَ بِالْجَمِيعِ لِلْحَالِفِ دُونَ النَّاكِلِ ، وَلَزِمَهُ ثَمَنُ جَمِيعِهِ لِمُبَايِعِهِ ، لِاعْتِرَافِهِمَا بِاسْتِحْقَاقِهِ ، وَلَا رُجُوعَ لِلنَّاكِلِ بِدَرَكِهِ عَلَى مُبَايِعِهِ بِشَيْءٍ مِنْ ثَمَنِهِ ، لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّهُ بَائِعٌ لِمِلْكِهِ . فَإِنْ أَحَالَ الْمُشْتَرِيَانِ بِالتَّحَالُفِ عَلَى الْبَائِعَيْنِ لِيَكُونَا خَصْمَيْنِ فِيهِ ، كَانَ جَوَازُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ ، مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ ، فَإِنْ قِيلَ : بِإِسْقَاطِهِمَا ، تَحَالَفَ عَلَيْهِ الْبَائِعَانِ وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ خَصْمًا لِمُبَايِعِهِ فِيهِ .

وَإِنْ قِيلَ بِاسْتِعْمَالِهَا لَمْ يَتَحَالَفْ عَلَيْهِ الْبَائِعَانِ ، لِبَتِّ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا بِالْبَيِّنَةِ ، وَلَا رُجُوعَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالدَّرَكِ عَلَى مُبَايِعِهِ إِنْ تَدَاعَيَاهُ وَلَهُمَا الرُّجُوعُ بِدَرَكِهِ ، إِنْ لَمْ يَتَدَاعَيَاهُ لِأَنَّهُمَا فِي تَدَاعِيهِ مُصَدِّقَانِ لِلْبَائِعَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَدَاعَيَاهُ غَيْرُ مُصَدِّقِينَ ، وَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ لَهُمَا الرُّجُوعَ بِالدَّرَكِ ، فَلَا خِيَارَ لَهُمَا فِي فَسْخِ الْبَيْعِ ، وَإِنْ جَعَلَ لَهُمَا الدَّرَكُ كَانَ لَهُمَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ ، وَكَانَا فِيهِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَفْسَخَا فَيَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَرَكِ جَمِيعِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُقِيمَا فَيَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدَرَكِ نِصْفِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَفْسَخَ أَحَدُهُمَا ، وَيُقِيمُ الْآخَرُ ، فَيَرْجِعُ الْمُقِيمُ بِدَرْكِ النِّصْفِ فَيَرْجِعُ الْفَاسِخُ بِدَرْكِ الْجَمِيعِ ، وَلَا تَتَوَفَّرُ حِصَّةُ الْفَاسِخِ عَلَى التَّرَاضِي لِأَنَّ حِصَّةَ الْفَاسِخِ تَعُودُ إِلَى مُبَايِعِهِ ، وَلَا تَعُودُ إِلَى مُبَايِعِ الرَّاضِي فَصَارَ فِيهِ بِخِلَافِ الْبَائِعِ الْوَاحِدِ ، الَّذِي لَا يَعُودُ خَصْمُهُ الْفَاسِخُ ، إِلَى مُبَايِعِ الرَّاضِي ، فَيَتَوَفَّرُ مِنْ حِصَّتِهِ عَلَى الرَّاضِي .


فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالُ الْخَامِسَةُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ فِي يَدِ أَجْنَبِيٍّ فنسبه لنفسه فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تُنْسَبَ يَدُهُ إِلَى أَحَدِ الْأَرْبَعَةِ ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ كَحُكْمِهِ لَوْ كَانَ فِي يَدِ مَنْ نَسَبَهُ إِلَيْهِ ، وَهَلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَاقِينَ أَنْ يُحَلِّفَهُ إِنْ أَكْذَبَهُ عَلَى أَنَّ يَدَهُ نَائِبَةٌ عَمَّنْ نَسَبَهُ إِلَيْهِ ، أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي وُجُوبِ الْغُرْمُ عَلَيْهِ إِنْ صَدَّقَ غَيْرَهُ ، فَإِنْ قِيلَ : بِوُجُوبِ الْغُرْمِ عَلَيْهِ مَعَ الْإِقْرَارِ ، أُحْلِفَ مَعَ الْإِنْكَارِ ، وَإِنْ قِيلَ : لَا غُرْمَ عَلَيْهِ لَمْ يَحْلِفْ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَدَّعِيَهُ لِنَفْسِهِ مِلْكًا الثوب بيد أجنبي فادعاه ملكا لنفسه ، فَدَعَوَاهُ مَرْدُودَةٌ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْبَيِّنَتَيْنِ ، لِأَنَّ إِحْدَاهُمَا تَشْهَدُ بِهِ لِزَيْدٍ وَالْأُخْرَى تَشْهَدُ بِهِ لِعَمْرٍو ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَشْهَدُ بِأَنْ لَا حَقَّ فِيهِ لِصَاحِبِ الْيَدِ ، وَلَا يُنْتَزَعُ مِنْ يَدِهِ قَبْلَ بَتِّ الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ ، لِيَتَعَيَّنَ بِالْحُكْمِ مُسْتَحَقُّ انْتِزَاعِهِ مِنْهُ ، فَصَارَتْ يَدُهُ ضَامِنَةٌ لَهُ فِي جَنَبَةِ مُسْتَحَقِّهِ ، وَقَدْ تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ فِيهِ مِلْكًا فِي حَقِّ الْبَائِعَيْنِ وَمَبِيعًا فِي حَقِّ الْمُشْتَرِيَيْنِ ، وَتَسَاوَتِ الْبَيِّنَتَانِ فِي حَقِّ الْجَنَبَتَيْنِ لِأَنَّهَا بَيَّنَتَا خَارِجٍ فَتُحْمَلُ عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ : أَحَدُهَا : إِسْقَاطُ الْبَيِّنَتَيْنِ ، وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَائِعَيْنِ خَصْمًا لِلْآخَرِ فِي مِلْكِهِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ خَصْمًا لِمُبَايِعِهِ فِي ابْتِيَاعِهِ ، فَيَتَحَالَفُ الْبَائِعَانِ عَلَى مِلْكِهِ . فَإِنْ حَلَفَا ، حُكِمَ بِهِ لَهُمَا مِلْكًا . وَإِنْ نَكَلَا جُعِلَ بَيْنَهُمَا يَدًا . وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا ، وَنَكَلَ الْآخَرُ فَهَلْ تُرَدُّ يَمِينُ نُكُولِهِ عَلَى مُدَّعِي ابْتِيَاعِهِ ؟ عَلَى

قَوْلَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي غُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ ، إِذَا أَجَابُوا إِلَى يَمِينٍ يُسْتَحَقُّ بِهَا مَالٌ نَكَلَ عَنْهَا الْمُفْلِسُ : أَحَدُهُمَا : تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُشْتَرِي إِذَا قِيلَ إِنَّهَا تُرَدُّ عَلَى الْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ قَدْ أَثْبَتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِيَمِينِهِ حَقًا لِنَفْسِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُشْتَرِي إِذَا قِيلَ : إِنَّهَا لَا تُرَدُّ عَلَى الْغُرَمَاءِ ، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمَا فِيمَا يَحْلِفَانِ عَلَيْهِ ، إِلَّا بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ خَصْمِهِمَا لَهُ ، وَلَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْلِكَ مَالًا بِيَمِينِ غَيْرِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ الثَّوْبُ مِنْ أَنْ يُحْكَمَ بِهِ لِلْبَائِعِينَ ، أَوْ لِأَحَدِهِمَا فَإِنْ حُكِمَ بِهِ لَهُمَا ، صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ مُدَّعِيًا عَلَى مُبَايِعِهِ ابْتِيَاعَ جَمِيعِهِ ، وَدَفْعَ ثَمَنِهِ ، فَإِنْ صَدَّقَهُ مُبَايِعُهُ عَلَى دَعْوَاهُ صَحَّ الْبَيْعُ فِي النِّصْفِ الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ ، وَبَطَلَ فِي نِصْفِهِ الَّذِي صَارَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ، وَمُشْتَرِيهِ بِالْخِيَارِ فِي إِمْضَائِهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ ، وَاسْتِرْجَاعِ نِصْفِهِ الْبَاقِي ، أَوْ فَسْخِهِ فِي جَمِيعِهِ ، وَاسْتِرْجَاعِ جَمِيعِ ثَمَنِهِ وَإِنْ أَكْذَبَهُ مُبَايِعُهُ فِي ابْتِيَاعِهِ ، حَلَفَ لَهُ ، وَلَا بَيْعَ بَيْنِهِمَا بَعْدَ يَمِينِهِ ، وَهَلْ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ بِثَمَنِهِ الَّذِي شَهِدَتْ بَيِّنَتُهُ بِبَيْعِهِ وَدَفْعِ ثَمَنِهِ ، أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الشَّهَادَةِ إِذَا رُدَّتْ فِي بَعْضِ مَا شَهِدَتْ بِهِ هَلْ يُوجِبُ رَدُّهَا فِي بَاقِيهِ ؟ أَحَدُهُمَا : لَا يُرَدُّ وَيُحْكَمُ لَهُ عَلَى الْبَائِعِ بِرَدِّ الثَّمَنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُرَدُّ ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْبَائِعِ فِي إِنْكَارِهِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَإِنْ حَكَمَ بِالثَّوْبِ لِأَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ بَطَلَ بَيْعُ مَنْ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ ، وَهَلْ يُرَدُّ الْمُثَمَّنُ بِالْبَيِّنَةِ إِنْ أَنْكَرَ أَمْ لَا ؟ عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَتَوَجَّهَتِ الدَّعْوَى عَلَى مَنْ حُكِمَ لَهُ بِالثَّوْبِ لِمُشْتَرِيهِ مِنْهُ فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَيْهِ ، صَحَّ الْبَيْعُ فِي جَمِيعِهِ وَلَا خِيَارَ لِمُشْتَرِيهِ وَإِنْ أَنْكَرَهُ حَلَفَ ، وَلَا بَيْعَ بَيْنِهِمَا ، وَهَلْ يُلْزِمُهُ رَدُّ الثَّمَنِ بِالْبَيِّنَةِ أَمْ لَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ ؟ فَهَذَا مَا يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْمُوجِبِ لِإِسْقَاطِ الْبَيِّنَتَيْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُوجَبُ سُقُوطُهُمَا بِالتَّعَارُضِ ، وَيُمَيَّزُ بَيْنَهُمَا بِالْقُرْعَةِ . فَأَيَّتُهُمَا قَرَعَتْ ، حُكِمَ بِهَا لِمَنْ شَهِدْتُ لَهُ بِمِلْكِ الْبَائِعِ وَبَيْعِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَفِي إِحْلَافِهِ مَعَ الْقُرْعَةِ قَوْلَانِ وَرُدَّتِ الْبَيِّنَةُ الْمَقْرُوعَةُ فِي مِلْكِ الْآخَرِ ، وَبَيْعِهِ ، وَلَمْ تَرِدْ فِيمَا شَهِدَتْ بِهِ مِنْ دَفَعَ الثَّمَنِ قَوْلًا وَاحِدًا ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَدُّهَا إِسْقَاطًا وَإِنَّمَا كَانَ تَرْجِيحًا . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : اسْتِعْمَالُ الْبَيِّنَتَيْنِ بِقَسْمِ الثَّوْبِ بِهِمَا بَيْنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ نِصْفَيْنِ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ فِي إِمْضَاءِ الْبَيْعِ فِي نِصْفِهِ بِنِصْفِ ثَمَنِهِ ، وَاسْتِرْجَاعِ بَاقِيهِ ، أَوْ فَسْخِ الْبَيْعِ فِيهِ ، وَاسْتِرْجَاعِ جَمِيعِ ثَمَنِهِ ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِيمَا شَهِدَتْ بِهِ وَإِنَّمَا أُمْضِيَتْ فِي النِّصِفِ ، لِازْدِحَامِ الْحَقَّيْنِ كَالْعَوْلِ فِي الْفَرَائِضِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا تَنَازَعَا ثَوْبًا فِي يَدِ أَحَدِهِمَا مِنْهُ ذِرَاعٌ ، وَفِي يَدِ الْآخَرِ مِنْهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ كَانَا فِي الْيَدِ سَوَاءٌ ، وَلَا يَتَرَجَّحُ مَنْ بِيَدِهِ أَكْثَرُهُ ، عَلَى مَنْ بِيَدِهِ أَقَلُّهُ ، لِأَنَّهُ لَوْ تَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِالْيَدِ لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ أَكْثَرُهُ ، أَوْ أَقَلُّهُ . وَلَوْ تَنَازَعَا دَارًا ، وَأَحَدَهُمَا فِي صَحْنِهَا وَالْآخَرُ فِي دِهْلِيزِهَا ، كَانَا فِي الْيَدِ سَوَاءٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْجَالِسُ فِي الصَّحْنِ أَحَقُّ بِالْيَدِ مِنَ الْجَالِسِ فِي الدِّهْلِيزِ . وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، لِأَنَّهُ لَوْ تَفَرَّدَ بِالْجُلُوسِ فِي الدِّهْلِيزِ كَانَتْ يَدُهُ عَلَيْهَا ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي صَحْنِهَا ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَلَى سَطْحِهَا ، وَالْآخَرُ فِي سُفْلِهَا كَانَا عِنْدَنَا فِي الْيَدِ سَوَاءٌ ، وَلَا فَرْقَ أَنْ يَكُونَ عَلَى السَّطْحِ سُتْرَةٌ حَاجِزَةٌ أَوْ لَا تَكُونَ ، أَوْ عَلَى السَّطْحِ مُمَرَّقٌ حَاجِزٌ مِنَ السُّفْلِ أَوْ لَا يَكُونُ . وَلَوْ تَنَازَعَا مَتَاعًا فِي ظَرْفٍ ، وَيَدُ أَحَدِهِمَا عَلَى الظَّرْفِ ، وَيَدُ الْآخَرِ عَلَى الْمَتَاعِ اخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْيَدِ عَلَى مَا فِي يَدِهِ ، وَلَا تَكُونُ الْيَدُ عَلَى الظَّرْفِ مُشَارِكَةٌ لِلْيَدِ عَلَى الْمَتَاعِ ، وَلَا الْيَدُ الَّتِي عَلَى الْمَتَاعِ مُشَارِكَةٌ لِلْيَدِ عَلَى الظَّرْفِ ، لِانْفِصَالِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ ، وَلِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَتَاعُ لِوَاحِدٍ وَالظَّرْفُ لِآخَرَ . وَلَوْ تَنَازَعَا عَبْدًا ، وَيَدُ أَحَدِهِمَا عَلَى ثَوْبِهِ ، وَيَدُ الْآخَرِ عَلَى ثَوْبِهِ كَانَتِ الْيَدُ عَلَى الْعَبْدِ يَدًا عَلَى الثَّوْبِ وَالْعَبْدِ ، لِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ عَلَى الثَّوْبِ أَقْوَى ، فَصَارَتِ الْيَدُ عَلَى الْعَبْدِ أَقْوَى ، وَلَا يَكُونُ لِصَاحِبِ الْيَدِ عَلَى الثَّوْبِ يَدٌ عَلَى الْعَبْدِ ، وَلَا عَلَى الثَّوْبِ ، لِأَنَّ لِلْعَبْدِ عَلَى الثَّوْبِ يَدًا وَتَصَرُّفًا ، وَلِمُمْسِكِ الثَّوْبِ يَدٌ مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ ، وَلَوْ تَنَازَعَا دَابَّةً أَحَدُهُمَا رَاكِبُهَا وَالْآخِرُ قَائِدُهَا ، فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تَكُونُ لِرَاكِبِهَا دُونَ قَائِدِهَا ، لِأَنَّهُ مَعَ الْيَدِ الْمُشْتَرِكَةِ مُخْتَصٌّ بِالتَّصَرُّفِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : هُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي الْيَدِ عَلَيْهَا ، لِأَنَّ قَوْدَهَا تَصَرُّفٌ كَالرُّكُوبِ فَاسْتَوَيَا ، وَلَوْ تَنَازَعَا سَفِينَةً أَحَدُهُمَا مُمْسِكٌ بِرِبَاطِهَا ، وَالْآخَرُ مُمْسِكٌ بِخَشَبِهَا ، كَانَتِ الْيَدُ لِمُمْسِكِ الْخَشَبِ ، دُونَ مُمْسِكِ الرِّبَاطِ ، لِأَنَّ الْخَشَبَ مِنَ السَّفِينَةِ وَالرِّبَاطَ لَيْسَ مِنْهَا ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا رَاكِبَهَا ، وَالْآخَرُ مُمْسِكُهَا ، كَانَتِ الْيَدُ لِلرَّاكِبِ ، دُونَ الْمُمْسِكِ لِأَنَّ لِلرَّاكِبِ تَصَرُّفًا لَيْسَ لِلْمُمْسِكِ . وَلَوْ تَنَازَعَا دَابَّةً فِي إِصْطَبْلِ أَحَدِهِمَا ، وَأَكْذَبَهُمَا عَلَيْهَا ، فَإِنْ كَانَ فِي الْإِصْطَبْلِ دَوَابٌّ لِغَيْرِ مَالِكِهِ ، اسْتَوَيَا فِي الْيَدِ عَلَيْهَا ، لِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الْإِصْطَبْلِ قَدْ صَارَ مُشْتَرَكًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْإِصْطَبْلِ دَوَابٌّ غَيْرُ دَوَابِّ صَاحِبِهِ ، كَانَتِ الْيَدُ لِصَاحِبِ الْإِصْطَبْلِ خَاصَّةً لِتَفَرُّدِهِ بِالتَّصَرُّفِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ كَانَ الثَوْبُ فِي يَدَيْ رَجُلٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ

مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ثَوْبُهُ بَاعَهُ مِنَ الَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَإِنَهُ يَقْضِي بِهِ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ نِصْفَيْنِ وَيَقْضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : يَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ : لِأَنَّهُ قَدْ يَشْتَرِيهِ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَقْبِضُهُ ثُمَّ يَمْلِكُهُ الْآخَرُ وَيَشْتَرِيهِ مِنْهُ وَيَقْبِضُهُ ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ ثَمَنَانِ ، وَقَدْ قَالَ أَيْضًا لَوْ شَهِدَ شُهُودُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى إِقْرَارِ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ اشْتَرَاهُ أَوْ أَقَرَّ بِالشِّرَاءِ قَضَى عَلَيْهِ بِالثَمَنَينِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : سَوَاءٌ إِذَا شَهِدُوا أَنَّهُ اشْتَرَى أَوْ أَقَرَّ بِالشَّرَاءِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا مُشْتَرٍ وَبَائِعَانِ وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ بِيَدِهِ ثَوْبٌ تَنَازَعَهُ رَجُلَانِ ، فَقَالَ لَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، هَذَا ثَوْبِي بِعْتُهُ عَلَيْكَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَسَلَّمْتُهُ إِلَيْكَ وَلِي عَلَيْكَ ثَمَنُهُ ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ ، فَلَا تَخْلُو بَيِّنَتَاهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ تَارِيخُهُمَا مُخْتَلِفًا ، فَتَشْهَدُ بَيِّنَةُ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ بَاعَهُ عَلَيْهِ فِي رَجَبٍ ، وَتَشْهَدُ بَيِّنَةُ الْآخَرِ أَنَّهُ بَاعَهُ عَلَيْهِ فِي شَعْبَانَ ، فَلَا تَعَارُضَ فِي الْبَيِّنَتَيْنِ ، لِإِمْكَانِ حَمْلِهِمَا عَلَى الصِّحَّةِ ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا فِي رَجَبٍ ، وَيَبِيعَهُ عَلَى الْآخَرِ ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَشْتَرِيهِ مِنْهُ ، فَيَصِيرُ مُشْتَرِيًا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَائِعَيْنِ . فِي وَقْتَيْنِ بِثَمَنَيْنِ ، وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ لَزِمَهُ الثَّمَنَانِ مِنْ غَيْرِ تَكَاذُبٍ وَلَا تَعَارُضٍ ، كَمَا لَوِ ادَّعَتِ امْرَأَةٌ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ نَكَحَهَا فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ ، ثُمَّ نَكَحَهَا فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ عَلَى صَدَاقِ أَلْفَيْنِ ، وَأَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النِّكَاحَيْنِ ، يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالصَّدَاقَيْنِ وَلَا تَتَعَارَضُ فِيهِ الْبَيِّنَتَانِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَزَوَّجُهَا فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ، وَيُخَالِفُهَا فِيهِ بَعْدَ دُخُولِهِ بِهَا ، ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ فَيَصِحُّ الْعَقْدَانِ وَيَلْزَمُهُ الصَّدَاقَانِ . كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا : يَصِحُّ فِيهِ الْبَيِّعَانِ ، وَيَلْزَمُهُ الثَّمَنَانِ ، بِإِمْكَانِ الصِّحَّةِ وَامْتِنَاعِ التَّنَافِي ، وَإِذَا أَمْكَنَ حَمْلُ الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى الصِّحَّةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْمِلَا عَلَى التَّنَافِي وَالتَّضَادِّ .

فَصْلٌ : وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ تَارِيخُ الْبَيِّنَتَيْنِ وَاحِدًا ، فَتَشْهَدُ بَيِّنَةُ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ بَاعَ عَلَيْهِ ثَوْبَهُ هَذَا بِأَلْفٍ ، مَعَ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ السَّبْتِ ، وَتَشْهَدُ بَيِّنَةُ الْآخَرِ أَنَّهُ بَاعَ عَلَيْهِ ثَوْبَهُ هَذَا بِأَلْفٍ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ بِعَيْنِهِ ، مَعَ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ السَّبْتِ ، فَقَدْ تَكَاذَبَتِ الْبَيِّنَتَانِ فَتَعَارَضَتْ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ الثَّوْبِ مِلْكًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَائِعَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، وَبَيْعُهُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، فَكَانَ تَعَارُضُهُمَا مَعَ التَّكَاذُبِ مَحْمُولًا عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِسْقَاطُهُمَا بِالتَّعَارُضِ وَلَا يَتَعَيَّنُ بِهِ حَرَجُ أَحَدِهِمَا بِالتَّكَاذُبِ ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ إِسْقَاطِهِمَا إِلَى قَوْلِ صَاحِبِ الْيَدِ ، فَإِنْ كَذَّبَهُمَا حَلَفَ لَهُمَا ، وَبَرِئَ مِنْ مُطَالَبَتِهِمَا ، وَإِنْ

صَدَّقَهَا ، حُكِمَ عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِثَمَنِهِ ، فَيَلْزَمُهُ لَهُمَا ثَمَنَانِ ، لِإِمْكَانِ ابْتِيَاعِهِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَإِنْ صَدَّقَ أَحَدَهُمَا ، وَكَذَّبَ الْآخَرَ ، لَزِمَهُ ثَمَنُهُ لِلْمُصَدِّقِ ، وَحَلَفَ الْمُكَذِّبُ ، وَبَرِئَ بِيَمِينِهِ ، وَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا رُدَّتْ عَلَى الْمُكَذِّبِ ، وَحُكِمَ لَهُ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ إِذَا حَلَفَ ، فَيَصِيرُ مُلْتَزِمًا لِثَمَنِهِ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ بِإِقْرَارِهِ ، وَمُلْتَزِمًا بِثَمَنِهِ فِي حَقِّ الثَّانِي بِيَمِينِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : الْإِقْرَاعُ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ ، وَالْحُكْمُ لِمَنْ قَرَعَ مِنْهُمَا ، وَيَبْطُلُ حُكْمُ الْمَقْرُوعَةِ بِالْقَارِعَةِ ، وَفِي إِحْلَافِ مَنْ قَرَعَتْ بَيِّنَتُهُ قَوْلَانِ : يَحْلِفُ فِي أَحَدِهِمَا إِنْ جُعِلَتِ الْقُرْعَةُ مُرَجِّحَةً لِلدَّعْوَى ، وَلَا يَحْلِفُ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ إِنْ جُعِلَتْ مُرَجِّحَةً لِلْبَيِّنَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : اسْتِعْمَالُ الْبَيِّنَتَيْنِ ، وَقَسْمُ الثَّوْبِ الْمَبِيعِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، فَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَائِعًا لِنِصْفِهُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ ، فَيَكُونُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا ، كَمَا جُعِلَ الثَّوْبُ بَيْنَهُمَا ، وَلَا خِيَارَ لِمُشْتَرِيهِ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لَمْ تَتَبَعَّضْ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا تَبَعَّضَتْ فِي حَقِّ بَائِعِهِ فَإِنْ طَلَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَائِعَيْنِ ، إِحْلَافَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ اسْتِعْمَالِ الْبَيِّنَتَيْنِ كَانَ لَهُ إِحْلَافُهُ ، لِأَنَّهُ لَوْ صَدَّقَهُ لَزِمَهُ دَفْعُ الْبَاقِي مِنْ ثَمَنِهِ .

فَصْلٌ : وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ تَكُونَ الْبَيِّنَتَانِ مُطْلَقَتَيْنِ ، أَوْ إِحْدَاهُمَا ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ إِطْلَاقُهُمَا عَلَى التَّعَارُضِ ، وَيُحْتَمَلَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْإِمْكَانِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ هَذَا الْإِطْلَاقُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ : أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْإِمْكَانِ ، وَيُقْضَى عَلَى الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنَيْنِ ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُهُمَا فِي وَقْتَيْنِ . وَإِذَا أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُ الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى الصِّحَّةِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْمِلَا عَلَى التَّعَارُضِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُحْمَلَ إِطْلَاقُهُمَا عَلَى التَّعَارُضِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي فَلَا يُضْمَنُ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ ، وَإِذَا حُكِمَ بِتَعَارُضِهِمَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ : أَحَدُهَا : إِسْقَاطُهَا . وَالثَّانِي : الْإِقْرَاعُ بَيْنَهُمَا . وَالثَّالِثُ : اسْتِعْمَالُهُمَا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِيجَابُ الثَّمَنَيْنِ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ مَعَ اخْتِلَافِ الْوَقْتَيْنِ ، فَهُوَ صَحِيحٌ مُسَلَّمٌ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ مَعَ اجْتِمَاعِ الْعَقْدَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَهُوَ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ لِامْتِنَاعِهِ . وَإِنْ أَرَادَ بِهِ مَعَ الْإِطْلَاقِ ، فَهُوَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ ، وَإِنْ تَوَرَّعَ فِيهِ .

وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي : فَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ بِمُشَاهَدَةِ الْعَقْدَيْنِ ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالْعَقْدَيْنِ ، وَلَوْ قَامَتِ الْبَيِّنَتَانِ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالْعَقْدَيْنِ ، لَزِمَهُ الثَّمَنَانِ ، سَوَاءٌ أَقَرَّ بِهِمَا فِي وَقْتٍ ، أَوْ وَقْتَيْنِ ، كَذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِمُشَاهَدَةِ الْعَقْدَيْنِ تَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مُوجِبَةً لِالْتِزَامِ الثَّمَنَيْنِ ، سَوَاءٌ كَانَتَا فِي وَقْتٍ ، أَوْ وَقْتَيْنِ ، وَهَذَا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ فَاسِدٌ ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقِرَّ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ بِعَقْدَيْنِ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُبَاشِرَ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ فِعْلُ عَقْدَيْنِ ، فَصَحَّ الْإِقْرَارُ بِهِمَا فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ ، لِإِمْكَانِهِ ، وَبَطَلَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ ، لِامْتِنَاعِهِ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْإِقْرَارِ تُعَارِضٌ فِي مَوْضِعٍ ، وَهُوَ أَنْ تَتَّفِقَ الشَّهَادَتَانِ عَلَى أَنَّهُ أَقَرَّ مَرَّةً وَاحِدَةً لِوَاحِدٍ ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِيمَنْ أَقَرَّ لَهُ ، فَشَهِدَتْ إِحْدَاهُمَا أَنَّ إِقْرَارَهُ كَانَ لِزَيْدٍ ، وَشَهِدَتِ الْأُخْرَى أَنَّ إِقْرَارَهُ كَانَ لِعَمْرٍو ، فَتَتَعَارَضُ الشَّهَادَتَانِ فِي الْإِقْرَارِ ، كَمَا تَعَارَضَتْ فِي الْعَقْدِ ، فَيُحْمَلُ تَعَارُضُهُمَا عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ أَقَامَ رَجُلٌ بَيِّنَةً أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ هَذَا الْعَبْدَ الَذِي فِي يَدَيْهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَأَقَامَ الْعَبْدُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ سَيِّدُهُ الَذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ أَعَتَقَهُ وَلَمْ يُوَقِّتِ الشُّهُودُ ، فَإِنِّي أُبْطِلُ الْبَيِّنَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا تَضَادَّتَا وَأَحْلَفَهُ مَا بَاعَهُ وَأَحْلَفَهُ مَا أَعْتَقَهُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ : ) قَدْ أَبْطَلَ الْبَيِّنَتَيْنِ فِيمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَا فِيهِ صَادِقَتَيْنِ ، فَالْقِيَاسُ عِنْدِي أَنَّ الْعَبْدَ فِي يَدَيْ نَفْسِهِ بِالْحُرِّيَّةِ كَمُشْتَرٍ قَبَضَ مِنَ الْبَائِعِ ، فَهُوَ أَحَقُّ لِقُوَةِ السَّبَبِ ، كَمَا إِذَا أَقَامَا بَيِّنَةً وَالشَّيْءُ فِي يَدَيْ أَحَدِهِمَا ، كَانَ أَوْلَى بِهِ لِقُوَّةِ السَّبَبِ ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ فِي مِلْكِ سَيِّدِهِ ، ادَّعَاهُ رَجُلٌ أَنَّهُ ابْتَاعَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ دَفَعَهَا إِلَيْهِ ، وَأَقَامَ بِهِ بَيِّنَةً ، وَادَّعَى الْعَبْدُ أَنَّ سَيِّدَهُ أَعْتَقَهُ فِي مِلْكِهِ ، وَأَقَامَ بِهِ بَيِّنَةً فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فِي الْبَيِّنَتَيْنِ تَارِيخٌ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى ، فَيُحْكَمُ بِشَهَادَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ دُونَ الْمُتَأَخِّرَةِ ، فَإِنْ تَقَدَّمَ الْبَيْعُ عَلَى الْعِتْقِ ، حُكِمَ بِهِ مَبِيعًا وَأُبْطِلَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَقًا ، لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ بِالْبَيْعِ ، وَإِنْ تَقَدَّمَ الْعِتْقُ عَلَى الْبَيْعِ ، حُكِمَ بِعِتْقِهِ وَبَطَلَ بَيْعُهُ ، لِأَنَّهُ بَاعَهُ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ ، بِالْعِتْقِ ، وَأَخَذَ بِرَدِّ الثَّمَنِ عَلَى مُشْتَرِيهِ ، لِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِعِتْقِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْبَيِّنَتَيْنِ بَيَانٌ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى ، إِمَّا لِإِطْلَاقِهِمَا ، وَإِمَّا لِتَارِيخِ إِحْدَاهِمَا ، وَإِطْلَاقِ الْأُخْرَى ، وَإِمَّا لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي التَّارِيخِ عَلَى وَقْتٍ وَاحِدٍ فَتَضَادَّ اجْتِمَاعُهُمَا فِيهِ ، فَتَصِيرُ الْبَيِّنَتَانِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ مُتَعَارِضَتَيْنِ وَهِيَ فِي اجْتِمَاعِ التَّارِيخِ مُتَكَاذِبَتَيْنِ ، وَفِي إِطْلَاقِهِ غَيْرُ مُتَكَاذِبَتَيْنِ ،

وَالْحُكْمُ فِي تَعَارُضِهِمَا ، سَوَاءٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا بَيَانٌ ، وَإِذَا كَانَتْ عَلَى هَذَا التَّعَارُضِ . فَلِلْعَبْدِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ سَيِّدِهِ . وَالثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ مُدَّعِي الشِّرَاءِ ، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ سَيِّدِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ تَقْدِيمُهُ لِإِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ مُرَجِّحًا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ ، تَتَرَجَّحُ الْبَيِّنَةُ بِتَصْدِيقِهِ ، لِأَنَّهُ ذُو يَدٍ مَالِكَةٍ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ صَدَّقَ بَيِّنَةَ الْمُشْتَرِي عَلَى ابْتِيَاعِهِ ، حُكِمَ بِهِ مَبِيعًا ، وَسَقَطَتْ بَيِّنَةُ عِتْقِهِ ، وَلَا يَمِينَ لِلْعَبْدِ عَلَى سَيِّدِهِ ، لِأَنَّهُ لَوِ اعْتَرَفَ لَهُ بِالْعِتْقِ بَعْدَ بَيْعِهِ ، لَمْ يُغَرَّمْ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَحْلِفَ وَإِنْ صَدَّقَ بَيِّنَةَ الْعَبْدِ عَلَى عِتْقِهِ ، حُكِمَ بِعِتْقِهِ ، وَسَقَطَتْ بَيِّنَةُ بَيْعِهِ ، وَهَلْ لِمُشْتَرِيهِ أَنْ يَرْجِعَ بِثَمَنِهِ بِبَيِّنَتِهِ بَعْدَ رَدِّهَا فِي بَيْعِهِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَرْجِعُ بِثَمَنِهِ إِذَا قِيلَ : إِنَّ رَدَّهَا فِي الْبَعْضِ لَا يُوجِبُ رَدَّهَا فِي الْكُلِّ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَمِينَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ فِي إِنْكَارِهِ لِبَيْعِهِ ، لِأَنَّهُ لَوِ اعْتَرَفَ بَعْدَ الْعِتْقِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا رَدُّ الثَّمَنِ ، وَقَدْ رُدَّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِثَمَنِهِ بِالْبَيِّنَةِ إِذَا قِيلَ : إِنْ رَدَّ الْبَيِّنَةِ فِي الْبَعْضِ ، مُوجِبٌ لِرَدِّهَا فِي الْكُلِّ ، فَعَلَى هَذَا يَسْتَحِقُّ الْمُشْتَرِي إِحْلَافُ الْبَائِعِ عَلَى إِنْكَارِهِ ، لِأَنَّهُ لَوِ اعْتَرَفَ لَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ ، لَزِمَهُ رَدُّ الثَّمَنِ لَأَنَّ الْيَمِينَ تَسْتَحِقُّ فِي الْإِنْكَارِ إِذَا وَجَبَ الْعِوَضُ بِالْإِقْرَارِ وَيَسْقُطُ فِي الْإِنْكَارِ إِنْ سَقَطَ الْغُرْمُ بِالْإِقْرَارِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ ، وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا تَتَرَجَّحُ وَاحِدَةٌ مِنَ الْبَيِّنَتَيْنِ بِتَصْدِيقِ الْبَائِعِ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَشْهَدُ بِزَوَالِ مِلْكِهِ ، وَرَفْعِ يَدِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَتَحَقَّقُ تَعَارُضُ الْبَيِّنَتَيْنِ . وَقَالَ الْمُزَنِيُّ : لَا تَعَارُضَ فِيهَا ، وَيُحْكَمُ بِبَيِّنَةِ الْعِتْقِ ، لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي يَدِ نَفْسِهِ ، فَصَارَتْ يَمِينُهُ بَيِّنَةُ دَاخِلٍ ، وَبَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي بَيِّنَةُ خَارِجٍ ؟ فَقَضَى بِبَيِّنَةِ الدَّاخِلِ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ . وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ لَهُ يَدٌ عَلَى نَفْسِهِ ، لِأَنَّ الْيَدَ عَلَيْهِ ، فَامْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ الْيَدُ لَهُ ، أَلَا تَرَاهُ لَوِ ادَّعَاهُ عَلَى سَيِّدِهِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ ، وَأَنْكَرَهُ السَّيِّدُ لو أدعى العبد على سيده أنه أعتقه لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى السَّيِّدِ ، وَلَوْ كَانَ فِي يَدِ نَفْسِهِ ، قُبِلَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ ، أَوَ لَا تَرَى لَوْ تَنَازَعَ ابْتِيَاعَهُ رَجُلَانِ ، فَصَدَّقَ أَحَدَهُمَا لَمْ يُؤَثِّرْ تَصْدِيقُهُ وَلَوْ كَانَتْ لَهُ يَدٌ عَلَى نَفْسِهِ لَكَانَ تَصْدِيقُهُ مُؤَثِّرًا ، وَأَمَّا الْحُرُّ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، هَلْ تَكُونُ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ يَدٌ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَكُونُ لَهُ يَدٌ عَلَى نَفْسِهِ ، إِذْ لَيْسَ عَلَيْهِ يَدٌ لِغَيْرِهِ . أَوَلَا تَرَى أَنَّ مَنِ ادَّعَى لَقِيطًا عَبْدًا ، فَاعْتَرَفَ لَهُ بِالرِّقِّ ، كَانَ عَبْدًا لَهُ وَلَوْ أَنْكَرَهُ

كَانَ حُرًّا ، وَلَمْ يَكُنْ عَبْدًا ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ نَفْسِهِ لَمَا أَثَّرَ إِقْرَارُهُ ، وَإِنْكَارُهُ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا . أَنَّهُ لَا يَدَ لِلْحُرِّ عَلَى نَفْسِهِ ، لِأَنَّ الْيَدَ تَسْتَقِرُّ عَلَى الْأَمْوَالِ وَلَا حُكْمَ لَهَا فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ يَدٌ ، كَمَا لَمْ تَكُنْ لِغَيْرِهِ عَلَيْهِ يَدٌ ، وَلَيْسَ يُقْبَلُ قَوْلُ اللَّقِيطِ ، لِأَنَّ لَهُ يَدًا عَلَى نَفْسِهِ ، وَلَكِنْ لِنُفُوذِ إِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ مَا قَالُوهُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ أَنْ لَا يَدَ لِلْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ ، صَحَّ فِيهِ تَعَارُضُ الْبَيِّنَتَيْنِ وَفِي تَعَارُضِهِمَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهُمَا : إِسْقَاطُهُمَا ، وَيَرْجِعُ إِلَى السَّيِّدِ فِي تَكْذِيبِهِمَا ، أَوْ تَصْدِيقِ أَحَدِهِمَا فَإِنْ كَذَّبَهُمَا ، حَلَفَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَكَانَ الْعَبْدُ مَوْقُوفًا عَلَى مِلْكِهِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الثَّمَنِ بِالْبَيِّنَةِ ، لِأَنَّهَا قَدْ أُسْقِطَتْ فِي كُلِّ مَا شَهِدَتْ بِهِ ، وَإِنْ صَدَّقَ الْعَبْدَ دُونَ الْمُشْتَرِي ، عُتِقَ الْعَبْدُ ، وَحَلَفَ الْمُشْتَرِي ، لِأَنَّهُ لَوْ صَدَّقَهُ بَعْدَ تَصْدِيقِ الْعَبْدِ ، غَرِمَ لَهُ الثَّمَنَ ، وَإِنْ صَدَّقَ الْمُشْتَرِيَ مَلَكَ الْعَبْدَ بِالشِّرَاءِ ، وَلَمْ يَحْلِفْ لِلْعَبْدِ لِأَنَّهُ لَوْ صَدَّقَهُ بَعْدَ تَصْدِيقِ الْمُشْتَرِي ، لَمْ يَلْزَمْهُ غُرْمٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : الْإِقْرَاعُ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ وَالْقُرْعَةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوِيَّةٌ ، لِأَنَّهَا يَتَمَيَّزُ بِهَا حُرِّيَّةٌ ، وَرِقٌّ . فَعَلَى هَذَا إِنْ قَرَعَتْ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي حُكِمَ لَهُ بِابْتِيَاعِهِ ، وَفِي إِحْلَافِهِ مَعَ قُرْعَتِهِ قَوْلَانِ : إِنْ قَرَعَتْ بَيِّنَةُ الْعَبْدِ ، حُكِمَ بِعِتْقِهِ ، وَلَزِمَهُ رَدُّ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي ، لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ لَمْ تَسْقُطْ وَإِنَّمَا تَرَجَّحَ غَيْرُهَا فَوُقِفَتْ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : اسْتِعْمَالُ الْبَيِّنَتَيْنِ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ تَخْرِيجِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَصِحُّ تَخْرِيجُهُ ، لِأَنَّ سِرَايَةِ الْعِتْقِ تُسْقِطُ حُكْمَ الْقِسْمَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَصِحُّ تَخْرِيجُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ؟ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُمَا لَا يَسْقُطُ بِمَا يَحْدُثُ عَنِ الْقِسْمَةِ بِهِمَا ، فَعَلَى هَذَا يُجْعَلُ نِصْفُهُ مَبِيعًا عَلَى الْمُشْتَرِي بِنِصْفِ الثَّمَنِ ، وَيَكُونُ فِيهِ لِأَجْلِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ فِيهِ بِنِصْفِ ثَمَنِهِ ، وَاسْتِرْجَاعِ نِصْفِهِ الْبَاقِي ، وَبَيْنَ فَسْخِهِ ، وَاسْتِرْجَاعِ جَمِيعِ ثَمَنِهِ ، فَإِنْ فَسَخَ ، حُكِمَ بِعِتْقِهِ عَلَى سَيِّدِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ عَادَ إِلَى مِلْكِهِ ، وَقَدْ شَهِدَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِعِتْقِهِ ، وَإِنَّمَا جُعِلَ نِصْفُهُ مَبِيعًا لِمُزَاحَمَةِ الْمُشْتَرِي بِبَيِّنَتِهِ ، فَإِذَا زَالَتْ مُزَاحَمَتُهُ بِفَسْخِهِ زَالَ سَبَبُ التَّبْعِيضِ فَعُتِقَ الْجَمِيعُ ، وَإِنْ أَقَامَ عَلَى الْبَيْعِ فِي نِصْفِهِ وَلَمْ يَفْسَخِ ، اعْتُبِرَ حَالُ الْبَائِعِ ، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بِقِيمَةِ نِصْفِهِ لَمْ يَسْرِ

الْعِتْقُ إِلَى نِصْفِهِ الْمَبِيعِ ، وَكَانَ عَلَى رِقِّهِ لِمُشْتَرِيهِ ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بِقِيمَتِهِ ، فَفِي سِرَايَةِ عِتْقِهِ وَوُجُوبِ تَقْوِيمِهِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُقَوَّمُ عَلَيْهِ وَيَسْرِي الْعِتْقُ إِلَى جَمِيعِهِ ، لِأَنَّهُ لَوْ عَادَ إِلَيْهِ بِالْفَسْخِ عُتِقَ عَلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَقُومَ عَلَيْهِ ، وَلَا يَسْرِي الْعِتْقُ إِلَيْهِ ، لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِعِتْقِهِ ، وَإِنَّمَا أُخِذَ جَبْرًا بِعِتْقِ مِلْكِهِ ، فَلَمْ يَسِرْ إِلَى غَيْرِ مِلْكِهِ وَصَارَ فِي عَوْدِ النِّصْفِ الْمَبِيعِ بِالْفَسْخِ كَمَنْ وَرِثَ أَبَاهُ ، لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فِي عَوْدِهِ إِلَيْهِ بِالْفَسْخِ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ مِلْكٌ ، فَعُتِقَ عَلَيْهِ الْجَمِيعُ مِنْ غَيْرِ تَبْعِيضٍ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ ، وَكَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَفِي تَرْجِيحِ بَيِّنَتِهِ بِيَدِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُرَجَّحُ بِيَدِهِ ، لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ بَيِّنَةُ دَاخِلٍ ، وَبَيِّنَةُ الْعَبْدِ بَيِّنَةُ خَارِجٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَقْضِيَ بِبَيِّنَةِ الْمُشْتَرِي فِي ابْتِيَاعِ جَمِيعِهِ ، وَتَبْطُلُ بَيِّنَةُ الْعِتْقِ ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ إِحْلَافُ سَيِّدِهِ ، لِأَنَّهُ لَا غُرْمَ عَلَيْهِ لَوْ أَقَرَّ لَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تُرَجَّحُ بَيِّنَتُهُ بِيَدِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَضَافَ مِلْكَهُ إِلَى سَبَبِهِ ، فَزَالَ بِذِكْرِ السَّبَبِ حُكْمُ الْيَدِ ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ إِذَا تَنَازَعَ رَجُلَانِ فِي ابْتِيَاعِ عَبْدٍ مِنْ رَجُلٍ ، وَأَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْتَاعَهُ مِنْهُ ، وَقَبَضَهُ ، وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْتَاعَهُ مِنْهُ وَلَمْ يَقُولُوا : إِنَّهُ قَبَضَهُ ، فَإِنْ رُجِّحَتِ الْبَيِّنَةُ بِالْيَدِ رُجِّحَتْ بِالْقَبْضِ ، وَإِنْ لَمْ تُرَجَّحْ بِالْيَدِ ، لَمْ تُرَجَّحْ بِالْقَبْضِ وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهَا تُرَجَّحُ بِالْقَبْضِ ، لِأَنَّ الْبَيْعَ بِالْقَبْضِ مُنْبَرِمٌ وَقَبْلَ الْقَبْضِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ سَلَامَةِ الْمَبِيعِ ، فَيُبْرَمُ ، أَوْ تَلَفٍ ، فَيَبْطُلُ ، فَكَانَ تَرْجِيحُهُ بِالْقَبْضِ دَلِيلًا عَلَى تَرْجِيحِهِ بِالْيَدِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا أَقْبَلُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِنْتُ أَمَتِهِ حَتَّى يَقُولُوا وَلَدْتُهَا فِي مِلْكِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ ادَّعَى جَارِيَةً فِي يَدِ غَيْرِهِ أَنَّهَا بِنْتُ أَمَتِهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهَا بِنْتُ أَمَتِهِ لَمْ يُقْضَ لَهُ بِمِلْكِهَا ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَلِدَهَا الْأُمُّ قَبْلَ أَنْ تُمَلَّكَ الْأُمُّ ، وَهَكَذَا لَوِ ادَّعَى ثَمَرَةً ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا ثَمَرَةُ نَخْلَتِهِ ، لَمْ يُقْضَ لَهُ بِمِلْكِ التَّمْرَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِلْكُ النَّخْلَةِ بَعْدَ حُدُوثِ الثَّمَرَةِ . وَهَكَذَا لَوِ ادَّعَى صُوفًا ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مِنْ صُوفِ غَنَمِهِ ، لَمْ يُقْضَ لَهُ بِالصُّوفِ لِجَوَازِ أَنْ يَمْلِكَ الْغَنَمَ بَعْدَ جِزَازِ الصُّوفِ ، فَصَارَتِ الْبَيِّنَةُ غَيْرَ مُثْبَتَةٍ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُقْضَ بِهَا فَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهَا بِنْتُ أَمَتِهِ وَلَدَتْهَا فِي مِلْكِهِ ، وَفِي الثَّمَرَةِ أَنَّهَا ثَمَرَةُ نَخْلَتِهِ أَثْمَرَتْهَا فِي

مِلْكِهِ ، وَفِي الصُّوفِ أَنَّهُ مِنْ غَنِمَهُ جُزَّ فِي مِلْكِهِ ، قُضِيَ لَهُ بِمِلْكِ الْجَارِيَةِ وَالثَّمَرَةِ ، وَالصُّوفِ لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ أَصْلًا ، مَلَكَ مَا حَدَثَ عَنْهُ مِنَ النَّمَاءِ . أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ يَسْتَحِقُّ نَمَاءَ مُلْكِهِ مَعَ اسْتِرْجَاعِ أَصْلِهِ ، فَصَارَتِ الشَّهَادَةُ بِهَذَا شَهَادَةٌ بِالْمِلْكِ وَسَبَبُهُ ، فَكَانَتْ أَوْكَدَ مِنَ الشَّهَادَةِ ، بِمُجَرَّدِ الْمِلْكِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذِهِ شَهَادَةٌ بِمِلْكٍ مُتَقَدِّمٍ ، وَلَيْسَتْ شَهَادَةً بِمِلْكٍ فِي الْحَالِ ، فَصَارَ كَشَهَادَتِهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْجَارِيَةَ كَانَ مَالِكًا لَهَا فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ ، فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ بِمِلْكِهَا ، فَكَذَلِكَ فِي الْوِلَادَةِ . قِيلَ : قَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِقَدِيمِ الْمِلْكِ لَا تُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْحَالِ ، وَالشَّهَادَةَ بِقَدِيمِ الْوِلَادَةِ وَالنِّتَاجِ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْحَالِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي اخْتِلَافِ النَّصَّيْنِ مَعَ تَشَابُهِ الْأَمْرَيْنِ فَكَانَ الْبُوَيْطِيُّ ، وَابْنُ سُرَيْجٍ ، يَحْمِلَانِهِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُحْكَمُ بِالْمِلْكِ فِي الشَّهَادَةِ بِقَدِيمِ الْمِلْكِ ، وَالشَّهَادَةِ بِالْوَلَدِ ، وَالنِّتَاجِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي النِّتَاجِ ، اسْتِصْحَابًا لِثُبُوتِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ لَهُ بِالْمِلْكِ فِي الشَّهَادَةِ بِقَدِيمِ الْمِلْكِ ، وَالشَّهَادَةُ بِالْوَلَدِ ، وَالنِّتَاجِ ، عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الشَّهَادَةِ بِقَدِيمِ الْمِلْكِ ، لِأَنَّ الْمِلْكَ الْمُتَقَدِّمَ قَدْ يَزُولُ بِأَسْبَابٍ فَلَمْ تُوجِبْ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ . وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ ، يَمْنَعُونَ مِنْ تَخْرِيجِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَيَحْمِلُونَ جَوَابَ الشَّافِعِيِّ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ، فَيَحْكُمُونَ لَهُ بِمِلْكِ الْوَلَدِ وَالنِّتَاجِ ، إِذَا شَهِدُوا لَهُ بِحُدُوثِ الْوِلَادَةِ وَالنِّتَاجِ فِي مِلْكِهِ ، وَلَا يَحْكُمُونَ لَهُ بِمِلْكِهِمَا ، إِذَا شَهِدُوا لَهُ بِقَدِيمٍ مِلْكَهُ ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ شَهِدُوا فِي الْوِلَادَةِ وَالنِّتَاجِ بِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ ، وَنَمَاءُ مِلْكِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ ، كَمَا لَوْ شَهِدُوا لَهُ بِغَصْبِ مَاشِيَةٍ نَتَجَتْ ، وَنَخْلٍ أَثْمَرَتْ ، مَلَكَ بِهِ النِّتَاجَ وَالثَّمَرَةَ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ شَهَادَتُهُمْ بِقَدِيمِ الْمِلْكِ ، لِتُنْقَلَ أَحْوَالُهُ مِنْ مَالِكٍ إِلَى مَالِكٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ النِّتَاجَ لَمَّا لَمْ يَتَقَدَّمُهُ فِيهِ مَالِكٌ ، صَارَ فِي تَمَلُّكِهِ أَصْلًا ، وَقَدِيمُ الْمِلْكِ ، لَمَّا تَقَدَّمَهُ فِيهِ مَالِكٌ ، صَارَ فِي تَمَلُّكِهِ فَرْعًا وَحُكْمُ الْأَصْلِ أَقْوَى مِنْ حُكْمِ الْفَرْعِ . فَإِنْ قِيلَ : فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَحْدُثَ الْوَلَدُ لِغَيْرِ مَالِكِ الْأُمِّ ، كَالْمُوصِي إِذَا وَصَّى بِأَمَتِهِ لِزَيْدٍ وَبِحَمْلِهَا لِعَمْرٍو ، فَإِنَّهَا تَلِدُهُ فِي مِلْكِهِ ، وَلَيْسَ يَمْلِكُهُ . قِيلَ : هَذَا نَادِرٌ أَخْرَجَتْهُ الْوَصِيَّةُ عَنْ حُكْمِ أَصْلِهِ ، فَصَارَ كَالِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي لَا يَمْنَعُ جَوَازُهُ مِنِ اسْتِعْمَالِ أَصْلِهِ عَلَى الْعُمُومِ قَبْلَ وُرُودِهِ .



فَصْلٌ : وَإِذَا شَهِدُوا أَنَّ هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِنْتُ أَمَتِهِ ، وَلَدَتْهَا بَعْدَ مِلْكِهِ ، وَلَمْ يَقُولُوا وَلَدَتْهَا فِي مِلْكِهِ ، لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِمِلْكِ الْجَارِيَةِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَاعَهَا فَوَلَدَتْ بَعْدُ ثُمَّ عَادَ فَابْتَاعَهَا ، أَوْ يَكُونُ قَدْ بَاعَهَا فَوَلَدَتْ عِنْدَ مُشْتَرِيهَا ، ثُمَّ أَفْلَسَ بِهَا ، فَارْتَجَعَهَا الْبَائِعُ دُونَ وَلَدِهَا ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَقُمُ الْبَيِّنَةُ بِمِلْكِهَا ، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهَا بِنْتُ أَمَتِهِ ، أَخَذَهَا هَذَا مِنْ يَدِهِ كَانَتْ شَهَادَةٌ لَهُ بِالْيَدِ ، دُونَ الْمِلْكِ فَيُحْكَمُ لَهُ بِرَدِّ الْجَارِيَةِ عَلَيْهِ يَدًا لَا مِلْكًا . وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهَا بِنْتُ أَمَتِهِ ، وَكَانَتْ أَمْسُ فِي يَدِهِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَشْهُورِ مِنْ قَوْلِهِ : أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ لَهُ بِالْيَدِ إِذَا شَهِدُوا لَهُ بِيَدٍ مُتَقَدِّمَةٍ ، وَإِنْ حُكِمَ لَهُ بِالْمِلْكِ إِذَا شَهِدُوا لَهُ بِمِلْكٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَكَانَ الْبُوَيْطِيُّ ، وَابْنُ سُرَيْجٍ ، يَجْمَعَانِ بَيْنَ الشَّهَادَةِ بِقَدِيمِ الْيَدِ ، وَقَدِيمِ الْمِلْكِ ، فِي الْحُكْمِ بِهِمَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَنْ فَرَّقَ مِنْ أَصْحَابِنَا بَيْنَ قَدِيمِ الْيَدِ ، وَقَدِيمِ الْمِلْكِ ، مَا يَمْنَعُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا . وَفَرَّعَ ابْنُ سُرَيْجٍ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ قَدِيمِ الْيَدِ ، وَقَدِيمِ الْمِلْكِ فِي الْحُكْمِ بِهِمَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، أَنْ يَتَنَازَعَا الْجَارِيَةَ فَيُقِرُّ صَاحِبُ الْيَدِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ مُدَّعِيهَا أَمْسِ . قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ إِنْ قِيلَ بِأَنَّ قِيَامَ الْبَيِّنَةِ بِأَنَّهَا كَانَتْ بِيَدِهِ أَمْسُ يُوجِبُ الْحُكْمَ لَهَا بِالْيَدِ ، فَإِقْرَارُ صَاحِبِ الْيَدِ أَوْلَى بِالْحُكْمِ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ قِيَامَ الْبَيِّنَةِ لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ لَهُ بِالْيَدِ ، فَفِي إِقْرَارِ صَاحِبِ الْيَدِ بِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِقْرَارَهُ لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ بِهِ كَمَا لَا يَجِبُ بِالْبَيِّنَةِ ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِهِمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّنَا نَحْكُمُ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ بِإِقْرَارِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ . وَتُنْقَلُ الْيَدُ إِلَى الْمُدَّعِي بِالْإِقْرَارِ ، وَإِنْ لَمْ تُنْقَلْ إِلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ ، لِتَقَدُّمِ الْإِقْرَارِ عَلَى الْبَيِّنَةِ الْمُكَذِّبَةِ لَهُ فَأَمَّا إِنْ أَقَرَّ صَاحِبُ الْيَدِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ كَانَ مَالِكًا لَهَا بِالْأَمْسِ ، حُكِمَ لَهُ بِالْمِلْكِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ ، لِقُوَّةِ الْإِقْرَارِ عَلَى الْبَيِّنَةِ ، وَيَكُونُ الْإِقْرَارُ بِالْمِلْكِ أَقْوَى مِنَ الْإِقْرَارِ بِالْيَدِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا تَنَازَعَ رَجُلَانِ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَارِيَةٌ ، فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْجَارِيَةَ ، الَّتِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ ، أَنَّهَا بِنْتُ الْجَارِيَةِ الَّتِي فِي يَدِهِ ، وُلِدَتْ عَلَى مِلْكِهِ ، وَيُقِيمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ وَهَذَا يَكُونُ مَعَ اشْتِبَاهِ الْأَسْنَانِ ، وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أُمًّا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِنْتًا فَتَصِيرُ الشَّهَادَتَانِ مُتَعَارِضَتَيْنِ فِي الْوِلَادَةِ دُونَ الْمِلْكِ ، لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِنْتَ الْأُخْرَى ، فَصَارَتَا فِي الْوِلَادَةِ مُتَعَارِضَتَيْنِ ، وَلَمْ يَتَعَارَضَا فِي الْمِلْكِ ، لِأَنَّ بَيِّنَةَ زَيْدٍ شَهِدَتْ لَهُ بِمِلْكِ الْجَارِيَةِ

الَّتِي فِي يَدِ عَمْرٍو وَبَيِّنَةَ عَمْرٍو شَهِدَتْ لَهُ بِمِلْكِ الْجَارِيَةِ الَّتِي فِي يَدِ زَيْدٍ فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا تَعَارُضٌ فِي الْمِلْكِ ، وَإِنْ تَعَارَضَتَا فِي الْوِلَادَةِ فَيُحْكَمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبَيِّنَتِهِ ، وَتُسَلَّمُ الْجَارِيَةُ الَّتِي فِي يَدِ زَيْدٍ إِلَى عَمْرٍو ، وَالْجَارِيَةُ الَّتِي فِي يَدِ عَمْرٍو إِلَى زَيْدٍ ، وَلَا يَكُونُ تَعَارُضُهُمَا فِي الْوِلَادَةِ مُوجِبًا لِتَعَارُضِهِمَا فِي الْمِلْكِ ، وَكَانَ التَّعَارُضُ فِي الْوِلَادَةِ أَقْوَى ، وَلَا يَحْمِلُ عَلَى رَدِّ الْبَيِّنَةِ فِي الْكُلِّ ، إِذَا رُدَّتْ فِي الْبَعْضِ : لِأَنَّ الْوِلَادَةَ هَاهُنَا لَمْ تُؤَثِّرْ فِي الْحُكْمِ ، فَكَانَ وُجُودُهَا كَعَدَمِهَا ، وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا ، فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ ، فَقَالَ : أَنَا مَالِكٌ لِلْجَارِيَةِ الَّتِي فِي يَدِي ، وَالْجَارِيَةِ الَّتِي فِي يَدِكَ ، وَهِيَ بِنْتُ الْجَارِيَةِ الَّتِي هِيَ فِي يَدِي ، وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً صَارَتِ الشَّهَادَتَانِ مُتَعَارِضَتَيْنِ فِي الْوِلَادَةِ وَالْمِلْكِ جَمِيعًا ، لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِنْتُ الْأُخْرَى ، فَتَعَارَضَتْ فِي الْوِلَادَةِ ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ الْجَارِيَتَانِ مَعًا مِلْكًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَتَعَارَضَتْ فِي الْمِلْكِ ، فَتَكُونُ عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ ، فَإِنْ زَالَ الِاشْتِبَاهُ فِي سِنِّ الْجَارِيَتَيْنِ بَانَ مَنْ يَحِقُّ أَنْ تَكُونَ بِنْتَ الْأُخْرَى لِصِغَرِ سِنِّهَا ، وَكِبَرِ الْأُخْرَى ، تَعَيَّنَ بِهَا كَذِبُ إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ فِي الْوِلَادَةِ ، فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا فِي الْمِلْكِ ، وَحُكِمَ بِشَهَادَةِ الْأُخْرَى فِي الْوِلَادَةِ وَالْمِلْكِ ، وَزَالَ بِهِ حُكْمُ التَّعَارُضِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا تَنَازَعَا شَاةً مَذْبُوحَةً وَكَانَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا رَأْسُهَا وَجِلْدُهَا وَسَقَطُهَا ، وَفِي يَدِ الْآخَرِ مَسْلُوخُهَا ، وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ جَمِيعَهَا لَهُ ، وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً حُكِمَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمِلْكِ مَا فِي يَدِهِ ، لِأَنَّ لَهُ بِمَا فِي يَدِهِ بَيِّنَةَ دَاخِلٍ ، وَفِيمَا بِيَدِ صَاحِبِهِ بَيِّنَةَ خَارِجٍ ، فَقَضَى بِبَيِّنَةِ الدَّاخِلِ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ . وَحَكَمَ أَبُو حَنِيفَةَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، بِمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ ، لِأَنَّهُ يَقْضِي بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ عَلَى بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي تِلْكَ الشَّاةَ ، وَأَنَّهَا نَتَجَتْ فِي مِلْكِهِ ، وَأَقَامَ بِهَا بَيِّنَةً ، وَأَمْضَى أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّهُ يُحْكَمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمِلْكِ مَا فِي يَدِهِ ، لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ عَلَى الْقَضَاءِ بِبَيِّنَةِ الدَّاخِلِ فِي النِّتَاجِ ، وَيُخَالِفُ فِي غَيْرِهِ ، فَيَقْضِي بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ فِي غَيْرِ النِّتَاجِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّ هَذَا الْغَزْلَ مِنْ قُطْنِ فُلَانٍ جَعَلْتُهُ لِفُلَانٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا شَهِدُوا أَنَّ هَذَا الْغَزَلَ مِنْ قُطْنِ زَيْدٍ ، كَانَتْ شَهَادَةٌ بِمِلْكِ زَيْدٍ لِلْغَزْلِ ، لِأَنَّهُ عَيْنُ الْقُطْنِ وَإِنْ غَيَّرَتْهُ الصَّنْعَةُ ، بِخِلَافِ شَهَادَتِهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِنْتُ أَمَتِهِ لِأَنَّهَا غَيْرُ أَمَتِهِ . وَهَكَذَا لَوْ شَهِدُوا أَنَّ هَذَا الثَّوْبَ مِنْ غَزَلِ زَيْدٍ كَانَتْ شَهَادَةٌ لَهُ بِمِلْكِ الثَّوْبِ ، لِأَنَّهُ الْقُطْنُ بِعَيْنِهِ ، وَإِنْ تَغَيَّرَ بِالْغَزَلِ وَالنِّسَاجَةِ .

وَجَعْلهَا أَبُو حَنِيفَةَ شَهَادَةً بِالْقُطْنِ ، دُونَ الثَّوْبِ ، وَالْغَزَلِ ، وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْغَاصِبَ إِذَا عَمِلَ فِي الْمَغْصُوبِ بِمَا يُغَيِّرُ عَنْ حَالِهِ ، كَانَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ مَالِكِهِ وَغَرِمَ لَهُ بَدَلَ أَصْلِهِ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي الْغَصْبِ ، وَأَنَّ مَالِكَهُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَاصِبِهِ . فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ مَنْسُوجًا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ غَزْلًا ، وَقُطْنًا ، وَهُوَ الْأَغْلَبُ لَمْ يَرْجِعْ صَاحِبُ الْيَدِ بِزِيَادَتِهِ عَلَى الْمَالِكِ . وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ وَهُوَ نَادِرٌ ، رَجَعَ الْمَالِكُ بِنُقْصَانِهِ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ مِنْ أَكْثَرِ قِيمَتِهِ قُطْنًا ، أَوْ غَزْلًا ، وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي نَظَائِرِ هَذَا إِذَا شَهِدُوا أَنَّ هَذَا الدَّقِيقَ مِنْ حِنْطَةِ زَيْدٍ ، وَهَذِهِ الدَّنَانِيرَ مِنْ ذَهَبِهِ ، وَهَذِهِ الدَّرَاهِمَ مِنْ فِضَّتِهِ ، وَهَذِهِ النَّخْلَةَ مِنْ نَوَاتِهِ ، وَهَذَا الزَّرْعَ مِنْ بَذْرِهِ ، كَانَتْ لَهُ شَهَادَةٌ بِمِلْكِ ذَلِكَ ، سَوَاءً كَانَ بِعَمَلِ صَاحِبِ الْيَدِ ، أَوْ بِغَيْرِ عَمَلِهِ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : إِنْ تَغَيَّرَ بِعَمَلِ صَاحِبِ الْيَدِ مِلْكَهُ . فَعَلَى هَذَا يَقُولُ إِنْ نَبَتَتِ النَّوَاةُ نَخْلَةً بِنَفْسِهَا ، وَنَبَتَ الْبَذْرُ فِي الْأَرْضِ بِنَفْسِهِ ، كَانَ لِمَالِكِهِ ، وَإِنْ كَانَ بِعَمَلِ صَاحِبِ الْيَدِ ، كَانَ لَهُ ، وَيَقُولُ فِي رَجُلٍ غَصَبَ دَجَاجَةً ، فَبَاضَتْ بَيْضَتَيْنِ حَضَنَتِ الدَّجَاجَةُ إِحْدَاهُمَا حَتَّى صَارَتْ فَرْخًا وَحَضَنَ الْغَاصِبُ الْأُخْرَى ، إِمَّا تَحْتَ الدَّجَاجَةِ ، أَوْ تَحْتَ غَيْرِهَا حَتَّى صَارَتْ فَرُّوجًا كَانَ الْفَرْخُ الْأَوَّلُ لِمَالِكِ الدَّجَاجَةِ ، وَالْفُرُوجِ الثَّانِي لِلْغَاصِبِ . وَجَمِيعُ ذَلِكَ كُلُّهُ عِنْدَنَا لِمَالِكِ أَصْلِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ . وَلَكِنْ لَوْ شَهِدُوا أَنَّ هَذَا الزَّرْعَ مِنْ ضَيْعَتِهِ ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَهَادَةً لَهُ بِمِلْكِ الزَّرْعِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ زَرَعَ أَرْضَهُ لِغَيْرِهِ ، وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقْنَا نَحْنُ وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ : أَفَتَكُونُ هَذِهِ شَهَادَةٌ لَهُ بِالْيَدِ عَلَى الزَّرْعِ ؟ نُظِرَ ، فَإِنْ لَمْ يَقُولُوا زُرِعَ فِيهَا ، وَهِيَ عَلَى مِلْكِهِ لَمْ تَكُنْ شَهَادَةً لَهُ بِالْيَدِ ، لِجَوَازِ زَرْعِهِ فِيهَا ، وَحَصَادِهِ قَبْلَ مِلْكِهِ وَيَدِهِ وَإِنْ قَالُوا : زُرِعَ وَحُصِدَ فِي مِلْكِهِ ، كَانَتْ شَهَادَةً لَهُ بِيَدٍ مُتَقَدِّمَةٍ ، فَيَكُونُ عِنْدَ الْبُوَيْطِيِّ ، وَابْنِ سُرَيْجٍ ، عَلَى قَوْلَيْنِ كَالشَّهَادَةِ بِالْمِلْكِ الْقَدِيمِ يُوجِبُ ثُبُوتَ يَدِهِ فِي الْحَالِ ، وَإِحْلَافِهِ عَلَى الزَّرْعِ أَنَّهُ مِلْكُهُ . وَالثَّانِي : لَا يُوجِبُ ثُبُوتَ يَدِهِ ، وَلَا يَحْلِفُ عَلَى مِلْكِهِ . وَالَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ لَهُ بِالْيَدِ قَوْلًا وَاحِدًا لِمَا بَيَّنَاهُ ، وَلَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ فِي الْحَالِ مَعَ يَمِينِهِ ، فَإِنْ أَقَامَ صَاحِبُ الْأَرْضِ بِأَدَاءِ خَرَاجِهِ أَوْ بِدَفْعِ عُشْرِهِ إِلَى الْمُسْتَحِقِّ لِقَبْضِ خَرَاجِهِ وَعُشْرِهِ لَمْ يَمْلِكْهُ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَنُوبُ فِي أَدَائِهِ عَنْ مَالِكِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا كَانَ فِي يَدَيْهِ صَبِيٌ صَغِيرٌ يَقُولُ : هُوَ عَبْدِي الدعوى ، فَهُوَ كَالثَوْبِ إِذَا كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ هَذَا الْمَوْجُودِ ، إِذَا ادَّعَاهُ الْوَاجِدُ عَبْدًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا ، فَتُعْتَبَرُ حَالُهُ فَإِنْ أَنْكَرَ الرِّقَّ ، وَقَالَ أَنَا حُرٌّ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى وَاجِدِهِ فِي ادِّعَائِهِ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ الْحُرِّيَّةَ ، وَالرِّقُّ طَارِئٌ ، فَكَانَ الظَّاهِرُ مَعَهُ فَلَوْ عَادَ بَعْدَ إِنْكَارِهِ لِلرِّقِّ ، فَأَقَرَّ لِوَاجِدِهِ بِالرِّقِّ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ وَكَانَ عَلَى الْحُرِّيَّةِ حَتَّى يُقِيمَ مُدَّعِيهِ بَيِّنَةً بِرِقِّهِ ، لِأَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِالْحَرِيَّةِ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ بِالرِّقِّ ، وَإِنْ كَانَ هَذَا أَقَرَّ بِالرِّقِّ حِينَ أَخَذَهُ الْوَاجِدُ ، وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِهَذَا الْوَاجِدِ الْمُدَّعِي لِرِقِّهِ ، فَلَا اعْتِبَارَ بِإِنْكَارِهِ ، لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَدَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَيُقَرُّ فِي يَدِ مُدَّعِيهِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مُنَازِعٌ فِيهِ وَيُجْبَرُ الْعَبْدُ عَلَى الْمَقَامِ مَعَهُ ، فَإِنْ حَضَرَ مَنِ ادَّعَاهُ ، وَنَازَعَهُ فِيهِ كَانَ لِلْأَوَّلِ يَدٌ ، وَلَيْسَ لِلثَّانِي يَدٌ ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْأَوَّلِ مَعَ يَمِينِهِ لِثُبُوتِ يَدِهِ قَبْلَ مُنَازَعَتِهِ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الثَّانِي بَيِّنَةً ، فَيُحْكَمُ أَنَّهُ عَبْدٌ لِلثَّانِي ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ أَوْلَى مِنَ الْيَدِ ، فَإِنْ أَقَامَ الْأَوَّلُ بَيِّنَةً كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنَ الثَّانِي ، لِأَنَّ لِلْأَوَّلِ بَيِّنَةُ دَاخِلٍ ، وَلِلثَّانِي بَيِّنَةُ خَارِجٍ . وَلَوْ تَنَازَعَهُ فِي الْحَالِ رَجُلَانِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ يَدٌ ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِأَنَّهُ عَبْدَهُ ، فَصَدَّقَ الْعَبْدُ أَحَدَهُمَا لَمْ تَتَرَجَّحْ بَيِّنَتُهُ بِتَصْدِيقِهِ ، وَتَعَارَضَتْ فِيهِ الْبَيِّنَتَانِ ، فَيَكُونُ عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ . وَلَوْ تَنَازَعَهُ رَجُلَانِ ، وَلَا بَيِّنَةَ لِأَحَدِهِمَا فَصَدَّقَ أَحَدَهَمَا فِي رِقِّهِ ، وَكَذَّبَ الْآخَرَ ، وَأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ دُونَ الْآخَرِ ، كَانَ عَبْدًا لِلْمُصَدَّقِ مِنْهُمَا دُونَ الْمُكَذَّبِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَكُونُ عَبْدًا لَهُمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُصَدَّقُ ، وَالْمُكَذَّبُ ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِاعْتِرَافِهِ بِالرِّقِّ لِأَحَدِهِمَا مَمْلُوكًا ، وَلَا اعْتِبَارَ بِاعْتِرَافِ الْمَمْلُوكِ وَإِنْكَارِهِ . وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، لِأَنَّهُ حُرٌّ فِي الظَّاهِرِ ، وَإِنَّمَا صَارَ مَمْلُوكَا بِاعْتِرَافِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِمَنِ اعْتَرَفَ بِهِ . وَلَوْ كَانَ مُعْتَرِفًا بِالرِّقِّ قَبْلَ اعْتِرَافِهِ لِأَحَدِهِمَا ، ثُمَّ صَدَّقَ أَحَدَهُمَا وَكَذَّبَ الْآخَرَ كَانَ بَيْنَهُمَا .

فَصْلٌ : وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى رَقَّهُ صَغِيرًا غَيْرَ مُمَيِّزٍ ، فَيُحْكَمُ بِرِقِّهِ لِمُدَّعِيهِ يَدًا ، لِأَنَّهُ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ ، وَلَيْسَ بِبَالِغٍ فَيُعْرِبُ عَنْ نَفْسِهِ ، فَإِنْ بَلَغَ هَذَا الْعَبْدُ ، وَأَنْكَرَ الرِّقَّ ، وَادَّعَى الْحَرِيَّةَ لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُ بِالْحُرِّيَّةِ ، فَإِنْ طَلَبَ إِحْلَافَ

سَيِّدِهِ إذا بلغ العبد وأنكر الرق ، أُحْلِفَ لَهُ وَلَوْ كَانَ هَذَا صَغِيرًا فَاسْتَخْدَمَهُ الْوَاجِدُ ، وَلَمْ يَدَّعِ فِي الْحَالِ رِقَّهُ حَتَّى بَلَغَ ، ثُمَّ ادَّعَى رِقَّهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ ، يُحْكَمُ لَهُ بِرِقِّهِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لِأَنَّ يَدَهُ عَلَيْهِ ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيمَا بِيَدِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ دَعْوَاهُ إِذَا تَأَخَّرَتْ عَنِ الصِّغَرِ ، صَارَتْ مُسْتَأْنَفَةً عَلَيْهِ بَعْدَ الْكِبَرِ ، وَدَعَوَاهُ بَعْدَ الْكِبَرِ لَا تُقْبَلُ ، إِلَّا بِبَيِّنَةٍ وَهَذَا أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدِي .

فَصْلٌ : وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمُدَّعِي رَقَّهِ مُرَاهِقًا مُمَيِّزًا ، وَلَيْسَ بِبَالِغٍ ثبوت رقه بالدعوى فَفِي ثُبُوتِ رِقِّهِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُحْكَمُ لَهُ بِرِقِّهِ عَبْدًا لَهُ ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ إِنْكَارُهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ ، وَلَا بَعْدَ بُلُوغِهِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِحُرِّيَّتِهِ ، لِأَنَّ حُكْمَ مَا قَبْلَ الْبُلُوغِ فِي ارْتِفَاعِ الْعِلْمِ سَوَاءٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْحُكْمَ بِرِقِّهِ مَوْقُوفٌ عَلَى إِقْرَارِهِ ، وَإِنْكَارِهِ فَإِذَا اعْتَرَفَ لَهُ بِالرِّقِّ ، حُكِمَ لَهُ بِعُبُودِيَّتِهِ ، وَإِنْ أَنْكَرَ الرِّقَّ حُكِمَ لَهُ بِالْحُرِّيَّةِ ، وَلَا يُحْلَفُ عَلَى إِنْكَارِهِ ، إِلَّا بَعْدَ بُلُوغِهِ ، وَلَا يَمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ لِقَوْلِهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ حُكْمٌ ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ قَلَمٌ ، كَمَا يُخَيَّرُ قَبْلَ الْبُلُوغِ بَيْنَ أَبَوَيْهِ ، وَيَصِحُّ مِنْهُ فِعْلُ الصَّلَاةِ ، وَإِنْ لَمْ تَلْزَمْهُ ، وَيُسْمَعْ خَبَرُهُ فِي الْمُرَاسَلَاتِ ، وَالْمُعَامَلَاتِ ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ فِي صِحَّةِ إِسْلَامِهِ بَعْدَ مُرَاهَقَتِهِ ، وَقَبْلَ بُلُوغِهِ وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا فِي قَوْلِهِ : " إِذَا كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ يَتَكَلَّمُ بِالْمُرَاهَقَةِ وَالتَّمْيِيزِ أَنْ يُعْتَبَرَ إِقْرَارُهُ وَإِنْكَارُهُ ، وَقَدْ تَأَوَّلَهُ مَنْ قَالَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّ مَعْنَاهُ إِذَا كَانَ مِمَّنْ لَا حُكْمَ لِكَلَامِهِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ أَقَامَ رَجُلٌ بَيِّنَةً أَنَّهُ ابْنَهُ ، جَعَلْتُهُ ابْنَهُ وَهُوَ فِي يَدَيِ الَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : يَعْنِي الصَّغِيرَ إِذَا ادَّعَاهُ رَجُلٌ عَبْدًا ، وَحُكِمَ لَهُ بِرِقِّهِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ ، ثُمَّ ادَّعَاهُ رَجُلٌ آخَرُ وَلَدًا ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً بِأَنَّهُ وَلَدُهُ صَارَ ابْنًا لَهُ ، وَلَمْ يَزُلْ عَنْهُ رِقٌّ الْأَوَّلِ ، لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ابْنَ زَيْدٍ عَبْدًا لِعَمْرٍو ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وُلِدَ لَهُ مِنْ أَمَةٍ تَزَوَّجَهَا ، فَيَكُونُ لَهُ ابْنًا وَهُوَ مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِ الْأُمِّ فَلَمْ يَتَنَافَى لُحُوقُ نَسَبِهِ ، وَثُبُوتُ رِقِّهِ ، إِلَّا أَنْ تَشْهَدَ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي لِنَسَبِهِ ، أَنَّهُ وُلِدَ لَهُ مِنْ حُرَّةٍ تَزَوَّجَهَا ، أَوْ مِنْ أَمَةٍ مَلِكَهَا ، فَيَكُونُ الْوَلَدُ حُرًّا ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُولَدَ الْحُرُّ مِنَ الْحُرَّةِ إِلَّا حُرًّا ، وَمِنْ أَمَتِهِ إِلَّا حُرًّا ، وَلَوْ كَانَ مُدَّعِي أُبُوَّتِهِ لَمْ يُقِمُ الْبَيِّنَةَ بِهَا ، فَصَدَّقَهُ الْوَلَدُ عَلَيْهَا ، فَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ بِتَصْدِيقِهِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى رِقِّهِ لِمُدَّعِي عُبُودِيَّتِهِ ، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلسَّيِّدِ فِي نَسَبِ الْعَبْدِ ، فَنَفَذَ فِيهِ إِقْرَارُ الْعَبْدِ .

وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ؟ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِتَصْدِيقِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ الْعَائِدِ عَلَى سَيِّدِهِ ، بِأَنْ يَصِيرَ بَعْدَ عِتْقِهِ مَوْرُوثًا بِالنَّسَبِ ، دُونَ الْوَلَاءِ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَى السَّيِّدِ فِي إِبْطَالِ مِيرَاثِهِ بِالْوَلَاءِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا كَانَتِ الدَّارُ فِي يَدَيْ رَجُلٍ لَا يَدَّعِيهَا ، فَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّ نِصْفَهَا لَهُ ، وَآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ جَمِيعَهَا لَهُ ، فَلِصَاحِبِ الْجَمِيعِ النِّصْفُ ، وَأُبْطِلَ دَعْوَاهُمَا فِي النِّصْفِ ، وَأُقْرِعَ بَيْنَهُمَا ، ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : فَإِذَا أَبْطَلَ دَعْوَاهُمَا ، فَلَا حَقَّ لَهُمَا وَلَا قُرْعَةَ وَقَدْ مَضَى مَا هُوَ أَوْلَى بِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مُقِيمَ الْبَيِّنَةِ بِجَمِيعِهَا إِذَا تَوَرَّعَ فِيهَا بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فِي نِصْفِهَا ، فَقَدْ سَلِمَ لَهُ نِصْفُهَا ، لِأَنَّهُ لَا تَنَازُعَ فِيهِ ، وَلَا تَعَارُضَ ، وَإِنَّمَا تَتَعَارَضُ بَيِّنَتَاهُمَا فِي النِّصْفِ الْآخَرِ ، فَيَكُونُ تَعَارُضُهُمَا فِيهِ عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ : أَحَدُهَا : إِسْقَاطُهُمَا فِيهِ ، وَيَخْلُصُ لِصَاحِبِ الْكُلِّ النِّصْفُ ، وَلَا يَحْمِلُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ إِذَا رُدَّتِ الشَّهَادَةُ فِي الْبَعْضِ ، أَنْ تُرَدَّ فِي الْكُلِّ ، لِأَنَّ مُقِيمَ الْبَيِّنَةِ بِالنِّصْفِ قَدْ سَلِمَ لِصَاحِبِ الْكُلِّ النِّصْفُ ، فَخَرَجَ مِنَ النِّزَاعِ وَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى الْبَيِّنَةِ فَعَلَى هَذَا لَا يَخْلُو صَاحِبُ الْيَدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَدَّعِيهَا مِلْكًا ، أَوْ لَا يَدَّعِيهَا . فَإِنِ ادَّعَاهَا مِلْكًا ، زَالَ مِلْكُهُ عَنْ نِصْفِهَا الْمَحْكُومِ بِهِ لِمُدَّعِي الْكُلِّ وَفِي رَفْعِ يَدِهِ عَنِ النِّصْفِ الْآخَرِ الَّذِي تُعَارِضُ فِيهِ الْبَيِّنَةُ ، حَتَّى سَقَطَتْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تُقَرُّ فِي يَدِهِ ، وَلَا تُنْتَزَعُ لِسُقُوطِ الْبَيِّنَتَيْنِ بِالتَّعَارُضِ ، وَيَصِيرُ فِيهِ خَصْمًا لِلْمُتَنَازِعَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ تُنْتَزَعَ مِنْ يَدِهِ ، لِاتِّفَاقِ الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى عَدَمِ مِلْكِهِ ، وَلَيْسَ تَعَارُضُهُمَا مِنْ حَقِّهِ ، وَإِنَّمَا تُعَارُضُهُمَا فِي حَقِّ الْمُتَنَازِعَيْنِ وَهِيَ غَيْرُ مُتَعَارِضَةٍ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْيَدِ ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِهَا مِلْكًا رُفِعَتْ يَدُهُ ، لِتَنَازُعِ غَيْرِهِ فِي مِلْكِهَا ، لِتُوقَفَ عَلَى الْمُتَنَازِعَيْنِ فِيهِ ، فَيَتَحَالَفَانِ عَلَى النِّصْفِ ، الَّذِي وَقَعَ فِيهِ التَّعَارُضُ عِنْدَ إِسْقَاطِ الْبَيِّنَتَيْنِ فِيهِ ، فَإِنْ حَلَفَا جُعِلَ بَيْنَهُمَا وَصَارَ لِمُدَّعِي الْكُلِّ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا وَلِمُدَّعِي النِّصْفِ رُبُعُهَا ، وَإِنْ نَكَلَا حُكِمَ لِصَاحِبِ الْكُلِّ بِالنِّصْفِ وَكَانَ النِّصْفُ الْبَاقِي مَوْقُوفًا ، وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا ، وَنَكَلَ الْآخَرُ ، قَضَى بِهِ لِلْحَالِفِ مِنْهُمَا دُونَ النَّاكِلِ ، فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ صَاحِبَ الْكُلِّ ، قَضَى لَهُ بِجَمِيعِ الدَّارِ وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ النِّصْفِ كَانَتِ الدَّارُ بَيْنَهُمَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا مَعَ التَّعَارُضِ ، فَإِنْ قَرَعَتْ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْكُلِّ ، سُلِّمَ إِلَيْهِ جَمِيعُ الدَّارِ ، وَفِي إِحْلَافِهِ قَوْلَانِ ، وَإِنْ قَرَعَتْ بَيِّنَةُ صَاحِبِ النِّصْفِ ، جُعِلَتِ الدَّارُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَفِي إِحْلَافِهِ قَوْلَانِ وَيُدْفَعُ عَنْهَا صَاحِبُ الْيَدِ ، سَوَاءٌ ادَّعَاهَا مِلْكًا أَوْ لَمْ يَدَّعِهَا .

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : اسْتِعْمَالُ الْبَيِّنَتَيْنِ ، وَقَسْمُ النِّصْفِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، فَيَصِيرُ لِصَاحِبِ الْكُلِّ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا ، وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ رُبُعُهَا ، وَصَاحِبُ الْيَدِ مَدْفُوعٌ بِهَا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ الشَّافِعِيُّ : " أُبْطِلُ دَعْوَاهُمَا فِي النِّصْفِ ، وَأَقْرَعُ بَيْنَهُمَا " اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فَقَالَ : كَيْفَ يَقْرَعُ بَيْنَهُمَا فِيمَا قَدْ أَبْطَلَ فِيهِ دَعْوَاهُمَا ، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ فَاسِدٌ ، وَلِأَصْحَابِنَا عَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَبْطَلَ دَعْوَاهُمَا فِي النِّصْفِ الْحَاصِلِ لِمُدَّعِي الْكُلِّ : لِأَنَّهُ قَدْ خَلُصَ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَنَازُعٍ فِيهِ ، وَأَقْرَعَ بَيْنَهُمَا فِي النِّصْفِ الْآخَرِ ، وَلَمْ تُبْطَلْ دَعْوَاهُمَا فِيهِ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ أَبْطَلَ دَعْوَاهُمَا إِذَا أَسْقَطَ بَيْنَهُمَا ، وَيَقْرَعُ بَيْنَهُمَا إِنْ لَمْ يُسْقِطْهُمَا ، وَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ ، أُبْطِلُ دَعْوَاهُمَا ، أَوْ أَقْرَعُ بَيْنَهُمَا ، لِاخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي تَعَارُضِهِمَا .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَتِ الدَّارُ فِي يَدَيْ رَجُلٍ ، فَادَّعَاهَا طَالِبٌ ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهَا مِلْكٌ أَجَّرَهَا مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ أَوْ أَوْدَعَهَا ، وَأَقَامَ صَاحِبُ الْيَدِ بَيِّنَةً أَنَّهَا مِلْكَهُ حَكَمْنَا بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ الْمُدَّعِي عَلَى بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ صَاحِبِ الْيَدِ ، لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ لَمَّا شَهِدَتْ لَهُ ، بِأَنَّهُ آجَرَهُ إِيَّاهَا أَوْ أَوْدَعَهَا صَارَتِ الْيَدُ لَهُ ، فَصَارَ الدَّاخِلُ خَارِجًا ، وَالْخَارِجُ دَاخِلًا . وَلَوْ تَدَاعَاهَا رَجُلَانِ ، وَهِيَ فِي يَدِ ثَالِثٍ ، فَأَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ أَجَّرَهُ إِيَّاهَا ، وَأَقَامَ الْآخَرُ أَنَّهَا لَهُ أَوْدَعَهُ إِيَّاهَا صَارَتِ الْيَدُ لَهُمَا بِمَا شَهِدَ لِأَحَدِهِمَا أَنَّهُ يُؤَجِّرُ ، وَلِلْآخَرِ أَنَّهُ مُودِعٌ ، فَصَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةُ دَاخِلٍ فِي النِّصْفِ الْمُضَافِ إِلَى يَدِهِ ، وَبَيِّنَةُ خَارِجٍ فِي النِّصْفِ الْمُضَافِ إِلَى يَدِ صَاحِبِهِ ، وَقَدْ تَعَارَضَتْ فِيهِ الْبَيِّنَتَانِ ، فَإِنْ أُسْقِطَتَا ، صَارَتِ الدَّارُ بَيْنَهُمَا يَدًا إِنْ حَلَفَا أَوْ نَكَلَا وَإِنْ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا ، جَعَلْتُ لِمَنْ قَرَعَ مِنْهُمَا ، وَإِنِ اسْتُعْمِلَتَا فِي الْقِسْمَةِ قُسِمَتْ بَيْنَهُمَا مِلْكًا .

فَصْلٌ : فَإِذَا كَانَتِ الدَّارُ فِي يَدِ مَنْ يَدَّعِيهَا مِلْكًا ، فَنَازَعَهُ فِيهَا رَجُلَانِ وَأَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا مِلْكُهُ مُنْذُ سَنَةٍ وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى هَذَا الْأَوَّلِ أَنَّهُ ابْتَاعَهَا مِنْهُ مُنْذُ خَمْسِ سِنِينَ ، فَلَا تُمْنَعُ بَيِّنَةُ الْأَوَّلِ أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ سَنَةٍ أَنْ تَكُونَ لَهُ مِلْكًا قَبْلَ ذَلِكَ بِخَمْسِ سِنِينَ ، فَلِذَلِكَ سُمِعَتْ بَيِّنَةُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ ، وَوَجَبَ بِهَا انْتِزَاعُهَا مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي الثَّانِي أَنَّهُ ابْتَاعَهَا مِنَ الْمُدَّعِي الْأَوَّلِ ، فَإِنْ شَهِدَتْ بِأَنَّهُ بَاعَهَا وَكَانَ مَالِكًا لَهَا ، حُكِمَ بِهَا لِلثَّانِي مِلْكًا ، فَإِنْ شَهِدَتْ أَنَّهُ بَاعَهَا وَكَانَتْ فِي يَدِهِ ، حُكِمَ بِهَا لِلثَّانِي ابْتِيَاعُهَا ، فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْمِلْكِ ؟ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الْيَدِ أَنَّهَا لِمَالِكٍ ، فَتُسَلَّمُ الدَّارُ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ إِلَى الْمُدَّعِي الثَّانِي وَتُرْفَعُ عَنْهَا يَدُ الْمُدَّعِي الْأَوَّلِ .

وَوَافَقَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِمَا ، وَإِنْ شَهِدَتْ بَيِّنَةُ الثَّانِي أَنَّهُ ابْتَاعَهَا مِنَ الْأَوَّلِ ، وَلَمْ يَشْهَدُوا أَنَّهَا كَانَتْ مِلْكًا لِلْأَوَّلِ وَلَا فِي يَدِهِ ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تُنْتَزَعُ مِنَ الْأَوَّلِ ، وَلَا تُسَلَّمُ إِلَى الثَّانِي لِأَنَّ الْبَيْعَ مُتَرَدِّدٌ ، بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَدْ بَاعَ مَا فِي مِلْكِهِ ، أَوْ مَا فِي يَدِهِ ، فَيَصِحُّ وَبَيْنَ أَنْ يَبِيعَ مَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِ وَلَا يَدِهِ ، فَيَبْطُلُ . فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ ، وَرَفْعِ يَدِ الْأَوَّلِ ، بِمُجَوِّزٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ يَدَ الْأَوَّلِ تُرْفَعُ وَتُسَلَّمُ الدَّارُ إِلَى الثَّانِي ابْتِيَاعًا مِنَ الْأَوَّلِ ، لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي حَقِّهِ صَحِيحٌ إِنْ مَلَكَ ، وَلَا يَقْضِي بِهَا مِلْكُهُ لِلثَّانِي ، وَإِنْ قَضَى لَهُ بِابْتِيَاعِهَا مِنَ الْأَوَّلِ ، فَكَانَ لَهُ فِيهَا يَدٌ إِنْ نُوزِعَ فِيهَا ، تَرَجَّحَ بِيَدٍ لَا بِدَفْعِ بَيِّنَةِ الْمُنَازِعِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا تَنَازَعَا دَارًا فِي يَدِ غَيْرِهِمَا ، وَأَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ الدَّارَ كَانَتْ لَهُ مُنْذُ سَنَةٍ ، وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الدَّارَ كَانَتْ فِي يَدِهِ مُنْذُ سَنَةٍ ، فَإِنْ لَمْ تُجْعَلِ الشَّهَادَةُ بِقَدِيمِ الْمِلْكِ مُوجِبَةٌ لِلْمِلْكِ ، وَبِقَدِيمِ الْيَدِ مُوجِبَةٌ لِلْيَدِ لَمْ يُحْكَمْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَرَجَعَ إِلَى صَاحِبِ الْيَدِ فِي تَصْدِيقِهِمَا أَوْ تَكْذِيبِهِمَا وَإِنْ جُعِلَتِ الشَّهَادَةُ بِهِمَا مُوجِبَةً لِلْمِلْكِ وَالْيَدِ فِي الْحَالِ ، حُكِمَ بِالدَّارِ لِمَنْ أَقَامَ الشَّهَادَةَ بِقَدِيمِ الْمِلْكِ ، دُونَ مَنْ أَقَامَهَا بِقَدِيمِ الْيَدِ ، وَكَذَا لَوْ أَقَامَهَا بِيَدٍ فِي الْحَالِ ، لَأَنَّ الْمِلْكَ أَقْوَى مِنَ الْيَدِ ، فَلِذَلِكَ حُكِمَ بِهِ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا كَانَتِ الدَّارُ فِي يَدَيْ ثَلَاثَةٍ ، فَادَّعَى أَحَدُهُمُ النِّصْفَ ، وَالْآخَرُ الثُّلُثَ ، وَآخَرُ السُّدُسَ ، وَجَحَدَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، فَهِيَ لَهُمْ عَلَى مَا فِي أَيْدِيِهِمْ ثُلُثًا ثُلُثًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي دَارٍ فِي أَيْدِي ثَلَاثَةٍ تَدَاعَوْهَا ، فَادَّعَى أَحَدُهُمْ نِصْفَهَا مِلْكًا ، وَبَاقِيهَا يَدًا بِإِجَارَةٍ مِنْ مَالِكٍ غَائِبٍ ، أَوْ عَارِيَةٍ ، أَوْ وَدِيعَةٍ ، وَأَنَّهُ لَا مِلْكَ فِيهَا لِهَذَيْنِ وَلَا يَدَ حَقٍّ ، وَادَّعَى الثَّانِي ثُلُثُهَا مِلْكًا وَبَاقِيهَا يَدًا بِإِجَارَةٍ ، أَوْ عَارِيَةٍ ، أَوْ وَدِيعَةٍ لِغَائِبٍ ، وَأَنَّهُ لَا مِلْكَ فِيهَا لِهَذَيْنِ وَلَا يَدَ لِحَقٍّ . وَادَّعَى الثَّالِثُ سُدُسُهَا مِلْكًا وَبَاقِيهَا يَدًا بِإِجَارَةٍ ، أَوْ عَارِيَةٍ ، أَوْ وَدِيعَةٍ لِغَائِبٍ ، وَأَنَّهُ لَا حَقَّ فِيهَا لِهَذَيْنِ ، وَلَا يَدَ بِحَقٍّ ، وَأَنَّهَا كَانَتْ مُتَأَوِّلَةً عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ بِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ قَوْلِهِ " وَجَحَدَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا " ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَوْ لَمْ يَدَّعِ الْبَاقِي يَدًا لَمَا كَانَ بَيْنَهُمْ تَجَاحُدٌ ، وَلَكَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى مَا ادَّعَوْهُ مِلْكًا ، وَلَكَانَ لِصَاحِبِ النِّصْفِ النِّصْفُ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا بِيَدِهِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَيْنِ الْحَاضِرَيْنِ مَنْ يَدَّعِيهِ مِلْكًا ،

وَلِصَاحِبِ السُّدُسِ السُّدُسُ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِمَّا فِي يَدِهِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَدَّعِي مَا زَادَ عَلَيْهِ مِلْكًا وَلَكَانَ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ الثُّلُثُ وَهُوَ قَدْرُ مَا فِي يَدِهِ ، وَلَيْسَ يَدَّعِي مَا زَادَ عَلَيْهِ مِلْكًا . وَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَمْلَاكِهِمْ فِيهَا تَجَاحُدٌ ، لَمْ يُتَصَوَّرْ إِلَّا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ ادَّعَى مَا ادَّعَاهُ مِلْكًا ، وَادَّعَى بَاقِيهَا يَدًا وَهُمْ فِي أَمْلَاكِهِمْ مُتَّفِقُونَ ، وَفِي أَيْدِيهِمْ مُتَجَاحِدُونَ ، وَقَدْ تَسَاوَتْ أَيْدِيهِمْ عَلَيْهَا ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَمْلَاكُهُمْ فِيهَا فَتَفَرَّقَتْ أَيْدِيهِمْ أَثْلَاثًا عَلَى مَا أَوْجَبَهُ تَسَاوِيهِمْ ، فَيُنْقَصُ صَاحِبُ النِّصْفِ عَمَّا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ ، لِأَنَّهُ يَدَّعِيهِ مِلْكًا ، وَهُوَ فِي يَدِ غَيْرِهِ فَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ ، وَيُزَادُ صَاحِبُ السُّدُسِ ، بِاسْتِكْمَالِ الثُّلُثِ ، لِأَنَّ لَهُ فِيهِ يَدًا يَدَّعِيهِ مِلْكًا لِغَائِبٍ ، فَأُقِرَّتْ يَدُهُ عَلَيْهِ لِلْغَائِبِ ، لِأَنَّهُ مُنَازِعٌ فِيهِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا يَدٍ ، وَصَاحِبُ الثُّلُثِ لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِلْكًا وَلَمْ يَنْقُصْ ، لِأَنَّ لَهُ فِي الثُّلُثِ يَدًا ، فَلَمْ يَنْقُصْ وَلَيْسَ لَهُ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ يَدٌ فَلَمْ يَزِدْ ، فَإِنْ أَرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ إِحْلَافَ صَاحِبَيْهِ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْيَدِ فِي الْجَمِيعِ ، نَظَرْتُ دَعْوَى يَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ لَهُ بِهَا حَقٌّ بِحِصَّةٍ لِأَنَّهُ ادَّعَاهَا إِجَارَةً ، كَانَ لَهُ إِحْلَافُهُمَا عَلَيْهَا ، وَإِنِ ادَّعَاهَا بَعْضُهُمْ وَدِيعَةً وَادَّعَاهَا بَعْضُهُمْ إِجَارَةً ، كَانَ لِمُدَّعِي الْإِجَارَةِ إِحْلَافُهُمَا عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْبَتِّ ، لِأَنَّهَا يَمِينٌ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْغَيْرِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِمُدَّعِي الْوَدِيعَةِ إِحْلَافُهُمَا .

فَصْلٌ : وَإِذَا تَنَازَعَا دَارًا فِي أَيْدِيهِمَا ، وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِلْكَ جَمِيعِهَا ، وَعَدِمَا الْبَيِّنَةَ ، وَتَحَالَفَا عَلَيْهَا ، وَحَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ مَالِكٌ لِنِصْفِهَا ، وَلَا يَحْلِفُ أَنَّهُ مَالِكٌ لِجَمِيعِهَا ، وَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا لِجَمِيعِهَا ، لِأَنَّنَا نَحْكُمُ عَلَيْهِ بِيَمِينِهِ عَلَى مَا فِي يَدِهِ ، وَلَا نَحْكُمُ عَلَيْهِ بِيَمِينِهِ عَلَى مَا فِي يَدِ مُنَازِعِهِ ، فَكَانَتْ يَمِينُهُ مَقْصُورَةً عَلَى النِّصْفِ ، وَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا لِلْكُلِّ ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَضَمَّنَ يَمِينُهُ مَا لَا يُحْكَمُ لَهُ بِهِ ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى الْجَمِيعِ اعْتِبَارًا بِالدَّعْوَى . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " فَإِذَا كَانَتْ فِي يَدَيِ اثْنَيْنِ ، فَأَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً عَلَى الثُّلُثِ ، وَالْآخَرُ عَلَى الْكُلِّ ، جَعَلْتُ لِلْأَوَّلِ الثُّلُثَ : لِأَنَّهُ أَقَلُّ مِمَّا فِي يَدَيْهِ ، وَمَا بَقِيَ لِلْآخَرِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّ الْيَدَ تَتَرَجَّحُ بِهَا بَيِّنَةُ صَاحِبِهَا ، وَتُرْفَعُ بَيِّنَةُ مُنَازِعِهَا ، فَإِذَا كَانَتِ الدَّارُ فِي يَدَيْ رَجُلَيْنِ تَنَازَعَاهَا ، فَأَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ لَهُ ثُلُثَهَا ، وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ لَهُ جَمِيعَهَا ، قُضِيَ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ بِثُلُثِهَا ، لِأَنَّ لَهُ فِي الْيَدِ بَيِّنَةً وَيَدًا ، وَلَهُ فِي السُّدُسِ الزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ يَدٌ ، قَابَلَتْهَا بَيِّنَةٌ فَرُفِعَتْ بِهَا ، وَقُضِيَ لِصَاحِبِ الْكُلِّ بِالْبَاقِي ، وَهُوَ الثُّلُثُ ، لِأَنَّ لَهُ بِنِصْفِهَا بَيِّنَةً وَيَدًا ، وَلَهُ بِالسُّدُسِ الزَّائِدِ

عَلَى النِّصْفِ بَيِّنَةٌ بِلَا يَدٍ ، قَابَلَتْهَا يَدٌ بِلَا بَيِّنَةٍ ، فَقُضِيَ لَهُ بِبَيِّنَةٍ عَلَى يَدِ مُنَازِعِهِ ، فَصَارَ لَهُ ثُلُثَاهَا ، وَلِلْأَوَّلِ ثُلُثُهَا ، وَسَقَطَ تَعَارُضُ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي الثُّلُثِ بِالْيَدِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَتْ دَارٌ فِي يَدِ أَرْبَعَةٍ تَقَارَعُوهَا ، فَادَّعَى أَحَدُهُمْ جَمِيعَهَا ، وَادَّعَى الثَّانِي ثُلُثَيْهَا ، وَادَّعَى الثَّالِثُ نِصْفَهَا ، وَادَّعَى الرَّابِعُ ثُلُثَهَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بَيِّنَةٌ ، جُعِلَتِ الدَّارُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا بِالْيَدِ وَالتَّحَالُفِ ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ بَيِّنَةٌ بِمَا ادَّعَوْهُ جُعِلَتْ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا بِالْبَيِّنَةِ وَالْيَدِ مِنْ غَيْرِ تَحَالُفٍ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْ أَقَامَ بَيِّنَةَ دَاخِلٍ ، فِيمَا بِيَدِهِ ، وَبَيِّنَةَ خَارِجٍ ، فِيمَا بِيَدِ غَيْرِهِ ، فَحُكِمَ لَهُ بِبَيِّنَةِ الدَّاخِلِ دُونَ الْخَارِجِ ، فَصَارَ الْحُكْمُ فِيهَا مَعَ وُجُودِ الْبَيِّنَةِ وَعَدَمِهَا سَوَاءٌ فِي الْقَدْرِ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي التَّحَالُفِ ، وَلَوْ كَانَتْ بِحَالِهَا فِي الدَّعْوَى ، وَالدَّارُ فِي يَدِ خَامِسٍ ، لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَيْهَا يَدٌ ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَاهُ ، خَلَصَ لِمُدَّعِي الْكُلِّ الثُّلُثُ الزَّائِدُ عَلَى الثُّلُثَيْنِ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَقَامَ عَلَيْهِ بَيِّنَةً لَمْ تُعَارِضْهَا بَيِّنَةُ غَيْرِهِ ، وَتَعَارَضَتِ الْبَيِّنَاتُ فِي الثُّلُثَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ ، فَكَانَ عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ : أَحَدُهَا : إِسْقَاطُهُمَا بِالتَّعَارُضِ ، وَالرُّجُوعُ إِلَى صَاحِبِ الْيَدِ ، فَإِنِ ادَّعَاهَا لِنَفْسِهِ حُكِمَ بِهَا لَهُ بَعْدَ يَمِينِهِ ، وَفِي قَدْرِ مَا يُحْكَمُ لَهُ فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَحْكَمُ لَهُ أَوْ بِثُلُثَيْهَا ، إِذْ قِيلَ : إِنَّ الْبَيِّنَةَ إِذَا رُدَّتْ فِي بَعْضِ الشَّهَادَةِ لَمْ تُرَدَّ فِي بَاقِيهَا ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ بِالْكُلِّ قَدْ رُدَّتْ فِي الثُّلُثَيْنِ فَلَمْ تُرَدُّ فِي الثُّلُثِ الْبَاقِي . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُحْكَمُ لَهُ بِجَمِيعِ الدَّارِ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْبَيِّنَةَ إِذَا رُدَّتْ فِي بَعْضِ الشَّهَادَةِ ، رُدَّتْ فِي جَمِيعِهَا ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ بِالْكُلِّ لَمَّا رُدَّتْ فِي الثُّلُثَيْنِ رُدَّتْ فِي الْكُلِّ ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِهَا صَاحِبُ الْيَدِ وَأَقَرَّ بِهَا لِبَعْضِهِمْ ، أَوْ لِجَمِيعِهِمْ حُمِلُوا فِيهِ عَلَى إِقْرَارِهِ وَفِي إِحْلَافِهِ لَهُمْ قَوْلَانِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ تَعَارُضَ الْبَيِّنَاتِ يُوجِبُ الْقُرْعَةَ دُونَ الْإِسْقَاطِ ، قِيلَ هَذَا لَا يُعَارَضُ فِي الثُّلُثِ الْخَالِصِ لِصَاحِبِ الْكُلِّ ، وَتَرْتِيبُ الْقُرْعَةِ فِي الثُّلُثَيْنِ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ : فَالرُّتْبَةُ الْأَوْلَى : أَنْ تَقْرَعَ فِي السُّدُسِ الَّذِي بَيْنَ النِّصْفِ وَالثُّلُثَيْنِ بَيْنَ مُدَّعِي الْكُلِّ ، وَمُدَّعِي الثُّلُثَيْنِ ، لِأَنَّهُ قَدْ تَعَارَضَتْ فِيهِ بَيِّنَتَاهُمَا ، وَلَمْ يَتَعَارَضْ فِيهِ بَيِّنَةُ غَيْرِهِمَا ، فَمَنْ قَرَعَتْ فِيهِ بَيِّنَتُهُ ، حُكِمَ لَهُ بِهِ . وَالرُّتْبَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تَقْرَعَ فِي السُّدُسِ الَّذِي بَيْنَ الثُّلُثِ ، وَالنِّصْفِ بَيْنِ ثُلُثِهِ مُدَّعِي الْكُلِّ ، وَمُدَّعِي الثُّلُثَيْنِ ، وَمُدَّعِي النِّصْفِ ، لِأَنَّ بَيِّنَةَ صَاحِبِ الثُّلُثِ لَمْ تُعَارِضْهُمْ فِيهِ ، وَتَعَارَضَتْ فِيهِ بَيِّنَةُ الثَّلَاثَةِ فَمَنْ قَرَعَ مِنْهُمْ حُكِمَ بِهِ لَهُ . وَالرُّتْبَةُ الثَّالِثَةُ : الْإِقْرَاعُ فِي الثُّلُثِ الْبَاقِي بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ ، لِأَنَّ بَيِّنَاتِ جَمِيعِهِمْ قَدْ

تَعَارَضَتْ وَيُحْكَمُ بِهِ لِمَنْ قَرَعَ مِنْهُمْ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ تَعَارُضَ الْبَيِّنَاتِ ، يُوجِبُ اسْتِعْمَالَهَا بِالْقِسْمَةِ دُونَ الْقُرْعَةِ ، فَعَلَى هَذَا يُقَسَّمُ الثُّلُثَيْنِ بَعْدَ الثُّلُثِ الْخَالِصِ لِصَاحِبِ الْكُلِّ بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ تَعَارَضَتْ فِيهِمُ الْبَيِّنَةُ عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا ، هِيَ مَضْرُوبُ ثَلَاثَةٍ فِي سِتَّةٍ فِي اثْنَيْنِ ، وَتَرَتَّبَتِ الْقِسْمَةُ فِيهِ ثَلَاثَ مَرَاتِبَ ، كَمَا تَرَتَّبَتِ الْقُرْعَةُ فِيهِ ثَلَاثَ مَرَاتِبَ : فَالرُّتْبَةُ الْأَوْلَى : قِسْمَةُ السُّدُسِ الَّذِي بَيْنَ النِّصْفِ وَالثُّلُثَيْنِ ، وَهُوَ سِتَّةٌ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ ، تُقَسَّمُ بَيْنَ صَاحِبِ الْكُلِّ ، وَصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ ، لِأَنَّهُ قَدْ تَعَارَضَتْ فِيهِ بَيِّنَتَاهُمَا ، وَلَمْ تَتَعَارَضْ فِيهِ بَيِّنَةُ غَيْرِهِمَا ، فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ ، وَقَدْ صَارَ إِلَى صَاحِبِ الْكُلِّ بِالثُّلُثِ اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهَا هَذِهِ الثَّلَاثَةُ ، صَارَ لَهُ فِي الْحَالَتَيْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ ، ثُمَّ يُقَسَّمُ السُّدُسُ الَّذِي بَيْنَ الثُّلُثِ وَالنِّصْفِ أَثْلَاثًا بَيْنَ صَاحِبِ الْكُلِّ ، وَصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ ، وَصَاحِبِ النِّصْفِ ، لِأَنَّهُ قَدْ تَعَارَضَتْ فِيهِ بَيِّنَاتُهُمْ ، وَلَمْ تَتَعَارَضْ فِيهِ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الثُّلُثِ ، فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ سَهْمَانِ مِنَ السِّتَّةِ ، فَإِذَا ضَمَّهَا صَاحِبُ الْكُلِّ إِلَى مَا حَصَلَ لَهُ فِي الْحَالَتَيْنِ ، وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا ، صَارَ لَهُ سَبْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا ، وَإِذَا ضَمَّهَا صَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ إِلَى مَا حَصَلَ لَهُ فِي الْحَالَةِ الْوَاحِدَةِ ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ صَارَ لَهُ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ ، وَلَمْ يَحْصُلْ لِصَاحِبِ النِّصْفِ إِلَّا هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ . وَالرُّتْبَةُ الثَّالِثَةُ : قَسْمُ الثُّلُثِ الْبَاقِي ، وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ كُلِّهِمْ ، لِأَنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ تَعَارُضُ بَيِّنَاتِهِمْ كُلِّهِمْ ، فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ ، فَإِذَا ضَمَّهَا صَاحِبُ الْكُلِّ إِلَى مَا صَارَ لَهُ ، وَهُوَ سَبْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا ، صَارَ لَهُ عِشْرُونَ سَهْمًا ، وَإِذَا ضَمَّهَا صَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ إِلَى مَا صَارَ لَهُ ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ صَارَ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ ، وَإِذَا ضَمَّهَا صَاحِبُ النِّصْفِ إِلَى مَا صَارَ لَهُ ، وَهُوَ سَهْمَانِ صَارَ لَهُ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ ، وَيَنْفَرِدُ صَاحِبُ الثُّلُثِ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لَيْسَ لَهُ غَيْرُهَا ، فَإِذَا جُمِعَتْ سِهَامُهُمْ ، وَهِيَ عِشْرُونَ سَهْمًا لِصَاحِبِ الْكُلِّ ، وَثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ لِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ ، وَخَمْسَةُ أَسْهُمٍ لِصَاحِبِ النِّصْفِ ، وَثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ ، اسْتَوْعَبَتْ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ ، وَقُسِّمَتْ عَلَيْهَا الدَّارَ بَيْنَهُمْ .

فَصْلٌ : وَإِذَا تَنَازَعَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو دَارًا فِي يَدِ زَيْدٍ فَأَقَامَ عَمْرٌو الْبَيِّنَةَ ، أَنَّ الدَّارَ لَهُ انْتُزِعَتْ مِنْهُ الدَّارُ ، وَسُلِّمَتْ إِلَى عَمْرٍو ، فَإِنْ عَادَ زَيْدٌ بَعْدَ انْتِزَاعِ الدَّارِ مِنْ يَدِهِ ، فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الدَّارَ مِلْكَهُ ، حُكْمَ لَهُ بِالدَّارِ ، وَأُعِيدَتْ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْحَالِ يَدٌ ، لِأَنَّ زَوَالَ يَدِهِ بَيِّنَةُ خَارِجٍ عُرِفَ سَبَبُ زَوَالِهِمَا ، وَصَارَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ مَعَ يَدِهِ ، وَهِيَ بَيِّنَةُ دَاخِلٍ ، فَقَضَى بِهَا عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ .

وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا ، فَأَقَامَ زَيْدٌ الْبَيِّنَةَ وَالدَّارَ فِي يَدِهِ ، بِأَنَّهُ مَالِكُهَا ، وَأَقَامَ عَمْرٌو الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْتَاعَهَا مِنْ زَيْدٍ ، حُكِمَ بِهَا لِعَمْرٍو ، لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ قَدْ أَثْبَتَتْ لِزَيْدٍ مِلْكًا ، زَالَ عَنْهُ إِلَى عَمْرٍو ، بِابْتِيَاعِهَا ، فَكَانَتْ أَزِيدُ بَيَانًا ، وَأَثْبَتُ حُكْمًا ، فَلَوْ أَقَامَ زَيْدٌ الْبَيِّنَةَ وَالدَّارُ فِي يَدِهِ ، أَنَّهُ مَالِكُهَا ، وَأَقَامَ عَمْرٌو الْبَيِّنَةَ أَنَّ حَاكِمًا حَكَمَ لَهُ عَلَى زَيْدٍ بِمِلْكِهَا ، كُشِفَ عَنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِمِلْكِهَا لِعَمْرٍو ، فَإِنْ بَانَ أَنَّهُ حُكِمَ بِهَا لَهُ ، لِأَنَّ زَيْدًا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ بَيِّنَةٌ نَزَعَهَا مِنْ يَدِهِ بِالْبَيِّنَةِ ، وَجَبَ أَنْ يُنْقَضَ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِهَا لِعَمْرٍو ، لِأَنَّ زَيْدًا قَدْ أَقَامَ بِهَا بَيِّنَةً مَعَ يَدِهِ وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ حَكَمَ بِهَا لِعَمْرٍو عَلَى زَيْدٍ لِعَدَالَةِ بَيِّنَةِ عَمْرٍو وَجَرْحِ بَيِّنَةِ زَيْدٍ نُظِرَ ، فَإِنْ أَعَادَ زَيْدٌ تِلْكَ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ أَنْ ظَهَرَ عَدَالَتُهَا حُكِمَ بِهَا لِعَمْرٍو دُونَ زَيْدٍ ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إِذَا رُدَّتْ بِالْجَرْحِ فِي شَهَادَةٍ لَمْ تُسْمَعْ مِنْهَا تِلْكَ الشَّهَادَةُ بَعْدَ التَّعْدِيلِ ، وَكَانَ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِهَا لِعَمْرٍو مَاضِيًا ، وَإِنْ أَقَامَ زَيْدٌ بَيِّنَةً غَيْرَ تِلْكَ الْمَرْدُودَةِ ، حُكِمَ بِالدَّارِ لِزَيْدٍ ، وَنُقِضَ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِهَا لِعَمْرٍو ، وَإِنْ بَانَ أَنَّ الْحَاكِمَ حَكَمَ بِهَا لِعَمْرٍو عَلَى زَيْدٍ مَعَ بَيِّنَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ يَرَى أَنْ يُحْكَمَ بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ عَلَى بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ ، كَرَأْيِ أَهْلِ الْعِرَاقِ . فَفِي نَقْضِ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِهَا لِعَمْرٍو وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُنْقَضُ ، لِنُفُوذِهِ بِاجْتِهَادِهِ فَلَمْ يُنَقَضْ ، وَتُقَرُّ الدَّارُ فِي يَدِ عَمْرٍو . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُنْقَضُّ حُكْمُ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ عَلَى بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ ، وَيُحْكَمُ بِهَا لِزَيْدٍ ، لِأَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَصٌّ ، فَالْقِيَاسُ فِيهِ جَلِيٌّ ، وَالِاجْتِهَادُ فِيهِ قَوِيٌّ ، فَنُقِضَ بِأَقْوَى الِاجْتَهَادَيْنِ أَضْعَفُهُمَا ، وَإِنَّمَا لَا يُنْقَضُ الِاجْتِهَادُ مَعَ التَّكَافُؤِ ، وَاحْتِمَالُ التَّرْجِيحِ . وَإِنْ بَانَ أَنَّ الْحَاكِمَ حَكَمَ بِهَا لِعَمْرٍو عَلَى زَيْدٍ بِبَيِّنَتِهِ ، وَلَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَةُ زَيْدٍ ، نُظِرَ فِي الْحَاكِمِ ، فَإِنْ كَانَ يَرَى أَنْ لَا يُحْكَمَ بِبَيِّنَةِ الدَّاخِلِ مَعَ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ ، فَفِي نَقْضِ حُكْمِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ ، كَمَا لَوْ سَمِعَهَا وَلَمْ يَحْكُمْ بِهَا . وَإِنْ كَانَ يَرَى أَنَّ بَيِّنَةَ الدَّاخِلِ أَوْلَى بِالْحُكْمِ ، فَلَمْ يَسْمَعْهَا ، بَعْدَ سَمَاعِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ ، نُقِضَ حُكْمُهُ لِعَمْرٍو وَحُكِمَ بِهَا لِزَيْدٍ ، وَإِنْ لَمْ يَبِنْ بَعْدَ الْكَشْفِ السَّبَبُ الَّذِي أَوْجَبَ الْحُكْمَ بِهَا لِعَمْرٍو ، دُونَ زَيْدٍ مَعَ ثُبُوتِ يَدِ زَيْدٍ وَبَيِّنَتِهِ ، فَفِي نُفُوذِ الْحُكْمِ بِهَا لِعَمْرٍو وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحُكْمَ بِهَا نَافِذٌ مُمَضًّي وَلَا يُنْقَضُّ إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ مَا يُوجِبُ نَقْضَهُ عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ فِي أَحَدِ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِنَقْضِهِ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ نُفُوذُهُ عَلَى الصِّحَّةِ ، حَتَّى يُعْلَمَ فَسَادُهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُنْقَضُ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِهَا لِعَمْرٍو تَغْلِيبًا لِيَدِ زَيْدٍ ، وَبَيِّنَتِهِ ، حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ نَفَذَ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ دُونَ الْفَسَادِ لِاحْتِمَالِ تَرَدُّدِهِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ ، وَلَئِنْ كَانَ لَهُ وَجْهٌ ، فَهُوَ ضَعِيفٌ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابٌ فِي الْقَافَةِ وَدَعْوَى الْوَلَدِ

بَابٌ فِي الْقَافَةِ وَدَعْوَى الْوَلَدِ مِنْ كِتَابِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ وَمِنْ كِتَابِ نِكَاحٍ قَدِيمٍ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرِفُ السُّرُورَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ : " أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجِزِّزًا الْمُدْلَجِيَّ نَظَرَ إِلَى أُسَامَةَ وَزَيْدٍ ، عَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ ، قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا ، وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا ، فَقَالَ : إِنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامِ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْقَافَةِ إِلَّا هَذَا انْبَغَى أَنْ يَكُونَ فِيهِ دَلَالَةٌ أَنَّهُ عِلْمٌ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عِلْمًا لَقَالَ لَهُ : لَا تَقُلْ هَذَا : لِأَنَّكَ إِنْ أَصَبْتَ فِي شَيْءٍ لَمْ آمَنْ عَلَيْكَ أَنْ تُخْطِئَ فِي غَيْرِهِ ، وَفِي خَطَئِكَ قَذْفُ مُحْصَنَةٍ ، أَوْ نَفْيُ نَسَبٍ ، وَمَا أَقَرَهُ إِلَّا أَنَّهُ رَضِيَهُ ، وَرَآهُ عِلْمًا ، وَلَا يُسَرُّ إِلَّا بِالْحَقِّ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَدَعَا عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ قَائِفًا فِي رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا وَلَدًا ، فَقَالَ : لَقَدِ اشْتَرَكَا فِيهِ ، فَقَالَ عُمَرُ لِلْغُلَامِ : وَالِ أَيَّهُمَا شِئْتَ ، وَشَكَّ أَنَسٌ فِي ابْنٍ لَهُ ، فَدَعَا لَهُ الْقَافَةُ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَحِمِهُ اللَّهُ : وَأَخْبَرَنِي عَدَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْمَدِينَةِ ، وَمَكَةَ أَنَّهُمْ أَدْرَكُوا الْحُكَّامَ يُفْتُونَ بِقَوْلِ الْقَافَةِ ، ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَمْ يُجِزِ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَسَبَ أَحَدٍ قَطُّ إِلَّا إِلَى أَبٍ وَاحِدٍ وَلَا رَسُولُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، الْقِيَافَةُ يُحْكَمُ بِهَا فِي إِلْحَاقِ الْأَنْسَابِ ، إِذَا اشْتَبَهَتْ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْوَطْءِ الْمُوجِبِ لِلُحُوقِ النَّسَبِ ، فَإِذَا اشْتَرَكَ الرَّجُلَانِ فِي وَطْءِ امْرَأَةٍ يَظُنُّهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَوْجَتَهُ ، أَوْ أَمَتَهُ ثُمَّ تَأْتِي بِوَلَدٍ بَعْدَ وَطْئِهَا لِمُدَّةٍ لَا تَنْقُصُ عَنْ أَقَلِّ الْحَمْلِ ، وَهِيَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، وَلَا تَزِيدُ عَلَى أَكْثَرِ ، أَوْ يَتَزَوَّجُهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَزْوِيجًا فَاسِدًا يَطَؤُهَا فِيهِ ، أَوْ كَانَ نِكَاحُ أَحَدِهِمَا صَحِيحًا يَطَؤُهَا فِيهِ ، وَوَطِئَهَا الْآخَرُ بِشُبْهَةٍ ، أَوْ يَكُونَانِ شَرِيكَيْنِ فِي أَمَةٍ ، فَيَشْتَرِكَانِ فِي وَطْئِهَا ، ثُمَّ تَأْتِي بِوَلَدٍ بَعْدَ وَطْئِهَا لِمُدَّةٍ لَا تَنْقُصُ عَنْ أَقَلِّ الْحَمْلِ ، وَهِيَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، وَلَا تَزِيدُ عَلَى أَكْثَرِهِ ، وَهِيَ أَرْبَعُ سِنِينَ ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُلْحَقَ بِهِمَا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخْلَقَ مِنْ مَائِهِمَا ، فَيُحْكَمُ بِالْقَافَةِ فِي إِلْحَاقِهِ بِأَحَدِهِمَا : وَكَذَلِكَ لَوِ اشْتَرَكَ عَدَدٌ كَثِيرٌ فِي وَطْئِهَا ، حُكِمَ بِالْقَافَةِ فِي إِلْحَاقِهِ بِأَحَدِهِمْ ، وَسَوَاءٌ اجْتَمَعُوا عَلَى ادِّعَائِهِ ، وَالتَّنَازُعِ فِيهِ ، أَوْ تَفَرَّدَ بِهِ بَعْضُهُمْ فِي اسْتِوَائِهِ فِي إِلْحَاقِهِ بِأَحَدِهِمْ ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْقَافَةِ ، إِذَا وُجِدُوا ، وَيَقْرَعُ بَيْنَهُمْ إِذَا فُقِدُوا ، وَحَكَمَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْقَافَةِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ، وَبِهِ قَالَ

أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابُهُ لَا يُحْكَمُ بِالْقَافَةِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُخْلَقَ الْوَلَدُ مِنْ مَاءِ رَجُلَيْنِ وَأَكْثَرُ ، وَأَلْحَقَهُ بِجَمِيعِهِمْ ، وَلَوْ كَانُوا مِائَةً . وَإِذَا تَنَازَعَ امْرَأَتَانِ وَلَدًا أَلْحَقْتُهُ بِهِمَا كَالرَّجُلَيْنِ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : أُلْحِقُهُ بِالْوَاحِدِ إِجْمَاعًا ، وَبِالِاثْنَيْنِ أَثَرًا ، وَبِالثَّلَاثَةِ قِيَاسًا ، وَلَا أُلْحِقُهُ بِالرَّابِعِ ، فَتَحَرَّرَ الْخِلَافُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : فِي إِلْحَاقِهِ بِالْقَافَةِ ، مَنَعَ مِنْهَا أَبُو حَنِيفَةَ ، وَجَوَّزْنَاهُ . وَالثَّانِي : فِي إِلْحَاقِهِ بِأَبَوَيْنِ ، جَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَبْطَلْنَاهُ . وَالثَّالِثُ : فِي خَلْقِهِ مِنْ مَاءَيْنِ فَأَكْثَرَ ، صَحَّحَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَفْسَدْنَاهُ . وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى إِبْطَالِ قَوْلِ الْقَافَةِ ، وَأَنْ لَا يَكُونَ لِلشَّبَهِ تَأْثِيرٌ فِي لُحُوقِ الْأَنْسَابِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ وَهَذِهِ صِفَةُ الْقَائِفِ ، وَبُقُولِهِ تَعَالَى : فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ وَلَوْ تَرَكَّبَتْ عَنِ الْأَشْبَاهِ زَالَتْ عَنْ مُشْتَبَهٍ ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَالْقِيَافَةُ حكمها مِنْ أَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَقَدْ أُنْكِرَتْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ ، وَعُدَّتْ مِنَ الْبَاطِلِ ، حَتَّى قَالَ جَرِيرٌ فِي شِعْرِهِ : وَطَالَ خِيَارِي غُرْبَةُ الْبَيْنِ وَالنَّوَى وَأُحْدُوثَةٌ مِنْ كَاشِحٍ يَتَقَوَّفُ أَيْ يَقُولُ : الْبَاطِلَ . وَمِمَّا رُوِيَ أَنَ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ ، وَأَنَا أُنْكِرُهُ ، فَقَالَ : هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ . قَالَ : مَا أَلْوَانُهَا ؟ قَالَ : حُمْرٌ . قَالَ : فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَمِنْ أَيْنَ هَذَا ؟ قَالَ : لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَهُ . قَالَ : وَهَذَا لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَهُ " . فَأَبْطَلَ الِاعْتِبَارَ بِالشَّبَهِ الَّذِي يَعْتَبِرُهُ الْقَائِفُ ، وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ الْعَجْلَانِي لَمَّا قُذِفَ مِنْ شَرِيكِ بْنِ السَّحْمَاءِ بِزَوْجَتِهِ ، وَهِيَ حَامِلٌ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى نَعْتِ كَذَا فَلَا أَرَاهُ إِلَّا وَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى نَعْتِ كَذَا ، فَلَا أَرَاهُ إِلَّا وَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا ، فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ أَمْرَهُ لَبَيِّنٌ ، لَوْلَا مَا حَكَمَ

اللَّهُ لَوْلَا الْأَيْمَانُ ، لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ " ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ يَمْنَعُ مِنِ اعْتِبَارِ الشَّبَهِ . قَالُوا : وَلَوْ كَانَتِ الْقِيَافَةُ عِلْمًا لَعَمَّ فِي النَّاسِ ، وَلَمْ يُخْتَصَّ بِقَوْمٍ وَلَأَمْكَنَ أَنْ يَتَعَاطَاهُ كُلُّ مَنْ أَرَادَ كَسَائِرِ الْعُلُومِ ، فَلَمَّا لَمْ يَعُمَّ وَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُتَعَلَّمَ ، بَطَلَ ، أَنْ يَكُونَ عِلْمًا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَعْمَلُ بِالْقِيَافَةِ فِي إِلْحَاقِ الْبَهَائِمِ كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَعْمَلَ بِهَا فِي إِلْحَاقِ الْأَنْسَابِ ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ إِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِآبَائِهِ لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ " . فَلَمَّا لَمْ يَمْتَنِعِ الِاشْتِرَاكُ فِي الْفِرَاشِ ، لَمْ يَمْتَنِعِ الِاشْتِرَاكُ فِي الْإِلْحَاقِ ، وَبِمَا رُوِيَ مِنْ قَضِيَّةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " اخْتَصَمَا فِي رَجُلَيْنِ إِلَيْهِ وَقَدْ وَطِئَا امْرَأَةً فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ ، فَدَعَا بِالْقَائِفِ ، وَسَأَلَهُ ، فَقَالَ : قَدْ أَخَذَ الشَّبَهَ مِنْهُمَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَضَرْبَهُ عَمَرُ بِالدِّرَةِ ، حَتَّى أَضْجَعَهُ ثُمَّ حَكَمَ بِأَنَّهُ ابْنُهُمَا يَرِثُهُمَا ، وَيَرِثَانِهِ ، وَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا ، فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ فِي الْحُكْمِ بِهِمَا مُخَالِفٌ مَعَ اشْتِهَارِ الْقَضِيَّةِ ، فَصَارَ كَالْإِجْمَاعِ . قَالُوا : وَلِأَنَّهُمَا قَدِ اشْتَرَكَا فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِثُبُوتِ النَّسَبِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَاحِقًا بِهِمَا كَأَبَوَيْنِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ أَسْبَابَ التَّوَارُثِ لَا يَمْتَنِعُ الِاشْتِرَاكُ فِيهَا كَالْوَلَاءِ ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ خَلْقِهِ مِنْ مَاءِ رِجَالٍ بِأَنَّهُ لَمَّا خُلِقَ الْوَلَدُ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ ، إِذَا امْتَزَجَ بِمَاءِ الْمَرْأَةِ فِي الرَّحِمِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يُخْلَقَ مِنْ مَاءِ الْجَمَاعَةِ ، إِذَا امْتَزَجَ مَاؤُهُمْ بِمَائِهَا ، لِأَنَّهُ بِالِاجْتِمَاعِ أَقْوَى ، وَبِالِانْفِرَادِ أَضْعَفُ ، وَالْقُوَّةُ أَشْبَهُ بِعُلُوقِ الْوَلَدِ مِنَ الضَّعْفِ . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ إِذَا جَازَ أَنْ يُخْلَقَ مِنِ اجْتِمَاعِ مَاءِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ مِنْ إِنْزَالٍ بَعْدَ إِنْزَالٍ ، جَازَ أَنْ يُخْلَقَ مِنِ اجْتِمَاعِ مَاءِ الْجَمَاعَةِ مِنْ وَطْءٍ بَعْدَ وَطْءٍ ، لِأَنَّ اجْتِمَاعَ الْمِيَاهِ مِنَ الْجَمَاعَةِ كَاجْتِمَاعِهَا مِنَ الْوَاحِدِ .

فَصْلٌ : وَالدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ الشَّبَهِ فِي الْأَنْسَابِ ، إِذَا اشْتَبَهَتْ ، وَالْعَمَلِ فِيهَا بِالْقِيَافَةِ ، مَا رَوَى الشَّافِعِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ عَنْ سُفْيَانَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا ، قَالَتْ : دَخْلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرِفُ السُّرُورَ فِي وَجْهِهِ . وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ : تَبْرُقُ سَرَائِرُ وَجْهِهِ ، فَقَالَ : أَلَمْ تَرَى أَنْ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ نَظَرَ إِلَى أُسَامَةَ وَزَيْدٍ ، عَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ ، قَدْ غَطَّيَا رُؤُوسَهُمَا ، وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا ، فَقَالَ : إِنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ . فَفِيهِ دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَطْعَنُونَ فِي نَسَبِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ ، لِأَنَّ زَيْدًا كَانَ قَصِيرًا عَرِيضَ الْأَكْتَافِ أَخْنَسَ أَبْيَضَ اللَّوْنِ ، وَكَانَ أُسَامَةُ مَدِيدَ الْقَامَةِ أَقْنَى أَسْوَدَ

اللَّوْنِ ، وَكَانَ زَيْدٌ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُ الْقَدْحَ فِيهِ وَفِي أُسَامَةَ ، فَلَمَّا جَمَعَ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيُّ بَيْنَهُمَا فِي النَّسَبِ ، بِقَوْلِهِ : " هَذِهِ أَقْدَامٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ " سُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُقُولِهِ لِزَوَالِ الْقَدْحِ فِيهِمَا ، مِمَّنْ كَانَ يَطْعَنُ فِي نَسَبِهِمَا ، فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْقِيَافَةُ حَقًا ، لَمَا سُرَّ بِهَا ، لِأَنَّهُ لَا يُسَرُّ بِبَاطِلٍ ، وَلَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَصَابَ ، لِأَنْ لَا يَأْمَنَ مِنَ الْخَطَأِ فِي غَيْرِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الشَّرْعَ مَأْخُوذٌ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ ، وَإِقْرَارِهِ ، فَكَانَ إِقْرَارُهُ لِمُجَزِّزٍ عَلَى حُكْمِهِ شَرْعًا مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَوَازِ الْعَمَلِ بِهِ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى الْأَبْطَحِ ، فَرَأَى بَعْضَ قَافَةِ الْأَعْرَابِ ، فَقَالَ : مَا أَشْبَهَ هَذَا الْقَدَمَ بِقَدَمِ إِبْرَاهِيمَ الَّتِي فِي الْحِجْرِ ، فَأَلْحَقَهُ بِالْجَدِّ الْأَبْعَدِ ، وَأَقَرَّهُ عَلَى اقْتِفَاءِ الْأَثَرِ ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ ، فَثَبَتَ اعْتِبَارُ الشَّبَهِ بِالْقَافَةِ شَرْعًا ، وَيَدُلُّ عَلَى اشْتِهَارِهِ فِي الْإِسْلَامِ ، أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى غَارِ ثَوْرٍ مُخْتَفِيًا فِيهِ مِنْ قُرَيْشٍ ، أَخَذَتْ قُرَيْشٌ قَائِفًا يَتْبَعُ بِهِ أَقْدَامَ بَنِي إِبْرَاهِيمَ ، فَيَتَتَبَّعُهَا حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْغَارِ ثُمَّ انْقَطَعَ الْأَثَرُ ، فَقَالَ : إِلَى هَاهُنَا انْقَطَعَ أَثَرُ بَنِي إِبْرَاهِيمَ ، فَلَمْ يَكُنْ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ إِنْكَارٌ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ شَرْعٌ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اعْتَبَرَ الشَّبَهَ فِي وَلَدِ الْعَجْلَانِيِّ ، فَقَالِ : " إِنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى نَعْتِ كَذَا ، فَلَا أَرَاهُ إِلَّا وَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى نَعْتِ كَذَا ، فَلَا أَرَاهُ إِلَّا وَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا ، فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَوْلَا الْأَيْمَانُ " وَرُوِيَ " الْقُرْآنُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ " . يَعْنِي فِي إِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِالْفِرَاشِ ، وَنَفْيِهِ عَنِ الْعَاهِرِ ، وَلَوْلَا أَنَّ الشَّبَهَ مَعَ جَوَازِ الِاشْتِرَاكِ حُكْمٌ ، لَأَمْسَكَ عَنْهُ كَيْلَا يَقُولَ بَاطِلًا ، فَيُتَّبَعُ فِيهِ وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ الْبَاطِلِ كَمَا نَزَّهَهُ عَنْ فِعْلِهِ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " إِذَا غَلَبَ مَاءُ الرَّجُلِ كَانَ الشَّبَهُ لِلْأَعْمَامِ ، وَإِذَا غَلَبَ مَاءُ الْمَرْأَةِ كَانَ الشَّبَهُ لِلْأَخْوَالِ " ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِلشَّبَهِ تَأْثِيرًا فِيمَا أَشْبَهَ ، فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ " ، فَجَعَلَ لِلْفِرَاسَةِ حُكْمًا ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْإِجْمَاعِ اشْتِهَارُهُ فِي الصَّحَابَةِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ فَعَلُوهُ ، وَأُقِرُّوا عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُنْكِرُوهُ ، حَتَّى رُوِيَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ شَكَّ فِي ابْنٍ لَهُ ، فَأَرَاهُ الْقَافَةَ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مُنْكَرًا لَمَا جَازَ مِنْهُمْ إِقْرَارُهُمْ عَلَى مُنْكَرٍ ، فَصَارَ كَالْإِجْمَاعِ ، وَقَدْ جَرَى فِي أَشْعَارِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الْقِيَافَةِ عِنْدَهُمْ ، وَاشْتِهَارِ صِحَّتِهَا بَيْنَهُمْ ، حَتَّى قَالَ شَاعِرُهُمْ : قَدْ زَعَمُوا أَنْ لَا أُحِبُّ مُطْرِفَا كَلَّا وَرَبِّ الْبَيْتِ حُبًا مُسْرِفَا يَعْرِفُهُ مَنْ قَافَ أَوْ تَقَوَّفَا بِالْقَدَمَيْنِ ، وَالْيَدَيْنِ ، وَالْقَفَا وَطَرْفِ عَيْنَيْهِ إِذَا تَشَوَّفَا

وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى ، هُوَ أَنَّ الْحَادِثَةَ فِي الشَّرْعِ ، إِذَا تَجَاذَبَهَا أَصْلَانِ ، حَاظِرٌ ، وَمُبِيحٌ ، لَمْ تُرَدَّ إِلَيْهَا ، وَرُدَّتْ إِلَى أَقْوَاهُمَا شَبَهًا بِهَا ، كَذَلِكَ فِي اشْتِبَاهِ الْأَنْسَابِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى إِبْطَالِ إِلْحَاقِ الْوَلَدِ يَأْتِي فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى [ الْحُجُرَاتِ : ] . وَهَذَا خِطَابٌ لِجَمِيعِهِمْ فَدَلَّ عَلَى انْتِفَاءِ خَلْقِ أَحَدِهِمْ مِنْ ذَكَرَيْنِ وَأُنْثَى ، وَقَالَ تَعَالَى : إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ ) [ الْإِنْسَانِ : ] . فَمَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا مِنْ نُطْفَتَيْنِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنْ لَيْسَ فِي سَالِفِ الْأُمَمِ وَحَدِيثِهَا ، وَلَا جَاهِلِيَّةٍ ، وَلَا إِسْلَامٍ ، أَنْ نَسَبُوا أَحَدًا فِي أَعْصَارِهِمْ ، إِلَى أَبَوَيْنِ ، وَفِي إِلْحَاقِهِ بِاثْنَيْنِ خَرْقُ الْعَادَاتِ ، وَفِي خَرْقِهَا إِبْطَالُ الْمُعْجِزَاتِ ، وَمَا أَفْضَى إِلَى إِبْطَالِهَا ، بَطَلَ فِي نَفْسِهِ ، وَلَمْ يُبْطِلْهَا وَالْقِيَاسُ ، هُوَ أَنَّهُمَا شَخْصَانِ ، لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَى وَطْءِ وَاحِدٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُلْحَقَ الْوَلَدُ بِهِمَا كَالْحُرِّ مَعَ الْعَبْدِ ، وَالْمُسْلِمِ مَعَ الْكَافِرِ ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَمْتَنِعُ مِنْ إِلْحَاقِهِ بِهِمَا ، وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي الْوَطْءِ فَيُلْحِقُهُ بِالْحُرِّ دُونَ الْعَبْدِ ، وَالْمُسْلِمِ دُونَ الْكَافِرِ ، وَالدَّلِيلِ عَلَى إِبْطَالِ خَلْقِهِ مِنْ مَاءَيْنِ مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ نَصِّ الْكِتَابِ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أُمَمُ الطِّبِّ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ ، أَنَّ عُلُوقَ الْوَلَدِ يَكُونُ حِينَ يَمْتَزِجُ مَاءُ الرَّجُلِ بِمَاءِ الْمَرْأَةِ ، ثُمَّ تَنْطَبِقُ الرَّحِمُ عَلَيْهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ الِامْتِزَاجِ ، فَيَنْعَقِدُ عُلُوقُهُ لِوَقْتِهِ ، وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ مَاءٌ آخَرُ ، مِنْ ذَلِكَ الْوَاطِئِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ ، وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ) يَعْنِي أَصْلَابَ الرِّجَالِ ، وَتَرَائِبِ النِّسَاءِ ، وَالتَّرَائِبُ الصُّدُورُ فَاسْتَحَالَ ، بِهَذَا خَلْقُ الْوَلَدِ مِنْ مَاءَيْنِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ مِنْ ذَكَرَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَالَ فِي شَاهِدِ الْعُرْفِ أَنْ تَنْبُتَ السُّنْبُلَةُ مِنْ حَبَّتَيْنِ ، وَتَنْبُتَ النَّخْلَةُ مِنْ نَوَاتَيْنِ ، دَلَّ عَلَى اسْتِحَالَةِ خَلْقِ الْوَلَدِ مِنْ مَاءَيْنِ . فَإِنْ قِيلَ لَمَّا لَمْ يَسْتَحِلْ خَلْقُ الْوَلَدِ مِنْ مَاءِ ذَكَرٍ ، وَأُنْثَى ، لَمْ يَسْتَحِلْ أَنْ يُخْلَقَ مِنْ مَاءِ ذَكَرَيْنِ وَأُنْثَى . قِيلَ : قَدْ جَوَّزْتُمْ مَا يَسْتَحِيلُ إِمْكَانُهُ فِي الْعُقُولِ ، وَالْعِيَانِ مِنْ إِلْحَاقِ الْوَلَدِ ، بِأُمَّيْنِ فَكَيْفَ اعْتَبَرْتُمْ إِنْكَارَ إِلْحَاقِهِ بِأَبَوَيْنِ ؟ وَتَعْلِيلُكُمْ بِالْإِمْكَانِ فِي الْأَبَوَيْنِ يُبْطِلُ إِلْحَاقَكُمْ لَهُ بِأُمَّيْنِ ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ عِنْدَنَا مُسْتَحِيلٌ فِي الْأَبَوَيْنِ ، وَالْأُمَّيْنِ ، ثُمَّ نَقُولُ مَا اسْتَحَالَ عَقْلًا وَشَرْعًا فِي لُحُوقِ الْأَنْسَابِ ، لَمْ يَثْبُتْ بِهِ نَسَبٌ كَابْنِ عِشْرِينَ إِذَا ادَّعَى أَبُوهُ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً لَمْ يُلْحَقْ لِاسْتِحَالَتِهِ ، كَذَلِكَ ادِّعَاءُ امْرَأَتَيْنِ وَلَدًا لَمْ يُلْحَقْ بِهِمَا لِاسْتِحَالَتِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )

[ الْإِسْرَاءِ : ] . فَهُوَ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ فِي إِلْحَاقِهِ بِالْجَمَاعَةِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ دَلِيلٌ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ، [ الِانْفِطَارِ : ] . فَهُوَ : أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ فِيمَا شَاءَ مِنْ شَبَهِ أَعْمَامِهِ ، وَأَخْوَالِهِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ [ الْمَائِدَةِ : ] . فَهُوَ : أَنَّ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ ، لَا يُنْسَبُ إِلَى حُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَإِنْ وَافَقَهُ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَهُ " فَهُوَ أَنَّهُ دَالٌّ عَلَى اعْتِبَارِ الشَّبَهِ ، لِأَنَّهُ عَلَّلَ بِنُزُوعِ الْعِرْقِ الْأَوَّلِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ الْعَجْلَانِيِّ : فَهُوَ مَا جَعَلْنَاهُ دَلِيلًا مِنْهُ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اخْتِصَاصِ قَوْمٍ بِهِ ، وَتَعَذُّرِ مُعَاطَاتُهُ ، وَتَعَلُّمِهِ : فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ ، أَنْ يَكُونَ فِي الْعُلُومِ ، مَا يُسْتَفَادُ بِالطَّبْعِ دُونَ التَّعَلُّمِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ : إِنْ لَمْ يَسْتَفِدْهُ الْإِنْسَانُ طَبْعًا تَعَذَّرَ أَنْ يَقُولَهُ بِتَعَلُّمِ وَاكْتِسَابِ وَلَا يَمْتَـنِعُ أَنْ تَكُونَ صِنَاعَةُ الشِّعْرِ عِلْمًا ، كَذَلِكَ الْقِيَافَةُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ " فَهُوَ أَنَّ الْفِرَاشَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الزَّوْجَةُ ، وَعِنْدَنَا مَنْ يَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَ وَلَدَهَا ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ ذَاتُ زَوْجَيْنِ ، فَلَمْ يَجُزْ عِنْدَهُمْ أَنْ تَكُونَ لِاثْنَيْنِ ، وَعِنْدَنَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُلْحَقَ وَلَدُهَا إِلَّا بِوَاحِدٍ ، فَلَمُ يَكُنْ فِرَاشًا إِلَّا لِوَاحِدٍ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِامْتِنَاعِ الْقِيَافَةِ فِي الْبَهَائِمِ ، فَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِإِلْحَاقِ الْبَهَائِمِ الْمِلْكَ ، وَالْيَدَ أَقْوَى ، فَاسْتُغْنِيَ بِهِ عَنِ الْقِيَافَةِ ، وَالْمَقْصُودُ فِي الْآدَمِيِّينَ النَّسَبُ ، وَالْيَدُ لَا تَأْثِيرَ لَهَا ، فَاحْتِيجَ فِيهِ إِلَى الْقِيَافَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِصَّةِ عُمُرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي إِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِاثْنَيْنِ ، فَهُوَ : أَنَّ الرِّوَايَةَ اخْتَلَفَتْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ ، فَرَوَى الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " عَنِ ابْنِ عِيَاضٍ ، عَنْ هِشَامٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ ، أَنَّ رَجُلَيْنِ تَدَاعَيَا وَلَدًا ، فَدَعَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْقَافَةَ ، فَقَالُوا : قَدِ اشْتَرَكَا فِيهِ ، فَقَالَ عُمَرُ : وَإِلَى أَيِّهِمَا يَثْبُتُ ؟ وَيُرْوَى أَنَّهُ دَعَا عَجَائِزَ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَقُلْنَ : إِنَّ الْأَوَّلَ وَطِئَهَا ، فَعَلَقَتْ مِنْهُ ، ثُمَّ حَاضَتْ فَاسْتَحْشَفَ الْوَلَدُ ، ثُمَّ وَطِئَهَا الثَّانِي فَانْتَعَشَ بِمِائَةٍ ، فَأَخَذَ شَبَهًا مِنْهُمَا ، فَقَالَ عُمَرُ : " اللَّهُ أَكْبَرُ " وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْأَقْرَبِ ، وَإِذَا تَعَارَضَتْ فِيهَا الرِّوَايَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ ، سَقَطَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَا وَكَانَتْ دَلِيلًا لَنَا لِاجْتِمَاعِهِمْ فِيهَا عَلَى اسْتِعْمَالِ الْقَافَةِ ، وَاسْتِخْبَارِهِمْ عَنْ إِلْحَاقِ الْوَلَدِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى إِلْحَاقِهِ بِأَبَوَيْهِ مَعَ انْتِقَاضِهِ بِدَعْوَى الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ ، فَهُوَ أَنَّ الْأَبَ وَالْأُمَّ هُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي وَطْءٍ وَاحِدٍ ، فَلَحِقَ الْوَلَدُ بِهِمَا وَالرَّجُلَانِ لَا يَشْتَرِكَانِ فِي وَطْءٍ وَاحِدٍ ، فَلَمْ يُلْحَقَ الْوَلَدُ بِهِمَا .

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْوَلَاءِ تَعْلِيلًا بِالتَّوَارُثِ بِهَا ، فَلَيْسَتِ الْأَنْسَابُ مُعْتَبَرَةٌ بِالتَّوَارُثِ ، لِثُبُوتِ الْأَنْسَابِ مَعَ عَدَمِ التَّوَارُثِ بِالرِّقِّ ، وَاخْتِلَافِ الدِّينِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْوَلَاءِ حُدُوثُهُ عَنْ مِلْكٍ ، لَا يَمْتَنِعُ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ ، وَحُدُوثُ النَّسَبِ عَنْ وَطْءٍ وَاحِدٍ ، يَمْتَنِعُ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ ، بِأَنَّهُ لَمَّا لَحِقَ بِذَكَرٍ وَأُنْثَى ، لَحِقَ بِذَكَرَيْنِ وَأُنْثَى ، فَقَدْ تَقَدَّمَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنِ امْتِنَاعِهِ أَنْ يُخْلَقَ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ مَاءٍ ، مِنْ وَاحِدٍ أَوِ اثْنَيْنِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ أَحَدُ الْوَاطِئَيْنِ زَوْجًا ، وَطْئِهَا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ ، وَالْآخَرُ أَجْنَبِيًّا ، وَطْئِهَا بِشُبْهَةٍ ، كَانَا فِي اسْتِلْحَاقِ الْوَلَدِ سَوَاءً ، وَيُلْحِقُهُ الْقَافَةُ بِأَشْبَهِهِمَا بِهِ ، وَقَالَ مَالِكٌ يُلْحَقُ بِالزَّوْجِ مِنْ غَيْرِ قَافَةٍ لِقُوَّتِهِ بِالنِّكَاحِ ، وَتَمَيُّزِهِ بِالِاسْتِبَاحَةِ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوِ انْفَرَدَ ، لَكَانَ الْوَلَدُ لَاحِقًا بِهِ ، فَوَجَبَ إِذَا اجْتَمَعَا أَنْ يَسْتَوِيَا فِي اسْتِلْحَاقِهِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلُحُوقِهِ . وَلَيْسَ اخْتِصَاصُ أَحَدِهِمَا بِالِاسْتِبَاحَةِ مُوجِبًا ، لِاخْتِصَاصِهِ بِلُحُوقِ الْوَلَدِ ، كَمَنْ بَاعَ أَمَةً بَعْدَ وَطْئِهَا ، وَوَطِئَهَا الْمُشْتَرِي قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا وَجَاءَتْ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ لُحُوقُهُ ، بِهِمَا اسْتَوَيَا فِي اسْتِلْحَاقِهِ وَأَلْحَقَهُ الْقَافَةُ بِمُشْبِهِهِ . وَإِنْ كَانَ وَطْءُ الْبَائِعِ مُبَاحًا وَوَطْءُ الْمُشْتَرِي مَحْظُورًا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ وُجُوبُ الْحُكْمِ بِالْقِيَافَةِ فِي الْأَنْسَابِ ، إِذَا اشْتَبَهَتْ بَعْدَ الِاشْتِرَاكِ فِي أَسْبَابِ لُحُوقِهَا ، فَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : صِفَةُ الْقَائِفِ . وَالثَّانِي : صِفَةُ الْقِيَافَةِ . وَالثَّالِثُ : الْمُوجِبُ لَهَا . وَالرَّابِعُ : نُفُوذُ الْحُكْمِ بِهَا . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : فِي صِفَةِ الْقَائِفِ والشروط التي يصح بها أن يكون قائفا ، فَيَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ شُرُوطٍ ، يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بِهَا قَائِفًا وَهُوَ : أَنْ يَكُونَ رَجُلًا حُرًّا ، عَدْلًا ، عَالِمًا ، لِأَنَّهُ مُتَرَدِّدُ الْحَالِ بَيْنَ حُكْمٍ ، وَشَهَادَةٍ ، فَاعْتُبِرَتْ فِيهِ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ ، فَإِنْ كَانَ امْرَأَةً كون القائف امرأة أَوْ عَبْدًا كون القائف عبدا ، أَوْ فَاسِقًا أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ قَائِفًا ، وَعِلْمُهُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : عِلْمُهُ بِالْقِيَافَةِ كون القائف عالما بالقيافة . وَالثَّانِي : عِلْمُهُ بِالْفِقْهِ .

فَأَمَّا عِلْمُهُ بِالْقِيَافَةِ ، فَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِيهِ وَمُخْتَبَرًا عَلَيْهِ ، وَاخْتِبَارُهُ فِيهِ أَنْ يُجَرَّبَ فِي غَيْرِ الْمُتَنَازِعِينَ ، بِأَنْ يُضَمَّ وَلَدٌ مَعْرُوفُ النَّسَبِ ، إِلَى جَمَاعَةٍ لَيْسَ لَهُ فِيهِمْ أَبٌ ، وَيُقَالُ لَهُ : مَنْ أَبُوهُ مِنْهُمْ ؟ وَلَا يُقَالُ أَلْحِقْهُ بِأَبِيهِ مِنْهُمْ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِيهِمْ أَبٌ ، فَإِذَا قَالَ : لَيْسَ لَهُ فِيهِمْ أَبٌ ، ضَمَّهُ ذَلِكَ الْوَلَدُ إِلَى جَمَاعَةٍ لَهُ فِيهَا أَبٌ ، وَقِيلَ لَهُ : أَلْحِقْهُ بِأَبِيهِ مِنْهُمْ ، لِأَنَّ لَهُ فِيهِمْ أَبًا ، فَإِنْ أَلْحَقَهُ بِأَبِيهِ مِنْهُمْ ، عُرِفَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِالْقِيَافَةِ . وَإِنْ أَخْطَأَ فِي الْأَوَّلِ فَأَلْحَقَهُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ ، أَوْ أَخْطَأَ فِي الثَّانِي فَأَلْحَقَهُ بِغَيْرِ أَبِيهِ مِنْهُمْ ، عُلِمَ بِأَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِالْقِيَافَةِ ، وَلَا يُقْنَعُ ، إِذَا أَصَابَ مَرَّةً أَنْ يُجَرَّبَ فِي ثَانِيَةٍ ، وَثَالِثَةٍ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُصِيبَ فِي الْأَوَّلَةِ اتِّفَاقًا ، وَفِي الثَّانِيَةِ ، ظَنًّا ، وَفِي الثَّالِثَةِ يَقِينًا ، فَإِذَا وُثِقَ بِعِلْمِهِ عُمِلَ عَلَى قَوْلِهِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَخْتَبِرَ ثَانِيَةً بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِعِلْمِهِ . وَأَمَّا عِلْمُ الْفِقْهِ فَإِنْ نَزَلَ بِهِ مَنْزِلَةَ الْمُخَيَّرِ لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى عِلْمِ الْفِقْهِ وَإِنْ نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْحَاكِمِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ حَالَتَيْهِ اعْتُبِرَ فِيهِ مِنْ عِلْمِ الْفِقْهِ ، مَا اخْتَصَّ بِلُحُوقِ الْأَنْسَابِ ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْعِلْمُ بِجَمِيعِ الْفِقْهِ ، لِأَنَّ اعْتِبَارَهُ فِي الْقَافَةِ مُتَعَذِّرًا ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِي بَنِي مُدْلِجٍ ، وَلَا مِنَ الْعَرَبِ ، إِذَا تَكَامَلَتْ فِيهِ شُرُوطُ الْقِيَافَةِ ، وَوَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ، فَقَالَ : لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ إِلَّا مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ ، لِاخْتِصَاصِهِمْ بِعِلْمِ الْقِيَافَةِ طَبْعًا فِي خَلْقِهِمْ ، وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْقِيَافَةِ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُعْدَمَ فِي بَنِي مُدْلِجٍ ، وَيُوجَدَ فِي غَيْرِ بَنِي مُدْلِجٍ ، وَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ وُجُودُهُ فِي بَنِي مُدْلِجٍ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي صِفَةِ الْقِيَافَةِ ، فَالْمُعْتَبِرُ فِيهَا التَّشَابُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : تَخْطِيطُ الْأَعْضَاءِ وَأَشْكَالُ الصُّورَةِ . وَالثَّانِي : فِي الْأَلْوَانِ وَالشُّعُورِ . وَالثَّالِثُ : فِي الْحَرَكَاتِ وَالْأَفْعَالِ . وَالرَّابِعُ : فِي الْكَلَامِ ، وَالصَّوْتِ ، وَالْحِدَّةِ ، وَالْأَنَاةِ ، وَلَئِنْ جَازَ أَنْ تَخْتَلِفَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ فِي الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ فِي الظَّاهِرِ الْجَلِيِّ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا ، فِي الْبَاطِنِ تَشَابُهٌ خَفِيٌّ ، وَلَئِنْ لَمْ يَكُنْ فِي جَمِيعِهَا لِغَلَبَةِ التَّشَابُهِ بِالْأُمَّهَاتِ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِهَا لِأَنَّ الْمَوْلُودَ مِنْ أَبْيَضَ ، وَأَسُودَ ، لَا يَكُونُ أَبْيَضَ مَحْضًا ، وَلَا أَسْوَدَ مَحْضًا ، فَيَكُونُ فِيهِ مِنَ الْبَيَاضِ ، مَا يُقَارِبُ الْأَبْيَضِ ، وَمِنَ السَّوَادِ مَا يُقَارِبُ بِالسَّوَادِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْوَلَدِ مَعَ الْمُتَنَازِعَيْنِ فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَبَهٌ مِنْ أَحَدِهِمَا ، وَلَيْسَ فِيهِ شَبَهٌ مِنَ الْآخَرِ ، فَيَلْحَقُ بِمَنْ فِيهِ شَبَهُهُ ، وَيُنْفَى عَمَّنْ لَيْسَ فِيهِ شَبَهُهُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الشَّبَهُ بَيْنَهُمَا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ ، أَوْ مِنْ بَعْضِهِمَا ظَاهِرًا كَانَ أَوْ خَفْيًا .

وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ شَبَهٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ، مِنْهُمَا ، فَلَا يَكُونُ فِي الْقِيَافَةِ بَيَانٌ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْفَى عَنْهَا ، لِأَنَّ نَسَبَهُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِمَا ، فَيُعْدَلُ إِلَى الْوَقْفِ عَلَى الِانْتِسَابِ ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ . الْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَبَهٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهَذَا عَلَى خَمْسَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَمَاثَلَ الشَّبَهَانِ ، وَلَا يَتَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ ، فَلَا يَكُونُ فِي الْقِيَافَةِ بَيَانٌ ، وَيَعْدِلُ إِلَى غَيْرِهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَتَمَاثَلَ الشَّبَهُ بَيْنَهُمَا فِي الْعَدَدِ ، وَيَخْتَلِفَا فِي الظُّهُورِ وَالْخَفَاءِ ، يَكُونُ فِيهِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَبَهَانِ ، وَهُوَ فِي أَحَدِهِمَا ظَاهِرٌ ، وَفِي الْآخَرِ خَفِيٌّ ، فَيُلْحَقُ بِمَنْ ظَهَرَ مِنْهُ الشَّبَهُ دُونَ مَنْ خَفِي فِيهِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَتَمَاثَلَا فِي الظُّهُورِ وَالْخَفَاءِ ، وَيَخْتَلِفَانِ فِي الْعَدَدِ ، فَيَكُونُ الشَّبَهُ فِي أَحَدِهِمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ ، وَفِي الْآخَرِ مِنْ وَجْهَيْنِ ، فَيَلْحَقُ بِمَنْ زَادَ عَدَدُ الشَّبَهِ فِيهِ دُونَ مَنْ قَلَّ . وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ الشَّبَهُ فِي أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ عَدَدًا ، وَأَظْهَرَ شَبَهًا ، وَهُوَ فِي الْآخِرِ أَقَلُّ وَأَخْفَى ، فَيُلْحَقُ بِمَنْ كَثُرَ فِيهِ عَدَدُ الشَّبَهِ ، وَظَهَرَ دُونَ مَنْ قَلَّ فِيهِ وَخَفِيَ ، وَهُوَ أَقْوَى مِنَ الضَّرْبَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ . وَالضَّرْبُ الْخَامِسُ : أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا فِي الشَّبَهِ أَكْثَرَ عَدَدًا ، وَأَخْفَى شَبَهًا ، وَالْآخَرُ أَقَلَّ عَدَدًا ، وَأَظْهَرَ شَبَهًا ، فَيَكُونُ الشَّبَهُ فِي أَحَدِهِمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ خَفِيَّةٍ ، وَفِي الْآخَرِ مِنْ وَجْهَيْنِ ظَاهِرَيْنِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُرَجِّحُ كَثْرَةَ الْعَدَدِ عَلَى ظُهُورِ الشَّبَهِ ، فَيُلْحَقُ بِمَنْ فِيهِ الشَّبَهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ خَفِيَّةٍ ، تَغْلِيبًا لِزِيَادَةِ التَّشَابُهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُرَجَّحُ ظُهُورُ الشَّبَهِ عَلَى كَثْرَةِ الْعَدَدِ ، فَيُلْحَقُ بِمَنْ فِيهِ الشَّبَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ ظَاهِرَيْنِ ، تَغْلِيبًا لِقُوَّةِ التَّشَابُهِ ، فَهَذَا أَصْلٌ فِي اعْتِبَارِ التَّشَابُهِ فِي الْقِيَافَةِ ، وَقَدْ تَخْتَلِفُ فَطِنَ الْقَافَةُ ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَكُونُ فِطْنَتُهُ مِنْ أَعْدَادِ التَّشَابُهِ أَقْوَى ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَكُونُ فِطْنَتُهُ فِي قُوَّةِ التَّشَابُهِ أَقْوَى ، فَيَعْتَمِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا فِي قُوَّةِ فِطْنَتِهِ ، تَغْلِيبًا لِقُوَّةِ حِسِّهِ ، فَإِنْ كَانَ الْقَائِفُ عَارِفًا بِأَحْكَامِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ ، جَازَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مُخْبِرًا ، وَحَاكِمًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِأَحْكَامِهَا كَانَ فِيهَا مُخْبِرًا ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا حَاكِمًا ، لِيَحْكُمَ بِهَا مِنَ الْحُكَّامِ مَنْ يَعْلَمُهَا ، وَيَجْتَهِدُ رَأْيَهُ فِيهَا .



فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ : فِي الْمُوجِبِ لِاسْتِعْمَالِ الْقَافَةِ ، فَالتَّنَازُعُ فِي الْوَلَدِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِنْ لَقِيطٍ لَا يُعْرَفُ لِلْمُتَنَازِعَيْنِ فِيهِ فَرَاشٌ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَلَدِ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا ، أَوْ كَبِيرًا ، فَإِنْ كَانَ كَبِيرًا بَالِغًا عَاقِلًا ، تَوَجَّهَتِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ ، وَكَانَ الْجَوَابُ مَأْخُوذًا مِنْهُ ، فَإِنْ صَدَّقَ أَحَدَهُمَا ، وَكَذَّبَ الْآخَرَ ، لَحِقَ بِالْمُصَدِّقِ ، وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ لِلْمُكَذَّبِ ، لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ لَمْ يُقْبَلْ ، وَلَمْ يُغْرَمْ وَإِنْ كَذَّبَهُمَا حَلَفَ لَهُمَا ، وَلَمْ يُلْحَقْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ، لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ قَبْلَ التَّكْذِيبِ قُبِلَ إِقْرَارُهُ ، وَإِنْ قَالَ : أَنَا ابْنُ وَاحِدٍ مِنْكُمَا وَلَسْتُ أَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ ، رُجِعَ إِلَى الْقَافَةِ فِي إِلْحَاقِهِ ، بِأَحَدِهِمَا فَإِنْ عُدِمُوا أُخِذَ الْوَلَدُ جَبْرًا بِالِانْتِسَابِ إِلَى أَحَدِهِمَا غَيْبًا ، فَإِنْ سَلَّمَهُ أَحَدُ الْمُتَنَازِعَيْنِ إِلَى الْآخَرِ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَافَةِ وَالِانْتِسَابِ ، جَازَ وَصَارَ وَلَدًا لِمَنْ سُلِّمَ إِلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِنَسَبِهِ ، إِمَّا بَعْدَ الْقَافَةِ ، أَوْ بَعْدَ الِانْتِسَابِ لَمْ يَجُزْ . وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ صَغِيرًا غَيْرَ مُمَيِّزٍ ، أَوْ كَانَ بَالِغًا مَجْنُونًا ، اسْتُعْمِلَ فِيهِ القَافَةُ ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ إِقْرَارٌ وَلَا فِرَاشٌ ، فَإِنْ أَلْحَقَهُ الْقَافَةُ بِأَحَدِهِمَا لَحِقَ بِهِ وَإِنْ عُدِمُوا أَوْ أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ ، وُقِفَ إِلَى زَمَانِ الِانْتِسَابِ ، فَإِنْ سَلَّمَهُ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ ، كَانَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ جَوَازِهِ قَبْلَ إِلْحَاقِهِ ، وَبُطْلَانِهِ بَعْدَ إِلْحَاقِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ عَنْ فِرَاشٍ وَقَعَ فِيهِ التَّنَازُعُ ، فَاسْتِعْمَالُ الْقِيَافَةِ فِيهِ مُعْتَبَرٌ ، بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْفِرَاشُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ فِيهِ ، فَإِنْ تَفَرَّدَ بِهِ أَحَدُهُمَا ، كَانَ وَلَدًا لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ مِنْ غَيْرِ قِيَافَةٍ ، وَإِنْ كَانَ شَبَهُهُ بِغَيْرِ صَاحِبِ الْفِرَاشِ أَقْوَى . فَلَوْ أَنَّ زَوْجًا شَكَّ فِي وَلَدِهِ مِنْ زَوْجَتِهِ ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِيهِ الْقَافَةُ لَمْ يَجُزْ ، لِأَنَّ الْقَافَةَ لَا تَنْفِي مَا لَحِقَ بِالْفِرَاشِ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْفِرَاشِ مُوجِبًا لِلُحُوقِ الْوَلَدِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، لَوِ انْفَرَدَ ، فَإِنْ كَانَ لَا يَلْحَقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوِ انْفَرَدَ ، لِأَنَّهُمَا زَانِيَانِ بَطَلَتْ دَعْوَاهُمَا فِيهِ ، وَلَمْ يَلْحَقْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِنْ كَانَ يَلْحَقُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا زَانٍ ، وَالْآخِرَ لَيْسَ بِزَانٍ ، بَطَلَ تَنَازُعُهُمَا ، وَلَمْ تُسْتَعْمَلِ الْقَافَةُ فِيهِ ، وَكَانَ لَاحِقًا بِصَاحِبِ الْفِرَاشِ ، دُونَ الزَّانِي لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ " . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يَثْبُتَ فِرَاشُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَثُبُوتُهُ ، مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْمُتَنَازِعَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا زَوْجًا ، وَالْآخَرُ ذَا شُبْهَةٍ ، ثَبَتَ فِرَاشُ ذِي الشُّبْهَةِ ، بِتَصْدِيقِ الزَّوْجِ ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ تَصْدِيقُ الْمَوْطُوءَةِ ، لِأَنَّ الْفِرَاشَ لِلزَّوْجِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ

فِيهِمَا زَوْجٌ اعْتُبِرَ فِيهِ تَصْدِيقُ الْمَوْطُوءَةِ ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِنْ كَانَتْ خَالِيَةً مِنْ زَوْجٍ ، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ ، اعْتُبِرَ فِيهِ تَصْدِيقُ زَوْجِهَا دُونَهَا ، لِأَنَّهُ أَمْلَكُ بِالْفِرَاشِ فِيهَا ، وَصَارَ الزَّوْجُ دَاخِلًا مَعَهُمَا فِي التَّنَازُعِ ، لِأَنَّ لَهُ فِرَاشًا ثَالِثًا ، وَلَا يُعْتَبَرُ تَصْدِيقُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ ، لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ حَقٌّ لَهُ وَعَلَيْهِ . فَلَوْ أَنْكَرَتْهَا الْمَوْطُوءَةُ ، أَوْ زَوْجُهَا لَمْ يَثْبُتْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا الْفِرَاشُ ، وَعَلَى مُنْكِرِهَا الْيَمِينُ . وَلَوِ ادَّعَتِ الْمَوْطُوءَةُ ، أَوْ زَوْجُهَا عَلَيْهَا الْفِرَاشَ ، وَأَنْكَرَاهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا مَعَ أَيْمَانِهِمَا ، وَلَا فِرَاشَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا . فَإِذَا ثَبَتَ فِرَاشُهُمَا بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّصَادُقِ فِيهِ أَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ مَعَ التَّجَاحُدِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْبَيِّنَةُ فِي مِثْلِهِ ، تَكَامَلَتْ شُرُوطُ الِاشْتِرَاكِ فِي لُحُوقِ النَّسَبِ وَصَارَ الْفِرَاشُ حَقًّا لَهُمَا ، وَحَقًّا عَلَيْهِمَا ، فَلَا يَقِفُ عَلَى مُطَالَبَتِهِمَا وَلَا يَجُوزُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُسَلِّمَ لِصَاحِبِهِ ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ عَلَيْهِ ، وَيَسْتَوِي فِيهِ حُكْمُ الْوَلَدِ صَغِيرًا وَكَبِيرًا ، وَيُسْتَعْمَلُ الْقَافَةُ فِي إِلْحَاقِهِ بِأَحَدِهِمَا ، إِذَا طُولِبَ بِهَا . وَالَّذِي يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِهَا مَنْ كَانَ قَوْلُهُ فِي الْفِرَاشِ مُعْتَبَرًا ، وَالْوَلَدُ إِذَا كَانَ بَالِغًا فَإِنْ لَمْ يَطْلُبِ الْحَاكِمُ بِهَا جَازَ لَهُ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْقِيَافَةَ إِذَا عُلِمَ بِالْحَالِ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ نِيَابَةٍ عَنِ الصَّغِيرِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا فِي حَقِّ الْكَبِيرِ ، لِأَنَّهُ أَخَصُّ بِطَلَبِ حُقُوقِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ : فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِلُحُوقِ النَّسَبِ بِقَوْلِ الْقَافَةِ ، فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِاسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ ، وَاسْتِلْحَاقِهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي فِرَاشٍ . وَالثَّانِي : إِذَا تَدَاعَيَا لَقِيطًا . فَإِنْ كَانَ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي فِرَاشٍ ، لَمْ يَصِحَّ إِلْحَاقُهُ بِالْقَافَةِ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ ، لِأَنَّ الْفِرَاشَ قَدْ أَوْجَبَ لَهُمَا حَقًّا ، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمَا حَقًّا فِي إِلْحَاقِهِ بِأَحَدِهِمَا ، وَنَفْيِهِ عَنِ الْآخَرِ ، وَأَلْحَقَ لَهُمَا عَلَى الْوَلَدِ ، وَأَلْحَقَ عَلَيْهِمَا لِلْوَلَدِ وَلِذَلِكَ وَجَبَ إِلْحَاقُهُ بِأَحَدِهِمَا ، وَإِنْ لَمْ يَتَنَازَعَا فِيهِ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَلِّمَهُ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ ، فَكَانَ أَغْلَظُ مِنَ اللِّعَانِ الَّذِي لَا يَصِحُّ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ ، فَكَانَ هَذَا أَوْلَى أَنْ لَا يَصِحَّ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ ، لِأَنَّ اللَّعَّانَ يَخْتَصُّ بِالنَّفْيِ دُونَ الْإِثْبَاتِ ، وَالْقِيَافَةُ تَجْمَعُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ . وَإِنْ كَانَ اسْتِحْقَاقُ الْوَلَدِ فِي ادِّعَاءِ لَقِيطٍ لَمْ يُعْرَفْ لَهُمَا فِيهِ فِرَاشٌ مُشْتَرَكٌ ، فَهُوَ حَقٌّ لَهُمَا وَلَيْسَ بِحَقٍّ عَلَيْهِمَا فِي الظَّاهِرِ ، لِأَنَّهُمَا لَوْ لَمْ يَتَنَازَعَا فِيهِ ، لَمْ يَعْتَرِضْ لَهُمَا ،

وَلَوْ سَلَّمَهُ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ صَحَّ وَانْتَفَى عَمَّنْ سَلَّمَهُ ، وَلَحِقَ مَنْ سُلِّمَ إِلَيْهِ ، فَلَمْ يَفْتَقِرِ اسْتِلْحَاقُهُ إِلَى حُكْمٍ ، وَجَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِاسْتِعْمَالِ الْقَافَةِ فِيهِ إِنِ اخْتَارَا ، وَجَازَ أَنْ يَتَحَاكَمَا فِيهِ إِلَى حَاكِمٍ ، إِنِ اخْتَلَفَا ، فَإِنْ تَنَازَعَا فِيهِ إِلَى حَاكِمٍ ، وَقَفَ اخْتِيَارُ الْقَائِفِ عَلَى الْحَاكِمِ دُونَهُمَا ، وَإِنْ لَمْ يَتَنَازَعَا فِيهِ إِلَى حَاكِمٍ ، وَقَفَ اخْتِيَارُ الْقَائِفِ عَلَيْهِمَا فَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى اخْتِيَارٍ قَائِفٍ كَانَا فِيهِ بِالْخِيَارِ فِي تَحْكِيمِهِ ، أَوِ اسْتِخْبَارِهِ ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ شَرْحِ التَّحْكِيمِ ، وَالِاسْتِخْبَارِ . فَإِنِ اسْتَخْبَرَهُ ، فَأُخْبِرَ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إِمْضَائِهِمَا وَالْتِزَامِهِمَا . وَإِنْ حَكَّمَاهُ فَحَكَمَ كَانَ فِي لُزُومِ حُكْمِهِ لَهُمَا قَوْلَانِ : وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي اخْتِيَارِ الْقَائِفِ ، إِذَا حَلَفَا بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ فِي تَحْكِيمِهِ ، أَوِ اسْتِخْبَارِهِ لَمْ يَعْمَلْ عَلَى اخْتِيَارِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَتَنَازَعَا فِيهِ إِلَى الْحَاكِمِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا ، وَإِذَا كَانَ الْحَاكِمُ هُوَ النَّاظِرُ بَيْنَهُمَا فِي لُحُوقِ النَّسَبِ ، إِمَّا فِي الْفِرَاشِ الْمُشْتَرَكِ حَتْمًا وَاجِبًا ، وَإِمَّا فِي اللَّقِيطِ الْمُدَّعَى ، إِمَّا بِالتَّرَاخِي وَالِاخْتِيَارِ ، وَإِمَّا أَنْ يَطْلُبَهُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ ، فَيُؤْخَذُ الْمُمْتَنِعُ جَبْرًا بِالْحُكْمِ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلْمُتَنَازِعَيْنِ فِي اللَّقِيطِ أَنْ يَنْفَرِدَا بِالْقِيَافَةِ إِذَا اتَّفَقَا عَلَى التَّرَاخِي فِي تَفَرُّدِهِمَا بِهِ ، دُونَ الْحَاكِمِ . فَإِذَا أَرَادَ الْحَاكِمُ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا ، اخْتَارَ مِنَ الْقَافَةِ أَوْثَقَهُمْ وَأَغْلَبَهُمْ ، وَاجْتَهَدَ رَأْيَهُ فِي تَحْكِيمِ الْقَائِفِ ، أَوِ اسْتِخْبَارِهِ فَإِنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى تَحْكِيمِهِ ، كَانَ ذَلِكَ اسْتِخْلَافًا لَهُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا ، فَيُرَاعِي فِي اسْتِنَابَتِهِ شُرُوطَ التَّقْلِيدِ ، وَاخْتُبِرَ فِي الْعِلْمِ بِشُرُوطِ الْإِلْحَاقِ ، فَإِنْ قَضَى بِهَا ، أَعْلَمَهُ بِهَا . فَأَمَّا الْمُخْتَصُّ مِنْهَا بِفِطْنَتِهِ فَقُوَّةُ حِسِّهِ ، فَهُوَ مَرْكُوزٌ فِي طَبْعِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى قَائِفٍ وَاحِدٍ ، لِأَنَّهُ حُكْمٌ ، فَجَازَ مِنَ الْقَائِفِ الْوَاحِدِ ، فَإِنْ جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ قَائِفَيْنِ احْتِيَاطًا القيافة في إلحاق النسب كَانَ أَوْكَدَ ، كَمَا جُمِعَ فِي شِقَاقِ الزَّوْجَيْنِ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ . وَلَا يَنْفُذُ الْحُكْمُ فِي لُحُوقِهِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ، حَتَّى يَجْتَمِعَانِ عَلَيْهِ ، فَإِذَا أَلْحَقَهُ الْقَائِفُ الْوَاحِدُ إِذَا أُفْرِدَ أَوِ الْقَائِفَانِ إِذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَحَدِ الْمُتَنَازِعَيْنِ فِيهِ ، وَنَفَاهُ عَنِ الْآخَرِ لَحِقَهُ ، وَانْتَفَى عَنِ الْآخَرِ ، وَلَوْ أَلْحَقَهُ بِأَحَدِهِمَا ، وَلَمْ يَنْفِهِ عَنِ الْآخَرِ ، لَمْ يَلْحَقْ بِهِ ، لِجَوَازِ أَنْ يَرَى اشْتِرَاكَهُمَا فِيهِ ، وَلَوْ نَفَاهُ عَنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُلْحِقْهُ بِالْآخَرِ ، انْتَفَى عَمَّنْ نَفَاهُ عَنْهُ ، وَصَارَ الْآخَرُ مُنْفَرَدًا بِالدَّعْوَى فَلَحِقَ بِهِ ، لِانْفِرَادِهِ بِالْفِرَاشِ ، لَا بِالْقَائِفِ . وَلَوْ تَنَازَعَ فِي دَعْوَاهُ ثَلَاثَةٌ ، فَأَلْحَقَهُ بِأَحَدِهِمْ ، وَنَفَاهُ عَنِ الْآخَرَيْنِ ، أَمْضَى حَكَمَهُ فِي إِلْحَاقِهِ وَنَفْيِهِ ، وَلَوْ نَفَاهُ عَنْ أَحَدِهِمْ ، خَرَجَ مِنَ الدَّعْوَى ، وَصَارَتْ بَيْنَ الْآخَرَيْنِ ، وَلَوْ نَفَاهُ عَنِ اثْنَيْنِ ، خَرَجَا مِنَ الدَّعْوَى ، وَصَارَ لَاحِقًا بِالْبَاقِي ، لِانْفِرَادِهِ بِالدَّعْوَى ، لَا بُقُولَ الْقَائِفِ ، فَإِنْ لَحِقَ بِأَحَدِهِمْ لِإِلْحَاقِ الْقَائِفِ بِهِ ، وَنَفْيِهِ عَنْ غَيْرِهِ اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ فِي ثُبُوتِ

نَسَبِهِ ، وَلَزِمَ الْحَاكِمَ تَنْفِيذُ حُكْمِهِ ، وَإِنْ نَفَاهُ الْقَائِفُ عَنْ أَحَدِهِمَا اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ بِالنَّفْيِ ، وَلَمْ يَسْتَقِرَّ حُكْمُهُ بِاللُّحُوقِ ، حَتَّى يَحْكُمَ لَهُ الْحَاكِمُ بِاللُّحُوقِ ، بِحُكْمِ الِانْفِرَادِ بِالدَّعْوَى ، فَإِنْ رَجَعَ الْقَائِفُ بَعْدَ حُكْمِهِ بِذِكْرِ الْغَلَطِ فِيهِ ، لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ ، لِأَنَّ نُفُوذَ الْحُكْمِ بِالِاجْتِهَادِ يَمْنَعُ مِنْ نَقْضِهِ بِاجْتِهَادٍ . وَإِنْ رَأَى الْحَاكِمُ اجْتِهَادَهُ إِلَى اسْتِخْبَارِ الْقَائِفِ دُونَ تَحْكِيمِهِ ، أَنْكَرَ الْقَائِفُ مُخْبِرًا ، وَالْحَاكِمُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْحُكْمِ ، جَازَ وَلَزِمَهُ أَنْ يَجَمْعَ بَيْنَ قَائِفَيْنِ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ مَقْبُولًا ، لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ . كَمَا لَا يَحْكُمُ فِي التَّقْوِيمِ إِلَّا بِقَبُولِ مُقَوِّمَيْنِ ، فَإِذَا أَرَادَ الْقَائِفَانِ بَعْدَ اجْتِهَادِهِمَا ، أَنْ يَذْكُرَا لِلْحَاكِمِ ، مَا صَحَّ عِنْدَهُمَا مِنْ لُحُوقِ الْوَلَدِ بِأَحَدِهِمَا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ خَبَرًا يُؤَدَّى بِلَفْظِ الْإِخْبَارِ ، وَلَا تَكُونُ شَهَادَةً تُؤَدَّى بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَخْتَصُّ بِفِعْلٍ مَشَاهَدٍ ، وَقَوْلٍ مَسْمُوعٍ ، وَلَيْسَ فِي الْقِيَافَةِ ، وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، فَكَانَ خَبَرًا ، وَلَمْ يَكُنْ شَهَادَةً ، فَعَلَى هَذَا يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَسْأَلَهُمَا عَنْ سَبَبِ عِلْمِهِمَا ، لِيَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِيهِمَا إِنْ ذَكَرَا اشْتِرَاكَهُمَا فِي الشَّبَهِ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ سُؤَالُهُمَا إِنْ كَانَ مُخْتَصًّا بِأَحَدِهِمَا ، دُونَ الْآخَرِ ، لِأَنَّ عَلَيْهِ فِي الِاشْتِرَاكِ أَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِي التَّرْجِيحِ ، فَلَزِمَهُ السُّؤَالُ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي اخْتِصَاصِ أَحَدِهِمَا بِالتَّرْجِيحِ بِالشَّبَهِ ، اجْتِهَـادُهُ فِي التَّرْجِيحِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ السُّؤَالُ ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَهُمَا أَفِي الشَّبَهِ اشْتِرَاكٌ ؟ حَتَّى يَسْأَلَهُمَا عَنْ سَبَبِهِ ، وَيَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِيهِ ، أَوْ لَيْسَ فِيهِ اشْتِرَاكٌ ؟ حَتَّى لَا يَسْأَلَهُمَا عَنْهُ ، وَلَا يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِيهِ ، وَيَقْتَنِعَ مِنْهُمَا أَنْ يَقُولَا هَذَا وَلَدُ هَذَا دُونَ هَذَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ شَهَادَةً تُؤَدَّى بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَنْ مُشَاهَدَةٍ ، لِأَنَّ الدَّالَّ يَشْهَدُ ، وَالْحُكْمُ مُخْتَصٌّ بِالشَّهَادَةِ دُونَ الْخَبَرِ . فَعَلَى هَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَسْأَلَهُمَا عَنْ سَبَبِ عِلْمِهِمَا ، لِأَنَّ الشَّاهِدَ لَا يُسْـأَلُ عَنْ سَبَبِ عِلْمِهِ بِمَا شَهِدَ لَكِنْ إِنْ كَانَ الشَّبَهُ مُخْتَصًّا بِأَحَدِهِمَا ، جَازَ لِلْقَائِفَيْنِ أَنْ يَشْهَدَا بِأَنَّهُ وَلَدُ هَذَا دُونَ هَذَا ، وَإِنْ كَانَ الشَّبَهُ مُشْتَرَكًا يَحْتَاجَا إِلَى اجْتِهَادٍ فِي تَرْجِيحٍ فَفِيمَا يَشْهَدَانِ بِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَشْهَدَانِ بِمَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُمَا مِنْ لُحُوقِ نَسَبِهِ بِأَحَدِهِمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَشْهَدَانِ بِالشَّبَهِ الْمُوجِبِ لِلُحُوقِ النَّسَبِ بِأَحَدِهِمَا لِيَجْتَهِدَ الْحَاكِمُ رَأْيَهُ دُونَهَا ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا ، هَلْ يَسُوغُ لِلشُّهُودِ أَنْ يَجْتَهِدُوا فِيمَا يُؤَدُّوهُ إِذَا كَانَ الِاجْتِهَادُ فِيهِ سَمَاعٌ ؟ . فَإِذَا أَدَّى الْقَائِفَانِ إِلَى الْحَاكِمِ مَا عِنْدَهُمَا مِنْ لُحُوقِ النَّسَبِ بِأَحَدِهِمَا خَبَرًا عَلَى

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110