كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

وَمِنِ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءٌ ، وَمِنِ الْفُقَهَاءِ أَبُو ثَوْرٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ ، وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ دِيَتَهُ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ [ النِّسَاءِ : 92 ] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ [ النِّسَاءِ : 92 ] فَلَمَّا أَطْلَقَ ذِكْرَ الدِّيَةِ فِيهَا دَلَّ عَلَى تَسَاوِيهِمَا ، وَبِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : دِيَةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ مِثْلُ نِصْفِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَهَذَا نَصٌّ . وَرَوَى مِقْسَمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ قَتَلَ كَافِرَيْنِ لَهُمَا أَمَانٌ وَلَمْ يَعْلَمْ بِأَمَانِهِمَا فَوَدَاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عِنْدِهِ بِدِيَةِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ . وَلِأَنَّهُ حُرٌّ مَحْقُوقُ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ دِيَتُهُ كَامِلَةً كَالْمُسْلِمِ ، وَلِأَنَّ الْحُرَّ مَضْمُونٌ يُضْمَنُ بِالدِّيَةِ وَالْعَبْدِ يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ ، فَلَمَّا كَمُلَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا وَجَبَ أَنْ تَكْمُلَ دِيَةُ الْحُرِّ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا ، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ مُوجِبٌ لِلدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ ، فَلَمَّا تَمَاثَلَتِ الْكَفَّارَةُ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَجَبَ أَنْ يَتَمَاثَلَ الدِّيَةُ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ ، وَلِأَنَّ الْكُفْرَ فِسْقٌ ، وَالْفِسْقَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الدِّيَةِ فَكَذَلِكَ الْكُفْرُ ، وَلِأَنَّ الدِّيَةَ قَدْ أَوْجَبَتْ حَقْنَ دَمِهِ وَحِفْظَ مَالِهِ ، فَلَمَّا تَسَاوَى بِهَا الْمُسْلِمُ فِي ضَمَانِ مَالِهِ سَاوَاهُ فِي ضَمَانِ نَفْسِهِ . وَأَمَّا مَالِكٌ فَدَلِيلُهُ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : دِيَةُ الْمُعَاهِدِ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : لَيْسَ فِي الْأَخْبَارِ أَصَحُّ مِنْ هَذَا وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى أَنَّ عَقْلَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ نِصْفُ عَقْلِ الْمُسْلِمِ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ، ذَكَرَهُ رَجَاءُ بْنُ الْمُرَجَّى الْحَافِظُ ، وَلِأَنَّ النَّقْصَ نَوْعَانِ : أُنُوثِيَّةٌ وَكُفْرٌ ، فَلَمَّا أَوْجَبَ نَقْصُ الْأُنُوثِيَّةِ إِسْقَاطَ نِصْفِ الدِّيَةِ ، كَذَلِكَ نَقْصُ الْكُفْرِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ دِمَاءَ الْكُفَّارِ لَا تُكَافِئُهُمْ . وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي كِتَابِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ : وَفِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ فَجَعَلَ الْإِيمَانَ شَرْطًا فِي كَمَالِ الدِّيَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكْمُلَ بِعَدَمِهِ . وَرَوَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

قَضَى أَنَّ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ ، وَهَذَا نَصٌّ ذَكَرَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ فِي شَرْحِهِ . فَإِنْ قِيلَ : حَدِيثُ مَنْ رَوَى كَمَالَ الدِّيَةِ أَزْيَدُ وَالْأَخْذُ بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى . فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ خَبَرَنَا أَزْيَدُ لَفْظًا فَكَانَ أَوْلَى مِنْ خَبَرِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ أَزْيَدَهُمَا لِأَنَّ الْأَحْكَامَ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْأَلْفَاظِ . فَإِنْ قِيلَ : يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَضَى فِي السَّنَةِ الْأُولَى ثُلُثَ الدِّيَةِ لِتَأْجِيلِ دِيَةِ الْخَطَأِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ قَضَاءَهُ بِأَنَّ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ دِيَتِهِ هَذَا الْقَدْرُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى قَدْرِهَا وَهُوَ بَعْضُهَا ، عَلَى أَنَّ ثُلُثَ الدِّيَةِ عِنْدَهُمْ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ . فَإِنْ قِيلَ : يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَوَّمَ إِبِلَ الدِّيَةِ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ قِيلَ : لَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقِيمَةَ تَخْتَلِفُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُقَدَّرَ فِي عُمُومِ الْأَحْوَالِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَضَى بِالدَّرَاهِمِ وَلَمْ يَقْضِ بِهَا قَيِّمَةً ، عَلَى أَنَّا رُوِّينَا عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي دِيَةِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ ثُلُثَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ ، فَبَطَلَ هَذَا التَّأْوِيلُ . وَمِنِ الْقِيَاسِ : أَنَّهُ مُكَلَّفٌ لَا يَكْمُلُ سَهْمُهُ مِنَ الْقِيمَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكْمُلَ دِيَتُهُ كَالْمَرْأَةِ ، وَلَا يُنْتَقَصَ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ، لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا نَقَصَتْ دِيَةُ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ عَنْ دِيَةِ الرَّجُلِ لِنَقْصِهَا بِالْأُنُوثِيَّةِ ، وَجَبَ أَنْ تَنْقُصَ دِيَةُ الرَّجُلِ الْكَافِرِ عَنْ دِيَةِ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ لِنَقْصِهِ بِالْكُفْرِ ، لِأَنَّ الدِّيَةَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى التَّفَاضُلِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا أَثَّرَ أَغْلَظُ الْكُفْرِ وَهُوَ الرِّدَّةُ فِي إِسْقَاطِ جَمِيعِ الدِّيَةِ وَجَبَ أَنْ يُؤَثِّرَ أَخَفُّهُ فِي تَخْفِيفِ الدِّيَةِ ، لِأَنَّ بَعْضَ الْجُمْلَةِ مُؤَثِّرٌ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهَا ، وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأُمَّةِ فِي قَدْرِ الدِّيَةِ تُوجِبُ الْأَخْذَ بِأَقَلِّهَا كَاخْتِلَافِ الْمُقَوِّمِينَ يُوجِبُ الْأَخْذَ بِقَوْلِ أَقَلِّهِمْ تَقْوِيمًا ، لِأَنَّهُ الْيَقِينُ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِمُطْلَقِ الدِّيَةِ فِي الْآيَةِ فَلَا يَمْنَعُ إِطْلَاقُهَا مِنِ اخْتِلَافِ مَقَادِيرِهَا ، كَمَا لَمْ يَمْنَعْ مِنِ اخْتِلَافِ دِيَةِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَدِيَةِ الْجَنِينِ ، لِأَنَّ الدِّيَةَ اسْمٌ لِمَا يُؤَدَّى مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ . وَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فَتَعَارَضَتْ ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى أَنَّهَا مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ فِي التَّغْلِيظِ وَالتَّخْفِيفِ وَالْحُلُولِ وَالتَّأْجِيلِ حَتَّى لَا يَكُونَ نُقْصَانُ قَدْرِهَا مُوجِبًا لِإِسْقَاطِ حُلُولِهَا وَتَغْلِيظِهَا .

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا تَبَرَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحَمُّلِ الدِّيَةِ عَنْهُ جَازَ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِالزِّيَادَةِ تَأَلُّفًا لِقَوْمِهِمَا . وَالثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا أَسْلَمَا بَعْدَ الْجُرُوحِ وَقَبْلَ مَوْتِهِمَا فَكَمُلَ بِالْإِسْلَامِ دِيَتُهُمَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ مَحْقُونُ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ فَفَاسِدٌ بِالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ ، لَا يَقْتَضِي حَقْنُ دِمَائِهِمَا عَلَى التَّأْبِيدِ كَمَالَ دِيَتِهِمَا ، كَذَلِكَ الذِّمِّيُّ ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْمُسْلِمِ كَمَالُ سَهْمِهِ فِي الْغَنِيمَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِالْعَبْدِ فِي اسْتِوَاءِ الْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ فِي كَمَالِ قِيمَتِهِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا تَسَاوَى فِيهِمَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى تَسَاوَى فِيهِمَا الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ ، وَلِمَا اخْتَلَفَ فِي الدِّيَةِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى اخْتَلَفَ فِيهَا الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِالْكَفَّارَةِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْتَنِعِ التَّسَاوِي فِيهَا مِنِ اخْتِلَافِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي الدِّيَةِ كَذَلِكَ تَسَاوِي الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فِيهَا لَا يَمْنَعُ مِنِ اخْتِلَافِهِمَا فِي الدِّيَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْفِسْقِ فَهُوَ أَنَّ الْفِسْقَ لَا يَسْلُبُهُ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ ، فَسَاوَى فِي الدِّيَةِ ، وَالْكُفْرُ يَسْلُبُ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ ، فَخَالَفَ فِي الدِّيَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ ضَمَانِ مَالِهِ كَالْمُسْلِمِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ ضَمَانُهُ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ ، وَلَمَّا اخْتَلَفَ ضَمَانُ الدِّيَةِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ اخْتَلَفَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ دِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانِمَائَةِ دِرْهَمٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانِمَائَةِ دِرْهَمٍ وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اخْتُلِفَ فِي دِيَةِ الْمَجُوسِيِّ فَجَعَلَهَا أَبُو حَنِيفَةَ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ ، وَجَعَلَهَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ نِصْفَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ كَالْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ عِنْدَهُ ، وَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ ، ثُلُثَا عُشْرِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ ، وَتَكُونُ مِنَ الْإِبِلِ سِتَّةَ أَبْعِرَةٍ وَثُلُثَيْنِ ، وَمِنِ الدَّنَانِيرِ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِينَارًا وَثُلُثَانِ ، رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَعَلَ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَالْمَجُوسِيِّ ثَمَانَمِائَةِ دِرْهَمٍ . وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ دِيَةَ الْمَجُوسِيِّ

ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَالْقَضَاءُ بِهِ عَلَيْهِمْ مَعَ انْتِشَارِهِ فِي الصَّحَابَةِ إِجْمَاعًا لَا يُسَوِّغُ خِلَافَهُ ، وَمَعَ أَنَّ حُكْمَ الْمَجُوسِيِّ فِي إِقْرَارِهِمْ وَأَخْذِ جِزْيَتِهِمْ مَنْقُولٌ عَنْ عُمَرَ وَمَعْمُولٌ بِهِ إِجْمَاعًا فَكَذَلِكَ حُكْمُهُ فِيهِمْ بِالدِّيَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا نَقَصَتْ رُتْبَةُ الْمَجُوسِيِّ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي تَحْرِيمِ نِسَائِهِمْ وَأَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ نَقَصَتْ دِيَتُهُمْ عَنْ دِيَاتِهِمْ ، لِأَنَّ الدِّيَاتِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى التَّفَاضُلِ ، وَإِذَا نَقَصَتْ عَنْهُمْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا مَا قُلْنَاهُ لِقَضَاءِ الْأَئِمَّةِ بِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُ مَنْ خَالَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَمَانٌ أَوْ لَا يَكُونَ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ أَمَانٌ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ، فَدِيَتُهُمْ ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ ، سَوَاءٌ كَانُوا أَصْحَابَ ذِمَّةٍ أَوْ عَهْدٍ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَلَكِنْ سَنَّ بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي إِقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ وَهُمُ الْمَجُوسِيَّةُ ، فَدِيَتُهُمْ ثُلُثَا عُشْرِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ لَا يَكُونُوا أَهْلَ كِتَابِ وَلَا سَنَّ بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ كِتَابٍ وَهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ الَّذِينَ لَا يُقِرُّونَ بِالْجِزْيَةِ وَيُقِرُّونَ بِالْأَمَانِ وَالْعَهْدِ ، فَدِيَتُهُمْ كَدِيَةِ الْمَجُوسِ ثُلُثَا عُشْرِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ ، لِأَنَّهَا أَقَلُّ الدِّيَاتِ فَرُدُّوا إِلَيْهَا ، وَإِنْ كَانُوا أَنْقَصَ رُتْبَةً مِنَ الْمَجُوسِ فِي أَنَّهُمْ يُقِرُّونَ بِالْجِزْيَةِ ، فَأَمَّا الصَّابِئُونَ وَالسَّامِرَةُ فَإِنْ أُجْرُوا مَجْرَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي إِقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ وَأَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ لِمُوَافَقَتِهِمْ فِي أَصْلِ مُعْتَقَدِهِمْ كَانَتْ دِيَتُهُمْ ثُلُثَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ ، وَإِنْ لَمْ يُقِرُّوا بِالْجِزْيَةِ لِمُخَالَفَتِهِمْ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي أَصْلِ مُعْتَقَدِهِمْ فَدِيَتُهُمْ إِذَا كَانَ لَهُمْ أَمَانٌ كَدِيَةِ الْمَجُوسِيِّ ثُلُثَا عُشْرِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَمَانٌ وَلَا عَهْدٌ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ ، فَنُفُوسُهُمْ مُبَاحَةٌ وَدِمَاؤُهُمْ هَدَرٌ لَا تُضْمَنُ بِقَوَدٍ وَلَا عَقْلٍ ، سَوَاءٌ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ أَوْ لَمْ يَكُونُوا ، كَذَلِكَ دِمَاءُ الْمُرْتَدِّينَ عَنِ الْإِسْلَامِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا أَحْسَبُ أَحَدًا لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَوْمٌ وَرَاءَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَا مِنَ التُّرْكِ وَالْجُزُرِ فَدِمَاؤُهُمْ مَحْقُونَةٌ حَتَّى يُدْعَوْا إِلَى الْإِسْلَامِ فَيَمْتَنِعُوا فَإِنْ قُتِلُوا قَبْلَ دُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ ضُمِنَتْ نُفُوسُهُمْ بِالدِّيَةِ دُونَ الْقَوَدِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تُضَمَّنُ نُفُوسُهُمْ بِقَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ ، لِأَنَّ دِمَاءَ الْكُفَّارِ عَلَى الْإِبَاحَةِ إِلَّا مَنْ ثَبَتَ لَهُ عَهْدٌ أَوْ ذِمَّةٌ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ الدِّمَاءَ مَحْقُونَةٌ إِلَّا مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ الْمُعَانَدَةُ ،

وَلِأَنَّهُ لَمَّا حَرَّمَ قَتْلَهُمْ قَبْلَ دُعَائِهِمْ ثَبَتَ حَقْنُ دِمَائِهِمْ وَوَجَبَ ضَمَانُ نُفُوسِهِمْ كَأَهْلِ الْعَهْدِ ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ تَأْتِي فِي كِتَابِ السِّيَرِ مُسْتَوْفَاةً ، فَإِذَا تَقَرَّرَ ضَمَانُ دِيَاتِهِمْ فَفِيهَا وَجْهَانِ ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ أَطْلَقَهَا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا مِنْ بَعْدِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ ، لِأَنَّهُ مَوْلُودٌ عَلَى الْفِطْرَةِ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ مُعَانَدَةٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا كَدِيَةِ الْمَجُوسِ ثُلُثَا عُشْرِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ ، لِأَنَّهَا يَقِينٌ مَعَ الْأَصْلِ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَجِرَاحُهُمْ عَلَى قَدْرِ دِيَاتِهِمْ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ مُعْتَبَرٌ بِدِيَةِ النَّفْسِ ، فَيَكُونُ فِي مُوضِحَةِ الْيَهُودِيِّ بَعِيرٌ وَثُلُثَانِ ، وَفِي هَاشِمَتِهِ ثَلَاثَةُ أَبْعِرَةٍ وَثُلُثٌ ، وَفِي مُنَقِّلَتِهِ خَمْسَةُ أَبْعِرَةٍ ، وَفِي مَأْمُومَتِهِ أَحَدَ عَشَرَ بَعِيرًا وَتُسْعٌ ، وَفِي إِصْبَعِهِ ثَلَاثَةُ أَبْعِرَةٍ وَثُلُثٌ ، وَفِي أُنْمُلَتِهِ بَعِيرٌ وَتُسْعٌ ، وَفِي مُوضِحَةِ الْمَجُوسِ ثُلُثُ بَعِيرٍ ، وَفِي هَاشِمَتِهِ ثُلُثَا بَعِيرٍ ، وَفِي مُنَقِّلَتِهِ بَعِيرٌ ، وَفِي إِصْبَعِهِ ثُلُثُ بَعِيرٍ ، وَفِي أُنْمُلَتِهِ تُسْعَا بَعِيرٍ ، وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا فِيمَا زَادَ وَنَقَصَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَالْمَرْأَةُ مِنْهُمْ وَجِرَاحُهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ فِيمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ وَاحْتَجَّ فِي دِيَاتِ أَهْلِ الْكُفْرِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَّقَ ثُمَّ رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فَجَعَلَ الْكُفَّارَ مَتَى قَدَرَ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُونَ صِنْفًا مِنْهُمْ يُعَبَّدُونَ وَتُؤْخَذُ أَمْوَالُهُمْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ وَصِنْفًا يُصْنَعُ ذَلِكَ بِهِمْ إِلَّا أَنْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ مَنْ كَانَ خَوَلًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي حَالٍ أَوْ خَوَلًا بِكُلِّ حَالٍ إِلَّا أَنْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ كَالْعَبْدِ الْمُخَارِجِ فِي بَعْضِ حَالَاتِهِ كَفِيئًا لِمُسْلِمٍ فِي دَمٍ وَلَا دِيَةٍ وَلَا يَبْلُغُ بِدِيَةِ كَافِرٍ دِيَةَ مُؤْمِنٍ إِلَّا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ دِيَةُ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ فِي نَفْسِهَا وَأَطْرَافِهَا وَجِرَاحِهَا عَلَى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ كَانَتْ دِيَةُ الْمَرْأَةِ الْكَافِرَةِ فِي نَفْسِهَا وَأَطْرَافِهَا وَجِرَاحِهَا عَلَى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُلِ الْكَافِرِ ، فَيَجِبُ فِي مُوضِحَةِ الْيَهُودِيَّةِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ بَعِيرٍ ، وَفِي هَاشِمَتِهَا بَعِيرٌ وَثُلُثَانِ ، وَفِي مُوضِحَةِ الْمَجُوسِيَّةِ سُدُسُ بَعِيرٍ ، وَفِي هَاشِمَتِهَا ثُلُثُ بَعِيرٍ ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَبِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَقُولُ : جِرَاحُ الْعَبْدِ مِنْ ثَمَنِهِ كَجِرَاحِ الْحُرِّ مِنْ دِيَتِهِ فِي كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ وَقِيمَتُهُ مَا كَانَتْ وَهَذَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَى نَفْسِ الْعَبْدِ فَمُوجِبَةٌ لِقِيمَتِهِ ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ نَفْسِهِ مِنْ أَطْرَافِهِ وَجِرَاحِهِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تَكُونُ مُقَدَّرَةً مِنْ قِيمَتِهِ كَمَا تَكُونُ مُقَدَّرَةً مِنَ الْحُرِّ مِنْ دِيَتِهِ ، فَيَجِبُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ لِسَانِهِ وَأَنْفِهِ وَذَكَرِهِ قِيمَتُهُ وَفِي إِحْدَى يَدَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ كَمَا يَجِبُ فِي الْحُرِّ نِصْفُ دِيَتِهِ ، كَمَا يَجِبُ فِي الْحُرِّ دِيَتُهُ ، وَيَجِبُ فِي إِصْبَعِهِ عُشْرُ قِيمَتِهِ ، وَفِي أُنْمُلَتِهِ ثُلُثُ عُشْرِهَا ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَأَبِي حَنِيفَةَ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : مَا قَالَهُ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ الْوَاجِبُ فِي جَمِيعِهَا مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ كَالْبَهَائِمِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : مَا قَالَهُ مَالِكٌ : أَنَّ مَا لَا يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ بَعْدَ الِانْدِمَالِ مِنْ شِجَاجِ الرَّأْسِ فَفِي مُقَدَّرٍ مِنْ قِيمَتِهِ كَمَا قُلْنَا ، وَمَا يَبْقَى أَثَرُهُ بَعْدَ الِانْدِمَالِ كَالْأَطْرَافِ فَفِيهِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ كَأَهْلِ الظَّاهِرِ ، وَاسْتَدَلَّ أَهْلُ الظَّاهِرِ بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَمْلُوكٌ كَالْبَهَائِمِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ فَأَشْبَهَ ضَمَانَ الْغَصْبِ ، وَفَرَّقَ مَالِكٌ بَيْنَ شِجَاجِ رَأْسِهِ وَأَطْرَافِهِ بِأَنَّهُ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ عِنْدَهُ حُجَّةٌ ، وَبِأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّرَ شِجَاجُ الرَّأْسِ فِي الْحُرِّ وَلَمْ تَتَقَدَّرْ جِرَاحُ جَسَدِهِ تَغَلَّظَ حُكْمُهُ عَلَى حُكْمِهِ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ ضُمِنَتْ نَفْسُهُ بِالْقَوَدِ وَالْكَفَّارَةِ ضُمِنَتْ أَطْرَافُهُ بِالْمُقَدَّرِ كَالْحُرِّ ، وَعَلَى مَالِكٍ أَنَّ مَنْ تَقَدَّرَتْ شِجَاجُهُ تَقَدَّرَتْ أَطْرَافُهُ كَالْحُرِّ ، وَلِأَنَّ مَا تَقَدَّرَ فِي الْحُرِّ تَقَدَّرَ فِي الْعَبْدِ كَالشِّجَاجِ ، ثُمَّ يُقَالُ لِمَالِكٍ : الْعَبْدُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْحُرُّ . وَالثَّانِي : الْبَهِيمَةُ ، فَإِنْ أُلْحِقَ بِالْحُرِّ تَقَدَّرَتْ أَطْرَافُهُ وَشِجَاجُهُ ، وَإِنْ أُلْحِقَ بِالْبَهِيمَةِ لَمْ تَتَقَدَّرْ شِجَاجُهُ وَلَا أَطْرَافُهُ ، وَإِلْحَاقُهُ بِالْحُرِّ أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهِ بِالْبَهَائِمِ ، لِمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ مِنَ التَّكْلِيفِ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْحُدُودِ ، وَيَلْزَمُ فِي قَتْلِهِ مِنَ الْقَوَدِ وَالْكَفَّارَةِ ، فَأَمَّا ضَمَانُهُ بِالْيَدِ إِذَا يُغْصَبُ ، فَإِنَّمَا لَمْ يُضْمَنْ بِالْمُقَدَّرِ ، لِأَنَّهُ لَا يُضْمَنُ بِالْقَوَدِ وَالْكَفَّارَةِ فَأَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الْأَمْوَالِ الْمَحْضَةِ ، وَصَارَ فِيهَا مُلْحَقًا بِالْبَهَائِمِ ، وَيُضْمَنُ فِي الْجِنَايَاتِ بِالْقَوَدِ وَالْكَفَّارَةِ فَأُلْحِقَ بِالْأَحْرَارِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ تَقْدِيرُ الْجِنَايَاتِ على العبد عَلَيْهِ مِنْ قِيمَتِهِ كَالْحُرِّ مِنْ دِيَتِهِ فَلِسَيِّدِهِ أَنْ يَأْخُذَ أَرْشَ الْجِنَايَاتِ عَلَيْهِ كُلِّهَا ، سَوَاءٌ زَادَتْ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِ أَضْعَافًا أَوْ نَقَصَتْ ، وَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ وَجَبَ فِيهَا جَمِيعُ قِيمَتِهِ كَانَ بِيَدِهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ تَسْلِيمِهِ إِلَى الْجَانِي وَأَخْذِ قِيمَتِهِ مِنْهُ أَوْ إِمْسَاكِهِ بِغَيْرِ أَرْشٍ ، لِأَنْ لَا يَجْمَعَ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ ، وَإِنْ وَجَبَ بِهَا نِصْفُ قِيمَتِهِ كَانَ سَيِّدُهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْسَاكِهِ وَأَخْذِ نِصْفِ قِيمَتِهِ وَبَيْنَ تَسْلِيمِهِ إِلَى الْجَانِي وَأَخْذِ جَمِيعِ قِيمَتِهِ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ مِمَّا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ ، فَأَمَّا إِذَا تَبَعَّضَتْ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ وَالْعِتْقُ فَكَانَ نِصْفُهُ حُرًّا وَنِصْفُهُ عَبْدًا فَفِي أَطْرَافِهِ نِصْفُ مَا فِي أَطْرَافِ الْحُرِّ وَنِصْفُ مَا فِي أَطْرَافِ الْعَبْدِ ، فَيَجِبُ فِي يَدِهِ رُبُعُ الدِّيَةِ وَرُبْعُ الْقِيمَةِ ، وَفِي إِصْبَعِهِ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ وَنِصْفُ عُشْرِ الْقِيمَةِ ، وَفِي أُنْمُلَتِهِ سُدُسُ عُشْرِ الْقَيِّمَةِ وَسُدُسُ عُشْرِ الدِّيَةِ ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ فِيمَا زَادَ مِنَ الْحُرِّيَّةِ وَنَقَصَ ، فَأَمَّا ضَمَانُ الْمُكَاتِبِ فَكَالْعَبْدِ وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَتَحْمِلُ ثَمَنَهُ الْعَاقِلَةُ إِذَا قَتَلَ خَطَأً . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْعَبْدُ إِذَا قَتَلَ حُرًّا ما عليه فَالدِّيَةُ فِي ذِمَّتِهِ وَمُرْتَهِنَةٌ رَقَبَتُهُ ، يُبَاعُ فِيهَا وَيُؤَدِّي الدِّيَةَ حَالَّةً فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ لَا تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ عَنْهُ وَلَا السَّيِّدُ إِلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ بِاقْتِدَائِهِ مِنْهَا ، فَإِنْ عَجَزَ ثَمَنُهُ عَنِ الدِّيَةِ كَانَ الْبَاقِي فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ يُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَلَا يَكُونُ عَلَى سَيِّدِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا كَانَ السَّيِّدُ ضَامِنًا لِجِنَايَةِ عَبْدِهِ كَمَا يَضْمَنُ جِنَايَةَ بَهِيمَتِهِ . قِيلَ : لِأَنَّ جِنَايَةَ الْبَهِيمَةِ إِضَافَةٌ إِلَى مَالِكِهَا ، لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ إِذَا نُسِبَ إِلَى التَّفْرِيطِ فِي حِفْظِهَا وَجِنَايَةُ الْعَبْدِ مُضَافَةٌ إِلَيْهِ دُونَ سَيِّدِهِ ، لِأَنَّ لَهُ اخْتِيَارًا يَتَصَرَّفُ بِهِ ، فَلِذَلِكَ ضَمِنَ جِنَايَةَ بَهِيمَتِهِ وَلَمْ يَضْمَنْ جِنَايَةَ عَبْدِهِ . فَأَمَّا إِذَا قَتَلَ الْحُرُّ عَبْدًا فَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا مَحْضًا فَقِيمَتُهُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ حَالَّةٌ ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً مَحْضًا أَوْ عَمْدَ الْخَطَأِ فَفِي قِيمَتِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قِيمَةَ نَفْسِهِ وَأُرُوشَ أَطْرَافِهِ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي مُؤَجَّلَةً وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ قِيمَةَ نَفْسِهِ وَأُرُوَشَ أَطْرَافِهِ فِي مَالِ الْجَانِي لَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ حَالَّةً وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ دِيَةَ نَفْسِهِ وَلَا تَحْمِلُ أُرُوشَ أَطْرَافِهِ ، فَإِذَا قَتَلَ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ . فَدَلِيلُهُ أَنَّ مَنْ وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ فِي قَتْلِهِ تَحَمَّلَتِ الْعَاقِلَةُ بَدَلَ نَفْسِهِ كَالْحُرِّ ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ مُتَرَدِّدُ الْحُكْمِ بَيْنَ الْحُرِّ لِكَوْنِهِ مُكَلَّفًا وَبَيْنَ الْبَهِيمَةِ لِأَنَّهُ مُقَوَّمٌ وَمَبِيعٌ فَكَانَ إِلْحَاقُهُ بِالْحُرِّ أَوْلَى ، لِمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ، وَلِمَا يَجِبُ فِي قَتْلِهِ مِنَ الْكَفَّارَةِ

وَالْقَوَدِ ، فَوَجَبَ إِلْحَاقُهُ بِالْحُرِّ أَوْلَى ، لِمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ، وَلِمَا يَجِبُ فِي قَتْلِهِ مِنَ الْكَفَّارَةِ وَالْقَوَدِ ، فَوَجَبَ إِلْحَاقُهُ بِهِ فِي تَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ لِبَدَلِ أَطْرَافِهِ وَنَفْسِهِ . فَإِذَا قِيلَ : لَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ فَدَلِيلُهُ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا وَلِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَحْمِلَهُ الْعَاقِلَةُ كَالْبَهِيمَةِ ، وَلِأَنَّهُ يُضْمَنُ بِالْيَدِ تَارَةً وَبِالْجِنَايَةِ أُخْرَى فَوَجَبَ أَنْ لَا تَحْمِلَ الْعَاقِلَةُ ضَمَانَهُ بِالْجِنَايَةِ كَمَا لَمْ تَحْمِلْ ضَمَانَهُ بِالْيَدِ كَالْأَمْوَالِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَتَحَمَّلْ عَنْهُ الْعَاقِلَةُ إِذَا كَانَ قَاتِلًا لَمْ تَتَحَمَّلْهُ الْعَاقِلَةُ إِذَا كَانَ مَقْتُولًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَفِي ذَكَرِهِ ثَمَنُهُ وَلَوْ زَادَ الْقَطْعُ فِي ثَمَنِهِ أَضْعَافًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كُنْتَ تَزْعُمُ ثَمَنَهُ كَثَمَنِ الْبَعِيرِ إِذَا قُتِلَ فَلِمَ لَمْ يُحْكَمْ فِي جُرْحِهِ كَجُرْحِ الْبَعِيرِ وَبَعْضِهِ ؟ قُلْتُ : قَدْ يُجَامِعُ الْحُرُّ الْبَعِيرَ بِقَتْلٍ فَيَكُونُ ثَمَنُهُ مِثْلَ دِيَةِ الْحُرِّ فَهُوَ فِي الْحُرِّ دِيَةٌ وَفِي الْبَعِيرِ قِيمَةٌ وَالْقِيمَةُ دِيَةُ الْعَبْدِ ، وَقِسْتُهُ بِالْحُرِّ دُونَ الْبَهِيمَةِ بِدَلِيلٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَتْلِ النَّفْسِ الدِّيَةُ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ وَحَكَمْتَ وَحَكَمْنَا فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ بِدِيَاتٍ مُخْتَلِفَاتٍ وَجَعَلْنَا فِي كُلِّ نَفْسٍ مِنْهُمْ دِيَةً وَرَقَبَةً ، وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ فِي النَّفْسِ الرَّقَبَةَ حَيْثُ جَعَلَ الدِّيَةَ وَبَدَلَ الْبَعِيرِ وَالْمَتَاعِ قِيمَةً لَا رَقَبَةَ مَعَهَا فَجَامَعَ الْعَبْدُ الْأَحْرَارَ فِي أَنَّ فِيهِ كَفَّارَةً وَفِي أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ قُتِلَ وَإِذَا جَرَحَ جُرِحَ فِي قَوْلِنَا وَفِي أَنَّ عَلَيْهِ حَدَّ الْحُرِّ فِي بَعْضِ الْحُدُودِ وَنِصْفَ حَدِّ الْحُرِّ فِي بَعْضِ الْحُدُودِ وَأَنَّ عَلَيْهِ الْفَرَائِضَ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالتَّعَبُّدِ وَكَانَ آدَمِيًّا كَالْأَحْرَارِ فَكَانَ بِالْآدَمِيِّينَ أَشْبَهَ فَقِسْتُهُ عَلَيْهِمْ دُونَ الْبَهَائِمِ وَالْمَتَاعِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَقَالَ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ وَالْجِنَايَاتِ : لَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ كَمَا لَا تَغْرَمُ قِيمَةَ مَا اسْتَهْلَكَ مِنْ مَالٍ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) الْأُوَلُ بِقَوْلِهِ أَشْبَهُ لِأَنَّهُ شَبَّهُهُ بِالْحُرِّ فِي أَنَّ جِرَاحَهُ مِنْ ثَمَنِهِ كَجِرَاحِ الْحُرِّ مِنْ دِيَتِهِ لَمْ يَخْتَلِفْ ذَلِكَ عِنْدِي مِنْ قَوْلِهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّنَا قَدْ قَرَّرْنَا أَنَّ مَا فِي الْحُرِّ مِنْهُ دِيَةٌ كَانَ فِي الْعَبْدِ مِنْهُ قِيمَةٌ ، وَفِي ذَكَرِ الْحُرِّ دِيَتُهُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي ذَكَرِ الْعَبْدِ قِيمَتُهُ . فَإِنْ قَالَ : فَقَطْعُهُ مِنَ الْحُرِّ نَقْصٌ فَلِذَلِكَ ضُمِنَ بِالدِّيَةِ ، وَقَطْعُهُ مِنَ الْعَبْدِ زِيَادَةٌ لِأَنَّ ثَمَنَهُ يَزِيدُ بِقَطْعِهِ فَلَمْ يُضْمَنْ بِالْقِيمَةِ ، قِيلَ : الْمَضْمُونُ بِالْجِنَايَةِ لَا يُرَاعَى فِيهِ النَّقْصُ وَالزِّيَادَةُ ، لِأَنَّ الْأَعْضَاءَ الزَّائِدَةَ تُضَمَنُ بِالْجِنَايَةِ وَإِنْ أَحْدَثَتْ زِيَادَةً .

مَسْأَلَةٌ كُلُّ جِنَايَةِ عَمْدٍ لَا قِصَاصَ فِيهَا فَالْأَرْشُ فِي مَالِ الْجَانِي

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَكُلُّ جِنَايَةِ عَمْدٍ لَا قِصَاصَ فِيهَا فَالْأَرْشُ فِي مَالِ الْجَانِي . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا جِنَايَةُ الْخَطَأِ الْمَحْضِ وَعَمْدِ الْخَطَأِ فَتَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ ، وَأَمَّا جِنَايَةُ الْعَمْدِ الْمَحْضِ فَفِي مَالِ الْجَانِي وَلَا تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ ، سَوَاءٌ وَجَبَ فِيهَا الْقِصَاصُ أَوْ لَمْ يَجِبْ كَالْجَائِفَةِ وَالْمَأْمُومَةِ . وَقَالَ مَالِكٌ : مَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ مِنَ الْعَمْدِ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ كَالْخَطَأِ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا وَلِأَنَّ مَا لَمْ تَتَحَمَّلْهُ الْعَاقِلَةُ مِنَ الْعَمْدِ إِذَا وَجَبَ فِيهِ الْقَوَدُ لَمْ تَتَحَمَّلْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ فِيهِ الْقَوَدُ كَجِنَايَةِ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ ، وَلِأَنَّ جِنَايَةَ الْعَمْدِ مُغَلَّظَةٌ وَتَحَمُّلُ الْعَاقِلَةِ تَخْفِيفٌ ، فَتَنَافَى اجْتِمَاعُهُمَا ، وَلِأَنَّ تَحَمُّلَ الْعَاقِلَةِ رِفْقٌ وَمَعُونَةٌ ، وَالْعَامِدُ مُعَاقَبٌ لَا يُعَانُ وَلَا يُرْفَقُ بِهِ ، وَالْخَاطِئُ مَعْذُورٌ ، فَلِذَلِكَ خُصَّ بِالْمَعُونَةِ وَالرِّفْقِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَقِيلَ جِنَايَةُ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ عَمْدًا وَخَطَأً يَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ وَقِيلَ لَا لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى أَنْ تَحْمِلَ الْعَاقِلَةُ الْخَطَأَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَلَوْ قَضَيْنَا بِهَا إِلَى ثَلَاثِ سِنِينَ خَالَفْنَا دِيَةَ الْعَمْدِ لِأَنَّهَا حَالَّةٌ فَلَمْ يُقْضَ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِدِيَةِ عَمْدٍ بِحَالٍ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِمَا فِيهِ لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِمَا ، وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْخَطَأِ ، وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ الْعَمْدِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ : عَنِ الصَّبِيِ حَتَّى يَحْتَلِمَ ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَنْتَبِهَ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا سَقَطَ فِيهِ الْقَوَدُ بِكُلِّ حَالٍ كَانَ فِي حُكْمِ الْخَطَأِ كَالْخَطَأِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْعَمْدِ وَإِنْ سَقَطَ فِيهِ الْقَوَدُ ، لِأَنَّ صِفَةَ الْعَمْدِ مُتَمَيِّزَةٌ فَكَانَ حُكْمُهَا مُتَمَيِّزًا ، وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ قَدْ وَقَعَ الْفَرْقُ فِيهِ بَيْنَ عَمْدِهِ وَنِسْيَانِهِ إِذَا تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ وَأَكَلَ فِي الصِّيَامِ وَتَطَيَّبَ فِي الْحَجِّ ، فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ عَمْدِهِ وَخَطَئِهِ فِي الْقَتْلِ ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ عَمْدِهِ وَخَطَئِهِ فِي الْعِبَادَاتِ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْجِنَايَاتِ كَالْبَالِغِ الْعَاقِلِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ مِنْهُمَا أَنَّ عَمْدَهُ كَالْخَطَأِ ، فَالدِّيَةُ مُخَفَّفَةٌ تَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَتَحَمَّلُ إِلَّا مُؤَجَّلًا الدية ، وَإِذَا قِيلَ بِالثَّانِي أَنَّ عَمْدَهُ عَمْدٌ وَإِنْ سَقَطَ فِيهِ الْقَوَدُ ، فَالدِّيَةُ مُغَلَّظَةٌ حَالَّةٌ تَجِبُ فِي مَالِهِ دُونَ عَاقِلَتِهِ ،

وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الصَّبِيُّ مُمَيِّزًا أَوْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ صَاحَ بِرَجُلٍ فَسَقَطَ عَنْ حَائِطٍ وَلَوْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَعْتُوهًا فَسَقَطَ مِنْ صَيْحَتِهِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ صَاحَ بِرَجُلٍ فَسَقَطَ عَنْ حَائِطٍ لَمْ أَرَ عَلَيْهِ شَيْئًا وَلَوْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَعْتُوهًا فَسَقَطَ مِنْ صَيْحَتِهِ ضُمِنَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ ، إِذَا وَقَفَ إِنْسَانٌ عَلَى شَفِيرِ بِئْرٍ أَوْ حَافَّةِ نَهْرٍ أَوْ قُلَّةِ جَبَلٍ فَصَاحَ بِهِ صَائِحٌ فَخَرَّ سَاقِطًا وَوَقَعَ مَيِّتًا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْوَاقِعِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ رَجُلًا ، قَوِيَّ النَّفْسِ ، ثَابِتَ الْجَأْشِ ، ثَابِتَ الْجَنَانِ ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الصَّائِحِ ، لِأَنَّ صَيْحَتَهُ لَا تُسْقِطُ مِثْلَ هَذَا الْوَاقِعِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُقُوعِهِ مِنْ غَيْرِ صَيْحَتِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ مَضْعُوفًا لَا يَثْبُتُ لِمِثْلِ هَذِهِ الصَّيْحَةِ فَالصَّائِحُ ضَامِنٌ لِدِيَتِهِ ، لِأَنَّ صَيْحَتَهُ تُسْقِطُ مِثْلَهُ مِنَ الْمَضْعُوفِينَ ، وَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْمُبَاشَرَةِ ، لَكِنَّهُ إِنْ عَمَدَ الصَّيْحَةَ كَانَتِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً ، وَإِنْ لَمْ يَعْمِدْ كَانَتْ مُخَفَّفَةً . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُضْمَنُ بِهَا الصَّغِيرُ كَمَا لَا يُضْمَنُ بِهَا الْكَبِيرُ الْقَوِيُّ ، وَهَذَا جَمْعٌ فَاسِدٌ ، لِأَنَّ الصَّيْحَةَ تُؤَثِّرُ فِي الصَّغِيرِ الْمَضْعُوفِ ، وَلَا تُؤَثِّرُ فِي الْكَبِيرِ الْقَوِيِّ فَافْتَرَقَا فِي الضَّمَانِ : وَلِأَنَّ الْجِنَايَاتِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ لَطَمَ صَبِيًّا فَمَاتَ ضَمِنَهُ ، وَلَوْ لَطَمَ رَجُلًا فَمَاتَ لَمْ يَضْمَنْهُ ، لِأَنَّ الصَّبِيَّ يَمُوتُ بِاللَّطْمَةِ وَالرَّجُلَ لَا يَمُوتُ بِهَا ، فَلَوِ اغْتَفَلَ إِنْسَانًا وَزَجَرَهُ بِصَيْحَةٍ هَائِلَةٍ فَزَالَ عَقْلُهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَحَمَلَهُ أَكْثَرُهُمْ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّفْسِيرِ أَنَّهُ يَضْمَنُ بِهَا عَقْلَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ، وَلَا يَضْمَنُ بِهَا عَقْلُ الرَّجُلِ الثَّابِتِ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : يَضَمَنُ بِهَا عَقْلَ الْفَرِيقَيْنِ مَعًا بِخِلَافِ الْوُقُوعِ ، لِأَنَّ فِي الْوُقُوعِ فِعْلًا لِلْوَاقِعِ فَجَازَ أَنْ يَنْسُبَ الْوُقُوعَ إِلَيْهِ وَلَيْسَ فِي زَوَالِ الْعَقْلِ فِعْلٌ مِنَ الزَّائِلِ الْعَقْلَ فَلَمْ يُنْسَبْ زَوَالُهُ إِلَّا إِلَى الصَّائِحِ الْمُذْعِرِ ، وَلَوْ قَذَفَ رَجُلٌ امْرَأَةً بِالزِّنَا فَمَاتَتْ لَمْ يَضْمَنْهَا ، وَلَوْ أَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا بعد قذفها بالزنا ضَمِنَهُ ، لِأَنَّ الْجَنِينَ يُلْقَى مِنْ ذُعْرِ الْقَذْفِ وَالْمَرْأَةَ لَا تَمُوتُ مِنْهُ ، قَدْ أَرْسَلَ عُمَرُ إِلَى امْرَأَةٍ قُذِفَتْ عِنْدَهُ رَسُولًا فَأَرْهَبُهَا فَأَجْهَضَتْ مَا فِي ذَاتِ بَطْنِهَا فَحَمَّلَ عُمَرُ عَاقِلَةَ نَفْسِهِ دِيَةَ جَنِينِهَا .

مَسْأَلَةٌ لَوْ طَلَبَ رَجُلًا بِسَيْفٍ فَأَلْقَى بِنَفْسِهِ عَنْ ظَهْرِ بَيْتٍ فَمَاتَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ طَلَبَ رَجُلًا بِسَيْفٍ فَأَلْقَى بِنَفْسِهِ عَنْ ظَهْرِ بَيْتٍ فَمَاتَ لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ كَانَ أَعْمَى فَوَقَعَ فِي حُفْرَةٍ ضَمِنَتْ عَاقِلَةُ الطَّالِبِ دِيَتَهُ لِأَنَّهُ اضْطَرَّهُ إِلَى ذَلِكَ .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ شَهَرَ سَيْفًا وَطَلَبَ بِهِ إِنْسَانًا فَهَرَبَ مِنْهُ الْمَطْلُوبُ حَتَّى أَلْقَى نَفْسَهُ مِنْ سَطْحٍ أَوْ جَبَلٍ أَوْ فِي بَحْرٍ أَوْ نَارٍ حَتَّى هَلَكَ فَتَنْقَسِمُ حَالُ الْهَارِبِ الْمَطْلُوبِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا بَصِيرًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى طَالِبِهِ مِنْ قَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الطَّلَبَ سَبَبٌ وَالْإِلْقَاءَ مُبَاشَرَةٌ ، وَإِذَا اجْتَمَعَا سَقَطَ حُكْمُ السَّبَبِ بِالْمُبَاشَرَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ وَإِنْ أَلْجَأَهُ بِالطَّلَبِ إِلَى الْهَرَبِ فَلَمْ يُلْجِئْهُ إِلَى الْوُقُوعِ : لِأَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَهُ جَازَ أَنْ يَجِيءَ عَلَيْهِ ، وَجَازَ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ ، فَصَارَ مُلْقِي نَفْسِهِ هُوَ قَاتِلُهَا دُونَ طَالِبِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ عَجَّلَ إِتْلَافَ نَفْسِهِ بَدَلًا مِمَّا يَجُوزُ أَنْ لَا يُتْلَفَ بِهِ ، فَصَارَ كَالْمَجْرُوحِ إِذَا ذَبَحَ نَفْسَهُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ أَعْمَى فَيَهْرَبُ مِنَ الطَّالِبِ حَتَّى يَتَرَدَّى مِنْ سَطْحٍ أَوْ جَبَلٍ أَوْ يَقَعُ فِي بِئْرٍ أَوْ بَحْرٍ ، فَإِنْ أُعْلِمَ بِالسَّطْحِ وَالْجَبَلِ وَالْبِئْرِ وَالْبَحْرِ فَأَلْقَى نَفْسَهُ بَعْدَ عِلْمِهِ كَانَتْ نَفْسُهُ هَدَرًا كَالْبَصِيرِ ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بِذَلِكَ حَتَّى وَقَعَ فَمَاتَ فَعَلَى طَالِبِهِ الدِّيَةُ دُونَ الْقَوَدِ ، لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُبَاشِرًا لِإِلْقَائِهِ فَقَدْ أَلْجَأَهُ إِلَيْهِ ، وَالْمُلْجِئُ إِلَى الْقَتْلِ ضَامِنٌ كَالْقَاتِلِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الشُّهُودَ إِذَا شَهِدُوا عِنْدَ الْحَاكِمِ عَلَى رَجُلٍ بِمَا يُوجِبُ الْقَتْلَ فَقَتَلَهُ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُمْ شَهِدُوا بِزُورٍ ضَمِنُوهُ دُونَ الْحَاكِمِ : لِأَنَّهُمْ أَلْجَئُوهُ إِلَى قَتْلِهِ فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْمُلْجِئِ دُونَ الْمُبَاشِرِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا ، فَفِي ضَمَانِ دِيَتِهِمَا عَلَى الطَّالِبِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي قَصْدِهِمَا لِلْقَتْلِ هَلْ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْعَمْدِ أَمْ لَا ؟ أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَضْمَنُ دِيَتَهُمَا إِذَا قِيلَ : إِنَّهُ لَا يَجْرِي عَلَى قَصْدِهِمَا لِلْقَتْلِ حُكْمُ الْعَمْدِ . وَالثَّانِي : لَا يَضْمَنُ دِيَتَهُمَا إِذَا قِيلَ : إِنَّهُ يَجْرِي عَلَى قَصْدِهِمَا لِلْقَتْلِ حُكْمُ الْعَمْدِ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ عَرَضَ لَهُ فِي طَلَبِهِ سَبُعٌ فَأَكَلَهُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ عَرَضَ لَهُ فِي طَلَبِهِ سَبُعٌ فَأَكَلَهُ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّ الْجَانِيَ غَيْرُهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَفْصِيلٍ ، فَإِذَا اعْتَرَضَ الْهَارِبَ الْمَطْلُوبَ سَبْعٌ فَافْتَرَسَهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُلْجِئَهُ الطَّالِبُ إِلَى مَوْضِعِ السَّبُعِ فَيَضْمَنَهُ بِالدِّيَةِ كَمَا لَوْ أَلْقَاهُ عَلَيْهِ .

وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يُلْجِئَهُ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا هَرَبَ فِي صَحْرَاءَ وَافَقَ سَبُعًا مُعْتَرِضًا فِيهَا فَافْتَرَسَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الطَّالِبِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَطْلُوبُ بَصِيرًا أَوْ ضَرِيرًا ، صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُبَاشِرٍ وَلَا مُلْجِئٍ . فَإِنْ قِيلَ : فَلَوْ أَلْقَاهُ فِي بَحْرٍ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ ضَمِنَهُ فَهَلَّا قُلْتُمْ إِذَا اعْتَرَضَهُ السَّبُعُ ضَمِنَهُ ؟ قِيلَ : لِأَنَّهُ بِإِلْقَائِهِ فِي الْبَحْرِ مُبَاشِرٌ فَجَازَ أَنْ يَضْمَنَ مَا حَدَثَ بِإِلْقَائِهِ ، لِأَنَّهُ صَارَ مُلْجِئًا وَفِي الْهَرَبِ مِنْهُ غَيْرُ مُبَاشِرٍ فَلَمْ يَضْمَنْ مَا حَدَثَ بِالْهَرَبِ إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ إِلْجَاءٌ ، وَلَوِ انْخَسَفَ مِنْ تَحْتِ الْهَارِبِ سَقْفٌ فَخَرَّ مِنْهُ مَيِّتًا فَفِي ضَمَانِ الطَّالِبِ لَهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَضْمَنُهُ كَالسَّبُعِ إِذَا اعْتَرَضَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ يَضْمَنُهُ لِأَنَّهُ مُلْجِئٌ إِلَى مَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ .

فَصْلٌ : وَلَوْ رَمَاهُ مِنْ شَاهِقٍ فَاسْتَقْبَلَهُ آخَرُ بِسَيْفِهِ مِنْ تَحْتِهِ فَقَدَّهُ نِصْفَيْنِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الشَّاهِقُ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَسْلَمَ الْوَاقِعُ مِنْهُ فَضَمَانُهُ عَلَى الْقَاطِعِ دُونَ الْمُلْقِي : لِأَنَّ الْقَاطِعَ مُوحٍ وَالْمُلْقِيَ جَارِحٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الشَّاهِقُ مِمَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْلَمَ الْوَاقِعُ مِنْهُ فَفِي ضَمَانِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : عَلَى الْمُلْقِي ضَمَانُهُ ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِإِلْقَائِهِ كَالْمُوجِي فَيَضْمَنُهُ بِالْقَوَدِ لِمُبَاشَرَتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ ضَمَانَهُ بِالْقَوَدِ أَوِ الدِّيَةِ عَلَى الْقَاطِعِ دُونَ الْمُلْقِي ، لِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَهُ إِلَى مُبَاشَرَةِ مُوحِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُمَا يَضْمَنَانِهِ جَمِيعًا بِالْقَوَدِ أَوِ الدِّيَةِ ، لِأَنَّهُمَا قَدْ صَارَا كَالشَّرِيكَيْنِ فِي تَوْحِيَتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَيُقَالُ لِسَيِّدِ أُمِّ الْوَلَدِ إِذَا جَنَتْ أَفْدِهَا بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ جِنَايَتِهَا ثَمَّ هَكَذَا كُلَّمَا جَنَتْ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) هَذَا أَوْلَى بِقَوْلِهِ مِنْ أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَهُوَ أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا غَرِمَ قِيمَتَهَا ثُمَّ جَنَتْ شَرَكَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الثَّانِيَ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ الْأَوَّلَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) فَهَذَا عِنْدِي لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ الْأَوَّلَ قَدْ مَلَكَ الْأَرْشَ

بِالْجِنَايَةِ فَكَيْفَ تَجْنِي أَمَةُ غَيْرِهِ وَيَكُونَ بَعْضُ الْغُرْمِ عَلَيْهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا جَنَتْ أُمُّ الْوَلَدِ وَجَبَ عَلَى سَيِّدِهَا أَنْ يَفْدِيَهَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ، إِلَّا أَنَّ أَبَا ثَوْرٍ وَدَاوُدَ شَذَا عَنِ الْجَمَاعَةِ وَأَوْجَبَا أَرْشَ جِنَايَتِهَا فِي ذِمَّتِهَا تُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهَا ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [ فَاطِرَ : 18 ] وَلِأَنَّهَا إِنْ جَرَتْ مَجْرَى الْإِمَاءِ لَمْ يَلْزَمِ السَّيِّدَ الْفِدَاءُ ، وَإِنْ جَرَتْ مَجْرَى الْأَحْرَارِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَهُ ، فَلَمَّا حَرُمَ بَيْعُهَا صَارَتْ كَالْأَحْرَارِ فِي تَعَلُّقِ الْجِنَايَةِ بِذِمَّتِهَا ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ مَنْ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الرِّقِّ تَعَلَّقَتْ جِنَايَتُهُ بِرَقَبَتِهِ ، وَأُمُّ الْوَلَدِ قَدْ حَرُمَ بَيْعُهَا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ ، فَصَارَ كَمَنْعِهِ مِنْ بَيْعِ عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ يَصِيرُ بِالْمَنْعِ ضَامِنًا لِجِنَايَتِهِ ، وَكَذَلِكَ الْمَنْعُ مِنْ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لِثَمَنِهَا بِالْإِيلَاءِ كَمَا يَصِيرُ مُسْتَهْلِكًا لِثَمَنِ عَبْدِهِ بِالْقَتْلِ ، وَلَوْ قَتَلَ عَبْدَهُ بَعْدَ جِنَايَتِهِ ضَمِنَهَا ، كَذَلِكَ إِذَا جَنَتْ أَمَتُهُ بَعْدَ إِيلَادِهَا ضَمِنَ جِنَايَتِهَا وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ ضَمَانِ السَّيِّدِ لِجِنَايَتِهَا فَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا اقْتَصَّ مِنْهَا لِتَعَلُّقِ الْقِصَاصِ بِبَدَنِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ خَطَأً أَوْ عَمْدًا عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ فِيهِ ، فَعَلَى السَّيِّدِ أَنْ يَفْدِيَهَا بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ ، فَإِنْ كَانَ أَرْشُ جِنَايَتِهَا أَقَلَّ ضَمِنَ أَرْشَ الْجِنَايَةِ ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْهَا ، وَإِنْ كَانَ أَرْشُ جِنَايَتِهَا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا لَمْ يَضْمَنْ إِلَّا قَدْرَ قِيمَتِهَا ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْإِيلَادَ كَالْمُسْتَهْلِكِ لَهَا فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنَ الْقِيمَةِ كَمَا لَوْ قَتَلَ عَبْدَهُ بَعْدَ جِنَايَتِهِ لَمْ يَضْمَنْ إِلَّا قَدْرَ قِيمَتِهِ . فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيْسَ لَوْ مَنَعَ مِنْ بَيْعِ عَبْدِهِ الْجَانِي ضَمِنَ جَمِيعَ الْجِنَايَةِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَهَلَّا كَانَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ كَذَلِكَ ؟ قِيلَ : لِأَنَّهُ فِي الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الْعَبْدِ مُفَوِّتٌ لِرَغْبَةِ رَاغِبٍ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ لَوْ مَكَّنَ مِنْ بَيْعِهِ فَجَازَ أَنْ يَضْمَنَ جَمِيعَ جِنَايَتِهِ ، وَلَيْسَتْ أُمُّ الْوَلَدِ بِمَثَابَتِهِ لِعَدَمِ هَذِهِ الرَّغْبَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ الْإِجَابَةُ إِلَيْهَا فَافْتَرَقَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا غَرِمَ فِي جِنَايَتِهَا أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ ثُمَّ جَنَتْ بَعْدَهُ عَلَى آخَرَ جناية أم الولد نُظِرَ فِيمَا غَرِمَهُ السَّيِّدُ لِلْأَوَّلِ مِنْ أَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ هُوَ أَرْشَ الْجِنَايَةِ ، لِأَنَّ قِيمَتَهَا أَلْفٌ ، وَأَرْشُ جِنَايَتِهَا خَمْسُمِائَةٍ لَزِمَ السَّيِّدَ أَنْ يَغْرَمَ لِلثَّانِي أَرْشَ جِنَايَتِهِ إِذَا كَانَ بِقَدْرِ الْبَاقِي مِنْ قِيمَتِهَا ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَرْشُهَا خَمْسَمِائَةٍ فَمَا دُونَ ، وَإِنْ كَانَ مَا غَرِمَهُ لِلْأَوَّلِ مِنْ أَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ هُوَ جَمِيعُ قِيمَتِهَا وَهِيَ أَلْفٌ ، فَإِذَا جَنَتْ عَلَى الثَّانِي فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ : يَضْمَنُهَا كَضَمَانِ الْأَوَّلِ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ أَرْشِ جِنَايَتِهَا وَيَعْلَمُ لِلْأَوَّلِ مَا أَخَذَهُ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا قَدْ عَادَتْ بَعْدَ الْفِدَاءِ إِلَى مَعْنَاهَا الْأَوَّلِ فَوَجَبَ أَنْ يَضْمَنَهَا كَضَمَانِهِ

لِلْأَوَّلِ ، كَمَا لَوْ غَرِمَ قِيمَةَ عَبْدِهِ فِي جِنَايَتِهِ لِلْمَنْعِ مِنْ بَيْعِهِ ثُمَّ جَنَى ثَانِيَةً فَمَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ غَرِمَ قِيمَتَهُ ثَانِيَةً . وَالثَّانِي : أَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ مَلَكَ أَرْشَ جِنَايَتِهِ وَالْجَانِي عَلَى الثَّانِي غَيْرِهِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَضْمَنَ جِنَايَةَ غَيْرِهِ ، وَلَيْسَ بِجَانٍ وَلَا مِنْ عَاقِلَةِ الْجَانِي ، فَعَلَى هَذَا يَضْمَنُهَا السَّيِّدُ فِي كُلِّ جِنَايَةٍ تَجَدَّدَتْ مِنْهَا وَلَوْ كَانَتْ مِائَةَ جِنَايَةٍ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ أَرْشِ جِنَايَتِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ السَّيِّدَ لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ ، وَيَرْجِعُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ فَيُشَارِكُهُ فِي الْقِيمَةِ ، وَإِنَّمَا كَانَ هَكَذَا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بِالْإِيلَادِ مُسْتَهْلِكٌ ، وَالْمُسْتَهْلِكُ لَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةٍ وَاحِدَةٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ إِذَا تَقَدَّمَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى الْغُرْمِ أَكْثَرَ مِنْ قِيَمْتِهَا كَذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ فِيمَا حَدَثَ بَعْدَ غُرْمِهِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهَا وَقَدْ غَرِمَهَا ، وَخَالَفَ الْمَانِعَ مِنْ بَيْعِ غَيْرِهِ ، لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ مُسْتَهْلَكَةٌ وَالْمَمْنُوعَ مِنْ بَيْعِهِ غَيْرُ مُسْتَهْلَكٍ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَرْجِعَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَانِيًا وَلَا عَاقِلَةً ، كَمَا لَوْ مَاتَ رَجُلٌ فِي بِئْرٍ تَعَدَّى حَفْرُهَا ضُمِنَ فِي تَرِكَتِهِ فَأُتْلِفَ فِيهَا بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوَرَثَةُ جُنَاةً وَلَا عَاقِلَةً ، فَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ مَا تَلِفَ فِيهَا أَلْفًا وَجَمِيعُ التَّرِكَةِ أَلْفًا فَاسْتَوْعَبَهَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ثُمَّ تَلِفَ فِيهَا مَا قِيمَتُهُ أَلْفٌ ثَانِيَةٌ رَجَعَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ فَشَارَكَهُ فِي الْأَلْفِ الَّتِي أَخَذَهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَانِيًا وَلَا عَاقِلَةً ، كَذَلِكَ فِي جِنَايَةِ أُمِّ الْوَلَدِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ غَرِمَ قِيمَتَهَا لِلْأَوَّلِ وَهِيَ أَلْفٌ ثُمَّ جَنَتْ ثَانِيَةً بَعْدَ الْأَوَّلِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْجِنَايَتَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي أَرْشِهَا ، فَيَكُونُ أَرْشُ الْأُولَى أَلْفًا وَأَرْشُ الثَّانِيَةِ أَلْفًا ، فَيَرْجِعُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ بِنِصْفِ الْأَلْفِ وَيَتَسَاوَيَانِ فِيهَا لِتَسَاوِي جِنَايَتِهِمَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ أَقَلَّ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ، لِأَنَّ أَرْشَ الْأُولَى أَلْفَانِ وَأَرْشَ الثَّانِيَةِ أَلْفٌ ، فَيَرْجِعُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ بِثُلُثِ الْأَلْفِ ، لِأَنَّ أَرْشَهُ ثُلُثُ الْأَرْشَيْنِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ أَكْثَرَ مِنَ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ، لِأَنَّ أَرْشَ الْأُولَى أَلْفٌ وَأَرْشَ الثَّانِيَةِ أَلْفَانِ ، فَيَرْجِعُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ بِثُلُثَيِ الْأَلْفِ ، لِأَنَّ أَرْشَهُ ثُلُثَا الْأَرْشَيْنِ لِتَكُونَ الْقِيمَةُ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ مُقَسَّطَةً عَلَى قَدْرِ الْأُرُوشِ ، وَهَكَذَا لَوَجَبَتْ عَلَى ثَالِثٍ بَعْدِ اشْتِرَاكِ الْأَوَّلَيْنِ فِي الْقِيمَةِ رَجَعَ الثَّالِثُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الِاثْنَيْنِ بِقِسْطِ جِنَايَتِهِ مِمَّا أَخَذَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَوَّلَيْنِ ، ثُمَّ كَذَلِكَ عَلَى رَابِعٍ وَخَامِسٍ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

الْتِقَاءُ الْفَارِسَيْنِ وَالسَّفِينَتَيْنِ

الْتِقَاءُ الْفَارِسَيْنِ وَالسَّفِينَتَيْنِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِذَا اصْطَدَمَ الرَّاكِبَانِ عَلَى أَيِّ دَابَّةٍ كَانَتَا فَمَاتَا مَعًا فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ صَاحِبِهِ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ صَدْمَتِهِ وَصَدْمَةِ صَاحِبِهِ كَمَا لَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ وَجَرَحَهُ صَاحِبُهُ فَمَاتَ وَإِنْ مَاتَتِ الدَّابَّتَانِ فَفِي مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ قِيمَةِ دَابَّةِ صَاحِبِهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا اصْطَدَمَ الْفَارِسَانِ فَمَاتَا وَمَاتَتْ دَابَّتَاهُمَا وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ صَاحِبِهِ وَنِصْفُ قِيمَةِ دَابَّتِهِ ، وَيَكُونُ النِّصْفُ الثَّانِي هَدَرًا ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمِيعُ دِيَةِ صَاحِبِهِ وَجَمِيعُ قِيمَةِ دَابَّتِهِ ، وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهَا هَدَرًا ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَوْتَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْسُوبٌ إِلَى فِعْلِ صَاحِبِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَضَمَنَ جَمِيعَ دِيَتِهِ ، كَمَا لَوْ جَلَسَ إِنْسَانٌ فِي طَرِيقٍ ضَيِّقَةٍ فَعَثَرَ بِهِ سَائِرٌ فَوَقَعَ عَلَيْهِ فَمَاتَا جَمِيعًا كَانَ عَلَى عَاقِلَةِ السَّائِرِ جَمِيعَ دِيَةِ الْجَالِسِ ، وَعَلَى عَاقِلَةِ الْجَالِسِ جَمِيعَ دِيَةِ السَّائِرِ ، وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ دِيَتِهِمَا هَدَرًا ، كَذَلِكَ اصْطِدَامُ الْفَارِسَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ حُدُوثَ التَّلَفِ إِذَا كَانَ بِفِعْلِهِ وَبِفِعْلِ صَاحِبِهِ سَقَطَ اعْتِبَارُ فِعْلِهِ فِي تَعْيِينِهِ وَكَانَ جَمِيعُهُ مُضَافًا إِلَى فِعْلِ صَاحَبِهِ وَهُوَ الْمَأْخُوذُ بِجَمِيعِ دِيَتِهِ ، كَمَا لَوْ تَعَدَّى رَجُلٌ بِحَفْرِ بِئْرٍ فَسَقَطَ فِيهَا سَائِرٌ فَمَاتَ ضَمِنَ الْحَافِرُ جَمِيعَ دِيَةِ السَّائِرِ وَإِنْ كَانَ الْوُقُوعُ فِيهَا بِحَفْرِ الْحَافِرِ وَمَشْيِ السَّائِرِ ، كَذَلِكَ فِي اصْطِدَامِ الْفَارِسَيْنِ . وَدَلِيلُنَا : مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ : إِذَا اصْطَدَمَ الْفَارِسَانِ فَمَاتَا فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ صَاحِبِهِ ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ ، فَإِنْ كَانَ هَذَا مُنْتَشِرًا فَهُوَ إِجْمَاعٌ ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَشِرْ فَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ ، وَلِأَنَّ مَوْتَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ بِفِعْلٍ اشْتَرَكَا فِيهِ ، لِأَنَّهُ مَاتَ بِصَدْمَتِهِ وَصَدْمَةِ صَاحِبِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَضْمَنَ مَا اخْتُصَّ بِفِعْلِهِ وَلَا يَضْمَنَ مَا اخْتُصَّ بِفِعْلِ

صَاحِبِهِ ، وَعَلَى هَذَا شَوَاهِدُ الْأُصُولِ كُلُّهَا أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلًا جَرَحَ رَجُلًا ثُمَّ جَرَحَ الْمَجْرُوحُ نَفْسَهُ وَمَاتَ كَانَ نِصْفُ دِيَتِهِ هَدَرًا ، لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ جِرَاحَتِهِ لِنَفْسِهِ وَنِصْفُهَا عَلَى جَارِحِهِ : لِأَنَّ التَّلَفَ كَانَ بِجُرْحٍ اشْتَرَكَا فِيهِ ، وَهَكَذَا لَوْ جَذَبَا حَجَرَ مَنْجَنِيقٍ فَعَادَ الْحَجَرُ عَلَيْهِمَا فَقَتَلَهُمَا كَانَ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ صَاحِبِهِ وَنِصْفُهَا الْبَاقِي هَدْرًا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْفِعْلِ الَّذِي كَانَ بِهِ تَلَفُهُمَا ، وَهَكَذَا لَوِ اصْطَدَمَ رَجُلَانِ مَعَهُمَا إِنَاءَانِ فَانْكَسَرَ الْإِنَاءَانِ بِصَدْمَتِهِمَا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ قِيمَةِ إِنَاءِ صَاحِبِهِ ، وَكَانَ نِصْفُهُ الْبَاقِي هَدَرًا ، وَإِذَا كَانَتِ الْأُصُولُ تَشْهَدُ بِصِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ دَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ ، وَبُطْلَانِ مَا عَدَاهُ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالسَّائِرِ إِذَا عَثَرَ بِالْجَالِسِ فَمَاتَا فَإِنَّمَا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمِيعَ دِيَةِ صَاحِبِهِ ، لِأَنَّهُمَا لَمْ يَشْتَرِكَا فِي فِعْلِ التَّلَفِ ، لِأَنَّ السَّائِرَ تَلِفَ بِعَثْرَتِهِ بِالْجَالِسِ فَضَمِنَ الْجَالِسُ جَمِيعَ دِيَتِهِ ، وَالْجَالِسَ تَلِفَ بِوُقُوعِ السَّائِرِ عَلَيْهِ ، فَضَمِنَ السَّائِرُ جَمِيعَ دِيَتِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ اصْطِدَامُ الْفَارِسَيْنِ ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي فِعْلِ التَّلَفِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْوُقُوعِ فِي الْبِئْرِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْحَافِرَ لَهَا مُلْجِئٌ لِلْوُقُوعِ فِيهَا مُسْقِطٌ اعْتِبَارَ فِعْلِ الْمَلْجَأِ وَصَارَ الْجَمِيعُ مُضَافًا إِلَى فِعْلِ الْمُلْجِئِ ، فَفَارَقَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَا ذَكَرْنَا ، كَشَاهِدَيِ الزُّورِ بِالْقَتْلِ يُؤْخَذَانِ بِهِ دُونَ الْحَاكِمِ لِإِلْجَائِهِمَا لَهُ إِلَى الْقَتْلِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّاكِبَيْنِ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْقُوَّةِ أَوْ يَخْتَلِفَا الذين اصطدما فماتا ( ديتهما ) فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا كَبِيرًا وَالْآخَرُ صَغِيرًا ، أَوْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا صَحِيحًا وَالْآخَرُ مَرِيضًا ، وَلَا فَرْقَ فِي الْمَرْكُوبَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَتَمَاثَلَا أَوْ يَخْتَلِفَا فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا عَلَى فَرَسٍ وَالْآخَرُ عَلَى حِمَارٍ ، أَوْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا عَلَى فِيلٍ وَالْآخَرُ عَلَى كَبْشٍ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَا رَاكِبَيْنِ أَوْ رَاجِلَيْنِ ، أَوْ أَحَدُهُمَا رَاكِبًا وَالْآخَرُ مَاشِيًا رَاجِلًا ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَصْطَدِمَا مُسْتَقْبِلَيْنِ أَوْ مُسْتَدْبِرَيْنِ ، أَوْ أَحَدُهُمَا مُسْتَقْبِلًا وَالْآخَرُ مُسْتَدْبِرًا ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَا بَصِيرَيْنِ أَوْ أَعْمَيَيْنِ ، أَوْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا بَصِيرًا وَالْآخَرُ أَعْمَى ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ الضَّمَانِ دُونَ أَصْلِهِ ، لِأَنَّ الْأَعْمَى خَاطِئٌ وَقَدْ يَكُونُ الْبَصِيرُ عَامِدًا ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقَعَا مُسْتَلْقِيَيْنِ عَلَى ظُهُورِهِمَا أَوْ مَكْبُوبِينَ عَلَى وُجُوهِهِمَا ، أَوْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُسْتَلْقِيًا عَلَى ظَهْرِهِ وَالْآخَرِ مَكْبُوبًا عَلَى وَجْهِهِ . وَقَالَ الْمُزَنِيُّ : إِنْ كَانَا مُسْتَلْقِيَيْنِ أَوْ مَكْبُوبَيْنِ فَهُمَا سَوَاءٌ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْتَلْقِيًا عَلَى ظَهْرِهِ وَالْآخَرُ مَكْبُوبًا عَلَى وَجْهِهِ فِدْيَةُ الْمُسْتَلْقِي كُلُّهَا عَلَى الْمَكْبُوبِ ، وَدِيَةُ الْمَكْبُوبِ هَدَرٌ ، لِأَنَّ الْمَكْبُوبَ دَافِعٌ وَالْمُسْتَلْقِيَ مَدْفُوعٌ ، وَهَذَا اعْتِبَارٌ فَاسِدٌ ، لِأَنَّ الِاسْتِلْقَاءَ قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِتُقَدِّمِ الْوُقُوعِ وَالِانْكِبَابَ لِتَأَخُّرِ الْوُقُوعِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِلْقَاءُ فِي الْوُقُوعِ لِشِدَّةِ صَدْمَتِهِ كَمَا يُرْفَعُ الْحَجَرُ مِنَ الْحَائِطِ لِشِدَّةِ رَمْيَتِهِ فَلَمْ يَسْلَمْ مَا اعْتُلَّ بِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ صِفَةِ الِاصْطِدَامِ وَحُكْمِهِ في الجنايات ، فِي ضَمَانِ النِّصْفِ وَسُقُوطِ النِّصْفِ هَدَرًا فَضَمَانُ الدَّابَّتَيْنِ يَسْتَوِي فِيهِ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ ، لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَالٍ ، وَيَفْتَرِقُ فِي النُّفُوسِ ضَمَانُ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ فِي الِاصْطِدَامِ الْخَطَأُ الْمَحْضُ ، وَتَكُونُ الدِّيَةُ فِيهِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُخَفَّفَةً ، وَصَحَّ فِيهِ عَمْدُ الْخَطَأِ وَتَكُونُ الدِّيَةُ فِيهِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُغَلَّظَةً ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَصِحُّ فِيهِ الْعَمْدُ الْمَحْضُ الْمُوجِبُ لِلْقَوَدِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : يَصِحُّ فِيهِ الْعَمْدُ الْمَحْضُ الْمُوجِبُ لِلْقَوَدِ ، لِأَنَّ الِاصْطِدَامَ قَاتِلٌ ، وَتَكُونُ الدِّيَةُ فِيهِ حَالَّةً فِي مَالِ الصَّادِمِ دُونَ عَاقِلَتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِيهِ الْعَمْدُ الْمَحْضُ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَقْتُلَ وَيَجُوزَ أَنْ لَا يَقْتُلَ ، وَتَكُونُ الدِّيَةُ فِيهِ مُغَلَّظَةً عَلَى عَاقِلَةِ الصَّادِمِ . وَصِفَةُ الْخَطَأِ الْمَحْضِ أَنْ يَكُونَا أَعْمَيَيْنِ أَوْ بَصِيرَيْنِ مُسْتَدِيرَيْنِ . وَصِفَةُ عَمْدِ الْخَطَأِ أَنْ يَكُونَا بَصِيرَيْنِ مُسْتَقْبِلَيْنِ . وَصِفَةُ الْعَمْدِ الْمَحْضِ أَنْ يَكُونَا مُسْتَقْبِلَيْنِ يَقْصِدَانِ الْقَتْلَ ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْتَقْبَلًا وَالْآخَرُ مُسْتَدْبِرًا كَانَ الْمُسْتَدْبِرُ خَاطِئًا وَالْمُسْتَقْبِلُ عَامِدًا ، فَإِنْ قَصَدَ الْقَتْلَ فَهُوَ عَمْدٌ مَحْضٌ ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ فَهُوَ عَمْدُ الْخَطَأِ ، وَحُكْمُهُ مَا قَدْ مَضَى .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الرَّاكِبَيْنِ المصطدمين وديتهما مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَا حُرَّيْنِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَا مَمْلُوكَيْنِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ مَمْلُوكًا . فَإِنْ كَانَا حُرَّيْنِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَا بَالِغَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَا صَغِيرَيْنِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا بَالِغًا وَالْآخَرُ صَغِيرًا . فَإِنْ كَانَا بَالِغَيْنِ عَاقِلَيْنِ فَلَهُمَا خَمْسَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَمُوتَ الرَّاكِبَانِ وَالدَّابَّتَانِ ، فَيَكُونُ فِي مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ قِيمَةِ

دَابَّةِ صَاحِبِهِ ، وَلَا تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ لِاخْتِصَاصِ الْعَاقِلَةِ بِحَمْلِ دِيَاتِ الْآدَمِيِّينَ دُونَ الْبَهَائِمِ فَيَتَقَاصُّ الْمُصْطَدِمَانِ بِمَا لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ مِنْ قِيمَةِ نِصْفِ دَابَّتِهِ ، وَيَتَرَاجَعَانِ فَضْلًا إِنْ كَانَ فِيهِ ، وَيَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ صَاحِبِهِ مُخَفَّفَةً إِنْ كَانَ خَطَأً مَحْضًا ، وَمُغَلَّظَةً إِنْ كَانَ عَمْدًا شِبْهَ الْخَطَأِ ، وَلَا قِصَاصَ مِنَ الْعَاقِلَتَيْنِ فِيمَا تَحَمَّلَاهُ مِنْ دِيَتِهِمَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَاقِلَتُهُمَا وَرِثَتْهُمَا فَيَتَقَاصَّانِ ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُمَا وَعَلَيْهِمَا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَمُوتَ الرَّاكِبَانِ دُونَ الدَّابَّتَيْنِ ، فَيَلْزَمُ عَاقِلَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ صَاحِبِهِ وَلَا يَتَقَاضَيَانِهَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْعَاقِلَتَانِ وَارِثِي الْمُصْطَدِمَيْنِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ تَمُوتَ الدَّابَّتَانِ دُونَ الْمُصْطَدِمَيْنِ ، فَيَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ قِيمَةِ دَابَّةِ صَاحِبِهِ فِي مَالِهِ وَيَتَقَاضَيَانِهَا . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَمُوتَ أَحَدُهُمَا وَدَابَّتُهُ دُونَ الْآخَرِ وَدُونَ دَابَّتِهِ ، فَيَضْمَنُ الْحَيُّ نِصْفَ قِيمَةِ الدَّابَّةِ الْمَيِّتَةِ ، وَتَضْمَنُ عَاقِلَتُهُ نِصْفَ دِيَةِ الْمَيِّتِ . وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ : أَنْ يَمُوتَ أَحَدُهُمَا دُونَ دَابَّتِهِ وَتَمُوتَ دَابَّةُ الْآخَرِ دُونَهُ ، فَيَكُونُ نِصْفُ دِيَةِ الْمَيِّتِ عَلَى عَاقِلَةِ الْحَيِّ ، وَنِصْفُ قِيمَةِ دَابَّةِ الْحَيِّ فِي مَالِ الْمَيِّتِ ، وَلَا يَتَقَاضَيَانِ قِيمَةَ الدَّابَّةِ مِنَ الدِّيَةِ وَإِنْ كَانَتِ الْعَاقِلَةُ وَارِثَةً ، لِأَنَّ الْحَيَّ لَا يُورَّثُ . وَيَجِيءُ فِيهَا حَالٌ سَادِسَةٌ وَسَابِعَةٌ قَدْ بَانَ حُكْمُهُمَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ ، فَإِنْ كَانَا صَغِيرَيْنِ وَقَدْ مَاتَا وَدَابَّتَاهُمَا فَلَهُمَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَرْكَبَا بِأَنْفُسِهِمَا . وَالثَّانِي : أَنْ يَرْكَبَهُمَا وَلِيَّاهُمَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَرْكَبَهُمَا أَجْنَبِيٌّ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمَا . فَإِنْ رَكِبَا بِأَنْفُسِهِمَا فَحُكْمُهُمَا فِي الضَّمَانِ كَحُكْمِ الْبَالِغِ ، يَضْمَنُ عَاقِلَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ دِيَةِ الْآخَرِ ، وَيُضْمَنُ فِي مَالِهِ نِصْفُ قِيمَةِ دَابَّتِهِ ، وَإِنْ أَرْكَبَهُمَا وَلِيَّاهُمَا فَالضَّمَانُ فِي أَمْوَالِ الصَّغِيرَيْنِ وَعَلَى عَوَاقِلِهِمَا دُونَ الْوَلِيَّيْنِ ، لِأَنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَقُومَ فِي تَأْدِيبِ الصَّغِيرَيْنِ بِالِارْتِيَاضِ لِلرُّكُوبِ وَلَا يَكُونُ بِهِ مُتَعَدِّيًا . فَإِنْ أَرْكَبَهُمَا أَجْنَبِيٌّ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمَا ضَمِنَ مَرْكِبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ دِيَةِ مَنْ أَرْكَبَهُ وَنِصْفَ دِيَةِ الْآخَرِ وَنِصْفَ قِيمَةِ دَابَّتِهِ وَنِصْفَ قِيمَةِ دَابَّةِ الْآخَرِ ، وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ دِيَةِ أَحَدِهِمَا وَلَا مِنْ قِيمَةِ دَابَّتِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ تَعَدَّى بِإِرْكَابِهِ فَضَمِنَ جِنَايَتَهُ وَضَمِنَ الْجِنَايَةَ عَلَيْهِ . وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا صَغِيرًا وَالْآخَرُ كَبِيرًا كَانَ مَا اخْتُصَّ بِالصَّغِيرِ مَضْمُونًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ إِذَا كَانَا صَغِيرَيْنِ ، وَمَا اخْتُصَّ بِالْكَبِيرِ مَضْمُونًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ إِذَا كَانَا كَبِيرَيْنِ ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُصْطَدِمَانِ امْرَأَتَيْنِ حَامِلَيْنِ فَأَلْقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جَنِينًا مَيِّتًا لِمَ يَنْهَدِرْ

شَيْءٌ مِنْ دِيَةِ الْجَنِينِ ، وَكَانَ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ جَنِينِهَا ، وَنِصْفُ دِيَةِ جَنِينِ صَاحِبَتِهَا ، لِأَنَّ جَنِينَهَا تَلِفَ بِصَدْمَتِهَا وَصَدْمَةِ الْأُخْرَى ، وَجَنِينَهَا مَضْمُونٌ عَلَيْهَا بِالْجِنَايَةِ لَوِ انْفَرَدَتْ بِاسْتِهْلَاكِهِ ، فَكَذَلِكَ تَضْمَنُهُ إِذَا شَارَكَتْ فِيهِ غَيْرَهَا ، وَلَا قِصَاصَ هَاهُنَا فِي الدِّيَتَيْنِ بِحَالٍ وَإِنْ كَانَا وَرَثَةَ الْجَنِينَ ، لِأَنَّ مَنْ وَجَبَتْ لَهُ غَيْرُ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْمُصْطَدِمَانِ عَبْدَيْنِ فَمَاتَا صَارَ دَمُهُمَا هَدَرًا ، وَسَقَطَتْ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَقَطَتْ نِصْفُ قِيمَتِهِ بِصَدْمَتِهِ وَوَجَبَ نِصْفُهَا فِي رَقَبَةِ الْآخَرِ لِصَدْمَتِهِ ، وَسَوَاءٌ مَاتَا مَعًا ، أَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ بَيْعُ الْمُتَأَخِّرِ مِنْهُمَا قَبْلَ مَوْتِهِ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْمُصْطَدِمَيْنِ حُرًّا ، وَالْآخَرُ عَبْدًا لَمْ يَنْهَدِرْ مِنْ دَمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَّا النِّصْفُ الْمُخْتَصُّ بِفِعْلِهِ ، لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا مَاتَ وَجَبَ عَلَى الْحُرِّ نِصْفُ قِيمَتِهِ ، فَانْتَقَلَ الْعَبْدُ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَى نِصْفِ قِيمَتِهِ فَلَمْ يَبْطُلْ مَحَلُّ جِنَايَتِهِ فَوَجَبَ فِيهِ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ ، وَأَنْ تَكُونَ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي مَالِ الْجَانِي . وَالثَّانِي : عَلَى عَاقِلَتِهِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ نِصْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ فِي مَالِ الْجَانِي لَا تَتَحَمَّلُهُ عَاقِلَتُهُ فَقَدْ وَجَبَ فِي مَالِ الْحُرِّ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ ، وَوَجَبَ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ فِي الْمُسْتَحَقِّ مِنْ نِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَصَارَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ نِصْفُ الْقِيمَةِ هُوَ الَّذِي وَجَبَ لَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ قِصَاصًا ، وَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَسَاوَى نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَنِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ فَيَقَعُ الْوَفَاءُ بِالْقِصَاصِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ دِيَةِ الْحُرِّ ، فَيَرْجِعُ سَيِّدُ الْعَبْدِ فِي تَرِكَةِ الْحُرِّ بِالْفَاضِلِ مِنْ نِصْفِ قِيمَةِ عَبْدِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ ، فَيَكُونُ الْفَاضِلُ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ هَدَرًا لِبُطْلَانِ مَحَلِّهِ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ نِصْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ فَإِنْ كَانَ عَاقِلَةُ الْحُرِّ هُمْ وَرَثَتُهُ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَوَجَبَ لَهُمْ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ قِصَاصًا ، فَإِنْ فَضَلَ لِلسَّيِّدِ مِنْ نِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَضْلٌ أَخَذَهُ مِنَ الْعَاقِلَةِ ، وَإِنْ فَضَلَ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ فَضْلٌ كَانَ هَدَرًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْعَاقِلَةُ وَرَثَةَ الْحُرِّ وَكَانُوا وَرَثَةَ غَيْرِهِمْ وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ نِصْفُ قِيمَتِهِ ، وَوَجَبَ لِوَرَثَةِ الْحُرِّ فِي الْمُسْتَوْفَى مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ نِصْفُ دِيَتِهِ ، وَلَا يَكُونُ قِصَاصًا ، لِأَنَّ مَنْ وَجَبَ لَهُ غَيْرُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ ، فَإِنِ اسْتَوَى نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَنِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ فَفِي كَيْفِيَّةِ الْقَبْضِ وَالْأَدَاءِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ :

أَحَدُهُمَا : يَسْتَوْفِي سَيِّدُ الْعَبْدِ عَنْ عَاقِلَةِ الْحُرِّ نِصْفَ الْقِيمَةِ وَيُؤَدِّيهِ إِلَى وَرَثَةِ الْحُرِّ فِي نِصْفِ الدِّيَةِ لِيَقْبِضَهَا بِحَقِّ مِلْكِهِ وَيَدْفَعَهَا بِحَقِّ الْتِزَامِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَنْتَقِلَ الْحَقُّ إِلَى وَرَثَةِ الْحُرِّ ، وَلَيْسَ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ أَنْ يَقْبِضَهُ ، لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ ، وَرُبَّمَا تَلِفَ بَيْنَ قَبْضِهِ وَإِقْبَاضِهِ فَتَلِفَ عَلَى مُسْتَحَقِّهِ ، فَصَارَ مَا اسْتَحَقَّهُ السَّيِّدُ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ مُنْتَقِلًا إِلَى وَرَثَةِ الْحُرِّ بِمَا اسْتَحَقُّوهُ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ وَإِنْ كَانَ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ أَخَذَ سَيِّدُهُ الْفَاضِلَ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ بَعْدَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ وَرَثَةُ الْحُرِّ نِصْفَ دِيَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ نِصْفُ الدِّيَةِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ كَانَ الْفَاضِلُ وَنِصْفُ الدِّيَةِ هَدَرًا ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

فَصْلٌ : إِذَا جَذَبَ رَجُلَانِ ثَوْبًا بَيْنَهُمَا فَتَخَرَّقَ ، فَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ لَهُمَا فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ رُبُعُ أَرْشِ خَرْقِهِ ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نِصْفَ الثَّوْبِ ، وَخَرَقَهُ بِفِعْلِهِ وَفِعْلِ شَرِيكِهِ مُسْقِطًا مَا قَابَلَ فِعْلَهُ ، وَوَجَبَ لَهُ مَا قَابَلَ فِعْلَ شَرِيكِهِ فَيَتَقَاضَيَانِ ذَلِكَ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلُ مَا يَجِبُ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ لِأَحَدِهِمَا كَانَ نِصْفُ أَرْشِهِ هَدَرًا ، لِأَنَّهُ مُقَابِلٌ لِفِعْلِ مَالِكِهِ ، وَنِصْفُ الْأَرْشِ عَلَى الَّذِي لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ لِغَيْرِهِمَا كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ أَرْشِهِ لِمَالِكِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا اصْطَدَمَ رَجُلَانِ بِإِنَاءَيْنِ فِيهِمَا طَعَامٌ فَانْكَسَرَ الْإِنَاءَانِ وَاخْتَلَطَ الطَّعَامَانِ ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ نِصْفَ قِيمَةِ إِنَائِهِ ، وَكَانَ نِصْفُهُ الْبَاقِي هَدَرًا ، وَأَمَّا الطَّعَامَانِ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُمْكِنَ تَمْيِيزُ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ بَعْدَ اخْتِلَاطِهِ كَالسَّوِيقِ وَالسُّكَّرِ الصَّحِيحِ ، فَيُمَيِّزُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَعَامَهُ مِنْ طَعَامِ صَاحِبِهِ ، فَإِنِ احْتَاجَ تَمْيِيزُهُمَا إِلَى أُجْرَةِ صَانِعٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا ، فَإِنْ كَانَ لِتَمْيِيزِهِمَا بَعْدَ اخْتِلَاطِهِمَا نُقْصَانٌ فِي قِيمَتِهِمَا رَجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ أَرْشِ نُقْصَانِ طَعَامِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يُمْكِنَ تَمْيِيزُهُمَا بَعْدَ اخْتِلَاطِهِمَا كَالسَّوِيقِ وَالْعَسَلِ ، فَيُقَوَّمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّعَامَيْنِ عَلَى انْفِرَادِهِ ، ثُمَّ يُقَوَّمَانِ بَعْدَ الِاخْتِلَاطِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا نُقْصَانٌ فَلَا غُرْمَ وَصَارَا شَرِيكَيْنِ فِيهِ بِتَقْدِيرِ الثَّمَنَيْنِ ، كَأَنَّ قِيمَةَ السَّوِيقِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَقِيمَةَ الْعَسَلِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَيَكُونُ صَاحِبُ السَّوِيقِ شَرِيكًا فِيهِ بِالثُّلُثِ ، وَصَاحِبُ الْعَسَلِ شَرِيكًا فِيهِ بِالثُّلُثَيْنِ ، فَإِنْ بَاعَاهُ اقْتَسَمَا ثَمَنَهُ عَلَى قَدْرِ شَرِكَتِهِمَا ، وَإِنْ أَرَادَا قَسْمَهُ بَيْنَهُمَا جَبْرًا لَمْ يَجُزْ ، لِأَنَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعَاوِضٌ عَنْ سَوِيقٍ بِعَسَلٍ ، وَذَلِكَ بَيْعٌ لَا يَدْخُلُهُ الْإِجْبَارُ وَإِنْ أَرَادَا قِسْمَةً عَنْ تَرَاضٍ فَفِي جَوَازِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ بِدُخُولِ التَّفَاضُلِ فِيهِ ، وَإِنَ نَقَصَ

بِاخْتِلَاطِهِمَا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ نِصْفَ أَرْشِ النَّاقِصِ مِنْ طَعَامِهِ ، وَتَقَاضَيَا ، ثُمَّ كَانَا فِي الشَّرِكَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَوْا بِالْمَنْجَنِيقِ مَعًا فَرَجَعَ الْحَجَرُ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَ أَحَدَهُمْ فَتُرْفَعُ حِصَّتُهُ مِنْ جِنَايَتِهِ وَيَغْرَمُ عَاقِلَةُ الْبَاقِينَ بَاقِيَ دِيَتِهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا جَذَبَ جَمَاعَةٌ حَجَرَ مَنْجَنِيقٍ فَأَصَابُوا بِهِ رَجُلًا فَقَتَلُوهُ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقْتُلُوا بِهِ رَجُلًا مِنْ غَيْرِهِمْ ، فَضَمَانُ نَفْسِهِ عَلَى جَمِيعِهِمْ ، وَلَهُمْ فِي إِصَابَتِهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقْصِدُوا بِحَجَرِ الْمَنْجَنِيقِ هَدْمَ جِدَارٍ فَيَعْتَرِضُهُ فَيُصِيبُهُ فَهَذَا خَطَأٌ مَحْضٌ ، تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ مُخَفَّفَةً بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ ، فَإِنْ كَانُوا عَشَرَةً تَحَمَّلَ عَاقِلَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عُشْرَ دِيَتِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقْصِدُوا قَتْلَهُ بِعَيْنِهِ فَيَتَّفِقُوا عَلَى اعْتِمَادِهِ ، فَهَؤُلَاءِ عَمْدٌ عَلَى جَمِيعِهِمِ الْقَوَدُ . فَإِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ : عَمَدْتُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَمْ أَعْمِدِ اقْتُصَّ مِنَ الْعَامِدِ ، وَلَزِمَ مَنْ أَنْكَرَ الْعَمْدَ دِيَةُ الْخَطَأِ فِي مَالِهِ بَعْدَ إِحْلَافِهِ ، وَلَا تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ عَنْهُ ، لِأَنَّهُ اعْتِرَافٌ إِلَّا أَنْ يُصَدِّقُوهُ فَيَتَحَمَّلُوا عَنْهُ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَقْصِدُوا بِحَجَرِ الْمَنْجَنِيقِ رَمْيَ جَمَاعَةٍ لِيَقْتُلُوا بِهِ أَحَدَهُمْ لَا بِعَيْنِهِ فَهَذِهِ هِيَ الْقِتْلَةُ الْعَمْيَاءُ تَكُونُ عَمْدَ الْخَطَأِ ، لِأَنَّهُمْ عَمَدُوا الْفِعْلَ فَأَخْطَئُوا فِي تَعْيِينِ النَّفْسِ فَلَا قَوَدَ فِيهِ ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ مُغَلَّظَةً . رَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ قُتِلَ فِي عَمْيَاءَ رَمْيًا بِحَجَرٍ أَوْ ضَرْبًا بِعَصًا فَعَلَيْهِ عَقْلُ الْخَطَأِ ، وَمَنْ قُتِلَ اعْتِبَاطًا فَهُوَ قَوَدٌ لَا يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَاتِلِهِ فَمَنْ حَالَ بَيْنَهُمَا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أجْمَعِينَ ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ . فَالْعَمْيَاءُ أَنْ يَرْمِيَ جَمَاعَةً فَيُصِيبَ أَحَدَهُمْ لَا يُعَيِّنُهُ ، وَالِاعْتِبَاطُ : أَنْ يَرْمِيَ أَحَدَهُمْ بِعَيْنِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ دِيَتَهُ عَلَى عَوَاقِلِ الْجَمَاعَةِ فَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ مَنْ جَذَبَ فِي الرَّمْيِ دُونَ مَنْ وَضَعَ الْحَجَرَ فِي كِفَّةِ الْمَنْجَنِيقِ ، وَدُونَ مَنْ يُصِيبُ الْمَنْجَنِيقُ ، لِأَنَّ وُقُوعَ الْحَجَرِ كَانَ مِنَ الْجَذْبِ ، فَاقْتَضَى أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ عَلَى مَنْ تَوَلَّاهُ ، وَوَضْعُ الْحَجَرِ يَجْرِي مَجْرَى وَضْعِ السَّهْمِ فِي وَتَرِ الْقَوْسِ ، فَإِنْ تَوَلَّى الرَّمْيَ غَيْرُهُ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الرَّامِي دُونَ وَاضِعِ

السَّهْمِ ، وَنَاصِبُ الْمَنْجَنِيقِ يَجْرِي مَجْرَى صَانِعِ الْقَوْسِ ، وَأَجْرَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مَجْرَى الْمُمْسِكِ مَعَ الذَّابِحِ وَبِأَنَّهُ أَجْرَى فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .

فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَعُودَ حَجَرُ الْمَنْجَنِيقِ عَلَى جَاذِبِيهِ فَيَقْتُلَ أَحَدَهُمْ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ ، فَيَكُونَ قَتْلُهُ بِجَذْبِهِ وَجَذْبِ الْجَمَاعَةِ ، فَإِذَا كَانُوا عَشَرَةً سَقَطَ مِنْ دِيَتِهِ عُشْرُهَا ، لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ جَذْبِهِ ، وَوَجَبَ تِسْعَةُ أَعْشَارِهَا عَلَى عَوَاقِلِ التِّسْعَةِ الْبَاقِينَ ، تَتَحَمَّلُ عَاقِلَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عُشْرَهَا ، وَلَوْ عَادَ حَجَرُ الْمَنْجَنِيقِ عَلَى اثْنَيْنِ مِنْ عَشَرَةٍ فَقَتَلَهُمَا سَقَطَ مِنْ دِيَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عُشْرُهَا الْمُقَابِلُ لِجَذْبِهِ ، وَوَجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى عَاقِلَةِ الْآخَرِ عُشْرُ دِيَتِهِ ، لِأَنَّهُ أَحَدُ قَتَلَتِهِ ، وَوَجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّمَانِيَةِ الْبَاقِينَ عُشْرُ دِيَتِهِ ، فَيَتَحَمَّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّمَانِيَةِ عُشْرَيْ دِيَتَيْنِ ، لِأَنَّهُ قَاتِلُ الِاثْنَيْنِ ، وَيَتَحَمَّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَاتِلِينَ عُشْرَ دِيَةٍ وَاحِدَةٍ ، لِأَنَّهُ قَاتِلٌ لِوَاحِدٍ وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ لَوْ قَتَلَ ثَلَاثَةً فَأَكْثَرَ ، فَإِنْ عَادَ الْحَجَرُ عَلَى جَمِيعِ الْعَشَرَةِ فَقَتَلَهُمْ سَقَطَ الْعُشْرُ مِنْ دِيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِمُقَابَلَتِهَا بِجَذْبِهِ ، فَوَجَبَ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تِسْعَةُ أَعْشَارِ تِسْعِ دِيَاتٍ ، لِوَارِثِ كُلِّ قَتِيلٍ مِنْهُمَا تُسْعٌ . وَهَكَذَا لَوْ جَذَبَ جَمَاعَةٌ حَائِطًا أَوْ نَخْلَةً فَتَلِفَ أَحَدُهُمْ أَوْ جَمِيعُهُمْ كَانَ كَوُقُوعِ حَجَرِ الْمَنْجَنِيقِ عَلَى أَحَدِهِمْ أَوْ عَلَى جَمِيعِهِمْ فِي أَنْ يَسْقُطَ مِنْ دِيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا قَابَلَ فِعْلَهُ ، وَيَجِبُ عَلَى الْبَاقِينَ بَاقِي دِيَتِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا وَاقِفًا فَصَدَمَهُ الْآخَرُ فَمَاتَا فَالصِّدَامُ هَدَرٌ وَدِيَةُ صَاحِبِهِ عَلَى عَاقِلَةِ الصَّادِمِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لِأَنَّ الصَّادِمَ تَفَرَّدَ بِالْجِنَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الْوَاقِفِ الْمَصْدُومِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوُقُوفُ فِي مِلْكِ الْوَاقِفِ أَوْ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ أَوْ فِي طَرِيقٍ سَابِلٍ ، لِأَنَّ مَنْ وَقَفَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ لَا يَسْتَوْجِبُ الْقَتْلَ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا جَالِسًا أَوْ نَائِمًا فِي طَرِيقٍ سَابِلٍ فَعَثَرَ بِهِ الْآخَرُ فَمَاتَا مَعًا فَدِيَةُ الْجَالِسِ عَلَى عَاقِلَةِ الْعَاثِرِ ، وَأَمَّا دِيَةُ الْعَاثِرِ فَقَدْ قَالَ فِي الْقَدِيمِ : إِنَّهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْجَالِسِ أَوِ النَّائِمِ . وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ : دِيَةُ الْعَاثِرِ هَدَرٌ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَخَرَّجَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ دِيَةَ الْعَاثِرِ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَالِسِ كُلِّهَا ، وَدِيَةَ الْجَالِسِ عَلَى عَاقِلَةِ الْعَاثِرِ كُلِّهَا ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَاتَ بِفِعْلٍ انْفَرَدَ بِهِ الْآخَرُ ، وَلَمْ يَقَعْ فِيهِ اشْتِرَاكٌ ، فَالْجَالِسُ مَاتَ بِسُقُوطِ الْعَاثِرِ ، وَالْعَاثِرُ مَاتَ بِجُلُوسِ الْجَالِسِ ، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْجَالِسِ وَالْقَائِمِ أَنَّ الْقِيَامَ فِي الطُّرُقَاتِ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ ، وَلَا يَجِدُ النَّاسُ بُدًّا مِنْهُ ، وَخَالَفَ الْجُلُوسَ وَالنَّوْمَ فِيهَا ، لِأَنَّ مَوَاضِعَ النَّوْمِ وَالْجُلُوسِ فِي غَيْرِ الْمَسَالِكِ الْمَطْرُوقَةِ .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الْجَدِيدُ : أَنَّ حُكْمَ الْوَاقِفِ وَالْجَالِسِ وَاحِدٌ ، وَأَنَّ دِيَةَ الْعَاثِرِ هَدَرٌ وَدِيَةَ الْجَالِسِ عَلَى عَاقِلَةِ الْعَاثِرِ ، لِأَنَّ عُرْفَ النَّاسِ جَارٍ بِجُلُوسِهِمْ فِي الطُّرُقَاتِ كَمَا تَقِفُونَ فِيهَا . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا : لَيْسَ اخْتِلَافُ نَصِّهِ فِي الْقَدِيمِ أَوِ الْجَدِيدِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ ، فَالْقَدِيمُ الَّذِي أَوْجَبَ فِيهِ دِيَةَ الْعَاثِرِ عَلَى الْجَالِسِ إِذَا جَلَسَ فِي طَرِيقٍ ضَيِّقَةٍ يُؤْذِي بِجُلُوسِهِ الْمَارَّةَ ، وَلَوْ كَانَ بَدَلُ جُلُوسِهِ فِيهِ قَائِمًا وَقِيَامُهُ مُضِرٌّ بِالْمَارَّةِ كَانَ فِي حُكْمِ الْجَالِسِ ، فَيَضْمَنُ دِيَةَ الْعَاثِرِ . وَالْجَدِيدُ الَّذِي أَسْقَطَ فِيهِ دِيَةَ الْعَاثِرِ إِذَا كَانَ الْجَالِسُ قَدْ جَلَسَ فِي طَرِيقٍ وَاسِعَةٍ لَا يَضُرُّ جُلُوسُهُ بِالْمَارَّةِ : لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَجِدُونَ مِنَ الْجُلُوسِ فِي الطُّرُقَاتِ الْوَاسِعَةِ بُدًّا ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ نَائِمًا : لِأَنَّ مَحِلَّ النَّوْمِ وَالْجُلُوسِ يَتَقَارَبَانِ ، وَإِذَا انْهَدَرَتْ دِيَةُ الْعَاثِرِ بِالنَّائِمِ وَالْجَالِسِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَنْهَدِرَ بِالْوَاقِفِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِذَا اصْطَدَمَتِ السَّفِينَتَانِ وَتَكَسَّرَتَا أَوْ إِحْدَاهُمَا فَمَاتَ مَنْ فِيهِمَا فَلَا يَجُوزُ فِيهَا إِلَّا وَاحِدٌ مِنْ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَضْمَنَ الْقَائِمُ بِهِمَا فِي تِلْكَ الْحَالِ نِصْفَ كُلِّ مَا أَصَابَتْ سَفِينَتُهُ لِغَيْرِهِ أَوْ لَا يَضْمَنَ بِحَالٍ إِلَّا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى تَصْرِيفِهَا بِنَفْسِهِ وَبِمَنْ يُطِيعُهُ فَأَمَّا إِذَا غَلَبَتْهُ فَلَا يَضْمَنُ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي يُصَرِّفُهَا أَنَّهَا غَلَبَتْهُ بِرِيحٍ أَوْ مَوْجٍ وَإِذَا ضَمِنَ غَيْرَ النُّفُوسِ فِي مَالِهِ ضَمِنَتِ النُّفُوسَ عَاقِلَتُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا فَيَكُونَ ذَلِكَ فِي عُنُقِهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَقَدْ قَالَ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ لَا ضَمَانَ إِلَّا أَنْ يُمْكِنَ صَرْفُهَا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي سَفِينَتَيْنِ سَائِرَتَيْنِ اصْطَدَمَتَا فَتَكَسَّرَتَا وَغَرِقَتَا ، وَهَلَكَ مَنْ فِيهِمَا مِنَ النَّاسِ ، وَتَلِفَ مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ ، فَلَهُمَا حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا تَفْرِيطٌ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ مِنْهُمَا تَفْرِيطٌ . فَإِنْ كَانَ مَلَّاحُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ السَّفِينَتَيْنِ الْمُدَبِّرُ لِسَيْرِهَا مُفَرِّطًا وَتَفْرِيطُهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ وُجُوهٍ ، مِنْهَا : أَنْ يُقَصِّرَ فِي آلَتِهَا ، أَوْ يُقَلِّلَ مِنْ أَجْزَائِهَا ، أَوْ يَزِيدَ فِي حَمْلِهَا ، أَوْ يُسَيِّرَهَا فِي شِدَّةِ رِيحٍ لَا يَسَارُ فِي مِثْلِهَا ، أَوْ يَغْفُلَ عَنْهَا فِي وَقْتِ ضَبْطِهَا ، فَهَذَا كُلُّهُ وَمَا شَاكَلَهُ تَفْرِيطٌ يَجِبُ بِهِ الضَّمَانُ ، وَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ بِالتَّفْرِيطِ تَعَلَّقَ بِفَصْلَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : بِالنُّفُوسِ . وَالثَّانِي : بِالْأَمْوَالِ . فَأَمَّا النُّفُوسُ فَإِنَّ عَمْدَ الْمَلَّاحَانِ لِلصَّدْمِ وَالتَّغْرِيقِ لِنِزَاعٍ أَوْ شَحْنَاءَ فَهُمَا قَاتِلَانِ عَمْدًا لِمَنْ فِي السَّفِينَتَيْنِ مِنَ النُّفُوسِ ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْقَوَدُ لِمَنْ فِي سَفِينَتِهِ وَسَفِينَةِ صَاحِبِهِ ، فَيُقْتَلُ أَحَدُهُمْ بِالْقَرْعَةِ ، وَيُؤْخَذُ فِي مَالِهِ نِصْفُ دِيَاتِ الْبَاقِينَ ، وَيُؤْخَذُ النِّصْفُ الْآخَرُ مِنْ مَالِ الْمَلَّاحِ الْآخَرِ . وَإِنْ لَمْ يَعْمِدِ الِاصْطِدَامَ فَلَا قَوَدَ ، عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَاتِ رُكَّابِ سَفِينَتِهِ وَرُكَّابِ السَّفِينَةِ الْأُخْرَى ، فَتَكُونُ دِيَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ رُكَّابِ السَّفِينَتَيْنِ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَلَّاحَيْنِ ، لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مِنْهُمَا ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَلَّاحَانِ عَبْدَيْنِ فَيَكُونُ الدِّيَاتُ فِي رَقَبَتَيْهِمَا ، فَإِنْ هَلَكَ الْمَلَّاحَانِ مَعَ الرُّكَّابِ وَكَانَا عَبْدَيْنِ كَانَتْ نُفُوسُ الرُّكَّابِ هَدَرًا ، لِتَلَفِ مَحَلِّ جِنَايَتِهِمَا ، وَإِنْ كَانَا حُرَّيْنِ تَحَمَّلَتْ عَاقِلَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ دِيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الرُّكَّابِ ، فَتَكُونُ عَلَى عَاقِلَةِ هَذَا نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَعَلَى عَاقِلَةِ الْآخَرِ نِصْفُهَا الْآخَرُ ، وَيَتَحَمَّلُ عَاقِلَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ دِيَةِ الْآخَرِ ، وَيَكُونُ نِصْفُهَا الْبَاقِي هَدَرًا ، لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ جِنَايَةِ نَفْسِهِ . وَأَمَّا الْأَمْوَالُ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ لَهُمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا . فَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِهِمَا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَلَّاحِينَ فِي مَالِهِ نِصْفَ قِيمَةِ الْمَتَاعِ الَّذِي فِي سَفِينَتِهِ ، وَنِصْفَ قِيمَةِ الْمَتَاعِ الَّذِي فِي سَفِينَةِ الْآخَرِ ، وَضَمِنَ الْمَلَّاحُ الْآخَرُ النِّصْفَ الْآخَرَ . وَإِنْ كَانَ الْمَتَاعُ لَهُمَا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ قِيمَةِ مَتَاعِ صَاحِبِهِ لِجِنَايَتِهِ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ ، وَكَانَ النِّصْفُ الْبَاقِي هَدَرًا ، لِأَنَّهُ مِنْ جِنَايَتِهِ عَلَى مَالِ نَفْسِهِ . وَأَمَّا السَّفِينَتَانِ فَإِنْ كَانَتَا لِغَيْرِهِمَا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ قِيمَةِ سَفِينَتِهِ وَسَفِينَةِ صَاحِبِهِ ، وَإِنْ كَانَتَا لَهُمَا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ سَفِينَةِ صَاحِبِهِ وَكَانَ نِصْفُ سَفِينَتِهِ هَدَرًا كَمَا قُلْنَا فِي الْأَمْوَالِ .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْمَلَّاحَانِ غَيْرَ مُفَرِّطَيْنِ لِقِيَامِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فغرقت السفينة وما فيها مِنْ آلَةٍ وَأَعْوَانٍ وَحَمَّلَ سَفِينَتَهُ مَا تُقِلُّهُ وَتُسَيِّرُهَا فِي وَقْتِ الْعَادَةِ ، فَهَاجَتْ رِيحٌ عَاصِفَةٌ لَمْ يَقْدِرُوا مَعَهَا عَلَى ضَبْطِ السَّفِينَتَيْنِ حَتَّى غَرِقَتَا وَمَا فِيهِمَا مِنَ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ ، فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ قَوْلَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِيمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ :

أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ الضَّمَانُ ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي " الْإِمْلَاءِ " . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا ضَمَانَ ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَاتِ ، فَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَدَلِيلُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ اصْطِدَامُ الْفَارِسَيْنِ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ وَإِنْ عَجَزَا عَنْ ضَبْطِ الْفَرَسَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَضْمَنَ الْمَلَّاحَانِ وَإِنْ عَجَزَا عَنْ ضَبْطِ السَّفِينَتَيْنِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ضَمَانُ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ عَلَى مَا مَضَى مِنَ التَّفْرِيطِ إِلَّا فِي الْقَوَدِ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ بِخُرُوجِهِ عَنْ حُكْمِ الْغَيْرِ ، وَيَكُونُ دِيَاتُ النُّفُوسِ مُخَفَّفَةً عَلَى الْعَاقِلَةِ ، لِأَنَّهُ خَطَأٌ مَحْضٌ . وَإِذَا قِيلَ : بِسُقُوطِ الضَّمَانِ فَدَلِيلُهُ أَنَّ مَا خَرَجَ عَنِ التَّعَدِّي وَالتَّفْرِيطِ فِي الْأَمَانَاتِ لَمْ يُضْمَنْ بِالْحَوَادِثِ الطَّارِقَةِ كَالْوَدَائِعِ ، وَلِأَنَّ التَّلَفَ لَوْ كَانَ بِصَاعِقَةٍ لَمْ يُضْمَنْ كَذَلِكَ بِالرِّيحِ الْعَارِضَةِ ، وَخَالَفَ اصْطِدَامَ الْفَارِسَيْنِ ، لِأَنَّ عِنَانَ الدَّابَّةِ بِيَدِ رَاكِبِهَا تَتَصَرَّفُ عَلَى اخْتِيَارِهِ ، فَإِنْ قَهَرَتْهُ فَلِتَفْرِيطِهِ فِي آلَةِ ضَبْطِهَا ، وَالرِّيحُ الْعَارِضَةُ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهَا وَلَا يَجِدُ سَبِيلًا إِلَى ضَبْطِهَا ، فَافْتَرَقَا ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ النُّفُوسُ هَدَرًا . فَأَمَّا السُّفُنُ فَإِنْ كَانَتْ مِلْكًا أَوْ مُسْتَأْجَرَةً لَمْ يَضْمَنْ ، وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَعَارَةً ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْمَلَّاحَيْنِ جَمِيعَ قِيمَةِ سَفِينَتِهِ الَّتِي اسْتَعَارَهَا ، لِأَنَّ الْعَارِيَةَ مَضْمُونَةٌ فِي الْأَصْلِ بِعُدْوَانٍ وَغَيْرِ عُدْوَانٍ . وَأَمَّا الْأَمْوَالُ فَإِنْ كَانَ مَعَهَا أَرْبَابُهَا لَمْ يَضْمَنْهَا الْمَلَّاحَانِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا أَرْبَابُهَا لَمْ يَضْمَنْ إِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا كَالْأَجِيرِ الْمُنْفَرِدِ ، وَفِي ضَمَانِهِ إِنْ كَانَ مُشْتَرِكًا قَوْلَانِ كَالْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ : أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرِكَ ضَامِنٌ . وَالثَّانِي : لَا يَضْمَنُ إِذَا قِيلَ إِنِ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرِكَ لَيْسَ بِضَامِنٍ ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْمَلَّاحَيْنِ مُنْفَرِدًا وَالْآخَرُ مُشْتَرِكًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُنْفَرِدِ ، وَفِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِكِ قَوْلَانِ ، وَلَوْ فَرَّطَ أَحَدُ الْمَلَّاحَيْنِ وَلَمْ يُفَرِّطِ الْآخَرُ كَانَ الْمُفَرِّطُ ضَامِنًا ، وَفِي ضَمَانِ مَنْ لَمْ يُفَرِّطْ قَوْلَانِ ، فَإِنْ غَرِقَتْ إِحْدَى السَّفِينَتَيْنِ وَلَمْ تَغْرَقِ الْأُخْرَى كَانَ الْحُكْمُ فِي ضَمَانِ الَّتِي غَرِقَتْ كَالْحُكْمِ فِي ضَمَانِهَا لَوْ غَرِقَا مَعًا ، وَإِذَا كَانَ فِي السَّفِينَةِ مَالِكُهَا وَمَلَّاحُهَا فَإِنْ كَانَ مَالِكُهَا هُوَ الْمُرَاعِيَ لَهَا وَالْمُدَبِّرَ لِسَيْرِهَا كَانَ الضَّمَانَ إِنْ وَجَبَ عَلَى الْمَالِكِ دُونَ الْمَلَّاحِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَلَّاحُ هُوَ الْمُدَبِّرَ لِسَيْرِهَا دُونَ الْمَالِكِ فَالضَّمَانُ وَاجِبٌ عَلَى الْمَلَّاحِ دُونَ الْمَالِكِ . فَلَوِ اخْتَلَفَ فِي التَّفْرِيطِ الْمَلَّاحُ وَالرُّكَّابُ فَادَّعَاهُ الرُّكَّابُ وَأَنْكَرَهُ الْمَلَّاحُ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمَلَّاحِ مَعَ يَمِينِهِ ، لِأَنَّهُ عَلَى أَصْلِ الْأَمَانَةِ إِلَّا أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ مَعَ عَدَمِ التَّفْرِيطِ فَلَا يَكُونُ لِهَذَا الِاخْتِلَافِ تَأْثِيرٌ إِلَّا فِيمَا وَقَعَ الْفَرْقُ فِي صِفَةِ ضَمَانِهِ بَيْنَ التَّفْرِيطِ وَغَيْرِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِذَا صُدِمَتْ سَفِينَتُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْهَدَ بِهَا الصَّدْمُ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا مِمَا فِي سَفِينَتِهِ بِحَالٍ لِأَنَّ الَذِينَ دَخَلُوا غَيْرُ مُتَعَدًّى عَلَيْهِمْ وَلَا عَلَى أَمْوَالِهِمْ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ . اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صُورَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي اصْطِدَامِ السَّفِينَتَيْنِ السَّائِرَتَيْنِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُمَا تَفْرِيطٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ ، وَيَكُونُ هَذَا بَقِيَّةَ الْمَسْأَلَةِ الْمَاضِيَةِ ، وَهَذَا تَأْوِيلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَطَائِفَةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي سَفِينَةِ مُرْسَاةٍ إِلَى شَاطِئِ نَهْرٍ أَوْ سَاحِلِ بَحْرٍ قَدْ أُحْكِمَتْ رُبُطُهَا وَأُلْقِيَتْ أَنَاجِرُهَا فَعَصَفَتْ رِيحٌ قَطَعَتْ رَبُطُهَا وَقَلَعَتْ أَنَاجِرَهَا حَتَّى هَلَكَتْ وَمَنْ فِيهَا فَلَا ضَمَانَ هَاهُنَا عَلَى مَلَّاحِهَا قَوْلًا وَاحِدًا ، لِأَنَّهُ لَا فِعْلَ لَهُ فِيهَا عِنْدَ غَرَقِهَا ، وَخَالَفَ حَالَ السَّائِرَةِ الَّتِي هِيَ مُدَبَّرَةٌ بِفِعْلِهِ ، وَرُبَّمَا خَفِيَ فِيهِ وَجْهُ تَقْصِيرِهِ ، حَكَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيُّ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي سَفِينَةٍ مُرْسَاةٍ إِلَى الشَّطِّ مُحْكَمَةُ الرَّبْطِ وَأُخْرَى سَائِرَةٍ عَصَفَتْ بِهَا الرِّيحُ فَأَلْقَتْهَا عَلَى الْوَاقِفَةِ حَتَّى غَرَّقَتْهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ الْوَاقِفَةِ ، وَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى صَاحِبِ السَّائِرَةِ إِنْ لَمْ يُفَرِّطْ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِذَا عَرَضَ لَهُمْ مَا يَخَافُونَ بِهِ التَّلَفَ عَلَيْهَا وَعَلَى مَنْ فِيهَا فَأَلْقَى أَحَدُهُمْ بَعْضَ مَا فِيهَا رَجَاءَ أَنْ تَخِفَّ فَتَسْلَمَ فَإِنْ كَانَ مَالَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَى غَيْرِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالُوا لَهُ أَلْقِ مَتَاعَكَ فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ ضَمِنَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا خَافَ رُكْبَانُ السَّفِينَةِ مِنْ غَرَقِهَا لِثِقَلِ مَا فِيهَا وَعُصُوفِ الرِّيحِ بِهَا فَأَلْقَى رَجُلٌ بَعْضَ مَتَاعِهَا لِتَخِفَّ فَتَسْلَمَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُلْقِيَ مَتَاعَ نَفْسِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُلْقِيَ مَتَاعَ غَيْرِهِ . فَإِنْ أَلْقَى مَتَاعَ غَيْرِهِ كَانَ مُتَعَدِّيًا بِإِلْقَائِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُلْقِي صَاحِبَ السَّفِينَةِ أَوْ غَيْرَهُ ، وَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ ، سَوَاءٌ نَجَتِ السَّفِينَةُ أَوْ هَلَكَتْ ، مَنَعَهُ الْمَالِكُ مِنْ إِلْقَائِهِ أَوْ لَمْ يَمْنَعْهُ ، لِأَنَّ إِمْسَاكَهُ عَنْ مَنْعِهِ لَا يُبَرِّئْهُ مِنْ ضَمَانِهِ ، كَمَا لَوْ قَتَلَ لَهُ قَتِيلًا أَوْ قَطَعَ مِنْهُ عُضْوًا ، وَلَا يَجِبُ عَلَى رُكْبَانِ السَّفِينَةِ مِنْ ضَمَانِهِ شَيْءٌ وَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِسَلَامَتِهِمْ ، فَلَوْ

كَانُوا قَدْ أَمَرُوهُ بِإِلْقَائِهِ لَمْ يَضْمَنُوا ، لِأَنَّ الْمُلْقِيَ لَا يَسْتَبِيحُ الْإِلْقَاءَ بِأَمْرِهِمْ ، فَصَارَ وُجُودُ أَمْرِهِمْ وَعَدَمُهُ سَوَاءً . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا سَقَطَ ضَمَانُ هَذَا الْمَالِ لِمَا فِي اسْتِهْلَاكِهِ مِنْ خَلَاصِ النُّفُوسِ كَالْفَحْلِ إِذَا صَالَ فَقَتَلَ لَمْ يُضْمَنْ . قِيلَ : لِأَنَّ خَوْفَ الْفَحْلِ لِمَعْنًى فِيهِ فَسَقَطَ ضَمَانُهُ ، وَخَوْفَ الْغَرَقِ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَالِكِ فَلَزِمَ ضَمَانُهُ ، كَمَا لَوِ اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِ طَعَامِ غَيْرِهِ ضَمِنَهُ ، فَإِنْ أَلْقَى مَتَاعَ نَفْسِهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بِأَمْرِهِمْ . وَالثَّانِي : بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ . فَإِنْ أَلْقَاهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ كَانَ مُحْتَسِبًا فِي إِلْقَائِهِ لِمَا يُرْجَى مِنْ نَجَاتِهِ وَنَجَاتِهِمْ ، وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِقِيمَتِهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ ، وَإِنْ كَانَ أَلْقَاهُ سَبَبًا لِنَجَاتِهِمْ : لِأَنَّهُ تَطَوَّعَ بِإِلْقَائِهِ ، وَإِنْ أَلْقَاهُ بِأَمْرِهِمْ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَضْمَنُوا لَهُ قِيمَتَهُ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَضْمَنُوهَا . فَإِنْ لَمْ يَضْمَنُوهَا بَلْ قَالُوا أَلْقِ مَتَاعَكَ فَأَلْقَاهُ فَلَا غُرْمَ لَهُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ أَمَرُوهُ بِهِ ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ عَلَيْهِمْ ضَمَانَهُ وَغُرْمَهُ : لِأَنَّ الْآمِرَ كَالْفَاعِلِ ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ عُمُومِ الصَّالِحِ وَهَذَا فَاسِدٌ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ لَوْ أَمَرُوهُ بِاسْتِهْلَاكِهِ فِي غَيْرِ الْبَحْرِ لَمْ يَضْمَنُوهُ فَكَذَلِكَ فِي الْبَحْرِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ لَوْ أَمَرُوهُ بِعِتْقِ عَبْدِهِ أَوْ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ لَمْ يَضْمَنُوا كَذَلِكَ بِإِلْقَاءِ مَالِهِ وَإِنْ ضَمِنُوهُ لَهُ فَقَالُوا لَهُ أَلْقِ مَتَاعَكَ وَعَلَيْنَا ضَمَانُهُ فَأَلْقَاهُ لَزِمَهُمْ ضَمَانُهُ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : لَا يَلْزَمُهُمْ ضَمَانُهُ ، لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ : قَدْ ضَمِنْتُ لَكَ مَا تُدَايِنُ بِهِ فُلَانًا لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُ مَا دَايَنَهُ بِهِ ، لِتَقَدُّمِ ضَمَانِهِ عَلَى الْوُجُوبِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَحْكَامَ الضَّرُورَاتِ وَعُمُومَ الْمَصَالِحِ أَوْسَعُ مِنْ أَحْكَامِ الْعُقُودِ الْخَاصَّةِ فِي الِاخْتِيَارِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ : اعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ لَزِمَهُ الضَّمَانُ لِعِتْقِهِ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا ، فَأَمَّا ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ هَاهُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ بِضَمَانٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْعَاءٌ لِلِاسْتِهْلَاكِ بِشَرْطِ الْغُرْمِ : لِأَنَّ

الضَّمَانَ مَا كَانَ الضَّامِنُ فِيهِ فَرْعًا لِلْمَضْمُونِ عَنْهُ وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ هَاهُنَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ ضَمَانٌ وَإِنِ انْعَقَدَ قَبْلَ الْوُجُوبِ بِخِلَافِ الْمُدَايَنَةِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ ضَمَانَ الْمَتَاعِ بَعْدَ إِلْقَائِهِ لَا يَصِحُّ فَصَحَّ ضَمَانُهُ قَبْلَ إِلْقَائِهِ ، وَضَمَانَ الْمُدَايَنَةِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهَا يَصِحُّ فَلَا يَصِحُّ ضَمَانُهَا قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَيَشْهَدْ لَهُ مِنَ الْأُصُولِ أَنَّ بَيْعَ الثَّمَرِ لَمَّا صَحَّ بَعْدَ خَلْقِهَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا قَبْلَ خَلْقِهَا ، وَمَنَافِعُ الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ لَمَّا لَمْ تَصِحَّ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهَا بَعْدَ حُدُوثِهَا صَحَّ قَبْلَ حُدُوثِهَا ، كَذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الضَّمَانِ . فَأَمَّا إِذَا قَالَ لَهُ وَقَدْ أَمِنُوا الْغَرَقَ : أَلْقِ مَتَاعَكَ فِي الْبَحْرِ وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ ، فَأَلْقَاهُ فَفِي لُزُومِ هَذَا الضَّمَانِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ : لَا يَلْزَمُهُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ وَارْتِفَاعِ الْأَغْرَاضِ الصَّحِيحَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَلْزَمُهُ ضَمَانٌ بِشَرْطِ الضَّمَانِ عِنْدَ الِاسْتِهْلَاكِ ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ وَالثَّانِي أَقْيَسُ . فَأَمَّا أَخْذُ الرَّهْنِ فِي هَذَا الضَّمَانِ فَلَا يَصِحُّ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِعَقْدِهِ قَبْلَ وُجُوبِ الْحَقِّ . وَالثَّانِي : لِلْجَهْلِ بِمِقْدَارِ الْقِيمَةِ . وَأَجَازَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا كَالضَّمَانِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ : لِأَنَّ حُكْمَ الضَّمَانِ أَوْسَعُ مِنْ حُكْمِ الرَّهْنِ : لِأَنَّ ضَمَانَ الدَّرْكُ يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ عَلَيْهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ قَالَ لِصَاحِبِهِ : أَلْقِهِ عَلَى أَنْ أَضْمَنَهُ أَنَا وَرُكْبَانُ السَّفِينَةِ ضَمِنَهُ دُونَهُمْ إِلَّا أَنْ يَتَطَوَّعُوا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) هَذَا عِنْدِي غَلَطٌ غَيْرُ مُشْكِلٍ وَقِيَاسُ مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ بِحِصَتِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ مَا لَمْ يَضْمَنْ وَلَا يَضْمَنُ أَصْحَابُهُ مَا أَرَادَ أَنْ يُضَمِّنَهُمْ إِيَّاهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : أَنْ يُلْقِيَ مَتَاعَهُ فِي الْبَحْرِ بِشَرْطِ الضَّمَانِ ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَضْمَنَهُ جَمِيعُهُمْ أَوْ أَحَدُهُمْ ، فَإِنْ ضَمِنُوهُ جَمِيعًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَشْتَرِكُوا فِيهِ فَيَقُولُوا : أَلْقِهِ وَعَلَيْنَا ضَمَانُهُ ، فَيَكُونُ الضَّمَانُ مُقَسَّطًا بَيْنَ جَمِيعِهِمْ عَلَى أَعْدَادِهِمْ ، فَإِنْ كَانُوا عَشَرَةً ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عُشْرَ قِيمَتِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَنْفَرِدُوا فِيهِ فَيَقُولُوا : أَلْقِهِ وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا ضَمَانُهُ ، فَيَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ضَمَانُ جَمِيعِ قِيمَتِهِ ، وَإِنْ ضَمِنَهُ أَحَدُهُمْ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَضْمَنَهُ عَنْ نَفْسِهِ

أَوْ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ ، فَإِنْ ضَمِنَهُ عَنْ نَفْسِهِ اخْتُصَّ بِضَمَانِهِ وَغَرِمَهُ ، وَإِنْ عَادَ نَفْعُهُ عَلَى جَمِيعِهِمْ ، وَإِنْ ضَمِنَهُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ بِأَمْرِهِمْ أَوْ غَيْرِ أَمْرِهِمْ ، فَإِنْ كَانَ بِأَمْرِهِمْ كَانَ ضَمَانُهُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ لَازِمًا لِجَمِيعِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الِاشْتِرَاكِ كَانَ مُتَقَسِّطًا عَلَى أَعْدَادِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الِانْفِرَادِ لَزِمَ جَمِيعُ الضَّمَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، وَإِنْ ضَمِنَ عَنْهُ وَعَنْهُمْ بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ لَمْ يَلْزَمْهُمْ ضَمَانُهُ عَنْهُمْ ، لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يَلْزَمُ إِلَّا بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ أَحَدُهُمَا ، وَأَمَّا الضَّامِنُ فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ نَفْسِهِ ، وَقَدْرُ مَا يَلْزَمُهُ مِنَ الضَّمَانِ مُعْتَبَرٌ بِلَفْظِهِ ، وَلَهُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الِانْفِرَادِ فَيَقُولُ : أَلْقِهِ وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا ضَمَانُهُ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ جَمِيعِهِ بِلَفْظِهِ وَلَهُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الِاشْتِرَاكِ فَيَقُولُ : أَلْقِهِ وَعَلَى جَمَاعَتِنَا ضَمَانُهُ ، فَعَلَيْهِ مِنَ الضَّمَانِ بِقِسْطِهِ مِنْ عَدَدِهِمْ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ بِلَفْظٍ مُطْلَقٍ فَيَقُولُ : أَلْقِهِ عَلَى أَنْ أَضْمَنَهُ أَنَا وَرُكْبَانُ السَّفِينَةِ ، فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " ضَمِنَهُ دُونَهُمْ " فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُطْلَقِ هَذَا الضَّمَانِ هَلْ يَقْتَضِي حَمْلُهُ عَلَى الِانْفِرَادِ أَوِ الِاشْتِرَاكِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الِاشْتِرَاكِ فَلَا يَلْزَمُهُ مِنْهُ إِلَّا بِحِصَّتِهِ ، وَيَكُونُ تَأْوِيلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ " ضَمِنَهُ دُونَهُمْ " مَحْمُولًا عَلَى أَصْلِ الضَّمَانِ دُونَ قَدْرِهِ ، وَيَكُونُ الْمُزَنِيُّ مُوَافِقًا لِلشَّافِعِيِّ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ وَمُخْطِئًا عَلَيْهِ فِي تَأْوِيلِ كَلَامِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى ضَمَانِ الِانْفِرَادِ ، وَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ جَمِيعِ الْقِيمَةِ ، وَيَكُونُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ " ضَمِنَهُ دُونَهُمْ " مَحْمُولًا عَلَى ضَمَانِ جَمِيعِهِ ، وَيَكُونُ الْمُزَنِيُّ مُخَالِفًا لِلشَّافِعِيِّ فِي الْحُكْمِ مُصِيبًا فِي تَأْوِيلِ كَلَامِهِ ، وَوَجَدْتُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا وَجْهًا ثَالِثًا أَنَّهُ إِنْ كَانَ عِنْدَ ضَمَانِهِ عَنْهُ وَعَنْهُمْ ضَمِنَ أَنْ يَسْتَخْلِصَ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ لَزِمَهُ ضَمَانُ جَمِيعِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَضْمَنِ اسْتِخْلَاصُهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ لَمْ يَضْمَنْ إِلَّا قَدْرَ حِصَّتِهِ ، وَأَشَارَ إِلَى هَذَا الْوَجْهِ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ ، وَاسْتَشْهَدَ عَلَيْهِ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْخُلْعِ : وَلَوْ قَالَ اخْلَعْ زَوْجَتَكَ عَلَى أَلْفٍ أُصَحِّحْهَا لَكَ مِنْ مَالِهَا لَزِمَهُ ضَمَانُهَا ، وَلَوْ قَالَ : عَلَى أَلْفٍ فِي مَالِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهَا .

فَصْلٌ : وَلَوِ ابْتَدَأَ صَاحِبُ الْمَتَاعِ فَقَالَ لِرُكْبَانِ السَّفِينَةِ : أَلْقُوا مَتَاعِي وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ضَمَانُهُ . فَقَالُوا جَمِيعُهُمْ : نَعَمْ ، أَوْ قَالُوا : افْعَلْ فَهُمَا سَوَاءٌ ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ضَمَانُ جَمِيعِ قِيمَتِهِ . وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمْ : نَعَمْ أَوِ افْعَلْ وَأَمْسَكَ الْبَاقُونَ لَزِمَهُ الضَّمَانُ دُونَهُمْ . وَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الْمَتَاعِ قَالَ لَهُمْ : أَلْقُوا مَتَاعِي وَعَلَيْكُمْ ضَمَانُهُ . فَقَالُوا جَمِيعًا : نَعَمْ - لَزِمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الضَّمَانِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ ، لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ اشْتَرَاكٍ وَالْأَوَّلَ ضَمَانُ انْفِرَادٍ ، وَلَوْ أَجَابَهُ أَحَدُهُمْ ضَمِنَ وَحْدَهُ قَدْرَ حِصَّتِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ خَرَقَ السَّفِينَةَ فَغَرِقَ أَهْلُهَا ضَمِنَ مَا فِيهَا وَضَمِنَ دِيَاتِ رُكْبَانِهَا عَاقِلَتُهُ وَسَوَاءُ مَنْ خَرَقَ ذَلِكَ مِنْهَا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَلَهُ إِذَا خَرَقَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ يَسْتَوِي ضَمَانُ الْأَمْوَالِ فِي جَمِيعِهَا وَيَخْتَلِفُ فِيهَا ضَمَانُ النُّفُوسِ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ خَرْقُهُ لَهَا عَمْدًا مَحْضًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ خَطَأً مَحْضًا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ عَمْدَ الْخَطَأِ ، فَإِنْ كَانَ عَمْدَ الْخَطَأِ فَهُوَ أَنْ يَعْمِدَ خَرْقَهَا وَفَتْحَهَا لِغَيْرِ إِصْلَاحٍ لَهَا وَلَا لِسَدِّ مَوْضِعٍ فِيهَا ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْخَرْقِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ وَاسِعًا لَا يَجُوزُ أَنْ تَسْلَمَ السَّفِينَةُ مِنْ مِثْلِهِ فَهَذَا قَاتِلٌ عَمْدًا ، وَعَلَيْهِ الْقَوَدُ إِنْ سَلِمَ مِنْهَا ، وَإِنْ غَرِقَ مَعَهَا فَفِي مَالِهِ دِيَاتُ مَنْ غَرِقَ فِيهَا مَعَ قِيمَةِ الْأَمْوَالِ التَّالِفَةِ فِيهَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْخَرْقُ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ تَسْلَمَ السَّفِينَةُ مَعَ مِثْلِهِ وَيَجُوزَ أَنْ تَغْرَقَ مِنْهُ فَهَذَا عَمْدُ الْخَطَأِ لِعَمْدِهِ فِي الْفِعْلِ وَخَطَئِهِ فِي الْقَصْدِ ، فَتَكُونُ دِيَاتُ النُّفُوسِ مُغَلَّظَةً عَلَى عَاقِلَتِهِ وَضَمَانُ الْأَمْوَالِ مَعَ الْكَفَّارَاتِ فِي مَالِهِ ، وَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْخَرْقُ مِمَّا لَا يُغْرَقُ مِنْ مِثْلِهِ فَيَتَّسِعُ وَيُغْرِقُ فَهَذَا خَطَأٌ مَحْضٌ ، تَكُونُ دِيَاتُ النُّفُوسِ مُخَفَّفَةً عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَضَمَانُ الْأَمْوَالِ مَعَ الْكَفَّارَاتِ فِي مَالِهِ ، فَهَذَا حُكْمُ خَرْقِهِ إِذَا كَانَ عَامِدًا فِي فِعْلِهِ . وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْخَرْقُ مِنْهُ خَطَأً مَحْضًا ، فَهُوَ أَنْ يَسْقُطَ مِنْ يَدِهِ حَجَرٌ فَيَفْتَحُهَا فَيَغْرَقُ ، فَتَكُونُ دِيَاتُ النُّفُوسِ مُخَفَّفَةً عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَضَمَانُ الْأَمْوَالِ مَعَ

الْكَفَّارَاتِ فِي مَالِهِ ، يَسْتَوِي فِيهِ الْحُكْمُ عَلَى اخْتِلَافِ حَالِ الْخَرْقِ فِي صِغَرِهِ وَكِبَرِهِ . وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْخَرْقُ مِنْهُ عَمْدَ الْخَطَأِ فَهُوَ أَنْ يَعْمِدَ فَتْحَهَا لِعَمَلِ عَيْبٍ فِيهَا فَتَغْرَقُ ، أَوْ يُدَقُّ فِيهَا مِسْمَارٌ فَيَنْشَقُّ اللَّوْحُ وَتَغْرَقُ ، فَتَكُونُ دِيَاتُ النُّفُوسِ مُغَلَّظَةً عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَضَمَانُ الْأَمْوَالِ مَعَ الْكَفَّارَاتِ فِي مَالِهِ ، وَلَوْ دَقَّ جَانِبًا مِنْهَا لِعَمَلٍ فَانْفَتَحَ الْجَانِبُ الْآخَرُ لَمْ يَكُنْ عَنْ قَصْدِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ وَلَدَهُ إِلَى سَابِحٍ لِيُعَلِّمَهُ السِّبَاحَةَ فَغَرِقَ فَلِلْوَلَدِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا غَيْرَ بَالِغٍ ، فَتَجِبُ دِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ السَّابِحِ مُغَلَّظَةً كَالْمُعَلِّمِ إِذَا ضَرَبَ صَبِيًّا فَمَاتَ ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَحُطَّهُ فِي الْمَاءِ عَلَى شَرْطِ السَّلَامَةِ ، فَإِذَا أَفْضَى إِلَى التَّلَفِ كَانَ مَنْسُوبًا إِلَى تَقْصِيرِهِ فَضَمِنَ ، كَمَا يَكُونُ لِلْمُعَلِّمِ ضَرْبُ الصَّبِيِّ لِلتَّأْدِيبِ عَلَى شَرْطِ السَّلَامَةِ فَإِذَا أَفْضَى إِلَى التَّلَفِ صَارَ مَنْسُوبًا إِلَى التَّعَدِّي فَضَمِنَ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ بَالِغًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّابِحِ ، لِأَنَّ حِفْظَهُ فِي الْمَاءِ إِذَا كَانَ بَالِغًا وَتَجَنُّبَهُ فِيهِ مِنَ الْغَرَقِ مُتَوَجَّهٌ إِلَيْهِ لَا إِلَى السَّابِحِ ، فَصَارَ التَّفْرِيطُ مِنْهُ لَا مِنْ غَيْرِهِ فَلَمْ يَضْمَنْ دِيَتَهُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا رَبَطَ رَجُلٌ يَدَيْ رَجُلٍ وَرِجْلَيْهِ وَأَلْقَاهُ عَلَى سَاحِلِ بَحْرٍ فَزَادَ الْمَاءُ فَغَرَّقَهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ زِيَادَةُ الْمَاءِ مَأْلُوفَةً فِي أَوْقَاتٍ رَاتِبَةٍ كَالْمَدِّ وَالْجَزْرِ بِالْبَصْرَةِ ، فَهَذَا قَاتِلٌ عَمْدًا وَعَلَيْهِ الْقَوَدُ : لِأَنَّهُ قَاصِدٌ لِتَغْرِيقِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ غَيْرَ مَأْلُوفَةٍ فَلَا قَوَدَ فِيهِ ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِ الْمَاءِ أَنْ يَزِيدَ وَإِنْ جَازَ أَنْ لَا يَزِيدَ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ عَمْدَ الْخَطَأِ تَجِبُ الدِّيَةُ فِيهِ مُغَلَّظَةً عَلَى عَاقِلَتِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِ الْمَاءِ أَنْ لَا يَزِيدَ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَزِيدَ ، فَيَكُونُ هَذَا خَطَأً مَحْضًا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ مُخَفَّفَةً عَلَى الْعَاقِلَةِ . وَلَوْ رَبَطَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَأَلْقَاهُ فِي صَحْرَاءَ فَأَكَلَهُ السَّبُعُ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ الْمُتْلِفَ غَيْرُهُ ، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَتِ الصَّحْرَاءُ مَسْبَعَةً فَهُوَ عَمْدُ الْخَطَأِ تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَسْبَعَةٍ فَهُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ مُخَفَّفَةً .

فَصْلٌ : وَإِذَا تَجَارَحَ رَجُلَانِ وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ جَرَحَ صَاحِبَهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ وَالْآخَرُ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي إِنْكَارِ الطَّلَبِ وَعَلَيْهِ الْقَوَدُ ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْ يَمِينِ الطَّلَبِ حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى أَنَّهُ مَطْلُوبٌ وَلَا قَوَدَ وَلَا أَرْشَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ مَنِ الْعَاقِلَةُ الَّتِي تَغْرَمُ

مَسْأَلَةٌ فِي قضاء النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ

بَابُ مَنِ الْعَاقِلَةُ الَّتِي تَغْرَمُ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْعَاقِلَةُ فَهُمْ ضُمَنَاءُ الدِّيَةِ وَمُتَحَمِّلُوهَا مِنْ عَصَبَاتِ الْقَاتِلِ ، وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهِمْ عَاقِلَةً عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْعَقْلَ اسْمٌ لِلدِّيَةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ أَنْتُمْ يَا خُزَاعَةُ قَدْ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلٍ وَأَنَا وَاللَّهِ عَاقِلُهُ لَا أَيْ يَتَحَمَّلُ عَقْلَهُ وَهُوَ الدِّيَةُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُمْ سُمُّوا عَاقِلَةً ، لِأَنَّهُمْ يَقُودُونَ إِبِلَ الدِّيَةِ فَيَعْقِلُونَهَا عَلَى بَابِ الْمَقْتُولِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُمْ سُمُّوا عَاقِلَةً ، لِأَنَّهُمْ يَعْقِلُونَ الْقَاتِلَ أَيْ يَمْنَعُونَ عَنْهُ ، وَالْمَنْعُ الْعَقْلُ ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْعَقْلُ فِي النَّاسِ عَقْلًا ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الْقَبَائِحِ .

فَصْلٌ : لَا خِلَافَ أَنَّ دِيَةَ الْعَمْدِ من يتحملها لَا تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ ، سَوَاءٌ وَجَبَ فِيهَا الْقَوَدُ أَوْ لَمْ يَجِبْ كَجِنَايَةِ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ وَمَا لَا قِصَاصَ فِيهِ مِنَ الْجَائِفَةِ وَسَائِرِ الْجِرَاحِ ، وَتَكُونُ الدِّيَةُ حَالَّةً فِي مَالِ الْجَانِي . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : مَا لَا قِصَاصَ فِيهِ مِنَ الْعَمْدِ تَجِبُ الدِّيَةُ فِيهِ عَلَى الْجَانِي مُؤَجَّلَةً كَالْخَطَأِ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأُمُورٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ سُقُوطَ الْقَوَدِ فِي الْعَمْدِ لَا يُوجِبُ تَأْجِيلَ دِيَتِهِ كَسُقُوطِهِ بِالْعَفْوِ . وَالثَّانِي : أَنَّ غُرْمَ الْمُتْلِفِ إِذَا لَمْ يَدْخُلْهُ التَّحَمُّلُ حَلَّ كَالْأَمْوَالِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَعَجَّلْ دِيَةَ الْخَطَأِ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ لَمْ تَتَأَجَّلْ دِيَةُ الْعَمْدِ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا دِيَةُ الْخَطَأِ الْمَحْضِ وَعَمْدِ الْخَطَأِ من يتحملها فَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ تَتَحَمَّلُهَا عَنِ الْقَاتِلِ ، وَشَذَّ مِنْهُمُ الْأَصَمُّ ، وَابْنُ عُلَيَّةَ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْخَوَارِجِ فَأَوْجَبُوهَا عَلَى الْقَاتِلِ دُونَ الْعَاقِلَةِ كَالْعَمْدِ ، احْتِجَاجًا

بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [ فَاطِرٍ : 18 ] وَقَوْلُهُ تَعَالَى : لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى [ طه : 15 ] وَقَوْلُهُ تَعَالَى : كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [ الْمُدَّثِّرُ : 38 ] أَيْ مَأْخُوذَةٌ . وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ الْحَسْحَاسَ بْنَ عَمْرٍو الْعَنْبَرِيَّ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، الرَّجُلُ مِنْ قَوْمِي يَجْنِي أَفَؤُآخَذُ بِهِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ هَذَا مِنْكَ ؟ وَكَانَ مَعَهُ ابْنُهُ فَقَالَ : ابْنِي أَشْهَدُ بِهِ . أَيْ أَعْلَمُهُ قَطْعًا وَلَيْسَ بِمُسْتَلْحَقٍ ، فَقَالَ : إِنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْكَ وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ فِعْلَ الْجِنَايَةِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجْنِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنْ لَا يُؤَاخَذَ بِجِنَايَتِكَ وَلَا تُؤَاخَذَ بِجِنَايَتِهِ . وَرَوَى أَيَادُ بْنُ لَقِيطٍ عَنْ أَبِي رِمْثَةَ قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَبِي فَرَأَى الَّتِي فِي ظَهْرِهِ ، فَقَالَ لَهُ أَبِي : دَعْنِي أُعَالِجْهَا فَإِنِّي طَبِيبٌ ، فَقَالَ : أَنْتَ رَفِيقٌ وَاللَّهُ الطَّبِيبُ ، مَنْ هَذَا مَعَكَ ؟ فَقَالَ : ابْنِي أَشْهَدُ بِهِ ، فَقَالَ : أَمَا إِنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْكَ وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ . وَرَوَى الْحَكَمُ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : أَلَا لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ ، لَا يُؤْخَذُ الْأَبُ بِجَرِيرَةِ ابْنِهِ وَهَذَا نَصٌّ . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَحَمَّلِ الْعَاقِلَةُ قِيَمَ الْأَمْوَالِ لَمْ يَتَحَمَّلْ دِيَةَ النُّفُوسِ ، وَلِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَوْ تَحَمَّلَتْ دِيَةَ الْخَطَأِ لَتَحَمَّلَتْ دِيَةَ الْعَمْدِ ، وَلِأَنَّ الدِّيَةَ عُقُوبَةٌ فَلَمْ تَتَحَمَّلْهَا الْعَاقِلَةُ كَالْقَوَدِ ، وَلِأَنَّ لِقَتْلِ الْخَطَأِ مُوَجِبَيْنِ : الدِّيَةَ وَالْكَفَّارَةَ ، فَلَمَّا لَمْ تَتَحَمَّلِ الْعَاقِلَةُ الْكَفَّارَةَ لَمْ تَتَحَمَّلِ الدِّيَةَ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّلُ الدِّيَةَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [ الْمَائِدَةِ : 2 ] وَتَحَمُّلُ الْعَاقِلَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى فَدَخَلَ فِي عُمُومِ الْآيَةِ ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي لَحْيَانَ سَقَطَ مَيِّتًا بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا بِالْغُرَّةِ تُوُفِّيَتْ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا وَأَنَّ الْعَقْلَ عَلَى عَصَبَتِهَا . وَرَوَى أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ بَنِي هُذَيْلٍ ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا ، فَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَضَى أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ ، وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا وَوَرَثَتِهَا وَلَدُهَا وَمَنْ

مَعَهُ ، فَقَالَ حَمَلُ بْنُ مَالِكِ بِنِ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَيْفَ أَغْرَمُ مَنْ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ وَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنَّ هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ مِنْ أَجْلِ مَسْجَعِهِ الَّذِي سَجَعَهُ . وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ قَتَلَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا زَوْجٌ وَوَلَدٌ ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِيَةَ الْمَقْتُولَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلَةِ ، وَرَوَى أَبُو عَازِبٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : الْقَوَدُ بِالسَّيْفِ وَالْخَطَأُ عَلَى الْعَاقِلَةِ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيَّزَ بَيْنَ مَعَاقِلِ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ فَجَعَلَ مَعَاقِلَ قُرَيْشٍ فِيهِمْ ، وَمَعَاقِلَ الْأَنْصَارِ فِي بَنِي سَاعِدَةَ . وَرَوَى حَمَّادٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ اخْتَصَمَا إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي مَوَالِي صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لِأَنَّ الزُّبَيْرَ ابْنُهَا وَعَلِيًّا ابْنُ أَخِيهَا ، فَقَضَى لِلزُّبَيْرِ بِالْمِيرَاثِ وَعَلَى عَلِيٍّ بِالْعَقْلِ . وَلِأَنَّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ انْعَقَدَ فِي قِصَّةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ أَنْفَذَ رَسُولَهُ إِلَى امْرَأَةٍ فِي قَذْفٍ بَلَغَهُ عَنْهَا فَأَجْهَضَتْ ذَاتَ بَطْنِهَا ، فَسَأَلَ عُثْمَانَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ فَقَالَا : لَا شَيْءَ عَلَيْكَ إِنَّمَا أَنْتَ مُعَلِّمٌ ، وَسَأَلَ عَلِيًّا فَقَالَ : إِنْ كَانَا اجْتَهَدَا فَقَدْ أَخْطَآ وَإِنْ كَانَا مَا اجْتَهَدَا فَقَدْ غَشِيَا عَلَيْكَ الدِّيَةَ ، فَقَالَ عُمَرُ : عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَا تَبْرَحُ حَتَّى تَضْرِبَهَا عَلَى قَوْمِكَ ، يَعْنِي قُرَيْشًا لِأَنَّهُمْ عَاقِلَتُهُ ، فَقَضَى بِهَا عَلَيْهِمْ فَتَحَمَّلُوهَا عَنْهُ ، وَلَمْ يُخَالِفْهُ مِنْهُمْ وَلَا مِنْ جَمِيعِ الْأُمَّةِ أَحَدٌ مَعَ انْتِشَارِ الْقَضِيَّةِ ، وَظُهُورِهَا فِي الْكَافَّةِ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ لَا يَسُوغُ خِلَافُهُ وَلِأَنَّ اخْتِصَاصَ الْعَاقِلَةِ بِالِاسْمِ مُوجِبٌ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِالْحُكْمِ ، وَفَقْدَ الْحُكْمِ يُوجِبُ زَوَالَ الِاسْمِ ، وَلِأَنَّ الْعَقْلَ فِي كَلَامِهِمِ الْمَنْعُ ، وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَمْنَعُونَ عَنِ الْقَاتِلِ بِأَسْيَافِهِمْ ، فَلَمَّا مَنَعَهُمُ الْإِسْلَامُ مِنَ السَّيْفِ عَوَّضَ مِنْهُ مَنَعَهُمْ مِنْهُ بِأَمْوَالِهِمْ ؟ وَلِذَلِكَ انْطَلَقَ اسْمُ الْعَاقِلَةِ عَلَيْهِمْ ، وَلِأَنَّ النُّفُوسَ مُغَلَّظَةٌ عَلَى الْأَمْوَالِ ، وَقَتْلَ الْخَطَأِ يَكْثُرُ بَيْنَ النَّاسِ ، وَفِي إِيجَابِ الدِّيَةِ عَلَى الْقَاتِلِ فِي مَالِهِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إِمَّا اسْتِئْصَالُ مَالِهِ إِنْ كَانَ وَاحِدًا وَقَلَّ أَنْ يَتَّسِعَ لِتَحَمُّلِ الدِّيَةِ مَالُ الْوَاحِدِ ، وَإِمَّا إِهْدَارُ الدَّمِ إِنْ كَانَ مُعْدَمًا ، وَفِي تَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ عَنْهُ مُوَاسَاةٌ تُفْضِي إِلَى حِفْظِ الدِّمَاءِ وَاسْتِبْقَاءِ الْأَحْوَالِ ، وَهَذَا أَدْعَى إِلَى الْمَصْلَحَةِ وَأَبْعَثُ عَلَى التَّعَاطُفِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَحَمَّلَ بِالنَّسَبِ بَعْضَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَمْوَالِ وَهُوَ زَكَاةُ الْفِطْرِ جَازَ أَنْ يَتَحَمَّلَ بَعْضَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِي الْأَمْوَالِ وَهُوَ دِيَاتُ الْخَطَأِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَحَقِيقَةُ الْوِزْرِ الْإِثْمُ ، وَهُوَ لَا يَتَحَمَّلُ ، وَكَذَلِكَ ظَاهِرُ الْآيَتَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا الْمَأْثَمُ وَإِمَّا أَحْكَامُ عَمْدِهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْخَبَرَيْنِ أَنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْكَ وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَبْنَاءَ وَالْآبَاءَ لَا يَتَحَمَّلُونَ الْعَقْلَ وَإِنَّمَا يَتَحَمَّلُهُ مَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْعَصَبَاتِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْعَمْدِ الَّذِي لَا يَتَحَمَّلُ عَنِ الْقَاتِلِ وَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ غَيْرُهُ ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : " لَا يُؤْخَذُ الْأَبُ بِجَرِيرَةِ ابْنِهِ وَلَا الِابْنُ بِجَرِيرَةِ أَبِيهِ " . وَأَمَّا جَمْعُهُمْ بَيْنَ الْأَمْوَالِ وَالنُّفُوسِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ، لِتَغْلِيظِ النُّفُوسِ عَلَى الْأَمْوَالِ ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتِ الْقَسَامَةُ فِي النُّفُوسِ وَلَمْ تَدْخُلْ فِي الْأَمْوَالِ . وَأَمَّا الْعَمْدُ فَلِأَنَّهُ عَنْ مَعْصِيَةٍ يُسْتَحَقُّ فِيهَا الْقَوَدُ ، وَالْعَاصِي لَا يُعَانُ وَلَا يُوَاسَى ، وَالْقَوَدُ لَا يَدْخُلُهُ تَحَمُّلٌ وَلَا نِيَابَةٌ . وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَمِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ تَارَةً وَبِالصِّيَامِ تَارَةً ، وَلَا يَصِحُّ فِيهَا عَفْوٌ فَلَمْ يَدْخُلْهَا مُوَاسَاةٌ ، وَخَالَفَتْهَا الدِّيَةُ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ مُخَالَفَتَهَا فِي التَّحَمُّلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ أَحَدٍ عَلِمْتُهُ فِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِهَا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّلُ الدِّيَةَ حَالَةَ يُؤَدُّونَهَا مُعَجَّلَةً كَدِيَاتِ الْعَمْدِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ . وَحُكِيَ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا مُؤَجَّلَةٌ فِي خَمْسِ سِنِينَ ، لِأَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ أَخْمَاسٌ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ ، وَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهَا مُؤَجَّلَةٌ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ أَحَدٍ عَلِمْتُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِهَا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَأَضَافَهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعَلَ نَقْلَهُ كَالْإِجْمَاعِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا أَرَادَهُ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْقَضَاءِ ، لِأَنَّ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ اعْتَرَضُوا عَلَى الشَّافِعِيِّ فِيهِ وَقَالُوا : مَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا شَيْءٌ فَكَيْفَ قَالَ هَذَا . وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا أَعْرِفُ هَذَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . وَسُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ هَذَا فَقَالَ : لَا أَعْرِفُ فِيهِ شَيْئًا ، فَقِيلَ لَهُ : إِنْ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَدْ رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لَعَلَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سَمِعَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَدَنِيِّ فَإِنَّهُ كَانَ حَسَنَ الظَّنِّ فِيهِ يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ بْنَ يَحْيَى الْهَجَرِيَّ . وَلِأَصْحَابِنَا عَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَطَائِفَةٍ أَنَّ مُرَادَ الشَّافِعِيِّ بِقَضَائِهِ تَأْجِيلُ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، وَأَنَّهُ مَرْوِيٌّ لَكِنَّهُ مُرْسَلٌ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ إِسْنَادَهُ .

وَالثَّانِي : أَنَّ مُرَادَهُ الْقَضَاءُ بِأَصْلِ الدِّيَةِ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . فَأَمَّا تَأْجِيلُهَا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الصَّحَابَةِ ، رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا جَعَلَا دِيَةَ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، وَلِأَنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّلُ دِيَةَ الْخَطَأِ مُوَاسَاةً ، وَمَا كَانَ طَرِيقَ الْمُوَاسَاةِ كَانَ الْأَجَلُ فِيهِ مُعْتَبَرًا كَالزَّكَاةِ ، وَلَمَّا خَرَجَتْ عَنْ عُرْفِ الزَّكَاةِ فِي الْقَدْرِ زَادَ حُكْمُهَا فِي الْأَجَلِ ، فَاعْتُبِرَ فِي عَدَدِ السِّنِينَ أَكْثَرُ الْقَلِيلِ وَأَقَلُّ الْكَثِيرِ فَكَانَ ثَلَاثَ سِنِينَ ، وَبِهَذَا خَالَفَ الْعَبْدَ وَقِيَمَ الْمُتْلَفَاتِ ، لِأَنَّهُ لَا مُوَاسَاةَ فِيهِمَا ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا قَالَهُ رَبِيعَةُ أَنَّهَا مُؤَجَّلَةٌ فِي خَمْسِ سِنِينَ ، لِأَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ أَخْمَاسٌ ، لِأَنَّ عَمْدَ الْخَطَأِ أَثْلَاثٌ وَالْأَجَلُ فِيهِمَا سَوَاءٌ .

مَسْأَلَةٌ الْعَاقِلَةَ هي الْعَصَبَةُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَا مُخَالِفًا فِي أَنَّ الْعَاقِلَةَ من هم الْعَصَبَةُ وَهُمُ الْقَرَابَةُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَقَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِأَنْ يَعْقِلَ عَنْ مَوَالِي صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَقَضَى لِلزُّبَيْرِ بِمِيرَاثِهِمْ لِأَنَّهُ ابْنُهَا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْعَاقِلَةُ هُمُ الْعَصَبَاتُ سِوَى الْوَالِدَيْنِ مِنَ الْآبَاءِ وَالْمَوْلُودِينَ مِنَ الْأَبْنَاءِ كَالْإِخْوَةِ وَبَنِيهِمْ وَالْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ ، وَأَعْمَامِ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ وَبَنِيهِمْ . وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : يَتَحَمَّلُهَا الْآبَاءُ وَالْأَبْنَاءُ وَهُمْ مِنَ الْعَاقِلَةِ كَسَائِرِ الْعَصَبَاتِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُمْ عَصَبَةٌ فَأَشْبَهُوا فِي الْعَقْلِ سَائِرَ الْعَصَبَاتِ وَهُمْ أَوْلَى ، لِأَنَّ تَعْصِيبَهُمْ أَقْوَى ، وَلِأَنَّ النُّصْرَةَ لَهُمْ أَلْزَمُ فَكَانُوا أَحَقَّ بِتَحَمُّلِ الْغُرْمِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ الْحَسْحَاسِ بْنِ خَبَّابٍ وَأَبِي رِمْثَةَ فِي الِابْنِ أَنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْكَ وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ وَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا يُؤْخَذُ الْأَبُ بِجَرِيرَةِ ابْنِهِ وَلَا الِابْنُ بِجَرِيرَةِ أَبِيهِ . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ نُصُوصٌ مَعَ حَدِيثٍ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَلِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَضَى فِي مَوَالِي صَفِيَّةَ لِلزُّبَيْرِ بِالْمِيرَاثِ وَعَلَى عَلِيٍّ بِالْعَقْلِ ، وَهُوَ إِجْمَاعٌ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَحْمِلُ الْعَقْلَ مَعَ وُجُودِ أَهْلِ الدِّيوَانِ لَمْ يَحْمِلْهُ مَعَ عَدَمِهِمْ كَالصَّغِيرِ وَالْمَعْتُوهِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَهُ تَحَمُّلُ النَّفَقَةِ عَنْهُ فِي مَالِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ تَحَمُّلُ الْعَقْلِ عَنْهُ كَالزَّوْجِ . وَقِيَاسُهُمْ عَلَى الْبَعْضِيَّةِ مُنْتَقَضٌ بِالصَّغِيرِ وَالْمَعْتُوهِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْفَرْضِيَّةِ عَدَمُ الْوِلَادَةِ وَالْبَعْضِيَّةِ ، وَاعْتِبَارُهُمْ بِالنُّصْرَةِ فَهُوَ شَرْطٌ وَلَيْسَتْ بِعِلَّةٍ ، وَيَفْسُدُ بِالزَّوْجِ وَالْجَارِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لِلْقَاتِلَةِ خَطَأً ابْنٌ هُوَ ابْنُ عَمِّهَا تحمل الدية لَمْ يَعْقِلْ عَنْهَا بِالتَّعْصِيبِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْبُنُوَّةِ ، وَجَازَ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِالتَّعْصِيبِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِهِ عَلَى الْبُنُوَّةِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ خُرُوجَ الْأَبْنَاءِ مِنَ الْعَقْلِ وَإِنْ كَانُوا عَصَبَةً لِاخْتِصَاصِهِمْ بِتَحَمُّلِ النَّفَقَةِ وَهُوَ يَتَحَمَّلُهَا

هَاهُنَا ، وَإِنْ كَانَ ابْنَ عَمٍّ فَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ تَحَمُّلِهَا وَتَحَمُّلِ الْعَقْلِ ، وَخَالَفَ وِلَايَةَ التَّزْوِيجِ الَّذِي قَدْ وُجِدَتْ فِيهِ مَعَ الْبُنُوَّةِ شُرُوطُ الْعَصَبَاتِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَاقِلَةَ مَنْ عَدَا الْآبَاءَ وَالْأَبْنَاءَ مِنَ الْعَصَبَاتِ لَمْ يَتَحَمَّلِ الْقَاتِلُ مَعَهُمْ مِنَ الدِّيَةِ شَيْئًا العاقلة ، وَاخْتُصُّوا بِتَحَمُّلِهَا عَنْهُ دُونَهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُشَارِكُهُمْ فِي تَحَمُّلِ الدِّيَةِ وَيَكُونُ فِيهَا كَأَحَدِهِمْ ، اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ سَلَمَةَ بْنِ نُعَيْمٍ قَتَلَ مُسْلِمًا ظَنَّهُ كَافِرًا فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : دِيَتُهُ عَلَيْكَ وَعَلَى قَوْمِكَ ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ . وَلِأَنَّ تَحَمُّلَ الدِّيَةِ عَنِ الْقَاتِلِ مُوَاسَاةٌ لَهُ وَتَخْفِيفٌ عَنْهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَحَمَّلَ عَنْهُ مَا لَا يَتَحَمَّلُهُ عَنْ نَفْسِهِ كَالنَّفَقَةِ ، وَلِأَنَّ تَحَمُّلَهَا عَنْهُ نُصْرَةٌ لَهُ وَهُوَ أَحَقُّ بِنُصْرَةِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِهِ . وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ دِيَةَ الْمَقْتُولَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلَةِ فَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ جَعَلَ جَمِيعَهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَلِأَنَّ تَحَمُّلَ الْمُوَاسَاةِ يُوجِبُ اسْتِيعَابَ مَا وَقَعَتْ بِهِ الْمُوَاسَاةُ كَالنَّفَقَةِ وَزَكَاةِ الْفِطْرِ ، وَفِيهِ انْفِصَالٌ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ الْمُوَاسَاةِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَفَرَّدَ الْقَاتِلُ بِدِيَةِ الْعَمْدِ وَجَبَ أَنْ تَتَفَرَّدَ الْعَاقِلَةُ بِدِيَةِ الْخَطَأِ ، لِأَنَّ الدِّيَةَ مُسْتَحَقَّةٌ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَحَدِيثُ عُمَرَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَهَا عَلَيْهِ وُجُوبًا وَعَلَى قَوْمِهِ تَحَمُّلًا . وَأَمَّا النُّصْرَةُ فَلَا اعْتِبَارَ بِهَا ، لِأَنَّ الزَّوْجَ يَنْصُرُ زَوْجَتَهُ وَلَا يَعْقِلُ عَنْهَا ، وَعَلَى أَنَّ الْعَاقِلَةَ قَدْ كَفَوْهُ النُّصْرَةَ .

مَسْأَلَةٌ في مَعْرِفَةُ الْعَاقِلَةِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَمَعْرِفَةُ الْعَاقِلَةِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى إِخْوَتِهِ لِأَبِيهِ فَيُحَمِّلَهُمْ مَا يَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ فَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلُوهَا دُفِعَتْ إِلَى بَنِي جَدِّهِ فَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلُوهَا دُفِعَتْ إِلَى بَنِي جَدِّ أَبِيهِ ثُمَّ هَكَذَا لَا يُدْفَعُ إِلَى بَنِي أَبٍ حَتَّى يَعْجِزُ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُمْ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّ تَفَرُّدَ الْأَقَارِبِ بِهَا دُونَ الْأَبَاعِدِ إِجْحَافٌ فَخَرَجَ عَنِ الْمُوَاسَاةِ ، وَأَخْذَهَا مِنْ كُلِّ قَرِيبٍ وَبَعِيدٍ يُفْضِي إِلَى دُخُولِ جَمِيعِ بَنِي آدَمَ فِيهَا فَوَجَبَ أَنْ يُرَاعِيَ فِي تَحَمُّلِهَا الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ كَالْمِيرَاثِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَسْتَوِي فِيهَا الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ وَيَشْتَرِكُونَ فِي تَحَمُّلِهَا عَلَى سَوَاءٍ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِدِيَةِ الْمَقْتُولِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلَةِ ، وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي دِيَةِ الْجَنِينِ الَّذِي أَجْهَضَتْهُ الْمَرْأَةُ الْمَرْهُوبَةُ : " عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتُقَسِّمَنَّهَا عَلَى قَوْمِكَ " وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ . وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِالتَّعْصِيبِ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ التَّرْتِيبُ كَالْمِيرَاثِ وَوِلَايَةِ النِّكَاحِ ، وَلِأَنَّ الْأَقْرَبَ أَخَصُّ بِالنُّصْرَةِ مِنَ الْأَبْعَدِ ، فَكَانَ أَحَقَّ بِالْعَقْلِ مِنْهُ .

فَأَمَّا الْخَبَرُ وَالْأَثَرُ فَالْمُرَادُ بِهِمَا بَيَانُ مَحَلِّ الْعَقْلِ أَنَّهُمُ الْعَصَبَاتُ ثُمَّ يَقِفُ التَّعْيِينُ عَلَى مَا يُوجِبُهُ التَّرْتِيبُ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَأَوَّلُ الْعَصَبَاتِ دَرَجَةً فِي تَحَمُّلِ الدِّيَةِ ترتيبه وقدره الْإِخْوَةُ ، وَقَدْرُ مَا يَتَحَمَّلُهُ الْمُوسِرُ مِنْهُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ نِصْفُ دِينَارٍ ، وَالْمُتَوَسِّطُ رُبُعُ دِينَارٍ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، وَيَخْرُجُ مِنَ الْإِخْوَةِ مَنْ كَانَ لِأُمٍّ ، وَيَتَحَمَّلُهَا مِنْهُمْ مَنْ كَانَ لِأَبٍ وَأُمٍّ ، أَوْ لِأَبٍ ، فَإِنِ اجْتَمَعُوا فَهَلْ يُقَدَّمُ الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ فِي تَحَمُّلِهَا عَلَى الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ : عَلَى قَوْلَيْنِ : كَمَا قِيلَ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ ، فَإِذَا أَمْكَنَ أَنْ يَتَحَمَّلَهَا الْإِخْوَةُ ، لِأَنَّ الْعَقْلَ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ وَالْإِخْوَةَ عَشَرَةٌ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُعْدَلْ إِلَى غَيْرِهِمْ وَإِنْ قَصَّرُوا عَنْهَا ، لِأَنَّ الْعَقْلَ خَمْسَةٌ وَالْإِخْوَةَ خَمْسَةٌ ضُمَّ إِلَيْهِمْ بَنُو الْإِخْوَةِ ، فَإِنْ كَانُوا خَمْسَةً صَارُوا مَعَ الْإِخْوَةِ عَشَرَةً يَتَحَمَّلُونَ الْعَقْلَ الَّذِي هُوَ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ فَلَا يُضَمُّ إِلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ ، وَإِنْ كَانَ بَنُو الْإِخْوَةِ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ ضَمَمْنَا إِلَيْهِمْ بَنِيهِمْ حَتَّى يَسْتَكْمِلُوا عَشَرَةً فَيَتَحَمَّلُونَ عَقْلَ الْخَمْسَةِ ، وَلَا تَتَعَدَّاهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ ، فَإِنْ زَادَ الْعَقْلُ عَلَى الْخَمْسَةِ ضَمَمْنَا إِلَى الْإِخْوَةِ وَبَنِيهِمِ الْأَعْمَامَ ، فَإِنْ تَحَمَّلُوهُ لَمْ يُعْدَلْ إِلَى غَيْرِهِمْ ، وَإِنْ عَجَزُوا عَنْهُ ضَمَمْنَا إِلَيْهِمْ بَنِيهِمْ ، ثُمَّ كَذَلِكَ أَعْمَامُ الْأَبِ وَبَنُوهُمْ وَأَعْمَامُ الْجَدِّ وَبَنُوهُمْ حَتَّى يَسْتَوْعِبُوا جَمِيعَ الْقَبِيلَةِ الَّتِي هُوَ إِلَيْهَا مَنْسُوبٌ وَبِهَا مَشْهُورٌ ، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى النَّسَبِ الْأَدْنَى دُونَ الْأَبْعَدِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ مَعَاقِلَ قُرَيْشٍ مِنْهُمْ ، فَإِذَا كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ جَعَلْنَا الدِّيَةَ عَلَيْهِمْ ، فَإِنْ عَجَزُوا عَنْهَا دَخَلَ فِيهَا بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ ، فَإِنْ عَجَزُوا عَنْهَا دَخَلَ فِيهَا بَنُو قُصَيٍّ ، فَإِنْ عَجَزُوا عَنْهَا دَخَلَ فِيهَا بَنُو كِلَابٍ ، ثُمَّ كَذَلِكَ بَنُو أَبٍ بَعْدَ أَبٍ حَتَّى تَسْتَوْعِبَ جَمِيعَ قُرَيْشٍ ، وَلَا يَعْدِلُ بَعْدَ قُرَيْشٍ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ لِتَمَيُّزِهِمْ بِأَنْسَابِهِمْ ، فَإِنْ قَصَّرُوا عَنْهَا عَدَلْنَا إِلَى الْمَوَالِي الْمُعْتَقِينَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَوَالِي الْقَوْمِ مِنْهُمْ فَإِنْ عَجَزُوا عَنْهَا كَانَ مَا عَجَزُوا عَنْهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ عَاقِلَةٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَمَنْ فِي الدِّيوَانِ وَمَنْ لَيْسَ فِيهِ مِنْهُمْ سَوَاءٌ في تحمل الدية قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلَا دِيوَانَ فِي حَيَاتِهِ وَلَا فِي حَيَاةِ أَبِي بَكْرٍ وَلَا صَدْرٍ مِنْ وِلَايَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَدًّا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ ، لِأَنَّهُ أَوْجَبَهَا عَلَى مَنْ شَارَكَهُ فِي دِيوَانِهِ تُدْفَعُ مِنْ أُعْطِيَاتِهِمْ ، سَوَاءٌ كَانُوا عَصَبَةً أَوْ لَمْ يَكُونُوا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ دِيوَانٌ قُسِّمَتْ حِينَئِذٍ عَلَى عَصَبَتِهِ احْتِجَاجًا بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ دَوَّنَ الدَّوَاوِينَ وَجَعَلَ الْعَقْلَ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ مِنْ أُعْطِيَاتِهِمْ ، وَلِأَنَّ أَهْلَ الدِّيوَانِ بِالنُّصْرَةِ أَحَقُّ فَكَانُوا بِتَحَمُّلِ الْعَقْلِ أَحَقَّ ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهَا عَلَى الْعَصَبَةِ ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الدِّيوَانِ أَوْ لَمْ يَكُنْ ،

وَسَوَاءٌ كَانَتْ عَصَبَتُهُ مَعَهُ فِي الدِّيوَانِ أَوْ لَمْ تَكُنْ : لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِدِيَةِ الْمَقْتُولَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلَةِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِهِ دِيوَانٌ . وَكَذَلِكَ قَضَى أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلَمْ يَكُنْ فِي خِلَافَتِهِ دِيوَانٌ ، وَكَذَلِكَ فِي صَدْرٍ مِنْ أَيَّامِ عُمَرَ إِلَى أَنْ أَحْدَثَ الدِّيوَانَ فِي آخِرِ أَيَّامِهِ لِتَمَيُّزِ الْقَبَائِلِ وَتَرْتِيبِ النَّاسِ فِي الْعَطَاءِ ، فَلَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ بِهِ عَمَّا كَانَ فِي أَيَّامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى غَيْرِهِ مِنْ أَمْرٍ حَدَثَ بَعْدَهُ ، لِأَنَّهُ يَكُونُ نَسْخًا ، وَالنَّسْخُ مُرْتَفِعٌ بَعْدَ مَوْتِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَلِأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِالتَّعْصِيبِ مَعَ عَدَمِ الدِّيوَانِ ، تَعَلَّقَ بِهِ مَعَ وُجُودِ الدِّيوَانِ كَالْمِيرَاثِ وَوِلَايَةِ النِّكَاحِ ، وَلِأَنَّهَا جِنَايَةٌ يُتَحَمَّلُ عَقْلُهَا فَوَجَبَ أَنْ يُخْتَصَّ بِهَا الْعَصَبَاتُ كَالَّذِي لَا دِيوَانَ لَهُ وَلِأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الْمِيرَاثُ لَمْ يُتَحَمَّلْ بِهِ الْعَقْلُ كَالْجِوَارِ وَلِأَنَّ عَدَمَ الْعَقْلِ فِي مُقَابَلَةِ غُنْمِ الْمِيرَاثِ لِيَكُونَ غَانِمًا وَغَارِمًا وَلَا يَجْتَمِعُ هَذَا إِلَّا فِي الْعَصَبَاتِ ، وَلِذَلِكَ انْتَقَلَ عَنْهُمُ الْعَقْلُ إِذَا عَدِمُوا إِلَى بَيْتِ الْمَالِ لِانْتِقَالِ مِيرَاثِهِ إِلَيْهِ ، وَلَا يَعْقِلُ بَيْتُ الْمَالِ عَنِ الْكَافِرِ ، لِأَنَّ مَالَهُ يَصِيرُ إِلَيْهِ فَيْئًا لَا مِيرَاثًا وَفِيمَا ذَكَرْنَا انْفِصَالٌ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

مَسْأَلَةٌ الصَّبِيَّ وَالْمَرَأةَ لَا يَحْمِلَانِ مِنْهَا شَيْئًا وَإِنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ وَكَذَلِكَ الْمَعْتُوهُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَا أَعْلَمُ مُخَالِفًا أَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَرَأةَ لَا يَحْمِلَانِ مِنْهَا شَيْئًا وَإِنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ من الدية وَكَذَلِكَ الْمَعْتُوهُ عِنْدِي . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ ، لَا يَعْقِلُ مِنَ الْعَصَبَاتِ إِلَّا الرِّجَالُ الْعُقَلَاءُ الْأَحْرَارُ دُونَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْعَبِيدِ ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِأَهْلِ النُّصْرَةِ مِنَ الْعَصَبَاتِ . وَالثَّانِي : أَنَّ تَحَمُّلَ الْعَقْلِ فِي الْإِسْلَامِ بَدَلٌ مِنَ الْمَنْعِ بِالسَّيْفِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالرِّجَالِ الْعُقَلَاءِ الْأَحْرَارِ . فَإِنْ قِيلَ : فَسَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى مُسْتَحَقٌّ بِالنُّصْرَةِ وَلِذَلِكَ ضَمَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَنِي الْمُطَّلِبِ إِلَى بَنِي هَاشِمٍ وَقَالَ : لِأَنَّهُمْ مَا افْتَرَقُوا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ ، ثُمَّ سَوَّى فِيهِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فَهَلَّا كَانَ الْعَقْلُ بِمَثَابَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَحَقًّا بِالنُّصْرَةِ ؟ قِيلَ : لِأَنَّ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى مُسْتَحَقٌّ بِالْقَرَابَةِ وَإِنْ أَثَّرَتْ فِي النُّصْرَةِ فَلِذَلِكَ كَانَ لِلذَّكَرِ مِنْهَا مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، فَلِذَلِكَ أُجْرِي عَلَيْهِمَا حُكْمُ الْمَوَارِيثِ وَخَالَفَتِ الْعَقْلَ الَّذِي هُوَ مَقْصُورٌ عَلَى التَّعْصِيبِ وَالنُّصْرَةِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلَا فَرْقَ فِي الْعَاقِلَةِ بَيْنَ الْمُقَاتِلَةِ وَغَيْرِ الْمُقَاتِلَةِ ، لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ مِنْ بَيْنِ نَاصِرٍ بِيَدٍ أَوْ لِسَانٍ ، فَأَمَّا الشُّيُوخُ وَالْمَرْضَى فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ بَاقِيَ الْمِنَّةِ وَلَمْ يَنْتَهِ إِلَى عَجْزِ الْهَرَمِ وَالْإِيَاسِ بِالْمَرَضِ تَحَمَّلُوا الْعَقْلَ ، فَقَدْ تَحَمَّلَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ الْعَقْلَ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ يُحَارِبُ فِي مِحَفَّةٍ ، فَأَمَّا مَنِ انْتَهَتْ بِهِ السِّنُّ إِلَى عَجْزِ الْهَرَمِ وَانْتَهَى بِهِ الْمَرَضُ ،

إِلَى الزَّمَانَةِ حَتَّى لَمْ يُبْقِ فِيهِمَا نَهْضَةً وَلَا يَقْدِرَانِ عَلَى الْحُضُورِ فِي جَمْعٍ فَفِيهِمَا وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِيهِمْ : هَلْ يُقْتَلُونَ إِذَا أُسِرُوا فِي الشِّرْكِ ؟ فَإِنْ قِيلَ : يُقْتَلُونَ ، عَقَلُوا ، وَإِنْ قِيلَ : لَا يُقْتَلُونَ ، لَمْ يَعْقِلُوا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَيُؤَدِّي الْعَاقِلَةُ الدِّيَةَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ حِينِ يَمُوتُ الْقَتِيلُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، الدِّيَةُ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِمَوْتِ الْقَتِيلِ ، وَهُوَ أَوَّلُ أَجَلِهَا ، سَوَاءٌ حَكَمَ بِهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِمْ أَوْ لَمْ يَحْكُمْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ ، فَإِذَا حَكَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ فَهُوَ أَوَّلُ وَقْتِ الْأَجَلِ ، احْتِجَاجًا بِأَنَّ تَحَمُّلَ الْعَقْلِ يُخْتَلَفُ فِيهِ فَلَمْ يَسْتَقِرَّ وُجُوبُهُ إِلَّا بِحُكْمٍ ، وَلَمْ يَتَأَجَّلْ إِلَّا بَعْدَ الْحُكْمِ كَالْعُنَّةِ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ بِسَبَبِ تَعَلُّقِ وُجُوبِهِ بِوُجُودِ السَّبَبِ كَالْأَثْمَانِ فِي الْمَبِيعِ تَجِبُ بِوُجُودِ الْمَبِيعِ وَهُوَ أَوَّلُ أَجَلِ الْمُؤَجَّلِ ، وَلِأَنَّهَا مُوَاسَاةٌ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْحَوْلُ فَلَمْ يَقِفِ ابْتِدَاؤُهَا عَلَى الْحُكْمِ كَالزَّكَاةِ ، وَلِأَنَّ مَنْ لَزِمَتْهُ الدِّيَةُ مُؤَجَّلَةً لَمْ يَقِفْ وُجُوبُهَا وَابْتِدَاؤُهَا عَلَى الْحُكْمِ كَالْمُقِرِّ بِقَتْلِ الْخَطَأِ . فَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِالِاخْتِلَافِ فِيهِ فَخَطَأٌ ، لِأَنَّ تَحَمُّلَ الدِّيَةِ نَصٌّ ، وَفِي النَّصِّ عَلَى الْأَجَلِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِمَا شَاذٌّ حَدَثَ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْإِجْمَاعِ فَكَانَ مُطْرَحًا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا الدِّيَةَ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُسْتَحَقَّةً فِي نَفْسٍ أَوْ فِيمَا سِوَى النَّفْسِ فَإِنْ كَانَتْ فِي نَفْسٍ فَأَوَّلُ أَجَلِهَا الدية مَوْتُ الْقَتِيلِ وَهُوَ وَقْتُ الْجِنَايَةِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلُ بِتَوْجِيَةٍ أَوْ سِرَايَةٍ ، لِأَنَّ دِيَةَ النَّفْسِ لَا تَجِبُ إِلَّا بَعْدَ تَلَفِهَا ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الدِّيَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ كَامِلَةً . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً . وَالثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً . فَإِنْ كَانَتْ كَامِلَةً فَهِيَ دِيَةُ الرَّجُلِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ ، فَتَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثَةِ سِنِينَ ، يُؤَدِّي بَعْدَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ الْأُولَى ثُلُثَهَا ، وَبَعْدَ انْقِضَاءِ الثَّانِيَةِ ثُلُثًا ثَانِيًا ، وَبَعْدَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ الثُّلُثَ الْبَاقِيَ ، وَإِنْ كَانَتِ الدِّيَةُ نَاقِصَةً كَدِيَةِ الْمَرْأَةِ وَالذِّمِّيِّ فَفِيهَا وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّلُهَا فِي ثَلَاثَةِ سِنِينَ ، لِأَنَّهَا دِيَةُ نَفْسٍ ، فَيُؤَدِّي فِي انْقِضَاءِ كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثَهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا تُؤَدَّى فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْهَا ثُلُثُ دِيَةِ الرَّجُلِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ ، فَإِنْ كَانَتْ دِيَةَ ذِمِّيٍّ فَهِيَ ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ ، فَتُؤَدِّي الْعَاقِلَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ جَمِيعَهَا ، لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الَّذِي تُؤَدِّيهِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ ، وَإِنْ كَانَتْ دِيَةَ امْرَأَةٍ فَهِيَ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ ، فَيُؤَدِّي بَعْدَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ الْأُولَى ثُلُثَيْهَا وَهُوَ ثُلُثُ دِيَةِ الرَّجُلِ ، وَيُؤَدِّي بَعْدَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ ثُلُثَهَا الْبَاقِيَ وَهُوَ سُدُسُ دِيَةِ الرَّجُلِ ، وَإِنْ كَانَتِ الدِّيَةُ زَائِدَةً كَقِيمَةِ الْعَبْدِ إِذَا زَادَتْ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ . وَقِيلَ : إِنَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ فَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تُقَسَّمُ عَلَى ثَلَاثِ سِنِينَ ، يُؤَدِّي عِنْدَ انْقِضَاءِ كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثَهَا ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ دِيَةِ الْحُرِّ ، لِأَنَّهَا دِيَةُ نَفْسٍ إِذَا قِيلَ : إِنَّهَا إِنْ نَقَصَتْ كَانَتْ تُؤَدَّى عَلَى ثَلَاثِ سِنِينَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهَا يُؤَدَّى مِنْهَا عِنْدَ انْقِضَاءِ كُلِّ سَنَةٍ قَدْرُ الثُّلُثِ مِنْ دِيَةِ الْحُرِّ إِذَا قِيلَ نَقَصَتْ كَانَتْ مُؤَدَّاةً فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ دِيَةً وَثُلُثًا أَدَّاهَا فِي أَرْبَعِ سِنِينَ فِي كُلِّ سَنَةٍ رُبُعُهَا ، وَإِنْ كَانَتْ دِيَةً وَثُلُثَيْنِ أَدَّاهَا فِي خَمْسِ سِنِينَ ، فِي كُلِّ سَنَةٍ خُمُسُهَا ، فَهَذَا حُكْمُ دِيَاتِ النُّفُوسِ . فَأَمَّا دِيَاتُ مَا سِوَى النَّفْسِ مِنَ الْجِرَاحِ وَالْأَطْرَافِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَنْدَمِلَ كَقَطْعِ الْيَدِ إِذَا انْدَمَلَتْ دية اليدين أَوِ الْمُوضِحَةِ إِذَا انْدَمَلَتْ ، فَدِيَتُهَا وَاجِبَةٌ بِابْتِدَاءِ الْجِنَايَةِ لِاسْتِقْرَارِ الْوُجُوبِ بِالِانْدِمَالِ ، فَيَكُونُ أَوَّلُ الْأَجَلِ مِنْ وَقْتِ الْجِنَايَةِ لَا مِنْ وَقْتِ الِانْدِمَالِ لِتَقَدُّمِ الْوُجُوبِ بِالْجِنَايَةِ دُونَ الِانْدِمَالِ ، فَلَوِ انْدَمَلَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ اسْتُحِقَّ تَعْجِيلُهَا حِينَئِذٍ كَالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ إِذَا حَلَّ عِنْدَ الْقَبْضِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَسْرِيَ الْجِنَايَةُ عَنْ مَحَلِّهَا إِلَى عُضْوٍ آخَرَ كَقَطْعِ الْإِصْبَعِ إِذَا سَرَى إِلَى الْكَفِّ ، فَالدِّيَةُ وَجَبَتْ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ السِّرَايَةِ كَمَا تَجِبُ دِيَةُ النَّفْسِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، فَيَكُونُ ابْتِدَاءُ الْأَجَلِ بَعْدَ انْدِمَالِ السِّرَايَةِ ، وَلَا اعْتِدَادَ بِمَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ وَقَبْلَ انْدِمَالِ السِّرَايَةِ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ حُكْمُ هَذَيْنِ الضَّرْبَيْنِ فِيمَا سِوَى النَّفْسِ فِي ابْتِدَاءِ وَقْتِ التَّأْجِيلِ فَأَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ :

أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ فِي ثُلُثٍ النَّفْسِ فَمَا دُونَ كَالْجَائِفَةِ وَمَا دُونَهَا ، فَتُؤَدِّيهِ الْعَاقِلَةُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ إِذَا انْقَضَتْ وَلَوْ كَانَ دِينَارًا وَاحِدًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَزِيدَ عَلَى الثُّلُثِ وَلَا تَزِيدَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ ، فَتُؤَدِّيهِ فِي سَنَتَيْنِ بَعْدَ انْفِصَالِ السَّنَةِ الْأُولَى وَثُلُثِ الدِّيَةِ ، وَبَعْدَ انْفِصَالِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مَا بَقِيَ مِنْهَا ، فَإِنْ كَانَ سُدُسَ الدِّيَةِ ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَرْشِ كَانَ نِصْفَ الدِّيَةِ فِي إِحْدَى الْيَدَيْنِ أَدَّتْهُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ ، وَإِنْ كَانَ ثُلُثَ الدِّيَةِ ، لِأَنَّهُمَا جَائِفَتَانِ أَدَّتْهُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ تَزِيدَ عَلَى ثُلُثَيِ الدِّيَةِ وَلَا تَزِيدَ عَلَى جَمِيعِ الدِّيَةِ كَدِيَةِ الْيَدَيْنِ ، فَتُؤَدِّيهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ عِنْدَ انْقِضَاءِ كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثَ دِيَةٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ . وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ : أَنْ يَزِيدَ عَلَى دِيَةِ النَّفْسِ مِثْلَ قَطْعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فَنُوجِبُ دِيَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا فِي الْيَدَيْنِ ، وَالْأُخْرَى فِي الرِّجْلَيْنِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَسْتَحِقَّا لِنَفْسَيْنِ ، فَعَلَى الْعَاقِلَةِ أَنْ تُؤَدِّيَ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الدِّيَتَيْنِ ، فَتَصِيرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مُؤَدِّيَةً ثُلُثَيِ الدِّيَةِ لِانْفِرَادِ كُلِّ جِنَايَةٍ بِحُكْمِهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَسْتَحِقَّهَا نَفْسٌ وَاحِدَةٌ فَتَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ الدِّيَتَيْنِ فِي سِتِّ سِنِينَ ، تُؤَدِّي فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْهَا ثُلُثَ دِيَةٍ ، لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ لَا تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ دِيَةِ النَّفْسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ لَا يَقُومُ نَجْمٌ مِنَ الدِّيَةِ إِلَّا بَعْدَ حُلُولِهِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَا يَقُومُ نَجْمٌ مِنَ الدِّيَةِ إِلَّا بَعْدَ حُلُولِهِ فَإِنْ أَعْسَرَ بِهِ أَوْ مَطَلَ حَتَّى يَجِدَ الْإِبِلَ بَطَلَتِ الْقِيمَةُ وَكَانَتْ عَلَيْهِ الْإِبِلُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الدِّيَةَ مما تؤدى وحكم العدل عنها هِيَ الْإِبِلُ لَا يُعْدَلُ عَنْهَا مَعَ وُجُودِهَا ، فَإِنْ أَعْوَزَتْ عُدِلَ عَنْهَا إِلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ، وَهِيَ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ مُقَدَّرَةٌ بِالشَّرْعِ ، فَيَكُونُ مِنَ الدَّرَاهِمِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَمِنِ الدَّنَانِيرِ أَلْفُ دِينَارٍ ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ تُقَدَّرُ بِقِيمَةِ وَقْتِهَا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ ، وَعَلَى هَذَا مَوْضُوعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَوَقْتُ قِيمَتِهَا عِنْدَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ الَّذِي يُسْتَحَقُّ فِيهِ الْأَدَاءُ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِقِيمَتِهَا وَقْتَ الْقَتْلِ ، لِأَنَّ قِيمَةَ مَا فِي الدِّيَةِ مُعْتَبَرٌ بِوَقْتِ الْأَدَاءِ ، كَالطَّعَامِ الْمَغْصُوبِ إِذَا أَعْوَزَ مِثْلُهُ اعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْأَدَاءِ لَا وَقْتَ الْغَصْبِ ، فَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ الثَّانِي اعْتُبِرَتْ عِنْدَهُ قِيمَةُ النَّجْمِ الثَّانِي ، فَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ الثَّالِثُ اعْتُبِرَتْ عِنْدَهُ قِيمَةُ النَّجْمِ الثَّالِثِ ، سَوَاءٌ انْقَضَتْ قِيَمُ النُّجُومِ الثَّلَاثِ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ أَوِ اخْتَلَفَتْ وَلَوْ أَعْوَزَتْ فِي نَجْمٍ وَوُجِدَتْ فِي نَجْمٍ أُخِذَتْ فِي النَّجْمِ الَّذِي وُجِدَتْ ، وَأُخِذَ قِيمَتُهَا مِنَ النَّجْمِ الَّذِي أَعْوَزَتْ ، فَلَوْ قُوِّمَتْ فِي حَوْلٍ أُعْوِزَتْ فِيهِ وَوُجِدَتْ فِيهِ نُظِرَ وُجُودَهَا ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَخْذِ قِيمَتِهَا أَجْزَأَتِ الْقِيمَةُ وَلَمْ يُرْجَعْ إِلَى الْإِبِلِ ، وَإِنْ كَانَ وُجُودُهَا قَبْلَ أَخْذِ الْقِيمَةِ بَطَلَتِ الْقِيمَةُ وَأَخَذَ الْإِبِلَ كَالطَّعَامِ

الْمَغْصُوبِ إِذَا قُوِّمَ مِثْلُهُ عِنْدَ إِعْوَازِهِ ثُمَّ وُجِدَ بَعْدَ الْقِيمَةِ يُرْجَعُ بِالطَّعَامِ إِنْ لَمْ تُقْبَضِ الْقِيمَةُ ، وَلَا يُرْجَعُ بِهِ إِنْ قَبَضَهَا .

مَسْأَلَةٌ دِيَةُ الْعَاقِلَةِ لَا يَحْمِلُهَا فَقِيرٌ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَا يَحْمِلُهَا فَقِيرٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، دِيَةُ الْعَاقِلَةِ تُسْتَحَقُّ عَلَى الْمُوسِرِ وَالْمُتَوَسِّطِ ، وَلَا تَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْسِرِ ، لِأَنَّهَا مُوَاسَاةٌ فَأَشْبَهَتْ نَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا إِزَالَةُ الضَّرَرِ عَنِ الْقَاتِلِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا الضَّرَرُ عَلَى الْمُتَحَمِّلِ الْعَاقِلِ ، وَخَالَفَتْ دِيَةَ الْعَمْدِ الَّتِي يُؤْخَذُ بِهَا الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ لِاسْتِحْقَاقِ الْعَمْدِ بِمُبَاشَرَتِهِ وَاسْتِحْقَاقِ الْخَطَأِ بِمُوَاسَاتِهِ . فَأَمَّا الْجِزْيَةُ فَفِي أَخْذِهَا مِنَ الْفَقِيرِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ كَالْعَاقِلَةِ . وَالثَّانِي : تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ وَإِنْ لَمْ تُؤْخَذِ الدِّيَةُ مِنْ فُقَرَاءِ الْعَاقِلَةِ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْجِزْيَةَ مَوْضُوعَةٌ لِحَقْنِ الدَّمِ وَإِقْرَارِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَصَارَتْ عِوَضًا ، وَتَحَمُّلَ الدِّيَةِ مُوَاسَاةٌ مَحْضَةٌ، وَالْفَقْرُ يُسْقِطُ الْمُوَاسَاةَ وَلَا يُسْقِطُ الْمُعَاوَضَةَ .

مَسْأَلَةٌ إِنْ قَضَى بِهَا فَأَيْسَرَ الْفَقِيرُ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ نَجْمٌ مِنْهَا أَوِ افْتَقَرَ غَنِيٌّ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِنْ قَضَى بِهَا فَأَيْسَرَ الْفَقِيرُ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ نَجْمٌ مِنْهَا أَوِ افْتَقَرَ غَنِيٌّ فَإِنَّمَا أُنْظِرَ إِلَى الْمُوسِرِ يَوْمَ يَحُلُّ نَجْمٌ مِنْهَا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ مَا يُسْتَحَقُّ بِالْحَوْلِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا كَانَ الْحَوْلُ فِيهِ مَضْرُوبًا لِلْوُجُوبِ وَهُوَ حَوْلُ الزَّكَاةِ . وَالثَّانِي : مَا كَانَ الْحَوْلُ فِيهِ مَضْرُوبًا لِلْأَدَاءِ مَعَ تَقَدُّمِ الْوُجُوبِ وَهُوَ حَوْلُ الْعَاقِلَةِ . وَالثَّالِثُ : مَا اخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ مَضْرُوبٌ لِلْوُجُوبِ أَوْ لِلْأَدَاءِ عَلَى وَجْهَيْنِ ، وَهُوَ حَوْلُ الْجِزْيَةِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْفَقْرُ وَالْغِنَى فِي الْعَاقِلَةِ مُعْتَبَرٌ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ وَقْتَ الْأَدَاءِ وَلَا يُعْتَبَرُ فِي أَوَّلِهِ وَقْتُ الْوُجُوبِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَالِاعْتِبَارُ بِوَقْتِ وُجُوبِهِ أَوْلَى مِنَ الِاعْتِبَارِ بِوَقْتِ أَدَائِهِ كَالْجِزْيَةِ . قِيلَ : لِأَنَّ الْجِزْيَةَ مُعَيَّنَةٌ فَاعْتُبِرَ بِهَا وَقْتُ وُجُوبِهَا ، وَالدِّيَةَ تَجِبُ بِالْقَتْلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَا يَتَعَيَّنُ إِلَّا عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ ، أَلَا تَرَى لَوْ مَاتَ أَحَدُ الْعَاقِلَةِ قَبْلَ الْحَوْلِ حكم أخذ الدية من تركته لَمْ تُؤْخَذْ مِنْ تَرِكَتِهِ ، وَلَوْ تَعَيَّنَ اسْتِحْقَاقُهَا لَأُخِذَتْ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ اعْتِبَارُ الْغِنَى وَالْفَقْرِ عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ عِنْدَ الْحُلُولِ غَنِيًّا وَجَبَتْ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فِي أَوَّلِهِ ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ عِنْدَ الْحَوْلِ فَقِيرًا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فِي أَوَّلِهِ ، فَلَوْ حَالَ الْحَوْلُ

عَلَى غِنًى فَلَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى افْتَقَرَ كَانَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ ، وَلَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ بِفَقْرِهِ ، لِأَنَّهَا تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ وَقْتَ غِنَاهُ ، وَيُنْظَرُ بِهَا إِلَى مَيْسَرَتِهِ ، وَلَوْ حَالَ الْحَوْلُ عَلَى فَقِيرٍ فَلَمْ يَسْتَوْفِ حَتَّى اسْتَغْنَى هل يجب عليه شيء من دية العاقلة لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بِغِنَاهُ ، لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ سُقُوطُهَا عَنْهُ وَقْتَ فَقْرِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَمَنَ غَرِمَ فِي نَجْمٍ ثُمَّ أَعْسَرَ فِي النَّجْمِ الْآخَرِ هل يجب عليه شيء من دية العاقلة تُرِكَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّ الْغِنَى وَالْفَقْرَ مُعْتَبَرٌ فِي كُلِّ حَوْلٍ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ فِي الْحَوْلِ إِلَّا النَّجْمُ الَّذِي يُسْتَحَقُّ فِيهِ ، فَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ تَحَمَّلَ الْعَقْلَ فِي جَمِيعِهَا ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ فَقِيرًا فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ سَقَطَ عَنْهُ الْعَقْلُ فِي جَمِيعِهَا ، وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَعْضِهَا وَمُفْتَقِرًا فِي بَعْضِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَقْلُ فِي حَوْلِ غِنَاهُ وَسَقَطَ عَنْهُ فِي حَوْلِ فَقْرِهِ ، فَلَوِ ادَّعَى فَقْرًا بَعْدَ الْغِنَى أُحْلِفَ وَلَمْ يُكَلَّفِ الْبَيِّنَةَ عَلَى فَقْرِهِ ، لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ إِلَّا مَعَ الْعِلْمِ بِغِنَاهُ .

مَسْأَلَةٌ إِنْ مَاتَ بَعْدَ حُلُولِ النَّجْمِ مُوسِرًا أُخِذَ مِنْ مَالِهِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ حُلُولِ النَّجْمِ مُوسِرًا أُخِذَ مِنْ مَالِهِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا مَاتَ مِنَ الْعَاقِلَةِ مُوسِرٌ بَعْدَ الْحُلُولِ وَقَبْلَ الْأَدَاءِ حكم سقوط العقل عنه لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْعَقْلُ بِمَوْتِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَسْقُطُ عَنْهُ بِالْمَوْتِ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مُوَاسَاةٌ فَأَشْبَهَتْ نَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا صِلَةٌ وَإِرْفَاقٌ فَأَشْبَهَتِ الْهِبَاتِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حُقُوقَ الْأَمْوَالِ إِذَا اسْتَقَرَّ اسْتِحْقَاقُهَا فِي الْحَيَاةِ لَمْ يَسْقُطْ بِالْوَفَاةِ كَالدُّيُونِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُمْنَعُوا مِنَ الْوَصَايَا وَهِيَ تَطَوُّعٌ ، كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يُمْنَعُوا مِنَ الْعَقْلِ وَهُوَ وَاجِبٌ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَسْقُطْ بِالْمَوْتِ دِيَةُ الْعَمْدِ لَمْ تَسْقُطْ بِهِ دِيَةُ الْخَطَأِ . فَأَمَّا نَفَقَاتُ الْأَقَارِبِ فَإِنَّمَا وَجَبَتْ لِحِفْظِ النَّفْسِ ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى فَسَقَطَ مَعْنَى الْوُجُوبِ ، وَدِيَةُ الْقَتْلِ وَجَبَتْ لِإِتْلَافِ النَّفْسِ وَقَدِ اسْتَقَرَّ وُجُوبُهُ فَلَمْ تَسْقُطْ بِمُضِيِّ زَمَانِهِ ، وَأَمَّا الْهِبَةُ فَلَيْسَ كَتَحَمُّلِ الْعَقْلِ عَنْهُ ، لِأَنَّهَا تُؤْخَذُ جَبْرًا وَالْهِبَةُ تُبْذَلُ تَطَوُّعًا فَافْتَرَقَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ قُدِّمَتْ عَلَى الْوَصَايَا وَالْمَوَارِيثِ الدية ، وَتُؤَدَّى وَإِنِ اسْتَوْعَبَتْ جَمِيعَ التَّرِكَةِ ، فَإِنْ عَجَزَ صَاحِبُ التَّرِكَةِ عَنْهَا وَعَنْ دُيُونِ الْمَيِّتِ قُسِّمَتْ عَلَى قَدْرِ الْحُقُوقِ ، وَكَانَ بَاقِي الْعَقْلِ دَيْنًا يُؤَدَّى عَلَى الْمَيِّتِ ، وَلَا يُرْجَعُ بِهِ عَلَى الْبَاقِينَ مِنَ الْعَاقِلَةِ لِوُجُوبِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ ، وَلَوِ امْتَنَعَتِ الْعَاقِلَةُ مَنْ بَذْلِ الدِّيَةِ وَلَمْ يُوصَلْ إِلَيْهَا مِنْهُمْ إِلَّا بِحَرْبِهِمْ جَازَ أَنْ يُحَارِبُوا عَلَيْهَا كَمَا يُحَارَبُ الْمُمْتَنِعُونَ مِنَ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ ، فَإِنْ وُجِدَتْ لَهُمْ أَمْوَالٌ بِيعَتْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُحَارَبُوا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا فِي أَنْ لَا يَحْمِلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا وَأَرَى عَلَى مَذَاهِبِهِمْ أَنْ يَحْمِلَ مَنْ كَثُرَ مَالُهُ نِصْفَ دِينَارٍ وَمَنْ كَانَ دُونَهُ رُبُعَ دِينَارٍ لَا يُزَادُ عَلَى هَذَا وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ وَعَلَى قَدْرِ ذَلِكَ مِنَ الْإِبِلِ حَتَّى يَشْتَرِكَ النَّفَرُ فِي الْبَعِيرِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَقْلَ يَحْمِلُهُ مِنَ الْعَاقِلَةِ الْأَغْنِيَاءُ وَالْمُتَوَسِّطُونَ دُونَ الْفُقَرَاءِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْمُتَوَسِّطِ في تحمل الدية فِيهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي قَدْرِ مَا يَتَحَمَّلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اعْتِبَارًا بِزَكَاةِ الْفِطْرِ وَالْكَفَّارَاتِ الَّتِي يَسْتَوِي فِيهَا الْمُكْثِرُ وَالْمُتَوَسِّطُ ، وَهَذَا لَيْسَ صَحِيحًا ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [ الطَّلَاقِ : 7 ] وَقَوْلُهُ تَعَالَى : عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [ الْبَقَرَةِ : 236 ] وَلِأَنَّهُمَا مُوَاسَاةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ الْفَرْقُ فِيهِمَا بَيْنَ الْمُقِلِّ وَالْمُكْثِرِ كَالنَّفَقَاتِ ، وَلَمْ يَسْلَمْ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ زَكَاةِ الْفِطْرِ وَالْكَفَّارَاتِ لِاخْتِلَافِ حُكْمِ الْمُقِلِّ وَالْمُكْثِرِ فِيهَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ الْفَرْقُ فِيهَا بَيْنَ الْمُقِلِّ وَالْمُكْثِرِ فَالَّذِي يَتَحَمَّلُهُ الْغَنِيُّ الْمُكْثِرُ مِنْهَا نِصْفُ دِينَارٍ وَالَّذِي يَتَحَمَّلُهُ الْمُقِلُّ الْمُتَوَسِّطُ رُبُعُ دِينَارٍ . من الدية وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الَّذِي يَتَحَمَّلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْغَنِيِّ وَالْمُتَوَسِّطِ مِنْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ إِلَى أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ ، لَا يُزَادُ عَلَيْهَا وَلَا يُنْقَصُ مِنْهَا . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : يَتَحَمَّلُونَ مَا يُطِيقُونَ بِحَسَبِ كَثْرَةِ أَمْوَالِهِمْ وَقِلَّتِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَقَدَّرَ بِشَرْعٍ ، وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ فَرْضَ الزَّكَاةِ أَوْكَدُ مِنْ تَحَمُّلِ الْعَقْلِ ، وَأَقَلُّ مَا يَجِبُ فِي زَكَاةِ الْمَالِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا يَلْزَمُ فِي الْعَقْلِ أَقَلُّ مِنْهَا فَكَانَ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ أَوْ ثَلَاثَةً ، وَاسْتَدَلَّ أَحْمَدُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [ الْبَقَرَةِ : 236 ] .

وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ مِنْ حُقُوقِ الْمُوَاسَاةِ كَانَ مُقَدَّرًا كَالزَّكَوَاتِ وَالنَّفَقَاتِ فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ أَحْمَدَ ، وَلَكِنْ فِي تَقْدِيرِهِ طَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَبْدَأَ بِتَقْدِيرِ الْأَقَلِّ ، وَيَجْعَلَهُ أَصْلًا لِلْأَكْثَرِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَبْدَأَ بِتَقْدِيرِ الْأَكْثَرِ وَيَجْعَلَهُ أَصْلًا لِلْأَقَلِّ . فَإِنْ بَدَأَتْ بِتَقْدِيرِ الْأَقَلِّ فِي حَقِّ الْمُتَوَسِّطِ فَهُوَ مَا خَرَجَ عَنْ حَدِّ التَّافِهِ ، لِأَنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى التَّافِهِ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْقِيرَاطِ وَالْحَبَّةِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَفِي بِالدِّيَةِ وَيَنْهَدِرُ بِهِ الدَّمُ ، وَحَدُّ التَّافِهِ مَا لَمْ يُقْطَعْ فِيهِ الْيَدُ ، لِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : لَمْ تَكُنِ الْيَدُ تُقْطَعُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْقَطْعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ الْمُقِلَّ مَا خَرَجَ عَنْ حَدِّ التَّافِهِ وَهُوَ رُبُعُ دِينَارٍ ، وَإِذَا لَزِمَ الْمُقِلَّ رُبُعُ دِينَارٍ وَجَبَ أَنْ يُضَاعَفَ فِي حَقِّ الْمُكْثِرِ فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ دِينَارٍ ، كَمَا يَلْزَمُ الْمُوسِرَ فِي النَّفَقَةِ مَثَلًا نَفَقَةُ الْمُعْسِرِ ، وَإِنْ بَدَأَتْ بِتَقْدِيرِ الْأَكْثَرِ فِي حَقِّ الْمُكْثِرِ فَهُوَ أَنَّ أَوَّلَ مَا يُوَاسِي بِهِ الْغَنِيُّ فِي زَكَاتِهِ نِصْفُ دِينَارٍ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا ، فَحَمْلُ الْغَنِيِّ نِصْفُ دِينَارٍ ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ تُؤَوَّلُ إِلَى الْإِجْحَافِ ، وَلَا يَقِفُ عَلَى مِقْدَارٍ ، وَإِذَا لَزِمَ الْغَنِيَّ نِصْفُ دِينَارٍ وَجَبَ أَنْ يَقْتَصِرَ مِنَ الْمُقِلِّ عَلَى نِصْفِهِ كَمَا أَنَّ نَفَقَةَ الْمُعْسِرِ نِصْفُ نَفَقَةِ الْمُوسِرِ ، وَفِي هَذَا التَّقْدِيرِ دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ تَقْدِيرُهُ بِنِصْفِ دِينَارٍ فِي حَقِّ الْمُكْثِرِ وَرُبُعِ دِينَارٍ فِي حَقِّ الْمُقِلِّ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ : أَنَّ هَذَا قَدْرُ مَا يُؤْخَذُ فِي السَّنَةِ الْوَاحِدَةِ ، فَيَكُونُ فِي السِّنِينَ الثَّلَاثِ عَلَى الْمُكْثِرِ دِينَارٌ وَنِصْفٌ مِنْ جَمِيعِ الدِّيَةِ ، وَعَلَى الْمُقِلِّ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّينَارِ مِنْ جَمِيعِ الدِّيَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَقَلِّهِمْ : أَنَّ هَذَا قَدْرُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ جَمِيعِ الدِّيَةِ فِي السِّنِينَ الثَّلَاثِ ، فَيَصِيرُ الْمَأْخُوذُ مِنَ الْمُكْثِرِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْهَا سُدُسَ دِينَارٍ ، وَالْمَأْخُوذُ مِنَ الْمُقِلِّ فِي كُلِّ سَنَةٍ نِصْفَ سُدْسِ دِينَارٍ ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ ، لِأَنَّ لِكُلِّ سَنَةٍ حُكْمَهَا ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنِ الْإِبِلِ مَعَ وُجُودِهَا ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قِيمَةَ تَعْيِينِ إِبِلِ الدِّيَةِ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ دِينَارٍ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَجَزَّأَ فَيَنْفَرِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِجُزْءِ قِيمَتِهِ نِصْفِ دِينَارٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي أَدَاءِ الْبَعِيرِ الْوَاحِدِ الْعَدَدُ الَّذِي يَكُونُ قِسْطُ الْوَاحِدِ مِنْ ثَمَنِهِ نِصْفَ دِينَارٍ إِنْ كَانَ مُكْثِرًا ، وَرُبُعَ دِينَارٍ إِنْ كَانَ مُقِلًّا ، وَهَذَا عَدَدٌ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ ، لِأَنَّ الْبَعِيرَ قَدْ تَزِيدُ قِيمَتُهُ فِي حَالٍ وتَقِلُّ فِي أُخْرَى ، وَإِنْ أَعْوَزَتِ الْإِبِلُ عُدِلَ إِلَى الدَّنَانِيرِ ، إِمَّا مُقَدَّرَةً بِأَلْفِ دِينَارٍ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ ، أَوْ بِقِيمَةِ مِائَةِ بَعِيرٍ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ ، يَحْمِلُ الْمُكْثِرُ مِنْهَا

نِصْفَ دِينَارٍ وَالْمُقِلُّ رُبُعَ دِينَارٍ ، وَإِنْ عَدَلَ عَنْهُ إِعْوَازُ الْإِبِلِ إِلَى الدَّرَاهِمِ فَإِنْ قُدِّرَتْ بِاثْنَي عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ تَحَمَّلَ الْمُكْثِرُ مِنْهَا سِتَّةَ دَرَاهِمَ وَالْمُقِلُّ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ ، لِأَنَّ الدِّينَارَ فِيهَا مُقَابِلٌ لِاثْنَي عَشَرَ دِرْهَمًا ، وَإِنْ قُدِّرَتْ بِقِيمَةِ مِائَةِ بَعِيرٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَحَمَّلَ الْمُكْثِرُ مِنْهَا سِتَّةَ دَرَاهِمَ وَالْمُقِلُّ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لَوْ قُدِّرَتْ بِالدَّرَاهِمِ اعْتِبَارًا بِقِيمَةِ الدِّينَارِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا عَدَلَ بِالْإِبِلِ إِلَى قِيمَةِ الْوَقْتِ وَجَبَ أَنْ يَعْدُلَ بِالدِّينَارِ إِلَى قِيمَةِ الْوَقْتِ ، فَيَتَحَمَّلُ الْمُكْثِرُ مِنَ الدَّرَاهِمِ قِيمَةَ نِصْفِ دِينَارٍ بِسِعْرٍ وَقِيمَةٍ ، وَالْمُقِلُّ قِيمَةَ رُبُعِ دِينَارٍ ، لِأَنَّ الدِّينَارَ فِي وَقْتِهَا أَكْثَرُ قِيمَةً مِنْهُ فِي وَقْتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَيَحْمِلُ كُلَّ مَا كَثُرَ وَقَلَّ مِنْ قَتْلٍ أَوْ جَرْحٍ مِنْ حُرٍّ وَعَبْدٍ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا حَمَّلَهَا الْأَكْثَرَ دَلَّ عَلَى تَحْمِيلِهَا الْأَيْسَرَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ مِنَ الدِّيَةِ عَلَى خَمْسَةِ مَذَاهِبَ : فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَحْمِلُ كُلَّ مَا كَثُرَ وَقَلَّ مِنْ قَتْلٍ وَجَرْحٍ . وَقَالَ قَتَادَةُ : تَحْمِلُ دِيَةَ النَّفْسِ فِي الْقَتْلِ وَلَا تَحْمِلُ مَا دُونَ النَّفْسِ وَيَتَحَمَّلُهُ الْجَانِي . وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : تَحْمِلُ ثُلُثَ الدِّيَةِ فَصَاعِدًا وَيَتَحَمَّلُ الْجَانِي مَا دُونَ الثُّلُثِ . وَقَالَ الزُّهْرِيَّ : يَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَيَتَحَمَّلُ الْجَانِي الثُّلُثَ فَمَا دُونَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ نِصْفَ عَشْرِ الدِّيَةِ فَمَا زَادَ ، وَيَتَحَمَّلُ الْجَانِي مَا دُونَ ذَلِكَ وَاسْتَدَلَّ قَتَادَةُ بِأَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ أَغْلَظُ لِاخْتِصَاصِهَا بِالْكَفَّارَةِ وَالْقَسَامَةِ فَاخْتُصَّتْ بِتَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ . وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بِأَنَّ الْعَاقِلَ مُوَاسٍ يَتَحَمَّلُ مَا أَجْحَفَ تَحْصِينًا لِلدِّمَاءِ ، وَمَا دُونَ الثُّلُثِ غَيْرَ مُجْحِفٍ فَلَمْ يَتَحَمَّلْهُ . وَاسْتَدَلَّ الزُّهْرِيُّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثُّلُثُ كَثِيرٌ فَصَارَ مُضَافًا إِلَى مَا زَادَ عَلَيْهِ فِي تَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ لَهُ . وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى تَحَمُّلِ نِصْفِ الْعُشْرِ بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ تَحَمُّلَ الْعَاقِلَةِ لِمَا عَدَلَ فِيهِ عَنِ الْقِيَاسِ إِلَى الشَّرْعِ وَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ

بِأَقَلِّ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ ، وَأَقَلُّهُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ ، وَالْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ ، وَهِيَ مُقَدَّرَةٌ بِمِثْلِ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ أَوْ خَمْسِينَ دِينَارٍ أَوْ سِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ فَكَانَ هَذَا أَصْلًا فِي أَقَلِّ مَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ وَكَانَ مَا دُونَهُ مَحْمُولًا عَلَى مُوجِبِ الْقِيَاسِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ لَمَّا لَمْ يَجِبُ فِيهِ قِصَاصٌ وَلَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ جَرَى مَجْرَى الْأَمْوَالِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَتَحَمَّلَهُ الْعَاقِلَةُ كَمَا لَا تَتَحَمَّلُ الْأَمْوَالَ . وَالدَّلِيلُ عَلَى جَمِيعِهِمْ فِي تَحَمُّلِ الْأَكْثَرِ وَالْأَقَلِّ بَيَّنَهُ النَّصُّ وَهُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا حَمَّلَ الْعَاقِلَةَ جَمِيعَ الدِّيَةِ وَهِيَ أَثْقَلُ ، فِيهِ بِهِ عَلَى تَحَمُّلِ مَا هُوَ أَقَلُّ ، وَلَوْ نَصَّ عَلَى الْأَقَلِّ لَمَا نَبَّهَ عَلَى حُكْمِ الْأَثْقَلِ ، وَفِي إِلْزَامِ الْجَمْعِ بَيْنَ النَّصَّيْنِ خُرُوجٌ عَنْ مَوْضُوعِ الشَّرْعِ . ثُمَّ نُحَرِّرُ هَذَا الْأَصْلَ قِيَاسًا فَنَقُولُ : إِنَّهُ أَرْشُ خَطَأٍ عَلَى نَفْسٍ فَجَازَ أَنْ تَتَحَمَّلَهُ الْعَاقِلَةُ قِيَاسًا عَلَى دِيَةِ النَّفْسِ مَعَ قَتَادَةَ ، وَعَلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ مَعَ مَالِكٍ ، وَعَلَى نِصْفِ عُشْرِهَا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَحَمَّلَ الْجَانِي قَلِيلَ الدِّيَةِ وَكَثِيرَهَا فِي الْعَمْدِ وَجَبَ أَنْ تَحْمِلَ الْعَاقِلَةُ قَلِيلَهَا وَكَثِيرَهَا فِي الْخَطَأِ ، وَيَتَحَرَّرُ مِنْهُ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَنْ تَحَمَّلَ كَثِيرَ الدِّيَةِ تَحَمَّلَ قَلِيلَهَا كَالْجَانِي . وَالثَّانِي : كُلُّ قَدْرٍ تَحَمَّلَهُ الْجَانِي جَازَ أَنْ تَتَحَمَّلَهُ الْعَاقِلَةُ كَالْكَثِيرِ ، وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ لَوِ اشْتَرَكُوا فِي جِنَايَةٍ قَدْرُهَا الثُّلُثُ عِنْدِ مَالِكٍ وَنِصْفُ الْعَشْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَحَمَّلَتْ عَاقِلَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا لَزِمَهُ لِجِنَايَتِهِ ، وَهُوَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثِ الدِّيَةِ وَمِنْ نِصْفِ عُشْرِهَا ، فَكَذَلِكَ إِذَا انْفَرَدَ بِالْتِزَامِ هَذَا الْقَدْرِ ، وَيَتَحَرَّرُ مِنْهُ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَنْ تَحَمَّلَ كَثِيرَ الدِّيَةِ تَحَمَّلَ قَلِيلَهَا كَالْجَانِي . وَالثَّانِي : كُلُّ قَدْرٍ يَتَحَمَّلُهُ الْجَانِي جَازَ أَنْ تَتَحَمَّلَهُ الْعَاقِلَةُ كَالْكَثِيرِ ، وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ لَوِ اشْتَرَكُوا فِي جِنَايَةٍ قَدْرُهَا الثُّلُثُ عِنْدِ مَالِكٍ وَنِصْفُ الْعُشْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَحَمَّلَتْ عَاقِلَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا لَزِمَهُ لِجِنَايَتِهِ وَهُوَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثِ الدِّيَةِ وَمِنْ نِصْفِ عُشْرِهَا ، فَكَذَلِكَ إِذَا انْفَرَدَ بِالْتِزَامِ هَذَا الْقَدْرِ وَيَتَحَرَّرُ مِنْهُ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا تَحَمَّلَتْهُ الْعَاقِلَةُ فِي الِاشْتِرَاكِ جَازَ أَنْ يَتَحَمَّلَهُ فِي الِانْفِرَادِ كَالْكَثِيرِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا تَحَمَّلَتْهُ الْعَاقِلَةُ مِنَ الْكَثِيرِ جَازَ أَنْ تَتَحَمَّلَهُ مِنَ الْقَلِيلِ كَالِاشْتِرَاكِ ، وَمَا قَالَهُ قَتَادَةُ مِنْ تَغْلِيظِ حُرْمَةِ النَّفْسِ فَحُرْمَتُهَا لِأَجَلِ حُرْمَةِ الْإِنْسَانِ ، وَحُرْمَةُ الْإِنْسَانِ عَامَّةٌ فِي نَفْسِهِ وَأَطْرَافِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي حُكْمِ الْغُرْمِ وَمَحَلِّهِ ، وَمَا قَالَهُ مَالِكٌ مِنْ أَنَّ الثُّلُثَ قَلِيلٌ لَا يُجْحِفُ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثُّلُثُ كَثِيرٌ فَصَارَ ضِدَّ قَوْلِهِ ثُمَّ قَدْ يُجْحِفُ

الثُّلُثُ وَأَقَلُّ مِنْهُ بِالْجَانِي إِذَا انْفَرَدَ بِغُرْمِهِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مُقِلًّا ، وَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ وُرُودِ الشَّرْعِ فِيهِ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوبِ الْأَرْشِ وَإِنْ لَمْ يَرِدْ فِيهِ شَرْعٌ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَحَمُّلِ الْعَقْلِ ، وَإِنْ لَمْ يَرِدْ فِيهِ شَرْعٌ ، وَمَا قَالَهُ مِنْ إِجْزَائِهِ فِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ وَتَقْدِيرِ الْأَرْشِ مَجْرَى الْأَمْوَالِ فَمُنْتَقَضٌ بِالْأُنْمُلَةِ يَجِبُ فِيهَا الْقِصَاصُ وَيَتَقَدَّرُ أَرْشُهَا بِثُلُثِ الْعُشْرِ وَلَا تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ عِنْدَهُ ، وَقَدْ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيمَا زَادَ عَلَى نِصْفِ الْعُشْرِ وَلَا يَتَقَدَّرُ أَرْشُهُ وَتَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ فَبَطَلَ مَا اعْتَدَّ بِهِ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا حِفْظُ الدِّمَاءِ بِالْتِزَامِ الْعَاقِلَةِ لِأُرُوشِهَا وَهَذَا يَصِحُّ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَإِنْ كَانَ الْأَرْشُ ثُلُثَ الدِّيَةَ أَدَّتْهُ فِي مُضِيِّ سَنَةٍ مِنْ يَوْمِ جُرِحَ الْمَجْرُوحُ فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ فَالزِّيَادَةُ فِي مُضِيِّ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنْ زَادَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ فَفِي مُضِيِّ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ وَهَذَا مَعْنَى السَّنَةِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا وَجَبَ ثُلُثُ الدِّيَةِ مِنْ جُرْحٍ أَوْ طَرْفٍ أَدَّتْهُ الْعَاقِلَةُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهَا تَلْتَزِمُ فِي جَمِيعِ الدِّيَةِ أَدَاءَ ثُلُثِهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ ، وَإِنْ وَجَبَ ثُلُثُ الدِّيَةِ فِي نَفْسٍ كَدِيَةِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ فَفِيهِ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى : أَحَدُهُمَا : تُؤَدِّيهِ الْعَاقِلَةُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ اعْتِبَارًا بِدِيَةِ الْجُرْحِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ تُؤَدِّيَهُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ اعْتِبَارًا بِدِيَةِ النَّفْسِ ، وَكَذَلِكَ نَصِفُ الْعَشْرِ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ يَكُونُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ : لِأَنَّهَا دِيَةُ نَفْسٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ مَا جَنَى الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِمَّا إِذَا جَنَى عَلَى نَفْسِهِ عَمْدًا فَقَطَعَ يَدَهُ أَوْ قَتَلَ نَفْسَهُ إِمَّا لِغَيْظٍ أَوْ حَمِيَّةٍ ، وَإِمَّا مِنْ سَفَهٍ وَجَهَالَةٍ ، فَجِنَايَتُهُ هَدَرٌ لَا يُؤَاخَذُ بِهَا إِنْ كَانَ حَيًّا ، وَلَا يُؤْخَذُ بِهَا وَارِثُهُ إِنْ كَانَ مَيِّتًا ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ ، فَيَكُونُ نَفْسُهُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ بِالْكَفَّارَةِ ، وَغَيْرَ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ بِالدِّيَةِ ، لِأَنَّ الدِّيَةَ مِنْ حُقُوقِهِ فَسَقَطَ عَنْهُ ، وَالْكَفَّارَةُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ قَتَلَ عَبْدَهُ سَقَطَتْ عَنْهُ الْقِيمَةُ لِأَنَّهَا لَهُ وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهَا لِلَّهِ تَعَالَى .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا جَنَى عَلَى نَفْسِهِ خَطَأً فَقَطَعَ يَدَهُ بِانْقِلَابِ سَيْفِهِ عَلَيْهِ أَوْ قَتْلِ نَفْسِهِ بِعَوْدِ سَهْمِهِ إِلَيْهِ جنى الرجل على نفسه فَجِنَايَتُهُ هَدَرٌ كَالْعَمْدِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ ، وَعَاقِلَتُهُ بَرَاءٌ مِنْ دِيَتِهِ . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ : تَتَحَمَّلُ عَاقِلَتُهُ مَا جَنَاهُ عَلَى نَفْسِهِ يُؤَدُّونَهُ إِلَيْهِ إِنْ كَانَتْ عَلَى طَرَفٍ ، وَالْوَرَثَةُ إِنْ كَانَتْ عَلَى نَفْسٍ ، اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا رَكِبَ دَابَّةً

لَهُ وَضَرَبَهَا بِخَشَبَةٍ كَانَتْ بِيَدِهِ فَطَارَتْ مِنْهَا شَظْيَةٌ فَفَقَأَتْ عَيْنَهُ ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ : يَدُهُ يَدُ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَجَعَلَ الدِّيَةَ عَلَى عَصَبَتِهِ . وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ أَنَّ عَامِرَ بْنَ الْأَكْوَعِ اعْوَجَّ سَيْفُهُ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَا أَبْطَلَ جِهَادَهُ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ قَضَى بِالدِّيَةِ فِي مَالِهِ وَلَا عَاقِلَتِهِ ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي الْعَمْدِ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْخَطَأِ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيَّ ضَرَبَ مُشْرِكًا بِالسَّيْفِ فَرَجَعَ السَّيْفُ إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ فَامْتَنَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَقَالُوا : قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَاتَ مُجَاهِدًا شَهِيدًا فَدَلَّ الظَّاهِرُ عَلَى أَنَّ هَذَا جَمِيعُ حُكْمِهِ ، وَلَوْ وَجَبَتِ الدِّيَةُ لَأَبَانَهَا ، لِأَنَّهُ لَا يُؤَخِّرُ بَيَانَ الْأَحْكَامِ عَنْ أَوْقَاتِهَا ، وَلِأَنَّ جِنَايَةَ الْعَمْدِ أَغْلَظُ مِنْ جِنَايَةِ الْخَطَأِ ، فَلَمَّا أُهْدِرَ عَمْدُهُ كَانَ خَطَؤُهُ أَهْدَرَ ، وَلِأَنَّهُ يُوَاسَى بِدِيَةِ الْخَطَأِ تَخْفِيفًا عَنْهُ ، وَهُوَ لَا يَلْزَمُهُ بِقَتْلِ نَفْسِهِ مَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ تَخْفِيفًا عَنْهُ ، فَصَارَ هَدَرًا وَجَرَى مَجْرَى اسْتِهْلَاكِهِ مَالَ نَفْسِهِ لَا يَرْجِعُ بِبَدَلِهِ عَلَى غَيْرِهِ ، فَأَمَّا قَضَاءُ عُمَرَ فَهُوَ قَوْلُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسُ بِخِلَافِهِ فَكَانَ أَوْلَى مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ عَقْلِ الْمَوَالِي

بَابُ عَقْلِ الْمَوَالِي مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَا يَعْقِلُ الْمَوَالِي الْمُعْتِقُونَ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْمَوَالِي الْمُعْتَقِينَ وَلَهُ قَرَابَةٌ تَحْمِلُ الْعَقْلَ فَإِنْ عَجَزَتْ عَنْ بَعْضٍ حَمَلَ الْمَوَالِي الْمُعْتِقُونَ الْبَاقِيَ وَإِنْ عَجَزُوا عَنْ بَعْضٍ وَلَهُمْ عَوَاقِلُ عَقَلَتْهُ عَوَاقِلُهُمْ فَإِنْ عَجَزُوا وَلَا عَوَاقِلَ لَهُمْ عَقَلَ مَا بَقِيَ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْعَقْلُ يُتَحَمَّلُ بِالْوَلَاءِ كَمَا يُتَحَمَّلُ بِالنَّسَبِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ . وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتُحِقَّ الْمِيرَاثُ بِالْوَلَاءِ كَاسْتِحْقَاقِهِ بِالنَّسَبِ وَجَبَ أَنْ يَتَحَمَّلَ بِهِ الْعَقْلُ كَمَا يَتَحَمَّلُ بِالنَّسَبِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمُنَاسِبُونَ مِنَ الْعَصَبَاتِ مُقَدَّمُونَ فِي الْعَقْلِ عَلَى الْمَوَالِي كَمَا يَتَقَدَّمُونَ عَلَيْهِمْ فِي الْمِيرَاثِ ، وَيُقَدَّمُ أَيْضًا الْعَصِبَاتُ عَلَى الْمَوَالِي فِي الْعَقْلِ وَالْمِيرَاثِ كَمَا يُقَدَّمُ أَقْرَبُ الْعَصِبَاتِ عَلَى أَبْعَدِهِمْ ، فَإِذَا وُجِدَ فِي أَقْرَبِ الْعَصِبَاتِ مَنْ يَتَحَمَّلُ الْعَقْلَ وَقَفَ تَحَمَّلُهَا عَلَيْهِمْ ، وَخَرَجَ مِنَ التَّحَمُّلِ الْبُعَدَاءُ مِنَ الْعَصَبَاتِ وَشَارَكُوا فِيهَا الْأَقَارِبَ وَخَرَجَ مِنْهَا وَالْمَوَالِي ، وَإِنْ عَجَزَ الْأَقْرَبُونَ عَنْهَا تَحَمَّلَهَا الْبُعَدَاءُ وَالْمَوَالِي مِنَ الْعَصَبَاتِ وَشَارَكُوا فِيهَا الْأَقَارِبَ وَخَرَجَ مِنْهَا الْمَوَالِي إِذَا تَحَمَّلَهَا جَمِيعُ الْعَصَبَاتِ ، وَإِنْ عَجَزَ جَمِيعُهُمْ عَنْهَا شَرَكَهُمْ فِيهَا الْمَوَالِي وَكَانُوا أُسْوَةَ الْعَصَبَاتِ فِي تَحَمُّلِهَا ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا الْعَصَبَاتُ وَالْمَوَالِي شَرَكَهُمْ فِيهَا عَصَبَاتُ الْمَوَالِي ثُمَّ مَوَالِي الْمَوَالِي ، فَإِنْ عَجَزُوا أَوْ عَدِمُوا تَحَمَّلَ بَيْتُ مَالِ الْمُسْلِمِينَ مَا عَجَزُوا عَنْهُ مِنْ بَقِيَّةِ الْعَقْلِ أَوْ مِنْ جَمِيعِهِ إِذَا عَدِمُوا : لِأَنَّ وَلَاءَ الدِّينِ يَجْمَعُ عَاقِلَةَ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ عَقْلُ جِنَايَتِهِ عَلَيْهِمْ فِي بَيْتِ مَالِهِمْ عِنْدَ عَدَمِ عَصَبَتِهِ كَمَا وَرِثُوهُ ، وَصَارَ مِيرَاثُهُ لِبَيْتِ مَالِهِمْ عِنْدَ عَدَمِ عَصَبَتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ مَالٌ كَانَتِ الدِّيَةُ أَوْ مَا بَقِيَ مِنْهَا دَيْنًا ، وَفِي مَحَلِّهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ هَلْ كَانَ ابْتِدَاءُ وُجُوبِهَا عَلَى الْجَانِي ثُمَّ تَحَمَّلَتْهَا الْعَاقِلَةُ عَنْهُ أَوْ وَجَبَتِ ابْتِدَاءً عَلَى الْعَاقِلَةِ . فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ : أَنَّهَا وَجَبَتِ ابْتِدَاءً عَلَى الْجَانِي ثُمَّ تَحَمَّلَتْهَا الْعَاقِلَةُ لِوُجُوبِهَا بِالْقَتْلِ وَتَحَمَّلَهَا بِالْمُوَاسَاةِ فَعَلَى هَذَا تُؤْخَذُ مِنَ الْقَاتِلِ لِعَدَمِ مَنْ يَتَحَمَّلُهَا عَنْهُ فَإِنْ أَعْسَرَ بِهَا كَانَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا وَجَبَتِ ابْتِدَاءً عَلَى الْعَاقِلَةِ ، لِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ عَلَى غَيْرِهِمْ لَمَّا انْتَقَلَتْ إِلَيْهِمْ إِلَّا بِعَقْدٍ أَوِ الْتِزَامٍ وَهِيَ تَلْزَمُهُمْ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَلَا الْتِزَامٍ ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ دَيْنًا فِي بَيْتِ الْمَالِ وَلَا يُرْجَعُ بِهَا عَلَى الْجَانِي وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بِهَا لِوُجُوبِهَا عَلَى غَيْرِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ( قَالَ ) وَلَا أُحَمِّلُ الْمَوَالِيَ مِنْ أَسْفَلَ عَقْلًا حَتَّى لَا أَجِدَ نَسَبًا وَلَا مَوَالِي مِنْ أَعْلَى ثُمَّ يَحْمِلُونَهُ لَا أَنَّهُمْ وَرَثَتُهُ وَلَكِنْ يَعْقِلُونَ عَنْهُ كَمَا يَعْقِلُ عَنْهُمْ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْمَوَالِيَ ضَرْبَانِ : مَوْلًى مِنْ أَعْلَى وَهُوَ السَّيِّدُ الْمُعْتِقُ . وَمَوْلًى مِنْ أَسْفَلَ وَهُوَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ . فَأَمَّا الْمَوْلَى الْأَعْلَى فَيَعْقِلُ عَنِ الْمَوْلَى الْأَسْفَلِ وَيَرِثُهُ وَحُكْمُ عَقْلِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ . وَأَمَّا الْمَوْلَى الْأَسْفَلُ فَلَا يَرِثُ الْمَوْلَى الْأَعْلَى ، وَفِي عَقْلِهِ عَنْهُ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَعْقِلُ عَنْهُ كَمَا لَا يَرِثُهُ . وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لِأَنَّ الْعَصَبَاتِ وَرِثُوا فَعَقَلُوا ، وَهَذَا لَا يَرِثُ فَلَمْ يَعْقِلْ ، لِأَنَّ غُرْمَ الْعَقْلِ مُقَابِلٌ لِغُنْمِ الْمِيرَاثِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْمَوْلَى الْأَسْفَلَ يَعْقِلُ كَمَا يَعْقِلُ الْمَوْلَى الْأَعْلَى لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا عَقَلَ الْأَعْلَى عَنِ الْأَسْفَلِ وَجَبَ أَنْ يَعْقِلَ الْأَسْفَلُ عَنِ الْأَعْلَى . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا عَقَلَ الْأَعْلَى مَعَ إِنْعَامِهِ كَانَ عَقْلُ الْأَسْفَلِ مَعَ الْإِنْعَامِ عَلَيْهِ أَوْلَى ، فَعَلَى هَذَا يُقَدَّمُ الْمَوْلَى الْأَعْلَى فِي الْعَقْلِ بِمِيرَاثِهِ ، فَإِنْ عَجَزَ شَرَكَهُ الْمَوْلَى الْأَسْفَلُ وَيَكُونُ الْأَسْفَلُ مَعَ الْأَعْلَى جَارِيًا مَجْرَى الْأَعْلَى مَعَ الْعَصَبَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ أَيْنَ تَكُونُ الْعَاقِلَةُ

بَابُ أَيْنَ تَكُونُ الْعَاقِلَةُ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : إِذَا جَنَى رَجُلٌ جِنَايَةً بِمَكَّةَ وَعَاقِلَتُهُ بِالشَّامِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَبَرٌ مَضَى يَلْزَمُ بِهِ خِلَافَ الْقِيَاسِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكْتُبَ حَاكِمُ مَكَّةَ إِلَى حَاكِمِ الشَّامِ يَأْخُذُ عَاقِلَتَهُ بِالْعَقْلِ وَقَدْ قِيلَ يُحَمِّلَهُ عَاقِلَةَ الرَّجُلِ بِبَلَدِهِ ثَمَّ أَقْرَبَ الْعَوَاقِلِ بِهِمْ وَلَا يُنْتَظَرُ بِالْعَقْلِ غَائِبٌ وَإِنَ احْتَمَلَ بَعْضُهُمُ الْعَقْلَ وَهُمْ حُضُورٌ فَقَدْ قِيلَ يَأْخُذُ الْوَالِي مِنْ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَزِمَ الْكُلَّ . قَالَ : وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَسْتَوُوا فِيهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو عَاقِلَةُ الْجَانِي خَطَأً مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونُوا حَضَرُوا مَعَ الْجَانِي فِي بَلَدِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونُوا غَائِبِينَ عَنِ الْجَانِي فِي غَيْرِ بَلَدِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ حَاضِرًا فِي بَلَدِ الْجَانِي وَبَعْضُهُمْ غَائِبًا عَنْ بَلَدِهِ . فَأَمَّا الْحَالُ الْأُولَى أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ حَاضِرِينَ فِي بَلَدِ الْجَانِي تكون عاقلة الجاني حاضرين في بلد الجاني فَهُمْ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَسَاوَوْا فِي الدَّرَجِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَتَفَاضَلُوا فِي الدَّرَجِ وَكَانَ بَعْضُهُمْ أَقْرَبَ مِنْ بَعْضٍ بُدِئَ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ نَسَبًا ، فَيُقَدَّمُ الْإِخْوَةُ وَبَنُوهُمْ عَلَى الْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ ، فَإِنْ تَحَمَّلَهَا الْأَقْرَبُونَ خَرَجَ مِنْهَا الْأَبْعَدُونَ ، وَإِنْ عَجَزُوا عَنْهَا شَرَكَهُمْ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأَبَاعِدِ دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ حَتَّى يُسْتَوْفَى ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا بُعَدَاؤُهُمْ شَرَكَهُمْ مَوَالِيهِمْ ، ثُمَّ عَصَبَاتُ مَوَالِيهِمْ ، ثُمَّ بَيْتُ الْمَالِ ، فَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الدَّرَجِ وَلَمْ يَتَفَاضَلُوا لَمْ يَخْلُ قَسْمُ الدِّيَةِ فِيهِمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لِعَدَدِهِمْ لَا تَزِيدُ عَلَيْهِمْ وَلَا تَنْقُصُ عَنْهُمْ فَتُفَضُّ عَلَى جَمِيعِهِمْ وَلَا يُخَصُّ بِهَا بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ مِنْ إِكْثَارٍ وَإِقْلَالٍ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَزِيدَ عَلَى عَدَدِهِمْ كَأَنَّهُمْ يَتَحَمَّلُونَ نِصْفَهَا وَيَعْجَزُونَ عَنْ

بَاقِيهَا ، فَتُفَضُّ عَلَى مَا احْتَمَلُوا مِنْهَا ، وَيُنْقَلُ مَا عَجَزُوا عَنْهُ إِلَى الْمَوَالِي ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَإِلَى بَيْتِ الْمَالِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَنْقُصَ الدِّيَةُ عَنْ عَدَدِهِمْ وَيُمْكِنَ أَنْ تَنْقُصَ عَلَى بَعْضِهِمْ ، لِأَنَّهَا تَتَقَسَّطُ عَلَى مِائَةِ رَجُلٍ وَهُمْ مِائَتَانِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تُقْضَى عَلَى جَمِيعِهِمْ وَلَوْ تَحَمَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قِيرَاطًا ، وَلَا يُخَصُّ بِهَا بَعْضُهُمْ لِاسْتِوَاءِ جَمِيعِهِمْ فِيهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا تُقْضَى عَلَى بَعْضِهِمْ دُونَ جَمِيعِهِمْ وَيُخَصُّ بِهَا مِنْهُمُ الْعَدَدُ الَّذِي يُرَافِقُ تَحَمُّلَهَا ، وَيَكُونُ مَنِ اسْتَغْنَى عَنْهُ خَارِجًا مِنْهَا ، وَيَكُونُ الْحَاكِمُ مُخَيَّرًا فِي فَضِّهَا عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ ، لِأَنَّهَا تُؤْخَذُ بِوَاجِبٍ وَتُتْرَكُ بِعَفْوٍ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَفُضَّهَا عَلَى مَنْ كَانَ أَسْرَعَ إِجَابَةً إِلَيْهَا ، وَإِنَّمَا خَصَّ بِهَا بَعْضَهُمْ ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّرَ مَا يَتَحَمَّلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ يَجُزِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزِ النُّقْصَانُ مِنْهُ ، وَنَقَلَ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ تَعْلِيلَ هَذَا الْقَوْلِ فِي أَخْذِهَا مِنْ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ ، لِأَنَّ الْعَقْلَ لَزِمَ الْكُلَّ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا نَقَلَهُ مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ هَلْ وَهِمَ فِيهِ أَوْ سَلِمَ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ وَهِمَ فِيهِ وَهُوَ تَعْلِيلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ سَلِمَ فِيهِ ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا هَلْ حَصَلَ فِي النَّقْلِ عَنْهُ سَهْوٌ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَا حَصَلَ فِيهِ سَهْوٌ ، وَهُوَ تَعْلِيلٌ صَحِيحٌ ، لِهَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ ، لِأَنَّ الْعَقْلَ لَزِمَ الْكُلَّ ، فَإِذَا أُخِذَ مِنْ بَعْضِهِمْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْعَقْلِ فَجَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ لِدُخُولِهِ فِي اللُّزُومِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : قَدْ حَصَلَ فِي النَّقْلِ عَنْهُ سَهْوٌ ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا فِي الْمَحْذُوفِ بِالسَّهْوِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ : لَا يَأْخُذُهَا مِنْ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ ، لِأَنَّ الْعَقْلَ لَزِمَ الْكُلَّ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَسَهَا النَّاقِلُ عَنْهُ فَحَذَفَ " لَا " فَصَارَ الْقَوْلَ الثَّانِيَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ يَأْخُذُهَا مِنْ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ ، لِأَنَّ الْعَقْلَ لَزِمَ الْكُلَّ وَهُوَ تَعْلِيلٌ لِلْقَوْلِ الثَّانِي إِنْ لَمْ يَلْزَمِ الْكُلَّ إِذَا أَخَذَهَا مِنَ الْبَعْضِ فَسَهَا النَّاقِلُ عَنْهُ فِي حَذْفِ الْأَلِفِ الَّتِي أَسْقَطَهَا مِنْ " لَا أَنْ " حِينَ نَقْلَ " لِأَنَّ " .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ عَاقِلَتِهِ غُيَّبًا عَنْ بَلَدِهِ كَأَنَّهُ جَنَى بِمَكَّةَ وَعَاقِلَتُهُ الشَّامُ ، فَعَلَى حَاكِمِ مَكَّةَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى حَاكِمٍ بِالشَّامِ حَتَّى يَفُضَّهَا عَلَى

عَاقِلَتِهِ بِالشَّامِ ، وَلِحَاكِمِ مَكَّةَ فِيمَا يُكَاتِبُ حَاكِمَ الشَّامِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : وَهُوَ أَقَلُّ مَا يُجْزِئُ : أَنْ يَكْتُبَ بِهِ أَنْ يَقُولَ : ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّ فُلَانًا قَتَلَ فُلَانًا خَطَأً مَضْمُونًا ، فَيَذْكُرُ الْقَاتِلَ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَقَبِيلَتِهِ ، وَيَذْكُرُ الْمَقْتُولَ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَإِسْلَامِهِ وَحُرِّيَّتِهِ ، لِاخْتِلَافِ الدِّيَةِ بِالْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَذْكُرَ قَبِيلَةَ الْمَقْتُولِ وَإِنْ لَزِمَهُ أَنْ يَذْكُرَ قَبِيلَةَ الْقَاتِلِ لِتَوْجِيهِ الْحُكْمِ عَلَى قَبِيلَةِ الْقَاتِلِ دُونَ الْمَقْتُولِ ، فَيَكُونُ حَاكِمُ مَكَّةَ نَاقِلًا لِثُبُوتِ الْقَتْلِ الْمَضْمُونِ مِنَ الْقَاتِلِ لِلْمَقْتُولِ ، وَيَخْتَصُّ حَاكِمُ الشَّامِ بِالْحُكْمِ فَيَحْكُمُ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَيَحْكُمُ بِفَضِّهَا عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ ، وَيَحْكُمُ بِاسْتِيفَائِهَا مِنْهُمْ عِنْدَ حُلُولِهَا عَلَيْهِمْ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكْتُبَ حَاكِمُ مَكَّةَ بِثُبُوتِ قَتْلِ الْخَطَأِ وَيَحْكُمُ بِالدِّيَةِ فِيهِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ وَهُمْ بَنُو فُلَانٍ إِشَارَةً إِلَى قَتِيلِهِمْ . فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ نَقْضِي عَلَيْهِمْ وَهُمْ غَيْرُ حُضُورٍ وَلَا مُعَيَّنِينَ ؟ قِيلَ : لِأَنَّ حُكْمَهُ عَلَى عُمُومِ الْقَبِيلَةِ لَا عَلَى أَعْيَانِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهَا لِتَوَجُّهِ الْحُكْمِ إِلَى عُمُومِهِمْ دُونَ أَعْيَانِهِمْ ، فَيَحْتَاجُ حَاكِمُ الشَّامِ أَنْ يَحْكُمَ بِفَضِّهَا عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ وَيَحْكُمُ بِاسْتِيفَائِهَا مِنْهُمْ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ حَاكِمِ مَكَّةَ الْحُكْمُ بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِمْ ، وَلَا يَسَعُ حَاكِمُ مَكَّةَ أَنْ يَزِيدَ عَلَى هَذَا فِي فَضِّهَا وَاسْتِيفَائِهَا : لِأَنَّ أَعْيَانَ مَنْ تُقْضَى عَلَيْهِ وَتُسْتَوْفَى مِنْهُ لَا يُعْرَفُ إِلَّا عِنْدَ الْحُلُولِ وَالِاسْتِيفَاءِ لِتَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ فِي الْإِيسَارِ وَالْإِعْسَارِ ، وَلَكِنْ يَسَعُهُ أَنْ يَقُولَ : وَحَكَمْتُ عَلَى كُلِّ مُوسِرٍ مِنْهُمْ بِنِصْفِ دِينَارٍ وَعَلَى كُلِّ مُقِلٍّ بِرُبُعِ دِينَارٍ ، فَيَقْطَعُ اجْتِهَادَ حَاكِمِ الشَّامِ فِي التَّقْدِيرِ ، وَلَوْ لَمْ يَحْكُمْ بِهَذَا كَانَ التَّقْدِيرُ مَوْقُوفًا عَلَى حَاكِمِ الشَّامِ لِيَحْكُمَ فِيهِ بِرَأْيِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ عَاقِلَتِهِ حُضُورًا بِمَكَّةَ وَبَعْضُهُمْ غُيَّبًا بِالشَّامِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْأَقْرَبُونَ نَسَبًا حُضُورًا بِمَكَّةَ وَالْأَبْعَدُونَ نَسَبًا غُيَّبًا بِالشَّامِ فَيَفُضُّهَا حَاكِمُ مَكَّةَ عَلَى الْأَقْرَبِينَ بِمَكَّةَ ، فَإِنِ احْتَمَلُوهَا خَرَجَ مِنْهَا الْأَبْعَدُونَ بِالشَّامِ لِاخْتِصَاصِ مَنْ حَضَرَ بِقُرْبِ الدَّارِ وَقُرْبِ النَّسَبِ ، فَإِنْ عَجَزُوا عَنْهَا كَتَبَ حَاكِمُ مَكَّةَ بِالْبَاقِي مِنْهَا إِلَى حَاكِمِ الشَّامِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ مِنَ الْأَبَاعِدِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْأَبْعَدُونَ نَسَبًا حُضُورًا بِمَكَّةَ وَالْأَقْرَبُونَ نَسَبًا غَيْبًا بِالشَّامِ فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَقْضِي عَلَى الْأَقْرَبِينَ نَسَبًا بِالشَّامِ لِاخْتِصَاصِهَا بِالنَّسَبِ الَّذِي يُسْتَحَقُّ

بِهِ الْمِيرَاثُ ، وَالْمِيرَاثُ مُسْتَحَقٌّ بِقُرْبِ النَّسَبِ لَا بِقُرْبِ الدَّارِ ، كَذَلِكَ تَحَمُّلُ الْعَقْلِ ، فَعَلَى هَذَا يَكْتُبُ بِهَا حَاكِمُ مَكَّةَ إِلَى حَاكِمِ الشَّامِ فَإِنْ وَفَّوْا بِهَا وَإِلَّا فَضَّ حَاكِمُ مَكَّةَ بَاقِيَهَا عَلَى مَنْ بَعُدَ نَسَبُهُ مِنَ الْحُضُورِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا تُفَضُّ عَلَى الْحَاضِرِينَ بِمَكَّةَ وَإِنْ كَانُوا أَبْعَدَ نَسَبًا : لِأَنَّ مَحَلَّ الْعَقْلِ مُعْتَبَرٌ بِالنُّصْرَةِ وَالذَّبِّ عَنِ الْقَاتِلِ ، وَمَنْ قَرُبَتْ دَارُهُ أَخَصُّ بِالنُّصْرَةِ مَعَ بُعْدِ نَسَبِهِ مِمَّنْ بَعُدَتْ دَارُهُ مَعَ قُرْبِ نَسَبِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَخَصَّ بِتَحَمُّلِ الْعَقْلِ فَيَفُضُّهَا حَاكِمُ مَكَّةَ عَلَيْهِمْ ، فَإِنْ وَفَّوْا بِهَا خَرَجَ مِنْهَا مَنْ بِالشَّامِ مِنَ الْأَقَارِبِ ، فَإِنْ عَجَزُوا عَنْهَا فَضَّ بَاقِيَهَا عَلَى مَنْ بِالشَّامِ مِنْهُمْ ، وَكَتَبَ بِهِ حَاكِمُ مَكَّةَ إِلَى حَاكِمِ الشَّامِ لِيَسْتَوْفِيَهُ وَلَوْ كَانَ بَعْضُ الْغَائِبِينَ أَقْرَبَ دَارًا مِنْ بَعْضٍ مَضَى بَاقِيهَا عَلَى أَقْرَبِهِمْ دَارًا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ بِالْمَدِينَةِ وَبَعْضُهُمْ بِالشَّامِ فَيَخْتَصُّ بِتَحَمُّلِ بَاقِيهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ ، لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إِلَى مَكَّةَ مِنَ الشَّامِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَتَسَاوَى أَنْسَابُ مَنْ حَضَرَ بِمَكَّةَ وَمَنْ غَابَ بِالشَّامِ من العاقلة فَيَكُونُوا كُلُّهُمْ أَقَارِبَ أَوْ أَبَاعِدَ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَسْتَوْعِبَ الدِّيَةُ جَمِيعَهُمْ فَتُفَضُّ عَلَى مَنْ حَضَرَ وَغَابَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ جَمِيعَهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكْتَفِيَ بِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْحُضُورِ أَوِ الْغُيَّبِ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا تُفَضُّ عَلَى الْحَاضِرِينَ وَالْغَائِبِينَ جَمِيعًا اعْتِبَارًا بِالتَّسَاوِي فِي النَّسَبِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا تُفَضُّ عَلَى الْحَاضِرِينَ دُونَ الْغَائِبِينَ إِذَا قِيلَ : إِنَّ بُعْدَ الدَّارِ أَوْلَى فِي الْإِسْقَاطِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْحَاكِمَ بِالْخِيَارِ فِي أَنْ يَفُضَّهَا عَلَى الْحَاضِرِينَ دُونَ الْغَائِبِينَ أَوْ أَنْ يَفُضَّهَا عَلَى الْغَائِبِينَ دُونَ الْحَاضِرِينَ أَوْ أَنْ يَفُضَّهَا عَلَى بَعْضِ الْحَاضِرِينَ وَبَعْضِ الْغَائِبِينَ إِذَا قِيلَ : إِنَّ بُعْدَ الدَّارِ لَا يُؤَثِّرُ وَإِنَّ الْعَدَدَ إِذَا زَادَ فُضَّ عَلَى الْبَعْضِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ عَقْلِ الْحُلَفَاءِ

بَابُ عَقْلِ الْحُلَفَاءِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَا يَعْقِلُ الْحَلِيفُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَضَى بِذَلِكَ خَبَرٌ وَلَا الْعَدِيدُ وَلَا يَعْقِلُ عَنْهُ وَلَا يَرِثُ وَلَا يُوَرَّثُ إِنَّمَا يَعْقِلُ بِالنَّسَبِ أَوِ الْوَلَاءِ الَّذِي كَالنَّسَبِ وَمِيرَاثُ الْحَلِيفِ وَالْعَقْلُ عَنْهُ مَنْسُوخٌ وَإِنَمَا يَثْبُتُ مِنَ الْحَلِيفِ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَةُ وَالْيَدُ وَاحِدَةً لَا غَيْرَ ذَلِكَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ كَانَ التَّوَارُثُ وَالْعَقْلُ مُعْتَبَرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ : بِالنَّسَبِ ، وَالْوَلَاءِ ، وَالْحِلْفِ ، وَالْعَدِيدِ ، وَالْمُوَالَاةِ . فَأَمَّا النَّسَبُ ، وَالْوَلَاءُ : فَقَدِ اسْتَقَرَّ الْإِسْلَامُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ وَتَحَمُّلِ الْعَقْلِ بِهِمَا . وَأَمَّا الْحِلْفُ صورته : فَهُوَ أَنْ تَتَحَالَفَ الْقَبِيلَتَانِ عِنْدَ اسْتِطَالَةِ أَعْدَائِهَا عَلَى التَّنَاصُرِ وَالتَّظَافُرِ لِتَمْتَزِجَ أَنْسَابُهُمْ وَيَكُونُوا يَدًا عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ فَيَتَوَارَثُونَ وَيَتَعَاقَلُونَ ، أَوْ يَتَحَالَفُ الرَّجُلَانِ عَلَى ذَلِكَ فَيَصِيرَا كَالْمُتَنَاسِبَيْنِ فِي التَّنَاصُرِ وَالتَّوَارُثِ وَالْعَقْلِ ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِلْفِ الْمُطَيَّبِينَ حِينَ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ قَبَائِلُ قُرَيْشٍ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ عَلَى نُصْرَةِ الْمَظْلُومِ ، وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ ، وَمَعُونَةِ الْحَجِيجِ ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَنَا مِنْ حِلْفِ الْمُطَيَّبِينَ ، وَمَا زَادَهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً وَمَا يَسُرُّنِي بِحَلِّهِ حُمْرُ النَّعَمِ . وَفِيهِ تَوَارَثَ الْمُسْلِمُونَ بِالْحِلْفِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ ، وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [ النِّسَاءِ : 33 ] ثُمَّ نُسِخَ التَّوَارُثُ بِالْحِلْفِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [ الْأَنْفَالِ : 75 ] . فَأَمَّا تَحَمُّلُ الْعَقْلِ بِالْحِلْفِ فَالَّذِي عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْحُلَفَاءَ يَتَعَاقَلُونَ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا مُتَنَاسِبِينَ فَيَتَعَاقَلُونَ بِالنَّسَبِ دُونَ الْحِلْفِ . وَحُكِيَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْحُلَفَاءَ يَتَعَاقَلُونَ بِالْحِلْفِ وَإِنْ لَمْ يَتَنَاسَبُوا اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : ثُمَّ أَنْتُمْ يَا خُزَاعَةُ قَدْ قَتَلْتُمْ

هَذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلٍ وَأَنَا وَاللَّهِ عَاقِلُهُ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ خُزَاعَةَ وَبَنِي كَعْبٍ كَانُوا حُلَفَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحُلَفَاءَ بَنِي هَاشِمٍ فَتَحَمَّلَ الْعَقْلَ عَنْهُمْ بِالْحِلْفِ مَعَ التَّبَاعُدِ فِي النَّسَبِ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [ الْأَنْفَالِ : 75 ] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي اخْتِصَاصِهِمْ بِأَحْكَامِ النَّسَبِ . وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَرَادَ أَنْ يُحَالِفَ رَجُلًا فَنَهَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ : لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ أَيْ لَا حُكْمَ لَهُ ، لِأَنَّ الْحِلْفَ إِنْ كَانَ عَلَى مَعْصِيَةٍ كَانَ بَاطِلًا ، وَإِنْ كَانَ عَلَى طَاعَةٍ فَدِينُ الْإِسْلَامِ يُوجِبُهَا ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْحِلْفِ تَأْثِيرٌ ، وَلِأَنَّ عُقُودَ الْمَنَاكِحِ أَوْكَدُ مِنَ الْحِلْفِ ، ثُمَّ لَا تُوجِبُ تَحَمُّلَ الْعَقْلِ ، فَكَانَ الْحِلْفُ أَوْلَى أَنْ لَا يُوجِبَهُ ، وَأَمَّا تَحَمُّلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقْلَ خُزَاعَةَ فَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ تَحَمَّلَ عَقْلَهُمْ تَفَضُّلًا لَا وُجُوبًا . وَالثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَحَمُّلُهُ عَنْهُمْ حِينَ كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ يَتَوَارَثُونَ بِالْحِلْفِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ : وَأَنَا وَاللَّهِ عَاقِلُهُ أَيْ أَحْكُمُ بِعَقْلِهِ . وَأَمَّا الْعَدِيدُ من صور التوارث والعقل في الجاهلية : فَهُوَ أَنَّ الْقَبِيلَةَ الْقَلِيلَةَ الْعَدَدِ تَعُدُّ نَفْسَهَا عِنْدَ ضَعْفِهَا عَنِ الْمُحَامَاةِ فِي جُمْلَةِ قَبِيلَةٍ كَثِيرَةِ الْعَدَدِ قَوِيَّةِ الشَّوْكَةِ لِيَكُونُوا مِنْهُمْ فِي التَّنَاصُرِ وَالتَّظَافُرِ وَلَا يَتَمَيَّزُونَ عَنْهُمْ فِي سِلْمٍ وَلَا حَرْبٍ ، أَوْ يُنَافِرُ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ قَوْمَهُ فَيُخْرِجُ نَفْسَهُ مِنْهُمْ وَيَنْضَمُّ إِلَى غَيْرِهِمْ وَيَعُدُّ نَفْسَهُ مِنْهُمْ فَهَذَا أَضْعَفُ الْحِلْفِ ، لِأَنَّ فِي الْحِلْفِ أَيْمَانًا مُلْتَزَمَةً وَعُقُودًا مُحْكَمَةً وَهَذَا اسْتِجَارَةٌ وَغَوْثٌ فَلَمْ يَتَوَارَثْ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مَعَ تَوَارُثِهِمْ بِالْحِلْفِ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يُوجِبَ تَحَمُّلَ الْعَقْلِ ، وَلَا أَعْرِفُ قَائِلًا بِوُجُوبِ عَقْلِهِ . وَأَمَّا الْمُوَالَاةُ من صور التوارث والعقل في الجاهلية ، فَهُوَ أَنْ يَتَعَاقَدَ الرَّجُلَانِ لَا يُعْرَفُ نَسَبُهُمَا عَلَى أَنْ يَمْتَزِجَا فِي النَّسَبِ وَالنُّصْرَةِ لِيَعْقِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ وَيَرِثَهُ ، فَهَذَا عَقْدٌ فَاسِدٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ لَا يُوجِبُ تَوَارُثًا ، وَلَا عَقْلًا ، وَأَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ : لَا يَرِثُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ ، إِلَّا أَنْ يَعْقِلَ عَنْهُ ، فَإِذَا عَقَلَ عَنْهُ تَوَارَثَا ، وَالْكَلَامُ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي التَّوَارُثِ بِالْوَلَاءِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

بَابُ عَقْلِ مَنْ لَا يُعْرَفُ نَسَبُهُ وَعَقْلِ أَهْلِ الذِّمَّةِ

مَسْأَلَةٌ إِذَا كَانَ الْجَانِي نُوبِيًّا فَلَا عَقْلَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النُّوبَةِ حَتَّى يَكُونُوا يُثْبِتُونَ أَنْسَابَهُمْ إِثْبَاتَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ

بَابُ عَقْلِ مَنْ لَا يُعْرَفُ نَسَبُهُ وَعَقْلِ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إِذَا كَانَ الْجَانِي نُوبِيًّا هل تجب الدية على العاقلة ؟ فَلَا عَقْلَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النُّوبَةِ حَتَّى يَكُونُوا يُثْبِتُونَ أَنْسَابَهُمْ إِثْبَاتَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَكَذَلِكَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْ قَبِيلَةٍ أَعْجَمِيَّةٍ أَوِ الْقِبْطِ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَاءٌ يُعْلَمُ هل تجب الدية على العاقلة ؟ فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ لِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مِنْ وَلَايَةِ الدِّينِ وَأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مَالَهُ إِذَا مَاتَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَدًّا عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الْعِرَاقِ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ النُّوبِيَّ إِذَا جَنَى عَقَلَتْ عَنْهُ النُّوبَةُ ، وَكَذَلِكَ الزَّنْجِيُّ وَسَائِرُ الْأَجْنَاسِ يَعْقِلُ عَنْهُمْ مَنْ حَضَرَهُمْ مِنْ أَجْنَاسِهِمْ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ نَسَبَهُمْ وَاحِدٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ يَتَنَاصَرُونَ بِالْجِنْسِ كَمَا تَتَنَاصَرُ الْعَرَبُ بِالْأَنْسَابِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ، وَالْجِنْسُ لَا يُوجِبُ تَحَمُّلَ الْعَقْلِ إِلَّا أَنْ يُثْبِتُوا أَنْسَابَهُمْ وَيَتَحَقَّقُوا مِنْ أَقَارِبِهِمْ فِيهَا وَأَبَاعِدِهِمْ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَقْلَ تَابِعٌ لِلْمِيرَاثِ ، وَالْجِنْسُ لَا يُوجِبُ التَّوَارُثَ فَكَذَلِكَ لَا يُوجِبُ تَحَمُّلَ الْعَقْلِ . وَالثَّانِي : قَدْ يَجْمَعُهُمُ اتِّفَاقُ الْبُلْدَانِ وَاتِّفَاقُ الصَّنَائِعِ كَمَا يَجْمَعُهُمُ اتِّفَاقُ الْأَجْنَاسِ ، فَلَوْ جَازَ أَنْ تَعْقِلَ النُّوبَةُ عَنِ النُّوبِيِّ لَجَازَ أَنْ يَعْقِلَ أَهْلُ مَكَّةَ عَنِ الْمَكِّيِّ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ عَنِ الْبَصْرِيِّ ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الصَّنَائِعِ ، وَهَذَا مَدْفُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجِنْسُ مَدْفُوعًا بِالْحِجَاجِ ، وَهَكَذَا الْعَجَمُ لَا يَعْقِلُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ إِلَّا بِالْأَنْسَابِ الْمَعْرُوفَةِ ، وَكَذَلِكَ اللَّقِيطُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ لَهُ نَسَبٌ هل تجب الدية على العاقلة ؟ وَلَا يَعْقِلُ عَنْهُ مُلْتَقِطُهُ وَلَا الْقَبِيلَةُ الَّتِي نُبِذَ فِيهَا وَالْتُقِطَ مِنْهَا ، وَهَكَذَا لَوْ جَنَى رَجُلٌ قُرَشِيٌّ لَا يُعْرَفُ مِنْ أَيِّ قُرَيْشٍ هُوَ هل تجب الدية على العاقلة ؟ لَمْ تَعْقِلْ عَنْهُ قُرَيْشٌ كُلُّهَا حَتَّى يُعْرَفَ مِنْ أَيِّ قَبِيلَةٍ هُوَ مِنْ قُرَيْشٍ ، لِأَنَّ أَبَاعِدَ قُرَيْشٍ إِنَّمَا يَعْقِلُونَ عَنْهُ عِنْدَ عَجْزِ أَقْرَبِهِمْ نَسَبًا إِلَيْهِ ، فَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ أَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ لِلْجَهْلِ بِنَسَبِهِ فِيهِمْ سَقَطَ تَحَمُّلُ عَقْلِهِ عَنْهُمْ ، وَصَارَ جَمِيعُ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ لَا عَوَاقِلَ لَهُمْ بِالْأَنْسَابِ فَيَعْقِلُ عَنْهُمْ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَيْتِ

مَالِهِمْ كَمَا يَكُونُ مِيرَاثُهُ لَوْ مَاتَ لَهُمْ لِمَا يَجْمَعُهُمْ مِنْ وَلَايَةِ الدِّينِ ، كَمَا يَعْقِلُ عَنْهُ مَوَالِيهِ لِمَا يَجْمَعُهُمْ مِنْ وَلَايَةِ الْوَلَاءِ .

مَسْأَلَةٌ مَنِ انْتَسَبَ إِلَى نَسَبٍ فَهُوَ مِنْهُ إِلَّا أَنْ تَثْبُتَ بَيِّنَةٌ بِخِلَافِ ذَلِكَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَمَنِ انْتَسَبَ إِلَى نَسَبٍ فَهُوَ مِنْهُ إِلَّا أَنْ تَثْبُتَ بَيِّنَةٌ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَلَا يُدْفَعُ نَسَبٌ بِالسَّمَاعِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَطَائِفَةٍ أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى دَعْوَى النَّسَبِ الْخَاصِّ وَهُوَ الْوَاحِدُ يَدَّعِي أَبًا فَيَقُولُ : أَنَا ابْنُ فُلَانٍ ، فَإِنِ اعْتَرَفَ لَهُ بِالْأُبُوَّةِ ثَبَتَ نَسَبُهُ ، أَوْ يَدَّعِي الْوَاحِدُ ابْنًا فَيَقُولُ : هَذَا ابْنِي ، فَإِنِ اعْتَرَفَ لَهُ بِالْبُنُوَّةِ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَصَارَ جَمِيعُ مَنْ نَاسَبَهُمَا عَوَاقِلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَإِذَا ادَّعَاهُ رَجُلٌ أَقَرَّ أَنَّهُ وَلَدُهُ لَمْ يُقْبَلْ دَعْوَاهُ بَعْدَ لُحُوقِهِ بِالْأَوَّلِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ فَيَلْحَقُ بِهِ ، لِأَنَّ لُحُوقَ الْبَيِّنَةِ بِالْفِرَاشِ أَقْوَى مِنْ لُحُوقِهِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى ، وَلَوْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ لَهُ بِأَنَّهُ ابْنُهُ وَلَمْ يَشْهَدْ لَهُ بِالْفِرَاشِ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِنَسَبِهِ وَكَانَ لَاحِقًا بِالْأَوَّلِ ، سَوَاءٌ صَدَّقَهُ الْوَلَدُ أَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُ : لِأَنَّ لُحُوقَهُ بِالْأَوَّلِ يَمْنَعُ مِنْ نَفْيِهِ عَنْهُ إِلَّا بِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْبَيِّنَةِ زِيَادَةُ قُوَّةٍ إِلَّا أَنْ تَشْهَدَ بِالْفِرَاشِ وَإِلَّا فَشَهَادَتُهَا مَنْسُوبَةٌ إِلَى السَّمَاعِ ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : " لَا يُدْفَعُ نَسَبٌ بِالسَّمَاعِ " فَهَذَا حُكْمُ تَأْوِيلِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوْلَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى دَعْوَى النَّسَبِ الْعَامِّ : وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ الرَّجُلُ أَنَّهُ مِنْ قُرَيْشٍ وَقُرَيْشٌ تَسْمَعُ دَعْوَاهُ وَلَا تُنْكِرُهُ ، أَوْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنُو هَاشِمٍ يَسْمَعُونَ وَلَا يُنْكِرُونَهُ فَيُحْكَمُ بِنَسَبِهِ فِيهِمْ بِإِقْرَارِهِمْ عَلَى دَعْوَى نَسَبِهِمْ وَبِمِثْلِ هَذَا تَثْبُتُ أَكْثَرُ الْأَنْسَابِ الْعَامَّةِ ، فَإِنْ تَجَرَّدَ مَنْ أَنْكَرَ نَسَبَهُ وَنَفَاهُ عَنْهُمْ ، وَقَالَ : لَسْتَ مِنْهُمْ لَمْ يُقْبَلْ نَفْيُهُ لَهُ ، وَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُمْ : لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى مُجَرَّدِ النَّفْيِ لَا تَصِحُّ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِذَا شَاعَ هَذَا الْقَوْلُ وَذَاعَ حَكَمْتُ بِهِ وَنَفَيْتُهُ عَنْهُمْ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ انْتِشَارَ الْقَوْلِ مَحْكُومٌ بِهِ فِي ثُبُوتِ الْأَنْسَابِ غَيْرُ مَحْكُومٍ بِهِ فِي نَفْيِهَا ، لِأَنَّ الْقَوْلَ الْمُنْتَشِرَ فِي الْأَنْسَابِ كَالْبَيِّنَةِ ، وَالْبَيِّنَةُ تُسْمَعُ مِنَ النَّسَبِ وَلَا تُسْمَعُ عَلَى مُجَرَّدِ النَّفْيِ فَكَذَلِكَ شَائِعُ الْخَبَرِ ، وَيَكُونُ عَلَى لُحُوقِهِ بِهِمْ حَتَّى تَشْهَدَ بَيِّنَتُهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ غَيْرِهِمْ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَحَدِهِمْ ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ بِالسَّمَاعِ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِهِمْ بَعْدَ لُحُوقِهِ بِهِمْ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : وَلَا يُدْفَعُ نَسَبٌ بِالسَّمَاعِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ إِذَا حَكَمْنَا عَلَى أَهْلِ الْعَقْدِ أَلْزَمْنَا عَوَاقِلَهُمُ الَّذِينَ تَجْرِي أَحْكَامُنَا عَلَيْهِمْ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِذَا حَكَمْنَا عَلَى أَهْلِ الْعَقْدِ أَلْزَمْنَا عَوَاقِلَهُمُ الَّذِينَ تَجْرِي أَحْكَامُنَا عَلَيْهِمْ فَإِنْ كَانُوا أَهْلَ حَرْبٍ لَا يَجْرِي حُكْمُنَا عَلَيْهِمْ أَلْزَمْنَا

الْجَانِيَ ذَلِكَ وَلَا يُقْضَى عَلَى أَهْلِ دِينِهِ إِذَا لَمْ يَكُونُوا عَصَبَةً لِأَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَهُ وَلَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِقَطْعِ الْوَلَايَةِ بَيْنَهُمْ وَأَنَّهُمْ لَا يَأْخُذُونَ مَالَهُ عَلَى الْمِيرَاثِ إِنَمَا يَأْخُذُونَهُ فَيْئًا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا جَنَى الذِّمِّيُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ جِنَايَةً خَطَأً فَلَهُ حَالَتَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ لَهُ عَاقِلَةٌ مِنْ مُنَاسِبِيهِ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عَاقِلَةٌ مُنَاسِبُونَ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عَاقِلَةٌ مِنْ ذَوِي نَسَبِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرَ مُسْلِمِينَ ، فَإِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ لَمْ يَعْقِلُوا عَنْهُ كَمَا لَمْ يَرِثُوهُ ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ قَاطِعٌ لِلْمُوَالَاةِ بَيْنَهُمْ ، وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا غَيْرَ مُسْلِمِينَ فَسَوَاءٌ اتَّفَقَتْ أَدْيَانُهُمْ فَكَانَ الْقَاتِلُ وَعَاقِلَتُهُ يَهُودًا كُلَّهُمْ أَوِ اخْتَلَفَتْ أَدْيَانُهُمْ فَكَانَ الْقَاتِلُ يَهُودِيًّا وَعَاقِلَتُهُ نَصَارَى : لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُنَا أَوْ لَا تَجْرِيَ عَلَيْهِمْ ، فَإِنْ لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُنَا لِمَقَامِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ الْجَانِي كَمَنْ لَا عَاقِلَةَ لَهُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ لِانْقِطَاعِ الْمُوَالَاةِ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ ، وَاخْتِلَافِهِمْ فِي التَّنَاصُرِ ، وَظُهُورِ مَا بَيْنَهُمْ مِنَ التَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَتَوَارَثُوا ، فَكَذَلِكَ لِأَجْلِهِ لَمْ يَعْقِلُوا ، وَإِنْ جَرَتْ أَحْكَامُنَا عَلَى عَاقِلَةٍ لِكَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ ذِمَّةٍ حَكَمْنَا عَلَيْهِمْ بِالْعَقْلِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَعْقِلُونَ عَنْهُ إِنْ شَارَكُوهُ فِي النَّسَبِ وَوَافَقُوهُ فِي الذِّمِّيَّةِ احْتِجَاجًا بِأَنَّهُمْ مَقْهُورُونَ بِالذِّمَّةِ وَلَا يَتَنَاصَرُونَ فِيهَا فَبَطَلَ التَّعَاقُلُ بَيْنَهُمْ لِذَهَابِ التَّنَاصُرِ مِنْهُمْ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْأَنْسَابِ الَّتِي يَتَوَارَثُونَ بِهَا تُوجِبُ تَحَمُّلَ الْعَقْلِ بِهَا كَالْمُسْلِمِينَ وَهُمْ لَا يَتَنَاصَرُونَ عَلَى الْبَاطِلِ وَيَتَنَاصَرُونَ عَلَى الْحَقِّ كَذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ .

فَصْلٌ : وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلذِّمِّيِّ عَاقِلَةٌ مُنَاسِبُونَ وَجَبَتِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ وَلَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : يَعْقِلُ عَنْهُ أَهْلُ جِزْيَتِهِ الَّذِينَ فِي كَوْرَتِهِ لِأَنَّهُمْ مُشَارِكُوهُ فِي ذِمَّتِهِ وَجِزْيَتِهِ كَمَا يَتَحَمَّلُ الْمُسْلِمُونَ عَنِ الْمُسْلِمِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ جَمَعَهُمُ الْحَقُّ فَصَحَّتْ مُوَالَاتُهُمْ عَلَيْهِ ، وَهَؤُلَاءِ جَمَعَهُمُ الْبَاطِلُ فَبَطَلَتْ مُوَالَاتُهُمْ فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَعْقِلُ عَنْهُ أَعْيَانُ الْأَجَانِبِ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَعْقِلُوا عَنِ الذِّمِّيِّ ، فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا كَانَتْ جِنَايَتُهُ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ ، لِأَنَّ مِيرَاثَهُ يَصِيرُ إِلَى بَيْتِ مَالِهِمْ ؟ قِيلَ : إِنَّمَا صَارَ مِيرَاثُهُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ فَيْئًا وَلَمْ يَصِرْ إِلَيْهِ إِرْثًا ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ وَعَقَلَ عَنِ الْمُسْلِمِ : لِأَنَّ مَالَهُ صَارَ إِلَيْهِ إِرْثًا .

فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَرْسَلَ سَهْمُ الْيَهُودِيِّ خَطَأً عَلَى رَجُلٍ ثُمَّ أَسْلَمَ الْيَهُودِيُّ قَبْلَ وُصُولِ السَّهْمِ ثُمَّ وَصَلَ فَقَتَلَ لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ عَصَبَاتُهُ مِنَ الْيَهُودِ لِوُصُولِ السَّهْمِ بَعْدَ إِسْلَامِهِ ، وَلَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ عَصَبَتُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَهُودِيَّتِهِ عِنْدَ إِرْسَالِهِ ، وَتُحْمَلُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ ، وَلَوْ قَطَعَ يَهُودِيٌّ يَدَ رَجُلٍ ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ الْمَقْطُوعُ فمن يعقله ؟ عَقَلَتْ عَنْهُ عَصَبَتُهُ مِنَ الْيَهُودِ دُونَ الْمُسْلِمِينَ : وَلِحُدُوثِ الْجِنَايَةِ فِي يَهُودِيَّتِهِ وَإِنِ اسْتَقَرَّتْ بَعْدَ إِسْلَامِهِ ، وَلِذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ بِإِسْلَامِهِ ، وَخَالَفَ الْقَطْعُ إِرْسَالَ السَّهْمِ لِوُجُودِ الْجِنَايَةِ مَعَ الْقَطْعِ وَحُدُوثِهَا بَعْدَ إِرْسَالِ السَّهْمِ ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْقَاطِعُ مُسْلِمًا فَارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ وَمَاتَ الْمَقْطُوعُ عَقَلَ عَنْهُ عَصَبَاتُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِإِسْلَامِهِ عِنْدَ جِنَايَتِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ وَضْعِ الْحَجَرِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ وَضْعُهُ وَحَفْرِ الْبِئْرِ وَمَيْلِ الْحَائِطِ

مَسْأَلَةٌ الْقَتْلَ إِنْ حَدَثَ عَنْ سَبَبٍ مَحْظُورٍ

بَابُ وَضْعِ الْحَجَرِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ وَضْعُهُ وَحَفْرِ الْبِئْرِ وَمَيْلِ الْحَائِطِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ وَضَعَ حَجَرًا فِي أَرْضٍ لَا يَمْلِكُهَا وَآخَرُ حَدِيدَةً فَتَعَلَّقَ رَجُلٌ بِالْحَجَرِ فَوَقَعَ عَلَى الْحَدِيدَةِ فَمَاتَ ، فَعَلَى وَاضِعِ الْحَجَرِ لِأَنَّهُ كَالدَّافِعِ لَهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصْلُ هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْقَتْلَ إِنْ حَدَثَ عَنْ سَبَبٍ مَحْظُورٍ كَانَ مَضْمُونًا ، وَإِنْ حَدَثَ عَنْ سَبَبٍ مُبَاحٍ كَانَ هَدَرًا ، فَإِذَا وَضَعَ رَجُلٌ حَجَرًا فِي أَرْضٍ لَا يَمْلِكُهَا إِمَّا فِي طَرِيقٍ سَابِلٍ أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَوَضْعُهُ مَحْظُورٌ ، فَإِنْ عَثَرَ بِهِ إِنْسَانٌ فَمَاتَ كَانَ وَاضِعُ الْحَجَرِ ضَامِنًا لِدِيَتِهِ لِحَظْرِ السَّبَبِ الْمُؤَدِّي إِلَى قَتْلِهِ ، وَالْقَتْلُ يُضْمَنُ بِالسَّبَبِ كَمَا يُضْمَنُ بِالْمُبَاشِرَةِ ، وَلَوْ دَفَعَهُ رَجُلٌ عَلَى هَذَا الْحَجَرِ فَمَاتَ كَانَتْ دِيَتُهُ عَلَى الدَّافِعِ لَهُ لَا عَلَى وَاضِعِ الْحَجَرِ ، لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ أَقْوَى مِنَ السَّبَبِ ، فَإِذَا اجْتَمَعَا غَلَبَ حُكْمُ الْمُبَاشَرَةِ عَلَى السَّبَبِ ، وَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الْحَجَرِ وَضَعَهُ فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ فَعَثَرَ بِهِ إِنْسَانٌ فَمَاتَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَدِيَةُ الْعَاثِرِ هَدَرٌ ، سَوَاءٌ كَانَ بَصِيرًا أَوْ ضَرِيرًا ، دَخَلَ بِإِذْنٍ أَوْ غَيْرِ إِذْنٍ ، لِإِبَاحَةِ السَّبَبِ الْمُؤَدِّي إِلَى قَتْلِهِ . فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ فَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ : فِي رَجُلٍ وَضَعَ حَجَرًا فِي أَرْضٍ لَا يَمْلِكُهَا ، وَوَضَعَ آخَرُ حَدِيدَةً بِقُرْبِهِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي لَا يَمْلِكُهَا ، فَعَثَرَ رَجُلٌ بِالْحَجَرِ فَوَقَعَ عَلَى الْحَدِيدَةِ فَمَاتَ فعلى من تكون ديته ، فَضَمَانُ دِيَتِهِ عَلَى وَاضِعِ الْحَجَرِ دُونَ وَاضِعِ الْحَدِيدَةِ ، لِأَنَّ وُقُوعَهُ عَلَى الْحَدِيدَةِ بِعَثْرَةِ الْحَجَرِ فَصَارَ وَاضِعُهُ كَالدَّافِعِ لَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا لِدِيَتِهِ كَمَا لَوْ دَفَعَهُ عَلَيْهَا . وَقَالَ أَبُو الْفَيَّاضِ مِنْ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ : إِنْ كَانَتِ الْحَدِيدَةُ سِكِّينًا قَاطِعَةً فَالضَّمَانُ عَلَى وَاضِعِهَا دُونَ وَاضِعِ الْحَجَرِ ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ قَاطِعَةٍ فَالضَّمَانُ عَلَى وَاضِعِ الْحَجَرِ ، لِأَنَّ السِّكِّينَ الْقَاطِعَةَ مُوجِيَةٌ وَالْحَجَرَ غَيْرُ مُوجٍ . وَهَكَذَا قَالَ فِي رَجُلٍ دَفَعَ رَجُلًا عَلَى سِكِّينٍ فِي يَدِ قَصَّابٍ فَانْذَبَحَ بِهَا أَنَّ دِيَتَهُ عَلَى الْقَصَّابِ دُونَ الدَّافِعِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَعْلُولٌ : لِأَنَّ الدَّفْعَ مُبَاشَرَةٌ يَضْمَنُ بِهَا الْمَدْفُوعَ ، سَوَاءٌ أَلْقَاهُ عَلَى مُوجٍ أَوْ غَيْرِ مُوجٍ ، وَلَوْ عَثَرَ بِالْحَدِيدَةِ فَوَقَعَ عَلَى الْحَجَرِ فَمَاتَ كَانَ ضَمَانُهُ

عَلَى وَاضِعِ الْحَدِيدَةِ دُونَ وَاضِعِ الْحَجَرِ ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ صَاحِبُ الْحَدِيدَةِ كَالدَّافِعِ لَهُ ، وَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الْحَجَرِ غَيْرَ مُتَعَدٍّ بِوَضْعِهِ وَصَاحِبُ الْحَدِيدَةِ مُتَعَدِّيًا فَعَثَرَ رَجُلٌ بِالْحَجَرِ فَوَقَعَ عَلَى الْحَدِيدَةِ فَمَاتَ ضَمِنَهُ وَاضِعُ الْحَدِيدَةِ دُونَ وَاضِعِ الْحَجَرِ ، لِأَنَّ وَضْعَ الْحَجَرِ مُبَاحٌ ، فَصَارَتِ الْجِنَايَةُ مَنْسُوبَةً إِلَى وَاضِعِ الْحَدِيدَةِ لِتَعَدِّيهِ ، وَبَطَلَ التَّعْلِيلُ بِالدَّفْعِ الْمُلْغِي لِخُرُوجِهِ عَنِ التَّعَدِّي وَالْحَظْرِ ، وَهَكَذَا لَوْ بَرَزَتْ نَبَكَةٌ مِنَ الْأَرْضِ فَعَثَرَ بِهَا هَذَا الْمَارُّ فَسَقَطَ عَلَى الْحَدِيدَةِ الْمَوْضُوعَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَمَاتَ ضَمِنَ وَاضِعُهَا دِيَتَهُ ، لِأَنَّ بُرُوزَ النَّبَكَةِ الَّتِي عَثَرَ بِهَا لَا تُوجِبُ الضَّمَانَ فَأَوْجَبَهُ وَضْعُ الْحَجَرِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ أَخْرَجَ طِينًا مِنْ دَارِهِ لِهَدْمٍ أَوْ بِنَاءٍ لِيَسْتَعْمِلَهُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ فَعَثَرَ بِهِ بَعْضُ الْمَارَّةِ فَسَقَطَ مَيِّتًا نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ ضَيِّقًا أَوِ الطِّينُ كَثِيرًا فَهُوَ مُتَعَدٍّ بِوَضْعِهِ فِيهِ فَيَكُونُ ضَامِنًا لِدِيَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ وَاسِعًا وَالطِّينُ قَلِيلًا وَقَدْ عَدَلَ بِهِ عَنْ مَسْلَكِ الْمَارَّةِ إِلَى فِنَاءِ دَارِهِ لَمْ يَضْمَنْ ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِهِ وَلَا يَجِدُ النَّاسُ مِنْ مِثْلِهِ بُدًّا . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : يَضْمَنُ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ ، فَإِذَا أَفْضَى إِلَى التَّلَفِ ضَمِنَ كَتَأْدِيبِ الْمُعَلِّمِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُبَاحِ وَالْمَحْظُورِ مَعَ وُضُوحِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا .

فَصْلٌ : وَلَوْ رَشَّ مَاءً فِي طَرِيقٍ سَابِلٍ فَزَلِقَ فِيهِ بَعْضُ الْمَارَّةِ فَسَقَطَ مَيِّتًا ضَمِنَ دِيَتَهُ لِحُدُوثِهِ عَنْ سَبَبٍ مَحْظُورٍ ، وَهَكَذَا لَوْ أَلْقَى فِي الطَّرِيقِ قُشُورَ بِطِّيخٍ أَوْ فَاكِهَةٍ قَدْ أَكَلَهَا فَزَلِقَ بِهَا إِنْسَانٌ فَمَاتَ ضَمِنَهُ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلَوْ بَالَتْ دَابَّتُهُ فِي الطَّرِيقِ فَزَلِقَ إِنْسَانٌ فَمَاتَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا لَمْ يَضْمَنْ ، كَمَا لَوْ رَمَحَتْ بِرِجْلِهَا وَلَيْسَ صَاحِبُهَا مَعَهَا لَمْ يَضْمَنْ : لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ يَعْنِي : الْبَهِيمَةَ ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا حِينَ بَالَتْ مَعَهَا ضَمِنَ مَا تَلِفَ بِزَلَقِ بَوْلِهَا ، سَوَاءٌ كَانَ رَاكِبًا أَوْ قَائِدًا أَوْ سَائِقًا ، لِأَنَّ يَدَهُ عَلَيْهَا فَجَرَى بَوْلُهَا الَّذِي فِي الطَّرِيقِ مَجْرَى بَوْلِهِ الَّذِي يَلْزَمُهُ ضَمَانُ مَا تَلِفَ بِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ حَفَرَ فِي صَحْرَاءَ أَوْ طَرِيقٍ وَاسِعٍ مُحْتَمِلٍ فَمَاتَ بِهِ إِنْسَانٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَتَفْصِيلُ هَذَا أَنَّهُ إِذَا حَفَرَ بِئْرًا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِي حَفْرِهَا مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَحْفِرَهَا فِي مِلْكِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَحْفِرَهَا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَحْفِرَهَا فِي الْمَوَاتِ .

وَالرَّابِعُ : أَنْ يَحْفِرَهَا فِي طَرِيقٍ سَابِلٍ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَحْفِرَهَا فِي مِلْكِهِ فَهُوَ مُبَاحٌ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا سَقَطَ فِيهَا مِنْ بَهِيمَةٍ ، أَوْ إِنْسَانٍ ، بَصِيرٍ أَوْ ضَرِيرٍ سَوَاءٌ كَانَ الدُّخُولُ بِأَمْرٍ أَوْ غَيْرِ أَمْرٍ إِذَا كَانَتْ ظَاهِرَةً ، وَلَكِنْ لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مَمَرِّ دَارِهِ وَغَطَّاهَا عَنِ الْأَبْصَارِ وَدَخَلَ إِلَيْهَا مَنْ سَقَطَ فِيهَا فَمَاتَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الدَّاخِلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَدْخُلَهَا بِغَيْرِ أَمْرٍ فَهُوَ مُتَعَدٍّ بِالدُّخُولِ وَنَفْسُهُ هَدَرٌ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُكْرِهَهُ الْحَافِرُ عَلَى الدُّخُولِ ، فَيَضْمَنُ دِيَتَهُ لِتَعَدِّيهِ بِإِكْرَاهِهِ عَلَى الدُّخُولِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَدْخُلَهَا مُخْتَارًا بِإِذْنِ الْحَافِرِ ، فَإِنْ أَعْلَمَهُ بِهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يُعْلِمْهُ بِهَا وَهُوَ بَصِيرٌ وَلَهَا آثَارٌ تَدُلُّ عَلَيْهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهَا آثَارٌ أَوْ كَانَ لَهَا آثَارٌ وَالدَّاخِلُ أَعْمَى فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْأَظْهَرُ ، الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَتَكُونُ نَفْسُ الْوَاقِعِ فِيهَا هَدَرًا ، لِأَنَّهُ دَخَلَ بِاخْتِيَارٍ وَالْحَفْرُ مُبَاحٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَضْمَنُ الْحَافِرُ دِيَةَ الْوَاقِعِ تَخْرِيجًا مِنْ أَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي مَنْ سَمَّ طَعَامًا وَأَذِنَ فِي أَكْلِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فوقع فيها أحد فعلى من تكون الدية فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَحْفِرَهَا الْمَالِكُ فَلَا ضَمَانَ فِيمَا سَقَطَ فِيهَا عَلَى الْحَافِرِ وَلَا عَلَى الْمَالِكِ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مُتَعَدٍّ ، وَيَخْرُجُ الْحَافِرُ بِالْإِذْنِ مِنْ عَوَاقِبِ الْحَفْرِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَحْفِرَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهَا فَالْحَافِرُ مُتَعَدٍّ بِحَفْرِهَا وَهُوَ الضَّامِنُ لِمَا تَلِفَ فِيهَا مِنْ إِنْسَانٍ أَوْ بَهِيمَةٍ ، سَوَاءٌ قَدَرَ الْمَالِكُ عَلَى سَدِّهَا أَوْ لَمْ يَقْدِرْ لِخُرُوجِهِ عَنْ عُدْوَانِ الْحَفْرِ ، فَإِنْ أَرَادَ الْحَافِرُ أَنْ يُطِمَّهَا لِيَبْرَأَ مِنْ ضَمَانِهَا أَخَذَ الْمَالِكُ بِتَمْكِينِهِ مِنْ طَمِّهَا لِيَبْرَأَ مِنْ ضَمَانِ مَا سَقَطَ فِيهَا ، فَإِنْ أَبْرَأَهُ الْمَالِكُ مِنَ الضَّمَانِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا بَرَاءَةٌ بَاطِلَةٌ لِتَقَدُّمِهَا عَلَى الْوُجُوبِ ، فَعَلَى هَذَا يُؤْخَذُ بِتَمْكِينِ الْحَافِرِ مِنْ طَمِّهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَبْرَأُ وَيَكُونُ الْإِبْرَاءُ جَارِيًا وَمَجْرَى الْإِذْنِ بِالْحَفْرِ ، فَعَلَى هَذَا يُمْنَعُ الْحَافِرُ مِنْ طَمِّهَا .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ ، وَهُوَ أَنْ يَحْفِرَهَا فِي الْمَوَاتِ حفر بئرا فسقط فيها أحد فعلى من تكون الدية : فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنْ يَحْفِرَهَا لِنَفْسِهِ لِيَتَمَلَّكَهَا فَيُمَكَّنُ ، وَيَصِيرُ مَالِكًا لَهَا بِالْإِحْيَاءِ ، وَسَوَاءٌ أَذِنَ فِيهِ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ ، لِأَنَّ إِحْيَاءَ الْمَوَاتِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِهِ ، وَلَا يَضْمَنُ مَا سَقَطَ فِيهَا كَمَا لَا يَضْمَنُهُ فِيمَا حَفَرَهُ فِي مِلْكِهِ ، لِأَنَّهُ فِي الْحَالَيْنِ مَالِكٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَحْفِرَهَا لِيَنْتَفِعَ هُوَ وَالسَّابِلَةُ بِمَائِهَا وَلَا يَتَمَلَّكُهَا فَيُنْظَرُ ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ فِي حَفْرِهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا سَقَطَ فِيهَا لِقِيَامِ الْإِمَامِ بِعُمُومِ الْمَصَالِحِ وَإِذْنُهُ حُكْمٌ بِالْإِبْرَاءِ ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْإِمَامُ فِي حَفْرِهَا فَفِي ضَمَانِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ - عَلَيْهِ الضَّمَانُ ، وَجَعَلَ إِذْنَ الْإِمَامِ شَرْطًا فِي الْجَوَازِ ، لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِالنَّظَرِ فِي عُمُومِ الْمَصَالِحِ مِنَ الْحَافِرِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ : أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْمُبَاحِ ، لِأَنَّ الْمُبَاحَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِ الْإِمَامِ وَالْمَحْظُورُ لَا يُسْتَبَاحُ بِإِذْنِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنْ يَحْفِرَهَا فِي طَرِيقٍ سَابِلٍ يحفر البئر في طريق سابل فيقع فيها أحد ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَضُرَّ حَفْرُهَا بِالْمَارَّةِ فَيَصِيرُ مُتَعَدِّيًا فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ مَا سَقَطَ فِيهَا ، سَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ ، لِأَنَّ إِذْنَ الْإِمَامِ لَا يُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا تَضُرَّ بِالْمَارَّةِ : لِسَعَةِ الطَّرِيقِ وَانْحِرَافِ الْبِئْرِ عَنْ جَادَّةِ الْمَارَّةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَحْفِرَهَا لِيَتَمَلَّكَهَا فَهَذَا مَحْظُورٌ : لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَمَلَّكَ طَرِيقَ السَّابِلَةِ فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ مَا سَقَطَ فِيهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَحْفِرَهَا لِلِارْتِفَاقِ لَا لِلتَّمْلِيكِ ، فَإِنْ لَمْ يُحْكِمْ رَأْسَهَا وَتَرَكَهَا مَفْتُوحَةً ضَمِنَ مَا سَقَطَ فِيهَا ، وَإِنْ أَحْكَمَ رَأْسَهَا وَاسْتَأْذَنَ فِيهَا الْإِمَامَ لَمْ يَضْمَنْ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهُ فِيهَا فَفِي وُجُوبِ ضَمَانِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ يَضْمَنُ ، لِأَنَّهُ جَعَلَ إِذْنَ الْإِمَامِ شَرْطًا فِي عُمُومِ الْمَصَالِحِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَضْمَنُ لِلِارْتِفَاقِ الَّذِي لَا يَجِدُ النَّاسُ مِنْهُ بُدًّا . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ إِنْ حَفَرَهَا لِارْتِفَاقِ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِهَا ، إِمَّا لِشُرْبِهِمْ مِنْهَا ، وَإِمَّا لِيُفِيضَ مِيَاهَ الْأَمْطَارِ إِلَيْهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ حَفْرَهَا لِيَخْتَصَّ بِالِارْتِفَاقِ بِهَا لِحَشْرِ دَارِهِ أَوْ لِمَاءِ مَطَرِهَا فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ : لِأَنَّ عُمُومَ الْمَصَالِحِ أَوْسَعُ حُكْمًا مِنْ

خُصُوصِهَا ، وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبِئْرُ جُبَارٌ وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : الْمُرَادُ بِهِ الْأَجِيرُ فِي حَفْرِ الْبِئْرِ وَالْمَعْدِنُ إِذَا تَلِفَ كَانَ هَدَرًا . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا سَقَطَ فِيهَا بَعْدَ الْحَفْرِ هَدَرٌ ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى عُمُومِ الْأَمْرَيْنِ فِيمَا اسْتُبِيحَ فِعْلُهُ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَحَدُهُمَا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى .

فَصْلٌ : وَيَتَفَرَّعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ إِنْ بَنَى مَسْجِدًا فِي طَرِيقٍ سَابِلٍ هل يضمن ضرره ؟ ، فَإِنْ كَانَ مُضِرًّا بِالْمَارَّةِ لِضِيقِ الطَّرِيقِ أَوْ سَعَةِ الْمَسْجِدِ كَانَ ضَامِنًا لِمَا تَلِفَ بِهِ مِنَ الْمَارَّةِ وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ بِهِمْ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ بَنَاهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ لَمْ يَضْمَنْ ، وَإِنْ بَنَاهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ : لِأَنَّهُ مِنْ عُمُومِ الْمَصَالِحِ ، وَلَوْ عَلَّقَ قِنْدِيلًا فِي مَسْجِدٍ فَسَقَطَ عَلَى إِنْسَانٍ فَقَتَلَهُ أَوْ فَرَشَ فِيهِ بَارِيَّةً أَوْ حَصِيرًا فَعَثَرَ بِهِ دَاخِلًا إِلَيْهِ فَخَرَّ مَيِّتًا فَقَدْ كَانَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ يُجْرِيهِ مُجْرَى بِنَاءِ الْمَسْجِدِ إِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ لَمْ يَضْمَنْ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ ، وَخَالَفَهُ سَائِرُ أَصْحَابِنَا وَقَالُوا : لَا يَضْمَنُ وَجْهًا وَاحِدًا ، سَوَاءٌ أَذِنَ فِيهِ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِكَثْرَتِهِ فِي الْعُرْفِ ، وَإِنْ أَذِنَ الْإِمَامُ فِيهِ شَقَّ .

فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَقَرَّ حَفْرُ الْبِئْرِ بِحَقٍّ فَوَقَعَ فِيهَا وَاقِعٌ وَوَقَعَ فَوْقَهُ آخَرُ وَحَدَثَ مِنْ ذَلِكَ مَوْتٌ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقَعَ الثَّانِي خَلْفَ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ جَذْبٍ وَلَا دَفْعٍ ، فَإِنْ مَاتَ الْأَوَّلُ فَدِيَتُهُ هَدَرٌ ، لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لِغَيْرِهِ فِي مَوْتِهِ ، وَإِنْ مَاتَا جَمِيعًا وَجَبَتْ دِيَةُ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي ، وَكَانَتْ دِيَةُ الثَّانِي هَدَرًا لِمَا ذَكَرْنَا ، رَوَى عُلَيُّ بْنُ رَبَاحٍ اللَّخْمِيُّ أَنَّ بَصِيرًا كَانَ يَقُودُ أَعْمَى فَوَقَعَا فِي بِئْرٍ وَوَقَعَ الْأَعْمَى فَوْقَ الْبَصِيرِ فَقَتَلَهُ فَقَضَى عُمَرُ بِعَقْلِ الْبَصِيرِ عَلَى الْأَعْمَى فَكَانَ الْأَعْمَى يَنْشُدُ فِي الْمَوْسِمِ وَيَقُولُ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَقِيتُ مُنْكَرَا هَلْ يَعْقِلُ الْأَعْمَى الصَّحِيحَ الْمُبْصِرَا خَرَّا مَعًا كِلَاهُمَا تَكَسَّرَا وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَجْذِبَ الْأَوَّلُ الثَّانِيَ فَيَقَعُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ مَاتَ الْأَوَّلُ كَانَتْ دِيَتُهُ هَدَرًا ، وَإِنْ مَاتَ الثَّانِي كَانَتْ دِيَتُهُ كُلُّهَا عَلَى الْأَوَّلِ بِخِلَافِ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ ، لِأَنَّ الْجَاذِبَ هُوَ الْقَاتِلُ وَالْأَوَّلُ جَاذِبٌ وَالثَّانِي مَجْذُوبٌ ، فَصَارَ الْأَوَّلُ ضَامِنًا غَيْرَ مَضْمُونٍ ، وَالثَّانِي مَضْمُونًا غَيْرَ ضَامِنٍ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ وَقَعَ الْأَوَّلُ ثُمَّ وَقَعَ عَلَيْهِ الثَّانِي ، ثُمَّ وَقَعَ عَلَيْهِمَا ثَالِثٌ ، فَإِنْ كَانَ وُقُوعُهُمْ مِنْ غَيْرِ جَذْبٍ وَلَا دَفْعٍ فَدِيَةُ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ : لِأَنَّهُ

مَاتَ بِوُقُوعِهِمَا عَلَيْهِ فَاشْتَرَكَا فِي دِيَتِهِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي تَلَفِهِ ، وَدِيَةُ الثَّانِي عَلَى الثَّالِثِ : لِأَنَّهُ انْفَرَدَ بِالْوُقُوعِ عَلَيْهِ فَانْفَرَدَ بِدِيَتِهِ ، وَدِيَةُ الثَّالِثِ هَدَرٌ : لِأَنَّهُ تَلِفَ مِنْ وُقُوعِهِ ، وَإِنْ جَذَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَجَذَبَ الْأَوَّلُ الثَّانِيَ وَجَذَبَ الثَّانِي الثَّالِثَ فَإِذَا مَاتُوا جَمِيعًا كَانَ مَوْتُ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي بِفِعْلٍ قَدِ اشْتَرَكَا فِيهِ ، وَمَوْتُ الثَّالِثِ بِفِعْلٍ لَمْ يُشَارِكْهُمَا فِيهِ ، لِأَنَّ مَوْتَ الْأَوَّلِ كَانَ بِجَذْبِهِ لِلثَّانِي وَبِجَذْبِ الثَّانِي لِلثَّالِثِ وَمَوْتُ الثَّانِي بِجَذْبِ الْأَوَّلِ وَبِجَذْبِ الثَّانِي لِلثَّالِثِ فَصَارَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي مُشْتَرِكَيْنِ فِي قَتْلِ أَنْفُسِهِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا حُكْمُ الْمُصْطَدِمَيْنِ ، وَكَانَ النِّصْفُ مِنْ دِيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَدَرًا : لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ فِعْلِهِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ عَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبِهِ ، فَيَكُونُ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَوَّلِ نِصْفُ دِيَةِ الثَّانِي وَبَاقِيهَا هَدَرٌ ، وَعَلَى عَاقِلَةِ الثَّانِي نِصْفُ دِيَةِ الْأَوَّلِ وَبَاقِيهَا هَدَرٌ ، فَأَمَّا الثَّالِثُ فَهُوَ مَجْذُوبٌ وَلَيْسَ بِجَاذِبٍ ، فَتَكُونُ جَمِيعُ دِيَتِهِ مَضْمُونَةً : لِأَنَّهُ مَجْذُوبٌ وَلَا يَضْمَنُ دِيَةَ غَيْرِهِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجَاذِبٍ وَفِيمَنْ يَضْمَنُ دِيَتَهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُهَا الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ، لِأَنَّ الثَّانِيَ هُوَ الْمُبَاشِرُ بِجَذْبِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَضْمَنُهَا الثَّانِي وَالْأَوَّلُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوَاءِ ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمَّا جَذَبَ الثَّانِيَ وَجَذَبَ الثَّانِي الثَّالِثَ صَارَا مُشْتَرِكَيْنِ فِي جَذْبِ الثَّالِثِ فَلِذَلِكَ اشْتَرَكَا فِي ضَمَانِ دِيَتِهِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ جَذَبَ الْأَوَّلُ ثَانِيًا وَجَذَبَ الثَّانِي ثَالِثًا وَجَذَبَ الثَّالِثُ رَابِعًا وَمَاتُوا فَيَسْقُطُ الثُّلُثُ مِنْ دِيَةِ الْأَوَّلِ هَدَرًا ، وَيَجِبُ ثُلُثَاهَا عَلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ : لِأَنَّهُ مَاتَ بِجَذْبِهِ لِلثَّانِي وَبِجَذْبِ الثَّانِي لِلثَّالِثِ وَبِجَذْبِ الثَّالِثِ لِلرَّابِعِ ، فَكَانَ مَوْتُهُ بِفِعْلِهِ وَفِعْلِ الثَّانِي وَفِعْلِ الثَّالِثِ وَلَيْسَ لِلرَّابِعِ فِعْلٌ : لِأَنَّهُ مَجْذُوبٌ وَلَيْسَ بِجَاذِبٍ فَكَانَ ثُلُثَ دِيَتِهِ هَدَرًا : لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ فِعْلِهِ وَثُلُثُهَا عَلَى عَاقِلَةِ الثَّانِي ، وَثُلُثُهَا عَلَى عَاقِلَةِ الثَّالِثِ ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي الثَّانِي يَكُونُ ثُلُثُ دِيَتِهِ هَدَرًا ، وَثُلُثَاهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْأَوَّلِ وَثُلُثُهَا عَلَى عَاقِلَةِ الثَّالِثِ ، لِأَنَّهُ مَاتَ بِجَذْبِ الْأَوَّلِ لَهُ وَبِجَذْبِهِ لِلثَّالِثِ وَبِجَذْبِ الثَّالِثِ الرَّابِعَ فَصَارَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ مُشْتَرِكِينَ فِي قَتْلِ الثَّالِثِ ، فَسَقَطَ ثُلُثُ الدِّيَةِ ، لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ فِعْلِهِ وَوَجَبَ ثُلُثَاهَا عَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ ، وَأَمَّا دِيَةُ الثَّالِثِ فَفِي قَدْرِ مَا يُهْدَرُ مِنْهَا وَيُضْمَنُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُهْدَرُ نِصْفُ دِيَتِهِ وَيَجِبُ نِصْفُهَا عَلَى الثَّانِي : لِأَنَّهُ مَاتَ بِجَذْبِ الثَّانِي وَبِجَذْبِهِ لِلرَّابِعِ فَصَارَ مُشَارِكًا لِلثَّانِي فِي قَتْلِ نَفْسِهِ فَسَقَطَتْ نِصْفُ دِيَتِهِ ، لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ قَتْلِهِ ، وَوَجَبَ نِصْفُهَا عَلَى الثَّانِي وَخَرَجَ مِنْهَا الْأَوَّلُ ، لِأَنَّهُ بَاشَرَ جَذْبَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَنْهَدِرُ مِنْ دِيَتِهِ ثُلُثُهَا وَيَجِبُ ثُلُثَاهَا عَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي ، لِأَنَّ

الْأَوَّلَ لَمَّا جَذَبَ الثَّانِيَ صَارَ مُشَارِكًا لَهُ فِي جَذْبِ الثَّالِثِ ، وَلَمَّا جَذَبَ الثَّالِثُ الرَّابِعَ صَارَ مُشَارِكًا لِلْأَوَّلِ وَالثَّانِي فِي قَتْلِ نَفْسِهِ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ ، فَسَقَطَ مِنْ دِيَتِهِ ثُلُثُهَا ، لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ فِعْلِهِ ، وَوَجَبَ ثُلُثَاهَا عَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي ، وَأَمَّا دِيَةُ الرَّابِعِ فَجَمِيعُهَا وَاجِبَةٌ لَا يَنْهَدِرُ مِنْهَا شَيْءٌ : لِأَنَّهُ مَجْذُوبٌ وَلَيْسَ بِجَاذِبٍ وَمَقْتُولٌ وَلَيْسَ بِقَاتِلٍ ، وَفِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ دِيَتُهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تَجِبُ عَلَى الثَّالِثِ وَحْدَهُ ، لِأَنَّهُ بَاشَرَ جَذْبَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالثَّالِثِ أَثْلَاثًا ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَاذِبٌ لِمَنْ بَعْدَهُ فَصَارُوا مُشْتَرِكِينَ فِي جَذْبِ الرَّابِعِ فَاشْتَرَكُوا فِي تَحَمُّلِ دِيَتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ حَائِطٍ سَقَطَ مِنْ دَارِ رَجُلٍ فَأَتْلَفَ نُفُوسًا وَأَمْوَالًا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَوْ مَالَ حَائِطٌ مِنْ دَارِهِ فَوَقَعَ عَلَى إِنْسَانٍ فَمَاتَ فَلَا شَيْءَ فِيهِ وَإِنْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ وَضَعَهُ فِي مِلْكِهِ وَالْمَيْلُ حَادِثٌ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ وَقَدْ أَسَاءَ بِتِرْكِهِ وَمَا وَضَعَهُ فِي مِلْكِهِ فَمَاتَ بِهِ إِنْسَانٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَإِنْ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْوَالِي فِيهِ أَوْ غَيْرِهِ فَلَمْ يَهْدِمْهُ حَتَّى وَقَعَ عَلَى إِنْسَانٍ فَقَتَلَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدِي فِي قِيَاسِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : فِي حَائِطٍ سَقَطَ مِنْ دَارِ رَجُلٍ فَأَتْلَفَ نُفُوسًا وَأَمْوَالًا فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْحَائِطُ مُنْتَصِبًا فَيَسْقُطُ عَنِ انْتِصَابِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَبْنِيَهُ الْمَالِكُ مَائِلًا فَيَسْقُطُ لِإِمَالَتِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَبْنِيَهُ مُنْتَصِبًا ثُمَّ يَمِيلُ ثُمَّ يَسْقُطُ لِمَيْلِهِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُنْتَصِبًا فَيَسْقُطُ عَنِ انْتِصَابِهِ مِنْ غَيْرِ مَيْلٍ مُسْتَقِرٍّ فِيهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا تَلِفَ بِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ سُقُوطُهُ إِلَى دَارِهِ أَوْ دَارِ جَارِهِ أَوْ إِلَى الطَّرِيقِ السَّابِلِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ عُدْوَانٌ يُوجِبُ الضَّمَانَ ، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي الْحَائِطِ شَقٌّ بِالطُّولِ أَوْ بِالْعَرْضِ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : إِنْ كَانَ شَقُّ الْحَائِطِ طُولًا لَمْ يَضْمَنْ ، وَإِنْ كَانَ شَقُّهُ عَرْضًا ضَمِنَ : لِأَنَّ شَقَّ الْعَرْضِ مُؤْذِنٌ بِالسُّقُوطِ فَصَارَ بِتَرْكِهِ مُفَرِّطًا ، وَشَقُّ الطُّولِ غَيْرُ مُؤْذِنٍ بِالسُّقُوطِ فَلَمْ يَصِرِ بِتَرْكِهِ مُفَرِّطًا ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا حَكَاهُ عَنْ مُوسَى وَالْخَضِرِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ [ الْكَهْفِ : 77 ] وَمَعْنَى يَنْقَضُّ : أَيْ يَسْقُطُ ، فَلَوْلَا مَا فِي تَرْكِهِ مِنَ التَّفْرِيطِ لَمَا أَقَامَهُ وَلِيُّ اللَّهِ الْخَضِرُ ، وَلَأَقَرَّهُ عَلَى حَالِهِ لِمَالِكِهِ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ يَسْقُطُ بِشَقِّ الطُّولِ وَيَبْقَى مَعَ شَقِّ الْعَرْضِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ شَقُّهُ عِوَضًا بِأَكْثَرَ مِنْ تَشْرِيخِ آلَةِ الْحَائِطِ وَتَعْيِينِهَا مِنْ غَيْرِ بِنَاءٍ ، وَهُوَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فَسَقَطَ لَمْ يَضْمَنْ فَكَانَ أَوْلَى إِذَا بَنَاهُ فَانْشَقَّ عَرْضًا أَنْ لَا يَضْمَنَ ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَعَنْهَا جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْخَضِرَ إِمَّا نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ أَوْ وَلِيٌّ مَخْصُوصٌ عَلَى حَسَبِ الِاخْتِلَافِ فِي نُبُوَّتِهِ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى مَصَالِحِ الْبَوَاطِنِ عَلَى مَا خَالَفَ ظَوَاهِرَهَا وَلِذَلِكَ أَنْكَرَهَا مُوسَى عَلَيْهِ ، وَلَوْ سَاغَ فِي الظَّاهِرِ مَا فَعَلَهُ الْخَضِرُ لَمْ يُنْكِرْهُ مُوسَى فَكَانَ فِي إِنْكَارِ مُوسَى فِي الظَّاهِرِ لَنَا دَلِيلٌ ، وَإِنْ كَانَ فِي فِعْلِ الْخَضِرِ لِابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي الْبَاطِنِ دَلِيلٌ ، وَالْحُكْمُ فِي الشَّرْعِ مُعْتَبَرٌ بِالظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ فَكَانَ دَلِيلُنَا مِنَ الْآيَةِ أَحَجَّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ قَرَأَ عِكْرِمَةُ : " جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَاضَ " وَالْفَرْقَ بَيْنَ يَنْقَضُّ وَيَنْقَاضُ أَنْ يَنْقَضَّ يَسْقُطُ ، وَيَنْقَاضُ يَنْشَقُّ طُولًا ، وَانْشِقَاقُ الطُّولِ عِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى غَيْرُ مَضْمُونٍ ، وَلَعَلَّ عِكْرِمَةَ تَحَرَّزَ بِهَذِهِ الْقَرَارَةِ مِنْ مِثْلِ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَبْنِيَهُ مَائِلًا فَيَسْقُطُ لِإِمَالَتِهِ أن يبني رجلا حائط مائلا فيسقط فيهلك أمولا ونفوس فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَجْعَلَ إِمَالَةَ بِنَائِهِ إِلَى مِلْكِهِ فَلَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِهِ إِذَا سَقَطَ ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ بِمِلْكِهِ فِي مِلْكِهِ مَا شَاءَ مِنْ مَخُوفٍ أَوْ غَيْرِ مَخُوفٍ كَحَفْرِ بِئْرٍ ، وَارْتِبَاطِ سَبُعٍ ، أَوْ تَأْجِيجِ نَارٍ ، وَسَوَاءٌ عَلِمَ مَنْ سَقَطَ عَلَيْهِ بِمَيْلِ الْحَائِطِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ، أَنْذَرَهُمْ بِهِ أَوْ لَمْ يُنْذِرْهُمْ ، لِأَنَّهُمْ أَقَامُوا تَحْتَهُ بِاخْتِيَارِهِمْ ، فَلَوْ رَبَطَ أَحَدُهُمْ تَحْتَهُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِانْصِرَافِ عَنْهُ حَتَّى سَقَطَ عَلَيْهِ نُظِرَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْحَائِطُ مُنْذِرًا بِالسُّقُوطِ لَمْ يَضْمَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ مُنْذِرًا بِالسُّقُوطِ ضَمِنَهُ ، لِأَنَّهُ مَخُوفٌ إِذَا أَنْذَرَ وَغَيْرُ مَخُوفٍ إِذَا لَمْ يُنْذِرْ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَجْعَلَ إِمَالَةَ بِنَائِهِ إِلَى غَيْرِ مِلْكِهِ إِمَّا إِلَى طَرِيقٍ سَابِلٍ ، وَإِمَّا إِلَى مِلْكٍ مُجَاوِرٍ ، فَيَكُونُ بِإِمَالَةِ بِنَائِهِ مُتَعَدِّيًا لِتَصَرُّفِهِ فِي هَوَاءٍ لَا يَمْلِكُهُ ، لِأَنَّهُ إِنْ أَمَالَهُ إِلَى مِلْكِ غَيْرِهِ تَعَدَّى عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَمَالَهُ إِلَى الطَّرِيقِ لَمْ يَسْتَحِقَّ مِنْهُ إِلَّا مَا لَا ضَرَرَ فِيهِ كَالْجَنَاحِ فَضَمِنَ مَا تَلِفَ بِسُقُوطِهِ مِنْ نُفُوسٍ وَأَمْوَالٍ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَبْنِيَهُ مُنْتَصِبًا فَيَمِيلَ ثُمَّ يَسْقُطَ بَعْدَ مَيْلِهِ يبني رجلا حائطا منتصبا فيميل ثم يسقط بعد ميله فيهلك أمولا ونفوس فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَمِيلَ إِلَى دَارِهِ فَلَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَهُ بِهِ بِسُقُوطِهِ ، لِأَنَّهُ لَا يَضْمَنُ إِذَا بَنَاهُ مَائِلًا فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَضْمَنَ إِذَا مَالَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَمِيلَ إِلَى غَيْرِ مِلْكٍ ، إِمَّا إِلَى دَارِ جَارِهِ ، وَإِمَّا إِلَى طَرِيقٍ

سَابِلٍ ، فَقَدْ أَرْسَلَ الشَّافِعِيُّ جَوَابَهُ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ وَقَالَ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَعَلَّلَ بِأَنَّ الْمَيْلَ حَادِثٌ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِطْلَاقِ هَذَا الْجَوَابِ هَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَيْلِهِ إِلَى غَيْرِ مِلْكِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ ، وَأَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ ، وَأَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ ، أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَيْلِهِ إِلَى غَيْرِ مِلْكِهِ ، وَأَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا تَلِفَ بِسُقُوطِهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَصْلَهُ فِي مِلْكِهِ وَمَيْلُهُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ مَالَ فَسَقَطَ لِوَقْتِهِ وَهَذَا غَيْرُ مَضْمُونٍ فَكَذَلِكَ إِذَا ثَبَتَ مَائِلًا ثُمَّ سَقَطَ . وَالثَّانِي : أَنَّ طَيَرَانَ الشَّرَرِ مِنْ أَجِيجِ النَّارِ أَحْظَرُ وَضَرَرَهُ أَعَمُّ وَأَكْثَرُ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ أَجَّجَ فِي دَارِهِ نَارًا طَارَ شَرَرُهَا لَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهَا لِحُدُوثِهِ عَنْ سَبَبٍ مُبَاحٍ ، فَوَجَبَ إِذَا بَنَى حَائِطًا فَمَالَ أَنْ لَا يَضْمَنَ مَا تَلِفَ بِهِ ، وَسُقُوطُ الضَّمَانِ فِي الْحَائِطِ أَوْلَى : لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّحَرُّزِ مِنْ مَيْلِهِ وَيَقْدِرُ عَلَى التَّحَرُّزِ مِنْ شَرَرِ النَّارِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ جَوَابَ الشَّافِعِيِّ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ مَحْمُولٌ عَلَى مَيْلِهِ إِلَى مِلْكِهِ ، فَأَمَّا مَيْلُهُ إِلَى غَيْرِ مِلْكِهِ فَمُوجِبٌ لِلضَّمَانِ ، وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدِي وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَشْبَهَ بِإِطْلَاقِ جَوَابِ الشَّافِعِيِّ وَإِنَّمَا وَجَبَ بِهِ الضَّمَانُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِإِزَالَةِ مَيْلِهِ إِذَا مَالَ بِنَفْسِهِ كَمَا يُؤْخَذُ بِإِزَالَتِهِ إِذَا بَنَاهُ مَائِلًا ، فَصَارَ بِتَرْكِهِ عَلَى مَيْلِهِ مُفَرِّطًا وَبِبِنَائِهِ مَائِلًا مُتَعَدِّيًا ، وَهُوَ يَضْمَنُ بِالتَّفْرِيطِ كَمَا يَضْمَنُ بِالتَّعَدِّي فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي لُزُومِ الضَّمَانِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ أَشْرَعَ جَنَاحًا مِنْ دَارِهِ أَقَرَّ عَلَيْهِ وَضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ وَهُوَ لَا يُقِرُّ عَلَى مَيْلِ الْحَائِطِ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَضْمَنَ مَا تَلِفَ بِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْوَجْهَيْنِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا إِنْكَارُ الْوَالِي وَالْإِشْهَادُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ قِيلَ بِسُقُوطِ الضَّمَانِ لَمْ يَجِبْ بِإِنْكَارِ الْوَالِي وَالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ لَمْ يَسْقُطْ إِمْسَاكُ الْوَالِي وَتُرِكَ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ أَنْكَرَهُ الْوَالِي أَوْ كَانَ مَيْلُهُ إِلَى الطَّرِيقِ أَوِ الْجَارِ وَإِنْ كَانَ مَيْلُهُ إِلَى دَارِهِ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ ضَمِنَ ، وَإِنْ لَمْ يُنْكِرَاهُ وَلَمْ يَشْهَدَا عَلَيْهِ لَمْ يَضْمَنْ فَصَارَ مُخَالِفًا كِلَا الْوَجْهَيْنِ احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَصِيرُ بِتَرْكِهِ بَعْدَ الْإِنْكَارِ وَالْمُطَالَبَةِ مُتَعَدِّيًا فَلَزِمَهُ الضَّمَانُ لِتَعَدِّيهِ ، وَهُوَ قَبْلَ الْإِنْذَارِ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فَلَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ لِعَدَمِ التَّعَدِّي .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ الْفَرْقُ فِي تَلَفِ الْوَدِيعَةِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ بَعْدَ طَلَبِهَا فَيَضْمَنُ ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ طَلَبِهَا فَلَا يَضْمَنُ ، وَجَبَ أَنْ يَقَعَ الْفَرْقُ فِي مَيْلِ الْحَائِطِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ سُقُوطُهُ بَعْدَ مُطَالَبَتِهِ فَيَضْمَنُ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ مُطَالَبَتِهِ لَا يَضْمَنُ : لِأَنَّ يَدَهُ عَلَى حَائِطٍ قَدِ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ رَفْعُهُ كَمَا يَدُ الْمُودِعِ عَلَى مَالٍ قَدِ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ رَدُّهُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُطَالَبَةِ وَالْإِمْسَاكِ . وَدَلِيلُنَا شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَخْلُوَ مَيْلُ الْحَائِطِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ فَلَا يَسْقُطُ بِتَرْكِ الْإِنْكَارِ ، كَمَا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ ، أَوْ يَكُونُ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ فَلَا يَجِبُ الْإِنْكَارُ كَمَا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ ، فَلَمْ يَبْقَ لِلْإِنْكَارِ تَأْثِيرٌ فِي سُقُوطِ مَا وَجَبَ وَلَا فِي وُجُوبِ مَا سَقَطَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْإِنْكَارُ مُسْتَحَقًّا فَلَا يَسْقُطُ حُكْمُهُ بِعَدَمِهِ كَالْمُنْكَرَاتِ ، أَوْ يَكُونُ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ بِوُجُودِهِ كَالْمُبَاحَاتِ ، فَلَمْ يَبْقَ لِلْإِنْكَارِ تَأْثِيرٌ فِي إِبَاحَةِ مَحْظُورٍ وَلَا فِي حَظْرِ مُبَاحٍ ، وَبِهِ يَقَعُ الِانْفِصَالُ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ مِنْ تَعَدِّيهِ بَعْدَ الْإِنْكَارِ وَعَدَمِهِ قَبْلَهُ ، وَاحْتِجَاجِهِ بِالْوَدِيعَةِ لَا يَصِحُّ ، لِأَنَّ الْمُودِعَ نَائِبٌ عَنْ غَيْرِهِ فَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ ضَمَانُهَا بِطَلَبِهِ ، وَلَيْسَ صَاحِبُ الْحَائِطِ الْمَائِلِ نَائِبًا فِيهِ عَنْ غَيْرِهِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ ضَمَانُهُ بِإِنْكَارِهِ وَطَلَبِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْإِنْكَارِ وَالْإِشْهَادِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ لَا فِي سُقُوطِهِ فَلَا فَرْقَ فِي تَلَفِ مَنْ عَلِمَ بِمَيْلِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ، قَدَرَ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْهُ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ ، فِي أَنَّ سُقُوطَ الضَّمَانِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَإِنْ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَفِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا يَخْتَلِفُ بِهَا حُكْمُ مَا سَقَطَ مِنْ آلَتِهِ فِي الطَّرِيقِ إِذَا عَثَرَ بِهَا مَارٌّ فَتَلَفَ ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ سُقُوطَهُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُ مَنْ عَثَرَ بِآلَتِهِ إِذَا كَانَ عِثَارُهُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَى نَقْلِهَا ، وَيَضْمَنُهُ إِنْ كَانَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّ سُقُوطَهُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ ضَمِنَ مَنْ عَثَرَ بِآلَتِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ عِثَارُهُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّقْلِ أَوْ بَعْدَهُ ، لِأَنَّ سُقُوطَهُ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إِلَى التَّعَدِّي عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَمَنْسُوبٌ إِلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ حَائِطٌ بَيْنَ دَارَيْنِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَارَيْنِ فَخِيفَ سُقُوطُهُ فَطَالَبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بِهَدْمِهِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَائِمًا عَلَى انْتِصَابِهِ ، فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطَالَبَةُ الْآخَرِ بِهَدْمِهِ ، وَيَكُونُ مُقِرًّا عَلَى اسْتَدَامِهِ وَإِنْ خَافَاهُ حَتَّى يَتَّفِقَا عَلَى هَدْمِهِ ، فَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِهَدْمِهِ وَالْتِزَامِ مُؤْنَتِهِ نُظِرَ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ قَائِمًا مُسْتَهْدَمًا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ نَقْصًا

مَهْدُومًا لَمْ يَكُنْ لَهُ التَّفَرُّدُ بِهَدْمِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ نَقْضِهِ وَآلَتِهِ مِثْلَ قِيمَتِهِ قَائِمًا أَوْ أَكْثَرَ سُئِلَ عَنْهُ أَهْلُ الْمِصْرِ مَنْ يَعْرِفُ الْأَبْنِيَةَ فَإِنْ قَالُوا : إِنَّ سُقُوطَهُ يُتَعَجَّلُ وَلَا يَثْبُتُ عَلَى انْتِصَابِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهَدْمِهِ لِحَسْمِ ضَرَرِهِ ، وَإِنْ قَالُوا : إِنَّهُ قَدْ يَلْبَثُ عَلَى انْتِصَابِهِ وَلَا يُتَعَجَّلُ سُقُوطُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهَدْمِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَمِيلَ إِلَى أَحَدِ الدَّارَيْنِ فَلِلَّذِي مَالَ إِلَى دَارِهِ أَنْ يَأْخُذَ شَرِيكُهُ بِهَدْمِهِ ، وَلَهُ إِنِ امْتَنَعَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهَدْمِهِ لِحُصُولِهِ فِيمَا قَدِ اخْتَصَّ بِمِلْكِهِ مِنْ هَوَاءِ دَارِهِ ، وَلَيْسَ لِلَّذِي لَمْ يَمِلْ إِلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ شَرِيكَهُ بِهَدْمِهِ ، وَلَا لَهُ أَيْضًا أَنْ يَنْفَرِدَ بِهَدْمِهِ وَالْتِزَامِ مَؤُونَتِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ أُمِنَ مَيْلُهُ إِلَى غَيْرِ مِلْكِهِ أَنْ يَسْقُطَ إِلَى دَارِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَشْرَعَ مِنْ دَارِهِ جَنَاحًا عَلَى طَرِيقٍ نَافِذَةٍ جَازَ إِذَا لَمْ يَضُرَّ بِمَارٍّ وَلَا مُجْتَازٍ ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَرَادَ إِخْرَاجَ سِمَاطٍ يَمُدُّهُ عَلَى عَرْضِ الطَّرِيقِ مُكِّنَ إِنْ لَمْ يَضُرَّ وَمُنِعَ إِنْ أَضَرَّ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حَدِّ ضَرَرِهِ ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ حَرْبَوَيْهِ : مَا نَالَهُ رُمْحُ الْفَارِسِ مُضِرٌّ ، وَمَا لَمْ يَنَلْهُ رُمْحُهُ غَيْرُ مُضِرٍّ . وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا : إِنَّ مَا لَا يَنَالُهُ أَشْرَفُ الْجِمَالِ إِذَا كَانَ عَلَيْهَا أَعْلَى الْعَمَارِيَّاتِ فَهُوَ غَيْرُ مُضِرٍّ وَمَا يَنَالُهُ ذَلِكَ فَهُوَ مُضِرٌّ ، وَهَذَا الْحَدُّ عِنْدِي عَلَى الْإِطْلَاقِ غَيْرُ صَحِيحٍ ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا بِأَحْوَالِ الْبِلَادِ ، فَمَا كَانَ مِنْهَا تَسْلُكُهُ جِمَالُ الْعَمَارِيَّاتِ كَانَ هَذَا حَدَّ ضَرَرِهِ ، وَمَا كَانَ مِنْهَا لَا تَسْلُكُهُ جِمَالُ الْعَمَارِيَّاتِ وَتَسْلُكُهُ الْأَجْمَالُ ، كَانَ الْجَمَلُ بِحِمْلِهِ حَدَّ ضَرَرِهِ ، وَمَا كَانَ مِنْهَا لَا تَسْلُكُهُ الْجِمَالُ وَتَسْلُكُهُ الْخَيْلُ بِفُرْسَانِهَا كَانَ أَشْرَفُ الْفُرْسَانِ عَلَى أَشْرَفِ الْخَيْلِ حَدَّ ضَرَرِهِ ، وَمَا كَانَ مِنْهَا لَا تَسْلُكُهُ الْخَيْلُ وَلَا الرُّكَّابُ كَجَزَائِرَ فِي الْبَحْرِ وَقُرًى فِي الْبَطَائِحِ كَانَ أَطْوَلُ الرِّجَالِ بِأَعْلَى حِمْلٍ عَلَى رَأْسِهِ هُوَ حَدُّ ضَرَرِهِ : لِأَنَّ عُرْفَ كُلِّ بَلَدٍ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا مِنْ عُرْفِ مَا عَدَاهُ ، إِذَا كَانَ غَيْرَ مَوْجُودٍ فِيهِ وَإِذَا كَانَ غَيْرَ مُضِرٍّ أُقِرَّ وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ وَلَا يَمْنَعَهُ مِنْهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُقَرُّ عَلَى مَا لَا يَضُرُّ إِذَا لَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمْ مُنِعَ مِنْهُ وَأُخِذَ بِقَلْعِهِ احْتِجَاجًا بِأَنَّهُ لَمَّا مُنِعَ مِنْ بِنَاءِ دَكَّةً فِي عَرْصَةِ الطَّرِيقِ مُنِعَ مِنْ إِشْرَاعِ جَنَاحٍ فِي هَوَائِهِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرَّ بِدَارِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَطَرَ عَلَيْهِ مِنْ مِيزَابِهَا مَاءٌ فَأَمَرَ بِقَلْعِهِ ، فَخَرَجَ الْعَبَّاسُ وَقَالَ : قَلَعْتَ مِيزَابًا نَصَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ ؟ فَقَالَ عُمَرُ : وَاللَّهِ لَا صَعِدَ مَنْ يُعِيدُ هَذَا الْمِيزَابَ إِلَّا عَلَى ظَهْرِي .

فَصَعِدَ الْعَبَّاسُ عَلَى ظَهْرِهِ حَتَّى أَعَادَ الْمِيزَابَ إِلَى مَوْضِعِهِ فَدَلَّ مَا كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَصْبِهِ وَمِنْ عُمَرَ فِي إِعَادَتِهِ وَمِنِ الصَّحَابَةِ فِي إِقْرَارِهِمْ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ شَرْعٌ مَنْقُولٌ وَفِعْلٌ مَتْبُوعٌ . وَالثَّانِي : مُشَاهَدَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ إِلَى مَا وَطِئَهُ مِنَ الْبِلَادِ وَفِيهَا الْأَجْنِحَةُ وَالْمَيَازِيبُ فَمَا أَنْكَرَهَا وَأَقَرَّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا ، وَجَرَى خُلَفَاؤُهُ وَصَحَابَتُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى عَادَتِهِ فِي إِقْرَارِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَقَدْ سَلَكُوا مِنَ الْبِلَادِ أَكْثَرَ مِمَّا سَلَكَ ، وَشَاهَدُوا مِنِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا أَكْثَرَ مِمَّا شَاهَدَ ، فَلَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ عَارَضَ فِيهِ أَحَدًا ، فَدَلَّ عَلَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فِيهِ وَزَوَالِ الْخِلَافِ عَنْهُ ، وَخَالَفَتِ الْأَجْنِحَةُ الدِّكَاكَ ، لِأَنَّ الدِّكَاكَ مُضِرَّةٌ بِالْمُجْتَازِينَ مُضَيِّقَةٌ لِطُرُقَاتِهِمْ وَلَيْسَ فِي الْأَجْنِحَةِ مَضَرَّةٌ وَلَا تَضْيِيقٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ فِعْلِهِ وَجَوَازُ إِقْرَارِهِ فَسَقَطَ عَلَى مَارٍّ فَقَتَلَهُ ضِمْنَ دِيَتَهُ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا : لِأَنَّهُ مُبَاحٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَتَعْزِيرِ الْإِمَامِ وَضَرْبِ الزَّوْجَةِ ، وَأَمَّا الْمِيزَابُ إِذَا سَقَطَ فَأَتْلَفَ مَارًّا فَفِي ضَمَانِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ : لَا يَضْمَنُ ، لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُوجَدُ مِنْهُ بُدٌّ فَصَارَ مُضْطَرًّا إِلَيْهِ وَغَيْرَ مُضْطَرٍّ إِلَى الْجَنَاحِ فَافْتَرَقَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الْجَدِيدُ : أَنَّهُ يَكُونُ مَضْمُونًا يَلْزَمُهُ مَا تَلِفَ بِهِ كَالْجَنَاحِ ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إِجْرَاءِ مَائِهِ إِلَى بِئْرٍ يَحْفِرُهَا فِي دَارِهِ فَيَكُونُ غَيْرَ مُضْطَرٍّ إِلَيْهِ كَمَا هُوَ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إِلَى الْجَنَاحِ ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فِيمَا تَلِفَ بِالْجَنَاحِ وَالْمِيزَابِ نُظِرَ فِيمَا وَقَعَ بِهِ التَّلَفُ ، فَإِنْ كَانَ خَارِجًا عَنْ دَارِهِ ضَمِنَ بِهِ جَمِيعَ الدِّيَةِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ خَارِجًا وَبَعْضُهُ فِي حَائِطِهِ فَسَقَطَ جَمِيعُهُ فَقُتِلَ فَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ مِنْ دِيَتِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ حَكَاهُمَا أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي جَامِعِهِ : أَحَدُهَا : يَضْمَنُ جَمِيعَ دِيَتِهِ ، لِأَنَّ الدَّاخِلَ فِي الْحَائِطِ مِنَ الْخَشَبِ جَذَبَهُ الْخَارِجُ مِنْهُ فَضَمِنَ بِهِ جَمِيعَ دِيَتِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَضْمَنُ بِهِ نِصْفَ دِيَتِهِ ، لِأَنَّ مَا فِي الْحَائِطِ مِنْهُ مَوْضُوعٌ فِي مِلْكِهِ وَالْخَارِجَ مِنْهُ مُخْتَصٌّ بِالضَّمَانِ ، فَصَارَ التَّلَفُ مِنْ جِنْسَيْنِ مُبَاحٍ وَمَحْظُورٍ فَضَمِنَ نِصْفَ الدِّيَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَضْمَنُ مِنَ الدِّيَةِ بِقِسْطِ الْخَارِجِ مِنَ الْخَشَبَةِ . مِثَالُهُ : أَنْ يَكُونَ طُولُ الْخَشَبَةِ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ ، فَإِنْ كَانَ الْخَارِجُ مِنْهَا ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ ضَمِنَ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ دِيَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْخَارِجُ أَرْبَعَةَ أَذْرُعٍ ضَمِنَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ دِيَتِهِ يُقَسَّطُ عَلَى قَدْرِ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ .

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا أُبَالِي أَيُّ طَرَفَيْهِ أَصَابَهُ : لِأَنَّهَا قَتَلَتْ بِثِقْلِهَا .

فَصْلٌ : وَإِذَا وَضَعَ الرَّجُلُ عَلَى حَائِطِهِ جَرَّةَ مَاءٍ فَسَقَطَتْ عَلَى مَارٍّ فِي الطَّرِيقِ فَقَتَلَتْهُ لَمْ يَضْمَنْ دِيَتَهُ ، لِأَنَّهُ وَضَعَهَا فِي مِلْكِهِ ، وَلَوْ نَامَ عَلَى طَرَفِ سَطْحِهِ فَانْقَلَبَ إِلَى الطَّرِيقِ فَسَقَطَ عَلَى مَارٍّ فَقَتَلَهُ نُظِرَ فِي سَبَبِ سُقُوطِهِ ، فَإِنْ كَانَ بِفَسْخٍ مِنَ الْحَائِطِ انْهَارَ مِنْ تَحْتِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ لِثِقَلِهِ فِي نَوْمِهِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ : لِأَنَّهُ سَقَطَ بِفِعْلِهِ ، وَسَقَطَ فِي الْأَوَّلِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ ، وَكُلَّمَا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا مِنْ ضَمَانِ النَّفْسِ فَدِيَاتُهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ : لِأَنَّهُ خَطَأُ عَمْدٍ فِيهِ وَعَلَيْهِ مَعَ ضَمَانِ الدِّيَةِ الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ دِيَةِ الْجَنِينِ

مَسْأَلَةٌ فِي الْجَنِينِ الْمُسْلِمِ بِأَبَوَيْهِ أَوْ بِأَحَدِهِمَا غُرَّةٌ

بَابُ دِيَةِ الْجَنِينِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فِي الْجَنِينِ الْمُسْلِمِ بِأَبَوَيْهِ أَوْ بِأَحَدِهِمَا غُرَّةٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَاهُ أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَمْلِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ ، فَقَالَ حَمَلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَيْفَ نَدِي مَنْ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ هَذَا لَيَقُولُ قَوْلَ شَاعِرٍ فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ وَرُوِيَ عَنِ الزُّبَيْرِ عَنْ مِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ : اسْتَشَارَ عُمَرُ فِي إِمْلَاصِ الْمَرْأَةِ يَعْنِي الْحَامِلَ يُضْرَبُ بَطْنُهَا فَيَسْقُطُ فَقَامَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَقَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ فَقَالَ : ائْتِنِي بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ ، قَالَ : فَشَهِدَ مَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : إِمْلَاصُهَا مَا أَزْلَفَتْهُ بِالْقُرْبِ مِنَ الْوِلَادَةِ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : أُذَكِّرُ اللَّهَ امْرَأً سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجَنِينِ شَيْئًا إِلَّا قَالَهُ ، فَقَامَ حَمَلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةِ فَقَالَ : كُنْتُ بَيْنَ جَارِيَتَيْنِ لِي فَضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِمِسْطَحٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا ، فَقَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ ، فَقَالَ عُمَرُ : كِدْنَا وَاللَّهِ نَقْضِي فِيهِ بِآرَائِنَا ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الْمِسْطَحُ خَشَبُ الْخِبَاءِ . وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ : هُوَ الْخَشَبَةُ الَّتِي يُرْفَقُ بِهَا الْعَجِينُ إِذَا حُلِجَ لِيُخْبَزَ : وَيُسَمِّيَهَا الْمُوَلَّدُونَ الصَّوْلَجَ ، فَدَلَّ مَا رَوَيْنَاهُ عَلَى أَنَّ فِي الْجَنِينِ غُرَّةً عَبْدًا أَوْ أَمَةً ، فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ أَوْ فَرَسٌ أَوْ بَغْلٌ فَكَيْفَ اقْتَصَرْتُمْ عَلَى غُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ دُونَ الْفَرَسِ وَالْبَغْلِ ؟ قِيلَ : لِأَنَّهَا رِوَايَةٌ تَفَرَّدَ بِهَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ

وَهِمَ فِيهَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ وَالَّذِي رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَثْبَتُ ، وَنَاقِلُوهُ أَضْبُطُ ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَتِهِمْ " فَرَسٌ وَلَا بَغْلٌ " وَلَوْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ لَجَازَ حَمْلُهَا عَلَى أَنَّ الْفَرَسَ وَالْبَغْلَ جُعِلَا بَدَلًا مِنَ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ .

فَصْلٌ تَكْمُلُ الْغُرَّةُ إِذَا كَانَ كَامِلًا بِالْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْغُرَّةِ فِيهِ فَتَكْمُلُ الْغُرَّةُ إِذَا كَانَ كَامِلًا بِالْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ ، لِأَنَّ الْغُرَّةَ أَكْمَلُ دِيَاتِ الْجَنِينِ فَوَجَبَتْ فِي أَكْمَلِهِمْ وَصْفًا ، وَيَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ ، لِأَنَّهَا دِيَةُ نَفْسٍ ، وَتَكُونُ الْغُرَّةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِانْتِفَاءِ الْعَمْدِ عَنْهُ بِعَدَمِ مُبَاشَرَتِهِ لِلْجِنَايَةِ فَلَا يَكُونُ إِلَّا خَطَأً مَحْضًا ، أَوْ عَمْدَ خَطَأٍ ، وَالْكَفَّارَةُ فِي مَالِ الْجَانِي ، فَلَوْ أَلْقَتْ مِنَ الضَّرْبِ جَنِينَيْنِ لَزِمَتْهُ غُرْمَانِ وَكَفَّارَتَانِ ، وَلَوْ أَلْقَتْ ثَلَاثَةَ أَجِنَّةٍ لَزِمَهُ ثَلَاثُ غُرَرٍ وَثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ ، وَلَوْ ضَرَبَهَا ثَلَاثَةً فَأَلْقَتْ جَنِينًا وَاحِدًا لَزِمَهُمْ غُرَّةٌ وَاحِدَةٌ وَثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا أَلْقَتْهُ مَيِّتًا يَخْتَصُّ بِالْغُرَّةِ فِيهِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى ، فَأَمَّا إِنْ أَلْقَتْهُ حَيًّا وَجَبَ فِيهِ دِيَتُهُ ، وَدِيَتُهُ إِنْ كَانَ ذَكَرًا فَمِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَخَمْسُونَ مِنَ الْإِبِلِ ، فَيَسْتَوِي فِي سُقُوطِهِ مَيِّتًا حُكْمُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، وَيَفْتَرِقُ فِي سُقُوطِهِ حَيًّا حُكْمُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، وَسُمِّي جَنِينًا لِأَنَّهُ قَدْ أَجَنَّهُ بَطْنُ أُمِّهِ أَيْ سَتَرَهُ ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ أَجَنَّهُ اللَّيْلُ إِذَا سَتَرَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ [ النَّجْمِ : 32 ] .

مَسْأَلَةٌ حَدِّ الْجَنِينِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَأَقَلُّ مَا يَكُونُ بِهِ جَنِينًا أَنْ يُفَارِقَ الْمُضْغَةَ وَالْعَلَقَةَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ آدَمِيٍّ إِصْبَعٍ أَوْ ظُفْرٍ أَوْ عَيْنٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّ الْجَنِينِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَمَالِكٍ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ . أَنَّ فِي أَقَلِّ الْحَبَلِ غُرَّةً . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ فِيهِ مَا لَمْ يَبِنْ خَلْقُهُ حُكُومَةً ، فَإِذَا بَانَ خَلْقُهُ فَفِيهِ غُرَّةٌ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ إِذَا لَمْ يَبِنْ خَلْقُهُ ، فَإِذَا بَانَ خَلْقُهُ عَلَى مَا سَنَصِفُهُ فَفِيهِ غُرَّةٌ فَصَارَ الْخِلَافُ فِيمَا لَمْ يَبِنْ خَلْقُهُ ، فَعِنْدَ مَالِكٍ فِيهِ غُرَّةٌ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ حُكُومَةٌ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا شَيْءَ فِيهِ . وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ عَلَى وُجُوبِ الْغُرَّةِ فِيهِ : بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقَعُ الْفَرْقُ فِي الْوَلَدِ الْحَيِّ بَيْنَ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ وَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ الْفَرْقُ فِي الْحَمْلِ بَيْنَ مَبَادِئِهِ وَكَمَالِهِ فِي وُجُوبِ الْغُرَّةِ . وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ فِي الْجَنِينِ دُونَ مَا فِي الْوَلَدِ الْحَيِّ وَلَمْ يَكُنْ

هَدَرًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيمَا دُونَ الْجَنِينِ أَقَلُّ مِمَّا فِي الْجَنِينِ وَلَا يَكُونُ هَدَرًا ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنْ لَا شَيْءَ فِيهِ بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ وُجُوبَ الْغُرْمِ لِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ وَلَيْسَ لَهُ قَبْلَ بَيَانِ خَلْقِهِ حُرْمَةٌ فَكَانَ هَذَا كَالنُّطْفَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ حَيَاةَ الْإِنْسَانِ بَيْنَ حَالَتَيْنِ بَيْنَ مَبَادِئِ خَلْقِهِ وَبَيْنَ غَايَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ حَالَتَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ هَدَرًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْأُولَى مِنْ حَالَتَيْهِ قَبْلَ بَيَانِ الْخَلْقِ هَدَرًا ، وَفِي هَذَيْنِ دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ .

فَصْلٌ الأحكام التي تَتَعَلَّق بِالْجَنِينِ

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَالَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْجَنِينِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : وُجُوبُ الْغُرَّةِ . وَالثَّانِي : أَنْ تَصِيرَ بِهِ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ . وَالثَّالِثُ : أَنْ تَنْقَضِيَ بِهِ الْعُدَّةُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى حَالَ الْإِنْسَانِ فِي مَبَادِئِ خَلْقِهِ إِلَى اسْتِكْمَالِهِ فَقَالَ تَعَالَى : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ [ الْمُؤْمِنُونَ : 12 ] . وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ آدَمَ وَحْدَهُ اسْتُلَّ مِنْ طِينٍ وَهُوَ الْمَخْصُوصُ بِخَلْقِهِ مِنْهُ ، قَالَهُ قَتَادَةُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ كُلَّ إِنْسَانٍ ، لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى آدَمَ الَّذِي خُلِقَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَفِي السُّلَالَةِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا الصَّفْوَةُ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا الْقَلِيلُ الَّذِي يَنْسَلُّ . ثُمَّ ذَكَرَ حَالَةً ثَانِيَةً فِي الْوَلَدِ فَقَالَ تَعَالَى ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ [ الْمُؤْمِنُونَ : 13 ] يَعْنِي بِهِ ذُرِّيَّةَ آدَمَ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ تَنَاسُلِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ طِينٍ وَلَمْ يُخْلَقْ مِنْ نُطْفَةِ التَّنَاسُلِ ، وَالنُّطْفَةُ هِيَ مَاءُ الذَّكَرِ الَّذِي يُعَلَّقُ مِنْهُ الْوَلَدُ وَهُوَ أَوَّلُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : فِي قَرَارٍ يَعْنِي بِهِ الرَّحِمَ مَكِينٍ لِاسْتِقْرَارِهِ فِيهِ ، فَصَارَتِ النُّطْفَةُ فِي أَوَّلِ مَبَادِئَ خَلْقِهِ كَالْغَرْسِ ، وَالرَّحِمُ فِي إِنْشَائِهِ كَالْأَرْضِ .

ثُمَّ ذَكَرَ حَالَةً ثَالِثَةً هِيَ لِلْوَلَدِ ثَانِيَةٌ فَقَالَ تَعَالَى : ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً [ الْمُؤْمِنُونَ : 14 ] وَالْعَلَقَةُ هِيَ الدَّمُ الطَّرِيُّ الَّذِي انْتَقَلَتِ النُّطْفَةُ إِلَيْهِ حَتَّى صَارَتْ عَلَقَةً ، وَسُمِّيَتْ عَلَقَةً لِأَنَّهَا أَوَّلُ أَحْوَالِ الْعُلُوقِ ، وَالْعَلَقَةُ فِي حُكْمِ النُّطْفَةِ فِي أَنَّهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ لَهَا حُرْمَةٌ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا شَيْءٌ مِنَ الْأَحْكَامِ الثَّلَاثَةِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ فَلَا تَجِبُ فِيهَا غُرَّةٌ ، وَلَا تَصِيرُ بِهَا أُمَّ وَلَدٍ ، وَلَا تَنْقَضِي بِهَا الْعِدَّةُ . ثُمَّ ذَكَرَ حَالَةً رَابِعَةً هِيَ لِلْوَلَدِ ثَالِثَةٌ فَقَالَ تَعَالَى : فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً [ الْمُؤْمِنُونَ : 14 ] وَالْمُضْغَةُ اللَّحْمُ ، وَهُوَ أَوَّلُ أَحْوَالِ الْجِسْمِ ، سُمِّيَتْ مُضْغَةً ، لِأَنَّهَا بِقَدْرِ مَا يُمْضَغُ مِنَ اللَّحْمِ ، وَهُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ فِيهِ الْخِلَافُ فَأَوْجَبَ فِيهِ مَالِكٌ غُرَّةً ، وَأَوْجَبَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ حُكُومَةً ، وَلَمْ يُوجِبْ فِيهِ الشَّافِعِيُّ شَيْئًا ، وَلَا تَصِيرُ بِهِ عَلَى قَوْلِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَفِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ لِمَا فِيهِ مِنِ اسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ . وَالثَّانِي : لَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ كَمَا لَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَلَا تَجِبْ فِيهِ الْغُرَّةُ . ثُمَّ ذَكَرَ حَالَةً خَامِسَةً وَهِيَ لِلْوَلَدِ رَابِعَةٌ قَالَ تَعَالَى : فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا [ الْمُؤْمِنُونَ : 14 ] فَاحْتَمَلَ خَلْقُ الْعَظْمِ وَاللَّحْمُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ قَدْ خَلَقَ عَظْمًا كَسَاهُ لَحْمًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِي حَالَتَيْنِ خَلَقَ فِي إِحْدَاهُمَا عَظْمًا ثُمَّ كَسَاهُ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْعَظْمِ لَحْمًا فَيَكُونُ اللَّحْمُ حَالَةً سَادِسَةً هِيَ لِلْوَلَدِ خَامِسَةٌ . ثُمَّ ذَكَرَ حَالَةً سَابِعَةً هِيَ لِلْوَلَدِ سَادِسَةٌ فَقَالَ تَعَالَى : ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ [ الْمُؤْمِنُونَ : 14 ] وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ نَفْخُ الرُّوحِ فِيهِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ تَمَيَّزَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى قَالَهُ الْحَسَنُ ، وَمَحْصُولُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ يَرْجِعُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : مُضْغَةٍ وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا . فَأَمَّا الْمُضْغَةُ وَمَا قَبْلَهَا فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ ، وَقُلْنَا : إِنَّ مَا قَبْلَ الْمُضْغَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَحْكَامِ الثَّلَاثَةِ ، وَإِنَّ الْمُضْغَةَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مَا سِوَى الْغُرَّةِ وَفِي الْعِدَّةِ قَوْلَانِ : وَأَمَّا مَا بَعْدَ الْمُضْغَةِ فَتَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ وَمَا وَجَبَتْ فِيهِ الْغُرَّةُ مِنْ ذَلِكَ صَارَتْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ ، وَالْغُرَّةُ فِيهِ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ بَعْدَ الْمُضْغَةِ وَلَهُ بَعْدَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ لَا يَبِينَ فِيهِ صُورَةٌ وَلَا تَخْطِيطُ الصُّوَرِ فَلَا تَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110