كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

الْإِسْلَامِ : لَا يُرْفَعُ إِلَيَّ نِكَاحُ نَشْوَانَ إِلَّا أَجَزْتُهُ ، ثُمَّ إِنَّ خَدِيجَةَ كَفَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمُورَ دُنْيَاهُ ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ اللُّطْفِ ، وَوَلَدَتْ لَهُ جَمِيعَ أَوْلَادِهِ إِلَّا " إِبْرَاهِيمَ " فَكَانَ لَهُ مِنْهَا مِنَ الْبَنِينَ " الْقَاسِمُ " وَبِهِ كَانَ يُكْنَى ، وَالطَّاهِرُ ، وَالطَّيِّبُ ، وَمِنَ الْبَنَاتِ " زَيْنَبُ " وَ " رُقَيَّةُ " وَ " أُمُّ كُلْثُومٍ " وَ " فَاطِمَةُ " ، فَمَاتَ الْبَنُونَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ ، وَعَاشَ الْبَنَاتُ بَعْدَهَا ، ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا تَشَاوَرَتْ فِي هَدْمِ الْكَعْبَةِ وَبِنَائِهَا ؛ لِقِصَرِ سُمْكِهَا وَكَانَ فَوْقَ الْقَامَةِ ، وَسِعَةِ حِيطَانِهَا ، وَأَرَادُوا تَعْلِيَتَهَا ، وَخَافُوا مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى هَدْمِهَا ، وَكَانَ يَظْهَرُ فِيهَا حَيَّةٌ يَخَافُ النَّاسُ مِنْهَا ، فَعَلَتْ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ ، فَسَقَطَ طَائِرٌ فَاخْتَطَفَهَا ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ : إِنَّا لَنَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ رَضِيَ مَا أَرَدْنَا ، وَكَانَ الْبَحْرُ قَدْ أَلْقَى سَفِينَةً عَلَى سَاحِلِ " جُدَّةَ " لِرَجُلٍ مِنْ تُجَّارِ الرُّومِ ، فَهَدَمُوا الْكَعْبَةَ ، وَبَنَوْهَا وَأَسْقَفُوهَا بِخَشَبِ السَّفِينَةِ ، وَذَلِكَ بَعْدَ عَامِ الْفُجَّارِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْنُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً ، فَلَمَّا أَرَادُوا وَضْعَ الْحَجَرَ فِي الرُّكْنِ ، تَنَازَعَتْ فِيهِ قَبَائِلُ قُرَيْشٍ ، وَطَلَبَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ أَنْ تَتَوَلَّى وَضْعَهُ ، فَقَالَ أَبُو أُمَيَّةَ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، وَكَانَ أَسَنَّ قُرَيْشٍ كُلِّهَا حِينَ خَافَ أَنْ يَقْتَتِلُوا عَلَيْهِ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، تَقَاضُوا إِلَى أَوَّلِ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ بَابِ هَذَا الْمَسْجِدِ ، فَكَانَ أَوَّلَ دَاخِلٍ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا : هَذَا " مُحَمَّدٌ " وَهُوَ الْأَمِينُ وَكَانَ يُسَمَّى قَبْلَ النُّبُوَّةِ " الْأَمِينَ " لِأَمَانَتِهِ وَعِفَّتِهِ ، وَصِدْقِهِ ، وَقَالُوا : قَدْ رَضِينَا بِهِ ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِمْ أَخْبَرُوهُ فَقَالَ : ائْتُونِي ثَوْبًا ، فَأَتَوْهُ بِثَوْبٍ فَأَخَذَ الْحَجَرَ وَوَضَعَهُ فِيهِ بِيَدِهِ ، وَقَالَ : لِتَأْخُذْ كُلُّ قَبِيلَةٍ بِنَاحِيَةٍ مِنَ الثَّوْبِ ، وَارْفَعُوهُ جَمِيعًا فَفَعَلُوا ، فَلَمَّا بَلَغَ الْحَجَرُ إِلَى مَوْضِعِهِ وَضَعَهُ فِيهِ بِيَدِهِ ، فَكَانَ هَذَا الْفِعْلُ مِنْهُمْ وَوُقُوعُ الِاخْتِيَارِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِهِمْ مِنَ الْأَمَارَاتِ مَا يُحَدِّدُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ دِينِهِ ، وَشَوَاهِدَ مَا يُؤْتِيهِ مِنْ نُبُوَّتِهِ .

فَصْلٌ : ثُمَّ لَمَّا تَقَارَبَ زَمَانُ نُبُوَّتِهِ انْتَشَرَ فِي الْأُمَمِ أَنَّ اللَّهَ سَيَبْعَثُ نَبِيًّا فِي هَذَا الزَّمَانِ ، وَأَنَّ ظُهُورَهُ قَدْ آنَ ، فَكَانَتْ كُلُّ أُمَّةٍ لَهَا كِتَابٌ تَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِهَا ، وَكُلُّ أُمَّةٍ لَا كِتَابَ لَهَا تَرَى مِنَ الْآيَاتِ الْمُنْذِرَةِ مَا تَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِعُقُولِهَا ، فَحُكِيَ أَنَّهُ كَانَ لِقُرَيْشٍ عِيدٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، يَنْفَرِدُ فِيهِ النِّسَاءُ عَنِ الرِّجَالِ ، فَاجْتَمَعْنَ فِيهِ ، فَوَقَفَ عَلَيْهِنَّ يَهُودِيٌّ وَفِيهِنَّ " خَدِيجَةُ " فَقَالَ لَهُنَّ : يَا مَعْشَرَ نِسَاءِ قُرَيْشٍ يُوشِكُ أَنْ يُبْعَثَ فِيكُنَّ نَبِيٌّ ، فَأَيَّتُكُنَّ اسْتَطَاعَتْ أَنْ تَكُونَ لَهُ أَرْضًا فَلْتَفْعَلْ ، فَوَقَرَ ذَلِكَ فِي نَفْسِ خَدِيجَةَ . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : كُنْتُ عِنْدَ وَثَنٍ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، وَقَدْ ذَبَحَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ عِجْلًا ، وَنَحْنُ نَنْظُرُ إِلَيْهِ لِيُقَسِّمَ لَنَا مِنْهُ إِذْ سَمِعْتُ مِنْ جَوْفِ الْعِجْلِ صَوْتًا ، مَا سَمِعْتُ صَوْتًا قَطُّ أَنْفَذَ مِنْهُ ، وَذَلِكَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِشَهْرٍ ، أَوْ شَيْعِهِ ، يَقُولُ : يَا آلَ ذَرِيحٍ ، أَمْرٌ نَجِيحٌ ، وَرَجُلٌ يَصِيحُ ، يَقُولُ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ .

وَرُوِيَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ : كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ صَنَمٍ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَهْرٍ ، فَنَحَرْنَا جَزُورًا ، فَسَمِعْنَا صَائِحًا يَصِيحُ : اسْمَعُوا إِلَى الْعَجَبِ ذَهَبَ اسْتِرَاقُ الْوَحْيِ لِنَبِيٍّ بِمَكَّةَ اسْمُهُ " أَحْمَدُ " مُهَاجِرٌ إِلَى يَثْرِبَ . وَمِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ يَطُولُ بِهِ الْكِتَابُ ، فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الْخَارِجَةَ عَنِ الْعَادَاتِ تَوْطِئَةً لِلنُّبُوَّةِ ، وَقَبُولِ رِسَالَتِهِ .

فَصْلٌ : وَلَمَّا دَنَا مَبْعَثُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلْوَةُ فِي غَارِ حِرَاءٍ ، فَكَانَ يُؤْتَى بِطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ فَيَأْكُلُ مِنْهُ ، وَيُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ ، حَتَّى ظَهَرَتْ عَلَامَاتُ نُبُوَّتِهِ وَاخْتُلِفَ فِيهَا ، فَحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ ، وَدَاوُدَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَرَنَ إِسْرَافِيلَ بِنُبُوَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةَ سِنِينَ ، يَسْمَعُ حِسَّهُ وَلَا يَرَى شَخْصَهُ ، وَيُعَلِّمُهُ الشَّيْءَ بَعْدَ الشَّيْءِ ، وَلَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ ، فَلَمَّا مَضَتْ ثَلَاثَةُ سِنِينَ قَرَنَ لِنُبُوَّتِهِ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَنَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ . وَرَوَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَوَّلِ نُبُوَّتِهِ فَقَالَ : " يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَانِي مَلَكَانِ وَأَنَا بِبَطْحَاءِ مَكَّةَ ، فَوَقَعَ أَحَدُهُمَا فِي الْأَرْضِ ، وَالْآخَرُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لَصَاحِبِهِ أَهْوَ هُوَ ؟ قَالَ : هُوَ هُوَ ، قَالَ : فَزِنْهُ بِرَجُلٍ مِنْ أُمَّتِهِ فَوُزِنْتُ بِرَجُلٍ فَرَجَحْتُهُ ، ثُمَّ قَالَ : زِنْهُ بِعَشَرَةٍ ، فَوُزِنْتُ بِعَشَرَةٍ فَوَزَنْتُهُمْ ، ثُمَّ قَالَ : زِنْهُ بِمِائَةٍ ، فَوَزَنَنِي بِمِائَةِ فَرَجَحْتُهُمْ ، ثُمَّ قَالَ : زِنْهُ بِأَلْفٍ فَوَزَنَنِي فَرُجَحَتْهُمْ ، فَجَعَلُوا يَنْتَشِرُونَ عَلَيَّ مِنْ كِفَّةِ الْمِيزَانِ قَالَ : فَقَالَ : أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ : لَوْ وَزَنْتَهُ بِأُمَّتِهِ لَرَجَحَهَا ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : شُقَّ بَطْنَهُ ، فَشَقَّ بَطْنِي ، ثُمَّ قَالَ : شُقَّ قَلْبَهُ فَشَقَّ قَلْبِي ، فَأَخْرَجَ مِنْهُ مَغْمَزَ الشَّيْطَانِ ، وَعَلَقَ الدَّمِ ، ثُمَّ قَالَ : اغْسِلْ بَطْنَهُ غَسْلَ الْإِنَاءِ ، وَاغْسِلْ قَلْبَهُ غَسْلَ الْمُلَاءَةِ ، ثُمَّ دُعِيَ بِالسِّكِّينَةِ كَأَنَّهَا وَجْهُ هِرَّةٍ ، فَأُدْخِلَتْ قَلْبِي ، ثُمَّ قَالَ : خِطْ بَطْنَهُ ، فَخَاطَا بَطْنِي وَجَعْلَا الْخَاتَمَ بَيْنَ كَتِفَيَّ فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ وَلَيَّا عَنِّي ، فَكَأَنَّمَا أُعَايِنُ الْأَمْرَ مُعَايَنَةً . فَكَانَ هَذَا مُقَدِّمَةَ نُبُوَّتِهِ ، وَهَذَا قَوْلٌ ثَانٍ . وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : أَوَّلُ مَا ابْتُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ من الوحي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ تَجِيءُ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ .

فَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ أَنَّهُ قَالَ : فَغَتَّنِي غَتَّةً وَقَالَ : اقْرَأْ قُلْتُ وَمَا أَقْرَأُ ؟ قَالَ : فَغَتَّنِي ثَانِيَةً ، وَقَالَ : اقْرَأْ . قُلْتُ : وَمَا أَقْرَأُ ؟ قَالَ : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ إِلَى قَوْلِهِ : عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [ الْعَلَقِ : 1 ، 2 ] . وَهَذَا قَوْلٌ ثَالِثٌ ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ تَعَارُضٌ يَمْنَعُ بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ فِي اجْتِمَاعٍ وَانْفِرَادٍ . وَلَمَّا عَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حِرَاءٍ ، وَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ وَحَدَّثَهَا مَا كَانَ ، وَقَالَ لَهَا : إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَضَ لِي ، فَقَالَتْ : كَلَّا مَا كَانَ رَبُّكَ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِكَ ، وَأَتَتْ خَدِيجَةُ إِلَى " وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ " وَكَانَ ابْنَ عَمِّهَا ، وَخَرَجَ فِي طَلَبِ الدِّينِ وَتَنَصَّرَ وَقَرَأَ التَّوْرَاةَ ، وَالْإِنْجِيلَ ، وَسَمِعَ مَا فِي الْكُتُبِ ، فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : هَذَا هُوَ النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى ، وَلَئِنْ كُنْتِ صَادِقَةً فَإِنَّ زَوْجَكِ مُحَمَّدًا نَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، وَلَيَلْقَيَنَّ مِنْ أُمَّتِهِ شِدَّةً : فَإِنَّهُ مَا بُعِثَ نَبِيٌّ إِلَّا عُودِيَ ، وَلَئِنْ عِشْتُ لَهُ لَأُؤْمِنَنَّ بِهِ ، وَلَأَنْصُرَنَّهُ نَصْرًا مُؤَزَّرًا . فَكَانَتْ هَذِهِ الْحَالَ الثَّانِيَةَ مِنْ أَحْوَالِ نُبُوَّتِهِ ، وَلَمْ يُؤْمَرْ فِيهَا بِإِنْذَارٍ ، وَلَا رِسَالَةٍ . ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا عَادَ إِلَى مَنْزِلِهِ قَالَ لِخَدِيجَةَ : دَثِّرُونِي وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا ، فَدَثَّرُوهُ ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ ، وَأَنَا جِبْرِيلُ ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ : يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ إِلَى قَوْلِهِ : وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [ الْمُدَّثِّرِ ] فَكَانَتْ هَذِهِ الْحَالَ الثَّالِثَةَ الَّتِي تَمَّتْ بِهَا نُبُوَّتُهُ ، وَتَحَقَّقَتْ بِهَا رِسَالَتُهُ ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ ، وَفِي قَوْلِ فَرِيقٍ : ابْنُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ . قَالَ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ : أَوَّلُ مَا تَلَقَّاهُ جِبْرِيلُ لَيْلَةَ السَّبْتِ وَلَيْلَةَ الْأَحَدِ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ بِرِسَالَةِ اللَّهِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ . وَرَوَى أَبُو قَتَادَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَقَالَ : ذَلِكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَأُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ النُّبُوَّةُ . وَاخْتَلَفُوا فِي أَيِّ اثْنَيْنٍ كَانَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ . فَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ : كَانَ فِي الثَّانِي عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَقَالَ أَبُو الْخُلْدِ : كَانَ فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ .

ثُمَّ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَدِيجَةَ بِمَا نَزَلَ عَلَيْهِ فَقَالَتْ لَهُ : يَا ابْنَ عَمِّ ، هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُخْبِرَنِي بِصَاحِبِكَ هَذَا الَّذِي أَتَاكَ إِذَا جَاءَكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَتْ : فَأَخْبِرْنِي بِهِ إِذَا جَاءَكَ ، فَجَاءَ لَهُ جِبْرِيلُ ، فَقَالَ لَهَا : يَا خَدِيجَةُ هَذَا جِبْرِيلُ قَدْ جَاءَنِي . قَالَتْ : قُمْ فَاجْلِسْ عَلَى فَخْذِي الْيُسْرَى : فَجَلَسَ عَلَيْهَا ، فَقَالَتْ : هَلْ تَرَاهُ ؟ قَالَ نَعَمْ . قَالَتْ : تَحَوَّلْ إِلَى فَخْذِي الْيُمْنَى ، فَتَحَوَّلَ إِلَيْهَا ، فَقَالَتْ : هَلْ تَرَاهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَتْ : فَتَحَوَّلْ فِي حِجْرِي ، فَتَحَوَّلَ فِي حِجْرِهَا فَقَالَتْ هَلْ تَرَاهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَتَحَسَّرَتْ ، وَأَلْقَتْ خِمَارَهَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي حِجْرِهَا ، فَقَالَتْ هَلْ تَرَاهُ ؟ قَالَ لَا . فَقَالَتْ : يَا ابْنَ عَمِّ اثْبُتْ ، وَأَبْشِرْ ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَلَكٌ ، وَمَا هُوَ بِشَيْطَانٍ ، وَآمَنَتْ بِهِ ، فَكَانَتْ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ .

فَصْلٌ : ثُمَّ رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ فَهَمَزَ لَهُ بِعَقِبِهِ فِي نَاحِيَةِ الْوَادِي ، فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ عَيْنٌ فَتَوَضَّأَ جِبْرِيلُ مِنْهَا : لِيُرِيَهُ كَيْفَ الطُّهُورُ ، فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ مَا تَوَضَّأَ ، ثُمَّ قَامَ جِبْرِيلُ فَصَلَّى ، وَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَلَاتِهِ ، فَكَانَتْ هَذِهِ أَوَّلَ عِبَادَةٍ فُرِضَتْ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم . ثُمَّ انْصَرَفَ جِبْرِيلُ ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى خَدِيجَةَ ، فَتَوَضَّأَ لَهَا حَتَّى تَوَضَّأَتْ وَصَلَّى بِهَا كَمَا صَلَّى بِهِ جِبْرِيلُ ، فَكَانَتْ أَوَّلَ مَنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى بَعْدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْتَسَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِنْذَارِ مَنْ يَأْمَنُهُ . فَاخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ خَدِيجَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الذُّكُورِ وَصَلَّى ، وَهُوَ ابْنُ تِسْعِ سِنِينَ ، وَقِيلَ : ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ ، وَهَذَا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ . وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ أَوَّلِ النَّاسِ إِسْلَامًا فَقَالَ : أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ : إِذَا تَذَكَّرْتَ شَجْوًا مِنْ أَخِي ثِقَةٍ فَاذْكُرْ أَخَاكَ أَبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ أَتْقَاهَا وَأَعْدَلَهَا بَعْدَ النَبِيِّ وَأَوْفَاهَا بِمَا حَمَلَا الثَانِيَ اثْنَيْنِ وَالْمَحْمُودَ مَشْهَدُهُ وَأَوَّلَ النَاسِ مِنْهُمْ صَدَّقَ الرُسُلَا وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ ، وَهُوَ قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ . وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَدْعُو إِلَى الْإِسْلَامِ مَنْ وَثِقَ بِهِ : لِأَنَّهُ كَانَ تَاجِرًا ذَا خُلُقٍ ، وَمَعْرُوفًا ، وَكَانَ أَنْسَبَ قُرَيْشٍ لِقُرَيْشٍ ، وَأَعْلَمَهُمْ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ ، حَسَنَ التَّآلُفِ لَهُمْ ، وَكَانُوا يُكْثِرُونَ غِشْيَانَهُ ، فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ ،

وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ : فَجَاءَ بِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى اسْتَجَابُوا لَهُ بِالْإِسْلَامِ ، وَصَلَّوْا ، فَصَارُوا مَعَ مَنْ تَقَدَّمَ ثَمَانِيَةً أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَصَلَّى ، ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الِاسْتِسْرَارِ بِدُعَائِهِ مُدَّةَ ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ مَبْعَثِهِ ، وَقَدِ انْتَشَرَتْ دَعْوَتُهُ فِي قُرَيْشٍ ، إِلَى أَنْ أُمِرَ بِالدُّعَاءِ جَهْرًا الأمر بالدعوة جهرا ، وَنَزَلَ عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [ الْحِجْرِ : 94 ] . فَلَزِمَهُ الْجَهْرُ بِالدُّعَاءِ ، وَأُمِرَ أَنْ يَبْدَأَ بِإِنْذَارِ عَشِيرَتِهِ الأقربين ، فَقَالَ تَعَالَى : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ، وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ الشُّعَرَاءِ : 214 ، 215 ] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّفَا ، فَهَتَفَ : يَا صَاحِبَاهُ ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ ، حَتَّى ذَكَرَ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ ، وَقَالُوا : مَا لَكَ ؟ فَقَالَ أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ أَمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي ؟ قَالُوا : بَلَى : مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا . قَالَ : فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ : فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ : تَبًّا لَكَ ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا ثُمَّ قَامَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [ الْمَسَدِ : 1 ] . إِلَى آخِرِ السُّورَةِ . قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ : وَلَمْ يَكُنْ مِنْ قُرَيْشٍ فِي دُعَائِهِ لَهُمْ مُبَاعَدَةٌ لَهُ وَلَكِنْ رَدُّوا عَلَيْهِ بَعْضَ الرَّدِّ ، حَتَّى ذَكَرَ آلِهَتَهُمْ وَعَابَهَا ، وَسَفَّهَ أَحْلَامَهُمْ فِي عِبَادَتِهَا ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِهِ ، وَتَظَاهَرُوا بِعَدَاوَتِهِ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ بِالْإِسْلَامِ ، وَهُمْ قَلِيلٌ مُسْتَخْفُونَ ، وَحَدَبَ عَلَيْهِ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ فَمَنَعَ مِنْهُ ، وَقَامَ دُونَهُ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى رَأْيِهِمْ . فَلَمَّا طَالَ هَذَا عَلَيْهِمُ اجْتَمَعَتْ مَشْيَخَةُ قُرَيْشٍ إِلَى أَبِي طَالِبٍ وَقَالُوا : إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ قَدْ عَابَ عَلَيْنَا دِينَنَا ، وَسَبَّ آلِهَتَنَا ، وَسَفَّهَ أَحْلَامَنَا ، وَضَلَّلَ آبَاءَنَا ، فَإِمَّا أَنْ تَكُفَّهُ عَنَّا ، وَإِمَّا أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ ؛ فَإِنَّكَ عَلَى مِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِهِ ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو طَالِبٍ قَوْلًا رَفِيقًا ، وَرَدَّهُمْ رَدَّا جَمِيلًا ، وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى دُعَائِهِ ، فَلَمَّا كَبُرَ ذَلِكَ عَلَى قُرَيْشٍ ، وَاشْتَدَّ بِهِمْ ، عَادُوا إِلَى أَبِي طَالِبٍ ثَانِيَةً ، وَقَالُوا : قَدِ اسْتَنْهَيْنَاكَ ابْنَ أَخِيكَ ، وَلَمْ تَنْهَهُ وَاسْتَكْفَفْنَاكَ فَلَمْ تَكُفَّهُ ، وَأَنْتَ كَبِيرُنَا فَأَنْصِفْنَا مِنْهُ ، وَمُرْهُ أَنْ يَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا ، حَتَّى نَدَعَهُ وَإِلَهَهُ الَّذِي يَعْبُدُهُ ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَبُو طَالِبٍ ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ : يَا ابْنَ أَخِي ، هَؤُلَاءِ مَشْيَخَةُ قَوْمِكَ ، وَقَدْ سَأَلُوكَ النِّصْفَ أَنْ تَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِهِمْ ، وَيَدَعُوكَ وَإِلَهَكَ فَقَالَ : أَوَعَمِّ ، أَوَلَا أَدْعُوهُمْ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْهَا ؟ قَالَ وَإِلَى مَا تَدْعُوهُمْ ؟ قَالَ : أَدْعُوهُمْ إِلَى كَلِمَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ ، وَيَمْلِكُونَ بِهَا الْعَجَمَ ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ : مَا هِيَ وَأَبِيكَ

لَنُعْطِيَنَّكَهَا ، وَعَشْرَ أَمْثَالِهَا ، قَالَ : تَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَنَفَرُوا وَقَالُوا : لَا ، سَلْنَا غَيْرَ هَذِهِ ، فَقَالَ : لَوْ جِئْتُمُونِي بِالشَّمْسِ حَتَّى تَضَعُوهَا فِي يَدَيَّ مَا سَأَلْتُكُمْ غَيْرَهَا ؛ فَغَضِبُوا وَقَالُوا أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ، ثُمَّ قَالُوا وَاللَّهِ لَنَشْتُمَنَّكَ وَإِلَهَكَ الَّذِي يَأْمُرُكَ بِهَذَا وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ ص : 6 ، 7 ]

الْهِجْرَةُ إِلَى الْحَبَشَةِ

فَصْلٌ : [ الْهِجْرَةُ إِلَى الْحَبَشَةِ ] وَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَنَالُ أَصْحَابُهُ مِنَ الْبَلَاءِ وَمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْعَافِيَةِ بِمَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ دِفَاعِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ ، قَالَ لِأَصْحَابِهِ : لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ : فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا عَادِلًا إِلَى أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجَا فَهَاجَرَ إِلَيْهَا مَنْ خَافَ عَلَى دِينِهِ ، وَهِيَ أَوَّلُ هِجْرَةٍ هَاجَرَ إِلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ ، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ - وَذَلِكَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْمَبْعَثِ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا ، وَأَرْبَعَ نِسْوَةٍ ، مِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَامْرَأَتُهُ " رُقَيَّةُ " بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ ، وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ ، ثُمَّ خَرَجَ فِي أَثَرِهِمْ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي جَمَاعَةٍ صَارُوا مَعَ الْمُتَقَدِّمِينَ اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ نَفْسًا ، وَصَادَفُوا مِنَ النَّجَاشِيِّ مَا حَمِدُوهُ ، وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ قَبْلَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، فَجَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقُرْآنِ فِي صَلَاتِهِ حِينَ أَسْلَمَ حَمْزَةُ ، وَلَمْ يَكُنْ يَجْهَرُ قَبْلَ إِسْلَامِهِ ، وَقَوِيَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ سُورَةَ الرَّحْمَنِ عَلَى الْمَقَامِ جَهْرًا حَتَّى سَمِعَتْهَا قُرَيْشٌ ، فَنَالُوهُ بِالْأَيْدِي ، فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ مَنْ يَدْخُلُ مِنْهُمْ فِي الْإِسْلَامِ ، وَعَدُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعْطُوهُ مَالًا ، وَيُزَوِّجُوهُ مَنْ شَاءَ مِنْ نِسَائِهِمْ ، وَيَكُونُوا تَحْتَ عَقِبِهِ : وَيَكُفَّ عَنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ ، قَالُوا : فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَإِنَّا نَعْرِضُ عَلَيْكَ خَصْلَةً وَاحِدَةً لَنَا وَلَكَ فِيهَا صَلَاحٌ ، أَنْ تَعْبُدَ آلِهَتَنَا سَنَةً ، وَنَعْبُدَ إِلَهَكَ سَنَةً فَقَالَ : حَتَّى أَنْظُرَ مَا يَأْتِينِي بِهِ رَبِّي فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . [ الْكَافِرُونَ : ا - 3 ] . إِلَى آخِرِ السُّورَةِ فَكَفَّ عَنْ ذَلِكَ .

وَكَانَ يَتَمَنَّى مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُقَارِبَ قَوْمَهُ ، وَيَحْرِصُ عَلَى صَلَاحِهِمْ بِمَا وَجَدَ إِلَيْهِ السَّبِيلَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ سُورَةَ " النَّجْمِ " فَقَرَأَهَا عَلَى قُرَيْشٍ حَتَّى بَلَغَ إِلَى قَوْلِهِ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى [ النَّجْمِ : 19 - 20 ] . أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ : تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى ، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى ، وَانْتَهَى إِلَى السَّجْدَةِ فَسَجَدَ فِيهَا ، وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ اتِّبَاعًا لِأَمْرِهِ ، وَسَجَدَ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِمَا سَمِعُوهُ مِنْ مَدْحِ آلِهَتِهِمْ ، وَكَانَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ السُّجُودَ فَأَخَذَ بِيَدِهِ

حَفْنَةً مِنَ الْبَطْحَاءِ ، فَسَجَدَ عَلَيْهَا ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ مِنَ الْمَسْجِدِ مُتَقَارِبِينَ قَدْ سَرَّ الْمُشْرِكُونَ ، وَسَكَنَ الْمُسْلِمُونَ ، وَبَلَغَتِ السَّجْدَةُ مَنْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَقَالُوا : أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ : فَنَهَضَ مِنْهُمْ رِجَالٌ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَأَخَّرَ آخَرُونَ ، وَأَتَى جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، مَاذَا صَنَعْتَ ؟ لَقَدْ تَلَوْتَ عَلَى النَّاسِ مَا لَمْ آتِكَ بِهِ ، فَحَزِنَ حُزْنًا شَدِيدًا ، وَخَافَ مِنَ اللَّهِ خَوْفًا كَثِيرًا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مَا عَذَرَهُ فِيهِ ، فَقَالَ : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [ الْحَجِّ : 52 ] . وَنَسَخَ مَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ بِقَوْلِهِ : أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [ النَّجْمِ : 22 ] فَقَالَتْ قُرَيْشٌ حِينَ سَمِعُوا النَّسْخَ : نَدِمَ مُحَمَّدٌ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنْ مَدْحِ آلِهَتِنَا ، وَجَاءَ بِغَيْرِهِ فَازْدَادُوا شَرًّا وَشِدَّةً عَلَى مَنْ أَسْلَمَ ، وَقَدِمَ مَنْ عَادَ مَنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَعَرَفُوا قَبْلَ دُخُولِ مَكَّةَ مَا نُسِخَ مِنْ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ رَجَعَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنْ طَرِيقِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ دَخَلَ مَكَّةَ مُسْتَخْفِيًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ دَخَلَهَا فِي جِوَارٍ ، فَدَخَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَزَوْجَتُهُ رُقَيَّةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي جِوَارِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، وَدَخَلَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فِي جِوَارِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَدَخَلَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ سِرًّا ، وَكَانَ جَمِيعُهُمْ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ نَفْسًا ، ثُمَّ عَادُوا وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَّا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ : فَإِنَّهُ أَقَامَ حَتَّى هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ ، وَهَذِهِ هِيَ الْهِجْرَةُ الثَّانِيَةُ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ .

فَصْلٌ : وَلَمَّا اسْتَقَرَّ نُفُورُ قُرَيْشٍ بَعْدَ سُورَةِ النَّجْمِ عَادَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مُرَاسَلَةُ النَّجَاشِيِّ فِيمَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِ قريش .

وَالثَّانِي : تَحَالُفُهُمْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فِيمَنْ بَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . فَأَمَّا مُرَاسَلَةُ النَّجَاشِيِّ فَأَنْفَذُوا فِيهَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ ، وَعُمَارَةَ بْنَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ مَعَ هَدَايَا لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ : لِيُعْلِمُوهُ أَنَّ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَفْسَدُوا الْأَدْيَانَ ، وَرُبَّمَا أَفْسَدُوا دِينَكَ وَدِينَ قَوْمِكَ ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا ، فَجَمَعَ بَيْنَهُمْ ، وَفَلَحَتْ حُجَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ ، وَلَمْ يَظْفَرُوا بِطَائِلٍ ، وَعَادَ عَمْرٌو ، وَهَلَكَ عُمَارَةُ . وَأَمَّا تَحَالُفُهُمْ عَلَى النَّاسِ فَإِنَّ قُرَيْشًا أَجْمَعَتْ رَأْيَهَا ، وَتَعَاقَدَتْ عَلَى مُقَاطَعَةِ بَنِي هَاشِمٍ ، وَأَنْ لَا يُنَاكِحُوهُمْ ، وَلَا يُبَايِعُوهُمْ ، وَلَا يُسَاعِدُوهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِمْ حِينَ أَقَامَ أَبُو طَالِبٍ عَلَى نُصْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَتَبُوا مَا تَعَاقَدُوا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ فِي صَحِيفَةٍ ، وَعَلَّقُوهَا فِي سَقْفِ الْكَعْبَةِ ، فَجَمَعَ أَبُو طَالِبٍ جَمِيعَ بَنِي هَاشِمٍ ، وَبَنِي الْمُطَّلِبِ مُسْلِمَهُمْ وَكَافِرَهُمْ ، وَعَاهَدَهُمْ عَلَى إِجْمَاعِ الْكَلِمَةِ ، وَدُخُولِ الشِّعْبِ ، فَأَجَابُوا إِلَّا أَبَا لَهَبٍ وَوَلَدُهُ : فَإِنَّهُمُ انْحَازُوا عَنْهُمْ إِلَى قُرَيْشٍ ، وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الشِّعْبِ مَعَ أَبِي طَالِبٍ وَسَائِرِ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ مُدَّةَ ثَلَاثِ سِنِينَ لَا يَصِلُ إِلَيْهِمُ الطَّعَامُ إِلَّا سِرًّا ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ إِلَّا مُسْتَخْفِيًا ، إِلَى أَنْ بَدَأَ مِنْ قُرَيْشٍ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو : فَكَلَمَّ زُهَيْرَ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ ، ثُمَّ كَلَّمَ الْمُطْعِمَ بْنَ عَدِيٍّ ، ثُمَّ كَلَّمَ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ : يُقَبِّحُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ قَبِيحَ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ قَطِيعَةِ الْأَرْحَامِ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ ، فَوَافَقُوهُ وَاجْتَمَعُوا مِنْ غَدٍ فِي نَادِي قُرَيْشٍ عَلَى نَقْضِ الصَّحِيفَةِ ، وَبَدَأَ بِالْكَلَامِ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو ، فَرَدَّ عَلَيْهِ أَبُو جَهْلٍ ، فَتَكَلَّمَ زُهَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بِمِثْلِ كَلَامِ هُشَامٍ . فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ : هَذَا أَمْرٌ أُبْرِمَ بِلَيْلٍ ، وَأُحْضِرَتِ الصَّحِيفَةُ مِنْ سَقْفِ الْكَعْبَةِ ، وَقَدْ أَكَلَتْهَا الْأَرَضَةُ إِلَّا قَوْلَهُمْ : " بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ " فَإِنَّهُ بَقِيَ ، وَشُلَّتْ يَدُ كَاتِبِهَا ، وَهُوَ مَنْصُورُ بْنُ عِكْرِمَةَ ، وَخَرَجَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى مَكَّةَ مُنْتَشِرِينَ فِيهَا كَمَا كَانُوا .

فَصْلٌ : ثُمَّ لَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الشِّعْبِ عَلَى حَالِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا ، لَا يَصِلُ إِلَيْهِ مَكْرُوهٌ ، حَتَّى مَاتَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ ، وَمَاتَتْ خَدِيجَةُ فِي عَامٍ وَاحِدٍ عام الحزن ، وَذَلِكَ قَبْلَ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ ، فَنَالَهُ الْأَذَى بَعْدَ ذَلِكَ ، حَتَّى نَثَرَ بَعْضُ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ ، فَدَخَلَ بَيْتَهُ ، فَرَأَتْ إِحْدَى بَنَاتِهِ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ ، فَبَكَتْ فَقَالَ : لَا تَبْكِي فَإِنَّ اللَّهَ يَمْنَعُ أَبَاكِ . وَخَرَجَ إِلَى الطَّائِفِ خروجه صلى الله عليه وسلم لِيَمْتَنِعَ ، وَيَسْتَنْصِرَ ثَقِيفًا ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهَا عَمَدَ إِلَى سَادَاتِهَا وَهُمْ ثَلَاثَةُ أُخْوَةٍ : عَبْدُ يَالِيلَ ، وَمَسْعُودٌ ، وَحَبِيبٌ بَنُو عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ ، فَكَلَّمَهُمْ وَدَعَاهُمْ إِلَى

الْإِسْلَامِ وَإِلَى نُصْرَتِهِ فَرَدُّوهُ رَدًّا قَبِيحًا ، وَأَغْرَوْا بِهِ عَبِيدَهُمْ وَسُفَهَاءَهُمْ فَاتَّبَعُوهُ يَرْمُونَهُ بِالْأَحْجَارِ ، حَتَّى دَمِيَتْ قَدَمَاهُ فَرَجَعُوا عَنْهُ ، وَمَالَ إِلَى حَائِطٍ لِعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ فَاسْتَنَدَ إِلَيْهِ : لِيَسْتَرْوِحَ مِمَّا نَالَهُ ، فَرَآهُ عُتْبَةُ ، وَشَيْبَةُ ، فَرَقَّا لَهُ بِالرَّحِمِ مِمَّا لَقِيَ ، وَأَنْفَذَا إِلَيْهِ طَبَقَ عِنَبٍ مَعَ غُلَامٍ لَهُمَا نَصْرَانِيٍّ يُقَالُ لَهُ " عَدَّاسٌ " فَلَمَّا مَدَّ يَدَهُ لِيَأْكُلَ مِنْهُ سَمَّى اللَّهَ ، فَاسْتَخْبَرَهُ " عَدَّاسٌ " عَنْ أَمْرِهِ ، فَأَخْبَرَهُ وَعَرَفَ نُبُوَّتَهُ ، فَقَبَّلَ يَدَيْهِ ، وَقَدَمَيْهِ ، فَلَمَّا عَادَ " عَدَّاسٌ " إِلَى عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ، فَقَالَا لَهُ : رَأَيْنَاكَ فَعَلْتَ مَعَهُ مَا لَمْ تَفْعَلْهُ مَعَنَا ؟ قَالَ : لِأَنَّهُ نَبِيٌّ ، فَقَالَا : فَتَنَكَ عَنْ دِينِكَ ، ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرِيدُ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا صَارَ بِنَخْلَةِ الْيَمَامَةِ فَقَامَ فِي اللَّيْلِ يُصَلِّي ، وَيَقْرَأُ ، فَمَرَّ بِهِ سَبْعَةُ نَفَرٍ مِنَ الْجِنِّ قِيلَ : إِنَّهُمْ مِنْ جِنِّ نَصِيبِينَ الْيَمَنِ فَاسْتَمَعُوا لَهُ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ، قَدْ آمَنُوا وَأَجَابُوا إِلَى مَا سَمِعُوا ، فَكَانَ مَا قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [ الْأَحْقَافِ : 29 ] . وَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ وَقُرَيْشٌ عَلَى أَشَدِّ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِهِ ، وَفِرَاقِ دِينِهِ . وَقِيلَ : إِنَّهُ دَخَلَ فِي جِوَارِ الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ .

فَصْلٌ : فَلَمَّا اشْتَدَّ الْأَذَى بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ عَادَ مِنَ الطَّائِفِ غَيْرَ ظَافِرٍ مِنْهُمْ بِإِجَابَةٍ ، عَرَضَ نَفْسَهُ فِي الْمَوَاسِمِ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فَبَدَأَ بِكِنْدَةَ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ ، وَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَقْبَلُوهُ ، ثُمَّ أَتَى كَلْبًا ، فَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى بَنِي عَبْدِ اللَّهِ مِنْهُمْ ، فَلَمْ يَقْبَلُوهُ ، ثُمَّ عَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى بَنِي حَنِيفَةَ ، فَكَانُوا أَقْبَحَ الْعَرَبِ رَدًّا لَهُ . ثُمَّ عَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى بَنِي عَامِرٍ ، فَقَالَ زَعِيمُهُمْ : إِنْ شَارَكَتْنَا فِي هَذَا الْأَمْرِ قَبِلْنَاكَ : فَتَرَكَهُمْ ، وَقَالَ : الْأَمْرُ لِلَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ . ثُمَّ حَضَرَ الْمَوْسِمَ سِتَّةُ نَفَرٍ مِنَ الْخَزْرَجِ ، وَهُمْ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، وَعَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرٍ فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ ، فَأَجَابُوا إِلَيْهِ ، وَكَانُوا قَدْ سَمِعُوا يَهُودَ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ إِذَا قَاتَلُوهُمْ : لَنَا نَبِيٌّ يُبْعَثُ ، وَنَحْنُ نَنْتَصِرُ بِهِ عَلَيْكُمْ ، فَوَقَرَ ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ لِمَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ : فَلِذَلِكَ سَارَعُوا إِلَى الْإِجَابَةِ قِي دُعَائِهِ وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ ، فَقَالُوا : نَقْدَمُ عَلَى قَوْمِنَا ، وَنُخْبِرُهُمْ بِمَا دَخَلْنَا فِيهِ ، فَلَمَّا عَادُوا وَذَكَرُوا لَهُمْ مَا دَخَلُوا فِيهِ مِنَ الْإِسْلَامِ ، فَلَمْ تَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إِلَّا وَفِيهَا ذِكْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَافَى إِلَى الْمَوْسِمِ مِنَ الْأَنْصَارِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنْهُمْ تِسْعَةٌ مِنَ الْخَزْرَجِ ، وَهُمْ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ ،

وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ ، وَعَوْفٌ وَمُعَاذٌ ابْنَا عَفْرَاءَ ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ ، وَذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ ، وَيَزِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرٍ ، وَثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَوْسِ وَهُمْ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ ، وَعُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ ، وَالْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ فَلَقَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعَقَبَةِ الْأُولَى بيعة وَكَانَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ ، فَبَايَعُوهُ عَلَى الْإِسْلَامِ بَيْعَةَ النِّسَاءِ نص بيعة العقبة الأولى وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الْحَرْبُ ، قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَذَلِكَ عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا نَسْرِقَ ، وَلَا نَزْنِيَ ، وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا ، وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِيهِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا وَلَا نَعْصِيهِ فِي مَعْرُوفٍ ، فَإِنْ وَفَّيْتُمْ فَلَكُمُ الْجَنَّةُ : وَإِنْ غَشَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَأُخِذْتُمْ بَعْدَهُ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ، وَإِنْ سَتَرْتُمْ عَلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَأَمْرُكُمْ إِلَى اللَّهِ . فَلَمَّا انْصَرَفُوا بَعَثَ مَعَهُمْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقْرِئَهُمُ الْقُرْآنَ وَيُعَلِّمَهُمُ الْإِسْلَامَ ، وَيُفَقِّهَهُمْ فِي الدِّينِ ، فَقَدِمَ مَعَهُمْ وَنَزَلَ عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ ، وَدَعَا الْأَنْصَارَ إِلَى الْإِسْلَامِ ، فَكَانَ يُسْلِمُ عَلَى يَدِهِ قَوْمٌ بَعْدَ قَوْمٍ ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ ، وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ - وَهُمَّا سَيِّدَا قَوْمِهِمَا بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ - أَنْكَرَا ذَلِكَ حَتَّى قَرَأَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ عَلَيْهِمَا سُورَةَ الزُّخْرُفِ ، فَلَمَّا سَمِعَاهَا أَسْلَمَا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ ، وَجَمِيعُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، وَكَانُوا أَوَّلَ قَوْمٍ أَسْلَمَ جَمِيعُهُمْ ، وَصَلَّى مُصْعَبٌ بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ فِي حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ ، وَهِيَ أَوَّلُ جُمُعَةٍ صُلِّيَتْ فِي الْإِسْلَامِ ، وَعَادَ مُصْعَبٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِمَكَّةَ ، فَذَكَرَ لَهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَسَرَّهُ . وَحَكَى أَبُو عِيسَى قَالَ : سَمِعَتْ قُرَيْشٌ فِي اللَّيْلِ قَائِلًا عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ يَقُولُ : فَإِنْ يُسْلِمِ السَّعْدَانِ يُصْبِحُ مُحَمَّدٌ بِمَكَّةَ لَا يَخْشَى خِلَافَ الْمُخَالِفِ فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : مَنِ السَعْدَانِ ؟ سَعْدُ بَكْرٍ ، وَسَعْدُ تَمِيمٍ . فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ سَمِعُوهُ يَقُولُ : أَيَا سَعْدَ الْأَوْسِ كُنْ أَنْتَ نَاصِرًا وَيَا سَعْدُ سَعْدَ الْخَزْرَجِينَ الْغَطَارِفِ أَجِيبَا عَلَى دَاعِي الْهُدَى وَتَمَنَّيَا عَلَى اللَّهِ فِي الْفِرْدَوْسِ مُنْيَةَ عَارِفِ فَإِنَّ ثَوَابَ اللَّهِ لِلطَالِبِ الْهُدَى جِنَانٌ مِنَ الْفِرْدَوْسِ ذَاتُ رَفَارِفِ فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَالَ أَبُو سُفْيَانُ : هُمَا وَاللَّهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ .

فَصْلٌ : وَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ حَجَّ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ سَبْعُونَ رَجُلًا ، وَكَانَ فِيهِمُ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ ، فَصَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ حِينَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ : لَا أَتْرُكُهَا وَرَاءَ ظَهْرِي . ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْهَا فَقَالَ لَهُ : قَدْ كُنْتَ عَلَى قِبْلَةٍ لَوْ صَبَرْتَ عَلَيْهَا فَعَادَ وَاسْتَقْبَلَ

بَيْتَ الْمَقْدِسِ ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَقْبَلَ الْكَعْبَةَ ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ ، وَوَاعَدُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَقَبَةَ فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَيَأْتُوا تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي رِحَالِهِمْ ، ثُمَّ خَرَجُوا مِنْهَا بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ لِمَوْعِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَضَرُوا شِعْبَ الْعَقَبَةِ ، وَوَافَى رَسُولُ اللَّهِ وَمَعَهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ ، فَأَوْقَفَ الْعَبَّاسَ عَلَى فَمِ الشِّعْبِ عَيْنًا لَهُ ، وَأَوْقَفَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى فَمِ الطَّرِيقِ الْآخَرِ عَيْنًا لَهُ ، وَتَلَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقُرْآنَ ، وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمُوا جَمِيعًا ، وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَسْلَمَ ، ثُمَّ قَالَ لِلْعَبَّاسِ وَهُوَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ : خُذْ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ وَكَانُوا أَخْوَالَهُ ؛ لِأَنَّ أُمَّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ كَانَتْ سَلْمَى بِنْتَ عَمْرٍو مِنْ بَنِي النَّجَّارِ مِنَ الْخَزْرَجِ ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ : يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ إِنَّ مُحَمَّدًا مِنَّا فِي عِزٍّ مِنْ قَوْمِهِ ، وَمَنَعَةٍ فِي بَلَدِهِ وَقَدْ أَبَى إِلَّا الِانْقِطَاعَ إِلَيْكُمْ ، وَاللُّحُوقَ بِكُمْ : فَإِنْ مَنَعْتُمُوهُ مِمَّا تَمْنَعُوا مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ ، وَإِلَّا فَدَعُوهُ بَيْنَ قَوْمِهِ ، وَفِي بَلَدِهِ ، فَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ : بَلْ نَمْنَعُهُ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَنْفُسَنَا وَأَبْنَاءَنَا ، فَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّاسِ حِبَالًا يَعْنِي الْيَهُودَ وَإِنَّا قَاطُعُوهَا ، فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ نَحْنُ فَعَلْنَا ذَلِكَ ، ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللَّهُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ وَتَدَعَنَا ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَالَ : لَا بَلِ الدَّمَ الدَّمَ ، وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ أَنْتُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْكُمْ أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ ، وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ . فَأَقْبَلَ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ عَلَى الْأَنْصَارِ ، وَقَالَ : يَا قَوْمِ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَقًّا ، وَأَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَصَادِقٌ ، وَإِنَّهُ الْيَوْمَ لَفِي حَرَمِ اللَّهِ ، وَبَيْنَ عَشِيرَتِهِ ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِنْ تُخْرِجُوهُ إِلَيْكُمْ تَرْمِيكُمُ الْعَرَبُ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ : فَإِنْ كَانَتْ أَنْفُسُكُمْ قَدْ طَابَتْ بِالْقِتَالِ ، وَذَهَابِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ فَادْعُوهُ ، وَإِلَّا فَمِنَ الْآنَ . فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ اشْتَرِطْ عَلَيْنَا لِرَبِّكَ وَلِنَفْسِكَ مَا تُرِيدُ : فَقَالَ : أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا المبايعة على التوحيد واجتناب الشرك ، وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي عَمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ فَأَجَابُوهُ وَأَحْسَنُوا ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَدِ اشْتَرَطْتَ لِرَبِّكِ وَلِنَفْسِكَ ، فَمَاذَا لَنَا إِذَا أَوْفَيْنَا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَكُمْ عَلَى اللَّهِ الْوَفَاءُ بِالْجَنَّةِ فَقَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ : قَدْ قَبِلْنَا مِنَ اللَّهِ مَا أَعْطَانَا ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اخْتَارُوا مِنْكُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا كَمَا اخْتَارَ مُوسَى مِنْ قَوْمِهِ ، وَقَالَ لِلنُّقَبَاءِ : أَنْتُمْ عَلَى قَوْمِكُمْ بِمَا فِيهِمْ كُفَلَاءُ ، كَكَفَالَةِ الْحَوَارِيِّينَ ، يَعْنِي ابْنَ مَرْيَمَ قَالُوا نَعَمْ : فَبَايَعُوهُ عَلَى هَذَا ، وَكَانَ أَصْغَرَ مَنْ حَضَرَ سِنًّا أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ . وَاخْتَلَفُوا فِي أَوَّلِ مَنْ بَايَعَهُ ، فَقَالَ قَوْمٌ : أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ . وَقَالَ آخَرُونَ : الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ .

وَقَالَ آخَرُونَ : أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْبَيْعَةُ العقبة الثانية عَلَى حَرْبِ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ ، وَالْبَيْعَةُ الْأُولَةُ - بَيْعَةُ النِّسَاءِ - عَلَى غَيْرِ حَرْبٍ ، وَعَادُوا إِلَى الْمَدِينَةِ عَلَى هَذَا .

فَصْلٌ : وَلَمَّا عَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَيْعَةِ الْأَنْصَارِ فِي الْعَقَبَةِ إِلَى مَكَّةَ ، وَذَلِكَ فِي ذِي الْحِجَّةِ عَادَتِ الْفِتْنَةُ أَشَدَّ مِمَّا كَانَتْ فِي فِتْنَةِ الْهِجْرَةِ إِلَى الْحَبَشَةِ ، وَاشْتَدَّ الْأَذَى بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِهِ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لَكُمْ إِخْوَانًا وَدَارًا تَأْمَنُونَ فِيهَا فَخَرَجُوا أَرْسَالًا ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهَا بَعْدَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيُّ ، وَبَعْدَهُ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ ، ثُمَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ ، ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ أَرْسَالًا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقِيمٌ بِمَكَّةَ يَنْتَظِرُ إِذْنَ رَبِّهِ ، وَاسْتَأْذَنَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي الْهِجْرَةِ فَاسْتَوْقَفَهُ . وَأُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ الإسراء بَيْنَ بَيْعَتَيِ الْأَنْصَارِ فِي الْعَقَبَةِ . قَالَ الزُّهْرِيُّ : قَبْلَ هِجْرَتِهِ بِسَنَةٍ ، فَأَصْبَحَ وَقَصَّ ذَلِكَ عَلَى قُرَيْشٍ ، وَذَكَرَ لَهُمْ حَدِيثَ الْمِعْرَاجِ ، فَازْدَادَ الْمُشْرِكُونَ تَكْذِيبًا ، وَأَسْرَعُوا إِلَى أَبِي بَكْرٍ ، وَقَالُوا لَهُ : إِنَّ صَاحِبَكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَعَادَ مِنْ لَيْلَتِهِ ، فَقَالَ : إِنْ قَالَ ذَلِكَ فَهُوَ صَادِقٌ : فَلِذَلِكَ سُمِّيَ الصِّدِّيقُ ، وَوَصَفَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا رَأَى فِي طَرِيقِهِ ، فَكَانَ عَلَى مَا وَصَفَهُ . وَاخْتُلِفَ فِي إِسْرَائِهِ هَلْ كَانَ بِجِسْمِهِ ، أَوْ بِرُوحِهِ ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَسْرَى بِجِسْمِهِ . وَقَالَتْ عَائِشَةُ : أُسْرِيَ بِرُوحِهِ وَمَا زَالَ جِسْمُهُ عِنْدِي ، وَلَمَّا صَارَتِ الْمَدِينَةُ دَارَ هِجْرَةٍ وَصَارَ مَنْ بِهَا مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ أَنْصَارًا امْتَنَعَتْ قُرَيْشٌ أَنْ يَنْصُرُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِمْ : فَاجْتَمَعُوا فِي دَارِ النَّدْوَةِ التآمر على الرسول صلى الله عليه وسلم لِيَتَشَارُوا فِي أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسُمِّيَ ذَلِكَ الْيَوْمُ لِكَثْرَةِ زِحَامِهِمْ فِيهِ يَوْمُ " الزَّحْمَةِ " فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ : احْبِسُوهُ فِي الْحَدِيدِ وَأَغْلِقُوا عَلَيْهِ بَابًا ، وَتَرَبَّصُوا بِهِ . وَقَالَ آخَرُ : أَخْرِجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ ، وَلَا عَلَيْكُمْ مَا أَصَابَهُ بَعْدَكُمْ . وَقَالَ أَبُو جَهْلٍ : لَسْتُ أَرَى مَا ذَكَرْتُمْ رَأْيَ كَرِيمٍ ، وَلَكِنْ أَرَى أَنْ تَأْخُذُوا مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ فَتًى شَابًّا نَسِيبًا ، وَيَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ بِأَسْيَافِهِمْ ، فَيَضْرِبُوهُ ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَيَقْتُلُوهُ ، وَيَتَفَرَّقُ دَمُهُ فِي قَبَائِلِهِمْ ، فَلَا يَقْدِرُ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ عَلَى حَرْبِ جَمِيعِهِمْ ، وَيَرْضَوْا بِالْعَقْلِ فَنَعْقِلُهُ لَهُمْ ، فَأَجْمَعُوا عَلَى هَذَا الرَّأْيِ ، وَتَفَرَّقُوا عَنْهُ لِيُثْبِتُوهُ مِنْ لَيْلَتِهِ ، وَتَفَرَّقُوا لِيَجْتَمِعُوا عَلَى قَتْلِهِ ، فَنَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [ الْأَنْفَالِ : 130 ] . فَعَلِمَ رَسُولُ

اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ ، فَأَعْلَمَ أَبَا بَكْرٍ بِالْهِجْرَةِ ، وَقَدْ كَانَ أَعَدَّ لِلْهِجْرَةِ رَاحِلَتَيْنِ الإعداد للهجرة ، وَاسْتَخْلَفَ عَلِيًّا فِي مَنَامِهِ ، وَأَنْ يَتَّشِحَ بِبُرْدِهِ الْحَضْرَمِيِّ الْأَخْضَرِ : لِأَنَّ قُرَيْشًا تَرَى مَنَامَهُ فِيهِ ، وَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَرُدَّ وَدَائِعَ النَّاسِ عَلَيْهِمْ ، وَخَرَجَ فِي الظَّلَامِ مَعَ أَبِي بَكْرٍ إِلَى غَارِ ثَوْرٍ ، وَخَرَجَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ لِخِدْمَتِهِمَا ، وَلِيَرُوحَ عَلَيْهِمَا بِغَنَمٍ يَرْعَاهَا لِأَبِي بَكْرٍ ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ يَأْتِي كُلَّ يَوْمٍ بِمَا يَتَجَدَّدُ مِنْ أَخْبَارِ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ ، وَتَأْتِي أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ بِطَعَامٍ ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ : ارْتَدْ لَنَا دَلِيلًا مِنَ الْأَزْدِ : فَإِنَّهُمْ أَوْفَى بِالْعَهْدِ : فَاسْتَأْجَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُرَيْقِطٍ اللَّيْثِيَّ ، وَكَانَ مُشْرِكًا ، وَأَقَامَا فِي الْغَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَكَانَ خُرُوجُهُمَا فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ فِي صَفَرٍ ، وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ فِي طَلَبِهِ ، وَجَعَلُوا لِمَنْ جَاءَهُمْ بِهِ مِائَةَ نَاقَةٍ حَمْرَاءَ فَفَاتَهُمْ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ بَكَى وَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَخْرَجْتَنِي مِنْ أَحَبِّ الْبِلَادِ إِلَيَّ : فَأَسْكِنِّي أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَيْكَ وَقَدِمُوا الْمَدِينَةَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : " وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ، وَبُعِثَ نَبِيًّا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ، وَهَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ، وَمَاتَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ " وَكَانَ قُدُومُهُ قَبْلَ قِيَامِ الظَّهِيرَةِ ، فَنَزَلَ بِقُبَاءَ عَلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فِي دَارِ كُلْثُومِ بْنِ الْهِدْمِ ، وَقِيلَ فِي دَارِ سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ ، فَأَقَامَ بَقِيَّةَ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الثُّلَاثَاءِ ، وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ ، وَبَنَى مَسْجِدَ قُبَاءَ ، وَخَرَجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الهجرة إلى المدينة مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَأَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فِي بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ فِي بَطْنِ وَادٍ لَهُمْ ، فَصَلَّى بِهِمُ الْجُمُعَةَ ، وَهِيَ أَوَّلُ جُمُعَةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا دَخَلَ الْمَدِينَةَ دخول النبي المدينة مهاجرا ، أَرْخَى زِمَامَ نَاقَتِهِ ، فَجَعَلَ لَا يَمُرُّ بِدَارٍ إِلَّا سَأَلَهُ أَهْلُهَا النُّزُولَ عَلَيْهِمْ ، وَهُوَ يَقُولُ : خَلُّوا زِمَامَهَا ، فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ الْيَوْمَ ، فَبَرَكَتْ عَلَى بَابِ مَسْجِدِهِ بناء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وَهِيَ يَوْمَئِذٍ مِرْبَدٌ لِيَتِيمَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ سَهْلٍ وَسُهَيْلٍ ابْنَيْ عَمْرٍو ، وَكَانَا فِي حِجْرِ مُعَاذِ بْنِ عَفْرَاءَ ، فَنَزَلَ عَنْهَا وَاحْتَمَلَ أَبُو أَيُّوبَ رَحْلَهُ فَوَضَعَهُ فِي بَيْتِهِ ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ وَقَالَ : الْمَرْءُ مَعَ رَحْلِهِ وَقَالَ لِلْأَنْصَارِ : ثَامِنُونِي بِهَذَا الْمِرْبَدِ ؟ فَقَالُوا : لَا نَأْخُذُ لَهُ ثَمَنًا ، فَبَنَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَفْسِهِ وَبِأَصْحَابِهِ مَسْجِدًا وَهُوَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَهْ فَارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ وَأَقَامَ عِنْدَ أَبِي أَيُّوبَ ، حَتَّى فَرَغَ مِنْ بِنَائِهِ ، وَهَاجَرَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، قَامَ فِيهَـا بِرَدِّ الْوَدَائِعِ عَلَى أَهْلِهَا . وَكَانَ آخِرَ مَنْ قَدِمَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ

سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي عَشَرَةٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ، وَبَنَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بَعْدَ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ فِي شَوَّالٍ ، وَكَانَ قَدْ تَزَوَّجَهَا بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ فِي شَوَّالٍ بَعْدَ وَفَاةِ خَدِيجَةَ ، وَهِيَ ابْنَةُ سِتِّ سِنِينَ . وَقِيلَ : ابْنَةُ سَبْعٍ ، وَكَانَ قَدْ تَزَوَّجَ قَبْلَهَا بَعْدَ خَدِيجَةَ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ ، وَقَدِمَتْ عَلَيْهِ بَعْدَ هِجْرَتِهِ . وَاخْتَلَفَ أَهْلُ النَّقْلِ فِي مُدَّةِ مَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ النُّبُوَّةِ في مكة فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ : ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً ، وَقَالَ آخَرُونَ عَشْرُ سِنِينَ ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ قُرِنَ بِإِسْرَافِيلَ ثَلَاثَ سِنِينَ ، ثُمَّ قُرِنَ بِجِبْرِيلَ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ .

فَصْلٌ : وَلَمَّا اسْتَقَرَّتْ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَارُ هِجْرَتِهِ ، وَنَزَلَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى الْأَنْصَارِ ، آخَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ أَصْحَابِهِ المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ؛ لِيَزِيدَهُمْ أُلْفَةً ، وَتَنَاصُرًا ، ثُمَّ وَادَعَ مَنْ حَوْلَهُ مِنَ الْيَهُودِ لِتَسْتَقِرَّ بِهِمُ الدَّارُ ، وَإِنَّهُمْ أَهْلُ كُتَّابٍ يَرْجُو مِنْهُمْ أَنْ يُؤَدُّوا الْأَمَانَةَ بِإِظْهَارِ مَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ نُبُوَّتِهِ ، فَخَانُوا الْأَمَانَةَ وَجَحَدُوا الصِّفَةَ ، وَظَهَرَ الْمُنَافِقُونَ بِالْمَدِينَةِ ، يُعْلِنُونَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ ، وَيُوَافِقُونَ الْيَهُودَ فِي السِّرِّ عَلَى التَّكْذِيبِ ، وَكَانَ النِّفَاقُ فِي الشُّيُوخِ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَحْدَاثِ إِلَّا وَاحِدٌ ، وَكَانَ رَأْسَ الْمُنَافِقِينَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ : فَصَارَ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَبُولِ الظَّاهِرِ مِنْ إِسْلَامِهِمْ ، وَإِنْكَارِ الْبَاطِنِ مِنْ نِفَاقِهِمْ ، وَقَصَدَتْهُ الْيَهُودُ بِالْمَكْرِ ، فَحَرَّضُوا بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ، وَذَكَّرُوهُمْ تُرَاثَ الْجَاهِلِيَّةِ لِيَخْتَلِفُوا فَيُنْقَضُ بِهِمْ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ ، وَقَطَعَ اخْتِلَافَهُمْ ، وَعَادَتْ أُلْفَتُهُمْ ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَدْعُو إِلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى أُذِنَ لَهُ فِي الْقِتَالِ ، فَكَانَ أَوَّلُ لِوَاءٍ عَقَدَهُ فِي سَنَةِ مَقْدَمِهِ لِحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ للمدينة فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بَعْدَ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ هِجْرَتِهِ : لِيَعْتَرِضَ عِيرًا لِقُرَيْشٍ فِيهَا أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ ، فَبَلَغُوا سَيْفَ الْبَحْرِ ، وَاصْطَفَّوْا لِلْقِتَالِ ، حَتَّى حَجَرَ بَيْنَهُمْ مَجْدِيُّ بْنُ عَمْرٍو الْجُهَنِيُّ : فَافْتَرَقُوا وَعَادَ حَمْزَةُ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا . ثُمَّ سَرِيَّةُ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، عَقَدَ لَهُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِوَاءً فِي شَوَّالٍ ، وَهُوَ الشَّهْرُ الثَّامِنُ مِنْ هِجْرَتِهِ عَلَى سِتِّينَ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ، لِيَعْتَرِضَ عِيرًا لِقُرَيْشٍ فِيهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فِي مِائَتَيْ رَجُلٍ عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْجُحْفَةِ ، فَتَنَاوَشُوا ، وَلَمْ يُسِلُّوا السُّيُوفَ . وَرَمَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ بِسَهْمٍ فَكَانَ أَوَّلَ سَهْمٍ رُمِيَ فِي الْإِسْلَامِ ، وَعَادَ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا . ثُمَّ سَرِيَّةُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ بَعْدَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ مَنْ هِجْرَتِهِ ، عَقَدَ لَهُ لِوَاءً عَلَى عِشْرِينَ رَجُلًا : لِيَعْتَرِضَ عِيرًا لِقُرَيْشٍ ، فَفَاتَتْهُ فَكَانَتْ لَهُ فِي السَّنَةِ الْأُولَةِ مِنْ هِجْرَتِهِ هَذِهِ السَّرَايَا الثَّلَاثُ .

غَزْوَةُ الْأَبْوَاءِ

فَصْلٌ : [ غَزْوَةُ الْأَبْوَاءِ ] ثُمَّ دَخَلَتِ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ ، فَغَزَا فِيهَا أَوَّلَ غَزْوَةٍ خَرَجَ فِيهَا بِنَفْسِهِ ، غَزْوَةَ الْأَبْوَاءِ ، وَيُقَالُ : وَدَّانُ ، وَبَيْنَهُمَا سِتَّةُ أَمْيَالٍ فِي صَفَرٍ : لِيَعْتَرِضَ عِيرًا لِقُرَيْشٍ ، وَحَمَلَ لِوَاءَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ . وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ ، وَكَانَ لِوَاؤُهُ أَبْيَضَ ، وَعَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا . وَفِي هَذَا الشَّهْرِ ، وَهُوَ صَفَرٌ لِلَيَالٍ بَقِينَ مِنْهُ زَوَّجَ عَلِيًّا بِفَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ بَعْدَ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ هِجْرَتِهِ .

غَزْوَةُ بُوَاطٍ

[ غَزْوَةُ بُوَاطٍ ] ثُمَّ غَزَا الثَّانِيَةَ فِي رَبِيعٍ ، وَهِيَ غَزْوَةُ بُوَاطٍ ، خَرَجَ بِنَفْسِهِ فِي مِائَتَيْ رَجُلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ : لِيَعْتَرِضَ عِيرًا لِقُرَيْشٍ فِيهَا أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ ، وَمَعَهُ أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةِ بَعِيرٍ ، وَحَمَلَ لِوَاءَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ ، فَعَادَ ، وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا .

غَزْوَةُ كُرْزِينٍ

[ غَزْوَةُ كُرْزِينٍ ] ثُمَّ غَزَا غَزْوَتَهُ الثَّالِثَةَ فِي هَذَا الشَّهْرِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ : لِطَلَبِ كُرْزِينِ بْنِ جَابِرٍ الْفِهْرِيِّ وَكَانَ قَدِ اسْتَاقَ سَرْحَ الْمَدِينَةِ ، فَطَلَبَهُ حَتَّى بَلَغَ بَدْرًا فَلَمْ يَلْقَهُ ، وَهِيَ بَدْرٌ الْأُولَى ، وَحَمَلَ لِوَاءَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ .

غَزْوَةُ ذَاتِ الْعُشَيْرَةِ

[ غَزْوَةُ ذَاتِ الْعُشَيْرَةِ ] وَغَزَا غَزْوَتَهُ الرَّابِعَةَ إِلَى ذَاتِ الْعُشَيْرَةِ غزوة فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا يَعْتَقِبُونَ ثَلَاثِينَ بَعِيرًا : لِيَعْتَرِضَ عِيرًا لِقُرَيْشٍ مُتَوَجِّهَةً إِلَى الشَّامِ ، فَبَلَغَ يَنْبُعَ وَقَدْ فَاتَتْهُ ، وَهِيَ الْعِيرُ الَّتِي عَادَتْ مِنَ الشَّامِ : فَخَرَجَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى بَدْرٍ ، وَكَانَتْ فِيهَا وَقْعَةُ بَدْرٍ

الْكُبْرَى ، وَحَمَلَ لِوَاءَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ ، وَفِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ كَنَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا أَبَا تُرَابٍ : مَرَّ بِهِ وَقَدْ نَامَ وَسَفَّتِ الرِّيحُ عَلَيْهِ التُّرَابَ ، فَقَالَ : قُمْ يَا أَبَا تُرَابٍ ، أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَشْقَى النَاسِ أُحَيْمِرِ ثَمُودَ عَاقِرِ النَّاقَةِ ، وَالَّذِي يَضْرِبُكَ عَلَى هَذَا فَخَضَبَ هَذِهِ ، يَعْنِي عَلَى رَأْسِكَ فَيَخْضِبُ لِحْيَتَهُ .

سَرِيَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ

[ سَرِيَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ ] ثُمَّ سَرِيَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ ، أَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ ، فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ، وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا ، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَقْرَأَهُ إِلَّا بِبَطْنِ مَكَّةَ وَتَعْمَلَ بِمَا فِيهِ ، فَلَمَّا حَصَلَ بِالْمَكَانِ قَرَأَهُ ، وَإِذَا فِيهِ : سِرْ إِلَى نَخْلَةٍ بَيْنَ الطَّائِفِ وَمَكَّةَ وَأَرْضٍ لِقُرَيْشٍ ؛ لِتَعْرِفَ أَخْبَارَهُمْ ، وَتَأْتِيَنَا بِهَا وَلَا تَسْتَكْرِهَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ ، فَلَمَّا عَلِمُوا أَطَاعُوا ، وَرَضِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَصَارُوا ، وَأَضَلَّ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بَعِيرًا لَهُمَا فَعَدَلَا فِي طَلَبِهِ ، حَتَّى بَلَغَا بَنِي سُلَيْمٍ ، وَمَرَّتْ عِيرٌ لِقُرَيْشٍ فِيهَا ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ عَائِدَةً مِنَ الطَّائِفِ تَحْمِلُ خَمْرًا وَأُدُمًا ، وَزَبِيبًا ، وَمَعَهُ فِيهَا عَدَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَوَقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ أَخْذُ الْعِيرِ وَكَانَ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ وَهُمْ فِيهِ عَلَى شَكٍّ ، ثُمَّ أَقْدَمُوا عَلَيْهَا ، فَرَمَى وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ ، وَأُسِرَ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ ، وَغَنِمُوا الْعِيرَ ، وَكَانَتْ أَوَّلَ غَنِيمَةٍ غَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ ، فَقِيلَ : إِنَّهُمُ اقْتَسَمُوهَا ، وَعَزَلُوا خُمْسَهَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَسْأَلُوا عَنْهَا . وَقِيلَ : إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ بِمَكَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ أَنْكَرُوا فِعْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ ، وَمَا فَعَلَهُ مِنْ قَتْلٍ وَغَنِيمَةٍ فِي رَجَبٍ وَهُوَ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ، وَقَالَتْ قُرَيْشٌ : قَدِ اسْتَحَلَّ مُحَمَّدٌ الشَّهْرَ الْحَرَامَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [ الْبَقَرَةِ : 217 ] . وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكَعْبَةَ ، وَتَحَوَّلَ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَاخْتُلِفَ فِي وَقْتِ تَحْوِيلِهَا القبلة : فَحَكَى الْوَاقِدِيُّ أَنَّهَا حُوِّلَتْ إِلَى الْكَعْبَةِ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ بَعْدَ مَقْدَمِهِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا صَلَّى فِيهَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ . وَقَالَ قَتَادَةُ ، وَابْنُ زَيْدٍ : حُوِّلَتْ لِسِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا فِي رَجَبٍ .

وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فُرِضَ صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي شَعْبَانَ ، وَكَانُوا يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ ، وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فُرِضَتْ زَكَاةُ الْفِطْرِ فرض . وَخَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ . وَفِيهَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمُصَلَّى ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ صَلَاةَ الْعِيدِ ، وَهُوَ أَوَّلُ عِيدٍ صَلَّى فِيهِ . وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ ، وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ : لِأَنَّهَا كَانَتْ رَكْعَتَيْنِ فَجُعِلَتْ أَرْبَعًا . فَصْلٌ

غَزْوَةُ بَدْرٍ الْكُبْرَى

[ غَزْوَةُ بَدْرٍ الْكُبْرَى ] ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَزْوَةَ بَدْرٍ الْكُبْرَى . وَسَبَبُهَا سبب غزوة بدر أَنَّ عِيرَ قُرَيْشٍ الَّتِي خَرَجَ بِسَبَبِهَا إِلَى ذِي الْعُشَيْرَةِ فَفَاتَتْهُ ، أَقْبَلَتْ عَائِدَةً مِنَ الشَّامِ ، فِيهَا أَمْوَالُ قُرَيْشٍ ، وَعَلَيْهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ ، فَأَنْفَذَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ وَسَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ : لِيَعُودُوا بِخَبَرِهَا ، فَلَمَّا تَأَخَّرَا عَنْهُ ، خَرَجَ بَعْدَهَا بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ فِي يَوْمِ السَّبْتِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ بَعْدَ تِسْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا مَنْ هِجْرَتِهِ ، وَعَسْكَرَ فِي بِئْرِ أَبِي عُتْبَةَ عَلَى مِيلٍ مِنَ الْمَدِينَةِ حَتَّى عَرَضَ أَصْحَابَهُ ، وَكَانُوا فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ ، وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا عِدَّةَ أَصْحَابِ طَالُوتَ حِينَ عَبَرَ النَّهْرَ لِقِتَالِ جَالُوتَ . وَفِي رِوَايَةِ الْوَاقِدِيِّ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةُ رِجَالٍ ضَمَّ إِلَيْهِمْ فِي الْقَسْمِ ثَمَانِيَةً لَمْ يَشْهَدُوا بَدْرًا ، فَصَارَتِ الرِّوَايَتَانِ مُتَّفِقَتَيْنِ : لِأَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ عَدَّ الثَّمَانِيَةَ فِيهِمْ ، وَالْوَاقِدِيَّ لَمْ يَعُدَّهَا فِيهِمْ ، وَمِنَ الثَّمَانِيَةِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَقَامَ لِمَرَضِ زَوْجَتِهِ رُقَيَّةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى قُبِضَتْ قَبْلَ مَقْدَمِهِ مِنْ بَدْرٍ ، وَطَلْحَةٌ ، وَسَعِيدٌ ، أَنْفَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِاسْتِعْلَامِ حَالِ الْعِيرِ . وَخَمْسَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ، وَهُمْ أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ خَلَّفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ ، وَعَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ خَلَّفَهُ عَلَى أَهْلِ الْعَالِيَةِ ، وَالْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ رَدَّهُ مِنَ الرَّوْحَاءِ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِشَيْءٍ بَلَغَهُ عَنْهُمْ ، الْحَارِثُ بْنُ الصِّمَّةِ أُسِرَ بِالرَّوْحَاءِ ، وَخَوَّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ كُسِرَ . وَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ اسْتَعْرَضَ أَصْحَابَهُ خَمْسَةً لِصِغَرِهِمْ وَهُمْ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ ، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ ، وَأُسَيْدُ بْنُ ظُهَيْرٍ ، وَكَانَ عِدَّةُ الْمُهَاجِرِينَ سَبْعَةً وَسَبْعِينَ رَجُلًا ، وَعِدَّةُ الْأَنْصَارِ مِائَتَيْنِ وَسِتَّةً وَثَلَاثِينَ رَجُلًا ، مِنْهُمْ مَنْ

الْأَوْسِ أَحَدٌ وَسِتُّونَ رَجُلًا وَالْبَاقُونَ مَنِ الْخَزْرَجِ ، وَكَانَتْ أَوَّلَ غَزْوَةٍ غَزَا فِيهَا الْأَنْصَارُ ، وَكَانَتْ إِبِلُهُمْ سَبْعِينَ بَعِيرًا ، يَتَعَقَّبُ الثَّلَاثَةُ عَلَى الْبَعِيرِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَأَبُو لُبَابَةَ عَلَى بَعِيرٍ ، وَكَانَتِ الْخَيْلُ فَرَسَيْنِ : أَحَدُهُمَا لِلْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو ، وَالْآخَرُ لِمَرْثَدِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ ، وَكَانَ صَاحِبَ رَايَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَصَاحِبَ رَايَةِ الْأَنْصَارِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، وَعَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ خُرُوجَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَخْذِ الْعِيرِ ، فَاسْتَنْفَرَ قُرَيْشًا : لِحِمَايَةِ الْعِيرِ فَخَرَجَتْ قَبَائِلُ قُرَيْشٍ كُلُّهَا إِلَّا بَنِي عَدِيٍّ فَلَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنْهُمْ ، وَبَنُو زُهْرَةَ حُرِّضُوا فَلَمَّا نَجَتِ الْعِيرُ عَادُوا مَعَ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ ، وَكَانُوا مِائَةَ رَجُلٍ ، فَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا مِنْ هَاتَيْنِ الْقَبِيلَتَيْنِ أَحَدٌ ، وَلَمَّا فَاتَتِ الْعِيرُ ، وَكَانَ خُرُوجُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَجْلِهَا ، لَا لِلْقِتَالِ لِيَقْوَى الْمُسْلِمُونَ بِمَالِهَا عَلَى الْجِهَادِ ، وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ خَرَجَ بِهِمْ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ حُفَاةٌ فَاحْمِلْهُمْ ، اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ عُرَاةٌ فَاكْسُهُمْ ، اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ جِيَاعٌ فَأَشْبِعْهُمْ . فَسَمِعَ اللَّهُ دَعَوْتَهُ ، فَمَا رَجَعَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا بِحِمْلٍ ، أَوْ حِمْلَيْنِ وَاكْتَسَوْا ، وَشَبِعُوا ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ قَدْ تَأَهَّبُوا لِلِقَاءِ الْعَدُوِّ ، وَعَادَ مَنْ كَانَ عَيْنًا عَلَيْهِمْ فَأَخْبَرَ بِمَنْ فِيهِمْ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ ، وَكَانُوا تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا فِيهِمْ مِائَةُ فَارِسٍ ، قَالَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِهِ : هَذِهِ مَكَةُ قَدْ أَلْقَتْ إِلَيْكُمْ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا ، فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ؟ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَرَانِي مَصَارِعَ الْقَوْمِ ؟ فَقَالَ لَهُ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو : يَا رَسُولَ اللَّهَ امْضِ لِمَا أَمَرَكَ اللَّهُ فَنَحْنُ مَعَكَ ، وَاللَّهِ لَا نَقُولُ كَمَا قَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [ الْمَائِدَةِ : 24 ] وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا ، إِنَّا مَعَكُمْ مُقَاتِلُونَ ، فَأَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الِاسْتِشَارَةَ من النبي لأصحابه في بدر فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّكَ تُرِيدُ الْأَنْصَارَ قَالَ : أَجَلْ . قَالَ : قَدْ آمَنَّا بِكَ فَصَدَّقْنَاكَ وَبَايَعْنَاكَ عَلَى السَمْعِ وَالطَاعَةِ ، فَامْضِ لِمَ أَرَدْتَ ، فَوَاللَّهِ لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا الْبَحْرَ وَخْضْتَهُ لَخُضْنَاهُ ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ ، فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى لَقِيَ قُرَيْشًا بِبَدْرٍ : فَأَظْفَرَهُ اللَّهُ بِهِمْ ، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَقِيلَ : فَيَ الثَّامِنَ عَشَرَ ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا ، فِيهِمْ أَشْرَافُهُمْ ، وَأَسَرَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا ، وَغُنِمَتْ أَمْوَالُهُمْ ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْهُمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَمِنَ الْأَنْصَارِ ثَمَانِيَةٌ ، وَأُحِيزَتِ الْغَنَائِمُ فَاخْتَلَفُوا فِيهَا : فَجَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى

خَالِصَةً لِرَسُولِهِ وَفِيهَا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [ الْأَنْفَالِ : 1 ] . قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ : فِينَا أَصْحَابَ بَدْرٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النَّفْلِ ، وَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقُنَا ، فَنَزَعَهُ اللَّهُ مِنَّا ، وَجَعَلَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَسَمَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى سَوَاءٍ ، وَنَفَلَ بِالنَّفْلِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ مَضِيقٍ ، وَنَزَلَ عَلَى سِيرٍ فَقَسَمَهُ بِهَا ، وَأُنْفِلَ فِيهَا سَيْفَهُ ذَا الْفَقَارِ وَكَانَ لِمُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ ، وَجَمَلَ أَبِي جَهْلٍ ، وَكَانَ مُهْرِيًّا ، يَغْزُو عَلَيْهِ ، وَقُتِلَ بِهَا مِنَ الْأَسْرَى النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ ، قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَلَمَّا بَلَغَ عِرْقَ الظَّبْيَةِ أَمَرَ بِقَتْلِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ فَقَالَ : مَنْ لِلصِّبْيَةِ يَا مُحَمَّدُ قَالَ : النَّارُ ، فَقَتَلَهُ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ ، وَسَارَ بِالْأَسْرَى ، حَتَّى وَصَلَ الْمَدِينَةَ فَخَرَجَ أَهْلُهَا يُهَنِّئُونَهُ بِقُدُومِهِ ، وَدَخَلَ مِنْ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَتَلَقَّاهُ الْوَلَائِدُ بِالدُّفُوفِ وَهُنَّ يَقُلْنَ : طَلَعَ الْبَدْرُ عَلَيْنَا مِنْ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعِ وَجَبَ الشُكْرُ عَلَيْنَا مَا دَعَا لِلَّهِ دَاعِ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : اسْتَوْصُوا بِالْأُسَارَى خَيْرًا ، ثُمَّ اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ صلى الله عليه وسلم في الأسرى فِيهِمْ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هُمْ أَهْلُكَ ، وَعَشِيرَتُكَ ، فَاسْتَبْقِهِمْ ، وَخُذِ الْفِدَاءَ مِنْهُمْ قُوَّةً ، فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ فَيَكُونُوا عَضُدًا ، وَقَالَ عُمَرَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَذَّبُوكَ وَأَخْرَجُوكَ ، وَهُمْ قَادَتُهُمْ وَصَنَادِيدُهُمْ ، قَدِّمْهُمْ فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ حَتَّى يَعْلَمَ اللَّهُ أَنْ لَيْسَ فِي قُلُوبِنَا هَوَادَةٌ لِلْكُفَّارِ ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَخَلَ ، فَقَالَ أُنَاسٌ : يَأْخُذُ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ ، وَقَالَ أُنَاسٌ : يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ لَيُلِينُ قُلُوبَ الرِّجَالِ حَتَّى تَكُونَ أَلْيَنَ مِنَ اللَّبَنِ ، وَلَيُشَدِّدُ قُلُوبَ رِجَالٍ حَتَّى تَكُونَ أَشَدَّ مِنَ الْحِجَارَةِ ، وَإِنَّ مِثْلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ مِثْلُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ : فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ إِبْرَاهِيمَ : 36 ] . وَمِثْلَكَ مِثْلُ عِيسَى قَالَ : إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ الْمَائِدَةِ : 118 ] . وَمِثْلَكَ يَا عُمَرُ مِثْلُ نُوحٍ قَالَ : رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [ نُوحٍ : 26 ] . وَمِثْلَكَ مِثْلُ مُوسَى قَالَ : رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [ يُونُسَ : 88 ] . ثُمَّ قَالَ : أَنْتُمُ الْيَوْمَ عَالَةٌ ، فَخُذُوا الْفِدَاءَ ، فَفُودِيَ كُلُّ أَسِيرٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ إِلَى ثَلَاثَةِ آلَافٍ ، إِلَى أَلْفَيْنِ ، إِلَى أَلْفٍ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ - وَكَانَ يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ : لِأَنَّ الْخَطَّ كَانَ فِي أَهْلِ مَكَّةَ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ - كَانَ فِدَاؤُهُ أَنْ يُعَلِّمَ عَشَرَةً مِنْ غِلْمَانِ الْمَدِينَةِ الْخَطَّ ، وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِيمَنْ عُلِّمَ ، وَمَنَّ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ ، وَفِيهِمْ أَبُو عَزَّةَ الْجُمَحِيُّ فَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَعُودَ لِحَرْبِهِ أَبَدًا ، وَكَانَ فِي الْأَسْرَى الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : افْدِ نَفْسَكَ وَابْنَيْ أَخِيكَ نَوْفَلًا وَعَقِيلًا فَقَالَ : إِنِّي مُسْلِمٌ وَأُخْرِجْتُ كَرْهًا ، وَلَا

مَالَ لِي ، فَقَالَ : إِنْ كُنْتَ مُسْلِمًا فَأَجْرُكَ عَلَى اللَّهِ ، وَمَالُكَ عِنْدَ أُمِّ الْفَضْلِ دَفَعْتَهُ لَهَا يَوْمَ خُرُوجِكَ ، وَوَصَّيْتَ بِهِ لِأَوْلَادِكَ ، فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُنَا بِكَ بَيَانًا ، وَفَدَا نَفْسَهُ وَابْنَيْ أَخِيهِ بِمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ أُوقِيَّةً وَرِقًا ، وَكَانَ فِي الْأَسْرَى أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ زَوْجُ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ ابْنَ أُخْتِ خَدِيجَةَ : فَلِذَلِكَ تَزَوَّجَهَا ، وَكَانَتْ رُقَيَّةُ زَوْجَةَ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ فَقَالَتْ قُرَيْشٌ لَهُمَا : انْزِلَا عَنِ ابْنَتَيْ مُحَمَّدٍ نُزَوِّجْكُمَا بِمَنْ أَحْبَبْتُمَا مِنْ نِسَاءِ قُرَيْشٍ ، فَنَزَلَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي لَهَبٍ عَنْ رُقَيَّةَ وَتَزَوَّجَتْ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ ، وَامْتَنَعَ أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ مِنَ النُّزُولِ عَنْ زَيْنَبَ ، فَلَمَّا أُسِرَ أَنْفَذَتْ زَيْنَبُ فِي فِدَائِهِ قِلَادَةً لَهَا جَهَّزَتْهَا خَدِيجَةُ بِهَا ، فَرَآهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَرَفَهَا ، فَرَقَّ لَهَا ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تَمُنُّوا عَلَى أَسِيرِهَا فَمُنُّوا عَلَيْهِ وَشَرَطَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهَا ، وَأَنْفَذَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ إِلَى مَكَّةَ ، حَتَّى حَمَلَهَا إِلَى الْمَدِينَةِ ، وَأَسْلَمَ أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ ، فَرَدَّ عَلَيْهِ زَيْنَبَ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ ، فَلَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا " ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ إِنْ صَحَّتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقَدْ كَانَ الْإِسْلَامُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ، يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ : " بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ " أَيْ لِأَجْلِ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ : لِأَنَّهُ لَوْلَاهُ لَعَدَلَ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ . وَقَوْلُهُ : " وَلَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا " أَيْ لَمْ يُحْدِثْ صَدَاقًا زَائِدًا ، فَلَمَّا أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ فِدَاءَ أَسْرَى بَدْرٍ عَاتَبَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [ الْأَنْفَالِ : 67 ] . وَمَاتَ أَبُو لَهَبٍ بِمَكَّةَ : لِأَنَّهُ تَأَخَّرَ عَنْ بَدْرٍ بَعْدَ سَبْعِ لَيَالٍ مِنْ نَعْيِ أَهْلِ بَدْرٍ بِالْغَرْسَةِ ، وَتُرِكَ لَيْلَتَيْنِ حَتَّى أُنْتِنَ هَرَبًا مَنْ عَدُوَّاهَا ، وَخَضَعَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ بَدْرٍ جَمِيعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ .

غَزْوَةُ بَنِي قَيْنُقَاعَ

فَصْلٌ : [ غَزْوَةُ /73 بَنِي قَيْنُقَاعَ /73 ] وَغَزَا غَزْوَةَ بَنِي قَيْنُقَاعَ ، وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ وَادَعَهُمْ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي جُمْلَةِ مَنْ وَادَعَهُ مِنَ الْيَهُودِ ، فَكَانُوا أَوَّلَ مَنْ نَقَضَ عَهْدَهُ ، وَنَبَذُوهُ ، وَأَظْهَرُوا الْبُغْضَ وَالْحَسَدَ ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [ الْأَنْفَالِ : 58 ] . فَصَارَ إِلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ النِّصْفِ فِي شَوَّالٍ بَعْدَ بَدْرٍ بِبِضْعٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ ، وَحَمَلَ لِوَاءَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ،

وَسَارَ إِلَيْهِمْ فَتَحَصَّنُوا مِنْهُ ، وَكَانُوا أَشْجَعَ الْيَهُودِ ، فَحَاصَرَهُمْ أَشَدَّ الْحِصَارِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، حَتَّى قَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ : فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى أَنَّ لَهُ أَمْوَالَهُمْ وَلَهُمُ النِّسَاءَ وَالذُّرِّيَّةَ ، فَكُتِّفُوا وَهُوَ يُرِيدُ قَتْلَهُمْ ، فَكَلَّمَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَكَانُوا حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ ، وَقَالَ : أَحْسِنْ فِيهِمْ . فَأَعْرَضَ عَنْهُ ، فَرَاجَعَهُ ، وَقَالَ : هَؤُلَاءِ مَوَالِيَّ أَرْبَعُمِائَةِ حَاسِرٍ ، وَثَلَاثُمِائَةِ دَارِعٍ ، قَدْ مَنَعُونِي مِنَ الْأَحْمَرِ وَمِنَ الْأُسُودِ : نَحْصُدُهُمْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا آمَنُ وَأَخَافُ الدَّوَائِرَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلُّوهُمْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَعَنَهُ مَعَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَسِلَاحَهُمْ ، وَكَانُوا صَاغَةً ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَرْبٌ . وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِمْ إِلَى " أَذَرِعَاتِ " الشَّامِ ، فَسَارَ بِهِمْ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ حَتَّى بَلَغَ " دِبَابَ " وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُمْسَ غَنَائِمِهِمْ وَصَفِيَّةَ وَسَهْمَهُ وَقَسَّمَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ ، فَكَانَتْ أَوَّلَ غَنِيمَةٍ خَمَّسَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ بَدْرٍ .

غَزْوَةُ السَّوِيقِ

فَصْلٌ : [ غَزْوَةُ السَّوِيقِ ] ثُمَّ غَزَا غَزْوَةَ السَّوِيقِ ، وَسَبَبُهَا أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ ، حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ - لِمَصْرَعِ بَدْرٍ - الرَّهْنَ وَالنِّسَاءَ ، حَتَّى يَثْأَرَ بِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ ، وَخَرَجَ فِي مِائَةِ رَجُلٍ ، وَقَالَ شِعْرًا يُحَرِّضُ فِيهِ قُرَيْشًا : كُرُّوا عَلَى يَثْرِبَ وَجَمْعِهِمْ فَإِنَّ مَا جَمَعُوا لَكُمْ نَفَلُ إِنْ يَكُ يَوْمُ الْقَلِيبِ كَانَ لَهُمْ فَإِنَّ مَا بَعْدَهُ لَكُمْ دُوَلُ آلَيْتُ لَا أَقْرَبُ النِّسَاءَ وَلَا يَمَسُّ رَأْسِي وَجِسْمِيَ الْغُسُلُ حَتَّى تُبِيرُوا قَبَائِلَ الْأَوْسِ وَالْـ خَزْرَجِ إِنَّ الْفُؤَادَ مُشْتَعِلُ وَسَارَ بِهِمْ حَتَّى جَاءَ إِلَى بَنِي النَّضِيرِ لَيْلًا لِيَسْأَلَهُمْ عَنْ أَخْبَارِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَفْتَحْ لَهُ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ ، وَفَتَحَ لَهُ سَلَّامُ بْنُ مِشْكَمٍ ، وَكَانَ سَيِّدَهُمْ فَفَتَحَ لَهُمْ فَقَرَاهُمْ وَسَقَاهُمْ خَمْرًا ، وَعَرَّفَهُمْ مِنْ أَخْبَارِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا سَأَلُوهُ ، وَسَارَ أَبُو سُفْيَانَ فِي السَّحَرِ وَمَرَّ بِالْعُرَيْضِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ ، فَقَتَلَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ ، وَأَجِيرًا لَهُ ، وَرَأَى أَنَّ يَمِينَهُ قَدْ حُلَّتْ ، وَعَادَ هَارِبًا ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَرَجَ فِي طَلَبِهِ يَوْمَ الْأَحَدِ الْخَامِسِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فِي مِائَتَيْ رَجُلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ ، فَفَاتَهُ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ ، وَوَجَدُوهُمْ قَدْ أَلْقَوْا جُرَبَ السَّوِيقِ

طَلَبًا لِلْخِفَّةِ ، وَكَانَتْ أَزْوَادَهُمْ ، فَسُمِّيَتْ " غَزْوَةُ السَّوِيقِ " وَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَصْحَابِهِ بَعْدَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ مِنْ مَخْرَجِهِ ، فَصَلَّى عِيدَ الْأَضْحَى ، وَخَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى ، وَضَحَّى بِشَاةٍ ، وَقِيلَ : بِشَاتَيْنِ ، وَضَحَّى مَعَهُ ذَوُو الْيَسَارِ . قَالَ جَابِرٌ : ضَحَّيْنَا فِي بَنِي سَلِمَةَ بِسَبْعَ عَشْرَةَ أُضْحِيَّةً ، وَهُوَ أَوَّلُ عِيدٍ ضَحَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَرَجَ فِيهِ إِلَى الْمُصَلَّى لِلصَّلَاةِ . وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَعَاقِلَ وَالدِّيَاتِ ، فَكَانَ مُعَلِّقًا بِسَيْفِهِ ، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ السَّنَةُ عَامَ بَدْرٍ : لِأَنَّهَا أَعْظَمُ وَقَائِعِهَا فَكَانَتْ غَزَوَاتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا بِنَفْسِهِ سَبْعًا وَأَسْرَى سَرِيَّةً وَاحِدَةً .

غَزْوَةُ قَرْقَرَةِ الْكُدْرِ

فَصْلٌ : [ غَزْوَةُ قَرْقَرَةِ الْكُدْرِ ] ثُمَّ دَخَلَتِ السَّنَةُ الثَّالِثَةُ مِنَ الْهِجْرَةِ ، فَغَزَا فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَزْوَةَ " قَرْقَرَةِ الْكُدْرِ " خَرَجَ فِيهَا إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ ، وَغَطَفَانَ ؛ لِيَجْمَعَهُمْ هُنَاكَ ، فَصَارَ إِلَيْهِمْ فِي النِّصْفِ مِنَ الْمُحَرَّمِ ، وَحَمَلَ لِوَاءَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِيَةِ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ ، فَلَمْ يَرَهُمْ ، وَظَفَرَ بِنَعَمِهِمْ ، فَسَاقَهَا ، كَانَتْ خَمْسَمِائَةِ بَعِيرٍ ، فَأَخَذَ خُمُسَهَا ، وَقَسَمَهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ بِضِرَارَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ ، وَكَانُوا مِائَتَيْ رَجُلٍ فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَعِيرَيْنِ ، وَحَصَلَ فِي سَهْمِهِ يَسَارٌ : لِأَنَّهُ كَانَ فِي النَّعَمِ فَأَعْتَقَهُ : لِأَنَّهُ رَآهُ يُصَلِّي وَعَادَ بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا .

مَقْتَلُ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ

[ مَقْتَلُ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ ] ثُمَّ أَسْرَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ الْيَهُودِيِّ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فِي خَمْسَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْهُمْ : أَبُو نَائِلَةَ ، وَكَانَ أَخَا كَعْبٍ مِنَ الرَّضَاعَةِ ، وَأَبُو عَبْسٍ ، وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ ، وَالْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ ، بَعْدَ مَشُورَةِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ، وَخَرَجَ يُشَيِّعُهُمْ إِلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ ، وَقَالَ : امْضُوا إِلَى بَرَكَةِ اللَّهِ فِي لَيْلَةِ الْأَرْبَعَ عَشْرَةَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَخَدَعُوهُ ، حَتَّى أَخْرَجُوهُ ، وَقَتَلُوهُ فِي شِعْبِ الْعَجُوزِ ، وَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَأْسِهِ ، وَسَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ كَانَ يُؤَلِّبُ قُرَيْشًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَهْجُوهُ بِشِعْرِهِ ، وَتَشَبَّبَ بِنِسَاءِ أَهْلِهِ . وَفِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ، تَزَوَّجَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ ، أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَخَلَ بِهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ .

غَزْوَةُ ذِي أَمَّرَّ

[ غَزْوَةُ ذِي أَمَّرَّ ] ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَزْوَةَ ذِي أَمَرَّ إِلَى بَنِي أَنْمَارٍ حِينَ بَلَغَهُ جَمْعُ بَنِي ثَعْلَبَةَ وَمُحَارِبٍ ، فَخَرَجَ فِي الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ ، فَهَرَبُوا مِنْهُ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ : فَعَادَ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا بَعْدَ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَفِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُعْثُورُ بْنُ الْحَارِثِ ،

وَهُوَ مُضْطَجِعٌ وَحْدَهُ ، فَسَلَّ سَيْفَهُ وَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي ، فَقَالَ : اللَّهُ ، فَسَقَطَ السَّيْفُ ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ لَهُ : مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي قَالَ : لَا أَحَدَ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَعَادَ إِلَى قَوْمِهِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [ الْمَائِدَةِ : 11 ] .

غَزْوَةُ بَنِي سُلَيْمٍ

[ غَزْوَةُ بَنِي سُلَيْمٍ ] وَفِي السَّادِسِ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَنِي سُلَيْمٍ ، وَهُمْ فِي نَاحِيَةِ بَحْرَانَ ، قَرِيبًا مِنَ الْفَرْعِ ، فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ ، فَلَمَّا عَلِمُوا بِمَسِيرِهِ تَفَرَّقُوا ، فَعَادَ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا بَعْدَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ .

سَرِيَّةُ قَرْدَةَ

[ سَرِيَّةُ قَرْدَةَ ] ثُمَّ سَيَّرَ سَرِيَّةَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إِلَى قَرْدَةَ ، وَهِيَ بَيْنَ الرَّبَذَةِ وَغَمْرَةَ ، نَاحِيَةَ ذَاتِ عِرْقٍ ، أَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ - : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ ، وَهِيَ أَوَّلُ سَرِيَّةٍ خَرَجَ زَيْدٌ فِيهَا أَمِيرًا : لِيَعْتَرِضَ عِيرًا لِقُرَيْشٍ فِيهَا صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ ، فَغَنِمَهَا ، وَهَرَبَ مَنْ فِيهَا ، وَقَدِمَ بِهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَ خُمُسَهَا قِيمَةَ عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَقَسَمَ بَاقِيَهَا عَلَى أَهْلِ السَّرِيَّةِ . وَفِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَفِي النِّصْفِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وُلِدَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ .

غَزْوَةُ أُحُدٍ وَحَمْرَاءِ الْأَسَدِ

فَصْلٌ : [ غَزْوَةُ أُحُدٍ وَحَمْرَاءِ الْأَسَدِ ] ثُمَّ غَزْوَةُ أُحُدٍ ، وَسَبَبُهَا أَنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ لَمَّا عَادُوا مِنْ بَدْرٍ إِلَى مَكَّةَ ، وَجَدُوا الْعِيرَ الَّتِي قَدْ قَدِمَ أَبُو سُفْيَانَ بِهَا مِنَ الشَّامِ بِأَمْوَالِهِمْ ، مَوْقُوفَةٌ فِي دَارِ النَّدْوَةِ ، فَمَشَى أَشْرَافُهُمْ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ ، وَقَالُوا لَهُ : قَدْ طَابَتْ أَنْفُسُنَا أَنْ نُجَهِّزَ بِرِبْحِ هَذِهِ الْعِيرِ جَيْشًا إِلَى مُحَمَّدٍ : لِنَثْأَرَ مِنْهُ بِقَتْلَانَا ، فَقَالَ : أَنَا وَبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَوَّلُ مَنْ يُجِيبُ إِلَى هَذَا ، وَكَانَتْ أَلْفَ بَعِيرٍ ، وَالْمَالُ خَمْسُونَ أَلْفَ دِينَارٍ ، وَكَانُوا يَرْبَحُونَ لِلدِّينَارِ دِينَارًا ، فَأَخْرَجُوا مِنْهَا

أَرْبَاحَهُمْ ، وَأَنْفَذُوا رُسُلَهُمْ ؛ يَسْتَنْفِرُونَ قَبَائِلَ الْعَرَبِ لِنُصْرَتِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ ، وَأَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى إِخْرَاجِ الظُّعُنِ مِنْ نِسَائِهِمْ مَعَهُمْ : لِتَحْرِيضِهِمْ لَهُمْ ، وَتَذْكِيرِهِمْ بِمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ ، وَكَانَ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ قَدْ مَضَى إِلَى مَكَّةَ فِي خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ مُنَافِقِي قَوْمِهِ ، فَحَرَّضَ قُرَيْشًا ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ الْأَنْصَارَ إِذَا رَأَوْهُ أَطَاعُوهُ ، فَكَتَبَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَبَرِهِمْ . وَسَارَ أَبُو سُفْيَانَ بِهِمْ ، وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافِ رَجُلٍ ، وَظُعُنُهُمْ خَمْسَ عَشْرَةَ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَشْرَافِهِمْ ، وَفِيهِمْ سَبْعُمِائَةِ دِرْعٍ ، وَمِائَةُ رَامٍ ، وَمِائَتَا فَرَسٍ ، وَثَلَاثَةُ آلَافِ بَعِيرٍ ، حَتَّى نَزَلَ بِأُحُدٍ ، وَكَانَ وَحْشِيٌّ غُلَامًا حَبَشِيًّا لِجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، يَقْذِفُ بِحَرْبَةٍ لَهُ قَذْفَ الْحَبَشَةِ ، قَلَّمَا يُخْطِئُ ، فَأَخْرَجَهُ مَعَ النَّاسِ ، وَقَالَ : إِنْ قَتَلْتَ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّ مُحَمَّدٍ بِعَمِّي طُعَيْمَةَ بْنِ عَدِيٍّ فَأَنْتَ عَتِيقٌ ، وَجَعَلَتْ لَهُ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ فِي قَتْلِهِ مَا اقْتَرَحَ ، وَكَانَ إِذَا مَرَّ بِهَا قَالَتْ : إِيهٍ أَبَا دَسْمَةَ اشْفِ وَاشْتَفِ ، وَكَانَ يُكْنَى أَبَا دَسْمَةَ . وَلَمَّا نَزَلَتْ قُرَيْشٌ بِأُحُدٍ ، ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الرَّابِعِ مِنْ شَوَّالٍ ، اسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ في الخروج لغزوة أحد ، وَكَانَ رَأْيُهُ أَلَّا يَخْرُجَ إِلَيْهِمْ ، وَيُقِيمَ بِالْمَدِينَةِ ، حَتَّى يُقَاتِلَهُمْ فِيهَا ، وَوَافَقَهُ عَلَى رَأْيِهِ شُيُوخُ الْأَنْصَارِ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ ، وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا قَاتَلْنَا وَدَخَلَ الْمَدِينَةِ عَلَيْنَا أَحَدٌ إِلَّا ظَفِرْنَا بِهِ ، وَلَا خَرَجْنَا إِلَيْهِ إِلَّا ظَفِرَ بِنَا ، وَكَانَ رَأْيُ أَحْدَاثِ الْأَنْصَارِ الْخُرُوجَ إِلَيْهِمْ : لِتَأَخُّرِهِمْ عَنْ بَدْرٍ ، فَغَلَبَ رَأْيُ مَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ ، وَأَقَامَتْ قُرَيْشٌ بِأُحُدٍ بَقِيَّةَ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ ، وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ . فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجُمُعَةَ بِالْمَدِينَةِ ، ثُمَّ الْعَصْرَ ، ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ ، فَلَبِسَ لَأْمَةَ سِلَاحِهِ ، وَظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ ، فَلَمَّا رَآهُ النَّاسُ نَدِمُوا عَلَى مَا أَشَارُوا عَلَيْهِ مِنَ الْخُرُوجِ ، وَقَالَ لَهُمْ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ : أَكْرَهْتُمُوهُ عَلَى الْخُرُوجِ ، وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ اصْنَعْ مَا شِئْتَ . فَقَالَ : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ لَبِسَ لَأْمَةَ سِلَاحِهِ أَنْ يَنْزِعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ وَسَارَ فِي أَلْفِ رَجُلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِيهِمْ مِائَةُ دَارِعٍ ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ إِلَّا فَرَسَانِ : أَحَدُهُمَا : لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْآَخرُ لِأَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ ، وَدَفَعَ لِوَاءَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ . وَقِيلَ : إِلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ ، وَدَفَعَ لِوَاءَ الْأَوْسِ إِلَى أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ ، وَلِوَاءَ الْخَزْرَجِ إِلَى خَبَّابِ بْنِ الْمُنْذِرِ . وَقِيلَ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ، وَنَزَلَ بِالشَّيْخَيْنِ ، وَهُمَا أُطُمَانِ ، كَانَ يَهُودِيٌّ وَيَهُودِيَّة أَعْمَيَانِ يَقُومَانِ عَلَيْهِمَا ، فَيَتَحَدَّثَانِ فَنُسِبَا إِلَيْهِمَا وَهُمَا فِي طَرَفِ الْمَدِينَةِ ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثُمَّ اسْتَعْرَضَ أَصْحَابَهُ ، فَرَدَّ مِنْهُمْ لِصِغَرِهِ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَالْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ ، وَأَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ ، وَأُسَيْدَ بْنَ ظُهَيْرٍ ، وَعَرَابَةَ بْنَ أَوْسٍ وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الشَّمَّاخُ :

رَأَيْتُ عَرَابَةَ الْأَوْسِيَّ يَنْمِي إِلَى الْخَيْرَاتِ مُنْقَطِعَ الْقَرِينِ وَرَدَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ ، وَسَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ ، ثُمَّ أَجَازَهُمَا ، وَأَقَامَ بِمَكَانِهِ أَكْثَرَ اللَّيْلِ ، ثُمَّ سَارَ إِلَى أُحُدٍ ، فَانْخَذَلَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ مَعَ ثَلَاثِمِائَةٍ مِنْ قَوْمِهِ ينخذل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد ، وَمَنْ تَابَعَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ ، وَعَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَالَ : عَلَامَ نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا ؟ وَبَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبْعُمِائَةِ رَجُلٍ ، فَسَارَ حَتَّى نَزَلَ صَبِيحَةَ يَوْمِ السَّبْتِ السَّابِعِ مِنْ شَوَّالٍ بِالشِّعْبِ مِنْ أُحُدٍ ، وَأَرَ الرُّمَاةَ - وَهُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا - أَنْ يَقِفُوا عِنْدَ الْجَبَلِ ، وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ ، وَأَنْ يَرْمُوا الْجَبَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ ، وَقَالَ لَهُمْ : لَا تَبْرَحُوا مِنْ مَكَانِكُمْ إِنْ كَانَتْ لَنَا أَوْ عَلَيْنَا ، وَجَعَلَ عَلَى الْخَيْلِ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ ، وَصَافُّوا الْعَدُوَّ ، وَتَقَدَّمَ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ فِي الْأَحَابِيشِ وَالْعَبِيدِ ، وَنَادَى الْأَوْسَ فَقَالُوا : لَا مَرْحَبًا بِكَ وَلَا أَهْلًا ، وَصَدَقُوا الْقِتَالَ ، فَانْهَزَمَتْ قُرَيْشٌ ، وَتَشَاغَلَ الْمُسْلِمُونَ بِالْغَنِيمَةِ ، وَزَالَ الرُّمَاةُ عَنْ مَوَاقِعِهِمْ ؛ طَلَبًا لِلْغَنِيمَةِ ، فَبَدَرَ النِّسَاءُ يَضْرِبْنَ بِالدُّفُوفِ ، وَيُحَرِّضْنَ الرِّجَالَ وَيَعُلْنَ : نَحْنُ بَنَاتُ طَارِقْ نَمْشِي عَلَى النَمَارِقْ إِنْ تُقْبِلُوا نُعَانِقْ أَوْ تُدْبِرُوا نُفَارِقْ فِرَاقَ غَيْرِ وَامِقْ فَعَادَتْ قُرَيْشٌ ، وَعَطَفَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي الْجَبَلِ إِلَى مَوْقِفِ الرُّمَاةِ المسلمين في غزوة أحد مِنْ وَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، فَانْهَزَمُوا وَوَضَعَ فِيهِمُ السَّيْفَ ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا عِدَّةَ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ ، فِيهِمْ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، قَتَلَهُ وَحْشِيٌّ ، وَمَثَّلَ بِهِ ، وَبَقَرَتْ هِنْدٌ بَطْنَهُ ، وَأَخَذَتْ كَبِدَهُ ، فَلَاكَتْهَا بِفَمِهَا ، ثُمَّ لَفَظَتْهَا ، وَمُثِّلَ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصَابَهَا عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَشَجَّهُ فِي جَبْهَتِهِ ، وَضَرَبَهُ ابْنُ قَمِيئَةَ بِالسَّيْفِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ فَاتَّقَاهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ ، فَشُلَّتْ أُصْبُعُهُ وَادَّعَى أَنَّهُ قَتَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَاعَ الْخَبَرُ بِهِ فِي الْمُسْلِمِينَ ، وَالْمُشْرِكِينَ ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضِرِ : يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ قُتِلَ ، فَإِنَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ لَمْ يُقْتَلْ ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَ نَبِيِّ اللَّهِ إِلَّا أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا : سَبْعَةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ : أَبُو بَكْرٍ ، وَعَلِيٌّ ، وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ . وَسَبْعَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ، وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ بَعْدَ أَنْ قُتِلَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَحْوُ ثَلَاثِينَ رَجُلًا كُلُّهُمْ يَتَقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَيَقُولُ : وَجْهِي لِوَجْهِكَ الْوَفَاءُ ، وَنَفْسِي لِنَفْسِكَ الْفِدَاءُ ، وَعَلَيْكَ سَلَامُ اللَّهِ ، غَيْرَ مُوَدِّعٍ ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرِونَ رَجُلًا مَنْهُمْ أَصْحَابُ اللِّوَاءِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ ،

وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ رَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّهُ فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ ، وَكَأَنَّ سَيْفَهُ ذَا الْفَقَارِ قَدِ انْثَلَمَ ، وَكَأَنَّ بَقَرًا تُذْبَحُ ، وَكَأَنَّهُ مُرْدِفٌ كَبْشًا ، فَأَخْبَرَ بِهَا أَصْحَابَهُ ، وَتَأَوَّلَهَا أَنَّ الدِّرْعَ الْحَصِينَةَ هِيَ الْمَدِينَةُ ، وَأَنَّ انْثِلَامِ سَيْفِهِ هِيَ مُصِيبَةٌ فِي نَفْسِهِ ، وَأَنَّ ذَبْحَ الْبَقَرِ هُوَ قَتْلٌ فِي أَصْحَابِهِ ، وَأَنَّ إِرْدَافَ الْكَبْشِ هُوَ كَبْشٌ الْكَتِيبَةِ ، يَقْتُلُهُ اللَّهُ ، فَصَحَّ تَأْوِيلُهَا ، وَكَانَ الْكَبْشُ - قِيلَ - طَلْحَةَ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ صَاحِبَ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ ، ثُمَّ إِخْوَتَهَ يَأْخُذُونَ اللِّوَاءَ فَيُقْتَلُونَ ، وَكَانَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ بَرَزَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى فَرَسٍ لَهُ بِأُحُدٍ حَلَفَ أَنْ يَقْتُلَهُ عَلَيْهَا ، فَقَالَ رَسُولُ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَنَا أَقْتُلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَبَرَزَ إِلَيْهِ فَرَمَاهُ بِحَرْبَةٍ كَسَرَ بِهَا أَحَدَ أَضْلَاعِهِ بِجُرْحٍ كَالْخَدْشِ ، وَهُوَ يَخُورُ كَالثَّوْرِ ، وَيَقُولُ : وَاللَّهِ لَوْ تَفَلَ عَلَيَّ لَقَتَلَنِي ، وَمَاتَ بِسَرِفَ ، ثُمَّ بَرَزَ أَبُو سُفْيَانَ بَعْدَ انْجِلَاءِ الْحَرْبِ فَنَادَى : أَيْنَ مُحَمَّدٌ ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ . ثُمَّ قَالَ : أَيْنَ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ . فَقَالَ أَيْنَ ابْنُ الْخَطَّابِ ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ . فَقَالَ : أَيْنَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ . فَقَالَ : الْآنَ قُتِلَ مُحَمَّدٌ ، وَلَوْ كَانَ حَيًّا لَأُجِبْتُ . فَقَالَ عُمَرُ : كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ ، هَذَا رَسُولُ اللَّهِ ، يَسْمَعُ كَلَامَكَ . فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ : أَلَا إِنَّ الْأَيَّامَ دُوَلٌ ، وَالْحَرْبَ سِجَالٌ ، يَوْمُ أُحُدٍ بِيَوْمِ بَدْرٍ ، وَحَنْظَلَةُ بِحَنْظَلَةَ - يَعْنِي حَنْظَلَةَ بْنَ الرَّاهِبِ الْمُقْتُولَ بِأُحُدٍ بِحَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ الْمُقْتُولِ بِبَدْرٍ - فَقَالَ عُمَرُ : لَا سَوَاءَ ، قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ : اعْلُ هُبَلُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ : قُلْ لَهُ : اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ . فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ : لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ : قُلْ لَهُ : اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ . فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ : أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَانَتْ فِيكُمْ مُثْلَةٌ مَا أَمَرْتُ بِهَا وَلَا نَهَيْتُ عَنْهَا ، وَلَا سَرَّتْنِي ، وَلَا سَاءَتْنِي ، ثُمَّ وَلَّى ، وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ يَوْمِهِ ، وَهُوَ يَوْمُ السَّبْتِ ، وَلَمْ يُغَسِّلْ قَتْلَى أُحُدٍ ، وَاخْتُلِفَ فِي صَلَاتِهِ عَلَيْهِمْ ، وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي مَصَارِعِهِمْ ، فَدُفِنُوا فِيهَا إِلَّا مَنْ سَبَقَ حَمْلُهُ وَدَفْنُهُ فِي الْمَدِينَةِ ، وَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ ، وَهُوَ يَوْمُ الْأَحَدِ الثَّامِنِ مِنْ شَوَّالٍ ، صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصُّبْحَ ، وَأَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى فِي النَّاسِ بِالْخُرُوجِ لِطَلَبِ عَدُوِّهِمْ ، وَأَنْ لَا يَخْرُجَ مَعَهُ إِلَّا مَنْ شَهِدَ أُحُدًا وَسَارَ وَدَفَعَ لِوَاءَهُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ ، وَقِيلَ : إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَاسْتَخَلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ ، وَسَارَ وَهُوَ مَكْلُومٌ إِرْهَابًا لِقُرَيْشٍ ، حَتَّى بَلَغَ حَمْرَاءَ الْأَسَدِ ، وَبِهَا قُرَيْشٌ يَتَآمَرُونَ فِي الرُّجُوعِ إِلَى الْمَدِينَةِ ، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ يَنْهَاهُمْ إِلَى أَنْ سَارُوا إِلَى مَكَّةَ ، وَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَدِينَةِ لَمْ يَلْقَ كَيْدًا ، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ السَّنَةُ عَامَ أُحُدٍ ؛ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ وَقَائِعِهَا ، وَكَانَ فِيهَا خَمْسُ غَزَوَاتٍ ، وَسَرِيَّةٌ وَاحِدَةٌ .

سَرِيَّةُ قَطَنٍ

فَصْلٌ [ /1 L29348 سَرِيَّةُ قَطَنٍ /1 ] ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ فَأَسْرَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ الْمُحَرَّمِ وَأَسْرَى أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيَّ إِلَى قَطَنٍ وَهُوَ جَبَلٌ بِنَاحِيَةِ فَيْدٍ فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنَ

الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لِيَلْقَى بَنِي أَسَدٍ ؛ لِأَنَّهُمْ هَمُّوا بِحَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَفَرَّقُوا عِنْدَ وُرُودِهِ عَلَيْهِمْ وَسَاقَ نَعَمَهُمْ ، وَقَدِمَ بِهَا الْمَدِينَةَ ، وَلَمْ يُقَاتِلْ أَحَدًا .

سَرِيَّةُ عُرَنَةَ

فَصْلٌ [ /1 L29349 سَرِيَّةُ عُرَنَةَ /1 ] ثُمَّ أَنْفَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ سَرِيَّةً إِلَى سُفْيَانَ بْنِ نُبَيْحٍ الْهُذَلِيِّ بِعُرَنَةَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الْخَامِسِ مِنَ الْمُحَرَّمِ ، وَكَانَ يَجْمَعُ الْجُمُوعَ لِمُحَارَبَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَارَ إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ غِيلَةً ، وَاحْتَزَّ رَأْسَهُ وَأَتَى بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي يَوْمِ الْجَمْعِ بَعْدَ ثَمَانِيَةَ عَشْرَ يَوْمًا ، وَكَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمَّا رَآهُ قَالَ : " أَفْلَحَ الْوَجْهُ مَا صَنَعْتَ " ، قَالَ : قَتَلْتُهُ وَهَذَا رَأْسُهُ . قَالَ : فَدَفَعَ إِلَيَّ عَصًا وَقَالَ : " تَحَصَّنْ بِهَذِهِ فِي الْجَنَّةِ " فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُدْرِجُوهَا فِي كَفَنِهِ ، فَفَعَلُوا .

ذِكْرُ خَبَرِ بِئْرِ مَعُونَةَ

[ ذِكْرُ خَبَرِ بِئْرِ مَعُونَةَ ] ثُمَّ سَرِيَّتُهُ إِلَى بِئْرِ مَعُونَةَ سرية فِي صَفَرٍ أَخْرَجَ فِيهِ الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو السَّاعِدِيَّ فِي سَبْعِينَ رَجُلًا مِنَ الْقُرَّاءِ خَرَجُوا فِي جِوَارِ مُلَاعِبِ الْأَسِنَّةِ لِيَدْعُوا قَوْمَهُ إِلَى الْإِسْلَامِ ، فَجَمَعَ عَلَيْهِمْ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ قَبَائِلَ بَنِي سُلَيْمٍ وَقَتَلَ جَمِيعَهُمْ ، إِلَّا عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ ، فَإِنَّهُ أَعْتَقَهُ عَنْ أُمِّهِ فَعَادَ وَحْدَهُ ، وَلَقِيَ فِي طَرِيقِهِ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي كِلَابٍ ، لَهُمَا أَمَانٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَتَلَهُمَا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِأَمَانِهِ فَوَادَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أَخْبَرَهُ ، وَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجْدًا عَظِيمًا، وَكَان فِيهِمْ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ فَقَالَ : إِنَّ الْمَلَائِكَةَ وَارَتْ جُثَّتَهُ ، وَأُنْزِلَ عِلِّيِّينَ ، وَنَزَلَ فِيهِمْ قُرْآنٌ قُرِئَ ثُمَّ نُسِخَ أَوْ نُسِيَ " بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا ، أَنَّا لَقِينَا رَبَّنَا ، فَرَضِيَ عَنَا وَرَضِينَا عَنْهُ " . وَقَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَهْرًا فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ : يَدْعُو عَلَى رَعْلٍ وَذَكْوَانَ ، وَعَصِيَّةَ ، وَبَنِي لَحْيَانَ ، وَقَالَ : اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي

يُوسُفَ إِلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [ آلِ عِمْرَانَ : 128 ] فَتَرَكَ .

غَزْوَةُ الرَّجِيعِ

[ غَزْوَةُ الرَّجِيعِ ] ثُمَّ سَرِيَّةُ الرَّجِيعِ فِي صَفَرٍ ، وَسَبَبُهَا أَنَّ رَهْطًا مِنْ عَضَلَ وَالْقَارَّةِ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالُوا : إِنَّ فِينَا إِسْلَامًا ، فَابْعَثْ مَعَنَا نَفَرًا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ ، وَيُفَقِّهُونَنَا فِي الدِّينِ ، فَأَنْفَذَ مَعَهُمْ عَشَرَةً ، أَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ عَدِيٍّ ، وَقِيلَ : مَرْثَدَ بْنَ أَبِي مَرْثَدٍ . وَالرَّجِيعُ : مَاءٌ بِالْهَدَاةِ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ مِنْ عُسْفَانَ ، فَغَدَرُوا بِالْقَوْمِ ، وَقَتَلُوا بَعْضَهُمْ ، وَبَاعُوا بَعْضَهُمْ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ حَتَّى قَتَلُوا بِقَتْلَاهُمْ ، فَقُتِلُوا جَمِيعًا .

غَزْوَةُ بَنِي النَّضِيرِ

فَصْلٌ : [ غَزْوَةُ بَنِي النَّضِيرِ ] ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَزْوَةَ بَنِي النَّضِيرِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ . وَسَبَبُهَا : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ إِلَيْهِمْ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لِلْعَهْدِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ : يَسْتَعِينُ بِهِمْ فِي الدِّيَتَيْنِ عَلَى الْقَتِيلَيْنِ اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ : فَهَمُّوا بِقَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِلْقَاءِ حَجَرٍ عَلَيْهِ ، فَعَلِمَ بِهِ ، وَعَادِ إِلَى الْمَدِينَةِ ، وَتَبِعَهُ أَصْحَابُهُ ، وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ سَبَبَ عَوْدِهِ ، وَرَاسَلَ بَنِي النَّضِيرِ أَنْ يَخْرُجُوا عَنْ بِلَادِهِ ، فَهَمُّوا بِذَلِكَ ، حَتَّى رَاسَلَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ أَنَّهُ يَنْصُرُهُمْ فِي أَلْفَيْ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ ، وَمِنْ خُلَطَائِهِ ، فَقَوِيَتْ بِهِ نُفُوسُهُمْ ، وَامْتَنَعُوا عَنِ الْخُرُوجِ : فَسَارَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَصْحَابِهِ ، فَصَلَّى الْعَصْرَ بِفِنَاءِ بَنِي النَّضِيرِ ، وَحَمَلَ رَايَتَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ ، وَحَاصَرَهُمْ فِي حُصُونِهِمْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَقَطَعَ عَلَيْهِمْ نَخْلَهُمْ بِالنُّوَيْرِ : فَقَالُوا : نَحْنُ نَخْرُجُ عَنْ بِلَادِكَ فَقَالَ : لَا أَقْبَلُهُ الْيَوْمَ مِنْكُمْ ، وَخَذَلَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ، ثُمَّ أَجْلَاهُمْ عَنْهَا عَلَى أَنَّ لَهُمْ دِمَاءَهُمْ ، وَمَا حَمَلَتْهُ الْإِبِلُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، إِلَّا الْحَلْقَةَ يَعْنِي السِّلَاحَ ، وَوَلَّى مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ إِخْرَاجَهُمْ ، فَخَرَجُوا بِنِسَائِهِمْ ، وَصِبْيَانِهِمْ ، وَتَحَمَّلُوا سِتَّمِائَةِ بَعِيرٍ حَتَّى نَزَلُوا خَيْبَرَ وَقَبَضَ الْأَرْضِينَ وَالْحَلْقَةَ ، فَوَجَدَ فِيهَا خَمْسًا وَخَمْسِينَ بَيْضَةً وَثَلَاثَمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَيْفًا ، وَاصْطَفَى أَمْوَالَهُمْ خَالِصَةً لَهُ : حَبْسًا لِنَوَائِبِهِ وَلَمْ يُخَمِّسْهَا لِأَنَّهَا مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَوَسَّعَ فِي النَّاسِ ، فَأَعْطَى مِنْهَا أُنَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ ، فَأَعْطَى أَبَا بَكْرٍ بِئْرَ حَجَرٍ ، وَأَعْطَى عُمَرَ بِئْرَ خُمٍّ وَأَعْطَى عَبْدَ

الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ سُؤَالَهُ ، وَأَعْطَى صُهَيْبَ بْنَ سِنَانٍ السُّرَاطَةَ ، وَأَعْطَى الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَأَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ الْبُوَيْرَةَ ، وَأَعْطَى سَهْلَ بْنَ حَنِيفٍ وَأَبَا دُجَانَةَ مَالَ ابْنِ خَرَشَةَ .

غَزْوَةُ بَدْرٍ الصُّغْرَى

[ غَزْوَةُ /72 بَدْرٍ /72 الصُّغْرَى ] ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَزْوَةَ بَدْرٍ الصُّغْرَى لِمَوْعِدِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ يَوْمَ أُحُدٍ : يَا مُحَمَّدُ الْمَوْعِدُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ " بَدْرٌ " وَكَانَتْ بَدْرٌ سُوقًا لِلْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، يَجْتَمِعُونَ فِيهَا فِي هِلَالِ ذِي الْقَعْدَةِ إِلَى الثَّامِنِ مِنْهُ ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهَا عَلَى مَوْعِدِ أَبِي سُفْيَانَ فِي هِلَالِ ذِي الْقَعْدَةِ فِي أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِمْ عَشَرَةُ أَفْرَاسٍ ، وَحَمَلَ لِوَاءَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ ، وَخَرَجُوا بِبَضَائِعَ لَهُمْ ، وَتِجَارَاتٍ ، فَقَدِمُوا سُوقَ بَدْرٍ ، وَهِيَ الصَّفْرَاءُ لَيْلَةَ ذِي الْقَعْدَةِ ، وَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ مِنْ مَكَّةَ فِي أَلْفَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ ، وَحُلَفَائِهِمْ حَتَّى بَلَغَ مَرَّ الظَّهْرَانِ ، وَهُوَ نَادِمٌ عَلَى الْمَوْعِدِ ، ثُمَّ رَجَعَ لِجَدْبِ الْعَامِ ، فَعَادُوا لِيَتَأَهَّبُوا لِغَزْوَةِ الْخَنْدَقِ ، وَرَبِحَ الْمُسْلِمُونَ فِي تِجَارَاتِهِمْ لِلدِّرْهَمِ دِرْهَمًا ، فَنَزَلَ فِيهِمْ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [ آلِ عِمْرَانَ : 174 ] . وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وُلِدَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَعْبَانَ . وَفِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مِنْ رُقَيَّةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ ابْنُ سِتِّ سِنِينَ . وَفِيهَا : تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّ سَلَمَةَ بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ فِي شَوَّالٍ ، وَدَخَلَ بِهَا . وَفِيهَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ الْيَهُودِ ، وَقَالَ : لَا آمَنُ أَنْ يُبَدِّلُوا كِتَابِي . وَسُمِّيَتْ هَذِهِ السَّنَةُ عَامَ بَنِي النَّضِيرِ : لِأَنَّهُ أَعَمُّ مَا كَانَ فِيهَا ، فَكَانَ لَهُ فِيهَا غَزْوَتَانِ ، وَأَرْبَعُ سَرَايَا .

غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ

فَصْلٌ [ غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ ] ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ ، فَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ . وَسَبَبُهَا أَنَّ

الْخَبَرَ وَرَدَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِأَنَّ بَنِي أَنْمَارٍ وَبَنِي ثَعْلَبَةَ قَدْ تَجَمَّعُوا لِحَرْبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ : فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لَيْلَةِ السَّبْتِ الْعَاشِرِ مِنَ الْمُحَرَّمِ فِي أَرْبَعِمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَقِيلَ : فِي سَبْعِمِائَةٍ ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ ، وَسَارَ حَتَّى بَلَغَ ذَاتَ الرِّقَاعِ ، وَهُوَ جَبَلٌ فِيهِ حُمْرَةٌ ، وَسَوَادٌ ، وَبَيَاضٌ ، سُمِّيَ بِهِ ذَاتُ الرِّقَاعِ ، فَوَجَدَ الْقَوْمَ قَدْ تَفَرَّقُوا فِي الْجِبَالِ ، وَظَفِرَ بِنِسْوَةٍ أَخَذَهُنَّ ، وَصَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْخَوْفِ ، وَهِيَ أَوَّلُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا فِي الْخَوْفِ وَعَادَ ، وَابْتَاعَ مِنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ جَمَلَهُ بِأُوقِيَّةٍ ، وَشَرَطَ لَهُ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ ، وَعَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا .

غَزْوَةُ دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ

[ غَزْوَةُ دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ ] ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَزْوَةَ دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ ، وَهِيَ مِنْ أَطْرَافِ الشَّامِ ، بَيْنَهَا وَبَيْنَ دِمَشْقَ خَمْسُ لَيَالٍ ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً . وَسَبَبُهَا وُرُودُ الْخَبَرِ أَنَّهُ يُجْمَعُ بِهَا جَمْعٌ كَبِيرٌ يُرِيدُونَ طُرُقَ الْمَدِينَةِ ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فِي أَلْفِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، يَسِيرُ اللَّيْلَ ، وَيَكْمُنُ النَّهَارَ ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ الْغِفَارِيَّ ، وَوَصَلَ إِلَيْهَا وَقَدْ هَرَبَ الْقَوْمُ عَنْهَا ، وَاسْتَاقَ بَعْضَ نَعَمِهِمْ ، وَأَقَامَ فِيهَا أَيَّامًا يَبُثُّ السَّرَايَا ، فَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا فَعَادَ وَوَادَعَ فِي طَرِيقِهِ عُيَيْنَةَ بْنَ حُصَيْنٍ ، وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ .

غَزْوَةُ الْمُرَيْسِيعِ

[ غَزْوَةُ الْمُرَيْسِيعِ ] ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَزْوَةَ الْمُرَيْسِيعِ إِلَى بَنِي الْمُصْطَلَقِ مِنْ خُزَاعَةَ ، وَالْمُرَيْسِيعُ : مَا كَانُوا نُزُولًا عَلَيْهِ .

وَسَبَبُهَا وُرُودُ الْخَبَرِ أَنَّ سَيِّدَهُمُ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي ضِرَارٍ يَجْمَعُ قَوْمَهُ ، وَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَرَبِ لِقَصْدِ الْمَدِينَةِ ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الثَّانِي مِنْ شَعْبَانَ فِي نَاسٍ كَثِيرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، وَخَرَجَ مَعَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَخْرُجُوا فِي غَزَاةٍ قَبْلَهَا ، وَكَانَ مَعَهُمْ ثَلَاثُونَ فَرَسًا : عَشْرٌ مِنْهَا لِلْمُهَاجِرِينَ ، وَعِشْرُونَ لِلْأَنْصَارِ ، وَدَفَعَ رَايَةَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ ، وَرَايَةَ الْأَنْصَارِ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ ، وَوَصَلَ إِلَى الْمُرَيْسِيعِ وَظَفِرَ بِالْقَوْمِ ، قِيلَ : إِنَّهُ شَنَّ الْغَارَةَ عَلَيْهِمْ بَيَاتًا . وَقِيلَ : بِقِتَالٍ وَمُحَارَبَةٍ ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ عَشَرَةً ، وَأَسَرَ بِاقِيَهُمْ ، فَلَمْ يُفْلَتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ ، وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ ، وَكَانُوا مِائَتَيْ ثَيِّبٍ ، وَاسْتَاقَ نَعَمَهُمْ ، فَكَانَتِ الْإِبِلُ أَلْفَيْ بَعِيرٍ ، وَالشَّاةُ خَمْسَ آلَافِ شَاةٍ ، فَجَعَلَ الْبَعِيرَ بِعَشْرِ شِيَاهٍ ، وَقَسَمَهُمْ بَعْدَ أَخْذِ الْخُمُسِ ، وَأَسْهَمَ فِيهَا لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ : سَهْمًا لَهُ ، وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا وَاحِدًا . وَكَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَسَانِ : لِزَازٌ وَالظَّرِبُ فَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ أَخَذَ إِلَّا سَهْمَ فَرَسٍ وَاحِدَةٍ ، وَكَانَ فِي السَّبْيِ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ ، وَحَصَلَتْ فِي سَهْمِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ أَوْ لِابْنِ عَمٍّ لَهُ ، فَكَاتَبَاهَا عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ ذَهَبًا ، فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كِتَابَتِهَا فَأَدَّاهَا عَنْهَا ، وَتَزَوَّجَهَا ، وَجَعَلَ صَدَاقَهَا عِتْقَ كُلِّ أَسِيرٍ مِنْ قَوْمِهَا . وَقِيلَ : عَتَقَ أَرْبَعِينَ مِنْهُمْ ، وَمَنَّ عَلَى أَكْثَرِ السَّبْيِ ، وَقَدِمَ بِبَاقِيهِمُ الْمَدِينَةَ ، فَفَدَاهُمْ أَهْلُوهُمْ حَتَّى خَلَصُوا جَمِيعًا ، وَفِيهَا تَنَازَعَ جَهْجَاهُ بْنُ سَعِيدٍ الْغِفَارِيُّ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَسِنَانُ بْنُ وَبْرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ عَلَى مَاءٍ ، فَضَرَبَهُ جَهْجَاهُ ، فَتَنَافَرَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ ، وَشَهَرُوا السِّلَاحَ ، ثُمَّ اصْطَلَحُوا ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ ، إِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لِيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ، فَذَكَرَ ذَلِكَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَارَ لِوَقْتِهِ ، وَوَقَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ عَلَى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ ، فَقَالَ لِأَبِيهِ : لَا أُفَارِقُكَ حَتَّى تَزْعُمَ أَنَّكَ الذَّلِيلُ وَمُحَمَّدٌ الْعَزِيزُ ، فَمَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : دَعْهُ ، فَلْنُحْسِنْ صُحْبَتَهُ مَا دَامَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا . وَفِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ ضَاعَ عِقْدٌ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، فَأَقَامَ النَّاسُ عَلَى طَلَبِهِ حَتَّى أَصْبَحُوا عَلَى غَيْرِ مَاءٍ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ التَّيَمُّمِ ، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ لَيْسَتْ هَذِهِ أَوَّلَ بَرَكَاتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ : فَإِنَّهُ مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ تَكْرَهِينَهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مَخْرَجًا ، وَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ خَيْرًا . وَفِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ كَانَ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي الْإِفْكِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ مَا أَنْزَلَ ، وَعَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي هِلَالِ شَهْرِ رَمَضَانَ بَعْدَ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ يَوْمًا .

غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ

فَصْلٌ : [ غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ ] ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَزْوَةَ الْخَنْدَقِ ، وَهِيَ غَزْوَةُ الْأَحْزَابِ . وَسَبَبُهَا : أَنَّ بَنِي النَّضِيرِ لَمَّا أُجْلُوا إِلَى خَيْبَرَ فَقَصَدَ أَشْرَافُهُمْ مَكَّةَ ، وَحَرَّضُوا قُرَيْشًا عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَاهَدُوهُمْ ، فَاجْتَمَعُوا فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ ، فِيهِمْ ثَلَاثُمِائَةِ فَرَسٍ وَأَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةِ بَعِيرٍ ، عَلَيْهِمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ ، وَاسْتَعْدَوُا الْعَرَبَ ، فَجَاءَهُمُ الْأَحْزَابُ مِنَ الْقَبَائِلِ حَتَّى اسْتَكْمَلُوا عَشَرَةَ آلَافٍ ، وَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُرُوجُهُمْ مِنْ مَكَّةَ ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَشَاوَرَهُمْ فِيهِ ، فَأَشَارَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ ، فَأَجْمَعَتِ الْمُسْلِمُونَ ، وَحَفَرُوهُ ، وَعَمِلَ مَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَفْسِهِ ، وَكَانَ الْأَنْصَارُ يَقُولُونَ ، وَهُمْ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ : نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : اللَّهُمَّ إِنَّ الْخَيْرَ خَيْرُ الْآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ وَرَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْقُلُ مَعَنَا التُّرَابَ ، وَقَدْ وَارَى التُّرَابُ بَيَاضَ بَطْنِهِ ، وَهُوَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا إِنَّ الْأُولَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا وَفَرَغُوا مِنَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ ، وَجَعَلُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ فِي الْآطَامِ ، وَنَزَلَتْ قُرَيْشٌ وَالْأَحْزَابُ ، وَعَلَى جَمِيعِهِمْ أَبُو سُفْيَانَ ، وَعَسْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَفْحِ " سَلَعٍ " وَجَعَلَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ ، وَمَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةُ آلَافِ رَجُلٍ ، هُمْ عَلَى أَشَدِّ خَوْفٍ وَوَجَلٍ ، وَدَفَعَ لِوَاءَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ ، وَلِوَاءَ الْأَنْصَارِ

إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ ، وَدَعَا أَبُو سُفْيَانَ بَنِي قُرَيْظَةَ إِلَى نَقْضِ عَهْدِهِمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَجَابُوهُ بَعْدَ الِامْتِنَاعِ ، فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ قَالَ : حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ : لِأَنَّهُ خَافَهُمُ عَلَى الذَّرَارِيِّ ، وَكَانُوا مِنْ وَرَائِهِمْ ، وَنَزَلَ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ الْآيَةَ [ الْأَحْزَابِ : 10 ] . وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَنَاوَبُونَ الْقِتَالَ ، فَيُقَاتِلُ أَبُو سُفْيَانَ فِي أَصْحَابِهِ يَوْمًا ، وَيُقَاتِلُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَوْمًا ، وَيُقَاتِلُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ يَوْمًا ، وَيُقَاتِلُ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ يَوْمًا ، وَيُقَاتِلُ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ يَوْمًا . وَالْخَنْدَقُ حَاجِزٌ ، وَالْمُسْلِمُونَ يَحْفَظُونَ أَقْطَارَهُ ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ : هَذِهِ مَكِيدَةٌ مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَصْنَعُهَا ، فَأَنَّى لَهُمْ هَذَا ؟ فَقِيلَ لَهُمْ : إِنَّ مَعَهُمْ رَجُلًا فَارِسِيًّا أَشَارَ بِهِ عَلَيْهِمْ ، فَاجْتَمَعُوا بِأَسْرِهِمْ ، وَقَصَدُوا أَضْيَقَ مَوْضِعٍ فِي الْخَنْدَقِ أَغْفَلَهُ الْمُسْلِمُونَ ، فَعَبَرَ مِنْهُ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ ، وَنَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، وَضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ ، وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ وَدٍّ ، وَطَلَبَ عَمْرٌو الْبُرُوزَ وَكَانَ ابْنَ تِسْعِينَ سَنَةً ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، فَقَتَلَهُ ، وَقَتَلَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ نَوْفَلَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بِالسَّيْفِ ، فَقَطَعَهُ اثْنَيْنِ ، وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ ، وَقَصَدَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْجِهَةَ الَّتِي فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَشَاغَلَ بِحَرْبِهِ حَتَّى أَخَّرَ صَلَاةَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَعِشَاءِ الْآخِرَةِ ، حَتَّى انْكَفَأُوا رَاجِعِينَ مُتَوَاعِدِينَ لِلْغَدِ ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ لِلظَّهْرِ ، وَأَقَامَ لِكُلِّ صَلَاةٍ بَعْدَهَا وَلَمْ يُؤَذِّنْ ، وَقَالَ : شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى مَلَأَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا . وَصَلَّاهَا جَمِيعُ أَصْحَابِهِ ، فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلِ وَالْمُشْرِكُونَ عَلَى تَرْتِيبِ قِتَالِهِمْ مِنَ الْغَدِ سَعَى بَيْنَهُمْ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ ، وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ فَخَذَّلَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ حَتَّى اخْتَلَفُوا ، وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسْجِدِ الْأَحْزَابِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَقُولُ : اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ ، سَرِيعَ الْحِسَابِ ، اهْزِمِ الْأَحْزَابَ ، وَزَلْزِلْهُمْ فَعَصَفَتِ بِهِمُ الرِّيحُ حَتَّى زَلْزَلَتْهُمْ ، فَانْهَزَمُوا ، وَتَفَرَّقَ جَمْعُهُمْ ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَمْسَةٌ مِنْهُمْ : سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رَمَاهُ ابْنُ الْعَرِقَةِ بِسَهْمٍ فِي أَكْحَلِهِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ بَذَلَ لِعُيَيْنَةَ الثُّلُثَ مِنْ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ : لِيَرْجِعَ عَنِ الْأَحْزَابِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ غَطَفَانَ فَامْتَنَعَ أَنْ يَأْخُذَ إِلَّا الشَّطْرَ ، فَشَاوَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ ، وَسَعْدَ بْنَ عِبَادَةٍ فَقَالَا : إِنْ كُنْتَ قَدْ أُمِرْتَ بِشَيْءٍ فَافْعَلْ ، وَإِنْ لَمْ تُؤْمَرْ فَمَا تُعْطِيهِمْ إِلَّا السَّيْفَ ، فَقَالَ : إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ شَاوَرْتُكُمَا فِيهِ ثُمَّ هَزَمَ اللَّهُ الْأَحْزَابَ صَبِيحَةَ اخْتِلَافِهِمْ بَعْدَ حِصَارِ الْمَدِينَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَدِينَةِ مَسْرُورًا فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ .

غَزْوَةُ بَنِي قُرَيْظَةَ

فَصْلٌ : [ غَزْوَةُ بَنِي قُرَيْظَةَ ] ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَنِي قُرَيْظَةَ غزوة : لِنَقْضِهِمُ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ ، وَطَاعَتِهِمْ لِأَبِي سُفْيَانَ : ذَلِكَ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا عَادَ مِنَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ انْهِزَامِ الْأَحْزَابِ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ حِينَ دَخَلَ مَنْزِلَ عَائِشَةَ ، يُؤْمَرُ بِالْمَسِيرِ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ ، فَدَفَعَ لِوَاءَهُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَنَادَى فِي النَّاسِ : لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الظُّهْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ ، وَكَانَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ الثَّالِثَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ الَّذِي انْهَزَمَتْ فِيهِ الْأَحْزَابُ فَتَخَوَّفَ قَوْمٌ فَوَاتَ الصَّلَاةِ فَصَلَّوْا ، وَقَالَ قَوْمٌ : لَا نُصَلِّي إِلَّا حَيْثُ أُمِرْنَا وَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ ، فَمَا عَنَّفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ ، وَسَارَ إِلَيْهِمْ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ ، وَغَزَا وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ ، وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ ، وَالْخَيْلُ سِتٌّ وَثَلَاثُونَ فَرَسًا ، وَحَاصَرَهُمْ فِي حُصُونِهِمْ أَشَدَّ الْحِصَارِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا ، وَكَانُوا سَأَلُوا إِنْفَاذَ أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ إِلَيْهِمْ ، فَلَمَّا تَقَدَّمَ شَاوَرُوهُ فِي أَثْرِهِمْ ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِهِ أَنَّهُ الذَّبْحُ ، ثُمَّ نَدِمَ فَاسْتَرْجَعَ ، وَقَالَ : حَنِثَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، فَانْصَرَفَ وَارْتَبَطَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَلَمْ يَأْتِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ ، ثُمَّ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَكُتِّفُوا ، وَعُزِلُوا عَنِ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ ، وَغَنَمَ مَا فِي حُصُونِهِمْ ، فَوَجَدَ فِيهَا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ سَيْفٍ ، وَثَلَاثَمِائَةِ دِرْعٍ وَأَلْفَيْ رُمْحٍ وَأَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ تُرْسٍ ، فَخَمَّسَ ، وَوَجَدَ خَمْرًا فَأُهْرِيقَ ، وَلَمْ يُخَمَّسْ وَوَجَدَ لَهُمْ مَوَاشِيَ كَثِيرَةً ، وَبِيعَتِ الْأَمْتِعَةُ فِيمَنْ يُرِيدُ ، وَقُسِّمَتِ الْغَنِيمَةُ بَعْدَ إِخْرَاجِ خُمُسِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافٍ وَاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ سَهْمًا ، لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا وَاحِدًا ، وَقَسَمَ السَّبْيَ ، وَاصْطَفَى مِنْهُ رَيْحَانَةَ بِنْتَ عَمْرٍو لِنَفْسِهِ ، وَاجْتَمَعَ الْأَوْسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُونَهُ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ لِحِلْفٍ كَانَ بَيْنَهُمْ ، فَحَكَّمَ فِيهِمْ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ ، وَكَانَ بِهِ الْجُرْحُ الَّذِي رَمَاهُ ابْنُ الْعَرِقَةِ ، فَحَكَمَ سَعْدٌ أَنَّ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي قُتِلَ ، وَمَنْ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي اسْتُرِقَّ ، وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ ، وَتُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : هَذَا حُكْمُ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ يَعْنِي : سَبْعَ سَمَوَاتٍ . وَحَكَى حُمَيْدٌ أَنَّ مُعَاذًا حَكَمَ أَنْ يَكُونَ الدِّيَارُ لِلْمُهَاجِرِينَ دُونَ الْأَنْصَارِ ، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ : إِخْوَانُنَا كُنَّا مَعَهُمْ ، فَقَالَ : إِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ يَسْتَغْنَوْا عَنْكُمْ ، فَلَمَّا حَكَمَ

سَعْدٌ بِمَا حَكَمَ ، وَكَانَ قَدْ رَمَاهُ ابْنُ الْعَرِقَةِ فِي أَكْحَلِهِ دَعَا أَنْ لَا يَمُوتَ حَتَّى يَشْفِيَهُ اللَّهُ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ ، فَمُرَّ بِهِ بَعْدَ حُكْمِهِ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ ، فَأَصَابَتِ الْجُرْحَ بِظِلْفِهَا فَمَا رَقَأَ حَتَّى مَاتَ ، وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَدِينَةِ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ السَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَأُدْخِلُوا الْمَدِينَةَ ، وَحَفَرَ لَهُمْ أُخْدُودًا فِي السُّوقِ ، وَجَلَسَ عَلَيْهِ مَعَ أَصْحَابِهِ ، وَأُحْضِرُوا إِلَيْهِ رَسَلًا رَسَلًا فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ ، وَكَانُوا مَا بَيْنَ سِتِّمِائَةٍ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ ، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ السَّنَةُ عَامَ الْخَنْدَقِ : لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مَا كَانَ فِيهَا . وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ حِينَ نَزَلَ عَنْهَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ ، وَنَزَلَ فِيهَا مِنَ الْقُرْآنِ مَا نَزَلَ ، وَكَانَتْ غَزَوَاتُهُ فِيهَا خَمْسًا .

سَرِيَّةِ ابْنِ مَسْلَمَةَ

فَصْلٌ : [ ذِكْرُ أَحْدَاثِ سَنَةِ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ سَرِيَّةِ ابْنِ مَسْلَمَةَ ] ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ ، فَابْتَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا بِسَرِيَّةِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا إِلَى الْقَرْطَاءِ فِي الْعَاشِرِ مِنَ الْمُحَرَّمِ ، فَقَتَلَ نَفَرًا مِنْهُمْ ، وَهَرَبَ بَاقُوهُمْ ، وَاسْتَاقَ نَعَمَهُمْ ، وَلَمْ يَعْرِضْ لِلسَّبْيِ ، وَقَدِمَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ بَعِيرًا وَبِأَلْفِ شَاةٍ بَعْدَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا .

غَزْوَةُ بَنِي لِحْيَانَ

[ غَزْوَةُ بَنِي لِحْيَانَ ] ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَزْوَةَ بَنِي لِحْيَانَ بِنَاحِيَةِ عُسْفَانَ : لِأَجْلِ مَنْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بِئْرِ مَعُونَةَ ، وَخَرَجَ فِي هِلَالِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فِي مِائَتَيْ رَجُلٍ وَمَعَهُمْ عِشْرُونَ فَرَسًا ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ ، وَسَارَ إِلَيْهِمْ ، فَهَرَبُوا فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ ، وَنَزَلَ عُسْفَانَ ، وَبَثَّ مِنْهَا السَّرَايَا ، فَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا ، وَصَلَّى بِهِمْ بِهَا صَلَاةَ الْخَوْفِ . وَخَرَّ رَاكِعًا ، وَهُوَ يَقُولُ : آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ ، أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ ، وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ . وَعَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا .

غَزْوَةُ الْغَابَةِ

[ غَزْوَةُ الْغَابَةِ ] ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَزْوَةَ الْغَابَةِ وَهِيَ طَرِيقُ الشَّامِ عَلَى بَرِيدٍ مِنَ الْمَدِينَةِ . وَسَبَبُهَا : أَنَّ عِشْرِينَ لِقْحَةً كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْغَابَةِ فِيهَا أَبُو ذَرٍّ أَغَارَ عَلَيْهَا عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ فِي أَرْبَعِينَ فَارِسًا ، وَقَتَلُوا ابْنَ أَبِي ذَرٍّ ، وَجَاءَ الصَّرِيخُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنُودِيَ : يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا نُودِيَ بِهَا ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَقْتِهِ مِنْ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ مُقَنَّعًا بِالْحَدِيدِ ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَقْبَلَ إِلَيْهِ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو ، فَعَقَدَ

لَهُ اللِّوَاءَ فِي رُمْحِهِ ، وَقَدَّمَهُ أَمَامَهُ ، فَتَلْحَقُهُ الْخُيُولُ ، وَسَارَ فِي أَثَرِهِ بِخَمْسِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَتَسَرَّعَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ رَاجِلًا ، فَبَكَى ، وَأَبْلَى وَهُوَ يَقُولُ : أَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ وَاسْتَرْجَعُوا مِنْهُمْ عَشْرَ لَقَائِحَ ، وَهَرَبُوا بِعَشْرٍ بَعْدَ أَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ عَدَدٌ ، وَقَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكُلِّ مِائَةٍ جَزُورًا يَنْحَرُونَهَا ، وَقَالَ : خَيْرُ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ ، وَخَيْرُ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ ، وَنَزَلَ بِذِي قَرَدٍ ، فَأَقَامَ بِهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً ، وَصَلَّى فِيهِ صَلَاةَ الْخَوْفِ ، وَعَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ ، وَأَرْدَفَ سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ فِي طَرِيقِهِ .

سَرِيَّةُ عُكَّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ

[ سَرِيَّةُ عُكَّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ ] ثُمَّ سَرِيَّةُ عُكَّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ إِلَى الْغَمْرِ عَلَى لَيْلَتَيْنِ مِنْ فَيْدَ أَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فِي أَرْبَعِينَ رَجُلًا إِلَى بَنِي أَسَدٍ ، فَهَرَبُوا وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا ، وَاسْتَاقَ مِنْهُمْ مِائَتَيْ بَعِيرٍ وَقَدِمَ بِهَا الْمَدِينَةَ .

سَرِيَّةُ ذِي الْقَصَّةِ

[ سَرِيَّةُ ذِي الْقَصَّةِ ] ثُمَّ أَنْفَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فِي سَرِيَّةٍ إِلَى ذِي الْقَصَّةِ سرية إِلَى بَنِي ثَعْلَبَةَ ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ مِيلًا طَرِيقَ الرَّبَذَةِ ، وَبَعَثَ مَعَهُ عَشَرَةَ نَفَرٍ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ ، وَأَحَاطَ الْقَوْمُ بِهِمْ وَكَانُوا مِائَةً فَقَتَلُوهُمْ . وَوَقَعَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ صَرِيعًا بَيْنَهُمْ ، فَضُرِبَ كَعْبُهُ فَلَمْ يَتَحَرَّكْ ، وَجَرَّدُوهُمْ مِنَ الثِّيَابِ ، وَمَرَّ بِمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ ، فَحَمَلَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَأَنْفَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى ذِي الْقَصَّةِ لِطَلَبِ الْقَوْمِ فِي أَرْبَعِينَ ، فَهَرَبُوا فِي الْجِبَالِ ، وَاسْتَاقَ مِنْ نَعَمِهِمْ ، وَقَدِمَ بِهِ الْمَدِينَةَ ، فَخَمَّسَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلًا وَقَسَمَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ فِيهِمْ .

سَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إِلَى الْعِيصِ

[ سَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إِلَى الْعِيصِ ] ثُمَّ بَعَثَ سَرِيَّةَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلى العيص فِي جُمَادَى الْأُولَى فِي مِائَةٍ وَسَبْعِينَ رَاكِبًا : لِيَعْتَرِضُوا عِيرًا لِقُرَيْشٍ وَرَدَتْ مِنَ الشَّامِ فِيهَا فِضَّةٌ كَثِيرَةٌ لِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ ، وَأَمْوَالٌ ، فَظَفِرَ بِهَا وَأَسَرَ نَاسًا فِيهَا مِنْهُمْ : أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ ، وَقَدِمَ بِهِ الْمَدِينَةَ فَاسْتَجَارَ بِزَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَتْ زَوْجَتَهُ ، فَخَرَجَتْ بَعْدَ إِجَارَتِهِ ، وَنَادَتْ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ : أَنِّي قَدْ أَجَرْتُ أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا عَلِمْتُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا ، وَقَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ ، وَرَدَّ عَلَيْهِ مَا أُخِذَ مِنْهُ ، وَعَادَ إِلَى مَكَّةَ حَتَّى رَدَّ عَلَى النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ ، وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُسْلِمًا .

سَرِيَّةُ الطَّرَفِ

[ سَرِيَّةُ الطَّرَفِ ] ثُمَّ بَعَثَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ إِلَى الطَّرَفِ سرية ، وَهُوَ مَا دُونَ النَّخِيلِ عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ مِيلًا مِنَ الْمَدِينَةِ طَرِيقَ النَّقْرَةِ إِلَى بَنِي ثَعْلَبَةَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا ، فَأَصَابَ نَعَمًا وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا ، وَعَادَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ، وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ .

سَرِيَّةُ ابْنِ ثَابِتٍ إِلَى حِسْمَى

[ سَرِيَّةُ ابْنِ ثَابِتٍ إِلَى حِسْمَى ] ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْنَ حَارِثَةَ إِلَى حِسْمَى سرية ، وَهِيَ وَرَاءَ وَادِي الْقُرَى فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ فِي خَمْسِمِائَةِ رَجُلٍ . وَسَبَبُهُ أَنَّ نَاسًا مِنْ جُذَامَ قَطَعُوا عَلَى دِحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيِّ حِينَ عَادَ مِنْ قَيْصَرَ بِرِسَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجَائِزَةٍ وَكُسْوَةٍ ، فَصَارَ إِلَيْهِمْ زَيْدٌ ، فَقَتَلَ فِيهِمْ قَتْلًا ذَرِيعًا ، وَأَغَارَ عَلَى نَعَمِهِمْ ، فَأَخَذَ مِنَ الْإِبِلِ أَلْفَ بَعِيرٍ وَمِنَ الشَّاةِ خَمْسَةَ آلَافٍ ، وَمِنَ السَّبْيِ مِائَةً مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ، فَرَدَّ زَيْدُ بْنُ رِفَاعَةَ الْجُذَامِيُّ بِالْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ وَلِقَوْمِهِ مِنْ جُذَامَ لَيَالِيَ قَدِمَ عَلَيْهِ وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَا تُحَرِّمْ عَلَيْنَا حَلَالًا ، وَلَا تُحِلَّ لَنَا حَرَامًا ، فَأَنْفَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ حَرَمَهُمْ ، وَأَمْوَالَهُمْ ، فَلَقِيَهُ بِالْفَحْلَتَيْنِ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَذِي الْمَرْوَةِ ، فَأَبْلَغَهُ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَدَّ النَّاسَ وَالنَّعَمَ ، وَجَمِيعَ مَا كَانَ فِي أَيْدِيِهِمْ .

سَرِيَّةُ دُومَةِ الْجَنْدَلِ

[ سَرِيَّةُ دُومَةِ الْجَنْدَلِ ] ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَرِيَّةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ إِلَى دُومَةِ الْجَنْدَلِ لِدُعَاءِ مَنْ بِهَا مِنْ بَنِي كَلْبٍ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي شَعْبَانَ ، فَأَقْعَدَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَعَمَّمَهُ بِيَدِهِ وَقَالَ لَهُ : اغْزُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ ، فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَقَاتِلْ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ ، وَلَا تُعَذِّبْ وَلَا تَقْتُلْ وَلِيدًا ، فَإِنِ اسْتَجَابُوا لَكَ فَتَزَوَّجْ بِنْتَ مَلِكِهِمْ ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ حَتَّى قَدِمَ دُومَةَ الْجَنْدَلِ ، وَمَكَثَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامَ ، فَأَسْلَمَ رَأْسُهُمُ الْأَصْبَغُ بْنُ عَمْرٍو الْكَلْبِيُّ ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا وَتَزَوَّجَ بِنْتَهُ تُمَاضِرَ بِنْتَ الْأَصْبَغِ ، وَهِيَ أُمُّ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَأَسْلَمَ نَاسٌ كَثِيرٌ ، وَدَفَعَ الْبَاقُونَ الْجِزْيَةَ .

سَرِيَّةُ بَنِي سَعْدٍ

[ سَرِيَّةُ بَنِي سَعْدٍ ] ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَرِيَّةَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي مِائَةِ رَجُلٍ إِلَى بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ فِي الْهَمَجِ مَا بَيْنَ فَدَكَ وَخَيْبَرَ : لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَمْدَحُوا أَهْلَ خَيْبَرَ ، وَذَلِكَ

فِي شَعْبَانَ ، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَهَرَبُوا مِنْهُ ، وَأَخَذَ مِنْهُمْ خَمْسَمِائَةِ بَعِيرٍ وَأَلْفَيْ شَاةٍ ، وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا وَأَخَذَ مِنْهُ صَفِيَّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقُوحًا تُدْعَى الْجَعْدَةَ ثُمَّ عَزَلَ الْخُمُسَ ، وَقَسَمَ الْبَاقِيَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ .

سَرِيَّةُ أُمِّ قِرْفَةَ

[ سَرِيَّةُ /74 L4028 أُمِّ قِرْفَةَ /74 ] ثُمَّ بَعَثَ سَرِيَّةَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إِلَى أُمِّ قِرْفَةَ بِنَاحِيَةِ وَادِي الْقُرَى عَلَى سَبْعِ لَيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ . وَسَبَبُهُ أَنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ خَرَجَ فِي تِجَارَةٍ إِلَى الشَّامِ ، وَمَعَهُ بَضَائِعُ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَرَجَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ فَزَارَةَ ، فَضَرَبُوهُ ، وَأَخَذُوا مَا كَانَ مَعَهُ ، فَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ ، فَبَعَثَهُ إِلَيْهِمْ فَأَحَاطَ بِالْحَاضِرِ ، وَأَخَذُوا أُمَّ قِرْفَةَ ، وَهِيَ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَبِيعَةَ ، وَبِنْتَهَا جَارِيَةَ بِنْتَ مَالِكِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ . وَأَمَّا أُمُّ قِرْفَةَ فَقَتَلَهَا قَيْسُ بْنُ الْمُسَخَّرِ قَتْلًا عَنِيفًا ، رَبَطَ رِجْلَيْهَا بِحَبْلٍ بَيْنَ بَعِيرَيْنِ حَتَّى قَطَعَاهَا ، وَأَمَّا جَارِيَةُ فَأَخَذَهَا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ ، فَوَهَبَهَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَهَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحَزْنِ بْنِ أَبِي وَهْبٍ ، وَقَدِمَ زَيْدٌ فَقَرَعَ بَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَ إِلَيْهِ عُرْيَانًا يَجُرُّ ثَوْبَهُ حَتَّى اعْتَنَقَهُ ، وَقَبَّلَهُ ، وَسَأَلَهُ عَنْ خَبَرِهِ ، فَأَخْبَرَهُ بِظَفَرِهِ .

مَقْتَلُ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ

[ مَقْتَلُ /55 ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ /55 ] ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَرِيَّةً إِلَى قَتْلِ أَبِي رَافِعٍ سَلَّامِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ النَّضْرِيِّ بِخَيْبَرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ : لِأَنَّهُ كَانَ يَبْعَثُ قَبَائِلَ الْعَرَبِ عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَعَثَ إِلَيْهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَتِيكٍ ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ ، وَأَبَا قَتَادَةَ ، وَخُزَاعِيَّ بْنَ الْأَسْوَدِ ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ لَيْلًا وَقَتَلُوهُ فِي الظُّلْمَةِ ، وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَتْلَهُ ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْبَرُوهُ بِقَتْلِهِ ، وَتَنَازُعِهِمْ فِي قَاتِلِهِ ، أَخَذَ أَسْيَافَهُمْ فَنَظَرَ إِلَيْهَا فَرَأَى أَثَرَ الدَّمِ فِي ذُبَابِ سَيْفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ ، فَقَالَ : هَذَا قَاتِلُهُ .

سَرِيَّةُ ابْنِ رَوَاحَةَ إِلَى أَسِيرِ بْنِ رَقْرَامٍ

[ سَرِيَّةُ ابْنِ رَوَاحَةَ إِلَى أَسِيرِ بْنِ رَقْرَامٍ ] ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَرِيَّةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ إِلَى أَسِيرِ بْنِ رَقْرَامٍ الْيَهُودِيِّ بِخَيْبَرَ فِي شَوَّالٍ : لِأَنَّ الْيَهُودَ أَمَّرُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بَعْدَ قَتْلِ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ ، فَسَارَ إِلَى غَطَفَانَ ، وَبَعَثَهُمْ عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَعَثَ إِلَيْهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا أُمِدَّ بِهِمْ فَاسْتَأْمَنُوهُ وَاسْتَأْمَنَهُمْ : لِيَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى يَسْتَعْمِلَهُ عَلَى خَيْبَرَ ، فَطَمِعَ فِي ذَلِكَ ، وَخَرَجَ مَعَهُمْ فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا قَدِ ارْتَدَفَ كُلُّ يَهُودِيٍّ مَعَ مُسْلِمٍ ، ثُمَّ نَدِمَ أَسِيرٌ ، وَأَرَادَ أَنْ يَفْتِكَ بِالْقَوْمِ ، فَقَتَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ أَسِيرًا ، ضَرَبَهُ فَقَدَّ فَخِذَهُ ، وَضَرَبَهُ أَسِيرٌ فَشَجَّهُ مَأْمُومَةً ، وَقُتِلُوا جَمِيعًا ، وَلَمْ يُفْلَتْ مِنْهُمْ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ ، وَسَلِمَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ .

سَرِيَّةُ كُرْزٍ لِلْعُرَنِيِّينَ

[ سَرِيَّةُ كُرْزٍ لِلْعُرَنِيِّينَ ] ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْعُرَنِيِّينَ سَرِيَّةَ كُرْزِ بْنِ جَابِرٍ الْفِهْرِيِّ للعرنيين فِي شَوَّالٍ . وَسَبَبُهَا أَنَّ ثَمَانِيَةَ نَفَرٍ مِنْ عُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْلَمُوا وَاسْتَوْبَئُوا الْمَدِينَةَ ، فَأَنْفَذَهُمْ إِلَى لِقَاحَةٍ بِذِي الْجَدْرِ نَاحِيَةَ قُبَاءَ عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ ، فَكَانُوا فِيهَا يَشْرَبُونَ مِنْ أَلْبَانِهَا حَتَّى صَحُّوا وَسَمِنُوا ، فَغَدَوْا عَلَى اللِّقَاحِ ، فَاسْتَاقُوهَا ، وَأَدْرَكَهُمْ يَسَارٌ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَفَرٍ مَعَهُ فَقَاتَلَهُمْ ، فَقَطَعُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَغَرَسُوا الشَّوْكَ فِي لِسَانِهِ وَعَيْنَيْهِ حَتَّى مَاتَ ، وَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَعَثَ فِي أَثَرِهِمْ عِشْرِينَ فَارِسًا مَعَ كُرْزِ بْنِ جَابِرٍ الْفِهْرِيِّ : فَأَدْرَكَهُمْ وَرَبَطَهُمْ وَأَرْدَفَهُمْ عَلَى الْخَيْلِ ، وَقَدِمَ بِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِالْغَابَةِ ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ ، وَسُمِلَتْ أَعْيُنُهُمْ وَصُلِبُوا هُنَاكَ ، فَنَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا الْآيَةَ [ الْمَائِدَةِ : 33 ] . فَمَا سَمَلَ بَعْدَ ذَلِكَ عَيْنًا ، وَكَانَ اللِّقَاحُ خَمْسَ عَشْرَةَ لِقْحَةً ، فَاسْتُرِدَّتِ الْأَلْقِحَةُ ، وَاحِدَةٌ نَحَرُوهَا .


سَرِيَّةُ عَمْرٍو وَسَلَمَةَ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ

[ سَرِيَّةُ /55 عَمْرٍو /55 /55 وَسَلَمَةَ /55 إِلَى /55 أَبِي سُفْيَانَ /55 ] ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَرِيَّةَ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ ، وَسَلَمَةَ بْنِ أَسْلَمَ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ بِمَكَّةَ . وَسَبَبُهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ قَالَ لِقُرَيْشٍ : أَلَا رَجُلٌ يَغْتَالُ مُحَمَّدًا : فَإِنَّهُ يَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ فَأَتَاهُ أَعْرَابِيٌّ فَضَمِنَ لَهُ ذَلِكَ ، فَأَعْطَاهُ رَاحِلَةً وَنَفَقَةً وَبَذَلَ لَهُ جُعْلًا ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ خَامِسَةٍ فَعَقَلَ رَاحِلَتَهُ ، وَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي مَسْجِدِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : إِنَّ هَذَا لَيُرِيدُ غَدْرًا فَذَهَبَ الْأَعْرَابِيُّ ؛ لِيَجْنِيَ عَلَيْهِ ، فَجَذَبَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَوَجَدَ فِي إِزَارِهِ خِنْجَرًا ، فَقَالٍ : دَمِي دَمِي ، فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ حَالِهِ : وَقَالَ : اصْدُقْنِي . قَالَ : وَأَنَا آمِنٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَأَخْبَرَهُ بِأَمْرِهِ وَمَا جَعَلَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ فِي قَتْلِهِ فَخَلَّاهُ ، فَأَسْلَمَ وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ ، وَكَانَ مِنْ فُتَّاكِ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَمَعَهُ سَلَمَةُ بْنُ أَسْلَمَ : لِيُصَادِفَا مِنْ أَبِي سُفْيَانَ غِرَّةً ، فَيَقْتُلَاهُ فَقَدِمَا مَكَّةَ ، وَطَافَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ بِالْبَيْتِ فَرَآهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ ، فَعَرَفَهُ فَأَنْذَرَ بِهِ ، وَقَالَ : مَا قَدِمَ هَذَا لِخَيْرٍ ، فَطُلِبَ فَهَرَبَا ، وَقَتَلَ عَمْرٌو نَفَسَيْنِ سَمِعَ أَحَدَهُمَا يَتَغَنَّى وَيَقُولُ : وَلَسْتُ بِمُسْلِمٍ مَا دُمْتُ حَيًّا وَلَسْتُ أَدِينُ دِينَ الْمُسْلِمِينَا فَقَتَلَهُمَا عَمْرٌو ، ثُمَّ وَجَدَ فِي طَرِيقِهِ رَسُولَيْنِ لِقُرَيْشٍ ، فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا ، وَأَسَرَ الْآخَرَ ، وَقَدِمَ بِهِ الْمَدِينَةَ ، وَجَعَلَ يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَالِهِ ، وَهُوَ يَضْحَكُ .

غَزْوَةُ الْحُدَيْبِيَةِ

فَصْلٌ : [ غَزْوَةُ /72 الْحُدَيْبِيَةِ /72 ] ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَزْوَةَ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا أَصْحَابَهُ إِلَى الْعُمْرَةِ فَتَهَيَّئُوا وَأَسْرَعُوا ، فَدَخَلَ بَيْتَهُ ، فَاغْتَسَلَ ، وَلَبِسَ ثَوْبَيْنِ ، وَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ الْقَصْوَى ، وَخَرَجَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ هِلَالَ ذِي الْقَعْدَةِ فِي أَلْفٍ وَسِتِّمِائَةٍ عدد المسلمين يوم الحديبية . وَقِيلَ : أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ ، وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ أُمُّ سَلَمَةَ ، وَصَلَّى الظُّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ، وَسَاقَ سَبْعِينَ بَدَنَةً مِنْهَا جَمَلُ أَبِي جَهْلٍ الَّذِي غَنِمَهُ يَوْمَ بَدْرٍ ، فَحَلَّلَهَا وَأَشْعَرَهَا فِي الشِّقِّ الْأَيْمَنِ وَقَلَّدَهَا ، وَهُنَّ مُوَجَّهَاتٌ إِلَى الْقِبْلَةِ ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ، وَلَبَّى إهلال النبي بعمرة عام الحديبية وَقَدَّمَ أَمَامَهُ عَبَّادَ بْنَ بِشْرٍ فِي عِشْرِينَ فَارِسًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ طَلِيعَةً ، وَبَلَغَ قُرَيْشًا مَسِيرُهُ ، فَأَجْمَعُوا رَأْيَهُمْ عَلَى صَدِّهِ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يوم الحديبية ، وَعَسْكَرُوا بِبَلْدَحَ ، وَقَدَّمُوا خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي مِائَتَيْ فَارِسٍ إِلَى كُرَاعِ الْغَمِيمِ ، فَوَقَفَ عَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ فِي خَيْلِهِ بِإِزَائِهِ ، وَحَانَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ فَصَلَّاهَا بِأَصْحَابِهِ فِي عُسْفَانَ ، صَلَاةَ الْأَمْنِ وَحَانَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ ، وَقَرُبَتْ خَيْلُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، فَصَلَّى الْعَصْرَ بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْخَوْفِ ، ثُمَّ صَارَ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ حَتَّى دَنَا مِنْهَا ، وَهِيَ طَرَفُ الْحَرَمِ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ ، فَبَرَكَتْ نَاقَتُهُ الْقَصْوَاءُ فَزَجَرُوهَا ، فَأَبَتْ أَنْ تَنْبَعِثَ فَقَالُوا : خَلَأَتْ نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ : رَجَعَتْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا خَلَأَتْ وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ ، أَمَا وَاللَّهِ لَا يَسْأَلُونِي الْيَوْمَ خُطَّةً فِيهَا تَعْظِيمُ حُرْمَةٍ لِلَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا ثُمَّ زَجَرَهَا ، فَقَامَتْ ، فَوَلَّى رَاجِعًا عَوْدَهُ عَلَى بَدْئِهِ حَتَّى نَزَلَ بِالنَّاسِ عَلَى ثَمَدٍ مِنْ ثِمَادِ الْحُدَيْبِيَةِ قَلِيلِ الْمَاءِ ، فَانْتَزَعَ سَيْفًا مِنْ كِنَانَتِهِ ، فَأَمَرَ بِهِ ، فَغُرِسَ فِيهَا ، فَجَاشَتْ لَهُمْ بِالرِّوَاءِ حَتَّى اغْتَرَفُوا بِآنِيَتِهِمْ جُلُوسًا عَلَى شَفِيرِ الْبِئْرِ ، وَمُطِرُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ حَتَّى كَثُرَتِ الْمِيَاهُ ، وَجَاءَهُ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ فِي رَكْبٍ مِنْ خُزَاعَةَ ، وَقَالَ : قَدْ جِئْنَاكَ مِنْ عِنْدِ قَوْمِكَ وَإِنَّهُمْ جَمَعُوا لَكَ مَنْ أَطَاعَهُمْ ، وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ أَنَّهُمْ لَا يُخَلُّونَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْبَيْتِ حَتَّى تُبِيدَ ضَفْرَاءَهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَا جِئْنَا لِقِتَالٍ ، وَإِنَّمَا جِئْنَا لِلطَّوَافِ بِهَذَا الْبَيْتِ ، فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَ أَصْحَابِهِ سِلَاحٌ إِلَّا سُيُوفُ الْمُسَافِرِينَ فِي أَغْمَادِهَا ، فَعَادَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ إِلَى قُرَيْشٍ ، فَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ : فَبَعَثُوا عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ

الثَّقَفِيَّ ، فَأَجَابَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِثْلِ ذَلِكَ ، وَبَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ بَعْدَ أَنْ بَعَثَ قَبْلَهُ خِرَاشَ بْنَ أُمَيَّةَ الْكَعْبِيَّ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُنْبِئَ قُرَيْشًا أَنَّا لَمْ نَأْتِ لِقِتَالٍ ، وَإِنَّمَا جِئْنَا زُوَّارًا لِهَذَا الْبَيْتِ ، وَمَعَنَا هَدْيٌ نَنْحَرُهُ ، وَنَنْصَرِفُ ، فَأَتَاهُمْ عُثْمَانُ ، وَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ ، فَقَالُوا : لَا كَانَ هَذَا أَبَدًا ، وَلَا يَدْخُلُهَا فِي هَذَا الْعَامِ ، وَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ فَبَايَعَ أَصْحَابَهُ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ، وَبَايَعَ لِعُثْمَانَ بِشِمَالِهِ عَلَى يَمِينِهِ ، وَجَعَلَتِ الرُّسُلُ تَخْتَلِفُ حَتَّى أَجْمَعُوا عَلَى الصُّلْحِ وَالْمُوَادَعَةِ ، فَبَعَثُوا سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو فِي عِدَّةٍ مِنْ رِجَالِهِمْ لِعَقْدِ الصُّلْحِ يوم الحديبية وَمَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ ، فَكَتَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ : هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو اصْطَلَحَا عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهَا النَّاسُ ، وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ عَلَى أَنَّهُ لَا أَسْلَالَ وَلَا أَغْلَالَ ، وَأَنَّ بَيْنَنَا عَيْبَةً مَكْفُوفَةً ، وَأَنَّهُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَهْدِ مُحَمَّدٍ وَعَقْدِهِ دَخَلَ ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهَا دَخَلَ ، وَأَنَّهُ مَنْ أَتَى مِنْهُمْ مُحَمَّدًا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ رَدَّهُ إِلَيْهِمْ ، وَمَنْ أَتَاهُمْ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ لَمْ يَرُدُّوهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا يَرْجِعُ فِي عَامِهِ هَذَا بِأَصْحَابِهِ ، وَيَدْخُلُ عَلَيْنَا قَابِلَ فِي أَصْحَابِهِ فَيُقِيمُ ثَلَاثًا لَا يَدْخُلُ عَلَيْنَا بِسِلَاحٍ إِلَّا سِلَاحَ الْمُسَافِرِ السُّيُوفَ فِي الْقُرُبِ . شَهِدَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ ، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى ، وَمِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ ، وَكَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ صَدْرَ هَذَا الْكِتَابِ ، وَكَتَبَ عَلِيٌّ نُسْخَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأُخْرَى مَعَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو ، وَتَوَاثَبَتْ خُزَاعَةُ ، فَقَالُوا : نَحْنُ نَدْخُلُ فِي عَهْدِ مُحَمَّدٍ وَعَقْدِهِ وَتَوَاثَبَتْ بَنُو بَكْرٍ ، وَقَالُوا : نَحْنُ نَدْخُلُ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ ، وَخَرَجَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو مِنْ مَكَّةَ يُجْعَلُ فِي قَيْدِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ سُهَيْلٌ : هَذَا أَوَّلُ مَنْ أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ فَرَدَّهُ إِلَيْهِ ، وَقَالَ لِأَبِي جَنْدَلٍ : قَدْ تَمَّ الصُلْحُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ ، فَاصْبِرْ حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا ، وَانْطَلَقَ سُهَيْلٌ ، فَنَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَدْيَهُ يوم الحديبية ، وَحَلَقَ شَعْرَهُ صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ، حَلَقَهُ خِرَاشُ بْنُ أُمَيَّةَ الْكَعْبِيُّ ، وَحَلَقَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَقَصَرَّ بَعْضُهُمْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : اللَّهْمَ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا ، فَقِيلَ : وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ فِي الرَّابِعَةِ : وَالْمُقَصِّرِينَ ، وَأَقَامَ بِالْحُدَيْبِيَةِ بِضْعَ عَشْرَةَ يَوْمًا . وَقِيلَ : عِشْرِينَ يَوْمًا فَلَمَّا بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ نَزَلَ عَلَيْهِ : إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [ الْفَتْحِ : 1 ] . فَقَرَأَهَا عَلَى النَّاسِ ، فَقَالَ رَجُلٌ : أَوَفَتْحٌ هُوَ ؟ قَالَ إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، إِنَّهُ لَفَتْحٌ فَهَنَّأَهُ الْمُسْلِمُونَ ، وَهَنَّأَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، وَذَكَرَ جَابِرٌ أَنَّ عَطَشًا أَصَابَهُمْ ، فَأُتِيَ

رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَوْرٍ فِيهِ مَاءٌ ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِيهِ : فَجَعَلَ الْمَاءُ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ ، كَأَنَّهَا الْعُيُونُ حَتَّى ارْتَوَى جَمِيعُ النَّاسِ ، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ السَّنَةُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةَ : لِأَنَّهَا أَعْظَمُ مَا كَانَ فِيهَا ، وَكَانَ أَبْرَكَ عَامٍ وَأَيْمَنَ صُلْحٍ ، فَإِنَّهُ أَسْلَمَ فِيهِ مِنَ النَّاسِ أَكْثَرُ مِنْ جَمِيعِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَبْلُ ، وَقُرِئَ فِي عَقْدِ هَذَا الصُّلْحِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنَّ جَمَاعَةَ الصَّحَابَةِ كَرِهُوهُ حَتَّى قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ واعتراضه على صلح الحديبية لِرَسُولِ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَلَسْتَ رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : بَلَى . قَالَ : أَوَلَسْنَا بِالْمُسْلِمِينَ ؟ قَالَ : بَلَى قَالَ : أَوَلَيْسُوا بِالْمُشْرِكِينَ ؟ قَالَ : بَلَى قَالَ : فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا ؟ قَالَ : وَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ، وَلَنْ أُخَالِفَ أَمْرَهُ . فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ : مَا زِلْتُ أَصُومُ وَأَتَصَدَّقُ وَأُصَلِّي ، وَأُعْتِقُ مِنَ الَّذِي صَنَعْتُ يَوْمَئِذٍ مَخَافَةَ كَلَامِي . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الصَّحِيفَةُ ابْتَدَأَتْ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو نَعْرِفُ اللَّهَ ، وَمَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ ، فَكَتَبَ سُهَيْلٌ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَتَبَ هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ سُهَيْلٌ : لَوْ عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا نَازَعْنَاكَ ، فَقَالَ لِعَلِيٍّ : اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَمْحُوَ اسْمَكَ مِنَ النُّبُوَّةِ ، فَمَحَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ ، وَقَالَ لِعَلِيٍّ : إِنَّكَ سَتُسَامُ إِلَى مِثْلِهَا فَتُجِيبُ ، فَكَانَ مَا دُعِيَ إِلَيْهِ فِي التَّحْكِيمِ فِي مَحْوِ اسْمِهِ مِنْ إِمَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالنَّحْرِ وَالْحَلْقِ ، تَوَقَّفُوا ، فَدَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ ، وَشَكَى ذَلِكَ إِلَيْهَا ، فَقَالَتْ : ابْتَدِئْ أَنْتَ بِالنَّحْرِ وَالْحَلْقِ ، فَإِنَّهُمْ سَيَتْبَعُونَكَ ، فَفَعَلَ ذَلِكَ ، وَفَعَلُوا .

خُرُوجُ رُسُلِ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى الْمُلُوكِ

[ خُرُوجُ رُسُلِ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى الْمُلُوكِ ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَهِيَ سَنَةُ سِتٍّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُسُلَهُ إِلَى الْمُلُوكِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ إرسال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ السَّهْمِيَّ إِلَى كِسْرَى مِلْكِ الْفُرْسِ . وَبَعَثَ دِحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيِّ إِلَى قَيْصَرَ مِلْكِ الرُّومِ . وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ إِلَى النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ . وَبَعَثَ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُقَوْقِسِ صَاحِبِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَبَعَثَ شُجَاعَ بْنَ وَهْبٍ إِلَى الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ الْغَسَّانِيِّ .

وَبَعَثَ سَلِيطَ بْنَ عَمْرٍو إِلَى هَوْذَةَ بْنِ عَلِيٍّ الْحَنَفِيِّ صَاحِبِ الْيَمَامَةِ . وَبَعَثَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى صَاحِبِ الْبَحْرَيْنِ . وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى جَيَفْرٍ وَعَبَّادِ بْنِ الْجَلَنْدِيِّ صَاحِبَيْ عُمَانَ ، فَكَانَ لَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزْوَةٌ وَاحِدَةٌ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ سَرِيَّةً .

غَزْوَةُ خَيْبَرَ

فَصْلٌ : [ غَزْوَةُ /72 خَيْبَرَ /72 ] ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ ، وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَزْوَةَ خَيْبَرَ فِي جُمَادَى الْأُولَى ، وَهِيَ عَلَى ثَمَانِيَةِ بُرُدٍ مِنَ الْمَدِينَةِ ، وَقِيلَ غَزَاهَا فِي الْمُحَرَّمِ ، نَادَى فِي النَّاسِ بِالْخُرُوجِ إِلَى جِهَادِ خَيْبَرَ فَتَجَهَّزُوا ، وَخَرَجُوا ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ الْغِفَارِيَّ ، وَأَخْرَجَ مَعَهُ أُمَّ سَلَمَةَ ، وَفَرَّقَ الرَّايَاتِ عَلَى أَصْحَابِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ خَيْبَرَ رَايَاتٌ ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْأَلْوِيَةُ وَكَانَتْ رَايَاتُهُ سَوْدَاءَ اتَّخَذَهَا مِنْ بُرْدٍ لِعَائِشَةٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَدَفَعَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَايَةً ، وَإِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رَايَةً ، وَإِلَى الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ رَايَةً ، وَسَارَ إِلَى خَيْبَرَ ، فَنَزَلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَطَفَانَ لِئَلَّا يُظَاهِرُوا أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَيْهِ ، وَقَالَ حِينَ رَأَى خَيْبَرَ اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ ، وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْأَمْوَالِ فَأَخَذَهَا ثُمَّ فَتَحَهَا حِصْنًا حِصْنًا ، فَكَانَ أَوَّلَ حِصْنٍ فَتَحَهُ حِصْنُ نَاعِمٍ ، وَعِنْدَهُ قُتِلَ مَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ بِرَحًّا أُلْقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْحِصْنِ ، ثُمَّ فَتَحَ بَعْدَهُ الْقَمُوصَ حِصْنَ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ ، وَاصْطَفَى مِنْ سَبَايَاهُ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ كَانَتْ عِنْدَ كِنَانَةَ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا ، وَتَزَوَّجَهَا ، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا ، وَرَأَى فِي وَجْهِهَا أَثَرًا ، فَقَالَ : مَا هَذَا الْأَثَرُ : فَذَكَرَتْ أَنَّهَا رَأَتْ فِي الْمَنَامِ - وَهِيَ عَرُوسٌ بِكِنَانَةَ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ - أَنَّ قَمَرًا وَقَعَ فِي حِجْرِهَا ، فَعَرَضَتْ رُؤْيَاهَا عَلَى زَوْجِهَا فَقَالَ : مَا هَذَا إِلَّا أَنَّكِ تُرِيدِينَ مَلِكَ الْحِجَازِ مُحَمَّدًا ، وَلَطَمَ وَجْهَهَا فَاخْضَرَّ مِنْ لَطْمَتِهِ ، وَهَذَا أَثَرُهُ ، وَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكِنَانَةَ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ ، وَكَانَ عِنْدَهُ كَنْزٌ لِبَنِي النَّضِيرِ ، فَسَأَلَهُ عَنْهُ فَأَنْكَرَهُ ، فَأَتَاهُ يَهُودِيٌّ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ يُطِيفُ بِهَذِهِ الْخَرِبَةِ كُلَّ غَدَاةٍ ، فَقَالَ لِكِنَانَةَ : إِنْ وَجَدْتُ هَذَا الْكَنْزَ عِنْدَكَ أَقْتُلْكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَأَمَرَ بِالْخَرِبَةِ ، فَحُفِرَتْ فَخَرَجَ مِنْهَا بَعْضُ الْكَنْزِ ، وَسَأَلَهُ عَنْ بَاقِيهِ فَأَنْكَرَهُ ، فَسَلَّمَهُ إِلَى الزُّبَيْرِ فَعَذَّبَهُ حَتَّى اسْتَخْرَجَ مِنْهُ الْبَاقِيَ ثُمَّ سَلَّمَهُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ حَتَّى قَتَلَهُ بِأَخِيهِ مَحْمُودِ بْنِ مَسْلَمَةَ . قَالَ الزُّهْرِيُّ : وَلَمْ يُسْبَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ إِلَّا آلُ أَبِي الْحُقَيْقِ لِأَجْلِ هَذَا .

ثُمَّ فَتَحَ حِصْنَ الشِّقِّ ، وَحِصْنَ النَّطَاةِ ، وَحِصْنَ الصَّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ ، وَكَانَ أَكْبَرَ الْحُصُونِ ، وَأَكْثَرَهَا مَالًا ، وَحِصْنَ الْكُتَيْبَةِ ، وَبَقِيَ حِصْنُ الْوَطِيحِ ، وَحِصْنُ السَّلَالِمِ ، فَحَاصَرَهُمَا بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ، وَعِنْدَهُمَا اشْتَدَّ الْقِتَالُ ، وَبَرَزَ مَرْحَبٌ الْيَهُودِيُّ ، وَهُوَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ : قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ أَطْعَنُ أَحْيَانًا وَحِينًا أَضْرِبُ أَكْفِي إِذَا أَشْهَدُ مَنْ تَغَيَّبَ فَإِذَا اللُّيُوثُ أَقْبَلَتْ تَحَرَّبُ كَأَنَ حِمَايَ لِلْحِمَى لَا يُقْرَبُ فَبَرَزَ إِلَيْهِ مِنْ مَثَّلَهُ ، وَاخْتُلِفَ فِي قَاتِلِهِ ، فَحَكَى جَبَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ بَرَزَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَتَلَهُ . وَحَكَى بُرَيْدَةُ الْأَسْلَمِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ رُبَّمَا أَخَذَتْهُ الشَّقِيقَةُ ، فَيَلْبَثُ فِيهَا الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ لَا يَخْرُجُ ، فَأَخَذَتْهُ الشَّقِيقَةُ بِخَيْبَرَ ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى النَّاسِ ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ أَبُو بَكْرٍ وَنَهَضَ فَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا ، وَرَجَعَ ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ عُمَرُ فَنَهَضَ ، وَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا ، ثُمَّ رَجَعَ وَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : وَاللَّهِ لَأُعْطِيَنَّهَا غَدًا رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ دَفَعَ الرَّايَةَ إِلَى عَلِيٍّ في غزوة خيبر ، وَكَانَ بِعَيْنِهِ رَمَدٌ ، فَتَفَلَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ رِيقِهِ وَخَرَجَ ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ مَرْحَبٌ مُرْتَجِزًا بِمَا قَالَ مِنْ رَجَزِهِ : أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي مَرْحَبُ شَاكِي السَّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ فَبَرَزَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ ، وَهُوَ يَقُولُ : أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ أَكِيلُكُمْ بِالسَّيْفِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ لَيْثُ غَابَاتٍ شَدِيدٌ قَسْوَرَهْ فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ ، فَضَرَبَهُ عَلِيٌّ فَقَتَلَهُ ، ثُمَّ فَتَحَ الْحِصْنَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ ، وَلَمَّا اطْمَأَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهَدَتْ لَهُ زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْيَهُودِيَّةُ ، وَهِيَ بِنْتُ أَخِي مَرْحَبٍ وَامْرَأَةُ سَلَّامِ بْنِ مِشْكَمٍ شَاةً مَصْلِيَّةً مَسْمُومَةً ، وَأَكْثَرَتْ مِنْ سُمِّهَا فِي الذِّرَاعِ : لِأَنَّهُ كَانَ أَحَبَّ الشَّاةِ المسمومة وأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَ الذِّرَاعَ وَمَضَغَهُ ، وَلَمْ يَسُغْهُ وَأَكَلَ مَعَهُ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ ، فَأَمَّا بِشْرٌ فَمَاتَ ، وَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ قَالَ : إِنَّ الْعَظْمَ لَيُخْبِرُنِي أَنَّهُ

مَسْمُومٌ وَدَعَى بِالْمَرْأَةِ ، وَسَأَلَهَا ، فَاعْتَرَفَتْ فَقَالَ : مَا حَمَلَكِ عَلَى هَذَا : فَقَالَتْ : بَلَغْتَ مِنْ قَوْمِي مَا بَلَغْتَ ، فَقُلْتُ : إِنْ كَانَ نَبِيًّا فَسَيُخْبَرُ ، وَإِنْ كَانَ مَلِكًا اسْتَرَحْنَا مِنْهُ ، وَاخْتُلِفَ فِيهَا هَلْ قَتَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْ لَا ؟ فَحَكَى الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُ قَتَلَهَا ، وَحَكَى ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ تَجَاوَزَ عَنْهَا ، وَأَنَّ أُمَّ بِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ فَقَالَ لَهَا : يَا أُمَّ بِشْرٍ إِنَّ هَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنَ الْأَكْلَةِ الَّتِي أَكَلْتُهَا مَعَ ابْنِكِ بِخَيْبَرَ . وَالْأَبْهَرُ عِرْقٌ فِي الظَّهْرِ ، فَكَانَ قَوْمٌ يَرَوْنَ أَنَّهُ مَاتَ - مَعَ كَرَامَةِ اللَّهِ [ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ ] - شَهِيدًا . وَلَمَّا جُمِعَتِ الْغَنَائِمُ اسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا فَرْوَةَ بْنَ عَمْرٍو الْبَيَاضِيَّ ، وَأَمَّرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ إِحْصَاءَ النَّاسِ ، فَكَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ ، وَالْخَيْلُ مِائَتَا فَرَسٍ ، فَجَعَلَ لِكُلِّ فَارِسٍ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا ، فَقَسَمَ خَيْبَرَ عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا ، جَعَلَ نِصْفَهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا لِنَوَائِبِهِ ، وَنَصْفَهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا لِلْغَانِمِينَ ، فَأَعْطَى كُلَّ مِائَةٍ سَهْمًا ، وَعَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بَعْدَ زَوَالِ مُلْكِهِمْ عَنْهَا عَلَى الشَّطْرِ مِنْ ثَمَرِهَا حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ عَنْهَا : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ عِنْدَ مُسَاقَاتِهِمْ : أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ ، وَكَانَتْ حُصُونُهُمْ ثَمَانِيَةً أَخَذَ مِنْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنِّصْفِ الَّذِي لَهُ ثَلَاثَةَ حُصُونٍ : الْكُتَيْبَةُ ، وَالْوَطِيحُ ، وَالسَّلَالِمُ ، وَدَفَعَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ بِالنِّصْفِ خَمْسَةَ حُصُونٍ : نَاعِمٌ ، وَالْقَمُوصُ ، وَشِقٌّ ، وَالنَّطَاةُ ، وَحِصْنُ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ . وَفِي خَيْبَرَ حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِكَاحَ الْمُتْعَةِ تحريمه يوم خيبر وَأَكْلَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ تحريمه يوم خيبر . وَفِي خَيْبَرَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدَّوْسِيُّونَ ، وَفِيهِمْ أَبُو هُرَيْرَةَ ، وَقَدِمَ عَلَيْهِ الْأَشْعَرِيُّونَ ، وَقَدِمَ عَلَيْهِ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ مَنْ تَخَلَّفَ بِهَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ، وَكَانُوا سِتَّةَ عَشَرَ نَفَسًا ، فِيهِمْ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي سَفِينَتَيْنِ حَمَلَهُمُ النَّجَاشِيُّ فِيهَا ، وَكَانَ قَدْ أَرْسَلَ لِعَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ فِي حَمْلِهِمْ إِلَيْهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَدْرِي بِأَيِّهِمَا أُسَرُّ بِقُدُومِ جَعْفَرٍ ، أَوْ بِفَتْحِ خَيْبَرَ وَقَدِمَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَهَا

رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنْ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ ، وَسَاقَ النَّجَاشِيُّ صَدَاقَهَا أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ ، وَقُتِلَ بِخَيْبَرَ مِنَ الْيَهُودِ ثَلَاثَةٌ وَتِسْعِينَ رَجُلًا ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا ، وَلَمَّا سَمِعَ أَهْلُ فَدَكَ مَا فُعِلَ بِأَهْلِ خَيْبَرَ بَعَثُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَحْقِنَ دِمَاءَهُمْ ، وَيُسَيِّرَهُمْ وَيُخَلُّوَا لَهُ أَمْوَالَهُمْ ، وَمَشَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ ، فَاسْتَقَرَّ عَلَى هَذَا ، وَصَارَتْ فَدَكُ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لِأَنَّهُ أَخَذَهَا بِلَا إِيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ ، فَكَانَتْ فَيْئًا لَهُ ، وَكَانَتْ خَيْرَ غَنِيمَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ . وَلَمَّا صَالَحَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الثَّمَرِ صَالَحَ أَهْلَ فَدَكَ عَلَى مِثْلِهِ : لَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ بِعَمَلِهِمْ ، وَنِصْفُهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْفَيْءِ . وَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ خَيْبَرَ إِلَى وَادِي الْقُرَى ، ثُمَّ سَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَفِي سَفَرِهِ هَذَا نَامَ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ الصَّلَاةَ ، وَصَلَّى فَلَمَّا سَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ ، وَقَالَ : إِذَا نَسِيتُمُ الصَّلَاةَ فَصَلُّوهَا إِذَا ذَكَرْتُمُوهَا ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [ طه : 14 ] . وَلَمَّا عَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ اتَّخَذَ مِنْبَرَهُ دَرَجَتَيْنِ وَالْمُسْتَرَاحَ ، وَصَارَ يَخْطُبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْجِذْعِ الَّذِي كَانَ يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ ، وَلَمَّا عَدَلَ عَنْهُ إِلَى الْمِنْبَرِ حَنَّ إِلَيْهِ .

سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ بَعْدَ خَيْبَرَ

سَرِيَّةُ عُجْزِ هَوَازِنَ

فَصْلٌ : [ سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ بَعْدَ /72 خَيْبَرَ /72 ] [ سَرِيَّةُ /73 عُجْزِ هَوَازِنَ /73 ] ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ خَيْبَرَ خَمْسَ سَرَايَا ، فَأَوَّلُهَا سَرِيَّةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِلَى عُجْزِ هَوَازِنَ فِي شَعْبَانَ فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا إِلَى عُجْزِ هَوَازِنَ ، وَهُمْ فِي مَتْرَبَةٍ عَلَى أَرْبَعِ لَيَالٍ مِنْ مَكَّةَ طَرِيقًا صَعْبًا ، فَهَرَبُوا ، وَعَادَ ، وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا .

سَرِيَّةُ بَنِي فَزَارَةَ

[ سَرِيَّةُ /73 بَنِي فَزَارَةَ /73 ] ثُمَّ بَعَثَ بَعْدَهُ سَرِيَّةَ أَبِي بَكْرٍ فِي شَعْبَانَ إِلَى بَنِي فَزَارَةَ بِنَجْدٍ ، فَشَنَّ الْغَارَةَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ ، فَسَبَى ، وَقَتَلَ .

سَرِيَّةُ بَنِي مُرَّةَ

[ سَرِيَّةُ /73 بَنِي مُرَّةَ /73 ] ثُمَّ بَعَثَ بَعْدَهُ سَرِيَّةَ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ فِي شَعْبَانَ إِلَى بَنِي مُرَّةَ بِنَاحِيَةِ فَدَكَ فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا ، فَاسْتَاقُوا أَنْعُمَ الْقَوْمِ ، ثُمَّ أَدْرَكُوهُمْ ، فَقَتَلُوهُمْ جَمِيعًا إِلَّا بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ نَجَا وَحْدَهُ ، وَاسْتَرْجَعُوا النَّعَمَ .

سَرِيَّةُ بَنِي عِمْرَانَ

[ سَرِيَّةُ /73 بَنِي عِمْرَانَ /73 ] ثُمَّ بَعَثَ بَعْدَهُ سَرِيَّةَ غَالِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ اللَّيْثِيِّ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِلَى بَنِي عِمْرَانَ ، وَهُمْ بِالْمِيفَعَةِ وَرَاءَ بَطْنِ نَخْلٍ بِنَجْدٍ فِي مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ رَجُلًا ، فَاسْتَاقُوا نَعَمَهُمْ إِبِلًا وَشِيَاهًا ، فَقَدِمُوا بِهَا الْمَدِينَةَ ، وَلَمْ يَأْسِرُوا أَحَدًا . وَفِيهَا : قَتَلَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ الرَّجُلَ الَّذِي قَالَ : " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أُسَامَةُ : إِنَّهُ قَالَهَا مُتَعَوِّذًا ، فَقَالَ : هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ .

سَرِيَّةُ غَطَفَانَ

[ سَرِيَّةُ /73 غَطَفَانَ /73 ] ثُمَّ بَعَثَ سَرِيَّةَ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ إِلَى غَطَفَانَ فِي شَوَّالٍ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ إِلَى غَطَفَانَ ، وَكَانُوا عَلَى الِاجْتِمَاعِ مَعَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَأَدْرَكَ نَعَمَهُمْ ، فَسَاقَهَا ، وَهَرَبُوا فَأَسَرَ مِنْهُمْ نَفْسَيْنِ قَدِمَ بِهِمَا الْمَدِينَةَ فَأَسْلَمَا فَأَرْسَلَهُمَا .

عُمْرَةُ الْقَضَاءِ

فَصْلٌ : [ عُمْرَةُ الْقَضَاءِ ] ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمْرَةِ الْقَضَاءِ فِي هِلَالِ ذِي الْقَعْدَةِ : لِأَنَّهُ شَرَطَ عَلَى قُرَيْشٍ حِينَ صَدُّوهُ فِي الْحُدَيْبِيَةِ عَنْ عُمْرَتِهِ أَنْ يَقْضِيَهَا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ ، فَنَادَى فِي أَصْحَابِهِ أَنْ لَا يَتَخَلَّفَ أَحَدٌ مِمَّنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ ، فَخَرَجُوا جَمِيعًا إِلَّا مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ أَوْ مَاتَ ، وَخَرَجَ مَعَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عُمَّارٌ لَمْ يَشْهَدُوا الْحُدَيْبِيَةَ ، حَتَّى صَارُوا فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ أَلْفَيْنِ وَقَادَ مِائَةَ فَرَسٍ ، وَخَرَجُوا بِالسِّلَاحِ ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا رُهْمٍ الْغِفَارِيَّ وَسَاقَ مَعَهُ سِتِّينَ بَدَنَةً ، وَخَرَجَ فِي مِثْلِ الشَّهْرِ الَّذِي صُدَّ فِيهِ ، وَسَارَ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ ، فَأَحْرَمَ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ ، وَلَبَّى وَأَحْرَمَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ ، وَلَبَّوْا ، وَقَدَّمَ أَمَامَهُ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فِي الْخَيْلِ إِلَى مَرِّ الظَّهْرَانِ ، وَسَارَ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ ثَنِيَّةِ الْحَجُونِ ، وَالْمُسْلِمُونَ مُتَوَشِّحُونَ بِالسُّيُوفِ ، يَمْشُونَ حَوْلَهُ مُلَبِّينَ ، وَابْنُ رَوَاحَةَ آخِذٌ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ وَهُوَ يَقُولُ :

خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهْ قَدْ أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ فِي تَنْزِيلِهْ فِي صُحُفٍ تُتْلَى عَلَى رَسُولِهْ إِنِّي شَهِيدٌ أَنَّهُ رَسُولُهْ يَا رَبِّ إِنِّي مُؤْمِنٌ بِقِيلِهْ أَعْرِفُ حَقَّ اللَّهِ فِي قَبُولِهْ فَالْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهْ كَمَا ضَرَبْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهْ ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهْ وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِيهًا ابْنَ رَوَاحَةَ ، قُلْ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ ، صَدَقَ وَعْدَهُ ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ ، وَأَعَزَّ جُنْدَهُ ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ فَقَالَهَا ، وَقَالَهَا النَّاسُ ، وَدَخَلَ فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ وَطَافٍ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُضْطَجِعًا بِثَوْبِهِ مِنْ فَوْقِ مَنْكِبِهِ الْأَيْسَرِ وَتَحْتَ مَنْكِبِهِ الْأَيْمَنِ ، وَسَعَى فِي الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ ، وَمَشَى فِي الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّ قُرَيْشًا قَالُوا حِينَ رَأَوُا الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ هَرَبُوا مِنْهُمْ إِلَى رُءُوسٍ الْجِبَالِ : أَمَا تَرَوْهُمْ قَدْ أَوْهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَظْهَرَ نَشَاطًا ، وَجَلَدًا ، وَأَضْطَبَعَ وَرَمَلَ فَاضْطَبَعُوا ، وَرَمَلُوا . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إِنَّمَا أَمَرَ بِالسَّعْيِ فِي الثَّلَاثِ وَالْمَشْيِ فِي الْأَرْبَعَةِ بَقْيًا عَلَيْهِمْ ، ثُمَّ طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا رَاكِبًا عَلَى رَاحِلَتِهِ ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ ، وَقَالَ : كُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ مَنْحَرٌ وَفَعَلَ الْمُسْلِمُونَ مِثْلَ فِعْلِهِ ، وَكَانَ قَدِ اسْتَوْقَفَ قَوْمًا مِنْهُمْ بِبَطْنٍ يَأْجِحَ فَمَرَّ مَنْ طَافَ وَسَعَى ، فَوَقَفَ مَوْقِفَهُمْ ، وَجَاءَ مَنْ تَخَلَّفَ هُنَاكَ فَطَافُوا وَسَعَوْا ، ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكَعْبَةَ فَلَمْ يَزَلْ فِيهَا إِلَى الظُّهْرِ ، وَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ ، وَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَلَاثًا ، وَتَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةَ زَوَّجَهُ بِهَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الظُّهْرِ مِنَ الْيَوْمِ الرَّابِعِ أَتَاهُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو ، وَحَاطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى ، فَقَالَ لَهُ : قَدِ انْقَضَى أَجْلُكَ ، فَاخْرُجْ عَنَّا ، وَكَانَ قَدْ نَزَلَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ بِالْأَبْطَحِ ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ ، فَنَادَى بِالرَّحِيلِ ، وَأَنْ لَا يُمْسِيَ بِمَكَّةَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَرَكِبَ حَتَّى نَزَلَ سَرِفَ ، وَأَقَامَ أَبُو رَافِعٍ بِمَكَّةَ حَتَّى أَمْسَى ، ثُمَّ حَمَلَ مَيْمُونَةَ ، فَبَنَى بِهَا بِسَرِفَ ، وَحَمَلَ مَعَهُ عُمَارَةَ بِنْتَ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ وَجَعْفَرٌ وَزَيْدُ بْنُ

حَارِثَةَ ، فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِجَعْفَرٍ : لِأَنَّ خَالَتَهَا أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ كَانَتْ عِنْدَهُ ، وَقَالَ : الْخَالَةُ وَالِدَةٌ ، ثُمَّ أَدْلَجَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ .

سَرِيَّةُ ابْنِ أَبِي الْعَوْجَاءِ

فَصْلٌ : [ سَرِيَّةُ /55 ابْنِ أَبِي الْعَوْجَاءِ /55 ] ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ فِي بَقِيَّةِ هَذِهِ السَّنَةِ سَرِيَّةَ ابْنِ أَبِي الْعَوْجَاءِ فِي ذِي الْحِجَّةِ ، بَعَثَهُ إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ فِي خَمْسِينَ رَجُلًا ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ ، وَمَعَهُ عَيْنٌ لَهُمْ تَقْدُمُهُ بِإِنْذَارِهِمْ ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمْ وَدَعَاهُمْ أَحَاطُوا بِجَمِيعِ مَنْ مَعَهُ وَقَتَلُوهُمْ بِأُسَرِهِمْ ، وَأُصِيبَ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ جَرِيحًا ، فَتَمَاثَلَ وَوَصَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ صَفَرٍ . وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنْتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ . وَفِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ كِسْرَى أَبْرَوَيْزَ ، وَكَانَتِ الْهِجْرَةُ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ مِنْ مَكَّةَ . سُمِّيَتْ هَذِهِ السَّنَةُ عَامَ خَيْبَرَ : لِأَنَّهَا أَعْظَمُ مَا كَانَ فِيهَا ، فَكَانَ لَهُ فِيهَا غَزْوَةٌ وَسِتُّ سَرَايَا .

ذِكْرُ سَنَةِ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ

غَزْوَةُ غَالِبٍ اللَّيْثِيِّ بَنِي الْمُلَوَّحِ

فَصْلٌ : [ ذِكْرُ سَنَةِ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ ] [ /1 L29366 غَزْوَةُ /55 غَالِبٍ اللَّيْثِيِّ /55 /73 بَنِي الْمُلَوَّحِ /73 /1 ] ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ ، بَعَثَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى بَنِي الْمُلَوَّحِ بِالْكَدِيدِ فِي سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا ، فَاسْتَاقُوا نَعَمَهُمْ ، وَأَدْرَكَهُمُ الطَّلَبُ ، فَجَاءَتْ سَحَابَةُ مَطَرٍ مَلَأَتِ الْوَادِي مَاءً فَحَالَ بَيْنَهُمْ ، وَقَدِمُوا بِالنَّعَمِ الْمَدِينَةَ . ثُمَّ بَعَثَ بَعْدَهَا فِي بَقِيَّةِ صَفَرٍ إِلَى حِصَارِ أَصْحَابِ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ فِي مِائَتَيْ رَجُلٍ فِيهِمْ أُمَامَةُ بْنُ زَيْدٍ ، وَأَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ ، وَكَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ ، وَقَالَ : مَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي ، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي وَأَمَرَهُمْ بِشَنِّ الْغَارَةِ عَلَيْهِمْ ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ قَتْلَى ، وَأَصَابُوا لَهُمْ نَعَمًا .

سَرِيَّةُ شُجَاعٍ إِلَى بَنِي عَامِرٍ بِالسِّيِّ

[ /1 L29368 سَرِيَّةُ /55 شُجَاعٍ /55 إِلَى /73 بَنِي عَامِرٍ /73 /72 بِالسِّيِّ /72 /1 ] ثُمَّ بَعَثَ سَرِيَّةَ شُجَاعِ بْنِ وَهْبٍ الْأَسَدِيِّ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ إِلَى جَمْعِ هَوَازِنَ بِالسِّيِّ بِنَاحِيَةِ رُكْبَةَ مِنْ وَرَاءِ الْمَعْدِنِ عَلَى خَمْسِ لَيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ

رَجُلًا ، فَاسْتَاقُوا نَعَمًا كَثِيرًا وَشَاءً ، أَصَابَ السَّهْمُ خَمْسَةَ عَشَرَ بَعِيرًا ، وَعَدَلَ الْبَعِيرَ بِعَشَرَةٍ مِنَ الْغَنَمِ ، وَغَابَتِ السَّرِيَّةُ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً . ثُمَّ بَعَثَ سَرِيَّةَ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ عُمَيْرٍ الْغِفَارِيِّ إِلَى ذَاتِ أَطْلَاحٍ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ إِلَى ذَاتِ أَطْلَاحٍ ، وَهِيَ وَرَاءَ وَادِي الْقُرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا ، فَوَجَدُوا بِهَا جَمْعًا كَثِيرًا فَدَعَوْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ ، فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا ، وَقَاتَلُوهُمْ أَشَدَّ قِتَالٍ ، حَتَّى قُتِلُوا جَمِيعًا ، وَأَفْلَتَ جَرِيحٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ مُتَحَامِلًا ، فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَبَرِهِمْ ، فَشَقَّ عَلَيْهِ ، وَهَمَّ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ بَعْثًا فَبَلَغَهُ أَنَّهُمْ قَدْ بَعُدُوا فَكَفَّ . وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَسْلَمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عِنْدَ النَّجَاشِيِّ إسلام ، وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْلِمًا ، وَقَدِمَ مَعَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ إسلام مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ ، وَأَسْلَمُوا وَبَايَعُوا ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ : أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ يُغْفَرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي ، وَلَا أَذْكُرُ مَا تَأَخَّرَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : يَا عَمْرُو بَايِعْ ، إِنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ .

غَزْوَةُ مُؤْتَةَ

فَصْلٌ [ /1 L29333 غَزْوَةُ /72 مُؤْتَةَ /72 /1 ] ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجَيْشِ مُؤْتَةَ ، وَهِيَ بِأَرْضِ الشَّامِ بِأَدْنَى الْبَلْقَاءِ ، وَالْبَلْقَاءُ دُونَ دِمَشْقَ فِي جُمَادَى الْأُولَى . وَسَبَبُهَا أَنَّهُ بَعَثَ الْحَارِثَ بْنَ عُمَيْرٍ الْأَزْدِيَّ رَسُولًا بِكِتَابٍ إِلَى مَلِكِ بُصْرَى ، فَلَمَّا نَزَلَ مُؤْتَةَ عَرَضَ لَهُ شُرَحْبِيلُ بْنُ عَمْرٍو الْغَسَّانِيُّ ، فَقَتَلَهُ وَلَمْ يُقْتَلْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَسُولٌ غَيْرُهُ ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ وَنَدَبَ النَّاسَ ، فَأَسْرَعُوا وَعَسْكَرُوا بِالْجُرْفِ ، وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمِيرُ النَّاسِ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ ، فَإِنْ قُتِلَ ، فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، فَإِنْ قُتِلَ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ ، فَإِنْ قُتِلَ ، فَلْيَرْتَضِ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ رَجُلًا . وَأَوْصَاهُمْ أَنْ يَأْتُوا مَقْتَلَ الْحَارِثِ بْنِ عُمَيْرٍ ، وَيَدْعُوا مِنْ هُنَاكَ إِلَى الْإِسْلَامِ ، فَإِنِ اسْتَجَابُوا وَإِلَّا اسْتَعَانُوا بِاللَّهِ وَقَاتَلُوهُمْ ، وَخَرَجَ مُشَيِّعًا لَهُمْ حَتَّى بَلَغَ ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ ، فَلَمَّا وَدَّعَهُ أُمَرَاؤُهُ ، أَتَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ مُوَدِّعًا فَقَالَ وَهُوَ يَبْكِي وَاللَّهِ مَا بِي حُبٌّ لِلدُّنْيَا ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ وَذَكَرَ النَّارَ فَقَالَ : وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [ مَرْيَمَ : 71 ] . فَلَسْتُ أَدْرِي كَيْفَ لِي بِالصَّدْرِ بَعْدَ الْوُرُودِ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ " صَحِبَكُمُ اللَّهُ ، وَدَفَعَ عَنْكُمْ ، وَرَدَّكُمْ إِلَيْنَا صَالِحِينَ " فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ :

لَكِنِّي أَسْأَلُ الرَّحْمَنَ مَغْفِرَةً وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْعٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا أَوْ طَعْنَةً بِيَدِي حَرَّانَ مُجْهِزَةً بَحَرْبَةٍ تُنْفِذُ الْأَحْشَاءَ وَالْكَبِدَا حَتَى يَقُولُوا إِذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثِي أَرْشَدَكَ اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدَا ثُمَّ سَارُوا ، فَسَمِعَ الْعَدُوُّ بِمَسِيرِهِمْ ، فَجَمَعَ شُرَحْبِيلُ بْنُ عَمْرٍو أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامٍ وَبَهْرَاءَ وَبَلِيٍّ ، وَأَقْبَلَ هِرَقْلُ فِي الرُّومِ فِي مِائَةِ أَلْفٍ ، وَنَزَلَ الْمُسْلِمُونَ مَكَانًا مِنْ أَرْضِ الشَّامِ ، وَبَلَغَهُمْ كَثْرَةُ الْجُمُوعِ عَلَيْهِمْ ، فَعَزَمُوا عَلَى الْمَقَامِ بِمَكَانِهِمْ ، حَتَّى يَسْتَأْمِرُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَأْتُونَهُ ، فَحَثَّهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ عَلَى الْمَسِيرِ ، فَسَارُوا حَتَّى نَزَلُوا مُؤْتَةَ مِنْ قُرَى الْبَلْقَاءِ وَالْعُرُوبَةِ حَتَّى نَزَلُوا شَارِقَ مِنْ قُرَى الْبَلْقَاءِ ، وَالْتَحَمَتِ الْحَرْبُ فِي مُؤْتَةَ ، وَقَاتَلَ الْمُسْلِمُونَ أَشَدَّ الْقِتَالِ ، وَتَقَدَّمَ بِالرَّايَةِ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ واستشهاده يوم مؤته ، فَقَاتَلَ حَتَّى طَاشَتْ بِهِ الرِّمَاحُ ، فَقُتِلَ بِهِ حَتَّى أَخَذَ الرَّايَةَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ واستشهاده يوم مؤته ، وَنَزَلَ عَنْ فَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ عَقَرَهَا ، وَكَانَ أَوَّلَ فَرَسٍ عَقَرَهَا الْمُسْلِمُونَ ، وَقَاتَلَ وَالْجِرَاحُ تَأْخُذُهُ ، حَتَّى ضَرَبَهُ رُومِيٌّ ، فَقَطَعَهُ نِصْفَيْنِ ، فَوُجِدَ فِي أَحَدِ نِصْفَيْهِ بِضْعَةٌ وَثَلَاثِينَ جُرْحًا ، وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ أَكْثَرُ مِنْهُ حَتَّى قِيلَ : إِنَّهُ كَانَ فِي بَدَنِهِ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ جِرَاحَةً مِنْ ضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ وَطَعْنَةٍ بِرُمْحٍ ، ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ واستشهاده يوم مؤته ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ مَا اسْتَبْشَرَ لَهَا فَقَالَ : أَقْسَمْتُ يَا نَفْسُ لَتَنْزِلَنَّهْ طَائِعَةً أَوْ فَلَتُكْرَهِنَّهْ إِنْ أَجَلَبَ النَّاسُ وَشَدُّوا الرَّنَّهْ مَالِي أَرَاكِ تَكْرَهِينَ الْجَنَّهْ قَدْ طَالَمَا قَدْ كُنْتِ مُطْمَئِنَّهْ هَلْ أَنْتِ إِلَّا نُطْفَةٌ فِي شَنَّهْ ثُمَّ نَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ لِأَنَّ زَيْدًا وَجَعْفَرًا قَاتِلَا رَجَّالَةً وَسَارَ بِالرَّايَةِ وَهُوَ يَقُولُ : يَا نَفْسُ إِلَّا تُقْتَلِي تَمُوتِي هَذَا حِمَامُ الْمَوْتِ قَدْ صُلِيتِ وَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَدْ أُعْطِيتِ إِنْ تَفْعَلِي فِعْلَهُمَا هُدِيتِ وَتَقَدَّمَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ ، وَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ ثَابِتُ بْنُ أَرْقَمَ ، وَقَالَ : يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيَّ إِلَيَّ ، وَرَكَزَ الرَّايَةَ حَتَّى اجْتَمَعُوا إِلَيْهَا ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ : اصْطَلِحُوا عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ فَقَالُوا : أَنْتَ لَهَا ، فَقَالَ مَا أَنَا بِفَاعِلٍ ، فَاصْطَلَحُوا عَلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ يأخذ الراية في مؤتة ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ ، وَدَافَعَ الْقَوْمُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى انْصَرَفَ النَّاسُ ، وَرُفِعَتِ الْأَرْضُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى نَظَرَ مُعْتَرَكَ الْقَوْمِ ، فَأَمَرَ فَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ ، وَقَالَ : أَيُّهَا النَاسُ بَابُ خَيْرٍ بَابُ خَيْرٍ أُخْبِرُكُمْ عَنْ جَيْشِكُمْ هَذَا الْغَازِي إخبار النبي يأحداث غزوة مؤته ، إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا فَلَقَوُا الْعَدُوَّ فَقُتِلَ زَيْدٌ ،

شَهِيدًا ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُ ، ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ جَعْفَرٌ ، فَشَدَّ عَلَى الْقَوْمِ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُ ، ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ ، وَأَثْبَتَ قَدَمَيْهِ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُ ، ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْأُمَرَاءِ ، وَهُوَ أَمَّرَ نَفْسَهُ ، وَلَكِنَّهُ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ ، فَبَاءَ بِنَصْرٍ ، فَسُمِّيَ يَوْمَئِذٍ سَيْفَ اللَّهِ ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْغَدِ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ ، وَهُوَ يَبْتَسِمُ ، فَقَالَ لَهُ النَّاسُ : قَدْ عَلِمَ اللَّهُ مَا كَانَ مِنَ الْوَجْدِ فَلِمَاذَا تَبْتَسِمُ ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَحْزَنَنِي قَتْلُ أَصْحَابِي حَتَّى رَأَيْتُهُمْ فِي الْجَنَّةِ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ، وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِهِمْ إِعْرَاضًا كَأَنَّهُ كَرِهَ السَّيْفَ ، وَرَأَيْتُ جَعْفَرًا مَلَكَا ذَا جَنَاحَيْنِ مُضَرَّجًا بِالدِّمَاءِ مَصْبُوغَ الْقَوَادِمِ . فَسُمِّيَ يَوْمَئِذٍ الطَّيَّارَ ، وَلَمَّا قَدِمَ النَّاسُ خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ وَاسْتَقْبَلُوهُمْ بِالْجُرْفِ ، وَجَعَلَ قَوْمٌ يَحْثُونَ التُّرَابَ عَلَيْهِمْ ، وَيَقُولُونَ : يَا فُرَّارُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَيْسُوا بِالْفُرَّارِ ، وَلَكِنَّهُمُ الْكُرَّارُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ .

سَرِيَّةُ ذَاتِ السَّلَاسِلِ

فَصْلٌ : [ /1 L29334 سَرِيَّةُ ذَاتِ السَّلَاسِلِ /1 ] ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ جَيْشِ مُؤْتَةَ ، وَقَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ أَرْبَعَ سَرَايَا : أَوَّلَهُنَّ سَرِيَّةُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ إِلَى ذَاتِ السَّلَاسِلِ وَرَاءَ وَادِي الْقُرَى عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ . وَسَبَبُهَا : أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ جَمْعًا مِنْ قُضَاعَةَ قَدْ تَجَمَّعُوا يُرِيدُونَ أَطْرَافَ الْمَدِينَةِ ، فَأَنْفَذَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَيْهِمْ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ سَرَاةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَمَعَهُمْ ثَلَاثُونَ فَرَسًا ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ وَبَلَغَهُ كَثْرَةُ جَمْعِهِمْ ، فَبَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَمِدُّهُ ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ فِي مِائَتَيْنِ مِنْ سَرَاةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَلْحَقَ بِعَمْرٍو وَلَا يَخْتَلِفَانِ ، فَأَرَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ حِينَ اجْتَمَعَا أَنْ يَؤُمَّ بِالنَّاسِ ، فَقَالَ عَمْرٌو : إِنَّمَا وَرَدْتَ مَدَدًا وَأَنَا الْأَمِيرُ ، فَأَطَاعَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ ، وَصَلَّى عَمْرٌو بِالنَّاسِ ، وَوَطِئَ بِلَادَهُمْ ، وَقَلَّلَ جَمْعَهُمْ حَتَّى انْهَزَمُوا مُتَفَرِّقِينَ .

سَرِيَّةُ الْخَبَطِ

[ سَرِيَّةُ الْخَبَطِ ] ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَرِيَّةَ الْخَبَطِ فِي رَجَبٍ ، أَمِيرُهَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فِي

ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى حَيٍّ مِنْ جُهَيْنَةَ بِالْقِبْلِيَّةِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ خُمْسُ لِيَالِ ، فَأَصَابَهُمْ فِي الطَّرِيقِ جُوعٌ شَدِيدٌ ، فَأَكَلُوا الْخَبَطَ ، فَسُمِّيَتْ سَرِيَّةَ الْخَبَطِ ، وَابْتَاعَ لَهُمْ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ جَزُورًا نَحَرَهَا لَهُمْ وَأَلْقَى الْبَحْرُ إِلَيْهِمْ حُوتًا عَظِيمًا ، يُقَالُ لَهُ الْعَنْبَرُ ، فَأَكَلُوا مِنْهُ وَانْصَرَفُوا ، وَلَمْ يَلْقَوْا كَيْدًا . [ سَرِيَّةُ /55 أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ /55 إِلَى /72 حَضْرَمَوْتَ /72 ] ثُمَّ بَعَثَ سَرِيَّةَ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ إِلَى حَضْرَمَوْتَ وَهِيَ أَرْضُ مُحَارِبٍ بِنَجْدٍ فِي شَعْبَانَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا إِلَى غَطَفَانَ ، فَقَتَلَ كَثِيرًا مِنْهُمْ وَسَبَى كَثِيرًا ، وَغَنَمَ مِائَتَيْ بَعِيرٍ وَأَلْفَيْ شَاةٍ وَأَصَابَ كُلُّ رَجُلٍ بَعْدَ الْخُمُسِ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا ، وَعَادُوا بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا .

سَرِيَّةُ أَبِي قَتَادَةَ إِلَى بَطْنِ إِضَمٍ

[ /1 L29339 سَرِيَّةُ /55 أَبِي قَتَادَةَ /55 إِلَى بَطْنِ /72 إِضَمٍ /72 /1 ] ثُمَّ بَعَثَ سَرِيَّةَ أَبِي قَتَادَةَ الْحَارِثِ بْنِ رَبْعِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ إِلَى بَطْنِ إِضَمَ ، وَهِيَ فِيمَا بَيْنَ ذِي خَشَبٍ وَذِي الْمَرْوَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ بُرُدٍ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي أَوَّلِ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي ثَمَانِيَةِ أَنْفُسٍ ، وَذَلِكَ حِينَ هَمَّ بِغَزْوَةِ مَكَّةَ حَتَّى لَا يَظُنَّ ظَانٌّ إِنْ خَرَجَ إِلَّا أَنَّهُ إِلَى جِهَةِ أَبِي قَتَادَةَ ، فَلَقِيَهُمْ عَامِرُ بْنُ الْأَضْبَطِ الْأَشْجَعِيُّ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ فَبَرَزَ إِلَيْهِ مُحَلَّمُ بْنُ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيُّ ، فَقَتَلَهُ وَأَخَذَ بِعِيرَهُ وَسَلَبَهُ ، ثُمَّ لَحِقُوا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا عَلِمُوا مُسِيرَهُ إِلَى مَكَّةَ ، فَلَحِقُوهُ بِالسُّقْيَا ، وَنَزَلَ فِيهِمُ الْقُرْآنُ : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [ النِّسَاءِ : 94 ] .

فَتْحُ مَكَّةَ

فَصْلٌ : [ /1 L29389 فَتْحُ /72 مَكَّةَ /72 /1 ] ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ . وَسَبَبُهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا عَقَدَ الصُّلْحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ دَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَقْدِهِ ، وَدَخَلَ بَنُو بَكْرٍ مِنْ هُذَيْلٍ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ ، وَشَجَرَ نِفَارٌ بَيْنَ بَنِي بَكْرٍ وَخُزَاعَةَ ، فَاسْتَعَانَ بَنُو بَكْرٍ بِقُرَيْشٍ فَأَعَانُوهُمْ عَلَى

خُزَاعَةَ ، وَحَضَرَ مَعَهُمْ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ مُتَنَكِّرِينَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ ، وَحَاطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى وَكُرْزُ بْنُ حَفْصٍ وَبَيَّتُوا خُزَاعَةَ لَيْلًا بِالْوَتِيرِ ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ عِشْرِينَ رَجُلًا ، وَذَلِكَ فِي شَعْبَانَ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ بِاثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ شَهْرًا ، وَنَدِمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى مَا صَنَعَتْ لِمَا فِيهِ مِنْ نَقْضِ الْعَهْدِ ، فَقَدِمَ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيُّ فِي أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْ خُزَاعَةٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَقَفَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ جَالِسٌ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فَقَالَ : لَا هُمَّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدَا حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا فَوَالِدًا كُنَّا وَكُنْتَ وَلَدَا ثَمَّتْ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا فَانْصُرْ رَسُولَ اللَّهِ نَصْرًا أَعْتَدَا وَادْعُ عِبَادَ اللَّهِ يَأْتُوا مَدَدَا فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ تَجَرَّدَا أَبْيَضَ مِثْلَ الْبَدْرِ يَنْمِي صُعُدَا إِنْ سِيمَ خَسَفًا وَجْهُهُ تَرَبَّدَا فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدَا إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكَّدَا وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءٍ رَصَدَا وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتُ أَدْعُو أَحَدَا وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدَا هُمْ بَيَّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجَّدَا فَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : نُصِرْتَ يَا عَمْرُو بْنَ سَالِمٍ ، ثُمَّ قَامَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ ، وَهُوَ يَقُولُ : لَا نُصِرْتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرْ بَنِي كَعْبٍ مِمَّا أَنْصُرُ مِنْهُ نَفْسِي ، وَقَالَ : إِنَّ هَذَا السَّحَابَ لَيَسْتَهِلُّ بِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ . لِأَنَّ الْحَرْبَ كَانَتْ بَيْنَ بَنِي كَعْبٍ مِنْ خُزَاعَةَ وَبَيْنَ بَنِي نُفَاثَةَ مِنْ بَنِي بَكْرٍ ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ : كَأَنَّكُمْ بِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ قَدْ جَاءَ لِيُجَدِّدَ الْعَهْدَ وَيَزِيدَ فِي الْمُدَّةِ ، فَقَدِمَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ جَدِّدِ الْعَهْدَ وَزِدْ فِي الْمُدَّةِ ، فَقَالَ لَهُ : هَلْ كَانَ مِنْكُمْ مِنْ حَدَثٍ قَالَ : لَا . قَالَ : فَنَحْنُ عَلَى صُلْحِنَا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ، فَلَقِيَ أَبَا بَكْرٍ ، وَلَقِيَ عُمَرَ ، وَلَقِيَ عَلِيًّا ، فَلَمْ يَرَ عِنْدَهُمْ خَيْرًا ، وَكَانَ أَغْلَظَهُمْ عَلَيْهِ عُمَرُ وَأَرَقَّهُمْ عَلَيْهِ عَلِيٌّ ، فَلَمَّا لَمْ يَجِدْ أَبُو سُفْيَانَ مَا أَحَبَّ قَامَ ، فَقَالَ : إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ بَيْنَ النَّاسِ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنْتَ تَقُولُ هَذَا يَا أَبَا سُفْيَانَ ؟ وَعَادَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى مَكَّةَ ، فَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْفَى أَمْرَهُ وَقَالَ : اللَّهُمَّ خُذْ عَلَى أَبْصَارِهِمْ : حَتَّى لَا يَرَوْنِي إِلَّا بَغْتَةً . فَكَتَبَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ يكاتب قريش بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم كِتَابًا إِلَى قُرَيْشٍ يُعْلِمُهُمْ بِخَبَرِهِمْ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ ، وَأَنَفْذَهُ إِلَيْهِمْ مَعَ امْرَأَةٍ شَدَّتْهُ فِي عِقَاصِ شَعْرِهَا ، فَأَنْفَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَثَرِهَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي

طَالِبٍ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ : فَأَخَذَا الْكِتَابَ مِنْهَا ، وَأَحْضَرَ حَاطِبًا ، وَقَالَ : مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا ؟ فَاعْتَذَرَ فَعَفَا عَنْهُ ، وَاسْتَنْفَرَ مَنْ حَوْلَهُ مِنَ الْعَرَبِ ، وَسَارَ إِلَى مَكَّةَ فِي عَشْرِ آلَافِ دِرْعٍ وَحَاسِرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، مِنْهُمْ مَنْ جُهَيْنَةَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ ، وَمَنْ مُزَيْنَةَ أَلْفٌ ، وَمِنْ سُلَيْمٍ سَبْعُمِائَةٍ ، وَمِنْ غِفَارَ أَرْبَعُمِائَةٍ ، وَمِنْ أَسْلَمَ أَرْبَعُمِائَةٍ ، وَسَائِرُهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ ، وَطَوَائِفُ مِنْ تَمِيمٍ وَقَيْسٍ وَأَسَدٍ ، وَخَرَجَ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الْعَاشِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ بَعْدَ الْعَصْرِ ، فَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا رُهْمٍ الْغِفَارِيَّ ، وَصَارَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ مَا بَيْنَ عُسْفَانَ وَأَمَجَ فَأَفْطَرَ ، وَقَالَ : مَنْ أَحَبَّ فَلْيَصُمْ وَمَنْ أَحَبَّ فَلْيُفْطِرْ . وَلَمَّا وَصَلَ إِلَى قُدَيْدٍ عَقَدَ الْأَلْوِيَةَ ، وَالرَّايَاتِ لِلْقَبَائِلِ ، وَلَقِيَهُ فِي طَرِيقِهِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي بَنِيقِ الْعُقَابِ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَكَانَ شَدِيدًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَكَانَ ابْنَ عَمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَرَادَ الدُّخُولَ عَلَيْهِ فَكَرِهَ دُخُولَهُمَا ، فَكَلَّمَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ حَتَّى رَقَّ عَلَيْهِمَا ، فَدَخَلَا عَلَيْهِ وَأَنْشَدَهُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ : لَعَمْرِي إِنِّي يَوْمَ أَحْمِلُ رَايَةً لِتَغْلِبَ خَيْلَ اللَّاتِ خَيْلُ مُحَمَّدِ لَكَالْمُدْلِجِ الْخَيْرَانِ أَظْلَمَ لَيْلُهُ فَهَذَا أَوَانِي حِينَ أُهْدِي وَأَهْتَدِي وَهَادٍ هَدَانِي غَيْرَ نَفْسِي وَنَالَنِي مَعَ اللَّهِ مَنْ طَرَّدْتُ كُلَّ مُطَرَّدِ أَصُدُّ وَأَنْأَى جَاهِدًا عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُدْعَى وَلَوْ لَمْ أَنْتَسِبُ مِنْ مُحَمَّدِ هُمُ مَا هُمُ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِهَوَاهُمُ وَإِنْ كَانَ ذَا رَأْيٍ يُلَمْ وَيُفَنَّدِ أُرِيدُ لِأُرْضِيَهُمْ وَلَسْتُ بِلَائِطٍ مَعَ الْقَوْمِ مَا لَمْ أُهْدِ فِي كُلِّ مَقْعَدِ فَقُلْ لِثَقِيفٍ لَا أُرِيدُ قِتَالَهَا وَقُلْ لِثَقِيفٍ تِلْكَ غَيْرِي أَوْعِدِي وَمَا كُنْتُ فِي الْجَيْشِ الَذِي نَالَ عَامِرًا وَمَا كَانَ عَنْ جَرَّى لِسَانِي وَلَا يَدِي قَبَائِلُ جَاءَتْ مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ نَزَائِعُ جَاءَتْ مِنْ سُهَامٍ وَسُرْدَدِ وَلَمَّا سَارَ بِالسُّقْيَا لَقِيَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَسَارَ حَتَّى نَزَلَ مَرَّ الظَّهْرَانِ عِشَاءً ، فَأَمَرَ أَنْ يُوقِدَ كُلُّ رَجُلٍ نَارًا ، فَأُوقِدَتْ عَشَرَةُ آلَافِ نَارٍ ، فَهَالَ أَهْلَ مَكَّةَ ، وَلَمْ يَعْرِفُوا الْخَبَرَ : فَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ يَتَجَسَّسَانِ الْأَخْبَارَ ، وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ : يَا صَبَاحَ قُرَيْشٍ وَاللَّهِ إِنْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ عَنْوَةً إِنَّهُ لَهَلَاكُ قُرَيْشٍ آخِرَ الدَّهْرِ : فَرَكِبَ بَغْلَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَيْضَاءَ ، وَتَوَجَّهَ إِلَى مَكَّةَ لِيَرَى مَنْ

يُعْلِمُ قُرَيْشًا بِنُزُولِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَخْرُجُوا إِلَيْهِ فَيَسْتَأْمِنُوهُ ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَطُوفُ بَيْنَ الْأَرْكَانِ إِذْ سَمِعَ كَلَامَ أَبِي سُفْيَانَ ، فَعَرَفَ صَوْتَهُ فَأَرْدَفَهُ عَلَى الْبَغْلَةِ فِي جِوَارِهِ ، وَعَادَ مَعَهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ ، قِيلَ : وَبُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ حَتَّى أَدْخَلَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَرَفَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَذَا أَبُو سُفْيَانَ ، عَدُوُّ اللَّهِ ، وَعَدُوُّ رَسُولِهِ ، قَدْ أَمْكَنَ اللَّهُ مِنْهُ بِغَيْرِ عَهْدٍ وَلَا عَقْدٍ ، فَاضْرِبْ عُنُقَهُ ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِعُمَرَ : لَوْ كَانَ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ مَا قُلْتَ هَذَا ، فَقَالَ عُمَرُ مَهْلًا يَا عَبَّاسُ ، فَوَاللَّهِ لَإِسْلَامُكَ يَوْمَ أَسْلَمْتَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ إِسْلَامِ الْخَطَّابِ لَوْ أَسْلَمَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْعَبَّاسِ : اذْهَبْ بِهِ فَقَدْ أَمَّنَّاهُ : حَتَّى تَغْدُوَ بِهِ مِنَ الْغَدِ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا رَآهُ قَالَ لَهُ : وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ ، أَلَمْ يَأَنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ؟ فَقَالَ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ، مَا أَوْصَلَكَ وَأَحْلَمَكَ وَأَكْرَمَكَ ، وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنْ لَوْ كَانَ مَعَ اللَّهِ غَيْرُهُ لَقَدْ أَغْنَى عَنِّي شَيْئًا ، فَقَالَ : وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ أَلُمْ يَأْنِ لَكَ بَعْدُ أَنْ تَعْلَمَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مَا أَوْصَلَكَ وَأَحْلَمَكَ وَأَكْرَمَكَ ، أَمَّا هَذِهِ فَفِي النَّفْسِ مِنْهَا شَيْءٌ ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ : اشْهَدْ شَهَادَةَ الْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يَضْرِبَ عُنُقَكَ ، فَشَهِدَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : انْصَرِفْ ، وَاحْبِسْهُ عِنْدَ حَطْمِ الْجَبَلِ بِمَضِيقِ الْوَادِي : حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْهِ جُنُودُ اللَّهِ ، فَقَالَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبُّ الْفَخْرَ فَاجْعَلْ لَهُ مَا يَكُونُ فِي قَوْمِهِ فَخْرًا ، فَقَالَ : مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ . وَاسْتَثْنَى قَتْلَ سِتَّةِ رِجَالٍ وَأَرْبَعِ نِسْوَةٍ ، وَقَالَ : يُقْتَلُونَ وَإِنْ تَعَلَّقُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ . فَالرِّجَالُ : عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ ، وَهَبَّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ ، وَمَقِيسُ بْنُ صُبَابَةَ ، وَحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْذٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ . وَالنِّسْوَةُ : هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ ، وَسَارَةُ مَوْلَاةُ عَمْرِو بْنِ هَاشِمٍ ، وَقَيْنَتَا بَنْتِ خَطَلٍ وَفَرْتَنَى وَقُرَيْبَة ، فَلَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُخُولَ مَكَّةَ دَفَعَ رَايَةَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ، فَلَمَّا سَارَ بِهَا سَمِعَهُ بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ وَهُوَ يَقُولُ : الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَهْ الْيَوْمَ تُسْبَى الْحُرْمَهْ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَرْحَمَةِ ، وَأَخَذَ الرَايَةَ مِنْهُ وَسَلَّمَهَا إِلَى ابْنِهِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ ، وَأَنْفَذَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ ، وَمَعَهُ رَايَتُهُ لِيَدْخُلَ مِنْ كَدَاءٍ أَعْلَى مَكَّةَ وَدَارُ أَبِي سُفْيَانَ بِأَعْلَاهَا ، وَأَنْفَذَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ مِنَ اللَّيْطِ أَسْفَلَ مَكَّةَ ، وَدَارُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ بِأَسْفَلِهَا ، وَوَصَّاهُمَا أَنْ لَا يُقَاتِلَا إِلَّا مَنْ قَاتَلَهُمَا .

وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ وَعَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ وَهُوَ يَسِيرُ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ بِمَضِيقِ الْوَادِي مَعَ الْعَبَّاسِ تَمُرُّ بِهِ الْقَبَائِلُ ، فَيَرَاهَا ، فَيَقُولُ لِلْعَبَّاسِ : مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ فَيَقُولُ لَهُ سُلَيْمٌ فَيَقُولُ : مَا لِي وَلِسُلَيْمٍ ؟ ثُمَّ تَمُرُّ بِهِ أُخْرَى فَيَقُولُ : مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ فَيَقُولُ لَهُ أَسْلَمُ فَيَقُولُ : مَا لِي وَلِأَسْلَمَ ؟ ثُمَّ تَمُرُّ بِهِ أُخْرَى فَيَقُولُ : مَنْ هَذِهِ ؟ فَيَقُولُ : مُزَيْنَةُ فَيَقُولُ : مَا لِي وَلِمُزَيْنَةَ ؟ وَتَمُرُّ بِهِ أُخْرَى فَيَقُولُ : مَنْ هَذِهِ ؟ فَيَقُولُ لَهُ : جُهَيْنَةُ ، فَيَقُولُ : مَا لِي وَلِجُهَيْنَةَ ؟ كَذَلِكَ حَتَّى جَازَتْ كَتِيبَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخَضْرَاءُ فَقَالَ : مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ فَقَالَ : هَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ : يَا أَبَا الْفَضْلِ ، لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيكَ عَظِيمًا ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ : وَيْحَكَ إِنَّهَا النُّبُوَّةُ فَقَالَ : نَعَمْ إِذًا فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ : الْحَقِ الْآنَ بِقَوْمِكَ فَحَذِّرْهُمْ : فَأَسْرَعَ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ ، فَصَرَخَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ هَذَا مُحَمَّدٌ قَدْ جَاءَكُمْ بِمَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ ، قَالُوا : فَمَهْ ! فَقَالَ : مَنْ دَخَلَ دَارِي فَهُوَ آمِنٌ قَالُوا : وَيْحَكَ ! تُغْنِي عَنَّا دَارُكَ ! قَالَ مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ . وَدَخَلَ الزُّبَيْرُ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ فَلَمْ يُقَاتِلْهُ أَحَدٌ ، فَغَرَسَ رَايَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحَجُونِ ، حَتَّى أَتَاهَا ، وَدَخَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ ، فَلَقِيَهُ بِالْخَنْدَمَةِ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو ، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ فِي جَمْعٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، وَأَحَابِيشِهِمْ وَحُلَفَائِهِمْ مِنْ بَنِي نُفَاثَةَ بْنِ بَكْرٍ ، فَقَاتَلَهُمْ خَالِدٌ حَتَّى قَتَلَ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ رَجُلًا ، وَمِنْ هُذَيْلٍ أَرْبَعَةَ رِجَالٍ ، فَانْهَزَمُوا أَعْظَمَ هَزِيمَةٍ فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَارِقَةَ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ قَالَ : مَا هَذَا وَقَدْ نَهَيْتُ عَنِ الْقِتَالِ ؟ فَقِيلَ لَهُ : إِنَّ خَالِدًا قُوبِلَ ، فَقَاتَلَ فَقَالَ : قَضَاءُ اللَّهِ خَيْرٌ ، وَكَانَ فِيمَنْ قَاتَلَ خَالِدًا حَمَاسُ بْنُ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ قَدْ أَعَدَّ سِلَاحًا لِلْقِتَالِ ، فَلَمَّا أَخَذَهُ لِيُقَاتِلَ فِي هَذَا الْيَوْمِ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ : وَاللَّهِ مَا أَرَى أَنَّهُ يَعْتَرِضُ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ بِشَيْءٍ ، فَقَالَ لَهَا : إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أُخْدِمَكِ بَعْضَهُمْ وَأَنْشَأَ يَقُولُ إِنْ تَقْبَلُوا الْيَوْمَ فَمَا بِيَ عِلَّهْ هَذَا سِلَاحٌ كَامِلٌ وَأَلَّهْ وَذُو غِرَارَيْنِ سَرِيعُ السِّلَّهْ فَلَمَّا لَحِقَ بِعِكْرِمَةَ وَصَفْوَانَ عَادَ مُنْهَزِمًا حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ ، وَقَالَ لِامْرَأَتِهِ : اغْلِقِي عَلَيَّ بَابِي فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ : فَأَيْنَ مَا كُنْتَ تَقُولُ فَقَالَ :

إِنَّكِ لَوْ شَهِدْتِ يَوْمَ الْخَنْدَمَهْ إِذْ فَرَّ صَفْوَانُ وَفَرَّ عِكْرِمَهْ وَأَبُو يَزِيدَ قَائِمٌ كَالْمُؤْتِمَهْ وَاسَقْبَلَتْهُمْ بِالسُّيُوفِ الْمُسْلِمَهْ يَقْطَعْنَ كُلَّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمَهْ ضَرْبًا فَلَا تُسْمَعُ إِلَّا غَمْغَمَهْ لَهُمْ نَهِيتٌ خَلْفَنَا وَهَمْهَمَهْ لَمْ تَنْطِقِي فِي اللَّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ وَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ ، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ : ضُرِبَتْ لَهُ بِالْحَجُونِ قُبَّةٌ مِنْ أَدَمٍ : لِيَنْزِلَ فِيهَا عِنْدَ رَايَتِهِ الَّتِي غَرَسَهَا الزُّبَيْرُ ، فَقِيلَ لَهُ : أَلَا تَنْزِلَ مَنْزِلَكَ فَقَالَ : وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رَبْعٍ ، وَكَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ حِينَ دَخَلَ ، وَهُوَ يَقُولُ : يَا حَبَّذَا مَكَةَ مِنْ وَادِي أَرْضٌ بِهَا أَهْلِي وَعُوَّادِي أَرْضٌ بِهَا أَمْشِي وَلَا هَادِي أَرْضٌ بِهَا تَرْسَخُ أَوْتَادِي وَطَافَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْبَيْتِ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَى ، وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا ، فَجَعَلَ كُلَّمَا مَرَّ بِصَنَمٍ مِنْهَا يُشِيرُ إِلَيْهِ بِقَضِيبٍ فِي يَدِهِ تكسير النبي الأصنام يوم الفتح ، وَيَقُولُ : جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [ الْإِسْرَاءِ : 81 ] ، فَيَقَعُ الصَّنَمُ لِوَجْهِهِ ، وَكَانَ أَعْظَمُهَا هُبَلَ وَهُوَ وِجَاهَ الْكَعْبَةِ ، وَجَاءَ إِلَى الْمَقَامِ ، وَهُوَ لَاصِقٌ بِالْكَعْبَةِ ، فَصَلَّى خَلْفَهُ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ جَلَسَ نَاحِيَتَهُ مِنَ الْمَسْجِدِ ، وَجَاءَتْهُ قُرَيْشٌ فَأَسْلَمُوا طَوْعًا وَكَرْهًا ، وَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، اصْنَعْ بِنَا صُنْعَ أَخٍ كَرِيمٍ ، فَقَالَ : أَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ ، ثُمَ قَالَ : مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَا قَالَ يُوسُفُ لِإِخْوَتِهِ : لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [ يُوسُفَ : 92 ] . ثُمَّ أَجْمَعُوا الْمُبَايَعَةَ ، فَجَلَسَ عَلَى الصَّفَا ، وَجَلَسَ عُمَرُ أَسْفَلَ مَجْلِسِهِ يَأْخُذُ عَلَى النَّاسِ ، فَبَايَعُوا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِيمَا اسْتَطَاعُوا فَقَالَ : لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ . وَجَاءَ النِّسَاءُ لِمُبَايَعَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ فِيهِنَّ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ مُتَنَكِّرَةً لِأَجْلِ صَنِيعِهَا بِحَمْزَةَ ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ زَوْجُهَا حَاضِرًا ، فَلَمَّا تَكَلَّمَتْ عَرَفَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : إِنَّكِ لَهِنْدُ فَقَالَتْ : أَنَا هِنْدُ فَاعْفُ عَمَّا سَلَفَ ، عَفَا اللَّهُ عَنْكَ ، فَقَالَ : تُبَايِعِينَ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكِي بِاللَّهِ شَيْئًا ، فَقَالَتْ هِنْدُ : إِنَّكَ لَتَأْخُذُ عَلَيَّ مَا لَمْ تَأْخُذْهُ عَلَى الرِّجَالِ وَسَنُؤْتِيكَهُ قَالَ : وَلَا تَسْرِقْنَ ، فَقَالَتْ هِنْدُ : إِنِّي كُنْتُ أُصِيبُ مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ الْهَنَّةَ وَالْهَنَّةَ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ :

أَنْتِ فِي حَلٍّ مِمَّا مَضَى ، فَقَالَ : وَلَا تَزِنِينَ ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ وَهَلْ تَزْنِي الْحُرَّةُ ؟ قَالَ : وَلَا تَقْتُلْنَ أَوْلَادَكُنَّ ، قَالَتْ : قَدْ رَبَّيْنَاهُمْ صِغَارًا وَقَتَلْتَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ كِبَارًا ، فَأَنْتَ وَهُمْ أَعْلَمُ فَضَحِكَ عُمَرُ حَتَّى اسْتَغْرَبَ . قَالَ : وَلَا تَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ تَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُنَّ وَأَرْجُلِكُنَّ فَقَالَتْ : وَاللَّهِ إِنَّ إِتْيَانَ الْبُهْتَانِ لَقَبِيحٌ : وَلَبَعْضُ التَّجَاوُزِ أَمْثَلُ . قَالَ : وَلَا تَعْصِينَ فِي مَعْرُوفٍ قَالَتْ : مَا جَلَسْنَا هَذَا الْمَجْلِسَ وَنَحْنُ نُرِيدُ أَنْ نَعْصِيَكَ فِي مَعْرُوفٍ ، فَقَالَ لِعُمَرَ : بَايِعْهُنَّ فَبَايَعْهُنَّ ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ أَرْسَلَ بِلَالًا إِلَى عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ لِيَأْتِيَهُ بِمَفَاتِيحِ الْكَعْبَةِ فَأَخَذَهَا مِنْهُ وَفَتَحَ الْكَعْبَةَ ، وَدَخَلَهَا فَصَلَّى فِيهَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ وَالنَّاسُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ فَخَطَبَهُمْ وَدَعَا ، وَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَاسُ كُلُّكُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ فَأَذْهِبُوا عَنْكُمْ فَخْرَ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ، فَهِيَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَلَمْ تَحِلَّ لِيَ إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ رَجَعَتْ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ وَلَمْ يَحِلَّ لَنَا مِنْ غَنَائِمِهَا شَيْءٌ فَلْيُبَلِّغْ شَاهِدُكُمْ غَائِبَكُمْ وَذَلِكَ مِنْ غَدِ يَوْمِ الْفَتْحِ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ ، وَدَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ وَدَفَعَ إِلَيْهِ الْمَفَاتِيحَ ، وَقَالَ : خُذُوهَا يَا بَنِي طَلْحَةَ تَالِدَةً خَالِدَةً ، لَا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا ظُلْمًا ، وَدَفَعَ السِّقَايَةَ إِلَى الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَقَالَ : أُعْطِيكُمْ مَا تَرْزَؤُكُمْ وَلَا تَرْزَؤُونَهَا . ثُمَّ بَعَثَ تَمِيمَ بْنَ أَسَدٍ الْخُزَاعِيَّ فَجَدَّدَ أَنْصَابَ الْحَرَمِ ، وَحَانَ الظُّهْرُ فَأَذَّنَ بِلَالٌ فَوْقَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ ، وَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَتَيْنِ وَكَذَلِكَ صَلَّى مُدَّةَ مَقَامِهِ بِمَكَّةَ . ثُمَّ بَثَّ السَّرَايَا إِلَى الْأَصْنَامِ الَّتِي حَوْلَ مَكَّةَ هدم الْعُزَّى ، وَسُوَاعٍ ، وَمَنَاةَ ، فَبَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى الْعُزَّى بِبَطْنِ نَخْلَةَ وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ أَصْنَامِ قُرَيْشٍ فَكَسَرَهُ . وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى رُهَاطٍ وَفِيهِ سُوَاعٌ وَهُوَ صَنَمٌ لِهُذَيْلٍ فَكَسَرَهُ . وَبَعَثَ سَعْدَ بْنَ زَيْدٍ الْأَشْهَلِيَّ إِلَى مَنَاةَ وَكَانَ صَنَمًا بِالْمُشَلَّلِ لِلْأَوْسِ وَالْخْزْرَجِ وَغَسَّانَ فَكَسَرَهُ ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ : مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَدَعُ فِي بَيْتِهِ صَنَمًا إِلَّا كَسَرَهُ .

مَسِيرُ خَالِدٍ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ

[ مَسِيرُ خَالِدٍ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ ] وَلَمَّا رَجَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنَ الْعُزَّى بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوَّلِ شَوَّالٍ وَهُوَ بِمَكَّةَ سَرِيَّةً إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ مِنْ كِنَانَةَ وَكَانُوا أَسْفَلَ مِنْ مَكَّةَ عَلَى لَيْلَةٍ مِنْهَا نَاحِيَةَ يَلَمْلَمَ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، وَمِنْ بَنِي سُلَيْمٍ دَاعِيًا إِلَى الْإِسْلَامِ ، وَلَمْ يَبْعَثْهُ مُقَاتِلًا ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ قَالَ : مَا أَنْتُمْ ؟ قَالُوا : مُسْلِمُونَ قَدْ صَدَّقْنَا بِمُحَمَّدٍ ، وَصَلَّيْنَا وَبَنَيْنَا الْمَسَاجِدَ فِي سَاحَاتِنَا وَأَذَّنَّا فِيهَا ، فَقَالَ : مَا بَالِكُمْ بِالسِّلَاحِ ؟ قَالُوا : خِفْنَا

أَنْ تَكُونُوا عَدُوًّا ، قَالَ : اسْتَأْسِرُوا ، فَاسْتَأْسَرُوا وَفَرَّقَهُمْ عَلَى أَصْحَابِهِ ، فَلَمَّا كَانَ فِي السَّحَرِ أَمَرَهُمْ بِقَتْلِهِمْ ، فَأَمَّا بَنُو سُلَيْمٍ فَقَتَلُوا كُلَّ مَنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ . وَأَمَّا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فَأَرْسَلُوا كُلَّ مَنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ ، وَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكُمْ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ ، وَأَنْفَذَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بِدِيَاتِ الْقَتْلَى وَيُسَمَّى هَذَا الْيَوْمُ يَوْمَ الْغُمَيْصَاءِ ، فَأَمَّا مَنْ أَبَاحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتْلَهُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ في فتح مكة فَابْنُ خَطَلٍ تَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : اقُتُلُوهُ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُ فَقَتَلَهُ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ وَأَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ . وَأَمَّا مَقِيسُ بْنُ صُبَابَةَ قَتَلَهُ نُمَيْلَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، وَهُوَ فِي قَوْمِهِ . وَأَمَّا الْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْذٍ فَقَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ . وَأَمَّا ابْنُ أَبِي سَرْحٍ فَجَاءَ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَكَانَ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَفَعَ لَهُ فَصَمَتَ طَوِيلًا ، ثُمَّ شَفَّعَهُ فِيهِ وَكَانَ أَحَدَ الْأَنْصَارِ قَدْ نَذَرَ أَنْ يَقْتُلَهُ ، فَأَخَذَ قَائِمَ سَيْفِهِ وَانْتَظَرَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي قَتْلِهِ ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ لِلْأَنْصَارِيِّ : هَلَّا وَفَيْتَ بِنَذْرِكَ ، قَالَ : انْتَظَرْتُ أَنْ تُومِئَ إِلَيَّ بِعَيْنِكَ فَقَالَ : الْإِيمَاءُ خِيَانَةٌ ، وَلَيْسَ لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ ، وَأَمَّا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ فَإِنَّهُ هَرَبَ إِلَى الْيَمَنِ ، أَسْلَمَتِ امْرَأَتُهُ أُمُّ حَكِيمِ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ ، فَاسْتَأْمَنَتْ لَهُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَّنَهُ فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ ، فَقَدِمَتْ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَّا هِنْدٌ فَأَمَّنَهَا وَبَايَعَهَا . وَأَمَّا سَارَةُ فَاسْتُؤْمِنَ لَهَا فَأَمَّنَهَا ، وَأَمَّا بِنْتَا ابْنِ خَطَلٍ : فَقُتِلَتْ إِحْدَاهُمَا ، وَهَرَبَتِ الْأُخْرَى حَتَّى اسْتُؤْمِنَ لَهَا ، فَأَمَنَّهَا وَبَقِيَتْ حَتَّى أَوْطَأَهَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَرَسًا بِالْأَبْطَحِ فِي زَمَانِ عُمَرَ فَقَتَلَهَا . وَهَرَبَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ إِلَى جُدَّةَ لِيَرْكَبَ مِنْهَا إِلَى الْيَمَنِ ، فَاسْتَأْمَنَ لَهُ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَّنَهُ ، وَأَعْطَاهُ عِمَامَتَهُ ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ وَأَقْدَمَهُ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، هَذَا يَزْعُمُ أَنَّكَ قَدْ أَمَنَّتْنِي قَالَ : نَعَمْ قَالَ : فَاجْعَلْنِي فِي أَمْرِي بِالْخِيَارِ شَهْرَيْنِ قَالَ : أَنْتَ فِيهِ بِالْخِيَارِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ، وَهَرَبَ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيُّ ، وَكَانَ زَوْجَ أُمِّ هَانِئِ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى نَجْرَانَ ، وَهَرَبَ إِلَيْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى . فَأَمَّا هُبَيْرَةُ فَأَقَامَ بِهَا كَافِرًا حَتَّى مَاتَ . وَأَمَّا ابْنُ الزِّبَعْرَى فَإِنَّ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ رَمَاهُ إِلَى نَجْرَانَ بِبَيْتٍ وَاحِدٍ فَمَا زَادَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ :

لَا تَعْدَمْنَ رَجُلًا أَحَلَّكَ بُغْضَهُ نَجْرَانَ فِي عَيْشٍ أَحَذَّ لَئِيمِ فَجَاءَ مُسْلِمًا قَالَ : يَا رَسُولَ الْمَلِيكِ إِنَّ لِسَانِي رَاتِقٌ مَا فَتَقْتُ إِذْ أَنَا بُورُ إِذْ أُبَارِي الشَّيْطَانَ فِي سُنَنِ الرِّ يحِ وَمَنْ مَالَ مَيْلَهُ مَثْبُورُ آمَنَ اللَّحْمُ وَالْعِظَامُ لِرَبِّي ثُمَّ نَفَسِي الشَّهِيدُ أَنْتَ النَّذِيرُ إِنَّنِي عَنْكَ زَاجِرٌ ثَمَّ حَيٌّ مِنْ لُؤَيٍّ فَكُلُّهُمُ مَغْرُورُ وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَكَّةَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ لِلصَّلَاةِ وَالْحَجِّ ، وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يُعَلِّمُهُمُ السُّنَنَ وَالْفِقْهَ ، وَخَرَجَ مِنْهَا بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا : لِحَرْبِ هَوَازِنَ . فَكَانَتْ هَذِهِ سِيرَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي فَتْحِ مَكَّةَ ، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ مَعَ نَقْلِ هَذِهِ السِّيرَةِ هَلْ فَتَحَهَا عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا ؟ مكة فَذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ فَتَحَهَا عَنْوَةً بِالسَّيْفِ ثُمَّ أَمَّنَ أَهْلَهَا . وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمُجَاهِدٌ إِلَى أَنَّهُ فَتَحَهَا صُلْحًا بِأَمَانٍ عَقَدَهُ بِشَرْطٍ ، فَلَمَّا وَجَدَ الْكَفَّ لَزِمَ الْأَمَانُ وَالْعَقْدُ الصُّلْحُ . وَالَّذِي أَرَاهُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ نَقْلُ هَذِهِ السِّيرَةِ أَنَّ أَسْفَلَ مَكَّةَ دَخَلَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْوَةً : لِأَنَّهُ قُوتِلَ فَقَاتَلَ وَقَتَلَ ، وَأَعْلَى مَكَّةَ دَخَلَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ صُلْحًا لِأَنَّهُمْ كَفُّوا وَالْتَزَمُوا شَرْطَ أَبِي سُفْيَانَ ، فَكَفَّ عَنْهُمُ الزُّبَيْرُ ، وَلَمْ يَقْتُلْ مِنْهُمْ أَحَدًا ، فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْتَقَرَّ بِمَكَّةَ الْتَزَمَ أَمَانَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ ، وَاسْتَأْنَفَ أَمَانَ مَنْ قَاتَلَ : فَلِذَلِكَ اسْتَجَارَ بِأُمِّ هَانِئِ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لِيَقْتُلَهُمَا ، فَمَنَعَتْهُ وَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَتْهُ فَقَالَ : قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ ، وَلَوْ كَانَ الْأَمَانُ عَامًّا لَمْ يَحْتَاجَا إِلَى ذَلِكَ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَمَانٌ لَكَانَ كُلُّ النَّاسِ كَذَلِكَ .

غَزْوَةُ حُنَيْنٍ

فَصْلٌ : [ غَزْوَةُ حُنَيْنٍ ] ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَزْوَةَ حُنَيْنٍ إِلَى هَوَازِنَ ، خَرَجَ إِلَيْهَا مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ مَقَامِهِ بِهَا

خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، فِي يَوْمِ السَّبْتِ السَّادِسِ مِنْ شَوَّالٍ وقت حنين ، فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا ، مِنْهُمُ الْعَشَرَةُ آلَافٍ الَّذِينَ فَتَحَ بِهِمْ مَكَّةَ ، وَأَلْفَانِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ . وَحُنَيْنٌ وَادٍ إِلَى جَنْبِ ذِي الْمَجَازِ ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ ثَلَاثُ لَيَالٍ . وَخَرَجَ مَعَهُ نَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، مِنْهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ : لِأَنَّهُ كَانَ فِي مُدَّةِ خِيَارِهِ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَعِرْنَا سِلَاحَكَ فَقَالَ : أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ قَالَ : بَلْ عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ مُؤَدَّاةٌ فَقَالَ : لَيْسَ بِهَذَا بَأْسٌ ، فَأَعْطَاهُ مِائَةَ دِرْعٍ بِمَا يُصْلِحُهَا مِنَ السِّلَاحِ ، فَسَأَلَهُ أَنْ يَكْفِيَهُ حَمْلَهَا فَفَعَلَ . وَسَبَبُ هَذِهِ الْغَزْوَةِ : أَنَّ هَوَازِنَ لَمَّا رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ فَتَحَ مَكَّةَ ، اجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ وَأَشْرَافُ ثَقِيفٍ عَلَى جَمْعِ النَّاسِ لِمُحَارَبَتِهِ ، فَلَمَّا عَرَفَ ذَلِكَ وَقَدِ اجْتَمَعُوا " بِأَوْطَاسٍ " سَارَ إِلَيْهِمْ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى نَزَلَ بِحُنَيْنٍ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ ، الْعَاشِرِ مِنْ شَوَّالٍ عِشَاءً ، فَعَبَّأَ أَصْحَابَهُ فِي السَّحَرِ وَعَقَدَ الرَّايَاتِ وَالْأَلْوِيَةَ فِي أَهْلِهَا ، فَدَفَعَ أَلْوِيَةَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى ثَلَاثَةٍ : دَفَعَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِوَاءً ، وَإِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِوَاءً ، وَإِلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ لِوَاءً ، وَدَفَعَ أَلْوِيَةَ الْأَنْصَارِ إِلَى ثَلَاثَةٍ : فَدَفَعَ إِلَى الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ لِوَاءً ، وَدَفَعَ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ لِوَاءً ، وَإِلَى أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ لِوَاءً ، وَفَرَّقَ فِي الْقَبَائِلِ الْأَلْوِيَةَ يَحْمِلُهَا زُعَمَاؤُهُمْ وَعَبَّأَ النَّاسَ صُفُوفًا ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ ، وَظَاهَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ دِرْعَيْنِ ، وَلَبِسَ الْمِغْفَرَ وَالْبَيْضَةَ ، وَرَكِبَ بَغْلَتَهُ دُلْدُلَ وَالشَّهْبَاءَ . فَأَمَّا هَوَازِنُ وَثَقِيفٌ فَاجْتَمَعُوا بِأَوْطَاسٍ ، وَعَلَى جَمِيعِهِمْ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّضِيرِيُّ وَهُوَ الْمُدَبِّرُ لَهُمْ ، وَكَانَ قَدْ أَمَرَهُمْ بِحَمْلِ ذَرَّارِيِّهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ؛ لِيَحْتَمُوا بِهَا وَيُقَاتِلُوا عَنْهَا ، وَكَانَ فِي النَّاسِ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ ، شَيْخًا كَبِيرًا ، لَا فَضْلَ فِيهِ إِلَّا التَّيَمُّنُ بِرَأْيِهِ ، وَكَانَ يُقَادُ فِي شِجَارٍ ، وَهُوَ سَيِّدُ بَنِي جُشَمَ ، فَقَالَ لِلنَّاسِ : فِي أَيِّ وَادٍ أَنْتُمْ ؟ قَالُوا : بِأَوْطَاسٍ قَالَ : نِعْمَ مَجَالُ الْخَيْلِ : لَا حَزْنٌ ضَرِسٌ وَلَا سَهْلٌ دَهْسٌ مَا لِي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ ، وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ ، وَبُكَاءَ الصَّغِيرِ ؟ قَالُوا : سَاقَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ مَعَ النَّاسِ بِنِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، فَدَعَى مَالِكًا ، وَقَالَ لَهُ : سُقْتَ مَعَ النَّاسِ بِنِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، وَأَنَّهُ لَا يَنْفَعُكَ إِلَّا رَجُلٌ بِسَيْفِهِ وَرُمْحِهِ ، فَارْفَعْهُمْ إِلَى عَلْيَاءِ بِلَادِهِمْ ، ثُمَّ الْقَ

الْحَرْبَ عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ ، فَإِنْ كَانَتْ لَكَ لَحِقَ بِكَ مَنْ وَرَاءَكَ ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْكَ أَلْفَاكَ وَقَدْ أَحْرَزْتَ أَهْلَكَ وَمَالَكَ ، وَلَمْ تَفْضَحْ قَوْمَكَ ، فَلَمْ يُطِعْهُ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ : فَقَالَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةَ : هَذَا يَوْمٌ لَمْ أَشْهَدْهُ : وَلَمْ يَفُتْنِي : يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ أَخُبُّ فِيهَا وَأَضَعْ ثُمَّ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ، وَخَرَجَتِ الْكَتَائِبُ فِي غَلَسِ الصُّبْحِ مِنْ مَضِيقِ الْوَادِي ، وَخَرَجَ كَمِينُ هَوَازِنَ مِنْ شِعَابِهِ ، فَانْهَزَمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَوَّلِ اللِّقَاءِ بَنُو سُلَيْمٍ ، ثُمَّ تَبِعَهُمْ فِي الْهَزِيمَةِ أَهْلُ مَكَّةَ ، ثُمَّ تَبِعَهُمُ النَّاسُ فِي الْهَزِيمَةِ أَفْوَاجًا حَتَّى بَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ ، الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَرَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَأَبُو بَكْرٍ ، وَعُمَرُ ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ ، وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَأَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ أَخُو أُسَامَةَ مِنْ أُمِّهِ ، وَتَكَلَّمَ جُفَاةُ أَهْلِ مَكَّةَ حِينَ رَأَوُا الْهَزِيمَةَ بِمَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الضَّغِينِ ، وَضَرَبَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ بِأَزْلَامٍ كَانَتْ فِي كِنَانَتِهِ ، وَقَالَ : قُتِلَ مُحَمَّدٌ وَغُلِبَتْ هَوَازِنُ ، وَقَالَ كَلَدَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ : أَلَا بَطَلَ السِّحْرُ الْيَوْمَ ! فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ - كَانَ أَخَاهُ لِأُمِّهِ - : اسْكُتْ فَضَّ اللَّهُ فَاكَ قَالَ : فَوَاللَّهِ لَأَنْ يُرَبَّيَنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُرَبِّيَنِي رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ ، وَصَفْوَانُ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ فِي شُهُورِ خِيَارِهِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِ انْحَازَ ذَاتَ الْيَمِينِ ، فَنَادَى إِلَى عِبَادِ اللَّهِ أَنَا رَسُولُ اللَّهِ ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ : فَمَا رُئِيَ فِي النَّاسِ أَشْجَعُ مِنْهُ ، وَأَمَرَ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - وَكَانَ آخِذًا بِلِجَامِ بَغْلَتِهِ الشَّهْبَاءِ وَهُوَ رَجُلٌ جَهِيرُ الصَّوْتِ - أَنْ يُنَادِيَ فِي النَّاسِ : يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ، يَا أَصْحَابَ السَّمُرَةِ ، يَا أَهْلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، فَأَجَابَهُ مَنْ سَمِعَهُ : لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ ، وَتَبِعُوا الصَّوْتَ : فَلَمَّا اجْتَمَعَ مِنْهُمْ مِائَةُ رَجُلٍ اسْتَقْبَلُوا النَّاسَ ، فَاقْتَتَلُوا ، وَتَلَاحَقَ بِهِمُ النَّاسُ ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَفَّ تُرَابٍ أَلْقَاهُ عَلَيْهِمْ ، وَقَالَ : شَاهَتِ الْوُجُوهُ ( حَا مِيمْ ) لَا يُبْصِرُونَ كلمات لرسول الله في حنين وَاجْتَلَدَ الْقَوْمُ ، فَلَمَّا أَشْرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مُجْتَلَدِهِمْ قَالَ : الْآنَ حَمَى الْوَطِيسُ فَوَلَّتْ هَوَازِنُ مُنْهَزِمَةً ، وَثَبَتَ بَعْدَهُمْ ثَقِيفٌ : فَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا عِدَّةَ مَنْ قُتِلَ بِبَدْرٍ ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ فَقَتَلَ أَبُو طَلْحَةَ عِشْرِينَ

قَتِيلًا أَعْطَاهُ أَسْلَابَهُمْ ، حَكَاهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، وَعَسْكَرَ نَاسٌ بِأَوْطَاسٍ ، فَأَنْفَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِمْ أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيَّ فِي جَيْشٍ فَهَزَمَهُمْ ، وَأَدْرَكَ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ فِي شِجَارِهِ فَقَتَلَهُ : فَبَرَزَ ابْنُهُ سَلَمَةُ بْنُ دُرَيْدٍ مُرْتَجِزًا يَقُولُ : إِنْ تَسْأَلُوا عَنِّي فَإِنِّي سَلَمَهْ ابْنُ سَمَادِيرَ لِمَنْ تَوَسَّمَهْ أَضْرِبُ بِالسَّيْفِ رُءُوسَ الْمُسْلِمَهْ وَرَمَى أَبَا عَامِرٍ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ : فَأَدْرَكَهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ فَقَتَلَهُ ، وَكَانَ أَبُو عَامِرٍ حِينَ رُمِيَ بِالسَّهْمِ اسْتَخْلَفَ عَلَى الْجَيْشِ أَبَا مُوسَى وَوَصَّاهُ إِذَا لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُقْرِئَهُ مِنْهُ السَّلَامَ ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي عَامِرٍ ، وَاجْعَلْهُ مِنْ أَعْلَى أُمَّتِي فِي الْجَنَّةِ . وَكَانَ أَبُو عَامِرٍ قَدْ قَتَلَ مِنْهُمْ فِي يَوْمِهِ بِنَفْسِهِ تِسْعَةً مُبَارَزَةً حَتَّى قَتَلَهُ الْعَاشِرُ : وَلَمَّا انْهَزَمُوا لَحِقَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ وَهُوَ رَئِيسُ الْقَوْمِ بِالطَّائِفِ : فَتَحَصَّنَ بِهَا ، وَحَازَ الْمُسْلِمُونَ السَّبَايَا وَالْأَمْوَالَ فَكَانَ السَّبْيُ سِتَّةَ آلَافِ رَأْسِ ، وَالْإِبِلُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ بَعِيرِ ، وَالْغَنَمُ أَرْبَعِينَ أَلْفَ شَاةٍ ، وَالْفِضَّةُ أَرْبَعَةَ آلَافِ أُوقِيَّةٍ ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحُمِلَ السَّبْيُ وَالْأَمْوَالُ إِلَى الْجِعْرَانَةَ ، وَوَلَّى عَلَيْهِ مَسْعُودَ بْنَ عَمْرٍو الْقَارِئَ .

غَزْوَةُ الطَّائِفِ

[ غَزْوَةُ الطَّائِفِ ] وَسَارَ إِلَى الطَّائِفِ لِقِتَالِ مَنْ بِهَا مِنْ ثَقِيفٍ ، وَمَنِ انْضَمَّ إِلَيْهِمْ مِنْ هَوَازِنَ فَأَغْلَقُوا حِصْنَهُمْ ، وَقَاتَلُوا فِيهِ ، وَلَمْ يَخْرُجُوا مِنْهُ ، فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَقِيلَ : ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَنَادَى فِي حِصَارِهَا : أَيُّمَا عَبْدٍ خَرَجَ إِلَيْنَا فَهُوَ حُرٌّ ، فَخَرَجَ مِنْهُمْ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْهُمْ أَبُو بَكْرَةَ ، فَنَزَلَ مِنَ الْحِصْنِ فِي بَكْرَةٍ فَقِيلَ لَهُ : أَبُو بَكْرَةَ ، فَأَعْتَقَهُمْ وَدَفَعَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِمُؤْنَتِهِ : فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ ، وَنَاشَدُوهُ بِالرَّحِمِ أَنْ يَنْصَرِفَ عَنْهُمْ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ فِي قَطْعٍ كُرُومِهِمْ ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِمْ ، فَأَزْمَعَ عَلَى الرُّجُوعِ ، وَكَانَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ : " رَأَيْتُ أَنَّهُ أُهْدِيَتْ إِلَيَّ قَعْبَةٌ مَمْلُوءَةٌ زُبْدًا ، فَنَقَرَهَا دِيكٌ ، فَأَهْرَاقَ مَا فِيهَا " ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : مَا أَظُنُّكَ تُدْرِكُ مِنْهُمْ فِي وَقْتِكَ هَذَا مَا تُرِيدُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ أَقُولُ ، فَاسْتَشَارَ فِيهِمْ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هُمْ ثَعْلَبٌ فِي جُحْرٍ إِنْ أَقَمْتَ عَلَيْهِ أَخَذْتَهُ ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَضُرَّكَ ، فَرَجَعَ عَنْهُمْ بَعْدَ أَنْ نَصَبَ عَلَيْهِمْ مَنْجَنِيقًا ، وَقَطَعَ عَلَيْهِمْ كُرُومًا لِيَقْسِمَ مَا

بِالْجِعْرَانَةِ مِنْ غَنَائِمِ هَوَازِنَ ، فَقَدِمَ الْجِعْرَانَةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ وَقَدِمَتْ عَلَيْهِ وُفُودُ هَوَازِنَ وَقَدْ أَسْلَمُوا ، وَفِيهِمْ أَبُو مُبَرِّدٍ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدٍ ، فَقَالَ : إِنَّمَا فِي الْحَظَائِرِ عَمَّاتُكُ وَخَالَاتُكَ : لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ رَضِيعًا فِيهِمْ : لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ارْتَضَعَ مِنْ لَبَنِ حَلِيمَةَ ، وَكَانَتْ مِنْ هَوَازِنَ . وَلَوْ كُنَّا مَلِحْنَا لِلْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ أَوِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ أَيْ : أَرْضَعْنَا ثُمَّ نَزَلْنَا مِنْهُ مَنْزِلَكَ مِنَّا لَرَعَى ذَاكَ ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْكَفِيلَيْنِ ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ : امْنُنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كَرَمٍ فَإِنَّكَ الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَدَّخِرُ امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا إِذْ فُوكَ تَمْلَؤُهُ مِنْ مَحْضِهَا الدُّرَرُ إِنْ لَمْ تَدَارَكْهُمْ نَعْمَاءُ نَنْثُرُهَا يَا أَرْجَحَ النَّاسِ حِلْمًا حِينَ يُخْتَبَرُ إِنَّا لَنَشْكُرُ آلَاءً وَإِنْ كُفِرَتْ وَعِنْدَنَا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ مُدَّخَرُ فَأَلْبِسِ الْعَفْوَ مَنْ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهُ مِنْ أُمَّهَاتِكَ إِنَّ الْعَفْوَ مُشْتَهَرُ إِنَّا نُؤَمِّلُ عَفْوًا مِنْكَ تَلْبَسُهُ هَذِي الْبَرِيَّةُ إِذْ تَعْفُو وَتَنْتَصِرُ فَاغْفِرْ عَفَا اللَّهُ عَمًّا أَنْتَ وَاهِبُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذْ يُهْدَى لَكَ الظَّفَرُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّكُمْ لَتَرَوْنَ مَنْ مَعِي فَأَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ أَمْ أَمْوَالُكُمْ ؟ فَقَالُوا : مَا كُنَّا نَعْدِلُ بِالْأَحْسَابِ شَيْئًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا مَا لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ ، وَسَأَسْأَلُ النَاسَ ، فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ : مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ أَمَّا أَنَا وَبَنُو تَمِيمِ فَلَا ، وَقَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ أَمَّا أَنَا وَبَنُو فَزَارَةَ فَلَا ، وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ : أَمَّا أَنَا وَبَنُو سُلَيْمٍ فَلَا ، فَقَالَتْ بَنُو سُلَيْمٍ : مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ : وَهَّنْتُمُونِي ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنَّاسِ : إِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ قَدْ جَاءُوا مُسْلِمِينَ ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ سَبْيَهُمْ وَقَدْ خَيَّرَتْهُمْ ، فَلَمْ يَعْدِلُوا بِالْأَبْنَاءِ وَالنِّسَاءِ شَيْئًا ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُمْ شَيْءٌ فَطَابَتْ نَفْسُهُ بِأَنْ يَرُدَّهُ فَسَبِيلُ ذَلِكَ ، وَمَنْ أَبَى فَلْيَرُدَّ عَلَيْهِمْ ، وَلَهُ سِتُّ قَلَائِصَ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ فَرْضًا عَلَيْنَا مِنْ أَوَّلِ مَا يَفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا ، فَرَدُّوا إِلَّا عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ أَبَى أَنْ يَرُدَّ عَجُوزًا مَعَهُ طَلَبًا لِفِدَائِهَا ، ثُمَّ رَدَّهَا ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ رَدِّ السَّبَايَا رَكِبَ فَاتَّبَعُوهُ النَّاسُ يَقُولُونَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْسِمْ عَلَيْنَا فَيْئَنَا حَتَّى أَلْجَئُوهُ إِلَى شَجَرَةٍ اخْتَطَفَتْ رِدَاءَهُ ، فَقَالَ : رُدُّوا عَلَيَّ رِدَائِي ، أَيُّهَا النَّاسُ وَاللَّهِ لَوْ كَانَ لِي عَدَدُ شَجَرِ تِهَامَةَ نَعَمًا لَقَسَمْتُهَا عَلَيْكُمْ ، وَمَا لَقِيتُمُونِي بَخِيلًا وَلَا جَبَانًا وَلَا كَذَّابًا ، ثُمَّ أَخَذَ وَبَرَةً وَقَالَ : مَا لِي مِنْ فَيْئِكُمْ وَلَا هَذِهِ الْوَبَرَةُ إِلَّا الْخُمُسَ ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ ، فَرُدُّوا الْخِيَاطَ وَالْمِخْيَطَ فَإِنَّ الْغَلُولَ يَكُونُ عَلَى أَهْلِهِ عَارًا وَنَارًا وَشَنَارًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ .

ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قِسْمَةِ الْأَمْوَالِ ، فَبَدَأَ بِإِعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ، فَأَعْطَى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً وَمِائَةَ بَعِيرٍ ، فَقَالَ : ابْنِي مُعَاوِيَةُ فَقَالَ : أَعْطُوهُ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً وَمِائَةَ بَعِيرٍ ، وَأَعْطَى حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ مِائَةَ بَعِيرٍ ، ثُمَّ سَأَلَهُ مِائَةً أُخْرَى فَأَعْطَاهُ ، وَأَعْطَى صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ مِائَةَ بَعِيرٍ ، وَأَعْطَى سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو مِائَةَ بَعِيرٍ ، وَأَعْطَى حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى مِائَةَ بَعِيرٍ ، وَأَعْطَى النُّضَيْرَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ مِائَةَ بَعِيرٍ ، وَأَعْطَى مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ النَّضْرِيَّ مِائَةَ بَعِيرٍ ، وَقَدْ جَاءَهُ مُسْلِمًا مِنَ الطَّائِفِ ، وَأَعْطَى الْعَلَاءَ بْنَ جَارِيَةَ الثَّقَفِيَّ مِائَةَ بَعِيرٍ ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ مِائَةَ بَعِيرٍ ، وَأَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةَ بَعِيرٍ ، فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ الْمِائَةِ . وَأَعْطَى غَيْرَهُمَ دُونَهُمْ : وَأَعْطَى مَخْرَمَةَ بْنَ نَوْفَلٍ خَمْسِينَ بَعِيرًا ، وَأَعْطَى سَعِيدَ بْنَ يَرْبُوعٍ خَمْسِينَ بَعِيرًا ، وَأَعْطَى عُمَيْرَ بْنَ وَهْبٍ خَمْسِينَ بَعِيرًا ، وَأَعْطَى هِشَامَ بْنَ عَمْرٍو الثَّقَفِيَّ خَمْسِينَ بَعِيرًا ، وَأَعْطَى الْعَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ أَبَاعِرَ ، فَسَخِطَهَا وَاسْتَعْتَبَ بِشِعْرٍ فَقَالَ : كَانَتْ نِهَابًا تَلَافَيْتُهَا بِكَرِّي عَلَى الْمُهْرِ فِي الْأَجْرَعِ وَإِيقَاظِي الْقَوْمَ أَنْ يَرْقُدُوا إِذَا هَجَعَ النَّاسُ لَمْ أَهْجَعِ فَأَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبُ الْعُبَيْـ ـدِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ وَقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا تَدَرُّءٍ فَلْمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أَمْنَعِ إِلَّا أَفَائِلَ أُعْطِيتُهَا عَدِيدَ قَوَائِمِهَا الْأَرْبَعِ وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ يَفُوقَانِ مِرْدَاسًا فِي الْمَجْمَعِ وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا وَمَنْ تَضَعِ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اذْهَبُوا فَاقْطَعُوا عَنِّي لِسَانَهُ فَزَادُوهُ حَتَّى رَضِيَ . وَاخْتُلِفَ فِيمَا أَعْطَاهُ الْمُؤَلَّفَةَ ، فَقَالَ قَوْمٌ : كَانَ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ . وَقَالَ آخَرُونَ ، وَهُوَ أَثْبَتُ : إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْخُمُسِ ، ثُمَّ أَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ بِإِحْصَاءِ النَّاسِ وَالْغَنَائِمِ ، وَفَضَّهَا عَلَيْهِمْ ، فَكَانَ سَهْمُ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَرْبَعَةً مِنَ الْإِبِلِ وَأَرْبَعِينَ شَاةً ، وَكَانَ سَهْمُ كُلِّ فَارِسٍ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا ، وَمِائَةً وَعِشْرِينَ شَاةً ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ أَكْثَرُ مِنْ فَرَسٍ لَمْ يُسْهِمْ لَهُ . وَلَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُؤَلَّفَةَ وَقَبَائِلَ الْعَرَبِ مَا أَعْطَاهُمْ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ وَجَدُوهُ فِي نُفُوسِهِمْ ، فَدَخَلَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْأَنْصَارِ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ : أَعْطَيْتَ غَيْرَهُمْ

وَحَرَمْتَهُمْ ، قَالَ : فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا أَنَا إِلَّا مِنْ قَوْمِي قَالَ : فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا خَطَبَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ، مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ ، وَمَوْجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ ؟ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ ، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ ، وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ؟ قَالُوا : لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ ، فَقَالَ : أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ، أَمَا وَاللَّهِ ، لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ ، وَعَائِلًا فَآسَيْنَاكَ ، يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ وَجَدْتُمْ فِي أَنْفَسِكُمْ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا ، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَيَ إِسْلَامِكُمْ : أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَرْجِعَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى رِحَالِكُمْ ؟ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ ، وَالْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا وَالْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ ، فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحَاهُمْ ، وَقَالُوا : رَضِينَا بِاللَّهِ قَسْمًا وَحَظًّا وَتَفَرَّقُوا . وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجِعْرَانَةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، فَلَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ إِلَى الْمَدِينَةِ خَرَجَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ ، الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ لَيْلًا ، فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ ، وَدَخَلَ مَكَّةَ فَطَافَ وَسَعَى وَحَلَقَ رَأَسَهُ ، وَرَجَعَ إِلَى الْجِعْرَانَةِ مِنْ لَيْلَتِهِ ، ثُمَّ غَدَا يَوْمَ الْخَمِيسِ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ . وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ ، وَفِيهَا تَزَوَّجَ فَاطِمَةَ بِنْتَ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ ، وَخَيَّرَهَا مَعَ نِسَائِهِ فَاسْتَعَاذَتْ مِنْهُ ، فَاخْتَارَتِ الدُّنْيَا فَفَارَقَهَا . وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَلَدَتْ مَارِيَةُ إِبْرَاهِيمَ ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَغَارَ نِسَاؤُهُ ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِنَّ حِينَ رُزِقَتْ مِنْهُ الْوَلَدَ ، فَبَشَّرَهُ أَبُو رَافِعٍ بِهِ فَوَهَبَ لَهُ مَمْلُوكًا . وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْحَجِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَؤُمَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ ، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ السَّنَةُ عَامَ الْفَتْحِ لِأَنَّ أَعْظَمَ مَا كَانَ فِيهَا فَتْحُ مَكَّةَ ، فَكَانَ فِيهَا غَزْوَتَانِ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ سَرِيَّةً .

ذِكْرُ حَوَادِثِ سَنَةِ تِسْعٍ

فَصْلٌ : [ ذِكْرُ حَوَادِثِ سَنَةِ تِسْعٍ ] ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَبَعَثَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُصَدِّقِينَ إِلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ : لِأَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ ، وَرَدِّهَا عَلَى فُقَرَائِهِمْ فِي هِلَالِ الْمُحَرَّمِ ، فَبَعَثَ سَرِيَّةَ ابْنِ الْحُصَيْبِ الْأَسْلَمِيِّ إِلَى أَسْلَمَ وَغِفَارَ .

وَبَعَثَ عَبَّادَ بْنَ بِشْرٍ إِلَى سُلَيْمٍ وَمُزَيْنَةَ . وَبَعَثَ رَافِعَ بْنَ مَكِيثٍ إِلَى جُهَيْنَةَ . وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى بَنِي فَزَارَةَ . وَبَعَثَ إِلَى جَيْفَرٍ وَعَمْرٍو ابْنَيِ الْجَلَنْدِيِّ مِنَ الْأَزِدِ مُصَدِّقًا فَخَلَّيَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّدَقَةِ ، فَأَخَذَهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ ، وَرَدَّهَا عَلَى فُقَرَائِهِمْ ، وَأَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِهِمْ . وَبَعَثَ الضَّحَّاكَ بْنَ سُلَيْمَانَ الْكِلَابِيَّ إِلَى بَنِي كِلَابٍ . وَبَعَثَ بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ الْكَلْبِيَّ إِلَى بَنِي كَعْبٍ ، وَبَعَثَ ابْنَ الدَّثِنَةِ الْأَزْدِيَّ إِلَى بَنِي ذُبْيَانَ ، وَأَمَرَ مُصَدِّقِيهِ أَنْ يَأْخُذُوا الْعَفْوَ مِنْهُمْ ، وَيَتَوَقَّوْا كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ . ثُمَّ بَعَثَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ إِلَى بَنِي تَمِيمٍ فِي خَمْسِينَ فَارِسًا مِنَ الْعَرَبِ ، لَيْسَ فِيهِمْ مُهَاجِرٌ وَلَا أَنْصَارِيٌّ : فَلَمَّا رَأَوْهُ وَلَّوْا عَنْهُ : فَأَخَذَ مِنْهُمْ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا وَإِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً وَثَلَاثِينَ صَبِيًّا ، وَقَدِمَ بِهِمُ الْمَدِينَةَ ، فَأَمَرَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحُبِسُوا فِي دَارِ رَمْلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ ، فَقَدِمَ فِيهِمْ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ ، وَالزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ ، وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ ، وَقَيْسُ بْنُ الْحَارِثِ ، وَنُعَيْمُ بْنُ سَعْدٍ ، وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ ، وَرَبَاحُ بْنُ الْحَارِثِ ، فَنَادَوْا : يَا مُحَمَّدُ اخْرُجْ إِلَيْنَا ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ ، فَتَعَلَّقُوا بِهِ يُكَلِّمُونَهُ فِيهِمْ ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ وَصَلَّى الظُّهْرَ ، ثُمَّ جَلَسَ فِي صَحْنِ الْمَسْجِدِ ، فَقَدَّمُوا عُطَارِدَ بْنَ حَاجِبٍ فَتَكَلَّمَ وَخَطَبَ ، وَأَمَرَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ فَأَجَابَهُمْ ، ثُمَّ قَالُوا : يَا مُحَمَّدُ ائْذَنْ لِشَاعِرِنَا ، فَأَذِنَ : فَقَامَ الزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ فَأَنْشَدَ : نَحْنُ الْكِرَامُ فَلَا حَيَّ يُعَادِلُنَا مِنَّا الْمُلُوكُ وَفِينَا تُنْصَبُ الْبِيَعُ وَكَمْ قَسَرْنَا مِنَ الْأَحْيَاءِ كُلِّهِمُ عِنْدَ النِّهَابِ وَفَضْلُ الْعِزِّ يُتَّبَعُ وَنَحْنُ نُطْعِمُ عِنْدَ الْقَحْطِ مُطْعَمَنَا مِنَ الشِّوَاءِ إِذَا لَمْ يُؤْنَسِ الْقَزَعُ ثُمَّ تَرَى النَّاسَ تَأْتِينَا سَرَاتُهُمُ مِنْ كُلِّ أَرْضٍ هُوِيًّا ثُمَّ نَطَّلِعُ فَنَنْحَرُ الْكُومَ عَبْطًا فِي أَرُومَتِنَا لِلنَّازِلِينَ إِذَا مَا أُنْزِلُوا شَبِعُوا فَلَا تَرَانَا إِلَى حَيٍّ نُفَاخِرُهُمْ إِلَّا اسْتَقَادُوا وَكَادَ الرَأْسُ يُقْتَطَعُ إِنَّا أَبَيْنَا وَلَنْ يَأْبَى لَنَا أَحَدٌ إِنَّا كَذَلِكَ عِنْدَ الْفَخْرِ نَرْتَفِعُ فَمَنْ يُقَادِرُنَا فِي ذَاكَ يَعْرِفُنَا فَيَرْجِعُ الْقَوْلُ وَالْأَخْبَارُ تُسْتَمَعُ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ : أَجِبْهُ ، فَقَامَ حَسَّانُ فَأَنْشَدَ :

إِنَّ الذَّوَائِبَ مِنْ فِهْرٍ وَإِخْوَتِهِمْ قَدْ بَيَّنُوا سُنَّةً لِلنَّاسِ تُتَّبَعُ يَرْضَى بِهَا كُلُّ مَنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ تَقْوَى الْإِلَهِ وَكُلُّ الْخَيْرِ يُصْطَنَعُ قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا ضَرُّوا عَدُوَّهُمُ أَوْ حَاوَلُوا النَّفْعَ فِي أَشْيَاعِهِمْ نَفَعُوا سَجِيَّةٌ تِلْكَ مِنْهُمْ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ إِنَّ الْخَلَائِقَ فَاعْلَمْ شَرُّهًا الْبِدَعُ إِنْ كَانَ فِي النَاسِ سَبَّاقُونَ بَعْدَهُمُ فَكُلُّ سَبْقٍ لِأَدْنَى سَبْقِهِمْ تَبَعُ لَا يَرْفَعُ النَّاسُ مَا أَوْهَتْ أَكُفُّهُمُ عِنْدَ الدِّفَاعِ وَلَا يُوهُونَ مَا رَقَعُوا إِنْ سَابَقُوا النَّاسَ يَوْمًا فَازَ سَبْقُهُمُ أَوْ وَازَنُوا أَهْلَ مَجْدٍ بِالنَّدَى مَتَعُوا أَعِفَّةٌ ذُكِرَتْ فِي الْوَحْيِ عِفَّتُهُمْ لَا يَطْبَعُونَ وَلَا يُرْدِيهِمْ طَمَعُ لَا يَبْخَلُونَ عَلَى جَارٍ بِفَضْلِهِمُ وَلَا يَمَسُّهُمُ مِنْ مَطْمَعٍ طَبَعُ إِذَا نَصَبْنَا لِحَيٍّ لَمْ نَدِبَّ لَهُمْ كَمَا يَدِبُّ إِلَى الْوَحْشِيَّةِ الذَّرَعُ نَسْمُو إِذَا الْحَرْبُ نَالَتْنَا مَخَالِبُهَا إِذَا الزَّعَانِفُ مِنْ أَظْفَارِهَا خَشَعُوا لَا فَخْرَ إِنْ هُمْ أَصَابُوا مِنْ عَدُوِّهِمُ وَإِنْ أُصِيبُوا فَلَا خَوْرٌ وَلَا هَلَعُ كَأَنَّهُمْ فِي الْوَغَى وَالْمَوْتُ مُكْتَنِعٌ أُسْدٌ بِحَلْيَةٍ فِي أَرْسَاغِهَا فَدَعُ خُذْ مِنْهُمُ مَا أَتُوا عَفْوًا إِذَا غَضِبُوا وَلَا يَكُنْ هَمَّكَ الْأَمْرُ الَّذِي مَنَعُوا فَإِنْ فِي حَرْبِهِمْ فَاتْرُكَ عَدَاوَتَهُمْ شَرًّا يُخَاضُ عَلَيْهِ السُّمُّ وَالسَّلَعُ أَكْرِمْ بِقَوْلِ اللَّهِ شِيعَتُهُمْ إِذَا تَفَرَّقَتِ الْأَهْوَاءُ وَالشِّيَعُ أَهْدِي لَهُمْ مِدْحَتِي قَلْبٌ يُوَازِرُهُ فِيمَا أَحَبَّ لِسَانٌ حَائِكٌ صَنَعُ فَإِنَّهُمْ أَفْضَلُ الْأَحْيَاءِ كُلِّهِمُ إِنْ جَدَّ بِالنَّاسِ مُجِدُّ الْقَوْلِ أَوْ شَمَعُوا فَلَمَّا فَرَغَ حَسَّانُ مِنْ شِعْرِهِ ، قَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ : وَأَبِي إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَمُؤْتَى الْحِكْمَةَ ، لَخَطِيبُهُ أَخْطَبُ مِنْ خَطِيبِنَا ، وَلَشَاعِرُهُ أَشْعَرُ مِنْ شَاعِرِنَا ، ثُمَّ أَسْلَمُوا ، وَكَانَ الْأَقْرَعُ وَعُيَيْنَةُ قَدْ أَسْلَمَا مِنْ قَبْلُ وَشَهِدَا حُنَيْنًا ، فَأَجَارَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَدَّ عَلَيْهِمُ الْأَسْرَى وَالسَّبْيَ ، وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [ الْحُجُرَاتِ : 4 ] . ثُمَّ بَعَثَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ مُصَدِّقًا ، وَكَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا وَبَنَوُا الْمَسَاجِدَ ، فَلَمَّا سَمِعُوا بِقُدُومِهِ تَلَقَّوْهُ بِالْجَزُورِ وَالنَّعَمِ فَرَحًا بِهِ ، فَلَمَّا رَآهُمْ عَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمْ تَلَقَّوْهُ بِالسِّلَاحِ ، وَمَنَعُوهُ الصَّدَقَةَ ، فَهَمَّ بِغَزْوِهِمْ حَتَّى أَتَاهُ وَفْدُهُمْ ، فَذَكَرُوا لَهُ مَا كَانَ مِنْهُمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا [ الْحُجُرَاتِ : 6 ] . الْآيَةَ ، وَأَنْفَذَ عَبَّادَ بْنَ بِشْرٍ مَعَهُمْ لِيَأْخُذَ صَدَقَاتِهِمْ وَيُعَلِّمَهُمْ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ ، فَأَقَامَ فِيهِمْ عَشْرًا ، وَعَادَ رَاضِيًا .



فَصْلٌ : وَفِيهَا قَدِمَتْ وُفُودُ الْعَرَبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدوم - فَقَدِمَ وَفْدُ بَنِي أَسَدٍ وَقَالُوا : قَدِمْنَا قَبْلَ أَنْ تُرْسِلَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ [ الْحُجُرَاتِ : 17 ] . وَقَدِمَ وَفْدُ الدَّارِيِّينَ مِنْ لَخْمٍ وَهُمْ عَشَرَةٌ . وَقَدِمَ وَفْدُ بَلِيٍّ فَنَزَلُوا عَلَى رُوَيْفِعٍ الْبَلَوِيِّ ، وَكَانَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ حِينَ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْجِعْرَانَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَدْرَكَهُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَأَسْلَمَ وَاسْتَأْذَنَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى قَوْمِهِ بِالطَّائِفِ : يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ لِطَاعَتِهِمْ لَهُ ، فَأَذِنَ لَهُ ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمْ أَشْرَفُوا عَلَيْهِ مِنْ حَصَّنَهُمْ : فَأَخْبَرَهُمْ بِإِسْلَامِهِ ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ : فَرَمَوْهُ بِالنَّبْلِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ ، حَتَّى أَصَابَهُ سَهْمُ وَهْبِ بْنِ جَابِرٍ فَقَتَلَهُ ، فَقِيلَ لِعُرْوَةَ : مَا تَرَى مِنْ دَمِكَ ؟ فَقَالَ : كَرَامَةٌ أَكْرَمَنِي اللَّهُ بِهَا وَشَهَادَةٌ سَاقَهَا اللَّهُ إِلَيَّ ، فَلَيْسَ لِي فِيهَا إِلَّا مَا لِلشُّهَدَاءِ ، فَادْفِنُونِي مَعَهُمْ ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : إِنَّ مَثَلَهُ فِي قَوْمِهِ كَمَثَلِ صَاحِبِ لَيْسَ فِي قَوْمِهِ . فَلَمَّا رَأَتْ ثَقِيفٌ وقدومهم على رسول الله إِسْلَامَ جَمِيعِ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ ، وَأَنَّهُمْ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِمْ لَا يَأْمَنُ لَهُمْ بَهِيمَةٌ ، وَلَا يَأْمَنُ لَهُمْ سِرْبٌ ، وَلَا يَطْلُعُ مِنْهُمْ رَكْبٌ ، ائْتَمِرُوا بَيْنَهُمْ ، حَتَّى اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى إِنْفَاذِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ ، وَمَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ ، وَشُرَحَبِيلُ بْنُ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ ، وَأَوْسُ بْنُ عَوْفٍ ، وَنُمَيْرُ بْنُ خَرَشَةَ فَخَرَجَ بِهِمْ ، وَهُوَ نَابُ الْقَوْمِ وَصَاحِبُ أَمْرِهِمْ ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنَ الْمَدِينَةِ رَآهُمُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ ، وَهُوَ يَرْعَى رِكَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لِأَنَّ أَصْحَابَهُ كَانُوا يَرْعَوْنَهَا نَوْبًا ، وَكَانَتْ نَوْبَةُ الْمُغِيرَةِ ، فَأَسْرَعَ لِيُبَشِّرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقُدُومِهِمْ لِلْإِسْلَامِ وَالْبَيْعَةِ ، فَعَرَفَ أَبُو بَكْرٍ ذَلِكَ مِنْهُ ، فَبَشَّرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقُدُومِهِمْ ، وَعَادَ الْمُغِيرَةُ إِلَيْهِمْ ، وَرَاحَ بِالرِّكَابِ مَعَهُمْ ، وَعَلَّمَهُمْ تَحِيَّةَ الْإِسْلَامِ ، فَلَمْ يُحَيُّوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَدِمُوا عَلَيْهِ إِلَّا بِتَحِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَضَرَبَ لَهُمْ قُبَّةً فِي نَاحِيَةِ مَسْجِدِهِ ، وَمَشَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ ، وَكَانُوا لَا يَأْكُلُونَ طَعَامًا يُحْمَلُ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى يَأْكُلَ مِنْهُ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ ، حَتَّى أَسْلَمُوا ، وَشَرَطُوا لِأَنْفُسِهِمْ ثَلَاثَةَ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَدَعَ لَهُمُ الطَّاغِيَةَ ، وَهِيَ اللَّاتُ ثَلَاثَ سِنِينَ . وَالثَّانِي : أَنْ يَتَوَلَّوْا كَسْرَ أَوْثَانِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَعْفِيَهُمْ مِنَ الصَّلَاةِ . فَقَالَ : أَمَّا الطَّاغِيَةُ فَلَا أُقِرُّهَا فَاسْتَنْزَلُوهُ عَنْهَا إِلَى شَهْرٍ فَأَبَى ، وَأَنْفَذَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ ، وَالْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ لِهَدْمِهَا ، وَأَنْ يَقْضِيَ أَبُو سُفْيَانَ دَيْنَ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ مِنْ مَالِهَا ،

فَهَدَمَهَا الْمُغِيرَةُ وَقَضَى أَبُو سُفْيَانَ مِنْ مَالِهَا دَيْنَ عُرْوَةَ ، قَالَ : وَأَمَّا كَسْرُ أَوْثَانِكُمْ بِأَيْدِيكُمْ فَشَأْنُكُمْ وَإِيَّاهَا . وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَا خَيْرَ فِي دِينٍ لَيْسَ فِيهِ صَلَاةٌ ، فَقَالُوا : أَمَّا هَذِهِ فَسَنُؤْتِيكَهَا وَإِنْ كَانَ فِيهَا دَنَاءَةٌ ، وَكَتَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كِتَابًا بِخَطِّ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ ، وَأَمَرَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ ، وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا : لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَآهُ أَحْرَصَهُمْ عَلَى تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الْإِسْلَامِ ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ .

فَصْلٌ : وَفِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ سَرِيَّةً إِلَى طَيِّئٍ لَهُ رَايَةٌ سَوْدَاءُ وَلِوَاءٌ أَبْيَضُ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَهْدِمَ الْفُلْسَ صَنَمًا لَهُمْ ، وَيَشُنَّ عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ ، فَشَنَّهَا عَلَيْهِمْ مَعَ الْفَجْرِ ، وَسَبَى إِبِلَ حَاتِمٍ ، وَسَبَى بِنْتَهُ أُخْتَ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ ، وَهَرَبَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ إِلَى الشَّامِ ، وَاسْتَاقَ النَّعَمَ ، وَهَدَمَ الْفُلْسَ ، وَكَانَ فِي بَيْتِ الصَّنَمِ سَيْفَانِ لَهُمَا ذِكْرٌ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا رَسُوبٌ ، وَلِلْآخَرِ الْمِخْدَمُ كَانَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي شِمْرٍ نَذَرَهُمَا لَهُ ، فَصَارَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالصَّفِيِّ ، وَقَسَمَ النَّعَمَ بَعْدَ إِخْرَاجِ خُمُسِهَا ، وَعَزَلَ آلَ حَاتِمٍ حَتَّى قَدِمَ بِهِمُ الْمَدِينَةَ ، فَعَزَلَهُمْ فِي حَظِيرَةٍ بِبَابِ الْمَسْجِدِ فَلَمَّا مَرَّ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَتْ إِلَيْهِ أُخْتُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ ، وَكَانَتِ امْرَأَةً جَزِلَةً فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلَكَ الْوَالِدُ ، وَغَابَ الْوَافِدُ : فَامْنُنْ عَلَيَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ ! فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ أَنْتِ ، فَقَالَتْ : بِنْتُ الرَّجُلِ الْجَوَّادِ حَاتِمٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ارْحَمُوا عَزِيزَ قَوْمٍ ذَلَّ ، ارْحَمُوا غَنِيًّا افْتَقَرَ ، ارْحَمُوا عَالِمًا ضَاعَ بَيْنَ الْجُهَّالِ ، ثُمَّ قَالَ لَهَا : قَدْ مَنَنْتُ عَلَيْكِ فَلَا تَعْجَلِي بِالْخُرُوجِ حَتَّى تَجِدِي مِنْ ثِقَاتِ قَوْمِكِ مَنْ يُبَلِّغُكِ إِلَى بِلَادِكِ ، فَأَقَامَتْ حَتَّى قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ قُضَاعَةَ تَأْمَنُهُمْ ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَسَاهَا وَزَوَّدَهَا وَحَمَلَهَا حَتَّى قَدِمَتِ الشَّامَ عَلَى أَخِيهَا عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ ، فَاسْتَشَارَهَا فِي أَمْرِهِ ، فَأَشَارَتْ عَلَيْهِ بِالْقُدُومِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدِمَ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ ، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " مَنْ أَنْتَ فَقَالَ : عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ ، فَقَامَ وَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى بَيْتِهِ ، وَأَجْلَسَهُ عَلَى وِسَادَةٍ وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْأَرْضِ ، قَالَ عَدِيٌّ : فَعَلِمْتُ حِينَ فَعَلَ هَذَا أَنَّهُ نَبِيٌّ وَلَيْسَ بِمَلِكٍ ثُمَّ قَالَ : لَعَلَّكَ يَا عَدِيُّ بْنَ حَاتِمٍ إِنَمَا مَنَعَكَ مِنَ الدُّخُولِ فِي هَذَا الدِّينِ مَا تَرَى مِنْ حَاجَتِهِمْ فَوَاللَّهِ لَيُوشَكَنَّ الْمَالُ يَفِيضُ فِيهِمْ حَتَّى لَا يُوجَدَ مَنْ يَأْخُذُهُ ، وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا مَنَعَكَ مِنْ ذَلِكَ مَا تَرَى مِنْ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدُوِّهُمْ : فَوَاللَّهِ لَيُوشَكَنَّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْمَرْأَةِ تَخْرُجُ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ عَلَى بَعِيرِهَا حَتَى تَزُورَ الْبَيْتَ لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ ، وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا مَنَعَكَ مِنَ الدُّخُولِ أَنَّكَ تَرَى الْمُلْكَ وَالسُّلْطَانَ فِي غَيْرِهِمْ ، وَايْمُ اللَّهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْقُصُورِ الْبِيضِ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فُتِحَتْ .

فَأَسْلَمَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ ، فَكَانَ يَقُولُ : مَضَتِ اثْنَتَانِ وَبَقِيَتِ الثَّالِثَةُ ، وَاللَّهِ لَتَكُونَنَّ قَدْ رَأَيْتُ الْقُصُورَ الْبِيضَ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فُتِحَتْ ، وَرَأَيْتُ الْمَرْأَةَ تَخْرُجُ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ عَلَى بَعِيرِهَا لَا تَخَافُ شَيْئًا حَتَّى تَحُجَّ هَذَا الْبَيْتَ ، وَايْمُ اللَّهِ لَتَكُونَنَّ الثَالِثَةُ لَيَفِيضُ الْمَالُ حَتَّى لَا يُوجَدَ مَنْ يَأْخُذُهُ .

غَزْوَةُ تَبُوكَ

فَصْلٌ : [ غَزْوَةُ تَبُوكَ ] ثُمَّ غَزْوَةُ تَبُوكَ إِلَى الرُّومِ فِي رَجَبٍ . وَسَبَبُهَا : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلَغَهُ أَنَّ الرُّومَ قَدِ اجْتَمَعَتْ مَعَ هِرَقْلَ ، وَانْضَمَّ إِلَيْهَا مِنَ الْعَرَبِ لَخْمٌ وَجُذَامٌ وَعَامِلَةُ وَغَسَّانُ ، وَعَزَمُوا عَلَى الْمَسِيرَةِ ، وَقَدَّمُوا مُقَدَّمَاتِهِمْ إِلَى الْبَلْقَاءِ : فَنَدَبَ النَّاسَ إِلَى الْخُرُوجِ ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ يَتَوَجَّهُ لِحَرْبِ الرُّومِ ، وَكَانَ عَادَتُهُ أَنْ يُوَارِيَ إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى وَجْهٍ إِلَّا فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ ، فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِحَالِهِ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ ، وَالْحَاجَةِ إِلَى كَثْرَةِ الْعَدَدِ ، وَبَعَثَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَإِلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ يَسْتَنْفِرُهُمْ ، وَحَثَّ عَلَى الصَّدَقَاتِ فَحُمِلَتْ إِلَيْهِ ، وَأَنْفَقَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فِيهَا مَالًا عَظِيمًا ، وَكَانَ النَّاسُ فِي عِزَّةٍ مِنَ الْمَالِ وَشِدَّةٍ مِنَ الْحَرِّ ، وَجَدْبٍ مِنَ الْبِلَادِ ، وَكَانَ وَقْتُ الثِّمَارِ وَالْمَيْلُ إِلَى الظِّلَالِ ، فَشَقَّ عَلَى النَّاسِ الْخُرُوجُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْجِهَةِ ، فَعَصَمَ اللَّهُ أَهْلَ طَاعَتِهِ حَتَّى أَجَابُوا . وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ، وَكَانَ يُحِبُّ الْخُرُوجَ فِيهِ فَعَسْكَرَ بِثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ ، وَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ فِي الْمُنَافِقِينَ ، وَفِي أَحْلَافِهِ مِنَ الْيَهُودِ فَعَسْكَرُوا بِنُفَيْلٍ بِثَنِّيَةِ الْوَدَاعِ ، وَلَمْ يَكُنْ عَسْكَرُهُ بِأَقَلِّ الْعَسْكَرَيْنِ ، وَتَأَخَّرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْنَافٌ : مِنْهُمُ الْمُنَافِقُونَ في تبوك ، وَكَانُوا بِضْعَةَ وَثَمَانِينَ رَجُلًا ، وَكَانُوا يُثَبِّطُونَ النَّاسَ وَقَالُوا : لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا [ التَّوْبَةِ : 81 ] . وَاسْتَأْذَنُوا فِي الْقُعُودِ ، فَأَذِنَ لَهُمْ : مِنْهُمُ الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَعَلَّكَ تَحْتَقِبُ بَعْضَ بَنَاتِ الْأَصْفَرِ فَقَالَ : لَا تَفْتِنِّي بِهِنَّ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [ التَّوْبَةِ : 29 ] . وَصِنْفٌ مِنْهُمُ الْمُعَذِّرُونَ وَكَانُوا اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ رَجُلًا ، ذَكَرُوا أَعْذَارًا وَاسْتَأْذَنُوا فِي الْقُعُودِ ، فَأَذِنَ لَهُمْ ، وَلَمْ يَعْذُرْهُمْ .

وَصِنْفٌ مِنْهُمُ الْبَكَّاءُونَ في تبوك : وَهُمْ سَبْعَةٌ : سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ ، وَعُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ ، وَسَلَمَةُ بْنُ صَخْرٍ ، وَالْعِرْبَاضُ بْنُ سَارِيَةَ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغَفَّلِ ، وَمَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ ، وَعَمْرُو بْنُ حَمَامٍ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَحْمِلُونَهُ فَقَالَ : لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ [ التَّوْبَةِ : 92 ] . فَنَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ . وَصِنْفٌ مِنْهُمْ مُتَخَلِّفُونَ بِغَيْرِ شَكٍّ وَلَا ارْتِيَابٍ في غزوة تبوك وَهُمْ ثَلَاثَةٌ : كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ، وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ ، تَخَلَّفُوا بِالْمَدِينَةِ إِلَى أَنْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهَا وَاقْتَرَنَ بِهِمُ اثْنَانِ تَأَخَّرَا فِي الطَّرِيقِ ، ثُمَّ لَحِقَا بِهِ أَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ السَّالِمِيُّ ، فَأَمَّا أَبُو خَيْثَمَةَ فَإِنَّهُ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ فَوَجَدَ امْرَأَتَيْنِ لَهُ ، قَدْ صَنَعَتَا لَهُ طَعَامًا وَرَشَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَرِيشَهَا ، فَذَكَرَ مَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْحَرِّ ، وَمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْكَنِّ ، فَحَلَفَ لَا يُقِيمُ حَتَّى يَلْحَقَ بِهِ فَأَدْرَكَهُ ، وَقَدْ سَارَ إِلَى تَبُوكَ ، وَهُوَ نَازِلٌ بِهَا فَقَالَ النَّاسُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَاكِبٌ عَلَى الطَّرِيقِ ، فَقَالَ : كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ فَقَالُوا : هُوَ وَاللَّهِ أَبُو خَثْيَمَةَ ، فَلَمَّا أَنَاخَ أَقْبَلَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، وَأَخْبَرَهُ بِخَبَرِهِ ، فَدَعَا لَهُ وَقَالَ فِيهِ خَيْرًا . وَأَمَّا أَبُو ذَرٍّ : فَإِنَّ بَعِيرَهُ بَعْدَ السَّيْرِ أَبْطَأَ بِهِ ، فَتَأَخَّرَ عَنِ النَّاسِ ، فَذُكِرَ تَأْخِيرَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : إِنْ يَكُنْ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللَّهُ بِكُمْ فَلَمَّا لَمْ يَنْهَضْ بِهِ الْبَعِيرُ حَمَلَ مَتَاعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ وَسَارَ تَبِعَ الْآثَارِ ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ النَّاسِ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَجُلٌ يَمْشِي وَحْدَهُ ، فَقَالَ : كُنْ أَبَا ذَرٍّ ، فَقَالُوا : هُوَ وَاللَّهِ أَبُو ذَرٍّ فَقَالَ : يَرْحُمُ اللَّهُ أَبَا ذَرٍّ يَمْشِي وَحْدَهُ ، وَيَمُوتُ وَحْدَهُ ، وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ . فَلَمَّا نَزَلَ أَبُو ذَرٍّ الرَّبَذَةَ وَحَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا امْرَأَتُهُ وَغُلَامُهُ وَصَّاهُمَا أَنْ يُغَسِّلَاهُ وَيُكَفِّنَاهُ ، وَيَضَعَاهُ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ ، فَأَوَّلُ رَكْبٍ يَمُرُّ قُولَا لَهُ : هَذَا أَبُو ذَرٍّ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ ، فَفَعَلَا ذَلِكَ وَوَضَعَاهُ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ ، فَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي رَهْطٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عُمَّارًا فَقَامَ إِلَيْهِمُ الْغُلَامُ فَقَالَ : هَذَا أَبُو ذَرٍّ فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ ، فَاسْتَهَلَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ بَاكِيًا وَقَالَ : صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَمْشِي وَحْدَكَ ، وَتَمُوتُ وَحْدَكَ ، وَتُبْعَثُ وَحْدَكَ . فَكَانَ هَذَا وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرِ أَبِي خَيْثَمَةَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . وَلَمَّا أَزْمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَسِيرَ مِنْ مُعَسْكَرِهِ بِثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ اسْتَخْلَفَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ عَلَى الْمَدِينَةِ ، وَاسْتَخْلَفَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَى أَهْلِهِ غزوة تبوك ، وَاسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الصَّلَاةِ بِالنَّاسِ فِي مُعَسْكَرِهِ ، وَصَارَ فِي ثَلَاثِينَ أَلْفًا ، وَفِيهِمْ عَشَرَةُ آلَافِ فَرَسٍ وَرَجَعَ عَبْدُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110