كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي


دُونَ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهَا ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاكِبِ ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ لِلْمَالِكِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْأُجْرَةِ ، أَوِ الْقِيمَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُحْكَمُ لَهُ بِهِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُحْكَمُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي الْقِيمَةَ ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ .


فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْمَالِكُ غَصَبْتَنِيهَا وَيَقُولَ الرَّاكِبُ أَعَرْتَنِيهَا فَهَذَا الِاخْتِلَافُ مُؤَثِّرٌ فِي الْأُجْرَةِ دُونَ الْقِيمَةِ ؛ قول المالك في الدابة لِأَنَّ الْعَارِيَةَ مَضْمُونَةٌ كَالْغَصْبِ وَأُجْرَةُ الْعَارِيَةِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِخِلَافِ الْغَصْبِ . فَإِنْ كَانَ هَذَا قَبْلَ الرُّكُوبِ سَقَطَ تَأْثِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الرُّكُوبِ فَالَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُسْتَعِيرِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يُخْرِجُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِاسْتِوَائِهَا فِي الْعِلَّةِ وَيَجْعَلُ مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ . وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُ الْمَالِكِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَالَّتِي قَبْلَهَا أَنَّ فِي اخْتِلَافِهِمَا فِي الْعَارِيَةِ ، وَالْإِجَارَةِ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الرَّاكِبَ مَالِكٌ لِلْمَنْفَعَةِ فَجَازَ أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُ الْمَالِكِ فِي الْأُجْرَةِ ، وَلَمْ يَتَّفِقَا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . لِأَنَّ الْمَالِكَ يَقُولُ أَتْلَفْتَ أَيُّهَا الرَّاكِبُ مَنْفَعَتِي بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَالرَّاكِبُ يَقُولُ أَتْلَفْتُهَا مُسْتَعِيرًا بِحَقٍّ فَلَمْ يُصَدَّقْ ، فَمَنْ قَالَ بِهَذَا أَجَابَ عَمَّا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ بِجَوَابَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ زَلَلٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ وَسَهْوٌ ، وَالثَّانِي تَسْلِيمُ الرِّوَايَةِ وَاسْتِعْمَالُهَا عَلَى أَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ إِمَّا عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُسْتَعِيرِ فِي قَدْرِ الْأُجْرَةِ وَإِمَّا عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُسْتَعِيرِ فِي أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الضَّمَانُ إِلَّا فِي الْعَارِيَةِ دُونَ الْغَصْبِ . وَهَذَا تَأْوِيلُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ ضَمَانِ الْعَارِيَةِ وَضَمَانِ الْغَصْبِ . فَعَلَى هَذَا لَوْ تَلِفَتِ الدَّابَّةُ ضَمِنَ قِيمَتَهَا وَكَانَتِ الْأُجْرَةُ عَلَى مَا مَضَى ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ أَنْ يَقُولَ رَبُّ الدَّابَّةِ أَعَرْتُكَهَا وَيَقُولُ الرَّاكِبُ اسْتَأْجَرْتُهَا قول فَتَأْثِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي ضَمَانِ رَقَبَتِهَا ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَةَ مَضْمُونَةٌ ، وَالْمُؤَاجَرَةَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ ، فَإِنْ كَانَتِ الدَّابَّةُ بَاقِيَةً سَقَطَ هَذَا الِاخْتِلَافُ . وَالثَّانِي لُزُومُ رُكُوبِهَا تِلْكَ الْمُدَّةَ فَإِنْ كَانَتِ الدَّابَّةُ تَالِفَةً أَوِ الْمُدَّةُ مُنْقَضِيَةً سَقَطَ تَأْثِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ مَا أَجَّرَهَا ؛ لِأَنَّ الرَّاكِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ عَقْدًا فِي إِجَارَتِهَا ، فَإِنْ كَانَتِ الدَّابَّةُ قَائِمَةَ أَخَذَهَا وَلَا أُجْرَةَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الرَّاكِبَ وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا فَالْمَالِكُ لَا يَدَّعِيهَا وَإِنْ كَانَتِ الدَّابَّةُ تَالِفَةً كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الرَّاكِبِ بِقِيمَتِهَا ؛ لِأَنَّهَا تَالِفَةٌ فِي يَدِهِ وَهُوَ يَدَّعِي بِالْإِجَارَةِ اسْتِيمَانًا فَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ وَلَزِمَهُ غُرْمُ الْقِيمَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِمُدَّةِ الرُّكُوبِ أُجْرَةٌ وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ لِلْمَالِكِ بِالْقِيمَةِ إِلَّا بَعْدَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ مَا أَجَّرَهَا وَلَقَدْ أَعَارَهَا إِلَّا أَنْ تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ فَيَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ أَعَارَهَا ، وَلَا يَحْلِفُ مَا أَجَّرَهَا لِتَقْضِيَ زَمَانَ الْإِجَارَةِ وَإِنْ


كَانَ لِمُدَّةِ الرُّكُوبِ أُجْرَةٌ فَهِيَ بِقَدْرِ الْقِيمَةِ فَصَاعِدًا فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ يَمِينٌ يَسْتَحِقُّ بِهَا الْقِيمَةَ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَمِينَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الرَّاكِبَ مُقِرٌّ بِهِ أُجْرَةً ، وَالْمَالِكَ يَدَّعِي قِيمَةً ، فَصَارَا مُتَّفِقَيْنِ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي سَبَبِهِ فَسَقَطَتِ الْيَمِينُ فِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : عَلَيْهِ الْيَمِينُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الْأُجْرَةِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ إِقْرَارُ الرَّاكِبِ بِهَا وَهُوَ يَدَّعِي الْقِيمَةَ ، وَالرَّاكِبُ مُنْكِرٌ لَهَا فَإِذَا حُكِمَ لَهُ بِدَعْوَاهُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِالْيَمِينِ .

فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْمَالِكَ غَصَبْتَنِيهَا وَيَقُولَ الرَّاكِبُ أَجَّرْتَنِيهَا قول المالك في الدابة فَتَأْثِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي ضَمَانِ الرَّقَبَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ مَضْمُونٌ ، وَالْمُؤَاجَرَةَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ فَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ بَاقِيَةً سَقَطَ تَأْثِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ . وَالثَّانِي : فِي لُزُومِ الْمُدَّةِ فَإِنْ كَانَتِ الْمُدَّةُ قَدِ انْقَضَتْ ، أَوِ الدَّابَّةُ قَدْ هَلَكَتْ سَقَطَ تَأْثِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ مَا أَجَّرَهُ وَيَصِيرُ الرَّاكِبُ ضَامِنًا لِلدَّابَّةِ ، وَالْأُجْرَةِ فَيَأْخُذُهَا الْمَالِكُ بِغَيْرِ يَمِينٍ إِلَّا أَنْ تَكُونَ أُجْرَةَ الْمِثْلِ أَكْثَرَ مِنَ الْمُسَمَّى الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الرَّاكِبُ فَلَا يَسْتَحِقُّ الزِّيَادَةَ إِلَّا بِيَمِينٍ . وَأَمَّا الْقِيمَةُ فَلَا يَسْتَحِقُّهَا إِلَّا بِيَمِينٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ مَنْ تَعَدَّى فِي وَدِيعَةٍ ثُمَّ رَدَّهَا إِلَى مَوْضِعِهَا الَّذِي كَانَتْ فِيهِ ضَمِنَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَمَنْ تَعَدَّى فِي وَدِيعَةٍ ثُمَّ رَدَّهَا إِلَى مَوْضِعِهَا الَّذِي كَانَتْ فِيهِ ضَمِنَ ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْأَمَانَةِ ، وَلَمْ يُحْدِثْ لَهُ رَبُّ الْمَالِ اسْتِئْمَانًا فَلَا يَبْرَأُ حَتَّى يَدْفَعَهَا إِلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا تَعَدَّى الْمُودَعُ فِي الْوَدِيعَةِ كَالدَّابَّةِ يَرْكَبُهَا ، أَوْ كَالثَّوْبِ يَلْبَسُهُ ، أَوْ كَالدَّرَاهِمِ يُخْرِجُهَا لِلنَّفَقَةِ ضَمِنَهَا فَإِنْ كَفَّ عَنِ التَّعَدِّي وَرَدَّ الْوَدِيعَةَ إِلَى الْحِرْزِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ سَوَاءٌ رَدَّهَا ، أَوْ مِثْلَهَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ رَدَّهَا بِعَيْنِهَا ، أَوْ رَدَّ مِثْلَهَا كَالدَّرَاهِمِ الَّتِي أَنْفَقَهَا سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ ، وَلَا يُجْعَلُ إِخْرَاجُهَا لِلنَّفَقَةِ تَعَدِّيًا قَبْلَ الْإِنْفَاقِ . وَقَالَ مَالِكٌ إِنْ رَدَّهَا بِعَيْنِهَا سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ وَإِنْ رَدَّ مِثْلَهَا بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى سُقُوطِ الضَّمَانِ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : النَّدَمُ تَوْبَةٌ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ


ذَلِكَ رَافِعًا لِحُكْمِ مَا تَقَدَّمَ قَالُوا وَلِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا ثَبَتَ لِعِلَّةٍ وَجَبَ أَنْ يَرْتَفِعَ بِزَوَالِهَا كَالْخَمْرِ يَحْرُمُ بِحُدُوثِ الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ ، ثُمَّ يَرْتَفِعُ تَحْرِيمُهَا بِارْتِفَاعِ الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ فَلَمَّا كَانَ التَّعَدِّي مُوجِبًا لِلضَّمَانِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ زَوَالُهَا بِالتَّعَدِّي مُوجِبًا لِسُقُوطِ الضَّمَانِ قَالُوا وَلِأَنَّهُ قَدْ يَضْمَنُ الْوَدِيعَةَ بِالتَّعَدِّي كَمَا يَضْمَنُ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ بِالْإِمْسَاكِ فَلَمَّا سَقَطَ ضَمَانُ الصَّيْدِ بِالْإِرْسَالِ لِزَوَالِ مُوجِبِهِ وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ ضَمَانُ الْوَدِيعَةِ بِتَرْكِ التَّعَدِّي لِزَوَالِ مُوجِبِهِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ يَنْتَقِلُ الْكَلَامُ إِلَيْهِمَا عِنْدَ النِّزَاعِ أَحَدُهُمَا أَنَّ يَدَ الْمُودَعِ كَيَدِ الْمُودِعِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْغَاصِبَ إِذَا أَوْدَعَ الْمَغْصُوبَ فَتَلِفَ فِي يَدِ الْمُودَعِ ثُمَّ أُغْرِمَ الْقِيمَةَ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْغَاصِبِ وَإِنْ كَانَ تَلَفُهَا فِي غَيْرِ يَدِهِ . لِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ كَيْدِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَوْدُ الْوَدِيعَةِ بَعْدَ التَّعَدِّي إِلَى حِرْزِ الْمُودِعِ كَعَوْدِهَا إِلَى حِرْزِ الْمُودَعِ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ . وَالْأَصْلُ الثَّانِي أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي التَّعَدِّيَ فِيهِ زَوَالُ الْأَمْرِ بِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْوَكِيلَ فِي بَيْعِ عَبْدٍ ، أَوْ جَارِيَةٍ لَوْ شَجَّ ، أَوْ زَنَا بِالْجَارِيَةِ لَمْ يَنْعَزِلْ عَنِ الْوَكَالَةِ وَجَازَ بَيْعُهُ بَعْدَ التَّعَدِّي لِجَوَازِهِ مِنْ قَبْلُ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ إِحْرَازُ الْوَدِيعَةِ بَعْدَ التَّعَدِّي كَإِحْرَازِهَا قَبْلُ . وَالدَّلِيلُ عَلَى بَقَاءِ الضَّمَانِ رِوَايَةُ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْأَدَاءُ عَلَى عُمُومِهِ مُسْتَحِقًّا وَلِأَنَّ الْوَدِيعَةَ تُضْمَنُ بِالتَّعَدِّي تَارَةً وَبِالْجُحُودِ أُخْرَى ، فَلَمَّا كَانَ لَوْ ضَمِنَهَا بِالْجُحُودِ ثُمَّ اعْتَرَفَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ وَجَبَ إِذَا ضَمِنَهَا بِالتَّعَدِّي ثُمَّ كَفَّ أَنْ لَا يَسْقُطَ عَنْهُ الضَّمَانُ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّ مَا أَوْجَبَ ضَمَانَ الْوَدِيعَةِ لَمْ يَسْقُطْ بِزَوَالِهِ كَالْجُحُودِ وَلِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَهَا بِالْمَنْعِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ بِالْكَفِّ ؛ لِأَنَّهُ بِالْمَنْعِ غَيْرُ مُتَصَرِّفٍ وَبِالتَّعَدِّي مُتَصَرِّفٌ وَيَتَحَرَّرُ مِنَ الْقِيَاسِ الْأَوَّلِ مِنْ طَرِيقِ الْأُولَى . وَلِأَنَّ الْأَمْوَالَ قَدْ تُضْمَنُ بِالتَّعَدِّي مَعَ الْإِيدَاعِ كَمَا تُضْمَنُ بِالتَّعَدِّي مِنْ غَيْرِ إِيدَاعٍ ثُمَّ ثَبَتَ مِنْ أَخْذِ مَالِ رَجُلٍ مِنْ حِرْزِهِ بِغَصْبٍ ، أَوْ سَرِقَةٍ فَضَمِنَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ بِرَدِّهِ إِلَى حِرْزِهِ فَوَجَبَ إِذَا ضَمِنَ الْوَدِيعَةَ بِإِخْرَاجِهَا مِنَ الْحِرْزِ أَنْ لَا يَسْقُطَ عَنْهُ الضَّمَانُ بِرَدِّهَا إِلَى الْحِرْزِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ ضَمَانُهُ بِهَتْكِ الْحِرْزِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ ضَمَانُهُ بِعَوْدِهِ إِلَى الْحِرْزِ كَالْمَغْصُوبِ ، وَالْمَسْرُوقِ وَلِأَنَّ الْأُصُولَ مُقَرَّرَةٌ عَلَى أَنَّ يَدَ الْإِنْسَانِ تُبَرِّئُهُ مِنْ ضَمَانٍ تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهَا أَلَا تَرَاهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ طَعَامٌ مِنْ سَلَمٍ فَأَمَرَهُ الْمَالِكُ بِأَنْ يَقْبِضَهُ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُبَرِّئًا لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ . كَذَلِكَ ضَمَانُ الْوَدِيعَةِ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِكَفِّهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْرَاءِ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : النَّدَمُ تَوْبَةٌ فَهُوَ أَنَّ التَّوْبَةَ تَخْتَصُّ بِرَفْعِ الْآثَامِ دُونَ الْأَحْكَامِ .


وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ مَا وَجَبَ لِعِلَّةٍ زَالَ بِزَوَالِهَا فَهُوَ أَنَّهُ لَوْ سَلِمَ لَهُمْ فِي الْوَدِيعَةِ خُصُوصًا أَنْ يَنْتَقِصَ بِالْجُحُودِ ، وَالْمَنْعِ الزَّائِلَيْنِ مَعَ بَقَاءِ ضَمَانِهِمَا لَكَانَ مَرْدُودًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَا أَوْجَبَ الضَّمَانَ مِنَ التَّعَدِّي لَمْ يَزُلْ وَإِنَّمَا كُفَّ عَنِ اسْتَدَامَتِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ إِرْسَالِ الصَّيْدِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَعَيَّنْ بِلُزُومِ رَدِّهِ إِلَيْهَا صَارَ إِرْسَالُهُ جَارِيًا مَجْرَى رَدِّ الْوَدِيعَةِ إِلَى مَالِكِهَا وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ بِنَائِهِمْ ذَلِكَ عَلَى أَصْلَيْنِ فَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَيْنِ غَيْرَ مُسَلَّمَيْنِ أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهُمَا يَدُ الْمُوَدَعِ كَيَدِ الْمُودِعِ فَخَطَأٌ ؛ لِأَنَّ رُكُوبَ الْمُوَدِعِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ وَرُكُوبَ الْمُوَدَعِ يُوجِبُ الضَّمَانَ وَلَوْ تَسَاوَتْ أَيْدِيهِمَا لَسَقَطَ الضَّمَانُ فِيهِمَا وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهُمَا فِي أَنَّ التَّعَدِّيَ فِي الْمَأْمُورِ لَا يَقْتَضِي زَوَالَ الْأَمْرِ كَالْوَكِيلِ إِذَا شَجَّ الْعَبْدَ ، أَوْ زَنَا بِالْجَارِيَةِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ زَالَتْ وَكَالَتُهُ وَبَطَلَ بَيْعُهُ كَالْوَدِيعَةِ فِي بُطْلَانِ اسْتِئْمَانِهِ بِالتَّعَدِّي . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ وَكَالَتَهُ صَحِيحَةٌ وَبَيْعَهُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ مُوَكَّلٌ فِي الْبَيْعِ ، وَالْبَيْعُ لَمْ يَقَعْ فِيهِ تَعَدٍّ وَلَوْ تَعَدَّى فِيهِ كَانَ بَاطِلًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَوْتُ ؛ لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ فَإِذَا تَعَدَّى لَمْ يَكُنْ مُؤْتَمَنًا .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الضَّمَانِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَبْرَأُ حَتَّى يَدْفَعَهَا إِلَيْهِ ، أَوْ يُحْدِثَ لَهُ اسْتِئْمَانًا فَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ مَتَى رَدَّهَا إِلَى مَالِكِهَا ، أَوْ إِلَى وَكِيلِهِ فِي قَبْضِهَا بَرِئَ الوديعة فَإِنِ اسْتَأْنَفَهُ دَفْعَهَا إِلَيْهِ ثَانِيَةً لَمْ يَضْمَنْ فَأَمَّا إِنْ أَبْرَأَهُ الْمَالِكُ مِنْ ضَمَانِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَبْرَأُ وَيَزُولُ عَنْهُ الضَّمَانُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، أَوْ يُحْدِثُ لَهُ اسْتِئْمَانًا ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ قَبْضُهُ إِبْرَاءً صَحَّ مِنْهُ الْإِبْرَاءُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ مِنَ الضَّمَانِ لِعِلَّتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : أَنَّ الْبَرَاءَةَ لَا تَصِحُّ فِي الْأَعْيَانِ وَإِنَّمَا تَخْتَصُّ بِالذِّمَمِ . وَالثَّانِيَةُ : أَنَّهُ إِبْرَاءٌ مِنْ بَدَلٍ لَمْ يَجِبْ وَيَكُونُ تَأْوِيلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ، أَوْ يُحْدِثُ لَهُ اسْتِئْمَانًا يَعْنِي اسْتِئْمَانَ وَكِيلٍ فِي الْقَبْضِ فَلَوْ أَنَّ الْمَالِكَ أَذِنَ لَهُ فِي رَدِّهَا إِلَى الْحِرْزِ بَعْدَ التَّعَدِّي كَانَ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ كَالْإِبْرَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ إِذَا أَعَارَهُ بُقْعَةً يَبْنِي فِيهَا بِنَاءً لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الْبُقْعَةِ أَنْ يُخْرِجَهُ حَتَى يُعْطِيَهُ قِيمَةَ بِنَائِهِ قَائِمًا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِذَا أَعَارَهُ بُقْعَةً يَبْنِي فِيهَا بِنَاءً لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الْبُقْعَةِ أَنْ يُخْرِجَهُ حَتَى يُعْطِيَهُ قِيمَةَ بِنَائِهِ قَائِمًا . يَوْمَ يُخْرِجُهُ وَلَوْ قَالَ لَهُ وَقْتًا وَكَذَلِكَ لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الْبِنَاءِ مُطْلَقًا وَلَكِنْ لَوْ قَالَ فَإِنِ انْقَضَى الْوَقْتُ كَانَ عَلَيْكَ أَنْ تَنْقُضَ بِنَاءَكَ كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَغُرَّهُ إِنَمَا غَرَّ نَفْسَهُ " .


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ اعْلَمْ أَنَّ إِعَارَةَ الْأَرْضِ لِلزَّرْعِ ، وَالْغَرْسِ ، وَالْبِنَاءِ جَائِزٌ . لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ يَصِحُّ أَنْ تُمْلَكَ بِالْإِجَارَةِ وَصَحَّ أَنْ تُمْلَكَ بِالْإِعَارَةِ كَالسَّكَنِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ مَنْ أَعَارَ أَرْضًا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُعَيِّنَ الْمَنْفَعَةَ ، أَوْ لَا يُعَيِّنَ عَلَيْهَا فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ عَلَيْهَا صَحَّتِ الْعَارِيَةُ وَكَانَتْ مَحْمُولَةً فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا عَلَى الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ فِي مِثْلِهَا ، وَلَا يَصِحُّ إِطْلَاقُ الْإِجَارَةِ إِلَّا أَنْ يُعَيِّنَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ خُصُوصًا وَعُمُومًا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي الْإِجَارَةِ عِوَضًا تَنْتَفِي عَنْهُ الْجَهَالَةُ وَلِذَلِكَ لَزِمَ تَقْدِيرُ الْمَنْفَعَةِ بِالْمُدَّةِ وَلَيْسَ فِي الْعَارِيَةِ عِوَضٌ فَلَمْ يَمْتَنِعْ فِيهِ الْجَهَالَةُ كَمَا لَا يَمْتَنِعُ إِطْلَاقُ الْمُدَّةِ وَإِنْ عَيَّنَ الْمُعِيرُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَعُمَّ ، أَوْ يَخُصَّ فَإِنْ عَمَّ فَقَالَ قَدْ أَعَرْتُكَ لِتَصْنَعَ مَا شِئْتَ مِنْ غَرْسٍ ، أَوْ بِنَاءٍ ، أَوْ زَرْعٍ فَأَيُّهُمَا فَعَلَ جَازَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَمَعَ بَيْنَ سَائِرِهَا وَإِنْ خَصَّ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الزَّرْعِ فَلَهُ أَنْ يَزْرَعَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَغْرِسَ ، وَلَا أَنْ يَبْنِيَ ؛ لِأَنَّ الْغَرْسَ ، وَالْبِنَاءَ أَضَرُّ لِلْأَرْضِ مِنَ الزَّرْعِ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا ضَرَرَ ، وَلَا ضِرَارَ فَلَوْ غَرَسَ ، أَوْ بَنَى كَانَ مُتَعَدِّيًا وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِقَلْعِ غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ وَبِأُجْرَةِ الْمِثْلِ كَالْغَصْبِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْغَرْسِ فَلَهُ أَنْ يَغْرِسَ وَيَزْرَعَ ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ الزَّرْعِ أَقَلُّ مِنْ ضَرَرِ الْغَرْسِ وَفِي جَوَازِ الْبِنَاءِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ كَالْغَرْسِ فِي التَّرْكِ ، وَالضَّرَرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ أَدْوَمُ مِنَ الْغَرْسِ وَأَبْقَى فَكَانَ ضَرَرُهُ أَكْثَرَ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْبِنَاءِ فَلَهُ أَنْ يَبْنِيَ وَيَزْرَعَ وَيَغْرِسَ ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ أَبْقَى فَكَانَ ضَرَرُهُ أَعَمَّ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ الْعَارِيَةِ إعارة المستعير وَصِفَةِ الْإِذْنِ فِيهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا بِنَفْسِهِ ، أَوْ وَكِيلِهِ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَجِّرَهَا ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَازِمَةٌ ، وَالْعَارِيَةَ غَيْرُ لَازِمَةٍ وَفِي جَوَازِ إِعَارَتِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ أَنْ يُعِيرَ كَمَا يَجُوزُ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُؤَجِّرَ ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ أَنْ يُعِيرَ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِإِبَاحَةِ الْمَنْفَعَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُبِيحَهَا لِغَيْرِهِ كَمَا لَوْ أُبِيحَ أَكْلٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبِيحَهُ لِغَيْرِهِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ كَانَ لِلْمُعِيرِ الْأَوَّلِ ، وَالثَّانِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ الثَّانِي فَإِنْ رَجَعَ بِهِ الْمُعِيرُ الْأَوَّلُ بَطَلَتِ الْعَارِيَتَانِ مَعًا وَإِنْ رَجَعَا بِهَا الْمُعِيرَ الثَّانِي كَانَتِ الْعَارِيَةُ الْأُولَى عَلَى حَالِهَا وَإِنْ قُلْنَا بِبُطْلَانِ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي كَانَ الْمُسْتَعِيرُ غَاصِبًا لِلْإِعَارَةِ وَاسْتَحَقَّ الْمُعِيرُ الْمَالِكُ الْمُطَالَبَةَ بِالْأُجْرَةِ ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الثَّانِي بِهَا ، أَوِ الْأَوَّلُ . فَإِنْ أَخَذَهَا مِنَ الْأَوَّلِ فَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ بِهَا عَلَى الثَّانِي أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَهَكَذَا لَوْ أَخَذَهَا مِنَ الثَّانِي فَهَلْ يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْأَوَّلِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ : بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ


قَوْلَيْنِ فِيمَنْ أَبَاحَ أَكْلَ طَعَامٍ غَصَبَهُ فَأُغْرِمَ الْآكِلُ قِيمَتَهُ هَلْ يَرْجِعُ الْآكِلُ عَلَى الْغَاصِبِ بِمَا غَرِمَهُ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ نَذْكُرُهُمَا فِي كِتَابِ الْغَصْبِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا قَبَضَ الْمُسْتَعِيرُ الْأَرْضَ لِلْغَرْسِ ، وَالْبِنَاءِ ثُمَّ رَجَعَ لِلْمُعِيرِ فَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُ قَبْلَ الْغَرْسِ ، وَالْبِنَاءِ مُنِعَ الْمُسْتَعِيرُ مِنْ غَرْسِهَا وَبِنَائِهَا فَإِنْ بَنَى بَعْدَ رُجُوعِهِ ، أَوْ غَرَسَ كَانَ فِي حُكْمِ الْغَاصِبِ فَيُآخَذُ بِقَلْعِ الْغَرْسِ ، وَالْبِنَاءِ مَعَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَتَسْوِيَةِ الْأَرْضِ فَإِنْ رَجَعَ الْمُعِيرُ بَعْدَ الْغَرْسِ ، وَالْبِنَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِحْدَاثُ زِيَادَةٍ فِي غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ فَإِنْ أَحْدَثَ زِيَادَةً فِي غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ فَإِنْ أَخَذَ بَقْلَهَا فَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْغَرْسِ ، وَالْبِنَاءِ قَبْلَ الرُّجُوعِ فَلِلْمُعِيرِ حَالَتَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ شَرَطَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ حِينَ أَعَارَهُ أَنْ يَقْلَعَ غَرْسَهُ وَبِنَاءَهُ عِنْدَ رُجُوعِهِ فَيُؤْخَذُ الْمُسْتَعِيرُ بِقَلْعِ ذَلِكَ لِلشَّرْطِ الْمُتَقَدِّمِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ وَلِأَنَّ رِضَاهُ بِهَذَا الشَّرْطِ الْتِزَامٌ لِلضَّرَرِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ بِالْقَلْعِ فَكَانَ هُوَ الضَّارُّ لِنَفْسِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ مَضْرُورًا بِغَيْرِهِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَلَّا يَشْتَرِطَ الْمُعِيرُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ الْقَلْعَ بَعْدَ الرُّجُوعِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قِيمَةُ الْغَرْسِ ، وَالْبِنَاءِ مَقْلُوعًا كَقِيمَتِهِ قَائِمًا ، أَوْ أَكْثَرَ فَيُآخَذُ الْمُسْتَعِيرُ بِالْقَلْعِ ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَةَ لَا تَلْزَمُ ، وَالضَّرَرُ بِالْقَلْعِ مُرْتَفِعٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ مَقْلُوعًا أَقَلَّ ، فَإِنْ بَدَّلَ الْمُعِيرُ قِيمَتَهُ قَائِمًا ، أَوْ بَدَّلَ نَقْصًا بَيْنَ قِيمَتِهِ مَقْلُوعًا وَقَائِمًا مُنِعَ الْمُسْتَعِيرُ مِنْ إِقْرَارِهِ حِينَئِذٍ وَخُيِّرَ بَيْنَ قَلْعِهِ ، أَوْ أَخْذِ قِيمَتِهِ ، أَوْ أَرْشِ نَقْصِهِ ؛ لِأَنَّ مَا يَخَافُهُ مِنَ النَّقْصِ بِالْقَلْعِ قَدْ زَالَ بِبَذْلِ الْقِيمَةِ ، أَوِ الْأَرْشِ فَلَوْ بَذَلَ الْمُسْتَعِيرُ قِيمَةَ الْأَرْضِ وَبَذَلَ الْمُعِيرُ قِيمَةَ الْغَرْسِ كَانَ الْمُعِيرُ أَحَقَّ مِنَ الْمُسْتَعِيرِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَرْضَ أَصْلٌ ، وَالْغَرْسَ تَبَعٌ فَكَانَ مِلْكُ الْأَصْلِ أَقْوَى . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَسْبَقُ مِلْكًا وَقِيلَ لِلْمُسْتَعِيرِ لَا يَجُوزُ مَعَ زَوَالِ الضَّرَرِ عِنْدَ أَنْ يُدْخِلَ الضَّرَرَ عَلَى الْمُعِيرِ بِالتَّرْكِ فَإِنْ أُخِذَتِ الْقِيمَةُ ، وَإِلَّا أُجْبِرَ عَلَى الْقَلْعِ فَإِذَا قَلَعَ فَهَلْ تَلْزَمُهُ تَسْوِيَةُ الْأَرْضَ بَعْدَ الْقَلْعِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ فَأَشْبَهَهُ بِلَى الثَّوْبِ بِاللُّبْسِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَلْزَمُهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قَلَعَ بِاخْتِيَارِهِ بَعْدَ زَوَالِ الْعَارِيَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْجَأَ إِلَيْهِ فَصَارَ مَأْخُوذًا بِنَقْصِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنِ امْتَنَعَ الْمُعِيرُ مِنْ بَذْلِ قِيمَةِ الْغَرْسِ وَامْتَنَعَ الْمُسْتَعِيرُ مِنَ الْقَلْعِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِالْقَلْعِ سَوَاءٌ كَانَتْ مُدَّةُ الْعَارِيَةِ مُقَدَّرَةً ، أَوْ مُطْلَقَةً لِقَوْلِهِ : الْعَارِيَةُ مُؤَدَّاةٌ .


وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْعَارِيَةُ مُطْلَقَةَ تُرِكَ وَإِنْ كَانَتْ مُقَدَّرَةً بِمُدَّةٍ قُلِعَ بَعْدَهَا فَرْقًا بَيْنَ الْمُطْلَقَةِ ، وَالْمُقَدَّرَةِ ؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ فِي اشْتِرَاطِ الْمُدَّةِ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ مُقِرٌّ ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَلْعِ إِذَا بَذَلَ الْأُجْرَةَ بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنَ الْعَارِيَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ ، وَالْمُسْتَعِيرُ لَيْسَ بِظَالِمٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْخَذَ بِالْقَلْعِ كَالظَّالِمِ ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَةَ ارْتِفَاقٌ وَمَعُونَةٌ فَلَوْ أَوْجَبَتِ الْإِضْرَارَ بِالْقَلْعِ لَخَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ الْإِرْفَاقِ إِلَى حُكْمِ الْعُدْوَانِ ، وَالضَّرَرِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْغَرْسَ ، وَالْبِنَاءَ مُقَرٌّ فَإِقْرَارِهِ مَشْرُوطٌ بِبَذْلِ الْأُجْرَةِ وَإِقَامَةِ الْمُعِيرِ عَلَى الْمَبِيعِ مِنْ بَذْلِ الْقِيمَةِ فَصَارَ إِقْرَارُهُ مُسْتَحَقًّا بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فَإِنْ أَجَابَ الْمُعِيرُ مِنْ بَعْدُ إِلَى بَذْلِ الْقِيمَةِ ، أَوِ امْتَنَعَ الْمُسْتَعِيرُ مِنْ بَذْلِ الْأُجْرَةِ أُجْبِرَ عَلَى الْقَلْعِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُدْخِلَ الضَّرَرَ عَلَى الْمُعِيرِ بِتَفْوِيتِ الْأُجْرَةِ ، وَمَا اسْتَدَامَ الشَّرْطَانِ وَجَبَ الْإِقْرَارُ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَعِيرِ مَنْعُ الْمُعِيرِ مِنْ دُخُولِ أَرْضِهِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَطِيلًا بِغَرْسِهِ وَبِنَائِهِ ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ مَأْخُوذَةٌ عَلَى إِقْرَارِ الْغَرْسِ ، وَالْبِنَاءِ فَأَمَّا الْبَيَاضُ الَّذِي أَثْنَائَهُ فَلَيْسَ بِمَشْغُولٍ بِمِلْكِ الْمُسْتَعِيرِ فَلَمْ يَجُزْ مَنْعُ الْمُعِيرِ مِنْهُ وَإِنْ بُذِلَتْ لَهُ الْأُجْرَةُ عَنْهُ . إِلَّا أَنْ يُجِيبَهُ إِلَى إِجَارَتِهَا طَوْعًا بِمُسَمَّى رَضِيَاهُ فَيَكُونُ كَمَنْ أَجَّرَ أَرْضَهُ مُخْتَارًا فَأَمَّا الْمُسْتَعِيرُ فَهَلْ يَسْتَحِقُّ دُخُولَ الْأَرْضِ لِيَصِلَ إِلَى غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَسْتَحِقُّ الدُّخُولَ إِلَّا بِرِضَا الْمُعِيرِ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ التَّرْكِ لَا يُوجِبُ التَّصَرُّفُ فِي الْأَرْضِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ دُخُولَ الْأَرْضِ لِيَصِلَ إِلَى غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ فِي مُرَاعَاتِهِ وَمَصْلَحَتِهِ وَيُجْبَرُ الْمُعِيرُ عَلَى تَمْكِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْغَرْسِ ، وَالْبِنَاءِ إِذَنٌ بِهِ وَبِمَنَافِعِهِ فَإِنْ مَاتَ الْغَرْسُ وَانْهَدَمَ الْبِنَاءُ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِعَادَةُ بَدَلِهِ إِلَّا بِاسْتِحْدَاثِ عَارِيَةٍ بَدَلَهُ .

فَصْلٌ : فَلَوْ أَرَادَ الْمُسْتَعِيرُ بَيْعَ غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ عَلَى غَيْرِ الْمُعِيرِ فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ وَلَيْسَ لِلْمُعِيرِ أَنْ يَأْخُذَهُ الْمُشْتَرِي بِالْقَلْعِ كَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ الْمُسْتَعِيرُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ بَيْعَهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ غَيْرُ مُسْتَعِيرٍ وَتَرْكُ مَا اشْتَرَاهُ غَيْرُ مُسْتَدِيمٍ ؛ لِأَنَّ الْمُعِيرَ مَتَى بَذَلَ الْقِيمَةَ اسْتَحَقَّ بِهَا أَخْذَ الْغَرْسِ ، أَوْ قَلْعَهُ وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمُسْتَعِيرِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعِيرَ .

فَصْلٌ : وَإِذَا حَمَلَ السَّيْلُ بَذْرًا لِرَجُلٍ فَنَبَتَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ ، أَوْ نَوًى ، فَصَارَ غَرْسًا فَهُوَ لِمَالِكِ الْبَذْرِ ، وَالنَّوَى ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ وَهَلْ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يُؤَاخِذَ الْمَالِكَ بِقَلْعِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ قَلْعُهُ ؛ لِأَنَّ مَا نَبَتَ فِي أَرْضِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَيْسَ لَهُ قَلْعُهُ إِذَا بُذِلَتِ الْأُجْرَةُ ؛ لِأَنَّ مَالِكَهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِهِ .




فَصْلٌ : فَإِذَا أَعَارَ الرَّجُلُ جَارَهُ حَائِطًا لِيَضَعَ عَلَيْهِ أَجْذَاعًا فَلَيْسَ لِلْمُعِيرِ أَنْ يَأْخُذَ الْمُسْتَعِيرَ بِقَلْعِهَا بَعْدَ الْوَضْعِ ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْأَجْذَاعِ تُرَادُ لِلِاسْتِدَامَةِ ، وَالْبَقَاءِ وَهَلْ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْأُجْرَةَ بَعْدَ رُجُوعِهِ فِي الْعَارِيَةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَسْتَحِقُّهَا كَمَا يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ أَرْضِهِ بَعْدَ الْغَرْسِ ، وَالْبِنَاءِ . فَعَلَى هَذَا إِنِ امْتَنَعَ صَاحِبُ الْأَجْذَاعِ مِنْ بَذْلِهَا أُخِذَ بِقَلْعِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : هُوَ أَصَحُّ لَا أُجْرَةَ لَهُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَائِطِ ، وَالْأَرْضِ أَنَّ الْحَائِطَ قَدْ يَصِلُ مَالِكُهُ إِلَى مَنَافِعِهِ وَإِنْ كَانَتِ الْأَجْذَاعُ مَوْضُوعَةً عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَالْأَرْضِ الَّتِي لَا يَصِلُ مَالِكُهَا إِلَى مَنَافِعِهَا مَعَ بَقَاءِ الْغَرْسِ ، وَالْبِنَاءِ فِيهَا مَعَ أَنَّ الْعُرْفَ لَمْ يَجْرِ بِإِجَارَةِ الْحَائِطِ وَهُوَ جَارٍ بِإِجَارَةِ الْأَرْضِ فَلَوْ بَذَلَ صَاحِبُ الْحَائِطِ ثَمَنَ الْأَجْذَاعِ لِصَاحِبِهَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَبُولِهَا ، وَلَا عَلَى قَلْعِهَا بِخِلَافِ الْغَرْسِ ، وَالْبِنَاءِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَجْذَاعَ إِذَا حَصَلَ أَحَدُ طَرَفَيْهَا فِي حَائِطِ الْمُعِيرِ ، وَالطَّرَفُ الْآخَرُ فِي حَائِطِ الْمُسْتَعِيرِ فَلَمْ يُجْبَرْ أَنْ يَأْخُذَ قِيمَةَ مَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِ ، وَالْغَرْسُ ، وَالْبِنَاءُ كُلُّهُ فِي أَرْضِ الْمُعِيرِ فَجَازَ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى أَخْذِ قِيمَةِ مَا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَلَوِ انْهَدَمَ الْحَائِطُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَجْذَاعُ مَوْضُوعَةٌ فَبَنَاهُ الْمَالِكُ فَهَلْ يَجُوزُ لِصَاحِبِ الْأَجْذَاعِ إِعَادَةَ وَضْعِهَا بِالْإِذْنِ الْأَوَّلِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ إِعَارَتُهَا ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَةَ أَوْجَبَتْ دَوَامَ وَضْعِهَا ، فَعَلَى هَذَا لَوِ امْتَنَعَ صَاحِبُ الْحَائِطِ مِنْ بِنَائِهِ كَانَ لِصَاحِبِ الْأَجْذَاعِ أَنْ يَبْنِيَهُ لِيَصِلَ إِلَى حَقِّهِ مِنْ وَضْعِ أَجْذَاعِهِ فِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَيْسَ لَهُ إِعَادَتُهَا ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ الْمَأْذُونَ فِيهِ لَمْ يَبْقَ وَهَذَا غَيْرُهُ ، وَلَمْ يَعُدْ مَالِكَهُ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْأَجْذَاعِ أَنْ يَبْنِيَ الْحَائِطَ عِنْدَ امْتِنَاعِ صَاحِبِهِ مِنْ بِنَائِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَعَارَهُ جِذْعًا لِيُمْسِكَ بِهِ حَائِطًا فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ الْمَسْكِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ مَا كَانَ الْحَائِطُ قَائِمًا وَكَانَ الْجِذْعُ صَحِيحًا لِمَا فِيهِ مِنْ إِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ بَعْدَ الْمَسْكِ مِنْ خَوْفِ السُّقُوطِ وَهَلَاكِهِ وَهَلْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بَعْدَ الرُّجُوعِ بِأُجْرَتِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ فَإِنِ انْكَسَرَ الْجِذْعُ ، أَوِ انْهَدَمَ الْحَائِطُ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَدَّدُ بِأَخْذِهِ ضَرَرٌ .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَعَارَ أَرْضًا لِدَفْنِ مَيِّتٍ فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ الدَّفْنِ الرُّجُوعُ فِيهَا ؛ لِأَنَّ دَفْنَ الْمَوْتَى لِلِاسْتِدَامَةِ ، وَالْبَقَاءِ شَرْعًا وَعُرْفًا وَلَوْ أَوْصَى أَوْلِيَاؤَهُ بِنَقْلِهِ مُنِعُوا مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلْمَيِّتِ وَلِمَا فِيهِ مِنِ انْتِهَاكِ حُرْمَتِهِ بِالنَّقْلِ وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ الْمُطَالَبَةُ بِأُجْرَةِ الْقَبْرِ بَعْدَ الرُّجُوعِ فِي الْعَارِيَةِ وَجْهًا وَاحِدًا ، وَلَا تَخْتَلِفُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعُرْفَ غَيْرُ جَارٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَيِّتَ زَائِلٌ ، وَالْأَوْلِيَاءَ لَا يَلْزَمُهُمْ فَلَوْ أَنَّ الْمَيِّتَ الْمَدْفُونَ نَبَشَهُ الْوَحْشُ حَتَّى ظَهَرَ وَجَبَ أَنْ يُعَادَ إِلَى قَبْرِهِ جَبْرًا وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ بَعْدَ ظُهُورِهِ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَارِيَتِهِ وَيَمْنَعَ مَنْ دَفَنَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ حَقًّا لِلْمَيِّتِ مُؤَبَّدًا ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَذِنَ لِلنَّاسِ أَنْ يَدْفِنُوا مَوْتَاهُمْ فِي


أَرْضِهِ فَإِنْ سَبَلَهَا لِلدَّفْنِ فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا لِخُرُوجِهَا عَنْ مِلْكِهِ وَإِنْ لَمْ يُسْبِلَهَا فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا ، وَلَا يَكُونُ الْإِذْنُ بِالدَّفْنِ فِيهَا تَسْبِيلًا لَهَا فَإِذَا رَجَعَ فَلَهُ الْمَنْعُ مِنْ إِحْدَاثِ دَفْنٍ فِيهَا وَلَيْسَ لَهُ نَقْلُ مَنْ دُفِنَ وَتَحْرُمُ عَلَى مَنْ أَعَارَ أَرْضًا لِلدَّفْنِ أَنْ يَتَصَرَّفَ عَلَى ظَاهِرِ الْقَبْرِ مِنْ أَرْضِهِ لِمَا فِيهِ مِنِ انْتِهَاكِ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ مَعَ وُرُودِ النَّهْيِ عَنْهُ ، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَدْفِنَ فِيهِ مَيِّتًا آخَرَ لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ مَكَانَ لَحْدِهِ فَيَجُوزُ وَإِنْ كَانَ مُقَارَنًا .

فَصْلٌ : وَإِذَا مَاتَ الْمُسْتَعِيرُ أو المعير أو جن أحدهما بَطَلَتِ الْعَارِيَةُ ، وَلَمْ يَكُنْ لِوَارِثِهِ الِانْتِفَاعُ بِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنْ فَعَلَ كَانَ فِي حُكْمِ الْغَاصِبِ فِي ضَمَانِ الرَّقَبَةِ وَالْأُجْرَةِ وَعَلَى الْوَارِثِ أَنْ يُبَادِرَ بِرَدِّهَا عَلَى الْمُعِيرِ العارية سَوَاءٌ طَلَبَ ، أَوْ لَمْ يَطْلُبْ عَلِمَ بِمَوْتِ الْمُسْتَعِيرِ ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ الَّتِي لَا يُلْزَمُ وَارِثُ الْمُوَدَعِ رَدَّهَا ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْعَارِيَةِ وَاجِبٌ وَرَدَّ الْوَدِيعَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ وَإِنَّمَا التَّمْكِينُ مِنْهَا وَاجِبٌ وَإِنْ أَمْسَكَ وَارِثُ الْمُسْتَعِيرِ عَنْ رَدِّهَا حَتَّى هَلَكَتْ فَإِنْ كَانَ إِمْسَاكُهَا لِتَعَذُّرِ الْقُدْرَةِ عَلَى رَدِّهَا فَهِيَ مَضْمُونَةٌ فِي تَرِكَةِ الْمُسْتَعِيرِ ، وَلَا أُجْرَةَ وَإِنْ كَانَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى رَدِّهَا فَهِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَى وَرَثَةِ الْمُسْتَعِيرِ وَمَعَ الْأُجْرَةِ فَلَوْ جُنَّ الْمُسْتَعِيرُ ، وَلَمْ يَمُتْ بَطَلَتِ الْعَارِيَةُ بِجُنُونِهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ ، وَالْجُنُونِ وَعَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يُبَادِرَ بِرَدِّهَا عَلَى الْمُعِيرِ وَهَكَذَا لَوْ مَاتَ الْمُعِيرُ وَجَبَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ رَدُّ الْعَارِيَةِ عَلَى وَارِثِهِ لِبُطْلَانِهَا بِمَوْتِهِ وَأَنْ يُمْسِكَ بِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَ فِي حُكْمِ الْغَاصِبِ فِي ضَمَانِ الرَّقَبَةِ ، وَالْأُجْرَةِ وَهَكَذَا لَوْ جُنَّ الْمُعِيرُ فَإِنْ مَرِضَ فَالْعَارِيَةُ عَلَى حَالِهَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا بَاحَ الْمُعِيرُ الْعَارِيَةَ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَدُّهَا مُمْكِنًا كَالدَّارِ الَّتِي يُمْكِنُ خُرُوجُهُ مِنْهَا ، وَالدَّابَّةِ الَّتِي يُمْكِنُ نُزُولُهُ عَنْهَا ، وَالثَّوْبِ الَّذِي يُمْكِنُ نَزْعُهُ صَحَّ الْبَيْعُ وَبَطَلَتْ بِهِ الْعَارِيَةُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رَدُّهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ كَالْأَرْضِ إِذَا غُرِسَتْ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ بَقَاءِ الْغَرْسِ فِيهَا مَجْهُولَةٌ وَاسْتِرْجَاعُهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ إِلَّا بِبَذْلِ قِيمَةِ الْغَرْسِ ، أَوْ أَرْشِ النَّقْصِ وَذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْمُعِيرِ ، وَلَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ : أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ وَيُؤْخَذُ الْمُسْتَعِيرُ بِقَلْعِ الْغَرْسِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ التَّسْلِيمِ كَمَا يُجْبَرُ عَلَى مُوَرَّثِهِ التَّسْلِيمُ .

فَصْلٌ إِذَا اسْتَعَارَ دَابَّةً ثُمَّ رَدَّهَا الْمُسْتَعِيرُ إِلَى اصْطَبْلِ الْمُعِيرِ لَمْ يَبْرَأْ مِنْ ضَمَانِهَا حَتَّى يَدْفَعَهَا إِلَى الْمُعِيرِ

فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَعَارَ دَابَّةً ثُمَّ رَدَّهَا الْمُسْتَعِيرُ إِلَى اصْطَبْلِ الْمُعِيرِ لَمْ يَبْرَأْ مِنْ ضَمَانِهَا حَتَّى يَدْفَعَهَا إِلَى الْمُعِيرِ ، أَوْ إِلَى وَكِيلِهِ فِيهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَبْرَأُ مِنْهَا بِرَدِّهَا إِلَى الِاصْطَبْلِ اسْتِحْسَانًا لَا قِيَاسًا وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ الِاصْطَبْلَ كَيَدِهِ لَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ سَارِقُهَا مِنَ الِاصْطَبْلِ إِذَا رَدَّهَا إِلَيْهِ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ ضَمَانُهَا كَمَا يَسْقُطُ بِرَدِّهَا إِلَى يَدِهِ وَفِي بَقَاءِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَوْدُهَا إِلَى الِاصْطَبْلِ عَوْدٌ إِلَى يَدِهِ .

فَصْلٌ لَا يَجُوزُ لِلْمُعِيرِ أَنْ يَأْخُذَ بِالْعَارِيَةِ رَهْنًا

فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ لِلْمُعِيرِ أَنْ يَأْخُذَ بِالْعَارِيَةِ رَهْنًا ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ فِي الْأَعْيَانِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَأْخُذَ بِهَا ضَامِنٌ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْأَعْيَانِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالْيَدِ فَإِنَّ شَرَطَ عَلَيْهِ فِيهَا رَهْنًا ، أَوْ ضَامِنًا بَطَلَتْ

بِأَحَدِ الشُّرُوطِ الْمُبْطِلَةِ لَهَا ثُمَّ قَبَضَهَا الْمُسْتَعِيرُ وَتَصَرَّفَ بِهَا ضَمِنَ الرَّقَبَةَ ، فَأَمَّا ضَمَانُهُ لِأُجْرَةِ الْمَنْفَعَةِ ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ ضَامِنًا لِلْأُجْرَةِ ؛ لِأَنَّ فَسَادَهَا رَافِعٌ لِحُكْمِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْأُجْرَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ فَسَدَ فَحُكْمُهُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَسُقُوطِهِ حُكْمُ الصَّحِيحِ مِنْهُ أَلَا تَرَاهُ يَضْمَنُ فَاسِدَ الْقَرْضِ ، وَلَا يَضْمَنُ فَاسِدَ الشَّرِكَةِ .
فَصْلٌ : فَإِذَا طَالَبَ الْمُعِيرُ الْمُسْتَعِيرَ بِرَدِّ الْعَارِيَةِ كَانَتْ مَؤُنَةُ رَدِّهَا وَاجِبَةً عَلَى الْمُسْتَعِيرِ بِخِلَافِ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ تَسْلِيمَ الْمَنْفَعَةِ فِي الْإِجَارَةِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْمُؤَجِّرِ فَكَانَتْ مَؤُنَةُ الرَّدِّ عَلَيْهِ وَتَسْلِيمُهَا فِي الْعَارِيَةِ هِبَةٌ لِلْمُسْتَعِيرِ فَكَانَتْ مَؤُنَةُ الرَّدِّ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا ادَّعَى الْمُسْتَعِيرُ الْعَارِيَةَ مِنْ رَجُلٍ بِإِذْنِ الْمُعِيرِ جَازِ ثُمَّ نُظِرَ فَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ فَالْمُسْتَعِيرُ الْأَوَّلُ عَلَى عَارِيَتِهِ وَهُوَ الْمُعِيرُ عَلَيْهَا مِنَ الثَّانِي وَضَمَانُهَا بَاقٍ عَلَيْهِ وَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا إِنْ شَاءَ وَإِنْ سَمَّاهُ لِلْمُعِيرِ خَرَجَ الْمُسْتَعِيرُ الْأَوَّلُ مِنْهَا وَبَرِئَ مِنْ ضَمَانِهَا ، وَلَمْ يُبْطِلْ عَلَى الثَّانِي بِرُجُوعِهِ فِيهَا فَلَوْ رَدَّهَا الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ لَمْ يَبْرَأْ وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى يَبْرَأُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
_____كِتَابُ الْغَصْبِ _____

الْأَصْلُ فِي تَحْرِيمِ الْغَصْبِ وَحَظْرِ الْأَمْوَالِ


كِتَابُ الْغَصْبِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : فَإِذَا شَقَّ رَجُلٌ لِرَجُلٍ ثَوْبًا شَقًّا صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا يَأْخُذُ مَا بَيْنَ طَرَفَيْهِ طُولًا وَعَرْضَا ، أَوْ كَسَرَ لَهُ شَيْئَا كَسْرًا صَغِيرًا ، أَوْ كَبِيرًا ، أَوْ رَضَّضَهُ ، أَوْ جَنَى لَهُ عَلَى مَمْلُوكٍ فَأَعْمَاهُ ، أَوْ شَجَّهُ مُوَضِّحَةً فَذَلِكَ كُلُّهُ سَوَاءٌ وَيُقَوَّمُ الْمَتَاعُ كُلُّهُ ، وَالْحَيَوَانُ غَيْرَ الرَّقِيقِ صَحِيحًا وَمَكْسُورًا ، أَوْ صَحِيحًا وَمَجْرُوحًا قَدْ بَرِئَ مِنْ جُرْحِهِ ثُمَّ يُعْطَى مَالِكُ ذَلِكَ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ وَيَكُونُ مَا بَقِيَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ لِصَاحِبِهِ نَفَعَهُ أَوْ لَمْ يَنْفَعْهُ فَأَمَا مَا جَنَى عَلَيْهِ مِنَ الْعَبْدِ فَيُقَوَّمُ صَحِيحًا قَبْلَ الْجِنَايَةِ ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى الْجِنَايَةِ فَيُعْطَى أَرْشَهَا مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ صَحِيحًا كَمَا يُعْطَى الْحُرُّ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ مِنْ دِيَتِهِ بَالِغًا ذَلِكَ مَا بَلَغَ وَلَوْ كَانَتْ قِيَمًا كَمَا يَأْخُذُ الْحُرُّ دِيَاتٍ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَكَيْفَ غَلِطَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ إِنْ جَنَى عَلَى عَبْدِي فَلَمْ يُفْسِدْهُ أَخَذْتُهُ وَقِيمَةَ مَا نَقَصَهُ وَإِنْ زَادَ الْجَانِي مَعْصِيَةَ اللَّهِ تَعَالَى فَأَفْسَدَهُ سَقَطَ حَقِّي إِلَّا أَنْ أُسَلِّمَهُ يَمْلِكُهُ الْجَانِي فَيَسْقُطُ حَقِّي بِالْفَسَادِ حِينَ عَظُمَ وَيَثْبُتُ حِينَ صَغُرَ وَيُمْلَكُ عَلَيَّ حِينَ عَصَى فَأُفْسِدَ فَلَمْ يَمْلِكْ بَعْضًا بِبَعْضِ مَا أَفْسَدَ وَهَذَا الْقَوْلُ خِلَافٌ لِأَصْلِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّ الْمَالِكِينَ عَلَى مِلْكِهِمْ لَا يُمْلَكُ عَلَيْهِمْ إِلَّا بِرِضَاهُمْ وَخِلَافُ الْمَعْقُولِ ، وَالْقِيَاسِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْأَصْلُ فِي تَحْرِيمِ الْغَصْبِ وَحَظْرِ الْأَمْوَالِ الْكِتَابُ ، وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ [ النَّحْلِ : 90 ] . وَالْبَغْيُ ، وَالْغَصْبُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ . وَقَالَ تَعَالَى : لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [ النِّسَاءِ : 29 ] ، وَالْغَصْبُ مِنَ الْبَاطِلِ . وَقَالَ تَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [ النِّسَاءِ : 10 ] ، وَقَالَ تَعَالَى : إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ [ الشُّورَى : 42 ] . وَالْغَصْبُ مِنْ جُمْلَةِ الظُّلْمِ ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الظُّلْمِ وَضْعُ الشَّيْءِ غَيْرَ مَوْضِعِهِ . وَلِذَلِكَ قِيلَ أَرْضٌ مَظْلُومَةٌ ، وَفِيهَا تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَجَاوَزَهَا الْمَطَرُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَأْتِيَهَا مِنْ غَيْرِ أَوَانِهِ .


وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَهُوَ تَمِيمُ بْنُ أَبِي مُقْبِلٍ : عَادَ الْأَخِلَّةُ فِي دَارٍ وَكَانَ بِهَا هُرْتُ الشَّقَاشِقِ ظَلَّامُونَ لِلْجُزُرِ وَفِيهَا تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْقِرَ فِي غَيْرِ مَنْحَرٍ عَلَى عَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي قَطْعِ الْعَرَاقِيبِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَنْحَرَ لِغَيْرِ مَا سَبَبٍ . وَأَمَّا السُّنَّةُ : فَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ أَنَّهُ قَالَ : أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا مِنِي أُبَيِّنْ لَكُمْ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا فِي مَوْقِفِي هَذَا . أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ إِلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ اشْهَدْ ، فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا . أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ ؟ اللَّهُمَّ اشْهَدْ فَلَا تَرْجِعُنَّ بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ . فَإِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَمْ تَضِلُّوا : كِتَابَ اللَّهِ ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ اشْهَدْ . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ صَاحِبِهِ لَاعِبًا ، أَوْ جَادًّا فَإِذَا أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَيْهِ ، أَوْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ وَرَوَى أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِهِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنِ اقْتَطَعَ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَا بَارَكَ اللَّهُ لَهُ فِيهِ وَرَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَنْ ظُلِمَ قَيْدَ شِبْرٍ مِنْ أَرْضٍ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ . وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا غَصَبَ أَرْضًا مِنْ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ وَغَصَبَهَا غَرْسَهَا نَخْلًا عُمًّا فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ بِقَلْعِهِ وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ . قَالَ عُرْوَةُ فَأَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى الْغَرْسَ تُعْمَلُ فِي أُصُولِهَا . وَفِي قَوْلِهِ نَخْلًا عُمًّا تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَعْنِي طُولًا .


وَالثَّانِي : يَعْنِي أَنَّهَا قَدْ عَمَّتْ بِخَيْرِهَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّتْكُمُ النَّخْلَةُ يَعْنِي عَمَّتْ بِخَيْرِهَا وَقِيلَ بَلْ عَنَى أَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ فَضْلِ طِينَةِ آدَمَ فَصَارَتْ عَمَّةً فِي النَّسَبِ ، فَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ الْغَصْبِ وَأَنَّ مَنْ فَعَلَهُ مُسْتَحِلًّا كَانَ كَافِرًا وَمَنْ فَعَلَهُ غَيْرَ مُسْتَحِلٍّ كَانَ فَاسِقًا .

فَصْلٌ الْغَصْبِ هُوَ مَنْعُ الْإِنْسَانِ مِنْ مِلْكِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ تَحْرِيمُ الْغَصْبِ كَمَا ذَكَرْنَا فَالْغَصْبُ هُوَ مَنْعُ الْإِنْسَانِ مِنْ مِلْكِهِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ فَيُكْمِلُ الْغَصْبَ بِالْمَنْعِ ، وَالتَّصَرُّفِ فَإِنْ مَنَعَ ، وَلَمْ يَتَصَرَّفْ كَانَ تَعَدِّيًا ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ ضَمَانٌ ؛ لِأَنَّهُ تَعَدَّى عَلَى الْمَالِكِ دُونَ الْمِلْكِ وَإِنَّ تَصَرَّفَ ، وَلَمْ يَمْنَعْ كَانَ تَعَدِّيًا وَتَعَلَّقَ بِهِ ضَمَانٌ ؛ لِأَنَّهُ تَعَدٍّ عَلَى الْمِلْكِ دُونَ الْمَالِكِ فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَ الْمَنْعِ ، وَالتَّصَرُّفِ تَمَّ الْغَصْبُ وَلَزِمَ الضَّمَانُ سَوَاءٌ نَقَلَ الْمَغْصُوبَ عَنْ مَحَلِّهِ أَمْ لَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَتِمُّ الْغَصْبُ إِلَّا بِالنَّقْلِ ، وَالتَّحْوِيلِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُنْقَلُ كَالدُّورِ ، وَالْعَقَارِ لَمْ يَصِحَّ غَصْبُهُ ، وَلَمْ يَضْمَنِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ غَيْرَ الْمَنْقُولِ مُخْتَصٌّ بِالْمَنْعِ دُونَ التَّصَرُّفِ فَصَارَ كَحَبْسِ الْإِنْسَانِ عَنْ مِلْكِهِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِغَصْبِ مَالِهِ وَلِأَنَّ الْمَسْرُوقَ لَا يَكُونُ مَسْرُوقًا إِلَّا بِالنَّقْلِ عَنِ الْحِرْزِ فَكَذَا الْمَغْصُوبُ لَا يَصِيرُ مَغْصُوبًا إِلَّا بِالنَّقْلِ وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَصِرِ الْمَالُ بِهِ مَسْرُوقًا لَمْ يَصِرْ بِهِ مَغْصُوبًا كَالْمَنْعِ ، وَالْإِحَالَةِ . وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : إِنَّ أَعْظَمَ الْغُلُولِ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلَ مِنْ أَرْضِ غَيْرِهِ إِلَى أَرْضِ نَفْسِهِ فَأَطْلَقَ عَلَى الْأَرْضِ حُكْمَ الْغُلُولِ ، وَالْغَصْبِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : لَعَنَ اللَّهُ سَارِقَ الْمَنَارِ قِيلَ ، وَمَا سَارِقُ الْمَنَارِ ؟ قَالَ أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ الْعَلَامَةَ مِنْ أَرْضِ نَفْسِهِ إِلَى أَرْضِ غَيْرِهِ فَجَعَلَ ذَلِكَ سَرِقَةً وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَلْعُونٌ مَنْ لَعَنَ أَبَاهُ مَلْعُونٌ مَنْ لَعَنَ أُمَّهُ مَلْعُونٌ مَنْ غَيَّرَ تُخُومَ الْأَرْضِ ، وَفِي تُخُومِ الْأَرْضِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : عُلَمَاؤُهَا . وَالثَّانِي : حُدُودُهَا وَأَعْلَامُهَا وَلِأَنَّ مَا ضُمِنَ بِالْقَبْضِ فِي الْعُقُودِ ضُمِنَ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْعُقُودِ كَالْمُحَوَّلِ ، وَالْمَنْقُولِ . وَلِأَنَّ مَا ضُمِنَ بِهِ الْمَنْقُولُ ضُمِنَ بِهِ غَيْرُ الْمَنْقُولِ كَالْعُقُودِ وَلِأَنَّهُ عُدْوَانٌ فَجَازَ أَنْ يُضْمَنَ بِهِ غَيْرُ الْمَنْقُولِ كَالْجِنَايَةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ بِأَنَّ مَا لَمْ يُنْقَلْ مُخْتَصٌّ بِالْمَنْعِ ، وَالْإِحَالَةِ كَالْحَبْسِ فَهُوَ أَنَّ الْمَحْبُوسَ عَنْ


مَالِهِ حَصَلَ التَّعَدِّي عَلَيْهِ دُونَ مَالِهِ فَلَمْ يَصِرِ الْمَالُ مَغْصُوبًا وَخَالَفَ حَالَ التَّصَرُّفِ فِيهِ مَعَ اشْتِهَارِ الْقَوْلِ عُرْفًا أَنَّ فُلَانًا غَصَبَ دَارًا ، أَوْ أَرْضًا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْمَسْرُوقِ فَهُوَ أَنَّ الْقَطْعَ فِيهَا مُعْتَبَرٌ بِهَتْكِ الْحِرْزِ وَإِخْرَاجِ الْمَالِ عَنْهُ حَتَّى لَوْ نُقِلَ غَيْرَ مُحْرَزٍ لَمْ يَكُنْ سَارِقًا يُقْطَعُ وَخَالَفَ الْغَصْبُ الْمُعْتَبَرُ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ سَرَقَ دَارًا وَيُقَالُ غَصَبَ دَارًا .

فَصْلٌ أَحْوَال الْمَغْصُوبِ

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا بَيَّنَّا مِنْ صِفَةِ الْغَصْبِ فَلِلْمَغْصُوبِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ تَالِفًا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ نَاقِصًا . فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا بِحَالِهِ ارْتَجَعَهُ الْمَالِكُ المغصوب مِنْهُ فَإِنَّ ضَعُفَ عَنِ ارْتِجَاعِهِ ، فَعَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ اسْتِرْجَاعُهُ وَتَأْدِيبُ الْغَاصِبِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا أُجْرَةَ لِمِثْلِهِ كَالطَّعَامِ ، وَالدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ فَقَدْ بَرِئَ بَعْدَ رَدِّهِ مِنْ حُكْمِ الْغَصْبِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ قِيمَتُهُ قَدْ نَقَصَتْ فِي الْأَسْوَاقِ لِرُخْصِ الْأَسْعَارِ أَمْ لَا ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْعَيْنِ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ نَقْصُ السُّوقِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لِمِثْلِهِ أُجْرَةٌ كَالدَّوَابِّ ، وَالْآلَاتِ فَعَلَيْهِ مَعَ رَدِّ الْعَيْنِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ إِنْ كَانَ لِمِثْلِ زَمَانِ الْغَصْبِ أُجْرَةٌ وَعَلَيْهِ مَؤُنَةُ الرَّدِّ إِنْ كَانَ لِرَدِّهِ مَؤُنَةٌ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَغْصُوبُ تَالِفًا فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ سَوَاءٌ تَلِفَ بِفِعْلِهِ ، أَوْ غَيْرِ فِعْلِهِ ، إذا كان لِقَوْلِهِ : يَكُونُ عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ . ثُمَّ هُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ المغصوب كَالَّذِي تَتَسَاوَى أَجْزَاؤُهُ مِنَ الْحُبُوبِ ، وَالْأَدْهَانِ ، وَالدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ فَعَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِهِ جِنْسًا وَنَوْعًا وَصِفَةً وَقَدْرًا ؛ لِأَنَّ مِثْلَ الشَّيْءِ أَخَصُّ بِهِ بَدَلًا مِنَ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ مِثْلٌ فِي الشَّرْعِ ، وَاللُّغَةِ ، وَالْقِيمَةِ مِثْلٌ فِي الشَّرْعِ دُونَ اللُّغَةِ فَإِنْ طَلَبَ أَحَدُهُمُ الْقِيمَةَ لَمْ يُجَبْ إِلَيْهَا سَوَاءٌ كَانَ طَالِبَهَا الْغَاصِبُ ، أَوِ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ الْمُسْتَحَقِّ فَأَمَّا إِنْ تَرَاضَيَا بِالْقِيمَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمِثْلِ فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي جَوَازِ أَخْذِ أَرْشِ الْعَيْبِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى رَدِّ الْمَعِيبِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَلَّا يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ كَالَّذِي تَخْتَلِفُ أَجْزَاؤُهُ مِنَ الثِّيَابِ ، وَالْعَبِيدِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ قِيمَةً مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ الْعَنْبَرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَلَيْهِ مِثْلُهُ مِنْ جِنْسِهِ وَعَلَى صِفَتِهِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةٍ فُلَيْتٍ الْعَامِرِيِّ عَنْ جَسْرَةَ بِنْتِ دَجَاجَةَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ مَا رَأَيْتُ صَانِعًا طَعَامًا مِثْلَ صَفِيَّةَ صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَعَامًا فَبَعَثَتْ بِهِ فَأَخَذَنِي أَفْكَلُ فَكَسَرْتُ الْإِنَاءَ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَفَّارَةُ مَا صَنَعْتُ ؟ قَالَ : إِنَاءٌ مِثْلُ إِنَاءٍ وَطَعَامٌ مِثْلُ طَعَامٍ . وَمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ بَنِي


عَمِّكَ سَعَوْا عَلَى إِبِلِي فَاحْتَلَبُوا أَلْبَانَهَا وَأَكَلُوا فُصْلَانَهَا فَقَالَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نُعْطِيكَ إِبِلًا مِثْلَ إِبِلِكَ وَفُصْلَانًا مِثْلَ فُصْلَانِكَ . فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَقَدْ رَأَيْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رَأَيًا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ الْوَادِي الَّذِي جَنَى فِيهِ بَنُو عَمِّكَ فَقَالَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَعَمْ . وَدَلِيلُنَا : مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا فَأُوجِبُ قِيمَةَ الْحِصَّةِ ، وَلَمْ يُوجِبْ مِثْلَ تِلْكَ الْحِصَّةِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ أَجْزَاؤُهُ مَضْمُونَةً بِالْقِيمَةِ دُونَ الْمِثْلِ حَتَّى مَنْ قَطَعَ يَدَ دَابَّةٍ لَمْ تُقْطَعْ يَدُ دَابَّتِهِ وَمَنْ خَرَقَ ثَوْبًا لَمْ يُخْرَقْ ثَوْبُهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي اسْتِهْلَاكِ الْعَيْنِ بِمَثَابَتِهِ وَلِأَنَّ مَا تَخَلَّفَ أَجْزَاؤُهُ يَتَعَذَّرُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ ، وَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ زَائِدًا يُظْلَمُ بِهِ الْغَاصِبُ ، أَوْ نَاقِصًا يُظْلَمُ بِهِ الْمَغْصُوبُ ، وَالْقِيمَةُ عَدْلٌ يُؤْمَنُ فِيهَا ظُلْمُ الْفَرِيقَيْنِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : إِنَاءٌ مِثْلُ الْإِنَاءِ ، وَطَعَامٌ مِثْلُ طَعَامٍ ، فَهُوَ أَنَّ الْقِيمَةَ مِثْلٌ فِي الشَّرْعِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ [ الْمَائِدَةِ : 95 ] ، فَجَعَلَ قِيمَةَ الْجَزَاءِ مِنَ الطَّعَامِ مِثْلًا ، وَأَمَّا حَدِيثُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَمَحْمُولٌ عَلَى التَّفَضُّلِ مِنْهُ لِتَطَوُّعِهِ بِذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ دُونَ الْمِثْلِ ما كان من المغصوب فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ ، أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَثْمَانِ كَالثِّيَابِ ، وَالْحَيَوَانِ فَقِيمَتُهُ مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدَ فِيهِ أَكْثَرُ مَا كَانَ قِيمَةً مِنْ حِينِ الْغَصْبِ إِلَى حِينِ التَّلَفِ فِي سُوقِهِ وَبَلَدِهِ فَإِنْ قِيلَ : لِمَ لَمْ يَضْمَنْ نَقْصَ السُّوقِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ وَضَمِنَ نَقْصَ السُّوقِ مَعَ تَلَفِ الْعَيْنِ ؟ قِيلَ : لِأَنَّهُ قَدْ فَوَّتَ عَلَيْهِ زِيَادَةَ السُّوقِ مَعَ تَلَفِ الْعَيْنِ ، وَلَمْ يُفَوِّتْهَا عَلَيْهِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُبَاحَ الِاسْتِعْمَالِ كَالْحُلِيِّ فَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تُضْمَنُ قِيمَتُهُ مَصُوغًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الذَّهَبِ ضَمِنَ قِيمَتَهُ وَرِقًا ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْوَرِقِ ضَمِنَ قِيمَتَهُ ذَهَبًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَضْمَنَهُ بِمِثْلِ وَزْنِهِ مِنْ جِنْسِهِ وَبِأُجْرَةِ صِيَاغَتِهِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ وَزْنُهُ مِائَةَ مِثْقَالٍ مِنْ ذَهَبٍ وَهُوَ مَصُوغٌ فَيَضْمَنُهُ بِمِائَةِ مِثْقَالٍ ذَهَبٍ وَبِأُجْرَةِ صِيَاغَتِهِ . وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ ذَهَبًا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ حَتَّى تَكُونَ وَرِقًا لِئَلَّا يُفْضِيَ إِلَى الرِّبَا ، وَالتَّفَاضُلِ فِي الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهُ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الصِّيَاغَةِ . وَالْعَمَلُ الَّذِي لَا يُدَاخِلُهُ


الرِّبَا وَلَوْ دَخَلَهُ الرِّبَا إِذَا كَانَ ذَهَبًا لَدَخَلَهُ الرِّبَا وَإِنْ كَانَ وَرِقًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُبَاعَ مِائَةُ دِينَارٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَدِرْهَمٍ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ تُبَاعَ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَدِينَارٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَحْظُورَ الِاسْتِعْمَالِ كَالْأَوَانِي فَفِي ضَمَانِ صِيَاغَتِهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي إِبَاحَةِ ادِّخَارِهِمَا . أَحَدُهُمَا : أَنَّ ادِّخَارَهَا مَحْظُورٌ وَصِيَاغَتُهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ ؛ لِأَنَّهَا مَعْصِيَةٌ لَا تُقَرُّ فَلَمْ تُضْمَنْ كَصَنْعَةِ الطُّنْبُورِ ، وَالْمِزْمَارِ لَا تُضَمَنُ بِالنَّقْصِ فِي الْإِبْطَالِ ، فَعَلَى هَذَا يَضْمَنُهُ بِمِثْلِهِ وَزْنًا مِنْ جِنْسِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ ادِّخَارَهَا مُبَاحٌ وَصِنَاعَتَهَا مَضْمُونَةٌ ، فَعَلَى هَذَا فِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهَا عَلَى مَا مَضَى .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَغْصُوبُ نَاقِصًا ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ حَيَوَانًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ غَيْرَ حَيَوَانٍ . فَإِنْ كَانَ غَيْرَ حَيَوَانٍ فَالنَّقْصُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُتَمَيِّزًا كَالْحِنْطَةِ يَتْلَفُ بَعْضُهَا ، أَوْ كَالثِّيَابِ يَتْلَفُ ثَوْبٌ مِنْهَا ، أَوْ ذِرَاعٌ مِنْ جُمْلَتِهَا فَيَكُونُ ضَامِنًا لِلنَّقْصِ بِالْمِثْلِ إِنْ كَانَ ذَا مِثْلٍ وَبِالْقِيمَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ ذَا مِثْلٍ وَيُرَدُّ الْبَاقِي بِعَيْنِهِ سَوَاءٌ كَانَ التَّالِفُ أَكْثَرَ الْمَغْصُوبِ ، أَوْ أَقَلَّهُ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ النَّقْصُ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ كَثَوْبٍ شَقَّهُ ، أَوْ إِنَاءٍ كَسَرَهُ ، أَوْ رَضَّهُ فَإِنْ كَانَ النَّاقِصُ مِنْهُ أَقَلَّ مَنَافِعِهِ أَخَذَهُ ، وَمَا يَنْقُصُ مِنْ قِيمَتِهِ إِجْمَاعًا فَيَقُومُ صَحِيحًا فَإِذَا قِيلَ مِائَةُ دِرْهَمٍ قُوِّمَ مُمَزَّقًا ، أَوْ مَكْسُورًا فَإِذَا قِيلَ سِتُّونَ دِرْهَمًا فَنَقَصَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا فَيَأْخُذُهُ مُمَزَّقًا ، أَوْ مَكْسُورًا وَيَأْخُذُ مَعَهُ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَإِنْ كَانَ النَّاقِصُ أَكْثَرَ مَنَافِعِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يَأْخُذُهُ ، وَمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ حَتَّى لَوْ كَانَ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ فَصَارَ بَعْدَ النَّقْصِ يُسَاوِي دِرْهَمًا أَخَذَهُ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا . وَهَكَذَا لَوْ تَمَزَّقَ الثَّوْبُ وَتَرَضَّضَ الْإِنَاءُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُمَا قِيمَةٌ أَخَذَ قِيمَتَهَا كَامِلَةً وَأَخَذَ الْمَرْضُوضَ ، وَالْمُمَزَّقَ ، وَلَمْ يَمْلِكْهُ الْغَاصِبُ مَعَ أَدَاءِ الْقِيمَةِ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَكُونُ الْمَالِكُ مُخَيَّرًا بَيْنَ تَسْلِيمِهِ إِلَى الْغَاصِبِ وَيَأْخُذُ مِنْهُ جَمِيعَ الْقِيمَةِ وَبَيْنَ أَنْ يُمْسِكَ بِهِ نَاقِصًا ، وَلَا أَرْشَ لَهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَكُونُ الْمَالِكُ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ وَيَرْجِعَ بِأَرْشِ نَقْصِهِ وَبَيْنَ أَنْ يُسَلِّمَهُ لِلْغَاصِبِ وَيَرْجِعَ بِجَمِيعِ قِيمَتِهِ .


وَإِذَا تَمَزَّقَ الثَّوْبُ وَتَرَضَّضَ الْإِنَاءُ حَتَّى بَلَغَ النَّقْصُ جَمِيعَ قِيمَتِهِ غُرِّمَ الْقِيمَةَ وَمَلَكَ الْمَرْضُوضَ ، وَالْمُمَزَّقَ اسْتِدْلَالًا بِأَنْ لَا يَصِيرَ جَامِعًا بَيْنَ الْبَدَلِ ، وَالْمُبْدَلِ . قَالُوا وَلِأَنَّ الْعَيْنَ إِذَا ذَهَبَ أَكْثَرُ مَنَافِعِهَا صَارَ الْبَاقِي ذَاهِبُ الْمَنْفَعَةِ فَجَازَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِجَمِيعِ الْقِيمَةِ وَلِأَنَّ الْأَقَلَّ تَبَعًا لِلْأَكْثَرِ فَلَمَّا كَانَ غَارِمًا لِأَكْثَرِ الْمَنَافِعِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَارِمًا لِأَقَلِّهَا وَدَلِيلُنَا - قَوْلُهُ تَعَالَى - : فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [ الْبَقَرَةِ : 194 ] . فَإِذَا اعْتَدَى بِاسْتِهْلَاكِ الْبَعْضِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِ بِاسْتِهْلَاكِ الْكُلِّ وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَلْزَمْ غُرْمُ جَمِيعِهِ بِاسْتِهْلَاكِ أَقَلِّهِ لَمْ يَلْزَمْ غُرْمَ جَمِيعِهِ بِاسْتِهْلَاكِ أَكْثَرِهِ قِيَاسًا عَلَى النَّقْصِ الْمُمَيَّزِ ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ تَمْيِيزُ بَعْضِهِ مُوجِبًا لِغُرْمٍ لَمْ يَكُنْ عَدَمُ تَمْيِيزِهِ مُوجِبًا لِغُرْمِ جَمِيعِهِ قِيَاسًا عَلَى النَّقْصِ الْأَقَلِّ ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَاتَيْنِ الْعِلَّتَيْنِ أَطْرَافُ الْعَبْدِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْبَدَلِ ، وَالْمُبْدَلِ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ بَدَلٌ مِنَ الْمُسْتَهْلَكِ دُونَ الْبَاقِي فَلَمْ يَكُنْ جَمْعًا بَيْنَ الْبَدَلِ ، وَالْمُبْدَلِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ الْبَاقِي مِنَ الْمَنَافِعِ بَعْدَ ذَهَابِ أَكْثَرِهَا ذَاهِبٌ فَهُوَ أَنَّهُ قَوْلٌ مَطْرُوحٌ وَعِيَانٌ مَدْفُوعٌ وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي ذَاهِبًا لَكَانَ الذَّاهِبُ بَاقِيًا وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّ الْأَقَلَّ تَبَعٌ لِلْأَكْثَرِ فَهُوَ أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ ضَمَانِ الْأَقَلِّ تَبَعًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الْأَكْثَرِ لَكَانَ دَلِيلًا عَلَى سُقُوطِ ضَمَانِ الْأَقَلِّ تَبَعًا لِسُقُوطِ الضَّمَانِ فِي الْأَكْثَرِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ أَتْلَفَ أَقَلَّ الْمَنَافِعِ لَمْ يَضْمَنْهَا ؛ لِأَنَّهُ يَضْمَنُ الْأَكْثَرَ مِنْهَا وَهَذَا قَوْلٌ مَرْدُودٌ . فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ أَخْذِهِ وَقَدْرَ نَقْصِهِ قَلِيلًا كَانَ النَّقْصُ أَوْ كَثِيرًا نَفَعَ الْبَاقِي مِنْهُ أَوْ لَمْ يَنْفَعْ ، نُظِرَ فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَثْمَانِ ضَمِنَ نَقْصَ قَدْرِ قِيمَتِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِنَقْصِهِ . وَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ تَسْلِيمِهِ إِلَى الْغَاصِبِ وَأَخْذِ قِيمَتِهِ كُلِّهَا وَبَيْنَ إِمْسَاكِهِ ، وَلَا أَرْشَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْأَثْمَانَ مُسْتَحَقَّةٌ فِي الْأَرْشِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْخُلَهَا وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ نَقْصٍ دَخَلَ عَلَى عِوَضٍ ، أَوْ مُعَوَّضٍ اسْتَحَقَّ أَرْشَهُ ، وَلَمْ يَجُزْ مَعَ إِمْكَانِ الْأَرْشِ أَنْ يَكُونَ هَدْرًا وَإِذَا كَانَ هَذَا ضَامِنًا فَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى : أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُ أُجْرَةَ صَنْعَتِهِ لَا غَيْرَ . وَالثَّانِي : يَضْمَنُ قَدْرَ النَّقْصِ مِنْ قِيمَتِهِ ذَهَبًا إِنْ كَانَ مِنْ وَرِقٍ وَوَرِقًا إِنْ كَانَ مَنْ ذَهَبٍ .

فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا ، إذا كان المغصوب فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ بَهِيمَةً . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ آدَمِيًّا فَإِنْ كَانَ بَهِيمَةً فَإِنَّهُ يَرُدُّهَا وَيَرُدُّ مَعَهَا نَقْصُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهَا سَلِيمَةً


وَنَاقِصَةً وَسَوَاءٌ كَانَ النَّقْصُ بِجِنَايَةٍ ، أَوْ حَادِثَةٍ وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْبَهِيمَةُ ذَاتَ ظَهْرٍ ، أَوْ دَرٍّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ حَيَوَانًا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ كَذَاتِ ظَهْرٍ لَا دَرَّ لَهَا مِثْلَ الْبِغَالِ ، وَالْحَمِيرِ ، أَوْ ذَاتَ دَرٍّ لَا ظَهْرَ لَهَا كَالْغَنَمِ ضَمِنَهَا بِمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا كَقَوْلِنَا ، وَإِنْ كَانَ يَنْتَفِعُ بِهَا مِنْ جِهَتَيْنِ كَظَهْرٍ وَدَرٍّ كَالْإِبِلِ ، وَالْبَقَرِ كَانَ فِي إِحْدَى عَيْنَيْهِ رُبْعُ قِيمَتِهِ وَسَائِرِ أَعْضَائِهِ مَا نَقَصَ اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَاهُ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ حَكَمَ فِي إِحْدَى عَيْنَيْ بَقَرَةٍ بِرُبْعِ قِيمَتِهَا وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ مَا لَمْ تُضْمَنْ أَعْضَاؤُهُ بِمُقَدَّرٍ لَمْ تُضْمَنْ عَيْنُهُ بِمُقَدَّرٍ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَا دَلِيلَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهَا قَضِيَّةٌ وَافَقَتِ الْحُكُومَةُ فِيهَا رُبْعَ الْقِيمَةِ .

فَصْلٌ : وَقَالَ مَالِكٌ : إِذَا قَطَعَ ذَنَبَ حِمَارِ الْقَاضِي كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ قِيمَتِهِ وَلَوْ كَانَ لِغَيْرِ الْقَاضِي لَزِمَهُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ فِي قَطْعِ ذَنَبِ حِمَارِهِ غَضَاضَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَوَهَنٌ فِي الدِّينِ وَحَسْبُكَ بِقُبْحِ هَذَا الْقَوْلِ دَلِيلًا عَلَى فَسَادِهِ وَلَوْ جَازَ أَنْ يَجِبَ فِي ذَنَبِ حِمَارِهِ جَمِيعَ الْقِيمَةِ لَوَجَبَ ذَلِكَ فِي تَحْرِيقِ ثِيَابِهِ ، وَالتَّعَدِّي فِي قُمَاشِهِ وَلَتَضَاعَفَتِ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ عَلَى الْجِنَايَةِ عَلَى غَيْرِهِ وَلَكَانَ كُلُّ مَا اخْتَصَّ بِهِ زَائِدًا فِي الْحُكْمِ عَلَى مَنْ سِوَاهُ وَفِي اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ وَغَيْرَهُ فِي ضَمَانِ مَا اسْتَهْلَكَهُ ، أَوْ جَنَى عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَغَيْرُهُ عَلَى سَوَاءٍ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى حِمَارِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْآدَمِيُّ وَالْعَبْدُ الَّذِي يُضْمَنُ بِالْجِنَايَةِ وَالْيَدِ المغصوب فَلِضَمَانِ نَقْصِهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُضْمَنَ بِالْيَدِ وَحْدَهَا . وَالثَّانِي : أَنْ يُضْمَنَ بِالْجِنَايَةِ وَحْدَهَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُضْمَنَ بِالْيَدِ ، وَالْجِنَايَةِ مَعًا . فَأَمَّا الْحَالَةُ الْأَوْلَى وَهُوَ أَنْ يُضْمَنَ بِالْيَدِ دُونَ الْجِنَايَةِ فَصُورَتُهُ أَنْ يَغْصِبَ عَبْدًا فَيَحْدُثُ بِهِ مَرَضٌ يُذْهِبُ مِنْهُ عَيْنَهُ ، أَوْ تَتَآكَلُ مِنْهُ يَدُهُ ، أَوْ يُنْهَكُ بَدَنُهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى غَاصِبِهِ بِمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ سَوَاءٌ كَانَ النَّقْصُ فِي عُضْوٍ مُقَدَّرٍ بِالْأَرْشِ كَالْعَيْنِ ، وَالْيَدِ ، أَوْ غَيْرِ مُقَدَّرٍ كَنُحُولِ الْجَسَدِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُلْحَقًا فِي ضَمَانِ الْيَدِ بِالْبَهَائِمِ دُونَ الْأَحْرَارِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا بِقَدْرِ النَّقْصِ كَالْبَهَائِمِ دُونَ الْأَحْرَارِ وَسَوَاءٌ زَادَ عَلَى ضَمَانِ الْجِنَايَةِ ، أَوْ نَقَصَ حَتَّى لَوْ ذَهَبَتْ إِحْدَى عَيْنَيْهِ فَنَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ الثُّلُثُ لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْهُ وَلَوْ نَقَصَهُ الثُّلْثَانِ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى أَقَلَّ مِنْهُ ، وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ ضَمَانِ الْيَدِ وَضَمَانِ الْجِنَايَةِ فِي التَّقْدِيرِ وَهُوَ خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : وَهُوَ أَنْ يَضْمَنَهُ بِالْجِنَايَةِ المغصوب دُونَ الْيَدِ فَصُورَتُهُ : أَنَّهُ يَرْمِي عَبْدًا فَيَقْلَعُ إِحْدَى عَيْنَيْهِ ، أَوْ يَقْطَعُ يَدَهُ ، أَوْ يَجْرَحُ جَسَدَهُ فَكُلُّ مَا لَمْ يَتَقَدَّرْ مِنَ الْحُرِّ وَكَانَ فِيهِ حُكُومَةٌ


كَالَّذِي يَتَقَدَّرُ مِنَ الْمُوَضَّحَةِ وَشِجَاجِ الرَّأْسِ وَيَتَقَدَّرُ مِنَ الْجَائِفَةِ مِنْ جِرَاحِ الْجَسَدِ فَفِيهِ مِنَ الْعَبْدِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ أَصْلٌ فِيهَا لِلْحُرِّ فِي اعْتِبَارِهِ مِنْ نَقْصِ دِيَتِهِ . وَكُلُّ مَا كَانَ مُقَدَّرًا فِي الْحُرِّ مِنْ دِيَتِهِ كَانَ مُقَدَّرًا فِي الْعَبْدِ مِنْ قِيمَتِهِ ، فَعَلَى هَذَا فِي يَدَيِ الْعَبْدِ قِيمَتُهُ ؛ لِأَنَّ فِي يَدَيِ الْحُرِّ دِيَتُهُ وَفِي إِحْدَى يَدَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّ فِي إِحْدَى يَدَيِ الْحُرِّ نِصْفُ دِيَتِهِ وَفِي إِحْدَى أَصَابِعِهِ عُشْرُ قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّ فِي إِحْدَى أَصَابِعِ الْحُرِّ عُشْرُ دِيَتِهِ ثُمَّ كَذَلِكَ فِي الشِّجَاجِ وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُضْمَنُ الْعَبْدُ بِمُقَدَّرٍ إِلَّا فِي الشِّجَاجِ الْأَرْبَعَةِ الْمُوَضَّحَةِ ، وَالْمُنَقِّلَةِ ، وَالْمَأْمُومَةِ ، وَالْجَائِفَةِ وَهُوَ مَضْمُونٌ فِيمَا سِوَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ بِمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ . وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِ أَنَّ مَا تُقَدَّرُ فِي جِرَاحِ الْحُرِّ تُقَدَّرُ فِي جِرَاحِ الْعَبْدِ قِيَاسًا عَلَى الشِّجَاجِ الْأَرْبَعِ وَلِأَنَّ مَا تَقَدَّرَتِ الْجِنَايَةُ فِي شِجَاجِهِ تَقَدَّرَتِ الْجِنَايَةُ فِي أَطْرَافِهِ كَالْحُرِّ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَيْهِ مَضْمُونَةٌ بِمُقَدَّرٍ مِنْ قِيمَتِهِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْعَبْدَ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ وَإِنْ كَانَتْ بِجَمِيعِ قِيمَتِهِ كَالْجِنَايَةِ عَلَى يَدَيْهِ فِيهَا جَمِيعُ قِيمَتِهِ وَكَالْجِنَايَةِ عَلَى ذَكَرِهِ تُوجِبُ جَمِيعَ قِيمَتِهِ وَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهُ بِالْجِنَايَةِ أَضْعَافًا وَهَكَذَا لَوْ أَوْجَبَتِ الْجِنَايَةُ فِيمَا اسْتَحَقَّهَا عَلَى الْجَانِي ، وَالْعَبْدُ عَلَى مِلْكِهِ فَقَطْعُ ذَكَرِهِ وَأُنْثَيَيْهِ يُوجِبُ كُلٌّ مِنْهُمَا قِيمَتَهُ كَامِلَةً . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ نِصْفَ الْقِيمَةِ فَمَا دُونُ أَخْذِهَا مِنَ الْعَبْدِ عَلَى مِلْكِهِ وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ مَلَكَ الْجَانِي بِهَا الْعَبْدَ وَعَلَيْهِ جَمِيعُ قِيمَتِهِ ، وَلَا يُوجِبُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةٍ وَاحِدَةٍ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُضْمَنَ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ كَالْأَمْوَالِ ، قَالَ وَلِأَنَّ فِي غُرْمِ الْقِيمَةِ وَرَدِّ الْعَبْدِ جَمْعًا بَيْنَ الْبَدَلِ ، وَالْمُبْدَلِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ . وَدَلِيلُنَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْجَانِيَ لَا يَمْلِكُ الْعَبْدَ بِجِنَايَتِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا قَدْ تُوجِبُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ . فَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْجَانِيَ لَا يَمْلِكُ الْعَبْدَ بِجِنَايَتِهِ فَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يُمْلَكْ بِهِ غَيْرُ الْعَبْدِ لَمْ يُمْلَكْ بِهِ الْعَبْدُ كَالْغَصْبِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُمْلَكْ بِالْجِنَايَةِ عَلَى نِصْفِهِ لَمْ يُمْلَكْ بِالْجِنَايَةِ عَلَى أَكْثَرِهِ كَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ ، وَالْمَكَاتَبِ . وَلِأَنَّهَا جِنَايَةٌ عَلَى عَبْدٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُمْلَكَ بِهَا قِيَاسًا عَلَى مَنْ لَمْ يَزِدْ أَرْشُهُ عَلَى النِّصْفِ ، وَلِأَنَّ جَمَاعَةً لَوِ اشْتَرَكُوا فِي الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ فِي أَكْثَرِ قِيمَتِهِ لَمْ يَمْلِكُوهُ فَكَذَلِكَ الْوَاحِدُ . وَتَحْرِيرُهُ : أَنَّ كُلَّ جِنَايَةٍ لَا تَكُونُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ عِنْدَ الِاشْتِرَاكِ لَا تَكُونُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ قِيَاسًا عَلَى نَقْصٍ مِنَ النِّصْفِ وَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهَا قَدْ تُوجِبُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَقَدَّرَتِ الْجِنَايَةُ فِي أَطْرَافِهِ جَازَ أَنْ تَزِيدَ عَلَى ضَمَانِ نَفْسِهِ كَالْحُرِّ . وَلِأَنَّ كُلَّ مَا ضُمِنَ


بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْحُرِّ ضُمِنَ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ قِيَاسًا عَلَى مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى ضَمَانِ النَّفْسِ . وَلِأَنَّ كُلَّ جِنَايَةٍ أَوْجَبَتِ الزِّيَادَةَ عَلَى ضَمَانِ النَّفْسِ فِي الْحُرِّ أَوْجَبَتِ الزِّيَادَةَ عَلَى ضَمَانِ النَّفْسِ فِي الْعَبْدِ قِيَاسًا عَلَى تَكْرَارِ الْجِنَايَةِ بَعْدَ الِانْدِمَالِ وَلِهَذِهِ الْمَعَانِي امْتُنِعَ أَنْ يُلْحَقَ بِضَمَانِ الْأَمْوَالِ ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْبَدَلِ ، وَالْمُبْدَلِ فَخَطَّأٌ ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ بَدَلٌ مِنَ الْأَطْرَافِ الْفَانِيَةِ وَلَيْسَ بِبَدَلٍ مِنَ النَّفْسِ الْبَاقِيَةِ كَالْحُرِّ الَّذِي تُؤْخَذُ دِيَاتُ أَطْرَافِهِ مَعَ بَقَاءِ نَفْسِهِ ، وَلَا يَكُونُ جَمْعًا بَيْنَ بَدَلٍ وَمُبْدَلٍ . وَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : وَهُوَ أَنْ يَضْمَنَهُ بِالْيَدِ ، وَالْجِنَايَةِ جَمِيعًا فَصُورَتُهَا أَنْ يَغْصِبَ عَبْدًا فَيَقْطَعُ يَدَهُ فَلَا يَخْلُو حَالُ قَاطِعِهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ الْغَاصِبُ ، أَوْ غَيْرُهُ ، فَإِنْ قَطَعَهَا الْغَاصِبُ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ ضَمَانِ الْيَدِ ، أَوْ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّ إِحْدَى الْيَدَيْنِ مَضْمُونَةٌ فِي الْجِنَايَةِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ وَفِي الْغَصْبِ بِمَا نَقَصَ مِنَ الْقِيمَةِ ، فَإِذَا كَانَ النَّاقِصُ مِنْ قِيمَتِهِ أَكْثَرُ مِنَ النِّصْفِ ضَمِنَهُ ضَمَانَ الْغَصْبِ ؛ لِأَنَّهُ لَوِ انْفَرَدَ بِالْغَصْبِ مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ لَضَمِنَ جَمِيعَ نِصْفِهِ ، فَإِذَا صَارَ مَعَ الْغَصْبِ جَانِيًا فَأَوْلَى أَنْ يَضْمَنَهُ ، وَإِنْ كَانَ النَّاقِصُ مِنْ قِيمَتِهِ أَقَلُّ مِنَ النِّصْفِ ضَمِنَهُ ضَمَانَ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوِ انْفَرَدَ بِالْجِنَايَةِ مِنْ غَيْرِ غَصْبٍ ضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهِ فَإِذَا صَارَ مَعَ الْجِنَايَةِ غَاصِبًا فَأَوْلَى أَنْ يَضْمَنَهُ ، وَإِنْ كَانَ الْجَانِي غَيْرُ الْغَاصِبِ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْغَاصِبِ بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ ، أَوْ ضَمَانِ الْغَصْبِ وَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْجَانِي ضَمَانَ الْجِنَايَةِ دُونَ الْغَصْبِ وَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الرُّجُوعِ عَلَى الْجَانِي ، أَوِ الْغَاصِبِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْجِنَايَةِ وَضَمَانِ الْغَصْبِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَسَاوَيَا فَيَكُونُ النَّاقِصُ مِنْ قِيمَتِهِ بِقَطْعِ إِحْدَى يَدَيْهِ النِّصْفَ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي الرُّجُوعِ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ فَإِنْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ رَجَعَ الْغَاصِبُ بِهِ عَلَى الْجَانِي وَإِنْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْجَانِي لَمْ يَرْجِعِ الْجَانِي بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ أَكْثَرُ مِنْ ضَمَانِ الْغَصْبِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ النَّاقِصُ مِنْ قِيمَتِهِ الثُّلُثُ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِضَمَانِ الْجِنَايَةِ وَهُوَ نِصْفُ الْقِيمَةِ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ فَلَوْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ رَجَعَ الْغَاصِبُ بِهِ عَلَى الْجَانِي وَإِنْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْجَانِي لَمْ يَرْجِعْ بِهِ الْجَانِي عَلَى الْغَاصِبِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ ضَمَانُ الْغَصْبِ أَكْثَرَ مِنْ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ مِثْلَ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ قِيمَتِهِ الثُّلُثَانِ فَإِذَا أَرَادَ الرُّجُوعَ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِثُلُثَيِ الْقِيمَةِ وَهُوَ ضَمَانُ الْغَصْبِ


وَرَجَعَ الْغَاصِبُ عَلَى الْجَانِي بِنِصْفِ الْقِيمَةِ وَهُوَ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ وَإِنْ زَادَ الرُّجُوعُ عَلَى الْجَانِي رَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ ضَمَانَ الْجِنَايَةِ وَرَجَعَ بِالسُّدُسِ الزَّائِدِ عَلَيْهِ بِضَمَانِ الْغَصْبِ عَلَى الْغَاصِبِ لِاخْتِصَاصِهِ بِضَمَانِهِ دُونَ الْجَانِي فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَصَّ لِعَبْدِهِ لِكَوْنِ الْجَانِي عَبْدًا فَاقْتَصَّ مِنْ إِحْدَى يَدَيْهِ قَوَدًا بَرِئَ الْغَاصِبُ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ لِاسْتِيفَاءِ السَّيِّدِ لَهُ بِالْقِصَاصِ وَبَقِيَ عَلَيْهِ السُّدُسُ الزَّائِدُ إِلَّا بِضَمَانِ الْغَصْبِ فَيَرْجِعُ بِهِ السَّيِّدُ عَلَى الْغَاصِبِ وَحْدَهُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا غَصَبَ عَبْدًا فَجَنَى الْعَبْدُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ جِنَايَةَ عَمْدٍ تَسْتَوْعِبُ جَمِيعَ قِيمَتِهِ فَالْغَاصِبُ ضَامِنٌ لِمَا يَسْتَوْفِي مِنْ جِنَايَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ فِي يَدِهِ وَسَوَاءٌ اسْتَوْفَى ذَلِكَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ أَوْ فِي يَدِ سَيِّدِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالْجِنَايَةِ مُسْتَحِقًّا مِنْ يَدِ سَيِّدِهِ بِمَا هُوَ مَضْمُونٌ عَلَى غَاصِبِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ حَالَتَانِ : حَالَةٌ يَعْفُو وَحَالَةٌ يَسْتَوْفِي فَإِنْ عَفَا خَلَصَ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ وَبَرِئَ الْغَاصِبُ مِنْ ضَمَانِ جِنَايَتِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِأَرْشِهَا ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ لِغَيْرِهِ فَسَقَطَ بِعَفْوِهِ وَإِنِ اسْتَوْفَى الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ حَقَّهُ ، وَلَمْ يَعْفُو ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ قَوَدًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ غُرْمًا فَإِنِ اسْتَوْفَاهُ قَوَدًا ضَمِنَ الْغَاصِبُ مَا أَخَذَ بِالْقِصَاصِ فَإِنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي نَفْسِهِ ضَمِنَ جَمِيعَ قِيمَتِهِ وَإِنْ كَانَ فِي طَرَفِهِ ضَمِنَ قَدْرَ نَقْصِهِ سَوَاءٌ كَانَ النَّقْصُ مِمَّا تَتَعَدَّدُ فِيهِ الدِّيَةُ ، أَوْ لَا . لِأَنَّ الطَّرَفَ مَضْمُونٌ بِالْيَدِ دُونَ الْجِنَايَةِ فَوَجَبَ أَنْ يُضْمَنَ بِالنَّقْصِ دُونَ الْقَدْرِ وَإِنِ اسْتَوْفَاهُ غُرْمًا ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَدْ عَادَ إِلَى يَدِ السَّيِّدِ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَلَا يَخْلُو أَرْشُ الْجِنَايَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ . إِمَّا أَنْ يَزِيدَ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ لَمْ يَزِدْ عَلَى قِيمَتِهِ كَانَ الْغَاصِبُ مَأْخُوذًا بِغُرْمِهَا لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِيَخْلُصَ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ ، وَلَا مَعْنَى لِبَيْعِهِ فِي الْجِنَايَةِ ثُمَّ غُرْمِ قِيمَتِهِ لِلسَّيِّدِ ؛ لِأَنَّ إِمْكَانَ رَدِّهِ يَمْنَعُ مِنْ أَخْذِ السَّيِّدِ لِقِيمَتِهِ فَإِنْ كَانَ الْأَرْشُ زَائِدًا عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ فَفِي قَدْرِ مَا يُؤْخَذُ الْغَاصِبُ بِغُرْمِهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي السَّيِّدِ إِذَا مُنِعَ مِنْ بَيْعِ عَبْدِهِ الْجَانِي هَلْ يَلْزَمُهُ قَدْرُ قِيمَتِهِ ، أَوْ جَمِيعُ أَرْشِ جِنَايَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ مَأْخُوذٌ بِفِكَاكِ الْعَبْدِ فَصَارَ مَانِعًا مِنْ بَيْعِهِ بِبَدَلِ الْجِنَايَةِ فَكَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْغَاصِبَ مَأْخُوذٌ بِغُرْمِ قِيمَتِهِ لَا غَيْرَ ، وَلَا شَيْءَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ سِوَاهَا وَيَخْلُصُ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْغَاصِبَ مَأْخُوذٌ بِغُرْمِ جَمِيعِ الْأَرْشِ وَإِنْ كَانَتْ قَيَمًا لِيَخْلُصَ الْعَبْدُ


لِسَيِّدِهِ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْعَبْدُ قَدْ عَادَ إِلَى يَدِ سَيِّدِهِ فَلَا مُطَالَبَةَ لِلسَّيِّدِ عَلَى الْغَاصِبِ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِغَيْرِهِ ، وَلَا مُطَالَبَةَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَلَى الْغَاصِبِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْعَبْدِ فِي رَقَبَتِهِ وَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ الْعَبْدَ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهُ أَرْشَ جِنَايَتِهِ فَإِذَا أَخَذَهُ فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَأْخُذَ الْغَاصِبَ بِفِكَاكِهِ وَرَدِّهِ فَإِنْ سَبَقَ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ إِلَى بَيْعِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ ثَمَنِهِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ وَعَلَى الْغَاصِبِ أَنْ يَغْرَمَ لِلسَّيِّدِ قِيمَتَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَخْلِصَهُ مِنْ مُشْتَرِيهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهُ بِبَيْعِ الْحَاكِمِ لَهُ وَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا لَمْ يَلْزَمْهُ النُّزُولُ عَنْهُ .

فَصْلٌ : وَلَوْ غَصَبَ عَبْدًا فِي عُنُقِهِ جِنَايَةٌ لَمْ يُفْدَ مِنْهَا فَاسْتُوفِيَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تُسْتَوْفَى غُرْمًا ، أَوْ قَوَدًا فَإِنِ اسْتُوفِيَتْ غُرْمًا بِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِهَا ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْغَاصِبِ فِيمَا بِيعَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ مِنْ يَدِ السَّيِّدِ فَصَارَ كَاسْتِحْقَاقِهِ بِغَيْرِ جِنَايَةٍ وَإِنِ اسْتُوفِيَتْ قَوَدًا ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ " يَكُونَ فِي نَفْسٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِي طَرَفٍ ، فَإِنْ كَانَتْ فِي نَفْسٍ سَقَطَ عَنْهُ ضَمَانُ الْغَصْبِ وَكَانَ الْقَوَدُ مِنْهُ كَقَبْضِ السَّيِّدِ لَهُ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي طَرَفٍ سَقَطَ عَنْهُ مِنْ ضَمَانِهِ الْأَرْشُ الْمُقَدَّرُ فِي طَرَفِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُقَوَّمٌ شَرْعًا بِمُقَدَّرٍ فِيهِ فَإِنْ كَانَ النَّاقِصُ مِنْ قِيمَتِهِ أَكْثَرُ مِنَ الْمُقَدَّرِ ضَمِنَ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ ، مِثَالُهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ إِحْدَى يَدَيْهِ الْمُقَدَّرِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ فَتَنْقُصُ ثُلُثَا قِيمَتِهِ فَيَلْزَمُ إِذَا رَدَّهُ أَنْ يَغْرَمَ سُدُسَ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةُ نَقْصٍ حَدَثَتْ فِي يَدِهِ .

فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَ قَدْ جَنَى فِي يَدِ سَيِّدِهِ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ ثُمَّ جَنَى فِي يَدِ الْغَاصِبِ جِنَايَةً بِقَدْرِ قِيمَتِهِ العبد فَصَارَتِ الْجِنَايَتَانِ فِي رَقَبَتِهِ وَهُمَا ضِعْفُ قِيمَتِهِ فَيَشْتَرِكَانِ فِي الرَّقَبَةِ وَيَصِيرُ حَقٌّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَلِّقٌ بِنِصْفِ الرَّقَبَةِ حُكْمًا ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ الثَّانِي فِي يَدِ الْغَاصِبِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْغَاصِبِ وَخَلَاصُهُ بِهِ وَفِي قَدْرِ مَا يُخَلِّصُهُ بِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : نِصْفُ الْقِيمَةِ . وَالثَّانِي : جَمِيعُ الْأَرْشِ وَهُوَ جَمِيعُ الْقِيمَةِ ، وَالنِّصْفُ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ الْأَوَّلُ فِي يَدِ السَّيِّدِ لَيْسَ يُلْزَمُ خَلَاصَهُ فَإِنْ سَلِمَ الْعَبْدُ مِنْ جِنَايَةِ الثَّانِي بِإِفْتَاكِ الْغَاصِبِ لَهُ سَلِمَ كُلُّهُ لِلْأَوَّلِ بِخَلَاصِهِ مِنْ جِنَايَةِ الثَّانِي مَعَ بَقَائِهِ عَلَى مِلْكِ السَّيِّدِ وَلِلْأَوَّلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ أَرْشِهِ مِنْ كُلِّ رَقَبَتِهِ ، وَالْغَاصِبُ بَرِيءٌ مِنْهَا فَيَتَوَصَّلُ بِالْجِنَايَتَيْنِ بِالْغَصْبِ إِلَى اسْتِيفَاءِ جَمِيعِ الْأَرْشَيْنِ عَلَى مَا وَصَفْنَا وَلَوْلَاهُ لَوُكِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى نِصْفِ حَقِّهِ لِاشْتِرَاكِهِمَا بِالْأَرْشَيْنِ فِي رَقَبَتِهِ فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَعْدَ الْجِنَايَتَيْنِ مَاتَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ضَمِنَ الْغَاصِبُ جَمِيعَ قِيمَتِهِ وَكَانَتْ بَيْنَ الْأَوَّلِ ، وَالثَّانِي نِصْفَيْنِ ثُمَّ عَلَى الْغَاصِبِ أَنْ يَغْرَمَ لِلسَّيِّدِ نِصْفَ الْقِيمَةِ وَهُوَ مَا اسْتَحَقَّهُ الثَّانِي مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِذَلِكَ


لِحُدُوثِهِ فِي يَدِهِ فَإِذَا أَخَذَهُ السَّيِّدُ كَانَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَخْتَصَّ بِأَخْذِهِ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْعَبْدِ الَّذِي اسْتَحَقَّ الْجِنَايَةَ فِي رَقَبَتِهِ وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ إِذَا اسْتَحَقَّ لِلْأَوَّلِ ذَلِكَ مِنْ يَدِهِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَمَانِهِ لَا مِنْ ضَمَانِ الْغَاصِبِ فَيَتَوَصَّلُ الْأَوَّلُ لِمَوْتِهِ مَغْصُوبًا إِلَى اسْتِيفَاءِ جَمِيعِ أَرْشِهِ دُونَ الثَّانِي .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَتَلَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ الْمَغْصُوبَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ كَانَ قَبْضًا وَبَرِئَ الْغَاصِبُ مِنْ ضَمَانِهِ وَلَوْ قَطَعَ إِحْدَى يَدَيْهِ كَانَ اسْتِيفَاءً لِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مَنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ الْمُقَدَّرَةِ فِي إِحْدَى الْيَدَيْنِ ، أَوْ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ وَكَانَ مَا بَقِيَ بَعْدَ أَقَلِّهَا مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ فَإِنْ نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ بِالْقَطْعِ ثُلُثُهَا أَخَذَ الْغَاصِبُ بَعْدَ رَدِّهِ مَقْطُوعًا بِغُرْمِ السُّدُسِ مِنْ قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ زَائِدٌ فِي يَدِهِ وَلَوْ أَعْتَقَهُ السَّيِّدُ كَانَ عِتْقُهُ قَبْضًا يَبْرَأُ الْغَاصِبُ بِهِ مِنْ ضَمَانِهِ وَلَوْ كَاتَبَهُ لَمْ يَبْرَأْ بِالْكِتَابَةِ مِنْ ضَمَانِهِ إِلَّا أَنْ يُعْتَقَ بِالْأَدَاءِ فَيَبْرَأُ وَكَذَلِكَ لَوْ دَبَّرَهُ لَمْ يُبَرِّئْهُ التَّدْبِيرُ إِلَّا أَنْ يُعْتَقَ بِمَوْتِ السَّيِّدِ فَيَبْرَأُ بِالْعِتْقِ وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ إِذَا غُصِبَتْ ثُمَّ أُعْتِقَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِمَوْتِ السَّيِّدِ بَرِأَ الْغَاصِبُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا جَنَى السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ فَمَثَّلَ بِهِ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ وَكَانَتْ جِنَايَتُهُ هَدْرًا وَقَالَ مَالِكٌ : يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِالْمِثْلِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِهِ عُتِقَ عَلَيْهِ ، قَالُوا وَلِأَنَّهُ فَعَلَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُوجِبٌ ؛ مُنِعَ مَا كَانَ لَهُ ، كَالْقَاتِلِ لِمُوَرِّثِهِ يُمْنَعُ مِنْ مِيرَاثِهِ . وَدَلِيلُنَا : أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمُؤْلِمَةَ لَا تُوجِبُ الْعِتْقَ كَالضَّرْبِ . وَلِأَنَّ كُلَّ جِنَايَةٍ لَا تَبِينُ بِهَا الزَّوْجَةُ لَا يُعْتَقُ بِهَا الْعَبْدُ كَالَّتِي لَا مُثْلَةَ فِيهَا وَلِأَنَّ كُلَّ مِلْكٍ لَا يَزُولُ بِجِنَايَةٍ لَا مُثْلَةَ فِيهَا لَمْ يَزُلْ بِجِنَايَةٍ فِيهَا مُثْلَةٌ كَالزَّوْجَيْنِ . وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ تُوجِبُ إِمَّا غُرْمًا وَإِمَّا قَوَدًا وَلَيْسَ الْعِتْقُ وَاحِدًا مِنْهُمَا ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ مَعَ ضَعْفِ طَرِيقِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ التَّغْلِيظُ ، وَالزَّجْرُ كَمَا قَالَ مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى تَعْلِيقِ عِتْقِهِ بِالْمُثْلَةِ فَيُعْتَقُ بِهَا وَإِنْ كَانَتْ مَحْظُورَةً . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ فِعْلَهُ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُوجِبٌ مَنَعَ مَا كَانَ لَهُ فَفَاسِدٌ بِمَا لَا مُثْلَةَ فِيهِ مِنَ الْجِرَاحِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا غَصَبَ حُرًّا صَغِيرًا فَمَاتَ فِي يَدِهِ حَتْفَ أَنْفِهِ ، أَوْ لَسَعَتْهُ حَيَّةٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ وَإِنْ لَسَعَتْهُ حَيَّةٌ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ دِيَتِهِ . وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ


الْحُرَّ لَا يُضْمَنُ بِالْيَدِ كَالْكَبِيرِ وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يُضْمَنْ بِالْمَوْتِ كَبِيرًا لَمْ يُضْمَنْ بِهِ صَغِيرًا كَالْمَيِّتِ حَتْفَ أَنْفِهِ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ غَصَبَ جَارِيَةً تُسَاوِي مِائَةً فَزَادَتْ فِي يَدِهِ بِتَعْلِيمٍ مِنْهُ حَتَى صَارَتْ تُسَاوِي أَلْفَا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ غَصَبَ جَارِيَةً تُسَاوِي مِائَةً فَزَادَتْ فِي يَدِهِ بِتَعْلِيمٍ مِنْهُ ، أَوْ لِسِمَنٍ وَاعْتِنَاءٍ مِنْ مَالِهِ حَتَى صَارَتْ تُسَاوِي أَلْفَا ثُمَّ نَقَصَتْ حَتَى صَارَتْ تُسَاوِي مِائَةً فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا وَتِسْعَمِائَةٍ مَعَهَا كَمَا تَكُونُ لَهُ لَوْ غَصَبَهُ إِيَّاهَا وَهِيَ تُسَاوِي أَلْفَا فَنَقَصَتْ تِسْعَمَائَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَغْصِبَهَا زَائِدَةً فَتَنْقُصُ ثُمَّ تَزِيدُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَغْصِبَهَا نَاقِصَةً فَتَزِيدُ ثُمَّ تَنْقُصُ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ وَصُورَتُهَا فِيمَنْ غَصَبَ أَمَةً تُسَاوِي مِائَةً فَزَادَتْ بِبُرْءٍ ، أَوْ سِمَنٍ ، أَوْ تَعْلِيمِ قُرْآنٍ ، أَوْ خَطٍّ حَتَّى صَارَتْ تُسَاوِي أَلْفًا ثُمَّ نَقَصَتْ وَعَادَتْ إِلَى حَالِهَا حِينَ غُصِبَتْ لِعَوْدِ الْمَرَضِ ، وَالْهُزَالِ وَنِسْيَانِ مَا عَلِمَتْ مِنَ الْخَطِّ ، وَالْقُرْآنِ حَتَّى صَارَتْ تُسَاوِي مِائَةً فَإِنَّهُ يَرُدُّهَا وَيَرُدُّ مَعَهَا تِسْعَمِائَةٍ لِنَقْصِ الزِّيَادَةِ الْحَادِثَةِ فِي يَدِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَرُدُّهَا ، وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ لِنَقْصِ مَا زَادَ فِي يَدِهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ رَدَّ الْمَغْصُوبَ كَمَا أَخَذَهُ فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَلْزَمَهُ غُرْمٌ قِيَاسًا عَلَيْهِ لَوْ لَمْ تَحْدُثِ الزِّيَادَةُ فِي يَدِهِ . قَالَ : وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ قَدْ تَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ زِيَادَةُ السُّوقِ وَزِيَادَةُ الْعَيْنِ فَلَمَّا كَانَتْ زِيَادَةُ السُّوقِ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ عَلَى الْغَاصِبِ إِذَا نَقَصَتْ كَانَتْ زِيَادَةُ الْعَيْنِ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ عَلَى الْغَاصِبِ إِذَا نَقَصَتْ وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّهَا زِيَادَةٌ حَدَثَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَوَجَبَ أَلَّا يَضْمَنَهَا مَعَ بَقَاءِ الْمَغْصُوبِ قِيَاسًا عَلَى زِيَادَةِ السُّوقِ طَرْدًا وَعَلَى تَلَفِ الْمَغْصُوبِ عَكْسًا وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ إِنَّمَا يُسْتَحَقُّ فِيمَا غُصِبَ بِالْيَدِ دُونَ مَا لَمْ يُغْصَبْ وَإِنْ صَارَتْ تَحْتَ الْيَدِ أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ شَاةً دَخَلَتْ دَارَ رَجُلٍ لَمْ يَضْمَنْهَا وَإِنْ صَارَتْ تَحْتَ يَدِهِ وَهَكَذَا لَوْ أَطَارَتِ الرِّيحُ ثُوبَا إِلَى دَارِهِ لِحُصُولِ ذَلِكَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ وَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ الْحَادِثَةُ فِي يَدِهِ . وَدَلِيلُنَا هُوَ : أَنَّهُ نَقْصُ عَيْنٍ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ قِيَاسًا عَلَى نَقْصِهَا عَنْ حَالِ غَصْبِهَا بِأَنْ يَغْصِبَهَا صَحِيحَةً فَتَمْرَضُ ، أَوْ سَمِينَةً فَتَهْزِلُ وَلِأَنَّهُ لَوْ بَاعَهَا بَعْدَ حُدُوثِ الزِّيَادَةِ بِهَا ضَمِنَ نَقْصَهَا . كَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَبِعْهَا . وَيُحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ كُلَّ عَيْنٍ ضُمِنَتْ بِالْغَصْبِ ضُمِنَ مَا تَلِفَ مِنْ زِيَادَتِهَا فِي الْغَصْبِ قِيَاسًا عَلَى تَلَفِهَا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي . وَالثَّانِي : أَنَّ كُلَّ زِيَادَةٍ ضَمِنَهَا الْغَاصِبُ لَوْ تَلِفَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ضَمِنَهَا وَإِنْ تَلِفَتْ فِي


يَدِ نَفْسِهِ قِيَاسًا عَلَى تَلَفِهَا بِجِنَايَتِهِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ عَيْنٍ يَضْمَنُهَا الْغَاصِبُ بِجِنَايَتِهِ فَضَمَانُهُ لَازِمٌ ، وَإِنْ تَلْفِتْ بِغَيْرِ جِنَايَتِهِ كَالْأَصْلِ ؛ وَلِأَنَّ مَا ضُمِنَ أَصْلُهُ بِالتَّعَدِّي ضُمِنَتْ زِيَادَتُهُ فِي حَالِ التَّعَدِّي قِيَاسًا عَلَى الصَّيْدِ إِذَا زَادَ فِي يَدِ الْمُحْرِمِ ثُمَّ نَقَصَ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُوَافِقُ عَلَى ضَمَانِ نَقْصِهِ . فَالْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى مَا لَمْ يُرَدَّ بِعِلَّةٍ أَنَّهُ رَدَّهُ مِثْلَ مَا غَصَبَهُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بُطْلَانُهُ بِحُدُوثِ الزِّيَادَةِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي . وَالثَّانِي : أَنَّ مَعْنَى الْأَصْلِ عَدَمُ الزِّيَادَةِ التَّابِعَةِ لِلْأَصْلِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى زِيَادَةِ السُّوقِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ زِيَادَةَ السُّوقِ إِذَا نَقَصَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي لَمْ يَضْمَنْهَا إِذَا نَقَصَتْ فِي يَدِ نَفْسِهِ وَلَمَّا ضَمِنَ زِيَادَةَ الْعَيْنِ إِذَا نَقَصَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ضَمِنَهَا إِذَا نَقَصَتْ فِي يَدِ نَفْسِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَضْمَنْ زِيَادَةَ السُّوقِ إِذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً وَقْتِ الْغَصْبِ لَمْ يَضْمَنْهَا إِذَا حَدَثَتْ بَعْدَ الْغَصْبِ وَلَمَّا ضَمِنَ زِيَادَةَ الْعَيْنِ إِذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً وَقْتَ الْغَصْبِ ضَمِنَهَا إِذَا حَدَثَتْ بَعْدَ الْغَصْبِ . ثُمَّ الْفَرْقُ بَـيْنَ زِيَادَةِ السُّوقِ ، وَالْعَيْنِ عَلَى أُصُولِ الْمَذْهَبِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ لَهُ عَلَى زِيَادَةِ الْعَيْنِ يَدًا وَلَيْسَ لَهُ عَلَى زِيَادَةِ السُّوقِ يَدٌ فَضَمِنَ زِيَادَةَ الْعَيْنِ بِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهَا ، وَلَمْ يَضْمَنْ زِيَادَةَ السُّوقِ لِارْتِفَاعِ يَدِهِ عَنْهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ زِيَادَةَ الْعَيْنِ يَكُونُ فَوَاتُهَا نَقْصًا مَضْمُونًا لِمَنْعِ الْمُشْتَرِي بِهَا مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَزِيَادَةُ السُّوقِ لَا يَكُونُ فَوَاتُهَا مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ نَقْصًا مَضْمُونًا ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوِ ابْتَاعَ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفًا فَنَقَصَتْ قِيمَتُهَا بِالسُّوقِ حَتَّى صَارَتْ تُسَاوِي مِائَةً ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ مِنْ رَدِّهَا بِهِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ نَقْصًا لَكَانَ مَمْنُوعًا مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِدُخُولِ الشَّاةِ إِلَى دَارِهِ وَإِطَارَةِ الرِّيحِ ثَوْبًا إِلَيْهَا فَهُوَ أَنَّ صَاحِبَ الدَّارِ وَإِنْ لَمْ يُعْلِمْهُ بِحُصُولِهَا فِي دَارِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ كَالْغَاصِبِ لِتَعَدِّيهِ بِتَرْكِ إِعْلَامِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ الِاسْتِدْلَالُ وَإِنْ أَعْلَمَهُ لَمْ يَضْمَنْ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْغَاصِبَ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ الزِّيَادَةِ فَضَمِنَهَا وَصَاحِبُ الدَّارِ لَا يَجِبْ عَلَيْهِ رَدُّ الشَّاةِ ، وَالثَّوْبِ فَلَمْ يَضْمَنْهَا وَإِنَّمَا عَلَيْهِ التَّمْكِينُ مِنْهَا بَعْدَ الطَّلَبِ . وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَغْصِبَهَا زَائِدَةً فَتَنْقُصُ ثُمَّ تَزِيدُ فَصُورَتُهُ فِيمَنْ غَصَبَ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفًا لِصِحَّتِهَا فَتَمْرَضُ حَتَّى تُسَاوِي مِائَةً ثُمَّ تَبْرَأَ فَتَزِيدُ بِالْبُرْءِ حَتَّى تُسَاوِي أَلْفًا ثُمَّ تُسْتَرَدُّ فَلَا يَخْلُو حَالُ الزِّيَادَةِ فِي الطَّرَفَيْنِ مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، أَوْ مِنْ جِنْسَيْنِ فَإِنْ كَانَتَا مِنْ


جِنْسَيْنِ فَمِثَالُهُ أَنْ يَغْصِبَهَا مَرِيضَةً تُسَاوِي أَلْفًا فَيَذْهَبُ عَيْنُهَا حَتَّى تُسَاوِي مِائَةً ثُمَّ تَبْرَأُ مِنْ مَرَضِهَا حَتَّى تُسَاوِي أَلِفًا فَعَلَيْهِ إِذَا رَدَّهَا أَنْ يَرُدَّ مَعَهَا تِسْعَمِائَةِ دِرْهَمٍ نَقْصَ الْعَمَى ، وَلَا يَكُونُ حُدُوثُ الزِّيَادَةِ بِبُرْءِ الْمَرَضِ مُسْقِطًا لِغُرْمِ النَّقْصِ بِالْعَمَى وَهَكَذَا لَوْ غَصَبَهَا وَقِيمَتُهَا أَلْفٌ ؛ لِأَنَّهَا كَاتِبَةٌ تُحْسِنُ الْخَطَّ فَنَسِيَتْهُ حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهَا مِائَةً ثُمَّ تَعَلَّمَتِ الْقُرْآنَ فَصَارَتْ قِيمَتُهَا بَعْدَ تَعَلُّمِهِ أَلْفًا رَدَّهَا وَتِسْعَمِائَةٍ مَعَهَا ، وَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ بِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ جَبْرًا لِلنَّقْصِ بِنِسْيَانِ الْكِتَابَةِ ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَتْ تُسَاوِي عِنْدَ غَصْبِهَا أَلْفًا فَمَرِضَتْ حَتَّى تُسَاوِي مِائَةً ثُمَّ زَادَتِ السُّوقُ فَصَارَتْ تُسَاوِي مَعَ بَقَاءِ الْمَرَضِ أَلْفًا رَدَّهَا وَرَدَّ مَعَهَا نَقْصَ الْمَرَضِ تِسْعَمِائَةٍ . وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَتَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَمِثَالُهُ أَنْ يَغْصِبَهَا وَقِيمَتُهَا أَلْفٌ لِسَلَامَتِهَا فَتَذْهَبُ عَيْنُهَا حَتَّى تُسَاوِي مِائَةً ثُمَّ تَبْرَأُ عَيْنُهَا فَتُسَاوِي بَعْدَ بُرْئِهَا أَلْفًا وَيَحْدُثُ بِهَا مَرَضٌ حَتَّى تُسَاوِي قِيمَتُهَا مِائَةً ثُمَّ تَبْرَأُ مِنْهُ حَتَّى تَعُودَ قِيمَتُهَا فَتَصِيرُ أَلْفًا ، أَوْ تَكُونُ قِيمَتُهَا أَلْفًا لِحِفْظِ الْقُرْآنِ فَتَنْسَاهُ فَتَصِيرُ قِيمَتُهَا مِائَةً ثُمَّ تَحْفَظُهُ فَتَصِيرُ قِيمَتُهَا أَلْفًا فَفِي ضَمَانِ النَّقْصِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الزِّيَادَةِ لَمْ يَفُتِ اسْتِشْهَادًا بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِيمَنْ جَنَى عَلَى عَيْنِ رَجُلٍ فَابْيَضَّتْ فَأَخَذَ دِيَتَهَا ثُمَّ زَالَ الْبَيَاضُ أَنَّهُ يَرُدُّ مَا أَخَذَ مِنَ الدِّيَةِ لِارْتِفَاعِ النَّقْصِ بِحُدُوثِ الصِّحَّةِ فَكَذَلِكَ الْغَاصِبُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ ، وَالْأَشْبَهُ بِأُصُولِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْغَاصِبِ فَيَرُدُّهَا وَتِسْعَمِائَةٍ مَعَهَا وَوُجُوهُهُ أَنَّ حُدُوثَ النَّقْصِ قَدْ أَوْجَبَ ثُبُوتَ الضَّمَانِ فِي ذِمَّتِهِ فَمَا طَرَأَ بَعْدَهُ مِنْ زِيَادَةِ الْبُرْءِ فَحَادِثٌ عَلَى مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ بِهِ مَا قَدْ مَلَكَهُ مِنَ الْغُرْمِ وَلَيْسَ كَبَيَاضِ الْعَيْنِ بِالْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْفِعْلِ ، وَالْغَصْبُ مَضْمُونٌ بِالْيَدِ ، فَعَلَى هَذَا يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ إِذَا مَاتَتْ بَعْدَ بُرْئِهَا ضَمِنَ عَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَلْفًا هِيَ قِيمَتُهَا وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ يَضْمَنُ أَلْفًا وَتِسْعَمِائَةٍ . أَمَّا التِّسْعُمِائَةِ فَبِنَقْصِهَا وَأَمَّا الْأَلْفُ فَقِيمَتُهَا . وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهَا إِذَا غَصَبَهَا وَهِيَ تُسَاوِي أَلْفًا فَمَرِضَتْ حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهَا مِائَةً ثُمَّ بَرِئَتْ حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهَا أَلْفًا ثُمَّ مَرِضَتْ حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهَا مِائَةً ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ يَرُدُّهَا وَتِسْعَمِائَةٍ نَقْصَ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ يَرُدُّ مَعَهَا أَلْفًا وَثَمَانِمِائَةٍ نَقْصَهَا مَرَّتَيْنِ وَهَكَذَا لَوْ عَادَ نَقْصُهَا مِائَةَ مَرَّةٍ ضَمِنَ مِائَةَ نَقْصٍ فَلَوْ عَادَتْ بَعْدَ النَّقْصِ الثَّانِي إِلَى الْبُرْءِ ثُمَّ رَدَّهَا لَمْ يَلْزَمْهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ شَيْءٌ وَلَزِمَهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ غَرِمَ نَقْصَيْنِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا غَصَبَ عَبْدًا سَمِينًا يُسَاوِي أَلْفًا فَأَهْزَلَهُ حَتَّى ذَهَبَ سِمَنُهُ ، وَلَمْ تَنْقُصْ قِيمَتُهُ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا وَلَوْ خَصَاهُ فَلَمْ تَنْقُصْ قِيمَتُهُ ضَمِنَ الْقِيمَةَ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْهُزَالَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ


بِالْأَرْشِ ، وَلَا بِالنَّقْصِ فَإِذَا لَمْ يَنْقُصْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَرْشٌ ، وَالْخِصَاءُ مُقَدَّرٌ بِالْقِيمَةِ إِذَا نَقَصَ لَزِمَهُ مَا تَقَدَّرَ مِنَ الْقِيمَةِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا غَصَبَ عَبْدًا يُسَاوِي مِائَةً فَزَادَتِ السُّوقُ حَتَّى صَارَ يُسَاوِي أَلْفًا ثُمَّ قَطَعَ إِحْدَى يَدَيْهِ فَعَلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ نِصْفِ الْأَلْفِ ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ السُّوقِ مَضْمُونَةٌ مَعَ فَوَاتِ الْعَيْنِ وَهُوَ مُفَوِّتٌ بِقَطْعِ إِحْدَى الْيَدَيْنِ نِصْفَ الْعَيْنِ فَيَضْمَنُ النِّصْفَ بِزِيَادَةِ السُّوقِ وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عِنْدَ الْغَصْبِ أَلْفًا ثُمَّ نَقَصَتِ السُّوقُ فَصَارَتْ قِيمَتُهُ مِائَةً ثُمَّ قَطَعَ إِحْدَى يَدَيْهِ ضَمِنَ خَمْسَمِائَةٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ تَعْلِيلًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، وَالْحُكْمِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْغَصْبَ مَضْمُونٌ بِأَكْثَرِ مَا كَانَتْ قِيمَتُهُ سُوقًا وَبَدَنًا مِنْ حِينِ الْغَصْبِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ فَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ بَاقِيَةً سَقَطَ ضَمَانُ نَقْصِهَا فِي السُّوقِ وَلَزِمَ ضَمَانُ نَقْصِهَا فِي الْبَدَنِ وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً لَزِمَ ضَمَانُ نَقْصِهَا فِي السُّوقِ ، وَالْبَدَنِ وَذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ السُّوقِ ، وَالْبَدَنِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ وَذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ نَقْصِ السُّوقِ وَبَقَاءِ الْعَيْنِ وَتَلَفِهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْمَغْصُوبُ مَضْمُونٌ بِقِيمَتِهِ وَقْتَ الْغَصْبِ وَفِيمَا مَضَى مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا ذَكَرَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ . فَأَمَّا الْمَقْبُوضُ عَنْ بَيْعٍ فَاسِدٍ فَمَضْمُونٌ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَلَى وَجْهِ الْمُعَاوَضَةِ . فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ ضَمَانِهِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا : وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَضَمَانِ الْغَصْبِ بِأَكْثَرِ مَا كَانَ قِيمَةً ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مِلْكٌ لِلْبَائِعِ لِبَقَاءِ الْمَبِيعِ عَلَى مِلْكِهِ فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً مَعَ الْأَصْلِ كَالْغَصْبِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ وَقْتَ الْقَبْضِ ، وَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ الْحَادِثَةُ بَعْدَ الْقَبْضِ مَضْمُونَةً ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ أَبَاحَهَا بِغَيْرِ بَدَلٍ وَتَأَوَّلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِأَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ . إِمَّا حَمْلُهُ عَلَى وُجُوبِ الضَّمَانِ دُونَ صِفَتِهِ . وَإِمَّا حَمْلُهُ عَلَى ضَمَانِ الْأُجْرَةِ . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحَّ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ مِنْ أَصْحَابِنَا ؛ لِأَنَّ تَعْلِيلَ الْوَجْهِ الثَّانِي بِإِبَاحَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى غَيْرِ بَدَلٍ يَفْسَدُ بِالْمَنَافِعِ ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً بِغَيْرِ بَدَلٍ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِهَا الْأُجْرَةَ فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ ؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ فِي الْأَمْرَيْنِ مَعَ صِحَّةِ الْعَقْدِ دُونَ فَسَادِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " فِي وَلَدِهَا الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْغَصْبِ كَالْحُكْمِ فِي بَدَنِهَا " .


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . وَلَدُ الْمَغْصُوبَةِ هل يُضمن عَلَى الْغَاصِبِ ؟ مَضْمُونٌ عَلَى الْغَاصِبِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَمْلُ مَوْجُودًا عِنْدَ الْغَصْبِ ، أَوْ حَادِثًا بَعْدَهُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَلَدُ الْمَغْصُوبَةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْغَاصِبِ سَوَاءٌ كَانَ الْغَصْبُ حَمْلًا ، أَوْ حَادِثًا إِلَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ بَعْدَ الطَّلَبِ فَيَضْمَنُ بِالْمَنْعِ اسْتِدْلَالًا بِمَا ذُكِرَ فِي زِيَادَةِ الْبَدَنِ ، فِي أَنَّ حُصُولَ الشَّيْءِ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ كَالرِّيحِ إِذَا أَطَارَتْ ثَوْبًا ، وَالشَّاةِ إِذَا دَخَلَتْ لَهُ دَارًا . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ وَلَدَ الْمَغْصُوبَةِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ كَالْأُمِّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوِ ادَّعَاهُ لَقُبِلَ قَوْلُهُ لِمَكَانِ يَدِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا لَهُ بِالْيَدِ كَأُمِّهِ وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ أَقْوَى مِنْ ضَمَانِ الصَّيْدِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ وَلَدَ الصَّيْدِ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُحْرِمِ فَوَلَدُ الْغَصْبِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا وَيَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا ضُمِنَتْ بِهِ الْأُمُّ مِنَ التَّعَدِّي ضُمِنَ بِهِ الْوَلَدُ كَالصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا ضُمِنَ بِهِ وَلَدُ الصَّيْدِ ضُمِنَ بِهِ وَلَدُ الْمَغْصُوبَةِ كَمَا لَوْ مُنِعَ ، وَلِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَمْلُهَا وَقْتَ الْغَصْبِ وَلَدُ الْمَغْصُوبَةِ هل يُضمن عَلَى الْغَاصِبِ ؟ مَضْمُونًا ، أَوْ مَغْصُوبًا . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ أَصْلٍ مَضْمُونٍ بِالتَّعَدِّي فَصَحَّ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا وَمَغْصُوبًا كَالصُّوفِ ، وَاللَّبَنِ . وَلِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْمَغْصُوبِ فَصَحَّ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا كَالسِّمَنِ وَلِأَنَّ مَا ضُمِنَ بِالْجِنَايَةِ ضُمِنَ بِالْغَصْبِ كَالْمُنْفَصِلِ ، وَلِأَنَّ مَا صَحَّ أَنْ يُضْمَنَ بِالْغَصْبِ خَارِجَ وِعَائِهِ ، صَحَّ أَنْ يُضْمَنَ بِهِ فِي وِعَائِهِ كَالدِّرْهَمِ فِي كِيسٍ ، وَالْحُلِيِّ فِي حُقٍّ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِدُخُولِ الشَّاةِ إِلَى دَارِهِ ، وَالثَّوْبِ إِذَا أَطَارَتْهُ الرِّيحُ إِلَيْهَا فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِذَلِكَ مُتَعَدِّيًا فَلَمْ يَكُنْ ضَمَانًا وَيَكُونُ بِإِمْسَاكِ الْوَلَدِ مُتَعَدِّيًا فَكَانَ ضَامِنًا . أَلَا تَرَى أَنَّ دُخُولَ الصَّيْدِ إِلَى دَارِهِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانَ لِعَدَمِ تَعَدِّيهِ وَوِلَادَةُ الصَّيْدِ فِي يَدِهِ تُوجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانَ لِتَعَدِّيهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ وَلَدَ الْمَغْصُوبَةِ هل تُضمن قِيمَتِهِ على الغاصب ؟ مَضْمُونٌ عَلَى الْغَاصِبِ فَسَوَاءٌ تَلِفَ بَعْدَ إِمْكَانِ رَدِّهِ ، أَوْ قَبْلَ إِمْكَانِهِ فَضَمَانُ قِيمَتِهِ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ مِنْ حِينِ الْوِلَادَةِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ فَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَةُ أُمِّهِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَإِنْ كَانَ نَقْصُهَا لِغَيْرِ الْحَمْلِ ضَمِنَهُ مَعَ قِيمَةِ الْوَلَدِ وَإِنْ كَانَ نَقْصُهَا لِأَجْلِ الْحَمْلِ لَمْ يَضْمَنْهُمَا مَعًا ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ وَلَدِهَا ضَمَانٌ لِحَمْلِهَا فَكَانَ ضَامِنًا لِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نَقْصِ الْحَمْلِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَاهُ فَلِلْوَلَدِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ يُضْمَنُ فِيهَا ، وَحَالٌ لَا يُضْمَنُ فِيهَا ، وَحَالٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا . فَأَمَّا حَالُ الضَّمَانِ لولد الأم المغصوب فَفِي الْغَصْبِ ، وَالْجِنَايَةِ ، وَالْإِحْرَامِ فَإِنَّ ضَمَانَ الْوَلَدِ فِيهَا وَاجِبٌ كَالْأُمِّ . وَأَمَّا حَالُ سُقُوطِ الضَّمَانِ لولد الأم المغصوب فَفِي الْإِجَارَةِ ، وَالرَّهْنِ وَالْوَدِيعَةِ فَإِنَّ وَلَدَ الْمُسْتَأْجَرَةِ


وَالْمَرْهُونَةِ ، وَالْمُودَعَةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ كَالْأُمِّ . فَأَمَّا الْحَالُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا فَفِي الْعَارِيَةِ ، وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَفِي ضَمَانِ الْوَلَدِ فِيهَا وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي ضَمَانِ الْأُمِّ فِي الْعَارِيَةِ ، وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ هَلْ هُوَ مَضْمُونُ ضَمَانَ غَصْبٍ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ ضَمَانُ غَصْبٍ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْوَلَدُ مَضْمُونًا بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ ، أَوْ نَقْصِ الْحَمْلِ كَالْغَصْبِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَكُونُ مَضْمُونًا ضَمَانَ عَقْدٍ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْوَلَدُ غَيْرَ مَضْمُونٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا غَصَبَ مَالًا فَاتَّجَرَ بِهِ وَرَبِحَ فِيهِ فَفِي رِبْحِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ لِرَبِّ الْمَالِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لِلْغَاصِبِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَيُذْكَرُ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي كِتَابِ الْقِرَاضِ فَأَمَّا إِذَا غَصَبَ شَيْئًا فَصَادَ بِهِ ، هل عليه الأجرة في ذلك ، وهل يصير الصيد للمغصوب منه ؟ فَعَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ آلَةً كَالشَّبَكَةِ ، وَالْقَوْسِ فَالصَّيْدُ لِلْغَاصِبِ وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْآلَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَبْدًا فَالصَّيْدُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ يَدٌ لِسَيِّدِهِ وَهَلْ عَلَى الْغَاصِبِ أُجْرَتُهُ فِي مُدَّةِ صَيْدِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ . وَالثَّانِي : لَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ قَدْ صَارَ إِلَى مَنَافِعِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ جَارِحًا كَالْكَلْبِ ، وَالْفَهْدِ ، وَالنَّمِرِ فَفِي الصَّيْدِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لِلْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ الْمُرْسِلُ ، فَعَلَى هَذَا عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْفَهْدِ ، وَالنَّمِرِ . وَهَلْ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْكَلْبِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الصَّيْدَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ تَغْلِيبًا لِلْمَالِكِ ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَلْزَمُ الْغَاصِبَ أُجْرَةُ ذَلِكَ فِي زَمَانِ صَيْدِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ بَاعَهَا الْغَاصِبُ فَأَوْلَدَهَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا الْمَغْصُوبُ الجارية المغصوبة أُخِذَ مِنَ الْمُشْتَرِي مَهْرُهَا وَقِيمَتُهَا إِنْ كَانَتْ مَيِّتَةَ وَأَخَذَهَا إِنْ كَانَتْ حَيَّةً وَأَخَذَ مِنْهُ قِيمَةَ أَوْلَادِهَا يَوْمَ سَقَطُوا أَحْيَاءً ، وَلَا يُرْجَعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ مَنْ سَقَطَ مَيِّتًا وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْغَاصِبِ بِجَمِيعِ مَا مِنَهُ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ ، وَلَا أَرُدُّهُ بِالْمَهْرِ لِأَنَّهُ كَالشَّيْءِ يُتْلِفُهُ فَلَا


يُرْجَعُ بِغُرْمِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَإِذَا كَانَ الْغَاصِبُ هُوَ الَّذِي أَوْلَدَهَا أَخَذَهَا ، وَمَا نَقَصَهَا وَمَهْرَ مِثْلِهَا وَجَمِيعَ وَلَدِهَا وَقِيمَةَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَيِّتًا وَعَلَيْهِ الْحَدُّ إِنْ لَمْ يَأْتِ بِشُبْهَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَكَرَ هُنَا مَسْأَلَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : فِي وَطْءِ الْمُشْتَرِي فَقَدَّمَهَا الْمُزَنِيُّ . وَالثَّانِيَةُ : فِي وَطْءِ الْغَاصِبِ فَأَخَّرَهَا الْمُزَنِيُّ وَتَقْدِيمُهَا أَوْلَى ؛ لِأَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ لِوَطْءِ الْمُشْتَرِي فَإِذَا وَطِئَ الْغَاصِبُ الْجَارِيَةَ الْمَغْصُوبَةَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ شُبْهَةٌ ، أَوْ لَا شُبْهَةَ لَهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ شُبْهَةٌ وَوَطْئِهَا عَالِمًا بِتَحْرِيمِ الزِّنَا وَأَنَّ وَطْأَ الْمَغْصُوبَةِ زِنًا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لِكَوْنِهِ زَانِيًا ، وَالْوَلَدُ إِنْ جَاءَتْ بِهِ مَمْلُوكٌ ، وَلَا يُلْحَقُ بِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ وَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ إِنْ مَاتَ أَكْثَرَ مَا كَانَ قِيمَةً وَإِنْ وَضَعَتْ وَلَدًا مَيِّتًا أي الجارية المغصوبة ، هل يُضمن ولدها ؟ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ مَضْمُونًا بِقِيمَتِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَمَا يَضْمَنُهُ بِالْجِنَايَةِ إِذَا سَقَطَ مَيِّتًا ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : وَقِيمَةُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَيِّتًا . وَلَعَلَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الْأَصَحُّ وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا ؛ لِأَنَّنَا لَمْ نَعْلَمْ لَهُ حَيَاةً مُتَيَقِّنَةً حَتَّى يُضْمَنَ بِالتَّلَفِ وَيَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ حُكْمُ الْمِلْكِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْغَصْبِ ، وَالْجِنَايَةِ أَنَّ فِي الْجِنَايَةِ مُبَاشَرَةً تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهَا وَلَيْسَ فِي الْغَصْبِ مُبَاشَرَةً يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهَا ، أَلَا تَرَى لَوْ غَصَبَ حُرًّا فَمَاتَ هل يضمن ؟ لَمْ يَضْمَنْ وَلَوْ جَنَى عَلَيْهِ ضَمِنَ ، وَيَكُونُ تَأْوِيلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقِيمَةُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَيِّتًا إِذَا عَلِمَ مَوْتَهُ بَعْدَ حَيَاتِهِ فَأَمَّا الْمَهْرُ فَلَا تَخْلُو الْأَمَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُطَاوِعَةً ، أَوْ مُسْتَكْرَهَةً فَإِنْ كَانَتْ مُسْتَكْرَهَةً وَجَبَ الْمَهْرُ عَلَيْهِ وَسَقَطَ الْحَدُّ عَنْهَا وَإِنْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً حُدَّتْ وَفِي وُجُوبِ الْمَهْرِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ الْمَهْرَ عَلَيْهِ وَاجِبٌ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِسَيِّدِهَا فَلَا يَسْقُطُ بِمُطَاوَعَتِهَا كَمَا لَوْ بَذَلَتْ قَطْعَ يَدِهَا لَمْ يَسْقُطْ عَنِ الْقَاطِعِ دِيَتُهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ لَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا بِالْمُطَاوَعَةِ تَكُونُ بَغِيٌّ ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ وَخَالَفَ قَطْعُ الْيَدَيْنِ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ نَقْصٌ دَخَلَ عَلَى بَدَنِهَا وَقِيمَتِهَا وَلَيْسَ الْوَطْءُ نَقْصٌ فِي بَدَنِهَا ، وَلَا قِيمَتِهَا ، ثُمَّ إِنْ كَانَتْ بِكْرًا فَعَلَيْهِ أَرْشُ بَكَارَتِهَا بِالِافْتِضَاضِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكُ جُزْءٍ مِنْهَا وَهَكَذَا يَلْزَمُهُ غُرْمُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا بِالْوِلَادَةِ فَإِنْ تَطَاوَلَ زَمَانُ غَصْبِهَا حَتَّى يَكُونَ لِمِثْلِهَا أُجْرَةٌ فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْمَغْصُوبَةِ هل تُضمن ؟ مَضْمُونَةٌ فَإِنْ مَاتَتْ فِي يَدِهِ ضَمِنَ جَمِيعَ قِيمَتِهَا أَكْثَرَ مَا كَانَتْ قِيمَةً مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ وَسَقَطَ عَنْهُ أَرْشُ الْبَكَارَةِ وَنَقْصِ الْوِلَادَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ دَخَلَا فِي ضَمَانِ


أَكْثَرِ الْقِيَمِ ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ ضَمَانُ الْمَهْرِ ، وَالْأُجْرَةِ ؛ لِأَنَّهَا بَدَلٌ عَنْ مَنْفَعَةٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْقِيمَةِ وَلَوْ سَلَّمَهَا الْغَاصِبُ إِلَى رَبِّهَا حَامِلًا فَمَاتَتْ بَعْدَ التَّسْلِيمِ الأمة المغصوبة نُظِرَ فَإِنْ كَانَ مَوْتُهَا بِغَيْرِ الْوِلَادَةِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَرِئَ مِنْ ضَمَانِهَا بِالتَّسْلِيمِ وَإِنْ مَاتَتْ مِنْ وِلَادَتِهَا الأمة المغصوبة ، هل تُضمن ؟ فَفِي ضَمَانِ قِيمَتِهَا عَلَى الْغَاصِبِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الزَّانِي بِالْحُرَّةِ إِذَا مَاتَتْ فِي وِلَادَتِهَا مِنْ زِنًا فَهَلْ يَضْمَنُ دِيَتَهَا : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ ضَامِنًا لِقِيمَتِهَا وَدِيَةِ الْحُرَّةِ لِمَوْتِهَا بِسَبَبٍ مِنْهُ هُوَ مُتَعَدِّيهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ مِنْ قِيمَةٍ ، وَلَا دِيَةٍ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ قَدِ انْقَطَعَ حُكْمُهُ بِنَفْيِهِ عَنْهُ فَاقْتَضَى أَنْ يَنْقَطِعَ حُكْمُهُ مِنْ تَعَلُّقِ الضَّمَانِ بِهِ فَأَمَّا إِنْ مَاتَ وَلَدُهَا بَعْدَ التَّسْلِيمِ دُونَهَا الأمة المغصوبة لَمْ يَضْمَنْهُ قَوْلًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ وَطْأَهُ إِيَّاهَا لَا يَكُونُ سَبَبًا لِمَوْتِ مَنْ تَلِدُهُ مِنْهُ وَلَكِنْ لَوْ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا بِوِلَادَتِهِ الأمة المغصوبة كَانَ فِي ضَمَانِهِ لِنَقْصِهِ قَوْلَانِ كَالْمَوْتِ فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِوَطْئِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ عِنْدَ عَدَمِ الشُّبْهَةِ وَهِيَ تِسْعَةٌ : الْحَدُّ ، وَنَفْيُ النَّسَبِ ، وَرِقُّ الْأَوْلَادِ ، وَضَمَانُهُمْ بِالتَّلَفِ ، وَالْمَهْرُ مَعَ الْإِكْرَاهِ ، وَأَرْشُ الْبَكَارَةِ ، وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ ، وَنَقْصُ الْوِلَادَةِ ، وَضَمَانُ قِيمَتِهَا بِالْمَوْتِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَبَعْدِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ لَهُ شُبْهَةٌ فَالشُّبْهَةُ قَدْ تَكُونُ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ : أَحَدُهَا : الْجَهْلُ بِتَحْرِيمِ الْمَغْصُوبَةِ لِحُدُوثِ إِسْلَامِهِ ، أَوْ مُقَامِهِ فِي بَادِيَةٍ نَائِيَةٍ عَنِ الْأَمْصَارِ . وَالثَّانِي : الْجَهْلُ بِعَيْنِهَا وَظَنُّهُ أَنَّهَا أَمَةٌ يَمْلِكُهَا . وَالثَّالِثُ : مَا يَخْتَصُّ بِمَالِكِهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ أَمَةً لِوَلَدِهِ ، أَوْ صَدَاقًا لِزَوْجَتِهِ تَرَى أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ قَبْلَ الدُّخُولِ إِلَّا نِصْفَهَا فَإِذَا وَطَأَ مَعَ أَحَدِ هَذِهِ الشُّبَهِ الثَّلَاثِ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ وَوَلَدُهَا لَاحِقٌ ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ بِالشُّبْهَةِ جَعَلَهَا فِرَاشًا ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَيَكُونُوا أَحْرَارًا ؛ لِأَنَّهُمْ وُلِدُوا فِي شُبْهَةِ مِلْكٍ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُمْ يَوْمَ سَقَطُوا ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا شُبْهَتُهُ لَرَقُّوا فَصَارَ بِالشُّبْهَةِ مُسْتَهْلِكًا لِرِقِّهِمْ فَضَمِنَ قِيمَتَهُمْ يَوْمَ الْوَضْعِ ، وَالْوِلَادَةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَلَيْهِ قِيمَتُهُمْ يَوْمَ التَّرَافُعِ إِلَى الْقَاضِي وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِمْ رِقٌّ بَعْدَ الرُّجُوعِ بَلْ عَلِقَتْ بِهِمْ أَحْرَارًا وَلَكِنْ لِتَعَذُّرِ قِيمَتِهِ عِنْدَ الْعُلُوقِ اعْتَبَرْنَاهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَالْوَضْعِ فَأَمَّا مَنْ وَضَعَتْهُ مَيِّتًا فَلَا قِيمَةَ عَلَى الْوَاطِئِ فِيهِ بِخِلَافِ الْمَوْلُودِ مَيِّتًا مِنْ زِنًا فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ مَعَ الشُّبْهَةِ حُرٌّ لَا يُضْمَنُ بِالْيَدِ حَتَّى يُعْلَمَ سَبَبُ ضَمَانِهِ بِغَيْرِ الْيَدِ وَهُوَ فِي الزِّنَا مَمْلُوكٌ يُضْمَنُ بِالْيَدِ فَلَوْ ضَرَبَ أَجْنَبِيٌّ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا الأمة المغصوبة كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الضَّارِبِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ ؛ لِأَنَّهُ جَنِينٌ حُرٌّ ، وَالْغُرَّةُ لِلْوَاطِئِ ؛ لِأَنَّهُ أَبٌ وَعَلَى الْوَاطِئِ لِلسَّيِّدِ عُشْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ الْمُسْتَحَقُّ فِي جَنِينٍ مَمْلُوكٍ فَإِنْ كَانَتِ الْغُرَّةُ مِثْلَ عُشْرِ قِيمَةِ الْأُمِّ أَخَذَهَا السَّيِّدُ إِلَّا أَنْ يَفْتَدِيَهَا الْوَاطِئُ بِعُشْرِ


الْقِيمَةِ وَإِنْ كَانَتِ الْغُرَّةُ أَكْبَرَ مِنْ عُشْرِ الْقِيمَةِ أَخَذَ الْوَاطِئُ الزِّيَادَةَ عَلَى الْعُشْرِ أَرْشًا بِالْأُبُوَّةِ وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ غَرِمَ تَكْمِلَةَ عُشْرِ الْقِيمَةِ فَأَمَّا الْمَهْرُ ، وَالْأُجْرَةُ وَأَرْشُ الْبَكَارَةِ وَنَقْصُ الْوِلَادَةِ ، فَعَلَى مَا مَضَى مَعَ عَدَمِ الشُّبْهَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ مُعْتَبَرٌ بِشُبْهَةِ الْمَوْطُوءَةِ دُونَ الْوَاطِئِ ، وَالْأُجْرَةُ ، وَالنَّقْصُ مَضْمُونَانِ بِالْيَدِ فَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهَا الشُّبْهَةُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : نَقْصُ الْوِلَادَةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ لِدُخُولِهِ فِيمَا ضَمِنَ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ . وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْوَلَدِ مُعْتَبَرَةٌ بِنَفْسِهِ فَامْتَنَعَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ نَقْصُ الْأُمِّ ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ النَّقْصُ فِي قِيمَتِهَا لَوْ ضُمِنَتْ بِالتَّلَفِ وَهَكَذَا لَوْ مَاتَتْ بَعْدَ تَسْلِيمِهَا بِالْوَضْعِ ، وَالْوِلَادَةِ ضَمِنَ قِيمَتَهَا قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ مَوْتِهَا بِالْوِلَادَةِ مِنْ وَطْءٍ غَيْرِ الشُّبْهَةِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ وَلَدَ الشُّبْهَةِ لَاحِقٌ بِهِ فَكَانَ سَبَبُ تَلَفِهَا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ عَنِ الْغَاصِبِ حَتَّى يَحْدُثَ بِهِ التَّلَفُ فَضَمِنَهُ وَهُوَ مَعَ عَدَمِ الشُّبْهَةِ غَيْرُ لَاحِقٍ بِهِ فَانْقَطَعَ النَّسَبُ عَنْهُ قَبْلَ التَّلَفِ فَلَمْ يَضْمَنْهُ فَهَذَا حُكْمُ وَطْءِ الْغَاصِبِ فِي الْحَالَتَيْنِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَشِرَاؤُهُ بَاطِلٌ وَإِنْ أَجَازَهُ الْمَالِكُ لِفَسَادِ الْعَقْدِ فَلَمْ يَصِحَّ بِإِجَارَةٍ مِنْ بَعْدُ فَإِذَا وَطِئَهَا فَحُكْمُ وَطْئِهَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَالْحُكْمِ فِي وَطْءِ الْغَاصِبِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ شُبْهَةٌ فَهُوَ كَالْغَاصِبِ إِذَا وَطِئَ بِغَيْرِ شُبْهَةٍ المشتري للأمة من الْغَاصِبِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ وَاسْتِرْقَاقِ الْوَلَدِ وَضَمَانِ الْمَهْرِ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَأَرْشِ الْبَكَارَةِ وَنَقْصِ الْوِلَادَةِ وَأُجْرَةِ الْمُدَّةِ وَقِيمَتِهَا وَقِيمَةِ أَوْلَادِهِ بِالْمَوْتِ عَلَى مَا مَضَى سَوَاءٌ . ثُمَّ السَّيِّدُ مُخَيَّرٌ فِي الرُّجُوعِ بِذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى الْغَاصِبِ ، أَوِ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ بِالْيَدِ فَإِنْ رَجَعَ بِذَلِكَ عَلَى الْمُشْتَرِي لَمْ يَرْجِعِ الْمُشْتَرِي بِشَيْءٍ مِنْهُ عَلَى الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ ارْتِفَاعَ شُبْهَةِ الْمُشْتَرِي للأمة من الْغَاصِبِ تَكُونُ مَعَ عِلْمِهِ بِالْغَصْبِ وَهُوَ مَعَ عِلْمِهِ بِالْغَصْبِ غَاصِبٌ فَلَزِمَهُ ضَمَانُ ذَلِكَ . فَلِذَلِكَ لَمْ يَرْجِعْ بِغُرْمِهِ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَلَكِنْ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَهُ وَإِنْ رَجَعَ السَّيِّدُ بِذَلِكَ عَلَى الْغَاصِبِ رَجَعَ بِذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى الْمُشْتَرِي إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْجَارِيَةُ قَدْ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا فِي يَدِ الْغَاصِبِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي فَيَخْتَصُّ بِغُرْمِهِ ، وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا أَكْثَرَ مَا كَانَتْ قِيمَةً مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ ، وَلَا يَضْمَنُ مَا نَقَصَ مِنْهَا قَبْلَ قَبْضِهِ ، وَلَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِهِ ، ثُمَّ عَلَى الْغَاصِبِ إِذَا رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِمَا غَرِمَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ مَا قَبَضَ مِنَ الثَّمَنِ فَإِنْ كَانَ جِنْسَيْنِ تَقَابَضَا وَأَيُّهُمَا بَدَأَ بِمُطَالَبَةِ صَاحِبِهِ فَذَاكَ لَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ تَقَابَضَاهُ فَإِنْ كَانَ فَضْلٌ تَرَاجَعَا .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي شُبْهَةٌ من الشبهات الأربع التي يسقط بها الحد عنه إذا وطئ المغصوبة . وَهِيَ الشُّبَهُ الثَّلَاثُ فِي الْغَاصِبِ مَعَ شُبْهَةٍ رَابِعَةٍ يَخْتَصُّ بِهَا دُونَ الْغَاصِبِ وَهِيَ جَهْلُهُ بِأَنَّ الْأَمَةَ غَصْبٌ ثُمَّ حُكْمُهُ فِيمَا يَجِبُ بِوَطْئِهِ فِي حَالِ الشُّبْهَةِ كَالْغَاصِبِ إِذَا وَطِئَ بِشُبْهَةٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُقَرَّرَةِ إِلَّا أَنَّ الْغَاصِبَ فِي ضَمَانِ


قِيمَتِهَا يَلْتَزِمُ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ قِيمَةً مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ فَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَفِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى كَيْفِيَّةِ ضَمَانِ الْمَقْبُوضِ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ : أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُ قِيمَتَهَا وَقْتَ الْقَبْضِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ قَدْ حَدَثَ بِهَا نَقْصٌ قَبْلَ قَبْضِهَا ، أَوْ حَدَثَ بِهَا زِيَادَةٌ بَعْدَ قَبْضِهِ اخْتَصَّ الْغَاصِبُ بِتَحَمُّلِهَا وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَضْمَنَ قِيمَتَهَا أَكْثَرَ مَا كَانَتْ مِنْ وَقْتِ قَبْضِهِ إِلَى حِينِ التَّلَفِ ، وَلَا يَضْمَنُ النَّقْصَ الْحَادِثَ قَبْلَ قَبْضِهِ وَيَضْمَنُ الزِّيَادَةَ الْحَادِثَةَ بَعْدَ قَبْضِهِ فَيَكُونُ فِي الْوَجْهَيْنِ مَعًا غَيْرَ ضَامِنٍ لِلنَّقْصِ الْحَادِثِ قَبْلَ قَبْضِهِ وَإِنَّمَا الْوَجْهَانِ فِي الزِّيَادَةِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ قَبْضِهِ فَيَكُونُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ غَيْرَ ضَامِنٍ ، وَقَدْ رَوَاهُ الرَّبِيعُ فِي الْأُمِّ . وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يَضْمَنُهَا ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ ، وَيَكُونُ مَا لَا يَضْمَنُهُ الْمُشْتَرِي مِنْ فَضْلِ الْقِيمَةِ مَرْجُوعًا بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ وَحْدَهُ ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِالْغَصْبِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ عَلَى الْغَاصِبِ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا أَخَذَهُ مِنَ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي غَيْرَ عَالِمٍ بِالْغَصْبِ للأمة التي يريد شراؤها : الغرم في هذه الحالة انْقَسَمَ مَا غَرِمَهُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ لَا يَرْجِعُ بِهِ ، وَقِسْمٌ يَرْجِعُ بِهِ ، وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِي الرُّجُوعِ بِهِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي لَا يَرْجِعُ بِهِ فَهُوَ مَا كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : أَرْشُ الْبَكَارَةِ وَنَقْصُ الْوِلَادَةِ وَقِيمَتُهَا إِنْ مَاتَتْ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ بِعَقْدِ الْبَيْعِ عَلَى الْتِزَامِ تَحَمُّلِهَا . فَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي يَرْجِعُ بِهِ فَهُوَ مَا كَانَ غَيْرَ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ وَذَلِكَ قِيمَةُ الْأَوْلَادِ فَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ بِعَقْدِ الْبَيْعِ عَلَى أَنْ لَا يَضْمَنَهُمْ وَلَيْسَ لَهُ عِوَضٌ فِي مُقَابَلَتِهِمْ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَهُوَ مَا كَانَ غَيْرَ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ لَكِنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ وَذَلِكَ شَيْئَانِ : الْمَهْرُ ، وَالْأُجْرَةُ ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ ، وَالْأُجْرَةَ فِي مُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ وَهُمَا مِمَّا تَصِحُّ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهَا فَفِي رُجُوعِهِ بِهَا عَلَى الْغَاصِبِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ عَادَ لَهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ لَا يَرْجِعُ بِهِمَا عَلَيْهِ لِعِلَّتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : أَنَّهُ غُرْمٌ اسْتَحَقَّ بِفِعْلِهِ ، وَالثَّانِيَةُ : أَنَّ الْغَاصِبَ مُتَسَبِّبٌ ، وَالْمُشْتَرِي مُبَاشِرٌ ، وَالضَّمَانُ مُتَعَلِّقُ بِالْمُبَاشَرَةِ دُونَ السَّبَبِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ السَّيِّدُ قَدْ رَجَعَ بِذَلِكَ عَلَى الْغَاصِبِ دُونَ الْمُشْتَرِي ، نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِالْغَصْبِ للأمة التي يريد شراؤها : الغرم في هذه الحالة يَرْجِعُ بِجَمِيعِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ غَرِمَهُ مَعَ عِلْمِهِ


بِالْغَصْبِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ فَكَمَا غَرِمَهُ الْمُشْتَرِي لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ فَإِذَا غَرِمَهُ الْغَاصِبُ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي ، فَعَلَى هَذَا لِلْغَاصِبِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِأَرْشِ الْبَكَارَةِ وَنَقْصِ الْوِلَادَةِ وَقِيمَةِ الْجَارِيَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَرْجِعُ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ الْأَوْلَادِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِمْ . وَهَلْ لِلْغَاصِبِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْمَهْرِ ، وَالْأُجْرَةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَرْجِعُ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَرْجِعُ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ . وَالثَّانِي : يَرْجِعُ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَرْجِعُ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ .

فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَ الْغَاصِبُ قَدْ وَطِئَهَا قَبْلَ الْبَيْعِ ثُمَّ وَطِئَهَا الْمُشْتَرِي بَعْدَ الشِّرَاءِ الأمة المغصوبة تَعَلَّقَ بِوَطْءِ الْغَاصِبِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي انْفِرَادِهِ بِوَطْئِهَا وَتَعَلَّقَ بِوَطْءِ الْمُشْتَرِي مَا ذَكَرْنَاهُ فِي انْفِرَادِهِ بِوَطْئِهَا وَكَانَ مَا لَزِمَ الْغَاصِبَ غَيْرَ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُشْتَرِي لِتَقَدُّمِهِ عَلَى يَدَيْهِ وَيَرْجِعُ بِهِ السَّيِّدُ عَلَى الْغَاصِبِ وَحْدَهُ ، وَكَانَ مَا لَزِمَ الْمُشْتَرِي مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ حَادِثٌ بَعْدَ يَدِهِ ، وَالسَّيِّدُ مُخَيَّرٌ فِي الرُّجُوعِ بِهِ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ ثُمَّ التَّرَاجُعُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا كَوْنُهَا أُمَّ وَلَدٍ لِلْوَاطِئِ مِنَ الْغَاصِبِ ، أَوِ الْمُشْتَرِي الأمة المغصوبة فَإِنْ كَانَ مَعَ عَدَمِ الشُّبْهَةِ لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ فِي الْحَالِ ، وَلَا إِنْ مَلَكَهَا فِي ثَانِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَصِيرَ أُمَّ وَلَدٍ بِهِ وَإِنْ كَانَ مَعَ الشُّبْهَةِ وَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهَا . وَقَالَ الْمُزَنِيُّ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الْغَاصِبِ لِشُبْهَتِهِ وَعَدَمِ عِلْمِهِ وَتَقُومُ عَلَيْهِ ، وَلَا تَرْتَجِعُ مِنْهُ لِلُحُوقِ وَلَدِهَا بِهِ فِي شِبْهِ مِلْكٍ فَصَارَ كَأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فِي إِحْبَالِ الْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ يُوجِبُ تَقْوِيمَ حِصَّةِ الشَّرِيكِ عَلَيْهِ . وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ وَلَدَهَا قَدْ يَلْحَقُ بِالْغَاصِبِ مَعَ الشُّبْهَةِ كَمَا يَلْحَقُ بِالْمُشْتَرِي مَعَ الشُّبْهَةِ ثُمَّ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ تَقْوِيمَهَا عَلَى الْغَاصِبِ فَكَذَلِكَ لَا يُوجِبُ تَقْوِيمَهَا عَلَى الْمُشْتَرِي . وَالثَّانِي : أَنَّ مَنْ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ قَوْلًا مَعَ جَوَازِ أَمْرِهِ لَمْ يَنْفُذْ فِعْلًا ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ أَعْتَقَهَا لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ فَكَذَلِكَ إِذَا أَحْبَلَهَا لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدِهِ فَلِهَذَيْنِ مَا قُلْنَا إِنَّهَا عَلَى مِلْكِ السَّيِّدِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ ، وَلَا تُقَوَّمُ عَلَى مَنْ حَبِلَتْ مِنْهُ فَإِنْ مَلِكَهَا الْمُحَبِّلُ لَهَا فَهَلْ تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إِحْبَالِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ إِحْبَالٌ فِي شُبْهَةِ مِلْكٍ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " فَإِنْ كَانَ ثَوْبًا أَبْلَاهُ الْمُشْتَرِي ممن غصبه ، على من يرجع صاحبه ؟ أَخَذَهُ مِنَ الْمُشْتَرِي ، وَمَا بَيْنَ قِيمَتِهِ صَحِيحًا يَوْمَ غَصْبِهِ وَبَيْنَ قِيمَتِهِ وَقَدْ أَبْلَاهُ ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْغَاصِبِ بِالثَّمَنِ الَّذِي دَفَعَ وَلَسْتُ أَنْظُرُ فِي الْقِيمَةِ إِلَى تَغَيُّرِ الْأَسْوَاقِ وَإِنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى تَغَيُّرِ الْأَبْدَانِ " .


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ ، الْمَسْأَلَةُ أَيْضًا تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي إِبْلَاءِ الْغَاصِبِ لَهُ . وَالثَّانِي : فِي إِبْلَاءِ الْمُشْتَرِي فَبَدَأَ بِالْغَاصِبِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِي الثَّوْبِ الَّذِي غَصَبَهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ لَا يَبْلَى فِي يَدِهِ ، وَلَا تَمْضِي عَلَيْهِ مُدَّةٌ يَكُونُ لَهَا أُجْرَةٌ فَهَذَا يَرُدُّ الثَّوْبَ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ سِوَاهُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَدْ بَلِيَ ، وَلَمْ تَمْضِ عَلَيْهِ مُدَّةٌ يَكُونُ لَهَا أُجْرَةٌ فَهَذَا يَرُدُّهُ وَيَرُدُّ مَعَهُ أَرْشَ الْبِلَى لَا غَيْرَ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ لَا يَبْلَى وَلَكِنْ قَدْ مَضَتْ عَلَيْهِ مُدَّةً يَكُونُ لَهَا أُجْرَةٌ فَهَذَا يَرُدُّهُ وَيَرُدُّ مَعَهُ أُجْرَةَ مِثْلِهِ لَا غَيْرَ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَبْلَى وَتَمْضِيَ عَلَيْهِ مُدَّةً يَكُونُ لَهَا أُجْرَةٌ فَهَلْ يَجْمَعُ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَرْشِ ، وَالْأُجْرَةِ ، أَوْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَيَجِبَانِ عَلَيْهِ لِاخْتِلَافِ مُوجِبِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ يَجِبُ بِاسْتِهْلَاكِ الْأَجْزَاءِ ، وَالْأُجْرَةَ تَجِبُ بِاسْتِهْلَاكِ الْمَنْفَعَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ عَلَيْهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْأَرْشِ ، وَالْأُجْرَةِ ؛ لِأَنَّ اسْتِهْلَاكَ الْأَجْزَاءِ فِي مُقَابَلَةِ الْأُجْرَةِ . أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا يَضْمَنُ أَرْشَ الْبِلَى ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ مَا قَدْ ضَمِنَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ وَلَكِنْ لَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ عَبْدًا فَمَضَتْ عَلَيْهِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ مُدَّةٌ هُزِلَ فِيهَا بَدَنُهُ هل عليه ضمان ذلك ؟ وَذَهَبَ فِيهَا سِمَنُهُ لَزِمَتْهُ الْأُجْرَةُ مَعَ أَرْشِ الْهُزَالِ وَجْهًا وَاحِدًا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الثَّوْبِ أَنَّ اسْتِعْمَالَ الثَّوْبِ مُوجِبٌ لَبَلَاهُ وَلَيْسَ اسْتِخْدَامُ الْعَبْدِ مُوجِبًا لِهُزَالِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَيَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُ الْغَاصِبَ مِنَ الْأَرْشِ ، وَالْأُجْرَةِ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنَ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ لَكِنْ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ وَأَرْشُ الْبِلَى هل تلزم المشتري من الغاصب ؟ مِنْ وَقْتِ قَبْضِهِ لَا مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ . وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَاهُنَا أَخَذَهُ مِنَ الْمُشْتَرِي ، وَمَا بَيْنَ قِيمَتِهِ صَحِيحًا يَوْمَ غَصْبِهِ ، وَمَا بَيْنَ قِيمَتِهِ ، وَقَدْ أُبْلِي فَلَيْسَ بِمَحْمُولٍ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ تَأْوِيلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْغَصْبِ وَالْبَيْعَ سَوَاءٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَاهُ يَوْمَ الْغَصْبِ . وَالثَّالِثُ : هُوَ تَأْوِيلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ مِنْ يَوْمِ الْغَصْبِ أَيْ مِنْ يَوْمِ صَارَ الْمُشْتَرِي فِي حُكْمِ الْغَاصِبِ ؛ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَمَا لَزِمَ الْغَاصِبَ لَا يَضْمَنُهُ الْمُشْتَرِي ، وَمَا لَزِمَ


الْمُشْتَرِي يَضْمَنُهُ الْغَاصِبُ وَلِلْمَالِكِ الْخِيَارُ ، وَالرُّجُوعُ بِهِ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ فَإِنْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي لَمْ يَرْجِعِ الْمُشْتَرِي بِأَرْشِ الْبِلَى . وَهَلْ يَرْجِعُ بِالْأُجْرَةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَإِنْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ رَجَعَ الْغَاصِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِأَرْشِ الْبِلَى وَهَلْ يَرْجِعُ بِالْأُجْرَةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ أَنَّ غَاصِبَ الثَّوْبِ أَجَّرَهُ مِنْ رَجُلٍ فَأَبْلَاهُ هل يضَمِنَ الْمُسْتَأْجِرُ لصاحبه أَرْشَ بِلَاهُ وَأُجْرَةَ مِثْلِهِ ؟ ضَمِنَ الْمُسْتَأْجِرُ لِرَبِّهِ أَرْشَ بِلَاهُ وَأُجْرَةَ مِثْلِهِ وَكَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الرُّجُوعِ بِهِمَا عَلَيْهِ ، أَوْ عَلَى الْغَاصِبِ فَإِنْ رَجَعَ بِهِمَا عَلَيْهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْغَاصِبِ بِأَرْشِ الْبِلَى ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا يَضْمَنُهُ ، وَلَا يَرْجِعُ بِالْأُجْرَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ ضَامِنٌ لَهَا وَلَكِنْ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا دَفَعَهُ إِلَيْهِ مِنَ الثَّمَنِ وَلَوْ رَجَعَ الْمَالِكُ عَلَى الْغَاصِبِ لَمْ يَرْجِعِ الْغَاصِبُ بِأَرْشِ الْبِلَى وَرَجَعَ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ بَعْدَ رَدِّ الثَّمَنِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ أَنَّ غَاصِبَ الثَّوْبِ أَعَارَهُ هل يرَجَع الْمَالِكُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ بِالْأُجْرَةِ وَأَرْشِ الْبِلَى ، وهل يرَجَع الْمُسْتَعِيرِ بِهِمَا عَلَى الْغَاصِبِ ؟ فَرَجَعَ الْمَالِكُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ بِالْأُجْرَةِ وَأَرْشِ الْبِلَى فَفِي رُجُوعِ الْمُسْتَعِيرِ بِهِمَا عَلَى الْغَاصِبِ قَوْلَانِ . وَلَوْ كَانَ الْمَالِكُ قَدْ رَجَعَ بِهِمَا عَلَى الْغَاصِبِ كَانَ فِي رُجُوعِ الْغَاصِبِ بِهِمَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ قَوْلَانِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ أَنَّ غَاصِبَ الثَّوْبِ أَوْدَعَهُ هل يرَجَع الْمَالِكُ عَلَى الْمُوَدَعِ بِأَرْشِ الْبِلَى ، وَالْأُجْرَةِ ، وهل يرَجَع الْمُوَدَعُ بِهِمَا عَلَى الْغَاصِبِ ؟ فَرَجَعَ الْمَالِكُ عَلَى الْمُوَدَعِ بِأَرْشِ الْبِلَى ، وَالْأُجْرَةِ رَجَعَ الْمُوَدَعُ بِهِمَا عَلَى الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ وَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ لَوْ غَرِمَهَا أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْمُوَدَعِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ أَنَّ غَاصِبَ الثَّوْبِ أَوْدَعَهُ عِنْدَ مَالِكِهِ فَتَلِفَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ هل يسقط الضَّمَان عنه ؟ فَفِي سُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْهُ وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ غَصَبَ طَعَامًا وَوَهَبَهُ لِمَالِكِهِ فَأَتْلَفَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ ، هل يسقط الضَّمَان عنه ؟ وَلَوْ أَنَّ مَالِكَ الثَّوْبِ أَوْدَعَهُ عِنْدَ غَاصِبِهِ ، أَوْ أَجَّرَهُ فَتَلَفَ هل يسقط الضَّمَان عنه ؟ فَإِنْ كَانَ فِعْلُ ذَلِكَ بَعْدَ قَبْضِهِ سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ قَبْضِهِ فَفِي سُقُوطِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي الرَّهْنِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَسْتُ أَنْظُرُ فِي الْقِيمَةِ إِلَى تَغَيُّرِ الْأَسْوَاقِ وتَغَيُّر الْأَبْدَانِ وأثر ذلك في قيمة المغصوب ؟ وَإِنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى تَغَيُّرِ الْأَبْدَانِ وَهَذَا كَمَا قَالَ نَقْصُ الْمَغْصُوبُ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ ما يُضمن عَلَى الْغَاصِبِ من ذلك ؟ نَوْعَانِ نَقْصُ بَدَنٍ وَنَقْصُ ثَمَنٍ . فَأَمَّا نَقْصُ الْبَدَنِ فَضَرْبَانِ : ضَرَبٌ نَقَصَ عَنْ حَالِ الْغَصْبِ كَالْغَصْبِ سَمِينًا فَيَهْزُلُ ، أَوْ صَحِيحًا فَيَمْرَضُ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْغَاصِبِ بِاتِّفَاقٍ . وَضَرْبٌ نَقَصَ عَنْ زِيَادَةٍ حَادِثَةٍ بَعْدَ الْغَصْبِ كَالْمَغْصُوبِ هَزِيلًا فَيَسْمَنُ ثُمَّ يَهْزُلُ ، أَوْ مَرِيضًا فَيَصِحُّ ثُمَّ يَمْرَضُ فَهُوَ مَضْمُونُ الزِّيَادَةِ بِالنَّقْصِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَضْمَنُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا نَقْصُ الثَّمَنِ للمغصوب عند رده هل يضمن الغاصب ذلك ؟ فَكَانَ الْمَغْصُوبُ يُسَاوِي أَلْفًا لِزِيَادَةِ السُّوقِ فَيَرُدُّهُ وَهُوَ يُسَاوِي مِائَةً لِنَقْصِ السُّوقِ فَهَذَا النَّقْصُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْغَاصِبِ وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ هُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ :


أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ نَقْصٌ يَضْمَنُهُ الْغَاصِبُ مَعَ تَلَفِ الْعَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَضْمَنَهُ مَعَ بَقَائِهَا قِيَاسًا عَلَى نَقْصِ الْبَدَنِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ عُدْوَانٌ يَضْمَنُ بِهِ نَقْصَ الْبَدَنِ فَوَجَبَ أَنْ يَضْمَنَ بِهِ نَقْصَ الثَّمَنِ قِيَاسًا عَلَى تَلَفِ الْعَيْنِ . وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ مَغْصُوبٌ لِمَنْ يَنْقُصُ فِي بَدَنِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْرَأَ الْغَاصِبُ بِرَدِّ عَيْنِهِ قِيَاسًا عَلَى مَا لَمْ يَنْقُصْ مِنْ ثَمَنِهِ وَلِأَنَّ رَدَّ الْمَغْصُوبِ بِعَيْنِهِ أَخَصُّ بِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ فِي رَدِّ مِثْلِهِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ غَصَبَ ذَا مِثْلٍ فَاسْتُهْلِكَ ثُمَّ رَدَّ مِثْلَهُ وَأَرْخَصَ ثَمَنًا لِنَقْصِ سُوقِهِ هل يَضْمَنَ نَقْصَ ثَمَنِهِ ؟ لَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّ مِثْلِهِ أَنْ يَضْمَنَ نَقْصَ ثَمَنِهِ فَأَوْلَى إِذَا رَدَّهُ بِعَيْنِهِ أَنْ لَا يَضْمَنَ نَقْصَ ثَمَنِهِ فَأَمَّا جَمْعُهُ بَيْنَ نَقْصِ السُّوقِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ ونقصها مع تَلَفِ الْعَيْنِ والْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ؟ وَبَيْنَ نَقْصِهَا مَعَ تَلَفِ الْعَيْنِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ نَقْصَ السُّوقِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ غَيْرَ مُسْتَهْلَكٍ ، وَلَا فَائِتٍ لِجَوَازِ عُودِهِ فَلَمْ يَضْمَنْهُ وَهُوَ مَعَ تَلَفِ الْعَيْنِ مُسْتَهْلَكٌ فَائِتٌ فَضَمِنَهُ فَأَمَّا جَمْعُهُ بَيْنَ نَقْصِ السُّوقِ ، وَالْبَدَنِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ : أَحَدُهُمَا : ثُبُوتُ يَدِهِ عَلَى زِيَادَةِ الْبَدَنِ فَضَمِنَهَا بِالنَّقْصِ وَارْتِفَاعِ يَدِهِ عَنْ زِيَادَةِ السُّوقِ فَلَمْ يَضْمَنْهَا بِالنَّقْصِ . وَالثَّانِي : أَنَّ نَقْصَ الْبَدَنِ عَيْبٌ يَمْنَعُ الْمُشْتَرِي مِنَ الرَّدِّ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقْصُ الْبَدَنِ مَضْمُونٌ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ وَتَلَفِهَا والفرق بين نَقْص الْبَدَنِ وَنَقْص الثَّمَنِ في ذلك ؟ وَنَقْصُ الثَّمَنِ غَيْرُ مَضْمُونٍ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ وَهُوَ مَضْمُونٌ مَعَ تَلَفِهَا ، فَعَلَى هَذَا لَوْ غَصَبَ ثَوْبًا يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَبَلِيَ حَتَّى نَقَصَ عُشْرُ ثَمَنِهِ ثُمَّ زَادَ الثَّوْبُ لِزِيَادَةِ السُّوقِ حَتَّى صَارَ يُسَاوِي مِائَةً فَعَلَيْهِ عُشْرُ الْعَشْرَةَ الَّتِي هِيَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ وَذَلِكَ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ فِي الثَّوْبِ مُسْتَهْلَكٌ قَبْلَ حُدُوثِ الزِّيَادَةِ وَهُوَ لَوِ اسْتَهْلَكَ جَمِيعَ الثَّوْبِ ما يلزم الْغَاصِبَ من ذلك ؟ حَتَّى كَانَ يُسَاوِي عَشْرَةً ثُمَّ صَارَ مِثْلُهُ يُسَاوِي مِائَةً لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا عَشْرَةٌ فَكَذَلِكَ إِذَا اسْتَهْلَكَ عُشْرَ الثَّوْبِ ما يلزم الْغَاصِبَ من ذلك ؟ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا عُشْرُ الْعَيْنِ ، وَلَوْ غَصَبَهُ وَهُوَ يُسَاوِي مِائَةً ثُمَّ نَقَصَ ثَمَنُهُ بِنَقْصِ السُّوقِ حَتَّى صَارَ يُسَاوِي عَشْرَةً ثُمَّ بَلِيَ بَعْدَ نَقْصِ ثَمَنِهِ بِلًا نَقْصَهُ عُشْرَ الثَّمَنِ ضَمِنَ عُشْرَ الْمِائَةِ وَهُوَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ وَذَلِكَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ يَضْمَنُ بِالتَّلَفِ أَكْثَرَ مَا كَانَ ثَمَنًا وَلَوْ أَتْلَفَ الثَّوْبَ لَزِمَتْهُ الْمِائَةُ فَكَذَلِكَ إِذَا أَتْلَفَ عُشْرَهُ لَزِمَهُ عُشْرُ الْمِائَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ إِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ دَابَّةً فَشَغَلَهَا الْغَاصِبُ أَوْ لَمْ يَشْغَلْهَا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ دَابَّةً فَشَغَلَهَا الْغَاصِبُ ، أَوْ


لَمْ يَشْغَلْهَا ، أَوْ دَارًا فَسَكَنَهَا ، أَوْ أَكْرَاهَا ، أَوْ لَمْ يَسْكُنْهَا ، وَلَمْ يُكْرِهَا هل عليه كِرَاء ؟ فَعَلَيْهِ كِرَاءُ مِثْلِ كِرَاءِ ذَلِكَ مِنْ حِينِ أَخَذَهُ حَتَى يَرُدَّهُ وَلَيْسَ الْغَلَّةُ بِالضَّمَانِ إِلَّا لِلْمَالِكِ الَّذِي قَضَى لَهُ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَدْخَلَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى مَنْ قَالَ : إِنَّ الْغَاصِبَ إِذَا ضَمِنَ سَقَطَ عَنْهُ الْكِرَاءُ قَوْلَهُ إِذَا اكْتَرَى قَمِيصًا فَاتَّزَرَ بِهِ ، أَوْ بَيْتًا فَنَصَبَ فِيهِ رَحَى هل عليه الكراء والضمان ؟ أَنَّهُ ضَامِنٌ وَعَلَيْهِ الْكِرَاءُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ مَنَافِعُ الْمَغْصُوبِ هل تُضمن عَلَى الْغَاصِبِ بِالْأُجْرَةِ . سَوَاءٌ انْتَفَعَ ، أَوْ لَمْ يَنْتَفِعْ ؟ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْغَاصِبِ بِالْأُجْرَةِ . سَوَاءٌ انْتَفَعَ ، أَوْ لَمْ يَنْتَفِعْ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَضْمَنُهَا ، وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ فِيهَا سَوَاءٌ انْتَفَعَ أَوْ لَمْ يَنْتَفِعْ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَضْمَنُهَا بِالْأُجْرَةِ إِنِ انْتَفَعَ بِهَا ، وَلَا يَضْمَنُهَا إِنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا وَاسْتَدَلُّوا عَلَى سُقُوطِ الْأُجْرَةِ بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ فَجَعَلَ الْخَرَاجَ وَالْغَلَّةَ لِمَنْ عَلَيْهِ ضَمَانُ الرَّقَبَةِ فَلَمَّا ضَمِنَ الْغَاصِبُ الرَّقَبَةَ سَقَطَ عَنْهُ ضَمَانُ الْغَلَّةِ . قَالُوا وَلِأَنَّ مَنَافِعَ الْأَعْيَانِ تَبَعٌ لَهَا فَإِذَا ضُمِنَتِ الرَّقَبَةُ دَخَلَ فِيهَا ضَمَانُ الْمَنْفَعَةِ كَالْمُشْتَرِي لَمَّا ضَمِنَ الرَّقَبَةَ بِالثَّمَنِ دَخَلَ فِيهِ ضَمَانُ الْمَنْفَعَةِ . وَتَحْرِيرُهُ قَالَ إِنَّ مَا أَوْجَبَ ضَمَانَ الرَّقَبَةِ وما يتعلق به من ضَمَانِ الْمَنْفَعَةِ . سَقَطَ مَعَهُ ضَمَانُ الْمَنْفَعَةِ كَالْبَيْعِ . قَالُوا وَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْحُرِّ قَدْ يَصِحُّ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهَا بِالْبَدَلِ ، وَلَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ فَكَذَلِكَ مَنَافِعُ الْمَمْلُوكِ وَإِنْ صَحَّتِ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهَا بِالْبَدَلِ لَمْ يَضْمَنْهَا بِالْغَصْبِ وَيَتَحَرَّرُ مِنْهُ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مَنَافِعُ أَعْيَانٍ فَلَمْ تُضْمَنْ بِالْغَصْبِ قِيَاسًا عَلَى مَنَافِعِ الْحُرِّ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا لَا يُضْمَنُ بِهِ مَنَافِعُ الْحُرِّ لَمْ يُضْمَنْ بِهِ مَنَافِعُ الْعَبْدِ كَالْعَارِيَةِ طَرْدًا ، وَالْإِجَارَةِ عَكْسًا . قَالُوا : وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ مَنْفَعَتَانِ مَنْفَعَةُ اسْتِمْتَاعٍ تُوجِبُ الْمَهْرَ ، وَمَنْفَعَةُ اسْتِخْدَامٍ تُوجِبُ الْأُجْرَةَ فَلَمَّا لَمْ يَضْمَنِ الْغَاصِبُ مَنْفَعَةَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْمَهْرِ لَمْ يَضْمَنْ مَنْفَعَةَ الِاسْتِخْدَامِ بِالْأُجْرَةِ يَتَحَرَّرُ مِنْهُ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ نَوْعُ انْتِفَاعٍ فَوَجَبَ أَلَّا يُضْمَنَ بِالْغَصْبِ كَالِاسْتِمْتَاعِ ، وَالثَّانِي : أَنَّ مَا لَمْ يُضْمَنْ بِهِ الْمُهُورُ لَمْ يُضْمَنْ بِهِ الْأُجُورُ كَالْجِنَايَةِ . قَالُوا وَلِأَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ مُقَرِّرَةٌ عَلَى أَنَّ مَا أَوْجَبَ ضَمَانَ الْعَيْنِ أَسْقَطَ ضَمَانَ الْمَنْفَعَةِ كَالْبَيْعِ ، وَمَا أَوْجَبَ ضَمَانَ الْمَنْفَعَةِ أَسْقَطَ ضَمَانَ الْعَيْنِ كَالْإِجَارَةِ وَكَانَتِ الْأُصُولُ مَانِعَةً مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَلَمَّا أَوْجَبَ الْغَصْبُ ضَمَانَ الْعَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ ضَمَانُ الْمَنْفَعَةِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ مَا أَوْجَبَ أَحَدَ الضَّمَانَيْنِ مَنَعَ مِنِ اجْتِمَاعِ الضَّمَانَيْنِ كَالْبَيْعِ ، وَالْإِجَارَةِ . وَدَلِيلُنَا - قَوْلُهُ تَعَالَى - : فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَى مَالِكِهِ بِاسْتِهْلَاكِ مَنَافِعِهِ أَوْجَبَ الْعُمُومَ مَثَلًا مَشْرُوعًا وَهُوَ الْأُجْرَةُ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ أَحَدُ الْمِثْلَيْنِ وَلِأَنَّ مَا ضُمِنَ بِالْعُقُودِ ضُمِنَ بِالْغُصُوبِ كَالْأَعْيَانِ وَلِأَنَّ مَا ضُمِنَ بِهِ الْأَعْيَانُ ضُمِنَ


بِهِ الْمَنَافِعُ كَالْعُقُودِ وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ مَالٌ بِدَلِيلِ أَنَّ مَا جَازَتْ بِهِ الْوَصِيَّةُ تَمْلِيكًا كَانَ فِي نَفْسِهِ مَالًا كَالْأَعْيَانِ ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْكَلْبُ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِهِ بَدَلُ تَمْلِيكٍ لَا تَمْلِيكٌ وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَنَافِعِ مُعْتَبَرَةٌ مِنَ الثُّلُثِ فَكَانَتْ مَالًا كَالرِّقَابِ وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ أَعَمُّ مِنْ ضَمَانِ الْعَقْدِ وَضَمَانُ الْمَنَافِعِ أَعَمُّ مِنْ ضَمَانِ الْأَعْيَانِ ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ مَضْمُونٌ بِالْغَصْبِ دُونَ الْعَقْدِ وَيَصِحُّ الْعَقْدُ مِنْهُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ دُونَ الرَّقَبَةِ فَلَمَّا ضُمِنَتِ الْمَنَافِعُ بِالْعُقُودِ فَأَوْلَى أَنَّ تُضْمَنَ بِالْغُصُوبِ وَلَوْ ضُمِنَ بِالْغَصْبِ الْأَعْيَانُ فَأَوْلَى بِهِ الْمَنَافِعُ فَيَكُونُ هَذَا تَرْجِيحًا فِي الْأَصْلَيْنِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى وَيَتَحَرَّرُ مِنْهُ الْقِيَاسَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ ، وَلِأَنَّ مَنَافِعَ الْأَعْيَانِ قَدْ تَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ نَوْعٌ يَكُونُ نَفْعُهُ بِاسْتِهْلَاكِهِ كَالْمَأْكُولِ ، وَنَوْعٌ يَكُونُ نَفْعُهُ بِاسْتِبْدَالِهِ وَاسْتِخْدَامِهِ كَالثِّيَابِ ، وَالْعَبِيدِ فَلَمَّا ضَمِنَ الْغَصْبُ نَفْعَ الِاسْتِهْلَاكِ وَجَبَ أَنْ يَضْمَنَ بِهِ نَفْعَ الِاسْتِخْدَامِ وَيَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ نَوْعُ نَفْعٍ فَوَجَبَ أَنْ يُضْمَنَ بِالْغَصْبِ كَالْأَكْلِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا ضُمِنَ نَفْعُهُ اسْتِبْدَالًا كَالْمَبْذُولِ عِوَضًا وَلِأَنَّهُ لَمَّا ضَمِنَ بِالْغَصْبِ مَا لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ مِنَ الْأَعْيَانِ التَّالِفَةِ فِي يَدِهِ فَأَوْلَى أَنْ يَضْمَنَ مَا قَدِ اسْتَهْلَكَهُ مِنَ الْمَنَافِعِ بِيَدِهِ لَمَّا ضَمِنَ الْمَنَافِعَ بِالْمُرَاضَاةِ وَالِاخْتِيَارِ فَأَوْلَى أَنْ يَضْمَنَهَا مَعَ الْإِكْرَاهِ وَالْإِجْبَارِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ فَهُوَ أَنَّ الْغَاصِبَ غَيْرُ مُرَادٍ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ خَرَاجَ الْغَلَّةِ لِمَنْ عَلَيْهِ ضَمَانُ الرَّقَبَةِ ، وَالْغَاصِبُ لَا يَمْلِكُ الْغَلَّةَ مَعَ ضَمَانِ الرَّقَبَةِ فَجَازَ أَنْ يَضْمَنَهَا ضَمَانَ الرَّقَبَةِ ؛ وَيَكُونُ الْحَدِيثُ مَحْمُولًا عَلَى مَالِكِ الْغَلَّةِ الَّذِي يَمْلِكُ بِضَمَانِهِ الرَّقَبَةَ وَهُوَ الْمُشْتَرِي ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ نَقْلًا ، فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُشْتَرِي فَالْمَعْنَى فِيهِ حُدُوثُ الْمَنَافِعِ مَعَ مِلْكِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْهَا ، وَالْمَنَافِعُ فِي الْغَصْبِ حَادِثَةٌ عَلَى مِلْكِ الْمَغْصُوبِ فَلِذَلِكَ كَانَ الْغَاصِبُ ضَامِنًا لَهَا ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَنَافِعِ الْحُرِّ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي كِتَابِ السِّيَرِ : إِنَّ الْإِمَامَ إِذَا أَكْرَهَ مُشْرِكًا ، أَوِ الذِّمِّيَّ عَلَى الْجِهَادِ مَعَهُ ، ماذا على الإمام ؟ - حَمْلًا عَلَى كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي عِبَارَتِهِ فِي الْأُمِّ - عَلَى الْجِهَادِ مَعَهُ فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ يَوْمَ إِكْرَاهِهِ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَنَافِعِ الْحُرِّ هَلْ تُضْمَنُ بِالتَّفْوِيتِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَى مَنْ فَوَّتَهَا عَلَيْهِ بِحَبْسِهِ وَتَعْطِيلِهِ اسْتِشْهَادًا بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاسْتِشْهَادًا بِمَنَافِعِ الْعَبْدِ ، فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ اسْتِدْلَالُهُمْ بِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّ مَنَافِعَ الْحُرِّ لَيْسَتْ مَضْمُونَةً بِالتَّفْوِيتِ ، وَالْحَبْسِ وَإِنَّمَا هِيَ مَضْمُونَةٌ بِالِاسْتِهْلَاكِ ، وَالْإِجْبَارِ عَلَى الْعَمَلِ وَحَمَلُوا كَلَامَ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّهُ أَوْجَبَ لَهُ الْأُجْرَةَ لِإِكْرَاهِهِ عَلَى الْجِهَادِ فَكَذَا حَالُ الْأَحْرَارِ إِذَا أُكْرِهُوا عَلَى الْأَعْمَالِ هل يسْتَحَقُّون الْأُجْرَةَ ؟ اسْتَحَقُّوا الْأُجْرَةَ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَمْلُوكِ ، حَيْثُ كَانَتْ مَنَافِعُهُ مَضْمُونَةً بِالتَّفْوِيتِ وَبَيْنَ الْحُرِّ حَيْثُ لَمْ تُضْمَنْ مَنَافِعُهُ بِالتَّفْوِيتِ مِنْ وَجْهَيْنِ :


أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا كَانَ مَضْمُونًا بِالْيَدِ كَانَتْ مَنَافِعُهُ مَضْمُونَةً بِالْيَدِ ، وَالْحُرَّ لَمَّا لَمْ يُضْمَنْ بِالْيَدِ لَمْ تُضْمَنْ مَنَافِعُهُ بِالْيَدِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَنَافِعَ الْحُرِّ فِي يَدِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ تُضْمَنْ إِلَّا بِالِاسْتِهْلَاكِ وَلَيْسَتْ مَنَافِعُ الْعَبْدِ فِي يَدِهِ بَلْ فِي يَدَيْ مَالِكِهِ فَلِذَا ضَمِنَهَا بِالتَّفْوِيتِ وَبِالِاسْتِهْلَاكِ . أَلَا تَرَاهُ لَوْ حَبَسَ حُرًّا وَمَعَهُ مَالٌ فَتَلِفَ لَمْ يَضْمَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ تَالِفٌ فِي يَدِ مَالِكِهِ وَلَوْ حَبَسَ عَبْدًا وَمَعَهُ مَالٌ فَتَلِفَ ضَمِنَهُ ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ غَاصِبِهِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى يَدِ الِاسْتِمْتَاعِ مِنَ الْمَهْرِ فَنَحْنُ نُوجِبُهُ بِالْغَصْبِ عَلَى الْمُسْتَكْرِهِ وَفِي الْجَوَابِ بِهَذَا مَقْنَعٌ فَأَمَّا بِالْمَنْعِ فَلَا نُوجِبُهُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ أُجْرَةِ الْمَنَافِعِ والفرق بينها وبين المهر ؟ حَيْثُ وَجَبَتْ بِالْمَنْعِ وَبَيْنَ الِاسْتِمْتَاعِ حَيْثُ لَمْ يَجِبْ بِالْمَنْعِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ سَيِّدَ الْمَغْصُوبَةِ قَدْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى مَهْرِهَا بِتَزْوِيجِهَا ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى أُجْرَتِهَا بِإِجَارَتِهَا ؛ لِأَنَّ تَزْوِيجَ الْمَغْصُوبَةِ وإجارتها وما يجوز من ذلك ؟ يَجُوزُ وَإِجَارَتُهَا لَا تَجُوزُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَهْرَ لَا يَزِيدُ بِطُولِ الْمُدَّةِ وَيُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ بِالْعَقْدِ بَعْدَ رَدِّهَا فَلَمْ يَضْمَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفُتْ . وَالْأُجْرَةُ تَزِيدُ بِطُولِ الْمُدَّةِ ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُ مَا مَضَى بَعْدَ رَدِّهَا فَضَمِنَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ فَاتَ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْمَنْعِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ ضَمَانِ الْمَنْفَعَةِ ، وَالْعَيْنِ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ شَاهِدَيِ الْبَيْعِ ، وَالْإِجَارَةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ أَنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ أَنْ يَجْتَمِعَ ضَمَانُ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ ، كَمَنِ اسْتَأْجَرَ ثَوْبًا فَاتَّزَرَ بِهِ ، أَوْ دَارًا فَأَسْكَنَ فِيهَا حَدَّادِينَ هل يَكُونُ ضَامِنًا لِلْأُجْرَةِ وَلِلرَّقَبَةِ معاً ؟ أَنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا لِلْأُجْرَةِ وَلِلرَّقَبَةِ فَإِنْ سَلَّمُوا هَذَا كَانَ نَقْصًا وَإِنِ ارْتَكَبُوهُ فَقَدْ جَعَلُوا لِكُلِّ مُسْتَأْجِرٍ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْمَنْفَعَةَ وَيُسْقِطَ عَنْ نَفْسِهِ الْأُجْرَةَ بِالتَّعَدِّي فَيَصِيرُ مُسْقِطًا لِحَقٍّ وَاجِبٍ بِظُلْمٍ وَتَعَدٍّ ، وَالتَّعَدِّي يُوجِبُ إِثْبَاتَ حَقٍّ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ إِسْقَاطَ حَقٍّ وَفِي الْقَوْلِ بِهَذَا مِنْ نَقْصِ الْأُصُولِ مَا لَا يُوَازِيهِ التَّحَرُّزُ مِنَ الْتِزَامِ دَلِيلٍ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ مُوجِبًا لِحَقَّيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ . أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَتْلَ يُوجِبُ الدِّيَةَ وَالْكَفَّارَةَ وَهُمَا حَقَّانِ ، وَقَتْلَ الصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ يُوجِبُ الْقِيمَةَ وَالْجَزَاءَ ، وَالسَّرِقَةَ تُوجِبُ الْقَطْعَ وَالرَّدَّ ، فَكَذَلِكَ الْغَصْبُ يُوجِبُ الضَّمَانَ لِلْأُجْرَةِ وَضَمَانَ الْعَيْنِ .

فَصْلٌ ضَمَانُ مَنَافِعِ الْمَغْصُوبِ

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ مَنَافِعَ الْمَغْصُوبِ شروط ضمانها مَضْمُونَةٌ فَضَمَانُهَا بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ مِمَّا يُعَاوَضُ عَلَيْهَا بِالْإِجَارَةِ ، وَمَا لَا تَصِحُّ إِجَارَتُهُ كَالنَّخْلِ ، وَالشَّجَرِ ، وَالدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ لَمْ يُلْزِمْ فِي الْغَصْبِ أُجْرَةً . وَالثَّانِي : أَنْ يَسْتَدِيمَ مُدَّةُ الْغَصْبِ زَمَانًا يَكُونُ لِمِثْلِهِ أُجْرَةً فَإِنْ قَصُرَ زَمَانُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لِمِثْلِهِ أُجْرَةٌ لَمْ يَلْزَمْهُ بِالْغَصْبِ أُجْرَةٌ .

فَصْلٌ إِذَا غَصَبَ الرَّجُلُ مُكَاتَبًا فَحَبَسَهُ زَمَانًا ]




فَصْلٌ : وَإِذَا غَصَبَ الرَّجُلُ مُكَاتَبًا فَحَبَسَهُ زَمَانًا هل عليه ضمان ضَمِنَ أُجْرَةَ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَكَاتَبَ عَبْدٌ يُضْمَنُ بِالْيَدِ وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ فَأَمَّا السَّيِّدُ إِذَا حَبَسَ مَكَاتَبَهُ عَنْ نِصْفِهِ حَوْلًا فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَضْمَنُ أُجْرَةَ مِثْلِهِ فِي الْحَوْلِ كَالْأَجْنَبِيِّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ عَلَيْهِ إِنْظَارَهُ بِحَالِ الْكِتَابَةِ حَوْلًا مِثْلَ زَمَانِ حَبْسِهِ فَكَأَنَّهُ أَخَّرَ زَمَانَ كِتَابَتِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوِ اسْتَكْرَهَ أَمَةً ، أَوْ حُرَّةً فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَالْمَهْرُ ، وَلَا مَعْنَى لِلْجِمَاعِ إِلَّا فِي مَنْزِلَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا : أَنْ تَكُونَ هِيَ زَانِيَةً مَحْدُودَةً فَلَا مَهْرَ لَهَا وَمَنْزِلَةٌ تَكُونُ مُصَابَةً بِنِكَاحٍ فَلَهَا مَهْرُهَا وَمَنْزِلَةٌ تَكُونُ شُبْهَةً بَيْنَ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ ، وَالزِّنَا الصَرِيحِ فَلَمَّا لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهَا إِذَا أُصِيبَتْ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهَا وَلَهَا الْمَهْرُ عِوَضَا مِنَ الْجِمَاعِ انْبَغَى أَنْ يَحْكُمُوا لَهَا إِذَا اسْتُكْرِهَتْ بِمَهْرٍ عِوَضَا مِنَ الْجِمَاعِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُبِحْ نَفْسَهَا فَإِنَّهَا أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْعَاصِيَةِ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ إِذَا كَانَتْ عَالِمَةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا اسْتَكْرَهَ الرَّجُلُ امْرَأَةً عَلَى نَفْسِهَا حَتَّى وَطِئَهَا كُرْهًا هل يجب عَلَيْهِ الْحَدُّ دُونَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ دُونَهَا وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْمَهْرِ لَهَا فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِلَى وُجُوبِ الْمَهْرِ عَلَيْهِ حُرَّةً كَانَتْ ، أَوْ أَمَةً . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا مَهْرَ عَلَيْهِ حُرَّةً كَانَتْ ، أَوْ أَمَةً . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَسْقَطَ عَنْهُ الْمَهْرَ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ بِالتَّخْفِيفِ يَعْنِي الزِّنَا وَهَذَا زِنًا فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ فِيهِ الْمَهْرُ وَرَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ كَسْبٍ الزِّمَارَةِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : يَعْنِي الزَّانِيَةَ كَنَهْيِهِ عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ قَالُوا وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ أَوْجَبَ حَدًّا فَلَمْ يُوجِبْ مَهْرًا كَالْمُطَاوَعَةِ قَالُوا : وَلِأَنَّ الْحَدَّ ، وَالْمَهْرَ مُتَنَافِيَانِ فَلَمَّا وَجَبَ الْحَدُّ إِجْمَاعًا سَقَطَ الْمَهْرُ حِجَاجًا قَالُوا : وَلِأَنَّ حُكْمَ الْفِعْلِ مُعْتَبَرٌ بِأَحْوَالِ الْفَاعِلِ ، وَالزِّنَا فِعْلُ الْوَاطِئِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ مُعْتَبَرًا بِحَالِهِ . وَدَلِيلُنَا : مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَإِنْ مَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا ، وَالْمُسْتَكْرِهُ مُسْتَحِلٌّ لِفَرْجِهَا فَاقْتَضَى أَنْ يَلْزَمَهُ


مَهْرُهَا فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ خُصَّ النِّكَاحُ بِذَلِكَ ذِكْرًا فَاخْتَصَّ بِهِ حُكْمًا قِيلَ الِاسْتِدْلَالُ مِنَ الْخَبَرِ بِتَعْلِيلِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا ، وَالتَّعْلِيلُ عَامٌّ وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي غَيْرِ مِلْكٍ سَقَطَ الْحَدُّ فِيهِ عَنِ الْمَوْطُوءَةِ فَاقْتَضَى أَنْ يَجِبَ الْمَهْرُ فِيهِ عَلَى الْوَاطِئِ قِيَاسًا عَلَى النِّكَاحِ الْفَاسِدِ ، وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ أَنَّ الْمُغْتَصَبَةَ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَنْكُوحَةَ مَعَ عِلْمِهَا عَاصِيَةٌ ، وَالْمُغْتَصَبَةَ غَيْرُ عَاصِيَةٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَنْكُوحَةَ مُمْكِنَةٌ ، وَالْمُغْتَصَبَةَ مُسْتَكْرَهَةٌ فَلَمَّا وَجَبَ الْمَهْرُ لِلْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا فَأَوْلَى أَنْ يَجِبَ لِلْمُسْتَكْرَهَةِ ؟ وَلِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ تَجْرِي مَجْرَى الْأَمْوَالِ ؛ لِأَنَّهَا تَمَلُّكٌ بِعِوَضٍ فِي النِّكَاحِ وَيُمْلَكُ بِهَا عِوَضٌ فِي الْخُلْعِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْأَمْوَالَ تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ فَكَذَلِكَ مَنَافِعُ الْبُضْعِ ، ثُمَّ لَكَ أَنْ تَسْتَدِلَّ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ ضَمَانِ الْأُجْرَةِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُمَا وَاحِدٌ ، وَالْخِلَافُ فِيهِمَا عَلَى سَوَاءٍ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ نَهْيِهِ عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ فَرُوِيَ بِالتَّشْدِيدِ يَعْنِي مَهْرَ الزَّانِيَةِ ، وَالْمُسْتَكْرَهَةُ غَيْرُ زَانِيَةٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَدَّ سَاقِطٌ عَنْهَا وَلَوْ كَانَتْ بَغِيًّا لَوَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ نَهْيِهِ عَنْ كَسْبِ الزِّمَارَةِ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ نَهَى عَنْ كَسْبِ الزِّمَارَةِ مِنَ الزَّمْرِ ، وَالسِّعَايَةِ ، فَعَلَى هَذَا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَسْأَلَتِنَا . وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ نَهَى عَنْ كَسْبِ الزِّمَارَةِ بِالتَّشْدِيدِ وَتَقْدِيمِ الزَّايِ الْمُعْجَمَةِ فَيَكُونُ كَنَهْيِ الْبَغِيِّ وَلَيْسَتْ هَذِهِ بَغِيًّا ، وَلَا زَانِيَةً . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُطَاوَعَةِ فَالْمَعْنَى فِيهِ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهَا . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِتَنَافِي الْمَهْرِ وَالْحَدِّ فَصَحِيحٌ لَكِنْ يَتَنَافَى اجْتِمَاعُهُمَا فِي الْمَوْطُوءَةِ دُونَ الْوَاطِئِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ يُعْتَبَرُ بِهِ شُبْهَةَ الْمَوْطُوءَةِ أَنَّ رَجُلًا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَزُفَّتْ إِلَيْهِ غَيْرُهَا فَوَطِئَهَا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْمَرْأَةِ فَإِنْ عَلِمَتْ فَعَلَيْهَا الْحَدُّ ، وَلَا مَهْرَ لَهَا وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا وَلَهَا الْمَهْرُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ بِهِ شُبْهَةُ الْمَوْطُوءَةِ دُونَ الْوَاطِئِ ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ إِنْ لَمْ تَعْلَمْ وَسَقَطَ إِنْ عَلِمَتْ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ الْوَطْءَ فِعْلُ الْوَاطِئِ فَكَانَ حُكْمُهُ مُعْتَبَرًا بِهِ . فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِعْلًا مِنْهُ فَحُكْمُهُ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ مَنْ أُتْلِفَ عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَتَلَ عَبْدًا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ سَقَطَتِ الْقِيمَةُ عَنْهُ ، وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَجَبَتِ الْقِيمَةُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الْحَالَتَيْنِ قَاتِلٌ عَاصٍ لَكِنْ سَقَطَ عَنْهُ فِي الْحَالِ الْأَوَّلِ لِرِضَا الْمُتْلِفِ عَبْدَهُ وَإِذْنِهِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ الثَّانِي لِعَدَمِ رِضَاهُ وَإِذْنِهِ كَذَلِكَ الْمَوْطُوءَةُ برضاها ، ضمان ذلك إِنْ طَاوَعَتْ فَهِيَ رَاضِيَةٌ بِإِتْلَافِ بُضْعِهَا بِغَيْرِ بَدَلٍ وَإِنِ اسْتُكْرِهَتْ فَهِيَ غَيْرُ رَاضِيَةٍ بِإِتْلَافِهِ عَلَى غَيْرِ بَدَلٍ .




فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْمَهْرِ عَلَى الْمُسْتَكْرِهِ وَاخْتَلَفَا ، فَادَّعَتِ الْمَوْطُوءَةُ الِاسْتِكْرَاهَ وَادَّعَى الْوَاطِئُ الْمُطَاوَعَةَ ضمان ذلك فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْوَاطِئِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلَ الْمَوْطُوءَةِ مَعَ يَمِينِهَا وَلَهَا الْمَهْرُ ؛ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَا مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ إِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الدَّابَّةِ وَرَاكِبُهَا وَرَبُّ الْأَرْضِ وَزَارِعُهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " فِي السَّرِقَةِ حكمها ، وحق الله وحق الآدميين فيها حُكْمَانِ : أَحَدُهُمَا : لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَالْآخَرُ لِلْآدَمِيِّينَ فَإِذَا قُطِعَ لِلَّهِ تَعَالَى أُخِذَ مِنْهُ مَا سَرَقَ لِلْآدَمِيِّينَ فَإِنْ لَمْ يُؤْخَذْ فَقِيمَتُهُ ؛ لِأَنِّي لَمْ أَجِدْ أَحَدَا ضَمِنَ مَالًا بِعَيْنِهِ بِغَصْبٍ ، أَوْ عُدْوَانٍ فَيَفُوتَ إِلَّا ضَمِنَ قِيمَتَهُ ، وَلَا أَجِدُ فِي ذَلِكَ مُوسِرًا مُخَالِفًا لِمُعْسِرٍ وَفِي الْمُغْتَصَبَةِ حُكْمَانِ : أَحَدُهُمَا : لِلَّهِ ، وَالْآخَرُ لِلْمُغْتَصَبَةِ بِالْمَسِيسِ الَّذِي الْعِوَضُ مِنْهُ الْمَهْرُ فَأُثْبِتُ ذَلِكَ وَالْحَدَّ عَلَى الْمُغْتَصِبِ ، كَمَا أُثْبِتُ الْحَدَّ وَالْغُرْمَ عَلَى السَّارِقِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا سَرَقَ سَارِقٌ نِصَابًا مُحْرَزًا فَإِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ بَاقِيًا اسْتُرِدَّ ، وَقُطِعَ إِجْمَاعًا ، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - . أَنْ يُغَرَّمَ وَيُقْطَعَ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُقْطَعُ ، وَلَا يُغَرَّمُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا ، إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ عَنِ الْقَطْعِ فَيُغَرَّمُ ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْقَطْعِ وَالْغُرْمِ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُوسِرًا قُطِعَ وَأُغْرِمَ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا قُطِعَ ، وَلَمْ يُغَرَّمْ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى سُقُوطِ الْغُرْمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا [ الْمَائِدَةِ : 31 ] . فَجَعَلَ جَزَاءَ كَسْبِهِمَا الْقَطْعُ دُونَ الْغُرْمِ . وَبِرِوَايَةِ الْمُفَضَّلِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ يُونُسَ بْنِ زَيْدٍ وَبِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : إِذَا قُطِعَتْ يَدُ السَّارِقِ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ أَخْذَ الْقِيمَةِ مِنَ السَّارِقِ يَجْعَلُهَا مِلْكًا لَهُ ، وَالْإِنْسَانُ لَا يُقْطَعُ فِي مِلْكِهِ . وَلِأَنَّ الْقَطْعَ ، وَالْغُرْمَ عُقُوبَتَانِ ، وَلَا تَجْتَمِعُ عُقُوبَتَانِ حَدًا فِي ذَنَبٍ وَاحِدٍ وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَى تُؤَدِّيَهُ ، فَجُعِلَ الْأَدَاءُ غَايَةَ الْحُكْمِ وَلِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالْمَنْعِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ مَعَ اعْتِقَادِ وُجُوبِ الرَّدِّ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْغُرْمُ كَالْغَاصِبِ . وَقَوْلُنَا مَعَ اعْتِقَادِ وُجُوبِ الرَّدِّ احْتِرَازًا مِنَ الْحَرْبِيِّ ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ إِذَا سَرَقَ مِنْ سَيِّدِهِ ؛ لِأَنَّ الْغُرْمَ وَجَبَ بِالتَّلَفِ ثُمَّ


سَقَطَ بِالْمِلْكِ وَلِأَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ رَدُّ عَيْنِهِ بِحُكْمِ السَّرِقَةِ فَوَجَبَ أَنْ يُلْزَمَ رَدَّ بَدَلِهِ عِنْدَ التَّلَفِ قِيَاسًا عَلَى مَا لَمْ يَجِبْ فِيهِ الْقَطْعُ ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ مَأْخُوذٌ عَلَى وَجْهِ الْعُدْوَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فِي الْغُرْمِ كَالْغَصْبِ وَلِأَنَّ الْغُرْمَ حَقٌّ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ ثَبَتَ فِي قَلِيلِ الْمِلْكِ فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ فِي كَثِيرِهِ قِيَاسًا عَلَى رَدِّ الْعَيْنِ وَلِأَنَّ مَا ضُمِنَ نُقْصَانُهُ ضُمِنَ بِالتَّلَفِ جَمِيعُهُ كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ ، وَلِأَنَّ الْمَالَ الْكَثِيرَ يُغَلَّظُ حُكْمُهُ بِإِيجَابِ الْقَطْعِ فَلَمْ يَجِبْ أَنْ يُسْتَفَادَ مِنْ تَغْلِيظِ الْحُكْمِ التَّخْفِيفَ بِإِسْقَاطِ الْغُرْمِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ ، فَهُوَ أَنَّ الْقَطْعَ جَزَاءُ السَّرِقَةِ ، وَالْغُرْمَ جَزَاءُ التَّلَفِ . أَلَا تَرَاهُ لَوْ أَتْلَفَ الْمَسْرُوقَ فِي حِرْزِهِ لَزِمَهُ الْغُرْمُ دُونَ الْقَطْعِ وَلَوْ كَانَ بَاقِيًا بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنْ حِرْزِهِ لَزِمَهُ الْقَطْعُ ، وَلَا غُرْمَ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ مَعَ ضَعْفِهِ وَوَهَاءِ إِرْسَالِهِ وَإِسْنَادِهِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى إِسْقَاطِ غُرْمِ الْعُقُوبَةِ ؛ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ كَانَتْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ بِالْغَرَامَةِ . فَكَانَ يُغَرَّمُ السَّارِقُ مِثْلَيْ مَا سَرَقَ لِيَكُونَ أَحَدُهُمَا حَدًّا ، وَالْآخِرُ غُرْمًا فَصَارَ الْقَطْعُ حِينَ ثَبَتَ مُسْقِطًا لَغُرْمِ الْحَدِّ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ يَصِيرُ بِالْغُرْمِ مَالِكًا فَهُوَ أَنَّ مَا تَلِفَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُسْتَحْدَثَ عَلَيْهِ مِلْكٌ وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الْغُرْمُ اسْتِهْلَاكًا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ الْقَطْعَ ، وَالْغُرْمَ عُقُوبَتَانِ فَلَمْ يَجْتَمِعَا فَهُوَ أَنَّهُمَا وَجَبَا بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَجَازَ أَنْ يَجْتَمِعَا كَمَا يَجْتَمِعُ فِي الْعَبْدِ الْقِيمَةُ وَالْحَدُّ ، أَوْ فِي الْقَتْلِ الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ ، وَلَوْ كَانَ لِتَنَافِي اجْتِمَاعِهِمَا أَنْ يَسْقُطَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ لَكَانَ سُقُوطُ الْقَطْعِ بِإِيجَابِ الْغُرْمِ أَوْلَى مِنْ سُقُوطِ الْغُرْمِ بِإِيجَابِ الْقَطْعِ ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ . وَالْغُرْمُ حَقُّ الْآدَمِيِّ لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْحَدِّ وَالْمَهْرِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَلَوْ أَحْرَزَ السَّارِقُ السَّرِقَةَ فَسَرَقَهَا آخَرُ على من القطع فيهما ؟ لَمْ يُقْطَعِ الثَّانِي ، وَقُطِعَ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ إِخْرَاجَهَا مِنْ حِرْزِ السَّارِقِ الْأَوَّلِ وَاجِبٌ .

مَسْأَلَةٌ وَلَوْ غَصَبَ أَرْضًا فَغَرَسَهَا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " وَلَوْ غَصَبَ أَرْضًا فَغَرَسَهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْلَعَ غَرْسَهُ وَيَرُدَّ مَا نَقَصَتِ الْأَرْضُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَرْضَ ، وَالْعَقَارَ يَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الْغَصْبِ إِبْرَاءً ، أَوْ ضَمَانًا وَبِهِ قَالَ فُقَهَاءُ الْحَرَمَيْنِ ، وَالْبَصْرَةِ ، وَخَالَفَ أَهْلُ الْكُوفَةِ . فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجْرِي عَلَى الْأَرْضِ حُكْمُ الْغَصْبِ ، وَلَا حُكْمُ الضَّمَانِ بِالْيَدِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ .


وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ يَجْرِي عَلَيْهِمَا حُكْمُ الضَّمَانِ بِالْيَدِ ، وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِمَا حُكْمُ الْغَصْبِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرُ . وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْكَلَامُ مَعَ مُحَمَّدٍ فَيُقَالُ لَهُ : كُلُّ مَا ضُمِنَ بِالْيَدِ ضُمِنَ بِالْغَصْبِ كَالْمَنْقُولِ عَلَى أَنْ لَيْسَ لِفُرْقَةٍ بَيْنَ ضَمَانِ الْيَدِ وَضَمَانِ الْغَصْبِ تَأْثِيرٌ ، وَإِذَا صَحَّ غَصْبُ الْأَرْضِ فَلَا يَخْلُو حَالُ صَاحِبِهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ شَغَلَهَا بِغِرَاسٍ ، أَوْ بِنَاءٍ ، أَوْ لَمْ يَشْغَلْهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ شَغَلَهَا بِغَرْسٍ ، أَوْ بِنَاءٍ رَدَّهَا وَأُجْرَةَ مِثْلِهَا مُدَّةَ غَصْبِهِ ؛ وَإِنْ شَغْلَهَا بِإِحْدَاثِ غَرْسٍ ، أَوْ بِنَاءٍ أُخِذَ بِقَلْعِ بِنَائِهِ وَغَرْسِهِ ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى أَخْذِ قِيمَتِهَا سَوَاءٌ أَضَرَّ قَلْعُهَا بِالْأَرْضِ أَمْ لَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ لَمْ يَضُرَّ الْقَلْعُ بِالْأَرْضِ إِضْرَارًا بَيِّنًا فَلَهُ الْقَلْعُ ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى أَخْذِ الْقِيمَةِ . وَإِنْ كَانَ فِي قَلْعِهِ إِضْرَارًا فِي الْأَرْضِ فَرَبُّ الْأَرْضِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَبْذُلَ لَهُ قِيمَةَ الْغَرْسِ ، وَالْبِنَاءِ مَقْلُوعًا فَيُجْبَرُ عَلَى أَخْذِهَا وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِقَلْعِ الْغَرْسِ ، وَالْبِنَاءِ فَيُجْبَرُ عَلَى قَلْعِهِمَا اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : لَا ضَرَرَ ، وَلَا ضِرَارَ . وَبِمَا رَوَى مُجَاهِدُ بْنُ جَبْرٍ أَنَّ رَجُلًا غَصَبَ قَوْمًا أَرْضًا بَرَاحًا فَغَرَسَ فِيهَا نَخْلًا فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ : إِنْ شِئْتُمْ فَادْفَعُوا إِلَيْهِ قِيمَةَ النَّخْلِ . وَرَوَى رَافِعٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَنْ زَرَعَ أَرْضَ قَوْمٍ بِلَا إِذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ فِي الزَّرْعِ شَيْءٌ وَلَهُ نَفَقَتُهُ قَالَ : وَلِأَنَّ مَنْ دَخَلَ تَمْلِيكٌ عَلَى مِلْكٍ اسْتَحَقَّ الْمَالِكُ إِزَالَةَ مِلْكِ الدَّاخِلِ كَالشَّفِيعِ . وَدَلِيلُنَا : مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ . وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا غَصَبَ أَرْضًا مِنْ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ فَغَرَسَهَا نَخْلًا عَمًّا فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ بِقَلْعِهِ ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِرَبِّ الْأَرْضِ خِيَارًا وَلَوِ اسْتَحَقَّ خِيَارًا لَأَعْلَمَهُ وَحَكَمَ بِهِ وَلِأَنَّ يَسِيرَ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ أَشْبَهُ بِأَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِلْأَرْضِ مِنْ كَثِيرِهِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الْأَرْضِ أَنْ يَتَمَلَّكَ يَسِيرَهُ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَتَمَلَّكَ كَثِيرَهُ وَيَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا لَمْ يُمْلَكْ بِالْغَصْبِ يَسِيرُهُ لَمْ يُمْلَكْ بِهِ كَثِيرُهُ كَالْمَتَاعِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ عُدْوَانٌ لَا تَمَلُّكٌ بِالْأَعْيَانِ الْمُنْفَصِلَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تُمْلَكَ بِهِ الْأَعْيَانُ الْمُتَّصِلَةُ كَالْيَسِيرِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ عَنْهُ : لَا ضَرَرَ ، وَلَا ضِرَارَ فَهُوَ أَنَّ رَفْعَ الضَّرَرِ مُسْتَحَقٌّ وَلَكِنْ لَيْسَ بِتَمَلُّكِ الْعَيْنِ وَإِنَّمَا يَكُونُ بِمَا سَنَذْكُرُهُ وَأَمَّا قَضِيَّةُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَمُرْسَلَةٌ ؛ لِأَنَّ مُجَاهِدًا لَمْ يَلْقَ عُمَرَ ثُمَّ لَا دَلِيلَ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ إِنْ لَمْ تَنْقُلْ شَرْحًا لَمْ تُلْزِمْ حُكْمًا . وَالثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ إِنْ شِئْتُمْ فَادْفَعُوا قِيمَةَ النَّخْلِ بَعْدَ أَنْ طَلَبَ صَاحِبُهَا ذَلِكَ وَهَذَا عِنْدَنَا


جَائِزٌ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : مَنْ زَرَعَ أَرْضَ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ هل لَهُ فِي الزَّرْعِ شَيْءٌ ؟ فَلَيْسَ لَهُ فِي الزَّرْعِ شَيْءٌ : فَفِيهِ جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَى أَنَّهُ زَرْعُ أَرْضِهِمْ بِبَذْرِهِمْ . وَالثَّانِي : لَيْسَ لَهُ فِي الزَّرْعِ حَقُّ التَّرْكِ ، وَالِاسْتِبْقَاءُ بِمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ : لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ . وَقَوْلُهُ فَلَهُ نَفَقَتُهُ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَرَادَ زَرْعَهُ فَعَبَّرَ عَنِ الزَّرْعِ بِالنَّفَقَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ لَهُ نَفَقَتَهُ فِي أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِهَا ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الشُّفْعَةِ فَمُنْتَقِضٌ بِإِدْخَالِ الْمَتَاعِ وَيَسِيرِ الْغِرَاسِ ، وَالْبِنَاءِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الشُّفْعَةِ أَنَّ الْمِلْكَيْنِ لَا يَتَمَيَّزَانِ وَلِذَلِكَ خَصَصْنَا الشُّفْعَةَ بِالْخَلْطَةِ ، وَفِي الْغَصْبِ يَتَمَيَّزُ فَصَارَ كَالْجَارِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ عِنْدَنَا شُفْعَةً . فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْغَرْسِ ، وَالْبِنَاءِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ مَلِكًا لِلْغَاصِبِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَغْصُوبًا مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مَغْصُوبًا مِنْ غَيْرِهِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ فَلِرَبِّ الْأَرْضِ ، وَالْغَاصِبِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحُدُهَا : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى تَرْكِ الْغَرْسِ ، وَالْبِنَاءِ بِأَجْرٍ وَبِغَيْرِ أَجْرٍ فَيَجُوزُ مَا أَقَامَ عَلَى إِنْفَاقِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهِ يَخْتَصُّ بِهِمَا لَمْ يَنْظُرْ فَإِنْ كَانَ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ اسْتَحَقَّ الْمُسَمَّى فِيهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِي مُطَالَبَةِ الْمُسْتَأْجِرِ بِالْقَلْعِ قَبْلَ مَا يَقْضِي الْمُدَّةَ سَوَاءٌ عَلِمَ قَدْرَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْهَا ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَقْدٍ فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالْعَفْوِ عَنْهُمَا وَأَنْ يَأْخُذَ . بِالْقَطْعِ مَتَى شَاءَ . وَالْحَالُ الثَّانِي : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَخْذِ قِيمَةِ الْغَرْسِ ، وَالْبِنَاءِ قَائِمًا ، أَوْ مَقْطُوعًا فَيَجُوزُ وَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْعًا يُرَاعَى فِيهِ شُرُوطُ الْمَبِيعِ ؛ لِأَنَّهُ عَنْ مُرَاضَاةٍ فَإِنْ كَانَ عَلَى الشَّجَرِ ثَمَرٌ مَلِكَهُ الْغَاصِبُ إِنْ كَانَ مُؤَبَّرًا كَالْبَيْعِ ، وَلَا يَلْزَمُ الْغَاصِبَ أَرْشُ مَا كَانَ يَنْقُصُ مِنَ الْأَرْضِ لَوْ قُلِعَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقْلَعْ . فَلَوْ كَانَ الْغَاصِبُ قَدْ بَاعَ الْغَرْسَ وَالْبِنَاءَ عَلَى غَيْرِ مَالِكِ الْأَرْضِ ، فَعَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِشَرْطِ التَّرْكِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ تَرْكَهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ . وَالثَّانِي : أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِشَرْطِ الْقَلْعِ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ ، فَإِذَا قَلَعَهُ الْمُشْتَرِي فَأَحْدَثَ الْقَلْعُ نَقْصًا فَأَرْشُهُ عَلَى الْغَاصِبِ دُونَ الْمُشْتَرِي لِحُدُوثِهِ عَنْ تَعْدِيَةٍ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَشْتَرِيَهُ مُطْلَقًا فَفِي الْبَيْعِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي الْبِنَاءِ ، وَالْغَرْسِ التَّرْكُ وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ وَيَأْخُذُ الْمُشْتَرِي بِالْقَلْعِ وَلَهُ الْخِيَارُ إِنْ شَاءَ عَلِمَ أَمْ لَمْ يَعْلَمْ .


وَالْحَالُ الثَّالِثُ : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَخْذِ ثَمَنِ الْأَرْضِ مِنَ الْغَاصِبِ فَيَجُوزُ ، وَتَسْقُطُ الْمُطَالَبَةُ عَنِ الْغَاصِبِ إِلَّا بِثَمَنِ الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بَعْدَ الثَّمَنِ بِأَرْشِ النَّقْصِ لَوْ قَلَعَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْلَعْ وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْأَرْضِ قَدْ بَاعَهَا عَلَى أَجْنَبِيٍّ غَيْرِ الْغَاصِبِ كَانَ لِلْأَجْنَبِيِّ الَّذِي ابْتَاعَهَا أَنْ يَأْخُذَ الْغَاصِبَ بِقَلْعِ بِنَائِهِ وَغَرْسِهِ فَإِذَا قَلَعَ لَمْ يَكُنْ لِلْأَوَّلِ أَنْ يُطَالِبَ الْغَاصِبَ بِأَرْشِ الْقَلْعِ لِزَوَالِ مِلْكِهِ قَبْلَ الْقَلْعِ ، وَلَا لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُطَالِبَهُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَيْبٌ قَدْ دَخَلَ عَلَى رِضًى بِهِ وَيَكُونُ الْبَيْعُ سَبَبًا لِسُقُوطِ الْأَرْشِ عَنِ الْغَاصِبِ . وَالْحَالُ الرَّابِعُ : أَنْ لَا يَتَّفِقَا عَلَى أَحَدِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ فَيُؤْخَذُ الْغَاصِبُ بِالْقَلْعِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ . فَإِذَا قَلَعَ بَرِئَ مِنْ أُجْرَةِ الْأَرْضِ بَعْدَ قَلْعِهِ ثُمَّ يُنْظَرُ حَالُ الْأَرْضِ فَإِنْ لَمْ تَنْقُصْ بِالْقَلْعِ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَقَدْ بَرِئَ مِنْ رَدِّ الْأَرْضِ بَعْدَ الْقَلْعِ مِنْ ضَمَانِ الْغَصْبِ وَحُكْمِهِ ، وَإِنْ نَقَصَ الْقَلْعُ فِيهَا فَصَارَتْ حُفَرًا تَضُرُّ بِهَا فَالْغَاصِبُ ضَامِنٌ لَهَا ، غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ هَاهُنَا : يَرُدُّ مَا نَقَصَتِ الْأَرْضُ ، وَقَالَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ فِي قَلْعِ الْحِجَارَةِ الْمُسْتَوْدَعَةِ في الأرض المباعة هل عَلَيْهِ تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ . : إِنَّ عَلَيْهِ تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ ، وَلَا يَتْرُكُهَا حُفَرًا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَتَخَرَّجُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي الْبَيْعِ ، وَالْغَصْبِ : أَحَدُهُمَا : يَرْجِعُ بِأَرْشِ النَّقْصِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِأَنَّهُ نَقْصُ فِعْلٍ مَضْمُونٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ عَلَيْهِ تَسْوِيَةَ الْأَرْضِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ حَتَّى لَا تَكُونَ حُفَرًا ؛ لِأَنَّ زَوَالَ التَّعَدِّي بِالْمِثْلِ أَوْلَى مِنَ الْقِيمَةِ . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلِ الْجَوَابُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَيَلْزَمُهُ فِي الْغَصْبِ أَرْشُ النَّقْصِ وَفِي الْبَيْعِ تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْغَاصِبَ مُتَعَدٍّ فَنُغْلِظُ حُكْمَهُ بِالْأَرْشِ ، وَالْبَائِعُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فَنُخَفِّفُ حُكْمَهُ بِتَسْوِيَةِ الْأَرْضِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْغَرْسُ ، وَالْبِنَاءُ مِلْكٌ لِرَبِّ الْأَرْضِ ، فَإِنْ رَضِيَ رَبُّ الْأَرْضِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْضَ بِغَرْسِهَا وَبِنَائِهَا قَائِمًا أَخَذَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ مَؤُنَةِ الْبِنَاءِ وَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ أَنْ يَنْقُضَ الْغَرْسَ ، وَالْبِنَاءَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِقَلْعِهَا شَيْئًا فَصَارَ ذَلِكَ مِنْهُ سَفَهًا وَإِنْ طَالَبَ رَبُّ الْأَرْضِ الْغَاصِبَ بِقَلْعِ الْغَرْسِ ، وَالْبِنَاءِ لِيَنْفَصِلَا عَنِ الْأَرْضِ فَإِنْ كَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ غَرَضٌ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا أُجْبِرَ الْغَاصِبُ عَلَى الْقَلْعِ وَلَزِمَهُ نَقْصُ الْغَرْسِ ، وَالْبِنَاءِ عَمَّا كَانَ قَبْلَ أَنْ غَرَسَ وَبَنَى وَنَقَصَ الْأَرْضَ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي قَلْعِهِ غَرَضٌ يَصِحُّ لِقَاصِدٍ فَهَلْ يُجْبَرُ الْغَاصِبُ عَلَى قَلْعِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ عَبَثٌ وَسَفَهٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُجْبَرُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ مُتَحَكِّمٌ عَلَى الْغَاصِبِ لِتَعَدِّيهِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ


قِيمَتُهُ تَنْقُصُ إِنْ قَلَعَ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْغَرْسِ ، وَالْبِنَاءِ فَطَالَبَهُ بِأَرْشِ النَّقْصِ مَعَ تَرْكِ الْغَرْسِ ، وَالْبِنَاءِ قَائِمًا ، فَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَلْعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَرْشٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَائِمًا نَقْصٌ . وَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الثَّانِي أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْقَلْعِ اسْتَحَقَّ الْأَرْشَ إِنْ كَانَ قَائِمًا غَيْرَ نَاقِصٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ الْمُطَالَبَةَ بِهِ مَعَ الْتِزَامِ مَؤُنَةِ الْقَلْعِ فَأَوْلَى أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمُطَالَبَةَ بِهِ مَعَ عَفْوِهِ عَنِ الْقَلْعِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْغَرْسُ ، وَالْبِنَاءُ مَغْصُوبَيْنِ مِنْ غَيْرِ مَالِكِ الْأَرْضِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ وَرَبِّ الْغَرْسِ أَنْ يَأْخُذَ الْغَاصِبَ بِالْقَلْعِ ثُمَّ يَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ بِأَرْشِ مَا نَقَصَ مِنْ مِلْكِهِ فَيَرْجِعُ رَبُّ الْأَرْضِ بِمَا نَقَصَ مِنْ أَرْضِهِ وَيَرْجِعُ رَبُّ الْغَرْسِ بِمَا نَقَصَ مِنْ غَرْسِهِ فَلَوْ أَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ اشْتَرَى الْغَرْسَ مِنْ رَبِّهِ قَبْلَ الْقَلْعِ صَارَ مَالِكًا لَهُمَا ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْغَاصِبَ بِالْقَلْعِ إِنْ كَانَ فِي قَلْعِهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ وَيَأْخُذُ مِنْهُ نَقْصَ الْأَرْضِ دُونَ الشَّجَرِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتُحْدِثَ مِلْكَ الشَّجَرِ بَعْدَ الْغَصْبِ وَلَوْ أَنَّ رَبَّ الشَّجَرِ اشْتَرَى الْأَرْضَ مِنْ رَبِّهَا قَبْلَ الْقَلْعِ صَارَ مَالِكًا لَهَا وَكَانَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْغَاصِبِ بِالْقَلْعِ إِنْ كَانَ فِي قَلْعِهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ ثُمَّ يَأْخُذُ مِنْهُ نَقْصَ الشَّجَرِ دُونَ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتُحْدِثَ مِلْكَ الْأَرْضِ بَعْدَ الْغَصْبِ فَلَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مِلْكِهِ وَأَبَى الْغَاصِبُ أَنْ يَلْتَزِمَ لَهُمَا مَؤُنَةَ الْقَلْعِ وَاخْتَلَفَا فِي تَحَمُّلِهَا فَفِي مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ خَلَاصَ أَرْضِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الْغَرْسِ ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَخْذَ غَرْسِهِ ثُمَّ هِيَ لِمَنْ غَرِمَهَا دَيْنٌ عَلَى الْغَاصِبِ .

فَصْلٌ : فَلَوْ أَطَارَتِ الرِّيحُ ، أَوْ حَمَلَ السَّيْلُ حِنْطَةَ رَجُلٍ إِلَى أَرْضِ آخَرَ فَنَبَتَتْ فِيهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِقْرَارِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ كَجٍّ : أَحَدُهُمَا : يُقْلَعُ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَمْدِ ، وَالْخَطَأِ فِي الْأَمْوَالِ سَوَاءٌ . وَالثَّانِي : يُقَرُّ عَلَى حَالِهِ إِلَى وَقْتِ حَصَادِهِ ؛ لِأَنَّ مَالِكَهُ غَيْرَ مُتَعَدٍّ بِهِ وَأَصَحُّ عِنْدِي مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يُنْظَرَ فِي الزَّرْعِ بَعْدَ قَلْعِهِ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مَقْلُوعًا كَقِيمَةِ الْحِنْطَةِ ، أَوْ أَكْثَرَ أُجْبِرَ عَلَى قَلْعِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ نَقْصٌ حِينَ نَبَتَتْ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ لَوْ قَلَعَ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْحِنْطَةِ تُرِكَ ، وَلَمْ يُقْلَعْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ فَيَلْتَزِمُ ضَرَرَ عُدْوَانِهِ ، وَمَا يَدْخُلُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ مِنَ الضَّرَرِ فَقَدِ اسْتَدْرَكَهُ بِالْأُجْرَةِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا بَعْدَ الْعِلْمِ ، وَالتَّنَازُعِ ، وَلَا أُجْرَةَ لِرَبِّ الْأَرْضِ فِيمَا قَبْلُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانٌ . وَقَالَ مَالِكٌ : قَدْ زَالَ مِلْكُ الْأَوَّلِ عَمَّا احْتَمَلَهُ السَّيْلُ مِنَ الْحِنْطَةِ وَصَارَ مِلْكًا لِلثَّانِي . وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ ضَيَاعَ الْمَالِ لَا يُزِيلُ مِلْكَ رَبِّهِ عَنْهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " وَلَوْ حَفَرَ فِيهَا بِئْرًا فَأَرَادَ الْغَاصِبُ دَفْنَهَا فَلَهُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَنْفَعْهُ " .


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا كَسَبَ أَرْضًا وَحَفَرَ فِيهَا بِئْرًا إذا كان غاصبا هل عَلَيْهِ سَدُّهَا وَضَمَانُ مَا تَلِفَ فِيهَا ، وما هي أحوال صاحب الأرض مع الغاصب . كَانَ مُتَعَدِّيًا بِحَفْرِهَا وَعَلَيْهِ سَدُّهَا وَضَمَانُ مَا تَلِفَ فِيهَا ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ رَبِّ الْأَرْضِ ، وَالْغَاصِبِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى سَدِّهَا لِيَبْرَأَ الْغَاصِبُ مِنْ ضَمَانِ مَا يَسْقُطُ فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْأَرْضِ بَعْدَ سَدِّهَا أَرْشٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ سِوَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ فِي مُدَّةِ الْغَصْبِ ، وَإِنْ كَانَ لَهَا أَرْشٌ كَانَ عَلَيْهِ غُرْمُهُ مَعَ الْأُجْرَةِ . وَالْحَالُ الثَّانِي : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى تَرْكِهَا فَذَاكَ لَهُمَا ، وَعَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ مَا سَقَطَ فِيهَا لِتَعَدِّيهِ بِحَفْرِهَا وَلَيْسَ لِرَبِّ الْأَرْضِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِمُؤْنَةِ السَّدِّ وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مَتَى شَاءَ بِالسَّدِّ . وَالْحَالُ الثَّالِثُ : أَنْ يَدْعُوَ رَبُّ الْأَرْضِ إِلَى سَدِّهَا وَيَأْبَى الْغَاصِبُ فَإِنَّ الْغَاصِبَ يُجْبَرُ عَلَى سَدِّهَا إِنْ كَانَ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ وتفسير معنى العرق الظالم . قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : وَالْعُرُوقُ أَرْبَعَةٌ عِرْقَانِ ظَاهِرَانِ الْغَرْسُ ، وَالْبِنَاءُ . وَعِرْقَانِ بَاطِنَانِ الْبِئْرُ ، وَالنَّهْرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ كَمَا قُلْنَا فِي قَلْعِ الْغَرْسِ ، وَالْبِنَاءِ . وَالْحَالُ الرَّابِعُ : أَنْ يَدْعُوَ الْغَاصِبُ إِلَى سَدِّهَا وَيَأْبَى رَبُّهَا فَإِنْ لَمْ يُبَرِّئْهُ رَبُّهَا مِنْ ضَمَانِ مَا تَلِفَ فِيهَا فَلَهُ سَدُّهَا لِيَسْتَفِيدَ بِهِ سُقُوطَ الضَّمَانِ عَنْهُ وَإِنْ أَبْرَأَهُ بِهَا مِنَ الضَّمَانِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ لِلْغَاصِبَ أَنْ يَسُدَّهَا ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ قَدْ يَجِبُ لِغَيْرِهِ فَلَا يَسْقُطُ بِإِبْرَائِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْغَاصِبَ يُمْنَعُ مِنْ سَدِّهَا ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِبْرَاءِ يَصِيرُ كَالْإِذْنِ لَهُ فِي الِابْتِدَاءِ فَيَرْتَفِعُ التَّعَدِّي ، وَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانٌ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا إِذَا دَفَنَ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ مَيِّتًا أَخَذَ الْغَاصِبُ بِنَبْشِهِ مِنْهَا ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ انْتِهَاكُ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّ دَفْنَهُ فِيهَا عُدْوَانٌ يَأْثَمُ بِهِ الدَّافِنُ ثُمَّ إِذَا نَبَشَ ضَمِنَ أَرْشَ نَقْصِهَا إِنْ نَقَصَتْ ، فَلَوْ قَالَ مَالِكُ الْأَرْضِ أَنَا أُقِرُّ الْمَيِّتَ مَدْفُونًا فِي الْأَرْضِ إِنْ ضَمِنَ لِي نَقْصَ الْأَرْضِ بِالدَّفْنِ فِيهَا فَفِي إِجْبَارِ الْغَاصِبِ عَلَى بَذْلِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُجْبَرُ عَلَى بَذْلِهِ حِفْظًا لِحُرْمَةِ الْمَيِّتِ الْمُتَعَدِّي هُوَ بِدَفْنِهِ فِيهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَدْفُونٌ بِغَيْرِ حَقٍّ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَكَذَلِكَ لَوْ زَوَّقَ دَارًا كَانَ لَهُ نَزْعُ التَّزْوِيقِ حَتَّى يَرُدَّ ذَلِكَ بِحَالِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ زَوَّقَ دَارًا . فَكَانَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْهُمْ يَرْوِيهِ : وَكَذَلِكَ لَوْ رَوَّقَ بِالرَّاءِ غَيْرِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الرِّوَاقِ وَيُجْعَلُ حُكْمُهُ حُكْمُ الْبِنَاءِ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى ، وَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ وَكَذَلِكَ لَوْ زَوَّقَ بِالزَّايِ مُعْجَمَةً


مِنَ التَّزَاوِيقِ ، وَالزَّخْرَفَةِ ؛ لِأَنَّ الزِّوَاقَ مِنْ جُمْلَةِ الْبِنَاءِ ، وَقَدْ ذَكَرَهُ مِنْ قَبْلُ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا زَوَّقَ دَارًا مَغْصُوبَةً إذا زَوَّقَ الغَاصِب دَارًا مَغْصُوبَةً فلمَالِك الدار أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ مع الغاصب فَلَا يَخْلُو حَالُ مَالِكِهَا وَغَاصِبِهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى تَرْكِ التَّزَاوِيقِ لِحَالِهَا فَذَلِكَ لَهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَحْظُورٌ مِنْ صُوَرٍ ذَاتِ أَرْوَاحٍ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهَا . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى قَلْعِهَا وَإِزَالَتِهَا فَذَلِكَ لَهَا سَوَاءٌ انْتَفَعَ الْغَاصِبُ بِالْقَلْعِ أَمْ لَا ، ثُمَّ إِنْ أَثَّرَ الْقَلْعُ فِي الْحِيطَانِ نَقْصًا ، فَعَلَى الْغَاصِبِ غَرَامَةُ أَرْشِهِ . وَالْحَالُ الثَّالِثُ : أَنْ يَدْعُوَ الْغَاصِبُ إِلَى قَلْعِهَا وَيَأْبَى رَبُّ الدَّارِ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَرْجُوعٌ بَعْدَ الْقَلْعِ فَلِلْغَاصِبِ قَلْعُهَا ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَرْجُوعٌ فَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ قَلْعُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِقَلْعِهَا إِلَّا إِتْعَابَ نَفْسِهِ وَأَعْوَانِهِ وَإِذْهَابَ نَفَقَتِهِ . وَالْحَالُ الرَّابِعُ : أَنْ يَدْعُوَ رَبُّ الدَّارِ إِلَى قَلْعِهَا وَيَأْبَى الْغَاصِبُ فَإِنْ كَانَ تَرْكُهَا مُوكِسًا لِلدَّارِ أُجْبِرَ الْغَاصِبُ عَلَى الْقَلْعِ وَغَرَامَةِ الْأَرْشِ وَإِنْ كَانَ زَائِدًا ، أَوْ لَمْ يَكُنْ مُوكِسًا فَإِنْ تَرَكَهُ الْغَاصِبُ مُسْتَبْقِيًا لَهُ عَلَى مِلْكِهِ أُجْبِرَ عَلَى الْقَلْعِ وَإِنْ تَرَكَهُ مُزِيلًا لِمُلْكِهِ عَنْهُ فَإِنْ كَانَتْ آثَارًا كَالْأَصْبَاغِ ، وَلَمْ تَكُنْ أَعْيَانًا لَمْ يُجْبَرِ الْغَاصِبُ عَلَى إِزَالَتِهَا ؛ لِأَنَّهَا آثَارٌ زَائِدَةٌ كَغَسْلِ الثَّوْبِ وَكَانَ الْعَفْوُ عَنْهَا إِبْرَاءً مِنْهَا وَإِنْ كَانَتْ أَعْيَانًا كَالْجَصِّ ، وَالرُّخَامِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تُتْرَكُ كَالْآثَارِ ، وَلَا يُجْبَرُ الْغَاصِبُ عَلَى قَلْعِهَا ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُؤْخَذُ الْغَاصِبُ بِقَلْعِهَا ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا يُجْبَرُ الْإِنْسَانُ عَلَى تَمَلُّكِهَا وَأَصْلُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مِنَ الزَّوْجِ إِذَا أَصْدَقَ زَوْجَتَهُ ثَمَرَةً وَجَعَلَهَا فِي صُفْرٍ لَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ لِزَوْجَتِهِ هَلْ تُجْبَرُ الزَّوْجَةُ عَلَى قَبُولِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " وَكَذَلِكَ لَوْ نَقَلَ عَنْهَا تُرَابًا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ مَا نَقَلَ عَنْهَا حَتَّى يُوَفِّيَهُ إِيَّاهَا بِالْحَالِ الَّتِي أَخَذَهَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) غَيْرُ هَذَا أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ لَوْ غَصَبَ غَزْلًا فَنَسَجَهُ ثَوْبًا ، أَوْ نُقْرَةً فَطَبَعَهَا دَنَانِيرَ أَوْ طِينًا فَضَرَبَهُ لَبِنًا هل لِلْغَاصِبِ حَقَّ فِي ذَلِكَ ؟ فَهَذَا أَثَرٌ لَا عَيْنٌ وَمَنْفَعَةٌ لِلْمَغْصُوبِ ، وَلَا حَقَّ فِي ذَلِكَ لِلْغَاصِبِ فَكَذَلِكَ نَقْلُ التُّرَابِ عَنِ الْأَرْضِ ، وَالْبِئْرِ إِذَا لَمْ تُبْنَ بِطُوبٍ أَثَرٌ لَا عَيْنٌ وَمَنْفَعَةٌ لِلْمَغْصُوبِ ، وَلَا حَقَّ فِي ذَلِكَ لِلْغَاصِبِ مَعَ أَنَّ هَذَا فَسَادٌ لِنَفَقَتِهِ وَإِتْعَابُ بَدَنِهِ وَأَعْوَانِهِ بِمَا فِيهِ مَضَرَّةٌ عَلَى أَخِيهِ ، وَلَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِيهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ غَصَبَ مِنْ رَجُلٍ أَرْضًا فَنَقَلَ مِنْهَا تُرَابًا فَلَا يَخْلُو حَالُ التُّرَابِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا ، أَوْ مُسْتَهْلَكًا فَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتُهْلِكَ فَعَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِهِ إِنْ كَانَ لِلتُّرَابِ مِثْلٌ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تُرَابٍ لَيْسَ فِي النَّاحِيَةِ مِثْلُهَا ضَمِنَ الْقِيمَةَ وَفِيهَا وَجْهَانِ :


أَحَدُهُمَا : وَقَدْ نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ أَنْ تُقَوَّمَ الْأَرْضُ وَعَلَيْهَا التُّرَابُ الَّذِي أُخِذَ مِنْهَا ثُمَّ تُقَوَّمُ بَعْدَ أَخْذِهِ مِنْهَا وَيَضْمَنُ الْغَاصِبُ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَضْمَنُ أَكْثَرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ هَذَا وَمِنْ قِيمَةِ التُّرَابِ بَعْدَ نَقْلِهِ عَنِ الْأَرْضِ . وَإِنْ كَانَ التُّرَابُ بَاقِيًا فَلِلْغَاصِبِ وَرَبِّ الْأَرْضِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى رَدِّهِ إِلَى الْأَرْضِ فَيَبْرَأُ الْغَاصِبُ مِنْهُ وَيَلْزَمُهُ بَعْدَ رَدِّهِ غُرْمُ نَقْصٍ إِنْ كَانَ فِي الْأَرْضِ وَأُجْرَةُ مِثْلِهَا فِي أَكْثَرِ الْحَالَيْنِ أُجْرَةً مِنْ كَوْنِهَا ذَاتَ تُرَابٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَاتِ تُرَابٍ إِلَى أَنْ أَخَذَ فِي رَدِّ التُّرَابِ فَأَمَّا أُجْرَتُهَا فِي زَمَانِ رَدِّ التُّرَابِ إِلَيْهَا فَإِنْ كَانَ رَدُّهُ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْمَالِكِ لَهَا وَتَصَرُّفِهِ فِيهَا فَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْمَالِكِ لَهَا فَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى تَرْكِ التُّرَابِ خَارِجًا عَنْهَا وَأَنْ لَا يَرُدَّهُ إِلَيْهَا فَذَلِكَ لَهُمَا مَا لَمْ يَطْرَحِ التُّرَابَ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ وَهَبَ لَهُ التُّرَابَ فَلَيْسَ لَهُ أَبَدًا فِي اسْتِرْجَاعِهِ وَرَدِّهِ حَقٌّ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَهَبْهُ لَهُ فَمَتَى طَالَبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بَرَدِّهِ كَانَ لَهُ وَأَخَذَ الْغَاصِبُ بِرَدِّهِ فَإِنْ طَالَبَهُ بِنَقْصِ الْأَرْضِ نَظَرَ . فَإِنْ كَانَ رَدُّ التُّرَابِ إِلَيْهَا يَمْنَعُ مِنَ النَّقْصِ فَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِالنَّقْصِ وَإِنْ كَانَ رَدُّ التُّرَابِ إِلَيْهَا لَا يَمْنَعُ مِنَ النَّقْصِ فَلَهُ مُطَالَبَتُهُ بِالنَّقْصِ الْحَاصِلِ فِيهَا بَعْدَ رَدِّ التُّرَابِ إِلَيْهَا . وَالْحَالُ الثَّالِثُ : أَنْ يَدْعُوَ رَبُّ الْأَرْضِ إِلَى رَدِّ التُّرَابِ إِلَيْهَا وَيَمْتَنِعَ الْغَاصِبُ فَيُؤْخَذُ الْغَاصِبُ جَبْرًا بِرَدِّ التُّرَابِ إِلَيْهَا فَإِنْ عَظُمَتْ مَؤُنَةُ رَدِّهِ وَتَضَاعَفَتِ الْكُلْفَةُ فِي نَقْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ بِعُدْوَانِهِ وَغَصْبِهِ سَوَاءٌ كَانَ لِلْمَالِكِ فِي رَدِّ التُّرَابِ نَفْعٌ أَمْ لَا بِخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ فِي قَلْعِ الشَّجَرِ ، وَالتَّزْوِيقِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّ التُّرَابَ عَيْنٌ يَمْلِكُهَا فَكَانَ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَنْفَعْهُ كَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا زَمِنًا لَا يَنْفَعُ سَيِّدَهُ وَهُوَ كَلٌّ عَلَيْهِ يَلْتَزِمُ نَفَقَتَهُ ، وَلَا يَرْجُو نَفْعَهُ فَإِنَّ الْغَاصِبَ مَأْخُوذٌ بِرَدِّهِ عَلَى مَالِكِهِ وَإِنْ ثَقُلَتْ عَلَيْهِ مَؤُنَةُ رَدِّهِ . وَالْحَالُ الرَّابِعُ : أَنْ يَدْعُوَ الْغَاصِبُ إِلَى رَدِّهِ وَيَمْتَنِعَ مِنْهُ الْمَالِكُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَالِكِ فِي مَنْعِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُبَرِّئَهُ مِنْ ضَمَانِ التُّرَابِ ، أَوْ لَا يُبْرِئُهُ فَإِنْ مَنَعَهُ مِنْ رَدِّهِ ، وَلَمْ يُبَرِّئْهُ مِنْ ضَمَانِهِ فَلِلْغَاصِبِ رَدُّ التُّرَابِ وَحْدَهُ لِيَسْقُطَ عَنْهُ ضَمَانُهُ بِالرَّدِّ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَنْعِهِ وَإِنْ مَنَعَهُ مِنْ رَدِّهِ بَعْدَ إِبْرَائِهِ مِنْهُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْغَاصِبِ مَنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي رَدِّهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ ، أَوْ لَا غَرَضَ لَهُ فِي رَدِّهِ صَحِيحٌ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ نَقَلَهُ إِلَى أَرْضٍ أُخْرَى مَغْصُوبَةٍ فَيَرُدُّهُ لِيَبْرَأَ مِنْ غَصْبِهَا ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ قَدْ نَقَلَهُ إِلَى طَرِيقٍ سَابِلَةٍ تَضِيقُ عَنْهُ ، أَوْ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَتْلَفَ بِهِ مَا يَضْمَنُهُ . وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ قَدْ


نَقْلَهُ إِلَى مَسْجِدٍ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يُقَرُّ عَلَى تَرْكِهِ فِيهِ ، وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ الَّتِي نُقِلَ التُّرَابُ عَنْهَا قَدْ صَارَتْ حُفَرًا لَا يُأْمَنُ ضَمَانُ مَا يَسْقُطُ فِيهَا فَهَذِهِ كُلُّهَا أَغْرَاضٌ صَحِيحَةٌ وَلِلْغَاصِبِ أَنْ يَرُدَّ التُّرَابَ لِأَجْلِهَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي نَقَلَهُ عَنْهُ وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْغَاصِبِ فِي رَدِّهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ لِحُصُولِ التُّرَابِ فِي أَرْضٍ أُخْرَى لِمَالِكِ التُّرَابِ ، أَوْ فِي مَوَاتٍ لَا يُمْنَعُ مِنْ تَرْكِهِ فِيهِ مُنِعَ الْغَاصِبُ مِنْ رَدِّهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِتْعَابِ بَدَنِهِ وَأَعْوَانِهِ بِغَيْرِ نَفْعٍ يَرْجِعُ إِلَيْهِ وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِ إِضْرَارٌ لِغَيْرِهِ وَهَذَا سَفَهٌ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ الْغَاصِبَ مِنْ سَدِّ الْبِئْرِ وَرَدِّ التُّرَابِ إِذَا مَنَعَهُ الْمَالِكُ مِنَ السَّدِّ ، وَالرَّدِّ اسْتِشْهَادًا بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ نَسْجِ الْغَزْلِ ثَوْبًا وَضَرْبِ الطِّينِ لَبِنًا وَطَبْعِ النُّقْرَةِ دَنَانِيرَ فَنَبْدَأُ بِشَرْحِ الْمَذْهَبِ فِيمَا ذَكَرَهُ ثُمَّ بِالْكَلَامِ مَعَهُ ، وَالْمَذْهَبُ فِي الْغَزَلِ إِذَا نَسَجَهُ الْغَاصِبُ ثَوْبًا ، وَالطِّينِ إِذَا ضَرَبَهُ لَبِنًا ، وَالنُّقْرَةِ إِذَا طَبَعَهَا دَنَانِيرَ أَنَّهُ مَتَى رَضِيَ الْمَالِكُ بِأَخْذِ الْغَزْلِ ثَوْبًا مَنْسُوجًا ، وَالطِّينِ لَبِنًا مَضْرُوبًا ، وَالنُّقْرَةِ دَنَانِيرَ مَطْبُوعَةً فَلَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ نَقْضُ الْغَزْلِ وَتَكْسِيرُ اللَّبِنِ وَسَبْكِ الدَّنَانِيرِ وَلَيْسَ لَهُ أَيْضًا أُجْرَةُ الْعَمَلِ . أَمَّا النَّقْضُ ، وَالتَّكْسِيرُ ، وَالسَّبْكُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِتْعَابِ بَدَنِهِ وَأَعْوَانِهِ مِنْ غَيْرِ اجْتِلَابِ نَفْعٍ ، وَلَا دَفْعٍ لِضَرَرٍ . وَأَمَّا الْأُجْرَةُ فَلِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ عَمِلَ عَمَلًا وَتَعَدَّى بِهِ الْمُتَعَدِّي لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ أَجْرًا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ عَمِلَهُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِلَ لِنَفْسِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَى غَيْرِهِ أَجْرًا فَلَوْ أَنَّ الْغَاصِبَ قَبْلَ تَسْلِيمِ ذَلِكَ إِلَى مَالِكِهِ نَقَضَ الثَّوْبَ فَجَعَلَهُ غَزْلًا وَكَسَرَ اللَّبِنَ طِينًا وَسَبَكَ الدَّنَانِيرَ نُقْرَةً حَتَّى صَارَ عَلَى حَالِهِ الْأُولَى قَبْلَ الْغَصْبِ ضَمِنَ مَا بَيْنَ قِيمَةِ الثَّوْبِ مَنْسُوجًا وَغَزْلًا ، وَمَا بَيْنَ قِيمَةِ اللَّبِنِ مَضْرُوبًا وَطِينًا ، وَمَا بَيْنَ قِيمَةِ الدَّنَانِيرِ مَطْبُوعَةً وَنُقْرَةً ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهَا حِينَ زَادَتْ بِعَمَلِهِ وَيُمْنَعُ مِنْ إِعَادَتِهَا إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ ، فَلَزِمَهُ ضَمَانُ النَّقْصِ . فَأَمَّا رَبُّ الْغَزْلِ ، وَالطِّينِ ، وَالنُّقْرَةِ إِذَا طَالَبَ الْغَاصِبَ بِنَقْضِ الثَّوْبِ غَزْلًا وَتَكْسِيرِ اللَّبِنِ طِينًا وَسَبْكِ الدَّنَانِيرِ نُقْرَةً فَإِنْ كَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ غَرَضٌ صَحِيحٌ أُخِذَ الْغَاصِبُ بِهِ لِيَعُودَ ذَلِكَ كَمَا غَصَبَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ صَحِيحٌ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الْمُزَنِيِّ فَيُقَالُ لَهُ إِنْ كُنْتَ تَمْنَعُ الْغَاصِبَ مِنْ سَدِّ الْبِئْرِ وَرَدِّ التُّرَابِ مَعَ ارْتِفَاعِ الْأَغْرَاضِ الصَّحِيحَةِ وَزَوَالِ الْمَقَاصِدِ الْوَاضِحَةِ فَنَحْنُ نُوَافِقُكَ عَلَيْهِ لَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ خِلَافٌ فِيهِ ، وَلَا يُشْتَبَهُ عَلَيْكَ الْخِلَافُ بِقَوْلِهِ فِي سَدِّ الْبِئْرِ نَفَعَهُ ، أَوْ لَمْ يَنْفَعْهُ ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ ، أَوْ لَمْ يَنْفَعْهُ فِي الْحَالِ إِذَا كَانَ فِيهِ نَفْعٌ فِي ثَانِي حَالٍ وَإِنْ كُنْتَ أَرَدْتَ مَعَ الْغَاصِبِ مِنْ سَدِّ الْبِئْرِ وَرَدِّ التُّرَابِ مَعَ وُجُودِ الْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ فَنَحْنُ نُخَالِفُكَ فِيهَا وَنَمْنَعُ مَا ذَكَرْتَهُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَيْهَا لِارْتِفَاعِ الْأَغْرَاضِ فِي نَقْضِ الْغَزْلِ وَتَكْسِيرِ اللَّبِنِ وَطَهُورِهِ فِي سَدِّ الْبِئْرِ وَرَدِّ التُّرَابِ وَلَيْسَ لَكَ إِدْخَالُ الضَّرَرِ عَلَى الْغَاصِبِ مَعَ زَوَالِهِ عَنِ الْمَغْصُوبِ .




فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا غَصَبَ رَجُلٌ أَرْضًا وَقَلَعَ مِنْهَا شَجَرًا ماذا عليه من الضمان في ذلك ؟ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الشَّجَرُ بَاقِيًا ، أَوْ مُسْتَهْلَكًا فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا فَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَضْمَنُ مَا بَيْنَ قِيمَةِ الشَّجَرِ قَائِمًا وَمَقْلُوعًا ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ عَلَى الشَّجَرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَضْمَنُ مَا بَيْنَ قِيمَةِ الْأَرْضِ ذَاتِ شَجَرٍ قَائِمٍ ، وَمَا بَيْنَ قِيمَتِهَا ، وَالشَّجَرُ مَقْلُوعٌ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ تَعَدِّيَهُ قَدْ سَرَى إِلَى الْأَرْضِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَضْمَنُ أَغْلَظَ الْأَمْرَيْنِ لِاجْتِمَاعِ الْعِلَّتَيْنِ فِي تَغْلِيظِ الْغَصْبِ فَلَوْ كَانَ الشَّجَرُ قَدْ نَجَرَهُ أَبْوَابًا ، أَوْ عَمِلَهُ سُفُنًا فَزَادَ فِي قِيمَتِهِ بِعَمَلِهِ بِقَدْرِ مَا ضَمِنَهُ مِنْ نَقْصِهِ الغاصب لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ ضَمَانُ النَّقْصِ بِمَا تَطَوَّعَ بِهِ مِنْ زِيَادَةِ الْعَمَلِ وَلَزِمَهُ الْغُرْمُ مَعَ رَدِّهِ زَائِدًا فَإِنْ خَلَعَ الْأَبْوَابَ وَهَدَمَ السُّفُنَ حَتَّى ذَهَبَتْ زِيَادَةُ عَمَلِهِ ضَمِنَ أَيْضًا نَقْصَهَا بَعْدَ ذَهَابِ الْعَمَلِ لِمَا عَلَّلْنَا بِهِ مِنْ لُزُومِ رَدِّهَا مَعْمُولَةً . وَإِنْ كَانَ الشَّجَرُ قَدِ اسْتُهْلِكَ حِينَ قَلَعَهُ فَضَمَانُهُ يَكُونُ عَلَى الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ . فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ : يَضْمَنُ قِيمَةَ الشَّجَرِ قَائِمًا . وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي : يَضْمَنُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْأَرْضِ بِقَلْعِ الشَّجَرِ . وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ : يَضْمَنُ أَغْلَظَ الْأَمْرَيْنِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا غَصَبَ أَرْضًا فَطَرَحَ فِيهَا تُرَابًا لَمْ يَخْلُ حَالُ التُّرَابِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُمْكِنَ أَخْذُهُ مِنْهَا أَمْ لَا فَإِنْ أَمْكَنَ أَخْذُهُ مِنْهَا أَخَذَهُ الْغَاصِبُ إِنْ تَمَيَّزَ وَضَمِنَ مَا نَقَصَتِ الْأَرْضُ بِأَخْذِهِ إِنْ نَقَصَتْ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَخْذُهُ مِنْهَا لِبَسْطِ ذَلِكَ فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ عَلَى قِيمَتِهَا الْأُولَى لَمْ تَزِدْ ، وَلَمْ تَنْقُصْ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَلَا لَهُ ؛ لِأَنَّ تُرَابَهُ صَارَ مُسْتَهْلَكًا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهَا قَدْ نَقَصَتْ عَنْ حَالِهَا قَبْلَ بَسْطِ التُّرَابِ فِيهَا فَيَضْمَنُ قَدْرَ نَقْصِهَا ، وَيَصِيرُ تُرَابُهُ مُسْتَهْلَكًا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهَا قَدْ زَادَتْ عَنْ حَالِهَا قَبْلَ بَسْطِ التُّرَابِ فِيهَا فَلَا يَخْلُو حَالُ التُّرَابِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا ، أَوْ نَجِسًا فَإِنْ كَانَ نَجِسًا كَالْأَرْوَاثِ ، وَالْكَسَايِحِ النَّجِسَةِ فَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ فِيهَا لِفَوَاتِ الرُّجُوعِ بِهَا وَتَحْرِيمِ الْمُعَاوَضَةِ عَلَيْهَا . وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُسْتَهْلَكٌ لَا شَيْءَ لَهُ فِيهِ لِاسْتِهْلَاكِهِ إِيَّاهُ بِنَفْسِهِ فِيمَا لَا يَتَمَيَّزُ عَنْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَكُونُ شَرِيكًا فِي ثَمَنِ الْأَرْضِ بِقَدْرِ ثَمَنِ التُّرَابِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ اسْتِهْلَاكًا لِتُرَابِهِ كَمَا لَا يَكُونُ صَبْغُ الثَّوْبِ بِمَا لَا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُهُ مِنْهُ اسْتِهْلَاكًا لِلصَّبْغِ ، فَعَلَى هَذَا يُنْظَرُ قِيمَةَ الْأَرْضِ قَبْلَ بَسْطِ التُّرَابِ فِيهَا فَإِذَا قِيلَ أَلْفٌ نُظِرَ قِيمَةَ التُّرَابِ قَبْلَ بَسْطِهِ فَإِذَا قِيلَ


مِائَةٌ نُظِرَ قِيمَةَ الْأَرْضِ بَعْدَ بَسْطِ التُّرَابِ فِيهَا فَإِنْ كَانَتْ أَلْفًا وَمِائَةً وَلَيْسَ فِي الْقِيمَتَيْنِ بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ زِيَادَةٌ ، وَلَا نَقْصٌ عَلَى مَا قَبْلَ الِاجْتِمَاعِ فَيَصِيرُ الْغَاصِبُ شَرِيكًا لَهُ فِي الْأَرْضِ بِمِائَةٍ هِيَ قِيمَةُ تُرَابِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأَرْضِ أَلْفًا وَخَمْسِينَ فَقَدْ نَقَصَتْ عَنِ الْقِيمَتَيْنِ بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ خَمْسُونَ فَيَكُونُ الْغَاصِبُ شَرِيكًا فِي الْأَرْضِ بِالْخَمْسِينَ الزَّائِدَةِ عَلَى الْأَلْفِ وَيَكُونُ النَّقْصُ دَاخِلًا عَلَيْهِ وَحْدَهُ لِضَمَانِهِ نَقْصَ الْأَرْضِ بِالتَّعَدِّي وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأَرْضِ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ فَقَدْ زَادَتْ عَلَى الْقِيمَتَيْنِ بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ مِائَةً فَتَكُونُ الْمِائَةُ الزَّائِدَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ فِي أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا لِحُدُوثِهَا عَنِ الْمَالَيْنِ مَعًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ إِنْ غَصَبَ جَارِيَةً فَهَلَكَتْ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " وَإِنْ غَصَبَ جَارِيَةً فَهَلَكَتْ فَقَالَ ثَمَنُهَا عَشَرَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا بِأَنَّ الْمَغْصُوبَ مَضْمُونٌ بِأَكْثَرِ قِيمَتِهِ فِي السُّوقِ وَالْبَدَنِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَهُوَ مَضْمُونٌ بِقِيمَتِهِ وَقْتَ الْغَصْبِ اعْتِبَارًا بِحَالِ التَّعَدِّي ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اسْتِدَامَةَ الْفِعْلِ كَابْتِدَائِهِ شَرْعًا وَلِسَانًا أَمَّا الشَّرْعُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [ النِّسَاءِ : 136 ] ، أَيِ اسْتَدِيمُوا الْإِيمَانَ . وَقَالَ تَعَالَى : اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [ الْفَاتِحَةِ : 6 ] ، أَيْ ثَبِّتْنَا عَلَى الْهِدَايَةِ إِلَيْهِ فَاسْتَوَى حُكْمُ الِابْتِدَاءِ ، وَالِاسْتِدَامَةِ فِي الْأَمْرِ ، وَالطَّلَبِ : وَأَمَّا اللِّسَانُ فَهُوَ أَنَّ مُسْتَدِيمَ الْغَصْبِ يُسَمَّى فِي كُلِّ حَالٍ غَاصِبًا ، وَيُقَالُ قَدْ غَصَبَ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُ الْغَصْبُ . وَالثَّانِي أَنَّ الْغَصْبَ عُدْوَانٌ يُوجِبُ الضَّمَانَ كَالْجِنَايَةِ فَلَمَّا كَانَتْ سَرَايَةُ الْجِرَاحِ فِي الْجِنَايَةِ إِلَى تَلَفِ النَّفْسِ تُوجِبُ ضَمَانَ مَا حَدَثَ بَعْدَ الْجِرَاحِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَادِثُ بَعْدَ الْغَصْبِ فِي حُكْمِ الْمَوْجُودِ فِي حَالِ الْغَصْبِ ، ثُمَّ هُوَ فِي الْغَصْبِ أَوْلَى مِنْهُ فِي الْجِنَايَةِ لِبَقَاءِ يَدِهِ فِي الْغَصْبِ وَارْتِفَاعِهَا فِي الْجِنَايَةِ ، وَفِي مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعَانِي الْمَاضِيَةِ مَعَهُ فِي زِيَادَةِ الْبَدَنِ دَلِيلٌ كَافٍ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا وَاخْتَلَفَا فِي الْمَغْصُوبِ اختلاف الغاصب والمغصوب منه في قيمة المغصوب أو تلفه أو مثله . فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَخْتَلِفَا فِي قِيمَتِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَخْتَلِفَا فِي تَلَفِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَخْتَلِفَا فِي مِثْلِهِ . فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ اخْتِلَافُهُمَا فِي قِيمَتِهِ ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْقِيمَةِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الصِّفَةِ ، فَيَقُولُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ


قِيمَتُهُ عِنْدِي أَلْفٌ وَيَقُولُ الْغَاصِبُ قِيمَتُهُ عِنْدِي مِائَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ فِي قَدْرِ قِيمَتِهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِنْكَارُهُ الزِّيَادَةَ ، وَالْقَوْلُ فِي الشَّرْعِ قَوْلُ الْمُنْكِرِ دُونَ الْمُدَّعِي . وَالثَّانِي : أَنَّهُ غَارِمٌ ، وَالْقَوْلُ فِي الْأُصُولِ قَوْلُ الْغَارِمِ ، فَإِنْ قِيلَ فَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ يَفْسُدُ بِالشَّفِيعِ إِذَا اخْتَلَفَ مَعَ الْمُشْتَرِي فِي قَدْرِ الثَّمَنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي قَدْرِهِ دُونَ الشَّفِيعِ ، وَالشَّفِيعُ مُنْكِرٌ وَغَارِمٌ . فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَالِكٌ فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ انْتِزَاعُ مِلْكِهِ إِلَّا بِقَوْلِهِ كَمَا أَنَّ الْغَارِمَ مَالِكٌ ، وَلَا يَغْرَمُ إِلَّا بِقَوْلِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُشْتَرِيَ فَاعِلُ الشِّرَاءِ فَكَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَهُ كَمَا أَنَّ الْغَاصِبَ فَاعِلُ الْغَصْبِ فَكَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَهُ فَحَلَّ الْمُشْتَرِي بِهَذَيْنِ مَحَلَّ الْغَارِمِ وَسَلِمَ الْمَعْنَيَانِ .

فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ بَيِّنَةٌ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْقِيمَةِ للشيء المغصوب سُمِعَتْ وَهِيَ شَاهِدَانِ ، أَوْ شَاهِدُ وَامْرَأَتَانِ ، أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ ، فَإِنْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِأَنَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ أَلْفٌ وَقْتَ الْغَصْبِ ، أَوْ وَقْتَ التَّلَفِ ، أَوْ فِيمَا بَيْنَ الْغَصْبِ ، وَالتَّلَفِ حُكِمَ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا ، وَإِنْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِأَنَّ قِيمَتَهُ كَانَتْ أَلْفًا قَبْلَ الْغَصْبِ لَمْ يُحْكَمْ بِهَا ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَ الْغَصْبِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْغَاصِبِ لَكِنْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَقُولُ : إِنَّهُ يَصِيرُ لِأَجْلِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ هَذِهِ الْقِيمَةِ مَا لَمْ يُعْلَمْ نَقْصُهَا . وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَ الْغَصْبِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ، وَالْبَيِّنَةُ فِيهِ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ وَلَوْ جَازَ أَنْ يَصِيرَ الْقَوْلُ بِهَا قَوْلَ الْمَشْهُودِ لَهُ لَجَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ ، فَإِنْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ بِصِفَاتِ الْعَبْدِ دُونَ قِيمَتِهِ لِيُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى قَدْرِ الْقِيمَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمَ بِهَا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ تَقْوِيمَ مَا لَا مِثْلَ لَهُ بِالصِّفَةِ بَاطِلٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِي الْقِيمَةِ دُونَ الصِّفَةِ فَلَمْ تُسْمَعِ الْبَيِّنَةُ فِي غَيْرِ مَا تَدَاعَيَاهُ وَاخْتَلَفَا فِيهِ .

فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْقِيمَةِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الصِّفَةِ اختلاف الغاصب والمغصوب منه في قيمة المغصوب لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الصِّفَةِ . فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ صِفَةَ زِيَادَةٍ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ صِفَةَ نَقْصٍ . فَأَمَّا صِفَةُ الزِّيَادَةِ فَهِيَ دَعْوَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ . وَصُورَتُهَا أَنْ يَقُولَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ قِيمَةُ عَبْدِي أَلْفٌ ؛ لِأَنَّهُ كَاتِبٌ ، أَوْ صَانِعٌ وَيَقُولُ الْغَاصِبُ : قِيمَتُهُ مِائَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَاتِبٍ وَلَا صَانِعٍ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ لَا يَخْتَلِفُ لِوُجُودِ الْمَعْنَيَيْنِ فِيهِ وَهُمَا


الْغُرْمُ ، وَالْإِنْكَارُ . وَأَمَّا صِفَةُ النَّقْصِ فَهِيَ دَعْوَى الْغَاصِبِ ، وَصُورَتُهَا أَنْ يَقُولَ الْغَاصِبُ قِيمَةُ الْعَبْدِ الَّذِي غَصَبْتُهُ مِنْكَ مِائَةٌ ؛ لِأَنَّهُ سَارِقٌ ، أَوْ آبِقٌ وَيَقُولُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ قِيمَتُهُ أَلْفٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَارِقٍ ، وَلَا آبِقٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ لِاخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ تَعْلِيلًا بِعُرْفِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ مَعَ يَمِينِهِ تَعْلِيلًا بِإِنْكَارِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي فِي الْآجَالِ . وَهُوَ اخْتِلَافُهُمَا فِي تَلَفِهِ اختلاف الغاصب والمغصوب منه في تلف المغصوب . فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ عَبْدٌ بَاقٍ فِي يَدِكَ وَيَقُولُ الْغَاصِبُ قَدْ تَلِفَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ مَا لَمْ يُصَدِّقْهُ عَلَى تَلَفِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي الْقِيمَةَ . وَقَدْ حَلَفَ الْغَاصِبُ عَلَى تَلَفِ الْعَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ عَلَيْهِ الْقِيمَةَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لِلتَّلَفِ فَيَمِينُ الْغَاصِبِ مَانِعَةٌ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَصَارَ كَالْآبِقِ يَلْزَمُ الْغَاصِبَ قِيمَتُهُ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ اخْتِلَافُهُمَا فِي مِثْلِهِ ، اختلاف الغاصب والمغصوب منه في مثلية الشيء المغصوب . فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَخْتَلِفَا فِي صِفَاتِ الْمِثْلِ . كَقَوْلِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ غَصَبْتَنِي طَعَامًا حَدِيثًا فَيَقُولُ الْغَاصِبُ بَلْ غَصَبْتُكَ طَعَامًا عَتِيقًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ تَعْلِيلًا بِالْمَعْنَيَيْنِ فِي الْإِنْكَارِ ، وَالْغُرْمِ ثُمَّ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ أَنْقَصُ مِنْ حَقِّهِ الَّذِي يَدَّعِيهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَخْتَلِفَا فِي أَصْلِ الْمِثْلِ كَقَوْلِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ لِمَا غَصَبْتَنِيهِ مِثْلٌ وَقَوْلِ الْغَاصِبِ لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ فَلَا اعْتِبَارَ لِاخْتِلَافِهِمَا وَيَرْجِعُ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِ الْحُكَّامِ فَإِنْ حَكَمُوا لَهُ بِمِثْلٍ طُولِبَ بِهِ وَإِنْ حَكَمُوا فِيهِ بِالْقِيمَةِ أُخِذَتْ مِنْهُ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَخْتَلِفَا فِي وُجُودِ الْمِثْلِ كَقَوْلِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ الْمِثْلُ مَوْجُودٌ . وَبِقَوْلِ الْغَاصِبِ بَلِ الْمِثْلُ مَعْدُومٌ فَيَكْشِفُ الْحَاكِمُ عَنْ وُجُودِهِ وَيَقْطَعُ تَنَازُعَهُمَا فِيهِ ، فَإِنْ وَجَدَهُ لَزِمَ الْغَاصِبَ دَفَعُ الْمِثْلِ رَخِيصًا كَانَ أَوْ غَالِيًا ، وَإِنْ عُدِمَهُ خُيِّرَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ بَيْنَ أَنْ يَتَعَجَّلَ أَخْذَ الْقِيمَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَصْبِرَ إِلَى وُجُودِ الْمِثْلِ فَإِنْ تَعَجَّلَ أَخْذَ الْقِيمَةِ ثُمَّ وُجِدَ الْمِثْلُ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ ، وَقَدِ اسْتَقَرَّ مِلْكُهُ عَلَى مَا أَخَذَ مِنْ قِيمَتِهِ بِخِلَافِ الْآبِقِ إِذَا أُخِذَتْ قِيمَتُهُ ثُمَّ وُجِدَ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ قِيمَةَ الْآبِقِ أُخِذَتْ عِنْدَ الْإِيَاسِ مِنْهُ فَلَزِمَ رَدُّهَا بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَقِيمَةَ ذِي الْمِثْلِ أُخِذَتْ مَعَ الْعِلْمِ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ مِنْ بَعْدُ ، فَلَمْ يَلْزَمْ رَدُّهَا بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ خُيِّرَ


إِلَى وُجُودِ الْمِثْلِ ثُمَّ رَجَعَ مُطَالِبًا بِالْقِيمَةِ قَبْلَ الْوُجُودِ فَذَلِكَ لَهُ لِتَعَجُّلِ حَقِّهِ بِخِلَافِ الْمُسَلَّمِ فِي الشَّيْءِ إِلَى مُدَّةٍ يَنْقَطِعُ فِيهَا فَرَضِيَ الْمُسَلَّمُ بِالصَّبْرِ إِلَى وُجُودِهِ ، فَلَا يَكُونُ لَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَهُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ تَعَذُّرَ وُجُودِ السِّلْمِ عَيْبٌ فَإِذَا ارْتَضَى بِهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ بِالْعَقْدِ ، وَصَبْرَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ إِلَى وُجُودِ الْمِثْلِ إِنْظَارٌ وَتَأْجِيلُ تَطَوُّعٍ بِهِ فَلَمْ يَلْزَمْ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ ثِيَابٌ ، أَوْ حُلِيٌّ ، بَعْدَ غَصْبِهِ ، فَادَّعَاهَا الْمَغْصُوبُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهَا فِي يَدِ عَبْدِهِ ، وَقَالَ الْغَاصِبُ بَلْ هِيَ لِي فَالْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ ، وَمَا عَلَيْهِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ كَانَ لَهُ كَيْلٌ أَوْ وَزْنٌ فَعَلَيْهِ مِثْلُ كَيْلِهِ وَوَزْنِهِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ كَانَ لَهُ كَيْلٌ ، أَوْ وَزْنٌ فَعَلَيْهِ مِثْلُ كَيْلِهِ وَوَزْنِهِ أي المغصوب " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَا لَهُ مِثْلٌ فَهُوَ مَضْمُونٌ فِي الْغَصْبِ بِالْمَثَلِ ، وَمَا لَا مِثْلَ لَهُ فَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ . فَأَمَّا حَدُّ مَا لَهُ مِثْلٌ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَمَا كَانَ لَهُ كَيْلٌ ، أَوْ وَزْنٌ فَعَلَيْهِ مِثْلُ كَيْلِهِ ، أَوْ وَزْنِهِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْهُ حَدًّا لِمَا لَهُ مِثْلٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذِي مِثْلٍ مَكِيلٌ ، أَوْ مَوْزُونٌ لَهُ مِثْلٌ . وَإِنَّمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَلِكَ شَرْطًا فِي الْمُمَاثَلَةِ عِنْدَ الْغُرْمِ ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ حَدًّا لِمَا لَهُ مِثْلٌ ، وَحَدُّ مَا لَهُ مِثْلٌ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهِ شَرْطَانِ : تَمَاثُلُ الْأَجْزَاءِ وَأَمْنُ التَّفَاضُلِ ، فَكُلُّ مَا تَمَاثَلَتْ أَجْزَاؤُهُ وَأُمِنَ تَفَاضُلُهُ فَلَهُ مِثْلٌ كَالْحُبُوبِ ، وَالْأَدْهَانِ ، فَإِنْ كَانَ مَكِيلًا كَانَ الْكَيْلُ شَرْطًا فِي مُمَاثَلَتِهِ دُونَ الْوَزْنِ وَإِنْ كَانَ مَوْزُونًا كَانَ الْوَزْنُ شَرْطًا فِي مُمَاثَلَتِهِ دُونَ الْكَيْلِ ، فَأَمَّا مَا اخْتَلَفَتْ أَجْزَاؤُهُ كَالْحَيَوَانِ ، وَالثِّيَابِ ، أَوْ خِيفَ تَفَاضُلُهُ كَالثِّمَارِ الرَّطْبَةِ فَلَا مِثْلَ لَهُ وَتَجِبُ قِيمَتُهُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ تَحْدِيدُ ذِي الْمِثْلِ بِمَا وَصَفْنَا فَعُدِمَ الْمَثْلُ ، وَلَمْ يُوجَدْ في المغصوب : كيفية الضمان في هذه الحالة وَجَبَ الْعُدُولُ إِلَى الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهَا مِثْلٌ فِي الشَّرْعِ لِمَا لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ ، وَكَذَا يَكُونُ . مِثْلًا عِنْدَ عَدَمِ الْمِثْلِ ، ثُمَّ فِي الْقِيمَةِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا أَبُو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ : أَحَدُهُمَا : يُرْجَعُ إِلَى قِيمَةِ الْأَصْلِ الْمَغْصُوبِ فِي أَكْثَرِ مَا كَانَ قِيمَةً مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُرْجَعُ إِلَى قِيمَةِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ هُوَ الْمُسْتَحَقُّ بِالْغَصْبِ ثُمَّ قِيمَةُ الْمِثْلِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ ، وَاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ فَإِنَّ لِلْمُثَمَّنِ فِي كُلِّ بَلَدٍ ثَمَنٌ ، وَفِي كُلِّ زَمَانٍ ثَمَنٌ . فَأَمَّا الْمَكَانُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ فِيهِ فَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي كَانَ الْغَصْبُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْمِثَلَ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَاسْتَحَقَّ تَسْلِيمُهُ فِي مَكَانِ الْغَصْبِ وَكَذَا قِيمَتُهُ ، وَإِنْ كَانَ الْمُثَمَّنُ مَغْصُوبًا بِالْبَصْرَةِ ، اعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُ بِالْبَصْرَةِ وَإِنْ كَانَ بِبَغْدَادَ اعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُ بِبَغْدَادَ وَعِنْدِي مِنْ وَقْتِ التَّلَفِ إِلَى وَقْتِ الْعَدَمِ وَأَمَّا زَمَانُ الْقِيمَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي إِفْصَاحِهِ ، أَنَّهُ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِنْ


وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى وَقْتِ الْعَدَمِ كَمَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ بَدَلَ مِثْلٍ لَهُ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْعَدَمِ لَا غَيْرَ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا كَانَ زَائِدًا قَبْلَهَا ؛ لِأَنَّ نَقْصَ ثَمَنِهِ مَعَ وُجُودِ الْمِثْلِ لَا يُوجِبُ غُرْمَ النَّقْصِ مَعَ دَفْعِ الْمِثْلِ ، فَعُلِمَ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ زِيَادَةِ الثَّمَنِ وَنَقْصِهِ غَيْرُ مُعْتَبِرَةٍ ، وَقَدِ اعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُ فِي آخِرِ وَقْتِ إِمْكَانِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا غَصَبَ رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ حِنْطَةً بِالْبَصْرَةِ ثُمَّ اجْتَمَعَ بِبَغْدَادَ فَطَالَبَهُ بِحِنْطَتِهِ فَلَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً لَمْ يَلْزَمْهُ نَقْلُهَا إِلَيْهِ ، وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهَا إِلَيْهِ بِالْبَصْرَةِ حَيْثُ غَصَبَهُ إِيَّاهَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِمِثْلِهَا لِبَقَاءِ عَيْنِهَا فَإِنْ كَانَتْ مُسْتَهْلَكَةً فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْحِنْطَةِ بِبَغْدَادَ مِثْلَ قِيمَتِهَا بِالْبَصْرَةِ ، أَوْ أَقَلَّ لَزِمَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِثْلَ حِنْطَتِهِ بِبَغْدَادَ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْحِنْطَةِ بِبَغْدَادَ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا بِالْبَصْرَةِ كَانَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَصْبِرَ عَلَيْهِ حَتَّى يُعْطِيَهُ مِثْلَ طَعَامِهِ بِالْبَصْرَةِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي غَصَبَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ بِبَغْدَادَ قِيمَةَ مِثْلِ طَعَامِهِ بِالْبَصْرَةِ ، وَلَكِنْ لَوْ أَنَّ الْغَاصِبَ بَذَلَ ذَلِكَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ بَعْدُ إِذْ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ سَوَاءٌ بَذَلَ لَهُ قِيمَةَ أَوْ مِثْلَ الِاسْتِحْقَاقِ لِلْقَبْضِ فِي مَكَانِ الْغَصْبِ .

مَسْأَلَةٌ في رَجُلٍ غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " وَلَوْ كَانَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ فَزَادَ فِي قِيمَتِهِ قِيلَ لِلْغَاصِبِ إِنْ شِئْتَ فَاسْتَخْرِجِ الصَّبْغَ عَلَى أَنَّكَ ضَامِنٌ لِمَا نَقَصَ وَإِنْ شِئْتَ فَأَنْتَ شَرِيكٌ بِمَا زَادَ الصَّبْغُ فَإِنْ مُحِقَ الصَّبْغُ فَلَمْ تَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ قِيلَ لَيْسَ لَكَ هَاهُنَا مَالٌ يَزِيدُ فَإِنْ شِئْتَ فَاسْتَخْرِجْهُ وَأَنْتَ ضَامِنٌ لِنُقْصَانِ الثَّوْبِ وَإِنْ شِئْتَ فَدَعْهُ وَإِنْ كَانَ يَنْقُصُ الثَّوْبَ ضَمِنَ النُّقْصَانَ وَلَهُ أَنْ يُخْرِجَ الصَبْغَ عَلَى أَنْ يَضْمَنَ مَا نَقَصَ الثَّوْبَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) هَذَا نَظِيرُ مَا مَضَى فِي نَقْلِ التُّرَابِ وَنَحْوِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ وكان الصبغ لِرَبِّ الثَّوْبِ أو لِأَجْنَبِيٍّ أو لِلْغَاصِبِ وأمكن أو لم يمكن استخراجه فَلَا يَخْلُو حَالُ الصَّبْغِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ لِلْغَاصِبِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ لِرَبِّ الثَّوْبِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ لِأَجْنَبِيٍّ . فَإِنْ كَانَ الصَّبْغُ لِلْغَاصِبِ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُمْكِنَ اسْتِخْرَاجُهُ . وَالثَّانِي : لَا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُهُ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُمْكِنَ اسْتِخْرَاجُ بَعْضِهِ ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُ بَعْضِهِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ اسْتِخْرَاجُهُ


لَمْ يَخْلُ ثَمَنُهُ بَعْدَ الصَّبْغِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ . إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ قَبْلَ الصَّبْغِ ، أَوْ يَكُونَ أَقَلَّ ، أَوْ يَكُونَ أَكْثَرَ ، فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ ثَمَنِهِ قَبْلَ الصَّبْغِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ قِيمَةُ الثَّوْبِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَقِيمَةُ الصَّبْغِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ، فَيُبَاعُ الثَّوْبُ بَعْدَ صَبْغِهِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَهِيَ بِأَثْرِهَا لِرَبِّ الثَّوْبِ لِاسْتِهْلَاكِ الصَّبْغِ إِمَّا بِذَهَابِ قِيمَتِهِ وَإِمَّا لِجَرِّهِ النَّقْصَ لِلثَّوْبِ . وَإِنْ كَانَ ثَمَنُهُ بَعْدَ الصَّبْغِ أَقَلَّ مِثْلَ أَنْ يُسَاوِيَ بَعْدَ الصَّبْغِ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ فَيَأْخُذُهَا رَبُّ الثَّوْبِ وَيَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِنَقْصِهِ وَهُوَ دِرْهَمَانِ لِيَسْتَكْمِلَ بِهَا جَمِيعَ الثَّمَنِ وَيَصِيرُ صَبْغُ الْغَاصِبِ وَنَقْصُ أَجْزَاءِ الثَّوْبِ مُسْتَهْلَكَيْنِ . وَإِنْ كَانَ ثَمَنُهُ بَعْدَ الصَّبْغِ أَكْثَرَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الزِّيَادَةِ عَلَى ثَمَنِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ ثَمَنِ الصَّبْغِ ، أَوْ يَكُونُ أَقَلَّ ، أَوْ يَكُونُ أَكْثَرَ . فَإِنْ كَانَتْ بِقَدْرِ ثَمَنِ الصَّبْغِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهُ بَعْدَ الصَّبْغِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَتَكُونُ بَيْنَهُمَا فَيَأْخُذُ رَبُّ الثَّوْبِ مِنْهَا عَشْرَةً الَّتِي هِيَ ثَمَنُ ثَوْبِهِ وَيَأْخُذُ الْغَاصِبُ عَشْرَةً هِيَ ثَمَنُ صَبْغِهِ ، وَلَمْ يَحْصُلْ فِيهَا نَقْصٌ لَا فِي الثَّوْبِ ، وَلَا فِي الصَّبْغِ ، وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ أَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الصَّبْغِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهُ بَعْدَ الصَّبْغِ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَيَأْخُذُ مِنْهَا رَبُّ الثَّوْبِ عَشْرَةً ثَمَنَ ثَوْبِهِ كَامِلًا وَيَأْخُذُ الْغَاصِبُ الْخَمْسَةَ الْبَاقِيَةَ وَيَصِيرُ النَّقْصُ مُخْتَصًّا بِصَبْغِهِ لِضَمَانِهِ نَقْصَ الثَّوْبِ وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ بَيْنَهُمَا بِقَدْرِ مَالَيْهِمَا فَيَأْخُذُ رَبُّ الثَّوْبِ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا عِشْرَةٌ مِنْهَا هِيَ ثَمَنُ ثَوْبِهِ وَخَمْسَةٌ هِيَ قِسْطُ الصَّبْغِ مِنَ الزِّيَادَةِ وَإِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ ، وَلَمْ يَخْتَصَّ الْغَاصِبُ بِهَا وَإِنْ كَانَتْ حَادِثَةً بِعَمَلِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ فِي مَالِهِ وَمَالِ غَيْرِهِ فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ عِوَضٌ عَنْ عَمَلِهِ فِي مَالِ غَيْرِهِ وَحَصَلَ لَهُ عِوَضٌ فِي مَالِ نَفْسِهِ . فَإِنْ دَعَا أَحَدُهُمَا إِلَى بَيْعِهِ ، وَأَبَى الْآخَرُ نُظِرَ فِي الدَّاعِي إِلَى الْبَيْعِ فَإِنْ كَانَ رَبَّ الثَّوْبِ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ لِتَعَدِّيهِ بِالصَّبْغِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الْبَيْعِ فَيَسْتَدِيمُ حُكْمُ الْغَصْبِ ، وَإِنْ دَعَا الْغَاصِبُ إِلَى بَيْعِهِ لِيَتَوَصَّلَ إِلَى ثَمَنِ صَبْغِهِ وَأَبَى رَبُّ الثَّوْبِ فَإِنْ بَذَلَ لَهُ مَعَ إِبَائِهِ ثَمَنَ الصَّبْغِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ لَوْ بِيعَ الثَّوْبُ فَلَهُ ذَلِكَ ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ ، وَإِنْ لَمْ يَبْذُلْ لَهُ ثَمَنَ الصَّبْغِ فَفِيهِ وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي " إِفْصَاحِهِ " : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُجْبَرُ رَبُّ الثَّوْبِ عَلَى بَيْعِهِ لِيَتَوَصَّلَ الْغَاصِبُ إِلَى ثَمَنِ صَبْغِهِ كَمَا يُجْبَرُ الْغَاصِبُ عَلَيْهِ لِيَتَوَصَّلَ رَبُّ الثَّوْبِ إِلَى ثَمَنِ ثَوْبِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ لَا يُجْبَرَ رَبُّ الثَّوْبِ عَلَى بَيْعِهِ ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ مُتَعَدٍّ بِصَبْغِهِ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ بِتَعَدِّيهِ إِزَالَةَ مِلْكِ رَبِّ الثَّوْبِ عَنْ ثَوْبِهِ . فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الصَّبْغِ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ اسْتِخْرَاجُهُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ سَوَادًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ مِنَ الْأَلْوَانِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ الصَّبْغُ سَوَادًا فَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ فِيهِ وَكَانَ رَبُّ الثَّوْبِ مُخَيَّرًا في الثوب المغصوب بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلصَّبْغِ وَبَيْنَ أَنْ يُعْطِيَهُ لِلْغَاصِبِ وَيَأْخُذَ مِنْهُ قِيمَتَهُ . وَإِنْ كَانَ


الصَّبْغُ حُمْرَةً ، أَوْ صُفْرَةً فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الصَّبْغِ وَبَيْنَ أَنْ يُعْطِيَهُ لِلْغَاصِبِ . وَيَأْخُذُ مِنْهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ فَجُعِلَ لَهُ فِي الْأَصْبَاغِ كُلِّهَا أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْغَاصِبِ قِيمَةَ ثَوْبِهِ إِنْ شَاءَ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مَصْبُوغًا إِنْ شَاءَ لَكِنْ إِنْ كَانَ الصَّبْغُ سَوَادًا فَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ لَهُ وَإِنْ كَانَ لَوْنًا غَيْرَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ لِمَ خَصَّ السَّوَادَ بِإِسْقَاطِ الْقِيمَةِ ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لِمَا فِيهِ مِنْ إِتْلَافِ أَجْزَاءِ الثَّوْبِ . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ قَالَهُ فِي آخِرِ الدَّوْلَةِ الْأُمَوِيَّةِ حِينَ كَانَ السَّوَادُ نَقْصًا وَلَوْنًا مَذْمُومًا فَأَمَّا بَعْدَ أَنْ صَارَ شِعَارَ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ وَزِيَادَةً فِي الثَّوْبِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَلْوَانِ فَلَا ، وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ وَتَعْلِيلٌ لَا يَخْتَصُّ بِالسَّوَادِ ؛ لِأَنَّ مِنَ الْأَلْوَانِ مَا قَدْ يَكُونُ نَقْصًا تَارَةً وَتَارَةً أُخْرَى زِيَادَةً ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيلُ عَامًّا فِي اعْتِبَارِ النَّقْصِ وَزِيَادَتِهِ ، وَلَا يَكُونُ مُخْتَصًّا بِالسَّوَادِ دُونَ غَيْرِهِ . فَأَمَّا تَمْلِيكُ الْغَاصِبِ الثَّوْبَ بِأَخْذِ الْقِيمَةِ مِنْهُ فَخَطَأٌ ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ يَمْنَعُ مِنْ أَخْذِ قِيمَتِهَا مِنَ الْغَاصِبِ قِيَاسًا عَلَيْهِ لَوْ كَانَ غَيْرَ مَصْبُوغٍ وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قِيمَةُ الثَّوْبِ قَبْلَ صَبْغِهِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ بَعْدَ صَبْغِهِ كَالْآجُرِّ ، وَلِأَنَّ الصَّبْغَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَقْصًا ، أَوْ غَيْرَ نَقْصٍ فَإِنْ كَانَ نَقْصًا ضَمِنَهُ لَا غَيْرَ كَالْمُتَمَيِّزِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَقْصًا فَأَوْلَى أَنْ لَا يَضْمَنَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الصَّبْغُ مِمَّا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُهُ ، فَلِلْغَاصِبِ وَرَبِّ الثَّوْبِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ في الثوب المغصوب : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى تَرْكِهِ فِي الثَّوْبِ وَبَيْعِهِ مَصْبُوغًا فَيَجُوزُ وَيَكُونُ بِالْقَوْلِ فِيهِ بَعْدَ بَيْعِهِ كَالْقَوْلِ فِيمَا لَا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُ صَبْغِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِي : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ مِنْهُ فَذَلِكَ جَائِزٌ لِيَصِلَ الْغَاصِبُ إِلَى صَبْغِهِ وَرَبُّ الثَّوْبِ إِلَى ثَوْبِهِ ، فَإِنِ اسْتَخْرَجَهُ وَأَثَّرَ فِي الثَّوْبِ نَقْصًا ضَمِنَهُ بِهِ . وَالْحَالُ الثَّالِثُ : أَنْ يَدْعُوَ الْغَاصِبُ إِلَى اسْتِخْرَاجِهِ وَيَدْعُوَ رَبُّ الثَّوْبِ إِلَى تَرْكِهِ فَلِلْغَاصِبِ أَنْ يَسْتَخْرِجَهُ سَوَاءٌ نَفَعَهُ أَوْ لَمْ يَنْفَعْهُ ؛ لِأَنَّهَا عَيْنٌ فَمَلِكَهَا ، وَالْأَعْيَانُ الْمَمْلُوكَةُ لَا يُقْهَرُ مُلَّاكُهَا عَلَيْهَا لِعَدَمِ الْمَنْفَعَةِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ضَامِنًا لِنَقْصِ الثَّوْبِ وَنَقْصِ الزِّيَادَةِ الْحَادِثَةِ فِيهِ بِدُخُولِ الصَّبْغِ ؛ لِأَنَّ رَبَّ الثَّوْبِ قَدْ مَلَكَهَا فَفَوَّتَهَا الْغَاصِبُ عَلَيْهِ بِاسْتِخْرَاجِ صَبْغِهِ ، مِثَالُهُ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الثَّوْبِ عَشَرَةٌ وَقِيمَةُ الصَّبْغِ عَشَرَةٌ فَيُسَاوِي الثَّوْبُ مَصْبُوغًا ثَلَاثِينَ ، وَبَعْدَ اسْتِخْرَاجِ الصَّبْغِ مِنْهُ خَمْسَةً ، فَيَضْمَنُ الْغَاصِبُ عَشَرَةً خَمْسَةً مِنْهَا هِيَ نَقْصُ الثَّوْبِ قَبْلَ صَبْغِهِ ، وَخَمْسَةً أُخْرَى هِيَ نَقْصُ قِسْطِهِ مِنَ الزِّيَادَةِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ صَبْغِهِ . وَالْحَالُ الرَّابِعُ : أَنْ يَدْعُوَ رَبُّ الثَّوْبِ إِلَى اسْتِخْرَاجِهِ وَيَدْعُوَ الْغَاصِبُ إِلَى تَرْكِهِ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتْرُكَهُ اسْتِبْقَاءً لِمِلْكِ الصَّبْغِ فِيهِ ، فَيُنْظَرُ فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الصَّبْغُ قَدْ أَحْدَثَ زِيَادَةً تَفُوتُ بِاسْتِخْرَاجِ الصَّبْغِ مِنْهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ :


أَحَدُهُمَا : وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي حَامِدٍ ، أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ إِذَا امْتَنَعَ لِمَا فِيهِ مِنِ اسْتِهْلَاكِ مَالِهِ مَعَ قُدْرَةِ رَبِّ الثَّوْبِ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ بِالْبَيْعِ قَالَ : وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ ، قِيلَ لِلْغَاصِبِ : إِنْ شِئْتَ فَاسْتَخْرِجِ الصَّبْغَ عَلَى أَنَّكَ ضَامِنٌ لِمَا نَقَصَ وَإِنْ شِئْتَ فَأَنْتَ شَرِيكٌ بِمَا زَادَ الصَّبْغُ فَحَصَلَ الْخِيَارُ إِلَيْهِ فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي حُكْمِ مَا لَا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُهُ إِذَا بِيعَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ ، أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى أَخْذِهِ ؛ لِأَنَّهُ عِرْقٌ ظَالِمٌ لَا حُرْمَةَ لَهُ فِي الِاسْتِبْقَاءِ فَصَارَ كَالْغَرْسِ ، وَالْبِنَاءِ ، وَيَكُونُ تَخَيُّرُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَهُ فِي التَّرْكِ ، وَالِاسْتِخْرَاجِ عِنْدَ رِضَا رَبِّ الثَّوْبِ بِالتَّرْكِ ، فَعَلَى هَذَا إِنِ اسْتَخْرَجَهُ ضَمِنَ نَقْصَ الثَّوْبِ قَبْلَ الصَّبْغِ ، وَلَمْ يَضْمَنْ نَقْصَهُ بِالزِّيَادَةِ فِي حَالَةِ الصَّبْغِ ؛ لِأَنَّ رَبَّ الثَّوْبِ هُوَ الَّذِي أَتْلَفَهَا عَلَى نَفْسِهِ بِإِجْبَارِ الْغَاصِبِ عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَتْرُكَهُ الْغَاصِبُ عَفْوًا عَنْهُ وَإِبْرَاءً مِنْهُ ، فَيُنْظَرُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ قَدْ أَحْدَثَ نَقْصًا فِي الثَّوْبِ ، أَوْ كَانَ لَهُ مَؤُنَةٌ فِي الِاسْتِخْرَاجِ ، أَوْ كَانَ قَدْ جَبَرَ نَقْصًا دَخَلَ عَلَى الثَّوْبِ أُجْبِرَ الْغَاصِبُ عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ ، وَإِنْ كَانَ زِيَادَةً مَحْضَةً فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا هِبَةُ عَيْنٍ لَا يَلْزَمُ رَبَّ الثَّوْبِ قَبُولُهَا وَيُجْبَرُ الْغَاصِبُ عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ تَجْرِي مَجْرَى غَيْرِ الْمُتَمَيِّزَةِ كَالطُّولِ ، وَالسِّمَنِ فِي خُرُوجِهَا عَنِ الْهِبَةِ إِلَى الْمُسَامَحَةِ ، وَلَا يُجْبَرُ الْغَاصِبُ عَلَى الِاسْتِخْرَاجِ . فَهَذَا حُكْمُ الصَّبْغِ إِذَا أَمْكَنَ اسْتِخْرَاجُهُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الصَّبْغُ مِمَّا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُ بَعْضِهِ ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُ بَعْضِهِ في الثوب المغصوب : ضمان ذلك فَالْقَوْلُ فِيمَا لَا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُهُ كَالْقَوْلِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ، وَالْقَوْلُ فِيمَا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُهُ كَالْقَوْلِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي ، فَيُجْمَعُ فِي هَذَا الْقِسْمِ حُكْمُ الْقِسْمَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ تَقْسِيمًا وَشَرْحًا فَهَذَا حُكْمُ الصَّبْغِ إِذَا كَانَ لِلْغَاصِبِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا إِذَا كَانَ الصَّبْغُ لِرَبِّ الثَّوْبِ فَكَالرَّجُلِ غَصَبَ ثَوْبًا يُسَاوِي عَشَرَةً وَصَبْغًا يُسَاوِي عَشَرَةً وَصَبَغَ بِهِ الثَّوْبَ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ اسْتِخْرَاجُ الصَّبْغِ ، نُظِرَ قِيمَةَ الثَّوْبِ مَصْبُوغًا ، فَإِنْ كَانَ يُسَاوِي عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَخْذَهُ الْمَالِكُ ، وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَإِنْ نَقَصَ مَصْبُوغًا عَنِ الْعِشْرِينَ أَخَذَهُ مَالِكُهُ وَرَجَعَ بِمَا بَقِيَ بَعْدَ قِيمَتِهِ مِنَ الْعِشْرِينَ لِيَسْتَكْمِلَ قِيمَةَ الثَّوْبِ وَالصَّبْغِ . فَإِنْ كَانَ اسْتِخْرَاجُ الصَّبْغِ مُمْكِنًا فَلَا حَقَّ لِلْغَاصِبِ فِي اسْتِخْرَاجِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ عَيْنًا فِيهِ وَلِلْمَالِكِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَرْضَى بِتَرْكِ الصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ فَلَهُ ذَلِكَ وَيَأْخُذُ مَعَهُ مَا نَقَصَ مِنَ الْقِيمَتَيْنِ إِنْ حَدَثَ فِيهَا نَقْصٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .


وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَدْعُوَ إِلَى اسْتِخْرَاجِ الصَّبْغِ ، فَيُنْظَرُ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فِي اسْتِخْرَاجِهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا : أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى الثَّوْبِ أَبْيَضَ ، وَمِنْهَا : أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى الصَّبْغِ فِي غَيْرِهِ ، وَمِنْهَا : أَنْ يَكُونَ اسْتِخْرَاجُهُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ لِاسْتِخْرَاجِهِ مَؤُنَةٌ يَذْهَبُ بِهَا شَطْرُ قِيمَتِهِ ، فَإِنَّ الْغَاصِبَ مَأْخُوذٌ بِاسْتِخْرَاجِهِ وَضَمَانِ نَقْصِ إِنْ حَدَثَ فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي اسْتِخْرَاجِهِ غَرَضٌ نُظِرَ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَضِرَّ الْغَاصِبُ بِنَقْصٍ يَضْمَنُهُ فِي الثَّوْبِ أُخِذَ بِاسْتِخْرَاجِهِ ، وَإِنْ كَانَ يَسْتَضِرُّ بِنَقْصٍ يَحْدُثُ فِيهِ فَهَلْ يُؤْخَذُ جَبْرًا بِاسْتِخْرَاجِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، كَالشَّجَرَةِ فِي الْأَرْضِ : أَحَدُهُمَا : يُؤْخَذُ بِاسْتِخْرَاجِهِ لِاسْتِحْقَاقِ الْمَالِكِ بِاسْتِرْجَاعِ مِلْكِهِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ غَصْبِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَضْمَنُ مَا نَقَصَ مِنَ الْقِيمَتَيْنِ ، وَلَا يَضْمَنُ زِيَادَةً إِنْ كَانَتْ قَدْ حَدَثَتْ بِالصَّبْغِ ، وَلَوْ طَالَبَ بِغُرْمِ النَّقْصِ مِنْ غَيْرِ اسْتِخْرَاجٍ أُجِيبُ إِلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُقَرُّ عَلَى حَالَتِهِ ، وَلَا يُجْبَرُ الْغَاصِبُ عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعَبَثِ ، وَالْإِضْرَارِ ، وَلَوْ سَأَلَ غُرْمَ نَقْصٍ لَوْ كَانَ يَحْدُثُ بِالِاسْتِخْرَاجِ لَمْ يُجَبْ إِلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي اجْتِمَاعِهِمَا نَقْصٌ مِنَ الْقِيمَتَيْنِ فَيَضْمَنُ ذَلِكَ النَّقْصَ .

فَصْلٌ فِي صَبْغِ الْأَجْنَبِيِّ

فَصْلٌ : فِي صَبْغِ الْأَجْنَبِيِّ الذي صبغ به غاصب الثوب إذا أمكن أو لم يمكن استخراجه وَأَمَّا إِذَا كَانَ الصَّبْغُ لِأَجْنَبِيٍّ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُمْكِنَ اسْتِخْرَاجُهُ ، أَوْ لَا يُمْكِنُ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ اسْتِخْرَاجُهُ كَانَ رَبُّ الثَّوْبِ وَرَبُّ الصَّبْغِ شَرِيكَيْنِ فِي الثَّوْبِ مَصْبُوغًا بِقِيمَةِ الثَّوْبِ وَقِيمَةِ الصَّبْغِ لِاجْتِمَاعِ مَالِهِمَا فِيهِ ، ثُمَّ لَا تَخْلُو قِيمَةُ الثَّوْبِ مَصْبُوغًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ الْقِيمَتَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ . فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ الْقِيمَتَيْنِ مِثْلَ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الثَّوْبِ عَشَرَةً وَقِيمَةُ الصَّبْغِ عَشَرَةً فَيُسَاوِي الثَّوْبً مَصْبُوغًا عِشْرِينَ ، فَإِذَا تَسَلَّمَاهُ مَصْبُوغًا بَرِئَ الْغَاصِبُ مِنْ حَقِّهِمَا وَكَانَا فِيهِ عَلَى الشَّرِكَةِ بِالْقِيمَتَيْنِ ، فَإِنْ بَذَلَ رَبُّ الثَّوْبِ لِرَبِّ الصَّبْغِ قِيمَةَ صَبْغِهِ أُجْبِرَ عَلَى أَخْذِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى عَيْنِ مَالِهِ لِكَوْنِهِ مُسْتَهْلَكًا فِي الثَّوْبِ فَلَوْ بَذَلَ رَبُّ الصَّبْغِ لِرَبِّ الثَّوْبِ قِيمَةَ ثَوْبِهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَبُولِهَا وَقِيلَ : إِنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَخْذِهَا ، وَبَذْلِ قِيمَةِ الصَّبْغِ ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ أَصْلُ عَيْنِهِ قَائِمَةٌ ، وَالصَّبْغَ تَبَعٌ قَدِ اسْتُهْلِكَ فِي الثَّوْبِ وَإِنْ كَانَ قِيمَةُ الثَّوْبِ مَصْبُوغًا أَقَلَّ مِنَ الْقِيمَتَيْنِ ، مِثْلَ أَنْ تَكُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَتَنْقَسِمُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بِالْقِسْطِ عَلَى الْقِيمَتَيْنِ وَيَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْغَاصِبِ بِدِرْهَمَيْنِ وَنِصْفٍ هِيَ نَقْصُ مَا غَصَبَ مِنْهُ فَيَصِيرَانِ رَاجِعَيْنِ عَلَيْهِ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ تَكْمِلَةَ الْعِشْرِينَ . وَإِنْ كَانَ قِيمَةُ الثَّوْبِ مَصْبُوغًا أَكْثَرَ مِثْلَ أَنْ تَكُونَ


قِيمَتُهُ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا ، فَتَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بِقَدْرِ الْقِيمَتَيْنِ لِحُدُوثِ الْعَشَرَةِ الزَّائِدَةِ فِي مَالَيْهِمَا ؛ وَإِنْ كَانَ اسْتِخْرَاجُهُ مُمْكِنًا فَلِرَبِّ الثَّوْبِ وَرَبِّ الصَّبْغِ الْأَحْوَالُ الْأَرْبَعَةُ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى تَرْكِ الصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ فَذَلِكَ لَهُمَا ثُمَّ إِنْ كَانَ فِيهِ نَقْصٌ رَجْعَا بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ لِيَسْتَكْمِلَا الْقِيمَتَيْنِ . وَالْحَالُ الثَّانِي : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ فَذَلِكَ لَهُمَا سَوَاءٌ أَضَرَّ اسْتِخْرَاجُهُ بِالْغَاصِبِ فِي حُدُوثِ نَقْصٍ يَلْزَمُهُ غُرْمُهُ أَمْ لَا ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَيْنِ قَدِ اتَّفَقَا عَلَى تَمْيِيزِ الْمَالَيْنِ ثُمَّ يَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْغَاصِبِ بِمَا حَدَثَ مِنَ النَّقْصِ فِي مَالِهِ بِالِاسْتِخْرَاجِ لِتَعَدِّيهِ الْمُتَقَدِّمِ بِالصَّبْغِ . وَالْحَالُ الثَّالِثُ : أَنْ يَدْعُوَ رَبُّ الصَّبْغِ وَحْدَهُ إِلَى اسْتِخْرَاجِهِ فَلَهُ ذَلِكَ وَيَرْجِعُ رَبُّ الثَّوْبِ عَلَى الْغَاصِبِ بِنَقْصِ ثَوْبِهِ وَرَبُّ الصَّبْغِ بِنَقْصِ صَبْغِهِ فَإِنْ كَانَ اسْتِخْرَاجُهُ يُحْدِثُ فِي الثَّوْبِ نَقْصًا وَلَيْسَ الْغَاصِبُ حَاضِرًا فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ ، قِيلَ لِرَبِّ الصَّبْغِ لَيْسَ لَكَ اسْتِخْرَاجُ صَبْغِكَ إِلَّا أَنْ تَغْرَمَ لِرَبِّ الثَّوْبِ نَقْصَ ثَوْبِهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا لَكَ عَلَى الْغَاصِبِ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ . وَالْحَالُ الرَّابِعُ : أَنْ يَدْعُوَ رَبُّ الثَّوْبِ وَحْدَهُ إِلَى اسْتِخْرَاجِهِ فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِذَلِكَ نَقْصٌ فِي الصَّبْغِ أُخِذَ الْغَاصِبُ بِالْتِزَامِ مَؤُنَةِ الِاسْتِخْرَاجِ وَغُرْمِ النَّقْصِ إِنْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الصَّبْغِ بَعْدَ أَنِ اسْتُخْرِجَ لَمْ يُؤْخَذْ رَبُّ الصَّبْغِ بِاسْتِخْرَاجِ الصَّبْغِ إِلَّا أَنْ يَبْذُلَ لَهُ رَبُّ الثَّوْبِ . نَقْصُ الصَّبْغِ عَلَى الْغَاصِبِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ فِي إِجْبَارِ الْغَاصِبِ عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ لَوْ كَانَ الصَّبْغُ لَهُ .

فَصْلٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَذَا نَظِيرُ مَا مَضَى فِي نَقْلِ التُّرَابِ وَنَحْوِهِ ، يَعْنِي أَنَّ الْغَاصِبَ مَمْنُوعٌ مِنِ اسْتِخْرَاجِ صَبْغِهِ كَمَا هُوَ مَمْنُوعٌ عِنْدَهُ مِنْ رَدِّ التُّرَابِ فَأَمَّا التُّرَابُ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ . وَأَمَّا الصَّبْغُ فَهُوَ عَيْنُ مَالٍ لَا يُمْنَعُ مِنِ اسْتِرْجَاعِهِ وَإِنْ كَانَ غَاصِبًا لِغَيْرِهِ .

مَسْأَلَةٌ إِنْ غَصَبَ زَيْتًا فَخَلَطَهُ بِمِثْلِهِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " وَلَوْ كَانَ زَيْتًا فَخَلَطَهُ بِمِثْلِهِ ، أَوْ خَيْرٍ مِنْهُ إِنْ غَصَبَ زَيْتًا فَخَلَطَهُ بِمِثْلِهِ أَوْ خَيْرٍ مِنْهُ أو خلطه بغير الزيت فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ مِنْ هَذَا مَكِيلَتَهُ وَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ مِثْلَ زَيْتِهِ وَإِنْ خَلَطَهُ بِشَرٍّ مِنْهُ ، أَوْ صَبَّهُ فِي بَانٍ فَعَلَيْهِ مِثْلُ زَيْتِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . لِأَنَّ لِلزَّيْتِ مِثْلًا فَإِذَا غَصَبَ زَيْتًا وَخَلَطَهُ بِغَيْرِهِ ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنْ يَخْلِطَهُ بِزَيْتٍ . وَالثَّانِي : بِغَيْرِ زَيْتٍ ، فَإِنْ خَلَطَهُ بِزَيْتٍ ، فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرَابٍ .


أَحَدُهَا : أَنْ يَخْلِطَهُ بِمِثْلِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَخْلِطَهُ بِأَجْوَدَ مِنْهُ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَخْلِطَهُ بِأَرْدَأَ مِنْهُ ، فَإِنْ خَلَطَهُ بِمِثْلِهِ كَانَ لِلْغَاصِبِ أَنْ يُعْطِيَهُ مَكِيلَةَ زَيْتِهِ مِنْهُ وَلَيْسَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِمَكِيَلَةٍ مِنْ غَيْرِهِ ، وَإِنْ أَرَادَ الْغَاصِبُ أَنْ يَعْدِلَ بِهِ إِلَى مِثْلِ مَكِيلَةِ زَيْتِهِ مِنْ غَيْرِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَاهُنَا ، أَنَّ لَهُ ذَاكَ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فَخَلَطَهُ بِمِثْلِهِ ، أَوْ خَيْرًا مِنْهُ ، فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ مِنْ هَذَا مَكِيَلَةً وَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ مِثْلَ زَيْتِهِ ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى غَيْرِ زَيْتِهِ تَسَاوَتِ الْأَعْيَانُ الْمُمَاثِلَةُ لَهُ فَلَمْ يَكُنْ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَتَحَجَّزَ عَلَيْهِ فِي عَيْنٍ دُونَ عَيْنٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ مَكِيلَةَ زَيْتِهِ مِنْ ذَلِكَ الزَّيْتِ الْمُخْتَلَطِ وَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ أَنْ يَعْدِلَ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا عَنْ رِضًى مِنْهُ ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَيْنَ الْمَغْصُوبَةَ مَوْجُودَةٌ فِيهِ وَلَيْسَ يَدْخُلُ عَلَى الْغَاصِبِ ضَرَرٌ بِهِ فَكَأَنَّ الْمَغْصُوبَ أَحَقُّ بِمَا لَيْسَ لَهُ عَيْنُ مَالٍ فِيهِ ، وَيَكُونُ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَاجِعًا إِلَى خَلْطِهِ ، وَالْأَجْوَدُ دُونَ الْمِثْلِ .

فَصْلٌ : وَإِنْ خَلَطَهُ بِأَجْوَدَ مِنْهُ ، إِنْ غَصَبَ زَيْتًا فَخَلَطَهُ بأجود مِنْهُ فَإِذَا بَذَلَ لَهُ الْغَاصِبُ مَكِيلَةَ زَيْتِهِ مِنْهُ أُجْبِرَ عَلَى أَخْذِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْعُدُولُ إِلَى غَيْرِهِ لِوُجُودِ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ فِيهِ مَعَ الزِّيَادَةِ فِي الْجَوْدَةِ ، وَإِنْ عَدَلَ بِهِ الْغَاصِبُ إِلَى مِثْلِ مَكِيلَةِ زَيْتِهِ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنْ رَضِيَ بِذَلِكَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ جَازَ ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ وَطَالَبَ بِحَقِّهِ مِنْ نَفْسِ مَا اخْتَلَطَ بِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا وَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْغَصْبِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْغَاصِبِ فِي الْعُدُولِ إِلَى مِثْلِ مَكِيلَةِ زَيْتِهِ مِنْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةً لَا تَتَمَيَّزُ فَلَمْ يَلْزَمِ الْغَاصِبَ بَذْلُهَا ، وَكَانَ الْمِثْلُ أَحَقَّ لِيَزُولَ بِهِ الضَّرَرُ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَضْرِبُ بِثَمَنِ زَيْتِهِ فِي الزَّيْتِ الْمُخْتَلِطِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْفَلَسِ . مِثَالُهُ : أَنْ يَكُونَ قَدْ غَصَبَهُ صَاعًا مِنْ زَيْتٍ قِيمَتُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فَخَلَطَهُ بِصَاعٍ قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَيُبَاعُ الصَّاعَانِ ، فَإِنْ كَانَ قِيمَتُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَلَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ وَلَا نَقْصٌ ، فَيَأْخُذُ الْمَغْصُوبُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ هِيَ ثَمَنُ صَاعِهِ وَيَأْخُذُ الْغَاصِبُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ هِيَ ثَمَنُ صَاعِهِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا قُسِّمَتْ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا بِقَدْرِ ثَمَنِ الصَّاعَيْنِ لِتَكُونَ الزِّيَادَةُ مُقَسَّطَةً بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ لِلْمَغْصُوبِ ثُلُثُ الْعِشْرِينَ وَلِلْغَاصِبِ الثُّلُثَانِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ اسْتَوْفَى الْمَغْصُوبُ مِنْهُ ثَمَنَ صَاعِهِ


خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَدَخَلَ النَّقْصُ عَلَى الْغَاصِبِ لِضَمَانِهِ بِالتَّعَدِّي إِلَّا أَنْ يَكُونَ النَّقْصُ لِرُخْصِ السُّوقِ فَلَا يَضْمَنُهُ ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَوْ قَالَ الْمَغْصُوبُ : أَنَا آخُذُ مِنْ هَذَا الزَّيْتِ الْمُخْتَلِطِ زَيْتًا بِقِيمَةِ مَا اسْتَحَقَّهُ وَهُوَ ثُلُثُ الصَّاعَيْنِ بِخَمْسَةٍ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ . أَحَدُهُمَا : لَا يُجَابُ إِلَى هَذَا لِمَا فِيهِ مِنَ الرِّبَا ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ آخِذًا لِثُلُثَيْ صَاعٍ بَدَلًا مِنَ الصَّاعِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُجَابُ إِلَى هَذَا وَيُعْطَى مِنَ الصَّاعَيْنِ ثُلُثَيْ صَاعٍ ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ مِلْكِهِ ، وَلَا يَكُونُ هَذَا رِبًا ؛ لِأَنَّ الرِّبَا يَجْرِي فِي الْبِيَاعَاتِ ، وَلَمْ يَجْرِ بَيْنَ الْغَاصِبِ وَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِي هَذَا بَيْعٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ تَارِكٌ بَعْضَ الْمَكِيلَةِ فَيَكُونُ مُسَامِحًا .

فَصْلٌ : وَإِذَا خَلَطَهُ بِأَرْدَأَ مِنْهُ ، مِثْلَ أَنْ يَغْصِبَ مِنْهُ صَاعًا يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَيَخْلِطُهُ بِصَاعٍ يُسَاوِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْغَاصِبِ ، وَالْمَغْصُوبِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى مَكِيلَةِ زَيْتِهِ مِنْ هَذَا الْمُخْتَلِطِ فَيَجُوزُ وَيَصِيرُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ مُسَامِحًا بِجَوْدَةِ زَيْتِهِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى مِثْلِ مَكِيلَةِ زَيْتِهِ مِنْ غَيْرِهِ فَيَجُوزُ ، وَقَدِ اسْتَوْفَى الْحَقَّ مِنْ غَيْرِ مُحَابَاةٍ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَبْذُلَ لَهُ الْغَاصِبُ مِثْلَ مَكِيلَةِ زَيْتِهِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَيَدْعُوَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ إِلَى أَخْذِهِ مِنَ الْمُخْتَلِطِ بِزَيْتِهِ . فَفِيهِ وَجْهَانِ كَمَا لَوِ اخْتَلَطَ بِمِثْلِ زَيْتِهِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْغَاصِبِ لِاسْتِهْلَاكِ زَيْتِهِ بِالِاخْتِلَاطِ وَلَهُ الْعُدُولُ بِهِ إِلَى الْمِثْلِ مِنْ غَيْرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ لِوُجُودِ عَيْنِ مَالِهِ فِيهِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ رَضِيَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مِثْلَ مَكِيلَتِهِ جَازَ وَكَانَ مُسَامِحًا بِالْجَوْدَةِ ، وَإِنْ طَلَبَ أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا فِيهِ بِقِيمَةِ زَيْتِهِ ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُجَابُ إِلَى ذَلِكَ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْمِثْلِ . وَالثَّانِي : يُجَابُ إِلَيْهِ وَيَكُونُ شَرِيكًا فِيهِ بِالثُّلُثَيْنِ قِسْطِ عَشَرَةٍ مِنْ خَمْسَةَ عَشْرَةَ إِنْ قَاسَمَ عَلَيْهِ وَأَخَذَ ثُلُثَيِ الصَّاعَيْنِ وَذَلِكَ صَاعٌ وَثُلُثُهُ عَلَى صَفْعَتِهِ هَاهُنَا وَإِنِ اقْتَضَاهُ التَّعْلِيلُ جَازَ . وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَطْلُبَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ مِثْلَ مَكِيلَةِ زَيْتِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَيَدْعُوَ الْغَاصِبُ إِلَى أَخْذِهِ مِنَ الْمُخْتَلِطِ بِزَيْتِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَيُجْبَرُ الْغَاصِبُ عَلَى دَفْعِ مِثْلِ الْمَكِيلَةِ مِنْ غَيْرِهِ .


وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَكُونُ شَرِيكًا فِي الزَّيْتِ الْمُخْتَلِطِ بِقِيمَةِ زَيْتِهِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ قَدْرَ مَكِيلَةٍ لِنَقْصِهِ ، وَيَكُونُ لَهُ ثُلُثَاهُ عَلَى مَا مَضَى فَإِنْ طَلَبَ الْقِسْمَةِ كَانَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَخْلِطَ الزَّيْتَ بِغَيْرِ زَيْتٍ ، إِنْ غَصَبَ زَيْتًا فَخَلَطَهُ بغير الزيت مما يمكن أن يتميز عن الزيت أو لا يمكن . فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَتَمَيَّزُ عَنْهُ كَالْعَسَلِ فَيُؤْخَذُ الْغَاصِبُ بِاسْتِخْرَاجِهِ وَأَرْشِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِثْلِ مَا نَقَصَ مِنْ مِلْكِيَّتِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَخْلِطَهُ بِمَا لَا يَتَمَيَّزُ كَالشَّيْرَجِ ، وَالْبَانِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْمَنْصُوصُ هَاهُنَا أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا لِعَدَمِ تَمَيُّزِهِ وَيَغْرَمُ لَهُ مِثْلَ مَكِيلَتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا فِيهِ بِقِيمَةِ زَيْتِهِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْمَغْصُوبُ صَاعًا مِنْ زَيْتٍ يُسَاوِي خَمْسَةً مُخَلَّطَةً بِصَاعٍ مِنْ بَانٍ يُسَاوِي عَشَرَةً فَيَكُونُ لَهُ ثُلُثُ ثَمَنِهَا إِنْ كَانَ الثُّلُثُ خَمْسَةً فَصَاعِدًا وَإِنْ نَقَصَ بِالِاخْتِلَاطِ مِنَ الْخَمْسَةِ رَجَعَ بِقَدْرِ النَّقْصِ فَإِنْ طَلَبَ الْقِسْمَةَ لِيَأْخُذَ ثُلُثَ الْجُمْلَةِ فَهُمَا جِنْسَانِ فَيَخْرُجُ فِي اقْتِسَامِهِمَا بِهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْقِسْمَةِ هَلْ هِيَ بَيْعٌ ، أَوْ تَمْيِيزُ نَصِيبٍ ؟ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا بَيْعٌ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ اخْتِلَاطَ الزَّيْتِ بِغَيْرِهِ يُفْضِي إِلَى التَّفَاضُلِ وَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا تَمْيِيزُ نَصِيبٍ جَازَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ أَغْلَاهُ عَلَى النَّارِ أَخَذَهُ وَمَا نَقَصَتْ مَكِيلَتُهُ أَوْ قِيمَتُهُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " وَلَوْ أَغْلَاهُ عَلَى النَّارِ أَخَذَهُ ، وَمَا نَقَصَتْ مَكِيلَتُهُ ، أَوْ قِيمَتُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي مَنْ غَصَبَ زَيْتًا فَأَغْلَاهُ بِالنَّارِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ عَلَى حَالَتِهِ لَمْ يَنْقُصْ مِنْ مَكِيلَتِهِ ، وَلَا مِنْ قِيمَتِهِ فَيَرْجِعُ بِهِ الْمَغْصُوبُ وَيَبْرَأُ مِنْهُ الْغَاصِبُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَنْقُصَ مِنْ مَكِيلَتِهِ دُونَ قِيمَتِهِ مِثْلَ أَنْ يَغْصِبَ مِنْهُ عَشَرَةَ آصُعٍ مِنْ زَيْتٍ يُسَاوِي كُلُّ صَاعٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ فَيَرْجِعُ إِلَى سَبْعَةِ آصُعٍ يُسَاوِي كُلُّ صَاعٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَكِيلَةِ مَا نَقَصَ وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ آصُعٍ فَلَوْ كَانَ قَدْ زَادَ فِي قِيمَةِ الْمَغْلِيِّ الْبَاقِي بِمِثْلِ قِيمَةِ مَا نَقَصَ مِنَ الْآصُعِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَسْقُطْ عَنِ الْغَاصِبِ غُرْمُ الْمَكِيلَةِ النَّاقِصَةِ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا يَمْلِكُهَا الْغَاصِبُ فَيَكُونُ قِصَاصًا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَنْقُصَ مِنْ قِيمَتِهِ دُونَ مَكِيلَتِهِ ، مِثْلَ أَنْ تَكُونَ الْآصُعُ الْعَشَرَةُ عَلَى مَكِيلَتِهَا لَكِنْ تَعُودُ قِيمَةُ كُلِّ صَاعٍ بَعْدَ غَلْيِهِ بِالنَّارِ إِلَى أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ نُقْصَانُهُ مُنْتَهِيًا لَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ نَقْصٌ آخَرُ غَيْرُهُ فَهَذَا يُسْتَرْجَعُ مِنَ الْغَاصِبِ مَغْلِيًّا مَعَ أَرْشِ النَّقْصِ فِي كُلِّ صَاعٍ وَهُوَ دِرْهَمٌ فَيَرْجِعُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ .


وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ النَّقْصُ قَدِ انْتَهَى لِحُدُوثِ نَقْصٍ آخَرَ بَعْدُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ مِنَ النَّقْصِ الثَّانِي مَحْدُودًا ، فَلَيْسَ لَهُ إِبْدَالُ الزَّيْتِ بِغَيْرِهِ وَيَنْتَظِرُ حُدُوثَ نُقْصَانٍ فَيَرْجِعُ بِهِ ، فَإِنْ تَلِفَ الزَّيْتُ قَبْلَ انْتِهَاءِ نُقْصَانِهِ فَهَلْ يَرْجِعُ بِمَا كَانَ يَنْتَهِي إِلَيْهِ مِنْ نَقْصٍ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ خَلَعَ سِنَّ صَبِيٍّ لَمْ يَثْغَرْ فَانْتَظَرَ بِهِ مَا يَكُونُ مِنْ نَبَاتِهَا ، أَوْ ذَهَابِهَا فَمَاتَ قَبْلَ مَعْرِفَتِهَا فَفِي اسْتِحْقَاقِ دِيَتِهَا قَوْلَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا هَاهُنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا أَرْشَ لَهُ لِعَدَمِ حُدُوثِهِ وَلَوْ كَانَ بَاقِيًا فَطَالَبَ بِالْأَرْشِ مِثْلَ حُدُوثِ النَّقْصِ لَمْ يَكُنْ لَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَهُ الْأَرْشُ لِلْعِلْمِ بِهِ لَوْ كَانَ بَاقِيًا فَطَالَبَ بِهِ قَبْلَ حُدُوثِ النَّقْصِ كَانَ لَهُ فَلَوْ لَمْ يَهْلِكِ الزَّيْتُ وَلَكِنْ بَاعَهُ قَبْلَ انْتِهَاءِ نُقْصَانِهِ فَإِنْ أَعْلَمَ بِهِ الْمُشْتَرِي فَلَا رَدَّ لَهُ بِحُدُوثِ نَقْصِهِ لِعِلْمِهِ بِعَيْنِهِ وَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْغَاصِبِ بِنَقْصِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَاوَضَ عَلَيْهِ نَاقِصًا وَإِنْ لَمْ يُعْلِمِ الْمُشْتَرِيَ بِهِ فَلَهُ الرَّدُّ بِحُدُوثِ نَقْصِهِ فَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ الْمُشْتَرِي وَرَدَّهُ رَجَعَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِأَرْشِهِ عَلَى الْغَاصِبِ وَإِنْ رَضِيَ بِهِ وَلَمْ يُؤَدِّهِ كَانَ فِي رُجُوعِهِ عَلَى الْغَاصِبِ بِأَرْشِ نَقْصِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَرْجِعُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْمُعَاوَضَةِ عَلَيْهِ سَلِيمًا قَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي فَصَارَ بِمَثَابَةِ مَا لَمْ يَحْدُثْ بِهِ نَقْصٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ لِضَمَانِهِ لَهُ بِالْغَصْبِ . وَلَا يَكُونُ حُدُوثُ رِضَى الْمُشْتَرِي بِهِ بُرْأَةً لِلْغَاصِبِ مِنْهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ مِنَ النَّقْصِ الثَّانِي غَيْرَ مَحْدُودٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ إِنْ شَاءَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْغَاصِبِ بِمِثْلِهِ لِمَا فِي اسْتِيفَائِهِ إِلَى انْتِهَاءِ النَّقْصِ الْمَجْهُولِ مِنْ شِدَّةِ الْإِضْرَارِ . وَفَوَاتِ الِانْتِفَاعِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا بَدَلَ لَهُ ؛ لِأَنَّ دُخُولَ النَّقْصِ الْمَجْهُولِ عَلَى الْأَعْيَانِ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَالِاسْتِهْلَاكِ فِي الْغُرْمِ . أَلَا تَرَاهُ لَوْ جَرَحَ عَبْدًا جَهِلْنَا مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ حَالَ جُرْحِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَالَبَ الْجَارِحُ بِالْقِيمَةِ فِي بَدَلِهِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ غَلْيُهُ بِالنَّارِ قَدْ نَقَصَ مِنْ مَكِيلَتِهِ وَقِيمَتِهِ مِثْلَ أَنْ تَعُودَ الْآصُعُ الْعَشَرَةُ إِلَى سَبْعَةٍ وَيَرْجِعُ قِيمَةُ كُلِّ صَاعٍ مِنَ السَّبْعَةِ إِلَى أَرْبَعَةٍ فَيَضْمَنُ النَّقْصَيْنِ نَقْصَ الْمَكِيلَةِ بِالْمِثْلِ ، وَنَقْصَ الْقِيمَةِ بِالْأَرْشِ عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ .




فَصْلٌ : وَإِذَا غَصَبَ مِنْهُ عَصِيرًا فَأَغْلَاهُ بِالنَّارِ نَقَصَ قِيمَتَهُ إِنْ نَقَصَتْ وَهَلْ يَضْمَنُ نَقْصَ مَكِيلَتِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ نَقْصَ الْمَكِيلَةِ بِخِلَافِ الزَّيْتِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ نَقْصَ مَكِيلَةِ الزَّيْتِ بِاسْتِهْلَاكِ أَجْزَائِهِ وَنَقْصَ مَكِيلَةِ الْعَصْرِ بِذَهَابِ مَائِيَّتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ فِي ( إِفْصَاحِهِ ) أَنَّهُ يَضْمَنُ نَقْصَ الْمَكِيلَةِ كَمَا يَضْمَنُ نَقْصَهَا مِنَ الزَّيْتِ ؛ لِأَنَّ مَا نَقَصَتِ النَّارُ مِنْ مَائِيَّتِهِ وَيُقَوَّمُ فِي الْعَصِيرِ بِقِيمَتِهِ فَصَارَ عَصِيرًا نَاقِصَ الْمَكِيلَةِ ، وَهَكَذَا لَوْ غَصَبَ مِنْهُ لَبَنًا فَعَمِلَهُ جُبْنًا رَجَعَ بِهِ جُبْنًا وَبِنَقْصٍ إِنْ كَانَ فِي قِيمَتِهِ وَهَلْ يَرْجِعُ بِنَقْصِ مَكِيلَتِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ : وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ خَلَطَ دَقِيقًا بِدَقِيقٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " وَكَذَلِكَ لَوْ خَلَطَ دَقِيقًا بِدَقِيقٍ فَكَالزَّيْتِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ غَصَبَ دَقِيقًا فَخَلَطَهُ بِدَقِيقٍ هل يُعْتَبَرُ حَالُ مَا خُلِطَ بِهِ مِنَ الدَّقِيقِ فِي كَوْنِهِ مِثْلًا ، أَوْ أَجْوَدَ ، أَوْ أَرْدَأَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ كَالزَّيْتِ فِي أَنَّ لَهُ مِثْلًا تَعَلُّقًا مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ بِظَاهِرِهِ وَمِنَ الِاحْتِجَاجِ فِيهِ بِتَمَاثُلِ أَجْزَائِهِ وَأَنَّ تَفَاوُتَ الطَّحْنِ فِي النُّعُومَةِ وَالْخُشُونَةِ أَقْرَبُ مِنْ تَفَاوُتِ الْحِنْطَةِ فِي صِغَرِ الْحَبِّ وَكِبَرِهِ . فَعَلَى هَذَا يُعْتَبَرُ حَالُ مَا خُلِطَ بِهِ مِنَ الدَّقِيقِ فِي كَوْنِهِ مِثْلًا ، أَوْ أَجْوَدَ ، أَوْ أَرْدَأَ وَيُعْطِيهِ مِثْلَ مَكِيلِهِ بِعَيْنِهِ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الزَّيْتِ سَوَاءً . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الدَّقِيقَ لَا مِثْلَ لَهُ لِاخْتِلَافِ طَحْنِهِ الْمُفْضِي بِالصَّنْعَةِ ، وَالْعَمَلِ إِلَى عَدَمِ تَمَاثُلِهِ وَلَيْسَ كَالْحِنْطَةِ الَّتِي لَيْسَ لِلْآدَمِيِّينَ صَنْعَةً فِي كِبَرِ حَجْمِهَا وَصِغَرِهِ وَحَمَلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَالزَّيْتِ فِي أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا لَا فِي أَنَّ لَهُ مِثْلًا ، فَعَلَى هَذَا إِذَا خَلَطَ الدَّقِيقَ بِدَقِيقٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ قِيمَتُهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ رَبَّهُ يَكُونُ شَرِيكًا فِي الدَّقِيقِ الْمُخْتَلِطِ بِقِيمَةِ دَقِيقِهِ يُبَاعُ فَيَقْتَسِمَانِ ثَمَنَهُ فَإِنْ لَحِقَهُ نَقْصٌ رَجَعَ بِهِ وَإِنْ أَرَادَ الِاقْتِسَامَ بِهِ ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْقِسْمَةِ هَلْ هِيَ بَيْعٌ ، أَوْ تَمَيُّزُ نَصِيبٍ . فَإِنْ غَصَبَ دَقِيقًا فَنَخَلَهُ وَاسْتَهْلَكَ نُخَالَتَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ . أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُ قِيمَةَ النُّخَالَةِ . وَالثَّانِي : يَضْمَنُ أَغْلَظَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَةِ النُّخَالَةِ ، أَوْ مِنْ نَقْصِ الدَّقِيقِ بِنَخْلِ النُّخَالَةِ ، وَقَدْ مَضَى نَظِيرُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي اسْتِهْلَاكِ التُّرَابِ مِنَ الْأَرْضِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا غَصَبَ حِنْطَةً فَخَلَطَهَا بِشَعِيرٍ و أَمْكَنَ تَمَيُّزُهَا أو لم يمكن فَلِلْحِنْطَةِ مِثْلٌ كَالزَّيْتِ فَإِنْ أَمْكَنَ تَمَيُّزُهَا مِنَ الشَّعِيرِ الْمُخْتَلِطِ بِهَا أَخَذَ الْغَاصِبُ بِتَمَيُّزِهَا وَإِنْ ثَقُلَتْ مَؤُنَةُ التَّمَيُّزِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَمَيُّزُهَا ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ كَالزَّيْتِ إِذَا خُلِطَ بِبَانٍ .


أَحَدُهُمَا : يَرْجِعُ بِمِثْلِ حِنْطَتِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَكُونُ شَرِيكًا فِي الْمُخْتَلِطِ بِقِيمَةِ حِنْطَتِهِ فَإِنْ حَدَثَ بِالِاخْتِلَاطِ نَقْصٌ رَجَعَ بِهِ .

مَسْأَلَةٌ إِذَا غَصَبَ قَمْحًا فَعَفُنَ عِنْدَهُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " وَإِنْ كَانَ قَمْحًا فَعَفُنَ عِنْدَهُ رَدَّهُ وَقِيمَةَ مَا نَقَصَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا عَفُنَتِ الْحِنْطَةُ فِي يَدِ غَاصِبِهَا ، أَوْ سَاسَتْ بِالسُّوسِ ، أَوْ دَادَتْ بِالدُّودِ فهل على الغاصب ردها وَقِيمَة مَا نَقَصَ فَلَهُ اسْتِرْجَاعُهَا ، وَمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا قَلَّ النَّقْصُ أَوْ كَثُرَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهَا نَاقِصَةً ، أَوْ يَرْجِعَ بِمِثْلِهَا ، وَقَدْ مَضَى فِي الْكَلَامِ مَعَهُ فِي مِثْلِ هَذَا مَا يُغْنِي ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ نَقْصِهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَنَاهِيًا ، أَوْ غَيْرَ مُتَنَاهٍ فَإِنْ كَانَ مُتَنَاهِيًا رَجَعَ بِهِ رَبُّ الْحِنْطَةِ عَلَى الْغَاصِبِ بَعْدَ اسْتِرْجَاعِ حِنْطَتِهِ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَنَاهٍ ، وَلَا مَحْدُودٍ ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي نَقْصِ الزَّيْتِ الْمَغْلِيِّ . أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَبَّ الْحِنْطَةِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِمِثْلِ حِنْطَتِهِ عَلَى الْغَاصِبِ وَبَيْنَ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهَا وَيَرْجِعَ بِمَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ مِنَ النَّقْصِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا بَدَلَ لَهُ لِبَقَاءِ عَيْنِ مَالِهِ وَيَرْجِعُ بِمَا انْتَهَتْ إِلَيْهِ مِنْ نَقْصٍ .

فَصْلٌ غَصْبُ الْحِنْطَةِ وَطَحْنُهَا

فَصْلٌ : غَصْبُ الْحِنْطَةِ وَطَحْنُهَا فَإِنْ غَصَبَ مِنْهُ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا ، أَوْ دَقِيقًا فَخَبَزَهُ فهل لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ دَقِيقًا وَخُبْزًا وَبِنَقْصٍ إِنْ حَدَثَ فِيهِ وهل لِلْغَاصِبِ أَنْ يَرْجِعَ بِأُجْرَةِ الْعَمَلِ فَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ دَقِيقًا وَخُبْزًا وَبِنَقْصٍ إِنْ حَدَثَ فِيهِ وَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ أَنْ يَرْجِعَ بِأُجْرَةِ الْعَمَلِ ، وَلَا بِزِيَادَةٍ إِنْ حَدَثَتْ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْغَاصِبُ أَمْلَكُ بِهَا إِذَا زَادَتْ وَبِغُرْمِ مِثْلِهَا لِئَلَّا يَكُونَ عَمَلُهُ مُسْتَهْلَكًا وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ .

فَصْلٌ : وَلَوْ غَصَبَهُ حِنْطَةً فَزَرَعَهَا وما للمالك فيما زرعه الغاصب واختلاف الأحوال فيما لو كان بَذْرًا أو كان بَقْلًا أو كان سُنْبُلًا . . قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَمْلِكُهَا وَيَغْرَمُ مِثْلَهَا ، وَمَا حَصَلَ مِنْ نَمَاءٍ عِنْدَ الْحَصَادِ كَانَ لَهُ وَيَأْمُرُهُ ، أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَنْ غَصَبَ غَرْسًا فَغَرَسَهُ حَتَّى صَارَ شَجَرًا مَلَكَهُ وَغَرِمَ قِيمَتَهُ حِينَ مَلَكَهُ وَهَذَا خَطَأٌ يَدْفَعُهُ نَصُّ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ مَالُ الْحِنْطَةِ الْمَزْرُوعَةِ عِنْدَ مُطَالَبَةِ الْمَالِكِ لَهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ بَذْرًا وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بَقْلًا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ سُنْبُلًا .


فَإِنْ كَانَتْ بَذْرًا ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ جَمْعُهُ مُمْكِنًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُمْكِنٍ . فَإِنْ كَانَ جَمْعُهُ مُمْكِنًا ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَقِلَّ مَؤُنَةُ جَمْعِهِ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَ الْغَاصِبَ بِجَمْعِهِ وَرَدِّهِ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكْثُرَ مَؤُنَةُ جَمْعِهِ ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَنْ غَصَبَ حِنْطَةً فِي بَلَدٍ فَنَقَلَهَا إِلَى غَيْرِهِ . هَلْ يُكَلَّفُ الْغَاصِبُ نَقْلَهَا وَرَدَّ عَيْنِهَا ، أَوْ يَجُوزُ لَهُ رَدُّ مِثْلِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَرُدُّ الْمَنْقُولَةَ بِعَيْنِهَا إِلَى الْبَلَدِ وَبِجَمْعِ الْمَبْذُورَةِ بِعَيْنِهَا مِنَ الْأَرْضِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ نَقْلَ الْمَنْقُولَةِ ، وَلَهُ رَدُّ مِثْلِهَا ، وَلَا يُكَلَّفُ جَمْعَ الْمَبْذُورَةِ وَيَكُونُ فِي حُكْمِ مَا لَا يُمْكِنُ جَمْعُهُ مِنَ الْبَذْرِ ، وَمَا لَا يُمْكِنُ جَمْعُهُ مِنَ الْحَبِّ وَكَانَ بَذْرًا فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُطَالِبَ الْغَاصِبَ بِمِثْلِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَصِيرَ عَلَيْهِ إِلَى نَبَاتِهِ وَإِمْكَانِ أَخْذِهِ فَإِنْ رَضِيَ بِالْمِثْلِ مَلَكَ الْمِثْلَ وَزَالَ مِلْكُهُ عَنِ الْبُذُورِ فَإِذَا نَبَتَ فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ لِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ بِالْمِثْلِ وَكَانَ صَبَرَ عَلَيْهِ إِلَى نَبَاتِهِ وَإِمْكَانِ أَخْذِهِ فَذَلِكَ لَهُ لِبَقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ مَبْذُورًا فِي أَرْضِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ ، أَوْ فِي أَرْضِ الْغَاصِبِ ، أَوْ فِي أَرْضِ أَجْنَبِيٍّ فَإِذَا صَارَ بَقْلًا يُمْكِنُ جَزُّهُ كَانَ فِي حُكْمِ مَا سَنَذْكُرُهُ فَلَوْ تَلِفَ الزَّرْعُ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ أَخْذِهِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ تَلُفُّهُ قَبْلَ إِمْكَانِ أَخْذِهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ حَبًّا فَنَقَلَهُ النَّمْلُ ، أَوْ بَعْدَ أَنْ نَبَتَ عَلَى حَدٍّ لَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ فَأَكَلَهُ الدُّودُ ، فَعَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُهُ بِالْقِيمَةِ دُونَ الْمِثْلِ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهَا ؛ لِأَنَّ إِعْوَازَ أَخْذِهِ قَبْلَ التَّلَفِ بِتَعَدِّيهِ وَإِنْ كَانَ تَلَفُهُ بَعْدَ إِمْكَانِ أَخْذِهِ بَقَلًا ذَا قِيمَةٍ فَالْغَاصِبُ بَرِئَ مِنْ ضَمَانِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّرْكِ بَعْدَ الْمُكْنَةِ مِنَ الْأَخْذِ قَاطِعٌ لِتَعَدِّي الْغَاصِبِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ قَدْ صَارَ بَقْلًا ذَا قِيمَةٍ يُمْكِنُ أَخْذُهُ فَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ حَالَتَانِ . حَالَةٌ يَرْضَى بِأَخْذِهِ بَقْلًا وَحَالَةٌ يُطَالِبُ بِمِثْلِهِ حَبًّا فَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ بَقْلًا فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ بَقْلًا أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ حَبًّا رُدَّ عَلَى الْغَاصِبِ بِقَدْرِ النَّاقِصِ مِنَ الْقِيمَةِ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ بَقْلًا مِثْلَ قِيمَتِهِ حَبًّا ، أَوْ أَزْيَدَ مِنْ قِيمَةِ الْحَبِّ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْغَاصِبِ فَلَوْ كَانَتْ قَدْ نَقَصَتْ مِنْ قِيمَةِ الْحَبِّ فِي أَوَّلِ نَبَاتِهِ ثُمَّ زَادَتْ قِيمَتُهُ بَعْدَ تَمَامِهِ فَفِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ لِذَلِكَ النَّقْصِ وَجْهَانِ . ذَكَرْنَاهَا فِي الْجَارِيَةِ الْمَغْصُوبَةِ إِذَا نَقَصَتْ بِمَرَضٍ ثُمَّ زَالَ النَّقْصُ بِزَوَالِ الْمَرَضِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ لَمْ يَسْتَقِرَّ فَجَرَى مَجْرَى نَقْصِ السُّوقِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ قَدْ لَزِمَ بِحُدُوثِ النَّقْصِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِحَادِثِ زِيَادَةٍ لَا يَمْلِكُهَا فَأَمَّا إِذَا قَالَ لَسْتُ أَرْضَى بِهِ بَقْلًا وَأُرِيدُ مِثْلَ الْمَغْصُوبِ مِنِّي حَبًّا فَفِيهِ وَجْهَانِ :

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110