كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

بِهِ مِنْ حُقُوقِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْبَطْنِ الثَّانِي أَوِ الْفُقَرَاءِ ، لَكِنْ لَا حَقَّ لِمَنْ صَدَّقَ مِنْهُمْ فِي الْوَقْفِ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُصَدِّقْ ، وَيَصِحُّ بِهَذَا الْإِقْرَارِ وَإِنْ لَمْ يَبْطُلْ بِهِ الْوَقْفُ أَنْ يُصَالِحَ الْمُدَّعِي الْمُقِرَّ لَهُ ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا جَعَلَ دَارًا فِي يَدِهِ مَسْجِدًا وَخَلَّفَهَا وَأَذِنَ لِلنَّاسِ فِيهَا بِالصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِتَسْبِيلِهَا لَمْ تَصِرْ سُبْلَةً بِهَذَا الْقَدْرِ . وَقَالَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ : مَتَى خَلَّفَهَا وَجَعَلَهَا بِرَسْمِ الْمَسَاجِدِ خَرَجَتْ مِنْ مِلْكِهِ . وَقَالَ آخَرُونَ : إِذَا صَلَّى فِيهَا الْمُسْلِمُونَ خَرَجَتْ مِنْ مِلْكِهِ ، وَكُلُّ هَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ إِزَالَةَ الْأَمْلَاكِ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْقَوْلِ كَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ وَالطَّلَاقِ . فَلَوْ فَعَلَ مَا ذَكَرْنَا فَادَّعَاهَا مُدَّعٍ فَأَقَرَّ لَهُ بِهَا لَزِمَهُ إِقْرَارُهُ ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَيْهَا صَحَّ صُلْحُهُ ، فَلَوْ سَبَّلَهَا مَسْجِدًا ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا لِغَيْرِهِ لَمْ يَبْطُلِ التَّسْبِيلُ وَلَزِمَهُ غُرْمُ قِيمَتِهَا لِمَنْ أَقَرَّ لَهُ بِهَا ، فَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى ذَلِكَ صَحَّ صُلْحُهُ . وَلَوْ صَالَحَهُ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ وَجِيرَانُ الْمَسْجِدِ جَازَ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَلَى الْمُسَبِّلِ بِشَيْءٍ مَا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالصُّلْحِ عَنْهُ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ أَشْرَعَ جَنَاحًا عَلَى طَرِيقِ نَافِذَةٍ فَصَالَحَهُ السُّلْطَانُ أَوْ رَجُلٌ عَلَى ذَلِكَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَشْرَعَ جَنَاحًا عَلَى طَرِيقِ نَافِذَةٍ فَصَالَحَهُ السُّلْطَانُ أَوْ رَجُلٌ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ ، وَنُظِرَ فَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ تُرِكَ ، وَإِنْ ضَرَّ قُطِعَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : صُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ أَشْرَعَ مِنْ دَارِهِ جَنَاحًا أَوْ سَابَاطًا عَلَى طَرِيقٍ فَلَا يَخْلُو حَالُ الطَّرِيقِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ نَافِذَةً أَوْ غَيْرَ نَافِذَةٍ . فَإِنْ كَانَتْ نَافِذَةً فَلَا يَخْلُو حَالُ الْجَنَاحِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُضِرًّا بِالْمَارَّةِ أَوْ غَيْرَ مُضِرٍّ . فَإِنْ كَانَ الْجَنَاحُ الْخَارِجُ غَيْرَ مُضِرٍّ بِالْمَارَّةِ وَالْمُجْتَازِينَ تُرِكَ عَلَى حَالِهِ وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ فِيهِ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ بِدَارِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُطِّرَ عَلَيْهِ مِنْ مِيزَابِهِ مَاءٌ فَأَمَرَ بِقَلْعِهِ ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ : قَلَعْتَ مِيزَابًا نَصَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ ، فَقَالَ عُمَرُ : وَاللَّهِ لَا يُعَادُ إِلَّا عَلَى ظَهْرِي ، فَرَكِبَ الْعَبَّاسُ ظَهْرَهُ وَأَعَادَ الْمِيزَابَ فِي مَوْضِعِهِ . وَلِأَنَّهُ لَمْ يَزَلِ النَّاسُ قَدِيمًا يَفْعَلُونَهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ خُلَفَائِهِ يُشَاهِدُونَهُ فَلَا يُنْكِرُونَهُ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ شَرْعٌ مُسْتَقِرٌّ وَإِجْمَاعٌ مُنْعَقِدٌ . وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلنَّاسِ الِارْتِفَاقُ بِالطُّرُقِ وَالْمَقَاعِدِ مِنْهَا جَازَ لَهُمُ الِارْتِفَاقُ بِهَوَائِهَا .

فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ الْإِنْسَانُ مَمْنُوعٌ مِنْ وَضْعِ سَارِيَةٍ فِي الطَّرِيقِ وَبِنَاءِ دَكَّةٍ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُرْفَقًا وَالْعَمَلُ بِهِ جَارِيًا فَكَذَلِكَ الْجَنَاحُ . قِيلَ : السَّارِيَةُ وَالدَّكَّةُ مُضِرٌّ بِالنَّاسِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَضَايُقِ الطَّرِيقِ عَلَيْهِمْ . وَلِأَنَّهُمْ رُبَّمَا ازْدَحَمُوا فَأَضَرَّ بِهِمْ أَوْ سَقَطَ عَلَيْهِ ضَرِيرٌ لَا يُبْصِرُ فَتَأَذَّى ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْجَنَاحُ فِي الْهَوَاءِ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْجَنَاحُ مُضِرًّا بِالْمَارَّةِ وَالْمُجْتَازِينَ قُلِعَ وَلَمْ يُقَرَّ ، وَأَمَرَ الْإِمَامُ بِهَدْمِهِ وَإِنْ لَمْ يَخْتَصِمِ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ خُوصِمَ فِيهِ إِلَى الْإِمَامِ قَلَعَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُخَاصَمْ تَرَكَهُ ، لِأَنَّ الْإِمَامَ حَاكِمٌ وَلَيْسَ بِخَصْمٍ ، وَالْحَاكِمُ لَا يَحْكُمُ إِلَّا لِطَالِبٍ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ خَطَأٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِمَامَ مَنْدُوبٌ لِإِزَالَةِ الْمُنْكَرِ وَالنِّيَابَةِ عَنْ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَبْوَابِ الْمَصَالِحِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِإِزَالَةِ الْمُنْكَرِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا يَجُوزُ إِقْرَارُهُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الرِّضَا بِهِ فِي التَّرْكِ ، وَكَذَا مَا لَا يَجُوزُ إِقْرَارُهُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى إِنْكَارِهِ فِي الْقَلْعِ ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ فَلَا يَحْكُمُ إِلَّا لِخَصْمٍ ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ فِيهِ لَا يَتَعَيَّنُ ، فَإِنَّمَا كَافَّةُ النَّاسِ فِيهِ شَرْعٌ وَاحِدٌ . فَإِذَا وَجَبَ قَلْعُهُ فَبَذَلَ صَاحِبُهُ مَالًا صُلْحًا عَلَى تَرْكِهِ لَمْ يَجُزْ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ صُلْحٌ عَلَى إِقْرَارِ مُنْكَرٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ صُلْحٌ عَلَى الْهَوَى . فَأَمَّا حَدُّ مَا يَضُرُّ مِمَّا لَا يَضُرُّ فَمُعْتَبَرٌ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ وَمُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ حَرْبَوَيْهِ مِنْ أَصْحَابِنَا : حَدُّ الضَّرَرِ أَنْ لَا يُمْكِنَ الْفَارِسَ أَنْ يَجْتَازَ تَحْتَهُ بِرُمْحٍ قَائِمٍ ، وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ شُرَيْحٍ . وَهَذَا التَّحْدِيدُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الرِّمَاحَ مُخْتَلِفَةٌ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ . وَلِأَنَّ هَذَا يُؤَدِّي إِلَى أَنْ لَا يُخْرِجَ أَحَدٌ جَنَاحًا ، لِأَنَّ الرُّمْحَ قَدْ يَعْلُو عَلَى الْمَنَازِلِ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ . وَلِأَنَّهُ لَا مَضَرَّةَ عَلَى صَاحِبِ الرُّمْحِ فِي الِاجْتِيَازِ بِرُمْحِهِ مَائِلًا . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ ذَلِكَ بِحَسَبَ الْبِلَادِ ، فَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ قَدْ تَجْتَازُ فِي طُرُقِهِ الْجِمَالُ الَّتِي عَلَيْهَا الْكَبَائِسُ وَالْعَمَّارِيَّاتُ وَذَلِكَ أَعْلَى مَا يُجْتَازُ فِي الطُّرُقَاتِ فَحَدُّ الْإِضْرَارِ أَنْ لَا يُمْكِنَ اجْتِيَازُ الْكَبَائِسِ وَالْعَمَّارِيَّاتِ تَحْتَهُ ، وَإِنْ أَمْكَنَ اجْتِيَازُهَا فَلَيْسَ بِمُضِرٍّ .

فَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ مِمَّا لَمْ تَجْرِ عَادَةُ الْكَبَائِسِ وَالْعَمَّارِيَّاتِ أَنْ تَجْتَازَ بِهِ وَجَرَتْ عَادَةُ الْجِمَالِ الْمُحَمَّلَةِ أَنْ تَجْتَازَ فِيهِ فَحَدُّ الْإِضْرَارِ فِيهَا أَنْ لَا يُمْكِنَ اجْتِيَازُ الْجِمَالِ الْمُحَمَّلَةِ تَحْتَهُ ، وَإِنْ أَمْكَنَ فَلَيْسَ بِمُضِرٍّ . وَإِنْ لَمْ تَجْرِ عَادَةُ الْبَلَدِ بِاجْتِيَازِ الْجِمَالِ الْمُحَمَّلَةِ فِيهِ وَجَرَتْ عَادَةُ الْفُرْسَانِ بِالِاجْتِيَازِ فِيهِ فَحَدُّ الْإِضْرَارِ فِيهِ أَنْ لَا يُمْكِنَ اجْتِيَازُ الْفَارِسِ تَحْتَهُ ، فَإِنْ أَمْكَنَ فَلَيْسَ بِمُضِرٍّ . وَإِنْ لَمْ تَجْرِ عَادَةُ الْبَلَدِ بِاجْتِيَازِ الْفُرْسَانِ فِيهِ فَحَدُّ الْإِضْرَارِ فِيهِ أَنْ لَا يُمْكِنَ اجْتِيَازُ الرَّجُلِ التَّامِّ إِذَا كَانَ عَلَى رَأْسِهِ حُمُولَةٌ مُسْتَعْلِيَةٌ ، فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا فَحَدُّ الْإِضْرَارِ مُعْتَبَرٌ بِمَا ذَكَرْنَا .

فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَتِ الطَّرِيقُ غَيْرَ نَافِذَةٍ فَلَيْسَ لَهُ إِخْرَاجُ الْجَنَاحِ فِيهَا إِلَّا بِإِذْنِ جَمِيعِ أَهْلِهَا ، سَوَاءٌ كَانَ الْجَنَاحُ مُضِرًّا أَوْ غَيْرَ مُضِرٍّ ، لِأَنَّ الطَّرِيقَ الَّتِي لَا تَنْفُذُ مَمْلُوكَةٌ بَيْنَ جَمِيعِ أَهْلِهَا ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا إِلَّا بِحَقِّ الِاجْتِيَازِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُتَعَدَّى إِلَى إِخْرَاجِ الْجَنَاحِ كَالْأَرْضِ الْمُشْتَرَكَةِ أَوِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَحَقَّةِ . فَإِنْ صَالَحَ أَهْلَ الطَّرِيقِ عَلَى مَالٍ فِي إِقْرَارِ الْجَنَاحِ وكانت الطريق غير نافذة لَمْ يَجُزْ ، لِأَنَّهُ صُلْحٌ عَلَى الْهَوَى ، إِلَّا أَنْ يَتَّصِلَ بِالْعُرْضَةِ كَبِنَاءِ بَعْضِهِ فِي عُرْضَةِ الطَّرِيقِ ثُمَّ يَرْفَعُهُ فَيَجُوزَ وَيَكُونَ ذَلِكَ بَيْعًا مِنْهُمْ بِقَدْرِ حُقُوقِهِمْ مِنَ الْعُرْضَةِ الَّتِي حَصَلَ فِيهَا الْبِنَاءُ ، فَلَوْ أَذِنُوا جَمِيعًا لَهُ فِي إِخْرَاجِ الْجَنَاحِ جَازَ مُضِرًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُضِرٍّ . لِأَنَّهُ حَقٌّ قَدْ تَعَيَّنَ لَهُمْ لَا يُشْرِكُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ ، وَلَيْسَ كَالطَّرِيقِ النَّافِذَةِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْكَافَّةُ ، فَلَوْ رَجَعُوا بَعْدَ إِذْنِهِمْ ، فَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُمْ بَعْدَ إِخْرَاجِ الْجَنَاحِ لَمْ يَكُنْ لِرُجُوعِهِمْ تَأْثِيرٌ وَكَانَ لَهُ إِقْرَارُ الْجَنَاحِ مَا بَقِيَ . وَإِنْ كَانَ قَبْلَ إِخْرَاجِهِ بَطَلَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِذْنِ فَكَانَ إِخْرَاجُ الْجَنَاحِ كَمَنْ أَخْرَجَ بِغَيْرِ إِذْنٍ ، وَكَذَا لَوْ رَجَعَ أَحَدُهُمْ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا دَارًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَقَالَا وَرَثْنَاهَا عَنْ أَبِينَا فَأَقَرَّ لِأَحَدِهِمَا بِنِصْفِهَا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا دَارًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ فأقر لأحدهما وصالحه فَقَالَا : وَرَثْنَاهَا عَنْ أَبِينَا ، فَأَقَرَّ لِأَحَدِهِمَا بِنِصْفِهَا فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِهِ عَلَى شَيْءٍ كَانَ لِأَخِيهِ أَنْ يَدْخُلَ مَعْهُ فِيهِ ( قَالَ الْمَزَنِيُّ ) قَلْتُ أَنَا : يَنْبَغِي فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ أَنْ يَبْطُلَ الصَّلْحُ أَقْرَبَ فِي حَقِّ أَخِيهِ لِأَنَّهُ صَارَ لِأَخِيهِ بِإِقْرَارِهِ قَبْلَ أَنْ يُصَالِحَ عَلَيْهِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَالَحَ بِأَمْرِهِ فَيَجُوزَ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي أَخَوَيْنِ ادَّعَيَا دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ مِيرَاثًا عَنْ أَبِيهِمَا أَوْ نَسَبَا ذَلِكَ إِلَى جِهَةٍ يَسْتَوِيَانِ فِيهَا غَيْرِ الْمِيرَاثِ ، كَقَوْلِهِمَا ابْتَعْنَاهَا مِنْ زَيْدٍ أَوِ اسْتَوْهَبْنَاهَا مِنْ عَمْرٍو

فَيَكُونَ حُكْمُ هَذَا وَحُكْمُ الْمِيرَاثِ سَوَاءٌ ، لِأَنَّهُمَا نَسَبَا ذَلِكَ إِلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ يَسْتَوِيَانِ فِيهَا . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِصَاحِبِ الْيَدِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُصَدِّقَهُمَا وَيُقِرَّ لَهُمَا ، فَيَلْزَمُهُ بِإِقْرَارِهِ تَسْلِيمُ الدَّارِ إِلَيْهِمَا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُكَذِّبَهُمَا وَيُنْكِرَهُمَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ مَا لَمْ يَكُنْ لِلْأَخَوَيْنِ بَيِّنَةٌ . فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَى الْأَخَوَيْنِ ، فَإِنْ حَلَفَا كَانَتِ الدَّارُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَإِنْ نَكَلَا أُقِرَّتِ الدَّارُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ . وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَنَكَلَ الْآخَرُ كَانَ نِصْفُ الدَّارِ لِلْحَالِفِ بِيَمِينِهِ لَا يُشَارِكُهُ أَخُوهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا وَالنِّصْفُ الْآخَرُ مُقَرٌّ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُصَدِّقَ أَحَدَهُمَا عَلَى نِصْفِهَا وَيُكَذِّبَ الْآخَرَ ، فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ لِمَنْ أَنْكَرَهُ وَيُنْزَعُ النِّصْفُ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ فَيَكُونُ بَيْنَ الْمُقَرِّ لَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ نِصْفَيْنِ . وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا نَسَبَا دَعْوَاهُمَا إِلَى جِهَةٍ يَسْتَوِيَانِ فِيهَا وَيَشْتَرِكَانِ فِيمَا مَلَكَاهُ بِهَا ، وَكَانَ إِنْكَارُهُ النِّصْفَ لِأَحَدِهِمَا يَجْرِي مَجْرَى غَصْبِهِ شَيْئًا مِنْ تَرِكَةِ أَبِيهِمَا . وَلَوْ غَصَبَ مِنْ تَرِكَةِ أَبِيهِمَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَاحِدًا مِنْ عَبْدَيْنِ أَوْ دَارًا مِنْ دَارَيْنِ كَانَتِ الدَّارُ الْبَاقِيَةُ وَالْعَبْدُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا وَالْمَغْصُوبُ بَيْنَهُمَا . فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ لَوْ أَنْكَرَهُمَا وَنَكَلَ فَحَلَفَ أَحَدُ الْأَخَوَيْنِ وَنَكَلَ الْآخَرُ كَانَ النِّصْفُ لِلْحَالِفِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ النَّاكِلُ ؟ ، قِيلَ : نَعَمْ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّاكِلَ سَقَطَ حَقُّهُ بِنُكُولِهِ ، إِذْ قَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ بِيَمِينِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَحِقُّ بِيَمِينِ غَيْرِهِ شَيْئًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النِّصْفَ الْمُقَرَّ يَكُونُ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ مَعًا فَصَالَحَ الْأَخُ الْمُقَرُّ لَهُ بِالنِّصْفِ لِلْمُقِرِّ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى حَقِّهِ وَهُوَ الرُّبُعُ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ وَالشُّفْعَةُ فِيمَا صَالَحَ مِنَ الرُّبُعِ وَاجِبَةٌ ، وَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَجِبُ لِأَخِيهِ الْمُشَارِكِ فِي نِصْفِ الدَّارِ دُونَ الْمُقِرِّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَجِبُ لِأَخِيهِ وَلِلْمُقِرِّ الَّذِي صُولِحَ ، فَلَا يَكُونُ لِلْأَخِ أَنْ يَنْزِعَ مِنَ الْمَصَالَحِ إِلَّا قَدْرَ حَقِّهِ ، وَفِي حَقِّهِ قَوْلَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنَ أَثْلَاثًا . وَسَنَذْكُرُ تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى جَمِيعِ النِّصْفِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُصَالِحَهُ بِإِذْنِ أَخِيهِ فَالصُّلْحُ فِي النِّصْفِ كُلِّهِ جَائِزٌ ، وَيَكُونُ الْمَالُ الَّذِي وَقَعَ الصُّلْحُ بِهِ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ نِصْفَيْنِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُصَالِحَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ أَخِيهِ فَيَكُونُ الصُّلْحُ فِي حَقِّ أَخِيهِ وَهُوَ الرُّبُعُ بَاطِلًا . وَهَلْ يَبْطُلُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ : أَحَدُهُمَا : يَبْطُلُ . وَالثَّانِي : لَا يَبْطُلُ . وَيَكُونُ الْمُصَالِحُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الصُّلْحِ وَاسْتِرْجَاعِ الْعِوَضِ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ الْأَخُ إِلَى أَخْذِهِ بِالشُّفْعَةِ وَبَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الصُّلْحِ فِي حَقِّهِ ، وَبِمَاذَا يُقِيمُ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بِجَمِيعِ الْعِوَضِ وَإِلَّا فُسِخَ . وَالثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ : يُقِيمُ عَلَيْهِ بِحِسَابِهِ وَقِسْطِهِ وَهُوَ النِّصْفُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْإِمَامُ الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ نَقَلَ كَلَامًا مُحْتَمَلًا وَتَأَوَّلَهُ تَأْوِيلًا فَاسِدًا ثُمَّ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِمَا لَوْ صَحَّ تَأْوِيلُهُ لَصَحَّ اعْتِرَاضُهُ ، وَهُوَ أَنَّهُ نَقَلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ : إِذَا أَقَرَّ لِأَحَدِهِمَا بِنِصْفِهِ فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى شَيْءٍ كَانَ لِأَخِيهِ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُ فِيهِ . فَتَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَجَازَ صُلْحَهُ فِي جَمِيعِ النِّصْفِ ، ثُمَّ جَعَلَ أَخَاهُ شَرِيكًا لَهُ فِي مَالِ الصُّلْحِ ، فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأَنْ قَالَ : يَجِبُ أَنْ يَبْطُلَ الصُّلْحُ فِي حَقِّ أَخِيهِ ، وَهَذَا وَهْمٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ فِي تَأْوِيلِهِ ، لِأَنَّ مُرَادَ الشَّافِعِيِّ بِقَوْلِهِ : كَانَ لِأَخِيهِ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُ فِيهِ : يَعْنِي فِي النِّصْفِ مِنَ الدَّارِ لَا فِي النِّصْفِ مِنَ الْمَالِ ، وَالْجَوَابُ فِي الصُّلْحِ عَلَى مَا شَرَحْنَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَادَعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهِمَا نِصْفَهَا فَأَقَرَّ لِأَحَدِهِمَا بِالنِّصْفِ وَجَحَدَ لِلْآخَرِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَادَعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهِمَا نِصْفَهَا فَأَقَرَّ لِأَحَدِهِمَا بِالنِّصْفِ وَجَحَدَ لِلْآخَرِ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ فِي ذَلِكَ حَقٌّ وَكَانَ عَلَى خُصُومَتِهِ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا ادَّعَى أَخَوَانِ دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ وَلَمْ يَنْسُبَاهَا إِلَى أَنَّهُمَا مَلَكَاهَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فَأَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَحَدِهِمَا بِالنِّصْفِ وَأَنْكَرَ الْآخَرَ فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ لِمَنْ أَنْكَرَهُ وَيَنْفَرِدُ الْمُقَرُّ لَهُ بِالنِّصْفِ لَا يُشَارِكُهُ الْآخَرُ فِيهِ ، لِأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لِمِلْكِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ . وَهَكَذَا لَوِ ادَّعَيَاهَا مِيرَاثًا مَقْبُوضًا قَدِ اسْتَقَرَّ مِلْكُهُمَا عَلَيْهَا بِالْقِسْمَةِ وَالْقَبْضِ فَصَدَّقَ أَحَدَهُمَا عَلَى النِّصْفِ وَأَنْكَرَ الْآخَرَ الدار التي بيدى آخر تَفَرَّدَ الْمُقَرُّ لَهُ بِالنِّصْفِ وَلَمْ يُشَارِكْهُ الْآخَرُ فِيهِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يُضِيفَا ذَلِكَ إِلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ ، لِأَنَّ الْمِيرَاثَ إِذَا اسْتَقَرَّ مِلْكُهُ بِالْقِسْمَةِ وَالْقَبْضِ لَمْ يَتَعَلَّقْ مِلْكُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ . أَلَا تَرَى لَوِ اقْتَسَمَا دَارَيْنِ وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إِحْدَى الدَّارَيْنِ ثُمَّ غُصِبَتْ إِحْدَى الدَّارَيْنِ مِنْ أَحَدِهِمَا انْفَرَدَ الْآخَرُ بِالْبَاقِيَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهَا أَخُوهُ ، وَلَوْ غُصِبَتْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَشَارَكَهُ فِيهَا ، كَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ إِذَا صَدَّقَ أَحَدَهُمَا عَلَى النِّصْفِ قَبْلِ الْقِسْمَةِ شَارَكَهُ الْآخَرُ فِيهِ ، وَإِنْ صَدَّقَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ لَمْ يُشَارِكْهُ الْآخَرُ فِيهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَ أَقَرَّ لِأَحَدِهِمَا بِجَمِيعِ الدَّارِ فَإِنْ كَانَ لَمْ يُقِرَّ لِلْآخَرِ بِأَنَّ لَهُ النِّصْفَ فَلَهُ الْكُلُّ ، وَإِنْ كَانَ أَقَرَّ بِأَنَّ لَهُ النِّصْفَ وَلِأَخِيهِ النِّصْفَ كَانَ لِأَخِيهِ أَنْ يَرْجِعَ بِالنِّصْفِ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا ادَّعَى الْآخَرَانِ دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ فَاعْتَرَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَحَدِ الْأَخَوَيْنِ بِجَمِيعِ الدَّارِ وَأَنْكَرَ الْآخَرَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَنْسُبَا تِلْكَ إِلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ يَسْتَوِيَانِ فِيهَا فَتَكُونَ الدَّارُ لِلْأَخَوَيْنِ مَعًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَنْسُبَاهَا إِلَى جِهَةٍ يَتَسَاوَيَانِ فِيهَا فَلِلْمُقَرِّ لَهُ حَالَانِ : حَالٌ يَقْبَلُ الْإِقْرَارَ بِجَمِيعِهَا ، وَحَالٌ لَا يَقْبَلُ . فَإِنْ لَمْ يَقْبَلِ الْإِقْرَارَ بِجَمِيعِهَا كَانَ لَهُ النِّصْفُ الَّذِي ادَّعَاهُ ، فَأَمَّا النِّصْفُ الْآخَرُ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِهِ وَلَمْ يَقْبَلْهُ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَكُونُ مُقَرًّا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَكُونَ الْمُكَذَّبُ خَصْمًا لَهُ فِيهِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ أَخْذَهُ مَعَ أَنَّ يَدَهُ عَلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُنْزَعُ النِّصْفُ مِنْ يَدِهِ وَيُوضَعُ عَلَى يَدِ حَاكِمٍ حَتَّى إِذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مُسْتَحِقُّهُ سَلَّمَهُ إِلَيْهِ ، لِأَنَّ إِقْرَارَهُ أَوْجَبَ رَفْعَ يَدِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ يُدْفَعُ إِلَى مُدَّعِيهِ لِأَنَّهُ خَصْمٌ لَهُ فِيهِ . وَإِنْ قَبِلَ مُدَّعِي النِّصْفَ الْإِقْرَارَ بِالْكُلِّ انْتُزِعَ الْكُلُّ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثُمَّ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ الْمُقَرُّ لَهُ قَدْ حَفِظَ عَلَيْهِ تَصْدِيقَ أَخِيهِ فِي ادِّعَائِهِ النِّصْفَ إِمَّا قَبْلَ الْإِقْرَارِ لَهُ أَوْ بَعْدَهُ لَزِمَهُ تَسْلِيمُ النِّصْفِ إِلَى أَخِيهِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إِقْرَارِهِ : لِأَنَّ إِقْرَارَهُ عَلَى غَيْرِهِ لَا يَلْزَمُ ، فَإِذَا صَارَ الْقَبْضُ إِلَى يَدِهِ لَزِمَهُ ،

أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ أَقَرَّ أَنَّ الدَّارَ الَّتِي فِي يَدِ فُلَانٍ مَغْصُوبَةٌ مِنْ فُلَانٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إِقْرَارُهُ ، فَلَوْ صَارَتِ الدَّارُ إِلَيْهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ لَزِمَهُ إِقْرَارُهُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الدَّارِ إِلَى مَنْ أَقَرَّ بِغَصْبِهَا مِنْهُ ، فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ مُدَّعِي النِّصْفِ صَدَّقَ أَخَاهُ فِي دَعْوَاهُ فَلَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِجَمِيعِ الدَّارِ وَلَا حَقَّ فِيهَا لِأَخِيهِ إِلَّا أَنْ يَسْتَأْنِفَ الدَّعْوَى عَلَيْهِ فَيَصِيرَ خَصْمًا لَهُ فِيهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَهُوَ إِنَّمَا ادَّعَى النِّصْفَ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ الْكُلُّ وَيُزَادَ عَلَى مَا ادَّعَاهُ ؟ قِيلَ : قَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ بَعْضُهُمْ لِأَجْلِ هَذَا السُّؤَالِ يَقُولُ : إِنَّ الْمَسْأَلَةَ مَقْصُورَةٌ عَلَى أَنَّهُ ادَّعَى نِصْفَهَا مِلْكًا وَبَاقِيهَا يَدًا . فَإِذَا أَقَرَّ لَهُ بِالْجَمِيعِ دُفِعَ إِلَيْهِ بِدَعْوَى الْمِلْكِ وَالْيَدِ ، وَلَوْ لَمْ يَدَّعِ هَذَا لَمْ يُدْفَعْ إِلَيْهِ إِلَّا النِّصْفُ . وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا : بَلْ يُدْفَعُ إِلَيْهِ جَمِيعُهَا وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ سَابِقًا إِلَّا نِصْفَهَا ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُنْكَرٍ أَنْ يَكُونَ لَهُ جَمِيعُ الدَّارِ فَيَدَّعِ نِصْفَهَا لِأُمُورٍ : مِنْهَا : أَنْ يَكُونَ نِصْفُهَا مُصَدَّقًا عَلَيْهِ فَلَمْ يَدَّعِيهِ ، وَنِصْفُهَا مُنَازِعٌ فِيهِ فَادَّعَاهُ . وَمِنْهَا : أَنْ يَكُونَ لَهُ بِنِصْفِهَا بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ وَبِنِصْفِهَا بَيِّنَةٌ غَائِبَةٌ ، فَيَدَّعِيَ نِصْفَهَا لِتَشْهَدَ بِهِ الْبَيِّنَةُ الْحَاضِرَةُ ، وَيُؤَخِّرَ الدَّعْوَى فِي النِّصْفِ الْآخَرِ إِلَى أَنْ تَحْضُرَ الْبَيِّنَةُ الْغَائِبَةُ . وَمِنْهَا : أَنْ يَدَّعِيَ مَا لَا مُنَازَعَةَ لَهُ فِيهِ اسْتِثْقَالًا لِلْخُصُومَةِ ، وَهِيَ تَأْخِيرُ النِّزَاعِ . فَلِهَذِهِ الْأُمُورِ صَحَّ إِذَا ادَّعَى النِّصْفَ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ الْجَمِيعُ .

مَسْأَلَةٌ إِنْ صَالَحَهُ عَلَى دَارٍ أَقَرَّ لَهُ بِهَا بِعَبْدٍ قَبَضَهُ فَاسْتَحَقَّ الْعَبْدَ رَجَعَ إِلَى الدَّارِ فَأَخَذَهَا مِنْهُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى دَارٍ أَقَرَّ لَهُ بِهَا بِعَبْدٍ قَبَضَهُ فَاسْتَحَقَّ الْعَبْدَ رَجَعَ إِلَى الدَّارِ فَأَخَذَهَا مِنْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ دَارًا فِي يَدِهِ فَأَقَرَّ بِهَا ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى عَبْدٍ فَاسْتَحَقَّ الْعَبْدَ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُعَيَّنًا فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ كَمَا لَوِ ابْتَاعَ دَارًا بِعَبْدٍ فَاسْتَحَقَّ الْعَبْدَ ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالدَّارِ كَمَا يَرْجِعُ بِهِ الْبَائِعُ ، إِلَّا أَنْ يَسْتَأْنِفَ صُلْحًا ثَانِيًا ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَرْهُونًا أَوْ مُكَاتَبًا ، أَوْ مَاتَ قَبْلَ قَبْضِهِ . وَلَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ لَوْ كَانَ مُدَبَّرًا أَوْ مُوصًى بِعِتْقِهِ أَوْ مُعْتَقًا بِصِفَةٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ ، فَالصُّلْحُ لَا يَبْطُلُ بِاسْتِحْقَاقِهِ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِعَبْدٍ عَلَى مِثْلِ صِفَتِهِ كَمَا لَوِ اسْتَحَقَّ الْعَبْدَ الْمَقْبُوضَ فِي الْمُسَلَّمِ .

وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُعَيَّنًا فَقُتِلَ قَبْلَ قَبْضِهِ فَفِي بُطْلَانِ الصُّلْحِ بِقَتْلِهِ قَوْلَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي الْبُيُوعِ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا الَّذِي هِيَ فِي يَدَيْهِ وَقْتًا فَهِيَ عَارِيَةٌ إِنْ شَاءَ أَخْرَجَهُ مِنْهَا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا الَّذِي هِيَ فِي يَدَيْهِ وَقْتًا فَهِيَ عَارِيَةٌ إِنْ شَاءَ أَخْرَجَهُ مِنْهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ دَارًا فَاعْتَرَفَ بِهَا ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا الْمُقِرُّ سَنَةً كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلًا ، لِأَنَّ الصُّلْحَ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا عَاوَضَ عَلَى مَا يَمْلِكُ بِمَا لَا يَمْلِكُ ، وَهَذَا قَدْ عَاوَضَ عَلَى مِلْكِهِ بِمِلْكِهِ ؛ لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ دَارًا مَلَكَ سُكْنَاهَا . فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيْسَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى نِصْفِهَا جَازَ ، قِيلَ قَدْ ذَكَرْنَا فِيهِ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا . وَالثَّانِي : يَجُوزُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى النِّصْفِ هِبَةٌ ، وَالْهِبَةُ لَازِمَةٌ فَصَارَ الصُّلْحُ بِهَا لَازِمًا ، وَالصُّلْحُ عَلَى السُّكْنَى عَارِيَةٌ وَالْعَارِيَةُ غَيْرُ لَازِمَةٍ ، فَصَارَ الصُّلْحُ بِهَا غَيْرَ لَازِمٍ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الصُّلْحَ بَاطِلٌ فَلِمَالِكِ الدَّارِ أَنْ يُسْكِنَهُ إِيَّاهَا إِنْ شَاءَ ، وَلَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْهَا مَتَى شَاءَ كَالدَّارِ الْعَارِيَةِ وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ . فَلَوْ جُعِلَ الصُّلْحُ عَلَى السُّكْنَى شَرْطًا فِي إِقْرَارِهِ فَقَالَ قَدْ أَقْرَرْتُ لَكَ بِهَذِهِ الدَّارِ عَلَى أَنْ أَسْكُنَهَا سَنَةً بَطَلَ اشْتِرَاطُ السُّكْنَى وَالصُّلْحُ عَلَيْهِ . فَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ ، فَذَهَبَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ إِلَى بُطْلَانِهِ لِكَوْنِهِ إِقْرَارًا مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ ، وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى صِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَلُزُومِهِ لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ بِشَرْطٍ فِي عَارِيَةٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَوْ صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى خِدْمَةِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ سَنَةً فَبَاعَهُ الْمَوْلَى كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ وَتَكُونَ الْخِدْمَةُ عَلَى الْعَبْدِ لِلْمُصَالَحِ أَوْ يَرُدَّ الْبَيْعَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا صَالَحَ الْمُقِرُّ بِالدَّارِ عَلَى خِدْمَةِ عَبْدٍ مُعَيَّنٍ سَنَةً جَازَ الصُّلْحُ ، لِأَنَّ الْمُقِرَّ عَاوَضَ عَلَى الدَّارِ بِمَا مَلَكَهُ مِنْ خِدْمَةِ الْعَبْدِ ، وَصَارَ الْمُقَرُّ لَهُ بِالدَّارِ مُسْتَأْجِرًا لِلْعَبْدِ سَنَةً بِالدَّارِ الَّتِي قَدْ مَلَكَهَا بِالْإِقْرَارِ .

فَلَوْ بَاعَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ قَبْلَ مُضِيِّ السَّنَةِ كَانَ الصُّلْحُ عَلَى حَالِهِ ، وَفِي الْبَيْعِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ تَأْخِيرِ الْقَبْضِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ : أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمَنْفَعَةِ لَا يَمْنَعُ بَيْعَ الرَّقَبَةِ كَالْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ . فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِالْحَالِ فَلَا خِيَارَ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِهَا فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْمُقَامُ ، وَيُمَكَّنُ الْمُصَالِحُ مِنْهُ إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْخِدْمَةِ ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْبَائِعِ بِشَيْءٍ مِنْ أُجْرَتِهَا ، لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ قَبْلَ عَقْدِهِ . أَمَّا إِذَا ابْتَاعَهُ الْمُصَالِحُ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ قَوْلًا وَاحِدًا ، إِلَّا أَنَّ فِي قَبْضِهِ وَانْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَنْفَسِخُ كَمَا لَوْ بَاعَهُ عَلَى غَيْرِهِ ، فَعَلَى هَذَا ؛ الصُّلْحُ عَلَى حَالِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا قَدِ انْفَسَخَتْ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ أَمَتَهُ ثُمَّ ابْتَاعَهَا بَطَلَ النِّكَاحُ الْمُتَقَدِّمُ بِالْبَيْعِ الطَّارِئِ . كَذَا تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ السَّالِفَةُ بِالْبَيْعِ الْحَادِثِ ، فَعَلَى هَذَا قَدْ بَطَلَ الصُّلْحُ وَمُلِكَ الْعَبْدُ بِالْبَيْعِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَعْتَقَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ الَّذِي صَالَحَ بِخِدْمَتِهِ فَعِتْقُهُ نَافِذٌ ، لِأَنَّهُ صَادَفَ مِلْكًا تَامًّا فَلَمْ يُمْنَعِ اسْتِحْقَاقَ الْمَنْفَعَةِ كَعِتْقِ الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ ، وَعَلَى الْعَبْدِ الْمُعْتَقِ خِدْمَةُ الْمُصَالَحِ بَاقِيَ السَّنَةِ ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى سَيِّدِهِ الَّذِي أَعْتَقَهُ بِأُجْرَةِ الْخِدْمَةِ بَعْدَ عِتْقِهِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِأُجْرَتِهِ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ بَعْدَ عِتْقِهِ ؛ لِأَنَّ نُفُوذَ عِتْقِهِ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِحْقَاقِ مَنَافِعِهِ ، فَصَارَ كَالْآخِذِ لَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ فَضَمِنَ كَالْغَاصِبِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا رُجُوعَ لَهُ بِشَيْءٍ ، لِأَنَّ عِتْقَ السَّيِّدِ أَزَالَ مَا كَانَ مَالِكًا لَهُ ، وَخِدْمَةُ الْعَبْدِ تِلْكَ السَّنَةَ لَمْ يَكُنِ السَّيِّدُ مَالِكًا لَهَا ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ حُكْمُ الْعِتْقِ بِهَا ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْعَبْدُ رُجُوعًا بِسَبَبِهَا ، كَالْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ إِذَا عُتِقَتْ لَمْ تَسْتَحِقَّ الرُّجُوعَ عَلَى سَيِّدِهَا بِالْمَهْرِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَاتَبَهُ السَّيِّدُ فَالْكِتَابَةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ لِنَفْسِهِ وَلَا عَلَى تَمَلُّكِ كَسْبِهِ ، وَلَكِنْ لَوْ دَبَّرَهُ صَحَّ التَّدْبِيرُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَهُ بِصِفَةٍ . فَأَمَّا إِذَا أَجَّرَهُ مِنْ غَيْرِ الْمُصَالَحِ فَالْإِجَارَةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ مَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِ عَقْدُ الْإِجَارَةِ مُسْتَحَقٌّ مِنْ قَبْلُ ، وَإِنْ عَقَدَ عَلَى مَا بَعْدَ السَّنَةِ فَهُوَ بَاطِلٌ : لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى عَيْنٍ بِشَرْطِ تَأْخِيرِ الْقَبْضِ .

أَمَّا إِذَا رَهَنَهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَى الرَّهْنَ مَجْرَى الْبَيْعِ ، فَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ عَلَى قَوْلَيْنِ : وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَى ذَلِكَ مَجْرَى الْإِجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَالِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْمَنْفَعَةِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَاطِلًا قَوْلًا وَاحِدًا ، فَأَمَّا إِذَا وَهَبَهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ كَالْبَيْعِ سَوَاءً .

مَسْأَلَةٌ لَوْ مَاتَ الْعَبْدُ جَازَ مِنَ الصُّلْحِ بِقَدْرِ مَا اسْتُخْدِمَ ، وَبَطَلَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ جَازَ مِنَ الصُّلْحِ بِقَدْرِ مَا اسْتُخْدِمَ ، وَبَطَلَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا مَاتَ الْعَبْدُ الَّذِي صَالَحَهُ عَلَى الدَّارِ بِخِدْمَتِهِ سَنَةً لَمْ يَخْلُ حَالُ مَوْتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَمُوتَ فِي الْحَالِ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهَا فَالصُّلْحُ قَدْ بَطَلَ لِتَلَفِ الْعِوَضِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ كَتَلَفِ الثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَلِلْمُصَالَحِ أَنْ يَرْجِعَ بِالدَّارِ كَمَا يَرْجِعُ الْبَائِعُ بِالْبَيْعِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ كُلِّهَا ، فَالصُّلْحُ قَدْ تَمَّ وَحُكْمُهُ قَدِ انْبَرَمَ ، وَمَوْتُ الْعَبْدِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِيهِ لِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ الْمُدَّةِ وَبَقَاءِ بَعْضِهَا ، فَالصُّلْحُ قَدْ بَطَلَ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ لِفَوَاتِ قَبْضِهِ بِالْمَوْتِ ، وَأَمَّا فِيمَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ الْمُسْتَوْفَاةِ فَهُوَ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْفَسَادِ فِي بَعْضِ الصَّفْقَةِ إِذَا طَرَأَ بَعْدَ الْعَقْدِ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْفَسَادِ الْمُقَارِنِ لِلْعَقْدِ ؟ فَذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْفَسَادِ الْمُقَارِنِ لِلْعَقْدِ ، فَجَعَلَ بُطْلَانَ الصُّلْحِ فِيمَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ . أَحَدُهُمَا : قَدْ بَطَلَ الصُّلْحُ فِيمَا بَقِيَ وَوَجَبَ عَلَى الْمُصَالَحِ أُجْرَةُ مَا اسْتَخْدَمَ فِيمَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ ، وَلَهُ اسْتِرْجَاعُ الدَّارِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَبْطُلُ ، لَكِنْ يَكُونُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْمَقَامِ ، فَإِنْ فَسَخَ رَجَعَ بِالدَّارِ وَغُرِّمَ أُجْرَةَ مَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ ، فَإِنْ أَقَامَ فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُقِيمُ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الصُّلْحِ . وَالثَّانِي : بِحِسَابِهِ وَقِسْطِهِ . وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا : إِنَّ الْفَسَادَ الْحَادِثَ بَعْدَ الْعَقْدِ مُخَالِفٌ لِلْفَسَادِ الْمُقَارِنِ لِلْعَقْدِ لِسَلَامَةِ الصَّفْقَةِ عِنْدَ عَقْدِهَا فَيَكُونُ الصُّلْحُ فِيمَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ جَائِزًا قَوْلًا وَاحِدًا .

فَعَلَى هَذَا هَلْ لِلْمُصَالَحِ خِيَارٌ فِيهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا خِيَارَ لَهُ لِاسْتِقْرَارِ قَبْضِهِ وَفَوَاتِ رَدِّهِ ، فَعَلَى هَذَا يُقِيمُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ بِحِسَابِهِ مِنَ الصُّلْحِ وَقِسْطِهِ ، وَيَرْجِعُ مِنَ الدَّارِ بِقِسْطِ مَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَهُ الْخِيَارُ ؛ لِأَنَّهُ عَاوَضَ عَلَى مُدَّةٍ كَامِلَةٍ وَصَفْقَةٍ سَلِيمَةٍ ، فَكَانَ النَّقْصُ فِيهَا غَبْنًا مُوجِبًا لِلْخِيَارِ كَالنَّقْصِ فِي الْأَعْيَانِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الصُّلْحَ فِيمَا مَضَى وَبَيْنَ أَنْ يُقِيمَ . فَإِنْ فَسَخَ فِيمَا مَضَى غُرِّمَ مِثْلَ أُجْرَةِ تِلْكَ الْمُدَّةِ وَاسْتَرْجَعَ الدَّارَ كُلَّهَا . وَإِنْ أَقَامَ فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُقِيمُ عَلَى مَا مَضَى بِجَمِيعِ الصُّلْحِ . وَالثَّانِي : بِحِسَابِهِ وَقِسْطِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا تَدَاعَى رَجُلَانِ جِدَارًا بَيْنَ دَارَيْهِمَا ، فَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا اتِّصَالَ الْبُنْيَانِ الَّذِي لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ إِلَّا مِنْ أَوَّلِ الْبُنْيَانِ جَعَلْتُهُ لَهُ دُونَ الْمُنْقَطِعِ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ يَحْدُثُ مِثْلُهُ بَعْدَ كَمَالِ بُنْيَانِهِ ، مِثْلُ نَزْعِ طُوبَةٍ وَإِدْخَالِ أُخْرَى ، أَحْلَفْتُهُمَا بِاللَّهِ وَجَعَلْتُهُ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَوْصُولٍ بِوَاحِدٍ مِنْ بِنَائِهِمَا أَوْ مُتَّصِلًا بِبِنَائِهِمَا جَمِيعًا جَعَلْتُهُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ أَنْ أُحْلِفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي حَائِطٍ بَيْنَ دَارَيْنِ تَنَازَعَهُ الْمَالِكَانِ ، وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا : هُوَ لِي دُونَكَ ، وَلَا بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَاهُ . فَلَا يَخْلُو حَالُ الْحَائِطِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِبِنَائِهِمَا ، أَوْ يَكُونَ مُنْفَصِلًا عَنْ بِنَائِهِمَا ، أَوْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا مُنْفَصِلًا عَنْ بِنَاءِ الْآخَرِ . فَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِبِنَائِهِمَا أَوْ مُنْفَصِلًا عَنْ بِنَائِهِمَا فَهُمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ . وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ، وَاتِّصَالُهُ هُوَ أَنْ يَكُونَ بِنَاءُ أَحَدِهِمَا قَدِ اتَّصَلَ بِبِنْيَةِ الْحَائِطِ عَلَى مَا لَا يُمْكِنُ إِحْدَاثُ مِثْلِهِ بَعْدَ كَمَالِ الْبِنَاءِ فَصَارَتْ حَائِطَيْنِ أَحَدُهُمَا الْمُعَارَضَةُ ، مُسْنَدُهُ بِالْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ اتِّصَالَ تَرْبِيعٍ أَمْ لَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : اتِّصَالُ الْبِنَاءِ أَنْ يَكُونَ تَرْبِيعُ دَارِ أَحَدِهِمَا مُسْنِدَهُ بِالْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَلَا يَكُونَ اتِّصَالُ بَعْضِ الْحُدُودِ مُؤَثِّرًا ،

وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ اتِّصَالَهُ بِبَعْضِ حُدُودِ الدَّارِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ إِحْدَاثُهُ بَعْدَ كَمَالِ الْبِنَاءِ . كَمَا أَنَّ اتِّصَالَهُ بِجَمِيعِ الْحُدُودِ تَرْبِيعًا لَا يُمْكِنُ إِحْدَاثُهُ بَعْدَ كَمَالِ الْبِنَاءِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِمَا عَلَى سَوَاءٍ . فَأَمَّا إِنْ كَانَ عَلَى الْحَائِطِ لِأَحَدِهِمَا أَزِجٌّ أَوْ قُبَّةٌ نُظِرَ فِي الْحَائِطِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ بُنِيَ مِنْ أَسَاسِهِ مُتَعَرِّجًا عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ بَعْضِ الْقُبَّابِ وَالْأُزَّاجِ فَهَذَا اتِّصَالٌ ، لِأَنَّ هَذَا التَّعْرِيجَ لَا يُمْكِنُ إِحْدَاثُ مِثْلِهِ بَعْدَ كَمَالِ الْبِنَاءِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِنَاءُ الْحَائِطِ مُتَعَرِّجًا فَالْأَزُجُّ الْمَبْنِيُّ عَلَيْهِ وَالْقُبَّةُ لَا يَكُونُ مُتَّصِلًا بِالْحَائِطِ كُلِّهِ ، لِأَنَّ إِحْدَاثَ مِثْلِ الْأَزُجِّ وَالْقُبَّةِ عَلَى الْحَائِطِ بَعْدَ كَمَالِ الْبِنَاءِ مُمْكِنٌ ، فَصَارَ كَالْأَجْذَاعِ ، لَكِنْ مَا كَانَ مِنْ أَعْلَى الْحَائِطِ خَارِجًا عَنْ تَعْرِيجِ الْقُبَّةِ وَالْأَزُجِّ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْقُبَّةِ وَالْأَزُجِّ ، وَمَا انْحَدَرَ عَنْهُ مِنَ انْتِصَابِ الْحَائِطِ فِي حُكْمِ الْمُنْفَصِلِ غَيْرِ الْمُتَّصِلِ ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْحَائِطُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ يَنْتَهِي طُولًا إِلَى أَنْ يَتَجَاوَزَ مِلْكَ أَحَدِهِمَا وَلَا يَتَجَاوَزُ مِلْكَ الْآخَرِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ طُولُ الْحَائِطِ عِشْرِينَ ذِرَاعًا وَعَرْصَةُ أَحَدِهِمَا عَشَرَةُ أَذْرُعٍ وَعَرْصَةُ الْآخَرِ عِشْرُونَ ذِرَاعًا فَيَتَنَازَعَانِ مِنَ الْحَائِطِ مَا كَانَ بَيْنَ عَرْصَتَيْهِمَا مَعًا دُونَ الْقَدْرِ الْمُجَاوِزِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ هَذَا فِي حُكْمِ الْمُتَّصِلِ أَوِ الْمُنْفَصِلِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ فِي حُكْمِ الْمُتَّصِلِ لِأَنَّ مَا اتَّصَلَ بِعَرْضِهِ فِي بِنَاءِ أَحَدِهِمَا بِمِثْلِ مَا اتَّصَلَ بِطُولِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ مُتَّصِلًا وَيَكُونَ فِي حُكْمِ الْمُنْفَصِلِ ؛ لِأَنَّ اتِّصَالَ الْعَرْضِ لَا يُمْكِنُ إِحْدَاثُهُ بَعْدَ كَمَالِ الْبِنَاءِ وَاتِّصَالُ الطُّولِ يُمْكِنُ إِحْدَاثُهُ بَعْدَ كَمَالِ الْبِنَاءِ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الِاتِّصَالَ مَا ذَكَرْنَا وَكَانَ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَهُوَ لِمَنِ اتَّصَلَ بِبِنَائِهِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ لِصَاحِبِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اتِّصَالَهُ بِمَا لَهُ تَصَرُّفٌ فِيهِ يَدٌ ، وَصَاحِبُ الْيَدِ الْمُتَصَرِّفَةِ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ ، كَمَنْ نُوزِعَ شَيْئًا فِي يَدِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ اتِّصَالَهُ بِمِلْكِهِ دَلِيلٌ عَلَى تَمَلُّكِهِ ، كَمَنْ نُوزِعَ بِنَاءً فِي أَرْضِهِ كَانَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ دُونَ مُنَازَعَةٍ ، ثُمَّ لَزِمَتْهُ الْيَمِينُ ؛ لِأَنَّ هَذَا دَالٌّ عَلَى الْمِلْكِ وَلَيْسَ بِمُوجِبٍ لَهُ ، فَلَزِمَتْ فِيهِ الْيَمِينُ كَالْيَدِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَانَ مُتَّصِلًا بِبِنَاءَيْهِمَا أَوْ مُنْفَصِلًا عَنْ بِنَاءَيْهِمَا الحائط ا للذان ادعيا ملكه فَهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ وَيَتَحَالَفَانِ عَلَيْهِ . وَهَلْ يَكُونُ الْحَاكِمُ مُخَيَّرًا فِي الِابْتِدَاءِ بِإِحْلَافِ أَيِّهِمَا شَاءَ أَوْ يَقْرَعُ بَيْنَهُمَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : يَكُونُ مُخَيَّرًا لِاسْتِوَائِهِمَا . وَالثَّانِي : يَقْرَعُ بَيْنَهُمَا لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْهُ . وَفِي قَدْرِ مَا يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ : أَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى نِصْفِهِ لِأَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ بِيَمِينِهِ ، وَالَّذِي يَصِيرُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا : أَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى جَمِيعِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ وَهُوَ يَدَّعِي جَمِيعَهُ . ثُمَّ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَا بُدَّ أَنْ يَتَضَمَّنَ يَمِينُهُ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ ، لِأَنَّهُ يَنْفِي مِلْكَ غَيْرِهِ وَيُثْبِتُ مِلْكَ نَفْسِهِ . وَلَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُحْتَاجُ إِلَى يَمِينٍ وَاحِدَةٍ لِلنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ ، أَوْ يُحْتَاجُ إِلَى يَمِينَيْنِ أَحَدِهِمَا لِلنَّفْيِ وَالْأُخْرَى لِلْإِثْبَاتِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَحْلِفُ يَمِينًا وَاحِدًا تَتَضَمَّنُ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ ؛ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ لِلْقَضَاءِ وَأَثْبَتُ لِلْحُكْمِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ وَطَائِفَةٍ : أَنَّهُ يَحْلِفُ يَمِينَيْنِ أَحَدَهُمَا لِلنَّفْيِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ بِهَا ، وَالثَّانِيَةَ لِلْإِثْبَاتِ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ بِهَا . فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : إِمَّا أَنْ يَحْلِفَا مَعًا ، فَيُجْعَلُ الْحَائِطُ بَيْنَهُمَا بِأَيْمَانِهِمَا . أَوْ يَنْكُلَا مَعًا فَيُمْنَعَانِ مِنَ التَّخَاصُمِ وَلَا يُحْكَمُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمِلْكِ شَيْءٍ مِنْهُ ، وَيَكُونُ الْحَائِطُ مَوْقُوفًا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ . أَوْ يَحْلِفَ أَحَدُهُمَا وَيَنْكُلَ الْآخَرُ فَيُحْكَمُ بِهِ لِلْحَالِفِ مِنْهُمَا دُونَ النَّاكِلِ . وَهَكَذَا لَوْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا يَمِينَيْنِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَحَلَفَ الْآخَرُ يَمِينًا وَاحِدَةً حُكِمَ بِهِ لِلْحَالِفِ بِيَمِينَيْنِ ، وَكَانَ الْحَالِفُ يَمِينًا بِمَثَابَةِ النَّاكِلِ ، لِأَنَّ يَمِينَهُ لَمْ تَكْمُلْ ، فَلَوْ أَقَامَ النَّاكِلُ بَيِّنَةً كَانَ أَحَقُّ بِبَيِّنَتِهِ مِنْ يَمِينِ صَاحِبِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَا أَنْظُرُ إِلَى مَنْ إِلَيْهِ الْخَوَارِجُ ، وَلَا الدَّوَاخِلُ ، وَلَا أَنْصَافُ اللَّبْنِ ، وَلَا مَعَاقِدُ الْقِمْطِ عند ادعائهما ملك حائط مشترك ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا دَلَالَةٌ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَالدَّوَاخِلُ : هِيَ وُجُوهُ الْحِيطَانِ . وَالْخَوَارِجُ : هِيَ ظُهُورُ الْحِيطَانِ . وَأَنْصَافُ اللَّبْنِ فِيهِ تَأْوِيلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ كُسُورُ أَنْصَافِ اللَّبْنِ إِلَى أَحَدِهِمَا ، وَالصَّحِيحُ مِنْهُ إِلَى الْآخَرِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ إِفْرِيزٌ يُخْرِجُهُ الْبِنَاءُ فِي أَعْلَى الْحَائِطِ نَحْوَ نِصْفِ لَبِنَةٍ لِيَكُونَ وِقَايَةً لِلْحَائِطِ مِنَ الْمَطَرِ وَغَيْرِهِ . وَأَمَّا مَعَاقِدُ الْقَمْطِ فَتَكُونُ فِي الْأَخْصَاصِ وَهِيَ الْخُيُوطُ الَّتِي يُشَدُّ بِهَا الْخُصُّ ، لِأَنَّ الْقَمْطَ جَمْعُ قِمَاطٍ وَهُوَ الْخَيْطُ . فَإِذَا تَنَازَعَ جَارَانِ حَائِطًا بَيْنَهُمَا ، وَكَانَ إِلَى أَحَدِهِمَا الدَّوَاخِلُ وَأَنْصَافُ اللَّبْنِ ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى مِلْكِهِ . وَكَذَلِكَ لَوِ ادَّعَى خُصًّا وَكَانَ إِلَى أَحَدِهِمَا مُعَاقِدُ الْقَمْطِ ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى مِلْكِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَجَعَلَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ هَذِهِ دَلَائِلَ عَلَى الْمِلْكِ ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا جِدَارًا بَيْنَهُمَا ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُذَيْفَةَ أَنْ يَحْكُمَ فَحَكَمَ بِالْجِدَارِ لِمَنْ إِلَيْهِ مَعَاقِدُ الْقِمْطِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَصَبْتَ . قَالُوا : لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ فِي بِنَاءِ الْحَائِطِ أَنْ يَكُونَ وَجْهُهُ إِلَى مَالِكِهِ وَظُهُورُهُ إِلَى غَيْرِهِ ، وَمَعَاقِدُ الْخُصِّ تَكُونُ إِلَى مَالِكِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْكُمَ بِظَاهِرِ الْعَادَةِ كَمَا يُحْكَمُ بِهَا فِي اتِّصَالِ الْبُنْيَانِ . وَهَذَا خَطَأٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ . وَلِأَنَّ هَذِهِ أُمُورٌ قَدْ يُقْصَدُ بِهَا فِي الْبِنَاءِ الْجَمَالُ . فَرُبَّمَا أَحَبَّ الْإِنْسَانُ أَنْ يَجْعَلَ أَجْمَلَ بُنْيَانِهِ وَأَحْسَنَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ ، وَرُبَّمَا أَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهُ خَارِجًا فِيمَا يَرَاهُ النَّاسُ . فَلَمْ يَجُزْ مَعَ اخْتِلَافِ الْعَادَةِ فِيهِ فِي سَائِرِ الْأَغْرَاضِ أَنْ يُجْعَلَ دَالًّا عَلَى الْمِلْكِ ، كَالتَّزَاوِيقِ وَالنَّقْشِ لَا يَكُونُ وُجُودُهُ مِنْ جَانِبِ أَحَدِهِمَا دَلِيلًا عَلَى مِلْكِهِ ، كَذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ .

فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ ، لِأَنَّ رَاوِيَهُ دَهْثَمُ بْنُ قِرَانٍ وَهُوَ مَرْغُوبٌ عَنْهُ ، فَإِنْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ مَعَاقِدَ الْقَمْطِ عِلَّةً فِي الْحُكْمِ ، وَإِنَّمَا جُعِلَ تَعْرِيفًا لِمَنْ حُكِمَ لَهُ ، كَمَا لَوْ قِيلَ : حُكِمَ لِلْأَسْوَدِ لَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ السَّوَادَ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ سِمَةً وَتَعْرِيفًا لِمَنْ وَجَبَ لَهُ الْحُكْمُ . وَأَمَّا ادِّعَاؤُهُمُ الْعُرْفَ الْمُعْتَادَ فِيهِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ فِيهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ جُذُوعٌ وَلَا شَيْءَ لِلْآخَرِ عَلَيْهِ أَحَلَفْتُهُمَا وَأَقْرَرْتُ الْجُذُوعَ بِحَالِهَا ، وَجَعَلْتُ الْجِدَارَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَرْتَفِقُ بِجِدَارِ الرَّجُلَ بِالْجُذُوعِ بِأَمْرِهِ وَغَيْرِ أَمْرِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا تَنَازَعَ الْجَارَانِ حَائِطًا بَيْنَهُمَا وَكَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ جُذُوعٌ فَهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ . قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : صَاحِبُ الْجُذُوعِ أَحَقُّ بِهِ إِذَا كَانَتْ جُذُوعُهُ ثَلَاثَةً فَصَاعِدًا ، فَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَكَانَ بَدَلُ الْجُذُوعِ مُتَّصِلًا فِيهِمَا فِيهِ سَوَاءً اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ وَضْعَ الْجُذُوعِ أَوْكَدُ مِنَ اتِّصَالِ الْبِنَاءِ ، لِأَنَّ وَضْعَ الْجُذُوعِ يُثْبِتُ يَدًا وَارْتِفَاقًا ، وَاتِّصَالُ الْبِنَاءِ يُثْبِتُ أَحَدَهُمَا وَهُوَ الِارْتِفَاقُ دُونَ الْيَدِ ، فَلَمَّا كَانَ اتِّصَالُ الْبِنَاءِ يَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ كَانَ وَضْعُ الْجُذُوعِ أَوْلَى بِأَنْ يَدُلَّ عَلَى الْمِلْكِ . وَلِأَنَّ وَضْعَ الْجُذُوعِ تَصَرُّفٌ فِي الْمِلْكِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَالًّا عَلَى الْمِلْكِ كَالْأَزُجِّ وَالْقُبَّةِ . وَلِأَنَّ وَضْعَ الْجُذُوعِ هُوَ تَرْكِيبٌ عَلَى الْحَائِطَيْنِ يَجْرِي مَجْرَى رُكُوبِ الدَّابَّةِ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ دَابَّةً لَوْ تَنَازَعَهَا رَاكِبُهَا وَآخِذٌ بِلِجَامِهَا كَانَ رَاكِبُهَا أَحَقَّ بِهَا مِمَّنْ هُوَ آخِذٌ بِلِجَامِهَا ، فَكَذَلِكَ الْحَائِطُ إِذَا تَنَازَعَهُ صَاحِبُ الْجُذُوعِ وَغَيْرُهُ كَانَ صَاحِبُ الْجُذُوعِ أَحَقَّ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ هُوَ أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَكُنْ قَلِيلُهُ دَالًّا عَلَى الْمِلْكِ لَمْ يَكُنْ كَثِيرُهُ دَالًّا عَلَى الْمِلْكِ كَالْقَصَبِ وَالرُّفُوفِ . وَلِأَنَّ مَا أَمْكَنَ إِحْدَاثُهُ بَعْدَ كَمَالِ الْبِنَاءِ لَمْ يَكُنْ دَالًّا عَلَى ذَلِكَ الْبِنَاءِ كَالْجِصِّ وَالنَّقْشِ . وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْنَ صَاحِبِ الْأَجْذَاعِ وَالْحَائِطِ طَرِيقٌ نَافِذَةٌ كَالسَّابَاطِ لَمْ يَكُنْ وَضْعُ أَجْذَاعِهِ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى مِلْكِهِ لَهُ ، كَذَلِكَ إِذَا اتَّصَلَ بِمِلْكِهِ ، لِأَنَّ وَضْعَ الْجُذُوعِ لَوْ كَانَ يَدًا لَاسْتَوَى الْأَمْرَانِ فِي الِاتِّصَالِ بِالْمِلْكِ وَالِانْفِصَالِ عَنْهُ . وَلِأَنَّ وَضْعَ الْأَجْذَاعِ فِي الْحَائِطِ قَدْ يَكُونُ بِالْمِلْكِ تَارَةً وَبِالْإِذْنِ أُخْرَى وَبِالْحُكْمِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ

تَارَةً ، فَلَمْ يَجُزْ مَعَ اخْتِلَافِ أَسْبَابِهِ أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى أَحَدِهَا فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى الْمِلْكِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِاتِّصَالِ الْبُنْيَانِ فَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ حُدُوثُهُ بَعْدَ كَمَالِ الْبُنْيَانِ ، فَجَازَ أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْمِلْكِ لِافْتِرَاقِهِ بِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْجُذُوعُ . وَبِمِثْلِهِ يَكُونُ الْجَوَابُ عَنِ الْأَزُجِّ وَالْقُبَّةِ إِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ حُدُوثُ مِثْلِهِ بَعْدَ الْبُنْيَانِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ رَاكِبِ الدَّابَّةِ وَقَائِدِهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّهُمَا فِي الدَّابَّةِ سَوَاءٌ ، تَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الرَّاكِبَ أَحَقُّ بِهَا مِنَ الْآخِذِ بِلِجَامِهَا . وَالْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ وَضْعِ الْجُذُوعِ وَتَرْكِيبِهَا عَلَى الْحَائِطِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِجْمَاعَ مَانِعٌ مِنْ رُكُوبِ دَابَّةِ الْإِنْسَانِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ رُكُوبُهَا دَلِيلًا عَلَى مِلْكِهِ . وَالْخِلَافُ مُنْتَشِرٌ فِي أَنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَضَعَ أَجْذَاعَهُ جَبْرًا فِي حَائِطِ غَيْرِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ وَضْعُهَا دَلِيلًا عَلَى مِلْكِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الرُّكُوبَ لَمَّا كَانَ تَصَرُّفًا لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بَيْنَ وُجُودِهِ فِي الْمِلْكِ وَغَيْرِ الْمِلْكِ جَازَ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى الْمِلْكِ . وَلَمَّا كَانَ وَضْعُ أَجْذَاعِ السَّابَاطِ الَّذِي لَا يَتَّصِلُ بِالْمِلْكِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ لَمْ يَكُنْ وَضْعُ الْأَجْذَاعِ دَالًّا عَلَى الْمِلْكِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ وَضْعَ الْجُذُوعِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيُجْعَلُ بَيْنَهُمَا ، وَتُقَرُّ الْجُذُوعُ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَضَعَهَا بِحَقٍّ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكِ الْحَائِطَ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا تَنَازَعَا حَائِطًا فِي عَرْصَةٍ هِيَ لِأَحَدِهِمَا فَإِنَّهُ يَكُونُ لِصَاحِبِ الْعَرْصَةِ لِأَنَّ يَدَهُ عَلَيْهِ . وَهَكَذَا لَوْ تَنَازَعَا عُلُوَّ حَائِطٍ أَسْفَلُهُ لِأَحَدِهِمَا كَانَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ مَعَ يَمِينِهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ ثُبُوتِ الْيَدِ ، وَلَكِنْ لَوْ تَنَازَعَا عَرْصَةَ حَائِطٍ هُوَ لِأَحَدِهِمَا فَفِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَكُونُ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِيهَا أَظْهَرُ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُمَا فِيهَا سَوَاءٌ كَوَضْعِ الْجُذُوعِ . وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِيمَنْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِحَائِطٍ هَلْ يَدْخُلُ قَرَارُهُ فِي إِقْرَارِهِ ، أَوْ بَاعَ حَائِطًا هَلْ يَدْخُلُ قَرَارُهُ فِي بَيْعِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَرْتَفِقُ بِجِدَارِ الرَّجُلِ بِأَمْرِهِ وَغَيْرِ أَمْرِهِ ، فَقَدْ رُوِيَ فِي الْقَدِيمِ حَدِيثٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا يَمْنَعُ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَضَعَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ ، وَاللَّهِ لِأَرْمِيَنَّهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ . فَكَانَ يَذْهَبُ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ لِلْجَارِ أَنْ يَضَعَ أَجْذَاعَهُ فِي جِدَارِ جَارِهِ جَبْرًا بِأَمْرِهِ وَغَيْرِ أَمْرِهِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ تَعَلُّقًا بِهَذَا الْحَدِيثِ ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ فِي الْجَدِيدِ وَقَالَ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَضَعَ أَجْذَاعَهُ فِي جِدَارِ جَارِهِ إِلَّا بِأَمْرِهِ ، كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْلَاكِ الَّتِي لِجَارِهِ إِلَّا بِأَمْرِهِ . وَلِأَنَّ الشَّرِيكَ فِي الْمِلْكِ أَقْوَى مِنْ جَارِ الْمِلْكِ ، وَلَيْسَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالتَّصَرُّفِ ، فَالْجَارُ أَوْلَى وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَحْمُولًا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالنَّدْبِ لَا عَلَى الْوُجُوبِ وَالْحَتْمِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَارِ لَيْسَ لَهُ مَنْعُ صَاحِبِ الْحَائِطِ مِنْ وَضْعِ أَجْذَاعِهِ فِي حَائِطِهِ وَإِنْ كَانَ مُضِرًّا بِالْجَارِ فِي مَنْعِ ضَوْءٍ أَوْ إِشْرَافٍ لِيَكُونَ مُوَافِقًا لِلْأُصُولِ . فَإِنْ قِيلَ : لِمَ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ : لِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَرْتَفِقُ بِجِدَارِ الرَّجُلِ بِأَمْرِهِ وَغَيْرِ أَمْرِهِ ، وَهُوَ فِي الْجَدِيدِ لَا يَقُولُ هَذَا ، قُلْنَا فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : بِأَمْرِهِ يَعْنِي مُجَاهِرًا ، وَبِغَيْرِ أَمْرِهِ يَعْنِي سَاتِرًا . وَالثَّانِي : بِأَمْرِهِ يَعْنِي بِاخْتِيَارِهِ ، وَبِغَيْرِ أَمْرِهِ يَعْنِي بِإِجْبَارِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْحُكَّامِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْقَدِيمِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُ جَارِهِ مِنْ وَضْعِ أَجْذَاعِهِ فِي جِدَارِهِ ، وَكَانَ لِلْجَارِ أَنْ يَضَعَ فِي الْجِدَارِ مَا احْتَمَلَهُ مِنَ الْأَجْذَاعِ ،

وَلَوْ صَالَحَهُ مَنْ وَضَعَ الْأَجْذَاعَ عَلَى عِوَضٍ لَمْ يَجُزْ لِوُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْتَاضَ عَلَيْهِ . وَلَوِ انْهَدَمَ الْحَائِطُ لَمْ يَلْزَمْ مَالِكُهُ أَنْ يَبْنِيَهُ إِلَّا بِاخْتِيَارِهِ . فَإِنْ بَنَاهُ كَانَ لِلْجَارِ أَنْ يُعِيدَ أَجْذَاعَهُ فِيهِ . وَلَوْ أَرَادَ الْجَارُ بِنَاءَ الْحَائِطِ عِنْدَ امْتِنَاعِ صَاحِبِهِ مِنْ بِنَائِهِ بعد مصالحته على وضع الجزوع عليه كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِيَصِلَ بِذَلِكَ إِلَى حَقِّهِ مِنْ وَضْعِ أَجْذَاعِهِ فِيهِ ، وَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَهُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ فَلَيْسَ لِلْجَارِ أَنْ يَضَعَ أَجْذَاعَهُ فِي الْجِدَارِ إِلَّا بِإِذْنِ مَالِكِهِ وَاخْتِيَارِهِ ، وَيَجُوزُ لِلْمَالِكِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِيهِ بِعِوَضٍ وَغَيْرِ عِوَضٍ ، لِأَنَّ مَا لَا يَمْلِكُ عَلَيْهِ يَجُوزُ أَنْ يُعَاوِضَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مَعْلُومًا ، فَإِنْ أَذِنَ فِيهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَانَتْ عَارِيَةً وَجَازَ أَنْ لَا يَشْتَرِطَ عَدَدَ الْأَجْذَاعِ وَلَا يَعْلَمُ طُولَهَا وَلَا مَوْضِعَ تَرْكِيبِهَا ، لِأَنَّ الْجَهْلَ بِمَنَافِعِ الْعَارِيَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهَا ، ثُمَّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعَارِيَةِ مَا بَقِيَ الْحَائِطُ ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْأَجْذَاعِ يُرَادُ لِلِاسْتِدَامَةِ فَكَانَ إِطْلَاقُهُ الْإِذْنَ مَحْمُولًا عَلَيْهِ ، كَمَنْ أَعَارَ أَرْضَهُ لِدَفْنِ مَيِّتٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِي عَارِيَتِهِ وَإِخْرَاجِ الْمَيِّتِ مِنْهَا بَعْدَ دَفْنِهِ ، وَلَكِنْ لَوِ انْهَدَمَ الْحَائِطُ وَأَعَادَهُ مَالِكُهُ فَهَلْ لِصَاحِبِ الْأَجْذَاعِ أَنْ يُعِيدَ وَضْعَهَا فِيهِ بِالْإِذْنِ الْمُتَقَدِّمِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَحِقًّا عَلَى التَّأْيِيدِ كَمَا لَوْ كَانَ الْأَوَّلُ بَاقِيًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا بِإِذْنٍ مُسْتَحْدَثٍ ، لِأَنَّ حُكْمَ الْعَارِيَةِ قَدِ انْقَطَعَ بِانْهِدَامِ الْحَائِطِ ، وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا اسْتَحَقَّ تَأْيِيدَ ذَلِكَ لِمَا فِي نَزْعِهَا مِنَ الْإِضْرَارِ بِهِ ، وَقَدْ لَحِقَهُ ذَلِكَ بِانْهِدَامِهِ . وَلَكِنْ لَوْ أَعَارَ أَرْضًا لِدَفْنِ مَيِّتٍ فَنَبَشَهُ سَبُعٌ أُعِيدَ دَفْنُهُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ مُسْتَحْدَثٍ وَجْهًا وَاحِدًا . وَلَوْ أَكَلَهُ السَّبُعُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُدْفَنَ غَيْرُهُ فِيهَا إِلَّا بِإِذْنٍ جَدِيدٍ لِذَهَابِ مَنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِمَنْفَعَةِ الْعَارِيَةِ . وَلَوْ كَانَ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي وَضْعِ جِذْعٍ فِي حَائِطِهِ فَانْكَسَرَ الْجِذْعُ كَانَ لَهُ إِعَادَةُ غَيْرِهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الرُّجُوعِ فِي عَارِيَةِ الْقَبْرِ لِحُرْمَةِ الْمَيِّتِ ، فَإِذَا أَكَلَهُ السَّبُعُ انْقَضَتْ حُرْمَتُهُ عَنِ الْمَكَانِ . وَالْمَنْعُ مِنَ الرُّجُوعِ فِي مَوْضِعِ الْأَجْذَاعِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الضَّرَرِ بِانْهِدَامِ السَّقْفِ وَهَذَا

مَوْجُودٌ بَعْدَ انْكِسَارِ الْجِذْعِ ، فَأَمَّا إِذَا أَخَذَ مِنْهُ عَلَى وَضْعِ أَجْذَاعِهِ عِوَضًا فَلَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ عَدَدِ الْأَجْذَاعِ وَطُولِهَا وَامْتِلَائِهَا وَمَوْضِعِهَا مِنَ الْحَائِطِ وَقَدْرِ دُخُولِهَا فِيهِ ، لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ تَحْرُسُ مِنَ الْجَهَالَةِ ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ إِذَا انْتَفَتِ الْجَهَالَةُ عَنْهُ هَلْ يَكُونُ بَيْعًا أَوْ إِجَارَةً ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ بَيْعًا ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيِّ ، فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ عَلَى التَّأْيِيدِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ مُدَّةٍ فِيهِ ، وَمَتَى انْهَدَمَ الْحَائِطُ ثُمَّ بُنِيَ أُعِيدَ وَجْهًا وَاحِدًا بِخِلَافِ الْعَارِيَةِ الَّتِي لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهَا الْجَهَالَةُ بِمُدَّةِ مَنْفَعَتِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ عِنْدِي أَصَحُّ : أَنَّهُ يَكُونُ إِجَارَةً وَلَا يَكُونُ بَيْعًا ، لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ لَا عَيْنٍ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ إِلَّا بِاشْتِرَاطِ مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ تَتَقَدَّرُ بِهَا الْمَنْفَعَةُ وَيُؤْخَذُ بِقَلْعِ ذَلِكَ عِنْدَ انْقِضَائِهَا . وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا إِنْ قَدَّرَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ صَحَّ وَكَانَتْ إِجَارَةً ، وَهَكَذَا لَوْ صَالَحَهُ عَلَى إِجْرَاءِ مَسِيلِ مَاءٍ فِي أَرْضِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ مَوْضِعِهِ وَتَقْدِيرِ طُولِهِ وَعَرْضِهِ ، ثُمَّ إِنْ قَدَّرَ بِمُدَّةٍ صَحَّ وَكَانَتْ إِجَارَةً ، وَإِنْ لَمْ يُقَدِّرْهُ كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَكُونُ بَيْعًا لِمَا حُدَّ مِنَ الْأَرْضِ لِإِجْرَاءِ الْمَاءِ فِيهِ عَلَى التَّأْيِيدِ . وَالثَّانِي : يَكُونُ بَاطِلًا إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَكُونُ إِجَارَةً . وَأَمَّا إِنْ صَالَحَهُ عَلَى سَقْيِ مَاشِيَتِهِ مِنْ عَيْنٍ أَوْ بِئْرٍ مُدَّةً مَعْلُومَةً لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ قَدْرَ مَا تَشْرَبُهُ الْمَاشِيَةُ مَجْهُولٌ ، وَهَكَذَا الزَّرْعُ ، وَلَكِنْ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى نِصْفِ الْعَيْنِ أَوْ ثُلُثِهَا جَازَ وَكَانَ بَيْعًا لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى عَيْنٍ ، وَلَوْ قَدَّرَهُ بِمُدَّةٍ خَرَجَ عَنِ الْبَيْعِ إِلَى الْإِجَارَةِ فَكَانَ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ إِجَارَةَ عَيْنِ الْمَاءِ مِنْهَا لَا يَجُوزُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَمْ أَجْعَلْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفْتَحَ فِيهِ كَوَّةً وَلَا يَبْنِيَ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا كَانَ الْحَائِطُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَفْتَحَ فِيهِ كَوَّةً ، وَلَا يَضَعَ فِيهِ جِذْعًا ، وَلَا يُسَمِّرَ فِيهِ وَتَدًا إِلَّا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ . وَجَوَّزَ الْعِرَاقِيُّونَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَفْعَلَ فِي الْحَائِطِ مَا لَا يَضُرُّ بِهِ مِنْ فَتْحِ كَوَّةٍ وَإِيتَادِ وَتَدٍ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ الْمُعْتَادِ فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ تَفَرُّدَ أَحَدِهِمَا بِالتَّصَرُّفِ فِي ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ هَدْمُ بَعْضِ الْحَائِطِ فَلَمْ يَجُزْ كَالْبَابِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا كَانَ كَوَضْعِ الْجُذُوعِ فِيهِ فَيَكُونَ عَلَى قَوْلَيْنِ : قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَائِطَ مَوْضُوعٌ لِلْحَيْلُولَةِ ، وَوَضْعُ الْأَجْذَاعِ فِيهِ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْحَيْلُولَةِ ، وَفَتْحُ الْكَوَّةِ يَمْنَعُ مِنْهَا ، فَلَوْ أَذِنَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ فِي فَتْحِ كَوَّةٍ ثُمَّ أَرَادَ سَدَّهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ ، لِأَنَّهُ زِيَادَةُ بِنَاءٍ عَلَى حَائِطِهِ . وَالشَّرِيكَانِ فِي الْحَائِطِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا الْبِنَاءُ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ فِيهِ . وَكُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَفْعَلَهُ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لِلْجَارِ أَنْ يَفْعَلَهُ . فَلَوْ صَالَحَ جَارَهُ عَلَى فَتْحِ كَوَّةٍ فِي حَائِطِهِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ صُلْحٌ عَلَى الْهَوَاءِ وَالضَّوْءِ ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا فَتَحَ كَوَّةً فِي حَائِطِهِ فَأَرَادَ جَارُهُ أَنْ يَبْنِيَ فِي وَجْهِهَا حَائِطًا فِي مِلْكِهِ يَمْنَعُهُ الضَّوْءَ مِنَ الْكَوَّةِ جَازَ وَلَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الْكَوَّةِ أَنْ يَمْنَعَهُ ، لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ دَارٌ ظَهْرُهَا إِلَى زُقَاقٍ مَرْفُوعٍ فَأَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ مِنْ ظَهْرِ دَارِهِ إِلَى الزُّقَاقِ كَوَّةً أَوْ يَنْصِبَ شِبَّاكًا لِلضَّوْءِ جَازَ وَلَمْ يُمْنَعْ ؛ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِهِ . وَلَوْ أَرَادَ فَتْحَ بَابٍ إِلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ فَتْحَهُ لِلِاسْتِطْرَاقِ فِيهِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي اسْتِطْرَاقِ الزُّقَاقِ الْمَرْفُوعِ ، وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ فَتْحَهُ لِيَنْصِبَ عَلَيْهِ بَابًا وَلَا يَسْتَطْرِقُهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ ، لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ هَدْمَ حَائِطِهِ كُلِّهِ جَازَ ، فَإِذَا أَرَادَ هَدْمَ بَعْضِهِ فَأَوْلَى بِالْجَوَازِ . وَلِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَ دَارِهِ وَالزُّقَاقِ بِبِنَاءٍ جَازَ ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُمَا بِبَابٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ بِذَلِكَ عِنْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلِاسْتِطْرَاقِ ، لِأَنَّ الْبَابَ مِنْ شَوَاهِدِ اسْتِحْقَاقِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَدْمُ بَعْضِ الْحَائِطِ فِيهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ فِي الزُّقَاقِ الْمَرْفُوعِ دَارَانِ لِرَجُلَيْنِ إِحْدَاهُمَا فِي أَوَّلِهِ وَالْأُخْرَى فِي آخِرِهِ فَأَرَادَ صَاحِبُ الدَّارِ الْأُولَى تَغْيِيرَ بَابِهِ وَنَقْلَهُ مِنْ مَوْضِعِهِ إِلَى غَيْرِهِ ، فَإِنْ أَرَادَ تَقْدِيمَهُ إِلَى بَابِ الزُّقَاقِ كَانَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَسْتَحِقُّ الِاسْتِطْرَاقَ إِلَى غَايَةٍ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِهَا فَصَارَ تَارِكًا لِبَعْضِ حَقِّهِ . وَإِنْ أَرَادَ تَأْخِيرَ بَابِهِ إِلَى صَدْرِ الزُّقَاقِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُتَجَاوِزًا لِحَقِّهِ فِي الِاسْتِطْرَاقِ . وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُجَوِّزُ لَهُ ذَلِكَ وَيَجْعَلُ عَرْصَةَ الزُّقَاقِ كُلَّهَا مُشْتَرِكَةً بَيْنَهُمَا تَخْرِيجًا

مِنْ عَرْصَةِ السُّفْلِ إِذَا تَنَازَعَهَا صَاحِبُ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ . فَأَمَّا صَاحِبُ الدَّارِ الَّتِي فِي صَدْرِ الزُّقَاقِ إِنْ أَرَادَ تَقْدِيمَ بَابِهِ جَازَ إِنْ لَمْ يُرِدْ إِدْخَالَ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ إِلَى دَارِهِ . وَإِنْ أَرَادَ إِدْخَالَ مَا وَرَاءَ الْبَابِ الْمُسْتَحْدَثِ إِلَى صَدْرِ الزُّقَاقِ فِي دَارِهِ فَهُوَ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا : هَلْ عَرْصَةُ الزُّقَاقِ مُشْتَرِكَةٌ بَيْنَ الدَّارَيْنِ أَمْ لَا ؟ فَمَنْ قَالَ إِنَّهَا مُشْتَرِكَةٌ مَنَعَ صَاحِبَ الصَّدْرِ مِنْ إِدْخَالِ ذَلِكَ فِي دَارِهِ . وَمَنْ قَالَ إِنَّهَا لَيْسَتْ مُشْتَرِكَةً ، وَإِنَّ مَا يَتَجَاوَزُ بَابَ الْأَوَّلِ يَخْتَصُّ بِمِلْكِ صَاحِبِ الصَّدْرِ جَوَّزَ لَهُ ذَلِكَ . وَأَمَّا إِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الدَّارِ الْأَوَّلِ أَنْ يُقِرَّ بَابَهُ فِي مَوْضِعِهِ وَيَفْتَحَ دُونَهُ بَابًا ثَانِيًا جَازَ وَلَمْ يُمْنَعْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَمْنَعُهُ مِنْ فَتْحِ بَابٍ ثَانٍ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مَدْخَلًا وَاحِدًا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى مَدْخَلَيْنِ . وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلِاسْتِطْرَاقِ فِيهِ ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَدْخَلٍ أَوْ مَدْخَلَيْنِ ، وَلِأَنَّ مَوْضِعَ الْبَابِ الْمُسْتَحْدَثَ لَوْ أَرَادَ هَدْمَهُ لِغَيْرِ بَابٍ جَازَ ، فَكَذَا الْبَابُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ دَارَانِ مُتَلَاصِقَانِ وَبَابُ كَلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إِلَى زُقَاقٍ مَرْفُوعٍ فَأَرَادَ هَدْمَ الْحَائِطِ الَّذِي بَيْنَ الدَّارَيْنِ جَازَ . وَلَوْ أَرَادَ فَتْحَ بَابٍ مِنْ إِحْدَى الدَّارَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى غَيْرِ نَافِذٍ لِيَسْتَطْرِقَهُ لَمْ يَجُزْ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَطْرِقًا إِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الدَّارَيْنِ مِنَ الزُّقَاقِ الَّذِي لَا حَقَّ لَهَا فِي الِاسْتِطْرَاقِ مِنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الزُّقَاقَ مَرْفُوعٌ فَيَجْعَلُهُ بِفَتْحِ الْبَابِ مُسْتَطْرَقًا غَيْرَ مَرْفُوعٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ، وَخَبَّرَنَا بِهِ الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ خَيْرَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَقَسَّمْتُهُ بَيْنَهُمَا إِنْ شَاءَا ، إِنْ كَانَ عَرْضُهُ ذِرَاعًا أُعْطِيهِ شِبْرًا فِي طُولِ الْجِدَارِ ، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ : إِنْ شِئْتَ أَنْ تَزِيدَ مِنْ عَرْصَةِ دَارِكَ أَوْ بَيْتِكَ شِبْرًا آخَرَ لِيَكُونَ لَكَ جِدَارٌ خَالِصٌ فَذَلِكَ لَكَ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا كَانَ الْحَائِطُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ وَأَرَادَ إِجْبَارَ شَرِيكِهِ عَلَيْهَا عِنْدَ امْتِنَاعِهِ مِنْهَا لَمْ يَخْلُ ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ بِنَاءً لَا عَرْصَةَ لَهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَرْصَةً لَا بِنَاءَ فِيهَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَا مَعًا . فَإِنْ كَانَ الْحَائِطُ بِنَاءً لَا عَرْصَةَ لَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَسَّمَ جَبْرًا ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ لَا يُعْلَمُ مَا فِيهِ لِيَتَسَاوَيَا فِي الِاقْتِسَامِ بِهِ إِلَّا بَعْدَ هَدْمِهِ ، وَفِي هَدْمِهِ ضَرَرٌ فَلَمْ يَدْخُلْهُ إِجْبَارٌ ، فَإِنِ اصْطَلَحَا عَلَيْهِ جَازَ . وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَرْصَةً لَا بِنَاءَ فِيهَا دَخَلَهَا الْإِجْبَارُ فِي الْقِسْمَةِ ، فَإِنْ دَعَا الطَّالِبُ إِلَى قَسْمِهِ عَرْصَةَ الْحَائِطِ طُولًا أُجِيبَ إِلَيْهَا ، وَمِثَالُهُ أَنْ يَكُونَ طُولُ الْعَرْصَةِ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ ، وَعَرْضُهَا ذِرَاعٌ ، فَيَدْعُوا إِلَى قِسْمَةِ الطُّولِ لِيَكُونَ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ مِنَ الْعَشَرَةِ فِي عَرْضِ ذِرَاعٍ ، فَهَذَا جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ أَيَّ النِّصْفَيْنِ حَصَلَ لَهُ بِالْقُرْعَةِ نَفَعَهُ ، فَإِنْ دَعَى إِلَى الْقِسْمَةِ عَرْضًا لِيَكُونَ لَهُ شِبْرًا مِنَ الْعَرْضِ فِي الطُّولِ كُلِّهِ فَفِي جَوَازِ الْجَبْرِ عَلَيْهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّهُ لَا يُجَابُ إِلَيْهَا وَلَا يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَيْهَا : لِأَنَّ قِسْمَةَ الْإِجْبَارِ مَا دَخَلَتْهَا الْقُرْعَةُ ، وَدُخُولُ الْقُرْعَةِ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ مُضِرٌّ : لِأَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بِالْقُرْعَةِ مَا يَلِي صَاحِبَهُ ، فَلَا يَنْتَفِعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ مِمَّا صَارَ إِلَيْهِ ، وَعَادَتْ بِالضَّرَرِ عَلَيْهِ ، وَالْقِسْمَةُ إِذَا عَادَتْ بِضَرَرِ الشَّرِيكَيْنِ لَمْ يَدْخُلْهَا الْإِجْبَارُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّهُ يُجَابُ إِلَيْهَا ، وَيُقْسَمُ عَرْضُ الْعَرْصَةِ بَيْنَهُمَا ، وَيُدْفَعُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفُ الَّذِي يَلِيهِ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ ، لِأَنَّ الْقُرْعَةَ تَدْخُلُ فِي الْقِسْمَةِ لِتَمْيِيزِ مَا اشْتَبَهَ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، وَالْأَنْفَعُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْخُذَ مَا يَلِيهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِدُخُولِ الْقُرْعَةِ وَجْهٌ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : ثُمَّ قُلْتُ لَهُ : إِنْ شِئْتَ أَنْ تَزِيدَ مِنْ عَرْصَةِ دَارِكَ أَوْ بَيْتِكَ شِبْرًا آخَرَ لِيَكُونَ لَكَ جِدَارًا خَالِصًا فَذَلِكَ لَكَ . وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ مَشُورَةً كَمَا عَابَهُ مَنْ جَهِلَ مَعْنَى كَلَامِهِ ، وَإِنَّمَا قَالَهُ لِيُبَيِّنَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ يَنْتَفِعُ بِمَا صَارَ لَهُ . ثُمَّ ذَكَرَ وَجْهَ الْمَنْفَعَةِ ، بِأَنْ يَضُمَّ إِلَى الْعَرْصَةِ شِبْرًا لِيَصِيرَ جِدَارًا كَامِلًا .

فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الْحَائِطُ بِنَاءً وَعَرْصَةً نُظِرَ فِي طَالِبِ الْقِسْمَةِ طلب احد الشريكين فى الجدار القسمة طولا أوعرضا ، فَإِنْ دَعَى إِلَيْهَا عَرْضًا

لِيَكُونَ لَهُ شِبْرٌ مِنْ عَرْضِ الْبِنَاءِ وَالْعَرِصَةِ مِنَ الطُّولِ كُلِّهِ لَمْ يُجَبْ إِلَيْهَا جَبْرًا ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا تَرَاضِيًا وَاخْتِيَارًا ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَا يَصِيرُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ نِصْفِ الْعَرْضِ مُضِرٌّ بِهِ وَبِصَاحِبِهِ ، لِأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ هَدْمَهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ إِلَّا بِهَدْمِ مَا لِشَرِيكِهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ ، وَإِنْ أَرَادَ وَضْعَ شَيْءٍ عَلَيْهِ وَقَعَ الثِّقَلُ عَلَى مَا لِشَرِيكِهِ فَأَضَرَّ بِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا جَازَ ذَلِكَ بِتَرَاضِيهِمَا ؟ قِيلَ : إِنْ تَرَاضَيَا بِهَدْمِهِ فِي الْحَالِ وَالِاقْتِسَامِ بِآلَتِهِ جَازَ . وَإِنْ تَرَاضَيَا بِقِسْمَتِهِ بِنَاءً قَائِمًا ، وَتَحْدِيدَ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَّصِلًا لَمْ يَجُزْ ، وَإِنَّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ دُخُولِ الضَّرَرِ فِيمَا بَعْدُ . وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ يَدْعُو إِلَى قِسْمَتِهِ طُولًا لِيَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ طُولًا فِي الْعَرْضِ كُلِّهِ جَازَتْ بِالتَّرَاضِي . وَفِي جَوَازِ الْإِجْبَارِ عَلَيْهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : لَا يُجَابُ إِلَيْهَا وَلَا يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى هَدْمِ النِّصْفِ الَّذِي صَارَ لَهُ إِلَّا بِهَدْمِ شَيْءٍ مِنْ نِصْفِ صَاحِبِهِ فَصَارَتْ ضَرَرًا عَلَيْهِمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : يُجْبِرُهُ عَلَى هَذِهِ الْقِسْمَةِ بِالْقُرْعَةِ ، لِأَنَّ الضَّرَرَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي هَدْمِ حِصَّتِهِ يَسِيرٌ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْقِسْمَةِ : وَلِأَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ وَلَهُ إِزَالَةُ الضَّرَرِ بِقَطْعِ الْحَائِطِ بَيْنَهُمَا بِالْمِنْشَارِ فَلَا يَنْهَدِمُ مِنْ حِصَّةِ الْآخَرِ شَيْءٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ هَدَمَاهُ ثُمَّ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا ثُلُثُهُ وَلِلْآخَرِ ثُلُثَاهُ عَلَى أَنْ يَحْمِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا شَاءَ عَلَيْهِ إِذَا بَنَاهُ فَالصُّلْحُ فَاسِدٌ ، وَإِنْ شَاءَا أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا قُسِّمَتْ أَرْضُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا هَدَمَ الشَّرِيكَانِ حَائِطًا بَيْنَهُمَا ثُمَّ اصْطَلَحَا عِنْدَ بِنَائِهِ بِمَالِهِمَا أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا ثُلُثُهُ ، وَلِلْآخَرِ ثُلُثَاهُ ، عَلَى أَنْ يَحْمِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ مَا شَاءَ مِنْ أَجْذَاعٍ وَغَيْرِهَا فَهَذَا صُلْحٌ بَاطِلٌ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ بَذَلَ بِصُلْحِهِ عَلَى الثُّلُثِ بَعْدِ مِلْكِهِ النِّصْفَ سُدْسًا بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَبَذْلُ الْمِلْكِ فِي الصُّلْحِ إِذَا كَانَ عَبَثًا بِغَيْرِ عِوَضٍ لَا يَصِحُّ .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ شَرَطَ فِيهِ الِانْتِقَالَ لِمِلْكِ صَاحِبِهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ اشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ ارْتِفَاقًا مَجْهُولًا وَذَلِكَ بَاطِلٌ ، فَإِذَا ثَبَتَ بُطْلَانُ الصُّلْحِ لِمَا ذَكَرْنَا وَكَانَا قَدْ عَمِلَا بِهِ وَوَضَعَا فَوْقَ الْحَائِطِ مَا شَاءَا فَالْمِلْكُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ قَبْلُ ، ثُمَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْخُذَ صَاحِبَهُ بِقَلْعِ مَا وَضَعَهُ فِي الْحَائِطِ مِنْ أَجْذَاعِهِ . وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مِنْ شَرْطِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ : لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ فَهُوَ عَنْ عَقْدٍ فَاسِدٍ ، فَفَسَدَ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْإِذْنِ . وَلِأَنَّ الْإِذْنَ يَقْتَضِي وَضْعَ مَا يَسْتَأْنِفُهُ ، كَمَا يَقْتَضِي وَضْعَ مَا تَقَدَّمَهُ ، ثُمَّ كَانَ مَمْنُوعًا مِنَ الْمُسْتَأْنِفِ فَكَذَلِكَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِ ، وَلَا وَجْهَ لِأَنْ يُقِرَّ أَجْذَاعَ مَنْ شَرَطَ الزِّيَادَةَ لِنَفْسِهِ ، لِأَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ شَرَطَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْ وَضْعِ مَا شَاءَ مِنْ أَجْذَاعِهِ .

فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَإِنْ شَاءَا أَوْ أَحَدُهُمَا قُسِّمَتْ أَرْضُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ . وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْكَلَامِ بِحَسْبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْعَرْصَةِ جَبْرًا بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ ، فَذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ إِلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى إِيقَاعِهَا جَبْرًا إِذَا طَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ الْعَرْصَةِ طُولًا لَا عَرْضًا ، وَذَهَبَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى إِيقَاعِهَا جَبْرًا عَلَى الْأَمْرَيْنِ طُولًا وَعَرْضًا وَقَدْ مَضَى مَشْرُوحًا .

مَسْأَلَةٌ إِنْ كَانَ الْبَيْتُ السُّفْلُ فِي يَدَيْ رَجُلٍ وَالْعُلُوُّ فِي يَدَيْ آخَرَ فَتَدَاعَيَا سَقْفَهُ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ السُّفْلُ فِي يَدَيْ رَجُلٍ وَالْعُلُوُّ فِي يَدَيْ آخَرَ فَتَدَاعَيَا سَقْفَهُ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ سَقْفَ السُّفْلِ تَاجٌ لَهُ وَسَطْحَ الْعُلُوِّ أَرْضٌ لَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا كَانَ بَيْتٌ سُفْلُهُ لِرَجُلٍ وَعُلُوُّهُ لِآخَرَ ، فَاخْتَلَفَا فِي السَّقْفِ الَّذِي بَيْنَهُمَا وَتَدَاعَيَاهُ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ . وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَكُونُ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ : لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْعُلُوِّ إِلَّا بِهِ . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَكُونُ لِصَاحِبِ السُّفْلِ : لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ عَلَى مِلْكِهِ كَالْجِدَارِ الْمَبْنِيِّ فِي أَرْضِهِ . وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ غَلَطٌ ، وَكَوْنُ السَّقْفِ بَيْنَهُمَا أَصَحُّ لِتَسَاوِي أَيْدِيهِمَا عَلَيْهِ وَتَصَرُّفِهِمَا فِيهِ ،

فَهُوَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ سَقْفٌ وَمِرْفَقٌ ، وَلِصَاحِبِ الْعُلُوِّ أَرْضٌ وَمَقْعَدٌ ، وَلِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِمَالِهِمَا وَمُجَاوِرٌ لِمِلْكَيْهِمَا فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِيهِ كَالْحَائِطِ إِذَا كَانَ بَيْنَ دَارَيْهِمَا . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا ، فَلِصَاحِبِ الْعُلُوِّ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ كَمَا كَانَ يَتَصَرَّفُ مِنْ قَبْلُ بِالْجُلُوسِ عَلَيْهِ ، وَإِحْرَازُ الْمَتَاعِ الْمُعْتَادِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَجَاوُزٍ وَلَا تَعَدٍّ ، كَالْحَائِطِ إِذَا اخْتَلَفَا فِيهِ وَكَانَتْ عَلَيْهِ جُذُوعٌ لِأَحَدِهِمَا جُعِلَ بَيْنَهُمَا وَأُقِرَّتِ الْأَجْذَاعُ عَلَى حَالِهَا . وَأَمَّا صَاحِبُ السُّفْلِ فَارْتِفَاقُهُ بِهِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَظِلًّا بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَجَاوَزَ ذَلِكَ إِلَى تَعْلِيقِ شَيْءٍ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ السَّقْفَ لَمْ يُوضَعْ غَالِبًا إِلَّا لِلِاسْتِظْلَالِ . وَلَا وَجْهَ لِمَا أَجَازَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْ تَعْلِيقِ زِنْبِيلٍ عَلَيْهِ وَوَضْعِ خُطَّافٍ فِيهِ ، لِأَنَّ إِيتَادَ الْوَتَدِ فِي الْحَائِطِ الْمُشْتَرَكِ أَسْبَلُ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي السَّقْفِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْهُ .

فَصْلٌ : وَلَوْ تَنَازَعَا فِي حَائِطٍ السُّفْلَ الشريكين فى حائط فَهُوَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ إِلَى مُنْتَهَى وَضْعِ الْأَجْذَاعِ مَعَ يَمِينِهِ : لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِ . وَلَوْ تَنَازَعَا فِي حَائِطٍ الْعُلُوَّ الشريكين فى حائط فَهُوَ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ مِمَّا فَوْقَ أَجْذَاعِ السَّقْفِ : لِأَنَّهُ فِي يَدَيْ صَاحِبِ الْعُلُوِّ وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِ . وَمَا كَانَ مِنَ الْحَائِطِ بَيْنَ السُّفْلِ وَالْعُلُوِّ فِي خِلَالَ أَجْذَاعِ السَّقْفِ فَهُوَ بَيْنُهُمَا : لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلسَّقْفِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا .

مَسْأَلَةٌ إِنْ سَقَطَ لَمْ يُجْبَرْ صَاحِبُ السُّفْلِ عَلَى بِنَائِهِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ سَقَطَ لَمْ يُجْبَرْ صَاحِبُ السُّفْلِ عَلَى بِنَائِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا انْهَدَمَ الْبَيْتُ الَّذِي سُفْلُهُ لِرَجُلٍ وَعُلُوُّهُ لِآخَرَ ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُهُمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى تَرْكِهِ مَهْدُومًا فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِمَا فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى بِنَائِهِ فَذَلِكَ لَهُمَا ، وَيَخْتَصُّ صَاحِبُ السُّفْلِ بِبِنَاءِ السُّفْلِ إِلَى انْتِهَاءِ وَضْعِ الْأَجْذَاعِ ، وَصَاحِبُ الْعُلُوِّ بِبِنَاءِ الْعُلُوِّ إِلَى حَيْثُ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ ، وَلَا لِصَاحِبِ السُّفْلِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالنُّقْصَانِ عَنْهُ ، فَلَوِ اخْتَلَفَا مَعَ اتِّفَاقِهِمَا أَنَّ ارْتِفَاعَ السُّفْلِ وَالْعُلُوِّ عِشْرُونَ ذِرَاعًا ، فَقَالَ صَاحِبُ السُّفْلِ : السُّفْلُ خَمْسَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا ، وَارْتِفَاعُ الْعُلُوِّ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ ،

وَقَالَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ : بَلِ ارْتِفَاعُ السُّفْلِ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ وَارْتِفَاعُ الْعُلُوِّ خَمْسَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا ، فَقَدِ اخْتَلَفَا عَلَى أَنَّ لِصَاحِبِ السُّفْلِ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ لَا نِزَاعَ فِيهَا وَلِصَاحِبِ الْعُلُوِّ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ لَا نِزَاعَ فِيهَا ، وَاخْتَلَفَا فِي عَشَرَةِ أَذْرُعٍ ادَّعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَأَيْدِيهِمَا مَعًا عَلَيْهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَحَالَفَا عَلَيْهَا ، وَيُجْعَلُ الْعَشَرَةُ الْمُخْتَلَفُ عَلَيْهَا بَعْدَ أَيْمَانِهِمَا مَعًا بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، فَيَصِيرُ لِصَاحِبِ السُّفْلِ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ ، وَلِصَاحِبِ الْعُلُوِّ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ ، ثُمَّ يَشْتَرِكَانِ فِي بِنَاءِ السُّفْلِ بَعْدَ أَنْ يَخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبِنَاءِ حَقِّهِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ السَّقْفُ لِأَحَدِهِمَا فَيَخْتَصُّ الَّذِي هُوَ لَهُ بِبِنَائِهِ دُونَ غَيْرِهِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَمْتَنِعَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ مِنَ الْبِنَاءِ ، وَيَدْعُوَ صَاحِبُ السُّفْلِ إِلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَخْتَصَّ بِبِنَاءِ سُفْلِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ صَاحِبِ الْعُلُوِّ بِبِنَاءِ عُلُوِّهِ : لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي بِنَائِهِ ، وَيَقْدِرُ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِحَقِّهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ السَّقْفُ بَيْنَهُمَا ، فَيَكُونَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي إِجْبَارِ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى الْمُبَانَاةِ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ أَنْ يَمْتَنِعَ صَاحِبُ السُّفْلِ مِنْ بِنَائِهِ وَيَدْعُوَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ إِلَيْهِ لِيَبْنِيَ الْعُلُوَّ عَلَيْهِ فَفِي إِجْبَارِهِ قَوْلَانِ : وَهَكَذَا الشَّرِيكَانِ فِي حَائِطٍ قَدِ انْهَدَمَ ، إِذَا دُعِيَ أَحَدُهُمَا إِلَى الْبِنَاءِ وَامْتَنَعَ الْآخَرُ ، هَلْ يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ مِنْهُمَا عَلَى الْبِنَاءِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ : أَنَّهُ يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى الْبِنَاءِ لِيَصِلَ الْآخَرُ إِلَى حَقِّهِ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ ، مَنْ ضَارَّ أَضَرَّ اللَّهُ بِهِ ، وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ . فَلَمَّا نَفَى لُحُوقَ الْإِضْرَارِ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْإِجْبَارِ ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ خَلِيفَةَ أَنْبَعَ مَاءً بِالْعَرِيصِ وَأَرَادَ أَنْ يُجْرِيَهُ إِلَى أَرْضِهِ فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ إِمْرَارِهِ عَلَى أَرْضِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ فَامْتَنَعَ مُحَمَّدٌ مِنْ ذَلِكَ ، وَتَخَاصَمَا إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَقَالَ عُمَرُ لِمُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ لَيُمِرَّنَّ بِهِ أَوْ أُمِرُّهُ عَلَى بَطْنِكَ . وَرُوِيَ أَنَّهُ قُضِيَ عَلَى بَعْضِ الْأَنْصَارِ بِمِثْلِ ذَلِكَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ،

وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِمِثْلِ ذَلِكَ لِلْزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ عَلَى بَعْضِ الْأَنْصَارِ حَتَّى قَالَ الْأَنْصَارِيُّ : أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ . فَلَمَّا جَاءَ الْخَبَرُ وَالْأَثَرُ بِمِثْلِ مَا ذَكَرْنَا لِزَوَالِ الضَّرَرِ عَنِ الْجَارِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الضَّرَرَ يُزَالُ بِالْإِجْبَارِ . وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتُحِقَّتِ الشُّفْعَةُ لِزَوَالِ الضَّرَرِ بِهَا وَوَجَبَتِ الْقِسْمَةُ إِذَا دُعِيَ إِلَيْهَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لِيَنْتَفِيَ الْإِضْرَارُ مَعَهَا كَانَ وُجُوبُ الْمُبَانَاةِ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ تَضَاعُفِ الضَّرَرِ أَوْلَى . وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا إِجْبَارَ فِي ذَلِكَ وَيُتْرَكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى أَنْ يَخْتَارَ الْبِنَاءَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ " وَلِأَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى عِمَارَةِ مِلْكِهِ وَلَا عِمَارَةِ مِلْكِ غَيْرِهِ فِي حَالِ الِانْفِرَادِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْبَرَ عَلَى عِمَارَتِهِ فِي حَالِ الِاشْتِرَاكِ كَالزَّرْعِ وَالْغِرَاسِ طَرْدًا وَكَنَفَقَةِ الْبَهَائِمِ عَكْسًا . وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْإِجْبَارُ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ أَوْ لِمَصْلَحَةِ غَيْرِهِ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ " لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ " فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ اسْتِعْمَالُهُ فِي نَفْيِ الضَّرَرِ عَنِ الطَّالِبِ بِإِدْخَالِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِأَوْلَى مِنْ نَفْيِهِ عَنِ الْمَطْلُوبِ بِإِدْخَالِهِ عَلَى الطَّالِبِ ، إِذْ لَيْسَ يُمْكِنُ نَفْيُهُ عَنْهُمَا ، فَتَنَاوَبَ الْأَمْرَانِ فِيهِ فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِهِ . وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَهُوَ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِعُمُومِهَا وَلَعَلَّ إِجْرَاءَ الْمَالِ قَدْ كَانَ مُسْتَحَقًّا مِنْ قَبْلُ ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَلْزَمُ أَحَدًا أَنْ يُجْرِيَ مَاءَ غَيْرِهِ عَلَى أَرْضِهِ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ الزُّبَيْرِ . وَأَمَّا اسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ بِهَا ، فَلِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ عَلَى الْغَيْرِ إِضْرَارٌ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَأْخُذُ مَا قُدِّرَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْعِمَارَةِ وَالْمُبَانَاةِ . وَأَمَّا الْقِسْمَةُ فَلَيْسَتْ غُرْمًا ، وَإِنَّمَا هِيَ لِتَمْيِيزِ الْمِلْكَيْنِ وَإِقْرَارِ الْحَقَّيْنِ ، وَالْعِمَارَةُ غُرْمٌ مَحْضٌ فَافْتَرَقَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ قُلْنَا بِإِجْبَارِهِ عَلَى الْعِمَارَةِ عَلَى قَوْلِهِ فِي

الْقَدِيمِ ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا أَخَذَ بِالْعِمَارَةِ فِي الْحَالِ ، فَإِنْ كَانَ فِي حَائِطٍ مُشْتَرَكٍ هدم بين شريكين موسيرين كَانَتِ النَّفَقَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْمِلْكَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ فِي سُفْلٍ وَعُلُوٍّ هدم بين شريكين موسيرين اخْتَصَّ صَاحِبُ السُّفْلِ بِعِمَارَةِ سُفْلِهِ وَانْفَرَدَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ بِعِمَارَةِ عُلُوِّهِ ، وَاشْتَرَكَا فِي السَّقْفِ الَّذِي بَيْنَهُمَا . وَإِنْ كَانَ الْمُمْتَنِعُ مُعْسِرًا فِي بناء حَائِطٍ قَدِ انْهَدَمَ بين شريكين قِيلَ لِلطَّالِبِ الدَّاعِي إِلَى الْعِمَارَةِ صَاحِبُكَ مُعْسِرٌ وَأَنْتَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَعْمُرَ جَمِيعَهُ بِمَالِكَ وَتَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِكَ إِذَا أَيْسَرَ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ أَوْ تَكُفَّ . فَإِنْ بَادَرَ الطَّالِبُ بِعِمَارَةِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِ حَاكِمٍ بعمارة سفله أو عمارة جدار هدم بين شريكين نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ الْمُمْتَنِعُ مُوسِرًا لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ وَصَارَ مُتَطَوِّعًا بِالنَّفَقَةِ ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَفِي رُجُوعِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالنَّفَقَةِ إِذَا أَيْسَرَ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ شَرْعًا وَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ فِيهَا حُكْمًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَظْهَرُ : لَا رُجُوعَ لَهُ بِهَا لِلِاخْتِلَافِ فِيهَا ، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ وُجُوبُهَا إِلَّا بِحُكْمٍ . فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَيْسَ لِلثَّانِي أَنْ يَمْنَعَ شَرِيكَهُ مِنْ بَيْعِ حِصَّتِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهَا إِلَّا بَعْدَ أَخْذِ نَفَقَتِهِ فَيَصِيرَ كَالْمَرْهُونِ بِهَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَرُّوذِيِّ . وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ مِنَ الْبَيْعِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ : لِأَنَّهُ لَا رُجُوعَ لَهُ بِسَبَبِهَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ لَا إِجْبَارَ فِي الْعِمَارَةِ تَرْكًا وَمَنْعًا مِنَ الْمُخَاصَمَةِ ، وَقِيلَ لِطَالِبِهَا إِنْ شِئْتَ أَنْ تَعْمُرَ مُتَطَوِّعًا لِتَصِلَ إِلَى حَقِّكَ لَمْ تُمْنَعْ ، وَلَا رُجُوعَ لَكَ بِشَيْءٍ مِنْ نَفَقَتِكَ ، وَلَا لَكَ مَنْعُ صَاحِبِكَ مِنْ بَيْعِ حِصَّتِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهَا .

مَسْأَلَةٌ إِنْ تَطَوَّعَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ بِأَنْ يَبْنِيَ السُّفْلَ كَمَا كَانَ ثُمَّ يَبْنِيَ عُلُوَّهُ كَمَا كَانَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ تَطَوَّعَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ بِأَنْ يَبْنِيَ السُّفْلَ كَمَا كَانَ ثُمَّ يَبْنِيَ عُلُوَّهُ كَمَا كَانَ فَذَلِكَ لَهُ وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ صَاحِبِ السُّفْلِ مِنْ سُكْنَاهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . لَيْسَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ مَنْعُ صَاحِبِ الْعُلُوِّ مِنْ بِنَاءِ السُّفْلِ وَالْعُلُوِّ لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَى حَقِّهِ مِنَ الْعُلُوِّ إِلَّا بِبِنَاءِ السُّفْلِ ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ بِالنَّفَقَةِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالتَّطَوُّعِ بِهَا ، وَلَا لَهُ إِذَا بَنَاهُ أَنْ يَمْنَعَ صَاحِبَ السُّفْلِ مِنْ سُكْنَى سُفْلِهِ : لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ . فَأَمَّا الِارْتِفَاقُ بِحَائِطِ السُّفْلِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ بَنَاهُ صَاحِبُ الْعُلُوِّ بِآلَةِ صَاحِبِ السُّفْلِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهُ مِنَ الِارْتِفَاقِ بِحَائِطِهِ كَمَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِهِ .

وَإِنْ كَانَ قَدْ بَنَاهُ بِآلَةِ نَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ وَالِاسْتِنَادِ عَلَيْهِ . وَلَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْجُلُوسِ فِي الْقَرَارِ وَالِارْتِفَاقِ بِهِ فَلَوْ كَانَ لَهُ مِنْ قَبْلُ رَسْمٌ فِي وَضْعِ جِذْعٍ أَوْ نَصْبِ رَفٍّ أَوْ إِيتَادِ وَتِدٍ كَانَ لَهُ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ الرَّسْمُ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ جَارِيًا بِهِ ؛ لِأَنَّ رَسْمَهُ كَانَ فِي حَائِطِهِ الْمَبْنِيِّ بِآلَتِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَنَقْضُ الْجُدْرَانِ لَهُ وَمَتَى شَاءَ أَنْ يَهْدِمَهَا هَدَمَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا تَطَوَّعَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ بِبِنَاءِ السُّفْلِ ، ثُمَّ أَرَادَ هَدْمَهُ لَمْ تَخْلُ الْآلَةُ الَّتِي بَنَى بِهَا السُّفْلَ مِنْ أَنْ تَكُونَ مِلْكًا لَهُ أَوْ مِلْكًا لِصَاحِبِ السُّفْلِ ، فَإِنْ كَانَتْ مِلْكًا لِصَاحِبِ السُّفْلِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ بِالنَّفَقَةِ وَلَيْسَ لَهُ هَدْمُ الْبِنَاءِ ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ أَثَرٌ لَا عَيْنٌ . وَلَيْسَ لَهُ فِي هَدْمِ ذَلِكَ نَفْعٌ فَصَارَ كَمَنْ غَصَبَ نَقْرَةً فَضَرَبَهَا دَرَاهِمًا ، أَوْ غَزْلًا فَنَسَجَهُ ثَوْبًا ، أَوْ طِيبًا فَضَرَبَهُ لَبِنًا ، لَمْ يَكُنْ لَهُ إِعَادَةُ الدَّرَاهِمِ نَقْرَةً ، وَالثَّوْبِ غَزْلًا ، وَاللَّبَنِ طِينًا : لِأَنَّهُ عَيْبٌ لَا يَسْتَفِيدُ بِهِ نَفْعًا . وَإِنْ كَانَتِ الْآلَةُ مِنَ الْآجُرِّ وَالْجِصِّ وَاللَّبِنِ وَالطِّينِ مِلْكًا لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ فَلَهُ هَدْمُ ذَلِكَ وَاسْتِرْجَاعُ آلَتِهِ لِيَصِلَ بِذَلِكَ إِلَى عَيْنِ مَالِهِ . فَإِنْ بَذَلَ لَهُ صَاحِبُ السُّفْلِ قِيمَةَ ذَلِكَ ، فَهَلْ يُجْبَرُ صَاحِبُ الْعُلُوِّ عَلَى قَبُولِهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ . إِنْ قِيلَ : إِنَّ صَاحِبَ السُّفْلِ يُجْبَرُ عَلَى الْبِنَاءِ إِذَا سَأَلَهُ صَاحِبُ الْعُلُوِّ ، يَجْبَرُ عَلَى أَخْذِ الْقِيمَةِ إِذَا بَذَلَهَا صَاحِبُ السُّفْلِ : لِأَنَّهُ بَذَلَ لَهُ مَا لَوْ طَالَبَ بِهِ مِنْ قَبْلُ لَلَزِمَهُ . وَإِنْ قِيلَ إِنَّ صَاحِبَ السُّفْلِ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْبِنَاءِ لَمْ يُجْبَرْ صَاحِبُ الْعُلُوِّ عَلَى أَخْذِ الْقِيمَةِ إِذَا تَطَوَّعَ بِالْبِنَاءِ : لِأَنَّهُ بَذَلَ لَهُ مَا لَوْ طُولِبَ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَكَذَلِكَ الشُّرَكَاءُ فِي نَهْرٍ أَوْ بِئْرٍ لَا يُجْبَرُ أَحَدُهُمْ عَلَى الْإِصْلَاحِ لِضَرَرٍ وَلَا غَيْرِهِ وَلَا يُمْنَعُ الْمَنْفَعَةَ ، فَإِنْ أَصْلَحَ غَيْرَهُ فَلَهُ عَيْنُ مَالِهِ مَتَى شَاءَ نَزَعَهُ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي الشُّرَكَاءِ ، إِذَا كَانَ بَيْنَهُمْ نَهْرٌ فَأُفْسِدَ أَوْ عَيْنٌ فَغَارَتْ أَوْ بِئْرُ مَاءٍ فَانْطَمَثَ وَدَعَا بَعْضُهُمْ إِلَى حَفْرِ ذَلِكَ وَإِصْلَاحِهِ وَامْتَنَعَ الْبَاقُونَ ، فَهَلْ يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُونَ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ يُجْبَرُونَ ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ لَا يُجْبَرُونَ ، فَإِنِ اخْتَارُوا جَمِيعًا حَفْرَهُ وَإِلَّا تُرِكُوا . وَإِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى الْحَفْرِ جَبْرًا أَوِ اخْتِيَارًا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَئُونَةِ الْحَفْرِ كَيْفَ تَكُونُ بَيْنَهُمْ . فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ أَهْلَ النَّهْرِ يَجْتَمِعُونَ مَعَ الْأَوَّلِ فَيَحْفِرُونَ مَعَهُ حَتَّى إِذَا انْتَهَى الْأَوَّلُ إِلَى آخِرِ مِلْكِهِ خَرَجَ وَحَفَرَ الْبَاقُونَ مَعَ الثَّانِي ، وَخَرَجَ عِنْدَ آخِرِ مِلْكِهِ وَحَفَرَ الْبَاقُونَ مَعَ الثَّالِثِ هَكَذَا حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْأَخِيرِ فَيَنْفَرِدَ وَحْدَهُ بِحَفْرِ مَا يَلِيهِ . قَالَ : وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَاءَ أَهْلِ النَّهْرِ كُلَّهُ يَجْرِي عَلَى أَرْضِ الْأَوَّلِ فَوَجَبَ أَنْ يَشْتَرِكُوا جَمِيعًا فِي حَفْرِهِ وَلَيْسَ يَجْرِي مَاءُ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَحْفِرَ مَعَهُ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَئُونَةَ الْحَفْرِ مُقَسَّطَةٌ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَمْلَاكِهِمْ إِلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَسَّطَهَا عَلَى مِسَاحَاتِ الْأَرَضِينَ وَقَدْرِ جَرَيَانِهَا ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الْجَارِيَ فِيهِ يَسْبَحُ عَلَيْهَا عَلَى قَدْرِ مِسَاحَاتِهَا وَجَرَيَانِهَا وَمِنْهُمْ مَنْ قَسَّطَهَا عَلَى قَدْرِ مِسَاحَةِ وُجُوهِ الْأَرَضِينَ الَّتِي عَلَى النَّهْرِ وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلِ أَصْحَابِهِ لِأَنَّ مُؤْنَةَ الْحَفْرِ تَزِيدُ بِطُولِ مِسَاحَةِ الْوَجْهِ الَّذِي عَلَى النَّهْرِ وَتَقِلُّ بِقِصَرِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا بِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا تَطَوَّعَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ فِي الْبِئْرِ أَوِ النَّهْرِ بِحَفْرِهِ هل له مَنْعُ بَاقِي شُرَكَائِهِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالسَّقْيِ مِنْهُ عَلَى مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُ مِنْ قَبْلُ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِيهِ ؟ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُ بَاقِي شُرَكَائِهِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالسَّقْيِ مِنْهُ عَلَى مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُ مِنْ قَبْلُ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِيهِ ، وَإِنْ تَفَرَّدَ هَذَا بِآثَارِ الْحَفْرِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ آلَةٌ قَدْ نَصَبَهَا لِاسْتِسْقَاءِ الْمَاءِ كَالرِّشَا وَدَلْوٍ عَلَى بِئْرٍ أَوْ دُولَابٍ وَبَكَرَةٍ عَلَى بِئْرٍ فَلَهُ مَنْعُ شُرَكَائِهِ مِنَ الِاسْتِسْقَاءِ بِآلَتِهِ ؛ لِأَنَّهَا مِلْكٌ لَهُ لَا حَقَّ فِيهَا لِغَيْرِهِ . فَإِذَا أَرَادُوا تَعْلِيقَ رِشَا وَدَلْوٍ ، أَوْ نَصْبَ دُولَابٍ وَبَكَرَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فِي مَنْعِهِمْ مِنْ ذَلِكَ مَنْعًا مِنَ اسْتِسْقَاءِ الْمَاءِ الَّذِي هُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ . فَإِنْ كَانَتِ الْبِئْرُ لَا تَحْتَمِلُ إِلَّا رِشَا وَدَلْوًا وَاحِدًا قِيلَ لَهُ أَنْتَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تُمَكِّنَهُمْ مِنَ السَّقْيِ بِرِشَاكَ وَدَلْوِكَ ، وَبَيْنَ أَنْ تَرْفَعَ رِشَاكَ وَدَلْوَكَ عِنْدَ اكْتِفَائِكَ لِيَنْصِبُوا لِأَنْفُسِهِمْ رِشَا وَدَلْوًا ، فَإِنْ رَضِيَ بِتَمْكِينِهِمْ مِنَ السَّقْيِ بِرِشَاهُ ، وَدَلْوِهِ وَأَبَوْا أَنْ يَسْقُوا إِلَّا بِرِشَاهُمْ وَدَلْوِهِمْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَمْ فِي وَضْعِ دَلْوِهِمْ وَرِشَاهُمْ وَلَمْ يَلْزَمْهُمُ الِاسْتِقَاءُ بَدَلْوِهِ وَرِشَاهُ ؛ لِأَنَّهَا عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمُ الْتِزَامُ ضَمَانِهَا .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ عَلَى كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ : " فَإِذَا أَفَادَ صَاحِبُ السُّفْلِ مَالًا الشركاء في المنزل أَخَذَ مِنْهُ قِيمَةَ مَا أَنْفَقَ فِي السُّفْلِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا : الْأَوَّلُ أَوْلَى بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الثَّانِي مُتَطَوِّعٌ فَلَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ مِنْ غَيْرِهِ إِلَّا أَنْ يُرَاضِيَهُ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا كِتَابُ الدَّعْوَى عَلَى كِتَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فَمِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا قَالَهُ فِيهِ ، فَذَهَبَ الْمُزَنِيُّ وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى أَنَّهُ أَجْبَرَ فِيهِ عَلَى الْبِنَاءِ وَالْمُحَافَرَةِ كَمَا أَجْبَرَ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ . فَصَارَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وُجُوبَ الْمُبَانَاةِ وَالْمُحَافَرَةِ . فَإِنْ أُعْسِرَ بِهَا الْمُمْتَنِعُ وَأَنْفَقَ الطَّالِبُ رَجَعَ عَلَيْهِ عِنْدَ يَسَارِهِ بِمَا أَنْفَقَ إِذَا كَانَ قَدْ أَنْفَقَ بِحُكْمِ حَاكِمٍ . وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ . وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ الْإِجْبَارَ عَلَى الْمُبَانَاةِ وَالْمُحَافَرَةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ مَعَ سُقُوطِ الْإِجْبَارِ فِي ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ السُّفْلِ قَدْ أَذِنَ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ أَنْ يَبْنِيَ لِيَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا أَنْفَقَ ، فَلِصَاحِبِ الْعُلُوِّ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ عِنْدَ يَسَارِهِ بِمَا أَنْفَقَ : لِأَنَّهُ أَنْفَقَ بِإِذْنِهِ وَنَائِبًا عَنْهُ ، أَوْ يَكُونَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ اتَّفَقَا عَلَى الْهَدْمِ لِيَبْنِيَا ذَلِكَ مِنْ بَعْدُ ، فَإِذَا هَدَمَاهُ أُجْبِرَ صَاحِبُ السُّفْلِ عَلَى الْبِنَاءِ قَوْلًا وَاحِدًا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ . وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ كَانَ يُخْرِجُ الْإِجْبَارَ فِي هَذَا عَلَى قَوْلَيْنِ كَالَّذِي مَضَى ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، بَلْ يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْقَوْلَيْنِ مَعًا ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا اصْطَلَحَا عَلَى الْهَدْمِ وَالْبِنَاءِ صَارَ الْبِنَاءُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالشَّرْطِ الَّذِي الْتَزَمَهُ فَوَجَبَ أَنْ يُجْبَرَ عَلَيْهِ لِيَفِيَ بِشَرْطِهِ . فَلَوْ أُعْسِرَ بِالْبِنَاءِ ( صاحب السفل ) بعدما إتفقا صَاحِبُ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ عَلَى الْهَدْمِ لِيَبْنِيَا ذَلِكَ مِنْ بَعْدُ ، كَانَ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ أَنْ يَبْنِيَ لِيَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِ السُّفْلِ بِمَا أَنْفَقَ فِي بِنَاءِ السُّفْلِ فَيَكُونُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ مَا ذَكَرْنَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا كَانَتْ لِرَجُلٍ نَخْلَةٌ أَوْ شَجَرَةٌ فَاسْتَعْلَتْ وَانْتَشَرَتْ أَغْصَانُهَا عَلَى دَارِ رَجُلٍ فَعَلَيْهِ قَطْعُ مَا شَرَعَ فِي دَارِ غَيْرِهِ فَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى تَرْكِهِ أغصان الشجرة أو النخلة التي إستعلت وانتشرت علي دار جاره فَلَيْسَ بِجَائِزٍ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا كَانَ فِي دَارِ رَجُلٍ نَخْلَةٌ أَوْ شَجَرَةٌ فَاسْتَعْلَتْ أَغْصَانُهَا وَانْتَشَرَتْ إِلَى دَارِ جَارِهِ ، وَطَالَبَهُ الْجَارُ بِإِزَالَةِ مَا انْتَشَرَ فِي دَارِهِ مِنَ الْأَغْصَانِ فَذَلِكَ لَهُ . وَعَلَى صَاحِبِ الشَّجَرَةِ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى إِزَالَةِ ذَلِكَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ دَارًا مَلَكَ الِارْتِفَاقَ بِعُلُوِّهَا وَالْهَوَاءَ فِيهَا ، فَلَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الشَّجَرَةِ إِسْقَاطُ حَقِّهِ ، فَإِنْ كَانَتِ الشَّجَرَةُ يَابِسَةً قَطَعَ الْأَغْصَانَ الْمُنْتَشِرَةَ عَنْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ رَطْبَةً ثَنَاهَا وَشَدَّهَا إِلَى الشَّجَرَةِ أَوْ قَطَعَهَا إِنْ شَاءَ . فَإِنْ بَادَرَ صَاحِبُ الدَّارِ فَقَطَعَ مَا انْتَشَرَ فِي دَارِهِ مِنَ الْأَغْصَانِ ، فَإِنْ كَانَتْ يَابِسَةً لَا تَنْثَنِي جَازَ وَلَمْ يَضْمَنْ إِذَا لَمْ يَتَعَدَّ . وَقَالَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ يُضَمَّنُ إِذَا قَطَعَهَا بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِذَلِكَ اتِّفَاقًا فَلَمْ يَكُنْ حُكْمُ الْحَاكِمِ فِيهِ مُؤَثِّرًا . فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْأَغْصَانُ رَطْبَةً فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الشَّجَرَةِ بِقِطَعِ الْغُصْنِ مِنْهَا : لِأَنَّ قَطْعَهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ : لِأَنَّهُ يُمْكِنُ إِزَالَةُ الضَّرَرِ عَنْهُ بِأَنْ يَثْنِيَ الْغُصْنَ إِلَى الشَّجَرَةِ وَيُشَدَّ مَعَهَا فَصَارَ يَقْطَعُهُ مُتَعَدِّيًا . فَإِنْ طَالَبَ صَاحِبُ الْغُصْنِ أَنْ يُصَالِحَهُ الْجَارُ عَلَى تَرْكِهِ غصن الشجرة المنتشر علي دار جاره فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْغُصْنُ فِي الْهَوَاءِ لَمْ يَسْتَنِدْ عَلَى حَائِطِهِ ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزِ الصُّلْحُ وَكَانَ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّهُ صُلْحٌ عَلَى الْهَوَاءِ ، وَالصُّلْحُ عَلَى الْهَوَاءِ لَا يَجُوزُ : لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الْمِلْكِ فَلَمْ يَجُزْ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ كَالْمَرَافِقِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْغُصْنُ قَدِ اسْتَنَدَ عَلَى حَائِطِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْغُصْنُ يَابِسًا فَالصُّلْحُ عَلَى إِقْرَارِهِ جَائِزٌ كَمَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى وَضْعِ جِزْعٍ فِي حَائِطِهِ . وَإِنْ كَانَ الْغُصْنُ رَطْبًا فَفِي الصُّلْحِ عَلَى إِقْرَارِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورِ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى إِقْرَارِهِ بَاطِلٌ : لِأَنَّهُ يُنَمَّى مَعَ الْأَوْقَاتِ فَصَارَ صُلْحًا عَلَى مَجْهُولٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الصُّلْحَ عَلَيْهِ جَائِزٌ ، وَيَكُونُ مَا حَدَثَ فِيهِ مِنَ النَّمَاءِ تَبَعًا لَا يَبْطُلُ بِالْجَهَالَةِ ، كَمَا لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِجَهَالَةِ مَا كَانَ تَبَعًا لَهُ مِنَ الْمَرَافِقِ وَالْأَسَاسِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْبَصْرِيِّينَ .



فَصْلٌ : إِذَا غَرَسَ الرَّجُلُ غَرْسًا فِي أَرْضِهِ وَكَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْغَرْسَ إِذَا كَبُرَ وَطَالَ انْتَشَرَتْ أَغْصَانُهُ إِلَى دَارِ الْجَارِ هل للجار أن يأخذ بقلعه في الحال لَمْ يَكُنْ لِلْجَارِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِقَلْعِهِ فِي الْحَالِ : لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ قَلْعَ الْأَغْصَانِ الْمُنْتَشِرَةِ فِي دَارِهِ وَلَيْسَتْ فِي الْحَالِ مَوْجُودَةً . وَقَدْ لَا تُوجَدُ مِنْ بَعْدُ ، وَإِنْ وُجِدَتْ فَقَدْ يَزُولُ مِلْكُ الْجَارِ فِيمَا بَعْدُ . وَهَكَذَا لَوْ أَرَادَ حَفْرَ بِئْرٍ فِي أَرْضِهِ ، وَكَانَتْ تَصِلُ نَدَاوَةُ الْبِئْرِ إِلَى حَائِطِ جَارِهِ حكم منع جاره من حفره لَمْ يَكُنْ لِلْجَارِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ حَفْرِهَا : لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِهِ ، كَمَا لَا يَمْنَعُهُ مِنْ وَقُودِ النَّارِ وَإِنْ تَأَذَّى بِالدُّخَانِ .

فَصْلٌ : إِذَا مَالَ حَائِطُ الرَّجُلِ إِلَى دَارِ جَارِهِ فَطَالَبَهُ الْجَارُ بِإِزَالَةِ الْمَيْلِ عَنْ دَارِهِ فَذَلِكَ لَهُ ، وَعَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ أَنْ يَهْدِمَهُ لِيَزُولَ الْمَيْلُ ، أَوْ يَهْدِمَ مِنْهُ الْقَدْرَ الْمَائِلَ لِيَتَصَرَّفَ الْجَارُ فِي هَوَاءِ دَارِهِ كُلِّهِ . وَلَوْ كَانَ مَيْلُ الْحَائِطِ إِلَى دَارِ صَاحِبِهِ ، وَكَانَ الْجَارُ خَائِفًا مِنَ انْهِدَامِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ ( حكم هدمه ) لَمْ يَلْزَمْ هَدْمُهُ : لِأَنَّهُ لَمْ يُفَوِّتْ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ حَقًّا وَلَا أَتْلَفَ عَلَيْهِ مِلْكًا ، وَانْهِدَامُهُ فِي الثَّانِي مَظْنُونٌ وَقَدْ لَا يَكُونُ .

فَصْلٌ : حَكَى أَبُو بَكْرِ بْنُ إِدْرِيسَ عَنْ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيَّ سُئِلَ عَنْ شَجَرَةِ الْأُتْرُجِّ إِذَا انْتَشَرَتْ أَغْصَانُهَا إِلَى مِلْكِ رَجُلٍ ، وَدَخَلَ رَأَسُ الْغُصْنِ فِي بَرْنِيَّةٍ لَهُ وَانْعَقَدَتْ فِيهِ أُتْرُجَّةٌ وَكَبُرَتْ ، وَلَمْ يُمْكِنْ إِخْرَاجُهَا إِلَّا بِقَطْعِ الْغُصْنِ وَالْأُتْرُجَّةِ أَوْ كَسْرِ الْبَرْنِيَّةِ مَا الْوَاجِبُ ؟ فَقَالَ : الْوَاجِبُ قَطْعُ الْغُصْنِ وَالْأُتْرُجَّةِ لِتَسْلَمَ الْبَرْنِيَّةُ ؛ لِأَنَّ الْغُصْنَ لَمَّا شَرَعَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ كَانَ مَأْخُوذًا بِإِزَالَتِهِ ، فَلَمَّا لَمْ يُزِلْهُ صَارَ مُسْتَعْدِيًا بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْتَزِمَ حُكْمَ تَعَدِّيهِ ، وَيَكُونُ الْقَطْعُ الْمُتَقَدِّمُ وَاجِبًا عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ مِنْ صَاحِبِ الْبَرْنِيَّةِ تَعَدٍّ فِي وَضْعِهَا فِي مِلْكِهِ . فَقِيلَ لِأَبِي حَامِدٍ : مَا تَقُولُ فِي الْبَرْنِيَّةِ إِذَا كَانَتْ وَدِيعَةً فِي بَيْتِ رَجُلٍ ، فَوَضَعَهَا فِي سَطْحِهِ حَتَّى وَقَعَتْ فِيهَا أُتْرُجَّةٌ مِنْ غُصْنِ جَارِهِ ، فَقَالَ : يَقْطَعُ الْأُتْرُجَّةَ لِتَسْلَمَ الْبَرْنِيَّةُ ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْغُصْنِ قَدْ كَانَ مُسْتَحَقًّا مِنْ قَبْلُ ، وَذَلِكَ أَسْبَقُ مَنْ وَضْعِ الْبَرْنِيَّةِ ، فَقِيلَ لَهُ فَمَا تَقُولُ إِنْ كَانَتِ الشَّجَرَةُ فِي دَارِهِ وَالْبَرْنِيَّةُ فِي يَدِهِ ، قَالَ : يُقْطَعُ الْغُصْنُ أَيْضًا لِتَسْلَمَ الْبَرْنِيَّةُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِوَضْعِ الْبَرْنِيَّةِ بِحَيْثُ يَدْخُلُ غُصْنُ الشَّجَرَةِ فِيهَا . فَقِيلَ لَهُ : مَا تَقُولُ فِي حَيَوَانٍ بَلَعَ لُؤْلُؤَةً ( ذبحه ) ، قَالَ : لَا آمُرُ بِذَبْحِهِ وَأَتْرُكُهُمْ حَتَّى يَصْطَلِحُوا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ لِلْحَيَوَانِ حُرْمَةً ،

أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ غَصَبَ خَيْطًا وَخَاطَ بِهِ جُرْحَ حَيَوَانٍ ( رده ) لَمْ يُكَلَّفِ الرَّدَّ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ أَوْ عَلَى دَنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِالْقَبْضِ ، فَإِنْ قَبَضَ بَعْضًا وَبَقِيَ بَعْضٌ جَازَ فِيمَا قَبَضَ وَانْتُقِضَ فِيمَا لَمْ يَقْبِضْ إِذَا رَضِيَ بِذَلِكَ الْمُصَالِحُ الْقَابِضُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ مِائَةَ دِينَارٍ فَاعْتَرَفَ بِهَا وَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ أَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ إِذَا تَقَابَضَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الدَّرَاهِمِ عِوَضًا عَنِ الدَّنَانِيرِ صَرْفٌ يَلْزَمُ فِيهِ التَّقَابُضُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ . وَهَذَا يُوَافِقُنَا عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ فَلَزِمَهُ أَنْ يَجْعَلَ الصُّلْحَ مُعَاوَضَةً يَبْطُلُ بِالْإِنْكَارِ . وَلَوْ كَانَ لِإِسْقَاطِ الْخُصُومَةِ حَتَّى يَجُوزَ مَعَ الْإِنْكَارِ لَجَازَ فِيهِ إِسْقَاطُ حُكْمِ الرِّبَا وَإِنْ تَقَابَضَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ . فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَقَابَضَا جَمِيعَ الْأَلْفِ قَبْلِ الِافْتِرَاقِ فَقَدِ انْتَجَزَ الصُّلْحُ وَانْبَرَمَ وَسَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ بِالدَّنَانِيرِ وَاسْتَوْفَى مَا تَضَمَّنَهُ عَقْدُ الصُّلْحِ مِنَ الدَّرَاهِمِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَتَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ وَيَعُودُ الْمُصَالِحُ إِلَى حَقِّهِ مِنَ الدَّنَانِيرِ فَيُطَالِبُ بِهَا دُونَ الدَّرَاهِمِ الَّتِي صَالَحَ عَلَيْهَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَتَقَابَضَا بَعْضَ الدَّرَاهِمِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَيَبْقَى بَعْضُهَا فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ . فَأَمَّا فِي الْمَقْبُوضِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ الْفَسَادَ الطَّارِئَ بَعْدَ الْعَقْدِ بِمَثَابَةِ الْفَسَادِ الْمُقْتَرِنِ بِالْعَقْدِ ، يَكُونُ الصُّلْحُ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ . أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ لِبُطْلَانِهِ فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ . وَالثَّانِي : جَائِزٌ . وَعَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا : إِنَّ الْفَسَادَ الطَّارِئَ بَعْدَ الْعَقْدِ مُخَالِفٌ لِمَا فَارَقَ الْعَقْدَ ، وَإِنَّ فَسَادَ بَعْضِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الصَّفْقَةُ بِمَا يَأْتِي مِنَ الْفَسَادِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ مَا بَقِيَ إِذَا عَرِيَ عَنِ الْفَسَادِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الصُّلْحُ فِي الْمَقْبُوضِ جَائِزًا قَوْلًا وَاحِدًا .

ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْمُصَالَحِ فَإِنْ كَانَ مَا اخْتَارَ الْفَسْخَ عِنْدَ فِرَاقِهِ قَبْلَ قَبْضِ الْبَقِيَّةِ فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْفَسْخِ لِأَنَّ فِرَاقَهُ قَبْلَ قَبْضِ الْبَاقِي رِضًى مِنْهُ بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فَسْخُهَا بَعْدَ التَّرَاضِي . وَإِنْ كَانَ أَنْكَرَ فِرَاقَهُ قَبْلَ قَبْضِ الْبَاقِي فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ أَوْ يَفْسَخَ ، فَإِنْ فَسَخَ رَدَّ مَا قَبَضَ وَطَالَبَ بِالدَّنَانِيرِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ . وَإِنْ أَقَامَ فَعَلَى طَرِيقَةِ أَبِي إِسْحَاقَ يَجْعَلُ فِيمَا يَأْخُذُ بِهِ الْمَطْلُوبَ الْمَقْبُوضَ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَأْخُذُهُ بِكُلِّ الدَّنَانِيرِ . وَالثَّانِي : بِالْحِسَابِ وَالْقِسْطِ . وَعَلَى طَرِيقَةِ غَيْرِهِ يُجْعَلُ الْمَقْبُوضُ مَأْخُوذًا بِحِسَابِهِ وَقِسْطِهِ قَوْلًا وَاحِدًا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا صَالَحَهُ مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ عَلَى نِصْفِهَا فَهَذَا حَطِيطَةٌ وَإِبْرَاءٌ يَجُوزُ أَنْ يُفَارِقَهُ فِيهَا قَبْلَ الْقَبْضِ . لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِبْرَاءِ لَا تَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى قَبْضِ مَا بَقِيَ .

فَصْلٌ : وَلَوْ صَالَحَهُ مِنَ الْمِائَةِ دِينَارٍ عَلَى ثَوْبٍ أَوْ عَبْدٍ فَفِي اسْتِحْقَاقِ قَبْضِهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَسْتَحِقُّ وَيَجُوزُ الِافْتِرَاقُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّهُ لَا رِبَا فِي بَيْعِ الدَّنَانِيرِ بِثَوْبٍ أَوْ عَبْدٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَسْتَحِقُّ وَيَبْطُلُ الصُّلْحُ فِيهِ بِالتَّفَرُّقِ قَبْلَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْقَبْضِ فِيهِ يَجْعَلُهُ بَيْعَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا أَقَرَّ أَحَدُ الْوَرَثَةِ فِي دَارٍ فِي أَيْدِيهِمْ بِحِقٍّ لِرَجُلٍ ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ وَالْوَارِثُ الْمُقِرُّ مُتَطَوِّعٌ لَا يَرْجِعُ عَلَى إِخْوَتِهِ بِشَيْءٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ مَاتَ وَتَرَكَ دَارًا عَلَى وَرَثَتِهِ فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّ الدَّارَ لَهُ وَأَنَّ الْمُتَوَفَّى كَانَ قَدْ أَخَذَهَا مِنْهُ إِمَّا بِغَصْبٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ عَارِيَةٍ فَصَدَّقَهُ أَحَدُ الْوَرَثَةِ عَلَى دَعْوَاهُ وَأَقَرَّ لَهُ بِالدَّارِ وَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى مَالٍ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى قَدْرِ حِصَّتِهِ مِنَ الدَّارِ .

وَالثَّانِي : أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى جَمِيعِ الدَّارِ عَنْ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُصَالِحَهُ عَنْ جَمِيعِ الدَّارِ لِنَفْسِهِ . فَإِنْ صَالِحَهُ عَلَى قَدْرِ حِصَّتِهِ صَحَّ الصُّلْحُ فِيهَا وَكَانَ الْمُدَّعِي عَلَى مُطَالَبَتِهِ بَاقِيَ الْوَرَثَةِ وَلَمْ يَكُنْ لِبَاقِي الْوَرَثَةِ شُفْعَةٌ فِيمَا صَالَحَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُمْ بِإِنْكَارِ الدَّعْوَى مُعْتَرِفُونَ بِإِبْطَالِ الصُّلْحِ وَإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ لَهُمُ الشُّفْعَةَ فِيمَا صَالَحَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ أَنَّهُ مَلَكَ ذَلِكَ بِالصُّلْحِ لَا بِالْإِرْثِ . وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى جَمِيعِ الدَّارِ عَنْ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ صَحَّ الصُّلْحُ إِنْ كَانَ بِإِذْنِهِمْ وَفِي حِصَّتِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَجْهَانِ مَضَيَا فِيمَنْ صَالَحَ عَنْ غَيْرِهِ : أَحَدُهُمَا : يَصِحُّ أَيْضًا وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ . وَالثَّانِي : لَا يَصِحُّ ، فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ فِي حِصَصِ بَاقِي الْوَرَثَةِ ، وَهَلْ يَبْطُلُ فِي حِصَّةِ الْمُصَالِحِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ . وَإِنْ صَالَحَهُ عَنْ جَمِيعِ الدَّارِ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ فِي حُكْمِ مَنِ ابْتَاعَ دَارًا بَعْضُهَا فِي يَدِهِ وَبَعْضُهَا فِي يَدِ غَيْرِهِ . فَإِنْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى انْتِزَاعِ ذَلِكَ مِمَّنْ هُوَ فِي يَدِهِ صَحَّ الصُّلْحُ فِي الْجَمِيعِ ، وَإِلَّا بَطَلَ الصُّلْحُ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى انْتِزَاعِهِ . وَهَلْ يَبْطُلُ فِيمَا بِيَدِهِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوِ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ بَيْتًا فِي يَدَيْهِ فَاصْطَلَحَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا سَطْحُهُ وَالْبِنَاءُ عَلَى جُدْرَانِهِ بِنَاءٌ مَعْلُومٌ فَجَائِزٌ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا : لَا يَجُوزُ ، أَقِيسُ عَلَى قَوْلِهِ فِي إِبْطَالِهِ أَنْ يُعْطَى رَجُلٌ مَالًا عَلَى أَنْ يَشْرَعَ فِي بِنَائِهِ حَقًّا فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى أَنْ يَبْنِيَ عَلَى جُدْرَانِهِ بِنَاءً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِ الشَّافِعِيِّ بِمَسْطُورِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي رَجُلٍ ادَّعَى بَيْتًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَأَقَرَّ لَهُ صَاحِبُ الْيَدِ بِجَمِيعِ الْبَيْتِ ، ثُمَّ إِنَّ الْمُقَرَّ لَهُ صَالَحَ الْمُقِرَّ بِأَنْ وَهَبَ لَهُ عُلُوَّ الْبَيْتِ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ بِنَاءً مَعْلُومًا فَهَذَا جَائِزٌ وَيَكُونُ صُلْحَ هِبَةٍ لَا صُلْحَ عَلَى مُعَاوَضَةٍ فَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْمَسْأَلَةُ تَقَدَّمَتْ مَعَ بَيَانِ آرَاءِ الْفُقَهَاءِ فِيهَا . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي رَجُلٍ ادَّعَى بَيْتًا فِي يَدِي رَجُلٍ فَأَقَرَّ لَهُ بِسُفْلِ الْبَيْتِ دُونَ عُلُوِّهِ ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى السُّفْلِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِهِ بِالْعُلُوِّ الَّذِي لَمْ يُقِرَّ بِهِ لِيَبْنِيَ عَلَى الْعُلُوِّ بِنَاءً مَعْلُومًا .

فَهَذَا صُلْحٌ جَائِزٌ لِأَنَّهُ بَيْعُ سُفْلٍ بِعُلُوٍّ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ بِنَاءً مَعْلُومًا فَيَكُونُ صُلْحَ مُعَاوَضَةٍ ، فَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِيمَنِ ادَّعَى بَيْتًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَاعْتَرَفَ لَهُ بِجَمِيعِهِ ثُمَّ إِنَّ الْمُقَرَّ لَهُ تَرَكَ لِلْمُقِرِّ سُفْلَ الْبَيْتِ تَرْكَ إِبْرَاءٍ لِيَبْنِيَ لِنَفْسِهِ عَلَى مَا بَقِيَ لَهُ مِنَ الْعُلُوِّ بِنَاءً مَعْلُومًا . فَهَذَا صُلْحٌ جَائِزٌ وَيَكُونُ صُلْحَ حَطِيطَةٍ وَإِبْرَاءٍ فَهَذَا قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ مَنَعَ جَوَازَ الصُّلْحِ عَلَى سَقْفِ بَيْتِهِ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ بِنَاءً مَعْلُومًا كَمَا لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى إِخْرَاجِ جَنَاحٍ من البيت وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا وَهَذَا خَطَأٌ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا يَمْنَعُ مِنْ تَسَاوِي حُكْمِهِمَا وَذَلِكَ أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى إِخْرَاجِ الْجَنَاحِ صُلْحٌ عَلَى الْهَوَاءِ الَّذِي لَا يَمْلِكُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَ بِهِ عِوَضًا . وَالصُّلْحُ عَلَى الْبِنَاءِ عَلَى السَّقْفِ صُلْحٌ عَلَى مَمْلُوكٍ فَجَازَ أَنْ يُمْلَكَ بِهِ عِوَضًا كَمَا لَوْ صَالَحَهُ عَلَى الْبِنَاءِ فِي قَرَارِ أَرْضِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوِ اشْتَرَى عُلُوَّ بَيْتٍ عَلَى أَنْ يَبْنِيَ عَلَى جُدْرَانِهِ وَيَسْكُنَ عَلَى سَطْحِهِ أَجَزْتُ ذَلِكَ إِذَا سَمَّيْنَا مُنْتَهَى الْبُنْيَانِ لِأَنَّهُ لَيْسَ كَالْأَرْضِ فِي احْتِمَالِ مَا يُبْنَى عَلَيْهَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) هَذَا عِنْدِي غَيْرُ مَنْعِهِ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي أَنْ يَقْتَسِمَا دَارًا عَلَى أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا السُّفْلُ وَلِلْآخَرِ الْعُلُوُّ حَتَّى يَكُونَ السُّفْلُ وَالْعُلُوُّ لِوَاحِدٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ عُلُوَّ بَيْتٍ دُونَ سُفْلِهِ . وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ إِفْرَادِ الْعُلُوِّ بِالْعَقْدِ دُونَ السُّفْلِ لِأَنَّ الْعُلُوَّ تَبَعٌ يَجْرِي مَجْرَى الْمَرَافِقِ الَّتِي لَا يَجُوزُ إِفْرَادُهَا بِالْعَقْدِ . وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْعُلُوَّ عَيْنٌ مَمْلُوكَةٌ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا فَجَازَ أَنْ يُفْرَدَ بِعَقْدِ الْبَيْعِ كَالسُّفْلِ . وَلِأَنَّ الْبِنَاءَ تَبَعٌ لِلْعَرْصَةِ فِي الْبَيْعِ وَيَجُوزُ إِفْرَادُهَا بِالْعَقْدِ وَكَذَلِكَ الْعُلُوُّ وَهَذَا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ بِيعِ الْعُلُوِّ مُنْفَرِدًا دُونَ السُّفْلِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا إِذَا تَبَايَعَاهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :

أَحَدُهَا : أَنْ يَشْتَرِطَا فِي الْعَقْدِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَشْتَرِطَا فِيهِ أَنْ لَا يَبْنِيَ عَلَيْهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُطْلِقَا الْعَقْدَ . فَإِنِ اشْتَرَطَا أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الشَّرْطِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْتَرِطَا عَلَيْهِ بِنَاءً مَعْلُومًا بِصِفَاتِهِ طُولًا وَعَرْضًا وَيَصِفَانِ آلَتَهُ : آجُرٌّ وَجَصٌّ وَلَبِنٌ وَطِينٌ فَهَذَا بَيْعٌ جَائِزٌ وَشَرْطٌ لَازِمٌ ، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَلَا لِلْبَائِعِ الْمَنْعُ مِنْهُ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مَعْلُومَةٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَشْتَرِطَا أَنْ يَبْنِيَ مَا شَاءَ فَهَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ لِلْجَهَالَةِ بِهِ ، وَبَيْعٌ بَاطِلٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ بُطْلَانِ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ ، وَخَالَفَ الْأَرْضَ إِذَا عَاوَضَهُ عَلَى الْبِنَاءِ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ تَحْتَمِلُ مَا يُبْنَى عَلَيْهَا فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَقْدِيرِهِ بِالشَّرْطِ ، وَالْعُلُوُّ لَا يَحْتَمِلُ الْبِنَاءَ عَلَيْهِ إِلَّا إِلَى حَدٍّ مُقَدَّرٍ فَافْتَرَقَا . الْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَشْتَرِطَا الْبِنَاءَ وَلَا يَشْتَرِطَا قَدْرَهُ وَلَا وَصَفَا طُولَهُ وَعَرْضَهُ بَلْ يَكُونُ الشَّرْطُ مُطْلَقًا فَفِي الشَّرْطِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَازِمٌ وَيَبْنِي عَلَيْهِ مَا احْتَمَلَهُ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَقَدَّرُ عِنْدَ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِالْمُعْتَادِ الْمَأْلُوفِ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى تَقْدِيرِهِ بِالشَّرْطِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْعَادَاتِ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ وَأَهْلُ الْخِبْرَةِ لَا يَتَّفِقُونَ فِيهِ وَلِأَنَّهُ مَجْهُولٌ عِنْدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْحَالِ وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْبَيْعُ بَاطِلًا ، لِفَسَادِ مَا ضُمِّنَ مِنَ الشَّرْطِ فَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ إِذَا تَبَايَعَاهُ بِشَرْطِ الْبِنَاءِ عَلَيْهِ . فَأَمَّا إِذَا تَبَايَعَاهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبْنِيَ عَلَيْهِ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَلَيْسَ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ وَلَهُ أَنْ يَسْكُنَ فِيهِ وَيَرْتَفِقَ بِهِ كَيْفَ شَاءَ بَعْدَ أَنْ لَا يَبْنِيَ . فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ صَحَّ هَذَا الْعَقْدُ وَقَدْ تَضَمَّنَهُ شَرْطٌ أَوْقَعَ عَلَيْهِ حَجْرًا فِي مِلْكِهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَهُ أَرْضًا عَلَى أَنْ لَا يَبْنِيَ فِيهَا . قِيلَ الشَّرْطُ لَمْ يَتَضَمَّنْ حَجْرًا فِيمَا مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ ، وَإِنَّمَا تَضَمَّنَ الْمَنْعَ مِنْ إِحْدَاثِ مَا لَيْسَ عَلَى مِلْكِهِ فِي الْحَالِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعُلُوِّ حَيْثُ جَازَ بَيْعُهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبْنِيَ عَلَيْهِ وَبَيْنَ الْأَرْضِ حَيْثُ لَمْ يَجُزْ

بَيْعُهَا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبْنِيَ فِيهَا أَنَّ الْأَرْضَ الْمَبِيعَةَ لَمْ يَبْقَ لِلْبَائِعِ فِيهَا حَقٌّ ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ بِالْبُنْيَانِ فِيهَا ضَرَرٌ فَبَطَلَ الْعَقْدُ فِيهَا بِاشْتِرَاطِ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعُلُوُّ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِمِلْكِ الْبَائِعِ وَفِي الْبِنَاءِ عَلَيْهِ إِضْرَارٌ بِهِ فَصَارَ الشَّرْطُ فِيهِ مُتَعَلِّقًا بِحَقِّهِ فَافْتَرَقَا . فَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ إِذَا شَرَطَا أَنْ لَا يَبْنِيَ عَلَيْهِ . فَأَمَّا إِذَا تَبَايَعَاهُ مُطْلَقًا بِغَيْرِ شَرْطٍ فَهَلْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ الْعُلُوِّ مُنْفَرِدًا دُونَ السُّفْلِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَبْنِي عَلَيْهِ مَا احْتَمَلَهُ ؛ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مِنْ مَنَافِعِ مِلْكِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ فِيهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ لَيْسَ لَهُ الْبِنَاءُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِالسُّفْلِ وَتَكُونُ مَنْفَعَتُهُ مَقْصُورَةً عَلَى السُّكْنَى وَالِارْتِفَاقِ بِمَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ مِنْ غَيْرِ إِحْدَاثِ زِيَادَةٍ . فَأَمَّا الْبَيْعُ فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا لَازِمٌ وَإِنَّمَا الْوَجْهَانِ فِي جَوَازِ الْبِنَاءِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ يَذْهَبُ إِلَى إِبْطَالِ بَيْعِ الْعُلُوِّ مُفْرَدًا عَنِ السُّفْلِ كَقَوْلِ أَبِيِ حَنِيفَةَ ، وَتَعَلُّقًا بِمَا ذَكَرَهُ مِنَ الصُّلْحِ عَلَى إِشْرَاعِ الْجَنَاحِ الَّذِي قَدْ مَضَى الِانْفِصَالُ عَنْهُ . ثُمَّ لِمَا حَكَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّهُ مَنَعَ مِنْ قِسْمَةِ دَارٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا سُفْلُهَا وَلِلْآخَرِ عُلُوُّهَا . فَجَعَلَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْعُلُوَّ لَا يَجُوزُ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْمُزَنِيُّ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ إِنَّمَا مَنَعَ مِنْ قِسْمَةِ الدَّارِ أَنْ يَكُونَ عُلُوُّهَا لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ وَسُفْلُهَا لِلْآخَرِ إِجْبَارًا أَوْ كُرْهًا . لِأَنَّ قِسْمَةَ الْإِجْبَارِ تُوجِبُ تَعْدِيلَ الْمِلْكِ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ لِيَكُونَ شَطْرُ الدَّارِ عُلُوًّا وَسُفْلًا لِأَحَدِهِمَا وَشَطْرًا لِلْآخَرِ بِقَدْرِ السِّهَامِ فِي الْمِلْكِ . فَأَمَّا إِذَا تَرَاضَيَا الشَّرِيكَانِ بِقِسْمَةِ الدَّارِ عَلَى أَنْ يَكُونَ سُفْلُهَا لِأَحَدِهِمَا وَعُلُوُّهَا لِلْآخَرِ جَازَ . وَالصُّلْحُ إِنَّمَا هُوَ عَقْدُ مُرَاضَاةٍ لَا يَصِحُّ مَعَ الْإِجْبَارِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُعْتَبَرَ فِيهِ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَتْ مَنَازِلُ سُفْلٍ فِي يَدَيْ رَجُلٍ وَالْعُلُوُّ فِي يَدَيْ آخَرَ فَتَدَاعَيَا الْعَرْصَةَ فَهِيَ بَيْنَهُمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ .

وَصُورَتُهَا أَنْ يَكُونَ عُلُوُّهَا لِرَجُلٍ وَسُفْلُهَا لِغَيْرِهِ وَاخْتَلَفَا فِي عَرْصَةِ الدَّارِ فَادَّعَاهَا صَاحِبُ السُّفْلِ وَقَالَ هِيَ لِي وَادَّعَاهَا صَاحِبُ الْعُلُوِّ وَقَالَ هِيَ لِي ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَرْصَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا مَمَرٌّ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ أَوْ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهَا مَمَرٌّ . فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ مَمَرٌّ وَاسْتِطْرَاقٌ لِأَنَّهُ يَصْعَدُ إِلَى عُلُوِّهِ بَعْدَ اجْتِيَازِهِ فِيهَا فَهِيَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ أَنْ يَتَحَالَفَا عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَصَرِّفٌ فِيهَا فَصَارَتْ بِأَيْدِيهِمَا فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ بَيْنَهُمَا . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ مَمَرٌّ وَلَا لَهُ فِيهَا اسْتِطْرَاقٌ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ مُحَوَّلَةً عَنْ مَمَرِّهِ وَمَوْضِعِ اسْتِطْرَاقِهِ بِبَابٍ أَوْ بِنَاءٍ كَدَوَاخِلِ الْبُيُوتِ فَيَكُونَ ذَلِكَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ لَا يَخْتَلِفُ لِأَنَّهُ قَدْ تَفَرَّدَ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ فَصَارَ مُنْفَرِدًا بِالْيَدِ عَلَيْهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِمَمَرِّهِ وَمَوْضِعِ اسْتِطْرَاقِهِ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ دُونَهُ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مَمَرُّهُ فِي بَعْضِ الصَّحْنِ وَبَاقِيهِ مُتَّصِلٌ بِهِ وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ اسْتِطْرَاقٌ فِيهِ . فَالْقَدْرُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ فِيهِ مَمَرًّا أَوِ اسْتِطْرَاقًا يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَمَا وَرَاءَهُ مِمَّا لَا حَقَّ لَهُ فِي اسْتِطْرَاقِهِ وَلَا حَائِلَ دُونَهُ فِيهِ وَجْهَانِ : أَصَحُّهُمَا : يَكُونُ لِصَاحِبِ السُّفْلِ لِتَفَرُّدِهِ بِالْيَدِ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا ، لِاتِّصَالِهِ بِمَا هَذَا حُكْمُهُ . وَمِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مَضَى تَخْرِيجُ الْوَجْهَيْنِ فِي عُرْضَةِ الزُّقَاقِ الْمَرْفُوعِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ كَانَ فِيهَا دَرَجٌ إِلَى عُلُوِّهَا فَهِيَ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ كَانَتْ مَعْقُودَةً أَوْ غَيْرَ مَعْقُودَةٍ لِأَنَّهَا تُتَّخَذُ مَمَرًّا وَإِنِ انْتُفِعَ بِمَا تَحْتَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا اخْتَلَفَ صَاحِبُ السُّفْلِ وَصَاحِبُ الْعُلُوِّ فِي دَرَجَةٍ فَادَّعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَحْتَهَا مِرْفَقٌ لِصَاحِبِ السُّفْلِ أَمْ لَا . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَحْتَهَا مِرْفَقَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ بَلْ كَانَتْ صَمَّاءَ فَهِيَ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ لِأَنَّهَا لَا تُتَّخَذُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِلَّا مَمَرًّا فَصَارَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ أَحَقَّ بِهَا بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا وَالْيَدِ عَلَيْهَا ، فَكَانَ أَحَقَّ بِهَا وَسَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ خَشَبٍ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ تَحْتَهَا مِرْفَقٌ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِرْفَقًا كَامِلًا كَبَيْتٍ أَوْ خِزَانَةٍ تَصْلُحُ لِلسُّكْنَى أَوْ إِحْرَازِ الْقِيَاسِ فَتَكُونُ الدَّرَجَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، كَالسَّقْفِ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهَا تَصَرُّفًا وَلَهُ عَلَيْهَا يَدًا فَصَارَا فِيهَا سَوَاءً . إِلَّا أَنَّ صَاحِبَ السُّفْلِ مُخْتَصٌّ بِالتَّصَرُّفِ فِي سُفْلِهَا وَالِارْتِفَاقِ بِهِ وَلَيْسَ لَهُ الصُّعُودُ عَلَيْهَا . وَصَاحِبُ الْعُلُوِّ مُخْتَصٌّ بِالصُّعُودِ عَلَيْهَا وَلَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيمَا تَحْتَهَا ، كَالسَّقْفِ الْمَجْعُولِ بَيْنَ صَاحِبِ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ لَيْسَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ إِلَّا بِمَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمِرْفَقُ نَاقِصًا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ تَحْتَهَا رَفٌّ أَوْ مَوْضِعُ جُبٍّ أَوْ مَا جَرَى مَجْرَاهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَيْتًا كَامِلًا فَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ كَالْبَيْتِ لِارْتِفَاقِهِمَا بِهَا وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِيهَا أَكْمَلُ وَيَدَهُ عَلَيْهَا أَقْوَى وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ .

مَسْأَلَةٌ لَوِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ زَرْعًا فِي أَرْضٍ فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى دَرَاهِمَ فَجَائِزٌ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ زَرْعًا فِي أَرْضٍ فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى دَرَاهِمَ فَجَائِزٌ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ زَرْعَهُ أَخْضَرَ مِمَّنْ يَقْصِلُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ بِيَدِهِ زَرْعٌ فِي أَرْضٍ ادَّعَاهُ مُدَّعٍ فَأَقَرَّ لَهُ بِهِ وَصَالَحَهُ عَلَيْهِ بِمَالٍ بَذَلَهُ لَهُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الزَّرْعِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِكُلِّ حَالٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِحَالٍ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْإِطْلَاقِ . فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِكُلِّ حَالٍ كَالزَّرْعِ إِذَا اشْتَدَّ وَكَانَ بَارِزَ الْحَبِّ كَالشَّعِيرِ فَيَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَيْهِ بِالدَّرَاهِمِ وَغَيْرِهَا مُطْلَقًا وَبِشَرْطِ الْقَطْعِ كَمَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُفْرَدًا بِحَالٍ كَالْبَذْرِ قَبْلَ نَبَاتِهِ وَمَا اشْتَدَّ مِنَ الزَّرْعِ إِذَا كَانَ مَسْتُورًا فِي أَكْمَامِهِ كَالْحِنْطَةِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ كَمَا أَنَّ بَيْعَهُ بَاطِلٌ .

وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ فَإِنْ صَالَحَ عَلَيْهِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ صَحَّ الصُّلْحُ ، وَإِنْ صَالَحَ عَلَيْهِ مُطْلَقًا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْأَرْضِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلْمُصَالِحِ بَاذِلِ الْمَالِ أَوْ لَا تَكُونَ . فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْأَرْضُ لَهُ بَطَلَ صُلْحُهُ عَلَى الزَّرْعِ بِغَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ كَمَا يَبْطُلُ بَيْعُهُ بِغَيْرِ اشْتِرَاطِ الْقَطْعِ ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ لَهُ فَفِي صُلْحِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ فَصَارَ كَمُشْتَرِي الزَّرْعِ مَعَ الْأَرْضِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ بَاطِلٌ حَتَّى يُشْتَرَطَ فِيهِ الْقَطْعُ لِأَنَّ عَقْدَ الصُّلْحِ قَدِ انْفَرَدَ بِالزَّرْعِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لِمَا لَمْ يَدْخُلِ فِيهِ مِنَ الْأَرْضِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَ الزَّرْعُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَصَالَحَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى نِصْفِ الزَّرْعِ لَمْ يَجُزْ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَسَّمَ الزَّرْعُ أَخْضَرَ وَلَا يُجْبَرُ شَرِيكُهُ عَلَى أَنْ يَقْلَعَ مِنْهُ شَيْئًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . وَإِذَا كَانَ الزَّرْعُ فِي يَدَيْ رَجُلَيْنِ فَادَّعَاهُ رَجُلٌ فَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ وَصَالَحَهُ الْمُصَدِّقُ عَلَى نِصْفِهِ بِمَالٍ فَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ مِمَّا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ اشْتِرَاطِ الْقَطْعِ كَسُنْبُلِ الشَّعِيرِ وَمَا بَرَزَ مِنَ الْحُبُوبِ الْمُشْتَدَّةِ جَازَ الصُّلْحُ . وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَلْزَمُ اشْتِرَاطُ الْقَطْعِ فِيهِ كَالزَّرْعِ الَّذِي هُوَ بَقْلٌ لَمْ يَشْتَدَّ نُظِرَ فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْأَرْضُ لِلْمُقِرِّ الْمُصَالِحِ فَهَذَا الصُّلْحُ بَاطِلٌ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْقَطْعِ فِي نِصْفِ الزَّرْعِ مُشَاعًا غَيْرُ مُمْكِنٍ وَقِسْمَتُهُ لَا تَلْزَمُ . وَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ لِلْمُقِرِّ الْمُصَالِحِ فَفِي صِحَّةِ الصُّلْحِ وَجْهَانِ : إِنْ قِيلَ إِنَّ اشْتِرَاطَ الْقَطْعِ فِيهِ لَازِمٌ بَطَلَ الصُّلْحُ لِتَعَذُّرِ اشْتِرَاطِهِ فِيهِ ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّ اشْتِرَاطَ الْقَطْعِ فِيهِ غَيْرُ لَازِمٍ صَحَّ الصُّلْحُ . وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الزَّرْعُ كُلُّهُ فِي يَدِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَأَقَرَّ لِمُدَّعِيهِ بِنِصْفِهِ وَصَالَحَهُ عَلَيْهِ كَانَ الصُّلْحُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ بُطْلَانِهِ إِنْ لَمْ تَكُنِ الْأَرْضُ لَهُ ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ لَهُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُصَالِحًا عَلَى نِصْفِهِ مُشَاعًا فَتَعَذَّرَ اشْتِرَاطُ قَطْعِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ وَهُوَ حَسْبِي .
_____كِتَابُ الْحَوَالَةِ _____

الْأَصْلُ فِي جَوَازِ الْحَوَالَةِ

كِتَابُ الْحَوَالَةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْأَصْلُ فِي جَوَازِ الْحَوَالَةِ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ . فَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَرْوِيَّةٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ ثَلَاثَةِ طُرُقٍ رَوَى الشَّافِعِيُّ مِنْهَا طَرِيقَيْنِ وَرَوَى الْعِرَاقِيُّونَ الثَّالِثَ . أَحَدُهَا : مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ فَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ . وَالثَّانِي : مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ وَمَنْ أُتْبِعَ عَلَى مَلِيٍّ فَلْيَتْبَعْ . وَالثَّالِثُ : تَفَرَّدَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ ، فَرَوَاهُ أَبُو بِشْرِ بْنُ أَبِي حُبَيْشٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا أُحِيلَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَحْتَلْ . وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فِيمَا نَحْكِيهِ عَنْ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِيمَا بَعْدُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْحَوَالَةِ أركانها ، فَاعْلَمْ أَنَّهَا لَا تَتِمُّ إِلَّا بِأَرْبَعَةٍ : بِمُحِيلٍ ، وَمُحْتَالٍ ، وَمُحَالٍ عَلَيْهِ وَمُحَالٍ بِهِ . فَأَمَّا الْمُحِيلُ ( من أركان الحوالة ) تعريفه وشرطه فَهُوَ الَّذِي كَانَ الْحَقُّ عَلَيْهِ فَنَقَلَهُ بِالْحَوَالَةِ إِلَى ذِمَّةِ غَيْرِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا لِنَقْلِ الْحَقِّ مِنْ ذِمَّتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَرْهَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهَا لِأَنَّ رِضَاهُ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ ؛ لِأَنَّ

الْحَقَّ إِذَا لَزِمَهُ فَالْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ لَا نَقْلُهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا سُئِلَ نَقْلَ الْحَقِّ إِلَى عَيْنٍ يُعْطِيهَا بَدَلًا مِنَ الْحَقِّ لَمْ يَلْزَمْهُ ، وَكَذَا لَوْ سُئِلَ نَقْلَهُ إِلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى لَمْ يَلْزَمْهُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمُحْتَالُ ( من أركان الحوالة ) تعريفه وشرطه فَهُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ الَّذِي نَقَلَهُ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ إِلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى وَرِضَاهُ بِنَقْلِ الْحَقِّ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْحَوَالَةِ ، وَلَيْسَ قَبُولُهَا وَاجِبًا عَلَيْهِ ، وَقَالَ دَاوُدُ وَأَبُو ثَوْرٍ قَبُولُهَا إِذَا أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُحِيلَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَحْتَلْ ، وَهَذَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ يَدًا وَمَقَالًا فَكَانَ عَامًّا . وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ الَّتِي فِي الذِّمَمِ قَدْ تَنْتَقِلُ تَارَةً إِلَى ذِمَّةٍ بِالْحَوَالَةِ ، وَتَارَةً إِلَى عَيْنٍ بِالْمُعَاوَضَةِ ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ نَقْلَهُ إِلَى الْعَيْنِ لَا يَلْزَمُ إِلَّا بِالتَّرَاضِي ، فَنَقْلُهُ إِلَى الذِّمَّةِ أَوْلَى أَلَّا يَلْزَمَ إِلَّا بِالتَّرَاضِي : لِأَنَّهُ بِنَقْلِهِ إِلَى عَيْنٍ أُخْرَى قَدْ وَصَلَ إِلَى حَقِّهِ ، وَبِنَقْلِهِ إِلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى لَمْ يَصِلْ إِلَى حَقِّهِ ، وَلِأَنَّ مَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ قَدْ يَكُونُ تَارَةً سِلْمًا وَتَارَةً دَيْنًا فَلَمَّا لَمْ يَلْزَمْ قَبُولُ الْحَوَالَةِ فِي السِّلْمِ لَمْ يَلْزَمْ قَبُولُ الْحَوَالَةِ فِي الدَّيْنِ ، أَمَّا الْخَبَرُ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ لِأَنَّهُ وَارِدٌ بَعْدَ حَظْرٍ وَهُوَ نَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمُحَالُ عَلَيْهِ ( من أركان الحوالة ) تعريفه وشرطه فَهُوَ مَنِ انْتَقَلَ الْحَقُّ بِالْحَوَالَةِ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ إِلَى ذِمَّتِهِ ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ رِضَاهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي صِحَّةِ الْحَوَالَةِ ، بَلْ تَتِمُّ بِرِضَا الْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ سَوَاءٌ رَضِيَ بِذَلِكَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ أَمْ لَمْ يَرْضَ ، وَبِهِ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ وَأَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ وَأَبُو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ : الْحَوَالَةُ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِرِضَا الْمُحَالِ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهَا وَلَمْ يَرْضَ بِهَا لَمْ تَصِحَّ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَنْ كَانَ وَجُودُهُ فِي الْحَوَالَةِ شَرْطًا كَانَ رِضَاهُ فِيهَا شَرْطًا كَالْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ . وَلِأَنَّ الدَّيْنَ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ أَصْلًا وَبِالرَّهْنِ فَرْعًا ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يُوَلِّيَ الرَّهْنَ غَيْرَهُ فَأَوْلَى أَلَّا يَكُونَ لَهُ أَنْ يُوَلِّيَ الذِّمَّةَ غَيْرَهُ وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ صَاحِبُ الدَّيْنِ أَسْهَلَ اقْتِضَاءً وَأَسْهَلَ مُعَامَلَةً وَأَسْمَحَ قَبْضًا ، فَلَا يَرْضَى مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِمُعَامَلَةِ غَيْرِهِ : لِأَنَّهُ بِخِلَافِ مُعَامَلَتِهِ ، فَلِذَلِكَ كَانَ بَقَاءُ الدَّيْنِ بِالْحَوَالَةِ مَوْقُوفًا عَلَى قَبُولِهِ ، وَدَلِيلُنَا أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ مَمْلُوكُ الذِّمَّةِ ، فَلَمْ يَكُنْ رِضَاهُ مُعْتَبَرًا فِي نَقْلِ الْمِلْكِ كَبَيْعِ الْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ ، وَلِأَنَّ بِالْحَوَالَةِ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنِ الدَّيْنِ كَالْإِبْرَاءِ . فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ رِضَا الْمُبَرَّأِ مُعْتَبَرًا فِي صِحَّةِ الْبَرَاءَةِ ، لَمْ يَكُنْ رِضَا الْمُحَالِ عَلَيْهِ مُعْتَبَرًا فِي صِحَّةِ الْحَوَالَةِ ، وَلِأَنَّ مَالِكَ الدَّيْنِ مُخَيَّرٌ فِي اسْتِيفَائِهِ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ ، كَالْوَكِيلِ وَكَذَلِكَ بِالْمُحْتَالِ .

فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ فَالْمَعْنَى فِي الْمُحِيلِ أَنَّهُ مَالِكٌ فَكَانَ رِضَاهُ مُعْتَبَرًا فِي زَوَالِ مِلْكِهِ وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ مَمْلُوكٌ ، وَالْمَعْنَى فِي الْمُحْتَالِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَتِمَّ الْبَرَاءَةُ مِنْ دَيْنِهِ إِلَّا بِرِضَاهُ لَمْ تَتِمَّ الْحَوَالَةُ بِهِ إِلَّا عَنْ رِضَاهُ ، وَلَمَّا تَمَّتِ الْبَرَاءَةُ عَنِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ تَمَّتِ الْحَوَالَةُ بِغَيْرِ رِضَاهُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الرَّهْنِ فَهُوَ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَمَّا لَمْ يَمْلِكِ الرَّهْنَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْقُلَهُ إِلَى غَيْرِهِ ، وَلَمَّا كَانَ الْمُحِيلُ مَالِكًا لِلدَّيْنِ جَازَ أَنْ يَنْقُلَهُ إِلَى غَيْرِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَمْ يَرْضَ إِلَّا بِمُعَامَلَتِهِ وَلَا دَخَلَ إِلَّا تَحْتَ مِلْكِهِ ، فَمُنْتَقَضٌ بِالْوَكِيلِ ثُمَّ يُقَالُ هُوَ كَمَنْ قَدْ مُلِكَتْ ذِمَّتُهُ كَالْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ الَّذِي لَا خِيَارَ لَهُ فِي تَمْلِيكِ رَقَبْتِهِ أَشْبَهُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمُحَالُ بِهِ تعريفه وأحواله فَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَتَحَوَّلُ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَلِلْحَقِّ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ لَازِمًا مُسْتَقِرًّا ، وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ غَيْرَ لَازِمٍ وَلَا مُسْتَقِرٍّ ، وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ ، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ لَازِمًا مُسْتَقِرًّا كَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ حكم الحوالة به وَأَثْمَانِ الْمَقْبُوضِ بِعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فَالْحَوَالَةُ بِهِ إِذَا كَانَتْ عَلَى مِثْلِ صِفَتِهِ جَائِزَةٌ فَلَوْ كَانَ الْحَقُّ دَرَاهِمَ هل يَجُزْ أَنْ تَكُونَ الْحَوَالَةُ بِدَنَانِيرَ ؟ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ الْحَوَالَةُ بِدَنَانِيرَ وَلَوْ كَانَ بِصِحَاحٍ ( الحق ) هل يَجُزْ أَنْ تَكُونَ الْحَوَالَةُ بِمُكَسَّرَةٍ ؟ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ الْحَوَالَةُ بِمُكَسَّرَةٍ . وَلَوْ كَانَ حَالًّا ( الحق ) هل يَجُزْ أَنْ يَكُونَ بِمُؤَجَّلٍ ؟ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ بِمُؤَجَّلٍ حَتَّى يُحِيلَهُ بِمِثْلِهِ مِنَ الدَّرَاهِمِ بِدَرَاهِمَ وَفِي الصِّحَاحِ بِصِحَاحٍ ، وَفِي الْحَالِّ بِحَالٍّ ، وَفِي الْمُؤَجَّلِ بِمُؤَجَّلٍ ، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ الْمُسْتَقِرُّ مِنْ غَيْرِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ حكم الحوالة فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِهِ أَمْ لَا ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِهِ كَالْقَرْضِ وَمَا اسْتُهْلِكَ بِالْغَصْبِ فَالْحَوَالَةُ بِهِ جَائِزَةٌ . كَمَا تَجُوزُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِهِ حكم الحوالة كَالسَّلَمِ ، فَقَدْ خَرَّجَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ فِي جَوَازِ الْحَوَالَةِ بِهِ وَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْحَوَالَةِ ، هَلْ هِيَ بَيْعٌ أَوْ عَقْدُ إِرْفَاقٍ ؟ ، فَجَوَّزَ الْحَوَالَةَ بِهِ إِنْ قِيلَ إِنَّهَا عَقْدُ إِرْفَاقٍ وَأَبْطَلَهَا إِنْ قِيلَ إِنَّهَا بَيْعٌ ، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ غَيْرَ لَازِمٍ وَلَا مُسْتَقِرٍّ كَمَالِ الْجَعَالَةِ وَعِوَضِ الْكِتَابَةِ فَالْحَوَالَةُ بِهِ لَا تَصِحُّ لِأَنَّ مَا لَمْ يَجِبْ قَبْلَ الْحَوَالَةِ لَمْ يَصِرْ وَاجِبًا بِالْحَوَالَةِ ، وَإِنْ كَانَ لَازِمًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ كَالثَّمَنِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فَفِي جَوَازِ الْحَوَالَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ تَجُوزُ إِنْ قِيلَ إِنَّهَا عَقْدُ إِرْفَاقٍ وَالثَّانِي : لَا تَجُوزُ إِنْ قِيلَ إِنَّهَا بَيْعٌ . فَأَمَّا وُجُوبُ الْحَقِّ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْحَوَالَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْحَوَالَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْحَوَالَةِ فَمَتَى لَمْ يَكُنْ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْحَقُّ الَّذِي أَحَالَ بِهِ عَلَيْهِ فَالْحَوَالَةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ مِنْ تَحَوُّلِ الْحَقِّ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ وَاجِبًا عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ وَاجِبًا لِلْمُحْتَالِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَصِحُّ وَتَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ لِأَنَّهَا وَثِيقَةٌ فَعَلَى هَذَا لَا تَتِمُّ إِلَّا بِقَبُولِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَلَا رُجُوعَ لَهُ بِالْحَوَالَةِ قَبْلَ أَدَائِهَا ، فَإِنْ أَدَّاهَا بِأَمْرٍ رَجَعَ بِهَا وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرٍ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ صِحَّةَ الْحَوَالَةِ مُعْتَبَرَةٌ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هِيَ بَيْعٌ أَوْ عَقْدُ إِرْفَاقٍ وَمَعُونَةٍ ؟ الحوالة عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ السَّلَمِ أَنَّ الْحَوَالَةَ بَيْعٌ لِأَنَّ الْمُحْتَالَ قَدْ عَاوَضَ عَلَى ذِمَّةٍ بِذِمَّةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا عَقْدُ مَعُونَةٍ وَإِرْفَاقٍ لِأَنَّهَا تَخْرُجُ مِنَ الْبُيُوعِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ . فَإِذَا قِيلَ إِنَّهَا بَيْعٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هِيَ بَيْعُ دَيْنٍ بَدَيْنٍ يَخْتَصُّ بِالشَّرْعِ أَوْ بَيْعُ عَيْنٍ بِدَيْنٍ عَلَى وَجْهَيْنِ : ثُمَّ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَا يَدْخُلُهَا خِيَارُ الثَّلَاثِ ، فَأَمَّا خِيَارُ الْمَجْلِسِ فَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي نَقُولُ إِنَّهَا عَقْدُ مَعُونَةٍ وَإِرْفَاقٍ لَا يَدْخُلُهَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ لِأَنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ مَوْضُوعٌ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَبْنِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ ، وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي نَقُولُ إِنَّهَا عَقْدُ بَيْعٍ فَفِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا : لَا يَدْخُلُ فِيهَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي نَقُولُ إِنَّهَا بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ . وَالثَّانِي : يَدْخُلُ فِيهَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ إِذَا قِيلَ إِنَّهَا بَيْعُ عَيْنٍ بِدَيْنٍ ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ هَلْ يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الرَّهْنِ فِيهَا وَالضَّمَانِ أَمْ لَا ؟ الحوالة فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَصِحُّ إِنْ قِيلَ إِنَّهَا بَيْعُ عَيْنٍ بِدَيْنٍ . وَالثَّانِي : لَا يَصِحُّ إِنْ قِيلَ إِنَّهَا بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ أَنَّ الْحَقَّ يَتَحَوَّلُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَيَبْرَأُ مِنْهُ الْمُحِيلُ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ أَبَدًا كَانَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا أَفْلَسَ أَوْ مَاتَ

مُعْدِمًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا قَبِلَ الْمُحْتَالُ الْحَوَالَةَ فَقَدِ انْتَقَلَ الْحَقُّ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ إِجْمَاعًا فَإِنْ أَفْلَسَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ أَوْ جَحَدَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَالِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُحِيلِ بِشَيْءٍ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لِلْمُحْتَالِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُحِيلِ إِذَا مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا أَوْ جَحَدَ الْحَقَّ حَيًّا ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : يَرْجِعُ عَلَيْهِ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ وَإِذَا أَفْلَسَ حَيًّا وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ خُلَيْدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي إِيَاسٍ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ فِي الْحَوَالَةِ أَوِ الْكَفَالَةِ يَرْجِعُ صَاحِبُهَا لَا تَوَى عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ الْمُسْتَقِرَّةَ فِي الذِّمَمِ قَدْ تَنْتَقِلُ تَارَةً إِلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى بِالْحَوَالَةِ وَتَارَةً إِلَى عَيْنٍ بِالْمُعَاوَضَةِ فَلَمَّا كَانَ تَلَفُ الْعَيْنِ قَبْلَ قَبْضِهَا يُوجِبُ عَوْدَ الْحَقِّ إِلَى الذِّمَّةِ الْأُولَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَلَفُ الذِّمَّةِ قَبْلَ قَبْضِ الْحَقِّ مِنْهَا يُوجِبُ عَوْدَ الْحَقِّ إِلَى الذِّمَّةِ الْأُولَى . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ حَقٌّ انْتَقَلَ مِنَ الذِّمَّةِ إِلَى جِهَةٍ فَاتَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْهَا فَوَجَبَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الذِّمَّةِ الَّتِي كَانَ ثَابِتًا فِيهَا كَالْأَعْيَانِ التَّالِفَةِ قَبْلَ قَبْضِهَا . قَالُوا : وَلِأَنَّ خَرَابَ الذِّمَّةِ لَا يَخْلُو أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْعَيْبِ أَوِ الِاسْتِحْقَاقِ ، فَإِنْ جَرَى مَجْرَى الِاسْتِحْقَاقِ فَقَدْ عَادَ الْحَقُّ إِلَى الذِّمَّةِ الْأُولَى وَإِنْ جَرَى مَجْرَى الْعَيْبِ كَانَ مُخَيَّرًا فِي الرُّجُوعِ إِلَى الذِّمَّةِ الْأُولَى . قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ خَرَابُ الذِّمَّةِ بِالْفَلَسِ يُوجِبُ عِنْدَكُمْ عَوْدَ الْحَقِّ إِلَى الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ كَانَ مَا يُوجِبُ عَوْدَهُ إِلَى الذِّمَّةِ الْأُولَى أَوْلَى وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ فَكَانَ الدَّلِيلُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ دَلِيلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ لَمَا كَانَ لِاشْتِرَاطِ الْمُلَاءَةِ فَائِدَةٌ : لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى حَقِّهِ رَجَعَ فَلَمَّا شَرَطَ الْمُلَاءَةَ عَلِمَ أَنَّ الْحَقَّ قَدِ انْتَقَلَ بِهَا انْتِقَالًا لَا رُجُوعَ لَهُ بِهِ فَاشْتَرَطَ الْمُلَاءَةَ حِرَاسَةً لِحَقِّهِ . وَالدَّلِيلُ الثَّانِي قَوْلُهُ : فَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ فَأَوْجَبَ عُمُومُ الظَّاهِرِ اتِّبَاعَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ أَبَدًا ، أَفْلَسَ أَوْ لَمْ يُفْلِسْ ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لِحَزْنٍ جَدِّ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَالٌ فَأَحَالَهُ بِهِ عَلَى إِنْسَانٍ فَمَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ فَرَجَعَ حَزْنٌ إِلَى عَلِيٍّ ، وَقَالَ : قَدْ مَاتَ مَنْ أَحَلْتَنِي عَلَيْهِ ، فَقَالَ : قَدِ اخْتَرْتَ عَلَيْنَا غَيْرَنَا أَبْعَدَكَ اللَّهُ ، وَلَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا ، فَلَوْ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ لَمَا اسْتَجَازَ عَلِيٌّ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ وَهُوَ فِعْلٌ مُنْتَشِرٌ فِي الصَّحَابَةِ لَا نَعْرِفُ لَهُ مُخَالِفًا .

فَإِنْ عُورِضَ بِحَدِيثِ عُثْمَانَ كَانَ الْجَوَابُ عَنْهُ مَا نَذْكُرُهُ ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ سُقُوطُ الْمُطَالَبَةِ عَمَّنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ مِنْ غَيْرِ بَقَاءِ عَلَقَةٍ يَمْنَعُ مِنْ عَوْدِهِ كَمَا لَوْ سَقَطَ بِقَبْضٍ أَوْ إِبْرَاءٍ ، وَلِأَنَّ تَعَذُّرَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لَا يُوجِبُ فَسْخَ الْحَوَالَةِ كَمَا لَوْ أَفْلَسَ حَيًّا ، وَلِأَنَّ مَنْ لَزِمَهُ حَقٌّ فِي ذِمَّتِهِ فَمَوْتُهُ لَا يُوجِبُ فَسْخَ الْعَقْدِ الَّذِي ثَبَتَ الْحَقُّ لِأَجْلِهِ كَالْمُشْتَرِي بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ إِذَا مَاتَ لَمْ يُوجِبْ مَوْتُهُ فَسْخَ الشِّرَاءِ وَلِأَنَّ انْتِقَالَ الْحَقِّ مِنْ مَحَلٍّ إِلَى مِثْلِهِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالْمُرَاضَاةِ قِيَاسًا عَلَى الْإِبْدَالِ فِي الْأَعْيَانِ وَلِأَنَّ الْحَوَالَةَ بِالْحَقِّ تَجْرِي مَجْرَى الْقَبْضِ بِدَلِيلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ صَرْفٌ يَجُوزُ الِافْتِرَاقُ فِيهِ ، فَلَوْلَا أَنَّهُ قَبَضَ لَبَطَلَ بِالِافْتِرَاقِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُحِيلَ لَوْ مَاتَ جَازَ لِوَرَثَتِهِ الِاقْتِسَامُ بِالتَّرِكَةِ لِبَقَاءِ حَقِّهِ فِيهَا فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْحَقَّ مَقْبُوضٌ ، وَالْحُقُوقُ الْمَقْبُوضَةُ إِذَا تَلِفَتِ الرُّجُوعُ بِهَا كَالْأَعْيَانِ الْمَقْبُوضَةِ وَلِأَنَّ الْحَوَالَةَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ مَعْنَاهُ ، وَهُوَ تُحَوُّلُ الْحَقِّ بِهِ كَمَا أَنَّ الضَّمَانَ مُشْتَقٌّ مِنَ انْضِمَامِ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعُودَ الْحَقُّ بَعْدَ تَحَوُّلِهِ إِلَّا بِمِثْلِ مَا انْتَقَلَ بِهِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ فَمِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا رِوَايَةُ خُلَيْدٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ قُرَّةَ لَمْ يَلْقَ عُثْمَانَ وَالْحَدِيثُ الْمُنْقَطِعُ غَيْرُ لَازِمٍ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَوَالَةِ أَوِ الْكَفَالَةِ فَكَانَ شَكًّا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّ فِي الْكَفَالَةِ يَرْجِعُ وَفِي الْحَوَالَةِ لَا يَرْجِعُ ، وَالشَّكُّ يَمْنَعُ مِنْ تَعْيِينِهِ فِي الْحَوَالَةِ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ لِأَنَّهُ قَالَ لَا تَوَى عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ ، فَيُحْمَلُ أَنَّهُ لَا تَوَى عَلَى مَالِ الْمُحْتَالِ لَيْسَ أَحَدُ الِاسْتِعْمَالَيْنِ أَوْلَى . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْأَعْيَانِ التَّالِفَةِ فَهُوَ أَنَّ الْحَوَالَةَ قَبْضٌ لِلْحَقِّ بِدَلِيلِ مَا مَضَى وَمَا تَلِفَ بَعْدَ قَبْضِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الرُّجُوعَ بِهِ كَالْأَعْيَانِ التَّالِفَةِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا قَالُوا إِنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْعَيْبِ أَوِ الِاسْتِحْقَاقِ فَهُوَ أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَيْبِ وَالْعُيُوبُ الْحَادِثَةُ بَعْدَ الْقَبْضِ لَا تَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِهَا كَالْأَعْيَانِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا أَلْزَمُوهُ عَلَى مَذْهَبِنَا مِنَ الرُّجُوعِ بِعَيْنِ الْمَبِيعِ عِنْدَ فَلَسِ الْمُشْتَرِي ، فَهُوَ أَنَّنَا جَمِيعًا قَدِ اتَّفَقْنَا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُمْ أَوْجَبُوا الرُّجُوعَ فِي الْحَوَالَةِ دُونَ الْمَبِيعِ وَنَحْنُ نُوجِبُ الرُّجُوعَ فِي الْمَبِيعِ دُونَ الْحَوَالَةِ فَهَذَا فَرْقٌ مِنْ حَيْثُ الْإِجْمَاعُ ، ثُمَّ الْفَرْقُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ الْعَلَقَ فِي الْحَوَالَةِ مُنْقَطِعَةٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعُودَ الْحَقُّ فِيهَا وَالْعَلَقُ فِي الْمَبِيعِ بَاقِيَةٌ لِبَقَاءِ عَيْنِهِ فَجَازَ أَنْ يَعُودَ الْحَقُّ إِلَى الْمَبِيعِ بِالْفَلَسِ الْحَادِثِ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " غُرَّ مِنْهُ أَوْ لَمْ يُغَرَّ مِنْهُ . وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِذَا أَفْلَسَ أَوْ مَاتَ مُفْلِسًا رَجَعَ عَلَى الْمُحِيلِ لَمَا صَبَرَ الْمُحْتَالُ عَلَى مَنْ أُحِيلَ لِأَنَّ حَقَّهُ ثَابِتٌ عَلَى الْمُحِيلِ وَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ حَقُّهُ قَدْ تَحَوَّلَ عَنِّي فَصَارَ إِلَى غَيْرِي فَلِمَ يَأْخُذُنِي بِمَا بَرِئْتُ مِنْهُ لِأَنْ أَفْلَسَ غَيْرِي ؟ ! أَوْ لَا يَكُونُ حَقُّهُ تَحَوَّلَ عَنِّي ، فَلِمَ أَبْرَأَنِي مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يُفْلِسَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ ؟ ! وَاحْتَجَّ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بِأَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ فِي الْحَوَالَةِ أَوِ الْكَفَالَةِ : يَرْجِعُ صَاحِبُهَا لَا تَوَى عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ ، وَهُوَ عِنْدِي يَبْطُلُ مِنْ وَجْهَيْنِ ، وَلَوْ صَحَّ مَا كَانَ لَهُ فِيهِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي ، قَالَ ذَلِكَ فِيِ الْحَوَالَةِ أَوِ الْكَفَالَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا أَحَالَهُ بِالْحَقِّ عَلَى رَجُلٍ فَكَانَ وَقْتَ الْحَوَالَةِ مُعْسِرًا الْمُحَالُ عَلَيْهِ لَمْ يَرْجِعِ الْمُحْتَالُ كَمَا لَوْ حَدَثَ إِعْسَارٌ للْمُحَالُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ غَرَّهُ بِذِكْرِ يَسَارِهِ أَوْ لَمْ يَغُرَّهُ ، وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ غَرَّهُ بِذِكْرِ يَسَارِهِ يَرْجِعْ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَغُرَّهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَحْدَهُ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِنَا كُلِّهِمْ ، قَالَ : لِأَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ الْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ بِالْغُرُورِ فِي الْعَيْبِ وَجَبَ أَنْ يَرْجِعَ الْمُحْتَالُ بِالْغُرُورِ فِي الْيَسَارِ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْإِعْسَارَ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الرُّجُوعَ إِذَا لَمْ يَكُنْ غُرُورًا وَكَذَا لَا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ مَعَ الْغُرُورِ وَالْعُيُوبِ ، لَمَّا رَجَعَ بِهَا مَعَ عَدَمِ الْغُرُورِ بِهَا رَجَعَ بِهَا مَعَ الْغُرُورِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ إِعْسَارَ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ قَدْ يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ الْمُحِيلِ فَلِمَ يَكُونُ لَهُ الرُّجُوعُ بِهَا مَعَ الْغُرُورِ ، وَالْعُيُوبُ قَدْ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْبَائِعِ ؟ فَلِذَلِكَ رَجَعَ بِهَا مَعَ الْغُرُورِ فَصَحَّ أَنْ لَا رُجُوعَ لِلْمُحْتَالِ بِإِعْسَارِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ إِعْسَارًا حَادِثًا أَوْ سَالِفًا مَغْرُورًا بِهِ أَوْ غَيْرَ مَغْرُورٍ . مَسَائِلُ الْمُزَنِيِّ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ : " هَذِهِ مَسَائِلُ تَحَرَّيْتُ فِيهَا مَعَانِيَ جَوَابَاتِ الشَّافِعِيِّ فِي الْحِوَالَةِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا مِنْ ذَلِكَ وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَهُ ثُمَّ أَحَالَ الْبَائِعُ بِالْأَلْفِ عَلَى رَجُلٍ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَاحْتَالَ ثُمَّ إِنَّ الْمُشْتَرِيَ وَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَرَدَّهُ بَطَلَتِ الْحَوَالَةُ ، وَإِنْ رَدَّ الْعَبْدَ بَعْدَ أَنْ قَبَضَ الْبَائِعُ مَا احْتَالَ بِهِ رَجَعَ بِهِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ وَكَانَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مِنْهُ بَرِيئًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ إِنَّ الْمُشْتَرِيَ أَحَالَ الْبَائِعَ بِالْأَلْفِ عَلَى رَجُلٍ لِلْمُشْتَرِي عَلَيْهِ أَلْفٌ ، فَكَانَ الْمُشْتَرِي مُحِيلًا وَالْبَائِعُ مُحْتَالًا وَالْأَجْنَبِيُّ مُحَالًا عَلَيْهِ ، وَفِي مَذْهَبِنَا عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْحَوَالَةَ تَتِمُّ بِالْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ وَلَيْسَ رِضَا

الْمُحَالِ عَلَيْهِ شَرْطًا فِيهَا فَصَارَتِ الْحَوَالَةُ هَاهُنَا تَامَّةً بِالْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي . ثُمَّ إِنَّ الْمُشْتَرِيَ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوَالَةِ وَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا مُتَقَدِّمًا فَرَدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ بِعَيْبِهِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْبَائِعِ فِي الْحَوَالَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ قَبَضَ الْأَلْفَ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهَا ، فَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَهَا مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لَمْ تَبْطُلْ بِرَدِّ الْعَبْدِ وَبَرِئَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مِنْهَا لِأَنَّهُ دَفَعَهَا عَنْ أَمْرِ الْمَالِكِ ، وَكَانَ لِلْمُشْتَرِي إِذَا رَدَّ الْعَبْدَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِهَا لِأَنَّ رَدَّ الْمَبِيعِ بِالْعَيْبِ يُوجِبُ اسْتِرْجَاعَ الثَّمَنِ . فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ لَمْ يَقْبِضِ الْحَوَالَةَ قَبْلَ رَدِّ الْمُشْتَرَى عَلَيْهِ الْعَبْدَ بِالْعَيْبِ فَقَدْ قَالَ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا فِي جَامِعِهِ الصَّغِيرِ إِنَّ الْحَوَالَةَ قَدْ بَطَلَتْ . وَهَكَذَا قَالَ فِي حِكَايَةٍ شَاذَّةٍ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ جَامِعِهِ الْكَبِيرِ : الْحَوَالَةُ ثَابِتَةٌ لَا تُبْطِلُ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ طُرُقٍ . أَحَدُهَا : أَنَّ الْحَوَالَةَ بَاطِلَةٌ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي جَامِعِهِ الصَّغِيرِ ، وَجُمْهُورِ النُّسَخِ مِنْ جَامِعِهِ الْكَبِيرِ ، فَإِنَّ مَنْ حَكَى عَنِ الْجَامِعِ صِحَّةَ الْحَوَالَةِ خَاطِئٌ فِي النَّقْلِ . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ تَمَّتْ بِالْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي ، وَقَدِ اتَّفَقْنَا فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ عَلَى إِبْطَالِ سَبَبِهَا فَوَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَسِخَ الْبَيْعُ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَيَكُونَ الْبَائِعُ عَلَى حَقِّهِ مِنَ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ . وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّ الْحَوَالَةَ ثَابِتَةٌ لَا تَبْطُلُ عَلَى الْحِكَايَةِ الشَّاذَّةِ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ وَإِنَّ مَا قَالَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ خَطَأٌ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ وَهَذِهِ أَسْوَأُ الطُّرُقِ . وَكَانَ مِنْ دَلِيلِهِ عَلَى صِحَّتِهَا مَعَ فَسَادِهَا بِالنَّقْلِ الصَّرِيحِ وَبُطْلَانِهَا بِالْحِجَاجِ الصَّحِيحِ أَنْ قَالَ : أَخْذُ الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ حَوَالَةً كَأَخْذِهِ بِالثَّمَنِ عِوَضًا فَلَمَّا كَانَ إِذَا أَخَذَ بِالثَّمَنِ عِوَضًا أَوْ ثَوْبًا ثُمَّ تَرَادَّا بِعَيْبٍ لَمْ يَنْفَسِخْ مِلْكُ الْبَائِعِ عَنِ الْعِوَضِ الَّذِي أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ وَلَزِمَهُ الثَّمَنُ دُونَ الْعِوَضِ ، كَذَلِكَ إِذَا أَخَذَ بِالثَّمَنِ حَوَالَةً لَمْ تَبْطُلِ الْحَوَالَةُ وَكَانَ عَلَيْهِ رَدُّ بَدَلِهَا ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ فَاسِدٌ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ أَنَّ أَخْذَهُ بِالثَّمَنِ عِوَضًا هُوَ عَقْدُ بَيْعٍ ثَانٍ فَلَمْ يَكُنْ فَسْخُ أَحَدِهِمَا مُوجِبًا لِفَسْخِ الْآخَرِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَخْذُ الْحَوَالَةِ بِالثَّمَنِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ وَاحِدٌ فَإِذَا انْفَسَخَ بَطَلَ مَا تَفَرَّعَ عَنْهُ . وَالطَّرِيقُ الثَّالِثَةُ : أَنَّ كِلَا النَّقْلَيْنِ صَحِيحٌ ، وَأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ ، فَالْمَوْضُوعُ الَّذِي أَبْطَلَ الْحَوَالَةَ إِذَا كَانَ رَدُّ الْعَبْدِ قَبْلَ قَبْضِهَا ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا لِأَنَّ الْحَوَالَةَ بَعْدَ قَبْضِهَا قَدِ انْقَطَعَتْ عُلْقَتُهَا وَانْبَرَمَتْ وَلَمْ يَلْحَقْهَا الْفَسَادُ وَهِيَ قَبْلَ قَبْضِهَا مَوْقُوفَةٌ

عَلَيْهِ ، وَأَصَحُّ هَذِهِ الطُّرُقِ إِنْ صَحَّ النَّقْلَانِ مَعًا الطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ النَّقْلَانِ الطَّرِيقَةُ الْأُولَى . فَأَمَّا إِذَا خَرَجَ الْعَبْدُ حُرًّا ، أَوْ مُسْتَحِقًّا فَالْحَوَالَةُ بَاطِلَةٌ عِنْدَ كَافَّةِ أَصْحَابِنَا لِأَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ فَاسِدًا فَلَمْ تَصِحَّ الْحَوَالَةُ بِحَالٍ . وَالطَّرِيقَةُ الرَّابِعَةُ : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ فَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَبْطَلَ الْحَوَالَةَ إِذَا كَانَ الْعَيْبُ مُتَقَدِّمًا فَلَا يَجُوزُ حُدُوثُ مِثْلِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَثْبَتَهَا إِذَا جَازَ حُدُوثُ مِثْلِ الْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَكَانَ الْقَوْلُ فِي حُدُوثِهِ قَوْلَ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ فَنَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ وَرُدَّتْ عَلَى الْمُشْتَرِي وَحَلَفَ وَاسْتَحَقَّ الرَّدَّ ، فَالْحَوَالَةُ ثَابِتَةٌ لَا تَبْطُلُ ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ تَبْطُلُ بِاتِّفَاقِ الْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ كَمَا كَانَ تَمَامُهَا بِهِمَا ، وَإِذَا أَنْكَرَ الْبَائِعُ تَقَدُّمَ الْعَيْبِ صَارَ بُطْلَانُهَا لَوْ أُبْطِلَتْ بِقَوْلِ الْمُحْتَالِ وَحْدَهُ وَهُوَ الْمُشْتَرِي ، وَالْحَوَالَةُ لَا تَبْطُلُ بِقَوْلِهِ وَحْدَهُ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَفِي إِبْطَالِ الْحَوَالَةِ نَظَرٌ ، ( قَالَ ) : وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ أَحَالَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِهَذِهِ الْأَلْفِ رَجُلًا لَهُ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ تَصَادَقَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي أَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي تَبَايَعَاهُ حُرُّ الْأَصْلِ فَإِنَ الْحَوَالَةَ لَا تَنْتَقِضُ لِأَنَّهُمَا يُبْطِلَانِ بِقَوْلِهِمَا حَقًّا لِغَيْرِهِمَا ، فَإِنْ صَدَّقَهُمَا الْمُحْتَالُ أَوْ قَامَتْ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ انْتَقَضَتِ الْحِوَالَةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا أَنْ يَشْتَرِيَ رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا بِأَلْفٍ وَيَكُونُ عَلَى الْبَائِعِ لِرَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ أَلْفٌ فَيُحِيلُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْأَلْفِ الَّتِي لَهُ عَلَيْهِ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ ثُمَّ بَانَ أَن الْعَبْدُ الْمَبِيعُ حُرَّ الْأَصْلِ ، فَيَصِيرُ الْبَائِعُ مُحِيلًا ، وَالْأَجْنَبِيُّ الْغَرِيمُ مُحْتَالًا ، وَالْمُشْتَرِي مُحَالًا عَلَيْهِ ، وَالْحَوَالَةُ عَلَى مَا وَصَفْنَا تَتِمُّ بِالْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ فَتَصِيرُ حِينَئِذٍ هَاهُنَا تَامَّةً بِالْبَائِعِ وَالْغَرِيمِ الْأَجْنَبِيِّ . ثُمَّ إِنِ الْعَبْدُ الْمَبِيعُ بَانَ حُرَّ الْأَصْلِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَقُومَ بِحُرِّيَّتِهِ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ فَتَبْطُلَ الْحَوَالَةُ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ مَقْبُولَةٌ عَلَى الْجَمِيعِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَلَّا تَقُومَ بَيِّنَةٌ وَإِنَّمَا يَتَصَادَقُ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي عَلَى حُرِّيَّتِهِ فَإِنْ صَدَّقَهُمَا الْغَرِيمُ الْأَجْنَبِيُّ عَلَى حُرِّيَّةِ الْعَبْدِ وَأَنَّ الْحَوَالَةَ كَانَتْ بِثَمَنِهِ بَطَلَتِ الْحَوَالَةُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ مَنْ تَمَّتْ بِهِ الْحَوَالَةُ قَدِ اعْتَرَفَ بِبُطْلَانِ الْحَوَالَةِ وَهُوَ الْبَائِعُ الْمُحِيلُ وَالْغَرِيمُ الْمُحْتَالُ ، فَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمَا عَلَى حُرِّيَّةِ الْعَبْدِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ تَمَّتْ بِالْبَائِعِ وَالْغَرِيمِ ، فَلَمْ تَبْطُلْ بِالْبَائِعِ وَحْدَهُ . وَهَكَذَا لَوْ صَدَّقَهُمَا عَلَى حُرِّيَّةِ الْعَبْدِ الَّذِي تَبَايَعَاهُ وَأَنْكَرَ أَنْ تَكُونَ الْحَوَالَةُ بِثَمَنِهِ وَذَكَرَ أَنَّهَا بِمَالِ غَيْرِهِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَرِيمِ أَيْضًا مَعَ يَمِينِهِ وَالْحَوَالَةُ بِحَالِهَا صَحِيحَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ .



فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا رَدَّ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ بِعَيْبٍ وَتَفَاسَخَا الْبَيْعَ فَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمَا الْغَرِيمُ عَلَى أَنَّ الْأَلْفَ ثَمَنُهُ لَمْ تَبْطُلِ الْحَوَالَةُ وَإِنْ صَادَقَهُمَا عَلَى أَنَّ الْأَلْفَ مِنْ ثَمَنِهِ فَإِنْ تَرَادَّا الْبَيْعَ وَتَفَاسَخَا بِالْعَيْبِ مِنْ غَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ لَمْ تَبْطُلِ الْحَوَالَةُ لِأَنَّهَا إِذَا تَمَّتْ لَمْ يَكُنْ فَسْخُهَا مَوْقُوفًا عَلَى خِيَارِ مَنْ لَمْ يَكُنْ تَمَامُهَا مُعْتَبَرًا بِهِ وَإِنْ تَفَاسَخَا بِحُكْمِ حَاكِمٍ فَفِي بُطْلَانِ الْحَوَالَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ لِمَا عَلَّلْنَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تَبْطُلُ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ إِذَا نَفِذَ عَلَى الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْفَسْخِ ارْتَفَعَ حُكْمُ الْعَقْدِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ عَلَقَةٌ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : " وَلَوْ أَحَالَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَضَمِنَهَا ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمُحِيلُ أَنْتَ وَكِيلِي فِيهَا ، وَقَالَ الْمُحْتَالُ بَلْ أَنْتَ أَحَلْتَنِي بِمَالِي عَلَيْكَ وَتَصَادَقَا عَلَى الْحِوَالَةِ وَالضَّمَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالُ مُدَّعٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : فِي رَجُلٍ أَحَالَ رَجُلًا بِأَلْفٍ عَلَى رَجُلٍ ، وَكَانَ لِلْمُحْتَالِ عَلَى الْمُحِيلِ مَالٌ ، وَالْحَوَالَةُ مُطْلَقَةٌ لَمْ يُصَرِّحْ لَهُ الْمُحِيلُ بِأَنَّهَا مِنْ حَقِّكَ ، وَلَا بِأَنَّكَ نَائِبٌ فِي قَبْضِهَا عَنِّي وَلَيْسَتْ مِنْ حَقِّكَ بَلْ أَطْلَقَ لَفْظَ الْحَوَالَةِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمُحِيلُ : أَرَدْتَ الْوَكَالَةَ بِلَفْظِ الْحَوَالَةِ لِتَكُونَ نَائِبًا فِي قَبْضِهَا عَنِّي فَهِيَ لِي فِي يَدِكَ ، وَلَيْسَتْ مِنْ حَقِّكَ ، وَقَالَ الْمُحْتَالُ بَلْ هِيَ حَوَالَةٌ مِنْ حَقِّي ، وَلَسْتُ نَائِبًا فِيهَا عَنْكَ وَلَا وَكِيلًا لَكَ ، فَمَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُحِيلِ لِأَنَّ الْمُحْتَالَ مُدَعًّى عَلَيْهِ يَمْلِكُ الْحَوَالَةَ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُحِيلِ فِي بَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ ، وَصَارَ لَفْظُ الْحَوَالَةِ مُسْتَعَارًا فِي الْوَكَالَةِ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحْتَالِ لِأَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ وَافَقَ دَعْوَاهُ فَكَانَ حَمْلُ الْحُكْمِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا يُخَالِفُهُ ، فَعَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيِّ حَيْثُ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الْمُحِيلِ ، لَا يَخْلُو حَالُ الْمُحْتَالِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ قَبَضَ الْحَوَالَةَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا ؛ لِأَنَّ الْمُحِيلَ وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا الْوَكَالَةَ ، فَالْمُحْتَالُ مُنْكِرُهَا بِادِّعَاءِ الْحَوَالَةِ . فَإِنْ خَالَفَ وَقَبَضَهَا فَهَلْ تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا هَلْ تَكُونُ حَوَالَةً فَاسِدَةً أَوْ وَكَالَةً فَاسِدَةً ؟ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهَا تَكُونُ حَوَالَةً فَاسِدَةً فَعَلَى هَذَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : تَكُونُ وَكَالَةً فَاسِدَةً ، فَعَلَى هَذَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَهَا فَقَدْ بَرِئَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مِنْهَا : لِأَنَّهُ دَفَعَهَا عَنْ إِذْنِ مَالِكِهَا ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً أَوْ تَالِفَةً

فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي يَدِ الْمُحْتَالِ كَانَ لِلْمُحِيلِ انْتِزَاعُهَا مِنْ يَدِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَالِ مَنْعُهُ مِنْهَا إِلَّا أَنْ لَا يَصِلَ إِلَى حَقِّهِ لِمَطْلِهِ إِلَّا بِهَا ، فَيَجُوزُ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَحْبِسَهَا عَلَيْهِ لِيَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنْهَا وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً لَا تَرَاجُعَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْمُحِيلَ يَقُولُ تَلِفَتْ عَلَى مِلْكِي أَمَانَةً فِي يَدِكَ فَهِيَ تَالِفَةٌ مِنْ مَالِي ، وَالْمُحْتَالُ يَقُولُ تَلِفَتْ بَعْدَ أَنْ أَخَذْتُهَا مِنْ حَقِّي فَقَدِ اسْتَوْفَيْتُ حَقِّي مِنْكَ . فَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُحْتَالِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُحْتَالُ قَدْ قَبَضَهَا ، أَوْ لَمْ يَقْبِضْهَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَهَا فَلَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا مِنْ بَعْدُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُحِيلِ لَمْ يُقْبَلْ فِي إِبْطَالِ الْحَوَالَةِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَهَا فَقَدْ بَرِئَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مِنْهَا وَلَيْسَ لِلْمُحِيلِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ بَاقِيَةً أَوْ تَالِفَةً . وَأَمَّا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ : وَلَوْ أَحَالَ رَجُلٌ بِأَلْفٍ وَضَمِنَهَا لَهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ وَضَمِنَهَا لَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ ، وَلَيْسَ ضَمَانُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْحَوَالَةِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمَنْ قَالَ إِنَّ الْحَوَالَةَ تَتِمُّ بِالْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْحَوَالَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ وَالزُّبَيْرِيِّ وَالْإِصْطَخْرِيِّ وَمَنْ قَالَ إِنَّ الْحَوَالَةَ تَتِمُّ بِالْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ وَرِضَا الْمُحَالِ عَلَيْهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي حَوَالَةٍ عَلَى مَنْ لَا حَقَّ عَلَيْهِ لِلْمُحِيلِ ، فَتَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ وَلَا تَصِحُّ إِلَّا بِرِضَاهُ وَقَبُولِهِ .

مَسْأَلَةٌ : ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : " وَلَوْ قَالَ الْمُحْتَالُ أَحَلْتَنِي عَلَيْهِ لِأَقْبِضَهُ لَكَ وَلَمْ تُحِلْنِي بِمَالِي عَلَيْكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَالْمُحِيلُ مُدَّعٍ لِلْبَرَاءَةِ مِمَّا عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا بِعَكْسِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْهَا وَهُوَ أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا بَعْدَ الْحَوَالَةِ الْمُطْلَقَةِ فَقَالَ الْمُحِيلُ أَحَلْتُكَ بِمَالِكِ عَلَيَّ ، وَقَالَ الْمُحْتَالُ بَلْ أَحَلْتَنِي لِأَقْبِضَهُ لَكَ نِيَابَةً عَنْكَ وَحَقِّي بَاقٍ فِي ذِمَّتِكَ ، فَعَلَى مَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ : الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحْتَالِ ؛ لِأَنَّ الْمُحِيلَ مُدَّعٍ لِلْبَرَاءَةِ مِنْ حَقِّهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُحْتَالِ ، وَعَلَى مَذْهَبِ ابْنِ سُرَيْجٍ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ اللَّفْظِ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ ، فَإِذَا قِيلَ بِمَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُحْتَالِ لَا يَخْلُو حَالُ الْحَوَالَةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ قَدْ قُبِضَتْ أَوْ لَمْ تُقْبَضْ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُحْتَالُ قَبَضَهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْبِضَهَا مِنْ بَعْدُ ،

وَرَجَعَ بِحَقِّهِ عَلَى الْمُحِيلِ ، وَهَلْ لِلْمُحِيلِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِهَا لِأَنَّهُ بِادِّعَاءِ الْحَوَالَةِ مُعْتَرِفٌ بِهَا لِلْمُحْتَالِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ بِحَقٍّ قَدِ اعْتَرَفَ بِهِ لِغَيْرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ اعْتِرَافَهُ بِهَا لِلْمُحْتَالِ مَشْرُوطٌ بِسُقُوطِ حَقِّهِ مِنْ ذِمَّتِهِ فَلَمَّا لَمْ يَسْقُطْ مِنْ ذِمَّتِهِ كَانَ مَالُ الْحَوَالَةِ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ فَيَرْجِعُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُحْتَالُ قَدْ قَبَضَ الْحَوَالَةَ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً ، أَوْ تَالِفَةً ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فَهِيَ فِي الْحُكْمِ عَلَى مِلْكِ الْمُحِيلِ ، وَيُقَالُ لِلْمُحْتَالِ اسْتَوْفِ حَقَّكَ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ ادِّعَاءَ الْمُحِيلِ أَنَّهُ أَحَالَهُ بِهَا مِنْ حَقِّهِ إِذْنٌ مِنْهُ بِقَبْضِهَا مِنْ حَقِّهِ . وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً كَانَ تَلَفُهَا مِنْ مَالِ الْمُحِيلِ ، وَحَقُّ الْمُحْتَالِ بَاقٍ فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ ، وَلَيْسَ لِلْمُحِيلِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْحَوَالَةِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ دَفَعَهَا بِإِذْنِهِ . وَإِذَا قِيلَ بِمَذْهَبِ ابْنِ سُرَيْجٍ ، إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُحِيلِ نُظِرَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَ الْحَوَالَةَ فَلَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا الْآنَ ، وَلَا يَكُونُ إِنْكَارُهُ لَهَا مِنْ قَبْلُ بِمَانِعٍ لِقَبْضِهَا مِنْ بَعْدُ ، وَيَصِيرُ كَالْمُبْتَدِئِ لَهَا بَعْدَ الْخِلَافِ . وَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَهَا فَقَدِ اسْتَقَرَّتْ وَبَرِئَ الْمُحِيلُ مِنْهَا ، سَوَاءٌ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي يَدِهِ أَوْ تَالِفَةً .

فَصْلٌ : وَيَتَفَرَّعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ الْمُزَنِيِّ وَابْنِ سُرَيْجٍ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَرْعَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقُولَ ضَمِنْتُ لَكَ مَالَكَ عَلَى فُلَانٍ ، عَلَى أَنَّهُ بَرِئَ مِنْهُ ، فَعَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ يَصِحُّ هَذَا ، وَتَكُونُ حَوَالَةً بِلَفْظِ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ مُسْتَعَارَةٌ . وَعَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِ ابْنِ سُرَيْجٍ يَكُونُ ضَمَانًا بَاطِلًا اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ اللَّفْظِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَقُولَ قَدْ أَحَلْتُكَ عَلَى زَيْدٍ ، عَلَى أَنَّنِي ضَامِنٌ لِلْمَالِ حَتَّى تَقْبِضَهُ ، فَعَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ يَكُونُ هَذَا ضَمَانًا بِلَفْظِ الْحَوَالَةِ ، فَيَصِحُّ إِذَا قَبِلَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ مُسْتَعَارَةٌ ، وَعَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِ ابْنِ سُرَيْجٍ تَكُونُ حَوَالَةً فَاسِدَةً اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ اللَّفْظِ وَمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ فَسَادِ الشَّرْطِ .

مَسْأَلَةٌ وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَحَالَهُ الْمَطْلُوبُ بِهَا عَلَى رَجُلٍ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَحَالَهُ بِهَا الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ عَلَى ثَالِثٍ

مَسْأَلَةٌ : ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : " وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَحَالَهُ الْمَطْلُوبُ بِهَا

عَلَى رَجُلٍ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَحَالَهُ بِهَا الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ عَلَى ثَالِثٍ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهِمٍ بَرِئَ الْأَوَّلَانِ وَكَانَتْ لِلطَّالِبِ عَلَى الثَّالِثِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا أُحِيلَ بِدَيْنِهِ عَلَى رَجُلٍ ، ثُمَّ إِنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ أَحَالَهُ بِذَلِكَ عَلَى ثَالِثٍ ، وَأَحَالَهُ الثَّالِثُ عَلَى رَابِعٍ ، صَحَّ ذَلِكَ وَجَازَ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ كَالْمُعَاوَضَةِ وَهَكَذَا لَوْ أُحِيلَ بِدَيْنِهِ عَلَى رَجُلٍ ، ثُمَّ أَحَالَ الْمُحْتَالُ بِذَلِكَ الدَّيْنِ غَيْرَهُ ، وَأَحَالَ ذَلِكَ الْغَيْرُ لِثَالِثٍ ، وَأَحَالَ الثَّالِثُ رَابِعًا جَازَ أَيْضًا ، فَيَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِنَقْلِ الْحَقِّ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ وَالْمُحْتَالُ وَاحِدٌ ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْحَقُّ لَا يَنْتَقِلُ فِي ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ اسْتِحْقَاقُهُ مِنْ مُحْتَالٍ إِلَى مُحْتَالٍ ، وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ وَاحِدٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
_____كِتَابُ الضَّمَانِ _____

الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الضَّمَانِ وَصِحَّتِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ

كِتَابُ الضَّمَانِ تَحَرَّيْتُ فِيهِ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَقِيَاسَ قَوْلِهِ :

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ : " قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ [ يُوسُفَ : 72 ] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ [ الْقَلَمِ : 40 ] وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ " وَالزَّعِيمُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْكَفِيلُ ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِيِ سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنَازَةٍ فَلَمَّا وُضِعَتْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ عَلَى صَاحِبِكُمْ مِنْ دَيْنٍ ؟ فَقَالُوا : نَعَمْ دِرْهَمَانِ ، قَالَ " صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ " فَقَالَ عَلِيٌّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا لَهُمَا ضَامِنٌ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ " جَزَاكَ اللَّهُ عَنِ الْإِسْلَامِ خَيْرًا وَفَكَّ رِهَانَكَ كَمَا فَكَكْتَ رِهَانَ أَخِيكَ " ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ أَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ لَزِمَ غَيْرَهُ بِأَنْ ضَمِنَهُ وَرَوَى الشَّافِعِيُّ فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ " ذَكَرَ مِنْهَا رَجُلًا تَحَمَّلَ بِحَمَالَةٍ فَحَلَّتِ الصَّدَقَةُ ( قُلْتُ أَنَا ) فَكَانَتِ الصَّدَقَةُ مُحَرَّمَةً قَبْلَ الْحَمَالَةِ فَلَمَّا تَحَمَّلَ لَزِمَهُ الْغُرْمُ بِالْحَمَالَةِ فَخَرَجَ مِنْ مَعْنَاهُ الْأَوَّلِ إِلَى أَنْ حَلَّتْ لَهُ الصَّدَقَةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الضَّمَانُ فَهُوَ أَخْذُ الْوَثَائِقِ فِي الْأَمْوَالِ ؛ لِأَنَّ الْوَثَائِقَ ثَلَاثَةٌ : الشَّهَادَةُ وَالرَّهْنُ وَالضَّمَانُ . وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الضَّمَانِ وَصِحَّتِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ، فَأَمَّا الْكِتَابُ : فَقَوْلُهُ تَعَالَى : قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ [ يُوسُفَ : 72 ] فَإِنْ قِيلَ : فَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ لَا يَصِحُّ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا حِكَايَةُ حَالٍ مُحَرَّفَةٍ وَنَقْلُ قِصَّةٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ ؛ لِأَنَّ الصُّوَاعَ لَمْ يُفْقَدْ وَالْقَوْمَ لَمْ يَسْرِقُوا ، وَإِذَا كَانَ مَوْضُوعًا كَذِبًا كَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا فَاسِدًا . فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِ الْمُنَادِي ، وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ بِمَا فَعَلَ يُوسُفُ ، فَلَمَّا فُقِدَ الصُّوَاعُ ظَنَّ أَنَّهُمْ قَدْ سَرَقُوهُ فَنَادَى بِهَذَا وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ يُوسُفَ فَعَلَ ذَلِكَ عُقُوبَةً لِإِخْوَتِهِ فَخَرَجَ مِنْ بَابِ الْكَذِبِ إِلَى حَدِّ الْعُقُوبَةِ وَالتَّأْدِيبِ ، ثُمَّ رَغَّبَ النَّاسَ فِيمَا بَذَلَهُ لَهُمْ ، بِمَا قَدِ اسْتَقَرَّ عِنْدَهُمْ لُزُومُهُ وَوُجُوبُهُ ؛ لِيَكُونَ أَدْعَى إِلَى طِلْبَتِهِمْ وَتَحْقِيقِ الْقَوْلِ عَلَيْهِمْ زِيَادَةً فِي عُقُوبَتِهِمْ . وَالسُّؤَالُ الثَّانِي : أَنَّ الْآيَةَ تَنَاوَلَتْ ضَمَانَ مَالٍ مَجْهُولٍ ؛ لِأَنَّ حِمْلَ الْبَعِيرِ مَجْهُولٌ وَضَمَانُ الْمَجْهُولِ بَاطِلٌ . فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حِمْلَ الْبَعِيرِ كَانَ عِنْدَهُمْ عِبَارَةً عَنْ قَدْرٍ مَعْلُومٍ كَالْوَسْقِ كَانَ مَوْضُوعًا لِحِمْلِ النَّاقَةِ ثُمَّ صَارَ مُسْتَعْمَلًا فِي قَدْرٍ مَعْلُومٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : جَوَازُ الضَّمَانِ . وَالثَّانِي : صِحَّتُهُ فِي الْقَدْرِ الْمَجْهُولِ ، فَلَمَّا خَرَجَ بِالدَّلِيلِ ضَمَانُ الْمَجْهُولِ كَانَ الْبَاقِي عَلَى مَا اقْتَضَاهُ التَّنْزِيلُ . وَالسُّؤَالُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ ضَمَانُ مَالِ الْجَعَالَةِ ، وَضَمَانُ مَالِ الْجَعَالَةِ بَاطِلٌ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّ أَصْحَابَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ ضَمَانِ مَالِ الْجَعَالَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ ضَمَانُهُ فَعَلَى هَذَا سَقَطَ السُّؤَالُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَمْتَنِعُ قِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَى فَسَادِ ضَمَانِ مَالِ الْجَعَالَةِ مِنَ التَّعَلُّقِ بِبَاقِي الْآيَةِ ، وَقَالَ تَعَالَى : سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ [ الْقَلَمِ : 40 ] وَهَذَا وَإِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ التَّحَدِّي فَهُوَ دَالٌّ عَلَى جَوَازِ الضَّمَانِ وَالَزَّعِيمُ الضَّمِينُ وَكَذَلِكَ الْكَفِيلُ وَالْحَمِيلُ وَالصَّبِيرُ ، وَمَعْنَى جَمِيعِهَا وَاحِدٌ غَيْرَ أَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِأَنَّ الضَّمِينَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَمْوَالِ ، وَالْحَمِيلَ فِي الدِّيَاتِ ، وَالْكَفِيلَ فِي النُّفُوسِ ، وَالزَّعِيمَ فِي الْأُمُورِ الْعِظَامِ ، وَالصَّبِيرَ فِي الْجَمِيعِ ، وَإِنْ كَانَ الضَّمَانُ يَصِحُّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَيَلْزَمُ . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ شُرَحْبِيلَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

يَقُولُ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ، لَا تُنْفِقُ الْمَرْأَةُ شَيْئًا مِنْ بَيْتِهَا إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الطَّعَامَ ، قَالَ : " ذَلِكَ أَفْضَلُ أَمْوَالِنَا " ، ثُمَّ قَالَ : الْعَارِيَةُ مَضْمُونَةٌ مُؤَدَّاةٌ ، وَالْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ . وَرَوَى زَائِدَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنَّا فَغَسَّلْنَاهُ ثُمَّ كَفَّنَّاهُ ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ ، فَخَطَا خَطْوَةً ، ثُمَّ قَالَ : أَعَلَيْهِ دَيْنٌ ؟ قُلْنَا : دِينَارَانِ ، فَانْصَرَفَ فَتَحَمَّلَهَا أَبُو قَتَادَةَ ، وَقَالَ : عَلَيَّ الدِّينَارَانِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَعَلَيْكَ حَقُّ الْغَرِيمِ ، وَبَرِئَ الْمَيِّتُ مِنْهُ ، قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَصَلَّى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ : مَا فَعَلَ الدِّينَارَانِ ؟ ، قَالَ : إِنَّمَا مَاتَ أَمْسِ ، ثُمَّ عَادَ عَلَيْهِ بِالْغَدِ ، فَقَالَ : قَدْ قَضَيْتُهَا ، قَالَ الْآنَ بَرَدَتْ عَلَيْهِ جِلْدُهُ ، وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةٍ فَلَمَّا وُضِعَتْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلْ عَلَى صَاحِبِكُمْ مِنْ دَيْنٍ ، قَالُوا : نَعَمْ دِرْهَمَانِ ، قَالَ : صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَأَنَا لَهُمَا ضَامِنٌ ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ فَقَالَ : جَزَاكَ اللَّهُ عَنِ الْإِسْلَامِ خَيْرًا ، وَفَكَّ رِهَانَكُ كَمَا فَكَكْتَ رِهَانَ أَخِيكَ ، وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا لَزِمَ غَرِيمًا لَهُ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ ، وَحَلَفَ لَا يُفَارِقُهُ حَتَّى يَقْضِيَهُ ، أَوْ يَأْتِيَهُ بِحَمِيلٍ ، فَجَرَّهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا لَزِمَنِي فَاسْتَنْظَرْتُهُ شَهْرًا فَأَبَى حَتَّى آتِيَهُ بِحَمِيلٍ ، أَوْ أَقْضِيَهُ فَوَاللَّهِ مَا أَجِدُ حَمِيلًا وَمَا عِنْدِي قَضَاءٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلْ تَسْتَنْظِرُهُ إِلَّا شَهْرًا ، قَالَ : لَا ، قَالَ : فَأَنَا أَتَحَمَّلُ بِهَا عَنْكَ فَتَحَمَّلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَذَهَبَ الرَّجُلُ فَأَتَاهُ بِقَدْرِ مَا وَعَدَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا الذَّهَبُ ؟ قَالَ مِنْ مَعْدِنٍ ، قَالَ : اذْهَبْ فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيهَا لَيْسَ فِيهَا خَيْرٌ وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَرَوَى عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ : صَلِّ عَلَيْهَا ، فَقَالَ أَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ ؟ قَالُوا نَعَمْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا يَنْفَعُكَ أَنْ أُصَلِّيَ عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ مُرْتَهَنٌ فِي قَبْرِهِ فَلَوْ ضَمِنَ رَجُلٌ دَيْنَهُ قُمْتُ فَصَلَّيْتُ عَلَيْهِ فَإِنَّ صَلَاتِي تَنْفَعُهُ . وَرَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْمُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ ، فَيَسْأَلُ : هَلْ تَرَكَ قَضَاءً ؟ فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ وَفَاءً صَلَّى عَلَيْهِ ، وَإِلَّا قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ : صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ ، قَامَ فَقَالَ : أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ مَنْ تُوُفِّيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ . وَفِي قَوْلِهِ " مَنْ تَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ " تَأْوِيلَانِ :

أَحَدُهُمَا : مَعْنَاهُ مَنْ تَرَكَ دَيْنًا عَلَيْهِ وَلَا قَضَاءَ فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ مِنْ مَالَ الصَّدَقَاتِ وَسَهْمِ الْغَارِمِينَ ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ . وَالثَّانِي : مَعْنَاهُ : مَنْ تَرَكَ دَيْنًا لَهُ وَمَالًا فَعَلَيَّ اقْتِضَاءُ الدَّيْنِ وَاسْتِخْرَاجُهُ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ حَتَّى يَصِيرَ مَعَ مَالِهِ الَّذِي تَرَكَهُ إِلَى وَرَثَتِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ كَانَ يَمْتَنِعُ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ إِذَا مَاتَ مُعْسِرًا ، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنَ الصَّلَاةِ إِذَا مَاتَ مُوسِرًا ؟ وَالْمُعْسِرُ فِي الظَّاهِرِ مَعْذُورٌ ، وَالْمُوسِرُ غَيْرُ مَعْذُورٍ ؟ ، قِيلَ : لِأَنَّ الْمُوسِرَ يُمْكِنُ قَضَاءُ دَيْنِهِ مِنْ تَرِكَتِهِ وَالْمُعْسِرُ لَا يُمْكِنُ قَضَاءُ دَيْنِهِ ، وَقَدْ قَالَ : نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى ، فَلَمَّا كَانَ مُرْتَهَنًا بِدَيْنِهِ لَمْ تَنْفَعْهُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَلَا الدُّعَاءُ لَهُ إِلَّا بَعْدَ قَضَائِهِ ، وَقِيلَ : بَلْ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ زَجْرًا عَنْ أَنْ يَتَسَرَّعَ النَّاسُ إِلَى أَخْذِ الدُّيُونِ لِيَكُفُّوا عَنْهَا ، وَقِيلَ : بَلْ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِيُرَغِّبَ النَّاسَ فِي قَضَاءِ دَيْنِ الْمُعْسِرِ فَلَا يَضِيعَ لِأَحَدٍ دَيْنٌ وَلَا يَبْقَى عَلَى مُعْسِرٍ دَيْنٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الضَّمَانِ أركانه بِمَا ذَكَرْنَاهُ ، فَالضَّمَانُ يَتِمُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ : بِضَامِنٍ وَمَضْمُونٍ لَهُ وَمَضْمُونٍ عَنْهُ وَمَضْمُونٍ فِيهِ . وَالْمُغَلَّبُ فِيهِ الضَّامِنُ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَازِمٌ مِنْ جِهَةِ الضَّامِنِ دُونَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْحَقِّ الَّذِي ضَمِنَهُ فِي جِنْسِهِ وَصِفَتِهِ وَقَدْرِهِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَحْتَاجُ الضَّامِنُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَضْمُونِ لَهُ ، وَالْمَضْمُونِ عَنْهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَتِهِمَا جَمِيعًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا وَأَبَا قَتَادَةَ ضَمِنَا عَمَّنْ عَرَفَاهُ وَلِمَنْ لَا يَعْرِفَاهُ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ [ يُوسُفَ : 72 ] وَمَنْ يَجِيءُ بِهِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الضَّمَانُ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ الْمَضْمُونِ لَهُ ، وَالْمَضْمُونِ عَنْهُ ، وَهُوَ : مَذْهَبُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيِّ لِأَنَّهُ لَمَّا لَزِمَ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ لَزِمَ مَعْرِفَةُ مَنْ عَلَيْهِ وَلَهُ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُعَامِلًا لِلْمَضْمُونِ لَهُ مُنْفَصِلًا عَنِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ فَاحْتَاجَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَضْمُونِ لَهُ لِيَعْرِفَ حُسْنَ مُعَامَلَتِهِ وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ لِيَعْرِفَ هَلْ هُوَ مَوْضِعٌ لِمَا يَفْعَلُ بِهِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَضْمُونِ لَهُ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ مُنْقَطِعَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَالْمُعَامَلَةُ بَاقِيَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَضْمُونِ لَهُ فَاحْتَاجَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الْمَضْمُونِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَضْمُونَ الْأَصْلِ أَوْ غَيْرَ مَضْمُونِ الْأَصْلِ ، فَإِذَا كَانَ غَيْرَ

مَضْمُونِ الْأَصْلِ كَالْوَدَائِعِ وَالشِّرَكِ وَالْمُضَارَبَاتِ فَضَمَانُهُ بَاطِلٌ لِأَنَّ ضَمَانَ أَصْلِهِ غَيْرُ لَازِمٍ ، وَإِنْ كَانَ مَضْمُونَ الْأَصْلِ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا فِي الذِّمَّةِ أَوْ عَيْنًا قَائِمَةً فَإِنْ كَانَ حَقًّا فِي الذِّمَّةِ صَحَّ ضَمَانُهُ عَلَى مَا سَنَشْرَحُهُ فِي اسْتِقْرَارِ لُزُومِهِ وَإِنْ كَانَ عَيْنًا قَائِمَةً كَالْمَغْصُوبِ ، وَالْعَوَارِي ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ ضَمَانَهَا بَاطِلٌ إِلَّا أَنْ تَتْلَفَ فَيَسْتَقِرَّ غُرْمُهَا فِي الذِّمَّةِ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ ضَمَانُ الْأَعْيَانِ جَائِزٌ كَضَمَانِ مَا فِي الذِّمَمِ ؛ لِأَنَّ كِلَاهُمَا حَقٌّ قَدْ لَزِمَ وَحَكَاهُ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْعَيْنَ إِذَا كَانَتْ بَاقِيَةً فَالْوَاجِبُ رَدُّهَا ، وَذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَعْجِزُ عَنْهُ الضَّامِنُ ، فَإِنْ تَلِفَتْ لَزِمَ غُرْمُ قِيمَتِهَا وَذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَضْمَنْهُ الضَّامِنُ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْجَهَالَةِ . فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَكُونُ ضَمَانُ الْأَعْيَانِ بَاطِلًا وَلَا يَلْزَمُ الضَّامِنَ مُطَالَبَةٌ بِسَبَبِهَا ، وَعَلَى مَذْهَبِ ابْنِ سُرَيْجٍ الضَّمَانُ لَهَا لَازِمٌ وَيُؤْخَذُ الضَّامِنُ بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ مَا كَانَتْ بَاقِيَةً ، فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهَا صَارَ كَالْمُعْسِرِ بِالْحَقِّ يُؤَخَّرُ بِهِ إِلَى حِينِ قُدْرَتِهِ ، فَإِنْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ فَقَدْ خَرَّجَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي ذَلِكَ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ بَطَلَ كَمَنْ كَفَلَ بِنَفْسٍ فَتَلِفَتْ وَبَطَلَتِ الْكَفَالَةُ لِفَوَاتِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الضَّمَانُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الضَّمَانَ يَنْتَقِلُ إِلَى الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَقُومُ مَقَامَ الْعَيْنِ عِنْدَ تَلَفِهَا وَلَا تَمْنَعُ جَهَالَةُ قَدْرِهَا مِنْ لُزُومِ ضَمَانِهَا لِأَنَّهَا تَفَرَّعَتْ عَنْ أَصْلٍ مَعْلُومٍ ، وَخَالَفَتِ الْكَفَالَةَ لِأَنَّ تَلَفَ النَّفْسِ لَا يَنْقُلُهَا إِلَى بَدَلٍ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَلَا يَصِحُّ الضَّمَانُ إِلَّا بِلَفْظٍ مَسْمُوعٍ يُخَاطِبُ بِهِ الضَّامِنُ أَحَدَ أَرْبَعَةِ أَنْفُسٍ ، إِمَّا أَنْ يُخَاطِبَ بِهِ الْمَضْمُونَ لَهُ فَيَقُولَ قَدْ ضَمِنْتُ لَكَ عَنْ فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ يُخَاطِبَ وَكِيلَ الْمَضْمُونِ لَهُ أَوْ يُقِرَّ بِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَوْ عِنْدَ شَاهِدٍ ، فَإِنْ خَاطَبَ بِهِ مَنْ سِوَى هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَيْئًا ، وَإِنَّمَا اخْتُصَّ بِخِطَابِ أَحَدِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ لَهُ صَاحِبُ الْوَثِيقَةِ وَمُسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةِ ، فَكَانَ عَقْدُ الضَّمَانِ مَعَهُ أَوْ كَسِبَهُ وَأَمَّا وَكِيلُ الْمَضْمُونِ لَهُ فَلِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَهُ ، وَأَمَّا الْحَاكِمُ فَلِأَنَّهُ مُسْتَوْفِي الْحُقُوقِ ، وَالنَّائِبُ عَنِ الْغَائِبِ ، وَلِأَنَّ عَلِيًّا وَأَبَا قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ضَمِنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَاطَبَاهُ فَأَمْضَاهُ ، وَأَمَّا الشَّاهِدُ فَلِأَنَّهُ مِمَّنْ يُحْفَظُ بِهِ الْحُقُوقُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ خَاطَبَهُ الْمَضْمُونُ لَهُ فَتَمَامُ الضَّمَانِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْمَضْمُونِ لَهُ ، وَهَلْ يَكُونُ مَشْرُوطًا بِقَبُولِهِ أَوْ رِضَاهُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ تَمَامَ الضَّمَانِ مَشْرُوطٌ بِقَبُولِ الْمَضْمُونِ لَهُ فِي الْحَالِ لَفْظًا ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ عُقَدُ وَثِيقَةٍ يَفْتَقِرُ إِلَى لَفْظِ الضَّامِنِ بِالضَّمَانِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَفْتَقِرَ

إِلَى قَبُولِ الْمُرْتَهِنِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ تَرَاخَى الْقَبُولُ لَمْ يَصِحَّ الضَّمَانُ كَمَا لَا يَصِحُّ بِتَرَاخِي الْقَبُولِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي إِفْصَاحِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي حَكَاهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ أَنَّ رِضَا الْمَضْمُونِ لَهُ شَرْطٌ فِي لُزُومِ الضَّمَانِ ، وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُولِ بِاللَّفْظِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَوْ كَانَ كَسَائِرِ الْعُقُودِ فِي أَنَّهُ مَشْرُوطٌ بِالْقَبُولِ لَكَانَ مُوَاجَهَةُ الْمَضْمُونِ لَهُ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَضْمَنَ لَهُ مَعَ غَيْبَتِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْقَبُولِ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَقَدْ ضَمِنَ عَلِيٌّ وَأَبُو قَتَادَةَ ( رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا ) دَيْنَ الْمَيِّتِ مَعَ غَيْبَةِ صَاحِبِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الرِّضَا دُونَ الْقَبُولِ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا رَضِيَ الْمَضْمُونُ لَهُ بِالضَّمَانِ بِقَوْلٍ صَرِيحٍ أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا فِي مَجْلِسِ الضَّمَانِ جَازَ ، وَإِنْ تَرَاضَيَا عَنْ مَالِ الضَّمَانِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الرِّضَا بِالضَّمَانِ حَتَّى فَارَقَ الْمَجْلِسَ فَلَا ضَمَانَ ، وَلِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ فِي ضَمَانِهِ فَلَا رُجُوعَ لِلضَّامِنِ فِيهِ : لِأَنَّهُ قَدْ تَمَّ وَلَزِمَ . فَهَذَا حُكْمُ الضَّمَانِ إِذَا خُوطِبَ بِهِ الْمَضْمُونُ لَهُ فَأَمَّا إِذَا خُوطِبَ بِهِ وَكِيلُ الْمَضْمُونِ لَهُ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الضَّامِنُ لِلْوَكِيلِ قَدْ ضَمِنْتُ لِمُوَكِّلِكَ فَلَانِ بْنِ فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَنْ فُلَانٍ ، فَيُنْظَرُ فِي الْوَكِيلِ ، فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي أَخْذِ الضَّمَانِ تَمَّ الضَّمَانُ بِقَبُولِ الْوَكِيلِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَبِرِضَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي ، وَلَا يَكُونُ تَمَامُهُ مَوْقُوفًا عَلَى الْمَضْمُونِ لَهُ ، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُوَلًّى عَلَيْهِ بِصِغَرٍ ، أَوْ جُنُونٍ ، أَوْ سَفَهٍ ، وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ فِي أَخْذِ الضَّمَانِ كَانَ تَمَامُ الضَّمَانِ مَوْقُوفًا عَلَى عِلْمِ الْمُوَكِّلِ ، ثُمَّ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ قَبُولِهِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ أَوْ رِضَاهُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي . فَهَذَا حُكْمُ الضَّمَانِ إِذَا خُوطِبَ بِهِ وَكِيلُ الْمَضْمُونِ لَهُ ، فَأَمَّا إِذَا خُوطِبَ بِهِ الْحَاكِمُ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الضَّامِنُ لِلْحَاكِمِ قَدْ ضَمِنْتُ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ عَنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِيَرْجِعَ عَلَيْهِ . فَإِنْ كَانَ الْمَضْمُونُ لَهُ مُوَلًّى عَلَيْهِ لِصِغَرٍ ، أَوْ سَفَهٍ ، أَوْ جُنُونٍ ، أَجَازَ الْحَاكِمُ ضَمَانَهُ فَإِذَا أَجَازَ صَارَ تَامًّا بِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَضْمُونُ رَشِيدًا لَا يُوَلَّى عَلَيْهِ كَانَ تَمَامُهُ مَوْقُوفًا عَلَى عِلْمِهِ ، ثُمَّ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ قَبُولِهِ أَوْ بِرِضَائِهِ ، وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُجِيزَ الضَّمَانَ عَلَيْهِ . وَإِنْ كَانَ الضَّمَانُ وَثِيقَةً لَهُ : لِأَنَّهُ عَقْدٌ فَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِهِ مَعَ سَلَامَةِ حَالِهِ ، فَهَذَا حُكْمُ الضَّمَانِ إِذَا خُوطِبَ بِهِ الْحَاكِمُ ، فَأَمَّا إِذَا خُوطِبَ بِهِ شَاهِدٌ أَشْهَدَهُ بِالضَّامِنِ عَلَى نَفْسِهِ بِالضَّمَانِ ، فَقَالَ : قَدْ ضُمَّتْ لِفُلَانٍ عَنْ فُلَانٍ أَلْفٌ فَاشْهَدْ عَلَيَّ أَوْ لَمْ يَقُلْ فَاشْهَدْ عَلَيَّ فَتَمَامُ هَذَا الضَّمَانِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْمَوْقُوفِ لَهُ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُوَلًّى عَلَيْهِ ، أَوْ عَلَى وَلِيِّهِ إِنْ كَانَ مُوَلًّى عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ لِلشَّاهِدِ أَنْ يُجِيزَ الضَّمَانَ عَلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْحَاكِمِ ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ لَا وِلَايَةَ لَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ إِذَا ضَمِنَ رَجُلٌ عَنْ رَجُلٍ حَقًّا فَلِلْمَضْمُونِ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ : " وَإِذَا ضَمِنَ رَجُلٌ عَنْ رَجُلٍ حَقًّا فَلِلْمَضْمُونِ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، الضَّمَانُ وَثِيقَةُ الْمَالِ لَا يَنْتَقِلُ مِنْ ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ إِلَّا بِالْأَدَاءِ وَلِلْمَضْمُونِ لَهُ مُطَالَبَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الضَّامِنِ وَالْمَضْمُونِ عَنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَقَّهُ مِنْ أَحَدِهِمَا فَيَبْرَأَانِ مَعًا ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَدَاوُدُ قَدِ انْتَقَلَ الْحَقُّ بِالضَّمَانِ مِنْ ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ إِلَى ذِمَّةِ الضَّامِنِ كَالْحَوَالَةِ . وَقَالَ زُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ الْحَوَالَةُ كَالضَّمَانِ لَا يَنْتَقِلُ بِهَا الْحَقُّ ، وَاسْتَدَلَّ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَنْ تَابَعَهُ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ يَنْتَقِلُ بِالضَّمَانِ كَالْحَوَالَةِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ " فَلَمَّا خَصَّهُ بِالْغُرْمِ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ بَرِيئًا مِنَ الْغُرْمِ وَبِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ لَمَّا ضَمِنَ دَيْنَ الْمَيِّتِ صَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ لَعَلِيٍّ : جَزَاكَ اللَّهُ عَنِ الْإِسْلَامِ خَيْرًا وَفَكَّ رِهَانَكَ كَمَا فَكَكْتَ رِهَانَ أَخِيكَ ، فَكَانَ فِي هَذَا الْخَبَرِ دَلِيلَانِ عَلَى بَرَاءَةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِالضَّمَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنِ امْتَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ صَلَّى عَلَيْهِ فَدَلَّ عَلَى بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ ، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ بَاقِيًا لَكَانَ الِامْتِنَاعُ قَائِمًا . وَالثَّانِي : قَوْلُهُ : " فَكَّ اللَّهُ رِهَانَكَ كَمَا فَكَكْتَ رِهَانَ أَخِيكَ " فَلَمَّا أَخْبَرَ بِفَكِّ رِهَانِهِ دَلَّ عَلَى بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ الْجِسْمُ الْوَاحِدُ فِي مَجْلِسَيْنِ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ الْوَاحِدُ ثَابِتًا فِي الذِّمَّتَيْنِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى " فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ بِالضَّمَانِ حَتَّى يُقْضَى ، وَلِأَنَّ أَبَا قَتَادَةَ حَثَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَضَاءِ مَا ضَمِنَهُ ، فَلَمَّا قَضَاهُ قَالَ لَهُ " الْآنَ بَرَدَتْ عَلَيْهِ جِلْدُهُ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ لَمْ يَبْرَأْ مِنْهُ إِلَّا بِالْقَضَاءِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي قَتَادَةَ حِينَ ضَمِنَ دَيْنَ الْمَيِّتِ عَنْهُ " عَلَيْكَ حَقُّ الْغَرِيمِ ، وَبَرِئَ الْمَيِّتُ مِنْهُ " قِيلَ : إِنَّمَا أَرَادَ بَرِئَ مِنْ رُجُوعِكَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَهُ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، وَلِأَنَّ اسْمَ الْحَوَالَةِ وَالضَّمَانِ مُشْتَقَّانِ مِنْ مَعْنَاهُمَا فَالْحَوَالَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ تَحَوُّلِ الْحَقِّ ، وَالضَّمَانُ مُشْتَقٌّ مِنْ ضَمِّ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ أَسْمَائِهِمَا مِنَ اخْتِلَافِ مَعَانِيهِمَا مُوجِبًا لِاخْتِلَافِ أَحْكَامِهِمَا ، وَلِأَنَّ الضَّمَانَ وَثِيقَةٌ فِي الْحَقِّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَقِلَ بِهِ الْحَقُّ كَالرَّهْنِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ " الزَّعِيمُ غَارِمٌ " فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ غَارِمًا ، وَأَمَّا صَلَاتُهُ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ مِنْهُمَا ، فَلِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ صَارَ كَمَنْ تَرَكَ وَفَاءً فَلِذَلِكَ صَلَّى عَلَيْهِ ، وَأَمَّا

قَوْلُهُ : " فَكَّ اللَّهُ رِهَانَكَ كَمَا فَكَكْتَ رِهَانَ أَخِيكَ " ، فَمَعْنَى فَكَّ فِيمَا كَانَ مَانِعًا مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا ادِّعَاؤُهُمُ اسْتِحَالَةَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتَيْنِ فَغَلَطٌ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى ثُبُوتِ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ إِنَّمَا هُوَ اسْتِحْقَاقُ الْمُطَالَبَةِ بِهِ ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ الْوَاحِدُ يُسْتَحَقُّ الْمُطَالَبَةُ بِهِ لِشَخْصَيْنِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ غَصَبَ شَيْئًا ثُمَّ غَصَبَهُ مِنْهُ غَاصِبٌ آخَرُ وَاسْتَهْلَكَهُ كَانَ لِلْمَالِكِ مُطَالَبَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسْتَحِيلًا ، كَذَلِكَ فِي الضَّمَانِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الضَّمَانَ لَا يَنْقُلُ الْحَقَّ ، فَالْمَضْمُونُ لَهُ بِالْخِيَارِ فِي مُطَالَبَةِ أَيِّهِمَا شَاءَ ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ لَا يَجُوزُ مُطَالَبَةُ الضَّامِنِ بِالْحَقِّ بَعْدَ عَجْزِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ إِلَّا بَعْدَ عَجْزِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ ، وَقَدْ جَعَلَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلًا مُحْتَمَلًا وَخَرَّجَهُ لِنَفْسِهِ وَجْهًا ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ لَهُ الْخِيَارُ فِي أَنْ يَبْتَدِئَ بِمُطَالَبَةِ أَيِّهِمَا شَاءَ . فَإِذَا طَالَبَ أَحَدَهُمَا لَمْ تَكُنْ لَهُ مُطَالَبَةُ الْآخَرِ بِشَيْءٍ وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحَقِّ فِي ذِمَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا وَصَفْنَا يُوجِبُ مُطَالَبَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَتَمْنَعُ مِنْ إِيقَاعِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ مُطَالَبَتُهُ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي مُطَالَبَةِ أَيِّهِمَا شَاءَ فَحَجَرَ عَلَيْهِمَا بِالْفَلَسِ أَعْنِي الضَّامِنَ وَالْمَضْمُونَ عَنْهُ ، وَأَرَادَ الْحَاكِمُ بَيْعَ أَمْوَالِهِمَا فِي دَيْنِهِمَا ، فَقَالَ الضَّامِنُ : أَبْرَأُ بِبَيْعِ مَالِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ ، فَإِنْ وَفَى بِدَيْنِهِ بَرِئْتُ مِنْ ضَمَانِهِ ، وَإِنْ عَجَزَ بِيعَ مِنْ مَالِي بِقَدْرِهِ ، وَقَالَ الْمَضْمُونُ لَهُ : أُرِيدُ أَنْ أَبِيعَ مَالَ أَيِّكُمَا شِئْتُ بِدَيْنِي ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ : إِنْ كَانَ الضَّامِنُ ضَمِنَ بِأَمْرِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، وَإِنْ ضَمِنَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَالْخِيَارُ إِلَى الْمَضْمُونِ لَهُ فِي بَيْعِ مَالِ أَيِّهِمَا شَاءَ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ إِنْ ضَمِنَ بِأَمْرِهِ وَغَرِمَ رَجَعَ بِذَلِكَ عَلَيْهِ وَإِنْ تَطَوَّعَ بِالضَّمَانِ لَمْ يَرْجِعْ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ ضَمِنَ بِأَمْرِهِ وَغَرِمَ رَجَعَ بِذَلِكَ عَلَيْهِ وَإِنْ تَطَوَّعَ بِالضَّمَانِ لَمْ يَرْجِعْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ ضَمِنَ مَالًا عَنْ غَيْرِهِ وَأَدَّاهُ عَنْهُ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِيهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَضْمَنَ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَيُؤَدِّيَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ بِأَمْرِهِ وَالْأَدَاءُ بِأَمْرِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَضْمَنَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَيُؤَدِّيَهُ بِهِ بِأَمْرِهِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَضْمَنَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَيُؤَدِّيَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَضْمَنَ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَيُؤَدِّيَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ بِمَا أَدَّى

بِحَالٍ ، وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ قَصَدَ بِهِ خَلَاصَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ لِمَوَدَّةٍ بَيْنَهُمَا ، أَوْ صَرَّحَ بِالرُّجُوعِ عِنْدَ الْأَدَاءِ رَجَعَ عَلَيْهِ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ عَلِيًّا ، وَأَبَا قَتَادَةَ لَوِ اسْتَحَقَّا الرُّجُوعَ بِمَا ضَمِنَا لَمَا كَانَ فِي ضَمَانِهِمَا فَكٌّ لِرِهَانِ الْمَيِّتِ ، وَلِأَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ بِالضَّمَانِ وَالْأَدَاءِ فَصَارَ كَمَنْ أَنْفَقَ عَلَى رَقَبَةِ غَيْرِهِ أَوْ عَلَفِ بَهَائِمِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِمَا أَنْفَقَ لِتَطَوُّعِهِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَضْمَنَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَيُؤَدِّيَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ فَلَهُ الرُّجُوعُ لَا يَخْتَلِفُ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِهِ فِي الْحَالَيْنِ يُخْرِجُهُ مِنْ حُكْمِ التَّطَوُّعِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَضْمَنَ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَيُؤَدِّيَهُ بِأَمْرِهِ ، فَلَهُ فِي الْأَمْرِ بِالْأَدَاءِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : حَالٌ يَقُولُ : أَدِّ مَا ضَمِنْتَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَ : أَدِّ عَنِّي ذَلِكَ فَهَذَا لَا رُجُوعَ لِلضَّامِنِ بِهِ لَا يَخْتَلِفُ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ بِمَا كَانَ لَازِمًا لَهُ بِالضَّمَانِ ، الَّذِي تَطَوَّعَ بِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِي : أَنْ يَقُولَ أَدِّ عَنِّي مَا ضَمِنْتَهُ لِتَرْجِعَ بِهِ عَلَيَّ ، فَلَهُ الرُّجُوعُ بِذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ : لِأَنَّهُ قَدْ شَرَطَ لَهُ الرُّجُوعَ فِي أَمْرِهِ بِالْأَدَاءِ . وَالْحَالُ الثَّالِثُ : أَنْ يَقُولَ : أَدِّ عَنِّي مَا ضَمِنْتَهُ ، فَفِي رُجُوعِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَرْجِعُ بِهِ : لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْغُرْمِ عَنْهُ . وَالثَّانِي : لَا يَرْجِعُ بِهِ لِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّطَوُّعُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الرُّجُوعُ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنْ يَضْمَنَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَيُؤَدِّيَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَهَذَا يُنْظَرُ ، فَإِنْ أَدَّاهُ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ لَهُ وَالتَّشْدِيدِ عَلَيْهِ وَمُحَاكَمَتِهِ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِمَا أَدَّى : لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ ، وَإِنْ أَدَّاهُ قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ بِهِ فَفِي رُجُوعِهِ بِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا رُجُوعَ لَهُ بِهِ : لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ مُتَطَوِّعًا بِالْأَدَاءِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا : لَهُ الرُّجُوعُ ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ مُسْتَحَقٌّ بِالضَّمَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ ، فَصَارَ مُؤَدِّيًا مَا وَجَبَ بِالْأَمْرِ ، وَهَكَذَا حَالُ الْوَكِيلِ فِي الشِّرَاءِ إِنْ أَذِنَ لَهُ الْمُوَكِّلُ فِي وَزْنِ الثَّمَنِ عَنْهُ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ ، وَإِنْ نَهَاهُ عَنْ وَزْنِ الثَّمَنِ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي وَزْنِهِ وَلَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ فَإِنْ وَزَنَهُ عَنْهُ بَعْدَ الْمُحَاكَمَةِ وَالْمُطَالَبَةِ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِهِ ، وَإِنْ وَزَنَهُ قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ فَفِي الرُّجُوعِ بِهِ وَجْهَانِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا وَاسْتَحَقَّ الضَّامِنُ الرُّجُوعَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَلَهُ فِيمَا أَدَّاهُ حَالَتَانِ :

إِحْدَاهُمَا : أَنْ يُؤَدِّيَ مِنْ جِنْسِ مَا ضَمِنَ . وَالثَّانِيَةُ : أَنْ يُؤَدِّيَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَا ضَمِنَ . فَإِنْ كَانَ مَا أَدَّاهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَا ضَمِنَهُ ( الضامن ) ، مِثَالُهُ أَنْ يَضْمَنَ عَنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَيُعْطِي بِالْأَلْفِ عَبْدًا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ أَوْ مِنَ الْأَلْفِ ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَقَلَّ رَجَعَ بِهَا لِأَنَّهُ لَمْ يُغَرَّمْ غَيْرَهَا ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَكْثَرَ رَجَعَ بِالْأَلْفِ لِأَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ بِالزِّيَادَةِ ، وَإِنْ كَانَ مَا أَدَّاهُ مِنْ جِنْسِ مَا ضَمِنَهُ ( الضامن ) فَلَهُ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ ، حَالٌ يُؤَدِّيهِ عَلَى مِثْلِ صِفَتِهِ وَقَدْرِهِ ، وَحَالٌ يُؤَدِّيهِ عَلَى مِثْلِ صِفَتِهِ وَدُونَ قَدْرِهِ ، وَحَالٌ يُؤَدِّيهِ عَلَى مِثْلِ قَدْرِهِ وَدُونَ صِفَتِهِ ، وَحَالٌ يُؤَدِّيهِ دُونَ قَدْرِهِ وَدُونَ صِفَتِهِ . فَأَمَّا الْحَالَةُ الْأُولَى وَهُوَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ عَلَى مِثْلِ قَدْرِهِ وَصِفَتِهِ فَمِثَالُهُ أَنْ يَضْمَنَ عَنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِيضًا صِحَاحًا فَيُؤَدِّيَ مِثْلَهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ بِيضًا صِحَاحًا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمِثْلِ ذَلِكَ ، وَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ وَهُوَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ عَلَى مِثْلِ صِفَتِهِ وَدُونَ قَدْرِهِ فَمِثَالُهُ أَنْ يَضْمَنَ عَنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِيضًا صِحَاحًا فَيُؤَدِّيَ عَنْهَا تِسْعَمِائَةِ دِرْهَمٍ بِيضًا صِحَاحًا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِتِسْعِمِائَةٍ وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي أَدَّاهُ لِأَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي سُومِحَ بِهِ هُوَ إِبْرَاءٌ وَلَيْسَ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا أُبْرِئُ مِنْهُ ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْمِائَةِ الَّتِي سُومِحَ بِهَا الضَّامِنُ فَإِنْ كَانَ قَدْ أُبْرِئَ مِنْهَا وَحْدَهُ كَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهَا إِذَا طُولِبَ بِهَا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَبْرَأَ مِنْهَا الضَّامِنَ وَالْمَضْمُونَ عَنْهُ بَرِئَا جَمِيعًا مِنْهَا . وَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : وَهُوَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ عَلَى مِثْلِ قَدْرِهِ وَدُونَ صِفَتِهِ ، فَمِثَالُهُ أَنْ يَضْمَنَ عَنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِيضًا صِحَاحًا فَيُؤَدِّيَ عَنْهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ سُودًا أَوْ مُنْكَسِرَةً فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمِثْلِ مَا أَدَّى سُودًا أَوْ مُنْكَسِرَةً ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمِثْلِ مَا ضَمِنَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِيضًا صِحَاحًا لِأَنَّهُ سَامَحَ الضَّامِنَ بِهَا فَصَارَ ذَلِكَ كَهِبَةٍ لَهُ وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّهُ لَوْ وَهَبَ لَهُ جَمِيعَ الْمَالِ بِالْإِبْرَاءِ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ ، فَإِذَا سَامَحَ بِدُونِ الصِّفَةِ فَأَوْلَى أَلَّا يَرْجِعَ بِهِ ، وَلَكِنْ لَوْ أَنَّ الْمَضْمُونَ لَهُ قَبَضَ الْمَالَ مِنَ الضَّامِنِ ثُمَّ وَهَبَهُ لَهُ بَعْدَ قَبْضِهِ ، فَهَلْ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي الزَّوْجَةِ إِذَا وَهَبَتِ الصَّدَاقَ بَعْدَ قَبْضِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ هَلْ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الصَّدَاقِ الَّذِي وَهَبَتْهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَأَمَّا الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ وَهُوَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ دُونَ قَدْرِهِ وَدُونَ صِفَتِهِ فَمِثَالُهُ ، أَنْ يَضْمَنَ عَنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِيضًا صِحَاحًا فَيُؤَدِّيَ عَنْهَا تِسْعَمِائَةٍ سُودًا أَوْ مُكَسَّرَةً فَنُقْصَانُ الْقَدْرِ لَا يَرْجِعُ بِهِ ، وَأَمَّا نُقْصَانُ الصِّفَةِ فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَرْجِعُ بِمِثْلِ الصِّفَةِ الَّتِي أَدَّاهَا سُودًا أَوْ مُكَسَّرَةً ، وَعَلَى مَذْهَبِ ابْنِ سُرَيْجٍ يَرْجِعُ بِهَا بِيضًا صِحَاحًا .

فَصْلٌ : إِذَا ضَمِنَ عَنْهُ كَرَّ حِنْطَةٍ مِنْ مُسْلِمٍ فَأَدَّى الضَّامِنُ الْكَرَّ الْحِنْطَةَ فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِمِثْلِهِ ، فَلَوْ أَنَّ الضَّامِنَ صَالَحَ الْمَضْمُونَ عَنْهُ عَلَى الْحِنْطَةِ عَلَى مَالٍ أَوْ عِوَضٍ

جَازَ إِذَا تَقَايَضَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَايَضَاهُ حَتَّى تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا فِي الْبُيُوعِ ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَنِ الْكَرِّ الْحِنْطَةِ عَلَى نِصْفِهِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الصِّفَةِ جَازَ وَكَانَتْ حَطِيطَةً ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى نِصْفِ كَرِّ حِنْطَةٍ إِلَى أَجَلٍ جَازَ لِأَنَّهُ حِطَّةٌ وَأَجَّلَهُ أَيْضًا وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْأَجَلِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْحَطِيطَةِ ، وَلَوْ ضَمِنَ عَنْهُ كَرَّ حِنْطَةٍ مِنْ مُسْلِمٍ ثُمَّ إِنَّ الضَّامِنَ صَالَحَ الْمُسْلِمَ الْمَضْمُونَ لَهُ عَلَى رَأْسِ مَالٍ لَمْ يَجُزْ ، وَلَوْ صَالَحَهُ الْمَضْمُونُ عَنْهُ جَازَ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ إِقَالَةٌ وَالضَّامِنُ لَا يَمْلِكُ الْإِقَالَةَ وَالْمَضْمُونُ عَنْهُ يَمْلِكُهَا ثُمَّ يَبْطُلُ الضَّمَانُ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ الْمَضْمُونَةَ قَدْ بَطَلَتْ بِالْإِقَالَةِ وَرَأْسُ الْمَالِ الْمُسْتَحَقُّ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ الضَّمَانُ فَهَذَا الْكَلَامُ فِيمَا يَرْجِعُ بِهِ الضَّامِنُ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ فَصْلٌ آخَرُ . وَأَمَّا إِذَا عَجَّلَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ إِلَى الضَّامِنِ مَا ضَمِنَهُ عَنْهُ بِأَمْرِهِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ الضَّامِنُ فَإِنْ جَعَلَهُ فِيمَا عَجَّلَهُ رَسُولًا لِيَدْفَعَهُ إِلَى الْمَضْمُونِ لَهُ جَازَ وَكَانَ أَمِينًا عَلَيْهِ لَا يَضْمَنُهُ بِالتَّلَفِ ، وَإِنْ دَفَعَهُ إِلَيْهِ قَضَاءً مِنْ ضَمَانِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ . أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ وَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الضَّامِنَ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمَضْمُونِ لَهُ شَيْئًا قَبْلَ غُرْمِهِ ، وَلِأَنَّهُ دَفْعٌ لَا يَبْرَأُ بِهِ لَكِنْ يَكُونُ مَا أَخَذَهُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي حَقِّهِ . وَلَوْ كَانَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ عَجَّلَ لِلضَّامِنِ بَدَلًا مِنَ الدَّرَاهِمِ الَّتِي ضَمِنَهَا عَنْهُ عَبْدًا أَوْ عِوَضًا لَمْ يَجُزْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا لِأَنَّ هَذَا مُعَاوَضَةٌ عَلَى مَا لَمْ يَجِبْ وَذَلِكَ تَعْجِيلٌ ثُمَّ يَتَفَرَّعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي تَعْجِيلِ الْقَضَاءِ أَنْ يُبْرِئَ الضَّامِنُ الْمَضْمُونَ عَنْهُ مِنْ مَالِ الضَّمَانِ قَبْلَ أَدَائِهِ عَنْهُ فَيَكُونَ الْإِبْرَاءُ مُخَرَّجًا عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ إِنْ قِيلَ بِجَوَازِ تَعْجِيلِ الْقَضَاءِ صَحَّ الْإِبْرَاءُ ، وَإِنْ قِيلَ تَعْجِيلُ الْقَضَاءِ لَا يَجُوزُ لَمْ يَجُزِ الْإِبْرَاءُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : " قُلْتُ أَنَا وَكَذَلِكَ كُلُّ ضَامِنٍ فِي دَيْنٍ وَكَفَالَةٍ بِدَيْنٍ وَأُجْرَةٍ وَمَهْرٍ وَضَمَانِ عُهْدَةٍ وَأَرْشِ جُرْحٍ وَدِيَةِ نَفْسٍ فَإِنْ أَدَّى ذَلِكَ الضَّامِنُ عَنِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِأَمْرِهِ رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ وَإِنْ أَدَّاهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ كَانَ مُتَطَوِّعًا لَا يَرْجِعُ بِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْوَالَ ضَرْبَانِ ، أَعْيَانٌ وَفِي الذِّمَمِ ، وَمَضَى الْكَلَامُ فِي الْأَعْيَانِ وَأَنَّ ضَمَانَهَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ ، وَأَمَّا مَا فِي الذِّمَمِ ( ضمانه ) فَضَرْبَانِ ، لَازِمٌ وَغَيْرُ لَازِمٍ ، فَأَمَّا اللَّازِمُ فَضَرْبَانِ : مُسْتَقِرٌّ وَغَيْرُ مُسْتَقِرٍّ ، فَأَمَّا الْمُسْتَقِرُّ كَمِثْلِ قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَأَثْمَانِ الْمَقْبُوضِ مِنَ الْمَبِيعَاتِ فَضَمَانُ هَذَا كُلِّهِ جَائِزٌ ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُسْتَقِرِّ فَمِثْلُ ثَمَنِ الْمَبِيعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فَالْمَذْهَبُ جَوَازُ ضَمَانِهِ لِلزَّوْجَةِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ

اسْتِقْرَارِهِ . فَأَمَّا ثَمَنُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْأُجْرَةُ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُسْتَقِرِّ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ الْفَسْخُ فَصَحَّ ضَمَانُهُ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَهُ كَالْمَبِيعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، فَهَذَا حُكْمُ مَا كَانَ لَازِمًا فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِلَازِمٍ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا لَيْسَ بِلَازِمٍ وَلَا يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ كَمَالِ الْكِتَابَةِ فَضَمَانُهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ لُزُومَ الضَّمَانِ فَرْعٌ لِلُزُومِ الدَّيْنِ الْمَضْمُونِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا لَيْسَ بِلَازِمٍ وَلَكِنْ قَدْ يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ فِي ثَانِي حَالٍ كَمَالِ الْجَعَالَةِ فَفِي جَوَازِ ضَمَانِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ لِعَدَمِ لُزُومِهِ فِي الْحَالِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ ضَمَانَهُ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ فِي ثَانِي حَالٍ .

فَصْلٌ : إِذَا تَمَهَّدَ مَا وَصَفْنَا فِي هَذَا الْفَصْلِ فَالتَّفْرِيعُ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ وَقَدْ ذَكَرَ الْمُزَنِيُّ سَبْعَةَ أَشْيَاءَ فَقَالَ : كُلُّ ضَامِنٍ فِي دَيْنٍ يَعْنِي ضَمَانَ الدُّيُونِ الْمُسْتَقِرَّةِ ، ثُمَّ قَالَ : وَكَفَالَةٍ بِدَيْنٍ ، يَعْنِي أَنَّ الضَّامِنَ لِدَيْنٍ مُسْتَقِرٍّ يَجُوزُ ضَمَانُ ذَلِكَ عَنْهُ ، ثُمَّ قَالَ : وَأُجْرَةٍ وَمَهْرٍ . يَعْنِي أُجُورَ الْمُسْتَأْجَرَاتِ وَمُهُورَ الزَّوْجَاتِ ضمانه فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ تَقَضِّي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ وَالدُّخُولِ بِالزَّوْجَةِ جَازَ ضَمَانُهُ لِاسْتِقْرَارِهِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ تَقَضِّي الْمُدَّةِ وَالدُّخُولِ بِالزَّوْجَةِ كَانَ ذَلِكَ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ إِذَا لَمْ يُقْبَضْ لِمَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ مِنَ الْفَسْخِ ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَهُ كَالْمُسْتَقِرِّ يَجُوزُ ضَمَانُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ كَغَيْرِ الْمُسْتَقِرِّ كَالثَّمَنِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ عَلَى مَا مَضَى . ثُمَّ قَالَ : وَضَمَانُ عُهْدَةٍ ، يَعْنِي ضَمَانَ الدَّرَكِ فِي الْبَيْعِ وَهُوَ رَدُّ الثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقٍ الْمَبِيعِ ، وَضَمَانُ هَذَا جَائِزٌ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ مَنَعَ مِنْهُ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الدَّارَ إِنْ لَمْ تُسْتَحَقَّ فَلَا ضَمَانَ وَإِنِ اسْتُحِقَّتْ بَانَ وُجُوبُ رَدِّ الثَّمَنِ وَصِحَّةُ الضَّمَانِ وَلَا يَلْزَمُ ضَامِنَ الدَّرَكِ شَيْءٌ إِلَّا إِذَا اسْتُحِقَّتْ ، فَأَمَّا إِذَا رُدَّتْ بِعَيْبٍ أَوْ تَقَابَلَا الْبَيْعَ فِيهَا فَلَا شَيْءَ عَلَى ضَامِنِ الدَّرَكِ فَلَوِ اسْتَحَقَّ نِصْفَهَا وَفَسَخَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي لِتَبْعِيضِ الصَّفْقَةِ فِيهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى ضَامِنِ الدَّرَكِ إِلَّا بِنِصْفِهِ وَهُوَ ثَمَنُ الْمُسْتَحِقِّ دُونَ الْمَرْدُودِ بِالْفَسْخِ ، فَأَمَّا إِنْ ضَمِنَ مَعَ الْعُهْدَةِ قِيمَةَ مَا يُحْدِثُهُ مِنْ بِنَاءٍ وَغَرْسٍ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ ذَلِكَ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ وَلِأَنَّهُ مَجْهُولُ الْقَدْرِ ، فَأَمَّا إِنْ ضَمِنَ لَهُ أَرْشَ مَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنْ عَيْبٍ لَمْ يَجُزْ لِلْجَهَالَةِ بِقَدْرِهِ ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ يَصِحُّ - مُخَرَّجٌ مِنَ الْقَدِيمِ - فِي ضَمَانِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ ، وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ مَحْدُودَةُ الْأَكْثَرِ بِخِلَافِ أَرْشِ

الْعَيْبِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَحْدُودِ الْأَكْثَرِ وَلَيْسَ يَنْتَهِي إِلَى جَمِيعِ الثَّمَنِ ، وَإِذَا بَطَلَ الضَّمَانُ فِيمَا ذَكَرْنَا وَكَانَ مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ بِاشْتِرَاطِ الرَّهْنِ الْفَاسِدِ فِيهِ ، قَالَ الْمُزَنِيُّ : وَأَرْشُ جُرْحٍ وَدِيَةُ نَفْسٍ ، وَضَمَانُ ذَلِكَ - إِنْ قُدِّرَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ - جَائِزٌ ، فَأَمَّا الْإِبِلُ فَفِي جَوَازِ ضَمَانِهَا وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي جَعْلِ إِبِلِ الدِّيَةِ صَدَاقًا ، أَحَدُهُمَا ضَمَانُهَا بَاطِلٌ لِلْجَهْلِ بِصِفَتِهَا ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي ضَمَانُهَا جَائِزٌ لِأَنَّ قَبِيصَةَ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي تَحَمَّلْتُ بِحَمَالَةٍ فَأَعِنِّي فَلَمْ يُنْكِرْ تَحَمُّلَهُ لَهَا ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ ضَمَانِهَا ، وَلِأَنَّهَا مَوْصُوفَةُ الْأَسْنَانِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا ضَمَانُ مَالِ السَّبْقِ وَالرَّمْيِ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ جَازَ فَأَمَّا قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي عَقْدِ السَّبْقِ وَالرَّمْيِ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى عَقْدِ الْإِجَارَةِ فَيَصِحَّ ضَمَانُهُ . وَالثَّانِي أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى عَقْدِ الْجَعَالَةِ فَيَكُونُ فِي صِحَّةِ ضَمَانِهِ وَجْهَانِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا ضَمَانُ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : ضَمَانُ نَفَقَةِ مُدَّةٍ مَاضِيَةٍ فَضَمَانُهَا جَائِزٌ إِذَا عُرِفَ قَدْرُهَا لِأَنَّ وُجُوبَ مَا مَضَى مُسْتَقِرٌّ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : ضَمَانُ نَفَقَةِ مُدَّةٍ آتِيَةٍ ، فَإِنْ أَطْلَقَ الْمُدَّةَ وَلَمْ يُقَدِّرْهَا بِزَمَانٍ مَعْلُومٍ بَلْ قَالَ : عَلَيَّ ضَمَانُ نَفَقَتِكَ عَلَى زَوْجَتِكَ أَبَدًا أَوْ مَا بَقِيتَ عَلَى الزَّوْجَةِ ، أَوْ مَا مَكَّنْتِ مِنْ نَفْسِكِ ، فَهَذَا ضَمَانٌ بَاطِلٌ لِلْجَهَالَةِ بِهِ ، وَإِنْ قَدَّرَ الْمُدَّةَ وَضَمِنَ لَهَا نَفَقَةَ سَنَةٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَضْمَنَ لَهَا نَفَقَةَ مُعْسِرٍ فَفِي صِحَّةِ الضَّمَانِ قَوْلَانِ ، مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ بِمَاذَا وَجَبَتْ ؟ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهَا تَجِبُ بِالْعَقْدِ وَتَسْتَحِقُّ قَبْضَهَا بِالتَّمْكِينِ فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ ضَمَانُهَا : لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَا وَجَبَ ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهَا تَجِبُ بِالْعَقْدِ وَالتَّمْكِينِ فَعَلَى هَذَا ضَمَانُهَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ . الضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَضْمَنَ لَهَا نَفَقَةَ مُوسِرٍ ، فَضَمَانُ نَفَقَةِ الْقَدْرِ الزَّائِدِ لِيَسَارِهِ بَاطِلٌ لِأَنَّ بَقَاءَ الْيَسَارِ مَجْهُولٌ فَصَارَ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ ، فَأَمَّا نَفَقَةُ الْمُعْسِرِ فَعَلَى الْجَدِيدِ ضَمَانُهَا بَاطِلٌ ، وَعَلَى الْقَدِيمِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ أَخَذَ الضَّامِنُ بِالْحَقِّ وَكَانَ ضَمَانُهُ بِأَمْرِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ فَلَهُ أَخَذُهُ بِخَلَاصِهِ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْذُهُ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا ضَمِنَ رِجَالٌ عَنْ رَجُلٍ مَالًا وَأَرَادَ الضَّامِنُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَضْمُونَ عَنْهُ بِخَلَاصِهِ مِنَ الضَّمَانِ وَفِكَاكِهِ مِنَ الْمُطَالَبَةِ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ ضَمِنَ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ

فَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِخَلَاصِهِ لِأَنَّهُ تَطَوَّعَ بِالضَّمَانِ عَنْهُ صَارَ كَالْمُتَطَوِّعِ بِالْغُرْمِ عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ ضَمِنَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ الضَّامِنُ قَدْ طُولِبَ بِغُرْمِ مَا ضَمِنَ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَضْمُونَ عَنْهُ بِخَلَاصِهِ بِفِكَاكِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْغُرْمِ إِذَا غَرِمَ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْخَلَاصِ إِذَا طُولِبَ ، وَإِنْ كَانَ الضَّامِنُ لَمْ يُطَالَبْ بِغُرْمِ مَا ضَمِنَهُ فَهَلْ لِلضَّامِنِ أَنْ يَأْخُذَ الْمَضْمُونَ عَنْهُ بِخَلَاصِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي تَعْجِيلِ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْغُرْمِ . فَلَوْ كَانَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ صَغِيرًا أَوْ كَانَ الضَّامِنُ قَدْ ضَمِنَ عَنْهُ بِإِذْنِ أَبِيهِ ثُمَّ طُولِبَ الضَّامِنُ بِالْغُرْمِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ عَلَى صِغَرِهِ لَمْ يَبْلُغْ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْأَبَ بِخَلَاصِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ بَلَغَ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَضْمُونَ عَنْهُ بِالْخَلَاصِ دُونَ الْأَبِ ، وَلَوْ كَانَ غَيْرُ الْأَبِ قَدْ أَمَرَهُ بِالضَّمَانِ عَنْهُ فَلَيْسَ لِلضَّامِنِ أَنْ يَأْخُذَ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِخَلَاصِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ عَلَى صِغَرِهِ أَوْ قَدْ بَلَغَ : لِأَنَّهُ أَمَرَهُ مَنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ .

فَصْلٌ : إِذَا طُولِبَ الضَّامِنُ بِأَدَاءِ مَا ضَمِنَهُ وَحُبِسَ بِهِ فَأَرَادَ الضَّامِنُ أَنْ يَحْبِسَ الْمَضْمُونَ عَنْهُ قَبْلَ أَدَاءِ الْمَالِ ، وَكَانَ ضَمَانُهُ عَنْهُ بِأَمْرِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ لَهُ مِثْلَ مَا عَلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ قَبْلَ الْغُرْمِ مَالًا يَحْبِسُهُ بِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا صِفَةُ الْأَمْرِ بِالضَّمَانِ فَقَدْ يَكُونُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ إِمَّا أَنْ يَبْتَدِئَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ فَيَقُولَ لِلضَّامِنِ : اضْمَنْ عَنِّي لِفُلَانٍ كَذَا ، فَيَكُونَ هَذَا أَمْرًا بِالضَّمَانِ ، وَأَمَّا أَنْ يَبْتَدِئَ الضَّامِنُ ، فَيَقُولَ لِلْمَضْمُونِ عَنْهُ أَضْمَنُ عَنْكَ لِفُلَانٍ كَذَا ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ ، فَيَكُونَ هَذَا أَمْرًا بِالضَّمَانِ أَيْضًا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَكُونُ هَذَا أَمْرًا بِالضَّمَانِ وَيَكُونُ الْأَوَّلُ أَمْرًا بِهِ ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ عِنْدِي سَوَاءٌ بَلِ الثَّانِي أَوْكَدُ .

فَصْلٌ : فَلَوْ أَمَرَهُ بِالضَّمَانِ عَنْهُ بِجُعْلٍ جَعَلَهُ لَهُ لَمْ يَجُزْ ، وَكَانَ الْجُعْلُ بَاطِلًا وَالضَّمَانُ إِنْ كَانَ بِشَرْطِ الْجُعْلِ فَاسِدًا بِخِلَافِ مَا قَالَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ لِأَنَّ الْجُعْلَ إِنَّمَا يُسْتَحَقُّ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ ، وَلَيْسَ الضَّمَانُ عَمَلًا فَلَا يُسْتَحَقُّ بِهِ جُعْلًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ ضَمِنَ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَمْرِهِ ضَامِنٌ ثُمَّ ضَمِنَ عَنِ الضَّامِنِ ضَامِنٌ بِأَمْرِهِ فَجَائِزٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا ضَمِنَ رَجُلٌ مَالًا عَنْ رَجُلٍ ثُمَّ ضَمِنَ عَنِ الضَّامِنِ

ضَامِنٌ آخَرُ مَا ضَمِنَهُ عَنِ الْأَوَّلِ جَازَ ، وَكَانَ الضَّامِنُ الْأَوَّلُ فَرْعًا لِلْمَضْمُونِ عَنْهُ وَأَصْلًا لِلضَّامِنِ الثَّانِي . فَإِنْ قِيلَ أَفَلَيْسَ الضَّمَانُ وَثِيقَةً كَالرَّهْنِ ، ثُمَّ لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الرَّهْنِ عَنِ الرَّهْنِ فَهَلَّا مَنَعْتُمْ مِنْ أَخْذِ ضَامِنٍ عَنْ ضَامِنٍ ؟ قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ وَأَخْذُ الرَّهْنِ عَلَى الْوَثِيقَةِ لَا يَجُوزُ وَالضَّمَانُ قَدْ أَوْجَبَ فِي الذِّمَّةِ دَيْنًا ، وَأَخْذُ الضَّمَانِ فِي الدَّيْنِ يَجُوزُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الرَّهْنَ عَيْنٌ وَأَخْذُ الرَّهْنِ فِي الْأَعْيَانِ لَا يَجُوزُ ، وَالْمَضْمُونُ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ وَضَمَانُ مَا فِي الذِّمَّةِ يَجُوزُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنَ الضَّامِنِ رَهْنٌ بِمَا ضَمِنَهُ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لَازِمٌ فَجَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهِ ، فَأَمَّا الضَّامِنُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ رَهْنًا بِمَا ضَمِنَهُ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَدَاءِ الضَّامِنِ الدَّيْنَ جَازَ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَهُ عَلَى دَيْنٍ مُسْتَحَقٍّ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَدَائِهِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْجِبْ حَقًّا يَأْخُذُ عَلَيْهِ رَهْنًا .

فَصْلٌ : إِذَا ضَمِنَ رَجُلٌ عَنْ رَجُلٍ مَالًا ثُمَّ ضَمِنَهُ عَنِ الضَّامِنِ ضَامِنٌ آخَرُ ، فَأَرَادَ مَنْ عَلَيْهِ أَصْلُ الْمَالِ أَنْ يَضْمَنَ عَنِ الضَّامِنَيْنِ مَا ضَمِنَاهُ عَنْهُ لَمْ يَجُزْ وَكَذَا لَوْ ضَمِنَ عَنْ أَحَدِهِمَا إِمَّا عَنِ الْأَوَّلِ أَوْ عَنِ الثَّانِي لَمْ يَجُزْ وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الضَّمَانَ إِنَّمَا هُوَ إِثْبَاتُ حَقٍّ فِي الذِّمَّةِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ وَالْحَقُّ هَاهُنَا قَدْ كَانَ قَبْلَ الضَّمَانِ ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَضْمُونَ عَنْهُ أَصِلٌ وَالضَّامِنَ فَرْعُهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ الْأَصْلُ فَرْعًا لِفَرْعِهِ . فَأَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى رَجُلٍ أَلْفٌ ضَمِنَهَا ضَامِنٌ ثُمَّ ضَمِنَهَا أَيْضًا ضَامِنٌ آخَرُ ، عَمَّنْ عَلَيْهِ الْأَصْلُ جَازَ ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَرْعًا لِمَنْ عَلَيْهِ الْأَصْلُ وَلَيْسَ أَحَدُ الضَّامِنَيْنِ فَرْعًا لِصَاحِبِهِ ، فَإِنْ أَرَادَ مَنْ عَلَيْهِ الْأَصْلُ أَنْ يَضْمَنَ عَنْ أَحَدِ الضَّامِنَيْنِ مَا ضَمِنَهُ لَمْ يَجُزْ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلَكِنْ لَوْ أَرَادَ أَحَدُ الضَّامِنَيْنِ أَنْ يَضْمَنَ عَنِ الضَّامِنِ الْآخَرِ مَا ضَمِنَهُ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّ ضَمَانَهُ عَنْهُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِذَلِكَ عَمَّنْ عَلَيْهِ الْأَصْلُ ، فَلَمْ يَكُنْ فِي ضَمَانِهِ إِيَّاهُ عَنِ الضَّامِنِ فَائِدَةٌ ، وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ : يَصِحُّ ضَمَانُهُ فَيَصِيرُ ضَامِنًا لِلْأَلْفِ عَمَّنْ عَلَيْهِ الْأَصْلُ وَعَنِ الضَّامِنِ أَيْضًا لِأَنَّ الضَّامِنَ قَدْ صَارَ مَا ضَمِنَهُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَلَيْسَ أَحَدُ الضَّامِنَيْنِ فَرْعًا لِصَاحِبِهِ فَجَازَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الضَّامِنَيْنِ أَنْ يَضْمَنَ عَنْ صَاحِبِهِ مَا ضَمِنَهُ مَعَهُ ، ثُمَّ إِذَا أَدَّاهُ كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ الْأَصْلُ وَأَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الضَّامِنِ وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَا مَعَ عَدَمِ الْفَائِدَةِ فِيهِ وَلَيْسَ لَهُ إِذَا أَدَّاهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ إِلَّا عَلَى مَنْ عَلَيْهِ الْأَصْلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .



مَسْأَلَةٌ : ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : " فَإِنْ قَبَضَ الطَّالِبُ حَقَّهُ مِنَ الَّذِي عَلَيْهِ أَصْلُ الْمَالِ أَوْ أَحَالَهُ بِهِ تعدد الضامن بَرِئُوا جَمِيعًا وَلَوْ قَبَضَهُ مِنَ الضَّامِنِ الْأَوَّلِ تعدد الضامن رَجَعَ بِهِ عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ وَبَرِئَ مِنْهُ الضَّامِنُ الْآخَرُ ، وَإِنْ قَبَضَهُ مِنَ الضَّامِنِ الثَّانِي تعدد الضامن رَجَعَ بِهِ عَلَى الضَّامِنِ الْأَوَّلِ وَرَجَعَ بِهِ الْأَوَّلُ عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَأَبْرَأَ الطَّالِبُ الضَّامِنَيْنِ جَمِيعًا بَرِئَا وَلَا يَبْرَأُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ لِأَنَّ الضَّمَانَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِحَوَالَةٍ وَلَكِنَّ الْحَقَّ عَلَى أَصْلِهِ وَالضَّامِنَ مَأْخُوذٌ بِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَضْمَنَ عَنِ الضَّامِنِ ضَامِنٌ ثَانٍ ، وَعَنِ الثَّانِي ثَالِثٌ ، وَعَنِ الثَّالِثِ رَابِعٌ هَكَذَا أَبَدًا إِلَى مِائَةِ ضَامِنٍ فَأَكْثَرَ وَيَكُونُ لِلْمَضْمُونِ لَهُ مُطَالَبَةُ أَيِّهِمْ شَاءَ فَإِذَا ضَمِنَ ضَامِنٌ عَنْ ضَامِنٍ عَنْ مَضْمُونٍ عَنْهُ ، فَلِلْمَضْمُونِ لَهُ مُطَالَبَةُ أَيِّ الثَّلَاثَةِ شَاءَ فَإِنْ سَقَطَ الْحَقُّ الْمَضْمُونُ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتُوْفِيَ بِالْأَدَاءِ أَوْ سَقَطَ بِالْإِبْرَاءِ ، فَإِنِ اسْتَوْفَاهُ الْمَضْمُونُ لَهُ بِالْأَدَاءِ بَأَنْ أَدَّاهُ الْمَضْمُونُ عَنْهُ بَرِئَ مِنْهُ وَبَرِئَ الضَّامِنَانِ عَنْهُ لِأَنَّ ضَمَانَهُمَا لِلْحَقِّ وَثِيقَةٌ فِيهِ ، فَإِذَا اسْتُوفِيَ الْحَقُّ ارْتَفَعَتِ الْوَثِيقَةُ ، كَالرَّهْنِ إِذَا اسْتُوفِيَ مَا رُهِنَ فِيهِ بَطَلَ الرَّهْنُ ، وَإِنْ أَدَّاهُ الضَّامِنُ الْأَوَّلُ بَرِئَ وَبَرِئَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ ، وَبَرِئَ الضَّامِنُ الثَّانِي : لِأَنَّهُ حَقٌّ وَاحِدٌ فَإِذَا أُدِّيَ سَقَطَ ، ثُمَّ لِلضَّامِنِ الْأَوَّلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ إِنْ ضَمِنَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ ، وَإِنْ أَدَّاهُ الضَّامِنُ الثَّانِي بَرِئَ وَبَرِئَ الضَّامِنُ الْأَوَّلُ وَبَرِئَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ ، ثُمَّ لِلضَّامِنِ الثَّانِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الضَّامِنِ الْأَوَّلِ إِنْ كَانَ ضَمَانُهُ عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَلِلضَّامِنِ الْأَوَّلِ إِذَا غَرِمَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ إِنْ كَانَ ضَمَانُهُ عَنْهُ بِأَمْرِهِ ، فَلَوْ كَانَ الضَّامِنُ الثَّانِي ضَمِنَ عَنِ الْأَوَّلِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَضَمِنَ الْأَوَّلُ عَنِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِأَمْرِهِ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنَ الضَّامِنَيْنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِشَيْءٍ ، أَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ ضَمِنَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْأَوَّلِ وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَغْرَمْ وَهَكَذَا لَوْ دَفَعَ أَحَدُهُمْ بِالْحَقِّ عِوَضًا أَوْ أَحَالَ بِهِ حَوَالَةً .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْإِبْرَاءُ فَإِنْ أَبْرَأَ الْمَضْمُونَ عَنْهُ بَرِئَ ، وَبَرِئَ الضَّامِنَانِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ سَقَطَ فَزَالَتِ الْوَثِيقَةُ فِيهِ كَإِبْرَاءِ الرَّاهِنِ يُسْقِطُ الرَّهْنَ ، وَإِنْ أَبْرَأَ الضَّامِنَ الْأَوَّلَ بَرِئَ وَبَرِئَ الضَّامِنُ الثَّانِي : لِأَنَّهُ فَرْعٌ لَهُ ، وَلَمْ يَبْرَأِ الْمَضْمُونُ عَنْهُ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الضَّامِنِ إِسْقَاطٌ لِلْوَثِيقَةِ ، وَسُقُوطُ الْوَثِيقَةِ لَا يُبْطِلُ الْحَقَّ كَمَا لَوْ فَسَخَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ ، وَلَوْ أَبْرَأَ الضَّامِنَ الثَّانِي بَرِئَ وَحْدَهُ ، وَلَمْ يَبْرَأِ الضَّامِنُ الْأَوَّلُ وَلَا الْمَضْمُونُ عَنْهُ .

فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَ الْمَالُ الْمَضْمُونُ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ فَرَدَّهُ الْمَضْمُونُ عَنْهُ بِعَيْبٍ بَرِئَ ، وَبَرِئَ الضَّامِنَانِ لَوِ اسْتُحِقَّ ، فَلَوْ مَاتَ الْمَضْمُونُ لَهُ فَوَرِثَهُ الْمَضْمُونُ عَنْهُ بَطَلَ الضَّمَانُ لِأَنَّهُ بِالْإِرْثِ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ الْحَقُّ ، وَسُقُوطُ الْحَقِّ يُبْطِلُ الضَّمَانَ ، وَلَكِنْ لَوْ وَرِثَهُ الضَّامِنُ ( الْمَضْمُونُ لَهُ ) بَطَلَ الضَّمَانُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا لِنَفْسِهِ إِنْ كَانَ مَا عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ بَاقِيًا بِحَالِهِ لِلضَّامِنِ إِرْثًا ، فَلَوْ كَانَ

الْمَالُ الْمَضْمُونُ صَدَاقًا فَفُسِخَ النِّكَاحُ بِعَيْبٍ قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ الْمَهْرُ ، وَبَطَلَ الضَّمَانُ ، فَلَوْ طَلَّقَ الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ نِصْفُ الصَّدَاقِ وَبَطَلَ ضَمَانُهُ وَبَقِيَ نِصْفُهُ وَعَلَى الضَّامِنَيْنِ ضَمَانُهُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَعْطَى الْمَضْمُونُ عَنْهُ بِالْحَقِّ عَبْدًا بَرِئَ ، وَبَرِئَ الضَّامِنَانِ ، فَلَوْ رَدَّهُ الْمَضْمُونُ لَهُ بِعَيْبٍ عَادَ حَقُّهُ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ ، وَلَمْ يَعُدْ إِلَى ضَمَانِ الضَّامِنَيْنِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ قَدِ ارْتَفَعَ بِالِاسْتِيفَاءِ ، فَلَمْ يَعُدْ إِلَّا بِاسْتِئْنَافِ عَقْدٍ ، وَلَكِنْ لَوْ بَانَ الْعَبْدُ مُسْتَحِقًّا كَانَ الضَّمَانُ عَلَى حَالِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " قُلْتُ أَنَا وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مَنْهُمَا كَفِيلٌ ضَامِنٌ عَنْ صَاحِبِهِ بِأَمْرِهِ فَدَفَعَهَا أَحَدُهُمَا رَجَعَ بِنِصْفِهَا عَلَى صَاحِبِهِ وَإِنْ أَبْرَأَ الطَّالِبُ أَحَدَهُمَا مِنَ الْأَلْفِ سَقَطَ عَنْهُ نِصْفُهَا الَّذِي عَلَيْهِ وَبَرِئَ مِنْ ضَمَانِ نِصْفِهَا الَّذِي عَلَى صَاحِبِهِ وَلَمْ يَبْرَأْ صَاحِبُهَا مِنْ نِصْفِهَا الَّذِي عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ لَهُ عَلَى رَجُلَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ لِمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِأَمْرِهِ ، فَلِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يُطَالِبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَلْفٍ ، نِصْفُهَا مِمَّا عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ وَنَصِفُهَا مِمَّا ضَمِنَهُ عَنْ صَاحِبِهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَاهُنَا فَصْلَانِ ، فَصْلٌ فِي الْأَدَاءِ ، وَفَصْلٌ فِي الْإِبْرَاءِ ، فَأَمَّا الْأَدَاءُ فَإِذَا كَانَ مِنْ أَحَدِهِمَا فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُؤَدِّيَ جَمِيعَ الْأَلْفِ أَوْ نِصْفَهَا ، فَإِنْ أَدَّى جَمِيعَ الْأَلْفِ بَرِئَا جَمِيعًا ، وَكَانَ عَلَى الْمُؤَدِّي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ الْأَلْفِ ، فَإِنْ أَدَّى نِصْفَهَا مِثْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ خَمْسَمِائَةٍ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِي هَذَا الَّذِي أَدَّاهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُؤَدِّيَهَا مِمَّا عَلَيْهِ مِنَ الْأَصْلِ دُونَ مَا ضَمِنَهُ ، فَيَبْرَأَ مِمَّا عَلَيْهِ مِنَ الْأَصْلِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ وَيَبْرَأَ صَاحِبُهُ مِنْ ضَمَانِهَا ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ وَهِيَ الَّتِي ضَمِنَهَا عَنْ صَاحِبِهِ فَيَصِيرُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةٍ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُؤَدِّيَهَا مِمَّا ضَمِنَهُ دُونَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْأَصْلِ فَيَبْرَأَ مِنْ ضَمَانِ الْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي عَلَى صَاحِبِهَا وَيَبْرَأَ صَاحِبُهُ مِنْهَا وَيَرْجِعَ عَلَيْهِ بِهَا وَيَبْقَى عَلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ الَّتِي عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ ، وَعَلَى صَاحِبِهِ ضَمَانُهَا . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُؤَدِّيَهَا مِنْ أَصْلِ مَا عَلَيْهِ وَمِنْ ضَمَانِهِ فَيَبْرَأَ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ ، نِصْفُهَا مِنْ أَصْلِ مَا عَلَيْهِ وَنَصِفُهَا مِنْ ضَمَانِهِ وَلَهُ الرُّجُوعُ بِهَا وَيَبْقَى عَلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ نِصْفُهَا مِنْ أَصْلِ مَا

عَلَيْهِ وَنِصْفُهَا مِنْ ضَمَانِهِ وَيَبْقَى عَلَى صَاحِبِهِ خَمْسُمِائَةٍ نِصْفُهَا مِنْ أَصْلِ مَا عَلَيْهِ وَنِصْفُهَا مِنْ ضَمَانِهِ . وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يُؤَدِّيَهَا مُطْلَقَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْوِيَ بِهَا أَحَدَ الْمَالَيْنِ فَفِيهَا لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا تَكُونُ أَدَاءً مِنَ الْمَالَيْنِ نِصْفَيْنِ ، نَصِفُهَا مِنْ أَصْلِ مَا عَلَيْهِ وَنِصْفُهَا مِنْ ضَمَانِهِ لِاسْتِوَاءِ الْحَقَّيْنِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ عَنْهُمَا نِصْفَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي إِفْصَاحِهِ أَنَّهَا تَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى خِيَارِهِ لِيَجْعَلَهَا أَدَاءً مِنْ أَيِّ الْمَالَيْنِ شَاءَ مِنْ أَصْلِ مَا عَلَيْهِ أَوْ مِنْ ضَمَانِهِ ؛ لِأَنَّ التَّعْبِيرَ إِلَيْهِ قَبْلَ الْأَدَاءِ فَكَانَ إِلَى خِيَارِهِ بَعْدَ الْأَدَاءِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْإِبْرَاءُ من الدين من قبل صاحب الحق فَلَهُ حَالَتَانِ حَالَةٌ يُبْرِئُ أَحَدَهُمَا مِنْ جَمِيعِ الْأَلْفِ ، وَحَالَةٌ يُبْرِئُ مِنْ نِصْفِهَا ، فَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَلْفِ بَرِئَ مِنْهَا كُلِّهَا ، وَبَرِئَ صَاحِبُهُ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ الَّتِي ضَمِنَهَا عَنْهُ لِسُقُوطِهَا بِالْإِبْرَاءِ ، وَبَقِيَ خَمْسُمِائَةٍ مِنْ أَصْلِ مَا عَلَيْهِ لِأَنَّ إِبْرَاءَ ضَامِنِهَا لَا يَكُونُ إِبْرَاءً لِمَنْ عَلَيْهِ أَصْلُهَا . وَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ لَمْ يَخْلُ فِي هَذِهِ الْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي أَبْرَأَهُ مِنْهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَجْعَلَهَا إِبْرَاءً مِنْ أَصْلِ مَا عَلَيْهِ ، فَيَبْرَأَ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ مِنْ أَصْلِ مَا عَلَيْهِ وَيَبْرَأَ صَاحِبُهُ مِنْ ضَمَانِهَا ، وَيَبْقَى عَلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ مِنْ ضَمَانِهِ عَنْ صَاحِبِهِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُبْرِئَهُ مِمَّا ضَمِنَهُ دُونَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْأَصْلِ ، فَيَبْقَى عَلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ هِيَ مِنْ أَصْلِ مَا عَلَيْهِ ، وَعَلَى صَاحِبِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، مِنْهَا خَمْسُمِائَةٍ مِنْ أَصْلِ مَا عَلَيْهِ ، وَخَمْسُمِائَةٍ مِنْ ضَمَانِهِ عَنْ صَاحِبِهِ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَجْعَلَهَا إِبْرَاءً مِنَ الْمَالَيْنِ ، نِصْفُهَا مِنْ أَصْلِ مَا عَلَيْهِ ، وَنِصْفُهَا مِنْ ضَمَانِهِ فَيَبْقَى عَلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ مِنْهَا مِئَتَانِ وَخَمْسُونَ مِنْ أَصْلِ مَا عَلَيْهِ ، وَمِئَتَانِ وَخَمْسُونَ مِنْ ضَمَانِهِ ، وَيَبْقَى عَلَى صَاحِبِهِ سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ ، خَمْسُمِائَةٍ مِنْهَا مِنْ أَصْلِ مَا عَلَيْهِ ، وَمِئَتَانِ وَخَمْسُونَ مِنْ ضَمَانِهِ عَنْ صَاحِبِهِ : لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الْبَاقِي عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ . وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يُبْرِئَهُ مِنْ ذَلِكَ بَرَاءَةً مُطْلَقَةً فَيَكُونَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ ، أَحَدُهُمَا يَكُونُ إِبْرَاءً مِنَ الْمَالَيْنِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى ، وَالثَّانِي يَكُونُ مَرْدُودًا إِلَى خِيَارِهِ لِيَجْعَلَهَا إِبْرَاءً مِنْ أَيِّ الْمَالَيْنِ شَاءَ عَلَى قَوْلِ الطَّبَرِيِّ فَإِذَا جَعَلَهَا مِنْ أَحَدِ الْمَالَيْنِ جَازَ عَلَى مَا مَضَى .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ : " وَلَوْ أَقَامَ الرَّجُلُ بَيِّنَةً أَنَّهُ بَاعَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَمِنْ رَجُلٍ غَائِبٍ عَبْدًا وَقَبَضَاهُ مِنْهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ ضَامِنٌ لِذَلِكَ عَلَى صَاحِبِهِ بِأَمْرِهِ قَضَى عَلَيْهِ وَعَلَى الْغَائِبِ بِذَلِكَ وَغَرِمَ الْحَاضِرُ جَمِيعَ الثَّمَنِ وَرَجَعَ بِالنِّصْفِ عَلَى الْغَائِبِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا : وَهَذَا مِمَّا يُجَامِعُنَا عَلَيْهِ مَنْ أَنْكَرَ الْقَضَاءَ عَلَى غَائِبٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ حَاضِرٍ أَنَّهُ بَاعَ عَلَيْهِ وَعَلَى رَجُلٍ غَائِبٍ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَأَقْبَضَهَا إِيَّاهُ ، وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ مَا عَلَى صَاحِبِهِ بِأَمْرِهِ ، فَصَارَ لَهُ عَلَى هَذَا الْحَاضِرِ بِشِرَائِهِ وَضَمَانِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْحَاضِرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُقِرَّ ، أَوْ يُنْكِرَ ، فَإِنْ أَقَرَّ بِالدَّعْوَى لَزِمَهُ دَفْعُ الْأَلْفِ إِلَى الْمُدَّعِي ، فَإِذَا قَدِمَ الْغَائِبُ فَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ إِلَّا أَنْ يُقِرَّ بِمِثْلِ مَا أَقَرَّ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ لَازِمٌ لَهُ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ لِغَيْرِهِ ، وَإِنْ أَنْكَرَ وَكَانَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ سُمِعَتْ عَلَيْهِ وَقُضِيَ بِهَا ، فَإِنْ ذَكَرَتِ الْبَيِّنَةُ فِي شَهَادَتِهَا الْغَائِبَ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ قُضِيَ عَلَى الْحَاضِرِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ شِرَائِهِ وَضَمَانِهِ ، فَإِنْ لَمْ تَذْكُرِ الْغَائِبَ بِاسْمِهِ سُمِعَتْ عَلَى الْحَاضِرِ بِالشِّرَاءِ ، وَهَلْ تُسْمَعُ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ هَلْ يَكُونُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الضَّمَانِ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قِيلَ إِنَّ مَعْرِفَتَهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الضَّمَانِ عَنْهُ لَمْ تُسْمَعِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْحَاضِرِ بِالضَّمَانِ وَقَضَى عَلَيْهِ بِخَمْسِمِائَةٍ لِشِرَائِهِ دُونَ ضَمَانِهِ . وَإِنْ قِيلَ إِنَّ مَعْرِفَتَهُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ سُمِعَتْ عَلَيْهِ ، وَقَضَى عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ لِشِرَائِهِ وَضَمَانِهِ ، فَإِذَا قَضَيْنَا بِالْأَلْفِ كُلِّهَا بِالْبَيِّنَةِ الْمَسْمُوعَةِ عَلَيْهِ ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ فَأَرَادَ الْحَاضِرُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي قَامَتْ بِهَا الْبَيِّنَةُ ، فَإِنِ اعْتَرَفَ لَهُ الضَّامِنُ بِذَلِكَ رَجَعَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَنْكَرَ نُظِرَ فِي الْحَاضِرِ حِينَ أَنْكَرَ ، فَإِنْ كَانَ أَنْكَرَ الشِّرَاءَ أَوِ الضَّمَانَ وَأَكْذَبَ الدَّعْوَى لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْغَائِبِ بِشَيْءٍ : لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِبَيِّنَتِهِ مُعْتَرِفٌ بِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ ظُلْمٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَنْكَرَ الشِّرَاءَ وَالضَّمَانَ وَلَا أَكْذَبَ الْبَيِّنَةَ وَإِنَّمَا دَفَعَ الدَّعْوَى بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِهَا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْغَائِبِ بِمَا دَفَعَ عَنْهُ ، وَتَكُونُ الْبَيِّنَةُ حُجَّةً عَلَيْهِ لِلْمُدَّعِي بِأَلْفٍ ، وَحُجَّةً لَهُ عَلَى الْغَائِبِ بِخَمْسِمِائَةٍ . فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى أَبَا حَنِيفَةَ يُوَافِقُ عَلَى هَذَا مَعَ امْتِنَاعِهِ مِنَ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ جَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَطَائِفَةٌ يَذْهَبُونَ إِلَى قَوْلِ الْمُزَنِيِّ إِنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ وَإِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ بِهِ مُنْكَسِرٌ ؛ لِأَنَّ فِيهَا إِلْزَامَ الشِّرَاءِ لِلْغَائِبِ لِيَلْزَمَ الْحَاضِرَ ضَمَانُهُ .

وَكَانَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْ أَصْحَابِنَا تَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ لِأَنَّ مَا قُضِيَ عَلَى الْغَائِبِ أُحْلِفَ الْمُدَّعِي مَعَ بَيِّنَتِهِ ، وَالْمُدَّعِي هَاهُنَا لَا يَحْلِفُ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ : " وَلَوْ ضَمِنَ عَنْ رَجُلٍ بِأَمْرِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَيْهِ لِرَجُلٍ فَدَفَعَهَا بِمَحْضَرِهِ ثُمَّ أَنْكَرَ الطَّالِبُ أَنْ يَكُونَ قَبَضَ شَيْئًا حَلَفَ وَبَرِئَ وَقَضَى عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِدَفْعِ الْأَلْفِ إِلَى الطَّالِبِ وَيَدْفَعُ أَلْفًا إِلَى الضَّامِنِ لِأَنَّهُ دَفَعَهَا بِأَمْرِهِ وَصَارَتْ لَهُ دَيْنًا عَلَيْهِ فَلَا يُذْهِبُ حَقَّهُ ظُلْمُ الطَّالِبِ لَهُ وَلَوْ أَنَّ الطَّالِبَ طَلَبَ الضَّامِنَ فَقَالَ لَمْ تَدْفَعْ إِلَيَّ شَيْئًا قُضِيَ عَلَيْهِ بِدَفْعِهَا ثَانِيَةً وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآمِرِ إِلَّا بِالْأَلْفِ الَّتِي ضَمِنَهَا عَنْهُ لِأَنَّهُ يُقِرُّ أَنَّ الثَّانِيَةَ ظُلْمٌ مِنَ الطَّالِبِ لَهُ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى غَيْرِ مَنْ ظَلَمَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ ضَمِنَ عَنْ رَجُلٍ أَلْفًا بِأَمْرِهِ وَدَفَعَهَا إِلَى الْمَضْمُونِ لَهُ وَأَنْكَرَهَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الضَّامِنِ فِي دَفْعِهِ الْأَلْفَ إِلَى الطَّالِبِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ بِدَفْعِهَا إِلَيْهِ أَوْ لَا يُشْهِدَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ أَشْهَدْ عَلَيْهِ بِدَفْعِهَا إِلَيْهِ فَلَا يَخْلُو حَالُ مَنْ أَشْهَدَهُ عَلَيْهِ لِيَكُونَ بَيِّنَةً عِنْدَ إِنْكَارِهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ بَيِّنَةً كَامِلَةَ الْعَدَدِ كَامِلَةَ الصِّفَةِ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةَ الْعَدَدِ نَاقِصَةَ الصِّفَةِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ كَامِلَةَ الْعَدَدِ نَاقِصَةَ الصِّفَةِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةَ الْعَدَدِ كَامِلَةَ الصِّفَةِ . فَإِنْ أَشْهَدَ بَيِّنَةً كَامِلَةَ الْعَدَدِ كَامِلَةَ الصِّفَةِ ، مِثْلَ أَنْ يُشْهِدَ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ أَوْ شَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِالْأَلْفِ سَوَاءٌ بَقِيَ الشُّهُودُ عَلَى حَالِهِمْ أَوْ مَاتُوا ، أَوْ فَسَقُوا ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الْمَوْتِ وَالْفِسْقِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ ، وَهَلْ يُرَاعَى فِيمَنْ أَشْهَدَهُ الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ كَشُهُودِ النِّكَاحِ ، أَوْ تُرَاعَى فِيهِمُ الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ كَشُهُودِ الْقَاضِي إِذَا أَرَادَ إِنْفَاذَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ تُرَاعَى فِيهِمُ الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ كَالنِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ الْبَاطِنَةَ يَتَعَزَّزُ الْوُصُولُ إِلَيْهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : إِنَّ الْمُرَاعَى فِيمَنْ يَشْهَدُ الْعَدَالَةُ الْبَاطِنَةُ كَشُهُودِ الْحَاكِمِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا إِثْبَاتُ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْحَاكِمِ .

فَعَلَى هَذَا إِنْ أَشْهَدَ عَدْلَيْنِ فِي الظَّاهِرِ فَاسِقَيْنِ فِي الْبَاطِنِ لَمْ يَرْجِعْ فَكَانَ مُفَرِّطًا ، وَإِنْ كَانَ مَنْ أَشْهَدَهُ نَاقِصَ الْعَدَدِ نَاقِصَ الصِّفَةِ مِثْلَ أَنْ يُشْهِدَ شَاهِدًا وَاحِدًا . . عَبَدَا أَوْ فَاسِقًا فَهَذَا كَمَنْ لَمْ يُشْهِدْ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالشَّهَادَةِ إِثْبَاتُ الْحَقِّ بِهَا عِنْدَ التَّنَازُعِ ، وَهَذِهِ شَهَادَةٌ لَا يَثْبُتُ بِهَا حَقٌّ فَكَانَ وُجُودُهَا كَعَدَمِهَا ، وَإِنْ كَانَ مَنْ أَشْهَدَ كَامِلَ الْعَدَدِ نَاقِصَ الصِّفَةِ مِثْلَ أَنْ يُشْهِدَ شَاهِدَيْنِ عَبْدَيْنِ أَوْ فَاسِقَيْنِ فَلَيْسَتْ هَذِهِ بَيِّنَةً ، وَهِيَ كَمَنْ لَمْ يُشْهِدْ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَثْبُتُ بِهَا عِنْدَ التَّنَازُعِ ، فَلَوْ أُعْتِقَ الْعَبْدَانِ أَوْ عُدِّلَ الْفَاسِقَانِ بَعْدَ إِشْهَادِهِمَا فَإِنْ ثَبَتَ الْحَقُّ بِشَهَادَتِهِمَا رَجَعَ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ كَمَوْتِهِمَا قَبْلَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَلَا رُجُوعَ بِهِ لَهُ لِتَفْرِيطِهِ فِي الِابْتِدَاءِ حِينَ أَشْهَدَهُمَا . وَإِنْ كَانَ مَنْ أَشْهَدَهُ نَاقِصَ الْعَدَدِ كَامِلَ الصِّفَةِ مِثْلَ أَنْ يُشْهِدَ شَاهِدًا وَاحِدًا عَدْلًا فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى إِشْهَادِهِ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَحْلِفَ مَعَهُ فَلَيْسَتْ هَذِهِ بَيِّنَةً وَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مَنْ لَمْ يُشْهِدْ ، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى إِشْهَادِهِ لِيَحْلِفَ مَعَهُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا بَيِّنَةٌ ، وَلَهُ الرُّجُوعُ لِأَنَّ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ بَيِّنَةٌ كَالشَّاهِدَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُفَرِّطًا بِمَثَابَةِ مَنْ لَمْ يُشْهِدْ ؛ لِأَنَّ مِنَ الْحُكَّامِ مَنْ لَا يَحْكُمُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ إِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا وَأَشْهَدَ مَنْ لَا يَكُونُ مُفَرِّطًا بِإِشْهَادِهِ عَلَى مَا بَيَّنَا ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يُثْبِتَ بِهِمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُنْكَرِ لِلْقَبْضِ أَمْ لَا ، فَإِنْ ثَبَتَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمْ حُكِمَ عَلَيْهِ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ ، وَبَرِئَ مِنْهُ الضَّامِنُ وَالْمَضْمُونُ عَنْهُ ، وَكَانَ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا أَدَّاهُ ، وَإِنْ لَمْ تَقُمِ الْبَيِّنَةُ لِمَوْتِهِمْ أَوْ حُدُوثِ فِسْقِهِمْ أَوْ بَعْدِ غَيْبَتِهِمْ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَضْمُونِ لَهُ الْمُنْكِرُ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ حَقَّهُ مِنَ الضَّامِنِ ، ثُمَّ هُوَ عَلَى حَقِّهِ مِنْ مُطَالَبَةِ مَنْ شَاءَ مِنَ الضَّامِنِ وَالْمَضْمُونِ عَنْهُ ، فَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ فَأَخَذَ حَقَّهُ مِنْهُ بَرِئَ الضَّامِنُ وَالْمَضْمُونُ عَنْهُ مَعًا ، وَكَانَ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِمَا أَدَّاهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ فَيَصِيرَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ غَارِمًا لِأَلْفَيْنِ : أَلْفٌ مِنْهَا أَدَاءٌ إِلَى الْمَضْمُونِ لَهُ ، وَأَلْفٌ غَرِمَهَا لِلضَّامِنِ بِأَدَائِهَا عَنْهُ ، وَإِنْ رَجَعَ الْمَضْمُونُ لَهُ حِينَ حَلَفَ عَلَى الضَّامِنِ كَانَ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِالْأَلْفِ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ : لِأَنَّهُ بِالثَّانِيَةِ مَظْلُومٌ فَلَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى غَيْرِ مَنْ ظَلَمَهُ ، فَهَذَا حُكْمُ الضَّامِنِ إِذَا أَشْهَدَ فِيمَا دَفَعَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُشْهِدِ الضَّامِنُ فِيمَا دَفَعَ عَلَى الْمَضْمُونِ لَهُ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ حِينَ دَفَعَهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ حَاضِرًا عِنْدَ دَفْعِهَا أَوْ غَائِبًا ، فَإِنْ كَانَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ غَائِبًا لَمْ يَكُنْ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ ، سَوَاءٌ صَدَّقَهُ أَوْ كَذَّبَهُ لِأَنَّهُ إِنْ كَذَّبَهُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ صَدَّقَهُ فَقَدْ فَرَّطَ حِينَ لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ وَيَكُونُ الْمَضْمُونُ لَهُ إِذَا حَلَفَ عَلَى حَقِّهِ مِنْ مُطَالَبَةِ مَنْ شَاءَ مِنَ الضَّامِنِ أَوِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ فَإِنْ طَالَبَ الْمَضْمُونَ عَنْهُ وَأَغْرَمُهُ بَرِئَ وَبَرِئَ الضَّامِنُ مَعَهُ وَلَمْ يَكُنْ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا كَانَ دَفَعَ لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ بِدَفْعِهِ حِينَ لَمْ يُشْهِدْ ، وَإِنْ أُغْرِمَ الضَّامِنُ

بَرِئَ وَبَرِئَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ ، وَهَلْ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِشَيْءٍ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْأَلْفَ الْأُولَى لَمْ يَقَعْ بِهَا الْإِبْرَاءُ وَالْأَلْفُ الثَّانِيَةُ هُوَ مَظْلُومٌ بِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَهُ الرُّجُوعُ بِأَحَدِ الْأَلْفَيْنِ لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَهَا مِنْ ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِالْأَدَاءِ فَعَلَى هَذَا بِأَيِّ الْأَلْفَيْنِ يَرْجِعُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَرْجِعُ بِالْأَلْفِ الْأُولَى لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ فِي الْبَاطِنِ كَانَ بِهَا . وَالثَّانِي : يَرْجِعُ بِالْأَلْفِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ سَقَطَتْ بِهَا . فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ حَاضِرًا عِنْدَ دَفْعِهَا إِلَى الْمَضْمُونِ لَهُ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِمَا أَدَّاهُ بِمَحْضَرِهِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيثَاقَ بِالْإِشْهَادِ إِذَا حَضَرَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ إِلَيْهِ دُونَ الضَّامِنِ ، فَلَمَّا لَمْ يُشْهِدْ صَارَ هُوَ التَّارِكَ بِحَقِّهِ مِنَ الْوَثِيقَةِ دُونَ الضَّامِنِ ، ثُمَّ لِلْمَضْمُونِ لَهُ إِذَا حَلَفَ أَنْ يَرْجِعَ بِحَقِّهِ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ أَوِ الضَّامِنِ ، فَإِنْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ فَأَخَذَ مِنْهُ أَلْفًا كَانَ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ فَيُغَرِّمَهُ أَلْفًا ، وَإِنْ رَجَعَ عَلَى الضَّامِنِ فَأَغْرَمَهُ أَلْفًا ثَانِيَةً كَانَ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْأَلْفِ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ إِنَّ حُضُورَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ الدَّفْعَ لَا يُسْقِطُ عَنِ الضَّامِنِ حَقَّ الْوَثِيقَةِ بِالْإِشْهَادِ : لِأَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَ دَفْعًا مُبَرِّئًا ، فَصَارَ ذَلِكَ مَقْرُونًا بِالْإِشْهَادِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَحْضُرِ الْمَضْمُونُ عَنْهُ الدَّفْعَ ، فَإِنْ رَجَعَ الْمَضْمُونُ لَهُ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ لَمْ يَرْجِعِ الضَّامِنُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ ، وَإِنْ رَجَعَ عَلَى الضَّامِنِ فَهَلْ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِإِحْدَى الْأَلْفَيْنِ أَمْ لَا ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ ضَمِنَ لِرَجُلٍ مَا قَضَى بِهِ لَهُ عَلَى آخَرَ أَوْ مَا شَهِدَ بِهِ فُلَانٌ عَلَيْهِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) لَا يَجُوزُ هَذَا وَهَذِهِ مُخَاطَرَةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لَا يَصِحُّ ضَمَانُ الْمَالِ حَتَّى يَكُونَ وَاجِبًا مَعْلُومًا ، وَلَا يَصِحُّ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ وَلَا مَا كَانَ مَجْهُولًا وَلَا الْإِبْرَاءُ مِنْهُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَصِحُّ ضَمَانُ الْمَجْهُولِ وَالْإِبْرَاءُ مِنْهُ وَالْهِبَةُ لَهُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ ضَمَانَ الدَّرَكِ لَمَّا جَازَ اتِّفَاقًا مَعَ جَهَالَتِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ كُلِّ الْمَبِيعِ أَوْ بَعْضِهِ دَلَّ عَلَى جَوَازِ ضَمَانِ الْمَجْهُولِ بِهِ حِجَاجًا وَكَذَلِكَ مَا لَمْ يَجِبْ . وَدَلِيلُنَا أَنَّ كُلَّ جَهَالَةٍ تَبْطُلُ بِهَا الْأَثْمَانُ فَإِنَّهُ يُبْطَلُ بِهَا الضَّمَانُ قِيَاسًا عَلَى جَهَالَةِ الْجِنْسَيْنِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَثْبُتْ فِي الذِّمَّةِ بِجَهَالَةِ جِنْسِهِ لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا لِجَهَالَةِ قَدْرِهِ كَالْأَثْمَانِ ، وَلِأَنَّ الضَّمَانَ وَثِيقَةٌ فَلَمْ يَجِبْ إِلَّا فِي مَعْلُومٍ كَالرَّهْنِ ، وَلِأَنَّهُ ضَمَانُ مَالٍ مَجْهُولٍ فَوَجَبَ أَنْ

يَكُونُ بَاطِلًا قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا قَالَ ضَمِنْتُ بَعْضَ مَالِكَ عَلَى فُلَانٍ ، فَأَمَّا الدَّرَكُ فَهُوَ ضَمَانٌ وَاجِبٌ مَعْلُومٌ : لِأَنَّهُ يُوجِبُ ضَمَانَ الْحَقِّ وَالْحَقُّ مَعْلُومٌ ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ مَا يُسْتَحَقُّ فِي الثَّانِي مِنْ كُلِّ الْمَبِيعِ أَوْ بَعْضِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا قَالَ قَدْ ضَمِنْتُ لَكَ مَا تُدَايِنُ بِهِ فُلَانًا ، أَوْ مَا تُبَايِعُ بِهِ فُلَانًا مِنْ دِرْهَمٍ إِلَى مِائَةٍ حكم الضمان فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ تَخْرِيجًا مِنْ تَجْوِيزِهِ ضَمَانِ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ عَلَى قَوْلٍ فِي الْقَدِيمِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الرِّفْقِ بِالنَّاسِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهُ ضَمَانٌ بَاطِلٌ : لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ وَلَا يَصِحُّ تَخْرِيجُهُ مِنْ ضَمَانِ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ لِأَنَّهُ فِي الْقَدِيمِ كَانَ يَرَى وُجُوبَهَا بِالْعَقْدِ فَصَارَ ضَمَانُ مَا قَدْ وَجَبَ وَهَذَا ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا قَالَ هَذَا وَكِيلِي وَعَلَيَّ ضَمَانُ كُلِّ مَا تُعْطِيهِ أَوْ تُبَايِعُهُ صَحَّ وَلَزِمَهُ ضَمَانُ كُلِّ مَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ فِي مُبَايَعَتِهِ وَعَطَائِهِ ، وَلَيْسَ لُزُومُ هَذَا مِنْ جِهَةِ الضَّمَانِ فَيَبْطُلَ بِالْجَهَالَةِ ، لَكِنْ لَمَّا جَعَلَهُ وَكِيلَهُ صَارَتْ يَدُهُ كَيْدِهِ فَلَوِ ادَّعَى الْمَضْمُونُ لَهُ مِنَ الْمُبَايَعَةِ وَالْعَطَاءِ مَا اعْتَرَفَ بِهِ الْوَكِيلُ وَأَنْكَرَهُ الْمُوَكِّلُ الضَّامِنُ وَلَمْ يُقِمْ لَهُ بَيِّنَةً فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَاهُ حَتَّى تَقُومَ لَهُ بَيِّنَةٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُقْبَلُ قَوْلُ وَكِيلِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ عَلَيْهِ قَدْ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ . وَأَمَّا إِذَا قَالَ لَهُ : أَقْرِضْ زَيْدًا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَعَلَيَّ ضَمَانُهَا حكم الضمان فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ بَعْدُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ ضَمَانٌ مُقْتَرِنٌ بِالْقَرْضِ فَصَحَّ اجْتِمَاعُهُمَا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا قَبَضَ رَجُلٌ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ دَيْنٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ ، فَضَمِنَ ضَامِنٌ نَقْصَهَا فِي الْوَزْنِ أَوْ فِي الصِّفَةِ صَحَّ وَجَرَى هَذَا مَجْرَى ضَمَانِ الدَّرَكِ ، وَخَرَجَ مِنْ بَابِ ضَمَانِ الْمَجْهُولِ وَمَا لَمْ يَجِبْ . وَإِذَا صَحَّ أَنَّ ضَمَانَ ذَلِكَ جَائِزٌ فَلَا يَخْلُو حَالُ الضَّمَانِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَضْمَنَ لَهُ نَقْصَ الْوَزْنِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ ، فَلَوِ ادَّعَى الْقَابِضُ أَنَّهَا نَقَصَتْ عَلَيْهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الدَّافِعُ وَالضَّامِنُ كَانَ بِالْخِيَارِ فِي الرُّجُوعِ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنَ الدَّافِعِ أَوِ الضَّامِنِ ، وَإِنْ كَذَّبَاهُ جَمِيعًا كَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا عَلَى الدَّافِعِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ دَيْنِهِ مَا لَمْ يُقِرَّ بِقَبْضِهِ ، فَإِذَا حَلَفَ اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ بِالنَّقْصِ ، وَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى الضَّامِنِ حَتَّى

يَسْتَحِقَّ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ بِالنَّقْصِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُقْبَلُ عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ كَمَا قُبِلَ قَوْلُهُ عَلَى الدَّافِعِ ، وَيَكُونُ بِالْخِيَارِ فِي الرُّجُوعِ بِالنَّقْصِ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ : أَنَّ قَوْلَهُ عَلَى الضَّامِنِ غَيْرُ مَقْبُولٍ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالنَّقْصِ إِلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّافِعِ هُوَ أَنَّ الدَّيْنَ كَانَ ثَابِتًا فِي ذِمَّةِ الدَّافِعِ وَلَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي ذِمَّةِ الضَّامِنِ فَلِذَلِكَ قُبِلَ قَوْلُهُ عَلَى الدَّافِعِ ، وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى الضَّامِنِ . فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِذَا رَجَعَ الْقَابِضُ عَلَى الضَّامِنِ بِالنَّقْصِ فَلَيْسَ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الدَّافِعِ ، وَإِنْ كَانَ ضَمَانُهُ بِأَمْرِهِ لِأَنَّهُ بِإِكْذَابِ الْقَابِضِ مُقِرًّا بِأَنَّهُ مَظْلُومٌ بِهَا ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى غَيْرِ مَنْ ظَلَمَهُ . وَلَكِنْ إِنْ أَكْذَبَهُ الدَّافِعُ وَصَدَّقَهُ الضَّامِنُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَى الدَّافِعِ مَقْبُولٌ وَالضَّامِنُ قَدْ صَدَّقَهُ ، فَإِنْ رَجَعَ عَلَى الضَّامِنِ لَمْ يَكُنْ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الدَّافِعِ أَيْضًا ، لِإِنْكَارِ الدَّافِعِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُ الْقَابِضِ عَلَى الدَّافِعِ وَلَا يُقْبَلَ عَلَيْهِ قَوْلُ الضَّامِنِ أَنَّهُ بَرِيءُ الذِّمَّةِ فِي حَقِّ الضَّامِنِ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ ، وَمُرْتَهَنُ الذِّمَّةِ بِحَقِّ الْقَابِضِ فَقُبِلَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ ، فَهَذَا إِذَا ضَمِنَ لَهُ نَقْصَ الْوَزْنِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَضْمَنَ لَهُ نَقْصَ الصِّفَةِ وَهُوَ أَنْ يُبَدِّلَ لَهُ مِنْهَا مَا كَانَ رَدِيئًا فِيهَا فَإِذَا رَدَّ مِنْهَا شَيْئًا ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ فِيهَا ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الدَّافِعُ وَالضَّامِنُ كَانَ بِالْخِيَارِ فِي أَنْ يُبَدِّلَهَا مِمَّنْ شَاءَ مِنَ الدَّافِعِ وَالضَّامِنِ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ بَدَلَهَا مِنَ الدَّافِعِ كَانَ لِلدَّافِعِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ دَفْعِ الْبَدَلِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِرْجَاعِ الرَّدِّ الْمُبْدَلِ ، وَإِنْ أَرَادَ أَخْذَ بَدَلِهَا مِنَ الضَّامِنِ لَمْ يَكُنْ لِلضَّامِنِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ دَفْعِ الْبَدَلِ لِيَسْتَرْجِعَ الرَّدَّ الْمُبْدَلَ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ وَالدَّافِعُ يَمْلِكُهُ ، وَقِيلَ لِلضَّامِنِ لَكَ أَنْ تَفْسَخَ الْقَضَاءَ فِي الْقَدْرِ الْمَرْدُودِ وَتَدْفَعَ إِلَيْهِ بِوَزْنِهِ جَيِّدًا ، وَيَكُونُ الرَّدُّ مَعَ الْقَابِضِ لِيَتَوَلَّى رَدَّهُ عَلَى الدَّافِعِ . فَإِنْ قَبَضَ الضَّامِنُ الرَّدِيءَ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ ، وَصَارَ بِقَبْضِهِ مُتَعَدِّيًا إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الدَّافِعُ فِي اسْتِرْجَاعِهِ إِذْنًا صَرِيحًا ، فَلَا يَضْمَنُ . فَلَوْ أَحْضَرَ الْقَابِضُ رَدِيئًا زَعَمَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي الدَّرَاهِمِ فَكَذَّبَهُ الدَّافِعُ وَالضَّامِنُ مَعًا فَإِنْ كَانَ رَدُّهَا عَيْبًا لَا يُخْرِجُهَا مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ كَالْعِتْقِ وَالصِّفَةِ الْجِنْسِيَّةِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْقَابِضِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَإِنْ كَانَ رَدُّهَا يُخْرِجُهَا مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ كَالزَّائِفَةِ وَالصُّفْرِ الْمَطْلِيِّ فَقَوْلُ الْقَابِضِ مَقْبُولٌ عَلَى الدَّافِعِ كَمَا لَوِ ادَّعَى نَقْصَ الْوَزْنِ ، وَهَلْ يُقْبَلُ عَلَى الضَّامِنِ أَمْ لَا ؟ عَلَى مَا

ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَعِيبَ إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْفِضَّةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ قَبْضًا مِنَ الْفِضَّةِ فَصَارَ بِقَبْضِهِ مُسْتَوْفِيًا فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي ادِّعَاءِ الرَّدِّ : لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُبْتَدِئًا لِإِثْبَاتِ حَقٍّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَعِيبُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْفِضَّةِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَبْضًا مِنَ الْفِضَّةِ فَكَانَ حَقُّهُ ثَابِتًا لَا يَسْقُطُ بِقَبْضِهِ فَلَمْ يَصِرْ بِادِّعَاءِ الرَّدِّ مُبْتَدِئًا بِإِثْبَاتِ حَقٍّ ، فَهَذَا فَرْقٌ بَيْنَهُمَا . وَلَوْ صَدَّقَهُ الضَّامِنُ وَكَذَّبَهُ الدَّافِعُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِبَدَلِهَا عَلَى الضَّامِنِ ، وَلِلضَّامِنِ هَاهُنَا أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ دَفْعِ الْمُبْدَلِ إِلَّا بِاسْتِرْجَاعِ الرَّدِّ بِخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا إِذَا صَدَّقَهُ ؛ لِأَنَّ الضَّامِنَ مَعَ تَكْذِيبِ الدَّافِعِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالْبَدَلِ ، فَكَانَ لَهُ اسْتِرْجَاعُ الرَّدِّ لِيَتَوَصَّلَ بِهَا إِلَى بَعْضِ حَقِّهِ فَهَذَا الْحُكْمُ فِيهِ إِذَا ضَمِنَ نَقْصَ الصِّفَةِ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَضْمَنَ لَهُ نَقْصَ الْوَزْنِ وَنَقْصَ الصِّفَةِ ، فَيَصِيرَ ضَامِنًا لَهُمَا وَيَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ ضَمِنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ ، فَيَجْتَمِعَ الْحُكْمَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ . وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَضْمَنَ لَهُ نَقْصَ الدَّرَاهِمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ نَقْصَ الْوَزْنِ أَوْ نَقْصَ الصِّفَةِ ، فَيَكُونَ ضَامِنًا لِنَقْصِ الْوَزْنِ ، لَا يَخْتَلِفُ ، وَهَلْ يَضْمَنُ نَقْصَ الصِّفَةِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ . أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُ لِإِطْلَاقِ النَّقْصِ عَلَى الْأَمْرَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَضْمَنُ لِأَنَّ عُرْفِ النَّاسِ فِي مِثْلِهِ خَارِجٌ عَنْ نَقْصِ الْوَزْنِ دُونَ الصِّفَةِ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ ضَمِنَ دَيْنَ مَيِّتٍ بَعْدَ مَا يَعْرِفُهُ وَيَعْرِفُ لِمَنْ هُوَ فَالضَّمَانُ لَازِمٌ تَرَكَ الْمَيِّتُ شَيْئًا أَوْ لَمْ يَتْرُكْهُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ ضَمِنَ دَيْنَ مَيِّتٍ بَعْدَ مَا يَعْرِفُهُ وَيَعْرِفُ لِمَنْ هُوَ فَالضَّمَانُ لَازِمٌ تَرَكَ الْمَيِّتُ شَيْئًا أَوْ لَمْ يَتْرُكْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ لَمْ يَسْقُطْ بِمَوْتِهِ سَوَاءٌ مَاتَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا ، وَيَصِحُّ ضَمَانُهُ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ سَوَاءٌ تَرَكَ وَفَاءً أَوْ لَمْ يَتْرُكْ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا مَاتَ مُعْسِرًا سَقَطَ عَنْهُ دَيْنُهُ وَلَمْ يَصِحَّ ضَمَانُهُ عَنْهُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْحُقُوقَ تَثْبُتُ فِي أَحَدِ مَحَلَّيْنِ إِمَّا فِي ذِمَّةٍ أَوْ عَيْنٍ وَالْمَيِّتُ لَا ذِمَّةَ لَهُ فَيَثْبُتُ الدَّيْنُ فِيهَا وَالْمُعْسِرُ لَيْسَ لَهُ عَيْنُ مَالٍ يَتَعَلَّقُ الْحَقُّ بِهَا فَثَبَتَ أَنَّ دَيْنَ الْمَيِّتِ إِذَا كَانَ مُعْسِرًا سَاقِطٌ لِعَدَمِ مَحَلٍّ يَتَعَلَّقُ بِهِ وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ دَيْنَ الْمَيِّتِ لَا يَسْقُطُ بِإِعْسَارِهِ . وَالثَّانِي : جَوَازُ ضَمَانِ دَيْنِهِ مَعَ إِعْسَارِهِ ، فَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ دَيْنَ الْمَيِّتِ لَا يَسْقُطُ بِإِعْسَارِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ وَلِأَنَّ مَنْ أُخِذَتْ دُيُونُهُ مِنْ مَالِهِ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ بِإِعْسَارِهِ كَالْحَيِّ ، وَلِأَنَّ مَنْ لَزِمَهُ الدَّيْنُ إِذَا كَانَ حَيًّا لَزِمَهُ إِذَا كَانَ مَيِّتًا كَالْمُوسِرِ ، وَلِأَنَّ مَوْتَ الْمُعْسِرِ مُؤَثِّرٌ فِي تَأْخِيرِ الْحَقِّ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ ثُبُوتِهِ كَإِعْسَارِ الْحَيِّ ؛ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ بَرَاءَةٌ لِلضَّامِنِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ رَجُلًا لَوْ ضَمِنَ عَنْ رَجُلٍ مَالًا ثُمَّ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110