كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ كَالْمُصْحَفِ : لِأَنَّهُمَا شَرْعٌ مُصَانٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : جَائِزٌ لِقُصُورِهِ عَنْ حُرْمَةِ الْقُرْآنِ . فَأَمَّا تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ ، فَهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنِ ابْتِيَاعِهِ كَالْقُرْآنِ الذمي والمعاهد ، لِاسْتِبْدَاعِهِمْ فِيهِ ، وَأَنَّهُمْ رُبَّمَا جَعَلُوهُ طَرِيقًا إِلَى الْقَدْحِ فِيهِ ، فَإِنِ ابْتَاعُوهُ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا . وَأَمَّا كُتُبُ الْفِقْهِ ، فَإِنْ صِينَتْ عَنْهُمْ كَانَ أَوْلَى ، وَإِنْ بِيعَتْ عَلَيْهِمْ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا الذمي والمعاهد . وَأَمَّا كُتُبُ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَأَشْعَارِ الْعَرَبِ ، فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْهَا ، وَلَا تُصَانُ عَنْهُمْ الذمي والمعاهد : لِأَنَّهُ كَلَامٌ لَا يَتَمَيَّزُ بِحُرْمَةٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ أَوْصَى بِبِنَاءِ كَنِيسَةٍ لِصَلَاةِ النَّصَارَى فَمَفْسُوخٌ ، وَلَوْ قَالَ يَنْزِلُهَا الْمَارَّةُ ، أَجَزْتُهُ ، وَلَيْسَ فِي بِنَائِهَا مَعْصِيَةٌ إِلَّا بَأَنْ تُبْنَى لِصَلَاةِ النَّصَارَى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا أَوْصَى رَجُلٌ بِبِنَاءِ كَنِيسَةٍ لِصَلَاةِ النَّصَارَى ، أَوْ بَيْعَةٍ لِصَلَاةِ الْيَهُودِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزْ ، وَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ بَاطِلَةً ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُوصِي مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مَجْمَعٌ لِمَا أَبْطَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، مِنْ صَلَاتِهِمْ وَإِظْهَارِ كُفْرِهِمْ . وَالثَّانِي لِتَحْرِيمِ مَا يُسْتَأْنَفُ إِحْدَاثُهُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ . فَإِنْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْصَى أَنْ تُبْنَى دَارُهُ بَيْعَةً أَوْ كَنِيسَةً لَمْ يَجُزْ ، وَسَوَاءٌ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا فِي الْوَصِيَّةِ أَوْ إِلَى حَاكِمِهِمْ : إِلَّا أَنَّهُمْ إِنْ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا أَبْطَلْنَا الْوَصِيَّةَ ، وَمَنَعْنَا مِنَ الْبِنَاءِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَحَاكَمُوا إِلَيْنَا مَنَعْنَا مِنَ الْبِنَاءِ ، وَلَمْ نَعْتَرِضْ لِلْوَصِيَّةِ . فَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِعِمَارَةِ بَيْعَةٍ قَدِ اسْتُهْدِمَتْ أَبْطَلْنَا الْوَصِيَّةَ إِنْ تَرَافَعُوا إِلَيْنَا ، وَمَنَعْنَا مِنَ الْبِنَاءِ لِبُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ . وَإِنْ لَمْ يَتَرَافَعُوا إِلَيْنَا لَمْ نَعْتَرِضْ لِلْوَصِيَّةِ ، فَإِنْ بَنَوْهَا لَمْ يُمْنَعُوا لِاسْتِحْقَاقِ إِقْرَارِهِمُ الَّذِي يُقَدَّمُ عَلَيْهَا . وَلَوْ أَوْصَى بِبِنَاءِ كَنِيسَةٍ أَوْ بَيْعَةٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِمْ فِي الْوَصِيَّةِ ، وَلَا فِي الْبِنَاءِ : لِأَنَّ أَحْكَامَنَا لَا تَجْرِي عَلَى دَارِ الْحَرْبِ ، فَإِنْ تَرَافَعُوا فِي الْوَصِيَّةِ إِلَيْنَا حَكَمْنَا بِإِبْطَالِهَا ، وَلَمْ نَمْنَعْ مِنْ بِنَائِهَا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى بِبِنَاءِ دَارٍ يَسْكُنُهَا الْمَارَّةُ مِنَ النَّصَارَى ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُجْعَلَ لِمَارَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِسُكْنَاهَا مَعَهُمْ ، فَهَذِهِ وَصِيَّةٌ جَائِزَةٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَجْعَلَهَا خَـاصَّةً لِمَارَّةِ النَّصَارَى ، فَفِيهَا وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ : لِأَنَّهَا لِلسُّكْنَى كَالْمَنَازِلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ لِأَنَّ تَفَرُّدَهُمْ بِهَا يُفْضِي إِلَى اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ ، وَصَلَاتِهِمْ فِيهَا ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [ الْأَنْفَالِ : 57 ] . فَأَمَّا إِنْ أَوْصَى بِالصَّدَقَةِ عَلَى فُقَرَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى جَازَ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [ الْإِنْسَانِ : 8 ] . وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْمُوصِي مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا .

فَصْلٌ : وَلَوْ أَوْصَى مُسْلِمٌ أَوْ مُشْرِكٌ بِعَبْدٍ مُسْلِمٍ لِمُشْرِكٍ ، فَفِي الْوَصِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : بَاطِلَةٌ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَرٍّ عَلَيْهَا ، فَلَا يَمْلِكُ بِهَا ، وَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ قَبُولِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا صَحِيحَةٌ يَمْلِكُهُ بِهَا ، وَلَوْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى شِرْكِهِ ، وَيُقَالُ لَهُ : إِنْ أَسْلَمْت أُقِرَّ الْعَبْدُ عَلَى مِلْكِكَ ، وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ فَبِعْهُ أَوْ أَعْتِقْهُ ، وَإِلَّا بِيعَ عَلَيْكَ ، فَإِنْ كَاتَبَهُ أُقِرَّ عَلَى كِتَابَتِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ ، فَيَعْتِقَ أَوْ يَعْجِزَ ، فَيَرِقَّ ، وَيُبَاعَ عَلَيْهِ . قَدْ بِيعَ سَلْمَانُ فِي رِقِّهِ ، فَاشْتَرَاهُ يَهُودِيٌّ ، ثُمَّ أَسْلَمَ ، فَكَاتَبَ الْيَهُودِيَّ عَلَى أَنْ يَغْرِسَ لَهُ وَادِيًا ، فَفَعَلَ وَعَتَقَ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْوَصِيَّةَ مَوْقُوفَةٌ مُرَاعَاةً ، فَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ قَبُولِهَا مَلَكَهَا ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ قَبْلَ الْقَبُولِ لَمْ يَمْلِكْهَا : لِأَنَّ وَقَفَ الْوَصِيَّةِ جَائِزٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ قَالَ : اكْتُبُوا بِثُلُثِي التَوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ فَسَخْتُهُ لِتَبْدِيلِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ الْآيَةَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . الْوَصِيَّةُ بِكَتْبِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بَاطِلَةٌ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُوصِي بِهَا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا ، وَتَصِحُّ عِنْدَ قَوْمٍ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ الْمَنْقُولَةِ ، بِالِاسْتِفَاضَةِ ، فَاسْتَحَالَ فِيهِ التَّبْدِيلُ كَالْقُرْآنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ التَّبْدِيلَ وَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُمْ ، فَقَدْ كَانَ فِي حُكْمِ التَّأْوِيلِ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِ التَّنْزِيلِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ ، وَخَبَرُهُ أَصْدَقُ أَنَّهُمْ بَدَّلُوا كُتُبَهُمْ ، فَقَالَ تَعَالَى : فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [ الْبَقَرَةِ : 79 ] . وَقَالَ تَعَالَى : يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [ النِّسَاءِ : 46 ] . فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ قَدْ نَسَبُوا إِلَيْهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ ، وَحَرَّفُوا عَنْهُ مَا هُوَ مِنْهُ ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي تَبْدِيلِ الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ ، وَإِذَا كَانَ مُبَدَّلًا كَانَتْ تِلَاوَتُهُ مَعْصِيَةً لِتَبْدِيلِهِ ، لَا لِنَسْخِهِ ، فَإِنَّ فِي الْقُرْآنِ مَنْسُوخًا يُتْلَى كَتِلَاوَةِ النَّاسِخِ ، وَإِذَا كَانَتْ تِلَاوَتُهُ مَعْصِيَةً كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْمَعْصِيَةِ بَاطِلَةً .

فَأَمَّا قَوْلُهُمْ ، إِنَّهُ مُسْتَفِيضُ النَّقْلِ ، فَاسْتَحَالَ فِيهِ التَّبْدِيلُ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّ الِاسْتِفَاضَةَ شَرْطَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَنْقُلَهُ جَمٌّ غَفِيرٌ ، وَعَدَدٌ كَثِيرٌ يَنْتَفِي عَنْهُمُ التَّوَاطُؤُ ، وَالتَّسَاعُدُ عَلَى الْكَذِبِ وَالتَّغْيِيرِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَسْتَوِي حُكْمُ طَرَفِي النَّقْلِ وَوَسَطِهِ . وَهَذَا ، وَإِنْ وُجِدَ فِيهِ أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ مِنْ كَثْرَةِ الْعَدَدِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ الشَّرْطُ الثَّانِي فِي اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَسَطِ : لِأَنَّ التَّوْرَاةَ حِينَ أَحْرَقَهَا بُخْتَنَصَّرُ : اجْتَمَعَ عَلَيْهَا أَرْبَعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ لَفَّقُوهَا مِنْ حِفْظِهِمْ ، ثُمَّ اسْتَفَاضَتْ عَنْهُمْ ، فَخَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ الِاسْتِفَاضَةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا يَعُودُ عَلَى الْقُرْآنِ فِي اسْتِفَاضَةِ نَقْلِهِ : لِأَنَّ الَّذِي حَفِظَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ سِتَّةٌ ، فَلَمْ تُوجَدْ الِاسْتِفَاضَةُ فِي طَرَفَيْهِ وَوَسَطِهِ . قِيلَ : لَئِنْ كَانَ الَّذِي يَحْفَظُ جَمِيعَ الْقُرْآنِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِتَّةً ، فَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ يَحْفَظُونَ مِنْهُ سُوَرًا أَجْمَعُوا عَلَيْهَا ، وَاتَّفَقُوا عَلَى صِحَّتِهَا فَوُجِدَتِ الِاسْتِفَاضَةُ فِيهِمْ بِانْضِمَامِهِمْ إِلَى السِّتَّةِ . وَقَوْلُهُمْ : إِنَّهُمْ غَيَّرُوا التَّأْوِيلَ دُونَ التَّنْزِيلِ : لِأَنَّهُمْ قَدْ أَنْكَرُوا تَغْيِيرَ التَّأْوِيلِ كَمَا أَنْكَرُوا تَغْيِيرَ التَّنْزِيلِ وَلَمْ يَكُنْ إِنْكَارُهُمْ حُجَّةً فِي تَغْيِيرِ التَّأْوِيلِ ، وَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي تَغْيِيرِ التَّنْزِيلِ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ غَيَّرُوهُ ، فَاقْتَضَى حَمْلَهُ عَلَى عُمُومِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ .

فَصْلٌ : وَإِنْ أَوْصَى أَنْ تُكْتَبَ شَرِيعَةُ مُوسَى وَعِيسَى نُظِرَ : فَإِنْ أَرَادَ كَتْبَ شَرِيعَتِهِمْ ، وَأَخْبَارَ قِصَصِهِمُ الْمَوْثُوقِ بِصِحَّتِهَا جَازَ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى : قَصَّهَا عَلَيْهَا فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ ، وَإِنْ أَرَادَ الْكُتُبَ الْمَوْضُوعَةَ فِي فِقْهِ دِينِهِمْ لَمْ يَجُزْ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ . وَهَكَذَا لَوْ أَوْصَى بِكُتُبِ النُّجُومِ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِهَا وَصِيَّةً بَاطِلَةً ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ صَدَّقَ كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ، وَلَوْ وَصَّى بِكُتُبِ الطِّبِّ وَالْحِسَابِ جَازَ : لِأَنَّ الشَّرْعَ لَا يَمْنَعُ مِنْهَا مَعَ ظُهُورِهِمَا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَالِانْتِفَاعِ بِهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

_____كِتَابُ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ _____

بَابُ صِفَةِ الصَّائِدِ مِنْ كَلْبٍ وَغَيْرِهِ وَمَا يَحِلُّ مِنَ الصَّيْدِ وَمَا يَحْرُمُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ إِمْلَاءً مِنْ كِتَابِ أَشْهَبَ وَمِنِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ بَابُ صِفَةِ الصَّائِدِ مِنْ كَلْبٍ وَغَيْرِهِ وَمَا يَحِلُّ مِنَ الصَّيْدِ وَمَا يَحْرُمُ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : كُلُّ مُعَلَّمٍ مِنْ كَلْبٍ وَفَهْدٍ وَنَمِرٍ وَغَيْرِهَا مِنَ الْوَحْشِ ، وَكَانَ إِذَا أُشْلِيَ اسْتَشْلَى ، وَإِذَا أَخَذَ حَبَسَ وَلَمْ يَأْكُلْ ، فَإِنَّهُ إِذَا فَعَلَ هَذَا مَرَةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَهُوَ مُعَلَّمٌ ، وَإِذَا قَتَلَ فَكُلْ مَا لَمْ يَأْكُلْ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْأَصْلُ فِي إِبَاحَةِ الصَّيْدِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [ الْمَائِدَةِ : 1 ] وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا الْعُقُودُ الَّتِي يَتَعَاقَدُهَا النَّاسُ بَيْنَهُمْ مِنْ بَيْعٍ ، أَوْ نِكَاحٍ ، أَوْ يَعْقِدُهَا الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ نَذْرٍ أَوْ يَمِينٍ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا الْعُقُودُ الَّتِي أَخَذَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ ، فِيمَا أَحَلَّهُ لَهُمْ وَحَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ ، وَأَمَرَهُمْ بِهِ ، وَنَهَاهُمْ عَنْهُ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالْعَقْدُ أَوْكَدُ مِنَ الْعَهْدِ : لِأَنَّ الْعَقْدَ مَا كَانَ بَيْنَ اثْنَيْنِ ، وَالْعَهْدَ قَدْ يَنْفَرِدُ بِهِ الْإِنْسَانُ فِي حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ نَفْسِهِ . وَفِي بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَجِنَّةُ الْأَنْعَامِ الَّتِي تُوجَدُ مَيْتَةً فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهَا إِذَا ذُبِحَتْ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا وَحْشِيُّ الْأَنْعَامِ مِنَ الظِّبَاءِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ ، وَجَمِيعِ الصَّيْدِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي صَالِحٍ . وَفِي تَسْمِيَتِهَا " بَهِيمَةً " تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : لِأَنَّهَا أُبْهِمَتْ عَنِ الْفَهْمِ وَالتَّمْيِيزِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا أُبْهِمَتْ عَنِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ .

وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [ الْمَائِدَةِ : 1 ] يُرِيدُ بِهِ جَمِيعَ الْوَحْشِيِّ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ يَحْرُمُ فِي الْحُرُمِ ، وَالْإِحْرَامِ ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَنْتُمْ حُرُمٌ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : فِي الْحَرَمِ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي : فِي الْإِحْرَامِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي صَالِحٍ . إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَقْضِي مَا يُرِيدُ عَفْوٌ وَانْتِقَامٌ . وَالثَّانِي : يَأْمُرُ بِمَا يُرِيدُ مِنْ تَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ ، وَهَذِهِ أَعَمُّ آيَةٍ فِي إِبَاحَةِ الْأَنْعَامِ وَالصَّيْدِ فِي حَالَيْ تَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ تأويله [ الْمَائِدَةِ : 96 ] يَعْنِي مَا عَاشَ فِيهِ مِنْ سَمَكِهِ وَحِيتَانِهِ وَطَعَامِهِ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَمْلُوحَةٌ . وَالثَّانِي : طَافِيَةٌ . وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [ الْمَائِدَةِ : 96 ] فَدَلَّ عَلَى إِبَاحَتِهِ لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [ الْمَائِدَةِ : 2 ] وَهَذَا وَإِنْ كَانَ أَمْرًا ، وَهُوَ بَعْدَ حَظْرٍ فَدَلَّ عَلَى الْإِبَاحَةِ دُونَ الْوُجُوبِ . وَقَالَ تَعَالَى : يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تأويله [ الْمَائِدَةِ : 4 ] وَفِي مُرَادِهِ بِالطَّيِّبَاتِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا اسْتَطَبْتُمُوهُ مِنَ اللُّحْمَانِ سِوَى مَا خُصَّ بِالتَّحْرِيمِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ بِالطَّيِّبَاتِ الْحَلَالَ ، سَمَّاهُ طَيِّبًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَلَذًّا تَشْبِيهًا بِمَا يُسْتَلَذُّ لِأَنَّهُ فِي الدِّينِ مُسْتَلَذٌّ . وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تأويله [ الْمَائِدَةِ : 4 ] يَعْنِي : وَصَيْدُ مَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ ، فَأَضْمَرَهُ : لِدَلَالَةِ الْمَظْهَرِ عَلَيْهِ . وَالْجَوَارِحُ : مَا صِيدَ بِهِ مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ ، وَالطَّيْرِ ، وَفِي تَسْمِيَتِهَا بِالْجَوَارِحِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : لِأَنَّهَا تَجْرَحُ مَا صَادَتْ فِي الْغَالِبِ . وَالثَّانِي : لِكَسْبِ أَهْلِهَا بِهَا مِنْ قَوْلِهِمْ : " فُلَانٌ جَارِحَةُ أَهْلِهِ " أَيْ : كَاسِبُهُمْ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ [ الْأَنْعَامِ : 60 ] أَيْ كَسَبْتُمْ . وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : مُكَلِّبِينَ تَأْوِيلَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا الْكِلَابُ وَحْدَهَا ، وَلَا يَحِلُّ صَيْدُ غَيْرِهَا ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ ، وَالضَّحَّاكِ ، وَالسُّدِّيِّ . وَالثَّانِي : أَنَّ التَّكْلِيبَ مِنْ صِفَاتِ الْجَوَارِحِ مِنْ كَلْبٍ وَغَيْرِهِ ، وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الضَّرَاوَةُ عَلَى الصَّيْدِ ، وَمَعْنَاهُ : مُضْرِينَ عَلَيْهِ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ التَّعْلِيمُ ، وَهُوَ أَنْ يُمْسِكَ ، وَلَا يَأْكُلَ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ تأويله [ الْمَائِدَةِ : 4 ] فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : تُرْسِلُوهُنَّ عَلَى مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَكُمْ دُونَ مَا حَرَّمَهُ عَلَيْكُمْ . وَالثَّانِي : تُعَلِّمُونَهُنَّ مِنْ طَلَبِ الصَّيْدِ لَكُمْ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ مِنَ التَّأْدِيبِ الَّذِي عَلَّمَكُمْ ، وَهُوَ تَعْلِيمُهُ أَنْ يَسْتَشْلِيَ إِذَا أُشْلِيَ ، وَيُجِيبَ إِذَا دُعِيَ وَيُمْسِكَ إِذَا أَخَذَ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [ الْمَائِدَةِ : 4 ] فَكَانَ هَذَا نَصًّا فِي الْإِبَاحَةِ ، وَفِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا رَوَاهُ أَبُو رَافِعٍ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرَادَ الدُّخُولَ عَلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَأَى كَلْبًا ، فَرَجَعَ ، وَقَالَ : إِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ . قَالَ أَبُو رَافِعٍ : " فَأَمَرَنِي بِقَتْلِ الْكِلَابِ ، فَقَتَلْتُهَا ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي أَمَرْتَ بِقَتْلِهَا ؟ فَسَكَتَ حَتَى نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ " . وَالثَّانِي : أَنَّ زَيْدَ الْخَيْلِ وَفَدَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُ : فِينَا رَجُلَانِ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا : دُرَيْعٌ ، وَالْآخَرُ يُكَنَّى : أَبَا دُجَانَةَ ، وَلَهُمَا أَكْلُبٌ خَمْسَةٌ تَصِيدُ الظِّبَاءَ فَمَا تَرَى فِي صَيْدِهَا ؟ . وَحَكَى هِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَسْمَاءَ هَذِهِ الْكِلَابِ الْخَمْسَةِ الَّتِي لِدُرَيْعٍ وَأَبِي دُجَانَةَ : الْمُخْتَلِسُ ، وَغَلَّابٌ ، وَسَهْلَبٌ ، وَالْغُنَيْمُ ، وَالْمُتَعَاطَى ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَرَوَى أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ أَوْ زَرْعٍ انْتُقِصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ . وَرَوَى أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كُلْ مَا رَدَّتْ عَلَيْكَ فَرَسُكَ وَكَلْبُكَ . وَرَوَى عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ : إِنَّا قَوْمٌ نَصِيدُ بِهَذِهِ الْكِلَابِ ، فَقَالَ : إِذَا أَرْسَلْتَ كِلَابَكَ الْمُعَلَّمَةَ ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ ، فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ ، وَإِنَ قَتَلَ إِلَّا أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ ، فَلَا تَأْكُلْ ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُوَنَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَإِنْ خَالَطَهَا كِلَابُ غَيْرِهَا ، فَلَا تَأْكُلْ .

قَالَ : وَسَأَلْتُهُ عَنْ صَيْدِ الْبَازِي ، فَقَالَ : مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ ، فَكُلْ . قَالَ : وَسَأَلْتُهُ عَنِ الصَّيْدِ إِذَا رَمَيْتُهُ ، فَقَالَ : إِذَا رَمَيْتَ سَهْمَكَ ، فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ ، فَإِنْ وَجَدْتَهُ قَدْ قَتَلْتَهُ ، فَكُلْهُ إِلَّا أَنْ تَجِدَهُ قَدْ وَقَعَ فِي مَاءٍ ، فَمَاتَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي الْمَاءُ قَتَلَهُ أَوْ سَهْمُكَ . وَقَالَ : وَسَأَلْتُهُ عَنْ سَهْمِ الْمِعْرَاضِ ، فَقَالَ : مَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْ ، وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ ، فَهُوَ وَقِيزٌ . وَهَذَا الْحَدِيثُ يَسْتَوْعِبُ إِبَاحَةَ الصَّيْدِ بِجَمِيعِ آلَتِهِ .

فَصْلٌ : وَإِنْ ثَبَتَ إِبَاحَةُ الصَّيْدِ جَازَ صَيْدُهُ بِجَمِيعِ الْجَوَارِحِ الْمُعَلَّمَةِ مِنْ ضَوَارِي الْبَهَائِمِ وكواسر الطير يجوز الصيد بها كَالْكَلْبِ وَالْفَهْدِ وَالنَّمِرِ ، وَكَوَاسِرِ الطَّيْرِ كَالْبَازِي وَالصَّقْرِ وَالْعُقَابِ وَالنَّسْرِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ : كُلُّ الصَّيْدِ يَجْمَعُهَا إِلَّا بِالْكَلْبِ الْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَالسُّدِّيُّ : لَا يَحِلُّ إِلَّا صَيْدُ الْكَلْبِ وَحْدَهُ ، وَيَحْرُمُ الِاصْطِيَادُ بِمَا عَدَاهُ : اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ [ الْمَائِدَةِ : 4 ] وَاسْتَدَلَّ الْحَسَنُ بِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَوْلَا أَنَّ الْكِلَابَ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ : لَأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا ، فَاقْتُلُوا مِنَهَا الْأَسْوَدَ الْبَهِيمَ . وَفِيمَا قَدَّمْنَاهُ دَلِيلٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ : وَلِأَنَّ مَا وُجِدَتْ فِيهِ شُرُوطُ التَّعْلِيمِ جَازَ الِاصْطِيَادُ بِهِ ، كَالْكَلْبِ الْأَبْيَضِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الِاصْطِيَادِ بِجَمِيعِهَا ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الصَّيْدِ أَنْ يُدْرَكَ حَيًّا أَوْ مَيْتًا ، فَإِنْ أُدْرِكَ حَيًّا قَوِيَّ الْحَيَاةِ في الاصطياد بالجوارح ، فَلَا اعْتِبَارَ بِصِفَةِ مَا صَادَهُ مِنْ مُعَلَّمٍ أَوْ غَيْرِ مُعَلَّمٍ عَنْ إِرْسَالٍ وَاسْتِرْسَالٍ ، وَهُوَ حَلَالٌ إِذَا ذُكِّيَ ، فَإِنْ فَاتَتْ ذَكَاتُهُ . حَتَّى مَاتَ ، فَهُوَ حَرَامٌ ، وَإِنْ أَدْرَكَ الصَّيْدَ مَيْتًا اعْتَبَرَ فِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ تَكَامُلَ خَمْسَةِ شُرُوطٍ إِذَا تَكَامَلَتْ حَلَّ ، وَإِذَا لَمْ تَتَكَامَلْ حَرُمَ : أَحَدُهَا : أَنْ يَسْتَرْسِلَ الْجَارِحُ عَنْ أَمْرِ مُرْسِلِهِ ، فَإِنِ اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ فَلَمْ يُحِلَّ مَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمُرْسِلُ مِمَّا تَحِلُّ ذَكَاتُهُ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تَحِلُّ ذَكَاتُهُ حَرُمَ : لِأَنَّ إِرْسَالَهُ كَالذَّكَاةِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا يَغِيبَ عَنْ عَيْنِ مُرْسِلِهِ ، فَإِنْ غَابَ عَنْ عَيْنِ مُرْسِلِهِ لَمْ يَحِلَّ : لِأَنَّهُ قَدْ يَحْدُثُ بَعْدَ مَغِيبِهِ مَا يَمْنَعُ مِنْ إِبَاحَتِهِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ لَا يُشْرِكَهُ فِي قَتْلِهِ مَنْ لَا يَحِلُّ صَيْدُهُ ، وَإِنْ شَرَكَهُ فِيهِ لَمْ يَحِلَّ . وَالْخَامِسُ : أَنْ يَكُونَ الْجَارِحُ الْمُرْسَلُ مُعَلَّمًا : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَلَّمٍ لَمْ يَحِلَّ .

وَتَعْلِيمُهُ يَكُونُ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ الكلب أو الجوارح : أَحَدُهَا : أَنْ يَسْتَشْلِيَ إِذَا أُشْلِيَ ، وَهُوَ أَنْ يُرْسَلَ ، فَيَسْتَرْسِلَ شروط حيوان الصيد المعلم . وَالثَّانِي : أَنْ يُجِيبَ إِذَا دُعِيَ شروط حيوان الصيد المعلم ، وَهُوَ أَنْ يَعُودَ إِذَا طُلِبَ ، وَيُزْجَرَ إِذَا زَجَرَهُ شروط حيوان الصيد المعلم . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَحْبِسَ مَا أَمْسَكَهُ ، لَا يَأْكُلُهُ شروط حيوان الصيد المعلم . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ مِرَارًا حَتَّى تَصِيرَ لَهُ عَادَةً شروط حيوان الصيد المعلم ، وَلَا يَصِيرُ بِالْمَرَّةِ وَالْمَرَّتَيْنِ مُعَلَّمًا . قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : يَصِيرُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مُعَلَّمًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَصِيرُ بِالْمَرَّتَيْنِ مُعَلَّمًا : لِأَنَّ الثَّانِيةَ مِنَ الْإِرْسَالِ فَتَصِيرُ عَادَةً . وَهَذَا فَاسِدٌ : لِأَنَّ فِي تَكَامُلِ التَّعْلِيمِ غَيْرَ مَقْنَعٍ فِي الْعُرْفِ : وَلِأَنَّهُ لَا يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ امْتِنَاعِهِ فِي الْأُولَى مَوْجُودًا فِي الثَّانِيةِ ، وَإِذَا تَكَرَّرَ مَعَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ زَالَ : وَلِأَنَّ مَقْصُودَ التَّعْلِيمِ هُوَ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْ طَبْعِهِ إِلَى اخْتِيَارِ مُرْسِلِهِ ، وَهُوَ لَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَّا بِالْمَرُورِ عَلَيْهِ : فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ عَبَّرَ الشَّافِعِيُّ عَنْ إِرْسَالِهِ بِإِشْلَائِهِ ، وَهَذَا خَطَأٌ فِي اللُّغَةِ : لِأَنَّهُ يُقَالُ : أَشْلَيْتُ كَلْبِي إِذَا دَعَوْتُهُ ، وَأَشْلَيْتُهُ إِذَا أَرْسَلْتُهُ ، وَاسْتَعْمَلَ الْإِشْلَاءَ فِي ضِدِّ مَعْنَاهُ فَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْأَمْرَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الدُّعَاءِ وَحْدَهُ ، لَكِنَّهُ دَعَاهُ إِلَى الصَّيْدِ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُشْلِيًا لَهُ ، كَمَا لَوْ دَعَاهُ إِلَى نَفْسِهِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : أَشْلَيْتُ غَيْرِي وَمَسَحْتُ عَقْبِي وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْإِشْلَاءَ هُوَ الْإِغْرَاءُ ، فَبِأَيِّ شَيْءٍ أَغْرَاهُ كَانَ مُشْلِيًا لَهُ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : صَدَدْتُ وَلَمْ يَصْدُدْنَ خَوْفًا لِرِيبَةٍ وَلَكِنْ لِإِتْلَافِ الْمُحَرِّشِ وَالْمُشْلَى أَيِ الْمُغْرَى ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ الكلب المعلم أو الطير الجارح " وَذَكَرَ الشَّعْبِيُّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ . قَالَ : وَإِذَا جَمَعَ الْبَازِي أَوِ الصَّقْرُ أَوِ الْعُقَابُ أَوْ غَيْرُهَا مِمَّا يَصِيدُ أَنْ يُدْعَى فَيُجِيبَ ، وَيُشْلَى فَيَطِيرَ ، وَيَأْخُذَ فَيَحْبِسَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَهُوَ مُعَلَّمٌ ، فَإِنْ قَتَلَ فَكُلْ ، وَإِذَا أَكَلَ فَفِي الْقِيَاسِ أَنَّهُ كَالْكَلْبِ . قَالَ الْمُزَنِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : لَيْسَ الْبَازِي كَالْكَلْبِ : لِأَنَّ الْبَازِيَ وَصْفُهُ إِنَّمَا

يُعَلَّمُ بِالطُّعْمِ وَبِهِ يَأْخُذُ الصَّيْدَ وَالْكَلْبُ يُؤَدَّبُ عَلَى تَرْكِ الطُّعْمِ وَالْكَلْبُ يُضْرَبُ أَدَبًا وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي الطَّيْرِ فَهُمَا مُخْتَلِفَانِ ، فَيُؤْكَلُ مَا قَتَلَ الْبَازِي وَإِنْ أَكَلَ ، وَلَا يُؤْكَلُ مَا قَتَلَ الْكَلْبُ إِذَا أَكَلَ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا أُرْسِلَ الْجَارِحُ الْمُعَلَّمُ عَلَى صَيْدٍ ، فَقَتَلَهُ ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ حَلَّ أَكْلُهُ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ . وَإِنْ أَكَلَ الْجَارِحُ مِنَ الصَّيْدِ الَّذِي قَتَلَهُ ، فَفِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ قَوْلَانِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ كَوَاسِبِ الْبَهَائِمِ أَوْ كَوَاسِرِ الطَّيْرِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ - يَحِلُّ أَكْلُهُ . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَدَاوُدُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَهْلُ الْعِرَاقِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالْمُزَنِيُّ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيُّ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ كَوَاسِبِ الْبَهَائِمِ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ كَوَاسِرِ الطَّيْرِ يُعْلَمُ بِالْأَكْلِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْبَازِيَ يُعَلَّمُ بِالْأَكْلِ فِي مَبَادِئِ التَّعْلِيمِ ، وَبِالِامْتِنَاعِ مِنَ الْأَكْلِ عَنْدَ اسْتِكْمَالِهِ ، وَلَوْ كَانَ تَعْلِيمُهُ بِالْأَكْلِ فِي الْحَالَيْنِ ، لَمَا صَحَّ تَعْلِيمُهُ إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْأَكْلِ ، وَلَكَانَ أَكْلُهُ مِنْهُ شَرْطًا فِي إِرَادَةِ أَكْلِهِ ، وَهَذَا مَدْفُوعٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُعَلَّمُ بِالْأَكْلِ مِنْ يَدِ مُعَلِّمِهِ ، وَلَا يُعَلَّمُ مِنْ أَكْلِ مَا صَادَهُ . وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ، فَإِنْ قِيلَ بِقَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ يَحِلُّ أَنْ يُؤْكَلَ مَا أَكَلَ مِنْهُ ، فَدَلِيلُهُ حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ . رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَالُ لَهُ أَبُو ثَعْلَبَةَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي كِلَابًا مُكَلَّبَةً فَأَفْتِنِي فِي صَيْدِهَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنْ كَانَتِ الْكِلَابُ مُكَلَّبَةً ، فَكُلْ مِمَا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ . قَالَ : ذَكِيٌّ ، وَغَيْرُ ذَكِيٍّ ؟ قَالَ : ذَكِيٌّ وَغَيْرُ ذَكِيٍّ . قَالَ : وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ ؟ فَقَالَ : وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ . وَرَوَى أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : إِذَا

أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُكَلَّبَ ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ ، وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ . فَهَذَا نَصٌّ . وَلِأَنَّ مَا حَلَّ أَكْلُهُ بِفَوَاتِ نَفْسِهِ لَمْ يَحْرُمْ بِحُدُوثِ أَكْلِهِ كَالْمُذَكَّى : وَلِأَنَّ مَا حَلَّ مِنْ صَيْدِهِ إِذَا لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ حَلَّ ، وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ ، كَمَا لَوْ تَرَكَهُ بَعْدَ صَيْدِهِ ، ثُمَّ عَادَ ، فَأَكَلَ مِنْهُ : وَلِأَنَّهُ لَوْ أَكَلَ مِنْ غَيْرِ صَيْدِهِ ، وَأَكَلَ غَيْرُهُ مِنْ صَيْدِهِ لَمْ يَحْرُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَكْلَ لَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ . وَإِنْ قِيلَ بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ : إِنْ أَكَلَ مَا أَكَلَ مِنْهُ حَرُمَ ، فَدَلِيلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَمَا أَكَلَ مِنْهُ ، فَقَدْ أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ ، لَا عَلَى مُرْسِلِهِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ ، وَهُوَ أَثْبَتُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ ، وَإِنْ قَتَلَ إِلَّا أَنْ يَأَكُلَ مِنْهُ ، فَلَا تَأَكُلْ . وَهَذَا نَصٌّ . وَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِ التَّعْلِيمِ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْهُ ، وَإِذَا أَكَلَ بَانَ أَنَّهُ غَيْرُ مُعَلَّمٍ ، فَحَرُمَ : وَلِأَنَّ أَكْلَهُ وَإِنِ احْتَمَلَ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : نِسْيَانُ التَّعْلِيمِ ، فَمُحَرَّمٌ . وَالثَّانِي : لِغَلَبَةِ الْجُوعِ ، فَلَا يُحَرَّمُ . وَجَبَ عِنْدَ تَعَارُضِهِمَا أَنْ يُعَادَ إِلَى أَصْلِهِ فِي الْحَظْرِ وَالتَّحْرِيمِ كَمَا لَوِ اخْتَلَطَ مُذَكًّى بِمَيْتَةٍ لَمْ يَحِلَّ الِاجْتِهَادُ فِيهِ : تَغْلِيبًا لِلتَّحْرِيمِ : وَلِأَنَّ الصَّيْدَ الْوَاحِدَ لَا يَتَبَعَّضُ حُكْمُهُ ، فَلَمَّا كَانَ مَا أَكَلَهُ قَدْ أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ ، كَذَلِكَ بَاقِيهِ ، وَمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ حَرَامٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا أَكَلَ مِنْهُ ، فَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَا تَقَدَّمَهُ مِنْ صَيْدِهِ الَّذِي لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ حَلَالٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَحْرُمُ جَمِيعُ صَيْدِهِ الْمُتَقَدِّمِ بِأَكْلِهِ مِنَ الصَّيْدِ الْمُسْتَأْخِرِ : اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَكْلَ إِذَا كَانَ مُنَافِيًا لِلتَّعْلِيمِ في الصيد دَلَّ حُدُوثُهُ مِنْهُ عَلَى تَقَدُّمِهِ فِيهِ ، فَصَارَ صَائِدًا لِجَمِيعِهِ ، وَهُوَ غَيْرُ مُعَلَّمٍ كَالشَّاهِدَيْنِ إِذَا شَهِدَا ، وَهُمَا عَدْلَانِ فِي الظَّاهِرِ ، فَلَمْ يَحْكُمِ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِمَا فَفَسَقَا لَمْ يَحْكُمْ بِهَا ، وَإِنْ تَقَدَّمَتْ عَلَى فِسْقِهِمَا : لِأَنَّهَا دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمِ الْفِسْقِ فِيهِمَا . وَالثَّانِي : أَنَّ التَّعْلِيمَ يَنْقُلُهُ عَنْ طَبْعِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَنْتَقِلُ عَنْهُ مَعَ الْآخَرِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ غَيْرُهُ مُنْتَقِلًا مَعَ الْأَوَّلِ ، وَصَارَ تَرْكُ أَكْلِهِ فِي الْأَوَّلِ اتِّفَاقًا لَا تَعْلِيمًا . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [ الْمَائِدَةِ : 4 ] وَقَدْ أَمْسَكَ عَلَى مُرْسِلِهِ بِمَا تَقَدَّمَ فَحَلَّ : لِأَنَّ مَا وُجِدَتْ شُرُوطُ الْإِبَاحَةِ فِيهِ لَمْ يَحْرُمْ تَقَدُّمُهَا فِي غَيْرِهِ :

كَإِسْلَامِ مُرْسِلِهِ لَوِ ارْتَدَّ عَنْهُ بِعَدَمِ إِرْسَالِهِ لَمْ يَحْرُمْ مَا صِيدَ قَبْلَ رِدَّتِهِ : وَلِأَنَّهُ قَدْ حَكَمَ بِتَعْلِيمِهِ بِمَا تَكَرَّرَ مِنْ تَرْكِ أَكْلِهِ ، وَحُدُوثُ الْأَكْلِ مِنْهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِشِدَّةِ جُوعٍ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِحُدُوثِ نِسْيَانٍ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِأَنَّ تَعْلِيمَهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْقُضَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحُكْمِ بِتَعْلِيمِهِ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ حُدُوثٍ وَقِدَمٍ ، كَالشَّاهِدَيْنِ إِذَا نُفِّذَ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمَا ، ثُمَّ حَدَثَ فِسْقُهُمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْتَقَضَ بِهِ الْحُكْمُ الْمُتَقَدِّمُ : لِجَوَازِ تَرَدُّدِهِ بَيْنَ حُدُوثٍ وَقِدَمٍ : وَلِأَنَّ تَرْكَهُ الْأَكْلَ شَرْطٌ فِي التَّعْلِيمِ كَمَا أَنَّ اسْتِرْسَالَهُ إِذَا أُرْسِلَ شَرْطٌ فِيهِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ صَارَ يَسْتَرْسِلُ إِنْ لَمْ يُرْسَلْ ، وَلَا يَسْتَرْسِلُ إِنْ أُرْسِلَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ صَيْدِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَلَّمٍ فِيهِ ، كَذَلِكَ حُدُوثُ الْأَكْلِ . وَبِتَحْرِيرِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ تَكُونُ الْأَجْوِبَةُ عَمَّا قَدَّمُوهُ مِنَ الدَّلِيلِ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا تَعَارَضَ مَا يُوجِبُ الْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ ، يَغْلِبُ حُكْمُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ . قِيلَ : قَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا وَاعْتَبَرَ تَرَجُّحَ أَحَدِهِمَا بِدَلِيلٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ غَلَّبَ الْحَظْرَ ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ ، لَكِنْ يَكُونُ هَذَا فِيمَا امْتَزَجَ فِيهِ حَظْرٍ وَإِبَاحَةٍ . فَأَمَّا مَا لَمْ يَمْتَزِجْ فِيهِ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ ، فَلَا يُوجِبُ تَغْلِيبَ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ ، كَالْأَوَانِي إِذَا كَانَ بَعْضُهَا نَجِسًا ، وَبَعْضُهَا طَاهِرًا لَمْ تَمْنَعْ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي الظَّاهِرِ ، وَهَاهُنَا قَدْ تَمَيَّزَتِ الْإِبَاحَةُ فِي الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْحَظْرِ ، فِي الْمُسْتَأْجَرِ ، فَلَمْ يَجُزْ تَغْلِيبُ أَحَدِهِمْ عَلَى الْآخَرِ ، وَأَثْبَتَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْحُكْمَيْنِ فِي مَحَلِّهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي دَمِ الصَّيْدِ حكم أكل هذا الصيد لَمْ يُحَرَّمْ أَكْلُهُ ، وَحَرَّمَهُ النَّخَعِيُّ ، وَأَجْرَاهُ مَجْرَى الْأَكْلِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الدَّمَ خَارِجٌ مِنَ الْإِبَاحَةِ ، فَلَمْ يُعْتَقَدْ مِنْهُ التَّحْرِيمُ كَالْغَرَثِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مُنْفَصِلٌ ، فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ حُكْمٌ مُتَّصِلٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ التَّسْمِيَةُ عَلَى الصَّيْدِ وَالذَّبِيحَةِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " وَإِذَا أَرْسَلَ أَحْبَبْتُ لَهُ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى فَإِنْ نَسِيَ فَلَا بَأْسَ : لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَذْبَحُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : التَّسْمِيَةُ عَلَى الصَّيْدِ وَالذَّبِيحَةِ سُنَّةٌ ، وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ ، فَإِنْ تَرَكَهَا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا ، حَلَّ أَكْلُهُ . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ عَطَاءٌ ، وَمَالِكٌ .

وَقَالَ الشَّعْبِيُّ ، وَدَاوُدُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ : التَّسْمِيَةُ وَاجِبَةٌ ، فَإِنْ تَرَكَهَا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا حَرُمَ الْأَكْلُ . وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابُهُ ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ : تَجِبُ مَعَ الذِّكْرِ ، تَسْقُطُ مَعَ النِّسْيَانِ : فَإِنْ تَرَكَهَا عَامِدًا حَرُمَ ، وَإِنْ تَرَكَهَا نَاسِيًا حَلَّ : اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [ الْأَنْعَامِ : 121 ] وَهَذَا نَصٌّ ، وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَدِيٍّ وَأَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ : إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُكَلَّبَ ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ، فَكُلْ فَعَلَّقَ الْإِبَاحَةَ بِشَرْطَيْنِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِأَحَدِهِمَا : وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ شَرْطِ الذَّكَاةِ أَنْ يَكُونَ الْمُذَكِّي مِنْ أَهْلِ التَّسْمِيَةِ ، فَحَلَّتْ ذَكَاةُ الْمُسْلِمِ وَالْكِتَابِيِّ : لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا . وَلَمْ تَحِلَّ ذَكَاةُ الْمَجُوسِيِّ ، وَالْوَثَنِيِّ : لِأَنَّهُ لَيْسَ مَنْ أَهْلِهَا ، كَانَتِ التَّسْمِيَةُ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ مِنْ شَرْطِ الذَّكَاةِ : لِأَنَّهُ حُرْمَةُ أَهْلِهَا بِهَا . وَبِعَكْسِهِ لَمَّا لَمْ تَكُنِ التَّسْمِيَةُ شَرْطًا فِي صَيْدِ السَّمَكِ لَمْ تَكُنْ مِنْ شَرْطِ صَائِدِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ التَّسْمِيَةِ مِنْ مَجُوسِيٍّ وَوَثَنِيٍّ كَمَا حَلَّ صَيْدُ مَنْ كَانَ مَنْ أَهْلِهَا مِنْ مُسْلِمٍ وَكِتَابِيٍّ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ [ الْمَائِدَةِ : 3 ] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ ، وَإِنْ قِيلَ : فَالتَّسْمِيَةُ هِيَ الذَّكَاةُ ؛ كَانَ فَاسِدًا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ التَّسْمِيَةَ قَوْلٌ وَالذَّكَاةَ فِعْلٌ ، فَافْتَرَقَا . وَالثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنِ الذَّكَاةِ ، فَقَالَ : فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ ، وَقَالَ تَعَالَى : الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ [ الْمَائِدَةِ : 5 ] يَعْنِي ذَبَائِحَهُمْ . وَالظَّاهِرُ الْغَالِبُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَ عَلَيْهَا ، فَدَلَّ عَلَى إِبَاحَتِهَا . وَرَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : الْمُسْلِمُ يَذْبَحُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ سَمَّى أَوْ لَمْ يُسَمِّ . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ مِنَّا يَذْبَحُ ، وَيَنْسَى أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى ، فَقَالَ : اسْمُ اللَّهِ عَلَى قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ . وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قَوْمًا قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَ بِلَحْمٍ لَا نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا ، فَقَالَ : اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ، ثَمَّ كُلُوهُ . وَأَبَاحَ الذَّبِيحَةَ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ ، وَالتَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْأَكْلِ لَا تَجِبُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ .

وَرَوَى أَبُو الْعُشَرَاءِ الدَّارِمِيُّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُتَرَدِّيَةِ مِنَ الْإِبِلِ فِي بِئْرٍ لَا نَصِلُ إِلَى مَنْحَرِهَا . فَقَالَ : وَأَبِيكَ لَوْ طَعَنْتَ فِي فَخِذِهَا أَجْزَأَكَ فَعَلَّقَ الْإِجْزَاءَ بِالْعُقُودِ دُونَ التَّسْمِيَةِ . فَدَلَّ عَلَى الْإِبَاحَةِ . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَنْهَرَ الدَّمَ ، وَفَرَى الْأَوْدَاجَ ، فَكُلْ : وَلِأَنَّ مَا يُوجَدُ فِيهِ فِعْلُ الذَّكَاةِ ، لَمْ يَحْرُمْ بِتَرْكِ التَّسْمِيَةِ كَالنَّاسِي : وَلِأَنَّ مَا لَمْ تَحْرُمْ بِهِ ذَكَاةُ النَّاسِي لَمْ تَحْرُمْ بِهِ ذَكَاةُ الْعَامِدِ كَالْأَخْرَسِ : وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ لِلذِّكْرِ شَرْطٌ فِي انْتِهَائِهِ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي ابْتِدَائِهِ كَالطَّهَارَةِ طَرْدًا وَالصَّلَاةِ عَكْسًا ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي الذَّكَاةِ مَعَ النِّسْيَانِ ، لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِيهَا مَعَ الذِّكْرِ كَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ : وَلِأَنَّ الْحُوتَ يُسْتَبَاحُ بِتَارِكِهَا كَمَا يَحِلُّ الصَّيْدُ بِذَكَاتِهِ ، فَلَمَّا لَمْ تَكُنِ التَّسْمِيَةُ شَرْطًا فِي اسْتِبَاحَةِ الْحُوتِ لَمْ تَكُنْ شَرْطًا فِي اسْتِبَاحَةِ غَيْرِهِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ حَقِيقَةُ الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ : لِأَنَّ ضِدَّهُ النِّسْيَانُ الْمُضَافُ إِلَى الْقَلْبِ ، فَيَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى مَنْ لَمْ يُوَحِّدِ اللَّهَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ . أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [ الْأَنْعَامِ : 121 ] وَالْمُشْرِكُونَ هُمْ أَوْلِيَاءُ الشَّيَاطِينِ دُونَ الْمُسْلِمِينَ . وَالثَّانِي : مَحْمُولٌ عَلَى الْمَيْتَةِ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [ الْأَنْعَامِ : 121 ] وَذَكَاةُ مَا لَمْ يُسَمَّ عَلَيْهِ لَا تَكُونُ فِسْقًا . وَالثَّانِي : أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَأْكُلُونَ مَا قَتَلْتُمُوهُ وَلَا تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَهُ اللَّهُ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ نُطْقَ الْخَبَرِ إِبَاحَةُ الْأَكْلِ مَعَ التَّسْمِيَةِ ، وَدَلِيلُ خِطَابِهِ مَتْرُوكٌ عِنْدَنَا بِدَلِيلٍ وَمَتْرُوكٌ عِنْدَهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ : لِأَنَّهُ لَا يَجْعَلُ إِثْبَاتَ الشَّيْءِ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ . وَالْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ ذَكَاةِ الْمَجُوسِيِّ وَالْوَثَنِيِّ : لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّسْمِيَةِ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ لِهَذَا الْمَعْنَى حَرَّمَ ذَكَاتَهُ ، وَلَكِنْ لِتَغْلِيظِ كُفْرِهِ ، وَلِذَلِكَ حَرُمَتْ مُنَاكَحَتُهُ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ التَّسْمِيَةُ شَرْطًا فِي النِّكَاحِ . وَأَمَّا صَيْدُ السَّمَكِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ فِعْلٌ آدَمِيٌّ ، وَذَلِكَ حَلَّ إِذَا مَاتَ بِغَيْرِ سَبَبٍ ، وَعِنْدَ

أَبِي حَنِيفَةَ إِذَا كَانَ بِسَبَبٍ ، فَلِذَلِكَ حَكَمَ عَلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " وَلَوْ أَرْسَلَ مُسْلِمٌ وَمَجُوسِيٌّ كَلْبَيْنِ مُتَفَرِّقَيْنِ أَوْ طَائِرَيْنِ أَوْ سَهْمَيْنِ ، فَقَتَلَا ، فَلَا يُؤْكَلُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الصَّيْدَ إِذَا أُدْرِكَ حَيًّا ، فَالِاعْتِبَارُ فِي إِبَاحَتِهِ بِذَابِحِهِ دُونَ صَائِدِهِ ، فَإِنْ صَادَهُ مَجُوسِيٌّ ، وَذَبَحَهُ مُسْلِمٌ حَلَّ ، وَلَوْ صَادَهُ مُسْلِمٌ وَذَبَحَهُ مَجُوسِيٌّ حَرُمَ . فَأَمَّا إِذَا أُدْرِكَ الصَّيْدُ مَيْتًا ، فَالِاعْتِبَارُ فِي إِبَاحَتِهِ بِصَائِدِهِ دُونَ مَالِكِ الْآلَةِ ، فَإِنْ أَرْسَلَ مُسْلِمٌ كَلْبَ مَجُوسِيٍّ ، فَصَادَ كَانَ صَيْدُهُ حَلَالًا : لِأَنَّهُ صَيْدُ مُسْلِمٍ ، وَلَوْ أَرْسَلَ مَجُوسِيٌّ كَلْبَ مُسْلِمٍ ، كَانَ صَيْدُهُ حَرَامًا : لِأَنَّهُ صَيْدٌ مَجُوسِيٌّ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ : الِاعْتِبَارُ بِمَالِكِ الْكَلْبِ دُونَ مُرْسِلِهِ ، فَيَحِلُّ مَا صَادَهُ الْمَجُوسِيُّ بِكَلْبِ الْمُسْلِمِ ، وَيَحْرُمُ مَا صَادَهُ الْمُسْلِمُ بِكَلْبِ الْمَجُوسِيِّ ، وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلٍ تَفَرَّدَ بِهِ أَنَّ الْكَلْبَ لَوْ تَفَرَّدَ بِالِاسْتِرْسَالِ مِنْ غَيْرِ إِرْسَالٍ حَلَّ صَيْدُهُ ، وَهَذَا فَاسِدُ الْأَصْلِ : لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ . وَحَكَى فِي التَّفْرِيعِ : لِأَنَّ الْإِرْسَالَ قَدْ رَفَعَ حُكْمَ الِاسْتِرْسَالِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى مُسْلِمٌ بِسَهْمِ مَجُوسِيٍّ عِنْدَ قَوْسِهِ حَلَّ ، وَعَكْسُهُ الْمَجُوسِيُّ : لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالصَّائِدِ لَا بِالْآلَةِ ، وَلِهَذَا إِذَا كَانَتِ الْآلَةُ مَغْصُوبَةً كَانَ الصَّيْدُ لِلصَّائِدِ دُونَ صَاحِبِ الْآلَةِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الصَّيْدُ لِمَنْ صَادَهُ لَا لِمَنْ أَثَارَهُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ ، فَصُورَةُ مَسْأَلَتِنَا أَنْ يَجْتَمِعَ مُسْلِمٌ وَمَجُوسِيٌّ عَلَى صَيْدٍ يُرْسِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَلْبَهُ عَلَيْهِ أَوْ يُرْسِلُ أَحَدُهُمَا عَلَيْهِ كَلْبًا ، وَالْآخَرُ فَهْدًا أَوْ بَازِيًا أَوْ سَهْمًا ، سَوَاءٌ تَمَاثَلَا فِي آلَةِ الِاصْطِيَادِ أَوِ اخْتَلَفَا ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِمَا سَوَاءٌ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُرْسِلَيْنِ فِي الصَّيْدِ مِنْ سَبْعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْتَرِكَ كَلْبُ الْمَجُوسِيِّ وَكَلْبُ الْمُسْلِمِ عَلَى إِمْسَاكِ الصَّيْدِ وَقَتْلِهِ ، فَيَكُونَ حَرَامًا : لِأَنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ تَحْلِيلٌ بِكَلْبِ الْمُسْلِمِ ، وَتَحْرِيمٌ بِكَلْبِ الْمَجُوسِيِّ ، وَاجْتِمَاعُ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ فِي الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ يُوجِبُ تَغْلِيبَ التَّحْرِيمِ عَلَى التَّحْلِيلِ ، كَالْأَمَةِ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ يَحْرُمُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِصَابَتُهَا : لِاجْتِمَاعِ التَّحْلِيلِ فِي حَقِّهِ وَالتَّحْرِيمِ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَشْتَرِكَا فِي إِمْسَاكِهِ ثُمَّ يَمُوتَ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاكٍ فِي قَتْلِهِ ، فَيَحْرُمَ : لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ صَارَ قَتْلًا ، فَصَارَ كَاشْتِرَاكِهِمَا فِي قَتْلِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَشْتَرِكَا فِي جِرَاحِهِ مِنْ غَيْرِ إِمْسَاكٍ ، فَيَحْرُمُ : لِأَنَّهُمَا قَاتِلَاهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَلْبُ الْمُسْلِمِ قَدِ ابْتَدَأَ بِجِرَاحِهِ ، فَوَجَاهُ بِقَطْعِ حُلْقُومِهِ أَوْ إِخْرَاجِ حَشْوَتِهِ ، ثُمَّ

أَدْرَكَهُ كَلْبُ الْمَجُوسِيِّ مُضْطَرِبًا فَجَرَحَهُ فَيَحِلُّ بِتَوْجِيَةِ كَلْبِ الْمُسْلِمِ ، وَلَا يَحْرُمُ لِمَا تَعَقَّبَهُ مِنْ جِرَاحِ كَلْبِ الْمَجُوسِيِّ ، كَالشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ إِذَا أَكَلَ مِنْهَا سَبُعٌ لَمْ تَحْرُمْ ، وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةَ الْحَرَكَةِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَشْتَرِكَا فِي إِمْسَاكِهِ ، وَيَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِقَتْلِهِ ، فَيَحْرُمَ ، سَوَاءٌ انْفَرَدَ بِقَتْلِهِ كَلْبُ الْمَجُوسِيِّ أَوْ كَلْبُ الْمُسْلِمِ لِحُدُوثِ الْقَتْلِ عَنِ الْإِمْسَاكِ الْمُشْتَرَكِ . وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ : أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِإِمْسَاكِهِ وَيَشْتَرِكَا فِي قَتْلِهِ ، فَيَحْرُمَ سَوَاءٌ انْفَرَدَ بِإِمْسَاكِهِ كَلْبُ الْمُسْلِمِ أَوْ كَلْبُ الْمَجُوسِيِّ : لِأَنَّ قَتْلَهُ مُشْتَرَكٌ . وَالْقِسْمُ السَّادِسُ : أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِإِمْسَاكِهِ ، وَيَنْفَرِدَ الْآخَرُ بِقَتْلِهِ ، فَيَحْرُمَ سَوَاءٌ قَتَلَهُ كَلْبُ الْمَجُوسِيِّ أَوْ كَلْبُ الْمُسْلِمِ : لِأَنَّهُ إِنْ أَمْسَكَهُ كَلْبُ الْمُسْلِمِ وَقَتَلَهُ كَلْبُ الْمَجُوسِيِّ حَرُمَ : لِأَنَّهُ قَتَلَهُ كَلْبُ مَجُوسِيٍّ ، وَإِنْ أَمْسَكَهُ كَلْبُ الْمَجُوسِيِّ ، وَقَتَلَهُ كَلْبُ الْمُسْلِمِ حَرُمَ : لِأَنَّهُ بِإِمْسَاكِ كَلْبِ الْمَجُوسِيِّ لَهُ قَدْ صَارَ مَقْدُورًا عَلَى ذَكَاتِهِ ، فَلَمْ يَحِلَّ بِقَتْلِ كَلْبِ الْمُسْلِمِ لَهُ ، فَاسْتَوَيَا فِي التَّحْرِيمِ ، وَاخْتَلَفَا فِي التَّحْلِيلِ . وَالْقِسْمُ السَّابِعُ : أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِالْإِمْسَاكِ ، وَالْقَتْلِ دُونَ الْآخَرِ ، فَيُنْظَرُ ، فَإِنْ تَفَرَّدَ بِهِ كَلْبُ الْمَجُوسِيِّ حَرُمَ ، وَإِنْ تَفَرَّدَ بِهِ كَلْبُ الْمُسْلِمِ حَلَّ ، سَوَاءٌ أَثَّرَ كَلْبُ الْمَجُوسِيِّ فِي إِعْيَائِهِ وَرَدِّهِ أَوْ لَمْ يُؤَثِّرْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ أَثَّرَ كَلْبُ الْمَجُوسِيِّ فِي إِعْيَائِهِ وَرَدِّهِ حَرُمَ كَمَا لَوْ أَمْسَكَهُ : لِتَأْثِيرِ الْأَمْرَيْنِ فِيهِ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ مُبَاشَرَةٌ تُخَالِفُ حُكْمَ مَا عَدَاهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّيْدَ لَوْ مَاتَ بِالْإِعْيَاءِ فِي طَلَبِ الْكَلْبِ حَرُمَ ، وَلَوْ مَاتَ بِإِمْسَاكِهِ حَلَّ ، وَلَوْ طَلَبَهُ مُحْرِمَانِ ، فَأَعْيَاهُ أَحَدُهُمَا وَأَمْسَكَ الْآخَرُ ، فَمَاتَ كَانَ جَزَاؤُهُ عَلَى الْمُمْسِكِ دُونَ الْمُعْيِي ، فَدَلَّ عَلَى افْتِرَاقِ الْحُكْمَيْنِ .

فَصْلٌ : وَعَلَى هَذَا التَّقْسِيمِ لَوْ كَانَ لِمُسْلِمٍ كَلْبَانِ : أَحَدُهُمَا مُعَلَّمٌ وَالْآخَرُ غَيْرُ مُعَلَّمٍ ، فَأَرْسَلَهُمَا عَلَى صَيْدٍ كَانَ كَاجْتِمَاعِ كَلْبِ الْمَجُوسِيِّ وَكَلْبِ الْمُسْلِمِ عَلَى صَيْدٍ : لِأَنَّ مَا صَادَهُ غَيْرُ الْمُعَلَّمِ فِي التَّحْرِيمِ كَالَّذِي صَادَهُ كَلْبُ الْمَجُوسِيِّ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لِمُسْلِمٍ كَلْبَانِ مُعَلَّمَانِ ، فَأَرْسَلَ أَحَدَهُمَا ، وَاسْتَرْسَلَ الْآخَرَ ، كَانَ عَلَى هَذَا التَّقْسِيمِ فِي الْجَوَابِ : لِأَنَّ صَيْدَ الْمُرْسَلِ حَلَالٌ ، وَصَيْدَ الْمُسْتَرْسِلِ حَرَامٌ . وَلَوْ أُشْكِلُ حُكْمُ الصَّيْدِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا ، هَلْ هُوَ مُبَاحٌ لِإِبَاحَةِ نَفْسِهِ ؟ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى التَّحْرِيمِ دُونَ التَّحْلِيلِ : لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي فَوَاتِ الرُّوحِ الْحَظْرُ حَتَّى يُعْلَمَ بِهِ الْإِبَاحَةُ ، فَإِنْ أَدْرَكَ هَذَا الصَّيْدَ بِشَكٍّ أَوْ يَقِينٍ ، وَفِيهِ حَيَاةٌ ، فَذَبَحَ ؛ نُظِرَ فِي الْحَيَاةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَتْ قَوِيَّةً يَعِيشُ مَعَهَا الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ حَلَّ أَكْلُهُ بِهَذَا الذَّبْحِ وَصَارَ

مُذَكًّى ، وَإِنْ كَانَتْ حَيَاتُهُ ضَعِيفَةً ، كَاضْطِرَابِ الْمَذْبُوحِ لَا يَبْقَى مَعَهَا زَمَانًا مُؤَثِّرًا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ بِذَبْحِهِ ، وَكَانَ عَلَى تَحْرِيمِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " وَإِذَا رَمَى أَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى الصَّيْدِ فَوَجَدَهُ قَتِيلًا فَالْخَبَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَأْكُلَهُ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَتَلَهُ غَيْرُهُ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كُلْ مَا أَصْمَيْتَ وَدَعْ مَا أَنْمَيْتَ وَمَا أَصْمَيْتَ وَأَنْتَ تَرَاهُ وَمَا أَنْمَيْتَ مَا غَابَ عَنْكَ فَقَتَلَهُ إِلَّا أَنْ يَبْلُغَ مِنْهُ مَبْلَغَ الذَّبْحِ ، فَلَا يَضُرُّهُ مَا حَدَثَ بَعْدَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا أَنْ يَرْمِيَ صَيْدًا بِسَهْمٍ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْهِ كَلْبًا ، فَيَغِيبَ الصَّيْدُ عَنْهُ ، ثُمَّ يَجِدُهُ مَيْتًا ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ السَّهْمُ أَوِ الْكَلْبُ قَبْلَ مَغِيبِ الصَّيْدِ قَدْ بَلَغَ مِنْهُ مَبْلَغَ الذَّبْحِ ، وَهُوَ يَرَاهُ ثُمَّ تَحَامَلَ الصَّيْدُ بِضَعْفِ الْحَيَاةِ حَتَّى غَابَ عَنْهُ ، ثُمَّ وَجَدَهُ مَيْتًا ، فَهَذَا مَأْكُولٌ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُذَكًّى عِنْدَ مُشَاهَدَتِهِ ، فَلَمْ يُحَرَّمْ مَا حَدَثَ بَعْدَهُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَغِيبَ الصَّيْدُ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ فِيهِ السَّهْمُ ، وَقَبْلَ أَنْ يَجْرَحَهُ الْكَلْبُ ، ثُمَّ يَجِدُهُ بَعْدَ غَيْبَتِهِ مَجْرُوحًا مَيْتًا ، فَهُوَ حَرَامٌ لَا يُؤْكَلُ سَوَاءٌ كَانَ السَّهْمُ وَاقِعًا فِيهِ ، وَالْكَلْبُ وَاقِعًا عَلَيْهِ ، أَوْ لَا : لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُشَارِكَ عَقْرَ الْكَلْبِ فِي قَتْلِهِ جِرَاحَةُ سَبُعٍ أَوْ لَسْعَةُ أَفْعَى ، وَيَغْرُبُ فِيهِ سَهْمُ إِنْسَانٍ آخَرَ ، فَلَمَّا احْتَمَلَ هَذَا وَغَيْرَهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا : لِأَنَّهُ عَلَى أَصْلِ الْحَظْرِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَقَعَ فِيهِ السَّهْمُ وَيَجْرَحَهُ الْكَلْبُ ، وَهُوَ يَرَاهُ ، وَيَغِيبَ عَنْهُ ، وَهُوَ قَوِيُّ الْحَيَاةِ ، ثُمَّ يَجِدُهُ مَيْتًا ، فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ . وَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ، وَنَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ لِلْخَبَرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالْقِيَاسِ . وَقَالَ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " : لَا يُؤْكَلُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ وَرَدَ فِيهِ خَبَرٌ ، فَيُسْقِطُ حُكْمًا خَالَفَهُ ، وَلَا يَقُومُ لَهُ رَأْيٌ ، وَلَا قِيَاسٌ ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ خَبَرٌ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَرْمِي الصَّيْدَ ، وَأَجِدُهُ مَيْتًا ، فَقَالَ : كُلْهُ مَا لَمْ تَرَ فِيهِ أَثَرَ غَيْرِكَ وَرُوِيَ أَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهَ إِنِّي أَرْمِي الصَّيْدَ ، فَأَقْتَفِي أَثَرَهُ الْيَوْمَ وَالثَّلَاثَةَ ، وَأَجِدُهُ مَيْتًا ، فَقَالَ : كُلْهُ مَا لَمْ يَنْتُنْ ، وَرُوِيَ : مَا لَمْ يَصِلَّ : أَيْ لَمْ يَتَغَيَّرْ ، وَهَذَانِ الْخَبَرَانِ قَدْ وَرَدَا مِنْ طَرِيقٍ ضَعِيفٍ ، فَإِنْ لَمْ يَصِحَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، وَالْحُكْمُ فِيهِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ ، وَإِنْ صَحَّ هَذَانِ الْخَبَرَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا ، فَهُوَ مَأْكُولٌ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّتِهِ ، فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْبَصْرِيِّينَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، وَلَا ثَابِتٍ ، وَأَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ .

وَذَهَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَكْثَرُ الْبَغْدَادِيِّينَ إِلَى أَنَّهُ قَدْ صَحَّ ، وَثَبَتَ ، وَأَنَّ فِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ أَنَّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ . وَالثَّانِي : وَهُوَ الْمَوْقُوفُ عَلَى صِحَّتِهِ الْخَبَرُ أَنَّهُ مَأْكُولٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى اتِّبَاعِهِ وَطَلَبِهِ حَتَّى وَجَدَهُ مَيْتًا أُكِلَ ، وَإِنْ تَرَكَهُ وَتَشَاغَلَ عَنْهُ ، ثُمَّ وَجَدَهُ مَيْتًا لَمْ يُؤْكَلْ : لِأَنَّهُ مَا دَامَ عَلَى طَلَبِهِ يَصِلُ إِلَى ذَكَاتِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ ، وَلَا يَصِلُ إِلَيْهَا مَعَ التَّرْكِ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ وَجَدَهُ فِي يَوْمِهِ أُكِلَ ، وَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ يَوْمِهِ لَمْ يُؤْكَلْ ، وَفِيمَا نَكْرَهُ مِنْ تَوْجِيهِ الْقَوْلَيْنِ دَلِيلٌ عَلَيْهِمَا فِي مُخَالَفَةِ الْقَوْلَيْنِ ، فَإِذَا قُلْنَا بِالْأَوَّلِ إِنَّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ فَوَجْهُهُ مَا رَوَاهُ عِكْرِمَةُ أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ ، فَقَالَ لَهُ : إِنِّي أَرْمِي ، فَأُصْمِي وَأُنْمِي ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ : " كُلْ مَا أَصْمَيْتَ ، وَدَعْ مَا أَنْمَيْتَ " يُرِيدُ بِمَا أَصْمَى مَا قَتَلَهُ ، وَهُوَ يَرَاهُ ، وَبِمَا أَنْمَى مَا غَابَ عَنْهُ ، فَلَمْ يَرَهُ حَتَّى نَمَى إِلَيْهِ ، خَبَرُ مَوْتِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَ مَعَ الْغَيْبَةِ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ مِنْ عَقْرِهِ ، فَيَحِلَّ ، وَأَنْ يَكُونَ بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ ، فَيَحْرُمَ وَجَبَ أَنْ يُغَلَّبَ حُكْمُ التَّحْرِيمِ . وَإِذَا قُلْنَا فِي الثَّانِي : إِنَّهُ مَأْكُولٌ ، فَوِجْهَتُهُ مَعَ الْخِبْرَيْنِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِالرَّوْحَاءِ فَإِذَا هُوَ بِحِمَارٍ وَحْشِيٍّ عَقِيرٍ فِيهِ سَهْمٌ قَدْ مَاتَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : دَعُوهُ حَتَّى يَأْتِيَ صَاحِبُهُ ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ فِهْرٍ ، فَقَالَ : هِيَ رَمْيَتِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَكُلُوهُ ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكَرٍ أَنْ يُقَسِّمَهُ بَيْنَ الرِّفَاقِ ، وَهُمْ مُحْرِمُونَ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا غَابَ لَمْ يَحْرُمْ : وَلِأَنَّ حُكْمَ عَقْرِهِ بِالسَّهْمِ ، وَالْكَلْبِ ثَابِتٌ ، فَلَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنْهُ : بِتَجْوِيزِ غَيْرِهِ ، كَمَا لَوْ جَرَحَ حَيَوَانًا فَمَاتَ قَبْلَ انْدِمَالِ جُرْحِهِ ، كَانَ ضَامِنًا لِقِيمَتِهِ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَمُوتَ بِغَيْرِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَرَحَ إِنْسَانًا فَمَاتَ كَانَ مَأْخُوذًا بِالْقَوَدِ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَحْدُثَ بَعْدَ جُرْحِهِ سَبَبٌ يَمُوتُ بِهِ إِثْبَاتًا لِحُكْمِ النَّفْيِ . وَإِسْقَاطًا لِحُكْمِ الشَّكِّ ، كَذَلِكَ حُكْمُ الصَّيْدِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إِلَى عَقْرِهِ الْمُتَحَقِّقِ دُونَ مَا يَطْرَأُ مِنْ شَكٍّ يَجُوزُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " وَإِذَا أَدْرَكَ الصَّيْدَ وَلَمْ يَبْلُغْ سِلَاحُهُ أَوْ مُعَلَّمُهُ مَا يَبْلُغُ الذَّبْحُ فَأَمْكَنَهُ أَنْ يَذْبَحَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ فَلَا يَأَكُلْ ، كَانَ مَعَهُ مَا يَذْبَحُ بِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْكَ أَنْ تَذْبَحَهُ وَمَعَكَ مَا تُذَكِّيهِ بِهِ وَلَمْ تُفَرِّطْ حَتَى مَاتَ فَكُلْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا رَمَى صَيْدًا ، فَجَرَحَهُ أَوْ أَرْسَلَ عَلَيْهِ كَلْبَهُ ، فَعَقَرَهُ ، وَمَاتَ مِنْ غَيْرِ ذَكَاتِهِ ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :

أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْعَقْرُ قَدْ وَجَاهُ ، وَبَقِيَتْ فِيهِ حَيَاةٌ ، كَجُرْحِهِ الْمَذْبُوحَ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ السَّهْمُ قَدْ فَرَقَ فِي قَلْبِهِ أَوْ يَكُونَ الْكَلْبُ قَدْ قَطَعَ حُلْقُومَهُ أَوْ أَخْرَجَ حَشْوَتَهُ ، فَهَذَا حَلَالٌ مَأْكُولٌ ، وَلَا يَلْزَمُهُ ذَبْحُهُ ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ لِفَوَاتِ نَفْسِهِ بِذَكَاةِ مِثْلِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِبَقَاءِ الْحَرَكَةِ تَأْثِيرٌ فِي الْحَيَاةِ كَمَا لَوْ شَقَّ سَبُعٌ بَطْنَ شَاةٍ ، فَذُبِحَتْ لَمْ تَحِلَّ لِفَوَاتِ الْحَيَاةِ بِغَيْرِ الذَّبْحِ ، وَإِنْ كَانَتِ الْحَرَكَةُ بَاقِيَةً . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْعَقْرُ قَدْ أَثْبَتَهُ ، وَلَمْ يُوجِهِ ، وَمَاتَ قَبْلَ وُصُولِ الرَّامِي أَوِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُفَوِّتَهُ إِدْرَاكَ حَيَاتِهِ ، تَأَخُّرُهُ وَإِبْطَاؤُهُ ، فَهَذَا حَرَامٌ غَيْرُ مَأْكُولٍ : لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي حُكْمِ الْمَقْدُورِ عَلَى ذَكَاتِهِ لَوْ بَادَرَ إِلَيْهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَفُوتَهُ إِدْرَاكُ حَيَاتِهِ مَعَ مُبَادَرَتِهِ إِلَيْهِ ، فَهَذَا حَلَالٌ مَأْكُولٌ : لِتَعَذُّرِ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَكَاتِهِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَا يُعْتَبَرُ فِي مُبَادَرَتِهِ إِلَيْهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّهُ يُعْتَبَرُ صِفَةُ مَشْيِ مِثْلِهِ عَلَى مَأْلُوفِ سَكِينَتِهِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ السَّعْيُ كَمَا لَا يُعْتَبَرُ فِي إِدْرَاكِ الْجُمُعَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ السَّعْيُ الْمَعْهُودُ فِي طَلَبِ الصَّيْدِ : لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِسَكِينَةِ الْمَشْيِ فِي عُرْفِ أَهْلٍ ، فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ، لَوْ كَانَ يُدْرِكُهُ بِالسَّعْيِ فَمَشَى إِلَيْهِ حَتَّى مَاتَ كَانَ مَأْكُولًا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، وَغَيْرَ مَأْكُولٍ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْعَقْرُ قَدْ أَثْبَتَهُ ، وَأَدْرَكَهُ الرَّامِي حَيًّا ، فَلَمْ يَذْبَحْهُ حَتَّى مَاتَ في رمي الصيد وإرسال الكلب ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى ذَكَاتِهِ ، فَأَخَّرَهَا حَتَّى مَاتَ ، فَهُوَ حَرَامٌ لَا يُؤْكَلُ : لِأَنَّ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ لَا يَحِلُّ بِغَيْرِ الذَّكَاةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى ذَكَاتِهِ حَتَّى يَمُوتَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَيْهِ لِقُصُورِ زَمَانِ حَيَاتِهِ ، فَهَذَا حَلَالٌ مَأْكُولٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَهُوَ غَيْرُ مَأْكُولٍ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِإِدْرَاكِ حَيَاتِهِ ، كَالْمَقْدُورِ عَلَى ذَكَاتِهِ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْهَا بِقُصُورِ الزَّمَانِ ، كَالْعَجْزِ عَنْهَا لِفَوَاتِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَجْزَ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ مَعَ وُجُودِهِ كَالْعَجْزِ عَنْهُ مَعَ عَدَمِهِ فِي إِبَاحَةِ التَّيَمُّمِ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَجْزُ عَنِ الذَّكَاةِ مَعَ إِدْرَاكِهَا كَالْعَجْزِ عَنْهُ مَعَ فَوَاتِهَا فِي إِبَاحَةِ الْأَكْلِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى ذَكَاتِهِ : لِتَعَذُّرِ الْآلَةِ ، فَلَا يَجِدُ سِكِّينًا أَوْ وَجَدَهَا وَهِيَ كَالَّةٌ لَا تَقْطَعُ ، فَهُوَ حَرَامٌ غَيْرُ مَأْكُولٍ : لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَكَاتِهِ لَوْ لَمْ يُفَرِّطْ فِي آلَتِهِ .

فَلَوْ كَانَتْ مَعَهُ سِكِّينٌ ، فَضَاعَتْ أَوْ غَصَبَهُ عَلَيْهَا غَاصِبٌ حَتَّى مَاتَ لَمْ يُأْكَلْ ، وَلَوْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّيْدِ سَبُعٌ ، فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ حَتَّى مَاتَ أُكِلَ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ غَصْبِ السِّكِّينِ ، وَبَيْنَ مَنْعِ السَّبُعِ أَنَّ غَصْبَ السِّكِّينِ وَضَيَاعَهَا عَائِدٌ إِلَيْهِ ، وَمَنْعُ السَّبُعِ عَائِدٌ إِلَى الصَّيْدِ ، فَلَوْ كَانَتِ السِّكِّينُ فِي قِرَابٍ قَدْ أَمْسَكَ عَلَيْهَا فَتَعَسَّرَ عَلَيْهِ خُرُوجُهَا حَتَّى مَاتَ ، قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : يَكُونُ مَأْكُولًا : لِأَنَّ السِّكِّينَ فِي الْأَغْلَبِ تُصَانُ فِي قِرَابِهَا إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا ، فَلَمْ يَكُنْ مُفَرِّطًا ، وَهَذَا عِنْدِي مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْقِرَابِ ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَعْهُودِ فِي الْإِمْسَاكِ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ كَانَ مَأْكُولًا ، وَإِنْ خَرَجَ عَنِ الْمَعْهُودِ فِي الضِّيقِ وَالشِّدَّةِ كَانَ غَيْرَ مَأْكُولٍ . وَلَوْ أَخْرَجَ السِّكِّيَنَ ، وَتَشَاغَلَ بِإِحْدَادِهَا حَتَّى مَاتَ ، فَهُوَ غَيْرُ مَأْكُولٍ وَلَوْ تَشَاغَلَ بِطَلَبِ مَوْضِعِ الذَّبْحِ حَتَّى مَاتَ فَهُوَ مَأْكُولٌ : لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ مِنْ طَلَبِ مَوْضِعِ الذَّبْحِ بُدًّا ، وَيَجِدُ مِنْ إِحْدَادِ السِّكِّينِ بُدًّا . فَلَوْ شَكَّ فِي الصَّيْدِ بَعْدَ مَوْتِهِ : هَلْ أَدْرَكَ ذَكَاتَهُ ، فَيَحِلُّ لَهُ كَالْمَجْرُوحِ إِذَا غَابَ عَنْهُ ، فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَحْرُمُ ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ هُنَاكَ . وَالثَّانِي : يَحِلُّ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ هَاهُنَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " وَلَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ أَوْ سَهْمَهُ وَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى وِهُوَ يَرَى صَيْدًا فَأَصَابَ غَيْرَهُ ، فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ رَأَى صَيْدًا وَنَوَاهُ ، وَإِنْ أَصَابَ غَيْرَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا رَأَى صَيْدًا ، فَأَرْسَلَ عَلَيْهِ كَلْبًا أَوْ سَهْمًا ، فَأَصَابَ غَيْرَهُ ، وَقَتَلَهُ ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ الصَّيْدَانِ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ ، أَوْ فِي جِهَتَيْنِ ، فَإِنْ كَانَا فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ حَلَّ أَكْلُهُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَا أَرْسَلَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ الصَّيْدُ الْمُصَابُ مَوْجُودًا عِنْدَ الْإِرْسَالِ أَوْ مُعَرَّضًا بَعْدَهُ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَكْثَرُونَ . وَقَالَ مَالِكٌ : هُوَ حَرَامٌ : لِأَنَّهُ أَصَابَ غَيْرَ مَا أُرْسِلَ عَلَيْهِ ، فَصَارَ وَالْكَلْبُ فِيهِ الْمُسْتَرْسَلُ مِنْ غَيْرِ إِرْسَالٍ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [ الْمَائِدَةِ : 4 ] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ : وَلِأَنَّ تَعَيُّنَ الصَّيْدِ فِي الْإِرْسَالِ لَا يَلْزَمُ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ أَرْسَلَهُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ جَمَاعَةٍ جَازَ ، وَأَيُّهَا صَارَ حَلَّ : لِأَنَّ تَعْلِيمَهُ عَلَى مُعَيَّنٍ مِنْهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ ، وَإِذَا سَقَطَ التَّعْيِينُ حَلَّ

غَيْرُ الْمُعَيَّنِ : وَلِأَنَّ ذَكَاةَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ أَغْلَظُ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُذَكِّيَ لَوْ أَرَادَ شَاةً ، فَذَبَحَ غَيْرَهَا حَلَّتْ ، فَكَانَ الصَّيْدُ الْمُمْتَنِعُ إِذَا أَرْسَلَ عَلَيْهِ كَلْبَهُ ، فَصَارَ غَيْرُهُ أَوْلَى أَنْ يَحِلَّ : وَلِأَنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ عَلَى صَيْدٍ كَبِيرٍ ، فَهَرَبَ ، وَكَانَ مَعَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ وَأَخَذَهُ الْكَلْبُ حَلَّ بِوِفَاقِ مَالِكٍ ، فَإِذَا كَانَ كَبِيرًا فَأَوْلَى أَنْ يَحِلَّ : لِأَنَّهُ أَمْنَعُ .

فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الصَّيْدَانِ فِي جِهَتَيْنِ ، فَأَرْسَلَ إِلَى إِحْدَاهُمَا ، فَعَدَلَ إِلَى الْآخَرِ ، فَلَهُ فِي اخْتِلَافِ الْجِهَاتِ أَسْمَاءٌ يُقَالُ : صَيْدٌ سَانِحٌ إِذَا كَانَ عَنْ يَسَارِ الرَّامِي ، وَهُوَ أَمْكَنُ ، وَصِيدٌ بَارِحٌ إِذَا كَانَ عَنْ يَمِينِ الرَّامِي وَهُوَ أَشَقُّ ، وَصَيْدٌ قَعِيدٌ إِذَا كَانَ مُقَابِلَ الرَّامِي فَإِذَا أُرْسِلَ عَلَى صَيْدٍ فِي جِهَةٍ ، فَعَدَلَ إِلَى غَيْرٍ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ سِلَاحًا أَوْ جَارِحًا ، فَإِنْ كَانَ سِلَاحًا خَرَجَ عَنْ يَدِهِ مِنْ سَهْمٍ رَمَاهُ أَوْ سَيْفٍ أَلْقَاهُ ، فَعَدَلَ السَّهْمُ أَوِ السَّيْفُ عَنْ تِلْكَ الْجِهَةِ إِلَى غَيْرِهَا إِمَّا لِرِيحٍ اعْتَرَضَتْهُ أَوْ لِخَطَأٍ كَانَ مِنْهُ ، فَالصَّيْدُ مَأْكُولٌ : لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى فِعْلِهِ ، وَإِنْ أَخْطَأَ فِي قَصْدِهِ ، وَخَطَأُ الْمُذَكِّي لَا يَمْنَعُ مِنْ إِبَاحَةِ ذَكَاتِهِ ، كَمَا لَوْ أَرَادَ شَاةً فَذَبَحَ غَيْرَهَا . وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَارِحًا مِنْ كَلْبٍ أَرْسَلَهُ إِلَى جِهَةٍ ، فَعَدَلَ إِلَى غَيْرِهَا ، فَقَدْ حَكَى أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ فِي إِبَاحَتِهِ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُبَاحُ الْأَكْلِ كَالسَّهْمِ ، وَنَسَبَهُ إِلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَلَمْ أَرَهُ فِي شَرْحِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْكَلْبِ وَالسَّهْمِ : لِأَنَّ لِلْكَلْبِ اخْتِيَارًا يَنْصَرِفُ بِهِ ، وَأَصَحُّ عِنْدِي مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يُرَاعَى مَخْرَجُ الْكَلْبِ عِنْدَ إِرْسَالِهِ ، فَإِنْ خَرَجَ عَادِلًا عَنْ جِهَةِ إِرْسَالِهِ إِلَى غَيْرِهَا لَمْ يُؤْكَلْ صَيْدُهُ مِنْهَا ، وَإِنْ خَرَجَ إِلَى جِهَةِ إِرْسَالِهِ فَفَاتَهُ صَيْدُهَا ، فَعَدَلَ إِلَى غَيْرِهَا ، وَأَخَذَ صَيْدَهَا أُكِلَ : لِأَنَّهُ عَلَى الصِّفَةِ الْأُولَى مُخَالِفٌ ، فَصَارَ مُسْتَرْسِلًا وَعَلَى الصِّفَةِ الثَّانِيةِ مُوَافِقٌ ، وَكَانَ مُرْسَلًا ، وَهَذَا أَدَلُّ عَلَى فَرَاهَتِهِ : لِئَلَّا يَرْجِعَ خَلِيًّا إِلَى مُرْسِلِهِ . أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّيْدَ لَهُ عَدَلَ عَنْ جِهَةٍ إِلَى غَيْرِهَا ، فَعَدَلَ الْكَلْبُ إِلَيْهَا حَتَّى أَخَذَهُ حَلَّ : كَذَلِكَ إِذَا أَخَذَ غَيْرَهُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَرْسَلَ سَهْمَهُ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ ، فَعَصَفَتِ الرِّيحُ بِالصَّيْدِ وَالسَّهْمِ إِلَى الْحَرَمِ حَتَّى قَتَلَهُ فِيهِ ضَمِنَهُ بِالْجَزَاءِ ، وَلَمْ يَأْكُلْهُ . وَلَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ ، فَعَدَلَ الصَّيْدُ وَالْكَلْبُ إِلَى الْحَرَمِ حَتَّى قَتَلَهُ فِيهِ لَمْ يَضْمَنْهُ ، وَحَلَّ لَهُ أَكْلُهُ : لِأَنَّ حُكْمَ الْكَلْبِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ إِرْسَالِهِ ، وَحُكْمُ السَّهْمِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ وُقُوعِهِ ، وَلَوْ أَرْسَلَ سَهْمَهُ عَلَى صَيْدٍ ، فَأَصَابَ السَّهْمُ الْأَرْضَ ، ثُمَّ ازْدَلَفْ فِيهَا إِلَى الصَّيْدِ فَقَتَلَهُ فَفِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : يُؤْكَلُ لِوُصُولِهِ إِلَيْهِ بِفِعْلِهِ . وَالثَّانِي : لَا يُؤْكَلُ : لِأَنَّ وُصُولَهُ إِلَى الْأَرْضِ قَاطِعٌ لِفِعْلِهِ . وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي السَّهْمِ الْمُزْدَلِفِ إِذَا أَصَابَ هَلْ يُحْتَسَبُ بِهِ فِي الْإِصَابَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " وَإِنْ أَرْسَلَهُ وَلَا يَرَى صَيْدًا وَنَوَى ، فَلَا يُأْكَلُ وَلَا تَعْمَلُ النِّيَّةُ إِلَّا مَعَ عَيْنٍ تَرَى ، وَلَوْ كَانَ لَا يَجُوزُ إِلَّا مَا نَوَاهُ بِعَيْنِهِ لَكَانَ الْعِلْمُ يُحِيطُ أَنْ لَوُ أَرْسَلَ سَهْمًا عَلَى مَائَةِ ظَبْيٍ أَوْ كَلَبًا فَأَصَابَ وَاحِدًا ، فَالْوَاحِدُ الْمُصَابُ غَيْرُ مَنَوِيٍّ بِعَيْنِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا أَرْسَلَ كَلْبَهُ ، وَهُوَ لَا يَرَى صَيْدًا ، فَعَنَّ لِلْكَلْبِ صَيْدٌ وَأَخَذَهُ لَمْ يُؤْكَلْ : لِأَنَّ إِرْسَالَهُ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ لَيْسَ بِإِرْسَالٍ ، فَصَارَ الْكَلْبُ كَالْمُسْتَرْسِلِ ، فَلَمْ يُؤْكَلْ صَيْدُهُ . وَلَوْ أَرْسَلَ سَهْمَهُ وَلَا يَرَى صَيْدًا ، فَاعْتَرَضَهُ صَيْدٌ وَأَصَابَهُ ، فَفِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ كَالَّذِي صَادَهُ الْكَلْبُ : لِأَنَّهُمَا عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يُؤْكَلُ ، وَإِنْ لَمْ يُؤْكَلْ مَا صَادَهُ الْكَلْبُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقَصْدَ فِي ذَكَاتِهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ : لِأَنَّهُ لَيْسَ يُعَارِضُهُ اخْتِيَارُ غَيْرِهِ .

فَصْلٌ : أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَطَعَ خَشَبَةً لَيِّنَةً ، فَصَادَفَ حَلْقَ شَاةٍ ، فَذَبَحَهَا أُكِلَتْ . وَالْقَصْدُ فِي إِرْسَالِ الْكَلْبِ مُعْتَبَرٌ : لِأَنَّهُ قَدْ يُعَارِضُهُ اخْتِيَارُ الْكَلْبِ ، فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ الْقَصْدُ صَارَ مَنْسُوبًا إِلَى اخْتِيَارِ الْكَلْبِ ، فَافْتَرَقَ . وَقَدْ حَكَى ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إِذَا أَخْطَأَ فِي قَطْعِ الْخَشَبَةِ إِلَى ذَبْحِ الشَّاةِ لَمْ تُؤْكَلْ ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى إِبَاحَةِ أَكْلِهَا ، وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فَقِيَاسٌ وَاضِحٌ : لِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ ذكاتهما تَصِحُّ ذَكَاتُهَا ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ قَصْدُهُمَا ، وَكَذَلِكَ الْخَاطِئُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " وَلَوْ خَرَجَ الْكَلْبُ إِلَى الصَّيْدِ مِنْ غَيْرِ إِرْسَالِ صَاحِبِهِ فَزَجَرَهُ فَانْزَجَرَ وَأَشْلَاهُ فَاسْتَشْلَى فَأَخَذَ وَقَتَلَ أُكِلَ وَإِنْ لَمْ يَحْدُثْ غَيْرُ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ فَلَا يَأْكُلْ وَسَوَاءٌ اسْتَشْلَاهُ صَاحِبُهُ أَوْ غَيْرُهُ مِمَّنْ تَجُوزُ ذَكَاتُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ إِرْسَالَ الْكَلْبِ شَرْطٌ فِي إِبَاحَةِ صَيْدِهِ ، فَإِنِ اسْتَرْسَلَ

بِغَيْرِ إِرْسَالٍ لَمْ يَحِلَّ صَيْدُهُ إِلَّا أَنْ يُدْرَكَ حَيًّا ، فَيُذَكَّى ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ، وَشَذَّ الْأَصَمُّ وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ ، فَلَمْ يَعْتَبِرَا الْإِرْسَالَ : لِأَنَّهُ بِالتَّعْلِيمِ قَدْ صَارَ مُرْسَلًا ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ التَّعْلِيمَ هُوَ أَنْ لَا يَسْتَرْسِلَ حَتَّى يُرْسِلَ ، وَيَنْزَجِرَ عَنِ الِاسْتِرْسَالِ . فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، وَاسْتَرْسَلَ الْكَلْبُ لِنَفْسِهِ ، فَلَهُ مَعَ صَاحِبِهِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتْرُكَهُ عَلَى اسْتِرْسَالِهِ ، وَلَا يُشْلِيَهُ ، وَلَا يَزْجُرَهُ ، فَلَا يُؤْكَلَ مَا صَادَهُ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيةُ : أَنْ يَزْجُرَهُ ، فَلَا يَنْزَجِرَ ، فَلَا يُؤْكَلَ صَيْدُهُ : لِأَنَّهُ بِالْإِسْرَاعِ بَعْدَ الزَّجْرِ أَسْوَأُ حَالًا . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَزْجُرَهُ ثُمَّ يُشْلِيَهِ ، فَيَسْتَشْلِيَ ، فَيُؤْكَلَ صَيْدُهُ : لِأَنَّهُ صَادَهُ بَعْدَ الِانْزِجَارِ عَنْ إِرْسَالِهِ . وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يُشْلِيَهُ بَعْدَ الِاسْتِرْسَالِ ، وَيُغْرِيَهُ بِالصَّيْدِ ، فَيَمْضِيَ عَلَى إِسْرَاعٍ بَعْدَ إِشْلَائِهِ وَإِغْرَائِهِ ، سَوَاءٌ زَادَ إِسْرَاعُهُ بِالْإِغْرَاءِ أَوْ لَمْ يَزِدْ : فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُؤْكَلُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنِ اسْتِرْسَالِهِ قَدِ انْقَطَعَ بِمَا حَدَثَ مِنْ إِغْوَائِهِ كَمَا يَنْقَطِعُ زَجْرُهُ قَبْلَ إِغْرَائِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُعْتَبَرًا بِالْآخَرِ دُونَ الْأَوَّلِ : وَلِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ اسْتِرْسَالٌ وَإِغْرَاءٌ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْإِغْرَاءِ دُونَ الِاسْتِرْسَالِ كَالصَّيْدِ إِذَا اسْتَرْسَلَ عَلَى طَلَبٍ ، فَأَغْرَاهُ بِهِ مُحْرِمٌ ضَمِنَهُ الْجَزَاءُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْإِغْرَاءِ ، كَذَلِكَ فِي إِبَاحَةِ الْأَكْلِ . وَدَلِيلُنَا : أَنَّ الِاسْتِرْسَالَ حَاظِرٌ وَالْإِغْرَاءَ مُبِيحٌ ، وَإِذَا اجْتَمَعَ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ يُغَلَّبُ حُكْمُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ ، كَمَا لَوِ اجْتَمَعَ عَلَى إِرْسَالِهِ مُسْلِمٌ وَمَجُوسِيٌّ : وَلِأَنَّ الْإِغْرَاءَ بَعْدَ الِاسْتِرْسَالِ مُوَافِقٌ لَهُ ، فَصَارَ مُقَوِّيًا لِحُكْمِهِ ، وَزَائِدًا عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَزِدْ حُكْمُهُ بِالْقُوَّةِ وَالزِّيَادَةِ ، كَمَا لَوْ أَرْسَلَهُ مَجُوسِيٌّ وَأَغْرَاهُ مُسْلِمٌ ، أَوْ أَرْسَلَهُ مُسْلِمٌ وَأَغْرَاهُ مَجُوسِيٌّ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : إِنَّ الْإِغْرَاءَ قَدْ قَطَعَ الِاسْتِرْسَالَ كَالزَّجْرِ ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَقْطَعُ الِاسْتِرْسَالُ مَا خَلْفَهُ وَلَا يَقْطَعُ مَا وَافَقَهُ ، وَالزَّاجِرُ مُخَالِفٌ لِلِاسْتِرْسَالِ ، فَصَارَ قَاطِعًا ، وَالْإِغْرَاءُ مُوَافِقٌ لَهُ ، فَلَمْ يَكُنْ قَاطِعًا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : إِنَّ اجْتِمَاعَ الِاسْتِرْسَالِ وَالْإِغْرَاءِ مُوجِبٌ لِتَغْلِيبِ حُكْمِ الْإِغْرَاءِ كَالْمُحْرِمِ ، فَهُوَ أَنَّهُ فِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُحْرِمِ بِإِغْرَائِهِ ، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الِاسْتِرْسَالِ ، وَيَصِيرُ دَلِيلًا لَنَا لَا عَلَيْنَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُضَمَّنُ بِالْإِغْرَاءِ ، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ مَأْكُولًا بِالْإِغْرَاءِ : لِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ فِي هَذَا الضَّمَانِ إِيجَابٌ وَإِسْقَاطٌ ، يُغَلَّبُ حُكْمُ الْإِيجَابِ عَلَى الْإِسْقَاطِ ، وَإِذَا اجْتَمَعَ فِي الْمَأْكُولِ حَظْرٌ وَإِبَاحَةٌ يُغَلَّبُ حُكْمُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ . أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّيْدَ الْمُتَوَلِّدَ مِنْ

بَيْنِ مَأْكُولٍ وَغَيْرِ مَأْكُولٍ إِذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ ضَمِنَهُ بِالْجَزَاءِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْإِيجَابِ ، وَلَا يُؤْكَلُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْحَظْرِ ؟ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا ، فَلَا يَكُونُ إِسْقَاطًا لِحُكْمِ الِاسْتِرْسَالِ بِالْإِغْرَاءِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " وَإِذَا ضَرَبَ الصَّيْدَ فَقَطَعَهُ قِطْعَتَيْنِ أَكَلَ وَإِنْ كَانَتْ إِحْدَى الْقِطْعَتَيْنِ أَقَلَّ مِنَ الْأُخْرَى وَلَوْ قَطَعَ مِنْهُ يَدًا أَوْ رِجْلًا أَوْ أُذُنًا أَوْ شَيْئًا يُمْكِنُ لَوْ لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَعِيشَ بَعْدَهُ سَاعَةً أَوْ مُدَّةً أَكْثَرَ مِنْهَا ، ثُمَّ قَتَلَهُ بَعْدُ بِرَمْيَتُهِ أَكَلَ كُلَّ مَا كَانَ ثَابِتًا فِيهِ مِنْ أَعَضَائِهِ ، وَلَمْ يَأْكُلِ الْعُضْوَ الَّذِي بَانَ وَفِيهِ الْحَيَاةُ : لِأَنَّهُ عُضْوٌ مَقْطُوعٌ مِنْ حَيٍّ وَحَيِيَ بَعْدَ قَطْعِهِ ، وَلَوْ مَاتَ مِنْ قَطْعِ الْأَوَّلِ أَكَلَهُمَا مَعًا : لِأَنَّ ذَكَاةً بَعْضِهِ ذَكَاةٌ لِكُلِّهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَرْمِيَ صَيْدًا ، فَيَقْطَعَهُ قِطْعَتَيْنِ أكل الصيد في هذه الحالة ، فَهَذَا تَوْجِيَةٌ ، فَتُؤْكَلَ الْقِطْعَتَانِ مَعًا ، سَوَاءٌ تَفَاضَلَتِ الْقِطْعَتَانِ أَوْ تَمَاثَلَتَا ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَا اتَّصَلَ بِالرَّأْسِ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ تَسَاوَتِ الْقِطْعَتَانِ أَوْ كَانَ مَا اتَّصَلَ بِالرَّأْسِ أَكْثَرَ أَكَلَ دُونَ الْأَقَلِّ ، وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَدَّرَ الْأَقَلَّ بِالثُّلُثِ فَمَا دُونَهُ ، وَجَعَلَ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ ، وَنَقَصَ عَنِ النِّصْفِ خَارِجًا عَنْ حُكْمِ الْأَقَلِّ . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ إِذَا انْفَصَلَ عَنِ الرَّأْسِ بِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيْتٌ : وَلِأَنَّهُ أَبَانَ مِنْهُ مَا لَا يَمْنَعُ مِنْ بَقَاءِ الْحَيَاةِ فِيمَا بَقِيَ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا كَمَا لَوْ أَدْرَكَهُ حَيًّا ، فَذَبَحَهُ . وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ : كُلْ مَا رَدَّتْ عَلَيْكَ يَدُكَ ، فَكُلْ وَلَمْ يُفَرِّقْ ، وَلِأَنَّ كُلَّمَا كَانَ ذَكَاةً لِبَعْضِ الْبَدَنِ كَانَ ذَكَاةً لِجَمِيعِهِ قِيَاسًا عَلَى مَا اتَّصَلَ بِالرَّأْسِ : وَلِأَنَّ كُلَّمَا كَانَ ذَكَاةً لِمَا اتَّصَلَ بِالرَّأْسِ كَانَ ذَكَاةً لِمَا انْفَصَلَ عَنْهُ كَالْأَكْثَرِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ خَبَرِهِمْ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ خَارِجٌ عَلَى سَبَبٍ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ قَوْمًا يُحِبُّونَ أَلَايَا الْغَنَمِ ، فَيَقْطَعُونَهَا مِنْهَا ، فَقَالَ : مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيْتٌ ، فَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى سَبَبِهِ مِنْ حَيَاةِ الْمَقْطُوعِ مِنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ أَبَا دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيَّ قَدْ رَوَى نَصًّا فِي سُنَنِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَا أُبِينَ مِنْ بَهِيمَةٍ وَهِيَ حَيَّةٌ ، فَهُوَ مَيْتٌ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْقَطْعَ لَمْ يَكُنْ ذَكَاةً

لِلْمُتَّصِلِ ، فَلَمْ يَكُنْ ذَكَاةً لِلْمُنْفَصِلِ ، وَالْقَطْعُ فِي الْفَرْعِ قَدْ كَانَ ذَكَاةً لِلْمُتَّصِلِ ، فَكَانَ ذَكَاةً لِلْمُنْفَصِلِ .

فَصْلٌ : الْفَصْلُ الثَّانِي : أَنْ يَقْطَعَ مِنَ الصَّيْدِ عُضْوًا حكم أكله كَيَدٍ أَوْ رِجْلٍ أَوْ أُذُنٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَحْيَى بَعْدَ قَطْعِهِ زَمَانًا طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا ، وَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَمُوتَ بِغَيْرِ هَذَا الْقَطْعِ إِمَّا بِالذَّبْحِ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ، وَإِمَّا بِرَمْيَةٍ بَائِنَةٍ إِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ ، فَلَا يُؤْكَلُ مَا بَانَ مِنْهُ بِالْقَطْعِ الْأَوَّلِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَكَاةً لَهُ ، فَلَمْ تَصِرْ ذَكَاةً لِمَا بَانَ مِنْهُ ، وَقَدْ رَوَى عَدِيلَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " نَهَى عَنِ الْخَطْفَةِ " وَهُوَ مَا اقْتَطَعَهُ كَلْبٌ أَوْ سَيْفٌ أَوْ سَبُعٌ مِنَ الصَّيْدِ ، فَبَاتَ مِنْهُ هَذَا تَأْوِيلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ ، وَتَأَوَّلَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ أَنَّ الْخَطْفَةَ : النُّهْبَةُ ، وَمِنْهُ سُمِّي الْخُطَّافُ خُطَّافًا لِاخْتِطَافِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَمُوتَ بِهَذَا الْقَطْعِ دُونَ غَيْرِهِ ، فَيُنْظَرَ فِيهِ : فَإِنْ أَدْرَكَهُ حَيًّا ، فَقَدَرَ عَلَى ذَكَاتِهِ حَتَّى مَاتَ فَلَمْ يُذَكِّهِ كَانَ الصَّيْدُ مَعَ مَا بَانَ مِنْهُ مَيْتًا لَا يُؤْكَلُ : لِأَنَّ حُكْمَ الْبَائِنِ مُعْتَبَرٌ بِأَصْلِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَكَاتِهِ حَتَّى مَاتَ أَوْ أُدْرِكَ مَيْتًا أَكَلَ جَمِيعَهُ الْبَائِنَ مِنْهُ اعْتِبَارًا بِأَصْلِهِ : لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَقْطَعَ كَانَ هُوَ الْمُبِيحَ لِأَكْلِ الصَّيْدِ ، فَصَارَ مُبِيحًا لِأَكْلِ الْبَائِنِ مِنْهُ اعْتِبَارًا بِأَصْلِهِ . وَحَكَى ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجْهًا آخَرَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْبَائِنَ مِنْهُ لَا يُؤْكَلُ ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ مَأْكُولًا : لِأَنَّهُ بَانَ مِنْهُ مَعَ بَقَاءِ الْحَيَاةِ فِيهِ ، وَتَأَوُّلُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُؤْكَلُ عَلَى ذَكَاةِ الْأَصْلِ مَعَ بَقَاءِ الْحَيَاةِ إِذَا تَعَذَّرَ فِيهِ الذَّبْحُ كَمَا يَكُونُ ذَكَاةً إِذَا وَجَاهُ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْبَائِنُ مِنْهُ فِي إِبَاحَتِهِ فِي الْحَالَيْنِ عَلَى سَوَاءٍ ، وَلَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّهُ لَوْ تَعَلَّقَ الْمُتَطَوِّعُ بِجِلْدَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِأَصْلِهِ أَنَّهُ يَكُونُ مَا أَلْحَقْنَا بِهِ فِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ .

مَسْأَلَةٌ لَا بَأْسَ أَنْ يَصِيدَ الْمُسْلِمُ بِكَلْبِ الْمَجُوسِيِّ وَلَا يَجُوزُ أَكْلُ مَا صَادَ الْمَجُوسِيُّ بِكَلْبِ مُسْلِمٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَصِيدَ الْمُسْلِمُ بِكَلْبِ الْمَجُوسِيِّ ، وَلَا يَجُوزُ أَكْلُ مَا صَادَ الْمَجُوسِيُّ بِكَلْبِ مُسْلِمٍ : لِأَنَّ الْحُكْمَ حُكْمُ الْمُرْسِلِ ، وَإِنَّمَا الْكَلْبُ أَدَاةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . لِأَنَّ حُكْمَ الْكَلْبِ حُكْمٌ لِمُرْسِلِهِ ، كَالْآلَةِ يَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الرَّامِي دُونَ مَالِكِهَا ، وَسَوَاءٌ عَلَيْهِ الْمُرْسِلُ أَوْ غَيْرُهُ . فَإِذَا صَادَ مَجُوسِيٌّ بِكَلْبِ مُسْلِمٍ أكل الصيد في هذه الحالة لَمْ يَحِلَّ صَيْدُهُ : لِأَنَّ مُرْسِلَهُ مَجُوسِيٌّ ، كَمَا لَوْ رَمَى مَجُوسِيٌّ بِسَهْمِ مُسْلِمٍ أكل الصيد في هذه الحالة لَمْ يَحِلَّ صَيْدُهُ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَلَوْ صَادَ مُسْلِمٌ بِكَلْبِ مَجُوسِيٍّ أكل الصيد في هذه الحالة حَلَّ صَيْدُهُ .

وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : لَا يَحِلُّ صَيْدُهُ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [ الْمَائِدَةِ : 4 ] وَهَذَا الشَّرْطُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي كَلْبِ الْمَجُوسِيِّ ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْكَلْبَ آلَةٌ كَالسِّلَاحِ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ مُسْلِمًا لَوْ صَادَ بِسِلَاحِ مَجُوسِيٍّ حَلَّ كَذَلِكَ إِذَا صَادَ بِكَلْبِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْكَلْبِ بِمُرْسِلِهِ دُونَ مُعَلِّمِهِ . أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَجُوسِيَّ إِذَا صَادَ بِكَلْبِ مُسْلِمٍ لَمْ يَحِلَّ إِجْمَاعًا ، فَوَجَبَ أَنْ يَحِلَّ إِذَا صَادَ مُسْلِمٌ بِكَلْبِ مَجُوسِيٍّ قِيَاسًا . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْمَجُوسِيَّ لَوْ عَلَّمَ كَلْبًا ، ثُمَّ أَسْلَمَ ، حَلَّ صَيْدُهُ : لِأَنَّهُ بِإِرْسَالِهِ مُسْلِمٌ ، وَإِنْ كَانَ بِتَعْلِيمِ مَجُوسِيٍّ ، كَذَلِكَ إِذَا صَادَ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " وَأَيُّ أَبَوَيْهِ كَانَ مَجُوسِيًّا فَلَا أَرَى تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ . وَقَالَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ : وَلَا يَنْكِحُ إِنْ كَانَتْ جَارِيَةً وَلَيْسَتْ كَالصَّغِيرَةِ يُسْلِمُ أَحْدُ أَبَوَيْهَا : لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُشْرِكُهُ الشِّرْكُ وَالشِّرْكُ يُشْرِكُهُ الشِّرْكُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ذَبِيحَةَ الْمَجُوسِيِّ حكمها لَا تَحِلُّ ، وَتَحِلُّ ذَبِيحَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ مُبَاحٍ . وَقَالَ مَالِكٌ : تَحِلُّ لَنَا ذَبَائِحُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ مِمَّا يَسْتَحِلُّونَهُ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ، وَلَا تَحِلُّ فِيمَا لَا يُحِلُّونَهُ مِنَ الْإِبِلِ : لِأَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ بِذَبْحِهِ الْإِتْلَافَ دُونَ الذَّكَاةِ ، وَهَذَا غَلَطٌ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ [ الْمَائِدَةِ : 5 ] يُرِيدُ بِالطَّعَامِ : الذَّبِيحَةَ دُونَ مَا يَسْتَطْعِمُونَهُ : لِأَنَّهُمْ يَسْتَطْعِمُونَ الْخِنْزِيرَ ، وَلَا يَحِلُّ لَنَا . وَلِأَنَّ مَا حَلَّ بِذَبِيحَةِ الْمُسْلِمِ حَلَّ بِذَبِيحَةِ الْكِتَابِيِّ ، كَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ طَرْدًا ، وَكَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ عَكْسًا . وَإِذَا كَانَ هَذَا أَصْلًا مُقَرَّرًا ، وَقِيَاسًا مُسْتَمِرًّا ، فَاخْتَلَفَ أَبَوَا الْكَافِرِ حكم ذبيحتهما ، فَحَلَّتْ ذَبِيحَةُ أَحَدِهِمَا ، وَلَمْ تَحِلَّ ذَبِيحَةُ الْآخَرِ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا يَهُودِيًّا وَالَآخَرُ مَجُوسِيًّا نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ أَبُوهُ مَجُوسِيًّا وَأُمُّهُ يَهُودِيَّةً فَلَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ نَسَبَهُ يَلْحَقُ بِأَبِيهِ ، فَكَانَ حَمْلُهُ حَمْلَ أَبِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ إِذَا اجْتَمَعَا يُغَلَّبُ حُكْمُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ . وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ يَهُودِيًّا وَأُمُّهُ مَجُوسِيَّةً ، فَفِي إِبَاحَةِ ذَبِيحَتِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى أَبِيهِ فِي نَسَبِهِ .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ تَعْلِيلًا بِأَنَّ اجْتِمَاعَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ يُوجِبُ تَغْلِيبَ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ ، كَالْمُتَوَلِّدِ مِنْ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ وَحِمَارٍ أَهْلِيٍّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا حَلَّتْ ذَبِيحَتُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْكِتَابِيُّ مِنْهُمَا أَبَاهُ وَأُمَّهُ ، كَمَا لَوْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمًا . وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا ، وَلَا يُوجِبُ تَغْلِيبَ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ : كَمَا لَمْ يُغَلَّبِ الْحَظْرُ فِي إِسْلَامِ أَحَدِ أَبَوَيْهِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا غُلِّبَ فِي النِّكَاحِ حُكْمُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ فِي وَلَدِ الْكَافِرِ ، وَإِنْ لَمْ يُغَلَّبْ حُكْمُ الْحَظْرِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَجَبَ حُكُمُ الذَّبِيحَةِ بِمَثَابَتِهِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ مَا عَلَّلَ بِهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُشْرِكُهُ الشِّرْكُ وَالشِّرْكَ يُشْرِكُهُ الشِّرْكُ ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالشِّرْكَ لَا يَجْتَمِعَانِ ، وَيَرْتَفِعُ الشِّرْكُ بِقُوَّةِ الْإِسْلَامِ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ : - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى . وَإِذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمًا ، وَالْآخَرُ مُشْرِكًا ، غَلَّبَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ عَلَى حُكْمِ الشِّرْكِ ، وَيَجْتَمِعُ الشَّرْطَانِ : لِأَنَّهُمَا بَاطِلَانِ ، فَلَمْ يَرْتَفِعْ حُكْمُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ، وَإِذَا لَمْ يَرْتَفِعْ حُكْمَا أَحَدِهِمَا وَجَبَ أَنْ يُغَلَّبَ الْحَظْرُ مِنْهُمَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " وَلَا يُؤْكَلُ مَا قَتَلَتْهُ الْأُحْبُولَةُ كَانَ فِيهَا سِلَاحٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّهَا ذَكَاةٌ بِغَيْرِ فَعْلِ أَحَدٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الصَّيْدَ الْمُمْتَنِعَ لِتَعَذُّرِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِأَسْبَابٍ تُجْعَلُ حِيَلًا فِي الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ يَتَنَوَّعُ بِأَنْوَاعٍ : أَحَدُهَا : الْجَوَارِحُ الْمُرْسَلَةُ عَلَيْهِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا . وَالثَّانِي : السِّلَاحُ الَّذِي يَرْمِي بِهِ الصيد ، فَإِنْ قَتَلَ بِثِقَلِهِ كَالْحَجَرِ وَالْخَشَبِ ، فَهُوَ وَقِيذٌ لَا يُؤْكَلُ وَإِنْ قَطَعَ بِحَدِّهِ أَوْ بَعْدَ تَدْمِيَةٍ ، فَهُوَ مَأْكُولٌ ، فَأَمَّا الْمِعْرَاضُ فَهُوَ آلَةٌ تَجْمَعُ خَشَبًا وَحَدِيدًا ، فَإِنْ أَصَابَ بِحَدِّهِ أُكِلَ ، وَإِنْ أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَهُوَ وَقِيذٌ . وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ : مَا نُصِبَ لَهُ مِنَ الْآلَةِ الَّتِي تُفَارِقُ آلَتَهُ ، فَتَضْغَطُهُ ، وَتُمْسِكُهُ حكم أكل هذا الصيد كَالْفَخِّ وَالشَّرَكِ وَالشَّبَكَةِ وَالْأُحْبُولَةِ ، فَإِذَا وَقَعَ فِيهِ وَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ حَلَّ ، وَإِنْ فَاتَتْ ذَكَاتُهُ وَمَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْآلَةِ سِلَاحٌ قَطَعَ بِحَدٍّ أَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا سِلَاحٌ ، فَمَاتَ بِضَغْطِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ فِيهَا سِلَاحٌ قَطَعَ بِحَدِّهِ يَحِلُّ اسْتِدْلَالًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَنْهَرَ الدَّمَ ، وَفَرَى الْأَوْدَاجَ ، فَكُلْ . وَلِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَقْرُهُ بِحَدٍّ ، فَحَلَّ أَكْلُهُ كَالْمَرْمِيِّ بِحَدِيدَةٍ . وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى السَّبَبُ وَالْمُبَاشَرَةُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي إِبَاحَةِ الْأَكْلِ .

وَدَلِيلُنَا : مَا عَلَّلَ بِهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا ذَكَاةٌ بِغَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ . وَبَيَانُهُ : أَنَّ الذَّكَاةَ تَكُونُ بِفِعْلِ فَاعِلٍ مُبَاشِرٍ ، وَلَا تَحِلُّ بِغَيْرِ فِعْلٍ مُبَاشِرٍ . وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهَا ذَكَاةٌ ، فَوَجَبَ أَنْ تَحِلَّ بِالْمُبَاشِرَةِ دُونَ السَّبَبِ كَمَنْ نَصَبَ سِكِّينًا ، فَاحْتَكَّتْ بِهَا شَاةٌ فَانْذَبَحَتْ لَمْ تُؤْكَلْ . وَعَلَّلَ أَبُو الطِّيبِ بْنُ سَلَمَةَ بِأَنَّ الصَّيْدَ يَحِلُّ إِذَا كَانَ مُعَيَّنًا أَوْ مِنْ جُمْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ ، كَمَا لَوْ رَمَى سَهْمًا إِلَى عُلُوٍّ فَسَقَطَ عَلَى صَيْدٍ اعْتَرَضَهُ أكل هذا الصيد لَمْ يَحِلَّ ، وَالْمَقْتُولُ بِسِلَاحِ الْأُحْبُولَةِ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا ، وَلَا مِنْ جُمْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ ، وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ دَخَلٌ : لِأَنَّهُ لَوْ نَصَبَهُ لِصَيْدٍ مُعَيَّنٍ أَوْ لِجُمْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَمْ يَحِلَّ . وَعَلَّلَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ بِأَنَّ الذَّكَاةَ تَحِلُّ بِالْفَاعِلِ ، وَالْأُحْبُولَةَ لَا فِعْلَ لَهَا ، وَإِنَّمَا الْفِعْلُ لِلصَّيْدِ الْوَاقِعِ فِيهَا ، فَلَمْ يَحِلَّ كَمَا لَوِ احْتَكَّ بِحَدِيدَةٍ أَوْ شَجَرَةٍ انْذَبَحُ بِهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ فَهُوَ أَنَّهُ وَارِدٌ فَيْمَا تَصِحُّ فِيهِ الذَّكَاةُ مِنَ الْآلَةِ إِذَا أَنْهَرَ الدَّمَ ، وَفَرَى الْأَوْدَاجَ بِحَدِّهِ ثُمَّ بِشُرُوطِ الِاسْتِبَاحَةِ ، فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى غَيْرِ الْمُبَاشَرَةِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ ، فَهُوَ مَا مَنَعْنَا بِهِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُبَاشَرَةِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالضَّمَانِ ، فَوُجُوبُ الضَّمَانِ أَعَمُّ ، وَإِبَاحَةُ الْأَكْلِ أَخَصُّ فَافْتَرَقَ حُكْمُ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ .

مَسْأَلَةٌ الذَّكَاةُ وَجْهَانِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " وَالذَّكَاةُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا مَا كَانَ مَقْدُورًا عَلَيْهُ مِنْ إِنْسِيٍّ أَوْ وَحْشِيٍّ لَمْ يَحِلَّ إِلَّا بَأَنْ يُذَكَّى وَمَا كَانَ مُمْتَنِعًا مِنْ وَحْشِيٍّ أَوْ إِنْسِيٍّ فَمَا قَدَرْتَ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ الرَّمْيِ أَوِ السِّلَاحِ فَهُوَ بِهِ ذَكِيٌّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْحَيَوَانُ ضَرْبَانِ : مَقْدُورٌ عَلَيْهِ ، وَمُمْتَنِعٌ . فَأَمَّا الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ في الصيد ، فَلَا تَحِلُّ ذَكَاتُهُ إِلَّا فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ : سَوَاءٌ كَانَ أَهْلِيًّا أَوْ وَحَشِيًّا ، وَأَمَّا الْمُمْتَنِعُ من الصيد ، فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : وَحْشِيٌّ كَالصَّيْدِ ، فَعَقْرُهُ ذَكَاتُهُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ أَصَبْتَهُ ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَهْلِيٌّ ، كَالنَّعَمِ إِذَا تَوَحَّشَ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَقْرَهُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ أَصَبْتَ مِنْ ذَكَاتِهِ ، كَالصَّيْدِ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عُمَرَ . وَمِنَ التَّابِعِينَ : الْحَسَنُ ، وَعَطَاءٌ ، وَطَاوُسٌ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ .

وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَحِلُّ إِلَّا بِالذَّكَاةِ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ . وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ رَبِيعَةُ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ : اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ . وَلِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْأَهْلِيِّ أَنَّهُ يُذَكَّى ، وَلَا يُفْدَى بِالْجَزَاءِ ، فَلَوْ جَازَ إِذَا تَوَحَّشَ أَنْ يَتَغَيَّرَ عَنْ حُكْمِ أَصْلِهِ فِي الذَّكَاةِ ، فَيَصِيرَ بِعَقْرِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ فِي حَلْقِهِ وَلَبَّتِهِ لَوَجَبَ أَنْ يَتَغَيَّرَ حُكْمُهُ فِي الْجَزَاءِ ، فَيُفْدِيَهِ الْمُحْرِمُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مَفْدِيًّا ، أَوْ لَصَارَ الْحِمَارُ الْأَهْلِيُّ إِذَا تَوَحَّشَ مَأْكُولًا ، فَلَمَّا بَقِيَ عَلَى أَصْلِهِ فِي سُقُوطِ الْجَزَاءِ وَتَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَجَبَ بَقَاؤُهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي الذَّكَاةِ . وَدَلِيلُنَا : مَا رَوَاهُ عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ بَعِيرًا نَدَّ ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ ، فَحَبَسَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ لِهَذِهِ الْإِبِلِ - أَوْ قَالَ : لِلنَّعَمِ - أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ ، فَمَا غَلَبَكُمْ فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا فَكَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُ : " فَحَبَسَهُ " أَيْ : قَتَلَهُ : لِمَا رُوِيَ فِي خَبَرٍ آخَرَ : فَحَبَسَهُ اللَّهُ أَيْ : أَمَاتَهُ . وَالثَّانِي : قَوْلُهُ : " فَاصْنَعُوا هَكَذَا " وَلَوْ لَمْ يَحِلَّ بِالرَّمْيِ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ . لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مُمْتَنِعٌ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ عَقْرُهُ ذَكَاتَهُ ، كَالْوَحْشِ . وَلِأَنَّ مَا صَحَّ بِهِ ذَكَاةُ الْوَحْشِ جَازَ أَنْ يَصِحَّ بِهِ ذَكَاةُ الْأَهْلِيِّ كَالذَّبْحِ . وَلِأَنَّهُ اعْتُبِرَ فِي ذَكَاةِ الْأَهْلِ حُكْمُ أَصْلِهِ إِذَا تَوَحَّشَ ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ لَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي ذَكَاةِ الْوَحْشِ حُكْمُ أَصْلِهِ إِذَا تَأَنَّسَ فَيَكُونَ بِعَقْرِهِ فِي غَيْرِ الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ ، وَفِي بُطْلَانِ هَذَا فِي الْوَحْشِ إِذَا تَأَنَّسَ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِهِ فِي الْإِنْسِيِّ إِذَا تَوَحَّشَ : اعْتِبَارًا بِالِامْتِنَاعِ وَالْقُدْرَةِ . فَأَمَّا الْخَبَرُ فَوَارِدٌ فِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ عَلَى مَا سَنُورِدُهُ فِي سَبَبِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِالْجَزَاءِ وَالْأَكْلِ مَعَ فَسَادِهِ بِالْوَحْشِيِّ إِذَا تَأَنَّسَ ، فَهُوَ أَنَّهُمَا يُخَالِفَانِ الْقُدْرَةَ وَالِامْتِنَاعَ فِي الزَّكَاةِ : لِأَنَّهُمَا حُكْمَانِ لَازِمَانِ لَا يَنْتَقِلَانِ ، وَالْقُدْرَةُ وَالِامْتِنَاعُ يَتَعَاقَبَانِ ، فَيَصِيرُ مَقْدُورًا عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُمْتَنِعًا ، وَمُمْتَنِعًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ ، وَلَا يَصِيرُ مَأْكُولًا بَعْدَ أَنْ كَانَ غَيْرَ مَأْكُولٍ ، وَلَا غَيْرَ مَأْكُولٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَأْكُولًا ، فَافْتَرَقَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ

عَلَيْهِ فَكُلُوهُ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ سِنٍّ أَوْ ظُفْرٍ لِأَنَّ السِّنَ عَظْمٌ مِنَ الْإِنْسَانِ وَالظُّفْرَ مُدَى الْحَبَشِ ، وَثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ جَعَلَ ذَكَاةَ الْإِنْسِيِّ مِثْلَ ذَكَاةِ الْوَحْشِيِّ إِذَا امْتَنَعَ قَالَ : وَلَمَّا كَانَ الْوَحْشِيُّ يَحِلُّ بِالْعَقْرِ مَا كَانَ مُمْتَنِعًا فَإِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ لَمْ يَحِلَّ إِلَّا بِمَا يَحِلُّ بِهِ الْإِنْسِيُّ كَانَ كَذَلِكَ الْإِنْسِيُّ إِذَا صَارَ كَالْوَحْشِيِّ مُمْتَنِعًا حَلَّ بِمَا يَحِلُّ بِهِ الْوَحْشِيُّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الذَّكَاةَ تَجُوزُ بِالْحَدِيدِ ، وَبِمَا صَارَ فِي اللَّحْمِ مَوْرُ الْحَدِيدِ ، فَذَبَحَ بِحَدِّهِ لَانْتَثَلَهُ مِنْ مُحَدِّدِ الْخَشَبِ ، وَالْقَصَبِ ، وَالزُّجَاجِ ، وَالْحِجَارَةِ الذكاة بهذه الأشياء إِلَّا أَنْ يَكُونَ سِنًّا أَوْ ظُفْرًا ، فَلَا تَجُوزُ الذَّكَاةُ بِهِ ، وَإِنْ قَطَعَ بِحَدِّهِ مُتَّصِلًا كَانَ أَوْ مُنْفَصِلًا ، وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ إِنْسَانٍ أَوْ سَبُعٍ ، وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ الذَّكَاةَ بِهِ إِذَا كَانَ مُنْفَصِلًا : وَلَمْ يُجِزْهَا بِهِ إِذَا كَانَ مُتَّصِلًا : احْتِجَاجًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَفَرَى الْأَوْدَاجَ ، فَكُلْ ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ : وَلِأَنَّهُ آلَةٌ يُمْكِنُ الذَّبْحُ بِهَا ، فَحَلَّتْ ذَكَاتُهَا كَالْحَدِيدِ : وَلِأَنَّهَا ذَكَاةٌ مُنِعَ مِنْهَا لِمَعْنًى فِي الْآلَةِ ، فَحَلَّتْ كَالسِّكِّينِ الْمَغْصُوبَةِ ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْفَصِلِ بِأَنَّ الْمُتَّصِلَ يُرَضُّ بِثِقْلِهِ ، وَالْمُنْفَصِلَ يُشَقُّ بِحَدِّهِ . وَدَلِيلُنَا : مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّهُ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَا لَاقُو الْعَدُوِّ غَدًا ، وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى أَفَنُذَكِّي بِاللَّيْطِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، فَكُلُوا إِلَّا بِمَا كَانَ مِنْ سِنٍّ أَوْ ظُفْرٍ : فَإِنَّ السِّنَّ عَظْمٌ مِنَ الْإِنْسَانِ وَالظُّفْرُ مُدَى الْحَبَشَةِ . فَاسْتَثْنَاهُمَا مِنَ الْإِبَاحَةِ ، فَدَخَلَا فِي التَّحْرِيمِ ، وَصَارَ عُمُومُ أَوَّلِهِ مَخْصُوصًا بِآخِرِهِ : وَلِأَنَّهُ ذَبْحٌ بِعَظْمٍ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحِلَّ كَالْمُتَّصِلِ : وَلِأَنَّ مَا لَمْ تَحِلَّ الذَّكَاةُ بِهِ إِذَا كَانَ مُتَّصِلًا لَمْ تَحِلَّ الذَّكَاةُ بِهِ إِذَا كَانَ مُنْفَصِلًا كَالشَّعْرِ إِذَا حُرِقَ طَرْدًا وَالْحَدِيدِ إِذَا قُطِعَ عَكْسًا : وَلِأَنَّهُ فِي الِاتِّصَالِ أَقْوَى وَأَمْضَى مِنْهُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ ، فَلَمَّا لَمْ تَجُزِ الذَّكَاةُ بِهِ فِي أَقْوَى حَالَيْهِ ، كَانَ بِأَنْ لَا يَجُوزَ فِي أَضْعَفِهِمَا أَوْلَى . فَأَمَّا الْخَبَرُ ، فَقَدْ يَخُصُّهُ آخِرُهُ . وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى الْحَدِيدِ فِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : بُطْلَانُهُ بِالْمُتَّصِلِ . وَالثَّانِي : أَنَّ نَصَّ السُّنَّةِ يَدْفَعُهُ . وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى السِّكِّينِ الْمَغْصُوبَةِ ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ السِّنِّ فِي حَقِّ اللَّهِ ، فَصَارَ كَذَبْحِ مَا لَا يُؤْكَلُ . وَالْمَنْعُ مِنَ السِّكِّينِ الْمَغْصُوبَةِ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّينَ ، فَصَارَ كَذَبْحِ الشَّاةِ الْمَغْصُوبَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الذَّبْحَ بِالسِّنِّ مُخْتَصٌّ بِالذَّكَاةِ : لِجَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ فِي غَيْرِهَا ، وَالْمَنْعَ مِنْ

السِّكِّينِ الْمَغْصُوبَةِ الذكاة بها غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالذَّكَاةِ لِتَحْرِيمِهَا فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الذَّكَاةُ بِالْعَظْمِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : كَرِهْتُهُ وَلَا سِنٍّ . . . أَنْ يَحْرُمَ : لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ سِنٍّ ، وَلَا ظُفْرٍ ، وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ فِي التَّحْرِيمِ الِاسْمَ ، وَأَجَازَهُ بِالْعَظْمِ لِخُرُوجِهِ عَنِ الِاسْمِ ، وَكَرِهَهُ : لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ ، وَلَمْ يَقِسْهُ عَلَيْهِ لِاسْتِثْنَاءِ أَصْلِهِ ، وَفِيهِ عِنْدِي نَظَرٌ : لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّلَ الْمَنْعَ مِنَ الْمَنْعِ : لِأَنَّهُ عَظْمُ الْإِنْسَانِ ، فَصَارَ تَعْلِيلُ السِّنِّ بِالْعَظْمِ دَلِيلًا عَلَى اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْحُكْمِ مِنْ جِهَةِ النَّصِّ ، وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ عَلَى النَّصِّ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ وَقَعَ بَعِيرٌ فِي بِئْرٍ وَطُعِنَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " قَالَ : وَلَوْ وَقَعَ بَعِيرٌ فِي بِئْرٍ وَطُعِنَ فَهُوَ كَالصَّيْدِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي بَعِيرٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ شَاةٍ وَقَعَتْ فِي بِئْرٍ ، أَوْ دَخَلَتْ فِي غَارٍ كيفية ذكاتها ، أَوْ حَصَلَتْ تَحْتَ هَدْمٍ ، فَلَمْ يُمْكِنْ إِخْرَاجُهَا فِي الْحَيَاةِ لِلذَّكَاةِ ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ الذَّبْحِ مِنَ الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ ظَاهِرًا أَوْ غَيْرَ ظَاهِرٍ ، فَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا لَمْ تَصِحَّ ذَكَاتُهُ إِلَّا فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ كَالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ : لِأَنَّ ذَبْحَهُ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْضِعُ الذَّبْحِ ظَاهِرًا حَلَّ بِعَقْرِهِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ عُقِرَ مَنْ جَسَدِهِ مِنْ مَقْتَلٍ وَغَيْرِ مَقْتَلٍ كَالصَّيْدِ الْمُمْتَنِعِ . وَمَنَعَ مَالِكٌ مِنْ تَذْكِيَتِهِ بِذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي الْحَيَوَانِ الْأَهْلِيِّ إِذَا امْتَنَعَ أَنَّ ذَكَاتَهُ لَا تَحِلُّ إِلَّا بِذَبْحِهِ . وَدَلِيلُنَا : مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِمَّا رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي الْعُشَرَاءِ الدَّارِمِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ بَعِيرًا تَرَدَّى فِي بِئْرٍ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَكُونُ الذَّكَاةُ إِلَّا فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ ؟ فَقَالَ : رَأَيْتَكَ لَوْ طَعَنْتَ فِي فَخِذٍ لَأَجْزَأَكَ وَهَذَا نَصٌّ . وَرُوِيَ أَنَّهُ تَرَدَّى بَعِيرٌ ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَنْحَرُوهُ إِلَّا مِنْ قِبَلِ شَاكِلَتِهِ ، فَاشْتَرَى مِنْهُ ابْنُ عُمَرَ عَشْرًا بِدِرْهَمَيْنِ ، وَهَذَا إِجْمَاعٌ ، لِأَنَّهُمْ تَبَايَعُوهُ ، وَأَكَلُوهُ ، وَلَمْ يُنْكِرُوهُ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ عَقْرُهَا بِمَا يُقْطَعُ بِحَدِّهِ أَوْ يُثْقَبُ بِوَقْتِهِ حَلَّ أَكْلُهُ ، وَإِنْ أَرْسَلَ عَلَيْهِ كُلَّهَا ، فَعَقَرَهُ فَفِي إِبَاحَتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ يَحِلُّ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ كَالصَّيْدِ الْمُمْتَنِعِ ، فَاسْتُبِيحَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ بِعَقْرِ الْكَلْبِ ، وَإِنْ حَلَّ بِعَقْرِ الْحَدِيدِ : لِأَنَّ الْحَدِيدَ يُسْتَبَاحُ بِهِ الذَّكَاةُ مَعَ الْقُدْرَةِ ، وَعَقْرُ الْكَلْبِ لَا يُسْتَبَاحُ بِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ ، فَاسْتَوَى عَقْرُ الْحَدِيدِ وَعَقْرُ الْكَلْبِ فِي الصَّيْدِ الْمُمْتَنِعِ ، وَافْتَرَقَا فِي الْحَيَوَانِ الْمُنْدَفِنِ . فَلَوْ قَطَعَ يَدَ الْبَعِيرِ مِنَ الْبِئْرِ فَمَاتَ مِنْ قَطْعِهَا حَلَّ أَكْلُهُ ، وَأَكَلَ يَدَهُ وَلَوْ لَمْ يَمُتْ

مِنْ قِطَعِهَا حَتَّى قَطَعَ يَدًا أُخْرَى حَرُمَتِ الْيَدُ الْأَوْلَى : لِأَنَّ الذَّكَاةَ لَمْ تَحْصُلْ بِقَطْعِهَا ، وَحَلَّتِ الْيَدُ الثَّانِيةُ مَعَ الْبَدَنِ لِحُصُولِ الذَّكَاةِ بِقَطْعِهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " وَلَوْ رَمَى صَيْدًا فَكَسَرَهُ أَوْ قَطَعَ جَنَاحَهُ وَرَمَاهُ آخَرُ فَقَتَلَهُ كَانَ حَرَامًا وَكَانَ عَلَى الرَّامِي الْآخَرِ قِيمَتُهُ بِالْحَالِ الَّتِي رَمَاهُ بِهَا مَكْسُورًا أَوْ مَقْطُوعًا قَالَ الْمُزَنِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ عِنْدِي فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَغْرَمُ قِيمَتَهُ مَقْطُوعًا : لِأَنَّهُ رَمَاهُ فَقَطَعَ رَأْسَهُ أَوْ بَلَغَ مِنْ مَقَاتِلِهِ مَا يَعْلَمُ أَنْ قَتَلَهُ دُونَ جُرْحِ الْجَنَاحِ وَلَوْ كَانَ جُرْحًا كَالْجُرْحِ الْأَوَّلِ ثَمَّ أَخَذَهُ رَبُّهُ فَمَاتَ فِي يَدَيْهِ فَقَدْ مَاتَ مِنْ جُرْحَيْنِ ، فَعَلَى الثَّانِي قِيمَةُ جُرْحِهِ مَقْطُوعَ الْجَنَاحِ الْأَوَّلِ ، وَنِصْفُ قِيمَتِهِ مَجْرُوحًا جُرْحَيْنِ : لِأَنَّ قَتْلَهُ مَقْطُوعَ الْجَنَاحَيْنِ مِنْ فِعْلِهِ وَفِعْلِ مَالِكِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلَيْنِ رَمَيَا صَيْدًا ، فَأَصَابَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا واتفقا فِي إِصَابَتِهِ ، فَلَهَا حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَتَّفِقَا فِي إِصَابَتِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَخْتَلِفَا فِيهَا . فَإِنِ اتَّفَقَا فِي إِصَابَتِهِ ، فَرَمَيَاهُ مَعًا ، فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَسْبِقْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ، فَلَنْ تَخْلُوَ الْإِصَابَتَانِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجِيَهُ ، فَيَكُونَ الصَّيْدُ بَيْنَهُمَا ، وَهُوَ مَأْكُولٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرَ مُوجِيهِ فَيَكُونَ بَيْنَهُمَا ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَكَاتِهِ بَعْدَ الْجِرَاحَتَيْنِ كَانَ مَأْكُولًا ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِمَا كَانَ غَيْرَ مَأْكُولٍ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ إِحْدَى الْجِرَاحَتَيْنِ مُوجِيَةً ، وَالْأُخْرَى غَيْرَ مَوْجِيَةٍ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَكُونُ مِلْكًا لَهُمَا ، وَهُوَ مَأْكُولٌ ، وَيَسْتَوِي فِيهِ مَنْ وَجَأَ ، وَمَنْ لَمْ يَوْجِ ، لِأَنَّ غَيْرَ الْمُوجِيَةِ قَدْ تُسَمُّ ، وَتُذَكِّيهِ كَالْمُوجِيَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَكُونُ مِلْكًا لِلْمُوجِي خَاصَّةً : لِأَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ إِثْبَاتِهِ ، وَتَذْكِيَتِهِ بِهَا ، وَفِي شَكٍّ مِنْ إِثَابَتِهِ بِغَيْرِ الْمُوجِيَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِلْكُهُ مُسْتَحَقًّا بِالْيَقِينِ دُونَ شَكٍّ .

فَصْلٌ : وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْإِصَابَةِ إصابة الرجلين صيدا ، وَأَصَابَهُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ ، فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ الْإِصَابَةُ الْأُولَى مُوجِيَةً دُونَ الثَّانِيةِ .

وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الْإِصَابَةُ الثَّانِيةُ مَوْجِيَةً دُونَ الْأُولَى . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْإِصَابَتَيْنِ غَيْرَ مُوجِيَةٍ ، وَلَا حُكْمَ لِرَابِعٍ إِنْ خَرَجَ بِهِ التَّقْسِيمُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُوجِيَةً : لِأَنَّهُ لَا تَوْجِيَةَ بَعْدَ التَّوْجِيَةِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْإِصَابَةُ الْأُولَى مُوجِيَةً دُونَ الثَّانِيةِ ، وَهُوَ الْأَوَّلُ الْمُوجِي ، وَقَدْ حَلَّ بِالتَّوْجِيَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي مَحَلِّ الذَّكَاةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا ، وَيُنْظَرُ فِي إِصَابَةِ الثَّانِي ، فَإِنْ لَمْ تُؤَثِّرْ فِي نَقْصِ قِيمَتِهِ ، فَهِيَ هَدَرٌ ، وَلَا شَيْءَ فِيهَا ، وَإِنْ أَثَّرَتْ فِي شَقِّ الْجِلْدِ نَقْصًا ضَمِنَ أَرْشَهَا ، فَإِنِ اخْتَلَفَا ، فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ الْأَسْبَقُ الْمُوجِي ، وَعُدِمَا الْبَيِّنَةَ تَحَالَفَا ، فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا ، وَنَكَلَ الْآخَرُ قُضِيَ بِالصَّيْدِ لِلْحَالِفِ ، وَقُضِيَ بِأَرْشِ النَّقْصِ عَلَى النَّاكِلِ ، وَإِنْ حَلَفَا جُعِلَ الصَّيْدُ بَيْنَهُمَا بِأَيْمَانِهِمَا ، لِتَكَافُئِهِمَا فِيهِ ، وَسَقَطَ غُرْمُ الْأَرْشِ بِالْإِصَابَةِ الثَّانِيةِ : لِلْجَهْلِ بِمُسْتَحَقِّهِ وَالْمُسْتَحِقِّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ نَكَلَا انْقَطَعَ التَّخَاصُمُ بَيْنَهُمَا ، وَوُقِفَ الصَّيْدُ ، وَالْأَرْضُ عَلَى اصْطِلَاحِهَا .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُوجِي هُوَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ الصيد إذا رماه رجلان ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ لَمْ يُثْبِتْهُ بِإِصَابَتِهِ ، فَيَكُونَ الصَّيْدُ مِلْكًا لِلثَّانِي الْمُوجِي ، وَتَكُونَ التَّوْجِيَةُ ذَكَاةً سَوَاءٌ كَانَتْ فِي مَحَلِّ الذَّكَاةِ أَوْ كَانَتْ فِي غَيْرِهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ قَدْ أَثْبَتَهُ بِإِصَابَتِهِ ، فَيَكُونَ مِلْكًا لِلْأُولَى ، وَيُنْظَرَ فِي تَوْجِيَةِ الثَّانِي : فَإِنْ كَانَتْ فِي عَدِّ مَحَلِّ الذَّكَاةِ مِنَ الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ كَانَ مَأْكُولًا ، وَضَمِنَ بِالتَّوْجِيَةِ مَا بَيْنَ قِيمَتُهُ مَجْرُوحًا وَمَذْبُوحًا ، وَإِنْ كَانَتِ التَّوْجِيَةُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الذَّكَاةِ بِأَنْ قُطِعَ نِصْفَيْنِ ، فَهُوَ غَيْرُ مَأْكُولٍ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِإِثْبَاتِ الْأَوَّلِ مَقْدُورًا عَلَيْهِ لَا يَحِلُّ إِلَّا بِذَكَاتِهِ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ ، وَيَضْمَنُ الْمُوجِي جَمِيعَ قِيمَتِهِ مَجْرُوحًا . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَشُكَّ فِيهِ هَلْ أَثْبَتَ الْأَوَّلَ بِإِصَابَتِهِ أَمْ لَا ، فَيَكُونُ الشَّكُّ مُسْقِطًا لِحُكْمِ الْإِثْبَاتِ فِي حَقِّ الْأُولَى : لِأَنَّهُ عَلَى أَصْلِ الِامْتِنَاعِ ، وَيَكُونُ مِلْكًا لِلثَّانِي ، وَيُنْظَرُ فِي تَوْجِيَتِهِ . فَإِنْ كَانَتْ فِي مَحَلِّ الذَّكَاةِ أَكَلَ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا فَفِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : مُبَاحٌ : لِأَنَّ إِثْبَاتَ الْأَوَّلِ قَدْ يَسْقُطُ بِالشَّكِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : مَحْظُورٌ : لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ جَوَازٍ فِي مُحْتَمَلَيْنِ مَعَ مَا يَقْضِيهِ حُكْمُ الْأَصْلِ مِنَ الْحَظْرِ ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ مِلْكُ الْأَوَّلِ : لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ وَلَمْ يَسْقُطْ بِالشَّكِّ حُكْمُ الْحَظْرِ : لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْحَظْرُ ، وَلَوِ ادَّعَى الْجَارِحُ الْأَوَّلَ أَنَّهُ قَدْ أَثْبَتَهُ ،

وَأَنْكَرَ الْمُوجِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوجِي مَعَ يَمِينِهِ ، وَالتَّوْجِيَةُ كَالتَّذْكِيَةِ . فَإِنْ قِيلَ : أَلَسْتُمْ قُلْتُمْ : إِنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى إِصَابَتِهِ أَنَّهُ بَيْنَ الْجَارِحِ وَالْمُوجِي فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، فَهَلَّا جَعَلْتُمُوهُ فِي تَقَدُّمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ عَلَى وَجْهَيْنِ . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَيْدِيَهُمَا فِي الِاتِّفَاقِ مُتَسَاوِيَانِ ، وَفِي الِاخْتِلَافِ مُفْتَرِقَانِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمْ يَمْضِ مَعَ الِاتِّفَاقِ زَمَانُ الْإِثْبَاتِ ، فَيُرَاعَى ، وَقَدْ مَضَى مَعَ اخْتِلَافٍ فِي زَمَانِ الْإِثْبَاتِ ، فَصَارَ مُرَاعًى .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي جَارِحًا غَيْرَ مُوجٍ الصيد إذا رماه رجلان ، فَلَا تَخْلُو جِرَاحُ الْأَوَّلِ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُثْبِتَ الصَّيْدَ بِهَا . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يُثْبِتَهُ بِهَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَشُكَّ فِي إِثْبَاتِهِ بِهَا . فَإِنْ عُلِمَ أَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ أَثْبَتَ الصَّيْدَ بِجِرَاحَتِهِ . وَذَلِكَ بِأَنْ يَكْسِرَ رِجْلَ مَا يَعْدُو ، وَجَنَاحَ مَا يَطِيرُ ، فَهُوَ مِلْكٌ لِلْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي : لِأَنَّهُ بِالْإِثْبَاتِ قَدْ صَارَ مَمْلُوكًا ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِمُثْبِتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ إِلَى يَدِهِ كَمَا لَوْ وَقَعَ فِي فَخِّهِ أَوْ شَبَكَتِهِ ، وَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يُثْبِتْهُ بِجِرَاحَتِهِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَرَاهُ بَعْدَ الْجِرَاحَةِ يَعْدُو أَوْ يَطِيرُ ، وَهُوَ لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ لِوُجُودِ الْإِثْبَاتِ بِجِرَاحَتِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْجُرْحَيْنِ قَدْ أَثَّرَ فِي إِثْبَاتِهِ ، فَهَلَّا كَانَ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ جَرَحَا عَبْدًا فَمَاتَ فَكَانَ ضَمَانُهُ عَلَيْهَا ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الثَّانِي مِنْهُمَا . قِيلَ : لِأَنَّ الْجِرَاحَةَ الْأُولَى فِي الصَّيْدِ لَمْ تُؤَثِّرْ فِي الْمِلْكِ ، فَلَمْ تُوجِبِ الِاشْتِرَاكَ فِيهِ ، وَالْجِرَاحَةُ الْأُولَى فِي الْعَبْدِ مُؤَثِّرَةٌ فِي الضَّمَانِ ، فَأَوْجَبَ الِاشْتِرَاكَ فِيهِ ، وَإِنْ شَكَكْنَا فِي جِرَاحَةِ الْأَوَّلِ ، هَلْ أُثْبِتَ الصَّيْدُ بِهَا أَمْ لَا ؟ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ مُطْرَحًا وَالْيَقِينُ مُعْتَبَرًا فَيَكُونُ لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ : لِأَنَّهُ أَصْلُ الِاقْتِنَاعِ حَتَّى يَتَيَقَّنَ مَا عَدَاهُ ، وَيَتَيَقَّنَ الْإِثْبَاتَ مَعَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ، فَصَارَ مِلْكُ الصَّيْدِ هُنَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي فِي حَالَتَيْنِ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ : لِأَنَّهُمَا فِيهِ غَيْرُ مُتَسَاوِيَيْنِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ ، فَإِنْ جَعَلْنَا الصَّيْدَ مِلْكًا لِلثَّانِي الصيد إذا رماه رجلان : فَلَا ضَمَانَ فِي تَلَفِهِ عَلَى الْأَوَّلِ ، وَلَا عَلَى الثَّانِي : أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ جَرَحَهُ فِي حَالِ الْإِبَاحَةِ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ قَدْ جَرَحَهُ فِي مِلْكِهِ فَلَمْ يَضْمَنْهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَإِنْ جَعَلَهَا الصَّيْدُ مِلْكًا لِلْأَوَّلِ بِإِثْبَاتِهِ ، وَجُرْحِهِ الثَّانِي ، فَسَرَتِ الْجِرَاحَةُ إِلَى نَفْسِهِ فَمَاتَ ، فَقَدْ صَارَ مَوْتُهُ مِنْ جِرَاحَتَيْنِ

مُخْتَلِفَتَيِ الْحُكْمِ : فَالْجِرَاحَةُ الْأُولَى مُسْتَجْلِبَةٌ لِلْحُكْمِ ، مُبِيحَةٌ لِلْأَكْلِ لَوِ انْفَرَدَتْ ، وَالْجِرَاحَةُ الثَّانِيةُ مُسْتَهْلِكَةٌ لِلْمِلْكِ مُحَرِّمَةٌ لِلْأَكْلِ لَوِ انْفَرَدَتْ ، فَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْجِرَاحَتَانِ مَعَ حُصُولِ الِاسْتِهْلَاكَيْنِ وَالتَّحْرِيمِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ حُكْمُ الِاسْتِهْلَاكِ وَالتَّحْرِيمِ مُخْتَصًّا بِالْجِرَاحَةِ الثَّانِيةِ فَيَكُونُ الثَّانِي ضَامِنًا لِجَمِيعِ الْقِيمَةِ ، وَيَكُونُ مُضَافًا إِلَى الْجِرَاحَتَيْنِ وَالْقِيمَةُ مُقَسَّطَةٌ عَلَى الْجِرَاحَتَيْنِ ؟ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الظَّاهِرُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ ، أَنَّ حُكْمَ الِاسْتِهْلَاكِ وَالتَّحْرِيمِ مُضَافًا إِلَى الْجِرَاحَتَيْنِ ، وَأَنَّ قِيمَةَ الصَّيْدِ الْمُسْتَهْلَكَةِ مُقَسَّطَةٌ عَلَى الْجَارِحَيْنِ : لِأَنَّ التَّلَفَ كَانَ لِسَرَايَةِ الْجِرَاحَتَيْنِ ، فَلَمْ يَمْنَعِ اخْتِلَافُ حُكْمِهِمَا مِنْ تَقْسِيطِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا ، كَمَا لَوْ قَطَعَ السَّيِّدُ يَدَ عَبْدِهِ فِي السَّرِقَةِ وَقَطَعَ أَجْنَبِيٌّ يَدَهُ فِي جِنَايَةٍ ، وَمَاتَ مِنْهُمَا كَانَ عَلَى الْجَانِي نِصْفُ قِيمَتِهِ : لِأَنَّهُ مَاتَ بِسَرَايَةِ الْقَطْعَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فِيهِمَا مُبَاحًا غَيْرَ مُضَمَّنٍ كَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْجِرَاحَتَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ أَنَّ الضَّمَانَ مُخْتَصٌّ بِالْجِرَاحَةِ الثَّانِيةِ ، وَعَلَى الْجَارِحِ الثَّانِي جَمِيعُ الْقِيمَةِ بَعْدَ الْجِرَاحَةِ الْأُولَى ، قَالَ : لِأَنَّ الْجِرَاحَةَ الْأُولَى لَمَّا اسْتَجْلَبَتِ الْمِلْكَ ، أَبَاحَتِ الْأَكْلَ ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حُكْمُ مَا لَمْ يُوجَدْ فِيهَا مِنِ اسْتِهْلَاكٍ وَتَحْرِيمٍ . وَالْجِرَاحَةُ الثَّانِيةُ لَمَّا اسْتَهْلَكَتِ الْمِلْكَ ، وَحَرَّمَتِ الْأَكْلَ اخْتَصَّ بِهَا حُكْمُ مَا يُوجَدُ فِيهَا مِنَ الِاسْتِهْلَاكِ وَالتَّحْرِيمِ : لِتَنَافِي الْحُكْمِ فِي الْجِرَاحَتَيْنِ ، فَعُلِّقَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ حُكْمُهَا . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : حَكَاهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنْ يَنْظُرَ حَالَ الصَّيْدِ ، فَإِنْ حَصَلَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ حَيًّا ، فَعَلَى الثَّانِي ، قِسْطُهُ مِنَ الْقِيمَةِ كَمَا قُلْنَاهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْجِرَاحَةَ الْأُولَى مَعَ إِدْرَاكِ حَيَاتِهِ قَدْ صَارَتْ كَالثَّانِيةِ فِي اسْتِهْلَاكِهِ وَتَحْرِيمِهِ ، فَتَقَسَّطَتِ الْقِيمَةُ عَلَيْهِمَا ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ فِي يَدِ صَاحِبِهِ إِلَّا مَيْتًا ، فَعَلَى الثَّانِي جَمِيعُ الْقِيمَةِ كَمَا قِيلَ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي : لِأَنَّ الْجِرَاحَةَ الْأُولَى عِنْدَ فَوَاتِ ذَكَاتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي اسْتِهْلَاكِهِ ، وَلَا تَحْرِيمٌ . وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ : وَهُوَ أَظْهَرُهَا عِنْدِي أَنَّهُ إِنْ مَضَى فِي الزَّمَانِ بَيْنَ الْجِرَاحَتَيْنِ قَدْرُ مَا يُدْرِكُهُ صَاحِبُهُ . فَالْقِيمَةُ بَيْنَهُمَا ، وَعَلَى الثَّانِي قِسْطُهُ مِنْهَا كَالْوَجْهِ الْأَوَّلِ : لِأَنَّ مُضِيَّ زَمَانِ إِدْرَاكِهِ مُوجِبٌ لِتَحْرِيمِهِ عِنْدَ فَوَاتِ ذَكَاتِهِ ، فَاسْتَوَتِ الْجَرْحَتَانِ فِي التَّحْرِيمِ فَقُسِّطَتِ الْقِيمَةُ عَلَيْهِمَا ، وَإِنْ لَمْ يَمْضِ بَيْنَ الْجِرَاحَتَيْنِ زَمَانُ إِدْرَاكِهِ ، وَالْجِرَاحَةُ الثَّانِيةُ هِيَ الْمُخْتَصَّةُ بِالتَّحْرِيمِ ، فَاخْتُصَّ الثَّانِي بِجَمِيعِ الْقِيمَةِ كَالْوَجْهِ الثَّانِي : لِأَنَّ قُصُورَ الزَّمَانِ يَمْنَعُ مِنْ تَأْثِيرِ الْأَوَّلِ فِي التَّحْرِيمِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ وَتَعْلِيلُ كُلِّ وَجْهٍ مِنْهَا ، فَإِنْ وَجَبَ بِهَا عَلَى الثَّانِي جَمِيعُ الْقِيمَةِ عَلَى مُقْتَضَى تَعْلِيلِهَا صَارَ الْجُرْحُ الثَّانِي كَالتَّوْجِيَةِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الذَّكَاةِ ، فَيَلْزَمُ الثَّانِي جَمِيعُ قِيمَةِ الصَّيْدِ مَجْرُوحًا ، وَزَعَمَ الْمُزَنِيُّ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْكِتَابِ فِي الثَّانِي أَنْ يَكُونَ مُوجِيًا ، لِأَنَّهُ أَوْجَبَ جَمِيعَ الْقِيمَةِ ، وَأَنْكَرَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا أَنْ تَكُونَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فِي الثَّانِي أَنْ يَكُونَ مُوجِيًا : لِأَنَّهُ أَوْجَبَ جَمِيعَ الْقِيمَةِ وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ إِطْلَاقِ وُجُوبِ الْقِيمَةِ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ ، فَيَكُونُ إِطْلَاقُهَا عِنْدَ وُجُوبِ الْكُلِّ مَحْمُولًا عَلَيْهِ ، وَعِنْدَ وُجُوبِ الْقِسْطِ مَحْمُولًا عَلَيْهِ ، وَأَمَّا إِذَا وَجَبَ عَلَى الثَّانِي قِسْطُهُ مِنَ الْقِيمَةِ عَلَى مُقْتَضَى الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ ، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِمَسْأَلَةِ الْكِتَابِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا حِينَئِذٍ فِي تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الْمُوجِبِ لِتَقْسِيطِ الْقِيمَةِ وَالْعَمَلِ الْمُؤَدِّي إِلَيْهِ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ يَتَّضِحُ بَيَانُهَا إِذَا ذُكِرَتْ قِيمَةُ الصَّيْدِ وَأَرْشُ الْجُرْحِ ، فَتَصَوَّرَهَا فِي صَيْدِ مَمْلُوكٍ قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ جَرَحَهُ الْأَوَّلُ جُرْحًا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ دِرْهَمًا ، وَجُرْحُ الثَّانِي نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ دِرْهَمًا ، ثُمَّ مَاتَ مِنَ الْجِرَاحَتَيْنِ ، فَأَحَدُ الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ فِي تَعْلِيلِ الْحُكْمِ مِنْ طَرِيقِ الْعَمَلِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيِّ أَنَّكَ تُوجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَارِحَيْنِ أَرْشَ جِرَاحَةٍ ، ثُمَّ تُقَسِّمُ قِيمَةَ الصَّيْدِ بَعْدَ الْجِرَاحَتَيْنِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَتَجْمَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيْنَ نِصْفِ قِيمَتِهِ وَأَرْشِ جِرَاحَتِهِ ، فَتَجْعَلُ عَلَى الْأَوَّلِ دِرْهَمًا هُوَ أَرْشُ جِرَاحَةٍ ، وَعَلَى الثَّانِي دِرْهَمًا هُوَ أَرْشُ جِرَاحَةٍ وَقِيمَةُ الصَّيْدِ بَيْنَ الْجِرَاحَتَيْنِ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ تَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحَدٍ مِنَ الْجَارِحَيْنِ نَصِفُهَا أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ ، فَتُضَمُّ إِلَى الدِّرْهَمِ الَّذِي لَزِمَهُ بِأَرْشِ الْجِرَاحَةِ ، فَيَصِيرُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ ، وَلَوْ كَانَتْ جِرَاحَةُ الْأَوَّلِ أَرْشُهَا دِرْهَمًا ، وَجِرَاحَةُ الثَّانِي أَرْشُهَا دِرْهَمَيْنِ أَوْجَبَ عَلَى الْأَوَّلِ دِرْهَمًا ، وَهُوَ أَرْشُ جِرَاحَتَيْنِ ، وَأَوْجَبَ عَلَى الثَّانِي دِرْهَمَيْنِ . هُمَا أَرْشُ جَرْحَتِهِ ، ثُمَّ مَاتَ الصَّيْدُ بَعْدَ الْجِرَاحَتَيْنِ ، وَقِيمَتُهُ سَبْعَةُ دَرَاهِمَ ، فَيَكُونُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا نَصِفُهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَنَصِفٌ ، فَيَصِيرُ عَلَى الْأَوَّلِ مَعَ الدِّرْهَمِ أَرْبَعَةٌ وَنِصْفٌ ، وَعَلَى الثَّانِي مَعَ الدِّرْهَمَيْنِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ ، وَلَوْ كَانَتْ جِرَاحَةُ الْأَوَّلِ أَرْشُهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ ، وَجِرَاحَةُ الثَّانِي أَرْشُهَا دِرْهَمَانِ أَوْجَبَ عَلَى الْأَوَّلِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ هِيَ أَرْشُ جِرَاحَتِهِ ، وَأَوْجَبَ عَلَى الثَّانِي دِرْهَمَيْنِ هُمَا أَرْشُ جِرَاحَتِهِ ، وَمَاتَ الصَّيْدُ بَعْدَ الْجِرَاحَتَيْنِ وَقِيمَتُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهَا ، يَضُمُّ إِلَى مَا عَلَيْهِ ، فَيَصِيرُ عَلَى الْأَوَّلِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ ، وَعَلَى الثَّانِي أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ ثُمَّ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فِيمَا زَادَ وَنَقَصَ ، وَهِيَ إِنْ صَحَّتْ فِي الْعَمَلِ فَهُوَ تَفْسُدُ عَلَى أُصُولِ الشَّافِعِيِّ فِي وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْجِرَاحَةَ إِذَا سَرَتْ إِلَى النَّفْسِ لَمْ يُعْتَبَرْ أَرْشُهَا ، وَإِذَا لَمْ تَسْرِ إِلَى النَّفْسِ اعْتُبِرَ أَرْشُهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ ، فَمَاتَ مِنَ السِّرَايَةِ ضَمِنَ جَمِيعَ الْقِيمَةِ ، وَدَخَلَ أَرْشُ الْقَطْعِ فِي قِيمَةِ النَّفْسِ ، وَلَوْ لَمْ يَمُتْ مِنَ الْقَطْعِ حَتَّى قَتَلَهُ آخَرُ كَانَ

عَلَى الْقَاطِعِ دِيَةُ يَدِهِ : لِأَنَّ قَطْعَهُ لَمْ يَسْرِ ، وَكَانَ عَلَى الْقَاتِلِ قِيمَةُ نَفْسِهِ ؟ وَالْمُزَنِيُّ اعْتَبَرَ أَرْشَ الْجِرَاحَةِ مَعَ سِرَايَتهَا ، وَفِيهِ مُخَالَفَةٌ لِهَذَا الْأَصْلِ . وَالثَّانِي : أَنَّ قِيمَةَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَ وُقُوعِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ ، وَلَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهَا عَلَيْهِ ، أَلَا تَرَى لَوْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ فَمَاتَ اعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُ قَبْلَ قَطْعِهِ وَلَمْ تُعْتَبَرْ بَعْدَهُ ، وَالْمُزَنِيُّ اعْتَبَرَ الْقِيمَةَ بَعْدَ الْجِرَاحِ ، فَخَالَفَ هَذَا الْأَصْلَ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا كَذَلِكَ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُزَنِيُّ ، هَلْ قَالَهُ تَخْرِيجًا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، فَكَانَ مُخْطِئًا ، أَوْ قَالَهُ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ فَكَانَ مُجْتَهِدًا ؟ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَالَهُ تَخْرِيجًا . وَالثَّانِي : قَالَهُ مَذْهَبًا غَيْرَ اجْتِهَادٍ ، فَهَذَا حُكْمُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ عَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيِّ .

فَصْلٌ : وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ عَلَى قَوْلِهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ . وَقِيلَ : إِنَّهُ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَإِنْ لَمْ أَرَهُ فِي شَرْحِهِ ، أَنَّ قِيمَتَهُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ جِنَايَتِهِ وَجِرَاحَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، قَدْ سَرَى نِصْفُهَا إِلَى مَا دَخَلَ فِي ضَمَانٍ ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ وَسَرَى نِصْفُهَا إِلَى مَا دَخَلَ فِي ضَمَانِ غَيْرِهِ ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ : لِأَنَّهَا لَوْ سَرَتْ فِي حَقِّهِ إِلَى جَمِيعِ النَّفْسِ سَقَطَتْ ، وَلَوْ لَمْ تَسْرِ فِي حَقِّهِ إِلَى شَيْءٍ مِنَ النَّفْسِ وَجَبَتْ ، فَوَجَبَ إِذَا سَرَتْ فِي حَقِّهِ إِلَى نِصْفِ النَّفْسِ أَنْ يَسْقُطَ نِصْفُ الْأَرْشِ وَيَجِبَ نِصْفُ الْأَرْضِ مَضْمُونًا إِلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ وَقْتَ جِنَايَتِهِ ، وَيَتَحَمَّلُ الثَّانِي عَنِ الْأَوَّلِ نِصْفَ الْأَرْشِ كَمَا تَحَمَّلَ عَنْهُ نِصْفَ النَّفْسِ . وَبَيَانُهُ : أَنْ نَقُولَ جَرَحَهُ الْأَوَّلُ ، وَقِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، وَأَرْشُ جِرَاحَتِهِ دِرْهَمٌ ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ نِصْفُ الْعَشَرَةِ ، وَهِيَ خَمْسَةٌ وَنِصْفُ الْأَرْشِ وَهُوَ نِصْفُ دِرْهَمٍ يَتَحَمَّلُهُ عَنْهُ الثَّانِي ، ثُمَّ جَرَحَهُ الثَّانِي ، وَقِيمَتُهُ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ وَأَرْشُ جِرَاحَتِهِ دِرْهَمٌ ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ ، وَنِصْفُ أَرْشِ جِرَاحَتِهِ ، وَهُوَ نِصْفُ دِرْهَمٍ يَتَحَمَّلُهُ عَنِ الْأَوَّلِ ، فَيَصِيرُ عَلَيْهِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ ، وَعَلَى الْأُولَى : خَمْسَةُ دَرَاهِمَ ، فَيَصِيرُ هَذَا مُوَافِقًا لِقَوْلِ الْمُزَنِيِّ فِي الْجَوَابِ ، وَمُخَالِفًا لَهُ فِي التَّعْلِيلِ : لِيَكُونَ سَلِيمًا عَلَى الْأُصُولِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ أَرْشُ جِرَاحَةِ الْأَوَّلِ دِرْهَمًا ، وَأَرْشُ جِرَاحَةِ الثَّانِي ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ الْعَشَرَةِ ، وَهِيَ خَمْسَةٌ ، وَنِصْفُ أَرْشِ جِرَاحَتِهِ وَهُوَ نِصْفُ دِرْهَمٍ ، وَجُرْحُهُ الثَّانِي ، وَقِيمَتُهُ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ ، فَعَلَيْهِ نِصْفُهَا أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ أَرْشِ جِرَاحَتِهِ : وَهُوَ دِرْهَمٌ وَنِصْفٌ تَحَمَّلَهَا عَنِ الْأُولَى ، فَصَارَ عَلَيْهِ سِتَّةُ دَرَاهِمَ ، وَبَقِيَ عَلَى الْأَوَّلِ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ أَرْشُ جِرَاحَةِ الْأُولَى ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ ، وَأَرْشُ جِرَاحَةِ الثَّانِي دِرْهَمًا ، كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ قِيمَتِهِ ، وَهِيَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ ، وَنِصْفُ أَرْشِ جِنَايَتِهِ ، وَهُوَ دِرْهَمٌ وَنِصْفٌ ، يَصِيرُ عَلَيْهِ سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ ، وَجُرْحُهُ الثَّانِي وَقِيمَتُهُ سَبْعَةُ دَرَاهِمَ عَلَيْهِ نَصِفُهَا

ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ ، وَنِصْفُ أَرْشِ جِرَاحَةٍ ، وَهِيَ نِصْفُ دِرْهَمٍ يَتَحَمَّلُهُ عَنِ الْأَوَّلِ ، فَيَصِيرُ عَلَى الثَّانِي أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ ، وَبَقِيَ عَلَى الْأَوَّلِ سِتَّةُ دَرَاهِمَ ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ ، فَيَكُونُ الْوَجْهَانِ مُتَّفِقَيْنِ فِي الْجَوَابِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي التَّعْلِيلِ . وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْوَجْهِ فِيمَا يَحْمِلُهُ الثَّانِي عَنِ الْأَوَّلِ مِنْ نِصْفِ الْأَرْشِ : هِيَ يَكُونُ فِي ضَمَانِ الْأَوَّلِ حَتَّى يُؤْخَذَ مِنَ الثَّانِي ؟ أَوْ يَكُونُ سَاقِطًا عَنْهُ بِضَمَانِ الثَّانِي ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَكُونُ فِي ضَمَانِهِ حَتَّى يُؤْخَذَ مِنَ الثَّانِي كَالْغَاصِبِ إِذَا غَصَبَ عَبْدًا ، فَجَرَحَهُ آخَرُ فِي يَدِهِ كَانَ أَرْشُ الْجِرَاحَ مِنْ ضَمَانِهِ وَضَمَانِ غَاصِبِهِ ، كَذَلِكَ هَاهُنَا ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَالِكُ الْعَبْدِ مُخَيَّرًا فِي أَخْذِ نِصْفِ أَرْشِ جِرَاحَةِ الثَّانِي فِي الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي ، فَإِنْ أَخَذَهُ مِنَ الْأَوَّلِ رَجَعَ بِهِ الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي ، وَإِنْ أَخَذَهُ مِنَ الثَّانِي لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْأَوَّلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنِ الْأَوَّلِ بِضَمَانِ الثَّانِي كَمَا سَقَطَ عَنْهُ نِصْفُ الْقِيمَةِ بِضَمَانِ الثَّانِي ، فَلَا يَسْتَحِقُّ مَالِكُ الصَّيْدِ مُطَالَبَةَ الْأَوَّلِ بِهِ ، وَيَسْتَحِقُّهُ عَلَى الثَّانِي مَعَ نِصْفِ الْقِيمَةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا كَانَ اعْتِبَارُ قِيمَةِ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْجَارِحِينَ سَوَاءً ، فَتَكُونُ الْقِيمَةُ قَبْلَ الْجِرَاحَتَيْنِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بِالسَّوِيَّةِ ، كَالْحُرِّ إِذَا جَرَحَهُ اثْنَانِ ، فَمَاتَ كَانَتِ الدِّيَةُ عَلَيْهَا بِالسَّوِيَّةِ نِصْفَيْنِ ، وَلَمْ يَكُنْ مَا عَلَى الثَّانِي مِنْهُمَا أَقَلَّ مِمَّا عَلَى الْأَوَّلِ . قِيلَ : لِأَنَّ دِيَةَ الْحُرِّ بَعْدَ الْجِنَايَةِ كَدِيَتِهِ قَبْلَهَا ، وَقِيمَةَ الْعَبْدِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ أَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ قَبْلَهَا ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَتَلَ حُرًّا مَقْطُوعَ الْيَدِ كَانَتْ عَلَيْهِ دِيَةُ مَنْ لَيْسَ بِأَقْطَعَ ؟ وَلَوْ قَتَلَ عَبْدًا مَقْطُوعَ الْيَدِ كَانَتْ عَلَيْهِ قِيمَةُ عَبْدٍ أَقْطَعَ ؟ فَهَذَا حُكْمُ الْوَجْهِ الثَّانِي .

فَصْلٌ : وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطِّيبِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ كَالْوَجْهِ الثَّانِي فِي اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَنِصْفِ الْأَرْشِ ، لَكِنْ لَا يَحْتَمِلُ الثَّانِي عَنِ الْأَوَّلِ مَا لَزِمَهُ مِنْ نِصْفِ الْأَرْشِ ، وَتُقَسَّمُ قِيمَةُ الصَّيْدِ بَيْنَهُمَا عَلَى مِقْدَارِ مَا لَزِمَهَا الرجلان اللذان اشتركا في صيد . وَبَيَانُهُ : أَنْ نَقُولَ : إِذَا كَانَتْ جِرَاحَةُ الْأَوَّلِ دِرْهَمًا ، وَجِرَاحَةُ الثَّانِي دِرْهَمًا عَلَى أَنَّ لِلْأَوَّلِ نِصْفَ الْقِيمَةِ ، وَنِصْفُ الْجِرَاحَةِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ ، وَعَلَى الثَّانِي نِصْفُ الْقِيمَةِ مَجْرُوحًا ، وَنِصْفُ الْجِرَاحَةِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ بَعِيرٍ عَلَيْهَا مَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ ، وَقِيمَةُ الصَّيْدِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، لَا يَسْتَحِقُّ مَالِكُهُ أَكْثَرَ مِنْهَا ، فَتُقَسَّمُ الْعَشَرَةُ الَّتِي هِيَ الْقِيمَةُ عَلَى عَشَرَةِ أَسْهُمٍ وَنِصْفٍ ، فَيَكُونُ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْهَا خَمْسَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ مِنْ عَشَرَةِ أَسْهُمٍ وَنِصْفٍ مِنَ الْعَشَرَةِ ، وَكَانَ عَلَى الثَّانِي مِنْهَا خَمْسَةُ أَسْهُمٍ مِنْ عَشَرَةِ أَسْهُمٍ وَنِصْفِ

الْعَشَرَةِ ، وَلَوْ كَانَتْ جِرَاحَةُ الْأَوَّلِ دِرْهَمًا ، وَجِرَاحَةُ الثَّانِي دِرْهَمَيْنِ ، كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ الْقِيمَةِ ، وَنِصْفُ الْجِرَاحَةِ سِتَّةُ دَرَاهِمَ ، وَعَلَى الثَّانِي نِصْفُ الْقِيمَةِ مَجْرُوحًا ، وَنِصْفُ الْجِرَاحَةِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ بَيْنَهُمَا كَانَا أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا تَجْعَلُهَا سِهَامًا ، وَتُقَسَّمُ الْعَشَرَةَ الَّتِي هِيَ الْقِيمَةُ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا ، مِنْهَا عَلَى الْأَوَّلِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا مِنَ الْعَشَرَةِ وَعَلَى الثَّانِي خَمْسَةُ أَسْهُمٍ مَنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا مِنَ الْعَشَرَةِ ، وَلَوْ كَانَتْ جِرَاحَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ الْقِيمَةِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ ، وَنِصْفُ الْجِرَاحَةِ دِرْهَمٌ وَنِصْفٌ ، يَكُونَانِ سِتَّةَ دَرَاهِمَ وَنِصْفَ دِرْهَمٍ ، وَعَلَى الثَّانِي نِصْفُ قِيمَتِهِ مَجْرُوحًا ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفُ جِرَاحَتِهِ دِرْهَمٌ وَنِصْفٌ يَكُونَانِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ ، فَإِذَا جَمَعْتَهُمَا صَارَ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا وَنِصْفًا وَعَلَى الْأَوَّلِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا وَنِصْفٍ وَيَكُونُ جِرَاحَتُهُ ثُلُثَ دِرْهَمٍ فَتَصِيرُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ مِنَ الْعَشَرَةِ ، وَعَلَى الثَّانِي خَمْسَةُ أَسْهُمٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا ، وَنِصْفُ الْعَشَرَةِ ، وَلَوْ كَانُوا ثَلَاثَةً فَكَانَتْ جِرَاحَةُ الْأَوَّلِ دِرْهَمًا ، وَجِرَاحَةُ الثَّانِي دِرْهَمَيْنِ ، وَجِرَاحَةُ الثَّالِثِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ ، كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ ثُلُثُ قِيمَتِهِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثُ دِرْهَمٍ وَثُلُثُ جِرَاحَتِهِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ ، تَصِيرُ عَلَى ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ ، وَثُلُثَا دِرْهَمٍ ، وَعَلَى الثَّانِي ثُلُثُ قِيمَتِهِ مَجْرُوحًا بِجُرْحٍ وَاحِدٍ : ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثُ جِرَاحَتِهِ ثُلُثُ دِرْهَمٍ ، فَتَصِيرُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ ، وَعَلَى الثَّالِثِ ثُلُثُ قِيمَتِهِ مَجْرُوحًا جُرْحَيْنِ ، وَهِيَ سَبْعَةُ دَرَاهِمَ يَكُونُ عَلَيْهِ دِرْهَمَانِ وَثُلُثٌ ، وَعَلَيْهِ ثُلُثُ جِرَاحَةِ دِرْهَمٍ يَصِيرُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثُ دِرْهَمٍ ، فَإِذَا جَمَعْتَ مَا عَلَيْهِمْ فَعَلَى الْأَوَّلِ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثَانِ ، وَعَلَى الثَّانِي ثَلَاثَةٌ وَثُلُثَانِ ، وَعَلَى الثَّالِثِ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ ، كَانَتْ عَشَرَةً وَثُلُثَيْنِ تَجْعَلُهَا سِهَامًا ، وَتُقَسِّمُ الْعَشَرَةَ عَلَيْهَا ، فَيَكُونُ عَلَى الْأَوَّلِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَثُلُثَا سَهْمٍ مِنْ عَشَرَةِ أَسْهُمٍ وَثُلُثَيْ سَهْمٍ مِنْ عَشَرَةٍ ، وَعَلَى الثَّانِي مِثْلُهَا وَعَلَى الثَّالِثِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَثُلُثٌ مِنْ عَشَرَةِ أَسْهُمٍ وَثُلُثَيْ سَهْمٍ مِنَ الْعَشَرَةِ ثُمَّ عَلَى هَذَا الْعِبْرَةِ يَكُونُ الْحُكْمُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، مُخَالِفًا لِلْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ . فِي الْجَوَابِ وَالتَّعْلِيلِ .

فَصْلٌ : وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ أَنَّكَ تُوجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَارِحَيْنِ جَمِيعَ قِيمَتِهِ عِنْدَ جِنَايَتِهِ الصيد ، وَتَجْمَعُ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ ، وَتُقَسِّمُ قِيمَةَ الصَّيْدِ قَبْلَ الْجِرَاحَتَيْنِ عَلَيْهِمَا ، وَيَلْزَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِسْطٌ مِنْهَا ، فَيَصِيرُ مُعْتَبَرًا بِجِرَاحَةِ الْأَوَّلِ فِي حَقِّ الثَّانِي ، وَلَا يَصِيرُ مُعْتَبَرًا بِجِرَاحَةِ الثَّانِي فِي حَقِّهِ ، وَلَا فِي حَقِّ الْأَوَّلِ ، مِثْلُهُ : إِذَا جَرَحَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِرَاحَةً أَرْشُهَا دِرْهَمٌ ، فَحَصَّلَ عَلَى الْأَوَّلِ جَمِيعَ قِيمَتِهِ صَحِيحًا وَهِيَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، وَحَصَّلَ عَلَى الثَّانِي جَمِيعَ قِيمَتِهِ مَجْرُوحًا ، وَهِيَ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ تَكُونُ تِسْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا ، فَتَجْعَلُهَا سِهَامًا ، وَتُقَسِّمُ الْعَشَرَةَ عَلَيْهَا ، وَتُوجِبُ عَلَى الْأَوَّلِ عَشَرَةَ أَسْهُمٍ مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا مِنَ الْعَشْرَةِ ، وَتُوجِبُ عَلَى الثَّانِي تِسْعَةَ أَسْهُمٍ مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا مِنَ الْعَشَرَةِ ، وَلَوْ كَانَتْ جِرَاحَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِرْهَمَيْنِ

جَعَلْتَ عَلَى الْأَوَّلِ عَشَرَةً ، وَعَلَى الثَّانِي ثَمَانِيَةً ، وَجَمَعْتَ بَيْنَهُمَا تَكُونُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ، فَتُقَسِّمُ الْعَشَرَةَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا ، وَجَبَ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْهَا عَشَرَةُ أَسْهُمٍ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا مِنَ الْعَشَرَةِ ، وَعَلَى الثَّانِي ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا مِنَ الْعَشَرَةِ ، وَلَوْ كَانُوا ثَلَاثَةً ، وَكَانَ أَرْشُ جِرَاحَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ كَانَتْ جِرَاحَةُ الْأَوَّلِ مُعْتَبَرَةً فِي حَقِّ الثَّانِي ، وَجِرَاحَةُ الثَّانِي مُعْتَبَرَةً فِي حَقِّ الثَّالِثِ ، وَغَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ ، وَجِرَاحَةُ الثَّالِثِ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ فِي حَقِّ الثَّانِي ، وَلَا فِي حَقِّ الْأَوَّلِ ، فَيَجْعَلُ عَلَى الْأَوَّلِ جَمِيعَ قِيمَتِهِ صَحِيحًا ، وَهِيَ عَشَرَةٌ ، وَعَلَى الثَّانِي جَمِيعَ قِيمَتِهِ بَعْدَ جِرَاحَةِ الْأَوَّلِ وَهِيَ سَبْعَةٌ ، وَعَلَى الثَّالِثِ جَمِيعَ قِيمَتِهِ بَعْدَ جِرَاحَةِ الثَّانِي ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْقِيَمِ الثَّلَاثِ ، وَهِيَ عَشَرَةٌ وَسَبْعَةٌ وَأَرْبَعَةٌ تَكُونُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ ، فَتُقَسَّمُ الْعَشْرَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا يُوجِبُ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْهَا عَشَرَةَ أَسْهُمٍ مِنْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا مِنَ الْعَشَرَةِ ، وَعَلَى الثَّانِي سَبْعَةَ أَسْهُمٍ مِنْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا مِنَ الْعَشَرَةِ ، وَعَلَى الثَّالِثِ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ مَنْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا مِنَ الْعَشَرَةِ ثُمَّ عَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةِ ، وَهَذَا الْوَجْهُ مُخَالِفٌ حُكْمَ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ فِي الْجَوَابِ وَالتَّعْلِيلِ .

فَصْلٌ : وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ وَقْتَ جِرَاحِهِ الصيد على الجارحين ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا تَقَدَّمَهَا وَلَا بِمَا تَأَخَّرَ عَنْهَا ، وَلَا اعْتِبَارَ بِأَرْشِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا صَارَتْ نَفْسًا لِدُخُولِهَا فِي ضَمَانِ النَّفْسِ ، فَإِذَا جَرَحَهُ الْأَوَّلُ ، وَقِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَجَرَحَهُ الثَّانِي ، وَقِيمَتُهُ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ ، كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ الْعَشَرَةِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ ، وَعَلَى الثَّانِي نِصْفُ التِّسْعَةِ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ ، وَسَقَطَ ضَمَانُ نِصْفِ دِرْهَمٍ مِنَ الْعَشَرَةِ دَخَلَ بِهِ النَّقْصُ عَلَى الْمَالِكِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي وُجُوبِ ضَمَانِهِ مَحَلٌّ . وَلَوْ جَرَحَهُ الْأَوَّلُ ، وَقِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، وَجَرَحَهُ الثَّانِي ، وَقِيمَتُهُ سِتَّةُ دَرَاهِمَ عَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ الْعَشَرَةِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ ، وَعَلَى الثَّانِي نِصْفُ السِّتَّةِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ . وَيَسْقُطُ ضَمَانُ دِرْهَمَيْنِ ، وَلَوْ كَانُوا ثَلَاثَةً جَرَحَهُ الْأَوَّلُ ، وَقِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَجَرَحَهُ الثَّانِي وَقِيمَتُهُ ثَمَانِيَةٌ ، وَجَرَحَهُ الثَّالِثُ وَقِيمَتُهُ سِتَّةٌ ، كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ ثُلُثُ الْعَشَرَةِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ ، وَعَلَى الثَّانِي ثُلُثُ الثَّمَانِيَةِ دِرْهَمٌ وَثُلْثَانِ ، وَعَلَى الثَّالِثِ ثُلُثُ السِّتَّةِ دِرْهَمَانِ ، يَصِيرُ مَجْمُوعُ مَا عَلَيْهِمَا ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ وَيَسْقُطُ ضَمَانُ دِرْهَمَيْنِ عَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةِ ، وَهَذَا الْوَجْهُ مُخَالِفٌ لِلْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْحُكْمِ وَالْمِقْدَارِ وَالْعَمَلِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا تَقَرَّرَتْ أَحْكَامُ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ ، فَكَذَلِكَ حُكْمُهَا فِي جَمِيعِ الْبَهَائِمِ الْمَمْلُوكَةِ . وَأَمَّا حُكْمُهَا فِي الْآدَمِيِّينَ ، فَإِنْ كَانَ الْمَجْرُوحُ حُرًّا أَرْشِ الْجِرَاحِ فِيهِ سَقَطَ اعْتِبَارُ أَرْشِ الْجِرَاحِ فِيهِ لِكَمَالِ دِيَتِهِ قَبْلَ الْجِرَاحِ وَبَعْدَهَا عَلَى سَوَاءٍ ، وَإِنْ كَانَ الْمَجْرُوحُ عَبْدًا أَرْشِ الْجِرَاحِ فِيهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي

جِرَاحِهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَهُوَ كَالصَّيْدِ وَسَائِرِ الْبَهَائِمِ عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي جِرَاحِهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ كَالْأَطْرَافِ ، فَقَدْ خَرَّجَ فِيهِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَصِيرُ بِتَقْدِيرِ أَطْرَافِهِ كَالْحُرِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَصِيرُ مَعَ التَّقْدِيرِ كَالْبَهِيمَةِ وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ مَعْلُولٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ : لِأَنَّ الْعَبْدَ تَنْقُصُ قِيمَتُهُ بَعْدَ جِرَاحَةِ الْأَوَّلِ ، بِخِلَافِ الْحُرِّ فَيَبْطُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُرِّ ، وَالْعَبْدُ تَتَقَدَّرُ أَطْرَافُهُ بِخِلَافِ الْبَهِيمَةِ فَبَطَلَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَهِيمَةِ ، فَإِذَا بَطَلَ الْوَجْهَانِ صَارَ حُكْمُهُ فِي الْمُقَدَّرِ مُشْتَرِكًا بَيْنَ أَحْكَامِ الْحُرِّ فِي التَّقْدِيرِ وَبَيْنَ أَحْكَامِ الْبَهِيمَةِ فِي اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ ثُمَّ يُخَالِفُهَا مِنْ وَجْهٍ ثَالِثٍ : أَنَّكَ تَعْتَبِرُ فِي طُرُقِ الْعَبْدِ أَكْثَرَ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْمُقَدَّرِ فِيهِ أَوْ مَا نَقَصَ مِنَ الْقِيمَةِ مَا لَمْ يَسْتَوْعِبِ الْمُقَدَّرُ جَمِيعَ الْقِيمَةِ ، فَإِنِ اسْتَوْعَبَهَا أَوْجَبْتَ أَقَلَّهَا ، وَهُوَ نُقْصَانُ الْقَيِّمَةِ : لِأَنَّ الشَّرِكَةَ مَعَ السِّرَايَة تَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ جَمِيعِهَا عَلَى أَحَدِهِمَا فَيُعْمَلُ عَلَى مَا يُوجِبُهُ هَذَا التَّعْلِيلُ مِنَ الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ الْجَانِيَانِ عَلَى الصَّيْدِ وَالْبَهِيمَةِ أَجْنَبِيَّيْنِ ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مَالِكًا فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْقِيمَةِ مَا أَوْجَبَتْهُ الشَّرِكَةُ عَلَى الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَالِكًا سَقَطَ عَنْهُ قِسْطُهُ ، وَوَجَبَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ قِسْطُهُ ، وَيُتَصَوَّرُ فِي غَيْرِ الصَّيْدِ أَنْ يَكُونَ الْمَالِكُ أَوَّلًا وَثَانِيًا ، وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَبْدِ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ الْمَالِكُ فِي الْمَضْمُونِ إِلَّا الْأَوَّلَ دُونَ الثَّانِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " وَلَوْ كَانَ مُمْتَنِعًا بَعْدَ رَمْيَةِ الْأَوَّلِ يَطِيرُ إِنْ كَانَ طَائِرًا أَوْ يَعْدُو إِنْ كَانَ دَابَّةً ثَمَّ رَمَاهُ الثَّانِي فَأَثْبَتَهُ كَانَ لِلثَّانِي " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الصَّيْدَ ضَرْبَانِ : مُمْتَنِعٌ وَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ ، فَأَمَّا الْمُمْتَنِعُ من الصيد ، وَهُوَ مَا بَعُدَ عَنْ طَلَبِهِ بِطَيَرَانِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الطَّيْرِ أَوْ بِعَدْوِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الدَّوَابِّ ، فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ إِلَّا بِآلَةٍ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَيْهِ . وَأَمَّا غَيْرُ الْمُمْتَنِعِ من الصيد ، وَهُوَ صِغَارُهُ الَّذِي لَمْ يَتَكَامَلْ قُوَّتُهُ ، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَنْهَضَ بِجَنَاحٍ إِنْ كَانَ طَائِرًا ، وَلَا يَعْدُوَ بِرِجْلٍ إِنْ كَانَ دَابَّةً قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ [ الْمَائِدَةِ : 94 ] فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَعْنَاهُ : لَيُكَلِّفَنَّكُمْ إِبَاحَةَ مَا أَحَلَّهُ ، أَوْ حَظْرَ مَا حَرَّمَهُ . وَالثَّانِي : لَيَخْتَبِرَنَّكُمْ فِي قَبُولِ أَوَامِرِهِ ، وَالِانْتِهَاءِ عَنْ زَوَاجِرِهِ . تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا تَنَالُهُ أَيْدِينَا الصِّغَارُ ، وَرِمَاحُنَا الْكِبَارُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَإِنْ كَانَ الصَّيْدُ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ لِصِغَرٍ لَمْ يُمْلَكْ إِلَّا بِالْأَخْذِ وَالتَّنَاوُلِ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَلَا تَكُونُ ذَكَاتُهُ إِلَّا فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ : لِأَنَّهُ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ ، فَلَوْ دَلَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ وَأَخَذَهُ آخَرُ ، كَانَ مِلْكًا لِآخِذِهِ دُونَ الدَّالِ عَلَيْهِ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الصَّيْدُ لِمَنْ صَادَهُ لَا لِمَنْ أَثَارَهُ ، فَلَوْ نَبَشَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا بَيْتَهُ حَتَّى طَيَّرَهُ ،

وَأَخَذَهُ الْآخَرُ كَانَ لِلْآخِذِ دُونَ النَّابِشِ ، فَلَوْ وَقَعَتْ أَيْدِيهُمَا عَلَيْهِ كَانَ لِأَسْبَقِهِمَا يَدًا ، فَإِنِ اسْتَوَتْ أَيْدِيهِمَا مَعًا كَانَ بَيْنَهُمَا يَسْتَوِي فِيهِ مَنْ أَخَذَ بِرَأْسِهِ وَمَنْ أَخَذَ بِرِجْلِهِ أَوْ ذَنَبِهِ ، وَلَا يُقْسَمُ عَلَيْهِمَا بِقَدْرِ أَيْدِيهِمَا عَلَيْهِ ، وَمَوَاضِعِهِمَا مِنْهُ : لِأَنَّ الْيَدَ عَلَى بَعْضِهِ يَدٌ عَلَى جَمِيعِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلَيْنِ لَوْ تَنَازَعَا عَلَى دَابَّةٍ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا رَأْسُهَا وَفِي يَدِ الْآخَرِ ذَنَبُهَا كَانَا فِي الْيَدِ عَلَيْهَا سَوَاءً .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمُمْتَنِعُ بِعَدْوِهِ أَوْ طَيَرَانِهِ من الحيوانات كيفية تملكه ، فَيُمْلَكُ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : بِالْأَخْذِ وَالتَّنَاوُلِ كيفية تملك الصيد بِأَنْ يُظْفَرَ بِهِ فِي بَيْتِهِ ، أَوْ يَعْقِلَهُ عَلَى مَائِهِ أَوْ حَضَانَةِ وَلَدِهِ وَبَيْضِهِ ، فَيَصِيرُ بِحُصُولِهِ فِي يَدِهِ مِلْكًا لَهُ ، وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى امْتِنَاعِهِ لَوْ أُرْسِلَ . وَالثَّانِي : أَنْ يَقَعَ فِي شَبَكَتِهِ أَوْ شَرَكِهِ كيفية تملك الصيد ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْخَلَاصِ ، فَيَصِيرُ بِحُصُولِهِ فِيهَا مِلْكًا لِوَاضِعِ الشَّبَكَةِ وَالشَّرَكِ سَوَاءٌ كَانَ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا ، وَسَوَاءٌ عَقَرَتْهُ الشَّبَكَةُ أَوْ لَمْ تَعْقِرْهُ ، إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهَا ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْخَلَاصِ لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ فِي حَالِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْخَلَاصِ إِلَّا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَأْخُذَهُ بِيَدِهِ وَيَصِيرَ بِوُقُوعِهِ فِيهَا أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَإِنْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ صَارَ الْأَخْذُ لَهُ أَمْلَكَ بِهِ ، كَالْعَبْدِ إِذَا دَخَلَ دَارَ رَجُلٍ كَانَ مَالِكُ الدَّارِ أَحَقَّ بِأَخْذِهِ ، فَإِنْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ صَارَ الْآخِذُ لَهُ أَمْلَكَ بِهِ مِنْ صَاحِبِ الدَّارِ ، فَإِنْ أَفْضَتِ الشَّبَكَةُ بِاضْطِرَابِ الصَّيْدِ فِيهَا إِلَى عَجْزِهِ عَنِ الْخَلَاصِ مِنْهَا ، فَقَدْ مَلَكَهُ حِينَئِذٍ صَاحِبُ الشَّبَكَةِ ، وَإِنْ أَخَذَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ غَيْرُهُ ، كَانَ صَاحِبُ الشَّبَكَةِ أَحَقَّ بِهِ ، وَلَوْ تَقَطَّعَتِ الشَّبَكَةُ فَأَفْلَتَ الصَّيْدُ مِنْهَا . نُظِرَ فِي قِطَعِ الشَّبَكَةِ ، فَإِنْ قَطْعَهَا الصَّيْدُ الْوَاقِعُ فِيهَا عَدَا بَعْدَ انْفِلَاتِهِ إِلَى حَالِ الْإِبَاحَةِ وَمَلَكَهُ مَنْ صَادَهُ : لِأَنَّهُ بَانَ أَنَّ الشَّبَكَةَ لَمْ تُثْبِتْهُ ، وَلَوْ قَطَعَهَا غَيْرُهُ مِنْ صُيُودٍ أُخَرَ اجْتَمَعَتْ عَلَى قَطْعِهَا كَانَ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا ، لَا يَزُولُ عَنْهُ بِانْفِلَاتِهِ مِنْهَا : لِأَنَّهَا قَدْ أَثْبَتَتْهُ ، فَلَا يَمْلِكُهُ غَيْرُهُ إِذَا صَادَهُ ، وَيَسْتَرْجِعُهُ مِنْهُ كَالْعَبْدِ الْآبِقِ وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ ، فَإِنْ كَانَتِ الشَّبَكَةُ فَارِغَةً ، فَاضْطَرَّ الصَّيْدَ غَيْرَ وَاضِعٍ الشَّبَكَةَ إِلَيْهِ ، فَوَقَعَ فِيهَا بِطَرْدِهِ إِلَيْهَا ، كَانَ مِلْكًا لِوَاضِعِ الشَّبَكَةِ دُونَ طَارِدِهِ : لِأَنَّ إِثْبَاتَهُ بِالشَّبَكَةِ دُونَ الطَّرْدِ فَلَوْ وَضَعَ الشَّبَكَةَ غَيْرُ مَالِكِهَا كَانَ الصَّيْدُ مِلْكًا لِوَاضِعِهَا دُونَ مَالِكِهَا ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْتَعِيرًا أَوْ غَاصِبًا ، وَعَلَيْهِ إِنْ غَصَبَ أُجْرَةَ مِثْلِهَا ، فَلَوْ حَضَرَ مَالِكُ الشَّبَكَةِ ، بَعْدَ وَضْعِهَا ، فَإِنْ كَانَ مُعِيرًا كَانَ وَاضِعُهَا أَحَقَّ بِالصَّيْدِ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ مَغْصُوبًا كَانَ مَا وَقَعَ فِيهِ قَبْلَ حُضُورِهِ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ ، وَمَا وَقَعَ بَعْدَ حُضُورِهِ مَلِكًا لِلْمَغْصُوبِ إِنْ رَفَعَ يَدَ الْغَاصِبِ ، وَمِلْكًا لِلْغَاصِبِ إِنْ لَمْ يَرْفَعْ يَدَهُ عَنْهَا : لِأَنَّ الْغَاصِبَ يَبْرَأُ مِنْ ضَمَانِهَا إِذَا رُفِعَتْ يَدُهُ ، فَصَارَ وَضْعُهَا قَبْلَ وَضْعِ يَدِهِ مَنْسُوبًا إِلَى الْغَاصِبِ وَبَعْدَ رَفْعِ يَدِهِ مَنْسُوبًا إِلَى الْمَغْصُوبِ . وَالثَّالِثُ : الَّذِي يُمْلَكُ بِهِ الصَّيْدُ أَنْ يُثْبِتَهُ بَعْدَ الِامْتِنَاعِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى عَدْوٍ وَلَا طَيَرَانٍ وَهَذَا الْإِثْبَاتُ مُعْتَبَرٌ بِشَرْطَيْنِ الَّذِي يُمْلَكُ بِهِ الصَّيْدُ :

أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ بِفِعْلٍ مِنْهُ وَصَلَ إِلَى الصَّيْدِ بِالْآلةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي إِثْبَاتِهِ مِنْ ضَرْبٍ أَوْ جَرْحٍ ، وَإِنْ سَعَى خَلْفَ الصَّيْدِ فَوَقَفَ بِإِعْيَائِهِ ، لَمْ يَمْلِكْهُ بِالْوُقُوفِ : حَتَّى يَأْخُذَهُ : لِأَنَّ وُقُوفَهُ اسْتِرَاحَةٌ مِنْهُ هُوَ بَعْدَهَا عَلَى امْتِنَاعِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَوَحَّلَ الصَّيْدُ عِنْدَ طَلَبِهِ فِي طِينٍ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهُ لَمْ يَمْلِكْهُ حَتَّى يَأْخُذَهُ : لِأَنَّ الطِّينَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ ، فَلَوْ كَانَ هَذَا الَّذِي أَرْسَلَ الْمَاءَ فِي الْأَرْضِ حَتَّى تَوَحَّلَتْ مَلَكَهُ بِوُقُوعِهِ فِي الْوَحْلِ : لِأَنَّ الْوَحْلَ مِنْ فِعْلِهِ ، فَصَارَ بِهِ كَوَضْعِ الشَّبَكَةِ وَلَوِ اعْتَرَضَهُ مِنْهُ سَبُعٌ فَعَقَرَهُ فَأَثْبَتَهُ لَمْ يَمْلِكْهُ : لِأَنَّ اعْتِرَاضَ السَّبُعِ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ ، فَلَوْ كَانَ هَذَا الَّذِي أَغْرَى السَّبُعَ بِاعْتِرَاضِهِ حَتَّى عَقَرَهُ فَأَثْبَتَهُ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ عَلَى السَّبُعِ يَدٌ مَلَكَ الصَّيْدَ بِعَقْرِهِ ، وَصَارَ كَإِرْسَالِ كَلْبِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى السَّبُعِ يَدٌ لَمْ يَمْلِكِ الصَّيْدَ بِعَقْرِهِ حَتَّى يَأْخُذَهُ لِأَنَّ اخْتِيَارَ السَّبُعِ أَقْوَى مِنْ إِغْرَائِهِ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَصِيرَ الصَّيْدُ بِمَا وَصَلَ مِنْ فِعْلِهِ عَاجِزًا عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنِ امْتِنَاعِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ قَدْ عَقَرَهُ كَالْحَدِيدِ أَوْ لَمْ يَعْقِرْهُ كَالْحَجَرِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ بَعْدَ وُصُولِ الْآلَةِ إِلَيْهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْقِرَ بِهَا فِي مَوْضِعٍ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى عَدْوٍ وَلَا طَيَرَانٍ ، فَهَذَا إِثْبَاتٌ قَدْ صَارَ بِهِ مَالِكًا لِصَيْدٍ ، فَإِنْ عَادَتْ قُوَّةُ الصَّيْدِ فَامْتَنَعَ بِهَا بَعْدَ إِثْبَاتِهِ نُظِرَ : فَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ أَخْذِهِ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ قَبْلَ أَخْذِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ زَمَانُ عَوْدِهَا قَرِيبًا لَا تَنْشَأُ فِي مِثْلِهِ قُوَّةٌ مُسْتَفَادَةٌ فَقَدْ عَادَ إِلَى الْإِبَاحَةِ ، وَلَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ ، وَعُلِمَ أَنَّ وُقُوفَهُ لِاسْتِرَاحَةٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَطُولَ زَمَانُهُ حَتَّى تَنْشَأَ فِي مِثْلِهِ قُوَّةٌ مُسْتَفَادَةٌ ، فَيَكُونُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ ، وَلَا يَعُودُ إِلَى الْإِبَاحَةِ كَمَا لَوْ قَصَّ جَنَاحَ طَائِرٍ قَدْ صَادَهُ ، فَثَبَتَ جَنَاحُهُ ، وَطَارَ لَمْ يَزَلْ عَنْ مِلْكِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيةُ : أَنْ يَفُوتَ الصَّيْدُ بَعْدَ وَصُولِ الْآلةِ إِلَيْهِ عَلَى امْتِنَاعٍ فِي عَدْوِهِ وَطَيَرَانِهِ ، فَلَا يَصِيرُ مَالِكًا لَهُ بِجِرَاحَتِهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْجِرَاحَةُ مِمَّا يُسْلَمُ مِنْ مِثْلِهَا أَوْ لَا يُسْلَمُ ، وَسَوَاءٌ طَالَ زَمَانُ امْتِنَاعِهِ أَوْ قَصُرَ زَمَانٌ رَمَاهُ آخَرُ ، فَأَثْبَتَهُ ، كَانَ مِلْكًا لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ : لِأَنَّ إِثْبَاتَهُ مِنْ فِعْلِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ، وَلَوْ لَمْ يَرْمِهِ آخَرُ حَتَّى ثَبَتَ بِجِرَاحَةِ الْأَوَّلِ صَارَ حِينَئِذٍ مِلْكًا لِلْأَوَّلِ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُثْبِتًا لَهُ ، فَإِنْ ثَبَتَ بِالْعَطَشِ بَعْدَ الْجِرَاحَةِ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ عَطَشُهُ لِعَدَمِ الْمَاءِ لَمْ يَمْلِكْهُ الْجَارِحُ ، وَإِنْ كَانَ عَطَشُهُ لِعَجْزِهِ عَنْ وُصُولِهِ إِلَى الْمَاءِ مَلَكَهُ الْجَارِحُ : لِأَنَّ الْجِرَاحَ مُؤَثِّرَةٌ فِي الْعَجْزِ دُونَ الْمَاءِ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَقْصُرَ عَنِ امْتِنَاعِهِ مِنْ غَيْرِ وُقُوفٍ بِمَكَانِهِ ، فَيَعْدُوَ دُونَ عَدْوِهِ ، وَيَطِيرَ دُونَ طَيَرَانِهِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ بِمَا بَقِيَ فِيهِ مِنَ الْعَدْوِ وَالطَّيَرَانِ يَمْتَنِعُ بِهِ عَنْ أَنْ تَنَالَهُ الْأَيْدِي ، فَلَا يَمْلِكُهُ الْجَارِحُ ، وَيَكُونُ بَاقِيًا عَلَى حُكْمِ امْتِنَاعِهِ : لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ إِلَّا هَذَا الْقَدْرَ لَكَانَ بِهَا مُمْتَنِعًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَمْتَنِعَ بِمَا بَقِيَ لَهُ مِنَ الْعَدْوِ وَالطَّيَرَانِ عَنِ الْأَيْدِي ، وَتَنَالَهُ يَدُ مَنْ أَرَادَهُ ، فَيَصِيرَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ مُثْبَتًا يَمْلِكُهُ جَارِحُ وَيَكُونَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ آخِذِهِ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِهَا غَيْرَ مُمْتَنِعٍ ، فَلَوْ رَمَى صَيْدًا فَأَصَابَهُ ثُمَّ مَرَقَ السَّهْمُ مِنْهُ ، فَأَصَابَ صَيْدًا ثَانِيًا ، وَمَرَقَ مِنَ الثَّانِي ، فَأَصَابَ ثَالِثًا مَلَكَ مِنْهَا مَا أَثْبَتَهُ دُونَ مَا لَمْ يُثْبِتْهُ ، سَوَاءٌ كَانَ أَوَّلًا أَوْ آخِرًا ، فَإِنْ أَثْبَتَ جَمِيعَهَا مَلَكَهَا ، وَإِنْ لَمْ يُثْبِتْ شَيْئًا مِنْهَا لَمْ يَمْلِكْهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " وَلَوْ رَمَاهُ الْأَوَّلُ بِهَذِهِ الْحَالِ فَقَتَلَهُ ضَمِنَ قِيمَتَهُ لِلثَّانِي لِأَنَّهُ صَارَ لَهُ دُونَهُ " قَالَ الْمُزَنِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قِيمَتُهُ مَجْرُوحًا الْجُرْحَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ رَمَى صَيْدًا فَجُرِحَ ، وَلَمْ يُثْبِتْهُ ، وَرَمَى آخَرُ فَجَرَحَهُ وَأَثْبَتَهُ ، وَعَادَ الْأَوَّلُ فَجَرَحَهُ ، وَمَاتَ ، فَقَدْ صَارَ مِلْكًا لِلثَّانِي بِإِثْبَاتِهِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ ضَمَانُهُ لِلثَّانِي بِجِرَاحَتِهِ الثَّانِيةِ ، تَعْلِيلًا بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأُصُولِ الْمُقَرَّرَةِ ، وَإِذَا صَارَ فِي ضَمَانِ الْأَوَّلِ لَمْ يَخْلُ حَالُ جِرَاحَتِهِ الثَّانِيةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ مُوجِيَةً فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ ، فَعَلَيْهَا أَرْشُهَا ، وَمَا بَيْنَ قِيمَتِهِ حَيًّا مَجْرُوحًا ، وَمَا بَيْنَ قِيمَتِهِ مَذْبُوحًا . وَالْحَالُ الثَّانِيةُ : أَنْ تَكُونَ جِرَاحَتُهُ مَوْجِيَةً فِي غَيْرِ الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ ، فَعَلَيْهِ جَمِيعُ قِيمَتِهِ مَجْرُوحًا جُرْحَيْنِ : لِأَنَّهُ أَفْسَدَ لَحْمَهُ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ تَكُونَ جِرَاحَةً غَيْرَ مُوجِيَةٍ ، فَهَلْ يَضْمَنُ جَمِيعَ قِيمَتِهِ ، أَوْ يَضْمَنُ قِسْطًا مِنْهَا ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ ، فَإِنْ ضَمَّنَّاهُ جَمِيعَ قِيمَتِهِ صَارَ كَالتَّوْجِيَةِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ حَيًّا مَجْرُوحًا جُرْحَيْنِ ، فَإِنْ ضَمَّنَّاهُ قِسْطَهُ مِنْهَا كَانَتِ الْجِرَاحَةُ الْأُولَى هَدَرًا : لِأَنَّهَا فِي حَالِ الِامْتِنَاعِ وَالْإِبَاحَةِ ، وَهَلْ تُعْتَبَرُ فِي فَوَاتِ النَّفْسِ أَوْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِيهِ ، وَيُعْتَبَرُ فَوَاتُ النَّفْسِ بِالْجِرَاحَةِ الثَّانِيةِ وَالثَّالِثَةِ بِخُرُوجِ الْأُولَى عَنْ ضَمَانِهِ فِي مِلْكٍ ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ نِصْفُ الْقِيمَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : هُوَ أَصَحُّ ، أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ فِي فَوَاتِ النَّفْسِ بِسِرَايَتِهَا إِلَى النَّفْسِ مَعَ غَيْرِهَا ، وَإِنْ خَالَفَتْ حُكْمَ غَيْرِهَا ، فَعَلَى هَذَا ، هَلْ تَنْفَرِدُ بِحُكْمِهَا فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ أَوْ تَكُونُ مُشَارِكَةً لِلثَّانِيَةِ : لِأَنَّهَا مِنْ وَاحِدٍ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَنْفَرِدُ بِحُكْمِهَا عَنِ الثَّالِثَةِ ، وَإِنْ كَانَتَا مِنْ جَارِحٍ وَاحِدٍ اعْتِبَارًا

بِالْجِرَاحِ دُونَ الْجَارِحِ ، فَيَصِيرُ مَوْتُ الصَّيْدِ مِنْ ثَلَاثَةِ جِرَاحَاتٍ ، اخْتَصَّتِ الثَّالِثَةُ مِنْهَا بِالضَّمَانِ فَأَحْيَتْ ضَمَانَ ثُلُثِ الْقِيمَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّهَا تَكُونُ مُشَارِكَةً لِلْجِرَاحَةِ الثَّالِثَةِ : لِأَنَّهَا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ اعْتِبَارًا بِالْجَارِحِ دُونَ الْجِرَاحِ ، فَعَلَى هَذَا يَصِيرُ مَوْتُ الصَّيْدِ مِنْ جَارِحَيْنِ أَحَدُهُمَا : غَيْرُ ضَامِنٍ ، وَهُوَ الثَّانِي الَّذِي أَثْبَتَ الصَّيْدَ بِجِرَاحَتِهِ ، وَصَارَ فِي مِلْكِهِ ، وَمِنَ الْجَارِحِ الثَّانِي الَّذِي جَرَحَهُ فِي الْأَوَّلِ ، وَلَمْ يُثْبِتْهُ الْجِرَاحَةُ الثَّانِيةُ بَعْدَ مَا أَثْبَتَهُ الْجَارِحُ الثَّانِي : وَجُرْحُهُ فِي مِلْكِهِ ، وَنِصْفُ فِعْلِهِ غَيْرُ مَضْمُونٍ : لِأَنَّ الْجِرَاحَةَ الْأُولَى كَانَتْ فِي حَالِ الْإِبَاحَةِ ، وَالِامْتِنَاعُ وَنِصْفُ فِعْلِهِ مَضْمُونٌ ، وَهُوَ جِرَاحَةُ الثَّانِيةِ لِلصَّيْدِ بَعْدَ مَا صَارَ الصَّيْدُ مُمْتَنِعًا بِجِرَاحَةِ الْجَارِحِ الثَّانِي ، وَصَارَ فِي مِلْكِهِ وَرُوحُ الصَّيْدِ قَدْ خَرَجَتْ بِثَلَاثِ جِرَاحَاتٍ : بِجِرَاحَةٍ مِنْ مَالِكِ الصَّيْدِ بِإِثْبَاتِهِ ، وَبِمِلْكِهِ ، وَبِجِرَاحَتِهِ مِنَ الْجَارِحِ الْآخَرِ أَحَدُ جِرَاحَتِهِ غَيْرُ مَضْمُونٍ ، وَهُوَ الْجِرَاحَةُ الْأُولَى ، وَجِرَاحَةُ الثَّانِيةِ مَضْمُونَةٌ ، وَهِيَ الْجِرَاحَةُ الَّتِي وَصَلَتْ بَعْدَمَا مَلَكَ الصَّيْدَ الْجَارِحُ الثَّانِي بِإِثْبَاتِهِ ، وَالْجَارِحُ الَّذِي مَلَكَ الصَّيْدَ لَا يَضْمَنُ جِرَاحَتَهُ ، وَسَقَطَ نِصْفُ قِيمَةِ الصَّيْدِ : لِأَنَّهُ أَحَدُ الْجَارِحَيْنِ فَأَمَّا الْجَارِحُ الْآخَرُ فَقَدْ جَرَحَ جِرَاحَتَيْنِ ، إِحْدَاهُمَا : غَيْرُ مَضْمُونَةٍ ، وَهِيَ الْجِرَاحَةُ الْأُولَى فَسَقَطَ عَنْهُ رُبْعُ الْقِيمَةِ : وَيَضْمَنُ الْجِرَاحَةَ الثَّانِيةَ الَّتِي بَعْدَ جِرَاحَةِ الْمَالِكِ بِإِثْبَاتِهِ الصَّيْدَ بِجِرَاحَتِهِ ، فَيَضْمَنُ بِالْجِرَاحَةِ الثَّانِيةِ الْجَارِحُ الْأَوَّلُ رُبُعَ قِيمَتِهِ ، فَصَارَ هَذَا الصَّيْدُ مَضْمُونًا بِرُبُعِ قِيمَتِهِ ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ . وَمِثَالُهُ : رَجُلَانِ جَرَحَا مُرْتَدًّا ، فَأَسْلَمَ ، ثُمَّ جَرَحَهُ أَحَدُهُمَا بَعْدَ إِسْلَامِهِ ، فَمَاتَ مِنْ سَرَايَةِ الْجِرَاحَاتِ كُلِّهَا فماالحكم ضَمِنَ رُبُعَ دِيَتِهِ : لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جَارِحَيْنِ : أَحَدُهُمَا : جُرْحُهُ هَدَرٌ ، فَلَمْ يَضْمَنِ الْآخَرُ ، نِصْفُهُ هَدَرٌ ، وَنِصْفُهُ مَضْمُونٌ ، فَضَمِنَ رُبُعَ الدِّيَةِ ، فَيَصِيرُ فِيمَا يَضْمَنُهُ الْأَوَّلُ بِجِرَاحَتِهِ الثَّانِيةِ أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : جَمِيعُ الْقِيمَةِ . وَالثَّانِي : نِصْفُهَا . وَالثَّالِثُ : ثُلُثُهَا . وَالرَّابِعُ : رُبُعُهَا . وَيَجْرِي الْعَمَلُ فِي ضَمَانِ كُلِّ مِقْدَارٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " وَلَوْ رَمَيَاهُ حَيًّا فَقَتَلَاهُ الرجلان رميا الصيد كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ دَخَلَتْ فِي أَقْسَامِ مَا قَدَّمْنَاهُ ، فَإِذَا رَمَيَاهُ مَعًا ، فَأَصَابَاهُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَتَقَدَّمْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ ، فَمَاتَ مِنْ إِصَابَتِهِمَا كَانَ مِلْكًا

لَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ ، سَوَاءٌ تَسَاوَتِ الْجِرَاحَتَانِ أَوْ تَفَاضَلَتَا مَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مُوجِيًا ، فَإِنْ وَجَاهُ أَحَدُهُمَا ، فَعَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ ، فَلَوْ كَانَ الصَّيْدُ مِمَّا يَمْتَنِعُ بِجَنَاحِهِ ، وَيَمْتَنِعُ بِرِجْلِهِ كَالرَّوَاحِ وَالْفَتْحِ ، فَكَسَرَ أَحَدُهُمَا جَنَاحَهُ وَكَسَرَ الْآخَرُ رِجْلَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ بَيْنَهُمَا لِتَأْثِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي إِثْبَاتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَكُونُ لِكَاسِرِ جَنَاحِهِ دُونَ كَاسِرِ رِجْلِهِ : لِأَنَّ امْتِنَاعَهُ بِجَنَاحِهِ أَقْوَى ، وَقَدْ يَمْتَنِعُ ، وَإِنْ كَانَ مَكْسُورَ الرِّجْلِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَكُونُ لِكَاسِرِ الْجَنَاحِ أَوَّلًا كَانَ أَوْ آخِرًا : لِأَنَّ إِثْبَاتَهُ بِكَسْرِهِ أَقْوَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا لِإِثْبَاتِهِ بِهِمَا . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَكُونُ لِلثَّانِي مِنْهُمَا : لِأَنَّ بِهِ كَمَالَ إِثْبَاتِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا تَنَازَعَ رَامِيًا الصَّيْدَ فقال أحدهما أنا أصبته أولا وقال الآخر تساوينا ، فَادَّعَى أَحَدُهُمَا اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى إِصَابَتِهِ ، لِيَكُونَ بَيْنَهُمَا ، وَادَّعَى الْآخَرُ تَقَدُّمَهُ بِالْإِصَابَةِ لِيَكُونَ لَهُ وَحْدَهُ لَمْ يَخْلُ الصَّيْدُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ فِي أَيْدِيهِمَا ، فَيَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ مُدَّعِي الِاجْتِمَاعِ فِي الْإِصَابَةِ مَعَ يَمِينِهِ : لِأَنَّهُ يَدَّعِي تَسَاوِيَهُمَا فِي الْمِلْكِ مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِي الْيَدِ . وَالْحَالُ الثَّانِيةُ : أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ مَعَ يَمِينِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ مُدَّعِيَ الِاجْتِمَاعِ أَوْ مُدَّعِيَ التَّقَدُّمِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ خَارِجًا عَنْ أَيْدِيهِمَا ، فَالظَّاهِرُ تَسَاوِيهِمَا فِيهِ ، فَهَلْ يُحْكَمُ فِيهِ بِالظَّاهِرِ ، أَوْ يُحْكَمُ بِمُوجِبِ الدَّعْوَى ، فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُحْكَمُ بِالظَّاهِرِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ مُدَّعِي الِاجْتِمَاعِ دُونَ مُدَّعِي التَّقَدُّمِ : لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِالتَّسَاوِي وَالِاشْتِرَاكِ ، فَتَكُونُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ ، وَيَكُونُ الصَّيْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُحْكَمَ بِمُوجِبِ الدَّعْوَى فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِمُدَّعِي التَّقَدُّمِ النِّصْفُ بِغَيْرِ يَمِينٍ : لِأَنَّ مُدَّعِيَ الِاجْتِمَاعِ يَعْتَرِفُ بِهِ لَهُ وَهُمَا مُتَنَازِعَانِ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي ، وَقَدْ تَسَاوَيَا فِيهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَحَالَفَا عَلَيْهِ ، فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا ، وَنَكَلَ الْآخَرُ جَعَلْنَاهُ لِلْحَالِفِ ، وَإِنْ حَلَفَا مَعًا جَعَلْنَاهُ بَيْنَهُمَا ، فَيَصِيرُ لِمُدَّعِي التَّقَدُّمِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ ، وَلِمُدَّعِي الِاجْتِمَاعِ رُبُعُهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " وَلَوْ رَمَاهُ الْأَوَّلُ وَرَمَاهُ الثَّانِي وَلَمْ يَدْرِ أَبَلَغَ بِهِ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعًا أَوْ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ جَعَلْنَاهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا صَيْدٌ رَمَاهُ اثْنَانِ ، فَأَصَابَاهُ ، وَوُجِدَ مَيْتًا بَعْدَ إِصَابَتِهِمَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُعْلَمَ حَالُ الرَّامِيَيْنِ ، وَيُعْلَمَ صِفَةُ الرَّمْيَتَيْنِ ، وَالْعِلْمُ بِحَالِ الرَّامِيَيْنِ أَنْ يُعْلَمَ هَلِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ ، أَوِ افْتَرَقَا ، وَيُعْلَمَ إِذَا افْتَرَقَا أَيُّهُمَا كَانَ أَوَّلًا وَآخِرًا . وَالْعِلْمُ بِصِفَةِ الرَّمْيَتَيْنِ ، أَنْ يُعْلَمَ هَلْ كَانَ إِثْبَاتُهُ بِالْأُولَى أَوْ بِالثَّانِيةِ ، أَوْ بِهِمَا ، وَهَذَا الضَّرْبُ قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِعَادَتِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُشْكِلَ حَالَةُ الرَّامِيَيْنِ ، وَيُشْكِلَ صِفَةُ الرَّمْيَتَيْنِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْإِشْكَالُ فِي الرَّامِيَيْنِ ، هَلْ أَصَابَاهُ مَعًا أَوْ تَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ ، فَيَجْرِي عَلَيْهِ فِي الْمِلْكِ حُكْمُ الِاجْتِمَاعِ ، وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ : لِتَسَاوِيهِمَا فِيهِ ، وَهَلْ يَجْرِي عَلَيْهِ فِي الذَّكَاةِ وَالْإِبَاحَةِ حُكْمُ الِاجْتِمَاعِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الِاجْتِمَاعِ ، فَيَكُونُ ذَكِيًّا مُبَاحًا إِلْحَاقًا بِحُكْمِ الْمِلْكِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ فِي الذَّكَاةِ وَالْإِبَاحَةِ حُكْمُ الِافْتِرَاقِ ، فَيَحْرُمُ أَكْلُهُ ، وَإِنْ جَرَى عَلَيْهِ فِي الْمِلْكِ حُكْمُ الِاجْتِمَاعِ : لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي أَكْلِهِ الْحَظْرُ ، فَلَمْ نُبِحْهُ إِلَّا بِيَقِينٍ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ ، فَيَحْرُمَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَيْهِ ، فَيَحِلَّ فَوَجَبَ أَنْ يُغَلَّبَ فِيهِ حُكْمُ التَّحْرِيمِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُعْلَمَ التَّقَدُّمُ ، وَيَقَعَ الْإِشْكَالُ فِي الْمُتَقَدِّمِ ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُعْلَمَ صِفَةُ الرَّمْيِ ، وَيُشْكَلَ الْمُتَقَدِّمُ بِالرَّمْيِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُعْلَمَ الْمُتَقَدِّمُ بِالرَّمْيِ ، وَتُشْكَلَ صِفَةُ الرَّمْيِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُشْكَلَ الْمُتَقَدِّمُ بِالرَّمْيِ ، وَتُشْكَلَ صِفَةُ الرَّمْيِ . فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يُعْلَمَ صِفَةُ الرَّمْيِ ، وَيُشْكَلَ الْمُتَقَدِّمُ بِالرَّمْيِ ، فَهَذَا الْإِشْكَالُ فِي الْمِلْكِ دُونَ الْإِبَاحَةِ ، فَإِنْ كَانَ صِفَةُ الرَّمْيِ لَا تُبِيحُ الْأَكْلَ ، فَالْإِشْكَالُ فِي الْمَالِكِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ : لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَى الصَّيْدِ مِلْكٌ ، فَإِنْ كَانَ صِفَةُ الرَّمْيِ تُبِيحُ الْأَكْلَ صَارَ الْإِشْكَالُ فِي الْمِلْكِ مُؤَثِّرًا ، فَإِنْ لَمْ يَتَنَازَعَا فِيهِ جُعِلَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ إِذَا كَانَ الْأَصْلُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَجْعَلَ مَعَ الْإِشْكَالِ بَيْنَهُمَا كَالْوَالِدَيْنِ ، يَكُونُ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا ، وَالْآخَرُ كَافِرًا إِذَا اخْتَلَفَا فِي مِيرَاثِ أَبِيهِمَا ، فَادَّعَاهُ الْمُسْلِمُ لِإِسْلَامِ أَبِيهِ ، وَادَّعَاهُ الْكَافِرُ لِكُفْرِ أَبِيهِ ، وَكَانَ الْأَبُ مَجْهُولَ الدِّينِ يُجْعَلُ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ أَحَاطَ الْعِلْمُ بِاسْتِحَالَةِ الشَّرِكَةِ ، وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِأَحَدِهِمَا ، لَكِنْ

لَمَّا أُشْكِلَ مُسْتَحِقُّهُ ، وَقَدِ اسْتَوَيَا فِيهِ جُعِلَ بَيْنِهِمَا كَذَلِكَ الصَّيْدُ ، وَإِنْ أَوْجَبَ افْتِرَاقُهُمَا فِي رَمْيِهِ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا لَا يَمْتَنِعُ مَعَ الْإِشْكَالِ أَنْ يُجْعَلَ بَيْنَهُمَا ، فَإِنْ تَنَازَعَا فِيهِ تَحَالَفَا عَلَيْهِ ، فَإِنْ حَلَفَا أَوْ نَكَلَا كَانَ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا كَانَ لِلْحَالِفِ مِنْهُمَا .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي ، وَهُوَ أَنْ يُعْلَمَ الْمُتَقَدِّمُ بِالرَّمْيِ وَتُشْكَلَ صِفَةُ الرَّمْيِ فيمن رميا صيدا فأصاباه في وقت واحد ، فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ . وَصُورَتُهَا : أَنْ يُعْرَفَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي ، وَيُشْكَلَ هَلْ أَثْبَتَهُ الْأَوَّلُ أَوِ الثَّانِي ؟ فَيُرْجَعَ فِيهِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالظَّاهِرِ ، فَأَوَّلُ الِاسْتِدْلَالِ بِالظَّاهِرِ أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ وُقُوفِهِ ، فَإِنْ وَقَفَ عِنْدَ رَمْيَةِ الْأَوَّلِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَوَّلَ أَثْبَتَهُ دُونَ الثَّانِي . وَإِنْ وَقَفَ عَنْ رَمْيَةِ الثَّانِي ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الثَّانِيَ أَثْبَتَهُ دُونَ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي اعْتِبَارِ الْوُقُوفِ بَيَانٌ اعْتُبِرَ بَعْدَهُ صِفَةُ الرَّمْيِ ، فَإِنْ كَانَتِ الْأُولَى فِي مَقْتَلٍ ، وَالثَّانِيةُ فِي غَيْرِ مَقْتَلٍ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَوَّلَ أَثْبَتَهُ دُونَ الثَّانِي ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُولَى فِي غَيْرِ مَقْتَلٍ ، وَالثَّانِيةُ فِي مَقْتَلٍ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الثَّانِيَ أَثْبَتَهُ دُونَ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُولَى فِي مَقْتَلٍ ، وَالثَّانِيةُ فِي مَقْتَلٍ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَوَّلَ أَثْبَتَهُ دُونَ الثَّانِي ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُولَى فِي غَيْرِ مَقْتَلٍ ، وَالثَّانِيةُ فِي غَيْرِ مَقْتَلٍ ، فَهِيَ حَالَةُ إِشْكَالٍ : لِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ إِثْبَاتِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي ، وَهُمَا فِي الْجَوَازِ عَلَى سَوَاءٍ ، وَقَدِ انْتَفَى الْإِشْكَالُ عَمَّا تَقَدَّمَهُ فِي الْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ ، فَإِنْ أُضِيفَ إِلَى إِثْبَاتِ الْأَوَّلِ كَانَ هُوَ الْمَالِكَ ، وَصَارَ الثَّانِي جَارِحًا تُعْتَبَرُ صِفَةُ جِرَاحَتِهِ فِي الْأَكْلِ ، وَالْغُرْمِ ، وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى إِثْبَاتِ الثَّانِي كَانَ هُوَ الْمَالِكَ ، وَتَكُونُ جِرَاحَتُهُ ذَكَاةً سَوَاءٌ كَانَتْ فِي مَحَلِّ الذَّكَاةِ أَوْ غَيْرِهَا ، وَكَانَتْ جِرَاحَةُ الْأَوَّلِ هَدَرًا : لِتَقَدُّمِهَا عَلَى مِلْكِ الثَّانِي وَإِنْ لَمْ تُضَفْ إِلَى إِثْبَاتِ أَحَدِهِمَا : لِبَقَاءِ الْإِشْكَالِ تَعَلَّقَ بِإِشْكَالِهِ حُكْمَانِ : أَحَدُهُمَا : فِي الْمِلْكِ . وَالثَّانِي : فِي إِبَاحَةِ الْأَكْلِ . فَأَمَّا الْمَلِكُ ، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا أَنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا اعْتِبَارًا بِالظَّاهِرِ مِنْ نَصِّهِ ، وَتَعْلِيلًا بِتَكَافُئِهِمَا فِيهِ بِالِاحْتِمَالِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّهُ يَكُونُ لِلثَّانِي مِنْهُمَا : لِأَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ إِثْبَاتِهِ فِي رَمْيَةِ الثَّانِي ، وَفِي شَكٍّ مِنْ إِثْبَاتِهِ بِرَمْيَةِ الْأَوَّلِ ، تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مُلْحَقًا بِالْيَقِينِ دُونَ الشَّكِّ وَلِمَنْ قَالَ بِهَذَا عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ جَوَابَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِشْكَالِ فِي الرَّامِيَيْنِ فِي التَّقَدُّمِ ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، فَأَمَّا مَعَ مَعْرِفَةِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْهُمَا ، فَيَكُونُ لِلثَّانِي ، وَلَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ تَعْلِيلًا بِمَا قَدَّمْنَاهُ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الشَّكِّ فِي التَّقَدُّمِ وَالِاجْتِمَاعِ ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا لِجَوَازِ اجْتِمَاعِهِمَا ، وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ يَدْفَعُ هَذَا الْجَوَابَ ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ . وَأَمَّا إِبَاحَتُهُ الْأَكْلَ ، فَلَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا بِشَيْءٍ ، وَإِنْ كَانَ فَحْوَى كَلَامِهِ مِنْ جَعْلِهِ بَيْنَهُمَا دَلِيلًا عَلَى إِبَاحَتِهِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ مُبَاحُ الْأَكْلِ : لِأَنَّهُ عَلَى أَصْلِ الِامْتِنَاعِ ، فَصَارَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ ، وَهَذَا تَعْلِيلٌ فِي جَعْلِهِ مِلْكًا لِلثَّانِي ، وَلَمْ يَشْتَرِكَا فِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ : لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُثْبِتَهُ الْأَوَّلُ ، فَيَحْرُمَ بِرَمْيِ الثَّانِي ، وَيَجُوزُ أَنْ يُثْبِتَهُ الثَّانِي فَيَحِلَّ ، فَصَارَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ حَظْرٍ وَإِبَاحَةٍ ، فَغُلِّبَ حُكْمُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يُقَارِبَ بَيْنَ رَمْيَةِ الْأَوَّلِ ، وَرَمْيَةِ الثَّانِي حَلَّ أَكْلُهُ ، وَإِنْ تَطَاوَلَ مَا بَيْنَهُمَا حَرُمَ : لِأَنَّ الذَّكَاةَ لَا تُدْرَكُ فِي قَرِيبِ الزَّمَانِ ، وَتُدْرَكُ فِي طَوِيلِهِ . وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ : إِنْ كَانَتِ الرَّمْيَةُ الْأُولَى لَا يَثْبُتُ الصَّيْدُ بِمِثْلِهَا فِي الْغَالِبِ حَلَّ أَكْلُهُ اعْتِبَارًا بِالْغَالِبِ فِي امْتِنَاعِهِ وَإِثْبَاتِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ : فَهُوَ أَنْ يَشْكُلَ الْمُتَقَدِّمُ مِنَ الرَّامِيَيْنِ فيمن رميا صيدا ، فَلَا يُعْلَمُ أَيُّهُمَا الْأَوَّلُ وَتَشْكُلَ صِفَةُ الرَّمْيَتَيْنِ ، فَلَا يُعْلَمُ بِأَيِّهِمَا ثَبَتَ فَيَجْرِي عَلَيْهِ فِي الْمِلْكِ حُكْمُ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَجْهًا وَاحِدًا ، وَيَجْرِي عَلَيْهِ فِي الْأَكْلِ حُكْمُ الضَّرْبِ الثَّانِي ، فَيَكُونُ فِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ : فَإِنْ تَنَازَعَا فِي الْمِلْكِ بِالتَّقَدُّمِ تَحَالَفَا ، وَإِنْ تَنَازَعَا فِي الْإِبَاحَةِ لَمْ يَتَحَالَفَا : لِأَنَّ الْيَدَ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ ، فَتَحَالَفَا بِهَا ، وَلَا تَدُلُّ عَلَى الذَّكَاةِ ، فَلَمْ يَتَحَالَفَا فِيهَا ، وَيَحْرُمُ أَكْلُهُ عَلَى مَنِ ادَّعَى تَحْرِيمَهُ ، وَيَحِلُّ لِمَنِ ادَّعَى تَحْلِيلَهُ . فَإِنْ جُعِلَ لِمَنِ ادَّعَى تَحْرِيمَهُ لَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ دَعْوَى الْإِبَاحَةِ ، وَكَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ ، وَإِنْ جُعِلَ لِمَنِ ادَّعَى تَحْلِيلَهُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ دَعْوَى التَّحْرِيمِ ، وَكَانَ حَلَالًا كُلُّهُ ، وَإِنْ جُعِلَ بَيْنِهِمَا كَانَ لِمُدَّعِي التَّحْلِيلِ أَنْ يُعَاوِضَ عَلَى حَقٍّ مِنْهُ إِلَّا لِلْمُكَذِّبِ لَهُ ، وَلَمْ يَجُزْ لِمُدَّعِي التَّحْرِيمِ أَنْ يُعَاوِضَ عَلَى حَقِّهِ مِنْهُ لِمُصَدِّقٍ وَلَا لِمُكَذِّبٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " وَلَوْ رَمَى طَائِرًا فَجَرَحَهُ ثَمَّ سَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ فَأَصَبْنَاهُ مَيْتًا لَمْ نَدْرِ أَمَاتَ فِي الْهَوَاءِ أَمْ بَعْدَ مَا صَارَ إِلَى الْأَرْضِ أُكِلَ لِأَنَّهُ لَا

يُوصَلُ إِلَى أَنْ يَكُونَ مَأَخُوذًا إِلَّا بِالْوُقُوعِ وَلَوْ حَرُمَ هَذَا حَرُمَ كُلُّ طَائِرٍ رُمِيَ فَوَقَعَ فَمَاتَ وَلَكِنَّهُ لَوْ وَقَعَ عَلَى جَبَلٍ فَتَرَدَّى عَنْهُ كَانَ مُتَرَدِّيًا لَا يُؤْكَلُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الرَّمْيَةُ قَدْ قَطَعَتْ رَأْسَهُ أَوْ ذَبَحَتْهُ أَوْ قَطَعَتْهُ بِاثْنَتَيْنِ فَيُعْلَمَ أَنَّهُ لَمْ يَتَرَدَّ إِلَّا مُذَكًّى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْمَاشِي مِنَ الصَّيْدِ أَيًّا رَمَاهُ ، فَسَقَطَ عَلَى جَنْبِهِ ، فَمَاتَ أُكِلَ وَلَا يَحْرُمُ بِالسُّقُوطِ عَلَى الْأَرْضِ إِذْ عَادَتُهُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَّا سَاقِطًا ، وَأَمَّا الطَّائِرُ مِنَ الصَّيْدِ إِذَا رَمَاهُ ، فَسَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ وَمَاتَ ، فَإِنْ كَانَتِ الرَّمْيَةُ قَدْ وَجَتْهُ فِي الْهَوَاءِ لِوُقُوعِهَا فِي مَقْتَلٍ حَلَّ أَكْلُهُ بِاتِّفَاقٍ وَإِنْ لَمْ تُوجِهِ لِوُقُوعِهَا فِي غَيْرِ مَقْتَلٍ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَأْكُولٌ وَقَالَ مَالِكٌ : هُوَ غَيْرُ مَأْكُولٍ إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ مَوْتُهُ فِي الْهَوَاءِ : لِأَنَّ سُقُوطَهُ عَلَى الْأَرْضِ قَاتِلٌ ، فَصَارَ مَوْتُهُ بِمُبِيحٍ وَحَاظِرٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ كَالْمُتَرَدِّيَةِ ، وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُوصَلْ إِلَيْهِ إِلَّا بِالْوُقُوعِ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَمْنَعْ وُقُوعُهُ عَلَيْهَا إِبَاحَةَ الْأَكْلِ وَإِنْ كَانَ مُؤَثِّرًا فِي فَوَاتِ النَّفْسِ كَسُقُوطِ الْمَاشِي عَلَى الْأَرْضِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فِي الصَّيْدِ كَانَ عَفْوًا ، كَالذَّكَاةِ فِي مَحَلِّهَا وَفِيهِ انْفِصَالٌ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ سَقَطَ الطَّائِرُ بَعْدَ رَمْيِهِ إِلَى الْمَاءِ ، فَإِنْ كَانَتِ الرَّمْيَةُ مُوجِيَةً حَلَّ أَكْلُهُ ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُوجِيَةٍ ، فَلَهُ حَالَتَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِنْ طَيْرِ الْبَرِّ ، فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ إِذَا مَاتَ بَعْدَ سُقُوطِهِ فِي الْمَاءِ : لِرِوَايَةِ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ وَسَأَلَهُ : إِذَا رَمَيْتَ سَهْمَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ ، فَإِنْ وَجَدْتَهُ قَدْ قَتَلَهُ ، فَكُلْهُ ، إِلَّا أَنْ تَجِدَهُ قَدْ وَقَعَ فِي مَاءٍ فَمَاتَ ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي الْمَاءُ قَتَلَهُ : أَوْ سَهْمُكَ ؟ وَلِأَنَّ الْمَاءَ بَعْدَ الْجَرْحِ أَبْلَغُ فِي فَوَاتِ نَفْسِهِ مِنَ الْجُرْحِ مَعَ إِمْكَانِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ فِي الْأَغْلَبِ مِنْ غَيْرِ وُقُوعٍ فِي الْمَاءِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيةُ : أَنْ يَكُونَ مِنْ طَيْرِ الْمَاءِ ، فَفِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ إِذَا مَاتَ بَعْدَ سُقُوطِهِ فِي الْمَاءِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ تَعْلِيلًا بِمَا ذَكَرْنَاهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَحِلُّ أَكْلُهُ : لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ فِي الْغَالِبِ يُفَارِقُ الْمَاءَ ، فَصَارَ سُقُوطُهُ فِيهِ ، كَسُقُوطِ غَيْرِهِ فِي الْأَرْضِ . فَأَمَّا إِنْ سَقَطَ الصَّيْدُ فِي النَّارِ فَمَاتَ فِيهَا لَمْ يُؤْكَلْ ، سَوَاءٌ كَانَ الصَّيْدُ طَائِرًا أَوْ مَاشِيًا : لِأَنَّ النَّارَ قَاتِلَةٌ ، وَيَسْتَغْنِي الصَّيْدُ عَنْ وُقُوعِهِ فِيهَا ، إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ مَوْتُهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ فِيهَا فَيَحِلَّ .



فَصْلٌ : وَإِذَا سَقَطَ الطَّائِرُ بَعْدَ رَمْيِهِ عَلَى حَائِطٍ أَوْ شَجَرَةٍ ثم تردى فسقط ميتا أَوْ جَبَلٍ ثُمَّ تَرَدَّى مِنْهُ إِلَى الْأَرْضِ ، فَسَقَطَ إِلَيْهَا ، فَمَاتَ أَوْ كَانَ الصَّيْدُ مَاشِيًا فَرَمَاهُ عَلَى الْجَبَلِ ، فَتَرَدَّى مِنْهُ إِلَى الْأَرْضِ ، فَمَاتَ ، فَلَهُ حَالَتَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَحْصُلَ مَوْتُهُ قَبْلَ تَرَدِّيهِ مِنَ الْجَبَلِ وَالْحَائِطِ وَالشَّجَرَةِ فَيَحِلَّ أَكْلُهُ : لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِتَرَدِّيهِ عَنْ مَوْتِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيةُ : أَنْ لَا يُعْلَمَ مَوْتُهُ قَبْلَ تَرَدِّيهِ ، فَأَكْلُهُ حَرَامٌ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُتَرَدِّيَةِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ : وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ [ الْمَائِدَةِ : 3 ] وَلِأَنَّ تَرَدِّيَهُ نَادِرٌ ، فَحَرُمَ بِهِ كَسُقُوطِهِ فِي الْمَاءِ . وَلَوْ رَمَى طَائِرًا ، فَخَرَّ إِلَى الْأَرْضِ ، وَاسْتَقْبَلَهُ رَجُلٌ بِسَيْفِهِ ، فَقَطَعَهُ بِاثْنَيْنِ حَرُمَ أَكْلُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْجُرْحُ قَدْ وَجَاهُ فِي الْهَوَا ، فَلَا يَحْرُمُ : لِأَنَّ قَطْعَهُ بِالسَّيْفِ قَبِلَ التَّوْجِيَةِ لَيْسَ بِذَكَاةٍ ، فَصَارَ مُسْتَهْلِكًا لَهُ ، فَحَرُمَ بِهِ ، وَضَمِنَهُ لِمَالِكِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " وَلَا يُؤْكَلُ مَا قَتَلَهُ الرَّمْيُ إِلَّا مَا خُرِقَ بِدِقَّتِهِ أَوْ قُطِعَ بِحَدِّهِ فَأَمَّا مَا جُرِحَ بِثِقَلِهِ فَهُوَ وَقِيذَةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الذَّكَاةُ فِي اللُّغَةِ ، فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا التَّطَيُّبُ مِنْ قَوْلِهِمْ : مِسْكٌ ذَكِيٌّ إِذَا كَانَ طَيِّبَ الرَّائِحَةِ ، لَكِنَّهَا فِي الشَّرْعِ تَطْيِيبُ الذَّبِيحَةِ بِالْإِبَاحَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا الْقَطْعُ لَكِنَّهَا فِي الشَّرْعِ تعريف التذكية قَطْعٌ عَلَى صِفَةٍ مُبِيحَةٍ ، فَصَارَتْ فِي الشَّرْعِ قَطْعًا خَاصًّا ، وَفِي اللُّغَةِ قَطْعًا عَامًّا . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ ، أَنَّ الذَّكَاةَ الْقَتْلُ : لِأَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي النُّفُوسِ ، لَكِنَّهَا فِي الشَّرْعِ قَتْلٌ فِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ ، فَصَارَتْ أَخَصَّ مِنْهَا فِي اللُّغَةِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَجَمِيعُ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ [ الْمَائِدَةِ : 3 ] : إِلَّا مَا قَتَلْتُمْ ، وَلَكِنْ كَانَ مُجَوَّزًا أَنْ يَكُونَ بِبَعْضِ الْقَتْلِ دُونَ بَعْضٍ ، فَلَمَّا قَالَ : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [ الْبَقَرَةِ : 67 ] دَلَّ عَلَى أَنَّ الذَّكَاةَ الْمَأْمُورَ بِهَا الذَّبْحُ دُونَ غَيْرِهِ ، وَكَانَ النَّحْرُ فِي مَعْنَى الذَّبْحِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا ، فَالذَّكَاةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ فِي مَقْدُورٍ عَلَيْهِ ، وَمُمْتَنِعٍ . فَإِنْ كَانَتْ فِي مَقْدُورٍ عَلَيْهِ لَمْ تَكُنْ إِلَّا ذَبْحًا فِي الْحَلْقِ أَوْ نَحْرًا فِي اللَّبَّةِ بِمَا يُقْطَعُ بِحَدِّهِ دُونَ مَا يُخْرَقُ بِدَقِّهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِحَدِيدٍ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنَ الْمُحَدِّدِ إِذَا مَارَ فِي اللَّحْمِ مَوْرَ الْحَدِيدِ مِنْ لَيْطِ الْقَصَبِ ، وَمَا حُدِّدَ مِنَ الزُّجَاجِ ، وَالْحَجَرِ ، وَالْخَشَبِ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا مَا قَطَعَ بِحَدٍّ : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَفَرَى الْأَوْدَاجَ فَكُلْ .

وَرُوِيَ أَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّا نَجِدُ الصَّيْدَ وَلَا نَجِدُ مَا نُذَكِّي بِهِ إِلَّا الظِّرَارَ وَشِقَّةَ الْعَصَا ، فَقَالَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَمِرَّ الدَّمَ بِمَا شِئْتَ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الظِّرَارُ حِجَارَةٌ مُحَدَّدَةٌ . وَقَوْلُهُ : أَمِرَّ الدَّمَ بِمَا شِئْتَ أَيْ سِلْهُ بِمَا شِئْتَ . فَأَمَّا مَا قُطِعَ مِنْ ذَلِكَ بِشِدَّةِ اعْتِمَادِ الْمُذَكِّي ، وَقُوَّةِ ثِقَلِهِ ، فَلَا يُؤْكَلُ وَمِثْلُهُ الْحَدِيدُ لَوْ كَانَ كَالًّا لَا يُقْطَعُ بِحَدِّهِ ، وَيُقْطَعُ بِشِدَّةِ الِاعْتِمَادِ ، وَقُوَّةِ الذَّابِحِ لَمْ يُؤْكَلْ لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمُنْهِرُ لِلدَّمِ هُوَ الذَّابِحَ دُونَ الْآلَةِ . وَأَمَّا الْمُمْتَنِعُ فَكُلُّ مَوْضِعٍ مِنْ جَسَدِهِ مَحَلٌّ لِذَكَاتِهِ مِمَّا قُطِعَ بِحَدِّهِ كَالسَّيْفِ ، وَالسِّكِّينِ أَوْ خُرِقَ ، وَثُقِبَ بِدَقَّتِهِ كَالسَّهْمِ وَالْحَرْبَةِ ، فَمَارَ فِي اللَّحْمِ ، وَدَخَلَ ، سَوَاءٌ كَانَ حَدِيدًا أَوْ مَا قَامَ مَقَامَهُ مِنَ الْقَصَبِ ، وَالْخَشَبِ ، وَالْمُحَدَّدِ ، وَالْحِجَارَةِ الْمُحَدَّدَةِ . فَأَمَّا مَا قُطِعَ بِثِقَلِهِ أَوْ بِقُوَّةِ الرَّامِي كَالْخَشَبِ الْأَصَمِّ ، وَالْحَجَرِ الصَّلْدِ ، فَإِنَّهُ وَقِيذٌ لَا يُؤْكَلُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ [ الْمَائِدَةِ : 13 ] وَالْمَوْقُوذَةُ : هِيَ الْمَقْتُولَةُ ضَرْبًا ، وَالْمُتَرَدِّيَةُ : هِيَ الْوَاقِعَةُ مِنْ شَاهِقٍ . وَرَوَى عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ ، قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ ، فَقَالَ : مَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْ ، وَمَا أَصَابَ بَعَرْضِهِ ، فَهُوَ وَقِيذٌ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْجُلَاهِقِ وَهُوَ قَوْسُ الْبُنْدُقِ : لِأَنَّهُ يَقْتُلُ الصَّيْدَ بِقُوَّةِ رَامِيهِ ، وَلَيْسَ يَقْتُلُهُ بِحَدِّهِ كَالسِّهَامِ ، فَأَبَاحَ السَّهْمَ ، وَنَهَى عَنِ الْبُنْدُقِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّهُ قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْبُنْدُقِ ، فَقَالَ : إِنْ خَرَقَتْ فَكُلْ ، وَإِنْ لَمْ تَخْرِقْ فَلَا تَأْكُلْ . قِيلَ : هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ بِثَابِتٍ ، وَلَا أَصْلَ لَهُ ، فَإِنَّ سُفْيَانَ قَالَ : سَأَلْتُ الْأَعْمَشَ عَنْ حَدِيثِ الْبُنْدُقِ يَعْنِي هَذَا الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ حَدِيثِكَ ، فَقَالَ كَيْفَ أَصْنَعُ بِهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ يَقْرَءُونَ مِنْ أَصْلِ مَا لَيْسَ فِيهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَا لَمْ يَقْطَعْ بِحَدِّهِ ، وَلَمْ يَخْرِقْ بِدَقَّتِهِ ، وَقَطَعَ بِثِقَلِهِ أَوْ بِقُوَّةِ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ - غَيْرُ مَأْكُولٍ ، فَإِنْ فَاتَتْ ذَكَاتُهُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ كَانَ مَيْتَةً مُحَرَّمَةً ، وَإِنْ أُدْرِكَتْ حَيَاتُهُ ، فَذُبِحَ فِي حَلْقِهِ أَوْ نُجِزَ فِي لَبَّتِهِ نُظِرَ فِيمَا أَدْرَكَهُ مِنْ حَيَاتِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ ضَعِيفَةً لَا لُبْثَ لَهَا كَجَرْحَةِ الْمَذْبُوحِ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ بِالذَّبْحِ ، وَكَانَ مَيْتَةً ، وَإِنْ كَانَتْ حَيَاتُهُ قَوِيَّةً يَلْبَثُ مَعَهَا وَإِنْ لَمْ يَطُلْ زَمَانُ لُبْثِهَا صَحَّتْ ذَكَاتُهُ ، وَحَلَّ أَكْلُهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ [ الْمَائِدَةِ : 3 ] فَأَبَاحَ مَا أُدْرِكَتْ ذَكَاتُهُ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْمَحْظُورَاتِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " وَمَا نَالَتْهُ الْجَوَارِحُ فَقَتَلَتْهُ وَلَمْ تُدْمِهِ احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يُؤْكَلَ حَتَّى يُجْرَحَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : مِنَ الْجَوَارِحِ وَالْآخَرُ أَنَّهُ حَلَّ قَالَ الْمُزَنِيُّ الْأَوَّلُ أَوْلَاهُمَا بِهِ قِيَاسًا عَلَى رَامِي الصَّيْدِ أَوْ ضَارِبِهِ لَا يُؤْكَلُ إِلَّا أَنْ يَجْرَحَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَرْسَلَ كَلْبَهُ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْجَوَارِحِ عَلَى صَيْدٍ ، فَمَاتَ الصَّيْدُ بِإِرْسَالِهِ عَلَيْهِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ مَوْتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُتْعِبَهُ الْكَلْبُ بِالسَّعْيِ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْقُطَ الصَّيْدُ مَيْتًا بِالْإِعْيَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْرَحَهُ الْكَلْبُ ، فَهَذَا مَيْتَةٌ لَا يُؤْكَلُ : لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ فِعْلٌ يَكُونُ تَذْكِيَةً . وَالْحَالُ الثَّانِيةُ : أَنْ يَنَالَهُ الْكَلْبُ ، فَيَعْقِرُهُ ، فَيَمُوتَ مِنْ عَقْرِهِ وَجِرَاحَتِهِ ، فَيَحِلَّ أَكْلُهُ سَوَاءٌ جَرَحَهُ بِأَنْيَابِهِ أَوْ بِمَخَالِبِهِ فِي مَقْتَلٍ أَوْ غَيْرِ مَقْتَلٍ مِنْ رَأْسٍ أَوْ ذَنَبٍ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [ الْمَائِدَةِ : 4 ] . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَوْضِعِ عَقْرِ الْكَلْبِ ، هَلْ يَحِلُّ أَكْلُهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ سَوَاءٌ كَانَ قَدْ غَسَلَهُ أَوْ لَمْ يَغْسِلْهُ ، وَيُأْكَلُ مَا عَدَاهُ مِنْ جَسَدِهِ : لِأَنَّ لُعَابَ الْكَلْبِ وَنَجَاسَةَ أَنْيَابِهِ تَسْرِي فِي مَحَلِّهِ فَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْغَسْلُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَحِلُّ أَكْلُهُ ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةٍ حُكِمَ بِإِبَاحَتِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَجِبُ غَسْلُهُ قَبْلَ أَكْلِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجِبُ غَسْلُهُ قِيَاسًا عَلَى مَحَلِّ وُلُوغِهِ ، وَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ قَبْلَ الْغَسْلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجِبُ غَسْلُهُ : لِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ فِيهِ ، فَصَارَ عَفْوًا كَسَائِرِ مَا يُشْتَقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْجَاسِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ مَوْتُ الصَّيْدِ بِصَدْمَةِ الْكَلْبِ أَوْ بِضَغْطَتِهِ أَوْ بِقُوَّةِ إِمْسَاكِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْقِرَهُ بِجُرْحٍ مِنْ نَابٍ أَوْ مِخْلَبٍ ، فَفِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ ، وَرَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ ، وَزُفَرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ حَرَامٌ لَا يُؤْكَلُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَرَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ حَلَالٌ يُؤْكَلُ . فَدَلِيلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي تَحْرِيمِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ [ الْمَائِدَةِ : 4 ] فَجَعَلَ الْجُرْحَ نَعْتًا ، فَصَارَ فِي الْإِبَاحَةِ شَرْطًا . وَرَوَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يُنْهِرْ لَا يُؤْكَلُ : وَلِأَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ قَدْ أُبِيحَ بِآلَةٍ وَبِجَوَارِحَ ، فَلَمَّا لَمْ يَحِلَّ

صَيْدُ الْآلَةِ إِلَّا بِعَقْرِهِ وَجَبَ أَنْ لَا يَحِلَّ صَيْدُ الْجَوَارِحِ إِلَّا بِعَقْرِهِ : لِأَنَّهُ أَحَدُ النَّوْعَيْنِ ، فَكَانَ الْعَقْرُ شَرْطًا فِي الْحَالَيْنِ . وَدَلِيلُ الْقَوْلِ الثَّانِي فِي إِبَاحَتِهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ يُرِيدُ بِهِ الْجَوَارِحَ الْكَوَاسِبَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ [ الْجَاثِيَةِ : 21 ] أَيِ اكْتَسَبُوا ثُمَّ قَالَ : فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [ الْمَائِدَةِ : 4 ] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ إِمْسَاكٍ عَقَرَ أَوْ لَمْ يَعْقِرْ ، وَلِأَنَّ شُرُوطَ الذَّكَاةِ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ ، فَتَجِبُ مَعَ الْقُدْرَةِ فِي مَحَلِّهَا فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ مَا يَسْقُطُ مَعَ الْعَجْزِ ، كَذَلِكَ الْعَقْرُ لَا يُشَقُّ اعْتِبَارُهُ فِي الْآلَةِ ، فَكَانَ شَرْطًا وَشَقُّ اعْتِبَارِهِ فِي الْجَارِحِ فَلَمْ يَكُنْ عَقْرُهُ شَرْطًا : وَلِأَنَّ مَا كَانَ شَرْطًا فِي تَعْلِيمِ الْجَارِحِ ، كَانَ شَرْطًا فِي الِاسْتِبَاحَةِ ، كَالْإِمْسَاكِ ، وَمَا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي التَّعْلِيمِ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي الِاسْتِبَاحَةِ ، كَالْأَكْلِ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْعَقْرُ شَرْطًا فِي تَعْلِيمِهِ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي اسْتِبَاحَةِ صَيْدِهِ : وَلِأَنَّ عَقْرَهُ مِنْ دَوَاعِي الْأَكْلِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْحَظْرِ ، فَكَانَ تَرْكُ عَقْرِهِ أَصَحَّ فِي التَّعْلِيمِ ، وَأَبْعَدَ مِنَ الْحَظْرِ ، فَكَانَ أَحَقَّ بِالْإِبَاحَةِ مِنَ الْعَقْرِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " وَلَوْ رَمَى شَخْصًا يَحْسَبُهُ حَجَرًا فَأَصَابَ صَيْدًا فَلَوْ أَكَلَهُ مَا رَأَيْتُهُ مُحَرَّمًا كَمَا لَوْ أَخْطَأَ شَاةً فَذَبَحَهَا لَا يُرِيدُهَا وَكَمَا لَوْ ذَبَحَهَا وَهُوَ يَرَاهَا خَشَبَةً لَيِّنَةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا رَأَى شَخْصًا ، فَظَنَّهُ حَجَرًا أَوْ شَجَرَةً ، فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ ، فَبَانَ أَنَّهُ صَيْدٌ قَتَلَهُ حَلَّ أَكْلُهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى الشَّخْصَ ، وَهُوَ يَظُنُّهُ إِنْسَانًا أَوْ حَيَوَانًا غَيْرَ مَأْكُولٍ مِنْ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ ، فَبَانَ أَنَّهُ صَيْدٌ مَأْكُولٌ قَتَلَهُ حَلَّ أَكْلُهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : لَا يُؤْكَلُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : إِنْ ظَنَّهُ غَيْرَ حَيَوَانٍ مِنْ شَجَرٍ أَوْ حَجَرٍ ، فَبَانَ صَيْدًا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ ، وَإِنْ ظَنَّهُ حَيَوَانًا غَيْرَ مَأْكُولٍ ، فَبَانَ مَأْكُولًا حَلَّ أَكْلُهُ ، وَعِلَّةُ إِبَاحَتِهِ عِنْدَنَا مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ أَصْحَابِنَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعِلَّةَ فِي إِبَاحَتِهِ قَصْدُهُ لِلْفِعْلِ ، فَكَانَ مَا حَدَثَ مِنْ فِعْلِهِ الْمَقْصُودِ مُبَاحًا ، كَمَا لَوْ قَصَدَ ذَبْحَ شَاةٍ فَذَبَحَهَا ، وَهُوَ يَحْسَبُهَا غَيْرَهَا ، حَلَّ أَكْلُهَا كَمَا لَوْ قَبَضَ عَلَى شَيْءٍ يَحْسَبُهُ خَشَبَةً لَيِّنَةً فَقَطَعَهَا فَبَانَ أَنَّهُ حَلْقُ شَاةٍ قَدْ ذَبَحَهَا حَلَّ أَكْلُهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ تَعْلِيلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي إِبَاحَتِهِ مُبَاشَرَتُهُ لِلْفِعْلِ دُونَ الْقَصْدِ : لِأَنَّ ذَكَاةَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ مُبَاحَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا قَصْدٌ ، فَكَانَ التَّعْلِيلُ بِالْمُبَاشِرَةِ أَوْلَى مِنَ التَّعْلِيلِ بِالْقَصْدِ وَلَا يُعْتَبَرُ بِنِيَّةِ الذَّكَاةِ عَلَى التَّعْلِيلَيْنِ جَمِيعًا ،

أَلَا تَرَاهُ لَوْ أَشَارَ بِالسِّكِّينِ إِلَى حَلْقِ شَاةٍ لِيَعْبَثَ بِهَا وَلَا يَذْبَحَهَا ، فَانْذَبَحَتْ بِهَا حَلَّ أَكْلُهَا ، وَإِنْ لَمْ يُنَوِّهِ ، وَتَأْثِيرُ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي هَذَا التَّعْلِيلِ يَتَحَقَّقُ فِيمَنْ رَمَى إِلَى الْهَوَاءِ ، فَسَقَطَ فِي عُلُوِّهِ عَلَى صَيْدٍ ، فَقَتَلَهُ ، وَفِي إِبَاحَتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : غَيْرُ مُبَاحٍ إِذَا عُلِّلَ بِقَصْدِ الْفِعْلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : مُبَاحٌ إِذَا عُلِّلَ بِمُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَتْ بِيَدِهِ سِكِّينٌ فَسَقَطَتْ عَلَى حَلْقِ شَاةٍ أَوْ طَائِرٍ ، فَذَبَحَتْهُ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ عَنْ فِعْلٍ غَيْرِ مَقْصُودٍ وَحَلَّ أَكْلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي : لِأَنَّهُ عَنْ مُبَاشَرَةِ فِعْلِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى شَخْصٍ يَحْسَبُهُ غَيْرَ صَيْدٍ فَبَانَ صَيْدًا مَأْكُولًا ، تَمَيَّزَ حِينَئِذٍ حَالُ الشَّخْصِ فِي إِرْسَالِ الْكَلْبِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ فِي إِرْسَالِ السَّهْمِ ، فَإِنْ كَانَ الشَّخْصُ حَيَوَانًا ظَنَّهُ إِنْسَانٌ أَسَدًا أَوْ خِنْزِيرًا : فَأَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَيْهِ ، فَبَانَ صَيْدًا مَأْكُولًا حَلَّ : لِأَنَّ الْكَلْبَ يُشْلَى عَلَى كُلِّ الْحَيَوَانِ فَيَسْتَشْلِي ، فَاسْتَوَى فِي اسْتِرْسَالِهِ حَالَةُ الْمَأْكُولِ ، وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي إِبَاحَةِ الْأَكْلِ ، وَإِنْ ظَنَّ الْمُرْسِلُ أَنَّ الشَّخْصَ شَجَرَةٌ أَوْ حَجَرٌ ، فَأَرْسَلَ عَلَيْهِ كَلْبَهُ ، فَبَانَ صَيْدًا ، فَقَتَلَهُ فَفِي إِبَاحَتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : مُبَاحٌ كَمَا لَوْ أَرْسَلَ سَهْمَهُ عَلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : مَحْظُورٌ لِأَمْرَيْنِ هُمَا تَعْلِيلٌ ، وَفَرْقٌ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِرْسَالَهُ عَلَى غَيْرِ الْحَيَوَانِ عَبَثٌ ، فَصَارَ كَالْمُسْتَرْسِلِ بِنَفْسِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ تَصَرُّفَ الْكَلْبِ بِاخْتِيَارِهِ ، وَنُفُوذَ السَّهْمِ بِاخْتِيَارِ مُرْسِلِهِ . فَأَمَّا إِذَا أَرْسَلَ سَهْمَهُ أَوْ كَلْبَهُ عَلَى غَيْرِ شَخْصٍ يَرَاهُ ، فَصَادَفَ صَيْدًا قَتَلَهُ ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِنْ كَانَ بِإِرْسَالِ كَلْبٍ لَمْ يُؤْكَلْ ، وَإِنْ كَانَ بِإِرْسَالِ سَهْمٍ ، فَفِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ وَجْهَانِ ، وَهُوَ عَكْسُ مَسْأَلَتِنَا فِي الشَّخْصِ الْمَرْئِيِّ : لِأَنَّهُ فِي الشَّخْصِ يُؤْكَلُ مَا أَصَابَهُ سَهْمُهُ ، وَفِي أَكْلِ مَا أَصَابَهُ كَلْبُهُ وَجْهَانِ ، وَفِي غَيْرِ الشَّخْصِ الْمَرْئِيِّ لَا يُؤْكَلُ مَا أَصَابَهُ كَلْبُهُ ، وَفِي أَكْلِ مَا أَصَابَهُ سَهْمُهُ وَجْهَانِ .

مَسْأَلَةٌ مَنْ أَحْرَزَ صَيْدًا فَأَفْلَتَ مِنْهُ فَصَادَهُ غَيْرُهُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " وَمَنْ أَحْرَزَ صَيْدًا فَأَفْلَتَ مِنْهُ فَصَادَهُ غَيْرُهُ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا مَلَكَ صَيْدًا بِالِاصْطِيَادِ أَوْ بِابْتِيَاعٍ ، وَأَفْلَتَ مِنْهُ لَمْ يَزِدْ مِلْكُهُ عَنْهُ سَوَاءٌ طَالَ مُكْثُهُ عَنْهُ أَوْ قَصُرَ ، وَسَوَاءٌ بَعُدَ عَنْهُ فِي الْبَرِّ أَوْ قَرُبَ مِنَ الْمِصْرِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ مِنَ الطَّيْرِ أَوِ الدَّوَابِّ . وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .

وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ بَعُدَ فِي الْبَرِّ مَعَ قُرْبِ الْمُكْثِ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْإِمْسَاكَ سَبَبُ الْمِلْكِ ، فَإِذَا زَالَ بِالِانْفِلَاتِ زَالَ بِهِ الْمِلْكُ ، كَمَا لَوْ مَلَكَ مَاءً بِاسْتِقَائِهِ مِنْ نَهْرٍ ، فَانْصَبَّ مِنْهُ فِي النَّهْرِ ، زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ : وَلِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ بَعْدَ انْفِلَاتِهِ تَحَرَّمَ صَيْدُ الْبَرِّ لِجَوَازِ اخْتِلَاطِهِ بِمُنْفَلِتٍ فَحَرُمَ ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى إِبَاحَةِ صَيْدِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُنْفَلِتَ عَائِدٌ فِي الْإِبَاحَةِ إِلَى أَصْلِهِ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ يَمْلِكُ الصَّيْدَ بِالِابْتِيَاعِ ، كَمَا يَمْلِكُهُ بِالِاصْطِيَادِ ، فَلَمَّا لَمْ يَزَلْ بِهِ الْمِلْكِ عَمَّا ابْتَاعَهُ بِالِانْفِلَاتِ لَمْ يَزَلْ بِهِ الْمِلْكُ عَمَّا صَادَهُ : وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ عَبْدَهُ بِالسَّبْيِ : وَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ : كَذَلِكَ الصَّيْدُ إِذَا مَلَكَهُ الِاصْطِيَادُ لَمْ يَزِدْ مِلْكُهُ عَنْهُ بِالِانْفِلَاتِ : وَلِأَنَّهُ لَوْ وَسَمَ الصَّيْدَ قَبْلَ انْفِلَاتِهِ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ بَعْدَ وَسْمِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَزُولَ بِهِ قَبْلَ وَسْمِهِ : لِأَنَّ الْوَسْمَ لَمَّا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي زَوَالِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ زَوَالَ سَبَبِ الْمِلْكِ مُوجِبٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ كَالْمَاءِ إِذَا عَادَ إِلَى النَّهْرِ فَهُوَ بُطْلَانُهُ بِالْعَبْدِ الْمَسْبِيِّ إِذَا عَادَ آبِقًا إِلَى دَارِ الْحَرْبِ زَالَ سَبَبُ مِلْكِهِ ، وَلَمْ نُوجِبْ زَوَالَ مِلْكِهِ ، كَذَلِكَ الصَّيْدُ . فَأَمَّا الْمَاءُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حُكْمِهِ إِذَا عَادَ إِلَى النَّهْرِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَلَى مِلْكِهِ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَطَ بِمَا لَمْ يَتَمَيَّزْ عَنْهُ ، فَصَارَ مُسْتَهْلِكًا . وَالثَّانِي : أَنَّ مِلْكَهُ قَدْ زَالَ بِمِثْلِهِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ ، فَخَالَفَ حُكْمَ الصَّيْدِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ صَيْدَ الْبَرِّ عَلَى الْإِبَاحَةِ بَعْدَ انْفِلَاتِهِ ، فَهُوَ أَنَّ اخْتِلَاطَ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ يُوجِبُ تَغْلِيبًا الْإِبَاحَةَ عَلَى التَّحْرِيمِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَاءَ النَّهْرِ إِذَا أُرِيقَ فِيهِ خَمْرٌ أَوْ بَوْلٌ لَمْ يَحْرُمْ لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ : وَلَوِ اخْتَلَطَتْ أُخْتُهُ بِنِسَاءِ بَلَدٍ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْهُنَّ مَنْ شَاءَ ، وَلَوِ اخْتَلَطَتْ بِعَدَدٍ مِنْ نِسَاءِ بَلَدٍ حَرُمْنَ كُلُّهُنَّ : لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْهَا فِي نِسَاءِ الْبَلَدِ وَيَقْدِرُ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْهَا فِي الْعَدَدِ الْمَحْصُورِ مِنْ نِسَاءِ الْبَلَدِ ، كَذَلِكَ حُكْمُ الصَّيْدِ الْمُنْفَلِتِ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِصَيْدِ الْبَرِّ لَمْ يُمْكِنِ الِاحْتِرَازُ ، فَحَلَّ ، وَإِذَا اخْتَلَطَ بِعَدَدٍ مَحْصُورٍ مِنْ عِدَّةِ صَيُودٍ حَرُمَ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا مَالِكُ الصَّيْدِ إِذَا قَتَلَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقْصِدَ بِإِرْسَالِهِ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهِ ، هَذَا مُوجِبٌ لِزَوَالِ الْمَالِكِ عَنْهُ كَالْعِتْقِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، هَلْ يَحِلُّ صَيْدُهُ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ إِذَا عُرِفَ عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ صَيْدٌ كَالْمُعْتِقِ ، لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَحِلُّ صَيْدُهُ : لِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ يُوجِبُ عَوْدَهُ إِلَى حُكْمِ الْإِبَاحَةِ : وَلِيَخْرُجَ عَنْ حُكْمِ السَّائِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَقْصِدَ بِإِرْسَالِهِ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي زَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ بِالْإِرْسَالِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَزُولُ كَمَا يَزُولُ لَوْ أَرْسَلَهُ مُتَقَرِّبًا بِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَزُولُ مِلْكُهُ كَمَا لَوْ أَرْسَلَ بَعِيرَهُ أَوْ فَرَسَهُ . فَإِنْ قِيلَ : بِبَقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِ حَرُمَ صَيْدُهُ إِذَا عُرِفَ ، وَإِنْ قِيلَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ حَلَّ صَيْدُهُ ، وَإِنْ عُرِفَ ، بِخِلَافِ مَا تَقَرَّبَ بِهِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : لِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْقُرْبَةِ حَقًّا لَيْسَ فِي غَيْرِهِ .

مَسْأَلَةٌ الصَّيْدُ فِي الْحَرَمِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " وَكُلُّ مَا أَصَابَهُ حَلَالٌ فِي غَيْرِ حَرَمٍ مِمَّا يَكُونَ بِمَكَّةَ مِنْ حَمَامِهَا وَغَيْرِهِ فَلَا بَأْسَ ، إِنَّمَا نَمْنَعُ بِحَرَمَهِ بِغَيْرِهِ مِنْ حَرَمٍ أَوْ إِحْرَامٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الصَّيْدُ فِي الْحَرَمِ حكمه ، فَحَرَامٌ كَتَحْرِيمِهِ فِي الْإِحْرَامِ ، سَوَاءٌ كَانَ مَنْشَؤُهُ فِي الْحِلِّ أَوْ فِي الْحَرَمِ ، فَإِنْ خَرَجَ الصَّيْدُ مِنَ الْحَرَمِ إِلَى الْحِلِّ حَلَّ صَيْدُهُ ، سَوَاءٌ كَانَ مَنْشَؤُهُ فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي الْحِلِّ ، فَيَكُونُ تَحْرِيمُ الصَّيْدِ مُعْتَبَرًا بِمَكَانِهِ فِي حَالِ صَيْدِهِ لَا بِمَنْشَئِهِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ مَالِكٌ : إِذَا كَانَ مَنْشَأُ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ قَتَلَهُ ، وَضَمِنَ بِالْجَزَاءِ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ اعْتِبَارًا بِالْمَنْشَأِ : وَاسْتِدْلَالًا بِأَنَّ اسْتِقْرَارَ الْحُرْمَةِ بِهِ تَمْنَعُ مِنِ اسْتِبَاحَتِهِ كَمَا تَمْنَعُ مِنِ اسْتِبَاحَةِ شَجَرِ الْحَرَمِ ، وَأَحْجَارِهِ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ تَحْرِيمَ الصَّيْدِ إِنَّمَا هُوَ لِحُرْمَةٍ فِي غَيْرِهِ مِنْ حَرَمٍ أَوْ إِحْرَامٍ ، فَلَمَّا زَالَتْ حُرْمَتُهُ بِالْإِحْلَالِ مِنَ الْإِحْرَامِ وَجَبَ زَوَالُ حُرْمَتِهِ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْحَرَمِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا حَرُمَ صَيْدُ الْحِلِّ إِذَا دَخَلَ إِلَى الْحَرَمِ اعْتِبَارًا بِمَكَانِهِ وَجَبَ أَنْ يَحِلَّ صَيْدُ الْحَرَمِ إِذَا خَرَجَ إِلَى الْحِلِّ اعْتِبَارًا بِمَكَانِهِ ، وَقَدِ اعْتَبَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ فِي طَائِرٍ مَعَ صَبِيٍّ صَادَهُ مِنَ الْحِلِّ ، وَأَدْخَلَهُ الْحَرَمَ ، فَقَالَ لَهُ : يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى أُمُورٍ . مِنْهَا : أَنَّ مَا صِيدَ فِي الْحِلِّ جَازَ إِدْخَالُهُ إِلَى الْحَرَمِ اعْتِبَارًا بِمَكَانِهِ الَّذِي صِيدَ فِيهِ . وَمِنْهَا : جَوَازُ لَعِبِ الصِّبْيَانِ بِذَوَاتِ الْأَرْوَاحِ حكم . وَمِنْهَا : جَوَازُ الْمَزْحِ مَعَ الصِّبْيَانِ حكم . وَمِنْهَا : جَوَازُ كُنْيَةِ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ يَتَكَنَّى بِاسْمِهِ .

وَمِنْهَا : جَوَازُ التَّصْغِيرِ فِي الْأَسْمَاءِ حكم . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ مَالِكٍ بِحِجَارَةِ الْحَرَمِ وَأَشْجَارِهِ ، فَهُوَ أَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْحَرَمِ ، فَلَزِمَ رَدُّهَا إِلَيْهِ ، وَلَيْسَ الصَّيْدُ مِنَ الْحَرَمِ ، وَإِنَّمَا هُوَ فِيهِ ، فَافْتَرَقَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " وَلَوْ تَحَوَّلَ مِنْ بُرْجٍ إِلَى بُرْجٍ فَأَخَذَهُ كَانَ عَلَيْهِ رَدُّهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا مَلَكَ طَائِرًا إِنْسِيًّا فَطَارَ مِنْ بُرْجِهِ إِلَى بُرْجِ غَيْرِهِ كَانَ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ ، وَلَمْ يَمْلِكْهُ مَنْ طَارَ إِلَى بُرْجِهِ بِوِفَاقِ مَالِكٍ ، وَلَوْ صَادَ طَائِرًا وَحْشِيًّا ، فَطَارَ مِنْ بُرْجِهِ إِلَى بُرْجِ غَيْرِهِ كَانَ عِنْدَنَا بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ سَوَاءٌ أَنِسَ بِبُرْجِهِ أَوْ لَمْ يَأْنَسْ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ أَنِسَ بِبُرْجِهِ لِطُولِ الْمُكْثِ كَانَ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَأْنَسْ بِطُولِ الْمُكْثِ صَارَ مِلْكًا لِمَنِ انْتَقَلَ إِلَى بُرْجِهِ ، فَإِنْ عَادَ إِلَى بُرْجِ الْأَوَّلِ عَادَ إِلَى مِلْكِهِ . وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ . فَأَمَّا إِذَا سَقَطَ طَائِرٌ وَحْشِيٌّ عَلَى بُرْجِ رَجُلٍ لَمْ يَمْلِكْهُ بِسُقُوطِهِ عَلَيْهِ ، سَوَاءٌ أَلِفَهُ أَوْ لَمْ يَأْلَفْهُ حَتَّى يَصِيرَ تَحْتَ قُدْرَتِهِ ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى امْتِنَاعِهِ مِنْهُ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُغْلِقَ عَلَيْهِ بَابًا أَوْ يُلْقِيَ عَلَيْهِ قَفَصًا ، فَيَصِيرَ مِلْكًا لَهُ كَمَا يَمْلِكُهُ إِذَا وَقَعَ فِي شَبَكَتِهِ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ ، فَإِنْ أَفْرَخَ هَذَا الطَّائِرُ فِي بُرْجِهِ كَانَ حُكْمُ فِرَاخِهِ كَحُكْمِهِ إِنْ مَلَكَهُ مَلَكَ فِرَاخَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْهُ لَمْ يَمْلِكْ فِرَاخَهُ ، وَكَذَلِكَ بَيْضُهُ ، وَإِنْ كَانَ أَحَقَّ بِأَخْذِهِمَا مِنْ غَيْرِهِ لِمِلْكِ الْمَوْضِعِ ، فَإِنْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ مَلَكَهُ الْآخِذُ لَهُ دُونَهُ ، وَإِنْ تَعَدَّى بِدُخُولِهِ إِلَى مِلْكِهِ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ أَصَابَ ظَبْيًا مُقْرَطًا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " وَلَوْ أَصَابَ ظَبْيًا مُقْرَطًا فَهُوَ لِغَيْرِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا كَانَ عَلَى الصَّيْدِ أَثَرُ مِلْكٍ أَوْ يَدِ آدَمِيٍّ مِنْ قُرْطٍ أَوْ مَيْسِمٍ أَوْ خِضَابٍ أَوْ قِلَادَةٍ لَمْ يَمْلِكْهُ صَائِدُهُ : لِخُرُوجِهِ عَنْ صِفَةِ الْخِلْقَةِ إِلَى آثَارِ الْمِلْكِ ، فَخَرَجَ بِهِ عَنْ حُكْمِ الْإِبَاحَةِ إِلَى حُكْمِ الْحَظْرِ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِظَبْيٍ وَاقِفٍ فِيهِ أَثَرٌ فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ فَمَنَعَهُمْ وَقَالَ : حَتَى يَجِيءَ صَاحِبُهُ وَإِذَا لَمْ يَمْلِكُهُ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ بَعْدَ صَيْدِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ صَارَ فِي يَدِهِ حَيًّا ، فَهُوَ فِي حُكْمِ اللُّقَطَةِ ، مِنْ ضَوَالِّ الْحَيَوَانِ يُعَرِّفُهَا وَلَا يَضُمُّهَا ، فَإِنْ أَرْسَلَ الصَّيْدَ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفٍ ضَمِنَهُ لِمَالِكِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيةُ : أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا فِي شَبَكَتِهِ أَوْ شَرَكِهِ ، فَلَا يَلْزَمَهُ تَعْرِيفُهُ : لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ عَلَيْهِ يَدٌ ، وَإِنْ حَلَّ الشَّبَكَةَ عَنْهُ ، فَاسْتَرْسَلَ وَامْتَنَعَ لَمْ يَضُمُّهُ : لِأَنَّهُ وَإِنْ جَرَى عَلَى مَا فِي الشَّبَكَةِ حُكْمُ يَدِهِ مِنْ مِلْكِ الصَّيْدِ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهَا حُكْمُ يَدِهِ مِنَ الضَّمَانِ وَالتَّعْرِيفِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَضَعْهَا لِهَذَا الْحُكْمِ ، وَإِنَّمَا وَضَعَهَا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ .

وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَمُوتَ هَذَا الصَّيْدُ بِاصْطِيَادِهِ فَلَا يَخْلُو حَالُ مَا مَاتَ بِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَمُوتَ فِي شَبَكَةٍ قَدْ وَضَعَهَا فَلَا يَضْمَنُهُ : لِأَنَّ وَضْعَ الشَّبَكَةِ مُبَاحٌ ، فَلَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَمُوتَ بِسَهْمٍ رَمَاهُ ، فَيَكُونَ ضَامِنًا لَهُ : لِأَنَّهُ تَلِفَ بِفِعْلِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَغْرُورًا بِهِ : لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يَسْقُطُ إِلَّا بِالْأَعْذَارِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَمُوتَ بِإِرْسَالِ الْكَلْبِ عَلَيْهِ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُضْمَنُهُ كَمَا يُضْمَنُونَهُ بِسَهْمِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَضْمَنُهُ : لِأَنَّ قَتْلَ الْكَلْبِ مَنْسُوبٌ إِلَى اخْتِيَارِهِ ، وَقَتْلَ السَّهْمِ مَنْسُوبٌ إِلَى رَامِيهِ .

فَصْلٌ : وَهَكَذَا مَا أَخَذَهُ مِنْ أَحْجَارِ الْجِبَالِ ، وَخَشَبِ الْغِيَاضِ إِذَا وَجَدَ فِيهِ صَنْعَةَ آدَمِيٍّ ، مِنْ نَقْرٍ أَوْ نَحْتٍ أَوْ تَرْبِيعٍ لَمْ يَمْلِكْهُ كَالصَّيْدِ الإنسان من الحرم ، فَأَمَّا إِذَا صَادَ سَمَكَةً وَجَدَ فِي جَوْفِهَا جَوْهَرَةً ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا أَثَرُ صَنْعَةٍ مَلَكَ السَّمَكَةَ وَلَا يَمْلِكُ الْجَوْهَرَةَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَثَرُ صَنْعَةٍ نُظِرَ ، فَإِنْ صَادَهَا مِنْ بَحْرِ ذَلِكَ الْجَوْهَرِ ، أَوْ كَانَ فِيهَا غَيْرُهُ فَصَادَهَا مِنْ بَحْرِ الْعَنْبَرِ وَالْعَنْبَرُ مَلِكُهَا ، وَلَمْ يَمْلِكِ الْجَوْهَرَةَ وَالْعَنْبَرَةَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَدَ فِي جَوْفِهَا ذَهَبًا فَإِنْ كَانَ مَطْبُوعًا لَمْ يَمْلِكْهُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَطْبُوعٍ وَلَيْسَ فِيهِ أَثَرُ النَّارِ فَإِنْ كَانَتْ فِي بَحْرٍ هُوَ مِنْ مَعَادِنِ الذَّهَبِ مَلَكَهُ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ مَعَادِنِهِ لَمْ يَمْلِكْهُ وَكَانَ لُقَطَةً .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " وَلَوْ شَقَّ السَّبُعُ بَطْنَ شَاةٍ فَوَصَلَ إِلَى مِعَاهَا مَا يُسْتَيْقَنُ أَنَّهَا لَمْ تُذَكَّ مَاتَتْ فَذُكِّيَتْ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهَا لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَالذَّكَاةُ جَائِزَةٌ بِالْقُرْآنِ قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَأَعْرِفُ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّهَا لَا تُؤْكَلُ إِذَا بَلَغَ بِهَا مَا لَا بَقَاءَ لِحَيَاتِهَا إِلَّا حَيَاةَ الْمُذَكِّي ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَدَنِيِّينَ ، وَهُوَ عَنْدِي أَقْيَسُ لِأَنِّي وَجَدْتُ الشَّاةَ تَمُوتُ عَنْ ذَكَاةٍ فَتَحِلُّ وَعَنْ عَقْرٍ فَتَحْرُمُ ، فَلَمَّا وَجَدْتُ الَّذِي أَوْجَبَ الذَّبْحَ مَوْتُهَا وَتَحْلِيلُهَا لَا يُبْدِلُهَا أَكْلُ السَّبُعِ لَهُ وَلَا يُرَّدُ بِهَا ، كَانَ ذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ إِذَا أَوْجَبَ السَّبُعُ مَوْتَهَا وَتَحْرِيمَهَا لَمْ يُبَدِّلْهَا الذَّبْحُ لَهَا ، وَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّ سَبُعًا لَوْ قَطَعَ مَا يَقْطَعُ الْمُذَكِّي مِنْ أَسْفَلِ حَلْقِهَا أَوْ أَعْلَاهُ ثُمَّ ذُبِحَتْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَقْطَعِ السَّبُعُ مِنْ حَلْقِهَا أَنَّهَا مَيْتَةٌ وَلَوْ سَبَقَ الذَّابِحُ ثَمَّ قَطَعَ السَّبُعُ حَيْثُ لَمْ يَقْطَعِ الذَّابِحُ مِنْ حَلْقِهَا أَنَّهَا زَكِيَّةٌ ، وَفِي هَذَا عَلَى مَا قُلْتُ دَلِيلٌ ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوْ أَدْرَكَ الصَّيْدَ وَلَمْ يَبْلُغْ سِلَاحُهُ أَوْ مُعَلَّمُهُ مَا يَبْلُغُ الذَّابِحُ فَأَمْكَنَهُ أَنْ يَذْبَحَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ فَلَا يَأْكُلُ " قَالَ الْمُزَنِيُّ

رَحِمَهُ اللَّهُ : وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُ لَوْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الذَّابِحُ أَكَلَ قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَدَلِيلٌ آخَرُ مِنْ قَوْلِهِ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ : لَوْ قَطَعَ حُلْقُومَ رَجُلٍ وَمَرِيئَهُ أَوْ قَطَعَ حَشْوَتَهُ فَأَبَانَهَا مِنْ جَوْفِهِ أَوْ صَيَّرَهُ فِي حَالِ الْمَذْبُوحِ ، ثُمَّ ضَرَبَ آخَرُ عُنُقَهُ ، فَالْأَوَّلُ قَاتِلٌ دُونَ الْآخَرِ قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَهَذِهِ أَدِلَةٌ عَلَى مَا وَصَفْتُ مِنْ قَوْلِهِ الَّذِي هُوَ أَصَحُّ فِي الْقِيَاسِ مِنْ قَوْلِهِ الْآخَرِ . بِاللَّهِ التَّوْفِيقُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إِذَا افْتَرَسَ سَبُعٌ أَوْ ذِئْبٌ شَاةً أَوْ بَعِيرًا ثُمَّ أَقْلَعَ وَفِي الشَّاةِ حَيَاةٌ ، فَذُبِحَتْ الحكم إذا لَمْ تَخْلُ حَيَاتُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ جُرْحُ الِافْتِرَاسِ يَجُوزُ أَنْ يَبْرَأَ ، وَالْحَيَاةُ الَّتِي فِيهَا يَجُوزُ أَنْ تَبْقَى ، فَذَبَحَهَا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ ، فَإِنَّ ذَكَاتَهُ تُبِيحُ أَكْلَهَا ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ [ الْمَائِدَةِ : 3 ] . وَالْحَالُ الثَّانِيةُ : أَنْ يَكُونَ الْجُرْحُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَبْقَى كَقَطْعِ رَأْسِهَا ، أَوْ إِخْرَاجِ حَشَوْتِهَا ، وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا : إِلَّا حَرَكَةُ الْمَذْبُوحِ فَلَا يُؤَثِّرُ ذَبْحُهَا ، وَلَا يَحِلُّ أَكْلُهَا : لِخُرُوجِ أَكْثَرِ الرُّوحِ بِجَرْحِ السَّبُعِ دُونَ الذَّبْحِ ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ جُرْحُ السَّبُعِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْرَأَ وَالْحَيَاةُ مَعَهُ قَلِيلَةُ الْبَقَاءِ ، مِثْلَ أَنْ يَقْطَعَ مِنْهَا مَا لَا يَحْيَا مَعَهُ ، كَالْمِعَى ، لَكِنَّ الرُّوحَ فِيهَا بَاقِيَةٌ ، تَعِيشُ بِهَا سَاعَةً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ، فَيَكُونُ ذَبْحُهَا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ ذَكَاةً يَحِلُّ بِهَا أَكْلُهَا كَالْحَالَةِ الْأُولَى ، وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَإِنَّمَا أَشْكَلَ عَلَى الْمُزَنِيِّ فَجَمَعَ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ ، وَتَصَوَّرَ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَلَيْسَ كَمَا تَوَهَّمَ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ . وَقَدْ رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَاةٍ أَخَذَهَا الذِّئْبُ فَأُدْرِكَتْ ، وَبِهَا حَيَاةٌ ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَكْلِهَا . وَقَدْ جُرِحَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جُرْحَيْنِ قَطَعَا مِعَاهُ ، فَسَقَاهُ الطَّبِيبُ لَبَنًا خَرَجَ مِنْهُ ، فَقَالَ لَهُ : اعْهَدْ ، فَإِنَّكَ مَيْتٌ فَعَهِدَ وَوَصَّى ، وَأَمَرَ وَنَهَى ، فَأَجْرَى الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ حُكْمَ الْحَيَاةِ فِي جَمِيعِ مَا كَانَ مِنْ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا انْتَهَى إِلَى حَالِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ كَانَ فِي حُكْمِ الْحَيَاةِ ، وَإِبَاحَةِ الذَّكَاةِ فَلَوْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي ذَبْحِ الشَّاةِ هَلْ كَانَ فِي حَالِ حَظْرِهَا أَوْ إِبَاحَتِهَا حكم ذكاتها ، فَفِي صِحَّةِ ذَكَاتِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تَكُونُ ذَكِيَّةً تُؤْكَلُ : لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْحَيَاةِ فِيهَا إِلَى وَقْتِ الذَّبْحِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ لَا تُؤْكَلُ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي فَوَاتِ النَّفْسِ الْحَظْرُ حَتَّى يُعْلَمَ يَقِينُ الْإِبَاحَةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " وَكُلُّ مَا كَانَ يَعِيشُ فِي الْمَاءِ مِنْ حُوتٍ

أَوْ غَيْرِهِ فَأَخَذَهُ مَكَانَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْحَيَوَانَ يَتَنَوَّعُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ ، بَرِّيٍّ ، وَبَحْرِيٍّ ، وَمَا جَمَعَ بَيْنَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ . فَأَمَّا الْبَرِّيُّ ، فَالْمَأْكُولُ مِنْهُ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ إِلَّا بِالذَّكَاةِ ، سِوَى الْجَرَادِ وَحْدَهُ ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ أَكْلُهُ مَيْتًا سَوَاءٌ مَاتَ بِسَبَبٍ أَوْ غَيْرِ سَبَبٍ . رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ ، الْمَيْتَتَانِ : الْحُوتُ وَالْجَرَادُ ، وَالدَّمَانِ : الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ . وَأَمَّا الْبَحْرِيُّ ، فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ ، مُبَاحٌ وَمَحْظُورٌ ، وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ . وَأَمَّا الْمُبَاحُ ، فَهُوَ السَّمْكُ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ ، وَيَخْتَصُّ بِحُكْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُبَاحُ الْأَكْلِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الذَّكَاةِ وَيَحِلُّ أَكْلُهُ مَيْتًا ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْبَحْرِ : هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ حَيًّا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ حَيًّا حَتَّى يَمُوتَ : لِوُرُودِ السُّنَّةِ بِإِحْلَالٍ بَعْدَ الْمَوْتِ : لِأَنَّ مَوْتَهُ ذَكَاةٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَحِلُّ أَنْ يُؤْكَلْ حَيًّا وَمَيْتًا : لِأَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى ذَكَاةٍ ، وَلَيْسَ لَهُ حَالُ تَحْرِيمٍ فَعَمَّتْ فِيهِ الْإِبَاحَةُ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا إِذَا صَادَ سَمَكَةً ، فَانْقَطَعَ بَعْضُهَا فِي يَدِهِ وَأَفْلَتَ بَاقِيهَا حَيًّا ، هَلْ يَحِلُّ أَكْلُ مَا انْقَطَعَ مِنْهَا : عَلَى وَجْهَيْنِ : ذَكَرَهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَحَدُهُمَا : لَا يَحِلُّ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيْتٌ يَعْنِي مُحَرَّمًا : لِأَنَّ مَوْتَهُ قَدْ عُلِمَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَحِلُّ أَكْلُهُ : لِأَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ لَا يَحْرُمُ بِالْمَوْتِ فَاسْتَوَى حُكْمُ مَا أُخِذَ مِنْ حَيٍّ وَمَيْتٍ ، وَلَوْ وَجَدَ سَمَكَةً فِي جَوْفِ سَمَكَةٍ حَلَّ أَكْلُهُمَا مَعًا ، مَا لَمْ تَنْفَصِلِ الدَّاخِلَةُ ، فَإِنِ انْفَصَلَتْ حَتَّى تَقَطَّعَتْ وَتَغَيَّرَ لَوْنُ لَحْمِهَا ، فَفِي إِبَاحَةِ أَكْلِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَحِلُّ أَكْلُهَا كَمَا يَحِلُّ لَوْ تَقَطَّعَتْ بِغَيْرِ صَيْدِهَا وَتَغَيَّرَتْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَحْرُمُ أَكْلُهَا : لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ فِي حُكْمِ الرَّجِيعِ وَالْقَيْءِ ، وَهَكَذَا أَكْلُ مَا فِي بُطُونِ السَّمَكِ مِنْ غِذَائِهِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَرَامُ من صيد البحر ، وَهُوَ الضِّفْدِعُ ، وَحَيَّاتُ الْمَاءِ ، وَعَقَارِبُهُ ، وَجَمِيعُ مَا فِيهِ مِنْ

ذَوَاتِ السُّمُومِ الضَّارَّةِ ، وَمَا يُفْضِي إِلَى مَوْتٍ أَوْ سَقَمٍ ، فَلَا يَحِلُّ أَنْ يُؤْكَلَ بِحَالٍ : لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَتْلِ الضِّفْدِعِ ، وَقِيلَ : إِنَّهُ حُرِّمَ عَلَى سَبَبٍ : وَهُوَ أَنَّ طَبِيبًا وَصَفَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَوَاءً فِيهِ لَحْمُ الضِّفْدِعِ ، فَنَهَى عَنْ قَتْلِ الضِّفْدِعِ ، وَقِيلَ : هُوَ سُمٌّ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِهِ ، هَلْ يَنْجُسُ بَعْدَ مَوْتِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ طَاهِرٌ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ : لِأَنَّ حَيَوَانَ الْمَاءِ مَوْتُهُ وَحَيَاتُهُ سَوَاءٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ نَجِسٌ إِذَا مَاتَ لِأَنَّهُ لَمَّا شَابَهَ حَيَوَانَ الْبَرِّ فِي التَّحْرِيمِ شَابَهَهُ فِي التَّنْجِيسِ ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَنْجُسُ بِهِ الْمَاءُ الْقَلِيلُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَتَنَجَّسُ بِهِ كَمَا يَنْجُسُ بِسَائِرِ الْأَنْجَاسِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَنْجُسُ بِهِ لِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ فِي التَّحَرُّزِ ، فَصَارَ عَفْوًا كَدَمِ الْبَرَاغِيثِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ ، فَهُوَ مَا أَشْبَهَ حَيَوَانَ الْبَرِّ مِنْ دَوَابِّ الْمَاءِ مِنَ الْفَأْرِ وَالْكِلَابِ وَالْخَنَازِيرِ حكم أكلها ، وَقِيلَ : إِنَّهُ لَيْسَ فِي الْبَرِّ حَيَوَانٌ إِلَّا وَفِي الْبَحْرِ مِثْلُهُ ، فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ جَمِيعَهُ حَلَالٌ مَأْكُولٌ ، يَسْتَوِي فِيهِ مَا أَشْبَهَ مُبَاحَاتِ الْبَرِّ وَمُحَرَّمَاتِهِ مِنْ كِلَابِهِ وَخَنَازِيرِهِ ، وَقَدْ قَالَ فِي كِتَابِ السَّلَمِ يُؤْكَلُ فَأْرُ الْمَاءِ . وَقَالَ الرَّبِيعُ : سُئِلَ الشَّافِعِيُّ عَنْ خِنْزِيرِ الْمَاءِ فَقَالَ : يُؤْكَلُ ، وَلَمَّا دَخَلَ الْعِرَاقَ سُئِلَ عَنِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي أَكْلِ هَذَا ، وَهَذَا حَرَّمَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَحَلَّهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى ، فَقَالَ : أَنَا عَلَى رَأْيِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ، يَعْنِي فِي إِبَاحَتِهِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَفِي التَّابِعِينَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ . وَفِي الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، حَكَى ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ أَنَّ أَكَّارًا لَهُ صَادَ لَهُ كَلْبَ مَاءٍ ، وَحَمَلَهُ إِلَيْهِ ، فَأَكَلَهُ ، وَكَانَ طَعْمُهُ مُوَافِقًا لِطَعْمِ الْحُوتِ لَا يُغَادِرُ مِنْهُ شَيْئًا . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ جَمِيعَهُ حَرَامٌ لَا يُؤْكَلُ ، وَلَا يَحِلُّ مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ إِلَّا السَّمَكُ خَاصَّةً ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ : إِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ إِلَّا الْحُوتُ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي اسْمِ الْحُوتِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ يَنْطَلِقُ عَلَى جَمِيعِ حَيَوَانِ الْبَحْرِ إِلَّا الضِّفْدِعَ ، وَمَا قَتَلَ أَكْلُهُ مِنْ ذَوَاتِ السُّمُومِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ فِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ : إِنَّ اسْمَ الْحُوتِ خَاصٌّ بِالسَّمَكِ دُونَ غَيْرِهِ ، فَعَلَى هَذَا جَعَلُوهُ قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعِيِّ أَنَّ أَكْلَهُ حَرَامٌ ، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَا أَشْبَهَ مُبَاحَاتِ الْبَرِّ مِنْ دَوَابِّ الْمَاءِ حَلَالٌ ، وَمَا أَشْبَهَ مُحَرَّمَاتِ الْبَرِّ مِنْ كِلَابِ الْمَاءِ وَخَنَازِيرِهِ حَرَامٌ جَمِيعًا بَيْنَ حَيَوَانِ الْبَرِّ وَحَيَوَانِ الْبَحْرِ .

فَصْلٌ : وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَخَذَ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى تَحْرِيمِهِ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ كيفية تملك الصيدوَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ [ الْمَائِدَةِ : 3 ] . وَبِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ الْحُوتُ وَالْجَرَادُ وَاسْمُ الْحُوتِ خَاصٌّ فِي السَّمَكِ ، فَكَانَتِ الْإِبَاحَةُ مَقْصُورَةً عَلَيْهِ : وَلِأَنَّ مَا اخْتَصَّ بِغَيْرِ اسْمِ الْحُوتِ لَمْ يَنْطَلِقْ عَلَيْهِ إِبَاحَةُ الْأَكْلِ كَالْبَرِّيِّ : لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ إِبَاحَتِهِ بِاخْتِلَافِ مَوَاطِنِهِ كَالْخِنْزِيرِ الْجَبَلِيِّ وَالسَّهْلِيِّ . وَالدَّلِيلُ عَلَى إِبَاحَةِ جَمِيعِهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [ الْمَائِدَةِ : 96 ] يَعْنِي بِصَيْدِ الْبَحْرِ صَيْدَ الْمَاءِ مِنْ بَحْرٍ أَوْ نَهْرٍ أَوْ عَيْنٍ أَوْ بِئْرٍ : لِأَنَّ أَصْلَ جَمِيعِ الْمِيَاهِ مِنَ الْبَحْرِ ، وَفِي طَعَامِهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : طَافِيَةٌ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَالثَّانِي : مَمْلُوحَةٌ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي قَوْلِهِ " مَتَاعًا " تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : طَعَامٌ . وَالثَّانِي : مَنْفَعَةٌ ، وَفِي قَوْلِهِ : " وَلِلسَّيَّارَةِ " ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : الْحَلَالُ وَالْمُحْرِمُ . وَالثَّانِي : الْمُقِيمُ وَالْمُسَافِرُ . وَالثَّالِثُ : لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ وَأَهْلِ الْقُرَى . وَالدَّلِيلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ يَعْنِي صَيْدَ الْبَحْرِ ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي جَمِيعِ حَيَوَانِهِ .

وَالثَّانِي : قَوْلُهُ : وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ يَعْنِي مَطْعُومَهُ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَهُ مَطْعُومٌ . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْبَحْرِ : هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ فَعَمَّ جَمِيعَ مَيْتَاتِهِ ، وَلَمْ يَخُصَّهَا . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : كُلُّ دَابَّةٍ تَمُوتُ فِي الْبَحْرِ فَقَدْ ذَكَّاهَا اللَّهُ لَكُمْ ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَلَيْسَ فِيهِ مُخَالِفٌ لَهُ ، فَكَانَ إِجْمَاعًا : وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَعِشْ مِنَ الْحَيَوَانِ إِلَّا فِي الْمَاءِ حَلَّ أَكْلُهُ مَيْتًا كَالْحُوتِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ [ الْأَنْعَامِ : 145 ] فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْخِنْزِيرِ لَا يَنْطَلِقُ لُغَةً وَعُرْفًا إِلَّا عَلَى خِنْزِيرِ الْبَرِّ ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُهُ ، قِيلَ : خِنْزِيرُ الْمَاءِ ؛ مُقَيَّدًا بِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ حُكْمُهُ عَلَى إِطْلَاقِهِ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ اسْمَهُ لَوِ انْطَلَقَ عَلَيْهَا لَخَصَّ تَحْرِيمَهَا بِقَوْلِهِ : لِكُلِّ مَيْتَةٍ . وَأَمَّا الصَّوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : " الْمَيْتَتَانِ الْحُوتُ وَالْجَرَادُ " ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اسْمَ الْحُوتِ يَنْطَلِقُ عَلَى جَمِيعِهَا ، فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى إِبَاحَتِهَا دُونَ حَظْرِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ : " الْحِلُّ مَيْتَتُهُ " أَعَمُّ مِنْهُ فَصَارَ الْحُوتُ دَاخِلًا فِي عُمُومِهِ ، وَلَمْ يَخُصَّهُ : لِأَنَّهُ لَا يُنَافِيهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْبَرِّيِّ ، فَهُوَ أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ حَيَوَانِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِالْقِيَاسِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ إِبَاحَةَ الْحَيَوَانِ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَوَاطِنِهِ ، فَهُوَ مَدْفُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ مَعَ الْإِجْمَاعِ فِي الِاسْمِ وَالصُّورَةِ تَأْثِيرٌ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ : لِأَنَّ الْحِمَارَ الْوَحْشِيَّ وَالْحِمَارَ الْأَهْلِيَّ يَجْتَمِعَانِ فِي الِاسْمِ ، وَيَشْتَبِهَانِ فِي الصُّورَةِ ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي الْإِبَاحَةِ ، فَيَحِلُّ الْوَحْشِيُّ ، وَيَحْرُمُ الْأَهْلِيُّ : لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَكَانِ ، وَإِنْ كَانَ الْبَرُّ يَجْمَعُهُمَا ، فَكَانَ مَا افْتَرَقَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أَوْلَى أَنْ يَفْتَرِقَا فِي الْإِبَاحَةِ وَالْحَظْرِ ، وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي الِاسْمِ وَاشْتَبَهَا فِي الصُّورَةِ ، وَبِهَذَا يَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَى اعْتِبَارِ حَيَوَانِ الْبَحْرِ بِحَيَوَانِ الْبَرِّ فَأَحَلَّ مِنْهُ مَا أَشْبَهَ مُحَلَّلَاتِ الْبَرِّ وَحَرَّمَ مِنْهُ مَا أَشْبَهَ مُحَرَّمَاتِ الْبَرِّ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنَ الْحَيَوَانِ ، وَهُوَ مَا يَجْمَعُ فِي عَيْشِهِ بَيْنَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ من الحيوانات فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ :

أَحَدُهَا : مَا يَكُونُ مُسْتَقَرُّهُ فِي الْبَرِّ ، وَمَرْعَاهُ مِنَ الْبَحْرِ مِثْلَ : طَيْرِ الْمَاءِ فَهَذَا مِنْ حَيَوَانِ الْبَرِّ وَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُهُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا يَكُونُ مُسْتَقَرُّهُ فِي الْبَحْرِ وَمَرْعَاهُ فِي الْبَرِّ كَالسُّلَحْفَاةِ فَهَذَا مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ ، وَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُهُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا يَسْتَقِرُّ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَيَرْعَى فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، فَيُرَاعَى أَغْلَبُ حَالَيْهِ . فَإِنْ كَانَ أَغْلَبُهُمَا الْبَرَّ فِي مُسْتَقَرِّهِ وَمَرْعَاهُ أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ ، وَإِنْ كَانَ أَغْلَبُهَا الْبَحْرَ فِي مُسْتَقَرِّهِ وَمَرْعَاهُ أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ حَيَوَانِ الْبَحْرِ ، وَإِنِ اسْتَوَى فِيهِ الْأَمْرَانِ ، وَلَمْ يُغَلَّبْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ حَيَوَانِ الْبَرِّ تَغْلِيبًا لِلْحَظْرِ : لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْبَحْرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ حَيَوَانِ الْبَحْرِ تَغْلِيبًا لِلْإِبَاحَةِ : لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْبَرِّ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " وَلَوْ كَانَ شَيْئًا تَطُولُ حَيَاتُهُ فَذَبَحَهُ لِاسْتِعْجَالِ مَوْتِهِ مَا كَرِهْتُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا السَّمَكُ ذكاة ، فَلَا يَلْزَمُ ذَبْحُهُ ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ طَالَتْ حَيَاتُهُ بَعْدَ صَيْدِهِ جَازَ أَنْ يَنْتَظِرَ بِهِ مَوْتَهُ ، وَلَا يُكْرَهُ انْتِظَارُهُ ، وَجَازَ أَنْ يُعَجَّلَ ذَبْحُهُ ، وَلَا يُكْرَهُ ذَبْحُهُ ، وَفِي الِاسْتِحْبَابِ مِنْهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ تَرْكَهُ لِيَمُوتَ حَتْفَ أَنْفِهِ أَوْلَى : لِأَنَّ مَوْتَهُ ذَكَاةٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ ذَبْحَهُ أَوْلَى لِيَسْتَعْجِلَ الرَّاحَةَ مِنْ أَبْطَأِ الْمَوْتِ . وَأَمَّا غَيْرُ السَّمَكِ مِنْ دَوَابِّ الْبَحْرِ ذكاة إِذَا قِيلَ بِإِبَاحَتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُدْرَكْ ذَبْحُهُ حَيًّا بَعْدَ صَيْدِهِ حَتَّى مَاتَ حَلَّ أَكْلُهُ : لِأَنَّ صَيْدَ الْبَرِّ إِذَا لَمْ يُقْدَرْ عَلَى ذَكَاتِهِ بَعْدَ صَيْدِهِ حَلَّ أَكْلُهُ ، فَكَانَ صَيْدُ الْبَحْرِ أَوْلَى ، وَإِنْ أَدْرَكَ ذَكَاتَهُ بَعْدَ صَيْدِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ ذَبْحِهِ وَكَوْنِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ شَرْطًا فِي إِبَاحَتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ مِنْهُمْ أَنَّ ذَبْحَهُ لَا يَجِبُ ، وَأَنَّ مَوْتَهُ ذَكَاةٌ كَالسَّمَكِ ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ السَّمَكِ وَغَيْرِهِ فِي الْإِبَاحَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ مَنِ اعْتَبَرَ حَيَوَانَ الْبَحْرِ بِحَيَوَانِ الْبَرِّ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الذَّكَاةِ ، وَحَرَّمَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا إِذَا مَاتَ ، وَهَذَا الْجَمْعُ فَاسِدٌ فِي الْأَمْرَيْنِ .

فَأَمَّا دَمُهُ فَمَنْ جَعَلَ ذَكَاتَهُ شَرْطًا جَعَلَ دَمَهُ نَجِسًا ، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ ذَكَاتَهُ شَرْطًا وَجَعَلَهُ كَالْحُوتِ فِي اسْتِبَاحَتِهِ بِمَوْتِهِ ، فَفِي دَمِهِ وَدَمِ جَمِيعِ السَّمَكِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : نَجِسٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [ الْمَائِدَةِ : 3 ] . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ دَمَهُ طَاهِرٌ : لِأَنَّ دَمَ الْحَيِّ كَلَحْمِ الْمَيْتِ ، فَلَمَّا خَالَفَ حَيَوَانَ الْبَرِّ فِي طَهَارَتِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ خَالَفَ فِي طَهَارَةِ دَمِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " وَسَوَاءٌ مَنْ أَخَذَهُ مِنْ مَجُوسِيٍّ أَوْ وَثَنِيٍّ لَا ذَكَاةَ لَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا كَانَ الْحُوتُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى ذَكَاةٍ ، وَكَانَ مَوْتُهُ فِي إِبَاحَتِهِ كَالذَّكَاةِ ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَصْطَادَهُ مُسْلِمٌ أَوْ مَجُوسِيٌّ أَوْ وَثَنِيٌّ فِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ ، وَهُمْ فِي صَيْدِهِ كَمَوْتِهِ حَتْفَ أَنْفِهِ : وَلِأَنَّ مَا كَانَ مَوْتُهُ ذَكَاتَهُ اسْتَوَى فِيهِ أَهْلُ الذَّكَاةِ وَغَيْرُ أَهْلِ الذَّكَاةِ كَالْجَرَادِ ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ إِذَا مَاتَ أَوْ أُمِيتَ مِنْ يَدِ مَجُوسِيٍّ أَوْ وَثَنِيٍّ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَحِلُّ الْجَرَادُ حَتَّى يُقْطَفَ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ ، الْحَوْتُ وَالْجَرَادُ وَلِأَنَّ قَطْفَ رَأْسِهِ إِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا بَعْدَ مَوْتِهِ لَمْ يُؤَثِّرْ ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا قَبْلَ مَوْتِهِ كَانَ فِيهِ تَعْذِيبٌ لِذِي رُوحٍ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ ، وَلَيْسَتِ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ صَيْدِهَا مَسْنُونَةً ، وَلَا وَرَدَ بِهَا شَرْعٌ ، وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ الْأَحْوَالِ حَسَنًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " وَسَوَاءٌ مَا لَفَظَهُ الْبَحْرُ وَطَفَا مِنْ مَيْتَتِهِ أَوْ أُخِذَ حَيًّا ، أَكَلَ أَبُو أَيُّوبَ سَمَكًا طَافِيًا وَقَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ الْمَيْتَتَانِ الْحُوتُ وَالْجَرَادُ وَالدَّمَانِ أَحْسَبُهُ قَالَ : الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ وَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَهَذَا عُمُومٌ فَمَنْ خَصَّ مِنْهُ شَيْئًا فَالْمَخْصُوصُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَّا بِسُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعِ الَّذِينَ لَا يَجْهَلُونَ مَا أَرَادَ اللَّهُ قَالَ الْمُزَنِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَلَوْ جَازَ أَنْ يُحَرَّمَ الْحُوتُ وَهُوَ ذَكِيٌّ لِأَنَّهُ طَفَا لَجَازَ أَنْ يُحَرَّمَ الْمُذَكَّى مِنَ الْغَنَمِ إِذَا طَفَا وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا مَاتَ السَّمَكُ فِي الْمَاءِ حَلَّ أَكْلُهُ سَوَاءٌ كَانَ بِسَبَبِ شِدَّةِ بَرْدِ الْمَاءِ ، أَوْ شِدَّةِ حَرَارَتِهِ أَوْ نَضَبَ عَنْهُ حَتَّى صَارَ عَلَى الْيُبْسِ أَوْ مَاتَ بِغَيْرِ سَبَبٍ ، وَسَوَاءٌ طَفَا عَلَى الْمَاءِ حَتَّى ظَهَرَ أَوْ رَسَبَ فِي قَرَارٍ فَلَمْ يَظْهَرْ ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ مَاتَ بِسَبَبٍ حَلَّ أَكْلُهُ ، وَإِنْ مَاتَ بِغَيْرِ سَبَبٍ حَرُمَ أَكْلُهُ ، وَقَالَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ : إِنْ طَفَا حَرُمَ ، وَإِنْ رَسَبَ لَمْ يَحْرُمِ احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ أَكْلِ السَّمَكِ الطَّافِي . وَبِرِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : كُلُوا مَا حَسَرَ عَنْهُ الْبَحْرُ وَمَا أَلْقَى ، وَمَا وَجَدْتُمْ مَيْتًا طَافِيًا فَوْقَ الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلُوهُ . قَالُوا : وَهَذَانِ الْخَبَرَانِ نَصٌّ فِي التَّحْرِيمِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ مَوْتَ ذِي الرُّوحِ بِغَيْرِ سَبَبٍ يُوجِبُ تَحْرِيمَ أَكْلِهِ كَالْبَرِّيِّ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [ الْمَائِدَةِ : 96 ] وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَهَا ، وَأَنَّ طَعَامَهُ طَافِيَةٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الْبَحْرِ : هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ وَهَذَا كَالنَّصِّ ، أَضَافَ الْمَيْتَةَ إِلَى الْبَحْرِ لَا إِلَى سَبَبٍ حَادِثٍ ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ ، فَالْمَيْتَتَانِ : الْحُوتُ وَالْجَرَادُ ، وَالدَّمَانِ : الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَاكِبٍ وَأَمِيرُنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ . نُرِيدُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ ، فَأَصَابَنَا جُوعٌ شَدِيدٌ حَتَّى أَكَلْنَا الْخَبَطَ . فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْجَيْشُ جَيْشَ الْخَبَطِ ، ثُمَّ أَلْقَى لَنَا الْبَحْرُ وَنَحْنُ بِالسَّاحِلِ دَابَّةً تُسَمَّى الْعَنْبَرَ ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ ، وَاسْتَدَمْنَا مِنْهُ ، وَادَّهَنَّا بِوَدَكِهِ حَتَّى بَاتَتْ أَجْسَامُنَا ، فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ فَنَصَبَهُ ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى أَطْوَلِ رَجُلٍ فِي الْجَيْشِ ، وَأَعْظَمِ جَمَلٍ ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ الْجَمَلَ ثُمَّ يَمُرَّ تَحْتَهُ ، فَفَعَلَ فَمَرَّ تَحْتَهُ فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِبَاحَةُ أَكْلِ الطَّافِي . وَالثَّانِي : إِبَاحَةُ أَكْلِ دَوَابِّ الْبَحْرِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُوتًا حكم . وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : أَشْهَدُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ : " السَّمَكَةُ الطَّافِيَةُ عَلَى الْمَاءِ حَلَالٌ " وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا ، وَأَكَلَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ سَمَكًا طَافِيًا ، فَإِنْ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ إِنْكَارٌ دَلَّ عَلَى إِبَاحَتِهِ سُنَّةً ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُنْكِرٌ كَانَ إِجْمَاعًا : وَلِأَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ اسْتَغْنَى عَنِ الذَّكَاةِ فِي إِبَاحَتِهِ اسْتَغْنَى فِي مَوْتِهِ كَالْجَرَادِ : وَلِأَنَّ مَا حَلَّ أَكْلُهُ قَبْلَ الظَّفَرِ حَلَّ أَكْلُهُ بَعْدَ الظَّفَرِ كَالْمُذَكَّى . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : انْقِطَاعُ إِسْنَادِهِ وَضَعْفُ حَالِهِ . وَالثَّانِي : حَمْلُهُمَا عَلَى التَّنْزِيهِ إِذَا أَنْتَنَ وَتَغَيَّرَ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْبَرِّيِّ فَمُنْتَقَضٌ بِالْجَرَادِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْبَرِّيِّ افْتِقَارُهُ إِلَى الذَّكَاةِ ، وَفِي الْبَحْرِ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
_____كِتَابُ الضَّحَايَا _____

الْقَوْلُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ

كِتَابُ الضَّحَايَا مِنْ كِتَابِ اخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ وَمِنْ إِمْلَاءٍ عَلَى كِتَابِ أَشْهَبَ وَمِنْ كِتَابِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ ، وَقَالَ أَنَسٌ : وَأَنَا أُضَحِّي أَيْضًا بِكَبْشَيْنِ ، وَقَالَ أَنَسٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ : ضَحَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ ، وَذَبَحَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نَيَّارٍ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْأَضْحَى ، فَزَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ أَنْ يَعُودَ لِضَحِيَّةٍ أُخْرَى ، فَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ : لَا أَجِدُ إِلَّا جَذَعًا ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنْ لَمْ تَجِدْ إِلَّا جَذَعًا فَاذْبَحْهُ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَاحْتَمَلَ أَمْرُهُ بِالْإِعَادَةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ ، وَاحْتَمَلَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إِنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ ، فَلَمَّا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ ، فَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ ، فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، وَبَلَغَنَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَا لَا يُضَحِّيَانِ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُرَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ اشْتَرَى بِدِرْهَمَيْنِ لَحْمًا ، فَقَالَ : هَذِهِ أُضْحِيَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ . الْقَوْلُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ فَصْلٌ : قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْأَصْلُ فِي الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ [ الْحَجِّ : 36 ] الْآيَةَ ، إِلَى قَوْلِهِ : الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ . أَمَّا الْبُدْنُ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا الْإِبِلُ خَاصَّةً ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ ، وَهُوَ قَوْلُ جَابِرٍ وَعَطَاءٍ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهَا النَّعَمُ كُلُّهَا مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَفِي تَسْمِيَتِهَا بُدْنًا تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : لِكِبَرِ أَبْدَانِهَا ، وَهُوَ تَأْوِيلُ مَنْ جَعَلَهَا الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ . وَالثَّانِي : لِأَنَّهَا مُبَدَّنَةٌ بِالسِّمَنِ ، وَهُوَ تَأْوِيلُ مَنْ جَعَلَهَا جَمِيعَ النَّعَمِ ، وَفِي قَوْلِهِ : مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : مِنْ فُرُوضِهِ : وَهُوَ تَأْوِيلُ مَنْ أَوْجَبَ الضَّحَايَا . وَالثَّانِي : مِنْ مَعَالِمِ دِينِهِ .

وَهُوَ تَأْوِيلُ مَنْ سَنَّ الضَّحَايَا ، وَفِي قَوْلِهِ : لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَجْرٌ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ . وَالثَّانِي : مَنْفَعَةٌ إِنِ احْتَاجَ إِلَى ظَهْرِهَا رَكِبَ وَإِنْ حَلَبَ لَبَنَهَا شَرِبَ ، قَالَهُ النَّخَعِيُّ . وَفِي قَوْلِهِ : فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَعْقُولَةٌ قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالثَّانِي : مُصْطَفَّةٌ قَالَهُ ابْنُ عِيسَى ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : " صَوَافِيَ " أَيْ : خَالِصَةٌ لِلَّهِ ، مَأْخُوذٌ مِنَ الصَّفْوَةِ ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ " صَوَافِنَ " أَيْ مَصْفُونَةٌ ، وَهُوَ أَنْ تُعْقَلَ إِحْدَى يَدَيْهَا حَتَّى تَقِفَ عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمَ مَأْخُوذٌ مِنْ صَفَنَ الْفَرَسُ إِذَا أَثْنَى إِحْدَى يَدَيْهِ حَتَّى قَامَ عَلَى ثَلَاثٍ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ . قَالَ الشَّاعِرُ : أَلِفَ الصُّفُونَ فَلَا يَزَالُ كَأَنَّهُ مِمَّا يَقُومُ عَلَى الثَّلَاثِ كَسِيرَا وَفِي قَوْلِهِ : فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَيْ سَقَطَتْ جُنُوبُهَا إِلَى الْأَرْضِ . وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ : وَجَبَتِ الشَّمْسُ إِذَا سَقَطَتْ لِلْغُرُوبِ . وَالثَّانِي : طَفَتْ جُنُوبُهَا بِخُرُوجِ الرُّوحِ ، وَمِنْهُ وُجُوبُ الْمَيْتِ إِذَا خَرَجَتْ نَفْسُهُ ، وَفِي قَوْلِهِ : فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْأَكْلَ وَالْإِطْعَامَ من الأضحية وَاجِبَانِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمَا مُسْتَحَبَّانِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْأَكْلَ مُسْتَحَبٌّ وَالْإِطْعَامَ وَاجِبٌ ، وَفِي قَوْلِهِ : الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ تفسير قوله تعالى ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْقَانِعَ : السَّائِلُ ، وَالْمُعْتَرَّ : الَّذِي يَتَعَرَّضُ وَلَا يَسْأَلُ . قَالَهُ الْحَسَنُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْقَانِعَ : الَّذِي يَقْتَنِعُ وَلَا يَسْأَلُ ، وَالْمُعْتَرُّ : الَّذِي يَعْتَرِي فَيَسْأَلُ . قَالَهُ قَتَادَةُ ، وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ : لَهُ نِحْلَةُ الْأَوْفَى إِذَا جَاءَ عَانِيًا وَإِنْ جَاءَ يَعْرُو لَحْمَنَا لَمْ يُؤَنَّبِ وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْقَانِعَ الطَّوَّافُ وَالْمُعْتَرَّ : الصَّدِيقُ الزَّائِرُ . قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ ، وَقَالَ تَعَالَى : لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [ الْحَجِّ : 37 ] . وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ :

أَحَدُهُمَا : لَنْ يَتَقَبَّلَ اللَّهُ الدِّمَاءَ ، إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ التَّقْوَى . وَالثَّانِي : لَنْ يَصْعَدَ إِلَى اللَّهِ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا ، وَإِنَّمَا يَصْعَدُ إِلَيْهِ التَّقْوَى وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا نَحَرُوا بُدْنَهُمُ اسْتَقْبَلُوا الْكَعْبَةَ بِهَا وَنَضَحُوا الدِّمَاءَ عَلَيْهَا ، فَأَرَادُوا أَنْ يَفْعَلُوا فِي الْإِسْلَامِ مِثْلَ ذَلِكَ ، فَنُهُوا عَنْهُ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : ذَلَّلَهَا حَتَّى أَقْدَرَكُمْ عَلَيْهَا . وَالثَّانِي : سَهَّلَهَا لَكُمْ حَتَّى تَقَرَّبْتُمْ بِهَا . لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ تأويل قوله تعالى فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ ذَبْحِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ التَّكْبِيرُ عِنْدَ الْإِحْلَالِ بَدَلًا مِنَ التَّلْبِيَةِ فِي الْإِحْرَامِ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : بِالْقَبُولِ . وَالثَّانِي : بِالْجَنَّةِ ، وَقَالَ تَعَالَى : وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [ الْحَجِّ : 28 ] . أَمَّا قَوْلُهُ : وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ تأويل قوله تعالى فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَمْرُ اللَّهِ بِذَبْحِهَا فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ . وَالثَّانِي : التَّسْمِيَةُ بِذِكْرِ اللَّهِ عِنْدَ ذَبْحِهَا فِي الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ ، وَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَيَّامُ الْعَشْرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ وَقَوْلُهُ : عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ أَيْ عَلَى نَحْرِ مَا رَزَقَهُمْ ، وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا مَلَّكَهُمْ . وَالثَّانِي : مَا مَكَّنَهُمْ ، وَبَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ هِيَ الْأَزْوَاجُ الثَّمَانِيَةُ وَالضَّحَايَا وَالْهَدَايَا ، وَفِي الْبَائِسِ الْفَقِيرِ : تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الْفَقِيرُ الزَّمِنُ . وَالثَّانِي : الَّذِي بِهِ ضُرُّ الْجُوعِ وَأَثَرُ الْبُؤْسِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ الَّذِي يَمُدُّ يَدَهُ بِالسُّؤَالِ وَيَتَكَفَّفُ بِالطَّلَبِ . وَقَالَ تَعَالَى : إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [ الْكَوْثَرِ : 1 ، 2 ] . وَفِي الْكَوْثَرِ سِتَّةُ تَأْوِيلَاتٍ :

أَحَدُهَا : أَنَّهُ النُّبُوَّةُ ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ الْقُرْآنُ ، قَالَهُ الْحَسَنُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ الْإِسْلَامُ ، قَالَهُ الْمُغِيرَةُ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالْخَامِسُ : أَنَّهُ كَثْرَةُ أُمَّتِهِ ، قَالَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ . وَالسَّادِسُ : أَنَّهُ حَوْضٌ فِي الْجَنَّةِ يَكْثُرُ عَلَيْهِ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، قَالَهُ عَطَاءٌ وَهُوَ فَاعِلٌ مِنَ الْكَوْثَرِ . وَفِي قَوْلِهِ : فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ تأويل قوله تعالى ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ صَلَاةُ الْعِيدِ وَنَحْرُ الضَّحَايَا ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا صَلَاةُ الْفَرْضِ وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِيهَا بِنَحْرٍ ، قَالَهُ أَبُو الْأَحْوَصِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الصَّلَاةَ : الدُّعَاءُ ، وَالنَّحْرَ : الشُّكْرُ ، قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُهَا . فَهَذِهِ أَرْبَعُ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى تَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِالضَّحَايَا وَالْهَدَايَا . وَأَمَّا السُّنَّةُ ، فَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ . وَفِي الْأَمْلَحَيْنِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ الْأَبْيَضُ الشَّدِيدُ الْبَيَاضِ ، وَهَذَا قَوْلُ ثَعْلَبٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ الَّذِي يَنْظُرُ فِي سَوَادٍ وَيَأْكُلُ فِي سَوَادٍ ، وَيَمْشِي فِي سَوَادٍ وَبَاقِيهِ بَيَاضٌ ، وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ الَّذِي بَيَاضُهُ أَكْثَرُ مِنْ سَوَادِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ ، وَفِي قَصْدِ أُضْحِيَّتِهِ بِالْأَمْلَحِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا لِحُسْنِ مَنْظَرِهِ . وَالثَّانِي : لِشَحْمِهِ وَطِيبِ لَحْمِهِ ، لِأَنَّهُ نَوْعٌ مُتَمَيِّزٌ عَنْ جِنْسِهِ . وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الزُّرَقِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحَّى بَكَبْشٍ أَدْغَمَ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : وَالْأَدْغَمُ مِنَ الْكِبَاشِ مَا أَرْنَبَتُهُ وَمَا تَحْتَ حَنَكِهِ سَوَادٌ وَبَاقِيهِ بَيَاضٌ . وَرَوَى أَبُو رَمْلَةَ عَنْ مِخْنَفِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : عَلَى كُلِّ

مُسْلِمٍ فِي كُلِّ عَامٍ أَضْحَاةٌ وَعَتِيرَةٌ ، وَالْعَتِيرَةُ ذَبِيحَةٌ كَانَتْ تُذْبَحُ فِي رَجَبٍ ، كَمَا تُذْبَحُ الْأُضْحِيَّةُ فِي ذِي الْحِجَّةِ ، فَنُسِخَتِ الْعَتِيرَةُ وَبَقِيَتِ الْأُضْحِيَّةُ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا فَرَعَةَ وَلَا عَتِيرَةَ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَالْفَرَعَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَوَّلُ مَا تُنْتَجُ النَّاقَةُ ، يَقُولُونَ : لَا يَمْلِكُهَا وَيَذْبَحُهَا رَجَاءَ الْبَرَكَةِ فِي لَبَنِهَا وَكَثْرَةِ نَسْلِهَا . الْقَوْلُ فِي حُكْمِ الْأُضْحِيَّةِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الضَّحَايَا مَأْمُورٌ بِهَا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ ، وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ عَلَى مُقِيمٍ وَلَا مُسَافِرٍ ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ . وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ : أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ ، وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُقِيمِ دُونَ الْمُسَافِرِ احْتِجَاجًا فِي الْوُجُوبِ ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [ الْكَوْثَرِ : 2 ] . وَهَذَا أَمْرٌ ، وَبِحَدِيثِ أَبِي رَمْلَةَ عَنْ مِخْنَفِ بْنِ سُلَيْمٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ عَامٍ أَضْحَاةٌ وَعَتِيرَةٌ وَبِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ لَمْ يُضَحِّ فَلَا يَشْهَدْ مُصَلَّانَا وَهَذَا وَعِيدٌ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ ، وَبِرِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ أَبَا بُرْدَةَ بْنَ نِيَارٍ ذَبَحَ أُضْحِيَّةً قَبْلَ الصَّلَاةِ ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعِيدَ ، فَدَلَّ الْأَمْرُ بِالْإِعَادَةِ عَلَى الْوُجُوبِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ حُقُوقَ الْأَمْوَالِ إِذَا اخْتُصَّتْ بِالْعِيدِ وَجَبَتْ كَالْفِطْرَةِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ مَا وَجَبَ بِالنَّذْرِ كَانَ لَهُ أَصْلُ وُجُوبٍ فِي الشَّرْعِ كَالْعِتْقِ ، وَلِأَنَّ تَوْقِيتَ زَمَانِهَا وَالنَّهْيَ عَنْ مَعِيبِهَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهَا ، كَالزَّكَوَاتِ ، وَدَلِيلُنَا : مَا رَوَاهُ مِنْدَلٌ عَنِ ابْنِ خَبَّابٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : الْأَضَاحِيُّ عَلَيَّ فَرِيضَةٌ وَعَلَيْكُمْ سُنَّةٌ وَهَذَا نَصٌّ .

وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : ثَلَاثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ : الْوِتْرُ وَالنَّحْرُ وَالسِّوَاكُ . وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا بَشَرِهِ شَيْئًا فَعَلَّقَ الْأُضْحِيَّةَ بِالْإِرَادَةِ ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَحَتَّمَهَا ، فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ : مَنْ أَرَادَ مِنْكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ فَلَمْ يَدُلَّ تَعْلِيقُ الْجُمُعَةِ عَلَى الْإِرَادَةِ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، كَذَلِكَ الْأُضْحِيَّةُ ، قُلْنَا : إِنَّمَا عَلَّقَ بِالْإِرَادَةِ الْغُسْلَ دُونَ الْجُمُعَةِ ، وَالْغُسْلُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَكَذَلِكَ الْأُضْحِيَّةُ . وَرُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْإِجْمَاعُ عَلَى سُقُوطِ الْوُجُوبِ ، فَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَنَّهُمَا كَانَا لَا يُضَحِّيَانِ مَخَافَةَ أَنْ يُرَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ ، أَنَّهُ قَالَ : لَا أُضَحِّي وَأَنَا مُوسِرٌ لِئَلَّا يُقَدِّرَ جِيرَانِي أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيَّ . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ أَعْطَى عِكْرِمَةَ دِرْهَمَيْنِ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا لَحْمًا ، وَقَالَ : مَنْ سَأَلَكَ عَنْ هَذَا فَقُلْ : هَذِهِ أُضْحِيَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ . فَإِنْ قِيلَ : فَلَعَلَّ ذَلِكَ لِعُدْمٍ ، قِيلَ : قَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : عِنْدِي نَفَقَةُ ثَمَانِينَ سَنَةً ، كُلَّ يَوْمٍ أَلْفٌ . وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّهُ إِرَاقَةُ دَمٍ ، لَا تَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ الأضحية ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الْحَاضِرِ كَالْعَقِيقَةِ ، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْعَقِيقَةُ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ كَالْمُسَافِرِ ، وَلِأَنَّهَا أُضْحِيَّةٌ لَا تَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ فَلَمْ تَجِبْ عَلَى الْحَاضِرِ ، كَالْوَاجِدِ لِأَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ ، وَلِأَنَّ مَا سَقَطَ وُجُوبُهُ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ مَعَ إِمْكَانِ الْقَضَاءِ سَقَطَ وُجُوبُهُ فِي وَقْتِهِ مَعَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ ، كَسَائِرِ السُّنَنِ طَرْدًا ، وَجَمِيعِ الْفُرُوضِ عَكْسًا ، وَلِأَنَّ كُلَّ ذَبِيحَةٍ حَلَّ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا ذَبْحُهَا كَالتَّطَوُّعِ طَرْدًا ، وَدَمِ الْمَنَاسِكِ عَكْسًا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ ، فَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ ، مِنِ اخْتِلَافِ التَّأْوِيلِ فِيهَا ، ثُمَّ لَا يُمْنَعُ حَمْلُهَا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ ، لِمَا ذَكَرْنَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ عَامٍ أَضْحَاةٌ وَعَتِيرَةٌ فَمِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ رِوَايَةَ أَبِي رَمْلَةَ عَنْ مِخْنَفِ بْنِ سُلَيْمٍ ، وَهُمَا مَجْهُولَانِ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ . وَالثَّانِي : أَنَّ جَمْعَهُ بَيْنَ الْأُضْحِيَّةِ وَالْعَتِيرَةِ دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْحُكْمِ . وَالْعَتِيرَةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، فَكَذَلِكَ الْأُضْحِيَّةُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ لَمْ يُضَحِّ ، فَلَا يَشْهَدْ مُصَلَّانَا فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ جَمَعَ فِي التَّرْكِ بَيْنَ الْأُضْحِيَّةِ ، وَالتَّأَخُّرِ عَنِ الصَّلَاةِ ، وَالصَّلَاةُ سُنَّةٌ ، فَكَذَلِكَ الْأُضْحِيَّةُ ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ : أَنَّ مَنْ تَرَكَ مَا أَمَرْنَاهُ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ ، فَلْيَتْرُكْ مَا أَمَرْنَاهُ مِنَ الصَّلَاةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ هَذَا زَجْرٌ يَتَوَجَّهُ إِلَى الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْوُجُوبِ ، كَمَا قَالَ : مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ شَيْئًا ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا الثوم . فَأَمَّا الْوَاجِبَاتُ ، فَالْأَمْرُ بِهَا ، وَإِلْزَامُ فِعْلِهَا ، أَبْلَغُ فِي الْوُجُوبِ مِنْ هَذَا الزَّجْرِ . وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي بُرْدَةَ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا عَلَى الْإِعَادَةِ اسْتِحْبَابًا ، وَإِمَّا عَلَى الْوُجُوبِ ، لِأَنَّهَا كَانَتْ نَذْرًا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى زَكَاةِ الْفِطْرِ ، فَهُوَ أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ لَمَّا اسْتَوَى فِيهَا الْحَاضِرُ وَالْمُسَافِرُ ، وَلَزِمَ قَضَاؤُهَا مَعَ الْفَوَاتِ ، وَخَلَفَ مِنْهَا لِأُضْحِيَّةٍ ، جَازَ أَنْ تَجِبَ زَكَاةُ الْفِطْرِ ، وَلَمْ تَجِبِ الْأُضْحِيَّةُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ بِأَنَّ مَا وَجَبَ بِالنَّذْرِ كَانَ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ ، فَهُوَ أَنَّ لَهُ فِي الشَّرْعِ أَصْلًا فِي دِمَاءِ الْحَجِّ ، فَلَمْ يَحْتَجْ أَنْ تَكُونَ الْأُضْحِيَّةُ لَهُ أَصْلًا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِوَقْتِهَا ، وَالِامْتِنَاعِ مِنَ الْعُيُوبِ فِيهَا ، فَهُوَ أَنَّ هَذَيْنِ مُعْتَبَرَانِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ ، وَإِنْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ ، فَكَذَلِكَ اعْتِبَارُهَا فِي حَقِّ الْحَاضِرِ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَهَا عَلَيْهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . الْقَوْلُ فِي أَخْذِ الْمُضَحِّي مِنْ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأَمَرَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ أَنْ لَا يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ شَيْئًا اتِّبَاعًا وَاخْتِيَارًا بِدَلَالَةِ السُّنَّةِ ، وَرَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّهَا كَانَتْ تَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، ثُمَّ يُقَلِّدُهَا هُوَ بِيَدِهِ ، ثَمَّ يَبْعَثُ بِهَا ، فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ . قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَالْأُضْحِيَّةُ سُنَّةُ تَطَوُّعٍ لَا نُحِبُّ تَرْكَهَا وَإِذْ كَانَتْ غَيْرَ فَرْضٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصْلُ هَذَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذَا

دَخَلَ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا بَشَرِهِ شَيْئًا . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحَكَمِ الْبَصْرِيُّ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ، عَنْ شُعْبَةَ ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ رَأَى هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ وَأَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ ، فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ قَالَ : هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْعَمَلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : - وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْإِيجَابِ ، وَأَنَّ مِنَ السُّنَّةِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ أَنْ يَمْتَنِعَ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ أَخْذِ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ ، فَإِنْ أَخَذَ كُرِهَ لَهُ وَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ . وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : هُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ ابْنِ رَاهْوَيْهِ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ ، وَأَخْذُهُ لِشَعْرِهِ وَبَشَرِهِ حَرَامٌ عَلَيْهِ : لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَتَشْبِيهًا بِالْمُحْرِمِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ - لَيْسَ بِسُنَّةٍ وَلَا يُكْرَهُ أَخْذُ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ احْتِجَاجًا بِأَنَّهُ مُحِلٌّ ، فَلَمْ يُكْرَهْ لَهُ أَخْذُ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ كَغَيْرِ الْمُضَحِّي ، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ الطِّيبُ وَاللِّبَاسُ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ حَلْقُ الشَّعْرِ كَالْمُحِلِّ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ : إِنَّهُ مَسْنُونٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ، مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ ، عَنْ عَمْرَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : " أَنَا فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدَيَّ ، ثُمَّ قَلَّدَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِي فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى رَسُوَلِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ فَكَانَ هَدْيُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضَحَايَاهُ ، لِأَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ ، وَأَنْفَذَهَا مِعْ أَبِي بَكْرٍ سَنَةَ تِسْعٍ ، وَحُكْمُهَا أَغْلَظُ لِسَوْقِهَا إِلَى الْحَرَمِ ، فَلَمَّا لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا كَانَ غَيْرُهُ أَوْلَى إِذَا ضَحَّى فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْقِيَاسَيْنِ ، وَاسْتِدْلَالُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْنَا وَهُمَا فِي اسْتِدْلَالِ أَبِي حَنِيفَةَ بِهِمَا مَرْفُوعَانِ بِالنَّصِّ ، وَوَجَبَ اسْتِعْمَالُ الْخَبَرَيْنِ ، فَنَحْمِلُ الْأَمْرَ بِهِ عَلَى السُّنَّةِ وَالِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْإِيجَابِ ، بِدَلِيلِ الْخَبَرِ الْآخَرِ ، فَلَا يَكُونُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُطَّرَحًا .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ سُنَّةٌ فَفِي قَوْلِهِ : فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا بَشَرِهِ شَيْئًا المضحي تَأْوِيلَانِ ذَكَرَهُمَا الشَّافِعِيُّ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَرَادَ بِالشَّعْرِ شَعْرَ الرَّأْسِ ، وَبِالْبَشَرَةِ شَعْرَ الْبَدَنِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يُكْرَهُ تَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ للمضحي . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ بِالشَّعْرِ شَعْرَ الرَّأْسِ وَالْبَدَنِ ، وَبِالْبَشَرَةِ تَقْلِيمَ الْأَظْفَارِ ،

وَتَكُونُ السُّنَّةُ فِي تَرْكِهِ لِأَخْذِ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ سَوَاءً ، وَأَخْذُهُ لَهُمَا مَعًا مَكْرُوهًا ، وَلَا يُكْرَهُ لَهُ الطِّيبُ وَاللِّبَاسُ ، اقْتِصَارًا عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَوَّلِ زَمَانِ الْكَرَاهَةِ لِأَخْذِ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ بَعْدَ اسْتِهْلَالِ ذِي الْحِجَّةِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِذَا عَزَمَ عَلَى أَنْ يُضَحِّيَ وَلَمْ يُعَيِّنْهَا كُرِهَ لَهُ أَنْ يَمَسَّ مِنْ شِعْرِهِ وَبَشَرِهِ حَتَّى يُضَحِّيَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لَهُ حَتَّى يَشْتَرِيَهَا أَوْ يُعَيِّنَهَا مِنْ جُمْلَةِ مَوَاشِيهِ ، فَيُكْرَهُ لَهُ بِالشِّرَاءِ وَالتَّعْيِينِ أَخْذُ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ وَلَا يُكْرَهُ بِالْعَزْمِ وَالنِّيَّةِ قَبْلَ التَّعْيِينِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ إِذَا ضَحَّى الرَّجُلُ فِي بَيْتِهِ فَقَدْ وَقَعَ ثَمَّ اسْمُ أُضْحِيَّةٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِذَا ضَحَّى الرَّجُلُ فِي بَيْتِهِ فَقَدْ وَقَعَ ثَمَّ اسْمُ أُضْحِيَّةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَيُقَالُ ضَحِيَّةٌ وَأُضْحِيَّةٌ وَأُضْحَاةٌ وَالضَّحَايَا ، جَمْعُ ضَحِيَّةٍ ، وَالْأَضَاحِيُّ : جَمْعُ أُضْحِيَّةٍ ، وَالْأَضْحَى جَمْعُ أَضْحَاةٍ ، وَقَصَدَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا بَيَانَ مَا بَيْنَ الْأَضَاحِيِّ وَالْهَدَايَا مِنْ جَمْعٍ وَفَرْقٍ فَيَجْتَمِعَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ ، وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ . فَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا : فَهُوَ أَنَّهُمَا مَعًا مَسْنُونَتَانِ غَيْرُ وَاجِبَتَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا وَيَتَصَدَّقَ وَيُطْعِمَ الْأَغْنِيَاءَ وَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي الْفَرْقِ : فَهُوَ أَنَّ مَحَلَّ الْهَدَايَا فِي الْحَرَمِ ، وَمَوْضِعَ الضَّحَايَا فِي مَوْضِعِ الْمُضَحِّي . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ إِخْرَاجِ لُحُومِ الْهَدَايَا مِنَ الْحَرَمِ ، وَإِنْ جَازَ لَهُ ادِّخَارُهُ فِيهِ ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ إِخْرَاجِ لُحُومِ الضَّحَايَا عَنْ بَلَدِ الْمُضَحِّي . فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا جَازَ لِلْمُضَحِّي أَنْ يُضَحِّيَ فِي بَيْتِهِ تُكْتَبُ فِي الْوَسَطِ غَيْرَ بَيْتِهِ سِرًّا وَجَهْرًا ، وَإِذَا ضَحَّى بِشَاةٍ أَقَامَ بِهَا السُّنَّةَ ، وَإِنْ كَثُرَ أَهْلُهُ وَلَا يُؤْمَرُ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، وَإِنْ وَجَبَتْ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، لِأَنَّهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي أَكْلِ الْأُضْحِيَّةِ فَعَمَّتْ ، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الزَّكَاةِ حَقٌّ فَخَصَّتْ . مَا يُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَّةِ مِنَ السِّنِّ وَخِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " قَالَ وَيَجُوزُ فِي الضَّحَايَا الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ وَالثَّنِيُّ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْمَعْزِ لَا يَجُوزُ دُونَ هَذَا مِنَ السِّنِّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الضَّحَايَا فَلَا تَجُوزُ إِلَّا مِنَ النَّعَمِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ [ الْمَائِدَةِ : 1 ] . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا اخْتَصَّتْ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ اخْتَصَّتِ الْأُضْحِيَّةُ ، لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ ، وَالنَّعَمُ هِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : هُمُ الْأَزْوَاجُ الثَّمَانِيَةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :

ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ [ الْأَنْعَامِ : 43 ] . يَعْنِي ذَكَرًا وَأُنْثَى فَاخْتَصَّ هَذِهِ الْأَزْوَاجَ الثَّمَانِيَةَ مِنَ النَّعَمِ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهَا . وَالثَّانِي : اخْتِصَاصُ الْأَضَاحِيِّ بِهَا . وَالثَّالِثُ : إِبَاحَتُهَا فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ وَفِي تَسْمِيَتِهَا نَعَمًا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لِنُعُومَةِ وَطْئِهَا إِذَا مَشَتْ حَتَّى لَا يُسْمَعَ لِأَقْدَامِهَا وَقْعٌ . وَالثَّانِي : لِعُمُومِ النِّعْمَةِ فِيهَا فِي كَثْرَةِ الِانْتِفَاعِ بِأَلْبَانِهَا وَنِتَاجِهَا . فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الضَّحَايَا بِالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ دُونَ مَا عَدَاهَا مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانِ فَأَسْنَانُ مَا يَجُوزُ فِي الضَّحَايَا مِنْهَا مُعْتَبَرَةٌ وَلَا يُجْزِئُ دُونَهَا ، وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ مَا دُونَ الْجِذَاعِ مِنْ جَمِيعِهَا وَلَا يَلْزَمُ مَا فَوْقَ الثَّنَايَا مِنْ جَمِيعِهَا ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْجِذَاعِ وَالثَّنَايَا عَلَى ثَلَاثَةٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَالزُّهْرِيِّ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ مِنْهَا إِلَّا الثَّنَايَا مِنْ جَمِيعِهَا وَلَا يُجْزِئُ الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ في الأضحية كَمَا لَا يُجْزِئُ الْجَذَعُ مِنَ الْمَعْزِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : - وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ - أَنَّهُ يُجْزِئُ الْجَذَعُ مِنْ جَمِيعِهَا حَتَّى مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْمَعْزِ كَمَا يُجْزِئُ الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالْجُمْهُورِ مِنَ الْفُقَهَاءِ - أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْمَعْزِ إِلَّا الَّتِي دُونَ الْجَذَعِ ، وَيُجْزِئُ مِنَ الضَّأْنِ وَحْدَهُ الْجَذَعُ . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً إِلَّا أَنْ تَعْسُرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ . فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمُسِنِّ مِنْ غَيْرِ الضَّأْنِ وَالْجَذَعِ مِنَ الضَّأْنِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي الِاعْتِبَارِ ، لِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ قَالَ : قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَصْحَابِهِ ضَحَايَا فَأَعْطَانِي عَنْزًا ذَا جَذَعٍ فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ : إِنَّهُ جَذَعٌ فَقَالَ : ضَحِّ بِهِ فَضَحَّيْتُ بِهِ . وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْجَذَعِ مِنَ الضَّأْنِ ، فَقَالَ : ضَحِّ بِهِ . وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ : جَلَبْتُ غَنَمًا جِذَاعًا إِلَى الْمَدِينَةِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110