كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِعُمُومِ الْآيَتَيْنِ فَقَدْ خَصَّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ [ النِّسَاءِ : 23 ] وَأَمَّا قَوْلُهُ بِأَنَّ تَحْرِيمَ الْعَدَدِ لَمَّا حُرِّمَ بِالنِّكَاحِ كَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ . فَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّ تَحْرِيمَ الْعَدَدِ إِنَّمَا ثَبَتَ فِي الزَّوْجَاتِ خَوْفًا مِنَ الْجَوْرِ فِيمَا يَجِبُ لَهُمْ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَالْقَسْمِ ، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي الْإِمَاءِ : لِأَنَّ نَفَقَاتِهِنَّ وَكِسْوَتَهُنَّ فِي أَكْسَابِهِنَّ ، وَلَا قَسْمَ لَهُنَّ فَأُمِنَ الْجَوْرُ فَافْتَرَقَا فِي تَحْرِيمِ الْعَدَدِ ، وَهُمَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي أَوْجَبَ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ سَوَاءٌ : لِأَنَّ خَوْفَ التَّقَاطُعِ وَالتَّبَاغُضِ وَالتَّحَاسُدِ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْإِمَاءِ كَوُجُودِهِ فِي الزَّوْجَاتِ ، فَاسْتَوَيَا فِي تَحْرِيمِ الْجَمْعِ : لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مَعْنَاهُ ، وَإِنِ افْتَرَقَا فِي تَحْرِيمِ الْعَدَدِ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي مَعْنَاهُ . وَأَمَّا قَوْلُ دَاوُدَ : إِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي الْوَطْءِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِأَنْ يُضَاجِعَهُمَا مَعًا وَيَلْمِسَهُمَا ، وَهَذَا مُحَرَّمٌ فِي الْأُخْتَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْجَمْعِ عَلَى فِعْلِ الشَّيْءِ بَعْدَ الشَّيْءِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ، كَذَلِكَ بَيْنَ الْوَطْأَيْنِ ، فَيَكُونُ الْجَمْعُ جَمْعَيْنِ ؛ جَمْعَ مُتَابِعَةٍ وَجَمْعَ مُقَارَنَةٍ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ جَعَلَتْهُ مِنْ مَعْنَى الْجَمْعِ مَا نَهَتْ عَنْهُ ، وَلَمْ تَجْعَلْهُ مُسْتَحِيلًا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ كَتَحْرِيمِهِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ ، فَمَلَكَ أُخْتَيْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِأَيَّتِهِمَا شَاءَ ، فَإِذَا اسْتَمْتَعَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْأُخْرَى وطء الأختين بملك اليمين مَا كَانَ عَلَى اسْتِمْتَاعِهِ بِالْأُولَى ، حَتَّى يُحَرِّمَهَا عَلَيْهِ بِأَحَدِ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ : إِمَّا أَنْ يَبِيعَهَا ، وَإِمَّا أَنْ يَهَبَهَا ، وَإِمَّا أَنْ يُعْتِقَهَا ، وَإِمَّا أَنْ يُزَوِّجَهَا ، وَإِمَّا أَنْ يُكَاتِبَهَا ، فَتَصِيرُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْخَمْسَةِ الْأَشْيَاءِ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ ، فَيَحِلُّ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِالثَّانِيَةِ ، وَتَصِيرُ الْأُولَى إِنْ عَادَتْ إِلَى إِبَاحَتِهِ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا حَتَّى تَحْرُمَ الثَّانِيَةُ بِأَحَدِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الْخَمْسَةِ . وَحُكِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ إِذَا عَزَمَ عَلَى أَنْ لَا يَطَأَ الَّتِي وَطِئَ حَلَّتْ لَهُ الْأُخْرَى . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ التَّحْرِيمَ يَقَعُ بِأَسْبَابِهِ لَا بِالْعَزْمِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ بِسَبَبَيْنِ آخَرَيْنِ لَيْسَا مِنْ فِعْلِهِ ، وَهُمَا : الرَّضَاعُ وَالرِّدَّةُ ، فَأَمَّا التَّدْبِيرُ فَلَا يُحَرِّمُ ، ثُمَّ إِذَا أَخْرَجَ الثَّانِيَةَ بِأَحَدِ مَا ذَكَرْنَا عَادَتِ الْأُولَى إِلَى إِبَاحَتِهَا ، وَحَلَّ لَهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا ، فَلَوْ أَنَّهُ حِينَ اسْتَمْتَعَ بِالْأُولَى اسْتَمْتَعَ بِالثَّانِيَةِ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْأُولَى عَلَيْهِ كَانَ بِوَطْءِ الثَّانِيَةِ عَاصِيًا ، وَلَمْ تَحْرُمِ الْأُولَى عَلَيْهِ بِمَعْصِيَةٍ لِوَطْءِ الثَّانِيَةِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَأُحِبُّ أَنْ يُمْسِكَ عَنْ وَطْءِ الْأُولَى حَتَّى يَسْتَبْرِأَ الثَّانِيَةَ : لِأَنْ لَا يُجْمَعَ مَاؤُهُ فِي أُخْتَيْنِ فَإِنْ وَطِئَهَا قَبْلَ اسْتِبْرَاءِ الثَّانِيَةِ ، جَازَ وَإِنْ أَسَاءَ .

مَسْأَلَةٌ أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا ، وَنَهَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ الْأُمِّ وَابْنَتِهَا مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ الجمع بين الأم وابنتها بملك اليمين ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : وَدِدْتُ أَنَّ عُمَرَ كَانَ فِي ذَلِكَ أَشَدَّ مِمَّا هُوَ ، وَنَهَتْ عَنْ ذَلِكَ عَائِشَةُ ، وَقَالَ عُثْمَانُ فِي جَمْعِ الْأُخْتَيْنِ : أَمَّا أَنَا فَلَا أُحِبُّ أَنْ أَصْنَعَ ذَلِكَ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ كَانَ إِلَيَّ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ثُمَّ وَجَدْتُ رَجُلًا يَفْعَلُ ذَلِكَ لَجَعَلْتُهُ نَكَالًا ، قَالَ الزُّهْرِيُّ أُرَاهُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا حَرَامٌ بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ أُخْتَيْنِ . وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَحُكِيَ عَنِ الْخَوَارِجِ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي نِكَاحٍ وَلَا مِلْكِ يَمِينٍ ، وَحَرَّمَ دَاوُدُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ دُونَ مِلْكِ الْيَمِينِ ، فَأَمَّا دَاوُدُ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي الْجَمْعِ بَعْدَ الْأُخْتَيْنِ ، وَأَمَّا الْبَتِّيُّ وَالْخَوَارِجُ فَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ تَحْرِيمَ الْمَنَاكِحِ مَأْخُوذٌ مِنْ نَصِّ الْكِتَابِ دُونَ السُّنَّةِ ، وَلَمْ يَرِدِ الْكِتَابُ بِذَلِكَ ، فَلَمْ يَحْرُمْ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ كُلَّ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ ، كَمَا يُلْزَمُ بِمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [ النَّجْمِ : 3 ، 4 ] . وَقَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا . وَرَوَى دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا ، وَلَا الْعَمَّةُ عَلَى بِنْتِ أَخِيهَا ، وَلَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى خَالَتِهَا ، وَلَا الْخَالَةُ عَلَى بِنْتِ أُخْتِهَا ، وَلَا تُنْكَحُ الصُّغْرَى عَلَى الْكُبْرَى ، وَلَا الْكُبْرَى عَلَى الصُّغْرَى . وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ نَصٌّ ، وَالثَّانِي أَكْمَلُ ، وَهُمَا وَإِنْ كَانَا خَبَرَيْ وَاحِدٍ فَقَدْ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ ، وَعَمِلَ بِهِ الْجُمْهُورُ ، فَصَارَ بِأَخْبَارِ التَّوَاتُرِ أَشْبَهَ ، فَلَزِمَ الْخَوَارِجَ الْعَمَلُ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمُوا أَخْبَارَ الْآحَادِ ، وَلِأَنَّ الْأُخْتَيْنِ يَحْرَمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا : لِأَنَّ إِحْدَاهُمَا لَوْ كَانَ رَجُلًا حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُ أُخْتِهِ كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ وَخَالَتُهَا وَعَمَّتُهَا يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا : لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ إِحْدَاهُمَا رَجُلًا حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُ عَمَّتِهِ وَخَالَتِهِ . فَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ بِنْتِ عَمَّتِهَا ، أَوْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بِنْتِ عَمِّهَا فَيَجُوزُ ، وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبِنْتِ خَالَتِهَا ، أَوْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بِنْتِ خَالِهَا فَيَجُوزُ : لِأَنَّ إِحْدَاهُمَا لَوْ كَانَ رَجُلًا لَجَازَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَ عَمِّهِ ، وَبِنْتَ عَمَّتِهِ ، وَبِنْتَ خَالِهِ ، وَبِنْتَ خَالَتِهِ ، وَهَذَا هُوَ أَصْلٌ فِي تَحْرِيمِ الْجَمْعِ وَإِخْلَالِهِ بَيْنَ ذَوَاتِ الْأَنْسَابِ ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى حَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْجَمْعَ بَيْنِ الْمَرْأَةِ وَعَمَّةِ أَبِيهَا وَعَمَّةِ أُمِّهَا ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ خَالَةِ أَبِيهَا وَخَالَةِ أُمِّهَا : لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَوْ كَانَ رَجُلًا حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُ الْأُخْرَى ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا أُخْتَهَا أَوْ عَمَّتَهَا أَوْ خَالَتَهَا وَإِنْ بَعُدَتْ فَنِكَاحُهَا مَفْسُوخٌ ، دَخَلَ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ ، وَنِكَاحُ الْأُولَى ثَابِتٌ ، وَتَحِلُّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ ، وَإِنْ نَكَحَهُمَا مَعًا فَالنِّكَاحُ مَفْسُوخٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ مَنَاكِحِ ذَوَاتِ الْأَنْسَابِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ

يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَقِسْمٌ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ فِي الْجَمْعِ لَا عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَقِسْمُ إِبَاحَةٍ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ التَّأْبِيدِ ، وَلَا تَحْرِيمَ الْجَمْعِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ تَحْرِيمُ التَّأْبِيدِ ، فَفِي أَنْسَابِ الْبَعْضِيَّةِ وَالْوِلَادَةِ ، كَالْمَرْأَةِ فِي تَحْرِيمِ أُمَّهَاتِهَا وَبَنَاتِهَا عَلَيْهِ يَحْرُمْنَ عَلَى الْأَبَدِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ فِي حَالِ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ عَلَى التَّأْبِيدِ ، فَفِيمَا تَجَاوَزَ الْوِلَادَةَ ، وَاتَّصَلَ بِهَا مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأَخَوَاتِ وَالْخَالَاتِ وَالْعَمَّاتِ لَمَّا نَزَلْنَ عَنْ دَرَجَةِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ فِي التَّعْصِيبِ لَمْ يَحْرُمْنَ عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَلَمَّا شَارَكَتْهُنَّ فِي الْمُحَرَّمِ حُرِّمْنَ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَنْ لَا يَحْرُمْنَ عَلَى التَّأْبِيدِ وَلَا عَلَى وَجْهِ الْجَمْعِ ، فَمَنْ عَدَا الْفَرِيقَيْنِ مِنْ بَنَاتِ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَبَنَاتِ الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ لَمَّا نَزَلْنَ عَنِ الدَّرَجَتَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُنَّ بَعْضِيَّةُ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَلَا مُحَرَّمُ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ ، لَمْ يَتَعَلَّقْ عَلَيْهِنَّ وَاحِدٌ مِنْ حُكْمِ التَّحْرِيمِ لَا التَّأْبِيدِ وَلَا الْجَمْعِ ، وَجَازَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أَرْبَعٍ مِنْهُنَّ وَإِنْ تَنَاسَبْنَ لِبُعْدِ النَّسَبِ وَخُلُوِّهِ مِنْ مَعْنَى أَحَدِ التَّحْرِيمَيْنِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ ، وَأَنَّ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ يَخْتَصُّ بِهِ ذَوَاتُ الْمَحَارِمِ مَنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ كَالْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ ، فَنَكَحَ الرَّجُلُ أُخْتَيْنِ أَوِ امْرَأَةً وَخَالَتَهَا وَعَمَّتَهَا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَعْقِدُ عَلَيْهِمَا مَعًا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ أن يعقد الرجل على أختين أو امرأة وخالتها في عقد واحد ، فَنِكَاحُهُمَا بَاطِلٌ : لِأَنَّهُ لَمَّا حَرُمَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ، وَلَمْ يَتَعَيَّنِ الْمُخْتَصَّةُ بِالصِّحَّةِ مِنْهُمَا ، وَجَبَ بُطْلَانُ الْعَقْدِ عَلَيْهِمَا : لِتَسَاوِيهِمَا ، وَسَوَاءٌ دَخَلَ بِأَحَدِهَا أَوْ لَمِ يَدْخُلْ ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْعَقْدَ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ ، فَإِنْ عَقَدَ عَلَى الَّتِي دَخَلَ بِهَا سَقَطَ مَا عَلَيْهَا مِنْ عِدَّةِ إِصَابَتِهِ ، وَإِنْ عَقَدَ عَلَى غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا صَحَّ عَقْدُهُ ، وَيَسْتَبِيحُ أَنْ يُمْسِكَ عَنْ إِصَابَتِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ أُخْتِهَا مِنْ إِصَابَتِهِ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ مَاؤُهُ فِي أُخْتَيْنِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهِمَا ثَانِيَةً بَعْدَ أُولَى يعقد على ما يحرم الجمع بينهما ثانية بعد أولى ، فَنِكَاحُ الْأُولَى ثَابِتٌ ، وَنِكَاحُ الثَّانِيَةِ بَاطِلٌ : لِاسْتِقْرَارِ الْعَقْدِ عَلَى الْأُولَى قَبْلَ الْجَمْعِ ، فَلَوْ شَكَّ فِي أَيَّتِهِمَا نَكَحَ أَوَّلًا فيمن يحرم الجمع بينهم ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَطْرَأَ الشَّكُّ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْيَقِينِ فَنِكَاحُهُمَا مَوْقُوفٌ ، وَإِحْدَاهُمَا زَوْجَةٌ مَجْهُولَةُ الْعَيْنِ وَالْأُخْرَى أَجْنَبِيَّةٌ ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَمْنُوعَةٌ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَزْوَاجِ حَتَّى يَبِينَ أَمْرُهَا ، فَإِنْ صَرَّحَ بِطَلَاقِ إِحْدَاهُمَا حَلَّتْ لِغَيْرِهِ ، وَكَانَ تَحْرِيمُهَا عَلَيْهِ بِحَالَةٍ ، وَالْأُخْرَى عَلَى التَّحْرِيمِ ، فَإِنِ اسْتَأْنَفَ عَلَيْهَا عَقْدًا حَلَّتْ لَهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ مَعَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ يَقِينٌ ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ لَا يُوقَفُ عَلَى الْبَيَانِ لِعَدَمِهِ ، وَهَلْ يَفْتَقِرُ بُطْلَانُهُ إِلَى فَسْخِ الْحَاكِمِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَفْتَقِرُ وَيَكُونُ الْإِشْكَالُ وَالِاشْتِبَاهُ بَاطِلًا : لِأَنَّ مَا لَمْ يَتَمَيَّزْ إِبَاحَتُهُ مِنَ الْحَظْرِ غَلَبَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْحَظْرِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ : لِأَنَّ الْعِلْمَ مُحِيطٌ بِأَنَّ فِيهِمَا زَوْجَةً ، فَلَمْ يَكُنِ الْجَهْلُ بِهَا مُوجِبًا لِفَسْخِ نِكَاحِهَا حَتَّى يَتَوَلَّاهُ مَنْ لَهُ مَدْخَلٌ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ ، وَهُوَ الْحَاكِمُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا عَقَدَ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا فَاسِدًا ، ثُمَّ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا أُخْتَهَا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْلَمَ بِفَسَادِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ ، فَيَكُونُ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ جَائِزًا ، سَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّهَا أُخْتُ الْأُولَى وَقْتَ الْعَقْدِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَعْلَمَ بِفَسَادِ النِّكَاحِ فِيهِ حَتَّى يَعْقِدَ عَلَى انْتِهَاءٍ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَعْلَمَ وَقْتَ عَقْدِهِ عَلَى الثَّانِيَةِ أَنَّهَا أُخْتُ الْأُولَى ، فَيَكُونُ نِكَاحُهَا جَائِزًا : لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِعَقْدِهِ مَنْعٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَعْلَمَ وَقْتَ عَقْدِهِ عَلَى الثَّانِيَةِ أَيُّهُمَا أُخْتُ الْأُولَى ، وَلَا يَعْلَمُ بِفَسَادِ نِكَاحِ الْأُولَى حَتَّى يَعْقِدَ عَلَى الثَّانِيَةِ فَنِكَاحُ الثَّانِيَةِ بَاطِلٌ : لِأَنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى نِكَاحٍ هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ فِي الظَّاهِرِ ، فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْحَظْرِ فِي الْفَسَادِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ إِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ لِأَنَّهَا مُبْهَمَةٌ وَحَلَّتْ لَهُ ابْنَتُهَا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا ، لَمْ تَحِلَّ لَهُ ؛ لِأَنَّهَا مُبْهَمَةٌ وَحَلَّتْ لَهُ ابْنَتُهَا : لِأَنَّهَا مِنَ الرَّبَائِبِ ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ أُمُّهَا ، وَلَا ابْنَتُهَا أَبَدًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الرَّبَائِبُ ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُنَّ بَنَاتُ الزَّوْجَاتِ إِحْدَاهُنَّ رَبِيبَةٌ ، وَفِي تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ وَجْهَانِ : إِحْدَاهُمَا : لِأَنَّهُ تَكُونُ فِي الْأَغْلَبِ فِي تَرْبِيَتِهِ وَكَفَالَتِهِ . وَالثَّانِي : لِأَنَّهَا تَرُبُّ الدَّارَ ، أَيْ تُدَبِّرُهَا وَتُعْنَى بِهَا ، فَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ امْرَأَةً حَرُمَ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ عَلَيْهَا ثَلَاثَةٌ أَصْنَافٍ مِنْ مَنَاسِبِهَا : صِنْفٌ أَعْلَى وَهُنَّ الْأُمَّهَاتُ ، وَصِنْفٌ أَدْنَى وَهُنَّ الْبَنَاتُ وَصِنْفٌ مُشَارِكَاتٌ وَهُنَّ الْأَخَوَاتُ وَالْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ ، فَكُلُّهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ عَلَيْهِ مَا كَانَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا بَاقِيًا ، فَإِذَا ارْتَفَعَ عَنْهَا بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ فَسْخٍ انْقَسَمَتْ أَحْوَالُ هَؤُلَاءِ الْمُحَرَّمَاتِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ يَحْلِلْنَ لَهُ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْعَقْدِ عَنْ زَوْجَتِهِ ، سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أَمْ لَا ، وَهُنَّ الْأَخَوَاتُ وَالْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ : لِأَنَّ تَحْرِيمَهُنَّ تَحْرِيمُ جَمْعٍ لَا تَحْرِيمُ تَأْبِيدٍ . وَقِسْمٌ ثَانٍ لَا يَحْلِلْنَ لَهُ ، وَإِنِ ارْتَفَعَ الْعَقْدُ عَنْ زَوْجَتِهِ سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أَمْ لَا ، وَهُنَّ الْأُمَّهَاتُ : لِأَنَّهُنَّ يَحْرُمْنَ بِالْعَقْدِ تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ . وَقِسْمٌ ثَالِثٌ : يَحْلِلْنَ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْعَقْدِ عَنْ زَوْجَتِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَخَلَ بِهَا ، وَيَحْرُمْنَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا ، وَهُنَّ الْبَنَاتُ : لِأَنَّهُنَّ يَحْرُمْنَ بِالْعَقْدِ تَحْرِيمَ جَمْعٍ ، وَبِالدُّخُولِ تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ ، بِخِلَافِ الْأُمَّهَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ بِالْعَقْدِ تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ . وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ . وَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَمُجَاهِدٍ أَنَّ الْأُمَّهَاتِ

كَالْبَنَاتِ الرَّبَائِبِ لَا يَحْرُمْنَ إِلَّا بِالدُّخُولِ . وَحُكِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ إِنْ طَلَّقَ الزَّوْجَةَ لَمْ تَحْرُمِ الْأُمُّ إِلَّا بِالدُّخُولِ كَالرَّبِيبَةِ ، وَإِنْ مَاتَتْ حَرُمَتِ الْأُمُّ ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا بِخِلَافِ الرَّبِيبَةِ : لِأَنَّ الْمَوْتَ فِي كَمَالِ الْمَهْرِ كَالْمَدْخُولِ ، وَاسْتِدْلَالًا فِي إِلْحَاقِ ابْنَتِهَا بِالرَّبَائِبِ فِي تَحْرِيمِهِنَّ بِالدُّخُولِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [ النِّسَاءِ : 23 ] فَذَكَرَ جِنْسَيْنِ هُمَا الْأُمَّهَاتُ وَالرَّبَائِبُ ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِمَا اشْتِرَاطَ الدُّخُولِ فِي التَّحْرِيمِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى الْمَذْكُورَيْنِ مَعًا ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالرُّجُوعِ إِلَى أَحَدِهِمَا ، وَهُوَ لِلشَّافِعِيِّ أَلْزَمُ : لِأَنَّهُ يَقُولُ : إِنَّ الشَّرْطَ وَالْكِتَابَةَ وَالِاسْتِثْنَاءَ إِذَا تَعَقَّبَ جُمْلَةً رَجَعَ إِلَى جَمِيعِهَا ، وَلَمْ يُخْتَصَّ بِأَقْرَبِ الْمَذْكُورِينَ مِنْهَا ، كَمَا لَوْ قَالَ رَجُلٌ : امْرَأَتِي طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ ، وَاللَّهِ لَا دَخَلَتِ الدَّارَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ رَاجِعًا إِلَى الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْيَمِينِ ، وَلَمْ يَخْتَصَّ عِنْدَهُ بِرُجُوعِهِ إِلَى الْيَمِينِ ، كَذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ اشْتِرَاطَ الدُّخُولِ رَاجِعًا إِلَى الرَّبَائِبِ دُونَ الْأُمَّهَاتِ حَتَّى يَكُونَ رَاجِعًا إِلَيْهِمَا مَعًا . وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ وَالْجَمَاعَةُ - مِنِ اشْتِرَاطِ الدُّخُولِ فِي الرَّبَائِبِ دُونَ الْأُمَّهَاتِ - قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [ النِّسَاءِ : 23 ] فَكَانَ الدَّلِيلُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الدُّخُولِ عَائِدٌ إِلَى الرَّبَائِبِ دُونَ الْأُمَّهَاتِ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [ النِّسَاءِ : 23 ] وَلَيْسَتْ أُمُّ الزَّوْجَةِ مِنْهَا ، وَإِنَّمَا الرَّبِيبَةُ مِنْهَا ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الدُّخُولَ مَشْرُوطٌ فِي الرَّبِيبَةِ : لِأَنَّهَا مِنَ الزَّوْجَةِ دُونَ الْأُمِّ الَّتِي لَيْسَتْ مِنَ الزَّوْجَةِ . وَالثَّانِي - هُوَ مَا ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ - : أَنَّ الشَّرْطَ وَالِاسْتِثْنَاءَ إِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ إِذَا حَسُنَ أَنْ يَعُودَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ ، وَإِنْ لَمْ يَحْسُنْ لَمْ يَعُدْ إِلَى الْأَقْرَبِ ، وَهُوَ لَوْ قَالَ : وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ، لَمْ يُحْسِنْ فَلَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ . وَالثَّالِثُ - وَهُوَ مَا قَالَهُ الْمُبَرِّدُ - : أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ الْعَامِلُ فِي إِعْرَابِ الْجُمْلَتَيْنِ لَمْ يَعُدِ الشَّرْطُ إِلَيْهِمَا ، وَعَادَ إِلَى أَقْرَبِهِمَا ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَلِفِ الْعَامِلُ فِي إِعْرَابِهِمَا عَادَ إِلَيْهِمَا ، وَالْعَامِلُ هَاهُنَا فِي إِعْرَابِ الْجُمْلَتَيْنِ مُخْتَلِفٌ ، فَذِكْرُ النِّسَاءِ مَعَ الْأُمَّهَاتِ مَجْرُورٌ بِالْإِضَافَةِ لِقَوْلِهِ : وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَذِكْرُ النِّسَاءِ مِنَ الرَّبَائِبِ مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الْجَرِّ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ فِلَمَّا اخْتَلَفَ عَامِلُ الْجَرِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعُودَ الشَّرْطُ إِلَيْهِمَا وَعَادَ إِلَى أَقْرَبِهِمَا : وَالرَّابِعُ : أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ تَقَدَّمَهَا مُطْلَقٌ وَتَعَقَّبَهَا مَشْرُوطٌ ، فَكَانَ إِلْحَاقُهَا بِالْمُطْلَقِ الْمُتَقَدِّمِ أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهَا بِالْمَشْرُوطِ الْمُتَأَخِّرِ . وَالْخَامِسُ : أَنَّ الْمُطْلَقَ أَعَمُّ ، وَالْمَشْرُوطَ أَخَصُّ ، فَكَانَ إِلْحَاقُ الْمُبْهَمِ بِالْمُطْلَقِ الْأَعَمِّ أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهِ بِالْمَشْرُوطِ الْأَخَصِّ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ ،

عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا نَكَحَ الرَّجُلُ امْرَأَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَلَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ بِنْتُهَا . وَرَوَى الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ امْرَأَةً ثُمَّ مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَلَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ بِنْتُهَا . وَهَذَا نَصٌّ ، وَلِأَنَّ فِي الْأُمَّهَاتِ مِنَ الرِّقَّةِ وَالْمَحَبَّةِ لِبَنَاتِهِنَّ مَا لَيْسَ فِي الْبَنَاتِ لِأُمَّهَاتِهِنَّ . وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا لَنَا نَرِقُّ عَلَى أَوْلَادِنَا وَلَا يَرِقُّونَ عَلَيْنَا ، قَالَ : لِأَنَّنَا وَلَدْنَاهُمْ وَلَمْ يَلِدُونَا ، فَلَمَّا كَانَتِ الْأُمُّ أَكْثَرَ رِقَّةً وَحُبًّا لَمْ تَنْفِسْ عَلَى بِنْتِهَا بِعُدُولِ الزَّوْجِ إِلَيْهَا ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الدُّخُولُ بِالْأُمِّ مَشْرُوطًا فِي تَحْرِيمِ الْبِنْتِ : لِأَنَّهَا رُبَّمَا رَضِيَتْ بِالزَّوْجِ بَعْدَ دُخُولِهِ بِهَا مَا لَمْ تَضْمَنْ بِهِ قَبْلَهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبِنْتُ : لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ أَقَلَّ رِقَّةً وَحُبًّا نَفِسَتْ عَلَى أُمِّهَا بِعُدُولِ الزَّوْجِ إِلَيْهَا فَأَفْضَى إِلَى الْقَطِيعَةِ وَالْعُقُوقِ قَبْلَ الدُّخُولِ كَإِفْضَائِهِ بَعْدَهُ ، فَلَمْ يَجْعَلِ الدُّخُولَ شَرْطًا . فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ دَلَائِلِنَا مِنْهَا ، وَإِنَّمَا الِاسْتِشْهَادُ بِعَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْيَمِينِ ، فَلِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَرْجِعَ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، فَجَازَ مَعَ الْإِطْلَاقِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى جَمِيعِهَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَاهُنَا لِمَا بَيَّنَاهُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ تَحْرِيمَ الْأُمِّ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَتَحْرِيمَ الرَّبِيبَةِ مَشْرُوطٌ بِالدُّخُولِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الدُّخُولِ الَّذِي تَحْرُمُ بِهِ الرَّبِيبَةُ . فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ النَّظَرُ إِلَى فَرْجِ الْأُمِّ بِشَهْوَةٍ ، فَتَحْرُمُ بِهِ الرَّبِيبَةُ ، وَقَالَ عَطَاءٌ وَحَمَّادٌ : هُوَ التَّعَيُّشُ وَالْقُعُودُ بَيْنَ الرِّجْلَيْنِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إِنَّ الدُّخُولَ الَّذِي تَحْرُمُ بِهِ الرَّبِيبَةُ يَكُونُ بِالْمُبَاشِرَةِ وَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الْوَطْءُ فِي الْفَرْجِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ الْقُبْلَةُ وَالْمُلَامَسَةُ بِشَهْوَةٍ ، وَإِنْ لَمْ يَطَأْ . وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ : بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى رَجُلٍ نَظَرَ إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا . قَالَ : وَلِأَنَّهُ تَفَرَّعَ اسْتِمْتَاعٌ ، فَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ كَالْوَطْءِ .

وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وَلَا يُطْلَقُ اسْمُ الدُّخُولِ إِلَّا عَلَى الْمُبَاشَرَةِ دُونَ النَّظَرِ : وَلِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ لَا يُوجِبُ الْغُسْلَ فَلَمْ يُوجِبْ تَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ ، كَالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهَا : وَلِأَنَّ النَّظَرَ إِلَى الْوَجْهِ وَالْبَدَنِ أَبْلَغُ فِي اللَّذَّةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْفَرْجِ ، فَإِذَا كَانَ لَا يَحْرُمُ فَمَا دُونَهُ أَوْلَى ، فَأَمَّا الْخَبَرُ فَرِوَايَةُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ ، عَنْ لَيْثٍ ، عَنْ حَمَّادٍ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ عَلْقَمَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَوْقُوفًا ، وَعَلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَطْءِ ، فَكَنَّى عَنْهُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْفَرْجِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ فَمُنْتَقِضٌ بِالنَّظَرِ إِلَى الْوَجْهِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْغُسْلَ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَحْرِيمُ الرَّبَائِبِ بِالدُّخُولِ عَلَى مَا وَصَفْنَا ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي تَرْبِيَتِهِ وَحِجْرِهِ أَمْ لَا تحريم الربائب هل يشترط أن تكون في تربيته وحجره أم لا . وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ . وَقَالَ دَاوُدُ : إِنَّمَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ فِي تَرْبِيَتِهِ وَحِجْرِهِ ، وَحَكَاهُ مَالِكٌ عَنْ أَوْسٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ : اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ ، فَعَلَّقَ تَحْرِيمَ الرَّبَائِبِ بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فِي حِجْرِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِأُمِّهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي تَحْرِيمِهَا . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ علة تحريم البنات بعد الدخول بالأمهات هُوَ وُقُوعُ التَّنَافُسِ الْمُؤَدِّي إِلَى التَّقَاطُعِ وَالتَّبَاغُضِ ، وَلَيْسَ لِلْحِجْرِ فِي هَذَا الْمَعْنَى تَأْثِيرٌ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ اعْتِبَارٌ ، وَلِأَنَّ الْحِجْرَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الشَّرْعِ فِي إِبَاحَةٍ وَلَا حَظْرٍ ، أَلَا تَرَاهُ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِي تَحْرِيمِ حَلَائِلِ الْأَبْنَاءِ ، وَلَا فِي إِبَاحَةِ بَنَاتِ الْعَمِّ ، فَكَذَلِكَ فِي الرَّبَائِبِ ، وَلَيْسَ ذِكْرُ الْحَجْرِ فِي الرَّبَائِبِ شَرْطًا ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ : لِأَنَّهُ الْأَغْلَبُ مِنْ أَحْوَالِ الرَّبَائِبِ إِنَّهُنَّ فِي حِجْرِ أَزْوَاجِ الْأُمَّهَاتِ ، فَصَارَ ذِكْرُهُ تَغْلِيبًا لِلصِّفَةِ لَا شَرْطًا فِي الْحُكْمِ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [ الْبَقَرَةِ : 187 ] وَالصَّائِمُ لَا يَجُوزُ لَهُ وَطْءُ زَوْجَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمَسْجِدَ عَلَى طَرِيقِ الْأَغْلَبِ مِنْ أَحْوَالِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : " لَمْ تَحِلَّ لَهُ أُمُّهَا لِأَنَّهَا مُبْهَمَةٌ أم الزوجة " فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَعْنِي مُرْسَلَةً بِغَيْرِ شَرْطٍ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا : أَبْهِمُوا مَا أَبْهَمَ الْقُرْآنُ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : أَنِ الْمُبْهَمَةَ الْمُحَرَّمَةَ فِي كُلِّ أَحْوَالِهَا فَلَا يَكُونُ لَهَا إِلَّا حُكْمٌ وَاحِدٌ ، مِنْ قَوْلِهِمْ فَرَسٌ مُبْهَمٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِيَةٌ تُخَالِفُ شِيَةً ، وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ يَذْهَبُ إِلَى تَأْوِيلٍ ثَالِثٍ : هُوَ أَنَّ الْمُبْهَمَةَ الْمُشْكِلَةُ ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ : لِأَنَّ حُكْمَ الْأُمِّ غَيْرُ مُشْكِلٍ .

مَسْأَلَةٌ إِنْ وَطِئَ أَمَتَهُ لَمْ تَحِلَّ لَهُ أُمُّهَا وَلَا ابْنَتُهَا أَبَدًا وَلَا يَطَأُ أُخْتَهَا وَلَا عَمَّتَهَا وَلَا خَالَتَهَا حَتَّى يُحَرِّمَهَا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ وَطِئَ أَمَتَهُ لَمْ تَحِلَّ لَهُ أُمُّهَا وَلَا ابْنَتُهَا أَبَدًا ، وَلَا يَطَأُ أُخْتَهَا وَلَا عَمَّتَهَا وَلَا خَالَتَهَا حَتَّى يُحَرِّمَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ عَلَى الزَّوْجَةِ ، حُرِّمَ بِوَطْءِ الْأَمَةِ لَا

بِمِلْكِهَا : لِأَنَّ الْأَمَةَ لَا تَصِيرُ فِرَاشًا إِلَّا بِالْوَطْءِ دُونَ الْمِلْكِ ، فَإِذَا مَلَكَ أَمَةً لَمْ يَتَعَلَّقْ بِمِلْكِهَا تَحْرِيمُ أَحَدٍ مِنْ ذَوِي أَنْسَابِهَا ، فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى أَحَدٍ مِنْ ذَوِي أَنْسَابِ سَيِّدِهَا ، فَإِذَا وَطِئَهَا تَعَلَّقَ بِوَطْئِهَا تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ ، كَمَا تَعَلَّقَ بِالْعَقْدِ عَلَى الزَّوْجَةِ ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَأُمَّهَاتُ أُمِّهَا مِنْ آبَائِهَا وَإِنْ عَلَوْنَ ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ بَنَاتُهَا وَبَنَاتُ أَوْلَادِهَا وَإِنْ سَفُلْنَ ، وَيَحْرُمُ عَلَى ابْنِهِ وَحْدَهُ وَإِنْ عَلَا ، وَعَلَى ابْنِهِ وَابْنِ ابْنِهِ وَإِنْ سَفُلَ ، وَهَذَا التَّحْرِيمُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ مُؤَبَّدٌ ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أُخْتُهَا وَخَالَتُهَا وَعَمَّتُهَا وَبِنْتُ أَخِيهَا وَبِنْتُ أُخْتِهَا ، وَهَذَا التَّحْرِيمُ فِي هَؤُلَاءِ الْخَمْسِ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ لَا تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ مَا كَانَ عَلَى اسْتِمْتَاعِهِ بِأَمَتِهِ حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ بِأَحَدِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْخَمْسَةِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ تَزْوِيجٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ كِتَابَةٍ ، حَلَّ لَهُ حِينَئِذٍ مَنْ شَاءَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْخَمْسِ اللَّاتِي حُرِّمْنَ عَلَيْهِ تَحْرِيمَ جَمْعٍ أَنْ يَسْتَبِيحَهَا بِعَقْدِ نِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ ، وَإِنِ اسْتَبَاحَهَا قَبْلَ تَحْرِيمِ الْأُولَى ، فَإِنْ كَانَ بِعَقْدِ نِكَاحٍ كَانَ بَاطِلًا وَحُدَّ إِنْ وَطِئَهَا عَالِمًا ، وَإِنْ كَانَ بِمِلْكِ يَمِينٍ لَمْ يُحَدَّ وَإِنْ عَلِمَ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الزَّوْجَةَ يُسْتَبَاحُ وَطْئُهَا بِالْعَقْدِ وَقَدْ بَطَلَ فَوَجَبَ فِيهِ الْحَدُّ ، وَالْأَمَةُ يُسْتَبَاحُ وَطْئُهَا بِالْمِلْكِ وَالْمِلْكُ لَمْ يَبْطُلْ فَلَمْ يَجِبْ بِالْوَطْءِ فِيهِ حَدٌّ ، وَخَالَفَ وَطْءُ أُخْتِهِ بِالْمِلْكِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ ، عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ مَعَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ : لِأَنَّ تَحْرِيمَ وَطْءِ أُخْتِهِ مُؤَبَّدٌ وَتَحْرِيمَ وَطْءِ أَمَتِهِ لِعَارِضٍ يَزُولُ وَلَا تَأَبُّدَ ، فَافْتَرَقَ حُكْمُ تَحْرِيمِهَا ، فَلِذَلِكَ افْتَرَقَ وُجُوبُ الْحَدِّ فِيهِمَا ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ قَدْ وَطِئَ أَمَتَهُ فِي الْفَرْجِ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ وَطْئِهَا دُونَ الْفَرْجِ أَوْ قَبْلِهَا أَوْ لَمَسَهَا ، فَهَلْ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ أَمْ لَا ؟ وطء الأمة عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي تَحْرِيمِ الرَّبِيبَةِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ ، فَعَلَى هَذَا يَحِلُّ لَهُ أُمَّهَاتُهَا وَبَنَاتُهَا ، وَتَحِلُّ لِآبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ كَمَا لَوْ وَطِئَ فِي الْفَرْجِ ، فَعَلَى هَذَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمَّهَاتُهَا وَبَنَاتُهَا ، وَتَحْرُمُ عَلَى آبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ . فَأَمَّا إِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا بِشَهْوَةٍ ، أَوْ لَمَسَهَا مِنْ وَرَاءِ ثَوْبٍ بِشَهْوَةٍ أَوْ غَيْرِ شَهْوَةٍ ، أَوْ ضَاجَعَهَا غَيْرَ مُبَاشِرٍ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ إِلَى شَيْءٍ مِنْ جَسَدِهَا مُرِيدًا لِوَطْئِهَا أَوْ غَيْرَ مُرِيدٍ ، لَمْ يَتَعَلَّقْ بِذَلِكَ تَحْرِيمٌ مَا لَمْ يَكُنْ أَفْضَى بِمُبَاشَرَةِ الْجَسَدَيْنِ . وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ مَنْ جَرَّدَ أَمَتَهُ وَلَمْ يَطَأْهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَبِنْتُهَا ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ : لِأَنَّهُ عَزَمَ ، وَالْعَزْمُ لَيْسَ بِفِعْلٍ ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ الْفِعْلِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا وَطِئَ الرَّجُلُ امْرَأَةً بِشُبْهَةِ نِكَاحٍ أَوْ مِلْكٍ ، ثَبَتَ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ ، فَحَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمَّهَاتُهَا وَبَنَاتُهَا ، وَحَرُمَتْ عَلَى آبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخَوَاتُهَا وَعَمَّاتُهَا وَخَالَاتُهَا لِأَنَّ تَحْرِيمَ أُولَئِكَ تَحْرِيمُ تَأْبِيدٍ ، وَتَحْرِيمَ أُولَئِكَ تَحْرِيمُ جَمْعٍ ، وَالْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةٍ مُحَرَّمَةٌ فَلَمْ يَحْصُلِ الْجَمْعُ ، ثُمَّ هَلْ يَصِيرُ هَذَا الْوَطْءُ مُحَرَّمًا لِأُمَّهَاتِ هَذِهِ الْمَوْطُوءَةِ لِبَنَاتِهَا ، وَهَلْ يَصِيرُ آبَاؤُهُ وَأَبْنَاؤُهَا مُحَرَّمًا لَهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ :

أَحَدُهُمَا - قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ - : أَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ الْمُحَرَّمُ كَمَا يَثْبُتُ بِهِ التَّحْرِيمُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي - نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ - : أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْمُحَرَّمُ ، وَإِنْ ثَبَتَ بِهِ التَّحْرِيمُ : لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ تَغْلِيظًا فَاقْتَضَى أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ الْمُحَرَّمَ تَغْلِيظًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ وَطِئَ أُخْتَهَا قَبْلَ ذَلِكَ اجْتَنَبَ الَّتِي وَطِئَ آخِرًا ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ يَجْتَنِبَ الْأُولَى حَتَى يَسْتَبْرِئَ الْآخِرَةَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا وَطِئَ أَمَتَهُ ثُمَّ وَطِئَ أُخْتَهَا بِالْمِلْكِ قَبْلَ تَحْرِيمِ تِلْكَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَحِقَ بِهِ ، وَتَكُونُ الْأُولَى عَلَى إِبَاحَتِهَا ، وَالثَّانِيَةُ عَلَى تَحْرِيمِهَا : لِأَنَّهُ وَطِئَهَا حَرَامًا فَلَمْ تَحِلَّ بِهِ الثَّانِيَةُ ، وَلَمْ تَحْرُمْ بِهِ الْأُولَى ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ الثَّانِيَةَ : لِتَحْرِيمِهَا ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْتَنِبَ الْأُولَى حَتَّى تَسْتَبْرِئَ الثَّانِيَةُ نَفْسَهَا : لِئَلَّا يَجْتَمِعَ مَاؤُهُ فِي أُخْتَيْنِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

مَسْأَلَةٌ إِذَا اجْتَمَعَ النِّكَاحُ وَمِلْكُ الْيَمِينِ فِي أُخْتَيْنِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِذَا اجْتَمَعَ النِّكَاحُ وَمِلْكُ الْيَمِينِ فِي أُخْتَيْنِ ، أَوْ أَمَةٍ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا ، فَالنِّكَاحُ ثَابِتٌ لَا يَفْسَخُهُ مِلْكُ الْيَمِينِ ، كَانَ قَبْلُ أَوْ بَعْدُ ، وَحَرُمَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ : لِأَنَّ النِّكَاحَ يُثْبِتُ حُقُوقًا لَهُ وَعَلَيْهِ ، وَلَوْ نَكَحَهُمَا مَعًا انْفَسَخَ نِكَاحُهُمَا ، وَلَوِ اشْتَرَاهُمَا مَعًا ثَبَتَ مِلْكُهُمَا ، وَلَا يَنْكِحُ أُخْتَ امْرَأَتِهِ وَيَشْتَرِيهَا عَلَى امْرَأَتِهِ ، وَلَا يُمَلِّكُ امْرَأَتَهُ غَيْرَهُ ، وَيُمَلِّكُ أَمَتَهُ غَيْرَهُ ، فَهَذَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ أَخَتَيْنِ بَعْدَ نِكَاحٍ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ ، فَأَمَّا إِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي أَنْ عَقَدَ عَلَى أَحَدِهِمَا نِكَاحًا ، وَاسْتَمْتَعَ بِالْأُخْرَى بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَهُوَ حَرَامٌ : لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ أُخْتَيْنِ ، وَإِنِ اخْتَلَفَ سَبَبُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا : وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَقْدُ النِّكَاحِ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَوْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ ، فَإِنْ عَقَدَ النِّكَاحَ ثُمَّ اسْتَمْتَعَ بِهَا بَعْدَهُ ، فَالْحُكْمُ فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ إِذَا كَانَ الِاسْتِمْتَاعُ بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ الْمِلْكُ قَبْلَ الْعَقْدِ أَوْ تَجَدَّدَ بَعْدَهُ فَالنِّكَاحُ ثَابِتٌ وَوَطْؤُهُ لِلْأُخْتِ مُحَرَّمٌ ، وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ : لِاسْتِقْرَارِهِ قَبْلَ الْوَطْءِ الْمُحَرَّمِ ، وَإِنْ تَقَدَّمَ الِاسْتِمْتَاعُ عَلَى النِّكَاحِ كَانَ مِلْكُ أَمَةٍ اسْتَمْتَعَ بِهَا ثُمَّ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا أُخْتَهَا قَبْلَ تَحْرِيمِهَا ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ النِّكَاحَ ثَابِتٌ ، وَإِنْ تَأَخَّرَ كَثُبُوتِهِ لَوْ تَقَدَّمَ ، وَيُحَرَّمُ بِهِ الْمَوْطُوءَةَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : النِّكَاحُ بَاطِلٌ ، وَالْمَوْطُوءَةُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ حَلَالًا : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْأَمَةَ قَدْ صَارَتْ بِالْوَطْءِ فِرَاشًا كَمَا تَصِيرُ بَعْدَ النِّكَاحِ فِرَاشًا ، وَحَرُمَ دُخُولُ أُخْتِهَا عَلَيْهَا فِي الْحَالَيْنِ ، فَلَمَّا كَانَ لَوْ صَارَتْ فِرَاشًا بِالْعَقْدِ بَطَلَ نِكَاحُ أُخْتِهَا عَلَيْهَا ، وَوَجَبَ إِذَا جَاءَتْ فِرَاشًا بِالْمِلْكِ أَنْ يَبْطُلَ نِكَاحُ أُخْتِهَا عَلَيْهَا لِكَوْنِهَا فِي الْحَالَيْنِ فِرَاشًا . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ الْفِرَاشَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ أَقْوَى مِنْهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِأَرْبَعَةِ مَعَانٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ فِرَاشَ الْمَنْكُوحَةِ ثَبَتَ بِثُبُوتِ الْعَقْدِ ، وَلَا يَثْبُتُ فِرَاشُ الْأَمَةِ بِثُبُوتِ الْمِلْكِ ،

وَالْمِلْكُ قَدْ يَرْتَفِعُ فِرَاشُ الْأَمَةِ بِاسْتِبْرَائِهَا مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ ، وَلَا يَرْتَفِعُ فِرَاشُ الْمَنْكُوحَةِ مَعَ بَقَاءِ الْعِدَّةِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ فِرَاشَ الْمَنْكُوحَةِ ثَبَتَ حَقًّا لَهَا ، وَعَلَيْهَا مِنْ طَلَاقٍ وَظِهَارٍ وَإِيلَاءٍ وَلِعَانٍ ، وَلَا يُثْبِتُهَا فِرَاشُ الْمِلْكِ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ قَدْ يَصِحُّ أَنْ يُمَلِّكَ أَمَتَهُ غَيْرَهُ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُمَلِّكَ زَوْجَتَهُ غَيْرَهُ . وَإِذَا كَانَ فِرَاشُ النِّكَاحِ أَقْوَى مِنْ فِرَاشِ الْمِلْكِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي الْأَرْبَعَةِ وَجَبَ إِذَا اجْتَمَعَ الْأَقْوَى وَالْأَضْعَفُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَقْوَى أَثْبَتَ ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ ، كَمَا لَوِ اجْتَمَعَ عَقْدُ نِكَاحٍ وَعَقْدُ مِلْكٍ ، بِأَنْ تَزَوَّجَ ثُمَّ اشْتَرَاهَا ، بَطَلَ عَقْدُ النِّكَاحِ بَعْدَ الْمِلْكِ : لِأَنَّ عَقْدَ الْمِلْكِ أَقْوَى مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ ، وَإِنْ كَانَ فِرَاشُ النِّكَاحِ أَقَوَى مِنْ فِرَاشِ الْمِلْكِ : لِأَنَّ عَقْدَ الْمِلْكِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَالرَّقَبَةِ ، وَعَقْدَ النِّكَاحِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ دُونَ الرَّقَبَةِ ، فَلَمَّا غَلَبَ فِي الْعَقْدَيْنِ أَقْوَاهُمَا وَهُوَ الْمِلْكُ وَجَبَ أَنْ يَغْلِبَ فِي الْفِرَاشَيْنَ أَقْوَاهُمَا ، وَهُوَ النِّكَاحُ ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى الْأَسْبَقُ فِيمَا اسْتَوَتْ قُوَّتُهُ وَضَعْفُهُ كَعَقْدَيْ نِكَاحٍ أَوْ فِرَاشَيْ مِلْكٍ . فَبَطَلَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ النِّكَاحِ حَرُمَتِ الْمَوْطُوءَةُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ ، وَجَازَ لَهُ وَطْءُ هَذِهِ الْمَنْكُوحَةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَحِلُّ لَهُ الْمَنْكُوحَةُ حَتَّى تَحْرُمَ الْمَوْطُوءَةُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ بِحُدُوثِ الْعَقْدِ عَلَى مَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ تُجْمَعَ مَعَهَا كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا وَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الْجَمْعَ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ جَوَازِ الِاسْتِمْتَاعِ قِيَاسًا فِي الطَّرْدِ عَلَى مَنْ نَكَحَ حُرَّةً بَعْدَ نِكَاحِ أَمَةٍ وَفِي الْعَكْسِ عَلَى مَنْ نَكَحَ أَمَةً بَعْدَ نِكَاحِ حُرَّةٍ ، وَفِي هَذَا الدَّلِيلِ انْفِصَالٌ .

مَسْأَلَةٌ لَا بَأْسَ أَنْ يَجْمَعَ الرَّجُلُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَزَوْجَةِ أَبِيهَا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْمَعَ الرَّجُلُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَزَوْجَةِ أَبِيهَا وَبَيْنَ امْرَأَةِ الرَّجُلِ وَابْنَةِ امْرَأَتِهِ إِذَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِهَا : لِأَنَّهُ لَا نَسَبَ بَيْنَهْنَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ الرَّجُلُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَزَوْجَةِ أَبِيهَا وَزَوْجَةِ ابْنِهَا ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَّا ابْنَ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّهُ مَنَعَ مِنْهُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُمَا امْرَأَتَانِ لَوْ كَانَ إِحْدَاهُمَا رَجُلًا حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُ الْأُخْرَى لِأَنَّهَا تَكُونُ امْرَأَةَ أَبِيهِ أَوْ حَلِيلَةَ ابْنِهِ ، فَحَرَّمَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا ، كَمَا حُرِّمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَّيَّةَ جَمَعَ كَلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيْنَ امْرَأَةِ رَجُلٍ وَبِنْتِهِ مِنْ غَيْرِهَا ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَاكَ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ عَصْرِهِ ، فَكَانَ إِجْمَاعًا : وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ إِنَّمَا يَثْبُتُ بَيْنَ ذَوِي الْأَنْسَابِ حِفْظًا لِصِلَةِ الْأَرْحَامِ ، وَأَنْ لَا يَتَقَاطَعْنَ بِالتَّبَاغُضِ وَالْعُقُوقِ ، وَلَيْسَ بَيْنَ هَاتَيْنِ نَسَبٌ ، وَلَا رَضَاعٌ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ النَّسَبِ ، فَلَمْ يَحْرُمِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ ، وَخَالَفَ ذَوِي الْأَنْسَابِ .

فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَبَيْنَ امْرَأَةِ الرَّجُلِ وَبَنَتِ امْرَأَتِهِ إِذَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِهَا ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هَذَا سَهْوٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ فِي نَقْلِهِ : لِأَنَّهُ كَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ وَأَعَادَهَا

بِعِبَارَةٍ أُخْرَى : لِأَنَّ زَوْجَةَ الرَّجُلِ وَبِنْتَ امْرَأَتِهِ مِنْ غَيْرِهَا هِيَ الْمَرْأَةُ وَزَوْجَةُ ابْنِهَا ، وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ نَقْلُ الْمُزَنِيِّ صَحِيحٌ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ غَيْرُ الْأَوْلَى : لِأَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ بِنْتِ زَيْدٍ وَامْرَأَةِ زَيْدٍ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ امْرَأَةِ زَيْدٍ وَبِنْتِ امْرَأَةٍ لَهُ أُخْرَى مِنْ غَيْرِهِ ، وَهَذَا لَدَيْنَا يَجُوزُ لِعَدَمِ التَّنَاسُبِ بَيْنَهُمَا .

فَصْلٌ : لَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ وَيَتَزَوَّجَ ابْنُهُ بِابْنَتِهَا ، أَوْ يَتَزَوَّجَ الْأَبُ امْرَأَةً وَيَتَزَوَّجَ الِابْنُ بِأُمِّهَا . وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ . وَمَنَعَ طَاوُسٌ إِذَا تَزَوَّجَ الْأَبُ بِامْرَأَةٍ أَنْ يَتَزَوَّجَ الِابْنُ بِابْنَتِهَا إِذَا وُلِدَتْ بَعْدَ وَطْءِ الْأَبِ لِأُمِّهَا ، فَإِنْ كَانَتْ قَدْ وُلِدَتْ قَبْلَ وَطْئِهِ لَمْ يَمْنَعْ ، وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ تَحْرِيمَ الرَّبِيبَةِ عَلَى الْأَبِ يُسَاوِي حُكْمَهُ فِي وِلَادَتِهَا قَبْلَ وَطْئِهِ وَبَعْدَهُ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَتَسَاوَى حُكْمُ إِبَاحَتِهَا لِلِابْنِ فِي وِلَادَتِهَا قَبْلَ وَطْءِ الْأَبِ وَبَعْدَهُ ، وَقَدْ حَرَصَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْغُلَامِ الَّذِي زَنَا بِبِنْتِ امْرَأَةِ أَبِيهِ فَجَلَدَهُ ، أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا ، فَأَبَى الْغُلَامُ ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ حَالُ الْوِلَادَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ مَا جَاءَ فِي الزِّنَا لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ

بَابُ مَا جَاءَ فِي الزِّنَا لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ مِنَ الْجَامِعِ وَمِنَ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " الزِّنَا لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : لِأَنَّ الْحَرَامَ ضِدُّ الْحَلَالِ ، فَلَا يُقَاسُ شَيْءٌ عَلَى ضِدِّهِ ، قَالَ لِي قَائِلٌ يَقُولُ : لَوْ قَبَّلَتِ امْرَأَتُهُ ابْنَهُ بِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَى زَوْجِهَا أَبَدًا ، لِمَ قُلْتَ لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ ؟ قُلْتُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا حَرَّمَ أَمَهَاتِ نِسَائِكُمْ وَنَحْوَهَا بِالنِّكَاحِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَاسَ الْحَرَامُ بِالْحَلَالِ ، فَقَالَ : أَجِدُ جِمَاعًا وَجِمَاعًا ، قُلْتُ : جِمَاعًا حُمِدَتْ بِهِ ، وَجِمَاعًا رُجِمَتْ بِهِ ، وَأَحَدُهُمَا نِعْمَةٌ ، وَجَعَلَهُ اللَّهُ نَسَبًا وَصِهْرًا ، وَأَوْجَبَ حُقُوقًا ، وَجَعَلَكَ مَحْرَمًا بِهِ لِأُمِّ امْرَأَتِكَ وَلِابْنَتِهَا ، تُسَافِرُ بِهِمَا ، وَجَعَلَ الزِّنَا نِقْمَةً فِي الدُّنْيَا بِالْحَدِّ ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ ، إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ ، أَفَتَقِيسُ الْحَرَامَ الَّذِي هُوَ نِقْمَةٌ عَلَى الْحَلَالِ الَّذِي هُوَ نِعْمَةٌ ؟ وَقُلْتُ لَهُ : فَلَوْ قَالَ لَكَ قَائِلٌ وَجَدْتُ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا تَحِلُّ بِجِمَاعِ زَوْجٍ فَأَحَلَّهَا بِالزِّنَا : لِأَنَّهُ جِمَاعٌ كَجِمَاعٍ ، كَمَا حَرَّمْتَ بِهِ الْحَلَالَ : لِأَنَّهُ جِمَاعٌ وَجِمَاعٌ ، قَالَ : إِذًا نُخْطِئُ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّهَا بِإِصَابَةِ زَوْجٍ ، قِيلَ : وَكَذَلِكَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِنِكَاحِ زَوْجٍ وَإِصَابَةِ زَوْجٍ ، قَالَ : أَفَيَكُونُ شَيْءٌ يُحَرِّمُهُ الْحَلَالُ وَلَا يُحَرِّمُهُ الْحَرَامُ فَأَقُولَ بِهِ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ يَنْكِحُ أَرْبَعًا ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْكِحَ مِنَ النِّسَاءِ خَامِسَةً ، أَفَيَحْرُمُ عَلَيْهِ إِذَا زَنَا بِأَرْبَعٍ شَيْءٌ مِنَ النِّسَاءِ ؟ قَالَ : لَا يَمْنَعُهُ الْحَرَامُ مِمَّا يَمْنَعُهُ الْحَلَالُ ( قَالَ ) وَقَدْ تَرْتَدُّ فَتَحْرُمُ عَلَى زَوْجِهَا : قُلْتُ : نَعَمْ ، وَعَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ ، وَأَقْتُلُهَا وَأَجْعَلُ مَالَهَا فَيْئًا ( قَالَ ) فَقَدْ أَوَجَدْتُكَ الْحَرَامَ يُحَرِّمُ الْحَلَالَ ، قُلْتُ : أَمَّا فِي مِثْلِ مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنْ أَمْرِ النِّسَاءِ فَلَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : تَرَكْتُ ذَلِكَ لِكَثْرَتِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَفِي تَحْرِيمِهَا بِوَطْءِ الْإِمَاءِ ، كَذَلِكَ الْوَطْءُ بِالشُّبْهَةِ يُوجِبُ مِنْ تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ مِثْلَ مَا يُوجِبُهُ الْوَطْءُ الْحَلَالُ فِي عَقْدِ نِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ : لِأَنَّهُ لَمَّا سَاوَاهُ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ وَلُحُوقِ النَّسَبِ سَاوَاهُ فِي تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ . فَأَمَّا وَطْءُ الزِّنَا فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ بِحَالٍ ، فَإِذَا زَنَا الرَّجُلُ بِامْرَأَةٍ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَلَا بِنْتُهَا ، وَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى أَبِيهِ وَلَا عَلَى ابْنِهِ . وَبِهِ قَالَ - مِنَ الصَّحَابَةِ - عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ .

وَمِنَ التَّابِعِينَ : سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَالزُّهْرِيُّ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ : مَالِكٌ ، وَرَبِيعَةُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الزِّنَا كَالْحَلَالِ فِي تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ ، فَإِذَا زَنَا بِامْرَأَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَبِنْتُهَا ، وَحَرُمَتْ عَلَى أَبِيهِ وَابْنِهِ ، وَلَوْ زَنَا بِامْرَأَةِ أَبِيهِ أَوِ ابْنِهِ ، بَطَلَ نِكَاحُهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَّلَهَا ، أَوْ لَمَسَهَا ، أَوْ تَعَمَّدَ النَّظَرَ إِلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ بَطَلَ نِكَاحُهَا عَلَى أَبِيهِ وَابْنِهِ ، وَحَرُمَ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَبِنْتُهَا . وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ ، وَإِسْحَاقَ ، وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ . وَزَادَ الْأَوْزَاعِيُّ ، فَقَالَ : إِذَا تَلَوَّطَ الرَّجُلُ بِغُلَامٍ ، حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهُ وَبِنْتُهُ ، وَحَرُمَ عَلَى الْغُلَامِ أُمُّهُ وَبِنْتُهُ . وَاسْتَدَلُّوا جَمِيعًا بِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [ النِّسَاءِ : 22 ] . وَالنِّكَاحُ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ ، فَاقْتَضَى عُمُومُ الْوَطْءِ تَحْرِيمَ الَّتِي وَطِئَهَا الْأَبُ . قَالُوا : وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى رَجُلٍ نَظَرَ إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَبِنْتِهَا ، فَاقْتَضَى إِذَا نَظَرَ إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ فِي الزِّنَا أَنْ لَا يَنْظُرَ إِلَى فَرَجِ ابْنَتِهَا فِي النِّكَاحِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ كَشَفَ خِمَارَ امْرَأَةٍ حَرُمَ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَبِنْتُهَا فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كَشْفِ الْخِمَارِ لِنِكَاحٍ أَوْ زِنًا ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ مَقْصُودٌ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ كَالنِّكَاحِ ، وَلِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ الْمُبَاحِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْوَطْءِ الْمَحْظُورِ قِيَاسًا عَلَى وَطْءِ الشُّبْهَةِ : وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ مَحْظُورِهِ وَمُبَاحِهِ كَالرَّضَاعِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا [ الْفَرْقَانِ : 54 ] فَجَمَعَ بَيْنَ الْمَائَيْنِ الصِّهْرِ وَالنَّسَبِ ، فَلَمَّا انْتَفَى عَنِ الزِّنَا حُكْمُ النَّسَبِ انْتَفَى عَنْهُ حُكْمُ الْمُصَاهَرَةِ ، وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْحَرَامُ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ . وَرُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُلِ يَنْكِحُ الْمَرْأَةَ حَرَامًا أَيَنْكِحُ ابْنَتَهَا ؟ ، أَوْ يَنْكِحُ الْبِنْتَ حَرَامًا أَيَنْكِحُ أُمَّهَا ؟ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ ، إِنَّمَا يُحَرِّمُ مَا كَانَ بِنِكَاحٍ حَلَالٍ . وَهَذَا نَصٌّ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ . وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ أَنَّهُ وَطْءٌ تَمَحَّضَ تَحْرِيمُهُ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ كَوَطْءِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا تُشْتَهَى ، وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ لَا يُوجِبُ الْعِدَّةَ فَلَمْ يُوجِبْ تَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ كَوَطْءِ الصَّغِيرَةِ وَالْمَيِّتَةِ ، وَلِأَنَّهُ تَحْرِيمُ نِكَاحٍ يَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ الصَّحِيحِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنِ الزِّنَا الصَّرِيحِ قِيَاسًا عَلَى تَحْرِيمِ الْعِدَّةِ ، وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ الْمُؤَقَّتُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ كَاللِّوَاطِ ، وَلِأَنَّ مَا أَوْجَبَ تَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ افْتَرَقَ حُكْمُ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ كَالْعِقْدِ ، وَلِأَنَّ الْمُوَاصَلَةَ الَّتِي ثَبَتَ فِي الْوَطْءِ بِالنِّكَاحِ تَنْتَفِي عَنِ الْوَطْءِ بِالزِّنَا قِيَاسًا عَلَى

مُوَاصَلَةِ النَّسَبِ : وَلِأَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى عَنْ وَطْءِ الزِّنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِوَطْءِ النِّكَاحِ مِنَ الْإِحْصَانِ ، وَالْإِحْلَالِ ، وَالْعِدَّةِ ، وَالنَّسَبِ انْتَفَى عَنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ بِمَا حَرُمَ مِنَ الْوَطْءِ ، وَالْقُبْلَةِ ، وَالْمُلَامَسَةِ بِشَهْوَةٍ لَمَا شَاءَتِ الْمَرْأَةُ أَنْ تُفَارِقَ زَوْجَهَا إِذَا كَرِهَتْهُ إِذَا قَدَرَتْ عَلَى فِرَاقِهِ بِتَقْبِيلِ ابْنِهِ فَيَصِيرُ الْفِرَاقُ بِيَدِهَا ، وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ بِيَدِ الزَّوْجِ دُونَهَا ، وَلَا يَبْطُلُ هَذَا بِالرِّدَّةِ : لِأَنَّ مَا يَلْزَمُهَا مِنَ الْقَتْلِ بِالرِّدَّةِ أَعْظَمُ مِمَّا تَسْتَفِيدُهُ مِنَ الْفُرْقَةِ ، فَلَمْ تَخْلُصْ لَهَا الْفُرْقَةُ بِالرِّدَّةِ ، وَخَلُصَتْ لَهَا بِالْقُبْلَةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ [ النِّسَاءِ : 22 ] فَهُوَ أَنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ ، فَجَازَ فِي الْوَطْءِ ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [ الْأَحْزَابِ : 49 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ [ النُّورِ : 32 ] يُرِيدُ بِهِ الْعَقْدَ دُونَ الْوَطْءِ ، ثُمَّ لَوْ تَنَاوَلَ الْوَطْءَ مَجَازًا عِنْدَنَا وَحَقِيقَةً عِنْدَهُمْ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى حَلَالِهِ مَخْصُوصًا فِي حَرَامِهِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا . وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى رَجُلٍ نَظَرَ إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَبِنْتِهَا فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ فَلَمْ يَلْزَمْنَا لِنَسْخِهَا بِالْقُرْآنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْوَعِيدِ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِ فِي الْحَرَامِ دُونَ الْحَلَالِ : لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا مَحَالَةَ حَرَامٌ . وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَشَفَ خِمَارَ امْرَأَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَبِنْتُهَا ، فَلَا دَلِيلَ فِي ظَاهِرِهِ فَعُمِلَ بِمُوجَبِهِ : لِأَنَّ كَشْفَ الْخِمَارِ لَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِ أُمَّهَا وَلَا بِنْتَهَا ، فَإِنْ عَدَلُوا بِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَى الْوَطْءِ ، عَدَلْنَا بِهِ إِلَى حَلَالِ الْوَطْءِ أَوْ شُبْهَتِهِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ بِأَنَّهُ وَطْءٌ مَقْصُودٌ كَالنِّكَاحِ ، فَلَيْسَ لِقَوْلِهِمْ " وَطْءٌ مَقْصُودٌ " تَأْثِيرٌ فِي الْحُكْمِ : لِأَنَّ وَطْءَ الْعَجُوزِ الشَّوْهَاءِ غَيْرُ مَقْصُودٍ ، وَهُوَ فِي تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ كَوَطْءِ الشَّابَّةِ الْحَسْنَاءِ ، وَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُهُ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ انْتُقِضَ بِوَطْءِ الْمَيِّتَةِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي النِّكَاحِ أَنَّهُ أَوْجَبَ لُحُوقَ النَّسَبِ ، فَلِذَلِكَ أَوْجَبَ تَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الزِّنَا ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى وَطْءِ الشُّبْهَةِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرَّضَاعِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ فَمُنْتَقِضٌ بِالْعَقْدِ يَفْتَرِقُ حُكْمُ مَحْظُورِهِ الْفَاسِدِ وَمُبَاحِهِ الصَّحِيحِ . وَإِنْ قِيلَ : فَالْعَقْدُ قَوْلٌ ، وَلَيْسَ بِفِعْلٍ . قِيلَ : الْقَوْلُ فِعْلٌ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الرَّضَاعِ أَنَّهُ لَمَّا تَعَلَّقَ لِمَحْظُورِهِ شَابَهَ أَحْكَامَ الْمُبَاحِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ .



فَصْلٌ : فَأَمَّا الشَّافِعِيُّ : فَإِنَّهُ حَكَى مُنَاظَرَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِرَاقِيِّينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ . فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ . وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : قَالَ لِي قَائِلٌ ، يَقُولُ : لَوْ قَبَّلَتِ امْرَأَةٌ ابْنَهُ لِشَهْوَةٍ ، حَرُمَتْ عَلَى زَوْجِهَا أَبَدًا ، لِمَ قُلْتَ هَذَا ؟ ، فَهَذَا سُؤَالٌ أَوْرَدَهُ عَلَيْهِ الْمُخَالِفُ ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : قَدْ أَخْطَأَ الْمُزَنِيُّ فِي نَقْلِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ : لِمَ لَا ؟ ، قُلْتُ : هَذَا ، فَحَذَفَ " لَا " وَقَالَ " لِمَ " ، قُلْتُ : هَذَا سَهْوًا مِنْهُ ، وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ نَقْلُ الْمُزَنِيِّ صَحِيحٌ : لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَ مَذْهَبَهُ فِي أَنَّ الْحَرَامَ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ وَطْأً كَانَ أَوْ لَمْسًا ، فَقَالَ لَهُ الْمُخَالِفُ أَنَا أَقُولُ : لَوْ قَبَّلَتِ امْرَأَةٌ ابْنَهُ بِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أَبَدًا ، لِمَ قُلْتَ هَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْكَ فِي أَنَّ الْحَرَامَ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ . فَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ مِنْ قِبَلِ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ أُمَّهَاتِ نِسَائِكُمْ ، وَهَذَا بِالنِّكَاحِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَاسَ الْحَرَامُ بِالْحَلَالِ ، يَعْنِي أَنَّهُ لَمَّا كَانَ النَّصُّ وَارِدًا فِي النِّكَاحِ كَانَ الْحُكْمُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَكُنِ الْحَرَامُ مُلْحَقًا بِهِ : لِأَنَّ حُكْمَ الْحَرَامِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْحَلَالِ ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَقَوْلُهُ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ هَذَا الْقَائِلِ ، فَقَالَ لِي : أَحَدُهُمَا جِمَاعًا وَجِمَاعًا ، يَعْنِي أَنَّ وَطْءَ الزِّنَا جِمَاعٌ وَوَطْءَ النِّكَاحِ جِمَاعٌ ، فَاقْتَضَى لِتَسَاوِيهِمَا أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُهُمَا ، فَأَجَابَهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ هَذَا بِأَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْجِمَاعَيْنِ فِي الْحُكْمِ ، فَقَالَ : جِمَاعًا حُمِدَتْ بِهِ ، وَجِمَاعًا رُجِمَتْ بِهِ ، وَأَحَدُهُمَا نِعْمَةٌ وَجَعَلَتْهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَأَوْجَبَ بِهِ حُقُوقًا وَجَعَلَكَ مَحْرَمًا لِأُمِّ امْرَأَتِكَ وَابْنَتِهَا تُسَافِرُ بِهِمَا ، وَجَعَلَ الزِّنَا نِقْمَةً فِي الدُّنْيَا بِالْحُدُودِ ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ ، أَفَتَقِيسُ الْحَرَامَ الَّذِي هُوَ نِقْمَةٌ عَلَى الْحَلَالِ الَّذِي هُوَ نِعْمَةٌ . فَبَيَّنَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ الْجِمَاعَيْنِ لَمَّا افْتَرَقَا فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ الَّتِي أَجْمَعْنَا عَلَيْهَا وَجَبَ أَنْ يَفْتَرِقَا فِي تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ الَّتِي اخْتَلَفْنَا فِيهَا ، ثُمَّ إِنَّ الشَّافِعِيَّ اسْتَأْنَفَ سُؤَالًا عَلَى هَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ لَهُ ، فَقَالَ : إِنْ قَالَ لَكَ قَائِلٌ : وَجَدْتُ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا تَحِلُّ بِجِمَاعِ الزَّوْجِ فَأُحِلُّهَا بِالزِّنَا ؟ ! لِأَنَّهُ جِمَاعٌ كَجِمَاعٍ كَمَا حَرَّمْتُ بِهِ الْحَلَالَ ، وَلِأَنَّهُ جِمَاعٌ وَجِمَاعٌ ، فَأَجَابَهُ هَذَا الْمُنَاظِرُ بِأَنْ قَالَ : إِذًا تُخْطِئُ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّهَا بِإِصَابَةِ زَوْجٍ ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : وَكَذَلِكَ مَا حَرَّمَ فِي كِتَابِهِ بِنِكَاحِ زَوْجٍ وَإِصَابَةِ زَوْجٍ ، فَأَوْرَدَ أَوَّلَ السُّؤَالِ نَقْضًا ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ قَدْ جَعَلُوا بَيْنَ الْجِمَاعَيْنِ فَرْقًا : لِأَنَّهُ أَلْحَقَ الْجِمَاعَ الْحَرَامَ بِالْجِمَاعِ الْحَلَّالِ مِنْ حَيْثُ جَمَعَهُمَا بِالِاسْمِ ، فَعَارَضَهُ بِتَحْلِيلِهَا لِلزَّوْجِ بِالْجِمَاعِ الْحَرَامٍ ، قِيَاسًا عَلَى الْجِمَاعِ الْحَلَالِ لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي الِاسْمِ ، فَأَقَرَّ بِتَخْطِئَةِ قَائِلِهِ ، فَصَارَ نَقْضًا ، وَاعْتِرَافًا بِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا فِي الِاسْمِ لَيْسَ بِعِلَّةٍ فِي الْحُكْمِ ، ثُمَّ حَكَى الشَّافِعِيُّ سُؤَالًا اسْتَأْنَفَهُ مَنَاظِرُهُ . فَقَالَ : قَالَ لِي أَفَيَكُونُ شَيْءٌ يُحَرِّمُهُ الْحَلَالُ لَا يُحَرِّمُهُ الْحَرَامُ أَقُولُ بِهِ ؟ فَأَجَابَهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ هَذَا بِأَنْ قَالَ : نَعَمْ ، يَنْكِحُ أَرْبَعًا فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْكِحَ مِنَ النِّسَاءِ خَامِسَةً ، أَفَيَحْرُمُ عَلَيْهِ إِذَا زَنَا بِأَرْبَعٍ شَيْءٌ مِنَ النِّسَاءِ ؟

قَالَ الْمُنَاظِرُ : لَا يَمْنَعُهُ الْحَرَامُ مَا مَنَعَهُ الْحَلَالُ ، فَكَانَ هَذَا مِنْهُ زِيَادَةُ اعْتِرَافٍ تُفَرِّقُ مَا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ، ثُمَّ إِنَّ الشَّافِعِيَّ حَكَى عَنْهُ اسْتِئْنَافَ سُؤَالٍ يَدُلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْحَرَامَ قَدْ يُحَرِّمُ الْحَلَالَ وَهُوَ أَنْ تَرْتَدَّ الْمَرْأَةُ فَتَحْرُمُ بِالرِّدَّةِ عَلَى زَوْجِهَا ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ الْحَرَامُ مُحَرِّمًا لِلْحَلَالِ . فَأَجَابَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ : نَعَمْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ ، وَعَلَى جَمِيعِ النَّاسِ ، وَأَقْتُلُهَا وَأَجْعَلُ مَالَهَا فَيْئًا ، يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ تَحْرِيمَ الرِّدَّةِ عَامٌّ ، وَلَا يَخْتَصُّ بِتَحْرِيمِ النِّكَاحِ ، وَإِنَّمَا دَخَلَ فِيهِ تَحْرِيمُ النِّكَاحِ تَبَعًا ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِحُكْمِ مَا يَخْتَصُّ بِتَحْرِيمِ النِّكَاحِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَإِذْ تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنَ الزِّنَا لَا يَحْرُمُ النِّكَاحُ ، فَجَاءَتِ الزَّانِيَةُ بِوَلَدٍ مِنْ زِنًا كَانَ وَلَدُ الزَّانِيَةِ دُونَ الزَّانِي : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ وَإِنَّمَا لَحِقَ بِهَا دُونَهُ : لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْهُمَا عِيَانًا ، وَمِنَ الْأَبِ ظَنًّا ، فَلَحِقَ بِهَا وَلَدُ الزِّنَا وَالنِّكَاحُ لِمُعَايَنَةِ وَضَعِهِمَا لَهُمَا ، وَلَحِقَ بِالْأَبِ وَلَدُ النِّكَاحِ دُونَ الزِّنَا لِغَلَبَةِ الظَّنِّ بِالْفِرَاشِ فِي النِّكَاحِ دُونَ الزِّنَا ، وَإِذَا لَمْ يَلْحَقْ وَلَدُ الزِّنَا بِالزَّانِي ، وَكَانَتْ ثَيِّبًا جَازَ لِلزَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، وَإِنْ كَرِهَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَعْنَى الْكَرَاهِيَةِ . فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي إِبَاحَتِهَا ، وَكُرْهُ اسْتِبَاحَتِهِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ كَرِهَ نِكَاحَهَا : لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ مَخْلُوقَةً مِنْ مَائِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : قَدْ حَرُمَ عَلَى الزَّانِي نِكَاحُهَا . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي مَعْنَى تَحْرِيمِهَا : فَقَالَ مُتَقَدِّمُوهُمْ : لِأَنَّهَا بَنَتُ امْرَأَةٍ قَدْ زَنَا بِهَا ، فَتَعَدَّى تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ إِلَيْهَا ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فَرْعًا عَلَى الْخِلَافِ الْمَاضِي . وَقَالَ مُتَأَخِّرُوهُمْ : بَلْ حِرْصًا : لِأَنَّهَا بِنْتُهُ مَخْلُوقَةٌ مِنْ مَائِهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ خِلَافًا مُسْتَأْنَفًا ، وَاسْتَدَلُّوا فِيهِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ [ النِّسَاءِ : 23 ] وَهَذِهِ بِنْتُهُ : لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّيهَا بِنْتًا ، وَلَا يُعْتَبَرُ عَقْدُ النِّكَاحِ . قَالُوا : وَلِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ مِنْ مِائِهِ فِي الظَّاهِرِ ، فَوَجَبَ أَنْ تَحْرُمَ عَلَيْهِ كَالْمَوْلُودَةِ مِنْ زَوْجِهِ أَوْ أُمِّهِ : وَلِأَنَّ وَلَدَ الزِّنَا مَخْلُوقٌ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ الزَّانِي وَالزَّانِيَةِ ، فَلَمَّا حَرُمَ وَلَدُ الزِّنَا عَلَى الزَّانِيَةِ وَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ عَلَى الزَّانِي قِيَاسًا عَلَى وَلَدِ الشُّبْهَةِ . وَلِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ مِنْ مِائِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ نَفْيُهَا عَنْهُ يُمَانِعُ مِنْ تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ قِيَاسًا عَلَى وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ تَحْرِيمَ الْوَلَدِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ النَّسَبِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْ مَاءِ الزَّانِي كَالْمِيرَاثِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لُحُوقُ النَّسَبِ بِالزَّانِيَةِ يُوجِبُ أَنْ يَتْبَعَهُ التَّحْرِيمُ كَمَا تَبِعَهُ الْمِيرَاثُ وَجَبَ إِذَا انْتَفَى النَّسَبُ عَنِ الزَّانِي أَنْ يَتْبَعَهُ التَّحْرِيمُ كَمَا تَبِعَهُ الْمِيرَاثُ ، وَقَدْ يَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاعْتِلَالِ قِيَاسَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ تَحْرِيمُ نَسَبٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِلنَّسَبِ كَاتِّبَاعِهِ فِي حَقِّ الْأُمِّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ تَابِعٌ لِلنَّسَبِ فِي الثُّبُوتِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لَهُ فِي النَّفْيِ كَالْمِيرَاثِ ، وَلَا مُدْخِلُ عَلَى هَذَا وَلَدَ الْمُلَاعَنَةِ لِمَا سَنَذْكُرُهُ : وَلِأَنَّ وَلَدَ الزِّنَا لَوْ حَرُمَتْ عَلَى الزَّانِي بِالْبُنُوَّةِ لَحَرُمَتْ عَلَى أَبِيهِ وَابْنِهِ بِحُكْمِ الْبُنُوَّةِ وَالْأُخُوَّةِ ، وَفِي إِبَاحَتِهَا لَهُمَا دَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَتِهَا لِلزَّانِي . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ مِنْ بَنَاتِهِ ، فَتَدْخُلُ فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ كَمَا لَمْ تَكُنْ مِنْ بَنَاتِهِ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ [ النِّسَاءِ : 11 ] الْآيَةَ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ مِنْ مَائِهِ ، فَهَذَا غَيْرُ مَعْلُومٍ ، فَلَمْ يَسْلَمْ ، ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ خَلْقُهَا مِنْ مَائِهِ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ نَسَبٌ وَلَا مِيرَاثٌ لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ تَحْرِيمٌ . فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى وَلَدِ الشُّبْهَةِ فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ نَسَبُهُ وَمِيرَاثُهُ ثَبَتَ تَحْرِيمُهُ ، وَوَلَدُ الزِّنَا بِخِلَافِهِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ ، فَالْحُكْمُ فِي وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِأُمِّهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ أَبَدًا : لِأَنَّهَا بَنَتُ امْرَأَةٍ قَدْ دَخَلَ بِهَا ، وَإِنْ كَانَ مَا دَخَلَ بِهَا ، فَفِي تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ وَجْهَانِ ؛ حَكَاهُمَا أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ : أَحَدُهُمَا : لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ كَوَلَدِ الزِّنَا ، فَعَلَى هَذَا بَطَلَ الْقِيَاسُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ لَوِ اعْتَرَفَ بِهَا بَعْدَ الزِّنَا لَحِقَتْ ، وَوَلَدُ الزِّنَا لَوِ اعْتَرَفَ بِهِ لَمْ يَلْحَقْ ، فَصَارَ وَلَدُ الزِّنَا مُؤَبَّدًا ، وَنَفْيُ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ غَيْرُ مُؤَبَّدٍ ، فَافْتَرَقَا فِي النَّفْيِ ، فَكَذَلِكَ مَا افْتَرَقَا فِي الْحُكْمِ .

بَابُ نِكَاحِ حَرَائِرِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِمَائِهِمْ وَإِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ

بَابُ نِكَاحِ حَرَائِرِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِمَائِهِمْ وَإِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، مِنَ الْجَامِعِ ، وَمِنْ كِتَابِ مِا يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَأَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَحِلُّ نِكَاحُ حَرَائِرِهِمُ الْيَهُودُ وَالنَصَارَى دُونَ الْمَجُوسِ ، وَالصَّابِئُونَ وَالسَّامِرَةُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُمْ يُخَالِفُونَهُمْ فِي أَصْلِ مَا يُحِلُّونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيُحَرِّمُونَ فَيُحَرَّمُونَ كَالْمَجُوسِ ، وَإِنْ كَانُوا يُخَالِفُونَهُمْ عَلَيْهِ ، وَيَتَأَوَّلُونَ فَيَخْتَلِفُونَ ، فَلَا يُحَرَّمُونَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ هُمْ أَهْلُ كِتَابٍ ، وَقِسْمٌ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ ، وَقِسْمٌ لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ ، فَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ، فَكِتَابُ الْيَهُودِ التَّوْرَاةُ ، وَنَبِيُّهُمْ مُوسَى ، وَكِتَابُ النَّصَارَى الْإِنْجِيلُ ، وَنَبِيُّهُمْ عِيسَى ، وَكِلَا الْكِتَابَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ وَمُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِهِ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ [ آلِ عِمْرَانَ : 3 ، 4 ] . قَدْ نُسِخَ الْكِتَابَانِ وَالشَّرِيعَتَانِ ، أَمَّا الْإِنْجِيلُ فَمَنْسُوخٌ بِالْقُرْآنِ ، وَالنَّصْرَانِيَّةُ مَنْسُوخَةٌ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ ، وَأَمَّا التَّوْرَاةُ وَدِينُ الْيَهُودِيَّةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بِمَاذَا نُسِخَ ؛ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ التَّوْرَاةَ مَنْسُوخَةٌ بِالْإِنْجِيلِ ، وَالْيَهُودِيَّةَ مَنْسُوخَةٌ بِالنَّصْرَانِيَّةِ ، ثُمَّ نَسَخَ الْقُرْآنُ الْإِنْجِيلَ ، وَنَسَخَ الْإِسْلَامُ النَّصْرَانِيَّةَ ، وَهَذَا أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ : لِأَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ دَعَا الْيَهُودَ إِلَى دِينِهِ ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِإِنْجِيلِهِ ، فَلَوْ لَمْ يَنْسَخْ دِينَهُمْ بِدِينِهِ وَكِتَابَهُمْ بِكِتَابِهِ لَأَقَرَّهُمْ وَلَدَعَى غَيْرَهُمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ التَّوْرَاةَ مَنْسُوخَةٌ بِالْقُرْآنِ ، وَالْيَهُودِيَّةَ مَنْسُوخَةٌ بِالْإِسْلَامِ ، وَأَنَّ مَا لَمْ يُغَيَّرْ مِنَ التَّوْرَاةِ قَبْلَ الْقُرْآنِ حَقٌّ ، وَمَا تَغَيَّرَ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ حَقٌّ ، وَأَنَّ عِيسَى إِنَّمَا دَعَا الْيَهُودَ : لِأَنَّهُمْ غَيَّرُوا كِتَابَهُمْ وَبَدَّلُوا دِينَهُمْ ، فَنَسَخَ بِالْإِنْجِيلِ مَا غَيَّرُوهُ مِنْ تَوْرَاتِهِمْ ، وَبِالنَّصْرَانِيَّةِ مَا بَدَّلُوهُ مِنْ يَهُودِيَّتِهِمْ ، ثُمَّ نَسَخَ الْقُرْآنُ حِينَئِذٍ جَمِيعَ تَوْرَاتِهِمْ ، وَنَسَخَ الْإِسْلَامُ جَمِيعَ يَهُودِيَّتِهِمْ : لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ قَدْ كَانُوا يَحْفَظُونَ مِنَ الشَّرَائِعِ التَّبْدِيلَ ، وَيَنْسَخُونَ مِنْهَا مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ ، كَمَا نَسَخَ الْإِسْلَامُ فِي آخِرِ الْوَحْيِ خَاصًّا مِنْ أَوَّلِهِ ، فَأَمَّا نَسْخُ الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الْعُمُومِ فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا بِالْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ خَاتِمَةُ الشَّرَائِعِ بِالْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ خَاتِمَةُ الْكُتُبِ ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الدَّاخِلُ فِي الْيَهُودِيَّةِ بَعْدَ عِيسَى عَلَى بَاطِلٍ ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي عَلَى حَقٍّ مَا لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ غَيَّرَ وَبَدَّلَ ، فَأَمَّا بَعْدَ الْإِسْلَامِ ، فَالدَّاخِلُ فِي الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ عَلَى بَاطِلٍ .



فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَدْ كَانُوا عَلَى دِينٍ حَقٍّ ثُمَّ نُسِخَ ، فَيَجُوزُ لِحُرْمَةِ كِتَابِهِمْ أَنْ يُقَرُّوا عَلَى دِينِهِمْ بِالْجِزْيَةِ ، أَيْ يُزَكُّوا وَتُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَتُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ ، فَأَمَّا إِقْرَارُهُمْ بِالْجِزْيَةِ وَأَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ أهل الكتاب فَمُجْمَعٌ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ . أَمَّا الْجِزْيَةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ [ التَّوْبَةِ : 29 ] . فَأَمَّا أَكَلُ الذَّبَائِحِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ [ الْمَائِدَةِ : 5 ] . أَمَّا نِكَاحُ حَرَائِرِهِمْ نكاح حرائر أهل الكتاب فَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ غَيْرَ الْإِمَامِيَّةِ مِنَ الشِّيعَةِ ، أَنَّهُمْ مَنَعُوا مِنْ نِكَاحِ حَرَائِرِهِمْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى نِكَاحِ الْمُسْلِمَاتِ : اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ [ الْمُمْتَحِنَةِ : 10 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ [ الْمَائِدَةِ : 51 ] الْآيَةَ . قَالُوا وَلِأَنَّ بَعْضَهُمْ يُمْنَعُ مِنْ نِكَاحِ نِسَائِهِمْ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ مُنَزَّلٍ فَكِتَابُهُمْ مُغَيَّرٌ مَنْسُوخٌ ، وَمَا نَسَخَهُ اللَّهُ تَعَالَى ارْتَفَعَ حُكْمُهُ ، فَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا لَمْ يَكُنْ ، فَكَذَلِكَ صَارُوا بَعْدَ نَسْخِهِ فِي حُكْمِ مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [ الْمَائِدَةِ : 5 ] فَجَمَعَ بَيْنَ نِكَاحِهِنَّ وَنِكَاحِ الْمُؤْمِنَاتِ فَدَلَّ عَلَى إِبَاحَتِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [ الْبَقَرَةِ : 221 ] مُتَقَدِّمَةٌ : لِأَنَّهَا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَقَوْلِهِ : وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ مُتَأَخِّرَةٌ : لِأَنَّهَا مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ ، وَهِيَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ ، وَالْمُتَأَخِّرُ هُوَ النَّاسِخُ لِلْمُتَقَدِّمِ ، وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَقَدِّمُ نَاسِخًا لِلْمُتَأَخِّرِ ، فَعَلَى هَذَا الْجَوَابِ يَكُونُ قَوْلُهُ : وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ : وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [ الْمَائِدَةِ : 5 ] وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ : وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [ الْبَقَرَةِ : 221 ] عَامٌ ، وَقَوْلَهُ : وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ خَاصٌّ ، وَالْخَاصُّ مِنْ حُكْمِهِ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا عَلَى الْعَامِ ، وَمُخَصَّصًا لَهُ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ أَوْ تَأَخَّرَ عَنْهُ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ : وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [ الْبَقَرَةِ : 221 ] مَخْصُوصًا بِقَوْلِهِ : وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [ الْمَائِدَةِ : 5 ] وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَأَنَّ اسْمَ الشِّرْكِ يُطْلَقُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ ، وَذَهَبَ غَيْرُهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ : إِلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكُفْرِ وَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الشِّرْكِ ، وَأَنَّ اسْمَ الشِّرْكِ يُطْلَقُ عَلَى مَنْ لَمْ يُوَحِّدِ اللَّهَ تَعَالَى وَأَشْرَكَ بِهِ غَيْرَهُ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ قَوْلُهُ : وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ خُصُوصًا وَلَا مَنْسُوخًا ثُمَّ حُكْمُهُ ثَابِتٌ عَلَى عُمُومِهِ . ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ نِكَاحَهُمْ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَلَكَ رَيْحَانَةَ وَكَانَتْ يَهُودِيَّةً وَاسْتَمْتَعَ بِهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ ، ثُمَّ أَسْلَمَتْ ، فَبُشِّرْ بِإِسْلَامِهَا ، فَسُرَّ بِهِ ، وَلَوْ مَنَعَ الدِّينَ مِنْهَا لَمَا اسْتَمْتَعَ بِهَا ، كَمَا لَمْ يَسْتَمْتِعْ بِوَثَنِيَّةٍ ، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، رُوِيَ عَنْ عُمَرَ جَوَازُهُ ، وَعَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ نَكَحَ

نَصْرَانِيَّةً وَعَنْ طَلْحَةَ أَنَّهُ تَزَوَّجَ نَصْرَانِيَّةً ، وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً ، وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : " نَكَحْنَاهُنَّ بِالْكُوفَةِ عَامَ الْفَتْحِ مَعَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ " ، وَنَحْنُ لَا نَكَادُ نَجِدُ الْمُسْلِمَاتِ كَثِيرًا ، فَلَمَّا انْصَرَفْنَا مِنَ الْعِرَاقِ طَلَّقْنَاهُنَّ ، تَحِلُّ لَنَا نِسَاؤُهُمْ وَلَا تَحِلُّ لَهُمْ نِسَاؤُنَا ، فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ جَابِرٍ إِخْبَارًا عَنْ أَحْوَالِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ مَعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ ، فَصَارَ إِجْمَاعًا مُنْتَشِرًا . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ خَالَفَ ابْنُ عُمَرَ . قِيلَ : ابْنُ عُمَرَ كَرِهَ وَلَمْ يُحَرِّمْ ، فَلَمْ يَصِرْ مُخَالِفًا ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَنْزَلَ كِتَابًا مِنْ كَلَامِهِ ، وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْبِيَائِهِ كَانُوا فِي التَّمَسُّكِ بِهِ عَلَى حَقٍّ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَاوُوا فِي الشِّرْكِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ عَلَى حَقٍّ مَعَهُ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِحُرْمَةِ كِتَابِهِمْ ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ صِحَّةِ دِينِهِمْ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ بِالْجِزْيَةِ ، وَأَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ جَازَ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمْ فِي نِكَاحِ نِسَائِهِمْ ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ مَضَى الْجَوَابُ عَنْهَا . وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ [ الْمُمْتَحِنَةِ : آيَةُ 10 ] فَمَخْصُوصٌ بِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ ، فَمَمْنُوعٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي قَبُولِ الْجِزْيَةِ ، وَأَكْلِ الذَّبَائِحِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ كِتَابَهُمْ مَنْسُوخٌ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّ مَا نُسِخَ حُكْمُهُ لَا يُوجَبُ أَنْ لَا يُنْسَخَ حُرْمَتُهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَا نُسِخَ مِنَ الْقُرْآنِ ثَابِتُ الْحُرْمَةِ ، وَإِنْ كَانَ مَنْسُوخَ الْحُكْمِ ، كَذَلِكَ نَسْخُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَهْلُ كِتَابٍ يَحِلُّ نِكَاحُ حَرَائِرِهِمْ فَهُمْ ضَرْبَانِ : بَنُو إِسْرَائِيلَ ، وَغَيْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ . فَأَمَّا بَنُو إِسْرَائِيلَ : وَهُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ ، فَجَمِيعُ بَنِيهِ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي دِينِ مُوسَى حِينَ دَعَاهُمْ ، دَخَلَ مِنْهُمْ فِي دِينِ عِيسَى مَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ ، فَقَدْ كَانُوا عَلَى دِينِ حَقٍّ دَخَلُوا فِيهِ قَبْلَ تَبْدِيلِهِ ، فَيَجُوزُ إِقْرَارُهُمْ بِالْجِزْيَةِ ، وَأَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحُ حَرَائِرِهِمْ . وَأَمَّا غَيْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِمَّنْ دَخَلَ فِي الْيَهُودِيَّةِ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَالتُّرْكِ ، فَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ : صِنْفٌ دَخَلُوا فِيهِ قَبْلَ التَّبْدِيلِ كَالرُّومِ حِينَ دَخَلُوا النَّصْرَانِيَّةَ ، فَهَؤُلَاءِ كَبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي إِقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ وَأَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحِ حَرَائِرِهِمْ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ الرُّومِ كِتَابًا ،

قَالَ فِيهِ : قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ [ آلِ عِمْرَانَ : 64 ] الْآيَةَ ، فَجَعَلَهُمْ أَهْلَ الْكِتَابِ : وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ لِلدِّينِ وَالْكِتَابِ لَا لِلنَّسَبِ : فَلِذَلِكَ مَا اسْتَوَى حُكْمُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ فِيهِ . وَالصِّنْفُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونُوا قَدْ دَخَلُوا فِيهِ بَعْدَ التَّبْدِيلِ ، فَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا عَلَى حَقٍّ ، وَلَا تَمَسَّكُوا بِكِتَابٍ صَحِيحٍ ، فَصَارُوا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حُرْمَةٌ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فِي أَنْ لَا تُقْبَلَ لَهُمْ جِزْيَةٌ ، وَلَا يُؤْكَلُ لَهُمْ ذَبِيحَةٌ ، وَلَا تُنْكَحُ مِنْهُمُ امْرَأَةٌ . وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ : أَنْ يُشَكَّ فِيهِمْ هَلْ دَخَلُوا فِيهِ قَبْلَ التَّبْدِيلِ أَوْ بَعْدَهُ كَنَصَارَى الْعَرَبِ ، كَوَجٍّ وَفِهْرٍ وَتَغْلِبَ ، فَهَؤُلَاءِ شَكَّ فِيهِمْ عُمَرُ فَشَاوَرَ فِيهِمُ الصَّحَابَةَ ، فَاتَّفَقُوا عَلَى إِقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ حَقْنًا لِدِمَائِهِمْ : وَأَنْ لَا تُؤْكَلَ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تُنْكَحَ نِسَاؤُهُمْ لِأَنَّ الدِّمَاءَ مَحْقُونَةٌ ، فَلَا تُبَاحُ بِالشَّكِّ وَالْفُرُوجَ مَحْظُورَةٌ فَلَا تُسْتَبَاحُ بِالشَّكِّ . فَهَذَا حُكْمُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : هُمْ غَيْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَعَبَدَةِ الشَّمْسِ وَالنِّيرَانِ مُشْرِكُونَ لَا يُقْبَلُ لَهُمْ جِزْيَةٌ ، وَلَا تُؤْكَلُ لَهُمْ ذَبِيحَةٌ ، وَعَبَدَةِ مَا اسْتَحْسَنَ مِنْ حِمَارٍ أَوْ حَيَوَانٍ ، أَوْ قَالَ بِتَدْبِيرِ الطَّبَائِعِ وَبَقَاءِ الْعَالَمِ ، أَوْ قَالَ بِتَدْبِيرِ الْكَوَاكِبِ فِي الْأَكْوَانِ وَالْأَدْوَارِ ، فَلَمْ يُصَدِّقْ نَبِيًّا ، وَلَا آمَنَ بِكِتَابٍ ، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مُشْرِكُونَ لَا يُقْبَلُ لَهُمْ جِزْيَةٌ ، وَلَا تُؤْكَلُ لَهُمْ ذَبِيحَةٌ ، وَلَا تُنْكَحُ مِنْهُمُ امْرَأَةٌ ، وَلَا يُحْكَمُ فِيهِمْ إِذَا امْتَنَعُوا مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِالسَّيْفِ إِذَا قُدِرَ عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ يُؤَمَّنُوا مُدَّةً أَكْثَرُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ يُرَاعَى انْقِضَاؤُهَا فِيهِمْ ، ثُمَّ هُمْ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ أَمَانِهِمْ حَرْبٌ ، وَسَوَاءٌ أَقَرُّوا بِأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَوْ أَشْرَكُوا بِهِ غَيْرَهُ ، أَوْ جَحَدُوهُ وَلَمْ يُقِرُّوا بِهِ إِلَهًا وَلَا خَالِقًا فِي أَنَّ حُكْمَ جَمِيعِهِمْ سَوَاءٌ ، لَا يُقْبَلُ لَهُمْ جِزْيَةٌ وَلَا تُؤْكَلُ لَهُمْ ذَبِيحَةٌ ، وَلَا تُنْكَحُ مِنْهُمُ امْرَأَةٌ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُمْ مَنْ لَهُ شُبْهَةُ كِتَابٍ الصَّابِئُونَ ، وَالسَّامِرِيَّةُ ، وَالْمَجُوسُ لَا يُقْبَلُ لَهُمْ جِزْيَةٌ ، وَلَا يُؤْكَلُ لَهُمْ ذَبِيحَةٌ فَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ : الصَّابِئُونَ ، وَالسَّامِرِيَّةُ ، وَالْمَجُوسُ . فَأَمَّا السَّامِرَةُ : فَهُمْ صِنْفُ الْيَهُودِ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ حِينَ غَابَ عَنْهُمْ مُوسَى مُدَّةَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ بَعْدَ الثَّلَاثِينَ ، وَاتَّبَعُوا السَّامِرِيَّ ، فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عِبَادَةَ الْعِجْلِ ، وَأَمْرَهُمْ بِالتَّوْبَةِ ، وَقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ قَتَلَ . وَأَمَّا الصَّابِئُونَ فَهُمْ صِنْفٌ مِنَ النَّصَارَى ، وَافَقُوهُمْ عَلَى بَعْضِ دِينِهِمْ وَخَالَفُوهُمْ فِي بَعْضِهِ ، وَقَدْ يُسَمَّى بِاسْمِهِمْ ، وَيُضَافُ إِلَيْهِمْ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا صَانِعَةً مُدَبِّرَةً ، فَنَظَرَ الشَّافِعِيُّ فِي دِينِ الصَّابِئِينَ وَالسَّامِرَةِ : فَوَجَدَهُ مُشْتَبِهًا ، فَعَلَّقَ الْقَوْلَ فِيهِمْ لِاشْتِبَاهِ أَمْرِهِمْ ، فَقَالَ هَاهُنَا : إِنَّهُمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُمْ يُخَالِفُوهُمْ فِي أَصْلِ مَا يُحِلُّونَ وَيُحَرِّمُونَ فَيُحَرَّمُونَ ، وَقَطَعَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ مِنْهُمْ ، وَتَوَقَّفَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِيهِمْ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ قَوْلِهِ ، وَلَكِنْ لَا يَخْلُو حَالُهُمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : فَقَالَ إِنْ وَافَقُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي أَصْلِ مُعْتَقَدِهِمْ ، وَيُخَالِفُوهُمْ فِي فُرُوعِهِ فَيُقِرُّ السَّامِرَةُ بِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ ، وَيُقِرُّ الصَّابِئُونَ بِعِيسَى وَالْإِنْجِيلِ ، فَهَؤُلَاءِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي قَبُولِ جِزْيَتِهِمْ ، وَأَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ ، وَنِكَاحِ

نِسَائِهِمْ : لِأَنَّهُمْ إِذَا جَمَعَهُمْ أَصْلُ الْمُعْتَقَدِ لَمْ يَكُنْ خِلَافُهُمْ فِي فُرُوعِهِ مُؤَثِّرًا ، كَمَا يَخْتَلِفُ الْمُسْلِمُونَ - مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَصْلِ الدِّينِ - فِي فُرُوعٍ لَا تُوجِبُ تَبَايُنَهُمْ وَلَا خُرُوجَهُمْ عَنِ الْمِلَّةِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُخَالِفُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي أُصُولِ مُعْتَقَدِهِمْ ، وَأَنْ يُوَافِقُوهُمْ فِي فُرُوعِهِ ، وَيُكَذِّبَ السَّامِرَةُ بِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ ، وَيُكَذِّبَ الصَّابِئُونَ بِعِيسَى وَالْإِنْجِيلِ ، فَهَؤُلَاءِ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ لَا يُقْبَلُ لَهُمْ جِزْيَةٌ ، وَلَا يُؤْكَلُ لَهُمْ ذَبِيحَةٌ ، وَلَا تُنْكَحُ مِنْهُمُ امْرَأَةٌ : لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى حَقٍّ فَيُرَاعَى فِيهِمْ ، وَلَا تَمَسَّكُوا بِكِتَابٍ فَيُحْفَظَ عَلَيْهِمْ حُرْمَتُهُ فَيُؤْخَذُوا بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِالسَّيْفِ ، وَحُكِيَ أَنَّ الْقَاهِرَ اسْتَفْتَى أَبَا سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيَّ فِيهِمْ فَأَفْتَاهُ أَنْ يَقْتُلَهُمْ : لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إِنَّ الْفَلَكَ هُوَ حَيٌّ نَاطِقٌ وَإِنَّ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ آلِهَةٌ مُدَبِّرَةٌ ، فَهَمَّ بِقَتْلِهِمْ ، فَبَذَلُوا لَهُ مَالًا ، فَكَفَّ عَنْهُمْ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُشَكَّ فِيهِمْ ، فَلَا يُعْلَمُ هَلْ وَافَقُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي الْأُصُولِ دُونَ الْفُرُوعِ ، أَوْ فِي الْفُرُوعِ دُونَ الْأُصُولِ ؟ فَهَؤُلَاءِ كَمَنْ شُكَّ فِي دُخُولِهِ فِي الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ هَلْ كَانَ قَبْلَ التَّبْدِيلِ أَوْ بَعْدَهُ فَيُقِرُّونَ بِالْجِزْيَةِ حَقْنًا لِدِمَائِهِمْ ، وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمَجُوسُ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِمْ هَلْ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ أَمْ لَا ؟ وَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ فِيهِمْ ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ : هُمْ أَهْلُ كِتَابٍ ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ : لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخْرِجُهُ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا كِتَابَ لَهُمْ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ [ الْأَنْعَامِ : 156 ] يَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا كِتَابَ لِغَيْرِهِمَا : وَلِأَنَّ عُمْرَ لَمَّا أَشْكَلَ عَلَيْهِ أَمْرُهُمْ سَأَلَ الصَّحَابَةَ عَنْهُمْ ، فَرَوَى لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلَمَّا أَمَرَ بِإِجْرَائِهِمْ مَجْرَى أَهْلِ الْكِتَابِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجُوزُ قَبُولُ جِزْيَتِهِمْ لِهَذَا الْحَدِيثِ ، وَأَنَّ عُمَرَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ بِالْعِرَاقِ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ . فَأَمَّا أَكْلُ ذَبَائِحِمْ وَنِكَاحُ نِسَائِهِمْ فَلَا يَجُوزُ : لِعَدَمِ الْكِتَابِ فِيهِمْ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِيهِمْ : أَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ [ التَّوْبَةِ : 29 ] وَقَدْ ثَبَتَ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، أَنَّهُ قَالَ : - وَكَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ - وِإِنَّ مَلِكَهُمْ سَكِرَ فَوَقَعَ عَلَى ابْنَتِهِ أَوْ أُخْتِهِ فَاطَّلَعَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ ، فَلَمَّا صَحَا جَاءُوا يُقِيمُونَ عَلَيْهِ الْحَدَّ ، فَامْتَنَعَ مِنْهُمْ ، فَدَعَا آلَ مَمْلَكَتِهِ ، فَقَالَ : " تَعْلَمُونَ دِينًا خَيْرًا مِنْ دِينِ آدَمَ ، فَقَدْ كَانَ آدَمُ يَنْكِحُ بَنِيهِ مِنْ بَنَاتِهِ ، فَأَنَا عَلَى دِينِ آدَمَ مَا يَرْغَبُ بِكُمْ عَنْ دِينِهِ فَبَايَعُوهُ وَخَالَفُوا الدِّينَ ، وَقَاتَلُوا الَّذِينَ خَالَفُوهُمْ حَتَّى قَتَلُوهُمْ ، فَأَصْبَحُوا وَقَدْ أُسْرِيَ عَلَى كِتَابِهِمْ ، فَرُفِعَ مِنْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ ، وَذَهَبَ الْعِلْمُ الَّذِي فِي

صُدُورِهِمْ ، وَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ ، وَقَدْ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ " . فَنَكَحَ الْمِلْكُ أُخْتَهُ ، وَأَمْسَكُوا عَنِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ ، إِمَّا مُتَابَعَةً لِرَأْيِهِ ، وَإِمَّا خَوْفًا مِنْ سَطْوَتِهِ ، فَأَصْبَحُوا وَقَدْ أُسْرِيَ بِكِتَابِهِمْ ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجُوزُ إِقْرَارُهُمْ بِالْجِزْيَةِ : وَهَلْ يَجُوزُ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحُ نِسَائِهِمْ أَمْ لَا المجوس ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لِإِجْرَاءِ حُكْمِ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّ طَرِيقُ كِتَابِهِمُ الِاجْتِهَادَ ، دُونَ النَّصِّ ، فَقَصَرَ حُكْمُهُ عَنْ حُكْمِ النَّصِّ . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا : لَيْسَ مَا اخْتَلَفَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ اخْتِلَافَ قَوْلَيْهِ فِيهِ ، إِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ : إِنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ ، يَعْنِي فِي قَبُولِ الْجِزْيَةِ وَحْدَهَا : حَقْنًا لِدِمَائِهِمْ أَنْ لَا تُسْتَبَاحَ بِالشَّكِّ ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ : إِنَّهُمْ غَيْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ ، يَعْنِي فِي أَنْ لَا تُؤْكَلَ ذَبَائِحُهُمْ ، وَلَا تُنْكَحَ نِسَاؤُهُمْ . وَهَذَا قَوْلُ سَائِرِ الصَّحَابَةِ ، وَالتَّابِعِينَ ، وَالْفُقَهَاءِ . وَخَالَفَ أَبُو ثَوْرٍ فَجَوَّزَ أَكْلَ ذَبَائِحِهِمْ ، وَنِكَاحَ نِسَائِهِمْ . وَرَوَى إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ تَحْرِيمَ ذَلِكَ عَنْ سَبْعَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا ، وَقَالَ : مَا كُنَّا نَعْرِفُ خِلَافًا فِيهِ حَتَّى جَاءَنَا خِلَافًا مِنَ الْكَرْخِ ، يَعْنِي خِلَافَ أَبِي ثَوْرٍ : لِأَنَّهُ كَانَ يَسْكُنُ كَرْخَ بَغْدَادَ . وَاسْتَدَلَّ أَبُو ثَوْرٍ عَلَى أَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ ، وَجَوَازِ مُنَاكَحَتِهِمْ بِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ قَالَ : وَقَدْ تَزَوَّجَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ مَجُوسِيَّةً بِالْعِرَاقِ ، فَاسْتَنْزَلَهُ عَنْهَا عُمْرُ فَطَلَّقَهَا ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ لِأَنْكَرَ عَلَيْهِ ، وَلِفَرَّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ : وَلِأَنَّ كُلَّ صِنْفٍ جَازَ قَبُولُ جِزْيَتِهِمْ جَازَ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحُ نِسَائِهِمْ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، قَالُوا : وَلِأَنَّ كِتَابَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى نُسِخَ ، وَكِتَابَ الْمَجُوسِ رُفِعَ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ حُكْمِ الْمَنْسُوخِ وَالْمَرْفُوعِ : فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْ نَسْخُ كِتَابَيِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ أَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ لَمْ يَمْنَعْ رَفْعُ كِتَابِ الْمَجُوسِ مِنْ ذَلِكَ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيَّ رَوَاهُ عَنْ سَبْعَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا لَا يَعْرِفُ لَهُمْ مُخَالِفًا ، فَصَارَ إِجْمَاعًا : لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَتَمَسَّكْ بِكِتَابٍ لَمْ تَحِلَّ ذَبَائِحُهُمْ وَنِسَائِهُمْ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ ، وَلَيْسَ لِلْمَجُوسِ كِتَابٌ يَتَمَسَّكُونَ بِهِ كَمَا يَتَمَسَّكُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُمْ مُخَالِفًا لِحُكْمِهِمْ ، وَلِأَنَّ نِكَاحَ الْمُشْرِكَاتِ مَحْظُورٌ بِعُمُومِ النَّصِّ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَبَاحَ بِاحْتِمَالٍ : وَلِأَنَّ عُمْرَ مَعَ الصَّحَابَةِ تَوَافَقُوا فِي قَبُولِ جِزْيَتِهِمْ لِلشَّكِّ فِيهِمْ ، فَكَيْفَ يَجُوزُ مَعَ هَذَا الشَّكِّ أَنْ يَسْتَبِيحَ أَكْلَ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحَ نِسَائِهِمْ . وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ يَسْأَلُهُ كَيْفَ أَخَذَ النَّاسُ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ ، وَأَقَرُّوهُمْ عَلَى عِبَادَةِ النِّيرَانِ ، وَهُمْ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ ، إِنَّمَا أَخَذُوا مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ : لِأَنَّ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ - وَكَانَ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْبَحْرَيْنِ - أَخَذَهَا

مِنْهُمْ ، وَأَقَرَّهُمْ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ أُفْرِدُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ وَحْدَهَا ، فَلِذَلِكَ خَصَّهُمَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِالسُّؤَالِ وَالْإِنْكَارِ ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِقَوْلِهِ : " سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ " فَيَعْنِي بِهِ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ رَوَى ذَلِكَ عِنْدَ الشَّكِّ فِي قَبُولِ جِزْيَتِهِمْ . وَالثَّانِي : أَنَّ الصَّحَابَةَ أَثْبَتُوا هَذَا الْحَدِيثَ فِي قَبُولِ جِزْيَتِهِمْ ، وَلَمْ يُجَوِّزُوا بِهِ أَكْلَ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحَ نِسَائِهِمْ . وَأَمَّا تَزْوِيجُ حُذَيْفَةَ بِمَجُوسِيَّةٍ ، فَالْمَرْوِيُّ أَنَّهَا كَانَتْ يَهُودِيَّةً ، وَلَوْ كَانَتْ مَجُوسِيَّةً ، فَقَدِ اسْتَنْزَلَهُ عَنْهَا عُمْرُ فَنَزَلَ ، وَلَوْ كَانَتْ تَحِلُّ لَهُ لَمَا اسْتَنْزَلَهُ عَنْهَا عُمْرُ ، وَلَمَا نَزَلَ عَنْهَا حُذَيْفَةُ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، فَالْمَعْنَى فِيهِمْ تَمَسُّكُهُمْ بِكِتَابِهِمْ ، فَثَبَتَ حُرْمَتُهُ فِيهِمْ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَجُوسُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إِنَّ حُكْمَ الْمَرْفُوعِ وَالْمَنْسُوخِ سَوَاءٌ ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ : لِأَنَّ الْمَنْسُوخَ بَاقِي التِّلَاوَةِ فَنُفِيَتْ حُرْمَتُهُ فِيهِمْ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَجُوسِيُّ ، وَأَمَا الْمَرْفُوعُ مَرْفُوعُ التِّلَاوَةِ فَارْتَفَعَتْ حُرْمَتُهُ ، هَذَا الْكَلَامُ فِيمَنْ لَهُ شُبْهَةٌ بِكِتَابٍ مِنَ الصَّابِئِينَ وَالسَّامِرَةِ وَالْمَجُوسِ . فَأَمَّا مَنْ تَمَسَّكَ بِصُحُفِ شِيثٍ ، أَوْ زَبُورِ دَاوُدَ ، أَوْ شَيْءٍ مِنَ الصُّحُفِ الْأُولَى ، أَوْ مِنْ زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ، فَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَيَكُونُوا كَمَنْ لَا كِتَابَ لَهُ ، فَلَا تُقْبَلُ لَهُمْ جِزْيَةٌ ، وَلَا تُؤْكَلُ لَهُمْ ذَبِيحَةٌ ، وَلَا تُنْكَحُ فِيهِمُ امْرَأَةٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ مَوَاعِظُ وَوَصَايَا ، وَلَيْسَ فِيهِمَا أَحْكَامٌ وَفُرُوضٌ ، فَخَالَفَتِ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ . وَالثَّانِي : لَيْسَتْ كَلَامَ اللَّهِ ، وَإِنَّمَا هِيَ وَحْيٌ مِنْهُ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي ، أَوْ مَنْ تَبِعَنِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ ، فَكَانَ ذَلِكَ وَحْيًا مِنَ اللَّهِ ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ كَلَامِهِ ، فَخَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْقُرْآنِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ ، كَذَلِكَ هَذِهِ الْكُتُبُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِذَا نَكَحَهَا فَهِيَ كَالْمُسْلِمَةِ فِيمَا لَهَا وَعَلَيْهَا إِلَّا أَنَّهُمَا لَا يَتَوَارَثَانِ ، وَالْحَدُّ فِي قَذْفِهَا التَّعْزِيرُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا أَنْكَحَ الْمُسْلِمُ كِتَابِيَّةً ، فَمَا لَهَا وَعَلَيْهَا مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ كَالْمُسْلِمَةِ : لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [ الْبَقَرَةِ : 238 ] وَلِأَنَّهُ عَقَدُ مُعَاوَضَةٍ ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْمُسْلِمُ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ ، كَالْإِجَارَاتِ وَالْبُيُوعِ ،

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، فَالَّذِي لَهَا عَلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ الْمَهْرُ ، وَالنَّفَقَةُ ، وَالْكِسْوَةُ ، وَالسُّكْنَى ، وَالْقَسْمُ ، وَالَّذِي لَهُ عَلَيْهَا مِنَ الْحُقُوقِ تَمْكِينُهُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ ، وَأَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، وَهَذِهِ هِيَ حُقُوقُ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَكَذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيَّةِ . فَأَمَّا أَحْكَامُ الْعَقْدِ عقد زواج المسلم من الكتابية فَهِيَ الطَّلَاقُ ، وَالظِّهَارُ ، وَالْإِيلَاءُ ، وَاللِّعَانُ ، وَالتَّوَارُثُ ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فِي الْعَقْدِ عَلَى الذِّمِّيَّةِ ، كَمَا فِي الْعَقْدِ عَلَى الْمُسْلِمَةِ إِلَّا فِي شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا لَا يَتَوَارَثَانِ المسلم والكتابية : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْحَدَّ فِي قَذْفِهَا قذف الكتابية التَّعْزِيرُ : لِأَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ فِي حَصَانَةِ الْقَذْفِ بِرِوَايَةِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُلَاعِنَ لِيُسْقِطَ بِهِ هَذَا التَّعْزِيرَ جَازَ : لِأَنَّ التَّعْزِيرَ ضَرْبَانِ : الْأَوَّلُ : تَعْزِيرُ أَذًى لَا يَجِبُ . الثَّانِي : وَتَعْزِيرُ قَذْفٍ يَجِبُ . فَتَعْزِيرُ الْأَذَى : يَكُونُ فِي قَذْفِ مَنْ لَا يَصِحُّ مِنْهَا الزِّنَا كَالصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ ، فَلَا يَجِبُ ، وَلَا يَجُوزُ فِيهِ اللِّعَانُ ، وَتَعْزِيرُ الْقَذْفِ يَكُونُ فِي قَذْفِ مَنْ يَصِحُّ مِنْهَا الزِّنَا ، وَلَمْ تَكْمُلْ حَصَانَتُهَا كَالْأَمَةِ وَالْكَافِرَةِ ، فَيَجِبُ ، وَيَجُوزُ فِيهِ اللِّعَانُ ، فَأَمَّا مَا سِوَى هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ مِنَ الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَالرَّجْعَةِ ، فَهِيَ فِي جَمِيعِهِ كَالْمُسْلِمَةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيُجْبِرُهَا عَلَى الْغُسْلِ مِنَ الْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا إِجْبَارُ الذِّمِّيَّةِ عَلَى الْغُسْلِ مِنَ الْحَيْضِ ، فَهُوَ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ وَطْءَ الْحَائِضِ حَتَّى تَغْتَسِلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [ الْبَقَرَةِ : 222 ] وَكَانَ لِلزَّوْجِ إِذَا مَنَعَهُ الْحَيْضُ مِنْ وَطْئِهَا أَنْ يُجْبِرَهَا عَلَيْهِ لِيَصِلَ إِلَى حَقِّهِ مِنْهَا . فَإِنْ قِيلَ : الْغُسْلُ عِنْدَكُمْ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِنْهُ ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَكُمْ بَيْنَ مَنْ لَمْ يَنْوِ وَمَنْ لَمْ يَغْتَسِلْ ، وَمَعَ الْكُفْرِ وَالْإِجْبَارِ لَا تَصِحُّ مِنْهَا نِيَّةٌ . قِيلَ : فِي غُسْلِهَا مِنَ الْحَيْضِ حَقَّانِ : أَحَدُهُمَا : لِلَّهِ تَعَالَى ، لَا يَصِحُّ إِلَّا بِنِيَّةٍ .

وَالْآخَرُ : لِلزَّوْجِ ، يَصِحُّ بِغَيْرِ نِيَّةٍ ، فَكَانَ لَهُ إِجْبَارُهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، لَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، فَلِذَلِكَ أُجْزِئَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُجْبِرُ زَوْجَتَهُ الْمَجْنُونَةَ عَلَى الْغُسْلِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى غُسْلٌ ، وَغَيْرُ ذَاتِ الزَّوْجِ تَغْتَسِلُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا حُقٌّ ، وَكَذَلِكَ نُجْبِرُ الذِّمِّيَّةَ عَلَى الْغُسْلِ مِنَ النِّفَاسِ : لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الْوَطْءِ كَالْحَائِضِ ، فَأَمَّا إِجْبَارُ الذِّمِّيَّةِ عَلَى الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُجْبِرُهَا عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْحَيْضِ : لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَبِيحُ وَطْءَ الْجُنُبِ ، وَلَا يَسْتَبِيحُ وَطْءَ الْحَائِضِ ، فَافْتَرَقَا فِي الْإِجْبَارِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُجْبِرُهَا عَلَيْهِ ، وَإِنْ جَازَ وَطْئُهَا مَعَ بَقَائِهِ : لِأَنَّ نَفْسَ الْمُسْلِمِ قَدْ تَعَافُ وَطْءَ مَنْ لَا تَغْتَسِلُ مِنْ جَنَابَةٍ ، فَكَانَ لَهُ إِجْبَارُهَا عَلَيْهِ : لِيَسْتَكْمِلَ بِهِ الِاسْتِمْتَاعَ ، وَإِنْ كَانَ الِاسْتِمْتَاعُ مُمْكِنًا ، فَأَمَّا الْوُضُوءُ مِنَ الْحَدَثِ بالنسبة للكتابية فَلَيْسَ لَهُ إِجْبَارُهَا عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا : لِكَثْرَتِهِ ، وَأَنَّ النُّفُوسَ لَا تَعَافُهُ ، وَإِنَّهُ لَيْسَ يَصِلُ إِلَى وَطْئِهَا إِلَّا بَعْدَ الْحَدَثِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِإِجْبَارِهَا عَلَيْهِ تَأْثِيرٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَالتَّنَظُّفِ بِالِاسْتِحْدَادِ وَأَخْذِ الْأَظْفَارِ إجبار الزوجة الكتابية على الاستحداد وأخذ الأظفار " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصَلُ مَا يُؤَثِّرُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِالزَّوْجَةِ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا مَنَعَ مِنْ أَصْلِ الِاسْتِمْتَاعِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : مَا مَنَعَ مِنْ كَمَالِ الِاسْتِمْتَاعِ . فَأَمَّا الْمَانِعُ مِنْ أَصْلِ الِاسْتِمْتَاعِ : فَهُوَ مَا لَا يُمْكِنُ مَعَهُ الِاسْتِمْتَاعُ كَالْغُسْلِ مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ ، فَلِلزَّوْجِ إِجْبَارُ زَوْجَتَهُ الذِّمِّيَّةَ عَلَيْهِ . وَأَمَّا الْمَانِعُ مِنْ كَمَالِ الِاسْتِمْتَاعِ : فَهُوَ مَا تَعَافُهُ النُّفُوسُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ كَالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ ، فَفِي إِجْبَارِهَا عَلَيْهِ قَوْلَانِ ، وَإِذَا اسْتَقَرَّ هَذَا الْأَصْلُ ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَالتَّنْظِيفِ بِالِاسْتِحْدَادِ : وَهُوَ أَخْذُ شَعْرِ الْعَانَةِ - مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَدِيَّةِ الَّتِي يُحْلَقُ بِهَا - فَإِنْ كَانَ شَعْرُ الْعَانَةِ قَدْ طَالَ وَفَحُشَ ، وَخَرَجَ عَنِ الْعَادَةِ حَتَّى لَمْ يُمْكِنْ مَعَهُ الِاسْتِمْتَاعُ أَجْبَرَ زَوْجَتَهُ عَلَى أَخْذِهِ ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً ، وَإِنْ لَمْ يَفْحُشْ وَأَمْكَنَ مَعَهُ الِاسْتِمْتَاعُ ، وَلَكِنْ تَعَافُهُ النَّفْسُ ، فَفِي إِجْبَارِهَا عَلَى أَخْذِهِ قَوْلَانِ ، وَإِنْ لَمْ تَعَفْهُ النَّفْسُ لَمْ يُجْبِرْهَا عَلَى أَخْذِهِ قَوْلًا وَاحِدًا . قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : وَالسُّنَّةُ أَنْ يَسْتَحِدَّ الْأَعْزَبُ كُلَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، وَالْمُتَأَهِّلُ كُلَّ عِشْرِينَ يَوْمًا ، فَإِنْ قَالَهُ نَقْلًا مَأْثُورًا عَمِلَ بِهِ ، وَإِنْ قَالَهُ اجْتِهَادًا ، فَلَيْسَ لِهَذَا التَّقْدِيرِ فِي الِاجْتِهَادِ أَصْلٌ مَعَ اخْتِلَافِ الْحَلْقِ فِي سُرْعَةِ نَبَاتِ الشَّعْرِ فِي قَوْمٍ وَإِبْطَائِهِ فِي آخَرِينَ وَاعْتِبَارِهِ بِالْعُرْفِ أَوْلَى . وَأَمَّا الْأَظْفَارُ إِذَا لَمْ تَطُلْ إِلَى حَدِّ تَعَافُهَا النُّفُوسُ لَمْ يُجْبِرْهَا عَلَى أَخْذِهَا ، وَإِنْ عَافَتِ النُّفُوسُ طُولَهَا ، فَفِي إِجْبَارِهَا عَلَى أَخْذِهَا قَوْلَانِ ، وَهَكَذَا غَسْلُ رَأْسِهَا إِذَا سَهِكَ ، أَوْ قَمِلَ ، وَغَسْلُ جَسَدِهَا إِذَا رَاحَ وَأَنْتَنَ ، فَفِي إِجْبَارِهَا عَلَيْهِ قَوْلَانِ : لِأَنَّ النُّفُوسَ تَعَافُهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَيَمْنَعُهَا مِنَ الْكَنِيسَةِ ، وَالْخُرُوجِ إِلَى الْأَعْيَادِ ، كَمَا يَمْنَعُ الْمُسْلِمَةَ مِنْ إِتْيَانِ الْمَسَاجِدِ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَ الْيَهُودِيَّةَ مِنَ الْبَيْعَةِ ، وَالنَّصْرَانِيَّةَ مِنَ الْكَنِيسَةِ ، وَالْمُسْلِمَةَ مِنَ الْمَسْجِدِ ، وَإِنْ كَانَتْ بُيُوتًا تُقْصَرُ لِلْعِبَادَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ وَاجِبَاتِهَا : لِأَنَّهَا قَدْ تُوَافَى فِي مَنَازِلِ أَهْلِهَا ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا تَحِلُّ الْمَرْأَةُ بَيْتًا وَلَا تَخْرُجُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا كَارِهًا وَلِأَنَّهَا قَدْ تُفَوِّتُ عَلَيْهِ الِاسْتِمْتَاعَ فِي زَمَانِ الْخُرُوجِ ، فَكَانَ لَهُ مَنْعُهَا لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا يُمْنَعْنَ إِمَاءُ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلَاتٍ فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَمْنَعُهَا مَنْعَ تَحْرِيمٍ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ مَنْعَهُنَّ مِنْ إِتْيَانِ الْمَسَاجِدِ وَاجِبٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ الرِّوَايَةَ لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسْجِدَ اللَّهِ يُرِيدُ بِهِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، ثُمَّ هَكَذَا يَمْنَعُهَا مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْأَعْيَادِ ، ثُمَّ إِذَا كَانَ لَهُ مَنْعُهَا مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى هَذِهِ الْعِبَادَاتِ كَانَ بِأَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ الْخُرُوجِ بِغَيْرِ الْعِبَادَاتِ أَوْلَى .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيَمْنَعُهَا مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ إِذَا كَانَ يَتَقَذَّرُ بِهِ ، وَمِنْ أَكْلِ مَا يَحِلُّ إِذَا تَأَذَّى بِرِيحِهِ للزوج أن يمنع الزوجة الكتابية " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الذِّمِّيَّةُ ، فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا أَنْ تَشْرَبَ الْخَمْرَ وَالنَّبِيذَ وَمَا يُسْكِرُهَا : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : رُبَّمَا أَنَّهُ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ سُكْرِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ رُبَّمَا مَنَعَتْهُ فِي السُّكْرِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا ، فَصَارَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ غَيْرَ مُمَكَّنٍ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ ، فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ قَوْلًا وَاحِدًا ، فَأَمَّا إِنْ أَرَادَتْ أَنْ تَشْرَبَ مِنَ الْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ مَا لَا يُسْكِرُهَا الزوجة الكتابية ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - : إِنَّ لَهُ مَنْعَهَا مِنْ يَسِيرِهِ الَّذِي لَا يُسْكِرُ ، كَمَا يَمْنَعُهَا مِنْ كَثِيرِهِ الَّذِي يُسْكِرُ : لِأَنَّ حَدَّ الْمُسْكِرِ مِنْهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ ، وَرُبَّمَا أَسْكَرَهَا الْيَسِيرُ ، وَلَمْ يُسْكِرْهَا الْكَثِيرُ : لِأَنَّ السُّكْرَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْزِجَةِ وَالْأَهْوِيَةِ ، فَالْمَحْرُورُ يُسْكِرُهُ الْقَلِيلُ ، وَالْمَرْطُوبُ لَا يُسْكِرُهُ إِلَّا الْكَثِيرُ ، وَإِذَا بَرَدَ الْهَوَاءُ وَاشْتَدَّ أَسْكَرَ الْقَلِيلُ ، وَإِذَا حَمِيَ الْهَوَاءُ لَمْ يُسْكِرْ إِلَّا الْكَثِيرُ ، فَلَمْ يَجُزْ مَعَ اخْتِلَافِهِ أَنْ يَغْتَرِفَ حَالَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ . وَالثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيِّ - : لَمَّا لَمْ يَذْكُرْ أَمَارَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ بَعْدَهَا مُسْكِرَةٌ ، وَهَذَا الْقَدَرُ لَا يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ ، وَلَكِنْ رُبَّمَا عَافَتْهُ نُفُوسُ الْمُسْلِمِينَ ، لَا سِيَّمَا مَنْ قَوِيَ دِينُهُ ، وَكَثُرَ تَحَرُّجُهُ ، فَيَصِيرُ مَانِعًا لَهُ مِنْ كَمَالِ الِاسْتِمْتَاعِ ، فَيَحْرُمُ جَوَازُ مَنْعِهَا مِنْهُ عَلَى قَوْلَيْنِ .

وَالثَّالِثُ : لَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ شُرْبِ الْقَلِيلِ الَّذِي يَرَوْنَ شُرْبَهُ فِي أَعْيَادِهِمْ عِبَادَةً ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَسَكَرَ ، أَوْ لِمَ يُسْكِرْ ، مُرَاعَاةً فِيهِ الْعِبَادَةُ ، وَلَمْ يُرَاعَى فِيهِ السُّكْرُ ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَشْبَهُ . فَأَمَّا الْمُسْلِمَةُ ، فَلِلزَّوْجِ مَنَعُهَا مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ ، وَكَذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ ، فَأَمَّا النَّبِيذُ ، فَإِنْ كَانَا الزَّوْجَانِ شَافِعِيَّيْنَ يَعْتَقِدَانِ تَحْرِيمَ النَّبِيذِ كَالْخَمْرِ ، فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ ، وَإِنْ كَانَا حَنَفِيَّيْنِ يَعْتَقِدَانِ إِبَاحَةَ النَّبِيذِ كَانَ كَالْخَمْرِ فِي حَقِّ الذِّمِّيَّةِ فَلَهُ مَنْعُهَا أَنْ تَشْرَبَ مِنْهُ قَدْرَ مَا يُسْكِرُهَا . وَهَلْ يَمْنَعُهَا مِنْ قَلِيلِهِ الَّذِي لَا يُسْكِرُهَا ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَمْنَعُهَا مِنْهُ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَامِدٍ يَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْخِنْزِيرُ ، فَلَهُ مَنْعُ الْمُسْلِمَةِ مِنْ أَكْلِهِ بِلَا خِلَافٍ ، فَأَمَّا الذِّمِّيَّةُ منع الذمية والمسلمة من أكل لحم الخنزير ، فَإِنْ كَانَتْ يَهُودِيَّةً تَرَى تَحْرِيمَ أَكْلِهِ ثُمَّ أَكَلَتْهُ مَنَعَهَا مِنْهُ ، كَمَا يَمْنَعُ مِنْهُ الْمُسْلِمَةَ ، وَإِنْ كَانَتْ نَصْرَانِيَّةً تَرَى إِبَاحَةَ أَكْلِهِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، فَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُهُمْ : أَنَّ لَهُ مَنْعَهَا مِنْهُ قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّ نُفُورَ نَفْسِ الْمُسْلِمِ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ نُفُورِهَا مِنَ الْخَمْرِ ، فَصَارَ مَانِعًا مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ : وَلِأَنَّ حُكْمَ نَجَاسَتِهِ أَغْلَظُ ، فَهِيَ لَا تَكَادُ تَطَهَّرُ مِنْهُ ، وَتَتَعَدَّى النَّجَاسَةُ مِنْهَا إِلَيْهِ ، وَكَانَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ يَقُولُ : هَذَا يَمْنَعُ مِنْ كَمَالِ الِاسْتِمْتَاعِ مَعَ إِمْكَانِهِ . وَتَحْرِيمُ مَنْعِهَا مِنْهُ عَلَى قَوْلَيْنِ ، فَإِنْ أَكَلَتْ مِنْهُ كَانَ لَهُ إِجْبَارُهَا عَلَى غَسْلِ فَمِهَا وَيَدِهَا مِنْهُ : لِئَلَّا تَتَعَدَّى نَجَاسَتُهُ إِلَيْهِ إِذَا قَبَّلَ أَوْ بَاشَرَ ، وَفِي قَدْرِ مَا يُجْبِرُهَا عَلَيْهِ مِنْ غَسْلِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : سَبْعُ مَرَّاتٍ إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ مِثْلَ وُلُوغِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُجْبِرُهَا عَلَى غَسْلِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً بِغَيْرِ تُرَابٍ : لِأَنَّهُ يَجْبُرُهَا عَلَى غَسْلِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، لَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، فَأَجْزَأَ فِيهِ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ كَمَا يُجَزِّئُ فِي غَسْلِ الْحَيْضِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا أَكْلُ مَا يُتَأَذَّى بِرِيحِهِ مِنَ الثُّومِ وَالْبَصَلِ ، وَمَا أَنْتَنَ مِنَ الْبُقُولِ وَالْمَأْكَلِ منع الزوجة من أكله ، فَالْمُسْلِمَةُ وَالذِّمِّيَّةُ فِيهِ سَوَاءٌ ، وَيَنْظُرُ : فَإِنْ كَانَتْ لِدَوَاءٍ اضْطُرَّتْ إِلَيْهِ لَمْ يَمْنَعْهَا مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ لِشَهْوَةٍ وَغِذَاءٍ ، فَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ كَمَالِ الِاسْتِمْتَاعِ مَعَ إِمْكَانِهِ ، فَهَلْ يَمْنَعُهَا مِنْهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْبَخُورُ بِمَا تُؤْذِي رَائِحَتُهُ منع الزوجة من البخور بما تؤذي رائحته ، فَإِنْ كَانَ لِدَوَاءٍ لَمْ تُمْنَعْ ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ دَوَاءٍ ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ ، وَلَا فَرْقَ فِيمَا مَنَعَهُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي زَمَانِ الطُّهْرِ ، أَوْ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ : لِأَنَّ زَمَانَ الْحَيْضِ ، وَإِنْ حَرُمَ فِيهِ وَطْئُهَا ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ فِيهِ الِاسْتِمْتَاعُ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْقُبْلَةِ وَالْمُبَاشِرَةِ ، فَصَارَ الْمَانِعُ مِنْهُ فِي حُكْمِ الْمَانِعِ مِنَ الْوَطْءِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الثِّيَابُ ، فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ لِبْسِ مَا كَانَ نَجِسًا منع الزوجة : لِأَنَّهُ قَدْ يُنَجِّسُهَا وَيَتَنَجَّسُ بِهَا ، وَهُوَ أَدْوَمُ مِنْ نَجَاسَةِ الْخِنْزِيرِ ، وَالتَّحَرُّزُ مِنْهُ أَشَقُّ ، فَلِذَلِكَ مُنِعَتْ مِنْهُ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَهَلْ يَمْنَعُ مَنْ لِبْسِ مَا كَانَ مُنْتَنَ الرَّائِحَةِ بِصَبْغٍ أَوْ بَخُورٍ أَوْ سَهُوكَةِ طَعَامٍ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . فَأَمَّا لِبَاسُ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجُ وَاسْتِعْمَالُ الطِّيبِ وَالْبَخُورِ الزوجة لزوجها ، فَلَا يَمْنَعُ مِنْهُ : لِأَنَّهُ أَدْعَى إِلَى

الشَّهْوَةِ ، وَأَكْمَلُ لِلِاسْتِمْتَاعِ ، وَهَكَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ الْخِضَابِ وَالزِّينَةِ ، وَلَا عَلَى أَنْ يُجْبِرَهَا عَلَى دَوَاءٍ فِي مَرَضٍ أَوْ سِمْنَةٍ فِي صِحَّةٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنِ ارْتَدَّتْ إِلَى مَجُوسِيَّةٍ أَوْ إِلَى غَيْرِ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَإِنْ رَجَعَتْ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوْ إِلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ ، وَإِنِ انْقَضَتْ قَبْلَ أَنْ تَرْجِعَ فَقَدِ انْقَطَعَتِ الْعِصْمَةُ : لِأَنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يَبْتَدِئَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي مُسْلِمٍ تَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً ، فَانْتَقَلَتْ مِنْ دِينِهَا إِلَى غَيْرِهِ فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَنْتَقِلَ عَنْهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَدْ زَادَتْهُ خَيْرًا ، وَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ وَمَا زَادَهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا صِحَّةً ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا أَوْ بَعْدَهُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَنْتَقِلَ عَنْ دِينِهَا إِلَى دِينٍ يُقِرُّهَا أَهْلُهُ عَلَيْهِ ، كَأَنَّهَا كَانَتْ نَصْرَانِيَّةً فَتَزَنْدَقَتْ أَوْ تَوَثَّنَتْ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُقَرَّ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُقِرَّ عَلَيْهِ مَنْ كَانَ مُتَقَدِّمَ الدُّخُولِ فِيهِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يُقِرَّ عَلَيْهِ مَنْ تَأَخَّرَ دُخُولُهُ فِيهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ فِي رِدَّتِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا بَطَلَ نِكَاحُهَا ، كَمَا يَبْطُلُ نِكَاحُ الْمُسْلِمَةِ إِذَا ارْتَدَّتْ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَإِنْ كَانَتْ رِدَّتُهَا عَنْ دِينِهَا بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا كَانَ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، فَإِنْ رَجَعَتْ قَبْلَ انْقِضَائِهَا إِلَى الدِّينِ الَّذِي تُؤْمِنُ بِهِ وَيَجُوزُ نِكَاحُ أَهْلِهِ كَانَا عَلَى النِّكَاحِ ، وَإِنْ لَمْ تَرْجِعْ حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ بَطَلَ النِّكَاحُ ، وَفِي الدِّينِ الَّذِي تُؤْمِنُ بِالدُّخُولِ إِلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : الْإِسْلَامُ لَا غَيْرَ : لِأَنَّهَا كَانَتْ مُقِرَّةً عَلَى دِينِهَا : لِإِقْرَارِهَا بِصِحَّتِهِ ، وَقَدْ صَارَتْ بِانْتِقَالِهَا عَنْهُ مُقِرَّةً بِبُطْلَانِهِ ، فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهَا إِلَّا دِينُ الْحَقِّ ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا تُؤْخَذُ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوْ إِلَى دِينِهَا الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا الرُّجُوعُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ ، فَإِنْ أَقَرَّ أَهْلُهَا عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ الَّذِي تَنَاوَلَهُ عَقْدُ ذِمَّتِهَا ، فَكَانَ أَحْصَنَ أَدْيَانِ الْكُفْرِ بِهَا ، وَلَيْسَ لِإِقْرَارِهَا بِصِحَّتِهِ تَأْثِيرٌ فِي صِحَّتِهِ ، فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ تُقَرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ رُجُوعِهَا إِلَيْهِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهَا تُؤْخَذُ بِرُجُوعِهَا إِلَى الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ أَبَتْ فَإِلَى دِينِهَا الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ ، أَوْ إِلَى دِينٍ يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ فَيَسْتَوِي حُكْمُ دِينِهَا وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ الَّتِي يُقَرُّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا فِي رُجُوعِهَا إِلَى مَا شَاءَتْ مِنْهَا : لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ عِنْدَنَا مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ تَنَوَّعَ . فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ فَلَهَا حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الدِّينِ الَّذِي أُمِرَتْ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا تَرْجِعَ إِلَيْهِ ، فَإِنْ لَمْ تَرْجِعْ إِلَيْهِ ، وَأَقَامَتْ عَلَى دِينِهَا ، فَنِكَاحُهَا قَدْ بَطَلَ ، وَلَا مَهْرَ لَهَا إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَلَهَا الْمَهْرُ إِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ . وَمَا الَّذِي يُوجِبُ حُكْمَ هَذِهِ الرِّدَّةِ فِيهِ قَوْلَانِ :

أَحَدُهُمَا : الْقَتْلُ كَالْمُسْلِمَةِ إِذَا ارْتَدَّتْ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنْ تَبْلُغَ مَأْمَنَهَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ ، ثُمَّ تَصِيرُ حَرْبًا ، وَإِنْ رَجَعَتْ إِلَى الدِّينِ الَّذِي أُمِرَتْ بِهِ فَهِيَ عَلَى حَقْنِ دَمِهَا ، وَفِي أَمَانِ ذِمَّتِهَا ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الدِّينِ الَّذِي رَجَعَتْ إِلَيْهِ فَإِنْ كَانَ دِينًا يَجُوزُ نِكَاحُ أَهْلِهِ كَالْإِسْلَامِ أَوِ الْيَهُودِيَّةِ أَوِ النَّصْرَانِيَّةِ ، فَالنِّكَاحُ مُعْتَبَرٌ بِمَا قَدَّمْنَاهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَقَدْ بَطَلَ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا ؛ فَإِنْ كَانَ الرُّجُوعُ إِلَى الدِّينِ الْمَأْمُورَةِ بِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَقَدْ بَطَلَ أَيْضًا ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ رَجَعَتْ إِلَى دِينٍ يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ أَهْلِهِ كَالْمَجُوسِيَّةِ وَالصَّابِئَةِ وَالسَّامِرَةِ ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ ، وَإِنْ كَانَتْ مُقَرَّةً عَلَى هَذَا الدِّينِ ، مَا لَمْ تَنْتَقِلْ عَنْهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إِلَى دِينٍ يَجُوزُ نِكَاحُ أَهْلِهِ فَتَكُونُ مِمَّنْ قَدِ ارْتَفَعَ عَنْهَا حُكْمُ الرِّدَّةِ ، وَلَمْ يَرْتَفِعْ عَنْهَا وُقُوفُ النِّكَاحِ .

فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَرْتَدَّ عَنْ دِينِهَا الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ إِلَى دِينٍ يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ الزوجة الكتابية ، وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهُمْ كَأَنَّهَا ارْتَدَّتْ مِنْ يَهُودِيَّةٍ إِلَى مَجُوسِيَّةٍ ، فَفِي إِقْرَارِهَا عَلَيْهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : تُقَرُّ عَلَيْهِ : لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ . وَالثَّانِي : لَا تُقَرُّ عَلَيْهِ ، وَفِيمَا تُؤْمَرُ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : الْإِسْلَامُ لَا غَيْرَ . وَالثَّانِي : الْإِسْلَامُ ، فَإِنْ أَبَتْ فَإِلَى دِينِهَا الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا النِّكَاحُ فَإِنْ كَانَتْ رِدَّتُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بَطَلَ ، وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَهُ فَسَوَاءٌ أُقِرَّتْ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ تُقَرَّ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ تَسْتَأْنِفَ نِكَاحَ مَنْ لَمْ تَزَلْ مَجُوسِيَّةً لَمْ يَجُزِ اسْتِدَامَةُ نِكَاحِ مَنْ أُقِرَّتْ عَلَى الِانْتِقَالِ إِلَى الْمَجُوسِيَّةِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ رُوعِي حَالُهَا ، فَإِنِ انْتَقَلَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا إِلَى دِينٍ يَحِلُّ نِكَاحُ أَهْلِهِ صَحَّ وَإِلَّا بَطَلَ .

فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ تَرْتَدَّ عَنْ دِينِهَا الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ إِلَى دِينٍ يَجُوزُ نِكَاحُ أَهْلِهِ الزوجة الكتابية كَأَنَّهَا كَانَتْ يَهُودِيَّةً فَتَنَصَّرَتْ ، أَوْ نَصْرَانِيَّةً فَتَهَوَّدَتْ ، فَفِي إِقْرَارِهَا عَلَى الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : تُقَرُّ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ النِّكَاحُ بِحَالِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا تُقَرُّ عَلَيْهِ ، وَفِيمَا تُؤْمَرُ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : الْإِسْلَامُ لَا غَيْرَ . وَالثَّانِي : الْإِسْلَامُ ، فَإِنْ أَبَتْ فَإِلَى دِينِهَا الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَالنِّكَاحُ قَدْ بَطَلَ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، فَإِنْ رَجَعَتْ عَنْهُ إِلَى مَا أُمِرَتْ بِهِ قَبْلَ انْقِضَائِهَا صَحَّ النِّكَاحُ وَإِلَّا بَطَلَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الِاسْتِطَاعَةِ لِلْحَرَائِرِ وَغَيْرِ الِاسْتِطَاعَةِ

بَابُ الِاسْتِطَاعَةِ لِلْحَرَائِرِ وَغَيْرِ الِاسْتِطَاعَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [ النِّسَاءِ : 25 ] ، وَفَيِ ذَلِكَ دَلِيلٌ أَنَّهُ أَرَادَ الْأَحْرَارَ : لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُمْ ، وَلَا يَحِلُّ مِنَ الْإِمَاءِ إِلَّا مُسْلِمَةٌ ، وَلَا تَحِلُّ حَتَّى يَجْتَمِعَ شَرْطَانِ : أَنْ لَا يَجِدَ طَوْلَ حُرَّةٍ ، وَيَخَافَ الْعَنَتَ إِنْ لَمْ يَنْكَحِهَا ، وَالْعَنَتُ الزِّنَا ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : مَنْ وَجَدَ صَدَاقَ امْرَأَةٍ فَلَا يَتَزَوَّجْ أَمَةً ، قَالَ طَاوُسٌ : لَا يَحِلُّ نِكَاحُ الْحُرِّ الْأَمَةَ ، وَهُوَ يَجِدُ صَدَاقَ الْحُرَّةِ ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِيْنَارٍ : لَا يَحِلُّ نِكَاحُ الْإِمَاءِ الْيَوْمَ : لِأَنَّهُ يَجِدُ طَوْلًا إِلَى الْحُرَّةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي نِكَاحِ الْحَرَائِرِ مِنَ الْمُسْلِمَاتِ وَالْكِتَابِيَّاتِ إِذَا نَكَحْنَ الْأَحْرَارَ وَالْعَبِيدَ ، فَأَمَّا نِكَاحُ الْإِمَاءِ فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : مَعَ الْعَبْدِ . وَالثَّانِي : مَعَ الْحُرِّ . فَأَمَّا الْعَبْدُ فِي نِكَاحِ الْإِمَاءِ ، فَلَهُ أَنْ يَنْكِحَهُنَّ كَمَا يَنْكِحُ الْحَرَائِرَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ زَائِدٍ ، وَالْكَلَامُ فِيهِ يَأْتِي مَعَ ذِكْرِ مَا فِيهِ مِنْ خِلَافٍ . وَأَمَّا الْحُرُّ ، فَحُكْمُهُ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِهِ فِي نِكَاحِ الْحُرَّةِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَهَا إِلَّا بِثَلَاثِ شَرَائِطَ تُعْتَبَرُ فِيهِ ، وَشَرْطٍ رَابِعٍ يُعْتَبَرُ فِي الْأَمَةِ ، فَأَمَّا الشَّرْطُ الْمُعْتَبَرُ فِي الْأَمَةِ الْإِسْلَامُ ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ . وَأَمَّا الثَّلَاثُ شَرَائِطَ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْحُرِّ : أَحَدُهَا : أَنْ لَا يَكُونَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَجِدَ طَوْلًا لِحُرَّةٍ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَخَافَ الْعَنَتَ إِنْ لَمْ يَنْكِحْ أَمَةً ، وَالْعَنَتُ الزِّنَا ، فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذِهِ الشُّرُوطَ الثَّلَاثَةَ حَلَّ لَهُ نِكَاحُ أَمَةٍ ، وَإِنْ أَخَلَّ شَرْطٌ مِنْهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ نِكَاحُهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُعْتَبَرُ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ شَرْطٌ وَاحِدٌ ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ ، وَلَا يُعْتَبَرُ عَدَمُ الطَّوْلِ وَخَوْفُ الْعَنَتِ . وَقَالَ مَالِكٌ : يُعْتَبَرُ فِيهِ عَدَمُ الطَّوْلِ وَخَوْفُ الْعَنَتِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ أَلَّا تَكُونَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ . وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : يُعْتَبَرُ فِيهِ خَوْفُ الْعَنَتِ وَحْدَهُ .

وَقَالَ آخَرُونَ : لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الشَّرَائِطِ ، وَيَكُونُ نِكَاحُهَا كَنِكَاحِ الْحُرَّةِ . فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الطَّوْلِ وَخَوْفَ الْعَنَتِ غَيْرُ مُعْتَبَرَيْنَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي نِكَاحِ مَا طَابَ فِي الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ : فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [ النِّسَاءِ : 3 ] يَعْنِي فَنِكَاحُ وَاحِدَةً مِنَ الْحَرَائِرِ أَوْ نِكَاحُ وَاحِدَةً مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ، فَكَانَ هَذَا نَصًّا ، فَصَارَ أَوَّلُ الْآيَةِ دَلِيلًا مِنْ طَرِيقِ الْعُمُومِ ، وَآخِرُهَا دَلِيلًا مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ ، وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [ الْبَقَرَةِ : 221 ] وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْكِتَابِيَّةَ الْحُرَّةَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، فَالْأَمَةُ الْمُؤْمِنَةُ هِيَ الَّتِي خَيْرٌ مِنْهَا أَوْلَى أَنْ يَجُوزَ نِكَاحُهَا . وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّهُ لَيْسَ تِحَتَهُ حُرَّةٌ ، فَجَازَ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ كَالْعَادِمِ لِلطَّوْلِ وَالْخَائِفِ لِلْعَنَتِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ حَلَّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ إِذَا خَشِيَ الْعَنَتَ حَلَّ لَهُ نِكَاحُهَا ، وَإِنْ أَمِنَ الْعَنَتَ كَالْعَبْدِ : وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ حَلَّ لَهُ نِكَاحُهَا إِذَا لَمْ يَجِدْ طَوْلًا حَلَّ نِكَاحُهَا ، وَإِنْ وَجَدَ طَوْلًا كَالْحُرَّةِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ نَقْصٍ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ النِّكَاحِ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى سَلِيمٍ مِنْهُ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ النِّكَاحِ ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى سَلِيمٍ مِنْهُ قِيَاسًا عَلَى نِكَاحِ الْكَافِرَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى مُسْلِمَةٍ ، وَلِأَنَّ وُجُودَ نِكَاحِ الْأُخْتِ يَمْنَعُ مِنْ نِكَاحِ أُخْتِهَا وَوُجُودَ مَهْرِهَا لَا يَمْنَعُ : كَذَلِكَ وُجُودُ الْحُرَّةِ يَمْنَعُ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ وَوُجُودُ مَهْرِهَا لَا يَمْنَعُ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ إِلَى قَوْلِهِ : ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ النِّسَاءِ : 25 ] فَأَبَاحَ نِكَاحَ الْأَمَةِ بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَدَمُ الطَّوْلِ . وَالثَّانِي : خَوْفُ الْعَنَتِ . فَأَمَّا الطَّوْلُ : فَهُوَ الْمَالُ وَالْقُدْرَةُ مَأْخُوذٌ مِنَ الطُّولِ : لِأَنَّهُ يَنَالُ بِهِ مَعَالِيَ الْأُمُورِ ، كَمَا يَنَالُ الطُّولُ مَعَالِيَ الْأَشْيَاءِ . وَأَمَّا الْعَنَتُ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الزِّنَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ الْحَدُّ الَّذِي يُصِيبُهُ مِنَ الزِّنَا . فَلَمَّا جَعَلَ الْإِبَاحَةَ مُقَيَّدَةً بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُهُمَا إِلَّا بِهِمَا . فَإِنْ قَالُوا : هَذَا الِاحْتِجَاجُ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ ، وَهُوَ عِنْدَنَا غَيْرُ حُجَّةٍ ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ دَلِيلُ خِطَابٍ عِنْدَنَا حُجَّةٌ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْ دَلَائِلُنَا عَلَى أُصُولِنَا . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ شَرْطٌ عُلِّقَ بِهِ الْحُكْمُ : لِأَنَّ لَفْظَةَ " مَنْ " مَوْضِعُهُ لِلشَّرْطِ ، وَيَكُونُ

تَقْدِيرُهُ : مَنْ لَمْ يَجِدْ طَوْلًا وَخَافَ الْعَنَتَ نَكَحَ الْأَمَةَ ، وَالْحُكْمُ إِذَا عُلِّقَ بِشَرْطَيْنِ انْتَفَى بِعَدَمِ ذَلِكَ الشَّرْطَيْنِ ، وَتَعَذُّرِ أَحَدِهِمَا . فَإِنْ قَالُوا فَقَوْلُهُ : وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَطْءِ : لِأَنَّ حَقِيقَةَ النِّكَاحِ هُوَ الْوَطْءُ ، وَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ : وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا وَطْءَ حُرَّةٍ لِعَدَمِهَا تَحْتَهُ حَلَّ لَهُ نِكَاحُ أَمَةٍ ، وَكَذَا يَقُولُ ، فَعَنْ هَذَا ثَلَاثَةٌ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ النِّكَاحَ عِنْدَنَا حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ دُونَ الْوَطْءِ . وَهَكَذَا كُلُّ مَوْضِعِ ذِكْرٍ لِلَّهِ تَعَالَى النِّكَاحَ فِي كِتَابِهِ ، فَالْمُرَادُ بِهِ الْعَقْدُ دُونَ الْوَطْءِ ، وَكَذَلِكَ هَاهُنَا . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ الطَّوْلَ بِالْمَالِ مُعْتَبَرٌ فِي الْعَقْدِ دُونَ الْوَطْءِ ، فَكَانَ حَمْلُ النِّكَاحِ عَلَى الْعَقْدِ الَّذِي يُعْتَبَرُ فِيهِ الطَّوْلُ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْوَطْءِ الَّذِي لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الطَّوْلُ أَوْلَى . وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ : أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْوَطْءِ يُسْقِطُ اشْتِرَاطَ الْعَنَتِ ، وَحَمْلَهُ عَلَى الْعَقْدِ لَا يُسْقِطُهُ ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْعَقْدِ الَّذِي يَجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ شَرْطَيْهِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْوَطْءِ الَّذِي يَسْقُطُ أَحَدُ شَرْطَيْهِ . فَإِنْ قَالُوا : فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ : فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [ النِّسَاءِ : 25 ] عَلَى وَطْئِهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ لَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ ، فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا التَّأْوِيلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : قَوْلُهُ : وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا [ النِّسَاءِ : 25 ] وَلَيْسَ عَدَمُ الطَّوْلِ شَرْطًا فِي وَطْءِ الْأَمَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ . وَالثَّانِي : قَوْلُهُ : فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ [ النِّسَاءِ : 25 ] وَلَيْسَ يُرَاعَى فِي وَطْئِهِ بِمِلْكِ يَمِينِهِ إِذْنُ أَحَدٍ . وَالثَّالِثُ : وَلَيْسَ خَوْفُ الْعَنَتِ شَرْطًا فِي وَطْئِهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ ، فَبَطَلَ هَذَا التَّأْوِيلُ ، وَصَحَّ الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ . وَمِنْ طَرِيقِ الْإِجْمَاعِ أَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَجَابِرٍ : أَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ ، فَرَوَى عَنْهُ الْبَرَاءُ وَطَاوُسٌ ، أَنَّهُ قَالَ : مَنْ مَلَكَ ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ ، وَحَرُمَ عَلَيْهِ الْإِمَاءُ . وَأَمَّا جَابِرٌ ، فَرَوَى عَنْهُ أَبُو الزُّبَيْرِ ، أَنَّهُ قَالَ : مَنْ وَجَدَ صَدَاقَ حُرَّةٍ فَلَا يَنْكِحْ أَمَةً . وَلَيْسَ يُعْرَفُ لِقَوْلِ هَذَيْنِ الصَّحَابِيَّيْنِ مَعَ انْتِشَارِهِ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ ، فَكَانَ إِجْمَاعًا لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ . وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ : أَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ نِكَاحِ أَمَةٍ ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ نِكَاحُهَا قِيَاسًا عَلَى مَنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقُولَ : مُنِعْنَ عَنِ اسْتِرْقَاقِ وَلَدِهِ قِيَاسًا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ، وَتَقُولَ حُرَّةٌ مِنَ الْعَنَتِ قَادِرٌ عَلَى وَطْءِ حُرَّةٍ قِيَاسًا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ، أَوْ تَقُولَ حُرًّا مِنَ الْعَنَتِ قِيَاسًا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَتُعَلِّلُهُ بِمَا شِئْتَ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الْأَرْبَعَةِ ، وَالْوَصْفُ الْأَخِيرُ أَشَدُّهَا ، وَلِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى قِيمَةِ الْمُبَدَلِ الْكَامِلِ كَانَ كَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ فِي تَحْرِيمِ الِانْتِقَالِ إِلَى الْمُبَدَلِ النَّاقِصِ كَالِانْتِقَالِ فِي الطَّهَارَةِ مِنَ الْمَاءِ إِلَى التُّرَابِ ، وَفِي الْكَفَّارَةِ مِنَ الرُّقْيَةِ إِلَى الصِّيَامِ : وَلِأَنَّهُ لَوْ

جَمَعَ فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ بَيْنَ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ ، يَبْطُلُ نِكَاحُ الْأَمَةِ ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَفْرَدَهَا بِالْعَقْدِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْحُرَّةِ . وَتَحْرِيرُهُ : أَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ لَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْعَقْدِ بَطَلَ نِكَاحُ إِحْدَاهُمَا ، وَوَجَبَ إِذَا أُفْرِدَتْ بِالْعَقْدِ أَنْ تَبْطُلَ نِكَاحُهَا كَالْأُخْتِ مَعَ الْأَجْنَبِيَّةِ وَكَالْمُعْتَدَّةِ مَعَ الْخَلِيَّةِ ، وَلِأَنَّ مَنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ نِكَاحِ أَمَةٍ ، وَلَيْسَ يَخْلُو حَالُ مَنْعِهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ : لِأَنَّ تَحْتَهُ امْرَأَةً حُرَّةً ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ : لِأَنَّهُ جَامِعٌ بَيْنَ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ : لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى نِكَاحِ حُرَّةٍ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى نِكَاحِ حُرَّةٍ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ : لِأَنَّهُ قَدْ أَمِنَ الْعَنَتَ ، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْمَنْعُ : لِأَنَّ تَحْتَهُ حُرَّةً : لِأَنَّهُ لَوْ عَقَدَ عَلَى حُرَّةٍ وَأَمَةٍ بَطَلَ نِكَاحُ الْأَمَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ ، وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْمَنْعُ : لِأَنَّهُ جَامِعٌ بَيْنَ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ : لِأَنَّهُ لَوْ نَكَحَ أَمَةً جَازَ أَنْ يَنْكِحَ بَعْدَهَا حُرَّةً ، فَيَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ أَمَةٍ وَحُرَّةٍ ، وَإِذَا بَطَلَ هَذَانِ الْقِسْمَانِ صَارَ عَلَيْهِ الْمَنْعُ هُوَ الْقِسْمَانِ الْآخَرَانِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى نِكَاحِ حُرَّةٍ ، وَأَنَّهُ أَمِنَ مِنَ الْعَنَتِ فَصَارَ وُجُودُ هَذَيْنِ عِلَّةً فِي التَّحْرِيمِ وَعَدَمُهَا عِلَّةً فِي التَّحْلِيلِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [ النِّسَاءِ : 3 ] فَهُوَ أَنَّ اسْتِدْلَالَهُمْ فِيهَا بِالْعُمُومِ مَتْرُوكٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ النَّصِّ فِي التَّخْصِيصِ ، وَاسْتِدْلَالَهُمْ مِنْهَا بِالنَّصِّ بَاطِلٌ : لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [ النِّسَاءِ : 3 ] ، فَكَانَ هَذَا تَخْيِيرًا بَيْنَ الْعَقْدِ عَلَى حُرَّةٍ ، وَبَيْنَ وَطْءِ الْإِمَاءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ ، وَلَمْ يَكُنْ تَخْيِيرًا بَيْنَ الْعَقْدِ عَلَى حُرَّةٍ وَالْعَقْدِ عَلَى أَمَةٍ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَشْرُطْ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ عَدَدًا ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى مَا شَرَطَ فِيهِ الْعَدَدَ مِنَ التَّسَرِّي بِهِنَّ دُونَ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَيْهِنَّ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ [ الْبَقَرَةِ : 221 ] فَالْمُرَادُ بِالْمُشْرِكَةِ هَاهُنَا الْوَثَنِيَّةُ دُونَ الْكِتَابِيَّةِ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ فَصَلَ بَيْنَهُمَا : وَإِنْ جَازَ أَنْ يَعُمَّهُمَا اسْمُ الشِّرْكِ ، فَقَالَ : لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [ الْبَيِّنَةِ : 1 ] وَقَالَ تَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ [ الْبَيِّنَةِ : 6 ] وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِمَا الْوَثَنِيَّةُ فَنِكَاحُ الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ خَيْرٌ مِنْ نِكَاحِهَا : لِأَنَّهَا قَدْ تَحِلُّ إِذَا وُجِدَ شَرْطُ الْإِبَاحَةِ ، وَالْوَثَنِيَّةُ لَا تَحِلُّ بِحَالٍ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْعَادِمِ لِلطَّوْلِ ، وَالْخَائِفِ لِلْعَنَتِ ، بِعِلَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ ، فَمُنْتَقَضٌ بِمَنْ تَحْتَهُ أَرْبَعٌ : إِمَّا لَا يَجُوزُ لَهُ عِنْدَهُ أَنْ يَنْكِحَ أَمَةً ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ : أَنَّ الْعَادِمَ لِلطَّوْلِ عَاجِزٌ عَنِ الْحُرَّةِ ، وَالْوَاجِدَ قَادِرٌ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ الْقَادِرُ عَلَى الْبَذْلِ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْهُ ، كَالْوَاجِدِ لِثَمَنِ الرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ عَلَى الْعَادِمِ لِثَمَنِهَا . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْعَبْدِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُ لَا عَارَ عَلَى الْعَبْدِ فِي اسْتِرْقَاقِ وَلَدِهِ ، فَجَازَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِيهِ خَوْفُ الْعَنَتِ ، وَعَلَى الْحُرِّ عَارٌ فِي اسْتِرْقَاقِ وَلَدِهِ ، فَاعْتُبِرَتْ ضَرُورَتُهُ لِخَوْفِ الْعَنَتِ .

وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ ، فَالْمَعْنَى فِي الْحُرَّةِ : أَنَّهُ لَمَّا جَازَ نِكَاحُهَا عَلَى حُرَّةٍ جَازَ نِكَاحُهَا عَلَى وُجُودِ الطَّوْلِ ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ نِكَاحُ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ لَمْ يَجُزْ نِكَاحُهَا مَعَ وُجُودِ الطَّوْلِ ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ وَالْكَافِرَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُهَا ، وَإِنْ كَانَتْ تَحْتَهُ مُسْلِمَةٌ ، وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ إِذَا كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى مَهْرِ الْأُخْتِ لَا يَمْنَعُ مِنْ نِكَاحِ أُخْتِهَا ، فَكَذَلِكَ الْقُدْرَةُ عَلَى مَهْرِ الْحُرَّةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ فَخَطَأٌ : لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ فِي الْأُخْتَيْنِ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْعَقْدِ ، وَهَذَا الْجَمْعُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَهْرِ ، كَمَا لَمْ يَمْنَعِ الْقُدْرَةُ عَلَى مُهُورٍ أَرْبَعٍ مِنَ الْعَقْدِ عَلَى خَامِسَةٍ ، وَيُمْنَعُ وُجُودُ الْأَرْبَعِ تَحْتَهُ أَنْ يَعْقِدَ عَلَى خَامِسَةٍ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَمَةُ : لِأَنَّهَا حُرِّمَتْ لِلْقُدْرَةِ عَلَى حُرَّةِ ، وَلِأَنَّهُ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ حُرَّةٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَكَحَ حُرَّةً بَعْدَ أَمَةٍ جَازَ : وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ ، وَإِذَا كَانَ تَحْرِيمُهَا لِلْقُدْرَةِ عَلَى حُرَّةٍ كَانَ بِوُجُودِ مَهْرِ الْحُرَّةِ قَادِرًا عَلَى حُرَّةٍ فَافْتَرَقَا .

فَصْلٌ : وَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ الْأَمَةَ ، وَإِنْ كَانَتْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ بِأَنَّهُ رُبَّمَا لَمْ تُقْنِعْهُ الْحُرَّةُ لِشِدَّةِ شَهْوَتِهِ وَقُوَّةِ شَبَقِهِ ، فَخَافَ الْعَنَتَ مَعَ وُجُودِهَا ، لَاسِيَّمَا وَقَدْ يَمْضِي لِلْحُرَّةِ زَمَانُ حَيْضٍ يَمْنَعُ فِيهِ مِنْ إِصَابَتِهَا فَدَعَتْهُ الضَّرُورَةُ مَعَ وُجُودِهِ بِحُرَّةٍ تَحْتَهُ إِذَا عَدَمَ طَوْلَ حُرَّةٍ أُخْرَى أَنْ يَنْكِحَ أَمَةً ، وَلِيَأْمَنَ بِهَا الْعَنَتَ ، كَمَا يَأْمَنُ إِذَا لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [ النِّسَاءِ : 25 ] فَلَمَّا كَانَ طَوْلُ الْحُرَّةِ يَمْنَعُهُ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ كَانَ وُجُودُ الْحُرَّةِ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ : لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الشَّيْءِ أَقْوَى حُكْمًا مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى بَدَلِهِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ وَتُنْكَحُ الْحُرَّةُ عَلَى الْأَمَةِ حَكَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْمَكِّيُّ عَنِ الرَّازِّيِّ ، وَلِأَنَّ مَنْ مَنَعَهُ عِوَضُ الْمُبَدَلِ مِنَ الِانْتِقَالِ إِلَى الْبَدَلِ كَانَ وُجُودُ الْمُبَدَلِ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الِانْتِقَالِ إِلَى الْبَدَلِ كَالْمُكَفِّرِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ فَفَاسِدٌ بِمَنْ لَمْ تُقْنِعْهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ بِقُوَّةِ شَبَقِهِ ، وَإِنَّهُ رُبَّمَا اجْتَمَعَ حَيْضُهُنَّ مَعًا : وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْخَامِسَةِ عَلَى أَنَّ الْحُرَّةَ الْوَاحِدَةَ قَدْ تُقْنِعُ ذَا الشَّبَقِ الشَّدِيدِ بِأَنْ يَسْتَمْتِعَ فِي أَيَّامِ حَيْضَتِهَا بِمَا دُونَ الْفَرْجِ مِنْهَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وَتَقَرَّرَ أَنَّ نِكَاحَ الْحُرِّ لِلْأَمَةِ مُعْتَبَرٌ بِثَلَاثَةِ شَرَائِطَ ، فَكَذَلِكَ نِكَاحُهُ لِلْمُدَبَّرَةِ ، وَالْمُكَاتِبَةِ ، وَأُمِّ الْوَلَدِ ، وَمِنْ رَقَّ بَعْضُهَا شروط نكاح الحر للمدبرة ، وَإِنْ قَلَّ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِوُجُودِ هَذِهِ الشَّرَائِطِ : لِأَنَّ أَحْكَامَ الرِّقِّ عَلَى جَمِيعِهِنَّ جَارِيَةٌ ، فَجَرَتْ أَحْكَامُ الرِّقِّ عَلَى أَوْلَادِهِنَّ ، وَإِذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ فِي نِكَاحِ كُلِّ مَنْ يَجْرِي عَلَيْهِ حَكَمُ الرِّقِّ مِنْ أَمَةٍ ، وَمُدَبَّرَةٍ ، وَمُكَاتِبَةٍ ، وَأُمِّ وَلَدٍ ، وَجَبَ أَنْ يُوضَعَ حُكْمُ كُلِّ شَرْطٍ مِنْهَا .

أَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ : هُوَ أَنْ لَا يَكُونَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ ، فَوُجُودُ الْحُرَّةِ تَحْتَهُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ اسْتِمْتَاعُهُ بِهَا : لِأَنَّهَا كَبِيرَةٌ وَهِيَ حَلَالٌ لَهُ : لِأَنَّهُ لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهَا سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ ، فَلَا يَجُوزُ مَعَ وُجُودِهَا أَنْ يَنْكِحَ أَمَةً . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُمْكِنَهُ اسْتِمْتَاعٌ بِهَا لِكِبَرِهَا لَكِنْ قَدْ طَرَأَ عَلَيْهَا مَا صَارَ مَمْنُوعًا مِنْ إِصَابَتِهَا كَالْإِحْرَامِ ، وَالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ ، وَالظِّهَارِ ، وَالْعِدَّةِ مِنْ إِصَابَةِ غَيْرِهِ لَهَا لِشُبْهَةٍ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ مَعَ كَوْنِهَا تَحْتَهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ أَنْ يَنْكِحَ أَمَةً : لِأَنَّ التَّحْرِيمَ مَقْرُونٌ بِسَبَبٍ يَزُولُ بِزَوَالِ سَبَبِهِ ، فَصَارَ كَتَحْرِيمِهَا فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ لَا يُمْكِنَهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ حَلَالًا لَهُ ، وَذَلِكَ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا لِصِغَرٍ ، وَإِمَّا لِرَتْقٍ وَإِمَّا لِضُرٍّ مِنْ مَرَضٍ ، فَفِي جَوَازِ نِكَاحِهِ لِلْأَمَةِ قَوْلَانِ مَعَ وُجُودِ هَذِهِ الْحُرَّةِ فَفِيهِ وَوَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّ تَحْتَهُ حُرَّةً . وَالثَّانِي : يَجُوزُ : لِأَنَّهُ يَخَافُ الْعَنَتَ ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَوْ كَانَ يَمْلِكُ أَمَةً ، وَلَيْسَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ فَفِي جَوَازِ نِكَاحِهِ لِلْأَمَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَنْكِحُهَا تَعْلِيلًا بِأَنْ لَيْسَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَنْكِحُهَا تَعْلِيلًا : لِأَنَّهُ لَا يَخَافُ الْعَنَتَ . وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَادِمًا لِصَدَاقِ حُرَّةٍ ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُعْتَبَرَ أَقَلُّ صَدَاقٍ يَكُونُ لِأَقَلِّ حُرَّةٍ يُؤْخَذُ فِي مُسْلِمَةٍ أَوْ كِتَابِيَّةٍ ، فَعَلَى هَذَا يَتَعَذَّرُ أَنْ يَسْتَبِيحَ الْحُرُّ نِكَاحَ الْأَمَةِ : لِأَنَّ أَقَلَّ الصَّدَاقِ عِنْدَنَا قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَانِقًا مِنْ فِضَّةٍ أَوْ رَغِيفًا مِنْ خُبْزٍ ، وَقَلَّ مَا يَعُوزُ هَذَا أَحَدٌ ، فَإِذَا وَجَدَهُ وَوَجَدَ مَنْكُوحَةً بِهِ حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُ الْأَمَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَوْ وَجَدَهُ ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْكُوحَةً بِهِ حَلَّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّنَا نَعْتَبِرُ أَقَلَّ صَدَاقِ الْمِثْلِ لِأَيِّ حُرَّةٍ كَانَتْ مِنْ مُسْلِمَةٍ أَوْ كِتَابِيَّةٍ ، وَلَا يُعْتَبَرُ أَقَلُّ مَا يَجُوزُ أَنَّ يَكُونَ صَدَاقًا ، فَعَلَى هَذَا لَوْ وَجَدَ حُرَّةً بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا ، وَهُوَ وَاجِدٌ لِذَلِكَ الْقَدْرِ حَلَّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ ، وَلَوْ وَجَدَ صَدَاقَ الْمِثْلِ لِحُرَّةٍ أَوْ كِتَابِيَّةٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّنَا نَعْتَبِرُ أَقَلَّ صَدَاقِ الْمِثْلِ لِحُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ وَجَدَ صَدَاقُ الْمِثْلِ لِكِتَابِيَّةٍ ، وَلَمْ يَجِدْ صَدَاقُ الْمِثْلِ لِمُسْلِمَةٍ حَلَّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ [ النِّسَاءِ : 25 ] فَشَرَطَ إِيمَانَ الْحَرَائِرِ ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَوْ كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ كِتَابِيَّةٌ حَلَّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَوْ وَجَدَ حُرَّةً

يَتَزَوَّجُهَا بِأَقَلِّ مِنْ صَدَاقِ الْمِثْلِ وَهُوَ وَاجِدُهُ حَلَّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ ، وَلَوْ وَجَدَ ثَمَنَ أَمَةٍ وَهُوَ أَقَلُّ مِنْ صَدَاقِ حُرَّةٍ ، فَفِي جَوَازِ تَزْوِيجِهِ لِلْأَمَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [ النِّسَاءِ : 25 ] . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنِ اسْتِرْقَاقِ وَلَدِهِ . وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَخَافَ الْعَنَتَ ، وَهُوَ الزِّنَا ، فَسَوَاءٌ خَافَهُ ، وَهُوَ مِمَّنْ يُقْدِمُ عَلَيْهِ : لِقِلَّةِ عَفَافِهِ ، أَوْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ : لِتَحَرُّجِهِ وَعَفَافِهِ فِي أَنَّ خَوْفَ الْعَنَتِ فِيهِمَا شَرْطٌ فِي إِبَاحَةِ نِكَاحِ الْأَمَةِ لَهُمَا ، فَأَمَّا إِذَا خَافَ الْعَنَتَ مِنْ أَمَةٍ بِعَيْنِهَا أَنْ يَزْنِيَ بِهَا إِنْ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا لِقُوَّةِ مَيْلِهِ إِلَيْهَا وَحُبِّهِ لَهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إِذَا كَانَ وَاجِدًا لِلطَّوْلِ : لِأَنَّنَا نُرَاعِي عُمُومَ الْعَنَتِ لَا خُصُوصَهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ نِكَاحَ الْحُرِّ لِلْأَمَةِ مُعْتَبَرٌ بِمَا أَوْضَحْنَاهُ مِنَ الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ ، فَلَيْسَ لَهُ إِذَا اسْتَكْمَلَتْ فِيهِ أَنْ يَنْكِحَ أَكْثَرَ مِنْ أَمَةٍ وَاحِدَةٍ نكاح الحر أكثر من أمة . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ : يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا كَالْحَرَائِرِ : اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [ النِّسَاءِ : 25 ] فَأَطْلَقَ مِلْكَ الْيَمِينِ إِطْلَاقَ جَمْعٍ ، فَحُمِلَ عَلَى عُمُومِهِ فِي اسْتِكْمَالِ أَرْبَعٍ كَالْحَرَائِرِ : وَلِأَنَّ كُلَّ جِنْسٍ حَلَّ نِكَاحُ الْوَاحِدَةِ مِنْهُ حَلَّ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ مِنْهُ كَالْحَرَائِرِ طَرْدًا وَالْوَثَنِيَّاتِ عَكْسًا : وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَكْثَرِ مِنْ حُرَّةٍ وَاحِدَةٍ ، جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَكْثَرِ مِنْ أَمَةٍ وَاحِدَةٍ كَالْعَبْدِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ [ النِّسَاءِ : 25 ] وَهَذَا إِذَا تَزَوَّجَ أَمَةً وَاحِدَةً فَقَدْ أَمِنَ الْعَنَتَ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنَّ يَتَزَوَّجَ بِأَمَةٍ قِيَاسًا عَلَى مَا تَحْتَهُ مِنَ الْحَرَائِرِ أُخْرَى ، وَلَكَ تَحَرِّي هَذَا قِيَاسًا ، فَنَقُولُ : إِنَّهُ حُرٌّ أَمِنَ الْعَنَتَ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَمَةٍ قِيَاسًا عَلَى مَنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ حُرٌّ قَادِرٌ عَلَى وَطْءٍ بِنِكَاحٍ قِيَاسًا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ، وَلِأَنَّهُ مَحْظُورٌ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ ، فَلَمْ يَسْتَبِحْ مِنْهُ إِلَّا مَا دَعَتْ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ . فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ ، فَلَا يَقْتَضِي إِلَّا أَمَةً وَاحِدَةً : لِأَنَّهُ قَالَ : وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [ النِّسَاءِ : 25 ] فَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِالْحَرَائِرِ الْمُحْصَنَاتِ وَاحِدَةً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَا فِي مُقَابَلَتِهِنَّ مِنَ الْإِمَاءِ وَاحِدَةً ، وَعَلَى أَنَّ الْأَمَةَ بَدَلٌ مِنَ الْحُرَّةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ أَوْسَعَ حُكْمًا مِنَ الْمُبَدَلِ .

وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَرَائِرِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِنَّ : جَوَازُ الْعَقْدِ عَلَيْهِنَّ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَسْتَرِقُّ وَلَدُهُ فَيَدْخُلُ عَلَيْهِ بِاسْتِرْقَاقِهِ ضَرَرٌ فَخَالَفَ نِكَاحَ الْإِمَاءِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ : وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْعَبْدِ : فَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ الْأَمَةَ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ اسْتِرْقَاقُ وَلَدِهِ ضَرَرٌ ، فَخَالَفَ الْحُرَّ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَزَوَّجَ أَمَتَيْنِ ثَبَتَ نِكَاحُ الْأُولَى وَبَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ ، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ بِطَلَ نِكَاحُهُمَا : لِأَنَّ إِحْدَاهُمَا إِنْ حَلَّتْ فَهِيَ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ ، فَصَارَ كَمَنْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ بَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ ، إِنْ تَزَوَّجَهَا فِي عَقْدَيْنِ ، فَأُبْطِلَ نِكَاحُهَمَا إِنْ تَزَوَّجَهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي نِكَاحِ الْأَحْرَارِ لِلْإِمَاءِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى نِكَاحِ الْعَبِيدِ للإماء لَهُنَّ فَيَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَنْكِحَ الْإِمَاءَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَيَنْكِحُهَا ، وَإِنْ أَمِنَ الْعَنَتَ أَوْ كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ كَالْحُرِّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ الْأَمَةَ إِذَا كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ ، فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ كَالْحُرِّ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا فَخَصَّ الْأَحْرَارَ بِتَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ فَخَصَّهُمْ بِهِ أَيْضًا ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونُوا مَخْصُوصِينَ بِهَذَا الْمَنْعِ ، وَيَكُونَ الْعَبْدُ عَلَى إِطْلَاقِهِ مِنْ غَيْرِ مَنْعٍ ، وَلِأَنَّ مَنْ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ امْرَأَةً مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ عَلَيْهَا امْرَأَةً مِنْ جِنْسِهِ كَالْحُرِّ ، إِذَا نَكَحَ أَمَةً يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ عَلَيْهَا حُرَّةً . فَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْحُرِّ ، فَمَنَعَ مِنْهُ النَّصُّ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْحُرِّ أَنَّهُ يَلْحَقُهُ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ عَارٌ لَا يَلْحَقُ الْعَبْدَ . فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا كَانَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَنْكِحَ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ ، وَأَنْ يَجْمَعَ فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ بَيْنَ أَمَةٍ وَحُرَّةٍ ، وَأَنْ يَجْمَعْ بَيْنَ أَمَتَيْنِ ، كَمَا يَجْمَعُ بَيْنَ حُرَّتَيْنِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَإِنْ عَقَدَ نِكَاحَ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ مَعًا ، قِيلَ : يَثْبُتُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ وَيَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْأَمَةِ ، وَقِيلَ : يَنْفَسِخَانِ مَعًا ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ : نِكَاحُ الْحُرَّةِ جَائِزٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ مَعَهَا أُخْتَهُ مِنَ الرَّضَاعِ كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : هَذَا أَقْيَسُ وَأَصَحُّ فِي أَصْلِ قَوْلِهِ : لِأَنَّ النِّكَاحَ يَقُومُ بِنَفْسِهِ ، وَلَا يُفْسَدُ بِغَيْرِهِ ، فَهِيَ فِي مَعْنَى مَنْ تَزَوَّجَهَا وَقِسْطًا مَعَهَا مِنْ خَمْرٍ بِدِينَارٍ ، فَالنِّكَاحُ وَحْدَهُ ثَابِتٌ وَالْقِسْطُ الْخَمْرُ وَالْمَهْرُ فَاسِدَانِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَنْ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ يُزَوَّجُ بِحُرَّةٍ وَأَمَةٍ ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأَمَةَ ، ثُمَّ يَتَزَوَّجَ بَعْدَهَا حُرَّةً فَنِكَاحُهُمَا صَحِيحٌ : لِأَنَّهُ نَكَحَ الْأَمَةَ عَلَى الشَّرْطِ الْمُبِيحِ ، وَنِكَاحُ الْحُرَّةِ بَعْدَ الْأَمَةِ صَحِيحٌ .

وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : يَصِحُّ نِكَاحُ الْحُرَّةِ ، وَيَبْطُلُ بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ ، كَمَا لَوْ تَقَدَّمَ نِكَاحُ الْحُرَّةِ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ ، وَتُنْكَحُ الْحُرَّةُ عَلَى الْأَمَةِ . وَهَذَا نَصٌّ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ نِكَاحٍ فَلَمْ يَبْطُلْ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ النِّكَاحِ ، كَمَا لَوْ نَكَحَ حُرَّةً عَلَى حُرَّةٍ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْحُرَّةِ ثُمَّ يَتَزَوَّجُ بَعْدَهَا بِالْأَمَةِ فَنِكَاحُ الْحُرَّةِ صَحِيحٌ ، وَنِكَاحُ الْأَمَةِ بَعْدَهَا بَاطِلٌ : لِأَنَّ الْأَمَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَتَحْتَهُ حُرَّةٌ ، وَعِنْدَ مَالِكٍ : يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ بَعْدَ الْحُرَّةِ حكمه ثَانِيًا إِذَا كَانَ عَادِمًا لِلطَّوْلِ خَائِفًا لَلَعَنَتِ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَتَزَوَّجَهُمَا مَعًا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ ، فَنِكَاحُ الْأَمَةِ بَاطِلٌ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِعَقْدِهِ عَلَيْهَا مَعَ الْحُرَّةِ قَادِرًا عَلَى نِكَاحِ حُرَّةٍ ، وَهَلْ يُبْطِلُ نِكَاحَ الْحُرَّةِ أَمْ لَا ؟ مَبْنِيٌّ عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي الْبَيْعِ إِذَا جَمَعَ الْعَقْدُ الْوَاحِدُ حَلَالًا وَحَرَامًا كَبَيْعِ خَلٍّ وَخَمْرٍ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ ، أَوْ بَيْعِ حُرٍّ وَعَبْدٍ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ ، فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ فِي الْحَرَامِ ، وَفِي بُطْلَانِهِ فِي الْحَلَالِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ ، وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ - : أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ فِي الْحَلَالِ تَعْلِيلًا بِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا حُكْمٌ فِي انْفِرَادِهَا ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ جَائِزًا وَإِنْ كَانَ نِكَاحُ الْأَمَةِ بَاطِلًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي - وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ - : أَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ فِي الْحَلَالِ لِبُطْلَانِهِ فِي الْحَرَامِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَعْلِيلِ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ أَنَّ اللَّفْظَةَ الْوَاحِدَةَ جَمَعَتْ حَلَالًا وَحَرَامًا ، فَإِذَا بَطَلَ بَعْضُهَا انْتَقَضَتْ ، فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ ، كَمَا بَطَلَ نِكَاحُ الْأَمَةِ : لِأَنَّ لَفْظَ الْعَقْدِ عَلَيْهِمَا وَاحِدٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِمَا الْجَهَالَةُ بِثَمَنِ الْحَلَالِ : لِأَنَّ مَا قَابَلَ الْحَرَامَ مِنَ الثَّمَنِ مَجْهُولٌ ، فَصَارَ ثَمَنُ الْحَلَالِ بِهِ مَجْهُولًا ، فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ بِهِ مِنَ الْعَقْدِ مَا كَانَ مَوْقُوفَ الصِّحَّةِ عَلَى الْأَعْوَاضِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ الَّذِي لَا يَمُرُّ إِلَّا بِذِكْرِ مَا كَانَ مَعْلُومًا مِنْ ثَمَنٍ أَوْ أُجْرَةٍ ، فَأَمَّا الْعُقُودُ الَّتِي لَا تَقِفُ صِحَّتُهَا عَلَى الْعِوَضِ كَالنِّكَاحِ ، وَالْهِبَةِ ، وَالرَّهْنِ ، فَيَصِحُّ الْحَلَالُ مِنْهَا ، وَإِنْ بَطَلَ الْحَرَامُ الْمُقْتَرِنُ بِهَا ، فَيَكُونُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ صَحِيحًا ، وَإِنْ بَطَلَ نِكَاحُ الْأَمَةِ . وَفِيمَا تَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْمَهْرِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَهْرُ الْمِثْلِ ، وَإِبْطَالُ الْمُسَمَّى . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قِسْطُ مَهْرِ مِثْلِهَا مِنَ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ نَكَحَ أَرْبَعًا فِي عَقْدٍ عَلَى صَدَاقٍ وَاحِدٍ ، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ أَصَحَّ الْقَوْلَيْنِ ، وَهُوَ تَصْحِيحُ نِكَاحِ الْحُرَّةِ مَعَ فَسَادِ نِكَاحِ الْأَمَةِ إِلَّا أَنَّهُ اسْتَدَلَّ لِصِحَّتِهِ بِمِثَالٍ صَحِيحٍ ، وَحِجَاجٍ فَاسِدٍ . أَمَّا الْمِثَالُ الصَّحِيحُ فَهُوَ قَوْلُهُ : " وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ مَعَهَا أُخْتَهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ " : لِأَنَّهُ إِذَا جَمَعَ فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ بَيْنَ أُخْتِهَا وَأَجْنَبِيَّةٍ كَانَ لِجَمْعِهِ بَيْنَ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ ، فَيَبْطُلُ نِكَاحُ أُخْتِهِ ، وَفِي نِكَاحِ الْأَجْنَبِيَّةِ قَوْلَانِ .

وَأَمَّا الْحِجَاجُ الْفَاسِدُ فَهُوَ قَوْلُهُ : " فَهِيَ فِي مَعْنَى مَنْ تَزَوَّجَهَا وَقِسْطًا مَعَهَا مَنْ خَمْرٍ بِدِينَارٍ ، فَالنِّكَاحُ وَحْدَهُ ثَابِتٌ ، وَالْقِسْطُ مِنَ الْخَمْرِ فَاسِدٌ " . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وَجْهِ فَسَادِ هَذَا الِاعْتِلَالِ وَالِاحْتِجَاجُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ - : أَنَّ وَجْهَ فَسَادِهِ أَنَّهُ إِذَا زَوَّجَهُ وَزِقًّا مِنْ خَمْرٍ بِدِينَارٍ فَهُمَا عَقْدَانِ : بَيْعٌ وَنِكَاحٌ ، كَأَنْ يَقُولُ : بِعْتُكَ هَذَا الْخَمْرَ وَزَوَّجْتُكَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ بِدِينَارٍ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْتَجَّ بِالْعَقْدَيْنِ فِي صِحَّةِ أَحَدِهِمَا وَفَسَادِ الْآخَرِ عَلَى الْعَقْدِ الْوَاحِدِ فِي أَنَّ فَسَادَ بَعْضِهِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ بَاقِيهِ : لِأَنَّ الْعَقْدَ الْوَاحِدَ حُكْمٌ وَاحِدٌ ، وَلِلْعَقْدَيْنِ حُكْمَانِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ - : أَنَّ وَجْهَ فَسَادِهِ أَنَّهُ فِي النِّكَاحِ وَالْخَمْرِ بِدِينَارٍ قَدْ جَمَعَ فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ بَيْنَ نِكَاحٍ وَبَيْعٍ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُمَا ، وَالشَّافِعِيُّ قَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ إِذَا جَمَعَ شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الْحُكْمِ كَبَيْعٍ وَإِجَارَةٍ ، أَوْ رَهْنٍ وَهِبَةٍ ، فَلَهُ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا بَاطِلَانِ بِجَمْعِ الْعَقْدِ الْوَاحِدِ بَيْنَ مُخْتَلِفَيِ الْحُكْمِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُمَا جَائِزَانِ : لِجَوَازِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْتَجَّ بِمَا يَصِحُّ الْعَقْدُ فِيهِمَا عَلَى صِحَّةِ مَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ فِي أَحَدِهِمَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ أَيْسَرَ لَمْ يُفْسِدْهُ مَا بَعْدَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا تَزَوَّجَ الْحُرُّ أَمَةً عَلَى الشَّرَائِطِ الْمُبِيحَةِ ، ثُمَّ ارْتَفَعَتِ الشَّرَائِطُ بَعْدَ الْعَقْدِ الحكم بِأَنَّ أَمِنَ الْعَنَتَ بَعْدَ خَوْفِهِ أَوْ وَجَدَ الطَّوْلَ بَعْدَ عَدَمِهِ أَوْ نَكَحَ حُرَّةً بَعْدَ إِنْ لَمْ يَكُنْ ، فَنِكَاحُ الْأَمَةِ عَلَى صِحَّةِ ثُبُوتِهِ . وَقَالَ الْمُزَنِيُّ : إِنْ أَمِنَ الْعَنَتَ لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُ الْأَمَةِ ، وَإِنْ وَجَدَ الطَّوْلَ أَوْ نَكَحَ حُرَّةً بَطَلَ نِكَاحُ الْأَمَةِ : اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [ النِّسَاءِ : 25 ] فَجَعَلَ عَدَمَ الطَّوْلِ شَرْطًا فِي إِبَاحَةِ الْأَمَةِ ابْتِدَاءً ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي إِبَاحَتِهَا انْتِهَاءً ، قَالَ : وَلِأَنَّ زَوَالَ عِلَّةِ الْحُكْمِ مُوجِبٌ لِزَوَالِهِ ، وَالْعِلَّةُ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ عَدَمُ الطَّوْلِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهُ مُوجِبًا لِبُطْلَانِ نِكَاحِهَا ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ [ النُّورِ : 32 ] الْآيَةَ ، فَنَدَبَ إِلَى النِّكَاحِ : لِأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إِلَى الْغِنَى بَعْدَ الْفَقْرِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْغِنَى الْمَوْعُودُ بِهِ فِي النِّكَاحِ مُوجِبًا لِبُطْلَانِ النِّكَاحِ ، وَلَا عَدَمُ الطَّوْلِ شَرْطًا فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ ، كَمَا أَنَّ خَوْفُ الْعَنَتِ شَرْطًا فِي نِكَاحِهَا ، فَلَمَّا لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُهَا إِذَا زَالَ الْعَنَتُ لَمْ يَبْطُلْ إِذَا وَجَدَ الطَّوْلَ : وَلِأَنَّ الطَّوْلَ بِالْمَالِ غَيْرُ مُرَادٍ لِلْبَقَاءِ وَالِاسْتِدَامَةِ : لِأَنَّهُ يُرَادُ لِلْإِنْفَاقِ لَا لِلْبَقَاءِ وَمَا لَمْ يُرَدْ لِلْبَقَاءِ إِذَا كَانَ شَرْطًا فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي اسْتَدَامَتِهِ كَالْإِحْرَامِ وَالْعِدَّةِ بِالْعَقْدِ لَمْ يَبْطُلْ ، وَلَمَّا كَانَتِ الرِّدَّةُ وَالرَّضَاعُ يُرَادَانِ لِلِاسْتِدَامَةِ : لِأَنَّ الرِّدَّةَ دِينٌ يَعْتَقِدُهُ الْمُرْتَدُّ لِلدَّوَامِ ، وَكَانَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي الِابْتِدَاءِ وَالِاسْتِدَامَةِ ، كَذَلِكَ الْمَالُ لَمَّا لَمْ يُرَدْ لِلِاسْتِدَامَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي الِابْتِدَاءِ دُونَ الِاسْتِدَامَةِ كَالْإِحْرَامِ وَالْعِدَّةِ .

فَأَمَّا اسْتِدْلَالُ الْمُزَنِيِّ بِالْآيَةِ فَيَقْتَضِي كَوْنَ مَا تَضَمَّنَهَا مِنَ الشَّرْطِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ دُونَ اسْتَدَامَتِهِ ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ زَوَالَ الْعِلَّةِ مُوجِبٌ لِزَوَالِ حُكْمِهَا فَاسِدٌ بِخَوْفِ الْعَنَتِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَحَاجَّنِي مَنْ لَا يُفْسِخُ نِكَاحَ إِمَاءِ غَيْرِ الْمُسْلِمَاتِ ، فَـقَالَ : لَمَّا أَحَلَّ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا : لِأَنَّهَا مَانِعَةٌ لَهُ نَفْسَهَا بِالرِّدَّةِ ، وَإِنِ ارْتَدَّتْ مِنْ نَصْرَانِيَّةٍ إِلَى يَهُودِيَّةٍ أَوْ مِنْ يَهُودِيَّةٍ إِلَى نَصْرَانِيَّةٍ لَمْ تَحْرُمْ [ . . . ] تَعَالَى نِكَاحُ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ دَلَّ عَلَى نِكَاحِ الْأَمَةِ ، قُلْتُ : قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَيْتَةَ ، وَاسْتَثْنَى إِحْلَالَهَا لِلْمُضْطَرِّ ، فَهَلْ تَحِلُّ لِغَيْرِ مُضْطَرٍّ ، وَاسْتَثْنَى مِنْ تَحْرِيمِ الْمُشْرِكَاتِ إِحْلَالَ حَرَائِرَ أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَهَلْ يَجُوزُ حَرَائِرُ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَلَا تَحِلُّ إِمَاؤُهُمْ ، وَإِمَاؤُهُمْ غَيْرُ حَرَائِرِهِمْ ، وَاشْتَرَطَ فِي إِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ إِلَّا بِالشَّرْطِ ، وَقُلْتُ لَهُ : لِمَ لَا أَحْلَلْتَ الْأُمَّ كَالرَّبِيبَةِ وَحَرَّمْتَهَا بِالدُّخُولِ كَالرَّبِيبَةِ : ( قَالَ ) لِأَنَّ الْأُمَّ مُبْهَمَةٌ ، وَالشَّرْطُ فِي الرَّبِيبَةِ ( قُلْتُ ) فَهَكَذَا قُلْنَا فِي التَّحْرِيمِ فِي الْمُشْرِكَاتِ ، وَالشَّرْطِ فِي التَّحْلِيلِ فِي الْحَرَائِرِ وَإِمَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِذْ قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ بَقِيَ الْكَلَامُ فِي الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ مِنْ جِهَتِهَا ، وَهُوَ إِسْلَامُهَا ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ نِكَاحُ أَمَةٍ كَافِرَةٍ بِمَالٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ الْكَافِرَةِ : اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [ النِّسَاءِ : 3 ] فَكَانَتْ عَلَى عُمُومِهَا : وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ لَهُ وَطْئُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ جَازَ لَهُ وَطْئُهَا بِمِلْكِ نِكَاحٍ كَالْمُسْلِمَةِ ، وَلِأَنَّ فِي الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ نَقْصَانِ : نَقْصُ الرِّقِّ ، وَنَقْصُ الْكُفْرِ ، وَلَيْسَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّقْصَيْنِ تَأْثِيرٌ فِي الْمَنْعِ مِنَ النِّكَاحِ إِذَا انْفَرَدَ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمَا تَأْثِيرٌ فِيهِ إِذَا اجْتَمَعَا . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [ النِّسَاءِ : 25 ] فَجُعِلَ نِكَاحُ الْأَمَةِ مَشْرُوطًا الشروط المعتبرة في نكاح الأمة بِالْإِيمَانِ ، فَلَمْ يُسْتَبَحْ مَعَ عَدَمِهِ ، قَالَ تَعَالِيَ : الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ إِلَى قَوْلِهِ : وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [ الْمَائِدَةِ : 5 ] وَالْمُحْصَنَاتُ هَاهُنَا الْحَرَائِرُ ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَحِلَّ نِكَاحُ إِمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ : وَلِأَنَّ ذَلِكَ إِجْمَاعٌ : لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمْرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَلَيْسَ لَهُمَا مُخَالِفٌ ، وَلِأَنَّهَا امْرَأَةٌ اجْتَمَعَ فِيهَا نَقْصَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَأْثِيرٌ فِي الْمَنْعِ مِنَ النِّكَاحِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اجْتِمَاعُهُمَا مُوجِبًا لِتَحْرِيمِهِمَا عَلَى الْمُسْلِمِ كَالْحُرَّةِ الْمَجُوسِيَّةِ أَحَدُ نَقْصَيْهَا الْكُفْرُ ، وَالْآخَرُ عَدَمُ الْكِتَابِ ، وَالْأَمَةُ الْكِتَابِيَّةُ أَحَدُ نَقْصَيْهَا الرِّقُّ وَالْآخَرُ الْكُفْرُ : وَلِأَنَّ نِكَاحَ الْمُسْلِمِ لِلْأَمَةِ الْكَافِرَةِ يُفْضِي إِلَى أَمْرَيْنِ يَمْنَعُ الشَّرْعُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .

أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ : أَنْ يَصِيرَ وَلَدُهَا الْمُسْلِمُ مَرْقُوقًا لِكَافِرٍ ، وَالشَّرْعُ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِرْقَاقِ كَافِرٍ لِمُسْلِمٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يُسْبَى الْمُسْلِمُ : لِأَنَّ وَلَدَهَا الْمُسْلِمَ مِلْكٌ لِكَافِرٍ ، وَأَمْوَالُ الْكَافِرِ يَجِبُ أَنْ تُسْبَى ، وَالشَّرْعُ يَمْنَعُ مِنْ سَبْيِ الْمُسْلِمِ ، وَإِذَا كَانَ الشَّرْعُ مَانِعًا مِمَّا يُفْضِي إِلَيْهِ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ . فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَالْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِمْتَاعُ بِهِنَّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ ، لَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ اسْتِبَاحَةُ الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ : لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ عَلَيْهَا مِلْكُ مُسْلِمٍ ، فَلَمْ يُفْضِي إِلَى سَبْيِ وَلَدِهَا ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ ، فَلَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ بَيْنَ نِكَاحِهَا وَنِكَاحِ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ النَّقْصَيْنِ لَا يَمْنَعُ فَكَذَلِكَ اجْتِمَاعُهُمَا ، قُلْنَا : لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَأْثِيرٌ فِي الْمَنْعِ ، فَصَارَ اجْتِمَاعُهُمَا مُؤَثِّرًا فِي التَّحْرِيمِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا اسْتَقَرَّ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي نِكَاحِ الْحُرِّ لِلْأَمَةِ نَكَحَهَا وَأَوْلَدَهَا ، لَمْ يَخْلُ حَالُ الزَّوْجِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَرَبِيًّا أَوْ عَجَمِيًّا ، فَإِنْ كَانَ عَجَمِيًّا كَانَ وَلَدُهُ مِنْهَا مَرْقُوقًا لِسَيِّدِهَا ، وَإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ مَرْقُوقًا لِسَيِّدِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَكُونُ حُرًّا ، وَعَلَى الْأَبِ قِيمَتُهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يَجْرِي عَلَى عَرَبِيٍّ صَغَارٌ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ " . وَالِاسْتِرْقَاقُ مِنْ أَعْظَمِ الصَّغَارِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنِ الْعَرَبِ ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ مُفْضٍ إِلَى اسْتِرْقَاقِ مَنْ نَاسَبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَقْرَبِ آبَائِهِ مَعَ وَصِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى بِذَوِي الْقُرْبَى ، فَلَوْ نَكَحَ الْحُرُّ مُكَاتِبَةً كَانَ فِي وَلَدِهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ عَرَبِيًّا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِهَا . وَالثَّانِي : تَبَعٌ لَهَا ، إِنْ كَانَ عَرَبِيًّا ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : حُرٌّ يُعْتَقُ عَلَى أَبِيهِ بِقِيمَتِهِ . وَالثَّانِي : تَبَعٌ لِأُمِّهِ ، يُعْتَقُ بِعِتْقِهَا ، وَيَرِقُّ بِرِقِّهَا . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ مِلْكٌ لِسَيِّدِهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَالَعَبْدُ كَالْحُرِّ فِي أَنْ لَا يَحَلَّ لَهُ نِكَاحُ أَمَةٍ كِتَابِيَّةٍ للعبد " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : لَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا الْحُرُّ الْمُسْلِمُ ، وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، كَمَا جَوَّزَهُ لِلْحُرِّ ، وَفَرَّقَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ ، فَجَوَّزَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَنْكِحَ الْأَمَةَ الْكِتَابِيَّةَ ، وَلَمْ يُجَوِّزْهُ لِلْحُرِّ : لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ سَاوَاهَا فِي نَقْصِ الرِّقِّ ، وَاخْتُصَّتْ مَعَهُ بِنَقْصِ الْكُفْرِ ، فَلَمْ يَمْنَعْهُ أَحَدُ النَّقْصَيْنِ ، كَمَا لَمْ يَمْنَعِ الْمُسْلِمَ الْحُرَّ أَنْ يَنْكِحَ الْكِتَابِيَّةَ الْحُرَّةَ : لِاخْتِصَاصِهَا مَعَهُ بِأَحَدِ النَّقْصَيْنِ ، وَخَالَفَ نِكَاحَ الْحُرِّ

الْمُسْلِمِ لِلْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ لِاخْتِصَاصِهَا مَعَهُ بِنَقْصَيْنِ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ اجْتِمَاعَ النَّقْصَيْنِ فِيهَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ نِكَاحِهَا كَالْوَثَنِيَّةِ الْحُرَّةِ لَا يَنْكِحُهَا حُرٌّ ، وَلَا عَبْدٌ لِاجْتِمَاعِ النَّقْصَيْنِ ، فَاسْتَوَى فِي تَحْرِيمِهَا بِهِمَا مَنْ سَاوَاهُمَا فِي أَحَدِهَا أَوْ خَالَفَهَا فِيهِمَا ، فَإِذَا أَرَادَ كِتَابِيٌّ أَنْ يَنْكِحَ هَذِهِ الْأَمَةَ الْكِتَابِيَّةَ ، وَدَعَا حَاكِمُهَا إِلَى إِنْكَاحِهَا ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَهُ بِهَا : لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بِاجْتِمَاعِ النَّقْصَيْنِ مُحَرَّمَةً عِنْدَنَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي النَّقْصِ ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَ وَثَنِيًّا بِوَثَنِيَّةٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَأَيُّ صِنْفٍ حَلَّ نِكَاحُ حَرَائِرِهِمْ ، حَلَّ وَطْءُ إِمَائِهِمْ بِالْمِلْكِ ، وَمَا حُرِّمَ نِكَاحُ حَرَائِرِهِمْ ، حُرِّمَ وَطْءُ إِمَائِهِمْ بِالْمِلْكِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : لِأَنَّ الْأَمَةَ قَدْ تَصِيرُ فِرَاشًا بِالْوَطْءِ كَمَا تَصِيرُ الْحُرَّةُ فِرَاشًا بِالْعَقْدِ ، فَأَيُّ صِنْفٍ حَلَّ نِكَاحُ حَرَائِرِهِمْ فَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، حَلَّ وَطْءُ إِمَائِهِمْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ ، وَهُنَّ الْإِمَاءُ الْمُسْلِمَاتُ وَالْيَهُودِيَّاتُ وَالنَّصْرَانِيَّاتُ ، وَقَدِ اسْتَمْتَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمَتَيْنِ بِمِلْكِ يَمِينِهِ : إِحْدَاهُمَا مُسْلِمَةٌ ، وَهِيَ مَارِيَةُ ، وَأَوْلَدَهَا ابْنَهُ إِبْرَاهِيمَ ، وَالْأُخْرَى يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ رَيْحَانَةُ ، ثُمَّ بُشِّرَ بِإِسْلَامِهَا فَسُّرَ بِهِ ، وَأَعْتَقَ أَمَتَيْنِ وَتَزَوَّجَهُمَا ، وَجَعَلَ عِتْقَهُمَا صَدَاقَهُمَا : إِحْدَاهُمَا : جُوَيْرِيَّةُ . وَالْأُخْرَى : صَفِيَّةُ . فَأَمَّا مَنْ لَا يَحِلُّ نِكَاحُ حَرَائِرِهِمْ مِنَ الْمَجُوسِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ ، فَلَا يَحِلُّ وَطْءُ إِمَائِهِمْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ . وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : كُلُّ وَطْءٍ جَمَعَ الْإِمَاءَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ عَلَى أَيِّ كُفْرٍ كَانَتْ مِنْ مَجُوسِيَّةٍ أَوْ وَثَنِيَّةٍ أَوْ دَهْرِيَّةٍ : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي سَبْيِ هَوَازِنَ وَهُنَّ وَثَنِيَّاتٌ أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ ، وَلَا غَيْرَ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ فَأَبَاحَ وَطْأَهُنَّ بِالْمِلْكِ بَعْدَ اسْتِبْرَائِهِنَّ : وِلِأَنَّ الْوَطْءَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَوْسَعُ حُكْمًا مِنْهُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ : لِأَنَّهُ لَا يَسْتَمْتِعُ مِنَ الْإِمَاءِ بِمَنْ شَاءَ مِنْ غَيْرِ عَدَدٍ مَحْصُورٍ ، وَلَا يَحِلُّ بِعَقْدِ النِّكَاحِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ ، فَجَازَ لِاتِّسَاعِ حُكْمِ الْإِمَاءِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ مِنْهُنَّ بِمَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَهَا مِنَ الْوَثَنِيَّاتِ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [ الْبَقَرَةِ : 221 ] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ : وَلِأَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ مُحَرَّمَاتٌ بِمِلْكِ الْيَمِينِ كَذَوَاتِ الْأَنْسَابِ : وَلِأَنَّ مَا حُرِّمَ بِهِ وَطْءُ ذَوَاتِ الْأَنْسَابِ حُرِّمَ بِهِ وَطْءُ الْوَثَنِيَّاتِ كَالنِّكَاحِ . فَأَمَّا سَبْيُ هُوزَانَ ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْمُشْرِكَاتِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يَكُنَّ قَدْ أَسْلَمْنَ : لِأَنَّ فِي النِّسَاءِ رِقَّةً لَا يَثْبُتْنَ مَعَهَا بَعْدَ السَّبْيِ عَلَى

دِينٍ ، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِاتِّسَاعِ حُكْمِهِنَّ فِي الْعَدَدِ ، فَلَيْسَ لِعَدَدٍ تَأْثِيرٌ فِي أَوْصَافِ التَّحْرِيمِ ، كَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي ذَوَاتِ الْأَنْسَابِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا أَكْرَهُ نِكَاحَ نِسَاءِ أَهْلِ الْحَرْبِ إِلَّا لِئَلَّا يُفْتَنَ عَنُ دِيْنِهِ أَوْ يُسْتَرَقَّ وَلَدُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ : لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْكِتَابِيَّةَ الْحَرْبِيَّةَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ ، وَأَبْطَلَ الْعِرَاقِيُّونَ نِكَاحَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ : بِنَاءً عَلَى أُصُولِهِمْ فِي أَنَّ عُقُودَ دَارِ الْحَرْبِ بَاطِلَةٌ ، وَهِيَ عِنْدَنَا صَحِيحَةٌ : لِأَنَّ صِحَّةَ الْعَقْدِ وَفَسَادَهُ مُعْتَبَرٌ بِالْعَاقِدِ وَالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ دُونَ الْوَلَدِ : وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [ الْمَائِدَةِ : 5 ] وَلَمْ يُفَرِّقْ : وَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ فِي إِبَاحَتِهِنَّ الْكِتَابُ دُونَ الدَّارِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ وَطْئُهُنَّ بِالسَّبْيِ ، فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ وَطْئُهُنَّ بِالنِّكَاحِ : وَلِأَنَّ مَنْ حَلَّ نِكَاحُهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حَلَّ نِكَاحُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ كَالْمُسْلِمَةِ ، فَإِذَا صَحَّ نِكَاحُ الْحَرْبِيَّةِ ، فَهُوَ عِنْدَنَا مَكْرُوهٌ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ : أَحَدُهَا : لِئَلَّا يُفْتَنَ عَنْ دِينِهِ بِهَا ، أَوْ بِقَوْمِهَا ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَصْبُو إِلَى زَوْجَتِهِ بِشِدَّةِ مَيْلِهِ . وَالثَّانِي : لِئَلَّا يَكْثُرَ سَوَادُهُمْ بِنُزُولِهِ بَيْنَهُمْ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ . وَالثَّالِثُ : لِئَلَّا يُسْتَرَقَّ وَلَدُهُ وَتُسْبَى زَوْجَتُهُ : لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ ثَغْرٌ وَتُغْنَمُ ، فَإِنْ سُبِيَ وَلَدُهُ لَمْ يُسْتَرَقَّ : لِأَنَّهُ حُرٌّ مُسْلِمٌ ، وَإِنْ سُبِيَتْ زَوْجَتُهُ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهَا : لِأَنَّ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ هُوَ حَقٌّ لَهُ عَلَيْهَا بِالدَّيْنِ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهَا دَيْنٌ لَمْ يُمْنَعْ مِنِ اسْتِرْقَاقِهَا ، كَذَلِكَ النِّكَاحُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ مَلَكَ بَعْضَهَا بِالنِّكَاحِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَهْلَكَ عَلَيْهِ بِالِاسْتِرْقَاقِ ، كَمَا لَوْ مَلَكَ مَنَافِعَهَا بِالْإِجَارَةِ وَرَقَبَتَهَا بِالشِّرَاءِ .

بَابُ التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ

كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ فِي الْعِدَّةِ جَائِزٌ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ التَّعْرِيضِ

بَابُ التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ ، مِنَ الْجَامِعِ مِنْ كِتَابِ التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ فِي الْعِدَّةِ التعريض بالخطبة في العدة جَائِزٌ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ التَّعْرِيضِ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْقِسْمُ بَعْضَهُ ، وَالتَّعْرِيضُ كَثِيرٌ ، وَهُوَ خِلَافُ التَّصْرِيحِ ، وَهُوَ تَعْرِيضُ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ بِمَا يَدُلُّهَا بِهِ عَلَى إِرَادَةِ خِطْبَتِهَا بِغَيْرِ تَصْرِيحٍ ، وَتُجِيبُهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ ، وَالْقُرْآنُ كَالدَّلِيلِ إِذَا أَبَاحَ التَّعْرِيضَ ، وَالتَعَرِيضُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ جَائِزٌ سِرًّا وَعَلَانِيَةً ، عَلَى أَنَّ السِّرَّ الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ هُوَ الْجِمَاعُ ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ : أَلَّا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْيَوْمَ أَنَّنِي كَبِرْتُ وَأَنْ لَا يُحْسِنَ السِّرَّ أَمْثَالِي كَذَبْتِ لَقَدْ أُصْبِي عَنِ الْمَرْءِ عِرْسَهُ وَأَمْنَعُ عِرْسِي أَنْ يُزَنِّ بِهَا الْخَالِي قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ النِّسَاءَ ثَلَاثٌ : خَلِيَّةٌ ، وَذَاتُ زَوْجٍ ، وَمُعْتَدَّةٌ . فَأَمَّا الْخَلِيَّةُ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا ، وَلَا هِيَ فِي عِدَّةٍ ، فَيَجُوزُ خِطْبَتُهَا بِالتَّعْرِيضِ وَالتَّصْرِيحِ . وَأَمَّا ذَاتُ الزَّوْجِ ، فَلَا نُحِلُّ خِطْبَتَهَا بِتَعْرِيضٍ وَلَا تَصْرِيحٍ . وَأَمَّا الْمُعْتَدَّةُ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ رَجْعِيَّةً . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ بَائِنًا لَا تَحِلُّ لِلزَّوْجِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ بَائِنًا تَحِلُّ لِلزَّوْجِ . فَأَمَّا الرَّجْعِيَّةُ : فَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الزَّوْجِ أَنْ يَخْطُبَهَا تَصْرِيحًا ، وَلَا تَعْرِيضًا : لِأَنَّ أَحْكَامَ الزَّوْجِيَّةِ عَلَيْهَا جَارِيَةٌ مِنْ وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَوُقُوعِ الطَّلَاقِ ، وَالظِّهَارِ مِنْهَا ، وَإِنَّمَا يَتَوَارَثَانِ إِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا ، وَتَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ إِنْ مَاتَ الزَّوْجُ ، وَمَتَى أَرَادَ الزَّوْجُ رَجَعْتَهَا فِي الْعِدَّةِ كَانَتْ زَوْجَتَهُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْبَائِنُ لَا تَحِلُّ لِلزَّوْجِ : فَالْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا ، أَوِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَى الزَّوْجِ بَعْدَ مَوْتِهِ تَحْلِيلٌ وَلَا تَحْرِيمٌ ، فَإِذَا كَانَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْ وَفَاةِ زَوْجٍ فَحَرَامٌ أَنْ يُصَرِّحَ أَحَدٌ بِخِطْبَتِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ [ الْبَقَرَةِ : 235 ] يُرِيدُ بِالْعَزْمِ عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ التَّصْرِيحَ بِالْخِطْبَةِ ، وَبِقَوْلِهِ : " حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ يُرِيدُ بِهِ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ ، وَلِأَنَّ فِي الْمَرْأَةِ مِنْ غَلَبَةِ الشَّهْوَةِ وَالرَّغْبَةِ فِي الْأَزْوَاجِ مَا رُبَّمَا يَبْعَثُهَا

عَلَى الْإِخْبَارِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَبْلَ أَوَانِهَا ، وِقَوْلُهَا فِي انْقِضَائِهَا مَقْبُولٌ فَتَصِيرُ مَنْكُوحَةً فِي الْعِدَّةِ ، فَحَظَّرَ اللَّهُ تَعَالَى التَّصْرِيحَ بِخِطْبَتِهَا : حَسْمًا لِهَذَا التَّوَهُّمِ . فَأَمَّا التَّعْرِيضُ بِخِطْبَتِهَا فِي الْعِدَّةِ بِمَا يُخَالِفُ التَّصْرِيحَ مِنَ الْقَوْلِ الْمُحْتَمَلِ فَجَائِزٌ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ [ الْبَقَرَةِ : 235 ] يَعْنِي بِمَا عَرَّضْتُمْ مِنْ جَمِيلِ الْقَوْلِ ، أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ . وَرُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهَا بَعْدَ مَوْتِ أَبِي سَلَمَةَ وَهِيَ تَبْكِي ، وَقَدْ وَضَعَتْ خَدَّهَا عَلَى التُّرَابِ حُزْنًا عَلَى أَبِي سَلَمَةَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قُولِي إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَاعْقُبْنِي مِنْهُ ، وَعَوِّضْنِي خَيْرًا مِنْهُ ، وَقَالَتْ أَمُّ سَلَمَةَ : فَقُلْتُ فِي نَفْسِي مَنْ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ ، أَوَّلِ الْمُهَاجِرِينَ هِجْرَةً ، وَابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنِ عَمِّي ، فَلَمَّا تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمْتُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالْخَبَرُ عَلَى جَوَازِ التَّعْرِيضِ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ مِنَ الْوَفَاةِ ، وَأَمَّا الْمُعْتَدَّةُ مِنَ الطَّلَاقِ التعريض بخطبة المعتدة من الطلاق فَثَلَاثٌ ، فَلَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ أَنْ يَخْطُبَهَا بِصَرِيحٍ ، وَلَا تَعْرِيضٍ : لِأَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ بَعْدَ الْعِدَّةِ فَحَرُمَتْ عَلَيْهِ الْخِطْبَةُ . وَأَمَّا غَيْرُ الْمُطَلِّقِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَرِّحَ بِخِطْبَتِهَا ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعَرِّضَ لَهَا ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أَبُو عَمْرِو بْنُ حَفَصٍ ثَلَاثًا ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ - : إِذَا أَحْلَلْتِ فَآذِنِينِي ، وَرَوَتْ أَنَّهُ قَالَ لَهَا : إِذَا حَلَلْتِ فَلَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِكِ ، فَكَانَ ذَلِكَ تَعْرِيضًا لَهَا . وَفِي مَعْنَى الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا : الْمُلَاعِنَةُ ، وَالْمُحَرَّمَةُ بِمُصَاهَرَةٍ أَوْ رَضَاعٍ ، فَإِذَا حَلَّ التَّعْرِيضُ بِخِطْبَتِهَا ، فَفِي كَرَاهِيَتِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا - قَالَهُ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " - : أَنَّهُ مَكْرُوهٌ : لِأَنَّ الْآيَةَ وَارِدَةٌ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ . قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ " وَالْإِمْلَاءِ " . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : أَمْرُهَا فِي ذَلِكَ أَخَفُّ مِنَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا ، جَازَ ذَلِكَ : لِأَنَّ هُنَاكَ مُطَلِّقًا بِهِ يُمْنَعُ مِنْ تَزْوِيجِهَا قَبْلَ الْعِدَّةِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْبَائِنُ الَّتِي تَحِلُّ لِلزَّوْجِ ، فَهِيَ الْمُخْتَلِعَةُ إِذَا كَانَتْ فِي عِدَّتِهَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُصَرِّحَ بِخِطْبَتِهَا : لِأَنَّهُ يَحِلُّ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي عِدَّتِهَا ، فَأَمَّا غَيْرُ الزَّوْجِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَرِّحَ لِخِطْبَتِهَا وَفِي جَوَازِ تَعْرِيضِهِ لَهَا بِالْخِطْبَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ لِإِبَاحَتِهَا لِلْمُطَلِّقِ كَالرَّجْعِيَّةِ . قَالَهُ فِي كِتَابِ الْبُوَيْطِيِّ .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَجُوزُ : لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَمْلِكُ رَجَعَتْهَا كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا ، قَالَهُ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ ، وَفِي مَعْنَى الْمُخْتَلِعَةِ الْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةٍ يَجُوزُ لِلْوَاطِئِ أَنْ يُصَرِّحَ بَخِطْبَتِهَا فِي الْعِدَّةِ : لِأَنَّهَا مِنْهُ ، وَيَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا فِي الْعِدَّةِ ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يُصَرِّحَ بِخِطْبَتِهَا ، وَفِي جَوَازِ تَعْرِيضِهِ قَوْلَانِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ فَرْقٌ مَا بَيْنَ التَّصْرِيحِ وَالتَّعْرِيضِ ، فَالتَّصْرِيحُ : مَا زَالَ عَنْهُ الِاحْتِمَالُ ، وَتَحَقَّقَ مِنْهُ الْمَقْصُودُ ، مِثْلَ قَوْلِهِ : أَنَا رَاغِبٌ فِي نِكَاحِكِ ، وَأُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ أَوْ يَقُولُ : إِذَا قَضَيْتِ عِدَّتِكِ فَزَوِّجِينِي بِنَفْسِكِ . وَأَمَّا التَّعْرِيضُ بالخطبة وألفاظه : فَهُوَ الْإِشَارَةُ بِالْكَلَامِ الْمُحْتَمَلِ إِلَى مَا لَيْسَ فِيهِ ذِكْرٌ مِثْلَ قَوْلِهِ : رُبَّ رَجُلٍ يَرْغَبُ فِيكِ ، أَوْ أَنَّنِي رَاغِبٌ ، أَوْ مَا عَلَيْكِ إِثْمٌ ، أَوْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَسُوقَ إِلَيْكِ خَيْرًا ، أَوْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُحْدِثَ لَكِ أَمْرًا ، فَإِذَا أَحْلَلْتِ فَآذِنِينِي إِلَى مَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ ، وَسَوَاءٌ أَضَافَ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ أَوْ أَطْلَقَ إِذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِاسْمِ النِّكَاحِ ، وَكَانَ مُحْتَمَلٌ أَنْ يُرِيدَهُ بِكَلَامِهِ أَوْ يُرِيدَ غَيْرَهُ . وَإِذَا حَلَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْطُبَهَا بِالتَّصْرِيحِ حَلَّ لَهَا أَنْ تُجِيبَهُ عَلَى الْخِطْبَةِ بِالتَّصْرِيحِ ، وَإِذَا حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَخْطُبَهَا إِلَّا بِالتَّعْرِيضِ دُونَ التَّصْرِيحِ حَرُمَ عَلَيْهَا أَنْ تُجِيبَهُ إِلَّا بِالتَّعْرِيضِ دُونَ التَّصْرِيحِ لِيَكُونَ جَوَابُهَا مِثْلَ خِطْبَتِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا حَلَّ التَّعْرِيضُ لَهَا بِالْخِطْبَةِ جَازَ سِرًّا أَوْ جَهْرًا . وَقَالَ دَاوُدُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَرِّضَ لَهَا بِالْخِطْبَةِ سِرًّا حَتَّى يَجْهَرَ : اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا [ الْبَقَرَةِ : 235 ] وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ التَّعْرِيضَ لَمَّا حَلَّ اقْتَضَى أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ السِّرُّ وَالْجَهْرُ ، فَأَمَّا قَوْلُهُ : لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا فَفِيهِ لِأَهْلِ التَّأْوِيلِ أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ الزِّنَا . قَالَهُ الْحَسَنُ ، وَالضَّحَّاكُ ، وَقَتَادَةُ ، وَالسُّدِّيُّ . وَالثَّانِي : أَلَّا تَنْكِحُوهُنَّ فِي عِدَدِهِنَّ سِرًّا . قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ . وَالثَّالِثُ : أَلَّا تَأْخُذُوا مِيثَاقَهُنَّ وَعُهُودَهُنَّ فِي عِدَدِهِنَّ أَنْ لَا يَنْكِحْنَ غَيْرَكُمْ . قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيُّ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ الْجِمَاعُ ، قَالَهُ الشَّافِعِيُّ ، وَسُمِّيَ سِرًّا : لِأَنَّهُ يُسِرُّ وَلَا يُظْهِرُ ، وَاسْتَشْهَدَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ . أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْيَوْمَ أَنَّنِي كَبُرْتُ وَأَنْ لَا يُحْسِنَ السِّرَّ أَمْثَالِي كَذَبْتِ لَقَدْ أُصْبِي عَلَى الْمَرْءِ عِرْسَهُ وَأَمْنَعُ عِرْسِي أَنْ يُزَنِّ بِهَا الْخَالِي وَقَالَ آخَرُ : وَيَحْرُمُ سِرُّ جَارَتِهِمْ عَلَيْهِمْ وَيَأْكُلُ جَارُهُمْ أَنْفَ الْقِصَاعِ

مُوَاعَدَتُهُ لَهَا بِالسِّرِّ الَّذِي هُوَ الْجِمَاعُ أَنْ يَقُولَ لَهَا أَنَا كَثِيرُ الْجِمَاعِ قَوِيُّ الْإِنْعَاظِ ، فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لِفُحْشِهِ ، وَأَنَّهُ رُبَّمَا أَثَارَ الشَّهْوَةَ فَلَمْ يُؤْمَنْ مَعَهُ مُوَاقَعَةُ الْحَرَامِ ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الشِّيَاعِ يَعْنِي الْمُفَاخَرَةِ بِالْجِمَاعِ .

فَصْلٌ لَوْ أَنَّ رَجُلًا صَرَّحَ بِخِطْبَةِ مُعْتَدَّةٍ وَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْخِطْبَةِ

فَصْلٌ : فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا صَرَّحَ بِخِطْبَةِ مُعْتَدَّةٍ وَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْخِطْبَةِ . وَقَالَ مَالِكٌ : يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِطَلْقَةٍ ، ثُمَّ يُسْتَأْنَفُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ مَا قَدَّمْنَاهُ قَبْلَ الْعَقْدِ مِنْ قَوْلٍ مَحْظُورٍ كَالْقَذْفِ أَوْ فِعْلٍ مَحْظُورٍ كَإِظْهَارِ سَوْأَتِهِ أَوْ تَجَرُّدِهِ عَنْ ثِيَابِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ ، وَإِنْ أَثِمَ بِهِ ، كَذَلِكَ التَّصْرِيحُ بِالْخِطْبَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ النَّهْيِ أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ

بَابُ النَّهْيِ أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا يَخْطُبُ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ . وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ " إِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي " ، قَالَتْ : فَلَمَّا حَلَلْتُ أَخْبَرْتُهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي ، فَقَالَ : " أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ ، وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ ، انْكِحِي أُسَامَةَ فَدَلَتْ خِطْبَتُهُ عَلَى خِطْبَتِهِمَا أَنَّهَا خِلَافُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ إِذَا كَانَتْ قَدْ أَذِنَتْ فِيهِ ، فَكَانَ هَذَا فَسَادًا عَلَيْهِ ، وَفِي الْفَسَادِ مَا يُشْبِهُ الْإِضْرَارَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، وَفَاطِمَةُ لَمْ تَكُنْ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا أَذِنَتْ فِي أَحَدِهِمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : وَلَا يَخْطُبُ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَرَوَى أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا يَخْطُبُ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَتْرُكَ وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ صَحِيحَانِ ، وَلَيْسَ النَّهْيُ فِيهِمَا مَحْمُولًا عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ تَغْيِيرِ حَالِ الْمَخْطُوبَةِ ، فَإِذَا خَطَبَ الرَّجُلُ نِكَاحَ امْرَأَةٍ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : إِمَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي نِكَاحِهَا فَتَحْرُمُ بَعْدَ إِذْنِهَا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الرِّجَالِ أَنْ يَخْطُبَهَا : لِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ : حِفْظًا لِلْأُلْفَةِ ، وَمَنْعًا مِنَ الْفَسَادِ ، وَحَسْمًا لِلتَّقَاطُعِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْأَوَّلُ كُفْئًا أَوْ غَيْرَ كُفْءٍ . وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونَ : إِنْ كَانَ الْأَوَّلُ غَيْرَ كُفْءٍ لَمْ تَحْرُمْ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَكْفَاءِ خِطْبَتُهَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ نِكَاحَ غَيْرِ الْكُفْءِ بَاطِلٌ ، وَإِنْ تَرَاضَى بِهِ الْأَهْلُونَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ نِكَاحِهِ ، فَإِنْ رَجَعَ الْأَوَّلُ عَنْ خِطْبَتِهِ أَوْ رَجَعَتِ الْمَرْأَةُ عَنْ إِجَابَتِهَا ارْتَفَعَ حَكَمُ الْإِذْنِ ، وَعَادَتْ إِلَى الْحَالِ الْأُولَى فِي إِبَاحَةِ خِطْبَتِهَا : لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا يَخْطُبُ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَتْرُكَ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَرُدَّ خَاطِبَهَا ، وَتَمْنَعَ مِنْ نِكَاحِهِ فَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ مِنَ الرِّجَالِ أَنْ يَخْطُبَهَا :

لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالنَّهْيِ عَنِ الْخِطْبَةِ رَفْعُ الضَّرَرِ ، وَالْمَنْعُ مِنَ التَّقَاطُعِ ، فَلَوْ حُمِلَ النَّهْيُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِيمَنْ لَمْ تَأْذَنْ لَهُ حَلَّ الضَّرَرُ عَلَيْهَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تُمْسِكَ عَنْ خِطْبَتِهَا ، فَلَا يَكُونُ مِنْهَا إِذْنٌ وَلَا رِضًا ، وَلَا يَكُونُ مِنْهَا رَدٌّ وَلَا كَرَاهِيَةٌ ، فَيَجُوزُ خِطْبَتُهَا وَإِنْ تَقَدَّمَ الْأَوَّلُ بِهَا : لِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ الْمَخْزُومِيَّةِ أَنَّ زَوْجَهَا أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفَصٍ بَتَّ طَلَاقَهَا ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي ، فَلَمَّا حَلَّتْ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ خَطَبَنِي مُعَاوِيَةُ وَأَبُو جَهْمٍ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ ، وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ . وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا : أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَأَخَافُ عَلَيْكِ فَسْفَاسَتَهُ ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَرَجُلٌ أَخْلَقُ مِنَ الْمَالِ - أَمَّا الْفَسْفَاسَةُ : فَهِيَ الْعَصَا ، وَأَمَّا الْأَخْلَقُ مِنَ الْمَالِ ، فَهُوَ الْخُلُوُّ مِنْهُ - انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ ، قَالَتْ : فَكَرِهْتُهُ ، ثُمَّ أَطَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَكَحْتُهُ فَرُزِقْتُ مِنْهُ خَيْرًا وَاغْتَبَطْتُ بِهِ ، فَكَانَ الدَّلِيلُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَحَدَ الرَّجُلَيْنِ قَدْ خَطَبَهَا بَعْدَ صَاحِبِهِ فَلَمْ يَذْكُرِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْرِيمَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خَطَبَهَا لِأُسَامَةَ بَعْدَ خِطْبَتِهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِمْسَاكَ عَنِ الْإِجَابَةِ لَا يَقْتَضِي الْخِطْبَةَ إجابة الخاطب : وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَظْهَرَ مِنْهَا الرِّضَا بِالْخَاطِبِ ، وَلَا تَأْذَنُ فِي الْعَقْدِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ تُقَرِّرَ صَدَاقَهَا أَوْ بِشَرْطِ مَا تُرِيدُ مِنَ الشُّرُوطِ لِنَفْسِهَا ، فَفِي تَحْرِيمِ خِطْبَتِهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا - وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ - : أَنَّهَا تَحْرُمُ خِطْبَتُهَا بِالرِّضَا : اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ النَّهْيِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي - وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ - : أَنَّهُ لَا تَحْرُمُ خِطْبَتُهَا بِالرِّضَا حَتَّى تُصَرِّحَ بِالْإِذْنِ : لِأَنَّ الْأَصْلَ إِبَاحَةُ الْخِطْبَةِ مَا لَمْ تَتَحَقَّقْ شُرُوطُ الْحَظْرِ ، فَعَلَى هَذَا وَإِنِ اقْتَرَنَ بِرِضَاهَا إِذْنُ الْوَلِيِّ فِيهِ نَظَرٌ : فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا لَا تَتَزَوَّجُ إِلَّا بِصَرِيحِ الْإِذْنِ لَمْ تَحْرُمْ خِطْبَتُهَا ، وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا فَيَكُونُ الرِّضَا وَالسُّكُوتُ مِنْهَا إِذْنًا حَرُمَتْ خِطْبَتُهَا بِرِضَاهَا وَإِذْنِ وَلَيِّهَا ، وَهَاهُنَا قِسْمٌ خَامِسٌ : وَهُوَ أَنْ يَأْذَنَ وَلَيُّهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا إِذْنٌ أَوْ رِضًا ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْوَلِيُّ مِمَّنْ يُزَوِّجُ بِغَيْرِ إِذْنٍ كَالْأَبِ وَالْجَدِّ مَعَ الْبِكْرِ حَرُمَتْ خِطْبَتُهَا بِإِذْنِ الْوَلِيِّ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُزَوِّجُ إِلَّا بِإِذْنٍ لَمْ تَحْرُمْ خِطْبَتُهَا بِإِذْنِ الْوَلِيِّ حَتَّى تَكُونَ هِيَ الْآذِنَةَ فِيهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ تَحْرِيمُ خِطْبَتِهَا عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ ، فَأَقْدَمَ رَجُلٌ

عَلَى خِطْبَتِهَا مَعَ تَحْرِيمِهِ عَلَيْهَا وَتَزْوِيجِهِ ، فَكَانَ آثِمًا بِالْخِطْبَةِ ، وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ ، وَقَالَ دَاوُدُ : النِّكَاحُ بَاطِلٌ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَصِحُّ بِطَلْقَةٍ اسْتِدْلَالًا ، بِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ أَدْخَلَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ ، وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ عَمِلَ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ . وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ هُوَ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعَقْدِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيهِ ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي فَسَادِهِ : وَلِأَنَّ النَّهْيَ إِذَا كَانَ لِمَعْنَى فِي غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الصِّحَّةِ كَالنَّهْيِ عَنْ أَنْ يَسُومَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ أَوْ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادِ ، فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْخَبْرَيْنِ فَيَقْتَضِي رَدَّ مَا تَوَجَّهُ النَّهْيُ إِلَيْهِ ، وَهُوَ الْخِطْبَةُ دُونَ الْعَقْدِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ ، فَفِيهِ دَلَائِلُ عَلَى أَحْكَامٍ : مِنْهَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ السُّكُوتَ لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْحَظْرِ . وَمِنْهَا جَوَازُ ذِكْرُ مَا فِي الْإِنْسَانِ عِنْدَ السُّؤَالِ عَنْهُ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي مُعَاوِيَةَ : " إِنَّهُ صُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ " ، وَالتَّصَعْلُكُ : التَّمَحُّلُ وَالِاضْطِرَابُ فِي الْفَقْرِ ، قَالَ الشَّاعِرُ : غَنِينَا زَمَانًا بَالتَّصَعْلُكِ وَالْغِنَى وَكُلًّا سَقَانَاهُ بَكَأْسَيْهِمَا الدَّهْرُ فَمَا زَادَنَا بَغْيًا عَلَى ذِي قَرَابَةٍ غِنَانَا وَلَا أَزْرَى بِأَحْسَابِنَا الْفَقْرُ وَقَالَ فِي أَبِي جَهْمٍ : " لَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ " وَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ كَثْرَةَ ضَرْبِهِ لِأَهْلِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ كَثْرَةَ أَسْفَارِهِ ، يُقَالُ لِمَنْ سَافَرَ : قَدْ أَخَذَ عَصَاهُ ، وَلِمَنْ أَقَامَ قَدْ أَلْقَى عَصَاهُ ، قَالَ الشَّاعِرُ : فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى كَمَا قَرَّ عَيْنًا بِالْإِيَابِ الْمُسَافِرُ وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ كَثْرَةَ تَزْوِيجِهِ لِتَنَقُّلِهُ مِنْ زَوْجَةٍ إِلَى أُخْرَى ، كَتَنَقُّلِ الْمُسَافِرِ بِالْعَصَى مِنْ مَدِينَةٍ إِلَى أُخْرَى ، وَمِنْ دَلَائِلِ الْخَبَرِ أَيْضًا جَوَازُ الِابْتِدَاءِ بِالْمَشُورَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِشَارَةٍ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَارَ بِأُسَامَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَهُ عَنْهُ . وَمِنْهَا أَنَّ طَلَاقَ الثَّلَاثِ مُبَاحٌ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَنْكَرَهُ فِي فَاطِمَةَ حِينَ أَخْبَرَتْهُ ، وَمِنْهَا جَوَازُ خُرُوجِ الْمُعْتَدَّةِ فِي زَمَانِ عِدَّتِهَا لِحَاجَةٍ : لِأَنَّهَا خَرَجَتْ إِلَيْهِ فَأَخْبَرَتْهُ بِطَلَاقِهَا ، فَقَالَ لَهَا : " إِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي " .

وَمِنْهَا جَوَازُ كَلَامِ الْمَرْأَةِ وَإِنِ اعْتَدَّتْ ، وَإِنَّ كَلَامَهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ . وَمِنْهَا جَوَازُ نِكَاحِ غَيْرِ الْكُفْءِ : لِأَنَّهَا فِي صَمِيمِ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ ، وَأَمَرَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ أُسَامَةَ وَهُوَ مَوْلًى إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سُقُوطِ نَفَقَةِ الْمَبْتُوتَةِ ، وَوُجُوبِ نَفَقَةِ الرَّجْعِيَّةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ .

بَابُ نِكَاحِ الْمُشْرِكِ وَمَنْ أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ

بيان أَصْلُ تَحْرِيمُ التَّنَاكُحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ

بَابُ نِكَاحِ الْمُشْرِكِ ، وَمَنْ أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ ، مِنْ هَذَا وَمِنْ كِتَابِ التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : " أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ - أَحْسَبُهُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ - عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : أَسْلَمَ غَيْلَانُ بْنُ سَلَمَةَ وَعِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ الدَّيْلَمِيُّ أَوِ ابْنُ الدَّيْلَمِيِّ أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ أُخْتَانِ : اخْتَرْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ وَفَارِقِ الْأُخْرَى ، وَقَالَ لِنَوْفَلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَعِنْدَهُ خَمْسٌ ، فَارِقْ وَاحِدَةً وَأَمْسِكْ أَرْبَعًا قَالَ فَعَمَدْتُ إِلَى أَقْدَمِهِنَّ فَفَارَقْتُهَا ، ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَبِهَذَا أَقُولُ وَلَا أُبَالِي ، أَكُنَّ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي عُقَدٍ مُتَفَرِقَةٍ إِذَا كَانَ مَنْ يُمْسِكُ مِنْهُنَّ يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَهَا فِي الْإِسْلَامِ مَا لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ قَبْلَ اجْتِمَاعِ إِسْلَامِهِمَا : لِأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَحَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَسْلَمَا قَبْلُ ، ثُمَّ أَسْلَمَتِ امْرَأَتَاهُمَا ، فَاسْتَقَرَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عِنْدَ زَوْجِهَا بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ ، وَأَسْلَمَتِ امْرَأَةُ صَفْوَانَ وَامْرَأَةُ عِكْرَمَةَ ، ثُمَّ أَسْلَمَا فَاسْتَقَرَّتَا بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ ، وَذَلِكَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، الْأَصْلُ تَحْرِيمُ التَّنَاكُحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْمُشْرِكِينَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ [ الْبَقَرَةِ : 221 ] وَقَالَ تَعَالَى : وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ [ الْمُمْتَحِنَةِ : 10 ] وَقَالَ تَعَالَى : فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [ الْمُمْتَحِنَةِ : 10 ] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمُسْلِمَةُ لَا تَحِلُّ لِكَافِرٍ بِحَالٍ سَوَاءٌ كَانَ الْكَافِرُ كِتَابِيًّا أَوْ وَثَنِيًّا ، فَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَيَحِلُّ لَهُ مِنَ الْكُفَّارِ الْكِتَابِيَّاتُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا عَدَاهُنَّ مِنَ الْمُشْرِكَاتِ . فَأَمَّا إِذَا تَنَاكَحَ الْمُشْرِكُونَ فِي الشِّرْكِ فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِمْ فِيهَا ، فَإِنْ أَسْلَمُوا عَلَيْهَا فَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ جَوَازُ مَنَاكِحِهِمْ وَإِقْرَارُهُمْ عَلَيْهَا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى نِكَاحِ زَوْجَتِهِ ، وَرَوَى دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنْتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ ، وَلَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ : إِنَّ مَنَاكِحَهُمْ بَاطِلَةٌ المشركين ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : إِنَّهَا مَعْفُوٌّ عَنْهَا ، فَغَلِطَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَخَرَجَ اخْتِلَافُ هَذِهِ النُّصُوصِ الثَّلَاثَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ ، الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ أَقَاوِيلِهِ فِيهَا ، وَلَكِنَّهُ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ مَنَاكِحِهِمْ الكفار ، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : صَحِيحَةٌ ، وَبَاطِلَةٌ ، وَمَعْفُوٌّ عَنْهَا . فَأَمَّا الصَّحِيحُ مِنْهَا : فَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْكَافِرُ الْكَافِرَةَ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنَ بِلَفْظِ النِّكَاحِ ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا نَسَبٌ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ ، فَهَذَا النِّكَاحُ صَحِيحٌ ، فَإِذَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ أُقِرُّوا وَهُوَ الَّذِي أَرَادَهُ الشَّافِعِيُّ بِالصِّحَّةِ . فَأَمَّا الْبَاطِلُ مِنْهَا : فَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِنَسَبٍ ، أَوْ رَضَاعٍ ، أَوْ مُصَاهَرَةٍ ، فَهَذَا النِّكَاحُ بَاطِلٌ ، فَإِذَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ لَمْ يُقَرُّوا ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَكَحَهَا بِخِيَارٍ مُؤَبَّدٍ ، وَهَذَا الَّذِي أَرَادَهُ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ بَاطِلٌ . وَأَمَّا الْمَعْفُوُّ عَنْهُ : فَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَنْ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِنَسَبٍ ، وَلَا رَضَاعٍ ، وَلَا مُصَاهَرَةٍ ، بِمَا يَرَوْنَهُ نِكَاحًا مِنْ غَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ ، وَلَا بِلَفْظِ نِكَاحٍ وَلَا تَزْوِيجٍ ، فَهَذَا مَعْفُوٌّ عَنْهُ ، فَإِذَا أَسْلَمُوا قُرُّوا عَلَيْهِ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكْشِفْ عَنْ مَنَاكِحِ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، وَهُوَ الَّذِي أَرَادَهُ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ مَنَاكِحِهِمْ ، فَلَهُمْ إِذَا حَدَثَ بَيْنَهُمْ إِسْلَامٌ حَالَتَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُسْلِمَ الزَّوْجَانِ مَعًا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُسْلِمَ أَحَدُهُمَا . فَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ مَعًا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ بِأَنْ كَانَ لَهُ أَرْبَعٌ فَمَا دُونَ ، وَأَسْلَمْنَ كُلُّهُنَّ مَعَهُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، ثَبَتَ نِكَاحُهُنَّ كُلِّهِنَّ ، سَوَاءٌ كَانَ إِسْلَامُهُ وَإِسْلَامُهُنَّ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ خَمْسُ زَوْجَاتٍ فَمَا زَادَ ، وَقَدْ أَسْلَمَ جَمِيعُهُنَّ بِإِسْلَامِهِ الزوج ، كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْ جُمْلَتِهِنَّ أَرْبَعًا سَوَاءٌ نَكَحَهُنَّ جَمِيعَهُنَّ فِي الشِّرْكِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي عُقُودٍ ، وَسَوَاءٌ أَمْسَكَ الْأَوَائِلَ أَوِ الْأَوَاخِرَ ، وَيَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْبَوَاقِي بِغَيْرِ طَلَاقٍ ، وَبِمِثْلِ قَوْلِنَا قَالَ مَالِكٌ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ : لَا يَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْبَوَاقِي بَعْدَ الْأَرْبَعِ إِلَّا بِطَلَاقٍ ، وَهَكَذَا لَوْ نَكَحَ فِي الشِّرْكِ أُخْتَيْنِ ثُمَّ أَسْلَمَتَا مَعًا ، أَمْسَكَ أَيَّتَهُمَا شَاءَ ، وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْأُخْرَى ، بِغَيْرِ طَلَاقٍ عِنْدَنَا وَبِطَلَاقٍ عِنْدَ مَالِكٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَبُو يُوسُفَ : لَا اعْتِبَارَ بِخِيَارِهِ ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِعَقْدِهِ ، فَإِنْ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ عَشْرًا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ ثُمَّ أَسْلَمْنَ مَعَهُ بَطَلَ نِكَاحُ جَمِيعِهِنَّ ، فَإِنْ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عُقُودٍ ثَبَتَ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ الْأَوَائِلِ ، وَبَطَلَ نِكَاحُ مَنْ بَعْدَهُنَّ مِنَ الْأَوَاخِرِ اعْتِبَارًا بِنِكَاحِ الْمُسْلِمِ ، وَهَكَذَا لَوْ أَنْكَحَ أُخْتَيْنِ أَسْلَمَتَا مَعَهُ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ قَدْ نَكَحَهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ بَطَلَ نِكَاحُهُمَا ، وَإِنْ كَانَ فِي عَقْدَيْنِ ثَبَتَ نِكَاحُ الْأُولَى مِنْهُمَا ، وَبَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : إِنْ نَكَحَهُنَّ فِي عُقُودٍ ثَبَتَ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ الْأَوَائِلِ ، وَإِنْ نَكَحَهُنَّ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُهُنَّ ، وَاخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا . وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ

مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ ، فَقَالَ لَهُ : ادْعُهُمْ إِلَى الشَّهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَإِنْ أَجَابُوكَ أَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ نَكَحَ خَمْسًا فِي عَقْدٍ بَطَلَ نِكَاحُهُنَّ ، وَلَوْ نَكَحَهُنَّ فِي عُقُودٍ ثَبَتَ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ الْأَوَائِلِ ، وَبَطَلَ نِكَاحُ مَنْ بَعْدَهُنَّ مِنَ الْأَوَاخِرِ ، كَذَلِكَ نِكَاحُ الْمُشْرِكِ إِذَا أَسْلَمَ . قَالَ : وَلِأَنَّهُ تَحْرِيمُ جَمْعٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ فِيهِ خِيَارٌ قِيَاسًا عَلَى إِسْلَامِ الْمَرْأَةِ مَعَ زَوْجَيْنِ قَالَ : وَلِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ يَسْتَوِي فِيهِ الِابْتِدَاءُ وَالِاسْتِدَامَةُ مِنْهُ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ : قِيَاسًا عَلَى تَحْرِيمِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ . قَالَ : وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ اشْتَمَلَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا : قِيَاسًا عَلَى عَقْدِ الْمُسْلِمِ . وَدَلِيلُنَا : مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ : أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ أَسْلَمَ وَأَسْلَمَ مَعَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ ، فَأَطْلَقَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمْسَاكَ أَرْبَعٍ مِنْهُنَّ ، وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ عُقُودِهِنَّ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رَدَّ ذَلِكَ إِلَى اخْتِيَارِهِ فِيهِنَّ ، بَلْ قَدْ رُوِيَ أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ قَالَ : فَكُنْتُ مَنْ أُرِيدُهَا أَقُولُ لَهَا : أَقْبِلِي ، وَمَنْ لَا أُرِيدُهَا أَقُولُ لَهَا : أَدْبِرِي ، وَهِيَ تَقُولُ : بِالرَّحِمِ بِالرَّحِمِ ، وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي تَمَسُّكِهِ بِمَنِ اخْتَارَ لَا بِمَنْ تَقَدَّمَ . وَرُوِيَ عَنْ نَوْفَلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَالَ : أَسْلَمْتُ وَعِنْدِي خَمْسُ نِسْوَةٍ ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ وَاحِدَةً قَالَ : فَعَمَدْتُ إِلَى أَقْدَمِهِنَّ صُحْبَةً فَفَارَقْتُهَا ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ إِمْسَاكِ الْأَوَاخِرِ دُونَ الْأَوَائِلِ . وَرَوَى الضَّحَّاكُ بْنُ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمَيُّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ : أَسْلَمْتُ وَتَحْتِي أُخْتَانِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمْسِكْ أَيَّتَهِمَا شِئْتَ ، وَفَارِقِ الْأُخْرَى ، وَهَذَا نَصٌّ فِي التَّخْيِيرِ . وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي أَسَدٍ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ ثَمَانِي نِسْوَةٍ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا قَالَ : فَاخْتَرْتُ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَخْبَارِ نُصُوصٌ فِي التَّخْيِيرِ . وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ : أَنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ حَلَّ لَهُ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ حَلَّ لَهُ الْمُقَامُ عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ بِالْعَقْدِ النَّاجِزِ فِي الشِّرْكِ قِيَاسًا عَلَى النِّكَاحِ بَعْدَ شُهُودٍ . وَقَوْلُنَا بِعَقْدٍ نَاجِزٍ : احْتِرَازًا مِنْ نِكَاحِهَا فِي الشِّرْكِ بِخِيَارٍ مُؤَبَّدٍ : وَلِأَنَّهُ عَدَدٌ يَجُوزُ لَهُ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ عَلَيْهِنَّ ، فَجَازَ لَهُ إِمْسَاكُهُنَّ كَالْأَوَائِلِ .

وَمِنَ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ أُخْتَيْنِ وَاحِدَةً بَعْدَ الْأُخْرَى ، ثُمَّ مَاتَتِ الْأُولَى وَأَسْلَمَتْ مَعَهُ الثَّانِيَةُ ، جَازَ لَهُ اسْتِبْدَالُهَا ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْأُولَى بَاقِيَةً : وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَسْتَدِيمَ الْمُقَامَ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى عَقْدِ نِكَاحٍ فِي الشِّرْكِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ مِثْلَهُ فِي الْإِسْلَامِ وَهُوَ يَكُونُ قَدْ نَكَحَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ ، جَازَ مِثْلُهُ فِي جَمْعِ الْعَدَدِ وَفِي الْأَوَاخِرِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْخَبَرِ : فَمَنْ يَقُولُ بِمُوجِبِهِ إِنَّنَا نُحَرِّمُ عَلَيْهِ الزِّيَادَةَ عَلَى أَرْبَعٍ كَالَّذِي لَمْ يَزَلْ مُسْلِمًا . فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا أَسْلَمَتْ مَعَ زَوْجَيْنِ تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ تَحْرِيمُ جَمْعٍ ، فَالتَّعْلِيلُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ : لِأَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى الْمَرْأَةِ الزَّوْجَ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ لِأَجْلِ الْجَمْعِ ، وَلَكِنْ لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ مَلَكَ بُضْعَهَا فَصَارَتْ عَاقِدَةً مَعَ الثَّانِي عَلَى مَا قَدْ مَلَكَهُ الْأَوَّلُ عَلَيْهَا ، فَجَرَى مَجْرَى مَنْ بَاعَ مِلْكًا ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ آخَرَ ، بَطَلَ الْبَيْعُ الثَّانِي لِأَجْلِ الْجَمْعِ ، وَلَكِنْ يَعْقِدُهُ عَلَى مَا قَدْ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ ، كَذَلِكَ نِكَاحُ الزَّوْجِ الثَّانِي . وَخَالَفَ نِكَاحُ الْخَامِسَةِ : لِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةِ الْبُضْعِ كَالرَّابِعَةِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِنَّ : أَنَّهُ لَمَّا حَرُمَ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ عَلَيْهِنَّ حَرُمَ اسْتِدَامَةُ نِكَاحِهِنَّ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَوَاخِرُ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ عُقُودَ الْمُسْلِمِ أَضْيَقُ حُكْمًا وَأَغْلَظُ شَرْطًا مِنْ عُقُودِ الْمُشْرِكِ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ نَكَحَ فِي عِدَّةٍ أَوْ بِغَيْرِ شُهُودِ بَطَلَ ، وَلَوْ أَسْلَمَ الْمُشْرِكُ عَلَيْهِ أُقِرَّ ، كَذَلِكَ الْأَوَاخِرُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ : وَهُوَ أَنْ يُسْلِمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ ، فَيَنْظُرَ : فَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ وَزَوْجَتُهُ كِتَابِيَّةٌ ، فَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ : لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَهَا فِي الْإِسْلَامِ ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَدِيمَ نِكَاحَهَا فِي الشِّرْكِ ، وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ وَثَنِيَّةً ، أَوْ أَسْلَمَتِ الزَّوْجَةُ وَكَانَ زَوْجُهَا كِتَابِيًّا أَوْ وَثَنِيًّا ، فَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ : لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ إِسْلَامِ أَحَدِهِمَا مُحَرَّمٌ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ فِي إِسْلَامِ أَحَدِهِمَا ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بَطَلَ النِّكَاحُ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، فَإِنْ أَسَلَمَ الْمُتَأَخِّرُ فِي الشِّرْكِ مِنْهُمَا قَبْلَ انْقِضَائِهَا ، كَانَا عَلَى النِّكَاحِ ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ بَطَلَ النِّكَاحُ ، وَسَوَاءٌ تَقَدَّمَ بِالْإِسْلَامِ الزَّوْجُ أَوِ الزَّوْجَةُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِسْلَامُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ دَارِ الْإِسْلَامِ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ تَقَدَّمَتِ الزَّوْجَةُ بِالْإِسْلَامِ كَانَ الْحُكْمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بَطَلَ النِّكَاحُ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ وَقَفَ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، وَإِنْ تَقَدَّمَ الزَّوْجُ بِالْإِسْلَامِ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا إِلَّا أَنْ تُسْلِمَ الزَّوْجَةُ بَعْدَهُ بِزَمَانٍ يَسِيرٍ كَيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا ، فَلَهُمَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ الزوجان : حَالٌ يَكُونَانِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَحَالٌ يَكُونَانِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَحَالٌ يَكُونُ أَحَدُهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالْآخِرُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .

فَإِنْ كَانَا فِي دَارِ الْحَرْبِ ، فَأَسْلَمَ أَحَدُهُمَا ، فَالنِّكَاحُ مَوْقُوفٌ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ . وَإِنْ كَانَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَأَسْلَمَ أَحَدُهُمَا ، كَانَ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا عَلَى الْأَبَدِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ ، إِلَّا أَنْ يُعْرَضَ الْإِسْلَامُ عَلَى الْمُتَأَخِّرِ فِي الشِّرْكِ فَيَمْتَنِعَ ، فَيُوقِعُ الْحَاكِمُ بِطَلْقَةٍ . وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالْآخِرُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَإِسْلَامُ مَنْ حَصَّلَ فِي ذَلِكَ الْإِسْلَامَ مُوجِبٌ لِفَسْخِ النِّكَاحِ فِي الْحَالِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ وَقْفٍ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْلِمُ هُوَ الزَّوْجُ أَوِ الزَّوْجَةُ . وَقَالَ دَاوُدُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ : إِسْلَامُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ مُوجِبٌ لِفَسْخِ النِّكَاحِ فِي الْحَالِ الزوجين مِنْ غَيْرِ وَقْفٍ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ إِسْلَامُهُ ، وَفِي أَيِّ مَكَانٍ كَانَ . فَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ لِمَذْهَبِهِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ [ الْمُمْتَحِنَةِ : 10 ] فَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ عَلَى الْمُسْلِمِ التَّمَسُّكُ بِعِصْمَةِ كَافِرٍ ، وَلِأَنَّ إِسْلَامَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ إِذَا كَانَ مُؤَثِّرًا فِي الْفُرْقَةِ كَانَ مُعْتَبَرًا بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ : لِأَنَّ الْفُرْقَةَ إِلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَحَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَسْلَمَا عَلَى يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ وَزَوْجَتَاهُمَا فِي الشِّرْكِ بِمَكَّةَ ، فَأَنْفَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا هُرَيْرَةَ إِلَى هِنْدٍ زَوْجَةِ أَبِي سُفْيَانَ ، فَقَرَأَ عَلَيْهَا الْقُرْآنَ وَعَرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ ، فَأَبَتْ ثُمَّ أَسْلَمَتْ ، وَأَسْلَمَتْ زَوْجَةُ حَكِيمٍ عَلَى يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَقَرَّهُمَا عَلَى النِّكَاحِ مَعَ تَقَدُّمِ إِسْلَامِ الزَّوْجَيْنِ ، وَلِأَنَّ حَظْرَ الْمُسْلَمَةِ عَلَى الْكَافِرِ أَغْلَظُ مِنْ حَظْرِ الْكَافِرَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ : لِأَنَّ الْمُسْلِمَةَ لَا تَحِلُّ لِكِتَابِيٍّ ، وَالْمُسْلِمَ تَحِلُّ لَهُ الْكِتَابِيَّةُ ، فَلَمَّا لَمْ يَتَعَجَّلْ فَسْخُ نِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ مَعَ الْكَافِرِ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَتَعَجَّلَ فَسْخُ نِكَاحِ الْكَافِرِ مَعَ الْمُسْلِمَةِ . فَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا دَلِيلَ لَهُ فِيهَا : لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِعِصْمَتِهَا فِي الْكُفْرِ ، وَإِنَّمَا تَمَسَّكَ بِعِصْمَتِهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ الْفُرْقَةَ إِلَى الزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ ، فَذَاكَ فِي فُرْقَةِ الِاخْتِيَارِ الَّتِي يُوقِعُهَا الْمَالِكُ وَالطَّلَاقُ ، فَأَمَّا فُرْقَةُ الْفُسُوخِ فَيَسْتَوِي فِيهَا الزَّوْجَانِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ عَلَى وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [ الْمُمْتَحِنَةِ : 10 ] فَاقْتَضَى أَنْ تَحْرُمَ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ سَوَاءٌ أَسْلَمَ بَعْدَهَا أَوْ لَمْ يُسْلِمْ : وَبِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَاجَرَتْ إِلَيْهِ ، وَتَخَلَّفَ زَوْجُهَا أَبُو الْعَاصِ بْنُ رَبِيعٍ كَافِرًا بِمَكَّةَ ، ثُمَّ أَسْلَمَ فَرَدَّهَا عَلَيْهِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ ، فَدَلَّ عَلَى وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ بين الزوجين .

قَالَ : وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارِ بِهِمَا حُكْمًا وَفِعْلًا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا قِيَاسًا عَلَى سَبْيِ أَحَدِهِمَا وَاسْتِرْقَاقِهِ . قَالَ : وَلِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ دَارُ غَلَبَةٍ وَقَهْرٍ : لِأَنَّ مَنْ غَلَبَ فِيهَا عَلَى شَيْءِ مَلَكَهُ ، أَلَا تَرَى لَوْ غَلَبَ الْعَبْدُ سَيِّدَهُ عَلَى نَفْسِهِ صَارَ الْعَبْدُ حُرًّا ، وَصَارَ السَّيِّدُ لَهُ عَبْدًا ، وَلَوْ غَلَبَتِ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا عَلَى نَفْسِهِ بَطَلَ نِكَاحُهَا ، وَصَارَ الزَّوْجُ لَهَا عَبْدًا ، فَاقْتَضَى أَنْ تَصِيرَ الزَّوْجَةُ بِإِسْلَامِهَا إِذَا هَاجَرَتْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ مُتَغَلِّبَةً عَلَى نَفْسِهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ نِكَاحُهَا . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ لَا يُوجِبُ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ بِإِسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ : مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَحَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَسْلَمَا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ - وَهِيَ بِحُلُولِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا وَاسْتِيلَائِهِ عَلَيْهَا دَارُ إِسْلَامٍ - وَزَوْجَتَاهُمَا عَلَى الشِّرْكِ بِمَكَّةَ - وَهِيَ إِذَا ذَاكَ دَارُ الْحَرْبِ - ثُمَّ أَسْلَمَتَا بَعْدَ الْفَتْحِ ، فَأَقَرَّهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النِّكَاحِ . فَإِنْ قِيلَ : مَرُّ الظَّهْرَانِ مِنْ سَوَادِ مَكَّةَ ، وَتَابِعَةٌ لَهَا فِي الْحُكْمِ ، فَلَمْ يَكُنْ إِسْلَامُهَا إِلَّا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ ، فَفِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَرَّ الظَّهْرَانِ دَارُ الْخُزَاعَةِ مُحَازَةٌ عَنْ حُكْمِ مَكَّةَ : لِأَنَّ خُزَاعَةَ كَانَتْ فِي حِلْفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ بَنُو بَكْرٍ فِي حِلْفِ قُرَيْشٍ ، وَلِنُصْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخُزَاعَةَ صَارَ إِلَى قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ مَرَّ الظَّهْرَانِ لَوْ كَانَ مِنْ سَوَادِ مَكَّةَ : لَجَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ عَنْ حُكْمِهَا بِاسْتِيلَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهَا ، كَمَا لَوْ فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ سَوَادَ بَلَدٍ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ ، صَارَ ذَلِكَ السَّوَادُ دَارَ إِسْلَامٍ وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ دَارَ الْحَرْبِ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ ، هَرَبَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ إِلَى الطَّائِفِ ، وَهَرَبَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ مُشْرِكَيْنِ ، فَأَسْلَمَتْ زَوْجَاتُهُمَا بِمَكَّةَ ، وَكَانَتْ زَوْجَةُ صَفْوَانَ بَرْزَةَ بِنْتَ مَسْعُودِ بْنِ عَمْرٍو الثَّقَفِيِّ ، وَزَوْجَةُ عِكْرِمَةَ أَمَّ حَكِيمِ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَأَخَذَتَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَانًا لَهُمَا ، فَدَخَلَ صَفْوَانُ مِنَ الطَّائِفِ بِالْأَمَانِ ، وَأَقَامَ عَلَى شِرْكِهِ حَتَّى شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُنَيْنًا ، وَأَعَارَهُ سِلَاحًا ثُمَّ أَسْلَمَ ، وَعَادَ عِكْرِمَةُ مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ - وَقَدْ عَزَمَ عَلَى رُكُوبِهِ هَرَبًا - فَأَسْلَمَ ، فَأَقَرَّهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ زَوْجَتَيْهِمَا مَعَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ بِهِمَا : لِأَنَّ مَكَّةَ كَانَتْ قَدْ صَارَتْ بِالْفَتْحِ دَارَ إِسْلَامٍ ، وَكَانَتِ الطَّائِفُ وَالسَّاحِلُ دَارَ الْحَرْبِ . فَإِنْ قِيلَ : هُمَا مِنْ سَوَادِ مَكَّةَ وَفِي حُكْمِهِمَا . فَالْجَوَابُ عَنْهُ بِمَا مَضَى . وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّهُ إِسْلَامٌ بَعْدَ الْإِصَابَةِ فَوَجَبَ إِذَا اجْتَمَعَا عَلَيْهِ فِي الْعِدَّةِ أَنْ لَا تَقَعَ بِهِ الْفُرْقَةُ قِيَاسًا عَلَى اجْتِمَاعِ إِسْلَامِهِمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ : وَلِأَنَّ مَا كَانَتِ الْبَيْنُونَةُ بِهِ مُنْتَظَرَةً لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ كَالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ ، وَمَا كَانَتِ الْبَيْنُونَةُ مُعَجَّلَةً لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ اتِّفَاقُ الدَّارَيْنِ كَالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْفُرْقَةُ بِالْإِسْلَامِ مُلْحَقَةً بِأَحَدِهِمَا .

فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ : فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهَا : لِأَنَّهَا لَا تُرَدُّ الْمُسْلِمَةُ إِلَى كَافِرٍ ، وَلَا تَحِلُّ لَهُ ، وَلَا تُمْسَكُ بِعِصْمَةِ كَافِرٍ ، وَإِنَّمَا يَرُدُّهَا إِلَى مُسْلِمٍ ، وَيُمْسِكُ بِعِصْمَةِ مُسْلِمَةٍ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ زَيْنَبَ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّهَا عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتَأْنَفَ لَهَا نِكَاحًا : لِأَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حِينَ أَسَرَهُ أَبُو بَصِيرٍ الثَّقَفِيُّ بِسَيْفِ الْبَحْرِ مِنْ نَحْوِ الْجَارِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى السَّبْيِ وَالِاسْتِرْقَاقِ فَلَيْسَ الْمَعْنَى فِيهِ افْتِرَاقُ الدَّارَيْنِ إِنَّمَا حُدُوثُ الِاسْتِرْقَاقِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اسْتُرِقَّ أَحَدُهُمَا وَهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ بَطَلَ النِّكَاحُ ، وَلَوِ اسْتُرِقَّا مَعًا بَطَلَ النِّكَاحُ ، فَصَارَ السَّبْيُ مُخَالِفًا لِلْإِسْلَامِ ، وَعَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ بِالِاسْتِرْقَاقِ غَيْرُ مُنْتَظِرَةٍ بِحَالٍ ، وَالْفُرْقَةَ بِالْإِسْلَامِ مُنْتَظِرَةٌ فِي حَالٍ فَافْتَرَقَا . وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِأَنَّهَا مُتَغَلِّبَةٌ عَلَى بُضْعِهَا فَلَا يَصِحُّ : لِأَنَّ الْأَعْيَانَ تُمْلَكُ بِالتَّغَلُّبِ دُونَ الْأَبْضَاعِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مُسَلِّمًا لَوْ غَلَبَ عَلَى بُضْعِ مُشْرِكَةٍ لَمْ تَصِرْ زَوْجَةً ، وَلَمْ يَصِرْ زَوْجًا وَلَوْ تَغَلَّبَ عَلَى رَقَبَتِهَا صَارَتْ مِلْكًا .

فَصْلٌ : وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ إِسْلَامَ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يُوجِبُ تَعْجِيلَ الْفُرْقَةِ أحد الزوجين بِأَنَّهُ إِسْلَامٌ طَرَأَ عَلَى نِكَاحٍ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُبْطِلَهُ قِيَاسًا عَلَى إِسْلَامِهِمَا مَعًا ، وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ سَبَبٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ النِّكَاحُ : لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَسْتَبِيحُ الْمُسْلِمَةَ إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ ، وَمَا كَانَ سَبَبًا فِي إِبَاحَةِ الْمَحْظُورِ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا فِي حَظْرِ الْمُبَاحِ . وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِ : هُوَ اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ إِذَا مَنَعَ مِنْ تَأْبِيدِ الْمُقَامِ عَلَى النِّكَاحِ تَعَجَّلَتْ بِهِ الْفُرْقَةُ إِذَا كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ كَالرِّدَّةِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ إِذَا وُجِدَ بَعْدَ الدُّخُولِ لَمْ تَقَعْ بِهِ الْفُرْقَةُ إِلَّا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، وَجَبَ إِذَا وُجِدَ قَبْلَ الدُّخُولِ إِنْ تَعَجَّلَ بِهِ الْفُرْقَةَ كَالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ ، فَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى إِسْلَامِهِمَا مَعًا ، فَلِأَنَّهُ يَجُوزُ بِإِسْلَامِهِمَا تَأْبِيدُ الْمُقَامِ عَلَى النِّكَاحِ فَكَانَ عَلَى صِحَّتِهِ ، وَإِسْلَامُ أَحَدِهِمَا يَمْنَعُ تَأْبِيدَ الْمُقَامِ فَتَعَجَّلَ بِهِ فَسْخُ الْعَقْدِ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ مُنْتَقِضٌ بِالرِّدَّةِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَإِنَّهُ يَقُولُ : لَوِ ارْتَدَّا مَعًا قَبْلَ الدُّخُولِ كَانَا عَلَى النِّكَاحِ ، ثُمَّ لَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا بَطَلَ النِّكَاحُ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ مَا كَانَ سَبَبًا فِي الْإِبَاحَةِ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا فِي الْحَظْرِ ، فَفَاسِدٌ بِالطَّلَاقِ ، وَهُوَ سَبَبٌ لِتَحْرِيمِ الْمُطَلَّقَةِ وَإِبَاحَةِ أُخْتِهَا ، وَسَبَبٌ لِإِبَاحَتِهَا لِغَيْرِ مُطَلِّقِهَا ، وَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِتَحْرِيمِهَا عَلَى مُطَلِّقِهَا ، ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَكُونَ الْإِسْلَامُ الَّذِي هُوَ مُسَبِّبُ الْإِبَاحَةِ سَبَبًا لِلتَّحْرِيمِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، وَكَذَلِكَ قَبْلَهَا . وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ إِسْلَامَ أَحَدِهِمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَوَجَبَ بَقَاءُ النِّكَاحِ عَلَى الْأَبَدِ مَا لَمْ يُعْرَضِ الْإِسْلَامُ عَلَى الْمُتَأَخِّرِ مِنْهُمَا فِي الشِّرْكِ ، فَإِذَا عُرِضَ عَلَيْهِ فَامْتَنَعَ ، أَوْقَعَ

الْحَاكِمُ الْفُرْقَةَ بِطَلْقَةٍ تَعَلُّقًا بِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْحَادِثِ ، وَلَيْسَ يَخْلُوِّ الْحَادِثُ مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِإِسْلَامِ مَنْ أَسْلَمَ ، أَوْ لِكُفْرِ مَنْ تَأَخَّرَ ، أَوْ لِحُكْمِ حَاكِمٍ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لِلْإِسْلَامِ : لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ سَبَبًا لِزَوَالِ مِلْكِهِ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لِلْكُفْرِ : لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ ، وَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ ، فَاقْتَضَى أَنْ تَتَعَلَّقَ الْفُرْقَةُ بِهِ ، تَقَدَّمَ الْحُكْمُ أَوْ تَأَخَّرَ ، قَالَ : وَلِأَنَّ إِسْلَامَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لَا يُوقِعُ الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ أَسْلَمَ زَوْجُ الْكِتَابِيَّةِ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ إِذَا مَنَعَ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ أَوْجَبَ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ : قِيَاسًا عَلَى إِسْلَامِ أَحَدِهِمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَلِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ أَغْلَظُ فِي أَحْكَامِ النِّكَاحِ مِنْ دَارِ الشِّرْكِ ، ثُمَّ كَانَتْ دَارُ الشِّرْكِ لَا تُرَاعِي فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا حُكْمَ الْحَاكِمِ ، فَدَارُ الْإِسْلَامِ بِذَلِكَ أَوْلَى . فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ الْأَوَّلُ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْفُرْقَةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ الْمَانِعِ مِنِ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ ، وَلَيْسَ مِنَ الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ فَلَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا . وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى إِسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنِ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ : لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ كِتَابِيَّةً لَمْ تَقَعِ الْفُرْقَةُ بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ الْكِتَابِيِّ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي مِلَّتِنَا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ وَثَنِيَّةً ، وَلَا الْوَثَنِيُّ مُسْلِمَةً ، فَجَازَ أَنْ تَقَعَ الْفُرْقَةُ بِإِسْلَامِ أَحَدِ الْوَثَنِيَّيْنِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وَتَقَرَّرَ أَنَّ النِّكَاحَ بِإِسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الدُّخُولِ حكم بَاطِلٌ ، وَأَنَّهُ بَعْدَ الدُّخُولِ مَوْقُوفٌ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ النكاح بإسلام أحد الزوجين ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ تَقَدُّمِ إِسْلَامِ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ بِخِلَافِ مَا قَالَهُ مَالِكٌ ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ أَوِ اتِّفَاقِهِمَا بِخِلَافِ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، فَإِنَّ الزَّوْجَةَ الْمَدْخُولَ بِهَا قَبْلَ اجْتِمَاعِ إِسْلَامِهِمَا جَارِيَةٌ فِي عِدَّةِ الْفُرْقَةِ ، فَإِنْ لَمْ يُسْلِمِ الْمُتَأَخِّرُ مِنْهُمَا فِي الشِّرْكِ حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ ، بِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِتَقَدُّمِ الْإِسْلَامِ ، وَحَلَّتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ هَذِهِ الْعِدَّةِ لِلْأَزْوَاجِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَتْ تِلْكَ الْعِدَّةُ عِدَّةَ فُرْقَةٍ ، وَإِنَّمَا هِيَ عِدَّةٌ يُعْتَبَرُ بِهَا صِحَّةُ النِّكَاحِ بِاجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ فِيهِمَا ، فَإِذَا لَمْ يَجْتَمِعْ إِسْلَامُهُمَا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِانْقِضَائِهَا . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُوجِبَ عَلَيْهَا بَعْدَ الْفُرْقَةِ عِدَّةً أُخْرَى وَلَا تُوَفِّيهَا ، فَإِنْ أَوْجَبَ عَلَيْهَا عِدَّةً أُخْرَى فَقَدْ أَلْزَمَهَا عِدَّتَيْنِ ، وَلَيْسَتْ تَجِبُ عَلَى الْمُفَارَقَةِ إِلَّا عِدَّةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهَا عِدَّةً أُخْرَى ، بَطَلَ قَوْلُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَوْجَبَ الْعِدَّةَ قَبْلَ الْفُرْقَةِ ، وَأَسْقَطَهَا بَعْدَ الْفُرْقَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْعِدَّةَ تَجِبُ إِمَّا لِاسْتِبْرَاءٍ أَوْ فُرْقَةٍ ، وَقَدْ أَوْجَبَهَا لِغَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ وَلَا فُرْقَةٍ ، وَإِذَا صَحَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ تَقَدُّمَ الْإِسْلَامُ فَطَلَّقَهَا فِي حَالِ الْعِدَّةِ ، أَوْ آلَى مِنْهَا ، أَوْ ظَاهَرَ كَانَ ذَلِكَ مَوْقُوفًا عَلَى مَا يَكُونُ مِنِ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ ، فَإِنِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ فِي الْعِدَّةِ صَحَّ الْإِيلَاءُ

وَالظِّهَارُ : لِصِحَّةِ النِّكَاحِ وَوُقُوعِهِ فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعَا عَلَى إِسْلَامٍ فِي الْعِدَّةِ حَتَّى انْقَضَتْ الزوجان لَمْ يَصِحَّ الطَّلَاقُ وَلَا الْإِيلَاءُ وَلَا الظِّهَارُ : لِتَقَدُّمِ الْفُرْقَةِ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ أَسْلَمَ وَقَدْ نَكَحَ أُمًّا وَابْنَتَهَا مَعًا فَدَخَلَ بِهِمَا المشرك ، لَمْ تَحِلَّ لَهُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا أَبَدًا ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهِمَا ، قُلْنَا : أَمْسِكْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ وَفَارِقِ الْأُخْرَى ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : يُمْسِكُ الِابْنَةَ وَيُفَارِقُ الْأُمَّ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) هَذَا أَوْلَى بِقَوْلِهِ عِنْدِي ، وَكَذَا قَالَ فِي كِتَابِ التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ ، وَقَالَ : أَوَّلًا كَانَتِ الْأُمُّ أَوْ آخِرًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مُشْرِكٍ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ أُمًّا وَبِنْتَهَا ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَسْلَمَتَا مَعَهُ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مَعَهُمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِهِمَا . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِهِمَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِالْأُمِّ دُونَ الْبِنْتِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِالْبِنْتِ دُونَ الْأُمِّ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِهِمَا فَقَدْ حَرُمَتَا عَلَيْهِ جَمِيعًا : لِأَنَّ دُخُولَهُ بِالْأُمِّ يُحَرِّمُ الْبِنْتَ لَوْ كَانَ بِشُبْهَةٍ فَكَيْفَ بِنِكَاحٍ : وَدُخُولُهُ بِالْبِنْتِ يُحَرِّمُ الْأُمَّ لَوْ كَانَ بِشُبْهَةٍ فَكَيْفَ بِنِكَاحٍ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ نِكَاحُ الشِّرْكِ مَعْفُوًّا عَنْهُ ، فَهَلَّا كَانَ الْوَطْءُ فِي الشِّرْكِ مَعْفُوًّا عَنْهُ . قِيلَ : لِأَنَّ الْوَطْءَ يَحْدُثُ مِنْ تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى تَحْرِيمِ النَّسَبِ لِثُبُوتِ التَّحْرِيمِ فِيهِمَا عَلَى الْأَبَدِ ، وَلَيْسَ يُعْفَى عَنْ تَحْرِيمِ النَّسَبِ ، فَكَذَلِكَ لَا يُعْفَى عَنْ تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ ، وَخَالَفَ الْعَقْدَ الَّذِي تَتَخَلَّفُ أَحْوَالُهُ وَيَنْقَطِعُ زَمَانُهُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِمَا ، وَلَهُ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِإِحْدَاهِمَا سَوَاءٌ كَانَ قَدْ عَقَدَ عَلَيْهَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ ، أَوْ فِي عَقْدَيْنِ ، وَسَوَاءٌ تَقَدَّمَتِ الْأُمُّ بِالْعَقْدِ أَوْ تَأَخَّرَتْ ، كَمَنْ نَكَحَ خَمْسًا فِي الشِّرْكِ ، بِخِلَافِ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي تَقْدِيمِ الْأَوَائِلِ عَلَى الْأَوَاخِرِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَفِي الَّتِي يَتَمَسَّكُ بِهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَتَمَسَّكُ بِنِكَاحِ الْبِنْتِ وَيُقِيمُ عَلَيْهَا وَتَحْرُمُ الْأُمُّ ؛ نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " وَفِيمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ عَنْهُ : لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ مَنَاكِحِ الشِّرْكِ ما يطرأ من أحكام بإسلام الزوج يَمْنَعُ مِنَ الْتِزَامِ أَحْكَامِهَا وَتَصِيرُ بِالْإِسْلَامِ بِمَثَابَةِ الْمُبْتَدِئِ لِمَا شَاءَ مِنْهُمَا ، وَإِذَا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْأَوَائِلِ وَالْأَوَاخِرِ ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ فَعَلَى هَذَا إِنِ اخْتَارَ الْبِنْتَ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْأُمُّ حِينَئِذٍ تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ ما يطرأ من أحكام بإسلام الزوج ، وَإِنِ اخْتَارَ الْأُمَّ حَرُمَتِ الْبِنْتُ بِاخْتِيَارِ الْأُمِّ تَحْرِيمَ جَمْعٍ ، فَإِذَا دَخَلَ بِالْأُمِّ حَرُمَتِ الْبِنْتُ تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ ما يطرأ من أحكام بإسلام الزوج .



فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِالْأُمِّ دُونَ الْبِنْتِ ما يطرأ من أحكام بإسلام الزوج ، فَالْبِنْتُ قَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِالدُّخُولِ بِالْأُمِّ ، وَفِي تَحْرِيمِ الْأُمِّ عَلَيْهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ وَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ مِنْ قَوْلَيْهِ ، إِذَا لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا : أَنَّهُ يَثْبُتُ نِكَاحُ الْبِنْتِ ، وَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْأُمِّ ، فَيَبْطُلُ هَاهُنَا نِكَاحُ الْبِنْتِ بِالدُّخُولِ بِالْأُمِّ ، وَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْأُمِّ بِالْعَقْدِ عَلَى الْبِنْتِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْأُمَّ لَا تَحْرُمُ وَيَكُونُ نِكَاحُهَا ثَابِتًا ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا لَكَانَ مُخَيَّرًا فِي التَّمَسُّكِ بِمَنْ شَاءَ فَيَبْطُلُ خِيَارُهُ هَاهُنَا لِتَحْرِيمِ الْبِنْتِ بِالدُّخُولِ بِالْأُمِّ ، وَيَصِيرُ مُلْتَزِمًا لِنِكَاحِ الْأُمِّ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِالْبِنْتِ دُونَ الْأُمِّ ما يطرأ من أحكام بإسلام الزوج ، فَنِكَاحُ الْبِنْتِ ثَابِتٌ ، وَنِكَاحُ الْأُمِّ بَاطِلٌ ، وَبِمَاذَا بَطَلَ يَكُونُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بِالْعَقْدِ عَلَى الْبِنْتِ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ . وَالثَّانِي : بِالدُّخُولِ بِالْبِنْتِ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا شَكَّ بِالدُّخُولِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَشُكَّ هَلْ دَخَلَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ ما يطرأ من أحكام بإسلام الزوج ، فَالْوَرَعُ أَنْ يُحَرِّمَهُمَا احْتِيَاطًا ، فَأَمَّا فِي الْحُكْمِ فَالشَّكُّ مَطْرُوحٌ : لِأَنَّ حُكْمَ الْيَقِينِ فِي عَدَمِ الدُّخُولِ أَغْلَبُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ أَنْ يُقِيمَ عَلَى نِكَاحِ الْبِنْتِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَكُونُ مُخَيَّرًا فِي إِمْسَاكِ أَيَّتِهِمَا شَاءَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَتَيَقَّنَ الدُّخُولَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، وَيَشُكَّ فِي الَّتِي دَخَلَ بِهَا مِنْهُمَا ما يطرأ من أحكام بإسلام الزوج ، فَلَا يَعْلَمُ أَهِيَ الْأُمُّ أَمِ الْبِنْتُ ، فَيَكُونُ نِكَاحُهُمَا بَاطِلًا : لِأَنَّ تَحْرِيمَ أَحَدِهِمَا مُتَيَقَّنٌ ، وَإِذَا تَيَقَّنَ تَحْرِيمَ وَاحِدَةٍ مِنِ اثْنَتَيْنِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ اثْنَتَانِ ، كَمَا لَوْ تَيَقَّنَ أَنَّ إِحْدَى امْرَأَتَيْنِ أُخْتٌ حَرُمَتَا عَلَيْهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمُسْلِمَةُ بِحَالِهَا فِي أَنْ نَكَحَ فِي الشِّرْكِ أُمًّا وَبِنْتًا ، وَاخْتَلَفَ إِسْلَامُهُمْ ، فَحُكْمُ النِّكَاحِ مُعْتَبَرٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ فِي الدُّخُولِ . فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ : أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِهِمَا ، فَلَا يُوقَفُ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالْإِسْلَامِ : لِتَحْرِيمِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِدُخُولِهِ بِالْأُخْرَى ، وَيَكُونُ نِكَاحُهُمَا بَاطِلًا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، فَلَا يَخْلُو حَالُ مَنْ تَقَدَّمَ بِالْإِسْلَامِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : إِحْدَاهَا : أَنْ يَتَقَدَّمَ الزَّوْجُ وَحْدَهُ بِالْإِسْلَامِ فَيَبْطُلُ نِكَاحُهُمَا فِي الشِّرْكِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَتَقَدَّمَ إِسْلَامُ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ عَلَى الزَّوْجِ ، فَيَبْطُلُ نِكَاحُهُمَا فِي الْإِسْلَامِ .

وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَتَقَدَّمَ إِسْلَامُ الزَّوْجِ وَالْبِنْتِ ، وَيَتَأَخَّرَ إِسْلَامُ الْأُمِّ ، فَيَثْبُتُ نِكَاحُ الْبِنْتِ وَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْأُمِّ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَتَقَدَّمَ إِسْلَامُ الزَّوْجِ وَالْأُمِّ ، وَيَتَأَخَّرَ إِسْلَامُ الْبِنْتِ ، فَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْبِنْتِ لِتَأَخُّرِهَا ، وَفِي بُطْلَانِ نِكَاحِ الْأُمِّ قَوْلَانِ ، فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّانِي . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِالْأُمِّ دُونَ الْبِنْتِ ما يطرأ من أحكام بإسلام الزوج ، فَنِكَاحُ الْبِنْتِ بَاطِلٌ بِكُلِّ حَالٍ ، وَهَلْ يُوقَفُ نِكَاحُ الْأُمِّ عَلَى اجْتِمَاعِ إِسْلَامِهِمَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِالْبِنْتِ دُونَ الْأُمِّ ما يطرأ من أحكام بإسلام الزوج فَنِكَاحُ الْأُمِّ بَاطِلٌ لِدُخُولِهِ بِالْبِنْتِ ، وَنِكَاحُ الْبِنْتِ مَوْقُوفٌ عَلَى اجْتِمَاعِ إِسْلَامِهِمَا .

فَصْلٌ : وَإِذَا نَكَحَ فِي الشِّرْكِ أُمًّا وَبِنْتَهَا وَبِنْتَ بِنْتِهَا ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ ، فَلَهُ مَعَهُنَّ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِجَمِيعِهِنَّ فَيَكُونُ نِكَاحُهُنَّ بَاطِلًا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُقِيمُ عَلَى السُّفْلَى وَهِيَ بِنْتُ الْبِنْتِ ، وَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْعُلْيَا الَّتِي هِيَ الْجَدَّةُ ، وَنِكَاحُ الْوُسْطَى الَّتِي هِيَ الْأُمُّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ بِالْخِيَارِ بِالتَّمَسُّكِ بِأَيَّتِهِنَّ شَاءَ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَدْخُلَ بِالْعُلْيَا دُونَ الْوُسْطَى وَالسُّفْلَى ، فَيَكُونُ نِكَاحُ الْوُسْطَى وَالسُّفْلَى بَاطِلًا وَفِي بُطْلَانِ نِكَاحِ الْعُلْيَا قَوْلَانِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَدْخُلَ بِالْوُسْطَى دُونَ الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى ، فَيَبْطُلُ نِكَاحُهُمَا ، وَفِي بُطْلَانِ نِكَاحِ الْوُسْطَى لِأَجَلِ السُّفْلَى قَوْلَانِ . وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ : أَنْ يَدْخُلَ بِالسُّفْلَى دُونَ الْعُلْيَا وَالْوُسْطَى ، فَيَثْبُتُ نِكَاحُ السُّفْلَى ، وَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْعُلْيَا وَالْوُسْطَى ، فَإِذَا اعْتَبَرَتْ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّعْلِيلِ وَجَدْتَ الْجَوَابَ فِيهِ صَحِيحًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ إِمَاءً

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ إِمَاءً ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْسِرًا يَخَافُ الْعَنَتَ أَوْ فِيهِنَّ حُرَّةٌ انْفَسَخَ نِكَاحُ الْإِمَاءِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِدُ مَا يَتَزَوَجُ بِهِ حُرَّةً وَيَخَافُ الْعَنَتَ وَلَا حُرَّةَ فِيهِنَّ ، اخْتَارَ وَاحِدَةً وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْبَوَاقِي " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مُشْرِكٍ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ بِإِمَاءٍ مُشْرِكَاتٍ ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ حُرَّةٌ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ حُرَّةٌ ، وَكُنَّ إِمَاءً لَا حُرَّةَ فِيهِنَّ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ عِنْدَ إِسْلَامِهِ وَإِسْلَامِهِنَّ مِنْ أَمْرَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ : لِعَقْدِ الْحُرَّةِ وَعَدَمِ الطَّوْلِ وَخَوْفِ الْعَنَتِ ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ وَيُفَارِقَ مَنْ سِوَاهَا : لِأَنَّهُ فِي حَالٍ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ فِيهَا نِكَاحَ الْأَمَةِ ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَدِيمَ فِيهِمَا نِكَاحَ الْأَمَةِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ عِنْدَ إِسْلَامِهِ وَإِسْلَامِهِنَّ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَ الْأَمَةِ : لِوُجُودِ الطَّوْلِ أَوْ أَمْنِ الْعَنَتِ ، فَنِكَاحُ الْإِمَاءِ قَدْ بَطَلَ اعْتِبَارًا بِحَالِ إِسْلَامِهِ مَعَهُنَّ ، وَأَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَ أَمَةٍ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَدِيمَ بِالِاخْتِيَارِ نِكَاحَ أَمَةٍ . وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَدِيمَ نِكَاحَ أَمَةٍ مِنْهُنَّ بِاخْتِيَارِهِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَ أَمَةٍ : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الشَّرْطَ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ ما يطرأ من أحكام بإسلام الزوج مُعْتَبَرٌ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا ، وَلَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ فِي اسْتِدَامَةِ نِكَاحِهَا ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا لِخَوْفِ الْعَنَتِ ثُمَّ أَمِنَ الْعَنَتَ جَازَ أَنْ يَسْتَدِيمَ نِكَاحَهَا ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْتَدِئَهُ كَذَلِكَ الْمُشْرِكُ إِذَا أَسْلَمَ مُسْتَدِيمًا لِنِكَاحِهَا ، وَلَيْسَ بِمُبْتَدِئٍ فَجَازَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى نِكَاحِهَا مَعَ عَدَمِ الشِّرْكِ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْتَدِئَهُ . قَالَ : وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ أَنْ يَعْتَبِرَ شُرُوطَ الِابْتِدَاءِ فِي وَقْتِ اسْتَدَامَتِهِ عِنْدَ الْإِسْلَامِ ، لَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْوَلِيِّ وَالشَّاهِدَيْنِ ، فَلَمَّا لَمْ يَعْتَبِرْ هَذَا لَمْ يَعْتَبِرْ مَا سِوَاهُ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ لَا يَحِلُّ إِلَّا بِاعْتِبَارِ شُرُوطِهِ ، فَلَمَّا لَمْ تُعْتَبَرْ وَقْتَ عَقْدِهِ فِي الشِّرْكِ ، وَجَبَ أَنْ تُعْتَبَرَ وَقْتَ اخْتِيَارِهِ فِي الْإِسْلَامِ : لِئَلَّا يَكُونَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا خَالِيًا مِنْ شُرُوطِ الْإِبَاحَةِ فِي الْحَالَيْنِ ، وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ الْأَوَّلِ : لِأَنَّنَا قَدِ اعْتَبَرْنَا شُرُوطَ الْإِبَاحَةِ فِي الِابْتِدَاءِ فَلَمْ نَعْتَبِرْهَا فِي الِاسْتِدَامَةِ ، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ اسْتِدْلَالِهِ الثَّانِي ، بِأَنَّ الْوَلِيَّ وَالشَّاهِدَيْنِ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فِي الْعَقْدِ ، فَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْحَالَيْنِ : لِأَنَّ الْوَلِيَّ وَالشَّاهِدَيْنِ مِنْ شُرُوطِ الْعَقْدِ وَعَقْدُ الشِّرْكِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ فَعُفِيَّ عَنْ شُرُوطِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ شُرُوطُ نِكَاحِ الْأَمَةِ : لِأَنَّهَا مِنْ شُرُوطِ الْإِبَاحَةِ وَشُرُوطُ الْإِبَاحَةِ مُعْتَبَرَةٌ وَقْتَ الِاخْتِيَارِ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ نَكَحَ فِي الشِّرْكِ مُعْتَدَّةً ثُمَّ أَسْلَمَا ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا : لِأَنَّهَا وَقْتَ الِاخْتِيَارِ غَيْرُ مُبَاحَةٍ ، كَذَلِكَ الْأَمَةُ . وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا التَّفْرِيعِ ثَلَاثَةُ فُرُوعٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تُسْلِمَ الْمُشْرِكَةُ مَعَ زَوْجِهَا وَهِيَ فِي عِدَّةٍ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِبَاحَتِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ نِكَاحَهَا بَاطِلٌ : اعْتِبَارًا بِمَا قَرَّرْنَاهُ ، بِأَنَّهُ لَا يَسْتَبِيحُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا وَقْتَ الْإِسْلَامِ ، كَمَا لَوْ نَكَحَهَا فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَظْهَرُ ، أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ : لِأَنَّ حُدُوثَ الْعِدَّةِ فِي النِّكَاحِ بَعْدَ صِحَّةِ عَقْدِهَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمِ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يُؤَثِّرَ فِي نِكَاحِ الْمُشْرِكِ . وَالْفَرْعُ الثَّانِي : أَنْ يُسْلِمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ وَيُحْرِمَ بِالْحَجِّ ، ثُمَّ يُسْلِمَ الثَّانِي فِي الْعِدَّةِ ، فَالْأَوَّلُ عَلَى إِحْرَامِهِ ، وَفِي النِّكَاحِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَشَّارٍ الْأَنْمَاطِيِّ - : أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ : اعْتِبَارًا بِمَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَسْتَبِيحُ الْعَقْدَ عَلَيْهَا عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ ، فَصَارَ كَمَا لَوِ ابْتَدَأَ نِكَاحُهُمَا فِي وَقْتِ الْإِحْرَامِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ أَظْهَرُ ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - : أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ : لِأَنَّ حُدُوثَ الْإِحْرَامِ فِي النِّكَاحِ بَعْدَ صِحَّةِ عَقْدِهِ لَا يُؤَثِّرُ فِي فَسْخِهِ . وَالْفَرْعُ الثَّالِثُ : أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى الشَّرْطِ الْمُبِيحِ ثُمَّ طَلَّقَهَا ، وَقَدِ ارْتَفَعَ الشَّرْطُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا فَلَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَهَا ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا : لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ ، وَلِذَلِكَ وَرِثَتْ وَوَارَثَتْ ، وَإِنَّمَا يُزَالُ بِالرَّجْعِيَّةِ تَحْرِيمُ الطَّلَاقِ ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي هَذِهِ الْحَالِ شُرُوطُ الْإِبَاحَةِ فِي ابْتِدَاءٍ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ رَجَعَ وَهُوَ مُحْرِمٌ جَازَ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَهَا مُحْرِمًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْإِمَاءِ حُرَّةٌ : فَقَدْ تَزَوَّجَهَا الْمُشْرِكُ مَعَ الْإِمَاءِ فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَ ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَسْلَمَ الْحُرَّةُ دُونَ الْإِمَاءِ فَنِكَاحُ الْحُرَّةِ ثَابِتٌ ، وَنِكَاحُ الْإِمَاءِ بَاطِلٌ بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ مَعَ الْحُرَّةِ وَبِآخِرِهِنَّ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُسْلِمَ الْإِمَاءُ دُونَ الْحُرَّةِ فَنِكَاحُ الْحُرَّةِ قَدْ بَطَلَ بِتَأَخُّرِهَا ، وَنِكَاحُ الْإِمَاءِ مُعْتَبَرٌ بِاجْتِمَاعِ إِسْلَامِهِنَّ مَعَ الزَّوْجِ ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بَطَلَ نِكَاحُهُنَّ : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَ أَمَةٍ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَارَ نِكَاحَ أَمَةٍ ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا يَخَافُ الْعَنَتَ كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ نِكَاحَ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ : لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِيَهُ ، فَجَازَ أَنْ يَخْتَارَهُ لِأَنَّهُ مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّةُ الْحُرَّةِ فِي الشِّرْكِ اخْتَارَ حِينَئِذٍ مِنَ الْإِمَاءِ وَاحِدَةً ، وَانْفَسَخَ نِكَاحُ مَنْ سِوَاهَا مِنْ وَقْتِ اخْتِيَارِهِ فَاسْتَأْنَفْنَ عَدَدَ الْفَسْخِ ، فَلَوْ صَارَ وَقْتَ اخْتِيَارِهِ مُوسِرًا وَقَدْ كَانَ وَقْتَ اجْتِمَاعِ إِسْلَامِهِ وَإِسْلَامِهِنَّ مُعْسِرًا ، صَحَّ اخْتِيَارُهُ : اعْتِبَارًا بِحَالِهِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ : لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي اسْتَحَقَّ فِيهِ الِاخْتِيَارَ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تُسْلِمَ الْحُرَّةُ وَالْإِمَاءُ جَمِيعًا ما يطرأ من أحكام بإسلام الزوج ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَجْتَمِعَ إِسْلَامُ الْحُرَّةِ وَالْإِمَاءِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَيَثْبُتُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ ، وَيَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِهِنَّ مَعَ الْحُرَّةِ : لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَارَ نِكَاحَ أَمَةٍ مَعَ وُجُودِ حُرَّةٍ ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَهُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تُسْلِمَ الْحُرَّةُ قَبْلَ الْإِمَاءِ ، فَنِكَاحُ الْحُرَّةِ ثَابِتٌ ، وَنِكَاحُ الْإِمَاءِ بَاطِلٌ ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي إِسْلَامِهِنَّ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَدِهِنَّ وَقَعَ الْفَسْخُ بِتَقَدُّمِ إِسْلَامِ الزَّوْجِ وَتَأَخُّرِهِنَّ ، وَإِنْ أَسْلَمْنَ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَدِهِنَّ وَقَعَ الْفَسْخُ بِتَقَدُّمِ إِسْلَامِ الْحُرَّةِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ الْحُرَّةُ حِينَ أَسْلَمَتْ مَاتَتْ ثُمَّ أَسْلَمَ الْإِمَاءُ فِي عِدَدِهِنَّ . قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ : نِكَاحُهُنَّ بَاطِلٌ : لِأَنَّ نِكَاحَهُنَّ قَدِ انْفَسَخَ بِإِسْلَامِ الْحُرَّةِ ، فَلَمْ يَعُدْ إِلَى الصِّحَّةِ بِمَوْتِهَا ، وَهَذَا عِنْدِي غَيْرُ صَحِيحٍ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا يَخْتَارُ وَاحِدَةً

مِنْهُنَّ : لِأَنَّ إِسْلَامَ الْحُرَّةِ مَعَهُ قَبْلَ إِسْلَامِ الْإِمَاءِ يَجْرِي مَجْرَى يَسَارِهِ فِي تَحْرِيمِ الْإِمَاءِ ، فَلَمَّا لَمْ يَعْتَبِرْ يَسَارَهُ إِلَّا عِنْدَ إِسْلَامِ الْإِمَاءِ وَجَبَ أَنْ لَا يَعْتَبِرَ وُجُودَ الْحُرَّةِ إِلَّا عِنْدَ إِسْلَامِ الْإِمَاءِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُسْلِمَ الْإِمَاءُ قَبْلَ الْحُرَّةِ فَيُعْتَبَرُ حَالُ الزَّوْجِ عِنْدَ إِسْلَامِهِنَّ ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بَطَلَ نِكَاحُ الْإِمَاءِ مَعَ إِسْلَامِهِنَّ وَاسْتَأْنَفْنَ عَدَدَ الْفَسْخِ ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا يَخَافُ الْعَنَتَ كَانَ نِكَاحُ الْإِمَاءِ مُعْتَبَرًا بِإِسْلَامِ الْحُرَّةِ ، وَهُوَ فِيهِنَّ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ . إِمَّا أَنْ يَتْرُكَهُنَّ عَلَى حَالِهِنَّ تَرَقُّبًا لِإِسْلَامِ الْحُرَّةِ ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا اخْتَارَ مِنَ الْإِمَاءِ وَاحِدَةً ، وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْبَوَاقِي مِنْ وَقْتِ اخْتِيَارِهِ ، وَإِنْ أَسْلَمَتِ الْحُرَّةُ فِي عِدَّتِهَا انْفَسَخَ نِكَاحُ الْإِمَاءِ مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِهَا ، فَهَذَا أَحَدُ خِيَارَيْهِ . وَالْخِيَارُ الثَّانِي : أَنْ يُمْسِكَ الزَّوْجُ مِنَ الْإِمَاءِ وَاحِدَةً يَتَرَقَّبُ بِهَا إِسْلَامَ الْحُرَّةِ ، وَيَفْسَخُ نِكَاحَ مَنْ سِوَاهَا مِنَ الْإِمَاءِ : لِيَتَعَجَّلْنَ الْفَسْخَ إِذْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ وَاحِدَةٍ ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ انْفَسَخَ نِكَاحُ مَنْ عَدَا الْوَاحِدَةِ مِنْ وَقْتِ فَسْخِهِ ، وَكَانَ نِكَاحُ الْوَاحِدَةِ مُعْتَبَرٌ بِإِسْلَامِ الْحُرَّةِ ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ فِي عِدَّتِهَا ثَبَتَ نِكَاحُهَا وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْأَمَةِ ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بَطَلَ نِكَاحُهَا ، وَثَبَتَ نِكَاحُ الْأَمَةِ ، وَلَا يَكُونُ ثُبُوتُهُ بِاخْتِيَارٍ مُتَقَدِّمٍ وَلَكِنْ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهَا ، فَعَلَى هَذَا لَوْ طَلَّقَ الْحُرَّةَ فِي الشِّرْكِ قَبْلَ إِسْلَامِهَا ثُمَّ أَسْلَمَتْ ، نَظَرَ : فَإِنْ كَانَ إِسْلَامُهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهَا ، وَانْفَسَخَ نِكَاحُهَا بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ وَثَبَتَ نِكَاحُ الْأَمَةِ ، وَإِنْ كَانَ إِسْلَامُهَا فِي الْعِدَّةِ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا : لِأَنَّهَا زَوْجَةٌ ، وَانْفَسَخَ بِإِسْلَامِهَا نِكَاحُ الْأَمَةِ فَيَصِيرُ إِسْلَامُهَا وَإِنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً مُوجِبًا لِفَسْخِ نِكَاحِ الْأَمَةِ : لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى زَوْجَةٍ ، وَالْأَمَةُ لَا يَثْبُتُ اخْتِيَارُ نِكَاحِهَا مَعَ حُرَّةٍ ، هَذَا جَوَابُ أَصْحَابِنَا عَلَى الْإِطْلَاقِ . وَعِنْدِي أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا بِزَمَانِ الطَّلَاقِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا قَبْلَ إِسْلَامِ الْإِمَاءِ جَازَ لَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ : لِأَنَّ الْحُرَّةَ وَإِنْ أَسْلَمَتْ فِي عِدَّتِهَا ، فَقَدْ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا قَبْلَ إِسْلَامِ الْإِمَاءِ ، فَصِرْنَ عِنْدَ إِسْلَامِهِنَّ لَا حُرَّةَ مَعَهُنَّ ، وَإِنْ كَانَ طَلَاقُ الْحُرَّةِ بَعْدَ إِسْلَامِ الْإِمَاءِ ، فَعَلَى مَا قَالَهُ أَصْحَابُنَا مِنِ اعْتِبَارِ إِسْلَامِ الْحُرَّةِ قَبْلَ الْعِدَّةِ وَبَعْدَهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ أَسْلَمَ بَعْضُهُنَّ بَعْدَهُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ أَسْلَمَ بَعْضُهُنَّ بَعْدَهُ ، فَسَوَاءٌ ، وَيَنْتَظِرُ إِسْلَامَ الْبَوَاقِي ، فَمَنِ اجْتَمَعَ إِسْلَامُهُ وَإِسْلَامُ الزَّوْجِ قَبْلَ مُضِيِّ الْعِدَّةِ ، كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِيهِنَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي حُرٍّ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ بِأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ إِمَاءً لَا حُرَّةَ فِيهِنَّ ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَسْلَمْنَ ، وَذَلِكَ بَعْدَ دُخُولِهِ بِهِنَّ ، فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُسْلِمْنَ مَعَهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يُسْلِمْنَ قَبْلَهُ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُسْلِمْنَ بَعْدَهُ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يُسْلِمَ بَعْضُهُنَّ قَبْلَهُ وَبَعْضُهُنَّ بَعْدَهُ ، وَقَدْ يَجِيءُ فِيهِ قِسْمَانِ آخَرَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنْ يُسْلِمَ بَعْضُهُنَّ مَعَهُ وَبَعْضُهُنَّ بَعْدَهُ ، وَلَكِنْ يَدْخُلُ جَوَابُهُمَا فِي جُمْلَةِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ ، فَلَمْ نَذْكُرْهَا اكْتِفَاءً بِمَا ذَكَرْنَا . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يُسْلِمَ وَيُسْلِمَ مَعَهُ الْإِمَاءُ الْأَرْبَعُ ، فَيَعْتَبِرَ حَالَهُ وَقْتَ الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بِوُجُودِ الطَّوْلِ انْفَسَخَ نِكَاحُهُنَّ بِالْإِسْلَامِ ، وَاسْتَأْنَفْنَ عِدَدَ الْفَسْخِ ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَا يَجِدُ الطَّوْلَ ، كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا : لِأَنَّ الْحُرَّ لَمَّا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ أَكْثَرَ مِنْ أَمَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَكْثَرَ مِنْ أَمَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الثَّلَاثِ الْبَاقِيَاتِ مِنْ وَقْتِ اخْتِيَارِهِ لِلْوَاحِدَةِ لَا مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يُسْلِمْنَ قَبْلَهُ ثُمَّ يُسْلِمَ بَعْدَهُنَّ فِي عِدَدِهِنَّ ، فَيُرَاعِيَ حَالَهُ وَقْتَ إِسْلَامِهِ الإماء قبل الزوج لَا وَقْتَ إِسْلَامِهِنَّ : لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِاجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ ، وَذَلِكَ إِسْلَامُهُ بَعْدَهُنَّ ، فَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لِلطَّوْلِ انْفَسَخَ نِكَاحُهُنَّ بِإِسْلَامِهِ وَاسْتَأْنَفْنَ عِدَدَ الْفَسْخِ ، وَإِنْ كَانَ عَادِمًا لِلطَّوْلِ كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً وَيَنْفَسِخَ نِكَاحُ الثَّلَاثِ الْبَوَاقِي بِاخْتِيَارِهِ فَيَسْتَأْنِفْنَ عِدَدَ الْفَسْخِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يُسْلِمْنَ بَعْدَهُ الإماء بعد الزوج ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ عِنْدَ إِسْلَامِ جَمِيعِهِنَّ مُوسِرًا وَاجِدًا لِلطَّوْلِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عِنْدَ إِسْلَامِ جَمِيعِهِنَّ مُعْسِرًا عَادِمًا لِلطَّوْلِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ عِنْدَ إِسْلَامِ بَعْضِهِنَّ مُوسِرًا ، وَعِنْدَ إِسْلَامِ بَعْضِهِنَّ مُعْسِرًا ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا عِنْدَ إِسْلَامِ جَمِيعِهِنَّ بَطَلَ نِكَاحُهُنَّ كُلِّهِنَّ ، وَانْفَسَخَ نِكَاحُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِهَا : لِأَنَّهُ وَقْتُ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ ، فَتَسْتَأْنِفُ مِنْهُ عِدَّةَ الْفَسْخِ ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا عِنْدَ إِسْلَامِ جَمِيعِهِنَّ ، فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً سَوَاءٌ تَقَدَّمَ إِسْلَامُهَا عَلَيْهِنَّ أَوْ تَأَخَّرَ إِسْلَامُهَا عَنْهُنَّ ، فَإِذَا اخْتَارَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً انْفَسَخَ نِكَاحُ الثَّلَاثِ الْبَوَاقِي مِنْ وَقْتِ اخْتِيَارِهِ لِلْوَاحِدَةِ ، فَاسْتَأْنَفْنَ مِنْهُ عِدَدَ الْفَسْخِ ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ إِسْلَامِ بَعْضِهِنَّ مُوسِرًا ، وَعِنْدَ إِسْلَامِ بَعْضِهِنَّ مُعْسِرًا ، بَطَلَ نِكَاحُ الَّتِي أَسْلَمَتْ فِي يَسَارِهِ ، وَلَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُ الَّتِي أَسْلَمَتْ فِي إِعْسَارِهِ : لِأَنَّ الَّتِي أَسْلَمَتْ فِي يَسَارِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ نِكَاحَهَا ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْتَارَهَا ، فَبَطَلَ نِكَاحُهَا بِإِسْلَامِهَا ، وَالَّتِي أَسْلَمَتْ فِي إِعْسَارِهِ يَجُوزُ أَنْ تَسْتَأْنِفَ نِكَاحَهَا ، فَجَازَ أَنْ يَخْتَارَهَا ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَسْلَمَتِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ وَهُوَ مُوسِرٌ ، وَأَسْلَمَتِ الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ وَهُوَ مُعْسِرٌ ، بَطَلَ نِكَاحُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَلَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ إِحْدَاهُمَا فَإِذَا اخْتَارَهَا انْفَسَخَ نِكَاحُ الْأُخْرَى بِاخْتِيَارِهِ ، وَلَوْ أَسْلَمَتِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ وَهُوَ مُعْسِرٌ وَأَسْلَمَتِ الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ وَهُوَ مُوسِرٌ بَطَلَ نِكَاحُ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ بِإِسْلَامِهَا ، وَكَانَ نِكَاحُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ مَوْقُوفًا عَلَى اخْتِيَارِهِ ، فَإِذَا اخْتَارَ إِحْدَاهُمَا انْفَسَخَ حِينَئِذٍ نِكَاحُ الْأُخْرَى ، فَلَوْ أَسْلَمَتِ الْأُولَى وَهُوَ مُوسِرٌ ، ثُمَّ أَسْلَمَتِ الثَّانِيَةُ وَهُوَ مُعْسِرٌ ، ثُمَّ أَسْلَمَتِ الثَّالِثَةُ وَهُوَ مُوسِرٌ ، ثُمَّ أَسْلَمَتِ الرَّابِعَةُ وَهُوَ مُعْسِرٌ ، بَطَلَ نِكَاحُ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ بِإِسْلَامِهِمَا ، وَكَانَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ وَالرَّابِعَةِ مَوْقُوفًا عَلَى اخْتِيَارِ إِحْدَاهُمَا ، فَإِذَا اخْتَارَهَا انْفَسَخَ نِكَاحُ الْأُخْرَى مِنْ وَقْتِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : وَهُوَ أَنْ يُسْلِمَ بَعْضُهُنَّ قَبْلَهُ وَبَعْضُهُنَّ بَعْدَهُ الإماء .

مِثَالُهُ : أَنْ يُسْلِمَ قَبْلَهُ اثْنَتَانِ وَبُعْدَهُ اثْنَتَانِ ، فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا عِنْدَ إِسْلَامِ الْأَوَائِلِ وَالْأَوَاخِرِ ، فَنِكَاحُ الْجَمِيعِ بَاطِلٌ ، لَكِنْ يَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْأَوَائِلِ بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ لَا بِإِسْلَامِهِنَّ قَبْلَهُ ، وَيَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْأَوَاخِرِ بِإِسْلَامِهِنَّ لَا بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ قَبْلَهُنَّ : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ النِّكَاحَيْنِ يَنْفَسِخُ بِاجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ وَاجْتِمَاعِهِمَا فِي الْأَوَائِلِ ، فَيَكُونُ بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ وَاجْتِمَاعِهِمَا فِي الْأَوَاخِرِ يَكُونُ بِإِسْلَامِ الْأَوَاخِرِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا عِنْدَ إِسْلَامِ الْأَوَائِلِ وَالْأَوَاخِرِ ، فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ نِكَاحَ وَاحِدَةٍ إِنْ شَاءَ مِنَ الْأَوَائِلِ وَإِنْ شَاءَ مِنَ الْأَوَاخِرِ : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ يَجُوزُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ نِكَاحَهَا ، فَجَازَ أَنْ يَخْتَارَهَا ، فَإِذَا اخْتَارَ وَاحِدَةً مِنْ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ انْفَسَخَ بِاخْتِيَارِهِ نِكَاحُ الْبَاقِيَاتِ وَاسْتَأْنَفْنَ عِدَدَ الْفَسْخِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ عِنْدَ إِسْلَامِ الْأَوَائِلِ مُعْسِرًا ، وَعِنْدَ إِسْلَامِ الْأَوَاخِرِ مُوسِرًا ، فَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْأَوَاخِرِ بِإِسْلَامِهِنَّ ، وَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنَ الْأَوَائِلِ وَاحِدَةً وَيَنْفَسِخُ بِاخْتِيَارِهِ نِكَاحُ الْأُخْرَى . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا عِنْدَ إِسْلَامِ الْأَوَائِلِ مُعْسِرًا عِنْدَ إِسْلَامِ الْأَوَاخِرِ ، فَنِكَاحُ الْأَوَائِلِ بَاطِلٌ بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ ، وَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنَ الْأَوَاخِرِ وَاحِدَةً ، فَإِنْ أَسْلَمَتَا مَعًا اخْتَارَ أَيَّتَهُمَا شَاءَ ، وَانْفَسَخَ بِاخْتِيَارِهِ نِكَاحُ الْأُخْرَى ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ إِحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ تَعْجِيلِ اخْتِيَارِ الْأُولَى وَبَيْنَ تَأْخِيرِهِ إِلَى إِسْلَامِ الثَّانِيَةِ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، فَلَهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُمْسِكَ عَنِ الِاخْتِيَارِ إِلَى أَنْ تُسْلِمَ الثَّانِيَةُ ، فَلَهُ إِذَا أَسْلَمَتْ أَنْ يَخْتَارَ أَيَّتَهُمَا شَاءَ ، فَإِذَا اخْتَارَ إِحْدَاهُمَا ثَبَتَ نِكَاحُهُمَا ، وَانْفَسَخَ بِهِ نِكَاحُ الْأُخْرَى . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُعَجِّلَ اخْتِيَارَ الْأُولَى ، فَإِذَا اخْتَارَهَا ثَبَتَ نِكَاحُهَا ، وَبَطَلَ بِهِ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي الشِّرْكِ : لِأَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ نِكَاحُهَا بِاخْتِيَارِ تِلْكَ ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ قَدْ أَسْلَمَتْ فَأَوْلَى أَنْ يَبْطُلَ بِهِ نِكَاحُهَا وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ ، فَإِذَا أَسْلَمَتْ ثَبَتَ عَلَى مَا مَضَى مِنْ عِدَّتِهَا مِنْ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ فِي الشِّرْكِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُطَلِّقَ الْأُولَى قَبْلَ إِسْلَامِ الثَّانِيَةِ ، فَيَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا ، وَيَكُونُ ذَلِكَ اخْتِيَارًا لِنِكَاحِهَا : لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى زَوْجَةٍ فَيَصِيرُ الطَّلَاقُ مُوجِبًا لِلِاخْتِيَارِ وَمُوقِعًا لِلْفُرْقَةِ ، وَيَبْطُلُ بِهِ نِكَاحُ الْمُتَأَخِّرَةِ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُخْتَارًا لِغَيْرِهَا . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَفْسَخَ نِكَاحَ الْأُولَى قَبْلَ إِسْلَامِ الثَّانِيَةِ ، فَلَا تَأْثِيرَ لِفَسْخِهِ فِي الْحَالِ : لِأَنَّهُ يَفْسَخُ نِكَاحَ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ إِمْسَاكُهَا ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ لَا تُسْلِمَ الثَّانِيَةُ ، فَيَلْزَمُهُ إِمْسَاكُ الْأُولَى ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُؤَثِّرْ فَسْخُهُ فِي إِنْكَاحِهَا ، فَإِنْ لَمْ تُسْلِمِ الثَّانِيَةُ ثَبَتَ نِكَاحُ الْأُولَى وَبِأَنَّ فَسْخَ نِكَاحِهَا كَانَ مَرْدُودًا ، وَإِنْ أَسْلَمَتِ الثَّانِيَةُ ، فَإِنِ اخْتَارَهَا وَفَسَخَ نِكَاحَ الْأُولَى جَازَ وَثَبَتَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْأُولَى ، وَإِنِ اخْتَارَ الْأُولَى وَفَسَخَ نِكَاحَ الثَّانِيَةِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ : لِأَنَّ فَسْخَ نِكَاحِهَا فِي الْأَوَّلِ لَمَّا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْحَالِ ، فَبَطَلَ أَنْ يَقَعَ حُكْمُهُ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : قَدْ لَزِمَهُ فَسْخُهَا ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ اخْتِيَارُهَا : لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْحَالِ : لِعَدَمِ غَيْرِهَا فَلَمَّا وَجَدَ غَيْرَهَا صَارَ مُؤَثِّرًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَسْلَمَ الْإِمَاءُ مَعَهُ وَعُتِقْنَ وَتَخَلَفَتْ حُرَّةٌ وَقَفَ نِكَاحُ الْإِمَاءِ ، فَإِنْ أَسْلَمَتِ الْحُرَّةُ انْفَسَخَ نِكَاحُ الْإِمَاءِ وَلَوِ اخْتَارَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً وَلَمْ تُسْلِمِ الْحُرَّةُ ثَبَتَتْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي حُرٍّ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ أَرْبَعَ زَوْجَاتٍ إِمَاءٍ وَحُرَّةً خَامِسَةً ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَسْلَمَ مَعَهُ الْإِمَاءُ ، وَحَالُهُ حَالُ مَنْ يَنْكِحُ الْإِمَاءَ وَيَقِفُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ عَلَى إِسْلَامِ الْحُرَّةِ ، فَإِنْ عَتَقَ الْإِمَاءُ قَبْلَ إِسْلَامِ الْحُرَّةِ ، فَحُكْمُ نِكَاحِهِنَّ نِكَاحُ الْحَرَائِرِ ، وَإِنْ عَتَقْنَ بَعْدَ اجْتِمَاعِ إِسْلَامِهِنَّ مَعَ الزَّوْجِ فَإِنَّ حُكْمَهُنَّ حُكْمُ نِكَاحِ الْإِمَاءِ ، وَإِنْ صِرْنَ حَرَائِرَ اعْتِبَارًا بِحَالِهِنَّ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا حَدَّثَ بَعْدَهَا مِمَّنْ عَتَقَهُنَّ ، كَمَا يُعْتَبَرُ حَالُ يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ دُونَ مَا حَدَثَ بَعْدَهَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، قِيلَ : لَيْسَ لَكَ أَنْ تَخْتَارَ مِنَ الْإِمَاءِ وَإِنْ عَتَقْنَ أَحَدًا مَا كَانَتِ الْحُرَّةُ بَاقِيَةً فِي عِدَّتِهَا ، فَإِنِ اخْتَارَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً لَمْ يَصِحَّ اخْتِيَارُهَا فِي الْحَالِ ، وَرُوعِيَ إِسْلَامُ الْحُرَّةِ ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ مُضِيِّ عِدَّتِهَا ، وَمَلَكَ نِكَاحَ الْإِمَاءِ الْمُعْتَقَاتِ كُلِّهِنَّ الْمُخْتَارَةُ مِنْهُنَّ وَغَيْرُهَا ، وَإِنْ لَمْ تُسْلِمِ الْحُرَّةُ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا انْفَسَخَ نِكَاحُهَا بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ وَاحِدَةً مِنَ الْمُعْتَقَاتِ وَلَا يَزِيدَ عَلَيْهَا ، وَهَلْ يَثْبُتُ نِكَاحُ الْمُخْتَارَةِ مِنْهُنَّ بِاخْتِيَارِ الْأَوَّلِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنِ اخْتَارَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً وَلَمْ تُسْلِمِ الْحُرَّةُ ثَبَتَ " فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : ثَبَتَ إِنِ اسْتَأْنَفَ اخْتِيَارَهَا ، فَأَمَّا بِالِاخْتِيَارِ الْأَوَّلِ فَلَا يَثْبُتُ : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَثْبُتِ الِاخْتِيَارُ فِي الْحَالِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى ثَانِي حَالٍ ، فَبَطَلَ ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ اخْتِيَارِ تِلْكَ الْأُولَى وَاخْتِيَارِ غَيْرِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَثْبُتُ بِالِاخْتِيَارِ الْأَوَّلِ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ، وَيَكُونُ حُكْمُ الِاخْتِيَارِ مَوْقُوفًا ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ مَوْقُوفًا : لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ مِلْكُ الْخِيَارِ مَوْقُوفًا عَلَى إِسْلَامِ الْحُرَّةِ ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلْخِيَارِ ، وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ مَالِكًا لَهُ جَازَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْخِيَارِ مَوْقُوفًا عَلَى إِسْلَامِ الْحُرَّةِ . فَإِنْ أَسْلَمَتْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ ، وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ عُلِمَ أَنَّهُ يَثْبُتُ ، فَلَوْ قَالَ فِي الِاخْتِيَارِ الْأَوَّلِ إِنْ تُسْلِمِ الْحُرَّةُ فَقَدِ اخْتَرْتُكُنَّ لَمْ يَصِحَّ هَذَا الِاخْتِيَارُ وَجْهًا وَاحِدًا : لِأَنَّ هَذَا خِيَارٌ مَوْقُوفُ الْأَصْلِ لَا مَوْقُوفَ الْحُكْمِ ، وَنَحْنُ إِنَّمَا نُجَوِّزُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَقْفَ حُكْمِهِ لَا وَقْفَ أَصْلِهِ ، فَتُصُوِّرَ فَرْقٌ بَيْنَهُمَا .

مَسْأَلَةٌ لَوْ عَتَقْنَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمْنَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ عَتَقْنَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمْنَ كُنَّ كَمَنِ ابْتُدِئَ نِكَاحُهُ وَهُنَّ حَرَائِرُ " .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110