كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

أَبِي إِسْحَاقَ وَقَدْ أَمْكَنَهُ الرَّدُّ عَلَى تَعْلِيلِ أَبِي عَلِيٍّ ، وَلَكِنْ لَوْ عَادَتِ السِّلْعَةُ إِلَى الْمُشْتَرِي بِمِيرَاثٍ أَوْ هِبَةٍ أَوِ ابْتِيَاعٍ كَانَ فِي اسْتِحْقَاقِ رَدِّهِ بِالْعَيْبِ وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ الْعِلَّتَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا رَدَّ لَهُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ : لِاسْتِدْرَاكِ الظُّلَامَةِ لِحُصُولِ الْعِوَضِ السَّلِيمِ . وَالثَّانِي : لَهُ الرَّدُّ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ ، لِإِمْكَانِ الرَّدِّ بِرُجُوعِهَا إِلَى يَدِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا بَاعَ بَعْضَ السِّلْعَةِ ثُمَّ عَلِمَ بِعَيْبِهَا فَمَا بَاعَهُ فَلَا أَرْشَ لَهُ فِيهِ لِلْعِلَّتَيْنِ الْمَاضِيَتَيْنِ وَأَمَّا الثَّانِي فَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فَلَهُ رَدُّ مَا بَقِيَ وَاسْتِرْجَاعُ حِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَالتَّوَقُّفُ عَنِ الْبَيْعِ لِيَنْظُرَ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ حَالُهُ فَإِنْ قِيلَ إِنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ لَا يَجُوزُ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي رَدِّهِ لِمَا فِيهِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ عَلَى بَايِعِهِ وَفِي جَوَازِ الرُّجُوعِ بِأَرْشِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ الْأَرْشُ وَهُوَ مُقْتَضَى تَعْلِيلِ أَبِي إِسْحَاقَ : لِأَنَّهُ مَا اسْتَدْرَكَ ظُلَامَتَهُ فِيهِ . وَالثَّانِي : لَا أَرْشَ لَهُ ، وَهُوَ مُقْتَضَى تَعْلِيلِ أَبِي عَلِيٍّ : لِأَنَّ رَدَّ الْكُلِّ بِرُجُوعِ الْمَبِيعِ مُمْكِنٌ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ عَادَ إِلَيْهِ مَا بَاعَهُ رَدَّ الْكُلَّ ، وَإِنْ فَاتَ رَدُّ الْمَبِيعِ بِالتَّلَفِ يَرْجِعُ بِأَرْشِ مَا لَمْ يَبِعْ دُونَ مَا بَاعَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ قَدْ رَجَعَ عَلَيْهِ بِأَرْشِهِ بَعْدَ تَلَفِهِ فَيَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِأَرْشِ الْجَمِيعِ ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِذَا حُكِمَ لَهُ بِأَرْشِ مَا بَقِيَ فَرَدَّ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي مِنْهُ مَا ابْتَاعَهُ فَصَارَ الْجَمِيعُ فِي يَدِهِ ، قِيلَ لَهُ : قَدْ سَقَطَ حَقُّكَ مِنْ رَدِّ مَا لَمْ تَبِعْ : لِأَنَّكَ أَخَذْتَ أَرْشَهُ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَمْنَعَكَ مِنْ رَدِّ مَا بِعْتَ : لِأَنَّكَ تُفَرِّقُ صَفْقَتَهُ وَلَكَ أَنْ تَأْخُذَ أَرْشَهُ إِلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ بِتَفْرِيقِ صَفْقَتِهِ ، فَيَثْبُتُ لَهُ وَيَمْنَعُكَ مِنْ أَرْشِهِ فَهَذَا الْكَلَامُ إِذَا خَرَجَ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ وَهَبَهُ ثُمَّ عَلِمَ عَيْبَهُ حكم ذلك ؟ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْهِبَةِ هَلْ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الْمُكَافَأَةَ : فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الْمُكَافَأَةَ عَلَيْهَا وَاجِبَةٌ ، فَعَلَى هَذَا لَا أَرْشَ لَهُ عَلَى الْعِلَّتَيْنِ مَعًا كَالْبَيْعِ : لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَدْرِكُ ظُلَامَتَهِ بِالْمُكَافَأَةِ ، وَلِأَنَّ رَدَّهُ بِالْعَوْدِ إِلَيْهِ مُمْكِنٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْمُكَافَأَةَ عَلَيْهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، فَعَلَى هَذَا فِي رُجُوعِهِ بِالْأَرْشِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مُقْتَضَى تَعْلِيلِ أَبِي إِسْحَاقَ ، لَا رُجُوعَ لَهُ بِالْأَرْشِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَدْرِكْ ظُلَامَتَهِ بِالْعِوَضِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مُقْتَضَى تَعْلِيلِ أَبِي عَلِيٍّ ، لَا رُجُوعَ لَهُ بِالْأَرْشِ : لِأَنَّ رَدَّهُ بِالْعَوْدِ إِلَيْهِ مُمْكِنٌ ، فَأَمَّا إِنْ وَقَفَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِالْأَرْشِ عَلَى الْعِلَّتَيْنِ ، وَلَكِنْ لَوْ كَاتَبَهُ ثُمَّ عَلِمَ عَيْبَهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْأَرْشَ عَلَى الْعِلَّتَيْنِ مَعًا لِيَنْظُرَ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ حَالُ كِتَابَتِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَدْرِكُ ظُلَامَتَهُ بِعِوَضِ الْكِتَابَةِ وَلِأَنَّ رَدَّهُ بِالْعَجْزِ عَنْهَا مُمْكِنٌ ، وَلَوْ دَبَّرَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ بِصِفَةٍ كَانَ لَهُ رَدُّهُ لِبَقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِ وَإِمْكَانِ رَدِّهِ ، وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً فَأَوْلَدَهَا رَجْعَ بِأَرْشِهَا لِفَوَاتِ رَدِّهَا ، فَأَمَّا إِنْ رَهَنَهُ أَوْ أَجَّرَهُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : لَا أَرْشَ لَهُ ، وَهِيَ مُقْتَضَى تَعْلِيلِ أَبِي عَلِيٍّ : لِإِمْكَانِ الرَّدِّ وَيُوقَفُ لِيَنْظُرَ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ حَالُهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مُقْتَضَى تَعْلِيلِ أَبِي إِسْحَاقَ ، لَهُ الْخِيَارُ فِي أَنْ يَتَعَجَّلَ الْأَرْشَ : لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَدْرِكْ ظُلَامَتَهُ بِالْمُعَاوَضَةِ وَيَسْقُطُ حَقَّهُ فِي الرَّدِّ مِنْ بَعْدُ أَوْ يُوقَفُ لِيَنْظُرَ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ حَالُهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَإِنْ حَدَثَ عِنْدَهُ عَيْبٌ كَانَ لَهُ قِيمَةُ الْعَيْبِ الْأَوَّلِ إِلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَقْبَلَهَا نَاقِصَةً فَيَكُونَ ذَلِكَ لَهُ إِلَّا إِنْ شَاءَ الْمُشْتَرِي حَبْسَهَا وَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا اشْتَرَى سِلْعَةً فَحَدَثَ بِهَا عِنْدَهُ عَيْبٌ ، ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا مُتَقَدِّمًا ، لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّهَا بِالْعَيْبِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِأَرْشِهِ إِلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَقْبَلَهَا مَعِيبَةً ، فَلَهُ ذَلِكَ وَلَا يَلْزَمُهُ دَفْعُ الْأَرْشِ إِلَّا أَنْ يَرْضَى الْمُشْتَرِي بِعَيْبِهَا فَيُمْسِكُهَا ، وَلَا يَرْجِعُ بِأَرْشِهَا . وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ ، وَحَكَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ : إِنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّ السِّلْعَةَ بِالْعَيْبِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مَعَهَا أَرْشَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ كَانَ الْبَائِعُ دَلَّسَ الْعَيْبَ عَلَى الْمُشْتَرِي كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهَا بِذَلِكَ الْعَيْبِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَرْشُ الْعَيْبِ الْحَادِثِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْبَائِعُ دَلَّسَ الْعَيْبَ عَلَى الْمُشْتَرِي ، فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَرْشَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ظُلَامَةً يَسْتَحِقُّ اسْتِدْرَاكُهَا فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَدْرِكَ ظُلَامَةَ الْعَيْبِ الْمُتَقَدِّمِ بِالرَّدِّ ، وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَدْرِكَ ظُلَامَةَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ بِالِامْتِنَاعِ ، فَلَمَّا لَمْ يُمْكِنِ اسْتِدْرَاكُ الظُّلَامَتَيْنِ وَجَبَّ تَقْدِيمُ الْمُشْتَرِي بِهَا عَلَى الْبَائِعِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَدْلِيسٌ وَقَدْ كَانَ مِنَ الْبَائِعِ تَدْلِيسٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ اسْتَحْدَثَ مِلْكَهُ بِالْمُعَاوَضَةِ عَلَى حَالِ السَّلَامَةِ ، وَالْبَائِعُ مُتَقَدِّمُ الْمِلْكِ عَلَى حَالِ الْمُعَاوَضَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ فِي الْمُصَرَّاةِ أَنْ يَرُدَّ مَعَ حُدُوثِ النَّقْصِ فِيهَا بِالْحِلَابِ إِذَا رَدَّ مَعَهَا الصَّاعَ الَّذِي هُوَ أَرْشُ النَّقْصِ ، لَمْ يَكُنْ حُدُوثُ الْعَيْبِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مَانِعًا مِنَ الرَّدِّ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعَيْبِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةٍ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ هُوَ أَنَّ الْعَيْبَ الْحَادِثَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي قَدْ يَكُونُ تَارَةً عَنْ جِنَايَةٍ وَتَارَةً لِحَادِثٍ نَزَلَ بِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَرُدَّ الْمُشْتَرِي مَعَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عَنْ جِنَايَتِهِ ، وَلَمْ يَرُدَّ مَعَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ بِغَيْرِ جِنَايَتِهِ مِنْهُ لِحُدُوثِ النَّقْصِ فِي الْحَالَيْنِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَقْبَلَهُ مَعِيبًا لِأَجْلِ الضَّرَرِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ : لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقًا فِي دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ .

فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِتَقْدِيمِ الْمُشْتَرِي لِأَجْلِ أَنَّ الْبَائِعَ مُدَلِّسٌ ، وَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُعَاوَضٌ فَهُوَ أَنَّ تَدْلِيسَ الْبَائِعِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانٌ مَا لَمْ يُدَلِّسْهُ ، وَالْعَيْبُ الْحَادِثُ لَيْسَ مِنْ تَدْلِيسِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ ضَمَانِهِ ، وَمُعَاوَضَتُهُ الْمُشْتَرِي لَا تُدْفَعُ مِنْ ضَمَانِ مَا نَقَصَ فِي يَدِهِ كَمَا لَا تُدْفَعُ عَنْهُ ضَمَانُ مَا نَقَصَ جِنَايَتُهُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْمُصَرَّاةِ فَهُوَ أَنَّ نَقْصَ التَّصْرِيَةِ حَدَثَ لِاسْتِعْلَامِ الْعَيْبِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَخَالَفَ مَا سِوَاهُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً حَايَلًا فَحَمَلَتْ عِنْدَهُ ، ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا مُتَقَدِّمًا ، فَإِنْ كَانَ حَمْلُهَا نَقْصًا مُوكِسًا مِنْ ثَمَنِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّهَا ، وَرَجَعَ بِأَرْشِ عَيْبِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَمْلُهَا مُنَقِّصًا ، فَلَهُ رَدُّهَا بِالْعَيْبِ وَهَلْ لَهُ حَبْسُهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ لَهُ حَبْسُهَا لِلْوَضْعِ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْحَمْلَ يَتْبَعُ ، فَإِنْ حَبَسَهَا مُنِعَ مِنَ الرَّدِّ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْأَرْشَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَهُ حَبْسُهَا حَتَّى تَضَعَ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْحَمْلَ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ : لِأَنَّ الْحَمْلَ فِي مِلْكِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُهُ عَنْ يَدِهِ ، وَلَوِ اشْتَرَاهَا حَامِلًا فَوَضَعَتْ عِنْدَهُ ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا مُتَقَدِّمًا ، فَإِنْ كَانَتِ الْوِلَادَةُ قَدْ نَقَصَتْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّهَا وَرَجَعَ بِأَرْشِ الْعَيْبِ ، وَإِنْ لَمْ تُنْقِصْهَا الْوِلَادَةُ رَدَّهَا وَفِي الْوَلَدِ قَوْلَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْحَمْلِ .

فَصْلٌ : وَلَوِ اشْتَرَاهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ فَأَرْضَعَتْهَا أُمُّ الْبَائِعِ فَوُجِدَ بِهَا عَيْبًا ، كَانَ لَهُ رَدُّهَا عَلَيْهِ وَإِنْ حُرِّمَتْ عَلَى الْبَائِعِ بِالرِّضَاعِ : لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا عَلَيْهِ بِهَذَا الرِّضَاعِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي ثَمَنِهَا فِي الْأَسْوَاقِ .

فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَ مُشْتَرِي الْجَارِيَةِ بَاعَهَا عَلَى آخَرَ ، ثُمَّ حَدَثَ بِهَا عِنْدَ الثَّانِي عَيْبٌ ، وَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا مُتَقَدِّمًا حكم ذلك ، فَطَالَبَ بَائِعَهُ فَأَخَذَ مِنْهُ الْأَرْشَ ، لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ الثَّانِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ بِمَا دَفَعَ مِنَ الْأَرْشِ : لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَهُ بِالْعَيْبِ الثَّانِي ، ثُمَّ يُنَاظِرُ الْبَائِعَ الْأَوَّلَ عَلَيْهِ ، فَإِمَّا قَبِلَهُ بِعَيْبِهِ وَإِمَّا رَضِيَ بِدَفْعِ أَرْشِهِ ، فَصَارَ اخْتِيَارُ الْبَائِعِ الثَّانِي لِدَفْعِ الْأَرْشِ رِضًا بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ مَعَ الْأَوَّلِ ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي أَعْتَقَهُ ثُمَّ رَجَعَ عَلَى بَائِعِهِ الثَّانِي بِأَرْشِ عَيْبِهِ ، كَانَ لِلْبَائِعِ الثَّانِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ بِمَا غُرِّمَ مِنْ أَرْشِهِ : لِأَنَّ عِتْقَهُ يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِهِ مَعِيبًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي الْعَيْبِ وَمِثْلُهُ يَحْدُثُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى الْبَتِّ لَقَدْ بَاعَهُ بَرِيئًا مِنْ هَذَا الْعَيْبِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) يَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا بِعْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ وَأَوْصَلْتُهُ إِلَيْكَ وَبِهِ هَذَا الْعَيْبُ : لِأَنَّهُ قَدْ يَبِيعُهُ إِيَاهُ وَهُوَ بَرِيءٌ ثُمَّ يُصِيبُهُ قَبْلَ أَنْ يُوصِلَهُ إِلَيْهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) يَنْبَغِي فِي أَصْلِ قَوْلِهِ أَنْ يُحَلِّفَهُ لَقَدْ أَقْبَضَهُ إِيَّاهُ وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْبُ مِنْ قَبْلُ أَنَّهُ يَضْمَنُ مَا حَدَثَ عِنْدَهُ قَبْلَ دَفْعِهِ إِلَى الْمُشْتَرِي وَيَجْعَلُ لِلْمُشْتَرِي رَدَّهُ بِمَا حَدَثَ عِنْدَ

الْبَائِعِ وَلَوْ لَمْ يُحَلِّفْهُ إِلَا عَلَى أَنَّهُ بَاعَهُ بَرِيئًا مِنْ هَذَا الْعَيْبِ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا وَقَدْ حَدَثَ الْعَيْبُ عِنْدَهُ قَبْلَ الدَّفْعِ فَنَكُونُ قَدْ ظَلَمْنَا الْمُشْتَرِيَ : لِأَنَّ لَهُ الرَّدَّ بِمَا حَدَثَ بَعْدَ الْبَيْعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ ، فَهَذَا يُبَيِّنُ لَكَ مَا وَصَفْنَا أَنَّهُ لَازِمٌ فِي أَصْلِهِ مَا وَصَفْنَا مِنْ مَذْهَبِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ اخْتِلَافِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي الْعَيْبِ ، إِذَا ادَّعَى الْمُشْتَرِي تَقَدُّمَهُ لِيَسْتَحِقَّ بِهِ الْفَسْخَ وَادَّعَى الْبَائِعُ حُدُوثَهُ لِيَمْنَعَهُ الْفَسْخَ إِنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الْعَيْبِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا عُلِمَ تَقَدُّمُهُ . وَالثَّانِي : مَا عُلِمَ حُدُوثُهُ . وَالثَّالِثُ : مَا اسْتَوَى فِيهِ الْأَمْرَانِ . فَأَمَّا مَا عُلِمَ تَقَدُّمُهُ مِثْلُ الْإِصْبَعِ الزَّائِدَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ حُدُوثُهَا أَوْ شَقُّ جِرَاحَةِ عُنُقِهِ يَسْتَحِيلُ فِي الْمُدَّةِ الْقَصِيرَةِ حُدُوثُ مِثْلِهَا ، فَالْقَوْلُ فِي هَذَا وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي بِلَا يَمِينٍ لِعِلْمِنَا بِصِدْقِهِ وَكَذَا الْبَائِعُ . وَأَمَّا مَا عُلِمَ حُدُوثُهُ فَمِثْلُ جِرَاحَةٍ طَرِيَّةٍ تُسِيلُ دَمًا يَسْتَحِيلُ فِي الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ أَنْ يَتَقَدَّمَهَا ، فَالْقَوْلُ فِي هَذَا وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مِنِ ادِّعَاءِ الْعَمَى وَالْعَوَرِ مَعَ اعْتِرَافِ الْمُشْتَرِي بِالرُّؤْيَةِ ، قَوْلَ الْبَائِعِ بِلَا يَمِينٍ وَلَا رَدَّ لِلْمُشْتَرِي لِعِلْمِنَا بِصِدْقِ الْبَائِعِ وَكَذِبِ الْمُشْتَرِي ، فَأَمَّا مَا أَمْكَنَ حُدُوثُهُ وَتَقَدُّمُهُ كَالْخَرْقِ فِي الثَّوْبِ وَالْكَسْرِ فِي الْإِنَاءِ وَالْجِرَاحِ وَسَائِرِ الْعُيُوبِ الَّتِي يُمْكِنُ حُدُوثُهَا وَتَقَدُّمُهَا فَالْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ لِمَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حُدُوثَ الْعَيْبِ يَقِينٌ ، وَتَقَدُّمُهُ شَكٌّ ، وَالْحُكْمُ بِالْيَقِينِ أَوْلَى مِنَ الْحُكْمِ بِالشَّكِّ . وَالثَّانِي : أَنَّ دَعْوَى الْمُشْتَرِي تَقْتَضِي الْفَسْخَ ، وَدَعْوَى الْبَائِعِ تَقْتَضِي الْإِمْضَاءَ وَلُزُومُ الْعَقْدِ مِنْ قَبْلُ يُعَاضَدُ قَوْلَ مَنِ ادَّعَى الْإِمْضَاءَ دُونَ الْفَسْخِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ ، فَيَمِينُهُ عَلَى الْبَتِّ لَا عَلَى الْعِلْمِ ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : الْيَمِينُ فِي جَمِيعِ الْعُيُوبِ عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْبَتِّ . وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ تَقَدُّمَ الْعَيْبِ يُوجِبُ خِيَارَ الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْبَائِعُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ يَمِينُ الْبَائِعِ عَلَى الْعِلْمِ : لِأَنَّهُ قَدْ يَصْدُقُ فِيهَا وَلَا يَمْنَعُ حَقَّ الْمُشْتَرِي بِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْعَيْبَ نَقْصُ جُزْءٍ يَدَّعِي الْبَائِعُ إِقْبَاضَهُ ، وَالْيَمِينُ فِي الْقَبْضِ عَلَى الْبَتِّ لَا عَلَى الْعِلْمِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ يَمِينَ الْبَائِعِ عَلَى الْبَتِّ فَصِفَةُ يَمِينِهِ تُبْنَى عَلَى مُقَدِّمِهِ اختلاف البائع والمشتري في العيب ، وَهِيَ أَنَّ مَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ دَعْوَى فَأَنْكَرَهَا لَمْ يَخْلُ حَالُ إِنْكَارِهِ مِنْ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُقَابِلَ لَفْظَ الدَّعْوَى فِي

الْإِنْكَارِ بِمِثْلِهِ ، أَوْ يَكُونَ نَفْيًا لِلْحَقِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَابِلَ فِي الْإِنْكَارِ بِمِثْلِ اللَّفْظِ ، فَصِفَتُهُ أَنْ يُدَّعَى عَلَيْهِ غَصْبُ عَبْدٍ فَيَكُونُ جَوَابُهُ فِي الْإِنْكَارِ أَنْ يَقُولَ لَيْسَ لَهُ قِبَلِي حَقٌّ ، وَهَذَا جَوَابٌ كَافٍ ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ يَمِينُ الْمُنْكِرِ لِهَذِهِ الدَّعْوَى مِثْلَ إِنْكَارِهِ لَا مِثْلَ دَعْوَى الْمُدَّعِي ، فَيَقُولُ : وَاللَّهِ مَا لَهُ قِبَلِي حَقٌّ ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَحْلِفَ وَاللَّهِ مَا غَصَبْتُهُ الْعَبْدَ : لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَصَبَهُ ثُمَّ رَدَّهُ أَوِ ابْتَاعَهُ فَيَأْثَمُ إِنْ حَلَفَ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنَ الدَّعْوَى ، فَإِنْ كَانَ إِنْكَارُهُ مُقَابِلًا لِلَفْظِ الدَّعْوَى فَصِفَتُهُ أَنْ يُدِيرَ عَلَيْهِ غَصْبَ عَبْدٍ ، فَيَكُونُ فِي جَوَابِهِ فِي الْإِنْكَارِ أَنْ يَقُولَ : مَا غَصَبْتُهُ هَذَا الْعَبْدَ فَعَلَى هَذَا فِي يَمِينِهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا لَهُ قِبَلِي حَقٌّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا غَصَبْتُهُ الْعَبْدَ : لِأَنَّهُ لَا يُنْكِرُ الدَّعْوَى بِمِثْلِ لَفْظِهَا إِلَّا وَهُوَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ إِنْ حَلَفَ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ فِي يَمِينِهِ . فَإِذَا وَضَحَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ لَمْ يَخْلُ جَوَابُ الْبَائِعِ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنْ حُدُوثِ الْعَيْبِ مِنْ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا لِاسْتِحْقَاقِ الرَّدِّ أَوْ أَنْ يَكُونَ مُقَابِلًا لِدَعْوَى الْمُشْتَرِي بِمِثْلِ ذَلِكَ اللَّفْظِ ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ نَفَى اسْتِحْقَاقَ الرَّدِّ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى رَدَّ هَذِهِ السِّلْعَةِ بِهَذَا الْعَيْبِ ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ يَمِينُهُ مُطَابَقَةً لِجَوَابِهِ فَيَقُولُ : وَاللَّهِ مَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ رَدَّ هَذِهِ السِّلْعَةِ بِهَذَا الْعَيْبِ ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ قَابِلَ دَعْوَى الْمُشْتَرِي بِمِثْلِ لَفْظِهِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : لَقَدْ بِعْتُكَ هَذِهِ السِّلْعَةَ وَلَيْسَ فِيهَا هَذَا الْعَيْبُ فَفِي يَمِينِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَحْلِفَ مِثْلَ يَمِينِهِ الْأَوَّلِ ، فَيَقُولُ : وَاللَّهِ مَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ رَدَّ هَذِهِ السِّلْعَةِ بِهَذَا الْعَيْبِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ مُتَقَدِّمًا ، لَكِنْ عَلِمَ بِهِ الْمُشْتَرِي أَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ بَعْدَ عِلْمٍ وَلَا يَكُونُ لَهُ رَدُّهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ يَمِينَهُ تَكُونُ مُطَابَقَةً لِقَوْلِهِ فَيَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ هَذِهِ السِّلْعَةِ مَا بِهَا هَذَا الْعَيْبُ : لِأَنَّ جَوَابَهُ بِهَذَا التَّصْرِيحِ يَنْفِي عَنْهُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاحْتِمَالِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ : يَجِبُ أَنْ تَكُونَ يَمِينُ الْبَائِعِ بِاللَّهِ لَقَدْ أَقْبَضْتُهُ بَرِيًّا مِنْ هَذَا الْعَيْبِ ، قَالَ : لِأَنَّ الْعَيْبَ الْحَادِثَ بَعْدَ الْبَيْعِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ مَضْمُونٌ عَلَى الْبَائِعِ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمُشْتَرِي الْفَسْخَ ، فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعَيْبُ قَدْ حَدَثَ بَعْدَ الْبَيْعِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ ، فَإِذَا حَلَفَ لَقَدْ بَاعَهُ بَرِيًّا مِنْ هَذَا الْعَيْبِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ مَعَ اسْتِحْقَاقِ الرَّدِّ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّ يَمِينَ الْبَائِعِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُطَابِقَةً لِدَعْوَى الْمُشْتَرِي فَإِنْ كَانَتْ دَعْوَى الْمُشْتَرِي أَنَّ الْبَائِعَ بَاعَ مَعِيبًا حَلَفَ الْبَائِعُ بِاللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ بَرِيًّا مِنْ هَذَا الْعَيْبِ ، وَلَمْ يُلْزِمْهُ أَنْ يَحْلِفَ لَقَدْ أَقْبَضَهُ مَعِيبًا ، حَلَفَ الْبَائِعُ بِاللَّهِ لَقَدْ أَقْبَضَهُ بَرِيًّا مِنْ هَذَا الْعَيْبِ ، وَإِنْ كَانَتْ دَعْوَى

الْمُشْتَرِي أَنَّ الْبَائِعَ أَقْبَضَهُ بَرِيًّا مِنْ هَذَا الْعَيْبِ وَلَمْ يُجْزِهِ أَنْ يَحْلِفَ لَقَدْ بَاعَهُ بَرِيًّا مِنْ هَذَا الْعَيْبِ ، فَإِنْ قَالَ الْمُزَنِيُّ : فَمَا ذَكَرْتُهُ أَحْوَطُ . قِيلَ لَهُ : فَأَنْتَ فَإِنِ احْتَطْتَ لِلْمُشْتَرِي فَيَلْزَمُكَ أَنْ تَحْتَاطَ أَيْضًا لِلْبَائِعِ ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ يَمِينُهُ بِاللَّهِ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ رَدَّ هَذِهِ السِّلْعَةَ بِهَذَا الْعَيْبِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي قَدْ عَلِمَ الْعَيْبَ مَعَ تَقْدِيمِهِ وَأَمْسَكَ عَنِ الرَّدِّ بَعْدَ عِلْمِهِ ، فَيَكُونُ الْيَمِينُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَيُضْمَنُ الِاحْتِيَاطُ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَهَذَا أَوْلَى .

فَصْلٌ : وَإِذَا ثَبَتَ تَقَدُّمُ الْعَيْبِ اختلاف البائع والمشتري في العيب كَانَ رَدُّ الْمُشْتَرِي مُعْتَبَرًا بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ عَلِمَ بِالْعَيْبِ قَبْلَ الْعَقْدِ ، فَلَوْ كَانَ قَدْ عَلِمَ بِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ عَيْبٌ يُوكِسُ الثَّمَنَ وَيُوجِبُ الْفَسْخَ ، فَلَا رَدَّ لَهُ : لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ ، وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الرَّدِّ حُكْمٌ وَالْجَهْلُ بِالْأَحْكَامِ لَا يُسْقِطُهَا ، فَلَوْ كَانَ شَاهَدَ الْعَيْبَ قَدِيمًا ، وَقَالَ : ظَنَنْتُ أَنَّهُ قَدْ زَالَ ، فَلَا تَأْثِيرَ لِهَذَا الْقَوْلِ وَلَا رَدَّ لَهُ : لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْعَيْبِ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : تَعْجِيلُ الرَّدِّ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ عَلَى الْفَوْرِ حَسَبَ الْإِمْكَانِ الْمُعْتَادِ ، فَلَوْ وَقَفَ عَلَى الْعَيْبِ لَيْلًا لَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّهُ فِي الْحَالِ حَتَّى يُصْبِحَ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ ، وَلَوْ عَلِمَ بِهِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ بِغَيْبَةٍ أَوْ مَرَضٍ كَانَ عَلَى حَقِّهِ إِلَى أَنْ يَزُولَ الْمَنْعُ ، فَلَوْ بَادَرَ بِرَدِّهِ حِينَ عَلِمَ بِعَيْبِهِ فَلَقِيَ الْبَائِعَ ، وَأَقْبَلَ عَلَى مُحَادَثَتِهِ ، ثُمَّ أَرَادَ الرَّدَّ فَلَا رَدَّ لَهُ : لِأَنَّ أَخْذَهُ فِي الْكَلَامِ مَعَ إِمْسَاكِهِ عَنِ الرَّدِّ إِسْقَاطٌ لِحَقِّهِ مِنْهُ وَلَوْ كَانَ حِينَ لَقِيَهُ رَدَّهُ عَلَيْهِ قَبْلَ سَلَامِهِ عَلَيْهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ ، وَلَوْ رَدَّهُ بَعْدَ سَلَامِهِ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنْ لَا رَدَّ لَهُ حَتَّى يَرُدَّ قَبْلَ السَّلَامِ : لِأَنَّ السَّلَامَ اشْتِغَالٌ بِغَيْرِ الرَّدِّ كَالْكَلَامِ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ بَلْ لَهُ الرَّدُّ وَسَلَامُهُ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ لِجَرَيَانِ الْعُرْفِ أَدَبًا وَشَرْعًا بِهِ ، وَلِأَنَّ السَّلَامَ قَرِيبٌ لَا يَطُولُ بِهِ الزَّمَانُ وَلَا تَنْقَطِعُ بِهِ الْمُوَالَاةُ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ لَا يَسْتَعْمِلَ الْمَبِيعَ بَعْدَ عِلْمِهِ بِعَيْبِهِ : لِأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ يُنَافِي الرَّدَّ ، فَإِنِ اسْتَعْمَلَهُ بَطَلَ حَقُّهُ مِنَ الرَّدِّ وَالْأَرْشِ مَعًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا جَرَتِ الْعَادَةُ بِمِثْلِهِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ ، كَقَوْلِهِ لِلْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ وَقَدْ وَقَفَ عَلَى عَيْبِهَا أَغْلِقِي الْبَابَ أَوْ نَاوِلِينِي الثَّوْبَ ، فَلَا يَكُونُ هَذَا الْيَسِيرُ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مَانِعًا مِنَ الرَّدِّ : لِأَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِمِثْلِهِ فِي غَيْرِ مَالِهِ ، فَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ دَابَّةً فَحِينَ عَلِمَ بِعَيْبِهَا رَكِبَهَا لِرَدِّهَا هل يمنع الركوب من الرد بالعيب ؟ . ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ هَذَا الرُّكُوبُ مَانِعًا مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا رَدَّ لَهُ : لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ لَمْ تَجْرِ بِهِ الْعَادَةُ فِي غَيْرِ مِلْكٍ إِلَّا بِإِذْنِ الْمَالِكِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ : لَهُ الرَّدُّ : لِأَنَّ الرُّكُوبَ عَجَّلَ لَهُ فِي الرَّدِّ ، وَأَصْلَحُ لِلدَّابَّةِ مِنَ الْقَوْدِ ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ ثَوْبًا فَحِينَ وَقَفَ عَلَى عَيْبِهِ لَبِسَهُ لِيَرُدَّهُ عَلَى بَايِعِهِ لَمْ يَجُزْ ، وَكَانَ هَذَا اللُّبْسُ مَانِعًا مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ : لِأَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ لِلثَّوْبِ فِي لُبْسِهِ ، وَلَوْ كَانَ لَابِسًا لِلثَّوْبِ فَوَقَفَ عَلَى عَيْبِهِ فِي الطَّرِيقِ فَتَوَجَّهَ لِيَرُدَّهُ مُسْتَدِيمًا لِلُبْسِهِ جَازَ ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ مِنَ الرَّدِّ ، وَإِنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ فِي الطَّرِيقِ بِنَزْعِهِ .



فَصْلٌ : وَإِذَا وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ عَيْبًا يُمْكِنُ حُدُوثُهُ اختلاف البائع والمشتري في العيب ، فَجُعِلَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ وَأَلْزَمَ الْمُشْتَرِي الْعَيْبَ ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ فَتَحَالَفَا وَرُدَّ الْمَبِيعُ عَلَى الْبَائِعِ فَطَالَبَ الْمُشْتَرِي بِأَرْشِ الْعَيْبِ الَّذِي حَلَفَ عَلَى حُدُوثِهِ ، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَيَصِيرُ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ وَلَا أَرْشَ عَلَيْهِ : لِأَنَّنَا إِنَّمَا جَعَلْنَا الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلَ الْبَائِعِ مَعَ سَلَامَةِ الْعَقْدِ فِي سُقُوطِ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِالْأَرْشِ اعْتِبَارًا بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ ، فَوَجَبَ إِذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ أَنْ يَصِيرَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي فِي سُقُوطِ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِالْأَرْشِ اعْتِبَارًا بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ : " وَسَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ كُلُّ مَا اشْتَرَيْتَ مِمَّا يَكُونُ مَأْكُولُهُ فِي جَوْفِهِ فَكَسَرْتَهُ فَأَصَبْتَهُ فَاسِدًا فَلَكَ رَدُّهُ وَمَا بَيْنَ قِيمَتِهِ فَاسِدًا صَحِيحًا ، وَقِيمَتِهِ فَاسِدًا مَكْسُورًا ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ لَيْسَ لَهُ الرَّدُّ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الْبَائِعُ ، وَلِلْمُشْتَرِي مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ صَحِيحًا وَفَاسِدًا ، إِلَا أَنْ يَكُونَ لَهُ قِيمَةٌ فَيَرْجِعُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) هَذَا أَشْبَهُ بِأَصْلِهِ : لِأَنَّهُ لَا يَرُدُّ الرَّانِجَ مَكْسُورًا كَمَا لَا يَرُدُّ الثَّوْبَ مَقْطُوعًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الْبَائِعُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا فَكَسَرَهُ أَوْ قَطَعَهُ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ بَعْدَ الْكَسْرِ أَوِ الْقَطْعِ عَيْبًا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكْسَرَهُ أَوْ يَقْطَعَهُ لِاسْتِعْلَامِ الْعَيْبِ كَثَوْبٍ قَطَّعَهُ قَمِيصًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ كَسْرُهُ وَقَطْعُهُ لِغَيْرِ اسْتِعْلَامِ الْعَيْبِ ، فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ اسْتِعْلَامِ الْعَيْبِ كَثَوْبٍ قَطَّعَهُ قَمِيصًا ثُمَّ وَجَدَهُ مَعِيبًا ، لَمْ يَلْزَمِ الْبَائِعَ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مَعِيبًا ، وَكَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ بِأَرْشِهِ إِلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ قَبُولَهُ مَقْطُوعًا ، فَلَا أَرْشَ لِلْمُشْتَرِي مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ خِيَاطَةٌ ، وَإِنْ كَانَ لِاسْتِعْلَامِ الْعَيْبِ لَمْ يَخْلُ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِفَاسَدِهِ قِيمَةً أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا قِيمَةَ لِفَاسَدِهِ كَبَيْضَةٍ فَاسِدَةٍ مَذِرَةٍ أَوَجَوْزَةٍ فَارِغَةٍ ، أَوْ بِطِّيخَةٍ زَائِدَةٍ ، فَلِلْمُشْتَرِي فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَرْجِعَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ : لِأَنَّ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ لَا تَصِحُّ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ . وَإِنْ كَانَ مِمَّا نَقَدَ قِيمَتَهُ كَبَيْضِ النَّعَامِ إِذَا تَغَيَّرَ ، أَوِ الْبِطِّيخِ إِذَا حَمُضَ ، أَوِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ إِذَا زَنِخَ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ كَسْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُوصَلُ إِلَى مَعْرِفَةِ عَيْنِهِ إِلَّا بِمِثْلِهِ أَوْ يَكُونَ أَكْثَرُ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُوصَلُ إِلَى مَعْرِفَةِ عَيْنِهِ إِلَّا بِمِثْلِهِ ، فَهَلْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُ مَكْسُورًا أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا رَدَّ لَهُ لِنَقْصِهِ عَمَّا أَخَذَهُ وَلَهُ الرُّجُوعُ بِالْأَرْشِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُومَ صَحِيحًا سَلِيمًا ، وَصَحِيحًا مَعِيبًا ، ثُمَّ يَرْجِعُ بِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الثَّمَنِ لَا مِنَ

الْقِيمَةِ ، فَإِنْ كَانَ قِيمَتُهُ صَحِيحًا سَلِيمًا عَشَرَةً ، وَقِيمَتُهُ صَحِيحًا مَعِيبًا ثَمَانِيَةً ، فَقَدْرُ الْعَيْبِ الْخُمْسُ فَرَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ بِخُمْسِ الثَّمَنِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ ، أَنَّ هَذَا الْكَسْرَ لَا يُمْنَعُ مِنَ الرَّدِّ : لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَا يُوصَلُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْعَيْبِ إِلَّا بِهِ ، كَانَ كَالْمَأْذُونِ فِيهِ وَجَرَى مَجْرَى الْمُصَرَّاةِ الَّتِي لَا يَمْنَعُ حَلْبُهَا مِنْ رَدِّهَا ، فَعَلَى هَذَا إِذَا رَدَّ هَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَرُدَّ مَعَهُ أَرْشَ الْكَسْرِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَرُدُّ أَرْشَ النَّقْصِ بِالْخُمْسِ : لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَأْذُونِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَرُدُّ مَعَهُ أَرْشَ النَّقْصِ كَمَا يَرُدُّ الصَّاعَ بَدَلًا مِنْ لَبَنِ الْمُصَرَّاةِ ، فَعَلَى هَذَا يَرُدُّ أَرْشَ كَسْرِهِ مِنَ الْقِيمَةِ دُونَ الثَّمَنِ ، وَهُوَ أَنْ يُقَوِّمَ صَحِيحًا مَعِيبًا ، فَيُقَالُ : عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ثُمَّ يُقَوِّمُ مَكْسُورًا مَعِيبًا فَيُقَالُ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ ، فَيَكُونُ قَدْرُ الْأَرْشِ دِرْهَمَيْنِ ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْكَسْرُ كَسْرًا قَدْ يَصِلُ إِلَى مَعْرِفَةِ عَيْبٍ بِأَقَلَّ مِنْهُ كَالْبِطِّيخِ الَّذِي يَصِلُ إِلَى عِلْمِ حُلْوِهِ مِنْ حَامِضِهِ بِثَقْبِهِ دُونَ كَسْرِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ إِذَا كَسَرَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا مَضَى سَوَاءً . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا : لَا رَدَّ لَهُ قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْكَسْرِ لَيْسَتْ لِاسْتِعْلَامِ الْعَيْبِ ، فَلَمَّا مُنِعَتْ مِنَ الرَّدِّ لَوِ انْفَرَدَتْ فَأَوْلَى أَنْ تُمْنَعَ إِذَا شَارَكَتْ ، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ ، وَهُوَ الْمَنْعُ مِنَ الرَّدِّ احْتِجَاجًا بِأَنَّهُ لَمْ يَرُدَّ الثَّوْبَ مَقْطُوعًا ، لَمْ يَرُدَّ الرَّانِجَ مَكْسُورًا ، وَكَذَلِكَ الْجَوْزَ وَاللَّوْزَ فَيُقَالُ لَهُ : إِنَّمَا لَا تَرُدُّ الثَّوْبَ مَقْطُوعًا : لِأَنَّهُ نَقَصَ لِغَيْرِ اسْتِعْلَامِ الْعَيْبِ ، وَكَسْرُ الرَّانِجِ وَالْجَوْزِ لِاسْتِعْلَامِ الْعَيْبِ .

فَصْلٌ : إِذَا اشْتَرَى ثَوْبًا مَطْوِيًّا فَنَشَرَهُ صَحَّ الشِّرَاءُ إِنْ كَانَ مَطْوِيًّا عَلَى طَاقَتَيْنِ ، لِيَرَى جَمِيعَ الثَّوْبِ مِنْ جَانِبَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ مَطْوِيًّا عَلَى أَكْثَرَ مِنْ طَاقَتَيْنِ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ فَيَكُونُ جَوَابُهُ عَلَى مَا مَضَى . فَأَمَّا إِذَا نَشَرَهُ بَعْدَ صِحَّةِ بَيْعِهِ ، فَإِنْ كَانَ نَشْرُهُ لَا يُنْقِصُ مِنْ قِيمَتِهِ ، كَانَ لَهُ رَدُّهُ مَنْشُورًا بِمَا وُجِدَ فِيهِ مِنْ عَيْبٍ ، وَإِنْ كَانَ نَشْرُهُ يُنْقِصُ مِنْ قِيمَتِهِ كَالسّخَابيِّ وَمَا فِي مَعْنَاهُ ، فَيَكُونُ كَالَّذِي لَا يُوصَلُ إِلَى مَعْرِفَةِ عَيْبِهِ إِلَّا بِكَسْرِهِ ، فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ ، إِلَّا أَنْ يَنْشُرَهُ مَنْ لَا يُحْسِنُ النَّشْرَ فَيَكُونُ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْوَجْهَيْنِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ بَاعَ عَبْدَهُ وَقَدْ جَنَى فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ كَمَا يَكُونُ الْعِتْقُ جَائِزًا ، وَعَلَى السَّيِّدِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ أَرْشُ جِنَايَتِهِ ، وَالثَّانِي : أَنَّ الْبَيْعَ مَفْسُوخٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْجِنَايَةَ فِي عِتْقِهِ كَالرَّهْنِ فَيَرُدُّ الْبَيْعَ وَيُبَاعُ فَيُعْطَى رَبُّ الْجِنَايَةِ جِنَايَتَهُ ،

وَبِهَذَا أَقُولُ إِلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ السَّيِّدُ بِدَفْعِ الْجِنَايَةِ ، أَوْ قِيمَةِ الْعَبْدِ إِنْ كَانَتْ جِنَايَتُهُ أَكْثَرَ كَمَا يَكُونُ هَذَا فِي الرَّهْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . اعْلَمْ أَنَّ جِنَايَةَ الْعَبْدِ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِرَقَبَتِهِ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يُوجِبُ الْقَوَدَ ، وَنَوْعٌ يُوجِبُ الْمَالَ : فَأَمَّا الْمُوجِبَةُ لِلْقَوَدِ فَغَيْرُ مَانِعَةٍ مِنْ جَوَازِ بَيْعِهِ : لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْقَوَدَ مُعَرَّضٌ لِلتَّلَفِ ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ كَالْمَرَضِ ، فَإِنْ بَاعَهُ ثُمَّ أَقْبَضَ مِنْهُ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ قَبْلَهُ بِالْقِصَاصِ يَجْرِي مَجْرَى اسْتِحْقَاقِهِ بِالْغَصْبِ أَوْ مَجْرَى تَلَفِهِ بِالْمَرَضِ ، فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : يَجْرِي ذَلِكَ مَجْرَى اسْتِحْقَاقِهِ بِالْغَصْبِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ بِثَمَنِهِ سَوَاءٌ عَلِمَ بِجِنَايَتِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ . وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : بَلْ يَجْرِي ذَلِكَ مَجْرَى تَلَفِهِ بِالْمَرَضِ . فَعَلَى هَذَا لَا رُجُوعَ لَهُ بِالثَّمَنِ لِتَلَفِ ذَلِكَ فِي يَدِهِ ، وَيَرْجِعُ بِالْأَرْشِ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِجِنَايَتِهِ ، وَلَا يَرْجِعُ بِهِ إِنْ كَانَ عَالِمًا بِجِنَايَتِهِ .

فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْمَالِ ، فَهِيَ مَانِعَةٌ مِنْ بَيْعِهِ مَا لَمْ يَقُدْهُ السَّيِّدُ مِنْ جِنَايَتِهِ جناية العبد ، فَإِنْ بَاعَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْدِيَهُ مِنْهَا ، لَمْ يَخْلُ السَّيِّدُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا بِالْجِنَايَةِ أَوْ مُعْسِرًا : فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بِهَا بَطَلَ بَيْعُهُ : لِأَنَّ أَرْشَ الْجِنَايَةِ مُسْتَحَقٌّ وَتَقْدِيمُهَا أَحَقُّ ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بِهَا فَفِي بَيْعِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ : لِبَقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِ فَيَبْقَى حُكْمُهُ عَلَى مَا كَانَ مِنْ قَبْلُ فِي جَوَازِ تَصَرُّفِهِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَظْهَرُ : أَنَّ بَيْعَهُ بَاطِلٌ : لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْجِنَايَةِ بِرَقَبَتِهِ أَوْكَدُ مِنْ تَعَلُّقِ الرَّهْنِ بِهَا : لِتَقْدِيمِ الْجِنَايَةِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا ، فَلَمَّا كَانَ رَهْنَهُ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ بَيْعِهِ ، فَأَوْلَى أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ مَانِعَةً مِنْ جَوَازِ بَيْعِهِ ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ بَيْعُهُ بَاطِلًا فَدَاهُ السَّيِّدُ مِنْ بَعْدُ أَمْ لَا ، وَسَوَاءٌ أَقَلَّ أَرْشَ الْجِنَايَةِ أَوْ كَثُرَ ، فَأَمَّا إِذَا قِيلَ بِالْأَوَّلِ أَنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ ، فَإِنَّ السَّيِّدَ مَأْخُوذٌ بِفَكِّهِ مِنْ جِنَايَتِهِ ، فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ بِإِزَاءِ قِيمَتِهِ فَمَا دُونَ بِجَمِيعِهَا وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ أَكَثُرَ مِنْ قِيمَتِهِ جناية العبد فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَهُ بِجَمِيعِهَا وَإِنْ زَادَتْ عَلَى قِيمَتِهِ أَضْعَافًا : لِأَنَّهُ بِالْمَنْعِ مِنْهُ قَطَعَ رَغْبَةَ الرَّاغِبِينَ فِيهِ . وَالثَّانِي : عَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَهُ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ لَا غَيْرَ : لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَمْ تُعَلَّقْ بِهَا الْجِنَايَةُ ، فَإِنْ فَدَاهُ مِنْ جِنَايَتِهِ اسْتَقَرَّ الْبَيْعُ وَصَحَّ ، وَإِنِ امْتَنَعَ أَنْ يَفْدِيَهُ مِنْهَا ، فَهَلْ يُؤْخَذُ أَرْشُهَا مِنْهُ جَبْرًا أَوْ يُفْسَخُ الْبَيْعُ وَتُبَاعُ فِي الْأَرْشِ عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، لَا يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِ الْأَرْشِ : لِأَنَّهُ لَا يَضْمَنُهُ ، لَكِنْ يَفْسَخُ عَلَيْهِ الْبَيْعَ لِيُبَاعَ فِي الْأَرْشِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُؤْخَذُ مِنْهُ الْأَرْشُ جَبْرًا وَلَا يُفْسَخُ الْبَيْعُ : لِأَنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ ، وَهُوَ بِالْبَيْعِ مُلْتَزِمٌ لِفَدْيِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ : قُلْتُ أَنَا قَوْلَهُ ، كَمَا يَكُونُ الْعِتْقُ جَائِزًا تَجْوِيزٌ مِنْهُ لِلْعِتْقِ ، وَقَدْ سَوَّى فِي الرَّهْنِ بَيْنَ إِبْطَالِ الْبَيْعِ وَالْعِتْقِ ، فَإِذَا جَازَ الْعِتْقُ فِي الْجِنَايَةِ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ مِثْلُهُ ؟ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا عِتْقُ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ الْجَانِي فَمُعْتَبَرٌ بِحَالِ جِنَايَتِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِلْقَوَدِ فَعِتْقُهُ نَافِذٌ سَوَاءٌ كَانَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا ، وَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ بَعْدَ الْعِتْقِ كَمَا كَانَ لَهُ الِاقْتِصَاصُ قَبْلَ الْعِتْقِ ، وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْمَالِ ، نُظِرَ حَالُ السَّيِّدِ ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بِالْجِنَايَةِ كَانَ عِتْقُهُ نَافِذًا وَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ أَرْشِ الْجِنَايَةِ لَا يُخْتَلَفُ : لِاسْتِهْلَاكِهِ الْعَبْدَ بِالْعِتْقِ كَمَا لَوِ اسْتَهْلَكَهُ بِالْقَتْلِ ، وَيَكُونُ ضَامِنًا لَأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ : مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ ، لَا تُخْتَلَفُ : لِأَنَّ الْعَبْدَ بِالْعِتْقِ مُسْتَهْلَكٌ بِخِلَافِ الْبَيْعِ . وَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ مُعْسِرًا فَفِي نُفُوذِ عَتْقِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ كَمَا لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ . وَالثَّانِي : عِتْقُهُ نَافِذٌ بِخِلَافِ الْبَيْعِ : لِأَنَّ فِي الْعِتْقِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى ، لَا يُمْكِنُ إِسْقَاطُهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ ، وَخَالَفَ الْبَيْعَ الَّذِي يُفْسَخُ بَعْدَ عَقْدِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ضَامِنًا لِأَرْشِ جِنَايَتِهِ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ فِي ذِمَّتِهِ . وَأَمَّا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ : إِنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ سَوَّى بَيْنَ بَيْعِ الْمَرْهُونِ وَعِتْقِهِ ، وَكَذَا يَجِبُ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ بَيْعِ الْجَانِي وَعِتْقِهِ ، فَهَذَا سَهْوٌ مِنْهُ : لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ خَالَفَ بَيْنَ بَيْعِ الْمَرْهُونِ وَعِتْقِهِ : لِأَنَّهُ أَبْطَلَ بَيْعَهُ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَلَهُ فِي عِتْقِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ ، فَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَخْتَلِفَ الْحُكْمُ فِي بَيْعِ الْجَانِي وَعِتْقِهِ : لِأَنَّ حُكْمَ الْعِتْقِ أَقْوَى وَأَنْفَذُ مِنَ الْبَيْعِ .

مَسْأَلَةٌ هَلْ يَمْلِكُ الْعَبْدُ أَمْ لَا

مَسْأَلَةٌ : هَلْ يَمْلِكُ الْعَبْدُ أَمْ لَا ؟ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَمَنِ اشْتَرَى عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ فَيَكُونَ مَبِيعًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ بِالْمِيرَاثِ ، وَلَا يَمْلِكُ مَا لَمْ يُمَلِّكْهُ السَّيِّدُ ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَمْلِكُ إِذَا مَلَّكَهُ السَّيِّدُ مَالًا أَمْ لَا بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّهُ يَمْلِكُ بُضْعَ زَوْجَتِهِ ؟ فَقَالَ مَالِكٌ ، وَدَاوُدُ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ : إِنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ الْمَالَ بِتَمْلِيكِ سَيِّدِهِ حَتَّى يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ وَيَتَصَرَّفَ فِي الْمَالِ كَيْفَ يَشَاءُ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ : إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ الْمَالَ ، وَإِنْ مَلَّكَهُ سَيِّدُهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ وَلَا يَتَصَرَّفَ فِيمَا بِيَدِهِ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [ النُّورِ : ] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُغْنِيهِمْ وَمَنْ لَا يَمْلِكُ لَا يُوصَفُ بِالْغِنَى ، وَبِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ ، عَنْ سَالِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ " فَأَضَافَ الْمَالَ إِلَيْهِ بِلَامِ التَّمْلِيكِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ ، وَبِمَا رُوِيَ " أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ وَكَانَ عَبْدًا حَمَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ طَبَقًا فِيهِ رُطَبٌ لِيَخْتَبِرَ حَالَ نُبُوَّتِهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا هَذَا ؟ " قَالَ : صَدَقَةٌ . فَرَدَّهُ عَلَيْهِ وَقَالَ : " إِنَّا لَا يَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ " . ثُمَّ جَاءَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِطَبَقٍ آخَرَ ، فَقَالَ : " مَا هَذَا ؟ " فَقَالَ : هَدِيَّةٌ . فَقَبِلَهُ ، فَقَالَ : " إِنَّا نَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَنُكَافِئُ عَلَيْهَا " ، فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ لَمَا اسْتَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبُولَ هَدِيَّتِهِ ، وَلِأَنَّهُ آدَمِيٌّ فَجَازَ أَنْ يَمْلِكَ كَالْحُرِّ ، وَلِأَنَّ الرِّقَّ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْمِلْكِ كَالْمُكَاتَبِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ شَيْئًا مَلَكَ بَدَلَهُ ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ بُضْعَ زَوْجَتِهِ وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ مِنْهُ مِلْكَ بَدَلِهِ ، وَهُوَ الْمَهْرُ : وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ أَنْ يَمْلِكَ الْبُضْعَ نِكَاحًا صَحَّ أَنْ يَمْلِكَهُ شِرَاءً ، كَالْحُرِّ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ عَلَيْهِ الْمَالُ فِي ذِمَّتِهِ مَلَكَهُ فِي غَيْرِهِ كَالْمُكَاتَبِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ : أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ وَإِنْ مَلَكَ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ [ النَّحْلِ : ] وَفِيهَا دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ نَفَى عَنْهُ الْقُدْرَةَ فَكَانَتْ عَلَى عُمُومِهَا فِي الْمِلْكِ وَغَيْرِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا نَفَى عَنْهُ الْقُدْرَةَ وَقَدْ تَسَاوَى الْحُرُّ فِي الْبَطْشِ وَالْقُوَّةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَا يُخَالِفُ الْحُرَّ فِيهِ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَلْكِ دُونَ غَيْرِهِ . وَقَالَ تَعَالِيَ : ضَرْبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ فَأنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ [ الرُّومِ : ] . وَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ضَرَبَهَا مَثَلًا لِنَفْسِهِ فَقَالَ : لَمَّا كَانَ عَبِيدُكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ لَا يُشَارِكُونَكُمْ فِي أَمْلَاكِكُمْ ، كَذَلِكَ أَنْتُمْ عَبِيدِي لَا تُشَارِكُونِي فِي مُلْكِي . فَلَوْ قِيلَ : إِنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ مِثْلَ سَيِّدِهِ بَطَلَ ضَرْبُ الْمَثَلِ بِهِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ " . فَوَجْهُ الدَّلِيلِ فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ مَالَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ فِي حَالِ زَوَالِ مِلْكِهِ وَارْتِفَاعِ يَدِهِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ لِسَيِّدِهِ فِي حَالِ مِلْكِهِ وَثُبُوتِ يَدِهِ ، وَدَلِيلٌ ثَانٍ مِنَ الْخَبَرِ : وَهُوَ أَنَّ الْمِلْكَ تَابِعٌ لِلْمَالِكِ فَلَوْ كَانَ مَا أُضِيفَ إِلَى الْعَبْدِ مِنَ الْمَالِ مِلْكًا لَهُ ، لَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ وَجْهٌ ، فَلَمَّا لَمْ يَنْتَقِلْ وَكَانَ مِلْكًا لِلسَّيِّدِ بِأَنْ بَانَ مِنْ قَبْلُ عَلَى مِلْكِ السَّيِّدِ ، وَلِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا كَالْبَهِيمَةِ وَلِأَنَّ الْآدَمِيِّينَ

صِنْفَانِ : مَالِكُونَ وَمَمْلُوكُونَ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمَالِكُ مَمْلُوكًا ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمَمْلُوكُ مَالِكًا ، وَلِأَنَّ الْفَرْقَ الَّذِي فِيهِ مِنْ جِنْسِ الرِّقِّ الَّذِي فِي غَيْرِهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَ رِقَّ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَ رِقَّ غَيْرِهِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ رَقِيقٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَ الرَّقِيقُ قِيَاسًا عَلَى رِقِّ نَفْسِهِ : وَلِأَنَّ الْإِرْثَ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ الْمِلْكِ لِحُصُولِ الْمِلْكِ بِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ ، فَلَمَّا لَمْ يَمْلِكِ الْعَبْدُ بِالْإِرْثِ ، وَهُوَ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ التَّمْلِيكَاتِ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَمْلِكَ بِأَضْعَفِ أَسْبَابِ التَّمْلِيكَاتِ ، وَتَحْرِيرُهُ عِلَّةُ أَنَّ كُلَّ سَبَبٍ لِيَمْلِكَ بِهِ الْمَالَ لَمْ يَمْلِكْ بِهِ الْعَبْدُ كَالْإِرْثِ ، وَلِأَنَّ الرِّقَّ يُنَافِي الْمِلْكَ بِدَلِيلِ أَنَّ حُدُوثَهُ يُزِيلُ مِلْكَ الْحَرْبِيِّ ، فَلَمَّا كَانَ الرِّقُّ قَاطِعًا لِاسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنَ ابْتِدَاءِ الْمِلْكِ . وَلِأَنَّ تَمْلِيكَهُ الْعَبْدَ يُؤَدِّي إِلَى تَنَاقُضِ الْأَحْكَامِ ، وَهُوَ أَنْ يَمْلِكَ الْعَبْدُ عَبْدًا فَيُمَلِّكُهُ مَالًا فَيَشْتَرِي مَوْلَاهُ مِنْ سَيِّدِهِ فَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَبْدَيْنِ سَيِّدًا لِصَاحِبِهِ ، فَتَتَنَاقَضُ أَحْكَامُهُمَا : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِيرُ قَاهِرًا لِأَنَّ سَيِّدَهُ مَقْهُورٌ لِأَنَّهُ عَبْدٌ وَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ لِأَنَّهُ سَيِّدٌ ، وَلَهُ النَّفَقَةُ لِأَنَّهُ عَبْدٌ ، وَمَا أَدَّى إِلَى تَنَاقُضِ الْأَحْكَامِ مُنِعَ مِنْهُ ، كَالزَّوْجَةِ إِذَا تَمَلَّكَتْ زَوْجَهَا ، لِمَا كَانَ اجْتِمَاعُ الزَّوْجَيْنِ وَالْمِلْكِ مُتَنَاقِضًا أُبْطِلَتِ الزَّوْجِيَّةُ وَأُثْبِتَ الْمِلْكُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [ النُّورِ : ] . فَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ أَنْ يُغْنِيَهُمْ بِحَلَالِ الْوَطْءِ عَنْ حَرَامِهِ عَلَى أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى غِنَاهُمْ بِالْمَالِ بَعْدَ الْعِتْقِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ مِنْهُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ سَلْمَانَ لَمْ يَكُنْ عَبْدًا ، وَإِنَّمَا كَانَ حُرًّا مَغْصُوبًا . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَهْدَى بِإِذْنِ سَيِّدِهِ : لِأَنَّ مَنْ جُعِلَ مَالِكًا مَنَعَهُ مِنَ الْهَدِيَّةِ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْمُكَاتَبِ فَهُوَ عِنْدَنَا غَيْرُ مَالِكٍ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيمَا بِيَدِهِ . وَالسَّيِّدُ مَمْنُوعٌ لِأَجْلِ الْكِتَابِ مِنَ انْتِزَاعِ مَا فِي يَدِهِ : لِيَحْصُلَ لَهُ الْأَدَاءُ فَيُعْتَقَ ، وَلَوْ جَازَ لَهُ انْتِزَاعُهُ لَأَعْوَزَهُ الْأَدَاءُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْحُرِّ ، فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْحُرِّ أَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ أَرْشَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ مَلَكَ غَيْرَهُ ، وَلَمَّا لَمْ يَمْلِكِ الْعَبْدُ أَرْشَ الْجِنَايَةِ لَمْ يَمْلِكْ غَيْرَهُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ مَنْ مَلَكَ شَيْئًا مَلَكَ بَدَلَهُ ، فَهُوَ أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ يَمْلِكُ الْبُضْعَ وَإِنَّمَا يَسْتَبِيحُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهِ مِنَ الزَّوْجَةِ ، وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ ، فِي الِاسْتِبَاحَةِ سَوَاءٌ كَمَا يَسْتَوِيَانِ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ خَالَفَ عَقْدُ النِّكَاحِ مِلْكَ الْيَمِينِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَمَا جَازَ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ مَالِهِ جَازَ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ مَالِ عَبْدِهِ ، وَمَا حَرُمَ مِنْ ذَلِكَ حَرُمَ مِنْ هَذَا ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ " ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَالَ الْعَبْدِ لِمَالِكِ الْعَبْدِ ، فَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا ، وَلَوْ كَانَ اشْتَرَطَ مَالَهُ مَجْهُولًا وَقَدْ يَكُونُ دَيْنًا وَاشْتَرَاهُ بِدَيْنٍ كَانَ هَذَا بَيْعَ

الْغَرَرِ وَشِرَاءَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ " إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ " عَلَى مَعْنَى مَا حَلَّ ، كَمَا أَبَاحَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْبَيْعَ مُطْلَقًا عَلَى مَعْنَى مَا يَحِلُّ لَا عَلَى مَا يَحْرُمُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا : وَقَدْ كَانَ الشَّافِعِيُّ قَالَ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ مَالَهُ ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا : لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُ كَمَا يَجُوزُ حَمْلُ الْأَمَةِ تَبَعًا لَهَا ، وَحُقُوقُ الدَّارِ تَبَعًا لَهَا ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحَمْلِ دُونَ أُمِّهِ ، وَلَا حُقُوقِ الدَّارِ دُونَهَا ، ثَمَّ رَجَعَ عَنْهُ إِلَى مَا قَالَ فِي هَذَا الْكِتَابِ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَالَذِي رَجَعَ إِلَيْهِ أَصَحُّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَى الْقَوْلَانِ فِي مِلْكِ الْعَبْدِ إِذَا مُلِّكَ ، وَدَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ أَصَحَّ الْقَوْلَيْنِ مَا قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ : أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ ، فَإِذَا بَاعَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ وَقَدْ مَلَّكَهُ مَالًا ، لَمْ يَخْلُ حَالَ الْعَقْدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْتَرِطَا إِخْرَاجَ مَالِهِ مِنَ الْعَقْدِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَشْتَرِطَا إِدْخَالَ مَالِهِ فِي الْبَيْعِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُطْلِقَا . فَإِنْ شَرَطَا إِخْرَاجَ مَالِهِ خَرَجَ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا ، وَكَذَا لَوْ أَطْلَقَا الْعَقْدَ فَلَمْ يَدْخُلْ مَالُهُ الْعَبْدَ فِي الْبَيْعِ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ ، بِخِلَافِ قَوْلِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ وَكَذَا لَوْ أَعْتَقَهُ كَانَ جَمِيعُ مَا مَلَكَهُ السَّيِّدُ دُونَ الْعَبْدِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا ، وَقَالَ مَالِكٌ : يَكُونُ مِلْكًا لِلْعَبْدِ دُونَ السَّيِّدِ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْمُعْتِقِ " وَهَذَا نَصٌّ . فَأَمَّا إِذَا اشْتَرَطَا دُخُولَ مَالِهِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّ حُكْمَهُ يَخْتَلِفُ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ : إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ ، لَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُ مَالِهِ حَتَّى يَسْلَمَ مَالُهُ مِنَ الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ وَالرِّبَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يُفْرَدَ بِالْعَقْدِ يَصِحُّ أَنْ يُشْتَرَطَ تَبَعًا لِلْعَبْدِ ، فَلَوْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا أَوْ مَجْهُولًا أَوْ دَيْنًا ، وَالثَّمَنُ دَيْنٌ أَوْ ذَهَبٌ ، وَالثَّمَنُ ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ ، وَالثَّمَنُ فِضَّةٌ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا ، وَلَوْ كَانَ مَالُهُ ثِيَابًا حَاضِرَةً أَوْ عُرُوضًا مُشَاهَدَةً صَحَّ بَيْعُهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَلَوْ كَانَ مَالُهُ ذَهَبًا فَبِيعَ بِالْفِضَّةِ ، أَوْ فِضَّةً فَبِيعَ بِالذَّهَبِ ، كَانَ هَذَا الْعَقْدُ قَدْ جَمَعَ مَبِيعًا وَصَرْفًا ، فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ . فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ فَيَجُوزُ اشْتِرَاطُ مَالِهِ مَعًا وَإِنْ كَانَ غَائِبًا أَوْ مَجْهُولًا ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَعْلِيلِ جَوَازِهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَعَ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ : فَذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ اشْتِرَاطُ الْمُشْتَرِي لَهُ هُوَ شَرْطٌ لِتَبْقِيَةِ مَالِهِ عَلَيْهِ وَمَانِعٌ لِانْتِزَاعِ السَّيِّدِ ذَلِكَ مِنْ يَدِهِ : لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَكَانَ لِلسَّيِّدِ انْتِزَاعُهُ مِنْ يَدِهِ ، كَمَا كَانَ لِلْبَائِعِ انْتِزَاعُهُ مِنْ يَدِهِ ، فَلَمَّا شَرَطَهُ كَانَ الشَّرْطُ اسْتِيفَاءَ إِكْمَالِهِ وَمَنْعًا لِلسَّيِّدِ مِنَ انْتِزَاعِهِ ثُمَّ يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَنْزِعَ مَالَهُ مِنْ يَدِهِ كَمَا لِلْبَائِعِ انْتِزَاعَهُ مِنْهُ . وَاسْتُدِلَّ لِصِحَّةِ هَذَا التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ " فَجَعَلَهُ لِلْمُبْتَاعِ بِالشَّرْطِ لَا بِالشِّرَاءِ ، وَلَوْ كَانَ يَصِيرُ لَهُ بِالشِّرَاءِ لَقَالَ : فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِيَهُ الْمُبْتَاعُ ، فَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ لَا يَكُونُ مَالُ الْعَبْدِ مَبِيعًا مِنْهُ ، فَيَصِحُّ الْمَبِيعُ وَإِنْ كَانَ الْمَالُ دَيْنًا أَوْ غَائِبًا أَوْ

مَجْهُولًا أَوْ مُفْضِيًّا إِلَى الرِّبَا أَوْ كَانَ مُسْتَعَارًا ، حَتَّى لَوْ كَانَ مَالُ السَّيِّدِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَقَدِ اشْتَرَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ صَحَّ الشِّرَاءُ ، وَكَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَنْزِعَ الْأَلْفَيْنِ مِنْ يَدِهِ ، وَيَدْفَعَ إِحْدَاهُمَا فِي ثَمَنِهِ ، وَيَحْصُلَ لَهُ أَلْفٌ وَعَبْدٌ بِغَيْرِ شَيْءٍ دَفَعَهُ مِنْ مَالِهِ . وَذَهَبَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ إِلَى أَنَّ تَعْلِيلَهُ وَجَوَازَهُ كَوْنُ الْمَالِ تَبَعًا لَهُ ، فَصَحَّتِ الْجَهَالَةُ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ مَبِيعًا مَعَهُ ، كَمَا يَجُوزُ الْبَيْعُ مَعَ الْجَهَالَةِ بِتَوَابِعِ الْمَبِيعِ فِي الْحَمْلِ وَاللَّبَنِ وَحُقُوقِ الدَّارِ وَالْأَرْضِ ، وَلَوْ أُفْرِدَ بِالْعَقْدِ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ مَعَ الْجَهَالَةِ بِهِ ، كَذَا مَالُ الْعَبْدِ يَجُوزُ بَيْعُهُ تَبَعًا لِلْعَبْدِ ، وَلَوْ كَانَ مَجْهُولًا ، وَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ مُفْرَدًا حَتَّى يَكُونَ مَعْلُومًا ، فَأَمَّا الرِّبَا فَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ إِلَّا مَعَ سَلَامَتِهِ مِنْهُ : لِأَنَّ الرِّبَا لَا تَصِحُّ إِبَاحَتُهُ فِي الشَّرْعِ تَبَعًا ، وَتَصِحُّ دُخُولُ الْجَهَالَةِ فِيهَا تَبَعًا ، فَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ مَالُ الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا أَوْ مَجْهُولًا : لِجَوَازِ الْجَهَالَةِ فِي تَوَابِعِ الْعَقْدِ ، وَلَا يَصِحُّ إِذَا كَانَ مَالُهُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ أَنْ يَبْتَاعَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَلَا بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ : لِأَجْلِ الرِّبَا الَّذِي لَا يَحِلُّ فِي الْعِتْقِ قَصْدًا وَلَا تَبَعًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَحَرَامٌ التَّدْلِيسُ وَلَا يَنْتَقِضُ بِهِ الْبَيْعُ ( قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَاصِمٍ ) سَمِعْتُ الْمُزَنِيَّ يَقُولُ : هَذَا غَلَطٌ عِنْدِي ، فَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ مُحَرَّمًا بِالتَّدْلِيسِ كَانَ الْبَيْعُ بِالثَّمَنِ الْمُحَرَّمِ مُنْتَقِضًا ، وَإِذَا قَالَ : لَا يُنْتَقَضُ بِهِ الْبَيْعُ فَقَدْ ثَبَتَ تَحْلِيلُ الثَّمَنِ غَيْرَ أَنَّهُ بِالتَّدْلِيسِ مَأْثُومٌ فَتَفَهَّمَ . فَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ مُحَرَّمًا وَبِهِ وَقَعَتِ الْعُقْدَةُ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا ، أَرَأَيْتَ لَوِ اشْتَرَاهَا بِجَارِيَةٍ فَدَلَّسَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ كَمَا دَلَّسَ الْبَائِعُ بِمَا بَاعَ ، فَهَذَا إِذًا حَرَامٌ بِحَرَامٍ يَبْطُلُ بِهِ الْبَيْعُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ إِنَّمَا حَرُمَ عَلَيْهِ التَّدْلِيسُ ، وَالْبَيْعُ فِي نَفْسِهِ جَائِزٌ ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَحَدِهَمَا سَبَبٌ يُحَرِّمُ فَلَيْسَ السَّبَبُ هُوَ الْبَيْعُ ، وَلَوْ كَانَ هُوَ السَّبَبُ حَرُمَ الْبَيْعُ وَفَسَدَ الشِّرَاءُ فَتَفَهَّمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِنَّمَا كَانَ التَّدْلِيسُ حَرَامًا : لِرِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أُبَيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَرَّ بِرَجُلٍ يَبِيعُ طَعَامًا ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ فَإِذَا هُوَ طَعَامٌ مَبْلُولٌ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَيْسَ مِنَّا مَنْ غَشَّنَا " وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ : " لَا خِلَابَةَ فِي الْإِسْلَامِ " أَيْ لَا خَدِيعَةَ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " لَا شَوْبَ وَلَا رَوْبَ " ، أَيْ لَا غِشَّ وَلَا تَغْلِيطَ ، فَإِنْ دَلَّسَ فِي بَيْعِهِ هل يصح هذا البيع ؟ كَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا لَا يَبْطُلُ بِتَدْلِيسِهِ . وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ : الْبَيْعُ بَاطِلٌ بِالتَّدْلِيسِ . وَهَذَا

خَطَأٌ : لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نَهَى عَنِ التَّصْرِيَةِ " ، وَجَعَلَهَا تَدْلِيسًا ثُمَّ قَالَ : مَنِ ابْتَاعَهَا فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِبَهَا إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعًا وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا بِالتَّدْلِيسِ لَرَدَّ وَلَمْ يُخَيَّرْ ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَانَ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ كَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ ، وَإِذَا كَانَ لِمَعْنًى فِي الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَمْ يَكُنِ النَّهْيُ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ ، كَالنَّهْيِ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ ، وَالنَّهْيُ عَنِ التَّدْلِيسِ بِمَعْنًى فِي الْعَاقِدِ دُونَ الْمَعْقُودِ فَلَمْ يَكُنِ النَّهْيُ مُبْطِلًا لَهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَأَكْرَهُ بَيْعَ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَعْصِرُ الْخَمْرَ ، وَالسَّيْفِ مِمَّنْ يَعْصِي اللَّهَ بِهِ وَلَا أَنْقُضُ الْبَيْعَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِنَّمَا كَرِهْنَا بَيْعَ الْعَصِيرِ مِنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْعِنَبِ عَلَى مَنْ يَعْصِرُ الْخَمْرَ حكمه ، وَبَيْعَ اللُّصُوصِ ، وَقُطَّاعَ الطُّرُقِ ، وَأَهْلَ الْبَغْيِ : لِمَا فِيهِ مِنْ مَعُونَتِهِمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَيْسَتْ فِي الْحَالِ ، وَإِنَّمَا هِيَ مَظْنُونَةٌ فِي ثَانِي الْحَالِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الْبَيْعِ فِي الْحَالِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ لَا يَعْصِيَ اللَّهَ تَعَالَى بِهِ فَيَجْعَلُ الْعَصِيرَ خَلًّا ، وَيُجَاهِرُ بِالسِّلَاحِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى .

فَصْلٌ : فَأَمَّا بَيْعُ السِّلَاحِ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ حكمه فَحَرَامٌ : لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْوِيَةِ أَعْدَاءِ اللَّهِ عَلَى أَهْلِ دِينِ اللَّهِ ، فَإِنَّ بَيْعَ السِّلَاحِ عَلَيْهِمْ لَمْ يَجُزْ . فِي الْعَقْدِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : الْبَيْعُ بَاطِلٌ : لِتَحْرِيمِ إِمْضَائِهِ . وَالثَّانِي : صَحِيحٌ ، وَلَكِنْ يَنْفَسِخُ عَلَيْهِمْ ، وَالْوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ فِي الذِّمِّيِّ إِذَا اشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا : أَحَدُهُمَا : الْعَقْدُ بَاطِلٌ . وَالثَّانِي : صَحِيحٌ ، وَلَكِنْ يُفْسَخُ عَلَيْهِ وَيُؤْمَرُ بِبَيْعِهِ ، وَكَذَا الْمُصْحَفُ إِذَا بِيعَ عَلَيْهِ يَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلًا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَصَحِيحًا فِي الْقَوْلِ الثَّانِي لَكِنْ يُفْسَخُ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا بَيْعُ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَبَيْعُ كُتُبِ الْفِقْهِ عَلَيْهِمْ ، فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ ، وَهَلْ يُفْسَخُ عَلَيْهِمْ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُفْسَخُ عَلَيْهِمْ خَوْفًا مِنْ تَبْدِيلِهِمْ . وَالثَّانِي : لَا يُفْسَخُ عَلَيْهِمْ : لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا اسْتَدَلُّوا فِيهَا عَلَى صِحَّةِ الْإِسْلَامِ وَدَفْعِهِمْ ذَلِكَ عَلَى الدُّخُولِ فِيهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ بَيْعِ الْبَرَاءَةِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " إِذَا بَاعَ الرَّجُلُ شَيْئًا مِنَ الْحَيَوَانِ بِالْبَرَاءَةِ ، فَالَّذِي أَذْهَبُ إِلَيْهِ قَضَاءُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَمْ يَعْلَمْهُ ، وَلَا يَبْرَأُ مِنْ عَيْبٍ عَلِمَهُ وَلَمْ يُسَمِّهِ لَهُ ، وَيَقِفْهُ عَلَيْهِ تَقْلِيدًا ، فَإِنَّ الْحَيَوَانَ مُفَارِقٌ لِمَا سِوَاهُ : لِأَنَّهُ لَا يُفْتَدَى بِالصِّحَّةِ وَالسُّقْمِ وَتَحَوُّلِ طَبَائِعِهِ ، فَقَلَّمَا يَبْرَأُ مِنْ عَيْبٍ يَخْفَى أَوْ يَظْهَرُ ، وَإِنْ أُصِحَّ فِي الْقِيَاسِ لَوْلَا مَا وَصَفْنَا مِنَ افْتِرَاقِ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ ، أَنْ لَا يَبْرَأَ مِنْ عُيُوبٍ تَخْفَى لَهُ لَمْ يَرَهَا وَلَوْ سَمَّاهَا لِاخْتِلَافِهَا أَوْ يَبْرَأُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ وَالْأُوَلُ أَصَحُّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعُيُوبِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ عُيُوبٍ سَمَّاهَا ، وَوَقَفَ الْمُشْتَرِي عَلَيْهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ عُيُوبٍ سَمَّاهَا ، وَلَمْ يَقِفِ الْمُشْتَرِي عَلَيْهَا . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسَمِّيَهَا ، وَلَا يَقِفُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهَا . أَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَبْرَأَ مِنْ عُيُوبٍ سَمَّاهَا وَوَقَفَ الْمُشْتَرِي عَلَيْهَا البراءة من العيوب في البيع ، وَهَذِهِ بَرَاءَةٌ صَحِيحَةٌ مِنْ بَيْعٍ جَائِزٍ ، لَا تَنْفِي الْجَهَالَةُ عَنِ الْبَرَاءَةِ ، وَلُزُومُ شَرْطٍ فِي الْعَقْدِ ، فَإِنْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ غَيْرَ تِلْكَ الْعُيُوبِ كَانَ لَهُ الرَّدُّ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا تِلْكَ الْعُيُوبَ فَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَبْرَأَ مِنْ عُيُوبٍ سَمَّاهَا ، وَلَمْ يَقِفِ الْمُشْتَرِي عَلَيْهَا البراءة من العيوب في البيع ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ الْعُيُوبُ لَازِمَةً كَالْبَرَصِ وَالْجُذَامِ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ غَيْرَ لَازِمَةٍ كَالسَّرِقَةِ وَالْإِبَاقِ . فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ لَازِمَةٍ صَحَّتِ الْبَرَاءَةُ مِنْهَا بِالتَّسْمِيَةِ لَهَا : لِأَنَّهَا غَيْرُ مُشَاهَدَةٍ فَلَمْ يُمْكِنِ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا وَاكْتَفَى بِالتَّسْمِيَةِ لَهَا : لِأَنَّ لِنَقْصِ الْعَيْبِ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْعَيْبِ وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهِ ، فَصَارَتِ التَّسْمِيَةُ لَهَا مَعَ عَدَمِ مُشَاهَدَتِهَا جَهْلًا بِهَا .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ : فَهُوَ أَنْ يَبْرَأَ الْبَتَّةَ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسَمِّيَهَا وَلَا يَقِفُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهَا البراءة من العيوب في البيع ، فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ، أَنَّ الَّذِي يَذْهَبُ إِلَيْهِ فِي الْحَيَوَانِ قَضَاءُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَبْرَأَ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَمْ

يَعْلَمْهُ ، وَلَا يَبْرَأُ مِنْ عَيْبٍ عَلِمَهُ حَتَّى يُسَمِّيَهُ لِلْبَائِعِ ، وَيَقِفَهُ عَلَيْهِ تَقْلِيدًا ، وَأَنَّ الْحَيَوَانَ يُفَارِقُ مَا سِوَاهُ . وَقَالَ فِي اخْتِلَافِهِ وَمَالِكٍ : وَلَوْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إِلَى أَنَّ مَنْ بَاعَ بِالْبَرَاءَةِ بَرِئَ مِمَّا عَلِمَ وَمِمَّا لَمْ يَعْلَمْ لَكَانَ مَذْهَبًا يُجَافِيهِ حُجَّةٌ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ نَصِّهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ : أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنْ يَبْرَأَ فِي الْحَيَوَانِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَمْ يَعْلَمْهُ دُونَ مَا عَلِمَهُ ، وَلَا يَبْرَأُ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ مِنْ عَيْبٍ أَصْلًا سَوَاءٌ عَلِمَهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّهُ يَبْرَأُ فِي الْحَيَوَانِ مِمَّا لَمْ يَعْلَمْهُ دُونَ مَا عَلِمَهُ ، وَلَا يَبْرَأُ فِي غَيْرِهِ الْحَيَوَانُ مِمَّا عَلِمَهُ وَهَلْ يَبْرَأُ مِمَّا لَمْ يَعْلَمْهُ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ ، وَأَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ : أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ عَلِمَهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ فِي الْحَيَوَانِ ، أَوْ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ مِنْ عَيْبٍ أَصْلًا سَوَاءٌ عَلِمَهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ فِي الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَبْرَأُ فِي الْحَيَوَانِ مِمَّا لَمْ يَعْلَمْهُ دُونَ مَا عَلِمَهُ ، وَلَا يَبْرَأُ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ لَا مِمَّا عَلِمَهُ وَلَا مِمَّا لَمْ يَعْلَمْهُ . فَإِذَا قِيلَ بِالْأَوَّلِ إِنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَوَجْهُهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ " وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوَارِيثَ قَدْ دَرَسَتْ وَتَقَادَمَتْ ، فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ إِنَمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ " فَبَكَيَا وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ تَرَكْتُ حَقِّي لِصَاحِبِي فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا وَلَكِنِ اقْتَسِمَا وَاسْتَهِمَا وَلْيُحْلِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ " . فَلَمَّا أَمَرَهُمَا بِالتَّحَلُّلِ مِنَ الْمَوَارِيثِ الْمُتَقَادِمَةِ الْمَجْهُولَةِ دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْإِبْرَاءِ مِنَ الْمَجْهُولِ ، وَلِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِسْقَاطُ حَقٍّ فَصَحَّ مَجْهُولًا وَمَعْلُومًا كَالْعِتْقِ ، وَلِأَنَّ مَا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى التَّسْلِيمِ يَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ وَمَا يَفْتَقِرُ إِلَى التَّسْلِيمِ لَا يَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ كَالْبَيْعِ ، فَلَمَّا كَانَ الْإِبْرَاءُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى التَّسْلِيمِ صَحَّ فِي الْمَجْهُولِ . وَإِذَا قِيلَ بِالثَّانِي : إِنَّهُ لَا يَبْرَأُ مِنْ عَيْبٍ ، فَوَجْهُهُ " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْغَرَرِ " وَالْإِبْرَاءُ عَنِ الْمَجْهُولِ غَرَرٌ : لِأَنَّهُ لَا يَقِفُ لَهُ عَلَى قَدْرٍ ، وَلِأَنَّ الْإِبْرَاءَ كَالْهِبَةِ غَيْرَ أَنَّ الْإِبْرَاءَ يَخْتَصُّ بِمَا فِي الذِّمَّةِ وَالْهَبْشَ بِالْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ فَلَمَّا لَمْ تَصِحَّ هِبَةُ الْمَجْهُولِ

لَمْ يَصِحَّ الْإِبْرَاءُ عَنِ الْمَجْهُولِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ جَهَالَةٍ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا لَمْ يُعْفَ عَنْهَا كَالْجَهَالَةِ بِتَوَابِعِ الْمَبِيعِ كَالْأَسَاسِ وَأَطْرَافِ الْأَجْدَاعِ وَطَمْيِ الْبِئْرِ ، فَلَمَّا أَمْكَنَ الِاحْتِرَازُ مِنَ الْجُهَّالِ فِي الْإِبْرَاءِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْجَهَالَةُ مَانِعَةً مِنْ صِحَّةِ الْإِبْرَاءِ ، وَلِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ مُسْتَحَقٌّ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ بِشَرْطٍ قَبْلَ لُزُومِ الْعَقْدِ : لِأَنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ قَبْلَ وُجُوبِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّفِيعَ لَوْ عَفَا قَبْلَ الشِّرَاءِ لَمْ تَسْقُطْ شُفْعَتُهُ بَعْدَ الشِّرَاءِ : لِأَنَّهُ أَسْقَطَهَا قَبْلَ وُجُوبِهَا كَذَلِكَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ . وَإِذَا قِيلَ بِالثَّالِثِ : إِنَّهُ يَبْرَأُ فِي الْحَيَوَانِ مِمَّا لَمْ نَعْلَمْهُ دُونَ مَا عَلِمَهُ ، وَلَا يَبْرَأُ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ مِمَّا عَلِمَهُ وَمِمَّا لَمْ يَعْلَمْهُ . فَوَجْهُهُ قَضَاءُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ ابْتَاعَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَبْدًا بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى شَرْطِ الْبَرَاءَةِ ، فَوَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا ، فَأَرَادَ رَدَّهُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ ، فَلَمْ يَقْبَلْهُ فَتَحَاكَمَا فِيهِ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَقَالَ لِابْنِ عُمَرَ : أَتَحْلِفُ أَنَّكَ لَمْ تَعْلَمْ بِهَذَا الْعَيْبِ فَاتَّقَى الْيَمِينَ وَاسْتَرَدَّ الْعَبْدَ ، فَبَاعَهُ بِأَلْفٍ وَسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ فَقَالَ : تَرَكْتُ الْيَمِينَ لِلَّهِ فَعَوَّضَنِي . فَقَدْ قَضَى عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْفَرْقِ فِي عُيُوبِ الْحَيَوَانِ بَيْنَ مَا عَلِمَهُ وَمَا لَمْ يَعْلَمْهُ ، وَحَكَمَ بِالْبَرَاءَةِ مِمَّا لَمْ يَعْلَمْ ، وَتَابَعَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : لِأَنَّ زَيْدًا رَضِيَ بِقَضَائِهِ وَابْنَ عُمَرَ لَمْ يَقُلْ بِخِلَافِهِ ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهِ : لِأَنَّ الْعَيْبَ مِمَّا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ هَذَا إِجْمَاعًا ، فَهَلَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ تَقْلِيدًا لِعُثْمَانَ ، قِيلَ : لِأَنَّ التَّصْرِيحَ بِالْحُكْمِ إِنَّمَا كَانَ مِنْ عُثْمَانَ دُونَ زَيْدٍ وَابْنِ عُمَرَ ، وَإِنَّمَا كَانَ إِمْسَاكُهُمَا اتِّبَاعًا لِعُثْمَانَ . فَإِنْ قِيلَ : لِمَا قَلَّدَ عُثْمَانَ فِي هَذَا الْحُكْمِ ، وَالتَّقْلِيدُ عِنْدَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ، قِيلَ : لِأَنَّ قَوْلَ عُثْمَانَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ حُجَّةٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ وَإِنْ لَمْ يَجُزِ التَّقْلِيدُ عِنْدَهُ . أَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ : فَلِأَنَّهُ كَانَ يَرَى قَوْلَ الْوَاحِدِ مِنَ الصَّحَابَةِ - إِذَا انْتَشَرَ وَلَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ - حُجَّةً يُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ إِمَامًا ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ : فَلِأَنَّهُ يَرَى أَنَّ قِيَاسَ التَّقْرِيبِ إِذَا انْضَمَّ إِلَى قَوْلِ صَحَابِيٍّ كَانَ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِ التَّحْقِيقِ ، وَقَدِ انْضَمَّ إِلَى قَضَاءِ عُثْمَانَ قِيَاسُ تَقْرِيبٍ ، فَصَارَ حُجَّةً يُقَدَّمُ عَلَى قِيَاسِ التَّحْقِيقِ ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ : فِي أَنَّ الْحَيَوَانَ يُفَارِقُ مَا سِوَاهُ : لِأَنَّهُ يَغْتَذِي بِالصِّحَّةِ وَالسُّقْمِ وَتَحَوُّلِ طَبَائِعِهِ ، وَقَلَّمَا يَخْلُو مِنْ عَيْبٍ وَإِنْ خَفِيَ ، فَلَمْ يَكُنِ الِاحْتِرَازُ مِنْ عُيُوبِهِ الْخَفِيَّةِ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهَا وَالْوُقُوفِ عَلَيْهَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ : لِأَنَّهُ قَدْ يَخْلُو مِنَ الْعُيُوبِ وَيُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهَا لِظُهُورِهَا فَدَلَّ عَلَى افْتِرَاقِ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَضِيَّةِ عُثْمَانَ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَوْجِيهِ الْأَقَاوِيلِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى التَّفْرِيعِ عَلَيْهَا ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ ، إِنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ كُلِّ الْعُيُوبِ ، فَإِنَّمَا يَبْرَأُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ بِهِ كَانَ قَبْلَ الْعَقْدِ سَوَاءٌ كَانَ

مَعْلُومًا ظَاهِرًا أَوْ غَيْرَ مَعْلُومٍ خَفِيًّا ، فَأَمَّا مَا حَدَثَ بِهِ مِنَ الْعُيُوبِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ حكمه ، فَإِنَّهُ لَا يَبْرَأُ مِنْهَا وَلِلْمُشْتَرِي فَسْخُ الْبَيْعِ بِهَا ، وَإِنَّمَا لَمْ يَبْرَأْ مِنْهَا لِحُدُوثِهَا ، وَإِنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَصِحُّ مِنَ الْحُقُوقِ قَبْلَ وُجُوبِهَا . فَلَوِ اخْتَلَفَا فِي الْعَيْبِ الذي بالسلعة فَقَالَ الْمُشْتَرِي : هُوَ حَادِثٌ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ فَلِي فَسْخُ الْبَيْعِ بِهِ . وَقَالَ الْبَائِعُ : هُوَ مُتَقَدِّمٌ بَرِئْتُ مِنْهُ فَلَيْسَ لَكَ الْفَسْخُ بِهِ . وَأَمْكَنُ مَا قَالَا ، فَفِيهِ وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْعِلَّةِ فِي اخْتِلَافِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي الْعَيْبِ إِذَا ادَّعَى الْمُشْتَرِي تَقَدُّمَ الْعَيْبِ عَلَى الْقَبْضِ لِيَفْسَخَ بِهِ الْبَيْعَ ، وَادَّعَى الْبَائِعُ حُدُوثَهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي لِيَمْنَعَ فَسْخَ الْبَيْعِ ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ فِي حُدُوثِ الْعَيْبِ وَلَا فَسْخَ لِلْمُشْتَرِي ، لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِذَلِكَ . فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إِنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ أَنَّ حُدُوثَ الْعَيْبِ يَقِينٌ وَتُقَدُّمَهُ شَكٌّ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إِنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ أَنَّ دَعْوَى الْمُشْتَرِي تَقْتَضِي الْفَسْخَ وَدَعْوَى الْبَائِعِ تُوجِبُ الْإِمْضَاءَ . فَعَلَى قَوْلِ مَنْ عَلَّلَ بِأَنَّ حُدُوثَ الْعَيْبِ يَقِينٌ وَتُقَدُّمَهُ شَكٌّ فَكَانَ الْيَقِينُ أَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ الْقَوْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَ الْمُشْتَرِي ، وَيُجْعَلَ لَهُ الْفَسْخُ : لِأَنَّ دَعْوَاهُ تَتَضَمَّنُ حُدُوثَ الْعَيْبِ دُونَ تَقَدُّمِهِ . وَعَلَى قَوْلِ مَنْ عَلَّلَ بِأَنَّ مَا أَوْجَبَ الْإِمْضَاءَ أَوْلَى مِمَّا اقْتَضَى الْفَسْخَ فَجُعِلَ الْقَوْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَ الْبَائِعِ وَيُمْنَعُ الْمُشْتَرِي مِنَ الْفَسْخِ : لِأَنَّ دَعْوَى الْبَائِعِ تَقْتَضِي الْإِمْضَاءَ دُونَ الْفَسْخِ . وَإِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي : إِنَّهُ لَا يَبْرَأُ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْعُيُوبِ ، فَقَدْ بَطَلَ اشْتِرَاطُ الْبَرَاءَةِ ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِبُطْلَانِ الشَّرْطِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ : أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ وَالشَّرْطَ بَاطِلٌ : لِأَنَّ الشَّرْطَ مِنْ تَوَابِعِ الْمَبِيعِ فَلَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ لِبُطْلَانِ الشَّرْطِ : لِأَنَّهُ شَرْطٌ نَافَى مُوجَبَ الْعَقْدِ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ الْمُبْطِلَةِ لِلْعَقْدِ . وَإِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّالِثِ إِنَّهُ لَا يُبْرَأُ مِنْ عُيُوبِ غَيْرِ الْحَيَوَانِ وَيُبْرَأُ مِمَّا لَمْ يَعْلَمْهُ مِنْ عُيُوبِ الْحَيَوَانِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمُرَادِ بِمَا لَمْ يَعْلَمْهُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لِخَفَائِهِ سَوَاءٌ عَلِمَهُ الْبَائِعُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ الْبَائِعُ لِجَهْلِهِ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ ظَاهِرًا أَوْ خَفْيًّا . وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ بَيْعِ الْأَمَةِ

الْأَمَةَ الْمُشْتَرَاةَ يَجِبُ اسْتِبْرَاؤُهَا لَكِنِ اخْتَلَفُوا هَلْ يَجِبُ اسْتِبْرَاؤُهَا عَلَى الْبَائِعِ أَوْ عَلَى الْمُشْتَرِي

بَابُ بَيْعِ الْأَمَةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " إِذَا بَاعَهُ جَارِيَةً لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمَا فِيهَا مُوَاضَعَةٌ ، فَإِذَا دَفَعَ الثَّمَنَ لَزِمَ الْبَائِعَ التَّسْلِيمُ ، وَلَا يُجْبَرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى إِخْرَاجِ مِلْكِهِ مِنْ يَدِهِ إِلَى غَيْرِهِ ، وَلَوْ كَانَ لَا يَلْزَمُ دَفْعُ الثَّمَنِ حَتَّى تَحِيضَ وَتَطْهُرَ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا لِلْجَهْلِ بِوَقْتِ دَفْعِ الثَّمَنِ ، وَفَسَادٌ آخَرُ أَنَّ الْجَارِيَةَ لَا مُشْتَرَاةٌ شِرَاءَ الْعَيْنِ فَيَكُونُ لِصَاحِبِهَا أَخْذُهَا ، وَلَا عَلَى بَيْعِ الصِّفَةِ فَيَكُونُ الْأَجَلُ مَعْلُومًا ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَيْنِ إِلَى أَجَلٍ وَلَا لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ جَمِيلًا بِعُهْدَةٍ وَلَا بِوَجْهٍ ، وَإِنَمَا التَّحَفُّظُ قَبْلَ الشِّرَاءِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَمَةَ الْمُشْتَرَاةَ يَجِبُ اسْتِبْرَاؤُهَا ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا هَلْ يَجِبُ اسْتِبْرَاؤُهَا عَلَى الْبَائِعِ أَوْ عَلَى الْمُشْتَرِي ؟ الأمة المشتراة فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٍ ، وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ : أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي مِلْكِهِ دُونَ الْبَائِعِ . وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ : الِاسْتِبْرَاءُ وَاجِبٌ عَلَى الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : إِنَّ الِاسْتِبْرَاءَ وَاجِبٌ عَلَى الْبَائِعِ وَعَلَى الْمُشْتَرِي . وَأَمَّا عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْحُرَّةَ لَمَّا وَجَبَ اسْتِبْرَاؤُهَا قَبْلَ عَقْدِ النِّكَاحِ ، اقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الْأَمَةُ يَجِبُ اسْتِبْرَاؤُهَا قَبْلَ عَقْدِ الْبَيْعِ . وَأَمَّا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ يَجِبُ لِحِفْظِ الْمَاءِ فَوَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يَسْتَبْرِئَ لِحِفْظِ مَائِهِ السَّالِفِ وَوَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَبْرِئَ لِحِفْظِ مَائِهِ الْآنِفِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لِأَصْحَابِهِ فِي سَبْيِ هَوَازِنَ : " أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ " ، فَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ عَلَى عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى الْغَانِمِينَ عَنِ الْوِطْءِ حَتَّى يَسْتَبْرِئُوا بَعْدَ حُدُوثِ الْمِلْكِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِبْرَاءُ فِي الْمَبِيعَةِ بَعْدَ حُدُوثِ الْمِلْكِ . وَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْهُ عَلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ : أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْوَطْءِ حَتَّى يُوجَدَ اسْتِبْرَاءٌ وَاحِدٌ ، وَهُوَ يَمْنَعُ مِنْهُ حَتَّى يَكُونَ الِاسْتِبْرَاءُ مَرَّتَيْنِ .

ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ الْبَائِعَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِبْرَاءٌ ، وَهُوَ أَنَّ بَقَاءَ مِلْكِ الْبَائِعِ لَا يُوجِبُ إِبَاحَةَ الِاسْتِمْتَاعِ ، فَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَ لَكَانَ الْمِلْكُ بَاقِيًا وَالِاسْتِمْتَاعُ مُحَرَّمًا ، وَإِرَادَةُ الْبَيْعِ لَا تُوجِبُ انْتِقَالَ الْمِلْكِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُوجِبَ تَحْرِيمَ الِاسْتِمْتَاعِ ، وَلِأَنَّ الْأَمَةَ مَوْطُوءَةٌ فِي مِلْكٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَجِبَ اسْتِبْرَاؤُهَا بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ كَالزَّوْجَةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ بِأَنَّ الْحُرَّةَ لَمَّا وَجَبَ اسْتِبْرَاؤُهَا قَبْلَ عَقْدِ النِّكَاحِ اقْتَضَى أَنْ يَجِبَ اسْتِبْرَاءُ الْأَمَةِ قَبْلَ عَقْدِ الْبَيْعِ ، فَهُوَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْبَتِّيُّ لَا يَصِحُّ : لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ يَكُونُ بِالسَّبْيِ وَالْإِرْثِ ، وَالْوَصِيَّةِ ، فَلَوْ لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا الْمُشْتَرِي أَفْضَى إِلَى اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ وَاشْتِبَاهِ الْأَسْبَابِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالتَّزْوِيجِ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يُرَادُ إِلَّا لِلِاسْتِمْتَاعِ ، فَلَا يَجُوزُ إِلَّا فِيمَنْ تَحِلُّ فَوَجَبَ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ الِاسْتِبْرَاءُ ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ تَزْوِيجُ مُعْتَدَّةٍ وَلَا مُرْتَدَّةٍ وَلَا مَجُوسِيَّةٍ وَلَا وَثَنِيَّةٍ وَلَا مُحَرَّمَةٍ بِالرَّضَاعِ وَلَا الْمُصَاهَرَةِ . وَالْبَيْعُ يُرَادُ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَصَحَّ الْبَيْعُ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ : وَلِهَذَا صَحَّ فِي هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ وَوَجَبَ الِاسْتِبْرَاءُ عَلَى الْمُشْتَرِي . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ الْحَسَنِ فَإِنَّهُمَا مَاءَانِ فَوَجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتِبْرَاءُ مَائِهِ ، فَهُوَ أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ لِمَاءٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ الْبَائِعُ السَّالِفُ دُونَ الْمُشْتَرِي الْآنِفِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ اسْتِبْرَاءَ الْحُرَّةِ أَغْلَظُ مِنَ اسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ : لِأَنَّهَا تُسْتَبْرَأُ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ ، وَالْأَمَةُ بِقَرْءٍ وَاحِدٍ ، فَلَمَّا وَجَبَ عَلَى الْحُرَّةِ وَاحِدٌ مَعَ تَغْلِيظِ حَالِهَا فَالْأَمَةُ مَعَ خِفَّةٍ أَمْرِهَا أَوْلَى أَنْ يَلْزَمَهَا اسْتِبْرَاءٌ وَاحِدٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اسْتِبْرَاءَ الْأَمَةِ يَجِبُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ ، فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَسَلَّمَهَا لِيَكُونَ الِاسْتِبْرَاءُ عَلَى يَدِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ جَمِيلَةً أَوْ قَبِيحَةً . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ كَانَتْ جَمِيلَةً وَجَبَ أَنْ تُوضَعَ فِي مُدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ عَلَى يَدِ عَدْلٍ ، وَإِنْ كَانَتْ قَبِيحَةً جَازَ أَنْ تُسْتَبْرَأَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي : لِأَنَّ الْجَمِيلَةَ تَدْعُو الشَّهْوَةُ إِلَيْهَا فَلَا يُؤْمَنُ مِنَ الْمُشْتَرِي أَنْ تَغْلِبَهُ الشَّهْوَةُ عَلَى وَطْئِهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْقَبِيحَةُ . وَدَلِيلُنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْغَانِمِينَ بِالِاسْتِبْرَاءِ بَعْدَ حُصُولِ السَّبْيِ بِأَيْدِيهِمْ فَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي . وَلِأَنَّهُ اسْتِبْرَاءٌ لِاسْتِحْدَاثِ مِلْكٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي كَالْقَبِيحَةِ الْوَحْشَةِ كَانَ اسْتِبْرَاؤُهَا عِنْدَ الْمَالِكِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ إِذَا مُلِكَتْ بِهِ الْقَبِيحَةُ كَانَ اسْتِبْرَاؤُهَا عِنْدَ الْمَالِكِ فَوَجَبَ إِذَا مُلِكَتْ بِهِ الْجَمِيلَةُ أَنْ يَكُونَ اسْتِبْرَاؤُهَا عِنْدَ الْمَالِكِ كَالسَّبْيِ ، فَإِنَّ مَالِكًا يُوَافِقُ عَلَيْهِ . وَلِأَنَّهُ سَلَّمَ مَا لَزِمَهُ مِنَ الثَّمَنِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ تَسْلِيمَ الْمُثَمَّنِ كَسَائِرِ الْمَبِيعَاتِ ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ السَّلَمُ : لِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ تَسْلِيمُ الْمُثَمَّنِ . وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ مَنْعُ الْمُشْتَرِي مِنْهَا حَتَّى تَسْتَبْرِئَ لَبَطَلَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى عَيْنٍ لَزِمَ فِيهِ تَأْخِيرُ الْقَبْضِ وَهَذَا بَاطِلٌ .

وَالثَّانِي : أَنَّ جَهَالَةَ مُدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ تَجْعَلُ الْأَجَلَ مَجْهُولًا وَهَذَا بَاطِلٌ . فَأَمَّا احْتِجَاجُ مَالِكٍ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنَ الْمُشْتَرِي غَلَبَةُ شَهْوَتِهِ ، فَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْعَدْلِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى يَدِهِ ، وَمَوْجُودٌ فِي الْقَبِيحَةِ إِذَا سُلِّمَتْ إِلَى الْمُشْتَرِي ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمَعْنَى مَانِعًا مِنْ تَسْلِيمِ الْوَحْشَةِ إِلَيْهِ فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَسْلِيمِ الْجَمِيلَةِ إِلَيْهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا عَلَى يَدَيْهِ حالات استبراء الأمة على يد المشتري فَلَا يَخْلُو حَالُ اسْتِبْرَائِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَسْتَبْرِئَ عَلَى يَدِ الْمُشْتَرِي فَيَصِحُّ الِاسْتِبْرَاءُ وَتَصِيرُ مَضْمُونَةً عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَسْتَبْرِئَ عَلَى يَدِ عَدْلٍ فَيُجْزِئُ هَذَا الِاسْتِبْرَاءُ ، فَأَمَّا ضَمَانُهَا فَلَا يَخْلُو حَالُ مَنِ اخْتَارَ الْعَدْلَ مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ : إِمَّا أَنْ يَخْتَارَهُ الْبَائِعُ فَتَكُونَ الْأَمَةُ فِي ضَمَانِهِ ، لِأَنَّهُ يَنُوبُ عَمَّنِ اخْتَارَهُ . وَإِمَّا أَنْ يَخْتَارَهُ الْمُشْتَرِي فَتَكُونَ مِنْ ضَمَانِهِ : لِأَنَّهُ يَنُوبُ عَنْهُ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَخْتَارَهُ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فَتَكُونَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي : لِأَنَّ يَدَ الْبَائِعِ لَمْ تَزَلْ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تُسْتَبْرَأَ فِي يَدِ الْبَائِعِ بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ ، وَقَبْلَ الْقَبْضِ فَيَصِحُّ هَذَا الِاسْتِبْرَاءُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَصِحُّ اسْتِبْرَاؤُهَا فِي يَدِ الْبَائِعِ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا الْمُشْتَرِي فِي يَدِهِ . وَهَذَا غَلَطٌ : لِأَنَّهُ اسْتِبْرَاءٌ فِي مِلْكِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَ كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ الِاسْتِبْرَاءُ بَعْدَ حُدُوثِ الْمِلْكِ فَكُلُّ مَنِ اسْتَحْدَثَ مِلْكَ أَمَةٍ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ أَوْ سَبْيٍ ، فَعَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِرَاشًا لِغَيْرِهِ أَمْ لَا . وَسَوَاءٌ كَانَتْ كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً ، بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا ، وَيَحْرُمُ فِي مُدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ وَطْؤُهَا وَلَا يَحْرُمُ اسْتِخْدَامُهَا . وَأَمَّا الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا فِيمَا سِوَى الْوَطْءِ مِنَ الْقُبْلَةِ وَالْمُضَاجَعَةِ الأمة فَمُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْأَمَةِ : فَإِنْ كَانَتْ فِرَاشًا مِنْ قَبْلُ لِسَيِّدٍ أَوْ زَوْجٍ حَرُمَ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا : لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ لِغَيْرِهِ ، أَوْ فِي بَقَايَا عِصْمَةٍ مِنْ زَوْجٍ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِرَاشًا يُوجِبُ لُحُوقَ النَّسَبِ بِغَيْرِهِ كَالَّتِي لَمْ يَطَأْهَا سَيِّدٌ وَلَا زَوْجٌ ، أَوْ كَالسَّبَايَا لَمْ يُحْرَمِ الِاسْتِمْتَاعُ بِقُبْلَتِهَا وَمُضَاجَعَتِهَا ، وَإِنْ حُرِّمَ وَطْؤُهَا : لِأَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ لَكَانَتْ بِهِ أَمَةٌ مُبَاحَةٌ بِخِلَافِ الْمُسْتَفْرَشَةِ الَّتِي ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ ، فَكَانَتْ عَلَيْهِ مُحَرَّمَةٌ فَأَمَّا مَا يَكُونُ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ فَيُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِ الْعَدَدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

فَصْلٌ : فَلَوِ ابْتَاعَ أَمَةً وَكَانَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْ زَوْجٍ وَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تُكْمِلَ مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ

الزَّوْجِ ثُمَّ يَسْتَبْرِئَهَا مِنْ بَعْدُ ، وَلَا يَكُونُ مَا بَقِيَ مِنَ الْعِدَّةِ نَائِبًا عَنْهَا وَعَنِ الِاسْتِبْرَاءِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ ، لِأَنَّ الْعِدَّةَ تَجِبُ بِزَوَالِ الْمِلْكِ عَنِ الْبُضْعِ ، وَالِاسْتِبْرَاءَ يَجِبُ لِحُدُوثِ الْمِلْكِ لِلرَّقَبَةِ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْقَدْرِ ، فَلَمْ يَجُزْ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَتَدَاخَلَا . وَكَذَا لَوْ أَنَّ السَّيِّدَ زَوْجُ أَمَتِهِ ، ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ فَعَلَى السَّيِّدِ إِذَا عَادَتْ إِلَيْهِ بَعْدَ طَلَاقِ الزَّوْجِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا : لِأَنَّهُ اسْتَحْدَثَ إِبَاحَةَ بُضْعِهَا بِالْمِلْكِ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ عَلَيْهِ . فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَعَلَى السَّيِّدِ الِاسْتِبْرَاءُ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا . وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْ فِرَاقِ الزَّوْجِ ثُمَّ الِاسْتِبْرَاءُ لِاسْتِمْتَاعِ السَّيِّدِ ، وَلَا تَنُوبُ الْعِدَّةُ عَنِ الِاسْتِبْرَاءِ كَمَا لَا يَنُوبُ الِاسْتِبْرَاءُ عَنِ الْعِدَّةِ . وَلَوْ كَاتَبَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ بِالْعَجْزِ هل يجب عليه الاستبراء ؟ حَرُمَ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ : لِأَنَّهَا بِالْكِتَابَةِ قَدْ حُرِمَّتْ عَلَيْهِ . وَلَكِنْ لَوْ أَجَّرَهَا أَوْ رَهَنَهَا ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ ، لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِبْرَاءُ : لِأَنَّهَا لَمْ تَحْرُمْ بِالرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ ، فَلَوْ أَنَّ رَجَلًا بَاعَ أَمَتَهُ وَلَمْ يَقْبِضْهَا الْمُشْتَرِي حَتَّى تَفَاسَخَا الْبَيْعَ بِعَيْبٍ أَوْ إِقَالَةٍ ، وَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ الِاسْتِبْرَاءُ ، وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ يَدِهِ : لِأَنَّ مِلْكَهُ زَالَ بِالْبَيْعِ ثُمَّ اسْتَحْدَثَهُ بِالْفَسْخِ . وَلَكِنْ لَوْ تَفَاسَخَا فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ أَوْ خِيَارِ الثَّلَاثِ كَانَ فِي وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ قَوْلَانِ مِنَ اخْتِلَافِ أَقَاوِيلِهِ فِي انْتِقَالِ الْمِلْكِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِعُهْدَةٍ وَلَا بِوَجْهٍ وَإِنَّمَا الْتَحَفُظُ قَبْلَ الشِّرَاءِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا اشْتَرَى أَمَةً لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي مُطَالَبَةَ الْبَائِعِ بِضَامِنٍ مِنْ عُهْدَةٍ ، أَوْ كَفِيلٍ بِنَفْسٍ خَوْفًا مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْأَمَةِ ، وَأَنْ تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَائِعُ غَرِيبًا أَمْ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ كَانَ غَرِيبًا كَانَ لِلْمُشْتَرِي مُطَالَبَتُهُ بِكَفِيلٍ بِنَفْسٍ أَوْ ضَمِينٍ لِعَهْدِهِ اسْتِيثَاقًا لَحِقِّهِ ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ كَفِيلًا أَوْ ضَامِنًا كَانَ لِلْمُشْتَرِي فَسْخُ الْبَيْعِ إِنْ شَاءَ . وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ظَاهِرَ الْحَالِ سَلَامَتُهَا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الظَّاهِرِ بِالظَّنِّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى التَّحَفُّظِ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ الشِّرَاءِ بِأَنْ يَشْتَرِطَ كَفِيلًا أَوْ ضَامِنًا فِي عَقْدِ الشِّرَاءِ ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ اسْتِدْرَاكَ ذَلِكَ بَعْدَ الشِّرَاءِ . أَلَا تَرَى لَوْ بَاعَ عَلَى غَرِيبٍ شَيْئًا بِثَمَنٍ إِلَى أَجَلٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ مُطَالَبَةَ الْمُشْتَرِي بِضَامِنٍ لِلثَّمَنِ لِإِمْكَانِ التَّحَفُّظِ مِنْهُ فِي الْعَقْدِ بِالشَّرْطِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ كَفِيلًا بِعُهْدَةٍ يُرِيدُ ضَمَانَ الدَّرْكِ . وَقَوْلُهُ : وَلَا بِوَجْهٍ ، يُرِيدُ كَفَالَةَ النَّفْسِ ، وَإِنَّمَا التَّحَفُّظُ قَبْلَ الشِّرَاءِ ، يُرِيدُ إِذَا شَرَطَهُ فِي الْعَقْدِ .

بَابُ الْبَيْعِ مُرَابَحَةً



بَابُ الْبَيْعِ مُرَابَحَةً مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَإِذَا بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى الْعَشَرَةِ وَاحِدٌ ، وَقَالَ قَامَتْ عَلَيَّ بِمَائَةِ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ قَالَ : أَخْطَأْتُ وَلَكِنَّهَا قَامَتْ عَلَيَّ بِتِسْعِينَ ، فَهِيَ وَاجِبَةٌ لِلْمُشْتَرِي بِرَأْسِ مَالِهَا وَبِحِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَجُمْلَةُ الْبُيُوعِ ثَلَاثَةٌ : بَيْعُ مُسَاوَمَةٍ ، وَبَيْعُ مُرَابَحَةٍ ، وَبَيْعُ مُخَاسَرَةٍ . فَأَمَّا بَيْعُ الْمُسَاوَمَةِ معناه وحكمه فَمُتَّفَقٌ عَلَى جَوَازِهِ ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَامَ الْبَائِعُ سِلْعَتَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَيَطْلُبَهَا الْمُشْتَرِي بِثَمَانِينَ دِرْهَمًا ، ثُمَّ يَتَقَرَّرُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْمُمَاكَسَةِ عَلَى تِسْعِينَ دِرْهَمًا . وَأَمَّا بَيْعُ الْمُرَابَحَةِ معناه وحكمه فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ : أَبِيعُكَ هَذَا الثَّوْبَ مُرَابَحَةً عَلَى أَنَّ الشِّرَاءَ مِائَةُ دِرْهَمٍ ، وَأَرْبَحُ فِي كُلِّ عَشْرَةٍ وَاحِدًا ، فَهَذَا بَيْعٌ جَائِزٌ لَا يُكْرَهُ . وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَرِهَا ذَلِكَ مَعَ جَوَازِهِ . وَحُكِيَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ أَنَّهُ أَبْطَلَهُ وَمَنَعَ مِنْ جَوَازِهِ : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ ، وَإِنَّ كَذِبَهُ فِي إِخْبَارِ الشِّرَاءِ غَيْرُ مَأْمُونٍ . وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [ الْبَقَرَةِ : ] وَلِأَنَّ الثَّمَنَ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ مَعْلُومٌ كَمَا أَنَّهُ فِي بَيْعِ الْمُسَاوَمَةِ مَعْلُومٌ ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِ : بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِمِائَةٍ وَعَشْرَةٍ ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ : بِعْتُكَ بِمِائَةٍ وَرِبْحُ كُلِّ عَشْرَةٍ وَاحِدٌ ، وَأَنَّ كِلَا الثَّمَنَيْنِ مِائَةٌ وَعَشْرَةٌ وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْعِبَارَتَانِ ، كَمَا لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ : بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِتِسْعِينَ ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ : بِمِائَةٍ إِلَّا عَشْرَةً ، فِي أَنَّ كِلَا الثَّمَنَيْنِ تِسْعُونَ وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْعِبَارَتَانِ ، وَلَا وَجْهَ لِمَا ذُكِرَ مِنْ جَهَالَةِ الثَّمَنِ : لِأَنَّ مَبْلَغَهُ وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا حَالَ الْعَقْدِ فَقَدْ عَقَدَاهُ بِمَا يَصِيرُ الثَّمَنُ بِهِ مَعْلُومًا بَعْدَ الْعَقْدِ ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ صُبْرَةَ طَعَامٍ كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ صَحَّ الْبَيْعُ ، وَإِنْ كَانَ مَبْلَغُ الثَّمَنِ مَجْهُولًا وَقْتَ الْعَقْدِ : لِأَنَّهُمَا عَقَدَاهُ بِمَا يَصِيرُ الثَّمَنُ بِهِ مَعْلُومًا بَعْدَ الْعَقْدِ . وَلَا وَجْهَ لِمَا ذُكِرَ بِأَنَّ كَذِبَ الْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ غَيْرُ مَأْمُونٍ : لِأَنَّ الظَّاهِرَ صِدْقُهُ إِذْ أَثْبَتَ حُكْمًا بِذِكْرِهِ . عَلَى أَنَّ الْمُرْوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَرِهَ قَوْلَهُمْ : ده ذوازده . وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَرِهَ عَقْدَهُمْ بِالْأَعْجَمِيَّةِ وَعُدُولَهُمْ عَنِ الْعَرَبِيَّةِ . وَالثَّانِي : كُرْهٌ يُحْمَلُ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى بَيْعِ الدَّرَاهِمِ فِي جَوَازِ الْعَشْرَةِ بِالِاثْنَيْ عَشْرَةٍ .



فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَيْعَ الْمُرَابَحَةِ جَائِزٌ ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالثَّمَنِ مَعَ نَفْسِ الْعَقْدِ بَعْدَ تَحَرِّي الصِّدْقِ فِيهِ ، من شروط بيع المرابحة فَإِنْ لَمْ يُخْبِرْ بِثَمَنِهِ ، وَقَالَ : قَدْ بِعْتُكَهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي أَبِيعُهُ وَرِبْحُ الْعَشْرَةِ وَاحِدٌ لَمْ يَجُزْ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ بِمَا يَخْرُجُ بِهِ الْحِسَابُ مِنْ ثَمَنِهِ عَلَيَّ وَرِبْحُ الْعَشْرَةِ وَاحِدٌ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّهُمَا لَمْ يَعْقِدَاهُ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ وَقْتَ الْعَقْدِ وَلَا بِمَا يَصِيرُ بِهِ الثَّمَنُ مَعْلُومًا بَعْدَ الْعَقْدِ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ الَّذِي يَذْكُرُهُ بَعْدَ الْعَقْدِ ، وَلَا يَرْجِعَانِ إِلَى مَا يَنْفِي الْجَهَالَةَ عَنْهُمَا وَيَمَنْعُ مِنِ اخْتِلَافِهِمَا ، فَصَارَ الْعَقْدُ بَاطِلًا لِلْجَهْلِ بِالثَّمَنِ فِيهِ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الثَّمَنِ مَعَ الْعَقْدِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْبَائِعِ في بيع المرابحة مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : إِمَّا أَنْ يُرِيدَ الْإِخْبَارَ بِالثَّمَنِ الَّذِي ابْتَاعَهُ بِهِ ، أَوْ يُرِيدُ الْإِخْبَارَ بِالثَّمَنِ مَعَ مُؤْنَةٍ لَزِمَتْهُ عَلَيْهِ ، أَوْ يُرِيدُ الْإِخْبَارَ بِالثَّمَنِ مَعَ عَمَلِهِ فِيهِ بِنَفْسِهِ . فَإِنْ أَرَادَ الْإِخْبَارَ بِالثَّمَنِ وَحْدَهُ ، وَكَانَ قَدْرُهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ ، فَلَهُ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِإِحْدَى ثَلَاثِ عِبَارَاتٍ : إِمَّا أَنْ يَقُولَ : اشْتَرَيْتُهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، أَوْ يَقُولَ : رَأْسُ مَالِي فِيهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ ، أَوْ يَقُولُ : قَامَ عَلَيَّ بِمِائَةٍ ، فَبِأَيِّ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ الثَّلَاثِ عَبَّرَ عَنْهُ جَازَ . وَإِنْ أَرَادَ الْإِخْبَارَ بِثَمَنِهِ وَمُؤْنَةٍ لَزِمَتْهُ عَلَيْهِ مِنْ صُنْعٍ أَوْ قِصَارَةٍ أَوْ عُلُوفَةِ مَاشِيَةٍ أَوْ أُجْرَةِ حُمُولَةٍ ، كَأَنِ اشْتَرَاهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَلَزِمَتْهُ مُؤْنَةُ الصَّبْغِ وَالْقِصَارَةِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، فَلَهُ أَنْ يُخْبِرَ عَنِ الْمَبْلَغِ بِإِحْدَى الْعِبَارَاتِ الثَّلَاثِ : وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : قَامَ عَلَيَّ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ اشْتَرَيْتُهُ بِمِائَةٍ وَعَشْرَةٍ ، وَلَا أَنْ يَقُولَ : قَامَ عَلَيَّ بِمِائَةٍ وَعَشْرَةٍ : لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ فِي الْمَبِيعَاتِ عُرْفًا هُوَ الثَّمَنُ الَّذِي عُقِدَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ . وَإِنْ أَرَادَ الْإِخْبَارَ بِثَمَنِهِ مَعَ عَمَلِهِ فِيهِ بِنَفْسِهِ ، مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِمِائَةٍ وَيَقُصَرِّهُ بِنَفْسِهِ قِصَارَةً قَدَّرَ أُجْرَتَهَا عَشْرَةً . لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْبِرَ عَنْهُ بِإِحْدَى هَذِهِ الْعِبَارَاتِ الثَّلَاثِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ : اشْتَرَيْتُهُ بِمِائَةٍ وَعَشْرَةٍ ، وَلَا رَأْسُ مَالِي فِيهِ مِائَةٌ وَعَشْرَةٌ ، وَلَا يَقُولُ قَامَ عَلَيَّ بِمِائَةٍ وَعَشْرَةٍ : لِأَنَّ عَمَلَ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ لَا يَقُومُ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يَقُومُ عَلَيْهِ عَمَلُ غَيْرِهِ . أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَامِلَ فِي الْمُضَارَبَةِ لَوِ اسْتَأْجَرَ لِحُمُولَةِ الْمَتَاعِ كَانَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَلَوْ حَمَلَهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِأُجْرَتِهِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ . وَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْبِرَ عَنْهُ بِإِحْدَى هَذِهِ الْعِبَارَاتِ الثَّلَاثِ ، فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَقُولَ : اشْتَرَيْتُهُ بِمِائَةٍ وَعَمِلْتُ فِيهِ بِنَفْسِي عَمَلًا يُسَاوِي عَشْرَةً ، وَأَرْبَحُ فِي كُلِّ عَشْرَةٍ وَاحِدًا ، فَيَسْلَمُ مِنَ الْكَذِبِ وَيَصِلُ إِلَى الْغَرَضِ .

فَصْلٌ : فَلَوِ اشْتَرَى ثَوْبًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا وَأَخْذَ أَرْشَهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ كيفية الإخبار عن الثمن في بيع المرابحة ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْبِرَ بِالْمِائَةِ ، وَلَزِمَهُ أَنْ يُخْبِرَ بِالتِّسْعِينَ بِإِحْدَى الْعِبَارَاتِ الثَّلَاثِ : لِأَنَّ الْأَرْشَ اسْتِرْجَاعُ جُزْءٍ مِنَ الثَّمَنِ قَابَلَ جُزْءًا فَائِتًا مِنَ الْمَبِيعِ . وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَجُنِيَتْ عَلَيْهِ جِنَايَةٌ أَخَذَ أَرْشَهَا عَشْرَةً فَفِي قَدْرِ مَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ ثَمَنِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُهُ أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّ الثَّمَنَ تِسْعُونَ دِرْهَمًا : لِأَنَّ أَرْشَ الْجِنَايَةِ فِي مُقَابَلَةِ جُزْءٍ مِنَ الْعَيْنِ فَصَارَتْ كَأَرْشِ الْعَيْبِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّ الثَّمَنَ مِائَةُ دِرْهَمٍ : لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ لَيْسَ يَرْجِعُ إِلَى الْعَقْدِ ، وَإِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ حَادِثٍ بَعْدَ الْعَقْدِ فَشَابَهَ الْكَسْبَ ، وَإِنْ أَخْبَرَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الثَّمَنَ تِسْعُونَ دِرْهَمًا ثُمَّ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِحَالِ الْجِنَايَةِ ، فَلَا خِيَارَ لَهُ ، وَإِنْ أَخْبَرَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي بِأَنَّ الثَّمَنَ مِائَةُ دِرْهَمٍ ثُمَّ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِحَالِ الْجِنَايَةِ فَلَهُ الْخِيَارُ . وَلَكِنْ لَوِ اشْتَرَى دَارًا فَاسْتَعْمَلَهَا أَوْ مَاشِيَةً فَحَلَبَهَا أَوْ نَخْلًا فَأَخَذَ ثَمَرَتَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ إِذَا أَخْبَرَ بِالشِّرَاءِ أَنْ يُسْقِطَ مِنْهُ قَدْرَ مَا أَخَذَ مِنَ الْغَلَّةِ وَالثَّمَرَةِ وَالنِّتَاجِ وَاللَّبَنِ ، بَلْ لَهُ أَنْ يُخْبِرَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ : لِأَنَّهَا أَعْيَانٌ حَادِثَةٌ بَعْدَ الْعَقْدِ فَلَمْ تُقَابِلْ شَيْئًا مِنَ الثَّمَنِ إِلَّا لَبَنَ التَّصْرِيَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُسْقِطَ قَدْرَ قِيمَتِهِ مِنَ الثَّمَنِ : لِأَنَّهُ مِمَّا يَتَقَسَّطُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ .

فَصْلٌ : وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَجَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةً قَدْرُ أَرْشِهَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، فَفَدَاهُ السَّيِّدُ بِهَا كيفية الإخبار عن الثمن في بيع المرابحة ، لَمْ يَجُزْ إِذَا أَخْبَرَ بِالثَّمَنِ أَنْ يَقُولَ ثَمَنُهُ مِائَةٌ وَعَشْرَةٌ ، وَلَا أَنْ يَقُولَ قَامَ عَلَيَّ بِمِائَةٍ وَعَشْرَةٍ ، فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ يَجُوزُ فِيمَا لَزِمَهُ مِنْ مُؤْنَةِ الْقِصَارَةِ وَالصَّبْغِ أَنْ يَقُولَ دَامَ عَلَيَّ بِمِائَةٍ وَعَشْرَةٍ ، فَهَلَّا جَازَ فِيمَا لَزِمَهُ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ أَنْ يَقُولَ قَامَ عَلَيَّ بِمِائَةٍ وَعَشْرَةٍ . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقِصَارَةَ فِي الثَّوْبِ زِيَادَةٌ فِيهِ تَعُودُ إِلَى الْمِلْكِ ، وَفِدَاءُ الْعَبْدِ مِنَ الْجِنَايَةِ اسْتِيفَاءُ مِلْكٍ يَعُودُ إِلَى الْمَالِكِ .

فَصْلٌ : وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ إِنَّ الْبَائِعَ نَقَصَ الْمُشْتَرِي مِنَ الثَّمَنِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ كيفية الإخبار عن الثمن في بيع المرابحة ، فَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّ الثَّمَنَ مِائَةُ دِرْهَمٍ بِكُلِّ حَالٍ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّ الثَّمَنَ تِسْعُونَ دِرْهَمًا قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَبَعْدَهُ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ نُقْصَانَ الْعَشْرَةِ إِنْ كَانَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ لَزِمَهُ أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّ الثَّمَنَ تِسْعُونَ دِرْهَمًا : لِأَنَّ الثَّمَنَ يَسْتَقِرُّ بِمَا افْتَرَقَا عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ فَأَخْبَرَ بِأَنَّ الثَّمَنَ مِائَةُ دِرْهَمٍ صَحَّ : لِاسْتِقْرَارِ الثَّمَنِ بِالْعَقْدِ ، وَأَنَّ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ لَا تُلْحَقُ بِالْعَقْدِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ . وَجَوَّزَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَجَعَلَ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ فَسْخًا لِلْعَقْدِ الْأَوَّلِ ، وَاسْتِئْنَافَ عَقْدٍ جَدِيدٍ . وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ حَطِيطَةَ الثَّمَنِ كُلِّهِ لَمَّا لَمْ تَكُنْ فَسْخًا لَاحِقًا بِالْعَقْدِ ، فَحَطِيطَةُ بَعْضِهِ أَوْلَى أَنْ لَا تَكُونُ فَسْخًا لَاحِقًا بِالْعَقْدِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْحَطِيطَةَ وَالزِّيَادَةَ لَوْ كَانَتَا فَسْخًا لِلْعَقْدِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَا مُجَدِّدَيْنِ لِلْعَقْدِ : لَأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ حُكْمَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الصَّدَاقَ فَيَ النِّكَاحِ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَا عَادَ إِلَى الصَّدَاقِ مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ حَطِيطَةٍ فَسْخًا ، لَمْ يَكُنْ مَا عَادَ إِلَى الْبَيْعِ مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ حَطِيطَةٍ فَسْخًا لَهُ .

فَصْلٌ : وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ بَاعَهُ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ ثَانِيَةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ كيفية الإخبار عن الثمن في بيع المرابحة ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَحُطَّ الرِّبْحَ مِنْ ثَمَنِهِ ، وَجَازَ لَهُ أَنْ يُخْبِرَ بِالثَّمَنِ أَنَّهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَلْزَمُهُ حَطِيطَةُ الرِّبْحِ ، وَالْإِخْبَارَ بِأَنَّ ثَمَنَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا : لِأَنَّهُ يَقُومُ عَلَيْهِ بِهِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ : لِأَنَّ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ قَدِ انْقَضَى فَلَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُ حُكْمِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ خَسِرَ فِي ثَمَنِهِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَزِيدَهَا عَلَى الثَّمَنِ الثَّانِي ، فَكَذَلِكَ إِذَا رَبِحَ فِيهِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَنْقُصَهَا مِنَ الثَّمَنِ الثَّانِي . وَالْآخَرُ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ رَبِحَ فِيهِ مِثْلَ ثَمَنِهِ ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِمِثْلِ الرِّبْحِ كَأَنِ اشْتَرَاهُ أَوَّلًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَبَاعَهُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، جَازَ أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّ الثَّمَنَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا كَانَ مِنَ الرِّبْحِ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الرِّبْحُ بَعْضَ ثَمَنِهِ . وَلَوِ اشْتَرَى الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ثَوْبًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَبَاعَهُ الْعَبْدُ عَلَى سَيِّدِهِ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا ، لَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ إِذَا بَاعَ الثَّوْبَ بِإِخْبَارِ الشِّرَاءِ أَنْ يُخْبِرَ إِلَّا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ : لِأَنَّ شِرَاءَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ جَائِزٌ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَبْتَاعَهُ مِنْ عَبْدِهِ ، وَكَذَا لَوِ اشْتَرَى السَّيِّدُ ثَوْبًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَبَاعَهُ عَلَى عَبْدِهِ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا لَمْ يَجُزْ إِذَا بَاعَهُ بِإِخْبَارِ الشِّرَاءِ أَنْ يُخْبِرَ إِلَّا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ . وَلَوْ دَفَعَ رَجُلٌ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى الْعَامِلُ ثَوْبًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَبَاعِهِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا ، لَمْ يَجُزْ لِرَبِّ الْمَالِ إِذَا بَاعَهُ مُرَابَحَةً أَنْ يُخْبِرَ بِالثَّمَنِ إِلَّا بِمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا : لِأَنَّ نِصْفَ الرِّبْحِ لَهُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا اشْتَرَى سِلْعَةً بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ ، وَأَرَادَ بَيْعَهَا مُرَابَحَةً ، كَانَ عَلَيْهِ فِي إِخْبَارِ الشِّرَاءِ أَنْ يَذْكُرَ تَأْجِيلَ الثَّمَنِ ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ تَأْجِيلَهُ ، فَقَدْ حُكِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّ السِّلْعَةَ إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً كَانَ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ ، وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً لَزِمَهُ الثَّمَنُ حَالًا . وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، وَإِسْحَاقَ أَنَّ لِلْمُشْتَرِي حَبْسَ الثَّمَنِ عَنِ الْبَائِعِ بَعْدَ ذَلِكَ الْأَجَلِ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ جَوَازُ الْبَيْعِ وَيُخَيِّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ أَوْ إِمْضَائِهِ بِالثَّمَنِ الْحَالِّ : لِأَنَّ الْأَجَلَ رِفْقٌ بِالْمُشْتَرِي لَا يَتَعَلَّقُ بِزِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ .

فَصْلٌ : وَلَوِ اشْتَرَى ثَوْبًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَأَخْبَرَ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِتِسْعِينَ دِرْهَمًا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ كَاذِبًا فِي إِخْبَارِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ بِكَاذِبٍ لِدُخُولِ التِّسْعِينَ فِي الْمِائَةِ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي إِذَا عَلِمَ بِذَلِكَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ كَاذِبٌ : لِأَنَّ التِّسْعِينَ بَعْضُ الثَّمَنِ وَفِي مُقَابَلِهِ بَعْضُ الْمَبِيعِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّهَا جَمِيعُ الثَّمَنِ وَفِي مُقَابَلِهِ جَمِيعُ الْمَبِيعِ ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ إِذَا عَلِمَ بِذَلِكَ .

فَصْلٌ : وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْبِرَ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ بِأَنَّ ثَمَنَ أَحَدِهِمَا مِائَةُ دِرْهَمٍ : لِتَقَسُّطِ الثَّمَنِ عَلَى قِيمَتِهِمَا ، فَلَوْ قَوَّمَ أَحَدَهُمَا بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا ، وَقَوَّمَ الْآخَرَ بِثَمَانِينَ دِرْهَمًا ، لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يُخْبِرَ بِذَلِكَ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ .

وَلَكِنْ لَوِ اشْتَرَى مِائَةَ قَفِيزٍ حِنْطَةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَأَرَادَ بَيْعَ قَفِيزٍ مِنْهَا مُرَابَحَةً جَازَ أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّ ثَمَنَهُ دِرْهَمٌ : لِتَقَسُّطِ الثَّمَنِ عَلَى أَجْزَاءِ الْحِنْطَةِ دُونَ قِيمَتِهَا . وَمِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ مَنَعَ ذَلِكَ إِلَّا بِإِخْبَارِ الصُّبْرَةِ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَمَهَّدَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا الْبَابِ ، فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي رَجُلٍ بَاعَ ثَوْبًا مُرَابَحَةً بِرِبْحِ وَاحِدٍ فِي كُلِّ عَشْرَةٍ ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الثَّمَنَ مِائَةُ دِرْهَمٍ ثم اختلف البائع والمشتري في الثمن ، فَأَخَذَهُ الْمُشْتَرِي بِمِائَةٍ وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، ثُمَّ إِنَّ الْبَائِعَ عَادَ يَذْكُرُ أَنَّهُ غَلِطَ فِي الثَّمَنِ ، وَإِنَّهُ كَانَ اشْتَرَاهُ بِتِسْعِينَ دِرْهَمًا فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ ، وَقَدْ أَبَانَ الْبَائِعُ عَنْ أَمَانَتِهِ ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ الثَّوْبَ بِتِسْعِينَ وَحِصَّتِهَا مِنَ الرِّبْحِ ، فَيَكُونُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِالنُّقْصَانِ وَحِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ وَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا ، ثُمَّ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي فِيهِ ، وَقَدْ خَرَجَ قَوْلَانِ آخَرَانِ : لَهُ الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ : أَوِ الْمَقَامِ مِنْ مَسْأَلَةِ بَاقِي ، وَهُوَ أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ لِخِيَانَةِ الْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ شَرْحِ الْمَذْهَبِ وَتَرْتِيبِهِ . ثُمَّ إِذَا أَخَذَ الْمُشْتَرِي بِالتِّسْعِينَ وَحِصَّتِهَا مِنَ الرِّبْحِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَأْخُذُهُ بِعَقْدٍ مُسْتَأْنَفٍ . وَهَذَا غَلَطٌ : لِأَنَّهُ لَوْ أُخِذَ بِعَقْدٍ مُسْتَأْنَفٍ لَبَطُلَ بِعَقْدِ الْأَوَّلِ ، وَلَافْتَقَرَ إِلَى اشْتِرَاطِ قَدْرِ الرِّبْحِ فِيهِ كَمَا افْتَقَرَ إِلَيْهِ فِي الْأَوَّلِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا بَيْعُ الْمُخَاسَرَةِ تعريفه وحكمه فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ شِرَاءُ هَذَا الثَّوْبِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَقَدْ بِعْتُكَهُ مَخَاسَرَةً بِنُقْصَانِ الْعَشْرَةِ وَاحِدٌ مِنْهَا ، فَهَذَا جَائِزٌ كَبَيْعِ الْمُرَابَحَةِ : لِأَنَّهُمَا عَقَدَاهُ بِمَا يَصِيرُ الثَّمَنُ بِهِ مَعْلُومًا بَعْدَ الْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا حَالَ الْعَقْدِ . وَإِذَا صَحَّ جَوَازُ الْمُخَاسَرَةِ كَمَا يَصِحُّ جَوَازُ الْمُرَابَحَةِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّةِ الْحُكْمِ فِيهِ . وَالَّذِي عَلَيْهِ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْهُمْ أَنَّهُ يَرُدُّ كُلَّ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ إِلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، فَيَصِيرُ آخِذًا لِهَذَا الثَّوْبِ بِأَحَدٍ وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا إِلَّا جُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ : لِأَنَّ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ رُدَّتْ إِلَى تِسْعِينَ ، وَالدِّرْهَمُ الْبَاقِي أُسْقِطَ مِنْهُ جُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا . قَالُوا وَإِنَّمَا رُدَّتِ الْأَحَدَ عَشَرَ إِلَى الْعَشْرَةِ مِنَ الْمُخَاسَرَةِ ، كَمَا رُدَّتِ الْعَشْرَةُ إِلَى الْأَحَدَ عَشَرَ فِي الْمُرَابَحَةِ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : بَلْ يَرُدُّ كُلَّ عَشَرَةٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ إِلَى تِسْعَةٍ فَيَحُطُّ مِنَ الثَّمَنِ الْعُشْرَ ، فَيَصِيرُ آخِذًا لِهَذَا الثَّوْبِ بِتِسْعِينَ دِرْهَمًا . قَالُوا : لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ فِي الْمُرَابَحَةِ أَنْ يُزِيدَ عَلَى كُلِّ عَشْرَةٍ وَاحِدًا وَجَبَ أَنْ يُنْقِصَ فِي الْمُخَاسَرَةِ مِنْ كُلِّ عَشْرَةٍ وَاحِدًا ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْعِرَاقِيِّينَ . وَالْأَصَحُّ مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ عِنْدِي أَنْ يُعْتَبَرَ لَفْظُ الْعَقْدِ ، فَإِنْ كَانَ قَالَ : وَأَخْسَرُ لِكُلِّ عَشْرَةٍ وَاحِدًا ، رُدَّتِ الْأَحَدَ عَشَرَ إِلَى عَشْرٍ كَمَا قَالَهُ الْأَوَّلُونَ ، وَإِنْ كَانَ قَالَ : وَأَخْسَرُ مِنْ كُلِّ عَشْرَةٍ وَاحِدًا رُدَّتِ الْعَشْرَةُ إِلَى تِسْعَةٍ كَمَا قَالَهُ الْآخَرُونَ : لِأَنَّ لَفْظَةَ مِنْ تَقْتَضِي إِخْرَاجَ وَاحِدٍ مِنَ الْعَشْرَةِ وَتُخَالِفُ مَعْنَى الْكَلَامِ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَإِنْ قَالَ : ثَمَنُهَا أَكْثَرُ مِنْ مِائَةٍ ، وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً بعد أن باع السلعة لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَهُوَ مُكَذِّبٌ لَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ بَاعَ ثَوْبًا مُرَابَحَةً بِرِبْحٍ فِي الْعَشْرَةِ وَاحِدًا ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الثَّمَنَ مِائَةُ دِرْهَمٍ ، فَأَخَذَهُ الْمُشْتَرِي بِمِائَةٍ وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، ثُمَّ عَادَ الْبَائِعُ فَذَكَرَ أَنَّهُ غَلِطَ فِي إِخْبَارِ الشِّرَاءِ وَأَنَّ الثَّمَنَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ ، فَلِلْمُشْتَرِي حَالَتَانِ حَالٌ يُصَدِّقُهُ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنْ غَلَطِهِ ، وَحَالٌ يُكَذِّبُهُ ، فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا ، قِيلَ لِلْمُشْتَرِي : أَنْتَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَأْخُذَ بِهَذَا الثَّمَنِ وَحِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ ، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا ، وَبَيْنَ أَنْ تَفْسَخَ الْبَيْعَ فِيهِ . وَإِنْ كَذَّبَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي ، فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ حِينَ أَخْبَرَ فِي الْأَوَّلِ أَنَّ الثَّمَنَ مِائَةٌ ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ لَمْ تُسْمِعْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِمَا ادَّعَاهُ فِي الثَّانِي مِنَ الثَّمَنِ أَنَّهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ : لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِنَفْسِهِ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ ، وَمَنْ حُفِظَ عَلَيْهِ أَكْذَابُ بَيِّنَتِهِ رُدَّتْ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ ، فَإِنْ طَلَبَ الْبَائِعُ يَمِينَ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَفِي جَوَازِ إِخْلَافِهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي يَمِينِ الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ . هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْبَيِّنَةِ أَوْ يَجْرِي مَجْرَى الْإِقْرَارِ ؟ فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا يَجْرِي مَجْرَى الْبَيِّنَةِ لَمْ يَجِبْ إِحْلَافُهُ : لِأَنَّهُ لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً لَمْ تُسْمَعْ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى الْإِقْرَارِ وَجَبَ إِحْلَافُهُ : لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ أَقَرَّ بِمَا ادَّعَاهُ الْبَائِعُ لَزِمَهُ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْبَائِعُ حِينَ أَخْبَرَ فِي الْأَوَّلِ بِأَنَّ الثَّمَنَ مِائَةُ دِرْهَمٍ أَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ شِرَاءِ وَكِيلِهِ أَوْ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ، ثُمَّ عَادَ فَذَكَرَ أَنَّ الْوَكِيلَ أَخْطَأَ وَأَنَّ الْعَبْدَ غَلِطَ وَأَنَّ الثَّمَنَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ ، فَهَلْ تُسْمَعُ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ بِمَا ادَّعَاهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ كَمَا لَوْ أَخْبَرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ : لِأَنَّهُ قَدْ أَكْذَبَهَا تَقَدُّمٌ مِنْ قَوْلِهِ ، فَعَلَى هَذَا فِي وُجُوبِ إِحْلَافِ الْمُشْتَرِي وَجْهَانِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ بَيِّنَتَهُ فِيمَا ادَّعَاهُ مَسْمُوعَةٌ يُحْكَمُ بِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَيُجْعَلُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي قَامَتِ الْبَيِّنَةُ بِهِ وَبِحِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ أَوِ الْفَسْخِ . فَإِنْ عَدِمَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ كَانَ لَهُ إِحْلَافُ الْمُشْتَرِي وَجْهًا وَاحِدًا ، فَإِنْ حَلَفَ كَانَ لَهُ أَخْذُ الثَّوْبِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ ، وَحِصَّتُهُ مِنَ الرِّبْحِ وَذَلِكَ مِائَةٌ وَعَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، فَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْبَائِعِ ، فَإِذَا حَلَفَ ، قِيلَ لِلْمُشْتَرِي : أَنْتَ بِالْخِيَارِ فِي أَخْذِ الثَّوْبِ بِالثَّمَنِ الثَّانِي وَحِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ وَذَلِكَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَبَيْنَ أَنْ تَفْسَخَ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ عُلِمَ أَنَّهُ خَانَهُ حُطَّتِ الْخِيَانَةُ وَحِصَّتُهَا مِنَ الرِّبْحِ ، وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُ وَلَمْ أُفْسِدِ الْبَيْعَ : لِأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى مُحَرَّمٍ عَلَيْهِمَا مَعًا إِنَمَا وَقَعَ مُحَرَّمًا عَلَى الْخَائِنِ مِنْهُمَا كَمَا يُدَلِّسُ لَهُ بِالْعَيْبِ فَيَكُونُ التَّدْلِيسُ مُحَرَّمًا وَمَا أُخِذَ مِنْ ثَمَنِهِ مُحَرَّمًا وَكَانَ لِلْمُشْتَرِي فِي ذَلِكَ الْخِيَارُ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ إِذَا أَخْبَرَ الْبَائِعُ أَنَّ الثَّمَنَ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَأَخَذَهُ الْمُشْتَرِي بِمِائَةٍ وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ثم خون المشتري البائع ، ثُمَّ عَادَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ افْتِرَاقِهِمَا يَدَّعِي خِيَانَةَ الْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ ، وَأَنَّهُ ثَمَانُونَ دِرْهَمًا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي بَيِّنَةٌ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ خِيَانَةِ الْبَائِعِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ وَهُوَ لَازِمٌ لِلْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ أَقَامَ الْمُشْتَرِي بَيِّنَةً عَلَى مَا ادَّعَى مِنْ خِيَانَةِ الْبَائِعِ سُمِعَتْ وَلَمْ يَبْطُلْ بِهَا الْبَيْعُ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِذَا أَقَامَ الْمُشْتَرِي بَيِّنَةً بِخِيَانَةِ الْبَائِعِ بَطَلَ الْبَيْعُ : لِانْعِقَادِهِ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ ، وَبِهِ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْبَائِعَ إِذَا أَخْبَرَ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَأْخُذُ بِعَقْدٍ مُسْتَأْنَفٍ . وَهَذَا غَلَطٌ : لِأَنَّ خِيَانَةَ الْبَائِعِ عَيْبٌ دَلَّسَ بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَالتَّدْلِيسُ بِالْعَيْبِ إِذَا ظَهَرَ لَمْ يُوجِبْ بُطْلَانَ الْبَيْعِ ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ جَهَالَةِ الثَّمَنِ بِحَطِّ الْخِيَانَةِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ : لِأَنَّ التَّدْلِيسَ بِالْعَيْبِ إِذَا أَوْجَبَ الرُّجُوعَ بِالْأَرْشِ لَمْ يَقْتَضِ جَهَالَةَ الثَّمَنِ فَكَذَلِكَ لَوْ وَجَبَ حَطُّ الْخِيَانَةِ لَمْ يُؤْذَنْ بِجَهَالَةِ الثَّمَنِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَبْطُلُ بِظُهُورِ الْخِيَانَةِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الثَّوْبِ الْمَبِيعِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا أَوْ تَالِفًا : فَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ بَاقِيًا فَهَلْ تُحَطُّ الْخِيَانَةُ وَحِصَّتُهَا مِنَ الرِّبْحِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَالَهُ فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى : أَنَّ الْخِيَانَةَ لَا تُحَطُّ وَأَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَخْذَهُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مِائَةٌ وَعَشْرَةُ دَرَاهِمَ : لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَرْضَ بِإِخْرَاجِ الثَّوْبِ مِنْ يَدِهِ إِلَّا بِهَذَا الثَّمَنِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ لِظُهُورِ الْخِيَانَةِ بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْبَيْعِ بِهَذَا الثَّمَنِ أَوْ يَفْسَخَ وَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ : أَنَّ الْخِيَانَةَ تُحَطُّ وَحِصَّتُهَا مِنَ الرِّبْحِ : لِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ كَانَ بِالثَّمَنِ وَرِبْحُ الْعَشْرَةِ وَاحِدٌ ، فَإِذَا بَانَ الثَّمَنُ ثَمَانِينَ دِرْهَمًا فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَهُ بِثَمَانِيَةٍ وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ أَمْ لَا ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ : إِذَا ظَهَرَتْ خِيَانَةُ الْبَائِعِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ ، وَقَالَ فِي الْبَائِعِ إِذَا عَادَ فَأَخْبَرَ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ أَنْ لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَنْقُلُ جَوَابَ كُلِّ مَسْأَلَةٍ إِلَى الْأُخْرَى ، وَتَخْرِيجُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي سَوَاءٌ حُطَّتِ الزِّيَادَةُ بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ أَوْ بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ بِالْخِيَانَةِ : لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَى أَنْ يَأْخُذَ الثَّوْبَ بِمِائَةٍ وَعَشْرَةِ دَرَاهِمَ وَصَارَ الْعَقْدُ لَهُ لَازِمًا ، فَإِذَا أَخَذَهُ بِثَمَانِيَةٍ وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ تَرَاضِيًا وَيَكُونَ الْعَقْدُ لَازِمًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارَ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ أَوْ إِمْضَائِهِ : لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي ابْتِيَاعِهِ بِمِائَةٍ وَعَشْرَةٍ يَفْقِدُهُ إِذَا ابْتَاعَهُ بِثَمَانِيَةٍ وَثَمَانِينَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ ثَوْبًا بِهَذَا الثَّمَنِ أَوْ وَصِيًّا فِي وَصِيَّةٍ أَوْ حَالِفًا فِي يَمِينٍ فَقَصَدَ أَنْ يَبَرَّ فِيهَا ، فَإِذَا نَقَصَ مِنَ الثَّمَنِ فَاتَهُ الْغَرَضُ فَوَجَبَ لَهُ الْخِيَارُ . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا : إِنَّ الْجَوَابَ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرَةٍ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ، وَلَيْسَتِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ ، بَلْ لَا خِيَارَ لَهُ إِذَا حُطَّتِ الزِّيَادَةُ بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ وَلَهُ الْخِيَارُ إِذَا حُطَّتْ بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ بِخِيَانَةِ الْبَائِعِ .

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَطِيطَةَ إِذَا كَانَتْ بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ دَلَّتْ عَلَى أَمَانَتِهِ فَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْعَقْدِ خِيَارٌ لِسَلَامَتِهِ ، وَإِذَا كَانَتِ الْحَطِيطَةُ بِالْبَيِّنَةِ دَلَّتْ عَلَى خِيَانَتِهِ وَلَمْ يُؤْمَنْ حُدُوثُ خِيَانَةٍ ثَانِيَةٍ مِنْ جِهَتِهِ فَثَبَتَ فِي الْعَقْدِ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي . فَإِذَا قِيلَ : إِنْ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارَ فَاخْتَارَ الْفَسْخَ عَادَ الثَّوْبُ إِلَى الْبَائِعِ ، وَإِنِ اخْتَارَ الْمَقَامَ أَوْ قِيلَ لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي خِيَارٌ فَهَلْ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَالَهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ : لَا خِيَارَ لَهُ : لِأَنَّهُ لَمْ يَغُشَّ وَلَا دَلَّسَ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى : لَهُ الْخِيَارُ : لِأَنَّهُ لَمْ يَطِبْ نَفْسًا بِإِخْرَاجِ الثَّوْبِ مِنْ يَدِهِ إِلَّا بِالثَّمَنِ الَّذِي ذَكَرَهُ حَقًّا كَانَ أَوْ بَاطِلًا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ كَانَ الثَّوْبُ تَالِفًا وَقَدْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ بِخِيَانَةِ الْبَائِعِ ، فَالْوَاجِبُ أَنْ تُحَطَّ الْخِيَانَةُ وَحِصَّتُهَا مِنَ الرِّبْحِ قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّهُ مَعَ التَّلَفِ كَالْعَيْبِ الْمَرْجُوعِ فِيهِ بِالْأَرْشِ ، ثُمَّ لَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي فِيهِ قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّ خِيَارَهُ ثَبَتَ مَعَ إِمْكَانِ الرَّدِّ ، فَأَمَّا الْبَائِعُ فَإِنْ قِيلَ : لَا خِيَارَ لَهُ مَعَ بَقَاءِ السِّلْعَةِ فَلَا خِيَارَ لَهُ مَعَ تَلَفِهَا : لِأَنَّ تَلَفَ ذَلِكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي إِذَا مَنَعَهُ مِنَ الْفَسْخِ لَمْ يَمْنَعِ الْبَائِعَ مِنَ الْفَسْخِ . أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلًا ابْتَاعَ عَبْدًا بِأَمَتِهِ وَتَقَابَضَا ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ وَوَجَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَيْبًا فِيمَا ابْتَاعَهُ لَمْ يَكُنْ لِمُشْتَرِي الْعَبْدِ خِيَارٌ لِتَلَفِهِ فِي يَدِهِ وَلَهُ الرُّجُوعُ بِأَرْشِهِ وَوَجَبَ لِمُشْتَرِي الْأَمَةِ الْخِيَارُ وَإِنْ تَلَفَ مَا يُقَابِلُهَا لِبَقَائِهَا فِي يَدِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلْبَائِعِ الْخِيَارَ فَإِنِ اخْتَارَ الْمُقَامَ وَالْإِمْضَاءَ كَانَ لَهُ الثَّمَنُ بَعْدَ حَطِيطَةِ الْخِيَانَةِ وَحِصَّتِهَا مِنَ الرِّبْحِ ، وَإِنِ اخْتَارَ الْفَسْخَ رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِقِيمَةِ الثَّوْبِ بِالْعَيْبِ وَرَدَّ مَا قَبَضَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ تَأَوَّلَ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ فِيمَا قَصَدَ بِهِ مَالِكًا فِي إِبْطَالِهِ الْبَيْعَ بِظُهُورِ الْخِيَانَةِ حكمه ، وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى مُحَرَّمٍ عَلَيْهِمَا مَعًا ، وَإِنَّمَا وَقَعَ مُحَرَّمًا عَلَى الْخَائِنِ مِنْهُمَا ، فَحَمَلَهُ عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ بِهِ تَحْرِيمَ الثَّمَنِ عَلَى أَحَدِهِمَا . وَقَالَ الْمُزَنِيُّ : لَوْ كَانَ الثَّمَنُ حَرَامًا وَقْتَ الْعَقْدِ لَكَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا وَإِنَّمَا يَحْرُمُ السَّبَبُ وَهُوَ الْخِيَانَةُ دُونَ الثَّمَنِ . فَالْجَوَابُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يُرِدْ تَحْرِيمَ الثَّمَنِ فِي عَيْنِهِ كَمَا تَوَهَّمَ الْمُزَنِيُّ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَحْرِيمَ السَّبَبِ وَهُوَ التَّدْلِيسُ وَالْخِيَانَةُ ، فَكَانَ التَّحْرِيمُ رَاجِعًا إِلَى فِعْلِ الْعَاقِدِ دُونَ الْعَقْدِ ، وَالتَّحْرِيمُ إِذَا رَجَعَ إِلَى الْعَاقِدِ دُونَ الْعَقْدِ لَمْ يَبْطُلِ الْعَقْدُ كَتَحْرِيمِ النَّجْشِ وَتَلَقِّي الرُّكْبَانُ ، وَلَوْ رَجَعَ التَّحْرِيمُ إِلَى الْعَقْدِ دُونَ الْعَاقِدِ كَانَ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ كَتَحْرِيمِ الْمُنَابَذَةِ وَالْمُلَامَسَةِ وَبَيْعِ الْحَمْلِ ، فَعَبَّرَ الشَّافِعِيُّ عَنْ تَحْرِيمِ الْفِعْلِ بِتَحْرِيمِ الثَّمَنِ : لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَأْخُوذًا عَنْ سَبَبٍ مُحَرَّمٍ جَازَ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ ا ه .

بَابُ الرَّجُلِ يَبِيعُ الشَّيْءَ إِلَى أَجَلٍ ثُمَّ يَشْتَرِيهِ بِأَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ

بَابُ الرَّجُلِ يَبِيعُ الشَّيْءَ إِلَى أَجَلٍ ثُمَّ يَشْتَرِيهِ بِأَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ السَّلْعَةَ إِلَى أَجَلٍ وَيَشْتَرِيَهَا مِنَ الْمُشْتَرِي بِأَقَلَّ بِنَقْدٍ وَعَرْضٍ وَإِلَى أَجَلٍ . قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : إِنَّ امْرَأَةً أَتَتْ عَائِشَةَ فَسَأَلَتْهَا عَنْ بَيْعٍ بَاعَتْهُ مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ بِكَذَا وَكَذَا إِلَى الْعَطَاءِ ، ثَمَّ اشْتَرَتْهُ مِنْهُ بِأَقَلَّ . فَقَالَتْ عَائِشَةُ : بِئْسَمَا اشْتَرَيْتِ وَبِئْسَمَا ابْتَعْتِ ، أَخْبِرِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَهُوَ مُجْمَلٌ وَلَوْ كَانَ هَذَا ثَابِتًا فَقَدْ تَكُونُ عَائِشَةُ عَابَتِ الْبَيْعَ إِلَى الْعَطَاءِ : لِأَنَّهُ أَجْلٌ مَعْلُومٌ ، وَزَيْدٌ صَحَابِيٌّ ، وَإِذَا اخْتَلَفُوا فَمَذْهَبُنَا الْقِيَاسُ ، وَهُوَ مَعَ زَيْدٍ وَنَحْنُ لَا نُثْبِتُ مِثْلَ هَذَا عَلَى عَائِشَةَ ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ السِّلْعَةُ لِي كَسَائِرِ مَالِي لِمَ لَا أَبِيعُ مِلْكِي بِمَا شِئْتُ وَشَاءَ الْمُشْتَرِي ؟ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا بَاعَ الرَّجُلُ سِلْعَةً بِثَمَنٍ حَالٍّ أَوْ مُؤَجَّلٍ فَافْتَرَقَا عَلَى الرِّضَا بِهِ جَازَ أَنْ يَبْتَاعَهَا مِنَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ وَبَعْدَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ وَبِأَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ أَقَلَّ ، مِنْ جِنْسِهِ أَوْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، حَالًّا وَمُؤَجَّلًا ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ ، وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ ، وَجُلُّ التَّابِعِينَ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ نَقْدًا وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِمِثْلِهِ أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْهُ نَقْدًا وَنَسِيئًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ الثَّمَنَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ يَدْخُلُهُ الرِّبَا كَالنَّقْدَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْتَاعَهُ ثَانِيَةً إِلَّا بِمَثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ ، وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مَا لَا رِبَا فِيهِ كَالْعُرُوضِ جَازَ أَنْ يَبْتَاعَهُ ثَانِيَةً بِأَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَأَقَلَّ ، وَإِنْ كَانَ الثَّمَنَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ فِيهِمَا الرِّبَا كَالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ جَازَ التَّفَاضُلُ بَيْنَ الثَّمَنَيْنِ قِيَاسًا وَلَمْ يَجُزِ اسْتِحْسَانًا . وَاسْتَدَلُّوا بِرِوَايَةِ ابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ السُّبَيْعِيِّ عَنْ أُمِّهِ عَالِيَةَ بِنْتِ أَيْفَعَ قَالَتْ : خَرَجْتُ أَنَا وَأُمُّ حَبَّةَ إِلَى الْحَجِّ فَدَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَسَلَّمْنَا عَلَيْهَا فَقَالَتْ : مِنْ أَيْنَ ؟ قُلْنَا مِنَ الْكُوفَةِ . كَأَنَّهَا أَعْرَضَتْ فَقَالَتْ لَهَا أُمُّ حَبَّةَ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ، كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ وَبِعْتُهَا زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ إِلَى الْعَطَاءِ ، فَأَرَادَ بَيْعَهَا فَاشْتَرَيْتُهَا مِنْهُ بِسِتِّ مِائَةِ دِرْهَمٍ نَقْدًا . فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : بِئْسَ مَا شَرَيْتِ وَبِئْسَ مَا ابْتَعْتِ ، أَخْبِرِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ

رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ ، فَقَالَتْ : أَرَأَيْتِ لَوْ أَخَذْتُ رَأْسَ مَالِي . قَالَتْ : فَتَلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَوْلَهُ تَعَالَى فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ [ الْبَقَرَةِ : ] . قَالُوا فَلَمَّا أَبْطَلَتْ عَائِشَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا الْبَيْعَ وَجِهَادَ زَيْدٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ عَنِ اجْتِهَادٍ مِنْهَا بَلْ عَنْ نَصٍّ وَتَوْقِيفٍ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَقْتَضِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ إِبْطَالَ الْجِهَادِ بِالِاجْتِهَادِ لَا يَجُوزُ فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَحْمُولٌ عَلَى سَمَاعِهَا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالُوا وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ بَاعَ حَرِيرَةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، ثَمَّ اشْتَرَاهَا بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا ، فَقَالَ : دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ مُتَفَاضِلَةً وَحَرِيرَةٌ دَخَلَتْ بَيْنَهُمَا . قَالُوا : وَلِأَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إِلَى الرِّبَا وَمُؤَدِّيًا إِلَيْهِ ، وَمَا كَانَ مُؤَدِّيًا إِلَى الرِّبَا كَانَ مَمْنُوعًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ " . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا " . يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَمَّلُوهَا أَيْ أَذَابُوهَا فَلَعَنَهُمْ : لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا أَدَّاهُمْ إِلَى الْحَرَامِ . وَلِأَنَّ الْبَائِعَ فِي ابْتِيَاعِهِ الثَّانِي قَدِ اسْتَفْضَلَ زِيَادَةً لَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهَا عِوَضٌ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ لِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [ الْبَقَرَةِ : ] وَلِأَنَّ كُلَّ سِلْعَةٍ جَازَ بَيْعُهَا مِنْ غَيْرِ بَائِعِهَا بِثَمَنٍ جَازَ بَيْعُهَا مِنْ بَائِعِهَا بِذَلِكَ الثَّمَنِ كَالْعَرْضِ . وَلِأَنَّ كُلَّ سِلْعَةٍ جَازَ بَيْعُهَا مِنْ شَخْصٍ بِعَرْضٍ جَازَ بَيْعُهَا مِنْهُ بِقِيمَةِ ذَلِكَ الْعَرْضِ كَالْأَجْنَبِيِّ . وَلِأَنَّهُ بَيْعٌ لَا يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فِي عِوَضِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الرُّجُوعُ فِي تَقْدِيرِ ثَمَنِهِ إِلَى عَاقِدٍ كَالْبَيْعِ الْأَوَّلِ . وَلِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَقْدَيْنِ حُكْمَ نَفْسِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِحُّ مَعَ التَّرَاضِي وَيَبْطُلُ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَيَفْتَقِرُ إِلَى الْبَدَلِ وَالْقَبُولِ ، وَإِذَا انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ وَلَا بِنَاءُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَمِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : ضَعْفُ إِسْنَادِهِ وَوَهَاءُ طَرِيقِهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : قُلْتُ لِمَنِ احْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ : أَتَعْرِفُ هَذِهِ الْمَرْأَةَ . فَقَالَ : لَا . فَقُلْتُ : كَيْفَ يَصِحُّ لَكَ الِاحْتِجَاجُ بِحَدِيثِ مَنْ لَا تَعْرِفُهُ عَلَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَادِيثِ النِّسَاءِ إِلَّا مَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِنَّمَا أَبْطَلَتِ الْبَيْعَ إِلَى الْعَطَاءِ : لِأَنَّهُ أَجْلٌ مَجْهُولٌ وَالْآجَالُ الْمَجْهُولَةُ يَبْطُلُ بِهَا الْبَيْعُ .

فَإِنْ قَالُوا : إِنَّمَا أَنْكَرَتِ الْبَيْعَ الثَّانِي : لِأَنَّهَا قَالَتْ بِئْسَ مَا اشْتَرَيْتِ وَبِئْسَ مَا ابْتَعْتِ تَكْرِيرًا لِإِنْكَارِ الْبَيْعِ الثَّانِي . قِيلَ : هَذَا غَلَطٌ : لِأَنَّهَا قَالَتْ : بِئْسَ مَا شَرَيْتِ بِمَعْنَى بِعْتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ [ يُوسُفَ : ] أَيْ بَاعُوهُ وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَشَرَيْتُ بُرْدًا لَيْتَنِي مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَّةْ وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ أَنَّ إِنْكَارَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَوَجَّهَ إِلَى الْبَيْعِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ، لَمَا كَانَ فِيهِ دَلِيلٌ : لِأَنَّ زَيْدًا خَالَفَهَا ، وَإِذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابِيَّانِ وَكَانَ الْقِيَاسُ مَعَ أَحَدِهِمَا كَانَ قَوْلُ مَنْ عَاضَدَهُ الْقِيَاسُ أَوْلَى ، وَالْقِيَاسُ مَعَ زَيْدٍ دُونَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَلَيْسَ الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِ عَائِشَةَ وَإِنَّمَا الِاحْتِجَاجُ بِالتَّوْقِيفِ فِي قَوْلِهَا : لِأَنَّهَا لَا تُبْطِلُ جِهَادَ زَيْدٍ بِاجْتِهَادِهَا . قِيلَ : لَا يَصِحُّ حَمْلُ قَوْلِهَا عَلَى التَّوْقِيفِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ إِثْبَاتُ نَصٍّ بِاسْتِدْلَالٍ وَإِبْطَالُ قِيَاسٍ بِاحْتِمَالٍ . وَالثَّانِي : إِمْكَانُ مُقَابَلَةِ ذَلِكَ بِمِثْلِهِ فِي حَمْلِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ زِيدٌ عَلَى التَّوْقِيفِ ، فَإِذَا أَمْكَنَ مُعَارَضَةَ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ سَقَطَ ، وَلَيْسَ مَا ذَكَرَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِنْ أَنَّ زَيْدًا قَدْ أُبْطِلَ جِهَادُهُ دَلِيلٌ عَلَى تَوْقِيفٍ : لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ عَلِمَ بِنَصٍّ فَخَالَفَهُ ، وَإِنِ لَمْ يُعْلَمْ بِمَا لَمْ يُبْطِلِ اجْتِهَادَهُ ، وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهَا إِلَّا كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَلَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ ابْنًا وَلَا يَجْعَلُ أَبَ الْأَبِ أَبًا ، وَكَقَوْلِهِ فِي الْعَوْلِ : مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي الْمَالِ نِصْفًا وَثُلْثَيْنِ ، مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ، يَعْنِي لَاعَنْتُهُ ، وَلَمْ يَدُلَّ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ وَالْمُلَاعَنَةِ عَلَى أَنَّ فِي الْجِدِّ وَالْعَوْلِ نَصًّا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى الرِّبَا الْحَرَامِ ، فَغَلَطٌ بَلْ هُوَ سَبَبٌ يَمْنَعُ مِنَ الرِّبَا الْحَرَامِ ، وَمَا مَنَعَ مِنَ الْحَرَامِ كَانَ نَدْبًا . أَلَا تَرَى إِلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا ؟ " قَالَ : لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ وِالصَّاعَيْنِ بِثَلَاثَةٍ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تَفْعَلْ . بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ، ثُمَّ اشْتَرِ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا " . وَالْجَمْعُ هُوَ التَّمْرُ الْمُخْتَلِطُ الرَّدِيءُ ، وَالْجَنِيبُ هُوَ الْجَيِّدُ ، فَجَعَلَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى تَرْكِ الرِّبَا وَنَدَبَ إِلَيْهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ قَدِ اسْتَفْضَلَ زِيَادَةً لَيْسَتْ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ . أَنَّهُ إِذَا انْفَرَدَ

كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَقْدَيْنِ بِحُكْمِ نَفْسِهِ لَمْ يَصِحَّ اعْتِبَارُ هَذَا ، وَكَانَ حُكْمُ الْعَقْدِ الثَّانِي مَعَ الْبَائِعِ كَحُكْمِهِ مَعَ غَيْرِ الْبَائِعِ ، عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَقْدَيْنِ قَدْ قَابَلَ عِوَضًا مَضْمُونًا .

فَصْلٌ : وَمِمَّا يُضَاهِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أَنَّ مَنْ بَاعَ طَعَامًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ ، ثُمَّ حَلَّ الْأَجَلُ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ بِذَلِكَ الثَّمَنِ طَعَامًا وَغَيْرَهُ مِنَ الْمَطْعُومِ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ أَخَذَ طَعَامًا لَمْ يَجُزْ وَكَانَ عَيْنَ الرِّبَا ، وَإِنْ أَخَذَ غَيْرَ الطَّعَامِ جَازَ . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ مُكَيَّلًا وَلَا مَوْزُونًا . وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ فَاسِدٌ . وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَا لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّلِيلِ .

بَابُ تَفْرِيقِ صَفْقَةِ الْبَيْعِ وَجَمْعِهَا

بَابُ تَفْرِيقِ صَفْقَةِ الْبَيْعِ وَجَمْعِهَا مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَجَمْعِهَا حكمها ، وَبَيَّضْتُ لَهُ مَوْضِعًا لِأَجْمَعَ فِيهِ شَرْحَ أَوْلَى قَوْلَيْهِ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى : وَإِذَا اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً فَهَلَكَ فِي يَدِهِ وَوَجَدَ بِالْآخَرِ عَيْبًا ، وَاخْتَلَفَا فِي ثَمَنِ الثَّوْبِ ، فَقَالَ الْبَائِعُ : قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ . وَقَالَ الْمُشْتَرِي : قِيمَتُهُ ثَمَانِيَةٌ . فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الثَّمَنَ كُلَّهُ قَدْ لَزِمَ الْمُشْتَرِي ، فَإِنْ أَرَادَ رَدَّ الثَّوْبِ بِأَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ أَوْ أَرَادَ الرُّجُوعَ بِالْعَيْبِ بِأَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ فَلَا يُعْطِيهِ بِقَوْلِهِ الزِّيَادَةَ . وَقَالَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ أَنَّهُ كَالْبَيْعِ ، وَقَالَ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ : إِنْ صَالَحَهُ مِنْ دَارٍ بِمِائَةٍ وَبِعَبْدٍ ثَمَنُهُ مِائَةٌ ثَمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ إِنْ شَاءَ رَدَّ الْعَبْدَ وَأَخَذَ الْمِائَةَ بِنِصْفِ الصُّلْحِ وَيَسْتَرِدُّ نِصْفَ الدَّارِ : لِأَنَّ الصَّفْقَةَ وَقَعَتْ عَلَى شَيْئَيْنِ . وَقَالَ فِي نُشُوزِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ ، وَفِي كِتَابِ الشُّرُوطِ : لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا وَاسْتَحَقَّ نِصْفَهُ إِنْ شَاءَ رَدَّ الثَّمَنَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَهُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ . وَقَالَ فِي الشُّفْعَةِ : إِنِ اشْتَرَى شِقْصًا وَعَرَضًا صَفْقَةً وَاحِدَةً أُخِذَتِ الشُّفْعَةُ بِحِصَّتِهَا مِنَ الثَّمَنَ . وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ : وَإِذَا صَرَفَ دِينَارًا بِعِشْرِينَ دِرْهِمًا فَقَبَضَ تِسْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا ، وَلَمْ يَجِدْ دِرْهَمًا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ التِّسْعَةَ عَشَرَ بِحِصَّتِهَا مِنَ الدِّينَارِ ، وَيَتَنَاقَضُهُ الْبَيْعُ بِحِصَّةِ الدِّرْهَمِ ، ثَمَّ إِنْ شَاءَ اشْتَرَى مِنْهُ بِحِصَّةِ الدِّينَارِ مَا شَاءَ يَتَقَابَضَانِهِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ أَوْ تَرَكَهُ عَمْدًا مَتَى شَاءَ أَخَذَهُ . وَقَالَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ الْجَدِيدِ الْأَوَّلِ : لَوِ اشْتَرَى بِمِائَةِ دِينَارٍ مِائَةَ صَاعِ تَمْرٍ وَمِائَةَ صَاعِ حِنْطَةٍ وَمِائَةَ صَاعِ عَلَسٍ جَازَ ، وَكُلُّ صِنْفٍ مِنْهَا بِقِيمَتِهِ مِنَ الْمِائَةَ . وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ الْمَجْمُوعَةَ : وَإِذَا جَمَعَتِ الصَّفْقَةُ بَرْدِيًّا وَعَجْوَةً بِعَشْرَةٍ وَقِيمَةُ الْبَرْدِيِّ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الثَّمَنِ وَقِيمَةُ الْعَجْوَةِ سُدُسُ الْعَشَرَةِ فَالْبَرْدِيُّ بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ الثَّمَنِ وَالْعَجْوَةُ بِسُدُسِ الثَّمَنِ ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ فِي الْإِمْلَاءِ : لَا يَجُوزُ ذَهَبٌ جَيِّدٌ وَرَدِيءٌ بِذَهَبٍ وَسَطٍ ، وَلَا تَمْرٌ جَيِّدٌ وَرَدِيءٌ بِتَمْرٍ وَسَطٍ : لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الصِّنْفَيْنِ حِصَّةً فِي الْقِيمَةِ فَيَكُونُ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ مَجْهُولًا ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَلِّفَ مِائَةَ دِينَارٍ فِي مِائَةِ صَاعِ تَمْرٍ وَمِائَةِ صَاعِ حِنْطَةٍ : لِأَنَّ ثَمَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَجْهُولٌ . وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ الْمَجْمُوعَةَ إِنَّ الصَّفْقَةَ

إِذَا جَمَعَتْ شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ . وَقَالَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ : لَوِ ابْتَاعَ غَنَمًا حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ الْمُصَدِّقُ الصَّدَقَةَ مِنْهَا فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي رَدِّ الْبَيْعَ : لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ كَمَا اشْتَرَى كَامِلًا أَوْ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ . وَقَالَ : إِنْ أَسْلَفَ فِي رُطَبِ فَنَفَدَ رَجَعَ بِحِصَّةِ مَا بَقِيَ وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَ إِلَى قَابِلٍ . وَقَالَ فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ : وَلَوْ أَصْدَقَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ أَلْفًا قُدِّمَتْ عَلَى مُهُورِهِنَّ ، قَالَ : وَلَوْ أَصْدَقَهَا عَبْدًا فَاسْتَحَقَّ نِصْفَهُ كَانَ الْخِيَارُ لَهَا ، أَنْ تَأْخُذَ نِصْفَهُ وَالرُّجُوعَ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ أَوِ الرَّدُّ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ) فَأَمَا قِيمَةُ مَا اسْتَحَقَّ مِنَ الْعَبْدِ فَهَذَا غَلَطٌ فِي مَعْنَاهُ وَكَيْفَ تَأْخُذُ قِيمَةَ مَا لَمْ تَمْلِكْهُ قَطُّ ؟ بَلْ قِيَاسُ قَوْلِهِ هَذَا تَرْجِعُ بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا كَمَا لَوِ اسْتُحِقَّ كُلُّهُ كَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا . وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ عَلَى الْمُوَطَّأِ : وَلَوِ اشْتَرَى جَارِيَةً أَوْ جَارِيَتَيْنِ فَأَصَابَ بِإِحْدَاهُمَا عَيْبًا ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِحِصَّتِهَا مِنَ الثَّمَنِ ، وَذَلِكَ أَنَّهَا صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا تُرَدُّ إِلَّا مَعًا ، كَمَا يَكُونُ لَهُ لَوْ بِيعَ مِنْ دَارٍ أَلْفُ سَهْمٍ وَهُوَ شَفِيعُهَا أَنْ يَأْخُذَ بَعْضَ السُّهْمَانِ دُونَ بَعْضٍ ، وَإِنَّمَا مَنَعْتُ أَنْ يُرَدَّ الْمَعِيبُ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ أَنَّهُ وَقْعٌ غَيْرُ مَعْلُومِ الْقِيمَةِ وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بَعْدُ ، وَأَيُّ شَيْءٍ عَقَدَاهُ بِرِضَاهُمَا عَلَيْهِ كَذَلِكَ كَانَ فَاسِدًا ، لَا يَجُوزُ أَنْ أَقُولُ أَشْتَرِي مِنْكَ الْجَارِيَةَ بِهَاتَيْنِ الْجَارِيَتَيْنِ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِقِيمَتِهَا مِنْهَا ، وَلَوْ سُمِّيَتْ أَيَّتُهُمَا أَرْفَعُ لِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى أَمْرٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ وَقَالَ فَإِنْ فَاتَتْ إِحْدَى الْجَارِيَتَيْنِ بِمَوْتٍ أَوْ بِوِلَادَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّ الَّتِي بِعَيْبٍ وَيَرْجِعْ بِقِيمَةِ الْعَيْبِ مِنَ الْجَارِيَةِ كَانَتْ قِيمَةٌ الَّتِي فَاتَتْ عِشْرِينَ وَالَّتِي بَقِيَتْ ثَلَاثِينَ وَقِيمَةُ الْجَارِيَةِ الَّتِي اشْتَرَى بِهَا خَمْسُونَ فَصَارَ حِصَّةُ الْمَعِيبَةِ مِنَ الْجَارِيَةِ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِهَا وَكَانَ الْعَيْبُ يَنْقُصُهَا الْعُشْرُ فَيَرْجِعُ بِعُشْرِ الثَّمَنِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ . وَقَالَ فِي كِتَابِ الْإِمْلَاءِ عَلَى الْمُوَطَّأِ : وَلَوْ صَرَفَ الدِّينَارَ بِالدَّرَاهِمِ فَوَجَدَ مِنْهَا زَائِفًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِهِ وَرَدِّهِ ، وَيَنْقَضُ الصَّرْفُ لِأَنَّهَا صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ . وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : فَإِنْ كَانَ الدِّرْهَمُ زَائِفًا مِنْ قِبَلِ السِّكَّةِ أَوْ قُبْحِ الْفِضَّةِ فَلَا بَأْسَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي أَنْ يَقْبَلَهُ فَإِنْ رَدَّهُ رَدَّ الصَّرْفَ كُلَّهُ : لِأَنَّهَا بَيْعَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ زَافَ عَلَى أَنَّهُ نُحَاسٌ أَوْ تِبْرٌ غَيْرُ فِضَّةٍ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ وَالْبَيْعُ مُنْتَقِضٌ . وَقَالَ فِي كِتَابِ الْإِمْلَاءِ عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ الْمَجْمُوعَةِ : وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ ذَهَبٍ بِذَهَبٍ ، وَلَا وَرِقٍ بِوَرِقٍ ، وَلَا بِشَيْءٍ مِنَ الْمَأْكُولِ أَوِ الْمَشْرُوبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ ، فَإِنْ تَفَرَّقَا مِنْ مَقَامِهِمَا ، وَبَقِيَ قِبَلَ أَحَدٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ فَسَدَ ، وَقَالَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ : إِنَهُ كَالْبَيْعِ فَإِنْ صَالَحَهُ مِنْ دَارٍ بِمِائَةٍ وَبِعَبْدٍ قِيمَتُهُ مِائَةٌ وَأَصَابَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَنْقُضَ الصُّلْحَ كُلَّهُ أَوْ يُجِيزَهُ مَعًا وَقَالَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا وَلَوِ اسْتَحَقَّ الْعَبْدُ انْتَقَضَ الصُّلْحُ كُلُّهُ وَقَالَ فِي الصَّدَاقِ : فَإِذَا ذَهَبَ بَعْضُ الْبَيْعِ لَمْ أَرُدَّ الْبَاقِي ، وَقَالَ : فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ نِصْفُهُ عَبْدٌ وَنِصْفُهُ حُرٌّ كَانَ فِي مَعْنَى مَنْ بَاعَ مَا يَمْلِكُ وَمَا لَا يَمْلِكُ وَفَسَدَتِ الْكِتَابَةُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَهَذَا كُلُّهُ مَنْعُ تَفْرِيقِ صَفْقَةٍ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) فَإِذَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الشَّيْءِ

الْوَاحِدِ تَنَافِيًا وَكَانَا كُلًّا مَعْنًى وَكَانَ أَوْلَاهُمَا بِهِ مَا أَشْبَهَ قَوْلَهُ الَّذِي لَمْ يَخْتَلِفْ قَالَ وَأَخْبَرَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنِ الْمُزَنِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَخْتَارُ الصَّفْقَةَ وَيَرَاهُ أَوْلَى قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الصَّفْقَةُ معناها فَإِنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْعَقْدِ : لِأَنَّ الْعَادَةَ مِنَ الْمُتَعَاقِدِينَ جَارِيَةٌ أَنْ يُصَفِّقَ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى يَدِ صَاحِبِهِ عِنْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ وَانْبِرَامِهِ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ : بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي صَفْقَتِكَ . فَالصَّفْقَةُ هِيَ الْعَقْدُ وَلَا يَخْلُو حَالُهَا إِذَا جَمَعَتْ شَيْئَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ الصفقة : إِمَّا أَنْ يَكُونَا حَلَالَيْنِ أَوْ حَرَامَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا حَلَالًا وَالْآخَرُ حَرَامًا ، فَإِنْ كَانَا حَلَالَيْنِ صَحَّ الْعَقْدُ فِيهِمَا ، وَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسَيْنِ كَرَجُلٍ اشْتَرَى ثَوْبًا وَسَيْفًا بِدِينَارٍ كَانَ الثَّمَنُ مُقَسَّطًا عَلَى قِيمَتِهَا ، وَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ أَجْزَاؤُهُمَا مُخْتَلِفَةً كَرَجُلٍ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ بِدِينَارٍ أَوْ عَبْدَيْنِ ، فَإِنَّ الثَّمَنَ يَتَقَسَّطُ عَلَى قِيمَتِهِمَا . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ أَجْزَاؤُهُمَا مُتَمَاثِلَةً كَالْحُبُوبِ وَالْمَائِعَاتِ ، فَإِنَّ الثَّمَنَ يَتَقَسَّطُ عَلَى أَجْزَائِهِمَا . وَإِنْ كَانَتِ الصَّفْقَةُ جَمَعَتْ حَرَامَيْنِ فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ فِيهِمَا ، سَوَاءٌ كَانَا مِنْ جِنْسَيْنِ كَخِنْزِيرٍ وَزِقِّ خَمْرٍ أَوْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَزِقَّيْنِ مِنْ خَمْرٍ . وَإِنْ كَانَتِ الصَّفْقَةُ جَمَعَتْ حَلَالًا وَحَرَامًا كَحُرٍّ وَعَبْدٍ ، أَوْ خَلٍّ وَخَمْرٍ حكمها ، أَوْ مِلْكٍ وَغَصْبٍ ، فَإِنَّ الْعَقْدَ فِي الْحَرَامِ بَاطِلٌ ، وَفِي الْحَلَالِ عَلَى قَوْلَيْنِ إِلَّا أَنْ يَذْكُرَ قِسْطَ الْحَلَالِ مِنَ الثَّمَنِ فَيَصِحُّ : لِأَنَّ تَمْيِيزَ ثَمَنِهِ يَجْعَلُهُ كَالْعَقْدَيْنِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ الْحَرَامُ الْمَضْمُومُ إِلَى الْحَلَالِ لَيْسَ بِمَالٍ كَخَلٍّ وَخَمْرٍ ، أَوْ عَبْدٍ وَحُرٍّ ، بَطَلَ الْعَقْدُ أَيْضًا فِي الْحَلَالِ ، وَإِنْ كَانَ الْحَرَامُ فِي حُكْمِ الْمَالِ كَعَبْدٍ تَمَلَّكَهُ وَعَبْدٍ غَصَبَهُ ، أَوْ جَارِيَتِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ ، صَحَّ الْعَقْدُ فِي الْحَلَالِ وَإِنْ بَطَلَ فِي الْحَرَامِ ، وَلَيْسَ يَفْتَرِقُ الْحُكْمُ بِذَلِكَ عِنْدَنَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا . فَإِذَا قُلْنَا : بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ فِي الْحَلَالِ فَلَهُ عِلَّتَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ فِي الْحَرَامِ يَبْطُلُ مِنَ الثَّمَنِ مَا قَابَلَهُ فَيَصِيرُ الْبَاقِي بَعْدَهُ مَجْهُولًا ، وَجَهَالَةُ الثَّمَنِ تُبْطِلُ الْبَيْعَ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ الْحَلَّالُ بَاطِلًا لِجَهَالَةِ ثَمَنِهِ . وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّهَا لَفْظَةٌ وَاحِدَةٌ قَدْ جَمَعَتْ حَرَامًا وَحَلَالًا ، وَتَبْعِيضُهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ وَتَغْلِيبُ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ وَاجِبٌ ، فَكَانَ تَغْلِيبُ حُكْمِ الْحَرَامِ فِي إِبْطَالِ الْعَقْدِ عَلَى الْحَرَامِ أَوْلَى مِنْ تَغْلِيبِ الْحَلَالِ فِي تَصْحِيحِ الْعَقْدِ عَلَى الْحَلَالِ : لِأَنَّ تَصْحِيحَ الْعَقْدِ عَلَى الْحَرَامِ لَا يَجُوزُ وَإِبْطَالَ الْعَقْدِ عَلَى الْحَلَالِ يَجُوزُ ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَثَابَةِ بَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ ، لِمَا كَانَ الدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ وَالدِّرْهَمُ حَلَالًا ، الزَّائِدُ حَرَامًا بَطَلَ الْبَيْعُ فِي الْجَمِيعِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ التَّحْرِيمِ . وَإِذَا قُلْنَا بِصِحَّةِ الْبَيْعِ فِي الْحَلَالِ فَوَجْهُهُ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَوْ أَفْرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْعَقْدِ خَالَفَهُ حُكْمُ صَاحِبِهِ وَجَبَ إِذَا

جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْعَقْدِ أَنْ يُخَالِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَ صَاحِبِهِ كَالْمُشْتَرِي صَفْقَةً عَبْدًا وَشِقْصًا فِيهِ الشُّفْعَةُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا يُوجِبُ حَمْلَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ، لَمْ يَكُنْ حَمْلُ الصِّحَّةِ عَلَى الْبُطْلَانِ بِأَوْلَى مِنْ حَمْلِ الْبُطْلَانِ عَلَى الصِّحَّةِ ، كَالِانْفِرَادِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ : لِتُكَافِئَ الْأَمْرَيْنِ ، وَيُحْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مُقْتَضَاهُ فِي الْحَالَيْنِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى التَّفْرِيعِ عَلَيْهِمَا ، فَنَقُولُ : إِذَا قُلْنَا إِنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ لَا يَجُوزُ لَمْ يَخْلُ حَالُ الصَّفْقَةِ الَّتِي جَمَعَتِ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ عُقُودِ الْبِياعَاتِ الَّتِي يَلْزَمُ فِيهَا الْأَثْمَانُ ، أَوْ تَكُونَ مِنْ غَيْرِ عُقُودِ الْبِياعَاتِ . فَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ الْبِياعَاتِ كَالْهِبَاتِ وَالرُّهُونِ وَالنِّكَاحِ وَهُوَ أَنْ يَنْكِحَ أَجْنَبِيَّةً وَأُخْتًا ، أَوْ يَهَبَ عَبْدًا وَحُرًّا ، أَوْ يَرْهَنَ غَصْبًا وَمِلْكًا ، فَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْأُخْتِ ، وَهِبَةُ الْحُرِّ ، وَرَهْنُ الْغَصْبِ . وَإِنْ عَلَّلْنَا لِبُطْلَانِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ بِأَنَّ اللَّفْظَةَ وَاحِدَةٌ قَدْ جَمَعَتْ حَرَامًا وَحَلَالًا ، فَغَلَبَ حُكْمُ التَّحْرِيمِ بَطَلَ نِكَاحُ الْأَجْنَبِيَّةِ لِبُطْلَانِ نِكَاحِ الْأُخْتِ ، وَهِبَةُ الْعَبْدِ لِبُطْلَانِ هِبَةِ الْحُرِّ ، وَرَهْنُ الْمِلْكِ لِبُطْلَانِ رَهْنِ الْغَصْبِ . وَإِنَّ عَلَّلْنَا لِبُطْلَانِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ بِأَنَّ الثَّمَنَ يَصِيرُ مَجْهُولًا صَحَّ نِكَاحُ الْأَجْنَبِيَّةِ ، وَهِبَةُ الْعَبْدِ ، وَرَهْنُ الْمِلْكِ : لِأَنَّهَا عُقُودٌ لَا تَتَضَمَّنُ أَثْمَانًا تُبْطَلُ بِجَهَالَتِهَا . وَإِنْ كَانَتِ الصَّفْقَةُ مِنْ عُقُودِ الْبِياعَاتِ لَمْ يَخْلُ حَالُ مَا جَمَعَتْهُ الصَّفْقَةُ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : أَنْ تَكُونَ مِمَّا يَتَقَسَّطُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهِ ، أَوْ عَلَى أَجْزَائِهِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَقَسَّطُ الثَّمَنُ عَلَى أَجْزَائِهِ مِثْلَ قَفِيزَيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ : أَحَدُهُمَا مَغْصُوبٌ وَالْآخَرُ مَمْلُوكٌ ، أَوْ عَبْدٌ نِصْفُهُ حُرٌّ وَنِصْفُهُ رَقِيقٌ ، فَإِنْ عَلَّلْنَا لِبُطْلَانِ الصَّفْقَةِ بِأَنَّ اللَّفْظَةَ جَمَعَتْ حَرَامًا وَحَلَالًا بَطَلَتِ الصَّفْقَةُ كُلُّهَا هَاهُنَا لِوُجُودِ هَذِهِ الْعِلَّةِ . وَإِنْ عَلَّلْنَا بِأَنَّ الثَّمَنَ يَصِيرُ مَجْهُولًا صَحَّ الْبَيْعُ هَاهُنَا فِي الْحَلَالِ وَإِنْ بَطَلَ فِي الْحَرَامِ : لِأَنَّ مَا يَتَقَسَّطُ الثَّمَنُ عَلَى أَجْزَائِهِ قَدْ أَمِنَ فِيهِ جَهَالَةَ ثَمَنِهِ : لِأَنَّهُ إِذَا ابْتَاعَ قَفِيزَيْنِ بِدِينَارَيْنِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ النِّصْفَ دِينَارٌ . وَإِذَا ابْتَاعَ عَبْدًا بِمِائَةٍ فَمَعْلُومٌ أَنَّ نِصْفَهُ بِخَمْسِينَ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَقَسَّطُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهِ كَحُرٍّ وَعَبْدٍ ، أَوْ ثَوْبٍ مَغْصُوبٍ وَمَمْلُوكٍ ، أَوْ أُمِّ وَلَدٍ وَأَمَةٍ ، أَوْ وَقْفٍ وَمِلْكٍ أَوْ شَاةٍ وَخِنْزِيرٍ ، أَوْ خَلٍّ وَخَمْرٍ فَالصَّفْقَةُ فِيهِمَا بَاطِلَةٌ عَلَى الْعِلَّتَيْنِ مَعًا لِأَنَّنَا إِنْ عَلَّلْنَا بِأَنَّ اللَّفْظَةَ جَمَعَتْ حَرَامًا وَحَلَالًا فَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . وَإِنْ عَلَّلْنَا بِأَنَّ الثَّمَنَ يَصِيرُ مَجْهُولًا فَهِيَ مَوْجُودَةٌ أَيْضًا وَهَذَا بَيَانُ الْحُكْمِ بِأَنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ لَا يَجُوزُ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ .

فَصْلٌ : إِذَا قُلْنَا إِنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ حكم العقد مع من قال بجواز تفريق الصفقة يَجُوزُ بَطَلَ الْبَيْعُ فِي الْحَرَامِ وَلَمْ يَبْطُلْ فِي الْحَلَالِ ، وَكَانَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ لِأَجْلِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُقَامِ عَلَى الْحَلَالِ أَوْ فَسْخِ الْبَيْعِ فِيهِ ، فَإِنْ فَسَخَ رَجَعَ بِالثَّمَنِ ، وَإِنْ أَقَامَ اعْتُبِرَ حَالُ الْحَرَامِ الْمَضْمُومِ إِلَيْهِ فِي الصَّفْقَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا وَلَا فِي حُكْمِ الْمَالِ كَالْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَمَسَّكَ بِالْحَلَالِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَضْمُومُ إِلَيْهِ مَالًا كَالْمَغْصُوبِ أَوِ الْمَجْهُولِ أَوْ كَانَ فِي حُكْمِ الْمَالِ كَأُمِّ الْوَلَدِ

وَالْوَقْفِ ، أَوْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَوَّمَ تَقْوِيمَ الْمَالِ كَالْحُرِّ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَتَقَسَّطُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهِ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُقِيمُ عَلَى الْحَلَالِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحَرَامَ مَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعَقْدُ فَلَمْ يُقَابِلْهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ ، وَصَارَ جَمِيعُهُ ثَمَنًا لِمَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ مِنَ الْحَلَالِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا خَرَجَ مِنَ الصَّفْقَةِ مِنَ الْحَرَامِ نَقْصٌ فِي الْمَبِيعِ كَعَبْدٍ قُطِعَتْ يَدُهُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ ، فَيَكُونُ لِمُشْتَرِيهِ الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ أَوِ الْمُقَامِ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْحَلَالِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ : لِأَنَّهُ لَمَّا رَضِيَ أَنْ يَأْخُذَ الثَّمَنَ عَلَى شَيْئَيْنِ فَأَوْلَى أَنْ يَرْضَى بِأَخْذِهِ عَنْ أَحَدِهِمَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي ، وَهُوَ أَصَحُّ : أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْحَلَالِ بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ ، وَقِسْطِهِ : لِأَنَّهُمَا جَعَلَا الثَّمَنَ فِي مُقَابَلَةِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ الثَّمَنُ فِي مُقَابَلَةِ الْحَلَالِ وَحْدَهُ دُونَ الْحَرَامِ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مَا تَضَمَّنُهُ بَذْلُ الْبَائِعِ وَقَبُولُ الْمُشْتَرِي ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي الْمُقَامَ عَلَى الْحَلَالِ وَأَخَذَهُ بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَقِسْطِهِ فَهَلْ يَكُونُ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ الْخِيَارُ لِأَجْلِ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْ نَقْصِ الثَّمَنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا خِيَارَ بِهِ : لِأَنَّ نَقْصَ الثَّمَنِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ فِي مُقَابَلَةِ بَعْضِ الْمَبِيعِ الْبَاقِي مَعَهُ ، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْحَلَالَ الْمَضْمُومَ فِي الصَّفْقَةِ إِلَى الْحَرَامِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَأْخُذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُومًا إِلَى مَا لَيْسَ بِمَالٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَأْخُذَهُ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُومًا إِلَى مَا يَتَقَسَّطُ الثَّمَنُ عَلَى أَجْزَائِهِ ، وَالثَّالِثُ : مَا يَكُونُ فِيمَا يَأْخُذُهُ بِهِ قَوْلَانِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُومًا إِلَى مَالٍ يَتَقَسَّطُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا بَطَلَ بَعْضُ الصَّفْقَةِ بِمَعْنًى حَادِثٍ بَعْدَ الْعَقْدِ كَعَبْدَيْنِ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ ، فَبَطَلَ الْبَيْعُ فِيهِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْبَاقِي مِنْهَا ، فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يُخْرِجُ الْبَيْعَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ، وَسَوَّى بَيْنَ الْفَسَادِ الْمُقَارَنِ لِلْعَقْدِ وَبَيْنَ مَا حَدَثَ بَعْدَ الْعَقْدِ ، وَامْتَنَعَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا مِنْ تَخْرِيجِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَأَجَازُوا بَيْعَ الْبَاقِي قَوْلًا وَاحِدًا لِسَلَامَتِهِ ، فَلَمْ يَقْدَحْ فِيهَا مَا حَدَثَ مِنْ فَسَادِ بَعْضِهَا : لِأَنَّنَا إِنْ عَلَّلْنَا فِي بُطْلَانِ الصَّفْقَةِ بِأَنَّ اللَّفْظَةَ جَمَعَتْ حَرَامًا وَحَلَالًا عُدِمَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ هَاهُنَا . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْبَيْعَ فِي الْبَاقِي جَائِزٌ قَوْلًا وَاحِدًا فَإِنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَخَرَّجَهُ أَبُو إِسْحَاقَ عَلَى قَوْلَيْنِ : تَسْوِيَةً بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَإِذَا قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا لَا أَدْفَعُ حَتَّى أَقْبِضَ

بَابُ اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ ، وَإِذَا قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا : لَا أَدْفَعُ حَتَّى أَقْبِضَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ ، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِذَا اخْتَلَفَ الْبَيِّعَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ ( قَالَ ) وَقَالَ مَالِكٌ : إِنَّهُ بَلَغَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " أَيُّمَا بَيِّعَيْنِ تَبَايَعَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ أَوْ يَتَرَادَّانِ " ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَإِذَا تَبَايَعَا عَبْدًا فَقَالَ الْبَائِعُ : بِأَلْفٍ وَالْمُشْتَرِي بِخَمْسِمِائَةٍ ، فَالْبَائِعُ يَدَّعِي فَضْلَ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي السِّلْعَةَ بِأَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ فَيَتَحَالَفَانِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ اخْتِلَافَ الْمُتَبَايِعَيْنِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَخْتَلِفَا فِي أَصْلِ الْعَقْدِ وَالثَّانِي : فِي صِفَتِهِ . فَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي أَصْلِ الْعَقْدِ ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ : بِعْتُكَ عَبْدِي بِأَلْفٍ فَيَقُولُ الْآخَرُ : مَا اشْتَرَيْتُهُ . أَوْ يَقُولُ الْمُشْتَرِي : اشْتَرَيْتُ مِنْكَ عَبْدَكَ بِأَلْفٍ ، فَيَقُولُ الْمَالِكُ : مَا بِعْتُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُنْكِرِ الْعَقْدِ مَعَ يَمِينِهِ بَائِعًا كَانَ أَوْ مُشْتَرِيًا إِلَّا أَنْ يُقِيمَ مُدَّعِي الْعَقْدِ بَيِّنَتَهُ وَلَا تَحَالُفَ بَيْنَهُمَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ . وَهَكَذَا لَوِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْعَقْدَ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ وَادَّعَاهُ الْآخَرُ عَلَى وَجْهٍ يُفْسِدُ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا بِعْتُكَ عَبْدِي هَذَا بِأَلْفِ حَالَةٍ وَيَقُولُ الْآخَرُ بِأَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ إِلَى الْعَطَاءِ أَوْ بِخِيَارِ شَرْطٍ فَالْقَوْلُ مِنْ هَذَا الْعَقْدِ قَوْلُ مَنِ ادَّعَى فَسَادَهُ دُونَ صِحَّتِهِ لِأَنَّ دَعْوَاهُ تَضَمَّنَتْ نَفْيَ الْعَقْدِ فَصَارَ كَالْمُنْكِرِ لَهُ .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي صِفَةِ الْعَقْدِ دُونَ أَصْلِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ المتبايعان : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا فِيمَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَقْدُ كَاخْتِلَافِهِمَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ أَوْ فِي صِفَتِهِ أَوْ فِي قَدْرِ الْمُثَمَّنِ أَوْ فِي صِفَتِهِ .

وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا مِمَّا قَدْ يَخْلُو مِنْهُ الْعَقْدُ ، كَاخْتِلَافِهِمَا فِي الْأَجَلِ أَوْ فِي قَدْرِهِ ، أَوْ فِي الْخِيَارِ أَوْ فِي قَدْرِهِ ، أَوْ فِي الرَّهْنِ أَوْ فِي قَدْرِهِ ، أَوْ فِي الضَّمِينِ أَوْ فِي عَيْنِهِ . فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا فِيمَا لَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَقْدُ مِنْ قَدَرِ الثَّمَنِ أَوْ صِفَتِهِ أَوْ قَدْرِ الْمُثَمَّنِ أَوْ صِفَتِهِ ، فَالِاخْتِلَافُ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ : بِعْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَيَقُولُ الْمُشْتَرِي : بِخَمْسِمِائَةٍ . وَالِاخْتِلَافُ فِي صِفَتِهِ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ : بِدَرَاهِمَ صِحَاحٍ ، وَيَقُولُ الْمُشْتَرِي : بِمُكَسَّرَةٍ ، أَوْ يَقُولُ الْبَائِعُ : بِدَرَاهِمَ بِيضٍ وَيَقُولُ الْمُشْتَرِي : بِدَرَاهِمَ سُودٍ ، وَالِاخْتِلَافُ فِي قَدْرِ الْمُثَمَّنِ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ : بِعْتُكَ الْعَبْدَ بِأَلْفٍ ، وَيَقُولَ الْمُشْتَرِي : بَلْ بِعْتَنِي كَذَا بِأَلْفٍ ، أَوْ يَقُولَ الْبَائِعُ بِعْتُكَ هَذَا كَذَا مِنْ طَعَامٍ بِأَلْفٍ ، فَيَقُولَ الْمُشْتَرِي : بَلْ بِعْتَنِي الْعَبْدَ مَعَ الْفَرَسِ بِأَلْفٍ . وَالِاخْتِلَافُ فِي صِفَةِ الْمُثَمَّنِ ، أَنْ يَقُولَ : أَسْلَمْتُ إِلَيْكَ دِرْهَمًا فِي طَعَامٍ مَيْسَانِيٍّ ، فَيَقُولُ : بَلْ فِي طَعَامٍ شَامِيٍّ ، أَوْ فِي ثِيَابٍ مَرْوِيٍّ ، فَيَقُولُ : بَلْ فِي مَرْوِيٍّ ، فَإِذَا كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِيمَا ذَكَرْتُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْعَقْدِ عَلَى خَمْسَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ شُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ ، أَنْ يَقُولَ فِيهِ قَوْلَ الْبَائِعِ : لِأَنَّ الْمَبِيعَ عَلَى مِلْكِهِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ وَدَاوُدَ ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُشْتَرِي اعْتِبَارًا بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنِ الشَّيْءُ فِي يَدِهِ ، لِأَنَّ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى مِلْكِهِ . وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ السِّلْعَةُ تَالِفَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً بِحَالِهَا تَحَالَفَا . وَالْمَذْهَبُ الْخَامِسُ : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، يَتَحَالَفَانِ بِكُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ كَانَتِ السِّلْعَةُ قَائِمَةً أَوْ تَالِفَةً ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالْيَدِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَلَفُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ . وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ تَلَفَ السِّلْعَةِ يَمْنَعُ مِنَ التَّحَالُفِ ، وَيُوجِبُ قَبُولَ قَوْلِ الْمُشْتَرِي ، بِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَلَا بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ تَحَالَفَا أَوْ تَرَادَّا " فَشَرَطَ فِي التَّحَالُفِ بَقَاءَ السِّلْعَةِ ، فَاقْتَضَى انْتِقَاءَ التَّحَالُفِ مَعَ تَلَفِ السِّلْعَةِ ، وَقَالَ : وَلِأَنَّهُ فَسْخٌ ثَبَتَ مَعَ بَقَاءِ الْمَبِيعِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ مَعَ تَلَفِهِ ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ . قَالَ : وَلِأَنَّهُ مَبِيعٌ تَلَفَ عَنْ عَقْدٍ صَحِيحٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْهُ الْفَسْخُ أَصْلُهُ إِذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ فِي خِيَارِ الثَّلَاثِ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ ، وَبَطَلَ أَنْ يَسْتَحِقَّ مَعَ تَلَفِهِ الْفَسْخَ قَالَ : وَلِأَنَّ الْمَبِيعَ إِذَا قُبِضَ بِالْقِيمَةِ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى مُشْتَرِيهِ بِالثَّمَنِ ، فَلَوْ جَازَ تَحَالُفُهُ بَعْدَ الثَّمَنِ لَصَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ دُونَ الثَّمَنِ ، وَهَذَا مِمَّا يُنَافِي ضَمَانَ الْعَقْدِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مِنْ تَحَالُفِهِمَا مَعَ بَقَاءِ السِّلْعَةِ وَتَلَفِهَا مَا رُوِيَ عَنِ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ " وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَابَيِعَيْنِ مُنْكِرٌ وَمُدَّعٍ : لِأَنَّ الْبَائِعَ يَقُولُ : بِعْتُ بِأَلْفٍ وَلَمْ أَبِعْ بِخَمْسِمِائَةٍ ، وَالْمُشْتَرِي يَقُولُ : اشْتَرَيْتُهُ بِخَمْسِمِائَةٍ وَلَمْ أَشْتَرِهِ بِأَلْفٍ . صَحَّ ذَلِكَ أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ ، وَالْبَيِّنَةُ لَمَّا تَسْمَعُ مِنَ الْمُدَّعِي دُونَ الْمُنْكِرِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعٍ بِمَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَالَفَا مَعَ بَقَاءِ السِّلْعَةِ بِوِفَاقِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالْيَمِينُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إِنَّمَا تَكُونُ عَلَى الْمُنْكِرِ دُونَ الْمُدَّعِي فَثَبَتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْكِرٌ ، فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعِيًا مُنْكِرًا فَوَجَبَ أَنْ يَتَحَالَفَا . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِذَا اخْتَلَفَ الْبَيِّعَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ " وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ بَقَاءِ السِّلْعَةِ وَتَلَفِهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ شَرَطَ بَقَاءَ السِّلْعَةِ فِي التَّحَالُفِ فِي الْخَبَرِ الْآخَرِ ، فَصَارَ هَذَا الْإِطْلَاقُ مَحْمُولًا عَلَى ذَلِكَ التَّقْيِيدِ ، كَمَا حَمَلْتُمْ إِطْلَاقَ الْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ عَلَى التَّقْيِيدِ الْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ؟ قِيلَ : لَيْسَ هَذَا مِنَ الْمُقَيَّدِ الَّذِي يَحْمِلُ إِطْلَاقَ جِنْسِهِ عَلَيْهِ : لِأَنَّ إِطْلَاقَ خَبَرِنَا إِنَّمَا يُوجِبُ تَحَالُفَهُمَا مَعَ بَقَاءِ السِّلْعَةِ وَتَلَفِهَا ، فَصَارَ قَوْلُهُ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بَعْضَ مَا تَنَاوَلَهُ إِطْلَاقُ خَبَرِنَا ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ : لِأَنَّهُ لَا يُنَافِيهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَمَا الْفَائِدَةُ مِنْ قَوْلِهِ إِذَا اخْتَلَفَا وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ المتبايعان تَحَالَفَا مَعَ اسْتِوَاءِ الْحُكْمِ فِي قِيَامِهَا وَتَلَفِهَا . قِيلَ : يَحْتَمِلُ وُجُوهًا : أَحَدُهَا : التَّنْبِيهُ عَلَى حُكْمِ التَّحَالُفِ مَعَ التَّلَفِ : لِأَنَّ بَقَاءَ السِّلْعَةِ يُمْكِنُ مَعَهُ اعْتِبَارُ قِيمَتِهَا ، فَيَغْلِبُ بِهِ قَوْلُ مَنْ كَانَتْ دَعْوَاهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ ، وَمَعَ التَّلَفِ لَا يُمْكِنُ ، فَلَمَّا أُسْقِطَ اعْتِبَارُ هَذَا وَأَوْجَبَ التَّحَالُفَ مَعَ قِيَامِ السِّلْعَةِ كَانَ وُجُوبُ التَّحَالُفِ مَعَ تَلَفِهَا أَوْلَى . وَالثَّانِي : أَنَّهُ نَصَّ عَلَى بَقَاءِ السِّلْعَةِ إِسْقَاطًا لِاعْتِبَارِ الْيَدِ بِخِلَافِ قَوْلِ مَالِكٍ حَتَّى إِذَا تَحَالَفَا مَعَ وُجُودِ الْيَدِ كَانَ تَحَالُفُهَمَا مَعَ زَوَالِ الْيَدِ أَوْلَى . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ نَصَّ عَلَى بَقَاءِ السِّلْعَةِ : لِأَنَّ تَلَفَهَا قَدْ يَكُونُ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ إِذَا كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَبَقَاؤُهَا لَيْسَ يَبْطُلُ مَعَهُ الْعَقْدُ فَيَتَحَالَفَانِ مَعَ بَقَائِهَا وَلَا يَتَحَالَفَانِ مَعَ تَلَفِهَا ، فَإِنْ قِيلَ : فَلَا دَلَالَةَ لَكُمْ فِي هَذَا الْخَبَرِ : لِأَنَّهُ جَعَلَ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلَ الْبَائِعِ ، وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ . قِيلَ : قَدْ جُعِلَ الْمُشْتَرِي بَعْدُ بِالْخِيَارِ ، وَمَنْ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الْبَائِعِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَمْ يَجْعَلْ لِلْمُشْتَرِي خِيَارًا وَإِذَا ثَبَتَ خِيَارُ الْمُشْتَرِي بَعْدَ يَمِينِ الْبَائِعِ فَخِيَارُهُ فِي قَبُولِ السِّلْعَةِ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ الْبَائِعُ ، أَوْ يَحْلِفُ بَعْدَهُ وَيَفْسَخُ الْبَيْعَ ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي تَحَالُفِهِمَا وَإِنَّمَا خَصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَائِعَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ الْمُبْتَدِئُ بِالْيَمِينِ . وَيَدُلُّ عَلَى الْمَسْأَلَةِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي صِفَةِ عَقْدِ بَيْعٍ صَحِيحٍ فَاقْتَضَى أَنْ يُوجِبَ التَّحَالُفَ . أَصْلُهُ إِذَا كَانَتِ السِّلْعَةُ قَائِمَةً . وَلِأَنَّ مَا يُوجِبُ فَسْخَ الْعَقْدِ يَسْتَوِي فِيهِ الْبَاقِي وَالتَّالِفُ كَالِاسْتِحْقَاقِ . وَلِأَنَّهُ فَسْخٌ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى تَرَاضِيهِمَا فَإِذَا صَحَّ مَعَ تَرَادِّ الْأَعْيَانِ صَحَّ مَعَ تَرَادِّ الْقِيَمِ

أَصْلُهُ إِذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِجَارِيَةٍ وَتَقَابَضَا ، ثُمَّ تَلِفَتِ الْجَارِيَةُ وَوَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا ، فَلَهُ رَدُّهُ بِالْعَيْبِ وَاسْتِرْجَاعُ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ لِفَسْخِ الْعَقْدِ بَعْدَ تَلَفِهَا ، كَمَا كَانَ لَهُ فَسْخُهُ مَعَ بَقَائِهَا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللُّهُ عَنْهُ فَقَدْ مَضَى فِي مُعَارَضَةِ خَبَرِنَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْعَيْبَ فِيمَا تَلَفَ يُقْدَرُ عَلَى اسْتِدْرَاكِ ظُلَامَتِهِ بِالْأَرْشِ فَلَمْ يَفْسَخْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي اخْتِلَافِهِمَا : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِدْرَاكِ ظُلَامَتِهِ إِلَّا بِالتَّحَالُفِ فَجَازَ أَنْ يَتَحَالَفَا مَعَ التَّلَفِ . وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ إِنَّ السِّلْعَةَ بَعْدَ تَلَفِهَا لَا تَقْبَلُ الْفَسْخَ كَمَا لَا يَقْبَلُ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ ، وَإِنْ أَقَالَهُ الْعَبْدُ الْآبِقُ لَا تَصِحُّ وَلَا تُقْبَلُ الْإِقَالَةَ كَمَا لَا يُقْبَلُ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ : لِأَنَّهُ يَقُولُ فِيمَنِ ابْتَاعَ عَبْدًا وَقُتِلَ فِي يَدِ الْبَائِعِ : أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ وَيَسْتَرْجِعَ الثَّمَنَ ، أَوْ يُقِيمَ عَلَى الْبَيْعِ وَيَأْخُذَ مِنَ الْقَاتِلِ قِيمَةَ الْعَبْدِ ، فَقَدْ جَعَلَ الْعَقْدَ بَعْدَ التَّلَفِ قَابِلًا لِلْفَسْخِ ، كَذَلِكَ فِيمَا جَعَلْنَا أَصْلًا مَعَهُ مِنْ بَيْعِ الْعَبْدِ بِالْجَارِيَةِ إِذَا تَلَفَتْ وَوَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا أَنَّ لَهُ رَدَّهُ بِالْعَيْبِ وَاسْتِرْجَاعَ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ ، فَجَعَلَ الْعَقْدَ بَعْدَ التَّلَفِ قَابِلًا لِلْفَسْخِ كَمَا كَانَ قَبْلَ التَّلَفِ . وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ يَنْقُضَانِ الْعِلَّةَ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَلَى قِيَاسِهِمْ عَلَى خِيَارِ الثَّلَاثِ فَحُكْمُ الْأَصْلِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ فَلَمْ تَسْلَمْ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْمَقْبُوضَ عَنِ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ دُونَ الْقِيمَةِ ، فَهُوَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ بَاطِلٌ بِمُبْتَاعِ الْعَبْدِ بِالْجَارِيَةِ إِذَا تَلَفَتْ وَوَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا : لِأَنَّ الْجَارِيَةَ قَدْ كَانَتْ مَضْمُونَةً بِالْعَبْدِ الَّذِي هُوَ الثَّمَنُ ، ثُمَّ صَارَتْ بَعْدَ الْفَسْخِ بِالْعَيْبِ مَضْمُونَةً بِالْقِيمَةِ دُونَ الثَّمَنِ . فَأَمَّا مَنْ جَعَلَ الْقَوْلَ فِي اخْتِلَافِ الْمُتَابَيِعَيْنِ قَوْلَ الْبَائِعِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ عَلَى مِلْكِهِ فَيُقَابَلُ بِمِثْلِهِ . فَيُقَالُ : يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الثَّمَنَ عَلَى مِلْكِهِ فَتَسَاوَى الْقَوْلَانِ وَبَطَلَ التَّعْلِيلُ . وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ فَيُقَابَلُ أَيْضًا بِمِثْلِهِ ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِسِلْعَةِ الْبَائِعِ فَتَسَاوَى الْقَوْلَانِ وَسَقَطَ التَّعْلِيلُ . وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ مَنِ السِّلْعَةُ فِي يَدِهِ فَيُقَابِلُ أَيْضًا بِمِثْلِهِ ، فَيُقَالُ : هَاهُنَا سِلْعَةٌ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا ، وَثَمَنٌ فِي يَدِ الْآخَرِ ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنِ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ فَيَتَسَاوَى الْقَوْلَانِ ، وَيَسْقُطُ التَّعْلِيلُ ، وَلَمَّا كَانَ التَّعْلِيلُ لِهَذِهِ الْمَذَاهِبِ كُلِّهَا مُتَقَابِلًا فِي الْجِهَتَيْنِ لَمْ يَرْجِعْ قَوْلُ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ ، وَصَحَّ مَذْهَبُنَا فِي تَحَالُفِهِمَا لِتَسَاوِي حُكْمِهِمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَابَيِعَانِ فِيمَا قَدْ يَخْلُو مِنْهُ الْعَقْدُ المتبايعان كَالْأَجَلِ إِذَا ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا وَنَفَاهُ الْآخَرُ ، أَوِ اتَّفَقَا عَلَى الْأَجَلِ فِي قَدْرِهِ وَاخْتَلَفَا فِي الْخِيَارِ المتبايعان إِذَا ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا وَنَفَاهُ الْآخَرُ ، أَوِ اتَّفَقَا عَلَى الْخِيَارِ وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ المتبايعان ، أَوِ اخْتَلَفَا فِي الرَّهْنِ أَوِ الضَّمِينِ إِذَا ادَّعَاهُ وَنَفَاهُ الْآخَرُ أَوِ اتَّفَقَا عَلَى الرَّهْنِ وَاخْتَلَفَا فِي تَقْدِيرِهِ فَعِنْدَنَا أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ كَمَا يَتَحَالَفَانِ فِي اخْتِلَافِهِمَا فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَتَحَالَفَانِ فِي هَذَا كُلِّهِ ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ نَفَاهُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْعَقْدَ يَصِحُّ مَعَ الْخُلُوِّ مِنْهُ ، فَصَارَ مُدَّعِيهِ مُسْتَأْنِفًا لِلدَّعْوَى فِيهِ : لِأَنَّ مَقْصُودَ الْعَقْدِ هُوَ مَا كَانَ عِوَضًا مِنْ ثَمَنٍ أَوْ مُثَمَّنٍ ، وَهَذِهِ كُلُّهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ فَلَمْ يَتَسَاوَ مَعَ حُكْمِ الْمَقْصُودِ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ خَطَأٌ : لِعُمُومِ الْخَبَرَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ . وَلِأَنَّ صِفَاتِ الْعَقْدِ مُلْحَقَةٌ بِأَصْلِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا فِي التَّحَالُفِ كَحُكْمِهِ . وَلِأَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا قَدْ تَأْخُذُ مِنَ الثَّمَنِ قِسْطًا : لِأَنَّ الثَّمَنَ قَدْ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ بِعَدَمِهَا فَصَارَتْ فِي الْحُكْمِ كَأَجْزَاءِ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ ، وَلَيْسَ لِمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ خُلُوَّهَا مِنَ الْعَمْدِ جَائِزٌ وَجْهًا فِي الْمَنْعِ مِنَ التَّحَالُفِ : لِأَنَّ زِيَادَةَ الثَّمَنِ قَدْ يَصِحُّ أَنْ تَخْلُوَ مِنَ الْعَقْدِ وَلَا تَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ التَّحَالُفِ ، وَلَا لِقَوْلِهِ إِنَّهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ فِي نَفْسِهَا وَإِنَّمَا هِيَ تَبَعٌ لِغَيْرِهَا وَجْهٌ أَيْضًا : لِأَنَّهَا قَدْ تُقْصَدُ وَلِذَلِكَ شُرِطَتْ وَلَوْ لَمْ تُقْصَدْ وَكَانَتْ تَبَعًا لَوَجَبَ أَنْ تُلْحَقَ بِحُكْمٍ يُسَوِّغُهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَإِذَا حَلَفَا مَعًا ، قِيلَ لِلْمُشْتَرِي : أَنْتَ بِالْخِيَارِ فِي أَخْذِهِ بِأَلْفٍ ، أَوْ رَدِّهِ وَلَا يَلْزَمُكَ مَا لَا تُقِرُّ بِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا ثَبَتَ أَنَّ اخْتِلَافَ الْمُتَبَايِعِينَ حكمه ومن يقدم منهما في الدعوى يُوجِبُ التَّحَالُفَ مَعَ بَقَاءِ السِّلْعَةِ وَتَلَفِهَا ، فَالتَّحَالُفُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ حَاكِمٍ نَافِذِ الْحُكْمِ : لِأَنَّ الْأَثْمَانَ الْمُسْتَحَقَّةَ فِي الدَّعَاوَى إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَحْكَامُ عِنْدَ الْحُكَّامِ ، وَلَوْ تَحَالَفَا لِأَنْفُسِهِمَا لَمْ يَكُنْ لِأَيْمَانِهِمَا تَأْثِيرٌ فِي فَسْخٍ وَلَا لُزُومٍ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَأَرَادَ الْحَاكِمُ أَنْ يُحَلِّفَهُمَا عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ السُّلَّمِ الْكَبِيرِ فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى : يَبْدَأُ بِإِحْلَافِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْمُشْتَرِي . وَقَالَ فِي كِتَابِ الْمَكَاتَبِ مَا يَقْتَضِيهِ ، ثُمَّ خَالَفَ فِي الصَّدَاقِ فَقَالَ : إِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي الْمَهْرِ وَتَحَالَفَا بَدَأْتُ بِالزَّوْجِ ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَحِلُّ مَحَلَّ الْمُشْتَرِي . وَقَالَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ وَآدَابِ الْقُضَاةِ : إِنْ بَدَأَ الْبَائِعُ بِالْيَمِينِ خُيِّرَ الْمُشْتَرِي وَإِنْ بَدَأَ بِهَا الْمُشْتَرِي خُيِّرَ الْبَائِعُ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْحَاكِمِ تَقْدِيمَ أَيِّهِمَا شَاءَ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ نُصُوصٍ مُخْتَلِفَةٍ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا عَلَى طَرِيقَيْنِ : فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا أَقَاوِيلَ مُخْتَلِفَةً ، وَخَرَّجَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْبَائِعِ اخْتِلَاف المتبايِعِين : لِأَنَّهُ أَقْوَى جَنَبَةً لِعَوْدِ الْمَبِيعِ إِلَيْهِ بِيَمِينِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي اخْتِلَاف المتبايِعِين : لِأَنَّهُ أَقْوَى جَنَبَةً لِكَوْنِ الْمَبِيعِ وَقْتَ التَّحَالُفِ عَلَى مِلْكِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ أَنَّ لِلْحَاكِمِ تَقْدِيمَ أَيِّهِمَا شَاءَ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الدَّعْوَى اخْتِلَاف المتبايِعِين . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا : وَهُوَ أَصَحُّ : أَنَّهُ لَيْسَ اخْتِلَافُ هَذِهِ النُّصُوصِ لِاخْتِلَافِ الْأَقَاوِيلِ ، إِنَّمَا الْجَوَابُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْبُيُوعِ وَالصَّدَاقِ حكمه ومن يقدم منهما في الدعوى فَيَبْدَأُ فِي الْبَيْعِ بِإِحْلَافِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْمُشْتَرِي عَلَى ظَاهِرِ نَصِّهِ ، وَفِي الصَّدَاقِ بِإِحْلَافِ الزَّوْجِ قَبْلَ الزَّوْجَةِ عَلَى ظَاهِرِ نَصِّهِ .

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ تَحَالُفَهُمَا فِي الْبَيْعِ يَرُدُّ الْمَبِيعَ إِلَى يَدِ بَائِعِهِ فَبُدِئَ بِإِحْلَافِهِ . وَتَحَالُفُهُمَا فِي الْمَهْرِ لَا يَرْفَعُ مِلْكَ الزَّوْجِ عَنِ الْبُضْعِ ، وَهُوَ بَعْدَ التَّحَالُفِ عَلَى مِلْكِهِ فَبُدِئَ بِإِحْلَافِهِ . وَأَمَّا مَا قَالَهُ فِي الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْحَاكِمَ إِنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى تَقْدِيمِ الْمُشْتَرِي جَازَ ، وَإِنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى تَقْدِيمِ الْبَائِعِ جَازَ : لِأَنَّ تَقْدِيمَ أَحَدِهِمَا طَرِيقَةُ الِاجْتِهَادِ دُونَ النَّصِّ ، فَجَازَ أَنْ يُؤَدِّيَ الِاجْتِهَادُ إِلَى تَقْدِيمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَلَيْسَ كَاللِّعَانِ الَّذِي وَرَدَ النَّصُّ بِتَقْدِيمِ الزَّوْجِ ، وَلَا يَجُوزُ خِلَافُهُ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْبَائِعِ عَلَى مَا شَرَحْنَا مِنَ الْمَذْهَبِ ، فَهَلْ تَقْدِيمُهُ فِي الْيَمِينِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى إِلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْقَاقِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ تَقْدِيمَهُ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْقَاقِ ، فَإِنْ قَدَّمَ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يُؤَدِّيَهُ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ تَقْدِيمَهُ عَلَى طَرِيقِ الْأَوْلَى ، فَإِنْ قَدَّمَ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِيَ جَازَ ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهِ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَأَيُّهُمَا نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ وَحَلَفَ صَاحِبُهُ حُكِمَ لَهُ ، ( قَالَ ) وَإِذَا حَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمَا مُتَصَادِقَانِ عَلَى الْبَيْعِ ، وَمُخْتَلِفَانِ فِي الثَّمَنِ بِنَقْضِ الْبَيْعِ ، وَوَجَدْنَا الْفَائِتَ فِي كُلِّ مَا نَقَضَ فِيهِ الْقَائِمُ مُنْتَقَضًا ، فَعَلَى الْمُشْتَرِي رَدُّهُ ، إِنْ كَانَ قَائِمًا أَوْ قِيمَتُهُ إِنْ كَانَ فَائِتًا ، كَانَتْ أَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ أَوْ أَكْثَرَ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) يَقُولُ : صَارَا فِي مَعْنَى مَنْ لَمْ يَتَبَايَعْ فَيَأْخُذُ الْبَائِعُ عَبْدَهُ قَائِمًا أَوْ قِيمَتَهُ مُتْلَفًا ( قَالَ ) فَرَجَعَ مُحَمَدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى مَا قُلْنَا وَخَالَفَ صَاحِبَيْهِ ، وَقَالَ : لَا أَعْلَمُ مَا قَالَا إِلَّا خِلَافَ الْقِيَاسِ وَالسُّنَّةِ ، ( قَالَ ) وَالْمَعْقُولُ إِذَا تَنَاقَضَاهُ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ تَنَاقَضَاهُ ، وَهِيَ فَائِتَةٌ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ أَنْ يُفْسَخَ الْعَقْدُ ، فَقَائِمٌ وَفَائِتٌ سَوَاءٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْبِدَايَةَ فِي تَحَالُفِهِمَا بِيَمِينِ الْبَائِعِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : هَلْ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينًا أَوْ يَمِينَيْنِ إذا كانت البداية من البائع عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ أَنَّهُ يَحْلِفُ يَمِينًا وَاحِدَةً تَجَمَعُ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ : لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِيَمِينِهِ تَصْدِيقَ قَوْلِهِ عَلَى عَقْدٍ وَاحِدٍ فَاحْتَاجَ إِلَى يَمِينٍ وَاحِدَةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْلِفُ يَمِينَيْنِ : يَمِينًا أُولَى لِلنَّفْيِ ، وَيَمِينًا ثَانِيَةً لِلْإِثْبَاتِ كَالْمُتَدَاعِيَيْنِ دَارًا فِي أَيْدِيهِمَا إِذَا تَحَالَفَا عَلَيْهَا حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينَيْنِ : لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَمِينُ الْإِثْبَاتِ لِلْمُدَّعِي قَبْلَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ . فَإِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْلِفُ يَمِينًا وَاحِدَةً ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِفَتِهَا هَلْ يَتَقَدَّمُ الْإِثْبَاتُ فِيهَا عَلَى النَّفْيِ أَوِ النَّفْيُ عَلَى الْإِثْبَاتِ . عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ ، أَنَّهُ يَبْدَأُ فِي يَمِينِهِ بِالْإِثْبَاتِ ثُمَّ بِالنَّفْيِ فَيَقُولُ

الْبَائِعُ : وَاللَّهِ لَقَدْ بِعْتُ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ وَلَمْ أَبِعْهُ بِخَمْسِمِائَةٍ ، وَيَقُولُ الْمُشْتَرِي : وَاللَّهِ لَقَدِ اشْتَرَيْتُ هَذَا الْعَبْدَ بِخَمْسِمِائَةٍ وَلَمْ أَشْتَرِه بِأَلْفٍ . قَالَ : وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْيَمِينِ الْإِثْبَاتُ وَالنَّفْيُ تَبَعٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْدَأَ بِالْمَقْصُودِ قَبْلَ التَّبَعِ ، كَمَا أَنَّ الْيَمِينَ فِي اللِّعَانِ يُبْدَأُ فِيهَا بِالْإِثْبَاتِ قَبْلَ النَّفْيِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالنَّفْيِ ثُمَّ الْإِثْبَاتِ ، فَيَقُولُ الْبَائِعُ : وَاللَّهِ مَا بِعْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ بِخَمْسِمِائَةٍ وَلَقَدْ بِعْتُكَ بِأَلْفٍ ، ثُمَّ يَقُولُ الْمُشْتَرِي : وَاللَّهِ مَا اشْتَرَيْتُهُ بِأَلْفٍ وَلَقَدِ اشْتَرَيْتُهُ بِخَمْسِمِائَة ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَنَزَّلُ فِي إِحْلَافِهِ مَنْزِلَةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْمُدَّعِي ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ يَمِينِهِ النَّفْيَ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَآخِرُ يَمِينِهِ الْإِثْبَاتَ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْمُدَّعِي . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ ، أَنَّ الْبَائِعَ يَحْلِفُ فَيَقُولُ : وَاللَّهِ مَا بِعْتُ هَذَا الْعَبْدَ إِلَّا بِأَلْفٍ . وَيَحْلِفُ الْمُشْتَرِي فَيَقُولُ : وَاللَّهِ مَا اشْتَرَيْتُهُ إِلَّا بِخَمْسِمِائَةٍ . قَالَ : لِأَنَّ هَذَا أَسْرَعُ إِلَى فَصْلِ الْقَضَاءِ ، وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ ص : ] . إِنَّهُ سُرْعَةُ الْقَضَاءِ . فَهَذَا اخْتِلَافُ أَصْحَابِنَا فِي صِفَةِ يَمِينِهِ إِذَا قِيلَ إِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَحْلِفَ يَمِينًا وَاحِدَةً . فَأَمَّا إِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الثَّانِي . إِنَّ حَظَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَحْلِفَ يَمِينَيْنِ ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ يَبْدَأُ فِي الْيَمِينِ الْأُولَى بِالنَّفْيِ ، وَفِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ بِالْإِثْبَاتِ ، فَيَقُولُ الْبَائِعُ : وَاللَّهِ مَا بِعْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ بِخَمْسِمِائَةٍ ، وَيَقُولُ الْمُشْتَرِي : وَاللَّهِ مَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ . ثُمَّ يَحْلِفُ الْبَائِعُ ثَانِيَةً فَيَقُولُ : وَاللَّهِ لَقَدْ بِعْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ . وَيَقُولُ الْمُشْتَرِي : وَاللَّهِ لَقَدِ اشْتَرَيْتُ مِنْكَ هَذَا الْعَبْدَ بِخَمْسِمِائَةٍ . فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ صِفَةِ أَيْمَانِهِمَا فَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ إِذَا حَلَّفَ أَحَدَهُمَا أَنْ لَا يُحَلِّفَ الْآخَرَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْرِضَ الْمَبِيعَ عَلَيْهِ بِمَا حَلَّفَ عَلَيْهِ صَاحِبَهُ ، فَإِنْ رَضِيَ بِقَوْلِهِ لَمْ يُحَلِّفْ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ أَحْلَفَهُ ، فَإِنْ بَدَأَ بِإِحْلَافِ الْبَائِعِ قَالَ : لِلْمُشْتَرِي أَتَرْضَى أَنْ تَقْبَلَهُ بِالْأَلْفِ الَّتِي حَلَفَ الْبَائِعُ عَلَيْهَا ، فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ ، لَمْ يُحَلِّفْ ، وَإِنْ قَالَ : لَا ، أَحْلَفَهُ ، وَلَوْ بَدَأَ الْحَاكِمُ بِإِحْلَافِ الْمُشْتَرِي ، قَالَ لِلْبَائِعِ : أَتَرْضَى أَنْ تُمْضِيَ الْبَيْعَ بِالْخَمْسِمِائَةٍ الَّتِي حَلَفَ عَلَيْهَا الْمُشْتَرِي ، فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ ، لَمْ يُحَلِّفْهُ ، وَإِنْ قَالَ : لَا ، أَحْلَفَهُ ، وَلَوْ قُلْنَا : إِنَّهُ يُحَلِّفُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينَيْنِ ، فَأَحْلَفَ الْبَائِعَ يَمِينًا أَحْلَفَ الْمُشْتَرِيَ بَعْدَهُ يَمِينًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ قَبُولَ الْمَبِيعِ ، فَإِذَا عَادَ الْبَائِعُ فَحَلَفَ بِاللَّهِ يَمِينًا حِينَئِذٍ عَرَضَ الْمَبِيعَ عَلَى الْمُشْتَرِي قَبْلَ يَمِينِهِ الثَّانِيَةِ . وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ : لِأَنَّ عَرْضَ ذَلِكَ عَلَى الْمُشْتَرِي إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ يَمِينِ الْبَائِعِ عَلَى إِثْبَاتِ مَا ادَّعَى ، وَيَمِينُهُ الْأُولَى لِلنَّفْيِ لَا لِلْإِثْبَاتِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلَهُمَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : حَالٌ يَحْلِفَانِ مَعًا ، وَحَالٌ يَنْكُلَانِ مَعًا ، وَحَالٌ يَحْلِفُ أَحَدُهُمَا وَيَنْكُلُ الْآخَرُ . فَإِنْ نَكَلَا مَعًا تَرَكَهُمَا وَلَمْ يَحْكُمْ بِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَقَطَعَ الْخُصُومَةَ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَنَكَلَ

الْآخَرُ حَكَمَ لِلْحَالِفِ مِنْهُمَا عَلَى النَّاكِلِ ، فَإِذَا كَانَ الْحَالِفُ مِنْهُمَا هُوَ الْبَائِعُ أَلْزَمَ الْمُشْتَرِيَ دَفْعَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ الْبَائِعُ مِنَ الثَّمَنِ ، وَمَتَى قُلْنَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينَيْنِ فَحَلَفَ أَحَدُهُمَا يَمِينَيْنِ وَحَلَفَ الْآخَرُ يَمِينًا وَاحِدَةً ، كَانَ كَالنَّاكِلِ وَقَضَى عَلَيْهِ . فَأَمَّا إِذَا حَلَفَا جَمِيعًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، هَلْ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِنَفْسِ التَّحَالُفِ أَوْ بِفَسْخٍ وَقَعَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ التَّحَالُفِ ؟ البائع والمشتري إذا حلفا جميعا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْفَسْخَ قَدْ وَقَعَ بِنَفْسِ التَّحَالُفِ كَالْفَسْخِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَحَالَفَا وَتَرَادَّا فَعَلَى هَذَا لَوْ أَرَادَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ التَّحَالُفِ أَنْ يَقْبَلَهُ بِمَا قَالَ الْبَائِعُ لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِاسْتِئْنَافِ عَقْدٍ ، وَكَذَا لَوْ أَرَادَ الْبَائِعُ أَنْ يَبْذُلَهُ بِمَا قَالَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِاسْتِئْنَافِ عَقْدٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ : أَنَّ الْفَسْخَ لَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا بِنَفْسِ التَّحَالُفِ حَتَّى يُوقِعَ الْفَسْخُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ التَّحَالُفِ : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقْصِدُ بِيَمِينِهِ إِثْبَاتَ الْمِلْكِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ مُوجِبَةً لِفَسْخِ الْمِلْكِ : لِأَنَّهُمَا ضِدَّانِ ، فَعَلَى هَذَا بِمَاذَا يَكُونُ الْفَسْخُ بَعْدَ التَّحَالُفِ ؟ البائع والمشتري إذا تحالفا فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْفَسْخَ يَكُونُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ ، فَأَيُّهُمَا فَسَخَ صَحَّ اعْتِبَارًا بِفَسْخِ الْعُيُوبِ الَّتِي تَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ دُونَ غَيْرِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْفَسْخَ لَا يَقَعُ إِلَّا بِفَسْخِ الْحَاكِمِ كَمَا فِي الْفَسْخِ بِالْعُنَّةِ وَعُيُوبِ الزَّوْجَيْنِ : لِأَنَّهَا عَنِ اجْتِهَادٍ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ فَسَخَهُ الْمُتَبَايِعَانِ لَمْ يَنْفَسِخْ حَتَّى يَفْسَخَهُ عَلَيْهِمَا الْحَاكِمُ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَفْسَخَهُ بَعْدَ تَحَالُفِهِمَا إِلَّا عَنْ مَسْأَلَتِهِمَا بَعْدَ عَرْضِ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، كَمَا يَعْرِضُهُ عَلَى الثَّانِي بَعْدَ يَمِينِ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ يَفْسَخُهُ بَيْنَهُمَا حِينَئِذٍ ، فَلَوْ تَرَاضَيَا بَعْدَ تَحَالُفِهِمَا وَقَبْلَ فَسْخِهِ ، حَلَّ الْبَيْعُ بِقَوْلِ أَحَدِهِمَا وصَحَّ الْعَقْدُ . فَصْلٌ : فَإِذَا انْفَسَخَ بَيْنَهُمَا بِالتَّحَالُفِ أَوْ بِإِيقَاعِ الْفَسْخِ بَعْدَ التَّحَالُفِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَقَعُ الْفَسْخُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، أَوْ يَقَعُ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ ، عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْفَسْخَ قَدْ وَقَعَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، سَوَاءً كَانَ الْبَائِعُ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا ، كَالْفَسْخِ بِاللِّعَانِ وَكَالْفَسْخِ عِنْدَ تَحَالُفِ الزَّوْجَيْنِ فِي نِكَاحِ الْوَلِيِّ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَقَعُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا كَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ ؛ فَعَلَى هَذَا إِذَا عَادَتِ السِّلْعَةُ إِلَى الْبَائِعِ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا بِمَا شَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفِ ، كَمَا يَفْعَلُ فِي سَائِرِ أَمْوَالِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً جَازَ أَنْ يَطَأَهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْفَسْخَ يَقَعُ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ ، سَوَاءً كَانَ الْبَائِعُ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا : لِأَنَّهُمَا يَتَّفِقَانِ مَعَ الِاخْتِلَافِ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ وَانْتِقَالِ الْمِلْكِ ، وَحُكْمُ الْحَاكِمِ لَا يُحِيلُ الْأُمُورَ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّمَا أَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ وَيَتَوَلَّى اللَّهُ السَّرَائِرَ " .

فَعَلَى هَذَا إِذَا عَادَ الْمَبِيعُ إِلَى الْبَائِعِ قِيلَ لَهُ : إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ أَنَّكَ كَاذِبٌ ، وَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ صَادِقٌ فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَتَصَرَّفَ فِي الْمَبِيعِ بِوَجْهٍ : لِأَنَّهُ مِلْكٌ لِغَيْرِكَ ، وَأَنْتَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ ثَمَنِهِ ، فَإِنْ تَصَرَّفْتَ فِيهِ كُنْتَ كَمَنْ تَصَرَّفَ فِي مَالِ غَيْرِهِ مُتَعَدِّيًا ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ كَاذِبٌ ، فَالْمَبِيعُ لِلْمُشْتَرِي وَأَنْتَ مَمْنُوعٌ مِنْ ثَمَنِهِ ، فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَطَأَ إِنْ كَانَ الْمَبِيعُ جَارِيَةً ، وَأَنْ لَا تَهَبَ ، وَتَكُونُ كَمَنْ لَهُ مَالٌ عَلَى غَيْرِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ مِنْهُ ، وَظَفَرَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ فَتَبِيعُ السِّلْعَةَ لِتَصِلَ إِلَى حَقِّكَ مِنْ ثَمَنِهَا . وَفِي الْمُتَوَلِّي لِبَيْعِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِبَيْعِهَا . وَالثَّانِي : تَوَلَّاهُ الْحَاكِمُ ، فَإِذَا بِيعَتْ فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ بِقَدْرِ حَقِّكَ فَلَكَ أَخْذُ حَقِّكَ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّكَ فَعَلَيْكَ رَدُّ الْبَاقِي ، وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ أَقَلَّ مِنْ حَقِّكَ فَالْبَاقِي دَيْنٌ لَكَ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْبَائِعُ مَظْلُومًا وَالْمُشْتَرِي ظَالِمًا ، البائع والمشتري إذا حلفا جميعا وَقَعَ الْفَسْخُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْوَجْهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ تَعَلُّقًا بِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي بِالْعَقْدِ ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ مَظْلُومًا لَمْ يَنْتَقِلْ مِلْكُهُ : لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَخْذُ الثَّمَنِ وَوَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ ، فَجَازَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ وَيَأْخُذَ عَيْنَ مَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي ظَالِمًا صَارَ بِالظُّلْمِ مَانِعًا مِنْ ثَمَنِهَا ، فَصَارَ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْمُفْلِسِ الَّذِي يُزَالُ مِلْكُهُ بِالْإِفْلَاسِ لِتَعَذُّرِ الثَّمَنِ ، فَكَذَلِكَ هَذَا يُزَالُ مِلْكُهُ بِالظُّلْمِ لِتَعَذُّرِ الْوُصُولِ إِلَى الثَّمَنِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الْبَائِعُ مَظْلُومًا فَقَدْ وَقَعَ الْفَسْخُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، وَجَازَ لِلْبَائِعِ إِذَا عَادَتِ السِّلْعَةُ إِلَيْهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ كَيْفَ شَاءَ ، فَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً جَازَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ ظَالِمًا أُوقِعَ الْفَسْخُ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا بِوَجْهٍ : لِأَنَّهَا مِلْكٌ لِآخَرَ ، وَهُوَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ حَقِّهِ . فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ الْفَسْخِ بِالتَّحَالُفِ أَوْ بَعْدَ التَّحَالُفِ ، وَهَذَا مَا أَعْوَزَتِ الْبَيِّنَةُ . فَأَمَّا مَعَ الْبَيِّنَةِ فَلَا تَحَالُفَ وَالْحُكْمُ بِهَا أَوْلَى ، فَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً فَقَدْ تَعَارَضَتَا ، وَفِيهَا قَوْلَانِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ مِنْ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي الْعُقُودِ : أَحَدُهُمَا : إِسْقَاطُ الْبَيِّنَتَيْنِ وَالتَّحَالُفُ . وَالثَّانِي : الْإِقْرَاعُ بَيْنَهُمَا . وَإِذَا وَقَعَ الْفَسْخُ وَجَبَ رَدُّ السِّلْعَةِ عَلَى بَائِعِهَا ، سَوَاءً قِيلَ : إِنَّ الْفَسْخَ قَدْ وَقَعَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا أَوْ قَدْ وَقَعَ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ . فَإِنْ كَانَتِ السِّلْعَةُ تَالِفَةً فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِمَّا لَهَا مِثْلٌ ، أَوْ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهَا . فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهَا وَجَبَ رَدُّ قِيمَتِهَا . وَفِي اعْتِبَارِ أَزْمَانِ الْقِيمَةِ عند الفصل بين المتبايعان المختلفان وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَقْتُ التَّلَفِ . وَالثَّانِي : أَكْثَرُ مِمَّا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ . فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ

الْقِيمَةِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ اعْتِبَارًا بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ ، وَسَوَاءً كَانَتِ الْقِيمَةُ أَكَثَرَ مِمَّا ادَّعَاهُ الْبَائِعُ أَوْ أَقَلَّ لِبُطْلَانِ مَا ادَّعَاهُ وَاسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ ، وَإِنْ كَانَتِ السِّلْعَةُ الْمَبِيعَةُ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِهِ كَالْمَغْصُوبِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ عَلَيْهِ غُرْمَ قِيمَتِهِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْهُ وَقْتَ الْقَبْضِ بِالْمِثْلِ ، وَإِنَّمَا ضَمِنَهُ بِالْعِوَضِ دُونَ الْمِثْلِ بِخِلَافِ الْغَصْبِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي مِنَ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْفَسْخِ مِنْ غَلَّةٍ أَوْ ثَمَرَةٍ أَوْ نِتَاجٍ ، فَكُلُّهُ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي ، لَا يَلْزَمَهُ رَدُّ شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى الْبَائِعِ : لِأَنَّهُ كَانَ مِلْكًا لَهُ حِينَ اسْتَغَلَّهُ ، وَإِنَّمَا زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ بِمَا حَدَثَ مِنَ الْفَسْخِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ أَمَةً فَوَطْؤُهَا لَمْ يَلْزَمْهُ إِذَا تَحَالَفَا أَنْ يَرُدَّ الْمَهْرَ ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ بِكْرًا فَتَصِيرَ بِوَطْئِهِ ثَيِّبًا فَيَلْزَمُهُ لِلْبَائِعِ أَرْشُ بَكَارَتِهَا ، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَحْبَلَهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنَ التَّحَالُفِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ ، وَلَكِنْ إِذَا تَفَاسَخَا بِالتَّحَالُفِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهَا . إِذَا أَوْلَدَ أَوْ أَعْتَقَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ بَاعَهَا لَمْ يَنْفَسِخْ بَيْعُهُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا . وَلَوْ كَانَ قَدْ أَجَّرَ مَا ابْتَاعَهُ أَوْ كَانَتْ أَمَةً فَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ تَحَالَفَا وَتَفَاسَخَا ، لَمْ تَبْطُلِ الْإِجَارَةُ وَلَا النِّكَاحُ : لِأَنَّهُ عَقْدٌ تَوَلَّاهُ مَالِكٌ حِينَ الْعَقْدِ وَالْأُجْرَةِ ، وَالْمَهْرُ مِلْكٌ لِلْمُشْتَرِي لِاسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ بِالْعَقْدِ الَّذِي كَانَ فِي مِلْكِهِ ، لَكِنْ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي الْأَمَةِ فِيمَا بَيْنَ قِيمَتِهَا خَالِيَةً وَذَاتَ زَوْجٍ ، وَفِي الْمُؤَاجِرِ فِيمَا بَيْنَ قِيمَتِهِ مُطْلَقًا أَوْ مُؤَاجِرًا ، فَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ رَهَنَهُ فَتَحَالَفَا أَوْ تَفَاسَخَا جَازَ وَلَمْ يَنْفَسِخِ الرَّهْنُ ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يُؤَاخِذَ الْمُشْتَرِيَ بِفِكَاكِهِ قَبْلَ مَحَلِّهِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ ، كَمَنْ أَذِنَ لِغَيْرِهِ فِي رَهْنِ عَبْدِهِ ، فَلَوْ بِيعَ فِي الرَّهْنِ ضَمِنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهُ لِلْبَائِعِ ، وَإِنِ افْتَكَّهُ مِنْهُ رَدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ وَبَرِئَ مِنْ ضَمَانِهِ . وَإِذَا ابْتَاعَ عَبْدًا وَاخْتَلَفَا فِي ثَمَنِهِ وَحَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي عَلَى دَعْوَاهُ بِعِتْقِهِ فَلَا حُكْمَ لِهَذِهِ الْيَمِينِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ . وَإِذَا تَحَالَفَا بِاللَّهِ تَعَالَى وَعَادَ الْعَبْدُ إِلَى الْبَائِعِ بِالْفَسْخِ عُتِقَ عَلَيْهِ لِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ عُتِقَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِحِنْثِهِ ، وَلَوْ قَبِلَهُ الْمُشْتَرِي بِمَا قَالَهُ الْبَائِعُ بَعْدَ ثَمَنِهِ أَوْ قَبْلَهَا أُعْتِقَ عَلَى الْمُشْتَرِي : لِأَنَّهُ قَدْ أَحْنَثَ نَفْسَهُ بِتَصْدِيقِ الْبَائِعِ ، وَلَوْ سَلَّمَهُ الْبَائِعُ إِلَى الْمُشْتَرِي بِمَا قَالَ قَبْلَ يَمِينَهُ أَوْ بَعْدَهَا لَمْ يُعْتَقِ الْعَبْدُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا : أَمَّا الْمُشْتَرِي فَلِأَنَّهُ مُصَدِّقٌ عَلَى مَا حَلَفَ ، وَأَمَّا الْبَائِعُ فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لَمَّا حَنَثَ بِعِتْقِهِ ، فَإِنْ رُدَّ الْعَبْدُ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ عُتِقَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ بِحِنْثِهِ . وَإِذَا ابْتَاعَ الْوَكِيلُ لِمُوَكِّلِهِ عَبْدًا ثُمَّ اخْتَلَفَ الْوَكِيلُ وَالْبَائِعُ فِي ثَمَنِهِ ، فَهَلْ يَكُونُ التَّحَالُفُ لِلْبَائِعِ وَالْوَكِيلِ أَوِ الْمُوَكِّلِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْوَكِيلَ هُوَ الَّذِي يَحْلِفُ : لِأَنَّهُ الْمُتَوَلِّي لِلْعَقْدِ ، وَإِنْ نَكَلَ الْوَكِيلُ عَنِ الْيَمِينِ صَارَ الْبَيْعُ لَازِمًا لَهُ دُونَ مُوَكِّلِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْمُوَكِّلَ هُوَ الَّذِي يَحْلِفُ : لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَمْلِكُ شَيْئًا بِيَمِينِ غَيْرِهِ وَإِنْ

نَكَلَ الْمُوَكِّلُ عَنِ الْيَمِينِ فَالْبَيْعُ لَازِمٌ لَهُ دُونَ الْوَكِيلِ ، وَلَوْ كَانَ الْوَكِيلُ قَدْ بَاعَ لِمُوَكِّلِهِ عَبْدًا ثُمَّ أَحَلَفَ الْوَكِيلَ وَالْمُشْتَرِيَ فِي ثَمَنِهِ : فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ : أَنَّ الْمُوَكِّلَ يُحَالِفُ الْمُشْتَرِيَ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْوَكِيلَ يُحَالِفُ الْمُشْتَرِيَ ، فَإِنْ نَكَلَ الْوَكِيلُ عَنِ الْيَمِينِ قُضِيَ لِلْمُشْتَرِي بِالْعَبْدِ ، وَأُلْزِمَ الْوَكِيلُ غُرْمَ فَاضِلِ الثَّمَنِ . فَصْلٌ : وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ ، فَقَالَ الْبَائِعُ : بِعْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ . وَقَالَ الْمُشْتَرِي : بَلْ بِعْتَنِي هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِأَلْفٍ ، فَلَا تَحَالُفَ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ : لِأَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي عَقْدَيْنِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّحَالُفُ لِلِاخْتِلَافِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ : فَالْبَائِعُ يَدَّعِي عَلَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ بَاعَهُ عَبْدَهُ بِأَلْفٍ ، وَالْمُشْتَرِي مُنْكِرٌ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ شِرَاءُ الْعَبْدِ ، ثُمَّ الْمُشْتَرِي يَدَّعِي عَلَى الْبَائِعِ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ جَارِيَتَهُ بِأَلْفٍ وَالْبَائِعُ مُنْكِرٌ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ بَيْعُ الْجَارِيَةِ ، فَلَوْ أَقَامَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ الْعَبْدَ بِأَلْفٍ ، وَأَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الْبَائِعِ أَنَّهُ بَاعَ عَلَيْهِ الْجَارِيَةَ بِأَلْفٍ حَكَمْنَا بِالْبَيِّنَتَيْنِ جَمِيعًا : لِأَنَّهُمَا لَا يَتَعَارَضَانِ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَثْبُتُ عَقْدًا لَا يَقْتَضِي نَفْيَ غَيْرِهِ ؛ فَيَصِيرُ الْمُشْتَرِي مُلْتَزِمًا لِابْتِيَاعِ الْجَارِيَةِ الَّتِي ادَّعَاهَا بِأَلْفٍ ، وَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا كَيْفَ يَشَاءُ ، وَمُلْتَزِمًا لِابْتِيَاعِ الْعَبْدِ الَّذِي ادَّعَى عَلَيْهِ بِأَلْفٍ ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ وَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِمَا شَاءَ مِنْ بَيْعٍ وَغَيْرِهِ إِلَّا الْوَطْءِ ، إِذَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ جَارِيَةً يَحْرُمُ عَلَيْهِ لِإِقْرَارِهِ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَهَلْ يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى قَبْضِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُجْبَرُ عَلَى قَبْضِهِ لِيَسْقُطَ ضَمَانُهُ عَنْ بَائِعِهِ . وَالثَّانِي : لَا يُجْبَرُ عَلَى قَبْضِهِ وَيَقْبِضُهُ الْحَاكِمُ لِيُبَرِّئَ الْبَائِعَ عَنْ ضَمَانِهِ ، ثُمَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَفْعَلَ أَحْظَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ بَيْعِهِ وَوَضْعِ ثَمَنِهِ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِيَعْتَرِفَ بِهِ الْمُشْتَرِي فَيَأْخُذَهُ أَوْ يُؤَاجِرَهُ أَوْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْكَسْبِ وَيُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ أُجْرَتِهِ أَوْ كَسْبِهِ ، ثُمَّ يَكُونُ فَاضِلَ أُجْرَتِهِ وَكَسْبِهِ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، لِيَعْتَرِفَ بِهِ الْمُشْتَرِي فَيَأْخُذَهُ مَعَ فَاضِلِ كَسْبِهِ وَأُجْرَتِهِ ، وَإِذَا اخْتَلَفَا فَقَالَ الْبَائِعُ بِعْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ بِهَذِهِ الْأَلْفِ بِعَيْنِهَا . وَقَالَ الْمُشْتَرِي : الَّذِي اشْتَرَيْتُهُ بِهَذِهِ الْأَلْفِ بِعَيْنِهَا هَذِهِ الْجَارِيَةُ دُونَ هَذَا الْعَبْدِ . فَهَذَا اخْتِلَافٌ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ ، وَلَيْسَ كَالَّذِي قَبْلَهُ : لِأَنَّهُمَا قَدِ اتَّفَقَا عَلَى الثَّمَنِ ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْمُثَمَّنِ فَيَكُونُ كَاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْمُثَمَّنِ وَاخْتِلَافِهِمَا فِي الثَّمَنِ ، فَيَتَحَالَفَانِ كَمَا يَتَحَالَفَانِ هُنَاكَ ؛ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَلَوْ لَمْ يَخْتَلِفَا ، وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا أَدْفَعُ حَتَى أَقْبِضَ البائع والمشتري فَالَذِي أَحَبَّ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَقَاوِيلَ وَصْفَهَا أَنْ يُؤْمَرَ الْبَائِعُ بِدَفْعِ السِّلْعَةِ وَيُجْبَرَ الْمُشْتَرِي عَلَى دَفْعِ

الثَّمَنِ مِنْ سَاعَتِهِ ، فَإِنْ غَابَ وَلَهُ مَالٌ أُشْهِدَ عَلَى وَقْفِ مَالِهِ وَأُشْهِدَ عَلَى وَقْفِ السِّلْعَةِ ، فَإِذَا دَفَعَ أُطْلِقَ عَنْهُ الْوَقْفُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَهَذَا مُفْلِسٌ وَالْبَائِعُ أَحَقُّ بِسِلْعَتِهِ ، وَلَا يَدَعِ النَّاسَ يَتَمَانَعُونَ الْحُقُوقَ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهَا مِنْهُمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . اعْلَمْ أَنَّ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُقَدِّمَةً لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهَا لِتَرَتُّبِ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ عَلَيْهَا وَهِيَ : أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ حَبْسَ مَا بِيَدِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ قَبْضِ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ ، فَلِلْمُشْتَرِي حَبْسُ الثَّمَنِ خَوْفًا مِنْ تَعَذُّرِ قَبْضِ الْمُثَمَّنِ : لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَقْتَضِي حِفْظَ الْعِوَضِ ، فَلَوْ تَأَخَّرَ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ الْمُثَمَّنِ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَلْزَمِ الْمُشْتَرِيَ تَعْجِيلُ الثَّمَنِ ، وَهَكَذَا أَيْضًا لِلْبَائِعِ حَبْسُ الْمَبِيعِ فِي يَدِهِ خَوْفًا مِنْ تَعَذُّرِ قَبْضِ ثَمَنِهِ ، فَلَوْ أَعْطَاهُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ رَهْنًا أَوْ ضَمِينًا لَمْ يَلْزَمْهُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ : لِأَنَّ الثَّمَنَ بَاقٍ ، وَإِنَّمَا هَذَا وَثِيقَةٌ فِيهِ ، وَقَدْ كَانَ مُوَثَّقًا فِي ذِمَّةِ مُشْتَرِيهِ . لَكِنْ لَوْ أَحَالَ بِالثَّمَنِ حِوَالَةً قَبِلَهَا أَوْ أَعْطَاهُ بِهِ عِوَضًا رَضِيَهُ لَزِمَهُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ ثَمَنِهِ ، وَهَكَذَا لَوْ أَبْرَأَهُ مِنَ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبْسُ الْمَبِيعِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ حَقٌّ بِحَبْسِ الْمَبِيعِ لِأَجْلِهِ ، فَلَوْ أَعْطَاهُ بَعْضَ ثَمَنِهِ وَسَأَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ بِقَدْرِهِ مِنَ الْمَبِيعِ ، فما الحكم فَفِيهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى الْمُشْتَرِي مِنَ الْمَبِيعِ بِقَدْرِ مَا قَبَضَ مِنْ ثَمَنِهِ ، وَيَحْبِسَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْبِسَ جَمِيعَهُ لِتَقَسُّطِ الثَّمَنِ عَلَيْهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَلَهُ حَبْسُ الْجَمِيعِ عَلَى بَاقِي الثَّمَنِ ، وَلَوْ بَقِيَ مِنْهُ دِرْهَمٌ كَالرَّهْنِ . وَلَوِ اشْتَرَى مِنْهُ مَاشِيَةً فَنَتَجَتْ فِي يَدِ بَائِعِهَا قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ نَخْلًا فَأَثْمَرَتْ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَ أَصْلَ الْمَاشِيَةِ وَالنَّخْلِ عَلَى الثَّمَنِ دُونَ النِّتَاجِ وَالثَّمَرَةِ : لِأَنَّهُمَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُمَا الْعَقْدُ ، وَإِنَّمَا حَدَثَا عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي مِنْ بَعْدُ . وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ دَارًا فَأَجَّرَهَا الْمُشْتَرِي قَبْلَ دَفْعِ الثَّمَنِ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُسْتَأْجِرَ مِنْهَا كَمَا كَانَ لَهُ مَنْعُ الْمُشْتَرِي : لِأَنَّ تَمْكِينَ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْهَا تَسْلِيمٌ إِلَى الْمُشْتَرِي : وَذَلِكَ لَا يُلْزِمُ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ . فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ أَنْ يَبْذُلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ مَا بِيَدِهِ لَكِنْ يَخْتَلِفَانِ فِي التَّقْدِيمِ ، فَيَقُولُ الْبَائِعُ : لَا أُسَلِّمُ الْمَبِيعَ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ ثَمَنِهِ ، وَيَقُولُ الْمُشْتَرِي : لَا أَدْفَعُ الثَّمَنَ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ الْمَبِيعِ ، فَقَدْ حَكَى الشَّافِعِيُّ أَرْبَعَةَ مَذَاهِبَ لِلنَّاسِ فِي ذَلِكَ ، وَاخْتَارَ أَحَدَهَا فَخَرَّجَهَا أَصْحَابُنَا أَرْبَعَةَ أَقَاوِيلَ لَهُ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْحَاكِمَ يُجْبِرُهُمَا عَلَى إِحْضَارِ ذَلِكَ إِلَيْهِ ، فَإِذَا دَفَعَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ إِلَيْهِ ، وَأَحْضَرَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إِلَيْهِ ، دَفَعَ الثَّمَنَ إِلَى الْبَائِعِ وَالْمَبِيعَ إِلَى الْمُشْتَرِي ، وَلَا يُبَالِي بِأَيِّهِمَا بَدَأَ إِذَا كَانَ حَاضِرًا . وَحُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ بَعْضِ الْمَشْرِقِيِّينَ ، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْحَاكِمَ مَنْصُوبٌ لِاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ وَقَطْعِ التَّخَاصُمِ فَإِذَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ لَمْ يَدَعِ النَّاسَ يَتَمَانَعُونَ الْحُقُوقَ وَهُوَ يَقْدِرُ

عَلَى أَخْذِهَا مِنْهُمْ . فَعَلَى هَذَا إِذَا أُحْضِرَ ذَلِكَ إِلَى الْحَاكِمِ فَتَلَفَ فِي مَجْلِسِهِ كَانَ مِنْ ضَمَانِ صَاحِبِهِ ، فَإِنْ كَانَ التَّالِفُ هُوَ الْمَبِيعُ فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ لِتَلَفِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ هُوَ التَّالِفُ لَمْ يَبْطُلِ الْبَيْعُ وَعَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَأْتِيَ بِبَدَلِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مُعَيَّنًا فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ أَيْضًا بِتَلَفِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْحَاكِمَ يَدَعُهُمَا جَمِيعًا وَلَا يُجْبِرُ وَاحِدًا مِنْهُمَا : لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقًّا فِي حَبْسِ مَا بِيَدِهِ ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَحَقُّ مِنْ صَاحِبِهِ ، لَكِنْ يَمْنَعُهُمَا مِنَ التَّخَاصُمِ فَأَيُّهُمَا تَطَوَّعَ يَدْفَعُ مَا بِيَدِهِ ، وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ حِينَئِذٍ أَنْ يُجْبِرَ الْآخَرَ عَلَى تَسْلِيمِ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ عَنْ بَعْضِ الْمَشْرِقِيِّينَ أَيْضًا . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْحَاكِمَ يُنَصِّبُ لَهُمَا أَمِينًا عَدْلًا ، وَيَأْمُرُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِتَسْلِيمِ مَا بِيَدِهِ إِلَيْهِ حَتَّى إِذَا صَارَ الْجَمِيعُ مَعَهُ سَلَّمَ الْمَبِيعَ إِلَى الْمُشْتَرِي ، وَالثَّمَنَ إِلَى الْبَائِعِ ، وَحُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ الْقَدَّاحِ ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : يُجْعَلُ ، وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَاحِدًا ، وَتَخْرُجُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ ، وَامْتَنَعَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا مِنْ جَعْلِهِمَا قَوْلًا وَاحِدًا ، وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخَالِفٌ لِصَاحِبِهِ : لِأَنَّ الدَّفْعَ وَالتَّسْلِيمَ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِلَى الْحَاكِمِ وَكَانَ بِحُكْمِهِ وَهَاهُنَا الْحُكْمُ مِنْهُ فِي نَصْبِ الْأَمِينِ وَالْأَمْرِ بِالتَّسْلِيمِ فَاخْتَلَفَا . وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ : وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ أَنَّ الْحَاكِمَ يُجْبِرُ الْبَائِعَ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي أَوَّلًا ، فَإِذَا سَلَّمَهُ إِلَيْهِ أَجْبَرَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ إِلَيْهِ ، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ اسْتِقْرَارَ الْعَقْدِ مُعْتَبَرٌ بِوُجُودِ الْقَبْضِ فَوَجَبَ إِجْبَارُ الْبَائِعِ عَلَيْهِ لِيَسْتَقِرَّ الْعَقْدُ بِهِ ، وَلِأَنَّ الْبَائِعَ يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِهِ بِالْحِوَالَةِ وَيَأْخُذُ بَدَلَهُ ، وَالْمُشْتَرِي لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْمَبِيعِ إِلَّا بِقَبْضِهِ ، فَأَجْبَرَ الْبَائِعَ عَلَيْهِ لِيَتَسَاوَيَا فِيهِ ، وَلِأَنَّ الْمَبِيعَ مُعَيَّنٌ وَالثَّمَنَ فِي الذِّمَّةِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَمَا تَعَلَّقَ بِالْأَعْيَانِ أَحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ مِمَّا ثَبَتَ فِي الذِّمَمِ كَالرَّهْنِ فِي أَمْوَالِ الْمُفْلِسِ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا سَلَّمَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ إِلَى الْمُشْتَرِي لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُشْتَرِي مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا بِالثَّمَنِ ، أَوْ مُعْسِرًا ، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بِالثَّمَنِ فَهَذَا مُفْلِسٌ وَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِعَيْنِ مَالِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَصْبِرَ بِهِ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي مَعَ إِعْسَارِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بِالثَّمَنِ فَلَا يَخْلُو حَالُ مَالِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا ، فَإِنْ كَانَ مَالُهُ حَاضِرًا أُجْبِرَ عَلَى دَفْعِ الثَّمَنِ إِلَى الْبَائِعِ ، وَيَكُونُ مَمْنُوعًا مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ وَسَائِرِ مَالِهِ حَتَّى يَدْفَعَ الثَّمَنَ إِلَى الْبَائِعِ ، ثُمَّ يُطْلِقُ تَصَرُّفَهُ فِيهِ حِينَئِذٍ ، وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ الْحَجْرَ فِي الْمَبِيعِ وَجَمِيعِ مَالِهِ : لِأَنَّهُ رُبَّمَا اسْتَهْلَكَهُ بِتَصَرُّفِهِ ، وَلَا يَصِلُ الْبَائِعُ إِلَى الْمَبِيعِ وَلَا إِلَى ثَمَنِهِ . وَإِنْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ عَلَى مَسَافَةٍ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، فَهَذَا فِي حُكْمِ الْحَاضِرِ وَيَنْتَظِرُ بِهِ حُضُورَ مَالِهِ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ فِي الْمَبِيعِ وَسَائِرِ مَالِهِ ، وَإِذَا أَحْضَرَ الثَّمَنَ فَكَّ حَجْرَهُ وَأَطْلَقَ تَصَرُّفَهُ .

الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَلَى مَسَافَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا فَلَا يَلْزَمُ انْتِظَارُ مَالِهِ لِبُعْدِهِ عَنْهُ وَأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُعْسِرِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ عَلَى مَسَافَةٍ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَنْتَظِرُ بِهِ حُضُورَ مَالِهِ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَيَحْجُرُ عَلَيْهِ فِي الْمَبِيعِ فِي مَالِهِ حَتَّى يُحْضِرَ الثَّمَنَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَنْتَظِرُ بِهِ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ وَأَنَّهُمَا فِي حُكْمِ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ . فَعَلَى هَذَا مَا الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْبَائِعُ إِذَا لَمْ يَنْتَظِرْ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُجْعَلُ كَالْمُفْلِسِ وَيُخَيَّرُ الْبَائِعُ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِعَيْنِ مَالِهِ . وَبَيْنَ أَنْ يَصْبِرَ بِالثَّمَنِ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي إِلَى حِينِ وُجُودِهِ ، فَإِنْ صَبَرَ بِهِ أُطْلِقَ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ وَغَيْرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ حُكْمَ الْمُفْلِسِ مَنْفِيٌّ عَنْهُ لِوُجُودِ الْمَالِ وَإِنْ بَعُدَ مِنْهُ ، وَلَكِنْ تُبَاعُ السِّلْعَةُ الْمَبِيعَةُ لِيَصِلَ الْبَائِعُ إِلَى حَقِّهِ مِنْهَا ، فَإِنْ بِيعَتْ بِقَدْرِ مَا لِلْبَائِعِ مِنَ الثَّمَنِ دُفِعَ إِلَيْهِ ذَلِكَ وَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ . وَإِنْ بِيعَتْ بِأَكْثَرَ رُدَّ الْفَاضِلُ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ بِيعَتْ بِأَقَلَّ كَانَ الْبَاقِي دَيْنًا لِلْبَائِعِ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي . فَصْلٌ : إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ عَرَضًا بِعَرَضٍ ، وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا أَدْفَعُ حَتَّى أَقْبِضَهُ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْحَاكِمَ يَأْمُرُهُمَا بِإِحْضَارِ ذَلِكَ إِلَى مَجْلِسِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَدَعُهُمَا حَتَّى يَتَطَوَّعَ أَحَدُهُمَا فَيُجْبِرَ الْآخَرَ عَلَى تَسْلِيمِ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ . وَالثَّالِثُ : يُنَصِّبُ الْحَاكِمُ أَمِينًا يَدْفَعَانِ ذَلِكَ إِلَيْهِ حَتَّى يُسَلِّمَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقَّهُ . فَأَمَّا الْقَوْلُ الرَّابِعُ : وَهُوَ أَنَّهُ يُجْبِرُ الْبَائِعَ أَوَّلًا ثُمَّ الْمُشْتَرِي فَلَا يَجِيءُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا بِأَنَّهُ بَائِعٌ وَالْآخَرُ بِأَنَّهُ مُشْتَرٍ . وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ عَرَضًا بِعَرَضٍ وَهُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا مِمَّا لَا يُنْقَلُ فَلَيْسَ إِلَّا قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحَاكِمَ يَدَعُهُمَا حَتَّى يَتَطَوَّعَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ يُجْبِرُ الْآخَرَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُنَصِّبُ لَهُمَا أَمِينًا . وَلَا يَجِيءُ الْقَوْلَانِ الْآخَرَانِ : لِأَنَّ إِحْضَارَ ذَلِكَ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَبَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ . وَلَيْسَ يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا بِأَنَّهُ بَائِعٌ فَيُجْبَرُ فَيَبْطُلُ أَيْضًا هَذَا الْقَوْلُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَصْلٌ : فَإِذَا امْتَنَعَتِ الزَّوْجَةُ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ صَدَاقِهَا ، وَامْتَنَعَ الزَّوْجُ مِنْ دَفْعِ الصَّدَاقِ إِلَّا بَعْدَ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا فَلَا يُحْكَمُ فِيهِ بِجَبْرِ الزَّوْجَةِ عَلَى تَسْلِيمِ نَفْسِهَا كَمَا يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى تَسْلِيمِ سِلْعَتِهِ : لِأَنَّ الْبَائِعَ إِذَا سَلَّمَ سِلْعَتَهُ أَمْكَنَ أَنْ يَحْجُرَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِيهَا

وَالزَّوْجَةُ إِذَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا لَا يُمْكِنُ مَنْعُ الزَّوْجِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا ، فَيَضُرُّ تَسْلِيمُ نَفْسِهَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَائِعُ ، وَتَجِيءُ بَاقِي الْأَقَاوِيلِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ وَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ عَرَضًا أَوْ ذَهَبًا بِعَيْنِهِ فَتَلَفَ مِنْ يَدِي الْمُشْتَرِي أَوْ تَلَفَتِ السِّلْعَةُ مَعَ يَدَيِ الْبَائِعِ انْتَقَضَ الْبَيْعُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَا تَعَيَّنَ بِالْعَقْدِ إِذَا تَلِفَ قَبْلَ الْقَبْضِ ثَمَنًا كَانَ أَوْ مُثَمَّنًا بَطَلَ بِهِ الْبَيْعُ ، وَذَكَرْنَا خِلَافَ مَالِكٍ فِيهِ ، وَاحْتَجَجْنَا لَهُ وَعَلَيْهِ بِمَا أَغْنَى عَنْهُ زِيَادَةً فِيهِ ، وَفَرَّعْنَا إِلَيْهِ فُرُوعًا نَحْنُ نَتْبَعُهُمْ ، فَإِذَا بَاعَ عَبْدًا بِأَلْفٍ فَكَسَبَ الْعَبْدُ فِي يَدِ بَائِعِهِ أَلْفًا ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ بَطَلَ الْبَيْعُ بِمَوْتِهِ وَبَرِئَ الْمُشْتَرِي مِنْ ثَمَنِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَقْبَضَ الثَّمَنَ فَلَهُ اسْتِرْجَاعُهُ ، وَالْأَلْفُ الَّتِي اكْتَسَبَهَا الْعَبْدُ لِلْمُشْتَرِي : لِأَنَّهُ كَسَبَهَا عَلَى مِلْكِهِ ، وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ حِينَ كَسَبَ الْعَبْدَ أَلْفًا حَبَسَهَا عَنِ الْمُشْتَرِي حَتَّى تَلِفَتَ ، ضَمَنَهَا بِالْحَبْسِ ، وَلَزِمَ تَسْلِيمُ الْعَبْدِ بِغَيْرِ ثَمَنٍ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ عَلَيْهِ بِمَا ضَمَنَهُ مِنْ كَسْبِهِ أَلْفٍ هِيَ بِإِزَاءِ الَّتِي لَهُ مِنْ ثَمَنِهِ فَصَارَتَا قَصَاصًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ وَلَا أُحِبُّ مُبَايَعَةَ مَنْ أَكْثَرُ مَالِهِ مِنْ رِبًا أَوْ مِنْ حَرَامٍ وَلَا أَفْسَخُ الْبَيْعَ لِإِمْكَانِ الْحَلَالِ فِيهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . تُكَرَهُ مُعَامَلَةُ مَنْ لَا يَتَوَقَّى الشُّبَهُ فِي كَسْبِهِ ، وَمَنْ خَلَطَ الْحَرَامَ بِمَالِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكَ ، فَلَنْ تَجِدَ فَقْدَ شَيْءٍ تَرَكْتَهُ لِلَّهِ " وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " حَلَالٌ بَيِّنٌ وَحَرَامٌ بَيِّنٌ وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ وَمَنْ يَحُمْ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ " . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ بَأْسٌ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَوْ صَلَّيْتُمْ حَتَّى تَصِيرُوا كَالْحَنَايَا ، وَصُمْتُمْ حَتَّى تَكُونُوا كَالْأَوْتَارِ مَا تُقُبِّلَ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا بِوَرَعٍ شَافٍ . وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ لَمْ يُبَالِ مِنْ أَيْنَ مَطْعَمُهُ مِنْ أَيْنَ مَشْرَبُهُ لَمْ يُبَالِ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ أَدْخَلَهُ " وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَلَاكُ دِينِكُمُ الْوَرَعُ . وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى رَجُلًا دَخَلَ السُّوقَ يَتَّجِرُ فَقَالَ لَهُ : هَلْ تَعْرِفُ أَبْوَابَ الرِّبَا فَقَالَ : لَا . فَدَفَعَ إِلَيْهِ فَأْسًا وَقَالَ لَهُ : امْضِ فَاحْتَطِبْ . وَالْوَرَعُ فِي الدِّينِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ ، وَتَوَقِّيِ الشُّبَهُ فِيهِ مَأْمُورٌ بِهِ .

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ مَنْ تُعَامِلُهِ بِبَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ تَقَبُّلِ هِبَةٍ أَوْ هَدِيَّةٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَتَوَقَّى الشُّبَهُ وَيَعْلَمُ أَنَّ مَالَهُ حَلَالٌ فَمُعَامَلَةُ مِثْلِهِ هِيَ الْمُسْتَحَقَّةُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَبِيعُ الْحَرَامَ فهل تجوز معاملته وَقَدْ تَعَيَّنَ لَنَا تَحْرِيمُ مَالِهِ فَمُعَامَلَةُ هَذَا حَرَامٌ ، وَالْعُقُودُ مَعَهُ عَلَى أَعْيَانِ مَا بِيَدِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَمْوَالِ بَاطِلَةٌ ، لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْهَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مِنْ طَالِبِيِ الشُّبَهُ وَمُلْتَمِسِي الْحَرَامَ ، لَكِنْ لَيْسَ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الْمَالُ لِاخْتِلَاطِهِ بِغَيْرِهِ مِنَ الْحَلَالِ ، فهل تجوز معاملته كَالْيَهُودِ الَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمُ الرِّبَا وَأَثْمَانِ الْخُمُورِ ، وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ ، وَعُمَّالِ الضَّرَائِبِ ، وَكَالسُّلْطَانِ الْجَائِرِ ، الَّذِي قَدْ يَأْخُذُ الْأَمْوَالَ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهَا ، إِلَى مَنْ جَرَى مَجْرَاهُ فَتُكْرَهُ مُعَامَلَتُهُمْ لِمَا وَصَفْنَا وَرَعًا وَاحْتِيَاطًا ، وَلَا يُحَرَّمُ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ بَلْ يَجُوزُ ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتَرَضَ مِنْ أَبِي الشَّحْمِ الْيَهُودِيِّ أَصْوُعًا مِنْ شَعِيرٍ ، وَقَدْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَتَوَقَّى الرِّبَا . مَعَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ عَنْ كَافَّةِ الْيَهُودِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْيَهُودِ ، وَلَوْ حُرِّمَتْ عَلَيْنَا أَمْوَالُهُمْ لَمَا جَازَ أَنْ نَأْخُذَهَا فِي جِزْيَتِهِمْ ، وَلِأَنَّهُمْ إِذَا أَسْلَمُوا أَقَرُّوا عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَلَوْ حُرِّمَتْ لَحَرُمَ إِقْرَارُهُمْ عَلَيْهَا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ : إِنَّ لِي جَارًا يُرْبِي أَفَآكُلُ مِنْ مَالِهِ فَقَالَ : لَكَ مَهْنَأُهُ وَعَلَيْهِ مَأْثَمُهُ .

بَابُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ

بَابُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ معناه مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " إِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَهَا أَوْ عَلَى أَنْ لَا خَسَارَةَ عَلَيْهِ مِنْ ثَمَنِهَا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الشَّرْطَ فِي الْبَيْعِ إِنَّمَا يُؤَثِّرُ إِذَا اقْتَرَنَ بِالْعَقْدِ ، فَأَمَّا إِنْ تَقَدَّمَهُ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ : لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ شَرْطًا وَإِنَّمَا يَكُونُ وَعْدًا أَوْ خَبَرًا . وَالشُّرُوطُ الْمُقْتَرِنَةُ بِالْعَقْدِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا كَانَ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَوَاجِبَاتِهِ ، كَاشْتِرَاطِ تَعْجِيلِ الثَّمَنِ وَسَلَامَةِ الْمَبِيعِ وَضَمَانِ الدَّرْكِ ؛ فَهَذِهِ الشُّرُوطُ وَاجِبَةٌ بِالْعَقْدِ وَاشْتِرَاطُهَا تَأْكِيدٌ فِيهِ ، وَالْعَقْدُ لَازِمٌ بِهَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا كَانَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْعَقْدِ وَمُبَاحَاتِهِ كَاشْتِرَاطِ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ وَتَأْجِيلِ الثَّمَنِ وَخِيَارِ الثَّلَاثِ ، فَهَذَا وَمَا شَاكَلَهُ لَازِمٌ بِالشَّرْطِ دُونَ الْعَقْدِ : لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْعَقْدِ لَا يَقْتَضِيهِ وَاشْتِرَاطَهُ فِي الْعَقْدِ لَا يُنَافِيهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا كَانَ مِنْ مَوَانِعِ الْعَقْدِ وَمَحْظُورَاتِهِ في البيع . وَهُوَ : كُلُّ شَرْطٍ مَنَعَ الْمُشْتَرِيَ مِنْ وَاجِبٍ ، أَوْ أَلْزَمَ الْبَائِعَ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، فَالَّذِي مَنَعَ الْمُشْتَرِيَ مِنْ وَاجِبٍ : أَنْ يَقُولَ بِعْتُكَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ عَلَى أَنْ لَا تَبِيعَهَا وَلَا تَطَأَهَا ، أَوْ بِعْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ عَلَى أَنْ لَا تَسْكُنَهَا وَلَا تُؤَاجِرَهَا ، أَوْ بِعْتُكَ هَذِهِ الدَّابَّةَ عَلَى أَنَّنِي أَرْكَبُهَا دُونَكَ ، أَوْ بِعْتُكَ هَذِهِ الْمَاشِيَةَ عَلَى أَنَّ نِتَاجَهَا وَلَبَنَهَا لِي دُونَكَ ، أَوْ بِعْتُكَ هَذِهِ الْأَرْضَ عَلَى أَنَّنِي أَزْرَعُهَا سَنَةً . وَأَمَّا الَّذِي أَلْزَمَ الْبَائِعَ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ . فَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَدْ بِعْتُكَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ عَلَى أَنْ لَا خَسَارَةَ عَلَيْكَ فِي ثَمَنِهَا ، أَوْ عَلَى أَنَّنِي ضَامِنٌ لَكَ مِائَةَ دِرْهَمٍ مِنْ رِبْحِهَا ، أَوْ بِعْتُكَ هَذَا النَّخْلَ عَلَى أَنَّنِي كَفِيلٌ بِمِائَةِ وَسَقٍ مِنْ ثَمَرِهَا ، أَوْ بِعْتُكَ هَذِهِ الْأَرْضَ عَلَى أَنَّنِي قَيِّمٌ لِعِمَارَتِهَا وَزِرَاعَتِهَا . فَهَذَانِ الضَّرْبَانِ وَمَا شَاكَلَهُمَا مِنَ الشُّرُوطِ بَاطِلَةٌ ، وَالْعَقْدُ بِاشْتِرَاطِهَا فِيهِ بَاطِلٌ ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ . وَذَهَبَ ابْنُ سِيرِينَ ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ ، إِلَى أَنَّهَا شُرُوطٌ لَازِمَةٌ وَالْعَقْدُ مَعَهَا ثَابِتٌ . وَذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ وَبُطْلَانِ الشَّرْطِ .

وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ : إِنْ كَانَ شَرْطًا وَاحِدًا صَحَّ الْعَقْدُ وَلَزِمَهُ الشَّرْطُ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ شَرْطٍ بَطَلَ الْبَيْعُ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ كَانَ شَرْطُ الْبَائِعِ مِنْ مَنَافِعِ الْمَبِيعِ يَسِيرًا ، كَسُكْنَى يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ صَحَّ الْبَيْعُ وَالشَّرْطُ ، وَإِنْ كَثُرَ بَطَلَ الْبَيْعُ وَالشَّرْطُ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَ الْبَيْعَ وَأَبْطَلَ الشَّرْطَ بِحَدِيثِ بَرِيرَة أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا أَرَادَتْ شِرَاءَهَا مَنَعَ مَوَالِيهَا إِلَّا بِأَنْ تَشْتَرِطَ لَهُمُ الْوَلَاءَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اشْتَرِي وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ ، فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ ، فَاشْتَرَتْهَا ، فَأَبْطَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّرْطَ ، وَأَمْضَى الْبَيْعَ ، وَقَالَ : مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ ، وَلَوْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ ، وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لَمَنْ أَعْتَقَ . وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ الْبَيْعِ وَالشَّرْطِ ؛ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ . وَهَذَا النَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ : وَلِأَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ لَا تَخْلُو أَنْ تَكُونَ عَلَى الْبَائِعِ أَوْ عَلَى الْمُشْتَرِي . فَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْبَائِعِ فَقَدْ مَنَعَتْهُ مِنِ اسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ عَلَى الثَّمَنِ ، وَأَدَّتْ إِلَى جَهَالَةٍ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْمُشْتَرِي فَقَدْ مَنَعَتْهُ مِنْ تَمَامِ مِلْكِهِ لِلْمَبِيعِ ، وَأَضْعَفَتْ تَصَرُّفَهُ فِيهِ ، فَبَطَلَ الْعَقْدُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا . وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَ الْبَيْعَ وَالشَّرْطَ بِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَاعَ مِنْهُ بَعِيرًا بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ ، وَقَالَ : لَكَ ظَهْرُهُ حَتَّى تَأْتِيَ الْمَدِينَةَ " . قَالُوا : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَقْدِهِ شَرْطًا فَاسِدًا ، فَدَلَّهُ عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ وَالشَّرْطِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُ مَنْ أَجَازَ الْبَيْعَ وَالشَّرْطَ بِحَدِيثِ جَابِرٍ فَفِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ شَرْطٌ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقْدِ . وَالثَّانِي : لَمْ يَكُنْ ذَاكَ مَعَ جَابِرٍ بَيْعًا مَقْصُودًا : لِرِوَايَةِ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ الثَّمَنَ وَرَدَّ عَلَيْهِ الْجَمَلَ ، وَقَالَ : " أَتُرَانِي إِنَّمَا مَاكَسْتُكَ لِآخُذَ جَمَلَكَ ، خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ فَهُمَا لَكَ " ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَرَادَ مَنْفَعَتَهُ لَا مُبَايَعَتَهُ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ مَنْ أَجَازَ الْبَيْعَ وَأَبْطَلَ الشَّرْطَ بِحَدِيثِ بَرِيرَة ، فَإِنَّ هِشَامَ بْنَ عُرْوَة وَهُوَ الَّذِي اخْتَصَّ بِقَوْلِهِ : وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ إِلَّا عَنْهُ . عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ : وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ ؛ أَيْ : عَلَيْهِمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : لَهُمُ اللَّعْنَةُ [ الرَّعْدِ : ] أَيْ : عَلَيْهِمُ اللَّعْنَةُ . وَقِيلَ : إِنَّ الشَّرْطَ إِنَّمَا كَانَ فِي الْعِتْقِ لَا فِي الْبَيْعِ ، عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ بِهَذَا الشَّرْطِ إِبْطَالَ الْوَلَاءِ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ لَتَقَرُّرِ الشَّرْطِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فَكَانَ حُكْمُهُ مَخْصُوصًا . وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ إِسْحَاقُ مِنْ إِجَازَةِ شَرْطٍ وَاحِدٍ وَإِبْطَالِ أَكْثَرَ مِنْهُ فَلَا وَجْهَ لَهُ : لِأَنَّهُ إِنْ جَرَى مَجْرَى الشُّرُوطِ الْجَائِزَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ ، وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْطُلَ ، وَإِنْ كَانَ شَرْطًا وَاحِدًا وَكَذَا الْقَوْلُ لِمَالِكٍ .

وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ : وَهُوَ بَيْعُ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ بِشَرْطِ الْعِتْقِ فَفِي صِحَّةِ الْبَيْعِ وَالشُّرُوطِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ وَالْبَيْعَ بَاطِلٌ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ ، إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ : إِنْ أَعْتَقَهُ نَفَذَ عِتْقَهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمَقْبُوضَ عَنْ بَيْعٍ فَاسِدٍ يَنْفُذُ فِيهِ الْعِتْقُ ، لَكِنْ يَضْمَنُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِالثَّمَنِ . وَقَالَ صَاحِبَاهُ : يَضْمَنُ بِالْقِيمَةِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إِنَّ عِتْقَهُ لَا يَنْفُذُ فِيهِ لِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ . وَوَجَّهَ هَذَا الْقَوْلَ فِي بُطْلَانِ الشَّرْطِ وَالْبَيْعِ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ ، لِأَنَّ مُشْتَرِيَ الْعَبْدِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُعْتِقَ وَبَيْنَ أَنْ لَا يُعْتِقَ ، فَلَمَّا كَانَ إِذَا اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُعْتِقَهُ بَطَلَ الْبَيْعُ لِإِيقَاعِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ ، فَالشَّرْطُ وَاجِبٌ إِذَا اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ أَنْ يُعْتِقَهُ أَنْ يَبْطُلَ بِهِ الْبَيْعُ لِإِيقَاعِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ بِالشَّرْطِ . وَتَحْرِيرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسًا أَنَّهُ شَرْطٌ مَعَ كَمَالِ التَّصَرُّفِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ الْبَيْعُ كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يُعْتِقَهُ . وَلِأَنَّهُ لَوِ ابْتَاعَهُ بِشَرْطِ الْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ فَسَدَ الْبَيْعُ . وَكَذَا لَوِ ابْتَاعَ دَارًا بِشَرْطِ الْوَقْفِ بَطلَ الْبَيْعُ ، فَوَجَبَ إِذَا ابْتَاعَهُ بِشَرْطِ الْعِتْقِ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ فِي الْحُكْمِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ وَالشَّرْطُ صَحِيحٌ ، وَوَجْهُ رِوَايَةُ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : كَاتَبْتُ بَرِيرَةَ عَلَى نَفْسِهَا بِتِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ أُوقِيَّةٌ ، فَجَاءَتْ ( إِلَى ) عَائِشَةَ تَسْتَعِينُهَا ، فَقَالَتْ : لَا وَلَكِنْ إِنْ شِئْتِ عَدَدْتُ لَهُمْ مَالَهُمْ عَدَةً وَاحِدَةً وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِي . فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا فَذَكَرَتْ لَهُمْ ذَلِكَ فَأَبَوْا عَلَيْهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ . فَجَاءَتْ إِلَى عَائِشَةَ ( فَسَأَلَتْهَا مَا قَالَتْ لَهُمْ ) فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَمَا ذَاكَ ؟ فَأَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا . فَقَالَ لَهَا : ابْتَاعِيهَا وَاعْتِقِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ ( فَإِنَّ ) الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ . فَاشْتَرَتْهَا فَأَعْتَقَتْهَا فَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ وَخَطَبَ ، وَقَالَ : " مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، إِنَّ مَنْ شَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ ، قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشُرُوطُهُ أَوْثَقُ ، مَا بَالُ رِجَالٍ مِنْكُمْ يَقُولُونَ أَعْتِقْ فُلَانًا وَالْوَلَاءُ لَنَا إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ . فَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ ابْتِيَاعَ بَرِيرَةَ كَانَ بِشَرْطِ الْعِتْقِ بِدَلِيلِ اشْتِرَاطِ الْوَلَاءِ ، فَصَحَّحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْعَ مَعَ اشْتِرَاطِهِ ، وَأَبْطَلَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ إِلَّا لِمُعْتِقِهِ . وَلِأَنَّهُ كَمَا كَانَ لَوْ قَالَ لَهُ أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي بِأَلْفٍ صَحَّ الْبَيْعُ وَنَفَذَ الْعِتْقُ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ لِلْبَاذِلِ عَلَى الْعَبْدِ مَالٌ فَمَا اسْتَقَرَّ بِالْعَقْدِ مَلَكَهُ وَشَرَطَ عَلَيْهِ عِتْقَهُ أَوْلَى أَنْ يَصِحَّ : وَلِأَنَّ اسْتِحْدَاثَ الْمِلْكِ لَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْعِتْقِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى أَبَاهُ صَحَّ بَيْعُهُ وَنَفَذَ عِتْقُهُ ، فَوَجَبَ إِذَا لَمْ يُنَافِيهِ أَنْ يَصِحَّ اشْتِرَاطُهُ فِيهِ ، وَلِأَنَّ لِلْعِتْقِ فَضْلُ مَزِيَّةٍ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الشُّرُوطِ : لِأَنَّهُ يَنْفُذُ فِي الْمِلْكِ وَيَسْرِي إِلَى غَيْرِ الْمِلْكِ وَيَقَعُ بِاخْتِيَارٍ وَغَيْرِ اخْتِيَارٍ فِيمَنِ اشْتَرَى وَالِدًا أَوْ وَلَدًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فَضْلُ مَزِيَّةٍ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الشُّرُوطِ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ بِهِ ، وَإِنْ بَطَلَ بِغَيْرِهِ وَلَيْسَ لِاعْتِبَارِ اشْتِرَاطِ

الْعِتْقِ بِأَنْ لَا يُعْتِقَ وَجْهٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ فَضْلِ مَزِيَّةِ الْعِتْقِ عَلَى غَيْرِهِ ، وَلَا لِاعْتِبَارِهِ بِالْكِتَابَةِ : لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مُعَاوَضَةٌ بِشَبَهِ اشْتِرَاطِ بَيْعِهِ وَلَا تُشْبِهُ اشْتِرَاطَ عِتْقِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ وَالْبَيْعَ جَائِزٌ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ ، وَهُوَ النَّاقِلُ لِهَذَا الْقَوْلِ عَنِ الشَّافِعِيِّ ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُ وَلَا يُحْفَظُ عَنْهُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ أَبِي ثَوْرٍ ، وَوَجْهُهُ ضَعِيفٌ : لِأَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ لَا يَصِحُّ مَعَهُ الْبَيْعُ فِي مَوْضِعٍ بِحَالٍ ، فَلَيْسَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبًا ، فَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبًا فَلَعَلَّ مِنْ دَلِيلِ قَائِلِهِ حَدِيثَ بَرِيرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَبْطَلَ بَيْعَهَا بِاشْتِرَاطِ الْعِتْقِ ، وَلَا أَلْزَمَ عَائِشَةَ عِتْقَهَا فَإِنَّمَا أُعْتِقَتْ بِاخْتِيَارِهَا . فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْبَيْعَ وَالشَّرْطَ بَاطِلَانِ فَلَا تَفْرِيعَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الْبَيْعَ وَالشَّرْطَ صَحِيحَانِ فَقَدِ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ عِتْقَهُ بِالشَّرْطِ ، فَإِنْ أَعْتَقَهُ فَقَدْ فَعَلَ مِمَّا لَزِمَهُ وَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لَهُ : لِأَنَّهُ هُوَ الْمُعْتِقُ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُعْتِقْهُ فَهَلْ يُجْبَرُ عَلَى عِتْقِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُجْبَرُ عَلَى عِتْقِهِ لِاسْتِحْقَاقِهِ عَلَيْهِ بِالشَّرْطِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ جَنَى الْعَبْدُ قَبْلَ عِتْقِهِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ فِي جِنَايَتِهِ ، وَأَخَذَ الْمُشْتَرِي بِفِدْيَتِهِ : لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ عِتْقِهِ سَبَبٌ مِنْ جِهَتِهِ فَجَرَى مَجْرَى أُمِّ وَلَدِهِ . وَالثَّانِي : لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ لِاسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِبَائِعِهِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ لِأَجْلِ شَرْطِهِ . فَلَوْ تَسَلَّمَهُ الْمُشْتَرِي فَلَمْ يُعْتِقْهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا حَتَّى مَاتَ فِي يَدِهِ كَانَ فِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ الْمُشْتَرِي بِهِ ، ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ لِأَصْحَابِنَا : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَضْمَنَهُ بِالثَّمَنِ : لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَنْ بَيْعٍ صَحِيحٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَضْمَنُ بِالثَّمَنِ وَبِالْقَدْرِ الَّذِي سَمَحَ بِهِ الْبَائِعُ حِينَ شَرَطَ عِتْقَهُ : لِأَنَّ مَا فِي مُقَابَلَةِ السَّمَاحَةِ فِي الْعِتْقِ لَمْ يُوجَدْ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَضْمَنُ بِالْقِيمَةِ دُونَ الثَّمَنِ وَيَكُونُ مَوْتُهُ قَبْلَ الْعِتْقِ مُبْطِلًا لِبَيْعِهِ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ فِيهِ . وَإِنْ قِيلَ : بِالْقَوْلِ الثَّالِثِ الَّذِي حَكَاهُ أَبُو ثَوْرٍ أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ وَالشَّرْطَ بَاطِلٌ ، فَعِتْقُهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ عَلَى مُشْتَرِيهِ لِفَسَادِ اشْتِرَاطِهِ وَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ عِتْقِهِ وَإِمْسَاكِهِ . فَإِنْ أَعْتَقَهُ نَفَذَ عِتْقُهُ وَلَا مَضَارَّ لِبَائِعِهِ ، وَإِذَا عَتَقَهُ الْمُشْتَرِي عَنْ كَفَّارَةٍ وَاجِبَةٍ فَهَلْ يَجْزِيهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَصَحُّهُمَا : يَجْزِيهِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مَالِكًا لَهُ وَمُخَيَّرًا فِي عِتْقِهِ . وَالثَّانِي : لَا يَجْزِيهِ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مُوكِسٌ فِي ثَمَنِهِ فَكَانَ كَالنَّقْصِ بِهِ . وَإِنِ امْتَنَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ عِتْقِهِ فَهَلْ لِلْبَائِعِ خِيَارٌ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ عَلَى الْمُشْتَرِي أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ لَا خِيَارَ لَهُ لِفَسَادِ الشَّرْطِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ لَهُ الْخِيَارُ : لِأَنَّ فَسَادَ الشَّرْطِ يَمْنَعُ مِنْ لُزُومِهِ وَلَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْخِيَارِ ، كَمَا لَوْ شَرَطَ فِي الْبَيْعِ رَهْنًا لَمْ يَلْزَمْ وَأَوْجَبَ خِيَارَ الْبَائِعِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ قَبَضَهَا فَأَعْتَقَهَا لَمْ يَجُزْ عِتْقُهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا شِرَاءً فَاسِدًا إِمَّا لِجَهَالَةِ ثَمَنِهِ ، وَإِمَّا لِفَسَادِ شَرْطِهِ ، وَإِمَّا لِتَحْرِيمِ ثَمَنِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ قَبْضَهُ ، فَإِنْ قَبَضَهُ لَمْ يَمْلِكْهُ بِالْقَبْضِ وَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ بَعْدَ الْقَبْضِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ عِتْقٍ ، كَانَ بَاطِلًا مَرْدُودًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْمَقْبُوضُ عَنْ عَقْدٍ فَاسِدٍ قَدْ مَلَكَهُ مِلْكًا ضَعِيفًا ، فَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ عِتْقٍ قَوِيٍّ مَلَكَهُ وَنَفَذَ تَصَرُّفُهُ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فَسَادُ الْعَقْدِ : لِأَنَّ ثَمَنَهَا مِمَّا لَا يَتَمَوَّلُ بِحَالٍ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ بِالْقَبْضِ ، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ بَرِيرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِعَائِشَةَ أَنْ تَشْتَرِيَهَا عَلَى الشَّرْطِ الْفَاسِدِ ، ثَمَّ أَمْضَى عِتْقَهَا وَأَنْفَذَ تَصَرُّفَهَا . قَالَ : وَلِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِعَقْدٍ وُجِدَ فِيهِ التَّسَلُّطُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْفُذَ فِيهِ تَصَرُّفُهُ كَالْمَقْبُوضِ عَنْ عَقْدٍ صَحِيحٍ . وَلِأَنَّ الْعَقْدَ فِي النِّكَاحِ مَوْضُوعٌ لِمِلْكِ الْبُضْعِ كَمَا أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ مَوْضُوعٌ لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ فَلَمَّا تَعَلَّقَ بِالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ أَحْكَامُ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ يُوجِبُ إِزَالَةَ مِلْكِ السَّيِّدِ كَمَا أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يُوجِبُ إِزَالَةَ مِلْكِ الْبَائِعِ ، فَلَمَّا اسْتَوَى حُكْمُ الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ فِي حُصُولِ الْعِتْقِ فِيهَا وَإِزَالَةِ الْمِلْكِ بِهَا ، وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ فِي نُفُوذِ التَّصَرُّفِ وَزَوَالِ الْمِلْكِ ، وَهَذَا خَطَأٌ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [ الْبَقَرَةِ : ] . فَلَوْ كَانَ الْمَقْبُوضُ بِالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ الْمُحَرَّمَةِ يَكُونُ مَمْلُوكًا مَا اسْتَحَقَّ الْوَعِيدَ عَلَيْهِ بِأَكْلِهِ ، فَلَمَّا تَوَجَّهَ الْوَعِيدُ إِلَيْهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُصِرَّ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ ، وَلِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَنْ بَيْعٍ فَاسِدٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ . أَصْلُهُ إِذَا ابْتَاعَهُ بِمَيْتَةٍ أَوْ دَمٍ . وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَحْصُلُ الْمِلْكُ بِهِ إِذَا عَقَدَ بِمَيْتَةٍ أَوْ دَمٍ لَمْ يَحْصُلِ الْمِلْكُ بِهِ إِذَا عَقَدَ بِخِنْزِيرٍ أَوْ خَمْرٍ كَالَّذِي لَمْ يَقْبِضْ ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَصْلٍ لَزِمَ رَدُّهُ بِنَمَائِهِ الْمُنْفَصِلِ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لِمَنْ لَزِمَهُ رَدُّهُ كَالْغَصْبِ الْمَقْبُوضِ عَلَى وَجْهِ السَّوْمِ . وَلِأَنَّ كُلَّ قَبْضٍ أَوْجَبَ ضَمَانَ الْقِيمَةِ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ الْمِلْكُ . أَصْلُهُ إِذَا أَقْبَضَهُ عَنْ بَيْعٍ فَاسِدٍ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ عِنْدَهُ يَمْنَعُ مِنْ حُصُولِ الْمِلْكِ فِي الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ مَعًا . وَلِأَنَّ الْمَبِيعَ يَمْلِكُ بِالْعَقْدِ وَالْهِبَةِ بِالْقَبْضِ ، فَلَمَّا لَمْ يَنْتَقِلِ الْمِلْكُ بِالْهِبَةِ عَنِ الْقَبْضِ إِلَى الْعَقْدِ لَمْ يَنْتَقِلِ الْمِلْكُ بِالْبَيْعِ عَنِ الْعَقْدِ إِلَى الْقَبْضِ . وَلِأَنَّ كُلَّ مِلْكٍ مَا قُبِضَ عَنْ بَيْعٍ فَاسِدٍ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ بِالْعَقْدِ أَوْ بِالْقَبْضِ أَوْ بِهِمَا جَمِيعًا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ بِالْعَقْدِ وَحْدَهُ : لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ

يَتَعَقَّبْهُ الْقَبْضُ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ الْمِلْكُ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ بِالْقَبْضِ وَحْدَهُ : لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ الْعَقْدُ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ الْمِلْكُ . وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ بِالْعَقْدِ وَالْقَبْضِ مَعًا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَوْضُوعِ الْبُيُوعِ الَّتِي يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ فِيهَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ . وَالثَّانِي : أَنَّ لِلْبَائِعِ بَعْدَ وُجُودِ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ اسْتِرْجَاعَهُ مِنَ الْمُشْتَرِي وَمُطَالَبَتَهُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ إِنْ وَطِئَ الْجَارِيَةَ الْمَقْبُوضَةَ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ ، وَلَوْ مَلَكَهُ لَمْ يَجُزِ انْتِزَاعُ مِلْكِهُ فِي يَدِهِ ، وَلَا مُطَالَبَتُهُ بِمَهْرٍ فِي وَطْءِ مِلْكِهُ ، فَدَلَّ عَلَى انْتِفَاءِ الْمِلْكِ فِي الْأَحْوَالِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ بَرِيرَةَ فَهُوَ أَنَّ عَقْدَ ابْتِيَاعِهَا كَانَ صَحِيحًا . لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِيهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ فِي عَقْدٍ فَاسِدٍ ، فَكَانَ عِتْقُ عَائِشَةَ صَادَفَ مِلْكًا عَنْ عَقْدٍ صَحِيحٍ . فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ فَمُنْتَقِضٌ بِالْعَقْدِ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ فِيهِ مَيْتَةً ، أَوْ دَمًا عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ فَصَحَّ الْمِلْكُ بِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْفَاسِدُ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِعَقْدِ النِّكَاحِ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ : لِأَنَّ مَا يُمْلَكُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ فِي الطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ وَالظِّهَارِ يَنْتَفِي عَنِ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَكَذَلِكَ الْبَيْعُ . وَأَمَّا لُحُوقُ النَّسَبِ وَوُجُوبُ الْعِدَّةِ فَهُوَ مِنْ أَحْكَامِ الْوَطْءِ وَلَيْسَ مِمَّا يُمْلَكُ بِالْعَقْدِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْكِتَابَةِ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْكِتَابَةَ الْفَاسِدَةَ إِذَا بَطَلَ حُكْمُ الْعَقْدِ فِيهَا بَقِيَ الْعِتْقُ بِالصِّفَةِ ، فَكَانَ الْعِتْقُ بِوُجُودِ الصِّفَةِ لَا بِالْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَيْعُ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لَا يُمْلَكُ بِهِ وَلَا بِالْقَبْضِ وَالتَّصَرُّفِ ، فَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ دَارًا فَبَنَى الْمُشْتَرِي فِيهَا بِنَاءً أَوْ كَانَتْ أَرْضًا فَغَرَسَ فِيهَا غَرْسًا ، لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ قَلْعُ بِنَائِهِ ، وَقِيلَ لَهُ : إِمَّا أَنْ تُعْطِيَهَ قِيمَةَ بِنَائِهِ وَغَرْسِهِ قَائِمًا ، أَوْ تَقْلَعَهُ وَتُعْطِيَهُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ لِلْبَائِعِ اسْتِرْجَاعُ الدَّارِ وَيَأْخُذُ قِيمَتَهَا مِنَ الْمُشْتَرِي . وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمَّدٌ : يَنْقُضُ الْبِنَاءَ وَتُرَدُّ الدَّارُ عَلَى بَائِعِهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنْ أَوْلَدَهَا رُدَّتْ إِلَى رَبِّهَا ، وَكَانَ عَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا وَقِيمَةُ وَلَدِهِ يَوْمَ خَرَجَ مِنْهَا ، فَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ الْحُكْمِ أَوْ بَعْدَهُ فَسَوَاءٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا ابْتَاعَ جَارِيَةً بَيْعًا فَاسِدًا وَقَبَضَهَا ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا بِالْقَبْضِ ، فَإِنْ وَطِئَهَا لَمْ تَحُلَّ ؛ لِأَنَّهُ وَطْءُ شُبْهَةٍ . وَتَعَلَّقَ بِوَطْئِهَا إِذَا رَدَّهَا خَمْسَةُ أَحْكَامٍ تَخْتَصُّ بِهَا ، رُبَّمَا اجْتَمَعَتْ وَرُبَّمَا افْتَرَقَتْ وَهِيَ : مَهْرُ الْمِثْلِ ، وَأَرْشُ الْبَكَارَةِ ، وَأَرْشُ نَقْصِهَا بِالْوِلَادَةِ ، وَأُجْرَةُ مِثْلِهَا مُدَّةَ كَوْنِهَا عِنْدَهُ ، وَقِيمَةُ وَلَدِهَا مِنْهُ . فَأَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ : فَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ وَطْءٌ سَقَطَ فِيهِ الْحَدُّ عَنْهَا فَأُوجِبَ الْمَهْرُ

لَهَا كَالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ . وَأَمَّا أَرْشُ الْبَكَارَةِ : فَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ إِتْلَافٌ مِنْ جِهَتِهِ فَكَانَ الْأَرْشُ فِي مُقَابَلَتِهِ ، وَلَا يَكُونُ وُجُوبُ مَهْرِ مِثْلِهَا بِكْرًا يُغْنِي عَنْ وُجُوبِ أَرْشِ الْبَكَارَةِ : لِأَنَّ الْمَهْرَ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ ، وَالْأَرْشَ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِهْلَاكِ فَلَمَّا اخْتَلَفَ سَبَبَيْهِمَا لَمْ يَمْتَنِعْ وُجُوبُهُمَا . فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ لَوْ وَطِئَ بِكْرًا حُرَّةً لَزِمَهُ مَهْرُ مِثْلِهَا بِكْرًا وَلَا يَلْزَمُهُ أَرْشُ بَكَارَتِهَا ، فَهَلَّا كَانَتِ الْأَمَةُ كَذَلِكَ قِيلَ : لَا ؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ بِالْيَدِ ؛ فَلَزِمَهُ أَرْشُ الْبَكَارَةِ لِوُجُودِ النَّقْصِ فِي يَدِهِ . وَالْحُرَّةُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ بِالْيَدِ . وَأَمَّا أَرْشُ نَقْصِهَا بِالْوِلَادَةِ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ لِضَمَانِ يَدِهِ ، وَلِحُدُوثِ ذَلِكَ عَنْ فِعْلِهِ فَلَوْ مَاتَتْ فِي وِلَادَتِهَا لَزِمَهُ قِيمَتُهَا ، وَهَلْ تَكُونُ فِي مَالِهِ أَوْ عَلَى عَاقِلَتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْعَاقِلَةِ ، هَلْ تَتَحَمَّلُ مَا جَنَى عَلَى الْعَبْدِ . وَأَمَّا أُجْرَةُ مِثْلِهَا فَإِنَّمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ : لِأَنَّهَا مَضْمُونَةُ الْمَنْفَعَةِ فَصَارَتْ كَالْمَغْصُوبَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ لَا أُجْرَةَ لِمِثْلِهَا فَلَا تَلْزَمُهُ أُجْرَةٌ . وَأَمَّا قِيمَةُ وَلَدِهَا فَإِنَّمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ لِأَنَّ أَوْلَادَهَا نَمَاءٌ مِنْهَا وَكَسْبٌ لِسَيِّدِهَا ، فَلَمَّا عُتِقُوا عَلَى الْوَطْءِ لِلِحُوقِهِم بِهِ فِي شُبْهَةِ مِلْكِهِ ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا مِنْ جِهَتِهِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُمْ ، كَالشَّرِيكِ إِذَا أَعْتَقَ حِصَّتَهُ فِي عَبْدٍ . وَإِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُمْ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ لَزِمَتْهُ الْقِيمَةُ عِنْدَ سُقُوطِهِمْ أَحْيَاءً . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَلَيْهِ قَبْضَهُمْ حِينَ التَّرَافُعِ إِلَى الْقَاضِي . وَهَذَا غَلَطٌ : لِأَنَّهَا قِيمَةُ مُسْتَهْلِكٍ فَاعْتُبِرَ فِيهَا وَقْتُ الِاسْتِهْلَاكِ ، وَقَدِ اسْتَهْلَكَهُمْ بِالْعِتْقِ وَقْتَ الْوِلَادَةِ فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ قِيمَتُهُمْ إِذْ ذَاكَ ، وَقَدْ كَانَ يَقْتَضِي أَنْ تَلْزَمَهُ قِيمَتُهُمْ وَقْتَ الْعُلُوقِ غَيْرَ أَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ فِيهَا ، فَاعْتُبِرَتْ حَالُ الْوِلَادَةِ : لِأَنَّهَا أَوَّلُ وَقْتِ الْإِمْكَانِ ، فَلَوْ وَضَعَتِ الْوَلَدَ مَيِّتًا لَمْ تَلْزَمْهُ قِيمَتُهُ : لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا قِيمَةَ لَهُ ، وَخَالَفَ مَوْتُ الْجَنِينِ الْمَضْمُونِ بِالْغِرَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ فِي سُقُوطِ الْجَنِينِ بِالضَّرْبِ جِنَايَةً عَلَى الْوَلَدِ ، حَدَثَ الْمَوْتُ مِنْهَا ، فَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِهَا ، وَلَيْسَ فِي الْوَطْءِ هَاهُنَا جِنَايَةً عَلَى الْوَلَدِ بِحُدُوثِ الْمَوْتِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ . وَالثَّانِي : أَنَّ فِي الْجَنِينِ دِيَّةً مُقَدَّرَةً بِالشَّرْعِ يُسْتَغْنَى بِهَا عَنِ اعْتِبَارِ قِيمَتِهِ فَوَجَبَتْ مَعَ الْمَوْتِ . وَفِي وَلَدِ هَذِهِ الْأَمَةِ الْقِيمَةُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا مَعَ الْمَوْتِ فَسَقَطَتْ مَعَهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ كَانَ بَاعَهَا فَسَدَ الْبَيْعُ حَتَى تُرَدَّ إِلَى الْأَوَّلِ فَإِنْ مَاتَتْ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ الْفَاسِدِ أَوْ أَقَلَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا قَبَضَ الْجَارِيَةَ عَنْ بَيْعٍ فَاسِدٍ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَهَا : لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا ، فَإِنْ بَاعَهَا فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ ، وَتُنْزَعُ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي وَتُرَدُّ إِلَى بَائِعِهَا الْأَوَّلِ ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ الَّذِي دَفَعَهُ إِلَيْهِ ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي الثَّانِي عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ بِالثَّمَنِ الَّذِي دَفَعَهُ إِلَيْهِ فَلَوْ بَاعَهُ الثَّانِي عَلَى ثَالِثٍ ، وَالثَّالِثُ عَلَى رَابِعٍ ، فَعُقُودُ جَمِيعِهِمْ بَاطِلَةٌ ، وَتُرَدُّ عَلَى الْأَوَّلِ وَيَتَرَاجَعُونَ بِالْأَثْمَانِ . فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَكَانَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ قَدْ بَاعَهَا عَلَى ثَانٍ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ :

أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ بِحَالِهَا أَوْ أَزْيَدَ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ قَدْ تَلِفَتَ . وَالثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ قَدْ نَقَصَتْ . فَإِنْ كَانَتْ بِحَالِهَا أَوْ أَزَيْدَ قِيمَةً وَجَبَ رَدُّهَا عَلَى الْأَوَّلِ ، وَيَتَرَاجَعَانِ الثَّمَنَ عَلَى مَا مَضَى ، وَإِنْ تَلِفَتْ فَهِيَ عَلَى ظَاهِرِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مَضْمُونَةٌ ضَمَانَ غَصْبِ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِنْ حِينِ الْقَبْضِ إِلَى حِينِ التَّلَفِ : لِأَنَّ مَا حَدَثَ مِنْ نَقْصٍ فَهُوَ مَضْمُونٌ كَضَمَانِ الْأَصْلِ ، وَمَا حَدَثَ مِنْ زِيَادَةٍ فَهُوَ تَابِعٌ لِلْأَصْلِ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : هُوَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ وَقْتَ التَّلَفِ وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا قَبْلَهُ بِخِلَافِ الْغَصْبِ : لِأَنَّ فِي الْغَصْبِ عُدْوَانًا يَتَغَلَّظُ بِهِ الضَّمَانُ ، وَالْأَوَّلُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ أَصَحُّ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَسَوَاءً كَانَتِ الْقِيمَةُ أَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ الْمَذْكُورِ فِي الْعَقْدِ أَوْ أَكْثَرَ . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَلَيْهِ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْقِيمَةِ وَالثَّمَنِ : لِأَنَّ الْقَيِمَةَ إِذَا زَادَتْ عَلَى الثَّمَنِ فَرَضِيَ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ سَقَطَ حَقُّهُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا فَسَدَ بَطَلَ اعْتِبَارُ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ مَنُوطٌ بِعَقْدٍ سَقَطَ حُكْمُهُ ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يُعْتَبَرَ الثَّمَنُ إِذَا نَقَصَ عَنِ الْقِيمَةِ نَظَرًا لِلْمُشْتَرِي لَجَازَ أَنْ يُعْتَبَرَ الثَّمَنُ إِذَا زَادَ عَلَى الْقِيمَةِ نَظَرًا لِلْبَائِعِ . فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَا يَخْلُو حَالُ قِيمَتِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَسْتَوِيَ قِيمَتُهَا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ وَالْمُشْتَرِي الثَّانِي ، فَيَقْبِضَهَا الْأَوَّلُ وَقِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ ، وَيَقْبِضَهَا الثَّانِي مِنَ الْأَوَّلِ وَقِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ تَمُوتُ فِي يَدِهِ ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنًا لِجَمِيعِ الْأَلْفِ بِحَقِّ يَدِهِ ، وَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ فِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْ عَلَى الثَّانِي ، فَإِنْ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْأَوَّلِ رَجَعَ الْأَوَّلُ بِهَا عَلَى الثَّانِي ، وَإِنْ رَجَعَ بِهَا عَلَى الثَّانِي ، لَمْ يَرْجِعِ الثَّانِي بِهَا عَلَى الْأَوَّلِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهَا فِي يَدِ الْأَوَّلِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا فِي يَدِ الثَّانِي ، كَأَنْ قَبَضَهَا الْأَوَّلُ وَقِيمَتُهَا أَلْفَانِ فَنَقَصَتْ فِي يَدِهِ حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهَا أَلْفًا ، ثُمَّ قَبَضَهَا الثَّانِي وَمَاتَتْ فِي يَدِهِ فَيَكُونُ الْأَوَّلُ ضَامِنًا لِأَلْفَيْنِ ، وَالثَّانِي ضَامِنًا لِأَلْفٍ وَاحِدٍ ، وَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَوَّلِ ، أَوْ عَلَى الثَّانِي ، فَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْأَوَّلِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ ، وَيَرْجِعُ الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي بِأَلْفٍ مِنْهَا ، وَإِنْ رَجَعَ عَلَى الثَّانِي رَجَعَ عَلَيْهِ بِأَلْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قَدْرُ قِيمَتِهَا حِينَ قَبَضَهَا : لِأَنَّ مَا نَقَصَ قَبْلَ قَبْضِهِ لَا يَضْمَنُهُ ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْأَوَّلِ بِالْأَلْفِ الثَّانِي ، وَهُوَ قَدْرُ الْقَبْضِ فِي يَدِهِ ، وَلَيْسَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَذَا الْأَلْفِ عَلَى الثَّانِي : لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْهَا ، وَلَا لِلثَّانِي أَنْ يَرْجِعَ بِالْأَلْفِ الَّتِي غَرَّمَهَا عَلَى الْأَوَّلِ : لِأَنَّ الثَّانِي قَدِ اسْتَهْلَكَهَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهَا فِي يَدِ الْأَوَّلِ أَقَلَّ ، وَفِي يَدِ الثَّانِي أَكْثَرَ ، كَأَنْ قَبَضَهَا الْأَوَّلُ وَقِيمَتُهَا أَلْفٌ ، وَسَلَّمَهَا إِلَى الثَّانِي فَزَادَتْ قِيمَتُهَا فِي يَدِهِ حَتَّى صَارَتْ أَلْفَيْنِ ، ثُمَّ مَاتَتْ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي ضَامِنًا لِأَلْفَيْنِ : أَمَّا الثَّانِي فَلِوُجُودِ هَذِهِ الْقِيمَةِ مَضْمُونَةٌ فِي يَدِهِ ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ أَصْلٌ لِلثَّانِي وَضَامِنٌ لِمَا خَرَجَ عَنْ يَدِهِ إِلَى غَيْرِ مَالِكِهِ ، وَيَكُونُ الْمَالِكُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ مُطَالَبَةِ

الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي ، فَإِنْ طَالَبَ الْأَوَّلُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِأَلْفَيْنِ ، وَرَجَعَ بِهَا الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي ، وَإِنْ طَالَبَ الثَّانِي رَجَعَ عَلَيْهِ بِأَلْفَيْنِ ، وَلَمْ يَرْجِعْ بِهَا الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ ، فَهَذَا الْحُكْمُ فِيهَا إِنْ تَلِفَتْ . فَأَمَّا إِنْ لَمْ تُتْلَفْ وَلَكِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا ، كَأَنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَلْفَيْنِ فَنَقَصَتْ حَتَّى صَارَتْ أَلْفًا ، ثُمَّ رُدَّتْ فَلَا يَخْلُو حَالُ هَذَا النَّقْصِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا فِي يَدِ الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي ، فَإِنْ حَدَثَ النَّقْصُ فِي يَدِ الْأَوَّلِ فَالْأَلْفُ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْأَوَّلِ ، وَلِلْمَالِكِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي ، وَلَيْسَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الثَّانِي ، وَإِنْ حَدَثَ النَّقْصُ فِي يَدِ الثَّانِي فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ لِهَذَا الْأَلْفِ ، وَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ فِي الرُّجُوعِ بِهَا عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ ، فَإِنْ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْأَوَّلِ رَجَعَ الْأَوَّلُ بِهَا عَلَى الثَّانِي ، وَإِنْ رَجَعَ بِهَا عَلَى الثَّانِي لَمْ يَرْجِعِ الثَّانِي بِهَا عَلَى الْأَوَّلِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ . ثُمَّ الْأُجْرَةُ مُسْتَحَقَّةٌ لِلْمُدَّةِ الْمَاضِيَةِ فَمَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ فِي يَدِ الْأَوَّلِ لَمْ يَجُزْ لِلْمَالِكِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الثَّانِي ، وَمَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ فِي يَدِ الثَّانِي كَانَ لِلْمَالِكِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي ، فَإِنْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْأَوَّلِ رَجَعَ الْأَوَّلُ بِهِ عَلَى الثَّانِي ، وَإِنْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الثَّانِي لَمْ يَرْجِعِ الثَّانِي بِهِ عَلَى الْأَوَّلِ .

مَسْأَلَةٌ لَوِ اشْتَرَى زَرْعًا وَاشْتَرَطَ عَلَى الْبَائِعِ حَصَادَهُ كَانَ فَاسِدًا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوِ اشْتَرَى زَرْعًا وَاشْتَرَطَ عَلَى الْبَائِعِ حَصَادَهُ كَانَ فَاسِدًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا اشْتَرَى مِنْهُ زَرْعًا بِدِينَارٍ عَلَى أَنَّ عَلَى الْبَائِعِ حَصَادَهُ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : كَانَ هَذَا فَاسِدًا . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يُخْرِجُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ : لِأَنَّهُ عَقْدٌ وَاحِدٌ قَدْ جَمَعَ بَيْعًا وَإِجَارَةً ، وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ إِذَا جَمَعَ شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي الْحُكْمِ ، كَبَيْعٍ وَإِجَارَةٍ ، أَوْ بَيْعٍ وَصَرْفٍ ، فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ جَائِزٌ فِيهِمَا جَمِيعًا لِجَوَازِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ فَجَازَ مَعَ الِاجْتِمَاعِ ، وَالثَّانِي : أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ فِيهِمَا جَمِيعًا : لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمًا مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْآخَرِ ، فَلَمْ يَصِحَّا مَعَ الِاجْتِمَاعِ لِتَنَافِي حُكْمِهِمَا . وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا : إِنَّ هَذَا بَاطِلٌ قَوْلًا وَاحِدًا . وَاخْتَلَفُوا فِي الْعِلَّةِ . فَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْعِلَّةُ فِي بُطْلَانِهِ أَنَّهُ إِذَا شَرَطَ عَلَى الْبَائِعِ حَصَادَهُ فَقَدْ صَارَ شَرْطًا فِي تَأْخِيرِ الْقَبْضِ ، وَالْبَيْعُ بِشَرْطِ تَأْخِيرِ الْقَبْضِ بَاطِلٌ . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلِ الْعِلَّةُ فِي بُطْلَانِهِ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى عَمَلٍ فِيمَا لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ : لِأَنَّ الزَّرْعَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَمْ يَمْلِكْهُ الْمُشْتَرِي بَعْدُ ، وَقَالَ آخَرُونَ : بَلِ الْعِلَّةُ فِي بُطْلَانِهِ شَرْطُ عَقْدَيْنِ فِي عَقْدٍ فَكَانَ فِي مَعْنَى بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ . فَلَوْ قَالَ : قَدِ ابْتَعْتُ مِنْكَ هَذَا الزَّرْعَ وَتَحْصُدُهُ لِي بِدِينَارٍ جَازَ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ الْأَخِيرِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ أَحَدُهُمَا شَرْطًا فِي الْآخَرِ ، وَلَمْ يَجُزْ عَلَى التَّعْلِيلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ ، وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِذَا اشْتَرَى ثَوْبًا وَشَرَطَ عَلَى الْبَائِعِ خِيَاطَتَهُ

أَوْ طَعَامًا وَشَرَطَ عَلَيْهِ طَحْنَهُ أَوْ مَتَاعًا وَشَرَطَ عَلَيْهِ نَقْلَهُ ، فَالْجَوَابُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَاحِدٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ لَوْ قَالَ بِعْنِي هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُلَّ إِرْدَبٍّ بِدِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تَزِيدَنِي إِرْدَبًّا أَوْ أَنْقُصَكَ إِرْدَبًّا كَانَ فَاسِدًا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ قَالَ بِعْنِي هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُلَّ إِرْدَبٍّ بِدِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تَزِيدَنِي إِرْدَبًّا أَوْ أَنْقُصَكَ إِرْدَبًّا كَانَ فَاسِدًا ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا النَّحْوِ فَالْبَيْعُ فِيهِ فَاسِدٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا بَيْعُ الصُّبْرَةِ مِنَ الطَّعَامِ جُزَافًا لَا يُعْلَمُ قَدْرَ كَيْلِهَا فَجَائِزٌ : لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِالصِّفَةِ تَارَةً ، وَبِالْمُشَاهَدَةِ تَارَةً ، وَهَذِهِ الصُّبْرَةُ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّرْ كَيْلُهَا بِالصِّفَةِ فَقَدْ تَقَدَّرَتْ جُمْلَتُهَا بِالرُّؤْيَةِ . وَإِنْ وَجَدَ الصُّبْرَةَ عَلَى رَبْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ أَوْ دَكَّةٍ أَوْ وَجَدَ دَاخِلَهَا عَفَنًا أَوْ نَدَبًا أَوْ مَعِيبًا ، فَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْمَقَامِ أَوِ الْفَسْخِ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِسُوقِ الطَّعَامِ فَرَأَى طَعَامًا فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ فَرَأَى تَحْتَهُ نَدِيًّا فَأَظْهَرَ النَّدَاوَةَ ، وَقَالَ : هَكَذَا تَبِيعُون ، مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا . وَرُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ قَالَ : أَمَرَنِي جِبْرِيلُ بِأَنْ أُدْخِلَ يَدِيَّ فِيهِ " فَلَوِ ابْتَاعَ مِنْهُ نِصْفَ الصُّبْرَةِ أَوْ ثُلُثَهَا أَوْ رُبْعَهَا مَشَاعًا ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَبْلَغَ كَيْلِهَا جَازَ أَيْضًا : لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَبْتَاعَ جَمِيعَهَا مَعَ الْجَهْلِ بِقَدْرِ كَيْلِهَا جَازَ ابْتِيَاعُ نِصْفِهَا أَوْ ثُلُثِهَا : لِأَنَّهُ قَدْرٌ مَعْلُومٌ مِنْ جُمْلَةٍ مُشَاهَدَةٍ ، فَصَارَ كَابْتِيَاعِ نِصْفِ دَارٍ مُشَاهَدَةٍ لَا يَعْلَمُ قَدْرَ زَرْعِهَا ، فَلَوِ ابْتَاعَ مِنْهُ صُبْرَةَ طَعَامٍ كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ ، وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ وَقْتَ الْعَقْدِ مَبْلَغَ كَيْلِهَا جَازَ : لِأَنَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا وَقْتَ الْعَقْدِ فَقَدْ عَقَدَاهُ بِمَا يَصِيرُ الثَّمَنُ بِهِ مَعْلُومًا بَعْدَ الْعَقْدِ . فَلَوِ ابْتَاعَ مِنْهُ عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ مِنَ الصُّبْرَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ فَإِنْ عَلِمَا أَنَّ فِي الصُّبْرَةِ عَشَرَةُ أَقْفِزَةٍ فَأَكْثَرَ ، جَازَ الْبَيْعُ ، وَإِنْ جَهِلَا أَوْ أَحَدُهُمَا كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا ؛ لِلشَّكِّ فِي وُجُودِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ . فَلَوِ ابْتَاعَ مِنَ الصُّبْرَةِ كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَدْرَ مَا ابْتَاعَهُ مِنْهَا بِقُفْزَانٍ مَعْلُومَةٍ ، وَلَا بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ فِي الْجُمْلَةِ كَنِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ لَمْ يَجُزْ ، وَكَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا : لِأَنَّ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ مِنْهَا مَجْهُولٌ . وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْبَيْعَ يَجُوزُ فِي قَفِيزٍ مِنْهَا وَيَبْطُلُ فِيمَا سِوَاهُ ، وَهُوَ قَوْلٌ مَنْ ذَهَبَ فِي الْإِجَارَةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا كُلَّ شَهْرٍ بِدِينَارٍ أَنَّهُ يَجُوزُ الْعَقْدُ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ وَيَبْطُلُ فِيمَا سِوَاهُ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعَقْدَ يَبْطُلُ فِي جَمِيعِ الصُّبْرَةِ وَجَمِيعِ الْإِجَارَةِ : لِأَنَّ ذِكْرَ الْقَفِيزِ مِنَ الصُّبْرَةِ وَذِكْرَ الشَّهْرِ فِي الْإِجَارَةِ إِنَّمَا هُوَ لِتَقْدِيرِ الثَّمَنِ وَالْأُجْرَةِ ، لَا لِتَقْدِيرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مِنَ الْجُمْلَةِ . وَلَكِنْ لَوْ قَالَ : قَدْ بِعْتُكِ مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ قَفِيزًا بِدِرْهَمٍ وَمَا زَادَ بِحِسَابِهِ ، صَحَّ الْبَيْعُ فِي الْقَفِيزِ الْوَاحِدِ لِوُقُوعِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ ، وَتَقْدِيرُ الْمَبِيعِ بِهِ وَبَطَلَ فِيمَا سِوَاهُ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : أَجَّرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ شَهْرًا بِدِرْهَمٍ وَمَا زَادَ عَلَى الشَّهْرِ بِحِسَابِهِ صَحَّتِ الْإِجَارَةُ فِي الشَّهْرِ وَبَطَلَتْ فِيمَا سِوَاهُ . فَلَوِ ابْتَاعَ قَفِيزًا مِنْ صُبْرَةٍ بِدِرْهَمٍ فَتَلِفَتِ الصُّبْرَةُ إِلَّا قَفِيزًا مِنْهَا ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْبَيْعَ يَتَعَيَّنُ فِي الْقَفِيزِ الْبَاقِي فَيَصِيرُ كُلُّهُ مَبِيعًا وَيَصِحُّ الْعَقْدُ فِيهِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ التَّالِفَ مِنَ الصُّبْرَةِ هُوَ تَالِفٌ مِنَ الْقَفِيزِ الْمَبِيعِ وَمِنْ سَائِرِ الصُّبْرَةِ فَيَبْطُلُ مِنْ بَيْعِ الْقَفِيزِ بِقِسْطٍ مَا تَلَفَ مِنَ الصُّبْرَةِ ، وَيَكُونُ الْبَاقِي مِنْهُ عَلَى تَفْرِيقِ الصِّفَةِ إِذَا كَانَ لِمَعْنَى حَادِثٍ بَعْدَ الْعَقْدِ . فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ ذَكَرْنَاهَا تَفْرِيعًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَصُورَتُهَا أَنْ يَقُولَ : قَدِ ابْتَعْتُ مِنْكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تَزِيدَنِي قَفِيزًا أَوْ أَنْقُصَكَ قَفِيزًا ، فَهَاهُنَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : إِحْدَاهُنَّ : أَنْ يَجْمَعَ فِي شَرْطِهِ بَيْنَ ذِكْرِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَيَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلًا : لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْتَصِرْ بِالشَّرْطِ عَلَى أَحَدِهِمَا صَارَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا : لِأَنَّنَا إِنْ أَثْبَتْنَا الزِّيَادَةَ صَارَ كُلُّ قَفِيزٍ وَشَيْءٍ بِدِرْهَمٍ ، وَإِنْ أَثْبَتْنَا النُّقْصَانَ صَارَ كُلُّ قَفِيزٍ إِلَّا شَيْئًا بِدِرْهَمٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِحَّ الْعَقْدُ مَعَ هَذِهِ الْجَهَالَةِ . وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقُولَ : قَدِ ابْتَعْتُ مِنْكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تَزِيدَنِي قَفِيزًا . فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَجْهَلَا كَيْلَ الصُّبْرَةِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَعْلَمَاهُ : فَإِنْ جَهِلَا كَيْلَ الصُّبْرَةِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ : لِأَنَّ الصُّبْرَةَ إِنْ كَانَتْ عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ كَانَ كُلُّ قَفِيزٍ وَعُشْرٍ بِدِرْهَمٍ ، وَإِنْ كَانَتْ خَمْسَةُ أَقْفِزَةٍ كَانَ كُلُّ قَفِيزٍ وَخُمْسٍ بَدْرِهَمٍ ، فَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى جَهَالَةِ الثَّمَنِ الَّذِي يَبْطُلُ مَعَهُ الْعَقْدُ . وَإِنْ عَلِمَا كَيْلَ الصُّبْرَةِ وَأَنَّهَا عَشَرَةُ أَقْفِزَةٍ ، فَإِنْ كَانَ الْقَفِيزُ الَّذِي اسْتَزَادَهُ غَيْرَ مُشَاهَدٍ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ كَانَ مُشَاهَدًا أَوْ فِي صُبْرَةٍ مُشَاهَدَةٍ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْقَفِيزِ الْمُسْتَزَادِ مِنْ أَنْ يَجْعَلَاهُ هِبَةً أَوْ مَبِيعًا أَوْ يُطْلِقَاهُ . فَإِنْ جَعَلَاهُ هِبَةً بَطَلَ الْبَيْعُ : لِأَنَّهُ بَيْعٌ بِشَرْطِ الْهِبَةِ ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ قَدِ ابْتَعْتُ دَارَكَ هَذِهِ بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ تَهَبَ لِي هَذَا الْعَبْدَ فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ ، وَإِنْ جَعَلَا الْقَفِيزَ الْمُسْتَزَادَ مَبِيعًا لَا هِبَةَ صَحَّ الْبَيْعُ : لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُبْتَاعًا لِأَحَدَ عَشَرَ قَفِيزًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ كُلُّ قَفِيزٍ وَعُشْرٍ بِدِرْهَمٍ ، وَإِنْ أَطْلَقَا ذِكْرَ الْقَفِيزِ الْمُسْتَزَادِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَنْصَرِفُ إِطْلَاقُهُ إِلَى الْهِبَةِ أَوْ إِلَى الْمَبِيعِ ؛ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَنْصَرِفُ إِلَى الْهِبَةِ : لِأَنَّهُ أَغْلَبُ حَالَتَيِ الشَّرْطِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْبَيْعُ بَاطِلًا كَمَا لَوِ اشْتَرَطَهُ لَفْظًا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَنْصَرِفُ إِطْلَاقُهُ إِلَى الْبَيْعِ دُونَ الْهِبَةِ : لِأَنَّ إِطْلَاقَ الشُّرُوطِ مَحْمُولٌ عَلَى حُكْمِ مَا شُرِطَتْ فِيهِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْبَيْعُ صَحِيحًا كَمَا لَوْ شَرَطَهُ لَفْظًا . وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَقُولَ قَدْ بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ عَلَى أَنْ أَنْقُصَكَ قَفِيزًا ، فَإِنْ كَانَا أَوْ أَحَدُهُمَا يَجْهَلُ كَيْلَ الصُّبْرَةِ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ الْمُفْضِي إِلَى جَهَالَةِ الثَّمَنِ . وَإِنْ عَلِمَا كَيْلَ الصُّبْرَةِ وَأَنَّهَا عَشَرَةُ أَقْفِزَةٍ كَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا : لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَائِعًا قَفِيزًا إِلَّا عُشْرَ بِدِرْهَمٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110