كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

مَكَّةَ مَسْنُونٌ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الْغُسْلُ ، فَالْوُضُوءُ ، وَإِنْ تَعَذَّرَ الْوُضُوءُ ، فَالتَّيَمُّمُ ، وَإِنْ تُرِكَ ذَلِكَ كُلُّهُ مَعَ إِعْوَازِهِ أَوْ وُجُودِهِ ، أَجْزَأَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ .

مَسْأَلَةٌ يَدْخُلُ مِنْ ثَنِيَّةِ كَدَاءٍ وَتَغْتَسِلُ الْمَرْأَةُ الْحَائِضُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَدْخُلُ مِنْ ثَنِيَّةِ كَدَاءٍ وَتَغْتَسِلُ الْمَرْأَةُ الْحَائِضُ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْمَاءَ بِذَلِكَ وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْحَائِضِ " افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنَّكِ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِنَّمَا اسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ الدُّخُولَ مِنْهَا لِمَنْ كَانَ طَرِيقُهُ عَلَيْهَا ، لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَاءَ ذَا طُوًى ، بَاتَ حَتَّى صَلَّى الصُّبْحَ ، ثُمَّ اغْتَسَلَ وَدَخَلَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ ، وَخَرَجَ حِينَ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مِنْ ثَنِيَّةِ كِدَاءَ فَلِذَلِكَ مَا اسْتَحْبَبْنَا لَهُ تَأَسِّيًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ ثَنِيَّةِ كَدَاءٍ الْعُلْيَا ، وَيَخْرُجَ مِنْ ثَنِيَّةِ كَدَاءٍ السُّفْلَى ، وَكَذَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ خَرَجَ إِلَى الْعُمْرَةِ أَنْ يَعْلُوَ ثَنِيَّةَ كَدَاءٍ ، وَيَدْخُلَ مِنَ الْمَعْلَاةِ ، وَقَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ الْيَوْمَ بِدُخُولِ الْمُعْتَمِرِينَ مِنْ جِهَةِ الْمَنْقَلَةِ مِنْ بَابِ إِبْرَاهِيمَ ، وَمِنْ أَيْنَ دَخَلَ أَجَزْأَهُ وَإِنْ تَرَكَ الْأَفْضَلَ وَالْأَوْلَى .

فَصْلٌ اسْتَحَبَّ قَوْمٌ دُخُولَ مَكَّةَ لَيْلًا

فَصْلٌ : اسْتَحَبَّ قَوْمٌ دُخُولَ مَكَّةَ لَيْلًا حكمه ، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَهَا لَمَّا اعْتَمَرَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ لَيْلًا مكة ، وَاسْتَحَبَّ آخَرُونَ أَنْ يَدْخُلَهَا نَهَارًا ، حُكِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَهَا فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ نَهَارًا وَفِي عَامِ الْفَتْحِ نَهَارًا وَفِي حَجَّةِ سَنَةِ عَشْرٍ نَهَارًا ، وَكِلَاهُمَا عِنْدَنَا سَوَاءٌ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُمَا ، وَاخْتَارَ قَوْمٌ أَنْ يَدْخُلَهَا رَاكِبًا مكة : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَهَا رَاكِبًا ، وَاخْتَارَ آخَرُونَ أَنْ يَدْخُلَهَا مَاشِيًا حَافِيًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى : فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى [ طه : ] ، . وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَقَدْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ سَبْعُونَ نَبِيًّا ، كُلُّهُمْ خَلَعُوا نِعَالَهُمْ مِنْ ذِي طُوًى تَعْظِيمًا لِلْحَرَمِ وَكِلَاهُمَا مُبَاحٌ ، وَالْمَشْيُ أَفْضَلُ .

فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ دَخَلَ مَكَّةَ أَنْ يَدْخُلَهَا بِخُشُوعِ قَلْبِ وَخُضُوعِ جَسَدٍ

فَصْلٌ : يُسْتَحَبُّ لِمَنْ دَخَلَ مَكَّةَ ، أَنْ يَدْخُلَهَا بِخُشُوعِ قَلْبِ ، وَخُضُوعِ جَسَدٍ ، دَاعِيًا بِالْمَعُونَةِ وَالتَّيْسِيرِ ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا دَخَلَ مَكَّةَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ مَنَايَانَا بِهَا حِينَ نَدْخُلُهَا إِلَى أَنْ نَخْرُجَ مِنْهَا . وَيَكُونُ مِنْ دُعَائِهِ ، مَا

رَوَاهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ دُخُولِهِ : اللَّهُمَّ هَذَا الْبَلَدُ بَلَدُكَ - وَالْبَيْتُ بَيْتُكَ جِئْتُ أَطْلُبُ رَحْمَتَكَ ، وَأَلُمُّ طَاعَتَكَ ، مُتَّبِعًا لِأَمْرِكَ ، رَاضِيًا بِقَدَرِكَ ، مُسَلِّمًا لِأَمْرِكَ ، أَسْأَلُكَ مَسْأَلَةَ الْمُضْطَرِّ إِلَيْكَ ، الْمُشْفِقِ مِنْ عَذَابِكَ خَائِفًا لِعُقُوبَتِكَ ، أَنْ تَسْتَقْبِلَنِي بِعَفْوِكَ ، وَأَنْ تَتَجَاوَزَ عَنِّي بِرَحْمَتِكَ ، وَأَنْ تُدْخِلَنِي جَنَّتَكَ . وَأَيُّ شَيْءٍ قَالَ مَا لَمْ يَكُنْ هُجْرًا جَازَ ، قَدْ رَوَى ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَابْنُ رَوَاحَةَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ ، يَقُولُ : خَلُّوا بَنِي الْكُفَارِ عَنْ سَبِيلِهِ الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : أَبَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى تَقُولُ الشِّعْرَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " خَلِّ عَنْهُ يَا عُمَرُ فَإِنَّهُ أَسْرَعُ فِيكُمْ مِنْ نَضْحِ النَّبْلِ "

فَصْلٌ : فَأَمَّا مَكَّةُ ، فَقَدْ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِاسْمَيْنِ : مَكَّةُ وَبَكَّةُ فَقَالَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ : إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا [ آلِ عِمْرَانَ : ] ، وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفَتْحِ : وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [ الْفَتْحِ : ] ، فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ قَوْمٌ : هُمَا لُغَتَانِ ، وَالْمُسَمَّى وَاحِدٌ : لِأَنَّ الْعَرَبَ تُبْدِلُ الْمِيمَ بِالْبَاءِ ، فَيَقُولُونَ : ضَرْبٌ لَازِبٌ وَلَازِمٌ ، لِقُرْبِ الْمَخْرَجَيْنِ . وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ هُمَا اسْمَانِ ، وَالْمُسَمَّى بِهِمَا شَيْئَانِ ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا ، فِي الْمُسَمَّى بِهِمَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَكَّةَ اسْمُ الْبَلَدِ ، وَبَكَّةَ اسْمُ الْبَيْتِ وَهَذَا قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ وَيَحْيَى . وَالثَّانِي : أَنَّ مَكَّةَ الْحَرَمُ كُلُّهُ ، وَبَكَّةَ الْمَسْجِدُ كُلُّهُ وَهَذَا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، فَأَمَّا مَكَّةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ تَمَكَّكْتُ الْمُخَّ تَمَكُّكًا إِذَا اسْتَخْرَجْتُهُ ، وَأَنْشَدَ بَعْضُ الرُّجَّازِ فِي تَلْبِيَتِهِ : يَا مَكَّةَ الْفَاجِرِ مُكِّي مَكَّا وَلَا تَمُكِّي مَذْحِجًا وَعَكَّا مَكَّةُ الْفَاجِرِ يَعْنِي بِمَكَّةَ الْعَاجِزَ عَنْهَا ، وَيُخْرِجُهُ مِنْهَا ، وَأَمَّا بَكَّةُ فَقَدْ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ : سُمِّيَتْ بِذَلِكَ : لِأَنَّ النَّاسَ يَبُكُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، أَيْ يَدْفَعُ ، وَأَنْشَدَ : إِذَا الشَّرِيبُ أَخَذَتْهُ أَكَّهْ فَحَلَّهُ حَتَّى يَبُكَّ بَكَّهْ

مَسْأَلَةٌ ما يقول إذا رأى البيت

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِذَا رَأَى الْبَيْتَ ما الذي يقال عند رؤيته قَالَ : اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ

تَشْرِيفًا ، وَتَعْظِيمًا ، وَمَهَابَةً ، وَتَكْرِيمًا ، وَزِدْ مِنْ عِظَمِهِ وَشَرَفِهِ ، مِمَّنْ حَجَّهُ أَوِ اعْتَمَرَ تَشْرِيفًا ، وَتَعْظِيمًا وَمَهَابَةً ، وَتَكْرِيمًا وَتَقُولُ اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ فَحَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلَامِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا دَخَلَ الْمُحْرِمُ إِلَى مَكَّةَ ، فَرَأَى الْبَيْتَ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهِ ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ مَا حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ بَعْدَهُ : اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ فَحَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلَامِ فَقَدْ قَالَهَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَحَكَاهُ عَنْ عُمَرَ ، ثُمَّ يُصَلِّي بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَمَا قَالَ مِنْ حَسَنٍ أَجْزَأَهُ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ عِنْدَ دُعَائِهِ إِذَا رَأَى الْبَيْتَ ، وَحُكِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ كَرِهَ رَفْعَ الْيَدَيْنِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ ، وَقَالَ : مَا أَعْرِفُ ذَلِكَ إِلَّا لِلْيَهُودِ ، وَقَدْ سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " تُرْفَعُ الْأَيْدِي فِي الصَّلَاةِ وَإِذَا رَأَيْتَ الْبَيْتَ ، وَعَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَعَشِيَّةَ عَرَفَةَ ، وَبِجَمْعٍ ، وَعِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ ، وَعَلَى الْبَيْتِ . وَرَوَى حَبِيبٌ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ : لَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفَعَ يَدَيْهِ فَوَقَعَ زِمَامُ نَاقَتِهِ ، فَأَخَذَهُ بِشِمَالِهِ وَرَفَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى . قَالَ الشَّافِعِيُّ : إِذَا دَخَلَ مَكَّةَ لَمْ يَبْدَأْ بِشَيْءٍ قَبْلَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَيَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ دُخُولُهُ مِنَ الْبَابِ الْأَعْظَمِ الَّذِي يَلِي الْمَعْلَاةَ وَالرَّدْمَ ، وَهُوَ بَابُ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ ، الَّذِي يُعْرَفُ الْيَوْمَ بِبَنِي شَيْبَةَ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ قَصَدَ ، وَلِأَنَّهُ يَكُونُ مُحَاذِيًا لِوَجْهِ الْكَعْبَةِ ، وَبَابِهَا وَالْمِنْبَرِ ، وَالْمَقَامِ وَالرُّكْنِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [ الْبَقَرَةِ : ] . وَلِأَنَّ كُلَّ مَقْصُودٍ فَسَبِيلُهُ أَنْ يُؤْتَى مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ ، لَا مِنْ ظَهْرِهِ ، وَلِيَكُونَ مِنْ قَوْلِهِ عِنْدَ دُخُولِهِ ، مَا رَوَاهُ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلْيَقُلِ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ " وَرَوَى الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ : لَمَّا دَخَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ قَالَ : اللَّهُمَّ إِنَّكَ قُلْتَ فِي كِتَابِنَا : " وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا " اللَّهُمَّ فَاجْعَلْ أَمَانَنَا عِنْدَكَ ، وَأَنْ تَكْفِيَنَا مُؤْنَةَ الدُّنْيَا ، وَكُلَّ هَوْلٍ دُونَ الْجَنَّةِ . فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ لَمْ يَبْدَأْ بَشَيْءٍ غَيْرِ الطَّوَافِ ، فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ سَبْعًا . لِرِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : " دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَ ارْتِفَاعِ الضُّحَى ، فَلَمَّا أَتَى بَابَ الْمَسْجِدِ ، أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ ، فَبَدَأَ بِالْحَجَرِ فَاسْتَلَمَهُ ، وَفَاضَتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْبُكَاءِ ، ثُمَّ رَمَلَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الرُّكْنِ الْآخَرِ فَاسْتَلَمَهُ وَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا ، فَلَمَّا فَرَغَ قَبْلَ الْحَجَرِ وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ ، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ " . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ : كَانَ أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ ، الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ . وَلِأَنَّ طَوَافَ الْقُدُومِ تَحِيَّةُ الْبَيْتِ ، كَمَا أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ ، ثُمَّ كَانَ قَاصِدُ الْمَسْجِدِ مَأْمُورًا بِتَحِيَّتِهِ ، فَكَذَلِكَ قَاصِدُ الْبَيْتِ مَأْمُورٌ بِتَحِيَّتِهِ .

فَإِنْ قِيلَ : هَلَّا كَانَتْ تَحِيَّةُ الْبَيْتِ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ كَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ . قِيلَ : لَمَّا كَانَ الْبَيْتُ أَفْضَلَ مِنْ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ تَحِيَّتُهُ أَفْضَلَ مِنْ تَحِيَّةِ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ ، وَالطَّوَافُ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ ، لِرِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْزِلُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا الْبَيْتِ فِي كُلِّ يَوْمٍ عِشْرِينَ وَمِائَةَ رَحْمَةٍ ، سِتُّونَ مِنْهَا لِلطَّائِفِينَ ، وَأَرْبَعُونَ لِلْمُصَلِّينَ ، وَعِشْرُونَ لِلنَّاظِرِينَ فَيَجْعَلُ لِلطَّائِفِ أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ الْمُصَلِّي " . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ . وَرَوَى أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " أَكْرَمُ سُكَّانِ أَهْلِ السَّمَاءِ عَلَى اللَّهِ ، الَّذِينَ يَطُوفُونَ حَوْلَ عَرْشِهِ ، وَأَكْرَمُ سُكَّانِ أَهْلِ الْأَرْضِ ، الَّذِينَ يَطُوفُونَ حَوْلَ بَيْتِهِ " . وَرَوَى الْحَسَنُ قَالَ : سَمِعْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَوِ الْمَلَائِكَةُ صَافَحَتْ أَحَدًا ، لَصَافَحَتِ الْغَازِيَ ، وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ خَوْضٌ فِي الرَّحْمَةِ ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيُبَاهِيَ بِالطَّائِفِينَ الْمَلَائِكَةَ . وَهَذَا الطَّوَافُ سُمِّيَ طَوَافَ الْقُدُومِ ، وَطَوَافَ الْوُرُودِ ، وَطَوَافَ التَّحِيَّةِ ، وَلَيْسَ بِنُسُكٍ ، فَإِنْ تَرَكَهُ تَارِكٌ ، فَحَجُّهُ يُجْزِئُ ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ . قَالَ أَبُو ثَوْرٍ : هُوَ نُسُكٌ ، لِحَجَّةِ الْمُحْرِمِ ، وَعَلَى تَارِكِهِ دَمٌ . قَالَ مَالِكٌ : إِنْ تَرَكَهُ مُرْهَقًا ، أَيْ مُسْتَعْجَلًا ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ تَرَكَهُ مُطِيقًا ، فَعَلَيْهِ دَمٌ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ هَذَا الطَّوَافَ تَحِيَّةُ الْبَيْتِ ، وَلَيْسَ بِنُسُكٍ يَتَعَلَّقُ بِالْحَجِّ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ طَافَ بِهِمُ الْوَقْتَ ، فَتَوَجَّهُوا إِلَى عَرَفَةَ ، يَسْقُطُ عَنْهُمْ ، وَلَوْ كَانَ نُسُكًا ، لَزِمَهُمْ أَنْ يَقْضُوا إِذَا عَادُوا ، أَوْ يَفْتَدُوا بِدَمٍ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِنُسُكٍ .

مَسْأَلَةٌ إِذَا أَرَادَ الطَّوَافَ فَيَجِبُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُفْتَتَحُ الطَّوَافُ بِالِاسْتِلَامِ ، فَيُقَبَّلُ الرُّكْنُ الْأَسْوَدُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا أَرَادَ الطَّوَافَ ، فَيَجِبُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ : وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَأَ بِهِ ، ثُمَّ يَصْنَعُ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنْ يُحَاذِيَهُ بِيَدَيْهِ لِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ ، اسْتَقْبَلَ الْحَجَرَ فَإِنْ حَاذَى جَمِيعَ الْحَجَرِ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ كَانَ أَوْلَى ، وَإِنْ حَاذَى بَعْضَ الْحَجَرِ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ ، أَجْزَأَهُ ، لِأَنَّ لَمَّا كَانَ الْمُسْتَقْبِلُ لِبَعْضِ الْكَعْبَةِ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ كَالْمُسْتَقْبِلِ لِجَمِيعِ الْكَعْبَةِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُحَاذِي لِبَعْضِ الْحَجَرِ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ ، كَالْمُحَاذِي لِجَمِيعِ الْحَجَرِ ، وَإِنْ حَاذَى جَمِيعَ الْحَجَرِ بِبَعْضِ بَدَنِهِ ، أَوْ حَاذَى بَعْضَ الْحَجَرِ بِبَعْضِ بَدَنِهِ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ : يُجْزِئُهُ ، لِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِالْبَدَنِ ، فَحُكْمُ الْبَعْضِ مِنْهُ حُكْمُ الْجَمِيعِ ، كَالْجِلْدِ .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ : لَا يُجْزِئُهُ : لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُسْتَقْبِلُ لِلْكَعْبَةِ بِبَعْضِ بَدَنِهِ فِي حُكْمِ غَيْرِ الْمُسْتَقْبِلِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُحَاذِي لِلْحَجَرِ بِبَعْضِ بَدَنِهِ ، فِي حُكْمِ غَيْرِ الْمُحَاذِي ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُحَاذِيَهُ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَمْسُهُ مَعَ أَوَّلِ الْحَجَرِ ، ثُمَّ يُجَاوِزُهُ طَائِفًا ، وَلَيْسَ اسْتِقْبَالُهُ شَرْطًا ، وَإِنَّمَا مُحَاذَاتُهُ شَرْطٌ .

فَصْلٌ : وَالثَّانِي : أَنْ يَسْتَلِمَهُ بِيَدِهِ لِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَلَمَهُ . وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " لَيُبْعَثَنَّ هَذَا الرُّكْنُ وَلَهُ لِسَانٌ ، وَعَيْنَانِ تَنْظُرَانِ ، يَشْهَدُ عَلَى مَنِ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْحَجَرُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ يُصَافِحُ بِهَا عِبَادَهُ . وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْحَجَرُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ مَسَحَهُ ، فَقَدْ بَايَعَ اللَّهَ . وَأَمَّا اسْتِلَامُ الْحَجَرِ ، فَهُوَ افْتِعَالٌ فِي التَّقْدِيرِ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّلَامِ وَهِيَ الْحِجَارَةُ ، وَأَحَدُهَا سَالِمَةٌ تَقُولُ : اسْتَلَمْتُ الْحَجَرَ إِذَا لَمَسْتُهُ مِنَ السَّلَامِ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ : تَدَاعَيْنَ بِاسْمِ الشَّيْبِ فِي مُتَثَلِّمٍ جَوَانِبُهُ مِنْ بَصْرَةٍ وَسَلَامِ فَالسَّلَامُ الْحِجَارَةُ السُّودُ ، وَالْبَصْرَةُ الْحِجَارَةُ الْبِيضُ ، وَبِهِ سُمِّيَتِ الْبَصْرَةُ لِمَا فِي أَرْضِهَا مِنْ عُدُوقِ الْحِجَارَةِ الْبِيضِ .

فَصْلٌ : وَالثَّالِثُ : أَنْ يُقَبِّلَهُ بِفِيهِ الحجر الأسود ، وَكَرِهَ مَالِكٌ تَقْبِيلَهُ وَقَالَ : يَسْتَلِمُهُ ، ثُمَّ يُقَبِّلُ يَدَهُ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ طَافَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ ، فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ بِمِحْجَنِهِ وَقَبَّلَ طَرَفَ مِحْجَنِهِ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : اسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَرَ ، فَاسْتَلَمَهُ فِي وَضْعِ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ يَبْكِي طَوِيلًا ، فَالْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ بِعُمَرَ يَبْكِي ، فَقَالَ : هَا هُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ . وَرَوَى ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبَّلَ الْحَجَرِ وَقَالَ : وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ " فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : أَمَا إِنَّهُ يَنْفَعُ وَيَضُرُّ ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَّا أَخَذَ الْعَهْدَ عَلَى آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ ، أَوْدَعَهُ فِي رِقٍّ وَفِي هَذَا الْحَجَرِ ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِمَنْ وَافَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَقَالَ عُمَرُ : لَا أَحْيَانِي اللَّهُ لِمُعْضِلَةٍ لَا يَكُونُ لَهَا ابْنُ أَبِي طَالِبٍ حَيًّا " . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَيُقَبَّلُ الْحَجَرُ بِلَا تَصْوِيتٍ وَلَا تَطْنِينٍ هَكَذَا السُّنَّةُ فِيهِ .

فَصْلٌ : وَالرَّابِعُ : أَنْ يَسْجُدَ عَلَيْهِ إِنْ أَمْكَنَهُ الحجر الأسود . قَالَ الشَّافِعِيُّ : لِأَنَّ فِيهِ تَقْبِيلًا وَزِيَادَةَ سُجُودٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَقَالَ مَالِكٌ : السُّجُودُ عَلَيْهِ بِدْعَةٌ ، وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ : رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدِمَ مَكَّةَ مُسَبِّدًا رَأْسَهُ ، فَقَبَّلَ الْحَجَرَ ، ثُمَّ سَجَدَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا ، وَذَلِكَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : التَّسْبِيدُ ، تَرْكُ التَّدَهُّنِ وَالْغُسْلِ .

فَصْلٌ ما يقول عند استلامه

فَصْلٌ : وَالْخَامِسُ : أَنْ يَقُولَ عِنْدَ اسْتِلَامِهِ بِسْمِ اللَّهِ ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ ، اللَّهُمَّ إِيمَانًا بِكَ ، وَتَصْدِيقًا لِكِتَابِكَ ، وَوَفَاءً بَعَهْدِكَ ، وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ عِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ : بِسْمِ اللَّهِ ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا هَدَانَا ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكَفَرْتُ بِالطَّاغُوتِ وَبِاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَا ادُّعِيَ دُونَ اللَّهِ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ " . وَمَا قَالَهُ مِنْ ذِكْرٍ وَتَعْظِيمِهِ فَحَسَنٌ ، فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ ، فَجَمِيعُهَا سُنَّةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، إِلَّا مُحَازَاةَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ما الذي يقال عند التزامه لَا غَيْرَ ، فَإِنْ كَانَتْ زَحْمَةٌ لَا يَقْدِرُ مَعَهَا عَلَى الِاسْتِلَامِ وَالتَّقْبِيلِ إِلَّا بِزِحَامِ النَّاسِ ، نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ إِنْ صَبَرَ يَسِيرًا خَفَّ الزِّحَامُ ، وَأَمْكَنَهُ الِاسْتِلَامُ صَبَرَ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الزِّحَامَ لَا يَخِفُّ ، تَرَكَ الِاسْتِلَامَ للحجر الأسود للزحام وَلَمْ يُزْحِمِ النَّاسَ وَأَشَارَ إِلَيْهِ رَافِعًا لِيَدِهِ ثُمَّ يُقَبِّلُهَا . وَحُكِيَ عَنْ طَائِفَةٍ ، أَنَّ الزِّحَامَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ . فَرُوِيَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : كُنَّا نُزَاحِمُ ابْنَ عُمَرَ عَلَى الرُّكْنِ ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ زَاحَمَ الْإِبِلَ لَزَحَمَهَا . وَرُوِيَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ ، قَالَ : سَأَلْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنِ اسْتِلَامِ الرُّكْنِ فَقَالَ : اسْتَلِمْهُ يَا ابْنَ أَخِي وَزَاحِمْ عَلَيْهِ ، فَإِنِّي رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يُزَاحِمُ عَلَيْهِ حَتَّى يُدْمَى . وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الزِّحَامَ مَكْرُوهٌ ، رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّكَ رَجُلٌ قَوِيٌّ لَا تُؤْذِي الضَّعِيفَ ، فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَسْتَلِمَ الْحَجَرَ ، فَإِنْ كَانَ خَالِيًا فَاسْتَلِمْهُ ، إِلَّا فَاسْتَقْبِلْهُ وَكَبِّرْ " . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : لَا تُزَاحِمْ عَلَى الْحَجَرِ لَا تُؤْذِي وَلَا يُؤْذَى ، لَوَدِدْتُ أَنَّ الَّذِي زَاحَمَ عَلَى الْحَجَرِ نَجَا مِنْهُ كَفَافًا .

فَصْلٌ النِّسَاءُ لَا يُخْتَارُ لَهُنَّ الِاسْتِلَامُ وَلَا التَّقْبِيلُ

فَصْلٌ : أَمَّا النِّسَاءُ فَلَا يُخْتَارُ لَهُنَّ الِاسْتِلَامُ وَلَا التَّقْبِيلُ هل يختاروا للنساء عند الحجر الأسود ، إِذَا حَاذَيْنَ الْحَجَرَ ، أَشَرْنَ إِلَيْهِ . قَدْ رَوَى عَطَاءٌ أَنَّ امْرَأَةً طَافَتْ مَعَ عَائِشَةَ فَلَمَّا جَاءَتِ الرُّكْنَ قَالَتِ الْمَرْأَةُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَلَا تَسْتَلِمِينَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ وَمَا لِلنِّسَاءِ وَاسْتِلَامِ الرُّكْنِ امْضِ عَنْكِ ، وَأَنْكَرَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ عَلَى مَوْلَاةٍ لَهَا . فَإِنْ أَرَادَتِ الْمَرْأَةُ تَقْبِيلَ الْحَجَرِ ، فَعَلَتْ ذَلِكَ فِي اللَّيْلِ عِنْدَ خُلُوِّ الطَّوَافِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَسْتَلِمُ الْيَمَانِيَّ بِيَدِهِ وَيُقَبِّلُهَا وَلَا يُقَبِّلُهُ لِأَنِّي لَمْ أَعْلَمْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَبَّلَ إِلَّا الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَاسْتَلَمَ الْيَمَانِيَّ وَأَنَّهُ لَمْ يُعَرِّجْ عَلَى شَيْءٍ دُونَ الطَّوَافِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ ما الذي يسن عند رؤيته ، وَهُوَ الرَّابِعُ مِنَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ ، فَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَسْتَلِمَهُ بِيَدِهِ ، وَيُقَبِّلَ يَدَهُ ، وَلَا يُقَبِّلَهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَسْتَلِمَهُ وَلَا أَنْ يُقَبِّلَ يَدَهُ إِذَا اسْتَلَمَهُ ، بَلْ يَمُرُّ بِهِ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَسْتَلِمُهُ ، وَلَا يُقَبِّلُ يَدَهُ . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَمْ أَمُرَّ بِالرُّكْنِ إِلَّا وَعِنْدَهُ مَلَكٌ يَقُولُ يَا مُحَمَّدُ اسْتَلِمْ . وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَانَ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَالْأَسْوَدَ فِي كُلِّ طَوَافٍ ، وَلَا يَستْلِمُ الْآخَرَيْنِ اللَّذَيْنِ مِمَّا يَلِي الْحَجَرَ . وَرَوَى عَطَاءٌ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا مَرَرْتُ بِهَذَا الرُّكْنِ إِلَّا وَجِبْرِيلُ قَائِمٌ عِنْدَهُ يَسْتَغْفِرُ لِمَنِ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ . وَرَوَى مُجَاهِدٌ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَسَلَّمُ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَيَضَعُ خَدَّهُ . عَلَيْهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الرُّكْنَانِ الْآخَرَانِ اللَّذَانِ بَيْنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ، وَهُمَا الْعِرَاقِيُّ وَالشَّامِيُّ هل على المحرم تقبيل هذين الركنين فَلَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَسْتَلِمَهَا بَلْ يَمُرُّ بِهِمَا . وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ : أَنَّهُ كَانَ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا ، وَقَالَ لَا يَنْبَغِي لِبَيْتِ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْهُ مَهْجُورًا ؟ وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْهُ ، مَا رَوَاهُ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِمُ إِلَّا هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ ، يَعْنِي الْيَمَانِيَّ وَالْحَجَرَ ، فَمَا تَرَكْتُهُمَا مُنْذُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِدَّةٍ وَلَا رَخَاءٍ وَلِأَنَّ الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ وَالْيَمَانِيَّ بُنِيَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ ، فَاخْتُصَّا بِالِاسْتِلَامِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَذَلِكَ الْعِرَاقِيِّ وَالشَّامِيِّ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَيْسَ تَرْكُ اسْتِلَامِهَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مِنْهُمَا مَهْجُورًا ، وَكَيْفَ يُهْجَرُ مَا يُطَافُ بِهِ لَوْ كَانَ تَرْكُ اسْتِلَامِهَا مَهْجُورًا هِجْرَانًا لَهُمَا ، كَانَ تَرْكُ اسْتِلَامِ مَا بَيْنَ الْأَرْكَانِ هِجْرَانًا لَهَا ، فَأَمَّا تَقْبِيلُ الْيَمَانِيِّ ، فَلَمْ تَرِدْ بِهِ السُّنَّةُ ، فَإِنْ قِيلَ : لَمَّا اسْتَوَيَا فِي الِاسْتِلَامِ ، فَهَلَّا اسْتَوَيَا فِي التَّقْبِيلِ . قِيلَ : السُّنَّةُ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا بِتَقْبِيلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى أَنَّ الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ أَشْرَفُ ، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الطَّوَافِ مِنْهُ ، وَلِأَنَّ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ فِيهِ ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ : أَشْهَدُ بِاللَّهِ ثَلَاثًا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " إِنَّ الْحَجَرَ وَالْمَقَامَ

يَاقُوتَتَانِ مِنْ يَوَاقِيتِ الْجَنَّةِ طَمَسَ اللَّهُ نُورَهُمَا وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَضَاءَ نُورُهُمَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ . وَرَوَى الْحَسَنُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الرُّكْنُ الْأَسْوَدُ نُورٌ مِنْ أَنْوَارِ الْجَنَّةِ وَمَا مِنْ أَحَدٍ يَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ .

فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكَبِّرَ إِذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَيَدْعُوَ عِنْدَهُ ، فَقَدْ رَوَى سَالِمٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : عَلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ مَلَكَانِ مُوَكَّلَانِ يُؤَمِّنَانِ عَلَى دُعَاءِ مَنْ يَمُرُّ بِهِ ، وَعَلَى الْأَسْوَدِ مَا لَا يُحْصَى ، وَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ مِنْ دُعَائِهِ مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا مَرَّ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ قَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ وَالذُّلِّ وَمَوَاقِفِ الْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً . وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَقُولُ هَذَا وَإِنْ كُنْتُ مُسْرِعًا ؟ فَقَالَ : نَعَمْ وَإِنْ كُنْتَ أَسْرَعَ مِنْ بَرْقِ الْخُلَّبِ وَمَا دُعِيَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ فَحَسَنٌ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ بَيْنَ الْحَجَرِ وَالرُّكْنِ ، فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَا بَيْنَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ وَالرُّكْنِ الْأَسْوَدِ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ ، وَلْيَكُنْ مِنْ دُعَائِهِ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ بَيْنَ الْحَجَرِ وَالرُّكْنِ : " رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . مَسْأَلَةٌ - : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَبْتَدِئُ بِشَيْءٍ غَيْرَ الطَّوَافِ إِلَّا أَنْ يَجِدَ الْإِمَامَ فِي الْمَكْتُوبَةِ أَوْ يَخَافَ فَوَاتَ فَرْضٍ أَوْ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ ، قَالَ : وَيَقُولُ عِنْدَ ابْتِدَائِهِ الطَّوَافَ وَالِاسْتِلَامَ بِاسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ إِيمَانًا بِكَ وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِكَ وَوَفَاءً بِعَهْدِكَ وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ دَخَلَ مَكَّةَ لَمْ يُعَرِّجْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا ، إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : لِعُذْرٍ قَدْ أَرْهَقَهُ . وَالثَّانِي : لِحُضُورِ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ . وَالثَّالِثُ : لِعِبَادَةٍ يُخَافُ فَوْتُهَا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْعُذْرُ : فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا ، أَوْ عِنْدَهُ مَرِيضٌ ، أَوْ يَحْتَاجُ إِلَى ارْتِيَادِ مَسْكَنٍ ، أَوْ إِحْرَازِ رَجُلٍ فَهَذَا مَعْذُورٌ بِتَأْخِيرِ الطَّوَافِ ، فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ لَمْ يَقْصِدِ الْمَسْجِدَ إِلَّا بَعْدَ زَوَالِ عُذْرِهِ لِأَنَّ قَصْدَ الْمَسْجِدِ إِنَّمَا يُرَادُ لِلطَّوَافِ ، فَإِذَا عُذِرَ بِتَأْخِيرِ الطَّوَافِ عُذِرَ بِتَأْخِيرِ الدُّخُولِ إِلَى الْمَسْجِدِ ، فَإِذَا زَالَ عُذْرُهُ قَصَدَ الْبَيْتَ فَطَافَ بِهِ سَبْعًا .

فَصْلٌ : وَأَمَّا حُضُورُ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ ، فَهُوَ أَنْ يَجِدَ النَّاسَ فِي صَلَاةِ جَمَاعَةٍ وَقَدْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ ، فَيَبْدَأُ بِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ قَبْلَ الطَّوَافِ : لِأَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ فَضِيلَةٌ حَاضِرَةٌ ، وَالطَّوَافُ شَيْءٌ لَا يَفُوتُ ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ هَمَّ بِالطَّوَافِ مَنَعَهُ السَّيْرُ بِهِ ، وَكَذَا لَوْ دَخَلَ وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ المحرم عند الكعبة ، لَمْ يَطُفْ ، وَصَلَّى مَعَهُمْ ، فَإِنْ دَخَلَ وَقَدْ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ لِلصَّلَاةِ ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ زَمَانٌ يَسِيرٌ لَا يَتَّسِعُ لِلطَّوَافِ ، كَأَذَانِ الْمَغْرِبِ ، لَمْ يَطُفْ ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ ، ثُمَّ يُصَلِّي الْجَمَاعَةَ ، ثُمَّ يَطُوفُ ، وَإِنْ كَانَ مَا بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ مُتَّسَعًا لِلطَّوَافِ ، لَمْ يَنْتَظِرِ الصَّلَاةَ وَطَافَ فَإِنْ أُقِيمَتْ لِلصَّلَاةِ قَبْلَ إِتْمَامِ الطَّوَافِ فَيَخْتَارُ أَنْ يَقْطَعَهُ عَلَى وِتْرٍ مِنْ ثَلَاثٍ ، أَوْ خَمْسٍ ، وَلَا يَقْطَعُهُ عَلَى شَفْعٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ " . فَإِنْ قَطَعَهُ عَلَى شَفْعٍ جَازَ ، وَيَخْرُجُ مِنَ الطَّوْفَةِ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ، لِيَكُونَ قَدْ أَكْمَلَهَا ، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ ، عَادَ فَبَنَى عَلَى طَوَافِهِ وَتَمَّمَ ، فَإِنْ خَرَجَ مِنَ الطَّوَافِ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَقَدْ خَرَجَ قَبْلَ إِتْمَامِ الطَّوْفَةِ ، فَإِذَا عَادَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ ابْتَدَأَ مِنْ حَيْثُ قَطَعَ ، وَاسْتَظْهَرَ لِيُتَمِّمَ الطَّوْفَةَ الَّتِي قَطَعَهَا ، ثُمَّ يَبْنِي عَلَيْهَا تَمَامَ سَبْعٍ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا مَا يَخَافُ فَوْتَهُ مِنْ عِبَادَاتِهِ ، فَمِثْلُ صَلَاةِ الْفَرْضِ إِذَا ضَاقَ وَقْتُهَا أَوْ صَلَاةِ وِتْرٍ أَوْ رَكْعَتِي فَجْرٍ أَوَ صَلَاةِ فَرْضٍ كَانَ قَدْ نَسِيَهَا ثُمَّ ذَكَرَهَا هل تقدم على الطواف بالنسبة للمحرم ، فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ هَذَا كُلَّهُ عَلَى الطَّوَافِ ، فَإِذَا فَعَلَهُ طَافَ بَعْدَهُ ، لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُخَافُ فَوْتُهُ ، وَالطَّوَافُ لَا يَفُوتُ . فَإِنْ قِيلَ : إِذَا كَانَ هَذَا الطَّوَافُ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ كَالرَّكْعَتَيْنِ ، فَهَلَّا اسْتُغْنِيَ بِصَلَاةِ الْفَرْضِ عَنْهُ كَمَا يُسْتَغَنَى عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الصَّلَاةَ جِنْسٌ فَنَابَ بَعْضُهَا مَنَابَ بَعْضٍ ، وَلَيْسَ الطَّوَافُ مِنْ جِنْسِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ صَلَاةَ الْفَرْضِ فِي الْمَسْجِدِ تَنُوبُ عَنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ ، وَالطَّوَافُ تَحِيَّةٌ لِلْبَيْتِ ، وَلَيْسَ بِتَحِيَّةٍ لِلْمَسْجِدِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، يَعْنِي فِي الْأَمْرِ بِطَوَافِ الْقُدُومِ ، إِلَّا امْرَأَةً كَانَ لَهَا شَبَابٌ وَمَنْظَرٌ ، فَالْوَاجِبُ لِتِلْكَ أَنْ تُؤَخِّرَ الطَّوَافَ إِلَى اللَّيْلِ لِيَسْتُرَ اللَّيْلُ مِنْهَا .

مَسْأَلَةٌ الاضطباع في الطَّوَافِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَضْطَبِعُ لِلطَّوَافِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اضْطَبَعَ حِينَ طَافَ ثُمَّ عُمَرُ ( قَالَ ) وَالِاضْطِبَاعُ معناه وحكمه أَنْ يَشْتَمِلَ بِرِدَائِهِ عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْسَرِ وَمِنْ تَحْتِ مَنْكِبِهِ الْأَيْمَنِ فَيَكُونُ مَنْكِبُهُ الْأَيْمَنُ مَكْشُوفًا حَتَّى يُكْمِلَ سَعْيَهُ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَسُمِّيَ اضْطِبَاعًا : لِأَنَّهُ يَكْشِفُ إِحْدَى ضَبْعَيْهِ ، وَضَبْعَاهُ مَنْكِبَاهُ ، وَهُوَ سِنَّةٌ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَيْسَ بِسُنَّةٍ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا فَعَلَهُ وَأَمَرَ بِهِ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ ، حِينَ قَالَتْ قُرَيْشٌ : أَمَا تَرَوْنَ إِلَى أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ، قَدْ وَعَكَتْهُمْ حَتَّى يَثْرِبَ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : ارْمُلُوا وَاضْطَبِعُوا . كَفِعْلِ أَهْلِ النَّشَاطِ وَالْجَلَدِ لِيَغِيظَ قُرَيْشًا . قَالَ : وَهَذَا سَبَبٌ قَدْ زَالَ ، فَيَجِبُ أَنْ يَزُولَ حُكْمُهُ . وَدَلِيلُنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اضْطَبَعَ بِرِدَائِهِ حِينَ طَافَ ، وَقَالَ : خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ . وَرَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ لِسَعْيٍ ، ثُمَّ قَالَ : لِمَنْ نُبَرِّئُ الْآنَ مَنَاكِبَنَا وَمَنْ نُرَائِي وَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ ؟ لَأَسْعَيَنَّ كَمَا سَعَى . قَالَ الشَّافِعِيُّ : رَمَلَ مُضْطَبِعًا ، فَقَدْ أَخْبَرَ بِسُنَّتِهِ ، ثُمَّ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ مَعَ زَوَالِ سَبَبِهِ ، وَأَكْثَرُ مَنَاسِكِ الْحَجِّ ، كَانَتْ لِأَسْبَابٍ زَالَتْ وَهِيَ بَاقِيَةٌ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَالِاضْطِبَاعُ وَالرَّمَلُ مَسْنُونٌ فِي الطَّوَافِ الَّذِي يَتَعَقَّبُهُ سَعْيٌ ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُرِدِ السَّعْيُ بَعْدَهُ ، فَلَا يَضْطَبِعُ لَهُ ، وَلَا يَرْمُلُ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَضْطَبِعْ فِي طَوَافِ الْوَدَاعِ وَلَمْ يَرْمُلْ ، وَإِذَا أَرَادَ السَّعْيَ فَاضْطَبَعَ ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ غَطَّى مَنْكِبَيْهِ ، فَإِذَا سَلَّمَ مِنَ الطَّوَافِ ، وَكَشَفَ مَنْكِبَهُ الْأَيْمَنَ لِلِاضْطِبَاعِ ، فَلَوْ تَرَكَ الِاضْطِبَاعَ فِي بَعْضِ الطَّوَافِ ، اضْطَبَعَ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ ، وَلَوْ تَرَكَهُ فِي جَمِيعِ الطَّوَافِ اضْطَبَعَ فِي السَّعْيِ وَلَوْ تَرَكَهُ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ وَلَا إِعَادَةَ .

مَسْأَلَةٌ الِاسْتِلَامُ مُسْتَحَبٌّ فِي جَمِيعِ الطَّوَافِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالِاسْتِلَامُ فِي كُلِّ وِتْرٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ فِي كُلِّ شَفْعٍ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الِاسْتِلَامُ فَمُسْتَحَبٌّ فِي جَمِيعِ الطَّوَافِ فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الِاسْتِلَامُ فِي كُلِّ طَوْفَةٍ فَالِاسْتِلَامُ فِي كُلِّ وِتْرٍ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْهُ فِي كُلِّ شَفْعٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَلِمًا فِي افْتِتَاحِهِ وَخَاتِمَتِهِ ، وَلِأَنَّهُ يَكُونُ أَكْبَرَ عَدَدًا ، وَلَا يَكُونُ مَا تَرَكَهُ مِنَ الِاسْتِلَامِ قَادِحًا فِي طَوَافِهِ . قَدْ رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ : يَا أَبَا مُحَمَّدٍ كَيْفَ فَعَلْتَ فِي اسْتِلَامِ الرُّكْنِ ؟ فَقَالَ : كُلُّ ذَلِكَ قَدْ فَعَلْتُ ، اسْتَلَمْتُ الرُّكْنَ وَتَرَكْتُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَصَبْتَ " .

مَسْأَلَةٌ في كيفية الرمل

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَتَرْمُلُ ثَلَاثًا وَيَمْشِي أَرْبَعًا وَيَبْتَدِئُ الطَّوَافَ مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَيَرْمُلُ ثَلَاثًا في الطواف لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَلَ مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِ ثَلَاثًا وَالرَّمَلُ فَهُوَ الْخَبَبُ لَا شِدَّةُ السَّعْيِ وَالدُّنُوُّ مِنَ الْبَيْتِ أَحَبُّ إِلَيَّ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الرَّمَلُ فَهُوَ الْخَبَبُ حكمه للمحرم عند الطواف ، فَوْقَ الْمَشْيِ وَدُونَ السَّعْيِ ، فَإِذَا أَرَادَ الطَّوَافَ ، فَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَرْمُلَ فِي ثَلَاثَةِ أَطْوَافٍ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهَا بِوُقُوفٍ ، إِلَّا أَنْ يَقِفَ عَلَى اسْتِلَامِ الرُّكْنَيْنِ ، وَيَمْشِيَ فِي أَرْبَعَةِ أَطْوَافٍ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى هَذَا رِوَايَةُ - ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَلَ مِنْ سَبْعَةٍ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ خَبَبًا لَيْسَ بَيْنَهُنَّ مَشْيٌ ، ثُمَّ كَذَا أَبُو بَكْرٍ عَامَ حَجِّهِ إِذْ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَالْخُلَفَاءُ كَانُوا يَسْعَوْنَ ، كَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِيمَ الرَّمَلَاتُ ، وَلَا أَرَى أَحَدًا أَرَانِيهِ ؟ وَمَعَ هَذَا فَمَا نَدَعُ شَيْئًا كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ثُمَّ الرَّمَلُ وَالِاضْطِبَاعُ قَرِيبَانِ يُفْعَلَانِ فِي الطَّوَافِ الَّذِي يَعْقُبُهُ السَّعْيُ ، فَإِنْ تَرَكَ الرَّمَلَ لِعِلَّةٍ بِهِ اضْطَبَعَ ، وَإِنْ تَرَكَ الِاضْطِبَاعَ لِجُرْحٍ بِهِ رَمَلَ ، وَإِنْ تَرَكَهُمَا فِي طَوَافِ الْقُدُومِ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا الرمل والإضطباع للمحرم أَجْزَأَهُ طَوَافُهُ وَسَعْيُهُ ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ هِبَةٌ ، وَالِاضْطِبَاعُ وَالرَّمَلُ فِي الْحَجِّ ، وَالْعُمْرَةِ ، وَالْقِرَانِ ، وَقِيلَ : عَرَفَةُ وَبَعْدَهَا ، سَوَاءٌ فَأَمَّا الطَّوَافُ الَّذِي لَا يُسْعَى بَعْدَهُ ، فَإِنَّهُ يَمْشِي فِيهِ عَلَى هَيْئَةِ مَنْ سَعَى وَرَمَلَ . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : أَسْعَدُ النَّاسِ بِهَذَا الطَّوَافِ قُرَيْشٌ ، وَأَهْلُ مَكَّةَ ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَلْيَنُ النَّاسِ فِيهِ مَنَاكِبَ وَأَنَّهُمْ يَمْشُونَ التُّؤَدَةَ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَالدُّنُوُّ مِنَ الْبَيْتِ أَحَبُّ إِلَيَّ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَقْرَبَ أَصْحَابِهِ إِلَى الْبَيْتِ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالطَّوَافِ الْبَيْتُ ، فَإِذَا كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْمَقْصُودِ كَانَ أَوْلَى .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الرَّمَلُ فَكَانَ إِذَا وَقَفَ وَجَدَ فُرْجَةً وَقَفَ ثُمَّ رَمَلَ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَحْبَبْتُ أَنْ يَصِيرَ حَاشِيَةً فِي الطَّوَافِ إِلَّا أَنْ يَمْنَعَهُ كَثْرَةُ النِّسَاءِ فَيَتَحَرَّكُ حَرَكَةَ مَشْيِهِ مُتَقَارِبًا وَلَا أُحِبُّ أَنْ يَثِبَ مِنَ الْأَرْضِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّمَلَ مَسْنُونٌ ، وَالدُّنُوُّ مِنَ الْبَيْتِ مُسْتَحَبٌّ للمحرم ، فَإِذَا أَمْكَنَهُ الرَّمَلُ وَالدُّنُوُّ مِنَ الْبَيْتِ فَعَلَهُمَا مَعًا ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الرَّمَلُ مَعَ دُنُوِّهِ مِنَ الْبَيْتِ فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ إِنْ وَقَفَ يَسِيرًا وَجَدَ فُرْجَةً وَأَمْكَنَهُ الرَّمَلُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَضِرَّ بِوُقُوفِهِ الطَّوَافُ ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَقِفَ وَلَا يَثِبَ مِنَ الْأَرْضِ فِي وُقُوفِهِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ يُقْتَدَى بِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ إِنْ وَقَفَ لَمْ يَجِدْ فُرْجَةً أَوْ عَلِمَ أَنَّهُ يَجِدُ فُرْجَةً لَكِنْ إِنْ وَقَفَ اسْتَضَرَّ بِوُقُوفِهِ الطَّوَافُ ، فَهَذَا يَبْعُدُ مِنَ الْبَيْتِ ، وَيَصِيرُ فِي حَاشِيَةِ الطَّوَافِ لِيَرْمُلَ ، لِأَنَّ الرَّمَلَ أَوْكَدُ مِنَ الدُّنُوِّ مِنَ الْبَيْتِ وَإِنَّمَا كَانَ الرَّمَلُ أَوْكَدَ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ وَالدُّنُوَّ فَضِيلَةٌ وَالسُّنَّةُ أَوْكَدُ مِنَ الْفَضِيلَةِ ، وَلِأَنَّ الرَّمَلَ مِنْ هَيْئَاتِهِ الطَّوَافُ الْمَقْصُودَةُ وَلَيْسَ الدُّنُوُّ مِنَ الْبَيْتِ مِنْ هَيْئَتِهِ ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ إِنْ صَارَ إِلَى حَاشِيَةِ الطَّوَافِ مَنَعَهُ كَثْرَةُ النِّسَاءِ فَهَذَا يَدْنُو مِنَ الْبَيْتِ وَيُدْرِكُ الرَّمَلَ لِتَعَذُّرِهِ لِأَنَّ مُخَالَطَةَ النِّسَاءِ مَكْرُوهَةٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ تَرَكَ الرَّمَلَ فِي الثَّلَاثَةِ لَمْ يَقْضِ فِي الْأَرْبَعِ وَإِنْ تَرَكَ الِاضْطِبَاعَ وَالرَّمَلَ وَالِاسْتِلَامَ فما الحكم للمحرم فَقَدْ أَسَاءَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّمَلَ مَسْنُونٌ فِي ثَلَاثَةِ أَطْوَافِ الْأُولَى ، وَالْمَشْيَ مَسْنُونٌ فِي الْأَرْبَعَةِ الْبَاقِيَةِ ، فَإِنْ تَرَكَ الرَّمَلَ فِي الطَّوْفَةِ الْأُولَى ، أَتَى بِهِ فِي الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ ، وَإِنْ تَرَكَهُ فِي الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ ، أَتَى بِهِ فِي الثَّالِثَةِ وَإِنْ تَرَكَهُ فِي الثَّلَاثَةِ كُلِّهَا ، لَمْ يَقْضِهِ فِي الْأَرْبَعِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الرَّمَلَ هَيْئَةٌ ، وَالْهَيْئَاتُ لَا تُقْضَى فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا ، كَمَا لَوْ تَرَكَ رَفْعَ الْيَدَيْنِ فِي الرُّكُوعِ ، لَمْ يَقْضِهِ فِي السُّجُودِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الرَّمَلَ وَإِنْ كَانَ مَسْنُونًا فِي الثَّلَاثِ ، فَالْمَشْيُ مَسْنُونٌ فِي الْأَرْبَعِ فَإِذَا قَضَاهُ فِي الْأَرْبَعِ ، تَرَكَ الْمَشْيَ الْمَسْنُونَ فِيهَا بِرَمَلٍ مَسْنُونٍ فِي غَيْرِهَا ، فَيَكُونُ تَارِكًا للسُّنَّتَيْنِ مَعًا . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوْ تَرَكَ الرَّمَلَ ، وَالِاضْطِبَاعَ ، وَالِاسْتِلَامَ ، فَقَدْ أَسَاءَ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ كُلَّ هَذِهِ هَيْئَاتٌ ، وَالْهَيْئَاتُ لَا تُجْبَرُ وَلِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ طَوَافَ الْقُدُومِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ جُبْرَانٌ فَإِذَا تَرَكَ هَيْأَتَهُ ، أَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَهُ جُبْرَانٌ .

مَسْأَلَةٌ التَكْبِيرُ عِنْدَ مُحَاذَاةِ الْحَجَرِ مُسْتَحَبٌّ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَكُلَّمَا حَاذَى الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ كَثِيرًا وَقَالَ فِي رَمَلِهِ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا وَذَنْبًا مَغْفُورًا وَسَعْيًا مَشْكُورًا " وَيَقُولُ فِي سَعْيِهِ " اللَّهُمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَاعْفُ عَمَّا تَعْلَمُ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ " وَيَدْعُو فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ بِمَا أَحْدَثَ مِنْ دِينٍ وَدُنْيَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا تَكْبِيرُهُ عِنْدَ مُحَاذَاةِ الْحَجَرِ حكمه للمحرم فَمُسْتَحَبٌّ فِي كُلِّ طَوْفَةٍ كَمَا كَانَ مُسْتَحَبًّا فِي الطَّوْفَةِ الْأُولَى ، وَلَيْسَ كَالِاسْتِلَامِ ، الَّذِي إِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ طَوْفَةٍ ، اسْتَلَمَ فِي كُلِّ وِتْرٍ ، لِأَنَّ التَّكْبِيرَ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا الدُّعَاءُ فِي الرَّمَلِ ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا ، وَذَنْبًا مَغْفُورًا وَسَعْيًا مَشْكُورًا ، وَيَقُولُ فِي الْأَرْبَعَةِ الْبَاقِيَةِ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاعْفُ عَمَّا تَعْلَمُ وَأَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ . وَيَكُونُ مِنْ دُعَائِهِ فِي طَوَافِهِ ، مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى التَّيْمِيِّ أَنَّ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَقُولُ إِذَا طُفْتَ الْبَيْتَ ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قُولِي : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَايَايَ وَعَثَرَاتِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي فَإِنْ لَمْ تَخْلُفْنِي تُهْلِكُنِي " وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كُنْتُ فِي الطَّوَافِ فَلَقِيَنِي شَابٌّ نَظِيفُ الثَّوْبِ حَسَنُ الْوَجْهِ فَقَالَ : يَا عَلِيُّ أَلَا أُعَلِّمُكَ دُعَاءً تَدْعُو بِهِ قُلْتُ : بَلَى . قَالَ : قُلْ " يَا مَنْ لَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ ، يَا مَنْ لَا يَغلِطُهُ السَّائلُونَ ، يَا مَنْ لَا يَتَبَرَّمُ بِإِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ أَسْأَلُكَ يَدَ عَفْوِكَ وَحَلَاوَةَ رَحْمَتِكَ " قَالَ عَلِيٌّ : فَقُلْتُهَا ثُمَّ أَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا فَقَالَ : " يَا عَلِيُّ ذَاكَ الْخَضِرُ " . فَإِذَا دَعَا بِمَا ذَكَرْنَا دَعَا بَعْدَهُ بِمَا شَاءَ مِنْ دِينٍ وَدُنْيَا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فِي الطَّوَافِ حكمها للمحرم فَمُسْتَحَبَّةٌ ، وَحُكِيَ عِنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَهَا ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ فِي الطَّوَافِ فَصَكَّ فِي صَدْرِهِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ وَعَدَمِ كَرَاهَتِهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " الطَّوَافُ صَلَاةٌ " . ثُمَّ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ وَاجِبَةً فِي الصَّلَاةِ ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُسْتَحَبَّةً فِي الطَّوَافِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَأُحِبُّ الْقِرَاءَةَ فِي الطَّوَافِ ، وَهُوَ أَفْضَلُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الْمَرْءُ . فَإِنْ قِيلَ : أَيُّهُمَا أَفْضَلُ فِي الطَّوَافِ . قِيلَ : أَمَّا الدُّعَاءُ الْمَسْنُونُ فِيهِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِيهِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَا مِنْ شَيْءٍ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الدُّعَاءِ " . وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى " وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ مَا تَضَمَّنَ الدُّعَاءَ مِنْ تَعْظِيمِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ . وَلِأَنَّ ذِكْرَ الدُّعَاءِ الْمَسْنُونِ فِي الصَّلَاةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، أَفْضَلُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، كَذَلِكَ الطَّوَافُ ، فَأَمَّا الدُّعَاءُ بِغَيْرِ مَا سُنَّ فِيهِ فَالْقِرَاءَةُ أَفْضَلُ مِنْهُ ، لِأَنَّهَا أَفْضَلُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الْمَرْءُ .

فَصْلٌ الْكَلَامُ فِي الطَّوَافِ مُبَاحٌ

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الطَّوَافِ فَمُبَاحٌ : لِرِوَايَةِ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَحَلَّ فِيهِ النُّطْقَ فَمَنْ نَطَقَ فَلَا يَنْطِقْ فِيهِ إِلَّا بِخَيْرٍ . وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا الْتَقَيْتُمْ فِي الطَّوَافِ فَتَسَاءَلُوا . وَرَوَى الْأَوْزَاعِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَهُوَ مَعَهُ فِي الطَّوَافِ كَمْ تَعُدُّ ، ثُمَّ قَالَ : تَدْرِي لِمَ سَأَلْتُكَ ؟ لِتَحْفَظَهُ إِلَّا أَنَّنَا نَسْتَحِبُّ إِقْلَالَ الْكَلَامِ " . قَالَ الشَّافِعِيُّ : إِنِّي أَسْتَحِبُّ إِقْلَالَ الْكَلَامِ فِي الصَّحْرَاءِ وَالْمَنَازِلِ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ ، فَكَيْفَ بِقُرْبِ بَيْتِ اللَّهِ مَعَ رَجَاءِ عَظِيمِ الثَّوَابِ فِيهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْشَادُ الشِّعْرِ وَالرَّجَزُ فِي الطَّوَافِ ، فَجَائِزٌ إِذَا كَانَ مُبَاحًا ؟ وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَبِي أَحْمَدَ بْنِ جَحْشٍ وَأَبُو أَحْمَدَ يَقُولُ : يَا حَبَّذَا مَكَّةُ مِنْ وَادِي أَرْضٌ بِهَا أَهْلِي وَغَوَّادِي أَرْضٌ بِهَا أَمْشِي بِلَا هَادِي

قَالَ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّهُ يَعْجَبُ مِنْ قَوْلِهِ : " بِهَا أَمْشِي بِلَا هَادِي " . وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ : طُفْتُ مَعَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَذَكَرُوا حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ فِي الطَّوَافِ فَسَبُّوهُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ : لَا تَفْعَلُوا أَلَيْسَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ : هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ وَعِنْدَ اللَّهِ فِي ذَاكَ الْجِزَاءُ فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي لِعِرْضِ مُحْمَدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ فَقِيلَ لَهَا : أَلَيْسَ هُوَ الَّذِي قَالَ مَا قَالَ فِي الْإِفْكِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ : أَلَيْسَ قَدْ تَابَ ثُمَّ قَالَتْ عَائِشَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا : وَإِنِّي لِأَرْجُوَ لَهُ . وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : رَأَى ابْنُ عُمَرَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ حَامِلًا أُمَّهُ عَلَى عُنُقِهِ وَهُوَ يَقُولُ : أَحْمِلُهَا مَا حَمَلَتْنِي أَكْثَرُ إِنِّي لَهَا مَطِيَّةٌ لَا أَذْعَرُ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقَالَ : يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَتَرَى أَنِّي جَزَيْتُهَا قَالَ : لَا وَاللَّهِ وَلَا بِزِقْوَةٍ وَاحِدَةٍ . إِلَّا أَنَّنَا نَسْتَحِبُّ تَرْكَ إِنْشَادِ الشِّعْرِ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا وَالْكَلَامُ أَيْسَرُ مِنْهُ . وَرَوَى إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي أَوْفَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيَرْتَجِزُ : يَا حَبَّذَا مَكَّةُ مِنْ وَادِي أَرْضٌ بِهَا أَمْشِي بِلَا هَادِي قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قُلِ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ " .

فَصْلٌ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ فِي الطَّوَافِ مَكْرُوهٌ

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ فِي الطَّوَافِ فَمَكْرُوهٌ ، وَالشُّرْبُ أَخَفُّ حَالًا ، قَدْ رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْرَبُ مَاءً فِي الطَّوَافِ . وَيَكْرَهُ أَنْ يَبْصُقَ فِي الطَّوَافِ ، أَوْ يَتَنَخَّمَ ، أَوْ يَغْتَابَ ، أَوْ يَشْتُمَ ، وَلَا يَفْسُدُ طَوَافَهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنْ أَثِمَ .

مَسْأَلَةٌ لَا يُجْزِئُ الطَّوَافُ إِلَّا بِمَا تُجْزِئُ بِهِ الصَّلَاةُ مِنَ الطَّهَارَةِ مِنَ الْحَدَثِ وَغَسْلِ النَّجَسِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يُجْزِئُ الطَّوَافُ إِلَّا بِمَا تُجْزِئُ بِهِ الصَّلَاةُ مِنَ الطَّهَارَةِ مِنَ الْحَدَثِ وَغَسْلِ النَّجَسِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : الطَّهَارَةُ فِي الطَّوَافِ وَاجِبَةٌ ، وَهِيَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ طَهَارَةِ الْأَحْدَاثِ وَإِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ ، فَإِنْ طَافَ مُحْدِثًا أَوْ نَجِسًا ، لَمْ يُجْزِهِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : طَهَارَةُ الْحَدَثِ وَإِزَالَةُ النَّجَسِ وَاجِبَةٌ فِي الطَّوَافِ ، وَلَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ ، فَإِنْ طَافَ مُحْدِثًا أَوْ جُنُبًا أَوْ نَجِسًا فَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ أَعَادَ طَوَافَهُ ، وَإِنْ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ أَجْزَأَ عَنْ فَرْضِهِ ، وَلَزِمَهُ دَمٌ لِجُبْرَانِهِ ، وَرُبَّمَا ارْتَابَ أَصْحَابُهُ أَنَّ الطِّهَارَةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ ، لِيُسَوَّغَ لَهُمُ الِاسْتِدْلَالُ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [ الْحَجِّ : ] ، وَاسْمُ الطَّوَافِ يَتَنَاوَلُهُ وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَاوَلَ الِاسْمَ لَهُ مُحْرِمًا ، وَلِأَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ الطَّهَارَةُ مِنْ شَرْطِهِ ، كَالسَّعْيِ وَالْوُقُوفِ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَيْسَ تَرْكُ الْكَلَامِ

شَرْطًا فِيهَا ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ الطَّهَارَةُ شَرْطًا فِيهَا كَالصَّوْمِ طَرْدًا ، وَالصَّلَاةِ عَكْسًا ، وَلِأَنَّ لِلْحَجِّ أَرْكَانًا وَمَنَاسِكَ ، وَلَيْسَتِ الطَّهَارَةُ وَاجِبَةً فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الطَّوَافُ لَاحِقًا بِأَحَدِهِمَا . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ : رِوَايَةُ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَطُوفَ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ . وَفِعْلُهُ فِي الْحَجِّ بَيَانٌ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْمَنَاسِكُ وَالْأَرْكَانُ ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ وَرَوَى طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَحَلَّ فِيهِ النُّطْقَ فَمَنْ نَطَقَ فَلَا يَنْطِقُ إِلَّا بِالْخَيْرِ " . وَالدَّلَالَةُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ سَمَّى الطَّوَافَ صَلَاةً ، وَهُوَ لَا يَضَعُ الْأَسْمَاءَ اللُّغَوِيَّةَ ، وَإِنَّمَا يُكْسِبُهَا أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا فِي الشَّرْعِ صَلَاةٌ ، لَمْ تَجُزْ إِلَّا بِطِهَارَةٍ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا صَلَاةَ إِلَّا بِطَهُورٍ " . وَالثَّانِي : أَنَّهُ جَعَلَ الطَّوَافَ صَلَاةً ، وَاسْتَثْنَى مِنْ أَحْكَامِهَا الْكَلَامَ ، فَلَوْ كَانَ الطَّوَافُ صَلَاةً فِي مَعْنًى دُونَ مَعْنًى لَمْ يَكُنْ لِلِاسْتِثْنَاءِ حُكْمٌ وَاحِدٌ مِنْ جُمْلَةِ أَحْكَامِهَا مَعْنًى ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَجِبُ فِيهَا الطَّهَارَةُ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ فَرْضُهَا بِغَيْرِ طَهَارَةٍ ، كَالصَّلَاةِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَصِحُّ مِنْهُ فِعْلُ الصَّلَاةِ ، لَا يَصِحُّ مِنْهُ فِعْلُ الطَّوَافِ ، كَالْمُحْدِثِ إِذَا كَانَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ ، وَلِأَنَّهُ طَهَارَةٌ وَاجِبَةٌ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تُجْبَرَ بِدَمٍ ، كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا : لِأَنَّ الطَّوَافَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ مَكْرُوهٌ ، وَالْأَمْرُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْمَكْرُوهَ ، عَلَى أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ أُخِذُ بَيَانُهَا مِنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ لَمْ يَطُفْ إِلَّا بِطَهَارَةٍ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى السَّعْيِ وَالْوُقُوفِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الطَّهَارَةَ لَمَّا لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً فِي السَّعْيِ وَالْوُقُوفِ ، لَمْ تَكُنْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ السَّعْيِ وَالْوُقُوفِ ، وَلَمَّا كَانَتِ الطَّهَارَةُ وَاجِبَةً فِي الطَّوَافِ ، كَانَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الطَّوَافِ ، وَبِمِثْلِهِ يَكُونُ الْجَوَابُ مِنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الصِّيَامِ فِي الطَّرْدِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ الطَّوَافَ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ لَاحِقًا بِالْأَرْكَانِ أَوْ بِالْمَنَاسِكِ . قُلْنَا : لَيْسَ بِلَاحِقٍ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ، لِأَنَّ الطَّهَارَةَ تَجِبُ لَهُ وَلَا تَجِبُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الطَّوَافَ لَا يَصِحُّ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ ، فَطَافَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ ، كَانَ طَوَافُهُ غَيْرَ مُجْزِئٍ ، كَمَنْ لَمْ يَطُفْ . فَلَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْمِيقَاتِ ، وَفَرَغَ مِنْ أَعْمَالِهَا ، وَتَحَلَّلَ مِنْهَا ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَفَرَغَ مِنْ أَعْمَالِهِ وَتَحَلَّلَ مِنْهُ ، ثُمَّ ذَكَرْنَا أَنَّهُ طَافَ أَحَدُ الطَّوَّافِينَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ ، وَقَدْ أُشْكِلَ عَلَيْهِ فَلَيْسَ يَعْلَمُ هَلْ هُوَ طَوَافُ الْعُمْرَةِ ، أَوْ طَوَافُ الْحَجِّ ؟ فَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ وَيَسْعَى ، وَعَلَيْهِ دَمُ شَاةٍ ، وَقَدْ أَجْزَأَهُ عَنِ الْحَجِّ ، وَالْعُمْرَةِ . وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُحْدِثًا فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُحْدِثًا فِي طَوَافِ الْحَجِّ فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ فما حكم طوافه لَمْ يُعْتَدَّ بِطَوَافِهِ فِيهَا وَلَا بِسَعْيهِ ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِحِلَاقِهِ وَقَدْ صَارَ قَارِنًا لِإِدْخَالِهِ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ قَبْلَ تَحَلُّلِهِ مِنْهَا وَعَلَيْهِ دَمٌ لِلْقِرَانِ ، وَطَوَافُهُ فِي الْحَجِّ يُجْزِئُهُ عَنْهُمَا جَمِيعًا ، لِأَنَّ الْقَارِنَ يُجْزِئُهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ ، فَعَلَى هَذَا التَّنْزِيلِ يَلْزَمُهُ دَمَانِ :

أَحَدُهُمَا : لِأَجْلِ الْحِلَاقِ . وَالثَّانِي : لِأَجْلِ الْقِرَانِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ طَوَافٌ وَلَا سَعْيٌ ، وَقَدْ أَجْزَأَهُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ . وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا فِي طَوَافِ الْحَجِّ دُونَ الْعُمْرَةِ فما الحكم ، فَقَدْ أَكْمَلَ الْعُمْرَةَ ، ثُمَّ أَحْرَمَ بَعْدَهَا بِالْحَجِّ فَصَارَ مُتَمَتِّعًا ، فَعَلَيْهِ دَمُ التَّمَتُّعِ ، وَقَدْ طَافَ وَسَعَى عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ ، فَلَا يُعْتَدُّ بِطَوَافِهِ وَسَعْيِهِ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ وَيَسْعَى ، فَعَلَى هَذَا التَّنْزِيلِ ، يَلْزَمُهُ دَمٌ : لِتَمَتُّعِهُ بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ ، وَيُجْزِئُهُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ ، فَعَلَى هَذَيْنِ التَّنْزِيلَيْنِ ، يَلْزَمُهُ طَوَافٌ وَسَعْيٌ ، لِيُصْبِحَ أَدَاؤُهُ لِفَرْضِ النُّسُكَيْنِ يَقِينًا ، وَقَدْ أَجْزَأَهُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ جَمِيعًا ، وَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ يَقِينًا ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَارِنًا أَوْ مُتَمَتِّعًا ، وَأَيُّهُمَا كَانَ ، فَقَدْ لَزِمَهُ دَمٌ ، فَأَمَّا دَمُ الْحِلَاقِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ ، لِأَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِي وُجُوبِهِ ، فَإِنْ قِيلَ قَدْ أَوْجَبْتُمْ عَلَيْهِ الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ مَعَ الشَّكِّ فِي وُجُوبِهِ ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دَمِ الْحِلَاقِ ؟ قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ ، وَمَا شَكَّ فِي فِعْلِهِ مِنْ أَرْكَانِ حَجِّهِ ، لَزِمَهُ الْإِتْيَانُ بِهِ ، كَمَنْ شَكَّ فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ صَلَاتِهِ ، لَزِمَهُ الْإِتْيَانُ بِهِ ، وَدَمُ الْحِلَاقِ لَيْسَ مِنَ الْحَجِّ ، وَمَنْ شَكَّ فِي لُزُومٍ بِمَا لَيْسَ مِنْ حَجِّهِ ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ كَمَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ ، هَلْ تَكَلَّمَ أَمْ لَا ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ .

فَصْلٌ : فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ، وَتَحَلَّلَ مِنْهَا ، ثُمَّ وَطِئَ بَعْدَهَا ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَتَحَلَّلَ مِنْهُ ، ثُمَّ تَيَقَّنَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا فِي أَحَدِ طَوَافَيْهِ ، إِمَّا فِي الْعُمْرَةِ أَوْ فِي الْحَجِّ ، فَعَلَيْهِ طَوَافٌ وَسَعْيٌ ، وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ مَعَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ . وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُحْدِثًا فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ ، فَلَمْ يُعْتَدَّ بِطَوَافِهِ وَسَعْيِهِ فِيهَا ، وَلَزِمَهُ دَمٌ لِحَلْقِهِ ، لِأَنَّهُ حَلْقٌ لَمْ يَتَحَلَّلْ بِهِ ، ثُمَّ وَطِئَ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى إِحْرَامِهِ بِالْعُمْرَةِ ، فَأَفْسَدَ عُمْرَتَهُ وَلَزِمَهُ قَضَاؤُهَا . وَبَدَنُهُ ، لِإِفْسَادِهَا ، ثُمَّ أَحْرَمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْحَجِّ وَطَافَ وَسَعَى فِيهِ . وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، فِيمَنْ أَدْخَلَ حَجًّا عَلَى عُمْرَةٍ فَأَفْسَدَهَا . هَلْ يَصِيرُ قَارِنًا أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَكُونُ قَارِنًا ، وَيَكُونُ إِحْرَامُهُ بِالْحَجِّ بَاطِلًا ، لَكِنْ يَكُونُ طَوَافُهُ وَسَعْيُهُ فِي الْحَجِّ ، نَائِبًا عَنْ طَوَافِهِ وَسَعْيِهِ فِي الْعُمْرَةِ ، وَقَدْ يَتَحَلَّلُ مِنْهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَكُونُ قَارِنًا ، فَعَلَى هَذَا طَوَافُهُ وَسَعْيُهُ فِي الْحَجِّ ، يُجْزِئُهُ عَنِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، وَيَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْحَجِّ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ فَعَلَى هَذَا التَّنْزِيلِ ، قَدْ لَزِمَهُ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ وَقَضَاءُ الْحَجِّ ، عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، وَبَدَنَةٌ لِلْوَطْءِ ، وَدَمٌ لِلْحَلْقِ ، وَدَمٌ لِلْقِرَانِ ، عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، فَهَذَا حُكْمُهُ إِنْ كَانَ مُحْدِثًا فِي طَوَافِهِ لِلْعُمْرَةِ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُحْدِثًا فِي طَوَافِ الْحَجِّ ، فَعَلَى هَذَا قَدْ سَلِمَتِ الْعُمْرَةُ ، وَخَرَجَ مِنْهَا خُرُوجًا

صَحِيحًا ، وَوَطِئَ قَبْلَ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ ، فَلَمْ يَكُنْ لِوَطْئِهِ فِي الْحَجِّ تَأْثِيرٌ ، ثُمَّ طَافَ فِي الْحَجِّ مُحْدِثًا ، فَلَمْ يُعْتَدَّ بِطَوَافِهِ وَسَعْيِهِ ، فَعَلَى هَذَا التَّنْزِيلِ ، يَصِيرُ مُتَمَتِّعًا ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ وَيَسْعَى ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَمَتُّعِهِ ، فَعَلَى هَذَا التَّنْزِيلِ ، يَجِبُ عَلَيْهِ طَوَافٌ وَسَعْيٌ ، لِيَكُونَ مُتَحَلِّلًا مِنْ إِحْرَامِهِ بِيَقِينٍ ، وَهَلْ عَلَيْهِ دَمٌ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : إِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ يَصِيرُ قَارِنًا بِإِدْخَالِ الْحَجِّ عَلَى عُمْرَةٍ فَاسِدَةٍ ، فَعَلَيْهِ دَمٌ ، لِأَنَّهُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَارِنًا فَيَلْزَمُهُ دَمٌ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُتَمَتِّعًا ، فَيَلْزَمُهُ دَمٌ ، فَكَانَ وُجُوبُ الدَّمِ عَلَيْهِ يَقِينًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ . وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ لَا يَكُونُ قَارِنًا بِإِدْخَالِ الْحَجِّ عَلَى عُمْرَةٍ فَاسِدَةٍ ، فَلَا دَمَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ تَرَدَّدَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُتَمَتِّعًا فَيَلْزَمُهُ دَمٌ ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَمِرًا ، فَلَا يَلْزَمُهُ دَمٌ : لِأَنَّ الدَّمَ لَا يَجِبُ بِالشَّكِّ ، فَأَمَّا قَضَاءُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَوُجُوبُ كَفَّارَةِ الْوَطْءِ فَلَا يَجِبُ بِحَالٍ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَنْ تَجِبَ وَبَيْنَ أَنْ لَا تَجِبَ وَبِالشَّكِّ فَلَا تَجِبُ فَأَمَّا إِجْزَاءُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَنْ فَرْضِ الْإِسْلَامِ ، فَالْعُمْرَةُ لَا تُجْزِئُ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ : لِأَنَّهَا قَدْ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَارِيَةً عَنِ الْفَسَادِ ، فَتُجْزِئُ ، وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ فَاسِدَةً ، فَلَا تُجْزِئُ ، وَفَرْضُ الْعُمْرَةِ مَعَ الشَّكِّ لَا يَسْقُطُ ، وَأَمَّا الْحَجُّ ، فَفِي إِجْزَائِهِ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ هَلْ يَكُونُ قَارِنًا أَمْ لَا ؟ ثُمَّ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ ، إِذَا صَارَ قَارِنًا . هَلْ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْحَجِّ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قُلْنَا : لَا يَكُونُ قَارِنًا ، لَمْ يُجْزِهِ فَرْضُ الْحَجِّ : لِأَنَّهُ قَدْ تَرَدَّدَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَمْ لَا ، وَأَنْ يَكُونَ قَارِنًا . فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ مَنْ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَى عُمْرَةٍ فَاسِدَةٍ ، لَزِمَهُ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ لَزِمَهُ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَجَّ حَجًّا صَحِيحًا ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَجَّ حَجًّا فَاسِدًا ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ . وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ مَنْ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَى عُمْرَةٍ فَاسِدَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءُ الْحَجِّ ، فَقَدْ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ : لِأَنَّهُ قَدْ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَارِنًا فَيَصِحُّ حَجُّهُ ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُتَمَتِّعًا فَقَدْ صَحَّ حَجُّهُ ، فَيَكُونُ فَرْضُ الْحَجِّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ سَاقِطٌ بِيَقِينٍ ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ الطَّهَارَةِ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ .

فَصْلٌ سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ فِي الطَّوَافِ وَشَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ

فَصْلٌ : فَأَمَّا سَتْرُ الْعَوْرَةِ ، فَوَاجِبٌ فِي الطَّوَافِ وَشَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ ، لَا يَصِحُّ أَدَاؤُهُ : لِأَنَّهُ كَالطَّهَارَةِ ، وَقَدْ كَانَ النَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً ، وَيَرَوْنَ ذَلِكَ أَفْضَلَ ، لِيَكُونُوا كَمَا خُلِقُوا ، فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ مِنْهُمْ تَشُدُّ عَلَى فَرْجِهَا سُيُورًا حَتَّى قَالَتِ الْعَامِرِيَّةُ : الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ كَمْ مِنْ لَبِيبٍ عَقْلُهُ يُضِلُّهُ وَنَاظِرٍ يَنْظُرُ فِيمَا يُحِلُّهُ فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ : وَجَعَلَهُ صَلَاةً وَأَمَرَ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ فِيهِ فَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ : " كُنْتُ مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرَاةَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ قَالَ فَأَمَرَنَا

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنَادِيَ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ ، وَأَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ ، فَنَادَيْتُ حَتَّى بُحَّ صَوْتِي " .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ أَحْدَثَ تَوَضَّأَ وَابْتَدَأَ فَإِنْ بَنَى عَلَى طَوَافِهِ أَجْزَأَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الطَّوَافَ لَا يُجْزِئُ إِلَّا بِطَهَارَةٍ مِنْ حَدَثٍ وَنَجَسٍ ، فَإِنْ أَحْدَثَ فِي طَوَافِهِ ، أَوْ حَصَلَتْ عَلَى بَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ ، لَمْ يُجْزِهِ الْبِنَاءُ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ طَوَافِهِ وَيَتَطَهَّرَ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَإِنْ حَصَلَتْ فِي نَعْلِهِ نَجَاسَةٌ وَهُوَ فِي الطَّوَافِ خَلَعَهَا ، فَإِنْ لَمْ يَخْلَعْهَا وَمَضَى فِي طَوَافِهِ لَمْ يُجْزِهِ : لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الطَّهَارَةِ وَاجِبَةٌ في جميع الطواف فِي جَمِيعِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَيْهِ الْخُرُوجَ مِنْ طَوَافِهِ لِلطَّهَارَةِ ، فَخَرَجَ وَتَطَهَّرَ ثُمَّ عَادَ . فَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ قَرِيبًا بَنَى عَلَى الْمَاضِي مِنْ طَوَافِهِ وَأَجْزَأَهُ ، لِأَنَّهُ يَسِيرُ التَّفْرِيقِ فِي الطَّوَافِ مُبَاحٌ ، لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى إِبَاحَةِ جُلُوسِهِ لِلِاسْتِرَاحَةِ في الطواف وحكم البناء . وَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ بَعِيدًا ، فَفِي جَوَازِ الْبِنَاءِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ : يَسْتَأْنِفُ وَلَا يَبْنِي : لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا الطَّهَارَةُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا الْمُوَالَاةُ كَالصَّلَاةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ : يَبْنِي وَلَا يَسْتَأْنِفُ : لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَصِحُّ مَعَ التَّفْرِيقِ الْيَسِيرِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ مَعَ التَّفْرِيقِ الْكَثِيرِ ، كَسَائِرِ أَفْعَالِ الْحَجِّ طَرْدًا وَالصَّلَاةِ عَكْسًا ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَدَثُ مِنْهُ سَهْوًا أَوْ عَمْدًا . فَإِذَا قُلْنَا : يَسْتَأْنِفُ أَلْغَى مَا مَضَى وَابْتَدَأَ بِهِ مُسْتَأْنِفًا . وَإِذَا قُلْنَا : يَبْنِي ، نُظِرَ . فَإِنْ كَانَ خُرُوجُهُ مِنَ الطَّوَافِ عِنْدَ إِكْمَالِهِ طَوْفَتَهُ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ، عَادَ فَابْتَدَأَ بِالطَّوْفَةِ الَّتِي تَلِيهَا مِنَ الْحَجَرِ . وَإِنْ كَانَ قَدْ خَرَجَ فِي بَعْضِ طَوْفَتِهِ قَبْلَ انْتِهَائِهِ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَسْتَأْنِفُهَا مِنْ أَوَّلِهَا وَلَا يَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْهَا : لِأَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ أَعْدَادِ الْأَطْوَافِ جَائِزٌ : لِأَنَّ لِكُلِّ طَوْفَةٍ حُكْمَ نَفْسِهَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّوْفَةُ الْوَاحِدَةُ ، لَا يَسْتَوِي حُكْمُ جَمِيعِهَا ، فَجَازَ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى أَعْدَادِهَا ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى أَبْعَاضِ آحَادِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ يَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْهَا : لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى حُكْمُ التَّفْرِيقِ الْيَسِيرِ فِي الطَّوْفَةِ الْوَاحِدَةِ وَالْأَطْوَافِ ، وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ التَّفْرِيقِ الْكَثِيرِ فِي الطَّوْفَةِ الْوَاحِدَةِ وَالْأَطْوَافِ ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْخَارِجِ مِنْ طَوَافِهِ لِحَاجَةٍ ، كَحُكْمِ الْخَارِجِ مِنْ طَوَافِهِ لِحَدَثٍ فَإِذَا أَعَادَ لِيَبْنِيَ كَانَ عَلَى مَا مَضَى .

فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَلَوْ طَافَ وَهُوَ يَعْقِلُ ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ قَبْلَ إِكْمَالِ الطَّوَافِ ثُمَّ أَفَاقَ بَعْدَ ذَلِكَ ابْتَدَأَ الْوُضُوءَ وَالطَّوَافَ قَرِيبًا كَانَ ذَلِكَ أَوْ بَعِيدًا فَجَعَلَ الْإِغْمَاءَ قَطْعًا لِلطَّوَافِ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِئْنَافَ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَدَثِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَانِعًا مِنَ الطَّوَافِ لِزَوَالِ تَكْلِيفِهِ بِالْإِغْمَاءِ فَزَالَ بِهِ حُكْمُ الْبِنَاءِ وَبَقِيَ تَكْلِيفُهُ مَعَ الْحَدَثِ فَيَبْقَى مَعَهُ حُكْمُ الْبِنَاءِ .

مَسْأَلَةٌ طَافَ فَسَلَكَ الْحَجَرَ أَوْ عَلَى جِدَارِ الْحَجَرِ أَوْ عَلَى شَاذَرْوَانِ الْكَعْبَةِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ فِي الطَّوَافِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِنْ طَافَ فَسَلَكَ الْحَجَرَ أَوْ عَلَى جِدَارِ الْحَجَرِ أَوْ عَلَى شَاذَرْوَانِ الْكَعْبَةِ في الطواف لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ . فِي الطَّوَافِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ حَالِ الطَّائِفِ بِالْبَيْتِ أَنَّ لَهُ أَرْبَعَةَ أَحْوَالٍ مِنْهَا حَالَتَانِ مُجْزِئَتَانِ وَحَالَتَانِ غَيْرُ مُجْزِئَتَيْنِ فَأَمَّا الْحَالَتَانِ الْمُجْزِئَتَانِ فَأَحَدُهُمَا حَالَةُ كَمَالٍ وَالثَّانِيَةُ حَالَةُ إِجْزَاءٍ . فَأَمَّا حَالَةُ الْكَمَالِ : فَهُوَ أَنْ يَطُوفَ خَارِجَ الْبَيْتِ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ دُونَ زَمْزَمَ وَالْحَطِيمِ ، فَهَذَا كَمَالُ أَحْوَالِ الطَّوَافِ فِيهِ طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ يَقْتَدِي بِهِ مِنَ السَّلَفِ بَعْدَهُ ، وَأَمَّا حَالَةُ الْإِجْزَاءِ فَهُوَ أَنْ يَطُوفَ بِالْمَسْجِدِ وَرَاءَ زَمْزَمَ وَسِقَايَةِ الْعَبَّاسِ وَدُونَ الْجِدَارِ فَهَذَا طَوَافٌ مُجْزِئٌ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ مِنْهُ : لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ حَائِلٌ ، وَهَكَذَا لَوْ طَافَ عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَجْزَأَهُ ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ سَقْفَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْيَوْمَ دُونَ سَقْفِ الْكَعْبَةِ فَكَانَ طَائِفًا بِالْبَيْتِ . فَإِنْ قِيلَ لَوِ اسْتَقْبَلَهَا فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهَا القبلة كَانَ مُسْتَقْبِلًا لِجِهَةِ بِنَائِهَا فَأَجْزَأَهُ ، وَالْمَقْصُودُ فِي الصَّلَاةِ تَعْيِينُ بِنَائِهَا ، فَإِذَا عَلَا عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ طَائِفًا بِنَفْسِ بِنَائِهَا فَلَمْ يُجْزِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالَتَانِ اللَّتَانِ لَا تُجْزِئَانِ فَإِحْدَاهُمَا لَا تُجْزِئُ لِلْمُجَاوَزَةِ ، وَالثَّانِيَةُ لَا تُجْزِئُ لِلتَّقْصِيرِ ، فَأَمَّا مَا لَا تُجْزِئُ لِلْمُجَاوَزَةِ فَهُوَ أَنْ يَطُوفَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ فِي الْوَادِي مِنْ وَرَاءِ الْجِدَارِ ، فَهَذَا لَا يُجْزِئُ : لِأَنَّ هَذَا غَيْرُ طَائِفٍ بِالْبَيْتِ ، وَإِنَّمَا هُوَ طَائِفٌ بِالْمَسْجِدِ وَلَوْ أَجْزَأَ هَذَا أَجْزَأَهُ طَوَافُهُ حَوْلَ مَكَّةَ ، مَا لَا يُجْزِئُ لِلنَّقْصِ فَفِي أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَطُوفَ دَاخِلَ الْبَيْتِ فَلَا يُجْزِئُهُ : لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَهَذَا غَيْرُ طَائِفٍ بِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ طَائِفٌ فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَطُوفَ عَلَى ظَهْرِ الْبَيْتِ فَلَا يُجْزِئُهُ : لِأَنَّهُ طَائِفٌ وَلَيْسَ بِطَائِفٍ بِالْبَيْتِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَطُوفَ خَارِجَ الْبَيْتِ عَلَى شَاذَرْوَانِهِ فَلَا يُجْزِئُهُ : لِأَنَّ شَاذَرْوَانَ الْبَيْتِ هُوَ أَسَاسُهُ ، ثُمَّ يَقْتَصِرُ بِالْبِنَاءِ عَلَى بَعْضِهِ ، فَالطَّائِفُ عَلَيْهِ لَمْ يَطُفْ بِجَمِيعِ الْبَيْتِ وَإِنَّمَا طَافَ بِبَعْضِهِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَطُوفَ خَارِجَ الْبَيْتِ وَفِي الْحِجْرِ فَلَا يُجْزِئُهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُجْزِئُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [ الْحَجِّ : ] ، وَهَذَا طَائِفٌ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْحِجْرُ مِنْ وَرَائِهِ لِأَنَّ الْحِجْرَ مِنَ الْبَيْتِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْبَيْتِ مَا رَوَى

عَلْقَمَةُ بْنُ أَبِي عَلْقَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أَدْخُلَ الْبَيْتَ فَأُصَلِّيَ فِيهِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي وَأَدْخَلَنِي فِي الْحِجْرِ وَقَالَ صَلِّي فِي الْحِجْرِ إِذَا أَرَدْتِ دُخُولَ الْبَيْتِ ، فَإِنَّمَا هُوَ قِطْعَةٌ مِنَ الْبَيْتِ وَلِأَنَّ قَوْمَكِ اقْتَصَرُوا حِينَ بَنَوُا الْكَعْبَةَ فَأَخْرَجُوهُ مِنَ الْبَيْتِ . وَرَوَى مَرْثَدُ بْنُ شُرَحْبِيلَ قَالَ حَضَرْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَقَدْ أَدْخَلَ عَلَى عَائِشَةَ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ كِبَارِ قُرَيْشٍ وَأَشْرَافِهِمْ وَخِيَارِهِمْ فَأَخْبَرَتْهُمْ أَنَّ رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَوْلَا حَدَثَانِ قَوْمِكِ بِالشِّرْكِ لَبَنَيْتُ الْبَيْتَ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ وَهَلْ تَدْرِينَ لِمَ قَصَّرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ قَالَتْ : لَا ، قَالَ : قَصُرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ . وَرَوَى الْوَلِيدُ بْنُ عَطَاءٍ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ قَالَ : سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ قَوْمَكِ استَقْصَرُوا عَنْ بُنْيَانِ الْبَيْتِ وَلَوْلَا حَدَثَانُهُمْ بِالْكُفَّارِ لَأَعَدْتُ فِيهِ مَا تَرَكُوا مِنْهُ وَلَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ مَوْضُوعَيْنِ فِي الْأَرْضِ شَرْقِيًّا وَغَرْبِيًّا فَإِنْ بَدَا لِقَوْمِكِ أَنْ يَبْنُوهُ فَهَلُمَّ لِأُرِيَكِ مَا تَرَكُوا مِنْهُ قَالَتْ : فَأَرَاهَا قَرِيبًا مِنْ تِسْعَةِ أَذْرُعٍ . فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ مِنَ الْبَيْتِ وَقَدْ كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي أَيَّامِهِ هَدَمَهُ وَابْتَنَاهُ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ ، وَجَعَلَ لَهُ بَابَيْنِ شَرْقِيًّا وَغَرْبِيًّا كَمَا ذَكَرَتْ عَائِشَةُ فَهَدَمَ الْحَجَّاجُ زِيَادَةَ ابْنِ الزُّبَيْرِ الَّتِي اسْتَوْظَفَ بِهَا الْقَوَاعِدَ فَهَمَّ بَعْضُ الْوُلَاةِ بِإِعَادَتِهِ ، وَقِيلَ عَلَى مَا كَانَ الْمَهْدِيُّ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ فَكَرِهَ ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ أَشَارَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : أَخَافُ أَنْ لَا يَأْتِيَ وَالٍ لَا أُحِبُّ أَنْ يُرَى فِي الْبَيْتِ أَثَرٌ يُنْسَبُ إِلَيْهِ ، وَالْبَيْتُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يُطْمَعَ فِيهِ ، وَقَدْ أَقَرَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ بَعْدَهُ ، فَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَخْبَارِ وَحَكَيْنَا مِنْ فِعْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ الْحِجْرَ مِنَ الْبَيْتِ لَمْ يُجْزِهِ الطَّوَافُ فِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [ الْحَجِّ : ] ، وَإِذَا طَافَ فِي الْحِجْرِ كَانَ طَائِفًا بِالْبَيْتِ الْجَدِيدِ وَلَمْ يَكُنْ طَائِفًا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ فَلَمْ يُجْزِهِ : لِأَنَّهُ طَافَ بِبَعْضِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِنْ نَكَّسَ الطَّوَافَ لَمْ يُجْزِهِ بِحَالٍ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) الشَّاذَرْوَانُ تَأْزِيرُ الْبَيْتِ خَارِجًا عَنْهُ وَأَحْسَبُهُ عَلَى أَسَاسِ الْبَيْتِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُبَايِنًا لِأَسَاسِ الْبَيْتِ لَأَجْزَأَهُ الطَّوَافُ عَلَيْهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الطَّوَافُ الْمَشْرُوعُ فَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْحَجَرَ عَنْ يَسَارِهِ وَيَمْضِيَ فِي الطَّوَافِ عَلَى يَمِينِهِ ، فَإِنْ نَكَّسَ الطَّوَافَ فَجَعَلَ الْحَجَرَ عَنْ يَمِينِهِ وَمَضَى عَلَى يَسَارِهِ لَمْ يُجْزِهِ بِحَالٍ ، وَكَانَ فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ يَطُفْ ، سَوَاءٌ أَقَامَ بِمَكَّةَ أَوْ خَرَجَ عَنْهَا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَنْكِيسُ الطَّوَافِ لَا يَجُوزُ ، فَإِنْ نَكَّسَهُ أَعَادَ إِنْ كَانَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ ، وَجَبَرَهُ بِدَمٍ إِنْ كَانَ قَدْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ تَنْكِيسُ الطَّوَافِ يُجْزِئُ وَلَا دَمَ فِيهِ ، تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [ الْحَجِّ : ] ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ طَافَ جَعَلَ الْحَجَرَ عَلَى يَسَارِهِ وَقَضَى عَلَى يَمِينِهِ ، وَكَانَ ذَلِكَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ

[ الْحَجِّ : ] مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى الْبَيْتِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّنْكِيسُ مَانِعًا مِنْ صِحَّتِهَا كَالصَّلَاةِ : وَلِأَنَّهَا طَوَافٌ مُنَكَّسٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِئَ فَاعِلَهُ كَالْمُقِيمِ بِمَكَّةَ ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْآيَةِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ التَّنْكِيسَ مَكْرُوهٌ ، وَالْأَمْرُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْمَكْرُوهَ .

فَصْلٌ أَعْدَادُ الطَّوَافِ سَبْعٌ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَقَلَّ مِنْهَا

فَصْلٌ : فَأَمَّا أَعْدَادُ الطَّوَافِ فَسَبْعٌ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَقَلَّ من سبعى في الطواف مِنْهَا ، وَقَدْ رَوَى مَعْقِلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : السَّعْيُ وَالطَّوَافُ تَوٌّ وَفِي تَأْوِيلِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ السَّعْيَ وَالطَّوَافَ سَبْعَةُ أَشْوَاطٍ وِتْرٍ غَيْرِ شَفَعٍ وَالتَّوُّ الْوِتْرُ . وَالثَّانِي : مَعْنَاهُ أَنَّ الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ وَالرَّمْيَ فِي الْحَجِّ وَاحِدٌ لَا يُثَنَّى فِي الْقِرَانِ وَهُوَ فِيهِ كَالْإِفْرَادِ ، وَإِنْ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ قَبْلَ إِتْمَامِ طَوَافِهِ كَانَ عَلَى إِحْرَامِهِ وَلَزِمَهُ الْعَوْدُ لِإِتْمَامِ طَوَافِهِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ طَافَ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَطْوَافٍ لَمْ يُجْزِهِ ، وَإِنْ طَافَ أَرْبَعَةَ أَطْوَافٍ ، فَإِنْ كَانَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ أَجْزَأَهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ : تَعَلُّقًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ، [ الْحَجِّ : ] ، وَبِأَنَّ مُعْظَمَ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَ جَمِيعِ الشَّيْءِ ، كَمَا لَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ رَاكِعًا كَانَ كَمَا لَوْ أَدْرَكَهُ قَائِمًا . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا وَهَذَا الْفِعْلُ مِنْهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ، وَاسْتِئْنَافُ نُسُكٍ يُؤْخَذُ مِنْ فِعْلِهِ ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَهُوَ وَاجِبٌ ، وَلِأَنَّهُ طَوَافٌ لَمْ يَكْمُلْ عَدَدُهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ بِهِ التَّحَلُّلُ ، كَالْمُقِيمِ بِمَكَّةَ لَمْ يُجْزِهِ بِدَمٍ ، فَوَجَبَ إِذَا تَرَكَهُ غَيْرُ الْمُقِيمِ بِمَكَّةَ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ بِدَمٍ قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا طَافَ ثَلَاثًا وَتَرَكَ أَرْبَعًا . فَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا دَلَالَةَ لَهُمْ فِيهَا : لِأَنَّنَا وَإِيَّاهُمْ نَعْدِلُ عَنْ ظَاهِرِهَا . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ مُعْظَمَ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَ الشَّيْءِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّهُ يَنْقُصُ بِسَائِرِ الْعِبَادَاتِ مِنْ أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَغَيْرِهَا ، عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ رَاكِعًا فَقَدْ يَحْمِلُ عَنْهُ مَا فَاتَهُ ؛ فَلِذَلِكَ مَا اعْتَدَّ بِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّوَافُ .

فَصْلٌ طَوَافُ الْمَاشِي أَفْضَلُ مِنْ طَوَافِ الرَّاكِبِ

فَصْلٌ : طَوَافُ الْمَاشِي أَوْلَى وَأَفْضَلُ مِنْ طَوَافِ الرَّاكِبِ وَهَذَا مِمَّا لَا يُعْرَفُ خِلَافٌ فِيهِ : لِأَنَّ النَّبِيَّ طَافَ فِي عُمْرَةٍ كُلَّهُ مَاشِيًا ، وَطَافَ فِي حَجِّهِ طَوَافَ [ الْقُدُومِ مَاشِيًا ، وَإِنَّمَا طَافَ مَرَّةً فِي عُمْرَةٍ ] طَوَافَ الْإِفَاضَةِ رَاكِبًا ؛ وَلِأَنَّهُ يُؤْذِي النَّاسَ بِزِحَامِ مَرْكُوبِهِ ، وَلَا يُؤْمَنُ تَنْجِيسُ الْمَسْجِدِ بِإِرْسَالِ بَوْلِهِ ، فَإِنْ طَافَ رَاكِبًا أَجْزَأَهُ مَعْذُورًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ بِحَالٍ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُجْزِئُهُ الطَّوَافُ وَعَلَيْهِ دَمٌ إِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ ، وَلِأَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ رَوَى أَنَّ رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ رَاكِبًا مِنْ شَكْوَى .

رَوَى عُرْوَةُ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَشْتَكِي فَقَالَ : طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ ، قَالَتْ : فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَئِذٍ يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ وَهُوَ يَقْرَأُ : وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [ الطُّورِ : ] قَالَ : فَإِذَا طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاكِبًا لِشَكْوَى وَأَذِنَ لِأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنْ تَطُوفَ رَاكِبَةً لِشَكْوَى دَلَّ ذَلِكَ عَلَى حَظْرِ الطَّوَافِ رَاكِبًا مِنْ غَيْرِ شَكْوَى ، وَمَنْ فَعَلَ فِي الْحَجِّ مَحْظُورًا لَزِمَهُ الْجُبْرَانُ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ طَافَ بِغَيْرِ شَكْوَى رِوَايَةُ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَتَّجِزُوا بِالْإِفَاضَةِ ، وَأَفَاضَ بِنِسَائِهِ لَيْلًا ، فَطَافَ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنِهِ أَحْسَبُهُ قَالَ : وَيُقَبِّلُ طَرَفَ الْمِحْجَنِ ، وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا رَكِبَ لِيَرَاهُ النَّاسُ ، وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرْكَبْ مِنْ شَكْوَى . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا أَعْلَمُهُ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ اشْتَكَى ، وَلِأَنَّهُ رُكْنٌ لَوْ أَدَّاهُ مَاشِيًا لَمْ يَجْبُرْهُ بِدَمٍ ، فَوَجَبَ إِذَا أَدَّاهُ رَاكِبًا أَنْ لَا يُجْبِرَهُ بِدَمٍ كَالْوُقُوفِ وَغَيْرِهِ ، وَلِأَنَّهُ طَافَ رَاكِبًا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ لِجُبْرَانِهِ دَمٌ كَالْمَرِيضِ ، فَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ فَغَيْرُ دَالٍّ لَهُ ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ طَوَافُ الرَّاكِبِ لِغَيْرِ عُذْرٍ حكمه ، وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى جَوَازِ طَوَافِهِ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفْنَا فِي وُجُوبِ الدَّمِ لِجُبْرَانِهِ ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ مُجْزِئٌ ، وَلَا دَمَ فِيهِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ لِغَيْرِ الْمَعْذُورِ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً : لِأَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يُشْرِفَ لِلنَّاسِ لِيَسْأَلُوهُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِثْلُهُ . فَكَذَا لَوْ طَافَ مَحْمُولًا عَلَى أَكْتَافِ الرِّجَالِ لِغَيْرِ عُذْرٍ وَكَرِهْنَاهُ ، فَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا بِمَانِعٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ زَمَانَةٍ ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَطُوْفَ مَحْمُولًا وَلَا يَطُوفَ رَاكِبًا ، فَإِنْ طَافَ رَاكِبًا كَانَ أَيْسَرَ حَالًا مِنْ رُكُوبِ غَيْرِ الْمَعْذُورِ وَرُكُوبُ الْإِبِلِ أَيْسَرُ حَالًا مِنْ رُكُوبِ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ ، فَإِنْ طَافَ مَحْمُولًا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْرِمٌ ، عَلَيْهِ طَوَافٌ قَدْ نَوَاهُ عَنْ نَفْسِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الطَّوَافُ عَنِ الْحَامِلِ دُونَ الْمَحْمُولِ ، لِأَنَّهُ أَصْلٌ وَالْمَحْمُولُ تَبَعٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَكُونُ الطَّوَافُ عَنِ الْمَحْمُولِ دُونَ الْحَامِلِ : لِأَنَّ الْحَامِلَ قَدْ صَرَفَ عَمَلَهُ إِلَى مَعُونَةِ الْمَحْمُولِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَكُونُ الطَّوَافُ عَنِ الْحَامِلِ وَالْمَحْمُولِ جَمِيعًا ؟ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ لَوْ حَمَلَهُ بِعَرَفَةَ أَجْزَأَهُمَا عَنْ وُقُوفِهِمَا فَكَذَلِكَ فِي الطَّوَافِ يُجْزِئُهُمَا عَنْ طَوَافِهِمَا .

وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ طَوَافَ الْحَامِلِ وَالْمَحْمُولِ فِعْلٌ وَاحِدٌ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَدَّى بِالْفِعْلِ الْوَاحِدِ فَرْضُ طَوَافَيْنِ ، فَوَجَبَ اسْتِحْقَاقُ فِعْلَيْنِ وَخَالَفَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ : لِأَنَّ الْوُقُوفَ لُبْثٌ لَا يَتَضَمَّنُ فِعْلًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَفَ نَائِمًا أَجْزَأَ ، وَالطَّوَافُ فِعْلٌ مُسْتَحَقٌّ وَهُوَ مِنْ أَحَدِهِمَا فَلَمْ يُجْزِ عَنْهُمَا ، ثُمَّ إِذَا طَافَ رَاكِبًا أَوْ مَحْمُولًا فَإِنَّهُ يَضْطَبِعُ ، فَأَمَّا الرَّمَلُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ لَا رَمَلَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ مَسْنُونٌ فِي الْمَاشِي لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى نَشَاطِهِ وَصِحَّتِهِ وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي الْمَحْمُولِ وَالرَّاكِبِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ يَرْمُلُ بِهِ إِنْ كَانَ مَحْمُولًا وَيُخَبِّبُ بِيَدَيْهِ إِنْ كَانَ رَاكِبًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مَسْنُونًا فِي طَوَافِ الْمَاشِي كَانَ مَسْنُونًا فِي طَوَافِ الْمَحْمُولِ وَالرَّاكِبِ كَالِاضْطِبَاعِ .

فَصْلٌ : رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَقُولَ : شَوْطٌ وَدَوْرٌ لِلطَّوَافِ وَلَكِنْ يَقُولُ طَوْفٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَأَكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا كَرِهَ مُجَاهِدٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [ الْحَجِّ : ] ، وَحَكَى الشَّافِعِيُّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ كَرِهُوا أَنْ يُعَدَّ فِي الطَّوَافِ وَهُوَ عِنْدَهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ وَقَدْ رَوَى الْأَوْزَاعِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ مَعَهُ فِي الطَّوَافِ ، كَمْ تَعُدُّ : ثُمَّ قَالَ تَدْرِي لِمَ سَأَلْتُكَ ؟ لِتَحْفَظَهُ .

مَسْأَلَةٌ إِذَا أَكْمَلَ الطَّائِفُ طَوَافَهُ سَبْعًا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِذَا فَرَغَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ الْمَقَامِ فَيَقْرَأُ فِي الْأُولَى بِأُمِّ الْقُرْآنِ ، وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : هَذَا إِذَا أَكْمَلَ الطَّائِفُ طَوَافَهُ سَبْعًا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ ، يَقُولُ فِيهِمَا بِمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ لِرِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا ، وَصَلَّى عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ وَقَرَأَ : وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [ الْبَقَرَةِ : ] وَقَدْ عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ فِي هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ بعد الطواف حكمها فَخَرَّجَهُمَا أَصْحَابُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِنَّهُمَا وَاجِبَتَانِ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [ الْبَقَرَةِ : ] ، يَعْنِي صَلَاةً ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُمَا ، فِعْلُهُ إِمَّا أَنْ يَكُوْنَ بَيَانًا أَوِ ابْتِدَاءَ شَرْعٍ ، وَأَيُّهُمَا كَانَ دَلَّ عَلَى الْوُجُوبِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِنَّهُمَا مُسْتَحَبَّانِ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ حِينَ قَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا قَالَ : لَا إِلَّا أَنْ تَتَطَوَّعَ ، فَجَعَلَ مَا سِوَى الْخَمْسِ تَطَوُّعًا . وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " مَنْ طَافَ أُسْبُوعًا وَصَلَى رَكْعَتَيْنِ كَانَ لَهُ كَعِدْلِ رَقَبَةٍ " وَأَخْرَجَهُ مُخْرَجَ الْفَضْلِ ، وَجَعَلَ لَهُ ثَوَابَهُ مَحْدُودًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَطَوُّعٌ : لِأَنَّ الْوَاجِبَ غَيْرُ مَحْدُودِ الثَّوَابِ .

فَإِذَا قُلْنَا : إِنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ فَصَلَّاهُمَا جَالِسًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ أَجْزَأَ كَسَائِرِ السُّنَنِ وَالنَّوَافِلِ ، وَإِذَا قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ فَإِنْ صَلَّاهُمَا جَالِسًا مَعَ الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُجْزِئُهُ لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ رَاكِبًا ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ ، فَلَوْ جَازَ فِعْلُهُمَا جَالِسًا لَأَجْزَأَهُ فِعْلُهُمَا رَاكِبًا ، فَلَمَّا نَزَلَ وَصَلَّاهُمَا عَلَى الْأَرْضِ دَلَّ عَلَى أَنَّ فَرْضَهَا الْقِيَامُ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ الْوَاجِبَاتِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُجْزِئُهُ : لِأَنَّهُمَا مِنْ أَحْكَامِ الطَّوَافِ وَتَبَعِهِ ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَطُوفَ رَاكِبًا وَمَحْمُولًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَشْيِ ، جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ طَوَافُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَطَوَافُ الْقُدُومِ وَالزِّيَارَةِ وَالْوَدَاعِ ، كُلُّ ذَلِكَ مَأْمُورٌ بِهِ فِي كُلِّ طَوَافٍ .

فَصْلٌ : وَيُخْتَارُ أَنْ يَدْعُوَ عَقِيبَهُمَا بِمَا رَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَدَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ فَصَلَّى خَلْفَهُ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ بَلَدُكَ وَمَسْجِدُكَ الْحَرَامُ وَبَيْتُكَ الْحَرَامُ ، أَنَا عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ ابْنُ أَمَتِكَ ، أَتَيْتُكَ بِذُنُوبٍ كَثِيرَةٍ ، وَخَطَايَا جَمَّةٍ ، وَأَعْمَالٍ سَيِّئَةٍ ، وَهَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ النَّارِ ، فَاغْفِرْ لِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، اللَّهُمَّ إِنَّكَ دَعَوْتُ عِبَادَكَ إِلَى بَيْتِكَ الْحَرَامِ وَقَدْ جِئْتُ طَالِبًا رَحْمَتَكَ مُتَّبِعًا مَرْضَاتَكَ وَأَنْتَ مَنَنْتَ عَلَيَّ بِذَلِكَ فَاغْفِرْ لِي ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " .

فَصْلٌ : فَإِنْ تَرَكَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا : فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُمَا مُسْتَحَبَّتَانِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا دَمَ ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُمَا وَاجَبَتَانِ قَضَاهُمَا فِي الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ . وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : إِنْ قَضَاهُمَا فِي غَيْرِ الْحَرَمِ لَمْ يُجْزِهِ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ قَضَاهُمَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِمَا فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ : لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا طَافَ بِالْبَيْتِ نَظَرَ ، وَإِذَا بِالشَّمْسِ لَمْ يَتِمَّ طُلُوعُهَا ، فَرَكِبَ حَتَّى أَنَاخَ بِذِي طُوًى فَصَلَّاهُمَا هُنَاكَ ، وَلِأَنَّ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ لَيْسَتَا بِأَوْكَدَ مِنْ سَائِرِ الْمَفْرُوضَاتِ ، فَلَمَّا لَمْ يَخْتَصَّ شَيْءٌ مِنْهُ الْفَرَائِضَ بِمَوْضِعٍ فَرَكْعَتَا طَوَافٍ أَوْلَى أَنْ لَا يَخْتَصَّ بِمَوْضِعٍ .

مَسْأَلَةٌ إِذَا فَرَغَ مِنْ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ عَادَ إِلَى الْحَجَرِ فَاسْتَلَمَهُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الْحَجَرِ فَيَسْتَلِمُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا فَرَغَ مِنْ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ عَادَ إِلَى الْحَجَرِ فَاسْتَلَمَهُ ، فَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْتِيَ الْمُلْتَزَمَ فَيَدْعُوَ عِنْدَهُ ، فَقَدْ رَوَى أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ مُلْتَزَمٌ مَنْ دَعَا مِنْ ذِي حَاجَةٍ ، أَوْ ذِي كُرْبَةٍ ، أَوْ ذِي غَمٍ فُرِّجَ عَنْهُ بِإِذْنِ اللَّهِ " وَيُخْتَارُ أَنْ يَلْصِقَ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ بِالْمُلْتَزَمِ

حِينَ يَدْعُو ، فَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْصِقُ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ بِالْمُلْتَزَمِ " وَهُوَ مَا بَيْنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَالْبَابِ فِي وَجْهِ الْكَعْبَةِ ، وَلْيَكُنْ مِنْ دُعَائِهِ مَا رَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ سَرِيرَتِي وَعَلَانِيَتِي فَاقْبَلْ مَعْذِرَتِي ، وَتَعْلَمُ حَاجَتِي فَأَعْطِنِي سُؤْلِي وَتَعْلَمُ مَا عِنْدِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي أَسْأَلُكَ إِيمَانًا يُبَاشِرُ قَلْبِي ، وَيَقِينًا صَادِقًا ، حَتَّى أَعْلَمَ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَنِي إِلَّا مَا كَتَبْتَهُ عَلَيَّ ، وَرِضًا لِقَضَائِكَ لِي " ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ فِي الْمُلْتَزَمِ بَيْنَ الْحِجْرِ وَالْبَابِ : رَبِّي اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي ، وَمَتِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي ، وَبَارِكْ لِي وَاخْلُفْ عَلَيَّ كُلَّ عَاقِبَةٍ بِخَيْرٍ .

فَصْلٌ يُخْتَارُ أَنْ يَدْخُلَ الْحِجْرَ وَيَدْعُوَ تَحْتَ الْمِيزَابِ

فَصْلٌ : وَيُخْتَارُ أَنْ يَدْخُلَ الْحِجْرَ وَيَدْعُوَ تَحْتَ الْمِيزَابِ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَا أَحَدٌ يَدْعُو عِنْدَ الْمِيزَابِ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : أَقْبَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ أَلَا تَسْأَلُونِي مِنْ أَيْنَ جِئْتُ ؟ قَالُوا : وَمِنْ أَيْنَ جِئْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ : مَا زِلْتُ قَائِمًا عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ ، وَكَانَ قَائِمًا تَحْتَ الْمِيزَابِ يَدْعُو اللَّهَ عِنْدَهُ ، وَقَدْ رَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إِذَا حَاذَى مِيزَابَ الْكَعْبَةِ وَهُوَ فِي الطَّوَافِ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الرَّاحَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَالْعَفْوَ عِنْدَ الْحِسَابِ .

مَسْأَلَةٌ السَّعْيُ سَبْعًا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ رُكْنٌ وَاجِبٌ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ بَابِ الصَّفَا فَيَرْقَى عَلَيْهَا فَيُكَبِّرُ وَيُهَلِّلُ وَيَدْعُو اللَّهَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ بِمَا أَحَبَّ مِنْ دِينٍ وَدُنْيَا ، ثُمَّ يَنْزِلُ فَيَمْشِي حَتَّى إِذَا كَانَ دُونَ الْمِيلِ الْأَخْضَرِ الْمُعَلَّقِ فِي رُكْنِ الْمَسْجِدِ بِنَحْوٍ مِنْ سِتَّةِ أَذْرُعٍ سَعَى سَعْيًا شَدِيدًا حَتَّى يُحَاذِيَ الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ اللَّذَيْنِ بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَدَارَ الْعَبَّاسِ ثُمَّ يَمْشِي حَتَّى يَرْقَى عَلَى الْمَرْوَةِ فَيَصْنَعُ عَلَيْهَا كَمَا صَنَعَ عَلَى الصَّفَا حَتَّى يُتِمَّ سَبْعًا يَبْدَأُ بِالصَّفَا وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا السَّعْيُ سَبْعًا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَرُكْنٌ وَاجِبٌ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنْ تَرَكَ مِنْهُ سَعْيًا وَاحِدًا أَوْ ذِرَاعًا مِنْ سَعْيٍ وَاحِدٍ كَانَ عَلَى إِحْرَامِهِ وَإِنْ عَادَ إِلَى بَلَدِهِ حَتَّى يَعُودَ فَيَأْتِيَ بِهِ ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عَائِشَةَ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَجَابِرٍ ، وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ : السَّعْيُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ وَاجِبٌ لَكِنْ يَنُوبُ عَنْهُ الدَّمُ ، وَتَحَقُّقُ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَأَخْبَرَ بِرَفْعِ الْحَرَجِ وَالْجَنَاحِ عَمَّنْ يَطُوفُ بِهِمَا ، وَذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا كَانَ مُبَاحًا ، وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ [ النِّسَاءِ : ] ، فَكَانَ الْقَصْرُ مُبَاحًا ، وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا ، وَلِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ ، وَأُبَيًّا ، وَابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَءُونَ " فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا " وَهَذِهِ قِرَاءَةُ ثَلَاثَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ، فَوَجَبَ رَفْعُ الْجَنَاحِ

عَنْ تَارِكِ السَّعْيِ وَذَلِكَ أَوْكَدُ مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ ، فَكَانَ الْعَمَلُ بِهَا وَاجِبًا قَالُوا : وَلِأَنَّ السَّعْيَ تَبَعٌ لِلطَّوَافِ ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَهُ ، وَمَا كَانَ تَبَعًا لِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ لَمْ يَكُنْ رُكْنًا فِي الْحَجِّ ، كَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ لَمَّا كَانَ تَبَعًا لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لَمْ يَكُنْ رُكْنًا فِي الْحَجِّ وَكَالْمَبِيتِ بِعَرَفَةَ . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ رُكْنٌ يَتَكَرَّرُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الْمَسْجِدُ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ رُكْنًا كَرَمْيِ الْجِمَارِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ جَدَّتِهَا حَبِيبَةَ قَالَتْ : دَخَلْتُ مَعَ نِسْوَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ دَارَ آلِ أَبِي حُسَيْنٍ نَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَسْعَى بَيْنَ الصَفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَأَيْتُهُ يَسْعَى وَإِنَّ مِئْزَرَهُ لَتَدُورُ مِنْ شِدَّةِ السَّعْيِ حَتَى إِنِّي لَأَرَى رُكْبَتَيْهِ ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ . فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى وُجُوبِ السَّعْيِ ، وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لِعُمَرَ " وَاللَّهِ مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ مَنْ لَمْ يَسْعَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِأَنَّ " اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ، [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَعَائِشَةُ لَا تُقْسِمُ عَلَى ذَلِكَ وَتَقْطَعُ بِهِ إِلَّا أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ وَالتَّأْوِيلُ فِيهَا غَيْرُ سَائِغٍ ، وَلِأَنَّ شَعَائِرَ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ [ الْمَائِدَةِ : ] ، وَلِأَنَّهُ مَشَيُ نُسُكٍ ، يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا كَالطَّوَافِ . وَمَعْنَى قَوْلِنَا : يَتَنَوَّعُ هُوَ أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِهِ مَاشِيًا ، وَفِي بَعْضِهِ سَاعِيًا ، وَلِأَنَّهُ نُسُكٌ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا مِنْ شَرَائِطِهَا كَالْإِحْرَامِ ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْحَلْقُ : لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنُسُكٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ مَتْرُوكٌ : لِأَنَّهُ يَقْتَضِي رَفْعَ الْجَنَاحِ عَنْ تَرْكِ السَّعْيِ وَبِالْإِجْمَاعِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَسْعَ كَانَ حَرَجًا آثِمًا ، فَلَمْ يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ بِظَاهِرِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ مِنَ السَّعْيِ مُبَاحٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبِ ، وَهُوَ السَّعْيُ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالْوَاجِبُ إِنَّمَا هُوَ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَذَاكَ أَنَّ قُرَيْشًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ لَهَا عَلَى الصَّفَا صَنَمٌ اسْمُهُ إِسَافُ ، وَعَلَى الْمَرْوَةِ صَنَمٌ اسْمُهُ نَائِلَةُ ؛ وَلِذَلِكَ ذَكَرَ اسْمَ الصَّفَا بِإِسَافَ ؛ لِأَنَّ اسْمَهُ مُذَكَّرٌ ، وَأُنِّثَتِ الْمَرْوَةُ ؛ لِأَنَّ اسْمَهَا مُؤَنَّثٌ ، فَكَانُوا يَطُوفُونَ حَوْلَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَقَرُّبًا إِلَى الصَّنَمَيْنِ ، فَكَرِهَ الْمُسْلِمُونَ الطَّوَافَ بِهِمَا ، فَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ ، لِزَوَالِ سَبَبِهِ ، وَإِنَّهُ وَإِنْ شَابَهَ أَفْعَالَ الْجَاهِلِيَّةِ ، فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لَهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا لِلَّهِ وَذَلِكَ لِغَيْرِ اللَّهِ . وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ : وَهُوَ جَوَابُ الزُّبَيْرِيِّ هُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَهَذَا

كَلَامٌ تَامٌّ ، أَيْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِي تَقْدِيمِ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ ، أَوِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ : لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، ثُمَّ قَالَ : عَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ بِهِمَا ، وَهَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ ، أَيْ مَنْ حَجَّ أَوِ اعْتَمَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ الثَّلَاثَةِ " فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا " فَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنْ لَا صِلَةَ فِي الْكَلَامِ إِذَا تَقَدَّمَهَا حُجَّةٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى : مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [ الْأَعْرَافِ : ] ، مَعْنَاهُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللَّهِ فِعْلَهُمْ وَالطَّيِّبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ إِلَّا بَعْدَ الطَّوَافِ ، كَانَ تَبَعًا لِلطَّوَافِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا كَالطَّوَافِ . قُلْنَا : هَذِهِ عِبْرَةٌ فَاسِدَةٌ وَحُجَّةٌ بَاطِلَةٌ : لِأَنَّ الطَّوَافَ لَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ الْوُقُوفِ ، وَهُوَ رُكْنٌ كَالْوُقُوفِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرَّمْيِ ، فَالْمَعْنَى فِي الرَّمْيِ أَنَّهُ تَابِعٌ لِلْوُقُوفِ ، بِدَلِيلِ سُقُوطِهِ عَمَّنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ وَالسَّعْيُ لَيْسَ بِتَابِعٍ لِلْوُقُوفِ ، بِدَلِيلِ وُجُوبِهِ عَلَى مَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ ، فَلَمَّا كَانَ الرَّمْيُ تَابِعًا ، لَمْ يَكُنْ رُكْنًا ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ السَّعْيُ تَابِعًا ، كَانَ رُكْنًا .

فَصْلٌ إِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ السَّعْيِ فَمِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ الطَّوَافُ

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ السَّعْيِ فَمِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ أي السعي أَنْ يَتَقَدَّمَهُ الطَّوَافُ ، وَهُوَ إِجْمَاعٌ لَيْسَ يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْعَ قَطُّ إِلَّا عَقِيبَ طَوَافٍ ، وَقَدْ طَافَ وَلَمْ يَسْعَ بَعْدَهُ ، وَلَوْ جَازَ السَّعْيُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ طَوَافٌ لَفَعَلَهُ وَلَوْ مَرَّةً ؛ لِيَدُلَّ بِهِ عَلَى الْجَوَازِ ، وَلِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ نُسُكٌ لَا يَقَعُ إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَجَازَ فِعْلُهُ مُتَفَرِّدًا ، وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَدْ يُفْعَلُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِغَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ أَنْ يَسْعَى بَيْنَهُمَا فِي حَاجَةٍ عَارِضَةٍ أَوْ أَمْرٍ سَانِحٍ ، فَافْتَقَرَ إِلَى طَوَافٍ يَتَقَدَّمُهُ ؛ لِيَمْتَازَ عَمَّا لِغَيْرِ اللَّهِ ، وَيَكُونَ خَالِصًا ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ تَقَدُّمَ الطَّوَافِ عَلَيْهِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ التَّرَاخِي بين الطواف والسعي بَيْنَهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ ، أَنَّ التَّرَاخِيَ بَيْنَهُمَا يَجُوزُ ، فَإِنْ سَعَى بَعْدَ طَوَافِهِ بِيَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ أَجْزَأَ : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُكْنٌ ، وَالْمُوَالَاةُ بَيْنَ أَرْكَانِ الْحَجِّ لَا تَجِبُ كَالْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ التَّرَاخِيَ الْبَعِيدَ بَيْنَهُمَا غَيْرُ جَائِزٍ ، وَأَنَّ فِعْلَ السَّعْيِ عَلَى الْفَوْرِ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ ، وَإِنْ بَعُدَ مَا بَيْنَهُمَا لَمْ يُجْزِهِ : لِأَنَّ السَّعْيَ لَمَّا افْتَقَرَ إِلَى تَقَدُّمِ الطَّوَافِ عَلَيْهِ ؛ لِيَمْتَازَ عَمَّا لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، افْتَقَرَ إِلَى فِعْلِهِ عَلَى الْفَوْرِ ؛ لِيَقَعَ بِهِ الِامْتِيَازُ

عَمَّا لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى : لِأَنَّ الِامْتِيَازَ يُوجَدُ بِفِعْلِهِ عَلَى الْفَوْرِ ، وَلَا يُوجَدُ بِفِعْلِهِ عَلَى التَّرَاخِي ، فَأَمَّا الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ فَلَيْسَتْ شَرْطًا فِي السَّعْيِ ، فَإِنْ كَانَتْ شَرْطًا فِي الطَّوَافِ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ : " افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنَّكِ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ ، فَخَصَّ الطَّوَافَ بِالنَّهْيِ ، فَعُلِمَ أَنَّ السَّعْيَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي النَّهْيِ ، لَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ طَاهِرَ الْأَعْضَاءِ مِنَ الْحَدَثِ وَالنَّجِسِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ تَقَدُّمَ الطَّوَافِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ السَّعْيِ فَفَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ وَعَادَ إِلَى اسْتِلَامِ الْحَجَرِ بَعْدَ صِلَاتِهِ ، خَرَجَ مِنْ بَابِ الصَّفَا : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى سَعْيِهِ مِنْهُ ؛ وَلِأَنَّهُ أَقْصَدُ لَهُ ، وَأَقْرَبُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ يَبْدَأُ بِالصَّفَا : لِرِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَرَغَ مِنَ الطَّوَافِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ الْمَقَامِ ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْحَجَرِ فَاسْتَلَمَهُ ، وَخَرَجَ مِنْ بَابِ الصَّفَا وَقَالَ : إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ، فَنَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ . وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ ثُمَّ رَقِيَ عَلَى الصَّفَا . فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْبِدَايَةِ بِالصَّفَا فَيُخْتَارُ أَنْ تَرْقَى عَلَيْهِ ، كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْتَهِي إِلَى مَوْضِعِ بِدَايَتِهِ بِالْبَيْتِ ، ثُمَّ يَسْتَقْبِلُ الْبَيْتَ فَيُكَبِّرُ ، وَيَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَاللَّهِ أَكْبَرُ عَلَى مَا هَدَانَا ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . هَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ يَدْعُو بَعْدَهُ وَيُلَبِّي ، إِنْ كَانَ حَاجًّا ، ثُمَّ يَقُولُ ذَلِكَ ثَانِيَةً وَيَدْعُو بَعْدَهُ بِمَا بَدَا لَهُ مِنْ دِينٍ وَدُنْيَا ، ثُمَّ يَقُولُ ذَلِكَ ثَالِثَةً وَيَدْعُو بَعْدَهُ بِمَا سَنَحَ مِنْ دِينٍ وَدُنْيَا ، وَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ مِنْ دُعَائِهِ مَا رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَؤُلَاءِ الدَعْوَاتِ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ : اللَّهُمَّ اعْصِمْنِي بِعَيْنِكَ وَطَوَاعِيَتِكَ وَطَوَاعِيَةِ رَسُولِكَ ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنِي حُدُودَكَ ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِمَّنْ يُحِبُّكَ ، وَيُحِبُّ مَلَائِكَتَكَ ، وَرُسُلَكَ وَعِبَادَكَ الصَالِحِينَ ، اللَّهُمَّ حَبِّبْنِي إِلَيْكَ وَإِلَى مَلَائِكَتِكَ وَرُسُلِكَ ، وَعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ، اللَّهُمَّ آتِنِي مِنْ خَيْرِ مَا تُؤْتِي عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، اللَّهُمَّ يَسِّرْنِي لِلْيُسْرَى ، وَجَنِّبْنِي الْعُسْرَى ، وَاغْفِرْ لِي مِنَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى ، اللَّهُمَّ أَوْزِعْنِي أَنْ أُوفِيَ بِعَهْدِكَ الَّذِي عَاهَدْتَنِي عَلَيْهِ ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ ، وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَعِيمِ ، وَاغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ .

فَصْلٌ : ثُمَّ يَنْزِلُ مِنَ الصَّفَا فَيَمْشِي إِلَى الْمَرْوَةِ ، حَتَّى إِذَا كَانَ دُونَ الْمِيلِ الْأَخْضَرِ الْمُعَلَّقِ فِي رُكْنِ الْمَسْجِدِ بِنَحْوِ مَنْ سِتَّةِ أَذْرُعٍ سَعَى سَعْيًا شَدِيدًا ، حَتَّى يُحَاذِيَ الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ اللَّذَيْنِ بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَدَارَ الْعَبَّاسِ ، ثُمَّ يَمْشِي حَتَّى يَرْقَى عَلَى الْمَرْوَةِ حَتَّى يَبْدُوَ لَهُ الْبَيْتُ إِنْ بَدَا لَهُ ، ثُمَّ يَصْنَعُ عَلَيْهَا مِثْلَ مَا صَنَعَ عَلَى الصَّفَا مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ ، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ

سَعْيٌ وَاحِدٌ وَلَيْسَ الصُّعُودُ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَاجِبًا ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَقَالَ أَبُو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ : الصُّعُودُ عَلَيْهِمَا وَاجِبٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الصُّعُودَ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالصُّعُودِ عَلَيْهِمَا ، كَمَا لَا يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاءَ غَسْلِ الْوَجْهِ إِلَّا بِغَسْلِ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ الْوَجْهِ ، وَلَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ إِلَّا بِسَتْرِ مَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ يُخَالِفُ إِجْمَاعَ قَوْلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَنَصَّ الْمَذْهَبِ ، فَأَمَّا إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُومُ فِي فَرْضٍ فِي أَسْفَلِ الصَّفَا وَلَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ . فَأَمَّا قَوْلُهُ : إِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاءُ مَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالصُّعُودِ عَلَيْهِ غَلَطٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُهُ أَنْ يُلْصِقَ عَقِبَهُ بِالصَّفَا ، ثُمَّ يَسْعَى فَإِذَا انْتَهَى إِلَى الْمَرْوَةِ أَلْصَقَ أَصَابِعَ قَدَمَيْهِ بِالْمَرْوَةِ فَيَسْتَوْفِي مَا بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ لَمْ يَصْعَدْ عَلَيْهِمَا .

فَصْلٌ : ثُمَّ يَنْزِلُ مِنَ الْمَرْوَةِ فَيَمْشِي إِلَى الصَّفَا حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ اللَّذَيْنِ قَطَعَ عِنْدَهُمَا السَّعْيَ حِينَ أَقْبَلَ مِنَ الصَّفَا ، فَيَسْعَى سَعْيًا شَدِيدًا حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى وَرَاءِ الْمِيلِ الْأَخْضَرِ بِنَحْوٍ مِنْ سِتَّةِ أَذْرُعٍ ، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي بَدَأَ بِالسَّعْيِ مِنْهُ حِينَ أَقْبَلَ مِنَ الصَّفَا ، فَيَقْطَعُ السَّعْيَ مِنْهُ ، وَيَمْشِي حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الصَّفَا ، وَيُخْتَارُ أَنْ يَقُولَ فِي سَعْيِهِ الشَّدِيدِ بَيْنَ الْمِيلَيْنِ " رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَتَجَاوَزْ عَمَّا تَعْلَمْ ، إِنَكَ أَنْتَ الْأَعَزُ الْأَكْرَمُ ، تَعْلَمُ مَا لَا نَعْلَمُ " فَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِذَا انْتَهَى إِلَى الصَّفَا رَقِيَ عَلَيْهِ ، وَصَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعَ مِنْ قَبْلُ ، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ سَعْيَانِ : السَّعْيُ الْأَوَّلُ مِنَ الصَّفَا إِلَى الْمَرْوَةِ ، وَالسَّعْيُ الثَّانِي مِنَ الْمَرْوَةِ إِلَى الصَّفَا : لِأَنَّ الذَّهَابَ سَعْيٌ ، وَالْعَوْدَ سَعْيٌ ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ الْفُقَهَاءِ ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ سَعْيَهُ مِنَ الصَّفَا إِلَى الْمَرْوَةِ ، وَعَوْدَهُ مِنَ الْمَرْوَةِ إِلَى الصَّفَا سَعْيٌ وَاحِدٌ ، فَيَكُونُ أَوَّلُ سَعْيِهِ مِنَ الصَّفَا وَانْتِهَاؤُهُ إِلَيْهِ ، فَيَفْعَلُ هَذَا سَبْعًا ، يَبْدَأُ بِالصَّفَا وَيَخْتِمُ بِالصَّفَا ، وَبِهِ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ لَمَّا كَانَ ابْتِدَاؤُهُ مِنَ الْحَجَرِ وَانْتِهَاؤُهُ إِلَيْهِ ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ السَّعْيِ مِنَ الصَّفَا ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ انْتِهَاؤُهُ إِلَيْهِ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ خَطَأٌ قَبِيحٌ : لِأَنَّ السَّعْيَ أَمْرٌ مُسْتَفِيضٌ فِي الشَّرْعِ يَنْقُلُهُ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ خَلَفٌ عَنْ سَلَفٍ ، لَيْسَ بَيْنَهُمْ فِيهِ تَنَازُعٌ أَنَّهُمْ يَبْدَؤُونَ بِالصَّفَا ، وَيَخْتِمُونَ بِالْمَرْوَةِ ، فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ ، كَإِجْمَاعٍ عَلَى أَنَّ الظُّهْرَ أَرْبَعٌ وَالْعَصْرَ أَرْبَعٌ . وَأَمَّا مَا اسْتَشْهَدُوا بِهِ مِنَ الطَّوَافِ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ : لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الطَّوَافِ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِ الْبَيْتِ فِي كُلِّ طَوْفَةٍ ، وَذَلِكَ مِنَ الْحَجَرِ فَأَوْجَبْنَاهُ عَلَيْهِ ، وَالْوَاجِبُ فِي السَّعْيِ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِ الْمَسْعَى ، وَذَلِكَ مِنَ الصَّفَا إِلَى الْمَرْوَةِ فَأَوْجَبْنَاهُ عَلَيْهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ السَّعْيُ الْوَاحِدُ هُوَ مِنَ الصَّفَا إِلَى الْمَرْوَةِ وَالرُّجُوعُ مِنَ الْمَرْوَةِ إِلَى الصَّفَا سَعْيٌ ثَانٍ ، فَعَلَيْهِ إِكْمَالُ سَعْيِهِ سَبْعًا ، يَبْدَأُ فِي الْأَوَّلِ مِنَ الصَّفَا إِلَى الْمَرْوَةِ وَفِي الثَّانِي مِنَ الْمَرْوَةِ إِلَى الصَّفَا ، وَفِي الثَّالِثِ مِنَ الصَّفَا إِلَى الْمَرْوَةِ ، وَفِي الرَّابِعِ مِنَ الْمَرْوَةِ إِلَى الصَّفَا ، وَفِي الْخَامِسِ مِنَ الصَّفَا إِلَى الْمَرْوَةِ ، وَفِي السَّادِسِ مِنَ الْمَرْوَةِ إِلَى الصَّفَا ، وَفِي السَّابِعِ مِنَ الصَّفَا إِلَى الْمَرْوَةِ ، فَيَكُونُ مُبْتَدِئًا فِي الْأَوَّلِ مِنَ الصَّفَا ، وَخَاتِمًا فِي السَّابِعِ بِالْمَرْوَةِ ، فَإِنْ خَالَفَ فَنَكَسَ سَعْيَهُ فَبَدَأَ فِي الْأَوَّلِ بِالْمَرْوَةِ ، وَخَتَمَ فِي السَّابِعِ بِالصَّفَا ، لَمْ يُجْزِهِ السَّعْيُ الْأَوَّلُ : لِأَنَّهُ بَدَأَ فِيهِ بِالْمَرْوَةِ وَجَعَلَ الثَّانِيَ أَوَّلًا ؛ لِأَنَّهُ بَدَأَ فِيهِ بِالصَّفَا ، وَاحْتَسَبَ بِمَا يَلِيهِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى التَّرْتِيبِ ، فَيَحْصُلُ لَهُ سِتَّةٌ ، وَيَبْقَى عَلَيْهِ السَّابِعُ ، فَيَبْدَأُ فِيهِ بِالصَّفَا ، وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ ، وَقَدْ أَكْمَلَ سَعْيَهُ وَأَجْزَأَهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا نَكَسَ سَعْيَهُ لَمْ يُجْزِهِ . وَعِنْدَهُ أَنَّ السَّعْيَ لَيْسَ بِرُكْنٍ ، وَلَوْ نَكَسَ الطَّوَافَ أَجْزَأَهُ وَهُوَ رُكْنٌ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ ، أَمَّا الطَّوَافُ فَلَا يُجْزِئُهُ إِذَا نَكَسَهُ لِمَا مَضَى ، وَأَمَّا السَّعْيُ فَيُجْزِئُهُ لِزَوَالِ التَّنْكِيسِ وَحُصُولِ التَّرْتِيبِ بِمَا بَيْنَهُمَا .

فَصْلٌ : وَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا نَسِيَهُ مِنَ السَّبْعَةِ ، فَلَوْ نَسِيَ السَّعْيَ السَّابِعَ ، احْتُسِبَ لَهُ بِالسِّتَّةِ وَأَتَى بِالسَّابِعِ مِنَ الصَّفَا وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ وَلَوْ نَسِيَ السَّعْيَ السَّادِسَ ، وَسَعَى السَّابِعَ احْتُسِبَ بِخَمْسَةٍ ، وَلَمْ يُحْتَسَبْ بِالسَّابِعِ ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ فِي السَّعْيِ وَاجِبٌ ، فَلَمْ يُحْتَسَبْ بِالسَّابِعِ الَّذِي يَبْدَأُ مِنْهُ بِالصَّفَا ، وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ إِلَّا أَنْ يَتَقَدَّمَهُ السَّادِسُ الَّذِي يَبْدَأُ مِنْهُ بِالْمَرْوَةِ ، وَيَخْتِمُ بِالصَّفَا ، فَلَمَّا نَسِيَ السَّادِسَ لَمْ يَحْصُلِ التَّرْتِيبُ فِي السَّابِعِ ، وَلَزِمَهُ أَنْ يَسْعَى السَّعْيَ السَّادِسَ ، يَبْدَأُ فِيهِ بِالْمَرْوَةِ وَيَخْتِمُ بِالصَّفَا ، وَبِسَعْيِ السَّابِعِ يَبْدَأُ فِيهِ بِالصَّفَا وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ ، فَلَوْ نَسِيَ الْخَامِسَ لَمْ يَعْتَدَّ بِالسَّادِسِ ، وَجَعَلَ السَّابِعَ خَامِسًا ، وَأَكْمَلَ ذَلِكَ سَبْعًا .

فَصْلٌ : وَكَذَا الْحُكْمُ إِذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنَ السَّعْيِ لَمْ يَسْتَوْفِهِ فِي سَعْيِهِ ، فَلَوْ تَرَكَ ذِرَاعًا مِنَ السَّعْيِ لَمْ يَسِرْ فِيهِ فِي سَعْيِهِ ، فَلَوْ تَرَكَ ذِرَاعًا مِنَ السَّعْيِ السَّابِعِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِنْ آخِرِهِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَرْوَةِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوَّلِهِ مِنْ نَاحِيَةِ الصَّفَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مِنْ وَسَطِهِ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ آخِرِهِ عَادَ فَأَتَى بِهِ وَأَجْزَأَهُ ، فَإِنْ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِهِ كَانَ عَلَى إِحْرَامِهِ . وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوَّلِهِ عَادَ فَأَتَى بِالسَّعْيِ كُلِّهِ : لِأَنَّهُ لَا يُحْتَسَبُ بِآخِرِهِ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ أَوَّلِهِ ، وَيَكُونُ كَمَنْ تَرَكَ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ ، فَيَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُهَا ، وَإِنْ كَانَ مَا تَرَكَهُ مِنْ وَسَطِ الْمَسْعَى ، احْتَسَبَ مَا تَقَدَّمَ وَأَتَى بِمَا تَرَكَهُ وَأَعَادَ مَا بَعْدَهُ ، فَلَوْ تَرَكَ ذِرَاعًا مِنَ السَّعْيِ السَّادِسِ لَمْ يُحْتَسَبْ بِالسَّابِعِ : لِأَنَّهُ فَعَلَهُ قَبْلَ كَمَالِ السَّادِسِ ، وَكَانَ الْحُكْمُ فِي السَّادِسِ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، فَلَوْ سَعَى ثُمَّ تَيَقَّنَ أَنَّهُ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ طَوَافِهِ ، لَمْ يُكْمِلْهُ عَادَ فَأَتَمَّ

طَوَافَهُ وَأَعَادَ سَعْيَهُ [ لِأَنَّ السَّعْيَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ إِكْمَالِ الطَّوَافِ فَلَوْ فَرَّقَ سَعْيَهُ فَسَعَى ] سَبْعًا فِي سَبْعَةِ أَوْقَاتٍ ، فَإِنْ كَانَ تَفَرُّقًا قَرِيبًا أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا فَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِهِ فِي الطَّوَافِ فَفِي السَّعْيِ أَجْوَزُ ، وَإِنْ قِيلَ فِي الطَّوَافِ لَا يَجُوزُ ، فَفِي جَوَازِهِ فِي السَّعْيِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا لَا يَجُوزُ كَالطَّوَافِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ يَجُوزُ : لِأَنَّ السَّعْيَ أَخَفُّ حَالًا مِنَ الطَّوَافِ ؛ لِجَوَازِهِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ ، فَلَوْ سَعَى رَاكِبًا أَوْ مَحْمُولًا أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ كَانَ سَعْيُهُ مَاشِيًا أَحَبَّ إِلَيْنَا وَرُكُوبُهُ فِي السَّعْيِ أَيْسَرُ مِنْ رُكُوبِهِ فِي الطَّوَافِ .

مَسْأَلَةٌ إِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا وَكَانَ مَعَهُ هَدْيٌ نَحَرَ وَحَلَقَ أَوْ قَصَّرَ وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا ، وَكَانَ مَعَهُ هَدْيٌ ، نَحَرَ وَحَلَقَ أَوْ قَصَّرَ ، وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ ، وَقَدْ فَرَغَ مِنَ الْعُمْرَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْعُمْرَةُ فَهِيَ الْإِحْرَامُ وَالطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَالْحِلَاقُ رُكْنٌ وَالطَّوَافُ رُكْنٌ وَالسَّعْيُ رُكْنٌ ، وَفِي الْحِلَاقِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : نُسُكٌ يُتَحَلَّلُ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [ الْفَتْحِ : ] ، فَوَصَفَ نُسَكَهُمْ بِالْحِلَاقِ أَوِ التَّقْصِيرِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ نُسُكٌ ، وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ حَزْمٍ عَنْ عُمَرَ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ فَقَدْ حَلَّ لَكُمُ الطِّيبُ ، وَاللِّبَاسُ وَكُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النَسَاءَ " وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً ، فَلَمَّا مَيَّزَهُ عَنِ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ فِي الدُّعَاءِ لِفَاعِلِهِ ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى فَضِيلَتِهِ ، وَجَعَلَ ثَوَابَ الْحَالِقِ أَكْثَرَ مِنْ ثَوَابِ الْمُقَصِّرِ عَلَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ بَعْدَ الْحَظْرِ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ نُسُكٌ ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِالظَّاهِرِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ إِبَاحَةٌ بَعْدَ حَظْرٍ وَهُوَ أَقْيَسُ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَحَظَرَ الْحَلْقَ ، وَجَعَلَ لِحَظْرِهِ غَايَةً وَهُوَ التَّحَلُّلُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ نُسُكًا يَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ ؛ وَلِأَنَّ الْأَمْرَ الْوَارِدَ بَعْدَ الْحَظْرِ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [ الْمَائِدَةِ : ] ، فَكَذَا الْأَمْرُ بِالْحَلْقِ بَعْدَ تَقَدُّمِ حَظْرِهِ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَوْ فَعَلَهُ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ ، لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ فِي وَقْتِهِ نُسُكًا ، كَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ وَتَقْلِيمِ الْأَظَافِرِ ، وَيَنْعَكِسُ بِالرَّمْيِ وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ مِنْ حَيْثُ كَانَ نُسُكًا فِي وَقْتِهِ ، لَمْ تَجِبْ فِيهِ الْفِدْيَةُ بِتَقَدُّمِهِ قَبْلَ وَقْتِهِ ، فَلَمَّا كَانَ الْحَلْقُ مُوجِبًا لِلْفِدْيَةِ قَبْلَ وَقْتِهِ ، ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِنُسُكٍ فِي وَقْتِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ تَوَجُّبُهُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْحَلْقِ ، فَالْإِحْلَالُ مِنَ الْعُمْرَةِ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِمَا ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ يُتَحَلَّلُ بِهِ ، فَإِذَا طَافَ وَسَعَى كَانَ عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ .

وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ إِبَاحَةٌ بَعْدَ حَظْرٍ ، فَقَدْ حَلَّ مِنَ الْعُمْرَةِ بِإِكْمَالِ السَّعْيِ ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ وَلَمْ يُقَصِّرْ ، وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ إِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ ، فَالْمُسْتَحَبُّ وَالسُّنَّةُ أَنْ يَنْحَرَهُ قَبْلَ حَلْقِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَمَوْضِعُ النَّحْرِ عِنْدَ إِحْلَالِهِ ، وَإِحْلَالُهُ مِنَ الْعُمْرَةِ يَكُونُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ ، فَهُنَاكَ يَنْحَرُ وَإِنْ نَحَرَ مِنْ فِجَاجِ مَكَّةَ أَوِ الْحَرَمِ أَجْزَأَهُ ، ثُمَّ يَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ ، وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [ الْفَتْحِ : ] ، لَكِنَّ الْحَلْقَ لِلرِّجَالِ أَفْضَلُ مِنَ التَّقْصِيرِ لِأَنِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْمُقَصِّرِينَ قَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْمُقَصِّرِينَ ، فَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ وَالْمُقَصِّرِينَ ، لِأَنَّ الْحَلْقَ أَعَمُّ مِنَ التَّقْصِيرِ ، فَكَانَ أَكْثَرَ ثَوَابًا ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّقْصِيرَ جَائِزٌ وَالْحَلْقَ أَفْضَلُ مِنْهُ ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ فِيمَنْ لَمْ يُلَبِّدْ رَأْسَهُ وَلَا عَقَصَهُ ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ لَبَّدَ رَأْسَهُ وَعَقَصَهُ فهل يحلق أويقصر فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ لَا يُجْزِئُهُ إِلَّا الْحَلْقُ ، لِرِوَايَةِ فُلَيْحٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ لَبَّدَ رَأْسَهُ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَلْقُ . وَالثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ التَّقْصِيرَ يُجْزِئُهُ ، وَإِنْ كَانَ الْحَلْقُ أَفْضَلَ لَهُ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [ الْفَتْحِ : ] .

فَصْلٌ إِذَا أَرَادَ حَلْقَ رَأْسِهِ بَدَأَ بِشِقِّهِ الْأَيْمَنِ

فَصْلٌ : فَإِذَا أَرَادَ حَلْقَ رَأْسِهِ بَدَأَ بِشِقِّهِ الْأَيْمَنِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى يَسَارِ الْحَالِقِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَبْدَأُ بِشِقِّهِ الْأَيْسَرِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى يَمِينِ الْحَالِقِ ، فَاعْتَبَرَ الْبِدَايَةَ بِيَمِينِ الْحَالِقِ دُونَ الْمَحْلُوقِ ، وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ الْبِدَايَةَ بِيَمِينِ الْمَحْلُوقِ دُونَ الْحَالِقِ وَهَذَا أَوْلَى : لِرِوَايَةِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : لَمَّا رَمَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَمْرَةَ ، وَفَرَغَ مِنْ نُسُكِهِ ، نَاوَلَ الْحَالِقَ شِقَّهُ الْأَيْمَنَ فَحَلَقَهُ فَأَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ ، ثُمَّ أَعْطَاهُ الشِّقَّ الْأَيْسَرَ فَحَلَقَهُ ، ثُمَّ قَالَ : اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ ، وَرُوِيَ أَنَّ الَذِي حَلَقَ شَعْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَضْلَةَ ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ يَمِينِ صَاحِبِ النُّسُكِ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِ الْحَالِقِ : لِأَنَّ النُّسُكَ فِي رَأْسِهِ دُونَ رَأْسِ الْحَالِقِ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَفِي الْحَلْقِ أَرْبَعُ سُنَنٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ . وَالثَّانِيَةُ : أَنْ يَبْتَدِئَ بِشِقِّهِ الْأَيْمَنِ . وَالثَّالِثَةُ : أَنْ يُكَبِّرَ عِنْدَ فَرَاغِهِ . وَالرَّابِعَةُ : أَنْ يَدْفِنَ شَعْرَهُ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَيَبْلُغُ الْحَلْقُ إِلَى الْعَظْمَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا مُنْتَهَى نَبَاتِ الشَّعْرِ ؛ لِيَكُونَ مُسْتَوْعِبًا لِجَمِيعِ رَأْسِهِ ، فَلَوْ طَلَى رَأْسَهُ بِالنَّوْرَةِ حَتَّى ذَهَبَ شَعْرُهُ أَوْ نَتَفَهُ أَجْزَأَهُ ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِزَالَةُ الشَّعْرِ .

فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَ أَصْلَعَ أَوْ مَحْلُوقَ الرَّأْسِ ، وَلَيْسَ عَلَى رَأْسِهِ شَعْرٌ وَلَا زَغَبٌ ، فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُمِرَّ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِمْرَارُ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [ الْفَتْحِ : ] فَعَلَّقَ الْحَلْقَ بِالرَّأْسِ فَلَمْ يُسْقِطْهُ ذَهَابُ الشَّعْرِ ، وَهَذَا غَلَطٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالشَّعْرِ دُونَ الرَّأْسِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ شَعْرٌ فَأَمَرَّ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ مِنْ غَيْرِ حَلْقِ الشَّعْرِ ، لَمْ يُجْزِهِ ، وَلَوْ أَزَالَ الشَّعْرَ مِنْ غَيْرِ إِمْرَارِ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ أَجْزَأَهُ ، وَإِذَا كَانَ حُكْمُ الْحَلْقِ مُتَعَلِّقًا بِالشَّعْرِ سَقَطَ الْحُكْمُ بِزَوَالِ الشَّعْرِ ، كَالْأَقْطَعِ الذِّرَاعِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْغَسْلُ لِزَوَالِ الْعُضْوِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْغَسْلُ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ فَرْضٌ يَتَعَلَّقُ بِجُزْءٍ مِنْ بَدَنِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْجُزْءِ مُسْقِطًا لِفَرْضِهِ كَأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ . وَالثَّانِي : أَنَّ حُكْمَ الْحَلْقِ يَتَعَلَّقُ بِوُجُودِ الِاسْمِ ، وَلَا يُسَمَّى حَالِقًا بِإِمْرَارِ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ مِنْ غَيْرِ حَلْقِ الشَّعْرِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ ، فَأَمَرَّ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِذَا انْتَفَى عَنْهُ اسْمُ الْحَلْقِ ، انْتَفَى عَنْهُ حُكْمُ الْحَلْقِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ، لَكِنْ إِنْ كَانَ شَعْرٌ خَفِيٌّ أَوْ زَغَبٌ غَيْرُ طَاهِرٍ أَزَالَهُ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ شَعْرِ لِحْيَتِهِ وَشَارِبِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ، كَمَا يُسْتَحَبُّ لِلْأَقْطَعِ الْيَدِ مِنَ الْمِرْفَقِ أَنْ " يَمَسَّ مَوْضِعَهُ بِالْمَاءِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ لِيَكُونَ خَلِقًا مِمَّا فَاتَ ، وَمَنَعَ ابْنُ دَاوُدَ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِإِعْفَاءِ اللِّحْيَةِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْحَالِقَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ لِحْيَتِهِ طُولًا وَعَرْضًا ، فَلَوْ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ شَعْرَةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ زَغَبُهُ طَاهِرٌ ، لَزِمَهُ حَلْقُهُ كَمَا لَوْ كَانَ شَعْرُهُ بَاقِيًا .

فَصْلٌ : وَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ وَأَرَادَ التَّقْصِيرَ أَخَذَ مِنْ شِعْرِهِ مِمَّا عَلَا الْمُشْطَ ، وَكَيْفَمَا أَخَذَهُ بِمِقْرَاضٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ قَطَعَهُ بِيَدِهِ أَوْ قَرَضَهُ بِسِنِّهِ أَجْزَأَهُ ، فَلَوْ كَانَ شَعْرُهُ مُسْتَرْسِلًا عَنْ حَدِّ الرَّأْسِ أَجْزَأَهُ التَّقْصِيرُ مِنْ أَطْرَافِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُحَاذِ بَشَرَةَ الرَّأْسِ ، وَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ فِي الْوُضُوءِ إِلَّا أَنْ يُحَاذِيَ بَشَرَةَ الرَّأْسِ ، وَهَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَمَعَ بَيْنَ التَّقْصِيرِ وَالْمَسْحِ ، فَقَالَ : لَا يُجْزِئُ إِلَّا بِتَقْصِيرِ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَدِّ الرَّأْسِ ، كَمَا لَا يُجْزِئُ إِلَّا مَسْحُ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَدِّ الرَّأْسِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ ، وَهُوَ أَنَّ فَرْضَ الْمَسْحِ مُتَعَلِّقٌ بِالرَّأْسِ فَلَمْ يُجْزِ فِيمَا خَرَجَ عَنْ حَدِّ الرَّأْسِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِرَأْسٍ ، وَحُكْمُ الْحَلْقِ مُتَعَلِّقٌ بِشَعْرِ الرَّأْسِ ، فَجَازَ فِيمَا خَرَجَ عَنْ حَدِّ الرَّأْسِ : لِأَنَّهُ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ ، وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُهُ فِي الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ أَنْ يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا ، فَأَمَّا دُونَ الثَّلَاثِ فَلَا يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا حَلَقَ الْمُعْتَمِرُ بَعْدَ طَوَافِهِ وَسَعْيِهِ أَوْ قَصَّرَ فَقَدْ حَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ وَإِنْ أَرَادَ الْحَجَّ

فِي عَامِهِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ سَاقَ هَدْيًا وَأَرَادَ الْحَجَّ فِي عَامِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَحَلَّلَ ، وَكَانَ بَاقِيًا عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يُكْمِلَ الْحَجَّ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِيهِ ، فَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى إِعَادَتِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَقْطَعُ الْمُعْتَمِرُ التَلْبِيَةَ في العمرة ضابطها حَتَّى يَفْتَتِحَ الطَوَافَ مُسْتَلِمًا أَوْ غَيْرَ مُسْتَلِمٍ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ السُّنَّةُ فِي الْمُعْتَمِرِ أَنْ يَكُونَ عَلَى تَلْبِيَتِهِ حَتَّى يَفْتَتِحَ الطَّوَافَ ، فَإِذَا افْتَتَحَهُ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ ، وَقَالَ مَالِكٌ إِنْ كَانَ مُحْرِمًا مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ ، قَطَعَ إِذَا دَخَلَ أَرْضَ الْحَرَمِ ، وَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ كَالتَّنْعِيمِ ، قَطَعَ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ بُيُوتِ مَكَّةَ : تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ كَانَ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إِذَا دَخَلَ الْحَرَمَ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا مَا رَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يُلَبِّي الْمُعْتَمِرُ حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ ثَلَاثَ عُمَرٍ ، كُلُّ ذَلِكَ يُلَبِّي حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ ؛ وَلِأَنَّ التَّلْبِيَةَ لِأَجْلِ الْإِحْرَامِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَدِيمَهَا إِلَى أَنْ يَشْرَعَ فِي التَّحَلُّلِ مِنَ الْإِحْرَامِ ، وَذَلِكَ بِالْمَشْرُوعِ فِي الطَّوَافِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى تَلْبِيَتِهِ حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ لِلطَّوَافِ .

مَسْأَلَةٌ لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ حَلْقٌ وَلَكِنْ يُقَصِّرْنَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ حَلْقٌ وَلَكِنْ يُقَصِّرْنَ " . وَإِذًا كَمَا قَالَ : السُّنَّةُ فِي النِّسَاءِ التَّقْصِيرُ ، وَالْحَلْقُ لَهُنَّ مَكْرُوهٌ : لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ حَلْقٌ إِنَمَا عَلَى النَسَاءِ تَقْصِيرٌ ، وَلِأَنَّ الْحَلْقَ فِيهِنَّ مُثْلَةٌ ، وَنُهِيَ عَنِ الْمُثْلَةِ ؟ فَإِذَا أَرَادَتِ التَّقْصِيرَ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : أَخَذَتْ مِنْ شَعْرِهَا قَدْرَ أُنْمُلَةٍ ، وَتَعُمُّ جَوَانِبَ رَأْسِهَا كُلَّهَا ، وَلَا تَقْطَعُ ذَوَائِبَهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَشِينُهَا ، وَلَكِنْ تَسُلُّ الذَّوَائِبَ ، وَتَأْخُذُ مِنْ تَحْتِهِ قُصَاصَهُ ، وَمِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يُبَيَّنُ فَتْحُهُ ، فَلَوْ حَلَقَتْ المرأة رأسها أَسَاءَتْ وَأَجْزَأَهَا .

مَسْأَلَةٌ الْقَارِنُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي إِحْرَامِهِ كَالْمُفْرِدِ يُجْزِئُهُ لَهَا طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَ حَاجًّا أَوْ قَارِنًا أَجْزَأَهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ لِحَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ ، وَكَانَتْ قَارِنًا : طَوَافُكِ يَكْفِيكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : الْقَارِنُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي إِحْرَامِهِ كَالْمُفْرِدِ ، يُجْزِئُهُ لَهَا طَوَافٌ وَاحِدٌ ، وَسَعْيٌ وَاحِدٌ ، وَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، وَقَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنَ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ : عَلَيْهِ طَوَافَانِ وَسَعْيَانِ : اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [ الْبَقَرَةِ : ] فَكَانَ الْأَمْرُ بِإِتْمَامِهِمَا يُوجِبُ الْإِتْيَانَ بِأَفْعَالِهِمَا ، وَرَوَى عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، فَعَلَيْهِ طَوَافَانِ " وَرَوَى عُمَارَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ : حَجَجْتُ مَعَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحْمَدٍ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَطَافَ طَوَافَيْنِ ، وَقَالَ حَجَجْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ فَطَافَ طَوَافَيْنِ ، وَقَالَ حَجَجْتُ مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَطَافَ طَوَافَيْنِ ، وَقَالَ حَجَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَافَ طَوَافَيْنِ .

قَالَ : وَلِأَنَّهُمَا نُسُكَانِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ طَوَافَانِ ، كَمَا لَوْ أَفْرَدَهُمَا . قَالَ : وَلِأَنَّ الْعِبَادَتَيْنِ إِنَّمَا يَتَدَاخَلَانِ إِذَا اتَّفَقَتَا فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَحْكَامِ كَالْحُدُودِ وَغَيْرِهَا ، فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَتَا فِي الْأَفْعَالِ أَوِ الْأَحْكَامِ لَمْ يَتَدَاخَلَا ، وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ مُخْتَلِفَانِ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَحْكَامِ ، فَاخْتِلَافُهُمَا فِي الْأَفْعَالِ أَنَّ فِي الْحَجِّ وُقُوفًا وَرَمْيًا لَيْسَ فِي الْعُمْرَةِ ، وَاخْتِلَافُهُمَا فِي الْأَحْكَامِ أَنَّ لِلْحَجِّ إِحْلَالَيْنِ ، وَلِلْعُمْرَةِ وَاحِدًا ، وَالْحَلْقُ فِي الْحَجِّ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ ، وَفِي الْعُمْرَةِ مُتَأَخِّرٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَدَاخَلَا . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنِ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ جَمَعَ حَجًّا إِلَى عُمْرَةٍ فَلْيَطُفْ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا " وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ : طَوَافُكِ بِالْبَيْتِ وَسَعْيُكِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يُجْزِئُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : السَّعْيُ وَالطَّوَافُ تَوٌّ . وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَحَدَ تَأْوِيلِهِ أَنَّهُمَا فِي الْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ وَاحِدٌ ، لَا يُنَافِي الْقِرَانَ ؛ وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رَوَتْ عَائِشَةُ رِضَى اللَّهُ عَنْهَا ، وَجَابِرٌ أَنَّهُمَا قَالَا : كُنَّا مِعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحِجِّ ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ، وَمِنَا مَنْ قَرَنَ ، فَأَمَّا الَّذِينَ قَرَنُوا فَطَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا ، وَسَعَوْا سَعْيًا وَاحِدًا ، وَكَانَ طَاوُسٌ يَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّهُ مَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ فَطَافَ طَوَافَيْنِ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ ؛ وَلِأَنَّهُ نُسُكٌ ، يُكْتَفَى فِيهِ بِحِلَاقٍ وَاحِدٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يُكْتَفَى فِيهِ بِطَوَافٍ وَاحِدٍ كَالْإِفْرَادِ ؛ وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ يَقَعُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النُّسُكَيْنِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُكْتَفَى بِالْفِعْلِ الْوَاحِدِ مِنْهُ مَعَ اجْتِمَاعِ النُّسُكَيْنِ كَالْحِلَاقِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْآيَةِ فَإِتْمَامُهَا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دَوَيْرَةِ أَهْلِهِ . وَأَمَّا حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ الَّذِي قَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِإِحْرَامَيْنِ . وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ فَغَيْرُ ثَابِتٍ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُفْرِدًا ، وَلَمْ يَكُنْ قَارِنًا ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَنْ أَفْرَدَهُمَا ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ يَفْتَقِرُ إِلَى حِلَاقَيْنِ ، فَكَذَلِكَ مَا افْتَقَرَ إِلَى طَوَافَيْنِ ، وَلَمَّا كَانَ عَلَى الْقَارِنِ حَلِاقٌ وَاحِدٌ ، كَانَ عَلَيْهِ طَوَافٌ وَاحِدٌ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ اخْتِلَافَ الْعِبَادَتَيْنِ يَمْنَعُ مِنْ تَدَاخُلِهِمَا ، وَإِنَّمَا يَتَدَاخَلُ مَا اتَّفَقَا . قِيلَ : صَحِيحٌ إِنَّمَا يَتَدَاخَلُ مِنْهُمَا مَا اتَّفَقَ دُونَ مَا اخْتَلَفَ ، وَهُوَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ الْمُوَافِقُ لِلطَّوَافِ وَالسَّعْيِ ، دُونَ مَا اخْتَلَفَ مِنَ الْوُقُوفِ وَالرَّمْيِ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّهُمَا وَإِنِ اتَّفَقَا فِي الْفِعْلِ فَهُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي الْحُكْمِ .

قِيلَ : اخْتِلَافُ الْحُكْمِ لَا يَمْنَعُ مِنَ التَّدَاخُلِ أَلَا تَرَى أَنَّ بَقَاءَ الْغُسْلِ مِنَ الْحَيْضِ مُخَالِفٌ لِبَقَاءِ الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ فِي الْحُكْمِ ، ثُمَّ إِذَا اجْتَمَعَا تَدَاخَلَا ؛ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي الْفِعْلِ ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْحُكْمِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " غَيْرَ أَنَّ عَلَى الْقَارِنِ الْهَدْيَ لِقِرَانِهِ ، وَيُقِيمُ عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَى يُتَمِّمَ حَجَّهُ مَعَ إِمَامِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، مَنْ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ لِقِرَانِهِ ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَيُقِيمُ عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يُتِمَّ حَجَّهُ مَعَ إِمَامِهِ ، يَعْنِي أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْمُتَمَتِّعِ الَّذِي تَحَلَّلَ بَيْنَ حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ ، وَأَنَّ الْقَارِنَ يُقِيمُ عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يَنْحَلَّ مِنْ حَجِّهِ ، فَيَكُونُ إِحْلَالُهُ مِنْهُمَا إِحْلَالًا وَاحِدًا ، كَمَا كَانَ إِحْرَامُهُ بِهِمَا إِحْرَامًا وَاحِدًا ، وَقَدْ رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ كَفَاهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ ثُمَّ لَا يُحِلُّ حَتَّى يُحِلَّ مِنْهُمَا ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ حَتَّى يُتِمَّ حَجَّهُ مَعَ إِمَامِهِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ ، وَإِلَّا فَلَوْ تَحَلَّلَ قَبْلَ إِمَامِهِ فَطَافَ وَرَمَى وَسَعَى أَجْزَأَهُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ وَقَفَ الْقَارِنُ بِعَرَفَةَ قَبْلَ طَوَافِهِ وَسَعْيِهِ كَانَ عَلَى قِرَانِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَصِيرُ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ ، وَيَكُونُ مُفْرِدًا اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ : ارْفُضِي عُمْرَتَكِ وَانْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي ثُمَّ أَهِلِّي بِالْحَجِّ فَأَمَرَهَا بِذَلِكَ لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَيْهَا الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ ، وَدَلِيلُنَا أَنَّ الْوُقُوفَ رُكْنٌ مِنَ الْحَجِّ ، فَلَمْ يُوجِبْ رَفْضَ الْعُمْرَةِ كَالْإِحْرَامِ ؛ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا تَبْطُلُ بِفِعْلٍ مَحْظُورٍ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَبْطُلَ بِفِعْلِ نُسُكٍ مِنْهَا كَالْحَجِّ . فَأَمَّا الْخَبَرُ فَإِنَّمَا أَمَرَهَا فِيهِ بِالْكَفِّ عَنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ ؛ لِدُخُولِهَا فِي الْحَجِّ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ لَهَا : طَوَافُكِ بِالْبَيْتِ وَسَعْيُكِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يُجْزِئُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ .

مَسْأَلَةٌ يَخْطُبُ الْإِمَامُ يَوْمَ السَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ بَعْدَ الظُّهْرِ بِمَكَّةَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَخْطُبُ الْإِمَامُ يَوْمَ السَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ بَعْدَ الظُّهْرِ بِمَكَّةَ ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْغُدُوِّ إِلَى مِنًى ؛ لِيُوَافُوا الظُّهْرَ بِمِنًى ، فَيُصَلِّي بِهَا الْإِمَامُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَعِشَاءَ الْآخِرَةَ وَالصُّبْحَ مِنَ الْغَدِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : خُطَبُ الْحَجِّ الَّتِي ثَبَتَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَعَلَهَا أَرْبَعٌ : فَالْأُولَى : فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ بِمَكَّةَ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ . وَالثَّانِيَةُ : يَوْمَ التَّاسِعِ بِعَرَفَةَ بَعْدَ الزَّوَالِ وَقَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ . وَالثَّالِثَةُ : يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ . وَالرَّابِعَةُ : يَوْمَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الثَّانِيَ عَشَرَ بِمِنًى ، بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ ، فَيَكُونُ جَمِيعُهَا بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ إِلَّا خُطْبَةَ عَرَفَةَ ، فَإِنَّهَا بَعْدَ الزَّوَالِ وَقَبْلَ الظُّهْرِ ، فَأَمَّا الْخُطْبَةُ الْأُولَى فَقَدْ رَوَى

مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْطُبُ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ بَعْدَ الظُّهْرِ ؛ وَيُعَلِّمُ النَّاسَ الْمَنَاسِكَ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَكَانَ يَوْمُ السَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ خَطَبَ الْإِمَامُ النَّاسَ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ ، فَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا افْتَتَحَ خُطْبَتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ ، وَإِنْ كَانَ حَلَالًا افْتَتَحَهَا بِالتَّكْبِيرِ ، وَيُسْتَحَبُّ إِنْ كَانَ الْإِمَامُ مُقِيمًا بِمَكَّةَ أَوْ مِنْ أَهْلِهَا أَنْ يُحْرِمَ ، وَيَصْعَدَ الْمِنْبَرَ مُحْرِمًا ، وَيُخْبِرَهُمْ أَنَّهُ يَخْرُجُ بِهِمْ مِنَ الْغَدِ إِلَى مِنًى ؛ لِيَتَأَهَّبُوا لِذَلِكَ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَإِنْ كَانَ عَالِمًا فَقِيهًا أَحْبَبْتُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ : هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُجِيبَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ ؛ لِأَنْ لَا يُسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ مَعْرِفَتُهُ ، فَيَكُونُ فِيهِ شَيْنٌ وَقَبَاحَةٌ وَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ إِلَّا بِمَنْزِلَةِ مَنْ إِذَا سُئِلَ أَجَابَ ، ثُمَّ يَكُونُ بِمَكَّةَ بَاقِي يَوْمِهِ وَلَيْلِهِ ، فَإِنْ وَافَقَ يَوْمُ السَّابِعِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أي في أيام الحج ، بَدَأَ فَخَطَبَ لِلْجُمْعَةِ وَصَلَّاهَا ، ثُمَّ رَقِيَ الْمِنْبَرَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَخَطَبَ لِلْحَجِّ ، فَلَوْ تَرَكَهَا الْإِمَامُ كَانَ تَارِكًا لِلسُّنَّةِ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ وَهُوَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ، أَحْرَمَ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَحْرَمَ مِنْ قَبْلُ ، وَأَحْرَمَ النَّاسُ مَعَهُ ، أَوْ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ غَيْرَ مُحْرِمٍ ، وَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ إِحْرَامُهُ بَعْدَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا تَوْدِيعًا لَهُ ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ خَرَجَ إِلَى مِنًى ، وَلَمْ يُصَلِّ الظُّهْرَ بِمَكَّةَ ، وَإِنْ خَرَجَ قَبْلَ الزَّوَالِ جَازَ ، فَإِذَا حَصَلَ بِمِنًى صَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ ، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ مِنَ الْغَدِ وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ ؛ لِرِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمِنًى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ ، ثُمَّ مَكَثَ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ صَلَاتُهُ مِنْ مِنًى فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ عِنْدَ الْأَحْجَارِ الَّتِي بَيْنَ يَدَيِ الْمَنَارَةِ ، فَإِنَّهُ مُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيُقَالُ لَهُ مَسْجِدُ " الْعَيْشُومَةِ " وَذَلِكَ أَنْ فِيهِ عَيْشُوْمَةً خَضْرَاءَ فِي الْجَدْبِ وَالْخِصْبِ بَيْنَ حَجَرَيْنِ مِنَ الْقِبْلَةِ ، وَتِلْكَ الْعَيْشُومَةُ قَدِيمَةٌ لَمْ تَزَلْ هُنَاكَ ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَلِرِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قَدْ صَلَّى فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ سَبْعُونَ نَبِيًّا فِيهِمْ مُوسَى ، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ عَلَيْهِ عَبَاءَتَانِ قِطْرِيَّتَانِ ، وَهُوَ مُحْرِمٌ عَلَى بَعِيرٍ مَخْطُومٍ بِخِطَامٍ مِنْ لِيفٍ ، وَلَهُ ضَفِيرَتَانِ " وَيُخْتَارُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْزِلَ الْخَيْفَ الْأَيْمَنَ مِنْ مِنًى بَيْنَ الْأَخْشَبَيْنِ ، فَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا كُنْتَ بَيْنَ الْأَخْشَبَيْنِ مِنْ مِنًى - وَنَفَحَ بِيَدٍ نَحْوَ الْمَشْرِقِ - فَإِنَّ هُنَاكَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ وَادِي السُّرَى بِهِ سَبْعُونَ نَبِيًّا " فَإِنْ تَرَكَ الْإِمَامُ الصَّلَاةَ بِمِنًى وَالْمَبِيتَ بِهَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ ، لَمْ يَتَعَلَّقْ بِتَرْكِهِ جُبْرَانٌ مِنْ دَمٍ ، وَلَا غَيْرِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ وَدَاعَ الْبَيْتِ بِهَذَا الطَّوَافِ ، فَلَا دَمَ عَلَيْهِ وَلَا جُبْرَانَ ؛ لِأَنَّهُ بِخُرُوجِهِ غَيْرُ مُفَارِقٍ لِلْبَيْتِ ، وَإِنَّمَا خَرَجَ لِيَعُودَ إِلَيْهِ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ لِمَ يُسَمَّى الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ التَّرْوِيَةَ ، فَقَالَ قَوْمٌ : لِأَنَّ النَّاسَ يَرْتَوُونَ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ مِنْ بِئْرِ زَمْزَمَ : لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِعَرَفَةَ وَلَا مِنًى مَاءٌ . وَقَالَ آخَرُونَ لِأَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي رَأَى فِيهِ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَوَّاءَ . وَقَالَ آخَرُونَ ؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرَى فِيهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلَ الْمَنَاسِكِ ، وَاللَّهُ بِذَلِكَ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " ثُمَّ يَغْدُو إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ إِلَى عَرَفَةَ يوم التاسع ، وَهُوَ عَلَى تَلْبِيَتِهِ ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ صَعِدَ الْإِمَامُ فَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَخَطَبَ الْخُطْبَةَ الْأُولَى ، فَإِذَا جَلَسَ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُونَ فِي الْأَذَانِ ، وَأَخَذَ هُوَ فِي الْكَلَامِ ، وَخَفَّفَ الْكَلَامَ الْآخِرَ ، حَتَى يَنْزِلَ بِقَدْرِ فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ مِنَ الْأَذَانِ ، وَيُقِيمُ الْمُؤَذِّنُ ، وَيُصَلِّي الظُّهْرَ ثُمَّ يُقِيمُ فَيُصَلِّي الْعَصْرَ ، وَلَا يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ بِمِنًى فِي يَوْمِ عَرَفَةَ ، وَهُوَ الْيَوْمُ التَّاسِعُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ، غَدَا الْإِمَامُ وَمَنْ مَعَهُ بِمِنًى إِلَى عَرَفَةَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِي غُدُوِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ ، فَرَوَى بَعْضُهُمْ : قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَرَوَى بَعْضُهُمْ : بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ : لِأَنَّهُ أَكْثَرُ رِوَايَةً ، وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ غَدَا إِلَى مِنًى بَعْدَ مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ عَلَى ثَبِيرٍ ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى أَنَّهُ غَدًا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَخْبَرَ عَنْ حَالِ عَرَفَةَ ، وَتَأَهُّبِهِ وَشَدِّ رَحْلِهِ ، وَمَنْ رَوَى بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَخْبَرَ عَنْ حَالِ سَيْرِهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَأَخْتَارُ أَنْ يَسْلُكَ الطَّرِيقَ الَّتِي سَلَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غُدُوِّهِ إِلَى عَرَفَةَ وَهِيَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ فِي أَصْلِ الْمَأْزِمَيْنِ عَلَى يَمِينِ الذَّاهِبِ إِلَى عَرَفَةَ ، يُقَالُ لَهُ طَرِيقُ ضَبٍّ ، وَيَكُونُ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ عَلَى تَلْبِيَتِهِمْ ، ثُمَّ يَنْزِلُ بِنَمِرَةَ حَيْثُ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ عَرَفَةَ ، وَهُوَ مَنْزِلُ الْخُلَفَاءِ الْيَوْمَ ، وَهُوَ إِلَى الصَّخْرَةِ السَّاقِطَةِ بِأَصْلِ الْجَبَلِ عَلَى يَمِينِ الذَّاهِبِ إِلَى عَرَفَةَ ، فَهُنَاكَ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأُلْقِيَ لَهُ عَلَى الصَّخْرَةِ ثَوْبٌ اسْتَظَلَّ بِهِ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ ، تَوَجَّهَ إِلَى الْمُصَلَّى وَهُوَ مَسْجِدُ إِبْرَاهِيمَ ، فَخَطَبَ خُطْبَتَيْنِ قَبْلَ الصَّلَاةِ يَبْتَدِئُهُمَا بِالتَّلْبِيَةِ ، وَهَذِهِ الْخُطْبَةُ وَاجِبَةٌ بِفِعْلِهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ كَالْجُمُعَةِ ، وَهِيَ الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ فِي خُطَبِ الْحَجِّ ، وَيَكُونُ عَلَى مِنْبَرٍ إِنْ وُجِدَ ، أَوْ عَلَى نَشْرٍ مِنَ الْأَرْضِ أَوْ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرٍ ، وَقَدْ رَوَى شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غُنَيْمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ قَالَ : شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ خَطَبْنَا عَلَى رَاحِلَتِهِ بِعَرَفَةَ ، وَإِنَهَا لَتَقْصَعُ بجرتها . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الْقَصْعُ ضَمُّكَ الشَّيْءَ عَلَى الشَّيْءِ حَتَّى تَقْتُلَهُ أَوْ تُهَشِّمَهُ كَأَنَّهُ أَرَادَ بِقَصْعِ الْحَرِّ شِدَّةَ الْمَضْغِ ، وَضَمَّ بَعْضِ الْأَسْنَانِ عَلَى بَعْضٍ ، وَالْجِزَّةُ مَا تَجْتَزُّهُ الْإِبِلُ فَتُخْرِجُهُ مِنْ أَجْوَافِهَا لِتَمْضُغَهُ ثُمَّ تَرُدَّهُ فِي أَكْرَاشِهَا ، وَقَدْ سَاقَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَجَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا فَعَلَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَحَكَى خُطْبَتَهُ فَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْتُ : أَخْبِرْنِي عَنْ حَجِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى عَرَفَةَ فَنَزَلَ بِهَا حَتَى إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ ، أَمَرَ بِالْقَصْوَى فَرُحِّلَتْ لَهُ ، فَرَكِبَ حَتَى أَتَى بَطْنَ الْوَادِي ، فَخَطَبَ النَّاسَ وَقَالَ : إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا ، أَلَا إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمِي ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ دِمَاؤُنَا دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي

سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُهُ رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ ، اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ ، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابَ اللَّهِ ، وَأَنْتُمْ مَسْئُولُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ ؟ فَقَالُوا : نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَنَصَحْتَ وَأَدَّيْتَ ، فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيُنَكِّسُهَا إِلَى الْأَرْضِ اللَّهُمَّ اشْهَدْ ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ .

فَصْلٌ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْخُطْبَةِ قَبْلَ الْأَذَانِ

فَصْلٌ : وَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْخُطْبَةِ قَبْلَ الْأَذَانِ يوم عرفة وَيُؤَخِّرَهَا وَيُعَرِّفَ النَّاسَ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ مَنَاسِكِهِمْ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَأَقَلُّ مَا عَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ مَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ هَذِهِ الْخُطْبَةِ إِلَى الْخُطْبَةِ الثَّالِثَةِ ، فَإِنْ كَانَ فَقِيهًا فَقَالَ : هَلْ مِنْ سَائِلٍ ؟ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلسُّؤَالِ ، ثُمَّ يَجْلِسُ لِلِاسْتِرَاحَةِ ، ثُمَّ يَقُومُ إِلَى الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ ، وَيَأْخُذُ الْمُؤَذِّنُونَ فِي الْأَذَانِ ؛ لِيَكُونَ فَرَاغُهُمْ مِنَ الْأَذَانِ مَعَ فَرَاغِهِ مِنْ خُطْبَتِهِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُؤَذِّنُ الْمُؤَذِّنُونَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ ؛ لِتَكُوْنَ خُطْبَتُهُ بَعْدَ الْأَذَانِ كَالْجُمُعَةِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى بَطْنَ الْوَادِي فَخَطَبَ ، ثُمَّ وَقَفَ قَلِيلًا ، ثُمَّ خَطَبَ وَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ ، فَإِذَا أَذَّنَ أَقَامَ وَصَلَى الظُّهْرَ ، ثُمَّ أَقَامَ وَصَلَّى الْعَصْرَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا ، فَيُصَلِّيهِمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ . وَقَالَ مَالِكٌ : يُؤَذِّنُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَيُقِيمُ . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : يُقِيمُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَا يُؤَذِّنُ . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْقَصْرُ وَالْإِتْمَامُ في عرفة فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مُسَافِرًا قَصَرَ الصَّلَاةَ ، فَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ ، وَقَصَرَ مَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمُسَافِرِينَ وَأَتَمَّ الْمُقِيمُونَ أَرْبَعًا ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَوْ مُقِيمًا بِهَا ، أَتَمَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعًا . وَأَتَمَّ مَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمُسَافِرِينَ وَالْمُقِيمِينَ أَرْبَعًا ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ، وَقَالَ مَالِكٌ : يَقْصُرُ وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا ، وَيَقْصُرُ مَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمُسَافِرِينَ وَالْمُقِيمِينَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصَرَ بِعَرَفَةَ ، وَلَمْ يَأْمُرْ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ بِالْإِتْمَامِ . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ ، وَذَلِكَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُسْفَانَ وَالَطَائِفِ ، فَكَانَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَمَرَ أَهْلَ مَكَةَ بِالْإِتْمَامِ .

فَصْلٌ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْن مَسْنُونٌ

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَهُوَ مَسْنُونٌ هُنَاكَ لِلْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ يوم عرفة ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا جَمَعَهَا هُنَاكَ لِيَفْضُلَ لَهُ الدُّعَاءُ بِالْوُقُوفِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ .

وَخَالَفَ الْقَصْرَ فَإِذَا أَجْمَعَ الْإِمَامُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ الْجَمْعَ عِنْدَ افْتِتَاحِ الْأُولَى ، فَأَمَّا الَّذِينَ خَلْفَهُ مِنَ الْمَأْمُومِينَ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَصَحُّهُمَا : عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْوُوا الْجَمْعَ وَيُوصِيَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِهَا ، وَيُخْبِرُ مَنْ عَلِمَ مَنْ جَهِلَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ جَمْعُ الْإِمَامِ إِلَّا بِنِيَّةِ الْجَمْعِ ، لَمْ يَصِحَّ جَمْعُ الْمَأْمُومِينَ إِلَّا بِنِيَّةِ الْجَمْعِ كَالْجَمْعِ بِغَيْرِ عَرَفَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ إِنْ جَمَعُوا مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْجَمْعِ أَجْزَأَهُمْ لِاخْتِصَاصِ الْمَوْضِعِ لِجَوَازِ الْجَمْعِ وَلِحُوقِ الْمَشَقَّةِ فِي إِعْلَامِ الْكُلِّ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ هُنَاكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنَادِيَ فِيهِمْ بِالْجَمْعِ وَلَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا مَنْ جَاءَ وَقَدْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْإِمَامِ ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ صَلَاتَيِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ إِذَا كَانَ مُسَافِرًا ، سَوَاءٌ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ أَوْ فُرَادَى ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تُجْمَعُ الصَّلَاةُ إِلَّا مَعَ الْإِمَامِ كَالْجُمُعَةِ . وَدَلِيلُنَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا إِذَا فَاتَهُ الْجَمْعُ مَعَ الْإِمَامِ ، وَلَيْسَ لَهُ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ جَمْعٍ جَازَ مَعَ الْإِمَامِ جَازَ انْفِرَادُهُ بِهِ ، كَالْجَمْعِ بِمُزْدَلِفَةَ ، فَإِذَا صَحَّ لَهُ الْجَمْعُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ إِلَّا بِنِيَّةٍ ، فَيَجْمَعُ نَاوِيًا إِنْ كَانَ مُسَافِرًا أَنْ يَقْصُرَ إِنْ شَاءَ ، وَيُتِمُّ الصَّلَاةَ إِنْ كَانَ مُقِيمًا ، وَهَلْ يَجُوْزُ لَهُ الْجَمْعُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ .

فَصْلٌ : وَيُسِرُّ بِالْقِرَاءَةِ فِيهِمَا جَمِيعًا ، وَلَا يَجْهَرُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجْهَرُ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ كَالْجُمُعَةِ لِتَقَدُّمِ الْخُطْبَةِ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ كُلَّ مَنْ نَقَلَ حَجَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَى أَنَّهُ أَسَرَّ بِالْقِرَاءَةِ . وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ إِلَّا الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَيْسَ بِعَرَفَةَ وَلَا مِنًى وَلَا مُزْدَلِفَةَ جُمْعَةٌ ، وَلَا صَلَاةُ عِيدٍ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي حَجَّتِهِ فِي عَرَفَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَلَمْ يُصَلِّ الْجُمُعَةَ ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [ الْمَائِدَةِ : ] ، فَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَ أَحْبَارِ الْيَهُودِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : لَوْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَيْنَا لَكَانَ لَنَا يَوْمَ عِيدٍ ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ : قَدْ كَانَتْ وَاللَّهِ فِي عِيدَيْنِ اثْنَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ ، فَلَوْ تَرَكَ الْإِمَامُ الْخُطْبَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ ، وَالصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ كَانَ مُسِيئًا لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ ، وَلَا فِدْيَةَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " ثُمَّ يَرْكَبُ فَيَرُوحُ إِلَى الْمَوْقِفِ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ ، ثُمَّ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ بِالدُّعَاءِ ، وَحَيْثُمَا وَقَفَ النَّاسُ مِنْ عَرَفَةَ أَجْزَأَهُمْ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا

مَوْقِفٌ وَكُلُّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ . ( قَالَ ) : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ حَدَّثَنَا الرَّبِيْعُ قَالَ : سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : " عَرَفَةُ كُلُّ سَهْلٍ وَجَبَلٍ أَقْبَلَ عَلَى الْمَوْقِفِ فِيمَا بَيْنَ التَّلْعَةِ الَّتِي تُفْضِي إِلَى طَرِيقِ نُعْمَانَ ، وَإِلَى حُصَيْنٍ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ كَبْكَبٍ . " وَأُحِبُّ لِلْحَاجِّ تَرْكَ صَوْمِ عَرَفَةَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَصُمْهُ ، وَأَرَى أَنَّهُ أَقْوَى لِلْمُفْطِرِ عَلَى الدُّعَاءِ ، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ حكمه فَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَاجِبٌ ، لَا نَعْرِفُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ : لِرِوَايَةِ بُكَيْرِ بْنِ عَطَاءٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ الدِّيلِيِّ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : الْحَجُّ عَرَفَاتٌ ، فَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ ، أَيَّامَ مِنًى ثَلَاثَةً ، فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ . فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَالْكَلَامُ بَعْدَهُ فِي فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَوْضِعُ الْوُقُوفِ . وَالثَّانِي : زَمَانُ الْوُقُوفِ . فَأَمَّا مَوْضِعُ الْوُقُوفِ فَهُوَ عَرَفَةُ ، وَعَرَفَةُ مَا جَاوَزَ وَادِيَ عَرَفَةَ الَّذِي فِيهِ الْمَسْجِدُ ، وَلَيْسَ الْمَسْجِدُ وَلَا وَادِي عَرَفَةَ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْجِبَالِ الْقَابِلَةِ عَلَى عَرَفَةَ كُلِّهَا مِمَّا يَلِي حَوَائِطَ بَنِي عَامِرٍ ، وَطَرِيقَ الْحِصْنِ ، فَإِذَا جَاوَزْتَ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ عَرَفَةَ ، وَهَذَا حَدُّ الشَّافِعِيِّ ، وَهُوَ بِهِ أَعْرَفُ ، فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنَ الصَّلَاةِ تَوَجَّهَ مِنْ مَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى عَرَفَةَ ، وَقَدْ حَكَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تُسَمَّى الْحُمْسَ ، وَكَانُوا لَا يَخْرُجُونَ مِنَ الْحَرَمِ يَوْمَ عَرَفَةَ ، وَيَقِفُونَ بِنَمِرَةَ دُونَ عَرَفَةَ فِي الْحَرَمِ ، وَيَقُولُونَ لَسْنَا كَسَائِرِ النَّاسِ ، نَحْنُ أَهْلُ اللَّهِ فَلَا نَخْرُجُ مِنْ حَرَمِ اللَّهِ ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقِفُ مَعَ قُرَيْشٍ فِي الْحَرَمِ ، وَيَخْرُجُ مَعَ النَّاسِ إِلَى عَرَفَةَ ، فَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : ذَهَبْتُ أَطْلُبُ بَعِيرًا إِلَى عَرَفَةَ ضَلَّ مِنِّي ، حَتَّى أَتَيْتُ عَرَفَةَ فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَةَ ، فَقُلْتُ : هَذَا مِنَ الْحُمْسِ فَمَا لَهُ خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ ، فَلَمَّا حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ ، ضَرَبُوا قُبَّتَهُ بِنَمِرَةَ عَلَى رَسْمِ قُرَيْشٍ ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَ هُنَاكَ إِلَى أَنْ زَالَتِ الشَّمْسُ ثُمَّ خَرَجَ وَمَضَى إِلَى عَرَفَةَ مَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ فَصَلَّى هُنَاكَ ، ثُمَّ رَاحَ إِلَى عَرَفَاتٍ ، فَقُلِعَتْ قُبَّتُهُ ، وَرُفِعَتْ إِلَى الْمَوْقِفِ ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ : ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [ الْبَقَرَةِ : ] ، أَوِ ارْجِعُوا مِنْ حَيْثُ رَجَعَ النَّاسُ ، وَفِي النَّاسِ هَاهُنَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ إِبْرَاهِيمُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَقِفُ بِعَرَفَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ وَقَفَ بِهَا وَفِي تَسْمِيَةِ قُرَيْشٍ بِالْحُمْسِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لِأَنَّهُمْ تَحَمَّسُوا فِي دِينِهِمْ ، أَيْ تَشَدَّدُوا ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَجَّاجِ : وَكَمْ قَطَعْنَا مِنْ قِفَافٍ حُمْسٍ أَيْ شِدَادٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ سُمُّوا حُمْسًا بِالْكَعْبَةِ ؛ لِأَنَّهَا حُمْسٌ ، حَجَرُهَا أَبْيَضُ يَضْرِبُ إِلَى السَّوَادِ .

وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَدِمْنَا عَرَفَةَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَذِهِ عَرَفَةُ وَكُلُّهَا مَوْقِفٌ ، إِلَّا وَادِيَ عَرَفَةَ . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ عَنْ خَالٍ لَهُ قَالَ : كُنَّا فِي مَوْقِفٍ لَنَا بِعَرَفَةَ ، فَأَتَانَا ابْنُ مَرْبَعٍ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ : أَنَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْكُمْ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَقِفُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ هَذِهِ ، فَإِنَّكُمْ عَلَى إِرْثٍ مِنْ إِرْثِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَرَفَةَ هِيَ الْمُوْقِفُ فَالَّذِي يُخْتَارُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقْصِدَ نَحْوَ الْجَبَلِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ جَبَلُ الدُّعَاءِ ، وَهُوَ مَوْقِفُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، وَالْمَوْقِفُ الَّذِي وَقَفَ فِيهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ بَيْنَ الْأَجْبُلِ الثَّلَاثَةِ ، وَمَوْقِفُهُ عَلَى الثَّالِثِ هُوَ الطَّوَافُ الَّذِي عِنْدَ السِّنِّ الَّذِي خَلْفَهُ مَقَامُ الْإِمَامِ ، وَقَفَ عَلَى ضَرْبَيْنِ مِنَ الثَّالِثِ ، وَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ إِلَى الصَّخَرَاتِ ، وَجَعَلَ جَبَلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَهَذَا أَحَبُّ الْمَوَاقِفِ إِلَيْنَا ، أَنْ يَقِفَ فِيهِ الْإِمَامُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ النَّاسِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَحَيْثُ وَقَفَ النَّاسُ مِنْ عَرَفَةَ فِي جَوَانِبِهَا وَنَوَاحِيهَا وَمَضَارِبِهَا ، وَجِبَالِهَا وَسُهُولِهَا وَبَطْنِهَا وَأَوْدِيَتِهَا وَسُوقِهَا الْمَعْرُوفِ بِذِي الْمَجَازِ أَجْزَأَ ، إِذَا وَقَفَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَعْرِفُهُ الْعَرَبُ بِعَرَفَةَ ، فَأَمَّا إِذَا وَقَفَ بِغَيْرِ عَرَفَةَ مِنْ وَرَائِهَا أَوْ دُونَهَا فِي عَرَفَةَ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا بِهَا لَمْ تُجْزِهِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : يُجْزِئُهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجُّ عَرَفَةُ ، فَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ ، وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةَ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ .

فَصْلٌ زَمَانُ الْوُقُوفِ فَهُوَ مِنْ بَعْدِ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ

فَصْلٌ : فَأَمَّا زَمَانُ الْوُقُوفِ فَهُوَ مِنْ بَعْدِ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ ، إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : هُوَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ : لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ أَقَامَ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَتْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ لِيَحُجَّ بِالنَّاسِ ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ سُنَنِ الْحَجِّ ، قَالَ : فَلَمَّا زَالَتِ الشَّمْسُ رَكِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ حِمَارًا لَهُ وَجَاءَ عَلَى مَضْرَبِ الْحَجَّاجِ ، وَقَالَ : أَيْنُ هَذَا ؟ فَخَرَجَ الْحَجَّاجُ وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ مُعَصْفَرٌ ، فَقَالَ : مَا لَكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، فَقَالَ : إِنْ أَرَدْتَ السُّنَّةَ فَالرَّوَاحُ ، فَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا جَاءَتْ بِهِ سُّنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَعَمِلَ عَلَيْهِ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ ، فَعُلِمَ أَنَّ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ لَمْ تَأْتِ بِهِ السُّنَّةُ ، وَلَا شَرَعَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ ، فَمَتَى حَصَلَ بِهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ مُقِيمًا أَوْ مُخْتَارًا نَائِمًا أَوْ مُسْتَيْقِظًا ، عَالِمًا أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ ، مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ ، فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ ، وَأَدْرَكَ بِهِ الْحَجَّ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِدْرَاكُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ يُعْتَبَرُ بِاللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ ، فَإِنْ وَقَفَ بِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا أَجْزَأَهُ وُقُوفُ اللَّيْلِ ، وَكَانَ وُقُوفُ النَّهَارِ تَبَعًا ، وَإِنْ وَقَفَ بِهَا لَيْلًا أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ وَقَفَ بِهَا نَهَارًا لَمْ يُجْزِهِ

اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ لَيْلًا فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ ، وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ لَيْلًا ، فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا رِوَايَةُ عَامِرٍ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ ، أَنَّهُ حَجَّ فَلَمْ يُدْرِكِ النَّاسَ إِلَّا لَيْلًا فَجَمَعَ ، فَانْطَلَقَ إِلَى عَرَفَاتٍ ، فَأَفَاضَ مِنْهَا ثُمَّ رَجَعَ إِلَى جَمْعٍ ، فَأَتَى رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَكْلَلْتُ مَطِيَّتِي ، وَأَتْعَبْتُ نَفْسِي ، فَهَلْ لِي مَنْ حَجٍّ ، فَقَالَ : مَنْ صَلَّى مَعَنَا صَلَاةَ الْغَدَاةِ بِجَمْعِ ، وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَى يَفِيضَ وَقَدْ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا ، فَقَدْ قَضَى تَفَثَهُ ، وَتَمَّ حَجُّهُ ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصَدَ الْمَوْقِفَ نَهَارًا ، وَانْصَرَفَ مِنْهُ لَيْلًا ، فَجَعَلَ النَّهَارَ وَقْتًا لِلْوُقُوفِ ، وَجَعَلَ اللَّيْلَ وَقْتًا لِتَرْكِ الْوُقُوفِ ، فَعُلِمَ أَنَّ النَّهَارَ مَقْصُودٌ ، وَاللَّيْلَ تَبَعٌ . فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إِدْرَاكِ اللَّيْلِ ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى إِدْرَاكِ النَّهَارِ ؛ وَلِأَنَّ حُكْمَ آخِرِ الْوَقْتِ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلَ أَوَّلِهِ أَوْ أَضْعَفَ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى مِنْهُ فَلَمَّا جَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدْرَكًا بِآخِرِهِ ، وَهُوَ اللَّيْلُ ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُدْرَكًا بِأَوَّلِهِ وَهُوَ النَّهَارُ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا يَصِحُّ فِي قَوْلِهِ " مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ لَيْلًا ، فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ " فَأَمَّا فِي قَوْلِهِ " وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ لَيْلًا فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ " فَلَا ، قِيلَ يَكُونُ دَلِيلُ أَوَّلِ الْكَلَامِ تَنْبِيهَةً يَصْرِفُ ظَاهِرَ آخِرِهِ إِلَى دَلِيلِ أَوَّلِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحْدِيدِ الْمَوْقِفِ وَزَمَانِ الْوُقُوفِ ، وَالْقَدْرِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ إِدْرَاكُ الْوُقُوفِ ، فَيُخْتَارُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ فِي وُقُوفِهِ يوم عرفة ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ الْمَجَالِسِ مَا اسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ . وَاقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وُقُوفِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقِفَ رَاكِبًا وَنَازِلًا ، وَوُقُوفُهُ رَاكِبًا أَفْضَلُ ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ رَاكِبًا ؛ وَلِأَنَّهُ إِذَا رَكِبَ كَانَ أَقْوَى لَهُ عَلَى الدُّعَاءِ ، وَيَكُونُ مُفْطِرًا لِهَذَا الْمَعْنَى ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ بِعَرَفَةَ مُفْطِرًا ، وَيُكْثِرُ مِنَ الدُّعَاءِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَكُونُ مِنْ دُعَائِهِ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ أَكْثَرُ دُعَائِهِ عَشِيَةَ عَرَفَةَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي سَمْعِي نُورًا ، وَفِي بَصَرِي نُورًا ، وَفِي قَلْبِي نُورًا ، اللَّهُمَّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَسَاوِسِ الصَّدْرِ ، وَمِنْ سَيِّئَاتِ الْأُمُورِ ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا يَلِجُ فِي اللَّيْلِ وَشَرِّ مَا يَلِجُ فِي النَّهَارِ ، وَمِنْ شَرِّ مَا تَهُبُّ بِهِ الرِّيَاحُ ، وَشَرِّ بَوَائِقِ الدَّهْرِ " وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْحَشْرِ ، فَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَيَجْتَهِدُ فِي الدُّعَاءِ ؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْأَيَّامِ الَّتِي تُرْجَى فِيهَا الْإِجَابَةُ يوم عرفة ، وَرَوَى ابْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ أَنْ يَعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَدَدًا مِنَ النَارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ . وَيُخْتَارُ لِلْوَاقِفِ بِعَرَفَةَ أَنْ يَبْرُزَ لِلشَّمْسِ ، وَيُظْهِرَ نَفْسَهُ لَهَا ، فَقَدَ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى يَوْمَ عَرَفَةَ رَجُلًا يَطْلُبُ الْفَيَافِيَ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَضْحِ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ أَيِ اخْرُجْ إِلَى الشَّمْسِ ؛ لِأَنَّ الشَّمْسَ

تُسَمَّى الضُّحَى ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ لِمَا سُمِّيَتْ عَرَفَةَ ، فَقَالَ قَوْمٌ لِتَعَارُفِ آدَمَ وَحَوَّاءَ فِيهِ ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَهْبَطَ آدَمَ بِأَرْضِ الْهِنْدِ ، وَحَوَّاءَ بِأَرْضِ جُدَّةَ فَتَعَارَفَا بِالْمَوْقِفِ ، وَقِيلَ : لِأَنَّ جِبْرِيلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَّفَ فِيهِ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ مَنَاسِكَهُ . وَقِيلَ : سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِلْجِبَالِ الَّتِي فِيهَا ، وَوُقُوفِ النَّاسِ عَلَيْهَا ، وَالْجِبَالُ هِيَ الْأَعْرَافُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ [ الْأَعْرَافِ : ] . قِيلَ : سُورٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَمِنْهُ قِيلَ عُرْفُ الدِّيكِ ، وَعُرْفُ الدَّابَّةِ لِنُتُوِّهِ وَعُلُوِّهِ ، وَكُلُّ نَاتٍ فَهُوَ عُرْفٌ ، وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ : سُمِّيَتْ عَرَفَاتٍ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَعْتَرِفُونَ فِيهَا بِذُنُوبِهِمْ ، فَحِينَئِذٍ يُغْفَرُ لَهُمْ .

مَسْأَلَةٌ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ دَفَعَ الْإِمَامُ وَعَلَيْهِ الْوَقَارُ وَالسَّكِينَةُ فَإِنْ وَجَدَ فُرْجَةً أَسْرَعَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ دَفَعَ الْإِمَامُ وَعَلَيْهِ الْوَقَارُ وَالسَّكِينَةُ ، فَإِنْ وَجَدَ فُرْجَةً أَسْرَعَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، السُّنَّةُ لِلْإِمَامِ وَمَنْ مَعَهُ بِعَرَفَةَ أَنْ يُقِيمُوا بِهَا حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ ، ثُمَّ يَدْفَعُوا مِنْهَا بَعْدَ الْغُرُوبِ ، اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَلِرِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ : خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِعَرَفَاتٍ ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ، كَانُوا يَدْفَعُونَ فِي هَذَا الْيَوْمِ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ ، إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ فِي رُؤُوْسِ الْجِبَالِ كَأَنَّهَا عَمَائِمُ الرِّجَالِ فِي وُجُوِهِهِمْ ، وَإِنَّا نَدْفَعُ بَعْدَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ ، فَإِنْ دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى مُزْدَلِفَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، فَحَجُّهُ مُجْزِئٌ ، وَعَلَيْهِ دَمٌ وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ إِنَّهُ وَاجِبٌ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمُسْنَدًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ تَرَكَ نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَمٌ " وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ نُسُكٌ فَوَجَبَ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ دَمٌ ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَّ الدَّفْعَ مِنْ عَرَفَةَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، كَمَا سَنَّ الْإِحْرَامَ مِنَ الْمِيقَاتِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الدَّمَ عَلَى مُجَاوِزِ الْمِيقَاتِ وَاجِبٌ ، فَكَذَا الدَّمُ عَلَى الدَّافِعِ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَاجِبٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْأُمِّ وَالْإِمْلَاءِ : أَنَّ الدَّمَ اسْتِحْبَابٌ ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ لَيْلًا مَنْ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا فَقَدْ قَضَى تَفَثَهُ وَتَمَّ حَجُّهُ . وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِدَمٍ فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ؛ وَلِأَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَقْتٌ لِإِدْرَاكِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ بِهَا لَيْلًا دُونَ النَّهَارِ لَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ ، كَذَلِكَ إِذَا وَقَفَ بِهَا نَهَارًا دُونَ اللَّيْلِ لَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَيْهِ الدَّمَ إِمَّا وَاجِبًا أَوِ اسْتِحْبَابًا فَإِنْ عَادَ إِلَى عَرَفَةَ لَيْلًا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ ، سَوَاءٌ كَانَ عَوْدُهُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ أَوْ بَعْدَهُ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ عَادَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَثَبَتَ بِهَا إِلَى أَنْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ ، وَإِنْ عَادَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الدَّمُ ؛ لِأَنَّ الدَّمَ إِذَا وَجَبَ لِسَبَبٍ ، لَمْ يَسْقُطْ وُجُوبُهُ بِزَوَالِ ذَلِكَ السَّبَبِ كَاللَّابِسِ ، قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ بِلِبَاسِهِ ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِنَزْعِهِ ، وَالْمُتَطَيِّبِ لَزِمَهُ الدَّمُ بِاسْتِعْمَالِهِ ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِغَسْلِهِ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ بِهَا لَيْلًا دُونَ النَّهَارِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ دَمٌ ، فَوَجَبَ إِذَا وَقَفَ بِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا أَوْلَى أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ دَمٌ ، وَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ الدَّمَ إِنَّمَا لَزِمَهُ بِفَوَاتِ الْعَوْدِ لَا بِالدَّفْعِ قَبْلَ الْغُرُوبِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا صِفَةُ سَيْرِهِ ، إِلَى مُزْدَلِفَةَ فَهُوَ الْمَشْيُ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ مِنْ غَيْرِ عَجَلَةٍ وَلَا سَعْيٍ ، فَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَفَعَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ ، سَمِعَ وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا مِنَ الْأَعْرَابِ ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ : السَّكِينَةَ فَإِنَّ الِبِرَّ لَيْسَ بِالْإِيضَاعِ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَشَيَّةَ عَرَفَةَ عَنْ دَفْعِ وَجِيفِ الْخَيْلِ ، وَإِيضَاعِ الْإِبِلِ ، قَالَ : وَلَكِنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَسِيرُوا سَيْرًا جَمِيلًا ، وَلَا تُوْطِؤُوا ضَعِيفًا وَلَا تُوْطِؤُوا مُسْلِمًا ، وَاقْتَصِرُوا فِي السَّيْرِ ، وَكَانَ يَكُفُّ عَنْ نَاقَتِهِ حَتَّى يَبْلُغَ رَأْسُهَا مُقَدَّمَ الرَّحْلِ ، وَهُوَ يَقُولُ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بَالدِّعَةِ . وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفَاضَ وَعَلَيْهِ السِّكِينَةُ وَالْوَقَارُ ، فَكَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ حَتَّى إِذَا وَجَدَ فُرْجَةً نَصَّ ، الْعَنَقُ : سَيْرُ الْجَمَاعَةِ وَالرِّفَاقِ ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : وَالنَّصُّ هُوَ التَّحْرِيكُ حَتَّى يَسْتَخْرِجَ مِنَ الدَّابَّةِ أَقْصَى سَيْرِهَا ، وَيُخْتَارُ أَنْ يَسْلُكَ طَرِيقَ الْمَأْزِمَيْنِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَكَ فِي ذَهَابِهِ إِلَى عَرَفَاتٍ طَرِيقَ ضَبٍّ ، وَرَجَعَ مِنْ عَرَفَاتٍ إِلَى مُزْدَلِفَةَ فِي طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ ، وَأَيَّ طَرِيقٍ سَلَكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ ، وَلَيْسَ فِي الْمَسْلَكِ نُسُكٌ ، وَلَكِنَّنَا نَخْتَارُ التَّأَسِّيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ إِذَا أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ نَزَلَ بِهَا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَإِذَا أَتَى الْمَزْدَلِفَةَ جَمَعَ مَعَ الْإِمَامِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِإِقَامَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّاهُمَا بِهَا ، وَلَمْ يُنَادِ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إِلَّا بِإِقَامَةٍ ، وَلَا يُسَبِّحُ بَيْنَهُمَا وَلَا عَلَى إِثْرِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ نَزَلَ بِهَا ، وَحُدُودُ مُزْدَلِفَةَ مِنْ حَيْثُ يَقْضِي مِنْ مَأْزِمَيْنِ عَرَفَةَ ، وَلَيْسَ الْمَأْزِمَيْنِ مِنْهَا إِلَى أَنْ يَأْتِيَ إِلَى قُرْبِ مُحَسِّرٍ ، وَلَيْسَ الْقَرْنُ مِنْهَا ، وَهَكَذَا يَمِينًا وَشِمَالًا مِنْ تِلْكَ الْمَوَاطِنِ وَالْقَوَابِلِ وَالظَّوَاهِرِ وَالشِّعَابِ وَالسِّحَاءِ وَالْوَادِي كُلِّهِ ، وَفِي تَسْمِيَتِهَا مُزْدَلِفَةَ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : إِنَّهُمْ يَقْرَبُونَ فِيهَا مِنْ مِنًى ، وَالِازْدِلَافُ التَّقْرِيبُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ [ الشُّعَرَاءِ : ] ، أَيْ قَرُبَتْ . وَالثَّانِي : إِنَّ النَّاسَ يَجْتَمِعُونَ بِهَا ، وَالِاجْتِمَاعُ الِازْدِلَافُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ [ الشُّعَرَاءِ : ] ، أَيْ جَمَعْنَاهُمْ ؛ وَلِذَلِكَ قِيلَ لِمُزْدَلِفَةَ جَمْعٌ ، فَإِذَا نَزَلَ بِمُزْدَلِفَةَ جَمَعَ

بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ حَتَى جَمَعَهَا مَعَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ بِمُزْدَلِفَةَ كَمَا قَدَّمَ الْعَصْرَ بِعَرَفَةَ ، حِينَ صَلَّاهَا مَعَ الظُّهْرِ لِيَتَّصِلَ لَهُ الدُّعَاءُ ، وَقَدْ رَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ : لَمَّا أَفَاضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَرَفَةَ وَأَتَى مُزْدَلِفَةَ قَلَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : الصَّلَاةُ ، فَقَالَ : " الصَّلَاةُ أَمَامَكَ ، فَسَارَ حَتَّى جَاءَ إِلَى صَخْرٍ : فِي بَطْنِ الْمَأْزَمِ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ فِي مَضِيقِ الْمَأْزَمَيْنِ فَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ ، وَبَالَ مَنْ وَرَاءِ الصَخْرَةِ ، وَجِئْتُهُ بِإِدَاوَةِ مَاءٍ فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا غَيْرَ كَامِلٍ ، ثُمَّ قَامَ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ الصَّلَاةُ ، فَقَالَ : " الصَّلَاةُ أَمَامَكَ إِلَى أَنْ نَزَلَ جَمْعًا " وَفِي قَوْلِهِ : وُضُوءًا غَيْرَ كَامِلٍ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ تَرَكَ تَكْرَارَهُ ثَلَاثًا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ تَرَكَ مَسْنُونَاتِهِ مِنَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَتَخْلِيلِ الْأَصَابِعِ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مُسَافِرًا قَصَرَ وَجَمَعَ ، وَإِنْ كَانَ مَكِّيًّا مُقِيمًا أَتَمَّ وَجَمَعَ ، كَمَا قُلْنَا بِعَرَفَةَ ، فَإِذَا أَرَادَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِإِقَامَةٍ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ ؛ لِرِوَايَةِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا ، وَاضْطَجَعَ فَبَاتَ بِهَا إِلَى أَنْ طَلَعَ الْفَجْرُ . وَمَذْهَبُهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِإِقَامَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَذَانٍ لِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِإِقَامَتَيْنِ ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا سَجْدَةً ، وَكِلَا الْخَبَرَيْنِ حُجَّةٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ . وَرِوَايَةُ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِإِقَامَةٍ يَعْنِي لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ؛ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَمْ يُؤَذِّنْ لَهُمَا فَلَوْ صَلَّاهُمَا قَبْلَ مُزْدَلِفَةَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا أَوْ مُفْرِدًا لَهُمَا أَجْزَأَتَاهُ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا فِدْيَةَ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ مُزْدَلِفَةَ لَمْ يُجْزِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ مَسْنُونٌ بِعَرَفَةَ ، كَمَا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ مَسْنُونٌ بِمُزْدَلِفَةَ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ تَرْكَ الْجَمْعِ بِعَرَفَةَ لَا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ الْجَمْعِ بِمُزْدَلِفَةَ لَا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُمَا صَلَاتَانِ سُنَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي إِحْدَاهُمَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ جَوَازُهُمَا تَرْكَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِمَكَانِهِمَا كَالْجَمْعِ بِعَرَفَةَ ؛ وَلِأَنَّ مَا كَانَ وَقْتًا لِصَلَاةِ الْفَرْضِ فِي غَيْرِ النُّسُكِ كَانَ وَقْتًا لَهَا فِي النُّسُكِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْأَوْقَاتِ . فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : " وَلَا يُسَبِّحُ بَيْنَهُمَا " يُرِيدُ أَنْ لَا يَتَنَقَّلَ بَيْنَ صَلَاتَيِ الْجَمْعِ ؛ لِأَنَّ التَّنَقُّلَ بَيْنَهُمَا يَقْطَعُ الْجَمْعَ ، وَلَا فِي إِثْرِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَيْ لَا يَتَنَفَّلُ قَبْلَ الْمَغْرِبِ وَلَا بَعْدَ الْعَشَاءِ : لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّأَهُّبِ لِمَنَاسِكِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَبِيتُ بِهَا فَإِنْ لَمْ يَبِتْ بِهَا فَعَلَيْهِ دَمُ شَاةٍ ، وَإِنْ خَرَجَ مَا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كُنْتُ فِيمَنْ قَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ ضَعَفَةِ أَهْلِهِ يَعْنِي مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ فَنُسُكٌ ، وَلَيْسَ بِرُكْنٍ ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ ، وَحُكِيَ عَنْ خَمْسَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ أَنَّهُ رُكْنٌ فِي الْحَجِّ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ ، مِنْهُمُ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ ، وَالْأَسْوَدُ ، وَعَلْقَمَةُ وَبِهِ قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّافِعِيُّ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَبِهَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ وَقَفَ بِجَمْعٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ ، وَمَنْ فَاتَهُ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ " . وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا رِوَايَةُ بُكَيْرِ بْنِ عَطَاءٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ الدِّيلِيِّ ، قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : الْحَجُّ عَرَفَاتٌ ، فَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ . وَلِأَنَّهُ مَبِيتٌ تَضَمَّنَ مِنْ صَبِيحَةِ الرَّمْيِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نُسُكًا ، وَلَا يَكُونُ رُكْنًا كَلَيَالِي مِنًى ؛ وَلِأَنَّ زَمَانَ الْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ هُوَ زَمَانُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَلَوْ كَانَ الْمَبِيتُ بِهَا رُكْنًا لَاخْتَصَّتْ بِزَمَانٍ مُسْتَثْنًى لَا يُشَارِكُ زَمَانَ الْوُقُوفِ . فَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا : لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الذِّكْرِ دُونَ الْمَبِيتِ ، وَهُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ بِالْإِجْمَاعِ . وَأَمَّا الْخَبَرُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ، ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى فَوَاتِ فَضِيلَةِ الْحَجِّ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَبِيتَ بِهَا نُسُكٌ ، فَإِنْ بَاتَ بِهَا وَخَرَجَ مِنْهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْهَا قَبْلَ الْفَجْرِ وَبَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ أَجْزَأَهُ ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُجْزِئُهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ ، لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ تَرَكَ نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَمٌ . وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ : كُنْتُ فِيمَنْ قَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ ضَعَفَهِ أَهْلِهِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى بِلَيْلٍ ، وَأَمَرَ أُمَّ سَلَمَةَ أَنْ تُعَجِّلَ الْإِفَاضَةَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ خُرُوجَهَا مِنْ مُزْدَلِفَةَ قَبْلَ الْفَجْرِ ، وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : كَانَتْ سَوْدَةُ امْرَأَةً بَطِيئَةً ، فَاسْتَأْذَنَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُفِيضَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ بَلَيْلٍ فَأَذِنَ لَهَـا ، وَهَذَا نَصٌّ ، وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ دَلِيلٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى النُّسُكَ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ خَرَجَ مِنْهَا قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ ، نُظِرَ فَإِنْ عَادَ إِلَيْهَا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ ، وَقَبْلَ الْفَجْرِ أَجْزَأَهُ ، وَكَانَ كَالْعَائِدِ إِلَى عَرَفَةَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْهَا قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ ، وَلَمْ يَعُدْ إِلَيْهَا كَانَ كَمَنْ لَمْ يَبِتْ بِهَا وَعَلَيْهِ دَمٌ : وَلَوْ دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ لَيْلًا وَحَصَلَ بِمُزْدَلِفَةَ بَعْدَ

نِصْفِ اللَّيْلِ فَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبِتْ بِهَا إِلَّا أَقَلَّ اللَّيْلِ ، فَصَارَ كَالْخَارِجِ مِنْهَا قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَتَرَكَ الْمَبِيتَ بِهَا أَوْ خَرَجَ مِنْهَا قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَاجِبٌ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : اسْتِحْبَابٌ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي " الْأُمِّ " وَ " الْإِمْلَاءِ " وَالْحُكْمُ فِي هَذَا كَالْحُكْمِ فِي دَمِ الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ؛ لِأَنَّ أَرْبَعَةَ دِمَاءٍ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهَا مِنْهَا هَذَانِ . وَالثَّالِثُ : دَمُ الْمَبِيتِ لَيَالِيَ مِنًى . وَالرَّابِعُ : دَمُ طَوَافِ الْوَدَاعِ ، فَنَّصَ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ أَنَّ الدَّمَ فِيهَا وَاجِبٌ ، وَنَصَّ فِي " الْأُمِّ " وَ " الْإِمْلَاءِ " أَنَّ الدَّمَ فِيهَا اسْتِحْبَابٌ . فَأَمَّا حُدُودُ مُزْدَلِفَةَ ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ وَادِيَ مُحَسِّرٍ لَيْسَ مِنْهَا ، فَإِنْ بَاتَ لَمْ يُجْزِهِ ، وَقَدْ رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إِلَّا بَطْنَ مُحَسِّرٍ .

مَسْأَلَةٌ يُخْتَارُ لِمَنْ بَاتَ بِمُزْدَلِفَةَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا سَبْعَ حَصَيَاتٍ لِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَأْخُذُ مِنْهَا الْحَصَى لِلرَّمْيِ ، يَكُوْنُ قَدْرَ حَصَى الْخَذْفِ ؛ لِأَنَّ بِقَدْرِهَا رَمَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : يُخْتَارُ لِمَنْ بَاتَ بِمُزْدَلِفَةَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا سَبْعَ حَصَيَاتٍ لِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهَا ، وَاخْتَارَ آخَرُونَ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنَ الْمَأْزِمَيْنِ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ حَصَى الْجَمْرَةِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ وَنَخْتَارُ أَنْ يَلْتَقِطَهَا وَلَا يَكْسِرَهَا ، وَاخْتَارَ آخَرُونَ أَنْ يَكْسِرَهَا وَمَا ذَكَرْنَا أَوْلَى : لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْتَقِطُوا وَلَا تُنَبِّهُوا النُّوَّامَ وَنَخْتَارُ أَنْ يَغْسِلَهَا ، وَكَرِهَ آخَرُونَ غَسْلَهَا وَمَا ذَكَرْنَا أَوْلَى : لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَغْسِلُ جِمَارَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَمَّا قَدْرُ الْحَصَى الْجِمَارِ ، وَهُوَ مِثْلُ حَصَى الْخَذْفِ ، وَهُوَ دُونَ الْأُنْمُلَةِ طُولًا وَعَرْضًا بِقَدْرِ الْبَاقِلَّاءِ ، وَيُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا وَالنُّقْصَانُ مِنْهَا : لِمَا رَوَى أَبُو الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ : حَدَّثَنِي الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ يَوْمِ النَّحْرِ : " " هَاتِ فَالْقِطْ لِي حَصًى فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ مِثْلَ حَصَى الْخَذَفِ ، فَوَضَعْتُهُنَ فِي يَدِهِ ، فَقَالَ : بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ وَإِيَّاكُمُ الْغُلُوَّ فَإِنَّمَا أُهْلِكَ مَنْ كَاْنَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ " . وَرَوَى حَرْمَلَةُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ارْمُوا الْجَمْرَةَ بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ وَمِنْ أَيْنَ أَخَذَ الْجِمَارَ وَبِأَيِّ قَدَرٍ رَمَى أَجْزَأَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ : أَحَدُهَا : حَصَى الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَتِهِ ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْحَصَى لَيُسَبِّحُ فِي الْمَسْجِدِ .

وَالثَّانِي : الْحَصَى نَجِسٌ ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ عِبَادَةٌ ، فَيُكْرَهُ أَدَاؤُهَا بِنَجِسٍ . وَالثَّالِثُ : مَا رُمِيَ بِهِ مَرَّةً ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَقَبَّلٍ ، وَرَوَى ابْنُ أَبَى سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ الْجِمَارُ الَّتِي نَرْمِي بِهَا كُلَّ عَامٍ فَيَنْحَسِبُ أَنَّهَا تَنْقُصُ . قَالَ : إِنَّهَا مَا تُقُبِّلَ مِنْهَا يُرْفَعُ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَرَأَيْتَهَا مِثْلَ الْجِبَالِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمِنْ حَيْثُ أَخَذَ أَجْزَأَ إِذَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ حَجَرٍ مْرْمَرٍ أَوْ بَرَامٍ أَوْ كَذَانٍ أَوْ فَهْرٍ ، فَإِنْ كَانَ كَحْلًا أَوْ زَرْنِيخًا أَوْ مَا أَشْبَهَهُ لَمْ يُجْزِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : رَمْيُ الْجِمَارِ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِمَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْحَجَرِ ، وَإِنْ تَنَوَّعَ رِخْوًا كَانَ أَوْ صُلْبًا ، فَأَمَّا مَا لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْحَجَرِ مِنَ الْآجُرِّ ، وَالطِّينِ ، وَالْجِصِّ وَالنَّوْرَةِ وَالْقَوَارَى ، وَالْكُحْلِ وَالزَّرْنِيخِ ، وَالْفِضَّةِ ، وَالذَّهَبِ ، وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ ، وَاللُّؤْلُؤِ وَالْمِلْحِ ، فَلَا يَجُوزُ رَمْيُ الْجِمَارِ بِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ ، وَلَا يَجُوزُ بِمَا يَنْطَبِعُ مِنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ . وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ : يَجُوزُ بِكُلِّ شَيْءٍ حَتَّى بِالْعُصْفُورِ الْمَيِّتِ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَإِذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ " وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ سُكَيْنَةَ بِنْتَ الْحُسَيْنِ " رَمَتْ سِتَّ حَصَيَاتٍ فَأَعْوَزَتْهَا السَّابِعَةُ فَرَمَتْ بِخَاتَمِهَا " وَدَلِيلُنَا : مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ حَصَى الْجِمَارِ فِي يَدِهِ ، وَقَالَ : " بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ فَارْمُوا " فَعُلِمَ أَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلًا لَا يُجْزِئُ الرَّمْيُ بِهِ ، وَمِثْلُ الْحَصَى حَصًى ، وَلَيْسَ غَيْرُ الْحَصَى مِثْلًا لِلْحَصَى . وَرَوَى أَبُو مَعْبَدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ قَالَ : أَفَاضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَبَطَ فِي بَطْنِ مُحَسِّرٍ ، وَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ وَهَذَا أَمْرٌ بِالْحَصَى ؛ وَلِأَنَّهُ رَمَى بِغَيْرِ حَجَرٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِئُ ، كَالثِّيَابِ . فَأَمَّا قَوْلُهُ " إِذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ " فَالْمَقْصُودُ بِهِ مَا يَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ لَا مَا يَجُوزُ الرَّمْيُ بِهِ . وَأَمَّا حَدَثُ سُكَيْنَةَ فَقَدْ قِيلَ : إِنَّهَا رَمَتْ خَاتَمَهَا إِلَى سَائِلٍ كَانَ هُنَاكَ ، وَلَوْ صَحَّ أَنَّهَا رَمَتْ بِهِ بَدَلًا مِنَ الْحَصَى السَّابِعَةِ ، فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ فَصُّهُ ، وَكَانَ حَجَرًا وَفَصَّةُ الْخَاتَمِ تَبَعًا .

مَسْأَلَةٌ الرَّمْيَ بِمَا قَدْ رُمِيَ بِهِ مكروه ويجزأ عنه

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ رَمَى بِمَا قَدْ رُمِيَ بِهِ مَرَّةً كَرِهْتُهُ وَأَجْزَأَ عَنْهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّنَا نَكْرَهُ لَهُ الرَّمْيَ بِمَا قَدْ رُمِيَ بِهِ ؛ لِمَا رُوِّينَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : الْحَجَرُ قُرْبَانٌ فَمَا يُقْبَلُ رُفِعَ ، وَمَا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ تُرِكَ " فَإِنْ رَمَى

أَجْزَأَهُ ، سَوَاءٌ كَانَ قَدْ رَمَى بِهِ أَوْ رَمَى بِهِ غَيْرُهُ ، وَقَالَ طَاوُسٌ : إِنْ رَمَى بِمَا قَدْ رُمِيَ بِهِ مَرَّةً لَمْ يَجُزْ سَوَاءٌ رَمَى بِهِ هُوَ ، أَوْ رَمَى غَيْرُهُ بِهِ ، كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ ، وَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ : إِنْ رَمَى بِهِ غَيْرُهُ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ رَمَى بِهِ هُوَ لَمْ يُجْزِهِ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ رَمْيَهُ بِهِ لَمْ يَسْلُبْهُ اسْمَ الْحَجَرِ الْمُطْلَقِ ، فَلَمْ يَكُنْ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ بِهِ مَانِعًا مِنْ أَدَائِهَا ثَانِيَةً بِهِ كَالْكُسْوَةِ ، وَالْإِطْعَامِ فِي الْبَهَارَاتِ ، فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا حَيْثُ أَجَزْتُمُ الرَّمْيَ بِهِ ثَانِيَةً ، وَبَيْنَ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ حَيْثُ مَنَعْتُمُ اسْتِعْمَالَهُ ثَانِيَةً . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ قَدْ سَلَبَهُ اسْمَ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ ، فَلَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ وَالرَّمْيُ بِالْأَحْجَارِ لَمْ يَسْلُبْهَا اسْمَ الْأَحْجَارِ فَجَازَ الرَّمْيُ بِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَاءَ يُسْتَعْمَلُ عَلَى وَجْهِ الْإِتْلَافِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَعْمَلَ ثَانِيَةً كَالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَاتِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ رَمَى فَوَقَعَتْ حَصَاةٌ عَلَى مَحْمَلٍ ، ثُمَّ اسْتَنَّتْ فَوَقَعَتْ فِي مَوْضِعِ الْحَصَى أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ وَقَعَتْ فِي ثَوْبِ رَجُلٍ فَنَفَضَهَا لَمْ يُجْزِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ عَلَى رَامِي الْجِمَارِ حُصُولَ الْحَصَى فِي الْجِمَارِ بِرَمْيِهِ ، فَإِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ بِحَصَاةٍ فَوَقَعَتْ عَلَى مَحْفِلٍ ، أَوْ حَمْلٍ ثُمَّ اسْتَنَّتْ فَوَقَعَتْ فِي الْجَمْرَةِ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ فِيهِ بِرَمْيِهِ ، فَإِنْ قِيلَ فَالسَّهْمُ الْمُزْدَلِفُ إِذَا وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ ازْدَلَفَ فَأَصَابَ الْهَدَفَ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، فَهَلَّا كَانَ رَمْيُ الْجِمَارِ مِثْلَهُ ؟ قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الرَّمْيِ حَذْفُ الرَّامِي وَجَوْدَةُ رَمْيِهِ ، فَإِذَا أَصَابَ الْأَرْضَ ، ثُمَّ ازْدَلَفَ إِلَى الْهَدَفِ أَنْبَأَ ذَلِكَ عَلَى سُوءِ رَمْيِهِ فَلَمْ يُعْتَدَّ بِهِ ، وَالْمَقْصُودُ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ حُصُولُ الْحَصَى فِي الْجَمْرَةِ بِفِعْلِهِ ، فَكَانَ مَا أَصَابَ الْأَرْضَ ، ثُمَّ ازْدَلَفَ بِنَفْسِهِ مُعْتَدًّا بِهِ لِحُصُولِهِ بِفِعْلِهِ ، فَأَمَّا إِذَا رَمَى بِحَصَاةٍ فَأَصَابَ ثَوْبَ رَجُلٍ فَنَفَضَهَا فَوَقَعَتْ فِي الْجَمْرَةِ لَمْ يُجْزِهِ : لِأَنَّ الْفِعْلَ الثَّانِيَ قَاطِعٌ لِلْأَوَّلِ ، فَصَارَ الرَّمْيُ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ ، فَلَوْ رَمَى بِهَا فَأَصَابَ عُنُقَ بَعِيرٍ فَحَرَّكَهُ ، ثُمَّ وَقَعَتْ فِي الْجَمْرَةِ فَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ وَقَعَتْ بِالرَّمْيِ الْأَوَّلِ أَوْ بِتَحْرِيكِ الْبَعِيرِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُجْزِئُهُ : لِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِفِعْلِ الرَّامِي فَيُجْزِئُ : وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِتَحْرِيكِ الْبَعِيرِ فَلَا يُجْزِئُ ، وَبِالشَّكِّ لَا يَسْقُطُ مَا فِي ذِمَّتِهِ مِنَ الرَّمْيِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُجْزِئُهُ : لِأَنَّ وُجُودَ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ مُتَحَقِّقٌ ، وَحُدُوثَ الْفِعْلِ الثَّانِي بِتَحْرِيكِ الْبَعِيرِ مَشْكُوكٌ فِيهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ حُكْمُ فِعْلٍ مُتَحَقِّقٍ بِفِعْلٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ .

فَصْلٌ : إِذَا رَمَى بِحَصَاةٍ فَوَقَعَتْ دُونَ الْجَمْرَةِ ثُمَّ ازْدَلَفَتْ بِحَمْوَتِهَا فَوَقَعَتْ فِي الْجَمْرَةِ أَجْزَأَهُ : لِأَنَّ حُصُولَهَا فِي الْجَمْرَةِ بِفِعْلِهِ ، وَلَوْ أَطَارَتْهَا الرِّيحُ فَأَلْقَتْهَا فِي الْجَمْرَةِ لَمْ يُجْزِهِ : لِأَنَّ حُصُولَهَا فِيهِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ ، وَلَوْ رَمَى فَجَاوَزَ الْجَمْرَةَ وَسَقَطَ وَرَاءَهَا لَمْ يُجْزِهِ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ

حُصُولُ الْحَصَى فِي الْجَمْرَةِ بِرَمْيِهِ ، فَلَوْ وَقَعَتْ فَوْقَ الْجَمْرَةِ ثُمَّ انْحَدَرَتْ بِنَفْسِهَا وَانْقَلَبَتْ حَتَّى حَصَلَتْ فِي الْجَمْرَةِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّ انْحِدَارَهَا عَنْ فِعْلِهِ ، فَكَانَ حُصُولُهَا فِيهِ مَنْسُوبًا إِلَى رَمْيِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّ انْحِدَارَهَا مِنْ عُلُوٍّ لَيْسَ مِنْ حَمْوَةِ رَمْيِهِ وَلَا فِعْلِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ كَإِطَارَةِ رِيحٍ أَوْ حَمْلٍ ، قِيلَ : وَلَوْ وَقَعَتْ دُونَ الْجَمْرَةِ ثُمَّ تَدَحْرَجَتْ ، وَانْحَدَرَتْ بِنَفْسِهَا حَتَّى وَقَعَتْ فِي الْجَمْرَةِ كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ . فَلَوْ رَمَى حَصَاةً دُونَ الْجَمْرَةِ ، فَانْدَفَعَتِ الثَّانِيَةُ وَوَقَعَتْ فِي الْجَمْرَةِ وَاسْتَقَرَّتِ الْأُولَى دُونَ الْجَمْرَةِ لَمْ يُجْزِهِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَرْمِ الثَّانِيَةَ فَتُحْسَبُ بِهَا ، وَلَا وَصَلَتِ الْأُوْلَى إِلَى الْجَمْرَةِ فَيُعْتَدُّ بِهَا ، فَلَوْ رَمَى حَصَاةً فَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ وَقَعَتْ فِي الْجَمْرَةِ فَيَعْتَدُّ بِهَا أَوْ فِي غَيْرِهَا مُجَاوِزَةً أَوْ مُقَصِّرَةً فَلَا يَعْتَدُّ بِهَا فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ لَا يُجْزِئُهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ جَوَازَيْنِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالشَّكِّ مَا لَزِمَهُ بِالْيَقِينِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : حَكَاهُ عَنْهُ الزَّعْفَرَانِيُّ فِي الْقَدِيمِ : إِنَّهُ يُجْزِئُهُ : لِأَنَّ الظَّاهِرَ حُصُولُ الرَّمْيِ فِي الْجَمْرَةِ ، وَلَعَلَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ حَكَاهُ عَنْ غَيْرِهِ .

فَصْلٌ : إِذَا رَمَى الْحَصَاةَ وَكَانَ فِي الْجَمْرَةِ مَحْمَلٌ فَوَقَعَتْ فِيهِ أَوْ مَتَاعٌ فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ ، حَتَّى يَقَعَ فِي مَكَانِ الْحَصَى ؛ لِأَنَّ الْمَكَانَ مَقْصُودٌ بِالرَّمْيِ ، وَلَوْ وَقَعَتْ فِي الْجَمْرَةِ وَأَطَارَتْهُ الرِّيحُ أَجْزَأَهُ ، لِاسْتِقْرَارِهَا بِالرَّمْيِ ، وَإِنْ خَرَجَتْ بِغَيْرِهِ كَمَا لَوْ أَخَذَهَا بَعْدَ رَمْيَةٍ أُخْرَى فَرَمَى بِهَا ، فَلَوْ وَقَعَتْ فِي الْجَمْرَةِ ، ثُمَّ ازْدَلَفَتْ بِحَمْوَتِهَا حَتَّى سَقَطَتْ وَرَاءَ الْجَمْرَةِ أَجْزَأَهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وُقُوعُهَا فِي الْجَمْرَةِ بِرَمْيِهِ دُونَ اسْتِقْرَارِهَا فِيهِ ، أَلَا تَرَى لَوْ وَقَعَتْ فِي الْجَمْرَةِ فَأَطَارَتْهَا الرِّيحُ أَجْزَأَتْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُجْزِئُهُ : لِأَنَّهَا اسْتَقَرَّتْ بِانْتِهَاءِ الرَّمْيِ خَارِجَ الْجَمْرَةِ ، فَلَوْ أَخَذَ الْحَصَى بِيَدِهِ وَلَمْ يَرْمِهِ وَلَكِنْ مُشِيرًا إِلَى الْجَمْرَةِ فَوَضَعَهَا فِيهَا وَضْعًا لَمْ يُجْزِهِ ، وَكَذَا لَوْ دَفَعَ الْحَصَاةَ بِرِجْلِهِ وَكَسَحَهُ حَتَّى حَصَلَ فِي مَوْضِعِهِ لَمْ يُجْزِهِ : لِأَنَّ عَلَيْهِ رَمْيَ الْحَصَى فِيهِ ، وَكَذَا لَوْ رَمَاهُ عَنْ قَوْسٍ لَمْ يُجْزِهِ .

مَسْأَلَةٌ إِذَا بَاتَ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ مَعَهُ بِمُزْدَلِفَةَ صَلَّى الصُّبْحَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِذَا أَصْبَحَ صَلَى الصُّبْحَ فِي أُوَلِ وَقْتِهَا ثُمَّ يَقِفُ عَلَى قُزَحٍ حَتَّى يُسْفِرَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، ثُمَّ يَدْفَعُ إِلَى مِنًى فَإِذَا صَارَ فِي بَطْنِ مُحَسِّرٍ حَرَّكَ دَابَّتَهُ قَدْرَ رَمْيَةِ حَجَرٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا بَاتَ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ مَعَهُ بِمُزْدَلِفَةَ صَلَّى الصُّبْحَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : " مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً قَبْلَ وَقْتِهَا ، إِلَّا صَلَاةَ الصُبْحِ بِجَمْعٍ " يَعْنِي قَبْلَ وَقْتِهَا الَّذِي كَانَ يُصَلِّيهَا فِيهِ مِنْ قَبْلُ :

لِأَنَّهُ صَلَّاهَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، ثُمَّ يَرْكَبُ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى يَأْتِيَ قُزَحَ ، فَيَقِفَ فِيهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ، وَيَدْعُو سِرًّا كَمَا دَعَا بِعَرَفَةَ ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ لِلدُّعَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَقِيلَ : إِنَّ قُزَحَ هُوَ الْمَشْعَرُ ، وَقِيلَ : إِنَّهُ الْجَبَلُ الَّذِي فِي ذَيْلِهِ الْمَشْعَرُ ، وَالْمَشْعَرُ الْمَعْلَمُ ، وَالْمَشَاعِرُ الْمَعَالِمُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ [ الْمَائِدَةِ : ] ، أَيْ : مَعَالِمَ اللَّهِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِنُسُكٍ ، وَلَا دَمَ عَلَى تَارِكِهِ ، ثُمَّ لَا يَزَالُ وَاقِفًا عِنْدَ الْمَشْعَرِ إِلَى أَنْ يُسَفِرَ الصُّبْحُ ، فَإِذَا أَسْفَرَ وَرَأَتِ الْإِبِلُ مَوَاقِعَ أَخْفَافِهَا دَفَعَ إِلَى مِنًى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّبَاعًا لِأَمْرِهِ ، وَرَوَى ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِّيَةِ يَدْفَعُونَ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ ، وَمِنَ الْمُزْدَلِفَةِ بَعْدَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، وَيَقُولُونَ أَشْرِقْ ثَبِيرُ كَيْمَا نُغِيْرُ ، فَأَخَّرَ اللَّهُ هَذِهِ ، وَقَدَّمَ هَذِهِ " يَعْنِي : قَدَّمَ الْمُزْدَلِفَةَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَأَخَّرَ عَرَفَةَ إِلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ . وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ ، قَالَ : خَطَبَنَا " رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِعَرَفَاتٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : وَكَانُوا يَدْفَعُونَ مَنَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بَعْدَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ إِذَا كَانَتْ عَلَى رُؤُوسِ الْجَبَلِ كَأَنَّهَا عَمَائِمُ الرِّجَالِ عَلَى رُؤُوْسِهَا ، وَإِنَّا نَدْفَعُ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، يُخَالِفُ هَدْيُنَا هَدْيَ أَهْلِ الْأَوْثَانِ وَالشِّرْكِ " ، فَإِنْ دَفَعَ مِنْهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، كَانَ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنُسُكٍ .

فَصْلٌ : ثُمَّ تَوَجَّهَ إِلَى مِنًى وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ ، كَسَيْرِهِ مِنْ عَرَفَاتٍ ، حَتَّى إِذَا صَارَ مِنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ حَرَّكَ دَابَّتَهُ قَدْرَ رَمْيِهِ بِحَجَرٍ : لِرِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَأَفَاضَ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ ، فَلَمَّا بَلَغَ وَادِيَ مُحَسِّرٍ أَوْضَعَ . قَالَ أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ : وَالْإِيضَاعُ سَيْرُ الْإِبِلِ إِذَا سَارَتْ لِلْخَبَبِ ، يُقَالُ لَهُ الْإِيضَاعُ ، قَالَ الشَّاعِرُ : إِذَا أُعْطِيتُ رَاحِلَةً وَرَحْلًا وَلَمْ أُوضِعْ فَقَامَ عَلَيَّ نَاعِي فَلَمَّا أَوْضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَطْنِ مُحَسِّرٍ ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لِسِعَةِ الْمَكَانِ وَهُبُوطِ الرَّاحِلَةِ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ نَدْبًا ، فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَوْضَعُوا بِمَثَابَةِ نَدْبٍ

فَرَوَى حُصَيْنُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَرَّكَ دَابَّتَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ حَتَّى إِنَّ فَخْذَهُ لَتَكْدَمُ بِالْقَتْبِ . وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُحَرِّدُ فِي مُحَسِّرٍ وَيَقُولُ : إِلَيْكَ تَعْدُو قَلِقًا وَضِينُهَا مُخَالِفًا دِينَ النَّصَارَى دِينُهَا وَرَوَى أَبُو الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَوْضَعَ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ وَهُوَ يَقُولُ : إِلَيْكَ تَعْدُو قَلِقًا وَضِينُهَا مُخَالِفًا دِينَ النَّصَارَى دِينُهَا مُعَرِّضًا فِي بَطْنِهَا جَنِينُهَا

مَسْأَلَةٌ بيان حُدُودُ مِنًى

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِذَا أَتَى مِنًى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي سَبْعَ حَصَيَاتٍ ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ كَمَا رَمَى حَتَى يُرَى بَيَاضُ إِبِطِهِ مَا تَحْتَ مَنْكِبَيْهِ ، وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِ حَصَاةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا حُدُودُ مِنًى فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا مَا بَيْنَ وَادِي مُحَسِّرٍ - ( وَلَيْسَ مُحَسِّرٌ مِنْهَا ) - إِلَى الْعَقَبَةِ الَّتِي عِنْدَهَا الْجَمْرَةُ الدُّنْيَا إِلَى مَكَّةَ ، وَهِيَ الْعَقَبَةُ الَّتِي بَايَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهَا الْأَنْصَارَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ ، وَلَيْسَ مَا وَرَاءَ الْعَقَبَةِ مِنْهَا ، وَسَوَاءٌ سُهُولُهَا وَجَبَلُهَا ، وَعَامِرُهَا وَخَرَابُهَا . فَأَمَّا جِبَالُهَا الْمُحِيطَةُ بِجَنْبَاتِهَا فَمَا أَقْبَلَ مِنْهَا عَلَى مِنًى فَهُوَ مِنْهَا ، فَأَمَّا مَا أَدْبَرَ مِنَ الْجِبَالِ فَلَيْسَ مِنْهَا ، وَفِي تَسْمِيَتِهَا مِنًى ثَلَاثُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِمَا يُمْنَى فِيهَا مِنْ دِمَاءِ الْهَدْيِ أَيِ : يُرَاقُ ؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ مَاءُ الطُّهْرِ مَنِيًّا أَيْ : يُرَاقُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى [ الْقِيَامَةِ : ] . وَالثَّانِي : أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَّ فِيهَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ بِأَنْ فَدَى ابْنَهُ بِكَبْشٍ وَاسْتَنْقَذَهُ مِنَ الذَّبْحِ . الثَّالِثُ : أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَّ فِيهَا عَلَى عِبَادِهِ بِالْمَغْفِرَةِ ؛ وَلِهَذَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَهَا قَالَ : اللَّهُمَّ وَهَذِهِ مِنًى الَّتِي مَنَنْتَ بِهَا عَلَيْنَا فَبَارِكِ اللَّهُمَّ لَنَا فِي رَوَاحِنَا وَغُدُوِّنَا فَإِذَا أَتَى مِنًى قَالَ هَذَا ، وَابْتَدَأَ بِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ، وَهِيَ آخِرُ الْجَمَرَاتِ لِلذَّاهِبِ مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّةَ ، وَهِيَ أَضْيَقُهُنَّ فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ، وَذَلِكَ أَوَّلُ مَنَاسِكِهِ الْوَاجِبَةِ

بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ : لِرِوَايَةِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَتَى الْجَمْرَةَ الَتِي عِنْدَ الشَجَرَةِ رَمَى سَبْعَ حَصَيَاتٍ مَنَ الْوَادِي يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ ، وَيُخْتَارُ أَنْ يَرْمِيَهَا رَاكِبًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْعَضْبَاءِ " وَيَكُونُ مَوْقِفُهُ إِذَا رَمَى فِي بَطْنِ الْوَادِي : لِرِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ : رَأَيْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي ، ثُمَّ قَالَ : هَذَا وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا يُمْكِنُهُ غَيْرُ ذَلِكَ : لِأَنَّهَا عَلَى أَكَمَةٍ فَلَا يُتَمَكَّنُ مِنْ رَمْيِهَا إِلَّا كَذَلِكَ ، فَإِنْ رَمَى الْجَمْرَةَ مِنْ فَوْقِهَا وَلَمْ يَرْمِهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي أَجْزَأَهُ ، لِمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " حِينَ انْتَهَى إِلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ لِيَرْمِيَهَا وَرَأَى زِحَامَ النَاسَ صَعِدَ فَرَمَاهَا مِنْ فَوْقِهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَيَرْفَعُ يَدَهُ مَعَ الرَّمْيِ حَتَّى يُرَى مَا تَحْتَ إِبِطِهِ .

فَصْلٌ يَكُونُ عَلَى تَلْبِيَةٍ بِمِنًى قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَإِذَا ابْتَدَأَ بِرَمْيِهَا قَطَعَ التَّلْبِيَةَ

فَصْلٌ : وَيَكُونُ عَلَى تَلْبِيَةٍ بِمِنًى قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ ، فَإِذَا ابْتَدَأَ بِرَمْيِهَا قَطَعَ التَّلْبِيَةَ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ دُخُولِ مِنًى قَبْلَ التَّوَجُّهِ إِلَى عَرَفَةَ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ عَطَاءٍ عَنْ عَبَّاسٍ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقْبَةِ وَكَانَ الْفَضْلُ أَعْرَفَ النَّاسِ بِحَالِهِ فِي هَذَا الْمَكَانِ ؛ لِأَنَّهُ مَكَانُ رَدِيفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْدَفَ فِي حَجَّتِهِ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ ، فَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى مُزْدَلِفَةَ وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ الْعَبَّاسِ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى ، وَأَرْدَفَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّةَ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَسْتَدِيمُ التَّلْبِيَةَ حَتَّى يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ ، فَإِذَا ابْتَدَأَهَا قَطَعَ التَّلْبِيَةَ مَعَ أَوَّلِ حَصَاةٍ ، وَكَبَّرَ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ : لِرِوَايَةِ الْأَحْوَصِ عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقْبَةِ مَنْ بَطْنِ الْوَادِي وَهُوَ رَاكِضٌ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِ حَصَاةٍ ، وَرَجُلٌ مِنْ خَلْفِهِ يَسْتُرُهُ ، فَسَأَلْتُ عَنِ الرَّجُلِ فَقَالُوا : الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ وَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَإِذَا رَمَيْتُمُ الْجَمْرَةَ فَارْمُوا بِمِثْلِ حَصَى الْحَذَفِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ وَيَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ ، فَإِنْ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ وَكَبَّرَ قَبْلَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ ، أَوِ اسْتَدَامَ التَّلْبِيَةَ وَلَمْ يُكَبِّرْ إِلَى أَنْ فَرَغَ مِنْ رَمْيِ الْجَمْرَةِ كَانَ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ .

مَسْأَلَةٌ لرَّمْيُ الْوَاجِبُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ واختيار وَقْتُ رَمْيِهَا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ رَمَى قَبْلَ الْفَجْرِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ أَجْزَأَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أُمَّ سَلَمَةَ أَنْ تُعَجِّلَ الْإِفَاضَةَ وَتَوَافِيَ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِمَكَّةَ وَكَانَ يَوْمَهَا ، فَأَحَبَّ أَنْ يُوَافِيَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ رَمَتْ إِلَّا قَبْلَ الْفَجْرِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الرَّمْيُ الْوَاجِبُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ ووقت رميها ، فَهُوَ رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَحْدَهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْجَمَرَاتِ ، وَوَقْتُ رَمْيِهَا فِي الِاخْتِيَارِ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى زَوَالِهَا : لِرِوَايَةِ أَبِي

الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى الْجَمْرَةَ الْأُولَى ضُحًى ، فَأَمَّا وَقْتُ رَمْيِهَا فِي الْجَوَازِ ، فَمِنْ بَعْدِ نِصْفِ اللَّيْلِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ ، فَإِنْ رَمَى الْجَمْرَةَ قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ لَمْ يُجْزِهِ ، وَإِنْ رَمَى بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ وَقَبْلَ الْفَجْرِ أَجْزَأَهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ رَمَى قَبْلَ الْفَجْرِ لَمْ يُجْزِهِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ . وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : إِنْ رَمَى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لَمْ يُجْزِهِ ، وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ وَالنَّخَعِيُّ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى ضُحًى ، وَقَالَ : خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ وَبِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : " أَتَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِجَمْرَةَ أَغَيْلَمَةَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَحَمَلْنَا عَلَى حَمْرَاتِنَا فَلَطَّخَ أَفْخَاذَنَا ، وَقَالَ أَنْ لَا تَرْمُوا إِلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ " قَوْلُهُ لَطَّخَ أَفْخَاذَنَا : أَيْ ضَرَبَ أَفْخَاذَنَا كَذَا فَسَرَّهُ أَبُو عُبَيْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَاسَتَدَلَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ مَعَهُ بِأَنْ قَالُوا : حُكْمُ مَا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ كَحُكْمِ مَا قَبْلَهُ : لِكَوْنِهِ وَقْتًا لِلْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُهَا فِي الْمَنْعِ مَعَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا إِنْ رَمَى بِلَيْلٍ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِئَ ، كَمَا قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ الرَّمْيَ يَجِبُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ مِنًى ، فَلَمَّا لَمْ يُجْزِ رَمْيُ أَيَّامِ مِنًى قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، لَمْ يُجْزِ رَمْيُ يَوْمِ النَّحْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنْ رَمَى قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِئَ كَأَيَّامِ مِنًى ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِيَوْمِ النَّحْرِ شَيْئَانِ رَمْيٌ وَذَبْحٌ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ بِتَقْدِيمِ الذَّبْحِ قَبْلَ الْفَجْرِ ، لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُ الرَّمْيِ قَبْلَ الْفَجْرِ . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : " أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَيْلَةَ الَنَّحْرِ ، فَرَمَتْ قَبْلَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَفَاضَتْ " . وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا اسْتَأْذَنَتْهُ سَوْدَةُ أَنْ تَأْتِيَ مِنًى بِلَيْلٍ ، وَرَمَتْ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ النَاسُ ، فَأَذِنَ لَهَا ، وَكَانَتِ امْرَأَةً ثَقِيلَةً بَطِيئَةً " . وَرَوَى ابْنُ جَرِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ : دَخَلْنَا مَعَ أَسْمَاءَ مِنْ جَمْعٍ لَمَّا غَابَ الْقَمَرُ وَأَتَيْنَا مِنًى وَرَمَيْنَا وَصَلَّتِ الصُبْحَ فِي دَارِهَا ، فَقُلْتُ يَا هَنْتَاهُ رَمَيْنَا قَبْلَ الْفَجْرِ ، فَقَالَتْ : هَكَذَا كُنَّا نَفْعَلُ أَيَّامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَلِأَنَّ مَا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ مِنْ تَوَابِعِ النَّهَارِ الْمُسْتَقْبَلِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ فِي الرَّمْيِ حُكْمَ النَّهَارِ الْمُسْتَقْبَلِ ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ رَمَى بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَهُ ، كَالرَّمْيِ بَعْدَ الْفَجْرِ .

وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرَمْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَارَضَتْهُ أَخْبَارُنَا كَانَ مَحْمُولًا عَلَى الِاخْتِيَارِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَا قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ فَالْمَعْنَى فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الْيَوْمِ الْمَاضِي ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ وَالنِّصْفُ الثَّانِي مِنْ تَوَابِعِ الْيَوْمِ الْمُسْتَقْبَلِ ؛ فَلِذَلِكَ أَجْزَأَهُ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرَّمْيِ فِي أَيَّامِ مِنًى فَغَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُمَا مُفْتَرِقَانِ فِي الْحُكْمِ ، لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الرَّمْيِ فِي أَيَّامِ مِنًى مُخَالِفٌ لِلرَّمْيِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ : لِأَنَّ الرَّمْيَ فِي أَيَّامِ مِنًى لَا يَجُوزُ قَبْلَ الزَّوَالِ ، وَيَجُوزُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ ؛ فَلِذَلِكَ جَازَ فِي يَوْمِ النَّحْرِ قَبْلَ الْفَجْرِ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ فِي أَيَّامِ مِنًى قَبْلَ الْفَجْرِ .

مَسْأَلَةٌ نَحْرُ الْهَدْيِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ أَفْضَلِ الْقُرَبِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهَ عَنْهُ : " ثُمَ يَنْحَرُ الْهَدْيَ إِنْ كَانَ مَعَهُ ، ثُمَّ يَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ ، وَيَأْكُلُ مِنْ لَحْمِ هَدْيِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا نَحْرُ الْهَدْيِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ فَمِنْ أَفْضَلِ الْقُرَبِ : لِرِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ إِهْرَاقِ دَمٍ ، وَإِنَّهُ لَيَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلَافِهَا ، وَإِنَّ الدَّمَ يَقَعُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا . فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَيَوْمُ النَّحْرِ يَخْتَصُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ : الرَّمْيُ ، وَالنَّحْرُ ، وَالْحَلْقُ ، وَالطَّوَافُ ، وَتَرْتِيبُ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا سُنَّةٌ ، فَيَبْدَأُ بِالرَّمْيِ ثُمَّ بِالنَّحْرِ ، ثُمَّ بِالْحَلْقِ ثُمَّ بِالطَّوَافِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [ الْحَجِّ : ] ، يَعْنِي : الرَّمْيَ . وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ يَعْنِي : نَحَرَ الْهَدْيِ ، وَقَالَ تَعَالَى : وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ وَأَمَرَ بِالْحَلْقِ بَعْدَ نَحْرِ الْهَدْيِ ، وَقَالَ تَعَالَى : وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [ الْحَجِّ : ] ، وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَذَبَحَ وَدَعَا بِالْحَالِقِ ، فَنَاوَلَهُ شِقَّهُ الْأَيْمَنَ فَحَلَقَهُ ، فَأَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ ، ثُمَّ أَعْطَاهُ شِقَّهُ الْأَيْسَرَ فَحَلَقَهُ ، ثُمَّ قَالَ اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ تَرْتِيبَ ذَلِكَ سُنَّةٌ ، فَخَالَفَ التَّرْتِيبَ فَأَخَّرَ مُقَدَّمًا ، أَوْ قَدَّمَ مُؤَخَّرًا ، نَظَرَ فَإِنْ قَدَّمَ الطَّوَافَ عَلَى الرَّمْيِ وَالنَّحْرِ وَالْحِلَاقِ أَجْزَأَهُ ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ قَدَّمَ الْحَلْقَ عَلَى النَّحْرِ أَجْزَأَهُ أَيْضًا وَلَا دَمَ عَلَيْهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُجْزِئُهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ بِمِنًى لِيَسْأَلَهُ النَاسُ ، فَأَتَاهُ رَجْلٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ ذَبَحْتُ ، فَقَالَ : اذْبَحْ وَلَا

حَرَجَ ، وَأَتَاهُ آخَرُ وَقَالَ : ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ رَمَيْتُ ، فَقَالَ : ارْمِ وَلَا حَرَجَ ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو : مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ إِلَّا قَالَ : " افْعَلْ وَلَا حَرَجَ عَلَيْكَ " وَلِأَنَّهُ ذَبْحٌ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ الْحَلْقُ ، فَجَازَ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ الْحَلْقُ قِيَاسًا عَلَى دَمِ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ ، فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [ الْبَقَرَةِ : ] ، فَمَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَحَلِّ الْحَرَمُ دُونَ الْإِحْرَامِ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [ الْحَجِّ : ] ، فَأَمَّا إِنْ قَدَّمَ الْحَلْقَ عَلَى الرَّمْيِ : فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ يُتَحَلَّلُ بِهِ أَجْزَأَهُ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ إِبَاحَةٌ بَعْدَ حَظْرٍ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ : عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ : لِحَلْقِهِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ . الثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْبَصْرِيِّينَ : لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ : لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَخَّرْتُ الرَّمْيَ حَتَّى جَنَّ اللَّيْلُ ، فَقَالَ : ارْمِ لَا حَرَجَ ، فَبَيَّنَ بِذَلِكَ جَوَازَ تَقْدِيمِ الْحَلْقِ عَلَى الرَّمْيِ .

مَسْأَلَةٌ يَأْكُلُ مِنْ لَحْمِ هَدْيِهِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَأْكُلُ مِنْ لَحْمِ هَدْيِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْهَدْيُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : ضَرْبٌ وَجَبَ بِالْإِحْرَامِ . وَضَرْبٌ وَجَبَ بِالنَّذْرِ . وَضَرْبٌ تَطَوَّعَ بِهِ ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ وَاجِبًا بِالْإِحْرَامِ أي الهدي وهل له أن يأكل منه ؟ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِحَالٍ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ جَمِيعِهِ إِلَّا مِنْ دَمِ الْقِرَانِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَأْكُلُ مِنْ جَمِيعِهِ إِلَّا مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ ، وَالْكَلَامُ عَلَيْهِمَا يَأْتِي ، وَأَمَّا التَّطَوُّعُ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [ الْحَجِّ : ] ، وَقَالَ : الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [ الْحَجِّ : ] ، وَأَمَّا النَّذْرُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ : لِأَنَّهُ دَمٌ وَاجِبٌ كَسَائِرِ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ بِالْإِحْرَامِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا : يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ بِإِيجَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَكَانَ إِلْحَاقُهُ بِالتَّطَوُّعِ أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهِ بِالْجُبْرَانِ وَالنَّذْرِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ أَكْلِهِ مِنَ التَّطَوُّعِ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُطْعِمَ الْفُقَرَاءَ مِنْهُ ، فَيَكُونُ أَكْلُهُ مُبَاحًا ، وَإِطْعَامُ الْفُقَرَاءِ والأكل من الهدي وحكمه وَاجِبًا ، فَإِنْ أَطْعَمَ جَمِيعَهُ الْفُقَرَاءَ جَازَ ، وَإِنْ أَكَلَ جَمِيعَهُ لَمْ يَجُزْ . وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ : إِطْعَامُ الْفُقَرَاءِ مُبَاحٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ، فَإِنْ أَكَلَ جَمِيعَهُ ، جَازَ كَمَا لَوْ أَطْعَمَ جَمِيعَهُ ، وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ ، الْوَكِيلُ أَكْلُهُ مِنْهُ وَاجِبٌ ، فَإِنْ طَعِمَ جَمِيعَهُ لَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ أَكَلَ

جَمِيعَهُ ، فَجَعَلَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَكْلَ وَالْإِطْعَامَ مُبَاحَيْنِ ، وَجَعَلَ أَبُو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ الْأَكْلَ وَالْإِطْعَامَ وَاجِبَيْنِ . وَكِلَاهُمَا غَيْرُ مُصِيبٍ ، وَالصَّحِيحُ : أَنَّ الْأَكْلَ مُبَاحٌ وَالْإِطْعَامَ وَاجِبٌ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْهَدْيِ أَنَّهُ قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى : وَلِذَلِكَ سُمِّيَ قُرَابًا ، وَالْقُرْبَةُ فِي إِطْعَامِ الْفُقَرَاءِ لَا فِي أَكْلِهِ ، وَلَمَّا قَالَ تَعَالَى : فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا [ الْحَجِّ : ] ، كَانَ الْأَمْرُ بِالْأَكْلِ مُبَاحًا : لِأَنَّهُ بَعْدَ حَظْرٍ ، وَكَانَ الْأَمْرُ بِالْإِطْعَامِ وَاجِبًا : لِأَنَّهُ مَقْصُودُ الْهَدْيِ .

فَصْلٌ قَدْرِ مَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَيَتَصَدَّقَ

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَفِي قَدْرِ مَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَيَتَصَدَّقَ من الهدي قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ : يَأْكُلُ ، وَيَدَّخِرُ الثُّلُثَ ، وَيُهْدِي الثُّلُثَ ، وَيَتَصَدَّقُ بِالثُّلُثِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يَأْكُلَ النِّصْفَ ، وَيَتَصَدَّقَ بِالنِّصْفِ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [ الْحَجِّ : ] فَكَانَ ظَاهِرُهُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ . فَأَمَّا الْجَائِزُ مِنْ ذَلِكَ فَمَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْأَكْلِ وَالصَّدَقَةِ ، فَإِنْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِهَا إِلَّا رِطْلًا أَكَلَهُ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ أَكَلَ جَمِيعَهَا إِلَّا رِطْلًا تَصَدَّقَ بِهِ أَجْزَأَهُ ، فَلَوْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِهَا ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا شَيْئًا أَجْزَأَهُ : لِأَنَّ الْأَكْلَ مُبَاحٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ . وَلَوْ أَكَلَ جَمِيعَهَا وَلَمْ يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ مِنْهَا لَمْ يُجْزِئْهُ وَكَانَ ضَامِنًا ، وَفِي قَدْرِهَا يَضْمَنُهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَضْمَنُ مِنْهَا قَدْرَ الْجَائِزِ ، وَهُوَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ : لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ فِعْلُ ذَلِكَ قَبْلَ التَّفْوِيتِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ إِلَّا ضَمَانُ ذَلِكَ الْقَدْرِ بَعْدَ التَّفْوِيتِ . وَالْوَجْهُ الثانِي : أَنَّهُ يَضْمَنُ مِنْهَا قَدْرَ الِاسْتِحْبَابِ وَهُوَ النِّصْفُ ، أَوِ الثُّلُثُ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ ؛ لِتَقْدِيرِهِ نَصًّا بِالسُّنَّةِ وَاسْتِوَاءِ حُكْمِهَا فِي ظَاهِرِ الْآيَةِ ، وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَوَلَّى الرَّجُلُ نَحْرَ هَدْيِهِ بِنَفْسِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاقَ فِي حَجِّهِ مِائَةَ بَدَنَةٍ ، فَكَانَ سُهَيْلُ بْنُ عُمَرَ يُقَدِّمُ الْبُدْنَ بَيْنَ يَدِهِ حَتَّى نَحَرَ مِنْهَ بِيَدِهِ سِتَّةً وَسِتِّينَ بَدَنَةً ، وَأَمَرَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَنَحَرَ الْبَاقِيَ ، فَإِنْ ضَعُفَ الْمُهْدِي عَنْ نَحْرِ هَدْيِهِ بِنَفْسِهِ اسْتَنَابَ غَيْرَهُ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَنَابَ عَلِيًّا فِي نَحْرِ مَا بَقِيَ ، وَيَحْضُرُ نَحْرَهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبَعْضِ نِسَائِهِ : احْضُرِي نَسِيكَتَكِ فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكِ عِنْدَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَأُحِبُّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ كَبِدِ هَدْيِهِ إِنْ كَانَ تَطَوُّعًا قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ إِلَى الطَّوَافِ وَالْإِفَاضَةِ : لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ عَلِيًّا بِذَلِكَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَقَدْ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ فَقَطْ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ فِي الْحَجِّ إِحْلَالَيْنِ يَسْتَبِيحُ بِالْأَوَّلِ مِنْهُمَا بَعْضَ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ ، وَيَسْتَبِيحُ بِالثَّانِي جَمِيعَهَا ، وَفِي الْعُمْرَةِ إِحْلَالٌ وَاحِدٌ يَسْتَبِيحُ بِهِ جَمِيعَ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ أَخَفُّ حَالًا مِنَ الْحَجِّ ، وَأَقَلُّ عَمَلًا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ أَنَّ الْحَاجَّ يَفْعَلُ يَوْمَ النَّحْرِ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ : الرَّمْيُ ، وَالنَّحْرُ ، وَالْحَلْقُ ، وَالطَّوَافُ فَنَبْدَأُ بِبَيَانِ أَحْكَامِهَا ، ثُمَّ نَبْنِي عَلَيْهِ حُكْمَ الْإِحْلَالَيْنِ ، فَالرَّمْيُ نُسُكٌ يُتَحَلَّلُ بِهِ وَلَا يَخْتَلِفُ ، وَنَحْرُ الْهَدْيِ لَيْسَ بِنُسُكٍ لَا يَخْتَلِفُ بِهِ ، وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ نُسُكٌ يَتَحَلَّلُ بِهِ لَا يَخْتَلِفُ ، وَفِي الْحَلْقِ قَوْلَانِ مَضَيَا : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ نُسُكٌ يُتَحَلَّلُ بِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ إِبَاحَةٌ بَعْدَ حَظْرٍ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى إِبَانَةِ الْإِحْلَالَيْنِ ، وَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْحَلْقَ لَيْسَ بِنُسُكٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ إِبَاحَةٌ بَعْدَ حَظْرٍ ، فَالْإِحْلَالُ الثَّانِي يَكُونُ بِشَيْئَيْنِ : الرَّمْيِ ، وَالطَّوَافِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ سَعَى قَبْلَ عَرَفَةَ لَمْ يَلْزَمْهُ السَّعْيُ بَعْدَ هَذَا الطَّوَافِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ سَعَى بَعْدَ عَرَفَةَ لَزِمَهُ السَّعْيُ مَعَ هَذَا ، وَلَمْ يَحِلَّ قَبْلَ السَّعْيِ ، فَإِذَا فَعَلَ السَّعْيَ وَالطَّوَافَ فَقَدْ حَلَّ إِحْلَالَ الثَّانِي ، وَيَكُونُ إِحْلَالُهُ بِالْأَوَّلِ بِأَحَدِهِمَا إِمَّا بِالرَّمْيِ وَحْدَهُ أَوْ بِالطَّوَافِ وَحْدَهُ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ يُتَحَلَّلُ بِهِ فَالْإِحْلَالُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ ، بِالرَّمْيِ وَالْحَلْقِ وَالطَّوَافِ ، فَإِذَا فَعَلَهَا فَقَدْ حَلَّ إِحْلَالَهُ الثَّانِي ، وَيَكُونُ إِحْلَالُهُ الْأَوَّلُ بِشَيْئَيْنِ مِنْهَا إِمَّا بِالرَّمْيِ وَالْحَلْقِ ، أَوْ بِالْحَلْقِ وَالطَّوَافِ ، أَوْ بِالرَّمْيِ وَالطَّوَافِ .

فَصْلٌ إِذَا وَضَحَ حُكْمُ الْإِحْلَالِ الْأَوَّلِ وَالْإِحْلَالِ الثَّانِي انْتُقِلَ الْكَلَامُ إِلَى مَا يُسْتَبَاحُ بِالْإِحْلَالِ الْأَوَّلِ وَالْإِحْلَالِ الثَّانِي

فَصْلٌ : فَإِذَا وَضَحَ حُكْمُ الْإِحْلَالِ الْأَوَّلِ وَالْإِحْلَالِ الثَّانِي ، انْتُقِلَ الْكَلَامُ إِلَى مَا يُسْتَبَاحُ بِالْإِحْلَالِ الْأَوَّلِ وَالْإِحْلَالِ الثَّانِي . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ عَشَرَةُ أَشْيَاءَ : الطِّيبُ ، وَاللِّبَاسُ ، وَالْحَلْقُ ، وَالتَّقْلِيمُ وَالتَّرْجِيلُ ، وَوَطْءُ النِّسَاءِ وَمُبَاشَرَتُهُنَّ ، وَعَقْدُ النِّكَاحِ ، وَقَتْلُ الصَّيْدِ ، وَتَغْطِيَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِحْرَامُ مِنْ رَأْسِ الرَّجُلِ وَوَجْهِ الْمَرْأَةِ ، فَإِذَا أَحَلَّ إِحْلَالَهُ الثَّانِي اسْتَبَاحَ جَمِيعَ ذَلِكَ ، فَأَمَّا إِذَا أَحَلَّ إِحْلَالَهُ الْأَوَّلَ فَإِنَّهُ يَسْتَبِيحُ مِنْهَا خَمْسَةَ أَشْيَاءَ قَوْلًا وَاحِدًا وَهِيَ : اللِّبَاسُ وَالْحَلْقُ وَالتَّقْلِيمُ وَالتَّرْجِيلُ وَتَغْطِيَةُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْإِحْرَامُ وَيَسْتَدِيمُ حَظْرُ شَيْئَيْنِ مِنْهَا قَوْلًا وَاحِدًا وَهُمَا : الْوَطْءُ وَالْمُبَاشَرَةُ لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فَإِذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ . فَأَمَّا الثَّلَاثَةُ الْبَاقِيَةُ وَهِيَ الطِّيبُ ، وَالنِّكَاحُ ، وَقَتْلُ الصَّيْدِ فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مُسْتَدَامَةُ الْحَظْرِ كَالْوَطْءِ وَالْمُبَاشَرَةِ قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ كَالْحَلْقِ وَاللِّبَاسِ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : فَإِذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ حَلَّ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ . وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الطِّيبَ مُبَاحٌ قَوْلًا وَاحِدًا عَلَى الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ ، وَأَنَّ مَا قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ حَكَاهُ عَنْ مَالِكٍ .

فَصْلٌ : قَدْ ذَكَرْنَا مَا يَقَعُ بِهِ الْإِحْلَالُ الْأَوَّلُ ، وَمَا يَقَعُ بِهِ الْإِحْلَالُ الثَّانِي ، وَمَا يَسْتَبِيحُهُ بِالْإِحْلَالِ الْأَوَّلِ ، وَمَا يَسْتَبِيحُهُ بِالْإِحْلَالِ الثَّانِي ، وَإِذَا كَانَ هَذَا ثَابِتًا مُقَرَّرًا لَمْ يَقَعِ التَّحَلُّلُ بِدُخُولِ زَمَانِ التَّحَلُّلِ ، حَتَّى يَفْعَلَ مَا يَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ . وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يَحِلُّ بِدُخُولِ الزَّمَانِ دُونَ الْفِعْلِ ، فَإِذَا مَرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ مِنْ لَيْلَةِ النَّحْرِ بِزَمَانٍ ، حَلَقَ وَرَمَى فَقَدْ حَلَّ إِحْلَالَهُ الْأَوَّلَ ، وَإِنْ لَمْ يَرْمِ وَلَمْ يَحْلِقْ ، اسْتِدْلَالًا بِشَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحَجَّ وَالصَّوْمَ عِبَادَتَانِ مُتَشَابِهَتَانِ لِتَعَلُّقِ الْكَفَّارَةِ بِهِمَا ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ مِنْ صَوْمِهِ بِدُخُولِ زَمَانِ الْفِطْرِ ، وَإِنْ لَمْ يُفْطِرْ ، كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ حَجِّهِ بِدُخُولِ زَمَانِ الرَّمْيِ وَإِنْ لَمْ يَرْمِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا تَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ بِفَوَاتِ زَمَانِ الرَّمْيِ ، وَإِنْ لَمْ يَرْمِ وَذَلِكَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ تَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ بِدُخُولِ زَمَانِ الرَّمْيِ ، وَإِنْ لَمْ يَرْمِ وَذَلِكَ دُخُولُ نِصْفِ اللَّيْلِ مِنْ لَيْلَةِ النَّحْرِ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَإِذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ . فَجَعَلَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي وُقُوعِ التَّحَلُّلِ ؛ وَلِأَنَّ لِلْحَجِّ إِحْلَالَيْنِ أَوَّلٌ وَثَانٍ ، فَلَمَّا لَمْ يَتَحَلَّلْ إِحْلَالَهُ الثَّانِيَ بِدُخُولِ وَقْتِهِ ، كَانَ فِي الْإِحْلَالِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى حَالَ إِحْرَامِهِ أَوْلَى أَنْ لَا يَتَحَلَّلَ بِدُخُولِ وَقْتِهِ ، فَأَمَّا جَمْعُهُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْفِطْرِ مِنَ الصَّوْمِ فَفَاسِدٌ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي جَمْعُهُ صَحِيحٌ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي نَذْكُرُهُ : لِأَنَّهُ فِي الصَّوْمِ يَكُونُ مُفْطِرًا ؛ لِخُرُوجِ زَمَانِهِ ، وَكَذَا فِي الرَّمْيِ يَكُونُ مُحِلًّا : لِفَوَاتِ زَمَانِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُحِلًّا بِدُخُولِ زَمَانِهِ ، كَمَا لَمْ يَكُنْ فِي الصَّوْمِ مُفْطِرًا بِدُخُولِ زَمَانِهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : لَوْ كَانَ مُتَحَلِّلًا بِفَوَاتِ زَمَانِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُتَحَلِّلًا بِدُخُولِ زَمَانِهِ ، فَلَيْسَ بَيْنَهُمَا مَعَنًى جَامِعٌ ، ثُمَّ هُوَ بِالصَّوْمِ فَاسِدٌ : لِأَنَّهُ يَكُونُ خَارِجًا مِنْهُ بِفَوَاتِ زَمَانِهِ ، وَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِيهِ بِدُخُولِ زَمَانِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ حَتَى يَرْمِيَ الْجَمْرَةَ بِأَوَّلِ حَصَاةٍ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ ، وَعُمَرُ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَطَاءٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَمُجَاهِدٌ لَمْ يَزَالُوا يُلَبُّونَ حَتَّى رَمَوُا الْجَمْرَةَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَاجَّ يُلَبِّي مِنْ حِينِ تَنْبَعِثُ بِهِ رَاحِلَتُهُ بَعْدَ إِحْرَامِهِ إِلَى أَنْ يَرْمِيَ أَوَّلَ حَصَاةٍ مِنْ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ ، فَحِينَئِذٍ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ وَيَأْخُذُ فِي التَّكْبِيرِ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إِذَا حَصَلَ بِمِنًى ، وَأَخَذَ فِي التَّوَجُّهِ مِنْهَا إِلَى عَرَفَةَ ، وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِ بِحَدِيثِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ : وَلِأَنَّهُ قَبْلَ

رَمْيِهِ عَلَى جُمْلَةِ إِحْرَامِهِ لَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ ، وَإِذَا أَخَذَ فِي الرَّمْيِ كَانَ آخِذًا فِي التَّحَلُّلِ مِنْهُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَطْعُهُ لِتَلْبِيَةِ إِحْرَامِهِ عِنْدَ أَخْذِهِ فِي التَّحَلُّلِ مِنْ إِحْرَامِهِ .

مَسْأَلَةٌ يَتَطَيَّبُ لِحِلِّهِ إِنْ شَاءَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَتَطَيَّبُ لِحِلِّهِ إِنْ شَاءَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَطَيَّبَ لِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا التَّطَيُّبُ بَعْدَ الْإِحْلَالِ الثَّانِي فَمُبَاحٌ ، وَقِيلَ : الْإِحْلَالُ الْأَوَّلُ فَمَحْظُورٌ ، فَأَمَّا بَعْدُ الْأَوَّلِ ، وَقِيلَ الثَّانِي فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ : أَنَّهُ مُبَاحٌ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَإِذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ . ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ : لَا يَجُوزُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ : لِأَنَّهُ مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ كَالْمُبَاشَرَةِ ، فَكَانَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا يُخَرِّجُونَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : مَذْهَبُهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ : جَوَازُهُ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْقَدِيمِ حَكَاهُ عَنْ مَالِكٍ : لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ ، وَلَحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَهَذَا نَصٌّ ؛ وَلِأَنَّ الطِّيبَ أَخَفُّ حَالًا مِنَ اللِّبَاسِ : لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الطِّيبِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ جَائِزٌ ، وَاسْتِدَامَةُ اللِّبَاسِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ غَيْرُ جَائِزٍ ، فَلَمَّا اسْتَبَاحَ أَغْلَظَ الْأَمْرَيْنِ حَالًا كَانَ اسْتِبَاحَتُهُ أَخَفَّهُمَا أَوْلَى .

مَسْأَلَةٌ يَخْطُبُ الْإِمَامُ بَعْدَ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ وَيُعَلِّمُ النَّاسَ الرَّمْيَ وَالنَّحْرَ وَالتَّعْجِيلَ لِمَنْ أَرَادَهُ فِي يَوْمَيْنِ بَعْدَ النَّحْرِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَخْطُبُ الْإِمَامُ بَعْدَ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ وَيُعَلِّمُ النَّاسَ الرَّمْيَ وَالنَّحْرَ وَالتَّعْجِيلَ لِمَنْ أَرَادَهُ فِي يَوْمَيْنِ بَعْدَ النَّحْرِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ خُطَبَ الْحَجِّ أَرْبَعٌ ، مَضَى مِنْهَا خُطْبَتَانِ وَهَذِهِ الثَّالِثَةُ ، وَهِيَ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ ، فَيُعَلِّمُ النَّاسَ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي يَوْمِهِمْ ، وَمَا بَقِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَنَاسِكِهِمْ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هَذِهِ الْخُطْبَةُ غَيْرُ مَسْنُونَةٍ فَلَا يَخْطُبُهَا : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا جُمْعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إِلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ ، وَلَيْسَتْ مِنًى مِصْرًا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْطُبَ بِيَوْمِ النَّحْرِ فِيهَا ، وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ ، وَالْهِرْمَاسِ بْنِ زِيَادٍ الْبَاهِلِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَى وَقَالَ : مَا يَوْمُكُمْ هَذَا ؟ قَالُوا : يَوْمُ النَّحْرِ الْأَكْبَرِ . وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ قَالَ : سَمِعْتُ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنًى يَوْمَ النَّحْرِ وَهَذَا نَصٌّ ، وَلِأَنَّهُ يَوْمٌ شُرِعَ فِيهِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَهُوَ طَوَافٌ ، فَوَجَبَ أَنْ تُشْرَعَ فِيهِ الْخُطْبَةُ قِيَاسًا عَلَى يَوْمِ عَرَفَةَ : وَلِأَنَّهُ لَمَّا سُنَّتِ الْخُطْبَةُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ بِذَلِكَ أَوْلَى لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ . وَالثَّانِي : لِأَنَّهَا مَسْنُونَةٌ فِي غَيْرِ الْحَجِّ . فَأَمَّا قَوْلُهُ : لَا جُمْعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ فَلَيْسَتْ هَذِهِ خُطْبَةَ عِيدٍ ، وَإِنَّمَا هِيَ خُطْبَةُ حَجٍّ فَجَازَتْ فِي غَيْرِ مِصْرٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ ، أَوْ نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ أَوْ قَدَّمَ الْإِفَاضَةَ عَلَى الرَّمْيِ ، أَوْ قَدَّمَ نُسَكًا قَبْلَ نُسُكٍ مِمَّا يُفْعَلُ يَوْمَ النَحْرِ فَلَا حَرَجَ ، وَلَا فِدْيَةَ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ إِلَّا قَالَ " افْعَلْ وَلَا حَرَجَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ، وَذَكَرْنَا أَنَّ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَبْدَأَ فِي يَوْمِ النَّحْرِ بِالرَّمْيِ ثُمَّ بِالنَّحْرِ ثُمَّ بِالْحَلْقِ ، ثُمَّ بِالطَّوَافِ لِتَرْتِيبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجِّهِ ، فَإِنْ قَدَّمَ بَعْضَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضٍ أَجْزَأَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ .

مَسْأَلَةٌ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الْفَرْضِ وَهِيَ الْإِفَاضَةُ وَقَدْ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ النَسَاءِ وَغَيْرِهِنَّ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الْفَرْضِ وَهِيَ الْإِفَاضَةُ ، وَقَدْ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ النَسَاءِ وَغَيْرِهِنَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَفْعَلُ يَوْمَ النَّحْرِ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ : ثَلَاثَةٌ مِنْهَا بِمِنًى ، وَهِيَ الرَّمْيُ وَالنَّحْرُ وَالْحِلَاقُ ، وَالرَّابِعَةُ بِمَكَّةَ وَهِيَ الطَّوَافُ ، وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ ، أَيِ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَاتٍ ، وَيُسَمَّى طَوَافَ الصَّدْرِ ، يَعْنِي حِينَ يَصْدُرُ النَّاسُ مِنْ مِنًى ، وَيُسَمَّى طَوَافَ الزِّيَارَةِ ؛ لِزِيَارَتِهِمُ الْبَيْتَ بَعْدَ فِرَاقِهِمْ لَهُ ، وَيُسَمَّى طَوَافَ الْفَرْضِ : لِأَنَّهُ رُكْنٌ مَفْرُوضٌ لَا يَتِمُّ الْحَجُّ إِلَّا بِهِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [ الْحَجِّ : ] ، ، وَلِرِوَايَةِ جَابِرٍ ، وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَمَى الْجَمْرَةَ بِمِنًى ، وَذَبَحَ أَفَاضَ إِلَى مَكَّةَ وَطَافَ ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا طَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ طَلَبَ الْخُلْوَةَ مَعَ صَفِيَّةَ ، فَقِيلَ : إِنَهَا حَائِضٌ ، فَقَالَ : عَقْرَى حَلْقَي أَلَا حَبَسَتْنَا ، فَلَوْلَا أَنَّهُ رُكْنٌ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ لَمْ تَكُنْ حَابِسَةً لَهُ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ رُكْنٌ وَاجِبٌ فَأَوَّلُ زَمَانِ فِعْلِهِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ مِنْ لَيْلَةِ النَّحْرِ : لِأَنَّهُ أَوَّلُ نَهَارِ التَّحَلُّلِ ، وَوَقْتُهُ فِي الِاخْتِيَارِ قَبْلَ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ، فَإِذَا طَافَ وَسَعَى نَظَرَ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ سَعَى قَبْلَ عَرَفَةَ فَقَدْ حَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ وَاسْتَبَاحَ جَمِيعَ مَا حُظِرَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَعَى قَبْلَ عَرَفَةَ سَعْى بَعْدَهُ ، وَكَانَ عَلَى إِحْرَامِهِ ، وَلَا يَتَحَلَّلُ مِنْهُ الْإِحْلَالَ الثَّانِيَ حَتَّى يَسْعَى سَبْعًا بَعْدَ طَوَافِهِ ، ثُمَّ يَتَحَلَّلُ حِينَئِذٍ وَلَا يَبْقَى عَلَيْهِ مِنْ حَجِّهِ إِلَّا رَمْيُ أَيَّامِ مِنًى ، وَالْمَبِيتُ بِهَا ، فَإِنْ أَخَّرَ الطَّوَافَ عَنْ يَوْمِ النَّحْرِ ، فَقَدْ أَسَاءَ إِذَا كَانَ تَأْخِيرُهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَوْ بَعْدَهَا ، فَإِنْ لَمْ يَطُفْ حَتَّى عَادَ إِلَى بَلَدِهِ كَانَ عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يَعُودَ فَيَطُوفَ ، فَإِذَا طَافَ فَقَدْ حَلَّ ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ فِي تَأْخِيرِهِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ طَافَ طَوَافَ الْوَدَاعِ كَانَ عَنْ فَرْضِهِ ، وَتَحَلَّلَ بِهِ مِنْ إِحْرَامِهِ وَأَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ أَرْكَانَ الْحَجِّ إِذَا تَطَوَّعَ بِهَا وَكَانَ عَلَيْهِ فَرْضٌ مِنْ جِنْسِهَا انْصَرَفَتْ إِلَى مَفْرُوضِهَا وَعَلَيْهِ دَمُ طَوَافِ الْوَدَاعِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا أَخَّرَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَعَلَيْهِ دَمٌ : لِتَأْخِيرِهِ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ وَقْتَهُ الْمَسْنُونَ يَوْمُ النَّحْرِ ، ثُمَّ لَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ بِتَأْخِيرِهِ إِلَى أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، لِأَنَّهُ فِي

كِلَا الْوَقْتَيْنِ مُسْقِطٌ لِغَرَضِ الطَّوَافِ بِفِعْلِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ رُكْنٌ أَخَّرَهُ عَنْ وَقْتِهِ الْمُخْتَارِ إِلَى وَقْتٍ يَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ بِفِعْلِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ دَمٌ بِتَأْخِيرِهِ قِيَاسًا عَلَى تَأْخِيرِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ مِنْ زَمَانِ النَّهَارِ إِلَى زَمَانِ اللَّيْلِ .

مَسْأَلَةٌ : وَيُسْتَحَبُّ لَهُ إِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَنْ يَشْرَبَ مِنْ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ تَأَسِّيًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرِوَايَةِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى سِقَايَةَ الْعَبَّاسِ بَعْدَ إِفَاضَةٍ ، فَشَرِبَ مِنْ شَرَابِهَا وَكَانَ طَاوُسٌ يَقُولُ : شَرِبَ ذَلِكَ بَعْدَ الِإِفَاضَةِ مَنْ تَمَامِ الْحَّجِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَإِنَّ تَرْكَهُ تَارِكٌ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ مَحْبُوبًا لَا فَرْضًا ، ثُمَّ يَدْخُلُ إِلَى زَمْزَمَ فَيَشْرَبُ مِنْهَا ثَلَاثَ جُرَعٍ وَيَغْسِلُ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ ، وَيَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ لِمَا رُوِيَ فِيهَا مِنَ الْأَخْبَارِ ، وَنُقِلَ مِنَ الْآثَارِ ، فَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ قَالَ مُجَاهِدٌ : مَعْنَاهُ أَنَّهُ إِنْ شَرِبْتَهُ تُرِيدُ بِهِ الشِّفَاءَ شَفَاكَ اللَّهُ ، وَإِنْ شَرِبْتَهُ لِلظِّمَاءِ أَرْقَاكَ اللَّهُ ، وَإِنْ شَرِبْتَهُ لِجُوعٍ أَشْبَعَكَ اللَّهُ وَهِيَ هَزْمَةُ جِبْرِيلَ ، وَالْهَزْمَةُ : الْغَمْزَةُ بِالْعَقِبِ فِي الْأَرْضِ . وَرَوَى حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : مَا كَانَ لَنَا طَعَامٌ إِلَّا مَاءَ زَمْزَمَ ، فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي ، وَمَا وَجَدْتُ عَلَى كَبِدِي سَخُفَةَ جُوعٍ ، فَقَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ إِنَهَا طَعَامُ طُعْمٍ ، وَشِفَاءُ سُقْمٍ " . وَرَوَى خَالِدُ بْنُ كَيْسَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْمُتَضَلِّعُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ بَرَاءَةٌ مَنَ النِّفَاقِ . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ : " خَيْرُ بِئْرٍ فِي الْأَرْضِ بِئْرُ زَمْزَمَ وَشَرُّ بِئْرٍ مِنَ الْأَرْضِ بِئْرٌ بِحَضْرَمَوْتَ " فَقَالَ : " إِنَّ فِيهَا أَرْوَاحَ الْكَافِرِينَ " . وَرَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : صَلُّوا فِي مُصَلَّى الْأَخْيَارِ ، وَاشْرَبُوا شَرَابَ الْأَبْرَارِ ، قِيلَ : وَمَا مُصَلَى الْأَخْيَارِ ، فَقَالَ : تَحْتَ الْمِيزَابِ ، قِيلَ : وَمَا شَرَابُ الْأَبْرَارِ ، قَالَ : زَمْزَمَ ، وَيُخْتَارُ إِذَا شَرِبَ مِنْهَا أَنْ يَقُولَ مَا رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : إِذَا شَرِبْتَ مَاءَ زَمْزَمَ فَاسْتَقْبِلِ الْبَيْتَ ، وَقُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا وَرِزْقًا وَاسِعًا وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ .

مَسْأَلَةٌ يَرْمِي أَيَّامَ مِنًى الثَّلَاثَةَ فِي كُلِّ يَوْمٍ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ الْجَمْرَةَ الْأَوْلَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ وَالثَّانِيَةَ بِسَبْعٍ وَالثَّالِثَةَ بِسَبْعٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " ثَمَّ يَرْمِي أَيَّامَ مِنًى الثَّلَاثَةَ فِي كُلِّ يَوْمٍ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ الْجَمْرَةَ الْأَوْلَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ وَالثَّانِيَةَ بِسَبْعٍ وَالثَّالِثَةَ بِسَبْعٍ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيمَا يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ يَوْمَ النَّحْرِ وَإِنَّ آخَرَ مَا يَفْعَلُهُ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ، وَقَدْ حَلَّ إِحْلَالَهُ الثَّانِيَ مِنْ حَجِّهِ إِلَى الرَّمْيِ فِي أَيَّامِ مِنًى الثَّلَاثَةِ وَالْمَبِيتِ بِهَا ، فَيَرْمِي فِي أَيَّامِ مِنًى الثَّلَاثَةِ ، وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ فِي كُلِّ يَوْمٍ إِحْدَى وَعِشْرِينَ حَصَاةً فِي الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثَةِ فِي كُلِّ جَمْرَةٍ سَبْعُ حَصَيَاتٍ ، فَإِنَّ ذَلِكَ نُسُكٌ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَاجِبٌ ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ هِيَ الْحَادِيَ عَشَرَ وَالثَّانِيَ عَشَرَ وَالثَّالِثَ عَشَرَ فِي تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِإِشْرَاقِهَا نَهَارًا بِنُورِ الشَّمْسِ وَإِشْرَاقِهَا لَيْلًا بِنُورِ الْقَمَرِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يُشَرِّقُونَ اللَّحْمَ فِيهَا فِي الشَّمْسِ . قَالَ الْأَخْطَلُ : وَبِالْهَدَايَا إِذَا احْمَرَّتْ مَدَارِعُهَا فِي يَوْمِ ذَبْحٍ وَتَشْرِيقٍ وَتَنْحَارِ وَقَدْ سُمِّيَ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِنْهَا وَهُوَ الْحَادِيَ عَشَرَ يَوْمَ الْقَرِّ ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُرْطٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : هُوَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ يَوْمَ الْقَرِّ : لِأَنَّ أَهْلَ الْمَوْسِمِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ وَيَوْمَ النَّحْرِ فِي تَعَبٍ مِنَ الْحَجِّ ، فَإِذَا كَانَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ قَرُّوا بِمِنًى ؛ فَلِهَذَا سُمِّيَ يَوْمَ الْقَرِّ ، وَيُسَمَّى الْيَوْمُ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَوْمَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ وَيُسَمَّى الْيَوْمُ الثَّالِثُ يَوْمَ الْخَلَاءِ ؛ لِأَنَّ مِنًى تَخْلُو فِيهِ مِنْ أَهْلِهَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا فَرَغَ يَوْمَ النَّحْرِ مِنْ طَوَافِهِ عَادَ إِلَى مِنًى ، فَبَاتَ بِهَا فَإِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ وَهُوَ يَوْمُ الْقَرِّ أَوَّلُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ رَمَى مِنَ الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ بِإِحْدَى وَعِشْرِينَ حَصَاةً ، فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنْهَا بِسَبْعٍ ، وَوَقْتُ الرَّمْيِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ ، فَإِنْ رَمَى قَبْلَهُ لَمْ يُجْزِهِ . وَقَالَ طَاوُسٌ ، وَعِكْرِمَةُ يَجُوزُ أَنْ يَرْمِيَ قَبْلَ الزَّوَالِ كَيَوْمِ النَّحْرِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُجْزِئُهُ فِي الْيَوْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ ، وَيُجْزِئُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ قَبْلَ الزَّوَالِ اسْتِحْبَابًا لَا قِيَاسًا ، وَدَلِيلُنَا مَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بِمِنًى لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، فَكَانَ يَرْمِي بَعْدَ الزَّوَالِ فِي كُلِّ جَمْرَةِ سَبْعَ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ وَيَقِفُ بَعْدَ الْجَمْرَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ طَوِيلًا ، وَيَدْعُو وَيَتَضَرَّعُ وَيَرْمِي الثَّالِثَةَ وَلَا يَقِفُ ، وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى جَمْرَةَ يَوْمِ النَّحْرِ ضُحًى وَسَائِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بَعْدَ مَا زَالَتِ الشَّمْسُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ وَقْتَ الرَّمْيِ بَعْدَ الزَّوَالِ ، وَأَنَّ مَا قَبْلَهُ لَا يُجْزِئُهُ فَتَرْتِيبُ الْجَمَرَاتِ وَاجِبٌ يَبْدَأُ بِالْجَمْرَةِ الْأُولَى الَّتِي عَلَى مُزْدَلِفَةَ وَمَسْجِدِ الْخَيْفِ ، وَهِيَ الْقُصْوَى مِنْ مَكَّةَ ثُمَّ الَّتِي تَلِيهَا ، وَهِيَ الْوُسْطَى ، ثُمَّ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ هِيَ الدُّنْيَا إِلَى مَكَّةَ ، وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ أَنَّ تَرْتِيبَ الْجَمَرَاتِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَبِأَيِّهِمَا بَدَأَ أَجْزَأَهُ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .

وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمْ حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمُقَدَّمُ ، وَلِأَنَّهُ نُسُكٌ يَتَكَرَّرُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاؤُهُ مُعَيَّنًا كَالطَّوَافِ . فَأَمَّا صِفَةُ الرَّمْيِ فَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ بِالْجَمْرَةِ الْأُولَى فَيَعْلُوهَا عُلُوًّا وَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُرَى " مَا تَحْتَ إِبِطَيْهِ ثُمَّ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهَا فَيَجْعَلُهَا فِي قَفَاهُ وَيَقِفُ فِي الْمَوْضُوعِ الَّذِي لَا يَنَالُهُ مَا تَطَايَرَ مِنَ الْحَصَى ، ثُمَّ يَقِفُ مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ وَيَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى بِقَدْرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ هَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ، ثُمَّ يَأْتِي بِالْجَمْرَةِ الْوُسْطَى وَهِيَ الثَّانِيَةُ فَيَعْلُوهَا عُلُوًّا يَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ، وَيَصْنَعُ كَمَا صَنَعَ فِي الْجَمْرَةِ الْأُولَى ، ثُمَّ يَأْتِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَهِيَ الثَّالِثَةُ فَيَرْمِيهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ وَلَا يَعْلُوهَا كَمَا فِي الْجَمْرَتَيْنِ قَبْلَهَا ؛ لِأَنَّهَا عَلَى أَكْمَلِهِ لَا يُمْكِنُهُ غَيْرُ ذَلِكَ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَرْمِي الْجَمَرَاتِ كُلَّهَا مِنْ أَسْفَلِهَا وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ ثُمَّ السَّلَفُ بَعْدَهُ ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ، وَلَا يَصْنَعُ عِنْدَهَا كَمَا صَنَعَ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ مِنْ قَبْلُ ، ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ بَعْدَ رَمْيِهِ ، فَإِنْ رَمَى بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ أَجْزَأَهُ ، وَكَذَا لَوْ تَرَكَ الذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ لَمْ يَفْتَدِ ، ثُمَّ يَرْمِي فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ كَذَلِكَ فِي الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَسْمِيَتِهَا جَمْرَةً ، فَقَالَ قَوْمٌ : إِنَّمَا سُمِّيَتْ جَمْرَةً لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ بِهَا ، وَمِنْهُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ التَّجْمِيرِ يَعْنِي : اجْتِمَاعَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الْغَرَوَاتِ ، وَقَالَ آخَرُونَ : سُمِّيَتْ بِذَلِكَ : لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، لَمَّا عَرَضَ لَهُ إِبْلِيسُ هُنَاكَ فَحَصَّهُ جَمَرَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أَيْ : أَسْرَعَ وَالْإِجْمَارُ الْإِسْرَاعُ . وَقَالَ آخَرُونَ : سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا تَجْمُرُ بِالْحَصَى وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْحَصَى الصِّغَارَ جِمَارًا .

مَسْأَلَةٌ بيان الْمَقْصُودُ مِنْ رَمْيِ الْجِمَارِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ رَمَى بِحَصَاتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فَهُنَّ كَوَاحِدَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : الْمَقْصُودُ مِنْ رَمْيِ الْجِمَارِ شَيْئَانِ أَعْدَادُ الْحَصَى وَأَعْدَادُ الرَّمْيِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْمِيَ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ فِي سَبْعِ مَرَّاتٍ ، فَإِنْ رَمَى بِهِنَّ دَفْعَةً وَاحِدَةً قَامَ مَقَامَ حَصَاةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَمْ يُجْزِهِ عَنِ السَّبْعِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الِاعْتِبَارُ بِأَعْدَادِ الْحَصَى فَإِنْ رَمَى بِالسَّبْعِ دَفْعَةً وَاحِدَةً أَجْزَأَهُ ، وَقَالَ عَطَاءٌ : الْمَقْصُودُ أَعْدَادُ التَّكْبِيرِ وَالْحَصَى دُونَ الرَّمْيِ ، فَإِذَا رَمَى بِالسَّبْعِ دَفْعَةً أَجْزَأَهُ إِذَا كَبَّرَ سَبْعًا ، وَإِنْ لَمْ يُكَبِّرْ سَبْعًا لَمْ يُجْزِهِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهَا رِوَايَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْمِي فِي كُلِّ جَمْرَةٍ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ ، وَكَانَ تَكْبِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ رَمَى

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110