كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

أُلْجِئَ إِلَى الْأَقْطَعِ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَغِرَّتُهُ بِاللَّهِ أَشَدُّ عَلَيَّ مِمَّا صَنَعَ ، اقْطَعُوهُ . فَقَطَعَهُ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ . وَلِأَنَّ الْبُيُوتَ الْمُغَلَّقَةَ حِرْزٌ لِمَا فِيهَا لَوْ كَانَتْ إِلَى الطَّرِيقِ ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ حِرْزًا إِذَا كَانَتْ إِلَى الدَّارِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ ، وَلَهُ مَتَاعٌ فِي حِرْزٍ ، فَنَقَبَ صَاحِبُ الدَّيْنِ عَلَى الْحِرْزِ ، وَسَرَقَ مِنْهُ مَتَاعَ الْغَرِيمِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَمْطُلَهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِدَيْنِهِ ، وَيَمْنَعَ مِنْ دَفْعِهِ ، فَيُنْظَرُ فِيمَا أَخَذَ صَاحِبُ الدَّيْنِ مِنَ الْحِرْزِ : فَإِنْ كَانَ يَقْدُرُ دَيْنَهُ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ التَّوَصُّلَ إِلَى أَخْذِهِ مِنْهُ ، وَإِنْ أَخَذَ أَكْثَرَ مِنْ دَيْنِهِ ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ قِيمَةً ، لِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، لَمْ يُقْطَعْ . وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ قَدْرًا : لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ ، فَفِي قَطْعِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُقْطَعُ ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لِلشُّبْهَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُقْطَعُ ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : لِتَمَيُّزِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَمْطُلَ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِدَيْنِهِ وَيَقْدِرَ عَلَى أَخْذِهِ بِالْمُطَالَبَةِ ، فَفِي قَطْعِهِ بِمَا أَخَذَهُ عَنْ دَيْنِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ : لَا يُقْطَعُ لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قِيَاسُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : يُقْطَعُ لِوُصُولِهِ إِلَى حَقِّهِ مِنْ غَرِيمِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَوْدَعَ رَجُلٌ وَدِيعَةً فَأَحْرَزَهَا الْمُودِعُ فِي حِرْزِهِ الَّذِي يَمْلِكُهُ فسرقت ، كَانَ حِرْزًا لِمَالِهِ وَلِلْوَدِيعَةِ : لِأَنَّهُ صَارَ بِالِائْتِمَانِ عَلَيْهَا نَائِبًا عَنْ صَاحِبِهَا فِي إِحْرَازِهَا . فَإِنْ سُرِقَتْ قُطِعَ سَارِقُهَا ، وَلَوْ نَقَبَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ عَلَيْهَا فَأَخَذَهَا وَسَرَقَ مَعَهَا غَيْرَهَا مِنْ حِرْزِهَا ، فَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ وَدِيعَتِهِ لَمْ يُقْطَعْ : لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِهَتْكِ حِرْزِهَا ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَمْنُوعٍ مِنْهَا ، فَفِي قَطْعِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : لَا يُقْطَعُ : لِأَنَّ اقْتِرَانَهَا بِوَدِيعَتِهِ شُبْهَةٌ لَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : يُقْطَعُ : لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بَهَتْكِ الْحِرْزِ ، وَأَخْذٍ لِمَا لَا يَسْتَحِقُّ .



فَصْلٌ : وَلَوْ غَصَبَ رَجُلٌ مَالًا أَوْ سَرَقَهُ وَأَحْرَزَهُ فِي حِرْزٍ لِنَفْسِهِ ، فَسُرِقَ مِنْهُ ، فَفِي قَطْعِ سَارِقِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُقْطَعُ بَعْدَ قَطْعِ السَّارِقِ الْأَوَّلِ : لِأَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مِنْ حِرْزٍ مِثْلَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُقْطَعُ : لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ حِرْزِ مُسْتَحِقٍّ ، فَصَارَ كَغَيْرِ الْمُحْرَزِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُقْطَعُ إِنْ سَرَقَ مِنَ الْغَاصِبِ ، وَلَا يُقْطَعُ إِنْ سَرَقَ مِنَ السَّارِقِ ، وَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ عِنْدَنَا ، وَيَكُونُ الْخَصْمُ فِي قَطْعِ هَذَا السَّارِقِ هُوَ الْمَالِكُ دُونَ الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ ، هَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا ، وَعِنْدِي أَنْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَالِكِ وَالْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ خَصْمٌ فِيهِ : أَمَّا الْمَالِكُ فَلِأَجْلِ مِلْكِهِ ، وَأَمَّا الْغَصْبُ وَالسَّارِقُ فَلِأَجْلِ ضَمَانِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْخَصْمُ فِي السَّرِقَةِ الْمَالِكُ ، وَفِي الْغَصْبِ الْغَاصِبُ ، وَلَيْسَ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَجْهٌ إِلَّا عَلَى أَصْلِهِ : أَنَّ السَّارِقَ لَا يُغَرَّمُ السَّرِقَةَ إِذَا قُطِعَ . وَهُوَ بِنَاءُ خِلَافٍ عَلَى خِلَافٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَافِعِيُّ : " وَيُقْطَعُ الْعَبْدُ آبِقًا وَغَيْرَ آبِقٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْعَبْدُ غَيْرَ آبِقٍ ، فَقَطْعُهُ إِذَا سَرَقَ وَاجِبٌ . فَأَمَّا إِذَا كَانَ آبِقًا فَسَرَقَ فِي إِبَاقِهِ ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ قَطْعِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : يُقْطَعُ ، سَوَاءٌ طُولِبَ فِي إِبَاقِهِ أَوْ بَعْدَ مَقْدِمِهِ وَالثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ : لَا يُقْطَعُ ، سَوَاءٌ طُولِبَ فِي إِبَاقِهِ أَوْ بَعْدَ مَقْدِمِهِ : لِأَنَّهُ فِي الْإِبَاقِ مُضْطَرٌّ ، وَلَا قَطْعَ عَلَى مُضْطَرٍّ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ : يُقْطَعُ إِنْ طُولِبَ بَعْدَ مَقْدِمِهِ ، وَلَا يُقْطَعُ إِنْ طُولِبَ فِي إِبَاقِهِ : لِأَنَّ قَطْعَهُ قَضَاءً عَلَى سَيِّدِهِ ، وَهُوَ لَا يَرَى الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ قَطْعِهِ فِي الْحَالَيْنِ : عُمُومُ الْآيَةِ ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ . وَرَوَى نَافِعٌ أَنَّ عَبْدًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ سَرَقَ وَهُوَ آبِقٌ ، فَبُعِثَ بِهِ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَكَانَ أَمِيرَ الْمَدِينَةِ لِيَقْطَعَهُ . فَقَالَ سَعِيدٌ : كَيْفَ أَقْطَعُ آبِقًا ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : فِي أَيِّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَجَدْتَ هَذَا . وَأَمَرَ ابْنُ عُمَرَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ . وَلِأَنَّهُ حَدٌّ يُقَامُ عَلَى غَيْرِ الْآبِقِ فَوَجَبَ أَنْ يُقَامَ عَلَى الْآبِقِ كَحَدِّ الزِّنَا ، وِلْأَنَّ الْإِبَاقَ مَعْصِيَةٌ إِنْ لَمْ يَزِدْهُ تَغْلِيظًا لَمْ يَتَغَلَّظْ عَنْهُ حَدًّا ، فَأَمَّا الِاضْطِرَارُ فَلَوْ كَانَ عِلَّةً لِفَرْقٍ بَيْنَ الْمُضْطَرِّ وَغَيْرِهِ ، وَلِفَرْقٍ بَيْنَ مَا تَدْعُو الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ وَلَا تَدْعُو . أَمَّا قَوْلُهُ : إِنَّهُ قَضَاءً عَلَى السَّيِّدِ . فَلَيْسَ صَحِيحًا : لِأَنَّ السَّيِّدَ لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ ، وَلَوْ أَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ لَزِمَ ، فَعُلِمَ أَنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى الْعَبْدِ دُونَ السَّيِّدِ .

فَصْلٌ حُكْمُ السَّرِقَةِ فِي الْمَجَاعَةِ وَالْقحْطِ

فَصْلٌ : [ /1 L10114 حُكْمُ السَّرِقَةِ فِي الْمَجَاعَةِ وَالْقحْطِ /1 ] وَإِذَا سَرَقَ السَّارِقُ فِي عَامِ الْمَجَاعَةِ وَالْقحْطِ ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ لِغَلَاءِ السِّعْرِ مَعَ وُجُودِ الْأَقْوَاتِ ، فَالْقَطْعُ وَاجِبٌ عَلَى السَّارِقِ ، وَلَا تَكُونُ زِيَادَةُ الْأَسْعَارِ مُبِيحَةً لِلسَّرِقَةِ ، وَلَا مُسْقِطَةً لِلْقَطْعِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ لِتَعَذُّرِ الْأَقْوَاتِ وَعَدَمِهَا ، فَإِنْ سَرَقَ مَا لَيْسَ بِقُوتٍ قُطِعَ ، وَإِنْ سَرَقَ قُوتًا لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهِ لَمْ يُقْطَعْ . وَكَانَتِ الضَّرُورَةُ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْقَطْعِ ، كَمَا كَانَتْ شُبْهَةً فِي اسْتِبَاحَةِ الْأَخْذِ . رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : " لَا قَطْعَ فِي عَامِ الْمَجَاعَةِ ، وَلَا قَطْعَ فِي عَامِ سَنَةٍ " . رُوِيَ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّهُ أُتِيَ بِسَارِقٍ سَرَقَ فِي عَامِ الْمَجَاعَةِ فَلَمْ يَقْطَعْهُ ، وَقَالَ : أَرَاهُ مُضْطَرًّا . فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ مِنْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَعُلَمَاءِ الْعَصْرِ .

حُكْمُ نَبَّاشِ الْقُبُورِ

[ /1 L10196 L10172 حُكْمُ نَبَّاشِ الْقُبُورِ /2 هل يقام عليه حد السرقة ؟ /2 /1 ] مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيُقْطَعُ النَّبَّاشُ إِذَا أَخْرَجَ الْكَفَنَ مِنْ جَمِيعِ الْقَبْرِ : لِأَنَّ هَذَا حِرْزُ مِثْلِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : النَّبَّاشُ : هُوَ الَّذِي يَنْبُشُ الْقُبُورَ وَيَسْرِقُ أَكْفَانَ مَوْتَاهَا . اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي قَطْعِهِ ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى وُجُوبِ قَطْعِهِ . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمُ : ابْنُ الزُّبَيْرِ وَعَائِشَةُ . وَمِنَ التَّابِعِينَ : عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ : إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ ، وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ : لَا يُقْطَعُ . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ : زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ : اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ نَبَّاشًا رُفِعَ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ فَعَزَّرَهُ وَلَمْ يَقْطَعْهُ ، وَفِي الْمَدِينَةِ بَقِيَّةُ الصَّحَابَةِ وَعُلَمَاءُ التَّابِعِينَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ ، وَلِأَنَّ أَطْرَافَ الْمَيِّتِ أَغْلَظُ حُرْمَةً مِنْ كَفَنِهِ ، فَلَمَّا سَقَطَ ضَمَانُ أَطْرَافِهِ فَأَوْلَى أَنْ يَسْقُطَ الْقَطْعُ فِي أَكْفَانِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ سَرَقَ مِنَ الْقَبْرِ غَيْرَ الْكَفَنِ لَمْ يُقْطَعْ ، فَكَذَلِكَ إِذَا سَرَقَ الْكَفَنَ : لِأَنَّ مَا كَانَ حِرْزًا لِشَيْءٍ كَانَ حِرْزًا لِأَمْثَالِهِ ، وَلَيْسَ الْقَبْرُ حِرْزًا لِمِثْلِ الْكَفَنِ ، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ حِرْزًا لِلْكَفَنِ ، وَلِأَنَّ الْكَفَنَ مُعَرَّضٌ لِلْبِلَى وَالتَّلَفِ فَخَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْمَحْفُوظِ الْمُسْتَبْقَى ، فَسَقَطَ عَنْهُ الْقَطْعُ الْمُخْتَصُّ بِمَا يُحْفَظُ

وَيُسْتَبْقَى ، وَلِأَنَّ الْكَفَنَ لَا مَالِكَ لَهُ ، وَمَا لَا مَالِكَ لَهُ لَا قَطْعَ فِيهِ لِعَدَمِ الْمُطَالِبِ ، كَمَالِ بَيْتِ الْمَالِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كُفِّنَ بِأَكْثَرَ مِنَ الْعَادَةِ لَمْ يُقْطَعْ فِي الزِّيَادَةِ ، كَذَلِكَ فِيمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ ، وَلِأَنَّ قَبْرَ الْمَيِّتِ يَشْتَمِلُ عَلَى كَفَنِهِ وَطِيبِهِ ، ثُمَّ لَمْ يُقْطَعْ فِي طِيبِهِ ، فَكَذَلِكَ فِي كَفَنِهِ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [ الْمَائِدَةِ : 38 ] ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى عُمُومِهِ فِي النَّبَّاشِ وَغَيْرِهِ . فَإِنْ قِيلَ : النَّبَّاشُ لَيْسَ بِسَارِقٍ : لِاخْتِصَاصِهِ بِاسْمِ النَّبَّاشِ دُونَ السَّارِقِ . قِيلَ : عَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ السَّارِقَ هُوَ الْمُسْتَسِرُّ بِأَخْذِ الشَّيْءِ مِنْ حِرْزِهِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ [ الْحِجْرِ : 18 ] ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي النَّبَّاشِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَارِقًا . وَالثَّانِي : مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : سَارِقُ مَوْتَانَا كَسَارِقِ أَحْيَائِنَا . وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ قَالَ : يُقْطَعُ سَارِقُ أَحْيَائِنَا وَسَارِقُ مَوْتَانَا . فَسَمَّيَاهُ سَارِقًا ، وَقَوْلُهُمَا حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ ، وَقَالَ تَعَالَى : أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتًا [ الْمُرْسَلَاتِ : 25 ] ، أَيْ : نَجْمَعُهُمْ أَحْيَاءً عَلَى ظَهْرِهَا وَنَضُمُّهُمْ أَمْوَاتًا فِي بَطْنِهَا . فَجَعَلَ بَطْنَهَا حِرْزًا لِلْمَيِّتِ كَمَا جَعَلَ ظَهْرَهَا حِرْزًا لِلْحَيِّ ، فَاسْتَوَيَا فِي الْحُكْمِ . وَرَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَطْعِ الْمُخْتَفِي ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ : وَأَهْلُ الْحِجَازِ يُسَمُّونَ النَّبَّاشَ الْمُخْتَفِي ، وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : لِاخْتِفَائِهِ بِأَخْذِ الْكَفَنِ . وَالثَّانِي : لِإِظْهَارِهِ الْمَيِّتَ فِي أَخْذِ كَفَنِهِ ، وَقَدْ يُسَمَّى الْمُظْهِرُ الْمُخْتَفِي ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ . وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَطَعَ نَبَّاشًا بِعَرَفَاتٍ وَهُوَ مَجْمَعُ الْحَجِيجِ . وَلَا يَخْفَى مَا يَجْرِي فِيهِ عَلَى عُلَمَاءِ الْعَصْرِ ، فَمَا أَنْكَرَهُ مِنْهُمْ مُنْكِرٌ . وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّهَا عَوْرَةٌ يَجِبُ سَتْرُهَا ، فَجَازَ أَنْ يَجِبَ الْقَطْعُ فِي سَرِقَةِ مَا سِتْرُهَا كَالْحَيِّ . وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِسَرِقَةِ مَالِ الْحَيِّ ، فَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِسَرِقَةِ كَفَنِ الْمَيِّتِ كَالضَّمَانِ . وَلِأَنَّ قَطْعَ السَّرِقَةِ مَوْضُوعٌ لِحِفْظِ مَا وَجَبَ اسْتِبْقَاؤُهُ عَلَى أَرْبَابِهِ ، حَتَّى يَنْزَجِرَ النَّاسُ عَنْ أَخْذِهِ ، فَكَانَ كَفَنُ الْمَيِّتِ بِالْقَطْعِ أَحَقَّ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِهِ عَلَى نَفْسِهِ .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهِ عِنْدَ أَخْذِهِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ مَرْوَانَ أَنَّهُ عَزَّرَ النَّبَّاشَ فَلَمْ يَقْطَعْهُ : فَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ مَذْهَبٌ لَهُ وَقَدْ عَارَضَهُ فِعْلُ مَنْ قَوْلُهُ أَحَجُّ وَفِعْلُهُ أَوْكَدُ ، وَهُوَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُقُوطُ الْقَطْعِ لِنُقْصَانِ قِيمَتِهِ عَنْ مِقْدَارِ الْقَطْعِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبَّاشُ لَمْ يُخْرِجِ الْكَفَنَ مِنَ الْقَبْرِ ، وَالْقَطْعُ لَا يَجِبُ إِلَّا بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْقَبْرِ : لِأَنَّ جَمِيعَ الْقَبْرِ حِرْزٌ لَهُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِسُقُوطِ الضَّمَانِ فِي أَطْرَافِهِ فَكَذَلِكَ فِي أَكْفَانِهِ : فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : انْتِقَاضُهُ بِالْمُرْتَدِّ ، يَسْقُطُ ضَمَانُ أَطْرَافِهِ وَلَا يَسْقُطُ فِي مَالِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا افْتَرَقَتْ أَطْرَافُهُ وَأَكْفَانُهُ فِي الضَّمَانِ وَضَمِنَ أَكْفَانَهُ وَلَمْ يَضْمَنْ قَطْعَ أَطْرَافِهِ ، كَانَ الْقَطْعُ تَبَعًا لِضَمَانِهَا فِي الْوُجُوبِ ، كَمَا كَانَ الْقَوَدُ فِي الْأَعْضَاءِ تَبَعًا لِضَمَانِهَا فِي السُّقُوطِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : بِأَنَّ الْقَبْرَ لَيْسَ بِحِرْزٍ لِغَيْرِ الْكَفَنِ ، فَلَمْ يَكُنْ حِرْزًا لِلْكَفَنِ . فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَبْرُ فِي حِرْزٍ وَدُفِنَ فِيهِ مَعَ الْمَيِّتِ مَالٌ قُطِعَ فِي الْمَالِ عِنْدَهُمْ ، وَلَمْ يُقْطَعْ فِي الْكَفَنِ ، وَإِنْ كَانَ فِي هَذَا الْجَوَابِ ضَعْفٌ : لِأَنَّ عِنْدَهُمْ لِسُقُوطِ الْقَطْعِ فِي الْكَفَنِ ثَلَاثُ عِلَلٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْقَبْرَ لَيْسَ بِحِرْزٍ . وَالثَّانِيَةُ : أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْبِلَى . وَالثَّالِثَةُ : أَنَّهُ لَا مَالِكَ لَهُ . فَإِنْ كَمَلَتْ سَقَطَ الْقَطْعُ بِجَمِيعِهَا ، وَإِنْ تَفَرَّقَتْ سَقَطَ الْقَطْعُ بِمَا وُجِدَ مِنْهَا . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ الْحِرْزَ مُعْتَبَرٌ بِالْعَادَةِ الَّتِي لَا يَقْتَرِنُ بِهَا تَفْرِيطٌ ، وَالْعَادَةُ فِي الْأَكْفَانِ هل تعد في السرقة مالا معرضا للتلف ؟ إِحْرَازُهَا فِي الْقُبُورِ ، وَلَا يُنْسَبُ فَاعِلُهَا إِلَى تَفْرِيطٍ ، فَصَارَ إِحْرَازًا ، وَلَيْسَ إِذَا كَانَ حِرْزًا لَهَا صَارَ حِرْزًا لِغَيْرِهَا : لِأَنَّ الْأَحْرَازَ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمُحْرَزَاتِ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا الْجَوَابُ فِي اعْتِبَارِ الْعَادَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ سُقُوطِ الْقَطْعِ ، كَبَذْرِ الزَّرْعِ قَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ فِي إِحْرَازٍ بِبَذْرِهِ فِيهَا ، وَلَا يُنْسَبُ فَاعِلُهُ إِلَى تَفْرِيطٍ ، وَلَوْ سَرَقَهُ سَارِقٌ لَمْ يُقْطَعْ ، فَكَذَلِكَ الْكَفَنُ .

فَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّ أَصْحَابَنَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ، هَلْ يَجِبُ الْقَطْعُ عَلَى سَارِقِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجِبُ الْقَطْعُ فِيهِ إِذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا ، اعْتِبَارًا بِالْعَادَةِ فِي إِحْرَازِ مِثْلِهِ . فَعَلَى هَذَا : يَسْقُطُ الِاعْتِرَاضُ بِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَفَنِ : أَنَّ الْكَفَنَ يُؤْخَذُ دَفْعَةً وَاحِدَةً مِنْ حِرْزِهِ ، وَقَدْ كَمَلَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا ، فَلِذَلِكَ قُطِعَ فِيهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَذَا الْبَذْرُ : لِأَنَّهُ يَأْخُذُهُ مِنَ الْأَرْضِ حَبَّةً بَعْدَ حَبَّةٍ وَكُلُّ حَبَّةٍ مِنْهَا تُحْرَزُ فِي مَوْضِعِهَا ، لَا فِي مَوْضِعِ غَيْرِهَا ، وَإِذَا افْتَرَقَتِ السَّرِقَةُ لَمْ يُضَمَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فَافْتَرَقَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْكَفَنَ مُعَرَّضٌ لِلْبِلَى وَالتَّلَفِ : فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَالِهِ عِنْدَ أَخْذِهِ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ ، كَالْبَهِيمَةِ الْمَرِيضَةِ إِذَا شَارَفَتِ الْمَوْتَ . وَالثَّانِي : أَنَّ تَعْرِيضَهُ لِلْبِلَى لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ فِيهِ ، كَدَفْنِ الثِّيَابِ فِي الْأَرْضِ ، وَعَلَى أَنَّ ثِيَابَ الْحَيِّ مُعَرَّضَةٌ لِلْبِلَى بِاللِّبَاسِ ، وَلَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْقَطْعِ فِيهَا ، كَذَلِكَ الْأَكْفَانُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّهُ لَا مَالِكَ لِلْكَفَنِ . فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ مِلْكٌ لِلْمَيِّتِ خَاصَّةً لِاخْتِصَاصِهِ بِهِ ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لَهُ فِي حَيَاتِهِ ، وَبَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، كَالدَّيْنِ يَكُونُ ثَابِتًا فِي ذِمَّتِهِ فِي حَيَاتِهِ ، وَفِي حُكْمِ الثَّابِتِ فِي ذِمَّتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ . فَعَلَى هَذَا : لَوْ أَنَّ الْمَيِّتَ أَكَلَهُ السَّبُعُ وَبَقِيَ كَفَنُهُ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ . وَالثَّانِي : يَكُونُ لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ . وَعَلَى هَذَا : فِي الْخَصْمِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْمُطَالَبَةِ بِقَطْعِ سَارِقِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : الْوَرَثَةُ إِنْ جَعَلْنَاهُ مَوْرُوثًا . وَالثَّانِي : الْإِمَامُ إِنْ جَعَلْنَاهُ لِبَيْتِ الْمَالِ ، فَهَذَا حُكْمُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْكَفَنَ مِلْكٌ لِلْوَرَثَةِ ، وَقَدِ اسْتَحَقَّ الْمَيِّتُ مَنَافِعَهُ كَالتَّرِكَةِ إِذَا كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ مَلَكَهَا الْوَرَثَةُ وَاسْتَحَقَّ الْمَيِّتُ عَلَيْهِمْ قَضَاءَ دَيْنِهِ . فَعَلَى هَذَا : إِنْ أَكَلَهُ السَّبُعُ عَادَ الْكَفَنُ إِلَى الْوَرَثَةِ وَجْهًا وَاحِدًا ، وَهُمُ الْخُصُومُ فِي قَطْعِ السَّارِقِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا مَالِكَ لِلْكَفَنِ ، وَلِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَمْلِكُ ، وَالْوَارِثَ لَا حَقَّ لَهُ

فِيهِ ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُقْطَعَ فِيمَا لَا مَالِكَ لَهُ ، كَمَا يُقْطَعُ فِي أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ، وَآلَاتِ الْمَسَاجِدِ . وَيُخَالِفُ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي حَقِّ إِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ ، وَالْكَفَنُ يَتَعَيَّنُ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ ، وَيَعُودُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ ، إِنْ أَكَلَهُ السَّبُعُ ، وَيَكُونُ الْإِمَامُ هُوَ الْخَصْمُ فِي قَطْعِ السَّارِقِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يُقْطَعُ فِي زِيَادَةِ الْكَفَنِ : فَهُوَ أَنَّ الْغَرَضَ ثَوْبٌ ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ إِلَى خَمْسَةِ أَثْوَابٍ نَدْبٌ ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ خَارِجَ حُكْمِهِ ، فَيُقْطَعُ فِي الْوَاجِبِ وَالنَّدْبِ ، وَلَا يُقْطَعُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا بِخُرُوجِهَا عَنْ حُكْمِ الْكَفَنِ فَرْضًا وَنَدْبًا ، وَلَيْسَ الْقَبْرُ حِرْزًا لِغَيْرِ الْكَفَنِ ، وَإِنْ كَانَ حِرْزًا لِلْكَفَنِ : لِمَا قَدَّمْنَاهُ فَافْتَرَقَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالطِّيبِ : فَفِي قَطْعِ سَارِقِهِ مِنْ أَكْفَانِ الْمَيِّتِ الطيب في كفن الميت وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُقْطَعُ وَيَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُقْطَعُ : لِأَنَّ الطِّيبَ مُسْتَهْلَكٌ بَعْدَ اسْتِعْمَالِهِ ، وَالْأَكْفَانُ بَاقِيَةٌ فَافْتَرَقَا فِي الْقَطْعِ : لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْمَعْنَى . فَأَمَّا سَرِقَةُ التَّابُوتِ فَلَا قَطْعَ فِيهِ : لِأَنَّ التَّابُوتَ مَنْهِيٌّ عَنِ الدَّفْعِ فِيهِ ، فَلَمْ يَصِرِ الْقَبْرُ حِرْزًا لَهُ فَسَقَطَ فِيهِ الْقَطْعُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ قَطْعُ النَّبَّاشِ ، فَقَطْعُهُ فِي الْكَفَنِ مُعْتَبَرٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْقَبْرُ فِي مَقَابِرِ الْبَلَدِ الْأَنِيسَةِ ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ أَوْ ظَاهِرِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْقَبْرُ مُنْقَطِعًا عَنِ الْأَمْصَارِ مُفْرَدًا فِي الْفَلَوَاتِ ، فَلَا قَطْعَ فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْقَبْرُ عَمِيقًا عَلَى مَعْهُودِ الْقُبُورِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَمِيقًا ، وَكَانَ دَفْنُهُ قَرِيبًا مِنْ ظَاهِرِ الْأَرْضِ ، فَلَا قَطْعَ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُخْرِجَ الْكَفَنَ مِنْ جَمِيعِ الْقَبْرِ بَعْدَ تَجْرِيدِهِ عَنِ الْمَيِّتِ ، فَإِنْ أَخْرَجَهُ مَعَ الْمَيِّتِ وَلَمْ يُجَرِّدْهُ عَنْهُ ، فَفِي قَطْعِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : لَا قَطْعَ عَلَيْهِ : لِاسْتِبْقَائِهِ عَلَى الْمَيِّتِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قِيَاسُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : يُقْطَعُ : لِإِخْرَاجِ الْكَفَنِ مِنْ حِرْزِهِ .

فَصْلٌ حُكْمُ النَّشَّالِينَ

فَصْلٌ : [ /1 L10196 L10172 حُكْمُ النَّشَّالِينَ /2 هل يقام عليهم الحد إذا سرق ؟ /2 /1 ] فَأَمَّا الطَّرَّارُ فَإِذَا أَدْخَلَ يَدَهُ إِلَى الْكُمِّ فَأَخَذَ مَا فِيهِ ، أَوْ أَدْخَلَهَا إِلَى الْجَيْبِ وَأَخَذَ مَا فِيهِ قُطِعَ بِوِفَاقِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَإِنْ بَطَّ الْكُمَّ أَوِ الْجَيْبَ ، أَوْ فَتَقَهُمَا حَتَّى خَرَجَ مَا فِيهِمَا ، قُطِعَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُقْطَعُ ، بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَصْلِهِ فِي السَّارِقِ : إِذَا سَرَقَ مِنَ الْحِرْزِ وَلَمْ يَدْخُلْهُ لَمْ يُقْطَعْ . وَهَذَا أَصْلٌ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ وَاهِيًا : لِأَنَّهُ يَقْطَعُهُ إِذَا أَدْخَلَ يَدَهُ إِلَى كُمِّهِ ، وَلَا يَقْطَعُهُ إِذَا أَدْخَلَ يَدَهُ إِلَى الْحِرْزِ . فَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ دُخُولَهُ إِلَى الْكُمِّ مُمْتَنِعٌ ، وَدُخُولَهُ إِلَى الْحِرْزِ مُمْكِنٌ . كَانَ هَذَا الْفَرْقُ مُوجِبًا لِافْتِرَاقِ الْحُكْمِ فِيهِمَا ، وَالْحُكْمُ فِيهِمَا لَا يَفْتَرِقُ ، فَبَطَلَ التَّعْلِيلُ بِالدُّخُولِ وَثَبَتَ التَّعْلِيلُ بِمَا قُلْنَاهُ مِنْ خُرُوجِ السَّرِقَةِ مِنْ حِرْزِهَا بِفِعْلِهِ لِاسْتِمْرَارِهِ وَاطِّرَادِهِ . وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الطَّرَّازِ كَوُجُودِهِ فِي النَّقَّابِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا سَرَقَ مِنْ حِلْيَةِ فَرَسٍ عَلَيْهِ رَاكِبُهُ ، قُطِعَ سَوَاءٌ سَرَقَ مِنْ لِجَامٍ عَلَى رَأْسِهَا ، أَوْ مِنْ ثَغْرٍ عَلَى كَفَلِهَا . وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : يُقْطَعُ إِذَا سَرَقَ مِنْ لِجَامِ رَأْسِهَا ، وَلَا يُقْطَعُ إِذَا سَرَقَ مِنْ ثَغْرِ كَفَلِهَا ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّهُ يُضْمَنُ مَا أَفْسَدَتْ بِمُقَدَّمِهَا ، وَلَا يُضْمَنُ مَا أَفْسَدَتْ بِمُؤَخَّرِهَا . وَعِنْدَنَا : يُضْمَنُ مَا أَفْسَدَتْ بِهِمَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ قَطْعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ فِي السَّرِقَةِ

بَابُ قَطْعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ فِي السَّرِقَةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " أَخْبَرَنَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي السَّارِقِ : إِنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ ، ثُمَّ إِنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَطَعَ يَدَ السَّارِقِ الْيُسْرَى ، وَقَدْ كَانَ أَقْطَعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : فَإِذَا سَرَقَ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى مِنْ مِفْصَلِ الْكَفِّ وَحُسِمَتْ بِالنَّارِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا قَطْعُ يَدِ السَّارِقِ فَهُوَ نَصُّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَمَا جَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ الْمُسْتَحَقُّ مِنْ قَطْعِ يَدِهِ الْيُمْنَى : لِرِوَايَةِ النَّخَعِيِّ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقْرَأُ " وَالسَّارِقُونَ وَالسَّارِقَاتُ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمْ " وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ وَإِنْ شَذَّتْ فَهِيَ جَارِيَةٌ مَجْرَى خَبَرِ الْوَاحِدِ ، فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يَمِينَهُ . وَرُوِيَ أَنَّ الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَطَعُوا يَمِينَ السَّارِقِ : وَلِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ السَّرِقَةَ فِي الْأَغْلَبِ بِيَمِينِهِ ، فَصَارَتْ بِالْقَطْعِ أَخَصَّ ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْأَيْسَرُ مِنَ النَّاسِ وَغَيْرُ الْأَيْسَرِ ، فَإِذَا ثَبَتَ قَطْعُ يَمِينِهِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حَدِّ قَطْعِهِمَا ، فَذَهَبَ الْخَوَارِجُ إِلَى أَنَّهَا تُقْطَعُ مِنَ الْمَنْكِبِ اسْتِيعَابًا لِمَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْيَدِ ، وَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تُقْطَعُ أَصَابِعُ كَفِّهِ ، وَهِيَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ . وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى قَطْعِهَا مِنْ مِفْصَلِ الْكَفِّ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ سَارِقَ رِدَاءِ صَفْوَانَ مِنْ كَفِّهِ ، وَلِأَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عَلَيْهِ عَمِلُوا ، وَهُوَ نَقْلٌ مَوْرُوثٌ إِلَى عِنْدِنَا ، وَلِأَنَّ دِيَةَ الْيَدِ تَكْمُلُ فِي قَطْعِهَا مِنَ الْكُوعِ ، وَفِي الزِّيَادَةِ حُكُومَةٌ .



فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ الْمُسْتَحَقُّ فِي السَّرِقَةِ الْأُولَى قُطِعَ كَفُّهُ الْيُمْنَى ، وَلَا فَضْلَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ لَهُ يُسْرَى أَوْ لَا تَكُونَ ، لِذَهَابِهَا بِجِنَايَةٍ أَوْ عِلَّةٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَتِ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةً ، أَوْ قَدْ قُطِعَ أَكْثَرُ أَصَابِعِهَا القطع في السرقة ، أَوْ ذَهَبَ أَكْثَرُ مَنَافِعِهَا ، لَمْ تُقْطَعِ الْيُمْنَى . وَإِنْ قُطِعَ مِنْهَا إِصْبَعٌ وَاحِدٌ ، أَوْ ذَهَبَتْ أَقَلُّ مَنَافِعِهَا ، قُطِعَتِ الْيُمْنَى . وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ : فِي أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ قَطْعِهِمَا فِي السَّرِقَةِ . وَكَذَلِكَ إِذَا ذَهَبَتْ إِحْدَاهُمَا ، لَمْ يُقْطَعِ الْأُخْرَى فِي السَّرِقَةِ . وَنَحْنُ نَبْنِيهِ عَلَى أَصْلِنَا فِي جَوَازِ قَطْعِهَا فِي السَّرِقَةِ ، وَغَيْرِ السَّرِقَةِ ، وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ يَأْتِي . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ كَفِّهِ الْيُمْنَى مِنْ خَمْسَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ كَامِلَةً سَالِمَةً ، فَتُقْطَعُ عَلَى مَا سَنَصِفُهُ مِنْ حَالِ الْقَطْعِ ، فَلَوْ لَمْ تُقْطَعْ حَتَّى ذَهَبَتْ سَقَطَ بِذَهَابِهَا قَطْعُ السَّرِقَةِ : لِذَهَابِ مَا اسْتَحَقَّ قَطْعَهُ ، كَمَا لَوْ وَجَبَ قَتْلُهُ بِالرِّدَّةِ ، فَمَاتَ سَقَطَ قَتْلُ الرِّدَّةِ . وَلَوْ كَانَ ذَهَابُهَا لِجِنَايَةٍ اسْتَحَقَّ بِهَا قَوَدًا أَوْ دِيَةً ، كَانَ لِلسَّارِقِ أَنْ يَقْتَصَّ بِهَا مِنَ الْجَانِي أَوْ يَأْخُذَ دِيَتَهَا ، وَهُوَ أَحَقُّ بِالدِّيَةِ وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُ بَدَلًا مِنْ قَطْعِهَا فِي السَّرِقَةِ : لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ فِي السَّرِقَةِ الْقَطْعُ دُونَ الدِّيَةِ ، وَقَدْ سَقَطَ بِالْفَوَاتِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ يُمْنَاهُ نَاقِصَةَ الْأَصَابِعِ قَدْ ذَهَبَ بَعْضُهَا وَبَقِيَ بَعْضُهَا ، فَتُقْطَعُ وَيُجْزِئُ قَطْعُهَا ، وَلَوْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهَا إِصْبَعًا وَاحِدَةً . لِأَنَّ اسْمَ الْيَدِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا مَعَ نُقْصَانِهَا ، كَمَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا مَعَ زِيَادَتِهَا ، وَهِيَ لَوْ كَانَتْ زَائِدَةَ الْأَصَابِعِ قُطِعَتْ ، كَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ نَاقِصَةَ الْأَصَابِعِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْقِصَاصِ الَّذِي تُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُمَاثِلَةُ وَيُعْتَبَرُ فِي السَّرِقَةِ مُطْلَقُ الِاسْمِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ يُمْنَاهُ ذَاهِبَةَ الْأَصَابِعِ كُلِّهَا ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا كَفُّهَا ، فَفِي قَطْعِهَا فِي السَّرِقَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ حَكَاهُ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ ، عَنِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهَا تُقْطَعُ : لِإِطْلَاقِ اسْمِ الْيَدِ عَلَيْهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تُقْطَعُ ، وَيَصِيرُ كَالَّذِي لَا يُمْنَى لَهُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِقَطْعِهَا أَنْ يُسْلَبَ بِهِ مَنْفَعَتَهَا ، وَهَذِهِ لَا مَنْفَعَةَ وَلَا جَمَالَ بِهَا . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ تَكُونَ يُمْنَاهُ شَلَّاءَ لَا يَبْطِشُ بِهَا ، فَيُسْأَلُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ بِهَا إِذَا قُطِعَتْ ، فَإِنْ قَالُوا : إِنَّ عُرُوقَهَا بَعْدَ الْقَطْعِ تَلْتَحِمُ وَتَنْسَدُّ ، قُطِعَتْ فِي السَّرِقَةِ . وَإِنْ قَالُوا : لَا تَلْتَحِمُ وَلَا تَنْسَدُّ ، لَمْ تُقْطَعْ : لِأَنَّ بَقَاءَ الْعُرُوقِ عَلَى انْفِتَاحِ أَفْوَاهِهَا مُفْضٍ إِلَى تَلَفِ نَفْسِهِ ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ تَلَفُهُ .

وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ : أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ يُمَنَى ، وَتَكُونُ قَدْ ذَهَبَتْ قَبْلَ سَرِقَتِهِ إِمَّا بِجِنَايَةٍ أَوْ عِلَّةٍ ، فَلَا يَسْقُطُ قَطْعُ السَّرِقَةِ بِذَهَابِهَا ، بِخِلَافِ الذَّاهِبَةِ بَعْدَ سَرِقَتِهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْقَطْعَ قَدْ تَعَيَّنَ فِيهَا إِذَا تَأَخَّرَ ذَهَابُهَا فَسَقَطَ بِذَهَابِهَا ، وَإِذَا تَقَدَّمَ ذَهَابُهَا تَعَيَّنَ الْقَطْعُ فِي غَيْرِهَا ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِذَهَابِهَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ الْعُدُولُ إِلَى قَطْعِ رِجْلِهِ الْيُسْرَى : لِأَنَّ ذَهَابَ الْيُمْنَى يَجْعَلُ السَّرِقَةَ الْأُولَى فِي حُكْمِ الثَّانِيَةِ ، وَالْمَقْطُوعُ فِي الثَّانِيَةِ رِجْلُهُ الْيُسْرَى دُونَ الْيَدِ الْأُخْرَى ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِذَا سَرَقَ الثَّانِيَةَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى مِنْ مِفْصَلِ الْكَعْبِ ثُمَّ حُسِمَتْ بِالنَّارِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : تُقْطَعُ فِي السَّرِقَةِ الثَّانِيَةِ رِجْلُهُ الْيُسْرَى السارق ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ عَطَاءٌ : تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى : لِأَنَّهَا إِلَى الْيَدِ الْيُمْنَى أَقْرَبُ مِنَ الرِّجْلِ ، فَكَانَ الْعُدُولُ مِنْهَا إِلَى مَا قَارَبَهَا أَوْلَى مِنَ الْعُدُولِ إِلَى مَا بَعُدَ عَنْهَا . وَهَذَا خَطَأٌ : لِرِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يَدَهُ ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ . وَرُوِيَ أَنَّ نَجْدَةَ الْحَرُورِيَّ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ يَسْأَلُهُ ، هَلْ قَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ يَدِ السَّارِقِ يَدَهُ أَوْ رِجْلَهُ ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : قَطَعَ رِجْلَهُ بَعْدَ الْيَدِ . وَلِأَنَّهُ فِعْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ ، فَكَانَ إِجْمَاعًا ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا قُطِعَ فِي الْحِرَابَةِ الرِّجْلُ بَعْدَ الْيَدِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ مِثْلُهُ . فَإِذَا ثَبَتَ قَطْعُ رِجْلِهِ الْيُسْرَى فِي السَّرِقَةِ الثَّانِيَةِ ، قُطِعَتْ مِنْ مِفْصَلِ الْكَعْبِ وَلَمْ تُقْطَعْ إِلَّا بَعْدَ انْدِمَالِ يَدِهِ : لِئَلَّا يَتَوَالَى عَلَيْهِ الْقَطْعَانِ فَيَتْلَفُ ، وَإِنْ جُمِعَ بَيْنَ قَطْعِهِمَا فِي الْحِرَابَةِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ قَطْعَهُمَا فِي الْحِرَابَةِ حَدٌّ وَاحِدٌ ، وَالْحَدُّ الْوَاحِدُ يُجْمَعُ وَلَا يُفَرَّقُ ، وَقَطْعُهُمَا فِي السَّرِقَةِ حَدَّانِ ، وَالْحَدَّانِ لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا ، وَيُفَرَّقَانِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِذَا سَرَقَ الثَّالِثَةَ ، قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى مِنْ مِفْصَلِ الْكَفِّ ثُمَّ حُسِمَتْ بِالنَّارِ . فَإِذَا سَرَقَ الرَّابِعَةَ ، قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى مِنْ مِفْصَلِ الْكَعْبِ ثُمَّ حُسِمَتْ بِالنَّارِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : يُقْطَعُ السَّارِقُ فِي الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ ، فَتُقْطَعُ فِي الثَّالِثَةِ يَدُهُ الْيُسْرَى ، وَتَقْطَعُ فِي الرَّابِعَةِ رِجْلُهُ الْيُمْنَى ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَإِسْحَاقُ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا أَقْطَعُهُ بَعْدَ الثَّانِيَةِ ، وَيُحْبَسُ بَعْدَ التَّعْزِيرِ حَتَّى يَتُوبَ . وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [ الْمَائِدَةِ : 38 ] ، وَالْإِضَافَةُ إِلَى الِاثْنَيْنِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ تَقْتَضِي وَاحِدًا مِنَ الِاثْنَيْنِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [ التَّحْرِيمِ : 4 ] ، فَكَانَ الْمُرَادُ قَلْبًا مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ أُتِيَ بِسَارِقٍ مَقْطُوعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ ، فَلَمْ يَقْطَعْهُ ، وَقَالَ : إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ أَنْ لَا أَدَعَ لَهُ يَدًا يَأْكُلُ بِهَا ، وَرِجْلًا يَمْشِي عَلَيْهَا . وَأَنَّ كُلَّ عُضْوٍ لَا يُقْطَعُ فِي السَّرِقَةِ الثَّانِيَةِ ، لَمْ يُقْطَعْ فِي السَّرِقَةِ بِحَالٍ كَالِّلسَانِ وَالْأَنْفِ ، وَلِأَنَّ فِي قَطْعِ الْيُسْرَى اسْتِيفَاءَ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تُقْطَعَ فِي السَّرِقَةِ كَالسَّرِقَةِ الثَّانِيَةِ ، وَلِأَنَّ الْيَدَ الْيُسْرَى أَقْرَبُ إِلَى الْيُمْنَى مِنَ الرِّجْلِ الْيُسْرَى ، وَالسَّرِقَةُ الثَّانِيَةُ أَقْرَبُ إِلَى الْأُولَى مِنَ الثَّالِثَةِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ قَطْعُهَا فِي الثَّانِيَةِ مَعَ قُرْبِهَا مِنَ الْيُمْنَى ، وَقُرْبِهَا مِنَ السَّرِقَةِ الْأُولَى كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا تُقْطَعُ فِي الثَّالِثَةِ : لِأَنَّ السَّرِقَةَ إِذَا تَكَرَّرَتْ ضَعُفَتْ ، وَإِذَا تَقَدَّمَتْ غَلُظَتْ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [ الْمَائِدَةِ : 38 ] ، فَاقْتَضَى هَذَا الظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِ الْجَمْعِ أَنْ تُقْطَعَ الْيَدَيْنِ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ يُعَبَّرُ عَنِ الِاثْنَيْنِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الْجَمْعِ مِنَ الْوَاحِدِ ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ : فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [ التَّحْرِيمِ : 4 ] ، دَلِيلٌ : لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَسَدِ إِلَّا قَلْبٌ وَاحِدٌ ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ تَرَكَ الظَّاهِرَ ، وَهَذَا انْفِصَالٌ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يَدَهُ ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ وَهَذَا نَصٌّ . وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَارِقٍ فَقَطَعَ يَدَهُ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ وَقَدْ سَرَقَ فَقَطَعَ رِجْلَهُ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ وَقَدْ سَرَقَ فَقَطَعَ يَدَهُ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ وَقَدْ سَرَقَ فَقَطَعَ رِجْلَهُ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ وَقَدْ سَرَقَ فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ فَإِنْ قِيلَ : فَفِيهِ الْقَتْلُ فِي الْخَامِسَةِ وَهُوَ مَنْسُوخٌ ، فَلَمْ يَصِحَّ الِاجْتِمَاعُ بِهِ . قِيلَ : نَسْخُ بَعْضِ الْحَدِيثِ لَا يَقْتَضِي نَسْخَ بَاقِيهِ . وَرَوَى أَيُّوبُ ، عَنْ نَافِعٍ ، أَنَّ أَقْطَعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ نَزَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَرَقَ ، فَقَطَعَ يَدَهُ .

وَرَوَى عِكْرِمَةُ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : شَهِدْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَطَعَ بَعْدَ يَدٍ وَرِجْلٍ يَدًا . وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّ كُلَّ يَدٍ جَازَ قَطْعُهَا قَوَدًا جَازَ قَطْعُهَا حَدًّا كَالْيُمْنَى ، وَكُلَّ رِجْلٍ قُطِعَتْ قَوَدًا جَازَ قَطْعُهَا حَدًّا كَالْيُسْرَى . وَلِأَنَّ الْإِمَامَ لَوْ أَخْطَأَ فَقَطَعَ الْيَدَ الْيُسْرَى فِي السَّرِقَةِ سَقَطَ بِهَا قَطْعُ الْيُمْنَى . فَتَقُولُ : مَا سَقَطَ الْحَدُّ بِقَطْعِهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ قَطْعُهُ مُسْتَحَقًّا ، كَالْيُمْنَى . وَلِأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ ثَبَتَ لِلْيَدِ الْيُمْنَى وَالرِّجْلِ الْيُسْرَى ، ثَبَتَ لِلْيَدِ الْيُسْرَى وَالرِّجْلِ الْيُمْنَى . أَصْلُهُ : الدِّيَةُ وَالْقَوَدُ وَالطَّهَارَةُ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : فَقَدْ عَارَضَهُ فِعْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى اللِّسَانِ وَالْأَنْفِ مَعَ فَسَادِ مَوْضُوعِهِ : فَهُوَ أَنَّهُ لَوْ قُطِعَ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ الْحَدُّ ، وَلَمْ يَجُزْ قَطْعُهُ فِي الْحَدِّ بِخِلَافِ الْيَدِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ بِمَا فِيهِ مِنَ اسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ : فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمْ يُمْنَعْ ذَلِكَ فِي الْقَوَدِ ، فَلَمْ يُمْنَعْ فِي الْحَدِّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنَ الْقَتْلِ ، كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ مَا دُونَ الْقَتْلِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّهَا فِي الثَّانِيَةِ أَقْرَبُ ، وَإِذَا تَكَرَّرَتِ السَّرِقَةُ خَفَّتْ ، فَهُوَ إِثْبَاتُ اعْتِبَارِ الثَّانِيَةِ بِالْقَطْعِ فِي الْحِرَابَةِ مِنْ خِلَافٍ ، فَكَانَ ذَلِكَ اعْتِلَالًا يَدْفَعُ عَنْهُ هَذَا التَّعْلِيلَ ، كَذَلِكَ السَّرِقَةُ . وَادِّعَاؤُهُمْ خِفَّةَ السَّرِقَةِ إِذَا تَكَرَّرَتْ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ : لِأَنَّ قَطْعَ الرِّجْلِ فِي الثَّانِيَةِ أَغْلَظُ مِنْ قَطْعِ الْيَدِ فِي الْأُولَى : لِأَنَّهَا أَغْلَظُ مِفْصَلًا وَأَكْثَرُ زَمَانَةً .

فَصْلٌ : وَإِذَا سَرَقَ مِرَارًا قَبْلَ الْقَطْعِ قُطِعَ لِجَمِيعِهَا قَطْعًا وَاحِدًا ، وَتَدَاخَلَ بَعْضُ الْقَطْعِ فِي بَعْضٍ ، كَالزَّانِي إِذَا لَمْ يُحَدَّ حَتَّى تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ حُدَّ فِي جَمِيعِهِ حَدًّا وَاحِدًا : لِأَنَّ الْحُدُودَ لِإِدْرَائِهَا بِالشُّبْهَةِ يَتَدَاخَلُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيُقْطَعُ بِأَخَفِّ مُؤْنَةٍ وَأَقْرَبِ سَلَامَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ قَطْعَ يَدِ السَّارِقِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُسَاقَ إِلَى مَوْضِعِ الْقَطْعِ سَوْقًا رَقِيقًا لَا يُعَنَّفُ بِهِ ، وَلَا يُقَابَلُ بِسَبٍّ وَلَا شَتْمٍ وَلَا تَعْيِيرٍ ، وَلَا يُقْطَعُ قَائِمًا حَتَّى يَجْلِسَ ، وَيُمْسَكُ عِنْدَ الْقَطْعِ حَتَّى لَا يَضْطَرِبَ ، وَتُمَدُّ يَدُهُ بِحَبْلٍ حَتَّى

يُتَبَيَّنُ مَفْصِلُهَا السارق عند قطع يده ، وَيَتَوَلَّى قَطْعَهُ مَأْمُونٌ عَارِفٌ بِالْقَطْعِ بِأَحَدِّ سِكِّينٍ وَأَمْضَاهَا ، وَلَا يَضْرِبُهَا بِالسِّكِّينِ فَرُبَّمَا يُخْطِئُ مَوْضِعَ الْمِفْصَلِ ، وَلَكِنْ يَضَعُ السِّكِّينَ عَلَيْهَا وَيَعْتَمِدُ جَذْبَهَا بِقُوَّتِهِ حَتَّى تَنْفَصِلَ بِجَذْبَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يُكَرِّرُهَا ، فَإِنْ لَمْ تَنْفَصِلْ بِجَذْبَةٍ وَاحِدَةٍ أَعَادَهَا حَتَّى تَنْفَصِلَ ، وَلَا يَدُقُّ السِّكِّينَ بِحَجَرٍ ، فَإِذَا انْفَصَلَتْ حَسَمَ مَوْضِعَ الْقَطْعِ مِنْ يَدِهِ السارق بعد قطع يه ، فَإِنْ كَانَ بَدَوِيًّا حَسَمَ بِالنَّارِ : لِأَنَّهَا عَادَتُهُمْ ، وَإِنْ كَانَ حَضَرِيًّا أَغْلَى لَهَا الزَّيْتَ وَحُسِمَتْ فِيهِ : لِأَنَّ حَسْمَهَا بِالنَّارِ وَالزَّيْتِ يَسُدُّ أَفْوَاهَ الْعُرُوقِ فَتَنْقَطِعُ مَجَارِي الدَّمِ ، فَيَقِلُّ الْخَوْفُ عَلَى نَفْسِهِ . وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِسَارِقٍ سَرَقَ شَمْلَةً ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا إِخَالُهُ سَرَقَ . فَقَالَ السَّارِقُ : بَلَى يَا رَسُولُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اذْهَبُوا بِهِ فَاقْطَعُوهُ ، ثُمَّ احْسِمُوهُ ، ثَمَّ ائْتُونِي بِهِ . فَقُطِعَ وَأُتِيَ بِهِ فَقَالَ : تُبْ إِلَى اللَّهِ . فَقَالَ : قَدْ تُبْتُ إِلَى اللَّهِ . قَالَ : تَابَ اللَّهُ عَلَيْكَ . فَإِنِ امْتَنَعَ الْمَقْطُوعُ مِنْ حَسْمِ يَدِهِ من أحكام السرقة ، فَإِنْ كَانَ قَطْعُهَا فِي قِصَاصٍ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى حَسْمِهَا : لِخُرُوجِهِ عَنْ حُدُودِ اللَّهِ ، وَإِنْ كَانَ قَطْعُهَا فِي سَرِقَةٍ فَفِي إِجْبَارِهِ عَلَى حَسْمِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُجْبَرُ عَلَى حَسْمِهَا : لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ حَدِّ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُجْبَرُ : لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى التَّدَاوِي عَنْ مَرَضٍ ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْقِصَاصِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْبَسَ بَعْدَ قَطْعِهِ وَلَا يُشَهَّرُ فِي النَّاسِ : لِأَنَّ قَطْعَهُ شُهْرَةٌ كَافِيَةٌ ، وَيُطْلَقُ لِوَقْتِهِ . وَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُشَدَّ كَفُّهُ الْمَقْطُوعَةُ فِي عُنُقِهِ ، عِنْدَ إِطْلَاقِهِ ، رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَيْرِيزٍ قَالَ : سَأَلْنَا فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ عَنْ تَعْلِيقِ يَدِ السَّارِقِ فِي عُنُقِهِ أَمِنَ السُّنَّةِ هُوَ ؟ قَالَ : أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَارِقٍ فَقُطِعَتْ يَدُهُ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهَا فَعُلِّقَتْ فِي عُنُقِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا أُجْرَةُ الْقَاطِعِ والجلاد في إقامة الحدود وَثَمَنُ الزَّيْتِ لِحَسْمِ يَدِهِ ، فَفِي بَيْتِ الْمَالِ : لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عُمُومِ الْمَصَالِحِ . فَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ يَكْثُرُ جُعِلَ لِلْقَاطِعِ وَالْجَلَّادِ رِزْقٌ ، وَإِنْ كَانَ يَقِلُّ أُعْطِيَ أُجْرَتَهُ كُلَّمَا قَطَعَ أَوْ جَلَدَ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ لَمْ يُؤْخَذْ بِثَمَنِ الزَّيْتِ : لِأَنَّهُ كَالدَّوَاءِ الَّذِي لَا يُجْبَرُ عَلَى ثَمَنِهِ ، وَأُخِذَ بِأُجْرَةِ الْقَاطِعِ مِنْ مَالِهِ : لِأَنَّ عَلَيْهِ تَسْلِيمَ حَدِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ نَفْسِهِ . فَإِنْ قَالَ : أَنَا أَتَوَلَّى قَطْعَ يَدَيَّ بِنَفْسِي . فَفِي تَمْكِينِهِ مِنْهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُمَكَّنُ كَمَا لَا يُمَكَّنُ مِنْ قَطْعِهِمَا قِصَاصًا .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُمَكَّنُ مِنْ قَطْعِهَا فِي السَّرِقَةِ ، وَإِنْ لَمْ يُمَكَّنْ مَنْ قَطَعِهَا قِصَاصًا : لِأَنَّ قَطْعَ السَّرِقَةِ مَوْضُوعٌ لِلزَّجْرِ ، وَهُوَ حَاصِلٌ إِذَا تَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ . وَقَطْعُ الْقِصَاصِ مَوْضُوعٌ لِلتَّشَفِّي ، فَكَانَ مُسْتَحِقُّ التَّشَفِّي أَوْلَى بِهِ .

فَصْلٌ : وَلَا يُقْطَعُ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ وَلَا بَرْدٍ شَدِيدٍ إقامة الحد على السارق خَوْفًا مِنْ تَلَفِهِ فِيهِ ، كَمَا لَا يُحَدُّ الزَّانِي فِي شِدَّةِ حَرٍّ وَلَا بَرْدٍ ، وَكَذَلِكَ لَا يُقْطَعُ فِي مَرَضٍ يُرْجَى زَوَالُهُ من أحكام السارق ؟ : لِأَنَّ الْقَطْعَ فِيهِ أَشَدُّ خَوْفًا ، وَكَذَلِكَ الْحَامِلُ لَا تُقْطَعُ فِي حَمْلِهَا خَوْفًا عَلَيْهَا وَعَلَى حَمْلِهَا ، وَلَا فِي نِفَاسِهَا خَوْفًا عَلَيْهَا : لِئَلَّا يَجْتَمِعَ دَمُ النِّفَاسِ وَدَمُ الْقَطْعِ فَيُفْضِي إِلَى تَلَفِهَا ، قَدْ مَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَطْعِ جَارِيَةٍ نُفَسَاءَ حَتَّى يَنْقَطِعَ دَمُهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ سَرَقَ الْخَامِسَةَ عُزِّرَ وَحُبِسَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لَا يُتَجَاوَزُ بِالسَّارِقِ قَطْعُ أَطْرَافِهِ الْأَرْبَعَةِ فِي أَرْبَعِ سَرِقَاتٍ ، فَإِنْ سَرَقَ فِي الْخَامِسَةِ عُزِّرَ وَلَمْ يُقْتَلْ ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَحُكِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَطَاءٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ : أَنَّهُ يُقْتَلُ فِي الْخَامِسَةِ السارق بعد المرة الرابعة : لِرِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَارِقٍ فَقَطَعَ يَدَهُ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ قَدْ سَرَقَ فَقَطَعَ رِجْلَهُ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ قَدْ سَرَقَ فَقَطَعَ يَدَهُ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ قَدْ سَرَقَ فَقَطَعَ رِجْلَهُ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ قَدْ سَرَقَ فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ . وَدَلِيلُنَا : مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يَدَهُ ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ وَهَذَا قَوْلٌ قَصَدَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيَانَ ، وَلَوْ وَجَبَ قَتْلُهُ فِي الْخَامِسَةِ لَأَبَانَهُ كَمَا أَبَانَ قَطْعَهُ فِي الْأَرْبَعِ : لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُمْسِكَ عَنْ بَعْضِ الْبَيَانِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُمْسِكَ عَنْ جَمِيعِهِ ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ : لِأَنَّهَا قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ يَجُوزُ أَنْ تَحْتَمِلَ وُجُوهًا . وَقَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ : أَنَّ الْقَتْلَ مَنْسُوخٌ : لِأَنَّهُ رُفِعَ إِلَيْهِ فِي الْخَامِسَةِ فَلَمْ يَقْتُلْهُ ، وَعَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ بَعْدَهُ أَجْمَعُوا عَلَى تَرْكِ الْقَتْلِ ، فَدَلَّ عَلَى تَقَدُّمِ نَسْخِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْقُلُوهُ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ أَوْجَبَتْ حَدًّا لَمْ يَكُنْ تَكْرَارُهَا مُوجِبًا لِلْقَتْلِ كَالزِّنَا وَالْقَذْفِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يُقْطَعُ الْحَرْبِيُّ إِذَا دَخَلَ إِلَيْنَا بِأَمَانٍ وَيَضْمَنُ السَّرِقَةَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الْمُقِيمِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مُسْلِمٍ ، وَذِمِّيٍّ ، وَمُسْتَأْمَنٍ .

فَأَمَّا الْقسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ الْمُسْلِمُ فَيَلْزَمُ الْإِمَامَ فِي حَقِّهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ : رعاية الإمام لمصالح المسلمين أَحَدُهَا : الذَّبُّ عَنْ مَالِهِ وَنَفْسِهِ مِنْ كُلِّ مُتَعَدٍّ عَلَيْهِ ، سَوَاءٌ كَانَ فِي طَاعَةِ الْإِمَامِ وَتَحْتَ قُدْرَتِهِ كَالْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي طَاعَتِهِ وَلَا دَاخِلًا تَحْتَ قُدْرَتِهِ كَالْبُغَاةِ وَالْمُرْتَدِّينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ ، وَيَسْعَى بِذَّمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ . وَالثَّانِي : اسْتِيفَاءُ الْحُقُوقِ لَهُ إِذَا عَجَزَ عَنِ اسْتِيفَائِهَا بِنَفْسِهِ ، سَوَاءً كَانَتْ فِي مَالٍ كَالدَّيْنِ ، أَوْ عَلَى بَدَنٍ كَالْقِصَاصِ ، وَحَدُّ الْقَذْفِ عَلَى مُسْلِمٍ كَانَتْ أَوْ غَيْرِ مُسْلِمٍ . وَالثَّالِثُ : اسْتِيفَاءُ الْحُقُوقِ مِنْهُ ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي مَالٍ أَوْ بَدَنٍ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ لِلْآدَمِيِّينَ ، لِمُسْلِمٍ كَانَتْ أَوْ غَيْرِ مُسْلِمٍ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ الذِّمِّيُّ في دار الإسلام ولاية إمام السلمين عليه ، فَيَلْزَمُ الْإِمَامَ فِي حَقِّهِ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ كَالْمُسْلِمِ ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي تَفْصِيلِهَا : أَحَدُهَا : أَنْ يَذُبَّ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ كُلِّ مُتَعَدٍّ عَلَيْهِ ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الطَّاعَةِ أَوْ خَارِجًا عَنْهَا ، كَمَا يَذُبُّ عَنِ الْمُسْلِمِينَ : لِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا بِالذِّمَّةِ تَبَعًا لِلْمُسْلِمِينَ . وَالثَّانِي : اسْتِيفَاءُ الْحُقُوقِ لَهُمْ إِنْ كَانَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى أَهْلِ ذِمَّتِهِمْ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ عَنْ عُدْوَانٍ كَالْغُصُوبِ ، فَيَسْتَوْفِيهَا مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ : لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ تَمْنَعُ مِنَ التَّغَالُبِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ عَنْ مُعَامَلَاتٍ ، فَإِنْ لَمْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الْإِمَامِ أَوْ حَاكِمِهِ لَمْ يُعْتَرَضْ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَإِنْ تَحَاكَمُوا إِلَيْهِ أَوْ إِلَى حَاكِمِهِ كَفَّهُمْ عَنِ التَّظَالُمِ ، وَفِي وُجُوبِ حُكْمِهِ عَلَيْهِمْ قَوْلَانِ مَضَيَا . وَالثَّالِثُ : اسْتِيفَاءُ الْحُقُوقِ مِنْهُمْ ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمَحْضَةِ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةِ .

وَالثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ . فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمَحْضَةِ ، فَلَا يَخْلُو مُسْتَحِقُّهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا ، أَوْ ذِمِّيًّا ، أَوْ مُعَاهَدًا . فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا ، اسْتُوفِيَتْ حُقُوقُهُ مِنْهُمْ ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي بَدَنٍ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ ، أَوْ فِي مَالٍ كَالدُّيُونِ والْغُصُوبِ . وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقُّهَا ذِمِّيًّا مِنْهُمْ ، نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَتْ عَنْ غَيْرِ مُرَاضَاةٍ كَالْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ ، وَالْغُصُوبِ فِي الْأَمْوَالِ ، لَزِمَ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْهُمْ : لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ تَمْنَعُ مِنَ التَّعَدِّي وَالتَّغَالُبِ . وَإِنْ كَانَتْ عَنْ مُرَاضَاةٍ كَدُيُونِ الْمُعَامَلَاتِ ، فَإِنْ لَمْ يَتَحَاكَمُوا فِيهِ إِلَيْنَا تُرِكُوا ، وَإِنْ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا فَفِي وُجُوبِ اسْتِيفَائِهَا مِنْهُمْ وَلَهُمْ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى . وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقُّهَا مُعَاهَدًا فَإِنْ كَانَتْ فِي بَدَنِ الْقِصَاصِ وَجَبَ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْهُمْ : لِأَنَّ حِفْظَ نُفُوسِ أَهْلِ الْعَهْدِ وَاجِبٌ عَلَيْنَا ، وَإِنْ كَانَتْ فِي مَالٍ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ لِأَمْوَالِهِمْ أَمَانٌ عَلَيْنَا وَجَبَ اسْتِيفَاؤُهَا لَهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ لِأَمْوَالِهِمْ أَمَانٌ لَمْ يَجِبِ اسْتِيفَاؤُهَا لَهُمْ ، وَاسْتَرْجَعَهَا الْإِمَامُ مِمَّنْ أَخَذَهَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِبَيْتِ الْمَالِ : لِأَنَّ مَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ مِنَ الْغَنَائِمِ مُسْتَحَقٌّ لِلْمُسْلِمِينَ دُونَ أَهْلِ الذِّمَّةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةِ ، فَهِيَ حَقَّانِ : قَتْلٌ بِرِدَّةٍ ، وَحَدٌّ فِي زِنًا . فَأَمَّا الرِّدَّةُ ، فَمَنِ ارْتَدَّ مِنْهُمْ إِلَى مَا لَا يُقَرُّ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَدْيَانِ اسْتُتِيبَ ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ كَالْمُسْلِمِ ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَبْلُغَ مَأْمَنَهُ : لِأَنَّ إِبْلَاغَ الْمَأْمَنِ يَلْزَمُ بِانْتِقَاضِ الذِّمَّةِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُ نَقْضًا لِذِمَّتِهِ . وَأَمَّا الزِّنَا ، فَإِنْ كَانَ بِمُسْلِمَةٍ حُدَّ إِنْ كَانَ مُحْصَنًا بِالرَّجْمِ ، وَإِنْ كَانَ بِكْرًا بِالْجَلْدِ ، وَكَانَ نَقْضًا لِذِمَّتِهِ : لِأَنَّهُ مِنْ شُرُوطِ ذِمَّتِهِ ، فَيَبْلُغُ مَأْمَنَهُ ، ثُمَّ يَكُونُ حَرْبًا . وَإِنْ زَنَا بِذِمِّيَّةٍ ، فَفِي وُجُوبِ حَدِّهِمَا قَوْلَانِ مِنْ نُفُوذِ أَحْكَامِنَا عَلَيْهِمْ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ نَقْضًا لِذِمَّتِهِمْ ، لَكِنْ لَا يُقَرُّونَ عَلَى ارْتِكَابِ الزِّنَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ : لِأَنَّهَا تَمْنَعُ مِنَ ارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ فَيُسْتَتَابُونَ مِنْهُ ، فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا نُبِذَ إِلَيْهِمْ عَهْدُهُمْ ، ثُمَّ كَانُوا بَعْدَ بُلُوغِ مَأْمَنِهِمْ حَرْبًا . فَأَمَّا إِنْ نَاكَحُوا ذَوَاتِ مَحَارِمِهِمْ ، فَإِنْ كَانُوا لَا يَعْتَقِدُونَ إِبَاحَتَهُ فِي دِينِهِمْ كَالْيَهُودِ ، لَمْ يُقَرُّوا عَلَيْهِ ، وَصَارَ مِنْهُمْ كَالزِّنَا . وَإِنِ اعْتَقَدُوا إِبَاحَتَهُ كَالْمَجُوسِ ، أُقِرُّوا عَلَيْهِ . فَأَمَّا شُرْبُ الْخُمُورِ فَيُمْنَعُونَ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ بِهَا ، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ شُرْبِهَا لِاسْتِبَاحَتِهِمْ لَهَا فِي دِينِهِمْ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمْ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا حَدَدْتُمُوهُمْ وَإِنِ اسْتَبَاحُوهَا ، كَمَا تَحُدُّونَ الْمُسْلِمَ فِي شُرْبِ النَّبِيذِ وَإِنْ كَانَ عَلَى رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ .

قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الذِّمِّيَّ مُقَرٌّ عَلَى مَا خَالَفَنَا فِيهِ مِنْ دِينِهِ ، فَلَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُ الْإِمَامِ عَلَيْهِ . وَالْمُسْلِمُ مَأْخُوذٌ بِحُقُوقِ الدِّينِ ، نُفِّذَ حُكْمُ الْإِمَامِ عَلَيْهِ . وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ : فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، فَهُوَ السَّرِقَةُ ، وَلَا تَخْلُو سَرِقَتُهُ أَنْ تَكُونَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ مِنْ ذِمِّيٍّ أَوْ مِنْ مَعَاهَدٍ ، فَإِنْ سَرَقَ مِنْ مُسْلِمٍ غَرِمَ وَقُطِعَ كَالْمُسْلِمِ . وَإِنْ سَرَقَ مِنْ ذِمِّيٍّ أُغْرِمَ : لِأَنَّهُ عَنْ تَغَالُبٍ تَمْنَعُ دَارُ الْإِسْلَامِ مِنْهُ ، وَفِي قَطْعِهِ قَوْلَانِ مِنْ نُفُوذِ أَحْكَامِنَا عَلَيْهِمْ . وَإِنْ كَانَ مُعَاهَدًا ، فَإِنْ كَانَ لِمَالِهِ أَمَانٌ أُغْرِمَ لِلْمُعَاهَدِ ، وَقُطِعَ فِي سَرِقَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِمَالِهِ أَمَانٌ أُغْرِمَ لِبَيْتِ الْمَالِ وَلَمْ يُقْطَعْ فِيهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ الْمُسْتَأْمَنُ الْمُعَاهَدُ أحكامه ، فَالْمُعَاهَدُونَ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ مُخَالِفُونَ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ . فَأَمَّا الْحُكْمُ الْأَوَّلُ فِي الذَّبِّ عَنْهُمْ ، فَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَمْنَعَ عَنْهُمْ مَنْ كَانَ فِي طَاعَتِهِ وَتَحْتَ قُدْرَتِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ : لِأَنَّ الْأَمَانَ يَقْتَضِيهِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَمْنَعَ عَنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي طَاعَتِهِ وَتَحْتَ قُدْرَتِهِ مَنْ أَهْلِ الْحَرْبِ : لِأَنَّ أَمَانَهُمْ يُوجِبُ الْكَفَّ عَنْهُمْ وَلَا يُوجِبُ نُصْرَتَهُمْ . وَأَمَّا إِذَا تَعَدَّى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، لَمْ يَجِبْ نُصْرَتُهُمْ وَلَمْ يُقَرُّوا عَلَى التَّعَدِّي : لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ تُوجِبُ التَّنَاصُفَ وَتَمْنَعُ مِنَ التَّغَالُبِ وَالتَّظَالُمِ . وَقِيلَ لَهُمْ : إِنْ تَنَاصَفْتُمْ وَإِلَّا نَبَذْنَا إِلَيْكُمْ عَهْدَكُمْ ، ثُمَّ صِرْتُمْ بَعْدَ بُلُوغِ مَأْمَنِكُمْ حَرْبًا . وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّانِي : وَهُوَ اسْتِيفَاءُ الْحُقُوقِ لَهُمْ ، فَإِنْ كَانَتْ مَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَلْزَمِ اسْتِيفَاؤُهَا لَهُمْ : سَوَاءً كَانَتْ فِي نَفْسٍ أَوْ مَالٍ ، كَمَا لَا يَلْزَمُ نُصْرَتُهُمْ مِنْهُمْ . وَإِنْ كَانَتْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ نُظِرَ فِيهَا ، فَإِنْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً عَلَى أَمَانِهِمْ لَمْ يَلْزَمِ اسْتِيفَاؤُهَا لَهُمْ : لِوُجُودِهَا فِي حَالٍ لَا يُوجِبُ الْكَفَّ عَنْهُمْ ، وَإِنْ حَدَثَتْ بَعْدَ أَمَانِهِمْ ، فَهِيَ نَوْعَانِ حُقُوقُ أَبْدَانٍ ، وَحُقُوقُ أَمْوَالٍ : فَأَمَّا حُقُوقُ الْأَبْدَانِ كَالْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَاتِ ، فَيَلْزَمُ اسْتِيفَاؤُهَا لَهُمْ : لِمَا يَلْزَمُ مِنْ حِرَاسَةِ أَبْدَانِهِمْ ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى مُسْلِمٍ اسْتَحَقُّوا بِهَا الدِّيَةَ ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى ذَمِّيٍّ اسْتَحَقُّوا بِهَا الْقَوَدَ . فَأَمَّا حُقُوقُ الْأَمْوَالِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَمْوَالِهِمْ أَمَانٌ لَمْ يَلْزَمِ اسْتِيفَاؤُهَا لَهُمْ ، وَاسْتُرْجِعَتِ الذِّمِّيَّ لِبَيْتِ الْمَالِ ، وَأُقِرَّتْ عَلَى الْمُسْلِمِ إِنْ أَخَذَهَا قَهْرًا بَعْدَ أَخْذِ خُمُسِهَا مِنْهُ : لِأَنَّهَا غَنِيمَةٌ ، وَإِنْ أَخَذَهَا اخْتِلَاسًا انْتُزِعَتْ مِنْهُ لِبَيْتِ الْمَالِ : لِأَنَّهَا فَيْءٌ بِهِ . وَإِنْ كَانَ لِأَمْوَالِهِمْ أَمَانٌ وَجَبَ اسْتِيفَاؤُهَا لَهُمْ ، كَمَا وَجَبَ اسْتِيفَاءُ حُقُوقِهِمْ مِنْ أَبْدَانِهِمْ : لِاشْتِمَالِ أَمْوَالِهِمْ عَلَى أَبْدَانِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، فَتُسْتَوْفَى مِنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ . فَإِنْ سُرِقَتِ الْأَمْوَالُ مِنْهُمْ ، قُطِعَ سَارِقُهَا مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا : لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِي أَمْوَالِهِمْ بَعْدَ الْأَمَانِ لِمُسْلِمٍ وَلَا ذِمِّيٍّ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا أَقْطَعُهُ اسْتِحْسَانًا . وَدَلِيلُنَا : مَعَ عُمُومِ الظَّوَاهِرِ أَنَّ مَنْ ضُمِنَ مَالُهُ جَازَ أَنْ يُقْطَعَ سَارِقُهُ ، قِيَاسًا عَلَى مَالِ الذِّمِّيِّ ، وَلِأَنَّ مَا وَجَبَ بِسَرِقَةِ مَالِ الذِّمِّيِّ وَجَبَ بِسَرِقَةِ مَالِ الْمُسْتَأْمَنِ كَالضَّمَانِ . وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّالِثُ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ مِنْهُمْ فَيُنْظَرُ ، فَإِنْ تَقَدَّمَتْ عَلَى أَمَانِهِمْ لَمْ يَلْزَمِ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْهُمْ ، سَوَاءٌ كَانَتْ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ ، كَمَا لَا يَلْزَمُ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ إِذَا أَسْلَمُوا ، وَإِنْ لَزِمَتْهُمْ بَعْدَ أَمَانِهِمْ ، لَمْ يَخْلُ مَا لَزِمَهُمْ مِنَ الْحُقُوقِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ الْمَحْضَةَ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةَ . وَالثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ . فَإِنْ كَانَتْ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمَحْضَةِ نُظِرَ مُسْتَحِقُّهَا ، فَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ لَمْ يَلْزَمِ اسْتِيفَاؤُهَا لَهُ ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي مَالٍ أَوْ بَدَنٍ ، وَقِيلَ لَهُمْ : إِنْ تَنَاصَفْتُمْ وَإِلَّا نَبَذْنَا إِلَيْكُمْ عَهْدَكُمْ ، ثُمَّ صِرْتُمْ بَعْدَ بُلُوغِ مَأْمَنِكُمْ حَرْبًا . لِمَا تُوجِبُهُ دَارُ الْإِسْلَامِ مِنَ التَّنَاصُفِ ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقُّهَا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا وَجَبَ أَنْ يُسْتَوْفَى لَهُ حَقُّهُ مِنْهُمْ ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ فِي بَدَنٍ كَالْقِصَاصِ أَوْ فِي مَالٍ كَالدُّيُونِ والْغُصُوبِ : لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ بِالْأَمَانِ أَنْ نُؤَمِّنَهُمْ ، وَجَبَ أَنْ نُؤَمِّنَهُمْ بِمَا يُوجِبُهُ الْأَمَانُ مِنْ تَسَاوِي الْجِهَتَيْنِ فِيهِ . وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ الْمَحْضَةُ ، فَقَتْلٌ بِرِدَّةٍ وَحَدٌّ فِي زِنًا ، فَأَمَّا الْقَتْلُ بِالرِّدَّةِ فَيَسْقُطُ عَنْهُمْ وَلَا يُسْتَوْفَى مِنْهُمْ : لِأَنَّ عَهْدَهُمْ يَعُمُّ مَنْ يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ وَمَنْ لَا يُقَرُّ ، بِخِلَافِ الذِّمَّةِ الَّتِي لَا تَسْتَقِرُّ إِلَّا فِيمَنْ يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ ، وَيَكُونُونَ بَعْدَ الرِّدَّةِ عَلَى عَهْدِهِمْ إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ . وَأَمَّا حَدُّ الزِّنَا ، فَيَسْقُطُ عَنْهُمْ كَالْقَتْلِ بِالرِّدَّةِ ، لَكِنْ يُنْظَرُ فِي الْمَزْنِيِّ بِهَا ، فَإِنَّهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ : إِمَّا مُعَاهَدَةٌ ، أَوْ ذِمِّيَّةٌ ، وَإِمَّا مُسْلِمَةٌ . فَإِنْ كَانَتْ مُعَاهَدَةً ، لَمْ يَلْزَمِ اسْتِتَابَةُ الزَّانِي ، وَقِيلَ لَهُمْ : دَارُ الْإِسْلَامِ تَمْنَعُ مِنَ ارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ ، فَإِنْ كَفَفْتُمْ عَنْهَا وَإِلَّا مُنِعْتُمْ مِنَ الْمُقَامِ فِيهَا . وَإِنْ كَانَ الْمَزْنِيُّ بِهَا ذِمِّيَّةً ، وَجَبَ أَنْ يُسْتَتَابُوا مِنْ هَذَا الزِّنَا بِمِثْلِهَا ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَقْضًا لِأَمَانِهِمْ ، فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا نَبَذْنَا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ : لِيَبْلُغُوا مَأْمَنَهُمْ ، ثُمَّ يَصِيرُوا حَرْبًا . وَإِنْ كَانَ الْمَزْنِيُّ بِهَا مُسْلِمَةً ، كَانَ الزِّنَا نَقْضًا لِأَمَانِهِمْ إِنْ شُرِطَ ذَلِكَ فِي عَهْدِهِمْ ، وَبَلَغُوا مَأْمَنَهُمْ ، وَصَارُوا حَرْبًا ، وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فِي عَهْدِهِمُ اسْتُتِيبُوا مِنْهُ ، فَإِنْ تَابُوا ، وَإِلَّا نَبَذْنَا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ حَتَّى يَبْلُغُوا مَأْمَنَهُمْ ، ثُمَّ يَصِيرُوا حَرْبًا . وَأَمَّا الْحُقُوقُ الْمُشْتَرِكَةُ بَيْنَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْآدَمِيِّينَ فَهِيَ السَّرِقَةُ ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ ، وَإِنَّمَا فَرَّعْنَا مَا قَدَّمْنَاهُ عَلَيْهَا : لِارْتِبَاطِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ ، اشْتَمَلَ عَلَى تَقْسِيمِ مَا اتَّصَلَ

بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ ، فَإِذَا سَرَقَ الْمُعَاهَدُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَالًا فَإِنْ كَانَ مِنْ مُعَاهَدٍ ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِغُرْمٍ وَلَا قَطْعٍ ، لَكِنْ يُقَالُ لَهُمْ : دَارُ الْإِسْلَامِ تُوجِبُ التَّنَاصُفَ وَتَمْنَعُ التَّغَالُبَ ، فَإِنْ تَنَاصَفْتُمْ ، وَإِلَّا نَبَذْنَا إِلَيْكُمْ عَهْدَكُمْ . وَإِنْ سَرَقَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ ، وَجَبَ أَنْ يُؤْخَذَ بِغُرْمِ مَا سَرَقَ ، وَفِي وُجُوبِ قَطْعِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ هَاهُنَا ، وَفِي كِتَابِ الْأُمِّ ، وَنَقَلَهُ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ النَّقَّالُ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ : لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَأَشْبَهَ حَدَّ الزِّنَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُقْطَعُ : لِأَنَّهُ لَمَّا لَزِمَهُ الْقِصَاصُ حِفْظًا لِلنُّفُوسِ ، وَلَزِمَهُ حَدُّ الْقَذْفِ حِفْظًا لِلْأَعْرَاضِ ، لَزِمَهُ قَطْعُ السَّرِقَةِ حِفْظًا لِلْأَمْوَالِ : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَلَا إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ فَجَمَعَ بَيْنَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ فِي التَّحْرِيمِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ جَمِيعُهَا فِي الِاسْتِيفَاءِ . فَصَارَ تَحْرِيرُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَطْعِ السَّرِقَةِ ، أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا سَرَقَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ غَرِمَ وَقُطِعَ . وَالذِّمِّيَّ إِذَا سَرَقَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ أُغْرِمَ وَقُطِعَ ، وَإِذَا سَرَقَ مِنْ ذِمِّيٍّ غُرِّمَ ، وَفِي قَطْعِهِ قَوْلَانِ . وَالْمُعَاهَدُ إِذَا سَرَقَ مِنْ مُعَاهَدٍ لَمْ يُغَرَّمْ وَلَمْ يُقْطَعْ ، وَإِذَا سَرَقَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ غُرِّمَ ، وَفِي قَطْعِهِ قَوْلَانِ .

فَصْلٌ : إِذَا قُطِعَ فِي سَرِقَةِ مَالٍ ، ثُمَّ سَرَقَهُ ثَانِيَةً قُطِعَ ، وَكَذَلِكَ ثَالِثَةً وَرَابِعَةً ، سَوَاءً كَانَ مِنْ مَالِ وَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا قُطِعَ فِي مَالٍ لَمْ يُقْطَعْ فِيهِ ثَانِيَةً ، إِلَّا أَنْ يَتَغَيَّرَ عَنْ حَالِهِ ، كَالْغَزْلِ إِذَا نُسِجَ ، وَالطَّعَامِ إِذَا طُحِنَ ، احْتِجَاجًا بِأَنَّ الْقَطْعَ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنٍ وَفِعْلٍ ، فَلَمَّا كَانَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ فِي عَيْنَيْنِ يُوجِبُ قَطْعًا وَاحِدًا ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلَانِ فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ يُوجِبُ قَطْعًا وَاحِدًا ، وَلِأَنَّ قَطْعَ السَّرِقَةِ فِي حِرَاسَةِ الْأَمْوَالِ مُقَابِلٌ لِحَدِّ الْقَذْفِ فِي صِيَانَةِ الْأَعْرَاضِ ، ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَتَكَرَّرْ حَدُّ الْقَذْفِ فِي الرَّجُلِ الْوَاحِدِ وَجَبَ أَنْ لَا يَتَكَرَّرَ قَطْعُ السَّرِقَةِ فِي الْمَالِ الْوَاحِدِ . وَتَحْرِيرُهُ : أَنَّهُ حَدٌّ يَقِفُ اسْتِيفَاؤُهُ عَلَى مُطَالَبَةِ آدَمِيٍّ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَكَرَّرَ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ كَالْقَذْفِ . وَدَلِيلُنَا : مَعَ عُمُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ : هُوَ أَنَّهُ فِعْلٌ يُوجِبُ الْحَدَّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَكَرُّرُهُ فِي الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ كَتَكَرُّرِهِ فِي الْأَعْيَانِ الْمُخْتَلِفَةِ ، كَالزِّنَا يُحَدُّ إِذَا تَكَرَّرَ فِي الْوَاحِدِ كَمَا يُحَدُّ إِذَا تَكَرَّرَ فِي الْجَمَاعَةِ . فَإِنْ قِيلَ : مَحَلُّ الْحَدِّ فِي الزِّنَا مَوْجُودٌ ، فَجَازَ أَنْ يَتَكَرَّرَ ، وَمَحَلُّ الْقَطْعِ مَفْقُودٌ ، فَلَمْ يَتَكَرَّرْ . قِيلَ : هَذَا تَعْلِيلٌ يَبْطُلُ فِي الزِّنَا بِحَدِّ الْقَذْفِ : لِأَنَّ مَحَلَّهُ مَوْجُودٌ وَلَا يَتَكَرَّرُ ، وَيَبْطُلُ فِي السَّرِقَةِ بِالْقَطْعِ فِي الْغَزْلِ إِذَا نُسِجَ ، فَإِنَّ مَحَلَّهُ مَفْقُودٌ وَقَطْعُهُ يَتَكَرَّرُ .

ثُمَّ يُقَالُ : مَحَلُّ الْقَطْعِ فِي الثَّانِيَةِ بَاقٍ : لِأَنَّ الْأَطْرَافَ الْأَرْبَعَةَ مَحَلٌّ لَهُ ، فَلَمْ يَسْلَمِ التَّعْلِيلُ بِمَا قَدَّمْنَاهُ ، وَلَا وَضَحَ الْفَرْقُ بِمَا بَيَّنَّاهُ . وَلِأَنَّ كُلَّ عَيْنٍ إِذَا سَرَقَهَا غَيْرُ سَارِقِهَا قُطِعَ ، فَوَجَبَ إِذَا سَرَقَهَا أَنْ يُقْطَعَ ، كَالْغَزْلِ إِذَا نُسِجَ . فَإِنْ قِيلَ : لِأَنَّ الثَّوْبَ الْمَنْسُوجَ لَا يُسَمَّى غَزْلًا ، فَجَازَ أَنْ يُقْطَعَ فِيهِ ثَانِيًا . انْتَقَضَ عَلَى أَصْلِهِ بِالْجَدْيِ إِذَا قُطِعَ فِيهِ ثُمَّ سَرَقَهُ ، وَقَدْ صَارَ تَيْسًا ، لَمْ يُقْطَعْ عِنْدَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ جَدْيًا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ الْفِعْلَ كَالْعَيْنِ مَعَ انْتِقَاضِهِ بِالْغَزْلِ إِذَا نُسِجَ : فَهُوَ أَنَّ الْفِعْلَ الْوَاحِدَ فِي الْعَيْنَيْنِ سَرِقَةٌ وَاحِدَةٌ ، فَلِذَلِكَ قُطِعَ فِيهَا قَطْعًا وَاحِدًا ، وَالْفِعْلَانِ فِي الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ سَرِقَتَانِ ، فَلِذَلِكَ قُطِعَ فِيهَا قَطْعَانِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهَا الْأَيْمَانُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْقَذْفِ مَعَ انْتِقَاضِهِ بِالْغَزْلِ إِذَا نُسِجَ : فَهُوَ أَنَّ حَدَّهُ فِي الْقَذْفِ قَدْ أَثْبَتَ كَذِبَهُ ، فَلَمْ يُحَدَّ فِي الثَّانِي مَعَ ثُبُوتِ كَذِبِهِ . كَمَا لَوْ قَالَ لِصَغِيرَيْنِ لَا يُجَامِعُ مِثْلُهُمَا : قَدْ زَنَيْتُمَا . لَمْ يُحَدَّ لَهُمَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعُ السَّرِقَةِ : لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِصِيَانَةِ الْمَالِ وَحِرَاسَتِهِ ، فَكَانَ مَعْنَى الْقَطْعِ فِي الْأَوَّلِ مَوْجُودًا فِي السَّرِقَةِ الثَّانِيَةِ ، فَقُطِعَ فِيهَا ثَانِيَةً ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ وَالشَّهَادَةِ عَلَيْهَا

بَابُ الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ وَالشَّهَادَةِ عَلَيْهَا مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا يُقَامُ عَلَى سَارِقٍ حَدٌّ إِلَّا بِأَنْ يَثْبُتَ عَلَى إِقْرَارِهِ حَتَّى يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، أَوْ بِعَدْلَيْنِ يَقُولَانِ : إِنَّ هَذَا بِعَيْنِهِ سَرَقَ عدد شهود السرقة مَتَاعًا لِهَذَا مِنْ حِرْزِهِ بِصِفَاتِهِ ، يُسَاوِي رُبُعَ دِينَارٍ نصاب المسروق الواجب فيه القطع . وَيُحْضَرُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ وَيَدَّعِي شَهَادَتَهُمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو ثُبُوتُ السَّرِقَةَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَنْ دَعْوَى الْمَالِكِ أَوْ بِغَيْرِ دَعْوَاهُ . فَإِنْ كَانَ عَنْ دَعْوَى الْمَالِكِ فَثُبُوتُهَا عَلَى السَّارِقِ ، وَيَكُونُ إِمَّا بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ ، فَإِنْ كَانَ بِإِقْرَارٍ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالسَّرِقَةِ بِإِقْرَارِ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَإِنْ خَالَفَا فِي الزِّنَا ، فَلَمْ يَحُدَّاهُ إِلَّا بِإِقْرَارِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ الشَّهَادَةِ فِيهِ ، وَوَافَقَا فِي السَّرِقَةِ أَنَّهَا تَلْزَمُهُ بِإِقْرَارِ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَا يُعْتَبَرُ عَدَدُ الشَّهَادَةِ فِيهِ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَزُفَرُ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ : لَا تَثْبُتُ السَّرِقَةُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُقِرَّ بِهَا مَرَّتَيْنِ : اعْتِبَارًا بِعَدَدِ الشَّهَادَةِ فِيهِ كَالزِّنَا : لِأَنَّهَا حَدٌّ لِلَّهِ تَعَالَى : وَاحْتِجَاجًا بِأَنَّ سَارِقًا أَقَرَّ عِنْدَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالسَّرِقَةِ فَانْتَهَرَهُ ، فَأَقَرَّ ثَانِيَةً ، فَقَالَ : الْآنَ أَقْرَرْتَ مَرَّتَيْنِ . وَقَطَعَهُ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى التَّكْرَارِ ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ . فَأَمَّا انْتِهَارُ عَلِيٍّ الْمُقِرَّ : فَالظَّاهِرُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى رُجُوعِهِ مِنْهُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ ظَاهِرِهِ .

فَصْلٌ : فَإِنْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ السارق لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ فِي الْغُرْمِ : لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، وَفِي قَبُولِ رُجُوعِهِ فِي سُقُوطِ الْقَطَعِ قَوْلَانِ :

أَحَدُهُمَا : وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ يُقْبَلُ رُجُوعُهُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقَطْعُ كَالزِّنَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ وَيُقْطَعُ ، كَمَا لَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ عَنِ الْقَذْفِ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ ، وَلِأَنَّ السَّرِقَةَ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ آدَمِيٍّ لَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ فِيهِ ، فَكَانَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقَطْعِ تَبَعًا لَهُ ، بِخِلَافِ الزِّنَا الْمُخْتَصِّ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ . فَإِنْ رَجَعَ عَنِ الْإِقْرَارِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ قَوْلًا وَاحِدًا كَالزِّنَا : لِاخْتِصَاصِهِ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ . فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ . فَإِنْ قِيلَ : بِأَنَّ رُجُوعَهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ قُطِعَ ، فَإِنْ هَرَبَ لَمْ يُطْلَبْ . رَوَى عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ ، عَنْ مَيْسَرَةَ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ وَأُمُّهُ إِلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَقَالَتِ الْأُمُّ : إِنَّ ابْنِي هَذَا قَتَلَ زَوْجِي . فَقَالَ الِابْنُ : إِنَّ عَبْدِي وَقَعَ عَلَى أُمِّي . فَقَالَ عَلِيٌّ : إِنْ تَكُونِي صَادِقَةً يُقْتَلُ ابْنُكِ ، وَإِنْ يَكُنِ ابْنُكِ صَادِقًا نَرْجُمُكِ . ثُمَّ قَامَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلصَّلَاةِ ، فَقَالَ الْغُلَامُ لِأُمِّهِ : مَا تَنْتَظِرِينَ أَنْ يَقْتُلَنِي أَوْ يَرْجُمَكِ فَانْصَرَفَا ، فَلَمَّا صَلَّى سَأَلَ عَنْهُمَا ، فَقِيلَ : انْطَلَقَا . فَلَمْ يَطْلُبْهُمَا . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ رُجُوعَهُ مَقْبُولٌ ، لَمْ يَخْلُ السَّارِقُ عِنْدَ رُجُوعِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ قُطِعَ ، فَلَا يَكُونُ لِرُجُوعِهِ تَأْثِيرٌ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ سَلِيمًا لَمْ يُقْطَعْ ، فَسَقَطَ الْقَطْعُ عَنْهُ ، فَإِنْ قُطِعَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَتْ جِنَايَةً مِنْ قَاطِعِهِ يُؤْخَذُ بِحُكْمِ جِنَايَتِهِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْقَطْعِ وَحَزِّ السِّكِّينِ فِي يَدِهِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُمْكِنَ بَقَاؤُهَا عَلَى زَنْدِهِ بَعْدَ عَمَلِ السِّكِّينِ فِيهَا ، فَالْوَاجِبُ أَنْ تُسْتَبْقَى وَلَا تُفْصَلَ مِنْ زَنْدِهِ ، سَوَاءٌ انْتَفَعَ بِهَا أَوْ لَمْ يَنْتَفِعْ إِذَا لَمْ يَسْتَضِرَّ بِهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يُمْكِنَ بَقَاؤُهَا عَلَى زَنْدِهِ لِانْفِصَالِ أَكْثَرِهَا ، فَلَا تَلْزَمُ إِبَانَتُهَا فِي حَقِّ السَّرِقَةِ لِسُقُوطِهِ عَنْهُ ، وَقِيلَ لَهُ : إِنْ شِئْتَ أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ فِي حَقِّ نَفْسِكَ وَمَصْلَحَةِ جَسَدِكَ فَافْعَلْ ، وَإِنْ تَرَكْتَهَا عَلَى حَالِهَا لَمْ تُمْنَعْ . فَإِنْ أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ نَفْسَانِ عَنِ اشْتِرَاكٍ فِيهَا ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهَا أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ ، سَقَطَ الْقَطْعُ عَنِ الرَّاجِعِ مِنْهُمَا دُونَ الْآخَرِ : لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَ نَفْسِهِ وَإِنِ اشْتَرَكَا .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَتَى مَا يُوجِبُ الْحَدَّ ، وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ إِلَّا بِإِقْرَارِهِ ، فَلَا يَخْلُو الْحَدُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، أَوْ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ . فَإِنْ كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ يجب أدائها حتى بعد التوبة كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ لَزِمَهُ الْإِقْرَارُ بِهِ ، وَلَمْ يَصِحَّ كَتْمُهُ : لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ . وَإِنْ كَانَ

مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أدائها بعد التوبة كَحَدِّ الزِّنَا وَقَطْعِ السَّرِقَةِ وَجَلْدِ الْخَمْرِ ، فَقَدْ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ : إِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَا كَانَ مَشْهُورًا بِهِ ، فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَكْتُمَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يُقِرَّ بِهِ . فَإِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ وَكَانَ مَشْهُورًا بِهِ ، فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُقِرَّ بِهِ وَلَا يَكْتُمَهُ . وَلَيْسَ لِهَذَا الْفَرْقِ وَجْهٌ ، وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنْ يَنْظُرَ فَإِنْ تَابَ مِنْهُ فَاسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَكْتُمَهُ وَلَا يُقِرَّ بِهِ : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ ، نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِ . وَإِنْ لَمْ يَتُبْ ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقِرَّ بِهِ : لِأَنَّ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ تَكْفِيرًا وَتَطْهِيرًا . رَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، قَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ فَقَالَ : تُبَايِعُونَ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا ، وَقَرَأَ عَلَيْنَا الْآيَةَ ، وَقَالَ : فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ، وَمَنِ اخْتَانَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَمْ أَسْمَعْ فِي الْحُدُودِ حَدِيثًا أَبْيَنَ مِنْ هَذَا . وَرَوَى خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ أَصَابَ ذَنْبًا فَأُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّ ذَلِكَ الذَّنْبِ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا حَضَرَ عِنْدَ الْإِمَامِ لِيُقِرَّ بِهِ السارق ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يَعْرِضَ لَهُ الْإِمَامُ بِالْإِنْكَارِ إِذَا رَأَى مِنْهُ آثَارَ النَّدَمِ وَأَمَارَاتِ الِاسْتِرْسَالِ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمَاعِزٍ حِينَ أَقَرَّ عِنْدَهُ بِالزِّنَا : لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ ، لَعَلَّكَ لَمَسْتَ . وَأُتِيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَارِقٍ مُعْتَرِفٍ ، فَقَالَ لَهُ : مَا إِخَالُكَ سَرَقْتَ . فَقَالَ : بَلَى . فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ ، أَوْ ثَلَاثًا وَهُوَ يَعْتَرِفُ فَقَطَعَهُ ، ثُمَّ قَالَ : اسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ . فَقَالَ : أَنَا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ . فَقَالَ : اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ وَاغْفِرْ لَهُ فَهَذَا حُكْمُ السَّارِقِ فِي إِقْرَارِهِ بِالسَّرِقَةِ .



فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَنْكَرَ السَّرِقَةَ بَعْدَ دَعْوَاهَا عَلَيْهِ السارق ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ لِمُدَّعِيهَا بَيِّنَةٌ أَوْ لَا يَكُونَ ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ سَمِعْنَاهَا ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتَانِ : عَامَّةٌ ، وَخَاصَّةٌ . فَالْعَامَّةُ : مَا أَوْجَبَتِ الْقَطْعَ وَالْغُرْمَ . وَالْخَاصَّةُ : مَا أَوْجَبَتِ الْغُرْمَ وَلَمْ تُوجِبِ الْقَطْعَ . فَأَمَّا الْعَامَّةُ الْجَامِعَةُ لِلْأَمْرَيْنِ فَهِيَ شَاهِدَانِ عَدْلَانِ ، وَكَمَالُ شَهَادَتِهِمَا مُعْتَبَرٌ بِخَمْسَةِ شُرُوطٍ الشهود في السرقة : أَحَدُهَا : ذِكْرُ السَّارِقِ . وَالثَّانِي : ذِكْرُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ . وَالثَّالِثُ : ذِكْرُ الْحِرْزِ . وَالرَّابِعُ : ذِكْرُ الْمَالِ . وَالْخَامِسُ : صِفَةُ السَّرِقَةِ . لِأَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ هَذِهِ الْخَمْسَةِ ، فَلَزِمَ اعْتِبَارُهَا فِي الشَّهَادَةِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْأَعْيَانِ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ حَاضِرَةً . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ غَائِبَةً . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا حَاضِرًا ، وَبَعْضُهَا غَائِبًا . فَإِنْ كَانَتْ حَاضِرَةً ، فَعَلَى الشَّاهِدَيْنِ أَنْ يُعَيِّنَا الشَّهَادَةَ بِالْإِشَارَةِ ، فَيَقُولَانِ : نَشْهَدُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ بِعَيْنِهِ سَرَقَ مِنْ مَالِ هَذَا الرَّجُلِ بِعَيْنِهِ ، مِنْ هَذَا الْحِرْزِ بِعَيْنِهِ ، هَذَا الْمَالَ بِعَيْنِهِ . ثُمَّ يَصِفَانِ السَّرِقَةَ : لِأَنَّهَا فِعْلٌ مَاضٍ لَا تُمْكِنُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِيهِ فَيَقُولَانِ : نَقَبَ الْحِرْزَ وَدَخَلَهُ ، وَأَخْرَجَ مِنْ هَذِهِ السَّرِقَةِ . وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ غَائِبًا ، فَعَلَى الشَّاهِدَيْنِ أَنْ يَصِفَا مِنْ ذَلِكَ مَا يَقُومُ مَقَامَ التَّعْيِينِ بِالْإِشَارَةِ ، فَيَقُولَانِ : نَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّ سَرَقَ مِنْ مَالِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ ، مِنْ حِرْزٍ يَصِفَانِهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُطْلِقَاهُ : لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي الْحِرْزِ الَّذِي يُقْطَعُ مِنْهُ . وَيَصِفَا الْمَالَ بِمَا تَزُولُ عَنْهُ الْجَهَالَةُ ، فَإِنْ كَانَ ذَا مِثْلٍ لَمْ يَحْتَاجَا فِيهِ إِلَى ذِكْرِ الْقِيمَةِ فِي الشَّهَادَةِ ، لَكِنْ يَعْتَبِرُهَا الْحَاكِمُ فِي الْقَطْعِ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَا مِثْلٍ ذَكَرَا قِيمَتَهُ . فَإِنْ شَهِدَا بِسَرِقَةِ نِصَابٍ لَمْ تُسْمَعْ : لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي نِصَابِ السَّرِقَةِ . ثُمَّ يَصِفَانِ السَّرِقَةَ لِمَا فِيهَا مِنَ الِاخْتِلَافِ . فَإِذَا اسْتَكْمَلَا الشَّهَادَةَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ حُكِمَ بِشَهَادَتِهِمَا فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ وَالْغُرْمِ . وَإِنْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ حَاضِرًا وَبَعْضُهُ غَائِبًا ، اعْتُبِرَ فِي الْحَاضِرِ الْإِشَارَةُ وَفِي الْغَائِبِ الصِّفَةُ . فَإِنِ اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِي صِفَةِ الْمَسْرُوقِ ، فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ سَرَقَ ثَوْبًا مَرْوِيًّا ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ سَرَقَ ثَوْبًا هَرَوِيًّا ، لَمْ تَكْمُلْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ ، وَكَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الصِّفَةِ كَاخْتِلَافِهِمَا فِي الْجِنْسِ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هَذِهِ شَهَادَةٌ كَامِلَةٌ يَجِبُ بِهَا الْقَطْعُ : لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْجِنْسِ ، فَلَمْ يُؤَثِّرِ اخْتِلَافُهُمَا فِي الصِّفَةِ . وَهَذَا فَاسِدٌ : لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِي الصِّفَةِ يَمْنَعُ مِنَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْعَيْنِ ، فَصَارَ كَاخْتِلَافِهِمَا فِي الْجِنْسِ الْمَانِعِ مِنَ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْعَيْنِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ فِيهِمَا سَاقِطًا . وَأَمَّا الْبَيِّنَةُ الْخَاصَّةُ الْمُوجِبَةُ لِلْغُرْمِ دُونَ الْقَطْعِ : فَهِيَ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ في السرقة ، وَشَاهِدٌ وَيَمِينٌ : لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ تُوجِبُ الْمَالَ وَلَا تُوجِبُ الْحَدَّ ، وَفِي السَّرِقَةِ مَالٌ وَحَدٌّ ، فَإِنْ ثَبَتَ بَيِّنَةُ الْحُدُودِ جُمِعَ بَيْنَ الْغُرْمِ وَالْقَطْعِ . وَإِنْ قَامَ بَيِّنَةُ الْأَمْوَالِ وَجَبَ الْغُرْمُ دُونَ الْقَطْعِ ، وَلَا يَلْزَمُ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ ذِكْرُ الْحِرْزِ وَصِفَةُ السَّرِقَةِ : لِأَنَّهُمَا شَرْطَانِ فِي الْقَطْعِ دُونَ الْغُرْمِ ، وَإِنْ عَدِمَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ فَلَمْ يُقِمْهَا عَلَى حَدٍّ وَلَا مَالٍ أُحْلِفَ السَّارِقُ عَلَى إِنْكَارِهِ ، وَسَقَطَ عَنْهُ إِذَا حَلَفَ الْغُرْمُ وَالْقَطْعُ . فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَى الْمُدَّعِي ، فَإِذَا حَلَفَ حُكِمَ لَهُ بِالْغُرْمِ . فَأَمَّا الْقَطْعُ فَلَا يَجِبُ : لِأَنَّهُ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةِ الَّتِي لَا تَدْخُلُهَا الْأَيْمَانُ فِي إِثْبَاتٍ وَلَا إِنْكَارٍ ، فَصَارَتِ الْيَمِينُ فِيهِ مَقْصُورَةً عَلَى الْغُرْمِ دُونَ الْقَطْعِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : وَهُوَ إِذَا لَمْ يَحْضُرْ مُدَّعِي السَّرِقَةِ وَكَانَ غَائِبًا عَنْهَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّارِقِ إِقْرَارٌ وَلَا قَامَتْ بِهَا بَيِّنَةٌ ، لَمْ يُعْتَرَضْ فِيهَا لِلسَّارِقِ بِقَطْعٍ وَلَا غُرْمٍ ، وَلَا يُؤْخَذُ بِالتُّهْمَةِ فِي الْحُكْمِ إِلَّا بِمَا يَقُومُ بِهِ أَصْحَابُ الرِّيَبِ مِنْ زَوَاجِرِ التَّأْدِيبِ الَّذِي يَتَوَلَّاهُ وُلَاةُ الْمُعَاوِنِ دُونَ الْحُكَّامِ . وَإِنْ ثَبَتَتِ السَّرِقَةُ ، فَلِثُبُوتِهَا وَجْهَانِ : بَيِّنَةٌ ، وَإِقْرَارٌ . فَإِنْ ثَبَتَتْ بِبَيِّنَةٌ شَهِدَتْ عَلَيْهِ بِالسَّرِقَةِ ، فَالَّذِي نُصَّ عَلَيْهِ فِي السَّرِقَةِ : أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ فَيَدَّعِيَهَا . وَقَالَ فِي الْأُمِّ : إِذَا قَامَتْ عَلَى رَجُلٍ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ زَنَا بِهَا وَسَيِّدُهَا غَائِبٌ ، أَنَّهُ يُحَدُّ وَلَا يُوقَفُ عَلَى حُضُورِ سَيِّدِهَا . فَخَالَفَ بَيْنَ قَطْعِ السَّرِقَةِ وَحَدِّ الزِّنَا فِي الْأَمَةِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بِاخْتِلَافِ هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْجَوَابَ فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ وَحَدِّ الزِّنَا وَاحِدٌ ، يُوقَفَانِ مَعًا عَلَى حُضُورِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَحُضُورِ سَيِّدِ الْأَمَةِ ، فَإِنِ ادَّعَيَا ذَلِكَ قُطِعَ السَّارِقُ وَحُدَّ الزَّانِي ، وَإِنْ أَنْكَرَاهُ أَوْ ذَكَرَا شُبْهَةً لَهُ فِي الْمِلْكِ أَوِ الْفِعْلِ لَمْ يُقْطَعِ السَّارِقُ وَلَمْ يُحَدَّ الزَّانِي . وَزَعَمَ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ : أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي حَدِّ الزَّانِي بِالْأَمَةِ سَهْوٌ مِنْ نَاقِلِهِ : لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : هُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّ الْجَوَابَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْقُولٌ إِلَى الْآخَرِ ، وَيَكُونَانِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُقْطَعُ السَّارِقُ وَيُحَدُّ الزَّانِي عَلَى مَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي حَدِّ الزِّنَا : لِمَا فِيهَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَا يَجُوزُ إِضَاعَتُهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يُقْطَعُ السَّارِقُ وَلَا يُحَدُّ الزَّانِي ، عَلَى مَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي قَطْعِ

السَّارِقِ : لِمَا تَحَمَّلَهُمَا مِنَ الشُّبْهَةِ الَّتِي يُدْرَأُ بِهَا الْحُدُودُ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ ، وَأَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ أَنَّ الْجَوَابَ عَلَى ظَاهِرِ نَصِّهِ فِيهِ ، فَيُحَدُّ الزَّانِي قَبْلَ حُضُورِ السَّيِّدِ ، وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ قَبْلَ حُضُورِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَالَ يُسْتَبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ ، وَالْوَطْءُ لَا يُسْتَبَاحُ ، وَكَانَتِ الشُّبْهَةُ فِي السَّرِقَةِ أَقْوَى . وَالثَّانِي : أَنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ تَابِعٌ لِحَقِّ الْآدَمِيِّ ، فَكَانَ مَوْقُوفًا عَلَى حُضُورِهِ . وَحَقُّ الزِّنَا خَالِصٌ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَلَمْ يُوقَفْ بَعْدَ ثُبُوتِهِ عَلَى حُضُورِ مَنْ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ . وَإِنْ ثَبَتَتِ السَّرِقَةُ وَالزِّنَا بِإِقْرَارِ السَّارِقِ وَالزَّانِي ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّهُ كَثُبُوتِهِ بِالشَّهَادَةِ . فَيَكُونُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ : لِأَنَّ الْحُدُودَ تُسْتَوْفَى بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُمَا يُسْتَوْفَيَانِ فَيُقْطَعُ السَّارِقُ وَيُحَدُّ الزَّانِي وَجْهًا وَاحِدًا ، وَلَا يُوقَفُ عَلَى حُضُورِ السَّيِّدِ وَالْمَسْرُوقِ مِنْهُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قُوَّةُ الشُّبْهَةِ فِي الشَّهَادَةِ وَضَعْفُهَا فِي الْإِقْرَارِ . وَالثَّانِي : أَنَّ إِقْرَارَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَقْوَى مِنْ شَهَادَةِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ شَرْحِ الْمَذْهَبِ فِي قَطْعِ السَّارِقِ قَبْلَ حُضُورِ الْغَائِبِ ، فَإِنْ قُلْنَا : يُعَجَّلُ قَطْعُهُ وَلَا يُؤَخَّرُ . انْتُزِعَتْ مِنْهُ السَّرِقَةُ إِنْ كَانَتْ عَيْنًا : وَأُغْرِمَ قِيمَتَهَا إِنْ كَانَتْ مُسْتَهْلَكَةً ، وَوُقِفَتْ عَلَى حُضُورِ الْغَائِبِ ، فَإِنِ ادَّعَاهَا سُلِّمَتْ إِلَيْهِ ، وَإِنْ أَنْكَرَ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ ثُبُوتُهَا بِشَهَادَةٍ رُدَّتْ عَلَيْهِ السَّرِقَةُ ، وَإِنْ كَانَ ثُبُوتُهَا بِإِقْرَارٍ لَمْ تُرَدَّ ، وَكَانَتْ فِي بَيْتِ الْمَالِ حَتَّى يَثْبُتَ بِهَا مُسْتَحِقٌّ : لِأَنَّهُ فِي الْإِقْرَارِ مُنْكِرٌ لِاسْتِحْقَاقِهَا ، وَفِي الشَّهَادَةِ غَيْرُ مُنْكِرٍ لِاسْتِحْقَاقِهَا . وَلَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ بَدَيْنٌ لِغَائِبٍ تُرِكَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ بِخِلَافِ السَّرِقَةِ : لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ رَاضٍ بِذِمَّتِهِ ، وَصَاحِبَ السَّرِقَةِ غَيْرُ رَاضٍ بِهَا . وَإِنْ قُلْنَا : يُؤَخَّرُ قَطْعُهُ وَلَا يُعَجَّلُ لَمْ تَخْلُ السَّرِقَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً أَوْ مُسْتَهْلَكَةً ، فَإِنْ كَانَتْ مُسْتَهْلَكَةً ، اسْتَقَرَّ غُرْمُهَا فِي ذِمَّتِهِ ، وَلَمْ تُقْبَضْ مِنْهُ : لِتَكُونَ ذِمَّتُهُ مُرْتَهَنَةً بِهَا ، وَيُحْبَسَ عَلَى حُضُورِ الْغَائِبِ بِحَقِّهِ وَحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَطْعِهِ . وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي يَدِهِ ، حُجِرَ عَلَيْهِ فِيهَا حِفْظًا لَهَا وَلَمْ تُنْتَزَعْ مِنْهُ : لِتَكُونَ بَاقِيَةً فِي ضَمَانِهِ ، وَهَلْ يُحْبَسُ عَلَى حُضُورِ الْغَائِبِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : لَا يُحْبَسُ لِبَقَاءِ الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُحْبَسُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَطْعِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنِ ادَّعَى أَنَّ هَذَا مَتَاعُهُ غَلَبَهُ عَلَيْهِ وَابْتَاعَهُ مِنْهُ أَوْ أَذِنَ لَهُ فِي أَخْذِهِ ، لَمْ أَقْطَعْهُ : لِأَنِّي أَجْعَلُهُ لَهُ خَصْمًا ، لَوْ نَكَلَ صَاحِبُهُ أَحْلَفْتُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ وَدَفَعْتُهُ إِلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ بِسَرِقَةِ مَالٍ مِنْ حِرْزٍ بَعْدَ الدَّعْوَى عَلَيْهِ . فَإِنْ أَكْذَبَ الشَّاهِدَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِإِكْذَابِهِ تَأْثِيرٌ : لِمَا فِي إِكْذَابِهِ مَنْ جَرْحِ مَنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ ، وَحُكِمَ عَلَيْهِ بِالْغُرْمِ وَالْقَطْعِ . فَإِنْ سَأَلَ إِحْلَافَ الْمُدَّعِي بَعْدَ الشَّهَادَةِ لَمْ يَحْلِفْ : لِمَا فِي يَمِينِهِ مِنْ جَرْحِ الشُّهُودِ . وَإِنْ لَمْ يُكَذِّبْهُمَا وَادَّعَى أَنَّ الْمَالَ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ حِرْزِهِ هُوَ مَالُهُ المسروق منه ، غَصَبَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْحِرْزِ ، أَوْ كَانَ وَدِيعَةً لَهُ عِنْدَهُ ، أَوْ عَارِيَةً ، أَوْ وَهَبَهُ لَهُ ، وَأُذِنَ لَهُ فِي قَبْضِهِ ، فَقَبَضَهُ مِنَ الْحِرْزِ عَنْ إِذْنِهِ ، فَهَذِهِ الدَّعْوَى مِنْهُ مُجَوَّزَةٌ ، وَلَيْسَ فِيهَا قَدْحٌ فِي الشَّهَادَةِ : لِأَنَّ شَهَادَةَ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى ظَاهِرِ فِعْلِهِ ، وَهَذَا بَاطِنٌ مُحْتَمَلٌ ، فَصَارَ كَشَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِدَيْنٍ فَادَّعَى دَفْعَهُ ، سُمِعَتْ دَعْوَاهُ وَلَمْ يُقْدَحْ فِي الشَّهَادَةِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ سُئِلَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ عَمَّا ادَّعَاهُ السَّارِقُ ، فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَيْهِ سَقَطَ عَنْهُ الْغُرْمُ وَالْقَطْعُ ، وَإِنْ أَكْذَبَهُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ لِلسَّارِقِ بَيِّنَةٌ حُكِمَ بِهَا . وَبَيِّنَتُهُ : شَاهِدَانِ ، أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ ، أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ : لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ لِإِثْبَاتِ مَالٍ مَحْضٍ وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ وَلَا قَطْعَ ، وَمَا بِيَدِهِ مِلْكٌ لَهُ بِبَيِّنَتِهِ . وَإِنْ عَدِمَ الْبَيِّنَةَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ مَعَ يَمِينِهِ : لِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَى الْمَالِ الْمَسْرُوقِ ، فَإِنْ حَلَفَ اسْتَحَقَّ الْمَالَ ، فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا انْتَزَعَهُ ، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا رَجَعَ بِغُرْمِهِ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ : أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ السَّارِقُ : لِأَنَّهَا شُبْهَةٌ لَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِاحْتِمَالِ صِدْقِهِ فِيهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ تَلِفَ بَعْدَ نُكُولِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ ، حُكِمَ لَهُ بِمِلْكِهَا ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ . وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ اخْتَارَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : أَنَّهُ يُقْطَعُ وَلَا تَكُونُ هَذِهِ الدَّعْوَى شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْقَطْعِ : لِأَنَّهَا تُفْضِي إِلَى أَنْ لَا يُقْطَعَ مَعَهَا سَارِقٌ ، فَتُفْضِي إِلَى إِسْقَاطِ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى . وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ إِثْبَاتُ حَدٍّ بِشُبْهَةٍ ، وَالْحُدُودُ تُسْقَطُ بِالشُّبْهَةِ وَلَا تُثْبَتُ بِهَا . وَالثَّانِي : اتِّفَاقُهُمْ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الزِّنَا ، فَادَّعَى زَوْجَتَهُ الْمَزْنِيَّ بِهَا ، سَقَطَ الْحَدُّ وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ دَعْوَاهُ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ بِهَذِهِ الدَّعْوَى : لِأَنَّهَا تُفْضِي إِلَى إِسْقَاطِ الْحُدُودِ ، وَكَذَلِكَ الْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ . فَأَمَّا إِذَا نَكَلَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ عَنِ الْيَمِينِ فِي

دَعْوَى السَّارِقِ ، رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى السَّارِقِ ، فَإِذَا حَلَفَ حُكِمَ لَهُ بِمِلْكِ مَا سَرَقَ ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قَطْعٌ ، كَزَوْجِ الْقَاذِفِ إِذَا لَاعَنَ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ بِإِبْهَامِهِ . وَلَوْ كَانَا سَارِقَيْنِ ، فَادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّهَا مِلْكُهُ دُونَ الْآخَرِ ، سَقَطَ الْقَطْعُ عَنْ مُدَّعِيهَا وَلَمْ يَسْقُطْ عَنِ الْآخَرِ ، سَوَاءٌ تَصَادَقَ السَّارِقَانِ عَلَيْهَا أَوْ تَكَاذَبَا : لِأَنَّ شُبْهَةَ أَحَدِهِمَا لَا تَقِفُ عَلَى شُبْهَةِ الْآخَرِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ رَبُّ الْمَتَاعِ ، حُبِسَ السَّارِقُ حَتَّى يَحْضُرَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي حَبْسِ السَّارِقِ إِذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ غَائِبًا لَمْ يُعَجَّلْ قَطْعُهُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، فَإِنَّهُ يُحْبَسُ مَا لَمْ تَطُلْ غَيْبَةُ رَبِّهَا إِذَا كَانَتِ السَّرِقَةُ مُسْتَهْلَكَةً . وَفِي حَبْسِهِ إِذَا كَانَتْ بَاقِيَةً وَجْهَانِ . فَإِنْ كَانَتْ غَيْبَةُ رَبِّهَا بَعِيدَةً لَمْ يُحْبَسْ : لِأَنَّهُ لَا تُعْلَمُ عَوْدَتُهُ ، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ الْحَبْسُ مُسْتَحَقًّا لِغُرْمِ السَّرِقَةِ طُولِبَ بِكَفِيلٍ وَأُطْلِقَ . وَإِنْ كَانَ لِأَجْلِ الْقَطْعِ ، لِأَنَّ الْعَيْنَ قَائِمَةٌ وُضِعَتِ السَّرِقَةُ فِي يَدِ أَمِينٍ وَلَمْ يُطَالَبْ بِكَفِيلٍ : لِأَنَّ حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَصِحُّ فِيهَا الْكَفَالَاتُ . فَلَوِ امْتَنَعَ رَبُّ السَّرِقَةِ مِنْ إِقَامَةِ كَفِيلٍ ، حُبِسَ عَلَى إِقَامَةِ الْكَفِيلِ لَا عَلَى قُدُومِ الْغَائِبِ . فَإِنْ بَذَلَ غُرْمَ السَّرِقَةِ لَمْ يُحْبَسْ وَلَا يُكْفَلُ : لِأَنَّ بَذْلَ الْغُرْمِ أَقْوَى مِنَ الْكَفَالَةِ ، وَأُطْلِقَ وَوُضِعَ الْغُرْمُ عَلَى يَدِ أَمِينٍ . مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ عَلَى سَرِقَةٍ ، أَوْجَبْتُ الْغُرْمَ فِي الْمَالِ وَلَمْ أُوجِبْهُ فِي الْحَدِّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ الصَّحِيحُ : لِأَنَّ فِي السَّرِقَةِ حَقَّيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِآدَمِيٍّ وَهُوَ الْمَالُ . وَالثَّانِي : لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْقَطْعُ . وَالْأَمْوَالُ تُسْتَحَقُّ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، وَشَاهِدٍ وَيَمِينٍ . وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ ، فَإِذَا شَهِدَ عَلَى السَّارِقِ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ ، أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ ، وَجَبَ الْغُرْمُ وَلَمْ يَجِبِ الْقَطْعُ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَتْلُ الْعَمْدِ يُوجِبُ الْقَوَدَ وَالدِّيَةَ ، فَهَلَّا إِذَا شَهِدَ بِهِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالدِّيَةِ : لِأَنَّهَا مَالٌ ، وَلَا يُحْكَمُ بِالْقَوَدِ : لِأَنَّهُ حَدٌّ ؟ قِيلَ : لَا يُحْكَمُ ذَلِكَ إِلَّا فِي قَتْلِ الْعَمْدِ : لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا : لِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ مِنَ الْقَوَدِ : لِأَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فَلَمْ تَثْبُتِ الدِّيَةُ إِلَّا بِثُبُوتِ الْقَوَدِ . وَلَيْسَ الْغُرْمُ بَدَلًا مِنَ الْقَطْعِ : لِأَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ ، فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ الْغُرْمُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتِ الْقَطْعُ .

فَإِنْ قِيلَ : فَالْهَاشِمَةُ فِيهَا قِصَاصٌ فِي مُوضِحَتِهَا ، وَدِيَةٌ فِي هَشْمِهَا ، أَفَتَحْكُمُونَ بِدِيَةِ الْهَشْمِ إِذَا شَهِدَ بِهِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ؟ قِيلَ : لَا تُحْكَمُ ذَلِكَ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ حُكْمَ الْهَاشِمَةِ اسْتِحْقَاقُ الْقِصَاصِ فِي مُوضِحَتِهَا ، وَالدِّيَةِ فِي هَشْمِهَا ، وَلَا يَنْفَرِدُ اسْتِحْقَاقُ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ ، فَإِذَا امْتَنَعَ اسْتِحْقَاقُ الْقَوَدِ امْتَنَعَ اسْتِحْقَاقُ الدِّيَةِ ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا : إِقْرَارُ بَعْضِ الْوَرَثَةِ بِوَارِثٍ إِذَا مَنَعَ مِنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ مَنَعَ اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ : لِأَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ إِلَّا بِثُبُوتِهِ ، وَلَيْسَتِ السَّرِقَةُ كَذَلِكَ : لِأَنَّ الْغُرْمَ فِيهَا قَدْ يُسْتَحَقُّ وَإِنْ لَمْ يُسْتَحَقَّ فِيهَا الْقَطْعُ ، كَالْوَالِدِ إِذَا سَرَقَ مِنْ وَلَدِهِ ، فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ الْغُرْمُ بِهَا وَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْقَطْعُ ، وَكَذَلِكَ قُلْنَا : فِيمَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ ، فَيَشْهَدُ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ حَكَمْنَا عَلَيْهِ بِاسْتِحْقَاقِ الدَّيْنِ : لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِرَجُلِ وَامْرَأَتَيْنِ ، وَلَمْ نَحْكُمْ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ : لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ . وَلَوْ شَهِدَ بِالدَّيْنِ شَاهِدَانِ حَكَمْنَا عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ وَالطَّلَاقِ ، هَذَا أَصْلًا مُسْتَمِرًّا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَفِي إِقْرَارِ الْعَبْدِ بِالسَّرِقَةِ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا لِلَّهِ فِي بَدَنِهِ فَأَقْطَعُهُ ، وَالْآخَرُ فِي مَالِهِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ مَالًا ، فَإِذَا أُعْتِقَ وَمَلَكَ أَغْرَمْتُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ مَضَتْ ، وَأَصْلُهَا : أَنَّ إِقْرَارَ الْعَبْدِ فِيمَا اخْتَصَّ بِبَدَنِهِ مَقْبُولٌ ، وَفِيمَا اخْتَصَّ بِالْمَالِ غَيْرُ مَقْبُولٍ . وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَدَاوُدُ : لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِي الْبَدَنِ وَلَا فِي الْمَالِ . وَهَذَا فَاسِدٌ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِقْرَارَهُ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ وَلَمْ يَصُمْ ، نَافِذٌ فِيمَا يُؤْمَرُ بِهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ، حَتَّى لَوِ امْتَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ قُتِلَ بِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ ، فَكَذَلِكَ فِيمَا عَدَاهُ . وَالثَّانِي : وَهُوَ فَرْقٌ بَيْنَ الْمَالِ وَالْبَدَنِ ، بِأَنَّ التُّهْمَةَ مُرْتَفِعَةٌ عَنْهُ فِيمَا تَعَلَّقَ بِبَدَنِهِ ، وَمُتَوَجِّهَةٌ إِلَيْهِ فِيمَا تَعَلَّقَ بِالْمَالِ ، فَقُبِلَ إِقْرَارُهُ فِي بَدَنِهِ ، وَلَمْ يُقْبَلْ فِي الْمَالِ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَأَقَرَّ بِسَرِقَةٍ قُطِعَ بِإِقْرَارِهِ . وَأَمَّا الْمَالُ ، فَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَحَلِّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَالِ إِذَا كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِهِ ، هَلْ يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِيهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُقْبَلُ لِتَوَجُّهِ التُّهْمَةِ إِلَيْهِ . وَالثَّانِي : يُقْبَلُ لِاتِّصَالِهِ بِالْقَطْعِ الَّذِي لَا يُتَّهَمُ فِيهِ ، فَأَمَّا مَعَ اسْتِهْلَاكِ الْمَالِ فَلَا يُقْبَلُ

فِي تَعَلُّقِهِ بِرَقَبَتِهِ قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّ لِغُرْمِهِ مَحَلًّا يَثْبُتُ فِيهِ وَيُفْرَدُ مِنْهُ : لِيُؤَدِّيَهُ بَعْدَ عِتْقِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ ، وَجُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَالِ إِذَا كَانَ تَالِفًا ، هَلْ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ فَيُبَاعُ فِيهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَالُ بَاقِيًا فَلَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِيهِ : لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ السَّيِّدِ فَصَارَ كَإِقْرَارِهِ بِسَرِقَتِهِ مَا فِي يَدِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَعًا ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ بَاقِيًا فِي يَدِهِ أَوْ تَالِفًا ، هَلْ يَنْفُذُ إِقْرَارُهُ فِيهِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : لِأَنَّ رَقَبَتَهُ وَمَا فِي يَدِهِ جَمِيعًا فِي حُكْمِ مَا فِي يَدِ سَيِّدِهِ ، فَإِنْ نَفَذَ إِقْرَارُهُ فِي أَحَدِهِمَا ، نَفَذَ فِي الْآخَرِ ، وَلَيْسَ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَجْهٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ غُرْمِ السَّارِقِ مَا سَرَقَ

بَابُ غُرْمِ السَّارِقِ مَا سَرَقَ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " أُغَرِّمُ السَّارِقَ مَا سَرَقَ قُطِعَ أَوْ لَمْ يُقْطَعْ ، وَكَذَلِكَ قَاطِعُ الطَّرِيقِ ، وَالْحَدُّ لِلَّهِ ، فَلَا يُسْقِطُ حَدُّ اللَّهِ غُرْمَ مَا أُتْلِفَ لِلْعِبَادِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا كَانَتِ السَّرِقَةُ بَاقِيَةً فَإِنَّهَا تُرَدُّ عَلَى مَالِكِهَا وحكمها إذا كانت تالفة ، وَيُقْطَعُ سَارِقُهَا ، وَهُوَ إِجْمَاعٌ . وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حُكْمِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ يَغْرَمُهَا السَّارِقُ وَيُقْطَعُ ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَ الْغُرْمُ عَلَى الْقَطْعِ أَوْ تَأَخَّرَ عَنْهُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا . وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ، وَالزُّهْرِيُّ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ عَلَيْهِ بَيْنَ الْغُرْمِ وَالْقَطْعِ ، فَإِنْ قُطِعَ لَمْ يُغَرَّمْ ، وَإِنْ أُغْرِمَ لَمْ يُقْطَعْ . وَرَبُّهَا قَبْلَ الْغُرْمِ وَالْقَطْعِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُطَالِبَ بِالْغُرْمِ فَلَا يُقْطَعُ ، وَبَيْنَ أَنْ يُمْسِكَ عَنْهُ فَيُقْطَعُ . وَلَوْ قُطِعَ وَالسَّرِقَةُ بَاقِيَةٌ ، فَأَتْلَفَهَا أَجْنَبِيٌّ لَمْ يَضْمَنْهَا لِلسَّارِقِ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ ، وَلَا لِرَبِّهَا : لِأَنْ لَا يُجْمَعَ بَيْنَ الْقَطْعِ وَالْغُرْمِ . وَقَالَ : لَوْ سَرَقَ حَدِيدًا فَضَرَبَهُ كُوزًا فَقُطِعَ ، لَمْ يَرُدَّ الْكُوزَ : لِأَنَّهُ صَارَ كَالْعَيْنِ الْأُخْرَى . وَلَوْ سَرَقَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ أَسْوَدَ ، لَمْ يَرُدَّهُ إِذَا قُطِعَ : لِأَنَّهُ صَارَ بِالسَّوَادِ كَالْمُسْتَهْلَكِ ، وَلَوْ صَبَغَهُ أَحْمَرَ رَدَّهُ ، لَا يَجْعَلُهُ كَالْمُسْتَهْلَكِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ : أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُوسِرًا قُطِعَ وَأُغْرِمَ كَقَوْلِنَا ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا قُطِعَ وَلَمْ يُغْرَمْ إِذَا أَيْسَرَ ، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْغُرْمِ وَالْقَطْعِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا ، [ الْمَائِدَةِ : 138 ] فَجُعِلَ جَزَاءَ سَرِقَتِهِ الْقَطْعُ دُونَ الْغُرْمِ ، وَبِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا قُطِعَ السَّارِقُ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ .

وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّهُ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ وُجُوبُ الْمَالِ ، كَالزِّنَا بِمُطَاوَعَةٍ لَا يُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ الْحَدِّ وَالْمَهْرِ : وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْغُرْمِ وَالْقَطْعِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا كَجِنَايَةِ الْعَمْدِ ، لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ ، وَلِأَنَّ اسْتِهْلَاكَ الْمَالِ يَمْنَعُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْغُرْمِ وَالْقَطْعِ كَالْغَصْبِ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [ الْمَائِدَةِ : 38 ] ، فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ قَطْعَهُ وَإِنْ أُغْرِمَ . وَأَبُو حَنِيفَةَ يَمْنَعُ مِنْ قَطْعِهِ إِذَا أُغْرِمَ وَيَجْعَلُهُ مُخَيَّرًا ، وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتْمًا ، وَقَوْلُهُ : جَزَاءً بِمَا كَسَبَا يَعُودُ إِلَى الْفِعْلِ دُونَ الْمَالِ : لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَدْخُلُ فِي كَسْبِهِمَا ، وَلِأَنَّ مَنْ غَصَبَ جَارِيَةً فَزَنَا بِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَيَرُدُّهَا إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً وَيَرُدُّ قِيمَتَهَا إِنْ كَانَتْ تَالِفَةً ، فَيُجْمَعُ عَلَيْهِ بَيْنَ الْحَدِّ وَالْغُرْمِ كَذَلِكَ فِي السَّرِقَةِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّ حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُوجِبُ سُقُوطَ الْغُرْمِ كَالزِّنَا بِالْجَارِيَةِ الْمَغْصُوبَةِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ عَيْنٍ وَجَبَ الْقَطْعُ مَعَ رَدِّهَا وَجَبَ الْقَطْعُ مَعَ رَدِّ بَدَلِهَا ، كَمَا لَوْ بَاعَهَا السَّارِقُ وَاسْتَهْلَكَ ثَمَنَهَا قُطِعَ مَعَ رَدِّ بَدَلِ الثَّمَنِ ، كَمَا يُقْطَعُ مَعَ رَدِّ الثَّمَنِ ، كَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمِلْكِ . وَلِأَنَّ الْقَطْعَ وَجَبَ بِإِخْرَاجِهَا مِنَ الْحِرْزِ ، وَالْغُرْمُ وَجَبَ بِاسْتِهْلَاكِهَا ، وَكُلُّ حَقَّيْنِ وَجَبَا بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ، كَقَتْلِ الصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ يُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ الْجَزَاءِ وَالْقِيمَةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ : فَهُوَ مَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ مِنْهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ : فَهُوَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ ، ذَكَرَ السَّاجِيُّ : أَنَّهُ لَمْ يُثْبِتْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : أَمَّا أَنَّهُ لَا غُرْمَ عَلَيْهِ : لِأُجْرَةِ قَاطِعِهِ : لِأَنَّهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْعُقُوبَاتِ قَبْلَ الْحُدُودِ كَانَتْ بِالْغَرَامَاتِ ، فَلَمَّا فُرِضَتِ الْحُدُودُ سَقَطَ الْغُرْمُ ، فَكَانَ قَوْلُهُ : إِذَا قُطِعَ السَّارِقُ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ إِشَارَةً إِلَى الْغُرْمِ الَّذِي كَانَ حَدًّا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الزِّنَا بِالْمُطَاوَعَةِ : فَهُوَ أَنَّهَا بَذَلَتْ نَفْسَهَا وَأَسْقَطَتْ مَهْرَهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْجِنَايَاتِ : فَهُوَ أَنَّهُمَا وَجَبَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ لِمُسْتَحِقٍّ وَاحِدٍ فَلَمْ يَجْتَمِعَا ، وَالْقَطْعُ وَالْغُرْمُ وَجَبَا بِسَبَبَيْنِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ فَجَازَ أَنْ يَجْتَمِعَا ، كَمَا يَجْتَمِعُ فِي قَتْلِ الْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ الْقِيمَةُ وَالْكَفَّارَةُ . فَأَمَّا مَالِكٌ فَمَدْخُولُ الْقَوْلِ : لِأَنَّ الْغُرْمَ إِنْ وَجَبَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِالْإِعْسَارِ إِذَا أَيْسَرَ ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ لَمْ يُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ بِوُجُودِ الْيَسَارِ فَلَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ وَجْهٌ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

بَابُ مَا لَا قَطْعَ فِيهِ

مسألة لَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ وَلَا فِي خِلْسَةٍ

بَابُ مَا لَا قَطْعَ فِيهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ وَلَا فِي خِلْسَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَطْعِ فِي النِّصَابِ مُعْتَبَرٌ بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْحِرْزُ ، فَإِنْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ لَمْ يُقْطَعْ . وَقَالَ دَاوُدُ : يُقْطَعُ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : الِاسْتِخْفَاءُ بِأَخْذِهِ ، فَإِنْ أَخَذَهُ نَهْبًا أَوْ جِنَايَةً لَمْ يُقْطَعْ . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : يُقْطَعُ ، فَأَمَّا الْمُخْتَلِسُ فَإِنْ سَرَقَ مَا اخْتَلَسَهُ مِنْ حِرْزٍ قُطِعَ ، وَإِنِ اخْتَلَسَهُ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ لَمْ يُقْطَعْ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِمَا : مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَيْسَ عَلَى الْجَانِي وَلَا عَلَى الْمُخْتَلِسِ وَلَا عَلَى الْمُنْتَهِبِ قَطْعٌ . وَهَذَا نَصٌّ . وَلِأَنَّ السَّرِقَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْمُسَارَقَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهَا ، وَيُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُ الْمُنْتَهِبِ وَالْجَانِي بِاسْتِنْفَارِ النَّاسِ عَلَى الْمُنْتَهِبِ ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْجَانِي . فَإِنْ قِيلَ : فَقَاطِعُ الطَّرِيقِ مُجَاهِرٌ وَيُقْطَعُ . قِيلَ : لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُ مَا أَخَذَهُ لِعَدَمِ مَنْ يُسْتَنْفَرُ عَلَيْهِ وَيُسْتَعَانُ بِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا عَلَى عَبْدٍ سَرَقَ مِنْ مَتَاعِ سَيِّدِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا إِذَا سَرَقَ الْعَبْدُ مِنْ مَالِ غَيْرِ سَيِّدِهِ ، فَإِنَّهُ يُقْطَعُ آبِقًا وَغَيْرَ آبِقٍ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُقْطَعُ إِنْ كَانَ آبِقًا ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ . فَأَمَّا إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ العبد ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ وَإِنْ هَتَكَ بِهِ حِرْزًا . وَقَالَ دَاوُدُ : يُقْطَعُ : احْتِجَاجًا بِعُمُومِ الْآيَةِ ، وَكَمَا يُحَدُّ إِذَا زَنَا بِأَمَةِ سَيِّدِهِ ، كَمَا يُحَدُّ إِذَا زَنَا بِأَمَةِ غَيْرِهِ ، وَخَالَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ : احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ

قَالَ : " إِذَا سَرَقَ الْمَمْلُوكُ فَبِعْهُ وَلَوْ بِنَشٍّ وَالَنَّشُّ : نِصْفُ أُوقِيَّةٍ عِشْرُونَ دِرْهَمًا ، فَأَمَرَ بِبَيْعِهِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِقَطْعِهِ . وَرَوَى السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الْحَضْرَمِيِّ ، أَنَّهُ جَاءَ بِغُلَامٍ لَهُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : اقْطَعْ هَذَا فَإِنَّهُ سَرَقَ . فَقَالَ : مَا الَّذِي سَرَقَ ؟ فَقَالَ : مِرْآةً لِامْرَأَتِي ، ثَمَنُهَا سِتُّونَ دِرْهَمًا . فَقَالَ : أَرْسِلْهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَطْعٌ ، خَادِمُكُمْ سَرَقَ مَتَاعَكُمْ . وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا مَنَعَا مِنْ قَطْعِ عَبْدٍ سَرَقَ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ ، وَقَالَا : مَالُكُمْ سَرَقَ مَالَكُمْ . فَصَارَ إِجْمَاعًا : لِأَنَّهُ لَا مُخَالِفَ لَهُمْ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ خَالَفَهُمْ سَيِّدُ الْعَبْدِ حِينَ سَأَلَ قَطْعَهُ . قِيلَ : إِنَّمَا يُؤَثِّرُ خِلَافُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ، وَلَمْ يَكُنْ سَيِّدُهُ مِنْهُمْ ، فَلَمْ يَعُدْ قَوْلُهُ خِلَافًا . وَلِأَنَّ نَفَقَةَ الْعَبْدِ لَمَّا كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً فِي مَالِ سَيِّدِهِ كَانَتْ شُبْهَةً لَهُ فِي سُقُوطِ قَطْعِهِ ، كَالْوَالِدِ فِي مَالِ الْوَلَدِ . وَلِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ يَدٌ لِسَيِّدِهِ ، فَصَارَ مَا سَرَقَهُ غَيْرَ خَارِجٍ عَنْ يَدِهِ فَلَمْ يُقْطَعْ . وَلِأَنَّ قَطْعَ السَّارِقِ لِحِفْظِ مَالِ الْمَالِكِ ، وَفِي قَطْعِ عَبْدِهِ فِي مَالِهِ اسْتِهْلَاكٌ لِمَالِهِ ، فَأَمَّا زِنَاهُ بِأَمَةِ سَيِّدِهِ فَلَا يَسْقُطُ فِيهِ الْحَدُّ : لِأَنَّ الْحِرْزَ فِيهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ، وَثُبُوتُ الْيَدِ فِيهِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ ، فَخَالَفَ بِذَلِكَ قَطْعَ السَّرِقَةِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ ، وَالْمُكَاتَبِ ، وَأُمِّ الْوَلَدِ هل عليهم قطع إذا سرقوا ؟ ، وَمَنْ فِيهِ جُزْءٌ مِنَ الرِّقِّ وَإِنْ قَلَّ . وَكَذَلِكَ عَبْدُ الْمُكَاتَبِ وَعَبْدُ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ، فِي سُقُوطِ الْقَطْعِ عَنْ جَمِيعِهِمْ : لِثُبُوتِ رِقِّهِ عَلَيْهِمْ .

مَسْأَلَةٌ لَا قَطْعَ عَلَى زَوْجٍ سَرَقَ مِنْ مَتَاعِ زَوْجَتِهِ وَلَا عَلَى امْرَأَةٍ سَرَقَتْ مِنْ مَتَاعِ زَوْجِهَا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا عَلَى زَوْجٍ سَرَقَ مِنْ مَتَاعِ زَوْجَتِهِ وَلَا عَلَى امْرَأَةٍ سَرَقَتْ مِنْ مَتَاعِ زَوْجِهَا ، وَلَا عَلَى عَبْدِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَرَقَ مِنْ مَتَاعِ صَاحِبِهِ : لِلْأَثَرِ وَالشُّبْهَةِ

وَلِخُلْطَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ . ( وَقَالَ ) فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ : إِذَا سَرَقَتْ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا الَّذِي لَمْ يَأْتَمِنْهَا عَلَيْهِ وَفِي حِرْزٍ مِنْهَا ، قُطِعَتْ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : هَذَا أَقْيَسُ عِنْدِي " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَكَانَ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِنْ حِرْزٍ قَدِ اشْتَرَكَا فِي سُكْنَاهُ ، فَلَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا سَرَقَ مِنَ الْآخَرِ ، سَوَاءٌ كَانَ السَّارِقُ الزَّوْجَ أَوِ الزَّوْجَةَ : لِأَنَّ الْحِرْزَ إِذَا اشْتَرَكَا فِيهِ كَانَ حِرْزًا مِنْ غَيْرِهِمَا وَلَمْ يَكُنْ حِرْزًا مِنْهُمَا ، فَصَارَ سَارِقًا لِمَالٍ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَطْعُ . وَلَوْ سَرَقَهُ غَيْرُهُ قُطِعَ : لِأَنَّهُ سَارِقٌ لَهُ مِنْ حِرْزٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مِنْ حِرْزٍ لَمْ يَشْتَرِكَا فِي سُكْنَاهُ ، فَفِي قَطْعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا سَرَقَ مِنْ صَاحِبِهِ ، ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ . وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ والْأَوْزَاعِيِّ : أَنَّهُ يُقْطَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ . وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : حَكَاهُ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ النَّقَّالُ : أَنَّهُ يُقْطَعُ الزَّوْجُ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ زَوْجَتِهِ ، وَلَا تُقْطَعُ الزَّوْجَةُ إِذَا سَرَقَتْ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا . فَإِذَا قِيلَ بِالْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَوَجْهُهُ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَصَرَّفُ غَالِبًا فِي مَالِ صَاحِبِهِ ، فَحَقُّهَا فِي مَالِهِ وُجُوبُ النَّفَقَةِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ حِينَ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ ، لَا يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي ، إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ سِرًّا ، فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ ؟ فَقَالَ : خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ فَأَمَّا حَقُّهُ فِي مَالِهَا فَقَدِ

اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ ، فَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ : هُوَ مَا قَالَهُ مَالِكٌ وَفُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ : أَنَّ لَهُ الْحَجْرَ عَلَيْهَا فِي مَالِهَا ، وَمَنْعَهَا عَنِ التَّصَرُّفِ فِيهِ إِلَّا عَنْ إِذْنِهِ . فَصَارَ هَذَا الِاخْتِلَافُ شُبْهَةً لَهُ فِي مَالِهَا . وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ : هُوَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ مَنْعِهَا مِنَ الْخُرُوجِ لِإِحْرَازِ مَالِهَا ، فَصَارَ الْحِرْزُ مَعَهُ وَاهِيًا . وَإِذَا قِيلَ بِالثَّانِي أَنَّهُ يُقْطَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَوَجْهُهُ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا إِلَّا عَقْدٌ ، وَالْعَقْدُ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ كَالْإِجَارَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ نَفَقَتَهَا مُعَاوَضَةٌ كَالْأَثْمَانِ ، وَدُيُونُ الْمُعَاوَضَاتِ لَا تُوجِبُ سُقُوطَ الْقَطْعِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ . وَخَالَفَتْ نَفَقَاتِ الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ : لِخُرُوجِهَا عَنْ حُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ . وَإِذَا قِيلَ بِالثَّالِثِ أَنَّهُ يُقْطَعُ الزَّوْجُ وَلَا تُقْطَعُ الزَّوْجَةُ ، فَوَجْهُهُ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجِيَّةِ تَسْتَحِقُّهَا الزَّوْجَةُ عَلَى الزَّوْجِ ، فَصَارَتْ شُبْهَةً لِلزَّوْجَةِ دُونَ الزَّوْجِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا فِي قَبْضَةِ الزَّوْجِ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [ النِّسَاءِ : 34 ] ، فَصَارَ مَا فِي يَدِهَا مِنْ سَرِقَةِ الزَّوْجِ كَالْبَاقِي فِي يَدِ الزَّوْجِ ، فَلَمْ تُقْطَعْ فِيهِ وَقُطِعَ فِي مَالِهَا : لِأَنَّهُ فِيهِ بِخِلَافِهَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فِي قَطْعِهِمَا مِنَ الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ ، فَإِذَا سَرَقَ عَبْدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ كَانَ وُجُوبُ قَطْعِهِ فِيهِ خَارِجًا عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ عَبْدُ الزَّوْجِ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ الزَّوْجَةِ ، وَلَا يُقْطَعُ عَبْدُ الزَّوْجَةِ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي لَا تُقْطَعُ الزَّوْجَةُ فِي مَالِ الزَّوْجِ وَلَا يُقْطَعُ الزَّوْجُ فِي مَالِ الزَّوْجَةِ : لِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ كَيَدِ سَيِّدِهِ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُقْطَعْ فِي سَرِقَةِ مَالِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُقْطَعُ عَبْدُ الزَّوْجِ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ الزَّوْجَةِ ، وَيُقْطَعُ عَبْدُ الزَّوْجَةِ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يُقْطَعُ عَبْدُ الزَّوْجِ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ الزَّوْجَةِ ، وَلَا يُقْطَعُ عَبْدُ الزَّوْجَةِ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ ، إِذَا قِيلَ : يُقْطَعُ الزَّوْجُ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ الزَّوْجَةِ ، وَلَا تُقْطَعُ الزَّوْجَةُ إِذَا سَرَقَتْ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ . وَهَكَذَا إِذَا سَرَقَ وَالِدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، أَوْ وَلَدُهُ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ ، كَانَ وُجُوبُ قَطْعِهِمَا مِثْلَهُمَا عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يُقْطَعْ مَنْ سَرَقَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ ، أَوْ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ أَوْ أَجْدَادِهِ ، مِنْ قِبَلِ أَيِّهِمَا كَانَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، لَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ مَالِ أَحَدِ وَالِدَيْهِ وَإِنْ عَلَوْا مِنَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ ، وَلَا مِنْ مَالِ أَحَدٍ مِنْ مَوْلُودِيهِ وَإِنْ سَفَلُوا

مِنَ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ ، وَبَنِي الْبَنِينِ وَبَنِي الْبَنَاتِ ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ دَاوُدُ : يُقْطَعُ الْأَبُ فِي مَالِ ابْنِهِ وَالِابْنُ فِي مَالِ أَبِيهِ : تَمَسُّكًا بِعُمُومِ الظَّاهِرِ . وَقَالَ قَوْمٌ يُقْطَعُ الِابْنُ فِي مَالِ أَبِيهِ ، كَمَا يُقْتَلُ بِهِ وَيُحَدُّ بِقَذْفِهِ . وَلَا يُقْطَعُ الْأَبُ فِي مَالِ ابْنِهِ ، كَمَا لَا يُقْتَلُ بِهِ وَلَا يُحَدُّ بِقَذْفِهِ . وَدَلِيلُنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا [ الْإِسْرَاءِ : 23 ] ، فَكَانَ بِالْقَطْعِ أَغْلَظَ وَبِالنَّهْي أَحَقَّ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : أَوْلَادُكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ فَكُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ كَسْبِكُمْ . وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ ، عَنْ جَابِرٍ ، أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ ابْنٌ لَهُ ، فَقَالَ الِابْنُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَذَا أَبِي يَأْخُذُ مَالِي فَيُتْلِفُهُ بِغَيْرِ إِذْنِي . فَقَالَ الرَّجُلُ : سَلْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَلْ أُنْفِقُهُ إِلَّا عَلَى إِحْدَى عَمَّاتِهِ أَوْ خَالَاتِهِ ؟ ثُمَّ هَبَطَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : سَلْهُ عَنْ شِعْرِهِ الَّذِي لَمْ تَسْمَعْهُ أُذُنَاهُ . فَسَأَلَهُ عَنْهُ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَاللَّهِ مَا سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُنَا بِكَ بَيَانًا ، ثَمَّ أَنْشَدَهُ شِعْرَهُ فِي ابْنِهِ فَقَالَ : غَذَوْتُكَ مَوْلُودًا وَعُلْتُكَ يَافِعًا تُعَلُّ بِمَا أُدْنِي عَلَيْكَ وَتَنْهَلُ إِذَا لَيْلَةٌ نَابَتْكَ بالشَكْوِ لَمْ أَبِتْ لِشَكْوَاكَ إِلَّا سَاهِرًا أَتَمَلْمَلُ كَأَنِّي أَنَا الْمَطْرُوقُ دُونَكَ بِالَّذِي طُرِقْتَ بِهِ دُونِي وَعَيْنِيَ تَهْمُلُ تَخَافُ الرَّدَى نَفْسِي عَلَيْكَ وَإِنَّهَا لَتَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ حَتْمٌ مُؤَجَّلُ فَلَمَّا بَلَغْتَ السِّنَّ وَالْغَايَةَ الَّتِي إِلَيْهَا مَدَى مَا كُنْتُ فِيكَ أُؤَمِّلُ جَعَلْتَ جَزَائِي مِنْكَ جَبْهًا وَغِلْظَةً كَأَنَّكَ أَنْتَ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ فَلَيْتَكَ إِذْ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبُوَّتِي فَعَلْتَ كَمَا الْجَارُ الْمُجَاوِرُ يَفْعَلُ قَالَ : فَعَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَلَابِيبِ الْغُلَامِ وَقَالَ : أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ وَهَذَا يَمْنَعُ مِنَ الْقَطْعِ ، وَلِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ شُبْهَةً فِي مَالِ الْآخَرِ : لِوُجُوبِ نَفَقَتِهِ فِيهِ ، وَلِوِلَايَةِ الْأَبِ عَلَى مَالِ وَلَدِهِ ، فَسَقَطَ الْقَطْعُ بَيْنَهُمَا ، وَلِأَنَّ بِوُجُودِ الْبَعْضِيَّةِ بَيْنَهُمَا يَجْرِي

مَجْرَى نَفْسِهِ فَلَمْ يُقْطَعْ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَلِأَنَّ الْقَطْعَ فِي الْمَالِ يَجِبُ عِنْدَ الْأَخْذِ لَهُ وَالْمَأْخُوذِ مِنْهُ ، وَوَلَدُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ وَأَعَزُّ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ ، فَعَدَمَ فِيهِ مَعْنَى الْقَطْعِ فَسَقَطَ عَنْهُ . فَأَمَّا الِاقْتِصَاصُ مِنَ الْوَلَدِ بِالْوَالِدِ ، وَلَا يُقْطَعُ فِي مَالِ الْوَالِدِ . فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ شُبْهَةٌ فِي الْقَطْعِ ، وَلَيْسَ بِوُجُوبِهَا شُبْهَةٌ فِي الْقِصَاصِ ، فَافْتَرَقَا . وَإِنَّمَا لَمْ يُقْتَصَّ مِنَ الْوَالِدِ بِالْوَلَدِ : لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْهُ . وَاقْتُصَّ مِنَ الْوَلَدِ بِالْوَالِدِ : لِوُجُودِ التُّهْمَةِ فِيهِ . وَإِذَا لَمْ يُقْطَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فِي مَالِ الْآخَرِ ، لَمْ يُقْطَعْ عَبْدٌ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إِذَا سَرَقَ مَالَ الْآخَرِ ، كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ يَدَ عَبْدِهِ كَيَدِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا عَدَا الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ مِنْ ذَوِي الْأَنْسَابِ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَبَنِيهِمْ ، وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَبَنِيهِمْ ، فَيُقْطَعُونَ إِذَا سَرَقَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ، سَوَاءٌ تَوَارَثُوا أَوْ كَانُوا مَحَارِمَ ، أَوْ لَمْ يَكُونُوا كَالْأَجَانِبِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُقْطَعُ إِذَا كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ : احْتِجَاجًا بِأَنَّهَا قَرَابَةٌ تَتَعَلَّقُ بِهَا تَحْرِيمُ النِّكَاحِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ الْقَطْعُ بِهَا ، كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ . وَدَلِيلُنَا : أَنَّهَا قَرَابَةٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا رَدُّ الشَّهَادَةِ ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا سُقُوطُ الْقَطْعِ كَغَيْرِ الْمَحَارِمِ مِنَ الْأَقَارِبِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ : فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فَسَادُهُ بِتَحْرِيمِ الرَّضَاعِ ، يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ تَحْرِيمِ النَّسَبِ فِي حَظْرِ النِّكَاحِ ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ . وَالثَّانِي : أَنَّ فِي الْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ بَعْضِيَّةً فَارَقَتْ مَا عَدَاهُمَا مِنَ الْأَنْسَابِ ، فَافْتَرَقَا فِي حُكْمِ الْقَطْعِ ، كَمَا افْتَرَقَا فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ ، وَافْتَرَقَا فِي الْقِصَاصِ ، وَافْتَرَقَا فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ عِنْدَنَا عَلَى الْعُمُومِ مَعَ اتِّفَاقِ الدِّينِ وَاخْتِلَافِهِ ، وَعِنْدَهُمْ يَفْتَرِقَانِ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ ، فَإِنَّهُمْ أَوْجَبُوا نَفَقَةَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ مَعَ اتِّفَاقِ الدِّينِ وَمَعَ اخْتِلَافِهِ ، وَلَمْ يُوجِبُوا نَفَقَةَ مَنْ عَدَاهُمَا مِنْ مَحَارِمِ الْأَقَارِبِ إِلَّا مَعَ اتِّفَاقِ الدِّينِ ، وَأَسْقَطُوهَا مَعَ اخْتِلَافِهِ . فَكَانَ هَذَا الْفَرْقُ فِي النَّفَقَةِ وَالْقِصَاصِ وَرَدِّ الشَّهَادَةِ مَانِعًا مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي سُقُوطِ الْقَطْعِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الشَّرِيكُ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ شَرِيكِهِ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَسْرِقَ مِنَ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ حَقَّهُ فِيهِ شُبْهَةٌ لَهُ ، سَوَاءٌ كَانَ حِرْزُهُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا ، أَوْ مُخْتَصًّا بِالْمَسْرُوقِ مِنْهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَسْرِقَ مِنْ مَالٍ غَيْرِ مُشْتَرَكٍ يَخْتَصُّ بِالشَّرِيكِ دُونَهُ ، فَيُنْظَرُ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ فِي حِرْزٍ مُشْتَرِكٍ بَيْنَهُمَا فَلَا قَطْعَ فِيهِ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْرَزٍ مِنْهُ . وَإِنْ كَانَ فِي حِرْزٍ

مُفْرَدٍ يَخْتَصُّ بِهِ مَالِكُهُ قُطِعَ فِيهِ الشَّرِيكُ : لِعَدَمِ الشُّبْهَةِ فِيهِ ، وَإِنْ وُجِدَتِ الشُّبْهَةُ فِي غَيْرِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْأَجِيرُ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ مُسْتَأْجِرِهِ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَسْرِقَ مِنَ الْمَالِ الَّذِي اسْتُؤْجِرَ فِيهِ ، أَوْ مِنْ مَالٍ غَيْرِ مُحْرَزٍ ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَسْرِقَ مِنْ مَالٍ لَا يَدَ لَهُ فِيهِ ، وَهُوَ فِي حِرْزٍ مِنْهُ ، فَيُقْطَعُ وَلَا تَكُونُ الْإِجَارَةُ شُبْهَةً .

فَصْلٌ : وَإِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ الْمُعَدِّ لِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ ، لَمْ يَقْطَعُوا : لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَامِلًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَيْهِ فِي رَجُلٍ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، فَقَالَ : أَرْسِلْهُ وَلَا تَقْطَعْهُ ، فَلَا أَحَدَ إِلَّا وَلَهُ فِي هَذَا الْمَالِ حَقٌّ . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ رَجُلًا سَرَقَ مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ فَلَمْ يَقْطَعْهُ . وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا فَكَانَ إِجْمَاعًا . وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ فِي بَيْتِ الْمَالِ عَامَّةٌ ، فَدَخَلَ السَّارِقُ فِيهَا ، فَسَقَطَ الْقَطْعُ فِيهَا . وَأَمَّا إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ الْغَنِيمَةِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ مِنْ ذِي سَهْمٍ أَوْ رَضْخٍ لَمْ يُقْطَعْ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَهَا أَحَدٌ مِنْ وَالِدِيهِ أَوْ مَوْلُودِيهِ لَمْ يُقْطَعْ لِلشُّبْهَةِ فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَنْسَابِهِ الَّذِينَ لَا يُقْطَعُ فِي أَمْوَالِهِمْ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ الْخُمْسُ بَاقِيًا فِي الْغَنِيمَةِ ، لَمْ يُقْطَعْ : لِشُبْهَتِهِ فِي خُمْسِ الْخُمْسِ . فَإِنْ أَخْرَجَ الْخُمْسَ مِنْهُ ، قُطِعَ فِيهِ : لِأَنَّهُ مِلْكٌ لِمُعَيَّنِينَ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ . وَإِنْ سَرَقَ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا لَمْ يُقْطَعْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهَا ، فَفِي قَطْعِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُقْطَعُ كَالْغَنِيمَةِ . وَالثَّانِي : لَا يُقْطَعُ بِخِلَافِ الْغَنِيمَةِ ، لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مِلْكَ الْغَنِيمَةِ لِمُعَيَّنِينَ ، وَمِلْكُ الزَّكَاةِ لِغَيْرِ مُعَيَّنِينَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مِنْ مُسْتَحِقِّي تِلْكَ الزَّكَاةِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مِنْ مُسْتَحِقِّي تِلْكَ الْغَنِيمَةِ .

مَسْأَلَةٌ لَا يُقْطَعُ فِي طُنْبُورٍ وَلَا مِزْمَارٍ وَلَا خَمْرٍ وَلَا خِنْزِيرٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يُقْطَعُ فِي طُنْبُورٍ وَلَا مِزْمَارٍ وَلَا خَمْرٍ وَلَا خِنْزِيرٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ وَالْخَمْرُ : فَلَا قِيمَةَ عَلَى مُتْلِفِهِ ، وَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِهِ : لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخِنْزِيرَ ، وَحَرَّمَ ثَمَنَهُ ، وَحَرَّمَ الْكَلْبَ ، وَحَرَّمَ ثَمَنَهُ ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ شَيْئًا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ .

فَأَمَّا الطُّنْبُورُ وَالْمِزْمَارُ وَسَائِرُ الْمَلَاهِي هل يقطع في سرقتها ؟ : فَاسْتِعْمَالُهَا مَحْظُورٌ ، وَكَذَلِكَ اقْتِنَاؤُهَا . فَإِنْ سَرَقَهَا مِنْ حِرْزٍ ، لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مُفَصَّلَةً أَوْ غَيْرَ مُفَصَّلَةٍ . فَإِنْ كَانَتْ مُفَصَّلَةً قَدْ زَالَ عَنْهَا اسْمُ الْمَلَاهِي وَبَطَلَ اسْتِعْمَالُهَا فِي اللَّهْوِ ، فَيُقْطَعُ سَارِقُهَا إِذَا بَلَغَ قِيمَتُهَا نِصَابًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُقْطَعُ : لِأَنَّهَا آلَةٌ لِمَا لَا قَطْعَ فِيهِ . وَهَذَا فَاسِدٌ : لِأَنَّ مَا زَالَتْ عَنْهُ الْمَعْصِيَةُ زَالَ عَنْهُ حُكْمُهَا ، كَالْخَمْرِ إِذَا صَارَ خَلًّا . وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُفَصَّلَةٍ وَهِيَ عَلَى حَالِ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي اللَّهْوِ مِنْ سَائِرِ الْمَلَاهِي ، وَلَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ أَمْ لَا . فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ سرقة آلات اللهو قُطِعَ سَارِقُهَا : لِأَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ زِينَةٌ لِلْمَلَاهِي ، فَصَارَ مَقْصُودًا وَمَتْبُوعًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُقْطَعُ فِيهِ . بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي سَرِقَةِ مَا يُوجِبُ الْقَطْعَ ، إِذَا ضُمَّ إِلَيْهِ مَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ ، سَقَطَ الْقَطْعُ فِي الْجَمِيعِ . وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي هَذَا الْأَصْلِ إِذَا سَرَقَ إِنَاءً مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ خَمْرٌ ، قُطِعَ عِنْدَنَا ، وَلَمْ يُقْطَعْ عِنْدَهُ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَلَاهِي ذَهَبٌ وَلَا فِضَّةٌ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَصْلُحَ بِهِ بَعْدَ تَفْصِيلِهِ لِغَيْرِ الْمَلَاهِي ، فَلَا قِيمَةَ عَلَى مُتْلِفِهِ ، وَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَصْلُحَ بَعْدَ التَّفْصِيلِ لِغَيْرِ الْمَلَاهِي ، فَعَلَى مُتْلِفِهِ قِيمَتُهُ مُفَصَّلًا ، وَفِي وُجُوبِ قَطْعِ سَارِقِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا قَطْعَ فِيهِ : لِأَنَّ التَّوَصُّلَ إِلَى إِزَالَةِ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ ، فَصَارَ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْقَطْعِ فِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ : يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ اعْتِبَارًا بِقِيمَتِهِ بَعْدَ التَّفْصِيلِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ

بَابُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ : إِذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ ، قُتِّلُوا وَصُلِّبُوا . وَإِذَا قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ ، قُتِّلُوا وَلَمْ يُصَلَّبُوا . وَإِذَا أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا ، قُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ . وَنَفْيُهُمْ إِذَا هَرَبُوا أَنْ يُطْلَبُوا ، حَتَّى يُؤْخَذُوا فَيُقَامَ عَلَيْهِمُ الْحَدُّ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : فَبِهَذَا أَقُولُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْأَصْلُ فِي الْحِرَابَةِ وَقُطَّاعِ الطُّرُقِ مُجَاهَرَةً قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [ الْمَائِدَةِ : 33 ] . وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ، وَأُرِيدَ بِهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ ، فَنَقَضُوهُ وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ ، فَحَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِيهِمْ ، فَيَكُونُ حُكْمُهَا مَقْصُورًا عَلَى نَاقِضِي الْعَهْدِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ . وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْعُرَنِيِّينَ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ ، وَقَدْ أَخْرَجَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى لِقَاحٍ لَهُ عِنْدَ اجْتِوَائِهِمُ الْمَدِينَةَ : لِيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا ، فَلَمَّا شَرِبُوا وَصَحُّوا قَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَاسْتَاقُوا إِبِلَهُ ، فَحَكَمَ اللَّهُ بِذَلِكَ فِيهِمْ ، فَيَكُونُ حُكْمُهَا مَقْصُورًا عَلَى الْمُرْتَدِّينَ عَنِ الْإِسْلَامِ إِذَا أَفْسَدُوا . وَهَذَا قَوْلُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، وَقَتَادَةَ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ، حَكَمَ اللَّهُ فِيهِمْ عِنْدَ الظَّفَرِ بِهِمْ بِمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ عُقُوبَتِهِمْ ، فَيَكُونُ حُكْمُهَا مَقْصُورًا عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ . وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، وَ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ، وَ ابْنِ عُلَيَّةَ . وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِحُكْمِ مَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَسَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ . وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ حُكْمَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُرْتَدِّينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ ، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ فِي غَيْرِهِمْ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي سِيَاقِ

الْآيَةِ : إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ الْمَائِدَةِ : 34 ] ، وَهَذَا مِنْ حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَفِي قَوْلِهِ : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [ الْمَائِدَةِ : 33 ] ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : مَعْنَاهُ يُعَادُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ . وَهَذَا قَوْلُ جُوَيْبِرٍ . وَالثَّانِي : يُخَالِفُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ . وَالثَّالِثُ : يُحَارِبُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَفِي قَوْلِهِ : وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا [ الْمَائِدَةِ : 33 ] قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا الْفَسَادَ فِعْلُ الْمَعَاصِي الَّذِي يَتَعَدَّى ضَرَرُهَا إِلَى غَيْرِ فَاعِلِهَا ، كَالزِّنَا وَالْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ . هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ هَذَا الْفَسَادَ خَاصٌّ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ ، وَإِخَافَةِ السَّبِيلِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ : لِأَنَّ حُكْمَ تِلْكَ الْمَعَاصِي مُبَيَّنٌ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْمَعَاصِي .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُحَارِبِينَ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ، وَمُخِيفِي السُّبُلِ الَّذِينَ يَعْتَرِضُونَ السَّابِلَةَ ، مُجَاهَرَةً وَمُحَارَبَةً ، فَيَأْخُذُونَ أَمْوَالَهُمْ وَيَقْتُلُونَ نُفُوسَهُمْ ، فَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ بِأَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ ، ذَكَرَهَا فِي الْآيَةِ فَقَالَ : أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [ الْمَائِدَةِ : 33 ] فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْأَرْبَعَةِ التيِ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى عُقُوبَةً لَهُمْ ، هَلْ وَجَبَتْ عَلَى طَرِيقِ التَّخْيِيرِ فِي أَنْ يَفْعَلَ الْإِمَامُ مِنْهَا مَا رَآهُ صَلَاحًا ، أَوْ وَجَبَتْ عَلَى طَرِيقِ التَّرْتِيبِ عقوبة الحرابة ، فَتَكُونُ كُلُّ عُقُوبَةٍ مِنْهَا فِي مُقَابَلَةِ ذَنْبٍ لَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ ؟ اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعَطَاءٌ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَمَالِكٌ وَدَاوُدُ فِي أَهْلِ الظَّاهِرِ : أَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى طَرِيقِ التَّخْيِيرِ فِي أَنْ يَفْعَلَ الْإِمَامُ مِنْهَا مَا شَاءَ : لِقَوْلِهِ : أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا [ الْمَائِدَةِ : 33 ] وَ " أَوْ " تَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ لِلتَّخْيِيرِ فِي الْأَوَامِرِ ، وَالشَّكِّ فِي الْأَخْبَارِ ، وَهَذَا أَمْرٌ فَكَانَتْ لِلتَّخْيِيرِ ، كَهِيَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ . وَالثَّانِي : قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : أَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى طَرِيقِ التَّرْتِيبِ : لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ اخْتِلَافَ الْعُقُوبَاتِ تُوجِبُ اخْتِلَافَ أَسْبَابِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ التَّخْيِيرَ مُفْضٍ إِلَى أَنْ يُعَاقَبَ مَنْ قَلَّ جُرْمُهُ بِأَغْلَظِ الْعُقُوبَاتِ ، وَمَنْ كَثُرَ جُرْمُهُ بِأَخَفِّ الْعُقُوبَاتِ ، وَالتَّرْتِيبُ يَمْنَعُ مِنْ هَذَا التَّنَاقُضِ : لِأَنَّهُ يُعَاقَبُ فِي أَقَلِّ الْجُرْمِ بِأَخَفِّ الْعُقُوبَاتِ ، وَفِي كَثْرَةِ الْجُرْمِ بِأَغْلَظِهَا ، فَكَانَ أَوْلَى .

وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَمَّا بُدِئَ فِيهَا بِالْأَغْلَظِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى تَرْتِيبٍ ، مِثْلَ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ . وَلَوْ كَانَتْ عَلَى التَّخْيِيرِ لَبُدِئَ فِيهَا بِالْأَخَفِّ مِنْ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ دُونَ التَّخْيِيرِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِتَرْتِيبِهَا فِي صِفَةِ التَّرْتِيبِ في عقوبة الحرابة عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ قُتِلَ ، وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ ، وَإِذَا قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ قُتِلَ وَقُطِعَ ، وَنَفْيُهُمْ أَنْ يُحْبَسُوا فِي بَلَدِهِمْ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يُقْتَلُ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ دُونَ الْبَطْشِ وَالْقِتَالِ : لِأَنَّهُ لَا يُكَفُّ عَنِ التَّدْبِيرِ إِلَّا بِالْقَتْلِ ، وَتُقْطَعُ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَطْشِ وَالْقِتَالِ دُونَ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ : لِأَنَّهُ يَتَعَطَّلُ ، وَإِنْ كَانَ مُكْثِرًا لَا تَدْبِيرَ فِيهِ وَلَا قِتَالَ نُفِيَ ، وَنَفْيُهُ : أَنْ يُخْرَجَ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ ، يُحْبَسُ فِيهِ . فَاعْتَبَرَ الْحَدَّ بِصِفَةِ الْفَاعِلِ ، وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ بِصِفَةِ الْفِعْلِ ، وَهُوَ ضِدُّ مَا وُضِعَتْ لَهُ الْحُدُودُ : لِأَنَّهُ يُقْتَلُ مَنْ لَمْ يَقْتُلْ ، وَلَا يُقْتَلُ مَنْ قَتَلَ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيُّ وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ إِنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ قُتِلَ وَلَمْ يُصْلَبْ . وَإِنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ قُتِلَ وَصُلِبَ وَلَمْ يُقْطَعْ . وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتِلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ . وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ عُزِّرَ . وَنَفْيُهُمْ أَنْ يُطْلَبُوا لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ فَيَهْرُبُوا . فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَمُخَالِفٌ فِيهِ إِذَا جَمَعَ بَيْنَ الْقَتْلِ وَأَخْذِ الْمَالِ . قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : نَقْتُلُهُ بِالْقَتْلِ ، وَيَكُونُ الْإِمَامُ فِي أَخْذِ الْمَالِ مُخَيَّرًا بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : بَيْنَ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ وَلَا يَصْلِبَ ، وَبَيْنَ أَنْ يَصْلِبَهُ وَلَا يَقْطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ ، وَبَيْنَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَيَقْطَعُ يَدَهُ وَرِجْلَهُ وَيَصْلِبَهُ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ . وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْحُدُودَ إِذَا اخْتَلَفَتْ بِاخْتِلَافِ أَسْبَابِهَا جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَ جَمِيعِهَا ، كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ يُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ الْحَدِّ وَالْقَطْعِ . وَدَلِيلُنَا : مَا رَوَاهُ ابْنُ لَهِيعَةَ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ ، أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَتَبَ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَسْأَلُهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْسٌ يُخْبِرُهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أُولَئِكَ الْعُرَنِيِّينَ وَهُمْ مِنْ بَجِيلَةَ ، فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ عَنِ الْقِصَاصِ فِيمَنْ حَارَبَ . فَقَالَ : مَنْ سَرَقَ وَأَخَافَ السَّبِيلَ فَاقْطَعْ يَدَهُ : لِسَرِقَتِهِ وَرِجْلَهُ : لِإِخَافَتِهِ . وَمَنْ قَتَلَ فَاقْتُلْهُ . وَمَنْ قَتَلَ ، وَأَخَافَ السَّبِيلَ وَاسْتَحَلَّ الْفَرْجَ الْحَرَامَ فَاصْلُبْهُ . وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ قَالَ : وَادَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بُرْدَةَ الْأَسْلَمِيَّ ، فَجَاءَ نَاسٌ يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ فَقَطَعَ عَلَيْهِمْ أَصْحَابُهُ ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْحَدِّ فِيهِمْ أَنَّ

مَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ قُتِلَ وَصُلِبَ ، وَمَنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ قُتِلَ ، وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ . وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمُسْنَدِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لِأَنَّ مَا نَزَلْ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنْهُ . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ : إِذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ قُتِّلُوا وَصُلِّبُوا ، وَإِذَا قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ قُتِّلُوا وَلَمْ يُصَلَّبُوا ، وَإِذَا أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا قُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ ، وَنَفْيُهُمْ إِذَا هَرَبُوا أَنْ يُطْلَبُوا حَتَّى يُوجَدُوا ، فَيُقَامَ عَلَيْهِمُ الْحَدُّ . وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ نُزُولُ جِبْرِيلَ ، وَهُوَ حُجَّةٌ أَيْضًا : لِأَنَّهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ ، فَكَانَ حُجَّةً . وَابْنُ عَبَّاسٍ تُرْجُمَانُ التَّنْزِيلِ وَحَبْرُ التَّأْوِيلِ ، وَلِأَنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الصَّلْبِ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْقَتْلِ وَحْدَهُ ، وَهُوَ مَدْفُوعٌ بِوِفَاقِهِ . أَوْ يَكُونَ لِأَخْذِ الْمَالِ وَحْدَهُ ، وَهُوَ مَدْفُوعٌ بِوِفَاقِهِ . أَوْ يَكُونَ بِهِمَا جَمِيعًا ، وَهُوَ مُسَلَّمٌ بِوِفَاقِهِ . وَإِذَا كَانَ مُسْتَحَقًّا فِيهِمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا دَلَّلْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُقُوطِ التَّخْيِيرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ حَدٌّ وَاحِدٌ ، وَالتَّخْيِيرُ فِيهِ يُخْرِجُهُ عَنِ الْحُدُودِ الْوَاجِبَةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ اجْتِمَاعَ الْحُدُودِ الْمُخْتَلِفَةِ لَا يُوجِبُ تَدَاخُلَهَا : فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَقُولُ فِي الزَّانِي الثَّيِّبِ إِذَا سَرَقَ : رُجِمَ وَلَمْ يُقْطَعْ . فَبَطَلَ بِهِ اسْتِدْلَالُهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا لَا يَتَدَاخَلُ ، لَا يَكُونُ فِيهِ تَخْيِيرٌ ، وَقَدْ أَثْبَتَ التَّخْيِيرَ هَاهُنَا ، فَبَطَلَ بِهِ اسْتِدْلَالُهُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا النَّفْيُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [ الْمَائِدَةِ : 33 ] فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ نَفْيَهُمْ إِبْعَادُهُمْ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ إِلَى بِلَادِ الشِّرْكِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ إِخْرَاجُهُمْ مِنْ مَدِينَةٍ إِلَى أُخْرَى . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُ حَبْسُ مَنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَدٌّ . وَالرَّابِعُ : وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ طَلَبُهُمْ لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ فَيُبْعَدُوا . وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ نَفْيَهُمْ هُوَ الْحَبْسُ بِأَمْرَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ كَفُّهُمْ عَنِ الْأَذَى ، وَإِبْعَادُهُمْ لَا يَكُفُّهُمْ عَنِ الْأَذَى ، وَالْحَبْسُ يَكُفُّهُمْ عَنْهُ ، فَكَانَ هُوَ الْمُرَادَ بِهِ . حَكَى مَكْحُولٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَوَّلُ مَنْ حَبَسَ فِي السُّجُونِ ، وَقَالَ : احْبِسْهُ حَتَّى أَعْلَمَ مِنْهُ التَّوْبَةَ ، وَلَا أَنْفِيهِ إِلَى بَلَدٍ فَيُؤْذِيهِمْ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ جَعَلَ النَّفْيَ حَدًّا ، فَاقْتَضَى أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى غَيْرِ أَصْحَابِ الْحُدُودِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَالشَّافِعِيُّ جَعَلَهُ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِمْ ، فَخَالَفَ الظَّاهِرَ . وَاسْتَدَلَّ لَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ : بِأَنَّ الْعَرَبَ تَجْعَلُ الْحَبْسَ نَفْيًا : لِقَوْلِ بَعْضِ الْمَسْجُونِينَ مِنْ شُعَرَاءِ الْعَرَبِ : خَرَجْنَا مِنَ الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنَ اهْلِهَا فَلَسْنَا مِنَ الْأَحْيَاءِ فِيهَا وَلَا الْمَوْتَى إِذَا جَاءَنَا السَّجَّانُ يَوْمًا لِحَاجَةٍ عَجِبْنَا وَقُلْنَا جَاءَ هَذَا مِنَ الدُّنْيَا وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ النَّفْيُ رَاجِعًا إِلَى جَمِيعِهِمْ ، وَلَا يَكُونُ رَاجِعًا إِلَى جَمِيعِهِمْ إِلَّا عَلَى قَوْلِنَا : أَنْ يُطْلَبُوا لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ فَيَهْرُبُوا . وَهُوَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَاجِعٌ إِلَى بَعْضِهِمْ . فَإِنْ قِيلَ : فَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِنَفْيِهِمْ ، وَمَذْهَبُكُمْ يَبْعَثُ عَلَى أَنْ يَنْفُوا أَنْفُسَهُمْ . قِيلَ : إِذَا نَفَوْا أَنْفُسَهُمْ لِطَلَبِ الْإِمَامِ لَهُمْ ، صَارَ الْإِمَامُ هُوَ الَّذِي نَفَاهُمْ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ : فَإِنْ هَرَبَ فَذَلِكَ نَفْيُهُ . وَقَوْلُهُ مَعَ عَدَمِ الْمُخَالِفِ حُجَّةٌ . وَلِأَنَّ الْحَبْسَ لَا يُسَمَّى نَفْيًا : لِأَنَّهُ إِمْسَاكٌ ، وَالنَّفْيُ إِبْعَادٌ فَصَارَا ضِدَّيْنِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالنَّفْيِ الْكَفُّ ، وَالْحَبْسُ كَفٌّ : قُلْنَا : الطَّلَبُ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ أَبْلَغُ مِنَ الْكَفِّ . أَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّهُ حَدٌّ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ : فَهُوَ أَنَّهُ حَدٌّ فِي غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ : لِأَنَّ الْمُتَقَدِّمَ حَدٌّ فِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ وَهَذَا حَدٌّ فِي غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ . وَأَمَّا الشِّعْرُ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ : لِأَنَّهُ جَعَلَ الْحَبْسَ نَفْيًا مِنَ الدُّنْيَا ، وَلُحُوقًا بِالْمَوْتَى ، وَهُوَ بِخِلَافِ مَا قَالَ ، فَبَطَلَ الِاسْتِدْلَالُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ تَرْتِيبِ الْأَحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ ، فَشَرْحُ الْمَذْهَبِ فِي كُلِّ فِعْلٍ وَحُكْمُهُ : أَنْ يُعْتَبَرَ مَا فَعَلَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمُحَارَبَةِ في تحديد عقوبته ، فَمَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ رُوعِيَ حَالُ الْمَقْتُولِ ، فَإِنْ كَانَ مُكَافِئًا لِلْقَاتِلِ قُتِلَ بِهِ الْقَاتِلُ ، وَكَانَ قَتْلُهُ مُنْحَتِمًا لَا يَقِفُ عَلَى خِيَارِ الْوَلِيِّ ، وَلَا يَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْهُ فَيَتَغَلَّظُ فِي الْحِرَابَةِ بِانْحِتَامِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ ، وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى خِيَارِ الْوَلِيِّ فِي أَنْ يَقْتَصَّ أَوْ يَعْفُوَ أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ أَوْ يَعْفُوَ عَنْهَا ، إِلَّا أَنْ يَنْضَمَّ إِلَى الْقَتْلِ أَخْذُ الْمَالِ فَيَنْحَتِمُ قَتْلُهُ وَلَا يَقِفُ عَلَى خِيَارِ الْوَلِيِّ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [ الْإِسْرَاءِ : 33 ] .

وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَمَنْ قَتَلَ بَعْدَهُ قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ ، إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا ، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الْعَقْلَ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا [ الْمَائِدَةِ : 33 ] فَكَانَ ظَاهِرُهُ الْوُجُوبُ : لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُقَيَّدٌ بِشَرْطٍ ، وَلِأَنَّ كُلَّ جُرْمٍ أَوْجَبَ عُقُوبَةً فِي غَيْرِ الْمُحَارَبَةِ ، تَغَلَّظَتْ عُقُوبَتُهُ فِي الْمُحَارَبَةِ ، كَالْمَالِ تَغَلَّظَتْ عُقُوبَتُهُ فِي الْمُحَارَبَةِ ، كَالْأَمْرِ بِقَطْعِ الرِّجْلِ ، فَاقْتَضَى أَنْ تَتَغَلَّظَ عُقُوبَةُ الْقَتْلِ بِانْحِتَامِهِ ، فَصَارَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنَ الظَّاهِرِ مَخْصُوصًا . وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ فَيَ الْحِرَابَةِ غَيْرَ مُكَافِئٍ لِلْقَاتِلِ : لِأَنَّهُ حُرٌّ قَتَلَ عَبْدًا أَوْ مُسْلِمٌ قَتَلَ مُعَاهَدًا ، أَوْ وَالِدٌ قَتَلَ وَلَدًا فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ التَّكَافُؤَ مُعْتَبَرٌ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ ، فَلَا يُقْتَلُ بِهِ الْقَاتِلُ إِذَا لَمْ يَكُنْ كُفْؤًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ التَّكَافُؤَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَيُقْتَلُ بِهِ الْقَاتِلُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُفْؤًا : لِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ فِي قَتْلِ الْحِرَابَةِ خِيَارُ الْوَلِيِّ سَقَطَ فِيمَا كَفَاهُ الْمَقْتُولُ . فَعَلَى هَذَا : لَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ مُرْتَدًّا فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْقَاتِلُ بِرِدَّتِهِ قُتِلَ بِهِ اعْتِبَارًا بِقَصْدِهِ ، وَإِنْ عَلِمَ بِرِدَّتِهِ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ : لِأَنَّ دَمَهُ مُبَاحٌ .

فَصْلٌ : وَمَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ قُتِلَ وَصُلِبَ في الحرابة ، فَكَانَ الْقَتْلُ بِالْقَتْلِ وَالصَّلْبُ بِأَخْذِ الْمَالِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ جَوَّزَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ . وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الصَّلْبَ حَدًّا وَجَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَتْلِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي جُرْمَيْنِ مَقْصُودَيْنِ بِالْمُحَارَبَةِ ، وَلَا يُقْصَدُ فِي الْأَغْلَبِ بِهِمَا إِلَّا الْمَالُ وَالْقَتْلُ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْعُقُوبَتَيْنِ مَقْصُودَ الْحِرَابَةِ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُقْتَلُ وَيُصْلَبُ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ يُصْلَبُ بَعْدَ قَتْلِهِ . وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ : يُصْلَبُ حَيًّا ، ثُمَّ يُبْعَجُ بَطْنُهُ بِالرِّمَاحِ ، أَوْ يُرْمَى بِالسِّهَامِ حَتَّى يُقْتَلَ . وَحَكَاهُ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : لِأَنَّ الصَّلْبَ إِذَا كَانَ حَدًّا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَيَاةِ : لِأَنَّ الْحُدُودَ لَا تُقَامُ عَلَى مَيِّتٍ . وَلِأَجْلِ هَذَا التَّعْلِيلِ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ يُصْلَبُ حَيًّا ، وَيُتْرَكُ عَلَى حَالِهِ مَصْلُوبًا حَتَّى يَمُوتَ . وَلَيْسَ هَذَا صَحِيحًا : لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْذِيبِ نَفْسِهِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ الْإِحْسَانَ ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ . وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُجْعَلَ الرُّوحُ غَرَضًا .

وَقَوْلُهُمْ : إِنَّهُ حَدٌّ لَا يُقَامُ عَلَى مَيِّتٍ . فَيُقَالُ لَهُمْ : هُوَ وَإِنْ كَانَ حَدًّا ، فَالْمَقْصُودُ بِهِ رَدْعُ غَيْرِهِ : لِأَنَّ الْمَقْتُولَ لَا يُرْدَعُ ، وَإِنَّمَا يُرْدَعُ بِهِ الْأَحْيَاءُ . وَالرَّدْعُ بِالصَّلْبِ مَوْجُودٌ فِي الْأَحْيَاءِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَتْلِ . فَإِذَا صُلِبَ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُصْلَبُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يُزَادُ عَلَيْهَا ، إِلَّا أَنْ يَتَغَيَّرَ قَبْلَهَا فَيُحَطُّ . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ مُدَّةَ صَلْبِهِ مُعْتَبَرَةٌ بِأَنْ يَسِيلَ صَدِيدُهُ ، وَلَا يَتَقَدَّرُ بِزَمَانٍ . وَهَذَا فَاسِدٌ : لِأَنَّ قَتْلَهُ وَصَلْبَهُ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ حُرْمَتِهِ وَغَسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَدَفْنِهِ : لِحُرْمَةِ إِسْلَامِهِ . وَانْتِهَاؤُهُ إِلَى سَيَلَانِ صَدِيدِهِ يَمْنَعُ مِنْ هَذِهِ الْحُقُوقِ ، فَلَمْ تُعْتَبَرْ . فَلَوْ مَاتَ هَذَا الْمُحَارِبُ حَتْفَ أَنْفِهِ ، لَمْ يُصْلَبْ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَإِنْ صُلِبَ بَعْدَ قَتْلِهِ . نَقَلَهُ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ نَصًّا . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ قَتْلَهُ حَدٌّ مُسْتَوْفًى فَيَكْمُلُ بِصَلْبِهِ ، وَمَوْتُهُ مُسْقِطٌ لِحَدِّهِ فَسَقَطَ تَأْثِيرُهُ .

فَصْلٌ : وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ من المحاربين قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ [ الْمَائِدَةِ : 33 ] وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَطَعَ يَمِينَ السَّارِقِ ، فَلِذَلِكَ قَطَعَ فِي الْحِرَابَةِ يَمِينَ يَدَيْهِ وَيُسْرَى رِجْلَيْهِ ، فَإِنْ فُقِدَتَا مِنْهُ مَعًا ، وَكَانَتْ يُمْنَى يَدَيْهِ وَيُسْرَى رِجْلَيْهِ مَعًا قَدْ ذَهَبَتَا ، عَدَلْنَا إِلَى قَطْعِ يَدِهِ الْيُسْرَى وَرِجْلِهِ الْيُمْنَى ، كَالسَّارِقِ إِذَا عَدِمْنَا يُمْنَى يَدَيْهِ عَدَلْنَا إِلَى يُسْرَى رِجْلَيْهِ . وَلَوْ فَقَدَ هَذَا الْمُحَارِبُ يَدَهُ الْيُمْنَى وَبَقِيَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى ، أَوْ فَقَدَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَبَقِيَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ ، يُؤْخَذُ الْعُضْوُ الْبَاقِي وَحْدَهُ وَيَكُونُ الْمَفْقُودُ لِبَقَاءِ هَذَا الْمَأْخُوذِ ، كَمَا لَوْ ذَهَبَ مِنْ يَدَيِ السَّارِقِ بَعْضُ أَصَابِعِهِ قُطِعَ الْبَاقِي ، وَكَانَ الذَّاهِبُ مِنْهَا تَبَعًا لَهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ عِنْدِي أَشْبَهُ أَنَّهُ يَكُونُ الْمَوْجُودُ تَبَعًا لِلْمَفْقُودِ ، وَيَصِيرَانِ مَعًا كَالْمَفْقُودَيْنِ ، فَيَعْدِلُ إِلَى يَدِهِ الْيُسْرَى وَرِجْلِهِ الْيُمْنَى : لِأَنَّ قَطْعَ كُلِّ طَرَفٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ مِنَ الْآخَرِ ، بِخِلَافِ الْأَصَابِعِ الَّتِي هِيَ مِنْ خِلْقَةِ الْكَفِّ فَافْتَرَقَا ، ثُمَّ يُقْطَعَانِ مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يُتَوَقَّفُ عَنِ الثَّانِي حَتَّى يَنْدَمِلَ الْأَوَّلُ : لِأَنَّهُمَا حَدٌّ وَاحِدٌ ، وَالْحَدُّ الْوَاحِدُ لَا يُفَرَّقُ وَيُسْتَوْفَى جَمِيعُهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، لَكِنْ يُنْظَرُ فِي حَسْمِهَا بِالنَّارِ ، فَإِنْ خِيفَ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْقَطْعِ الْأَوَّلِ إِنْ لَمْ تُحْسَمْ حُسِمَتْ قَبْلَ الْقَطْعِ الثَّانِي ، وَإِنْ أَمِنَ ذَلِكَ قُطِعَ الثَّانِي ثُمَّ حُسِمَا مَعًا . وَأَمَّا اعْتِبَارُ نِصَابِ السَّرِقَةِ في حد الحرابة فِي هَذَا الْقَطْعِ ، فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ عَنْهُ : أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ ، فَلَا يُقْطَعُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْرُ الْمَالِ الَّذِي أَخَذَهُ رُبُعَ دِينَارٍ فَصَاعِدًا . وَحَكَى أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ قَوْلًا ثَانِيًا : أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ، وَيُقْطَعُ فِي

قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ . فَخَرَجَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ . كَمَا كَانَ اعْتِبَارُ التَّكَافُؤِ فِي قَتْلِ الْحِرَابَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَوَجَدْتُ لِأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَلَامًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّصَابَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ، وَأَنَّهُ يُقْطَعُ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ ، كَمَا كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ بِأَخْذِهِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ فِي الْحِرَابَةِ ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي السَّرِقَةِ . وَعِنْدِي : أَنَّ النِّصَابَ فِي الْمَالِ مُعْتَبَرٌ إِذَا انْفَرَدَ الْمُحَارِبُ بِأَخْذِهِ ، فَلَا يُقْطَعُ حَتَّى يَأْخُذَ رُبُعَ دِينَارٍ . وَلَا يُعْتَبَرُ إِذَا اقْتَرَنَ بِالْقَتْلِ وَالصَّلْبِ ، فَإِنْ أَخَذَ أَقَلَّ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ : لِأَنَّهُ إِذَا انْفَرَدَ بِأَخْذِ الْمَالِ صَارَ مَقْصُودًا ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ شَرْطُ الْقَطْعِ مِنْ أَخْذِ النِّصَابِ ، وَإِذَا اقْتَرَنَ بِالْقَتْلِ صَارَ تَبَعًا ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ أَخْذُ النِّصَابِ : لِأَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ فِيهِ الْقَطْعُ ، وَلِأَنَّ الْقَطْعَ فِي الْحِرَابَةِ قَدْ يُغَلَّظُ بِزِيَادَةِ الرِّجْلِ . فَلَمْ يَتَغَلَّظْ بِإِسْقَاطِ النِّصَابِ فَلَمْ يَتَغَلَّظْ مَعَ الْقَتْلِ بِمِثْلِهِ فَتَغَلَّظَ بِإِسْقَاطِ النِّصَابِ . فَأَمَّا اعْتِبَارُ الْحِرْزِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَالُ مَعَ مَالِكِهِ أَوْ بِحَيْثُ يَرَاهُ الْمَالِكُ ، وَيَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ مَنْ لَيْسَ بِمُكَابِرٍ وَلَا مُغَالِبٍ ، كَانَ فِي حُكْمِ الْمُحْرِزِ فِيهِ ، وَجَرَى عَلَيْهِ فِي الْحِرَابَةِ حُكْمُ الصَّلْبِ إِذَا انْضَمَّ إِلَى الْقَتْلِ . وَفِي جَرَيَانِ حُكْمِ الْقَطْعِ عَلَيْهِ إِذَا انْفَرَدَ عَنِ الْقَتْلِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُقْطَعُ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحِرْزُ : لِأَنَّ الْأَحْرَازَ لَا تُؤَثِّرُ مَعَ الْقَاهِرِ الْمُغَالِبِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُقْطَعُ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحِرْزُ : لِأَنَّ غَيْرَ الْمُحْرَزِ مَبْذُولٌ ، وَلِأَنَّ قَطْعَ الْحِرَابَةِ قَدْ تَغَلَّظَ مِنْ وَجْهٍ فَلَمْ يَتَغَلَّظْ بِغَيْرِهِ .

فَصْلٌ : وَمَنْ لَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ في الحرابة لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَدٌّ ، وَعُزِّرَ لِخُرُوجِهِ فِي الْحِرَابَةِ ، كَمَا يُعَزَّرُ الْمُتَعَرِّضُ لِلزِّنَا بِالْقُبْلَةِ وَالْمُلَامَسَةِ ، وَالْمُتَعَرِّضُ لِلسَّرِقَةِ بِفَتْحِ الْبَابِ وَهَتْكِ الْحِرْزِ ، وَهَلْ يَتَعَيَّنُ جِنْسُ تَعْزِيرِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَتَعَيَّنُ ، وَيُعَزِّرُ الْإِمَامُ بِمَا يَرَاهُ مِنْ ضَرْبٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ نَفْيٍ ، كَسَائِرِ مَا يَقْتَضِي التَّعْزِيرَ . وَعَلَى هَذَا لَوْ رَأَى الْإِمَامُ تَرْكَ تَعْزِيرِهِ وَالْعَفْوَ عَنْهُ جَازَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ تَعْزِيرَهُ مُتَعَيَّنٌ بِالْحَبْسِ : لِأَنَّهُ أَكُفُّ لَهُ عَنْ أَذِيَّةِ النَّاسِ ، اقْتِدَاءً بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَعَلَى هَذَا لَوْ رَأَى الْإِمَامُ تَرْكَ تَعْزِيرِهِ لَمْ يَجُزْ ، إِلَّا أَنْ تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ . وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا مِنْ أَصْحَابِنَا ، هَلْ يُحْبَسُ فِي بَلَدِهِ أَوْ غَيْرِ بَلَدِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُحْبَسُ فِي بَلَدِهِ : لِأَنَّ الْحَبْسَ مَانِعٌ ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يُحْبَسُ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ : لِأَنَّ النَّفْيَ فِي الْحِرَابَةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ ، وَهُوَ زِيَادَةٌ فِي حَدِّ الزِّنَا : لِمَا فِيهِ مِنْ ذُلِّ الْغُرْبَةِ بِالْبُعْدِ عَنْ أَهْلِهِ

وَالْوَطَنِ . وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبَ مَالِكٍ . وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِالْحَبْسِ فِي تَقْدِيرِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِمُدَّةٍ ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْإِنَابَةُ وَظُهُورُ التَّوْبَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مُقَدَّرٌ : لِأَنَّهُ قَدْ أُقِيمَ فِي الْحِرَابَةِ مَقَامَ الْحَدِّ ، وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ فِي مِقْدَارِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَا يُنْقَصُ مِنْهَا وَلَا يُزَادُ عَلَيْهَا : لِئَلَّا يَزِيدَ عَلَى تَغْرِيبِ الزِّنَا فِي حَدِّ الْعَبْدِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِسَنَةٍ يُنْقَصُ فِيهَا وَلَا يُزَادُ عَلَيْهَا : لِئَلَّا يَزِيدَ عَلَى تَغْرِيبِ الْحَدِّ فِي حَدِّ الزِّنَا ، وَيُنْقَصُ مِنْهُ وَلَوْ بِيَوْمٍ : لِئَلَّا يَبْلُغَ بِمَا لَيْسَ بِحَدٍّ حَدًّا ، كَمَا لَا يَبْلُغُ بِالضَّرْبِ فِي التَّعْزِيرِ أَدْنَى الْحُدُودِ .

فَصْلٌ : وَمَنْ فَعَلَ الْحِرَابَةَ مِنَ الْمَعَاصِي مَا سِوَى الْقَتْلِ وَأَخْذِ الْمَالِ ، كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ حده ، فَحَدُّهُ فِي الْحِرَابَةِ كَحَدِّهِ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ ، وَلَا يَتَغَلَّظُ حَدُّهُ فِي الْحِرَابَةِ ، بِخِلَافِ الْقَتْلِ حِينَ يُغَلَّظُ فِي الْحِرَابَةِ بِانْحِتَامِهِ ، وَأَخْذِ الْمَالِ حِينَ يُغَلَّظُ بِزِيَادَةِ قَطْعِ الرِّجْلِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ مَقْصُودَ الْحِرَابَةِ هُوَ الْقَتْلُ وَأَخْذُ الْمَالِ دُونَ مَا عَدَاهُمَا مِنْ سَائِرِ الْمَعَاصِي ، فَتَغَلَّظُ فِيهَا مَا كَانَ مَقْصُودًا بِهَا ، وَلَمْ يَتَغَلَّظْ مِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا بِهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ تعريفهم : هُمُ الَّذِينَ يَعْتَرِضُونَ بِالسِّلَاحِ الْقَوْمَ حَتَّى يَغْصِبُوهُمُ الْمَالَ فِي الصَّحَارِي مُجَاهَرَةً ، وَأَرَاهُمْ فِي الْمِصْرِ ، إِنْ لَمْ يَكُونُوا أَعْظَمَ ذَنْبًا فَحُدُودُهُمْ وَاحِدَةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُحَارِبِينَ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ : هُمُ الَّذِينَ يَعْتَرِضُونَ النَّاسَ بِالسِّلَاحِ جَهْرًا ، وَيَأْخُذُونَ أَمْوَالَهُمْ مُغَالَبَةً وَقَهْرًا ، وَسَوَاءٌ كَانُوا فِي صَحْرَاءَ أَوْ مِصْرٍ ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ حُكْمُ الْحِرَابَةِ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْحِرَابَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا خَارِجَ الْمِصْرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ فَصَاعِدًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْحِرَابَةِ فِي الْمِصْرِ ، وَلَا فِيمَا قَارَبَهُ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ ، إِذَا كَانَا بِحَيْثُ يُدْرِكُهُمْ فِي الْوَقْتِ غَوْثُ أَهْلِ الْمِصْرِ . وَيَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُهَا إِذَا كَانُوا فِي صَحْرَاءَ لَا يُدْرِكُهُمْ غَوْثُ الْمِصْرِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ إِدْرَاكَ الْغَوْثِ يَنْفِي حُكْمَ الْحِرَابَةِ ، كَمَنْ كَبَسَ دَارًا فِي الْمِصْرِ فَنَهَبَهَا .

وَدَلِيلُنَا : عُمُومُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا [ الْمَائِدَةِ : 33 ] وَلَمْ يَخُصَّ . وَلِأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ وَجَبَ بِهِ الْحَدُّ فِي غَيْرِ الْمِصْرِ وَجَبَ بِهِ ذَلِكَ الْحَدُّ فِي الْمِصْرِ ، كَالزِّنَا وَالْقَذْفِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ . وَلِأَنَّهُمْ فِي الْمِصْرِ أَغْلَظُ جُرْمًا مِنَ الصَّحْرَاءِ : لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْأَغْلَبَ أَمْنُ الْمِصْرِ وَخَوْفُ الصَّحْرَاءِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمِصْرَ فِي قَبْضَةِ السُّلْطَانِ دُونَ الصَّحْرَاءِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْمِصْرَ يَجْمَعُ فِي الْأَغْلَبِ مُلْكَ الْإِنْسَانِ وَلَا تَجْمَعُهُ الصَّحْرَاءُ ، فَكَانَ أَحْسَنَ أَحْوَالِهِمْ أَنْ يَكُونُوا فِي أَغْلَظِ الْأَمْرَيْنِ كَأَخَفِّهِمَا . فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِكَبْسِ الدَّارِ فِي الْمِصْرِ ، فَسَنَذْكُرُ مِنْ حُكْمِ الْمِصْرِ مَا يَكُونُ انْفِصَالًا عَنْهُ .

فَصْلٌ : أَمَّا الصَّحْرَاءُ أماكن الحرابة فَلَا فَرْقَ فِيهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بَيْنَ مَا قَرُبَ مِنَ الْمِصْرِ أَوْ بَعُدَ عَنْهُ . وَأَمَّا الْقُرَى الَّتِي يَقِلُّ جَمْعُهَا فَهِيَ كَالصَّحْرَاءِ فِي ثُبُوتِ حُكْمِ الْحِرَابَةِ فِيهَا . وَأَمَّا الْأَمْصَارُ الْكِبَارُ الَّتِي لَا يُقَاوِمُونَ جَمِيعَ أَهْلِهَا ، فَيَجْرِي عَلَيْهِمْ فِي أَطْرَافِهَا حُكْمُ الْحِرَابَةِ كَالْقُرَى . وَأَمَّا وَسَطُ الْمَصْرِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَتَكَاثَرُ النَّاسُ فِيهَا مِنْ أَسْوَاقِهِمْ وَدُورِهِمْ ، إِذَا كَبَسُوا سُوقًا مِنْهَا فَنَهَبُوهَا أَوْ دَارًا فَأَخَذُوا مَا فِيهَا ، فَفِي جَرَيَانِ حُكْمِ الْحِرَابَةِ عَلَيْهِمْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا : أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْحِرَابَةِ : لِأَنَّهُمْ يُعْلِنُونَ بِالسِّلَاحِ جَهْرًا كَالصَّحْرَاءِ ، وَحَدُّ الْحِرَابَةِ : أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى دَفْعِ الْمُحَارِبِ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْأَقَلِّينَ وَاخْتِيَارُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّهُ لَا تَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْحِرَابَةِ : لِوُجُودِ الْغَوْثِ فِيهِ غَالِبًا ، فَسَقَطَ حُكْمُ نَادِرِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يُقْطَعُ مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ أَخَذَ رُبُعَ دِينَارٍ فَصَاعِدًا قِيَاسًا عَلَى السُّنَّةِ فِي السَّارِقِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا اعْتِبَارَ النِّصَابِ فِي قَطْعِ الْحِرَابَةِ كَاعْتِبَارِهِ فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ ، وَقِيمَةُ الْمَأْخُوذِ مُعْتَبَرَةٌ فِي زَمَانِ الْأَخْذِ وَفِي مَكَانِهِ إِنْ كَانَ مَوْضِعًا جَرَتِ الْعَادَةُ فِيهِ بِبَيْعٍ وَشِرَاءٍ ، وَيُوجَدُ فِيهِ مَنْ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي ، وَإِنْ كَانَ لَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِيهِ اعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُ فِي أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُوجَدُ فِيهَا بَيْعُ ذَلِكَ وَشِرَاؤُهُ . مِنَ الْقِيَمِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِوُجُودِ مُشْتَرِيهِ ، وَلَا تُعْتَبَرُ قِيمَةُ ذَلِكَ عِنْدَ اسْتِسْلَامِ النَّاسِ : لِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِمَالٍ فِي تِلْكَ الْحَالِ الْمُتْلِفَةِ لِلْأَمْوَالِ .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ نَقْضٌ حَدَثَ وَتَجَدُّدٌ لِمَعْصِيَتِهِمْ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ بِهِ غُرْمُهُمْ ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ فِي الْأَغْلَبِ مِنْ أَحْوَالِ السَّلَامَةِ . وَهَذِهِ صِفَةُ الْقِيمَةِ فِي اعْتِبَارِ النِّصَابِ وَفِي غُرْمِ الْمُسْتَهْلَكِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيُحَدُّ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ فِعْلِهِ من المحاربين ، فَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ وَالصَّلْبُ قَتَلَهُ قَبْلَ صَلْبِهِ : كَرَاهِيَةَ تَعْذِيبِهِ . وَقَالَ فِي كِتَابِ قَتْلِ الْعَمْدِ : يُصْلَبُ ثَلَاثًا ثُمَّ يُتْرَكُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي أَحْكَامِ الْمُقَدِّمَةِ ، وَذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحَارِبِينَ يُعَاقَبُ بِحَسَبِ دِينِهِ ، وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ إِلَّا بِإِقْرَارِهِمْ طَوْعًا أَوْ قِيَامِ بَيِّنَةٍ عَلَيْهِمْ بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ ، كَمَا بَيَّنَّا فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ . فَإِنْ شَهِدَ بِذَلِكَ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ وَجَبَ الْغُرْمُ دُونَ الْحَدِّ . فَأَمَّا الْمَوْضِعُ الَّذِي يُقَامُ فِيهِ الْحُدُودُ على أهل الحرابة عَلَيْهِمْ مِنْ قَتْلٍ وَصَلْبٍ : فَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي حَارَبُوا فِيهِ وَقَتَلُوا إِذَا شَاهَدَهُمْ فِيهِ مَنْ يَرْتَدِعُ بِهِمْ مِنْ غُوَاةِ النَّاسِ ، فَإِنْ كَانَتْ حِرَابَتُهُمْ فِي مَفَازَةٍ نُقِلُوا إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ بِهَا مِنَ الْأَمْصَارِ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا أَهْلُ الْفَسَادِ ، وَلَا يُؤَخَّرُ قَتْلُهُمْ إِلَّا قَدْرَ اسْتِبْرَاءِ أَحْوَالِهِمْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ دُونَ الصَّلْبِ ، قُتِلَ وَدُفِعَ إِلَى أَهْلِهِ يُكَفِّنُونَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لَا يُسْقِطُ قَتْلُهُمْ فِي الْحِرَابَةِ فَرْضَ اللَّهِ فِيهِمْ فِي غُسْلِهِمْ وَتَكْفِينِهِمْ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ وَدَفْنِهِمْ : لِأَنَّهَا حُقُوقٌ وَجَبَتْ لِحُرْمَةِ إِسْلَامِهِمْ ، فَإِنِ الْتَمَسُوهُمْ أَهْلُهُمْ سُلِّمُوا إِلَيْهِمْ لِيَقُومُوا بِذَلِكَ فِيهِمْ ، وَإِنْ بَقُوا ضَيْعَةً قَامَ بِهِمُ الْإِمَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِمْ ، وَكَرِهَ لَهُ مَالِكٌ أَنْ يَتَوَلَّى الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ بِنَفْسِهِ بَعْدَ قِيَامِهِ بِقَتْلِهِمْ . وَلَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ : لِأَنَّ إِقَامَةَ الْحُدُودِ لَا تُسْقِطُ الْحُقُوقَ ، وَلَأَنْ يَتَوَلَّى الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِ أَحَدِهِمَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ دُونَ الْقَتْلِ كيفية القطع في الحرابة قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى ثُمَّ حُسِمَتْ بِالنَّارِ ، ثُمَّ رِجْلُهُ الْيُسْرَى ثُمَّ حُسِمَتْ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ ، ثُمَّ خُلِّيَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا فِي أَحْكَامِ الْأَقْسَامِ حُكْمَ الْقَطْعِ فِي أَخْذِ الْمَالِ وَحْدَهُ ، وَأَنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَ قَطْعِ يَدِهِ الْيُمْنَى وَرِجْلِهِ الْيُسْرَى : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ [ الْمَائِدَةِ : 33 ] فَإِنْ قَطَعَ مُتَوَلِّي الْأَمْرِ يُمْنَى يَدَيْهِ وَيُمْنَى رِجْلَيْهِ تَعَدَّى ، وَلَزِمَهُ الْقَوَدُ فِي يُمْنَى رِجْلَيْهِ إِنْ عَمَدَ ، وَدِيَتُهَا إِنْ أَخْطَأَ ، وَلَمْ يَسْقُطْ بِذَلِكَ قَطْعُ

رِجْلِهِ الْيُسْرَى ، وَلَوْ قَطَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى وَرِجْلَهُ الْيُمْنَى أَسَاءَ ، وَلَمْ يَضْمَنْ ، وَوَقَعَ ذَلِكَ مَوْقِعَ الْإِجْزَاءِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ قَطْعَهُمَا مِنْ خِلَافٍ نَصٌّ يُوجِبُ مُخَالَفَةَ الضَّمَانِ ، وَتَقْدِيمُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الْحِرَابَةِ اجْتِهَادٌ ، فَسَقَطَ لِمُخَالَفَةِ الضَّمَانِ . وَإِذَا قَطَعَ حُسِمَ بِالزَّيْتِ الْمَغْلِيِّ أَوْ بِالنَّارِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ فِيهِمَا ، فَإِنْ أَحَبَّ الْمَقْطُوعُ أَنْ يُتْرَكَ حَسْمُهُ بِالنَّارِ أَوْ بِالزَّيْتِ القطع في الحرابة ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، يُجَابُ إِلَى ذَلِكَ وَلَا يُحْسَمُ : لِأَنَّهُ عِلَاجٌ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ ، كَالدَّوَاءِ . وَالثَّانِي : لَا يُجَابُ إِلَيْهِ وَيُحْسَمُ جَبْرًا : حِرَاسَةً لِنَفْسِهِ ، وَأَنَّ فِعْلَهُ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى إِذْنِهِ : لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ . وَلَا يُشَهَّرُ بَعْدَ قَطْعِهِ : لِأَنَّهُ زِيَادَةُ نَكَالٍ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ ، إِلَّا أَنْ يَرَى الْإِمَامُ أَنَّ قَطْعَهُ لَمْ يَشْتَهِرْ فِي أَهْلِ الْفَسَادِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُشَهِّرَ قَدْرَ مَا يَشْتَهِرُ فِيهِمْ حَالُهُ . وَيُخَلِّيَهِ لِيَتَصَرَّفَ لِنَفْسِهِ أَيْنَ شَاءَ . فَأَمَّا الْمَقْطُوعُ مِنْ أَطْرَافِهِ فَيُدْفَنُ وَلَا يُسْتَبْقَى ، إِلَّا أَنْ يَرَى الْإِمَامُ إِشْهَارَ أَطْرَافِهِ لِيَرْتَدِعَ بِهَا النَّاسُ ، فَلَا بَأْسَ بِهِ . فَإِنِ الْتَمَسَ الْمَقْطُوعُ أَطْرَافَ نَفْسِهِ كَانَ أَحَقَّ بِهَا : لِيَتَوَلَّى دَفْنَهَا . فَإِنْ أَرَادَ اسْتِبْقَاءَهَا لِتُدْفَنَ مَعَهُ إِذَا مَاتَ مُنِعَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ وَكَثُرَ أَوْ هِيبَ أَوْ كَانَ رِدْءًا ، عُزِّرَ وَحُبِسَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَنْ بَاشَرَهَا دُونَ الرِّدْءِ الْمُعَاوِنِ عَلَيْهَا بِتَكْثِيرٍ أَوْ تَهْيِيبٍ أَوْ نُصْرَةٍ المعاون في حد الحرابة . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الرِّدْءُ الْمُكْثِرُ فِيهَا ، وَالْمُهِيبُ كَالْمُبَاشِرِ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ . وَإِنْ قُتِلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قُتِلُوا ، وَإِنْ أَخَذَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ الْمَالَ قُطِعُوا : اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا [ الْمَائِدَةِ : 33 ] الْآيَةَ فَعَمَّ وَلَمْ يَخُصَّ . وَبِرِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، أَنَّهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَحِلُّ قَتْلُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا فِي ثَلَاثِ خِصَالٍ : زَانٍ مُحْصَنٌ فَيُرْجَمُ ، وَرَجُلٌ قَتَلَ مُتَعَمِّدًا فَيُقْتَلُ بِهِ ، وَرَجُلٌ خَرَجَ عَلَى الْإِمَامِ فَحَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، فَيُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ أَوْ يُنْفَى مِنَ الْأَرْضِ فَعَمَّ فِي الْمُحَارِبِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مُبَاشِرٍ وَمُكْثِرٍ . وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّهُ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمُحَارَبَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ الرِّدْءُ وَالْمُبَاشِرُ ،

كَالْغَنِيمَةِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِي اسْتِحْقَاقِهَا الْمُقَاتِلُ وَالْحَاضِرُ : لِأَنَّهَا تَرْغِيبٌ ، كَذَلِكَ الْحُدُودُ فِي الْمُحَارَبَةِ : لِأَنَّهَا تَرْهِيبٌ . وَلِأَنَّ الْمُبَاشِرَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْأَخْذِ إِلَّا بِدَفْعِ الرِّدْءِ الْمُكْثِرِ ، فَصَارَ الْأَخْذُ مُضَافًا إِلَيْهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَامَ الْحَدُّ عَلَيْهِمَا . وَدَلِيلُنَا : رِوَايَةُ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ ، قَالَا : كُنَّا مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مَحْصُورٌ فِي الدَّارِ ، فَسَمِعَ النَّاسَ فَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ ، وَقَالَ : إِنَّهُمْ لْيَتَوَاعَدُونِي بِالْقَتْلِ ؟ فَقُلْنَا : يَكْفِيهِمُ اللَّهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ . قَالَ : وَبِمَ يَقْتُلُونِي ، وَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ ، أَوْ زَنَا بَعْدَ إِحْصَانِهِ ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ وَوَاللَّهِ مَا زَنَيْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ قَطُّ ، وَلَا قَتَلْتُ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ ، وَلَا أَحْبَبُتُ أَنَّ لِي بِدِينِي بَدَلًا مُنْذُ هَدَانِي اللَّهُ لَهُ ، فَبِمَ يَقْتُلُونَنِي ؟ وَرَوَى مَسْرُوقٌ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّهُ قَالَ : قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَامِي هَذَا ، فَقَالَ : وَالَذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ : الثَّيِّبُ الزَّانِي ، وَرَجُلٌ قَتَلَ فَأُقِيدَ ، وَالتَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ الْمُفَارِقُ لِلْإِسْلَامِ . فَدَلَّ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ عَلَى أَنَّ الرِّدْءَ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ : لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إِحْدَى هَذِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ . وَمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّهُ حَدٌّ يَجِبُ بِارْتِكَابِ مَعْصِيَةٍ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الْمُعِينِ عَلَيْهَا كَحَدِّ الزِّنَا ، وَالْقَذْفِ ، وَالسَّرِقَةِ . وَلِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ : إِنَّ الرِّدْءَ لَا يُقْتَلُ إِذَا كَانَ الْمُبَاشِرُ امْرَأَةً . فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ رَجُلًا . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّ مَنْ لَمْ يُبَاشِرِ الْقَتْلَ وَالْأَخْذَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَدُّهُمَا ، كَالْمَرْأَةِ إِذَا بَاشَرَتْ . فَإِنْ قَالَ : الْمَرْأَةُ لَا يَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الْحِرَابَةِ . قُلْنَا : تَجْرِي عَلَيْهَا عِنْدَنَا حُكْمُ الْحِرَابَةِ ، وَلِأَنَّ السَّبَبَ وَالْمُبَاشَرَةَ إِذَا اجْتَمَعَا وَتَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِالْمُبَاشَرَةِ سَقَطَ حُكْمُ السَّبَبِ ، كَالْمُمْسِكِ وَالذَّابِحِ وَحَافِرِ الْبِئْرِ وَالدَّافِعِ ، يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الذَّابِحِ دُونَ الْمُمْسِكِ ، وَعَلَى الدَّافِعِ فِي الْبِئْرِ دُونَ الْحَافِرِ ، كَذَلِكَ اجْتِمَاعُ الرِّدْءِ وَالْمُبَاشِرِ فِي الْحِرَابَةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ : فَهُوَ أَنَّ الْقَتْلَ وَأَخْذَ الْمَالِ مُضْمَرَانِ فِيهَا ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : إِنْ يَقْتُلُوا إِنْ قَتَلُوا . فَإِنْ قِيلَ : فَيَكُونُ الْمُضْمَرُ فِيهَا أَوْ قُتِلَ بَعْضُهُمْ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ زِيَادَةُ إِضْمَارٍ لَا يَفْتَقِرُ إِلَيْهَا الْكَلَامُ . وَالثَّانِي : أَنَّ إِضْمَارَ مَا اتُّفِقَ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ إِضْمَارِ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ .

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ رَاوِيِهِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ طَهْمَانَ ، وَقَدْ حَكَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيِّ ، قَالَ : قُلْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى : إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ . قَالَ : لَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْقَتْلَ فِي الْحِرَابَةِ مُضْمَرٌ فِي الْخَبَرِ ، كَمَا كَانَ مُضْمَرًا فِي الْآيَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْغَنِيمَةِ : فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِنَّا لَا نُسَلِّمُ لَهُمْ أَنَّ الْقَتْلَ وَالْقَطْعَ يَجِبُ بِالْمُحَارَبَةِ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقَتْلُ بِالْقَتْلِ ، وَيَجِبُ الْقَطْعُ بِأَخْذِ الْمَالِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا شَارَكَ فِي الْغَنِيمَةِ مَنْ لَمْ يَشْهَدِ الْوَقْعَةَ مِنْ أَهْلِ الْخُمُسِ ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يُشَارِكَ فِيهَا مَنْ شَهِدَهَا . وَالْحِرَابَةُ لَا يُشَارِكُ فِيهَا مَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا ، فَلَمْ يُشَارِكْ فِيهَا مَنْ لَمْ يُبَاشِرْهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِتَأْثِيرِ النُّصْرَةِ وَالتَّكْثِيرِ : فَهُوَ فَاسِدٌ بِالْمُمْسِكِ وَالذَّابِحِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَا حَدَّ عَلَى الرِّدْءِ الْمُكْثِرِ وَالْمُهِيبِ ، فَعَلَيْهِمُ التَّعْزِيرُ أَدَبًا وَحَبْسًا ، وَقَدْ جَمَعَ الشَّافِعِيُّ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَذَاهِبَ أَصْحَابِهِ فِيهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَنْ قَتَلَ وَجَرَحَ أُقِصَّ لِصَاحِبِ الْجَرْحِ ، ثُمَّ قُطِعَ ، لَا يَمْنَعُ حَقُّ اللَّهِ حَقَّ الْآدَمِيِّينَ فِي الْجِرَاحِ وَغَيْرِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا جَرَحَ الْمُحَارِبُ فِي الْحِرَابَةِ رَجُلًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [ الْمَائِدَةِ : 45 ] ، وَفِي انْحِتَامِهِ كَالْقَتْلِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْأَشْهَرُ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ لَا يَنْحَتِمُ بِخِلَافِ الْقَتْلِ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْفَلَ الْجِرَاحَ فِي آيَةِ الْحِرَابَةِ ، فَكَانَ بَاقِيًا عَلَى حُكْمِ أَصْلِهِ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ . فَعَلَى هَذَا : يَكُونُ الْمَجْرُوحُ بِالْخِيَارِ فِي الْقِصَاصِ ، أَوْ أَخْذِ الدِّيَةِ أَوِ الْعَفْوِ عَنْهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْقِصَاصَ فِي الْجِرَاحِ مُنْحَتِمٌ كَانْحِتَامِهِ فِي الْقَتْلِ : لِأَنَّهَا وَجَمِيعَ الْأَطْرَافِ تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَسُقُوطِهِ ، فَكَانَتْ تَابِعَةً لَهَا فِي انْحِتَامِهِ . فَعَلَى هَذَا : يَسْتَوْفِيهِ الْإِمَامُ حَتْمًا ، وَلَا تَخْيِيرَ فِيهِ لِلْمَجْرُوحِ .

فَصْلٌ : فَإِنْ قَتَلَ الْمُحَارِبُ وَجَرَحَ كَانَ مَأْخُوذًا بِهِمَا ، فَيُجْمَعُ عَلَيْهِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْجَرْحِ ، وَيَكُونُ الْقَتْلُ مُنْحَتِمًا . وَفِي انْحِتَامِ الْجِرَاحِ قَوْلَانِ : وَلَا تَدْخُلُ الْجِرَاحُ فِي النَّفْسِ ، سَوَاءٌ انْحَتَمَ الْجُرْحُ ، أَوْ لَمْ يَنْحَتِمْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَدْخُلُ الْجِرَاحُ فِي النَّفْسِ إِذَا اجْتَمَعَا ، فَيُقْتَلُ وَلَا يُجْرَحُ : اسْتِدْلَالًا

بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ [ الْمَائِدَةِ : 33 ] الْآيَةَ إِلَى أَنْ قَالَ : أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [ الْمَائِدَةِ : 33 ] فَاقْتَصَرَ بِحُدُودِهِ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَادَ عَلَيْهَا . قَالَ : وَلِأَنَّ الْحُدُودَ فِي الْحِرَابَةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةِ ، وَلَيْسَتْ قِصَاصًا : لِانْحِتَامِهَا . وَسُقُوطِ الْخِيَارِ فِيهَا بِتَدَاخُلِ الْأَقَلِّ فِي الْأَكْثَرِ مِنْ جِنْسِهِ ، كَمَنْ زَنَا بِكْرًا ثُمَّ زَنَا ثَيِّبًا ، دَخَلَ جَلْدُهُ فِي رَجْمِهِ . وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِمَا يُسْتَوْفَى عَلَى الْمُحَارِبِ مِنْ جَرْحٍ وَقَطْعٍ الزَّجْرُ وَالرَّدْعُ ، وَمَعَ اسْتِحْقَاقِ الْقَتْلِ يَزُولُ مَقْصُودُ الرَّدْعِ بِغَيْرِهِ ، فَسَقَطَ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [ الْمَائِدَةِ : 45 ] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْمُحَارِبِ وَغَيْرِهِ . وَلِأَنَّ كُلَّ عُقُوبَةٍ وَجَبَتْ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ ، لَمْ تَسْقُطْ فِي الْحِرَابَةِ كَالْقَتْلِ ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْقِصَاصِ ، فَجَازَ أَنْ يَجِبَ فِي الْحِرَابَةِ كَالْقَتْلِ : وَلِأَنَّهُمَا نَوْعَا قِصَاصٍ فَجَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ الْحِرَابَةِ ، وَلِأَنَّ عُقُوبَاتِ الْحِرَابَةِ أَغْلَظُ : لِانْحِتَامِ الْقَتْلِ وَزِيَادَةِ الْقَطْعِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ فِيهَا مَا يَجِبُ فِي غَيْرِهَا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ : فَهُوَ أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ مِنَ الْعُقُوبَةِ الْمُظْهَرَةِ مَا تَضَمَّنَتْهَا مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُضْمَرَةِ ، وَلَمْ تُضْمَرْ فِيهَا الْجِرَاحُ ، فَلَمْ يَظْهَرْ فِيهَا حُكْمُهُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّ حُدُودَ الْحِرَابَةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَهُوَ أَنَّ الْقَتْلَ فِيهِ هُوَ قِصَاصٌ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى كَالْعِدَّةِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُحَارِبَ لَوْ تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ سَقَطَتْ عَنْهُ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَمْ يَسْقُطْ مِنَ الْقَتْلِ إِلَّا انْحِتَامُهُ ، وَكَانَ مَوْقُوفًا عَلَى خِيَارِ الْوَلِيِّ فِي اسْتِيفَائِهِ ، فَلَمْ يَسْلَمِ الدَّلِيلُ . وَقَوْلُهُمْ : إِنَّهُ رَدْعٌ ، فَسَقَطَ بِالْقَتْلِ . يَبْطُلُ بِقَطْعِ السَّرِقَةِ ، وَالْقَتْلُ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ رَدْعًا .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْجَرْحِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ قِصَاصٌ أَوْ لَا يَكُونَ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قِصَاصٌ كَالْجَائِفَةِ وَجَبَ أَرْشُهَا لِلْمَجْرُوحِ ، وَكَانَ حُكْمُهَا فِي الْحِرَابَةِ كَحُكْمِهَا فِي غَيْرِهَا ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا قِصَاصٌ كالْمُوضِحَةِ . فَإِنْ قِيلَ : بِانْحِتَامِهِ قُدِّمَ الْقِصَاصُ مِنْهَا عَلَى الْقَتْلِ ، وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ . وَإِنْ قِيلَ : لَيْسَ بِمُنْحَتِمٍ وُقِفَ عَلَى خِيَارِ الْوَلِيِّ ، فَإِنْ أَرَادَ الْقِصَاصَ قُدِّمَ عَلَى الْقَتْلِ . وَإِنْ عَفَا عَنْهُ إِلَى الْمَالِ طُولِبَ بِهِ الْمُحَارِبُ قَبْلَ قَتْلِهِ ، فَإِذَا أَدَّاهُ وَعَرَّفَ وَجْهَهُ قُتِلَ ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهِ وَلَا عَرَّفَ وَجْهَهُ اسْتُبْقِيَ حَتَّى يُسْتَكْشَفَ عَنْ مَالِهِ ، وَكَذَلِكَ غُرْمُ مَا اسْتَهْلَكَهُ مِنَ الْمَالِ ، ثُمَّ قُتِلَ إِنْ ظَهَرَ مَالٌ أَوْ وَقَعَ الْإِيَاسُ مِنْهُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا جَمَعَ الْمُحَارِبُ فِي الْحِرَابَةِ بَيْنَ أَخْذِ الْمَالِ وَبَيْنَ قَطْعِ طَرَفٍ بِجِنَايَةٍ ، جُمِعَ عَلَيْهِ بَيْنَ قَطْعِهِ فِي الْمَالِ وَقَطْعِهِ فِي الْقِصَاصِ ، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ،

وَقَالَ : إِذَا قُطِعَ بِجِنَايَةٍ يُسْرَى يَدَيْهِ ، وَأَخَذَ الْمَالَ سَقَطَ عَنْهُ الْقِصَاصُ فِي يَدِهِ الْيُسْرَى ، وَقُطِعَتْ يُمْنَاهُ فِي الْمَالِ مَعَ رِجْلِهِ الْيُسْرَى ، بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ خِلَافِهِ فِي الْجِرَاحِ . وَنَحْنُ نَجْمَعُ عَلَيْهِ بَيْنَهُمَا ، فَتُقْطَعُ يُسْرَى يَدَيْهِ قِصَاصًا ، ثُمَّ تُقْطَعُ يُمْنَى يَدَيْهِ مَعَ رِجْلِهِ الْيُسْرَى : لِأَخْذِ الْمَالِ ، لَا يُوَالَى بَيْنَ الْقَطْعَيْنِ : لِأَنَّهُمَا حَدَّانِ وَيُمْهَلُ بَعْدَ قَطْعِ يُسْرَاهُ قَوَدًا حَتَّى تَنْدَمِلَ ، ثُمَّ تُقْطَعُ يُمْنَاهُ فِي الْمَالِ ، وَيُقَدَّمُ قَطْعُهُ فِي الْقِصَاصِ عَلَى قَطْعِهِ فِي الْمَالِ ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ : لِأَنَّهُ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ اللَّهِ وَعِبَادِهِ إِنْ قِيلَ بِانْحِتَامِهِ ، أَوْ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ إِنْ قِيلَ : إِنَّهُ غَيْرُ مُنْحَتِمٍ . وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ فِي الدُّنْيَا مُقَدَّمَةٌ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا ، كَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ بِرِدَّةٍ وَقِصَاصٍ أَوْ قَطْعِ يَدٍ بِسَرِقَةٍ وَقِصَاصٍ قُدِّمَ الْقِصَاصُ وَالْقَطْعُ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا ، فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا كَانَ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الدِّمَاءِ كَاجْتِمَاعِهِمَا فِي الْمَالِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : يُقَدَّمُ فِي الْمَالِ حَقُّ الْآدَمِيِّينَ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَالدِّمَاءِ . وَالثَّانِي : يُقَدَّمُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى حَقِّ الْآدَمِيِّينَ بِخِلَافِ الدِّمَاءِ . وَالثَّالِثُ : يُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا ، قِيلَ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِحَقِّ اللَّهِ فِي الدِّمَاءِ يُوجَدُ فِي اسْتِيفَائِهِ لِلْآدَمِيِّينَ وَهُوَ الرَّدْعُ وَالزَّجْرُ ، وَالْمَقْصُودُ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَمْوَالِ لَا يُوجَدُ فِي اسْتِيفَائِهِ لِلْآدَمِيِّينَ : وَهُوَ وُصُولُهُ إِلَى الْفُقَرَاءِ الْمَسَاكِينِ ، فَافْتَرَقَا .

فَصْلٌ : وَإِذَا تَمَاثَلَ قَطْعُ الْقِصَاصِ وَقَطْعُ الْحِرَابَةِ فِي الْأَطْرَافِ ، فَقُطِعَ الْمُحَارِبُ الْيَدَ الْيُمْنَى وَالرِّجْلَ الْيُسْرَى ، وَأَخَذَ الْمَالَ فَوَجَبَ بِهِ قَطْعُ يَدِهِ الْيُمْنَى وَرِجْلِهِ الْيُسْرَى . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ قَطْعَهُ فِي الْقِصَاصِ مُنْحَتِمٌ ؛ رُوعِيَ أَسْبَقُ الْأَمْرَيْنِ ، فَإِنْ تَقَدَّمَ قَطْعُ الْمَالِ عَلَى قَطْعِ الْقِصَاصِ ، قُطِعَ قِصَاصًا وَسَقَطَ قَطْعُ الْمَالِ : لِتَقَدُّمِ حَقِّ الْآدَمِيِّ فِي الدَّمِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ . وَإِنْ تَقَدَّمَ قَطْعُ الْقِصَاصِ عَلَى قَطْعِ الْمَالِ ، فَقُطِعَ قِصَاصًا وَلَمْ يَسْقُطْ قَطْعُ الْمَالِ ، فَلَمْ يُعْدَلْ فِيهِ إِلَى قَطْعِ يَدِهِ الْيُسْرَى وَرِجْلِهِ الْيُمْنَى ، كَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَيْسَ لَهُ يَدٌ يُمْنَى وَلَا رِجْلٌ يُسْرَى : لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْقِصَاصِ فِيهَا حَتْمٌ ، فَصَارَ كَعَدَمِهِمَا ، فَعَدَلَ فِي قَطْعِ الْمَالِ إِلَى غَيْرِهِمَا . وَلَوْ تَقَدَّمَ اسْتِحْقَاقُ قَطْعِهِمَا لِلْمَالِ لَمْ يُعْدَلْ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِمَا : لِأَنَّهُ مَا وَجَبَ ابْتِدَاءً إِلَّا فِيهِمَا . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ قَطْعَ الْقِصَاصِ غَيْرُ مُنْحَتِمٍ . خُيِّرَ وَلِيُّهُ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالْعَفْوِ ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ قُطِعَ لِلْمَالِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْفُ عَنْهُ قُطِعَ قِصَاصًا ، وَسَقَطَ قَطْعُ الْمَالِ ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَ اسْتِحْقَاقُهُ أَوْ تَأَخَّرَ : لِأَنَّ قَطْعَ الْمَالِ وَرَدَ عَلَى طَرَفٍ يَجُوزُ أَنْ يُقْطَعَ فِيهِ إِذَا لَمْ يَنْحَتِمْ أَخْذُهُ فِي غَيْرِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ . وَإِذَا انْحَتَمَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْطَعَ فِيهِ ، فَجَازَ الْعُدُولُ إِلَى غَيْرِهِ . وَلَوْ قُطِعَ الْمُحَارِبُ الْيَدَ الْيُمْنَى ، ثُمَّ أَخَذَ الْمَالَ ، قُطِعَتْ يُمْنَاهُ قِصَاصًا ، وَصَارَ بَعْدَ قَطْعِهَا فِيهِ كَمَنْ ذَهَبَتْ يُمْنَاهُ بِأَكَلَةٍ ، فَهَلْ

يُجَزِئُ فِي قَطْعِ الْمَالِ أَنْ يُقْتَصَرَ عَلَى قَطْعِ رِجْلِهِ الْيُسْرَى أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ ، يُجَزِئُ أَنْ يُقْتَصَرَ عَلَيْهَا وَحْدَهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ ، أَنَّهُ لَا يُجَزِئُ وَيُعْدَلُ عَنْهَا إِلَى قَطْعِ يَدِهِ الْيُسْرَى وَرِجْلِهِ الْيُمْنَى ، كَمَنْ ذَهَبَ يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَنْ عَفَا الْجِرَاحَ كَانَ لَهُ ، وَمَنْ عَفَا النَّفْسَ لَمْ يُحْقَنْ بِذَلِكَ دَمُهُ ، وَكَانَ عَلَى الْإِمَامِ قَتْلُهُ إِذَا بَلَغَتْ جِنَايَتُهُ الْقَتْلَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِصَاصَ فِي قَتْلِ الْحِرَابَةِ مُنْحَتِمٌ ، وَفِي انْحِتَامِهِ فِي جِرَاحِ الْحِرَابَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَنْحَتِمُ ، فَعَلَى هَذَا : هَلْ يُرَاعَى فِيهِ الْمُكَافَأَةُ مِنَ الْمَجْرُوحِ لِلْجَارِحِ ؟ فَإِنْ كَافَأَهُ اقْتَصَّ مِنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يُكَافِئْهُ تَفَرَّدَ بِأَخْذِ الْأَرْشِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِنَّهُ مُنْحَتِمٌ ، فَعَلَى هَذَا : هَلْ تُرَاعَى فِيهِ الْكَفَاءَةُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُرَاعَى ، وَيَكُونُ الْقِصَاصُ فِيهِ عَلَى انْحِتَامِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُرَاعَى فِيهِ الْكَفَاءَةُ ، فَعَلَى هَذَا : إِنْ كَافَأَهُ انْحَتَمَ الْقِصَاصُ فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يُكَافِئْهُ سَقَطَ الْقِصَاصُ وَوَجَبَ الْأَرْشُ لِلْجُرُوحِ ، وَصَارَ مَوْقُوفًا عَلَى خِيَارِهِ فِي اسْتِيفَائِهِ وَعَفْوِهِ : لِأَنَّهُ يَصِيرُ سُقُوطُ الْقِصَاصِ جَارِيًا مَجْرَى الْأَمْوَالِ ، فَلَوْ كَانَ الْجُرْحُ مِمَّا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي بَعْضِهِ وَلَا يَجِبُ فِي جَمِيعِهِ كَالْهَاشِمَةِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْقِصَاصَ فِي الْجِرَاحِ غَيْرُ مُنْحَتِمٍ كَانَ الْمَجْرُوحُ مُخَيَّرًا بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ : بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْإِيضَاحِ ، وَيَأْخُذَ أَرْشَ الْهَشْمِ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ . وَبَيْنَ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الْأَرْشِ ، فَيَأْخُذَ دِيَةَ الْهَاشِمَةِ عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ . وَبَيْنَ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْأَمْرَيْنِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْقِصَاصَ فِي الْجِرَاحِ مُنْحَتِمٌ ، انْحَتَمَ الْقِصَاصُ فِي إِيضَاحِ الْهَاشِمَةِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْمَجْرُوحِ ، وَكَانَ أَرْشُ هَشْمِهَا خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ مُسْتَحَقًّا لِلْمَجْرُوحِ : لِسُقُوطِ الْقِصَاصِ فِيهِ ، فَلَمْ يُهْدِرْ بِغَيْرِ قِصَاصٍ وَلَا أَرْشٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمَنْ تَابَ مِنْهُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ قطاع الطريق سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ ، وَلَا تَسْقُطُ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَسْقُطَ كُلُّ حَقٍّ لِلَّهِ بِالتَّوْبَةِ . وَقَالَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ : وَبِهِ أَقُولُ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصْلُ هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ الْمَائِدَةِ : 34 ] فَعَطَفَ بِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ حُدُودِ الْمُحَارَبَةِ ، فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ التَّوْبَةِ : فَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَقَتَادَةَ : أَنَّهَا الْإِسْلَامُ . وَهُوَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ حُدُودَ الْحِرَابَةِ وَرَدَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ ، وَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ : إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ شِرْكِهِمْ وَسَعْيِهِمْ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا بِإِسْلَامِهِمْ . فَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَلَا تُسْقِطُ التَّوْبَةُ عَنْهُمْ حَدًّا وَجَبَ عَلَيْهِمْ . وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ حُدُودَ الْحِرَابَةِ وَرَدَتْ فِي الْمُسْلِمِينَ : إِلَى أَنَّهَا التَّوْبَةُ مِنْ قِصَاصِ الْحُدُودِ . وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا فِي أَمَانِ الْإِمَامِ لَهُمْ ، هَلْ يَكُونُ شَرْطًا فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِمْ ؟ المحاربين فَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالشَّعْبِيِّ وَطَائِفَةٍ : أَنَّ أَمَانَ الْإِمَامِ شَرْطٌ فِيهَا ، وَمَنْ لَمْ يُؤَمِّنْهُ الْإِمَامُ لَمْ تُسْقِطِ التَّوْبَةُ عَنْهُ حَدًّا . وَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّ أَمَانَ الْإِمَامِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيهَا ، وَالِاعْتِبَارُ بِتَأْثِيرِهَا فِي الْحُدُودِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ . وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا مِنْ صِفَةِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ بَعْدَ لُحُوقِهِمْ بِدَارِ الْحَرْبِ وَإِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ، ثُمَّ عَوْدِهِمْ مِنْهَا تَائِبِينَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ . فَإِنْ لَمْ يُلْحَقُوا بِدَارِ الْحَرْبِ ، لَمْ تُؤَثِّرِ التَّوْبَةُ فِي إِسْقَاطِ الْحُدُودِ عَنْهُمْ . وَهَذَا قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِئَةٌ يَلْجَأُونَ إِلَيْهَا وَيَمْتَنِعُونَ بِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعُوا بِفِئَةٍ لَمْ تُؤَثِّرْ تَوْبَتُهُمْ فِي سُقُوطِ الْحُدُودِ عَنْهُمْ ، وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، وَعَمْرِو بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، والْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنْ لَا تَمْتَدَّ إِلَيْهِمْ يَدُ الْإِمَامِ بِهَرَبٍ أَوِ اسْتِخْفَاءٍ أَوِ امْتِنَاعٍ ، فَيَخْرُجُوا عَنِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ ، فَتُؤَثِّرُ تَوْبَتُهُمْ فِيمَا سَقَطَ عَنْهُمْ ، وَمَنِ امْتَدَّتْ إِلَيْهِ يَدُ الْإِمَامِ فَهُوَ تَحْتَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ . وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ هَذَا فِي رَفْعِهِ إِلَى الْإِمَامِ ، هَلْ يَكُونُ شَرْطًا فِي الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَكُونُ شَرْطًا : لِأَنَّهُ فِي الْحَالَيْنِ قَادِرٌ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : يَكُونُ شَرْطًا فِي الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي سَارِقِ رِدَاءِ صَفْوَانَ : هَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ ، لَا عَفَا اللَّهُ عَنِّي إِنْ عَفَوْتُ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يُسْقِطُ التَّوْبَةُ عَنْهُمْ مِنَ الْحُقُوقِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهَا تُسْقِطُ عَنْهُمْ جَمِيعَ الْحُقُوقِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِلْآدَمِيِّينَ مِنَ الْحُدُودِ وَالدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ . رُوِيَ أَنَّ حَارِثَةَ بْنَ زَيْدٍ خَرَجَ مُحَارِبًا فَأَخَافَ السَّبِيلَ ، وَسَفَكَ الدِّمَاءَ ، وَأَخَذَ الْأَمْوَالَ ، وَجَاءَ تَائِبًا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، فَقَبِلَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ

السَّلَامُ تَوْبَتَهُ ، وَجَعَلَ لَهُ أَمَانًا مَنْشُورًا عَلَى مَا كَانَ أَصَابَ مِنْ دَمٍ وَمَالٍ . وَالثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهَا تُسْقِطُ عَنْهُمْ جَمِيعَ الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ إِلَّا الدِّمَاءَ : لِتَغْلِيظِهَا عَلَى مَا سِوَاهَا . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا تُسْقِطُ عَنْهُمْ حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا تُسْقِطُ عَنْهُمْ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ مِنَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ لِاخْتِصَاصِ التَّوْبَةِ بِتَكْفِيرِ الْإِمَامِ دُونَ حُقُوقِ الْعِبَادِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْحُدُودُ الْمُسْتَحَقَّةُ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ هل تسقط بالتوبة ؟ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي سُقُوطِهَا بِالتَّوْبَةِ ، عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ : لِعُمُومِ الظَّوَاهِرِ فِيهَا ، وَلِأَنَّ تَوْبَةَ الْمُحَارِبِ أَبْلَغُ فِي خُلُوصِ الطَّاعَةِ لِخُرُوجِهِ عَنِ الْقُدْرَةِ ، فَقَوِيَ حُكْمُهَا فِي إِسْقَاطِ الْحُدُودِ عَنْهُ . وَتَوْبَةَ غَيْرِ الْمُحَارِبِ تَضْعُفُ عَنْ هَذِهِ الْحَالِ : لِأَنَّ ظَاهِرَهَا أَنَّهَا عَنْ خَوْفٍ ، فَضَعُفَ حُكْمُهَا فِي إِسْقَاطِ الْحُدُودِ عَنْهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَظْهَرُ ، أَنَّهَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ كَالْحِرَابَةِ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الزِّنَا : وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا [ النِّسَاءِ : 16 ] وَفِي قَطْعِ السَّرِقَةِ : فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : التَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا ، وَلِأَنَّ حُدُودَ الْحِرَابَةِ أَغْلَظُ مِنْ حُدُودِ غَيْرِ الْحِرَابَةِ ، فَلَمَّا سَقَطَ بِالتَّوْبَةِ أَغْلَظُهُمَا كَانَ أَوْلَى أَنْ يَسْقُطَ أَخَفُّهُمَا ، وَلِأَنَّ الْحُدُودَ مَوْضُوعَةٌ لِلنَّكَالِ وَالرَّدْعِ ، وَالتَّائِبُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهَا ، فَسَقَطَ عَنْهُ مُوجِبُهَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلتَّوْبَةِ تَأْثِيرًا فِي إِسْقَاطِ الْحُدُودِ فِي الْحِرَابَةِ وَغَيْرِ الْحِرَابَةِ ، فَالتَّوْبَةُ مُخْتَلِفَةٌ فِيهَا ، فَتَكُونُ فِي الْحِرَابَةِ بِإِظْهَارِهَا قَوْلًا حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهَا الْكَفُّ ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا إِصْلَاحُ الْعَمَلِ . وَلَا تَكُونُ التَّوْبَةُ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ بِإِظْهَارِهَا قَوْلًا حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهَا إِصْلَاحُ الْعَمَلِ فِي زَمَانٍ يُوثَقُ بِصَلَاحِهِ فِيهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : نَصٌّ . وَالثَّانِي : مَعْنًى . فَأَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ فِي الْحِرَابَةِ : إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ الْمَائِدَةِ : 34 ] وَلَمْ يُشْتَرَطِ الْإِصْلَاحُ فِيهَا ، وَقَالَ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ فِي آيَةِ السَّرِقَةِ : فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ [ الْمَائِدَةِ : 39 ] وَفِي آيَةِ الزِّنَا : فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا [ النِّسَاءِ : 16 ] بِشَرْطِ الْإِصْلَاحِ فِيهَا .

وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُحَارِبَ مُجَاهِرٌ فَقَوِيَتْ تَوْبَتُهُ ، وَغَيْرُ الْمُحَارِبِ مُسَايِرٌ فَضَعُفَتْ تَوْبَتُهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ التَّقِيَّةَ مُنْتَفِيَةٌ عَنْ تَوْبَةِ الْمُحَارِبِ : لِخُرُوجِهِ عَنِ الْقُدْرَةِ ، فَزَالَتِ التُّهْمَةُ عَنْهُ إِنْ تَظَاهَرَ بِهَا بِخَوْفٍ وَحَذَرٍ . وَالتَّقِيَّةُ مُتَوَجِّهَةٌ إِلَى غَيْرِ الْمُحَارِبِ : لِدُخُولِهِ تَحْتَ الْقُدْرَةِ ، فَلَحِقَتْهُ التُّهْمَةُ فِي الظَّاهِرِ بِهَا مِنْ خَوْفٍ وَحَذَرٍ ، حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهَا مِنْ إِصْلَاحِ الْعَمَلِ مَا تَزُولُ بِهِ التُّهْمَةُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ فَرْقِ مَا بَيْنَ الْحِرَابَةِ وَغَيْرِ الْحِرَابَةِ فِي شُرُوطِ التَّوْبَةِ وَسُقُوطِ الْحُدُودِ بِهَا فِي الْحَالَيْنِ ، وَجَبَ تَفْصِيلُهَا وَشَرْحُ الْحُكْمِ فِيهَا . فَنَقُولُ : أَمَّا التَّوْبَةُ بَعْدَ الْقُدْرَةِ في الحرابة ، فَلَا تَأْثِيرَ لَهَا فِيهَا فِي إِسْقَاطِ حَدٍّ وَلَا حَقٍّ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهَا مَشْرُوطَةً بِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى أَهْلِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [ الْمَائِدَةِ : 34 ] ، فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهَا مَعَ وُجُودِ الْقُدْرَةِ وَعَدَمِ الشَّرْطِ ، وَأَمَّا التَّوْبَةُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ فَهِيَ الْمُؤَثِّرَةُ فِي سُقُوطِ حُدُودِ الْحِرَابَةِ ، وَفِي إِسْقَاطِهَا لِحُدُودِ غَيْرِ الْحِرَابَةِ قَوْلَانِ ، فَأَمَّا حُدُودُ الْحِرَابَةِ فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا اخْتَصَّ بِالْحِرَابَةِ ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : انْحِتَامُ الْقَتْلِ ، وَالصَّلْبِ ، وَقَطْعُ الرِّجْلِ . فَيَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ انْحِتَامُ قَتْلِهِ وَيَصِيرُ مَوْقُوفًا عَلَى خِيَارِ الْوَلِيِّ ، وَيَسْقُطُ صَلْبُهُ وَقَطْعُ رِجْلِهِ فِي أَخْذِ الْمَالِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا لَا يَخْتَصُّ بِالْحِرَابَةِ ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا سَوَاءً وَهُوَ حَدُّ الزِّنَا ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ ، وَقَطْعِ السَّرِقَةِ ، فَفِي سُقُوطِهِ بِالتَّوْبَةِ فِي الْحَالَيْنِ قَوْلَانِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا اخْتُلِفَ فِيهِ ، وَهُوَ قَطْعُ الْيَدِ وَأَخْذُ الْمَالِ فِي الْحِرَابَةِ ، فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْحِرَابَةِ : لِأَنَّهَا تَقْطَعُ بِأَخْذِ الْمَالِ فِي غَيْرِهَا . فَعَلَى هَذَا : يُعْتَبَرُ فِيهَا التَّوْبَةُ الْمَشْرُوطَةُ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ ، وَفِي سُقُوطِهِ بِهَا قَوْلَانِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ قَطْعَهَا مُخْتَصٌّ بِحُدُودِ الْحِرَابَةِ : لِأَنَّهَا لِلْمُجَاهَرَةِ بِأَخْذِ الْمَالِ ، وَتُقْطَعُ فِي غَيْرِ الْمُحَارَبَةِ : لِلْإِسْرَارِ بِأَخْذِ الْمَالِ ، فَاخْتَلَفَ مُوجِبُهُمَا . فَعَلَى هَذَا : يُعْتَبَرُ فِيهَا تَوْبَةُ الْحِرَابَةِ وَيَسْقُطُ قَطْعُهَا قَوْلًا وَاحِدًا ، كَمَا يَسْقُطُ بِهَا قَطْعُ الرِّجْلِ . فَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ مِنَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَحَدِّ الْقَذْفِ ، فَلَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ فِي الْحَالَيْنِ ، وَوَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَأَسْقَطَ بِهَا حَدَّ الْقَذْفِ : لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إِلَى بَدَلٍ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ تَتَنَوَّعُ ، وَجَمِيعُهَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ مُتَمَاثِلٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ مِنَ الرُّفْقَةِ أَنَّ هَؤُلَاءِ عَرَضُوا لَنَا فَنَالُونَا وَأَخَذُوا مَتَاعَنَا ، لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا : لِأَنَّهُمَا خَصْمَانِ وَيَسَعُهُمَا أَنْ يَشْهَدَا أَنَّ هَؤُلَاءِ عَرَضُوا لِهَؤُلَاءِ فَفَعَلُوا بِهِمْ كَذَا وَكَذَا ، وَأَخَذُوا مِنْهُمْ كَذَا وَكَذَا ، وَنَحْنُ نَنْظُرُ . وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَكْشِفَهُمَا عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا أَخْبَرَ جَمَاعَةٌ ادَّعَوْا عَلَى قَوْمٍ أَحْضَرُوهُمْ أَنَّهُمْ قَطَعُوا عَلَيْهِمُ الطَّرِيقَ ، وَأَخَذُوا مِنْهُمْ أَمْوَالًا ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ رِجَالًا ، فَإِنِ اعْتَرَفُوا لَهُمْ طَوْعًا بِمَا ادَّعَوْا أُخِذُوا بِإِقْرَارِهِمْ فِي النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ . وَإِنْ أَنْكَرُوهُمْ أَحْلَفُوهُمْ إِنْ عَدِمُوا الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِمْ . وَإِنِ اعْتَرَفَ بَعْضُهُمْ وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ حُدَّ الْمُعْتَرِفُ مِنْهُمْ بِإِقْرَارِهِ ، وَأُحْلِفَ الْمُنْكِرُ ، وَلَمْ تُسْمَعْ شَهَادَةُ الْمُعْتَرِفِ عَلَى الْمُنْكِرِ : لِفِسْقِهِ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ . فَإِنْ شَهِدَ لِلْمُدَّعِينَ شَاهِدَانِ ، فَقَالُوا : نَشْهَدُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَطَعُوا عَلَيْنَا الطَّرِيقَ ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَنَا ، وَقَتَلُوا مِنَّا نُفُوسًا . لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِأَنَّهُمَا قَدْ صَارَا خَصْمَيْنِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُدَّعِينَ لَمْ يَتَمَيَّزُوا عَنْهُمْ فِي الشَّهَادَةِ لَهُمْ وَلِأَنْفُسِهِمْ ، وَشَهَادَةُ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ دَعْوَى تُرَدُّ ، وَلَا تُقْبَلُ مِنْهُمَا فِي حَقِّهِمَا وَلَا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُمَا قَدْ صَارَا بِهَذَا الْقَوْلِ عَدُوَّيْنِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِمْ ، وَشَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ مَرْدُودَةٌ . وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَذَفَ أُمَّهُمَا ، وَقَذَفَ زَيْدًا ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا فِي قَذْفِ أُمِّهِمَا ، وَهَلْ تُرَدُّ فِي قَذْفِ زَيْدٍ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا كَانَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى قُطَّاعِ الطَّرِيقِ تُرَدُّ فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمَا ، وَتَكُونُ فِي حُقُوقِ غَيْرِهِمَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . قِيلَ : إِذَا اسْتُعْمِلَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى أَمْرَيْنِ تُرَدُّ فِي أَحَدِهِمَا ، وَلَا تُرَدُّ فِي الْآخَرِ ، لَمْ يَخْلُ حَالُهَا فِيمَا رُدَّتْ فِيهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تُرَدَّ بِعَدَاوَةٍ أَوْ تُهْمَةٍ ، فَإِنْ رُدَّتْ لِعَدَاوَةٍ لَمْ تُسْمَعْ فِي الْآخَرِ ، وَإِنْ رُدَّتْ لِتُهْمَةٍ سُمِعَتْ فِي الْآخَرِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْعَدَاوَةَ مَوْجُودَةٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَحَقِّ غَيْرِهِ ، وَالتُّهْمَةُ تُوجَدُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَا تُوجَدُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ : فَلِذَلِكَ رُدَّتْ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ ، وَجَازَ أَنْ تُقْبَلَ فِي الْقَذْفِ .

فَصْلٌ : وَلَوِ ابْتَدَأَ الشَّاهِدَانِ عَلَى قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ، فَقَالَا : نَشْهَدُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَطَعُوا عَلَى

هَؤُلَاءِ الطَّرِيقَ ، وَأَخَذُوا مِنَ الْأَمْوَالِ كَذَا ، وَقَتَلُوا مِنَ النُّفُوسِ كَذَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا : لِأَنَّهُمَا قَدْ يَكُونَانِ بِمَعْزِلٍ عَنِ الْمُدَّعِينَ فَيُشَاهِدُوا قَطْعَ الطَّرِيقِ ، وَلَا يَسْأَلُهُمُ الْحَاكِمُ هَلْ كَانَا مَعَهُمْ أَمْ لَا ؟ وَقَالَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ : لَا يَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِمَا حَتَّى يَسْأَلَهُمَا ، هَلْ كَانَا مَعَ الْقَوْمِ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قَالَا : لَا . حُكِمَ لَهَا . وَإِنْ قَالَا : نَعَمْ . لَمْ يُحْكَمْ : لِأَنَّ مَا احْتَمَلَ الْقَبُولَ وَالرَّدَّ لَمْ يُحْكَمْ بِهِ مَعَ الِاحْتِمَالِ . وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ : لِأَنَّ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ تَصْرِفُ الشَّهَادَةَ إِلَى الصِّحَّةِ دُونَ الْفَسَادِ ، كَمَا أَنَّ الظَّاهِرَ صِدْقُهُمَا ، وَإِنْ جَازَ كَذِبُهُمَا . فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ الِاحْتِمَالُ طَرِيقًا إِلَى رَدِّهَا إِذَا أَوْجَبَ الظَّاهِرُ قَبُولَهُمَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى رَجُلٍ حُدُودٌ وَقَذْفٌ بُدِئَ بِحَدِّ الْقَذْفِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ، ثُمَّ حُبِسَ ، فَإِذَا بَرِئَ حُدَّ فِي الزِّنَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ، فَإِذَا بَرِئَ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى مِنْ خِلَافٍ : لِقَطْعِ الطَّرِيقِ ، وَكَانَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى لِلسَّرِقَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ مَعًا ، وَرِجْلُهُ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ مَعَ يَدِهِ ، ثُمَّ قُتِلَ قَوَدًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا اجْتَمَعَ عَلَى رَجُلٍ حُدُودٌ مِنْ جَلْدٍ ، وَقَطْعٍ وَقَتْلٍ ، بُدِئَ بِالْجَلْدِ ، ثُمَّ بِالْقَطْعِ ، ثُمَّ بِالْقَتْلِ ، وَلَا يَسْقُطُ بِالْقَتْلِ مَا عَدَاهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا اجْتَمَعَ مَعَهَا قَتْلٌ سَقَطَ بِالْقَتْلِ مَا عَدَاهُ ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعْ مَعَهَا قَتْلٌ كَانَ الْإِمَامُ مُخَيَّرًا فِي الْبِدَايَةِ بِمَا شَاءَ مِنَ الْجَلْدِ أَوِ الْقَطْعِ : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْقَتْلَ أَعَمُّ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَا دُونَهُ ، وَيَتَسَاوَى مَا عَدَاهُ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ تَقْدِيمُ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ . وَدَلِيلُنَا : عُمُومُ الظَّوَاهِرِ فِي الْحُدُودِ الْمُوجِبِ لِاسْتِيفَائِهَا ، وَلِأَنَّهَا حُدُودٌ لَا تَتَدَاخَلُ فِي غَيْرِ الْقَتْلِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَتَدَاخَلَ فِي الْقَتْلِ ، كَحَدِّ الْقَذْفِ ، وَهُوَ انْفِصَالٌ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ . فَأَمَّا تَقْدِيمُ الْجَلْدِ عَلَى الْقَطْعِ : فَلِأَنَّهُ أَخَفُّ وَأَسْلَمُ مِنَ الْقَطْعِ الَّذِي فِيهِ إِرَاقَةُ دَمٍ وَاسْتِهْلَاكٌ : فَلِأَجْلِ ذَلِكَ قُدِّمَ عَلَيْهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ سُقُوطِ التَّدَاخُلِ وَوُجُوبِ الْبِدَايَةِ بِالْأَخَفِّ ، فَالْحُدُودُ إِذَا اجْتَمَعَتْ على شخص كيف يرتب بينها ؟ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : جَلْدٌ ، وَقَطْعٌ ، وَقَتْلٌ ، فَيُقَدَّمُ الْجَلْدُ عَلَى الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ ، كَمَا ذَكَرْنَا ، وَالْجَلْدُ يُسْتَحَقُّ بِأَرْبَعَةِ أَسْبَابٍ ، تَعْزِيرٍ ، وَقَذْفٍ ، وَشُرْبِ خَمْرٍ ، وَزِنَا بِكْرٍ ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ قُدِّمَ التَّعْزِيرُ عَلَى جَمِيعِهَا : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَخَفُّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِي الْأَغْلَبِ . ثُمَّ فِيمَا يُبْدَأُ بِهِ بَعْدَ التَّعْزِيرِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يُقَدَّمُ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ : لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يُقَدَّمُ حَدُّ الْخَمْرِ عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ :

لِأَنَّهُ أَخَفُّ ، ثُمَّ حَدُّ الزِّنَا آخِرُهَا : لِأَنَّهُ أَغْلَظُ جَلْدٍ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَصَارَ آخِرَهَا . وَيُمْهَلُ بَيْنَ كُلِّ حَدَّيْنِ حَتَّى يَبْرَأَ إِذَا كَانَ الْقَتْلُ غَيْرَ مُنْحَتِمٍ ، كَالْقَتْلِ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ : لِأَنْ لَا يُوَالَى عَلَيْهِ بَيْنَ الْحُدُودِ فَيَتْلَفَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ جَمِيعِهَا . فَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ مُنْحَتِمًا كَالْقَتْلِ فِي الْحِرَابَةِ وَالرَّجْمِ فِي الزِّنَا ، فَفِي الْمُوَالَاةِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْحُدُودِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُوَالَى : لِأَنَّ تَأْخِيرَهَا لِلْبُرْءِ مَعَ انْحِتَامِ الْقَتْلِ غَيْرُ مُفِيدٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُمْهَلُ بَيْنَ الْحَدَّيْنِ حَتَّى يَبْرَأَ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْقَتْلُ غَيْرَ مُنْحَتِمٍ لِجَوَازِ أَنْ يَتْلَفَ بِالْمُوَالَاةِ قَبْلَ اسْتِيفَائِهَا . فَصْلٌ : ثُمَّ يُعْدَلُ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْجَلْدِ إِلَى قَطْعِ مَا دُونَ النَّفْسِ ، وَيُقَدِّمُهُ عَلَى الْقَتْلِ . وَمَا دُونَ النَّفْسِ مُسْتَحَقٌّ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ : قَوَدٌ فِي جِنَايَةٍ . وَقَطْعُ يَدٍ فِي سَرِقَةٍ . وَقَطْعُ يَدٍ وَرِجْلٍ فِي حِرَابَةٍ . فَيَكُونُ قَوَدُ الْجِنَايَةِ مَوْقُوفًا عَلَى خِيَارِ مُسْتَحِقِّهِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ ، فَإِنِ اخْتَارَ الْعَفْوَ عَنْهُ إِلَى مَالٍ سَقَطَ حُكْمُهُ ، وَقُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى : لِسَرِقَتِهِ وَحِرَابَتِهِ ، وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى : لِحِرَابَتِهِ ، وَجُمِعَ بَيْنَ قَطْعِهِمَا : لِأَنَّهُمَا حَدٌّ وَاحِدٌ . إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَتْلُهُ مُسْتَحَقًّا فِي الْحِرَابَةِ ، فَلَا تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُسْرَى : لِأَنَّ حَدَّهُ الصَّلْبُ بَعْدَ الْقَتْلِ . وَإِنِ اخْتَارَ مُسْتَحِقُّ الْقَوَدِ الْقِصَاصَ ، قَدَّمَهُ عَلَى قَطْعِ السَّرِقَةِ وَالْحِرَابَةِ : لِأَنَّ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، ثَمَّ رِجْلُهُ . فَإِنْ كَانَ مُسْتَحَقًّا فِي غَيْرِ أَعْضَاءِ السَّرِقَةِ وَالْحِرَابَةِ كَالْمُوضِحَةِ فِي الرَّأْسِ وَاللِّسَانِ وَالذَّكَرِ ، وَيُسْرَى الْيَدِ وَيُمْنَى الرِّجْلِ ، أُمْهِلَ بَعْدَ الْقِصَاصِ حَتَّى يَبْرَأَ مِمَّا قُطِعَ بِالسَّرِقَةِ وَالْحِرَابَةِ . وَإِنْ كَانَ مُسْتَحَقًّا فِي أَعْضَاءِ السَّرِقَةِ وَالْحِرَابَةِ كَالْيَدِ الْيُمْنَى وَالرِّجْلِ الْيُسْرَى قُطِعَتْ قِصَاصًا ، فَإِنْ كَانَ الْيَدُ الْيُمْنَى دَخَلَ فِي الِاقْتِصَاصِ مِنْهَا قَطْعُ السَّرِقَةِ ، وَقَطْعُ الْحِرَابَةِ ، وَقُطِعَتِ الرِّجْلُ الْيُسْرَى لِلْحِرَابَةِ . وَإِنْ كَانَ قَطْعُ الْقِصَاصِ فِي الرِّجْلِ الْيُسْرَى دَخَلَ فِيهَا قَطْعُ الْحِرَابَةِ ، وَقُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى لِلسَّرِقَةِ وَالْحِرَابَةِ . وَإِنْ كَانَ قَطْعُ الْقِصَاصِ فِي الْيَدِ الْيُمْنَى وَالرِّجْلِ الْيُسْرَى . دَخَلَ فِيهَا قَطْعُ السَّرِقَةِ وَقَطْعُ الْحِرَابَةِ .

فَصْلٌ : ثُمَّ يُعْدَلُ بَعْدَ الْقَطْعِ إِلَى الْقَتْلِ وَلَا يُمْهَلُ إِلَى الِانْدِمَالِ . وَالْقَتْلُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : قَوَدٌ مُنْحَتِمٌ وَهُوَ الْقَتْلُ فِي الْحِرَابَةِ . وَقَوَدٌ غَيْرُ مُنْحَتِمٍ وَهُوَ الْقَتْلُ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ . وَرَجْمٌ فِي زِنَا ثَيِّبٍ . وَقَتْلٌ بِرِدَّةٍ ، أَوْ تَرْكُ صَلَاةٍ . فَيُقَدَّمُ قَتْلُ الْقَوَدِ فِي الْحِرَابَةِ وَغَيْرِ الْحِرَابَةِ عَلَى الرَّجْمِ فِي الزِّنَا ، وَالْقَتْلِ بِالرِّدَّةِ ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ : لِمَا تَضَمَّنَهُمَا مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ . ثُمَّ يُنْظَرُ فِي قَتْلِ الْقَوَدِ فِي الْحِرَابَةِ ، وَالْقَوَدِ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ أَيُّهُمَا يُقَدَّمُ ، فَإِنَّ تَقَدَّمَ قَتْلُ الْحِرَابَةِ انْحَتَمَ قَتْلُهُ قَوَدًا فِي الْحِرَابَةِ وَصُلِبَ بَعْدَ قَتْلِهِ ، إِنْ أَخَذَ الْمَالَ فِي الْحِرَابَةِ ، وَكَانَ لِوَلِيِّ الْقَوَدِ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ أَنْ يَرْجِعَ بِالدِّيَةِ ، وَيَسْقُطُ رَجْمُ الزِّنَا وَقَتْلُ الرِّدَّةِ . وَإِنْ تَقَدَّمَ الْقَتْلُ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ عَلَى الْقَتْلِ فِي الْحِرَابَةِ أَيُّهُمَا يُقَدَّمُ قُدِّمَ الْقَوَدُ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ : لِتَقَدُّمِهِ عَلَى الْقَوَدِ فِي الْحِرَابَةِ لِتَأَخُّرِهِ ، وَكَانَ مَوْقُوفًا عَلَى خِيَارِ وَلِيِّهِ ، فَإِنْ عَدَلَ عَنْهُ إِلَى الْمَالِ حُكِمَ بِهِ فِي مَالِ الْمُحَارِبِ ، وَقُتِلَ لِلْحِرَابَةِ قَوَدًا مُسْتَحَقًّا ، وَإِنْ طَلَبَ الْوَلِيُّ

الْقَوَدَ اقْتَصَّ مِنْهُ ، وَلَمْ يُصْلَبْ بَعْدَ قَتْلِهِ ، وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ : لِأَنَّ قَتْلَهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ حُدُودِ الْحِرَابَةِ ، فَيَسْقُطُ حُكْمُ صَلْبِهِ كَمَا لَوْ مَاتَ ، وَكَانَ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ فِي الْحِرَابَةِ الدِّيَةُ ، وَإِنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي حَقِّهِ مُنْحَتِمًا : لِأَنَّ فَوَاتَ الْقِصَاصِ يَسْقُطُ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي انْحِتَامِ الْقَتْلِ ، وَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْآدَمِيِّ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ . وَلَوِ اجْتَمَعَ رَجْمُ الزِّنَا وَقَتْلُ الرِّدَّةِ أَيُّهُمَا يُقَدَّمُ ، رُجِمَ لِلزِّنَا ، وَدَخَلَ فِيهِ قَتْلُ الرِّدَّةِ : لِأَنَّ الرَّجْمَ أَزْيَدُ نَكَالًا ، فَدَخَلَ فِيهِ الْأَقَلُّ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ مَاتَ فِي الْحَدِّ الْأَوَّلِ ، سَقَطَتْ عَنْهُ الْحُدُودُ كُلُّهَا ، وَفِي مَالِهِ دِيَةُ النَّفْسِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا مَاتَ فِي الْحَدِّ الْأَوَّلِ صَارَ فِي الْبَاقِي مِنَ الْحُدُودِ كَالْمَيِّتِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ شَيْءٍ مِنَ الْحُدُودِ ، فَيُنْظَرُ فِي الْبَاقِي مِنَ الْحُدُودِ ، فَإِنْ كَانَتْ لِلَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَا ، وَقَتْلِ الرِّدَّةِ سَقَطَتْ عَنْهُ فِي تَبِعَاتِ الدُّنْيَا ، وَكَانَ مَوْكُولًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ . وَإِنْ كَانَتْ لِلْآدَمِيِّينَ فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى بَدَلٍ كَحَدِّ الْقَذْفِ سَقَطَ حُكْمُهُ ، وَإِنْ رَجَعَ إِلَى بَدَلٍ كَالْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ رَجَعَ مُسْتَحِقُّهُ بِدِيَتِهِ فِي مَالِ الْمُحَارِبِ ، وَلَمْ يَسْقُطْ بِمَوْتِهِ كَمَا لَا يَسْقُطُ عَنْهُ غُرْمُ مَا اسْتَهْلَكَ مِنَ الْأَمْوَالِ .
فَصْلٌ : إِذَا كَانَ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ امْرَأَةٌ أُقِيمَ عَلَيْهَا الْحُدُودُ فِي الْحِرَابَةِ ، كَالرَّجُلِ فِي قَطْعِهَا وَصَلْبِهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَسْقُطُ عَنْهَا حُدُودُ الْحِرَابَةِ ، وَتُقْتَلُ قَوَدًا لَا تَنْحَتِمُ ، وَتُغَرَّمُ الْمَالَ ، وَلَا تُصْلَبُ : احْتِجَاجًا بِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْمُحَارَبَةِ ، فَسَقَطَتْ عَنْهَا حُدُودُ الْحِرَابَةِ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ . وَدَلِيلُنَا : عُمُومُ الْآيَةِ فِي الْحِرَابَةِ . مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ : أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ ، وَجَبَ عَلَيْهِ حَدُّ الْحِرَابَةِ كَالرَّجُلِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ حَدٍّ وَجَبَ عَلَى الرَّجُلِ جَازَ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْمَرْأَةِ ، كَالْحَدِّ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ : فَالْمَعْنَى فِيهَا سُقُوطُ الْحَدِّ عَنْهُمَا فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ : لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ ، فَسَقَطَ فِي الْحِرَابَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى . وَالْمَرْأَةُ يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ : لِوُجُودِ التَّكْلِيفِ ، فَوَجَبَ فِي الْحِرَابَةِ : لِوُجُودِ هَذَا الْمَعْنَى ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
_____كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ وَالْحَدِّ فِيهَا_____
مسألة كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ

كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ وَالْحَدِّ فِيهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ كَثِيرُهُ ، فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَصْلُ الْمُسْكِرَاتِ كُلِّهَا الْخَمْرُ ، وَمَا سِوَاهُ مِنَ الْأَنْبِذَةِ الْمُسْكِرَةِ تَابِعٌ لَهُ وَمُسْتَنْبَطٌ مِنْهُ . وَالْخَمْرُ : هُوَ عَصِيرُ الْعِنَبِ إِذَا صَارَ مُسْكِرًا بِحُدُوثِ الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ فِيهِ ، فَيَصِيرُ خَمْرًا بِشَرْطَيْنِ : الشِّدَّةُ والسُّكْرُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَصِيرُ خَمْرًا بِهَا حَتَّى يَنْضَمَّ إِلَيْهِمَا شَرْطٌ ثَالِثٌ ، وَهُوَ أَنْ يَقْذِفَ زَبَدَهُ . وَلَيْسَ قَذْفُ الزَّبَدِ عِنْدَنَا شَرْطًا : لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي شُرْبِهَا . وَفِي تَسْمِيَتِهَا خَمْرًا تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : لِأَنَّهُ يُخَمَّرُ عَصِيرُهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَصِيرَ خَمْرًا ، أَيْ : يُغَطَّى ، وَلَوْ لَمْ يُغَطَّ لَمْ يَصِرْ خَمْرًا . وَالتَّخْمِيرُ : التَّغْطِيَةُ ، وَمِنْهُ سُمِّيَ خِمَارُ الْمَرْأَةِ : لِأَنَّهُ يُغَطِّيهَا وَيَسْتُرُهَا . وَالثَّانِي : لِأَنَّهُ يُخَامِرُ الْعَقْلَ بِالسُّكْرِ ، أَيْ : يُغَطِّيهِ وَيُخْفِيهِ . وَقَدْ كَانَ الْخَمْرُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ يَشْرَبُهَا الْمُسْلِمُونَ وَلَا يَتَنَاكَرُونَهَا ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اسْتِبَاحَتِهِمْ لِشُرْبِهَا ، هَلْ كَانَ اسْتِصْحَابًا لِحَالِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، أَوْ بِشَرْعٍ وَرَدَ فِي إِبَاحَتِهَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمُ اسْتَصْحَبُوا إِبَاحَتَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ : لِأَنَّهُ لَا تَقَدَّمَ مَنْعٌ مِنْهَا ، وَلَا تَحْرِيمَ لَهَا ، هَذَا أَشْبَهُ الْوَجْهَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمُ اسْتَبَاحُوا شُرْبَهَا بِشَرْعٍ وَرَدَ فِيهَا ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا [ النَّحْلِ : 67 ] . وَفِيهِ ثَلَاثُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ السَّكَرَ مَا أَسْكَرَ مِنَ الْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ ، وَالرِّزْقِ الْحَسَنِ وَهُوَ مَا أَثْمَرَ مِنَ

التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ ثُمَّ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ مِنْ بَعْدُ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَقَتَادَةَ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَشَاهِدُهُ مِنَ اللُّغَةِ قَوْلُ الْأَخْطَلِ : بِئْسَ الصُّحَاةُ وَبِئْسَ الشُّرْبُ شُرْبُهُمُ إِذَا جَرَى فِيهِمُ الْمُزَّاءُ وَالسَّكَرُ وَالسَّكَرُ : الْخَمْرُ . وَالْمُزَّاءُ : نَوْعٌ مِنَ النَّبِيذِ الْمُسْكِرِ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : أَنَّ السَّكَرَ الْخَلُّ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ . وَقِيلَ : بِلُغَةِ أَزْدِ عُمَانَ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ : أَنَّ السَّكَرَ الطَّعَامُ ، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ : الِاثْنَانِ ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَخْفَشِ ، وَشَاهِدُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : وَجَعَلْتَ عَيْبَ الْأَكْرَمِينَ سَكَرًا أَيْ : طَعَامًا حَلَالًا ، ثُمَّ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ سببه ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي سَبَبِهِ عَلَى خَمْسَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : مَا حَكَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَنَّ قَبِيلَتَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ ثَمِلُوا مِنَ الشَّرَابِ ، فَعَبَثَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ ، فَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ . وَالثَّانِي : مَا حَكَاهُ مُصْعَبُ بْنُ سَعْدٍ : أَنَّ أَبَاهُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ لَاحَا رَجُلًا عَلَى شَرَابٍ ، فَضَرَبَهُ الرَّجُلُ بِلِحَى جَمَلٍ فَفَرَزَ أَنْفَهُ ، قَالَ السُّدِّيُّ : وَكَانَ سَعْدٌ قَدْ صَنَعَ طَعَامًا ، وَدَعَا نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَشَوَى لَهُمْ رَأْسَ بَعِيرٍ ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَغَضِبَ مِنْ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ سَعْدٌ ، فَكَسَرَ أَنْفَهُ بَلِحَى الْبَعِيرِ ، فَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ . وَالثَّالِثُ : مَا رَوَاهُ عَوْفٌ عَنْ أَبِي الْقَلُوصِ : أَنَّ رَجُلًا سَكِرَ مِنَ الْخَمْرِ ، فَجَعَلَ يَنُوحُ عَلَى قَتْلَى بَدْرٍ ، وَيَقُولُ : تُحَيِّي بالسَّلَامَةِ أُمُّ بَكْرٍ وَهَلْ لِي بَعْدَ رهْطِكِ مِنْ سَلَامِ ذَرِينِي أَصْطَبِحْ بَكْرًا فَإِنِّي رَأَيْتُ الْمَوْتَ نَبَّثَ عَنْ هِشَامِ وَوَدِّينِي الْمُغِيرَةَ لَوْ فَدَوْهُ بِأَلْفٍ مِنْ رِجَالٍ أَوْ سَوَامِ وَكَائِنُ بِالطَّوِيِّ طَوِيِّ بَدْرٍ مِنَ الشِّيزَى تَكَلَّلُ بالسَّنَامِ وَكَائِنُ بِالطَّوِيِّ طَوِيِّ بَدْرٍ مِنَ الْقَيْنَاتِ وَالْحَلَلِ الْكِرَامِ

فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَضِبَ ، وَأَقْبَلَ الرَّجُلُ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا كَانَ مَعَهُ بِيَدِهِ لِيَضْرِبَهُ ، فَقَالَ : أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَاللَّهِ لَا أَطْعَمُهَا أَبَدًا . فَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ . وَالرَّابِعُ : مَا رَوَاهُ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ صَنَعَ طَعَامًا وَشَرَابًا وَدَعَا نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا حَتَّى ثَمِلُوا ، فَقَدَّمُوا رَجُلًا مِنْهُمْ فَصَلَّى بِهِمُ الْمَغْرِبَ فَقَرَأَ " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَأَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَأَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِي فَنَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [ سُورَةُ النِّسَاءِ : 43 ] ثُمَّ حُرِّمَتْ . وَالْخَامِسُ : مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ ، قَالَ : قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : " اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا . فَنَزَلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [ الْبَقَرَةِ : 219 ] الْآيَةَ ، فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا . فَنَزَلَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى : لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [ النِّسَاءِ : 43 ] فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ . فَقَالَ : اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا . فَنَزَلَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ : فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [ الْمَائِدَةِ : 90 ] ، فَحِينَ سَمِعَهَا عُمَرُ قَالَ : انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا . فَهَذِهِ ثَلَاثُ آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي الْخَمْرِ ، وَنَزَلَتْ فِيهِ آيَةٌ رَابِعَةٌ فَيَ سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [ الْأَعْرَافِ : 33 ] . وَالْإِثْمُ هَاهُنَا : الْخَمْرُ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِ : لِقَوْلِ الشَّاعِرِ : شَرِبْتُ الْإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي كَذَاكَ الْإِثْمُ يَذْهَبُ بِالْعُقُولِ

فَهَذِهِ أَرْبَعُ آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الْخَمْرِ . نَحْنُ نَبْدَأُ بِتَفْسِيرِ كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا ، وَنَذْكُرُ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِيمَا حُرِّمَتْ بِهِ الْخَمْرُ فِيهَا . أَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ : وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [ الْبَقَرَةِ : 219 ] فَقَدْ قَالَ مُقَاتِلٌ : إِنَّ الَّذِي سَأَلَ عَنْهَا حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ . وَقَالَ عَطَاءٌ : هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، حِينَ قَالَ فِي الْخَمْرِ مَا قَالَ . وَاسْمُ الْخَمْرِ يَنْطَلِقُ حَقِيقَةً عَلَى عَصِيرِ الْعِنَبِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي انْطِلَاقِهِ حَقِيقَةً عَلَى مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَنْبِذَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيِّ ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يُطْلَقُ اسْمُ الْخَمْرِ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِذَةِ حَقِيقَةً : لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الصِّفَةِ يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي الِاسْمِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُطْلَقُ اسْمُ الْخَمْرِ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِذَةِ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً ، وَأَنَّ حَقِيقَةَ اسْمِ الْخَمْرِ مُخْتَصٌّ بِعَصِيرِ الْعِنَبِ : لِأَنَّهُمَا يَتَّفِقَانِ فِي صِفَةٍ ، وَيَخْتَلِفَانِ فِي أُخْرَى ، وَيَشْتَرِكَانِ فِي الْحُكْمِ مِنْ وَجْهٍ وَيَخْتَلِفَانِ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ ، فَافْتَرَقَا فِي الِاسْمِ : لِافْتِرَاقِهِمَا فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ وَبَعْضِ الْأَحْكَامِ . وَأَمَّا الْمَيْسِرُ : فَهُوَ الْقِمَارُ ، وَفِي تَسْمِيَتِهِ بِالْمَيْسِرِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَهْلَ الْيَسَارِ وَالثَّرْوَةِ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ . وَالثَّانِي : لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ عَلَى مَا يُنْزِلُهُ مِنْ غُنْمٍ أَوْ غُرْمٍ . قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ [ الْبَقَرَةِ : 219 ] فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِثْمَ الْخَمْرِ : أَنَّ شَارِبَهُ يُؤْذِي النَّاسَ إِذَا سَكِرَ . وَإِثْمَ الْمَيْسِرِ : أَنَّ صَاحِبَهُ يَظْلِمُ النَّاسَ إِذَا عُومِلَ . وَهَذَا قَوْلُ السُّدِّيِّ . وَالثَّانِي : أَنَّ إِثْمَ الْخَمْرِ : أَنْ يَزُولَ عَقْلُ شَارِبِهِ فَتَغْرُبُ عَنْهُ مَعْرِفَةُ خَالِقِهِ . وَإِثْمَ الْمَيْسِرِ : أَنْ يُوقِعَ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ وَيَصُدَّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ . وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَفِي مَنَافِعِ الْخَمْرِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وُفُورُ ثَمَنِهَا ، وَرِبْحُ تُجَّارِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَذَّةُ شُرْبِهَا ، وَمَا يَحْصُلُ فِي النَّفْسِ مِنَ الطَّرَبِ كَمَا قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ :

وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا وَأُسْدًا مَا يُنَهنِهُنَا اللِّقَاءُ وَكَقَوْلِ آخَرَ : وَإِذَا شَرِبْتُ فَإِنَّنِي رَبُّ الْخَوَرْنَقِ وَالسَّدِيرِ وَإِذَا صَحَوْتُ فَإِنَّنِي رَبُّ الشُّوَيْهَةِ وَالْبَعِيرِ وَفِي مَنَافِعِ الْمَيْسِرِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : اكْتِسَابُ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حِلٍّ . وَالثَّانِي : مَا يَحْصُلُ الْحَاضِرُ بِهِ مِنْ نَصِيبِ الْقَامِرِ . وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَجْهًا ثَالِثًا : وَهُوَ أَنَّ مَنْفَعَةَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ بِشَأْنِ اجْتِنَابِهِمَا ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِثْمَ الْحَادِثَ عَنْهُمَا أَكْثَرُ مِنَ النَّفْعِ الْعَائِدِ مِنْهُمَا قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ إِثْمَهُمَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ . قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ ، فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : فِي الْجِهَادِ . وَالثَّانِي : فِي الصَّدَقَاتِ . قُلِ الْعَفْوَ ، فِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : مَا طَالَبَتْ بِهِ النَّفْسُ عَفْوًا ، وَلَمْ يُسْأَلْ عَلَيْهَا . قَالَهُ طَاوُسٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمَا لَا طَرَفَ فِيهِ وَلَا تَقْصِيرَ ، قَالَهُ الْحَسَنُ . وَالثَّالِثُ : إِنَّهُ مَا فَضَلَ عَنِ الْأَهْلِ وَالْعِيَالِ . قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالرَّابِعُ : إِنَّهُ الْحَلَالُ الطَّيِّبُ . كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ تفسير فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : الصَّدَقَاتُ . وَالثَّانِي : الْأَحْكَامُ . وَالثَّالِثُ : الدَّلَائِلُ وَالْحُجَجُ . لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا أَنَّهَا دَارُ فَنَاءٍ فَتَزْهَدُونَ فِيهَا ، وَفِي الْآخِرَةِ أَنَّهَا دَارُ بَقَاءٍ فَتَعْمَلُونَ لَهَا .

وَالثَّانِي : تَتَفَكَّرُونَ فِي أَوَامِرِ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ فَتَسْتَذْكِرُونَ طَاعَةَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَثَوَابَهُ فِي الْآخِرَةِ . وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [ النِّسَاءِ : 43 ] فَفِي قَوْلِهِ : لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ نَهْيٌ عَنِ الصَّلَاةِ فِي حَالَةِ سُكْرٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ نَهْيٌ عَنِ الشُّرْبِ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ . وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَنْتُمْ سُكَارَى وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : مِنَ الشَّرَابِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَالثَّانِي : مِنَ النَّوْمِ ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ . وَأَصْلُ السُّكْرِ مِنَ الشَّرَابِ : مَأْخُوذٌ مِنْ سُكْرِ الْمَاءِ : لِأَنَّهُ يَسُدُّ مَجْرَى الْمَاءِ ، فالسُّكْرُ مِنَ الشَّرَابِ أَنْ يَسُدَّ طَرِيقَ الْعَقْلِ . وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : حَتَّى تُمَيِّزُوا مَا تَقُولُونَ مِنَ الْكَلَامِ . وَالثَّانِي : حَتَّى تَحْفَظُوا مَا تَتْلُونَ مِنَ الْقُرْآنِ : لِأَجْلِ مَا كَانَ فِيمَنْ أُمِرَ بِالصَّلَاةِ فِي سُكْرِهِ ، فَلَمْ يَقُمْ بِسُورَةِ قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى إِبَاحَةِ الْخَمْرِ فِي غَيْرِ زَمَانِ الصَّلَاةِ ، وَتَحْرِيمِهَا فِي زَمَانِ الصَّلَاةِ ، وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ إِذَا حَضَرَ فِعْلُهَا ، فَإِذَا صَلَّى صَفَتْ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ وَقْتُهَا بَاقِيًا . رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ ، قَالَ : كَانَ مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ يُنَادِي : لَا يَقْرَبَنَّ الصَّلَاةَ سَكْرَانُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ ، يَحْرُمُ فِيهِ عَلَى مَنْ صَلَّى وَمَنْ لَمْ يُصَلِّ ، وَفِي تَوْجِيهِ التَّحْرِيمِ إِلَيْهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : إِلَى السُّكْرِ دُونَ الشُّرْبِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ . وَالثَّانِي : إِلَى الشُّرْبِ وَالسُّكْرِ جَمِيعًا . رَوَى أَسْبَاطٌ ، عَنِ السُّدِّيِّ ، أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَانَتِ الْخَمْرُ حَلَالًا لَهُمْ ، يَشْرَبُونَهَا مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاءِ حَتَّى يَنْتَصِفَ النَّهَارُ ، فَيَقُومُونَ إِلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ وَهُمْ مُصِحُّونَ ،

ثُمَّ لَا يَشْرَبُونَهَا حَتَّى يُصَلُّوا الْعَصْرَ ، ثُمَّ يَشْرَبُونَهَا حَتَّى يَنْتَصِفَ اللَّيْلُ ، وَيَنَامُونَ ، ثُمَّ يَقُومُونَ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ وَهُمْ مُصِحُّونَ . وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّالِثَةُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهَا ، وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَنْصَابَ الْأَصْنَامُ الَّتِي تُعْبَدُ ، وَالْأَزْلَامَ قِدَاحٌ مِنْ خَشَبٍ يُسْتَقْسَمُ بِهَا . وَالثَّانِي : الْأَنْصَابُ حِجَارَةٌ حَوْلَ الْكَعْبَةِ ، كَانُوا يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا ، وَالْأَزْلَامُ تِسْعُ قِدَاحٍ ذَوَاتُ أَسْمَاءٍ حَكَاهَا الْكَلْبِيُّ يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا فِي أُمُورِهِمْ وَيَجْعَلُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمًا ، ثُمَّ قَالَ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَفِيهَا أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : سُخْطٌ . وَالثَّانِي : شَرٌّ . وَالثَّالِثُ : إِثْمٌ . وَالرَّابِعُ : حَرَامٌ . مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ أَيْ : مِمَّا يَدْعُو إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ وَيَأْمُرُ بِهِ : لِأَنَّهُ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِالْمَعَاصِي ، وَلَا يَنْهَى إِلَّا عَنِ الطَّاعَاتِ ، وَأَصْلُ الرِّجْسِ الْمُسْتَقْذَرُ الْمَمْنُوعُ مِنْهُ ، فَعَبَّرَ بِهِ عَنْ ذَلِكَ : لِكَوْنِهِ مَمْنُوعًا مِنْهُ ، ثُمَّ قَالَ فَاجْتَنِبُوهُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ أَنْ تَفْعَلُوهُ . وَالثَّانِي : فَاجْتَنِبُوا الشَّيْطَانَ أَنْ تُطِيعُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تَهْتَدُونَ . وَالثَّانِي : تَسْلَمُونَ . ثُمَّ قَالَ : إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ تفسير بِحُصُولِ الشَرِّ وَالتَنَافُرِ : لِحُدُوثِ السُّكْرِ وَغَلَبَةِ الْقِمَارِ ، وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الشَّيْطَانَ يَصُدُّكُمْ عَنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ سُكْرَ الْخَمْرِ يَصُدُّكُمْ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ ، وَعَنِ الصَّلَاةِ ، وَطَلَبُ الْغَلَبَةِ فِي الْقِمَارِ يَشْغَلُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ تفسير فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : مُنْتَهُونَ عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ مِنَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ . وَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الِاسْتِفْهَامِ وَعِيدًا وَتَغْلِيظًا . وَالثَّانِي : فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ عَنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ فِيمَا زَيَّنَهُ لَكُمْ مِنَ ارْتِكَابِ هَذِهِ الْمَعَاصِي . وَأَمَّا الْآيَةُ الرَّابِعَةُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ فِيهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْفَوَاحِشَ الزِّنَا خَاصَّةً ، وَمَا ظَهَرَ مِنْهَا الْأَنْكِحَةُ الْفَاسِدَةُ ، وَمَا بَطَنَ السِّفَاحُ الصَّرِيحُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْفَوَاحِشَ جَمِيعُ الْمَعَاصِي ، وَمَا ظَهَرَ مِنْهَا أَفْعَالُ الْجَوَارِحِ ، وَمَا بَطَنَ اعْتِقَادُ الْقُلُوبِ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِثْمَ : الْجِنَايَةُ فِي الْأَمْوَالِ . وَالْبَغْيَ : التَّعَدِّي عَلَى النُّفُوسِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْإِثْمَ : الْخَمْرُ . وَالْبَغْيَ : السُّكْرُ . وَقَدْ ذَكَرْنَا شَاهِدَهُمَا ، فَسَمَّاهُمَا بِمَا يَحْدُثُ عَنْهُمَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْأَرْبَعِ فِي الْخَمْرِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِأَيِّهِمَا وَقَعَ التَّحْرِيمُ في الخمر بأي آية في القرآن ؟ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ كَانَ بِالْآيَةِ الْأُولَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ [ الْبَقَرَةِ : 219 ] وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ : كَثِيرٌ . لِأَنَّهُ مَا كَثُرَ إِثْمُهُ لَمْ يَجُزِ اسْتِبَاحَتُهُ ، فَوَقَعَ بِهَا التَّحْرِيمُ ، وَكَانَ مَا بَعْدَهَا مُؤَكِّدًا . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ اسْتَقَرَّ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ لِمَا فِيهَا مِنْ صَرِيحِ التَّحْرِيمِ ، وَفِي غَيْرِهَا مِنْ طَرِيقِ الِاحْتِمَالِ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ ، أَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ اسْتَقَرَّ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ إِلَى قَوْلِهِ : فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ . رَوَى عَبْدُ الْوَهَّابِ ، عَنْ عَوْفٍ عَنْ أَبِي الْقَمُوصِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ ، قَالَ : أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْخَمْرِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، فَأَوَّلُ مَا أَنْزَلَ : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [ الْبَقَرَةِ : 219 ] فَشَرِبَهَا قَوْمٌ ، وَامْتَنَعَ عَنْهَا قَوْمٌ . ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [ النِّسَاءِ : 43 ] فَامْتَنَعُوا عَنْهَا ، فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ ، وَشَرِبُوهَا فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ . ثُمَّ أَنْزَلَ : إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فَقَالَ عُمَرُ : انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا . فَاسْتَقَرَّ بِهَا التَّحْرِيمُ . فَرُوِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا عِنْدَ تَحْرِيمِهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ شَرِبُوهَا ، وَمَاتُوا قَبْلَ تَحْرِيمِهَا ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى :

لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا [ الْمَائِدَةِ : 93 ] فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مِنَ الْمُبَاحَاتِ غَيْرِ الْمُحَرَّمَاتِ . وَالثَّانِي : مِنَ الْخَمْرِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ إِذَا مَا اتَّقَوْا فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : فِي تَلَقِّي أَمْرِ اللَّهِ بِالْقَبُولِ . وَالثَّانِي : فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ . وَآمَنُوا يَعْنِي بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَعْنِي الْبِرَّ وَالْمَعْرُوفَ . ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا فِي هَذِهِ التَّقْوَى الثَّانِيَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَا غَيْرُ مَنْ خُوطِبَ بِالتَّقْوَى فِي الْأُولَى ، وَأَنَّ الْأُولَى لِمَنْ شَرِبَهَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ ، وَالثَّانِيَةَ لِمَنْ شَرِبَهَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ : فَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ ذِكْرُهَا لِاخْتِلَافِ الْمُخَاطَبِ بِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَا وَاحِدٌ ، وَإِنَّمَا تَكَرَّرَ ذِكْرُهَا : لِاخْتِلَافِ الْمُرَادِ بِهَا . فَعَلَى هَذَا : فِي الْمُرَادِ بِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُولَى فِعْلُ الطَّاعَاتِ . وَالثَّانِيَةُ : اجْتِنَابُ الْمَعَاصِي . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُولَى عَمَلُ الْفَرَائِضِ ، وَبِالثَّانِيَةِ عَمَلُ النَّوَافِلِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا فِي هَذِهِ التَّقْوَى الثَّالِثَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا الْإِقَامَةُ عَلَى التَّقْوَى . وَالثَّانِي : أَنَّهَا تَقْوَى الشُّبَهَاتِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهَا إِثَابَةُ الْمُحْسِنِ ، وَالْعَفْوُ عَنِ الْمُسِيءِ . وَحُكِيَ عَنْ قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ أَنَّهُ اسْتَبَاحَ الْخَمْرَ بِهَذِهِ الْآيَةِ [ الْمَائِدَةِ : 93 ] وَقَالَ : قَدِ اتَّقَيْنَا وَآمَنَّا ، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْنَا فِيمَا طَعِمْنَا . وَأَنَّ عَمْرَو بْنَ مَعْدِ يَكْرِبَ اسْتَبَاحَهَا : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ثُمَّ سَكَتَ وَسَكَتْنَا . فَرَدَّ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمَا : لِفَسَادِ تَأْوِيلِهِمَا فَرَجَعَا . وَلَمْ يَكُنْ لِخِلَافِهِمَا تَأْثِيرٌ فَصَارَ الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدًا عَلَى تَحْرِيمِهَا بِنَصِّ الْكِتَابِ ثُمَّ أَكَّدَهُ نَصُّ السُّنَّةِ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِتْعِ فَقَالَ : كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

قَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : شُرْبُ الْخَمْرِ أُمُّ الْخَبَائِثِ ، وَإِنَّ خَطِيئَةَ شُرْبِهَا لَتَعْلُو الْخَطَايَا ، كَمَا أَنَّ شَجَرَهَا يَعْلُو الشَّجَرَ . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَبَائِعَهَا وَمُشْتَرِيَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ وَسَاقِيَهَا وَشَارِبَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، فَيَحْرُمُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا مَعًا ، صِرْفًا وَمَمْزُوجَةً الخمر . وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ : أَنَّهَا تَحْرُمُ إِذَا كَانَتْ صِرْفًا ، وَلَا تَحْرُمُ إِذَا مُزِجَتْ بِغَيْرِهَا . لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : حُرِّمَتِ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا ، وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ . قَالُوا : وَلَيْسَتِ الْمَمْزُوجَةُ بِعَيْنِهَا ، فَلَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهَا التَّحْرِيمُ . وَهَذَا تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ : لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ عُمُومِ النَّصِّ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَلَوْ حَلَّتْ بِالْمَزْجِ لَبَطَلَ مَقْصُودُ التَّحْرِيمِ ، وَلَجَازَ إِذَا أُلْقِيَ فِيهَا حَصَاةٌ أَوْ عُودٌ أَنْ تَحِلَّ ، وَلَتُوصِّلَ إِلَى مُرَادِ شُرْبِهَا إِلَى الِاسْتِبَاحَةِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلنُّصُوصِ فِيهَا تَأْثِيرٌ ، وَسَنَذْكُرُ مَعْنَى الْحَدِيثِ مِنْ بَعْدُ . فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا لَمْ يَخْلُ حَالُ شَارِبِهَا مِنْ أَنْ يَسْتَحِلَّ شُرْبَهَا أَوْ لَا : فَإِنْ شَرِبَهَا مُسْتَحِلًّا ، كَانَ كَافِرًا بِاسْتِحْلَالِهَا : لِأَنَّهُ اسْتَحَلَّ مَا حَرَّمَهُ النَّصُّ . فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُرْتَدِّ فِي الْقِتَالِ إِنْ لَمْ يَتُبْ . وَإِنْ شَرِبَهَا غَيْرَ مُسْتَحِلٍّ لَمْ يَكْفُرْ . وَتَعَلَّقَ بِشُرْبِهَا ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ الخمر :

أَحَدُهَا : مَأْثَمُ التَّحْرِيمِ . وَالثَّانِي : الْفِسْقُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْعَدَالَةِ . وَالثَّالِثُ : وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ . وَسَوَاءٌ سَكِرَ مِنْ شُرْبِهَا أَوْ لَمْ يَسْكَرْ . وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ الْحَدَّ فِيهَا تَعْزِيرٌ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْفَى عَنْهُ ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا ، بَلْ هُوَ حَدٌّ . رَوَى شُعْبَةُ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَدَ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ . فَإِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الشُّرْبُ قَبْلَ الْحَدِّ ، أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدٌ وَاحِدٌ . فَإِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الشُّرْبُ بَعْدَ الْحَدِّ الخمر ، كُرِّرَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَمْ يُقْتَلْ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ ، ثُمِّ إِنْ شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ ، ثُمَّ إِنْ شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ ، ثُمَّ إِنْ شَرِبَ فَاقْتُلُوهُ . قَالُوا : فَأُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَجَلَدَهُ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الثَّانِيَةَ فَجَلَدَهُ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الثَّالِثَةَ فَجَلَدَهُ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الرَّابِعَةَ فَجَلَدَهُ ، وَوَضَعَ الْقَتْلَ فَكَانَتْ رُخْصَةٌ . ثُمَّ قَالَ الزُّهْرِيُّ لِمَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ ، وَمِخْوَلِ بْنِ رَاشِدٍ : كُونَا وَافِدَيِ الْعِرَاقَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَالْقَتْلُ مَنْسُوخٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ . وَإِنَّمَا قَالَ : وَغَيْرِهِ : لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُرْسَلٌ . وَالْمَرَاسِيلُ عِنْدَهُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ ، وَاخْتُلِفَ فِيمَا أَرَادَهُ بِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : حَدِيثُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : كُفْرٍ بَعْدَ إِيمَانٍ ، وَزِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ ، وَقَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ . وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ . وَالثَّانِي : أَرَادَ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ ، ثُمَّ إِنْ شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ ، ثُمَّ إِنْ شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ ثُمَّ إِنْ شَرِبَ فَاقْتُلُوهُ . فَأُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَجَلَدَهُ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الثَّانِيَةَ فَجَلَدَهُ ، ثَمَّ أُتِيَ بِهِ الثَّالِثَةَ فَجَلَدَهُ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الرَّابِعَةَ فَجَلَدَهُ ، وَوَضَعَ الْقَتْلَ . وَقَدْ رَوَى زَكَرِيَّا السَّاجِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ ، وَسَمَّى الرَّجُلَ بِنُعْمَانَ .

وَهَذَا الْحَدِيثُ مُسْنَدٌ ، وَلَمْ يَرْوِهِ الشَّافِعِيُّ ، وَإِنْ أَشَارَ إِلَيْهِ . فَثَبَتَ أَنَّ الْقَتْلَ مَنْسُوخٌ ، فَهَذَا حُكْمُ الْخَمْرِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْأَنْبِذَةُ الْمُسْكِرَةُ سِوَى الْخَمْرِ حكمها ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِجْرَاءِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ عَلَيْهَا . فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَفُقَهَاءُ الْحَرَمَيْنِ : إِلَى أَنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِذَةِ قَلِيلُهُ حَرَامٌ . وَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْخَمْرِ فِي التَّحْرِيمِ وَالنَّجَاسَةِ وَالْحَدِّ ، سَوَاءٌ كَانَ نَيِّئًا أَوْ مَطْبُوخًا ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ . وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ إِلَى إِبَاحَتِهِ ، فَأَبَاحَ بَعْضُهُمْ جَمِيعَ الْأَنْبِذَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَمَّا عَصِيرُ الْعِنَبِ إِذَا لَمْ يَمَسَّهُ طَبْخٌ حكمه فَهُوَ الْخَمْرُ الَّذِي يَحْرُمُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ ، وَيُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِ وَوُجُوبِ الْحَدِّ فِي شُرْبِهِ ، فَإِنْ طُبِخَ فَذَهَبَ ثُلُثَاهُ حَلَّ ، وَلَا حَدَّ فِيهِ حَتَّى يُسْكِرَ ، وَإِنْ ذَهَبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثِهِ فَهُوَ حَرَامٌ ، وَلَا حَدَّ فِيهِ حَتَّى يُسْكِرَ . وَمَا عُمِلَ مِنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ حكمه ، فَجَمِيعُهُ حَلَالٌ ، طُبِخَ أَوْ لَمْ يُطْبَخْ ، أَسْكَرَ أَوْ لَمْ يُسْكِرْ ، وَلَا حَدَّ فِيهِ حَتَّى يُسْكِرَ ، وَيَحْرُمُ مِنْهُ الْقَدَحُ الْمُسْكِرُ ، وَجَمِيعُ الْأَنْبِذَةِ عِنْدَهُ طَاهِرَةٌ ، وَإِنْ حَرُمَتْ سِوَى الْخَمْرِ ، وَلَا يَنْطَلِقُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا اسْمُ الْخَمْرِ ، وَلَا يُعَلَّلُ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فَصَارَ الْخِلَافُ مَعَهُ مُشْتَمِلًا عَلَى خَمْسَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : هَلْ يَنْطَلِقُ عَلَى الْأَنْبِذَةِ الْمُسْكِرَةِ اسْمُ الْخَمْرِ ؟ عِنْدَنَا يَنْطَلِقُ وَعِنْدَهُ لَا يَنْطَلِقُ . وَالثَّانِي : هَلْ يَحْرُمُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا ؟ عِنْدَنَا يَحْرُمُ ، وَعِنْدَهُ لَا يَحْرُمُ . وَالثَّالِثُ : هَلْ تَنْجَسُ كَالْخَمْرِ ؟ عِنْدَنَا تَنْجَسُ ، وَعِنْدَهُ لَا تَنْجَسُ . وَالرَّابِعُ : هَلْ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ الْحَدِّ بِالشُّرْبِ أَوْ بِالسُّكْرِ ؟ عِنْدَنَا بالشُّرْبِ ، وَعِنْدَهُ بِالسُّكْرِ . وَالْخَامِسُ : هَلْ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ مُعَلَّلٌ أَوْ غَيْرُ مُعَلَّلٍ ؟ عِنْدَنَا مُعَلَّلٌ وَعِنْدَهُ غَيْرُ مُعَلَّلٍ . وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى إِبَاحَةِ النَّبِيذِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَإِنْ كَانَ مَذْهَبُهُ فِيهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّفْصِيلِ : بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا [ النَّحْلِ : 67 ] . والسَّكَرُ : هُوَ الْمُسْكِرُ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَقَتَادَةَ . فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى إِبَاحَتِهِ . وَبِمَا رَوَى أَبُو عَوْنٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : حُرِّمَتِ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ :

إِبَاحَةُ النَّبِيذِ : لِأَنَّهُ حَرَّمَ السُّكْرَ دُونَ الْمُسْكِرِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْخَمْرِ وَأَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ غَيْرُ مُعَلَّلٍ : وَلِأَنَّهُ حَرَّمَهَا بِعَيْنِهَا لَا لِعِلَّةٍ ، وَاسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ مَنْصُورٍ ، عَنْ مَخْلَدٍ ، عَنْ سَعْدٍ ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ الْأَنْصَارِيِّ ، قَالَ : عَطِشَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَاسْتَسْقَى ، فَأُوتِيَ بِنَبِيذٍ مِنَ السِّقَايَةِ ، فَشَمَّهُ وَقَطَّبَ وَجْهَهُ ، وَدَعَا بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ ، فَصَبَّ عَلَيْهِ ، وَشَرِبَ مِنْهُ ، وَقَالَ : إِذَا غَلَتْ عَلَيْكُمْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةُ ، فَاكْسِرُوهَا بِالْمَاءِ . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ يُنْبَذُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّبِيذُ فَيَشْرَبُهُ الْيَوْمَ وَالْغَدَ وَبَعْدَ الْغَدِ إِلَى مَسَاءِ الثَّالِثَةِ ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِهِ فَيُسْتَقَى الْخَدَمُ ، أَوْ يُهْرَاقَ . وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا سَقَاهُ الْخَدَمَ . وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنْبَذُ لَهُ فِي سِقَاءٍ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَتَوْرٌ مِنْ حِجَارَةٍ . وَرَوَى أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ النَّبِيذِ أَحَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ ؟ فَقَالَ : حَلَالٌ . وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ نَصٌ وَفِعْلٌ فِي إِبَاحَةِ النَّبِيذِ . وَاسْتَدَلَّ بِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الدَّيْلَمِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنَّ لَنَا أَعْنَابًا فَمَا نَصْنَعُ بِهَا ؟ فَقَالَ : زَبِّبُوهَا . فَقُلْنَا : مَا نَصْنَعُ بِالزَّبِيبِ ؟ قَالَ : أَنْبِذُوهُ عَلَى عَشَائِكُمْ ، وَاشْرَبُوهُ عَلَى غَدَائِكُمْ ، وَأَنْبِذُوهُ عَلَى غَدَائِكُمْ وَاشْرَبُوهُ عَلَى عَشَائِكُمْ ، وَأَنْبِذُوهُ فِي الشِّنَانِ يُرِيدُ الْجِلْدَ وَلَا تَنْبِذُوا فِي الْقُلَلِ ، فَإِنَّهُ إِنْ تَأَخَّرَ عَنْ عَصْرِهِ صَارَ خَلًّا . وَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ : الظُّرُوفُ لَا تُحَرِّمُ شَيْئًا ، فَاشْرَبُوا وَلَا تَسْكَرُوا .

وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : انْظُرُوا هَذِهِ الْأَسْقِيَةَ إِذَا اغْتَلَمَتْ عَلَيْكُمْ فَاقْطَعُوا مُتُونَهَا بِالْمَاءِ . وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَشْوَانَ ، فَقَالَ لَهُ : أَشَرِبْتَ خَمْرًا ؟ فَقَالَ لَهُ : لَا ، وَاللَّهِ مَا شَرِبْتُهَا مُنْذُ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ . قَالَ : فَمَاذَا شَرِبْتَ ؟ قَالَ : الْخَلِيطَيْنِ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى النَّبِيذِ اسْمُ الْخَمْرِ ، وَلَا يَحْرُمُ بِخِلَافِ الْخَمْرِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ : اشْرَبُوا وَلَا تَسْكَرُوا ، فَإِنِ اشْتَدَّ عَلَيْكُمْ فَاكْسِرُوهُ بِالْمَاءِ وَاسْتَدَلَّ بِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : " شَهِدْتُ تَحْرِيمَ النَّبِيذِ كَمَا شَهِدْتُمْ ، ثُمَّ شَهِدْتُ تَحْلِيلَهُ ، فَحَفِظْتُ وَنَسِيتُمْ " . فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ : أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، فَدَعَا بِعُشَرٍ مِنْ نَبِيذٍ شَدِيدٍ ، فَقَالَ : اشْرَبْ فَأَخَذْتُهُ فَشَرِبْتُ فَمَا كِدْتُ أَسْبِقُهُ ، ثُمَّ أَخَذَ فَشَرِبَ ثُمَّ قَالَ : يَا عُتْبَةُ ، إِنَّنَا نَنْحَرُ كُلَّ يَوْمٍ جَزُورًا وَدَكَهَا وَأَطَايِبَهَا ، فَلِمَنْ حَضَرَ مِنْ آفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عُنُقُهَا ، فَلِآلِ عُمَرَ نَأْكُلُ هَذَا اللَّحْمَ الْغَلِيظَ ، وَنَشْرَبُ هَذَا النَّبِيذَ الشَّدِيدَ ، يَقْطَعُهُ فِي بُطُونِنَا أَنْ يُؤْذِيَنَا . وَهَذَا فِعْلٌ مُنْتَشِرٌ لَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَصَارَ كَالْإِجْمَاعِ . وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ سَكْرَانَ فَجَلَدَهُ ، فَقَالَ : إِنَّمَا شَرِبْتُ مِنْ إِدَوَاتِكَ . فَقَالَ : إِنَّمَا أَضْرِبُكَ عَلَى السُّكْرِ مِنْهَا ، وَلَا أَضْرِبُكَ عَلَى الشُّرْبِ . فَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ السُّكْرِ دُونَ الشُّرْبِ . وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَضَافَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى ، وَسَقَاهُ نَبِيذًا ، فَلَمَّا دَخَلَ اللَّيْلُ وَأَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ دَفَعَهُ إِلَى خَادِمِهِ قَنْبَرٍ ، وَمَعَهُ مِزْهَرٌ لِيَهْدِيَهُ إِلَى بَيْتِهِ ، وَالْمِزْهَرُ : السِّرَاجُ ، وَقَالَ لَهُ : اهْدِهِ . يَعْنِي إِلَى مَنْزِلِهِ لِسُكْرِهِ . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : مَا مِنْ جَمَاعَةٍ يَجْلِسُونَ عَلَى شَرَابٍ إِلَّا وَيَنْصَرِفُونَ عَنْهُ وَقَدْ حَرُمَ عَلَيْهِمْ . يَعْنِي أَنَّهُمْ لَا يَقْتَصِرُونَ عَلَى مَا لَا يُسْكِرُ حَتَّى يَتَجَاوَزُوهُ إِلَى مَا يُسْكِرُ .

وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : إِنْ شَرِبَ أَحَدُكُمْ تِسْعَةَ أَقْدَاحٍ فَلَمْ يَسْكَرْ فَهُوَ حَلَالٌ ، وَإِنْ شَرِبَ الْعَاشِرَ فَسَكِرَ فَهُوَ حَرَامٌ . فَهَذَا مَا عَاضَدَ السُّنَّةَ مِنْ آثَارِ الصَّحَابَةِ ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ كَثِيرًا . فَأَمَّا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ الْمَعَانِي فَمِنْ وُجُوهٍ ، مِنْهَا : أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَنْبِذَةِ : لِأَمْرَيْنِ لُغَةً وَشَرْعًا : أَحَدُهُمَا : اخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ بِاسْمٍ يَنْتَفِي عَنِ الْآخَرِ ، فَيُقَالُ لِعَصِيرِ الْعِنَبِ : خَمْرٌ ، وَلَيْسَ بِنَبِيذٍ . وَيُقَالُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَشْرِبَةِ : نَبِيذٌ ، وَلَيْسَ بِخَمْرٍ . وَقَدْ قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ فِي شِعْرِهِ : دَعِ الْخَمْرَ يَشْرَبْهَا الْغُوَاةُ فَإِنَّنِي رَأَيْتُ أَخَاهَا مُجْزِيًا لِمَكَانِهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْهَا أَوْ تَكُنْهُ فَإِنَّهُ أَخُوهَا غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلِبَانِهَا فَأَخْبَرَ أَنَّ النَّبِيذَ غَيْرُ الْخَمْرِ ، وَهُوَ مِنْ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ الْمُحْتَجِّ بِقَوْلِهِ فِي اللُّغَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى حُكْمُ الْخَمْرِ فِي النَّبِيذِ مِنْ تَكْفِيرِ مُسْتَحِلِّهِ وَتَفْسِيقِ شَارِبِهِ ، انْتَفَى عَنْهُ اسْمُ الْخَمْرِ : لِأَنَّ مَا عَلِقَ بِالِاسْمِ مِنْ حُكْمٍ لَمْ يَزَلْ مَعَ مَوْجُودِ الِاسْمِ ، كَمَا أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا عَلِقَ بِعِلَّةٍ لَمْ يَزَلْ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ . وَمِنْهَا : أَنَّ تَحْرِيمَ الْأَنْبِذَةِ مَا يَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى ، وَمَا عَمَّ بِهِ الْبَلْوَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ثَبَاتُهُ عَامًّا ، وَمَا لَمْ يَكُنْ ثَبَاتُهُ كَانَ نَقْلُهُ مُتَوَاتِرًا ، وَلَيْسَ فِيهِ تَوَاتُرٌ ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ التَّحْرِيمُ . وَمِنْهَا : أَنَّ جَمِيعَ الْأَشْرِبَةِ قَدْ كَانَتْ حَلَالًا ، وَتَحْرِيمُهَا نُسِخَ ، وَالنَّسْخُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالنَّصِّ ، والنَّصُّ مُخْتَصٌّ بِالْخَمْرِ دُونَ النَّبِيذِ ، فَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَإِبَاحَةِ النَّبِيذِ . وَمِنْهَا : أَنَّ النَّبِيذَ بِالْمَدِينَةِ عَامٌّ وَالْخَمْرُ فِيهَا نَادِرٌ : لِأَنَّ النَّبِيذَ يُعْمَلُ مِنْ ثِمَارِهَا ، وَالْخَمْرُ يُجْلَبُ إِلَيْهَا مِنَ الشَّامِ وَالطَّائِفِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : حُرِّمَتِ الْخَمْرُ وَلَيْسَ بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا شَيْءٌ . فَلَوِ اسْتَوَيَا فِي التَّحْرِيمِ ، لَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَى بَيَانِ تَحْرِيمِ النَّبِيذِ نَصًّا أَحْوَجَ مِنْهُمْ إِلَى بَيَانِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ ، فَلَمَّا عَدَلَ بِالنَّصِّ عَنِ النَّبِيذِ إِلَى الْخَمْرِ دَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِهَا بِالتَّحْرِيمِ دُونَ النَّبِيذِ . وَمِنْهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى : مَا حَرَّمَ شَيْئًا إِلَّا وَأَغْنَى عَنْهُ بِمُبَاحٍ مِنْ جِنْسِهِ ، فَإِنَّهُ حَرَّمَ الزِّنَا وَأَبَاحَ النِّكَاحَ ، وَحَرَّمَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَأَبَاحَ لَحْمَ الْجَمَلِ ، وَحَرَّمَ الْحَرِيرَ وَأَبَاحَ الْقُطْنَ وَالْكِتَّانَ ، وَحَرَّمَ الْغَارَةَ وَأَبَاحَ الْغَنِيمَةَ ، وَحَرَّمَ التَّعَدِّيَ وَالْغَلَبَةَ وَأَبَاحَ الْجِهَادَ ، وَقَدْ حَرَّمَ

اللَّهُ الْخَمْرَ فَوَجَبَ أَنْ يُغْنِيَ عَنْهَا بِمُبَاحٍ مِنْ جِنْسِهَا . وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا مَا يُغْنِي عَنْهَا سِوَى النَّبِيذِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ . وَمِنْهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى : قَدْ وَعَدَنَا بِالْخَمْرِ فِي الْجَنَّةِ وَرَغَّبَ فِيهَا أَهْلَ الطَّاعَةِ ، وَمَا لَا تُعْرَفُ لَذَّتُهُ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ التَّرْغِيبُ فِيهِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَبِيحُوا مَا تَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى لَذَّتِهَا ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ النَّبِيذِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَحِلَّ لَهُ النَّبِيذُ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ التَّرْغِيبَاتِ ، فَهَذِهِ دَلَائِلُ مَنْ أَبَاحَ النَّبِيذَ مِنْ نُصُوصٍ وَمَعَانٍ .

فَصْلٌ : وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهِ النبيذ : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ : إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [ الْمَائِدَةِ : 191 ] وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي النَّبِيذِ كَوُجُودِهِ فِي الْخَمْرِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي التَّحْرِيمِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي التَّعْلِيلِ . وَمِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ أَيُّوبُ ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ . فَدَلَّ عَلَى تَسْمِيَةِ النَّبِيذِ خَمْرًا ، وَعَلَى تَحْرِيمِهِ كَالْخَمْرِ . وَرَوَى طَاوُسٌ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : كُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ . فَإِنْ قِيلَ : قَدْ رَوَى عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ ، أَنَّهُ قَالَ : ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ لَا تَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ . وَلَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ . وَمَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ . فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ أَثْبَتُ وَأَعْلَمُ بِطَرِيقِ الْحَدِيثِ وَصِحَّتِهِ مِنْ يَحْيَى ، وَقَدْ أَثْبَتَ هَذَا الْحَدِيثَ ، وَرَوَاهُ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إِنْكَارُ هَذَا الْحَدِيثِ إِذَا رَوَاهُ الثِّقَةُ ، حَتَّى يُبَيِّنَ وَجْهَ فَسَادِهِ ، وَقَدْ رَوَاهُ مَنْ ذَكَرْنَا . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْأَخْذَ بِهِ وَالْعَمَلَ عَلَيْهِ قَدْ سَبَقَ يَحْيَى ، فَلَمْ يَكُنْ حُدُوثُ قَدْحِهِ مُؤَثِّرًا . فَإِنْ قِيلَ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُعَلِّمُنَا الْأَسْمَاءَ ، وَإِنَّمَا يُعَلِّمُنَا الْأَحْكَامَ ، لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَدْ شَارَكُوهُ فِي مَعْرِفَتِهَا لِتَقَدُّمِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ عَلَى مَجِيءِ الشَّرْعِ . فَفِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ عَنْهُ الْأَسْمَاءُ شَرْعًا ، إِذَا تَعَلَّقَتْ عَلَيْهَا أَحْكَامٌ ، كَمَا تُؤْخَذُ الْأَحْكَامُ : لِأَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ فِي اللُّغَةِ الدُّعَاءَ ، فَنَقَلَهَا الشَّرْعُ إِلَى أَفْعَالِهَا ، وَكَذَلِكَ

الزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَنْقُلَ اسْمَ النَّبِيذِ إِلَى الْخَمْرِ . وَالثَّانِي : أَنَّ النَّبِيذَ نَوْعٌ مِنَ الْخَمْرِ ، وَاسْمُ الْخَمْرِ أَعَمُّ ، وَدَخَلَ فِي اسْمِ الْأَعَمِّ ، وَهُوَ الْخَمْرُ عُمُومًا وَانْفَرَدَ بِاسْمِ النَّبِيذِ خُصُوصًا ، فَبَيَّنَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ . وَقَدْ رَوَى عَبِيدُ بْنُ الْأَبْرَصِ وَهُوَ شَاعِرٌ جَاهِلِيٌّ سَبَقَ وُرُودَ الشَّرْعِ : وَقَالُوا هِيَ الْخَمْرُ تُكْنَى الطِّلَا كَمَا الذِّئْبُ يُكْنَى أَبَا جَعْدَةَ وَالطِّلَاءُ : اسْمُ نَوْعٍ مِنْهُ يَخْتَصُّ بِالْمَطْبُوخِ دُونَ النِّيءِ . رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ ، عَنِ ابْنِ مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ ، قَالَ : سَمِعْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا . وَسَنَذْكُرُ مِنْ أَنْوَاعِ أَسْمَائِهَا مَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْخَمْرِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ : مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، أَنَّهَا قَالَتْ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِتْعِ . فَقَالَ : كلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ . فَإِنْ قِيلَ : الَّذِي أَسْكَرَ هُوَ الْقَدَحُ الْأَخِيرُ الَّذِي ظَهَرَ بِهِ السُّكْرُ وَهُوَ حَرَامٌ وَمَا قَبْلَهُ غَيْرُ مُسْكِرٍ ، فَكَانَ حَلَالًا . فَفِيهِ سِتَّةُ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّكْرِ صِفَةُ جِنْسِهِ ، فَانْطَلَقَ عَلَى قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ ، كَمَا يُقَالُ فِي الطَّعَامِ . وَالثَّانِي : أَنَّ تَعْلِيقَ التَّحْرِيمِ بِالْأَخِيرِ يُوجِبُ تَعْلِيقَهُ بِالْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ : لِأَنَّ أَوَّلَ الْأَخِيرِ لَا يُسْكِرُ كَأَوَّلِ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ كَانَ أَوَّلُ الْأَخِيرِ حَرَامًا كَآخِرِهِ ، فَكَذَلِكَ الْأَوَّلُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا كَالْأَخِيرِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَيْسَ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْخَمْرِ الْأَوَّلِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَخِيرَ الْمُحَرَّمَ ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَمَيِّزٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْكُلُّ حَرَامًا . وَالرَّابِعُ : أَنَّ كُلَّ مِقْدَارٍ مِنَ الْخَمْرِ يَجُوزُ أَنْ يُسْكِرَ : لِأَنَّ الصَّغِيرَ يُسْكَرُ بِقَلِيلِهِ كَمَا يُسْكَرُ الْكَبِيرُ بِكَثِيرِهِ ، وَمِنَ النَّاسِ مِنْ يَسْكَرُ بِقَلِيلِهِ ، وَمِنْهُمْ مِنْ لَا يَسْكَرُ بِكَثِيرِهِ ، فَصَارَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ مُسْكِرًا ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا . وَالْخَامِسُ : أَنَّ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنَ الْخَمْرِ تَأْثِيرًا فِي السُّكْرِ ، وَالْقَدَحُ الْأَوَّلُ مَبْدَأُهُ وَالْقَدَحُ الْأَخِيرُ مُنْتَهَاهُ ، فَصَارَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ مُسْكِرًا ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا ، كَالضَّرْبِ الْقَاتِلِ يَكُونُ بِالسَّوْطِ الْأَوَّلِ مَبْدَأُ الْأَلَمِ ، وَالْأَخِيرِ غَايَتُهُ ، وَالْجَمِيعُ قَاتِلٌ .

وَالسَّادِسُ : أَنَّ الْأَخِيرَ الَّذِي يُسْكِرُ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ مُسْكِرٌ إِلَّا بَعْدَ شُرْبِهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ تَعْلِيقُ التَّحْرِيمِ بِهِ . وَقَدْ رَوَى هَاشِمُ بْنُ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ أَوَّلُهُ وَآخِرُهُ . وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، وَقَالَتْ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَا أَسْكَرَ الْفَرْقُ مِنْهُ ، فَاللَّحْسَةُ مِنْهُ حَرَامٌ . وَالْفَرْقُ : أَحَدُ مَكَايِيلِ الْعَرَبِ ، وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ رَطْلًا . لِأَنَّ لَهُمْ أَرْبَعَةُ مَكَايِيلَ : الْمُدُّ : وَهُوَ رِطْلٌ وَثُلُثٌ . وَالْقِسْطُ : وَهُوَ ضِعْفُ الْمُدِّ ، رِطْلَانِ وَثُلُثَانِ . وَالصَّاعُ : وَهُوَ ضِعْفُ الْقِسْطِ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ . وَالْفَرْقُ : وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَضْعَافِ الصَّاعِ ، سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا . فَدَلَّ هَذَا عَلَى تَحْرِيمِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، بِأَسَانِيدَ ثَابِتَةٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ . وَرَوَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَخَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَنْهَاكُمْ عَنْ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا أَرَادَ بِتَحْرِيمِ قَلِيلِهِ الْأَخِيرَ الَّذِي يَظْهَرُ بِهِ السُّكْرُ ، فَصَارَ هُوَ الْمُحَرَّمَ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْكَثِيرِ الَّذِي لَمْ يُسْكِرْ . فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ هَذَا تَكَلُّفُ تَأْوِيلٍ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ فَكَانَ مُطَّرَحًا . وَالثَّانِي : أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَعُمُّ الْخَمْرَ وَالنَّبِيذَ ، فَلَمَّا لَمْ يُحْمَلْ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فِي الْخَمْرِ لَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَيْهِ فِي النَّبِيذِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ إِذَا حُرِّمَ الْقَلِيلُ كَانَ تَحْرِيمُ الْكَثِيرِ أَغْلَظَ ، كَالْخَمْرِ إِذَا حُرِّمَتْ بِغَيْرِ سُكْرٍ ، كَانَ تَحْرِيمُهَا بِالسُّكْرِ أَغْلَظَ . رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ شَرِبَ خَمْرًا لَا تُقْبَلُ لَهُ صَلَاةٌ سَبْعَةَ أَيَّامٍ ، وَمَنْ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110