كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي


مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " فَإِنْ سَلَّمَ بَعْضُهُمْ لَمْ يَكُنْ لِبَعْضٍ إِلَّا أَخْذُ الْكُلِّ ، أَوِ التَّرْكُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . لَا يَجُوزُ لِلشُّفَعَاءِ أَنْ يُفَرِّقُوا صَفْقَةَ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ ضَرَرًا بِإِدْخَالِ مِثْلِهِ مِنَ الضَّرَرِ ، فَإِذَا عَفَا أَحَدُ الشُّفَعَاءِ الثَّلَاثَةِ كَانَ لِلْآخَرَيْنِ أَنْ يَأْخُذَا جَمِيعَ الشِّقْصِ ، أَوْ يَعْفُوَا عَنْهُ . وَلَوْ عَفَا اثْنَانِ فَكَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَهُ ، أَوْ يَعْفُوَ عَنْهُ ، فَلَوْ أَخَذَهَا الْحَاضِرُ مِنَ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ رَدَّهَا بِعَيْبٍ كَانَ لِمَنْ قَدِمَ مِنَ الْغَائِبَيْنِ أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ ، أَوْ يَذَرَ ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْحَاضِرِ بِالْعَيْبِ كَالْعَفْوِ عَنِ الشُّفْعَةِ ، فَلَوْ كَانَ الشَّفِيعُ وَاحِدًا أَخَذَ جَمِيعَ الشِّقْصِ ، أَوْ يَعْفُو عَنْهُ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يَكُونُ عَفْوًا . فَأَمَّا إِنْ ضَمِنَ الشَّفِيعُ عَنِ الْمُشْتَرِي ثَمَنَ الشِّقْصِ لِلْبَائِعِ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي صَحَّ الشِّرَاءُ ، وَلَزِمَ الضَّمَانُ ، وَكَانَ الشَّفِيعُ عَلَى شُفْعَتِهِ ، وَلَا يَكُونُ ضَمَانُهُ لِلثَّمَنِ تَسْلِيمًا لِلشُّفْعَةِ ، وَهَكَذَا لَوْ ضَمِنَ الشَّفِيعُ عَنِ الْبَائِعِ دَرَكَ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي بِأَمْرِ الْبَائِعِ ، أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ صَحَّ الشِّرَاءُ ، وَلَزِمَ الضَّمَانُ وَكَانَ الشَّفِيعُ عَلَى شُفْعَتِهِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَسْلِيمًا لِلشُّفْعَةِ . وَهَكَذَا لَوْ شَرَطَ الْبَائِعُ خِيَارَ الشَّفِيعِ فَاخْتَارَ الشَّفِيعُ إِمْضَاءَ الْبَيْعِ ، كَانَ لَهُ الشُّفْعَةُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ تَسْلِيمًا مِنْهُ لَهَا ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِهِ قَدْ تَمَّ فَكَانَ هُوَ الْبَائِعَ . وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ شُفْعَةَ الشَّفِيعِ مُسْتَحَقَّةٌ بِتَمَامِ الْبَيْعِ فَإِنْ فَعَلَ مَا يَتِمُّ بِهِ الْبَيْعُ كَانَ أَوْلَى أَنْ تَجِبَ لَهُ الشُّفْعَةُ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ ضَمِنَ الثَّمَنَ ، فَطَالَبَهُ الْبَائِعُ بِهِ ، فَغَرِمَهُ لَهُ ، ثُمَّ أَخَذَ الشِّقْصَ بِالشُّفْعَةِ نَظَرَ : فَإِنْ كَانَ ضَمَانُهُ لِلثَّمَنِ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي ، فَقَدْ بَرِئَ الشَّفِيعُ مِمَّا اسْتَحَقَّهُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ قَدَّمَ تَعْجِيلَهُ عَنْهُ إِلَى الْبَائِعِ ، وَإِنْ كَانَ ضَمَانُهُ لِلثَّمَنِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُشْتَرِي لَمْ يَبْرَأْ بِمَا اسْتَحَقَّهُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ مِنَ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ تَطَوَّعَ بِغُرْمِهِ لِلْبَائِعِ وَيُحْكُمُ بِدَفْعِهِ ثَانِيَةً إِلَى الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ كَانَ الشَّفِيعُ ضَمِنَ لِلْمُشْتَرِي دَرَكَ الْمَبِيعِ ثُمَّ أَخَذَ مِنْهُ الشِّقْصَ بِشُفْعَتِهِ ثُمَّ اسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُشْتَرِي بِعُهْدَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا اسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ لَمْ يَرْجِعَ عَلَى الشَّفِيعِ بِعُهْدَتِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا وَكَّلَ الشَّفِيعُ فِي الشِّرَاءِ فَاشْتَرَى لِمُوَكِّلِهِ وَجَبَتْ لَهُ الشُّفْعَةُ فِيمَا اشْتَرَاهُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَلَوْ وَكَّلَ فِي الْبَيْعِ فَبَاعَ لِمُوَكِّلِهِ وَجَبَتْ لَهُ الشُّفْعَةُ فِيمَا بَاعَهُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا شُفْعَةَ لَهُ فَأَوْجَبَهَا فِيمَا اشْتَرَاهُ ، وَلَمْ يُوجِبْهَا فِيمَا بَاعَهُ . وَهَذَا خَطَأٌ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْبَيْعَ يَتِمُّ بِبَائِعٍ وَمُشْتَرٍ ، ثُمَّ لَمْ يَمْنَعُ كَوْنُهُ مُشْتَرِيًا لِغَيْرِهِ مِنْ ثُبُوتِ شُفْعَتِهِ ، وَيَجِبُ أَنْ لَا يَمْنَعَ كَوْنُهُ بَائِعًا لِغَيْرِهِ مِنْ ثُبُوتِ شُفْعَتِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ بَعْدَ إِبْرَامِ الْبَيْعِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ مَا تَقَدَّمَ كَالْعَفْوِ ، وَالثَّالِثُ : أَنَّ بَيْعَهُ حِرْصٌ مِنْهُ عَلَى ثُبُوتِ شُفْعَتِهِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا


وَكَانَتْ دَارًا بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَوَكَّلَ أَحَدُهُمَا شَرِيكَهُ أَنْ يَبِيعَ نِصْفَ حِصَّتِهِ مَعَ نِصْفِ حِصَّةِ نَفْسِهِ ، فَبَاعَ الْوَكِيلُ نِصْفَ الدَّارِ صَفْقَةً ، رُبُعَهَا لِنَفْسِهِ ، وَرُبُعَهَا لِمُوكِلِهِ ، فَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَأْخُذَ لِنَفْسِهِ بِالشُّفْعَةِ مَا بَاعَهُ لِمُوَكِّلِهِ وَهُوَ الرُّبْعُ ، وَلِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَأْخُذَ لِنَفْسِهِ بِالشُّفْعَةِ مَا بَاعَهُ وَكِيلُهُ ، وَلَيْسَ لِشَرِيكٍ ثَالِثٍ إِنْ كَانَ أَنْ يُفَرِّقَ الصَّفْقَةَ بِشُفْعَتِهِ فَيَأْخُذَ إِحْدَى الْحِصَّتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ وَاحِدٌ ، وَقِيلَ : إِمَّا أَنْ تَأْخُذَ الْكُلَّ بِشُفْعَتِكَ ، أَوْ تَذَرَ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا وَلِيُّ الْيَتِيمِ وَوَصِيُّ الْمَيِّتِ إِذَا بَاعَا وِلَايَةَ مَا هُمَا شَفِيعَانِ فِيهِ فَفِي شُفْعَتِهِمَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الشُّفْعَةَ لَهُمَا فِيهِ كَالْوَكِيلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ لَا شُفْعَةَ لَهُمَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْوَكِيلِ أَنَّ الْوَكِيلَ يَنُوبُ عَنْ حَيٍّ جَائِزِ التَّصَرُّفِ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِدْرَاكِ ظُلَامَتِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا اشْتَرَى الْعَامِلُ فِي الْقِرَاضِ شِقْصًا مِنْ دَارٍ لِلْعَامِلِ فِيهِ حِصَّةٌ بِقَدِيمِ مِلْكٍ وَلِرَبِّ الْمَالِ فِيهَا حِصَّةٌ بِقَدِيمِ مِلْكٍ ، فَلِلْعَامِلِ وَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَأْخُذَا الْحِصَّةَ الْمُشْتَرَاةَ فِي الْقِرَاضِ بِشُفْعَتِهِمَا ؛ لِأَنَّ مَالَ الْقِرَاضِ يَتَمَيَّزُ عَنْ أَمْوَالِهِمَا . فَإِنْ عَفَوَا عَنْهَا ثُمَّ اشْتَرَى الْعَامِلُ مِنَ الدَّارِ حِصَّةً ثَانِيَةً فَشُفْعَتُهُ الثَّانِيَةُ أَثْلَاثًا : ثُلُثُهَا لِرَبِّ الْمَالِ ، وَثُلُثُهَا لِلْعَامِلِ ، وَثُلُثُهَا فِي الْقِرَاضِ . فَلَوْ كَانَ فِي الدَّارِ حِصَّةٌ رَابِعَةٌ لِأَجْنَبِيٍّ ؛ كَانَ لَهُ ثُلُثُ الشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ ثَلَاثَةٌ ثُمَّ يَكُونُ الثُّلُثَانِ الْبَاقِيَانِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : ثُلُثٍ لِرَبِّ الْمَالِ ، وَثُلُثٍ لِلْعَامِلِ ، وَثُلُثٍ فِي الْقِرَاضِ . فَتَتَمَيَّزُ شُفْعَةُ الْحِصَّةِ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ : ثَلَاثَةٌ مِنْهَا وَهِيَ الثُّلُثُ لِلْأَجْنَبِيِّ ، وَالسِّتَّةُ الْبَاقِيَةُ أَثْلَاثًا كُلُّ ثُلُثٍ مِنْهَا سَهْمَانِ لِمَا ذَكَرْنَا .

مَسْأَلَةٌ لَوْ أَصَابَهَا هَدْمٌ مِنَ السَّمَاءِ إِمَّا أَخَذَ الْكُلَّ بِالثَّمَنِ وَإِمَّا تَرَكَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَكَذَلِكَ لَوْ أَصَابَهَا هَدْمٌ مِنَ السَّمَاءِ إِمَّا أَخَذَ الْكُلَّ بِالثَّمَنِ وَإِمَّا تَرَكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ اشْتَرَى شِقْصًا مِنْ دَارٍ فَانْهَدَمَتْ بِجَائِحَةٍ ، أَوْ جِنَايَةٍ الشفعة فيها ، أَوْ شِقْصًا مِنْ أَرْضٍ فَأَخَذَ السَّيْلُ بَعْضَهَا فَالَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا وَقَالَهُ فِي الْقَدِيمِ وَفِي كِتَابِ التَّفْلِيسِ مِنْ كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ : أَنَّ الشَّفِيعَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْبَاقِيَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، أَوْ يَدَعَ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْقَدِيمِ : إِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ هَذَيْنِ النَّقْلَيْنِ عَلَى خَمْسَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ ، وَأَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ : أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لِاخْتِلَافِ النَّقْلِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَأْخُذَ الْبَاقِيَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ كَالْعَبْدِ الْمَبِيعِ إِذَا ذَهَبَتْ عَيْنُهُ فِي يَدِ الْبَائِعِ


بِجَائِحَةٍ ، أَوْ جِنَايَةٍ كَانَ لِلْمُشْتَرِي إِذَا اخْتَارَ الْإِمْضَاءَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ كَذَلِكَ حَالُ الشُّفْعَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنْ يَأْخُذَ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ مَا تَنَاوَلَتْهُ الصَّفْقَةُ بِالثَّمَنِ مُقَسَّطٌ عَلَى أَجْزَائِهِ كَمَا لَوِ اشْتَرَى مَعَ الشِّقْصِ سَيْفًا أَخَذَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّهُ يَأْخُذُ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ قَوْلًا وَاحِدًا وَنَسَبَا إِلَى الْمُزَنِيِّ الْغَلَطَ فِيمَا نَقَلَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ لِلشَّافِعِيِّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَنْصُوصَاتِهِ ، وَإِنَّمَا رَدَّ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ قَوْلَهُمْ : إِنَّ مَا انْهَدَمَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ أُخِذَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، وَمَا انْهَدَمَ بِفِعْلِهِ ، أَوْ فِعْلِ غَيْرِهِ أُخِذَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ ، فَغَلِطَ الْمُزَنِيُّ فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إِلَى قَوْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ . كَمَا غَلِطَ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إِلَى قَوْلِ مَالِكٍ فِيمَا حَكَاهُ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ ، وَالنُّذُورِ : إِذَا حَلَفَ عَلَى غَرِيمِهِ أَنْ لَا يُفَارِقَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنْهُ ، فَأَخَذَهُ مِنْهُ بِحَقِّهِ عِوَضًا إِنْ كَانَ بِقِيمَةِ الْحَقِّ ، أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ حَنِثَ ، فَغَلِطَ وَإِنَّمَا ذَلِكَ قَوْلُ مَالِكٍ كَذَلِكَ هَاهُنَا ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الشُّفْعَةِ وَالْفَلَسِ بِفَرْضٍ مَضَى فِي كِتَابِ الْفَلَسِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي يَأْخُذُهُ بِكُلِّ الثَّمَنِ إِذَا ذَهَبَتِ الْآثَارُ وَكَانَتْ أَعْيَانُ الْآلَةِ وَالْبِنَاءِ بَاقِيَةً ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يَأْخُذُهُ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ إِذَا كَانَتْ أَعْيَانُ الْآلَةِ وَالْبِنَاءِ تَالِفَةً . وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ . فَالْمَوْضِعُ الَّذِي يَأْخُذُهُ بِكُلِّ الثَّمَنِ إِذَا هَدَمَهُ بِفِعْلٍ آدَمِيٍّ ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يَأْخُذُهُ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ ، إِذَا كَانَ هَدْمُهُ بِجَائِحَةٍ سَمَاوِيَّةٍ ؛ لِأَنَّهُ فِي هَدْمِ الْآدَمِيِّ قَدْ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِأَرْشِ النَّقْصِ ، فَلِذَلِكَ أَخَذَهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، وَفِي جَائِحَةِ السَّمَاءِ لَيْسَ يَرْجِعُ بِأَرْضِ النَّقْصِ ، فَلِذَلِكَ أَخَذَهَا بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَهَذَا الْمَذْهَبُ ضِدُّ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ . وَالْمَذْهَبُ الْخَامِسُ : أَنَّهُ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي يَأْخُذُهُ بِكُلِّ الثَّمَنِ إِذَا كَانَتِ الْعَرْصَةُ بَاقِيَةً وَإِنْ تَلِفَتِ الْآلَةُ ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يَأْخُذُهُ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ إِذَا ذَهَبَ بَعْضُ الْعَرْصَةِ بِسَيْلٍ أَوْ غَرَقٍ ؛ لِأَنَّ الْعَرْصَةَ مَقْصُودَةٌ ، وَالْآلَةُ تَبَعٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ قَاسَمَ وَبَنَى قِيلَ لِلشَّفِيعِ إِنْ شِئْتَ فَخُذْ بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ الْيَوْمَ ، أَوْ دَعْ ؛ لِأَنَّهُ بَنَى غَيْرَ مُتَعَدٍّ فَلَا يُهْدَمُ مَا بَنَى ، ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : هَذَا عِنْدِي غَلَطٌ وَكَيْفَ لَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا ، وَقَدْ بَنَى فِيمَا لِلشَّفِيعِ فِيهِ شِرْكٌ مُشَاعٌ وَلَوْلَا أَنَّ لِلشَّفِيعِ فِيهِ


شِرْكًا مَاكَانَ شَفِيعًا إِذْ كَانَ الشَّرِيكُ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ فِي الدَّارِ وَالْعَرْصَةِ بِحَقٍّ مُشَاعٍ فَكَيْفَ يُقَسَّمُ وَصَاحِبُ النَّصِيبِ وَهُوَ الشَّفِيعُ غَائِبٌ ، وَالْقَسْمُ فِي ذَلِكَ فَاسِدٌ ، وَبَنَى فِيمَا لَيْسَ لَهُ فَكَيْفَ يَبْنِي غَيْرَ مُتَعَدٍّ وَالْمُخْطِئُ فِي الْمَالِ وَالْعَامِدُ سَوَاءٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى عَرْصَةً بِأَمْرِ الْقَاضِي فَبَنَاهَا فَاسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ أَنَّهُ يَأْخُذُ عَرْصَتَهُ وَيَهْدِمُ الْبَانِي بِنَاءَهُ وَيَقْلَعُهُ فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَالْعَامِدُ وَالْمُخْطِئُ فِي بِنَاءِ مَا لَا يَمْلِكُ سِوَاءٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ اشْتَرَى شِقْصًا مِنْ دَارٍ وَقَاسَمَ عَلَيْهِ وَبَنَى فِي حِصَّتِهِ ، وَحَضَرَ الشَّفِيعُ مُطَالِبًا بِشُفْعَتِهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قِيلَ لِلشَّفِيعِ إِنْ شِئْتَ فَخُذِ الشِّقْصَ بِثَمَنِهِ وَبِقِيمَةِ الْبِنَاءِ قَائِمًا ، وَلَا يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى قَلْعِهِ ؛ لِأَنَّهُ بَنَاهُ غَيْرَ مُتَعَدٍّ . وَهَكَذَا عِمَارَةُ الْأَرْضِ لِلزَّرْعِ وَإِنْ كَانَتْ آثَارًا . قَالَ الْمُزَنِيُّ : هَذَا غَلَطٌ مِنَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إِنْ وَقَعَتْ مَعَ الشَّفِيعِ فَقَدْ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ وَصَحَّتِ الْقِسْمَةُ ، وَإِنْ لَمْ يُقَاسِمْهُ الشَّفِيعُ فَالْقِسْمَةُ بَاطِلَةٌ ، وَالشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ فَلَمْ يَجْتَمِعْ صِحَّةُ الْقِسْمَةِ مَعَ بَقَاءِ الشُّفْعَةِ . وَهَذَا الَّذِي اعْتَرَضَ بِهِ الْمُزَنِيُّ عَلَى الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ تَنَافِي بَقَاءِ الشُّفْعَةِ وَصِحَّةِ الْقِسْمَةِ غَلَطٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَصِحُّ الْقِسْمَةُ مَعَ بَقَاءِ الشُّفْعَةِ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الشَّفِيعُ غَائِبًا ، وَقَدْ وَكَّلَ فِي مُقَاسَمَةِ شُرَكَائِهِ وَكِيلًا ، فَيُطَالِبَ الْمُشْتَرِي الْوَكِيلَ بِمُقَاسَمَتِهِ عَلَى مَا اشْتَرَى . فَيَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُقَاسِمَهُ لِتَوْكِيلِهِ فِي الْمُقَاسَمَةِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُوَكَّلٍ فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ ، وَيَكُونُ الشَّفِيعُ عَلَى شُفْعَتِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَيَكُونُ الْمُشْتَرِي غَيْرَ مُتَعَدٍّ فِي الْبِنَاءِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ لِلشَّفِيعِ الْغَائِبِ وَكِيلٌ فِي الْقِسْمَةِ فَيَأْتِي الْمُشْتَرِي الْحَاكِمَ فَيَسْأَلُهُ أَنْ يُقَاسِمَهُ عَنِ الْغَائِبِ . فَيَجُوزُ لِلْحَاكِمِ مُقَاسِمَةُ الْمُشْتَرِي إِذَا كَانَ الشَّرِيكُ بَعِيدًا لِغَيْبَةٍ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ لِلْغَائِبِ بِالشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ إِلَّا لِمُوَلًّى عَلَيْهِ ، وَلَا تَبْطُلُ شُفْعَةُ الْغَائِبِ بِمُقَاسَمَةِ الْحَاكِمِ عَنْهُ ، وَالْمُشْتَرِي غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِبِنَائِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يَذْكُرَ الْمُشْتَرِي لِلشَّفِيعِ ثَمَنًا مَوْفُورًا فَيَعْفُوَ عَنِ الشُّفْعَةِ لِوُفُورِ الثَّمَنِ وَيُقَاسِمَ الْمُشْتَرِيَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ بِبِنَائِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْكَذِبِ مُتَعَدٍّ فِي قَوْلِهِ لَا فِي قِسْمَتِهِ وَبِنَائِهِ ، فَصَارَ كَرَجُلٍ ابْتَاعَ دَارًا بِعَبْدٍ قَدْ دَلَّسَهُ بِعَيْبٍ ثُمَّ بَنَى وَوَجَدَ الْبَائِعُ بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَعَلَيْهِ إِذَا رَدَّ الْعَبْدَ وَاسْتَرْجَعَ الدَّارَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى الْمُشْتَرِي قِيمَةَ الْبِنَاءِ قَائِمًا ؛ لِأَنَّهُ بَنَى غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي فِعْلِهِ وَإِنْ دَلَّسَ كَانَ كَاذِبًا فِي قَوْلِهِ .


وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنْ يُنْكِرَ الْمُشْتَرِي الشِّرَاءَ ، وَيَدَّعِيَ الْهِبَةَ ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَا شُفْعَةَ عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ ، فَيُقَاسِمَهُ الشَّرِيكُ ثُمَّ يَبْنِيَ ، وَتَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بَعْدَ بِنَائِهِ بِالشِّرَاءِ فَالشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ مَعَ صِحَّةِ الْقِسْمَةِ ، وَلَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا بِالْبِنَاءِ مَعَ جُحُودِهِ لِلشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّهُ تُعَدَّى فِي الْقَوْلِ دُونَ الْفِعْلِ . وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنْ يَكُونَ الشَّفِيعُ طِفْلًا أَوْ مَجْنُونًا فَيُمْسِكُ الْوَلِيُّ عَنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ ، وَيُقَاسِمُ الْمُشْتَرِيَ ، ثُمَّ يَبْلُغُ الطِّفْلُ ، وَيَفِيقُ الْمَجْنُونُ فَتَكُونُ لَهُ الشُّفْعَةُ مَعَ صِحَّةِ الْقِسْمَةِ ، وَلَا يَكُونَ إِمْسَاكُ الْوَلِيِّ عَنِ الشُّفْعَةِ مُبْطِلًا لِلْقِسْمَةِ ، وَلَا مُقَاسَمَتُهُ مُبْطِلًا لِلشُّفْعَةِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّتِ الْقِسْمَةُ مَعَ بَقَاءِ الشُّفْعَةِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ ، وَبَطَلَ اعْتِرَاضُ الْمُزَنِيِّ بِهَا لَمْ يُجْبَرِ الْمُشْتَرِي عَلَى قَلْعِ بِنَائِهِ ، وَقِيلَ لِلشَّفِيعِ : إِنْ شِئْتَ فَخُذِ الشِّقْصَ بِثَمَنِهِ ، وَقِيمَةَ الْبِنَاءِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى قِلْعِ بِنَائِهِ ، وَلَا قِيمَةَ لَهُ عَلَى الشَّفِيعِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ أَسْبَقُ مِنْ بِنَائِهِ فَصَارَ كَالِاسْتِحْقَاقِ بِالْغَصْبِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ تَامُّ الْمِلْكِ قَبْلَ أَخْذِ الشِّقْصِ . أَلَا تَرَاهُ يَمْلِكُ النَّمَاءَ وَمَنْ بَنَى فِي مِلْكِهِ لَمْ يَتَعَدَّ كَالَّذِي لَا شُفْعَةَ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ مَنْ بَنَى فِي مِلْكِهِ لَمْ يَكُنْ جَوَازُ انْتِزَاعِهِ مِنْ يَدِهِ مُوجِبًا لِتَعَدِّيهِ وَنَقْضِ بِنَائِهِ كَالْمَوْهُوبِ لَهُ إِذَا بَنَى وَرَجَعَ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ مَوْضُوعَةٌ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَالَ بِالضَّرَرِ ، وَفِي أَخْذِ الْمُشْتَرِي وَعَدَمِ بِنَائِهِ ضَرَرٌ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنْ إِلْحَاقِهِ بِالْغَصْبِ فَهُوَ تَعَدِّي الْغَاصِبِ بِتَصَرُّفِهِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَلَيْسَ الْمُشْتَرِي مُتَعَدِّيًا لِتَصَرُّفِهِ فِي مِلْكِهِ .

فَصْلٌ : فَلَوْ قَالَ الشَّفِيعُ : أَنَا آخُذُ مِنَ الشِّقْصِ مَا لَا بِنَاءَ فِيهِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ للذي بنى في شقصه وجاء الشفيع يطالب بشفعته لَمْ يَجُزْ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَلَوْ قَالَ : أَنَا آخُذُهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ لَمْ يُجْبَرْ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ بِهِبَةٍ لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُلْزَمُ بِتَرْكِهِ بِمَا اسْتَضَرَّ بِهَا . فَلَوْ قَالَ : أَنَا أُقِرُّ بِنَاءَهُ فِي الْأَرْضِ لَمْ يُجْبَرْ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا عَارِيَةٌ يُسْتَحَقُّ الرُّجُوعُ فِيهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ إِقْرَارُ بِنَاءٍ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ قَدْ يَلْحَقُهُ فِيهِ ضَرَرٌ .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَخَذَ الشَّفِيعُ بِشُفْعَتِهِ شِقْصًا مِنْ دَارٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ ، أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ فَبَنَى فِيهِ وَغَرَسَ ثُمَّ اسْتُحِقَّ ذَلِكَ مِنْ يَدِهِ ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ مَأْخُوذٌ بِقَلْعِ بِنَائِهِ ، وَغَرْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ بَنَى فِي غَيْرِ مِلْكِهِ ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ لِلْمَبِيعِ وَلِحَقِّ الشَّفِيعِ رَجَعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْبِنَاءِ ، وَالْغَرْسِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْمَبِيعَ لَكَانَ مَأْخُوذًا بِقَلْعِ بِنَائِهِ فِي


حَقِّ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ لِلْمَبِيعِ وَحْدَهُ دُونَ حَقِّ الشَّفِيعِ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا نَقَصَ مِنْ بِنَائِهِ وَغَرْسِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِهِ عَلَى الْبَائِعِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ وَحْدَهُ عَلَى قَابِضِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَلَعَهُ بِحَقٍّ . وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ بِقَبْضِهِ مُتَعَدٍّ ، دُونَ الشَّفِيعِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الضَّرَرِ بِنَقْضِ الْبِنَاءِ ، وَالْغَرْسِ رَاجِعًا عَلَى الْبَائِعِ الْمُتَعَدِّي دُونَ الشَّفِيعِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُ الضَّرَرُ مَنْ لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ وَيَزَالُ عَنِ الْمُتَعَدِّي ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ شِقْصًا مِنْ أَرْضٍ فَزَرَعَهَا الشَّفِيعُ ثُمَّ حَصَلَ الِاسْتِحَقَاقُ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ لِجَمِيعِ الْأَرْضِ مِنَ الْمَبِيعِ وَحَقِّ الشَّفِيعِ أُخِذَ الشَّفِيعُ بِقَلْعِ زَرْعِهِ ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُشْتَرِي بِنَقْضِهِ ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لِمَا كَانَ بِيَدِهِ وَظَالِمٌ لِمَا أَخَذَهُ بِشُفْعَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ لِلشِّقْصِ الْمَبِيعِ وَحْدَهُ وَجَبَ إِقْرَارُ زَرْعِهِ إِلَى وَقْتِ حَصَادِهِ ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الزَّرْعِ غَيْرُ مُتَأَبِّدٍ بِخِلَافِ الْبِنَاءِ الْمُتَأَبِّدِ وَلَيْسَ مِنَ الشَّفِيعِ تَعَدٍّ مَقْصُودٌ يُؤْخَذُ لِأَجْلِهِ بِقَلْعِ زَرْعِهِ لَكِنْ عَلَيْهِ لِمُسْتَحَقِّ الشِّقْصَ أُجْرَةُ مِثْلِهِ مِنْ وَقْتِ زَرْعِهِ إِلَى وَقْتِ حَصَادِهِ وَهَلْ يَرْجِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِمَا غَرِمَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ مِنْ وَقْتِ الزَّرْعِ إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَرْجِعُ الشَّفِيعُ بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِهِ عَلَى الْبَائِعِ كَمَا قُلْنَا فِيمَا نَقَصَ بِقَلْعِ الْبَنَّاءِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا رُجُوعَ لِلشَّفِيعِ بِشَيْءٍ مِنْهُ بِخِلَافِ الْبِنَاءِ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْبَنَّاءَ اسْتُهْلِكَ عَلَيْهِ بِالْقَلْعِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِغُرْمِهِ ، وَفِي الزَّرْعِ هُوَ الْمُسْتَهْلِكُ لِمَنَافِعِ الْمُدَّةِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِأُجْرَتِهَا .

مَسْأَلَةٌ لَوْ كَانَ الشِّقْصُ فِي النَّخْلِ فَزَادَتْ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ كَانَ الشِّقْصُ فِي النَّخْلِ فَزَادَتْ كَانَ لَهُ أَخْذُ زَائِدِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا النَّخْلُ فَلَا يَخْلُو حَالُ مَبِيعِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ الشفعة فيه : أَحَدُهَا : أَنْ تُبَاعَ مُفْرَدَةً عَنِ الْأَرْضِ فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا فَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَشْجَارِ كَالْأَبْنِيَةِ الَّتِي إِذَا أُفْرِدَتْ بِالْعَقْدِ لَمْ تَجِبْ فِيهَا الشُّفْعَةُ ؛ لِأَنَّهَا مِمَّا يُنْقَلُ عَنِ الْأَرْضِ ، وَالْمَنْقُولُ لَا شُفْعَةَ فِيهِ كَالزَّرْعِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تُبَاعَ النَّخْلُ مَعَ الْأَرْضِ فَتَجِبُ فِيهَا الشُّفْعَةُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ بِخِلَافِ الزَّرْعِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتْبَعُ الْأَرْضَ فِي الْبَيْعِ وَيَتْبَعُهَا النَّخْلُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ إِفْرَادَ الزَّرْعِ فِي الْأَرْضِ غَيْرُ مُسْتَدَامٍ ، وَإِفْرَادَ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ مُسْتَدَامٌ . وَأَوْجَبَ أَبُو حَنِيفَةَ الشُّفْعَةَ فِي الزَّرْعِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ لِاتِّصَالِهِ بِهَا ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ كَافٍ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُبَاعَ النَّخْلُ مَعَ قَرَارِهَا مِنَ الْأَرْضِ مُفْرَدَةً عَمَّا يَتَخَلَّلُهَا مِنْ بَيَاضِ


الْأَرْضِ فَفِي وُجُوبِ الشُّفْعَةِ فِيهَا وَجْهَانِ ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْبِنَاءِ مَعَ قَرَارِهِ دُونَ الْأَرْضِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِيهِ الشُّفْعَةُ ؛ لِأَنَّهُ فَرْعٌ لِأَصْلٍ ثَابِتٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ قَرَارَ النَّخْلِ يَكُونُ تَبَعًا لَهَا فَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الشُّفْعَةُ فِيهَا مُفْرَدَةً لَمْ تَجِبْ فِيهَا وَفِي تَبَعِهَا ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَكَانَ الْبَيْعُ شِقْصًا مِنْ أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ وَشَجَرٍ فَزَادَتْ بَعْدَ الْبَيْعِ وَقَبْلَ أَخْذِ الشَّفِيعِ لِغَيْبَتِهِ أَوْ عُذْرٍ لَا تَبْطُلُ بِهِ الشُّفْعَةُ لَمْ يَخْلُ حَالُ الزِّيَادَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُثْمِرَةً ، أَوْ غَيْرَ مُثْمِرَةٍ ، فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ غَيْرَ مُثْمِرَةٍ كَالْفَسِيلِ إِذَا طَالَ وَامْتَلَى ، وَالْغَرْسِ إِذَا اسْتَغْلَظَ وَاسْتَوَى فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ بِزِيَادَتِهِ ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَتَمَيَّزُ مِنَ الزِّيَادَةِ تَبَعًا لِأَصْلِهِ . وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُتَمَيِّزَةً كَالثَّمَرَةِ الْحَادِثَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا عِنْدَ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُؤَبَّرَةً ، أَوْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ فَإِنْ كَانَتْ مُؤَبَّرَةً فَلَا حَقَّ فِيهَا لِلشَّفِيعِ . وَهِيَ مِلْكٌ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مُؤَبَّرًا مِنَ الثِّمَارِ لَا يَتْبَعُ أَصْلَهُ وَعَلَى الشَّفِيعِ أَنْ يُقِرَّهَا عَلَى نَخْلِهِ إِلَى وَقْتِ الْجِذَاذِ ، وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ فَفِي اسْتِحْقَاقِ الشَّفِيعِ لَهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَسْتَحِقُّهَا لِاتِّصَالِهَا كَمَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا وَهَذَا قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَسْتَحِقُّهَا وَتَكُونُ لِلْمُشْتَرِي لِتُمَيُّزِهَا عَنِ الْأَصْلِ كَالْمُؤَبَّرَةِ وَهَذَا قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الشُّفْعَةِ وَالْبَيْعِ ، أَنَّ الْبَيْعَ نَقْلُ مِلْكٍ بَعِوَضٍ عَنْ مُرَاضَاةٍ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ مِنَ الثِّمَارِ تَبَعًا لِلْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِبْقَائِهَا بِالْعَقْدِ ، وَالشُّفْعَةُ اسْتِحْقَاقُ مِلْكٍ بِغَيْرِ مُرَاضَاةٍ فَلَمْ يَمْلِكْ بِهَا إِلَّا مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ . وَهَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَا اسْتُحِقَّ بِغَيْرِ مُرَاضَاةٍ كَالشُّفْعَةِ ، وَالتَّفْلِيسِ ، أَوْ يَكُونُ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالرَّهْنِ ، وَالْهِبَةِ وَهَلْ يَكُونُ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ مِنَ الثِّمَارِ تَبَعًا لِأَصْلِهَا ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَانَتِ النَّخْلُ عِنْدَ ابْتِيَاعِ الشِّقْصِ مِنْهَا مُثْمِرَةً في الشفعة نُظِرَ . فَإِنْ كَانَتْ مُؤَبَّرَةً لَمْ تَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ إِلَّا بِشَرْطٍ ، وَإِذَا شُرِطَتْ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ فِيهَا حَقٌّ وَأَخَذَ الشِّقْصَ مِنَ النَّخْلِ دُونَ الثَّمَرِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ كَمَنِ اشْتَرَى شِقْصًا وَعَبْدًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَأْخُذُهَا مَعًا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَفِيمَا ذَكَرْنَا دَلِيلٌ عَلَيْهِ . وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ دَخَلَتْ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُهَا عِنْدَ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً عَلَى حَالِهَا غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ ، أَوْ قَدْ تَأَبَّرَتْ . فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ مَعَ الشِّقْصِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ قَوْلًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاوَلُهَا تَبَعًا وَهِيَ فِي الْحَالِ تَبَعٌ فَجَرَتْ مَجْرَى النَّخِيلِ ، وَإِنْ تَأَبَّرَتْ عِنْدَ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ :


أَحَدُهُمَا : لَا حَقَّ فِيهَا لِلشَّفِيعِ لِتُمَيُّزِهَا عَمَّا يَكُونُ تَبَعًا ، فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ مِنَ النَّخْلِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهَا مَعَ الشِّقْصِ تَبَعًا وَقْتَ الْعَقْدِ لِاتِّصَالِهِ فَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الشَّفِيعِ مِنْهُ عِنْدَ انْفِصَالِهِ كَالْبِنَاءِ إِذَا انْهَدَمَ ، وَلَا فَرْقَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ عَلَى نَخْلِهَا ، أَوْ مَجْذُوذَةً ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ جُذَّتْ فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهَا ؛ لِانْفِصَالِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى نَخْلِهَا أَخَذَهَا بِشُفْعَتِهِ مُؤَبَّرَةً ، وَغَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ وَتَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ .

مَسْأَلَةٌ لَا شُفْعَةَ فِي بِئْرٍ لَا بَيَاضَ لَهَا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَا شُفْعَةَ فِي بِئْرٍ لَا بَيَاضَ لَهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الْقَسْمَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَا سِوَى الْعَقَارِ ، وَالْأَرَضِينَ لَا شُفْعَةَ فِيهِ ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَإِنَّ الْعَقَارَ ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ يُقْسَمُ جَبْرًا فَفِيهِ الشُّفْعَةُ وِفَاقًا ، وَضَرْبٌ لَا يُقْسَمُ جَبْرًا ، فَفِيهِ الشُّفْعَةُ عِنْدَ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ خَوْفًا مِنْ سُوءِ الْمُشَارَكَةِ وَاسْتِدَامَةِ الضَّرَرِ بِهِ وَلِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهٌ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا شُفْعَةَ فِيهِ لِلْأَمْنِ مِنْ مَئُونَةِ الْقِسْمَةِ . وَعَلَيْهِ يَكُونُ التَّفْرِيعُ : فَمِنْ ذَلِكَ الْبِئْرُ الْمُشْتَرَكَةُ إِذَا بِيعَ شِقْصٌ مِنْهَا الشفعة فيها فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَوْلَهَا بَيَاضٌ لَهَا أَمْ لَا فَإِنْ كَانَ حَوْلَهَا بَيَاضٌ لَهَا ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ وَاسِعَةً تَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ كَالْأَرْضِ الَّتِي يُحْفَرُ فِيهَا بِئْرٌ وَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لِلْقَسْمِ فَالشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ فِي الْبِئْرِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ كَمَا تَجِبُ فِي النَّخْلِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ ؛ لِأَنَّ الْبِئْرَ إِذَا حَصَلَتْ فِي حِصَّةِ أَحَدِهِمَا أُمْكِنَ لِلْآخَرِ حَفْرُ مِثْلِهَا فِي حِصَّتِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْبَيَاضُ ضَيِّقًا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ؛ لِأَنَّهُ حَرِيمٌ لِلْبِئْرِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُفْرَدَ عَنْهَا عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي قَدْرِ الْحَرِيمِ فَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الْبِئْرِ الَّتِي لَيْسَ حَوْلَهَا بَيَاضٌ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ لِقِلَّتِهِ وَتَعَذُّرِ إِفْرَادِهِ عَنْهَا تَبَعٌ لَهَا ، وَإِذَا اتَّسَعَ صَارَتِ الْبِئْرُ تَبَعًا لَهُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، وَلَمْ يَكُنْ حَوْلَ الْبِئْرِ بَيَاضٌ ، أَوْ كَانَ يَسِيرًا لَا يَحْتَمِلُ الْقَسْمَ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ وَاسِعَةً أَوْ ضَيِّقَةً ، فَإِنْ كَانَتْ ضَيِّقَةً لَا تَحْتَمِلُ الْقَسْمَ فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ فِي بِئْرٍ ، وَلَا فَحْلٍ ، وَالْأُرُقُ تَقْطَعُ كُلَّ شُفْعَةٍ . " يَعْنِي بِالْفَحْلِ : فَحْلَ النَّخْلِ يَكُونُ لِلرَّجُلِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ شِرْكٍ فِي الْأَرْضِ ، وَالْأُرُقُ الْمَعَالِمُ .


وَإِنْ كَانَتِ الْبِئْرُ وَاسِعَةً تَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ كَآبَارِ الْبَادِيَةِ فَلَهَا حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ تَكُونَ يَابِسَةً لَمْ يُوصَلْ إِلَيْهَا الْمَاءُ فَالشُّفْعَةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا قُسِمَتْ ، وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَمْكَنَ أَنْ يَحْجِزَهَا وَيَحْفِرَهَا بِئْرًا . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَاءٌ قَدْ وَصَلَ الْحَفْرُ إِلَيْهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ يَنْبُوعُ الْمَاءِ مِنْ جَمِيعِهَا ، وَخَارِجًا مِنْ سَائِرِ قَرَارِهَا ، فَالشُّفْعَةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ ؛ لِأَنَّهَا إِذَا قُسِمَتْ وَجُعِلَ بَيْنَ الْحِصَّتَيْنِ حَاجِزًا كَانَتْ بِئْرًا مُفْرَدَةً . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ يَنْبُوعُ الْمَاءِ فِي جَانِبٍ مِنْهَا فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ أَمْكَنَ قِسْمَتُهَا لِسِعَتِهَا فَقَدْ يَحْصُلُ يَنْبُوعُ الْمَاءِ فِي جَانِبِهَا لِإِحْدَى الْحِصَّتَيْنِ فَتَصِيرُ إِحْدَى الْحِصَّتَيْنِ بِئْرًا ، وَالْأُخْرَى غَيْرَ بِئْرٍ فَلَمْ يَصِحَّ الْقَسْمُ ، وَلَمْ تَجِبِ الشُّفْعَةُ .

فَصْلٌ : وَمِنْ ذَلِكَ الْحَمَّامُ الشفعة فيه ، فَإِنْ كَانَ وَاسِعًا ذَا بُيُوتٍ إِذَا قُسِمَ حَصَلَ فِي كُلِّ حِصَّةٍ بُيُوتٌ يُمْكِنُ أَنْ يَصِيرَ حَمَّامًا وَكَانَ أَتُّونُهُ وَاسِعًا إِذَا قُسِّمَ بَيْنَ الْحِصَّتَيْنِ اتَّسَعَتْ كُلُّ حِصَّةٍ بِمَا صَارَ لَهَا مِنَ الْأَتُّونُ وَاكْتَفَى بِهِ قُسِّمَ جَبْرًا وَوَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا تَقِلُّ بُيُوتُهُ إِذَا قُسِّمَتْ عَنْ كِفَايَةِ حَمَّامٍ وَيَصْغُرُ أَتُّونُهُ عَنِ الْقِسْمَةِ . وَتَزُولُ عَنْهُ الْمَنْفَعَةُ كَالَّذِي نُشَاهِدُهُ فِي وَقْتِنَا مِنْ أَحْوَالِ الْحَمَّامَاتِ فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَا حَمَّامَيْنِ فَقَدْ يَصِيرُ أَحَدُ الْحَمَّامَيْنِ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فَهَلَّا وَجَبَتْ فِيهَا الشُّفْعَةُ ؟ قُلْتُ : إِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْقِسْمَةُ بِحَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ ، وَلَا يَلْزَمُ فِي الْقِسْمَةِ عِنْدَنَا أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِأَحَدِ الْحَمَّامَيْنِ ، وَالْآخَرُ بِالْآخِرِ إِلَّا عَنْ تَرَاضٍ .

فَصْلٌ لَا شُفْعَةَ فِي الرَّحَاءُ إِنْ بِيِعَ مُنْفَرِدًا عَنْ أَرْضِهِ

فَصْلٌ : وَمِنْ ذَلِكَ الرَّحَاءُ فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ إِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا عَنْ أَرْضِهِ ، كَمَا لَا شُفْعَةَ فِي الْبِنَاءِ مُنْفَرِدًا ، وَإِنْ بِيعَ مَعَ أَرْضِهِ ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ ضَيِّقَةً كَبُيُوتِ الْأَرِقَّاءِ الَّتِي لَا سِعَةَ فِيهَا لِغَيْرِ الرَّحَاءِ فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْقَسِمُ جَبْرًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ وَاسِعَةً يَخْتَصُّ الرَّحَا بِمَوْضِعٍ مِنْهَا كَأَرْحَاءِ الْبَصْرَةِ فِي أَنْهَارِهَا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِطْلَاقِ بَيْعِ الْأَرْضِ هَلْ يُوجِبُ دُخُولَ الرَّحَاءِ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : أَنْ تَدْخُلَ فِيهِ عُلُوًّا ، وَسُفْلًا ، فَعَلَى هَذَا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ كَالْبِنَاءِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْعُلُوُّ ، وَلَا السُّفْلُ . فَعَلَى هَذَا لَا شُفْعَةَ فِيهِ إِنْ شُرِطَ فِي الْبَيْعِ كَالزَّرْعِ ، وَيَأْخُذُ الْأَرْضَ بِحِصَّتِهَا مِنَ الثَّمَنِ .


وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : يَدْخُلُ فِيهِ السُّفْلُ دُونَ الْعُلُوِّ ، فَعَلَى هَذَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي السُّفْلِ دُونَ الْعُلُوِّ . فَأَمَّا بَيْتُ الرَّحَاءِ فَدَاخِلٌ فِي الْبَيْعِ عَلَى الْوُجُوهِ كُلِّهَا ، وَالشُّفْعَةُ فِيهِ وَاجِبَةٌ كَسَائِرِ الْأَبْنِيَةِ .

فَصْلٌ : وَمِنْ ذَلِكَ الدُّولَابُ فِي الْأَرْضِ فَإِنْ أُفْرِدَ بِالْبَيْعِ فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ ، وَإِنْ بِيعَ مَعَ الْأَرْضِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : هَلْ يَقْتَضِي إِطْلَاقُ الْبَيْعِ دُخُولَهُ فِيهِ تَبَعًا لَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ تَبَعًا كَالْبِنَاءِ لِاتِّصَالِهِ ، فَعَلَى هَذَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ لِتَمَيُّزِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَا شُفْعَةَ فِيهِ . وَالثَّالِثُ : إِنْ كَانَ كَبِيرًا لَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ عَلَى حَالِهِ صَحِيحًا دَخَلَ فِي الْبَيْعِ وَوَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ تَبَعًا ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا يُمْكِنُ نَقْلُهُ عَلَى حَالِهِ صَحِيحًا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ ، وَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الشُّفْعَةُ .

فَصْلٌ : وَمِنْ ذَلِكَ الْمَعْدِنُ الشفعة فيه : وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ جَارِيًا كَمَعَادِنَ الْقَارِّ وَالنِّفْطِ ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ . إِنْ كَانَ ضَيِّقًا لَا يَصِيرُ مَا قُسِّمَ مَعْدِنًا فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ وَاسِعًا نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ يَنْبُوعُهُ فِي أَحَدِ جَوَانِبِهِ فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ يَنْبُوعُهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ فَفِيهِ الشُّفْعَةُ . ثُمَّ يُنْظَرُ : فَإِنْ كَانَ مَا يَنْبُعُ مِنْهُ يَجْتَمِعُ فِيهِ ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ فَهَلْ يَكُونُ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ وَقْتَ الْعَقْدِ دَاخِلًا فِي الْبَيْعِ ، وَمَأْخُوذًا بِالشُّفْعَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَدْخُلُ فِيهِ كَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ ، وَيُؤْخَذُ بِالشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ لِمَا فِيهِ الشُّفْعَةُ كَالثَّمَرَةِ غَيْرِ الْمُؤَبَّرَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ كَالْوَلَدِ الْمُنْفَصِلِ ، وَالثَّمَرَةِ الْمُؤَبَّرَةِ لِظُهُورِهِ كَامِلَ الْمَنْفَعَةِ . فَإِنْ شُرِطَ فِي الْعَقْدِ دَخَلَ فِيهِ ، وَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الشُّفْعَةُ . وَإِنْ كَانَ مَا يَنْبَعُ جَارِيًا لَا يَجْتَمِعُ فِيهِ ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ لَا يُمْلَكُ إِلَّا بِالْإِجَارَةِ ، وَالْأَخْذِ ، وَإِذَا خَرَجَ عَنْ مَعْدِنِهِ لَمْ يُمْنَعِ النَّاسُ مِنْهُ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ مَمْلُوكٌ قُبِلَ إِجَارَتُهُ ، وَلَهُ مَنْعُ النَّاسِ مِنْهُ ، فَإِذَا خَرَجَ عَنْ مَعْدِنِهِ ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَكُونُ دَاخِلًا فِي الْبَيْعِ إِذَا كَانَ ظَاهِرًا وَقْتَ الْعَقْدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ ؟ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمَعْدِنُ جَامِدًا كَمَعَادِنِ الصُّفْرِ ، وَالنُّحَاسِ فَكُلُّ مَا دَخَلَ فِيهِ دَاخِلٌ فِي الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ تُرْبَةُ الْمَعْدِنِ فَصَارَ كَالْأَرْضِ ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ قِسْمَتُهُ مُمْكِنًا ، وَتَصِيرُ كُلُّ حِصَّةٍ مِنْهُ إِذَا قُسِّمَتْ مَعْدِنًا وَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِهِ فَلَا شُفْعَةَ .

مَسْأَلَةٌ الطَّرِيقُ الَّتِي لَا تُمْلَكُ فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَأَمَّا الطَّرِيقُ الَّتِي لَا تُمْلَكُ فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا ، وَلَا بِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِ الشَّافِعِيِّ بِذَلِكَ فَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ ،


وَأَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ أَرَادَ بِهِ أَبَا حَنِيفَةَ فِي الدَّارِ أَنْ تَكُونَ عَلَى طَرِيقٍ نَافِذَةٍ فَلَا شُفْعَةَ فِي حَقِّهَا مِنَ الطَّرِيقِ مِنْ مَسْلَكٍ أَوْ فَنَاءٍ ، وَهَذَا إِجْمَاعٌ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكِ الْعَيْنِ وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَحِقُّ الْمَنْفَعَةِ ، وَلَا شُفْعَةَ بِهَذَا الطَّرِيقِ فِيمَا جَاوَرَ ، أَوْ قَابَلَ ، بِخِلَافِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَسْتَحِقَّ فِيهِ الشُّفْعَةَ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ بِهِ الشُّفْعَةَ ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ : أَرَادَ بِهِ مَالِكًا فِي الدَّارِ يَكُونُ لَنَا طَرِيقٌ مُسْتَحَقٌّ فِي دَارٍ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ مِلْكٍ فِي التُّرْبَةِ فَلَا شُفْعَةَ فِي هَذَا الطَّرِيقِ وَحْدَهَا ؛ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مُسْتَحَقَّةٌ وَلَيْسَتْ عَيْنًا مَمْلُوكَةً ، وَلَا شُفْعَةَ بِهَذَا الطَّرِيقِ فِيمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ فِيهِ مِنَ الْأَرْضِ ، وَلَا لِهَذِهِ الْأَرْضِ شُفْعَةٌ فِيمَا يُسْتَحَقُّ لَهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ ، بِخِلَافِ قَوْلِ مَالِكٍ فَإِنَّهُ جَعَلَ الشُّفْعَةَ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَاجِبَةً لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الدَّارَيْنِ فِي الْأُخْرَى وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : إِنَّمَا جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشُّفْعَةَ فِي كُلِّ مَالٍ لَمْ يُقْسَمْ فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ تُصْرَفْ فِيهِ فَفِيهِ الشُّفْعَةُ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَتَأَذَّى بِسُوءِ الِاسْتِطْرَاقِ كَمَا يَتَأَذَّى بِسُوءِ الِاشْتِرَاكِ فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَحِقَّ الشُّفْعَةَ بِهَا كَمَا يَسْتَحِقُّ بِأَحَدِهِمَا وَهَذَا خَطَأٌ ، لِرِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذَا قُسِمَتِ الْأَرْضُ وَحُدَّتْ فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ الْمُسْتَحَقَّةَ فِي الْأَمْلَاكِ لَا تُوجِبُ الشُّفْعَةَ كَالْإِجَارَةِ . وَلِأَنَّ تَمَيُّزَ الْأَمْلَاكِ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ كَصَرْفِ الطُّرُقِ وَلِأَنَّ مَا لَا يَمْلِكُ فِيهِ الشُّفْعَةَ فَأَوْلَى أَنْ لَا تُمْلَكَ بِهِ الشُّفْعَةُ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ ارْتِفَاعُ الشُّفْعَةِ بِوُقُوعِ الْحُدُودِ وَصَرْفِ الطُّرُقِ دَلِيلًا عَلَى ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ بِوُقُوعِ الْحُدُودِ وَبَقَاءِ الطُّرُقِ وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى طَلَبِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ ، فَنَسْتَعْمِلُ الْخَبَرَيْنِ فَنَقُولُ إِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ بِالْخَبَرِ الْأَوَّلِ ، وَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ ، وَلَمْ تُصْرَفِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ بِالْخَبَرِ الثَّانِي كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ ، أَوْ أُنْثَيَيْهِ تَوَضَّأَ . وَرُوِيَ مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ تَوَضَّأَ ، وَقَدْ قِيلَ : إِنَّمَا ذَكَرَ صَرْفَ الطُّرُقِ لِئَلَّا يَقُولَ قَائِلٌ : إِنَّ الطَّرِيقَ الْمَمْلُوكَةَ تُبْطِلُ الشُّفْعَةَ فِيهَا لِبُطْلَانِهَا فِي الْمَحْدُودِ عَنْهَا ، فَأَثْبَتَ الشُّفْعَةَ فِي الطَّرِيقِ مَعَ بُطْلَانِهَا فِي الْأَصْلِ ، وَأَمَّا التَّأَذِّي بِسُوءِ الِاسْتِطْرَاقِ فَلَيْسَ مُجَرَّدُ الْأَذَى عِلَّةً فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ الْخَوْفُ مِنْ مَئُونَةِ الْقِسْمَةِ ، وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ عَرْصَةُ الدَّارِ تَكُونُ مُحْتَمِلَةً لِلْقَسْمِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَمَّا عَرْصَةُ الدَّارِ تَكُونُ مُحْتَمِلَةً لِلْقَسْمِ ، وَلِلْقَوْمِ طَرِيقٌ إِلَى مَنَازِلِهِمْ فَإِذَا بِيعَ مِنْهَا شَيْءٌ فَفِيهِ الشُّفْعَةُ " .


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي عَرْصَةٍ تُحِيطُ بِهَا دُورٌ وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ أَرْبَابِ الدُّورِ الشفعة فيها مَرْفُوعَةٌ بَيْنَ أَهْلِهَا بِخِلَافِ الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ ، فَبَيْعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِحِصَّتِهِ جَائِزٌ ، وَالْبِنَاءُ فِيهَا شَائِعٌ فَإِذَا بَاعَ أَحَدُهُمْ دَارَهُ مَعَ حِصَّتِهَا مِنَ الْعَرْصَةِ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : إِنَّ الشُّفْعَةَ وَاجِبَةٌ فِي الدَّارِ الْمَحُوزَةِ وَفِي حِصَّتِهَا مِنَ الْعَرْصَةِ كَالْمَسْأَلَةِ الْمَاضِيَةِ ، وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا شُفْعَةَ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَتْ وَاسِعَةً تَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَيَنْتَفِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحِصَّتِهِ مِنَ الْعَرْصَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الدَّارِ الْمَبِيعَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهَا طَرِيقٌ مِنْ غَيْرِ الْعَرْصَةِ أَمْ لَا فَإِنْ كَانَ لَهَا طَرِيقٌ مِنْ غَيْرِ الْعَرْصَةِ وَجَبَتِ الشُّفْعَةُ لِحِصَّتِهَا مِنَ الثَّمَنِ وَيَكُونُ الْمُشْتَرِي بِدُخُولِهِ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ مُؤَثِّرًا لِتَفْرِيقِ صِفَتِهِ ، وَقَدْ سَقَطَ حَقُّ الْمُشْتَرِي مِنَ اسْتِطْرَاقِ الْعَرْصَةِ لِزَوَالِ مِلْكِهِ بِالشُّفْعَةِ عَمَّا اشْتَرَاهُ مِنَ الْعَرْصَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلدَّارِ الْمَبِيعَةِ طَرِيقٌ مِنْ غَيْرِ الْعَرْصَةِ فَفِي وُجُوبِ الشُّفْعَةِ فِي الْعَرْصَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ فِيهَا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ مَا لَا تَسْتَغْنِي الدَّارُ عَنْهُ فَهُوَ مِنْ مَرَافِقِهَا الَّتِي لَا يَصِحُّ إِفْرَادُهُ عَنْهَا ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُزَالَ الضَّرَرُ عَنِ الشُّرَكَاءِ بِإِدْخَالِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ عَلَى الْمُشْتَرِي . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الشُّفْعَةَ وَاجِبَةٌ فِي الْعَرْصَةِ وَيَبْطُلُ اسْتِطْرَاقُ الْمُشْتَرِي فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عِلْمٍ وَاخْتِيَارٍ فَصَارَ هُوَ الْمُضِرَّ بِنَفْسِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ الشُّفْعَةَ فِي الْعَرْصَةِ وَاجِبَةٌ وَحَقُّ الِاسْتِطْرَاقِ فِيهَا ثَابِتٌ بِغَيْرِ مِلْكٍ فِي التُّرْبَةِ لِزَوَالِ الضَّرَرِ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ ، وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَهُ يَكُونُ الْبَيْعُ جَائِزًا ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أُخِذَتْ حِصَّةُ الدَّارِ مِنَ الْعَرْصَةِ بِالشُّفْعَةِ وَاسْتَحَقَّ الْمُشْتَرِي الِاسْتِطْرَاقَ إِلَى دَارِهِ فِي الْعَرْصَةِ نُظِرَ فِي أَخْذِ الْحِصَّةِ فَإِنْ أَخْذَهَا جَمِيعُ الشُّرَكَاءِ فِي الْعَرْصَةِ فَلَهُ حَقُّ الِاسْتِطْرَاقِ عَلَى جَمِيعِهِمْ حَتَّى لَوِ اقْتَسَمُوا كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَطْرِقَ حِصَّةَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ وَإِنْ أَخَذَ الْحِصَّةَ أَحَدُهُمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ الِاسْتِطْرَاقَ فِي حِصَّةِ غَيْرِ الْآخِذِ مِنْهُ بِالشُّفْعَةِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الشُّرَكَاءِ حَتَّى لَوِ اقْتَسَمُوا لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِطْرَاقُ حِصَّةِ غَيْرِهِ وَلِأَنَّ طَرِيقَ الدَّارِ صَارَ فِي حِصَّتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الِاسْتِطْرَاقَ عَلَى جَمِيعِهِمْ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مَنْفَعَةٌ شَائِعَةٌ فِي جَمِيعِ الْعَرْصَةِ فَلَمْ يَصِحَّ إِجَارَتُهَا بِالْقِسْمَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا اتَّسَعَتِ الْعَرْصَةُ عَنِ اسْتِطْرَاقِ الشُّرَكَاءِ لَوِ اقْتَسَمُوا فَكَانَ نِصْفُهَا لَوِ اقْتَسَمُوهُ كَافِيًا لَاسْتِطْرَاقِهِمْ فَالشُّفْعَةُ فِي الْفَاضِلَةِ مِنَ الْعَرْصَةِ مِنِ اسْتِطْرَاقِهِمْ وَاجِبَةً وَجْهًا وَاحِدًا ، وَلَا يَتَمَلَّكُ الْمُشْتَرِي فِي اسْتِطْرَاقِهَا ، وَفِي وُجُوبِهَا فِي الْمُسْتَطْرَقِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ وَأَبِي الصَّبِيِّ أَنْ يَأْخُذَا بِالشُّفْعَةِ لِمَنْ يَلِيَانِ إِذَا كَانَتْ غِبْطَةً



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلِوَلِيِّ الْيَتِيمِ وَأَبِي الصَّبِيِّ أَنْ يَأْخُذَا بِالشُّفْعَةِ لِمَنْ يَلِيَانِ إِذَا كَانَتْ غِبْطَةً فَإِنْ لَمْ يَفْعَلَا فَإِذَا وَلِيَا مَالَهُمَا أَخَذَاهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : اعْلَمْ أَنَّ الصَّبِيَّ ، وَالْمَجْنُونَ إِذَا وَجَبَتْ لَهُمَا الشُّفْعَةُ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ فِي أَخْذِهَا لَهُمَا حَظٌّ وَغِبْطَةٌ ، فَعَلَى وَلِيِّهِمَا أَنْ يَأْخُذَهَا لَهُمَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَأْخُذَهَا لَهُمَا ؛ لِأَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى شَهَوَاتِ النُّفُوسِ . وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ مَنْدُوبٌ إِلَى فِعْلِ مَا عَادَ بِصَلَاحِ مَنْ يَلِي عَلَيْهِ فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِهِ كَالدُّيُونِ ، وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَلَيْسَ إِذَا كَانَ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ مَوْقُوفًا عَلَى شَهَوَاتِ النُّفُوسِ مَا يُوجِبُ امْتِنَاعَ الْوَلِيِّ مِنْهُ إِذَا كَانَ فِيهِ صَلَاحٌ لَهُ كَشِرَاءِ الْأَمْلَاكِ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى الشَّهَوَاتِ وَلِلْمُوَلَّى أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ مِنْهَا مَا كَانَ فِيهِ الصَّلَاحُ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلِلْوَلِيِّ حَالَتَانِ : حَالَةٌ يَأْخُذُ الشُّفْعَةَ وَحَالَةٌ يَرُدُّهَا ، فَإِنْ أَخْذَهَا لَزِمَتِ الْأُولَى عَلَيْهِ وَصَارَتْ مَا كَانَ لَهُ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِذَا صَارَ رَشِيدًا أَنْ يَرُدَّ كَمَا لَا يَرُدُّ مَا اشْتَرَاهُ إِذَا كَانَ لَهُ فِيهِ غِبْطَةٌ وَإِنْ عَفَا الْوَلِيُّ عَنْهَا ، وَلَمْ يَأْخُذْهَا فَلِلْمُولَّى عَلَيْهِ إِذَا بَلَغَ رَشِيدًا أَنْ يَأْخُذَهَا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : قَدْ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ بِرَدِّ الْوَلِيِّ وَلَيْسَ لَهُ أَخْذُهَا إِذَا بَلَغَ ؛ لِأَنَّ عَفْوَ مَنْ لَهُ الْأَخْذُ يُبْطِلُهَا كَالشَّرِيكِ . وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ عَفْوَ الْوَلِيِّ عَنِ الْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ مَرْدُودٌ كَالْإِبْرَاءِ ، وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمِلْكِ قَاضِيًا .

فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ حَظٌّ فِي أَخْذِ الشُّفْعَةِ إِمَّا لِزِيَادَةِ الثَّمَنِ وَإِمَّا لِأَنَّ صَرْفَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ مِنْ أُمُورِهِ أَهَمُّ فَلَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَأْخُذَهَا كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ مَا لَا حَظَّ لَهُ فِي شِرَائِهِ ، وَلَا يَصِيرُ الشِّقْصُ لِلْوَلِيِّ بِخِلَافِ الشِّرَاءِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْوَلِيَّ لَمَّا جَازَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ مَا اشْتَرَى لِمَنْ يَلِي عَلَيْهِ جَازَ أَنْ يَصِيرَ لَهُ الشِّرَاءُ عِنْدَ بُطْلَانِهِ لِمَنْ يَلِي عَلَيْهِ وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ لِنَفْسِهِ بِالشُّفْعَةِ مَا يَأْخُذُهُ لِمَنْ يَلِي عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَصِيرَ لَهُ الشُّفْعَةُ عِنْدَ بُطْلَانِهَا لِمَنْ يَلِي عَلَيْهِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الشُّفْعَةَ مَرْدُودَةٌ ، وَالْوَلِيَّ مِنْ أَخْذِهَا مَمْنُوعٌ فَبَلَغَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ رَشِيدًا فَأَرَادَ أَخْذَ الشُّفْعَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ شُفْعَتَهُ قَدْ بَطَلَتْ بِتَرْكِ وَلَيِّهِ وَلَيْسَ لَهُ أَخْذُهَا بَعْدَ رُشْدِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَامَ أَخَذَ الْوَلِيُّ مَقَامَ أَخْذِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ قَامَ رَدُّ الْوَلِيِّ مَقَامَ رَدِّهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْأَخْذُ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ طَرْدًا وَكَالْقِصَاصِ عَكْسًا لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ أَخْذُهُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ رَدُّهُ .


وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ شُفْعَتَهُ بَاقِيَةٌ لَا تَبْطُلُ بِتَرْكِ وَلِيِّهِ ، وَلَهُ أَخْذُهَا بَعْدَ رُشْدِهِ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْحَظِّ فِي الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ أَخَذَهَا لِغَيْرِهِ كَالْوَلِيِّ ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيمَنْ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّفِيعَ لَوْ أَخَذَ لِنَفْسِهِ مَا لَا حَظَّ لَهُ فِي أَخْذِهِ جَازَ ، فَلِذَلِكَ مُنِعَ الْوَلِيُّ مِنْ أَنْ يَأْخُذَهَا عِنْدَ عَدَمِ الْحَظِّ فِي أَخْذِهَا ؛ لِأَنَّهُ وَالٍ وَوُجُودُ الْحَظِّ مُعْتَبَرٌ فِي أَخْذِهِ وَجَازَ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ إِذَا بَلَغَ رَشِيدًا أَنْ يَأْخُذَهَا مَعَ عَدَمِ الْحَظِّ فِي أَخْذِهَا ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ وَوُجُودُ الْحَظِّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي أَخْذِهِ .

فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَسْتَوِيَ حَظُّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ فِي أَخْذِ الشُّفْعَةِ وَتَرْكِهَا فَفِي أَخْذِ الْوَلِيِّ لَهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَهَا مَا لَمْ يَظْهَرِ الْحَظُّ فِي أَخْذِهَا ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْحَظِّ مُعْتَبَرٌ فِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَهَا ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ أَحَظُّ مَا لَمْ يَظْهَرْ ضَرَرٌ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَخْذِهَا وَتَرْكِهَا لِاسْتِوَاءِ الْحَالَيْنِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ أَخْذِهَا عَلَيْهِ وَأَنَّهُ مُجْبَرٌ ، فَتَرَكَهَا فَلِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ إِذَا بَلَغَ رَشِيدًا أَنْ يَأْخُذَهَا وَإِنْ قُلْنَا بِمَنْعِهِ مِنْ أَخْذِهَا فَهَلْ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَهَا بَعْدَ رَدِّهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " فَإِنِ اشْتَرَى شِقْصًا عَلَى أَنَّهُمَا جَمِيعًا بِالْخِيَارِ فَلَا شُفْعَةَ حَتَّى يُسَلِّمَ الْبَائِعُ ( قَالَ ) : وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَفِيهِ الشُّفْعَةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ مَا يَثْبُتُ مِنَ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : خِيَارِ عَقْدٍ ، وَخِيَارِ شَرْطٍ ، وَخِيَارِ رُؤْيَةٍ ، وَخِيَارِ عَيْبٍ : أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : فَهُوَ خِيَارُ الْعَقْدِ وَهُوَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ فَلَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ الشُّفْعَةَ إِلَّا بَعْدَ نَقْضِهِ بِالِافْتِرَاقِ عَنْ تَمَامٍ وَإِمْضَاءٍ ، وَسَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ الْمِلْكَ مُنْتَقِلٌ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، أَوْ بِالِافْتِرَاقِ مَعَ تَقْدِيمِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْفَسْخِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْنَعُ مِنَ اسْتِقْرَارِ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا ، وَلِأَنَّ الْبَائِعَ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ عَقْدُ الْمُشْتَرِي فَأَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَهُ شُفْعَةُ الشَّفِيعِ ، فَإِذَا افْتَرَقَا عَنْ تَمَامٍ وَإِمْضَاءٍ اسْتَحَقَّ الشَّفِيعُ حِينَئِذٍ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ ، وَبِمَاذَا يَصِيرُ الشَّفِيعُ مَالِكًا لَهَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ مِنِ اخْتِلَافِ أَقَاوِيلِهِ فِي انْتِقَالِ الْمِلْكِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لَهَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَإِنْ مُنِعَ مِنَ الْأَخْذِ إِلَّا بِالِافْتِرَاقِ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ : إِنَّ الْمِلْكَ مُنْتَقِلٌ بِنَفْسِ الْعَقْدِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلشُّفْعَةِ بِافْتِرَاقِهِمَا عَنْ تَرَاضٍ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ : إِنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَقِلُ إِلَّا بِالْعَقْدِ ، وَالِافْتِرَاقِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : إِنَّ مِلْكَ الشُّفْعَةِ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إِبْرَامِ الْعَقْدِ وَإِمْضَائِهِ فَتَمَامُهُ يَدُلُّ عَلَى


تَقْدِيمِ مِلْكِهَا بِالْعَقْدِ وَفَسْخُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا بِالْعَقْدِ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ : إِنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى . فَإِذَا أَخَذَ الشَّفِيعُ ذَلِكَ بِالشُّفْعَةِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ عَنْ تَرَاضٍ بِحُكْمٍ ، أَوْ بِغَيْرِ حُكْمٍ فَهَلْ يَثْبُتُ لَهُ بَعْدَ الْأَخْذِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَهُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّهُ تَمَلَّكَهُ بِمُعَاوَضَةٍ كَالْبَيْعِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ مَوْضُوعَةٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ بِهَا كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ الَّذِي لَا يُمْلَكُ فِيهِ بَعْدَ الرَّدِّ خِيَارٌ ، وَلَيْسَ كَالْبَيْعِ الْمَوْضُوعِ لِلْمُعَايَنَةِ وَطَلَبِ الْأَرْبَاحِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ خِيَارُ الشَّرْطِ في البيع والشفعة فيه فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ ، وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ خِيَارُ الثَّلَاثِ مَشْرُوطًا لِلْبَائِعِ ، وَالْمُشْتَرِي . وَالْحَالُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا لِلْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي . وَالْحَالُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا لِلْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ ، فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ مَشْرُوطًا لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي ، أَوْ مَشْرُوطًا لِلْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي فَلَا حَقَّ لِلشَّفِيعِ فِي الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ مَا لَمْ تَنْقُضْ مُدَّةُ الْخِيَارِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ فَإِذَا تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِتَقَضِّي مُدَّةِ الْخِيَارِ وَاسْتَحَقَّ الشَّفِيعُ حِينَئِذٍ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَاذَا يَصِيرُ مَالِكًا لَهَا ؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ . وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ مَشْرُوطًا لِلْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ فَقَدْ رَوَى الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا أَنَّ لِلشَّفِيعِ أَخْذَهُ بِالشُّفْعَةِ . وَرَوَاهُ الرَّبِيعُ أَيْضًا قَالَ الرَّبِيعُ : وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِلشَّفِيعِ فِي أَخْذِهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَنْقَضِيَ مُدَّةُ الْخِيَارِ . وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى اخْتِلَافِ أَقَاوِيلِهِ فِي انْتِقَالِ الْمِلْكِ فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْخِيَارِ ، أَوْ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ إِلَّا بِانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْخِيَارِ ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَمْلِكُ عَنِ الْمُشْتَرِي فَامْتَنَعَ أَنْ يَمْلِكَ مَا لَمْ يَمْلِكِ الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْمِلْكَ قَدِ انْتَقَلَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ رِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ أَنَّ فِيهِ الشُّفْعَةَ ؛ لِأَنَّ عُلْقَةَ الْبَائِعِ عَنْهُ مُنْقَطِعَةٌ وَخِيَارَ الْمُشْتَرِي فِيهِ كَخِيَارِهِ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَهُوَ لَا يَمْنَعُ الشَّفِيعَ مِنَ الْأَخْذِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ رِوَايَةُ الرَّبِيعِ : أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ فِيهِ إِلَّا بِانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْخِيَارِ وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَرْضَ بِدُخُولِهِ فِي عُهْدَةِ الْعَقْدِ فَخَالَفَ خِيَارَ الْعَيْبِ الْمَوْضُوعِ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَبْنِ الَّذِي قَدْ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ جِهَةِ الشَّفِيعِ ، ثُمَّ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا ثَلَاثَةُ فُرُوعٍ :


فَالْفَرْعُ الْأَوَّلُ : أَنْ يَتَّفِقَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي عَلَى اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لَهُمَا فِي الْعَقْدِ وَيُكَذِّبَهُمَا الشَّفِيعُ وَيَدَّعِيَ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ نَاجِزًا مِنْ غَيْرِ خِيَارِ شَرْطٍ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي ، وَالْيَمِينُ وَاجِبَةً عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْهُمَا دُونَ الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ انْتِزَاعَ الْمِلْكِ مِنْ يَدِهِ فَيَحْلِفُ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ عَلَى مِلْكِهِ وَيَدِهِ ، وَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ بَعْدَ يَمِينِ الْمُشْتَرِي إِلَّا بِانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْخِيَارِ ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْبَائِعُ غَائِبًا فَادَّعَى الْمُشْتَرِي اشْتِرَاطَ خِيَارِ الثَّلَاثِ لَهُمَا ، أَوْ لِبَائِعٍ وَحْدَهُ وَأَكْذَبَهُ الشَّفِيعُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَا شُفْعَةَ إِلَّا بِانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْخِيَارِ . وَالْفَرْعُ الثَّانِي : أَنْ يَدَّعِيَ الْبَائِعُ اشْتِرَاطَ خِيَارِ الثَّلَاثِ وَيُنْكِرَهُ الْمُشْتَرِي وَالشَّفِيعُ ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ؛ الْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ ، وَلَا شُفْعَةَ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي وَفِيهِ الشُّفْعَةُ وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ كَمَا يَتَحَالَفَانِ فِي اخْتِلَافِ الثَّمَنِ فَإِذَا تَحَالَفَا فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ بِتَحَالُفِهِمَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ بَطَلَ بِتَحَالُفِهِمَا ، وَلَا شُفْعَةَ فِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ إِلَّا بِفَسْخِ الْحَاكِمِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِخِيَارِ الثَّلَاثِ لِلْبَائِعِ . وَبَيْنَ فَسْخِهِ وَخِيَارِهِ ، وَهَذَا عَلَى الْفَوْرِ ؛ لِأَنَّهُ خِيَارُ حُكْمٍ فَإِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي فَسْخَهُ بَطَلَ الْبَيْعُ ، وَلَا شُفْعَةَ فِيهِ وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يُجْبِرَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِخِيَارِ الثَّلَاثِ ؛ لِأَنَّهُ إِجْبَارٌ عَلَى الْتِزَامِ عَقْدٍ ، وَإِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي إِمْضَاءَ الْبَيْعِ بِخِيَارِ الثَّلَاثِ لِبَائِعٍ ثَبَتَ لِلْبَائِعِ خِيَارُ الثَّلَاثِ فَإِنِ اخْتَارَ فِيهَا فَسْخَ الْبَيْعِ انْفَسَخَ ، وَلَا شُفْعَةَ فِيهِ وَإِنِ اخْتَارَ فِيهَا إِمْضَاءَ الْبَيْعِ فَلِلْمُشْتَرِي أَخْذُ الشِّقْصِ بِثَمَنِهِ ثُمَّ لِلشَّفِيعِ أَخْذُهُ مِنْ يَدِهِ بِمِثْلِ ثَمَنِهِ . وَالْفَرْعُ الثَّالِثُ : أَنْ يَدَّعِيَ الْمُشْتَرِي اشْتِرَاطَ خِيَارِ الثَّلَاثِ وَيُنْكِرَهُ الْبَائِعُ وَالشَّفِيعُ ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالشُّفْعَةِ فِي خِيَارِ الْمُشْتَرِي فَلَا تُحَالُفَ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي ، وَلِلشَّفِيعِ أَخْذُهُ بِالشُّفْعَةِ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ لَا حَقَّ لِلشَّفِيعِ فِيهِ إِلَّا بِانْقِضَاءِ خِيَارِ الْمُشْتَرِي تَحَالَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي عَلَى الْخِيَارِ ، فَإِذَا تَحَالَفَا فَقَدْ بَطَلَ الْبَيْعُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، وَلَا شُفْعَةَ فِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَبْطُلُ إِلَّا بِفَسْخِ الْحَاكِمِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ عَلَى الْفَوْرِ فِي إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِخِيَارِ الثَّلَاثِ لِلْمُشْتَرِي ، أَوْ فَسْخِهِ فَإِنْ فَسَخَهُ فَقَدْ بَطَلَ الْبَيْعُ ، وَلَا شُفْعَةَ فِيهِ وَإِنْ أَمْضَاهُ ثَبْتَ خِيَارُ الثَّلَاثِ لِلْمُشْتَرِي فَإِنْ فَسَخَ الْبَيْعَ فِيهَا فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ وَإِنْ أَمْضَاهُ أَخَذَهُ الشَّفِيعُ مِنْهُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ في البيع والشفعة فيه : أَنْ يَعْقِدَا بَيْعَ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ فَفِي الْبَيْعِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ ، وَلَا شُفْعَةَ فِيهِ .


وَالْقَوْلُ الثَّانِي : جَائِزٌ ثُمَّ لِلشَّفِيعِ فِي رُؤْيَةِ الشِّقْصِ الْمَبِيعِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ رَآهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَهُ إِلَّا بَعْدَ رُؤْيَةِ الْمُشْتَرِي لَهُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَبْلَ رُؤْيَتِهِ غَيْرُ لَازِمٍ لَهُ سَوَاءٌ قِيلَ : إِنَّ خِيَارَهُ جَارٍ مَجْرَى خِيَارِ الْبَدَلِ ، وَالْقَبُولِ ، أَوْ جَارٍ مَجْرَى خِيَارِ الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْخِيَارَيْنِ لَا يَمْلِكُ الشَّفِيعُ فِيهِ الشُّفْعَةَ إِلَّا بَعْدَ انْقِضَائِهِ عَلَى الصِّحَّةِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الشَّفِيعُ لَمْ يَرَ الشِّقْصَ الْمَبِيعَ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَحُلُّ فِي أَخْذِهِ بِالشُّفْعَةِ مَحَلَّ الْمُشْتَرِي وَسَوَاءٌ رَضِيَ الْمُشْتَرِي بِأَخْذِهِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ ، أَوْ لَمْ يَرْضَ كَمَا يَبْطُلُ شِرَاءُ الْمُشْتَرِي عَلَى هَذَا الْقَوْلِ سَوَاءٌ رَضِيَ الْبَائِعُ ، أَوْ لَمْ يَرْضَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ أَخْذَ الشَّفِيعِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ جَائِزٌ عَلَى قَوْلِهِ : إِنَّ الْبَيْعَ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ جَائِزٌ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ تَسْلِيمِ الشِّقْصِ إِلَيْهِ قَبْلَ رُؤْيَتِهِ وَبَعْدَ أَنْ يَصِفَهُ لَهُ كَمَا يَصِفُهُ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي وَبَيْنَ أَنْ يَمْنَعَهُ حَتَّى يَرَاهُ فَيَسْقُطُ خِيَارُهُ بِالرُّؤْيَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ شِقْصٍ ثَبَتَ لِلشَّفِيعِ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : وَهُوَ خِيَارُ الْعَيْبِ في البيع والشفعة فيه : فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فِي الشِّقْصِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِي الثَّمَنِ ، فَإِذَا كَانَ الْعَيْبُ فِي الشِّقْصِ فَالْخِيَارُ فِيهِ لِلْمُشْتَرِي وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ بِعَيْبِهِ وَيَمْنَعَهُ مِنْ رَدِّهِ ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْمُشْتَرِي لَهُ بِالْعَيْبِ إِنَّمَا هُوَ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَبْنِ وَهُوَ يَسْتَدْرِكُهُ مِنَ الشَّفِيعِ بِالْوُصُولِ إِلَى جَمِيعِ الثَّمَنِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ حَضَرَ الشَّفِيعُ ، وَقَدْ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ كَانَ لِلشَّفِيعِ إِبْطَالُ رَدِّهِ وَاسْتِرْجَاعُ الشِّقْصِ مِنْ بَائِعِهِ ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ قَطْعٌ لِلْعَقْدِ وَلَيْسَ بِرَافِعٍ لِلْأَصْلِ فَلَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي إِبْطَالُ حَقِّ الشَّفِيعِ كَمَا لَوْ بَاعَهُ وَأَرَادَ الشَّفِيعُ إِبْطَالَ بَيْعِهِ كَانَ لَهُ ؛ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى شُفْعَتِهِ ، فَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي عِنْدَ ظُهُورِهِ عَلَى عَيْبِ الشِّقْصِ صَالَحَ الْبَائِعَ عَلَى أَرْشِهِ وَحَضَرَ الشَّفِيعُ مُطَالِبًا بِالشُّفْعَةِ فَلَهُ أَخْذُهُ بِالْبَاقِي مِنَ الثَّمَنِ بَعْدَ إِسْقَاطِ الْأَرْشِ إِنْ قِيلَ بِجَوَازِ أَخْذِ الْأَرْشِ صُلْحًا مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي أَخَذَهُ الشَّفِيعُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ . فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْعَيْبُ فِي الثَّمَنِ فَسَيَأْتِي فِي تَفْرِيعِ الْمُزَنِيِّ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ فِي الشِّقْصِ الَّذِي يَمْلِكُ بِهِ الشُّفْعَةَ فَإِنْ كَانَ خِيَارَ عَيْبٍ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ أَنْ يَمْلِكَ بِهِ الشُّفْعَةَ لِبَقَائِهِ عَلَى مِلْكِ مُشْتَرِيهِ مَا لَمْ يَرُدَّهُ وَإِنْ كَانَ خِيَارَ رُؤْيَةٍ لَمْ يَمْلِكْ


بِهِ الْمُشْتَرِي الشُّفْعَةَ سَوَاءٌ قِيلَ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ ، أَوْ بِفَسَادِهِ ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَالِكٍ إِنْ بَطَلَ الْبَيْعُ ، أَوْ غَيْرَ مُسْتَقِرِّ الْمِلْكِ إِنْ صَحَّ فَأَمَّا الْبَائِعُ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ بِهِ الشُّفْعَةَ إِنْ قِيلَ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ وَفِي مِلْكِ الشُّفْعَةِ بِهِ مَعَ صِحَّةِ الْبَيْعِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي لُزُومِ الْبَيْعِ فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ قَبْلَ وُجُودِ الرُّؤْيَةِ ، وَأَمَّا خِيَارُ الْمَجْلِسِ فَلَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ فِيهِ شُفْعَةً بِالشِّقْصِ الَّذِي هُوَ فِي مَجْلِسِ بَيْعِهِ وَخِيَارِهِ سَوَاءٌ قِيلَ : إِنَّ مِلْكَهُ قَدِ انْتَقَلَ بِالْعَقْدِ ، أَوْ قِيلَ : إِنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ إِلَّا بِانْقِضَاءِ الْخِيَارِ ؛ لِأَنَّهُ إِنْ قِيلَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ بِمَا زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ ، وَإِنْ قِيلَ بِبَقَاءِ مِلْكِهِ فَبَيْعُهُ رِضًى مِنْهُ بِإِسْقَاطِ شُفْعَتِهِ ، وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَإِنْ فَسَخَ الْعَقْدَ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ بِمَا لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ وَإِنْ تَمَّ لَهُ الْبَيْعُ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ إِلَّا بِانْقِضَاءِ الْخِيَارِ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ غَيْرَ مَالِكٍ . وَإِنْ قِيلَ بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ إِلَيْهِ بِالْعَقْدِ ، أَوْ قِيلَ بِوُقُوفِهِ وَمُرَاعَاتِهِ فَفِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ بِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ الشُّفْعَةُ بِهِ لِدُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا شُفْعَةَ لَهُ بِهِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاوَضَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَ بِهِ . وَأَمَّا خِيَارُ الثَّلَاثِ : فَإِنْ كَانَ لَهُمَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَكَذَا إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : لَا شُفْعَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا : أَمَّا الْبَائِعُ فَلِمَا فِي بَيْعِهِ مِنَ الرِّضَا بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ ، وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَلِعَدَمِ مِلْكِهِ ، أَوْ لِعَدَمِ اسْتِقْرَارِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا لِلْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ فِي اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ تَمَسُّكًا بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ حُقُوقِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ مَوْقُوفٌ مُرَاعَاةً فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا فَالشُّفْعَةُ لِلْمُشْتَرِي . وَإِنِ انْفَسَخَ فَالشُّفْعَةُ لِلْبَائِعِ اعْتِبَارًا بِمَا يُفْضِي إِلَيْهِ أَحْوَالُهُمَا .

مَسْأَلَةٌ لَوْ كَانَ مَعَ الشُّفْعَةِ عَرْضٌ وَالثَّمَنُ وَاحِدٌ

مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَ مَعَ الشُّفْعَةِ عَرْضٌ ، وَالثَّمَنُ وَاحِدٌ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الشُّفْعَةَ بِحِصَّتِهَا مِنَ الثَّمَنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا بِيعَ الشِّقْصُ وَعَرْضٌ بِثَمْنٍ وَاحِدٍ وَجَبَتِ الشُّفْعَةُ فِي الشِّقْصِ دُونَ مَا ضُمَّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَرْضِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَرْضُ الْمَضْمُومُ إِلَيْهِ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الشِّقْصِ أَمْ لَا ، وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ كَانَ الْعَرْضُ الْمَضْمُومُ إِلَيْهِ مِمَّا يُسْتَعْمَلُ فِي الشِّقْصِ الْمُشْتَرَكِ كَبَقَرَةِ الدُّولَابِ ، وَالْحَرْثِ ، وَالْعَبْدِ الْعَامِلِ فِي الْأَرْضِ وَكَالدَّلْوِ ، وَالْحَبْلِ أُخِذَ بِالشُّفْعَةِ مَعَ الشِّقْصِ تَبَعًا كَمَا ضُمَّ إِلَيْهِ فِي الْعَقْدِ تَبَعًا كَالنَّخْلِ وَالْبِنَاءِ .


وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ ، فَاقْتَضَى نَفْيَ الشُّفْعَةِ عَمَّا قُسِمَ ؛ وَلِأَنَّ مَا لَا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ بِانْفِرَادِهِ لَا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ بِانْضِمَامِهِ مَعَ غَيْرِهِ عِنْدَ انْفِصَالِهِ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ الْعَوَامِلِ مِنَ الْبَقَرِ وَالْعَبِيدِ ؛ وَلِأَنَّ مَا لَا يَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ مَعَ فَقْدِ الْعَمَلِ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الشُّفْعَةُ مَعَ وُجُودِ الْعَمَلِ قِيَاسًا عَلَى الْمُفْرَدِ بِالْعَقْدِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى النَّخْلِ وَالْبِنَاءِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ النَّخْلُ وَالْبِنَاءُ تَبَعًا فِي الْبَيْعِ وَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ تَبَعًا وَلَمَّا لَمْ تَدْخُلِ الْبَقَرَةُ وَالْعَبْدُ فِي الْبَيْعِ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الشُّفْعَةُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الشُّفْعَةِ فِي الشِّقْصِ وَحْدَهُ دُونَ الْعَبْدِ الْمَضْمُومِ إِلَيْهِ فَلِلشَّفِيعِ أَخْذُ الشِّقْصِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ إِذَا جَمَعَتْ شَيْئَيْنِ يُقَسَّطُ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا كَمَا لَوِ اسْتُحِقَّ أَحَدُهُمَا ، أَوْ رُدَّ بِعَيْبٍ . وَاعْتِبَارُ أَخْذِهِ بِالْحِصَّةِ أَنْ يُقَوَّمَ الشِّقْصُ يَوْمَ الْعَقْدِ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفًا قُوِّمَ الْعَبْدُ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَمِائَةٍ عُلِمَ أَنَّ الشِّقْصَ فِي مُقَابَلَةِ ثُلُثَيِ الْقِيمَةِ فَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِثُلُثَيِ الثَّمَنِ زَائِدًا كَانَ الثَّمَنُ ، أَوْ نَاقِصًا ثُمَّ لَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي فِي رَدِّ الْعَبْدِ بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ضَمَّ مَا لَا شُفْعَةَ فِيهِ إِلَى مَا فِيهِ الشُّفْعَةُ كَانَ هُوَ الْعَالِمَ بِتَفْرِيقِهَا وَالرِّضَى بِهِ ، وَمَنْ دَخَلَ عَلَى عِلْمٍ بِعَيْبٍ لَمْ يَمْلِكِ الرَّدَّ بِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا إِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ شِقْصَيْنِ مِنْ دَارَيْنِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ حق الشفعة لَمْ يَخْلُ مُسْتَحِقُّ الشُّفْعَةِ فِيهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا ، أَوِ اثْنَيْنِ فَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقُّهَا اثْنَيْنِ لِكُلِّ شِقْصٍ مِنْهُمَا شَفِيعٌ وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخَيَّرًا فِي أَخْذِ مَا فِي شُفْعَتِهِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ أَوْ تَرْكِهِ ، فَإِنْ أَخَذَا ، أَوْ تَرَكَا ، أَوْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا وَتَرَكَ الْآخَرُ فَكُلُّهُ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ مُسْتَحَقُّ الشُّفْعَةِ فِيهَا وَاحِدًا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنْ يَأْخُذَهُمَا ، أَوْ يَتْرُكَهُمَا وَلَيْسَ لَهُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ بِأَخْذِ أَحَدِهِمَا لِاسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ فِيهِمَا كَمَا لَيْسَ لَهُ تَفْرِيقُهَا بِأَخْذِ الْبَعْضِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّ الشُّفْعَتَيْنِ شَاءَ لِتَمَيُّزِهِ وَأَنَّ الشُّفْعَةَ مَوْضُوعَةٌ لِإِزَالَةِ ضَرَرِهِ وَرُبَّمَا كَانَ ضَرَرُهُ بِأَحَدِهِمَا أَكْثَرَ وَيَلْحَقُهُ بِأَخْذِ الْآخَرِ ضَرَرٌ .

مَسْأَلَةٌ عُهْدَةُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ وَعُهْدَةُ الشَّفِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَعُهْدَةُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ وَعُهْدَةُ الشَّفِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَذِهِ مَسَائِلُ أَجَبْتُ فِيهَا عَلَى مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْعُهْدَةُ فَمُشْتَقَّةٌ مِنَ الْعَهْدِ لِمَا عَلَيْهِ مِنَ الْوَفَاءِ بِمُوجَبِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :


وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ [ النَّحْلِ : 191 ] فَلِأَجْلِ ذَلِكَ سُمِّيَ ضَمَانُ الدَّرَكِ عُهْدَةً ثُمَّ يُسَمَّى كِتَابُ الشِّرَاءِ عُهْدَةً ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عُهْدَةِ الشَّفِيعِ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ عُهْدَةَ الشَّفِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَعُهْدَةَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : عُهْدَةُ الشَّفِيعِ عَلَى الْبَائِعِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ الشَّفِيعُ قَدْ قَبَضَهُ مِنَ الْمُشْتَرِي فَعُهْدَتُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَهُ مِنَ الْبَائِعِ فُسِخَ عَقْدُ الْمُشْتَرِي وَكَانَتْ عُهْدَتُهُ عَلَى الْبَائِعِ . فَأَمَّا ابْنُ أَبِي لَيْلَى فَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْبَائِعَ أَصْلٌ وَالْمُشْتَرِيَ فَرْعٌ فَكَانَ الرُّجُوعُ إِلَى الْبَائِعِ أَوْلَى مِنَ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِالْفَرْعِ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ . قَالَ : وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَحُلُّ مَحَلَّ الْوَكِيلِ لِلشَّفِيعِ لِدُخُولِهِ عَلَى عِلْمٍ بِانْتِقَالِ الشِّرَاءِ عَلَى الشَّفِيعِ ثُمَّ ثَبَتَ فِي شِرَاءِ الْوَكِيلِ أَنَّ الْعُهْدَةَ عَلَى الْبَائِعِ دُونَ الْوَكِيلِ كَذَلِكَ اسْتِحْقَاقُ الشَّفِيعِ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَفْسَخَ عَقْدَ الْمُشْتَرِي بِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ إِزَالَةَ مِلْكِهِ عَنْهُ اسْتَحَقَّ فَسْخَ عَقْدِهِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْعَقْدِ لِاسْتِيفَاءِ الْمِلْكِ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ الشَّفِيعَ يَمْلِكُ الشِّقْصَ عَنِ الْمُشْتَرِي بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ لَكَانَ مُقِرًّا عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَلَوْ حَدَثَ مِنْهُ نَمَاءٌ لَكَانَ لِلْمُشْتَرِي فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ كَمَا كَانَتْ عَلَى الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّ انْتِقَالَ الْمِلْكِ بِالْعِوَضِ يُوجِبُ تَمْلِيكَ الْمُعَوَّضِ فَوَجَبَ أَخْذُهُ بِالْعُهْدَةِ كَالْبَائِعِ وَلِأَنَّ الرُّجُوعَ بِالثَّمَنِ قَدْ يُسْتَحَقُّ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ كَمَا يُسْتَحَقُّ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بِالشُّفْعَةِ فَلَمَّا كَانَ الرُّجُوعُ بِهِ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ بِهِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بِالشُّفْعَةِ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ ، وَقَدْ يَتَحَرَّرُ مِنَ اعْتِلَالِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ مَا يُوجِبُ الرُّجُوعَ بِالثَّمَنِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ الشَّفِيعُ عَلَى الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ قِيَاسًا عَلَى الرَّدِّ بِالْعَيْبِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَنِ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِ الثَّمَنُ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ لَمْ يُسْتُحَقَّ عَلَيْهِ الثَّمَنُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بِالْعَيْبِ قِيَاسًا عَلَى الْمُشْتَرِي لَوْ كَانَ بَائِعًا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى : بِأَنَّ الْبَائِعَ أَصْلٌ ، وَالْمُشْتَرِيَ فَرْعٌ فَمُنْتَقَضٌ بِالْمُشْتَرِي لَوْ بَاعَ عَلَى الشَّفِيعِ ثُمَّ نَقُولُ إِنَّ الْمُشْتَرِيَ وَإِنْ كَانَ فَرْعًا لِلْبَائِعِ فَهُوَ أَصْلٌ لِلشَّفِيعِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِالْوَكِيلِ فَهُوَ امْتِنَاعُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ الشَّفِيعَ لَمَّا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَخْذِهِ مِنَ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَ تَرْكِهِ عَلَيْهِ صَارَ مَالِكًا عَنْهُ لَا عَنِ الْبَائِعِ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْمُوَكِّلِ خِيَارٌ فِي أَخْذِهِ مِنَ الْوَكِيلِ وَتَرَكَهُ عَلَيْهِ صَارَ مَالِكًا عَنِ الْبَائِعِ دُونَ الْوَكِيلِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ الشَّفِيعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ عَلَى الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ صَارَ مَالِكًا عَنْهُ لَا عَنِ الْبَائِعِ وَلَمَّا اسْتَحَقَّ الْمُوَكِّلُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ عَلَى الْبَائِعِ دُونَ الْوَكِيلِ صَارَ مَالِكًا عَنْهُ لَا عَنِ الْوَكِيلِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ أَبِي حَنِيفَةَ : بِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ إِزَالَةَ مِلْكِهِ دَفَعَ عَقْدَهُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ يَمْلِكُ إِزَالَةَ مِلْكِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ ، وَلَا يَمْلِكُ دَفْعَ عَقْدِهِ فَكَذَلِكَ قَبْلَ الْقَبْضِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ بِالْعَقْدِ مِلْكُ الشُّفْعَةِ وَفِي رَفْعِهِ إِبْطَالُ الشُّفْعَةِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا قَبْضُ الشَّفِيعِ الشِّقْصَ مِنَ الْبَائِعِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي لَهُ أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَحُلُّ مَحَلَّ الْمُشْتَرِي فِي الْأَخْذِ بِالثَّمَنِ ، وَلَا يَجُوزُ شِرَاءُ مَا لَمْ يُقْبَضْ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَخْذُ شُفْعَةِ مَا لَمْ يُقْبَضْ ، فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُ الْحَاكِمُ الْمُشْتَرِيَ بِالْقَبْضِ فَإِذَا صَارَ بِيَدِهِ انْتَزَعَهُ الشَّفِيعُ مِنْهُ فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي غَائِبًا وَكَّلَ الْحَاكِمُ عَنْهُ مَنْ يَقْبِضُ لَهُ ثُمَّ حَكَمَ لِلشَّفِيعِ بِأَخْذِهِ مِنْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ لِلشَّفِيعِ أَخْذَهُ مِنَ الْبَائِعِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهُ جَبْرًا بِحَقٍّ ، وَإِنْ كَرِهَ الْمُشْتَرِي ، فَجَازَ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ قَبْضِهِ ، كَمَا يَجُوزُ الْفَسْخُ وَالْإِقَالَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَيَبْرَأُ الْبَائِعُ مِنْ ضَمَانِهَا بِقَبْضِ الشَّفِيعِ ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُهَا بِحَقٍّ تَوَجَّهَ عَلَى الْمُشْتَرِي . وَبِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
_____فُرُوعُ الْمُزَنِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ _____

فُرُوعُ الْمُزَنِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : هَذِهِ مَسَائِلُ أَجَبْتُ فِيهَا عَلَى مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَإِذَا تَبَرَّأَ الْبَائِعُ مِنْ عُيُوبِ الشُّفْعَةِ ثُمَّ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ كَانَ لَهُ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْتَرِي " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَقَوْلُهُ إِذَا تَبَرَّأَ مِنْ عُيُوبِ الشُّفْعَةِ يَعْنِي مِنْ عُيُوبِ الشِّقْصِ الَّذِي فِيهِ الشُّفْعَةُ ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِمَا يَئُولُ إِلَيْهِ وَيُسْتَحَقُّ فِيهِ وَأَرَادَ بِالْبَرَاءَةِ مَا يَصِحُّ عَلَى مَا


ذَكَرْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الْمُشْتَرِي ، وَالشَّفِيعِ فِي الْعَيْبِ الْمَوْجُودِ فِي الشِّقْصِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَا عَالِمَيْنِ فَيَعْلَمُ الْمُشْتَرِي بِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ ، أَوْ قَبْلَهُ بِالْوُقُوفِ عَلَيْهِ أَوِ الْبَرَاءَةِ إِلَيْهِ وَيَعْلَمُ الشَّفِيعُ بِهِ عِنْدَ الْأَخْذِ فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا رَدُّ الْأَرْشِ وَهُوَ لَازِمٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعِلْمِهِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَا جَاهِلَيْنِ بِهِ فَالشَّفِيعُ فِيهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْسَاكِهِ وَرَدِّهِ ، فَإِنْ أَمْسَكَهُ فَلَا يُقَالُ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ وَإِنْ رَدَّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ ، فَإِذَا صَارَ إِلَى الْمُشْتَرِي فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْسَاكِهِ وَرَدِّهِ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَعْلَمَ بِهِ الشَّفِيعُ ، وَلَا يَعْلَمَ بِهِ الْمُشْتَرِي فَلَا رَدَّ لِلشَّفِيعِ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ وَهُوَ لَازِمٌ لَهُ بِأَخْذِهِ ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ فَإِنْ عَادَ الشِّقْصُ إِلَى الْمُشْتَرِي بِمِيرَاثٍ ، أَوْ هِبَةٍ هَلْ يَسْتَحِقُّ رَدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ بِعَيْنِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي الْبُيُوعِ . وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَعْلَمَ بِهِ الْمُشْتَرِي دُونَ الشَّفِيعِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ ، فَالشَّفِيعُ - لِعَدَمِ عِلْمِهِ - بِالْخِيَارِ فِيهِ بَيْنَ إِمْسَاكِهِ وَرَدِّهِ ، فَإِنْ رَدَّهُ فَهُوَ لَازِمٌ لِلْمُشْتَرِي لِعِلْمِهِ بِعَيْبِهِ ، وَلَا رَدَّ لَهُ فَلَوِ ادَّعَى الْمُشْتَرِي عِلْمَ الشَّفِيعِ بِعَيْبِهِ عِنْدَ أَخْذِهِ وَأَنْكَرَ الشَّفِيعُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الشَّفِيعِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَهُ الرَّدُّ فَإِنْ شَهِدَ الْبَائِعُ عَلَى الشَّفِيعِ بِعِلْمِهِ بِالْعَيْبِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ إِنْ كَانَ قَدْ بَرِئَ كَالْمُشْتَرِي مَعَ عَيْبِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَمْ تُقْبَلْ إِنْ لَمْ يَبْرَأْ إِلَيْهِ مِنْ عَيْبِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ظَهَرَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ فِي الشِّقْصِ قَبْلَ أَخْذِ الشَّفِيعِ فَأَمْسَكَ عَنْ رَدِّهِ انْتِظَارًا لِلشَّفِيعِ نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ الشَّفِيعُ غَائِبًا لَمْ يَلْزَمْهُ انْتِظَارُهُ وَبَطَلَ بِالْإِمْسَاكِ خِيَارُهُ ، وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا لَزِمَهُ انْتِظَارُهُ ، وَلَمْ يَبْطُلْ بِالْإِمْسَاكِ خِيَارُهُ ؛ لِأَنَّ حُضُورَ الشَّفِيعِ مَعَ تَعَلُّقِ حَقِّهِ بِالشِّقْصِ عُذْرٌ فِي الْإِمْسَاكِ ، وَلَا يَكُونُ عُذْرًا إِنْ كَانَ غَائِبًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " فَإِنِ اسْتُحِقَّتْ مِنَ الشَّفِيعِ رَجَعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَرَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عُهْدَةَ الشَّفِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ . فَإِذِ اسْتُحِقَّ الشِّقْصُ مِنْ يَدِ الشَّفِيعِ فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُسْتَحَقَّ فِي يَدِهِ بِتَصْدِيقِهِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِهِ فَيَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ الشِّقْصِ بِتَصْدِيقِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِدَرَكِهِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ عَلَى نَفْسِهِ ، وَغَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى غَيْرِهِ .


وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُسْتَحَقَّ مِنْ يَدِهِ بِبَيِّنَةٍ يُكْذِبُهَا فَيُنْتَزَعَ مِنْ يَدِهِ بِالْبَيِّنَةِ وَإِنْ أَكْذَبَهَا ، وَلَا يُرْجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالدَّرَكِ لِتَكْذِيبِهَا ؛ لِمَا يَتَضَمَّنُ تَكْذِيبُهَا مِنْ بَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي . . . وَيُعْلَمُ الْمُسْتَحِقُّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُسْتَحَقَّ مِنْ يَدِهِ بِبَيِّنَةٍ لَا يُكَذِّبُهَا فَإِذَا انْتَزَعَ مِنْ يَدِهِ رَجَعَ بِدَرَكِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَإِنْ غَابَ الْمُشْتَرِي وَحَضَرَ الْبَائِعُ فَصَالَحَهُ الْحَاكِمُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَصَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ ثُمَّ حَكَمَ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي وَصَارَ دَيْنًا لَهُ ثُمَّ قَبَضَهُ مِنَ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي وَدَفَعَهُ عَنِ الْمُشْتَرِي إِلَى الشَّفِيعِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهَ : " وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَاهَا بِدَنَانِيرَ بِأَعْيَانِهَا ثُمَّ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِوَزْنِهَا فَاسْتُحِقَّتِ الدَّنَانِيرُ الْأُولَى الشقص في الشفعة فَالشِّرَاءُ وَالشُّفْعَةُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الدَّنَانِيرَ بِعَيْنِهَا تَقُومُ مَقَامَ الْعَرْضِ بِعَيْنِهِ فِي قَوْلِهِ وَلَوِ اسْتُحِقَّتِ الدَّنَانِيرُ الثَّانِيَةُ كَانَ عَلَى الشَّفِيعِ بَدَلُهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الشِّقْصَ بِمِثْلِ الثَّمَنِ فَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ دَنَانِيرَ أَخَذَهُ بِمِثْلِ تِلْكَ الدَّنَانِيرِ فِي الصِّفَةِ ، وَالْقَدْرِ فَإِنْ بَذَلَ عَنِ الدَّنَانِيرِ دَرَاهِمَ لَمْ يَلْزَمِ الْمُشْتَرِيَ قَبُولُهَا فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَيْهَا جَازَ وَكَانَ بَيْعًا مُسْتَجَدًّا تَبْطُلُ مَعَهُ الشُّفْعَةُ وَإِنِ امْتَنَعَ أَلَّا يَأْخُذَ إِلَّا مِثْلَ دَنَانِيرِهِ فَدَفَعَ إِلَيْهِ الشَّفِيعُ مِثْلَهَا ثُمَّ اسْتُحِقَّتْ دَنَانِيرُ الْمُشْتَرِي فِي يَدِ الْبَائِعِ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ مُعَيَّنَةً بِالْعَقْدِ ، أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ ، فَإِنْ كَانَتْ مُعِينَةً لِتَبَايُعِهِمَا عَلَيْهَا بِأَعْيَانِهَا بَطَلَ الْبَيْعُ بِاسْتِحْقَاقِهَا كَمَا يَبْطُلُ بِاسْتِحْقَاقِ مَا تَعَيَّنَ بِالْعَقْدِ مِنْ عُرُوضٍ وَسِلَعٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الدَّرَاهِمَ ، وَالدَّنَانِيرَ لَا يَتَعَيَّنَانِ بِالْعَقْدِ وَإِنْ عُيِّنَا ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّهُمَا يَتَعَيَّنَانِ فِي الْعُقُودِ وَإِذَا ثَبَتَ بُطْلَانُ الْبَيْعِ بِتَعَيُّنِهِمَا بِالْعَقْدِ بَطَلَتِ الشُّفْعَةُ وَاسْتُرْجِعَ الشِّقْصُ مِنْ يَدِ الشَّفِيعِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا عَنِ الْمُشْتَرِي فَإِذَا بَطَلَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي بَطَلَ مِلْكُ الشَّفِيعِ ، وَإِنْ كَانَتِ الدَّنَانِيرُ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ لَمْ يَبْطُلِ الْبَيْعُ بِاسْتِحْقَاقِهَا لَهَا لِمُسَاوَاةِ غَيْرِهَا لَهَا ، وَأَخَذَ الْمُشْتَرِي بِمِثْلِهَا ، وَالشَّفِيعُ عَلَى شُفْعَتِهِ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ الَّذِي اسْتَحَقَّهَا بِهِ .

فَصْلٌ : وَلَوِ اسْتُحِقَّتْ دَنَانِيرُ الشَّفِيعِ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَدْ عَيَّنَهَا عِنْدَ أَخْذِ الشُّفْعَةِ أَوْ لَمْ يُعَيِّنْهَا ، فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهَا لَمْ تَبْطُلْ شُفْعَتُهُ بِاسْتِحْقَاقِهَا فَإِنْ أَحْضَرَ بَدَلَهَا كَانَ عَلَى شُفْعَتِهِ وَإِنْ أَعْسَرَ بِبَدَلِهَا بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ بِإِعْسَارِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَيَّنَهَا عِنْدَ شُفْعَتِهِ بِأَنْ قَالَ قَدْ أَخَذْتُ الشِّقْصَ بِهَذِهِ الدَّنَانِيرِ فَفِي تَعْيِينِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ فِي الشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا اسْتِحْقَاقًا ، فَعَلَى هَذَا هُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ إِنْ أَتَى بِبَدَلِهَا فَإِنْ أَعْسَرَ بِالْبَدَلِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ .


وَالْوَجْهُ الثَّانِي : حَكَّاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ أَنَّهَا تَتَعَيَّنُ فِي الشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِعَقْدِ الْبَيْعِ لِاسْتِحْقَاقِ الثَّمَنِ فِيهَا ، فَعَلَى هَذَا قَدْ صَارَ بِتَعْيِينِهَا مُبْطِلًا لِشُفْعَتِهِ بِغَيْرِهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ حَطَّ الْبَائِعُ لَلْمُشْتَرِي بَعْدَ التَّفَرُّقِ فَهِيَ هِبَةٌ وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَحُطَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ شِقْصًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ إِنَّ الْبَائِعَ حَطَّ عَنِ الْمُشْتَرِي مِنَ الثَّمَنِ عند الشفعة مِائَةَ دِرْهَمٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَضْعِ الْحَطِّ لَهُ عَنِ الشَّفِيعِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى : أَنَّ الْحَطِيطَةَ يَخْتَصُّ بِهَا الْمُشْتَرِي ، وَلَا تُوضَعُ عَنِ الشَّفِيعِ وَيَأْخُذُ الشِّقْصَ بِكُلِّ الْأَلْفِ ، وَسَوَاءٌ حَطَّ قَبْلَ التَّفَرُّقِ ، أَوْ بَعْدَهُ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ الْحَطِيطَةَ مَوْضُوعَةٌ عَنِ الشَّفِيعِ كَوَضْعِهَا عَنِ الْمُشْتَرِي وَيَأْخُذُ الشِّقْصَ بِالْبَاقِي مِنَ الثَّمَنِ وَهُوَ تِسْعُمِائَةٍ وَسَوَاءٌ حَطَّ قَبْلَ التَّفَرُّقِ ، أَوْ بَعْدَهُ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ الْحَطِيطَةَ إِنْ كَانَتْ قَبْلَ التَّفَرُّقِ فَهِيَ مَوْضُوعَةٌ عَنِ الشَّفِيعِ وَيَأْخُذُ الشِّقْصَ بِالْبَاقِي مِنَ الثَّمَنِ وَهُوَ تِسْعُمِائَةٍ وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ التَّفَرُّقِ اخْتَصَّ بِهَا بِالْمُشْتَرِي وَأَخَذَ الشَّفِيعُ بِكُلِّ الْأَلْفِ . فَأَمَّا ابْنُ أَبِي لَيْلَى : فَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ مَا وَجَبَ بِالْعَقْدِ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ مَا حَدَثَ مِنْ بَعْدُ كَالْحَادِثِ بَعْدَ التَّفَرُّقِ . وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ مَا اخْتَصَّ بِالْعَقْدِ كَانَ مُلْحَقًا بِهِ كَالْحَادِثِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ . وَالْكَلَامُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ أَخَصُّ ؛ لِأَنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى نَبَّهَ عَلَى أَصْلِهِ فِي إِبْطَالِهِ خِيَارَ الْمَجْلِسِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ مَا سَقَطَ مِنَ الثَّمَنِ بِالْإِبْرَاءِ بَعْدَ الْتِزَامِ الْمَبِيعِ لَمْ يَسْقُطْ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ قِيَاسًا عَلَى الْإِبْرَاءِ مِنَ الْجَمِيعِ وَلِأَنَّ مَا حَصَلَ بَيْنَ مُتَعَاقِدَيِ الْمَبِيعِ مِنَ التَّبَرُّعِ لَا يَتَعَدَّى إِلَى الشَّفِيعِ كَالتَّبَرُّعِ بِالزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ لَا يَلْحَقُهُ الزِّيَادَةُ لَمْ يَلْحَقْهُ النُّقْصَانُ قِيَاسًا عَلَى مَا بَعْدَ الْقَبْضِ وَلِأَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى بِالشِّقْصِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَعْطَاهُ بِهَا دِينَارًا ، وَقِيمَةُ الْأَلْفِ مِائَةُ دِينَارٍ أَخَذَهُ الشَّفِيعُ بِالْأَلْفِ كُلِّهَا كَذَلِكَ فِي الْإِبْرَاءِ مِنْ بَعْضِهَا ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِمَا بَيْنَ مَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَبَعْدَهُ فَهُوَ أَنَّ الْعَقْدَ يَلْزَمُ بِالتَّفَرُّقِ وَانْقِضَاءِ الْخِيَارِ فَلَمْ يَصِحَّ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا قَبْلَ اللُّزُومِ وَبَعْدَهُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَطِيطَةَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ رَاجِعَةٌ إِلَيْهِمَا بَعْدَ التَّفَرُّقِ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُشْتَرِي فَكَذَلِكَ خِيَارُ الثَّلَاثِ هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَيْهِمَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الثَّلَاثِ وَمُخْتَصَّةٌ بِالْمُشْتَرِي بَعْدَ انْقِضَاءِ الثَّلَاثِ وَهَكَذَا حُكْمُ الْحَطِيطَةِ فِي الْإِقَالَةِ وَبَيْعِ الْمُرَابَحَةِ إِنْ كَانَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْخِيَارَيْنِ فَهِيَ


مَوْضُوعَةٌ مِنَ الثَّمَنِ فِي حَقِّ الْفَرِيقَيْنِ ، وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْخِيَارَيْنِ فَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُشْتَرِي وَحْدَهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَإِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ اشْتَرَى شِقْصًا لَهُ فِيهِ شُفْعَةٌ ثم أنكر المالك فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ وَعَلَى الْمُنْكِرِ الْيَمِينُ فَإِنْ نَكَلَ وَحَلَفَ الشَّفِيعُ قَضَيْتُ لَهُ بِالشُّفْعَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صُورَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَذَهَبَ الْبَغْدَادِيُّونَ إِلَى أَنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي شِقْصٍ مُشْتَرَكٍ انْتَقَلَ إِلَى مِلْكِ رَجُلٍ ثُمَّ اخْتَلَفَ مَالِكُهُ ، وَالشَّفِيعُ فَقَالَ الشَّفِيعُ : مَلَّكْتَهُ بِبَيْعٍ فَلِي شُفْعَتُهُ وَقَالَ الْمَالِكُ : مَلَّكْتُهُ بِهِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ فَلَا شُفْعَةَ لَكَ فِيهِ ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ مَالِكِهِ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَوْ أَنَّ مَنْ كَانَ الشِّقْصُ فِي مِلْكِهِ صَدَّقَ الشَّفِيعَ عَلَى الِابْتِيَاعِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ ، وَلَمْ تُسْمَعْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ شَاهِدٌ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ وَمَقَرٌّ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ، وَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ نُظِرَ فِي جَوَابِهِ لِلشَّفِيعِ فَإِنْ كَانَ قَدْ أَجَابَهُ عِنْدَ ادِّعَاءِ الشُّفْعَةِ بِأَنْ لَا شُفْعَةَ لَكَ فِيهِ كَانَ جَوَابًا مُقْنِعًا وَأُحْلِفَ بِاللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ شُفْعَةً وَإِنْ كَانَ قَدْ أَجَابَهُ بِأَنْ قَالَ لَمِ اشْتَرِهِ فَفِي يَمِينِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِهِ لِتَكُونَ الْيَمِينُ مُوَافِقَةً لِلْجَوَابِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَحْلِفُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ فِيهَا شُفْعَةً ؛ لِأَنَّهَا الْمَقْصُودَةُ بِالدَّعْوَى فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ مِنَ الشُّفْعَةِ وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الشَّفِيعِ وَأُحْلِفَ - إِنْ كَانَ الْمَالِكُ قَدْ أَنْكَرَهُ الشُّفْعَةَ - بِاللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ اسْتَحَقَّ الشُّفْعَةَ فِيهِ بِالشِّرَاءِ الَّذِي ادَّعَاهُ . وَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ قَدْ أَنْكَرَهُ الشِّرَاءَ أُحْلِفَ الشَّفِيعُ أَنَّهُ لَقَدِ اشْتَرَاهُ وَهَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ فِي يَمِينِهِ : إِنَّهُ اسْتَحَقَّ الشُّفْعَةَ فِيهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ ، وَإِنْ أَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ كَانَ اسْتِحْبَابًا ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ حُقُوقِ الْمَالِكِ فَلَمَّا لَمْ يُطَالِبْهُ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَازِمٌ ؛ لِأَنَّ نَقْلَ الْأَمْلَاكِ لَا تَجُوزُ بِالْأَمْرِ الْمُحْتَمِلِ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَفَا بَعْدَ الشِّرَاءِ ، فَإِذَا حَلَفَ عَلَى مَا وَصَفْنَا حُكِمَ لَهُ بِالشُّفْعَةِ ، وَفِي الثَّمَنِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ وَيُدْفَعُ إِلَى الْمَالِكِ لِئَلَّا يُؤْخَذَ الشِّقْصُ مِنْ يَدِهِ بِغَيْرِ بَدَلٍ .

فَصْلٌ : وَذَهَبَ الْبَصْرِيُّونَ إِلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُصَوَّرَةٌ فِي أَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ فِي الشِّقْصِ الْمُشْتَرَكِ قَالَ عِنْدَ ادِّعَاءِ الشُّفْعَةِ عَلَيْهِ : أَنَا وَكِيلُ الْغَائِبِ فِيهِ ، وَلَمْ أَمْلِكْهُ عَنْهُ ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَمْرَيْنِ مِنْ بُدٍّ وَإِنْكَارٍ ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ مِنَ الشُّفْعَةِ فِيهِ ، وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الشَّفِيعِ ، فَإِنْ حَلَفَ حُكِمَ لَهُ بِالشُّفْعَةِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ حُكْمًا عَلَى الْغَائِبِ بِنَقْلِ مِلْكِهِ إِلَى الشَّفِيعِ وَإِنَّمَا يَكُونُ رَفْعًا لِيَدِ الْحَاضِرِ ، ثُمَّ فِي الثَّمَنِ وَجْهَانِ :


أَحَدُهُمَا : يُقْبَضُ مِنَ الشَّفِيعِ وَيُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ ؛ لِئَلَّا يَتَصَرَّفَ فِيهِ الشَّفِيعُ بِغَيْرِ بَدَلٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُقَرُّ فِي ذِمَّةِ الشَّفِيعِ إِلَى قُدُومِ الْغَائِبِ وَيُمَكَّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الشِّقْصِ بِمَا لَا يُؤَدِّي إِلَى اسْتِهْلَاكِهِ ، وَإِنْ بَاعَهُ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ بَيْعِهِ ؛ لِأَنَّ الْغَائِبَ عَلَى حَقِّهِ فِيهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ ، وَهَلْ يُؤْخَذُ بِكَفِيلٍ فِيمَا حَصَلَ لَهُ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُؤَخَّرُ بِهِ حِفْظًا لِحَقِّ الْغَائِبِ . وَالثَّانِي : لَا يُؤْخَذُ بِهِ ؛ لِأَنَّنَا عَلَى غَيْرِ يَقِينٍ مِنَ اسْتِحْقَاقِهِ ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْبَصْرِيُّونَ أَشْبَهُ بِصُورَةِ الْمَسْأَلَةِ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ بَعْدَهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ أَقَامَ الشَّفِيعُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَقَامَ ذَلِكَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ فُلَانًا أَوْدَعَهُ إِيَّاهَا قَضَيْتُ لَهُ بِالشُّفْعَةِ ، وَلَا يَمْنَعُ الشَّرَاءُ الْوَدِيعَةَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا أَنْ يَقُولَ لِصَاحِبِ الْيَدِ عَلَى الشِّقْصِ عِنْدَ ادِّعَاءِ الشُّفْعَةِ عَلَيْهِ أَنَا وَكِيلٌ لِصَاحِبِهِ مُسْتَوْدَعٌ فِي حِفْظِهِ ، فَيُقِيمَ الشَّفِيعُ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ بِالشِّرَاءِ ، وَيُقِيمَ صَاحِبُ الْيَدِ الْبَيِّنَةَ بِأَنَّهُ وَكَيْلُ الْمُسْتَوْدَعِ ، وَلَا تَتَعَارَضُ الْبَيِّنَتَانِ ، وَيُحْكَمُ بِبَيِّنَةِ الشَّفِيعِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا مُسْتَوْدَعًا لَمْ يَصِرْ مُشْتَرِيًا مَالِكًا ، فَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الْيَدِ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ عَلَى نَفْيٍ مُجَرَّدٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ بَاعَا مِنْ رَجُلٍ شِقْصًا فَقَالَ الشَّفِيعُ أَنَا آخُذُ مَا بَاعَ فُلَانٌ وَأَدَعُ حِصَّةَ فُلَانٍ ، فَذَلِكَ لَهُ فِي الْقِيَاسِ قَوْلُهُ ، وَكَذَلِكَ لَوِ اشْتَرَى رَجُلَانِ مِنْ رَجُلٍ شِقْصًا أَنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ حِصَّةَ أَيِّهِمَا شَاءَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُمَا مَسْأَلَتَانِ : أَحَدُهُمَا : مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا ، وَالْأُخْرَى مُخْتَلَفٌ فِيهَا ، فَأَمَّا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا فَهِيَ فِي شِقْصٍ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ بَاعَهُ صَفْقَةً عَلَى رَجُلَيْنِ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الشِّقْصَ كُلَّهُ مِنْهُمَا وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ حِصَّةَ أَحَدِهِمَا وَيَعْفُوَ عَنْ آخَرَ ؛ لِأَنَّهُمَا عَقْدَانِ ، وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهَا فَهِيَ فِي شِقْصٍ لِرَجُلَيْنِ بَاعَاهُ صَفْقَةً عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ حال الشفيع في هذه الصورة فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الشَّفِيعَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْمُشْتَرِي جَمِيعَ الشِّقْصِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ حِصَّةَ أَحَدِ الْبَائِعَيْنِ دُونَ الْآخَرِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ لِلشَّفِيعِ أَنْ يُفَرِّقَ صَفْقَةَ الْمُشْتَرِي ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ ، أَوْ يَدَعَهُ كَمَا لَوْ كَانَ الْبَائِعُ وَاحِدًا ، وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ اجْتَمَعَ فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ عَقْدَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ الْعَقْدَيْنِ


كَمَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي اثْنَيْنِ ، وَلِأَنَّ اجْتِمَاعَ الْبَائِعَيْنِ فِي عَقْدٍ كَافْتِرَاقِهِمَا فِي عَقْدَيْنِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدٌ فَبَاعَاهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ لَمْ يَجُزْ ؛ لِلْجَهَالَةِ بِثَمَنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ جَازَ لِلْعِلْمِ بِثَمَنِهِمَا ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الشِّقْصُ لِرَجُلَيْنِ فَبَاعَاهُ مَعًا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ عَلَى رَجُلَيْنِ فَحُكْمُ هَذَا الْعَقْدِ حُكْمُ أَرْبَعَةِ عُقُودٍ ، فَيَكُونُ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الشِّقْصَ كُلَّهُ بِالْعُقُودِ الْأَرْبَعَةِ ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ بِثَلَاثَةِ عُقُودٍ ، نِصْفُهُ مِنْ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ بِعَقْدَيْنِ وَرُبُعُهُ مِنَ الْآخَرِ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ النِّصْفَ بِعَقْدَيْنِ مِنْ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ ، أَوْ مِنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الرُّبُعَ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ مِنْ مُشْتَرٍ وَاحِدٍ ، وَهَكَذَا لَوْ بَاعَ مَالِكُ الشِّقْصِ بَعْضَهُ عَلَى رَجُلٍ فِي عَقْدٍ ثُمَّ بَاعَ بَاقِيَهُ فِي عَقْدٍ كَانَ الشَّفِيعُ مُخَيَّرًا فِي أَخْذِ كُلِّ الشِّقْصِ بِالْعَقْدَيْنِ وَفِي أَخْذِ إِحْدَى الْحِصَّتَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُشْتَرِي وَاحِدًا ، أَوِ اثْنَيْنِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَوْ زَعَمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ اشْتَرَاهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِأَلْفٍ ثُمَّ أَقَامَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ بَاعَهُ إِيَّاهَا بِأَلْفَيْنِ قُضِيَ لَهُ بِأَلْفَيْنِ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الشَّفِيعِ ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّهُ اسْتَوْفَى جَمِيعَ حَقِّهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ اشْتَرَى شِقْصًا وَأَخَذَهُ الشَّفِيعُ مِنْ يَدِهِ بِأَلْفٍ ذَكَرَ الْمُشْتَرِي أَنَّهَا قَدْرَ ثَمَنِهِ ثُمَّ إِنَّ الْبَائِعَ ادَّعَى عَلَى الْمُشْتَرِي أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفَانِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْبَائِعِ ، وَالْمُشْتَرِي مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : الْحَالَةُ الْأُولَى : أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْأَلْفَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقُومَ لَهُ بَيِّنَةٌ فَيَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ بِتَصْدِيقِهِ دَفْعُ الْأَلْفِ الثَّانِيَةِ إِلَى الْبَائِعِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الشَّفِيعِ إِنْ أَكْذَبَهُ ؛ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ مَقْبُولٌ عَلَى نَفْسِهِ وَمَرْدُودٌ عَلَى غَيْرِهِ ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ عَقَدَ الشِّرَاءَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِحْلَافُ الشَّفِيعِ إِذَا أَكْذَبَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَكْذَبَ بِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ دَعْوَاهُ الثَّانِيَةَ ، وَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَنَابَ فِيهِ وَكِيلًا آخَرَ بِالثَّمَنِ عَنْ قَوْلِهِ فَفِي إِحْلَافِ الشَّفِيعِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَسْتَحِقُّ إِحْلَافَهُ لِإِمْكَانِ مَا قَالَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَسْتَحِقُّ إِحْلَافَهُ كَمَا لَوْ تَوَلَّى عَقْدَهُ .

فَصْلٌ : وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يُكَذِّبَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ في الشفعة فِي ادِّعَاءِ الْأَلْفَيْنِ ، وَلَا يَكُونَ لِلْبَائِعِ بَيِّنَةٌ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الشِّقْصَ لِاسْتِحْقَاقِهِ بِالشُّفْعَةِ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا ، وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ اسْتِهْلَاكَ الْمَبِيعِ يَجْعَلُ الْقَوْلَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ قَوْلَ الْمُشْتَرِي ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ ، وَإِذَا كَانَ الْوَاجِبُ تَحَالُفُهُمَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الشَّفِيعِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا لِلْبَائِعِ ، أَوْ مُكَذِّبًا لَهُ ، فَإِنْ كَانَ مُصَدِّقًا لَهُ جَازَ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي إِنْ كَانَ عَدْلًا ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَضِرُّ بِهَا ، وَلَا يَنْتَفِعُ ، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الشَّفِيعِ


إِذَا غَرِمَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهَا وَإِنْ تَعَذَّرَ غُرْمُ الْمُشْتَرِي لَهَا بِغَيْبَةٍ ، أَوْ عُسْرٍ فَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْبَائِعُ أَخْذَهَا مِنَ الشَّفِيعِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَسْتَحِقُّ أَخْذَهَا مِنْهُ وَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَيْهَا ؛ لِوُجُوبِهَا عَلَى غَيْرِهِ وَإِقْرَارِ الشَّفِيعِ بِهَا لِغَيْرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَسْتَحِقُّ أَخْذَهَا مِنْهُ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ مُنْتَقِلٌ إِلَيْهِ وَثَمَنَهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ الشَّفِيعُ مُكَذِّبًا لِلْبَائِعِ تَحَالَفَ الْبَائِعُ ، وَالْمُشْتَرِي ، وَلَمْ تَبْطُلِ الشُّفْعَةُ لِتَحَالُفِهِمَا ، سَوَاءٌ قِيلَ : إِنَّ الْعَقْدَ يَبْطُلُ بِالتَّحَالُفِ ، أَوْ لَا يَبْطُلُ ؟ لِاسْتِقْرَارِ الشِّقْصِ عَلَى مِلْكِ الشَّفِيعِ بِالْأَخْذِ بِخِلَافِ مَا مَضَى مِنْ تَحَالُفِهِمَا قَبْلَ الْأَخْذِ ، ثُمَّ هَلْ يَسْتَحِقُّ الْبَائِعُ إِحْلَافَ الشَّفِيعِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ فِي وُجُوبِ غُرْمِهِ إِنْ صَدَقَ .

فَصْلٌ : وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكْذِبَ الْمُشْتَرِي وَيُقِيمَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ فَيَحْكُمَ بِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي دُونَ الشَّفِيعِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ الشَّفِيعُ قَدْ أَخَذَ الشِّقْصَ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ حُكِمَ بِهَا عَلَى الشَّفِيعِ دُونَ الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَهُ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي حُكِمَ بِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي دُونَ الشَّفِيعِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي عُهْدَةِ الْمَبِيعِ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي أَصْلِهِ ، فَإِذَا حُكِمَ بِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي لَمْ يَرْجِعِ الْمُشْتَرِي بِهَا عَلَى الشَّفِيعِ ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّهُ مَظْلُومٌ بِهَا وَأَنَّ الشَّفِيعَ بَرِيءٌ مِنْهَا ، وَإِنْ تَعَذَّرَ أَخْذُهَا مِنَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَجُزْ أَنْ تُؤْخَذَ مِنَ الشَّفِيعِ إِنْ كَانَ مُكَذَّبًا ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ بِهَا قَائِمَةٌ عَلَى غَيْرِهِ ، وَهَلْ يُؤْخَذُ مِنْهُ إِنْ كَانَ مُصَدَّقًا ؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ .

فَصْلٌ : وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَصْدُقَ الْمُشْتَرِي وَيُقِيمَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ الشفيع في الشفعة فَتُؤْخَذَ الزِّيَادَةُ مِنَ الْمُشْتَرِي ، وَلَا يَرْجَعُ الْمُشْتَرِي بِهَا عَلَى الشَّفِيعِ إِنْ كَانَ قَدْ عَاقَدَ بِنَفْسِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : رَجَعَ بِهَا الْمُشْتَرِي عَلَى الشَّفِيعِ ؛ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ لِلْبَائِعِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَبَيِّنَةٌ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الشَّفِيعِ وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ أَثْبَتُ مِنْ بَيِّنَتِهِ ، وَقَدْ أَقَرَّ مُبْتَدِئًا بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ فَصَارَ مُكَذِّبًا لِبَيِّنَتِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَرْجِعِ الْمُشْتَرِي بِهَا عَلَى الشَّفِيعِ مَعَ إِنْكَارِهِ إِنْ كَانَ عَاقَدَ بِنَفْسِهِ ، وَهَلْ يَرْجِعُ بِهَا إِنْ كَانَ مُسْتَنِيبًا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْجِعُ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُ تَكْذِيبٌ لِبَيِّنَتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَرْجِعُ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ الْمُزَنِيِّ .

فَصْلٌ : وَلَوِ ادَّعَى عَلَى الْبَائِعِ رَدَّ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَهُوَ غَائِبٌ دعوى الشفيع في هذه الحالة جَازَ لِجَوَازِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ أَنْ يُؤْخَذَ الثَّمَنُ مِنَ الشَّفِيعِ لِلْمُشْتَرِي بَعْدَ إِحْلَافِهِ لِلْمُشْتَرِي بِاللَّهِ تَعَالَى إِنَّهُ لَعَلَى حَقِّهِ مِنَ الشُّفْعَةِ ، وَيُدْفَعَ عَنِ الْمُشْتَرِي إِلَى الْبَائِعِ بَعْدَ إِحْلَافِهِ لِلْمُشْتَرِي بِاللَّهِ أَنَّ الثَّمَنَ بَاقٍ


عَلَيْهِ ، فَإِنْ قَدِمَ الْمُشْتَرِي فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْبَائِعِ بِقَبْضِ الثَّمَنِ ، أَوْ عَلَى الْبَيْعِ بِالْعَفْوِ عَنِ الشُّفْعَةِ حُكِمَ لَهُ بِمَا تُوجِبُهُ بَيِّنَتُهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَا لَمْ يَدَّعِهِ الْمَالِكُ ثَمَنًا . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يُقَرُّ فِي ذِمَّةِ الشَّفِيعِ مَا لَمْ يَأْتِ الْمَالِكُ مُطَالِبًا . قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ عَبْدًا فَأَخَذَهُ الشَّفِيعُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ ثُمَّ أَصَابَ الْبَائِعُ بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَلَهُ رَدُّهُ وَيَرْجِعُ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِقِيمَةِ الشِّقْصِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ اشْتَرَى شِقْصًا بِعَبْدٍ فَيَسْتَحِقُّ الشَّفِيعُ أَخْذَهُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ ثُمَّ يَظْهَرُ الْبَائِعُ عَلَى عَيْبٍ فِي الْعَبْدِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ ظُهُورُ الْعَيْبِ بَعْدَ أَخْذِ الشَّفِيعِ الشِّقْصِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ . فَهَذَا أَيْضًا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يُمْكِنَ رَدُّ الْعَبْدِ فَيَسْتَحِقُّ الْبَائِعُ رَدَّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ قَدْ فَاتَ بِأَخْذِ الشَّفِيعِ اسْتِرْجَاعَ الشِّقْصِ كَمَا لَوْ بَاعَهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْبَائِعُ اسْتِرْجَاعَهُ مِنَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي ، وَإِذَا فَاتَ الرَّدُّ بِمَا ذَكَرْنَا رَجَعَ الْبَائِعُ بِقِيمَةِ الشِّقْصِ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي أَقَلِّ مَا كَانَ قِيمَتُهُ مِنْ وَقْتٍ عِنْدَ الْبَيْعِ ، أَوْ قَبْضِ الْمُشْتَرِي ، وَقَدِ اسْتَوْفَى الْبَائِعُ حَقَّهُ ، وَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْمُشْتَرِي أَخْذَ الشَّفِيعِ بِمَا غَرِمَهُ مِنْ قِيمَةِ الشِّقْصِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَلَّا يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ إِلَّا قِيمَةَ الْعَبْدِ الَّذِي كَانَ ثَمَنًا ، وَقَدِ اسْتَوْفَاهَا وَيَسْتَحِقَّ الرُّجُوعَ بِمَا اسْتَحْدَثَ غُرْمَهُ مِنْ قِيمَةِ الشِّقْصِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ قِيمَةَ الشِّقْصِ ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَدْخُلُ مَدْخَلَ الْمُشْتَرِي ، وَيَأْخُذُهُ مِنْهُ بِمَا قَامَ عَلَيْهِ ، فَعَلَى هَذَا يَتَقَاصَّانِ فِي قِيمَةِ الشِّقْصِ بِمَا أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَكْثَرَ رَجَعَ الشَّفِيعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْفَاضِلِ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الشِّقْصِ أَكْثَرَ رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الشَّفِيعِ بِالْفَاضِلِ مِنْ قِيمَةِ الشِّقْصِ وَإِنْ كَانَتَا سَوَاءً فَلَا تَرَاجُعَ بَيْنَهُمَا .

فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَفُوتَ رَدُّ الْعَبْدِ إِمَّا لِمَوْتِهِ ، أَوْ لِحُدُوثِ عَيْبٍ بِهِ فَيَسْتَحِقُّ الْبَائِعُ بِفَوَاتِ رَدِّهِ الرُّجُوعَ بِأَرْشِ عَيْبِهِ في الشفعة فَإِذَا رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِهِ نُظِرَ فِي الشَّفِيعِ فَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَ الشِّقْصَ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ سَلِيمًا مِنْ عَيْبٍ فَلَا رُجُوعَ لِلْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِشَيْءٍ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَهُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ مَعِيبًا رَجَعَ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي بِأَرْشِ الْعَيْبِ وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ الثَّمَنِ .

فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي فِي الْأَصْلِ : أَنْ يَكُونَ ظُهُورُ الْبَائِعِ عَلَى الْعَيْبِ قَبْلَ أَخْذِ الشَّفِيعِ فَفِي أَحَقِّهِمَا بِالشُّفْعَةِ وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ ، فِي الشِّقْصِ إِذَا كَانَ صَدَاقًا وَتَنَازَعَهُ الشَّفِيعُ ، وَالزَّوْجُ الْمُطَلِّقِ قَبْلَ الدُّخُولِ :


أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ : أَنَّ الْبَائِعَ أَحَقُّ إِذَا قِيلَ إِنَّ الزَّوْجَ هُنَاكَ أَحَقُّ ، فَعَلَى هَذَا تَبْطُلُ الشُّفْعَةُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الشَّفِيعَ أَحَقُّ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ بِالصَّدَاقِ أَحَقُّ ، فَعَلَى هَذَا يَرْجِعُ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِقِيمَةِ الشِّقْصِ ثُمَّ فِيمَا يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَأْخُذُهُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ الَّذِي كَانَ ثَمَنًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَأْخُذُهُ بِقِيمَةِ الشِّقْصِ الَّذِي صَارَ مَعْرُوفًا . قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَإِنِ اسْتُحِقَّ الْعَبْدُ بَطَلَتِ الشُّفْعَةُ وَرَجَعَ الْبَائِعُ فَأَخَذَ شِقْصَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الثَّمَنِ يُوجِبُ إِبْطَالَ الْبَيْعِ ، وَبُطْلَانُ الْبَيْعِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الشُّفْعَةِ ، وَبُطْلَانُ الشُّفْعَةِ يُوجِبُ اسْتِرْجَاعَ الشِّقْصِ فَصَارَ اسْتِحْقَاقُ الثَّمَنِ مُخَالِفًا لِظُهُورِ الْعَيْبِ بِهِ الْمُوجِبِ لِفَسْخِهِ دُونَ إِبْطَالِهِ . قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ صَالَحَهُ مِنْ دَعْوَاهُ عَلَى شِقْصٍ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إِلَّا أَنْ يُقِرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالدَّعْوَى فَيَجُوزُ ، وَلِلشَّفِيعِ أَخْذُ الشُّفْعَةِ بِمِثْلِ الْحَقِّ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الصُّلْحُ إِنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ ، أَوْ قِيمَتِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالصُّلْحُ ضَرْبَانِ : صُلْحٌ عَنْ إِنْكَارٍ فَهُوَ بَاطِلٌ ، وَلَا شُفْعَةَ فِيهِ ، وَصُلْحٌ عَنْ إِقْرَارٍ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَالشُّفْعَةُ فِيهِ وَاجِبَةٌ وَهُوَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَدَّعِيَ رَجُلٌ شِقْصًا فِي يَدِ رَجُلٍ فَيُصَالِحَهُ مِنْهُ بَعْدَ إِقْرَارِهِ بِهِ الشفعة فيه عَلَى أَلْفٍ ، أَوْ عَبْدٍ فَيَصِيرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُشْتَرِيًا لِلشِّقْصِ بِالْأَلْفِ ، أَوْ بِالْعَبْدِ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمِثْلِ الْأَلْفِ ، أَوْ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَدَّعِيَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَلْفًا ، أَوْ عَبْدًا فَيُصَالِحَهُ مِنْهُ بَعْدَ إِقْرَارِهِ بِهِ الشفعة فيه عَلَى شِقْصٍ فَيَصِيرُ الْمُدَّعِي مُشْتَرِيًا لِلشِّقْصِ بِالْأَلْفِ ، أَوْ بِالْعَبْدِ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنَ الْمُدَّعِي بِمِثْلِ الْأَلْفِ ، أَوْ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ أَقَامَ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ هَذِهِ الدَّارِ شِقْصًا وَأَرَادَ أَخْذَ شِقْصِ صَاحِبِهِ بِشُفْعَتِهِ فَإِنْ وُقِّتَتِ الْبَيِّنَةُ فَالَّذِي سَبَقَ بِالْوَقْتِ لَهُ الشُّفْعَةُ وَإِنْ لَمْ تُؤَقَّتْ وَقْتًا بَطُلَتِ الشُّفْعَةُ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَا اشْتَرَيَا مَعًا وَحَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلَيْنِ اشْتَرَيَا دَارًا فِي عَقْدَيْنِ مِنْ رَجُلٍ ، أَوْ مِنْ رَجُلَيْنِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَا سَبَقْتُكَ بِالْعَقْدِ فَلِي الشُّفْعَةُ عَلَيْكَ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ :


إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمَا بَيِّنَةٌ ، أَوْ لَا يَكُونَ لَهُمَا بَيِّنَةٌ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ تَحَالَفَا عَلَى مَا تَدَاعَيَاهُ ، وَالْمَسْبُوقُ بِالدَّعْوَى مُقَدَّمٌ فِي الْيَمِينِ فَيَحْلِفُ بِاللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهُ مَلَكَ قَبْلَهُ فَتَكُونُ يَمِينُهُ عَلَى الْعِلْمِ لِنَفْيِ مَا ادَّعَاهُ صَاحِبُهُ مِنْ تَقَدُّمِ مِلْكِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وَيُسْتَحْلَفُ الثَّانِي بِمِثْلِ هَذِهِ الْيَمِينِ الَّتِي حَلَفَ بِهَا الْأَوَّلُ لِدَعْوَاهُ عَلَى الثَّانِي مِثْلَ مَا ادَّعَاهُ الثَّانِي عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْأَوَّلِ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ الْمَوْضُوعَةِ لِنَفْيِ الدَّعْوَى مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَحْلِفَ بِهَا ، أَوْ يَنْكُلَ عَنْهَا . فَإِنْ حَلَفَ بِهَا فَقَدْ بَرِئَ مِمَّا ادُّعِيَ عَلَيْهِ وَسَقَطَتِ الشُّفْعَةُ فِيمَا مَلَكَهُ ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ إِحْلَافَ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْيَمِينِ وَتَسْقُطُ الشَّفْعَتَانِ ، وَإِنْ نَكَلَ الْأَوَّلُ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي السَّابِقِ بِالدَّعْوَى لِيَحْلِفَ عَلَى إِثْبَاتِ مَا ادَّعَاهُ قَطْعًا بِاللَّهِ لَقَدْ مَلَكَ قَبْلَ صَاحِبِهِ فَإِذَا حَلَفَ حُكِمَ لَهُ بِالشُّفْعَةِ ، وَتَسْقُطُ دَعْوَى النَّاكِلِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ قَدْ أُخِذَ بِالشُّفْعَةِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ حَقٌّ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ بِهِ وَلَوْ كَانَ الْمُقَدَّمُ بِالْيَمِينِ حَلَفَ وَنَكَلَ بَعْدَهُ الثَّانِي رُدَّتْ يَمِينُهُ عَلَى الْأَوَّلِ لِيَحْلِفَ بِهَا إِثْبَاتًا لِمَا ادَّعَاهُ قَطْعًا بِاللَّهِ لَقَدْ مَلَكَ قَبْلَ صَاحِبِهِ ، وَلَا يُكْتَفَى بِالْيَمِينِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ الْأُولَى لِنَفْيِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ ، وَالثَّانِيَةَ لِإِثْبَاتِ مَا ادَّعَاهُ وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْأُولَى عَلَى الْعِلْمِ وَالثَّانِيَةُ عَلَى الْبَتِّ فَهَذَا أَحْكَمُ أَيْمَانِهَا عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لَهُمَا بَيِّنَةٌ في الشفعة إذا ادعى اثنان أحقيتهما بالشفعة فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ فِيهَا بَيَانٌ لِإِثْبَاتِ الشُّفْعَةِ ، وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِيهَا بَيَانٌ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا بَيَانٌ لِإِثْبَاتِ وَلَا لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ ، وَالرَّابِعُ : أَنْ يُعَارِضَ الْإِثْبَاتُ الْإِسْقَاطَ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا بَيَانٌ لِإِثْبَاتِ الشُّفْعَةِ ، فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُقِيمَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى فِي الْمُحَرَّمِ وَيُقِيمَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى فِي صَفَرٍ فَتَكُونُ الشُّفْعَةُ لِلْأَسْبَقِ مِنْهُمَا شِرَاءً لِتَقْدِيمِ مِلْكِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُقِيمَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى فِي الْمُحَرَّمِ وَأَنَّ صَاحِبَهُ اشْتَرَى فِي صَفَرٍ فَيُحْكَمَ لَهُ بِالشُّفْعَةِ ، وَإِنِ انْفَرَدَ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِقُوَّتِهَا بِتَقَدُّمِ مِلْكِهِ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يُقِيمَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى قَبْلَ صَاحِبِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْهَدَ بِوَقْتِ الْعَقْدَيْنِ . فَقَدْ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : لَا يُحْكَمُ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ مَا لَمْ يُعَيَّنْ وَقْتُ الْعَقْدَيْنِ ؛ لِجَوَازِ الِاشْتِبَاهِ . وَهَذَا خَطَأٌ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ تَعَيُّنَ الْوَقْتِ لَا يُفِيدُ أَكْثَرَ مِنْ تَعَيُّنِ أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ بِأَنَّهُ أَسْبَقُ مِنَ الْآخَرِ فَإِنْ أُشْهِدَ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا أَسْبَقُ مِنَ الْآخَرِ أَجْزَأَ وَإِنْ لَمْ يُعَيَّنِ الزَّمَانُ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ تَعْيِينُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ إِذَا كَانَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَدْخَلٌ كَالَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا بَيَانٌ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ فَهُوَ أَنْ يُقِيمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا


بَيِّنَةً أَنَّهُ عَقَدَ الشِّرَاءَ فِي وَقْتٍ مِثْلِ وَقْتِ صَاحِبِهِ مِثْلَ أَنْ تَشْهَدَ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَى مَعَ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ غُرَّةِ الْمُحَرَّمِ فَتَدُلَّ الْبَيِّنَتَانِ عَلَى سُقُوطِ الشُّفْعَةِ فِي الْعَقْدَيْنِ لِوُقُوعِهِمَا مَعًا وَأَنَّهُ لَيْسَ ثُبُوتُهَا مَعَ التَّسَاوِي لِأَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ ثُبُوتِهَا عَلَيْهِ فَسَقَطَتَا لِتَعَارُضِهِمَا . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا بَيَانُ الْإِثْبَاتِ ، وَالْإِسْقَاطِ فَقَدْ تَكُونُ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ لَا يَكُونَ فِي وَاحِدٍ مِنَ الْبَيِّنَتَيْنِ تَارِيخٌ ، وَالثَّانِي أَنْ تُؤَرَّخَ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى ، وَالثَّالِثُ : أَنْ تُؤَرَّخَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْبَيِّنَتَيْنِ إِلَى وَقْتٍ يُمْكِنُ أَنْ يَتَقَدَّمَ فِيهِ أَحَدُ الْعَقْدَيْنِ عَلَى الْآخَرِ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَقَعَا مَعًا مِثْلَ أَنْ يُقِيمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى فِي غُرَّةِ الْمُحَرَّمِ ، فَغُرَّتُهُ يَوْمٌ كَامِلٌ تَسَعُ لِتَقَدُّمِ أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ عَلَى الْآخَرِ ، وَاحْتِمَالٌ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُوَ السَّابِقَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقَعَ الْعَقْدَانِ فِي حَالٍ مَعًا ، فَلَمْ يَكُنْ فِي الْبَيِّنَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ بَيَانٌ لِإِثْبَاتِ الشُّفْعَةِ وَلِإِسْقَاطِهَا فَوَجَبَ أَنْ تُلْغَى الْبَيِّنَتَانِ لِعَدَمِ الْبَيَانِ فِيهِمَا ، وَيَرْجِعَانِ إِلَى التَّدَاعِي ، وَالتَّحَالُفِ عَلَى مَا مَضَى . وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : وَهُوَ أَنْ تَتَعَارَضَ الْبَيِّنَتَانِ فِي الْإِثْبَاتِ في الشفعة إذا ادعى اثنان أحقيتهما بالشفعة ، وَالْإِسْقَاطِ فَهُوَ أَنْ يُقِيمَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى فِي الْمُحَرَّمِ وَأَنَّ صَاحِبَهُ اشْتَرَى فِي صَفَرٍ وَيُقِيمَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى فِي الْمُحَرَّمِ ، وَأَنَّ صَاحِبَهُ اشْتَرَى فِي صَفَرٍ ، أَوْ يُقِيمَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى فِي أَوَّلِ يَوْمِ الْمُحَرَّمِ ، وَأَنَّ صَاحِبَهُ اشْتَرَى فِي ثَانِيهِ وَيُقِيمَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى فِي ثَالِثِ الْمُحَرَّمِ ، وَأَنَّ صَاحِبَهُ اشْتَرَى فِي رَابِعِهِ فَكُلُّ هَذَا تَعَارُضٌ ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْأَزْمِنَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْبَيِّنَتَيْنِ تَشْهَدُ بِتَقَدُّمِ أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ عَلَى الْآخَرِ ، وَكَانَ فِي تَعَارُضِهِمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : يَسْقُطَانِ ، وَيَتَرَاجَعَانِ إِلَى الْيَمِينِ ، وَالتَّحَالُفِ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُوقَفَانِ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ فِيهِمَا بَيَانٌ ، وَيُمْنَعَانِ مِنَ التَّحَالُفِ حَتَّى يَقَعَ بَيَانٌ ، وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : الْإِقْرَاعُ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ فَأَيُّهُمَا قُرِعَتْ حُكِمَ بِهَا وَفِي إِحْلَافِ مَنْ قُرِعَتْ بَيِّنَتُهُ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَحْلِفُ إِنْ قِيلَ : إِنَّ الْقُرْعَةَ دَخَلَتْ تَرْجِيحًا لِلدَّعْوَى ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَحْلِفُ إِنْ قِيلَ : إِنَّ الْقُرْعَةَ دَخَلَتْ تَرْجِيحًا لِلْبَيِّنَةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ أَنَّ الْبَائِعَ قَالَ بِعْتُ مِنْ فُلَانٍ شِقْصِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَنَّهُ قَبَضَ الشِّقْصَ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ فُلَانٌ وَادَّعَاهُ الشَّفِيعُ فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَدْفَعُ الْأَلْفَ إِلَى الْبَائِعِ وَيَأْخُذُ الشِّقْصَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ ادَّعَى بَيْعَ شِقْصِهِ عَلَى رَجُلٍ فَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي الشِّرَاءَ وَحَضَرَ الشَّفِيعُ مُصَدِّقًا الْبَائِعَ ، وَمُطَالِبًا لِلشُّفْعَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ :


أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ مُدَّعِيًا بَقَاءَ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا بِقَبْضِهِ ، فَإِنْ كَانَ مَعَ ادِّعَاءِ الْبَيْعِ مُدَّعِيًا بَقَاءَ الثَّمَنِ حُكِمَ عَلَيْهِ لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ عَلَى الْمُشْتَرِي وَمُقِرٌّ لِلشَّفِيعِ فَحُكِمَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ فَإِنْ رُدَّتْ دَعْوَاهُ فَفِي مَنْعِهِ مِنْ مُحَاكَمَةِ الْمُشْتَرِي وَإِحْلَافِهِ عَلَى الْإِنْكَارِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَيْسَ لَهُ إِحْلَافُهُ ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ حُصُولُ الثَّمَنِ ، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ . وَسَوَاءٌ حَصَلَ لَهُ مِنْ مُشْتَرٍ ، أَوْ شَفِيعٍ ، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنْ إِنْ أُحْلِفَ أَنْ يُحْكَمَ بِفَسْخِ الْبَيْعِ وَفِيهِ إِبْطَالٌ لِحَقِّ الشَّفِيعِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَهُ إِحْلَافُهُ ؛ لِاسْتِحْقَاقِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ بِإِنْكَارِهِ ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْبُغْيَةِ بِوُصُولِ الْمِلْكِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ ، وَلَا يَبْطُلُ بِيَمِينِهِ حَقُّ الشَّفِيعِ . فَإِذَا قُضِيَ لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ لَزِمَهُ دَفْعُ الثَّمَنِ إِلَى الْبَائِعِ ، وَيَكُونُ عُهْدَةُ الشَّفِيعِ هَاهُنَا عَلَى الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ الشِّرَاءُ مَعَ إِنْكَارِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ عُهْدَتُهُ .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ مَعَ ادِّعَاءِ الْبَيْعِ مُقِرًّا بِقَبْضِ الثَّمَنِ مِنَ الْمُشْتَرِي فَفِي الشُّفْعَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَطَائِفَةٍ : أَنَّهَا بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ لَا تُسْتَحَقُّ إِلَّا بِيَمِينٍ ، وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنَ الْبَائِعِ ، وَالْمُشْتَرِي مُسْتَحِقًّا لِقَبْضِ الثَّمَنِ ، أَمَّا الْبَائِعُ فَلِإِقْرَارِهِ بِقَبْضِهِ ، وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَلِإِنْكَارِهِ لِاسْتِحْقَاقِهِ . فَعَلَى هَذَا لَا مُخَاصَمَةَ بَيْنَ الْبَائِعِ ، وَالْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ ، وَلِلشَّفِيعِ مُخَاصَمَةُ الْمُشْتَرِي فِي الشُّفْعَةِ ، وَإِحْلَافُهُ عَلَى إِنْكَارِ الشِّرَاءِ ؟ لِمَا فِي إِنْكَارِهِ مِنْ إِبْطَالِ الشُّفْعَةِ عَلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا : أَنَّ الشُّفْعَةَ وَاجِبَةٌ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ مُقِرٌّ بِاسْتِحْقَاقِهَا مِنْ يَدِهِ فَيُحْكَمُ بِهَا لِلشَّفِيعِ ، وَفِي الثَّمَنِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُوقَفُ فِي ذِمَّةِ الشَّفِيعِ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَسْتَحِقُّهُ ، وَالْمُشْتَرِي لَا يَدَّعِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُقْبَضُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ الشُّفْعَةَ مِنْ غَيْرِ بَدَلِ فِعْلٍ ، هَذَا إِذَا قَبَضَ مِنْهُ الثَّمَنَ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا لِلْمُشْتَرِي فِي بَيْتِ الْمَالِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُدْفَعُ إِلَى الْبَائِعِ وَيُسْتَرْجَعُ مِنَ الْبَائِعِ مَا أَقَرَّ بِقَبْضِهِ مِنَ الْمُشْتَرِي فَيَكُونُ هُوَ الْمَوْقُوفَ لِلْمُشْتَرِي فِي بَيْتِ الْمَالِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا بِيعَ شِقْصٌ مِنْ دَارٍ فَجَاءَ الشَّرِيكُ فِيهَا مُدَّعِيًا مِلْكَ الْمَبِيعِ مِنْهَا ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ


بَيِّنَةٌ فَحَلَفَ مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ ، ثُمَّ جَاءَ يَطْلُبُ الشُّفْعَةَ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي الدَّعْوَى فَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ بِغَيْرِ شُفْعَةٍ ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ مُقِرٌّ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَإِذَا كَانَ لِلشِّقْصِ ثَلَاثَةُ شُفَعَاءَ فَشَهِدَ اثْنَانِ عَلَى تَسْلِيمِ الثَّالِثِ فَإِنْ كَانَا سَلَّمَا جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَجُرَّانِ إِلَى أَنْفُسِهِمَا وَإِنْ لَمْ يَكُونَا سَلَّمَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ إِلَى أَنْفُسِهِمَا مَا سَلَّمَهُ صَاحِبُهُمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا وَجَبَتِ الشُّفْعَةُ لِثَلَاثَةِ شُفَعَاءَ فَادَّعَى الْمُشْتَرِي عَلَى أَحَدِ الثَّلَاثَةِ أَنَّهُ عَفَا عَنِ الشُّفْعَةِ نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ حَضَرَ الشَّفِيعَانِ الْآخَرَانِ مُطَالِبَيْنِ بِالشُّفْعَةِ فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَ الْمُشْتَرِي ، وَالشَّفِيعِ الْعَافِي ، وَخَصْمَهُ فِي الْعَفْوِ شَرِيكَاهُ فِي الشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يُعَلَّقُ لَهُ بِعَفْوِهِ حَقٌّ لِرُجُوعِهِ عَلَى شَرِيكِهِ ، وَإِنْ غَابَ الشَّفِيعَانِ الْآخَرَانِ ، أَوْ عَفَوَا صَارَ الْمُشْتَرِي خَصْمًا لِلْعَافِي فَإِنْ عَدِمَ الْعَافِي بَيِّنَةً تَشْهَدُ لَهُ بِعَفْوِهِ جَازَ أَنْ يُحْلِفَهُ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ بَيِّنَةٌ سُمِعَتْ وَهِيَ : شَاهِدَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ ؛ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ تَتَعَلَّقُ بِمَالٍ فَإِنْ شَهِدَ عَلَى الْعَافِي شَرِيكَاهُ فِي الشُّفْعَةِ نُظِرَ فِيهَا . فَإِنْ كَانَا قَدْ عَفَوَا عَنْ شُفْعَتِهِمَا جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا لِبَرَاءَتِهِمَا مِنْ تُهْمَةٍ ، وَسَلَامَتِهِمَا مِنْ جَرِّ مَنْفَعَةٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا قَدْ عَفَوَا رُدِّتْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِمَا فِيهَا مِنَ اتِّهَامِهِمَا بِجَرِّ الزِّيَادَةِ إِلَى أَنْفُسِهِمَا ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الشُّرَكَاءِ إِذَا عَفَا تَوَفَّرَ حَقُّهُ عَلَى مَنْ بَقِيَ فَلَوْ عَفَا الشَّرِيكَانِ فِي الشُّفْعَةِ بَعْدَ رَدِّ شَهَادَتِهِمَا لَمْ يُسْمَعْ بَعْدَ عَفْوِهِمَا ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ إِذَا رُدِّتْ لِتُهْمَةٍ لَمْ تُسْمَعْ بَعْدَ زَوَالِ التُّهْمَةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَوِ ادَّعَى الشَّفِيعُ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ اشْتَرَى الشِّقْصَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ مِنْ صَاحِبِهِ الْغَائِبِ وَدَفَعَ إِلَيْهِ ثَمَنَهُ وَأَقَامَ عَدْلَيْنِ بِذَلِكَ عَلَيْهِ أَخَذَ بِشُفْعَتِهِ وَنَفَذَ الْحُكْمُ بِالْبَيْعِ عَلَى صَاحِبِهِ الْغَائِبِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : هَذَا قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ وَهُوَ عِنْدِي تَرْكٌ لِأَصْلِهِمْ فِي أَنَّهُ لَا يُقْضَى عَلَى غَائِبٍ وَهَذَا غَائِبٌ قُضِيَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ بَاعَ وَقَبَضَ الثَّمَنَ وَأَبْرَأَ مِنْهُ إِلَيْهِ الْمُشْتَرِيَ وَبِذَلِكَ أَوْجَبُوا الشُّفْعَةَ لِلشَّفِيعِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ، وَإِنَّمَا أَعَادَهَا الْمُزَنِيُّ لِيَتَكَلَّمَ بِهَا عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ ، فَإِنْ غَابَ مِلْكُ الشِّقْصِ تَارِكًا حَقَّهُ فِي يَدِ نَائِبٍ عَنْهُ ، فَادَّعَى الشَّفِيعُ عَلَى الْحَاضِرِ أَنَّهُ اشْتَرَى حِصَّةَ الْغَائِبِ ، وَأَنْكَرَ صَاحِبُ الْيَدِ الشِّرَاءَ حَلَفَ مَا لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ عَلَيْهِ . فَإِنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِهِ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالشِّرَاءِ ، وَعَلَى الْغَائِبِ بِالْبَيْعِ ، وَلِلشَّرِيكِ الشُّفْعَةُ ، وَهَذَا قَوْلٌ وَافَقَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ مَعَ إِنْكَارِهِمُ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِمُ الْمُزَنِيُّ بِأَنَّهُمْ تَرَكُوا أُصُولَهُمْ وَنَاقَضُوا أَقْوَالَهُمْ عَلَى غَائِبٍ يُنْكِرُونَ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ مَا اعْتَرَضَ بِهِ الْمُزَنِيُّ عَلَيْهِمْ مِنْ مُنَاقَضَةِ أَصْلِهِمْ .


فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : إِنَّ اعْتِرَاضَ الْمُزَنِيِّ غَيْرُ مُتَوَجِّهٍ عَلَيْهِمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ نَقْضًا لِأَصْلِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْضُونَ عَلَى غَائِبٍ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِحَاضِرٍ يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ وَهَذَا قَضَاءٌ عَلَى الْمُشْتَرِي الْحَاضِرِ ، وَعَلَى الْبَائِعِ الْغَائِبِ ، فَنَفَذَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ مَعَ غِيبَتِهِ لِنُفُوذِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِحُضُورِهِ مَعَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَجْعَلُ الْمُشْتَرِيَ وَكِيلًا لِلشَّفِيعِ فِي تَمَلُّكِ الشِّقْصِ لَهُ مِنَ الْبَائِعِ وَهُوَ يَرَى الْقَضَاءَ عَلَى وَكِيلِ الْغَائِبِ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْهُمْ أَبُو الْفَيَّاضِ : إِنَّ هَذَا نَقْضٌ لِأَصْلِهِمْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ فِي الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الشَّفِيعِ لِلْمُشْتَرِي عَقْدَ الْبَيْعِ كَدَعْوَى الْمُشْتَرِي وَدَعْوَى الْمُشْتَرِي عِنْدَهُمْ مَرْدُودَةٌ ؛ لِأَنَّهَا دَعْوَى عَلَى غَائِبٍ فَإِذَا رَدُّوا دَعْوَى الْمُشْتَرِي ، وَامْتَنَعُوا مِنَ الْقَضَاءِ لَهُ بِالشِّرَاءِ عَلَى الْغَائِبِ لَزِمَهُمْ أَنْ يَرُدُّوا دَعْوَى الشَّفِيعِ وَيَمْنَعُوا مِنَ الْقَضَاءِ لَهُ عَلَى الْغَائِبِ ، وَإِنْ أَجَازُوهَا لِلشَّفِيعِ لَزِمَ إِجَازَتُهَا لِلْمُشْتَرِي .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوِ اشْتَرَى شِقْصًا وَهُوَ شَفِيعٌ فَجَاءَ شَفِيعٌ آخَرُ فَقَالَ لَهُ الْمُشْتَرِي : خُذْهَا كُلَّهَا بِالثَّمَنِ ، أَوْ دَعْ وَقَالَ هُوَ : بَلْ آخُذُ نِصْفَهَا كَانَ ذَلِكَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَ شُفْعَتَهُ لِغَيْرِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا كَانَ لِلشِّقْصِ شَفِيعَانِ فَاشْتَرَاهُ أَحَدُهُمَا ، وَحَضَرَ الْآخَرُ مُطَالِبًا بِالشُّفْعَةِ ، فَلَهُ أَخْذُ نِصْفِ الشِّقْصِ مِنْ شَرِيكِهِ الْمُشْتَرِي فِي شُفْعَتِهِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : شُفْعَةُ الْمُشْتَرِي بَاطِلَةٌ فِيمَا اشْتَرَاهُ ، وَلَا تَثْبُتُ لَهُ شُفْعَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلِشَرِيكِهِ أَخْذُ جَمِيعِ الشِّقْصِ مِنْ يَدِهِ وَلَيْسَ لَهُ تَبْعِيضُ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ بِأَخْذِ النِّصْفِ مِنْهُ . وَحَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَوَجَدْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ سُرَيْجٍ قَائِلًا بِخِلَافِهِ وَمُوَافِقًا لِأَصْحَابِهِ . وَدَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يَتِمُّ بِبَائِعٍ وَمُشْتَرٍ ، فَلَمَّا لَمْ تَجِبْ لِلْبَائِعِ شُفْعَةٌ فِيمَا بَاعَ ، لَمْ يَجِبْ لِلْمُشْتَرِي شُفْعَةٌ فِيمَا اشْتَرَى ، وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّ أَحَدَ الْمُتَبَايِعَيْنِ قَدْ أَسْقَطَ شُفْعَتَهُ فِيمَا مَلَكَ عَقْدَهُ بِالْبَيْعِ قَالَ : وَالْإِنْسَانُ لَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ حَقٌّ أَلَا تَرَى أَنَّ جِنَايَةَ السَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ هَدْرٌ ؛ لِأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْهُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَثْبُتَ لِلْمُشْتَرِي شُفْعَةٌ عَلَى نَفْسِهِ ، وَتَثْبُتُ الشُّفْعَةُ عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شِرْكٍ رَبْعَةٍ أَوْ غَيْرِهِ ، لَا يَبِيعُهُ حَتَّى يَعْرِضَ عَلَى شَرِيكِهِ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ فَإِنْ بَاعَ فَشَرِيكُهُ أَحَقُّ بِهِ حَتَى يُؤْذِنَهُ .


فَجَعَلَ أَخْذَ الشَّرِيكِ بِالشِّرَاءِ صَحِيحًا ، وَلَوْ أَبْطَلَ شُفْعَتَهُ بِالشِّرَاءِ لَكَانَ غُرُورًا ، وَيَخْرُجُ الْأَمْرُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَمْلِكَ الْمَبِيعَ بِالْخِلْطَةِ دُونَ الشِّرَاءِ ، فَأَوْلَى أَنْ يَمْلِكَهُ بِالْخِلْطَةِ وَالشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَقْوَى سَبَبًا وَأَثْبَتُ تَمْلِيكًا ، وَلِأَنَّ الشَّرِيكَ قَدْ يَمْلِكُ بِالشِّرَاءِ تَارَةً ، وَبِالشُّفْعَةِ أُخْرَى ، فَلَمَّا كَانَ لَوْ مَلَكَ كُلَّ الشِّقْصِ بِالشُّفْعَةِ لَمْ يَكُنْ لِشَرِيكِهِ فِيهَا إِبْطَالُ حَقِّهِ مِنْهَا وَجَبَ إِذَا مَلَكَ بِالشِّرَاءِ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ الشَّرِيكُ إِبْطَالَ حَقِّهِ مِنْهَا . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ بِالشُّفْعَةِ ، لَمْ يُمْلَكْ عَلَيْهِ الشُّفْعَةُ كَمَا لَوْ مَلَكَ بِالشُّفْعَةِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْبَائِعِ فَهُوَ أَنَّ الْبَائِعَ تَارِكٌ ، وَالتَّارِكُ لَا شُفْعَةَ لَهُ ، وَالْمُشْتَرِيَ طَالِبٌ ، وَالطَّالِبُ لَهُ الشُّفْعَةُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقٌّ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ بِالشِّرَاءِ الشُّفْعَةَ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنَّمَا أَسْقَطَ بِالشِّرَاءِ الشُّفْعَةَ عَنْ نَفْسِهِ ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ مَلَكَ الْوَلَاءَ الَّذِي عَلَيْهِ أَسْقَطَ الْوَلَاءَ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَمْ يَمْلِكْ بِهِ وِلَايَةَ نَفْسِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ شَرِيكَ الْمُشْتَرِي فِي الشُّفْعَةِ لَا يَسْتَحِقُّ إِلَّا النِّصْفَ بِالشُّفْعَةِ فَلَهُ حَالَتَانِ : حَالَةُ عَفْوٍ ، وَحَالَةُ طَلَبٍ . فَإِنْ عَفَا اسْتَقَرَّ مِلْكُ الشِّقْصِ كُلِّهِ لِلْمُشْتَرِي بِالشِّرَاءِ وَحْدَهُ دُونَ الشُّفْعَةِ ، وَإِنْ طَلَبَ نُظِرَ : فَإِنْ طَلَبَ الْكُلَّ لَمْ يَمْلِكْ إِلَّا النِّصْفَ وَإِنْ طَلَبَ النِّصْفَ ، وَبَذَلَ لَهُ الْمُشْتَرِي الْكُلَّ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا أَخَذُ النِّصْفِ كَمَا لَوْ أَخَذَ أَحَدُ الشَّفِيعَيْنِ الْكُلَّ بِحُضُورٍ . ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ فَبَذَلَ لَهُ الْحَاضِرُ الْكُلَّ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا أَخْذُ النِّصْفِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَ شُفْعَتَهُ غَيْرَهُ ، وَيُخَالِفَ عَفْوَ أَحَدِ الشَّفِيعَيْنِ عَنْ حَقِّهِ فِي وُجُوبٍ أَخْذِ الْبَاقِي مِنْهُمَا لِلْكُلِّ وَتَرْكِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَافِيَ لَمْ يَمْلِكْ بِشُفْعَتِهِ مَا يَمْلِكُهُ غَيْرُهُ ، وَالْآخِذَ بِشُفْعَتِهِ قَدْ مَلَكَ مَا مَلَكَهُ غَيْرُهُ . فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا تَفْرِيقٌ لِصَفْقَتِهِ ؟ قِيلَ : إِنَّمَا هُوَ تَفْرِيقٌ لَهَا بِالشُّفْعَةِ دُونَ الْبَيْعِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُمْتَنِعٍ كَالشَّفِيعَيْنِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لِلشِّقْصِ ثَلَاثَةُ شُفَعَاءَ فَاشْتَرَى اثْنَانِ مِنْهُمْ ، ثُمَّ غَابَ أَحَدُ الْمُشْتَرِيَيْنِ وَحَضَرَ الشَّفِيعُ الَّذِي لَمْ يَشْتَرِ فَطَالَبَ الْحَاضِرُ مِنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ بِالشُّفْعَةِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ النِّصْفِ الَّذِي اشْتَرَاهُ نِصْفَهُ ، وَهُوَ الرُّبْعُ ؛ لِأَنَّهُمَا شَفِيعَانِ حَضَرَا مِنْ جُمْلَةِ ثَلَاثَةِ غَابَ أَحَدُهُمْ ، فَإِذَا حَضَرَ الْغَائِبُ مِنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُ وَحَالُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ الَّذِي كَانَ حَاضِرًا مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْفُوَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ شُفْعَةِ صَاحِبِهِ فَيَسْتَحِقُّ الشَّفِيعُ الَّذِي لَمْ يَشْتَرِ بَعْدَ أَخْذِهِ مِنَ الْأَوَّلِ نِصْفَ مَا اشْتَرَاهُ ، وَهُوَ الرُّبْعُ ، وَأَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي نِصْفَ مَا اشْتَرَاهُ أَيْضًا وَهُوَ الرُّبْعُ ، فَيَصِيرُ مَعَهُ نِصْفُ الشِّقْصِ بِالشُّفْعَتَيْنِ ، وَيَبْقَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ الرُّبْعُ بِالشِّرَاءِ وَحْدَهُ .


وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُطَالِبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ الرُّبْعَ بِالشِّرَاءِ لِصَاحِبِهِ بِالشُّفْعَةِ فَيَكُونُ لِلْمُشْتَرِي الثَّانِي أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ ثُلُثَ مَا بِيَدِهِ مِنَ الرُّبْعِ الْبَاقِي ، وَهُوَ نِصْفُ السُّدُسِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ ثُلُثَهُ ، وَيَأْخُذُ مِنَ الشَّفِيعِ أَيْضًا ثُلُثَ مَا بِيَدِهِ مِنَ الرُّبُعِ الْمَأْخُوذِ بِالشُّفْعَةِ ، وَهُوَ نِصْفُ السُّدْسِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ ثُلُثَهُ ثُمَّ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ ، وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي ثُلُثَ النِّصْفِ بِالشِّرَاءِ وَهُوَ السُّدْسُ - وَقَدْ أَخَذَ السُّدْسَ بِالشُّفْعَةِ - فَيَصِيرُ مَعَهُ الثُّلُثُ وَيَبْقَى مَعَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ السُّدْسُ بِالشِّرَاءِ - وَقَدْ أَخَذَ السُّدْسَ بِالشُّفْعَةِ - فَيَصِيرُ مَعَهُ الثُّلُثُ وَيَصِيرُ مَعَ الشَّفِيعِ الَّذِي لَمْ يَشْتَرِ السُّدْسَانِ وَهُوَ الثُّلُثُ بِالشُّفْعَتَيْنِ فَيَصِيرُ الشِّقْصُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَعْفُوَ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي فَيَكُونُ لِلثَّانِي أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْأَوَّلِ ثُلُثَ الرُّبْعِ الْبَاقِي بِيَدِهِ وَهُوَ نِصْفُ السُّدْسِ ثُمَّ يَأْخُذَ الشَّفِيعُ مِنَ الثَّانِي نِصْفَ النِّصْفِ الَّذِي اشْتَرَاهُ وَهُوَ الرُّبْعُ فَيَصِيرُ مَعَ الشَّفِيعِ سُدُسُ الرُّبْعِ مَأْخُوذٌ بِالشُّفْعَتَيْنِ وَيَصِيرَ مَعَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي رُبُعٌ وَسُدُسٌ بِالشِّرَاءِ ، وَالشُّفْعَةِ ، فَالرُّبْعُ مَمْلُوكٌ بِالشِّرَاءِ ، وَالسُّدْسُ مَأْخُوذٌ بِالشُّفْعَةِ وَيَبْقَى مَعَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ السُّدْسُ بِالشِّرَاءِ وَحْدَهُ . وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَعْفُوَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الثَّانِي ثُلُثَ النِّصْفِ الَّذِي اشْتَرَاهُ وَهُوَ السُّدْسُ ، وَيَأْخُذَ الشَّفِيعُ مِثْلَ ذَلِكَ فَيَبْقَى مَعَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي السُّدْسُ بِالشِّرَاءِ وَحْدَهُ ، وَيَصِيرَ مَعَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ رُبُعٌ وَسُدُسٌ بِالشِّرَاءِ ، وَالشُّفْعَةِ ، فَالرُّبْعُ مَمْلُوكٌ بِالشِّرَاءِ ، وَالسُّدْسُ مَأْخُوذٌ بِالشُّفْعَةِ وَيَصِيرَ مَعَ الشَّفِيعِ رُبُعٌ ، وَسُدُسٌ بِالشُّفْعَتَيْنِ . فَلَوْ عَفَا الثَّانِي عَنِ الْأَوَّلِ ، وَعَفَا الشَّفِيعُ عَنِ الثَّانِي أَخَذَ الْأَوَّلُ مِنَ الثَّانِي الرُّبْعَ بِالشِّرَاءِ وَحْدَهُ ، وَيَصِيرُ مَعَ الْأَوَّلِ النِّصْفُ بِالشِّرَاءِ وَالشُّفْعَةِ عَلَى السَّوَاءِ ، وَيَصِيرُ مَعَ الشَّفِيعِ الرُّبْعُ وَحْدَهُ بِالشُّفْعَةِ الْأُولَى .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً عَمْدًا فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى شِقْصٍ وَهُمَا يَعْلَمَانِ أَرْشَ الْمُوضِحَةِ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَخْذُهُ بِالْأَرْشِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا شَجَّ رَجُلٌ رَجُلًا مُوضِحَةً فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى شِقْصٍ مِنْ دَارٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَجِبَ فِيهَا قَوَدٌ إِمَّا لِأَنَّهَا خَطَأٌ مَحْضٌ ، وَإِمَّا لِأَنَّهَا خَطَأٌ شِبْهُ الْعَمْدِ ، وَإِمَّا لِأَنَّهَا عَمْدٌ مِمَّنْ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ قَوَدٌ كَالْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ ، وَالْحُرِّ عَلَى عَبْدِهِ فَالْوَاجِبُ فِي الْمُوضِحَةِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا الدِّيَةُ ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا مِنْ أَنْ يَعْلَمَا قَدْرَ الدِّيَةِ ، أَوْ يَجْهَلَاهُ فَإِنْ جَهِلَاهُ كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْبَدَلِ تَقْتَضِي فَسَادَ الْعَقْدِ ، وَلَا شُفْعَةَ مَعَ بُطْلَانِ الصُّلْحِ .


وَإِنْ عَلِمَاهُ نُظِرَ فَإِنْ قُدِّرَتْ وَرِقًا ، أَوْ ذَهَبًا نُظِرَ . فَإِنْ جَهِلَا تَخْفِيفَهَا فِي الْخَطَأِ ، أَوْ تَغْلِيظَهَا فِي شِبْهِ الْعَمْدِ بَطَلَ الصُّلْحُ ، وَالشُّفْعَةُ ، وَإِنْ عَلِمَا تَخْفِيفَهَا فِي الْخَطَأِ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى دِيَتِهَا وَهُوَ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ لَا يُزَادُ عَلَيْهَا ، وَخَمْسُونَ دِينَارًا مِنَ الذَّهَبِ لَا يُزَادُ عَلَيْهَا ، أَوْ عَلِمَا تَغْلِيظَهَا فِي شِبْهِ الْعَمْدِ بِزِيَادَةِ الثُّلُثِ فِي الْوَرَقِ وَالذَّهَبِ صَحَّ الصُّلْحُ ، وَوَجَبَتِ الشُّفْعَةُ فِي الشِّقْصِ الْمَأْخُوذِ بِدِيَةِ الْمُوضِحَةِ مِنَ الدَّرَاهِمِ إِنْ قُدِّرَتْ بِهَا تَخْفِيفًا ، أَوْ تَغْلِيظًا ، أَوْ مِنَ الدَّنَانِيرِ إِنْ قُدِّرَتْ بِهَا تَخْفِيفًا ، أَوْ تَغْلِيظًا . وَإِنْ كَانَتِ الدِّيَةُ إِبِلًا وَهِيَ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ دية الموضحة أَخْمَاسٌ فِي تَخْفِيفِ الْخَطَأِ ، أَوْ أَثْلَاثٌ فِي تَغْلِيظِ شِبْهِ الْعَمْدِ نُظِرَ : فَإِنْ جَهِلَا قَدْرَهَا ، أَوْ عَلِمَا الْقَدْرَ وَجَهِلَا وَصْفَهَا ، أَوْ عَلِمَا الْقَدْرَ وَالصِّفَةَ وَجَهِلَا جِنْسَهَا ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ مِنْ جِنْسِ إِبِلِ الْجَانِي وَعَاقِلَتِهِ ، فَالصُّلْحُ ، وَالشُّفْعَةُ بَاطِلَانِ . وَإِنْ عَلِمَا الْقَدْرَ وَالصِّفَةَ وَالْجِنْسَ من شروط الصلح معرفة قدر الدية ، فَفِي صِحَّةِ الصُّلْحِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الصُّلْحَ بَاطِلٌ ، وَلَا شُفْعَةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَوْصُوفَةِ الْأَلْوَانِ ، وَلَا مَضْبُوطَةٍ فِي السِّمَنِ ، وَالْهُزَالِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَا بَدَلًا فِي عَقْدٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الصُّلْحَ جَائِزٌ ، وَالشُّفْعَةَ فِيهِ وَاجِبَةٌ لِثُبُوتِهَا فِي الذِّمَّةِ عَلَى صِفَةٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا وَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِقِيمَتِهَا فِي أَقَلِّ أَوْصَافِهَا الَّتِي تُوجِبُ قَبُولَهَا فَلَا يُقَوَّمُ سِمَانُهَا وَخِيَارُهَا ؛ لِأَنَّ الْجَانِيَ لَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهِمَا ، وَلَا يُقَوَّمُ مَهَازِيلُهَا وَمَعِيبُهَا ؛ لِأَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ لَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهَا قبول الدية . وَالضَّرْبُ الثَّانِي فِي الْأَصْلِ : أَنْ تَكُونَ الْمُوضِحَةُ مُوجِبَةً لِلْقَوَدِ فِي الْعَمْدِ الْمَحْضِ فَيُصَالِحَهُ مِنَ الْقَوَدِ عَلَى شِقْصٍ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ جِنَايَةَ الْعَمْدِ تُوجِبُ أَحَدَ أَمْرَيْنِ مِنْ قَوَدٍ ، أَوْ عَقْلٍ . فَالْكَلَامُ فِيهِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ عِلْمِهِمَا بِقَدْرِ الدِّيَةِ ، أَوْ جَهْلِهِمَا بِهِ ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّ جِنَايَةَ الْعَمْدِ تُوجِبُ الْقَوَدَ وَحْدَهُ صَحَّ الصُّلْحُ مِنْهُ عَلَى الشِّقْصِ الْمَأْخُوذِ عَنْهُ مَعَ الْعِلْمِ بِقَدْرِ الدِّيَةِ ، وَالْجَهْلِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ عَنِ الْقَوَدِ الصَّالِحِ الَّذِي يَصِحُّ أَخْذُ الْبَدَلِ عَنْهُ ثُمَّ لِلشَّفِيعِ حِينَئِذٍ أَنْ يَأْخُذَهُ بِبَدَلِ الْقَوَدِ مِنَ الدِّيَةِ فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الدِّيَةِ عَيَّنَهُ الْحَاكِمُ بِاجْتِهَادِهِ فِي أَخْذِ أَجْنَاسِهَا مُغَلَّظَةً فِي الْعَمْدِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا حَضَرَ رَجُلٌ مَغْنَمًا فَأَعْطَاهُ الْإِمَامُ لِحُضُورِهِ شِقْصًا مِنْ دَارٍ ، وَطَالَبَهُ الشَّفِيعُ بِالشُّفْعَةِ الحكم لَمْ يَخْلُ حَاضِرُ الْمَغْنَمِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخَذَهُ بِرَضْخٍ ، أَوْ سَهْمٍ فَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَهُ رَضْخًا فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الرَّضْخَ بِحُضُورِهِ تَبَرُّعٌ كَالْهِبَاتِ ، وَإِنْ أَخَذَهُ بِسَهْمٍ مُسْتَحَقٍّ فَفِي ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا شُفْعَةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْغَنَائِمَ مُسْتَفَادَةٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ فَأَشْبَهَتْ إِحْيَاءَ الْمَوَاتِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الشُّفْعَةَ فِيهِ ثَابِتَةٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اعْتَاضَهُ عَنْ حُضُورٍ وَعَمَلٍ فَأَشْبَهَ الْعِوَضَ فِي الْإِجَارَاتِ ، فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِقَدْرِ سَهْمِهِ مِنَ الْمَغْنَمِ .




مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوِ اشْتَرَى ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ شِقْصًا بِخَمْرٍ ، أَوْ خِنْزِيرٍ وَتَقَابَضَا ثُمَّ قَامَ الشَّفِيعُ لَوْ كَانَ نَصْرَانِيًّا ، أَوْ نَصْرَانِيَّةً فَأَسْلَمَ ، وَلَمْ يَزَلْ مُسْلِمًا فَسَوَاءٌ لَا شُفْعَةَ لَهُ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ ، وَالْخِنْزِيرَ لَا قِيمَةَ لَهُمَا عِنْدَهُ بِحَالٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا تَبَايَعَ الذِّمِّيَّانِ شِقْصًا بِخَمْرٍ ، أَوْ خِنْزِيرٍ وَتَقَابَضَا فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ لِمُسْلِمٍ ، وَلَا ذِمِّيٍّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ لِلْمُسْلِمِ بِقِيمَةِ الْخَمْرِ : وَالذِّمِّيُّ مِثْلُهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ لِلْخَمْرِ ثَمَنًا فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ ، وَغُرْمًا فِي اسْتِهْلَاكِهِ عَلَيْهِ بِالْغَصْبِ ، وَدَلِيلُنَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ مِنْ تَحْرِيمِ ثَمَنِهِ وَسُقُوطِ غُرْمِهِ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ ، وَالْمُسْلِمِ عَلَى السَّوَاءِ . وَلِأَنَّ كُلَّ بَيْعٍ لَوْ عَقَدَهُ مُسْلِمٌ سَقَطَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَجَبَ إِذَا عَقَدَهُ ذِمِّيٌّ أَنْ تَسْقُطَ فِيهِ الشُّفْعَةُ فَكَمَا لَوْ عَقَدَهُ بِمَيْتَةٍ ، أَوْ دَمٍ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ سَقَطَتِ الشُّفْعَةُ فِي عَقْدِهِ بِالْمَيْتَةِ ، وَالدَّمِ ، سَقَطَتِ الشُّفْعَةُ فِي عَقْدِهِ بِالْخَمْرِ ، وَالْخِنْزِيرِ كَالْمُسْلِمِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ فِي الشُّفْعَةِ سَوَاءٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لَا خِلَافَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الشُّفْعَةَ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الذِّمِّيِّ كَوُجُوبِهَا لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ ، وَتَجِبُ لِلذِّمِّيِّ عَلَى الذِّمِّيِّ كَوُجُوبِهَا لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِهَا لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ . فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُجُوبِ الشُّفْعَةِ لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ كَوُجُوبِهَا لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ ، وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، وَعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ ، وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ ، وَالْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا : لَا شُفْعَةَ لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [ النِّسَاءِ : 141 ] ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : لَا شُفْعَةَ لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَتْ دَارُ الْإِسْلَامِ مِنْ إِحْيَاءِ الذِّمِّيِّ لِلْمَوَاتِ فَأَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ الْإِسْلَامُ مِنْ شُفْعَةِ الذِّمِّيِّ فِي الْأَمْلَاكِ . وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ وَلِأَنَّ مَا جَازَ أَنْ يُمَلَّكَ بِهِ الْمُسْلِمُ مِنْ


الْمُعَاوَضَاتِ جَازَ أَنْ يُمَلَّكَ بِهِ الذِّمِّيُّ كَالْبِيَاعَاتِ ، وَلِأَنَّ مَنْ مَلَكَ بِالْبَيْعِ مَلَكَ بِالشُّفْعَةِ كَالْمُسْلِمِ ، وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ الْمَوْضُوعَةَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فِي الْعُقُودِ يَسْتَوِي فِيهَا الْمُسْلِمُ ، وَالذِّمِّيُّ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، وَلِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِالشِّرْكِ مِنْ إِزَالَةِ الْمِلْكِ اسْتَوَى فِيهِ الْمُسْلِمُ ، وَالذِّمِّيُّ قِيَاسًا عَلَى عِتْقِ الذِّمِّيِّ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [ النِّسَاءِ : 141 ] ، فَهُوَ أَنَّ هَذَا السَّبِيلَ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ لَا عَلَى الْمُسْلِمِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ رِوَايَتِهِمْ فِي أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ لِذِمِّيٍّ عَلَى مُسْلِمٍ مَعَ وَهَائِهِ فَهُوَ أَنَّهُ يَحْمِلُ عَلَيْهِ إِذَا قَالَ بَعْدَ إِمْسَاكِهِ عَنِ الطَّلَبِ لَمْ أَعْلَمْ بِهَا لَكُمْ شَرْعًا ، وَلَيْسَتْ فِي دِينِنَا شَرْعًا فَلَا شُفْعَةَ لَهُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَشْفَعَ فِي الْأَمَانِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ بَدَلٍ فَمُنِعَ ، وَالشُّفْعَةُ مَأْخُوذَةٌ بِبَدَلٍ مُمْكِنٍ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : حُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : لَا شُفْعَةَ لِبَدَوِيٍّ عَلَى حَضَرِيٍّ ، وَحُكِيَ عَنِ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : لَا شُفْعَةَ لِغَائِبٍ عَلَى حَاضِرٍ وَفِيمَا مَضَى دَلِيلٌ مُقْنِعٌ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا شُفْعَةَ فِي دُورِ مَكَّةَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي تَحْرِيمِ بَيْعِهَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ بَيْعُهَا ، وَتُسْتَحِقُّ شُفْعَتُهَا ، وَدَلِيلُ بَيْعِهَا مَاضٍ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ ، وَالشُّفْعَةِ بِنَاءً عَلَيْهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَا شُفْعَةَ فِي عَبْدٍ ، وَلَا أَمَةٍ ، وَلَا دَابَّةٍ ، وَلَا مَا لَا يَصْلُحُ فِيهِ الْقَسْمُ هَذَا كَانَ قِيَاسَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَمَعْنَاهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لَا شُفْعَةَ فِي مَنْقُولٍ مِنْ حَيَوَانٍ ، أَوْ عُرُوضٍ . وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ الشُّفْعَةَ فِي كُلِّ مُشْتَرَكٍ مِنْ حَيَوَانٍ وَغَيْرِهِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : الشَّرِيكُ شَفِيعٌ ، وَالشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : فِي الْعَبْدِ الشُّفْعَةُ وَلِأَنَّهَا شَرِكَةٌ يَدْخُلُ بِهَا مَضَرَّةٌ فَوَجَبَ الشُّفْعَةُ فِيهَا كَالْأَرَضِينَ . وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الشَّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ فَإِذَا وَقِعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ . فَأَثْبَتَهَا فِي الْمُشَاعِ الَّذِي تَثْبُتُ فِيهِ الْحُدُودُ وَتُصْرَفُ عَنْهُ الطُّرُقُ بِالْقِسْمَةِ ، وَهَذَا لَا يَكُونُ

إِلَّا فِي الْأَرْضِ ، وَالْعَقَارِ فَدَلَّ عَلَى انْتِفَائِهَا عَمَّا سِوَى الْأَرْضِ ، وَالْعَقَارِ . وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا شُفْعَةَ إِلَّا فِي رَبْعٍ ، أَوْ حَائِطٍ فَأَثْبَتَ جِنْسَ الشُّفْعَةِ فِي الرَّبْعِ ، وَالْحَائِطِ ، وَنَفَاهَا عَمَّا سِوَى الرَّبْعِ ، وَالْحَائِطِ ، وَلِأَنَّ ثُبُوتَ الشُّفْعَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْخَوْفِ مِنْ مَئُونَةِ الْقَسْمِ ، وَالْحَيَوَانُ مِمَّا لَا يُقْسَمُ ، أَوْ يَكُونَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْمُسْتَدَامِ لِسُوءِ الْمُشَارَكَةِ ، وَهَذَا ضَرَرٌ لَا يَسْتَدِيمُ وَفِيهِ انْفِصَالٌ ، فَأَمَّا خَبَرُ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ فَمَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ انْقِطَاعٍ فِي إِسْنَادِهِ ؛ لِأَنَّ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ قِيلَ : إِنَّهُ لَمْ يَلْقَ ابْنَ عَبَّاسٍ ، عَلَى أَنَّهُ يُحْمَلُ قَوْلُهُ الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْعَقَارِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ رِوَايَتِهِمْ فِي الْعَبْدِ شُفْعَةٌ فَهُوَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الشُّفْعَةِ فِي الْعَبْدِ إِذَا كَانَ ثَمَنًا فِي أَرْضٍ ، أَوْ عَقَارٍ ، وَلَا يَكُونُ ابْتِيَاعُ ذَلِكَ بِالْعَبْدِ مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِيهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
_____مُخْتَصَرُ الْقِرَاضِ _____

تعريف الْقِرَاضَ


مُخْتَصَرُ الْقِرَاضِ إِمْلَاءً ، وَمَا دَخَلَ فِي ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَيَّرَ رِبْحَ ابْنَيْهِ فِي الْمَالِ الَّذِي تَسَلَّفَاهُ بِالْعِرَاقِ فَرَبِحَا فِيهِ بِالْمَدِينَةِ فَجَعَلَهُ قِرَاضًا عِنْدَمَا قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ : لَوْ جَعَلْتَهُ قِرَاضًا فَفَعَلَ وَأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَفَعَ مَالًا قِرَاضًا فِي النِّصْفِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْقِرَاضَ معناه وَالْمُضَارَبَةَ اسْمَانِ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ ، فَالْقِرَاضُ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ ، وَالْمُضَارَبَةُ لُغَةُ أَهْلِ الْعِرَاقِ . وَفِي تَسْمِيَتِهِ قِرَاضًا تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ تَأْوِيلُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ قَدْ قَطَعَهُ مِنْ مَالِهِ ، وَالْقَطْعُ يُسَمَّى قِرَاضًا ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ سَلَفُ الْمَالِ قَرْضًا ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْمُقْرِضُ مِقْرَاضًا ؛ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ ، وَقِيلَ : قَرْضُ الْفَارِ ؛ لِأَنَّهُ قَطْعُ الْفَارِ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي وَهُوَ تَأْوِيلُ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّهُ سُمِّيَ قِرَاضًا ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صُنْعًا كَصُنْعِ صَاحِبِهِ فِي بَذْلِ الْمَالِ مِنْ أَحَدِهِمَا وَوُجُودِ الْعَمَلِ مِنَ الْآخَرِ ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ قَدْ تَقَارَضَ الشَّاعِرَانِ إِذَا تَنَاشَدَا . وَأَمَّا الْمُضَارَبَةُ فَفِي تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَضْرِبُ فِي الرِّبْحِ بِسَهْمٍ ، وَالثَّانِي أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِرَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ فُلَانٌ يُصَرِّفُ الْأُمُورَ ظَهْرًا لِبَطْنٍ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ، النِّسَاءِ : ] أَيْ تَفَرَّقْتُمْ فِيهَا بِالسَّفَرِ وَهَذَا تَأْوِيلٌ تَفَرَّدَ بِهِ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ ، وَيُشَارِكُ فِي الْأَوَّلِ الْبَغْدَادِيُّونَ وَبَاقِي الْبَصْرِيِّينَ .

فَصْلٌ : وَالْأَصْلُ فِي إِحْلَالِ الْقِرَاضِ وَإِبَاحَتِهِ عُمُومُ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ، [ الْبَقَرَةِ : 198 ] ، وَفِي الْقِرَاضِ ابْتِغَاءُ فَضْلٍ وَطَلَبِ نَمَاءٍ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَفِي الْقِرَاضِ رِزْقُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ ضَارَبَ لِخَدِيجَةَ بِأَمْوَالِهَا إِلَى الشَّامِ وَأَنْفَذَتْ مَعَهُ خَدِيجَةُ عَبْدًا


لَهَا يُقَالُ لَهُ مَيْسَرَةُ ، وَرَوَى أَبُو الْجَارُودِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : كَانَ الْعَبَّاسُ إِذَا دَفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً اشْتَرَطَ عَلَى صَاحِبِهِ أَنْ لَا يَسْلُكَ بِهِ بَحْرًا ، وَلَا يَنْزِلَ بِهِ وَادِيًا ، وَلَا يَشْتَرِيَ بِهِ ذَاتَ كَبِدٍ رَطْبَةٍ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ فَرَفَعَ شَرْطَهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَجَازَهُ . وَرَوَى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ وَعُبَيْدَ اللَّهِ ابْنَيْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَدِمَا فِي جَيْشِ الْعِرَاقِ ، وَقَدْ تَسَلَّفَا مِنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مَالًا اشْتَرَيَا بِهِ مَتَاعًا فَرَبِحَا فِيهِ بِالْمَدِينَةِ رِبْحًا كَثِيرًا فَقَالَ لَهُمَا عُمَرُ : أَكُلُّ الْجَيْشِ تَسَلَّفَ مِثْلَ هَذَا ؟ فَقَالَا : لَا ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَأَنِّي بِكُمَا ، وَقَدْ قَالَ أَبُو مُوسَى : إِنَّكُمَا ابْنَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَأَسْلَفَكُمَا بِمَالِ الْمُسْلِمِينَ ، رُدَّا الْمَالَ ، وَالرِّبْحَ ، فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ : أَرَأَيْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ تَلِفَ الْمَالُ كُنَّا نُضَّمَنُهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَرِبْحُهُ لَنَا إِذَنْ ، فَتَوَقَّفَ عُمَرُ ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ جُلَسَائِهِ : لَوْ جَعَلْتَهُ قِرَاضًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي فِي مُشَاطَرَتِهِمَا عَلَى الرِّبْحِ كَمُشَاطَرَتِهِ فِي الْقِرَاضِ فَفَعَلَ . وَعَلَى هَذَا الْأَثَرِ اعْتَمَدَ الشَّافِعِيُّ لِاشْتِهَارِهِ وَانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ لَهُ . وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ مِنْهُ مُخْتَلَفٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ قَوْلُ الْجَلِيسِ لَوْ جَعَلْتَهُ قِرَاضًا وَإِقْرَارُ عُمَرَ لَهُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ فَكَانَا مَعًا دَلِيلَيْنِ عَلَى صِحَّةِ الْقِرَاضِ ، وَلَوْ عَلِمَ عُمَرُ فَسَادَهُ لَرَدَّ قَوْلَهُ فَلَمْ يَكُنْ مَا فَعَلَهُ مَعَهُمَا قِرَاضًا لَا صَحِيحًا وَلَا فَاسِدًا ، وَلَكِنِ اسْتَطَابَا طَهَارَةَ أَنْفُسِهِمَا بِمَا أَخَذَهُ مِنْ رِبْحِهِمَا لِاسْتِرَابَتِهِ بِالْحَالِ وَاتِّهَامِهِ أَبَا مُوسَى بِالْمَيْلِ ؛ لِأَنَّهُمَا ابْنَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، الْأَمْرُ الَّذِي يَنْفِرُ مِنْهُ الْإِمَامُ الْعَادِلُ وَتَأْبَاهُ طَبِيعَةُ الْإِسْلَامِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ عُمَرَ أَجْرَى عَلَيْهِ فِي الرِّبْحِ حُكْمَ الْقِرَاضِ الْفَاسِدِ ؛ لِأَنَّهُمَا عَمِلَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ لَهُمَا ، وَلَمْ يَكُنْ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَالِ عَقْدٌ يَصِحُّ حَمْلُهُمَا عَلَيْهِ فَأَخَذَ مِنْهُمَا جَمِيعَ الرِّبْحِ وَعَاوَضَهُمَا عَلَى الْعَمَلِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ ، وَقَدَّرَهُ بِنِصْفِ الرِّبْحِ فَرَدَّهُ عَلَيْهِمَا أُجْرَةً ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَجْرَى عَلَيْهِمَا فِي الرِّبْحِ حُكْمَ الْقِرَاضِ الصَّحِيحِ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ مَعَهُمَا عَقْدٌ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ فَاتَّسَعَ حُكْمُهُ عَنِ الْعُقُودِ الْخَاصَّةِ ، فَلَمَّا رَأَى الْمَالَ لِغَيْرِهِمَا ، وَالْعَمَلَ مِنْهُمَا ، وَلَمْ يَرَهُمَا مُتَعَدِّيَيْنِ فِيهِ ، جَعَلَ ذَلِكَ عَقْدَ قِرَاضٍ صَحِيحٍ ،


وَهَذَا ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ . فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ مَعًا دَلِيلًا مَعَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ دَفَعَ مَالًا قِرَاضًا عَلَى النِّصْفِ ، وَرَوَى الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَفَعَ إِلَيْهِ مَالًا قِرَاضًا عَلَى النِّصْفِ . ثُمَّ دَلِيلُ جَوَازِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا جَاءَتِ السُّنَّةُ بِالْمُسَاقَاةِ وَهِيَ عَمَلٌ فِي مَحَلٍّ يَسْتَوْجِبُ بِهِ شَطْرَ ثَمَرِهَا اقْتَضَى جَوَازَ الْقِرَاضِ بِالْمَالِ لِيَعْمَلَ فِيهِ بِهِ بِبَعْضِ رِبْحِهِ ، فَكَانَتِ السُّنَّةُ فِي الْمُسَاقَاةِ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ الْقِرَاضِ ، وَكَانَ الْإِجْمَاعُ عَلَى صِحَّةِ الْقِرَاضِ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ ، وَلِأَنَّ فِيهِمَا رِفْقًا بَيْنَ عَجْزٍ عَنِ التَّصَرُّفِ مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَمَعُونَةٍ لِمَنْ عُدِمَ الْمَالَ مِنْ ذَوِي الْأَعْمَالِ لِمَا يَعُودُ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَشْتَرِكَانِ فِيهِ مِنْ رِبْحِهِمَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْقَرْضِ فَهُوَ عَقْدُ مَعُونَةٍ وَإِرْفَاقٍ يَجُوزُ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَا أَقَامَا عَلَيْهِ مُخْتَارَيْنِ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ لَهُمَا وَيَجُوزُ فَسْخُهُ لِمَنْ شَاءَ مِنْهُمَا . وَصِحَّةُ عَقْدِهِ مُعْتَبَرَةٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ ، أَحَدُهَا : اخْتِصَاصُ أَحَدِهِمَا بِالْمَالِ ، وَالثَّانِي : انْفِرَادُ الْآخَرِ بِالْعَمَلِ ، وَالثَّالِثُ : الْعِلْمُ بِنَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الرِّبْحِ ، وَقَدْ يَتَفَرَّعُ عَنْ كُلِّ شَرْطٍ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ فُرُوعٌ نَسْتَوْفِيهَا فِي مَوْضِعِهَا .

مَسْأَلَةٌ لَا يَجُوزُ الْقِرَاضُ إِلَّا فِي الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ الَّتِي هِيَ أَثْمَانٌ لِلْأَشْيَاءِ وَقِيَمِهَا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا يَجُوزُ الْقِرَاضُ إِلَّا فِي الدَّنَانِيرِ ، وَالدَّرَاهِمِ الَّتِي هِيَ أَثْمَانٌ لِلْأَشْيَاءِ وَقِيَمِهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . لَا يَصِحُّ الْقِرَاضُ إِلَّا بِالدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ دُونَ الْعُرُوضِ ، وَالسِّلَعِ وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ . وَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى جَوَازُ الْقِرَاضِ بِالْعُرُوضِ ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ كَالدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ صَحَّ بِالدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ صَحَّ بِالْعُرُوضِ كَالْبَيْعِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ الْقِرَاضَ مَشْرُوطٌ بِرَدِّ رَأْسِ الْمَالِ وَاقْتِسَامِ الرِّبْحِ ، وَعَقْدَهُ بِالْعُرُوضِ يَمْنَعُ مِنْ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ ، أَمَّا رَدُّ رَأْسِ الْمَالِ فَلِأَنَّ فِي الْعُرُوضِ مَا لَا مِثْلَ لَهَا فَلَمْ يُمْكِنْ رَدُّهَا ، وَأَمَّا الرِّبْحُ فَقَدْ يُفْضِي إِلَى اخْتِصَاصِ أَحَدِهِمَا بِهِ دُونَ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ إِنْ زَادَ خَيَّرَهُ الْعَامِلُ بِالرِّبْحِ فَاخْتُصَّ بِهِ رَبُّ الْمَالِ ، وَإِنْ نَقَصَ أَخَذَ الْعَامِلُ شَطْرَ فَاضِلِهِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ . وَهَذِهِ أُمُورٌ يَمْنَعُ الْقِرَاضُ مِنْهَا فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِمَّا أَدَّى إِلَيْهَا ؛ وَلِأَنَّ مَا نَافَى مُوجَبَ الْقِرَاضِ مُنِعَ مِنْ أَنْ يَنْعَقِدَ عَلَيْهِ الْقِرَاضُ كَالْمَنَافِعِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ فَهُوَ أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ مُوجَبَ الْقِرَاضِ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْبَيْعِ فَالْمَعْنَى مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِيهِ رَدُّ مِثْلٍ ، وَلَا قِسْمَةُ رِبْحٍ فَجَازَ بِكُلِّ مَالٍ .




فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقِرَاضَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ فَلَا يَصِحُّ إِلَّا بِمَا كَانَ مِنْهَا مَضْرُوبًا لَا غِشَّ فِيهِ ، فَإِنْ قَارَضَ بِالنِّقَارِ ، وَالسَّبَائِكِ لَمْ يَجُزْ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَإِنْ قَارَضَ بِالْوَرِقِ الْمَغْشُوشِ لَمْ يَجُزْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ إِذَا كَانَ أَكْثَرُهَا فِضَّةً اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْأَغْلَبِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ غِشَّ الْفِضَّةِ بِالنُّحَاسِ لَوْ تَمَيَّزَ عَنْهَا لَمْ يَجُزْ بِهِ الْقِرَاضُ ، فَإِذَا خَالَطَهَا لَمْ يَجُزْ بِهِ الْقِرَاضُ كَالْحَرَامِ ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ تَخْلُصْ فِضَّتُهُ لَمْ تَجُزْ مُفَاوَضَتُهُ كَالْكَثِيرِ الْغِشِّ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقِرَاضَ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِضُرُوبِ الدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ الْخَالِصَةِ مِنْ غِشٍّ فَإِنْ قِيلَ فَمِنْ شَرْطِهِمَا أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةَ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ عِنْدَ عَقْدِ الْقِرَاضِ بِهَا أن يكون المال معلوم القدر والصفة ، فَإِنْ تَقَارَضَا عَلَى مَالٍ لَا يَعْلَمَانِ قَدْرَهُ كَانَ الْقِرَاضُ بَاطِلًا لِلْجَهْلِ بِمَا تَعَاقَدَا عَلَيْهِ ، وَإِنْ عَلِمَا قَدْرَهُ وَجَهِلَا صِفَتَهُ بَطَلَ الْقِرَاضُ ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالصِّفَةِ كَالْجَهْلِ بِالْقَدْرِ فِي بُطْلَانِ الْعَقْدِ . فَلَوْ عُقِدَ الْقِرَاضُ عَلَى أَلْفٍ مِنْ أَنْوَاعٍ شَتَّى فَإِنْ عَلِمَا كُلَّ نَوْعٍ مِنْهَا صَحَّ الْعَقْدُ ، وَإِنْ جَهِلَاهُ بَطَلَ ، فَلَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَأَلْفَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ يُقَارِضَ بِأَيِّ الْأَلْفَيْنِ شَاءَ وَيَسْتَوْدِعَ الْأُخْرَى لَمْ يَجُزْ لِلْجَهْلِ بِالْقِرَاضِ هَلْ عُقِدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، أَوْ بِأَلْفِ دِينَارٍ ؟ . فَلَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ كِيسَيْنِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تَكُونَ إِحْدَى الْأَلْفَيْنِ قِرَاضًا ، وَالْأُخْرَى وَدِيعَةً دفع رب المال فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ وَيَكُونُ قِرَاضًا صَحِيحًا ؛ لِأَنَّهُ مَعْقُودٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ مَعْلُومَةٍ لِتَسَاوِي الْأَلْفَيْنِ ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ لِلْجَهْلِ بِمَالِ الْقِرَاضِ مِنْ مَالِ الْوَدِيعَةِ ، وَلَكِنْ لَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ أَلْفًا ، وَأَلْفًا عَلَى أَنَّ لَهُ مِنْ رِبْحِ أَحَدِ الْأَلْفَيْنِ النِّصْفَ ، وَمِنْ رِبْحِ الْآخَرِ الثُّلُثَ ، فَإِنْ عَيَّنَ الْأَلْفَ الَّتِي شَرَطَ لَهُ نِصْفَ رِبْحِهَا مِنَ الْأَلْفِ الَّتِي شَرَطَ لَهُ ثُلُثَ رِبْحِهَا جَازَ وَكَانَا عَقْدَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ لَمْ يَجُزْ لِلْجَهْلِ بِمَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَقْدَيْنِ .

فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ إِذَا كَانَ مَالُ الْقِرَاضِ دَرَاهِمَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِدَنَانِيرَ ، وَلَا إِذَا كَانَ دَنَانِيرَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِدَرَاهِمَ ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ بِغَيْرِ مَالِ الْقِرَاضِ خَارِجٌ عَنِ الْقِرَاضِ ، وَيَكُونُ الشِّرَاءُ لِلْعَامِلِ ، وَلَكِنْ يَجُوزُ لَهُ إِذَا كَانَ الْمَالُ دَرَاهِمَ وَكَانَ الشِّرَاءُ بِالدَّنَانِيرِ أَوْفَقَ أَنْ يَبِيعَ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ ثُمَّ يَشْتَرِيَ حِينَئِذٍ بِالدَّنَانِيرِ ، وَهَكَذَا إِذَا كَانَ مَالُ الْقِرَاضِ دَنَانِيرَ وَكَانَ الشِّرَاءُ بِالدَّرَاهِمِ الحكم أَوْفَقَ بَاعَ الدَّنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ ثُمَّ يَشْتَرِي بِالدَّرَاهِمِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَتْ لِرَجُلٍ فِي يَدِ رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فَقَارَضَهُ عَلَيْهَا وَهُمَا يَعْلَمَانِ قَدْرَهَا وَصِفَتَهَا جَازَ ، وَلَوْ كَانَا يَجْهَلَانِ الْقَدْرَ ، أَوِ الصِّفَةَ لَمْ يَجُزْ ، وَلَوْ قَالَ لَهُ قَدْ قَارَضْتُكَ عَلَى أَلْفٍ مِنْ دَيْنِيِ الَّذِي عَلَى فُلَانٍ فَاقْبِضْهَا مِنْهُ قِرَاضًا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ قِرَاضٌ عَلَى مَالٍ غَائِبٍ ، فَإِنْ


قَبَضَهَا وَاتَّجَرَ بِهَا صَحَّ الْقَبْضُ ؛ لِأَنَّهُ وَكَّلَ فِيهِ وَكَانَ الرِّبْحُ وَالْخُسْرَانُ لِرَبِّ الْمَالِ وَعَلَيْهِ لِحُدُوثِهِمَا عَنْ مِلْكِهِ فِي قِرَاضٍ فَاسِدٍ . وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَى الْعَامِلِ دَيْنٌ فَقَالَ لَهُ : قَدْ جَعَلْتُ أَلْفًا مِنْ دَيْنِي عَلَيْكَ قِرَاضًا فِي يَدِكَ لَمْ يَجُزْ تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ قِرَاضٌ عَلَى مَالٍ غَائِبٍ ، وَفِيمَا حَصَلَ فِيهِ مِنَ الرِّبْحِ ، أَوِ الْخُسْرَانِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا أَبُو حَامِدٍ فِي جَامِعِهِ تَخْرِيجًا : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لِرَبِّ الْمَالِ وَعَلَيْهِ كَالْحَادِثِ عَنْ مُقَارَضَتِهِ مِنْ دَيْنٍ عَلَى غَيْرِهِ ، فَعَلَى هَذَا تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْعَامِلِ مِنَ الدَّيْنِ إِذَا اتَّجَرَ بِهِ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ الرِّبْحَ ، وَالْخُسْرَانَ لِلْعَامِلِ وَعَلَيْهِ دَيْنُ رَبِّ الْمَالِ ، وَلَا يَبْرَأُ بِالتِّجَارَةِ مِنْ دَيْنِ رَبِّ الْمَالِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ كَوْنِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ عَلَى غَيْرِهِ أَنَّ قَبْضَهُ مِنْ غَيْرِهِ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ وَكَيْلٌ فِيهِ لِرَبِّ الْمَالِ فَعَادَ الرِّبْحُ ، وَالْخُسْرَانُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ لِحُدُوثِهِمَا عَنْ مِلْكِهِ ، وَقَبْضَهُ مِنْ نَفْسِهِ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُبَرِّئًا لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ فَعَادَ الرِّبْحُ ، وَالْخُسْرَانُ عَلَيْهِ دُونَ رَبِّ الْمَالِ لِحُدُوثِهِمَا عَنْ مِلْكِهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَوْضِعَيْنِ يَعُودُ الرِّبْحُ ، وَالْخُسْرَانُ عَلَى مَنْ لَهُ الْمَالُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا غَصَبَهُ أَلْفًا ثُمَّ قَارَضَهُ عَلَيْهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَهْلَكَهَا بِالْغَصْبِ فَقَدْ صَارَتْ بِالِاسْتِهْلَاكِ دَيْنًا فَيَكُونُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مُقَارَضَتَهُ عَلَيْهَا بَعْدَ إِبْرَائِهِ مِنْ ضَمَانِهَا فَيَجُوزُ ؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ وَدِيعَةً . وَالضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ يُقَارِضَهُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِإِبْرَائِهِ مِنْهَا فَفِي الْقِرَاضِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ كَالدَّيْنِ ، وَمَا حَصَلَ فِيهَا مِنْ رِبْحٍ وَخُسْرَانٍ فَلِرَبِّ الْمَالِ وَعَلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ الْقِرَاضَ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ قِرَاضٌ عَلَى مَالٍ حَاضِرٍ كَمَا لَوْ بَاعَهَا عَلَيْهِ ، أَوْ رَهَنَهَا مِنْهُ ، وَفِي بَرَاءَتِهِ مِنْ ضَمَانِهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ قَدْ بَرِئَ مِنْ ضَمَانِهَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُؤْتَمَنًا عَلَيْهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ مِنْ ضَمَانِهَا كَمَا لَا يَبْرَأُ الْغَاصِبُ مِنْ ضَمَانِ مَا ارْتَهَنَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ مَا لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهَا بِعَقْدِ الْقِرَاضِ فَضَمَانُهَا بَاقٍ عَلَيْهِ ، وَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهَا بِدَفْعِهَا فِي ثَمَنِ مَا ابْتَاعَهُ بِهَا بَرِئَ مِنْ ضَمَانِهَا إِنْ عَاقَدَ عَلَيْهَا بِأَعْيَانِهَا ، وَلَمْ يَبْرَأْ إِنْ عَاقَدَ بِهَا فِي ذِمَّتِهِ ؛ لِأَنَّهَا فِي التَّعْيِينِ مَدْفُوعَةٌ إِلَى مُسْتَحِقِّهَا بِإِذْنِ مَالِكِهَا فَصَارَتْ كَرَدِّهَا عَلَيْهِ ، وَفِيمَا تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ يَكُونُ مُبَرِّئًا لِنَفْسِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا دَفَعَ إِلَيْهِ عَرْضًا وَأَمَرَهُ بِبَيْعِهِ ، وَالْمُضَارَبَةِ بِثَمَنِهِ لَمْ يَجُزْ لِعِلَّتَيْنِ :


إِحْدَاهُمَا : جَهَالَةُ ثَمَنِهِ ، وَالْقِرَاضُ بِالْمَالِ الْمَجْهُولِ حكمه بَاطِلٌ . وَالثَّانِيَةُ : عَقْدُهُ بِالصِّفَةِ ، وَالْقِرَاضُ بِالصِّفَاتِ بَاطِلٌ ، فَإِنْ بَاعَهُ الْعَامِلُ كَانَ بَيْعُهُ جَائْزًا لِصِحَّةِ الْإِذْنِ فِيهِ ، وَإِنِ اتَّجَرَ بِهِ كَانَ الرِّبْحُ وَالْخُسْرَانُ لِرَبِّ الْمَالِ وَعَلَيْهِ لِحُدُوثِهِمَا عَنْ مِلْكِهِ ، وَلِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ فِي عَمَلِ الْقِرَاضِ دُونَ بَيْعِ الْعَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ فِي بَيْعِ الْعَرْضِ جُعْلًا ، وَإِنَّمَا جَعَلَ لَهُ فِي عَمَلِ الْقِرَاضِ رِبْحًا فَصَارَ مُتَطَوِّعًا بِالْبَيْعِ مُعْتَاضًا عَلَى الْقِرَاضِ ، وَلَوْ قَالَ خُذْ مِنْ وَكِيلِي أَلْفَ دِرْهَمٍ فَضَارَبَ بِهَا لَمْ يَجُزْ لِعِلَّةٍ وَحِيدَةٍ ، وَهُوَ أَنَّهُ قِرَاضٌ بِصِفَةٍ ، وَمَا حَصَلَ مِنْ رِبْحٍ وَخُسْرَانٍ فَلِرَبِّ الْمَالِ وَعَلَيْهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا دَفَعَ إِلَى صَيَّادٍ شَبَكَةً لِيَصِيدَ بِهَا وَيَكُونَ الصَّيْدُ بَيْنَهُمَا لَمْ يَجُزْ ، وَكَانَ الصَّيْدُ لِلصَّيَّادِ وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الشَّبَكَةِ ، وَلَوْ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مَاشِيَةً لِيُعْلِفَهَا مُمْسِكًا لِرِقَابِهَا ، ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ مَا يَدُرُّ مِنْ دُرِّهَا وَنَسْلِهَا لَمْ يَجُزْ ، وَكَانَ الدَّرُّ ، وَالنَّسْلُ لِرَبِّ الْمَاشِيَةِ ، وَلِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ ، فَأَمَّا الْمَعْلُوفُ فَإِنْ كَانَتْ رَاعِيَةً لَمْ يَرْجِعْ بِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْلُوفَةً يَرْجِعُ بِثَمَنِهَا مَعَ أُجْرَتِهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ صَيْدِ الشَّبَكَةِ وَنِتَاجِ الْمَاشِيَةِ ، أَنَّ حُدُوثَ النِّتَاجِ مِنْ أَعْيَانِهَا فَكَانَ لِمَالِكِهَا دُونَ عَالِفِهَا ، وَحُصُولَ الصَّيْدِ بِفِعْلِ الصَّيَّادِ فَكَانَ لَهُ دُونَ مَالِكِ الشَّبَكَةِ . وَعَلَى هَذَا لَوْ دَفَعَ سَفِينَةً إِلَى مَلَّاحٍ لِيَعْمَلَ فِيهَا بِنِصْفِ كَسْبِهَا لَمْ يَجُزْ وَكَانَ الْكَسْبُ لِلْمَلَّاحِ ؛ لِأَنَّهُ بِعَمَلِهِ ، وَعَلَيْهِ لِمَالِكِ السَّفِينَةِ أُجْرَةُ مِثْلِهَا . وَعَلَى هَذَا لَوْ دَفَعَ إِلَى نَسَّاجٍ غَزْلًا لِيَنْسِجَهُ وَيَكُونَا شَرِيكَيْنِ فِي فَضْلِ ثَمَنِهِ لَمْ يَجُزْ ، وَكَانَتْ مُعَامَلَةً فَاسِدَةً ، وَالثَّوْبُ لِصَاحِبِ الْغَزْلِ ، وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ ، وَلَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ لِلْغَزْلِ لِتَكُونَ أَجْرَتُهُ نِصْفَ ثَمَنِهِ كَانَتْ إِجَارَةً فَاسِدَةً ، وَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ .

مَسْأَلَةٌ إِنْ قَارَضَهُ وَجَعَلَ رَبُّ الْمَالِ مَعَهُ غُلَامَهُ وَشَرَطَ أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَامِلِ وَالْغُلَامِ أَثْلَاثًا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنْ قَارَضَهُ وَجَعَلَ رَبُّ الْمَالِ مَعَهُ غُلَامَهُ وَشَرَطَ أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَامِلِ ، وَالْغُلَامِ أَثْلَاثًا فَهُوَ جَائِزٌ وَكَانَ لِرَبِّ الْمَالِ الثُّلُثَانِ وَلِلْعَامِلِ الثُّلُثُ " . . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ قَارَضَ رَجُلًا بِمَالٍ عَلَى أَنَّ ثُلُثَ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ ، وَثُلُثَهُ لِغُلَامِهِ ، وَالثُّلُثَ الْبَاقِي لِلْعَامِلِ حكمه فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَشْتَرِطَ عَمَلَ الْغُلَامِ مَعَ الْعَامِلِ فَهَذَا قِرَاضٌ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ مَالَ غُلَامِهِ لَهُ إِذِ الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا فَصَارَ كَأَنَّهُ شَرَطَ ثُلُثَيِ الرِّبْحِ لِنَفْسِهِ ، وَالثُّلُثَ الْبَاقِي لِلْعَامِلِ ثُمَّ جَعَلَ نِصْفَ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ رِبْحٍ مَصْرُوفًا إِلَى نَفَقَةِ غُلَامِهِ فَيَكُونُ فِيهَا مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَصْرِفَهَا إِلَيْهِ ، أَوْ يَحْبِسَهَا


وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُشْتَرَطَ عَمَلَ غُلَامِهِ مَعَ الْعَامِلِ فَفِي الْقِرَاضِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ عَمَلَ غُلَامِهِ كَعَمَلِهِ ، وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يَعْمَلَ مَعَ الْعَامِلِ بِنَفْسِهِ بَطَلَ الْقِرَاضُ كَذَلِكَ إِذَا شَرَطَ عَمَلَ غُلَامِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْقِرَاضَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْغُلَامَ مَالٌ فَصَارَ اشْتِرَاطُ عَمَلِ الْغُلَامِ مَعَهُ كَاشْتِرَاطِهِ أَنْ يُعَاوِنَهُ بِمَالِهِ ، أَوْ دَارِهِ ، أَوْ حِمَارِهِ ثُمَّ يَحْصُلَ لَهُ ثُلُثَا الرِّبْحِ ، وَالثُّلُثُ الْبَاقِي لِلْعَامِلِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ ثُلُثَ الرِّبْحِ لِنَفْسِهِ وَثُلُثَهُ لِأَبِيهِ ، أَوْ زَوْجَتِهِ وَثُلُثَهُ لِلْعَامِلِ فَالْقِرَاضُ بَاطِلٌ سَوَاءٌ شَرَطَ عَمَلَ أَبِيهِ ، أَوْ زَوْجَتِهِ مَعَهُ ، أَوْ لَا ؛ لِأَنَّ أَبَاهُ وَزَوْجَتَهُ يَمْلِكَانِ ، وَلَا حَقَّ لَهُمَا فِي رِبْحِ مَالِ الْقِرَاضِ فَخَالَفَ حَالَ الْعَبْدِ الَّذِي يَرْجِعُ مَا شَرَطَهُ لَهُ إِلَى سَيِّدِهِ . فَلَوْ تَصَادَقَا أَنَّ مَا شَرَطَ لِأَبِي رَبِّ الْمَالِ ، أَوْ زَوْجَتِهِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ الِاسْمِيَّةِ صَحَّ الْقِرَاضُ ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فَادَّعَى أَحَدُهُمَا اسْتِعَارَةً لِيَصِحَّ الْقِرَاضُ ، وَادَّعَى الْآخَرُ التَّمْلِيكَ لِيَبْطُلَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنِ ادَّعَى التَّمْلِيكَ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ ، وَيَكُونُ الْقِرَاضُ بَاطِلًا إِنْ حَلَفَ . وَلَكِنْ لَوْ شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ لِنَفْسِهِ ثُلُثَيِ الرِّبْحِ لِيَدْفَعَ مِنْهُ إِلَى أَبِيهِ ، أَوْ زَوْجَتِهِ الثُّلُثَ ، وَالْبَاقِيَ لِلْعَامِلِ صَحَّ الْقِرَاضُ ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُمَلِّكَهُ مَا شَرَطَهُ ، ثُمَّ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ ذَلِكَ إِلَى مَنْ شَرَطَهُ لَهُ ، أَوْ يَمْنَعَهُ . وَمِثَالُ ذَلِكَ فِي الصَّدَاقِ أَنْ يُصْدِقَهَا أَلْفَيْنِ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ إِلَى أَبِيهَا أَلْفًا مِنْهَا كَانَ الصَّدَاقُ جَائِزًا ، وَلَا يَلْزَمُهَا دَفْعُ الْأَلْفِ إِلَى أَبِيهَا . وَمِثَالُ الْأُولَى : أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ أَبَاهَا أَلْفًا أُخْرَى كَانَ الصَّدَاقُ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ الصَّدَاقِ مَا لَا يَلْزَمُهُ بَدَلُهُ .

مَسْأَلَةٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَارِضَهُ إِلَى مُدَّةٍ مِنَ الْمُدَدِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَارِضَهُ إِلَى مُدَّةٍ مِنَ الْمُدَدِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِرَاضَ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ دُونَ اللَّازِمَةِ ، وَلِذَلِكَ صَحَّ عَقْدُهُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ مُدَّةٍ يَلْزَمُ فِيهَا ، فَلَوْ شَرَطَا مُدَّةً يَكُونُ الْقِرَاضُ فِيهَا لَازِمًا بَطَلَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَصِحُّ . وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ يَبْطُلُ بِاشْتِرَاطِ الْمُدَّةِ كَالشَّرِكَةِ وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَصِحُّ مُطْلَقًا فَبَطَلَ مُؤَجَّلًا كَالْبَيْعِ ، وَالنِّكَاحِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَاشْتِرَاطُ الْمُدَّةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَشْتَرِطَا لُزُومَ الْعَقْدِ فِيهَا فَيَكُونُ الْقِرَاضُ بَاطِلًا لِمَا ذَكَرْنَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَشْتَرِطَا الْفَسْخَ فِي الْعَقْدِ بَعْدَهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَشْتَرِطَا فَسْخَ الْقِرَاضِ بَعْدَ الْمُدَّةِ فِي الْبَيْعِ ، وَالشِّرَاءِ ، فَيَكُونُ الْقِرَاضُ بَاطِلًا لِمُنَافَاتِهِ مُوجَبَ الْعَقْدِ فِي بَيْعِ مَا حَصَلَ فِي الْقِرَاضِ مِنْ عِوَضٍ .


وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَشْتَرِطَا فَسْخَ الْقِرَاضِ بَعْدَ الْمُدَّةِ فِي الشِّرَاءِ دُونَ الْبَيْعِ فَيَكُونُ الْقِرَاضُ جَائِزًا ؛ لِأَنَّ لَهُ فَسْخُ الْقِرَاضِ فِي الشِّرَاءِ عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَجَازَ أَنْ يَشْتَرِطَهُ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ خُذْ هَذَا الْمَالَ قِرَاضًا مَا شِئْتُ أَنَا مِنَ الزَّمَانِ ، أَوْ مَا شِئْتَ أَنْتَ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ كَذَلِكَ تَكُونُ الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ . وَلَوْ قَالَ : خُذْهُ مَا رَضِيَ فُلَانٌ مَقَامَكَ ، أَوْ مَا شَاءَ فُلَانٌ أَنْ يُقَارِضَكَ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ قِرَاضًا فَاسِدًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قِرَاضًا مَوْقُوفًا عَلَى رَأْيِ غَيْرِهِمَا . وَلَوْ قَالَ خُذِ الْمَالَ قِرَاضًا مَا أَقَامَ الْعَسْكَرُ ، أَوْ إِلَى قُدُومِ الْحَاجِّ نُظِرَ : فَإِنْ شَرَطَ لُزُومَهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ كَانَ بَاطِلًا ، وَإِنْ شَرَطَ فَسْخَهُ بَعْدَهَا فِي الشِّرَاءِ دُونَ الْبَيْعِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لِمَا لَهُمَا مِنْ ذَلِكَ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ لِجَهَالَةِ الْمُدَّةِ قِسْطًا مِنَ الْغَرَرِ وَتَأْثِيرًا فِي الْفَسْخِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ خُذِ الْمَالَ قِرَاضًا عَلَى أَنْ لَا تَبِيعَ ، وَلَا تَشْتَرِيَ إِلَّا عَنْ رَأْيِي ، أَوْ بِمُطَالَعَتِي الحكم لَمْ يَجُزْ لِمَا فِيهِ مِنْ إِيقَاعِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ فِي تَصَرُّفِهِ . وَلَوْ قَالَ عَلَى أَنْ لَا تَتَّجِرَ إِلَّا فِي الْبُرِّ دُونَ غَيْرِهِ ، أَوِ الْحِنْطَةِ دُونَ غَيْرِهَا الحكم جَازَ ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَخُصَّ الْأَنْوَاعَ وَيَعُمَّ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوقِعَ الْحَجْرَ فِيمَا قَدْ خَصَّ ، أَوْ عَمَّ . وَلَوْ قَالَ : خُذِ الْمَالَ قِرَاضًا عَلَى أَنْ يَكُونَ بِيَدِي ، أَوْ مَعَ وَكِيلِي وَأَنْتِ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِ بِالْبَيْعِ ، وَالشِّرَاءِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقِرَاضَ بَاطِلٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إِيقَاعِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ فِي الْعُقُودِ فَجَازَ أَنْ يَسْتَوْثِقَ بِغَيْرِهِ فِي حِفْظِ الْمَالِ . فَأَمَّا إِنْ جَعَلَ عَلَيْهِ مُشْرِفًا نُظِرَ : فَإِنْ رَدَّ إِلَى الْمُشْرِفِ تَدْبِيرًا ، أَوْ عَمَلًا فَسَدَ الْقِرَاضُ ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ ، وَإِنَّ رَدَّ إِلَيْهِ مُشَارَفَةَ عُقُودِهِ وَمُطَالَعَةَ عَمَلِهِ مِنْ غَيْرِ تَدْبِيرِ ، وَلَا عَمَلٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ كَمَا مَضَى ؛ لِأَنَّهُ حَافِظٌ .

مَسْأَلَةٌ لَا يَشْتَرِطُ أَحَدُهُمَا دِرْهَمًا عَلَى صَاحِبِهِ وَمِمَّا بَقِيَ بَيْنَهُمَا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا يَشْتَرِطُ أَحَدُهُمَا دِرْهَمًا عَلَى صَاحِبِهِ وَمِمَّا بَقِيَ بَيْنَهُمَا ، أَوْ يَشْتَرِطُ أَنْ يُوَلِّيَهُ سِلْعَةً ، أَوْ عَلَى أَنْ يَرْتَفِقَ أَحَدُهُمَا فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ دُونَ صَاحِبِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ .


قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَقْدَ الْقِرَاضِ مُوجِبٌ لِاشْتِرَاكِ رَبِّ الْمَالِ ، وَالْعَامِلِ فِي الرِّبْحِ ، وَلَا يَخْتَصُّ بِهِ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ ، وَالْعَمَلَ مُتَقَابِلَانِ ، فَرَأْسُ الْمَالِ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلِ الْعَامِلِ ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي الرِّبْحِ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ أَحَدُهُمَا مَعَ تَسَاوِيهِمَا . وَإِذَا مُنِعَا مِنَ اخْتِصَاصِ أَحَدِهِمَا بِالرِّبْحِ دُونَ الْآخَرِ وَجَبَ أَنْ يُمْنَعَا مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى اخْتِصَاصِ أَحَدِهِمَا بِالرِّبْحِ دُونَ الْآخَرِ ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُشْتَرَطَ أَحَدُهُمَا لِنَفْسِهِ مِنَ الرِّبْحِ دِرْهَمًا مَعْلُومًا ، وَالْبَاقِيَ لِصَاحِبِهِ ، أَوْ بَيْنَهُمَا فَلَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُحَصِّلُ مِنَ الرِّبْحِ إِلَّا الدِّرْهَمَ الْمَشْرُوطَ فَيَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُهُمَا وَيَنْصَرِفُ الْآخَرُ بِغَيْرِ شَيْءٍ . فَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ قَدْ شَرَطَهُ فَقَدْ أَخَذَ جَمِيعَ الرِّبْحِ ، وَانْصَرَفَ الْعَامِلُ بِغَيْرِ شَيْءٍ مَعَ وُجُودِ الْعَمَلِ وَحُصُولِ الرِّبْحِ ، وَإِنْ كَانَ الْعَامِلُ قَدْ شَرَطَهُ فَقَدْ أَخَذَ جَمِيعَ الرِّبْحِ وَانْصَرَفَ رَبُّ الْمَالِ بِغَيْرِ شَيْءٍ مَعَ وُجُودِ الْمَالِ وَحُصُولِ الرِّبْحِ . وَمِثَالُهُ فِي الْبُيُوعِ أَنْ يَبِيعَهُ الثَّمَرَةَ إِلَّا مُدًّا يَسْتَثْنِيهِ لِنَفْسِهِ فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَهْلَكَ الثَّمَرَةُ إِلَّا ذَلِكَ الْمُدَّ فَيَصِيرُ الْبَائِعُ آخِذًا لِلثَّمَنِ ، وَالثَّمَرَةِ مَعًا . وَلَوْ شَرَطَا تَفَاضُلًا فِي الرِّبْحِ مِثْلَ أَنْ يُشْتَرَطَ أَحَدُهُمَا عُشْرَ الرِّبْحِ وَتِسْعَةَ أَعْشَارِهِ لِلْآخَرِ ، جَازَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَنْصَرِفُ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ رِبْحٍ . وَمِثَالُهُ فِي الْبُيُوعِ أَنْ يَبِيعَ الثَّمَرَةَ إِلَّا عُشْرَهَا فَيَصِحُّ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ مِنْهَا فَهُوَ مَبِيعٌ ، وَغَيْرُ مَبِيعٍ .

فَصْلٌ : وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِطَ أَحَدُهُمَا أَنْ يُوَلِّيَ مَا يَرْتَضِيهِ ، أَوْ مَا يَكْتَسِبُهُ بِرَأْسِ مَالِهِ فَيَبْطُلُ الْقِرَاضُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَكُونُ فِي الْمُشْتَرِي رِبْحٌ إِلَّا فِيمَا تَوَلَّاهُ فَيَصِيرُ مُخْتَصًّا بِجَمِيعِ الرِّبْحِ وَيَخْرُجُ الْآخَرُ بِغَيْرِ رِبْحٍ . وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِطَ أَحَدُهُمَا رَفْقًا دُونَ صَاحِبِهِ مِثْلَ أَنْ يُشْتَرَطَ رُكُوبَ مَا اشْتَرَاهُ مِنَ الدَّوَابِّ ، أَوِ اسْتِخْدَامَ مَا اشْتَرَاهُ مِنَ الْعَبِيدِ ، أَوْ لُبْسَ مَا اشْتَرَاهُ مِنَ الثِّيَابِ مُدَّةَ بَقَائِهَا فِي الْقِرَاضِ فَيَبْطُلُ الْقِرَاضُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَكُونُ فِي أَثْمَانِهَا فَضْلٌ إِلَّا مَا اخْتَصَّ بِهِ أَحَدُهُمَا مِنَ الرَّفْقِ فَيَصِيرُ مُنْفَرِدًا بِالرِّبْحِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ مُقَوَّمَةٌ كَالْأَعْيَانِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " أَوْ يَشْتَرِطُ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ إِلَّا مِنْ فُلَانٍ ، أَوْ لَا يَشْتَرِيَ إِلَّا سِلْعَةً بِعَيْنِهَا وَاحِدَةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْقِرَاضَ ضَرْبَانِ : عَامٌّ وَخَاصٌّ :


فَالْعَامُّ : أَنْ يُقَارِضَهُ عَلَى أَنْ يَتَّجِرَ فِيمَا أَرَادَ مِنْ أَصْنَافِ الْأَمْتِعَةِ وَأَنْوَاعِ الْعُرُوضِ . فَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا عَلِمَ فِيهِ صَلَاحًا مِنْ ذَلِكَ . وَالْخَاصُّ : أَنْ يُقَارِضَهُ عَلَى أَنْ يَتَّجِرَ فِي الثِّمَارِ ، أَوْ فِي الْأَقْوَاتِ ، أَوْ فِي الثِّيَابِ فَيَكُونُ مَقْصُورًا عَلَى شِرَاءِ مَا عُيِّنَ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ . فَإِنْ عَقَدَهُ عَامًّا ثُمَّ خَصَّهُ فِي نَوْعٍ بِعَيْنِهِ صَارَ خَاصًّا ، وَلَوْ عَقَدَهُ خَاصًّا فِي نَوْعٍ ثُمَّ جَعَلَهُ عَامًّا فِي كُلِّ نَوْعٍ صَارَ عَامًّا ؛ لِأَنَّهُ يَنْعَقِدُ جَائِزًا وَلَيْسَ يَنْعَقِدُ لَازِمًا . وَأَمَّا إِذَا قَارَضَهُ عَلَى شِرَاءِ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ ، أَوْ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ ، أَوْ عَرْضٍ بِعَيْنِهِ كَانَ الْقِرَاضُ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتْلَفُ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى شِرَاءِ غَيْرِهِ ، أَوْ قَدْ لَا يُبَاعُ إِلَّا بِمَا لَا فَضُلَ فِي ثَمَنِهِ . وَهَكَذَا لَوْ قَارَضَهُ عَلَى أَلَّا يَشْتَرِيَ إِلَّا مِنْ فُلَانٍ ، أَوْ لَا يَبِيعَ إِلَّا عَلَى فُلَانٍ كَانَ الْقِرَاضُ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ فُلَانًا قَدْ يَمُوتُ قَبْلَ مُبَايَعَتِهِ ، وَقَدْ لَا يَرْغَبُ فِي مُبَايَعَتِهِ ، أَوْ لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا بِمَا لَا فَضْلَ فِي ثَمَنِهِ . وَهَكَذَا لَوْ قَارَضَهُ عَلَى أَلَّا يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ إِلَّا فِي دُكَّانٍ بِعَيْنِهِ الحكم كَانَ الْقِرَاضُ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْهَدِمُ ذَلِكَ الدُّكَّانُ ، أَوْ قَدْ يُغْلَبُ عَلَيْهِ ، أَوْ قَدْ لَا يُبَايِعُ مِنْهُ . فَأَمَّا إِذَا قَارَضَهُ عَلَى أَلَّا يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ إِلَّا فِي سُوقِ كَذَا جَازَ بِخِلَافِ الدُّكَّانِ الْمُعَيَّنِ ؛ لِأَنَّ السُّوقَ الْعَامَّةَ كَالنَّوْعِ الْعَامِّ ، وَالدُّكَّانَ الْمُعَيَّنَ كَالْعَرْضِ الْمُعَيَّنِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " أَوْ نَخْلًا ، أَوْ دَوَابَّ يَطْلُبُ ثَمَرَ النَّخْلِ وَنِتَاجَ الدَّوَابِّ وَيَحْبِسُ رِقَابَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : عَقْدُ الْقِرَاضِ يَقْتَضِي تَصَرُّفَ الْعَامِلِ فِي الْمَالِ بِالْبَيْعِ ، وَالشِّرَاءِ ، فَإِذَا قَارَضَهُ بِمَالٍ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ نَخْلًا يُمْسِكُ رِقَابَهَا وَيَطْلُبُ ثِمَارَهَا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَنَعَ تَصَرُّفَ الْعَامِلِ بِالْبَيْعِ ، وَالشِّرَاءِ ، وَلِأَنَّ الْقِرَاضَ مُخْتَصٌّ بِمَا يَكُونُ النَّمَاءُ فِيهِ حَادِثًا عَنِ الْبَيْعِ ، وَالشِّرَاءِ ، وَهُوَ فِي النَّخْلِ حَادِثٌ مِنْ غَيْرِ الْبَيْعِ ، وَالشِّرَاءِ فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ قِرَاضًا ، وَلَا يَكُونَ مُسَاقَاةً ؛ لِأَنَّهُ عَاقَدَهُ عَلَى جَهَالَةٍ بِهَا قَبْلَ وُجُودِ مِلْكِهَا . وَهَكَذَا لَوْ قَارَضَهُ عَلَى شِرَاءِ دَوَابَّ ، أَوْ مَوَاشِي يَحْبِسُ رِقَابَهَا وَيَطْلُبُ نِتَاجَهَا لَمْ يَجُزْ لِمَا ذَكَرْنَا ، فَإِنِ اشْتَرَى بِالْمَالِ النَّخْلَ ، وَالدَّوَابَّ صَحَّ الشِّرَاءُ ، وَمُنِعَ مِنَ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ عَنْ إِذْنِهِ ، وَالْبَيْعَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، وَكَانَ الْحَاصِلُ مِنَ الثِّمَارِ ، وَالنِّتَاجُ مِلْكًا لِرَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءٌ حَدَثَ عَنْ مِلْكِهِ ، وَلِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ فِي الشَّرْطِ ، وَالْخِدْمَةِ ؛ لِأَنَّهَا عَمَلٌ عَارَضَ عَلَيْهِمَا . وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ جَوَازُ ذَلِكَ كُلِّهِ حَتَّى قَالَ : لَوْ أَطْلَقَ الْقِرَاضَ مَعَهُ جَازَ لَهُ


أَنْ يَشْتَرِيَ أَرْضًا ، أَوْ يَسْتَأْجِرَهَا لِيَزْرَعَهَا ، أَوْ يَغْرِسَهَا وَيَقْتَسِمَا فَضْلَ زَرْعِهَا وَغَرْسِهَا وَهَذَا فَاسِدٌ لِمَا بَيَّنَاهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَإِنْ فَعَلَ فَذَلِكَ كُلُّهُ فَاسِدٌ فَإِنْ عَمِلَ فِيهِ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ ، وَالرِّبْحُ وَالْمَالُ لِرَبِّهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا كَانَ الْقِرَاضُ فَاسِدًا فَعَمِلَ الْعَامِلُ فِيهِ قَبْلَ مَنْعِهِ مِنَ الْعَمَلِ وَاسْتِرْجَاعِ الْمَالِ مِنْهُ كَانَتْ عُقُودُ بَيُوعِهِ وَشِرَائِهِ صَحِيحَةً مَعَ فَسَادِ الْقِرَاضِ لِصِحَّةِ الْإِذْنِ بِهَا وَاخْتِصَاصِ الْفَسَادِ بِنَصِيبِهِ مِنْ رِبْحِ الْقِرَاضِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ جَمِيعُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ ، وَالْخُسْرَانُ عَلَيْهِ ، وَلِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ فَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ رِبْحٌ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا فَسَدَ حُمِلَ عَلَى حُكْمِهِ لَوْ صَحَّ ، فَلَمَّا كَانَ الْقِرَاضُ الصَّحِيحُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ رِبْحٌ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعَامِلُ شَيْئًا ، وَجَبَ إِذَا فَسَدَ أَلَّا يَسْتَحِقَّ شَيْئًا . وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ عَمَلٍ مَلَكَ الْعَامِلُ فِيهِ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ مَلَكَ فِيهِ أُجْرَةَ الْمِثْلِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ كَالْإِجَارَةِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا مَلَكَهُ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ مَلَكَهُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ قِيَاسًا عَلَيْهِ لَوْ كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : إِنَّ الْعَقْدَ إِذَا فَسَدَ حُمِلَ عَلَى حُكْمِهِ لَوْ صَحَّ فَهُوَ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَسُقُوطِهِ ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى حُكْمِ الصَّحِيحِ فِيمَا سِوَى الضَّمَانِ . عَلَى أَنَّهُ فِي الصَّحِيحِ لَمَّا ضَرَبَ بِسَهْمٍ فِي كَثِيرِ الرِّبْحِ جَازَ أَلَّا يَأْخُذَ شَيْئًا مَعَ عَدَمِ الرِّبْحِ ، وَفِي الْفَاسِدِ لَمَّا ضَرَبَ بِسَهْمٍ فِي كَثِيرِ الرِّبْحِ لَمْ يَبْطُلْ عَلَيْهِ عَمَلُهُ مَعَ عَدَمِ الرِّبْحِ . أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ بَاعَ عَبْدًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ بَيْعًا فَاسِدًا وَهُوَ يُسَاوِي أَلْفًا ضَمِنَ الْمُشْتَرِي بِتَلَفِهِ أَلْفًا ، وَإِنْ رَضِيَ الْبَائِعُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ يَدِهِ بِمِائَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ بِأَلْفٍ بَيْعًا فَاسِدًا وَهُوَ يُسَاوِي مِائَةً لَمْ يَضْمَنِ الْمُشْتَرِي بِتَلَفِهِ إِلَّا مِائَةً كَذَلِكَ ، كَذَلِكَ فِي الْقِرَاضِ الْفَاسِدِ .

مَسْأَلَةٌ لَوِ اشْتَرَطَ أَنْ يَشْتَرِيَ صِنْفًا مَوْجُودًا فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوِ اشْتَرَطَ أَنْ يَشْتَرِيَ صِنْفًا مَوْجُودًا فِي الشِّتَاءِ ، وَالصَّيْفِ فَجَائِزٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَقْدَ الْقِرَاضِ ضَرْبَانِ : خَاصٌّ وَعَامٌّ . فَأَمَّا الْعَامُّ فَهُوَ أَنْ يُطْلَقَ تَصَرُّفُ الْعَامِلِ فِي كُلِّ مَا يَرْجُو فِيهِ رِبْحًا فَهَذَا جَائِزٌ عَلَى عُمُومِ التَّصَرُّفِ ، وَأَمَّا الْخَاصُّ فَهُوَ أَنْ يَخْتَصَّ الْعَامِلُ عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : مَا يُوجَدُ فِي عُمُومِ الْأَحْوَالِ كَالْحِنْطَةِ ، وَالْبُرِّ فَيَجُوزُ ، وَيَكُونُ مَقْصُورَ التَّصَرُّفِ


عَلَى النَّوْعِ الَّذِي أُذِنَ فِيهِ ، فَلَوْ أُذِنَ لَهُ أَنْ يَتَّجِرَ فِي الْبُرِّ جَازَ أَنْ يَتَّجِرَ فِي صُنُوفِ الْبُرِّ كُلِّهَا مِنَ الْقُطْنِ ، وَالْكَتَّانِ ، وَالْإِبْرَيْسَمِ ، وَالْخَزِّ ، وَالصُّوفِ الْمَلْبُوسِ ثِيَابًا ، أَوْ جِبَابًا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّجِرَ فِي الْبُسُطِ ، وَالْفُرُشِ . وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَّجِرَ فِي الْأَكْسِيَةِ الْبُرْكَانِيَّةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهَا مَلْبُوسَةً . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ لِخُرُوجِهَا عَنِ اسْمِ الْبُرِّ . فَلَوْ أُذِنَ لَهُ أَنْ يَتَّجِرَ فِي الطَّعَامِ اقْتَصَرَ عَلَى الْحِنْطَةِ وَحْدَهَا دُونَ الدَّقِيقِ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : يَجُوزُ أَنْ يَتَّجِرَ فِي الْحِنْطَةِ ، وَالدَّقِيقِ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِخُرُوجِ الدَّقِيقِ عُرْفًا عَنِ اسْمِ الطَّعَامِ ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْحِنْطَةِ لَجَازَ بِالْخُبْزِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ لَهُ خُذْ هَذَا الْمَالَ عَلَى أَنْ تَتَّجِرَ بِهِ فِي الْحِنْطَةِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ لَهُ خُذْهُ وَاتَّجِرْ بِهِ فِي الْحِنْطَةِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ التِّجَارَةِ فِي الْحِنْطَةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ قَالَ لَهُ خُذْهُ عَلَى أَنْ تَتَّجِرَ بِهِ فِي الْحِنْطَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَّجِرَ بِهِ فِي غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ ، وَإِنْ قَالَ لَهُ خُذْهُ وَاتَّجِرْ بِهِ فِي الْحِنْطَةِ فَأَرَادَ أَنْ يَتَّجِرَ فِي غَيْرِهَا جَازَ ؛ لِأَنَّهُ مَشُورَةٌ مِنْهُ وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَالَيْنِ غَيْرُ آذِنٍ فِيمَا سِوَى الْحِنْطَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا يُوجَدُ ، وَقَدْ لَا يُوجَدُ ، كَإِذْنِهِ فِي أَنْ يَتَّجِرَ فِي الْعُودِ الرَّطْبِ ، أَوْ فِي الْيَاقُوتِ الْأَحْمَرِ ، أَوْ فِي الْخَيْلِ الْبُلْقِ ، أَوْ فِي الْعَبِيدِ الْعِصْيَانِ فَالْقِرَاضُ بَاطِلٌ سَوَاءٌ وَجَدَهُ ، أَوْ لَمْ يَجِدْهُ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى غَيْرِ ثِقَةٍ مِنْ وُجُودِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِمَكَانٍ قَدْ يُوجَدُ ذَلِكَ فِيهِ غَالِبًا فَيَجُوزُ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : مَا يُوجَدُ فِي زَمَانٍ ، وَلَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ كَالثِّمَارِ ، وَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ القراض فيه فَيَنْظُرُ فِي عَقْدِ الْقِرَاضِ ، فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ أَوَانِ تِلْكَ الثِّمَارِ فَالْقِرَاضُ بَاطِلٌ ، فَإِنْ جَاءَتْ تِلْكَ الثِّمَارُ مِنْ بَعْدُ لَمْ يَصِحَّ الْقِرَاضُ بَعْدَ فَسَادِهِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَانِ الثِّمَارِ وَإِبَانَتِهَا فَالْقِرَاضُ جَائِزٌ مَا كَانَتْ تِلْكَ الثَّمَرَةُ بَاقِيَةً ، فَإِنِ انْقَطَعَتْ فَفِي الْقِرَاضِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ بَطَلَ الْقِرَاضُ بِانْقِطَاعِهَا وَلَيْسَ لَهُ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ أَنْ يَتَّجِرَ بِهَا إِلَّا بِإِذْنٍ وَعَقْدٍ مُسْتَجَدٍّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْقِرَاضَ عَلَى حَالِهِ مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِفَسْخِهِ فِي كُلِّ عَامٍ أَتَتْ فِيهِ تِلْكَ الثَّمَرَةُ فَيَتَّجِرُ بِهَا بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ . فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْقِرَاضُ فِي نَوْعٍ مَوْجُودٍ فِي كُلِّ الزَّمَانِ فَانْقَطَعَ فِي بَعْضِهِ لِقِلَّةٍ ، أَوْ غَيْرِهَا فَالْقِرَاضُ عَلَى وَجْهِهِ وَحَالِهِ ، وَهَكَذَا إِذَا انْقَطَعَ لِجَائِحَةٍ أَتَتْ عَلَى جَمِيعِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ كَانَ مُمْكِنًا لِلِاسْتِدَامَةِ فَخَالَفَ الثِّمَارَ الرَّطْبَةَ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ .

مَسْأَلَةٌ إِذَا سَافَرَ كَانَ لَهُ أَنْ يَكْتَرِيَ مِنَ الْمَالِ مَنْ يَكْفِيهِ بَعْضَ الْمُؤْنَةِ



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِذَا سَافَرَ كَانَ لَهُ أَنْ يَكْتَرِيَ مِنَ الْمَالِ مَنْ يَكْفِيهِ بَعْضَ الْمُؤْنَةِ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا يَعْمَلُهَا الْعَامِلُ وَلَهُ النَّفَقَةُ بِالْمَعْرُوفِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : فِي جَوَازِ سَفَرِ الْعَامِلِ بِمَالِ الْقِرَاضِ . وَالثَّانِي : فِي مُؤْنَةِ الْعَمَلِ . وَالثَّالِثُ : فِي نَفَقَةِ الْعَامِلِ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ سَفَرُ الْعَامِلِ بِمَالِ الْقِرَاضِ ، فَلِرَبِّ الْمَالِ مَعَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَنْهَاهُ عَنِ السَّفَرِ بِهِ ينهى صاحب المال العامل أن يسافر به فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ إِجْمَاعًا فَإِنْ سَافَرَ بِهِ ضَمِنَهُ ، وَالْقِرَاضُ فِي حَالِهِ صَحِيحٌ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي السَّفَرِ بِهِ يأذن صاحب المال للعامل أن يسافر بالمال فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ إِجْمَاعًا فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي السَّفَرِ إِلَى بَلَدٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ إِلَى غَيْرِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَخُصَّ لَهُ بَلَدًا جَازَ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ إِلَى الْبَلَدِ الْمَأْمُونَةِ الْمَمَالِكِ ، وَالْأَمْصَارِ الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ بَلَدِهِ أَنْ يُسَافِرُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَمَتَاجِرِهِمْ إِلَيْهَا ، وَلَا يَخْرُجُ عَنِ الْعُرْفِ الْمَعْهُودِ فِيهَا ، وَلَا فِي الْبُعْدِ إِلَى أَقْصَى الْبُلْدَانِ ، فَإِنْ بَعُدَ إِلَى أَقْصَى الْبُلْدَانِ ضَمِنَ الْمَالَ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُطْلِقَ فَلَا يَأْذَنُ لَهُ فِي السَّفَرِ ، وَلَا يَنْهَاهُ يطلق صاحب المال فلا يأذن للعامل بالسفر بالمال ولا ينهاه ، وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي جَوَازِ سَفَرِهِ بِالْمَالِ . فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ قَرِيبًا ، وَلَا بَعِيدًا ، سَوَاءٌ رَدَّ الْأَمْرَ إِلَى رَأْيِهِ أَمْ لَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ بِالْمَالِ إِذَا أَرَادَ وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ مَا لَمْ يَنْهَهُ ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَبُو يُوسُفَ : يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ بِالْمَالِ إِلَى حَيْثُ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ مِنْهُ قَبْلَ اللَّيْلِ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ إِلَى حَيْثُ لَا تَلْزَمُهُ مَئُونَةٌ وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ الْمُسَافِرَ وَمَالَهُ عَلَى قَلَتٍ إِلَّا مَا وَقَى اللَّهُ يَعْنِي عَلَى خَطَرٍ ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَاطِرَ بِالْمَالِ ، وَلِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَافِرَ بِالْمَالِ كَالْوَكِيلِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ سَفَرٍ مُنِعَ مِنْهُ الْوَكِيلُ مُنِعَ مِنْهُ الْعَامِلُ كَالسَّفَرِ الْبَعِيدِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي وَهُوَ مَئُونَةُ الْعَمَلِ فَيَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ : قَسَمٌ يَجِبُ فِي مَالِ الْقِرَاضِ ، وَلَا يَلْزَمُ الْعَامِلَ وَقِسْمٌ يَلْزَمُ الْعَامِلَ ، وَلَا يَجِبُ فِي مَالِ الْقِرَاضِ ، فَأَمَّا مَا يَجِبُ فِي مَالِ الْقِرَاضِ ما يجب في مال القراض من مؤنة العامل فَأُجْرَةُ الْمَحْمَلِ وَأُكْرِيَّةِ الْخَانِيَاتِ ، وَمَا صَارَ مَعْهُودًا مِنَ الضَّرَائِبِ الَّتِي لَا يُقْدَرُ عَلَى مَنْعِهَا فَلَهُ دَفْعُ ذَلِكَ كُلِّهِ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ثُمَّ وَضْعُهُ مِنَ الرِّبْحِ الْحَاصِلِ لِيَكُونَ الْفَاضِلُ بَعْدَهُ مِنَ الرِّبْحِ هُوَ الْمَقْسُومُ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالْعَامِلِ عَلَى شَرْطِهِمَا .


وَأَمَّا مَا يَلْزَمُ الْعَامِلَ ما يلزم العامل من المؤنة فَهُوَ مَا جَرَتْ عَادَةُ التُّجَّارِ أَنْ يَفْعَلُوهُ بِأَنْفُسِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ مِثْلَ نَشْرِ الْبُنِّ وَطَيِّهِ وَعَرْضِ الْأَمْتِعَةِ وَمُبَاشَرَةِ الْعُقُودِ وَقَبْضِ الْأَثْمَانِ وَاقْتِضَاءِ الدُّيُونِ فَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْعَامِلِ ؛ لِأَنَّهُ بِهِ مَلَكَ الرِّبْحَ . وَأَمَّا النِّدَاءُ عَلَى الْأَمْتِعَةِ فَمَنْ يَزِيدُ نداء العامل على الأمتعة فَلَا يَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّ عُرْفَ التُّجَّارِ فِي أَمْوَالِهِمْ لَمْ يَجْرِ بِهِ وَتَكُونُ أُجُورُ الْمُنَادِينَ فِي مَالِ الْقِرَاضِ . وَأَمَّا الْوَزَّانُ فَإِنْ كَانَ فِيمَا يَحْفِرُ ، وَلَمْ تَجْرِ عَادَةُ التُّجَّارِ بِهِ فِي أَمْوَالِهِمْ كَانَ فِي مَالِ الْقِرَاضِ ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا يَقِلُّ وَيَخِفُّ كَالْعُودِ ، وَالْمِسْكِ ، وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا فَهُوَ عَلَى الْعَامِلِ ؛ لِأَنَّ عَادَةَ التُّجَّارِ جَارِيَةٌ بِهِ فِي أَمْوَالِهِمْ ، فَإِنِ اسْتَأْجَرَ لَهُ تُحْمَلُ الْأُجْرَةُ فِي مَالِهِ . وَلَوْ فَعَلَ بِنَفْسِهِ مَا يَسْتَحِقُّ فِي مَالِ الْقِرَاضِ فعل العامل كَانَ تَطَوُّعًا مِنْهُ لَا يَرْجِعُ بِهِ فِي مَالِ الْقِرَاضِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى عَمَلِهِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ عِوَضَيْنِ أُجْرَةً وَرِبْحًا .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ نَفَقَةُ الْعَامِلِ فَيَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا مَا يَخْتَصُّ الْعَامِلُ بِالْتِزَامِهِ ما يختص العامل بالتزامه من نفقته وَهُوَ نَفَقَةُ حَضَرِهِ فِي مَأْكُولِهِ وَمَلْبُوسِهِ لِعِلَّتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : اخْتِصَاصُ الْعَامِلِ بِالرِّبْحِ دُونَ رَبِّ الْمَالِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ . وَالثَّانِيَةُ : أَنَّ نَفَقَةَ إِقَامَتِهِ لَا تَخْتَصُّ بِعَمَلِ الْقِرَاضِ فَلَمْ تَلْزَمْ فِي مَالِ الْقِرَاضِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : نَفَقَةُ سَفَرِهِ نفقة سفر العامل ، فَالَّذِي رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ هُنَا أَنَّ لَهُ النَّفَقَةَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَقَالَ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ ، وَالَّذِي أَحْفَظُ لَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقِرَاضُ إِلَّا عَلَى نَفَقَةٍ مَعْلُومَةٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ ، وَثَمَنِ مَا يَشْتَرِيهِ فَيَكْتَسِبُهُ وَرَوَى فِي مُخْتَصَرِهِ وَجَامِعِهِ وُجُوبَ النَّفَقَةِ ، وَجَعَلَهَا فِي جَامِعِهِ مَعْلُومَةً كَنَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ ، وَفِي مُخْتَصَرِهِ بِالْمَعْرُوفِ كَنَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ ، فَهَذَا مَا رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ . وَرَوَى أَبُو يَعْقُوبَ الْبُوَيْطِيُّ أَنَّهُ لَا يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ حَاضِرًا كَانَ ، أَوْ مُسَافِرًا . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : فَكَانَ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ وَأَبُو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ يَحْمِلَانِ اخْتِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ رِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ أَنَّ لَهُ النَّفَقَةَ فِي سَفَرِهِ لِاخْتِصَاصِ سَفَرِهِ بِمَالِ الْقِرَاضِ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الِاسْتِيطَانِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا نَفَقَةَ لَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ اخْتِصَاصِهِ بِالرِّبْحِ ، أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ دُونَ رَبِّ الْمَالِ . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا نَفَقَةَ لَهُ قَوْلًا وَاحِدًا عَلَى مَا رَوَاهُ


الْبُوَيْطِيُّ . حَمَلَا رِوَايَةَ الْمُزَنِيِّ عَلَى نَفَقَةِ الْمَتَاعِ دُونَ الْعَامِلِ وَهَذَا التَّأْوِيلُ مَدْفُوعٌ بِمَا بَيَّنَهُ الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ مِنْ قَوْلِهِ نَفَقَةٌ مَعْلُومَةٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَثَمَنُ مَا يَشْتَرِيهِ فَيَكْتَسِبُهُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنَ اخْتِلَافِهِمْ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ ، فَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى مَا رَوَاهُ الْبُوَيْطِيُّ فَلَا تَفْرِيعَ عَلَيْهِ . وَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى مَا رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَجَامِعِهِ فَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ التَّفْرِيعُ . فَتَجِبُ نَفَقَةُ مَرْكُوبِهِ فِي سَفَرِهِ وَمَسِيرِهِ بِالْمَعْرُوفِ فِي مِثْلِ سَفَرِهِ ، وَتَجِبُ نَفَقَةُ مَأْكُولِهِ وَمَلْبُوسِهِ الْمُخْتَصِّ بِلِبَاسِ سَفَرِهِ . وَفِي تَقْدِيرِ نَفَقَتِهِ وَجْهَانِ لِاخْتِلَافِ رِوَايَةِ الْمُزَنِيِّ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ كَنَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ ؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ وَتَقْدِيرُهَا أَدْفَعُ لِلْجَهَالَةِ ، وَهَذَا مَا رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ ؛ لِأَنَّهَا مَئُونَةٌ فِي عَمَلِ الْقِرَاضِ فَاشْتَبَهَتْ بِسَائِرِ مُؤَنِ الْمَالِ ؛ وَلِأَنَّ تَقْدِيرَهَا يُفْضِي إِلَى اخْتِصَاصِ الْعَامِلِ بِفَضْلِهَا إِنْ رَخُصَ السِّعْرُ ، أَوْ إِلَى تَحَمُّلِ بَعْضِهَا إِنْ عَلَا فَوَجَبَ أَنْ تُعْتَبَرَ بِالْمَعْرُوفِ عَلَى مَا رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ فِيهَا أُجْرَةُ حَمَّامٍ ، وَلَا حَجَّامٍ ، وَلَا ثَمَنُ دَوَاءٍ وَلَا شَهْوَةٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَهُ فِي نَفَقَتِهِ أُجْرَةُ حَمَّامِهِ وَحَجَّامِهِ ، وَمَا احْتَاجَ إِلَيْهِ مِنْ دَوَائِهِ ، وَمَا قَرُبَ مِنْ شَهَوَاتِهِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ أَوْكَدُ مِنْهَا وَذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ فِيهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَخْتَصُّ بِسَفَرِهِ ، وَلَا بِعَمَلِهِ ، فَأَشْبَهَ صَدَاقَ مَنْ يَتَزَوَّجُهَا وَنَفَقَةَ مَنْ يَسْتَمْتِعُ بِهَا عَلَى أَنَّ مُزَاحَمَاتِهَا مَنْ جُعِلَ لَهُ نَفَقَةُ السَّفَرِ مَا زَادَ عَلَى نَفَقَةِ الْحَضَرِ وَحَكَاهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ بَعْضِ مُتَقَدِّمِيهِمْ وَهُوَ أَشْبَهُ بِالْقِيَاسِ فَإِنْ دَخَلَ فِي سَفَرِهِ بَلَدًا نفقة العامل فَلَهُ النَّفَقَةُ مَا أَقَامَ فِيهِ مَقَامَ الْمُسَافِرِ مَا لَمْ يَتَجَاوَزْ أَرْبَعًا فَإِنْ زَادَ عَلَى إِقَامَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ مَالِ الْقِرَاضِ مِنْ مَرَضٍ طَرَأَ ، أَوْ عَارِضٍ يَخْتَصُّ بِهِ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِهِ دُونَ الْقِرَاضِ . وَإِنْ كَانَ مُقَامُهُ - لِأَجْلِ مَالِ الْقِرَاضِ - انْتِظَارَ الْبَيْعَةِ وَقَبْضَ ثَمَنِهِ ، أَوِ الْتِمَاسًا لِحِمْلِهِ ، أَوْ لِسَبَبٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَنَفَقَتُهُ فِيهِ كَنَفَقَتِهِ فِي سَفَرِهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْقِرَاضِ .

مَسْأَلَةٌ إِنْ خَرَجَ بِمَالٍ لِنَفْسِهِ كَانَتِ النَّفَقَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ بِالْحِصَصِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنْ خَرَجَ بِمَالٍ لِنَفْسِهِ خرج العامل بمال لنفسه مع مال القراض كَانَتِ النَّفَقَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ بِالْحِصَصِ " .


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إِذَا سَافَرَ بِمَالِ الْقِرَاضِ لَمْ يُمْنَعْ أَنْ يُسَافِرَ بِمَالٍ لِنَفْسِهِ وَمَنَعَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ أَنْ يُسَافِرَ بِمَالٍ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ مُسْتَحَقٌّ فِي مَالِ الْقِرَاضِ فَصَارَ كَالْأَجِيرِ . وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ فِي الْحَضَرِ أَنْ يَعْمَلَ فِي مَالِهِ وَمَالِ الْقِرَاضِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ ، وَلِأَنَّ عَقْدَ الْقِرَاضِ لَمَّا أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْعَمَلَ فِي الْمَالِ ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ عَلَيْهِ جَمِيعَ الْمَالِ ، فَإِذَا أَدَّى مَا لَزِمَهُ مِنْ عَمَلِ الْقِرَاضِ ، فَسَوَاءٌ فِيمَا سِوَاهُ مُمْسِكًا أَوْ عَامِلًا . فَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ أَلَّا يُسَافِرَ بِمَالٍ لِنَفْسِهِ شرط صاحب المال على العامل بَطَلَ الْقِرَاضُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَوْقَعَ عَلَيْهِ حَجْرًا غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِمَالِ نَفْسِهِ وَمَالِ الْقِرَاضِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلِطَ مَالَهُ بِمَالِ الْقِرَاضِ وَعَلَيْهِ تَمْيِيزُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَالَيْنِ ، فَإِنْ خَلْطَهُمَا ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ خلط ماله بمال المضاربة فَيَجُوزُ وَيَصِيرُ شَرِيكًا وَمُضَارِبًا ، وَمُؤْنَةُ الْمَالِ مُقَسَّطَةٌ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ ، وَنَفَقَةُ نَفْسِهِ إِنْ قِيلَ إِنَّهَا لَا تَجِبُ فِي مَالِ الْقِرَاضِ فَهُوَ مُخْتَصٌّ بِهَا ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِ الْقِرَاضِ فَهِيَ مُقَسَّطَةٌ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ بِالْحِصَصِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَخْلِطَ الْمَالَيْنِ بِغَيْرِ إِذْنِ رَبِّ الْمَالِ ماله ومال المضاربة فَيَبْطُلُ الْقِرَاضُ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْعَادِلِ بِهِ عَنْ حُكْمِهِ فَيَلْتَزِمُ نَفَقَةَ نَفْسِهِ لَا تَخْتَلِفُ ، وَتَكُونُ نَفَقَةُ الْمَالَيْنِ بِقَدْرِ الْحِصَصِ ، وَرِبْحُ مَالِ الْقِرَاضِ كُلِّهِ لِرَبِّ الْمَالِ لِفَسَادِ الْقِرَاضِ ، وَلِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِ عَمَلِهِ فِيهِ ، وَلَا يُوجَبُ لَهُ أُجْرَةُ كُلِّ الْعَمَلِ ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ قَدْ تَوَزَّعَ عَلَى مَالِهِ وَمَالِ الْقِرَاضِ .

فَصْلٌ : فَلَوْ أَبْضَعَ رَبُّ الْمَالِ عَامِلَهُ فِي مَالِ الْقِرَاضِ بِضَاعَةً لِنَفْسِهِ يَخْتَصُّ بِرِبْحِهَا جَازَ إِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ شَرْطٍ فِي الْقِرَاضِ ، وَلَمْ يَجُزْ إِنْ كَانَ عَنْ شَرْطٍ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَجُوزُ إِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ شَرْطٍ ؛ لِأَنَّهُ كَالْمَعْمُولِ عَلَيْهِ بِالشَّرْطِ وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ مَا تَجَرَّدَ عَنِ الشَّرْطِ كَانَ تَطَوُّعًا لَا يَبْطُلُ بِهِ الْعَقْدُ كَمَا لَوْ أَبْضَعَهُ شِرَاءَ ثَوْبٍ يَكْتَسِيهِ ، أَوْ طَعَامٍ يَقْتَاتُ بِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِغَيْرِ رَبِّ الْمَالِ أَنْ يُبْضِعَهُ مَتْجَرًا جَازَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يُبْضِعَهُ مَتْجَرًا ؛ لِأَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ بِالْأَمْرَيْنِ .

فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ لِلْعَامِلِ أَنْ يَبْتَاعَ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ . وَلَا أَنْ يَبِيعَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ للعامل ؛ لِأَنَّهُ وَكَيْلٌ ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَاعَ ذَلِكَ لِمَنْ يَلِي عَلَيْهِ مِنْ صِغَارِ وَلَدِهِ لا يجوز للعامل أن يبتاع لمن يلي عليه من صغار ولده من مال القراض ، وَهَكَذَا لَا يَجُوزُ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَبْتَاعَ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ ؛ لِأَنَّهُ كَالْبَائِعِ لِنَفْسِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا اخْتَلَفَ الْعَامِلُ وَرَبُّ الْعَمَلِ فِي قَدْرِ مَا ادَّعَاهُ مِنَ النَّفَقَةِ اللَّازِمَةِ فِي مَالِ


الْقِرَاضِ فَالْقَوْلُ فِيهِ إِذَا كَانَ مُحْتَمِلًا قَوْلُ الْعَامِلِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى النَّفَقَةِ كَمَا كَانَ مُؤْتَمَنًا عَلَى الرِّبْحِ . وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ ، مِنَ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي ادِّعَاءِ الْعَامِلِ رَدَّ الْمَالِ عَلَى رَبِّهِ .

مَسْأَلَةٌ مَا اشْتَرَى فَلَهُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَمَا اشْتَرَى فَلَهُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا اشْتَرَى الْعَامِلُ سِلْعَةً فِي الْقِرَاضِ فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَعَ الْعَيْبِ فَضْلٌ وَظُهُورُ رِبْحٍ فَلَيْسَ لِلْعَامِلِ أَنْ يَرُدَّ لِحَقِّ رَبِّ الْمَالِ فِي الْفَضْلِ الظَّاهِرِ ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَرُدَّ لِحَقِّ الْعَامِلِ فِي الْفَضْلِ الظَّاهِرِ . فَإِنِ اجْتَمَعَا عَلَى الرَّدِّ فَذَلِكَ لَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُمَا ، وَيَكُونُ حَالُ السِّلْعَةِ مَعَ ظُهُورِ الْعَيْبِ كَحَالِهِمَا لَوْ سَلِمَتْ مِنْ عَيْبٍ لِظُهُورِ الْفَاضِلِ فِي الْحَالَيْنِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِيهَا لِأَجْلِ الْعَيْبِ خُسْرَانٌ وَعَجْزٌ فَلِلْعَامِلِ أَنْ يَرُدَّ السِّلْعَةَ بِالْعَيْبِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَنْمِيَةِ الْمَالِ ، وَفِي إِمْسَاكِ الْعَيْبِ تَلَفٌ لِلنَّسَاءِ ، وَلِأَنَّهُ حَلَّ مَحَلَّ مَالِكِهِ ، وَلِلْمَالِكِ فَسْخُهُ وَرَدُّهُ ، فَإِنْ رَضِيَ الْعَامِلُ بِعَيْبِهِ كَانَ لِرَبِّ الْمَالِ رَدُّهُ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ النَّقْصِ فِي مَالِهِ ، فَيَصِيرُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَامِلِ وَرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالرَّدِّ ، فَإِنِ اجْتَمَعَا عَلَى الْإِمْسَاكِ ، وَالرِّضَا بِالْعَيْبِ جَازَ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الرَّدِّ لَا يَتَجَاوَزُهُمَا .

مَسْأَلَةٌ حَالَ الْوَكِيلِ فِي رَدِّ مَا وَجَدَ بِهِ عَيْبًا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا حَالَ الْوَكِيلِ فِي رَدِّ مَا وَجَدَ بِهِ عَيْبًا ، وَأَنَّ مَا اشْتَرَاهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا ، أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ ، فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّهُ إِلَّا بِإِذْنِ مُوَكِّلِهِ ؛ لِأَنَّ شِرَاءَهُ غَيْرُ مَرْدُودٍ إِلَى رَأْيِهِ لِجَوَازِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ بِعَيْبِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَلَهُ الرَّدُّ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِذْنِ بِالشِّرَاءِ يَقْتَضِي سَلَامَةَ الْمُشْتَرِي كَالْمُقَارِضِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ فِيهِ مَعَ الْعَيْبِ فَضْلٌ ، أَوْ لَا بِخِلَافِ الْمُقَارِضِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ اسْتِئْذَانُ الْمُوَكِّلِ فِي الرَّدِّ ، فَإِنْ نَهَاهُ الْمُوَكِّلُ عَنِ الرَّدِّ مُنِعَ مِنَ الرَّدِّ بِخِلَافِ الْعَامِلِ ؛ لِأَنَّ لِلْعَامِلِ شِرْكًا فِي الرِّبْحِ وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ شِرْكٌ فِيهِ ، فَصَارَ الْوَكِيلُ مُوَافِقًا لِلْعَامِلِ فِي الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ، وَمُخَالِفًا فِي الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ .

مَسْأَلَةٌ إِنِ اشْتَرَى وَبَاعَ بِالدَّيْنِ فَضَامِنٌ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنِ اشْتَرَى وَبَاعَ بِالدَّيْنِ فَضَامِنٌ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ اشترى العامل " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَا يَخْلُو حَالُهُ فِي مَالِ الْقِرَاضِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :


أَحَدُهُمَا : أَنْ يَأْمُرَهُ فِي الْبَيْعِ ، وَالشِّرَاءِ نَقْدًا ، فَلَا يَجُوزُ لِلْعَامِلِ أَنْ يَشْتَرِيَ بِالنَّسَاءِ ، وَلَا أَنْ يَبِيعَ بِالنَّسَاءِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِالنَّسَاءِ ، فَيَجُوزُ لِلْعَامِلِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ بِالنَّقْدِ وَالنَّسَاءِ ، أَمَّا النَّقْدُ فَلِأَنَّهُ أَحَظُّ ، وَأَمَّا النَّسَاءُ فَلَمَّا كَانَ الْإِذْنُ ، فَلَوْ نَهَاهُ عَنِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِالنَّقْدِ لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ لِلْعَامِلِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّغْرِيرِ بِتَأْخِيرِ النَّسَاءِ ، وَخَالَفَ الْوَكِيلَ وَصَارَ عَقْدُ الْقِرَاضِ بَاطِلًا . وَلَا يَجُوزُ لَهُ مَعَ إِذْنِ النَّسَاءِ أَنْ يَشْتَرِيَ وَيَبِيعَ سَلَمًا ؛ لِأَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ أَكْثَرُ غَرَرًا مِنَ النَّسَاءِ فِي الْأَعْيَانِ ، فَإِنْ أُذِنَ لَهُ فِي الشِّرَاءِ سَلَمًا جَازَ ، وَإِنْ أُذِنَ لَهُ فِي الْبَيْعِ سَلَمًا لَمْ يَجُزْ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وُجُودُ الْحَظِّ غَالِبًا فِي الشِّرَاءِ وَعَدَمُهُ فِي الْبَيْعِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُطْلِقَ الْإِذْنَ لَهُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ لَهُ نَقْدًا ، أَوْ نَسَاءً فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ لِلْعَامِلِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ بِالنَّقْدِ وَالنَّسَاءِ ، وَبِمِثْلِهِ قَالَ فِي الْوَكِيلِ مَعَ إِطْلَاقِ الْإِذْنِ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِذْنِ يَقْتَضِي عُمُومَ الْحَالَيْنِ . وَلَا يَجُوزُ لَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَعَ إِطْلَاقِ الْإِذْنِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ إِلَّا بِالنَّقْدِ ؛ لِأَنَّ الْآجَالَ لَا تَثْبُتُ فِي الْعُقُودِ إِلَّا بِشَرْطٍ كَالْأَثْمَانِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ النَّسَاءِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، فَعَاقَدَ بِالنَّسَاءِ فَذَلِكَ نَوْعَانِ : بَيْعٌ وَشِرَاءٌ ، فَأَمَّا الشِّرَاءُ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَشْتَرِيَ بِالنَّسَاءِ فِي مَالِ الْقِرَاضِ المضارب فَيَكُونُ الشِّرَاءُ بَاطِلًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَشْتَرِيَ بِالنَّسَاءِ فِي ذِمَّتِهِ فَيَكُونُ الشِّرَاءُ لَازِمًا لَهُ . وَأَمَّا الْبَيْعُ فَبَاطِلٌ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْمَبِيعِ مَا لَمْ يَقْبِضْهُ ، فَإِنْ قَبَضَهُ ضَمِنَهُ حِينَئِذٍ بِالْإِقْبَاضِ وَعَلَيْهِ اسْتِرْجَاعُهُ مَا كَانَ بَاقِيًا ، فَإِنْ تَلِفَ فَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَأْخُذَ بِضَمَانِهِ وَغُرْمِهِ مَنْ شَاءَ مِنَ الْعَامِلِ أَوِ الْمُشْتَرِي ، فَإِنْ أُغْرِمَ الْعَامِلُ رَجَعَ بِمَا غَرِمَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ أُغْرِمَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْعَامِلِ ؛ لِأَنَّ الْغُرْمَ ثَبَتَ عَلَى مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ التَّلَفُ .

فَصْلٌ : فَلَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ لِلْعَامِلِ : اعْمَلْ فِي الْقِرَاضِ بِرَأْيِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَاقِدَ بِالنَّسَاءِ لَا بَيْعًا وَلَا شِرَاءً ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ بِرَأْيِهِ يَنْصَرِفُ إِلَى تَدْبِيرِهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي وُفُورِ الْأَرْبَاحِ ، وَالْتِمَاسِ النَّمَاءِ دُونَ النَّسَاءِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَارَضَهُ عَلَى غَيْرِ مَالٍ لِيَشْتَرِيَ بِالنَّسَاءِ فَإِنَّ الْقِرَاضَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ فِي الْأَعْيَانِ ، وَلَا يَصِحُّ فِي الذِّمَمِ .


وَلَوْ قَارَضَهُ عَلَى مَالٍ فَأَذِنَ لَهُ فِي الشِّرَاءِ بِالنَّسَاءِ الحكم لَمْ يَكُنْ لِلْعَامِلِ أَنْ يَشْتَرِيَ نَسَاءً بِأَكْثَرَ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ قَدْرًا ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَيْهِ خَارِجٌ مِنْهُ .

مَسْأَلَةٌ هُوَ مُصَدَّقٌ فِي ذَهَابِ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي ذَهَابِ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ العامل مصدق بتلف المال مع يمينه " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ مُؤْتَمَنٌ فِي مَالِ الْقِرَاضِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانٌ ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ لِمَنْفَعَةِ مَالِكِهِ بِطَلَبِ الرِّبْحِ ، وَمَا يَعُودُ عَلَيْهِ مِنَ الرِّبْحِ فَإِنَّمَا هُوَ عِوَضٌ عَنْ عَمَلِهِ فَصَارَ كَالْوَكِيلِ الْمُسْتَعْجِلِ فَإِذَا ادَّعَى تَلَفَ الْمَالِ مِنْ يَدِهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ ، فَإِنِ ادَّعَى رَدَّ الْمَالِ عَلَى رَبِّهِ فَالْأُمَنَاءُ ثَلَاثَةٌ : أَمِينٌ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ وَهُوَ الْمُودَعُ ، وَأَمِينٌ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَهُوَ الْمُرْتَهِنُ ، وَأَمِينٌ مُخْتَلَفٌ قَبُولُ قَوْلِهِ فِي الرَّدِّ مَعَ يَمِينِهِ وَهُوَ الْمُضَارِبُ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ فِي الرَّدِّ مَعَ يَمِينِهِ كَالْمُوَدَعِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الرَّدِّ وَإِنْ كَانَ مَقْبُولًا فِي التَّلَفِ كَالْمُرْتَهِنِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا اشْتَرَى مَنْ يُعْتَقُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِإِذْنِهِ عَتَقَ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَالْمُضَارِبُ ضَامِنٌ ، وَالْعَبْدُ لَهُ وَالْمَالِكُ إِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مَنْ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَرْبَحَ فِي بَيْعِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا اشْتَرَى الْعَامِلُ فِي الْقِرَاضِ أَبَا رَبِّ الْمَالِ ، أَوْ أُمَّهُ ، أَوْ بِنْتَهُ مِمَّنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ لَوْ مَلَكَهُ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَشْتَرِيَ بِإِذْنِهِ ، أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ . فَإِنِ اشْتَرَاهُ بِإِذْنِهِ صَحَّ الشِّرَاءُ ، وَكَانَ لَازِمًا لِرَبِّ الْمَالِ ، وَهُوَ فِي شِرَائِهِ لَهُ كَالْوَكِيلِ ، وَقَدْ بَطَلَ مِنَ الْقِرَاضِ مَا دَفَعَهُ فِي ثَمَنِهِ ، وَكَانَ كَالْقَابِضِ لَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ . وَهَلْ يَكُونُ عَقْدُ ابْتِيَاعِهِ دَاخِلًا فِي عَقْدِ قِرَاضِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيِّ أَنَّهُ دَخَلَ فِي عَقْدِ قِرَاضِهِ ، وَإِنَّمَا خَرَجَ مِنْهُ بَعْدَ الْعَقْدِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ثَمَنِهِ فَضْلٌ لَوْ كَانَ عَلَى رِقِّهِ فَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ رَجَعَ الْعَامِلُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْ فَضْلِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي عَقْدِ قِرَاضِهِ لِخُرُوجِهِ عَنْ حُكْمِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلْعَامِلِ فِي شِرَائِهِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ سَوَاءٌ كَانَ فِي ثَمَنِهِ فَضْلٌ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي شِرَائِهِ عَلَى عِوَضٍ مِنْهُ ، فَصَارَ كَالْمُشْتَرِي فِي الْقِرَاضِ الْفَاسِدِ .

فَصْلٌ : وَإِنِ اشْتَرَاهُ بِغَيْرِ إِذْنِ رَبِّ الْمَالِ إذا اشترى العامل بدون إذن رب المال ممن يعتق على رب المال لو ملكه فَهُوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي مَالِ الْقِرَاضِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْقِرَاضِ يُوجِبُ ابْتِيَاعَ مَا تُرْجَى الزِّيَادَةُ فِي ثَمَنِهِ ، وَالزِّيَادَةُ فِي ثَمَنِ هَذَا مَعْدُومَةٌ ، وَاسْتِهْلَاكُ


الْمَالِ بِهِ مَوْجُودٌ فَصَارَ شِرَاؤُهُ فِي حَقِّ رَبِّ الْمَالِ كَشِرَاءِ مَا لَا يُعَاوَضُ عَلَيْهِ مِنْ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ . وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ بِمَا وَصَفْتُ فِي مَالِ الْقِرَاضِ لَمْ يَخْلُ شِرَاءُ الْعَامِلِ لَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِعَيْنِ الْمَالِ ، أَوْ فِي ذِمَّتِهِ . فَإِنِ اشْتَرَاهُ بِعَيْنِ الْمَالِ بَطَلَ شِرَاؤُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ بِعَيْنٍ لَا يَمْلِكُ بِهِ فَصَارَ كَبَيْعِهِ بِمَالٍ مَغْصُوبٍ . وَإِنِ اشْتَرَاهُ فِي ذِمَّتِهِ كَانَ الشِّرَاءُ لَازِمًا لَهُ ، وَإِنْ نَقَدَ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ فِي ثَمَنِهِ كَانَ ضَامِنًا لَهُ ، وَبَطَلَ مِنَ الْقِرَاضِ قَدْرُ مَا دَفَعَ مِنْ ثَمَنِهِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِالدَّفْعِ مَضْمُونَ الْمِثْلِ فِي ذِمَّتِهِ فَخَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْقِرَاضِ لِخُرُوجِهِ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنِ اشْتَرَى الْعَامِلُ أَخَا رَبِّ الْمَالِ ، أَوْ عَمَّهُ صَحَّ الشِّرَاءُ وَكَانَ فِي مَالِ الْقِرَاضِ لِجَوَازِ تَمَلُّكِهِ لَهُمْ ، وَطَلَبَ الْفَضْلَ فِي ثَمْنِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُعْتَقُونَ بِالْمِلْكِ . فَأَمَّا إِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ امْرَأَةً فَاشْتَرَى الْعَامِلُ زَوْجَهَا فِي مَالِ الْقِرَاضِ الحكم فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهَا صَحَّ الشِّرَاءُ وَبَطَلَ النِّكَاحُ ، وَكَانَ عَلَى حَالِهِ فِي مَالِ الْقِرَاضِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا مُبْطِلٌ لِلنِّكَاحِ ، وَغَيْرُ مُوجِبٍ لِلْعِتْقِ . وَإِنِ اشْتَرَاهُ بِغَيْرِ إِذْنِهَا فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِي مَالِ الْقِرَاضِ لِمَا فِيهِ مِنْ دُخُولِ الضَّرَرِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَخَرَجَ عَنْ مُطْلَقِ الْإِذْنِ كَشِرَاءِ الْأَبِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَازِمٌ فِي مَالِ الْقِرَاضِ لِتَفَارُقِهِ ، وَثُبُوتِ مِلْكِهِ ، وَجَوَازِ أَخْذِ الْفَضْلِ مِنْ ثَمَنِهِ بِخِلَافِ الْأَبِ الْمَعْدُومِ ذَلِكَ كُلِّهُ فِيهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ يَشْتَرِي أَبَا سَيِّدِهِ فَالشَّرَاءُ مَفْسُوخٌ ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ وَلَا مَالَ لَهُ ( وَقَالَ ) فِي كِتَابِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ فِي شِرَاءِ الْعَبْدِ مَنْ يُعْتَقُ عَلَى مَوْلَاهُ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا جَائِزٌ وَالْآخَرُ لَا يَجُوزُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قِيَاسُ قَوْلِهِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ أَنَّ الْبَيْعَ مَفْسُوخٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا ذِمَّةَ لَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَتُهُ أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ فَاشْتَرَى الْعَبْدَ أَبَا سَيِّدِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ شِرَائِهِ فَيَكُونُ الشِّرَاءُ بَاطِلًا لِلنَّهْيِ عَنْهُ ، وَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى بَائِعِهِ وَيَرْتَجِعُ بِمَا دَفَعَهُ فِي ثَمَنِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي شِرَائِهِ ، فَالشِّرَاءُ صَحِيحٌ وَفِي زَمَانِ عِتْقِهِ وَجْهَانِ :


أَحَدُهُمَا : يُعْتَقُ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : بِأَدَاءِ الثَّمَنِ . وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي غُرَمَاءِ الْعَبْدِ ، هَلْ مَلَكُوا بِدُيُونِهِمْ حَجْرًا عَلَى مَا بِيَدِهِ أَوْ لَا ؟ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ سَيِّدِهِ فِيهِ إِذْنٌ وَلَا نَهْيٌ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الشِّرَاءَ بَاطِلٌ كَالْمَضَارِبِ إِذَا اشْتَرَى بِعَيْنِ الْمَالِ أَبَا رَبِّهِ ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ شِرَاءُ الْعَبْدِ بِعَيْنِ الْمَالِ ، أَوْ فِي ذِمَّتِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِذِي ذِمَّةٍ يُعَامَلُ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا يُعَامَلُ عَلَى مَا بِيَدِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الشِّرَاءَ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْعَبْدِ مَنْسُوبٌ إِلَى سَيِّدِهِ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ كَيَدِهِ فَصَارَ عَقْدُهُ كَعَقْدِهِ . فَعَلَى هَذَا هَلْ يُعْتَقُ فِي الْحَالِ ، أَوْ بِأَدَاءِ الثَّمَنِ ؟ عَلَى مَا مَضَى مِنْ وَجْهَيْنِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا اشْتَرَى الْعَبْدُ أَبَا نَفْسِهِ صَحَّ الشِّرَاءُ وَكَانَ عَلَى رِقِّهِ فِي مِلْكِ السَّيِّدِ ؛ لِأَنَّ شِرَاءَهُ لِسَيِّدِهِ لَا لِنَفْسِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَإِنِ اشْتَرَى الْمُقَارِضُ أَبَا نَفْسِهِ بِمَالِ رَبِّ الْمَالِ وَفِي الْمَالِ فَضْلٌ ، أَوْ لَا فَضْلَ فِيهِ فَسَوَاءٌ ، وَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَقُومُ مَقَامَ وَكِيلٍ اشْتَرَى لِغَيْرِهِ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ ، وَلَا رِبْحَ لِلْعَامِلِ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ رَبِّ الْمَالِ مَالَهُ ، وَلَا يَسْتَوْفِيهِ رَبُّهُ إِلَّا وَقَدْ بَاعَ أَبَاهُ وَلَوْ كَانَ يَمْلِكُ مِنَ الرِّبْحِ شَيْئَا قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ الْمَالُ إِلَى رَبِّهِ كَانَ مُشَارِكًا لَهُ وَلَوْ خَسِرَ حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا أَقَلُّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ كَانَ فِيمَا بَقِيَ شَرِيكًا ؛ لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ شَيْئَا زَائِدًا مَلَكَهُ نَاقِصًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا أَنْ يَشْتَرِيَ الْعَامِلُ فِي الْقِرَاضِ أَبَا نَفْسِهِ ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِي الْمَالِ عِنْدَ شِرَائِهِ رِبْحٌ يَسْتَحِقُّ فِيهِ سَهْمًا أَوْ لَا رِبْحَ فِيهِ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ كَانَ أَبُو الْعَامِلِ عَلَى رِقِّهِ فِي مَالِ الْقِرَاضِ ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ لَمْ يَمْلِكْ مِنْ أَبِيهِ شَيْئًا ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي شِرَاءِ أَبِيهِ لِرَبِّ الْمَالِ . وَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ يَسْتَحِقُّ فِيهِ بِعَمَلِهِ سَهْمًا فَفِي عِتْقِهِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ فِي الْعَامِلِ هَلْ يَكُونُ شَرِيكًا فِي الرِّبْحِ بِعَمَلِهِ وَمَالِكًا لِحَقِّهِ مِنْهُ عِنْدَ ظُهُورِهِ ، أَوْ هُوَ وَكِيلٌ يَأْخُذُ مَا شَرَطَ مِنَ الرِّبْحِ أُجْرَةً يَمْلِكُهَا بِالْحِصَصِ ؟ .


أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ أَنَّ الْعَامِلَ وَكِيلٌ مُسْتَعْجِلٌ وَلَيْسَ بِشَرِيكٍ ، وَمَا يَخُصُّهُ مِنَ الرِّبْحِ أُجْرَةٌ لَا يَمْلِكُهَا بِالظُّهُورِ ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهَا بِالْقَبْضِ . وَوَجْهُ ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَوْ مَلَكَ الرِّبْحَ بِظُهُورِهِ وَكَانَ شَرِيكًا لَوَجَبَ إِذَا تَلِفَ مِنَ الْمَالِ شَيْءٌ أَنْ يَكُونَ التَّالِفُ مُقَسَّطًا عَلَى الْأَصْلِ وَالرِّبْحِ ؛ لِأَنَّ تَلَفَ بَعْضِ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ فِيهِ ، فَلَمَّا كَانَ التَّالِفُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَالِ مَحْسُوبًا مِنْ رِبْحِهِ ، وَلَمْ يَتَقَسَّطْ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْلِهِ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَرِيكًا فِيهِ ، وَلَا مَالِكًا لِشَيْءٍ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَهُ زَائِدًا لَمَلَكَهُ نَاقِصًا . وَالثَّانِي : أَنَّ الرِّبْحَ عِنْدَ ظُهُورِهِ وَقَبْلَ قَبْضِهِ مُرْصَدٌ لِصَلَاحِ الْمَالِ وَتَثْمِيرِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ فِي الْمَالِ خُسْرَانٌ لَكَانَ مَجْبُورًا بِهِ ، وَلَوْ كَانَ مِلْكًا لِلْعَامِلِ وَشَرِيكًا فِيهِ لَمَا جَازَ أَنْ يُجْبَرَ بِهِ مَالُ غَيْرِهِ أَلَا تَرَاهُ إِذَا قَبَضَ الرِّبْحَ وَمَلَكَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْبَرَ الْخُسْرَانُ بِهِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْإِنْسَانِ لَا يُجْبَرُ بِهِ مَالُ غَيْرِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ مَنْ كَانَ شَرِيكًا فِي رِبْحٍ إِنْ ظَهَرَ كَانَ شَرِيكًا فِي خُسْرَانٍ إِنْ حَدَثَ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْعَامِلُ شَرِيكًا فِي الْخُسْرَانِ ، وَلَا مُلْتَزِمًا لِشَيْءٍ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ شَرِيكًا فِي الرِّبْحِ ، وَلَا مَالِكًا لِشَيْءٍ مِنْهُ ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ أَبُو الْعَامِلِ عَلَى رِقِّهِ فِي مَالِ الْقِرَاضِ ، وَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِشَيْءٍ مِنْهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْعَامِلَ شَرِيكٌ فِي الرِّبْحِ بِعَمَلِهِ وَمَالِكٌ لَهُ بِظُهُورِهِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَوُجْهَتُهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنَّ لِلْعَامِلِ إِجْبَارَ رَبِّ الْمَالِ عَلَى الْقِسْمَةِ - وَلَوْ لَمْ يَكُنْ شَرِيكًا فِيهِ بِسَهْمٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْإِجْبَارُ عَلَى قِسْمَتِهِ - أَلَا تَرَاهُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ لَا يَمْلِكُ إِجْبَارَهُ عَلَى الْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ أُجْرَةٌ ، وَيَمْلِكُهُ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ لَمْ يُجْبِرْهُ عَلَى الْقِسْمَةِ ، وَيُجْبِرُهُ إِذَا كَانَ فِيهِ رِبْحٌ ، وَلَا شَيْءَ أَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْقِسْمَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الرِّبْحِ أُجْرَةً لَا يَمْلِكُهَا إِلَّا بِالْقَبْضِ لَمَا جَازَ أَنْ تَكُونَ مَجْهُولَةَ الْقَدْرِ ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ الْمُضَارَبَةِ مَعَ الْجَهَالَةِ بِرِبْحِهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سَهْمَ الْعَامِلِ مِنْهَا لِشَرِكَتِهِ فِيهَا ، وَلَيْسَتْ أُجْرَةً تَبْطُلُ مَعَ الْجَهَالَةِ بِهَا . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ سَهْمُهُ مِنَ الرِّبْحِ أُجْرَةً عَلَى عَمَلِهِ فِي الْمَالِ لَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ مَعَ الْخُسْرَانِ لِوُجُودِ الْعَمَلِ ، وَإِنْ عُدِمَ الرِّبْحَ كَوُجُودِهِ مَعَ ظُهُورِ الرِّبْحِ ؛ لِأَنَّ فَوَاتَ الْأُجْرَةِ لَا تُسْقِطُ مُعَاوَضَةَ الْعَمَلِ كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى عَمَلٍ بِمَالٍ مُعَيَّنٍ فَتَلَفَ الْمَالُ بَعْدَ الْعَمَلِ لَمْ يُهْدَرْ عَمَلُهُ وَاسْتَحَقَّ بِهِ أُجْرَةَ الْمِثْلِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى فَسَادِ الْأُجْرَةِ وَصِحَّةِ الشَّرِكَةِ .


فَعَلَى هَذَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ لَا بِقِيمَتِهِ إِنْ كَانَتْ حِصَّتُهُ مِنَ الرِّبْحِ هِيَ جَمِيعَ ثَمَنِهِ . وَيَبْطُلُ عَقْدُ الْقِرَاضِ فِي جَمِيعِ الْمَالِ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَبَا رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ إِذَا اشْتَرَى أَبَا رَبِّ الْمَالِ بِأَمْرِهِ بَطَلَ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ بِقَدْرِ ثَمَنِهِ . وَإِذَا اشْتَرَى الْعَامِلُ أَبَا نَفْسِهِ بَطَلَ جَمِيعُ الْقِرَاضِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ أَبَا رَبِّ الْمَالِ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ مِنْ أَصْلِ الْمَالِ مِنَ الْقِرَاضِ بِقَدْرِهِ ، وَلَمْ يَبْطُلْ جَمِيعُ عَقْدِهِ ، وَأَبُو الْعَامِلِ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ مِنْ رِبْحِهِ ، وَرِبْحُ الْقِرَاضِ لَا يُؤْخَذُ إِلَّا قِسْمَةً وَسَوَاءٌ كَانَتْ حِصَّتُهُ مِنَ الرِّبْحِ بِقَدْرِ ثَمَنِهِ ، أَوْ أَكْثَرَ فِي أَنَّ الْقِرَاضَ كُلَّهُ قَدْ بَطَلَ ؛ لِأَنَّ أَخْذَ بَعْضِ الرِّبْحِ كَأَخْذِ جَمِيعِهِ فِي الْفَسْخِ . فَإِنِ اسْتَأْنَفَ مِنَ الْمَالِ مَعَهُ قِرَاضًا بَعْدَ شِرَاءِ أَبِيهِ كَانَ عَقْدًا مُسْتَجَدًّا ، وَإِنْ كَانَتْ حِصَّةُ الْعَامِلِ مِنَ الرِّبْحِ أَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ أَبِيهِ كَأَنَّهَا كَانَتْ بِقَدْرِ نِصْفِهِ عَتَقَ مِنْهُ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ ، وَصَارَ بِعِتْقِهِ مُسْتَوْفِيًا لِجَمِيعِ حَقِّهِ ثُمَّ يُنْظَرُ : فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بِقِيمَةٍ بَاقِيَةٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ وَعَتَقَ جَمِيعُهُ فَيَصِيرُ نِصْفُهُ مُعْتَقًا بِالثَّمَنِ وَنِصْفُهُ مُعْتَقًا بِالْقِيمَةِ . وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بِقِيمَةٍ بَاقِيَةٍ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ وَرَقَّ مِنْهُ مَا رَقَّ . فَلَوْ لَمْ يَظْهَرْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ عِنْدَ شِرَاءِ أَبِيهِ فَالْمُضَارَبَةُ عَلَى حَالِهَا لِبَقَاءِ أَبِيهِ عَلَى الرِّقِّ ، فَإِنْ ظَهَرَ رِبْحٌ فِيمَا بَعْدُ عَتَقَ عَلَيْهِ وَبَطَلَتِ الْمُضَارَبَةُ .

فَصْلٌ : إِذَا ادَّعَى الْعَامِلُ ظُهُورَ الرِّبْحِ فِي الْمَالِ وَطَالَبَ بِالْقِسْمَةِ لَمْ يُجْبَرِ الْمَالِكُ عَلَيْهَا مَا لَمْ يَعْتَرِفْ بِظُهُورِ الرِّبْحِ ، أَوْ يَتَحَاسَبَانِ فَيَظْهَرُ لَهُ الرِّبْحُ . وَلَا يَلْزَمُ رَبَّ الْمَالِ أَنْ يُحَاسِبَهُ إِلَّا بَعْدَ حُضُورِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَصْدُقُ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ وُفُورِهِ ، أَوْ سَلَامَتِهِ ، فَإِذَا حَضَرَ الْمَالُ تَحَاسَبَا ، فَإِنْ ظَهَرَ رِبْحٌ تَقَاسَمَا ، فَلَوْ تَقَاسَمَا فِي الْمُحَاسَبَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْعَامِلُ مِنْ قَدْرِ الرِّبْحِ ثُمَّ تَحَاسَبَا فَوَجَدَا رَأْسَ الْمَالِ نَاقِصًا تَرَادَّا الرِّبْحَ لِيَسْتَكْمِلَ رَأْسَ الْمَالِ . وَلَوْ رَضِيَ رَبُّ الْمَالِ ، وَالْعَامِلُ بِالْمُحَاسَبَةِ عَلَيْهِ مَعَ غَيْبَةِ الْمَالِ عَنْهُمَا فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ احْتِيَاطٌ لَهُمَا تَرَكَاهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَحَاسَبَانِ عَلَى جَهَالَةٍ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَمَتَى شَاءَ رَبُّهُ أَخْذَ مَالِهِ قَبْلَ الْعَمَلِ وَبَعْدَهُ وَمَتَى شَاءَ الْعَامِلُ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْقِرَاضِ خَرَجَ مِنْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَقْدَ الْقِرَاضِ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ دُونَ اللَّازِمَةِ ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ رَبِّ الْمَالِ ، وَالْعَامِلِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْفَسْخِ قَبْلَ الْعَمَلِ وَبِعْدَهُ مَعَ وُجُودِ الرِّبْحِ ، أَوْ حُدُوثِ الْخُسْرَانِ ، فَإِذَا فَسَخَهَا أَحَدُهُمَا انْفَسَخَتْ وَصَارَ كَاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى فَسْخِهَا ثُمَّ لَا يَخْلُو الْمَالُ مِنْ أَنْ يَكُونَ نَاضًّا ، أَوْ غَيْرَ نَاضٍّ . فَإِنْ كَانَ نَاضًّا مِنْ دَرَاهِمَ ، أَوْ دَنَانِيرَ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ ، أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ دَرَاهِمَ وَرَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمَ ، أَوْ يَكُونَ دَنَانِيرَ وَرَأْسُ الْمَالِ دَنَانِيرَ ، فَالْعَامِلُ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِبَيْعٍ ، أَوْ شِرَاءٍ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْفَاسِخَ أَوْ رَبُّهُ ، ثُمَّ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ تَقَاسَمَاهُ عَلَى شَرْطِهِمَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضْلٌ ، أَوْ كَانَ فِيهِ خُسْرَانٌ أَخَذَهُ رَبُّ الْمَالِ ، وَلَا شَيْءَ فِيهِ لِلْعَامِلِ . وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ دَرَاهِمَ وَرَأْسُ الْمَالِ دَنَانِيرَ ، أَوْ يَكُونَ دَنَانِيرَ وَرَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمَ فَحُكْمُ هَذَا كَحُكْمِهِ لَوْ كَانَ عَرْضًا . وَلَهُمَا فِي الْعَرْضِ بَعْدَ فَسْخِ الْقِرَاضِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى بَيْعِهِ فَيَلْزَمُ الْعَامِلَ أَنْ يَبِيعَهُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ عَقْدِهِ فَإِذَا نَضَّ ثَمَنُهُ أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ مَالَهُ وَتَقَاسَمَا فَضْلًا إِنْ كَانَ فِيهِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى تَرْكِ بَيْعِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَكُونَ فِي ثَمَنِهِ لَوْ بِيعَ فَضْلٌ فَقَدْ سَقَطَ حَقُّ الْعَامِلِ مِنْهُ وَصَارَ الْعَرْضُ مِلْكًا لِرَبِّ الْمَالِ بِزِيَادَتِهِ وَنَقْصِهِ ، فَإِنْ زَادَ ثَمَنُهُ بَعْدَ تَرْكِ الْعَامِلِ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقٌّ فِي زِيَادَتِهِ لِخُرُوجِهِ بِالتَّرْكِ عَنْ قِرَاضِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِي ثَمَنِهِ فَضْلٌ لَوْ بِيعَ عِنْدَ تَرْكِهِ فَيَنْظُرُ فِي تَرْكِ الْعَامِلِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَرَكَهُ إِسْقَاطًا لِحَقِّهِ فَقَدْ صَارَ الْعَرْضُ بِزِيَادَتِهِ وَنَقْصِهِ مِلْكًا لِرَبِّ الْمَالِ ، وَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَرَكَهُ تَأْخِيرًا لِبَيْعِهِ فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ مِنْ فَضْلِ ثَمَنِهِ وَلَهُ بَيْعُهُ مَتَى شَاءَ . وَالْحَالُ الثَّالِثُ : أَنْ يَدْعُوَ الْعَامِلُ إِلَى بَيْعِهِ وَيَمْنَعَهُ رَبُّ الْمَالِ مِنْهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَرْجُوَ فِي ثَمَنِهِ فَضْلًا ، وَلَا يَأْمُلَ رِبْحًا فَلَيْسَ لَهُ بَيْعُهُ وَيُمْنَعُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِبَيْعِهِ شَيْئًا .


وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَرْجُوَ فِي ثَمَنِهِ فَضْلًا وَيَأْمُلَ رِبْحًا فَلَهُ بَيْعُهُ وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَمْنَعَهُ لِيَصِلَ بِالْبَيْعِ إِلَى حَقِّهِ مِنَ الرِّبْحِ . فَلَوْ بَذَلَ لَهُ رَبُّ الْمَالِ حِصَّتَهُ مِنْ رِبْحِهِ وَمَنَعَهُ مِنْ بَيْعِهِ بذل رب المال للعامل فَفِي بَيْعِهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ فِي سَيِّدِ الْعَبْدِ الْجَانِي إِذَا مَنَعَ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ مِنْ بَيْعِهِ ، وَبَذَلَ لَهُ قَدْرَ قِيمَتِهِ : أَحَدُهُمَا : يُمْنَعَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنْ بَيْعِ الْعَبْدِ لِوُصُولِهِ إِلَى قِيمَتِهِ ، وَيُمْنَعَ الْعَامِلُ مِنْ بَيْعِ الْعَرْضِ لِوُصُولِهِ إِلَى رِبْحِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ لَا يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِ الْعَبْدِ إِلَّا بِبَذْلِ جَمِيعِ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَرْجُو الْوُصُولَ إِلَيْهَا بِالْبَيْعِ إِنْ حَدَثَ لَهُ رَاغِبٌ ، وَلَا يُمْنَعُ الْعَامِلُ مِنْ بَيْعِ الْعَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَرْجُو زِيَادَةً عَلَى الْقِيمَةِ لِحُدُوثِ رَاغِبٍ . وَالْحَالُ الرَّابِعُ : أَنْ يَدْعُوَ رَبُّ الْمَالِ إِلَى بَيْعِهِ وَيَمْتَنِعَ الْعَامِلُ مِنْهُ . فَإِنْ كَانَ امْتِنَاعُهُ لِغَيْرِ تَرْكٍ لَحَقِّهِ مِنْهُ أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ لِتَنْقَطِعَ عِلَّتُهُ فِيهِ وَيَتَصَرَّفَ رَبُّ الْمَالِ فِي ثَمَنِهِ . وَإِنْ كَانَ امْتِنَاعُهُ تَرْكًا لَحَقِّهِ مِنْهُ فَفِي إِجْبَارِهِ عَلَى بَيْعِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُجْبِرُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ إِنَّمَا يَلْزَمُ فِي حَقَّيْهِمَا ، وَبِبُطْلَانِ الْقِرَاضِ قَدْ سَقَطَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَقًّا لَهُمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ ؛ لِأَنَّ رَدَّ رَأْسِ الْمَالِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ الْعَرْضُ رَأْسَ الْمَالِ وَإِنَّمَا هُوَ بَدَلٌ عَنْهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَإِنْ مَاتَ رَبُّ الْمَالِ صَارَ لِوَارِثِهِ فَإِنْ رَضِيَ تُرِكَ الْمُقَارِضُ عَلَى قِرَاضِهِ ، وَإِلَّا فَقَدِ انْفَسَخَ قِرَاضُهُ وَإِنْ مَاتَ الْعَامِلُ لَمْ يَكُنْ لِوَارِثِهِ أَنْ يَعْمَلَ مَكَانَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، عَقْدُ الْقِرَاضِ يَبْطُلُ بِمَوْتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ رَبِّ الْمَالِ ، أَوِ الْعَامِلِ ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ الْجَائِزَةَ دُونَ اللَّازِمَةِ تَبْطُلُ بِمَوْتِ عَاقِدِهَا وَهُمَا فِي الْعَقْدِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ بِهِمَا ، وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ . فَإِنْ بَطَلَ بِمَوْتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ هُوَ رَبُّ الْمَالِ ، أَوِ الْعَامِلَ فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ مِنْهُمَا هُوَ رَبُّ الْمَالِ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ نَاضًّا ، أَوْ عَرْضًا : فَإِنْ كَانَ نَاضًّا مُنِعَ الْعَامِلُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِبَيْعٍ ، أَوْ شِرَاءٍ ، ثُمَّ لِوَرَثَةِ رَبِّ الْمَالِ أَنْ يَسْتَرْجِعُوا رَأْسَ الْمَالِ ، وَيُقَاسِمُوا الْعَامِلَ عَلَى رِبْحٍ إِنْ كَانَ .


فَإِنْ أَذِنُوا لَهُ فِي الْمُقَامِ عَلَى قِرَاضِ أَبِيهِمْ كَانَ ذَلِكَ عَقْدًا مُبْتَدَأً ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِقَدْرِ الْمَالِ ، أَوْ جَاهِلِينَ بِهِ . فَإِنْ كَانُوا عَالِمَيْنِ بِقَدْرِهِ صَحَّ الْقِرَاضُ إِنْ كَانُوا أَهْلَ رُشْدٍ لَا يُوَلَّى عَلَيْهِمْ ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِتَرِكَةِ مَيِّتِهِمْ دُيُونٌ ، وَلَا وَصَايَا . وَإِنْ كَانُوا خِلَافَ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ إِذْنُهُمْ . ثُمَّ إِذَا صَحَّ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَدْ حَصَلَ لِلْعَامِلِ فِيهِ رِبْحٌ قَبْلَ مَوْتِ رَبِّ الْمَالِ ، أَوْ لَمْ يَحْصُلْ . فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ فَكُلُّ الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ قِرَاضُ وَرَثَةِ رَبِّهِ . وَإِنْ كَانَ قَدْ حَصَلَ فِيهِ رِبْحٌ قَبْلَ مَوْتِ رَبِّهِ فَهُوَ شَرِيكٌ فِي الْمَالِ بِحِصَّتِهِ مِنْ رِبْحِهِ ، وَيَخْتَصُّ بِمَا يَحْصُلُ مِنْ فَضْلِهِ ، وَمُضَارِبٌ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الرِّبْحِ مَعَ رَأْسِ الْمَالِ بِمَا شَرَطَ لَهُ مِنْ رِبْحِهِ . وَإِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ جَاهِلِينَ بِقَدْرِ الْمَالِ عِنْدَ إِذْنِهِمْ لَهُ بِالْقِرَاضِ فَفِيهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ نَذْكُرُهُمَا مِنْ بَعْدُ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقِرَاضَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ مَعْقُودٌ بِمَالٍ مَجْهُولٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْقِرَاضَ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ . وَإِنْ كَانَ مَالُ الْقِرَاضِ عِنْدَ مَوْتِ رَبِّهِ عَرْضًا فَلِلْعَامِلِ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِ الْوَرَثَةِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْوَرَثَةِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ الْمَاضِي وَلَيْسَ الشِّرَاءُ مِنْ حُقُوقِهِ إِلَّا بِعَقْدٍ مُسْتَأْنَفٍ . فَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْوَرَثَةُ فِي الْمُقَامِ عَلَى قِرَاضِ أَبِيهِمْ : فَإِنْ كَانَ بَعْدَ بَيْعِهِ لِلْعَرْضِ فَقَدْ صَارَ الثَّمَنُ نَاضًّا فَيَكُونُ كَإِذْنِهِمْ لَهُ بِالْقِرَاضِ وَالْمَالُ نَاضٌّ ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ بَيْعِ الْعَرْضِ فَفِي جَوَازِ الْقِرَاضِ وَجْهَانِ خَرَجَ مِنْهُمَا الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ الْقِرَاضَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ عَقْدَهُ بِالْعَرْضِ بَاطِلٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّ الْقِرَاضَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِصْحَابٌ لِعَقْدٍ جَائِزٍ .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ مِنْهُمَا هُوَ الْعَامِلُ الميت من المتعاقدين في القراض هو العامل فَلَيْسَ لِوَارِثِهِ أَنْ يَبِيعَ ، وَلَا يَشْتَرِيَ سَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ نَاضًّا ، أَوْ عَرْضًا . وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ رَبُّ الْمَالِ فَيَجُوزُ لِلْعَامِلِ أَنْ يَبِيعَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْوَارِثَ وَبَيْنَ أَنْ يَمُوتَ الْعَامِلُ فَلَا يَجُوزَ لِوَارِثِهِ إِلَّا بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ : إِنَّ عَقْدَ الْقِرَاضِ قَدْ أَوْجَبَ ائْتِمَانَ الْعَامِلِ عَلَى


التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ لِرَبِّهِ أَوْ لِوَارِثِهِ ، وَمَا أَوْجَبَ ائْتِمَانَ وَارِثِ الْعَامِلِ فِي الْمَالِ لَا مَعَ رَبِّهِ ، وَلَا مَعَ وَارِثِهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ فِي الْمَالِ ، فَإِنْ كَانَ نَاضًّا اسْتَرْجَعَ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ وَاقْتَسَمَا رِبْحًا إِنْ كَانَ فِيهِ ، فَلَوْ أَذِنَ رَبُّ الْمَالِ لِوَارِثِ الْعَامِلِ فِي الْمُقَامِ عَلَى الْقِرَاضِ صَحَّ إِنْ كَانَا عَالِمَيْنِ بِقَدْرِ الْمَالِ وَيَبْطُلُ إِنْ كَانَا جَاهِلَيْنِ بِقَدْرِهِ وَجْهًا وَاحِدًا . وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا حَيْثُ بَطَلَ بِجَهَالَةِ الْقَدْرِ وَبَيْنَ أَنْ يَمُوتَ رَبُّ الْمَالِ فَيَصِحُّ الْقِرَاضُ بِإِذْنِ وَارِثِهِ لِلْعَامِلِ ، وَلَا يَبْطُلُ بِجَهَالَةِ الْقَدْرِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : إِنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْقِرَاضِ الْمَالُ مِنْ جِهَةِ رَبِّهِ ، وَالْعَمَلُ مِنْ جِهَةِ الْعَامِلِ ، فَإِنْ مَاتَ رَبُّ الْمَالِ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْأَمْرَيْنِ بَاقِيًا فَجَازَ اسْتِصْحَابُ الْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ لِبَقَاءِ مَقْصُودِهِ وَلَمْ يَبْطُلْ بِحُدُوثِ الْجَهَالَةِ فِيهِ ، وَإِذَا مَاتَ الْعَامِلُ فَقَدْ فَاتَ أَحَدُ الْمَقْصُودَيْنِ ، وَلَمْ يُمْكِنِ اسْتِصْحَابُ الْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَكَانَ اسْتِئْنَافُ عَقْدٍ مَعَ وَارِثٍ فَبَطَلَ بِحُدُوثِ الْجَهَالَةِ فِيهِ . وَإِنْ كَانَ مَالُ الْقِرَاضِ عِنْدَ مَوْتِ الْعَامِلِ عَرْضًا لَمْ يَجُزْ لِوَارِثِهِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِبَيْعِ الْعَرْضِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ رَبِّهِ لِمَا ذَكَرْنَا . فَإِذَا أَذِنَ لَهُ بَاعَهُ ، وَاقْتَسَمَا بَعْدَ رَدِّ رَأْسِ الْمَالِ الْفَضْلَ إِنْ كَانَ فِيهِ ، وَلَوْ أَذِنَ رَبُّ الْمَالِ لِوَارِثِ الْعَامِلِ أَنْ يُقِيمَ عَلَى عَقْدِ الْقِرَاضِ كَالْعَامِلِ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ بَيْعِ الْعَرْضِ ، وَالْعِلْمِ بِقَدْرِ ثَمَنِهِ صَحَّ ، وَإِنْ كَانَ الْعَرْضُ بَاقِيًا ، أَوْ ثَمَنُهُ مَجْهُولًا بَطَلَ وَجْهًا وَاحِدًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَيَبِيعُ مَا كَانَ فِي يَدَيْهِ مَعَ مَا كَانَ مِنْ ثِيَابٍ ، أَوْ أَدَاةِ السَّفَرِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَلَّ ، أَوْ كَثُرَ فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ كَانَ لِوَارِثِهِ وَإِنْ كَانَ خُسْرَانٌ كَانَ ذَلِكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا بَطَلَ الْقِرَاضُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا وَجَبَ بَيْعُ كُلِّ مَا كَانَ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ مِنْ عَرْضٍ لِلتِّجَارَةِ ، أَوْ أَدَاةٍ لِلسَّفَرِ بموت أحد المتعاقدين في القراض . قَالَ الشَّافِعِيُّ : مَعَ مَا كَانَ مِنْ ثِيَابٍ فَتَمَسَّكَ بِذَلِكَ مَنْ ذَهَبَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ لِلْعَامِلِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ فِي سَفَرِهِ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَشْتَرِ ثِيَابَ سَفَرِهِ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا فِي الْقِرَاضِ . وَهُوَ لَعَمْرِي يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ . وَقَدْ تَأَوَّلَهُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهُ عَلَى ثِيَابٍ اشْتَرَاهَا الْعَامِلُ لِلتِّجَارَةِ ، أَوِ اشْتَرِهَا لِنَفْسِهِ وَهِيَ غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِسَفَرِهِ . فَإِذَا بِيعَ جَمِيعُ مَا وَصَفْنَا فَلَا يَخْلُو مَا حَصَلَ مِنْ ثَمَنِ جَمِيعِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :


أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ ، وَلَا نُقْصَانٍ مِنْهُ ، فَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَأْخُذَهُ كُلَّهُ ، وَلَا حَقَّ لِلْعَامِلِ فِيهِ لِعَدَمِ رِبْحِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ، فَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَأْخُذَ رَأْسَ مَالِهِ ثُمَّ الْعَامِلُ شَرِيكُهُ فِي رِبْحِهِ عَلَى مُقْتَضَى شَرْطِهِ فِي عَقْدِهِ مِنْ نِصْفٍ ، أَوْ ثُلُثٍ ، أَوْ رُبُعٍ . فَلَوْ تَلِفَ بَعْضُ الْمَالِ بَعْدَ أَنْ صَارَ نَاضًّا نُظِرَ فِيهِ : فَإِنْ كَانَا قَدْ عَيَّنَا حَقَّ الْعَامِلِ مِنْهُمَا فِيهِ كَانَ التَّالِفُ مِنْهُ تَالِفًا مِنْهُمَا بِالْحِصَصِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا قَدْ عَيَّنَا حَقَّ الْعَامِلِ فِيهِ فَالتَّالِفُ مِنْهُ تَالِفٌ مِنَ الرِّبْحِ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ قَبْلَ أَنْ يَتَعَيَّنَ مِلْكُ الْعَامِلِ لَهُ مُرْصَدٌ لِجُبْرَانِ رَأْسِ الْمَالِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ إِمَّا بِخُسْرَانٍ قَدْ حَصَلَ فِي الْمَالِ ، أَوْ لِحَادِثٍ أَتْلَفَ شَيْئًا مِنْهُ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَائِدًا عَلَى رَبِّ الْمَالِ دُونَ الْعَامِلِ ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ يَعُودُ عَلَيْهِمَا ، وَالْخُسْرَانُ مُخْتَصٌّ بِرَبِّ الْمَالِ مِنْهُمَا . فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا كَانَ الْخُسْرَانُ عَلَيْهِمَا كَمَا كَانَ الرِّبْحُ لَهُمَا ؟ قِيلَ : هُمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ وَإِنْ عَادَ الْخُسْرَانُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ الْخُسْرَانُ يَعُودُ إِلَيْهِ إِلَى مَا تَنَاوَلَهُ عَقْدُ الْقِرَاضِ مِنْهُمَا ، وَالْقِرَاضُ إِنَّمَا تَنَاوَلَ عَمَلًا مِنْ جِهَةِ الْعَامِلِ ، وَمَالًا مِنْ جِهَةِ رَبِّ الْمَالِ ، فَعَادَ الْخُسْرَانُ عَلَى الْعَامِلِ بِذَهَابِ عَمَلِهِ ، وَعَلَى رَبِّ الْمَالِ بِذَهَابِ مَالِهِ . فَعَلَى هَذَا لَوْ شَرَطَا فِي عَقْدِ الْقِرَاضِ تَحَمُّلَ الْعَامِلَ لِلْخُسْرَانِ شرطا المتعاقدين في القراض كَانَ الْقِرَاضُ بَاطِلًا لِاشْتِرَاطِهِمَا خِلَافَ مُوجِبِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا شَرَطَا جَمِيعَ الرِّبْحِ لِأَحَدِهِمَا فَهُمَا مَسْأَلَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَشْتَرِطَا جَمِيعَ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ . وَالثَّانِيَةُ : أَنْ يَشْتَرِطَا جَمِيعَ الرِّبْحِ لِلْعَامِلِ . فَأَمَّا إِنِ اشْتَرَطَا جَمِيعَ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ نُظِرَ فِيهِ . فَإِنْ لَمْ يَقُلْ رَبُّ الْمَالِ عِنْدَ دَفْعِهِ أَنَّهُ قِرَاضٌ ، وَلَكِنَّهُ قَالَ خُذْهُ فَاشْتَرِ بِهِ وَبِعْ وَلِي جَمِيعَ الرِّبْحِ فَهَذِهِ اسْتِعَانَةٌ بِعَمَلِهِ وَلَيْسَ بِقِرَاضٍ ، وَالْعَامِلُ مُتَطَوِّعٌ بِعَمَلِهِ فِيهِ وَجَمِيعُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ ، وَلَا أُجْرَةَ لِلْعَامِلِ فِي عَمَلِهِ . وَإِنْ قَالَ خُذْهُ قِرَاضًا عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الرِّبْحِ لِي فَهَذَا قِرَاضٌ فَاسِدٌ ، وَجَمِيعُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ ، وَفِي اسْتِحْقَاقِ الْعَامِلِ أُجْرَةَ مِثْلِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ لَا أُجْرَةَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَعَ الرِّضَا بِأَنْ لَا رِبْحَ لَهُ مُتَطَوِّعٌ بِعَمَلِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ لَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ لِعَمَلِهِ فِي قِرَاضٍ فَاسِدٍ ، فَصَارَ كَالْمَنْكُوحَةِ عَلَى غَيْرِ مَهْرٍ تَسْتَحِقُّ مَعَ الرِّضَا بِذَلِكَ مَهْرَ الْمِثْلِ .


وَأَمَّا إِنْ شَرَطَا جَمِيعَ الرِّبْحِ لِلْعَامِلِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقُولَ رَبُّ الْمَالِ خُذْهُ قِرَاضًا عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الرِّبْحِ لَكَ فَهَذَا قِرَاضٌ فَاسِدٌ ، وَجَمِيعُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ عَلَى حُكْمِ الْقِرَاضِ الْفَاسِدِ . وَلِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ لِدُخُولِهِ عَلَى عِوَضٍ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَقُولَ خُذْهُ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ رِبْحِهِ لَكَ ، وَلَا يُصَرِّحُ فِي حَالِ الدَّفْعِ بِأَنَّهُ قِرَاضٌ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَكُونُ قَرْضًا وَسَلَفًا ، وَلَا يَكُونُ قِرَاضًا ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْطُوقٍ بِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ضَامِنًا لِلْمَالِ وَجَمِيعُ الرِّبْحِ لَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَكُونُ قِرَاضًا فَاسِدًا ، وَلَا يَكُونُ قَرْضًا ، وَلَا سَلَفًا ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْطُوقٍ بِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ ضَامِنًا لِلْمَالِ ، وَيَكُونُ جَمِيعُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ وَلِلْعَامِلِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا دَفَعَ رَبُّ الْمَالِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ قِرَاضًا ، فَتَلِفَ أَحَدُ الْأَلْفَيْنِ فِي يَدِ الْعَامِلِ وَبَقِيَ أَلْفٌ فَلَا يَخْلُو حَالُ تَلَفِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ تَلَفُهَا قَبْلَ ابْتِيَاعِ الْعَامِلِ بِهَا فَهَذَا يَكُونُ رَأْسُ الْمَالِ فِيهِ الْأَلْفَ الْبَاقِيَةَ ، وَلَا يَلْزَمُ الْعَامِلُ أَنْ يُجْبِرَ بِالرِّبْحِ الْأَلْفَ التَّالِفَةَ ؛ لِأَنَّهَا بِالتَّلَفِ قَبْلَ التَّصَرُّفِ قَدْ خَرَجَتْ عَنْ أَنْ تَكُونَ قِرَاضًا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ تَلَفُهَا بَعْدَ أَنِ اشْتَرَى بِهَا وَبَاعَ ثُمَّ تَلِفَتْ مِنْ ثَمَنِ مَا بَاعَ فَيَكُونُ رَأْسُ الْمَالِ كِلَا الْأَلْفَيْنِ ، وَيَلْزَمُ الْعَامِلَ أَنْ يُجْبَرَ بِالرِّبْحِ الْأَلْفَ التَّالِفَةَ ؛ لِأَنَّهَا بِالتَّصَرُّفِ الْكَامِلِ قَدْ صَارَتْ قِرَاضًا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ تَلَفُهَا بَعْدَ أَنِ اشْتَرَى بِهَا عَرْضًا وَتَلِفَ الْعَرْضُ قَبْلَ بَيْعِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا قِرَاضٌ لِتَلَفِهَا بَعْدَ التَّصَرُّفِ بِهَا فِي الِابْتِيَاعِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ ، وَعَلَى الْعَامِلِ أَنْ يَجْبُرَ بِالرِّبْحِ الْأَلْفَ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ قِرَاضًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْأَلْفَ التَّالِفَةَ لَا تَصِيرُ قِرَاضًا لِتَلَفِهَا قَبْلَ كَمَالِ التَّصَرُّفِ بِبَيْعِ مَا اشْتُرِيَ بِهَا . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَلَا يَلْزَمُ الْعَامِلَ أَنْ يَجْبُرَ بِالرِّبْحِ الْأَلْفَ التَّالِفَةَ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ قِرَاضًا .

فَصْلٌ : فَإِذَا دَفَعَ رَبُّ الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ قِرَاضًا ، فَاشْتَرَى الْعَامِلُ بِهَا عُرُوضًا ثُمَّ تَلْفِتُ الْأَلْفُ قَبْلِ دَفْعِهَا ثَمَنًا فَلَا يَخْلُو حَالُ الشِّرَاءِ مِنْ أَمْرَيْنِ :


أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ بِعَيْنِ الْأَلْفِ فَيَكُونُ الشِّرَاءُ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ تَلَفَ الثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ قَبْلَ الْقَبْضِ مُوجِبٌ لِبُطْلَانِ الْبَيْعِ ، فَعَلَى هَذَا قَدْ بَطَلَ الْقِرَاضُ وَيَسْتَرْجِعُ الْبَائِعُ عَرْضَهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ فِي ذِمَّةِ الْعَامِلِ ، وَلَمْ يَعْقِدْهُ عَلَى عَيْنِ الْأَلْفِ فَفِي الشِّرَاءِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ لِلْعَامِلِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بِيَدِهِ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ مَا يَكُونُ الشِّرَاءُ مَصْرُوفًا إِلَيْهِ ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ مِنْهُ إِنَّ مَا تَلِفَ بَعْدَ الشِّرَاءِ وَقَبْلَ الْبَيْعِ خَارِجٌ مِنَ الْقِرَاضِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الشِّرَاءَ يَكُونُ فِي الْقِرَاضِ ؛ لِأَنَّهُ مَعْقُودٌ لَهُ ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّ مَا تَلِفَ بَعْدَ الشِّرَاءِ وَقَبْلَ الْبَيْعِ دَاخِلٌ فِي الْقِرَاضِ . فَعَلَى هَذَا يَجِبُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ أَنْ يَدْفَعَ أَلْفًا ثَانِيَةً تُصْرَفُ فِي ثَمَنِ الْعَرْضِ يَصِيرُ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ ، وَعَلَى الْعَامِلِ أَنْ يَجْبُرَ بِالرِّبْحِ الْأَلْفَ التَّالِفَةَ ، فَلَوْ تَلِفَتْ الْأَلْفُ الثَّانِيَةُ قَبْلَ دَفْعِهَا فِي ثَمَنِ الْعَرْضِ لَزِمَ رَبَّ الْمَالِ أَنْ يَدْفَعَ أَلْفًا ثَالِثَةً ، وَيَصِيرُ رَأْسُ الْمَالِ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ ، وَعَلَى الْعَامِلِ أَنْ يَجْبُرَ بِالرِّبْحِ كِلَا الْأَلْفَيْنِ التَّالِفَتَيْنِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا دَفَعَ رَبُّ الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ قِرَاضًا ، ثُمَّ دَفَعَ بَعْدَهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ أُخْرَى قِرَاضًا الحكم فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ خَلْطِ الْأَلْفِ الثَّانِيَةِ بِالْأَلْفِ الْأُولَى فَهَذَا جَائِزٌ ، وَيَكُونَ كُلُّ أَلْفٍ مِنْهُمَا قِرَاضًا مُفْرَدًا - سَوَاءٌ كَانَ مَا شَرَطَاهُ مِنْ رِبْحَيْهِمَا وَاحِدًا أَوْ مُخْتَلِفًا - وَيُمْنَعَ مِنْ خَلْطِهِمَا لِلشَّرْطِ وَلِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْعَقْدِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَأْمُرَهُ بِخَلْطِ الْأَلْفِ الثَّانِيَةِ بِالْأَلْفِ الْأُولَى فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ شَرْطُ الرِّبْحِ مِنْهُمَا مُخْتَلِفًا فَلَا يَجُوزَ ؛ لِأَنَّ اخْتِلَاطَهُمَا يَمْنَعُ مِنْ تَمَيُّزِ رِبْحِهِمَا ، وَيَكُونَ الْقِرَاضُ فِي الْأَلْفِ الثَّانِيَةِ بَاطِلًا . فَأَمَّا الْأَلْفُ الْأُولَى فَإِنْ كَانَ قَدِ اشْتَرَى بِهَا عَرْضًا لَمْ يَبْطُلِ الْقِرَاضُ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ بَعْدَ الشِّرَاءِ مُسْتَمِرٌّ ، وَإِنْ كَانَتْ بِحَالِهَا لِمَ يَشْتَرِيهَا عَرْضًا بَطَلَ الْقِرَاضُ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَبْلَ الشِّرَاءِ بِهَا غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ شَرْطُ الرِّبْحِ مِنْهُمَا مُتَّفَقًا . قَالَ الشَّافِعِيُّ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا نَقَلَهُ الْبُوَيْطِيُّ : إِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الشِّرَاءِ بِالْأَلْفِ الْأُولَى صَحَّ الْقِرَاضُ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الشِّرَاءِ صَحَّ فِي الْأُولَى وَبَطَلَ فِي الثَّانِيَةِ . وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّعْلِيلِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَشْتَرِ بِالْأُولَى عَرْضًا فَالْقِرَاضُ فِيهَا غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ ، فَصَارَتِ الْأَلْفَانِ قِرَاضًا وَاحِدًا ، وَإِذَا اشْتَرَى بِهَا


عَرْضًا فَقَدِ اسْتَقَرَّ الْقِرَاضُ فِيهَا وَصَارَتِ الْأَلْفُ الثَّانِيَةُ قِرَاضًا ثَانِيًا ، وَخَلْطُ أَحَدِ الْقِرَاضَيْنِ بِالْآخَرِ غَيْرُ جَائِزٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْبَرَ أَحَدُ الْمَالَيْنِ بِالْآخَرِ وَهُوَ بِاخْتِلَاطِهِ غَيْرُ مُتَمَيِّزٍ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ لَا يَأْمُرَهُ بِخَلْطِهِمَا ، وَلَا يَنْهَاهُ فَيُنْظَرُ : فَإِنْ كَانَ شَرْطُ الرِّبْحِ مُخْتَلِفًا فَهُمَا قِرَاضَانِ لَا يَجُوزُ خَلْطُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْبُرَ خُسْرَانَ أَحَدِهِمَا بِرِبْحِ الْآخَرِ . وَإِنْ كَانَ شَرْطُ رِبْحِهِمَا مُتَّفَقًا نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ دَفْعُ الْأَلْفِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِالْأَلْفِ الْأُولَى كَانَا قِرَاضَيْنِ لَا يَجُوزُ لَهُ خَلْطُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْبُرَ خُسْرَانَ أَحَدِهِمَا بِرِبْحِ الْآخَرِ . وَإِنْ كَانَ دَفْعُ الْأَلْفِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ الشِّرَاءِ بِالْأَلْفِ الْأُولَى فَهُمَا قِرَاضٌ وَاحِدٌ ، وَيَجُوزُ خَلْطُ إِحْدَى الْأَلْفَيْنِ بِالْأُخْرَى وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَجْبُرَ خُسْرَانَ أَحَدِهِمَا بِرِبْحِ الْآخَرِ .

فَصْلٌ : إِذَا دَفَعَ أَلْفًا قِرَاضًا فَعَمِلَ بِهَا الْعَامِلُ وَخَسِرَ مِائَةَ دِرْهَمٍ ، وَأَخَذَ رَبُّ الْمَالِ مِنْهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ ثُمَّ عَمِلَ الْعَامِلُ بِالْبَاقِي فَصَارَتْ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَأَرَادَا أَنْ يَعْلَمَا قَدْرَ رَأْسِ الْمَالِ لِيَقْتَسِمَا الرِّبْحَ فَوَجْهُ الْعَمَلِ فِيهِ أَنْ يُقَالَ : لَمَّا خَسِرَ فِي الْأَلْفِ مِائَةً لَزِمَ تَقْسِيطُهَا عَلَى التِّسْعِمِائَةٍ فَيَكُونُ قِسْطُ كُلِّ مِائَةِ دِرْهَمٍ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَتِسْعًا ، فَلَمَّا اسْتَرْجَعَ رَبُّ الْمَالِ مِائَةً تَبِعَهَا قِسْطُهَا مِنَ الْخُسْرَانِ وَهُوَ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَتِسْعًا وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُسْتَرْجَعُ مِنَ الْأَلْفِ وَيَبْقَى رَأْسُ الْمَالِ ثَمَانَمِائَةٍ وَثَمَانِيَةً وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا وَثَمَانِيَةَ أَتْسَاعِ دِرْهَمٍ . فَلَوْ كَانَ قَدْ خَسِرَ الْعَامِلُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَاسْتَرْجَعَ رَبُّ الْمَالِ مِائَةَ دِرْهَمٍ صَارَ رَأْسُ الْمَالِ ثَمَانَمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا ؛ لِأَنَّ قِسْطَ كُلِّ مِائَةٍ مِنَ الْخُسْرَانِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ

مَسْأَلَةٌ الْعَامِلَ فِي الْقِرَاضِ مَمْنُوعٌ أَنْ يُقَارِضَ غَيْرَهُ بِمَالِ الْقِرَاضِ مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ رَبُّ الْمَالِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَإِنْ قَارَضَ الْعَامِلُ بِالْمَالِ آخَرَ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ فَإِنْ رَبِحَ فَلِصَاحِبِ الْمَالِ شَطْرُ الرِّبْحِ ثُمَّ يَكُونُ لِلَّذِي عَمِلَ شَطْرُهُ فِيمَا يَبْقَى . قَالَ الْمُزَنِيُّ : هَذَا قَوْلُهُ قَدِيمًا وَأَصْلُ قَوْلِهِ الْجَدِيدِ الْمَعْرُوفِ أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ فَاسِدٍ لَا يَجُوزُ وَإِنْ جُوِّزَ حَتَّى يَبْتَدِئَ بِمَا يَصْلُحُ فَإِنْ كَانَ اشْتَرَى بِعَيْنِ الْمَالِ فَهُوَ فَاسِدٌ وَإِنْ كَانَ اشْتَرَى بِغَيْرِ الْعَيْنِ فَالشِّرَاءُ جَائِزٌ ، وَالرِّبْحُ وَالْخُسْرَانُ لِلْمُقَارِضِ الْأَوَّلِ وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ وَلِلْعَامِلِ الثَّانِي أَجْرُ مِثْلِهِ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ " .


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْعَامِلَ فِي الْقِرَاضِ مَمْنُوعٌ أَنْ يُقَارِضَ غَيْرَهُ بِمَالِ الْقِرَاضِ مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ رَبُّ الْمَالِ إِذْنًا صَحِيحًا صَرِيحًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ قَالَ لَهُ رَبُّ الْمَالِ عِنْدَ دَفْعِهِ : اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ جَازَ أَنْ يَدْفَعَ مِنْهُ قِرَاضًا إِلَى غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِهِ فَجَازَ أَنْ يُقَارِضَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رَأْيِهِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ فِيهِ مَوْكُولًا إِلَى رَأْيِهِ ، فَإِذَا قَارَضَ بِهِ كَانَ الْعَمَلُ لِغَيْرِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَارَضَ بِجَمِيعِ الْمَالِ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِ لِعُدُولِهِ بِذَلِكَ عَنْ عَمَلِهِ إِلَى عَمَلِ غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ إِذَا قَارَضَ بِبَعْضِهِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَارِضَ غَيْرَهُ بِالْمَالِ إِلَّا بِإِذْنٍ صَرِيحٍ مِنْ رَبِّ الْمَالِ فَلَا يَخْلُو رَبُّ الْمَالِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْعَمَلِ بِنَفْسِهِ ، وَلَا يَأْذَنَ لَهُ فِي مُقَارَضَةِ غَيْرِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي مُقَارَضَةِ غَيْرِهِ ، وَلَا يَأْذَنَ لَهُ فِي الْعَمَلِ بِنَفْسِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْعَمَلِ بِنَفْسِهِ وَفِي مُقَارَضَةِ غَيْرِهِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْعَمَلِ بِنَفْسِهِ ، وَلَا يَأْذَنَ لَهُ فِي مُقَارَضَةِ غَيْرِهِ فَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ . فَإِنْ قَارَضَ غَيْرَهُ بِالْمَالِ فَقَدْ تَعَدَّى وَصَارَ ضَامِنًا لِلْمَالِ بِعُدْوَانِهِ ، وَأَنَّهُ كَالْغَاصِبِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ فِيمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الرِّبْحِ مُعْتَبَرًا بِحُكْمِ الْغَاصِبِ فِيمَا حَصَلَ لَهُ فِي الْمَالِ الْمَغْصُوبِ مِنْ رِبْحٍ . وَالْغَاصِبُ إِذَا اشْتَرَى بِالْمَالِ الْمَغْصُوبِ عَرْضًا وَأَفَادَ فِيهِ رِبْحًا لَمْ يَخْلُ عَقْدُ ابْتِيَاعِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِعَيْنِ الْمَالِ ، أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ . فَإِنْ كَانَ بِعَيْنِ الْمَالِ فَالشِّرَاءُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْمَغْصُوبِ بَاطِلٌ ، وَمَعَ بُطْلَانِ الشِّرَاءِ يَفُوتُ الرِّبْحُ فَلَا يَحْصُلُ لِلْغَاصِبِ ، وَلَا لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ . وَإِنْ كَانَ الشِّرَاءُ فِي ذِمَّةِ الْغَاصِبِ ، وَالثَّمَنُ مَدْفُوعٌ مِنَ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ فَالشِّرَاءُ صَحِيحٌ لِثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ ، وَالرِّبْحُ مَمْلُوكٌ بِهَذَا الِابْتِيَاعِ لِصِحَّتِهِ . وَفِي مُسْتَحَقِّهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ - أَنَّ الرِّبْحَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ دُونَ الْغَاصِبِ . وَوَجْهُ ذَلِكَ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : لَمَّا كَانَ مَا حَدَثَ عَنِ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ مِنْ ثِمَارٍ وَنِتَاجٍ مِلْكًا لِرَبِّهِ دُونَ غَاصِبِهِ


وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا حَدَثَ عَنْهُ مِنَ الرِّبْحِ مِلْكًا لِرَبِّهِ دُونَ غَاصِبِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا مَعًا نَمَاءٌ عَنْ مِلْكِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ كُلَّ سَبَبٍ مَحْظُورٍ تُوُصِّلَ بِهِ إِلَى مِلْكِ مَالٍ ، كَانَ ذَلِكَ السَّبَبُ الْمَحْظُورُ مَانِعًا مِنْ مِلْكِ ذَلِكَ الْمَالِ كَمِيرَاثِ الْقَاتِلِ لَمَّا كَانَ الْقَتْلُ مَحْظُورًا عَلَيْهِ مُنِعَ مِنَ الْمِيرَاثِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ الْمِيرَاثُ ذَرِيعَةً إِلَى الْقَتْلِ . كَذَلِكَ الْغَاصِبُ لَمَّا كَانَ الْغَصْبُ مَحْظُورًا عَلَيْهِ مُنِعَ مِنْ أَنْ يَمْلِكَ الرِّبْحَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ الرِّبْحَ بِغَصْبِهِ لَصَارَ ذَرِيعَةً إِلَى الْغَصْبِ لِيَرُدَّ الْمَالَ بَعْدَ اسْتِفَادَةِ الرِّبْحِ ، فَهَذَا عَلَى وَجْهِ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، أَنَّ الرِّبْحَ لِلْغَاصِبِ دُونَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَوَجْهُ ذَلِكَ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ كُلَّ نَمَاءٍ حَدَثَ عَنْ سَبَبٍ كَانَ مِلْكُ ذَلِكَ النَّمَاءِ لِمَالِكِ ذَلِكَ السَّبَبِ ، وَرِبْحُ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ حَادِثٌ عَنِ التَّقَلُّبِ وَالْعَمَلِ دُونَ الْمَالِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِمَنْ لَهُ التَّقَلُّبُ ، وَالْعَمَلُ دُونَ مَنْ لَهُ الْمَالُ وَهُوَ الْغَاصِبُ دُونَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ . أَلَا تَرَى أَنَّ الثِّمَارَ ، وَالنِّتَاجَ لَمَّا كَانَتْ حَادِثَةً عَنِ الْمَالِ دُونَ الْعَمَلِ كَانَتْ لِمَنْ لَهُ الْمَالُ دُونَ مَنْ لَهُ الْعَمَلُ وَهُوَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ دُونَ الْغَاصِبِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْغَاصِبَ مَأْخُوذٌ بِمِثْلِ مَا اسْتَهْلَكَ بِغَصْبِهِ ، وَهُوَ إِنَّمَا اسْتَهْلَكَ الْمَالَ الْمَغْصُوبَ دُونَ الرِّبْحِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ دُونَ الرِّبْحِ . فَهَذَا تَوْجِيهُ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي الْغَاصِبِ فَحُكْمُ الْعَامِلِ إِذَا قَارَضَ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُ بِالْقِرَاضِ غَاصِبٌ فَيَصِيرُ ضَامِنًا لِلْمَالِ ، وَفِي الرِّبْحِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْقَدِيمُ أَنَّ رِبْحَ الْمَغْصُوبِ لِرَبِّ الْمَالِ ، فَعَلَى هَذَا قَالَ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا إِنَّ لِرَبِّ الْمَالِ نِصْفَ الرِّبْحِ ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَ الْعَامِلِ الْأَوَّلِ وَالْعَامِلِ الثَّانِي . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ : فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَقُولُ : يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ جَمِيعُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ رِبْحُ مَالٍ مَغْصُوبٍ فَأَشْبَهُ الْمَغْصُوبَ مِنْ غَيْرِ مُقَارَضَةٍ ، فَإِذَا أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ مَالَهُ وَرِبْحَهُ كُلَّهُ رَجَعَ الْعَامِلُ الثَّانِي عَلَى الْعَامِلِ الْأَوَّلِ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَهْلِكُ لِعَمَلِهِ وَالْعَامِلُ لَهُ بِقِرَاضِهِ . فَلَوْ تَلِفَ الْمَالُ فِي يَدِ الْعَامِلِ الثَّانِي كَانَ رَبُّهُ بِالْخِيَارِ فِي الرُّجُوعِ بِرَأْسِ مَالِهِ وَجَمِيعِ رِبْحِهِ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنَ الْعَامِلِ الْأَوَّلِ ، أَوِ الْعَامِلِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ ضَامِنٌ بِعُدْوَانِهِ ، وَالثَّانِي ضَامِنٌ بِيَدِهِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110