كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي



فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّسَبَ مَوْقُوفٌ عَلَى بُلُوغِ الْوَلَدِ لِيُنْسَبَ إِلَى أَحَدِهِمَا ، أَخَذَ بِهِ الْوَلَدُ بَعْدَ الْبُلُوغِ ، فَإِذَا انْتَسَبَ صَارَ لَاحِقًا بِمَنِ انْتَسَبَ إِلَيْهِ مُنْتَفِيًا عَنِ الْآخَرِ ، فَلَوْ رَجَعَ فَانْتَسَبَ إِلَى الْآخَرِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ لِلُحُوقِهِ بِالْأَوَّلِ بِانْتِسَابِهِ الْأَوَّلِ ، فَلَوْ وَقَفَ عَلَى الِانْتِسَابِ إِلَى أَحَدِهِمَا فَانْتَسَبَ بَعْدَ الْبُلُوغِ إِلَى غَيْرِهِمَا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُقْبَلُ مِنْهُ : لِأَنَّ الْقَافَةَ قَدْ وَقَفَتْهُ عَلَيْهِمَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ بِالِانْتِسَابِ إِلَى غَيْرِهِمَا كَمَا لَوْ أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْتَسِبَ إِلَى غَيْرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُقْبَلُ مِنْهُ وَيَصِيرُ مُلْحَقًا بِمَنِ انْتَسَبَ إِلَيْهِ : لِأَنَّ وَقْفَتَهُ بَيْنَهُمَا لَا يَمْنَعُ دَعْوَى غَيْرِهِمَا .

فَصْلٌ : وَإِذَا تَدَاعَيَا بُنُوَّةَ اللَّقِيطِ رَجُلَانِ وَلَمْ يَسْبِقْ أَحَدَهُمَا بِدَعْوَاهُ ، فَيَلْحَقُ بِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ بِوِلَادَتِهِ عَلَى فِرَاشِهِ رَجَعَ فِيهِ إِلَى بَيَانِ الْقَافَةِ ، فَإِذَا أَلْحَقُوهُ بِأَحَدِهِمَا لَحِقَ بِهِ دُونَ الْآخَرِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ وَصَفَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً غَامِضَةً فِي جَسَدِ الْمَوْلُودِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ : لِأَنَّ عِلْمَهُ بِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِهِ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّهُ قَدْ يَرَى ذَلِكَ غَيْرُ الْوَالِدِ وَلَا يَرَاهُ الْوَالِدُ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُدْفَعَ اللُّقَطَةُ بِالصِّفَةِ ، فَالنَّسَبُ أَوْلَى أَنْ لَا يَثْبُتَ بِالصِّفَةِ .

مَسْأَلَةٌ لَوِ ادَّعَى اللَّقِيطَ رَجُلَانِ فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوِ ادَّعَى اللَّقِيطَ رَجُلَانِ فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ ، جَعَلْتُهُ لِلَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ أَوَّلًا ، وَلَيْسَ هَذَا كَمِثْلِ الْمَالِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا كَفَالَةَ اللَّقِيطِ دُونَ نَسَبِهِ وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ الْتَقَطَهُ دُونَ صَاحِبِهِ ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بِمَا ادَّعَاهُ بَيِّنَةً ، وَالْبَيِّنَةُ هَاهُنَا شَاهِدَانِ لَا غَيْرَ : لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى مَالٍ ، وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى اسْتِحْقَاقِ كَفَالَةٍ تَثْبُتُ بِهَا وِلَايَةٌ ، فَإِنْ شَهِدَتْ إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ لِأَحَدِهِمَا بِتَقْدِيمِ يَدِهِ كَانَ الْمُقَدِّمُ إِلَيْهِ أَوْلَاهُمَا بِهِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَيْسَ كَالْمَالِ : لِأَنَّ الْمُتَنَازِعَيْنِ فِي الْمَالِ إِذَا أَوْجَبَتْ بَيَّنَتَاهُمَا تَقَدُّمَ يَدِ أَحَدِهِمَا ، كَانَ فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ إِلَيْهِ أَوْلَى ، كَالْمُتَنَازِعِينَ فِي الْكَفَالَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُمَا سَوَاءٌ ، وَيُقَدَّمُ فِي الْكَفَالَةِ مَنْ تَقَدَّمَتْ يَدُهُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَالَ قَدْ يَصِحُّ انْتِقَالُهُ بِحَقٍّ مِنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ الْيَدُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَالْيَدُ الْمُتَأَخِّرَةُ وَالْكَفَالَةُ ، لَا يَصِحُّ انْتِقَالُ اللَّقِيطِ فِيهَا بِحَقٍّ مِنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا لِمُتَقَدِّمِ الْيَدِ ، فَإِنْ تَعَارَضَتْ بَيَّنَتَاهُمَا أَوْ أَشْكَلَتَا لِعَدَمِ الْمُنَازِعِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا وَيَسْتَحِقُّهُ مَنْ قَرَعَ . وَالثَّانِي : يَسْقُطَانِ وَيَتَحَالَفَانِ ، فَإِنْ حَلَفَا أَوْ نَكَّلَا فَقَدِ اسْتَوَيَا وَصَارَا كَالْمُلْتَقِطَيْنِ لَهُ مَعًا ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا وَيَسْتَحِقُّهُ مَنْ قَرَعَ مِنْهُمَا ، وَالثَّانِي يَجْتَهِدُ الْحَاكِمُ فِي أَحَظِّهِمَا .



فَصْلٌ : وَلَوِ ادَّعَى أَحَدُ الْمُتَنَازِعَيْنِ فِيهِ أَنَّهُ وَلَدُهُ وَتَفَرَّدَ الْآخَرُ بِادِّعَاءِ الْكَفَالَةِ دُونَ الْوِلَادَةِ ، حُكِمَ بِهِ وَلَدًا لِمُدَّعِي نَسَبِهِ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنَازَعٍ فِي نَسَبِهِ وَصَارَ أَوْلَى بِكَفَالَتِهِ : لِأَنَّ الْوَالِدَ أَحَقُّ بِالْكَفَالَةِ مِنَ الْمُلْتَقِطِ ، وَهَكَذَا لَوِ اسْتَقَرَّتْ يَدُ الْمُلْتَقِطِ فِي الْكَفَالَةِ ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ فَادَّعَاهُ وَلَدًا ، لَحِقَ بِهِ وَنُزِعَ مِنْ يَدِ مُلْتَقِطِهِ وَصَارَ مَنْ جَعَلْنَاهُ أَوْلَى بِكَفَالَتِهِ .

مَسْأَلَةٌ دَعْوَةُ الْمُسْلِمِ وَالْعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ سَوَاءٌ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَدَعْوَةُ الْمُسْلِمِ وَالْعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ سَوَاءٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا تَدَاعَى نَسَبُ اللَّقِيطِ حُرٌّ وَعَبْدٌ وَمُسْلِمٌ وَذِمِّيٌّ ، فَهُمَا فِي دَعْوَةِ النَّسَبِ سَوَاءٌ تَدَاعَى كَالْحُرَّيْنِ وَكَالْمُسْلِمَيْنِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُقَدَّمُ الْحُرُّ عَلَى الْعَبْدِ وَالْمُسْلِمُ عَلَى الْكَافِرِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَكَافَأَ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ فِي الدَّعْوَى ، قَالَ : وَلِأَنَّهُ لَمَّا أَجْرَى عَلَى اللَّقِيطِ حُكْمَ الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ صَارَ الْحُرُّ وَالْمُسْلِمُ أَقْوَى حَالًا مِنَ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي الْحُكْمِ وَاشْتِرَاكِهِمَا فِي الصِّفَةِ ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ فَأَثْبَتَ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ وَدُونَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالدِّينِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ سُمِعَتْ دَعْوَاهُ إِذَا كَانَ مُنْفَرِدًا لَمْ يُدْفَعْ عَنْهَا إِذَا كَانَ مُنَازِعًا كَالْحُرَّيْنِ وَالْمُسْلِمَيْنِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ دَعْوَى لَا يُمْنَعُ الذِّمِّيُّ مِنْهَا مَعَ الْبَيِّنَةِ لَمْ يَدْفَعِ الذِّمِّيُّ عَنْهَا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ كَالْمَالِ ، فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى ، فَمِنْ عُلُوِّهِ الِانْقِيَادُ لِحُقُوقِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى أَنَّ عُلُوَّهُ بِالْيَدِ وَنُفُوذِ الْحُكْمِ وَنَحْنُ نُجْرِي عَلَى الْوَلَدِ وَإِنْ لَحِقَ بِهِ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : إِنَّهُ مُوَافِقٌ لِحَالِ الْحُرِّ وَالْمُسْلِمِ دُونَ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ . فَهَذَا فَاسِدٌ بِتَفَرُّدِ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ بِادِّعَائِهِ وَبِمُسْلِمٍ وَكَافِرٍ تَنَازَعَا لَقِيطًا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَدْ أَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الشِّرْكِ فَإِنَّهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ ، وَلَا يَغْلِبُ الْكَافِرُ عَلَى الْمُسْلِمِ لِحُكْمِ الدَّارِ ، كَذَلِكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَغْلِبُ الْمُسْلِمُ عَلَى الْكَافِرِ لِحُكْمِ الدَّارِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " غَيْرَ أَنَّ الذِّمِّيَّ إِذَا ادَّعَاهُ وَوُجِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَأَلْحَقْتُهُ بِهِ أَحْبَبْتُ أَنْ أَجْعَلَهُ مُسْلِمًا فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَأَنْ آمُرَهُ إِذَا بَلَغَ بِالْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ إِجْبَارٍ ( وَقَالَ ) فِي كِتَابِ الدَّعْوَى إِنَّا نَجْعَلُهُ مُسْلِمًا لِأَنَّا لَا نَعْلَمُهُ كَمَا قَالَ ، قَالَ الْمُزَنِيُّ : عِنْدِي هَذَا أَوْلَى بِالْحَقِّ : لِأَنَّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ حَقٌّ لَمْ يَزُلْ حَقُّهُ بِالدَّعْوَى فَقَدْ ثَبَتَ لِلْإِسْلَامِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ وَجَرَى حُكْمُهُ عَلَيْهِ بِالدَّارِ ، فَلَا يَزُولُ حَقُّ الْإِسْلَامِ بِدَعْوَى مُشْرِكٍ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ ابْنُهُ بَعْدَ أَنْ عَقَلَ وَوَصَفَ الْإِسْلَامَ ، أَلْحَقْنَاهُ بِهِ وَمَنَعْنَاهُ أَنْ يَنْصُرَهُ ، فَإِذَا بَلَغَ فَامْتَنَعَ مِنَ الِإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ مُرْتَدًّا ، نَقْتُلُهُ وَأَحْبِسُهُ وَأُخِيفُهُ رَجَاءَ رُجُوعِهِ . قَالَ الْمُزَنِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : قِيَاسُ مَنْ جَعَلَهُ مُسْلِمًا أَنْ لَا يَرُدَّهُ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي ذِمِّيٍّ ادَّعَى لَقِيطًا وَلَدًا وَأَلْحَقْنَاهُ بِهِ نَسَبًا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنْ يَلْحَقَ بِهِ بَعْدَمَا صَارَ مُسْلِمًا وَصَلَّى وَصَامَ وَالْتَزَمَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ ، فَهَذَا يُجْرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ وَإِنْ لَحِقَ نَسَبُهُ بِذِمِّيٍّ : لِأَنَّ فِعْلَهُ لِلْإِسْلَامِ أَقْوَى مِنِ اتِّبَاعِهِ لِغَيْرِهِ فِي الْكُفْرِ ، فَهَلْ يَصِيرُ بِوَصْفِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْبُلُوغِ مُسْلِمًا حَتَّى لَوْ رَجَعَ عَنْهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ صَارَ مُرْتَدًّا أَمْ لَا ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ . أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يَصِيرُ بِذَلِكَ مُسْلِمًا ، وَسَوَاءٌ أُلْحِقَ بِالذِّمِّيِّ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى أَوْ بِبَيِّنَةٍ شَهِدَتْ لَهُ بِأَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَلْحَقَ بِهِ فِي صِغَرِهِ وَطُفُولَتِهِ وَقَبْلَ صَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَلْحَقَ بِهِ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِأَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ ، فَهَذَا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْكُفْرِ تَبَعًا لِأَبِيهِ : لِأَنَّ قِيَامَ الْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ لِوِلَادَتِهِ عَلَى فِرَاشِهِ تَأَصُّلٌ عَنْ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي ظَاهِرِ الدَّارِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَلْحَقَ بِهِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُنْقَلُ مِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ إِلَى حُكْمِ الْكُفْرِ : لِأَنَّهُ صَارَ لَاحِقًا بِكَافِرٍ فَصَارَ الظَّاهِرُ غَيْرَ ذَلِكَ الظَّاهِرِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ : أَنَّهُ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ وَلَا يُنْقَلُ عَنْهُ لِلُحُوقِهِ بِكَافِرٍ : لِأَنَّ حُكْمَ الدَّارِ أَقْوَى مِنْ دَعْوَى مُحْتَمَلَةٍ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ خِيفَ عَلَيْهِ مِنِ افْتِتَانِهِ بِدِينِ أَبِيهِ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ وَأُخِذَ بِنَفَقَتِهِ حَتَّى يَبْلُغَ ، فَإِنْ بَلَغَ وَوَصَفَ الْإِسْلَامَ تَحَقَّقَ حُكْمُهُ فِيهِ ، وَإِنْ وَصَفَ الْكُفْرَ وَمَالَ إِلَى دِينِ أَبِيهِ أُرْهِبَ وَخُوِّفَ رَجَاءَ عَوْدِهِ ، فَإِنْ أَبَى إِلَّا الْمُقَامَ عَلَى الْكُفْرِ فَبَعُدَا لَهُ وَلَا يَصِيرُ بِذَلِكَ مُرْتَدًّا ، وَيُقِرُّ عَلَى مَا اخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ مِنَ الْكُفْرِ : لِأَنَّ فِعْلَهُ أَقْوَى حُكْمًا مِنْ غَالِبِ الدَّارِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ أَبُوهُ يَهُودِيًّا فَقَالَ وَقَدْ بَلَغَ : لَسْتُ يَهُودِيًّا وَلَا مُسْلِمًا ، وَإِنَّمَا عَلَى غَيْرِ الْيَهُودِيَّةِ مِنَ الْمِلَلِ : كَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُقْبَلُ مِنْهُ وَيُقَرُّ عَلَيْهِ : لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُقْبَلُ مِنْهُ مَا أَرَادَ الِانْتِقَالَ إِلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَلَا يُعَادُ إِلَى دِينِ أَبِيهِ لِإِقْرَارِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا عَلَى الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ أَبَاهُ صَارَ مُرْتَدًّا .

فَصْلٌ : وَإِذَا لَحِقَ اللَّقِيطُ بِمُدَّعِيهِ عِنْدَ عَدَمِ مُنَازِعٍ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ فَبَلَغَ وَأَنْكَرَ نَسَبَهُ وَادَّعَى نَسَبًا غَيْرَهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تُثْبِتُ بِوِلَادَتِهِ عَلَى فِرَاشِ غَيْرِهِ : لِأَنَّ لُحُوقَ نَسَبِهِ لَمْ يُرَاعِ فِيهِ قَبُولَ الْوَالِدِ فَيُؤَثِّرُ فِيهِ إِنْكَارَهُ ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى ذَلِكَ مِنْهُ فِي ادِّعَاءِ نَسَبِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ، فَلِذَلِكَ أَثَّرَ فِيهِ إِنْكَارُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ادَّعَى الْعَبْدُ لَقِيطًا وَلَدًا ، فَإِنْ صَدَقَهُ سَيِّدُهُ فِي ادِّعَائِهِ لَحِقَ بِهِ ، وَإِنْ كَذَبَهُ فِيهِ ، فَفِي قَبُولِ دَعَوَاهُ وَإِلْحَاقِ نَسَبِهِ بِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُقْبَلُ كَمَا لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ بَأَبٍ لِمَا فِيهِ مِنْ إِزَاحَتِهِ عَنِ الْمِيرَاثِ بِالْوَلَاءِ لِمَنْ أَعْتَقَهُ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُقْبَلُ مِنْهُ لِأَنَّهُ قَدْ أَدْخَلَهُ تَحْتَ وِلَايَتِهِ ، بِخِلَافِ الْأَبِ ، وَإِذَا لَحِقَ اللَّقِيطُ بِالْعَبْدِ لَمْ يَصِرْ بِذَلِكَ عَبْدًا : لِأَنَّهُ فِي الرِّقِّ تَبَعًا لِأُمِّهِ دُونَ أَبِيهِ ، وَلَا يُسْمَعُ قَوْلُ الْعَبْدِ أَنَّهُ مِنْ أُمِّهِ : لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي رِقِّهِ ، وَإِنَّمَا يُسْمَعُ ذَلِكَ مِنْ سَيِّدِ أُمِّهِ تَدَّعِيهِ وَلَدًا لَهَا لِيَصِيرَ لَهُ بِهَذِهِ الدَّعْوَى عَبْدًا ، فَإِنْ حَضَرَ مَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ هَذِهِ الدَّعْوَى كَانَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي ادِّعَاءِ رِقِّهِ ، فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ قَدْ أُعْتِقَ فَادَّعَى بَعْدَ عِتْقِهِ وَلَدًا ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْلُودًا بَعْدَ عِتْقِهِ لَحِقَ بِهِ صَدَقَ السَّيِّدُ أَوْ كَذَبَ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وِلَادَتُهُ بَعْدَ عِتْقِهِ ، فَفِي لُحُوقِهِ بِهِ مَعَ تَكْذِيبِ السَّيِّدِ وَجْهَانِ مَضَيَا .

مَسْأَلَةٌ لَا دَعْوَةَ لِلْمَرْأَةِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَا دَعْوَةَ لِلْمَرْأَةِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ ، وَخِلَافُهُمْ فِيهَا قَدِيمٌ حَكَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَغَيْرُهُ . فَأَحَدُ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهَا ادِّعَاءُ اللَّقِيطِ وَلَدًا لِنَفْسِهَا إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهَا بِوِلَادَتِهِ ، سَوَاءٌ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ أَوْ لَمْ تَكُنْ ، بِخِلَافِ الرَّجُلِ وَالَّذِي يُقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَى نَسَبِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بِبَيِّنَةٍ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ أَنَّ لُحُوقَ الْوَلَدِ بِالْمَرْأَةِ يُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ يَقِينًا بِمُشَاهَدَتِهَا عِنْدَ وِلَادَتِهِ ، فَكَانَتْ دَعْوَاهَا أَضَعُفَ لِقُدْرَتِهَا عَلَى مَا هُوَ أَقْوَى ، وَالرَّجُلُ يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ دُونَ الْيَقِينِ ، فَجَازَ لِضَعْفِ أَسْبَابِهِ أَنْ يَصِيرَ وَلَدًا لَهَا بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ لَمْ يَصِرْ وَلَدًا لَهَا بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى حَتَّى تُقِيمَ بَيِّنَةً بِوِلَادَتِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَاتِ زَوْجٍ قُبِلَ مِنْهَا وَأُلْحِقَ بِهَا : لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ أَوْجَبَ لُحُوقُهُ بِهَا أَنْ يَصِيرَ لَاحِقًا بِزَوْجِهَا : لِأَنَّهَا لَهُ فِرَاشٌ ، فَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ يَثْبُتُ بِهَا الْفِرَاشُ ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ ذَاتَ زَوْجٍ فَلُحُوقُهُ بِهَا لَا يَتَعَدَّاهَا إِلَى غَيْرِهَا كَالرَّجُلِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ مُرَادَ الشَّافِعِيِّ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا دَعْوَةَ لَهَا فِي إِلْحَاقِهِ بِزَوْجِهَا وَلَا فِي ادِّعَائِهِ لِنَفْسِهَا إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تُقِيمُهَا عَلَى وِلَادَتِهَا لَهُ رَدًّا عَلَى طَائِفَةٍ زَعَمَتْ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا ادَّعَتْ وِلَادَةَ وَلَدٍ عَلَى فِرَاشِ الزَّوْجِ كَانَ قَوْلُهَا فِيهِ مَقْبُولًا وَصَارَ بِالزَّوْجِ لَاحِقًا ، فَأَمَّا إِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَدْعُوَهُ لِنَفْسِهَا وَلَدًا فَإِنَّهُ يَلْحَقُ بِهَا بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى كَالرَّجُلِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا لَحِقَ بِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَلْحَقْ بِزَوْجِهَا إِلَّا أَنْ يَصْدُقَهَا عَلَى وِلَادَتِهِ فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ لَاحِقًا بِهِ بِتَصْدِيقِهِ المرأة اذا ادعت لقيطا ولدا ، أَوْ بِبَيِّنَةٍ تُقِيمُهَا عَلَى وِلَادَتِهِ .

فَصْلٌ : فَلَوْ قَالَتِ الْمَرْأَةُ وَقَدْ أُلْحِقَ بِهَا الْوَلَدُ وَأَنْكَرَهَا الزَّوْجُ أَنْ تَكُونَ وَلَدَتْهُ عَلَى فِرَاشِهِ : أَنَا أُرِيهِ الْقَافَةَ مَعَكَ لِيُلْحِقُوهُ بِكَ ، لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ الْوِلَادَةَ لَا تَثْبُتُ بِالْقَافَةِ لِإِمْكَانِ الْبَيِّنَةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " فَإِنْ أَقَامَتِ امْرَأَتَانِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ أَنَّهُ ابْنُهَا ، لَمْ أَجْعَلْهُ ابْنَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى أُرِيَهُ الْقَافَةَ ، فَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِوَاحِدٍ ، لَحِقَ بِزَوْجِهَا ، وَلَا يَنْفِيهِ إِلَّا بِاللِّعَانِ . قَالَ الْمُزَنِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : مَخْرَجُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا أَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ وَهُوَ الزَّوْجُ ،

فَلَمَّا أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِالْمَرْأَةِ كَانَ زَوْجُهَا فِرَاشًا يَلْحَقُهُ وَلَدُهَا وَلَا يَنْفِيهِ إِلَّا بِلِعَانٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي امْرَأَتَيْنِ تَنَازَعَتَا فِي لَقِيطٍ وَادَّعَتْهُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَدًا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمَا مَعَ التَّنَازُعِ بَيِّنَةٌ ، فَفِي سَمَاعِ دَعْوَاهُمَا مَا ذَكَرْنَا مِنَ الثَّلَاثَةِ الْأَوْجُهِ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ ، سَوَاءٌ كَانَتَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ أَوْ مِنَ الْخَلَايَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُمَا إِنْ كَانَتَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُمَا إِلَّا بِبَيِّنَةٍ ، وَإِنْ كَانَتَا مِنَ الْخَلَايَا سُمِعَتْ دَعْوَاهُمَا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ ، وَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا ذَاتَ زَوْجٍ وَالْأُخْرَى خَلِيَّةً كَانَتْ دَعْوَى الْخَلِيَّةِ مَسْمُوعَةً ، وَدَعْوَى ذَاتِ الزَّوْجِ مَدْفُوعَةً إِلَّا بِبَيِّنَةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ دَعْوَاهُمَا مَعًا مَسْمُوعَةٌ ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ أَوْ مِنَ الْخَلَايَا ، فَعَلَى هَذَا إِذَا سُمِعَتْ دَعْوَاهُمَا وَأَقَامَتَا عَلَى تَنَازُعِهِمَا أَوْ عُدِمَتْ بَيِّنَتَاهُمَا ، فَفِي الَّذِي يَحْكُمُ بِهِ فِيهِمَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا يَرَيَانِ الْقَافَةَ مَعَ الْوَلَدِ فَبِأَيِّهِمَا أَلْحَقُوهُ أُلْحِقَ بِهَا ، وَفِي لُحُوقِهِ بِزَوْجِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَلْحَقُ بِهِ إِلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ : لِأَنَّ الْقَافَةَ كَالْبَيِّنَةِ ، بِخِلَافِ الدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِهِ كَالدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةِ إِلَّا أَنْ يَصْدُقَهَا عَلَى وِلَادَتِهِ فَيَصِيرُ لَاحِقًا بِهِ ، فَإِنْ عُدِمَتِ الْقَافَةُ كَانَ الْوَلَدُ مَوْقُوفًا بَيْنَهُمَا إِلَى أَنْ يَنْتَسِبَ عِنْدَ بُلُوغِهِ زَمَانَ الِانْتِسَابِ إِلَى إِحْدَاهُمَا وَيَكُونُ حُكْمُهُمَا فِيهِ كَحُكْمِ الرَّجُلَيْنِ إِذَا تَنَازَعَاهُ عَلَى الْعَمَلِ عَلَى الْقَافَةِ إِنْ وَجَدُوا انْتِسَابَ الْوَلَدِ إِنْ عَدِمُوا . الْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلْقَافَةِ فِي إِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِأُمِّهِ ، وَإِنَّمَا يَحْكُمُ بِهِمْ فِي إِلْحَاقِهِمْ بِالْأَبِ دُونَهَا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْوَلَدَ يَعْرِفُ أُمَّهُ يَقِينًا فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْحُكْمِ بِالشَّبَهِ وَلَا يَعْرِفُ أَبَاهُ ظَنًّا فَاحْتِيجَ إِلَى الْحُكْمِ بِالشَّبَهِ . وَالْفَرْقُ الثَّانِي وَهُوَ فَرْقُ اسْتِدْلَالٍ : أَنَّ حُكْمَ الْقَافَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُبَايَنَةِ الْأُصُولِ ، فَكَانَ مَقْصُورًا عَلَى مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ مِنْ إِلْحَاقِهِ بِالْأَبِ دُونَ الْأُمِّ ، وَيَكُونُ تَنَازُعُ الْمَرْأَتَيْنِ فِيهِ يُوجِبُ وُقُوفَهُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَنْتَسِبَ عِنْدَ الْبُلُوغِ إِلَى إِحْدَاهُمَا ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ [ الْإِنْسَانِ : 2 ] ، يَعْنِي : أَخْلَاطًا . قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : لِاخْتِلَاطِ مَاءِ الرَّجُلِ بِمَاءِ الْمَرْأَةِ . وَقَالَ تَعَالَى : خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ [ الطَّارِقِ : 6 ، 7 ] ، يَعْنِي : أَصْلَابَ الرِّجَالِ وَتَرَائِبَ النِّسَاءِ وَهِيَ الصُّدُورُ ، وَقِيلَ : هِيَ الْأَضْلَاعُ . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ كَانَ الشَّبَهُ لِلْخُئُولَةِ ، وَإِذَا

سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ كَانَ الشَّبَهُ لِلْعُمُومَةِ فَحَصَلَ لِلْأُمِّ فِي الْوَلَدِ شَبَهًا كَالْأَبِ ، وَلِأَنَّ الْوَلَدَ بِالْأُمِّ أَخَصُّ وَكَانَ بِالشَّبَهِ أَحَقُّ .

فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ لَهُمَا عِنْدَ التَّنَازُعِ فِيهِ بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ عَلَى وِلَادَتِهِ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ عُدُولٍ ، فَإِنْ كَانَتِ الْبَيِّنَةُ لِإِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى حُكِمَ بِهِ لِذَاتِ الْبَيِّنَةِ وَلَحِقَ بِزَوْجِهَا إِلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ ، وَإِنْ أَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى وِلَادَتِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَلْحَقْتُهُ بِهِمَا بِالْبَيِّنَةِ وَأَجْعَلُهُ ابْنًا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلِزَوْجِهَا ، وَأَجْعَلُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَزَوْجَهَا أَمَّا لَهُ وَأَبًا ، قَالَ : وَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ عِنْدَ امْتِنَاعِ الْمُمْتَنِعِينَ إِذَا لَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا يُوجِبُ الْحُكْمَ بِهِمَا ، كَاللِّعَانِ قَدِ امْتَنَعَ بِهِ صِدْقُهُمَا ، ثُمَّ حُكِمَ بِهِ بَيْنَهُمَا ، وَكَاخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ إِذَا تَحَالَفَا عَلَيْهِ ، وَقَدْ أَوْجَبَ فَسْخَ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَإِحْدَاهُمَا ، فَهَذَا الْقَوْلُ مَعَ خَطَئِهِ مُسْتَحِيلٌ وَمَعَ اسْتِحَالَتِهِ شَنِيعٌ وَاسْتِحَالَةُ لُحُوقِهِ بِالِاثْنَيْنِ أَعْظَمُ مِنِ اسْتِحَالَةِ لُحُوقِهِ بِالْأَبَوَيْنِ : لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ مَاءُ الرَّجُلَيْنِ فِي رَحِمٍ وَاحِدٍ وَيَمْتَنِعُ خُرُوقُ الْوَلَدِ الْوَاحِدِ فِي رَحِمَيْنِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ [ الْمُجَادَلَةِ : 2 ] أَخْبَرَ أَنَّ أُمَّهُ هِيَ الَّتِي تَلِدُهُ ، فَإِنْ لَحِقَ الْوَلَدُ بِهِمَا اقْتَضَى ذَلِكَ وِلَادَتَهَا ، وَفِي الْقَوْلِ بِهَذَا مِنَ الِاسْتِحَالَةِ مَا تَدْفَعُهُ بِذَاتِهِ الْعُقُولُ وَيَمْنَعُ مِنْهُ الْحَسَنُ الْفَطِنُ وَلَا يَحْتَاجُ مَعَ الْمُلَاحَظَةِ إِلَى دَلِيلٍ ، وَلَا مَعَ التَّصَوُّرِ إِلَى تَعْلِيلٍ ، وَحَسْبُ مَا هَذِهِ حَالَةٌ اطِّرَادًا وَاسْتِقْبَاحًا ، لَا سِيَّمَا مَعَ مَا يَقْضِي هَذَا الْقَوْلُ إِمَّا مَذْهَبًا وَإِمَّا إِلْزَامًا إِلَى أَنْ يَصِيرَ الْوَلَدُ الْوَاحِدُ مُلْحَقًا بِنِسَاءِ الْقَبِيلَةِ وَرِجَالِهَا ، ثُمَّ بِنِسَاءِ الْمَدِينَةِ وَرِجَالِهَا ، ثُمَّ بِنِسَاءِ الدُّنْيَا وَرِجَالِهَا ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ قَوْلٍ هَذِهِ نَتِيجَتُهُ وَمَذْهَبٍ هَذِهِ قَاعِدَتُهُ ، فَأَمَّا اللِّعَانُ فَمَا حَكَمْنَا فِيهِ بِصِدْقِهَا مُسْتَحِيلٌ ، وَإِنَّمَا عَلَّقْنَا عَلَيْهِ حُكْمًا قَدْ أَسْمَاهُ الصَّادِقُ مِنْهُمَا اقْتَضَى ذَلِكَ نَفْيَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا ، وَأَمَّا التَّحَالُفُ فِي اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعِينَ فَإِنَّمَا أَوْجَبَ إِبْطَالُ مَا اخْتَلَفَا فِيهِ دُونَ إِثْبَاتِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِهِمَا مَعَ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي الْأَمْلَاكِ هَلْ يُسْتَعْمَلَانِ أَوْ يَسْقُطَانِ ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُسْتَعْمَلَانِ بِقِسْمَةِ الْمِلْكِ بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ . وَالثَّانِي : يُسْتَعْمَلَانِ بِالْقُرْعَةِ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ ، فَإِنْ قُلْنَا بِاسْتِعْمَالِ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي الْأَمْلَاكِ اسْتَعْمَلْنَاهُمَا فِي الِانْتِسَابِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ نَسْتَعْمِلَهُمَا بِالْقِسْمَةِ لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ فِي النَّسَبِ وَلَا بِالْقُرْعَةِ مَعَ وُجُودِ الْقَافَةِ : لِأَنَّ الْقَافَةَ أَقْوَى وَأَوْكَدُ ، وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اسْتِعْمَالُهُمَا بِتَمْيِيزِ الْقَافَةِ بَيْنَهُمَا فَيُنْظَرُ إِلَى الْوَلَدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ ، فَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِإِحْدَاهُمَا لَحِقَ بِهَا بِالْبَيِّنَةِ ، وَكَانَ تَمْيِيزُ الْقَافَةِ تَرْجِيحًا ، فَعَلَى هَذَا يَصِيرُ لَاحِقًا بِهَا وَبِزَوْجِهَا إِلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ ، وَإِنْ قُلْنَا بِإِسْقَاطِ الْبَيِّنَتَيْنِ عِنْدَ تَعَارُضِهِمَا فِي الْأَمْلَاكِ فَهَلْ يَسْقُطَانِ عِنْدَ تَعَارُضِهِمَا فِي الْأَنْسَابِ أَمْ لَا ؟ فِيهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُمَا يَسْقُطَانِ كَالْأَمْلَاكِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُهُمَا كَمَا لَوْ تَدَاعَتَاهُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُمَا فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّهُمَا لَا يَسْقُطَانِ إِذَا تَعَارَضَتَا فِي الْأَنْسَابِ ، وَإِنْ سَقَطَتَا بِتَعَارُضِهِمَا فِي الْأَمْلَاكِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُمَا لَمَّا تَكَافَآ فِي الْأَمْلَاكِ وَلَمْ يَكُنْ مَا يَتَرَجَّحُ بِهِ إِحْدَاهُمَا ، جَازَ أَنْ يَسْقُطَا ، وَلَمَا أَمْكَنَ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا فِي الْأَنْسَابِ بِالْقَافَةِ لَمْ يَسْقُطَا ، وَحُكِمَ لِمَنِ انْضَمَّ إِلَى بَيِّنَتِهِ بَيَانُ الْقَافَةِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا وَوَجُدِتِ الْقَافَةُ فَأَلْحَقَتِ الْوَلَدَ بِإِحْدَاهُمَا صَارَ لَاحِقًا بِهَا بِالْبَيِّنَةِ لَا بِالدَّعْوَى ، فَإِنْ عُدِمَتِ الْقَافَةُ أَوْ أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ لِوُجُودِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنَ الْقُرْعَةِ وَهُوَ انْتِسَابُ الْوَلَدِ إِذَا بَلَغَ زَمَانَ الِانْتِسَابِ ، وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا إِلَى اسْتِكْمَالِ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ ، وَالثَّانِي إِلَى بُلُوغٍ ، فَإِذَا انْتَسَبَ إِلَى إِحْدَاهُمَا لَحِقَ بِهَا وَبِزَوْجِهَا : لِأَنَّهُ صَارَ لَاحِقًا بِهَا بِالِانْتِسَابِ مَعَ الْبَيِّنَةِ وَصَارَ كَالْقَافَةِ مَعَ الْبَيِّنَةِ .

فَصْلٌ : فَلَوْ مَاتَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا قَبْلَ انْتِسَابِ الْوَلَدِ إِلَى إِحْدَاهُمَا دعوي النسب ، وُقِفَ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتَةِ مِيرَاثُ ابْنٍ ، فَإِنِ انْتَسَبَ إِلَى الْمَيِّتَةِ أُخِذَ مَا وُقِفَ لَهُ مِنْ تَرِكَتِهَا وَهُوَ مِيرَاثُ ابْنٍ ، وَإِنِ انْتَسَبَ إِلَى الثَّانِيَةِ مِنْهَا رُدَّ مَا وُقِفَ لَهُ مِنْ مِيرَاثِ الْمَيِّتَةِ عَلَى وَرَثَتِهَا ، وَلَوْ مَاتَ زَوْجُ إِحْدَاهُمَا وُقِفَ مِنْ تَرِكَتِهِ مِيرَاثُ ابْنٍ : لِجَوَازِ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى زَوْجَتِهِ فَيَصِيرُ لَاحِقًا بِهَا ، فَإِنِ انْتَسَبَ إِلَى امْرَأَةِ الْمَيِّتِ أُخِذَ مَا وُقِفَ مِنْ تَرِكَةِ زَوْجِهَا ، وَإِنِ انْتَسَبَ إِلَى الْأُخْرَى رُدَّ مَا وُقِفَ لَهُ مِنْ مِيرَاثِ الْمَيِّتِ عَلَى وَرَثَتِهِ ، فَلَوْ مَاتَتْ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ وَزَوْجُ الْأُخْرَى وُقِفَ لَهُ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتَةِ مِيرَاثُ ابْنٍ ، وَمِنْ تَرِكَةِ زَوْجِ الْأُخْرَى مِيرَاثُ ابْنٍ ، فَإِنِ انْتَسَبَ إِلَى الْمَيِّتَةِ أُخِذَ مِيرَاثُهَا وَرُدَّ مِيرَاثُ زَوْجِ الْبَاقِيَةِ عَلَى وَرَثَتِهِ ، وَإِنِ انْتَسَبَ إِلَى الْبَاقِيَةِ أُخِذَ مِيرَاثُ زَوْجِهَا وَرُدَّ مِيرَاثُ الْمَيِّتَةِ عَلَى وَرَثَتِهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ اللَّقِيطَ أَنَّهُ عَبْدُهُ لَمْ أَقْبَلِ الْبَيِّنَةَ حَتَّى تَشْهَدَ أَنَّهَا رَأَتْ أَمَةَ فُلَانٍ وَلَدَتْهُ وَأَقْبَلُ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ ، وَإِنَّمَا مَنَعَنِي أَنْ أَقْبَلَ شُهُودَهُ أَنَّهُ عَبْدُهُ لِأَنَّهُ قَدْ يُرَى فِي يَدِهِ فَيَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُهُ " ( وَقَالَ ) فِي مَوْضِعٍ آخَرَ " إِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ قَبْلَ الْتِقَاطِ الْمُلْتَقِطِ أَرْفَقْتُهُ لَهُ " ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) " هَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَأَوْلَى بِالْحَقِّ عِنْدِي مِنَ الْأَوَّلِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ ادَّعَى رِقَّ إِنْسَانٍ مَجْهُولِ الْحَالِ وَأَنَّهُ عَبْدُهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ يَدٌ لِسَيِّدٍ مُسْتَرِقٍّ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى عَلَى بَالِغٍ فَيَرْجِعُ فِيهَا إِلَى الْمُدَّعِي بِالرِّقِّ ، فَإِنْ أَنْكَرَ حَلَفَ ، وَإِنْ أَقَرَّ صَارَ عَبْدًا لَهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى عَلَى غَيْرِ بَالِغٍ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ لَقِيطٌ ، فَيَكُونُ قَوْلُ الْمُدَّعِي رِقَّهُ مَقْبُولًا ، وَيُحْكَمُ بِأَنَّهُ

عَبْدُهُ مَا لَمْ تَكُنْ يَدٌ تَدْفَعُهُ أَوْ مُدَّعٍ يُقَابِلُهُ : لِأَنَّ مَا جُهِلَ حَالُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُنَازِعٌ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ اعْتِرَاضٌ ، كَمَنْ وَجَدَ مَالًا فَادَّعَاهُ مِلْكًا أُقِرَّ عَلَى دَعْوَاهُ مَا لَمْ يُنَازَعْ فِيهِ ، فَلَوْ بَلَغَ هَذَا الطِّفْلُ الَّذِي حُكِمَ بِرِقِّهِ لِمُدَّعِيهِ وَأَنْكَرَ الرِّقَّ وَادَّعَى الْحُرِّيَّةَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ بَعْدَ الْحُكْمِ بِرِقِّهِ كَمَا لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إِذَا أَنْكَرَ النَّسَبَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِهِ ، فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِالْحُرِّيَّةِ حُكِمَ بِهَا وَرُفِعَ رِقُّ الْمُدَّعِي عَنْهُ ، فَإِنْ طَلَبَ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ إِحْلَافَ الْمَحْكُومِ لَهُ بِرِقِّهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ : لِأَنَّهَا دَعْوَى حُرِّيَّةٍ قَدِ اسْتَأْنَفَهَا عَلَى سَيِّدِهِ .

فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى بِرِقِّ لَقِيطٍ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَبْلَ ذَلِكَ الْتِقَاطُهُ ، فَفِي قَبُولِ دَعْوَى الْمُدَّعِي لِرِقِّهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُقْبَلُ كَمَا يُقْبَلُ مِنْهُ ادِّعَاءُ نَسَبِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا : أَنَّ قَوْلَهُ لَا يُقْبَلُ فِي رِقِّهِ وَإِنْ قُبِلَ فِي نَسَبِهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرِّقِّ وَالنَّسَبِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ فِي دَعْوَى النَّسَبِ حَقًّا لَهُ وَحَقًّا عَلَيْهِ ، وَدَعْوَى الرِّقِّ حَقٌّ لَهُ لَا عَلَيْهِ . الثَّانِي : أَنَّ النَّسَبَ لَا يَمْنَعُ مِنْهُ ظَاهِرُ الدَّارِ بَلْ يَقْتَضِيهِ ، وَالرِّقُّ يَمْنَعُ مِنْهُ ظَاهِرُ الدَّارِ وَيُنَافِيهِ ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ تَخْرِيجُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي حُكْمِ اللَّقِيطِ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ حُرٌّ فِي الظَّاهِرِ لَمْ يُحْكَمْ بِرِقِّهِ لِلْمُدَّعِي ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ مَجْهُولُ الْأَصْلِ حُكِمَ بِهِ .

فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ تَكُونَ دَعْوَى رِقِّهِ بَعْدَ الْتِقَاطِهِ ، فَلَا تُسْمَعُ هَذِهِ الدَّعْوَى إِلَّا بِبَيِّنَةٍ ، لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ ، سَوَاءٌ ادَّعَاهُ مُلْتَقِطُهُ أَوْ غَيْرُهُ ، وَفَرْقُ مَا قَبْلَ الْتِقَاطِهِ وَبَعْدَهُ أَنَّ قَبْلَ الِالْتِقَاطِ لَمْ تَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ يَدٌ وَبَعْدَ الِالْتِقَاطِ قَدِ اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ يَدٌ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُدَّعِي رِقِّهِ هُوَ الْمُلْتَقِطُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مِنَ الْأَجَانِبِ ، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْمُلْتَقِطُ ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ أَوْ لَا تَكُونُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ كَانَتْ دَعْوَاهُ مَرْدُودَةً وَاللَّقِيطُ عَلَى ظَاهِرِ الْحُرِّيَّةِ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ رِقٌّ وَيُقَرُّ فِي يَدِهِ مَعَ مَالِهِ إِنْ كَانَ وَلَا يُنْزَعُ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا لَهُ لَمَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ كَفَالَتِهِ بِالِالْتِقَاطِ ، هَذَا الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ ، وَالَّذِي أَرَاهُ أَوْلَى أَنَّ انْتِزَاعَهُ مِنْ يَدِهِ وَاجِبٌ : لِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ بِدَعْوَى رِقِّهِ مِنَ الْأَمَانَةِ فِي كَفَالَتِهِ وَرُبَّمَا صَارَتْ عَلَيْهِ اسْتِدَامَةُ يَدِهِ ذَرِيعَةً إِلَى تَحْقِيقِ رِقِّهِ ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَشْهَدَ لَهُ بِالْيَدِ ، فَلَا يُحْكَمُ بِهَا : لِأَنَّ الْيَدَ شَاهِدَةٌ وَلَيْسَ يُحْكَمُ بِهَا لِلْعِلْمِ بِسَبَبِهَا فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّهَادَةِ بِهَا تَأْثِيرٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ لَهُ بِالْمِلْكِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَصِفَ سَبَبَ الْمِلْكِ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الْمِلْكَ ، وَذَلِكَ مِنْ أَحَدِ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ : إِمَّا ابْتِيَاعٌ مِنْ مَالِكٍ ، أَوْ هِبَةٌ قَبَضَهَا مِنْ مَالِكٍ ، أَوْ مِيرَاثٌ عَنْ مَالِكٍ ، أَوْ بِسَبْيٍ سَبَاهُ فَمَلَكَهُ ، أَوْ وَلَدَتْهُ

أَمَتُهُ فِي مِلْكِهِ ، فَإِنْ كَانَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْبَيْعِ أَوِ الْهِبَةِ أَوِ الْمِيرَاثِ أَوِ السَّبْيِ حُكِمَ فِيهَا بِشَاهِدَيْنِ ، أَوْ شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، أَوْ شَاهِدٍ وَيَمِينٍ ، وَلَا يُحْكَمُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ ، وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى أَنَّ أَمَتَهُ وَلَدَتْهُ سَمِعَ فِيهِ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ يَشْهَدْنَ عَلَى وِلَادَتِهَا فِي مِلْكِهِ ، وَتَكُونُ شَهَادَتَيْنِ بِمِلْكِ الْأُمِّ عِنْدَ الْوِلَادَةِ تَبَعًا لِلشَّهَادَةِ بِالْوِلَادَةِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِ الْأُمِّ نِزَاعٌ ، فَإِنْ نُوزِعَ فِي مِلْكِهِ الْأُمَّ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتَانِ بِمِلْكِ الْأُمِّ حَتَّى يَشْهَدَ بِمِلْكِهَا شَاهِدَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ ، ثُمَّ إِنْ شَهِدْنَ بَعْدَ ذَلِكَ بِوِلَادَتِهَا فِي مِلْكِهِ قُبِلْنَ ، وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ بِالْمِلْكِ وَالْوِلَادَةِ فِيهِ قُبِلَ ، فَأَمَّا إِنْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ بِوِلَادَتِهِ مِنْ أَمَتِهِ وَلَمْ تَشْهَدْ بِأَنَّ الْوِلَادَةَ كَانَتْ فِي مِلْكِهِ ، فَهَذَا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ سَبَبُ مِلْكِهِ : لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أُمُّهُ قَدْ وَلَدَتْهُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَشَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ لَهُ بِسَبَبِ الْمِلْكِ الْمُوجِبِ لِلْمِلْكِ حُكِمَ بِهَا وَصَارَ عَبْدًا لَهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ لَهُ بِالْمِلْكِ وَلَا يُذْكَرُ سَبَبُ الْمِلْكِ ، فَفِي وُجُوبِ الْحُكْمِ بِهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُحْكَمُ بِهَا وَيُجْعَلُ اللَّقِيطُ عَبْدًا لَهُ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَسْأَلُوا عَنْ سَبَبِ الْمِلْكِ ، كَمَا لَوْ شَهِدُوا بِمِلْكِ مَالٍ لَمْ يَذْكُرُوا سَبَبَ مِلْكِهِ كَانَ جَائِزًا ، فَكَذَلِكَ فِي مِلْكِ اللَّقِيطِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنْ لَا يُحْكَمَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ فِي اللَّقِيطِ حَتَّى يَذْكُرُوا سَبَبَ مِلْكِهِ وَيُحْكَمَ بِهَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوا سَبَبَ مِلْكِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حُكْمَ اللَّقِيطِ أَغْلَظُ مِنْ سَائِرِ الْأَمْوَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ نَقْلِهِ عَنْ ظَاهِرِ حَالِهِ فِي الْحُرِّيَّةِ إِلَى مَا تَشْهَدُ لَهُ الْبَيِّنَةُ مِنَ الرِّقِّ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ سَائِرُ الْأَمْوَالِ : لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْيَدَ فِي الْأَمْوَالِ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ ، وَفِي اللَّقِيطِ لَا تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَيَجُوزُ لِلشُّهُودِ فِي الْأَمْوَالِ أَنْ يَشْهَدُوا فِيهَا بِالْمِلْكِ بِالْيَدِ وَحْدَهَا قِيلَ : أَمَّا يَدٌ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا تَصَرُّفٌ كَامِلٌ فَلَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِهَا فِي الْمِلْكِ ، وَأَمَّا إِذَا اقْتَرَنَ بِهَا تَصَرُّفٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، فَحَكَى أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي إِفْصَاحِهِ وَجْهَيْنِ عَنْ غَيْرِهِ وَوَجْهًا ثَالِثًا عَنْ نَفْسِهِ . أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ ، وَالْحُكْمُ أَوْكَدُ مِنَ الشَّهَادَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلشُّهُودِ وَإِنْ جَازَ لِلْحَاكِمِ : لِأَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَجْتَهِدَ وَلَيْسَ لِلشُّهُودِ أَنْ يَجْتَهِدُوا . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ الَّذِي حَكَاهُ عَنْ نَفْسِهِ : أَنَّهُ إِنِ اقْتَرَنَ بِمُشَاهَدَةِ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ سَمَاعٌ مِنَ النَّاسِ يَنْسِبُونَهُ إِلَى مِلْكِهِ جَازَ أَنْ يَشْهَدُوا بِالْمِلْكِ ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعُوا النَّاسَ يَنْسِبُونَهُ إِلَى مِلْكِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدُوا بِالْمِلْكِ وَشَهِدُوا بِالْيَدِ .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي لِرِقِّ اللَّقِيطِ أَجْنَبِيًّا غَيْرَ الْمُلْتَقِطِ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَتُهُ رُدَّتْ دَعْوَاهُ ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَشْهَدَ لَهُ بِالْمِلْكِ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى فِي الشَّهَادَةِ لِلْمُلْتَقِطِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَشْهَدَ لَهُ بِالْيَدِ قَبْلَ الْتِقَاطِهِ ، فَفِي الْحُكْمِ بِهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُحْكَمُ بِهَا لِغَيْرِ الْمُلْتَقِطِ كَمَا لَا يُحْكَمُ بِهَا لِلْمُلْتَقِطِ وَلَا تَكُونُ الْيَدُ عَلَيْهِ مُوجِبَةً لِمِلْكِهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَغْلِيظِ حَالِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يُحْكَمُ بِهَا فِي مِلْكِهِ لِرِقِّهِ ، وَلَكِنْ يُحْكَمُ بِهَا فِي تَقَدُّمِ يَدِهِ وَاسْتِحْقَاقِ كَفَالَتِهِ : لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ تَشْهَدُ بِأَنَّ يَدَهُ كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ يَدِ مُلْتَقِطِهِ فَعَلَى مَا حَكَاهُ

الْمُزَنِيُّ يُنْتَزَعُ مِنَ الْمُلْتَقِطِ وَيُسَلَّمُ إِلَيْهِ لِيَكْفُلَهُ ، وَعَلَى مَا أُرَاهُ أَوْلَى يُمْنَعُ مِنْهُ لِئَلَّا يَصِيرَ ذَرِيعَةً إِلَى اسْتِرْقَاقِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ : أَنَّا نَحْكُمُ لَهُ بِرِقِّهِ مَعَ الشَّهَادَةِ لَهُ بِالْيَدِ ، بِخِلَافِ يَدِ الْمُلْتَقِطِ : لِأَنَّ فِي إِقْرَارِ الْمُلْتَقِطِ بِأَنَّهُ لَقِيطٌ تَكْذِيبٌ لِشُهُودِهِ بِأَنَّ الْيَدَ مُوجِبَةٌ لِمِلْكِهِ وَلَيْسَ مِنْ غَيْرِ الْمُلْتَقِطِ إِقْرَارٌ يُوجِبُ هَذَا إِلَّا أَنَّ الْمُزَنِيَّ فِيمَا نَقَلَهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ لَهُ بِالْيَدِ وَيَحْلِفُ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ رَقِيقًا لَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ لَمْ أَرِقَّهُ لَهُ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِحْلَافِهِ مَعَ الْبَيِّنَةِ : هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوِ اسْتِحْبَابٌ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَاجِبٌ لِيَنْفِيَ بِهَا احْتِمَالَ الْيَدِ أَنْ تَكُونَ بِغَيْرِ مِلْكٍ ، فَإِنْ نَكَّلَ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِرِقِّهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا اسْتِحْبَابٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ : لِأَنَّ الْيَدَ إِنْ أَوْجَبَتِ الْمِلْكَ أَغْنَتْهُ عَنِ الْيَمِينِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُنَازِعٌ ، وَإِنْ لَمْ تُوجِبِ الْمِلْكَ لَمْ يَكُنْ لِلشَّهَادَةِ بِهَا تَأْثِيرٌ ، وَلِأَنَّ فِي الْيَمِينِ مَعَ الْبَيِّنَةِ اعْتِلَالًا لِلشَّهَادَةِ .

فَصْلٌ : فَلَوِ ادَّعَى الْمُلْتَقِطُ بُنُوَّةَ اللَّقِيطِ أُلْحِقَ بِهِ وَلَمْ يُكَلَّفْ بِبَيِّنَةٍ ، فَلَوِ ادَّعَى غَيْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ رِقَّ اللَّقِيطِ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الرِّقِّ وَالنَّسَبِ إِذَا أَقَامَهَا صَارَ ابْنًا لِلْمُلْتَقِطِ وَعَبْدًا لِلْآخَرِ لِإِمْكَانِ الْأَمْرَيْنِ وَيَكُونُ السَّيِّدُ أَوْلَى بِكَفَالَتِهِ مِنَ الْأَبِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِذَا بَلَغَ اللَّقِيطُ فَاشْتَرَى وَبَاعَ وَنَكَحَ وَأَصْدَقَ ، ثُمَّ أَقَرَّ بِالرِّقِّ لِرَجُلٍ أَلْزَمْتُهُ مَا يَلْزَمُهُ قَبْلَ إِقْرَارِهِ وَفِي إِلْزَامِهِ الرِّقَّ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ إِقْرَارَهُ يَلْزَمُهُ فِي نَفْسِهِ وَفِي الْفَضْلِ مِنْ مَالِهِ عَمَّا لَزِمَهُ وَلَا يَصْدُقُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، وَمَنْ قَالَ أَصْدُقُهُ فِي الْكُلِّ قَالَ : لِأَنَّهُ مَجْهُولُ الْأَصْلِ ، وَمَنْ قَالَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ قَالَهُ فِي امْرَأَةٍ نُكِحَتْ ثُمَّ أَقَرَّتْ بِمِلْكٍ لِرَجُلٍ لَا أَصْدُقُهَا عَلَى إِفْسَادِ النِّكَاحِ وَلَا مَا يَجِبُ عَلَيْهَا لِلزَّوْجِ وَأَجْعَلُ طَلَاقَهُ إِيَّاهَا ثَلَاثًا ، وَعِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ وَفِي الْوَفَاةِ عِدَّةُ أَمَةٍ : لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا فِي الْوَفَاةِ حَقٌ يَلْزَمُهَا لَهُ ، وَأَجْعَلُ وَلَدَهُ قَبْلَ الْإِقْرَارِ وَلَدَ حُرَّةٍ وَلَهُ الْخِيَارُ ، فَإِنْ أَقَامَ عَلَى النِّكَاحِ كَانَ وَلَدُهُ رَقِيقًا وَأَجْعَلُ مِلْكَهَا لِمَنْ أَقَرَّتْ لَهُ بِأَنَّهَا أَمَتُهُ " ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : " أَجْمَعَتِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ لَزِمَهُ وَمَنِ ادَّعَاهُ لَمْ يَجِبْ لَهُ بِدَعْوَاهُ ، وَقَدْ لَزِمَتْهَا حُقُوقٌ بِإِقْرَارِهَا فَلَيْسَ لَهَا إِبْطَالُهَا بِدَعْوَاهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي لَقِيطٍ بَلَغَ فَجَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْأَحْرَارِ فِي عُقُودِهِ وَأَفْعَالِهِ اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ حَالِهِ فِي الْحُرِّيَّةِ : لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ بِالْإِشْكَالِ ، سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّهُ حُرٌّ فِي الظَّاهِرِ ، أَوْ مَجْهُولُ الْأَصْلِ ، فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ مِنْهُ وَجَرَتْ أَحْكَامُ الْحُرِّيَّةِ عَلَيْهِ ظَاهِرًا ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ فَادَّعَى رِقَّهُ وَأَنَّهُ عَبْدُهُ ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ لَهُ بِرِقِّهِ أَوْ لَا يَكُونُ ، فَإِنْ أَقَامَ بِرِقِّهِ بَيِّنَةً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ وَصْفِ الْبَيِّنَةِ حَكَمْنَا لَهُ بِرِقِّهِ وَأَجْرَيْنَا عَلَيْهِ أَحْكَامَ الْعَبِيدِ فِي الْمَاضِي مِنْ حَالِهِ وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ ، فَمَا بَطَلَ مِنْ عُقُودِهِ الْمَاضِيَةِ بِالرِّقِّ أَبْطَلْنَاهُ وَمَا وَجَبَ

اسْتِرْجَاعُهُ مَنْ غُرْمٍ أَوْ مَالٍ اسْتَرْجَعْنَاهُ ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا ضَرَّ غَيْرَهُ أَوْ نَفَعَهُ ، أَوْ نَفَعَ غَيْرَهُ وَضَرَّهُ : لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ فَلَا يَخْلُو أَنْ يُقِرَّ اللَّقِيطُ لَهُ بِالرِّقِّ أَوْ يُنْكِرَهُ ، فَإِنْ أَنْكَرَهُ حَلَفَ لَهُ وَهُوَ عَلَى ظَاهِرِ حُرِّيَّتِهِ ، وَإِنْ أَقَرَّ لَهُ بِالرِّقِّ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَدِ اعْتَرَفَ قَبْلَ ذَلِكَ بِالْحُرِّيَّةِ أَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ قَدِ اعْتَرَفَ بِالْحُرِّيَّةِ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ بِالرِّقِّ إِلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ : لِأَنَّ اعْتِرَافَهُ بِالْحُرِّيَّةِ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ تَضَمَّنَهُ حَقٌّ لِنَفْسِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِبْطَالُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ أَبْطَلَ حَقَّ نَفْسِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدِ اعْتَرَفَ قَبْلَ ذَلِكَ بِالْحُرِّيَّةِ قُبِلَ إِقْرَارُهُ بِالرِّقِّ ، سَوَاءٌ قِيلَ بِجَهَالَةِ أَصْلِهِ أَوْ بِظَاهِرِ حُرِّيَّتِهِ : لِأَنَّ إِقْرَارَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَقْوَى مِنْ حُكْمِ الظَّاهِرِ ، وَلِأَنَّ الْكُفْرَ بِاللَّهِ تَعَالَى أَغْلَظُ مِنَ الرِّقِّ ، ثُمَّ كَانَ قَوْلُهُ لَوْ بَلَغَ مَقْبُولًا فِي الْكُفْرِ ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَقْبُولًا فِي الرِّقِّ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِقْرَارَهُ بِالرِّقِّ اللقيط مَقْبُولٌ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الرِّقِّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَفِي إِجْرَائِهَا عَلَيْهِ فِي الْمَاضِي قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الرِّقِّ فِي الْمَاضِي كَمَا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي نَجْعَلُهُ فِيهِ مَجْهُولَ الْأَصْلِ وَوَجْهُهُ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الرِّقَّ أَصْلٌ إِذَا ثَبَتَ تَعَلُّقٌ فِي فَرْعِهِ مِنْ أَحْكَامٍ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَصْلُهُ فَأَوْلَى أَنَّ تَثْبُتَ فُرُوعُهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ إِقْرَارُهُ بِالرِّقِّ مُوجِبًا لِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الرِّقِّ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَالْبَيِّنَةِ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِذَلِكَ فِي الْمَاضِي كَالْبَيِّنَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ فِي الْمَاضِي أَضَرُّ الْأَمْرَيْنِ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ الْحُرِّيَّةِ أَوِ الرِّقِّ ، فَمَا نَفَعَهُ وَضَرَّ غَيْرَهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ وَمَا ضَرَّهُ وَنَفَعَ غَيْرَهُ قُبِلَ مِنْهُ ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي نَجْعَلُهُ فِيهِ حُرًّا فِي الظَّاهِرِ وَوَجْهُهُ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِقْرَارَهُ فِيمَا ضَرَّ غَيْرَهُ مُتَوَهَّمٌ فَأَمْضَى ، وَإِقْرَارَهُ فِيمَا يَنْفَعُهُ مُتَوَهَّمٌ فَرُدَّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ كَمَا لَمْ يَمْلِكْ إِبْطَالَهُ مِنَ الْعُقُودِ بِغَيْرِ الْإِقْرَارِ بِالرِّقِّ لَمْ يَمْلِكْهُ بِالْإِقْرَارِ : لِأَنَّ لُزُومَهَا يَمْنَعُ مِنْ تَمَلُّكِ فَسْخِهَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ تَفَرَّعَ عَلَيْهِمَا مَا مَضَى ، فَمِنْ ذَلِكَ هِبَاتُهُ وَعَطَايَاهُ ، فَإِنْ قِيلَ بِنُفُوذِ إِقْرَارِهِ فِيهِمَا بَطَلَتْ وَاسْتَحَقَّ السَّيِّدُ اسْتِرْجَاعَهَا ، وَإِنْ قِيلَ بِرَدِّ إِقْرَارِهِ فِيهِمَا بَطَلَتْ وَاسْتَحَقَّ السَّيِّدُ اسْتِرْجَاعَهَا أُمْضِيَتْ وَلَمْ يَسْتَرْجِعْ ، وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ إِحْلَافُ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْمُعْطَى إِنْ أَنْكَرَ .

فَصْلٌ : وَمِنْ ذَلِكَ بَيُوعُهُ وَإِجَارَاتُهُ اللقيط الذي أقر بالرق إِنْ قِيلَ بِنُفُوذِ إِقْرَارِهِ فِيهِمَا بَطَلَتْ وَلَزِمَ التَّرَاجُعُ فِيهِمَا ، وَإِنْ قِيلَ بِرَدِّ إِقْرَارِهِ فِيهِمَا أُمْضِيَتْ وَلَا يُرَاجَعُ فِيهِمَا ، وَمَا حَصَلَ بِيَدِهِ مِمَّا اشْتَرَاهُ لَمْ يَكُنْ لِسَيِّدِهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ : لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّهُ عَلَى مِلْكِ بَائِعِهِ وَلَهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى أَخْذِ ثَمَنِهِ مِنْهُ ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْهُ لَمْ يَمْلِكْهُ .

فَصْلٌ : وَمِنْ ذَلِكَ دُيُونُهُ الَّتِي لَزِمَتْهُ اللقيط الذي أقر بالرق وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا وَجَبَ بِاسْتِهْلَاكٍ وَجِنَايَةٍ فَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِرَقَبَتِهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا : لِأَنَّ ذَلِكَ أَضَرَّ

بِهِ فَنَفَذَ إِقْرَارُهُ فِيهِ ، وَإِنْ ضَاقَتِ الرَّقَبَةُ عَنْ غُرْمِ جَمِيعِهِ فَفِي تَعَلُّقِ الْبَاقِي بِذِمَّتِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ قَوْلَانِ : إِنْ قِيلَ بِنُفُوذِ إِقْرَارِهِ سَقَطَ وَلَمْ يَلْزَمْ ، وَإِنْ قِيلَ بِرَدِّ إِقْرَارِهِ لَزِمَ فِي ذِمَّتِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا وَجَبَ عَنْ مُعَامَلَةٍ مِنْ ثَمَنٍ أَوْ أُجْرَةٍ أَوْ صَدَاقٍ ، فَإِنْ قِيلَ بِنُفُوذِ إِقْرَارِهِ تَعَلَّقَ ذَلِكَ بِذِمَّتِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَكَانَ السَّيِّدُ أَحَقَّ بِمَا فِي يَدِهِ ، وَإِنْ قِيلَ بِرَدِّ إِقْرَارِهِ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَحِقًّا فِيمَا بِيَدِهِ ، فَمَا كَانَ بِإِزَائِهِ دَفَعَ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ فِي دُيُونِهِ وَلَا شَيْءَ فِيهِ لِسَيِّدِهِ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَهُ فِي ذِمَّتِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ الْفَاضِلِ مِنْهُ لِسَيِّدِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إِنَّ إِقْرَارَهُ يَلْزَمُهُ فِي نَفْسِهِ وَفِي الْفَضْلِ مِنْ مَالِهِ عَمَّا لَزِمَهُ ، يَعْنِي : مِنْ دُيُونِهِ .

فَصْلٌ : وَمِنْ ذَلِكَ نِكَاحُهُ ، وَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ اللَّقِيطُ عَبْدًا فَيَنْكِحَ امْرَأَةً . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً فَتَنْكِحَ رَجُلًا ، فَإِنْ كَانَ اللَّقِيطُ عَبْدًا فَنَكَحَ امْرَأَةً ، فَإِنْ قِيلَ بِنُفُوذِ إِقْرَارِهِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ مِنْ أَصْلِهِ : لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّهُ نَكَحَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَكْثَرُ فَلَا تَسْتَحِقُّ إِلَّا الْمُسَمَّى : لِأَنَّهَا تَدَّعِي الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ قِيلَ بِرَدِّ إِقْرَارِهِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ مِنْ وَقْتِهِ لِإِقْرَارِهَا بِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَنْفَسِخْ مِنْ أَصْلِهِ لِقَبُولِ إِقْرَارِهِ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَهَا جَمِيعُهُ ، وَإِنْ كَانَ اللَّقِيطُ أَمَةً فَنَكَحَتْ رَجُلًا ، فَإِنْ قِيلَ بِنُفُوذِ إِقْرَارِهَا بَطَلَ النِّكَاحُ : لِأَنَّهَا مَنْكُوحَةٌ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهَا ، سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ وَاجِدًا لِلطَّوْلِ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، فَلَا شَيْءَ لَهَا ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى وَكَانَ أَوْلَادُهَا مِنْهُ أَحْرَارًا : لِأَنَّهُ أَصَابَهَا عَلَى حُرِّيَّةِ أَوْلَادِهَا فَصَارَتْ كَالْغَارَّةِ بَحُرِّيَّتِهَا ، لَكِنْ عَلَى الزَّوْجِ قِيمَتُهُمْ لِسَيِّدِهَا ، وَفِي رُجُوعِ الزَّوْجِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهَا بَعْدَ عِتْقِهَا قَوْلَانِ كَالْمَغْرُورِ ، وَإِنْ قِيلَ بِرَدِّ إِقْرَارِهَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِي فَسْخِ النِّكَاحِ ، سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ وَاجِدًا لِلطَّوْلِ أَوْ لَمْ يَكُنْ : لِأَنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي صِحَّةَ الْعَقْدِ عَلَى حُرَّةٍ ، وَجَمِيعُ أَوْلَادِهَا مِنْهُ قَبْلَ الْإِقْرَارِ وَبَعْدَهُ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَحْرَارٌ ، لَا يَلْزَمُ الزَّوْجُ غُرْمَ قِيمَتِهِمْ ، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْمُقَامِ مَعَهَا لِمَا اسْتَقَرَّ مِنْ حُكْمِ رِقِّهَا ، فَإِنْ أَقَامَ عَلَيْهَا رِقَّ أَوْلَادِهِ مِنْهَا إِذَا وَضَعَتْهُمْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ إِقْرَارِهِ ، ثُمَّ إِنْ لَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي يَرُدُّ إِقْرَارَهَا فِيهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : طَلَاقٌ أَوْ وَفَاةٌ ، فَإِنْ كَانَتْ وَفَاةً فَعِدَّةُ أَمَةٍ شَهْرَانِ وَخَمْسِ لَيَالٍ : لِأَنَّهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، فَقِيلَ قَوْلُهَا فِيهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا ، وَإِنْ كَانَتْ عِدَّةَ طَلَاقٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَمْلِكَ فِيهَا الرَّجْعَةَ فَيَلْزَمُهَا ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ : لِأَنَّ حَقَّ الْآدَمِيِّ مِنْهَا أَقْوَى لِثُبُوتِ رَجْعَتِهِ فِيهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَمْلِكَ فِيهَا الرَّجْعَةَ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : عِدَّةُ أَمَةٍ كَالْوَفَاةِ : لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا لِلزَّوْجِ حَقٌّ . وَالثَّانِي وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَنْصُوصِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهَا ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ كَمَا لَوْ فِيهَا الرَّجْعَةُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَعِدَّةِ الْوَفَاةِ أَنَّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ يَغْلِبُ فِيهَا حَقُّ الْآدَمِيِّ : لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى صَغِيرَةٍ وَلَا غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا : لِأَنَّ مَقْصُودَهَا الِاسْتِبْرَاءُ ، وَعِدَّةُ الْوَفَاةِ يَغْلِبُ فِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لِوُجُوبِهَا

عَلَى الصَّغِيرَةِ وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا التَّعَبُّدُ ، فَأَمَّا الْجِنَايَةُ مِنْهُ وَعَلَيْهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا وَفِيمَا اسْتَوْفَيْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا أَغْفَلْنَا ، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ أَنْ لَا يَنْفُذَ إِقْرَارُهُ فِي الْمَاضِي ، وَإِنْ نَفَذَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَكَانَ مِنِ اسْتِدْلَالِهِ أَنْ قَالَ أَجْمَعَتِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ لَزِمَهُ ، وَمَنِ ادَّعَاهُ لَمْ يَجِبْ لَهُ بِدَعْوَاهُ . وَهَذَا الْقَوْلُ صَحِيحٌ غَيْرَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ فَاسِدٌ : لِأَنَّ اللَّقِيطَ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إِقْرَارٌ بِالْحُرِّيَّةِ ، فَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا حَمَلَ أَمْرَهُ فِي الْحُرِّيَّةِ عَلَى الظَّاهِرِ وَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَقْوَى فَكَانَ الْحُكْمُ بِهِ أَوْلَى .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَا أُقِرُّ اللَّقِيطَ بِأَنَّهُ عَبْدٌ لِفُلَانٍ وَقَالَ الْفُلَانُ مَا مَلَكْتُهُ ، ثُمَّ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِالرِّقِّ بَعْدُ ، لَمْ أَقْبَلْ إِقْرَارَهُ وَكَانَ حُرًّا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي لَقِيطٍ بَالِغٍ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ دَعْوَى فَأَقَرَّ بِرِقِّهِ لِزَيْدٍ ، فَأَنْكَرَ زَيْدٌ أَنْ يَكُونَ مَالِكَهُ ، فَأَقَرَّ اللَّقِيطُ بَعْدَ ذَلِكَ بِرِقِّهِ لِعَمْرٍو ، فَإِقْرَارُهُ مَرْدُودٌ وَهُوَ حُرٌّ فِي الظَّاهِرِ إِلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ بِرِقِّهِ لِمَالِكٍ فَيَحْكُمُ بِهَا دُونَ الْإِقْرَارِ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : إِقْرَارُهُ مَقْبُولٌ لِلثَّانِي وَإِنْ رَدَّهُ الْأَوَّلُ ، كَمَا كَانَ إِقْرَارُهُ مَقْبُولًا لِلْأَوَّلِ ، وَهَكَذَا لَوْ أَنْكَرَهُ الثَّانِي فَأَقَرَّ الثَّالِثُ قُبِلَ مِنْهُ ، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِنَسَبِهِ لِرَجُلٍ فَرَدَّهُ ، ثُمَّ أَقَرَّ بِنَسَبِهِ لِغَيْرِهِ جَازَ ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَقَرَّ بِرِقِّهِ لِرَجُلٍ فَرَدَّهُ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ لِآخَرَ جَازَ ، وَهَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِدَارٍ فِي يَدِهِ لِرَجُلٍ فَرَدَّ إِقْرَارَهُ ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا لِغَيْرِهِ نَفَذَ إِقْرَارُهُ ، فَكَذَلِكَ فِي الرِّقِّ : لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى النَّسَبِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا جَوَازَ ذَلِكَ فِيهِ أَوْ مَجْرَى الْمَالِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا جَوَازَهُ فِيهِ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ إِقْرَارَهُ بِالرِّقِّ لِلْأَوَّلِ إِقْرَارٌ بِأَنَّهُ لَا رِقَّ عَلَيْهِ لِغَيْرِ الْأَوَّلِ ، فَإِذَا رَدَّ الْأَوَّلُ الْإِقْرَارَ فَقَدْ رَفَعَ رِقَّهُ عَنْهُ بِالْإِنْكَارِ فَصَارَ إِقْرَارُهُ بِالرِّقِّ إِذَا رُدَّ كَالْعِتْقِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقِرَّ بَعْدَ الرِّقِّ ، وَالثَّانِي أَنْ فِي الْحُرِّيَّةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَحَقًّا لِلْآدَمِيِّ ، فَصَارَ أَغْلَظَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا تَجَرَّدَ مِنْ حَقِّ الْآدَمِيِّ إِذَا انْفَرَدَ فَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ جَرَى حُكْمُهُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ ، فَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ إِقْرَارِهِ بِالنَّسَبِ فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَضِيقُ عَلَيْهِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فَيَجْعَلُ الْحُكْمَ فِيهِمَا سَوَاءً ، وَيَقُولُ : إِذَا رَدَّ إِقْرَارَهُ بِالنَّسَبِ لَمْ أَقْبَلْهُ إِذَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ بَعْدُ ، كَمَا لَوْ رَدَّ فِي الْعِتْقِ لَمْ أَقْبَلْهُ مِنْ بَعْدُ . وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ فِي النَّسَبِ وَلَا يُقْبَلُ فِي الرِّقِّ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِنْكَارَهُ الرِّقَّ يَقْتَضِي أَنْ لَا رِقَّ ، وَلَيْسَ إِنْكَارُهُ لِلنَّسَبِ مُوجِبًا لِرَفْعِ النَّسَبِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا ، ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ قُبِلَ مِنْهُ ، وَمَنْ أَنْكَرَ الرِّقَّ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ، وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالدَّارِ فَإِذَا رَدَّهُ الْمُقِرُّ لَهُ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُ الْمُقِرِّ بِهَا لِغَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الثَّانِي أَحَقَّ بِهَا مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهَا ، وَلَا بُدَّ لِكُلِّ مِلْكٍ مِنْ مَالِكٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ اللَّقِيطُ : لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ حُرًّا وَلَيْسَ لَهُ مَالِكٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا قِيلَ لِلثَّانِي إِنْ أَقَمْتَ الْبَيِّنَةَ عَلَى رِقِّهِ حُكِمَ لَكَ بِهِ : لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ تُوجِبُ رِقَّهُ ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَرِفًا بِالْحُرِّيَّةِ فَكَانَتْ بِإِثْبَاتِ رِقِّهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَوْلَى .
فَصْلٌ : وَلَوْ أَنَّ لَقِيطًا أَقَرَّ بِالْبُنُوَّةِ لِرَجُلٍ ، ثُمَّ أَقَرَّ بِالرِّقِّ بَعْدَهُ لِآخَرَ قَبْلِنَا إِقْرَارَهُ لَهُمَا بِالْبُنُوَّةِ وَالرِّقِّ : لِأَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ابْنًا لِزَيْدٍ وَعَبْدًا لِعَمْرٍو ، وَلَوِ ابْتَدَأَ فَأَقَرَّ بِالرِّقِّ لِرَجُلٍ ، ثُمَّ أَقَرَّ بَعْدَهُ بِالْبُنُوَّةِ لِآخَرَ نَفَذَ إِقْرَارُهُ بِالرِّقِّ الْمُتَقَدِّمِ فَلَمْ يَنْفَذْ إِقْرَارُهُ بِالْبُنُوَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ : لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ بِأَبٍ إِلَّا بِتَصْدِيقِ السَّيِّدِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ الْإِرْثِ بِالْوَلَاءِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا قُدِّمَ الْإِقْرَارُ بِالْأَبِ ، ثُمَّ أَقَرَّ بَعْدَهُ بِالرِّقِّ .
فَصْلٌ : وَإِذَا تَنَازَعَ الرَّجُلَانِ طِفْلًا وَادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ابْنًا ، ثُمَّ سَلَّمَهُ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ وَاعْتَرَفَ لَهُ بِأُبُوَّتِهِ ، فَإِنْ كَانَ تَنَازُعُهُمَا فِي نَسَبِهِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْفِرَاشِ لَمْ يُقْبَلْ تَسْلِيمُهُ إِلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْتِقَاطِهِ قُبِلَ وَصَارَ ابْنًا لِمَنْ سَلَّمَ إِلَيْهِ دُونَ مَنْ سَلَّمَهُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَادِثَ عَنِ الْفِرَاشِ مُلْحَقٌ بِغَيْرِ دَعْوَى ، وَاللَّقِيطُ لَا يُلْحَقُ إِلَّا بِالدَّعْوَى ، فَلَوْ رَجَعَ مَنْ سَلَّمَ إِلَيْهِ وَجَعَلَهُ ابْنًا لَهُ وَسَلَّمَهُ إِلَى غَيْرِهِ وَاعْتَرَفَ لَهُ بِأُبُوَّتِهِ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّهُ قَدْ حَكَمَ لَهُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ بِأُبُوَّتِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ لِاعْتِرَافِهِ بِهِ ، وَهَكَذَا لَوْ تَفَرَّدَ رَجُلٌ بِالْتِقَاطِهِ وَادَّعَى بُنُوَّتَهُ ، ثُمَّ سَلَّمَهُ بَعْدَ ادِّعَاءِ الْبُنُوَّةِ إِلَى غَيْرِهِ وَلَدًا لَمْ يَجُزْ وَصَارَ لَازِمًا لِلْأَوَّلِ لِإِلْحَاقِهِ بِهِ ، فَلَوْ تَنَازَعَ نَسَبَهُ رَجُلَانِ ، ثُمَّ تَرَكَاهُ مَعًا رَاجِعِينَ عَنِ ادِّعَاءِ نَسَبِهِ اللقيط لَمْ يَجُزْ وَأَرَيْنَا فِيمَا رَأَيَاهُ لِلْقَافَةِ ، وَأَلْحَقْنَاهُ بِمَنْ أَلْحَقُوهُ بِهِ وَلَوْ سَلَّمَهُ الْمُتَنَازِعَانِ إِلَى ثَالِثٍ اسْتُحْدِثَ دَعْوَى نَسَبِهِ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّهُمَا بِالتَّنَازُعِ الْأَوَّلِ قَدِ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ نَسَبَهُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الثَّالِثِ ، فَإِنْ أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِهِ صَارَ بِإِلْحَاقِ الْقَافَةِ لَاحِقًا بِهِ لَا بِالتَّسْلِيمِ ، وَإِنْ نَفَوْهُ عَنْهُ وَجَبَ إِلْحَاقُهُ بِأَحَدِ الْأَوَّلَيْنِ إِمَّا بِالْقَافَةِ أَوْ بِالتَّسْلِيمِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
_____كِتَابُ الْفَرَائِضِ _____

كِتَابُ الْفَرَائِضِ حَقِيقٌ بِمَنْ عَلِمَ أَنَّ الدُّنْيَا مُنْقَرِضَةٌ وَأَنَّ الرَّزَايَا قَبْلَ الْغَايَاتِ مُعْتَرِضَةٌ ، وَأَنَّ الْمَالَ مَتْرُوكٌ لِوَارِثٍ ، أَوْ مُصَابٌ بِحَادِثٍ ، أَنْ يَكُونَ زُهْدُهُ فِيهِ أَقْوَى مِنْ رَغْبَتِهِ ، وَتَرْكُهُ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ طِلْبَتِهِ ، فَإِنَّ النَّجَاةَ مِنْهَا فَوْزٌ ، وَالِاسْتِرْسَالَ فِيهَا عَجْزٌ ، أَعَانَنَا اللَّهُ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا نَقُولُ ، وَوَفَّقَنَا لِحُسْنِ الْقَبُولِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ . وَلَمَّا عَلِمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ صَلَاحَ عِبَادِهِ فِيمَا اقْتَنَوْهُ مَعَ مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنَ الضَّنِّ بِهِ وَالْأَسَفِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَصْرِفَهُ بَعْدَهُمْ مَعْرُوفًا ، وَقَسْمَهُ مُقَدَّرًا مَفْرُوضًا لِيَقْطَعَ بَيْنَهُمُ التَّنَازُعَ وَالِاخْتِلَافَ ، وَيَدُومَ لَهُمُ التَّوَاصُلُ وَالِائْتِلَافُ ، جَعْلَهُ لِمَنْ تَمَاسَّتْ أَنْسَابُهُمْ وَتَوَاصَلَتْ أَسْبَابُهُمْ لِفَضْلِ الْحُنُوِّ عَلَيْهِمْ ، وَشِدَّةِ الْمَيْلِ إِلَيْهِمْ ، حَتَّى يَقِلَّ عَلَيْهِ الْأَسَفُ ، وَيَسْتَقِلَّ بِهِ الْخَلَفُ ، فَسُبْحَانَ مَنْ قَدَّرَ وَهَدَى ، وَدَبَّرَ فَأَحْكَمَ ، وَقَدْ كَانَتْ كُلُّ أُمَّةٍ تَجْرِي مِنْ ذَلِكَ عَلَى عَادَتِهَا ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا يَتَوَارَثُونَ بِالْحِلْفِ وَالتَّنَاصُرِ كَمَا يَتَوَارَثُونَ بِالْأَنْسَابِ : طَلَبًا لِلتَّوَاصُلِ بِهِ ، فَإِذَا تَحَالَفَ الرَّجُلَانِ مِنْهُمْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فِي عَقْدِ حِلْفِهِ : هَدْمِي هَدْمُكَ ، وَدَمِي دَمُكَ ، وَسِلْمِي سِلْمُكَ ، وَحَرْبِي حَرْبُكَ ، وَتَنْصُرُنِي وَأَنْصُرُكَ . فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا وِرِثَهُ الْآخَرُ ، فَأَدْرَكَ الْإِسْلَامَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَرَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ قَالَ : قَالَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ ، وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً ، فَجَعَلَ الْحَلِفَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ بِمَنْزِلَةِ الْأَخِ لِلْأُمِّ فَأُعْطِيَ السُّدُسَ ، وَنَزَلَ فِيهِ مَا حَكَاهُ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [ النِّسَاءِ : 33 ] ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [ الْأَحْزَابِ : 6 ] .

فَصْلٌ : وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ وَالْأَطْفَالَ ، وَلَا يُعْطُونَ الْمَالَ إِلَّا لِمَنْ حَمِيَ وَغَزَا ، فَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ أُمَّ كُجَّةَ وَبِنْتَ كُجَّةَ وَثَعْلَبَةَ وَأَوْسَ بْنَ سُوَيْدٍ وَهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا زَوْجَهَا وَالْآخَرُ عَمَّ وَلَدِهَا ، فَمَاتَ زَوْجُهَا فَقَالَتْ أُمُّ كُجَّةَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، تُوُفِّيَ زَوْجِي وَتَرَكَنِي وَبَنِيهِ فَلَمْ نُوَرَّثْ فَقَالَ عَمُّ وَلَدِهَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ وَلَدَهَا لَا يَرْكَبُ فَرَسًا وَلَا يَحْمِلُ كَلًّا وَلَا يَنْكَأُ عَدُوًّا ، يَكْسِبُ عَلَيْهَا وَلَا تَكْتَسِبُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [ النِّسَاءِ : 7 ] .

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ [ النِّسَاءِ : 32 ] عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَعْنِي لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا مِنْ مِيرَاثِ مَوْتَاهُمْ ، وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِنْهُ : لِأَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ لَمْ يَكُونُوا يُوَرِّثُوا النِّسَاءَ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي : لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَالْعِقَابِ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ ، وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِثْلُ ذَلِكَ فِي أَنَّ لِلْمَرْأَةِ بِالْحَسَنَةِ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ، وَلَا تُجْزَى بِالسَّيِّئَةِ إِلَّا مِثْلَهَا كَالرَّجُلِ ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ .

فَصْلٌ كيفية تقسيم المسلمين لأموالهم قبل الهجرة

فَصْلٌ : وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَسَّمَ مَالَهُ بَيْنَ أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ وَمَنْ حَضَرَهُ مِنْ غَيْرِهِمْ كَيْفَ شَاءَ وَأَحَبَّ مِيرَاثًا وَوَصِيَّةً ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [ الْبَقَرَةِ : 180 ] وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : آتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [ الْإِسْرَاءِ : 26 ] عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ قَرَابَةُ الْمَيِّتِ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَمِنْ قِبَلِ أُمِّهِ فِيمَا يُعْطِيهِمْ مِنْ مِيرَاثِهِ ، وَالْمِسْكِينُ وَابْنُ السَّبِيلِ فِيمَا يُعْطِيهِمْ مِنْ وَصِيَّتِهِ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ ، ثُمَّ تَوَارَثَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ ، فَكَانَ إِذَا تَرَكَ الْمُهَاجِرُ أَخَوَيْنِ أَحَدُهُمَا مُهَاجِرٌ وَالْآخَرُ غَيْرُ مُهَاجِرٍ ، كَانَ مِيرَاثُهُ لِلْمُهَاجِرِ دُونَ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ ، وَلَوْ تَرَكَ عَمًّا مُهَاجِرًا وَأَخًا غَيْرَ مُهَاجِرٍ كَانَ مِيرَاثُهُ لِلْعَمِّ دُونَ الْأَخِ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَفِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا [ الْأَنْفَالِ : 72 ] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : ثُمَّ أَكَّدَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [ الْأَنْفَالِ : 73 ] يَعْنِي أَنْ لَا تَتَوَارَثُوا بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ ، فَكَانُوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا [ الْأَحْزَابِ : 6 ] يَعْنِي الْوَصِيَّةَ لِمَنْ لَمْ يَرِثْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا [ الْأَحْزَابِ : 6 ] وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : كَانَ تَوَارُثُكُمْ بِالْهِجْرَةِ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا . وَالثَّانِي : كَانَ نَسْخُهُ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا .

فَصْلٌ : ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ الْمَوَارِيثَ وَقَدَّرَهَا وَبَيَّنَ الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا فِي ثَلَاثِ آيٍ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ ، نَسَخَ بِهِنَّ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمَوَارِيثِ ، فَرَوَى دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ امْرَأَةَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنَّ سَعْدًا

هَلَكَ وَتَرَكَ بِنْتَيْنِ ، وَقَدْ أَخَذَ عَمُّهُمَا مَالَهُمَا ، فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالًا إِلَّا أَخَذَهُ ، فَمَا تَرَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَوَاللَّهِ لَا يَنْكِحَانِ أَبَدًا إِلَّا وَلَهُمَا مَالٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ فَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ [ النِّسَاءِ : 11 ] الْآيَةَ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ادْعُوا إِلَيَّ الْمَرْأَةَ وَصَاحِبَهَا فَقَالَ لِلْعَمِّ : " اعْطِهِمَا الثُّلْثَيْنِ وَأَعْطِ أُمَّهُمَا الثُّمُنَ ، وَمَا بَقِيَ فَلَكَ " . وَرَوَى ابْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : مَرِضْتُ فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعُودُنِي هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ مَاشِيَيْنِ ، وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيَّ فَلَمْ أُكَلِّمْهُ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَبَّهُ عَلَيَّ فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي وَلِي أَخَوَاتٌ قَالَ فَنَزَلَتْ : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ [ النِّسَاءِ : 176 ] إِلَى آخَرِ السُّورَةِ ، وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَسِيرُ وَإِلَى جَنْبِهِ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ فَبَلَغَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُذَيْفَةَ ، وَبَلَغَهَا حُذَيْفَةُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَهُوَ يَسِيرُ خَلْفَهُ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيِ الثَّلَاثِ مَا كَانَ مُرْسَلًا ، وَفَسَّرَ فَبَيَّنَ مَا كَانَ مُجْمَلًا ، وَقَدَّرَتِ الْفُرُوضُ مَا كَانَ مُبْهَمًا ، ثُمَّ بَيَّنَ بِسُنَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا احْتِيجَ إِلَى بَيَانِهِ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهِ ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ، رَوَاهُ شُرَحْبِيلَ بْنَ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ دَعَا إِلَى عِلْمِ الْفَرَائِضِ فضله وأهميته وَحَثَّ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى قُرْبِ عَهْدٍ بِغَيْرِهِ ، وَلِئَلَّا يَقْطَعَهُمْ عَنْهُ التَّشَاغُلُ بِعِلْمِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ عِبَادَاتِهِمُ الْمُتَرَادِفَةِ أَوْ مُعَامَلَاتِهِمُ الْمُتَّصِلَةِ فَيَئُولُ ذَلِكَ إِلَى انْقِرَاضِ الْفَرَائِضِ ، فَرَوَى أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هَرِيرَةٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ فَإِنَّهَا مِنْ دِينِكُمْ وَإِنَهُ نِصْفُ الْعِلْمِ وَإِنَّهُ أَوَّلُ مَا يُنْتَزَعُ مِنْ أُمَّتِي وَإِنَّهُ يُنْسَى . وَرَوَى أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ فَإِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ ، وَإِنَّ الْعِلْمَ سَيُقْبَضُ حَتَّى يَخْتَلِفَ الرَّجُلَانِ فِي الْفَرِيضَةِ لَا يَجِدَانِ مَنْ يُخْبِرُهُمَا بِهِ ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رَافِعٍ التَّنُوخِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ فَضْلٌ : آيَةٌ مُحْكَمَةٌ ، أَوْ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ .

وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ حَثًّا لِجَمَاعَتِهِمْ عَلَى مُنَاقَشَتِهِ وَالرَّغْبَةِ فِيهِ كَرَغْبَتِهِ : لِأَنَّ زَيْدًا كَانَ مُنْقَطِعًا إِلَى الْفَرَائِضِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَالَ لَهُ ذَلِكَ تَشْرِيفًا وَإِنْ شَارَكَهُ غَيْرُهُ فِيهِ كَمَا قَالَ أَقْرَؤُكُمْ أُبَيٌّ ، وَأَعْرَفُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذٌ ، وَأَصْدَقُكُمْ لَهْجَةً أَبُو ذَرٍّ ، وَأَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَعْرَفَ النَّاسِ هُوَ أَعْرَفُهُمْ بِالْفَرَائِضِ وَبِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ : لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْقَضَاءِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانَ أَفَرْضُهُمْ زَيْدًا ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى عُمُومِ جَمَاعَتِهِمْ لَمَا اسْتَجَازَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مُخَالَفَتَهُ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ أَشَدُّ مِنْهُمْ عِنَايَةً بِهِ ، وَحِرْصًا عَلَيْهِ ، وَسُؤَالًا عَنْهُ . وَالْخَامِسُ : أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ أَصَحَّهُمْ حِسَابًا ، وَأَسْرَعَهُمْ جَوَابًا ، وَلِأَجْلِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي أَخَذَ الشَّافِعِيُّ فِي الْفَرَائِضِ بِقَوْلِ زَيْدٍ .

فَصْلٌ : إِذَا وَضَحَ مَا ذَكَرْنَا فَالْمِيرَاثُ مُسْتَحَقٌّ بِنَسَبٍ وَسَبَبٍ ، فَالنَّسَبُ الْأُبُوَّةُ وَالْبُنُوَّةُ وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِمَا ، وَلِسَبَبِ نِكَاحٍ وَوَلَاءٍ . وَالْوَارِثُونَ مِنَ الرِّجَالِ عَشَرَةٌ : الِابْنُ ، وَابْنُ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ ، وَالْأَبُ ، وَالْجَدُّ وَإِنْ عَلَا ، وَالْأَخُ ، وَابْنُ الْأَخِ ، وَالْعَمُّ ، وَابْنُ الْعَمِّ ، وَالزَّوْجُ ، وَمَوْلَى النِّعْمَةِ ، وَمَنْ لَا يَسْقُطُ مِنْهُمْ بِحَالٍ الورثة من الرجال ثَلَاثَةٌ : الِابْنُ ، وَالْأَبُ ، وَالزَّوْجُ . وَالْوَارِثَاتُ مِنَ النِّسَاءِ سَبْعٌ : الْبِنْتُ ، وَبِنْتُ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَتْ ، وَالْأُمُّ وَالْجَدَّةُ وَإِنْ عَلَتْ ، وَالْأُخْتُ وَالزَّوْجَةُ ، وَمَوْلَاةُ النِّعْمَةِ . وَمَنْ لَا يَسْقُطُ مِنْهُنَّ بِحَالٍ الورثة من النساء ثَلَاثٌ : الْأُمُّ ، وَالْبِنْتُ ، وَالزَّوْجَةُ . وَأَمَّا مَنْ لَا يَرِثُ بِحَالٍ فَسَبْعَةٌ : الْعَبْدُ ، وَالْمُدَبَّرُ ، وَالْمُكَاتَبُ ، وَأُمُّ الْوَلَدِ ، وَقَاتِلُ الْعَمْدِ ، وَالْمُرْتَدُّ ، وَأَهْلُ مِلَّتَيْنِ . وَسَنَذْكُرُ فِي نَظْمِ الْكِتَابِ مَا يَتَعَلَّقُ مِنْ خِلَافٍ وَحُكْمٍ .

فَصْلٌ أَقْسَام الْوَرَثَة

فَصْلٌ : وَالْوَرَثَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَنْ يَأْخُذُ بِالتَّعْصِيبِ وَحْدَهُ الميراث فَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ فَرْضٌ وَلَا يَتَقَدَّرُ لَهُمْ سَهْمٌ ، وَهُمُ الْبَنُونَ وَبَنُوهُمْ ، وَالْإِخْوَةُ وَبَنُوهُمْ ، وَالْأَعْمَامُ وَبَنُوهُمْ ، فَإِنِ انْفَرَدُوا بِالتَّرِكَةِ أَخَذُوا جَمِيعًا ، وَإِنْ شَارَكَهُمْ ذُو فَرْضٍ أَخَذُوا مَا بَقِيَ بَعْدَهُ ، وَلَا تُعَوَّلُ فَرِيضَةٌ يَرِثُونَ فِيهَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَنْ يَأْخُذُ بِالْفَرْضِ وَحْدَهُ الميراث وَهُمْ خَمْسَةٌ : الزَّوْجُ ، وَالزَّوْجَةُ ، وَالْأُمُّ ، وَالْجَدَّةُ ، وَالْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَنْ يَأْخُذُ بِالْفَرْضِ تَارَةً وَبِالتَّعْصِيبِ أُخْرَى الميراث ، وَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ : بَنَاتُ

الصُّلْبِ ، وَبَنَاتُ الِابْنِ ، وَالْأَخَوَاتُ يَأْخُذْنَ بِالْفَرْضِ إِذَا انْفَرَدْنَ وَبِالتَّعْصِيبِ إِذَا شَارَكَهُمُ الْإِخْوَةُ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَنْ يَأْخُذُ بِالْفَرْضِ تَارَةً وَبِالتَّعْصِيبِ تَارَةً أُخْرَى الميراث ، وَبِهِمَا فِي الثَّالِثَةِ وَهُمُ الْآبَاءُ ، وَالْأَجْدَادُ يَأْخُذُونَ مَعَ ذُكُورِ الْأَوْلَادِ بِالْفَرْضِ ، وَبِالتَّعْصِيبِ مَعَ عَدَمِهِمْ ، وَبِالْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ مَعَ إِنَاثِهِمْ .

فَصْلٌ : أَرْبَعَةٌ مِنَ الذُّكُورِ يَعْصِبُونَ أَخَوَاتِهِمْ الميراث : وَهُمُ الِابْنُ ، وَابْنُ الِابْنِ ، وَالْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ، وَالْأَخُ لِلْأَبِ ، وَأَرْبَعَةٌ يُسْقِطُونَ أَخَوَاتِهِمْ : ابْنُ الْأَخِ ، وَالْعَمُّ ، وَابْنُ الْعَمِّ ، وَابْنُ الْمَوْلَى . وَأَرْبَعَةُ ذُكُورٍ يَرِثُونَ نِسَاءً لَا يَرِثْنَهُمْ بِفَرْضٍ وَلَا تَعْصِيبٍ : ابْنُ الْأَخِ يَرِثُ عَمَّتَهُ وَلَا تَرِثُهُ ، وَالْعَمُّ يَرِثُ ابْنَةَ أَخِيهِ وَلَا تَرِثُهُ ، وَابْنُ الْعَمِّ يَرِثُ بِنْتَ عَمِّهِ وَلَا تَرِثُهُ ، وَالْمَوْلَى يَرِثُ عَتِيقَهُ وَلَا يَرِثُهُ ، وَامْرَأَتَانِ تَرِثَانِ ذَكَرَيْنِ وَلَا يَرِثَانِهِمَا بِفَرْضٍ وَلَا تَعْصِيبٍ : أُمُّ الِابْنِ تَرِثُ ابْنَ ابْنَتِهَا وَلَا يَرِثُهَا ، وَالْمَوْلَاةُ تَرِثُ عَتِيقَهَا وَلَا يَرِثُهَا ، وَالرَّجُلُ يَرِثُ مِنَ النِّسَاءِ سَبْعًا وَمِنَ الرِّجَالِ تِسْعَةً : لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَرِثُهُ رَجُلٌ ، وَالْمَرْأَةُ تَرِثُ مِنَ الرِّجَالِ عَشَرَةٌ وَمِنَ النِّسَاءِ سِتًّا : لِأَنَّ الزَّوْجَةَ لَا تَرِثُهَا امْرَأَةٌ .

بَابُ مَنْ لَا يَرِثُ

بَابُ مَنْ لَا يَرِثُ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : وَهُوَ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : " لَا تَرِثُ الْعَمَّةُ ، وَالْخَالَةُ ، وَبِنْتُ الْأَخِ ، وَبِنْتُ الْعَمِّ ، وَالْجَدَّةُ أُمُّ أَبِ الْأُمِّ ، وَالْخَالُ ، وَابْنُ الْأَخِ لِأُمٍّ ، وَالْعَمُّ أَخُو الْأَبِ لِلْأُمِّ ، وَالْجَدُّ أَبُو الْأُمَّ ، وَوَلَدُ الْبِنْتِ ، وَوَلَدُ الْأُخْتِ ، وَمَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِنَّمَا بَدَأَ الشَّافِعِيُّ بِذَوِي الْأَرْحَامِ لِأَنَّهُمْ عِنْدَهُ لَا يَرِثُونَ مَعَ وُجُودِ بَيْتِ الْمَالِ ، فَبَدَأَ بِهِمْ لِتَقْدِيمِهِ ذِكْرَ مَنْ لَا يَرِثُ مِنَ الْكَافِرِينَ وَالْمَمْلُوكِينَ ، وَذَوُو الْأَرْحَامِ هُمْ مَنْ لَيْسَ بِعَصَبَةٍ وَلَا ذِي فَرْضٍ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ عَدَدِهِمْ وَتَفْصِيلِ أَحْوَالِهِمْ ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَالْفُقَهَاءُ فِي تَوْزِيعِهِمْ إِذَا كَانَ بَيْتُ الْمَالِ مَوْجُودًا ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا مِيرَاثَ لَهُمْ وَأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ أَوْلَى مِنْهُمْ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الشَّامِ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : ذَوُو الْأَرْحَامِ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَمِنَ التَّابِعِينَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَشُرَيْحٌ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَطَاوُسٌ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَهْلُ الْعِرَاقِ ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ ، غَيْرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَدَّمَ الْمَوْلَى عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَخَالَفَهُ تَقَدُّمُهُ ، فَقَدَّمُوا ذَوِي الْأَرْحَامِ عَلَى الْمَوْلَى ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [ الْأَحْزَابِ : 6 ] فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُدْفَعُوا عَنِ الْمِيرَاثِ وَقَدْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْلَى بِهِ ، وَلِرِوَايَةِ طَاوُسٍ عَنْ عَائِشَةَ - رِضَى اللَّهُ عَنْهُمَا - وَأَبِي أُمَامَةَ عَنْ عُمَرَ جَمِيعًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " اللَّهُ وَرَسُولُهُ مَوْلَى مَنْ لَا مَوْلَى لَهُ ، وَالْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ " وَبِرِوَايَةِ الْمِقْدَادِ بْنِ

مَعْدِيكَرِبَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ " . وَبِرِوَايَةِ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ قَالَ : تُوُفِّيَ ثَابِتُ بْنُ الدِّحْدَاحِ وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا وَلَا عَصَبَةً ، فَرُفِعَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَ عَنْهُ عَاصِمَ بْنَ عَدِيٍّ : هَلْ تَرَكَ مِنْ أَحَدٍ ؟ فَقَالَ : مَا نَعْلَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، تَرَكَ أَحَدًا فَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَالَهُ إِلَى ابْنِ أُخْتِهِ أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ ، وَرِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : الْعَمُّ وَالِدٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ دُونَهُ أَبٌ ، وَالْخَالَةُ وَالِدَةٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ دُونَهَا أُمٌّ قَالُوا : وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَدْلَى بِوَارِثٍ كَانَ وَارِثًا كَالْعَصَبَاتِ ، وَقَالُوا : وَلِأَنَّ اخْتِصَاصَ ذَوِي الْأَرْحَامِ بِالرَّحِمِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ إِرْثِهِمْ كَالْجَدَّةِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ ذَوِي الْأَرْحَامِ قَدْ شَارَكُوا الْمُسْلِمِينَ فِي الْإِسْلَامِ وَفَضَّلُوهُمْ بِالرَّحِمِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا أَوْلَى مِنْهُمْ بِالْمِيرَاثِ كَالْمُعْتِقِ لَمَّا سَاوَى كَافَّةَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْإِسْلَامِ وَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالْعِتْقِ وَصَارَ أَوْلَى مِنْهُمْ بِالْمِيرَاثِ وَكَالْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ لَمَّا سَاوَى الْأَخَ لِلْأَبِ وَفَضَّلَهُ بِالْأُمِّ كَانَ أَوْلَى بِالْإِرْثِ . وَدَلِيلُنَا : رِوَايَةُ شُرَحْبِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ فَأَشَارَ إِلَى مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَوَارِيثِ وَلَيْسَ فِيهِ لِذَوِي الْأَرْحَامِ شَيْءٌ . وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ : أَتَى رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَالِيَةِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ رَجُلًا هَلَكَ وَتَرَكَ عَمَّهُ وَخَالَهُ ، فَقَالَ اللَّهُمَّ رَجُلٌ تَرَكَ عَمَّهُ وَخَالَهُ ، ثُمَّ سَكَتَ هُنَيْهَةً ، ثُمَّ قَالَ لَا أَرَى نُزِّلَ عَلَيَّ شَيْءٌ ، لَا شَيْءَ لَهُمَا . وَرَوَى زِيدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكِبَ إِلَى قُبَاءٍ يَسْتَخِيرُ اللَّهَ تَعَالَى فِي الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ الميراث ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ أَنْ لَا مِيرَاثَ لَهُمَا . وَرَوَى عِمْرَانُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَنَّ رَجُلًا مَاتَ فَأَتَتْ بِنْتُ أُخْتِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمِيرَاثِ ، فَقَالَ : لَا شَيْءَ لَكِ ، اللَّهُمَّ مَنْ مَنَعْتَ مَمْنُوعٌ ، اللَّهُمَّ مَنْ مَنَعْتَ مَمْنُوعٌ . ثُمَّ الدَّلِيلُ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى هُوَ أَنَّ مُشَارَكَةَ الْأُنْثَى لِأَخِيهَا أُثْبِتَتْ فِي الْمِيرَاثِ فِي انْفِرَادِهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَنَاتَ الِابْنِ يَسْقُطْنَ مَعَ الْبَنِينَ ، وَإِنْ شَارَكَهُنَّ ذُكُورُهُنَّ وَصِرْنَ بِهِ عَصَبَةً ، فَلَمَّا كَانَ بَنَاتُ الْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ يَسْقُطُونَ مَعَ إِخْوَتِهِنَّ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَسْقُطْنَ بِانْفِرَادِهِنَّ ، وَتَحْرِيرُهُ

قِيَاسًا أَنَّ كُلَّ أُنْثَى أَسْقَطَهَا مَنْ فِي دَرَجَتِهَا بِالْإِدْلَاءِ سَقَطَتْ بِانْفِرَادِهَا كَابْنَةِ الْمَوْلَى ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَسْقَطَهُ الْمَوْلَى لَمْ يَرِثْ بِانْفِرَادِهِ كَالْعَبْدِ وَالْكَافِرِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ وِلَادَةٍ لَمْ يَحْجُبْ بِهَا الزَّوْجَيْنِ إِلَى أَقَلِّ الْفَرْضَيْنِ لَمْ يُوَرِّثْ بِهَا كَالْوِلَادَةِ مِنْ زِنَا ، وَلِأَنَّهُ وَارِثٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ مُنَاسَبِهِ مَنْ لَا يَرِثُ كَالْمَوْلَى يَرِثُ ابْنَهُ وَلَا يَرِثُ بِنْتَهُ ، وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَعْقِلُونَ عَنْهُ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِهِمْ ذَوُو الْأَرْحَامِ كَالْمَوْلَى . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [ الْأَنْفَالِ : 75 ] فَمِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْآيَةِ نَسْخُ التَّوَارُثِ بِالْحِلْفِ وَالْهِجْرَةِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِمَا أَعْيَانَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ مِنَ الْمُنَاسِبِينَ لِنُزُولِهِمَا قَبْلَ آيِ الْمَوَارِيثِ . وَالثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُمْ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى ذَلِكَ الْبَعْضِ لَيْسَ بِأَوْلَى : لِأَنَّ التَّبْعِيضَ يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِيعَابِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَكَانَ ذَلِكَ مَقْصُورًا عَلَى مَا فِيهِ وَلَيْسَ لَهُمْ فِيهِ ذِكْرٌ ، فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْمِيرَاثِ حَقٌّ . وَالرَّابِعُ : أَنَّ قَوْلَهُ أَوْلَى مَحْمُولٌ عَلَى مَا سِوَى الْمِيرَاثِ مِنَ الْحَصَانَةِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا دُونَ الْمِيرَاثِ إِذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ مَا هُمْ بِهِ أَوْلَى . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَوْضُوعٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ لِلسَّلْبِ وَالنَّفْيِ لَا لِلْإِثْبَاتِ ، وَتَقْدِيرُهُ أَنَّ الْخَالَ لَيْسَ بِوَارِثٍ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ : الْجُوعُ طَعَامُ مَنْ لَا طَعَامَ لَهُ ، وَالدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ ، وَالصَّبْرُ حِيلَةُ مَنْ لَا حِيلَةَ لَهُ ، يَعْنِي أَنْ لَيْسَ طَعَامٌ وَلَا دَارٌ وَلَا حِيلَةٌ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ جَعَلَ الْمِيرَاثَ لِلْخَالِ الَّذِي يَعْقِلُ ، وَإِنَّمَا يَعْقِلُ إِذَا كَانَ عَصَبَةً وَنَحْنُ نُوَرِّثُ الْخَالَ إِذَا كَانَ عَصَبَةً ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي خَالٍ لَيْسَ بِعَصَبَةٍ ، فَكَانَ دَلِيلُ اللَّفْظِ يُوجِبُ سُقُوطَ مِيرَاثِهِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ دَفْعِهِ مِيرَاثَ أَبِي الدَّحْدَاحِ إِلَى ابْنِ أُخْتِهِ فَهُوَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ رَآهَا لَا مِيرَاثًا : لِأَنَّهُ لَمَّا قِيلَ لَا وَارِثَ لَهُ دَفَعَهُ إِلَيْهِ عَلَى أَنَّهَا قَضِيَّةُ عَيْنٍ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُخْفَى سَبَبُهَا ، فَلَا يَجُوزُ ادِّعَاءُ الْعُمُومِ فِيهَا ، وَكَانَ ذَلِكَ كَالَّذِي رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ عَوْسَجَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا مَاتَ وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا إِلَّا غُلَامًا لَهُ كَانَ أُعْتِقَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ لَهُ أَحَدٌ ؟ قَالُوا لَا إِلَّا غُلَامًا لَهُ كَانَ أَعْتَقَهُ ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِيرَاثَهُ لَهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مِيرَاثًا ، لَكِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ رَآهَا . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : مَاتَ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ

فَأَتَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِيرَاثِهِ فَقَالَ : الْتَمِسُوا لَهُ وَارِثًا أَوْ ذَاتَ رَحِمٍ . فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ وَارِثًا وَلَا ذَاتَ رَحِمٍ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَعْطُوهُ الْكِبَرَ مِنْ خُزَاعَةَ ، فَمَيَّزَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الْوَارِثِ وَذِي الرَّحِمِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَارِثٍ ، ثُمَّ دَفَعَ مِيرَاثَهُ إِلَى الْكِبَرِ مِنْ قَوْمِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمِيرَاثٍ مُسْتَحِقٍّ ، وَهَكَذَا مَا دَفَعَهُ إِلَى ابْنِ الْأُخْتِ وَالْخَالِ : لِأَنَّهُ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي إِعْطَائِهِمْ أَظْهَرَ مِنْهَا فِي إِعْطَاءِ غَيْرِهِمْ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْخَالَةُ وَالِدَةٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ دُونَهَا أُمٌّ فَهُوَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا سِوَى الْمِيرَاثِ مِنَ الْحَضَانَةِ ، وَإِلَّا فَلَيْسَتِ الْخَالَةُ كَالْأُمِّ عِنْدَ عَدَمِهَا فِي الْمِيرَاثِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ وَارِثٌ فَعُلِمَ أَنَّ مُرَادَهُ بِهِ غَيْرُ الْمِيرَاثِ ، فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ بِعِلَّةِ أَنَّهُ يُدْلِي بِوَارِثٍ فَمُنْتَقِضٌ بِبِنْتِ الْمَوْلَى ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْعَصَبَةِ تَقْدِيمٌ عَلَى الْمَوْلَى . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجَدَّةِ فَالْمَعْنَى فِيهَا أَنَّهَا لَمَّا شَارَكَتِ الْعَصَبَةَ كَانَتْ وَارِثَةً وَلَيْسَ ذَوُو الْأَرْحَامِ مِثْلُهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهُمْ سَاوَوْا جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ وَفَضَّلُوهُمْ بِالرَّحِمِ فَهُوَ أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ يَفْسُدُ بِبِنْتِ الْمَوْلَى : لِأَنَّهَا قَدْ فَضَّلَتْهُمْ مَعَ الْمُسَاوَاةِ ، ثُمَّ لَا تُقَدَّمُ عَلَيْهِمْ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ فَضَّلُوهُمْ بِالتَّعَصُّبِ لِأَنَّهُمْ يَعْقِلُونَ وَكَانُوا أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ ، فَإِنْ قِيلَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ وَرَثَتَهُ لِجَوَازِ وَصِيَّتِهِ لَهُمْ وَالْوَصِيَّةُ لَا تَجُوزُ لِوَارِثٍ ، قِيلَ : هَذَا بَاطِلٌ بِمَنْ لَا وَارِثَ لَهُ : لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَرَثَتُهُ بِإِجْمَاعٍ ، وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ إِنَّمَا لَا تَجُوزُ لِوَارِثٍ مُعَيَّنٍ وَلَيْسَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَتَعَيَّنُ فِي اسْتِحْقَاقِ مِيرَاثِهِ : لِأَنَّهُ مَعْرُوفٌ فِي مَصَالِحِ جَمِيعِهِمْ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي الرَّدِّ

فَصْلٌ : الْقَوْلُ فِي الرَّدِّ وَإِذْ قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي ذَوِي الْأَرْحَامِ فَالرَّدُّ مُلْحَقٌ بِهِ : لِأَنَّ الْخِلَافَ فِيهِمَا وَاحِدٌ ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِتَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ قَالَ بِالرَّدِّ ، وَكُلُّ مَنْ مَنَعَ مِنْ تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ مَنَعَ مِنَ الرَّدِّ . وَالرَّدُّ تعريفه : هُوَ أَنْ تَعْجِزَ سِهَامُ الْفَرِيضَةِ عَنِ اسْتِيفَاءِ جَمِيعِ التَّرِكَةِ ، فَلَا يَكُونُ مَعَهُمْ عَصَبَةٌ كَالْبِنْتِ الَّتِي فَرْضُهَا النِّصْفُ إِذَا لَمْ يُشَارِكْهَا غَيْرُهَا ، وَقَدْ بَقِيَ النِّصْفُ بَعْدَ فَرْضِهَا فَهَلْ يُرَدُّ عَلَيْهَا أَمْ يَكُونُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَلَيْسَ لَهَا غَيْرُ فَرْضِهَا ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ : فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْبَاقِيَ مِنَ التَّرِكَةِ بَعْدَ سِهَامِ ذَوِي الْفُرُوضِ يَكُونُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَلَا يُرَدُّ عَلَى ذَوِي الْفُرُوضِ إِذَا كَانَ بَيْتُ الْمَالِ مَوْجُودًا ، وَبِهِ قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَدَاوُدَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُرَدُّ مَا فَضَلَ مِنْ سِهَامِ ذَوِي الْفُرُوضِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ بِهِ أَوْلَى مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، وَبِهِ قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَأَكْثَرُ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي مُسْتَحِقِّي الرَّدِّ مِنْهُمْ ، وَاسْتَدَلُّوا جَمِيعًا بِوُجُوبِ الرَّدِّ وَتَقْدِيمِهِمْ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [ الْأَنْفَالِ : 75 ] وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ

سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ فَتَرَكَ أُمَّهُ فَوَرَّثَهَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَالَهُ كُلَّهُ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ كُلَّ مُنَاسِبٍ وَرِثَ بَعْضَ الْمَالِ مَعَ غَيْرِهِ جَازَ أَنْ يَرِثَ جَمِيعَهُ إِذَا انْفَرَدَ بِنَفْسِهِ كَالْعَصَبَةِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُنْفِقُوا مِنْ فُرُوضِهِمْ بِالْعَدْلِ عِنْدَ زِيَادَةِ الْفُرُوضِ عَلَى التَّرِكَةِ جَازَ أَنْ يُزَادُوا بِالرَّدِّ عِنْدَ عَجْزِ الْفُرُوضِ عَنِ التَّرِكَةِ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَسَّمَ فُرُوضَ ذَوِي الْفُرُوضِ سَمَّاهُ فِي ثَلَاثِ آيٍ مِنْ كِتَابِهِ ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : قَدْ أَعْطَى اللَّهُ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ سَمَّى لَهُ فَرْضًا فَهُوَ قَدْرُ حَقِّهِ ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُوَرَّثْ مَعَ غَيْرِهِ إِلَّا بِالْفَرْضِ لَمْ يُوَرَّثْ مَعَ عَدَمِ غَيْرِهِ إِلَّا ذَلِكَ الْفَرْضَ كَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ : لِأَنَّهُ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِمَا بِوَفَاءٍ ، وَلِأَنَّ كُلَّ قَدْرٍ حُجِبَ عَنْهُ الشَّخْصُ مَعَ وُجُودِ مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ حُجِبَ عَنْهُ وَإِنِ انْفَرَدَ بِهِ كَالْمَالِ الْمُسْتَحَقِّ بِالدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ تَجَرَّدَتْ رَحِمُهُ عَنْ تَعْصِيبٍ لَمْ يَأْخُذْ بِهَا مِنْ تَرِكَةٍ حَقَّيْنِ : كَالْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ لَا تَأْخُذُ النِّصْفَ لِأَنَّهَا أُخْتُ الْأَبِ ، وَالسُّدُسُ لِأَنَّهَا أُخْتُ الْأُمِّ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَقَدْ مَضَى . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَعْطَى مِيرَاثَ سَالِمٍ إِلَى أُمِّهِ فَلِمَصْلَحَةٍ يَرَاهَا مَنْ يَتَوَلَّى مَصَالِحَ بَيْتِ الْمَالِ كَمَا دَفَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِيرَاثَ الْخُزَاعِيِّ إِلَى الْكِبَرِ مِنْ خُزَاعَةَ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْعَصَبَةِ فَالْمَعْنَى فِيهِمْ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّونَهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ذَوُو الْفُرُوضِ لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُنْفِقُوا بِالْعَدْلِ جَازَ أَنْ يُزَادُوا بِالرَّدِّ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ لِلزِّيَادَةِ جِهَةٌ يَسْتَحِقُّهَا وَهِيَ بَيْتُ الْمَالِ فَلَمْ يَجُزْ رَدُّهَا ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلنَّقْصِ جِهَةَ تَمَامٍ جَازَ عَوْلُهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ الدَّيْنِ وَالْوَصَايَا إِذَا ضَاقَ بِهِمْ دَخَلَ الْعَوْلُ عَلَيْهِمْ وَلَوْ زَادَ عَنْهُمْ لَمْ يَجُزِ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ ؟

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَيْتَ الْمَالِ أَحَقُّ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَبِالْفَاضِلِ عَنْ ذَوِي السِّهَامِ وَأَنَّهُ يَصِيرُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ إِرْثًا لَا فَيْئًا ، وَهَكَذَا مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ صَارَ مَالُهُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ مِيرَاثًا ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : يَكُونُ فَيْئًا لَا مِيرَاثًا لِأُمُورٍ : مِنْهَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِيرَاثًا لَوَجَبَ صَرْفُهُ إِلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ بَعْضِهِمْ ، وَلَوَجَبَ أَنْ يُفَضَّلَ فِيهِ الذَّكَرُ عَلَى الْأُنْثَى وَلَا يُفْرَدُ بِهِ أَهْلُ عَصْرِ الْمَيِّتِ دُونَ مَنْ تَأَخَّرَ ، وَفِي جَوَازِ ذَلِكَ كُلِّهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ فَيْءٌ لَا مِيرَاثٌ ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [ التَّوْبَةِ 71 ] فَكَانَتِ الْمُوَالَاةُ بَيْنَهُمْ تَمْنَعُ مِنْ أَحْكَامِ مَنْ خَالَفَهُمْ ، وَلِأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ يَعْقِلُ عَنْهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ انْتِقَالُ مَالِهِ إِلَيْهِ بِالْمَوْتِ مِيرَاثًا كَالْعَصَبَةِ ، وَلِأَنَّهُ مَالُ مُسْلِمٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ انْتِقَالُهُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ فَيْئًا كَالزَّكَاوَاتِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ فَهُوَ أَنَّ تَعْيِينَ الْوَارِثِ يَقْتَضِي مَا ذَكَرُوهُ ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ لَمْ يَقْتَضِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَيْتَ الْمَالِ أَحَقُّ إِذَا كَانَ مَوْجُودًا يَصْرِفُ الْإِمَامُ الْعَدْلُ أَمْوَالَهُ فِي

حُقُوقِهَا ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ بَيْتُ الْمَالِ مَعْدُومًا بِالْجَوْرِ مِنَ الْوُلَاةِ وَفَسَادِ الْوَقْتِ وَصَرْفِ الْأَمْوَالِ فِي غَيْرِ حُقُوقِهَا ميراث من لا وارث له وَالْعُدُولِ بِهَا عَنْ مُسْتَحِقِّيهَا يُوجِبُ تَوَارُثَ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَرَدَّ الْفَاضِلِ عَلَى ذَوِي السِّهَامِ ، وَهَذَا قَوْلٌ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُحَصِّلُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا ، وَتَفَرَّدَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَمَنْ جَذَبَهُ الْمَيْلُ إِلَى رَأْيِهِ فَأَقَامَ عَلَى مَنْعِ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَالْمَنْعُ مِنْ رَدِّ الْفَاضِلِ عَلَى ذَوِي السِّهَامِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا يَنْصَرِفُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ مُسْتَحِقٌّ فِي جِهَاتٍ بَاقِيَةٍ إِذَا عُدِمَ بَيْتُ الْمَالِ لَمْ يَبْطُلِ اسْتِحْقَاقُ تِلْكَ الْجِهَاتِ وَوَجَبَ صَرْفُ ذَلِكَ الْمَالِ فِيهَا ، كَالزَّكَوَاتِ الَّتِي لَمْ تَسْقُطْ بِعَدَمِ بَيْتِ الْمَالِ وَوَجَبَ صَرْفُهَا فِي جِهَاتِهَا ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فَاسِدٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : مَا يَسْتَحِقُّ صَرْفُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فِي جِهَاتٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ ، فَإِذَا بَطَلَ التَّعْيِينُ سَقَطَ الِاسْتِحْقَاقُ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْجِهَةَ لَا تُعْدَمُ كَالْعَرَبِيِّ إِذَا مَاتَ عَلِمْنَا أَنَّ لَهُ عَصَبَةً ذُكُورًا غَيْرَ أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَتَعَيَّنُوا سَقَطَ حَقُّهُمْ وَانْصَرَفَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِ جِهَتِهِمْ وَكَذَلِكَ جِهَاتُ بَيْتِ الْمَالِ إِذَا لَمْ تَتَعَيَّنْ سَقَطَ حَقُّهَا وَانْصَرَفَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الزَّكَوَاتُ لِتَعْيِينِ جِهَاتِهَا وَقَطْعِ الِاجْتِهَادِ فِيهَا فَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّهَا مَعَ التَّعْيِينِ وَإِنْ عُدِمَ مَنْ كَانَ يَقُومُ بِمَصْرِفِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ لَهُ مَنْ يَقُومُ بِصَرْفِهِ مِنْ جِهَاتِهِ إِذَا عُدِمَ الْقَيِّمُ مِنَ الْوُلَاةِ وَهُمْ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ ، فَلَزِمَهُمُ الْقِيَامُ بِذَلِكَ مَا كَانَ لَازِمًا لِلْوُلَاةِ ، وَلَيْسَ لِمَالِ الْمَيِّتِ مَنْ يَقُومُ بِصَرْفِهِ فِي هَذِهِ الْجِهَاتِ وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَحَقَّ مَالٌ بِجِهَةٍ لَا تَتَعَيَّنُ بِوَصْفٍ وَلَا بِاجْتِهَادِ بَاطِنٍ : لِمَا فِيهِ مِنْ تَضْيِيعِ الْمَالِ عَنْ جِهَتِهِ فَاعْلَمْهُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ بَيْتَ الْمَالِ إِنَّمَا كَانَ أَحَقَّ بِمِيرَاثِهِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ : لِأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ يَعْقِلُ عَنْهُ فَصَارَ مِيرَاثُهُ لَهُ ، فَلَمَّا كَانَ عُدْمُ بَيْتِ الْمَالِ يُسْقِطُ الْعَقْلَ عَنْهُ وَجَبَ أَنْ يُسْقِطَ الْمِيرَاثَ مِنْهُ ، وَإِذَا كَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ ثَابِتًا وَكَانَ تَوْرِيثُ ذَوِي الْأَرْحَامِ عِنْدَ عَدَمِ بَيْتِ الْمَالِ وَاجِبًا فَهَكَذَا رَدُّ الْفَاضِلِ عَنْ ذَوِي السِّهَامِ ، وَسَنَذْكُرُ كَيْفِيَّةَ تَوْرِيثِهِمْ وَالرَّدِّ عَلَى ذَوِي الْفُرُوضِ فِي بَابِ ذَوِي الْأَرْحَامِ فِي هَذَا الْكِتَابِ ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ دِقَّةً وَاسْتِصْعَابًا ، وَلَعَلَّهَا هِيَ الصَّارِفَةُ لِمَنْ مَنَعَهُمُ الْمِيرَاثُ عِنْدَ عُدْمِ بَيْتِ الْمَالِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَالْكَافِرُونَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : " الْكَافِرُ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ وَالْمُسْلِمُ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ " ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ، وَحُكِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَمُعَاوِيَةَ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ الْكَافِرَ وَلَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَمَسْرُوقٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : الْإِسْلَامُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ قَالُوا : وَكَمَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَنْكِحَ الذِّمِّيَّةَ وَلَا يَجُوزَ لِلذِّمِّيِّ أَنْ يَنْكِحَ الْمُسْلِمَةَ ،

وَلِأَنَّ أَمْوَالَ الْمُشْرِكِينَ يَجُوزُ أَنْ تَصِيرَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ ، فَهَذَا أَوْلَى أَنْ تَصِيرَ إِلَيْهِمْ إِرْثًا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَصِيرَ أَمْوَالُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ قَهْرًا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَصِيرَ إِلَيْهِمْ إِرْثًا . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ . وَرُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ : كَانَ لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ وَلَا الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَلَمَّا وَلِيَ مُعَاوِيَةُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَرَّثَ الْمُسْلِمَ مِنَ الْكَافِرِ وَأَخَذَ بِذَلِكَ الْخُلَفَاءُ حَتَّى قَامَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَرَاجَعَ السُّنَّةَ الْأُولَى ، ثُمَّ أَخَذَ بِذَلِكَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ ، فَلَمَّا قَامَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَخَذَ بِسُّنَّةِ الْخُلَفَاءِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مِلَّتَيْنِ امْتَنَعَ الْعَقْلُ بَيْنَهُمَا امْتَنَعَ التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا ، كَالْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ ، وَلِأَنَّ التَّوَارُثَ مُسْتَحَقٌّ بِالْوِلَايَةِ وَقَدْ قَطَعَ اللَّهُ الْوِلَايَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْقَطِعَ بِهِ التَّوَارُثَ ، وَلِأَنَّ بُعْدَ مَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ أَعْظَمُ مِمَّا بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ ، فَلَمَّا لَمْ يَتَوَارَثِ الذِّمِّيُّ وَالْحَرْبِيُّ لِبُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا ، كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَتَوَارَثَ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ ، فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْإِسْلَامُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَوَابٌ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِسْلَامَ يَزِيدُ بِمَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلَا يَنْقُصُ بِالْمُرْتَدِّينَ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْإِسْلَامَ يَزِيدُ بِمَا يُفْتَحُ مِنَ الْبِلَادِ . وَأَمَّا النِّكَاحُ فَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالْمِيرَاثِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يَنْكِحُ الْحَرْبِيَّةَ وَلَا يَرِثُهَا ، وَقَدْ يَنْكِحُ الْعَبْدُ الْحُرَّةَ وَلَا يَرِثُهَا ، وَأَمَّا أَخْذُ أَمْوَالِهِمْ قَهْرًا فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ أَنْ تَصِيرَ إِلَيْنَا إِرْثًا : لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُ الْحَرْبِيَّ وَإِنْ غَنِمَ مَالَهُ ، وَهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ يَرِثُ الذِّمِّيَّ وَلَا يَغْنَمُ مَالَهُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْتَبِرَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْكُفْرِ هَلْ يَكُونُ كُلُّهُ مِلَّةً وَاحِدَةً أَوْ يَكُونُ مِلَلًا ؟ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ تَنَوَّعَ أَهْلُهُ ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبِهِ . وَقَالَ مَالِكٌ : الْكُفْرُ مِلَلٌ ، فَالْيَهُودِيَّةُ مِلَّةٌ ، وَالنَّصْرَانِيَّةُ مِلَّةٌ ، وَالْمَجُوسِيَّةُ مِلَّةٌ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَشُرَيْحٌ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ اسْتِدْلَالًا بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ التَّقَاطُعِ

بَيْنَهُمْ حَيْثُ يَقُولُ فِي حِكَايَتِهِ عَنْهُمْ : وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ [ الْبَقَرَةِ : 113 ] وَتَقَاطُعُهُمْ يَمْنَعُ مِنْ تَوَارُثِهِمْ ، وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ شَرَائِعِهِمْ يُوجِبُ اخْتِلَافَ مِلَلِهِمْ ، وَلِأَنَّ مَا بَيْنَهُمْ مِنَ التَّبَايُنِ كَالَّذِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَهُمْ مِنَ التَّبَايُنِ فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ مِلَلُهُمْ مُخْتَلِفَةً . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [ الْأَنْفَالِ : 73 ] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [ الْبَقَرَةِ : 120 ] فَجَمَعَهُمَا ، وَرَوَى عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : النَّاسُ خَيْرٌ وَأَنَا وَأَصْحَابِي خَيْرٌ وَلِأَنَّهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي الْكُفْرِ وَإِنْ تَنَوَّعُوا كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مُشْتَرِكُونَ فِي الْحَقِّ وَإِنْ تَنَوَّعُوا ، وَلَيْسَ التَّبَايُنُ بَيْنَهُمْ بِمَانِعٍ مِنْ تَوَارُثِهِمْ كَمَا يَتَبَايَنُ أَهْلُ الْإِسْلَامِ فِي مَذَاهِبِهِمْ وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ اخْتِلَافَ تَوَارُثِهِمْ : لِأَنَّ الْأَصْلَ إِسْلَامٌ أَوْ كُفْرٌ لَا ثَالِثَ لَهُمَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي كَيْفِيَّةِ تَوَارُثِهِمْ الكفار فيما بينهم ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ يَتَوَارَثُونَ مِنْهُمْ ، وَأَهْلَ الْعَهْدِ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ عَلَى اخْتِلَافِ دِيَارِهِمْ ، وَأَهْلَ الْحَرْبِ يَتَوَارَثُونَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ دِيَارُهُمْ ، وَلَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَوَارُثَ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْعَهْدِ لَا تَوَارُثَ بَيْنِهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَأَهْلُ الْحَرْبِ يَتَوَارَثُونَ مَا لَمْ يَخْتَلِفْ بِهِمُ الدَّارُ ، وَاخْتِلَافُ دَارِهِمْ يَكُونُ بِاخْتِلَافِ مُلُوكِهِمْ وَمُعَادَاةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي الدِّينِ كَالتُّرْكِ وَالرُّومِ ، فَلَا يُوَرَّثُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ .

فَصْلٌ : فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَذَاهِبِ إِذَا مَاتَ يَهُودِيٌّ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَتَرَكَ أُمًّا مِثْلَهُ يَهُودِيَّةً وَابْنًا مُسْلِمًا وَأَرْبَعَةَ إِخْوَةٍ أَحَدُهُمْ يَهُودِيٌّ ذِمِّيٌّ وَالْآخَرُ نَصْرَانِيٌّ ذِمِّيٌّ وَالْآخَرُ مَجُوسِيٌّ مُعَاهَدٌ وَالْآخَرُ وَثَنِيٌّ حَرْبِيٌّ الإرث ، فَعَلَى قَوْلِ مُعَاذٍ : لِأُمِّهِ الْيَهُودِيَّةِ السُّدُسُ ، وَالْبَاقِي لِابْنِهِ الْمُسْلِمِ ، وَلَا شَيْءَ لِإِخْوَتِهِ ، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ : لِأُمِّهِ الْيَهُودِيَّةِ الثُّلُثُ ، وَالْبَاقِي لِأَخِيهِ الْيَهُودِيِّ لِمُوَافَقَتِهِ لَهُ فِي مِلَّتِهِ وَلَا يَحْجُبُ الْأُمَّ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ وَلَا شَيْءَ لِمَنْ سِوَاهُ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : لِأُمِّهِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي بَيْنَ أَخِيهِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ ، لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا شَيْءَ لِأَخِيهِ الْمَجُوسِيِّ لِأَنَّهُ مُعَاهَدٌ ، وَلَا شَيْءَ لِأَخِيهِ الْوَثَنِيِّ لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ ، وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : لِأُمِّهِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي بَيْنَ إِخْوَتِهِ الثَّلَاثَةِ الْيَهُودِيِّ ، وَالنَّصْرَانِيِّ ، وَالْمَجُوسِيِّ الْمُعَاهَدِ : لِأَنَّ أَهْلَ الْعَهْدِ يَرِثُونَ أَهْلَ الذِّمَّةِ عِنْدَهُ ، وَلَا شَيْءَ لِأَخِيهِ الْوَثَنِيِّ لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ .

فَصْلٌ : وَلَوْ مَاتَ نَصْرَانِيٌّ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَتَرَكَ زَوْجَةً وَثَنِيَّةً مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ وَأُمًّا يَهُودِيَّةً مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَابْنًا مُسْلِمًا وَبِنْتَ ابْنِ وَثَنِيَّةٍ تُؤَدِّي الْجِزْيَةَ وَأَخَوَيْنِ أَحَدُهُمَا مَجُوسِيٌّ يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ

وَالْآخَرُ وَثَنِيٌّ مَنْ أَهْلِ الْعَهْدِ وَعَمًّا نَصْرَانِيًّا مَنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ الإرث ، فَعَلَى قَوْلِ مُعَاذٍ : لِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ الْمُسْلِمِ ، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ : الْمَالُ كُلُّهُ لِلْعَمِّ النَّصْرَانِيِّ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : لِأُمِّهِ السُّدُسُ وَلِبِنْتِ ابْنِهِ النِّصْفُ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ الْجِزْيَةَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَيَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْبَاقِي لِأَخِيهِ الْمَجُوسِيِّ ، وَلَا شَيْءَ لِزَوْجَتِهِ وَلَا لِأَخِيهِ الْوَثَنِيِّ : لِأَنَّهُ لَا يُوَرَّثُ أَهْلُ الْعَهْدِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : لِزَوْجَتِهِ الرُّبُعُ لِأَنَّهَا مُعَاهَدَةٌ وَلِأُمِّهِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِأَخِيهِ الْمَجُوسِيِّ وَأَخِيهِ الْوَثَنِيِّ الْمُعَاهَدِ ، وَلَا شَيْءَ لِبِنْتِ ابْنِهِ الْوَثَنِيَّةِ الَّتِي تُؤَدِّي الْجِزْيَةَ : لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ عِنْدَهُ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ .

فَصْلٌ : فَلَوْ مَاتَ مُسْلِمٌ وَتَرَكَ ابْنًا مُسْلِمًا وَابْنًا نَصْرَانِيًّا أَسْلَمَ الإرث ، فَإِنْ كَانَ إِسْلَامُ النَّصْرَانِيِّ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ وَلَوْ بِطَرْفَةِ عَيْنٍ كَانَ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا ، وَهَذَا إِجْمَاعٌ ، وَإِنْ كَانَ إِسْلَامُهُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ وَلَوْ بِطَرْفَةِ عَيْنٍ لَمْ يَرِثْهُ ، وَهَكَذَا لَوْ تَرَكَ الْمُسْلِمُ الْحُرُّ ابْنَيْنِ أَحَدُهُمَا حُرٌّ وَالْآخَرُ عَبْدٌ أُعْتِقَ ، فَإِنْ كَانَ عِتْقُهُ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ وَرِثَهُ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ لَمْ يَرِثْهُ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ : أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَمِنَ الْفُقَهَاءِ : أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ ، وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَمَكْحُولٍ أَنَّهُمْ وَرَثُّوا مَنْ أَسْلَمَ أَوْ أُعْتِقَ عَلَى مِيرَاثٍ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَحُكِيَ عَنْ إِيَاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ أَنَّهُمْ وَرَّثُوا مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَلَمْ يُوَرِّثُوا مَنْ أُعْتِقَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ وَرَوَى أَبُو الشَّعْثَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : كُلُّ قَسْمٍ قُسِّمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ عَلَى مَا قُسِّمِ لَهُ ، وَكُلُّ قَسْمٍ أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ فَإِنَهُ عَلَى قَسْمِ الْإِسْلَامِ ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ وَلِأَنَّ الْمِيرَاثَ يَنْتَقِلُ بِالْمُورِّثِ إِلَى مِلْكِ الْوَارِثِ لَا بِالْقِسْمَةِ ، وَلِأَنَّ تَأْخِيرَ الْقِسْمَةِ لَا يُوجِبُ تَوْرِيثَ مَنْ لَيْسَ بِوَارِثٍ ، كَمَا أَنَّ تَقْدِيمَهَا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ مَنْ هُوَ وَارِثٌ ، وَلِأَنَّهُ إِنْ وُلِدَ لِلْمَيِّتِ إِخْوَةٌ قَبْلَ قِسْمَةِ تَرِكَتِهِ لَا يَرِثُوهُ ، فَهَذَا كَمَا لَوْ أَسْلَمُوا لَمْ يَرِثُوهُ . فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَنْ أَسْلَمَ وَلَهُ مَالٌ فَهُوَ لَهُ لَا يَزُولُ عَنْهُ بِإِسْلَامِهِ . وَالثَّانِي : مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ مَوْتِ مُوَرِّثِهِ رَغْبَةً فِي الْمِيرَاثِ فَهُوَ لَهُ ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ إِذَا وَرِثُوا مَيِّتَهُمْ ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ كَانَ عَلَى جَاهِلِيَّتِهِمْ ، وَلَوْ أَسْلَمُوا قَبْلَ قِسْمَتِهِ اقْتَسَمُوهُ عَلَى قِسْمَةِ الْإِسْلَامِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا مَاتَ ذِمِّيٌّ وَلَا وَارِثَ لَهُ كَانَ مَالُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ فَيْئًا لَا مِيرَاثًا وَيُصْرَفُ مَصْرَفَ

الْفَيْءِ ، فَلَوْ كَانَ لَهُ عَصَبَةٌ مُسْلِمُونَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيمَا صَارَ مِنْهُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ حَقٌّ ، وَهَكَذَا إِذَا كَانَ عَصَبَةُ الذِّمِّيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَيْسَ لَهُمْ عَهْدٌ ، فَلَا مِيرَاثَ لَهُمْ مِنْهُ ، وَيَكُونُ مَالُهُ فَيْئًا وَلَوْ كَانَ لَهُمْ عَهْدٌ اسْتَحَقُّوا مِيرَاثَهُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا تَحَاكَمَ أَهْلُ الْحَرْبِ إِلَيْنَا فِي مِيرَاثِ مَيِّتٍ مِنْهُمْ وَلَهُ وَرَثَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَوَرَثَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ وَوَرَثَةٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، لَمْ يُوَرَّثْ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْهُمْ كَمَا لَا نُوَرِّثُهُمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَقَسَّمْنَا مِيرَاثَهُ بَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَأَهْلِ الْعَهْدِ مَعَ اتِّفَاقِ دَارِهِمْ وَاخْتِلَافِهَا وَتَبَايُنِ أَجْنَاسِهِمْ وَاتِّفَاقِهَا كَالرُّومِ وَالتُّرْكِ وَالْهِنْدِ وَالزِّنْجِ . وَقَطَعَ أَبُو حَنِيفَةَ التَّوَارُثَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ مِنْ أَجْنَاسِهِمْ وَالْمُتَبَايِنِينَ فِي دِيَارِهِمْ ، فَلَمْ يُوَرِّثِ التُّرْكِيَّ مِنَ الرُّومِيِّ وَلَا الزِّنْجِيَّ مِنَ الْهِنْدِيِّ ، وَهَذَا قَوْلٌ يَئُولُ إِلَى أَنْ يُجْعَلَ الْكُفْرُ مِلَلًا ، وَهُوَ لَا يَقُولُهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَالْمَمْلُوكُونَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، الْعَبْدُ لَا يَرِثُ وَلَا يُوَرَّثُ ، فَإِذَا مَاتَ الْعَبْدُ كَانَ مَالُهُ لِسَيِّدِهِ مِلْكًا وَلَا حَقَّ فِيهِ لِأَحَدٍ مِنْ وَرَثَتِهِ ، وَهَذَا إِجْمَاعٌ ، فَأَمَّا إِذَا مَاتَ لِلْعَبْدِ أَحَدٌ مِنْ وَرَثَتِهِ لَمْ يَرِثْهُ الْعَبْدُ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ ، وَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ إِذَا مَاتَ أَبُو الْعَبْدِ وَأَخُوهُ اشْتَرَى الْعَبْدَ مِنْ تَرِكَتِهِ وَأَعْتَقَ وَجَعَلَ لَهُ مِيرَاثَهُ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ قَالَ ذَلِكَ اسْتِحْبَابًا أَوْ وَاجِبًا ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : ذَهَبْنَا إِلَى اسْتِحْبَابِهِ رَأْيَا ، وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ ذَهَبْنَا إِلَيْهِ وَاجِبًا وَقَالَاهُ مَذْهَبًا حَتْمًا ، وَبِوُجُوبِ ذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ ، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ إِجْمَاعٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُوَرَّثُ فِي حَالِ رِقِّهِ وَهُوَ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِذَا مَلَكَ : لِأَنَّ الْمِلْكَ بِالْمِيرَاثِ أَقْوَى مِنْهُ بِالتَّمْلِيكِ ، وَإِنَّمَا أَوْجَبُوا ابْتِيَاعَهُ وَعِتْقَهُ ، وَهَذَا غَيْرُ لَازِمٍ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ سَيِّدَ الْعَبْدِ لَا يَلْزَمُهُ بَيْعُ عَبْدِهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى إِزَالَةِ مِلْكِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ بِيعَ مِنْ سَيِّدِهِ لَكَانَ يَرِثُ مُعْتَقًا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَقَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَرِثُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُدَبَّرُ الإرث فَكَالْعَبْدِ لَا يَرِثُ وَلَا يُوَرَّثُ ، وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ الإرث لَا تَرِثُ وَلَا تُوَرَّثُ ، فَأَمَّا الْمُكَاتِبُ الإرث فَهُوَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ لَا يَرْثِ وَلَا يُوَرَّثُ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَعَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الزُّهْرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ : إِذَا كُتِبَتْ صَحِيفَةُ الْمُكَاتِبِ عَتَقَ وَصَارَ حُرًّا يَرِثُ وَيُوَرَّثُ .

وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - : يُعْتَقُ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ وَلَا يَرِثُ بِهِ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : إِنْ أَدَّى قَدْرَ قِيمَتِهِ عَتَقَ وَوَرِثَ ، وَإِلَّا فَهُوَ عَبْدٌ لَا يَرِثُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : هُوَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ ، فَإِنْ مَاتَ لَهُ مَيِّتٌ لَمْ يَرِثْهُ . قَالَ : وَإِنْ مَاتَ أَدَّى مِنْ مَالِهِ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ وَجَعَلَ الْبَاقِي لِوَرَثَتِهِ ، إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَجْعَلُ ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْكِتَابَةِ وَمَنْ كَانَ حُرًّا . وَقَالَ مَالِكٌ : يَكُونُ لِمَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْكِتَابَةِ دُونَ مَنْ كَانَ حُرًّا . وَالدَّلِيلُ عَلَى جَمِيعِهِمْ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ ، وَلِأَنَّ مَنْ مَنَعَهُ الرِّقُّ مِنْ أَنْ يَرِثَ مَنَعَهُ الرِّقُّ أَنْ يُوَرَّثَ كَالْعَبْدِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُعْتَقُ بَعْضُهُ الإرث فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ يَرِثُ أَمْ لَا ؟ فَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يَرِثُ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهُ وَيَحْجُبُ بِهِ ، قَالَ الْمُزَنِيُّ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يَرِثُ كُلَّ الْمَالِ كَالْأَحْرَارِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ ، وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا - أَنَّهُ لَا يَرِثُ بِحَالٍ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ : لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ تُكْمَلْ حُرِّيَّتُهُ فَأَحْكَامُ الرِّقِّ عَلَيْهِ جَارِيَةٌ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ مَاتَ حُرٌّ وَتَرَكَ ابْنًا حُرًّا وَابْنًا نَصْفُهُ حُرٌّ الإرث فَعَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيِّ الْمَالُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا : لِأَنَّهُ مَقْسُومٌ عَلَى حُرِّيَّةٍ وَنِصْفٍ فَيَكُونُ لِلْحُرِّ ثُلُثَاهُ وَلِلَّذِي نِصْفُهُ حُرٌّ ثُلُثُهُ ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي حُكْمِ الْحُرِّيَّةِ ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْمَالُ لِلْحُرِّ وَحْدَهُ ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ وَزَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَلَوْ تَرَكَ الْحُرُّ ابْنًا نِصْفُهُ حُرٌّ وَعَمًّا حُرًّا الإرث ، عَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيِّ لِلِابْنِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْعَمِّ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْمَالُ كُلُّهُ لِلِابْنِ ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ الْمَالُ كُلُّهُ لِلْعَمِّ ، وَلَوْ تَرَكَ الْحُرُّ ابْنَيْنِ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُرٌّ وَعَمًّا حُرًّا الإرث فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْمَالُ لِلِابْنَيْنِ ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْمَالُ لِلْعَمِّ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قِيَاسِ قَوْلِ الْمُزَنِيِّ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ لَهُمَا النِّصْفَ لِأَنَّ لَهُمَا نِصْفَ الْحُرِّيَّةِ وَالنِّصْفَ الْآخَرَ لِلْعَمِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَجْمَعَ حُرِّيَّتَهُمَا فَيَكُونُ حُرِّيَّةُ ابْنٍ تَامٍّ فَيَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا وَلَا شَيْءَ لِلْعَمِّ ، فَلَوْ تَرَكَ الْحُرُّ ابْنًا وَبِنْتًا نَصِفُهَا حُرٌّ الإرث ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْمَالُ كُلُّهُ لِلْحُرِّ مِنَ الِابْنَيْنِ ، وَفِيهِ عَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيِّ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ لِلِابْنِ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ الْمَالِ وَلِلْبِنْتِ السُّدُسُ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْبِنْتَ لَوْ كَانَتْ حُرَّةً لَكَانَ لِلِابْنِ الثُّلُثَانِ وَلَهَا الثُّلُثُ ، وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً كَانَ لِلِابْنِ جَمِيعُ الْمَالِ وَلَا شَيْءَ لَهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهَا بِنِصْفِ الْحُرِّيَّةِ النِّصْفُ مِمَّا تَسْتَحِقُّهُ بِجَمِيعِ الْحُرِّيَّةِ وَذَلِكَ السُّدُسُ ، وَيَرْجِعُ السُّدُسُ الْآخَرُ عَلَى الِابْنِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ لِلِابْنِ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْمَالِ وَلِلْبِنْتِ الْخُمُسُ . وَوَجْهُهُ : أَنَّ حُرِّيَّةَ الْبِنْتِ لَوْ كَمُلَتْ قَابَلَتْ نِصْفَ حُرِّيَّةِ الِابْنِ فَصَارَ نِصْفَ حُرِّيَّتِهَا يُقَابِلُ رُبُعَ حُرِّيَّةِ الِابْنِ ، فَيُقَسِّمُ الْمَالَ عَلَى حُرِّيَّةٍ وَرُبُعٍ فَيَصِيرُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ : لِلِابْنِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ ، وَلِلْبِنْتِ سَهْمٌ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا إِذَا مَاتَ هَذَا الْمُعْتَقُ نِصْفُهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ : إِنَّهُ لَا يُوَرَّثُ ، وَيَكُونُ لِسَيِّدِهِ : لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَرِثْ بِحُرَّيَّتِهِ لَمْ يَرِثْ بِهِمَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ : إِنَّهُ يَكُونُ مُوَرِّثًا عَنْهُ لِوَرَثَتِهِ دُونَ سَيِّدِهِ : لِأَنَّ السَّيِّدَ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ عَنْهُ فِي حَيَاتِهِ ، فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ . وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ : يَكُونُ مَا كَانَ لَهُ بِالْحُرِّيَّةِ مُنْتَقِلًا إِلَى بَيْتِ الْمَالِ لَا يَمْلِكُهُ السَّيِّدُ : لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي حُرِّيَّتِهِ وَلَا يُوَرَّثُ عَنْهُ لِبَقَاءِ أَحْكَامِ رِقِّهِ ، فَكَانَ أَوْلَى الْجِهَاتِ بِهِ بَيْتَ الْمَالِ ، وَلِهَذَا الْقَوْلِ عِنْدِي وَجْهٌ أَرَاهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَالْقَاتِلُونَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَمَنْ عَمِيَ مَوْتُهُ كُلَّ هَؤُلَاءِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّ قَاتِلَ الْعَمْدِ لَا يَرِثُ عَنْ مَقْتُولِهِ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ وَلَا مِنَ الدِّيَةِ ، وَإِنْ وَرَّثَ غَيْرَهُ الْخَوَارِجُ وَبَعْضُ فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ ، فَقَدْ حُكِيَ عَنْهُمْ تَوْرِيثُ الْقَاتِلِ عَمْدًا اسْتِصْحَابًا لِحَالِهِ قَبْلَ الْقَتْلِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِمْ مَا رَوَاهُ مُجَاهِدٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ . وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَإِنَّهُ لَا يَرِثُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُهُ ، وَإِنْ كَانَ وَالِدُهُ أَوْ وَلَدُهُ فَلَيْسَ لِقَاتِلٍ مِيرَاثٌ وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْقَاتِلُ عَمْدًا لَا يَرِثُ مِنْ أَخِيهِ وَلَا مِنْ ذِي قَرَابَتِهِ ، وَيَرِثُهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ نَسَبًا بَعْدَ الْقَاتِلِ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ تَوَاصُلًا بَيْنَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ لِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الْمُوَالَاةِ ، وَالْقَاتِلُ قَاطِعٌ لِلْمُوَالَاةِ عَادِلٌ عَنِ التَّوَاصُلِ ، فَصَارَ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْمُرْتَدِّ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَرَّثَ الْقَاتِلَ لَصَارَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى قَتْلِ كُلِّ مُوَرِّثٍ رَغِبَ وَارِثُهُ فِي اسْتِعْجَالِ مِيرَاثِهِ ، وَمَا أَفْضَى إِلَى مِثْلِ هَذَا فَالشَّرْعُ مَانِعٌ مِنْهُ .



فَصْلٌ : فَأَمَّا الْقَاتِلُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَامِدًا فِي الْقَتْلِ قَاصِدًا لِلْإِرْثِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ ، فَقَالَ مَالِكٌ : قَاتِلُ الْخَطَأِ يَرِثُ مِنَ الْمَالِ وَلَا يَرِثُ مِنَ الدِّيَةِ . وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ : قَاتِلُ الْخَطَأِ يَرِثُ مِنَ الْمَالِ وَالدِّيَةِ جَمِيعًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَرِثُ قَاتِلُ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَيَرِثُ ، وَكَذَلِكَ الْعَادِلُ إِذَا قَتَلَ بَاغِيًا وَرِثَهُ وَلَا يَرِثُ الْبَاغِي إِذَا قَتَلَ عَادِلًا ، وَمَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ [ إِلَى ] إِرْثِ الْبَاغِي الْعَادِلِ كَمَا يَرِثُ الْعَادِلُ الْبَاغِي إِذَا كَانَا مُتَأَوِّلِينَ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : كُلُّ قَاتِلٍ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْقَتْلِ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ ، عَاقِلٍ أَوْ مَجْنُونٍ ، عَامِدٍ أَوْ خَاطِئٍ ، مُحِقٍّ أَوْ مُبْطِلٍ ، فَإِنَّهُ لَا يَرِثُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَاتِلَ الْخَطَأِ يَرِثُ مِنَ الْمَالِ دُونَ الدِّيَةِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : يَرِثُ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ مَالَهَا وَدِيَتَهَا ، وَتَرِثُ مِنْ زَوْجِهَا مَالَهُ وَدِيَتَهُ . فَإِنْ قَتَلَهُ أَحَدُهُمَا عَمْدًا لَمْ يَرِثْهُ ، وَإِنْ قُتِلَ خَطَأً وَرِثَ مَالَهُ دُونَ دِيَتِهِ ، وَهَذَا نَصٌّ إِنْ صَحَّ ، وَلِأَنَّ مَنْعَ الْقَاتِلِ مِنَ الْمِيرَاثِ عُقُوبَةٌ وَالْخَاطِئُ لَا عُقُوبَةَ عَلَيْهِ كَمَا لَا قَوَدَ عَلَيْهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ وَرَوَى أَبُو قِلَابَةَ قَالَ : " قَتَلَ رَجُلٌ أَخَاهُ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَمْ يُوَرِّثْهُ مِنْهُ ، وَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا قَتَلْتُهُ خَطَأً ، قَالَ : لَوْ قَتَلْتَهُ عَمْدًا لَأَقَدْنَاكَ بِهِ " . وَرَوَى خِلَاسٌ أَنَّ رَجُلًا قَذَفَ بِحَجَرٍ فَأَصَابَ أُمَّهُ فَقَتَلَهَا فَغَرَّمَهُ عَلِيُّ بِنُ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الدِّيَةَ وَنَفَاهُ مِنَ الْمِيرَاثِ ، وَقَالَ : إِنَّمَا حَظُّكَ مِنْ مِيرَاثِهَا ذَاكَ الْحَجَرُ . وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ سَقَطَ إِرْثُهُ عَنْ دِيَةِ مَقْتُولِهِ سَقَطَ عَنْ سَائِرِ مَالِهِ كَالْعَامِدِ : لِأَنَّ كُلَّ مَالِكٍ حُرِمَ إِرْثُهُ لَوْ كَانَ عَامِدًا حُرِمَ إِرْثُهُ وَإِنْ كَانَ خَاطِئًا كَالدِّيَةِ ، فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ فَمَعْنَاهُ مَأْثَمُ الْخَطَأِ . وَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَمُرْسَلٌ ، وَرَاوِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَصْلُوبُ صُلِبَ فِي الزَّنْدَقَةِ عَلَى مَا قِيلَ ، ثُمَّ لَوْ سَلِمَ لَحُمِلَ عَلَى إِرْثِ مَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ دَيْنٍ أَوْ صَدَاقٍ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ الْخَاطِئَ لَا يُعَاقَبُ بِمَنْعِ الْمِيرَاثِ ، قُلْنَا هَلَّا أَنْكَرْتُمْ بِذَلِكَ وُجُوبَ الدِّيَةِ عَلَيْهِ وَالْكَفَّارَةِ ؟

فَصْلٌ : وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ إِذَا كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا هل يرث ؟ وَرِثَ ، وَهَكَذَا مَنْ قَتَلَ بِسَبَبٍ كَحَافِرِ الْبِئْرِ وَوَاضِعِ الْحَجَرِ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ : عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَنْتَبِهَ فَاقْتَضَى عُمُومُ ذَلِكَ رَفْعَ الْأَحْكَامِ عَنْهُ .

قَالَ : وَلِأَنَّ كُلَّ عُقُوبَةٍ تَعَلَّقَتْ بِالْقَتْلِ سَقَطَتْ عَنِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ كَالْقَوَدِ ، وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ . وَلِأَنَّ مَوَانِعَ الْإِرْثِ يَسْتَوِي فِيهَا الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَالْمَجْنُونُ وَالْعَاقِلُ كَالْكُفْرِ وَالرِّقِّ ، وَلِأَنَّهُ قَتْلٌ مَضْمُونٌ وَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ الْإِرْثَ كَالْبَالِغِ الْعَاقِلِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ لَوْ صَدَرَ عَنِ الْكَبِيرِ قَطَعَ التَّوَارُثَ ، فَإِذَا صَدَرَ عَنِ الصَّغِيرِ وَجَبَ أَنْ يَقْطَعَ التَّوَارُثَ . أَصْلُهُ فَسْخُ النِّكَاحِ ، وَلِأَنَّ مَنْعَ الْقَاتِلِ مِنَ الْإِرْثِ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ بِمَكَانِ الْإِرْثِ ، فَهُوَ مَا يَقُولُهُ مَنْ صَنَعَ الْإِرْثَ لِكُلِّ مَنِ انْطَلَقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ أَوْ يَكُونُ لِأَجْلِ التُّهْمَةِ ، فَقَدْ يَخْفَى ذَلِكَ مِنَ الْخَاطِئِ وَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ لِاحْتِمَالِ قَصْدِهِمْ وَلِظَاهِرِهِمْ بِمَا يَنْفِي التُّهْمَةَ عَنْهُمْ ، فَلَمَّا خَفِيَ ذَلِكَ مِنْهُمْ صَارَ التَّحْرِيمُ عَامًّا كَالْخَمْرِ الَّتِي حُرِّمَتْ ، وَلِأَنَّهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ، فَحَسَمَ اللَّهُ تَعَالَى الْبَابَ فِي تَحْرِيمِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا لَا يَصُدُّ لِاشْتِبَاهِ الْأَمْرِ بِمَا يَصُدُّ . فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ رَفْعَ الْمَأْثَمِ ، وَلَيْسَ رَفْعُ الْإِرْثِ مُتَعَلِّقًا بِرَفْعِ الْمَأْثَمِ ، كَالْخَاطِئِ وَالنَّائِمِ لَا مَأْثَمَ عَلَيْهِمَا ، وَلَوِ انْقَلَبَ نَائِمٌ عَلَى مُوَرِّثِهِ فَقَتَلَهُ لَمْ يَرِثْهُ بِوِفَاقٍ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَهَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّ مَنْعَ الْإِرْثِ عُقُوبَةٌ ، فَأَشْبَهَ الْقَوَدَ : لِأَنَّ الْخَاطِئَ لَا عُقُوبَةَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ يُمْنَعُ مِنْ مِيرَاثِ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعُقُوبَةَ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَمَهَّدَ مَا وَصَفْنَا ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْقَتْلِ إِذَا حَدَثَ عَنِ الْوَارِثِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَنْ سَبَبٍ أَوْ مُبَاشَرَةٍ ، فَإِنْ كَانَ عَنْ سَبَبٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يُوجِبَ الضَّمَانَ ، كَرَجُلٍ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ فَسَقَطَ فِيهَا أَخُوهُ أَوْ سَقَطَ حَائِطُ دَارِهِ عَلَى ذِي قَرَابَتِهِ أَوْ وَضَعَ فِي دَارِهِ حَجَرًا فَعَثَرَ بِهِ ، فَإِذَا مَاتَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لَمْ يَسْقُطْ مِيرَاثُهُ بِشَيْءٍ مِنْهَا : لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إِلَى الْقَتْلِ لَا اسْمًا وَلَا حُكْمًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ كَوَضْعِهِ حَجَرًا فِي طَرِيقٍ أَوْ حَفْرِ بِئْرٍ فِي غَيْرِ مِلْكٍ أَوْ سُقُوطِ جَنَاحٍ مِنْ دَارِهِ ، فَإِذَا هَلَكَ بِذَلِكَ ذُو قَرَابَتِهِ لَمْ يَرِثْهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، وَوَرَّثَهُ أَبُو حَنِيفَةَ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : مَا كَانَ فِيهِ مُتَّهَمًا لَمْ يَرِثْهُ بِهِ ، وَمَا كَانَ مِنْهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيهِ وَرِثَهُ هَذَا يَنْكَسِرُ بِالْخَاطِئِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ مُبَاشَرَةً ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ بَغَيْرِ حَقٍّ فَيَكُونُ مَانِعًا مِنَ الْمِيرَاثِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ مِنْ عَمْدٍ أَوْ خَطَأٍ فِي صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ فِي عَقْلٍ أَوْ جُنُونٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بِحَقٍّ كَالْقِصَاصِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَتْلًا وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ كَالْقَوَدِ إِذَا أَوْجَبَ لَهُ فَلَا يَرِثُ بِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَتْلًا وَاجِبًا كَالْحَاكِمِ وَالْإِمَامِ إِذَا قَتَلَ أَخَاهُ قَوَدًا لِغَيْرِهِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا مِيرَاثَ لَهُ اعْتِبَارًا بِالِاسْمِ .

وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : إِنْ قَتَلَهُ بِالْبَيِّنَةِ لَمْ يَرِثْهُ : لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي تَعْدِيلِهَا ، وَإِنْ قَتَلَهُ بِإِقْرَارِهِ وَرِثَهُ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ .

فَصْلٌ : فَمِنْ فُرُوعِ مَا مَهَّدْنَاهُ أَنَّ ثَلَاثَةَ إِخْوَةٍ لَوْ قَتَلَ أَحَدُهُمْ أَبَاهُمْ عَمْدًا الإرث كَانَ مِيرَاثُ الْأَبِ لِلْأَخَوَيْنِ سِوَى الْقَاتِلِ ، وَلَهُمَا قَتْلُ الْقَاتِلِ ، فَإِنْ قَتَلَاهُ قَوَدًا لَمْ يَرِثَاهُ ، فَلَوْ لَمْ يَقْتُلَاهُ حَتَّى مَاتَ أَحَدُهُمَا كَانَ مِيرَاثُهُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالثَّانِي مِنْهُمَا : لِأَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَرِثُ مَقْتُولَهُ ، وَيَرِثُ غَيْرُهُ وَلَيْسَ لِلْأَخِ الْبَاقِي أَنْ يَقْتُلَ قَاتِلَ أَبِيهِ : لِأَنَّهُ قَدْ وَرِثَ مِنْ أَخِيهِ نِصْفَ حَقٍّ ، وَذَلِكَ رُبُعُ دَمِ نَفْسِهِ فَسَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ : لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ بَعْضَ نَفْسِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ لِأَخِيهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ دَمِ أَبِيهِ : نَصِفُهُ بِمِيرَاثِهِ عَنْ أَبِيهِ ، وَرُبُعُهُ بِمِيرَاثِهِ عَنْ أَخِيهِ .

فَصْلٌ : وَمِنْ فُرُوعِهِ أَيْضًا لَوْ أَنَّ أَخَوَيْنِ وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ قَتَلَ أَحَدُ الْأَخَوَيْنِ أُمَّهُمْ عَمْدًا وَأَبُوهُمْ وَارِثُهَا الإرث ، كَانَ مِيرَاثُ الْأُمِّ بَيْنَ زَوْجِهَا وَابْنِهَا وَبِنْتِهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ ، وَعَلَى الْقَاتِلِ الْقَوَدُ لِأَبِيهِ وَأَخِيهِ وَأُخْتِهِ ، فَلَوْ لَمْ يَقْتَصُّوا مِنْهُ حَتَّى مَاتَتِ الْأُخْتُ كَانَ لِلْأَبِ وَالْأَخِ غَيْرِ الْقَاتِلِ أَنْ يَقْتُلَاهُ : لِأَنَّ مِيرَاثَ الْأُخْتِ صَارَ إِلَى الْأَبِ فَلَمْ يَرِثِ الْقَاتِلُ مِنْهُ شَيْئًا ، فَلَوْ مَاتَ الْأَبُ سَقَطَ الْقَوَدُ عَنِ الْقَاتِلِ : لِأَنَّ مِيرَاثَهُ صَارَ إِلَيْهِ وَإِلَى أَخِيهِ ، وَصَارَ لِلْأَخِ عَلَى الْقَاتِلِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ دَمِ الْأُمِّ : لِأَنَّ الْأَبَ قَدْ كَانَ وَرِثَ مِنْهُمَا بِالزَّوْجِيَّةِ الرُّبُعَ وَوَرِثَ عَنْ بِنْتِهِ الرُّبُعَ فَصَارَ لَهُ بِالْمِيرَاثِ النِّصْفُ وَلِلْأَخِ النِّصْفُ ، ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ عَنِ النِّصْفِ فَصَارَ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْأَخِ نِصْفَيْنِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَمَنْ عَمِيَ مَوْتُهُ صِنْفَانِ : غَرْقَى ، وَمَفْقُودُونَ ، فَأَمَّا الْغَرْقَى وَمَنْ ضَارَعَهُمْ مِنَ الْمَوْتَى تَحْتَ هَدْمٍ أَوْ فِي حَرِيقٍ الإرث ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهُمْ : أَنْ يُعْلَمَ وَيُتَيَقَّنَ مَوْتُهُمْ فِيمَنْ تَقَدَّمَ مِنْهُمْ وَتَأَخَّرَ ، فَهَذَا يُوَرِّثُ الْمُتَأَخِّرَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِ ، وَلَا يُوَرِّثُ الْمُتَقَدِّمَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِ ، وَهَذَا إِجْمَاعٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُعْلَمَ يَقِينُ مَوْتِهِمْ أَنَّهُ كَانَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَتَقَدَّمْ بَعْضٌ عَلَى بَعْضٍ ، فَهَذَا يُقْطَعُ فِيهِ التَّوَارُثُ بَيْنَهُمْ بِإِجْمَاعٍ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُقْطَعَ أَيُّهُمْ مَاتَ قَبْلَ صَاحِبِهِ ، ثُمَّ يَطْرَأَ الْإِشْكَالُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ ، فَهَذَا يُوقِفُ مِنْ تَرِكَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِيرَاثَ مَنْ كَانَ مَعَهُ وَيُقَسَّمُ مَا سِوَاهُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ ، وَيَكُونُ الْمَوْقُوفُ مَوْضُوعًا حَتَّى يَزُولَ الشَّكُّ أَوْ يَقَعَ فِيهِ الصُّلْحُ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَقَعَ الشَّكُّ فِيهِمْ ، فَلَا يُعْلَمُ هَلْ مَاتُوا مَعًا أَوْ تَقَدَّمَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، ثُمَّ لَا يُعْلَمُ الْمُتَقَدِّمُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَقْطَعُ التَّوَارُثَ بَيْنَ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ وَيَدْفَعُ مِيرَاثَ كُلِّ وَاحِدٍ إِلَى غَيْرِ مَنْ هَلَكَ مَعَهُ مِنْ وَرَثَتِهِ . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَالْحُسْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، وَأَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمِنَ التَّابِعِينَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ،

وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالزُّهْرِيُّ . وَقَالَ إِيَاسُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ : أُوَرِّثُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ مِنْ تِلَادِ أَمْوَالِهِمْ ، وَلَا أُوَرِّثُ مَيِّتًا مِنْ مَيِّتٍ مِمَّا وَرِثَهُ عَنْ ذَلِكَ الْمَيِّتِ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَمِنَ التَّابِعِينَ شُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ إِشْكَالَ التَّوَارُثِ لَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ كَالْخُنَاثَى . وَالدَّلِيلُ عَلَى سُقُوطِ التَّوَارُثِ بَيْنَهُمْ أَنَّ مَنْ أَشْكَلَ اسْتِحْقَاقُهُ لَمْ يُحْكُمْ لَهُ بِالْمِيرَاثِ كَالْجَنِينِ ، وَكَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا مَاتَ أَخُوهُ وَأَشْكَلَ هَلْ كَانَ عِتْقُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ أَوْ بَعْدَهُ ؟ الإرث لَمْ يَرِثْهُ بِالْإِشْكَالِ ، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَرِثْ بَعْضَ الْمَالِ لَمْ يَرِثْ بَاقِيَهُ كَالْأَجَانِبِ ، فَأَمَّا الْخُنَاثَى فَإِنَّمَا وَقَفَ أَمْرُهُ مَعَ الْإِشْكَالِ : لِأَنَّ بَيَانَهُ مَرْجُوٌّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْغَرْقَى لِفَوَاتِ الْبَيَانِ .

فَصْلٌ : وَعَلَى هَذَا لَوْ غَرِقَ أَخَوَانِ أَحَدَهُمَا مَوْلَى هَاشِمٍ وَالْآخَرُ مَوْلَى تَمِيمٍ ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمَا مَاتَ قَبْلَ صَاحِبِهِ الإرث ، فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ يُقْطَعُ التَّوَارُثُ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ وَيُجْعَلُ مِيرَاثُ الْهَاشِمِيِّ لِمَوْلَاهُ وَمِيرَاثُ التَّمِيمِيِّ لِمَوْلَاهُ ، وَعَلَى قَوْلِ إِيَاسٍ وَمَنْ وَرَّثَ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ قَالَ : مِيرَاثُ الْهَاشِمِيِّ لِأَخِيهِ التَّمِيمِيِّ ، ثُمَّ مَاتَ التَّمِيمِيُّ يُوَرِّثُهُ مَوْلَاهُ ، وَمِيرَاثُ التَّمِيمِيِّ لِأَخِيهِ الْهَاشِمِيِّ ، ثُمَّ مَاتَ الْهَاشِمِيُّ فَوَرِثَهُ مَوْلَاهُ ، ثُمَّ مَاتَ التَّمِيمِيُّ وَوَرِثَهُ مَوْلَاهُ فَيَصِيرُ مَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَوْلَى أَخِيهِ ، فَلَوْ خَلَّفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَوْجَةً وَبِنْتًا ، فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ لَمْ يُوَرِّثْ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ : يَجْعَلُ مِيرَاثَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِزَوْجَتِهِ مِنْهُ الثُّمُنَ ، وَلَبِنَتِهِ النِّصْفَ ، وَالْبَاقِي لِمَوْلَاهُ ، وَعَلَى قَوْلِ إِيَاسٍ وَمَنْ وَرَّثَ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ ، جَعَلَ مِيرَاثَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيْنَ زَوْجَتِهِ وَبِنْتِهِ وَأَخِيهِ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ زَوْجَتِهِ وَبِنْتِهِ وَأَخِيهِ : لِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ سَهْمٌ ، وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ ، وَلِلْأَخِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ ، ثُمَّ تُقَسَّمُ أَسْهُمُ الْأَخِ الثَّلَاثَةُ بَيْنَ الْأَحْيَاءِ مِنْ وَرَثَتِهِ وَهُمْ زَوْجَةٌ وَبِنْتٌ وَمَوْلَى فَتَكُونُ عَلَى ثَمَانِيَةٍ ، وَهِيَ غَيْرُ مُنْقَسِمَةٍ عَلَيْهِمْ وَلَا مُوَافِقَةٍ ، فَاضْرِبْ ثَمَانِيَةً فِي ثَمَانِيَةٍ تَكُنْ أَرْبَعَةً وَسِتِّينَ سَهْمًا ، فَاقْسِمْ مَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى أَرْبَعَةٍ وَسِتِّينَ ، لِزَوْجَتِهِ الثُّمُنُ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ ، وَلِبِنْتِهِ النِّصْفُ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ سَهْمًا ، وَلِأَخِيهِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا تُقَسَّمُ بَيْنَ الْأَحْيَاءِ مِنْ وَرَثَتِهِ مَعَهُمْ زَوْجَتُهُ وَبِنْتٌ وَمَوْلَى ، فَيَكُونُ لِزَوْجَتِهِ مِنْهَا الثُّمُنُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ ، وَلَبِنَتِهِ النِّصْفُ اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا ، وَلِمَوْلَاهُ مَا بَقِيَ وَهُوَ تِسْعَةُ أَسْهُمٍ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمَفْقُودُ إِذَا طَالَتْ غَيْبَتُهُ فَلَمْ يُعْلَمْ لَهُ مَوْتٌ وَلَا حَيَاةٌ الإرث فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ عَلَى حُكْمِ الْحَيَاةِ حَتَّى تَمْضِيَ عَلَيْهِ مُدَّةٌ يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ بَعْدَهَا ، فَيُحْكَمُ حِينَئِذٍ بِمَوْتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَقَدَّرَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ مَحْصُورٍ ، وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُوقِفُ تَمَامَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً مَعَ سِنِّهِ يَوْمَ فُقِدَ : لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَبْلُغُهُ أَهْلُ هَذَا الزَّمَانِ مِنَ الْعُمُرِ .

وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ : يُوقِفُ تَمَامَ تِسْعِينَ سَنَةً مَعَ سِنِّهِ يَوْمَ فُقِدَ ، ثُمَّ يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ . وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ : يُوقِفُ تَمَامَ سَبْعِينَ سَنَةً مَعَ سِنِّهِ يَوْمَ فُقِدَ ، ثُمَّ يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ ، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ فِي التَّحْدِيدِ فَاسِدَةٌ لِجَوَازِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا وَإِمْكَانِ التَّجَاوُزِ لَهَا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمَ فِيهِ إِلَّا بِالْيَقِينِ ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَالُهُ مَوْقُوفًا عَلَى مِلْكِهِ ، فَإِذَا مَضَتْ عَلَيْهِ مُدَّةٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ إِلَيْهَا قَسَمَ مَالَهُ حِينَئِذٍ بَيْنَ مَنْ كَانَ حَيًّا مِنْ وَرَثَتِهِ ، وَلَوْ مَاتَ لِلْمَفْقُودِ مَيِّتٌ يَرِثُهُ الْمَفْقُودُ وَجَبَ أَنْ يُوقِفَ مِنْ تَرِكَتِهِ مِيرَاثُ الْمَفْقُودِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَمْرُهُ ، فَإِنْ بَانَ حَيًّا كَانَ لَهُ وَارِثًا ، وَإِنْ بَانَ مَوْتُهُ مِنْ قَبْلُ رُدَّ عَلَى الْبَاقِينَ مِنَ الْوَرَثَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَشْكَلَ حَالُ مَوْتِهِ .

فَصْلٌ : مِثَالُ ذَلِكَ امْرَأَةٌ مَاتَتْ وَخَلَّفَتْ أُخْتَيْنِ لِأَبٍ ، وَزَوْجًا مَفْقُودًا ، وَعَصَبَةً الإرث ، فَقَالَ : إِنْ كَانَ الزَّوْجُ الْمَفْقُودُ حَيًّا فَالتَّرِكَةُ مِنْ سَبْعَةِ أَسْهُمٍ : لِلزَّوْجِ النِّصْفُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ ، وَلِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَانِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ الْمَفْقُودُ مَيِّتًا فَلِلْأُخْتَيْنِ الثُّلْثَانِ وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَلَاثَةٍ ، فَاضْرِبْ ثَلَاثَةً فِي سَبْعَةٍ تَكُنْ أَحَدًا وَعِشْرِينَ ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ حَيًّا فَلَهُ تِسْعَةُ أَسْهُمٍ ، وَلِلْأُخْتَيْنِ اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا ، وَلَا شَيْءَ لِلْعَصَبَةِ ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مَيِّتًا فَلِلْأُخْتَيْنِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ ، وَهُوَ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ ، فَيُعْطِي الْأُخْتَيْنِ أَقَلَّ الْفَرْضَيْنِ ، وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا لِأَنَّهُ الْيَقِينُ ، وَلَا يَدْفَعُ لِلْعَصَبَةِ شَيْئًا ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ حَيًّا ، فَإِنْ بَانَ الزَّوْجُ حَيًّا فَالتِّسْعَةُ كُلُّهَا لَهُ ، وَإِنْ بَانَ مَيِّتًا رَدَّ عَلَى الْأُخْتَيْنِ سَهْمَانِ تَمَامُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا ، وَدَفَعَ إِلَى الْعَصَبَةِ الْبَاقِي وَهُوَ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ . فَلَوْ خَلَّفَتِ الْمَرْأَةُ زَوْجًا وَأَمًّا وَأُخْتًا لِأُمٍّ وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأَخًا لِأَبٍ مَفْقُودًا الإرث ، فَالْعَمَلُ أَنْ نَقُولَ : إِذَا كَانَ الْأَخُ الْمَفْقُودُ حَيًّا فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأَخِ لِلْأُمِّ السُّدُسُ ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأَخِ وَالْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ عَلَى ثَلَاثَةٍ ، وَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ ، وَلِلْأَخِ مِنَ الْأُمِّ السُّدُسُ ، وَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ النِّصْفُ ، وَتَعُولُ إِلَى ثَمَانِيَةٍ ، وَالثَّمَانِيَةُ تُوَافِقُ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ بِالْإِنْصَافِ ، فَاضْرِبْ نِصْفَ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى تَكُنِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ ، وَمِنْهَا تَصِحُّ ، فَمَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ثَمَانِيَةٍ يَأْخُذُهُ فِي نِصْفِ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ وَهُوَ تِسْعَةٌ ، وَمِنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَأْخُذُهُ فِي نِصْفِ الثَّمَانِيَةِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ ، فَلِلزَّوْجِ مِنَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ تِسْعَةٌ فِي أَرْبَعَةٍ تَكُنْ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ ، وَلَهُ مِنَ الثَّمَانِيَةِ ثَلَاثَةٌ فِي تِسْعَةٍ تَكُنْ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ فَأَعْطِهِ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ : لِأَنَّهُ أَقَلُّ النَّصِيبَيْنِ ، وَلِلْأُمِّ مِنَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ ثَلَاثَةٌ فِي أَرْبَعَةٍ تَكُنِ اثْنَيْ عَشَرَ ، وَلَهَا مِنَ الثَّمَانِيَةِ سَهْمٌ فِي تِسْعَةٍ فَأَعْطِهَا تِسْعَةَ أَسْهُمٍ لِأَنَّهَا أَقَلُّ النَّصِيبَيْنِ ، وَلِلْأَخِ مِنَ الْأُمِّ أَيْضًا تِسْعَةُ أَسْهُمٍ ، وَلِلْأُخْتِ مِنَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمٌ وَاحِدٌ فِي أَرْبَعَةٍ ، وَلَهَا مِنَ الثَّمَانِيَةِ ثَلَاثَةٌ فِي تِسْعَةٍ تَكُنْ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ ، فَأَعْطِهَا أَرْبَعَةً لِأَنَّهَا أَقَلُّهَا ، وَيُوقِفُ الْبَاقِي بَعْدَ هَذِهِ السِّهَامِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا ، فَإِنْ كَانَ الْأَخُ الْمَفْقُودُ حَيًّا أَخَذَ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ ضِعْفَ مَا أَخَذَتْهُ

أُخْتُهُ ، وَأُعْطِيَ الزَّوْجُ تِسْعَةَ أَسْهُمٍ تَمَامَ النِّصْفِ ، وَأُعْطِيَتِ الْأُمُّ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ تَمَامَ السُّدُسِ ، وَأُعْطِيَ الْأَخُ لِلْأُمِّ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ أَيْضًا ، وَإِنْ كَانَ الْمَفْقُودُ مَيِّتًا دَفَعْتَ مَا وَقَفْتَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا إِلَى الْأُخْتِ حَتَّى يَتِمَّ لَهَا تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا هُوَ تَمَامُ نَصِيبِهَا مِنْ مَسْأَلَةِ الْعَوْلِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَخَ إِنْ كَانَ حَيًّا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مِنَ الثَّلَاثَةِ وَالْعِشْرِينَ الْمَوْقُوفَةِ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ ، فَلَوِ اصْطَلَحَ الْوَرَثَةُ قَبْلَ أَنْ يُعْلَمَ الْمَفْقُودُ عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ السِّهَامِ الْمَوْقُوفَةِ بَعْدَ نَصِيبِ الْمَفْقُودِ ، وَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا جَازَ الصُّلْحُ : لِأَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ لَهُمْ ، وَإِنِ اصْطَلَحَ عَلَى الثَّمَانِيَةِ الْمَوْقُوفَةِ لِلْمَفْقُوِدِ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّهَا لِغَيْرِهِمْ ، وَلَوْ خَلَّفَتْ زَوْجًا وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأَخًا لِأَبٍ مَفْقُودًا كَانَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعٍ ، وَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعٍ ، وَيُوقِفُ السُّبُعُ ، فَإِنْ ظَهَرَ الْمَفْقُودُ مَيِّتًا دُفِعَ إِلَى الْأُخْتِ لِلْأَبِ ، وَإِنْ ظَهَرَ حَيًّا رَدَّ عَلَى الزَّوْجِ وَالْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ، وَيَجُوزُ لَهُمْ قَبْلَ ظُهُورِ حَالِ الْمَفْقُودِ أَنْ يَصْطَلِحُوا عَلَى السَّهْمِ الْمَوْقُوفِ : لِأَنَّهُ لَا حَقَّ فِيهِ لِلْمَفْقُودِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " لَا يَرِثُونَ وَلَا يَحْجُبُونَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ مَنْ لَمْ يَرِثْ بِرِقٍّ أَوْ كُفْرٍ أَوْ قَتْلٍ لَمْ يَحْجُبْ ، فَلَا يَرِثُونَ وَلَا يَحْجُبُونَ ، وَبِهِ قَالَ الْجَمَاعَةُ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : يَحْجُبُونَ ذَوِي الْفُرُوضِ إِلَى أَقَلِّ الْفَرْضَيْنِ ، كَالزَّوْجِ مِنَ النِّصْفِ إِلَى الرُّبُعِ ، وَالزَّوْجَةِ مِنَ الرُّبُعِ إِلَى الثُّمُنِ ، وَالْأُمِّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ ، وَلَا يُسْقِطُونَ الْعَصَبَةَ كَالِابْنِ الْكَافِرِ لَا يُسْقِطُ ابْنَ الِابْنِ ، وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فِي إِسْقَاطِ ذَوِي الْفُرُوضِ عَنْ كُلِّ الْفُرُوضِ ، كَإِسْقَاطِ الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ بِالْبِنْتِ الْكَافِرَةِ ، وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْحَجْبَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالْمِيرَاثِ ، كَالْإِخْوَةِ مَعَ الْأَبَوَيْنِ يَحْجُبُونَ الْأُمَّ إِلَى السُّدُسِ وَلَا يَرِثُونَ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى إِسْقَاطِ حَجْبِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [ النِّسَاءِ : 11 ] فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْإِسْلَامُ شَرْطًا فِي حُكْمِ الْعَطْفِ كَمَا كَانَ شَرْطًا فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ سَقَطَ إِرْثُهُ بِعَارِضٍ سَقَطَ حَجْبُهُ بِذَلِكَ الْعَارِضِ كَالْإِسْقَاطِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ ضَعُفَ بِوَصْفِهِ عَنْ حَجْبِ الْإِسْقَاطِ ضَعُفَ بِوَصْفِهِ عَنْ حَجْبِ النُّقْصَانِ كَـ " ذَوِي الْأَرْحَامِ " ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَارِثٍ فَهُوَ لَا مَحَالَةَ يَحْجُبُ إِذَا وَرِثَ : لِأَنَّ الِابْنَ إِذَا وَرِثَ مَعَ أَخِيهِ فَقَدْ حَجَبَهُ عَنِ الْكُلِّ إِلَى النِّصْفِ ، فَلَمَّا ضَعُفَ الْكَافِرُ عَنْ حَجْبِ مَنْ يُسَمِّيهِ فِي النَّسَبِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَضْعُفَ عَنْ حَجْبِ مَنْ يُخَالِفُهُ فِي النَّسَبِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِحَجْبِ الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ مَعَ الْأَبِ فَلَمْ يَسْقُطُوا لِأَنَّهُمْ غَيْرُ وَرَثَةٍ ، لَكِنَّ الْأَبَ حَجَبَهُمْ عَنْهُ ، أَلَا تَرَى لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ أَبٌ لَوَرِثُوا فَبَانَ الْفَرْقُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَا تَرِثُ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ مَعَ الْجَدِّ الإرث وَإِنْ عَلَا ، وَلَا مَعَ الْوَلَدِ وَلَا مَعَ وَلَدِ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ : صِنْفٌ يَكُونُونَ لِأَبٍ وَأُمٍّ

وَيُسَمُّونَ بَنِي الْأَعْيَانِ ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ ، أَيْ مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ وَأُمٍّ وَاحِدَةٍ ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَعْيَانُ بَنِي الْأُمِّ يَتَوَارَثُونَ دُونَ بَنِي الْعَلَّاتِ وَالصِّنْفُ الثَّانِي الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِلْأَبِ يُسَمُّونَ بَنِي الْعَلَّاتِ ، يُسَمُّونَ بِذَلِكَ لِأَنَّ أُمَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ تُعِلَّ الْأُخْرَى ، أَيْ لَمْ تَسْقِهِ لَبَنَ رَضَاعِهَا ، وَالْعَلَلُ الشُّرْبُ الثَّانِي وَالنَّهَلُ الْأَوَّلُ ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : وَالنَّاسُ أَبْنَاءُ عَلَّاتٍ فَمَنْ عَلِمُوا أَنْ قَدْ أَقَلَّ فَمَجْفُوٌّ وَمَحْقُورُ وَهُمْ بَنُو أُمِّ مَنْ أَمْسَى لَهُ نَشَبُ فَذَاكَ بِالْغَيْبِ مَحْظُوظُ وَمَنْصُورُ وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ مَقْرُونَانِ فِي قَرْنِ وَالْخَيْرُ مُتَّبَعٌ وَالشَّرُّ مَحْذُورُ وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِلْأُمِّ يُسَمُّونَ بَنِي الْأَخْيَافِ ، وَالْأَخْيَافُ الْأَخْلَاطُ ، لِأَنَّهُمْ مِنْ أَخْلَاطِ الرِّجَالِ ، وَلَيْسَ هُمْ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْخَيْفُ مِنْ مَنِيٍّ لِاجْتِمَاعِ أَخْلَاطِ النَّاسِ فِيهِ ، وَقِيلَ : اخْتِلَاطُ الْأَلْوَانِ الْخَافِيَةِ ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : النَّاسُ أَخْيَافٌ وَشَتَّى فِي الشِّيَمِ وَكُلُّهُمْ يَجْمَعُهُمْ بَيْتُ الْأُدُمِ يَعْنِي أَنَّهُمْ أَخْلَاطٌ مِنْهُمُ الْجَيِّدُ وَمِنْهُمُ الرَّدِيءُ ، كَبَيْتِ الْأَدَمِ الَّذِي يَجْمَعُ الْجِلْدَ كُلَّهُ فَمِنْهُ الْكُرَاعُ وَمِنْهُ الظَّهْرُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِلْأُمِّ فَيَسْقُطُونَ مَعَ أَرْبَعَةٍ الإرث : مَعَ الْأَبِ ، وَمَعَ الْجَدِّ ، وَمَعَ الْوَلَدِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى ، وَمَعَ وَلَدِ الِابْنِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ [ النِّسَاءِ : 12 ] ، وَقَدْ كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقْرَأُ : " وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمٍّ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ " ، وَهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ تَفْسِيرًا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تِلَاوَةً ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُمُ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ مِنَ الْأُمِّ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْكَلَالَةُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا فَقَالَ : تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ ، يَعْنِي قَوْلَهُ فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ [ النِّسَاءِ : 176 ] : لِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ فَلَمْ يَفْهَمْهَا عُمَرُ وَقَالَ لِحَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - : إِذَا رَأَيْتِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طِيبَ نَفْسٍ فَاسْأَلِيهِ ، فَرَأَتْ مِنْهُ طِيبَ نَفْسٍ فِسَأَلَتْ عَنْهَا فَقَالَ لَهَا : أَبُوكِ كَتَبَ لَكِ هَذَا ، مَا أَرَى أَبَاكِ يَعْلَمُهَا أَبَدًا ، فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ : مَا أَرَانِي أَعْلَمُهَا

أَبَدًا ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قَالَ . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : ثَلَاثٌ لِأَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا : الْكَلَالَةُ ، وَالْخِلَافَةُ ، وَالرِّبَا . وَإِنَّمَا لَمْ يَزِدْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيَانِ الْكَلَالَةِ : لِأَنَّ فِي الْآيَةِ مِنَ الْإِشَارَةِ مَا يَكْتَفِي بِهِ الْمُجْتَهِدُ ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ، وَإِنْ قَصُرَ عَنْ إِدْرَاكِهِ لِعَارِضٍ . وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْكَلَالَةِ معناها فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي إِحْدَى الرُّوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَنَّ الْكَلَالَةَ مَا دُونَ الْوَلَدِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ [ النِّسَاءِ : 176 ] ، وَقَالَ قَوْمٌ : الْكَلَالَةُ وَلَدُ الْأُمِّ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ [ النِّسَاءِ : 12 ] ، يَعْنِي : فِي أُمٍّ . فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ هُوَ الْكَلَالَةَ . وَقَالَ الْجُمْهُورُ : إِنَّ الْكَلَالَةَ مَا عَدَا الْوَلَدِ وَالْوَالِدَ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ وَزَيْدٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ . وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ وَلَدَ الْأُمِّ لَمَّا سَقَطُوا مَعَ الْوَالِدِ لِسُقُوطِهِمْ مَعَ الْوَلَدِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ عَدَا الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ فِي شَرْحِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : الْأَخُ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ أَوْلَى مِنَ الْكَلَالَةِ ، وَلِأَنَّ الْكَلَالَةَ مَصْدَرٌ مِنْ تَكَلَّلَ النَّسَبُ تَشَبُّهًا بِتَكَلُّلِ أَغْصَانِ الشَّجَرَةِ عَلَى عَمُودِهَا ، فَالْوَالِدُ أَصْلُهَا وَالْوَلَدُ فَرْعُهَا وَمَنْ سِوَاهُمَا مِنَ الْمُنَاسِبِينَ كَالْأَغْصَانِ الْمُتَكَلِّلَةِ عَلَيْهَا ، وَقِيلَ : إِنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ تَكَلَّلَ طَرَفَاهُ فَخَلَا عَنِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ ، وَقِيلَ : إِنَّ الْكَلَالَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْإِحَاطَةِ ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْإِكْلِيلُ لِإِحَاطَتِهِ بِالرَّأْسِ ، فَسُمِّيَ هَؤُلَاءِ كَلَالَةً لِإِحَاطَتِهِمْ بِالطَّرَفَيْنِ ، وَقَدْ قَالَ الْفَرَزْدَقُ فِي سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي وُصُولِ الْخِلَافَةِ إِلَيْهِمْ عَنْ آبَائِهِمْ لَا عَنْ غَيْرِهِمْ : وَرِثْتُمْ قَنَاةَ الْمُلْكِ غَيْرَ كَلَالَةٍ عَنِ ابْنِ مَنَافٍ عَبْدِ شَمْسِ وَهَاشِمِ وَقَالَ الْآخَرُ : فَإِنَّ أَبَا الْمَرْءِ أَحَمَى لَهُ وَمَوْلَى الْكَلَالَةِ لَا يَغْضَبُ يَعْنِي : مَوْلَى غَيْرِ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ فَقَدِ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ اسْمٌ لِلْمَيِّتِ أَوْ لِلْوَرَثَةِ ؟ الكلالة فَقَالَ قَوْمٌ : الْكَلَالَةُ اسْمُ الْمَيِّتِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَإِلَيْهِ مَالَ الشَّافِعِيُّ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ [ النِّسَاءِ 112 ] فَجَعَلَ ذَلِكَ صِفَةً لِلْمَوْرُوثِ وَلَوْ كَانَتْ صِفَةً لِلْوَارِثِ لَقَالَ : وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يَرِثُهُ كَلَالَةً ، وَلِأَنَّهُ يُقَالُ عَقِيمٌ لِمَنْ لَا وَلَدَ لَهُ ، وَيَتِيمٌ لِمَنْ لَا وَالِدَ لَهُ ، وَكَلَالَةٌ لِمَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ ، وَقَالَ آخَرُونَ : الْكَلَالَةُ اسْمٌ لِلْوَرَثَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَهَذَا أَيْضًا صَحِيحٌ .

وَإِنْ قِيلَ : لَمْ يَتَعَدَّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ [ النِّسَاءِ : 176 ] فَكَانَتِ الْفُتْيَا عَنِ الْكَلَالَةِ مَا بَيَّنَهُ مِنَ الْحُكْمِ فِي وَلَدِ الْأَبِ . وَقَالَ آخَرُونَ : الْكَلَالَةُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرِكَةِ تُطْلَقُ عَلَى الْمَيِّتِ إِذَا لَمْ يَتْرُكْ وَلَدًا وَلَا وَالِدًا ، وَعَلَى الْوَرَثَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ ، لِاحْتِمَالِ الْأَمْرَيْنِ . قَالُوا : فَالْكَلَالَةُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ [ النِّسَاءِ 12 ] اسْمٌ لِلْمَيِّتِ وَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ اسْمٌ لِلْوَرَثَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ لَا تَرِثُ الْإِخْوَةُ وَلَا الْأَخَوَاتُ مَنْ كَانُوا مَعَ الْأَبِ وَلَا مَعَ الِابْنِ وَلَا مَعَ ابْنِ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَا تَرِثُ الْإِخْوَةُ وَلَا الْأَخَوَاتُ مَنْ كَانُوا مَعَ الْأَبِ وَلَا مَعَ الِابْنِ وَلَا مَعَ ابْنِ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ يَسْقُطُونَ مَعَ ثَلَاثَةٍ الإرث : مَعَ الِابْنِ دُونَ الْبِنْتِ وَمَعَ ابْنِ الِابْنِ وَمَعَ الْأَبِ وَلَا يَسْقُطُونَ مَعَ الْجِدِّ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي بَابِ الْجَدِّ ، وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ تَشِذُّ عَنْهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعَ الْأَبَوَيْنِ إِخْوَةٌ حَجَبُوا الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ وَاسْتَحَقُّوا السُّدُسَ الَّذِي حَجَبُوا الْأُمَّ عَنْهُ : لِأَنَّ الْأَبَ لَا يَسْتَحِقُّهُ مَعَ عَدَمِ الْإِخْوَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّهُ بِوُجُودِ الْإِخْوَةِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ [ النِّسَاءِ : 11 ] ، فَكَانَ الْبَاقِي بَعْدَهُ لِلْأَبِ ، ثُمَّ قَالَ : فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [ النِّسَاءِ : 11 ] ، فَدَلَّ الظَّاهِرُ عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ أَيْضًا لِلْأَبِ . وَلِأَنَّ الْإِخْوَةَ لَا يَرِثُونَ مَعَ الْأَبِ وَحْدَهُ ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَرِثُوا مَعَهُ وَمَعَ الْأُمِّ ، وَلِأَنَّ مَنْ أَدْلَى بِعَصَبَةٍ لَمْ يَرِثْ مَعَ وُجُودِ تِلْكَ الْعَصَبَةِ : كَابْنِ الِابْنِ مَعَ الِابْنِ ، وَكَالْجَدِّ مَعَ الْأَبِ . فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيْسَ الْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ يُدْلُونَ بِالْأُمِّ وَيَرِثُونَ مَعَهَا ، فَهَلَّا كَانَ الْإِخْوَةُ مَعَ الْأَبِ ، وَإِنْ أَدْلَوْا بِهِ يَرِثُونَ مَعَهُ . قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِخْوَةَ لِلْأَبِ عَصَبَةٌ يُدْلُونَ بِعَصَبَةٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْفَعُوهُ عَنْ حَقِّهِ مَعَ إِدْلَائِهِمْ بِهِ ، وَالْإِخْوَةَ لِلْأُمِّ ذُو فَرْضٍ لَا يَدْفَعُونَ الْأُمَّ عَنْ فَرْضِهَا فَجَازَ أَنْ يَرِثُوا مَعَهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْإِخْوَةَ لِلْأُمِّ لَا تَأْخُذُ الْأُمُّ فَرْضَهُمْ إِذَا عَدِمُوا فَلَمْ يَدْفَعْهُمْ عَنْهُ إِذَا وَجَدُوا ، وَالْإِخْوَةَ لِلْأَبِ يَأْخُذُ الْأَبُ حَقَّهُمْ إِذَا عَدِمُوا فَدَفَعَهُمْ عَنْهُ إِذَا وَجَدُوا . فَأَمَّا حَجْبُهُمُ الْأُمَّ عَنِ السُّدُسِ فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ حَجَبَ عَنْ فَرْضٍ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ الْحَجْبَ ، أَلَا تَرَى أَنَّ فَرْضَ الْبِنْتِ النِّصْفُ لَوْ لَمْ تَحْجُبْ أَحَدًا وَلَوْ حَجَبَتِ الزَّوْجَ إِلَى الرُّبُعِ وَالزَّوْجَةَ إِلَى الثُّمُنِ وَالْأُمَّ إِلَى السُّدُسِ لَمْ يَعُدْ عَلَيْهَا مَا حَجَبَتْهُمْ عَنْهُ مِنَ الْفُرُوضِ وَكَذَلِكَ الْإِخْوَةُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِلْأَبِ فَيَسْقُطُونَ مَعَ مَنْ تَسْقُطُ مَعَهُ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ

لِلْأَبِ وَالْأُمِّ مِنَ الِابْنِ وَابْنِ الِابْنِ وَالْأَبِ ، وَيَسْقُطُونَ أَيْضًا مِعِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : أَعْيَانُ بَنِي الْأُمَّ يَتَوَارَثُونَ دُونَ بَنِي الْعَلَّاتِ .

مَسْأَلَةٌ لَا يَرِثُ مَعَ الْأَبِ أَبَوَاهُ وَلَا مَعَ الْأُمِّ جَدَّةٌ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَا يَرِثُ مَعَ الْأَبِ أَبَوَاهُ وَلَا مَعَ الْأُمِّ جَدَّةٌ . وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَعْنَاهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا خِلَافَ أَنَّ الْجَدَّاتِ لَا يَرِثْنَ مَعَ الْأُمِّ ، سَوَاءٌ مَنْ كُنَّ مِنْهُنَّ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ لِأَنَّهُنَّ يَرِثْنَ بِالْوِلَادَةِ فَكَانَتِ الْأُمُّ أَوْلَى مِنْهُنَّ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مُبَاشِرَةٌ لِلْوِلَادَةِ بِخِلَافِهِنَّ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْوِلَادَةَ فِيهَا مَعْلُومَةٌ وَفِي غَيْرِهَا مَظْنُونَةٌ ، فَلِفَوْتِهَا بِهَذَيْنِ أَحْجَبَتْ جَمِيعَ الْجَدَّاتِ . وَأَمَّا الْأَبُ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَحْجُبُ أَبَاهُ وَهُوَ الْجَدُّ وَلَا يَحْجُبُ الْجَدَّةَ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ ، وَاخْتَلَفُوا فِي حَجْبِهِ لِأُمِّهِ الأب في الإرث ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ الْجَدَّةَ أُمَّ الْأَبِ تَسْقُطُ بِالْأَبِ كَالْجَدِّ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ سِيرِينَ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْجَدَّةُ أُمُّ الْأَبِ تَرِثُ مَعَ الْأَبِ كَمَا تَرِثُ مَعَ أُمِّ الْأُمِّ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعِمْرَانُ بْنُ الْحُسَيْنِ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَشُرَيْحٌ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْجَدَّةِ مَعَ ابْنِهَا إِنَّهَا أَوَّلُ جَدَّةٍ أَطْعَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُدُسًا وَابْنُهَا حَيٌّ . وَرَوَى الْحَسَنُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ وَرَّثَ الْجَدَّةَ مَعَ ابْنِهَا ، وَرَوَى أَنَّهُ وَرَّثَ حَسَكَةَ مَعَ ابْنِهَا ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا ضَعُفَ الْأَبُ عَنْ حَجْبِ أُمِّ الْأُمِّ وَهِيَ بِإِزَائِهَا ضَعُفَ أَيْضًا عَنْ حَجْبِهَا ، وَلِأَنَّ الْجَدَّةَ وَإِنْ أَدْلَتْ بِالْأَبِ فَهِيَ غَيْرُ مُضِرَّةٍ بِهِ : لِأَنَّهَا تُشَارِكُ أُمَّ الْأُمِّ فِي فَرْضِهَا فَجَرَى مَجْرَى الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ لَمَّا لَمْ يَضُرُّوا بِالْأُمِّ لَمْ يَسْقُطُوا مَعَ الْأُمِّ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَدْلَى إِلَى الْمَيِّتِ بِأَبٍ وَارِثٍ سَقَطَ بِهِ كَالْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ ، وَلِأَنَّ الْإِدْلَاءَ إِلَى الْمَيِّتِ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ يَمْنَعُ مِنْ مُشَارَكَتِهِ فِي الْمِيرَاثِ كَوَلَدِ الِابْنِ مَعَ الِابْنِ وَوَلَدِ الْإِخْوَةِ مَعَ الْإِخْوَةِ ، وَلِأَنَّهَا جَدَّةٌ تُدْلِي بِوَلَدِهَا فَلَمْ يُجِزْ أَنْ تُشَارِكَ وَلَدَهَا فِي الْمِيرَاثِ كَالْجَدَّةِ أُمِّ الْأُمِّ مَعَ الْأُمِّ ، وَأَمَّا الْمَرْوِيُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ وَرَّثَ الْجَدَّةَ وَابْنُهَا حَيٌّ فَضَعِيفٌ : لِأَنَّ صِحَّتَهُ تَمْنَعُ مِنِ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِيهِ ، ثُمَّ لَوْ سَلِمَ لَكَانَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ . أَحَدُهَا : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى تَوْرِيثِ الْجَدَّةِ أُمِّ الْأُمِّ مَعَ ابْنِهَا الَّذِي هُوَ الْخَالُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى تَوْرِيثِ أُمِّ الْأَبِ مَعَ ابْنِهَا وَهُوَ الْعَمُّ .

وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْأَبِ إِذَا كَانَ كَافِرًا أَوْ قَاتِلًا ، وَيُسْتَفَادُ بِذَلِكَ أَنْ لَا يُسْقِطَ مِيرَاثًا بِسُقُوطِ مَنْ أَدْلَتْ بِهِ ، فَأَمَّا أُمُّ الْأُمِّ فَإِنَّمَا لَمْ يَحْجُبْهَا الْأَبُ لِإِدْلَائِهَا بِغَيْرِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ أُمُّهُ لِإِدْلَائِهَا بِهِ ، وَأَمَّا عَدَمُ إِضْرَارِهَا بِالْأَبِ فَقَدْ تَضُرُّ بِهِ : لِأَنَّهَا تَأْخُذُ فَرْضَهَا مِنْ مَالٍ كَانَ يَسْتَوْعِبُهُ بِالتَّعْصِيبِ ، ثُمَّ لَوْ لَمْ تَضُرَّ لِجَازَ أَنْ يُسْقِطَهَا كَمَا يُسْقِطُ الْإِخْوَةَ لِلْأُمِّ ، وَإِنْ لَمْ يَضُرُّوهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْمَوَارِيثِ

بَابُ الْمَوَارِيثِ قَالَ الْمُزَنِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " وَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ ، فَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ أَوْ وَلَدُ وَلَدٍ وَإِنْ سَفَلَ فَلَهُ الرُّبُعُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوَارِيثِ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا جَعَلَهُ مُرْسَلًا وَهُوَ مَوَارِيثُ الْعَصَبَاتِ يَسْتَوْعِبُونَ الْمَالَ إِذَا لَمْ يَكُنْ فَرْضًا وَيَأْخُذُونَ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْفَرْضِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [ النِّسَاءِ : 11 ] ، فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ قَبْلَ نُزُولِهَا بِالْوَصِيَّةِ ، وَقَالَ اللَّهُ : وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [ النِّسَاءِ : 176 ] . وَالنَّوْعُ الثَّانِي : جَعْلُهُ فَرْضًا مُقَدَّرًا ، وَالْفُرُوضُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى سِتَّةٌ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا فِي الْآيِ الثَّلَاثِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ وَهِيَ : النِّصْفُ ، وَالرُّبُعُ ، وَالثُّمُنُ ، وَالثُّلُثَانِ ، وَالثُّلُثُ ، وَالسُّدُسُ . فَكَأَنَّهُمَا النِّصْفُ وَنِصْفُهُ وَنِصْفُ نِصْفِهِ ، وَالثُّلُثَانِ وَنِصْفُهُمَا وَنِصْفُ نِصْفِهِمَا ، فَأَمَّا النِّصْفُ فَفَرْضُ خَمْسَةٍ : فَرْضُ الزَّوْجِ إِذَا لَمْ يُحْجَبْ ، وَفَرْضُ الْبِنْتِ ، وَفَرْضُ بِنْتِ الِابْنِ ، وَفَرْضُ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ، وَفَرْضُ الْأُخْتِ لِلْأَبِ . وَأَمَّا الرُّبُعُ فَفَرْضُ اثْنَيْنِ : فَرْضُ الزَّوْجِ مَعَ الْحَجْبِ ، وَفَرْضُ الزَّوْجَةِ أَوِ الزَّوْجَاتِ مَعَ عَدَمِ الْحَجَبَةِ . وَأَمَّا الثُّمُنُ فَهُوَ فَرْضٌ وَاحِدٌ وَهُوَ فَرْضُ الزَّوْجَةِ وَالزَّوْجَاتِ مَعَ الْحَجْبِ . وَأَمَّا الثُّلُثَانِ فَفَرْضُ أَرْبَعَةٍ : فَرْضُ الْبِنْتَيْنِ فَصَاعِدًا ، وَفَرْضُ بِنْتَيِ الِابْنِ فَصَاعِدًا ، وَفَرْضُ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ فَصَاعِدًا ، وَفَرْضُ الْأُخْتَيْنِ لِلْأَبِ فَصَاعِدًا ، فَالثُّلُثَانِ فَرْضُ كُلِّ اثْنَيْنِ كَانَ فَرْضُ إِحْدَاهُمَا النِّصْفُ ، وَأَمَّا الثُّلُثُ فَفَرْضُ فَرِيقَيْنِ : فَرْضُ الْأُمِّ إِذَا لَمْ تُحْجَبْ ، وَفَرْضُ الِابْنَيْنِ فَصَاعِدًا مِنْ وَلَدِ الْأُمِّ . وَأَمَّا السُّدُسُ فَفَرْضُ سَبْعَةٍ : فَرْضُ الْأَبِ ، وَفَرْضُ الْجَدِّ ، وَفَرْضُ الْأُمِّ مَعَ الْحَجْبِ ، وَفَرْضُ الْجَدَّةِ ، أَوِ الْجَدَّاتِ ، وَفَرْضُ الْوَاحِدِ مِنْ وَلَدِ الْأُمِّ ، وَفَرْضُ بِنْتِ الِابْنِ مَعَ بِنْتِ الصُّلْبِ ، وَفَرْضُ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ مَعَ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ ثُلُثَانِ وَثُلُثَانِ ، وَلَا ثُلُثٌ وَثُلُثٌ ، وَلَا نِصْفٌ وَنِصْفٌ إِلَّا فِي زَوْجٍ وَأُخْتٍ ، فَأَمَّا فِي بِنْتٍ وَأُخْتٍ فَلَيْسَ نِصْفُ الْأُخْتِ مَعَ الْبِنْتِ فَرْضًا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ رُبُعَانِ وَلَا رُبُعٌ وَثُمُنٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفُرُوضِ فَقَدْ بَدَأَ الشَّافِعِيُّ بِفَرْضِ الزَّوْجِ وَفَرْضُهُ النِّصْفُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتَةِ وَلَدٌ وَلَا وَلَدُ ابْنٍ ، فَإِنْ كَانَ لَهَا وَلَدٌ أَوْ وَلَدُ ابْنٍ فَفَرْضُهُ الرُّبُعُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [ النِّسَاءِ 12 ] ، فَصَارَ فَرْضُ الزَّوْجِ الإرث النِّصْفَ ، وَقَدْ يَأْخُذُهُ تَارَةً كَامِلًا وَتَارَةً عَائِلًا وَأَقَلُّ فَرْضٍ الرُّبُعُ ، وَقَدْ يَأْخُذُهُ تَارَةً كَامِلًا وَتَارَةً عَائِلًا وَلَا فَرْقَ فِي حَجْبِ الزَّوْجِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْهُمَا أَوْ مِنْهَا دُونَهُ ، سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ، صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ، وَهَكَذَا وَلَدُ الِابْنِ يَحْجُبُ الزَّوْجَ كَمَا يَحْجُبُهُ الْوَلَدُ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَحْجُبُ بِالِاسْمِ أَوْ بِالْمَعْنَى ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَحْجُبُ بِالِاسْمِ لِأَنَّهُ يُسَمَّى وَلَدًا . وَقَالَ آخَرُونَ : يَحْجُبُ بِالْمَعْنَى لَا بِالِاسْمِ : لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْوَلَدِ يَنْطَلِقُ عَلَى وَلَدِ الصُّلْبِ ، فَلِذَلِكَ قُلْنَا : إِنَّ مَنْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِ وَلَدِهِ فِيهِ حَقٌّ ، فَأَمَّا فِي الْحَجْبِ فَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ يَقُومُ فِيهِ مَقَامَ الْوَلَدِ إِلَّا مَا يُحْكَى عَنْ مُجَاهِدٍ حِكَايَةً شَاذَّةً أَنَّ الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ لَا يُحْجَبَانِ بِوَلَدِ الْوَلَدِ ، وَهَذَا قَوْلٌ مَدْفُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَالْمَعْنَى إِنْ نَازَعَ فِي الِاسْمِ ، فَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ فِي وَلَدِ الِابْنِ بَيْنَ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمُ الْوَاحِدُ وَالْجَمَاعَةُ فِيهِ سَوَاءٌ . فَأَمَّا وَلَدُ الْبِنْتِ فَلَا يَحْجُبُ : لِأَنَّهُ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ : فَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ أَوْ وَلَدُ وَلَدٍ ، إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ وَلَدَ الِابْنِ دُونَ وَلَدِ الْبِنْتِ ، وَلَيْسَ كَمَا جَهِلَ بَعْضُ النَّاسِ فَعَابَهُ وَخَطَّأَهُ فِيهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلِلْمَرْأَةِ الرُّبُعُ ، فَإِنْ كَانَ لَلْمَيِّتِ وَلَدٌ أَوْ وَلَدُ وَلَدٍ وَإِنْ سَفَلَ فَلَهَا الثُّمُنُ ، وَالْمَرْأَتَانِ وَالثَّلَاثُ وَالْأَرْبَعُ شُرَكَاءُ فِي الرُّبُعِ إِذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ ، وَفِي الثُّمُنِ إِذَا كَانَ وَلَدٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ لِلزَّوْجَةِ فَرْضَانِ الإرث أَعْلَى وَأَدْنَى ، فَأَمَّا الْأَعْلَى فَهُوَ الرُّبُعُ يُفْرَضُ لَهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ وَلَا وَلَدُ ابْنٍ فَأَعْلَى فَرْضِهَا هُوَ أَدْنَى فَرْضِ الزَّوْجِ : لِأَنَّ مِيرَاثَ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ مِيرَاثِ الرَّجُلِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْأَبَوَانِ مَعَهُمُ الِابْنُ . وَالثَّانِي : الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِلْأُمِّ ، فَإِنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِمَا الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ وَيَتَفَاضَلُونَ فِيمَا سِوَاهُمَا . ثُمَّ هَذَا الرُّبُعُ قَدْ تَأْخُذُهُ تَارَةً كَامِلًا وَتَارَةً عَائِلًا ، فَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ أَوْ وَلَدُ ابْنٍ وَإِنْ سَفَلَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْهُ دُونَهَا فَلَهَا الثُّمُنُ ، ثُمَّ قَدْ تَأْخُذُ الثُّمُنَ تَارَةً كَامِلًا وَتَارَةً عَائِلًا ، ثُمَّ هَذَانِ الْفَرْضَانِ أُخِذَا مِنْ نَصِّ الْكِتَابِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ [ النِّسَاءِ 12 ] ، فَإِنْ كُنَّ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ اشْتَرَكْنَ وَلَوْ كُنَّ أَرْبَعًا فِي الرُّبُعِ إِذَا لَمْ يُحْجَبْنَ . وَفِي الثُّمُنِ إِذَا حُجِبْنَ وَصِرْنَ وَالْجَدَّاتِ سَوَاءً يَشْتَرِكْنَ فِي الْفَرْضِ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَثُرْنَ وَلَا يَزِيدُ بِزِيَادَتِهِنَّ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ ، فَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ أَوْ وَلَدُ وَلَدٍ أَوِ اثْنَانِ مِنَ الْإِخْوَةِ أَوِ الْأَخَوَاتِ فَصَاعِدًا ، فَلَهَا السُّدُسُ إِلَّا فِي فَرِيضَتَيْنِ ، إِحْدَاهُمَا زَوْجٌ وَأَبَوَانِ ، وَالْأُخْرَى امْرَأَةٌ وَأَبَوَانِ ، فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي هَاتَيْنِ الْفَرِيضَتَيْنِ لِلْأُمِّ ثُلُثُ مَا يَبْقَى بَعْدَ نَصِيبِ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأَبِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ لِلْأُمِّ فِي مِيرَاثِهَا ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ : إِحْدَاهُنَّ : أَنْ يُفْرَضَ لَهَا الثُّلُثُ وَهُوَ أَكْمَلُ أَحْوَالِهَا ، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ وَلَا وَلَدُ ابْنٍ وَلَا اثْنَانِ فَصَاعِدًا مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ [ النِّسَاءِ 11 ] ، فَاقْتَضَى الْكَلَامُ أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ ثُلُثِ الْأُمِّ لِلِابْنِ ، وَهَذَا الثُّلُثُ قَدْ تَأْخُذُهُ تَارَةً كَامِلًا ، وَقَدْ تَأْخُذُهُ تَارَةً عَائِلًا . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُفْرَضَ لَهَا السُّدُسُ وَذَلِكَ أَقَلُّ أَحْوَالِهَا إِذَا حُجِبَتْ عَنِ الثُّلُثِ وَحَجْبُهَا عَنِ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ يَكُونُ بِصِنْفَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْوَلَدُ أَوْ وَلَدُ الِابْنِ يَحْجُبُ الْأُمَّ عَنِ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى ، كَمَا قُلْنَا فِي حَجْبِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْوَلَدُ أَوْ وَلَدُ الِابْنِ بِالْإِجْمَاعِ إِلَّا مَا خَالَفَ فِيهِ مُجَاهِدٌ وَحْدَهُ حَيْثُ لَمْ يَحْجُبْ بِوَلَدِ الِابْنِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [ النِّسَاءِ : 11 ] . وَالصِّنْفُ الثَّانِي : حَجْبُهَا بِالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ ، فَالْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَا يَحْجُبُهَا إِجْمَاعًا ، وَالثَّلَاثَةُ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ يَحْجُبُونَهَا عَنِ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ إِجْمَاعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [ النِّسَاءِ 11 ] ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِخْوَةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَوْ أُمٍّ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِخْوَةُ ذُكُورًا أَوْ إِنَاثًا ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : لَا أَحْجُبُ الْأُمَّ بِالْأَخَوَاتِ الْمُنْفَرِدَاتِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [ النِّسَاءِ : 11 ] . وَاسْمُ الْإِخْوَةِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى الْأَخَوَاتِ بِانْفِرَادِهِنَّ ، وَإِنَّمَا يَتَأَوَّلُهُنَّ الْعُمُومُ إِذَا دَخَلْنَ مِعِ الْإِخْوَةِ تَبَعًا ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ الْجِنْسَ ، وَإِذَا كَانَ الْجِنْسُ مُشْتَمِلًا عَلَى الْفَرِيقَيْنِ غَلَبَ فِي اللَّفْظِ حُكْمُ التَّذْكِيرِ ، عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ يَدْفَعُ قَوْلَ الْحَسَنِ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ . فَأَمَّا حَجْبُ الْأُمِّ بِالِاثْنَيْنِ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهَا تَحْجُبُ بِهِمَا إِلَى السُّدُسِ ، وَهُوَ قَوْلُ عَمْرٍو وَعَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةِ الْفُقَهَاءِ ، وَانْفَرَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ فَخَالَفَ الصَّحَابَةَ بِأَسْرِهِمْ فَلَمْ يَحْجُبْهَا إِلَّا بِالثَّلَاثَةِ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ فَصَاعِدًا ، وَهِيَ إِحْدَى مَسَائِلِهِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي خَالَفَ فِيهَا جَمِيعَ الصَّحَابَةِ اسْتِدْلَالًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [ النِّسَاءِ 11 ] فَذَكَرَ

الْإِخْوَةَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ ثَلَاثَةٌ . وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ : مَا بَالُ الْأَخَوَاتِ يَحْجُبْنَ الْأُمَّ عَنِ الثُّلُثِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [ النِّسَاءِ 11 ] فَقَالَ عُثْمَانُ : مَا كُنْتُ لِأُغَيِّرَ شَيْئًا تَوَارَثَ النَّاسُ عَلَيْهِ وَصَارَ فِي الْآفَاقِ . فَدَلَّ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ عُثْمَانَ عَلَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْقَرِضِ الْعَصْرُ عَلَى أَنَّ الْأَخَوَيْنِ يَحْجُبَانِهَا ، وَلَمْ يَأْخُذْ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَحَدٌ مِمَّنْ تَأَخَّرَ إِلَّا دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ . وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ إِجْمَاعُ مَنْ حَجَبَهَا بِالِاثْنَيْنِ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ هُوَ أَنَّ كُلَّ عَدَدٍ رُوعِيَ فِي تَغْيِيرِ الْفَرْضِ فَالِاثْنَانِ مِنْهُمْ يَقُومَانِ مَقَامَ الْجَمْعِ : كَالْأُخْتَيْنِ فِي الثُّلُثَيْنِ ، وَكَالْأَخَوَيْنِ مِنَ الْأُمِّ فِي الثُّلُثِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْحَجْبِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ ، وَقَدْ جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعِبَارَةِ عَنِ الِاثْنَيْنِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ [ ص : 22 ] ، فَذَكَرَهُمْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَهُمُ اثْنَانِ ، وَقَالَ تَعَالَى : وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ [ الْأَنْبِيَاءِ 78 ] ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَمْ يَمْتَنِعْ ذَلِكَ فِي ذِكْرِ الْإِخْوَةِ فِي الْحَجْبِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ حَجْبُهَا بِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا ، سَوَاءٌ كَانَا أَخَوَيْنِ أَوْ أُخْتَيْنِ أَوْ أَخٍ وَأُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ .

فَصْلٌ : مِنْ فُرُوضِ الْأُمِّ أَنْ تَكُونَ الْفَرِيضَةُ زَوْجًا وَأَبَوَيْنِ فَيَكُونُ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ مَا بَقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ وَالْبَاقِي لِلْأَبِ ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ ، وَتَفَرَّدَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِخِلَافِهِمْ ، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعِ الَّتِي خَالَفَهُمْ فِيهَا فَقَالَ : لِلْأُمِّ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ مِنَ الزَّوْجِ وَالْأَبَوَيْنِ وَفِي الزَّوْجَةِ وَالْأَبَوَيْنِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ [ النِّسَاءِ : 11 ] ، فَلَمْ يُجِزْ أَنْ تَأْخُذَ أَقَلَّ مِنْهُ . وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ مَذْهَبٌ خَالَفَ بِهِ الْقَوْلَيْنِ فَقَالَ : أُعْطِيهَا ثُلُثَ مَا بَقِيَ مِنْ زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ كَقَوْلِ الْجَمَاعَةِ : لِأَنَّهَا لَا تُفَضَّلُ عَلَى الْأَبِ ، وَأُعْطِيهَا مِنْ زَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : لِأَنَّهَا لَا تُفَضَّلُ بِذَلِكَ عَلَى الْأَبِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لَهَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ مَعًا ثُلُثَ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ [ النِّسَاءِ 11 ] ، فَجُعِلَ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ مِنْ مِيرَاثِ الْأَبَوَيْنِ ، وَمِيرَاثُهُمَا هُوَ مَا سِوَى فَرْضِ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَادَ عَلَى ثُلُثِ مَا وَرِثَهُ الْأَبَوَانِ ، وَلِأَنَّ الْأَبَوَيْنِ إِذَا انْفَرَدَا كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِلْأُمِّ ثُلُثُهُ وَلِلْأَبِ ثُلُثَاهُ ، فَوَجَبَ إِذَا زَاحَمَهَا ذَوُو فَرْضٍ أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي مِنْهُ بَيْنَهُمَا لِلْأُمِّ ثُلُثُهُ وَلِلْأَبِ ثُلُثَاهُ ، وَلِأَنَّ الْأَبَ أَقْوَى مِنَ الْأُمِّ : لِأَنَّهُ يُسَاوِيهَا فِي الْفَرْضِ وَيَزِيدُ عَلَيْهَا بِالتَّعْصِيبِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ أَزْيَدَ سَهْمًا مِنْهُ بِمُجَرَّدِ الرَّحِمِ . فَإِنْ قِيلَ : فَالْجَدُّ يُسَاوِي الْأَبَ إِذَا كَانَ مَعَ الْأُمِّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ ، ثُمَّ لِلْأُمِّ مَعَ الزَّوْجِ وَالْجَدِّ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَإِنْ صَارَتْ فِيهِ أَقَلَّ مِنَ الْجَدِّ ، كَذَلِكَ مَعَ الْأَبِ ، قِيلَ الْأَبُ أَقْوَى مِنَ الْجَدِّ لِإِدْلَاءِ الْجَدِّ بِالْأَبِ ، وَلِإِسْقَاطِ الْأَبِ مَنْ لَا يَسْقُطُ بِالْجَدِّ ، وَلِأَنَّهُ مُسَاوٍ لِلْأُمِّ فِي دَرَجَتِهِ مَعَ فَضْلِ

التَّعْصِيبِ ، وَالْجَدُّ أَبْعَدُ مِنْهَا فِي الدَّرَجَةِ ، وَإِنْ زَادَ الْأَبُ فِي التَّعْصِيبِ فَلِقُوَّةِ الْأَبِ عَلَى الْجَدِّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَاوِيَ بَيْنَهُمَا فِي التَّفْضِيلِ عَلَى الْأُمِّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِلْبِنْتَيْنِ فَصَاعِدًا الثُّلُثَانِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، أَمَّا الْبِنْتُ الْوَاحِدَةُ إِذَا انْفَرَدَتْ ميراثها فَفَرْضُهَا النِّصْفُ بِنَصِّ الْكِتَابِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [ النِّسَاءِ : 11 ] ، فَإِنْ كُنَّ اثْنَتَيْنِ فَصَاعِدًا فَفَرْضُهَا الثُّلُثَانِ ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ شَاذَّةٍ : إِنَّ فَرْضَ الْبِنْتَيْنِ النِّصْفُ كَالْوَاحِدَةِ وَفَرْضَ الثَّلَاثِ فَصَاعِدًا الثُّلُثَانِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ [ النِّسَاءِ 11 ] ، فَجَعَلَ الثُّلُثَيْنِ فَرْضًا لِمَنْ زَادَ عَلَى الِاثْنَيْنِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَرَّحَ فِي الْأَخَوَاتِ بِأَنَّ فَرْضَ الِاثْنَتَيْنِ فَصَاعِدًا الثُّلُثَانِ ، وَقَالَ فِي الْبَنَاتِ : فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ [ النِّسَاءِ 11 ] فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعَمَلُ مَحْمُولًا عَلَى ذَلِكَ التَّصْرِيحِ الْمُقَيَّدِ فِي الْأَخَوَاتِ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ بِخِلَافِهِ عَلَى مَا حُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِأَمْرَيْنِ تَرْجِيحٍ وَاسْتِدْلَالٍ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى فَرْضُ الْبِنْتِ وَالْأُخْتِ فِي النِّصْفِ اقْتَضَى أَنْ يَسْتَوِيَ فَرْضُ الْبِنْتَيْنِ وَالْأُخْتَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْبَنَاتَ أَقْوَى فِي الْمِيرَاثِ مِنَ الْأَخَوَاتِ ، لِأَنَّهُنَّ يَرِثْنَ مَعَ مَنْ يُسْقِطُ الْأَخَوَاتِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ فَرْضُ الْأُخْتَيْنِ مَعَ ضَعْفِهِنَّ الثُّلُثَيْنِ ، وَيَكُونُ فَرْضُ الْبِنْتَيْنِ في الميراث مَعَ قُوَّتِهِنَّ النِّصْفُ ، وَلَيْسَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ ( فَوْقَ ) صِلَةً زَائِدَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى : فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ [ الْأَنْفَالِ 12 ] ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى بِنْتَيْ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ مَعَ أُمِّهِمَا وَعَمِّهِمَا الثُّلُثَيْنِ وَالَأُمَّ الثُّمُنَ وَالْبَاقِيَ لِلْعَمِّ ، وَهَذَا نَصٌّ ، وَقَدْ رَوَيْنَا الْخَبَرَ بِكَمَالِهِ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فَرْضُ الْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ مَعَ بِنْتِ الِابْنِ الثُّلُثَيْنِ النِّصْفَ وَالسُّدُسَ ، فَلِأَنْ يَكُونَ الثُّلُثَانِ فَرْضَ الْبِنْتَيْنِ أَوْلَى .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " فَإِذَا اسْتَكْمَلَ الْبَنَاتُ الثُّلُثَيْنِ ، فَلَا شَيْءَ لِبَنَاتِ الِابْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمَيِّتِ ابْنُ ابْنٍ فَيَكُونُ مَا بَقِيَ لَهُ وَلِمَنْ فِي دَرَجَتِهِ أَوْ أَقْرَبَ إِلَى الْمَيِّتِ مِنْهُ مِنْ بَنَاتِ الِابْنِ مَا بَقِيَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : مَتَى اسْتَكْمَلَ بَنَاتُ الصُّلْبِ الثُّلُثَيْنِ فَلَا شَيْءَ لِبَنَاتِ الِابْنِ إِذَا انْفَرَدْنَ عَنْ ذَكَرٍ فِي دَرَجَتِهِنَّ أَوْ أَسْفَلَ مِنْهُنَّ وَسَقَطْنَ إِجْمَاعًا ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ فِي دَرَجَتِهِنَّ البنتين لابن : كَبِنْتِ ابْنٍ وَابْنِ ابْنٍ مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ أَبَوَيْنِ ، أَوْ كَانَ الذَّكَرُ أَسْفَلَ مِنْهُنَّ بِأَنْ يَكُونَ مَعَ بِنْتِ الِابْنِ ابْنُ ابْنٍ ، فَإِنَّهُ يُعَصِّبُهُنَّ وَيَكُونُ الْبَاقِي بَعْدَ الثُّلُثَيْنِ فَرْضَ الْبَنَاتِ بَيْنَ بَنَاتِ الِابْنِ

وَابْنِ الِابْنِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَهَكَذَا إِذَا كَانَ الذَّكَرُ أَسْفَلَ مِنْهُنَّ ، وَهَذَا قَوْلُ الْجَمَاعَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ وَتَفَرَّدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَجَعَلَ الْبَاقِيَ بَعْدَ الثُّلُثَيْنِ لِابْنِ الِابْنِ دُونَ بَنَاتِ الِابْنِ وَهِيَ إِحْدَى مَسَائِلِهِ الَّتِي تَفَرَّدَ فِيهَا بِمُخَالَفَةِ الصَّحَابَةِ ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ فَرْضَ الْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَزِدْنَ عَلَيْهِ ، فَإِذَا اسْتَكْمَلَهُ بَنَاتُ الصُّلْبِ سَقَطَ بِهِنَّ بَنَاتُ الِابْنِ لِاسْتِيعَابِ الْفَرْضِ وَصَارَ الْفَاضِلُ عَنْهُ إِلَى ابْنِ الِابْنِ بِالتَّعْصِيبِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [ النِّسَاءِ 11 ] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ ، وَلِأَنَّ الذَّكَرَ مِنَ الْوَلَدِ إِذَا كَانَ فِي دَرَجَتِهِ أُنْثَى عَصَّبَهَا وَلَمْ يُسْقِطْهَا كَأَوْلَادِ الصُّلْبِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ أُنْثَى تُشَارِكُ أَخَاهَا إِذَا لَمْ يُزَاحِمْهَا ذُو فَرْضٍ تُشَارِكُهُ مَعَ مُزَاحَمَةِ ذِي الْفَرْضِ كَمُزَاحَمَةِ الزَّوْجِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ فَرْضَ الْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ فَهُوَ كَذَلِكَ ، وَنَحْنُ لَمْ نُعْطِ بِنْتَ الِابْنِ في الميراث فَرْضًا ، وَإِنَّمَا أَعْطَيْنَاهَا بِالتَّعْصِيبِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ إِلَّا ابْنَةٌ وَاحِدَةٌ وَبِنْتُ ابْنٍ أَوْ بَنَاتُ ابْنٍ ، فَلِلِابْنَةِ النِّصْفُ وَلِبِنْتِ الِابْنِ أَوْ بَنَاتِ الِابْنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثلُثَيْنِ ، وَتَسْقُطُ بَنَاتُ ابْنِ الِابْنِ إِذَا كُنَّ أَسْفَلَ مِنْهُنَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ ابْنُ ابْنٍ فِي دَرَجَتِهِنَّ أَوْ أَبْعَدَ مِنْهُنَّ فَيَكُونُ مَا بَقِيَ لَهُ وَلِمَنْ فِي دَرَجَتِهِ أَوْ أَقْرَبَ إِلَى الْمَيِّتِ مِنْهُ مِنْ بَنَاتِ الِابْنِ مِمَّنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنَ الثُّلُثَيْنِ شَيْئًا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَيَسْقُطُ مَنْ أَسْفَلُ مِنَ الذَّكَرِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا ابْنَةٌ وَاحِدَةٌ وَكَانَ مَعَ بِنْتِ الِابْنِ أَوْ بَنَاتِ الِابْنِ ابْنُ ابْنٍ فِي دَرَجَتِهِنَّ ، فَلَا سُدُسَ لَهُنَّ ، وَلَكِنْ مَا بَقِيَ لَهُ وَلَهُنَّ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا تَرَكَ الْمَيِّتُ بِنْتًا وَبِنْتَ ابْنٍ كَانَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ ، لِرِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي قَيْسٍ الْأَوْدِيِّ عَنْ هُذَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ الْأَوْدِيِّ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَسَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ يَسْأَلُهُمَا عَنِ ابْنَةٍ وَابْنَةِ ابْنٍ وَأُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَقَالَا : لِابْنَتِهِ النِّصْفُ ، وَلِلْأُخْتِ فِي الْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ ، وَلَمْ يُوَرِّثَا بِنْتَ الِابْنِ شَيْئًا ، وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ سَيُتَابِعُنَا ، فَأَتَاهُ الرَّجُلُ فَسَأَلَهُ وَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِهِمَا ، فَقَالَ لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ، وَلَكِنْ سَأَقْضِي فِيهَا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لِابْنَتِهِ النِّصْفُ ، وَلِابْنَةِ الِابْنِ سَهْمٌ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ . وَهَكَذَا لَوْ كَانَتِ الْفَرِيضَةُ بِنْتًا وَعَشْرَ بَنَاتِ ابْنٍ في الميراث ، كَانَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِعَشْرِ بَنَاتِ الِابْنِ السُّدُسُ ، وَإِنْ كَثُرْنَ ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَتِ الْفَرِيضَةُ بِنْتًا وَعَشْرَ بَنَاتِ ابْنِ ابْنٍ أَسْفَلَ مِنْ بِنْتِ الصُّلْبِ بِثَلَاثِ دُرَجٍ كَانَ لَهُنَّ السُّدُسُ ، كَمَا لَوْ عَلَوْنَ ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ سَقَطَ فَرْضُ السُّدُسِ لَهُنَّ ، وَكَانَ الْبَاقِي بَعْدَ نَصِيبِ الْبِنْتِ بَيْنَ بَنَاتِ الِابْنِ وَأُخْتِهِنَّ لِلذِّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ : لِأَنَّهُ

عَصَّبَهُنَّ ، وَهَذَا قَوْلُ الْجَمَاعَةِ ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَهِيَ ثَانِي مَسَائِلِهِ الَّتِي تَفَرَّدَ فِيهَا بِخِلَافِ الصَّحَابَةِ : إِنَّ لِبَنَاتِ الِابْنِ إِذَا شَارَكَهُنَّ ذَكَرٌ في الميراث أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ السُّدُسِ الْبَاقِي مِنْ فَرْضِ الْبَنَاتِ بَعْدَ نِصْفِ الْبِنْتِ أَوِ الْمُقَاسَمَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ مُقَاسَمَةُ الذَّكَرِ الَّذِي فِي دَرَجَتِهِنَّ أَنْقَصَ لِسَهْمَيْنِ مِنَ السُّدُسِ قَاسَمَهُنَّ ، ثُمَّ مَا بَقِيَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَإِنْ كَانَتِ الْمُقَاسَمَةُ أَزْيَدَ مِنَ السُّدُسِ فُرِضَ لَهُنَّ السُّدُسُ ، وَجُعِلَ الْبَاقِي بَعْدَ الثُّلُثَيْنِ لِلذُّكُورِ مِنْ بَنِي الِابْنِ . وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ فَرْضَ الْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَزِدْنَ عَلَيْهِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اشْتِرَاكَ الْبِنْتَيْنِ وَالْبَنَاتِ فِي الْمِيرَاثِ يُوجِبُ الْمُقَاسَمَةَ دُونَ الْفَرْضِ قِيَاسًا عَلَى وَلَدِ الصُّلْبِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الذَّكَرَ إِذَا دَفَعَ أُخْتَهُ عَنِ الْمُقَاسَمَةِ أَسْقَطَهَا كَوَلَدِ الْإِخْوَةِ ، وَإِذَا لَمْ يُسْقِطْهَا شَارَكَتْهُ كَالْوَلَدِ ، وَفِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ دَفْعٌ لِهَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ ، وَقَوْلُهُ إِنَّ فَرْضَ الْبَنَاتِ لَا يَزِيدُ عَلَى الثُّلُثَيْنِ فَهُوَ عَلَى مَا قَالَ غَيْرَ أَنَّنَا نُسْقِطُ مَعَ مُشَارَكَةِ الذَّكَرِ فَرْضَهُنَّ فِيمَا يَأْخُذْنَهُ بِالتَّعْصِيبِ دُونَ الْفَرْضِ .

فَصْلٌ : فَلَوْ تَرَكَ بِنْتًا وَبِنْتَ ابْنٍ وَابْنَ ابْنِ ابْنٍ ، كَانَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ ، وَالْبَاقِي لِابْنِ ابْنِ الِابْنِ لَا يُعَصِّبُ عَمَّتَهُ إِذَا كَانَ لَهَا فَرْضٌ كَمَا أَنَّ ابْنَ الِابْنِ لَا يُعَصِّبُ الْبِنْتَ لِأَنَّهَا ذَاتُ فَرْضٍ ، فَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا بِنْتًا وَبِنْتَ ابْنٍ وَبِنْتَ ابْنِ ابْنٍ مَعَهَا أَخُوهَا ، كَانَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِابْنِ الِابْنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ وَالْبَاقِي بَيْنَ السُّفْلَى وَأَخِيهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الذَّكَرُ أَسْفَلَ مِنْهَا بِدَرَجَةٍ ، فَكَانَ ابْنَ ابْنِ ابْنِ ابْنٍ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ نِصْفِ الْبِنْتِ وَسُدُسِ بِنْتِ الِابْنِ مِنْ بِنْتِ ابْنِ الِابْنِ وَبَيْنَ ابْنِ أَخِيهَا الَّذِي هُوَ ابْنُ ابْنِ ابْنٍ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَعَصَّبَهَا مَعَ نُزُولِهِ عَنْ دَرَجَتِهَا : لِأَنَّهَا لَيْسَتْ ذَاتَ فَرْضٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِنْ كَانَ مَعَ الْبِنْتِ أَوِ الْبَنَاتِ لِلصُّلْبِ ابْنٌ فَلَا نِصْفَ وَلَا ثُلُثَيْنِ ، وَلَكِنَّ الْمَالَ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَيَسْقُطُ جَمِيعُ وَلَدِ الِابْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا كَانَ مَعَ الْبِنْتِ أَوِ الْبَنَاتِ اللَّاتِي لِلصُّلْبِ ابْنٌ ، سَقَطَ بِهِ فَرْضُ الْبَنَاتِ وَأَخَذْنَ الْمَالَ مَعَهُ بِالتَّعْصِيبِ لِلذِّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [ النِّسَاءِ 11 ] إِلَّا شَيْئَيْنِ سَقَطَ بِالِابْنِ جَمِيعُ أَوْلَادِ الِابْنِ ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا سَقَطَ بِالْإِخْوَةِ بَنُو الْإِخْوَةِ وَبِالْأَعْمَامِ بَنُو الْأَعْمَامِ لِرِوَايَةِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقْسِمِ الْمَالَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَرَائِضِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَمَا تَرَكَتِ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَوَلَدُ الِابْنِ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِ الصُّلْبِ فِي كُلٍّ إِذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدَ صُلْبٍ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَهَذَا مِمَّا قَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ : أَنَّ وَلَدَ الِابْنِ يَقُومُونَ مَقَامَ وَلَدِ الصُّلْبِ إِذَا عُدِمَ وَلَدُ الصُّلْبِ فِي فَرْضِ النِّصْفِ لِإِحْدَاهُنَّ وَالثُّلُثَيْنِ لِمَنْ زَادَ ، وَفِي مُقَاسَمَةِ إِخْوَتِهِنَّ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَفِي حَجْبِ الْأُمِّ وَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ إِلَّا مُجَاهِدًا فَإِنَّهُ خَالَفَ فِي الْحَجْبِ بِهِمْ وَوَافَقَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهِمْ ، وَهُوَ مَعَ دَفْعِ قَوْلِهِ بِالْإِجْمَاعِ مَحْجُوجٌ بِمُوَافَقَتِهِ عَلَى مَا سِوَى الْحَجْبِ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَيْهِ فِي الْحَجْبِ ، ثُمَّ إِذَا كَانَتْ بِنْتُ الِابْنِ تَقُومُ مَقَامَ بِنْتِ الصُّلْبِ عِنْدَ عَدَمِهَا كَانَتْ بِنْتُ الِابْنِ مَعَهَا فِي اسْتِحْقَاقِ السُّدُسِ قَائِمَةً مَقَامَ بِنْتِ الِابْنِ مَعَ ابْنَةِ الصُّلْبِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَعَلَى هَذَا لَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ بَنَاتٍ ابْنُ بَعْضِهِنَّ أَسْفَلُ مِنْ بَعْضٍ فَتَنْزِيلُهُنَّ أَنَّ الْعُلْيَا مِنْهُنَّ هِيَ بِنْتُ ابْنٍ وَالْوُسْطَى هِيَ بِنْتُ ابْنِ ابْنٍ وَالسُّفْلَى مِنْهُنَّ هِيَ بِنْتُ ابْنِ ابْنِ ابْنٍ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلْعُلْيَا النِّصْفُ وَلِلْوُسْطَى السُّدُسُ وَتَسْقُطُ السُّفْلَى ، فَإِنْ كَانَ مَعَ السُّفْلَى أَخُوهَا كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ النِّصْفِ وَالسُّدُسِ بَيْنَ السُّفْلَى وَأَخِيهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ مَعَ السُّفْلَى ابْنُ عَمِّهَا كَانَ فِي دَرَجَتِهَا وَعَصَّبَهَا فَأَخَذَ الْبَاقِي مَعَهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ مَعَ الْوُسْطَى ابْنُ أَخِيهَا فَهُوَ فِي دَرَجَةِ السُّفْلَى فَيُعَصِّبُهَا فِيمَا بَقِيَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، فَلَوْ كَانَ مَعَ السُّفْلَى ابْنُ أَخِيهَا وَكَانَ أَسْفَلَ مِنْهَا بِدَرَجَةٍ فَيُعَصِّبُهَا أَيْضًا فِيمَا بَقِيَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ : لِأَنَّ وَلَدَ الِابْنِ يُعَصِّبُ أُخْتَهُ وَمَنْ عَلَا عَمَّاتِهِ اللَّاتِي لَيْسَ لَهُنَّ فَرْضٌ مُسَمًّى ، وَيُعَصِّبُ مَنْ كَانَ فِي دَرَجَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ لَهَا فَرْضٌ مُسَمًّى ، فَلَوْ تَرَكَ أَرْبَعَ بَنَاتِ ابْنٍ بَعْضُهُنَّ أَسْفَلُ مِنْ بَعْضٍ مَعَ السُّفْلَى مِنْهُنَّ أَخُوهَا أَوِ ابْنُ عَمِّهَا أَوِ ابْنُ أَخِيهَا ، فَلِلْعُلْيَا النِّصْفُ وَلِلثَّانِيَةِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ ، وَالذَّكَرُ الَّذِي فِي دَرَجَةِ السُّفْلَى أَوْ أَسْفَلَ مِنْهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، فَلَوْ تَرَكَ بِنْتَيِ ابْنٍ وَبِنْتَ ابْنِ ابْنٍ وَبِنْتَ ابْنِ ابْنِ ابْنٍ مَعَهَا أَخُوهَا ، كَانَ لِبِنْتَيِ الِابْنِ الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي بَيْنَ بِنْتِ ابْنِ الِابْنِ وَبَيْنَ بِنْتِ ابْنِ ابْنِ الِابْنِ وَأَخِيهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ : لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ بِنْتَيِ الِابْنِ الثُّلُثَيْنِ يُسْقِطُ فَرْضَ مَنْ بَعْدَهُمَا وَيَأْخُذُ الْبَاقِي بِمُشَارَكَةِ الذَّكَرِ الَّذِي فِي دَرَجَتِهِنَّ أَوْ أَسْفَلَ مِنْهُنَّ بِالتَّعْصِيبِ ، فَلَوْ تَرَكَ بِنْتَ صُّلْبٍ وَثَلَاثَ بَنَاتِ ابْنٍ بَعْضُهُنَّ أَسْفَلُ مِنْ بَعْضٍ كَانَ لِبِنْتِ الصُّلْبِ النِّصْفُ وَلِبِنْتِ الِابْنِ الْعُلْيَا السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ وَسَقَطَتِ الْوُسْطَى وَالسُّفْلَى مِنْ بَنَاتِ الِابْنِ ، فَإِنْ كَانَ مَعَ السُّفْلَى أَخُوهَا أَوِ ابْنُ عَمِّهَا أَوِ ابْنُ أَخِيهَا عَصَّبَهَا وَعَصَّبَ الْوُسْطَى الَّتِي هِيَ أَعْلَى مِنْهَا وَكَانَ الْبَاقِي بَعْدَ النِّصْفِ وَالسُّدُسِ بَيْنَ الْوُسْطَى وَالسُّفْلَى وَأَخِيهَا أَوِ ابْنِ أَخِيهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، فَلَوْ تَرَكَ بَنَاتَ ابْنٍ بَعْضُهُنَّ أَسْفَلُ مِنْ بَعْضٍ مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَخُوهَا ، كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ بَيْنَ الْعُلْيَا وَأَخِيهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَسَقَطَ مَنْ بَعْدَهُمَا ، فَلَوْ كَانَ مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ بَنَاتِ الِابْنِ الثَّلَاثِ ابْنُ أَخِيهَا كَانَ لِلْعُلْيَا مِنْهُنَّ النِّصْفُ : لِأَنَّ ابْنَ أَخِيهَا فِي دَرَجَةِ الْوُسْطَى وَكَانَ الْبَاقِي بَعْدَ نِصْفِهَا لِلْوُسْطَى وَابْنِ أَخِي الْعُلْيَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، فَلَوْ كَانَ مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ بَنَاتِ الِابْنِ الثُّلَاثِ ابْنُ عَمِّهَا كَانَ كَالْأَخِ : لِأَنَّهُ فِي دَرَجَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ، فَيَكُونُ الْمَالُ كُلُّهُ بَيْنَ الْعُلْيَا وَبَيْنَ ابْنِ عَمِّهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، فَلَوْ كَانَ مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ بَنَاتِ الِابْنِ الثُّلَاثِ خَالُهَا ، فَخَالُ بَنَاتِ الِابْنِ أَجْنَبِيٌّ مِنَ الْمَيِّتِ فَيَكُونُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ ، فَلَوْ كَانَ مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَمُّ ابْنِ أَخِيهَا فَهُوَ أَخُوهَا ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى الْمَالُ كُلُّهُ بَيْنَ الْعُلْيَا وَعَمِّ

ابْنِ أَخِيهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، فَلَوْ كَانَ مَعَ الْعُلْيَا ثَلَاثُ بَنَاتِ أَعْمَامٍ مُفْتَرِقِينَ وَمَعَ السُّفْلَى ثَلَاثَةُ بَنَاتِ أَعْمَامٍ مُتَفَرِّقِينَ ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ رَجُلًا كَانَ لِلْعُلْيَا وَبِنْتِ عَمِّهَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا وَبِنْتِ عَمِّهَا لِأَبِيهَا الثُّلُثَانِ ، وَتَسْقُطُ بِنْتُ عَمِّهَا : لِأَنَّهَا بِنْتُ أُمِّ الْمَيِّتِ ، وَكَانَ الْبَاقِي بَيْنَ الْوُسْطَى وَالسُّفْلَى وَابْنِ عَمِّهَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا وَابْنِ عَمِّهَا لِأَبِيهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَيَسْقُطُ ابْنُ عَمِّ السُّفْلَى لِأُمِّهَا ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً كَانَ الثُّلُثَانِ بَيْنَ الْعُلْيَا وَبِنْتِ عَمِّهَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا وَبِنْتِ عَمِّهَا لِأُمِّهَا وَتَسْقُطُ بِنْتُ عَمِّهَا لِأَبِيهَا : لِأَنَّهَا بِنْتُ زَوْجِ الْمَيِّتَةِ ، فَلَوْ كَانَ مَعَ الْعُلْيَا ثَلَاثُ عَمَّاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ وَمَعَ السُّفْلَى عَمٌّ وَعَمَّةُ ابْنِ أَخِيهَا وَخَالٌ وَخَالَةُ ابْنِ أَخِيهَا ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ رَجُلًا فَلِعَمَّتِهِ الْعُلْيَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا وَعَمَّتِهَا لِأَبِيِهَا الثُّلُثَانِ : لِأَنَّهَا بِنْتُ الْمَيِّتِ وَلَا شَيْءَ لِعَمَّتِهَا لِأُمِّهَا : لِأَنَّهَا بِنْتُ امْرَأَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً فَلِعَمَّتِهَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا وَعَمَّتِهَا لِأُمِّهَا الثُّلُثَانِ وَلَا شَيْءَ لِعَمَّتِهَا لِأَبِيهَا : لِأَنَّهَا بِنْتُ زَوْجِ الْمَيِّتَةِ ، ثُمَّ يَكُونُ مَا بَقِيَ بَعْدَ الثُّلُثَيْنِ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا بَيْنَ الْعُلْيَا وَالْوُسْطَى وَالسُّفْلَى وَعَمٍّ وَعَمَّةِ ابْنِ أَخِيهَا وَخَالٍ وَخَالَةِ ابْنِ أَخِيهَا : لِأَنَّ كُلَّ هَؤُلَاءِ فِي دَرَجَتِهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، ثُمَّ عَلَى قِيَاسِ هَذَا جَمِيعُ مَسَائِلِ هَذَا الْفَصْلِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَبَنُو الْإِخْوَةِ لَا يَحْجُبُونَ الْأُمَّ عَنِ الثُلُثِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ بَنِي الْإِخْوَةِ لَا يَحْجُبُونَ الْأُمَّ عَنِ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ ، بِخِلَافِ آبَائِهِمْ وَإِنْ حَجَبَهَا وَلَدُ الْوَلَدِ كَآبَائِهِمْ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ بَنِي الْإِخْوَةِ وَبَيْنَ بَنِي الِابْنِ فِي الْحَجْبِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ بَنِي الْإِخْوَةِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِمُ اسْمَ الْإِخْوَةِ وَبَنِي الِابْنِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِمُ اسْمَ الِابْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ بَنِي الْإِخْوَةِ لَمَّا ضَعُفُوا عَنْ تَعْصِيبِ أَخَوَاتِهِمْ ، بِخِلَافِ آبَائِهِمْ ضَعُفُوا عَنْ حَجْبِ الْأُمِّ بِخِلَافِ آبَائِهِمْ ، وَبَنُو الِابْنِ لَمَّا قَوُوا عَلَى تَعْصِيبِ أَخَوَاتِهِمْ كَآبَائِهِمْ قَوُوا عَلَى حَجْبِ الْأُمِّ كَآبَائِهِمْ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْوَلَدَ أَقْوَى فِي الْحَجْبِ مِنَ الْإِخْوَةِ لِأَنَّهُمْ يَحْجُبُونَ مَعَ الْأُمِّ الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ ، بِخِلَافِ الْإِخْوَةِ ، فَكَانَ وَلَدُ الْوَلَدِ أَقْوَى فِي الْحَجْبِ مِنْ أَوْلَادِ الْإِخْوَةِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَا يَرِثُونَ مَعَ الْجَدِّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّهُ إِجْمَاعٌ لَا يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ أَنَّ بَنِي الْإِخْوَةِ لَا يَرِثُونَ مَعَ الْجَدِّ وَإِنْ وَرِثَ مَعَهُ آبَاؤُهُمْ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْجَدَّ أَقْرَبُ إِلَى أَبِ الْمَيِّتِ مِنْ بَنِي الْإِخْوَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَحَقَّ بِمِيرَاثِهِ مَنْ بَنِي الْإِخْوَةِ .

وَالثَّانِي : أَنَّ الْجَدَّ كَالْإِخْوَةِ فِي الْمُقَاسَمَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ مَعَهُ بَنُو الْإِخْوَةِ كَمَا يَسْقُطُونَ بِالْإِخْوَةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلِوَاحِدِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ السُّدُسُ ، وَلِلِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا الثُّلُثُ ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : فَرْضُ الْوَاحِدِ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِلْأُمِّ السُّدُسُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [ النِّسَاءِ 12 ] ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يَقْرَأُ " وَكَانَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمِّهِ " ، فَإِنْ كَانُوا اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا فَفَرْضُهُمُ الثُّلُثُ نَصًّا وَإِجْمَاعًا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ [ النِّسَاءِ 12 ] ثُمَّ يَسْتَوِي فِيهِ ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ ، وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رِوَايَةً شَاذَّةً أَنَّهُمْ يُقَسِّمُونَ الثُّلُثَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ قِيَاسًا عَلَى وَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الشَّيْءِ يُوجِبُ التَّسَاوِي إِلَّا أَنْ يَرِدَ نَصٌّ بِالتَّفَاضُلِ ، وَلِأَنَّ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ لِلْأُمِّ يَرِثُونَ بِالرَّحِمِ ، وَالْأَبَوَانِ إِذَا وَرِثَا فَرْضًا بِالرَّحِمِ تَسَاوَيَا فِيهِ وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سُدُسًا مِثْلَ سُدُسِ صَاحِبِهِ كَذَلِكَ وَلَدُ الْأُمِّ لِمِيرَاثِهِمْ بِالرَّحِمِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ ، وَلِلْأُخْتَيْنِ فَصَاعِدًا الثلُثَانِ ، فَإِذَا اسْتَوْفَى الْأَخَوَاتُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ الثُلُثَيْنِ ، فَلَا شَيْءَ لَلْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ أَخٌ ، فَيَكُونُ لَهُ وَلَهُنَّ مَا بَقِيَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظَّ الْأُنْثَيَيْنِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا أُخْتٌ وَاحِدَةٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتٌ أَوْ أَخَوَاتٌ لِأَبٍ ، فَلِأُخْتِ الْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ ، وَلِلْأُخْتِ أَوِ الْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ السُدُسُ تَكْمِلَةَ الثُلُثَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْأُخْتِ أَوِ الْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ فرضهن في الميراث أَخٌ لِأَبٍ فَلَا سُدُسَ لَهُنَّ وَلَهُنَّ وَلَهُ مَا بَقِيَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ أَخٌ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ، فَلَا نِصْفَ وَلَا ثُلُثَيْنِ ، وَلَكِنَّ الْمَالَ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَتَسْقُطُ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِلْأَبِ ، الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِلْأَبِ في الميراث بِمَنْزِلَةِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ إِلَّا فِي فَرِيضَةٍ وَهِيَ زَوْجٌ وَأُمٌّ وَإِخْوَةٌ لِأُمٍّ وَإِخْوَةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ ، فَيَكُونُ لِلُّزُوجِ النِّصْفُ ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ ، وَلِلْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ الثُّلُثُ ، وَيُشَارِكُهُمُ الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ فِي ثُلُثِهِمْ ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ سَوَاءٌ ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ إِخْوَةٌ لِأَبٍ لَمْ يَرِثُوا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ حُكْمُ الْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ حُكْمُ بَنَاتِ الصُّلْبِ ، وَحُكْمُ الْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ حُكْمُ بَنَاتِ الِابْنِ ، فَفَرْضُ الْأُخْتِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ [ النِّسَاءِ 176 ] ، وَفَرْضُ الْأُخْتَيْنِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ فَصَاعِدًا الثُّلُثَانِ إِجْمَاعًا ، وَوَافَقَ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَإِنْ خَالَفَ فِي الثُّلُثَيْنِ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ [ النِّسَاءِ : 176 ] ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ أَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ ، سَقَطَ بِهِ فَرْضُهُنَّ وَكَانَ الْمَالُ بَيْنَهُنَّ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ

لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [ النِّسَاءِ 176 ] ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَخَوَاتٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ قَامَ الْأَخَوَاتُ مِنَ الْأَبِ مَقَامَهُنَّ كَمَا يَقُومُ بَنَاتُ الِابْنِ مَقَامَ بَنَاتِ الصُّلْبِ عِنْدَ عَدَمِهِمْ ، فَيَكُونُ لِلْأُخْتِ الْوَاحِدَةِ لِلْأَبِ النِّصْفُ ، وَلِلِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا الثُّلُثَانِ ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ سَقَطَ فَرْضُهُنَّ وَعَصَّبَهُنَّ ، فَكَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ .

فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَتْ أُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتًا لِأَبٍ أَوْ أَخَوَاتٍ لِأَبٍ ، فَلِلْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ ، وَلِلْأُخْتِ أَوِ الْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ كَبِنْتِ الصُّلْبِ وَبِنْتِ ابْنٍ ، فَلَوْ كَانَ مَعَ الْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ ذَكَرٌ لَمْ يُفْرَضْ لَهُنَّ السُّدُسُ ، وَكَانَ مَا بَعْدَ النِّصْفِ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : يُعْطِي الْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ مَعَ الذَّكَرِ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ السُّدُسِ أَوِ الْمُقَاسَمَةِ لِئَلَّا يَزِيدَ فَرْضُ الْأَخَوَاتِ عَلَى الثُّلُثَيْنِ كَمَا قَالَ فِي بِنْتِ الِابْنِ إِذَا شَارَكَهَا أَخُوهَا مَعَ الْبِنْتِ ، وَوَافَقَهُ عَلَى هَذَا أَبُو ثَوْرٍ وَخَالَفَهُ دَاوُدُ فِي الْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ ، وَإِنْ وَافَقَهُ فِي بَنَاتِ الِابْنِ وَفِيمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مُقْنِعٌ .

فَصْلٌ : فَلَوْ تَرَكَ أُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتًا لِأَبٍ ، كَانَ لِلْأُخْتَيْنِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ الثُّلُثَانِ وَسَقَطَتِ الْأُخْتُ مِنَ الْأَبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا ذَكَرٌ . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : يُفْرَضُ لَهَا السُّدُسُ كَمَا يُفْرَضُ لَهَا إِذَا انْفَرَدَتِ الْأُخْتُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ، وَهَذَا يُقَالُ فِي بِنْتِ الِابْنِ مَعَ بِنْتِ الصُّلْبِ يُفْرَضُ لَهَا السُّدُسُ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ فَرْضَ الْأَخَوَاتِ وَالْبَنَاتِ لَا يُزَادُ عَلَى الثُّلُثَيْنِ ، فَإِذَا انْفَرَدَتِ الْأُخْتُ الْوَاحِدَةُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ بِالنِّصْفِ فُرِضَ لِلْأُخْتِ لِلْأَبِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ لِبَقَائِهِ مِنْ فَرْضِهِنَّ .

فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَ مَعَ الْأُخْتَيْنِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ أُخْتٌ لِأَبٍ مَعَهَا أَخُوهَا ، كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ الثُّلُثَيْنِ بَيْنَ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأَخِ لِلْأَبِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : يَكُونُ الْبَاقِي لِلْأَخِ لِلْأَبِ دُونَ الْأُخْتِ كَمَا يُجْعَلُ الْبَاقِي بَعْدَ بِنْتَيِ الصُّلْبِ : لِأَنَّ الِابْنَ دُونَ أُخْتِهِ : لِئَلَّا يَزِيدَ فَرْضُ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ عَلَى الثُّلُثَيْنِ ، وَقَدْ مَضَى الدَّلِيلُ .

فَصْلٌ : فَلَوْ تَرَكَ أُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتًا لِأَبٍ وَابْنَ أَخٍ لِأَبٍ ، كَانَ لِلْأُخْتَيْنِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي لِابْنِ الْأَخِ لِلْأَبِ ، وَسَقَطَتِ الْأُخْتُ لِلْأَبِ لِاسْتِكْمَالِ الثُّلُثَيْنِ بِالْأُخْتَيْنِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ، فَلَا يُعَصِّبُ ابْنُ الْأَخِ فِيهِ ، بِخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا فِي بَنَاتِ الِابْنِ : لِأَنَّ ابْنَ الْأَخِ لَمَّا ضَعُفَ عَنْ تَعْصِيبِ أُخْتِهِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَضْعُفَ عَنْ تَعْصِيبِ عَمَّتِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَوْلَادُ الْبَنِينَ : لِأَنَّ الذُّكُورَ مِنْهُمْ يُعَصِّبُ أُخْتَهُ فَجَازَ أَنْ يُعَصِّبَ عَمَّتَهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَالْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِلْأَبِ يَقُومُونَ مَقَامَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ عِنْدَ عَدَمِهِمْ إِلَّا فِي مَسْأَلَةِ الْمُشْتَرِكَةِ ، وَهِيَ زَوْجٌ وَأُمٌّ وَأَخَوَانِ لِأُمٍّ وَأَخَوَانِ لِأَبٍ وَأُمٍّ ، فَيَكُونُ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ الثُّلُثُ يُشَارِكُهُمْ فِيهِ الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْإِدْلَاءِ بِالْأُمِّ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنَ الْخِلَافِ فِيهِ ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ إِخْوَةٌ لِأَبٍ لَا يُشَارِكُونَ الْإِخْوَةَ لِلْأُمِّ لِعَدَمِ إِدْلَائِهِمْ بِالْأُمِّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ أَخٌ لِأَبٍ ، فَلِلْأُخْتِ مِنَ الْأُمِّ السُّدُسُ وَأَخُوهَا أَجْنَبِيٌّ ، وَأَمَّا الْأُخْتُ مِنَ الْأَبِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَخُوهَا لِأَبِيهَا أَخَا الْمَيِّتِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ ،

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ ، فَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ فَإِنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ سُدُسِ الْأُخْتِ مِنَ الْأُمِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَسَقَطَتِ الْأُخْتُ مِنَ الْأَبِ وَأَخَوَا الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ ، وَكَانَ الْبَاقِي بَيْنَ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَأَخِيهَا وَأَخِي الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَابْنِهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ : لِأَنَّ كُلَّهُمْ إِخْوَةٌ وَأَخَوَاتٌ لِأَبٍ .

فَصْلٌ : ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ أَخٌ لِأُمٍّ ، فَلِلْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ أَخُوهَا لِأُمِّهَا أَجْنَبِيٌّ وَالْأُخْتُ مِنَ الْأُمِّ أَخُوهَا لِأُمِّهَا ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَخَا الْمَيِّتَةِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَخَاهُ لِأُمِّهِ ، فَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ كَانَ لِلْأُخْتِ مِنَ الْأُمِّ وَأُخْتِ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَأَخِي الْأُخْتِ مِنَ الْأُمِّ : لِأَنَّهُ أَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَتَسْقُطُ الْأُخْتُ مِنَ الْأَبِ ، وَإِنْ كَانَ أَخًا لِأُمٍّ كَانَ الثُّلُثُ لِلْأُخْتِ مِنَ الْأُمِّ وَأَخِيهَا مِنْ أُمِّهَا وَأَخِي الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ مِنَ الْأَمْرِ أَثْلَاثًا بِالسَّوِيَّةِ : لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ إِخْوَةٌ وَأَخَوَاتٌ لِأُمٍّ ، وَكَانَ لِلْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ السُّدُسُ .

فَصْلٌ : ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ أَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ ، فَلِلْأُخْتِ مِنَ الْأُمِّ وَأَخِيهَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَأَخِيهَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَتَسْقُطُ الْأُخْتُ لِلْأَبِ وَأَخُوهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : أُخْتٌ لِأَبٍ مَعَهَا ثَلَاثَةُ بَنِي إِخْوَةٍ مُتَفَرِّقِينَ ، أَمَّا ابْنُ أَخِيهَا لِأُمِّهَا فَأَجْنَبِيٌّ ، وَأَمَّا أَخُوهَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا فَابْنُ أَخٍ لِابْنٍ ، وَأَمَّا ابْنُ أَخِيهَا لِأَبِيهَا فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ رَجُلًا احْتَمَلَ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ ابْنَ الْمَيِّتِ ، فَيَكُونُ الْمَالُ كُلُّهُ لَهُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْنَ أَخٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ ، فَيَكُونُ لِلْأُخْتِ لِلْأَبِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لَهُ وَسَقَطَ ابْنُ الْأَخِ لِلْأَبِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْنَ أَخٍ لِأَبٍ ، فَيَكُونُ لِلْأُخْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ الْأَخِ لِلْأَبِ : لِأَنَّ كِلَاهُمَا وَلَدُ أَخٍ لِأَبٍ ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ابْنَ أَخٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ ، فَيَكُونُ الْبَاقِي بَعْدَ نِصْفِ الْأُخْتِ لَهُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْنَ أَخٍ لِأَبٍ ، فَيَكُونُ الْبَاقِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ الَّذِي هُوَ ابْنُ أَخٍ لِأَبٍ ، وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْنَ الْمَيِّتَةِ : لِأَنَّهُ مِنْ أُخْتِ الْمَيِّتَةِ ابْنُ أَخٍ وَلَيْسَ ابْنَ أُخْتٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلِلْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ مَا بَقِيَ إِنْ بَقِيَ شَيْءٌ ، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ ، وَيُسَمَّيْنَ بِذَلِكَ عَصَبَةَ الْبَنَاتِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : الْأَخَوَاتُ مَعَ الْبَنَاتِ في الميراث عَصَبَةٌ لَا يُفْرَضُ لَهُنَّ ، وَيَرِثْنَ مَا بَقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الْبَنَاتِ ، فَإِنْ كَانَ بِنْتٌ وَأُخْتٌ فَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ ، وَإِنْ كَانَ بِنْتَانِ وَأُخْتٌ فَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ ، وَلَوْ كَانَ مَعَ الْبِنْتَيْنِ عَشْرُ أَخَوَاتٍ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ الثُّلَثَيْنِ بَيْنَ الْأَخَوَاتِ بِالسَّوِيَّةِ ، سَوَاءٌ كُنَّ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ ، وَبِهَذَا قَالَ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ وَجَمِيعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إِلَّا ابْنَ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ تَفَرَّدَ بِخِلَافِهِمْ ، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الَّتِي تَفَرَّدَ بِخِلَافِ الصَّحَابَةِ فِيهَا فَأَسْقَطَ الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ ، وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ يَذْهَبُ إِلَى هَذَا حَتَّى

أَخْبَرَهُ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ أَنَّ مُعَاذًا قَضَى بِالْيَمَنِ فِي بِنْتٍ وَأُخْتٍ جَعَلَ الْمَالَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيٌّ ، فَرَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ . وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ : إِنْ كَانَ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةٌ غَيْرُ الْأَخَوَاتِ كَالْأَعْمَامِ وَبَنِي الْإِخْوَةِ سَقَطَ الْأَخَوَاتُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ غَيْرُ الْأَخَوَاتِ صِرْنَ إِذَا انْفَرَدْنَ مَعَهُنَّ عَصَبَةً يَأْخُذْنَ مَا بَقِيَ بَعْدَ فَرْضِهِنَّ ، وَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَدْ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رِضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَعْطَى الْأُخْتَ مَعَ الْبِنْتِ النِّصْفَ فَقَالَ : أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ؟ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ [ النِّسَاءِ 176 ] ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ لَهَا النِّصْفُ وَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : اقْسِمُوا الْمَالَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَرَائِضِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ ، فَمَا تَرَكَتِ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ ، وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَصَبَةً مَعَ الْبَنَاتِ لَكَانَتْ عَصَبَةً تَسْتَوْجِبُ جَمِيعَ الْمَالِ فِي الِانْفِرَادِ كَالْإِخْوَةِ ، وَفِي إِبْطَالِ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَعْصِيبِهِنَّ وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَصَبَةً لَوَرِثَ وَلَدُهَا كَمَا يَرِثُ وَلَدُ الْأَخِ : لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَصَبَةً لَعُقِلَتْ وَزُوِّجَتْ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجَمَاعَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى : لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [ النِّسَاءِ 32 ] ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ . وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنِ ابْنِ قَيْسٍ عَنْ هُذَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ : " جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَسَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ فَسَأَلَهُمَا عَنْ بِنْتٍ وَبِنْتِ ابْنٍ وَأُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَقَالَا : لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ ، فَأْتِ ابْنَ مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ سَيُوَافِقُنَا فَأَتَاهُ الرَّجُلُ فَسَأَلَهُ وَأَخْبَرَ بِقَوْلِهِمَا فَقَالَ : لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذَنْ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ، وَلَكِنْ سَأَقْضِي فِيهَا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ " ، وَهَذَا نَصٌّ ، وَلِأَنَّ الْأَخَوَاتِ لَمَّا أَخَذْنَ الْفَاضِلَ عَنْ فَرْضِ الزَّوْجِ وَتَقَدَّمْنَ بِهِ عَلَى بَنِي الْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ كَالْإِخْوَةِ أَخَذْنَ الْفَاضِلَ عَنْ فَرْضِ الْبَنَاتِ وَتَقَدَّمْنَ بِهِ عَلَى بَنِي الْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ كَالْإِخْوَةِ ، وَلِأَنَّ لِلْأَخَوَاتِ مُدْخَلًا فِي التَّعْصِيبِ مَعَ الْإِخْوَةِ ، فَكَانَ لَهُمْ مُدْخَلٌ فِي التَّعْصِيبِ مَعَ الْبَنَاتِ : لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ مِنْ وَلَدِ الْأَبِ ، وَلِأَنَّ الْإِخْوَةَ أَقْوَى تَعْصِيبًا مِنْ بَنِي الْإِخْوَةِ ، فَلَمَّا لَمْ تَسْقُطِ الْأُخْتُ مَعَ الْإِخْوَةِ فِي الْفَاضِلِ بَعْدَ فَرْضِ الْبَنَاتِ فَأَوْلَى أَلَّا تَسْقُطَ مَعَ بَنِي الْإِخْوَةِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ أَنَّ الْآيَةَ مَنَعَتْ مِنْ إِعْطَائِهَا فَرْضًا وَنَحْنُ نُعْطِيهَا تَعْصِيبًا ، وَأَمَّا الْخَيْرُ فَعُمُومٌ خَصَّ مِنْهُ الْأَخَوَاتِ ، بِدَلِيلِ أَخْذِهِنَّ مَعَ عَدَمِ الْبَنَاتِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : " لَوْ كَانَتْ عَصَبَةً لَأَخَذَتْ جَمِيعَ الْمَالِ إِذَا انْفَرَدَتْ ، وَلَكَانَ وَلَدُهَا وَارِثًا " هُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ أَنْ تَكُونَ عَصَبَةً مَعَ الْإِخْوَةِ لَمْ يَمْنَعْ أَنْ تَكُونَ عَصَبَةً مَعَ الْبَنَاتِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَصَبَةً لَعُقِلَتْ وَزُوِّجَتْ وَوَرِثَتْ فَهُوَ أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ مَانِعًا مِنْ مِيرَاثِهَا مَعَ الْبَنَاتِ لَمَنَعَ مِنْ مِيرَاثِهَا مَعَ عَدَمِ الْبَنَاتِ ، ثُمَّ قَدْ نَجِدُ الْعَصَبَاتِ يَنْقَسِمُونَ ثَلَاثَةَ

أَقْسَامٍ : قِسْمٌ يَعْقِلُونَ وَيُزَوِّجُونَ وَهُمُ الْأَعْمَامُ وَالْإِخْوَةُ ، وَقِسْمٌ لَا يُزَوِّجُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ وَهُمُ الْبَنُونَ ، وَقِسْمٌ يُزَوِّجُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ وَهُمُ الْآبَاءُ ، ثُمَّ جَمِيعُهُمْ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْعَقْلِ وَالتَّزْوِيجِ وَارْثٌ بِالتَّعْصِيبِ وَكَذَلِكَ الْأَخَوَاتُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلِلْأَبِ مَعَ الْوَلَدِ وَوَلَدِ الِابْنِ السُّدُسُ فَرِيضَةً ، وَمَا بَقِيَ بَعْدَ أَهْلِ الْفَرِيضَةِ فَلَهُ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ وَلَا وَلَدُ ابْنٍ فَإِنَّمَا هُوَ عَصَبَةٌ لَهُ الْمَالُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : لِلْأَبِ فِي مِيرَاثِهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : حَالٌ يَرِثُ فِيهَا بِالتَّعْصِيبِ وَذَلِكَ مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ وَوَلَدِ الِابْنِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ ذَوُو فَرْضٍ لَا يَسْقُطُ بِالْأَبِ كَالْأُمِّ أَخَذَتِ الْأُمُّ فَرْضَهَا كَامِلًا إِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا الْإِخْوَةُ وَهُوَ الثُّلُثُ ، وَكَانَ الْبَاقِي لِلْأَبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ [ النِّسَاءِ 11 ] ، فَدَلَّكَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ الْبَاقِي لِلْأَبِ ، وَإِنْ حَجَبَ الْأُمَّ إِخْوَةٌ كَانَ لَهَا السُّدُسُ ، وَكَانَ الْبَاقِي بَعْدَ سُدُسِ الْأُمِّ لِلْأَبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [ النِّسَاءِ 11 ] ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ عَنْهُ يَجْعَلُ السُّدُسَ الَّذِي حَجَبَهُ الْإِخْوَةُ عَنِ الْأُمِّ لَهُمْ وَلَا يَرُدُّهُ عَلَى الْأَبِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ ، فَلَوْ كَانَ مَعَ الْأَبَوَيْنِ زَوْجٌ أَوْ زَوْجَةٌ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ لِلْأُمِّ ثُلُثَ مَا بَقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَالْبَاقِي لِلْأَبِ فَهَذِهِ حَالٌ .

فَصْلٌ : وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَرِثَ الْفَرْضَ وَحْدَهُ ، وَذَلِكَ مَعَ الْوَلَدِ وَوَلَدِ الِابْنِ فِي أَخْذِ السُّدُسِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ [ النِّسَاءِ 11 ] ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ ابْنٌ لَمْ يَأْخُذِ السُّدُسَ إِلَّا كَامِلًا ، فَيَكُونُ لِلْأَبِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ ، وَلَوْ كَانَ مَعَهَا زَوْجٌ كَانَ لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ وَلِلْأَبِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْبَنَاتِ فَقَدْ يَأْخُذُ السُّدُسَ تَارَةً كَامِلًا وَتَارَةً عَائِلًا ، فَالْكَامِلُ يَأْخُذُهُ فِي أَبَوَيْنِ وَابْنَتَيْنِ ، فَيَكُونُ لِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَالْعَائِلُ جَدَّةٌ وَزَوْجٌ وَأَبٌ وَبِنْتَانِ ، أَوْ زَوْجٌ وَأَبَوَانِ وَبِنْتَانِ ، فَيَكُونُ لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأَبِ السُّدُسُ وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ ، وَتَعُولُ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ ، وَفِي زَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ وَابْنَتَيْنِ يَكُونُ لِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ وَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَتَعُولُ إِلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ ، وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمِنْبَرِيَّةُ سُئِلَ عَنْهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ - وَهُوَ فِي طَرِيقِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ ، فَبَدْأَهُ السَّائِلُ فَسَأَلَهُ عَنْ زَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ وَبِنْتٍ ، فَقَالَ : لِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ وَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْأَبِ ، ثُمَّ صَعِدَ إِلَى مِنْبَرِهِ فَعَادَ السَّائِلُ فَقَالَ : كَانَ مَعَ الْبِنْتِ أُخْرَى ، فَقَالَ : صَارَ ثُمُنُهَا تُسْعُهَا : لِأَنَّهَا لَمَّا عَالَتْ صَارَ الثُّمُنُ ثَلَاثَةً مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ ، وَذَلِكَ التُّسْعُ بَعْدَ أَنْ كَانَ الثُّمُنُ ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ جَوَابٍ صَدَرَ عَنْ سُرْعَةٍ وَإِنْجَازٍ ، فَسُمِّيَتْ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْمِنْبَرِيَّةُ فَهَذِهِ حَالَةٌ ثَانِيَةٌ .

فَصْلٌ : وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَرِثَ بِالْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ ميراث الأب وَذَلِكَ مَعَ الْبَنَاتِ أَوْ بَنَاتِ الِابْنِ ، كَأَبَوَيْنِ وَبِنْتٍ ، فَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْأَبِ بِالتَّعْصِيبِ ، أَوْ أَبٌ وَبِنْتَانِ فَيَكُونُ لِلْأَبِ السُّدُسُ وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَمَا بَقِيَ لِلْأَبِ ، أَوْ بِنْتٌ وَبِنْتُ ابْنٍ وَأَبٍ ، فَيَكُونُ لِلْأَبِ السُّدُسُ وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ وَالْبَاقِي لِلْأَبِ ، وَالْجَدُّ أَبُو الْأَبِ

يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا فِي مِيرَاثِهِ بِالتَّعْصِيبِ تَارَةً وَبِالْفَرْضِ أُخْرَى ، وَبِهِمَا مَعًا فِي أُخْرَى ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ فِي حَجْبِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ اللَّذِينَ يَحْجُبُهُمُ الْأَبُ إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُسْقِطُ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ مَعَ الْجَدِّ ، وَلِذَلِكَ بَابٌ يَسْتَوْفِي فِيهِ بَعْدُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلِلْجَدَّةِ وَالْجَدَّتَيْنِ السُّدُسُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْأَصْلُ فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ السُّنَّةُ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَرْضٌ مُسَمًّى ، رَوَى عُثْمَانُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خَرَشَةَ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ قَالَ : جَاءَتِ الْجَدَّةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ - تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا ، فَقَالَ : مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - شَيْءٌ ، وَمَا عَلِمْتُ لَكِ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا ، فَارْجِعِي حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ ، فَسَأَلَ النَّاسَ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ : حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهَا السُّدُسَ . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : هَلْ مَعَكَ غَيْرُكَ ؟ فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ مَا قَالَ الْمُغِيرَةُ ، فَأَنْفَذَهُ لَهَا أَبُو بَكْرٍ ، ثُمَّ جَاءَتِ الْجَدَّةُ الْأُخْرَى إِلَى عُمَرَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ - تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا ، فَقَالَ : مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ ، وَمَا كَانَ الْقَضَاءُ الَّذِي قُضِيَ بِهِ إِلَّا لِغَيْرِكِ ، وَمَا أَنَا بِزَائِدٍ فِي الْفَرَائِضِ ، وَلَكِنْ هُوَ ذَلِكَ السُّدُسُ ، فَإِنِ اجْتَمَعْتُمَا فِيهِ فَهُوَ بَيْنَكُمَا ، وَأَيَّتُكُمَا خَلَتْ بِهِ فِهُوَ لَهَا . وَحُكِيَ أَنَّ الْجَدَّةَ الَّتِي وَرَّثَهَا أَبُو بَكْرٍ أُمُّ الْأُمِّ ، وَالْجَدَّةَ الَّتِي جَاءَتْ إِلَى عُمَرَ فَتَوَقَّفَ عَنْهَا أُمُّ الْأَبِ ، فَقَالَتْ أَوْ قَالَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَرَّثْتُمُ الَّتِي لَوْ مَاتَتْ لَمْ يَرِثْهَا وَلَا تُوَرِّثُونَ مَنْ لَوْ مَاتَتْ وَرِثَهَا ، فَحِينَئِذٍ وَرَّثَهَا عُمَرُ . وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ لِلْجَدَّةِ السُدُسَ إِذَا لَمْ يَكُنْ دُونَهَا أَتَمُّ ، وَأَجْمَعُوا عَلَى تَوْرِيثِ الْجَدَّاتِ وَأَنَّ فَرْضَ الْوَاحِدَةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْهُنَّ السُّدُسُ لَا يَنْقُصْنَ مِنْهُ وَلَا يَزِيدَنَّ عَلَيْهِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ جَعَلَ لِلْجَدَّةِ الثُّلُثَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَرِثُ فِيهِ الْأُمُّ الثُّلُثَ تَعَلُّقًا بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْجَدَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ إِذَا لَمْ تَكُنْ أُمٌّ ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ هَذَا مَذْهَبًا لِابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَذْهَبًا وَتَأَوَّلَ قَوْلَهُ " إِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ " فِي الْمِيرَاثِ لَا فِي قَدْرِ الْفَرْضِ ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَّثَ الْجَدَّةَ السُّدُسَ وَهُوَ لَا يُخَالِفُ مَا رَوَاهُ ، وَلِأَنَّ قَضِيَّةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي إِعْطَائِهَا السُّدُسَ مَعَ سُؤَالِ النَّاسِ عَنْ فَرْضِهَا وَرِوَايَةِ الْمُغِيرَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَبُولِ الصَّحَابَةِ ذَلِكَ مِنْهُمَا مَعَ الْعَمَلِ بِهِ إِجْمَاعٌ مُنْعَقِدٌ لَا يَسُوغُ خِلَافُهُ . وَرَوَى قَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ : جَاءَتْ جَدَّتَانِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَعْطَى الَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ السُّدُسَ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شُرَحْبِيلَ أَخُو بَنِي حَارِثَةَ : يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ وَرَّثْتَ الَّتِي لَوْ مَاتَتْ لَمْ يَرِثْهَا ، فَجَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ بَيْنَهُمَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ فَرْضَ الْجَدَّةِ أَوِ الْجَدَّاتِ السُّدُسُ فَالْجَدَّةُ الْمُطْلَقَةُ هِيَ أُمُّ الْأُمِّ : لِأَنَّ الْوِلَادَةَ فِيهَا مُتَحَقِّقَةٌ وَالِاسْمُ فِي الْعُرْفِ عَلَيْهَا مُنْطَلِقٌ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْجَدَّةِ أُمِّ الْأَبِ هَلْ هِيَ جَدَّةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَمْ بِالتَّقْيِيدِ ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ جَدَّةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَيْضًا كَأُمِّ الْأُمِّ ، وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ هِيَ جَدَّةٌ بِالتَّقْيِيدِ . وَعَلَى هَذَا اخْتَلَفُوا فِيمَنْ سَأَلَ عَنْ مِيرَاثِ جَدَّةٍ هَلْ يَسْأَلُ عَنْ أَيِّ

الْجَدَّتَيْنِ أَرَادَ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ مَنْ جَعَلَهَا جَدَّةً عَلَى الْإِطْلَاقِ : إِنَّهُ لَا يُجَابُ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ أَيِّ الْجَدَّتَيْنِ أَرَادَ ، وَقَالَ مَنْ جَعَلَهَا جَدَّةً بِالتَّقْيِيدِ : إِنَّهُ يُجَابُ عَنْ أُمِّ الْأُمِّ حَتَّى يَذْكُرَ أَنَّهُ أَرَادَ أُمَّ الْأَبِ ، وَالْأَصَحُّ أَنْ يَنْظُرَ ، فَإِنْ كَانَ مِيرَاثُهَا يَخْتَلِفُ فِي الْفَرِيضَةِ بِوُجُودِ الْأَبِ الَّذِي يَحْجُبُ أُمَّهُ لَمْ يُجِبْ عَنْ سُؤَالِهِ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ أَيِّ الْجَدَّتَيْنِ سَأَلَ ، وَإِنْ كَانَ مِيرَاثُهَا لَا يَخْتَلِفُ أُجِيبَ وَلَمْ يَسْأَلْ ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدٍ مَنَ يَرِثُ مِنَ الْجَدَّاتِ ، فَقَالَ مَالِكٌ : لَا أُوَرِّثُ أَكْثَرَ مِنْ جَدَّتَيْنِ أُمِّ الْأُمِّ وَأُمِّ الْأَبِ وَأُمَّهَاتِهِمَا وَإِنْ عَلَوْنَ ، وَلَا أُوَرِّثُ أُمَّ الْجَدِّ وَإِنِ انْفَرَدَتْ . وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَدَاوُدُ وَرَوَاهُ أَبُو ثَوْرٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ اسْتِدْلَالًا بِقَضِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي تَوْرِيثِ جَدَّتَيْنِ ، وَكَمَا لَا يَرِثُ أَكْثَرُ مِنْ أَبَوَيْنِ . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : لَا أُوَرِّثُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ جَدَّاتٍ . وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَطْعَمَ ثَلَاثَ جَدَّاتٍ . قَالَ مَنْصُورٌ : فَقُلْتُ لِإِبْرَاهِيمَ مَنْ هُنَّ ؟ فَقَالَ : جَدَّتَا الْأَبِ أُمُّ أَبِيهِ ، وَأُمُّ أُمِّهِ ، وَجَدَّةُ الْأُمِّ أُمُّ أُمِّهَا . وَذَهَبُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى تَوْرِيثِ الْجَدَّاتِ وَإِنْ كَثُرْنَ ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ لِاشْتِرَاكِهِنَّ فِي الْوِلَادَةِ ، وَمُحَادَّتِهِنَّ فِي الدَّرَجَةِ وَتَسَاوِيهِنَّ فِي الْإِدْلَاءِ بِوَارِثٍ ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثُ تُوجَدُ فِيهِنَّ وَإِنْ كَثُرْنَ . فَأَمَّا تَوْرِيثُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا - الْجَدَّتَيْنِ فَإِنَّمَا وَرَّثَا مَنْ حَضَرَهُمَا مِنَ الْجَدَّاتِ وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُمَا مَنْعُ مَنْ زَادَ عَلَيْهِمَا ، وَهَكَذَا الْمَرْوِيُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَطْعَمَ ثَلَاثَ جَدَّاتٍ ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ إِطْعَامِ مَنْ زَادَ عَلَيْهِنَّ ، وَلَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ أَنْ يُوَرِّثَ أَكْثَرَ مِنْ أَعْدَادِ الْأَبَوَيْنِ لِأَنَّهُنَّ يَكْثُرْنَ إِذَا عَلَوْنَ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُنَّ يَرِثْنَ وَإِنْ كَثُرْنَ ، فَلَا مِيرَاثَ مِنْهُنَّ لِأُمِّ أَبِي الْأُمِّ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَيِّتِ أَبٌ بَيْنَ أُمَّيْنِ الجدة لأم اذا كان معها أب . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ : أُمُّ أَبِي الْأُمِّ وَارِثَةٌ ، وَإِنْ أَدْلَتْ بِذَكَرٍ لَا يَرِثُ لِمَا فِيهَا مِنَ الْوِلَادَةِ . وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ . وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَابْنِ مَسْعُودٍ ، فَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ بِهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ . وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ سِيرِينَ بَلَغَهُ أَنَّ أَرْبَعَ جَدَّاتٍ تَرَافَعْنَ إِلَى مَسْرُوقٍ فَوَرَّثَ ثَلَاثًا وَأَطْرَحَ وَاحِدَةً هِيَ أُمُّ أَبِي الْأُمِّ ، فَقَالَ أَخْطَأَ أَبُو عَائِشَةَ لَهَا السُّدُسُ لِلْجَدَّاتِ طُعْمَةً ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ أُمَّ أَبِي الْأُمِّ لَا تَرِثُ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لِإِدْلَائِهَا بِمَنْ لَا يَرِثُ ، وَقَدْ تَمَهَّدَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ حُكْمَ الْمُدْلَى بِهِ أَقْوَى فِي الْمِيرَاثِ مِنْ حُكْمِ الْمُدْلِي : لِأَنَّ الْأَخَوَاتِ يَرِثْنَ وَلَا يَرِثُ مَنْ أَدْلَى بِهِنَّ وَلَيْسَ يُوجَدُ وَارِثٌ يُدْلِي بِغَيْرِ وَارِثٍ ، فَلَمَّا كَانَ أَبُو الْأُمِّ غَيْرَ وَارِثٍ كَانَتْ أُمُّهُ الَّتِي أَدْلَتْ بِهِ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ غَيْرَ وَارِثَةٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنْ قَرُبَ بَعْضُهُنَّ دُونَ بَعْضٍ فَكَانَتِ الْأَقْرَبَ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ فِهِيَ أَوْلَى ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَبْعَدَ شَارَكَتْ فِي السُّدُسِ ، وَأَقْرَبُ اللَّائِي مِنْ قِبَلِ الْأَبِ تَحْجُبُ بُعْدَاهُنَّ ، وَكَذَلِكَ تَحْجُبُ أَقْرَبُ اللَّائِي مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ بُعْدَاهُنَّ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا تَحَاذَى الْجَدَّاتُ فِي الزَّوْجِ وَرِثَ جَمِيعُهُنَّ إِلَّا الَّتِي تُدْلِي بِأَبِي الْأُمِّ ، فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَتْ دَرَجَتُهُنَّ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَوْرِيثِهِنَّ ، فَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ وَرَّثَ الْقُرْبَى دُونَ الْبُعْدَى ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ ، وَقَدْ حَكَاهُ الْكُوفِيُّونَ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ . وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَرَّثَ الْقُرْبَى وَالْبُعْدَى إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِحْدَاهُمَا أُمُّ الْأُخْرَى ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَحَكَى الْحِجَازِيُّونَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَهُوَ الْمَعْمُولُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّهُ إِنْ كَانَتِ الَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأَبِ أَقْرَبَ فَالسُّدُسُ لَهَا ، وَسَقَطَتِ الَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأَبِ ، وَإِنْ كَانَتِ الَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأَبِ أَقْرَبَ فَالسُّدُسُ بَيْنَهُمَا ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ وَرَّثَ الْقُرْبَى دُونَ الْبُعْدَى بِأَنَّ اشْتِرَاكَ مَنْ تَسَاوَتْ دَرَجَتُهُمْ فِي الْمِيرَاثِ تُوجِبُ سُقُوطَ أَبْعَدِهِمْ عَنِ الْمِيرَاثِ كَالْعَصَبَاتِ ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ وَرَّثَ الْقُرْبَى وَالْبُعْدَى بِأَنَّ الْجَدَّاتِ يَرِثْنَ بِالْوِلَادَةِ كَالْأَجْدَادِ ، فَلَمَّا كَانَ الْجَدُّ الْأَبْعَدُ مُشَارِكًا لِلْجَدِّ الْأَقْرَبِ فِي مُقَاسَمَةِ الْإِخْوَةِ كَانَتِ الْجَدَّةُ الْبُعْدَى مُشَارِكَةً لِلْجَدَّةِ الْقُرْبَى فِي الْفَرْضِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ هُوَ أَنَّ الْجَدَّاتِ يَرِثْنَ بِالْوِلَادَةِ كَالْأَبِ ، فَلَمَّا كَانَتِ الْأُمُّ تُسْقِطُ جَمِيعَ الْجَدَّاتِ وَإِنْ كُنَّ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ لِقُرْبِهَا وَبُعْدِهِنَّ وَلَا يُسْقِطُ الْأَبُ وَمَنْ بَعُدَ مِنْ جَدَّاتِ الْأُمِّ مَعَ قُرْبِهِ وَبُعْدِهِنَّ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْقُرْبَى مِنْ جَدَّاتِ الْأُمِّ تَحْجُبُ الْبُعْدَى مِنْ جَدَّاتِ الْأَبِ كَالْأُمِّ وَلَا تَكُونُ الْقُرْبَى مِنْ جَدَّاتِ الْأَبِ تَحْجُبُ الْبُعْدَى مِنْ جَدَّاتِ الْأُمِّ كَالْأَبِ ، وَهَذَا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَدْ وَضَحَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحْكَامِ الْجَدَّاتِ درجتهن والوارثات منهن فَسَنَصِفُ دَرَجَتَهُنَّ لِيُعْرَفَ بِهِ الْوَارِثَاتُ مِنْهُنَّ ، فَأَوَّلُ دَرَجَتِهِنَّ جَدَّتَانِ مُتَحَاذِيَتَانِ وَارِثَتَانِ أَحَدُهُمَا أُمُّ الْأُمِّ وَالْأُخْرَى أُمُّ الْأَبِ ، ثُمَّ جَدَّاتٌ وَارِثَاتٌ فُضَّلْنَ مِنْ أَرْبَعِ جَدَّاتٍ بَعْدَ ثَلَاثِ دُرَجٍ . إِحْدَاهُنَّ : مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ وَهِيَ أُمُّ أُمِّ الْأُمِّ ، وَاثْنَتَانِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ إِحْدَاهُمَا أُمُّ أُمِّ الْأَبِ وَالْأُخْرَى أُمُّ أَبِي الْأَبِ ، وَتَسْقُطُ الرَّابِعَةَ وَهِيَ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ : لِأَنَّهَا أُمُّ أَبِي الْأُمِّ ، ثُمَّ أَرْبَعُ جَدَّاتٍ مُتَحَاذِيَاتٍ يَرِثْنَ مِنْ جُمْلَةِ ثَمَانِي جَدَّاتٍ بَعْدَ أَرْبَعِ دُرَجٍ ، وَاحِدَةٌ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ وَهِيَ أُمُّ أُمِّ أُمِّ الْأُمِّ ، وَثَلَاثٌ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ إِحْدَاهُنَّ أُمُّ أُمِّ أُمِّ الْأَبِ ، وَالْأُخْرَى أُمُّ أُمِّ أَبِي الْأَبِ ، وَالْأُخْرَى أُمُّ أَبِي أَبِي الْأَبِ ، ثُمَّ خَمْسُ جَدَّاتٍ مُتَحَاذِيَاتٍ يَرِثْنَ مِنْ جُمْلَةِ سِتَّ عَشْرَةَ جَدَّةً بَعْدَ خَمْسِ دُرَجٍ وَاحِدَةٍ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ وَهِيَ أُمُّ أُمِّ أُمِّ أُمِّ الْأُمِّ وَأَرْبَعٍ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ إِحْدَاهُنَّ أُمُّ أُمِّ أُمِّ أُمِّ الْأَبِ ، وَالْأُخْرَى أُمُّ أُمِّ أَبِ أَبِي الْأَبِ ، وَالْأُخْرَى أُمُّ أَبِي أَبِي أَبِي الْأَبِ ، ثُمَّ تَرِثُ سِتُّ جَدَّاتٍ مُتَحَاذِيَاتٍ مِنْ جُمْلَةِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ جَدَّةً وَتَرِثُ سَبْعُ جَدَّاتٍ مُتَحَاذِيَاتٍ مِنْ جُمْلَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ جَدَّةً وَتَرِثُ ثَمَانِي جَدَّاتٍ مُتَحَاذِيَاتٍ مِنْ جُمْلَةِ مِائَةٍ وَثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ جَدَّةً ، وَلَيْسَ فِي الْوَارِثَاتِ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ إِلَّا وَاحِدَةٌ وَالْبَاقِيَاتُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ : لِأَنَّ الْأُمَّ لَا يَخْلُصُ مِنْ جَدَّاتِهَا مَنْ لَا يُدْلِي بِأَبِي أُمٍّ وَلَا يَكُونُ دُونَهَا أُمٌّ إِلَّا وَاحِدَةً : فَلِذَلِكَ لَمْ يَرِثْ مِنْ جَدَّاتِهَا إِلَّا وَاحِدَةٌ وَتَكْثُرُ الْوَارِثَاتُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ لِأَنَّهُنَّ أُمَّهَاتُ الْأَجْدَادِ اللَّائِي لَيْسَ دُونَهُنَّ أَبٌ بَيْنَ أُمَّيْنِ ، فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَزِيدَ فِي الْجَدَّاتِ الْوَارِثَاتِ وَاحِدَةً

صَعِدَتْ إِلَى دَرَجَةٍ هِيَ أَعْلَى لِيَحْصُلَ لَكَ أُمُّ جَدٍّ أَعْلَى ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِتَضَاعِيفِ أَعْدَادِهِنَّ لِتَزِيدَ لَكَ وَارِثَةٌ مِنْهُنَّ تَسْلَمُ مِنَ الشُّرُوطِ الْمَانِعَةِ مِنْ مِيرَاثِهِنَّ ، فَإِذَا كَانَتِ الْوَارِثَاتُ سِتَّةً مُتَحَاذِيَاتٍ فَوَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ إِلَى سِتِّ دُرَجٍ مِنَ الْأُمَّهَاتِ ، وَخَمْسٌ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَاحِدَةٍ هِيَ جَدَّةُ الْأَبِ إِلَى خَمْسِ دُرَجٍ مِنْ أُمَّهَاتِهِ . وَالثَّانِيَةُ : هِيَ جَدَّةُ الْجَدِّ إِلَى أَرْبَعِ دُرَجٍ مِنْ أُمَّهَاتِهِ . وَالثَّالِثَةُ : هِيَ جَدَّةُ أَبِي الْجَدِّ إِلَى ثَلَاثِ دُرَجٍ مِنْ أُمَّهَاتِهِ . وَالرَّابِعَةُ : هِيَ جَدَّةُ جَدِّ الْجَدِّ إِلَى دَرَجَتَيْنِ مِنْ أُمَّهَاتِهِ . وَالْخَامِسَةُ : هِيَ أُمُّ أَبِي جَدِّ الْجَدِّ بَعْدَ دَرَجَةٍ مِنْهُ ، فَتَصِيرُ الْخَمْسُ جَدَّاتٍ مُدْلِيَاتٍ بِخَمْسَةِ آبَاءٍ لَيْسَ فِيهِنَّ أُمُّ أَبِي أُمٍّ ، فَتَصَوَّرْ ذَلِكَ تَجِدْهُ صَحِيحًا وَاعْتَبِرْهُ فِيمَا زَادَ تَجِدْهُ مُسْتَمِرًّا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَتْ درجة الجدات : ميراثهن دَرَجَتُهُنَّ فَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي تَوْرِيثِهِنَّ ، فَعَلَى هَذَا أُمُّ أُمٍّ وَأُمُّ أُمِّ الْأَبِ نصيب كل واحد منهم في الميراث ، فَعَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَزَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هُوَ لِأُمِّ الْأُمِّ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ هُوَ لَهُمَا ، وَلَوْ تُرِكَ أُمُّ أُمِّ أُمٍّ وَأُمُّ أُمِّ الْأَبِ وَأُمُّ أَبِ أَبِي الْأَبِ نصيب كل واحد منهم في الميراث ، فَعَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَرِوَايَةِ الْكُوفِيِّينَ عَنْ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هُوَ لِأُمِّ أُمِّ الْأَبِ : لِأَنَّهَا أَقْرَبُهُنَّ دَرَجَةً ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ هُوَ بَيْنَ ثَلَاثِهِنَّ وَعَلَى رِوَايَةِ الْحِجَازِيِّينَ عَنْ زَيْدٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ هُوَ بَيْنَ أُمِّ أُمِّ الْأُمِّ وَأُمُّ أُمِّ الْأَبِ ، وَتَسْقُطُ أُمُّ أَبِي أَبِي الْأَبِ لِأَنَّهَا وَإِنْ سَاوَتِ الَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ فِي الدَّرَجَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَتْهَا أُمُّ أُمِّ الْأَبِ فَسَقَطَتْ بِهَا ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ يَرِثْنَ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْجَدَّةُ الْوَاحِدَةُ إِذَا أَدْلَتْ بِسَبَبَيْنِ وَبِوِلَادَةٍ مِنْ جِهَتَيْنِ ميراثها ، كَامْرَأَةٍ تَزَوَّجَ ابْنُ ابْنِهَا بِنْتَ بِنْتِهَا ، فَإِذَا وُلِدَ لَهُمَا مَوْلُودٌ كَانَتِ الْمَرْأَةُ جَدَّتُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ فَكَانَتْ أُمَّ أَبِي أَبِيهِ وَأُمَّ أُمِّ أُمِّهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مِنَ الْجَدَّاتِ غَيْرُهَا فَالسُّدُسُ لَهَا ، فَإِنْ كَانَتْ مَعَهَا جَدَّةٌ أُخْرَى هِيَ أُمُّ أُمِّ أَبٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ تَرِثُ بِالْوَجْهَيْنِ وَتَأْخُذُ سَهْمَ جَدَّتَيْنِ . فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَزُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ : تَرِثُ بِالْوَجْهَيْنِ وَتَأْخُذُ سَهْمَ جَدَّتَيْنِ وَحَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَاخْتَارَهُ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ : تَرِثُ بِأَحَدِ الْجِهَتَيْنِ وَتَأْخُذُ سَهْمَ جَدَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - : لِأَنَّهَا يَدٌ وَاحِدَةٌ فَلَمْ تَكُنْ إِلَّا جَدَّةً وَاحِدَةٌ ، وَلِأَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ لَا يَرِثُ فَرْضَيْنِ مِنْ تَرِكَةٍ ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يَرِثَ بِفَرْضٍ وَتَعْصِيبٍ كَزَوْجٍ هُوَ ابْنُ عَمٍّ وَرُبَّمَا أَدْلَتِ الْجَدَّةُ الْوَاحِدَةُ بِثَلَاثَةِ أَسْبَابٍ وَحَصَلَتْ لَهَا الْوِلَادَةُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ ، مِثْلَ أَنْ تَكُونَ أُمَّ أُمِّ أُمِّ الْمَيِّتِ وَأُمَّ أَبِي أَبِيهِ وَأُمَّ أُمِّ أَبِي أَبِيهِ ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ مَعَهَا جَدَّةٌ أُخْرَى ، فَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ تَرِثُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعٍ السُّدُسِ كَأَنَّهَا ثَلَاثُ جَدَّاتٍ مِنْ أَرْبَعٍ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ تَرِثُ نِصْفَ السُّدُسِ : لِأَنَّهَا إِحْدَى جَدَّتَيْنِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ أَقْرَبِ الْعَصَبَةِ

بَابُ أَقْرَبِ الْعَصَبَةِ قَالَ الْمُزَنِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَأَقْرَبُ الْعَصَبَةِ الْبَنُونَ ، ثُمَّ بَنُو الْبَنِينَ ، ثُمَّ الْأَبُ ، ثُمَّ الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ إِنْ لَمْ يَكُنْ جَدٌّ ، فَإِنْ كَانَ جَدٌّ شَارَكَهُمْ فِي بَابِ الْجَدَّ ، ثُمَّ الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ ، ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ، ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْإِخْوَةِ وَلَا مِنْ بَنِيهِمْ وَلَا بَنِي بَنِيهِمْ وَإِنْ سَفَلُوا ، فَالْعَمُّ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ، ثُمَّ الْعَمُّ لِلْأَبِ ، ثُمَّ بَنُو الْعَمِّ لِلْأَبِ وَالَأُمَّ ، ثُمَّ بَنُو الْعَمِّ لَلْأَبِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْعُمُومَةِ وَلَا بَنِيهِمْ وَلَا بَنِي بَنِيهِمْ وَإِنْ سَفَلُوا ، فَعَمُّ الْأَبِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَمُّ الْأَبِ لِلْأَبِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبَنُوهُمْ وَبَنُو بَنِيهِمْ عَلَى مَا وَصَفْتُ مِنَ الْعُمُومَةِ وَبَنِيهِمْ وَبَنِي بَنِيهِمْ ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَعَمُّ الْجَدِّ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَمُّ الْجَدِّ لِلْأَبِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبَنُوهُمْ وَبَنُو بَنِيهِمْ عَلَى مَا وَصَفْتُ عُمُومَةَ الْأَبِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَأَرْفَعُهُمْ بَطْنًا ، وَكَذَلِكَ نَفْعَلُ فِي الْعَصَبَةِ إِذَا وُجِدَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ الْمَيِّتِ ، وَإِنْ سَفَلَ لَمْ يُوَرَّثْ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ ابْنِهِ وَإِنْ قَرُبَ ، وَإِنْ وُجِدَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ ابْنِهِ وَإِنْ سَفَلَ لَمْ يُوَرَّثْ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ جَدِّهِ وَإِنْ قَرُبَ ، وَإِنْ وُجِدَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ جَدِّهِ وَإِنْ سَفَلَ لَمْ يُوَرَّثْ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ أَبِي جَدِّهِ وَإِنْ قَرُبَ ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْعَصَبَةِ أَقْرَبَ بِابٍ فَهُوَ أَوْلَى لِأَبٍ كَانَ أَوْ أُمٍّ ، وَإِنْ كَانُوا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ لِأَبٍ وَأُمٍّ ، فَالَّذِي لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْلَى ، فَإِذَا اسْتَوَتْ قَرَابَتُهُمْ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الْمِيرَاثِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَصَبَةِ لِمَ سُمُّوا عَصَبَةً ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : سُمُّوا عَصَبَةً لِالْتِفَافِهِمْ عَلَيْهِ فِي نَسَبِهِ كَالْتِفَافِ الْعَصَائِبِ عَلَى يَدِهِ ، وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ سُمُّوا عَصَبَةً لِقُوَّةِ نَفْسِهِ بِهِمْ وَلِقُوَّةِ جِسْمِهِ بِعَصَبِهِ ، فَأَقْرُبُ عَصِبَاتِ الْمَيِّتِ إِلَيْهِ بَنَوْهُ لِأَنَّهُمْ بَعْضُهُ ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَهُمْ فِي الذِّكْرِ وَحَجَبَ بِهِمُ الْأَبَ عَنِ التَّعْصِيبِ حَتَّى صَارَ ذَا فَرْضٍ ، ثُمَّ بَنُو الْبَنِينَ لِأَنَّهُمْ بَعْضُ الْبَنِينَ : لِأَنَّ الْأَبَ مَعَهُمْ ذُو فَرْضٍ فَهُوَ مَعَ الْبَنِينَ ، وَلِأَنَّهُمْ يَعْصِبُونَ أَخَوَاتِهِمْ كَالْبَنِينَ ، ثُمَّ بَنُو بَنِي الْبَنِينَ وَإِنْ سَفَلُوا ، فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَيْسَ الْأَبُ مُقَدَّمًا عَلَى الِابْنِ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْوَفَاةِ وَالتَّزْوِيجِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ لِأَنَّهُ أَقْوَى الْعَصَبَاتِ ، فَهَلَّا كَانَ مُقَدَّمًا فِي الْمِيرَاثِ ؟ قِيلَ إِنَّمَا يُقَدَّمُ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّزْوِيجِ بِمَعْنَى الْوِلَايَةِ ، وَالْوِلَايَةُ فِي الْآبَاءِ دُونَ الْأَبْنَاءِ ، وَفِي الْمِيرَاثِ يُقَدَّمُ بِقُوَّةِ التَّعْصِيبِ وَذَلِكَ فِي الْأَبْنَاءِ أَقْوَى مِنْهُ فِي الْآبَاءِ ، فَإِذَا عَدِمُوا فَلَمْ يَكُنْ وَلَدٌ وَلَا وَلَدُ وَلَدٍ وَإِنْ سَفَلَ فَالْأَبُ حِينَئِذٍ أَقْرَبُ الْعَصَبَاتِ بَعْدَهُمْ لِأَنَّ الْمَيِّتَ بَعْضُهُ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَقْرَبَهُمْ مِنْ وَلَدِهِ الْمَيِّتِ كَانَ الْأَقْرَبَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ وَلَدِ الْمَيِّتِ ، وَلِأَنَّ سَائِرَ الْعَصَبَاتِ بِالْأَبِ يُدْلُونَ وَإِلَيْهِ يُنْسَبُونَ ،

فَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَى جَمِيعِهِمْ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الْأَبِ إِخْوَةٌ فَالْجَدُّ ، وَإِنْ كَانَ إِخْوَةٌ ، فَعَلَى خِلَافٍ يُذْكَرُ فِي بِابِ الْجَدِّ ، ثُمَّ بَعْدَ الْجَدِّ أَبُو الْجَدِّ ، ثُمَّ جَدُّ الْجَدِّ ، ثُمَّ أَبُو جَدِّ الْجَدِّ ، ثُمَّ جَدُّ جَدِّ الْجَدِّ ، ثُمَّ هَكَذَا أَبَدًا حَتَّى لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ عَمُودِ الْآبَاءِ لِمَا فِيهِمْ مِنَ الْوِلَادَةِ وَالتَّعْصِيبِ ، ثُمَّ الْإِخْوَةُ إِذَا لَمْ يَكُنْ جَدٌّ لِأَنَّهُمْ وَالْمَيِّتُ بَنُو أَبٍ قَدْ شَارَكُوهُمْ فِي الصُّلْبِ وَرَاكَضُوهُمْ فِي الرَّحِمِ ، وَلِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ شَبَهًا مِنَ الْبَنِينِ فِي تَعْصِيبِ أَخَوَاتِهِمْ فَيُقَدَّمُ مِنْهُمُ الْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ لِقُوَّتِهِ بِالسَّبَبَيْنِ عَلَى مَنْ تَفَرَّدَ بِإِحْدَاهُمَا ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : وَأَعْيَانُ بَنِي الْأُمِّ يَتَوَارَثُونَ دُونَ بَنِي الْعَلَّاتِ ، وَأَصْلُ مِيرَاثِهِمَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ [ النِّسَاءِ 176 ] ، فَيَكُونُ حُكْمُ الْإِخْوَةِ مَعَ الْأَخَوَاتِ كَحُكْمِ الْبَنِينَ مَعَ الْبَنَاتِ فِي اقْتِسَامِهِمُ الْمَالَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ بَعْدَ فَرْضٍ إِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا ، ثُمَّ بَعْدَ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ الْأَخُ لِلْأَبِ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى ابْنِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ لِقُرْبِ دَرَجَتِهِ ، ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَةِ وَهُمْ مُقَدَّمُونَ عَلَى الْأَعْمَامِ وَإِنْ سَفَلُوا ، لِأَنَّهُمْ مِنْ بَنِي أَبِي الْمَيِّتِ وَالْأَعْمَامُ بَنُو جَدِّهِ فَيُقَدَّمُ مِنْ بَنِي الْإِخْوَةِ مَنْ كَانَ لِأَبٍ وَأُمٍّ ، ثُمَّ مَنْ كَانَ لِأَبٍ ، ثُمَّ بَنُو بَنِيهِمْ وَإِنْ سَفَلُوا يُقَدَّمُ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ فِي الدَّرَجَةِ ، وَإِنْ كَانَ لِأَبٍ عَلَى مَنْ بَعُدَ ، وَإِنْ كَانَ لِأَبٍ وَأُمٍّ ، فَإِنِ اسْتَوَتْ دَرَجَتُهُمْ قُدِّمَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ لِأَبٍ وَأُمٍّ عَلَى مَنْ كَانَ لِأَبٍ ، ثُمَّ الْأَعْمَامُ لِأَنَّهُمْ بَنُو الْجَدِّ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَّثَ عَمَّ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ مَا فَضَلَ عَنْ فَرْضِ زَوْجَتِهِ وَبِنْتَيْهِ ، فَيُقَدَّمُ الْعَمُّ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ عَلَى الْعَمِّ لِلْأَبِ لِإِدْلَائِهِ بِالسَّبَبَيْنِ ، ثُمَّ الْعَمُّ لِلْأَبِ ، ثُمَّ ابْنُ الْعَمِّ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ، ثُمَّ ابْنَا الْعَمِّ لِلْأَبِ ، ثُمَّ بَنُو بَنِيهِمْ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ وَإِنْ سَفَلُوا مُقَدَّمِينَ عَلَى أَعْمَامِ الْأَبِ ، ثُمَّ أَعْمَامُ الْأَبِ يُقَدَّمُ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ لِأَبٍ وَأُمٍّ عَلَى مَنْ كَانَ لِأَبٍ ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَبَنُو بَنِيهِمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي بَنِي الْأَعْمَامِ ، ثُمَّ أَعْمَامُ الْجَدِّ ، ثُمَّ بَنُوهُمْ ، ثُمَّ أَعْمَامُ ابْنِ الْجَدِّ ، ثُمَّ بَنُوهُمْ ، ثُمَّ أَعْمَامُ جَدِّ الْجَدِّ ، ثُمَّ بَنُوهُمْ ، ثُمَّ أَعْمَامُ أَبِي جَدِّ الْجَدِّ ، ثُمَّ بَنُوهُمْ ، هَكَذَا أَبَدًا حَتَّى يُسْتَنْفَذَ جَمِيعُ الْعَصَبَاتِ لَا يُقَدَّمُ بَنُو أَبٍ أَبْعَدَ عَلَى بَنِي أَبٍ هُوَ أَقْرَبُ وَإِنْ نَزَلَتْ دَرَجَتُهُمْ ، وَإِذَا اسْتَوَوْا قُدِّمَ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ لِأَبٍ وَأُمٍّ عَلَى مَنْ كَانَ لِأَبٍ ، وَلَيْسَ الْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ مِنَ الْعَصَبَةِ لِإِدْلَائِهِمْ بِالْأُمِّ الَّتِي لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي التَّعْصِيبِ وَلَا الْأَعْمَامُ لِلْأُمِّ مِنَ الْوَرَثَةِ لِأَنَّهُمْ ذُو أَرْحَامٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَلَيْسَ يَرِثُ مَعَ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعَصِبَاتِ أُخْتٌ لَهُ إِلَّا أَرْبَعَةٌ فَإِنَّهُمْ يُعَصِّبُونَ أَخَوَاتِهِمْ وَيَرِثُونَ مَعَهُمُ الِابْنُ يُعَصِّبُ أُخْتَهُ وَتَرِثُ مَعَهُ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ بِنَصِّ الْكِتَابِ ، وَابْنُ الِابْنِ يُعَصِّبُ أُخْتَهُ وَإِنْ سَفَلَ وَيُعَصِّبُ مَنْ لَا فَرْضَ لَهُ مِنْ عَمَّاتِهِ فَيَشْتَرِكُونَ فِي الْمِيرَاثِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَالْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ يُعَصِّبُ أُخْتَهُ وَيُقَاسِمُهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَالْأَخُ لِلْأَبِ كَذَلِكَ أَيْضًا يُعَصِّبُهَا وَيُقَاسِمُهَا وَمَنْ سِوَى هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ مِنَ الْعَصَبَاتِ كُلِّهِمْ يُسْقِطُونَ أَخَوَاتِهِمْ وَيَخْتَصُّونَ بِالْمِيرَاثِ كَبَنِي الْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ مِنْ جَمِيعِ الْعَصَبَاتِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا تَرَكَ ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ ، فَلِلَّذِي هُوَ أَخٌ لِلْأُمِّ السُّدُسُ فَرْضًا بِالْأُمِّ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا بِالتَّعْصِيبِ ، وَبِهِ قَالَ عَلِيٌّ وَزَيْدٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ وَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالْفُقَهَاءِ . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : الْمَالُ كُلُّهُ لِابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ

أَخٌ لِأُمٍّ ، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " وَبَنُو الْأُمِّ يَتَوَارَثُونَ دُونَ بَنِي الْعَلَّاتِ " وَلِأَنَّهُمَا قَدِ اسْتَوَيَا فِي الْإِدْلَاءِ بِالْأَبِ وَاخْتَصَّ أَحَدُهُمَا بِالْإِدْلَاءِ بِالْأُمِّ فَصَارَ كَالْأَخَوَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَآخَرُ لِأَبٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَدَّمَ مَنْ زَادَ إِدْلَاءُهُ بِالْأُمِّ عَلَى مَنْ تَفَرَّدَ بِالْأَبِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [ النِّسَاءِ 12 ] ، فَأَوْجَبَ هَذَا الظَّاهِرُ أَلَّا يُزَادَ بِهَذِهِ الْإِخْوَةِ عَلَى السُّدُسِ ، وَلِأَنَّ السَّبَبَ الْمُسْتَحِقَّ بِهِ الْفَرْضَ لَا يُوجِبُ أَنْ يُقَوَّى بِهِ التَّعْصِيبُ بَعْدَ أَخْذِ الْفَرْضِ كَابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا زَوْجٌ ، وَلِأَنَّ وِلَادَةَ الْأُمِّ تُوجِبُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ إِمَّا اسْتِحْقَاقًا بِالْفَرْضِ أَوْ تَقْدِيمًا بِالْجَمِيعِ وَلَا تُوجِبُ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مِنْ فَرْضٍ وَتَقْدِيمٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِخْوَةَ الْمُتَفَرِّقِينَ إِذَا اجْتَمَعُوا اخْتَصَّ الْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ بِالْفَرْضِ وَاخْتَصَّ الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ بِالتَّقْدِيمِ فِي الْبَاقِي عَلَى الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُشَارِكُوا بَاقِيَهُمُ الْإِخْوَةَ لِلْأُمِّ لِتَنَافِي اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ فِي الْإِدْلَاءِ بِالْأُمِّ ، وَكَذَلِكَ ابْنُ الْعَمِّ إِذَا كَانَ أَخًا لِأُمٍّ لَمَا اسْتَحَقَّ بِأُمِّهِ فَرْضًا لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهَا تَقْدِيمَهُ عَلَى ابْنِ الْعَمِّ ، وَلِأَنَّ اجْتِمَاعَ الرَّحِمِ وَالتَّعْصِيبِ إِذَا كَانَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ في الميراث وَجَبَ التَّقْدِيمُ كَالْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ فِي تَقْدِيمِهِمْ عَلَى الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ ، وَإِنْ كَانَا مِنْ جِهَتَيْنِ لَمْ يُوجِبَا التَّقْدِيمَ ، وَالْأَخُ لِلْأُمِّ إِذَا كَانَ ابْنَ عَمٍّ فَيُعَصِّبُهُ مِنْ جِهَةِ الْإِدْلَاءِ بِالْجَدِّ وَرَحِمِهِ بِوِلَادَةِ الْأُمِّ فَلَمْ يُوجِبِ التَّقَدُّمَ ، وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ . فَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْإِخْوَةِ : لِأَنَّ الرِّوَايَةَ : أَعْيَانُ بَنِي الْأُمِّ يَتَوَارَثُونَ دُونَ بَنِي الْعَلَّاتِ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُمَا فِي الْبَاقِي بَعْدَ السُّدُسِ سَوَاءٌ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْمَالِ ، فَأَمَّا وَلَاءُ الْمَوَالِي ميراثهم فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ ابْنَ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ يُقَدَّمُ بِهِ عَلَى ابْنِ الْعَمِّ الَّذِي لَيْسَ بِأَخٍ لِأُمٍّ : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَرِثْ بِأُمِّهِ مِنَ الْوَلَاءِ فَرْضًا اسْتَحَقَّ بِهِ تَقْدِيمًا : لِأَنَّ الْإِدْلَاءَ بِالْأُمِّ إِذَا انْضَمَّ إِلَى التَّعْصِيبِ وَجَبَ قُوَّةً عَلَى مُجَرَّدِ التَّعْصِيبِ إِمَّا فِي فَرْضٍ أَوْ تَقْدِيمٍ ، فَلَمَّا سَقَطَ الْفَرْضُ فِي الْوَلَاءِ ثَبَتَ التَّقْدِيمُ .

فَصْلٌ : وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ وَأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ أَحَدُهُمَا ابْنُ عَمٍّ ، فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمَالُ بَيْنَ ابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ وَابْنُ أَخِ الْأُمِّ الَّذِي هُوَ ابْنُ عَمٍّ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي التَّعْصِيبِ وَالْإِدْلَاءِ بِالْأُمِّ ، وَلَا شَيْءَ لِلْأَخِ لِلْأُمِّ الَّذِي لَيْسَ بِابْنِ عَمٍّ وَلَا ابْنِ الْعَمِّ الَّذِي لَيْسَ بِأَخٍ لِأُمٍّ ، وَعَلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ الثُّلُثُ لِثَلَاثَةٍ : لِلْأَخِ لِلْأُمِّ الَّذِي هُوَ ابْنُ عَمٍّ ، وَلِابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ ، وَلِلْأَخِ لِلْأُمِّ الَّذِي لَيْسَ بِابْنِ عَمٍّ : لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ إِخْوَةٌ لِأُمٍّ ، وَالْبَاقِي بَعْدَ الثُّلُثِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ بَيْنَ ابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ وَالْأَخُ لِلْأُمِّ الَّذِي هُوَ ابْنُ عَمٍّ وَابْنُ الْعَمِّ الَّذِي لَيْسَ بِأَخٍ لِأُمٍّ ، فَلَوْ تَرَكَ بِنْتًا وَابْنَيْ عَمِّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ ، فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ ، وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ نِصْفِ الْبِنْتِ لِابْنِ الْعَمِّ الَّذِي لَيْسَ بِأَخٍ لِأُمٍّ : لِأَنَّ الْأَخَ لِلْأُمِّ لَا يَرِثُ مَعَ الْبِنْتِ ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَالْجَمَاعَةِ : إِنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الْبِنْتِ بَيْنَهُمَا : لِأَنَّ الْبِنْتَ تُسْقِطُ بِوَرَثَتِهِ بِالْأُمِّ وَلَا تُسْقِطُ مِيرَاثَهُ بِالتَّعْصِيبِ كَالْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ، فَلَوْ تَرَكَ ابْنَ عَمٍّ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَابْنَ عَمٍّ لِأَبٍ هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ ، فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَالُ

لِابْنِ الْعَمِّ لِلْأَبِ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ ، وَعَلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ لِابْنِ الْعَمِّ لِلْأَبِ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِلْأُمِّ السُّدُسُ بِأَنَّهُ أَخٌ لِأُمٍّ وَالْبَاقِي لِابْنِ الْعَمِّ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَصَبَةً بِرَحِمٍ يَرِثُ فَالْمَوْلَى الْمُعْتِقُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَأَقْرَبُ عَصَبَةٍ مَوْلَاهُ الذُّكُورُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبَيْتُ الْمَالِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . وَالْوَلَاءُ يُورَثُ بِهِ كَالتَّعْصِيبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ [ النِّسَاءِ : 33 ] وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ تَوَلَّى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ فَقَدْ خَلَعَ رَقَبَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ وَأَعْتَقَتْ بِنْتُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَبْدًا فَمَاتَ وَتَرَكَ بِنْتًا ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِصْفَ مَالِهِ لِبِنْتِهِ وَالْبَاقِي لِبِنْتِ حَمْزَةَ مُعْتِقَتِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَكُلُّ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ فَلَهُ وَلَاؤُهُ مُسْلِمًا كَانَ الْمُعْتِقُ أَوْ كَافِرًا . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا وَلَاءَ لِلْكَافِرِ إِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا مُسْلِمًا لِقَطْعِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُوَالَاةَ بَيْنَهُمَا بِاخْتِلَافِ الدِّينِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ ، وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ " ، فَلَمَّا كَانَ النَّسَبُ ثَابِتًا بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَتَوَارَثَا كَانَ الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا ثَابِتًا وَلَا يَتَوَارَثَانِ بِهِ ، فَإِنْ أَسْلَمَ وَرِثَ ، فَإِذَا ثَبَتَ اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ بِالْوَلَاءِ فَعَصَبَةُ النَّسَبِ تَتَقَدَّمُ فِي الْمِيرَاثِ عَلَى عَصَبَةِ الْوَلَاءِ : لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَبَّهَ عَصَبَةَ الْوَلَاءِ بِعَصَبَةِ النَّسَبِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا أُلْحِقَ بِأَصْلٍ فَإِنَّهُ مُتَأَخِّرٌ عَنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ ابْنَ الِابْنِ لَمَّا كَانَ فِي الْمِيرَاثِ مُلْحَقًا بِالِابْنِ تَأَخَّرَ عَنْهُ وَالْجَدُّ لَمَّا كَانَ مُلْحَقًا بِالْأَبِ تَأَخَّرَ عَنْهُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَتَى كَانَ لِلْمُعْتَقِ عَصَبَةٌ مُنَاسِبٌ كَانَ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنَ الْمَوْلَى ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَصَبَةٌ وَكَانَ لَهُ ذُو فَرْضٍ تَقَدَّمُوا بِفُرُوضِهِمْ عَلَى الْمَوَالِي لِأَنَّهُمْ يَتَقَدَّمُونَ بِهَا عَلَى الْعَصَبَةِ ، فَكَانَ تَقْدِيمُهُمْ بِهَا عَلَى الْمَوْلَى أَوْلَى ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَبَةُ نَسَبٍ وَلَا ذُو فَرْضٍ يَسْتَوْعِبُ بِفَرْضِهِ جَمِيعَ التَّرِكَةِ كَانَتْ لِلتَّرِكَةِ أَوْ مَا بَقِيَ مِنْهَا بَعْدَ فَرْضِ ذِي الْفَرْضِ لِلْمَوْلَى يَتَقَدَّمُ بِهِ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ فِي قَوْلِ مَنْ وَرَّثَ ذَوِي الْأَرْحَامِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَدَّمُوا ذَوِي الْأَرْحَامِ عَلَى الْمَوَالِي ، وَفِيمَا مَضَى مِنْ إِسْقَاطِ مِيرَاثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ دَلِيلٌ كَافٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْلًى فَعَصَبَةُ الْمَوْلَى يَقُومُونَ فِي الْمِيرَاثِ مَقَامَ الْمَوْلَى : لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَامُوا مَقَامَهُ فِي مَالِهِ قَامُوا مَقَامَهُ فِي وَلَائِهِ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَبْنَاءُ أَحَقُّ بِوَلَاءِ الْمَوَالِي مِنَ الْآبَاءِ ، فَإِذَا كَانَ أَبٌ مَوْلَى وَابْنٌ مَوْلَى فَابْنُ الْمَوْلَى أَوْلَى مِنْ أَبِ الْمَوْلَى ، وَكَذَلِكَ ابْنُ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110