كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

وَأَكْثَرَ مَنَافِعِ الثَّوْبِ بَاقِيَةٌ بَعْدَ نَجَاسَتِهِ : لِبَقَاءِ أَكْثَرِ مَنَافِعِهِ ، وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُ الزَّيْتِ النَّجِسِ ، لِذَهَابِ أَكْثَرِ مَنَافِعِهِ ، أَوَلَا تَرَى أَنَّ الْمَيْتَةَ ، وَإِنْ جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهَا لِلْمُضْطَرِّ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا : لِذَهَابِ أَكْثَرِ مَنَافِعِهَا ، وَلَوْ أُذِيبَ شَحْمُهَا جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُ مَا حُكِمَ بِنَجَاسَتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا كَانَ نَجِسَ الْعَيْنِ مِنَ الْأَصْلِ خِلْقَةً ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الطَّهَارَةِ أَصْلٌ حكم بيعه كَالْكَلْبِ ، وَالْخِنْزِيرِ ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِحَالٍ : لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ ، كَالْكَلْبِ ، أَوْ غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ كَالْخِنْزِيرِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا طَرَأَتْ نَجَاسَتُهُ بَعْدَ تَقَدُّمِ طَهَارَتِهِ مِنْ غَيْرِ نَجَاسَةٍ جَاوَرَتْهُ حكم بيعه ، كَنَجَاسَةِ الْخَمْرِ ، بِحُدُوثِ الشِّدَّةِ ، وَنَجَاسَةِ الْمَيْتَةِ ، بِحُدُوثِ الْمَوْتِ . وَالشِّدَّةُ وَالْمَوْتُ لَا يُوصَفُ بِنَجَاسَةٍ وَلَا طَهَارَةٍ ، وَإِنْ نَجُسَ بِهِمَا الْأَعْيَانُ الطَّاهِرَةُ . وَهَذِهِ النَّجَاسَةُ مَانِعَةٌ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ سَوَاءٌ أَمْكَنَ إِزَالَتُهَا بِدِبَاغِ الْجِلْدِ أَوْ لَمْ يُمْكِنْ إِزَالَتُهَا ، كَاللَّحْمِ : لِنَجَاسَةِ جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ الَّتِي لَا يَتَخَلَّلُهَا جُزْءٌ طَاهِرٌ . وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْعَ مَا يُمْكِنُ إِزَالَةُ نَجَاسَتِهِ ، كَالْجِلْدِ لِإِمْكَانِ طَهَارَتِهِ بِالدِّبَاغَةِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ نَجَاسَةَ الْخَمْرِ يُمْكِنُ إِزَالَتُهَا عِنْدَهُ بِالتَّخْلِيلِ ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا ، كَذَلِكَ الْجِلْدُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَبْلَ زَوَالِ نَجَاسَتِهِ مُسَاوٍ لِمَا تُمْكِنُ إِزَالَةُ نَجَاسَتِهِ لَا لِنَجَاسَةِ جَمِيعِ أَجْزَائِهِ ، فَلَمْ يُجِزْ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى حُكْمِ الطَّهَارَةِ ، مَعَ عَدَمِهَا فِيهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا نَجُسَ بِمُجَاوَرَةِ النَّجَاسَةِ لَهُ مَعَ طَهَارَةِ عَيْنِهِ ، فَهَذَا يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَتَمَيَّزَ نَجَاسَتُهُ وَيُمْكِنَ إِزَالَتُهَا ، كَالثَّوْبِ النَّجِسِ ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ ، قَبْلَ إِزَالَةِ نَجَاسَتِهِ ، لِعِلَّتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : إِمْكَانُ إِزَالَتِهَا . الثَّانِيةُ : بَقَاءُ أَكْثَرِ مَنَافِعِهِ مَعَهَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ لَا تَتَمَيَّزَ نَجَاسَتُهُ : لِامْتِزَاجِهِ بِهَا ، وَلَا يُمْكِنُ إِزَالَتُهَا ، كَالدِّبْسِ وَاللَّبَنِ إِذَا نَجُسَ ، وَكَذَلِكَ الْمَاءُ النَّجِسُ ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى طَهَارَتِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَالْمَاءُ النَّجِسُ يَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ .

قِيلَ : الْمُكَاثَرَةُ لَا تُزِيلُ النَّجَاسَةَ : لِبَقَائِهَا فِيهِ ، وَإِنَّمَا يَغْلُبُ حُكْمُ الْمُكَاثَرَةِ ، فَيُحْكَمُ لَهُ بِالطَّهَارَةِ . أَوَلَا تَرَى أَنَّ الْبَوْلَ لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ ، فَلَمْ يُغَيِّرْهُ كَانَ طَاهِرًا ، وَجَازَ بَيْعُهُ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى طَهَارَةِ الْبَوْلِ ، كَذَلِكَ الْمَاءُ النَّجِسُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا لَمْ يَتَمَيَّزْ نَجَاسَتُهُ : لِامْتِزَاجِهِ وَاخْتُلِفَ فِي إِمْكَانِ إِزَالَتِهَا مِنْهُ ، وَهُوَ الزَّيْتُ النَّجِسُ ، وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مِنَ الْأَدْهَانِ ، دُونَ السَّمْنِ . فَفِي إِمْكَانِ غَسْلِهِ وَطَهَارَتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يُمْكِنُ غَسْلُهُ ، وَيَطْهُرُ بِأَنْ يُرَاقَ عَلَيْهِ الْمَاءُ فِي إِنَاءٍ ، وَيُمْخَضُ فِيهِ مَخْضًا ، يَصِيرُ بِهِ مَغْسُولًا ، كَالثَّوْبِ : لِأَنَّ الدُّهْنَ يَتَمَيَّزُ عَنِ الْمَاءِ وَيَعْلُو عَلَيْهِ ، كَمَا يَتَمَيَّزُ الثَّوْبُ ، ثُمَّ يُؤْخَذُ ، فَيَكُونُ طَاهِرًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَقَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ : إِنْ غَسَلَهُ لَا يَصِحُّ بِخِلَافِ الثَّوْبِ ، لِأَنَّهُ مَائِعٌ ، كَالْمَاءِ ، فَلَمْ يَكُنْ جَذْبُ الْمَاءِ لِلنَّجَاسَةِ بِأَوْلَى مِنْ جَذْبِ الزَّيْتِ لَهَا ، فَكَانَ بَاقِيًا عَلَى نَجَاسَتِهِ وَالْمَاءُ فِي الثَّوْبِ يَجْذِبُ نَجَاسَتَهُ إِلَيْهِ ، فَافْتَرَقَا . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ غَسْلَهُ لَا يَصِحُّ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ . وَإِنْ قِيلَ : إِنْ غَسْلَهُ يَصِحُّ ، فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ وَجْهَانِ مِنْ عِلَّتَيْ بَيْعِ الثَّوْبِ النَّجِسِ : إِحْدَاهُمَا : يَجُوزُ بَيْعُهُ تَعْلِيلًا بِإِمْكَانِ تَطْهِيرِهِ بِالْغَسْلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ تَعْلِيلًا بِذَهَابِ أَكْثَرِ مَنَافِعِهِ بِنَجَاسَتِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَيُسْتَصْبَحُ بِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَا يَبِيعُهُ ؟ قِيلَ : قَدْ يَنْتَفِعُ الْمُضْطَرُّ بِالْمَيْتَةِ وَلَا يَبِيعُهَا وَيَنْتَفِعُ بِالطَّعَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَا يَبِيعُهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ ، قَالَ : وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَأَبَاحَ الِانْتِفَاعَ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ ، فَغَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَنْتَفِعَ الرَّجُلُ بِالزَّيْتِ ، وَلَا يَبِيعَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَالِانْتِفَاعُ بِمَا نَجُسَ مِنَ السَّمْنِ وَالزَّيْتِ فِي الِاسْتِصْبَاحِ ، جَائِزٌ عَلَى مَا سَنَصِفُهُ . وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ : الِانْتِفَاعُ بِهِ حَرَامٌ فِي اسْتِصْبَاحٍ وَغَيْرِهِ : احْتِجَاجًا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِإِرَاقَتِهِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ رِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ ،

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنِ الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ وَالْوَدَكِ ، فَقَالَ : إِنْ كَانَ جَامِدًا فَاطْرَحُوهَا وَمَا حَوْلَهَا ، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَانْتَفِعُوا بِهِ ، وَلَا تَأْكُلُوهُ . وَرَوَى أَبُو هَارُونَ الْعَبْدِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنِ الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ وَالزَّيْتِ ، فَقَالَ : اسْتَصْبِحُوا بِهِ وَلَا تَأْكُلُوهُ . وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ نَصٌّ فِي إِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ وَالِاسْتِصْبَاحِ بالسمن والزيت إذا نجس : وَلِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِإِرَاقَتِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ ، كَانَ الِاسْتِصْبَاحُ بِهِ أَوْلَى ، لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ لِعَيْنِهِ ، مَعَ الِانْتِفَاعِ بِهِ .


فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الِانْتِفَاعِ بِهِ ، فَالْمَنَافِعُ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ وَرَدَ النَّصُّ بِإِبَاحَتِهِ ، وَقِسْمٌ وَرَدَ النَّصُّ بِالنَّهْيِ عَنْهُ ، وَقِسْمٌ مُرْسَلٌ لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ . فَأَمَّا الْقَسَمُ الْأَوَّلُ الَّذِي وَرَدَ النَّصُّ بِإِبَاحَتِهِ ، فَهُوَ الِاسْتِصْبَاحُ بِهِ ، فَكَذَلِكَ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ إِسْجَارِ التَّنَانِيرِ بِالْبَعْرِ وَالسِّرْجِينِ وَجَمِيعِ الْأَنْجَاسِ ، وَإِبْقَائِهِ تَحْتَ الْقُدُورِ ، وَمِنَ الِاصْطِلَاءِ بِنَارِهِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نَجَاسَةِ دُخَّانِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ نَجِسٌ : لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ عَنْ نَجَاسَةٍ وَالْأَعْيَانُ النَّجِسَةُ لَا تَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ كَالرَّمَادِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ طَاهِرٌ ، لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنَ الْتِقَاءِ جِسْمَيْنِ ، فَلَمْ يَنْجُسْ بِنَجَاسَةِ أَحَدِ الْجِسْمَيْنِ ، كَالرِّيحِ الْخَارِجَةِ مِنَ الْجَوْفِ . فَإِنْ قِيلَ : بِطَهَارَتِهِ لَمْ يَلْزَمِ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ إِلَّا تَنَزُّهًا . وَإِنْ قِيلَ : بِنَجَاسَتِهِ ، فَفِي الْعَفْوِ عَنْهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُعْفَى عَنْهُ : لِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ فِي التَّحَرُّزِ مِنْهُ ، كَدَمِ الْبَرَاغِيثِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ سَجَّرَ بِهِ تَنُّورًا لَمْ يَلْزَمْهُ مَسْحُهُ مِنْهُ ، وَجَازَ الْخَبْزُ فِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْهُ : لِأَنَّ الْبُعْدَ مِنْهُ عِنْدَ اسْتِعْمَالِهِ لَهُ مُمْكِنٌ ، فَأَمْكَنَ التَّحَرُّزُ مِنْهُ ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْ دَمِ الْبَرَاغِيثِ . فَعَلَى هَذَا إِنْ تَدَخَّنَ بِهِ ثَوْبٌ وَجَبَ غَسْلُهُ ، وَإِذَا سُجِّرَ بِهِ تَنُّورٌ ، وَجَبَ مَسْحُهُ مِنْهُ قَبْلَ الْخَبْزِ فِيهِ ، فَإِنْ خُبِزَ فِيهِ قَبْلَ مَسْحِهِ نَجُسَ ظَهْرُ الرَّغِيفِ ، وَكَانَ وَجْهُهُ طَاهِرًا ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْكُلَ الرَّغِيفَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَغْسِلَ ظَاهِرَهُ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : الَّذِي وَرَدَ النَّصُّ بِالنَّهْيِ عَنْهُ ، وَهُوَ أَنْ تُطْلَى بِهِ السُّفُنُ وَالْمَرَاكِبُ . رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُطْلَى السُّفُنُ بِشُحُومِ الْمَيْتَةِ ، وَحُكْمُ شُحُومِ الْمَيْتَةِ وَالزَّيْتِ النَّجِسِ سَوَاءٌ فِي جَوَازِ الِاسْتِصْبَاحِ بِهِمَا ، فَكَانَ سَوَاءً فِي الْمَنْعِ مِنْ إِطْلَاءِ السُّفُنِ بِهِمَا .

بَابُ مَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَمَا يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ مِنَ الْمَيْتَةِ ، وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى النَّهْيِ عَنْ طِلَاءِ السُّفُنِ وَجَوَازِ الِاسْتِصْبَاحِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ فِي الِاسْتِصْبَاحِ بِهِ اسْتِهْلَاكًا لَهُ فَجَازَ وَفِي طِلَاءِ السُّفُنِ بِهِ اسْتِبْقَاءٌ لَهُ ، فَلَمْ يَجُزْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْمِصْبَاحَ لَا يَمَسُّهُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا مَنْ يَعْلَمُ بِالنَّجَاسَةِ فَيَتَوَقَّاهَا ، وَالسَّفِينَةُ يَمَسُّهَا فِي الْغَالِبِ مَنْ لَا يَعْلَمُ بِالنَّجَاسَةِ ، فَلَا يَتَوَقَّاهَا . فَعَلَى هَذَا إِنْ جُعِلَ طِلَاءً لِلْبَهَائِمِ ، فَإِنْ كَانَتْ مُسْتَعْمِلَةً لَمْ يَجُزْ كَالسَّفِينَةِ : لِوُجُودِ الْعِلَّتَيْنِ مِنْ بَقَاءِ الْعَيْنِ وَمَسِيسِ حَقٍّ لَا يُعْلَمُ . وَإِنْ كَانَتْ سَائِمَةً غَيْرَ مُسْتَعْمَلَةٍ ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يَمَسُّهَا مَنْ لَا يَعْلَمُ بِهَا . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ تَعْلِيلًا بِبَقَاءِ عَيْنِهَا . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ الْمُرْسَلُ عَنْ أَمْرٍ بِهِ أَوْ نَهْىٍ عَنْهُ ، فَيُنْظَرُ فِي اسْتِعْمَالِهِ ، فَإِنْ وُجِدَ فِيهِ مَعْنَى الْأَمْرِ أُبِيحَ ، وَإِنْ وُجِدَ فِيهِ مَعْنَى النَّهْيِ حُظِرَ . فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُطْعَمَ الْبَازِي وَالْفَهْدُ لَحْمَ الْمَيْتَةِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ فِيهِ ، بِالِاسْتِهْلَاكِ ، فَإِنَّهُ لَا يُبَاشِرُهَا مَنْ لَا يَعْلَمُ بِهَا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَسْقِيَهُمَا الْمَاءَ النَّجِسَ ، وَالْأَبْوَالَ . فَأَمَّا طَرْحُ الْأَنْجَاسِ مِنَ الْبَعْرِ وَالسِّرْجِينِ عَلَى الزُّرُوعِ وَالْأَشْجَارِ ، فَإِنْ لَمْ يُمَاسَّ الثَّمَرَةَ الْمَأْكُولَةَ ، وَكَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي أُصُولِ الشَّجَرِ وَفِي قُضْبَانِ الزَّرْعِ جَازَ : لِاشْتِهَارِ حَالِهَا وَأَنَّهُ لَا يُبَاشِرُهَا إِلَّا عَالَمٌ بِهَا ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَعْمَلًا مِنْ ثِمَارِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ يَابِسَةً جَازَ ، لِأَنَّ الْيَابِسَ لَا يَنْجُسُ يَابِسًا . وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا رَطْبًا أَوْ نَدِيًّا ، بِنَجِسٍ بِالْمُلَاقَاةِ ، فَإِبَاحَةُ اسْتِعْمَالِهِ مَقْرُونًا بِأَحَدِ شَرْطَيْنِ إِمَّا بِغَسْلِهِ قَبْلَ بَيْعِهِ ، أَوْ بِإِعْلَامِ مُشْتَرِيهِ بِنَجَاسَتِهِ ، وَهَكَذَا إِذَا عُجِنَ طِينُ الْكِيزَانِ وَالْخَزَفُ بِالسَّرْجِينِ لَزِمَهُ عِنْدَ بَيْعِهِ أَنْ يَغْسِلَهُ أَوْ يُخْبِرَ بِنَجَاسَتِهِ ، يَغْسِلُهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ اسْتِعْمَالِهِ ، فَإِنْ صَارَ هَذَا عُرْفًا مَشْهُورًا بَيْنَ جَمِيعِ النَّاسِ سَقَطَ الْأَمْرَانِ عِنْدَ بَيْعِهِ مِنَ الْغَسْلِ وَالْإِعْلَامِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ إِلَّا بَعْدَ غَسْلِهِ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالْعُرْفِ مَعْلُومَ النَّجَاسَةِ .

مَسْأَلَةٌ لَا يَحِلُّ مِنَ الْمَيْتَةِ إِلَّا إِهَابُهَا بِالدِّبَاغِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا يَحِلُّ مِنَ الْمَيْتَةِ إِلَّا إِهَابُهَا بِالدِّبَاغِ وَيُبَاعُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا مَاتَ الْحَيَوَانُ صَارَ جَمِيعُهُ بِالْمَوْتِ نَجِسًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَنْجُسُ لَحْمُهُ وَجِلْدُهُ ، وَلَا يَنْجُسُ شَعْرُهُ وَلَا عَظْمُهُ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَنْجُسُ عَظْمُهُ ، وَلَا يَنْجُسُ شَعْرُهُ ، وَقَدْ حُكِيَ هَذَا عَنِ الشَّافِعِيِّ .

فَخَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلًا ثَانِيًا ، وَامْتَنَعَ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ مِنْ تَخْرِيجِهِ ، وَجَعَلُوهُ حِكَايَةً عَنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ اسْتِعْمَالَ جِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ جَائِزٌ . فَمِنَ النَّاسِ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُ حُكْمًا بِطَهَارَتِهِ ، كَمَا قَالَهُ غَيْرُهُ فِي الْعَظْمِ وَالشَّعْرِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ إِبَاحَةً لِاسْتِعْمَالِهِ مَعَ الْحُكْمِ بِنَجَاسَتِهِ ، وَفِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [ الْمَائِدَةِ : 13 ] مَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ جَمِيعِهَا عَلَى الْعُمُومِ ، فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى جَمِيعِهِمْ فِي نَجَاسَةِ الْجَمِيعِ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَمْ يَطْهُرْ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَّا جِلْدَهَا بِالدِّبَاغَةِ . وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ : يَطْهُرُ عَظْمُهَا بِالطَّبْخِ إِذَا ذَهَبَ دَسَمُهُ . وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : يَطْهُرُ بِالْخَرْطِ ، وَقَالَ خَرْطُ الْعَاجِ ذَكَاتُهُ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ : يَطْهُرُ شَعْرُهَا بِالْغَسْلِ ، وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِ الْإِهَابِ بِطَهَارَةِ الدِّبَاغَةِ دُونَ غَيْرِهِ ، فَإِذَا دُبِغَ الْجِلْدُ طَهُرَ دُونَ شَعْرِهِ ، وَحَكَى الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْجِيزِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الشَّعْرَ تَابَعٌ لِلْجِلْدِ يَطْهُرُ بِدِبَاغِهِ ، وَامْتَنَعَ سَائِرُ أَصْحَابِهِ مِنْ تَحْرِيمِهِ ، وَجَعَلُوهُ حِكَايَةً عَنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ ، وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ ، وَإِنَّمَا أَشَرْنَا إِلَى جُمْلَتِهَا حِينَ أُعِيدَتْ .

مَسْأَلَةٌ إِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا يَأْكُلُ الْمُضْطَرُّ مِنَ الْمَيْتَةِ إِلَّا مَا يَرُدُّ نَفْسَهُ فَيَخْرُجُ بِهِ مِنَ الِاضْطِرَارِ قَالَ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ بِهَذَا أَقُولُ وَقَالَ فِيهِ وَمَا هُوَ بِالْبَيِّنِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الشَّيْءَ حَلَالٌ وَحَرَامٌ ، فَإِذَا كَانَ حَرَامًا لَمْ يَحِلَّ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَإِذَا كَانَ حَلَالًا فَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُحَرِّمَ مِنْهُ شَيْئًا ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ إِلَّا مَا أَبَاحَ مِنْهُ بِصِفَةٍ ، فَإِذَا زَالَتِ الصِّفَةُ زَالَتِ الْإِبَاحَةُ قَالَ الْمُزَنِيُّ : وَلَا خِلَافَ أَعَلَمُهُ أَنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الْمَيْتَةِ وَهُوَ بَادِي الشِّبَعِ : لِأَنَهُ لَيْسَ بِمُضْطَرٍّ ، فَإِذَا كَانَ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ فَمُضْطَرٌّ ، فَإِذَا أَكَلَ مِنْهَا مَا يُذْهِبَ الْخَوْفَ ، فَقَدْ أَمِنَ فَارْتَفَعَ الِاضْطِرَارُ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ الْإِبَاحَةِ قَالَ الْمُزَنِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَإِذَا ارْتَفَعَتِ الْعِلَّةُ ارْتَفَعَ حُكْمُهَا ، وَرَجَعَ الْحُكْمُ كَمَا كَانَ قَبْلَ الِاضْطِرَارِ ، وَهُوَ تَحْرِيمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْمَيْتَةَ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِمُضْطَرٍّ ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَرْتَفِعَ الِاضْطِرَارُ وَلَا يَرْتَفِعَ حُكْمُهُ جَازَ أَنْ يَحْدُثَ الْإِضْرَارُ وَلَا يَحْدُثَ حُكْمُهُ ، وَهَذَا خَلَافُ الْقُرْآنِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْأَصْلُ فِي إِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ فَأَخْبَرَ بِتَحْرِيمِهَا بَعْدَ قَوْلِهِ : كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [ الْبَقَرَةِ : 172 ] لِيَدُلَّ عَلَى تَخْصِيصِ التَّحْرِيمِ فِي عُمُومِ الْإِبَاحَةِ ، فَقَالَ : إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ [ الْبَقَرَةِ : 173 ] وَهُوَ مَا فَاتَتْ رُوحُهُ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ مِنْ كُلِّ ذِي نَفْسٍ سَائِلَةٍ ، وَالدَّمُ وَهُوَ الْجَارِي مِنَ الْحَيَوَانِ بِذَبْحٍ أَوْ جَرْحٍ ، وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ فِيهِ تَأْوِيلَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ التَّحْرِيمَ مَقْصُورٌ عَلَى لَحْمِهِ دُونَ شَحْمِهِ اقْتِصَارًا عَلَى النَّصِّ ، وَهُوَ قَوْلُ دَاوُدَ . وَالثَّانِي : أَنَّ التَّحْرِيمَ عَامٌّ فِي جَمِيعِهِ ، وَخُصَّ النَّصُّ بِاللَّحْمِ تَنْبِيهًا عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ مُعْظَمُ مَقْصُودِهِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [ الْبَقَرَةِ : 173 ] يُرِيدُ بِالْإِحْلَالِ : الذَّبْحَ ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَرَادُوا ذَبْحَ مَا قَرَّبُوهُ لِآلِهَتِهِمْ جَهَرُوا بِأَسْمَاءِ آلِهَتِهِمْ عِنْدَ الذَّبْحِ . وَمِنْ قَوْلِهِ : لِغَيْرِ اللَّهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ مِنَ الْأَصْنَامِ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالثَّانِي : مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ مِنَ الْأَصْنَامِ ، قَالَ عَطَاءٌ : وَهُوَ عَلَى التَّأْوِيلَيْنِ حَرَامٌ ، فَانْتَهَى مَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّحْرِيمِ ، ثُمَّ ابْتَدَأَ بِإِبَاحَةِ ذَلِكَ لِلْمُضْطَرِّ ، فَقَالَ : فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ [ الْبَقَرَةِ : 173 ] وَمَنِ " اضْطُرَّ " تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ افْتُعِلَ مِنَ الضَّرُورَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مِنْ إِصَابَةِ الضُّرِّ وَفِي غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ ثَلَاثُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : غَيْرَ بَاغٍ عَلَى الْإِمَامِ بِعِصْيَانِهِ وَلَا عَادٍ عَلَى الْأُمَّةِ بِفَسَادِهِ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ . وَالثَّانِي : غَيْرَ بَاغٍ فِي أَكْلِهِ فَوْقَ حَاجَتِهِ وَلَا عَادٍ بِأَكْلِهَا ، وَهُوَ يَجِدُ غَيْرَهَا ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ . وَالثَّالِثُ : غَيْرَ بَاغٍ فِي أَكْلِهَا شَهْوَةً ، وَتَلَذُّذًا ، وَلَا عَادٍ بِاسْتِيفَاءِ الْأَكْلِ إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ ، وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ . وَفِي قَوْلِهِ : فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : فَلَا عِقَابَ عَلَيْهِ فِي أَكْلِهَا . وَالثَّانِي : فَلَا مَنْعَ عَلَيْهِ فِي أَكْلِهَا ، وَالِاسْتِثْنَاءُ إِبَاحَةُ أَكْلِهَا عِنْدَ الِاضْطِرَارِ مِنْ عُمُومِ تَحْرِيمِهَا مَعَ الِاخْتِيَارِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ شُرُوطِ الْإِبَاحَةِ . وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ ، وَهِيَ مِنْ مُحْكَمَاتِ السُّوَرِ الَّتِي لَمْ يَرُدُّهُ بَعْدَهَا نَسْخٌ ، وَاخْتُلِفَ هَلْ نَزَلَ بَعْدَهَا فَرْضٌ - فَقَالَ سُبْحَانَهُ : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ [ الْمَائِدَةِ : 3 ] وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُحَرَّمَاتِ مِثْلَ مَا ذَكَرَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ ، وَزَادَ فَقَالَ : وَالْمُنْخَنِقَةُ وَهِيَ الَّتِي تَخْتَنِقُ بِحَبَلِ الصَّائِدِ ، وَكُرِهَ حَتَّى تَمُوتَ .

وَالْمَوْقُوذَةُ وَهِيَ الَّتِي تُضْرَبُ بِالْخَشَبِ حَتَّى تَمُوتَ ، وَكَانَتِ الْمَجُوسُ تَقِذُ ، وَلَا تَذْبَحُ ، لِيَكُونَ دَمُهُ فِيهِ ، وَيَقُولُونَ : هُوَ أَطْيَبُ وَأَسْمَنُ . وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَهِيَ الَّتِي تَسْقُطُ مِنْ رَأْسِ جَبَلٍ أَوْ فِي بِئْرٍ حَتَّى تَمُوتَ . وَالنَّطِيحَةُ وَهِيَ الَّتِي تَنْطَحُهَا أُخْرَى ، فَتَمُوتُ النَّاطِحَةُ وَالْمَنْطُوحَةُ . وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ [ الْمَائِدَةِ : 3 ] وَمَأْكُولَةُ السَّبُعِ هِيَ فَرِيسَتُهُ ، الَّتِي أَكَلَ مِنْهَا ، أَوْ لَمْ يَأْكُلْ ، وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى هَذَا كُلِّهِ ، وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِي عُمُومِ الْمَيْتَةِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِأَنَّهَا مَاتَتْ بِأَسْبَابٍ حَتَّى لَا تُقَدِّرُوا أَنَّ أَسْبَابَ مَوْتِهَا ذَكَاةٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَطِيبُونَ أَكْلَهَا مِنْ قَبْلُ ، فَنَصَّ عَلَيْهَا فِي التَّحْرِيمِ ، لِيَزُولَ الِالْتِبَاسُ . وَمِنْ قَوْلِهِ : إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَأْكُولَةِ السَّبُعِ وَحْدَهَا ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمُنْخَنِقَةِ ، وَمَا بَعْدَهَا ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ، وَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُدْرِكَهَا وَلَهَا عَيْنٌ تَطْرِفُ أَوْ ذَنَبٌ يَتَحَرَّكُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ فِيهَا حَرَكَةٌ قَوِيَّةٌ لَا كَحَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ . ثُمَّ قَالَ : وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [ الْمَائِدَةِ : 3 ] : وَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا أَصْنَامٌ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا يَذْبَحُونَ لَهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهَا أَوْثَانٌ كَانُوا يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا ، لِأَصْنَامِهِمْ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ أَنَّ الصَّنَمَ مُصَوَّرٌ يَعْبُدُونَهُ ، وَالْوَثَنُ غَيْرُ مُصَوَّرٍ ، يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَى الصَّنَمِ ، فَهَذِهِ كُلُّهَا مُحَرَّمَاتٌ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى تَحْرِيمِهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ . ثُمَّ قَالَ : وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ [ الْمَائِدَةِ : 3 ] وَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَا يَتَقَامَرُونَ بِهِ مِنَ الشَّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ أَشْهَرُ أَنَّهَا قِدَاحٌ ثَلَاثَةٌ مَكْتُوبٌ عَلَى أَحَدِهَا : " أَمَرَنِي رَبِّي " ، وَعَلَى الْآخَرِ " نَهَانِي رَبِّي " ، وَالْآخِرُ غُفْلٌ ، يَضْرِبُونَهَا وَإِذَا أَرَادُوا سَفَرًا أَوْ أَمْرًا ، فَإِنْ خَرَجَ : أَمَرَنِي رَبِّي فَعَلُوهُ ، وَإِنْ خَرَجَ " نَهَانِي رَبِّي " تَرَكُوهُ ، وَإِنْ خَرَجَ الْغُفْلُ أَعَادُوهُ . وَفِي تَسْمِيَتِهِ : اسْتِقْسَامًا تَأْوِيلَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ طَلَبُوا بِهِ عِلْمَ مَا قُسِمَ لَهُمْ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمُ الْتَزَمُوا بِالْقِدَاحِ مِثْلَ مَا الْتَزَمُوهُ بِقَسَمِ الْيَمِينِ . ذَلِكُمْ فِسْقٌ [ الْمَائِدَةِ : 3 ] فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ تَحْرِيمُهُ . وَفِي قَوْلِهِ : فِسْقٌ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : كُفْرٌ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ . وَالثَّانِي : خُرُوجٌ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ، ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدَ الْمُحْرِمَاتِ حَالَ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ ، فَقَالَ : الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ تفسير قوله تعالى [ الْمَائِدَةِ : 3 ] وَفِي هَذَا الْيَوْمِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَوْمُ حِجَّةِ الْوَدَاعِ ، وَفِيمَا يَئِسُوا بِهِ مِنَ الدِّينِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَرْتَدُّوا عَنْهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَقْدِرُوا عَلَى إِبْطَالِهِ . فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ : أَيْ لَا تَخْشَوْهُمْ أَنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ، وَاخْشَوْنِي أَنْ تُخَالِفُوا أَمْرِي . الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ تفسير قوله تعالى [ الْمَائِدَةِ : 3 ] فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ ، وَلَمْ يَعِشْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا إِحْدَى وَثَمَانِينَ لَيْلَةً ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ زَمَانُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّهُ إِلَى أَنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَرَفَةَ ، وَفِي إِكْمَالِهِ لِلدِّينِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ إِكْمَالُ فَرَائِضِهِ وَحُدُودِهِ وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ ، وَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْفَرَائِضِ مِنْ تَحْلِيلٍ وَلَا تَحْرِيمٍ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ إِكْمَالَهُ بِرَفْعِ النَّسْخِ عَنْهُ بَعْدَ هَذَا الْوَقْتِ . فَأَمَّا الْفُرُوضُ ، فَلَمْ تَزَلْ تَنْزِلُ عَلَيْهِ حَتَّى قُبِضَ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ . وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [ الْمَائِدَةِ : 3 ] فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بِإِظْهَارِكُمْ عَلَى عَدْوِكُمْ .

وَالثَّانِي : بِإِكْمَالِ دِينِكُمْ . وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [ الْمَائِدَةِ : 3 ] فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : رَضِيَتُ دِينَ الْإِسْلَامِ دِينًا . وَالثَّانِي : رَضِيتُ الِاسْتِسْلَامَ أَيْ طَاعَةً ، فَرَوَى قُبَيْصَةُ أَنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ ، قَالَ : لَوْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَعَظَّمُوا الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ ، وَاتَّخَذُوهُ عِيدًا ، فَقَالَ عُمَرُ : لَقَدْ نَزَلَتْ بِعَرَفَةَ ، فِي يَوْمِ جُمْعَةٍ ، وَكِلَاهُمَا بِحَمْدِ اللَّهِ لَنَا عِيدٌ ، ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدَهَا إِبَاحَةَ مَا اسْتَثْنَاهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ فَقَالَ : فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ [ الْمَائِدَةِ : 3 ] يَعْنِي : مَجَاعَةً ، وَهِيَ مَفْعَلَةٌ مِنْ خَمَصِ الْبَطْنِ ، وَهُوَ اضْطِمَارُهُ مِنَ الْجُوعِ ، مِثْلُ : مَخْمَلَةٍ وَمَخِلَّةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ [ الْمَائِدَةِ : 3 ] وَفِي الْمُتَجَانِفِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الْمُتَعَمِدُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ الْمَائِلُ . وَفِي هَذَا الْإِثْمِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَأْكُلَ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَتَجَاوَزَ فِي الضَّرُورَةِ مَا أَمْسَكَ الرَّمَقَ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الشِّبَعِ ، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يَعْنِي غَفُورًا لِلْمَأْثَمِ ، رَحِيمًا فِي الْإِبَاحَةِ . وَإِنَّمَا اسْتَوْفَيْتُ تَفْسِيرَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ ، وَإِنْ تَجَاوَزْنَا بِهِمَا مَسْأَلَةَ الْكِتَابِ : لِمَا تَعَلَّقَ بِهِمَا مِنَ الْأَحْكَامِ وَالنَّعَمِ ، مَعَ إِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللِّيثِيِّ قَالَ : قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا بِأَرْضٍ تُصِيبُنَا بِهَا مَخْمَصَةٌ ، فَمَتَى تَحِلُّ لَنَا الْمَيْتَةُ ؟ قَالَ : مَا لَمْ تَصْطَبِحُوا ، أَوْ تَغْتَبِقُوا أَوْ تَحْتَفِئُوا بِهَا بَقْلًا فَشَأْنُكُمْ بِهَا قَوْلُهُ : " تَصْطَبِحُوا " مِنَ الصَّبُوحِ ، وَهُوَ الْغَدَاءُ ، وَ " تَغْتَبِقُوا " مِنَ الْغَبُوقِ ، وَهُوَ الْعَشَاءُ ، أَيْ لَمْ تَجِدُوا " الْحَفَا " مَقْصُورٌ ، وَهُوَ أَصُولُ الْبَرْدِيِّ الرَّطْبِ ، وَقِيلَ : إِنَّهُ أَرَادَهُ وَأَمْثَالَهُ مِنَ الْحَشِيشِ : لِأَنَّهُ مَأْكُولٌ يُغْنِي عَنِ الْمَيْتَةِ . وَمَعْنَى الْحَدِيثِ : أَنَّكُمْ إِذَا تَغَذَّيْتُمْ ، فَلَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوهَا عِنْدَ الْعَشَاءِ إِذَا تَعَشَّيْتُمْ ، فَلَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوهَا عِنْدَ الْغَدَاءِ : لِأَنَّ الرَّمَقَ يَتَمَاسَكُ ، وَإِذَا وَجَدْتُمُ " الْحَفَا " فَلَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوهَا : لِأَنَّ الرَّمَقَ بِهِ مُتَمَاسِكٌ ، فَدَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ أَكْلِهَا إِذَا لَمْ يَتَمَاسَكِ الرَّمَقُ إِلَّا بِهَا .

شُرُوطُ إِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ

فَصْلٌ : شُرُوطُ إِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ فَإِذَا ثَبَتَ إِبَاحَةُ أَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ بِإِبَاحَتِهَا مُعْتَبِرَةً بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَنْتَهِيَ بِهِ الْجُوعُ إِلَى حَدِّ التَّلَفِ ، وَلَا يَقْدِرَ عَلَى مَشْيٍ وَلَا نُهُوضٍ شرط إِبَاحَةُ أَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ ، فَيَصِيرَ غَيْرَ مُتَمَاسِكِ الرَّمَقِ إِلَّا بِهَا ، فَيَصِيرَ حِينَئِذٍ مِنْ أَهْلِ الْإِبَاحَةِ ، فَإِنْ تَمَاسَكَ رَمَقُهُ أَوْ جَلَسَ وَأَقَامَ وَلَمْ يَتَمَاسَكْ إِنْ مَشَى ، وَسَارَ نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ فِي سَفَرٍ يَخَافُ فَوْتَ رَفَاقَتِهِ حَلَّ لَهُ أَكْلُهَا ، وَإِنْ لَمْ يَخَفْ فَوْتَ رَفَاقَتِهِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَجِدَ مَأْكُولَ الْحَشِيشِ وَالشَّجَرِ مَا يُمْسِكُ بِهِ رَمَقَهُ شرط إِبَاحَةُ أَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ ، فَإِنْ وَجَدَهُ لَمْ تَحِلَّ لَهُ الْمَيْتَةُ ، وَلَوْ وَجَدَ مِنَ الْحَشِيشِ مَا يَسْتَضِرُّ بِأَكْلِهِ حَلَّتْ لَهُ الْمَيْتَةُ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ لَا يَجِدَ طَعَامًا يَشْتَرِيَهُ ، فَإِنْ وَجَدَ مَا يَشْتَرِيَهُ بِثَمَنِ مِثْلِهِ لَزِمَهُ شِرَاؤُهُ ، سَوَاءٌ وَجَدَ ثَمَنَهُ أَوْ لَمْ يَجِدْ إِذَا أَنْظَرَهُ الْبَائِعُ ثَمَنَهُ بِخِلَافِ الْمَاءِ الَّذِي لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ إِذَا كَانَ عَادِمًا ، لِأَنَّ إِبَاحَةَ التَّيَمُّمِ مُعْتَبَرَةٌ بِالْعُدْمِ ، وَهُوَ بِإِعْوَازِ الثَّمَنِ عَادِمٌ . وَإِبَاحَةُ الْمَيْتَةِ مُعْتَبَرَةٌ بِالضَّرُورَةِ ، وَهُوَ مَعَ الْإِنْظَارِ بِالثَّمَنِ غَيْرُ مُضْطَرٍّ ، فَإِنْ بُذِلَ لَهُ الطَّعَامُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ ، كَالْمَاءِ : لِأَنَّ الْتِمَاسَ الزِّيَادَةِ مُنْتَفٍ . وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ : أَنْ لَا يَكُونَ بِمَا دَعَتْهُ الضَّرُورَةُ إِلَى الْمَيْتَةِ عَاصِيًا ، كَمُقَامِهِ عَلَى قَطْعِ الطَّرِيقِ ، وَإِخَافَتِهِ السَّبِيلَ أَوْ لِبَغْيِهِ عَلَى إِمَامٍ عَادِلٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ [ الْمَائِدَةِ : 3 ] وَلِأَنَّ إِبَاحَةَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ رُخْصَةٌ ، وَالْعَاصِي لَا يَتَرَخَّصُ فِي مَعْصِيَتِهِ ، فَإِنْ تَابَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ حَلَّ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ ، وَإِنْ أَقَامَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَتُبْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ ، وَهُوَ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إِلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ التَّوْبَةِ . وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ ، وَإِنْ قَصُرَ السَّفَرُ ، لِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ أَحْوَالِهِ الْعُدْمُ ، وَإِنْ حَدَثَ مِثْلُهُ فِي الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى حَلَّ فِيهَا أَكْلُ الْمَيْتَةِ كَالسَّفَرِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا أُحِلَّ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ بِالشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ ، كَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا مَا يُمْسِكُ رَمَقَهُ ، كَيْفَمَا سَاغَهُ طَبْخًا وَقَلْيًا ، وَشَيًّا ، وَنِيئًا ، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَجَاوَزَ بِالْأَكْلِ بَعْدَ إِمْسَاكِ الرَّمَقِ إِلَى أَبَدٍ يَنْتَهِي إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ ، فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى إِمْسَاكِ الرَّمَقِ ، وَمَا بَعْدَهُ إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ حَرَامٌ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَأْكُلُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الشِّبَعِ ، وَلَا يُحَرَّمُ عَلَيْهِ إِلَّا مَا زَادَ عَلَى حَدِّ الشِّبَعِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ . وَدَلِيلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي تَحْرِيمِ الشِّبَعِ لآكل الميتة مضطرا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى :

وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [ الْأَنْعَامِ : 119 ] وَالضَّرُورَةُ تَزُولُ بِإِمْسَاكِ الرَّمَقِ ، فَدَلَّتْ عَلَى تَحْرِيمِ مَا زَادَ عَلَيْهِ : وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُتَمَاسِكَ الرَّمَقِ قَبْلَ أَكْلِهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ كَذَلِكَ . إِذَا صَارَ بِهَا مُتَمَاسِكَ الرَّمَقِ وَجَبَ أَنْ تَحْرُمَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إِلَيْهَا فِي الْحَالَيْنِ : وَلِأَنَّ ارْتِفَاعَ الضَّرُورَةِ مُوجِبٌ لِارْتِفَاعِ حُكْمِهَا ، كَمَا أَنَّ حُدُوثَ الضَّرُورَةِ مُوجِبٌ لِحُدُوثِ حُكْمِهَا . وَلَوْ جَازَ أَنْ تَرْتَفِعَ الضَّرُورَةُ ، وَلَا يَرْتَفِعَ حُكْمُهَا لَجَازَ أَنْ تَحْدُثَ ، وَلَا يَحْدُثَ حُكْمُهَا . دَلِيلُ الْقَوْلِ الثَّانِي : أَنَّ الشِّبَعَ مِنْهَا حَلَالٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ [ الْبَقَرَةِ : 173 ] فَعَمَّ الْإِبَاحَةَ بِرَفْعِ الْمَأْثَمِ ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ سُئِلَ عَنِ الْمَيْتَةِ ، فَقَالَ : مَا لَمْ تَصْطَبِحُوا أَوْ تَغْتَبِقُوا أَوْ تَحْتَفِئُوا بَقْلًا فَشَأْنُكُمْ بِهَا فَعَمَّ إِبَاحَتَهَا : وَلِأَنَّ مَا حَلَّ أَكْلُهُ ، حَلَّ الِاكْتِفَاءُ مِنْهُ ، كَالطَّعَامِ طَرْدًا وَالْحَرَامِ عَكْسًا : وَلِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إِلَى الشِّبَعِ لِحِفْظِ قُوَّتِهِ : لِأَنَّ إِمْسَاكَ الرَّمَقِ لَا لُبْثَ لَهُ ، وَتَتَعَقَّبُهُ الضَّرُورَةُ بَعْدَهُ إِلَى إِمْسَاكِهِ بِغَيْرِهِ ، وَقَدْ لَا يَجِدُ الْمَيْتَةَ بَعْدَهَا ، فَكَانَ الشِّبَعُ أَمْسَكُ لِرَمَقِهِ ، وَأَحْفَظُ لِحَيَاتِهِ ، وَلَئِنْ كَانَ إِمْسَاكُ الرَّمَقِ فِي الِابْتِدَاءِ مُعْتَبَرًا فَقَدْ لَا يَكُونُ فِي الِانْتِهَاءِ مُعْتَبَرًا بِعُدْمِ الطَّوَلِ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ ، شَرْطٌ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ بَعْدَ الْعَقْدِ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ مِنْهُمَا أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ مِنْهَا إِلَّا مَا أَمْسَكَ الرَّمَقَ ، فَأَكْلُ هَذَا الْقَدْرِ مِنْهَا مُبَاحٌ لَهُ وَوَاجِبٌ عَلَيْهِ ، لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ بِهِ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [ النِّسَاءِ : 29 ] فَإِنْ تَرَكَ أَكْلَ مَا يُمْسِكُ الرَّمَقَ حَتَّى مَاتَ أَثِمَ ، وَإِنْ أَكَلَ مَا زَادَ عَلَى إِمْسَاكِ الرَّمَقِ من الميتة للمضطر كَانَ آثِمًا ، وَمَا أَكَلَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ حَرَامٌ . وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهَا حَتَّى يَشْبَعَ كَانَ أَكْلُ مَا أَمْسَكَ الرَّمَقَ وَاجِبًا عَلَيْهِ ، وَكَانَ أَكْلُ مَا زَادَ عَلَيْهِ إِلَى الشِّبَعِ مُبَاحًا لَهُ : لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُخْتَصٌّ بِمَا أَحْيَا النَّفْسَ ، وَهُوَ إِمْسَاكُ الرَّمَقِ وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ لِلْحَاجَةِ وَحِفْظِ الْقُوَّةِ ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَأَكْلُ مَا زَادَ عَلَى حَدِّ الشِّبَعِ حَرَامٌ : لِأَنَّهُ لَا تَدْعُو إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ وَلَا حَاجَةٌ .

فَصْلٌ حُكْمُ الْعَطْشَانِ إِذَا خَافَ التَّلَفَ

فَصْلٌ : حُكْمُ الْعَطْشَانِ إِذَا خَافَ التَّلَفَ وَهَكَذَا حُكْمُ الْعَطْشَانِ إِذَا خَافَ التَّلَفَ ، وَوَجَدَ مَاءً نَجِسًا أَوْ بَوْلًا حَلَّ لَهُ الشُّرْبُ مِنْهُ : لَأَمْسَكَ رَمَقَهُ وَهَلْ لَهُ أَنْ يَرْتَوِيَ مِنْهُ ، عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ فِي الْمَيْتَةِ ، فَإِنْ وَجَدَ بَوْلًا وَمَاءً نَجِسًا ، كَانَ شُرْبُ الْمَاءِ النَّجِسِ أَوْلَى مِنْ شُرْبِ الْبَوْلِ : لِأَنَّ نَجَاسَةَ الْمَاءِ طَارِئَةٌ بِالْمُخَالَطَةِ ، وَنَجَاسَةَ الْبَوْلِ لِذَاتِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُتَدَاوَى بِالْبَوْلِ إِذَا لَمْ يَجِدْ دَوَاءً طَاهِرًا ، قَدْ أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لِلْعُرَنِيِّينَ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِ الْإِبِلِ وَأَبْوَالِهَا بِالْمَدِينَةِ لَمَّا اجْتَوَوْهَا " وَهَكَذَا يُحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ لُحُومِ الْمَيْتَةِ لِلتَّدَاوِي إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ دَوَاءٌ سِوَاهُ ،

وَمَنَعَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمَاتِ احْتِجَاجًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَا جَعَلَ اللَّهُ شِفَاءَكُمْ فِيمَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ وَهَذَا الْقَائِلُ مُخْطِئٌ بَعْدَ حَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ التَّدَاوِيَ حَالَ الضَّرُورَةِ ، فَصَارَ بِهَا مُضْطَرًّا إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ أَكْلَ السُّمِّ حَرَامٌ وَالتَّدَاوِي بِهِ مُتَدَاوَلٌ ، وَقِيلَ : إِنَّ السَّقْمُونِيَا سُمٌّ قَاتِلٌ ، وَلِهَذَا مَنِ اسْتَكْثَرَ مِنْهُ فِي الدَّوَاءِ قَتَلَهُ ، ثُمَّ يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهِ ، كَذَلِكَ كُلُّ حَرَامٍ . فَأَمَّا الْخَبَرُ ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ مَا فِيهِ شِفَاؤُكُمْ مِنْهُ ، حَرُمَ عَلَيْكُمْ . فَأَمَّا شُرْبُ الْخَمْرِ مِنَ الْعَطَشِ وَلِلتَّدَاوِي ، فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ شُرْبُهَا ، مِنَ الْعَطَشِ وَلَا لِلتَّدَاوِي ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى جَوَازِ شُرْبِهَا لِلْعَطَشِ لَا لِلتَّدَاوِي : وَلِأَنَّ ضَرَرَ الْعَطَشِ عَاجِلٌ ، وَضَرَرَ الدَّاءِ آجِلٌ ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّ جَوَازَ شُرْبِهَا لِلتَّدَاوِي دُونَ الْعَطَشِ : لِأَنَّهَا مُتَعَيِّنَةٌ فِي الدَّوَاءِ وَغَيْرُ مُتَعَيِّنَةٍ فِي الْعَطَشِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : يَجُوزُ شُرْبُهَا فِي الْعَطَشِ وَالتَّدَاوِي . وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهَا فِي الْحَالَيْنِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : الْخَمْرُ دَاءٌ : وَلِأَنَّهَا تَزِيدُ فِي الْعَطَشِ وَلَا تَرْوِي : وَلِأَنَّهَا تُحْدِثُ مِنَ السُّكْرِ مَا يُزِيلُ الْعَقْلَ ، وَتَمْنَعُ الْفَرَائِضَ : وَلِأَنَّ شُرْبَهَا فِي أَحَدِ الْحَالَيْنِ ذَرِيعَةٌ إِلَى شُرْبِهَا مَعَ عَدَمِ تِلْكَ الْحَالِ : لِأَنَّ الشَّهْوَةَ رَغِيبَةٌ عَلَيْهَا : وَلِذَلِكَ حَرُمَ إِمْسَاكُهَا ، وَوَجَبَ الْحَدُّ عَلَى شَارِبِهَا ، وَهَكَذَا كُلُّ مُسْكِرٍ فَهُوَ خَمْرٌ .

مَسْأَلَةٌ إِنْ مَرَّ الْمُضْطَرُّ بِتَمْرٍ أَوْ زَرْعٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا وَضَعَهُ بِخَطِّهِ لَا أَعْلَمُهُ سُمِعَ مِنْهُ : " إِنْ مَرَّ الْمُضْطَرُّ بِتَمْرٍ أَوْ زَرْعٍ حكم الاكل منه لَمْ أَرَ بَأْسًا أَنْ يَأْكُلَ مَا يَرُدُّ بِهِ جُوعَهُ وَيَرُدُّ قِيمَتَهُ ، وَلَا أَرَى لِصَاحِبِهِ مَنْعَهْ فَضْلًا عَنْهُ ، وَخِفْتُ أَنْ يَكُونَ أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ ، إِذَا خَافَ عَلَيْهِ بِالْمَنْعِ الْمَوْتَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا غَيْرُ الْمُضْطَرِّ إِذَا مَرَّ بِثَمَرَةِ غَيْرِهِ عَلَى نَخْلِهَا أَوْ شَجَرِهَا ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكُهَا سَوَاءٌ كَانَتْ بَارِزَةً أَوْ مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ : يُنَادِي عَلَى الْبَابِ ثَلَاثًا ، فَإِنْ أَجَابُوهُ ، وَإِلَّا دَخَلَ ، وَأَكَلَ ، وَلَمْ يَدَّخِرِ ، احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ بِحَائِطِ غَيْرِهِ ، فَلْيَدْخُلْ ، فَلْيَأْكُلْ ، وَلَا يَتَّخِذْ خُبْنَةً أَيْ : لَا يَحْمِلْ مِنْهُ شَيْئًا ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ فَاسِدٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : لَا يَحْلِبَنَّ أَحَدُكُمْ مَاشِيَةَ أَخِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، ضُرُوِعُ مَوَاشِيكُمْ خَزَائِنُ طَعَامِكُمْ ، أَوَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَدْخُلَ لِخَرِبَةِ أَخِيهِ ، فَيَأْخُذَ مَا فِيهَا بِغَيْرِ

إِذْنِهِ فَنَصَّ عَلَى أَلْبَانِ الْمَوَاشِي ، وَنَبَّهَ عَلَى ثِمَارِ النَّخْلِ : لِأَنَّ اللَّبَنَ أَسْهَلُ : لِأَنَّهُ مُسْتَخْلَفٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ ، وَمِنَ الثِّمَارِ مَا لَا يُسْتَخْلَفُ إِلَّا مِنْ كُلِّ عَامٍ . فَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْمُضْطَرِّ ، فَأَمَّا سَوَاقِطُ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ مِنَ الثِّمَارِ ، وَهُوَ مَا تَسَاقَطَ مِنْهَا عَلَى الْأَرْضِ : فَإِنْ كَانَتْ مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ قَدْ أَحْرَزَهَا لَمْ يُجِزْ لِلْمَارِّ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِأَخْذِهَا : لِأَنَّ الْحِرْزَ يَمْنَعُ مِنْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ بَارِزَةً غَيْرَ مُحْرَزَةٍ فَإِنْ لَمْ تَجْرِ عَادَةُ أَهْلِهَا بِإِبَاحَتِهَا حَرُمَ أَخْذُهَا ، وَإِنْ جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِإِبَاحَتِهَا كَثِمَارِ النَّخْلِ بِالْبَصْرَةِ وَالْمَدِينَةِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْعَادَةِ ، هَلْ تَجْرِي مَجْرَى الْإِذْنِ فِي الْإِبَاحَةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا كَالْإِذْنِ ، فَيُحِلُّ لِكُلِّ مَارٍ بِهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا ، وَلَا يَدَّخِرَهُ وَلَا يَتَعَرَّضَ لِغَيْرِ السَّوَاقِطِ ، وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ دَخَلَ حَائِطًا بِالْمَدِينَةِ ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْ سَوَاقِطِ النَّخْلِ ، فَرَآهُ صَاحِبُ الْحَائِطِ ، فَدَعَاهُ ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ الْأَكْلَ ، فَامْتَنَعَ وَقَالَ : إِنَّمَا هَاجَ عَلَيَّ كَلْبُ الْجُوعِ ، فَسَكَّنْتُهُ بِتَمَرَاتٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْعَادَةَ لَا تَكُونُ إِذْنًا ، وَلَا يَسْتَبِيحُ الْمَارُّ أَكْلَ السَّوَاقِطِ إِلَّا بِإِذْنٍ صَرِيحٍ كَمَا لَا يَسْتَبِيحُ مَا فِي النَّخْلِ إِلَّا بِإِذْنٍ صَرِيحٍ : لِأَنَّ جَمِيعَهُ مِلْكٌ لِأَرْبَابِهِ ، وَنُفُوسُ النَّاسِ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ ، بِالشُّحِّ وَالسَّخَاءِ ، فَلَمْ يَكُنْ عُمُومُ الْعُرْفِ فِيهِ مُقْنِعًا . حُكْمُ الْمُضْطَرِّ إِذَا مَرَّ بِثَمَرَةٍ وَنَحْوِهَا

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُضْطَرُّ إِذَا مَرَّ بِثَمَرَةٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ طَعَامٍ لِغَيْرِهِ الاكل منه ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَالِكُهُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا ، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا كَانَ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ مُحْرَزًا كَانَ أَوْ بَارِزًا ، وَفِي قَدْرِ مَا يَأْكُلُ مِنْهُ قَوْلَانِ ، كَالْمَيْتَةِ : أَحَدُهُمَا : قَدْرُ مَا يُمْسِكُ رَمَقَهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَشْبَعَ مِنْهُ : لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَبَاحَ بِالضَّرُورَةِ مَا تَعَلَّقَ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ اسْتَبَاحَ بِهَا مِمَّا تَعَلَّقَ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مِنَ الْأَمْوَالِ ، فَإِذَا أَكَلَ مِنْهَا قَدْرَ الْإِبَاحَةِ ، فَثَمَنُ قِيمَتِهِ لِمَالِكِهِ : لِأَنَّ الضَّرُورَةَ إِنَّمَا دَعَتْ إِلَى الْأَكْلِ ، وَلَمْ تَدْعُ إِلَى سُقُوطِ الْغُرْمِ ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا عَجَّلَ دَفْعَ الْقِيمَةِ ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا أُنْظِرَ بِهَا إِلَى مَيْسَرَتِهِ . وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَكَلَ : لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالضَّرُورَةِ كَالِاسْتِبَاحَةِ الَّتِي لَا تُضْمَنُ مِنَ الْمَيْتَةِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَيْتَةَ لَا قِيمَةَ لَهَا ، وَلِلطَّعَامِ قِيمَةٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَيْتَةَ لَا مَالِكَ لَهَا ، وَلِلطَّعَامِ مَالِكٌ ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الطَّعَامِ حَاضِرًا ، فَعَلَى الْمُضْطَرِّ أَنْ يَسْتَأْذِنَهُ فِي الْأَكْلِ بَعْدَ إِخْبَارِهِ بِضَرُورَتِهِ ، وَعَلَى مَالِكِ الطَّعَامِ

إِذَا عَلِمَ بِحَالِهِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْأَكْلِ اسْتِحْيَاءً لِنَفْسِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [ الْمَائِدَةِ : 32 ] ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ ، وَلَوْ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ : وَلِأَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَى اسْتِنْقَاذِهِ بِمَالِهِ مِنْ تَلَفٍ كَغَرَقٍ أَوْ حَرِيقٍ وَجَبَ عَلَيْهِ كَذَلِكَ إِذَا قَدَرَ عَلَى اسْتِنْقَاذِهِ بِمَالِهِ مِنْ تَلَفِ الْجُوعِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمَالِكِ مِنْ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْأَكْلِ أَوْ لَا يَأْذَنَ ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي الْأَكْلِ لَمْ يَخْلُ حَالُ إِذْنِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ بِإِبَاحَةِ الْأَكْلِ ، فَلِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالْإِبَاحَةِ كَطَعَامِ الْوَلَائِمِ الَّتِي يَجُوزُ الشِّبَعُ مِنْهَا ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى شِبَعِهِ ، وَلَا يَأْخُذُ مِنْهَا بَعْدَ الْأَكْلِ شَيْئًا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْأَكْلِ بِعِوَضٍ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَذْكُرَ قَدْرَ الْعِوَضِ ، فَلِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَ ، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَكَلَ فِي وَقْتِهِ بِمَكَانِهِ ، وَلَهُ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَذْكُرَ لَهُ قَدْرَ الْعِوَضِ ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ ثَمَنَ مِثْلِهِ ، فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ ، فَإِنْ أَفْرَدَ لَهُ مَا يَأْكُلُهُ حِينَ سَمَّى ثَمَنَهُ صَحَّ الثَّمَنُ ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مَا أَفْرَدَهُ ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْهُ فَضْلَةٌ أَخَذَهَا : لِأَنَّهُ قَدَّرَ مِلْكَهَا بِابْتِيَاعٍ صَحِيحٍ ، وَإِنْ لَمْ يُفْرِدْ مَا سَمَّى ثَمَنَهُ قَبْلَ الْأَكْلِ لَزِمَ الْمُضْطَرُّ قِيمَةَ مَا أَكَلَ سَوَاءٌ كَانَ أَقَلَّ عَنِ الْمُسَمَّى أَوْ أَكْثَرَ : لِأَنَّ مَا يَأْكُلُهُ مَجْهُولًا لَا يَصِحُّ فِيهِ ثَمَنٌ مُسَمًّى . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَا سَمَّاهُ مِنَ الثَّمَنِ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ ، فَيَكُونُ بِطَلَبِ الزِّيَادَةِ مِنَ الْمُضْطَرِّ آثِمًا ، وَيُنْظَرُ ، فَإِنْ لَمْ يُفْرِدْ مَا سَمَّى ثَمَنَهُ لَمْ يَلْزَمِ الْمُضْطَرَّ فِيمَا أَكَلَ إِلَّا قِيمَتُهُ بِمَكَانِهِ فِي وَقْتِهِ ، وَبَطُلَ الْمُسَمَّى ، وَإِنْ أَفْرَدَ مَا سَمَّى ثَمَنَهُ فَفِي قَدْرِ مَا يَلْزَمُ الْمُضْطَرَّ إِذَا أَكَلَهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : الثَّمَنُ الْمُسَمَّى لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ عَقْدٍ لَازِمٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : ثَمَنُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ ، وَهُوَ هَذَا . وَأَصَحُّ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الْمُطْلَقَيْنِ عِنْدِي أَنْ يُنْظَرَ ، فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ لَا تَشُقُّ عَلَى الْمُضْطَرِّ لِيَسَارِهِ ، فَهُوَ فِي بَذْلِهَا غَيْرُ مُكْرَهٍ ، فَلَزِمَتْهُ وَإِنْ كَانَتْ شَاقَّةً عَلَيْهِ لِإِعْسَارِهِ ، فَهُوَ مِنْ بَذْلِهَا مُكْرَهٌ ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْأَكْلِ إِذْنًا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِإِبَاحَةٍ وَلَا

مُعَاوَضَةٍ ، فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ كَطَعَامِ الْوَلَائِمِ ، وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ عُرْفَ الِاسْتِطْعَامِ وَالْإِطْعَامِ مَوْضُوعٌ عَلَى الْمُوَاسَاةِ ، دُونَ الْمُعَاوَضَةِ ، فَأَوْجَبَ إِطْلَاقُ الْإِذْنِ حَمْلَهُ عَلَى الْعُرْفِ ، وَالْمَعْهُودِ فِيهِ . فَلَوِ اخْتُلِفَ فِي الْإِذْنِ ، فَقَالَ الْمَالِكُ : أَذِنْتُ لَكَ فِي أَكْلِهِ بِعِوَضٍ لِي عَلَيْكَ . وَقَالَ الْمُضْطَرُّ : بَلْ أَذِنْتَ لِي فِي الْأَكْلِ مُبِيحًا ، فَلَا عِوَضَ لَكَ عَلَيَّ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ : لِأَنَّهُ مَالِكٌ . فَإِنِ اخْتُلِفَ فِي قَدْرِ الْقِيمَةَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضْطَرِّ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ غَارِمٌ .

فَصْلٌ : وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ مَالِكُ الطَّعَامِ فِي الْأَكْلِ ، فَلَا يَخْلُو الْمُضْطَرُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقْدِرَ عَلَى أَخْذِ الطَّعَامِ مِنْهُ بِغَيْرِ قِتَالٍ ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الطَّعَامَ جَبْرًا وَلَا يَتَعَدَّى الْآخِذُ إِلَى قِتَالِهِ ، وَفِي قَدْرِ مَا يَسْتَبِيحُ أَخْذَهُ مِنْهُ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْرُ مَا يُمْسِكُ بِهِ رَمَقَهُ . وَالثَّانِي : مَا يَنْتَهِي بِهِ إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ ، وَيَأْكُلُهُ فِي مَوْضِعِهِ ، وَلَا يَحْمِلُهُ : لِأَنَّ ضَرُورَتَهُ مُعْتَبَرَةٌ فِي مَكَانِهِ . وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَزُولَ الضَّرُورَةُ إِنْ زَالَ عَنْهُ ، فَإِذَا أَكَلَهُ كَانَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ بِمَكَانِهِ فِي وَقْتِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيةُ : أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى أَخْذِهِ ، وَلَا عَلَى قِتَالِهِ عَلَيْهِ ، فَمَالِكُ الطَّعَامِ عَاصٍ بِالْمَنْعِ ، وَمَعْصِيَتُهُ إِنْ أَفْضَتْ إِلَى تَلَفِ الْمُضْطَرِّ أَعْظَمُ ، لَكِنْ لَا يَضْمَنُهُ بِقَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ : لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَنْعُهُ فِعْلًا يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ . وَلَوْ قِيلَ : إِنَّهُ يَضْمَنُ دِيَتَهُ كَانَ مَذْهَبًا : لِأَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ جَعَلَتْ لَهُ فِي طَعَامِهِ حَقًّا ، فَصَارَ مَنْعُهُ مِنْهُ كَمَنْعِهِ مِنْ طَعَامِ نَفْسِهِ ، وَهُوَ لَوْ مَنَعَ إِنْسَانًا مِنْ طَعَامِ نَفْسِهِ حَتَّى مَاتَ جُوعًا ضَمِنَ دِيَتَهُ كَذَلِكَ إِذَا مَنَعَهُ مِنْ طَعَامٍ قَدْ صَارَ حَقُّهُ مُتَعَلِّقًا بِهِ وَجَبَ أَنْ يَضْمَنَ دِيَتَهُ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ لَا يَقْدِرَ الْمُضْطَرُّ عَلَى أَخْذِهِ ، إِلَّا بِقِتَالِهِ عَلَيْهِ ، فَلَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ عَلَيْهِ ، وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَاتِلَهُ حَتَّى يَصِلَ إِلَى طَعَامِهِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ مِمَّنْ أُرِيدَتْ نَفْسُهُ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَنْعُ مِنْهَا ؟ أَحَدُهُمَا : يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَاتِلَهُ : لِيَصِلَ إِلَى إِحْيَاءِ نَفْسِهِ بِطَعَامِهِ ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَكْلُ الْمَيْتَةِ لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ بِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْقِتَالَ مُبَاحٌ لَهُ ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ : لِأَنَّ مَالِكَ الطَّعَامِ لَا يَنْفَكُّ فِي الْأَغْلَبِ مِنْ دِينٍ أَوْ عَقْلٍ يَبْعَثُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى إِحْيَاءِ الْمُضْطَرِّ بِمَالِهِ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَوْكُولًا إِلَيْهِ ، وَخَالَفَ أَكْلَ الْمَيْتَةِ فِي الْوُجُوبِ : لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى إِحْيَاءِ

نَفْسِهِ إِلَّا بِهَا ، فَإِذَا شَرَعَ فِي قِتَالِهِ تَوَصَّلَ بِالْقِتَالِ إِلَى أَخْذِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِبَاحَةُ مِنْ طَعَامِهِ ، وَفِيهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُقَاتِلُهُ إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى أَخْذِ مَا يُمْسِكُ الرَّمَقَ ، فَإِنْ قَاتَلَهُ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَى إِمْسَاكِ الرَّمَقِ كَانَ مُتَعَدِّيًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُقَاتِلُهُ إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى قَدْرِ الشِّبَعِ ، وَيَكُونُ الْقِتَالُ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَى إِمْسَاكِ الرَّمَقِ مُبَاحًا ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَجْهًا وَاحِدًا ، وَقِتَالُهُ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَى قَدْرِ الشِّبَعِ عُدْوَانٌ . فَإِنْ لَمْ يَصِلْ بِالْقِتَالِ إِلَى شَيْءٍ مِنْ طَعَامِهِ حَتَّى تَلِفَ أَحَدُهُمَا ، نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ التَّالِفُ رَبَّ الطَّعَامِ كَانَتْ نَفْسُهُ هَدْرًا لَا تُضْمَنُ بِقَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ : لِأَنَّهُ مَقْتُولٌ بِحَقٍّ ، كَمَنْ طَلَبَ نَفْسَ إِنْسَانٍ ، فَقَتَلَهُ الْمَطْلُوبُ دَفَعًا ، كَانَتْ نَفْسُهُ هَدْرًا ، وَإِنْ كَانَ التَّالِفُ الْمُضْطَرَّ كَانَتْ نَفْسُهُ مَضْمُونَةً عَلَى رَبِّ الطَّعَامِ : لِأَنَّهُ قُتِلَ مَظْلُومًا ، ثُمَّ نُظِرَ فَإِنْ عَلِمَ رَبُّ الطَّعَامِ بِضَرُورَةِ الْمُضْطَرِّ ضَمِنَهُ بِالْقَوَدِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِضَرُورَتِهِ ضَمِنَهُ بِالدِّيَةِ : لِأَنَّهُ مَعَ الْعِلْمِ بِهَا عَامِدٌ ، وَمَعَ الْجَهْلِ بِهَا خَاطِئٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَوْ وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً وَصَيْدًا وَهُوَ مُحْرِمٌ أَكَلَ الْمَيْتَةَ ، وَلَوْ قِيلَ : يَأْكُلُ الصَّيْدَ وَيَفْتَدِي كَانَ مَذْهَبًا قَالَ الْمُزَنِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : الصَّيْدُ مُحَرَّمٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْإِحْرَامُ ، وَمُبَاحٌ لِغَيْرِ مُحْرِمٍ ، وَالْمَيْتَةُ مُحَرَّمَةٌ لِعَيْنِهَا لَا لِغَيْرِهَا عَلَى كُلِّ حَلَالِ وَحَرَامِ ، فَهِيَ أَغْلَظُ تَحْرِيمًا ، فَإِحْيَاءُ نَفْسِهِ بِتَرْكِ الْأَغْلَظِ وَتَنَاوُلِ الْأَيْسَرِ أَوْلَى بِهِ مِنْ رُكُوبِ الْأَغْلَظِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : مُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُذْكَرَ مَا يَسْتَبِيحُهُ الْمُضْطَرُّ مِنْ أَكْلِ الْمُحَرَّمَاتِ إِذَا انْفَرَدَتْ ، ثُمَّ يُذْكَرُ حُكْمُهَا فِي حَقِّهِ إِذَا اجْتَمَعَتْ ، فَإِذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ صَيْدًا ، وَهُوَ مُحْرِمٌ حَلَّ لَهُ أَكْلُ الصَّيْدِ ، لِضَرُورَتِهِ فِي إِحْيَاءِ نَفْسِهِ كَالْمَيْتَةِ الَّتِي يَسْتَبِيحُ أَكْلَهَا بِالضَّرُورَةِ ، وَإِنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ إِذَا أَكَلَ الصَّيْدَ أَنْ يَفْدِيَهُ بِالْجَزَاءِ : لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْجَزَاءِ : لِأَنَّهَا فِيهِ ، وَلَيْسَتْ فِي الصَّيْدِ ، وَهُوَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، الَّتِي يَسْتَوِي فِيهَا الْعَامِدُ وَالْخَاطِئُ ، وَفِي قَدْرِ مَا تَسْتَبِيحُهُ مِنْ أَكْلِهِ قَوْلَانِ كَالْمَيْتَةِ المضطر : أَحَدُهُمَا : قَدْرُ إِمْسَاكِ الرَّمَقِ . وَالثَّانِي : قَدْرُ الشِّبَعِ ، وَلَوْ كَانَ مَا وَجَدَهُ الْمُحْرِمُ الْمُضْطَرُّ صَيْدًا مَقْتُولًا أَكَلَ مِنْهُ ، وَلَمْ يَضْمَنْهُ بِالْجَزَاءِ سَوَاءٌ ضَمِنَهْ قَاتِلُهُ أَوْ لَمْ يَضْمَنْهُ : لِأَنَّ ضَمَانَ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ مُسْتَحَقٌّ بِالْقَتْلِ دُونَ الْأَكْلِ ، وَإِذَا كَانَ غَيْرَ ضَامِنٍ لِجَزَائِهِ ، نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ قَاتِلَ الصَّيْدِ

مُحِلًّا ، فَهُوَ ذَكِيٌّ مَمْلُوكٌ ، فَيَضْمَنُ الْمُضْطَرُّ قِيمَةَ مَا أَكَلَ لِمَالِكِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَاتِلُهُ مُحْرِمًا ، فَهَلْ يَكُونُ مَيْتَةً أَوْ مُذَكًّى ؟ فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ مَيْتَةً كَذَكَاةِ الْمَجُوسِيِّ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمُضْطَرِّ قِيمَةُ مَا أَكَلَ : لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلْمَيْتَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَكُونُ مُذَكًّى يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ ، وَيَحِلُّ لِغَيْرِهِ ، فَعَلَى هَذَا مِنْ ضَمَانِ الْمُضْطَرِّ لِقِيمَةِ مَا أَكَلَ وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ هَلْ يَسْتَقِرُّ لِلْمُحْرِمِ عَلَيْهِ مِلْكٌ أَمْ لَا ؟ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْمُحْرِمَ لَمْ يَمْلِكْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : عَلَيْهِ الضَّمَانُ إِذَا قِيلَ : إِنَّهُ يَمْلِكُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ لَحْمَ آدَمِيٍّ مَيْتٍ جَازَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ ، وَقَالَ دَاوُدُ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ ، وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الْمُضْطَرِّ كَتَحْرِيمِهِ عَلَى غَيْرِهِ ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : حُرْمَةُ ابْنِ آدَمَ بَعْدَ مَوْتِهِ كَحُرْمَتِهِ فِي حَيَاتِهِ ، وَكَسْرُ عَظْمِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَكَسْرِ عَظْمِهِ فِي حَيَاتِهِ . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ : وَلِأَنَّ هَذَا مُفْضٍ إِلَى أَكْلِ لُحُومِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّدِّيقِينَ ، وَمَنْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى حِفْظَ حُرْمَتِهِ ، وَتَعْظِيمَ حَقِّهِ . فَقَلَبَهُ عَلَيْهِ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَقَالَ : الْمَنْعُ مِنْ أَكْلِهِ مُفْضٍ إِلَى قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّدِّيقِينَ إِذَا اضْطُرُّوا حَفْظًا لِحُرْمَةِ مَيِّتٍ كَافِرٍ ، وَهَذَا أَعْظَمُ ، فَلَمْ يَصِحَّ بِمَا قَالَهُ ابْنُ دَاوُدُ . وَالدَّلِيلُ عَلَى إِبَاحَتِهِ ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ الْمَائِدَةِ : 3 ] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حِينَ قُتِلَ بِأَحَدٍ : لَوْلَا صَفِيَّةُ لَتَرَكْتُهُ تَأْكُلُهُ السِّبَاعُ : حَتَّى يُحْشَرَ مِنْ بُطُونِهَا . فَإِذَا جَازَ أَنْ تَأْكُلَهُ الْبَهَائِمُ الَّتِي لَا حُرْمَةَ لَهَا ، فَأَوْلَى أَنْ تُحْفَظَ بِهِ نُفُوسُ ذَوِي الْحُرُمَاتِ : وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَنْ يُحْيِيَ نَفْسًا بِقَتْلِ نَفْسٍ ، فَإِحْيَاؤُهَا بِغَيْرِ ذِي نَفْسٍ أَوْلَى : وَلِأَنَّ لَحْمَهُ يَبْلَى بِغَيْرِ إِحْيَاءِ نَفْسٍ ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَبْلَى بِإِحْيَاءِ نَفْسٍ . وَأَمَّا الْخَبَرُ فَهُوَ بِأَنْ يَكُونَ دَلِيلًا فِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ أَشْبَهُ : لِأَنَّهُ لَمَّا حَفِظَ حُرْمَتَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ ، كَانَ حِفْظُهَا فِي الْحَيَاةِ أَوْكَدَ ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنُ حِفْظُ الْحُرْمَتَيْنِ ، كَانَ حِفْظُ حُرْمَةِ الْحَيِّ بِالْمَيِّتِ أَوْلَى مِنْ حِفْظِ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ بِالْحَيِّ . فَإِذَا ثَبَتَ إِبَاحَةُ أَكْلِهِ مِنْهُ ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ إِلَّا قَدْرَ مَا يُمْسِكُ رَمَقَهُ قَوْلًا وَاحِدًا : لِيَحْفَظَ بِهِ الْحُرْمَتَيْنِ مَعًا ، وَيُمْنَعَ مِنْ طَبْخِهِ وَشَيِّهِ ، وَيَأْكُلُهُ نِيئًا إِنْ قَدَرَ لِأَنَّ طَبْخَهُ

مَحْظُورٌ ، وَإِنْ لَمْ يُؤْكَلْ : وَأَكْلُهُ مَحْظُورٌ وَإِنْ لَمْ يُطْبَخْ ، وَالضَّرُورَةُ تَدْعُو إِلَى الْأَكْلِ فَأَبَحْنَاهُ ، وَلَا تَدْعُو إِلَى الطَّبْخِ فَحَظَرْنَاهُ . وَخَالَفَ الْمَيْتَةَ الَّتِي تَخْتَصُّ بِتَحْرِيمِ الْأَكْلِ دُونَ الطَّبْخِ ، فَجَازَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ . وَأَمَّا إِذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ آدَمِيًّا حَيًّا ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُسْتَبَاحُ قَتْلُهُ حَرُمَ عَلَى الْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَهُ مَا يُحْيِي بِهِ نَفْسَهُ : لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِحْيَاءُ نَفْسٍ بِإِتْلَافِ نَفْسٍ مَعَ تَكَافُئِهِمَا فِي الْحُرْمَةِ . وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَأْكُولُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا : لِأَنَّ نَفْسَ الذِّمِّيِّ مَحْظُورَةٌ كَالْمُسْلِمِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَأْكُولُ مِمَّنْ يَجِبُ قَتْلُهُ فِي رِدَّةٍ أَوْ حِرَابَةٍ أَوْ زِنًى جَازَ أَنْ يَأْكُلَ الْمُضْطَرُّ مِنْ لَحْمِهِ لَكِنْ بَعْدَ قَتْلِهِ ، وَلَا يَأْكُلُ لَحْمَهُ فِي حَيَاتِهِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْذِيبِهِ ، فَإِنْ أَكَلَ مِنْ لَحْمِهِ حَيًّا كَانَ مُسِيئًا إِنْ قَدَرَ عَلَى قَتْلِهِ ، وَمَعْذُورًا إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى قَتْلِهِ لِشِدَّةِ الْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمُضْطَرُّ مَا يُمْسِكُ رَمَقَهُ إِلَّا بِقَطْعِ عُضْوٍ مِنْ جَسَدِهِ فَفِي إِبَاحَتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمِرْوَزِيِّ إِذَا كَانَ غَالِبُ قَطْعِهِ السَّلَامَةَ لِحِفْظِ نَفْسِهِ بِعُضْوٍ مِنْ جَسَدِهِ ، كَمَا يُقْطَعُ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ الْأَكَلَةُ لِيَحْفَظَ بِهِ نَفْسَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّهُ يَجْمَعُ بِقَطْعِهِ بَيْنَ خَوْفَيْنِ ، فَكَانَ أَسْرَعَ إِلَى تَلَفِهِ وَلَيْسَ كَقَطْعِ الْأَكَلَةِ : لِأَنَّهُ يَأْمَنُ سِرَايَتَهَا بِقَطْعِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ الِاسْتِبَاحَةِ عَلَى الِانْفِرَادِ انْتَقَلْنَا إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ كُلِّ مُسْتَبَاحَيْنِ بِالضَّرُورَةِ مَحْظُورَيْنِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ . فَمِنْ ذَلِكَ إِذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ ، وَهُوَ مُحْرِمٌ مَيْتَةً وَصَيْدًا حَيًّا . وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ ، فَفِيمَا يَسْتَبِيحُهُ مِنْهُمَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ دُونَ الصَّيْدِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اسْتِبَاحَةَ الْمَيْتَةِ نَصٌّ ، وَاسْتِبَاحَةَ الصَّيْدِ اجْتِهَادٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ ، وَأَكْلَ الصَّيْدِ مُوجِبٌ لِضَمَانِ الْجَزَاءِ ، فَصَارَتِ الْمَيْتَةُ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَخَفَّ حُكْمًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ : أَنَّهُ يَأْكُلُ الصَّيْدَ ، وَيَعْدِلُ عَنِ الْمَيْتَةِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِبَاحَةَ الصَّيْدِ عَامَّةٌ ، وَحَظْرَهُ خَاصَّةٌ مِنَ الْإِحْرَامِ ، وَحَظْرَ الْمَيْتَةِ عَامٌ ، وَإِبَاحَتَهَا خَاصَّةٌ فِي الِاضْطِرَارِ ، فَكَانَ مَا أَبَاحَتُهُ أَعَمَّ أَخَفَّ مِمَّا تَحْرِيمُهُ أَعَمُّ . وَالثَّانِي : أَنَّ تَحْرِيمَ الصَّيْدِ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ ، وَتَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ لِمَعْنًى فِيهَا ، فَكَانَ مَا

فَارَقَهُ مَعْنَى التَّحْرِيمِ أَخَفَّ مِمَّا حَلَّهُ مَعْنَى التَّحْرِيمِ ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ أَنَّ أَكْلَ الصَّيْدِ أَوْلَى . فَأَمَّا إِذَا وَجَدَ مَيْتَةً وَلَحْمَ صَيْدٍ قَتَلَهُ مُحْرِمٌ ، فَإِنْ قِيلَ : بِذَكَاتِهِ كَانَ أَوْلَى مِنَ الْمَيْتَةِ ، وَإِنْ قِيلَ : بِنَجَاسَتِهِ كَانَتِ الْمَيْتَةُ أَوْلَى مِنْهُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً وَطَعَامًا لِغَيْرِهِ ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي أَكْلِهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْمَيْتَةُ وَإِنْ مَنَعَهُ مِنْ أَكْلِهِ حَلَّتْ لَهُ الْمَيْتَةُ ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا لَمْ يَأْذَنْ وَلَمْ يَمْنَعْ فَعَلَى قَوْلَيْنِ كَالْمَيْتَةِ مَعَ الصَّيْدِ . وَلَوْ وَجَدَ الْمُضْطَرُّ الْمَحْرِمُ صَيْدًا وَطَعَامَ الْغَيْرِ ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : يَأْكُلُ الصَّيْدَ : لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ عَلَيْهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، فَكَانَ أَخَفَّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَأْكُلُ طَعَامَ الْغَيْرِ : لِأَنَّهُ يُسْتَبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي الْأَكْلِ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ .

فَصْلٌ : وَلَوْ وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مِيتَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا مَنْ جِنْسِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ، كَالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ ، وَالْأُخْرَى مَنْ جِنْسِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَالسُّبُعِ وَالذِّئْبِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا سَوَاءٌ ، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْأَكْلِ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ : لِأَنَّهُمَا قَدِ اسْتَوَيَا فِي النَّجَاسَةِ بِالْمَوْتِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَأْكُلُ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ دُونَ مَا لَا يُؤْكَلُ : لِأَنَّ لِلْمَأْكُولِ أَصْلًا فِي الْإِبَاحَةِ ، فَكَانَ أَوْلَى مِمَّا لَا أَصْلَ لَهُ فِي الْإِبَاحَةِ . وَلَوْ وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مِيتَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا طَاهِرَةٌ فِي حَيَاتِهَا ، وَالْأُخْرَى نَجِسَةٌ فِي حَيَاتِهَا ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا سَوَاءٌ ، وَيَأْكُلُ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ خِنْزِيرًا : لِأَنَّهُمَا قَدِ اسْتَوَيَا فِي النَّجَاسَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنَ الطَّاهِرِ دُونَ النَّجَسِ : لِأَنَّ لَهُ فِي الطَّهَارَةِ أَصْلًا لَيْسَ لِلنَّجِسِ . وَلَوْ وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً وَلَحْمَ ابْنِ آدَمَ أَكَلَ الْمَيْتَةَ ، وَإِنْ كَانَ خِنْزِيرًا دُونَ لَحْمِ ابْنِ آدَمَ وَجْهًا وَاحِدًا : لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ مِنْ حَقِّ الْأَكْلِ وَتَحْرِيمَ ابْنِ آدَمَ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ الْأَكْلِ ، فَكَانَ أَغْلَظَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَدَ صَيْدًا وَلَحْمَ ابْنِ آدَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ أَكَلَ الصَّيْدَ تَعْلِيلًا بِمَا ذَكَرْنَا .

فَصْلٌ : وَإِذْ قَدْ مَضَى مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ الْحَيَوَانِ وَجَبَ أَنْ نُبَيِّنَ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ النَّبَاتِ ، وَالنَّبَاتُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ :

أَحَدُهَا : مَا كَانَ غِذَاءً كَالْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَالْفَوَاكِهِ ، وَالْبُقُولِ ، فَأَكْلُهَا مُبَاحٌ وَبَيْعُهَا جَائِزٌ ، وَسَوَاءٌ أُكِلْتَ قُوتًا أَوْ تَفَكُّهًا ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا زَرَعَهُ الْآدَمِيُّونَ ، فَهِيَ مِلْكٌ لِزَارِعِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا أَنْبَتَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَوَاتِ ، فَهِيَ مِلْكٌ لِآخِذِهَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا كَانَ دَوَاءً ، فَأَكْلُهُ لِلتَّدَاوِي مُبَاحٌ ، وَيُنْظَرُ فِي أَكْلِهِ لِغَيْرِ التَّدَاوِي ، فَإِنْ كَانَ ضَارًّا مُنِعَ مِنْ أَكْلِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ضَارٍّ أُبِيحُ أَكْلُهُ ، وَبَيْعُهُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا جَائِزٌ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا كَانَ مُسْكِرًا ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرَبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَعَ السُّكْرِ شِدَّةٌ مُطْرِبَةٌ ، فَأَكْلُهُ حَرَامٌ ، وَعَلَى آكِلِهِ الْحَدُّ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي دَوَاءٍ وَلَا غَيْرِهِ كَالْخَمْرِ ، وَبَيْعُهُ حَرَامٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُسْكِرَ ، وَلَا تَكُونُ فِيهِ شِدَّةٌ مُطْرِبَةٌ كَالْبَنْجِ ، فَأَكْلُهُ حَرَامٌ ، وَلَا حَدَّ عَلَى أَكْلِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي الدَّوَاءِ عِنْدَ الْحَاجَةِ ، وَإِنْ أَفْضَى إِلَى السُّكْرِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْ إِسْكَارِهِ بُدٌّ ، وَيُنْظَرُ فِي بَيْعِهِ ، فَإِنْ كَانَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَدْوِيَةِ غَالِبًا جَازَ بَيْعُهُ وَلَمْ يُكْرَهْ ، وَإِنْ كَانَ يُسْتَعْمَلُ فِيهَا نَادِرًا كُرِهَ بَيْعُهُ ، وَإِنْ جَازَ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : مَا أَسْكَرَ مَعَ غَيْرِهِ وَلَمْ يُسْكِرْ بِانْفِرَادِهِ كَالدَّاذِي ، وَمَا شَاكَلَهُ ، فَيُنْظَرُ فِيهِ ، فَإِنْ لَمْ يُنْتَفَعْ بِهِ مِنْ دَوَاءٍ ، وَلَا غَيْرِهِ ، حَرُمَ أَكْلُهُ وَبَيْعُهُ تَغْلِيبًا ، لِغَالِبِ أَحْوَالِهِ ، وَإِنِ انْتُفِعَ بِأَكْلِهِ فِي الدَّوَاءِ حَلَّ أَكْلُهُ تَدَاوِيًا وَجَازَ بَيْعُهُ ، وَكَانَ مَكْرُوهًا إِنْ كَانَ أَغْلَبَ أَحْوَالِهِ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمُسْكِرِ ، وَلَمْ يُكْرَهْ إِنْ كَانَ أَغْلَبَ أَحْوَالِهِ اسْتِعْمَالُهُ مِنْ غَيْرِ الْمُسْكِرِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَا كَانَ ضَارًّا كَالسُّمُومِ ، فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : مَا قَتَلَ قَلِيلُهُ ، وَكَثِيرُهُ ، فَأَكَلُهُ حَرَامٌ ، وَبَيْعُهُ بَاطِلٌ سَوَاءٌ كَانَ قَتْلُهُ مُوجِيًا أَوْ مُبْطِئًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا قَتَلَ كَثِيرُهُ دُونَ قَلِيلِهِ ، فَأَكْلُ كَثِيرِهِ حَرَامٌ ، فَأَمَّا قَلِيلُهُ ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ حَرُمَ أَكْلُهُ ، وَبَطُلَ بَيْعُهُ تَغْلِيبًا لِضَرَرِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ مِنَ التَّدَاوِي حَلَّ أَكْلُهُ تَدَاوِيًا ، وَجَازَ بَيْعُهُ ، وَلَمْ يُكْرَهْ ، وَإِنْ كَانَ غَالِبُهُ التَّدَاوِي وَكُرِهَ إِنْ كَانَ غَالِبُهُ غَيْرَ التَّدَاوِي . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : مَا يَقْتُلُ فِي الْأَغْلَبِ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ لَا يَقْتُلَ ، فَحُكْمُ الْأَغْلَبِ لَهُ أَلْزَمُ ، وَيَكُونُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ : مَا لَا يَقْتُلُ فِي الْأَغْلَبِ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَقْتُلَ ، فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ

فِي مَوْضِعٍ إِبَاحَةَ أَكَلِهِ ، وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ تَحْرِيمَ أَكْلِهِ ، فَتَوَهَّمَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ ، فَخَرَجَ إِبَاحَةُ أَكْلِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ اعْتِبَارًا بِظَوَاهِرِ كَلَامِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ إِبَاحَتَهُ لِأَكْلِهِ إِذَا كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي التَّدَاوِي وَتَحْرِيمَ أَكْلِهِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ فِي التَّدَاوِي ، فَيَكُونُ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ لَا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ : وَخَالَفَ الشَّافِعِيُّ الْمَدَنِيَّ وَالْكُوفِيَّ فِي الِانْتِفَاعِ بِشَعَرِ الْخِنْزِيرِ وصُوفِ الْمَيْتَةِ وَشَعْرِهَا وَفِي صُوفِ الْمَيْتَةِ وَشَعْرِهَا ، فَقَالَ : لَا يُنْتَفَعُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَى الْخِلَافُ فِي نَجَاسَةِ الشُّعُورِ وَالْأَصْوَافِ وَطَهَارَتِهَا فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ ، فَالطَّاهِرُ مِنْهَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الذَّائِبِ وَالْيَابِسِ ، وَأَمَّا النَّجِسُ مِنْهَا ، فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَ فِي الْحَيَاةِ طَاهِرًا ، كَشُعُورِ السِّبَاعِ ، وَالذِّئَابِ ، فَاسْتِعْمَالُهَا فِي الْيَابِسَاتِ مِنْ مَتَاعٍ دُونَ الذَّائِبَاتِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا كَانَ نَجِسًا فِي الْحَيَاةِ كَشَعْرِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ ، وَإِنْ جَرَى عُرْفُ الْعَوَامِّ بِاسْتِعْمَالِهِ ، وَأَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ . وَسُئِلَ عَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، فَقَالَ : اللِّيفُ أَعْجَبُ إِلَيَّ مِنْهُ ، فَكَأَنَّهُ كَرِهَهُ وَأَجَازَهُ ، وَعَوَّلُوا فِي إِبَاحَةِ اسْتِعْمَالِهِ عَلَى أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ عُرْفَ الْعَامَّةِ جَارٍ بِاسْتِعْمَالِهِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا حَرُمَ الِانْتِفَاعُ بِالْخِنْزِيرِ حَيًّا كَانَ تَحْرِيمُ شَعْرِهِ مَيْتًا أَوْلَى . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَغْلَظَ تَنْجِيسًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَغْلَظَ تَحْرِيمًا ، فَإِنْ خَالَفُوا مِنْ نَجَاسَتِهِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَيْهِ . فَأَمَّا تَعْوِيلُهُمْ عَلَى الْحَاجَةِ إِلَيْهِ ، فَالْحَاجَةُ لَا تُبِيحُ مَحْظُورًا ، وَقَدْ يَقُومُ اللِّيفُ مَقَامَهُ ، فَسَقَطَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ . وَتَعْوِيلُهُمْ عَلَى الْعُرْفِ فِي اسْتِعْمَالِهِ ، فَهُوَ عُرْفٌ مِنْ مُسْتَرْسِلٍ فِي دِينِهِ . فَإِذَا صَحَّ تَحْرِيمُ اسْتِعْمَالِهِ كَانَ مَأْثَمُ تَحْرِيمِهِ عَائِدًا عَلَى مُسْتَعْمِلِهِ ، وَجَازَ بَيْعُ الْمَحْرُوزِ بِهِ ، فَإِنْ كَانَ الشَّعْرُ عِنْدَ الِاسْتِعْمَالِ يَابِسًا لَاقَى يَابِسًا ، فَالْخُفُّ الْمَحْرُوزُ بِهِ طَاهِرٌ ، وَالصَّلَاةُ فِيهِ جَائِزَةٌ ، وَإِنْ لَاقَى فِي الْحِرْزِ نَدَاوَةً كَانَ مَا مَسَّهُ الشَّعْرُ مِنَ الْخُفِّ الْمَحْرُوزِ نَجِسًا ، فَإِنْ غُسِلَ سَبْعًا بِتُرَابٍ طَهُرَ ظَاهِرُهُ ، وَلَمْ تَطْهُرْ دَوَاخِلُ الْحِرْزِ ، وَلَمْ تَجُزِ الصَّلَاةُ فِيهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
_____كِتَابُ السَّبْقِ وَالرَّمْيِ _____

الْأَصْلُ فِي إِبَاحَةِ السَّبْقِ وَالرَّمْيِ

كِتَابُ السَّبْقِ وَالرَّمْيِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ ، عَنْ نَافِعِ بْنِ أَبِي نَافِعٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا سَبْقَ إِلَّا فِي نَصْلٍ أَوْ خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْأَصْلُ فِي إِبَاحَةِ السَّبْقِ وَالرَّمْيِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [ الْأَنْفَالِ : 60 ] فَرَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُوَلَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ أَلَا وَإِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ ثَلَاثًا . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ارْتَبِطُوا الْخَيْلَ ، فَإِنَّ ظُهُورَهَا لَكُمْ عِزٌّ وَأَجْوَافَهَا لَكُمْ كَنْزٌ فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِإِعْدَادِ الرَّمْيِ وَالْخَيْلِ لِلْعَدُوِّ فِي حَرْبِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّعْلِيمِ وَالثِّقَةِ بِالسَّبْقِ وَالْإِصَابَةِ ، فَدَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ مَا دَعَا إِلَيْهِمَا . وَقَالَ تَعَالَى فِيمَا حَكَاهُ عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ : قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ، وَفِي قَوْلِهِ : نَسْتَبِقُ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : نَنْتَضِلُ مِنَ السِّبَاقِ فِي الرَّمْيِ . قَالَهُ الزَّجَّاجُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادُوا السَّبْقَ بِالسَّعْيِ عَلَى الْأَقْدَامِ . وَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ فِي هَذَا هُوَ : أَنَّهُمْ أَخْبَرُوا بِذَلِكَ نَبِيًّا لَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِمْ ، فَدَلَّ عَلَى إِبَاحَتِهِ فِي شَرْعِهِ ، وَمَا تَقَدَّمَ بِهِ شَرْعٌ لَمْ يَتَعَقَّبْهُ نَسْخٌ كَانَ مَعْمُولًا بِهِ . وَقَالَ تَعَالَى : وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى تفسير قوله تعالى [ الْأَنْفَالِ : 17 ] وَفِي هَذَا الرَّمْيِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبَضَ يَوْمَ أُحُدٍ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ رَمَاهُمْ بِهَا ، وَقَالَ : شَاهَتِ الْوُجُوهُ أَيْ : قَبُحَتْ ، فَأَلْقَى اللَّهُ تَعَالَى الْقَبْضَةَ فِي أَبْصَارِهِمْ حَتَّى شَغَلَتْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ ، وَأَظْفَرَ الْمُسْلِمِينَ بِهِمْ .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ فِي أَصْحَابِهِ بِالسِّهَامِ ، فَأَضَافَ رَمْيَهُمْ إِلَيْهِ : لِأَنَّهُمْ رَمَوْا عَنْهُ ، وَمِنْ قَوْلِهِ : وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [ الْأَنْفَالِ : 17 ] تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَعْنَاهُ : وَمَا ظَفِرْتُمْ إِذْ رَمَيْتُ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَظْفَرَكُمْ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ مَا أَرْسَلَهُ مِنَ الرِّيحِ الْمُعَيَّنَةِ لِسِهَامِهِمْ ، حَتَّى أَصَابَتْ ، فَلَمَّا أَعَانَهُمُ اللَّهُ عَلَى الرَّمْيِ كَانَ كُلُّ عَوْنِ عَلَيْهِ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَّةِ مَعَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ ، عَنْ حُمَيْدٍ ، عَنْ أَنَسٍ ، قَالَ : كَانَتْ نَاقَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُسَمَّى الْعَضْبَاءَ ، فَكَانَتْ لَا تُسْبَقُ ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَعُودٍ لَهُ ، فَسَبَقَهَا ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، سُبِقَتِ الْعَضْبَاءُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يَرْفَعَ النَّاسُ شَيْئًا إِلَّا وَضَعَهُ اللَّهُ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي قَدْ أُضْمِرَتْ مِنَ الْحَفْيَاءِ ، وَكَانَ أَمَدُهَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ ، وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضْمَرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فِيمَنْ سَابَقَ لَهَا وَقِيلَ : إِنَّ مِنَ الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ خَمْسَةَ أَمْيَالٍ ، وَمِنْ ثَنْيَةِ الْوَدَاعِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ ثَلَاثَةَ أَمْيَالٍ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَ : سَابَقَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَبَقْتُهُ ، فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقَنِي ، فَسَبَقَنِي ، فَقَالَ لِي : يَا عَائِشَةُ هَذِهِ بِتِلْكِ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ شَبِيبِ بْنِ غَرْقَدَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : الْخَيْلُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . وَرَوَى أَبُو سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ يَرْمُونَ ، فَقَالَ : ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ : فَإِنَّ أَبَاكُمِ كَانَ رَامِيًا ، ارْمُوا وَأَنَا مَعَ ابْنِ الْأَذْرَعِ ، فَأَمْسَكَ الْقَوْمُ قِسِيَّهُمْ ، وَقَالُوا : مَنْ كُنْتَ مَعَهُ غَلَبَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ارْمُوا وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ يَوْمَ أُحُدٍ : ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي ، اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً وَدَعَا لَهُ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ أَجِبْ دَعْوَتَهُ ، وَسَدِّدْ رَمْيَتَهُ وَرُوِيَ عِنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : احْضُرُوا الْهَدَفَ ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَحْضُرُهُ ، وَإِنَّ بَيْنَ الْهَدَفَيْنِ لَرَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ .

وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِجَمَاعَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ : تَمَعْدَدُوا وَاخْشَوْشِنُوا : وَاحْتَفُوا ، وَارْكَبُوا وَارْمُوا ، وَلَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا ، وَرُبَّمَا أُسْنِدَ هَذَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . وَفِي قَوْلِهِ : " تَمَعْدَدُوا " تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : انْتَسَبُوا إِلَى مَعَدٍّ وَعَدْنَانَ . وَالثَّانِي : تَكَلَّمُوا بِلِسَانِ مَعَدٍّ وَعَدْنَانَ . وَفِي قَوْلِ : " وَاخْشَوْشِنُوا " تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : كُونُوا فِي أُمُورِكُمْ خُشُنًا أَجْلَادًا . وَالثَّانِي : الْبَسُوا أَخْشَنَ الثِّيَابِ . وَفِي قَوْلِهِ : " وَاحْتَفُوا " تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : امْشُوا حُفَاةً . وَالثَّانِي : حُفُّوا شَوَارِبَكُمْ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ السَّبْقِ وَالرَّمْيِ ، فَهُوَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ إِنْ قُصِدَ بِهِ أُهْبَةُ الْجِهَادِ ، وَمُبَاحٌ إِنْ قُصِدَ بِهِ غَيْرُهُ : لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عُدَّةً لِلْجِهَادِ ، وَيَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ فِي الْمُسَابَقَةِ وَالْمُنَاضَلَةِ حكمه ، مِنْهُمْ وَمِنَ السُّلْطَانِ عَلَى مَا سَنَصِفُهُ . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَنَعَ مِنْ أَخْذِ الْعِوَضِ عَلَيْهِ بِكُلِّ حَالٍ ، فَمِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِهِ مَنْ أَنْكَرَهُ مِنْ مَذْهَبِهِ ، وَجَعَلَهُ مُوَافِقًا . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ أَخْرَجَهُ السُّلْطَانُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ جَازَ ، وَإِنْ أَخْرَجَهُ الْمُتَسَابِقُونَ الْمُتَنَاضِلُونَ لَمْ يَجُزِ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَخْذُ عِوَضٍ عَلَى لَعِبٍ ، فَأَشْبَهَ أَخْذَهُ عَلَى اللَّهْوِ وَالصِّرَاعِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَخْذُ مَالٍ عَلَى غَيْرِ بَدَلٍ ، فَأَشْبَهَ الْقِمَارَ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا سَبْقَ إِلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ ، فَلَمَّا اسْتَثْنَاهُ فِي الْإِبَاحَةِ دَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْعِوَضِ ، وَلَوْلَا الْعِوَضُ لَمَا احْتَاجَ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ لِجَوَازِ جَمِيعِ الِاسْتِبَاقِ بِغَيْرِ عِوَضٍ . وَرُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَكُنْتُمْ تُرَاهِنُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، رَهَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَرَسٍ لَهُ ، فَجَاءَتْ سَابِقَةً ، فَلَهَشَّ لِذَلِكَ ، وَأَعْجَبَهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى عِوَضٍ : وَلِأَنَّ فِي بَذْلِ الْعِوَضِ عَلَيْهِ تَحْرِيضًا عَلَى الْجِهَادِ ، وَبَعْثًا عَلَى الِاسْتِعْدَادِ ، وَامْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ [ الْأَنْفَالِ : 60 ] ، وَمَا أَفْضَى إِلَى هَذِهِ الْمَصَالِحِ ، فَأَقَلُّ حَالَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ ، بِأَنَّهُ لَعِبٌ ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا فِيهِ مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ يُخْرِجُهُ عَنْ حُكْمِ اللَّعِبِ . وَالثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِ اسْتَثْنَاهُ ، فَقَالَ : كُلُّ اللَّعِبِ حَرَامٌ إِلَّا لَعِبَ الرَّجُلِ بِفَرَسِهِ ، وَلَعِبَهُ بِقَوْسِهِ ، وَلَعِبَهُ مَعَ زَوْجَتِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ قِمَارٌ ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ السَّبْقَ خَارِجٌ عَنِ الْقِمَارِ : لِأَنَّ الْقِمَارَ مَا لَمْ يَخْلُ صَاحِبُهُ مِنْ أَخْذٍ أَوْ إِعْطَاءٍ ، وَقَدْ يَخْلُو السَّابِقُ مِنْ أَخْذٍ وَإِعْطَاءٍ : لِأَنَّ بَيْنَهُمَا مُحَلِّلًا . وَالثَّانِي : أَنَّ تَحْرِيمَ الْقِمَارِ بِالشَّرْعِ ، وَإِبَاحَةِ السَّبَقِ بِالشَّرْعِ ، فَلَوْ جَازَ إِلْحَاقُ السَّبَقِ بِالْقِمَارِ مِنَ التَّحْرِيمِ لِجَازَ لِأَحَدٍ أَنْ يُلْحِقَ الْقِمَارَ بِالسَّبْقِ فِي التَّحْلِيلِ ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا فِي إِبَاحَةِ الْقِمَارِ فَاسِدًا ، أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي تَحْرِيمِ السَّبْقِ فَاسِدًا ، وَلَزِمَ الْوُقُوفُ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ فِيهِمَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ جَوَازُ السَّبْقِ بِعِوَضٍ وَغَيْرِ عِوَضٍ ، فَهُوَ بِغَيْرِ عِوَضٍ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ ، دُونَ اللَّازِمَةِ ، وَإِنْ كَانَ مَعْقُودًا عَلَى عِوَضٍ ، فَفِي لُزُومِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مِنَ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ كَالْإِجَارَةِ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخُهُ بَعْدَ تَمَامِهِ إِلَّا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا بِقِسْمَةٍ ، وَلَا يَدْخُلُهُ خِيَارُ الثَّلَاثِ ، وَفِي دُخُولِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ فِيهِ وَجْهَانِ . كَالْإِجَارَةِ ، فَإِنْ شَرَعَا فِي السَّبَقِ وَالرَّمْيِ يَسْقُطُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ فِيهِ : لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي الْعَمَلِ رِضًى بِالْإِمْضَاءِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ دُونَ اللَّازِمَةِ ، كَالْجُعَالَةِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسَابِقِينَ قَبْلَ الشُّرُوعِ مِنَ السَّبْقِ ، وَبَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ مَا لَمْ يَسْتَقِرَّ السَّبْقُ ، وَيَنْبَرِمْ بِالْخِيَارِ .

فَإِنْ شُرِطَ فِيهِ اللُّزُومُ بَطَلَ ، فَإِنْ قِيلَ بِلُزُومِهِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ، فَدَلِيلُهُ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَقْدٌ ، وَمِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا كَالْإِجَارَةِ طَرْدًا وَالْجُعَالَةِ عَكْسًا . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا أَفْضَى إِلَى إِبْطَالِ الْمَعْقُودِ بِالْعَقْدِ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ فِي الْعَقْدِ ، وَبَقَاءُ خِيَارِهِ فِيهِ مُفْضٍ إِلَى إِبْطَالِهِ الْمَقْصُودِ بِهِ : لِأَنَّهُ إِذَا تَوَجَّهَ السَّبْقُ عَلَى أَحَدِهِمَا فُسِخَ لَمْ يُتَوَصَّلْ إِلَى سَبْقٍ ، وَلَمْ يُسْتَحَقَّ فِيهِ عِوَضٌ ، وَالْعَقْدُ مَوْضُوعٌ لِاسْتِقْرَارِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ ، فَنَافَاهُ الْخِيَارُ وَضَاهَاهُ اللُّزُومُ . فَإِنْ قِيلَ : بِجَوَازِهِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي ، فَدَلِيلُهُ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا صَحَّ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ إِذَا قَابَلَ غَيْرَ مَوْثُوقٍ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِهِ كَانَ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ دُونَ اللَّازِمَةِ كَالْجُعَالَةِ طَرْدًا : لِأَنَّهُ لَا يَثِقُ بِالْغَلَبَةِ فِي السَّبْقِ وَالرَّمْيِ كَمَا لَا يَثِقُ بِوُجُودِ الضَّالَّةِ فِي الْجُعَالَةِ ، وَعَكْسُهُ الْإِجَارَةُ مَتَى لَمْ يَثِقْ بِصِحَّةِ الْعَمَلِ مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا كَانَ إِطْلَاقُ الْعِوَضِ فِيهِ مُوجِبًا لِتَعْجِيلِ اسْتِحْقَاقِهِ كَانَ جَائِزًا كَالْجُعَالَةِ ، وَإِطْلَاقُ الْعِوَضِ فِي السَّبْقِ وَالرَّمْيِ لَا يُوجِبُ التَّعْجِيلَ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا وَلَا يَكُونُ لَازِمًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : رَحِمَهُ اللَّهُ : الْخُفُّ الْإِبِلُ وَالْحَافِرُ الْخَيْلُ وَالنَّصْلُ كُلُّ نَصْلٍ مِنْ سَهْمٍ أَوْ نُشَّابَةٍ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَا سَبْقَ إِلَّا مِنْ خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ شرح قوله صلى الله عليه وسلم مُبَيِّنٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخُفِّ الْإِبِلُ : لِأَنَّهَا ذَوَاتُ أَخْفَافٍ تُعَدُّ لِلطِّرَادِ ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَافِرِ الْخَيْلُ : لِأَنَّهَا ذَوَاتُ حَوَافِرَ لِلْكَرِّ وَالْفَرِّ . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ : إِنَّ الْحَافِرَ الْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ : لِأَنَّهَا تُرْكَبُ إِلَى الْجِيَادِ كَالْإِبِلِ ، وَيُلْقَى عَلَيْهَا الْعَدُوُّ كَالْخَيْلِ قَدْ شَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرْبَ هَوَازِنَ عَلَى بَغْلَتِهِ الشَّهْبَاءِ ، فَصَارَ فِي الْحَافِرِ قَوْلَانِ . فَأَمَّا النَّصْلُ ، فَالْمُرَادُ بِهِ السَّهْمُ الْمَرْمِيُّ بِهِ عَنْ قَوْسٍ ، وَإِنْ كَانَ النَّصْلُ اسْمًا لِحَدِيدَةِ السَّهْمِ ، فَالْمُرَادُ بِهِ جَمِيعُ السَّهْمِ ، فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَوَازِ السَّبْقِ بِهَا ، فَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهَا ، فَقَالَ : يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا رُخْصَةٌ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ جُمْلَةٍ مَحْظُورَةٍ : لِأَنَّهُ أَخْرَجَ بِاسْتِثْنَائِهِ مَا خَالَفَ حُكْمَ أَصْلِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ غَيْرُهَا ، وَيَكُونُ السَّبْقُ

مَقْصُورًا عَلَى الَّتِي تَضَمَّنَهَا الْخَبَرُ ، وَهِيَ الْخُفُّ وَالْخُفُّ الْإِبِلُ وَحْدَهَا ، وَالْحَافِرُ وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : الْخَيْلُ وَحْدَهَا . وَالثَّانِي : الْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ ، وَالنَّصْلُ وَهُوَ السِّهَامُ ، وَيَكُونُ السَّبْقُ بِمَا عَدَاهَا مَحْظُورًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : فِي الْمَعْنَيَيْنِ أَنَّ النَّصْلَ عَلَى الثَّلَاثَةِ أَصْلٌ ، فَهَذَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِبَيَانِهِ وَلَيْسَ بِمُسْتَثْنًى ، وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الِاسْتِثْنَاءِ : لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّوْكِيدُ دُونَ الِاسْتِثْنَاءِ ، فَعَلَى هَذَا يُقَاسُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا ، كَمَا قِيسَ عَلَى السِّتَّةِ فِي الرِّبَا مَا وَافَقَ مَعْنَاهَا ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ التَّفْرِيعُ ، فَيُقَاسُ عَلَى الْخُفِّ السَّبْقُ بِالْفِيَلَةِ : لِأَنَّهَا ذَوَاتُ أَخْفَافٍ كَالْإِبِلِ ، وَهِيَ فِي مُلَاقَاةِ الْعَدُوِّ أَنَكَأُ مِنَ الْإِبِلِ ، وَهَلْ يُقَاسُ عَلَيْهَا السَّبْقُ بِالسُّفُنِ وَالطَّيَّارَاتِ وَالشَّدَّاتِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ يَجُوزُ السَّبْقُ عَلَيْهَا : لِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِجِهَادِ الْعَدُوِّ فِي الْبَحْرِ وَحَمْلِ ثُقْلِهِ ، كَالْإِبِلِ فِي الْبَرِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ السَّبْقُ عَلَيْهَا : لِأَنَّ سَبْقَهَا بِقُوَّةِ مَلَّاحِهَا دُونَ الْمُقَاتِلِ فِيهَا ، فَأَمَّا السَّبْقُ بِالزَّوَارِقِ الْكِبَارِ وَالْمَرَاكِبِ الثِّقَالِ الَّتِي لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ فِي لِقَاءِ الْعَدُوِّ بِمِثْلِهَا فَغَيْرُ جَائِزٍ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْحَافِرُ بِالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ نَصًّا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَا نَقْلًا مِنِ اسْمِ الْحَافِرِ عَلَيْهَا ، وَقِيَاسًا فِي الْقَوْلِ الثَّانِي : لِأَنَّهَا ذَوَاتُ حَوَافِرَ كَالْخَيْلِ وَفِي مَعْنَاهَا . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُقَاسُ عَلَيْهَا السَّبْقُ بِالْأَقْدَامِ ، أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، تَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ بِالْأَقْدَامِ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَبَقَ هُوَ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَى أَقْدَامِهِمَا : وَلِأَنَّ السَّعْيَ مِنْ قِتَالِ الرَّجَّالَةِ كَالْخَيْلِ فِي قِتَالِ الْفُرْسَانِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُسَابَقَةَ بِالْأَقْدَامِ لَا تَجُوزُ : لِأَنَّهُ سَبْقٌ عَلَى فِعْلِهَا مِنْ غَيْرِ آلَةٍ فَأَشْبَهَ الطَّفْرَةَ وَالْوَثْبَةَ : وَلِأَنَّ السَّبْقَ عَلَى مَا يُسْتَفَادُ بِالتَّعْلِيمِ لِيَكُونَ بَاعِثًا عَلَى مُعَاطَاتِهِ ، وَالسَّعْيُ لَا يُسْتَفَادُ بِالتَّعْلِيمِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ قِيلَ : إِنَّ الْمُسَابَقَةَ بِالْأَقْدَامِ لَا تَجُوزُ ، فَالْمُسَابَقَةُ بِالسِّبَاحَةِ أَوْلَى أَنْ لَا تَجُوزَ ، وَإِنْ قِيلَ : بِجَوَازِهَا عَلَى الْأَقْدَامِ ، فَفِي جَوَازِهَا بِالسِّبَاحَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تَجُوزُ كَالْأَقْدَامِ : لِأَنَّ أَحَدَهَا عَلَى الْأَرْضِ ، وَالْآخِرَ فِي الْمَاءِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا لَا تَجُوزُ بِالسِّبَاحَةِ ، وَإِنْ جَازَتْ بِالْأَقْدَامِ : لِأَنَّ الْمَاءَ مُؤَثِّرٌ فِي السَّبَّاحَةِ ، وَالْأَرْضَ غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ فِي السَّعْيِ .

وَمِنْهَا اخْتِلَافُ أَصْحَابِنَا فِي السَّبْقِ بِالصِّرَاعِ حكمه عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ جَائِزٌ ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى الْأَبْطَحِ ، فَرَأَى يَزِيدَ بْنَ رُكَانَةَ يَرْعَى أَعْنُزًا لَهُ ، فَقَالَ يَزِيدُ : يَا مُحَمَّدُ هَلْ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَارِعَنِي ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا تَسْتَبِقُ لِي ؟ فَقَالَ : شَاةً ، فَصَارَعَهُ فَصَرَعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَزِيدُ : هَلْ لَكَ الْعَوْدُ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا تَسْتَبِقُ لِي ؟ فَقَالَ : شَاةً ، فَصَارَعَهُ ، فَصَرَعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَزِيدُ : يَا مُحَمَّدُ اعْرِضْ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ ، فَمَا أَحَدٌ وَضَعَ جَنْبِي عَلَى الْأَرْضِ غَيْرُكَ ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَ ، وَرَّدَ عَلَيْهِ غَنَمَهُ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ السَّبْقِ عَلَى الصِّرَاعِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ السَّبْقُ عَلَى الصِّرَاعِ ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ مِنَ السَّبْقِ بِالْأَقْدَامِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ قِيلَ : إِنَّ السَّبْقَ عَلَى الصِّرَاعِ لَا يَجُوزُ ، فَالسَّبْقُ عَلَى الْمُشَابَكَةِ بِالْأَيْدِي لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِهِ فِي الصِّرَاعِ ، فَفِي جَوَازِهِ بِالْمُشَابَكَةِ وَجْهَانِ كَالسِّبَاحَةِ . وَمِنْهَا اخْتِلَافُ أَصْحَابِنَا فِي السَّبْقِ بِالْحَمَامِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ : لِأَنَّهَا بِالْهِدَايَةِ تُؤَدِّي أَخْبَارَ الْمُجَاهِدِينَ بِسُرْعَةٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَسْعَى بِحَمَامَةٍ ، فَقَالَ : شَيْطَانٌ مَعَ شَيْطَانَةٍ . فَأَمَّا السَّبْقُ بِالْكَلَامِ وَبِنِطَاحِ الْكِبَاشِ وَنُقَارِ الدِّيَكَةِ حكمه ، فَهُوَ أَسْفَهُ ، وَالسَّبْقُ فِيهِ بَاطِلٌ لَا يَخْتَلِفُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا النَّضْلُ ، وَهُوَ السِّهَامُ ، فَقِيَاسُهُ كُلُّ سِلَاحٍ فَارَقَ يَدَ صَاحِبِهِ مِنَ الْحِرَابِ ، وَمَقَالِيعِ الْأَحْجَارِ وَقَسِّ الْبُنْدُقِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، فِيمَا لَا يُفَارِقُ يَدَ صَاحِبِهِ مِنَ السُّيُوفِ وَالرِّمَاحِ وَالْأَعْمِدَةِ ، هَلْ يَجُوزُ السَّبْقُ بِهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ كَالْمُفَارِقِ لِيَدِهِ : لِأَنَّ جِهَادَ الْعَدُوِّ بِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّهُ يَكُونُ بِذَلِكَ مُحَارِبًا ، لَا مُسَابِقًا . فَأَمَّا السَّبْقُ بِالْمَدَاحِي وَكُرَةِ الصَّوْلَجَانِ فَلَا : لِأَنَّ الْجِهَادَ لَا يَكُونُ بِهِمَا .

فَأَمَّا الدَّحْوُ بِالْحَجَرِ الثَّقِيلِ أَوْ رَفْعُهُ مِنَ الْأَرْضِ ، لِاخْتِبَارِ الْقُوَّةِ ، وَالِارْتِيَاضِ بِهَا ، فَالسَّبْقُ عَلَيْهِ كَالسَّبْقِ عَلَى الصِّرَاعِ ، فَيَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا يَجُوزُ السَّبْقُ بِهِ عَلَى الْأَعْوَاضِ الْمَبْذُولَةِ ، فَلِصِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : التَّكَافُؤُ فِيمَا يَسْتَبِقَانِ عَلَيْهِ ، وَفِيمَا يَتَكَافَآنِ بِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّ التَّكَافُؤَ بِالتَّجَانُسِ ، فَيُسَابِقُ بَيْنَ فَرَسَيْنِ أَوْ بَغْلَيْنِ أَوْ حِمَارَيْنِ أَوْ بَعِيرَيْنِ ، لِيُعْلَمَ بَعْدَ التَّجَانُسِ فَضْلُ السَّابِقِ ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يُسَابَقَ بَيْنَ فَرَسٍ وَبَغْلٍ وَلَا بَيْنَ حِمَارٍ وَبَعِيرٍ : لِأَنَّ تُفَاضُلَ الْأَجْنَاسِ مَعْلُومٌ وَأَنَّهُ لَا يَجْرِي الْبَغْلُ فِي شَوْطِ الْفَرَسِ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : إِنَّ الْمُذَرَّعَ لَا تُغْنِي ضُئُولَتُهُ كَالْبَغْلِ يَعْجِزُ عَنْ شَوْطِ الْمَحَاضِيرِ لَكِنْ يَجُوزُ السَّبْقُ بَيْنَ عِتَاقِ الْخَيْلِ ، وَهِجَانِهَا : لِأَنَّ جَمِيعَهَا جِنْسٌ ، وَالْعَتِيقُ فِي أَوَّلِ شَوْطَيْهِ أَحَدُّ وَفِي آخِرِهِ أَلْيَنُ ، وَالْهَجِينُ فِي أَوَّلِ شَوْطَيْهِ أَلْيَنُ وَفِي آخِرِهَا أَحَدُّ ، فَرُبَّمَا صَارَا عِنْدَ الْغَايَةِ مُتَكَافِئَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - أَنَّ التَّكَافُؤَ فِي الِاسْتِبَاقِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالتَّجَانُسِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مُعْتَبَرٌ بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْتَبِقَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا ، فَإِنْ جُوِّزَ ذَلِكَ بَيْنَ فَرَسٍ وَبَغْلٍ ، أَوْ بَيْنَ بَعِيرٍ وَحِمَارٍ جَازَ السَّبْقُ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ عُلِمَ يَقِينًا أَنَّ أَحَدَهُمَا يَسْبِقُ الْآخَرَ قَبْلَ الِاخْتِبَارِ لَمْ يَجُزِ السَّبْقُ بَيْنَهُمَا ، وَلَوْ عُلِمَ ذَلِكَ بَيْنَ فَرَسَيْنِ عَتِيقٍ وَهَجِينٍ ، أَوْ بَيْنَ بَعِيرَيْنِ عَرَبِيٍّ وَبَخْتِيٍّ لَمْ يَجُزِ السَّبْقُ بَيْنَهُمَا ، وَكَذَلِكَ لَوِ اتَّفَقَ الْفَرَسَانِ فِي الْجِنْسِ ، وَاخْتَلَفَا فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ ، فَيُمْنَعُ مِنَ الِاسْتِبَاقِ بَيْنَهُمَا ، وَهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، وَنُجَوِّزُهُ بَيْنَهُمَا ، وَهُمَا فِي جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ اعْتِبَارًا بِالْجَوَاهِرِ دُونَ التَّجَانُسِ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : الِاسْتِبَاقُ عَلَيْهَا مَرْكُوبَةً لِتَنْتَهِيَ إِلَى غَايَتِهَا ، بِتَدْبِيرِ رَاكِبِهَا ، فَإِنْ شُرِطَ إِرْسَالُهَا لِتَجْرِيَ مُسَابَقَةً بِأَنْفُسِهَا لَمْ يَجُزْ ، وَبَطَلَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا : لِأَنَّهَا تَتَنَافَرُ

بِالْإِرْسَالِ وَلَا تَقِفُ عَلَى غَايَةِ السَّبْقِ ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي الِاسْتِبَاقِ بِالطُّيُورِ ، إِذَا قِيلَ : بِجَوَازِ الِاسْتِبَاقِ عَلَيْهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْهِدَايَةِ إِلَى قَصْدِ الْغَايَةِ ، وَأَنَّهَا لَا تَتَنَافَرُ فِي طَيَرَانِهَا . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ الْغَايَةُ مَعْلُومَةً : لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ ، فَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى إِجْرَاءِ الْفَرَسَيْنِ حَتَّى يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ لَمْ يَجُزْ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : جَهَالَةُ الْغَايَةِ . وَالثَّانِي : لِأَنَّهُ يُفْضِي ذَلِكَ لِإِجْرَائِهِمَا حَتَّى يَعْطَبَا . وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ : أَنْ تَكُونَ الْغَايَةُ الَّتِي يَمْتَدُّ شَرْطُهَا إِلَيْهَا يَحْتَمِلُهَا الْفَرَسَانِ ، وَلَا يَنْقَطِعَانِ فِيهَا ، فَإِنْ طَالَتْ عَنِ انْتِهَاءِ الْفَرَسَيْنِ إِلَيْهَا إِلَّا عَنِ انْقِطَاعٍ وَعَطَبٍ بَطَلَ الْعَقْدُ ، لِتَحْرِيمِ مَا أَفْضَى إِلَى ذَلِكَ . وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ : أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ فِيهِ مَعْلُومًا ، كَالْأُجُورِ وَالْأَثْمَانِ ، فَإِنْ أَخْرَجَهُ غَيْرُ الْمُتَسَابِقَيْنَ جَازَ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِيهِ ، وَيَتَفَاضَلَا : لِأَنَّ الْبَاذِلَ لِلسَّبَقِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا بَيْنَ التَّسَاوِي فِي التَّفْضِيلِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَمَاثَلَ جِنْسُ الْعِوَضَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَلِفْ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الرَّمْيُ ، فَيُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ عَقْدِهِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ أَيْضًا : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الرَّامِي مُجَانَسَةً شُرُوطٍ صِحَّةِ الرمي ، فَيَتَنَاضَلَانِ بِالنُّشَّابِ أَوْ بِالْحِرَابِ ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَنْضِلُ بِالنُّشَّابِ ، وَالْآخِرُ بِالْحِرَابِ ، لَمْ يَجُزْ لِتَنَافِيهِمَا ، لَكِنْ يَجُوزُ أَحَدُهُمَا مُنَاضِلًا بِالنُّشَّابِ وَالْآخِرُ بِالنَّبْلِ : لِأَنَّ كِلَيْهِمَا سَهْمٌ يَخْرُجُ عَنْ قَوْسٍ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُتَنَاضِلَيْنَ مُقَارَبَةٌ فِي الرَّمْيِ وَالْإِصَابَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَاضِلًا وَمَنْضُولًا شُرُوطٍ صِحَّةِ الرمي ، لِيُعْلَمَ بِالنِّضَالِ أَحْذَقُهُمَا ، فَإِنْ تَفَاوَتَ مَا بَيْنَهُمَا ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرُ سِهَامِهِ صَائِبَةٌ ، وَالْآخِرُ أَكْثَرُ سِهَامِهِ خَاطِئَةٌ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : لَا يَجُوزُ : وَيَكُونُ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا بَاطِلًا : لِأَنَّ حِذْقَهُ مَعْلُومٌ بِغَيْرِ نِضَالٍ ، فَصَارَ كَالْمُسْتَحِقِّ لِلْمَالِ بِغَيْرِ نِضَالٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ ، وَيَكُونُ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا صَحِيحًا : لِأَنَّ الْمَالَ إِذَا اسْتُحِقَّ بَعَثَ عَلَى مُعَاطَاةِ الْحِذْقِ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ لَا يَتَنَاضَلَا عَلَى جِرَاحِ النُّفُوسِ بِالسِّهَامِ وَالسِّلَاحِ ، وَلْيَكُنْ قَصْدُهُمَا إِصَابَةُ غَيْرِ ذَاتِ الْأَرْوَاحِ ، لِتَحْرِيمِ عَقْرِهَا ، فَإِنْ شُرِطَ فِيهِ جِرَاحَةُ النُّفُوسِ بَطَلَ لِحَظْرِهِ . وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ مَعْلُومًا مِنْ أَعْيَانٍ مَوْجُودَةٍ ، أَوْ مَالٍ فِي الذِّمَّةِ مَوْصُوفًا شُرُوطٍ صِحَّةِ الرمي .

وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ : أَنْ يُحْفَظَ مِنْ دُخُولِ الْجَهَالَةِ فِي النِّضَالِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَالْأَسْبَاقُ ثَلَاثَةٌ سَبَقٌ يُعْطِيهِ الْوَالِي أَوْ غَيْرُ الْوَالِي مِنْ مَالِهِ ، وَذَلِكَ أَنْ يَسْبِقَ بَيْنَ الْخَيْلِ إِلَى غَايَةٍ فَيَجْعَلَ لِلسَّابِقِ شَيْئًا مَعْلُومًا ، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَ لِلْمُصَلِّي ، وَالثَّالِثِ وَالرَّابِعِ فَهَذَا حَلَالٌ لِمَنْ جُعِلَ لَهُ لَيْسَتْ فِيهِ عِلَّةٌ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا السَّبْقُ ، فَيُذْكَرُ تَارَةً بِتَسْكِينِ الْبَاءِ ، وَتَارَةً بِفَتْحِهَا ، وَهُوَ بِتَسْكِينِ الْبَاءِ فِعْلُ سَبَقَ مِنَ الْمُسَابَقَةِ ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْعِوَضُ الْمُخْرَجُ فِي الْمُسَابَقَةِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَالْأَسْبَاقُ ثَلَاثَةٌ " يُرِيدُ بِهِ الْعِوَضَ فِي الْأَسْبَاقِ " ثَلَاثَةٌ " : أَحَدُهَا : أَنْ يُخْرِجَهُ غَيْرُ الْمُتَسَابِقَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُخْرِجَهُ الْمُتَسَابِقَانِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُخْرِجَهُ أَحَدُهُمَا . فَأَمَّا السَّبَقُ الْأَوَّلُ الَّذِي يَرَاهُ الشَّافِعِيُّ ، وَهُوَ الَّذِي يُخْرِجُهُ غَيْرُ الْمُتَسَابِقَيْنِ ، فَيَجُوزُ سَوَاءٌ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ أَخْرَجَهُ غَيْرُ الْإِمَامِ مِنْ مَالِهِ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ جَازَ ، وَإِنْ أَخْرَجَهُ غَيْرُهُ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الْجِهَادِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْأَئِمَّةِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا فِيهِ مَعُونَةٌ عَلَى الْجِهَادِ جَازَ أَنْ يَفْعَلَهُ غَيْرُ الْأَئِمَّةِ ، كَارْتِبَاطِ الْخَيْلِ وَإِعْدَادِ السِّلَاحِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا جَازَ أَنْ يُخْرِجَهُ الْإِمَامُ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ جَازَ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ جَوَازُهُ مِنْ كُلِّ بَاذِلٍ لَمْ يَخْلُ التَّبَدُّلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ السَّابِقُ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ ، كَقَوْلِهِ : إِذَا كَانَ الْمُتَسَابِقُونَ عَشَرَةً ، فَقَدْ جَعَلْتُ لِلسَّابِقِ مِنْكُمْ عَشَرَةً ، وَهَذَا جَائِزٌ ، فَأَيُّهُمْ جَاءَ سَابِقًا لِجَمَاعَتِهِمُ اسْتَحَقَّ الْعَشَرَةَ كُلَّهَا ، وَلَا شَيْءَ لِمَنْ بَعْدَهُ ، وَإِنْ كَانُوا مُتَفَاضِلِينَ فِي السَّبَقِ ، فَلَوْ سَبَقَ اثْنَانِ مِنَ الْجَمَاعَةِ ، فَجَاءَا مَعًا ، وَتَأَخَّرَ الْبَاقُونَ ، اشْتَرَكَ الِاثْنَانِ فِي الْعَشَرَةِ ، لِتَسَاوِيهِمَا فِي السَّبَقِ ، فَاسْتَوَيَا فِي الْأَخْذِ ، وَلَوْ سَبَقَ خَمْسَةٌ اشْتَرَكُوا فِي الْأَخْذِ كَذَلِكَ ، وَلَوْ سَبَقَ تِسْعَةٌ وَتَأَخَّرَ وَاحِدٌ اشْتَرَكُوا فِي الْعَشَرَةِ دُونَ الْمُتَأَخِّرِ مِنْهُمْ ، وَلَوْ جَاءُوا مَجِيئًا وَاحِدًا لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْهُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ، فَلَا شَيْءَ لَهُمْ : لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ سَابِقٌ ، وَلَا مَسْبُوقٌ .

وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَبْذُلَهُ لِجَمَاعَةٍ مِنْهُمْ ، وَلَا يَبْذُلَهُ لِجَمِيعِهِمْ ، كَأَنَّهُ بَذَلَ لِلْأَوَّلِ عِوَضًا وَلِلثَّانِي عِوَضًا ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ إِذَا تَقَدَّمَ عَلَى غَيْرِهِ خَاصٌّ يُقَالُ لِلسَّابِقِ الْأَوَّلِ : الْمُجَلِّي ، وَالثَّانِي : الْمُصَلِّي ، وَالثَّالِثُ : التَّالِي ، وَالرَّابِعُ : الْبَارِعُ ، وَالْخَامِسُ : الْمُرْتَاحُ ، وَالسَّادِسُ : الْحَظِيُّ ، وَالسَّابِعُ : الْعَاطِفُ ، وَالثَّامِنُ : الْمُؤَمِّلُ ، وَالتَّاسِعُ : اللَّطِيمُ ، وَالْعَاشِرُ : السُّكِّيتُ ، وَلَيْسَ لِمَا بَعْدَ الْعَاشِرِ اسْمٌ إِلَّا الَّذِي يَجِيءُ آخِرَ الْخَيْلِ ، كُلِّهَا ، يُقَالُ لَهُ : الْفُسْكُلُ ، فَإِذَا بَذَلَ لِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُفَاضِلَ بَيْنَ السَّابِقِ وَالْمَسْبُوقِ ، فَيَجْعَلَ لِلْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ الْمُجَلِّي عَشَرَةً ، وَيَجْعَلَ لِلثَّانِي الَّذِي هُوَ الْمُصَلِّي تِسْعَةً ، وَالثَّالِثَ الَّذِي هُوَ التَّالِي خَمْسَةً ، وَالرَّابِعَ الَّذِي هُوَ الْبَارِعُ أَرْبَعَةً ، وَالْخَامِسَ الَّذِي هُوَ الْمُرْتَاحُ ثَلَاثَةً ، وَلَا يَجْعَلُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ شَيْئًا فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ : لِأَنَّهُ قَدْ مَنَعَ الْمَسْبُوقِينَ وَنَاضَلَ بَيْنَ السَّابِقِينَ ، فَحَصَلَ التَّحْرِيضُ فِي طَلَبِ التَّفَاضُلِ ، وَخَشْيَةِ الْمَنْعِ . وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا أَنْ يُجْعَلَ لِلسَّابِقِ عَشَرَةٌ ، وَلِلْمُصَلِّي خَمْسَةٌ ، وَلَا يُجْعَلَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ شَيْئًا ، فَيَكُونَ السَّابِقُ خَمْسَةً وَالْمُصَلِّي وَاحِدًا ، فَيَقْسِمُ الْخَمْسَةَ السَّابِقِينَ بِالْعَشَرَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ دِرْهَمَانِ ، وَيَنْفَرِدُ الْوَاحِدُ الْمُصَلِّي بِالْخَمْسَةِ ، وَإِنْ صَارَ بِهِمَا أَفْضَلَ مِنَ السَّابِقِينَ ، لِأَنَّهُ أَخَذَ الزِّيَادَةَ لِتَفَرُّدِهِ بِدَرَجَتِهِ ، وَلَمْ يَأْخُذْهَا لِتَفْضِيلِ أَصْلِ دَرَجَتِهِ ، وَقَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُشَارِكَهُ غَيْرُهُ فِي دَرَجَتِهِ ، فَيَقِلَّ سَهْمُهُ عَنْ سَهْمِ مَنْ بَعْدَهُ ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ إِذَا جَعَلَ لِلتَّالِي شَيْئًا ثَالِثًا ، فَحَصَلَ مِنْ كُلِّ دَرَجَةٍ انْفِرَادٌ أَوِ اشْتِرَاكٌ ، وَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ الْمُنْفَرِدُ بِسَبَقِ دَرَجَتِهِ ، وَيَشْتَرِكَ الْمُشْتَرِكُونَ بِسَبَقِ دَرَجَتِهِمْ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُسَوِّي فِيهِمْ بَيْنَ سَابِقٍ وَمَسْبُوقٍ كَأَنَّهُ جَعَلَ لِلسَّابِقِ عَشَرَةً وَلِلْمُصَلِّي عَشَرَةً ، وَفَاضَلَ بَيْنَ بَقِيَّةِ الْخَمْسَةِ ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ : لِأَنَّ مُقْتَضَى التَّحْرِيضِ ، أَنْ يُفَاضِلَ بَيْنَ السَّابِقِ وَالْمَسْبُوقِ فَإِذَا تَسَاوَيَا فِيهِ بَطَلَ مَقْصُودُهُ فَلَمْ يَجُزْ ، وَكَانَ السَّبَقُ مِنْ حَقِّ الْمُصَلِّي الَّذِي سَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَابِقِهِ بَاطِلًا ، وَلَمْ يَبْطُلْ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ ، وَفِي بُطْلَانِهِ فِي حَقِّ مَنْ عَدَاهُ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الَّذِي بَطَلَ السَّبَقُ فِي حَقِّهِ ، هَلْ يَسْتَحِقُّ عَلَى الْبَاذِلِ أُجْرَةَ مِثْلِهِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَا أُجْرَةَ لَهُ عَلَى الْبَاذِلِ ، لِأَنَّ مَنْعَهُ عَائِدٌ عَلَيْهِ ، لَا عَلَى الْبَاذِلِ . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ السَّبَقُ فِي حَقِّ مَنْ بَعْدَهُ ، بَاطِلًا : لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُفَضَّلُوا بِهِ عَنْ مَنْ سَبَقَهُمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ أَنَّ لَهُ عَلَى الْبَاذِلِ أُجْرَةَ مِثْلِهِ ، لِأَنَّ مَنِ

اسْتَحَقَّ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ اسْتَحَقَّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ اعْتِبَارًا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ عَقْدَيِ الْإِجَارَةِ وَالْجُعَالَةِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ السَّبَقُ فِي حَقِّ مَنْ بَعْدَهُ صَحِيحًا ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا سُمِّيَ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِ مَنْ بَطَلَ السَّبَقُ فِي حَقِّهِ : لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَضَّلُوا عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُسْتَحِقًّا بِالْعَقْدِ ، وَهَذَا مُسْتَحَقٌّ بِغَيْرِهِ . وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا إِذَا جُعِلَ لِلْأَوَّلِ عَشَرَةٌ ، وَلَمْ يُجْعَلْ لِلثَّانِي شَيْئًا ، وَجُعِلَ لِلثَّالِثِ خَمْسَةٌ وَلِلرَّابِعِ ثَلَاثَةٌ ، وَلَمْ يُجْعَلْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ شَيْئًا ، فَالثَّانِي خَارِجٌ مِنَ السَّبَقِ لِخُرُوجِهِ مِنَ الْبَدَلِ ، وَمِنْ قِيَامِ مَنْ بَعْدَهُ مَقَامَهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَقُومُ الثَّالِثُ مَقَامَ الثَّانِي ، وَيَقُومُ الرَّابِعُ مَقَامَ الثَّالِثِ : لِأَنَّهُ يَصِيرُ وُجُودُهُ بِالْخُرُوجِ مِنَ السَّبْقِ كَعَدَمِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ السَّبْقُ فِيهَا ، بِالْمُسَمَّى لَهُمَا بَعْدَ الْأَوَّلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُمْ يَتَرَتَّبُونَ عَلَى التَّسْمِيَةِ ، وَلَا يَكُونُ خُرُوجُ الثَّانِي مِنْهُمْ بِالْحُكْمِ مُخْرِجًا لَهُ مِنَ الثَّالِثِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ السَّبْقُ فِيهَا بَاطِلًا ، لِتَفْضِيلِهَا عَلَى السَّابِقِ لَهُمَا ، وَهَلْ يَكُونُ لَهُمَا أُجْرَةُ مِثْلِهَا أَمْ لَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُبْذَلَ الْعِوَضُ لِجَمَاعَتِهِمْ ، وَلَا يُخَلَّى آخِرُهُمْ مِنْ عِوَضٍ ، فَيُنْظَرَ ، فَإِنْ سَوَّى فِيهِمْ بَيْنَ سَابِقٍ وَمَسْبُوقٍ كَانَ السَّبَقُ بَاطِلًا ، وَكَانَ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا ، وَإِنْ لَمْ يُسَاوِ بَيْنَ السَّابِقِ وَالْمَسْبُوقِ ، وَفَضَّلَ كُلَّ سَابِقٍ عَلَى كُلِّ مَسْبُوقٍ ، حَتَّى يَجْعَلَ مُسْتَأْخِرَهُمْ أَقَلَّهُمْ سَهْمًا ، فَفِي السَّبَقِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ جَائِزٌ اعْتِبَارًا بِالتَّفَاضُلِ فِي السَّبَقِ ، فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا سُمِّيَ لَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ السَّبَقَ بَاطِلٌ : لِأَنَّهُمْ قَدْ تَكَافَئُوا فِي الْأَخْذِ ، وَإِنْ تَفَاضَلُوا فِيهِ ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَكُونُ بَاطِلًا فِي حَقِّ الْآخَرِ وَحْدَهُ : فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بَاطِلٌ فِي حَقِّهِ وَحْدَهُ : لِأَنَّ بِالتَّسْمِيَةِ لَهُ فَسَدَ السَّبَقُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَكُونُ بَاطِلًا فِي حُقُوقِ جَمَاعَتِهِمْ : لِأَنَّ أَوَّلَ الْعَقْدِ مُرْتَبِطٌ بِآخِرِهِ ، وَهَلْ يَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أُجْرَةَ مِثْلِهِ أَمْ لَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ ، فَهَذَا حُكْمُ السَّبَقِ الْأَوَّلِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَالثَّانِي يَجْمَعُ وَجْهَيْنِ وَذَلِكَ مِثْلُ الرَّجُلَيْنِ يُرِيدَانِ أَنْ يَسْتَبِقَا بِفَرَسَيْهِمَا ، وَلَا يُرِيدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَسْبِقَ صَاحِبَهُ ، وَيُخْرِجَانِ سَبَقَيْنِ ، فَلَا يَجُوزُ إِلَّا بِالْمُحَلِّلِ ، وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ بَيْنَهُمَا فَرَسٌ ، وَلَا يَجُوزُ حَتَّى يَكُونَ فَرَسًا كُفُؤًا لِلْفَرَسَيْنِ لَا يَأْمَنَانِ أَنْ يَسْبِقَهُمَا .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا هُوَ السَّبْقُ الثَّانِي مِنَ الْأَسْبَاقِ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ : أَنْ يَسْتَبِقَ الرَّجُلَانِ ، وَيُخْرِجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَقًا مِنْ مَالِهِ يَأْخُذُهُ السَّابِقُ مِنْهُمَا ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ ، حَتَّى يُوَكِّلَا بَيْنَهُمَا مُحَلِّلًا لَا يُخْرِجُ شَيْئًا ، وَيَأْخُذُ إِنْ سَبَقَ وَلَا يُعْطَى إِنْ سُبِقَ لِنَصٍّ وَمَعْنًى . أَمَّا النَّصُّ ، فَمَا رَوَاهُ سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ ، فَلَا بَأْسَ بِهِ ، وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ يُؤْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْقِمَارُ . وَأَمَّا الْمَعْنَى ، فَهُوَ أَنَّ إِبَاحَةَ السَّبَقِ مُعْتَبِرَةٌ ، بِمَا خَرَجَ عَنْ مَعْنَى الْقِمَارِ هُوَ الَّذِي لَا يَخْلُو الدَّاخِلُ فِيهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ غَانِمًا إِنْ أَخَذَ أَوْ غَارِمًا إِنْ أَعْطَى ، فَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ بَيْنَهُمَا مُحَلِّلٌ كَانَتْ هَذِهِ حَالَهَا ، فَكَانَ قِمَارًا ، وَإِذَا دَخَلَ بَيْنَهُمَا مُحَلِّلٌ غَيْرُ مُخْرِجٍ يَأْخُذَانِ إِنْ سَبَقَ ، وَلَا يُعْطَى إِنْ سُبِقَ خَرَجَ عَنْ مَعْنَى الْقِمَارِ فَحَلَّ . وَهَذَا الدَّاخِلُ يُسَمَّى مُحَلِّلًا : لِأَنَّ الْعَقْدَ صَحَّ بِهِ ، فَصَارَ حَلَالًا وَيُسَمِّيهِ أَهْلُ السَّبَقِ ، مَيْسِرًا ، وَيَصِحُّ الْعَقْدُ بِهِ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ فَرَسُهُ كُفُؤًا لِفَرَسَيْهِمَا ، أَوْ أَكْفَأَ مِنْهُمَا ، لَا يَأْمَنَانِ أَنْ يَسْبِقَهُمَا ، فَإِنْ كَانَ فَرَسُهُ أَدْوَنَ مِنْ فَرَسَيْهِمَا ، وَهُمَا يَأْمَنَانِ أَنْ يَسْبِقَهُمَا لَمْ يَصِحَّ لِلنَّصِّ ، وَلِأَنَّ دُخُولَهُ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يَسْبِقُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ مِنْ أَخْذِ السَّبَقِ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمُحَلِّلُ غَيْرَ مُخْرِجٍ لِشَيْءٍ وَإِنْ قَلَّ ، فَإِنْ أَخْرَجَ شَيْئًا خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْمُحَلِّلِ ، فَصَارَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَبِقِ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يَأْخُذَ إِنْ سَبَقَ ، فَإِنْ شُرِطَ أَنْ لَا يَأْخُذَ لَمْ يَصِحَّ . وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ فَرَسُهُ مُعَيَّنًا عِنْدَ الْعَقْدِ ، لِدُخُولِهِ فِيهِ كَمَا يَلْزَمُ تَعْيِينُ فُرْسِ الْمُسْتَبِقَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنِ بَطَلَ .

فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ الْعَقْدُ بِالْمُحَلِّلِ في السباق على العوض عَلَى اسْتِكْمَالِ شُرُوطِهِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْمُحَلِّلَ دَخَلَ لِيُحَلِّلَ الْعَقْدَ وَيُحَلِّلَ الْأَخْذَ ، فَيَأْخُذَ إِنْ سَبَقَ ، وَيُؤْخَذَ بِهِ إِنْ سُبِقَ . وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ : إِنَّ الْمُحَلِّلَ دَخَلَ لِتَحَلُّلِ الْعَقْدُ وَيَأْخُذُ وَلَا يُؤْخَذُ بِهِ وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّ التَّحْرِيضَ الْمَقْصُودَ بِاسْتِفْرَاهِ الْخَيْلِ ، وَمُعَاطَاةِ الْفُرُوسِيَّةِ غَيْرُ مَوْجُودٍ ، وَإِذَا لَمْ يُؤْخَذْ بِالسَّبَقِ شَيْءٌ فَيَصِيرُ مَانِعًا مِنَ السَّبَقِ ، وَإِذَا أُخِذَ بِهِ صَارَ بَاعِثًا عَلَيْهِ ، وَهَذَا يَتَّضِحُ فِي التَّفْرِيعِ الَّذِي نَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَيُخْرِجُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ يَتَوَاضَعَانِهِ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ يَثِقَانِ بِهِ أَوْ يَضْمَنَانِهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَلِصِحَّةِ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا مَعَ دُخُولِ الْمُحَلِّلِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ السباق : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ وَهُوَ السَّبَقُ الَّذِي بَذَلَاهُ مَعْلُومًا إِمَّا مُعَيَّنًا أَوْ مَوْصُوفًا ، فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا لَمْ يَصِحَّ ، لِأَنَّ الْأَعْوَاضَ فِي الْعُقُودِ لَا تَصِحُّ إِلَّا مَعْلُومَةً . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ وَقَدْرِهِ ، فَإِنِ اخْتَلَفَا فِيهِ أَوْ تَفَاضَلَا لَمْ يَصِحَّ ، لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَسَاوَيَا فِي الْعَقْدِ وَجَبَ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي بَذْلِهِ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ فَرَسُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعَيَّنًا ، فَإِنْ أُبْهِمَ وَلَمْ يُعَيَّنْ بَطَلَ . وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ مَدَى سَبْقِهِمَا مَعْلُومًا ، وَالْعِلْمُ لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إِمَّا بِتَعْيِينِ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ ، وَمَعْلُومًا بِالتَّعْيِينِ دُونَ الْمَسَافَةِ كَالْإِجَارَةِ الْمُعَيَّنَةِ ، وَإِمَّا لِمَسَافَةٍ يَتَّفِقَانِ عَلَيْهَا مَذْرُوعَةٍ بِذِرَاعٍ مَشْهُورٍ كَالْإِجَارَةِ الْمَضْمُونَةِ ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى مَوْضِعٍ مِنَ الْأَرْضِ ذَرَعَا تِلْكَ الْمَسَافَةَ حَتَّى يُعْرَفَ ابْتِدَاؤُهَا وَانْتِهَاؤُهَا ، فَإِنْ أَغْفَلَا ذِكْرَ الْأَرْضِ وَإِنْ كَانَتِ الَّتِي عَقَدَا فِيهَا السَّبْقَ يُمْكِنُ إِجْرَاءُ الْخَيْلِ فِيهَا : فَهِيَ أَخَصُّ الْمَوَاضِعِ بِالسَّبْقِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِجْرَاءُ الْخَيْلِ فِيهَا لِحُزُونَتِهَا وَأَحْجَارِهَا ، فَأَقْرَبُ الْمَوَاضِعِ إِلَيْهَا مِنَ الْأَرْضِ السَّهْلَةِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا عَلَى شُرُوطِهِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهَا ، وَفِي الْمُحَلِّلِ الدَّاخِلِ بَيْنَهُمَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا فِي حَالِ السَّبْقِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ السبق : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى تَرْكِهِ فِي أَيْدِيهِمَا وَيَثِقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ فَيُحْمَلَانِ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَا يَلْزَمُ إِخْرَاجُ مَالِ السَّبَقِ مِنْ يَدِ أَحَدِهِمَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ مَسْبُوقًا ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ بِاسْتِحْقَاقِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيةُ : أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَمِينٍ قَدْ تَرَاضَيَا بِهِ ، فَيُؤْخَذُ مَالُ السَّبَقِ مِنْهُمَا وَيُوضَعُ عَلَى يَدِهِ ، وَيَعْزِلُ مَالِكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَتِهِ ، وَلَا يَخْلِطُهُ ، فَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا سُلِّمَ إِلَيْهِ مَالُهُ ، وَمَالُ الْمَسْبُوقِ ، فَإِنْ سَبَقَ الْمُحَلِّلُ سُلِّمَ إِلَيْهِ مَالُ السَّبَقَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْأَمِينِ أَجْرٌ عَلَى السَّابِقِ ، وَلَا عَلَى الْمَسْبُوقِ إِلَّا عَنْ شَرْطٍ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ أُجْرَةٌ فِي عُرْفِ الْمُتَسَابِقَيْنِ ، فَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى عُرْفِهِمْ فِيهِ مَعَ عَدَمِ الشَّرْطِ وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَنِ اسْتَعْمَلَ خَيَّاطًا أَوْ قَصَّارًا ، فَعَمِلَا بِغَيْرِ شَرْطٍ هَلْ يَسْتَحِقُّ مِثْلَهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ . أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ : أَنَّ الْأَمِينَ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ مِثْلِهِ إِذَا حُكِمَ لِلصَّانِعِ بِالْأُجْرَةِ ، وَتَكُونُ عَلَى الْمُسْتَبِقَيْنِ لَا يَخْتَصُّ بِهَا السَّابِقُ مِنْهُمَا ، لِأَنَّهُمَا أُجُرَةٌ عَلَى حِفْظِ الْمَالَيْنِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا أُجْرَةَ لَهُ وَإِنْ جَرَى بِهَا الْعُرْفُ إِذَا لَمْ يُحْكَمَ لِلصَّانِعِ بِالْأُجْرَةِ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَخْتَلِفَا فَاخْتِلَافُهُمَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَخْتَلِفَا فِي اخْتِيَارِ الْأَمِينِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ أَيْدِيهِمَا ، فَيَخْتَارُ الْحَاكِمُ لَهُمَا أَمِينًا يَقْطَعُ بِهِ تَنَازُعَهُمَا ، وَهَلْ يَكُونُ إِجْبَارُهُ مَقْصُورًا عَلَى مَنْ تَنَازَعَا فِيهِ ، أَوْ يَكُونُ عَلَى الْعُمُومِ فِي النَّاسِ كُلِّهِمْ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى اخْتِيَارِ أَحَدِ الْأَمِينَيْنِ اللَّذَيْنِ وَقَعَ التَّنَازُعُ فِيهِمَا ، لِانْصِرَافِ الْمُتَسَابِقَيْنِ عَنِ اخْتِيَارِ غَيْرِهِمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي اخْتِيَارِ مَنْ رَآهُ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَنَاءِ ، لِأَنَّ تَنَازُعَهُمَا قَدْ رَفَعَ حُكْمَ اخْتِيَارِهِمَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَخْتَلِفَا فِي إِخْرَاجِهِ مِنْ أَيْدِيهِمَا ، فَيَقُولَ أَحَدُهُمَا : يَكُونُ مَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا فِي يَدِهِ . وَيَقُولَ الْآخَرُ : بَلْ يَكُونُ مَوْضُوعًا عَلَى يَدِ أَمِينَيْنِ ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ يُعْتَبَرُ مَالُ السَّبَقِ ، فَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى إِقْرَارِهِ مَعَهُ ، لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الذِّمَّةِ ، وَلَا يُؤْخَذُ إِلَّا بِاسْتِحْقَاقٍ وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى وَضْعِهِ عَلَى يَدِ أَمِينٍ لِتَعْيِينِ الْحَقِّ فِيهِ ، وَأَنَّهُ لَا يُوصَلُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَيَجْرِي بَيْنَهُمَا الْمُحَلِّلِ ، فَإِنْ سَبَقَهُمَا كَانَ السَّبَقَانِ لَهُ ، وَإِنْ سَبَقَ أَحَدَهُمَا الْمُحَلِّلُ أَحْرَزَ السَّابِقُ مَالَهُ ، وَأَخَذَ سَبَقَ صَاحِبِهِ ، وَإِنْ أَتَيَا مُسْتَوِيَيْنِ لَمْ يَأْخُذْ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ شَيْئًا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : يَجِبُ أَنْ يُجْرِيَ الْمُحَلِّلُ فَرَسَهُ بَيْنَ فَرَسِ الْمُتَسَابِقَيْنِ ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ بَيْنَهُمَا لِلتَّحْلِيلِ دَخَلَ بَيْنَهُمَا فِي الْجَرْيِ . وَالثَّانِي : لِأَنَّهُمَا بِإِخْرَاجِ السَّبَقِ مُتَنَافِرَانِ ، فَدَخَلَ بَيْنَهُمَا لِيَقْطَعَ تَنَافُرَهُمَا ، فَإِنْ لَمْ يَتَوَسَّطْهُمَا ، وَعَدَلَ إِلَى يَمِينٍ أَوْ يَسَارٍ جَازَ ، وَإِنْ أَسَاءَ إِذَا تَرَاضَيَا بِهِ الْمُسْتَبِقَانِ ، فَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا إِلَّا بِأَنْ يُجْرِيَ فَرَسَهُ بَيْنَهُمَا مُنِعَ مِنَ الْعُدُولِ عَنْ تَوَسُّطِهِمَا إِلَى يَمِينٍ أَوْ يَسَارٍ ، لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُمَا ، فَكَانَ أَمْرُهُمَا عَلَيْهِ أَمْضَى ، فَإِنْ رَضِيَ أَحَدُهُمَا بِعُدُولِهِ عَنِ التَّوَسُّطِ وَلَمْ يَرْضَ بِهِ الْآخَرُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى التَّوَسُّطِ دُونَ الِانْحِرَافِ ، لِأَنَّهُ أَعْدَلُ بَيْنَهُمَا وَأَمْنَعُ مِنْ تَنَافُرِهِمَا ، فَإِنْ رَضِيَا بِانْحِرَافِهِ عَنِ التَّوَسُّطِ بَيْنَهُمَا ، وَدَعَا أَحَدَهُمَا إِلَى أَنْ يَكُونَ

مُتَيَامِنًا ، وَدَعَا الْآخَرُ إِلَى أَنْ يَكُونَ مُتَيَاسِرًا لَمْ يُعْمَلْ عَلَى قَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَجُعِلَ وَسَطًا بَيْنَهُمَا ، لِأَنَّهُ الْعَدْلُ الْمَقْصُودُ وَالْعُرْفُ الْمَعْهُودُ ، وَهَذَا حُكْمُ مَوْضِعِ الْمُحَلِّلِ . فَأَمَّا الْمُسْتَبِقَانِ فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى الْمُتَيَامِنِ مِنْهُمَا وَالْمُتَيَاسِرِ حُمِلَا عَلَى اتِّفَاقِهِمَا ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِيهِ لَقُرِعَ بَيْنَهُمَا وَأُوقِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَوْضِعِ قُرْعَتِهِ مِنْ يَمِينٍ أَوْ شِمَالٍ .

فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَقَرَّتْ بَيْنَهُمَا مَعَ الْمُحَلِّلِ فِي الْجَرْيِ ، فَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ السَّبْقُ ، وَهُوَ غَايَةُ الْمَدَى قَصَبٌ قَدْ غُرِزَتْ فِي الْأَرْضِ تُسَمِّيهَا الْعَرَبُ قَصَبَ السَّبْقِ غاية المتسابقين ، لِيَحُوزَهَا السَّابِقُ مِنْهُمْ ، فَيَقْلَعَهَا حَتَّى يَعْلَمَ بِسَبْقِهِ الدَّانِي وَالْقَاصِي ، فَيَسْقُطَ بِهِ الِاخْتِلَافُ ، وَرُبَّمَا كَرَّ بِهَا رَاجِعًا يَسْتَقْبِلُ بِهَا الْمَسْبُوقِينَ إِذَا كَانَ مُفَضَّلًا فِي السَّبْقِ مُتَبَاهِيًا فِي الْفُرُوسِيَّةِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِلْمُتَسَابِقِينَ وَالْمُحَلِّلِ سَبْعَةُ أَحْوَالٍ : إِحْدَاهَا : أَنْ يَنْتَهُوا إِلَى الْغَايَةِ عَلَى سَوَاءٍ لَا يَتَقَدَّمُهُمْ أَحَدُهُمْ : فَلَيْسَ فِيهِمْ سَابِقٌ وَلَا مَسْبُوقٌ ، فَيَحُوزُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَسَابِقِينَ سَبَقَ نَفْسِهِ ، وَلَا يُعْطِي وَلَا يَأْخُذُ ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُحَلِّلِ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيةُ : أَنْ يَسْبِقَ الْمُخْرِجَانِ ، فَيَصِلَا مَعًا عَلَى سَوَاءٍ ، وَيَتَأَخَّرَ الْمُحَلِّلُ عَنْهُمَا ، فَيَحُوزَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُخْرِجَيْنِ سَبَقَ نَفْسِهِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَقِ وَلَا شَيْءَ لِلْمُحَلِّلِ ، لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَسْبِقَ الْمُحَلِّلُ ، وَيَأْتِيَ الْمُخْرِجَانِ بِهِ بَعْدَهُ عَلَى سَوَاءٍ أَوْ تَفَاضُلٍ ، فَيَسْتَحِقَّ الْمُحَلِّلُ سَبَقَيِ الْمُخْرِجَيْنِ لِسَبْقِهِ لَهُمَا . وَهَذِهِ الْأَحْوَالُ الثَّلَاثُ لَيْسَ يَخْتَلِفُ فِيهَا الْمَذْهَبُ . وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُ الْمُخْرِجَيْنِ ، ثُمَّ يَأْتِيَ بَعْدَهُ الْمُحَلِّلُ وَالْمُخْرِجُ الْآخَرُ عَلَى سَوَاءٍ ، فَيَحُوزَ السَّابِقُ سَبَقَ نَفْسِهِ ، فَأَمَّا سَبْقُ الْمَسْبُوقِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَكُونُ لِلسَّابِقِ الْمُخْرِجِ ، لِأَنَّ دُخُولَ الْمُحَلِّلِ عَلَى مَذْهَبِهِ لِتَحْلِيلِ الْأَخْذِ بِهِ ، فَيَأْخُذُ إِنْ كَانَ سَابِقًا ، وَيُؤْخَذُ بِهِ إِنْ كَانَ مَسْبُوقًا ، وَقَدْ حَصَلَ السَّبَقُ لِغَيْرِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَحَقَّ بِأَخْذِهِ ، فَيَكُونَ جَمِيعُهُ لِلْمُخْرِجِ السَّابِقِ . وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانِ أَنَّ دُخُولَ الْمُحَلِّلِ لِيَأْخُذَ وَلَا يُؤْخَذَ بِهِ ، يَكُونُ سِبَاقُ الْمُتَأَخِّرِ مِنَ الْمُخْرِجَيْنِ مُقِرًّا عَلَيْهِ ، لَا يَسْتَحِقُّهُ السَّابِقُ مِنَ الْمُخْرِجَيْنِ لِأَنَّهُ يُعْطِي وَلَا يَأْخُذُ ، وَلَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُحَلِّلُ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ . وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ : أَنْ يَسْبِقَ الْمُحَلِّلُ وَأَحَدُ الْمُخْرِجَيْنِ عَلَى سَوَاءٍ ، يَحُوزُ السَّابِقُ مِنَ الْمُخْرِجَيْنِ سَبَقَ نَفْسِهِ ، وَيَكُونُ مَالُ الْمُخْرِجِ الْمَسْبُوقِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بَيْنَ

الْمُخْرِجِ السَّابِقِ وَالْمُحَلِّلِ ، وَعَلَى مَذْهَبِ ابْنِ خَيْرَانِ يَكُونُ جَمِيعُهُ لِلْمُحَلِّلِ دُونَ الْمُخْرِجِ السَّابِقِ . وَالْحَالَةُ السَّادِسَةُ : أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُ الْمُخْرِجَيْنِ ثُمَّ الْمُحَلِّلُ بَعْدَهُ ثُمَّ الْمُخْرِجُ الْآخَرُ بَعْدَ الْمُحَلِّلِ ، فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَكُونُ مَالُ الْمَسْبُوقِ لِلْمُخْرِجِ الْأَوَّلِ لِسَبْقِهِ ، وَعَلَى مَذْهَبِ ابْنِ خَيْرَانِ لِلْمُحَلِّلِ دُونَ السَّابِقِ . وَالْحَالَةُ السَّابِعَةُ : يَسْبِقُ أَحَدُ الْمُخْرِجَيْنِ ثُمَّ يَتْلُوهُ الْمُخْرِجُ الثَّانِي ، وَيَتَأَخَّرُ عَنْهَا الْمُحَلِّلُ : فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : يَسْتَحِقُّ السَّابِقُ مَالَ الْمَسْبُوقِ ، وَعَلَى مَذْهَبِ ابْنِ خَيْرَانِ لَا يَسْتَحِقُّهُ السَّابِقُ ، لِأَنَّهُ لَا يَأْخُذُ ، وَلَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُحَلِّلُ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ ، وَيَكُونُ مُقِرًّا عَلَى الْمَسْبُوقِ ، ثُمَّ عَلَى قِيَاسِ هَذَا فِي اعْتِبَارِ الْمَذْهَبَيْنِ .

مَسْأَلَةٌ السَّبْقُ ضَرْبَانِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَالسَّبْقُ أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ، وَأَقَلُّ السَّبْقِ أَنْ يَسْبِقَ بِالْهَادِي أَوْ بَعْضِهِ أَوْ بِالْكَتَدِ أَوْ بَعْضِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالسَّبْقُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِأَقْدَامٍ مَشْرُوطَةٍ كَاشْتِرَاطِهِمَا السَّبْقَ بِعَشَرَةِ أَقْدَامٍ ، وَلَا يَتِمُّ السَّبَقُ إِلَّا بِهَا ، وَلَوْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا بِتِسْعَةِ أَقْدَامٍ لَمْ يَكُنْ سَابِقًا فِي اسْتِحْقَاقِ الْبَدَلِ ، وَإِنْ كَانَ سَابِقًا فِي الْعَمَلِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا بِغَيْرِ شَرْطٍ ، فَيَكُونُ سَابِقًا بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : أَوَّلُ السَّبْقُ أَنْ يَسْبِقَ بِالْهَادِي أَوْ بَعْضِهِ أَوْ كَالْكَتَدِ أَوْ بَعْضِهِ . فَأَمَّا الْهَادِي فَهُوَ الْعُنُقُ ، وَأَمَّا الْكَتَدُ يُقَالُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا ، وَالْفَتْحُ أَشْهَرُ وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الْكَتِفُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَا بَيْنَ أَصْلِ الْعُنُقُ وَالظَّهْرِ ، وَهُوَ مُجْتَمَعُ الْكَتِفَيْنِ فِي مَوْضِعِ السَّنَامِ مِنَ الْإِبِلِ ، فَجَعَلَ الشَّافِعِيُّ أَقَلَّ السَّبْقِ بِالْهَادِي وَالْكَتَدِ . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : أَقَلُّ السَّبْقِ بِالرَّأْسِ ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ : أَقَلُّ السَّبَقِ بِالْأُذُنِ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : بُعِثْتُ وَالسَّاعَةَ كَفَرَسَيْ رِهَانٍ كَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَسْبِقَ الْآخَرَ بِأُذُنِهِ . وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا الْخَبَرِ ضَرْبُ الْمَثَلِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ ، وَلَيْسَ بِحَدٍّ لِسَبْقِ الرِّهَانِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ بَنَى لِلَّهِ بَيْتًا وَلَوْ كَمِفْحَصِ الْقَطَاةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانَ بَيْتٌ لَا يُبْنَى كَمِفْحَصِ الْقَطَاةِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْتَبَرْ بِالْأُذُنِ كَمَا قَالَ الْمُزَنِيُّ ، وَلَا بِالرَّأْسِ كَمَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ ، لِأَنَّ مِنَ الْخَيْلِ مَا يُزْجِي أُذُنَهُ وَرَأْسَهُ ، فَيَطُولُ وَمِنْهَا مَا

يَرْفَعُهُ ، فَتَقْصُرُ فَلَمْ يَدُلُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى التَّقْدِيمِ ، وَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُهَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ الْهَادِي وَالْكَتَدِ ، وَلَوِ اعْتُبِرَ السَّبْقُ بِأَيْدِيهِمَا ، فَأَيُّهُمَا تَقَدَّمَتْ يَدَاهُ وَهُوَ السَّابِقُ كَانَ عِنْدِي أَصَحُّ ، لِأَنَّ السَّعْيَ بِهِمَا وَالْجَرْيَ عَلَيْهِمَا ، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّ اعْتَبَرَهُ بِالْهَادِي وَالْكَتَدِ . فَأَمَّا السَّبْقُ بِالْكَتَدِ فَمُتَحَقِّقٌ ، سَوَاءٌ اتَّفَقَ الْفَرَسَانِ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ أَوْ تَفَاضَلَا . وَأَمَّا السَّبْقُ بِالْهَادِي ، وَهُوَ الْعُنُقُ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْفَرَسَيْنِ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِيهِ أَوْ يَتَفَاضَلَا ، فَإِنْ تَسَاوَيَا فِي طُولِهِ أَوْ قِصَرِهِ ، فَأَيُّهُمَا سَبَقَ بِالْعُنُقِ كَانَ سَابِقًا ، وَإِنْ تَفَاضَلَا فِي طُولِهِ أَوْ قِصَرِهِ ، فَإِنْ سَبَقَ بِالْعُنُقِ أَقْصَرُهُمَا عُنُقًا كَانَ سَابِقًا ، وَإِنْ سَبَقَ بِالْعُنُقِ أَطْوَلُهُمَا عُنُقًا لَمْ يَكُنْ سَابِقًا إِلَّا أَنْ يَنْضَافَ لِسَبْقٍ بِكَتَدِهِ ، لِأَنَّهُ سَبَقَهُ بِعُنُقِهِ إِنَّمَا كَانَ لِطُولِهِ لَا لِزِيَادَةِ جَرْيِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ السَّبْقُ بِالْكَتَدِ صَحِيحًا مَعَ اخْتِلَافِ الْخِلْقَةِ ، فَلِمَ اعْتُبِرَ بِالْعُنُقِ الَّذِي يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا بِاخْتِلَافِ الْخِلْقَةِ . قِيلَ : لِأَنَّ السَّبْقَ بِالْكَتَدِ يَتَحَقَّقُ لِلْقَرِيبِ دُونَ الْبَعِيدِ ، وَالسَّبْقُ بِالْعُنُقِ يُشَاهِدُهُ وَيَتَحَقَّقُهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ ، وَرُبَّمَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ لِيُشَاهِدَهُ شُهُودُ السَّبْقِ فَشَهِدُوا بِهِ لِلسَّابِقِ شُهُودًا يُسْتَوْقَفُونَ عِنْدَ الْغَايَةِ لِيَشْهَدُوا لِلسَّابِقِ عَلَى الْمَسْبُوقِ ، فَلَوْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ الْغَايَةِ بِهَادِيهِ أَوْ كَتَدِهِ ثُمَّ جَرَيَا بَعْدَ الْغَايَةِ ، فَتَقَدَّمَ الْمَسْبُوقُ بَعْدَهَا عَلَى السَّابِقِ بِهَدْيِهِ أَوْ كَتَدِهِ كَانَ السَّبْقُ لِمَنْ سَبَقَ عِنْدَ الْغَايَةِ دُونَ مَنْ سَبَقَ بَعْدَهَا ، لِأَنَّ مَا يُجَاوِزُ الْغَايَةَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْعَقْدِ ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ ، وَهَكَذَا لَوْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْغَايَةِ ثُمَّ سَبَقَ الْآخَرُ عِنْدَ الْغَايَةِ كَانَ السَّبْقُ لِمَنْ سَبَقَ عِنْدَ الْغَايَةِ دُونَ مَنْ سَبَقَ قَبْلَهَا لِاسْتِقْرَارِ الْعَقْدِ عَلَى السَّبْقِ إِلَيْهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَسَوَاءٌ لَوْ كَانُوا مِائَةً وَأَدْخَلُوا بَيْنَهُمْ مُحَلِّلًا فَكَذَلِكَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّ كَثْرَةَ الْمُتَسَابِقِينَ لَا يُوجِبُ كَثْرَةَ الْمُحَلِّلِينَ ، لِأَنَّ دُخُولَ الْمُحَلِّلِ لِيَكُونَ فِيهِمْ مَنْ يَأْخُذُ وَلَا يُعْطِي حَتَّى يَصِيرَ خَارِجًا مِنْ ذِكْرِ الْقِمَارِ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي دُخُولِ الْوَاحِدِ بَيْنَ مِائَةِ مُتَسَابِقٍ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَكْثُرَ الْمُحَلِّلُونَ إِذَا كَثُرَ الْمُتَسَابِقُونَ ، لِيَكُونَ مِنَ الْقِمَارِ أَبْعَدَ ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ حُكْمِ الْقِمَارِ بِالْوَاحِدِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ دَخَلَ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ مُحَلِّلَانِ فَأَكْثَرُ كَانَ جَائِزًا ، وَإِنْ عُقِدَ السَّبَقُ بِالْمُحَلِّلِ عَلَى شَرْطٍ فَاسِدٍ أَوْجَبَ سُقُوطَ الْمُسَمَّى فِيهِ ، ثُمَّ سَبَقَ أَحَدُهُمَا نُظِرَ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُحَلِّلُ ، اسْتَحَقَّ أُجْرَةَ مِثْلِهِ عَلَى الْمُتَسَابِقَيْنِ تَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ يَسْتَوِي فِي الْتِزَامِهَا مَنْ تَقْدَمُ مِنْهُمَا ، وَمَنْ تَأَخَّرَ وَيَسْتَحِقُّهَا وَجْهًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ مَعَهُمَا كَالْأَجِيرِ وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُ الْمُخْرِجَيْنِ فَلَا شَيْءَ لِلْمُحَلِّلِ ، وَهَلْ يَسْتَحِقُّ السَّابِقُ عَلَى الْمُتَأَخِّرِ أُجْرَةَ مِثْلِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَالثَّالِثُ أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ، فَإِنْ سَبَقَهُ صَاحِبُهُ أَخَذَ السَّبَقَ ، وَإِنْ سَبَقَ صَاحِبُهُ أَحْرَزَ سَبَقَهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا هُوَ السَّبْقُ الثَّالِثُ مِنَ الْأَسْبَاقِ الثَّلَاثَةِ ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَبِقَ الرَّجُلَانِ عَلَى أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا مَالَ السَّبَقِ دُونَ الْآخَرِ ، فَإِنْ سَبَقَ مُخْرِجُ الْمَالِ أَحْرَزَ مَالَ نَفْسِهِ ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَسْبُوقِ ، فَإِنْ سَبَقَ غَيْرُ الْمُخْرِجِ أَخَذَ مَالَ الْمُخْرِجِ ، وَهَذَا سَبْقٌ جَائِزٌ لِأَنَّهُ يَصِيرُ غَيْرُ الْمُخْرِجِ مِنْهُمَا مُحَلِّلًا ، فَصَارَ بِهِ خَارِجًا مِنْ حُكْمِ الْقِمَارِ . وَهَكَذَا لَوْ كَانُوا ثَلَاثَةً ، وَأَخْرَجَ مَالَ السَّبَقِ مِنْهُمْ ، اثْنَانِ أَوْ عَشَرَةٌ ، فَأَخْرَجَ مَالَ السَّبَقِ مِنْهُمْ تِسْعَةٌ صَحَّ وَكَانَ غَيْرُ الْمُخْرِجِ كَالْمُحَلِّلِ . فَإِنْ تَسَابَقَ الرَّجُلَانِ يُخْرِجُ أَحَدُهُمَا الْمَالَ دُونَ الْآخَرِ عَلَى شَرْطٍ فَسَدَ بِهِ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ سَبَقَ أَحَدُهُمَا نُظِرَ . فَإِنْ كَانَ السَّابِقُ مُخْرِجَ الْمَالِ ، فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْمَسْبُوقِ لِدُخُولِهِ فِي الْعَقْدِ عَلَى غَيْرِ بَدَلٍ ، وَإِنْ سَبَقَ غَيْرُ الْمُخْرِجِ نَفْسَ اسْتِحْقَاقِهِ أُجْرَةَ مِثْلِهِ عَلَى الْمَسْبُوقِ الْمُخْرِجِ وَجْهَانِ مَضَيَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا يَجُوزُ السَّبْقُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْغَايَةُ الَّتِي يَخْرُجَانِ مِنْهَا وَيَنْتَهِيَانَ إِلَيْهَا وَاحِدَةً . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ السَّبْقِ مِنْ مَسَافَةِ السِّبَاقِ ثَلَاثَةَ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ مَسَافَةُ السَّبْقِ مَعْلُومَةَ الِانْتِهَاءِ فَيَشْتَرِطَانِ الْجَرْيَ مِنِ ابْتِدَاءٍ مَعْلُومٍ إِلَى غَايَةٍ مَعْلُومَةٍ في السباق ، لِأَنَّهُ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْرُوسَةِ بِالِابْتِدَاءِ مِنَ الْجَهَالَةِ ، فَإِنِ اسْتَبَقَا عَلَى غَيْرِ غَايَةٍ عَلَى أَنَّ أَيَّهُمَا سَبَقَ صَاحِبَهُ كَانَ سَابِقًا مِنْ قَرِيبِ الْمَدَى وَبِعِيدِهِ لَمْ يَجُزْ لِعِلَّتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : أَنَّ مِنَ الْخَيْلِ مَنْ يَشْتَدُّ جَرْيُهُ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَيَضْعُفُ فِي الِانْتِهَاءِ وَهُوَ عِتَاقُهَا ، وَمِنْهَا مَا يَضْعُفُ فِي الِابْتِدَاءِ وَيَشْتَدُّ فِي الِانْتِهَاءِ ، وَهُوَ هِجَانُهَا ، وَلَا يَتَحَقَّقُ السَّابِقُ مِنْهُمَا مَعَ جَهَالَةِ الْمَدَى . وَالثَّانِي : أَنْ يُفْضِيَ ذَلِكَ مِنْهُمَا إِلَى إِجْرَاءِ الْخَيْلِ حَتَّى تَنْقَطِعَ ، وَتَهْلِكَ طَلَبًا لِلسَّبْقِ ، فَمُنِعَ مِنْهُ ، فَأَمَّا الرَّمْيُ إِذَا عُقِدَ بَيْنَ الْمُتَرَامَيْنِ عَلَى أَنَّ أَيَّهُمَا أَبْعَدُ سَهْمًا ، فَهُوَ فَاضِلٌ فَفِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ كَالسَّبْقِ بِالْخَيْلِ حَتَّى يَعْقِدَ عَلَى عَدَدِ الْإِصَابَةِ دُونَ بُعْدِ الْمَدَى . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَصِحُّ أَنْ يُعْقَدَ عَلَى بُعْدِ الْمَدَى كَمَا يَصِحُّ أَنْ يُعْقَدَ عَدَدُ الْإِصَابَةِ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ بُعْدِ الْمَدَى ، وَمِنَ الْإِصَابَةِ مُؤَثِّرٌ فِي الْعَقْدِ ، فَصَحَّ الْعَقْدُ عَلَيْهِمَا ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ الْإِفْرَاهُ الْخَيْلَ بِالسَّبْقِ إِلَى غَايَةٍ فَافْتَرَقَا . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الْمَسَافَةُ الْمَشْرُوطَةُ مُسَمَّاةً يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَهِيَ شَوْطُ الْفَرَسِ إِلَيْهَا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ فِي الْعُرْفِ ، فَإِنْ زَادَتْ حَتَّى لَا يَنْتَهِيَ شَوْطُهُ إِلَيْهَا إِلَّا مُنْقَطِعًا لَمْ تَجُزْ لِتَحْرِيمِ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِهِمَا وَأَنَّ الِانْتِهَاءَ إِلَيْهَا مُمْتَنِعٌ ، فَإِنْ كَانَتْ مَسَافَةُ السَّبْقِ تَنْتَهِي إِلَيْهَا هِجَانُ الْخَيْلِ الشَّدِيدَةِ دُونَ عِتَاقِهَا الضَّعِيفَةِ جَازَ الِاسْتِبَاقُ إِلَيْهَا بِالْهِجَانِ دُونَ الْعِتَاقِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ مَسَافَةً يَنْتَهِي إِلَيْهَا شَوْطُ الْإِبِلِ دُونَ الْخَيْلِ جَازَ الِاسْتِبَاقُ إِلَيْهَا بِالْإِبِلِ دُونَ الْخَيْلِ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي ابْتِدَاءِ الْجَرْيِ وَانْتِهَائِهِ لِيَكُونَا فِي الْغَايَةِ مُتَسَاوِيَيْنِ ، وَلَا يَفْضُلُ أَحَدُهُمَا بِشَيْءٍ فِي الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ ، وَإِنْ فَضَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بِشَيْءٍ ، وَإِنْ قَلَّ فَسَدَ السَّبْقُ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالسَّبْقِ الْعِلْمُ بِأَفْرَهِ الْفَرَسَيْنِ وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مَعَ التَّفْضِيلِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا عَثَرَ أَحَدُ الْفَرَسَيْنِ أَوْ سَاخَتْ قَوَائِمُهُ فِي الْأَرْضِ ، لِسَبْقِ الْآخَرِ لَمْ يُحْتَسَبْ لَهُ بِالسَّبْقِ ، لِأَنَّ الْعَثْرَةَ أَخَّرَتْهُ ، وَلَوْ كَانَ الْعَاثِرُ هُوَ السَّابِقَ احْتُسِبَ سَبْقُهُ ، لِأَنَّهُ إِذَا سَبَقَ مَعَ الْعَثْرَةِ كَانَ بَعْدَهَا أَسْبَقَ ، وَلَوْ وَقَفَ أَحَدُ الْفَرَسَيْنِ بَعْدَ الْجَرْيِ حَتَّى وَصَلَ الْآخَرُ إِلَى غَايَتِهِ كَانَ مَسْبُوقًا إِنْ وَقَفَ لِغَيْرِ مَرَضٍ ، وَلَا يَكُونُ مَسْبُوقًا إِنْ وَقَفَ لِمَرَضٍ ، فَأَمَّا إِنْ وَقَفَ قَبْلَ الْجَرْيِ لَمْ يَكُنْ مَسْبُوقًا سَوَاءٌ وَقَفَ لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِ مَرَضٍ ، لِأَنَّهُ بَعْدَ الْجَرْيِ مُشَارِكٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَالنِّضَالُ فِيمَا بَيْنَ الرُّمَاةِ كَذَلِكَ فِي السَّبْقِ وَالْعِلَلِ يَجُوزُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَجُوزُ فِي الْآخَرِ ثُمَّ يَتَفَرَّعَانِ ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ عِلَلُهُمَا اخْتَلَفَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا السِّبَاقُ فَاسْمٌ يَشْتَمِلُ عَلَى الْمُسَابَقَةِ بِالْخَيْلِ حَقِيقَةً ، وَعَلَى الْمُسَابَقَةِ بِالرَّمْيِ مَجَازًا ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْمٌ خَاصٌّ : فَتَخْتَصُّ الْخَيْلُ بِالرِّهَانِ ، وَيَخْتَصُّ الرَّمْيُ بِالنِّضَالِ . فَأَمَّا قَوْلُهُمْ : سَبَّقَ فُلَانٌ بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ ، فَمِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ يُسَمَّى بِهِ مَنْ أَخْرَجَ مَالَ السَّبَقِ ، وَيُسَمَّى بِهِ مَنْ أَحْرَزَ مَالَ السَّبَقِ ، وَقَدْ مَضَى حُكْمُ السِّبَاقِ بِالْخَيْلِ . فَأَمَّا السِّبَاقُ بِالنِّضَالِ حكمه فَهُمَا مِنَ الْإِبَاحَةِ سَوَاءٌ ، وَالْخِلَافُ فِيهِمَا وَاحِدٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ

الدَّلِيلُ عَلَيْهِمَا ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا كَلَامًا اشْتَمَلَ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ : " وَالنِّضَالُ فِيمَا بَيْنَ الرُّمَاةِ كَذَلِكَ فِي السَّبْقِ وَالْعِلَلِ " ، يُرِيدُ بِهَذَا الْفَصْلِ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : جَوَازُ النِّضَالِ بِالرَّمْيِ كَجَوَازِ السِّبَاقِ بِالْخَيْلِ . وَالثَّانِي : اشْتِرَاكُهُمَا فِي التَّعْلِيلِ لِإِرْهَابِ الْعَدُوِّ بِهِمَا ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [ الْأَنْفَالِ : 65 ] . وَالْفَصْلُ الثَّانِي : قَوْلُهُ : " يَجُوزُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَجُوزُ فِي الْآخَرِ " يُرِيدُ بِهَذَا أَنَّ الْأَسْبَاقَ فِي النِّضَالِ ثَلَاثَةٌ كَمَا كَانَتِ الْأَسْبَاقُ فِي الْخَيْلِ ثَلَاثَةً : أَحَدُهَا : أَنْ يُخْرِجَ الْوَالِي مَالَ السَّبَقِ فَيَجُوزَ كَجَوَازِهِ فِي الْخَيْلِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُخْرِجَهُ الْمُتَنَاضِلَانِ ، فَلَا يَجُوزَ حَتَّى يَدْخُلَ بَيْنَهُمَا مُحَلِّلٌ يَكُونُ رَمْيُهُ كَرَمْيِهِمَا أَوْ أَرَمَى مِنْهُمَا ، كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْخَيْلِ إِلَّا مُحَلِّلٌ يَكُونُ فَرَسُهُ كُفُؤًا لِفَرَسَيْهِمَا أَوْ أَكْفَأَ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُخْرِجَهُ أَحَدُ الْمُنَاضِلَيْنِ ، فَيَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ فِي الْخَيْلِ إِذَا أَخْرَجَهُ أَحَدُ الْمُتَسَابِقَيْنِ . وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ : قَوْلُهُ : " ثُمَّ يَتَفَرَّعَانِ " يُرِيدُ بِهِ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَصْلَ فِي سِبَاقِ الْخَيْلِ الْفَرَسُ وَالرَّاكِبُ تَبَعٌ ، وَالْأَصْلَ فِي النِّضَالِ الرَّامِي وَالْآلَةُ تَبَعٌ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي سِبَاقِ الْخَيْلِ فَرَاهَةُ الْفَرَسِ ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُبْدِلَهُ بِغَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ وَيَجُوزُ أَنْ يُبْدِلَ الرَّاكِبَ بِغَيْرِهِ . وَالْمَقْصُودُ فِي النِّضَالِ حِذْقُ الرَّامِي ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُسْتَبْدَلَ بِغَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُبَدِّلَ آلَتَهُ بِغَيْرِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ فِي النِّضَالِ مِنْ تَفْرِيعِ الْمَرْمَى بِالْمُبَادَرَةِ وَالْمُخَاطَبَةِ مَا لَا يَتَفَرَّعُ فِي سِبَاقِ الْخَيْلِ . وَالْفَصْلُ الرَّابِعُ : قَوْلُهُ : " فَإِذَا اخْتَلَفَتْ عِلَلُهُمَا اخْتَلَفَا " يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ فِي سِبَاقِ الْخَيْلِ الْفَرَسَ دُونَ الرَّاكِبِ لَزِمَ تَعْيِينُ الْفَرَسِ ، وَلَمْ يَلْزَمْ تَعْيِينُ الرَّاكِبِ ، وَمَتَى مَاتَ الْفَرَسُ بَطَلَ السَّبْقُ وَلَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ الرَّاكِبِ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْعَاقِدُ ، وَفِي بُطْلَانِهِ بِمَوْتِ الْعَاقِدِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ إِذَا قِيلَ : إِنَّهُ كَالْإِجَارَةِ .

وَالثَّانِي : يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ إِذَا قِيلَ : إِنَّهُ كَالْجِعَالَةِ ، وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ فِي النِّضَالِ الرَّامِي دُونَ الْآلَةِ لَزِمَ تَعْيِينُ الرَّامِي ، وَلَمْ يَلْزَمْ تَعْيِينُ الْآلَةِ ، وَبَطَلَ النِّضَالُ إِذَا مَاتَ الرَّامِي ، وَلَمْ يَبْطُلْ إِذَا انْكَسَرَ الْقَوْسُ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا كَمَا اخْتَلَفَتْ عِلَلُهُمَا .

مَسْأَلَةٌ عَقْدَ الرَّامِي مُعْتَبَرٌ بِعَشَرَةِ شُرُوطٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِذَا سَبَقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَجَعَلَا بَيْنَهُمَا قَرَعًا مَعْلُومًا في الرمي ، فَجَائِزٌ أَنْ يَشْتَرِطَا مُحَاطَّةً أَوْ مُبَادَرَةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ عَقْدَ الرَّامِي مُعْتَبَرٌ بِعَشَرَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الرَّامِيَانِ مُتَعَيِّنَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَيْهِمَا وَالْمَقْصُودَ بِهِ حِذْقُهُمَا ، فَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنَا بَطَلَ الْعَقْدُ سَوَاءٌ وُصِفَا أَوْ لَمْ يُوصَفَا كَمَا لَوْ أُطْلِقَ فِي السَّبَقِ الْفَرَسَانِ ، فَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنَا كَانَ بَاطِلًا ، وَلَا يَلْزَمُ تَعْيِينُ الْآلَةِ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْمِيَ عَنْ أَيِّ قَوْسٍ شَاءَ وَبِأَيِّ سَهْمٍ أَحَبَّ ، فَإِنْ عُيِّنَتِ الْآلَةُ لَمْ يَتَعَيَّنْ وَبَطَلَتْ فِي التَّعْيِينِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَيَرْمِي عَنْ هَذَيْنِ الْقَوْسَيْنِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْعَقْدِ جَازَ لَهُمَا الرَّمْيُ عَنْهُمَا وَبِغَيْرِهِمَا ، وَإِنْ قِيلَ : عَلَى أَنْ لَا يَرْمِيَ عَنْ هَذَيْنِ الْقَوْسَيْنِ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا ؛ لِأَنَّهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ صِفَةٌ ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي شَرْطٌ .

فَصْلٌ : وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الرَّمْيِ شروط عقد الرامي مَعْلُومًا ؛ لِأَنَّهُ الْعَمَلُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ لِيَكُونَ غَايَةُ رَمْيِهِمَا فِيهِ مُنْتَهِيًا إِلَيْهِ ، وَيُسَمَّى الرَّشْقَ : يُقَالُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَبِكَسْرِهَا ، فَالرَّشْقُ بِفَتْحِ الرَّاءِ هُوَ الرَّمْيُ ، وَالرِّشْقُ بِكَسْرِ الرَّاءِ عَدَدُ الرَّمْيِ ، وَعُرْفُ الرُّمَاةِ فِي الرَّمْيِ أَنْ يَكُونَ مِنْ عِشْرِينَ إِلَى ثَلَاثِينَ ، فَإِنْ عُقِدَ لَهُ عَلَى أَقَلَّ مِنْهَا أَوْ أَكْثَرَ جَازَ .

فَصْلٌ : وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الْإِصَابَةِ مِنَ الرَّشْقِ شروط عقد الرامي مَعْلُومًا لِيُعْرَفَ بِهِ النَّاضِلُ مِنَ الْمَنْضُولِ ، وَأَكْثَرُ مَا يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ الْإِصَابَةُ ، فَأُنْقِصَ مِنْ عَدَدِ الرَّشْقِ الْمَشْرُوطِ بِشَيْءٍ وَإِنْ قَلَّ لِيَكُونَ مُتَلَافِيًا لِلْخَطَأِ الَّذِي يَتَعَذَّرُ أَنْ يَسْلَمَ مِنْهُ الْمُتَنَاضِلَانِ ، فَقَدْ قِيلَ : إِنَّ أَحْذَقَ الرُّمَاةِ فِي الْعُرْفِ مَنْ أَصَابَ مِنَ الْعَشَرَةِ ثَمَانِيَةً ، فَإِنْ شُرِطَ إِصَابَةُ الْكُلِّ مِنَ الْكُلِّ بَطَلَ ، لِتَعَذُّرِهِ فِي الْأَغْلَبِ ، وَإِنْ شُرِطَ إِصَابَةُ ثَمَانِيَةٍ مِنَ الْعَشَرَةِ جَازَ ، فَإِنْ شُرِطَ إِصَابَةُ تِسْعَةٍ مِنَ الْعَشَرَةِ في الرمي ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لِبَقَاءِ سَهْمِ الْخَطَأِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ لِأَنَّ إِصَابَتَهُ نَادِرَةٌ . فَأَمَّا أَقَلُّ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِصَابَةِ فَهُوَ مَا يَحْصُلُ فِيهِ الْقَصْدُ ، وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدِ ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ عَلَى مَسْأَلَةٍ ، فَقَالَ : ( فَلَوْ تَنَاضَلَا عَلَى أَنَّ الرَّشْقَ عَشَرَةٌ ، وَالْإِصَابَةَ مِنْ تِسْعَةٍ ، لَمْ يَجُزْ ) وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : تَأْوِيلُهَا أَنْ يُشْتَرَطَ إِصَابَةُ تِسْعَةٍ مِنْ عَشَرَةٍ فَيَبْطُلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ . وَالثَّانِي : تَأْوِيلُهَا أَنْ يُشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ الرَّشْقُ عَشَرَةً ، وَالْإِصَابَةُ مُحْتَسَبَةً فِي تِسْعَةٍ دُونَ الْعَاشِرِ فَيَبْطُلَ وَجْهًا وَاحِدًا لِاسْتِحْقَاقِ الْإِصَابَةِ فِي جَمِيعِ الرَّشْقِ بِهِ ، فَإِنْ أَغْفَلَا عَدَدَ الْإِصَابَةِ وَعَقَدَاهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ النَّاضِلُ مِنْهُمَا أَكْثَرَهُمَا إِصَابَةً ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : مِنَ التَّعْلِيلَيْنِ فِي اشْتِرَاطِ فِعْلِهِ فِي سِبَاقِ الْخَيْلِ إِذَا عَقَدَاهُ إِلَى غَيْرِ غَايَةٍ لِيَكُونَ السَّابِقُ مَنْ تَقَدَّمَ فِي أَيِّ غَايَةٍ كَانَتْ ، وَهُوَ بَاطِلٌ فِي الْخَيْلِ لِعِلَّتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : أَنَّ مِنَ الْخَيْلِ مَا يَقْوَى جَرْيُهُ فِي ابْتِدَائِهِ ، وَتَضْعُفُ فِي انْتِهَائِهِ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ بِضِدِّهِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ النِّضَالُ عَلَى كَثْرَةِ الْإِصَابَةِ بَاطِلًا : لِأَنَّ مِنَ الرُّمَاةِ مَنْ تَكْثُرُ إِصَابَتُهُ فِي الِابْتِدَاءِ وَتَقِلُّ فِي الِانْتِهَاءِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ بِضِدِّهِ . وَالتَّعْلِيلُ الثَّانِي : أَنَّ إِجْرَاءَ الْخَيْلِ إِلَى غَيْرِ غَايَةٍ مُفْضٍ إِلَى انْقِطَاعِهَا ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ النِّضَالُ عَلَى كَثْرَةِ الْإِصَابَةِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفْضٍ إِلَى انْقِطَاعِ الرُّمَاةِ .

فَصْلٌ : وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ : أَنْ تَكُونَ مَسَافَةُ مَا بَيْنَ مَوْقِفِ الرَّامِي وَالْهَدَفِ شروط عقد الرامي مَعْلُومَةً ؛ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ تَكْثُرُ مَعَ قُرْبِ الْمَسَافَةِ ، وَتَقِلُّ مَعَ بُعْدِهَا ، فَلَزِمَ الْعَمَلُ بِهَا ، وَأَبْعَدُهَا فِي الْعُرْفِ ثَلَاثُمِائَةِ ذِرَاعٍ ، وَأَقَلُّهَا مَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُصَابَ وَأَنْ لَا يُصَابَ ، فَإِنْ أَغْفَلَا مَسَافَةَ الرَّمْيِ ، فَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : إِحْدَاهَا : أَنْ لَا يَكُونَ لِلرُّمَاةِ هَدَفٌ مَنْصُوبٌ ، وَلَا لَهُمْ عُرْفٌ مَعْهُودٌ ، فَيَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلًا لِلْجَهْلِ بِمَا تَضَمَّنَهُ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةِ : أَنْ يَكُونَ لِلرُّمَاةِ الْحَاضِرِينَ هَدَفٌ مَنْصُوبٌ ، وَلِلرُّمَاةِ فِيهِ مَوْقِفٌ مَعْرُوفٌ ، فَيَصِحَّ الْعَقْدُ وَيَكُونَ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْهَدَفِ الْحَاضِرِ مِنَ الْمَوْقِفِ الْمُشَاهَدِ ، وَالرُّمَاةُ يُسَمُّونَ مَوْقِفَ الرَّامِي الْوَجْهَ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ هَدَفٌ مَنْصُوبٌ ، وَلَكِنْ لَهُمْ فِيهِ عُرْفٌ مَعْهُودٌ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَصَحُّهُمَا : يَصِحُّ الْعَقْدُ مَعَ الْإِطْلَاقِ ، وَيُحْمَلَانَ فِيهِ عَلَى الْعُرْفِ الْمَعْهُودِ كَمَا يُحْمَلُ إِطْلَاقُ الْأَثْمَانِ عَلَى غَالِبِ النَّقْدِ الْمَعْهُودِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ حَذْفَ الرُّمَاةِ يَخْتَلِفُ ، فَاخْتَلَفَ لِأَجْلِهِ حُكْمُ الْهَدَفِ ، فَلَمْ يَصِحَّ حَتَّى يُوصَفَ .



فَصْلٌ : وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ : أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ مِنَ الْهَدَفِ شروط عقد الرامي مَعْلُومًا ؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالْإِصَابَةِ . أَمَّا الْهَدَفُ فَهُوَ تُرَابٌ يُجْمَعُ أَوْ حَائِطٌ يُبْنَى ، وَأَمَّا الْغَرَضُ فَهُوَ جِلْدٌ أَوْ شَيْءٌ بَالٍ يُنْصَبُ فِي الْهَدَفِ ، وَيُخْتَصُّ بِالْإِصَابَةِ ، وَرُبَّمَا جُعِلَ فِي الْغَرَضِ دَارَةٌ كَالْهِلَالِ تُخْتَصُّ بِالْإِصَابَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْغَرَضِ ، وَهِيَ الْغَايَةُ فِي الْمَقْصُودِ مِنْ حِذْقَ الرُّمَاةِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، فَالْعِلْمُ بِالْغَرَضِ يَكُونُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : مَوْضِعُهُ مِنَ الْهَدَفِ فِي ارْتِفَاعِهِ وَانْخِفَاضِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ فِي الْمُنْخَفِضِ أَكْثَرُ مِنْهَا فِي الْمُرْتَفِعِ . وَالثَّانِي : قَدْرُ الْغَرَضِ فِي ضِيقِهِ وَسَعَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ فِي الْوَاسِعِ أَكْثَرُ مِنْهَا فِي الضَّيِّقِ ، وَأَوْسَعُ الْأَغْرَاضِ فِي عُرْفِ الرُّمَاةِ ذِرَاعٌ ، وَأَقَلُّهُ أَرْبَعُ أَصَابِعَ . وَالثَّالِثُ : قَدْرُ الدَّارَةِ مِنَ الْغَرَضِ إِنْ شُرِطَتِ الْإِصَابَةُ بِهَا .

فَصْلٌ : وَالشَّرْطُ السَّادِسُ : أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْإِصَابَةِ شروط عقد الرامي مَعْلُومًا هَلْ هُوَ فِي الْهَدَفِ أَوْ فِي الْغَرَضِ أَوْ فِي الدَّارَةِ : لِأَنَّ الْإِصَابَةَ فِي الْهَدَفِ أَوْسَعُ ، وَفِي الْغَرَضِ أَوْسَطُ ، وَفِي الدَّارَةِ أَضْيَقُ ، وَإِنْ أُغْفِلَ ذَلِكَ كَانَ جَمِيعُ الْغَرَضِ مَحَلًّا لِلْإِصَابَةِ ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهُ تَخْصِيصٌ ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ فَهُوَ بِالْغَرَضِ مَخْصُوصٌ . فَإِنْ كَانَتِ الْإِصَابَةُ مَشْرُوطَةً فِي الْهَدَفِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْغَرَضِ ، وَلَزِمَ وَصْفُ الْهَدَفِ فِي طُولِهِ وَعَرْضِهِ ، وَإِنْ شُرِطَتِ الْإِصَابَةُ فِي الْغَرَضِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْهَدَفِ ، وَلَزِمَ وَصْفُ الْغَرَضِ وَإِنْ شُرِطَتِ الْإِصَابَةُ فِي الدَّارَةِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْغَرَضِ وَلَزِمَ وَصْفُ الدَّارَةِ .

فَصْلٌ : وَالشَّرْطُ السَّابِعُ : أَنْ تَكُونَ الْإِصَابَةُ مَوْصُوفَةً بِقَرْعٍ أَوْ خَزْقٍ أَوْ خَسْقٍ شروط عقد الرامي . فَالْقَارِعُ : مَا أَصَابَ الْغَرَضَ ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ . وَالْخَازِقُ : مَا ثَقَبَ الْغَرَضَ ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ . وَالْخَاسِقُ : مَا ثَبَتَ مِنَ الْغَرَضِ بَعْدَ أَنْ ثَقَبَ . وَلَا يُحْتَسَبُ بِالْقَارِعِ فِي الْخَزْقِ وَالْخَسْقِ ، وَيُحْتَسَبُ بِالْخَاسِقِ فِي الْقَرْعِ ، وَلَا يُحْتَسَبُ بِهِ فِي الْخَسْقِ ، وَيُحْتَسَبُ بِالْخَازِقِ فِي الْقَرْعِ وَالْخَزْقِ ، وَيَنْطَلِقُ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْإِصَابَاتِ اسْمُ الْخَوَاصِلِ وَهُوَ جَمْعُ خِصَالٍ ، فَإِنْ أُغْفِلَ هَذَا الشَّرْطُ كَانَتِ الْإِصَابَةُ مَحْمُولَةً عَلَى الْقَرْعِ ؛ لِأَنَّ مَا عَدَاهُ زِيَادَةٌ .

فَصْلٌ : وَالشَّرْطُ الثَّامِنُ : أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْإِصَابَةِ مَعْلُومًا هَلْ هُوَ مُبَادَرَةٌ أَوْ مُحَاطَّةٌ شروط عقد الرامي لِأَنَّ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْآخَرِ ، وَالْمُبَادَرَةُ أَنْ يُبَادِرَ أَحَدُهُمَا إِلَى

اسْتِكْمَالِ إِصَابَتِهِ فِي أَقَلِّ الْعَدَدَيْنِ عَلَى مَا سَنَصِفُهُ . وَالْمُحَاطَّةُ أَنْ يُحَطَّ أَقَلُّ الْإِصَابَتَيْنِ مِنْ أَكْثَرِهِمَا ، وَيَكُونَ الْبَاقِي بَعْدَهَا هُوَ الْعَدَدَ الْمَشْرُوطَ عَلَى مَا سَنَشْرَحُهُ ، فَإِنْ أَغْفَلَا ذَلِكَ وَمَا يَشْتَرِطَاهُ فَسَدَ الْعَقْدُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلرُّمَاةِ عُرْفٌ مَعْهُودٌ بِأَحَدِهِمَا ، وَفِي فَسَادِهِ إِنْ كَانَ لَهُمْ عُرْفٌ مَعْهُودٌ وَجْهَانِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ .

فَصْلٌ : وَالشَّرْطُ التَّاسِعُ : أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الْمُخْرَجُ فِي النِّضَالِ مَعْلُومًا شروط عقد الرامي ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ فِي عَقْدٍ ، وَيُسَمَّى هَذَا الْمَالُ الْمُخْرَجُ السَّبَقَ بِفَتْحِ الْبَاءِ ، وَيُسَمَّى الْخَطَرَ ، وَيُسَمَّى النَّدَبَ ، وَيُسَمَّى الْوَجَبَ : وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَائِهِ ، فَإِنْ أُغْفِلَ ذِكْرُ الْغَرَضِ كَانَ بَاطِلًا ، وَلَا شَيْءَ لِلنَّاضِلِ إِذَا نَضَلَ ، وَإِنْ جُهِلَ الْغَرَضُ كَانَ الْعَقْدُ بَاطِلًا ، وَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِأُجْرَةِ مِثْلِهِ إِذَا نَضَلَ وَجْهَانِ .

فَصْلٌ : وَالشَّرْطُ الْعَاشِرُ : أَنْ يُذْكَرَ الْمُبْتَدِئُ مِنْهُمَا بِالرَّمْيِ ، وَكَيْفِيَّةُ الرَّمْيِ هَلْ يَتَرَامَيَانِ سَهْمًا وَسَهْمًا أَوْ خَمْسًا وَخَمْسًا شروط عقد الرامي ، لِيَزُولَ التَّنَازُعُ ، وَيَعْمَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى شَرْطِهِ ، فَإِنْ أُغْفِلَ ذِكْرُ الْمُتَبَدِئِ مِنْهُمَا بِالرَّمْيِ ، فَفِي الْعَقْدِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ . وَالثَّانِي : جَائِزٌ . وَفِي الْمُبْتَدِئِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : مُخْرِجُ الْمَالِ . وَالثَّانِي : مَنْ قَرَعَ . وَإِنْ أُغْفِلَ عَدَدُ مَا يَرْمِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي بَدْئِهِ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ ، وَيَحْمِلَانِهِ عَلَى كُلِّ عُرْفِ الرُّمَاةِ إِنْ لَمْ يَخْتَلِفْ ، فَإِنِ اخْتَلَفَ عُرْفُهُمْ رَمَيَا سَهْمًا ، فَهَذِهِ عَشَرَةُ شُرُوطٍ يُعْتَبَرُ بِهَا عَقْدُ الْمُنَاضَلَةِ . فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : " فَإِذَا سَبَقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَجَعَلَا بَيْنَهُمَا قَرَعًا مَعْلُومًا " ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِهِ بِالْقَرَعِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْمَالَ وَيَكُونُ مِنْ أَسْمَائِهِ كَالْوَجَبِ وَالنَّدَبِ وَالْخَطَرِ ، ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ ، وَحَكَاهُ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ . وَالثَّانِي : وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا : إِنَّهُ أَرَادَ صِفَةَ الْإِصَابَةِ أَنَّهَا قَرْعٌ لَا خَزْقٌ وَلَا خَسْقٌ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ أَرَادَ بِالْقَرَعِ الرَّشْقَ فِي عَدَدِ الرَّمْيِ ، وَلَهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ حُكْمٌ بَيَّنَّاهُ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَإِنِ اشْتَرَطَا مُحَاطَّةً ، فَكُلَّمَا أَصَابَ أَحَدُهُمَا وَأَصَابَ الْآخَرُ بِمِثْلِهِ أَسْقَطَا الْعَدَدَيْنِ وَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَسْتَأْنِفَانِ وَإِنْ أَصَابَ أَقَلَّ مِنْ صَاحِبِهِ حَطَّ مِثْلَهُ حَتَّى يَخْلُصَ لَهُ فَضْلُ الْعَدَدِ الَّذِي شَرَطَ فَيَنْضُلَهُ بِهِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ النِّضَالَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : مُحَاطَّةٌ وَمُبَادَرَةٌ ، فَبَدَأَ الشَّافِعِيُّ بِذِكْرِ الْمُحَاطَّةِ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ غَالِبَ الرَّمْيِ فِي زَمَانِهِ ، وَقِيلَ : إِنَّهُ كَانَ رَامِيًا يُصِيبُ مِنَ الْعَشَرَةِ ثَمَانِيَةً فِي الْغَالِبِ ، وَهِيَ عَادَةُ حُذَّاقِ الرُّمَاةِ . فَإِذَا عَقَدَا سَبَقَ النِّضَالِ عَلَى إِصَابَةِ خَمْسَةٍ مِنْ عِشْرِينَ مُحَاطَّةً وَرِمَايَةً وَجَبَ أَنْ تُحَطَّ أَقَلُّ الْإِصَابَتَيْنِ فِي أَكْثَرِهِمَا ، وَيُنْظَرَ فِي الْبَاقِي بَعْدَ الْحَطِّ ، فَإِنْ كَانَ خَمْسَةً ، فَهُوَ الْقَدْرُ الْمَشْرُوطُ فَيَصِيرُ صَاحِبُهُ بِهِ نَاضِلًا . وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ لَمْ يَنْضُلْ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ أَصَابَهُ لِنُقْصَانِهِ مِنَ الْعَدَدِ الْمَشْرُوطِ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا بَعْدَ الرَّمْيِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْإِصَابَةِ أَوْ يَتَفَاضَلَا . فَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الْإِصَابَةِ ، فَأَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشْرًا عَشْرًا أَوْ خَمْسًا خَمْسًا ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَسْتَأْنِفَانِ " ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِهِ بِقَوْلِهِ : " وَيَسْتَأْنِفَانِ " عَلَى وَجْهَيْنِ ، حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَحَدُهُمَا : يَسْتَأْنِفَانِ الرَّمْيَ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُحَاطَّةِ مَا أَوْجَبَ حَطَّ الْأَقَلِّ مَعَ الْأَكْثَرِ ، وَلَيْسَ مَعَ التَّسَاوِي عَقْدُ حَطٍّ ، فَخَرَجَ مِنْ عَقْدِ الْمُحَاطَّةِ ، فَلِذَلِكَ اسْتَأْنَفَا الرَّمْيَ لِيَصِيرَ مَا يَسْتَأْنِفَانِهِ فِي عُقُودِ الْمُحَاطَّةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ بِهِمَا يَسْتَأْنِفَانِ عَقْدًا مُسْتَجَدًّا إِنْ أَحَبَّا ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْوَاحِدَ لَا يَلْزَمُ فِيهِ إِعَادَةُ الرَّمْيِ مَعَ التَّكَافُؤِ كَمَا لَا يَلْزَمُ فِي الْخَيْلِ إِعَادَةُ الْجَرْيِ مَعَ التَّكَافُؤِ ، وَالَّذِي أَرَاهُ - وَهُوَ عِنْدِي الْأَصَحُّ - أَنْ يُنْظَرَ . فَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الْإِصَابَةِ قَبْلَ الرَّشْقِ اسْتَأْنَفَا الرَّمْيَ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ . وَإِنْ تَسَاوَيَا فِيهِ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الرَّشْقِ اسْتَأْنَفَاهُ بِعَقْدٍ مُسْتَجَدٍّ إِنْ أَحَبَّا ؛ لِأَنَّهُمَا قَبْلَ اسْتِكْمَالِ الرَّشْقِ فِي بَقَايَا أَحْكَامِ الْعَقْدِ وَبَعْدَ اسْتِكْمَالِهِ قَدْ نُقِضَتْ جَمِيعُ أَحْكَامِهِ .

فَصْلٌ : فَإِنْ تَفَاضَلَا فِي الْإِصَابَةِ أحوال تفاضل المتناضلين لَمْ يَخْلُ تَفَاضُلُهُمَا فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَفْضُلَ ، وَلَا يَنْضُلَ بِمَا فَضَلَ ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِطَا إِصَابَةَ خَمْسَةٍ مِنْ عِشْرِينَ مُحَاطَّةً ، فَيُصِيبَ أَحَدُهُمَا عَشَرَةَ أَسْهُمٍ ، وَيُصِيبَ الْآخَرُ سِتَّةَ أَسْهُمٍ ، فَتُحَطَّ السِّتَّةُ مِنَ الْعَشَرَةِ ، فَيَكُونُ الْبَاقِي مِنْهَا أَرْبَعَةً فَلَا يَنْضُلُ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْإِصَابَةِ خَمْسَةٌ ، وَهَكَذَا لَوْ أَصَابَ أَحَدُهُمَا خَمْسَةَ عَشَرَ ، وَأَصَابَ الْآخَرُ أَحَدَ عَشَرَ لَمْ يَنْضُلِ الْفَاضِلُ ، لِأَنَّ الْبَاقِيَ لَهُ

بَعْدَ الْحَطِّ أَرْبَعَةٌ ثُمَّ عَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةِ إِذَا كَانَ الْبَاقِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَنْضُلَ بِمَا فَضَلَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الرَّشْقِ ، وَهُوَ أَنْ يُصِيبَ أَحَدُهُمَا خَمْسَةَ عَشَرَ مِنْ عِشْرِينَ ، وَيُصِيبَ الْآخَرُ عَشَرَةً مِنْ عِشْرِينَ ، فَيَنْضُلَ الْفَاضِلُ ؛ لِأَنَّهَا إِذَا أُسْقِطَتْ مِنْ إِصَابَتِهِ عَشَرَةٌ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَهَا خَمْسَةً ، وَهُوَ عَدَدُ النَّضْلِ ، وَهَكَذَا لَوْ أَصَابَ أَحَدُهُمَا عَشَرَةً ، وَأَصَابَ الْآخَرُ خَمْسَةً كَانَ الْفَاضِلُ نَاضِلًا ؛ لِأَنَّهُ إِذَا أُسْقِطَتِ الْخَمْسَةُ مِنْ إِصَابَتِهِ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَهَا خَمْسَةً ، وَهُوَ عَدَدُ النَّضْلِ ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ الْحَطِّ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةٍ ، ثُمَّ عَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَنْضُلَ بِمَا فَضَلَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الرَّشْقِ ، وَهُوَ أَنْ يُصِيبَ أَحَدُهُمَا عَشَرَةً مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ ، وَيُصِيبَ الْآخَرُ خَمْسَةً مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ ، وَيَكُونُ الْبَاقِي مِنَ الْأَكْثَرِ خَمْسَةً هِيَ عَدَدُ النَّضْلِ ، فَهَلْ يَسْتَقِرُّ النِّضَالُ بِهَذَا قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الرَّشْقِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَسْتَقِرُّ النَّضْلُ وَيَسْقُطُ بَاقِي الرَّشْقِ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ مَعْرِفَةُ الْأَحْذَقِ ، وَقَدْ عُرِفَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : - وَهُوَ الْأَظْهَرُ - أَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ النَّضْلُ بِهَذِهِ الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْعَدَدِ حَتَّى يَرْمِيَا بَقِيَّةَ الرَّشْقِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ تَضَمَّنَهَا ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُصِيبَ الْمَفْضُولُ جَمِيعَهَا أَوْ أَكْثَرَهَا وَيُخْطِئَ الْفَاضِلُ جَمِيعَهَا أَوْ أَكْثَرَهَا . وَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّفْرِيعُ ، فَإِذَا رَمَيَا بَقِيَّةَ الرَّشْقِ ، وَهُوَ الْخَمْسَةُ الْبَاقِيَةُ ، فَإِنْ أَصَابَ الْمَفْضُولُ جَمِيعَهَا أَوْ أَخْطَأَ الْفَاضِلُ جَمِيعَهَا ، فَقَدِ اسْتَوَيَا وَلَمْ يَنْضُلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا : لِأَنَّ إِصَابَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَشَرَةٌ ، وَإِنْ أَصَابَ الْفَاضِلُ ، وَأَخْطَأَ الْمَفْضُولُ جَمِيعَهَا اسْتَقَرَّ فَضْلُ الْفَاضِلِ ؛ لِأَنَّهُ أَصَابَ خَمْسَةَ عَشَرَ مِنْ عِشْرِينَ ، وَأَصَابَ الْمَفْضُولُ خَمْسَةً مِنْ عِشْرِينَ ، فَكَانَ الْبَاقِي بَعْدَ الْحَطِّ عَشَرَةً ، هِيَ أَكْثَرُ مِنْ شَرْطِهِ ، فَلَوْ أَصَابَ الْفَاضِلُ مِنَ الْخَمْسَةِ الْبَاقِيَةِ سَهْمًا ، وَأَصَابَ الْمَفْضُولُ سَهْمَيْنِ لَمْ يَفْضُلِ الْفَاضِلُ ؛ لِأَنَّ عَدَدَ إِصَابَتِهِ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا ، وَعَدَدَ إِصَابَةِ الْمَفْضُولِ سَبْعَةٌ إِذَا حُطَّتْ مِنْ تِلْكَ الْإِصَابَةِ كَانَ الْبَاقِي أَرْبَعَةً ، وَالشَّرْطُ أَنْ تَكُونَ خَمْسَةً ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَنْضُلْ وَإِنْ فَضَلَ ، فَلَوْ أَصَابَ الْفَاضِلُ سَهْمَيْنِ ، وَالْمَفْضُولُ سَهْمَيْنِ صَارَ الْفَاضِلُ نَاضِلًا ؛ لِأَنَّهُ أَصَابَ اثْنَيْ عَشَرَ ، وَأَصَابَ الْمَفْضُولُ سَبْعَةً لِيَبْقَى لِلْفَاضِلِ بَعْدَ الْحَطِّ خَمْسَةٌ . وَلَوْ أَصَابَ أَحَدُهُمَا سَبْعَةً مِنْ عَشَرَةٍ ، وَأَصَابَ الْآخَرُ سَهْمَيْنِ مِنْ عَشَرَةٍ ، فَإِذَا رَمَيَا بَقِيَّةَ السِّهَامِ فَإِنْ أَصَابَ الْمَفْضُولُ جَمِيعَهَا ، وَأَخْطَأَ الْفَاضِلُ جَمِيعَهَا صَارَ الْأَوَّلُ نَاضِلًا وَالثَّانِي مَنْضُولًا : لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَهُ سَبْعَةٌ ، وَالثَّانِيَ لَهُ اثْنَا عَشَرَ يَبْقَى لَهُ بَعْدَ الْحَطِّ خَمْسَةٌ ، وَلَوْ أَصَابَ الْأَوَّلُ جَمِيعَهَا ، وَأَصَابَ الثَّانِي جَمِيعَهَا كَانَ الْأَوَّلُ نَاضِلًا : لِأَنَّ إِصَابَتَهُ سَبْعَةَ عَشَرَ

وَإِصَابَةَ الثَّانِي اثْنَا عَشَرَ ، فَإِنْ أَخْطَأَ الْأَوَّلُ فِي سَهْمٍ مِنْ بَقِيَّةِ الرَّشْقِ لَمْ يَفْضُلْ وَلَمْ يَنْضُلْ ، وَلَوْ أَصَابَ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ ، وَأَصَابَ الْآخَرُ سَهْمَيْنِ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ اسْتَقَرَّ النَّضْلُ ، وَسَقَطَ بَقِيَّةُ الرَّشْقِ وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ الْمَفْضُولَ لَوْ أَصَابَ جَمِيعَ الْخَمْسَةِ الْبَاقِيَةِ فِي الرَّشْقِ حَتَّى اسْتَكْمَلَ بِمَا تَقَدَّمَ سَبْعَةً كَانَ مَنْضُولًا ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ لِلْفَاضِلِ بَعْدَ حَطِّهَا خَمْسَةٌ ، فَلَمْ يَسْتَفِدْ بِبَقِيَّةِ الرَّمْيِ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ النَّضْلَ ، فَسَقَطَ ، ثَمَّ عَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : ( وَيَسْتَحِقُّ سَبَقَهُ يَكُونُ مِلْكًا لَهُ يُقْضَى بِهِ عَلَيْهِ ، كَالدَّيْنِ يَلْزَمُهُ إِنْ شَاءَ أَطْعَمَ أَصْحَابَهُ وَإِنْ شَاءَ تَمَوَّلَهُ ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا نَضَلَ الرَّامِي مَلَكَ مَالَ النِّضَالِ ، وَكَذَلِكَ فِي السَّبَقِ ، وَصَارَ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ ، فَإِنْ كَانَ عَيْنًا اسْتَحَقَّ أَخْذَهَا وَإِنْ كَانَ دَيْنًا اسْتَوْجَبَ قَبْضَهُ ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُطْعِمَهُ أَصْحَابَهُ مِنْ أَهْلِ النِّضَالِ وَالسِّبَاقِ . وَحَكَى الشَّافِعِيُّ عَنْ بَعْضِ فُقَهَاءِ الرُّمَاةِ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُطْعِمَهُ أَصْحَابَهُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ الجعل في المناضلة ، وَهَذَا فَاسِدٌ : لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ كَمَالِ الْإِجَارَةِ أَوْ مَالِ الْجِعَالَةِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ هَذَيْنِ الْعَقْدَيْنِ ، وَالْعِوَضُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَحَقٌّ يَتَمَلَّكُهُ مُسْتَحِقُّهُ وَلَا تَلْزَمُهُ مُشَارَكَةُ غَيْرِهِ ، فَبَطَلَ مَا قَالَهُ الْمُخَالِفُ فِيهِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ مَطَلَ بِهِ الْمَنْضُولُ قَضَى بِهِ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ ، وَحَبَسَهُ فِيهِ ، وَبَاعَ عَلَيْهِ مِلْكَهُ ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ ضُرِبَ بِهِ مَعَ غُرَمَائِهِ وَيُقَدَّمُ بِهِ عَلَى وَرَثَتِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : ( وَإِنْ أَخَذَ بِهِ رَهْنًا أَوْ ضَمِينًا فَجَائِزٌ ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ مَالَ النِّضَالِ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا أَوْ فِي الذِّمَّةِ ، فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الرَّهْنِ مِنْهُ وَلَا الضَّمِينِ ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تُسْتَوْفَى مِنْ رَهِينٍ وَلَا ضَامِنٍ ، فَلَمْ يَصِحَّ فِيهَا رَهْنٌ وَلَا ضَمَانٌ ، وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ ، فَإِنِ اسْتَقَرَّ الْمَالُ بِالْفَلْجِ جَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ وَالضَّمِينِ لِاسْتِقْرَارِهِ فِي الذِّمَّةِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ بِالْفَلْجِ كَانَ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ وَالضَّمِينِ مُعْتَبَرًا بِحُكْمِ الْعَقْدِ فِي اللُّزُومِ وَالْجَوَازِ ، فَإِنْ قِيلَ بِلُزُومِهِ كَالْإِجَارَةِ جَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ وَالضَّمِينِ كَالْأُجْرَةِ ، وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِهِ كَالْجِعَالَةِ ، فَفِي جَوَازِ أَخْذِ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : لَا يَجُوزُ أَخْذُهُمَا مِنْهُ لِأَنَّ الْعِوَضَ فِيهِ غَيْرُ لَازِمٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ فِيهِ لِأَنَّهُ مُفْضٍ إِلَى اللُّزُومِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ فِيهِ الضَّمِينُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ فِيهِ الرَّهْنُ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الضَّمَانِ أَوْسَعُ مِنْ حُكْمِ الرَّهْنِ ، كَمَا يَجُوزُ ضَمَانُ الدَّرَكِ ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ .

مَسْأَلَةٌ لَا يَجُوزُ السَّبَقُ إِلَّا مَعْلُومًا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : ( وَلَا يَجُوزُ السَّبَقُ إِلَّا مَعْلُومًا المال المخرج في عقد المناضلة كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْبُيُوعِ ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ يُرِيدُ بِالسَّبَقِ الْمَالَ الْمُخْرَجَ فِي الْعَقْدِ ، فَلَا يَصِحُّ مَعَهُ الْعَقْدُ حَتَّى يَكُونَ مَعْلُومًا مِنْ وَجْهَيْنِ ، إِمَّا بِالتَّعْيِينِ كَاسْتِبَاقِهِمَا عَلَى عَيْنٍ شَاهِدٍ ، وَإِمَّا بِالصِّفَةِ كَاسْتِبَاقِهِمَا عَلَى مَالٍ فِي الذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ ، فَإِنْ تَسَابَقَا عَلَى مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى مَا يَحْكُمُ بِهِ زَيْدٌ كَانَ بَاطِلًا لِلْجَهَالَةِ بِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ . وَلَوْ تَسَابَقَا وَتَنَاضَلَا عَلَى مِثْلِ مَا يُسَابِقُ أَوْ يُنَاضِلُ بِهِ زَيْدٌ وَعَمْرٌو . فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ عِلْمِهِمَا بِقَدْرِهِ صَحَّ ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ عِلْمِهِمَا بِقَدْرِهِ بَطَلَ ، وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا فِي ذِمَّةِ الْآخَرِ قَفِيزٌ مِنْ حِنْطَةٍ ، فَتَنَاضَلَا عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ الْقَفِيزُ مُسْتَحَقًّا مِنْ سَلَمٍ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ عَلَى السَّلَمِ قَبْلَ قَبْضِهِ لَا تَصِحُّ ، وَإِنْ كَانَ عَنْ غَصْبٍ صَحَّ ؛ لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِهِ تَصِحُّ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَرْضٍ ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي صِحَّةِ الْمُعَاوَضَةِ عَلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، وَلَوْ تَنَاضَلَا عَلَى دِينَارٍ إِلَّا دَانِقًا صَحَّ ، وَلَوْ تَنَاضَلَا عَلَى دِينَارٍ إِلَّا دِرْهَمًا لَمْ يَصِحَّ لَأَنْ يَكُونَ بِالِاسْتِثْنَاءِ مِنْ جِنْسِهِ مَعْلُومًا ، وَبِالِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ مَجْهُولًا ، وَلَوْ تَنَاضَلَا عَلَى دِينَارٍ مُعَجَّلٍ وَقَفِيزِ حِنْطَةٍ مُؤَجَّلٍ صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى عِوَضَيْنِ حَالٍّ وَمُؤَجَّلٍ ، وَلَوْ تَنَاضَلَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ النَّاضِلُ دِينَارًا وَيُعْطِيَ دِرْهَمًا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ النَّاضِلَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَأْخُذَ وَلَا يُعْطِيَ ، وَلَوْ تَنَاضَلَا عَلَى دِينَارٍ بَذَلَهُ أَحَدُهُمَا فَإِنْ نُضِلَ دَفَعَهُ ، وَلَمْ يَرْمِ أَبَدًا أَوْ شَهْرًا كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا لِأَنَّهُ قَدْ شَرَطَ فِيهِ الِامْتِنَاعَ ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ ، فَبَطَلَ وَإِذَا تَنَاضَلَا وَقَدْ فَسَدَ الْعَقْدُ بِمَا ذَكَرْنَا ، فَنَضَلَ أَحَدُهُمَا ، فَإِنْ كَانَ النَّاضِلُ بَاذِلَ الْمَالِ ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَنْضُولِ ، وَإِنْ كَانَ النَّاضِلُ غَيْرَ الْبَاذِلِ فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِأُجْرَةِ مِثْلِهِ عَلَى الْبَاذِلِ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : ( وَلَوِ اشْتَرَطَ أَنْ يُطْعِمَ أَصْحَابَهُ كَانَ فَاسِدًا الجعل في المناضلة ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَالَ السَّبَقِ يَمْلِكُهُ النَّاضِلُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُطْعِمَهُ أَصْحَابَهُ ، فَإِنْ شُرِطَ عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ أَنْ يُطْعِمَهُ أَصْحَابَهُ ، وَلَا يَمْلِكَهُ كَانَ الشَّرْطُ فَاسِدًا لِأَنَّهُ يُنَافِي مُوجَبَ الْعَقْدِ ، وَفِي فَسَادِ الْعَقْدِ بِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعَقْدَ يَفْسُدُ بِفَسَادِ الشَّرْطِ في المناضلة كَالْبَيْعِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ لَا يَفْسُدُ بِفَسَادِ هَذَا الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّ نَفْعَهُ لَا يَعُودُ عَلَى مُشْتَرِطٍ وَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : ( وَقَدْ رَأَيْتُ مِنَ الرُّمَاةِ مَنْ يَقُولُ صَاحِبُ السَّبَقِ أَوْلَى أَنْ يَبْدَأَ وَالْمُسَبِّقُ لَهُمَا يُبْدِئُ أَيَّهُمَا شَاءَ وَلَا يَجُوزُ فِي الْقِيَاسِ عِنْدِي إِلَّا أَنْ يَتَشَارَطَا ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا اشْتِرَاطُ الِابْتِدَاءِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِي الرَّمْيِ دُونَ السَّبَقِ ؛ لِأَنَّهُمَا فِي السَّبَقِ يَتَسَاوَيَانِ فِي الْجَرْيِ مَعًا لَا يَتَقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ . وَأَمَّا الرَّمْيُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَبْتَدِئَ بِهِ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ وَلَا يَرْمِيَانِ مَعًا لِاخْتِلَاطِ رَمْيِهِمَا ، وَلِمَا يُخَافُ مِنْ تَنَافُرِهِمَا ، فَإِنْ شَرَطَا فِي الْعَقْدِ الْبَادِئَ مِنْهُمَا بِالرَّمْيِ كَانَ أَحَقَّهُمَا بِالِابْتِدَاءِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُبْتَدِئُ مُخْرِجَ الْمَالِ أَوْ غَيْرَ مُخْرِجِهِ ، فَإِنْ أَرَادَ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ التَّقَدُّمَ أَنْ يَتَأَخَّرَ لَمْ يُمْنَعْ ؛ لِأَنَّ التَّقَدُّمَ حَقٌّ لَهُ ، وَلَيْسَ يَحِقُّ عَلَيْهِ وَإِنْ أُغْفِلَ فِي الْعَقْدِ اشْتِرَاطُ الْبَادِئِ بِالرَّمْيِ ، فَفِي الْعَقْدِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ : لِأَنَّ لِلْبِدَايَةِ تَأْثِيرًا فِي قُوَّةِ النَّفْسِ ، وَكَثْرَةِ الْإِصَابَةِ ، فَصَارَتْ مَقْصُودَةً ، فَبَطَلَ الْعَقْدُ بِإِغْفَالِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ ، وَإِنْ غُفِلَتْ فِيهِ الْبِدَايَةُ . وَقَدْ حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ بَعْضِ فُقَهَاءِ الرُّمَاةِ : لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الرَّمْيِ الَّذِي يُمْكِنُ تَلَافِيهِ بِمَا تَزُولُ التُّهْمَةُ فِيهِ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى عُرْفٍ أَوْ قُرْعَةٍ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ مُخْرِجُ الْمَالِ أَحَدَهُمَا كَانَ هُوَ الْبَادِئَ بِالرَّمْيِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ كَانَ بَاذِلُ الْمَالِ غَيْرَهُمَا كَانَ لِمُخْرِجِ الْمَالِ أَنْ يُقَدِّمَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ . وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ : أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا ، فَإِنْ كَانَا مُخْرِجَيْنِ لِلْمَالِ ، أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا لِتَكَافُئِهُمَا ، وَهَلْ يَدْخُلُ الْمُحَلِّلُ فِي قُرْعَتِهِمَا أَوْ يَتَأَخَّرُ عَنْهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَتَأَخَّرُ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْقُرْعَةِ إِذَا قِيلَ إِنَّ مُخْرِجَ الْمَالِ يَسْتَحِقُّ التَّقَدُّمَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَدْخُلُ فِي الْقُرْعَةِ وَلَا يَتَأَخَّرُ إِذَا قِيلَ إِنَّ مُخْرِجَ الْمَالِ لَا يَتَقَدَّمُ إِلَّا بِالْقُرْعَةِ .

فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ : ( وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الرُّمَاةِ أَنْ يَكُونَ الرَّامِي الثَّانِي يَتَقَدَّمُ عَلَى الْأَوَّلِ بِخُطْوَةٍ أَوْ خُطْوَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ ) . وَهَذَا مُعْتَبَرٌ بِعُرْفِ الرُّمَاةِ وَعَادَتِهِمْ ، فَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِيهِ يَفْعَلُونَهُ تَارَةً ، وَيُسْقِطُونَهُ أُخْرَى سَقَطَ اعْتِبَارُهُ وَوَجَبَ التَّسَاوِي فِيهِ ، وَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهُمْ جَارِيَةً لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهَا ، فَفِي لُزُومِ اعْتِبَارِهِ بَيْنَهُمَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُعْتَبَرُ لِوُجُوبِ تَكَافُئِهِمَا فِي الْعَقْدِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ : لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُصِيبًا بِتَقَدُّمِهِ لَا بِحِذْقِهِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِيهِمَا لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي الْعُقُودِ كَإِطْلَاقِ الْأَيْمَانِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَخْتَلِفْ عُرْفُهُمْ فِي عَدَدِ الْأَقْدَامِ حُمِلَا عَلَى الْعُرْفِ فِي عَدَدِهَا لِيَكُونَ الْقُرْبُ بِالْأَقْدَامِ فِي مُقَابَلَةِ قُوَّةِ النَّفْسِ بِالتَّقَدُّمِ . وَإِنِ اخْتَلَفَ الْعُرْفُ فِي عَدَدِ الْأَقْدَامِ بين المتناضلين اعْتُبِرَ أَقَلُّ الْعُرْفِ دُونَ أَكْثَرِهِ ، فَإِنْ تَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِمَا لَا يَسْتَحِقُّ فَلَمْ يُحْتَسَبْ لَهُ بِصَوَابِهِ ، وَاحْتُسِبَ عَلَيْهِ بِخَطَئِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : ( وَأيُّهُمَا بَدَأَ مِنْ وَجْهٍ بَدَأَ صَاحِبُهُ مِنَ الْآخَرِ ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : عَادَةُ الرُّمَاةِ فِي الْهَدَفِ مُخْتَلِفَةٌ عَلَى وَجْهَيْنِ ، وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ . فَمِنْهُمْ مَنْ يَرْمِي هَدَفَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ ، فَيَقِفُ أَحَدُ الْحِزْبَيْنِ فِي هَدَفٍ يَرْمِي مِنْهُ إِلَى الْهَدَفِ الْآخَرِ ، وَيَقِفُ الْحِزْبُ الْآخَرُ فِي الْهَدَفِ الْمُقَابِلِ ، فَيَرْمِي مِنْهُ إِلَى الْهَدَفِ الْآخَرِ ، وَهَذَا أَحَبُّهُمَا إِلَيْنَا مَعَ جَوَازِهِمَا - لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بَيْنَ الْهَدَفَيْنِ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ وَلِأَنَّهُ أَقْطَعُ لِلْمُتَنَافِرِ ، وَأَقَلُّ لِلتَّعَبِ ، فَإِنْ رَمَيَا إِلَى هَدَفَيْنِ كَانَ لِلْمُبْتَدِئِ بِالرَّمْيِ أَنْ يَقِفَ فِي أَيِّ الْهَدَفَيْنِ شَاءَ ، وَيَرْمِيَ الْآخَرَ وَيَقِفَ الثَّانِي فِي الْهَدَفِ الثَّانِي ، وَيَصِيرُ ذَلِكَ مُسْتَقِرًّا بَيْنَهُمَا إِلَى آخِرِ رَمْيِهِمَا ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ عَنْهُمَا أَنْ يَدْفَعَ الْآخَرَ عَنْ هَدَفِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْهَدَفُ وَاحِدًا وَقَفَ الْمُبْتَدِئُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ فِي مُقَابَلَتِهِ ، وَيَقِفُ الثَّانِي حَيْثُ شَاءَ مِنْ يَمِينِ الْأَوَّلِ أَوْ يَسَارِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَرْضَ إِلَّا أَنْ يَقِفَ فِي مَوْقِفِ الْأَوَّلِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهَا : لَهُ أَنْ يَقِفَ فِي مَوْقِفٍ لِيُسَاوِيَهُ فِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ إِذَا زَالَ عَنْ مَوْقِفِهِ بِشَيْءٍ حَسُنَ صَنِيعُهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : ( وَيَرْمِي الْبَادِئُ بِسَهْمٍ ثَمَّ الْآخَرُ بِسَهْمٍ حَتَّى يُنْفِدَا نَبْلَهُمَا ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا فِيمَا يَخْتَصُّ بِالرَّمْيِ دُونَ السَّبَقِ لِاخْتِصَاصِ الرَّمْيِ بِالْمُبْتَدِئِ ، فَاخْتَصَّ بِمَا يُوَالِيهِ مِنْ عَدَدِ مَا يَرْمِي ، فَإِنْ شَرَطَاهُ فِي الْعَقْدِ حَمَلَا فِيهِ عَلَى مُوجَبِ الشَّرْطِ ، وَكَانَ الشَّرْطُ أَحَقَّ مِنَ الْعُرْفِ ، فَإِنْ شَرَطَا أَنْ يَرْمِيَا سَهْمًا وَسَهْمًا ، أَوْ شَرَطَا أَنْ يَرْمِيَا خَمْسًا وَخَمْسًا ، أَوْ شَرَطَا أَنْ يُوَاصِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَمْيَ جَمِيعِ رَشْقِهِ ، رَمَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَدَدَ مَا أَوْجَبَ الشَّرْطُ ، فَإِنْ زَادَ عَلَيْهِ لَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ مُصِيبًا وَلَا مُخْطِئًا لِخُرُوجِهِ عَنْ مُوجَبِ الْعَقْدِ ، وَإِنْ أُغْفِلَ وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِي الْعَقْدِ لَمْ يَبْطُلِ الْعَقْدُ بِإِغْفَالِهِ لِإِحْكَامِهِ التَّكَافُؤَ فِيهِ وَاعْتُبِرَ فِيهِمَا عُرْفُ الرُّمَاةِ ؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي بَعْدَ الشَّرْطِ مَجْرَى الشَّرْطِ ، فَإِنْ كَانَ عُرْفُ الرُّمَاةِ جَارِيًا حَدَّ الثَّلَاثَةِ الْمُجَوَّزَةِ فِي الشَّرْطِ صَارَ كَالْمُسْتَحَقِّ بِالشَّرْطِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلرُّمَاةِ عُرْفٌ لِاخْتِلَافِهِ بَيْنَهُمْ رَمَيَا سَهْمًا وَسَهْمًا ، وَلَمْ يَزِدْ كُلُّ

وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى سَهْمٍ وَاحِدٍ حَتَّى يَسْتَنْفِدَا جَمِيعَ الرَّشْقِ ؛ لِأَنَّ قُرْبَ الْمُعَاوَدَةِ إِلَى الرَّمْيِ أَحْفَظُ لِحُسْنِ الصَّنِيعِ . فَإِنْ رَمَى أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِنْ سَهْمٍ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ هَذَا التَّرْتِيبِ كَانَ مُحْتَسَبًا بِهِ مُصِيبًا وَمُخْطِئًا ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ لَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ مُصِيبًا وَلَا مُخْطِئًا : لِأَنَّهُ قَبْلَ الِاسْتِقْرَارِ مُجَوَّزٌ وَبَعْدَ الِاسْتِقْرَارِ مَمْنُوعٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : ( وَإِذَا غَرَّقَ أَحَدُهُمَا وَخَرَجَ السَّهْمُ مِنْ يَدَيْهِ فَلَمْ يَبْلُغِ الْغَرَضَ كَانَ لَهُ أَنْ يَعُودَ بِهِ مِنْ قِبَلِ الْعَارِضِ ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِغْرَاقُ السَّهْمِ من أحد المتناضلين : فَهُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي مَدِّ الْقَوْسِ لِفَضْلِ قُوَّتِهِ حَتَّى يَسْتَغْرِقَ السَّهْمَ ، فَيَخْرُجَ مِنْ جَانِبِ الْوَتَرِ الْمَعْهُودِ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ ، فَإِنَّ مِنْ أَجْنَاسِ الْقِسِيِّ وَالسِّهَامِ مَا يَكُونُ مَخْرَجُ السَّهْمِ مِنْهَا عَنْ يَمِينِ الرَّامِي جَارِيًا عَلَى إِبْهَامِهِ ، فَيَكُونُ إِغْرَاقُهُ أَنْ يَخْرُجَ السَّهْمُ بِاسْتِيفَاءِ الْمَدِّ إِلَى يَسَارِهِ جَارِيًا عَلَى سَبَّابَتِهِ . وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مَخْرَجُهُ بِالضِّدِّ عَلَى يَسَارِ الرَّامِي جَارِيًا عَلَى سَبَّابَتِهِ . فَيَكُونُ إِغْرَاقُهُ أَنْ يَخْرُجَ عَلَى يَمِينِهِ جَارِيًا عَلَى إِبْهَامِهِ ، فَإِذَا أَغْرَقَ السَّهْمَ قَالَ الشَّافِعِيُّ : ( لَمْ يَكُنْ إِغْرَاقُهُ مِنْ سُوءِ الرَّمْيِ ، وَإِنَّمَا هُوَ الْعَارِضُ فَلَا يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ إِنْ أَخْطَأَ بِهِ ) وَهُوَ عِنْدِي نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَمُدَّ الْقَوْسَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ حَتَّى زَادَ فِيهِ ، فَأَغْرَقَ أَوْ نَقَصَ فَقَصَّرَ كَانَ بِسُوءِ الرَّمْيِ أَشْبَهَ . فَإِذَا أَخْطَأَ بِالسَّهْمِ الْمُغَرَّقِ الرامي لَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيْهِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَإِنْ أَصَابَ احْتُسِبَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ بِهِ مَعَ الْخَلَلِ أَدُلُّ عَلَى حِذْقِ الرَّامِي فِي الْإِصَابَةِ مَعَ الِاسْتِقَامَةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : ( وَكَذَلِكَ لَوِ انْقَطَعَ وَتَرُهُ أَوِ انْكَسَرَتْ قَوْسُهُ فَلَمْ يَبْلُغِ الْغَرَضَ الرامي ، أَوْ عَرَضَ دُونَهُ دَابَّةٌ أَوْ إِنْسَانٌ فَأَصَابَهُ ، أَوْ عَرَضَ لَهُ فِي يَدَيْهِ مَا لَا يَمُرُّ السَّهْمُ مَعَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَعُودَ ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا انْقَطَعَ وَتَرُهُ ، أَوِ انْكَسَرَ قَوْسُهُ ، فَقَصَرَ وَقْعُ السَّهْمِ ، وَأَخْطَأَ لَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيْهِ الرامي ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْطِئْ لِسُوءِ رَمْيِهِ ، وَلَكِنْ لِنَقْصِ آلَتِهِ ، وَلَوْ أَصَابَ بِهِ كَانَ مَحْسُوبًا مِنْ إِصَابَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى حِذْقِهِ ، وَهَكَذَا لَوْ عَرَضَ دُونَ الْهَدَفِ عَارِضٌ مِنْ بَهِيمَةٍ أَوْ إِنْسَانٍ وَقَعَ السَّهْمُ فِيهِ ، وَمَنَعَ مِنْ وُصُولِهِ إِلَى الْهَدَفِ لَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيْهِ ، وَأُعِيدَ السَّهْمُ إِلَيْهِ ، فَإِنْ خَرَقَ السَّهْمُ الْحَائِلَ وَنَفَذَ فِيهِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى الْهَدَفِ ، فَأَصَابَ كَانَ مَحْسُوبًا مِنْ إِصَابَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِصَابَةِ مِعِ هَذَا الْعَارِضِ أَشَدُّ وَأَرْمَى وَيُسَمَّى هَذَا السَّهْمُ خَارِقًا ، وَقَدْ كَانَ الْكُسَعِيُّ فِي الْعَرَبِ رَامِيًا ، فَخَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ ، فَرَأَى ظَبْيًا فَرَمَاهُ فَأَنْفَذَهُ وَخَرَجَ السَّهْمُ مِنْهُ ، فَأَصَابَ حَجَرًا فَقَدَحَ مِنْهُ نَارًا فَرَأَى ضَوْءَ النَّارِ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ

فَظَنَّ أَنَّهُ أَخْطَأَ الظَّبْيَ فَقَالَ : مِثْلِي يُخْطِئُ ؟ ! . . . فَكَسَرَ قَوْسَهُ ، وَأَخْرَجَ خِنْجَرَهُ ، وَقَطَعَ إِبْهَامَهُ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَرَأَى الظَّبْيَ صَرِيعًا قَدْ نَفَذَ السَّهْمُ فِيهِ نَدِمَ ، فَضَرَبَتْ بِهِ الْعَرَبُ مَثَلًا ، فَقَالَ الشَّاعِرُ : نَدِمْتُ نَدَامَةَ الْكُسَعِيِّ لَمَّا رَأَتْ عَيْنَاهُ مَا عَمِلَتْ يَدَاهُ وَهَكَذَا لَوْ عَرَضَ لِلرَّامِي عِلَّةٌ فِي يَدِهِ أَوْ أَخَذَتْهُ رِيحٌ فِي يَدَيْهِ ضَعُفَ بِهَا عَنْ مَدِّ قَوْسِهِ لَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيْهِ إِنْ قَصَّرَ أَوْ أَخْطَأَ : لِأَنَّهُ لِعَارِضٍ مَنَعَ وَلَيْسَ مِنْ سُوءِ رَمْيٍ وَقِلَّةِ حِذْقٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : ( فَأَمَّا إِنْ جَازَ السَّهْمُ أَوْ أَجَازَ مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ ، فَهَذَا سُوءُ رَمْيٍ لَيْسَ بِعَارِضٍ غُلِبَ عَلَيْهِ ، فَلَا يُرَدُّ إِلَيْهِ ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : يُقَالُ : جَازَ السَّهْمُ إِذَا مَرَّ فِي إِحْدَى جَانِبَيِ الْهَدَفِ ، وَيُسَمَّى : خَاصِرٌ وَجَمْعُهُ خَوَاصِرُ : لِأَنَّهُ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخَاصِرَةِ ؛ لِأَنَّهَا فِي جَانِبَيِ الْإِنْسَانِ ، وَيُقَالُ : أَجَازَ السَّهْمُ إِذَا سَقَطَ وَرَاءَ الْهَدَفِ . فَإِذَا أَجَازَ السَّهْمُ ، وَوَقَعَ فِي جَانِبِ الْهَدَفِ ، أَوْ أَجَازَ وَوَقَعَ وَرَاءَ الْهَدَفِ كَانَ مَحْسُوبًا مِنْهُ خَطَؤُهُ : لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى سُوءِ رَمْيِهِ ، وَلَيْسَ بِمَنْسُوبٍ إِلَى عَارِضٍ فِي بَدَنِهِ أَوِ الْيَدِ . وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : الْجَائِزُ أَنْ يَقَعَ فِي الْهَدَفِ عَنْ أَحَدِ جَانِبَيِ الشَّنِّ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتِ الْإِصَابَةُ مَشْرُوطَةً فِي الشَّنِّ كَانَ الْجَائِزُ مُخْطِئًا ، وَإِنْ كَانَتْ مَشْرُوطَةً فِي الْهَدَفِ كَانَ الْجَائِزُ مُصِيبًا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَا أَنْ تَكُونَ إِصَابَةُ سِهَامِهِمَا جَائِزَةً ، فَيُحْتَسَبَ بِالْجَائِزِ وَلَا يُحْتَسَبُ بِغَيْرِ الْجَائِزِ . وَيُقَالُ : " سَهْمٌ " طَامِحٌ ، وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الطَّامِحَ هُوَ الَّذِي قَارَبَ الْإِصَابَةَ ، وَلَمْ يُصِبْ ، وَيَكُونُ مُخْطِئًا . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ الْوَاقِعُ بَيْنَ الشَّنِّ وَرَأْسِ الْهَدَفِ ، فَيَكُونُ مُخْطِئًا إِنْ شُرِطَ الْإِصَابَةُ فِي الشَّنِّ ، وَمُصِيبًا إِنْ شُرِطَ فِي الْهَدَفِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الْإِصَابَةِ فَلَا يُحْتَسَبُ لَهُ مُصِيبًا إِلَّا بِسَهْمٍ طَامِحٍ كَالْجَائِزِ . وَيُقَالُ : سَهْمٌ " عَاصِدٌ " ، وَهُوَ الْوَاقِعُ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ ، فَيَكُونُ كَالْجَائِزِ فِي تَأْوِيلِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَيُقَالُ : سَهْمٌ ( طَائِشٌ ) وَهُوَ الَّذِي يُجَاوِزُ الْهَدَفَ كَالْجَائِزِ إِلَّا أَنَّ الْجَائِزَ مَا عُرِفَ مَكَانُ وُقُوعِهِ ، وَالطَّائِشُ مَا لَمْ يُعْرَفْ مَكَانُ وُقُوعِهِ ، وَالطَّائِشُ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ فِي الْخَطَأِ كَالْجَائِزِ .

وَيُقَالُ : سَهْمٌ ( غَائِرٌ ) وَهُوَ الْمُصِيبُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ رَامِيهِ ، فَلَا يُحْتَسَبُ بِهِ لِوَاحِدٍ مِنَ الرَّامِيَيْنِ لِلْجَهْلِ بِهِ . وَيُقَالُ : سَهْمٌ ( خَاطِفٌ ) وَهُوَ الْمُرْتَفِعُ فِي الْهَوَاءِ ثُمَّ يُخْطَفُ نَازِلًا ، فَإِنْ أَخْطَأَ بِهِ كَانَ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ سُوءِ رَمْيِهِ ، وَإِنْ أَصَابَ بِهِ ، فَفِي الِاحْتِسَابِ بِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُحْتَسَبُ بِهِ مِنْ إِصَابَتِهِ لِحُصُولِهِ بِرَمْيِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُحْتَسَبُ بِهِ مِنَ الْإِصَابَةِ : لِأَنَّ تَأْثِيرَ الرَّمْيِ فِي إِيقَاعِ السَّهْمِ ، فَأَمَّا سُقُوطُهُ ، فَلِثِقَلِهِ ، فَصَارَ مُصِيبًا بِغَيْرِ فِعْلِهِ ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يُحْتَسَبُ مِنْ خَطَئِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُحْتَسَبُ بِهِ مِنْ خَطَئِهِ : لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُصِيبًا كَانَ مُخْطِئًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُحْتَسَبُ بِهِ مِنَ الْخَطَأِ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَخْطَأَ ، وَأَسْوَأُ أَحْوَالِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُصِيبًا أَنْ لَا يَكُونَ مُخْطِئًا . وَالصَّحِيحُ عِنْدِي مِنْ ذَلِكَ : أَنْ يَنْظُرَ نُزُولَ السَّهْمِ خَطَأً بَعْدَ ارْتِفَاعِهِ ، فَإِنِ انْحَطَّ فَاتِرًا لِحِدَّةٍ لَا يَقْطَعُ مَسَافَةً احْتُسِبَ عَلَيْهِ خَاطِئًا ، وَإِنْ نَزَلَ فِي بَقِيَّةِ حِدَّتِهِ جَارِيًا فِي قَطْعِ مَسَافَتِهِ احْتُسِبَ لَهُ صَائِبًا ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ بِالْفُتُورِ مُنْقَطِعٌ وَبِالْحِدَّةِ مُنْدَفِعٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا كَانَ رَمْيُهُمَا مُبَادَرَةً فَبَلَغَ تِسْعَةَ عَشَرَ مِنْ عِشْرِينَ رَمَى صَاحِبُهُ بِالسَّهْمِ الَّذِي يُرَاسِلُهُ ثَمَّ رَمَى الْبَادِئُ فِإِنْ أَصَابَ سَهْمُهُ ذَلَكَ فَلَجَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَرْمِ الْآخَرُ بِالسَّهْمِ : لِأَنَّ الْمُبَادَرَةَ أَنْ يَفُوتَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَلَيْسَ كَالْمُحَاطَّةِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : هَذَا عِنْدِي لَا يَنْضُلُهُ حَتَّى يَرْمِيَ صَاحِبُهُ بِمِثْلِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّمْيَ ضَرْبَانِ : مُحَاطَّةٌ ، وَمُبَادَرَةٌ . وَقَدْ مَضَتِ الْمُحَاطَّةُ ، وَهَذِهِ الْمُبَادَرَةُ رمي ، وَصُورَتُهَا : أَنْ يَتَنَاضَلَا عَلَى إِصَابَةِ عَشَرَةٍ مِنْ ثَلَاثِينَ مُبَادَرَةً ، فَيَكُونُ الرَّشْقُ ثَلَاثِينَ سَهْمًا ، وَالْإِصَابَةُ الْمَشْرُوطَةُ مِنْهَا عَشَرَةُ أَسْهُمٍ ، فَأَيُّهُمَا بَدَرَ إِلَى إِصَابَتِهَا فِي أَقَلِّ الْعَدَدَيْنِ فِيهِ فَضَلَ ، وَسَقَطَ رَمْيُ الرَّشْقِ وَإِنْ تَكَافَآ فِي الْإِصَابَةِ مِنْ عَدَدٍ مُتَسَاوٍ سَقَطَ رَمْيُ الثَّانِي وَلَيْسَ مِنْهُمَا فَاضِلٌ . وَبَيَانُهُ أَنْ يُصِيبَ أَحَدُهُمَا عَشَرَةً مِنْ عِشْرِينَ ، وَيُصِيبَ الْآخَرُ تِسْعَةً مِنْ عِشْرِينَ ، فَيَكُونُ الْأَوَّلُ نَاضِلًا ؛ لِأَنَّهُ اسْتَكْمَلَ إِصَابَةَ عَشَرَةٍ مِنْ عِشْرِينَ ، وَقَدْ رَمَاهَا الثَّانِي فَنَقَصَ مِنْهَا ، وَلَا يَرْمِيَانِ بَقِيَّةَ الرَّشْقِ لِحُصُولِ النَّضْلِ ، فَلَوْ أَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَشَرَةً مِنْ عِشْرِينَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا نَاضِلٌ وَلَا مَنْضُولٌ ، وَسَقَطَ رَمْيُ الْبَاقِي مِنَ الرَّشْقِ ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْإِصَابَةِ فِيهِ مُقَيِّدَةٌ لِنَضْلٍ ، وَلَوْ أَصَابَ أَحَدُهُمَا خَمْسَةً مِنْ عِشْرِينَ وَأَصَابَ الْآخَرُ تِسْعَةً مِنْ عِشْرِينَ ، فَالنِّضَالُ بِحَالِهِ ؛ لِأَنَّ عَدَدَ الْإِصَابَةِ لَمْ يُسْتَوْفَ فَيَرْمِيَانِ مِنْ بَقِيَّةِ الرَّشْقِ مَا

يَكْمُلُ بِهِ إِصَابَةُ أَحَدِهِمَا عَشَرَةً ، فَإِنْ رَمَى الْأَوَّلُ سَهْمًا فَأَصَابَ فَقَدْ فَلَجَ عَلَى الثَّانِي ، وَنَضَلَ وَسَقَطَ رَمْيُ الثَّانِي ، وَلَوْ رَمَى الْأَوَّلُ خَمْسَةً ، فَأَخْطَأَ فِي جَمِيعِهَا ، وَرَمَى الثَّانِي خَمْسَةً فَأَصَابَ فِي جَمِيعِهَا صَارَ الثَّانِي نَاضِلًا وَسَقَطَ رَمْيُ الثَّانِي فِي الرَّشْقِ : لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَصَابَ تِسْعَةً مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَأَصَابَ الثَّانِي عَشَرَةً مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ، ثُمَّ عَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةِ . فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَصُورَتُهَا أَنْ يَتَنَاضَلَا عَلَى إِصَابَةِ عَشَرَةٍ مِنْ ثَلَاثِينَ مُبَادَرَةً ، فَيُصِيبُ الْبَادِئُ مِنْهُمَا تِسْعَةً مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ ، وَيُصِيبُ الْآخَرُ الْمُبْدَأُ ثَمَانِيَةً مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ ، ثُمَّ رَمَى الْبَادِئُ سَهْمًا آخَرَ يَسْتَكْمِلُ بِهِ الْعِشْرِينَ فَيُصِيبُ ، فَيَصِيرُ بِهِ نَاضِلًا ، وَيُمْنَعُ الْآخَرُ الْمُبْدَأُ مِنْ رَمْيِ السَّهْمِ الْآخَرِ الَّذِي رَمَاهُ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِهِ نِضَالًا وَلَا مُسَاوَاةً : لِأَنَّ الْبَاقِيَ لَهُ مِنَ الْعِشْرِينَ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَعَلَيْهِ إِصَابَتَانِ ، وَلَوْ رَمَى فَأَصَابَهُ بَقِيَتْ عَلَيْهِ إِصَابَةٌ يَكُونُ بِهَا مَنْضُولًا ، فَلَمْ يَكُنْ لِرَمْيِهِ مَعْنًى يَسْتَحِقُّهُ بِالْعَقْدِ ، فَلِذَلِكَ مُنِعَ مِنْهُ ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ أَصَابَ تِسْعَةً مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ ثُمَّ رَمَى الْبَادِئُ وَأَصَابَ ، كَانَ لِلْمُبْدَأُ أَنْ يَرْمِيَ لِجَوَازِ أَنْ يُصِيبَ فَيُكَافَئَ . فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَظَنَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ مَنَعَ الْمُبْدَأَ أَنْ يَرْمِيَ بِالسَّهْمِ الْبَاقِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ ، بَلْ أَرَادَ مَنْعَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِلتَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْحَوَابُ فَهُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الرَّمْيِ ، وَهِمَ فِيهِ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ ، فَجَعَلَهُ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ السَّهْمِ ، وَسَمَّاهُ حَوَابِيَ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِيهِ ، وَفَسَّرَهُ بِأَنَّهُ السَّهْمُ الْوَاقِعُ دُونَ الْهَدَفِ ثُمَّ يَحْبُو إِلَيْهِ حَتَّى يَتَّصِلَ بِهِ مَأْخُوذٌ مِنْ حَبْوِ الصَّبِيِّ ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنَ الرَّمْيِ الْمُزْدَلِفِ يَفْتَرِقَانِ فِي الِاسْمِ لِأَنَّ الْمُزْدَلِفَ أَحَدُّ وَالْحَابِي أَضْعَفُ ، وَيَسْتَوِيَانِ فِي الْحُكْمِ عَلَى مَا سَيَأْتِي ، وَالَّذِي قَالَهُ سَائِرُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْحَوَابَ نَوْعٌ مِنَ الرَّمْيِ وَأَنَّ أَنْوَاعَ الرَّمْيِ ثَلَاثَةٌ : الْمَحَاطَّةُ - وَالْمُبَادَرَةُ - وَالْحَوَابُ . وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمُحَاطَّةَ وَالْمُبَادَرَةَ . فَأَمَّا الْحَوَابُ فَهُوَ أَنْ يُحْتَسَبَ بِالْإِصَابَةِ فِي الشَّنِّ وَالْهَدَفِ وَيُسْقِطَ الْأَقْرَبُ إِلَى الشَّنِّ مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنَ الشَّنِّ ، وَإِنْ أَصَابَ أَحَدُهُمَا الْهَدَفَ عَلَى شِبْرٍ مِنَ الشَّنِّ فَاحْتُسِبَ لَهُ ، ثُمَّ أَصَابَ الْآخَرُ الْهَدَفَ عَلَى فَتْرٍ مِنَ الشَّنِّ احْتُسِبَ لَهُ وَأُسْقِطَ إِصَابَةُ الشَّنِّ لِأَنَّهَا أَبْعَدُ ، وَلَوْ أَصَابَ أَحَدُهُمَا خَارِجَ الشَّنِّ وَاحْتُسِبَ بِهِ ، وَأَصَابَ الْآخَرُ فِي الشَّنِّ احْتُسِبَ بِهِ ، وَأُسْقِطَ إِصَابَةُ خَارِجِ الشَّنِّ . وَلَوْ أَصَابَ أَحَدُهُمَا الشَّنَّ فَاحْتُسِبَ بِهِ ، وَأَصَابَ الْآخَرُ الدَّارَةَ الَّتِي فِي الشَّنِّ احْتُسِبَ بِهِ وَأُسْقِطَ إِصَابَةُ الشَّنِّ ، وَلَوْ أَصَابَ أَحَدُهُمَا الدَّارَةَ الَّتِي فِي الشَّنِّ فَاحْتُسِبَ بِهِ وَأَصَابَ الْآخَرُ الْعَظْمَ الَّذِي فِي دَارَةِ الشَّنِّ احْتُسِبَ وَأُسْقِطَ إِصَابَةُ الدَّارَةِ فَيَكُونُ كُلُّ

قَرِيبٍ مُسْقِطًا لِمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ ، فَهَذَا نَوْعٌ مِنَ الرَّمْيِ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ ، وَذَكَرَ مَذَاهِبَ الرُّمَاةِ فِيهِ ، وَفَرَّعَ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُزَنِيُّ ، إِمَّا لِاخْتِصَارِهِ ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُوَافِقٍ لِرَأْيِهِ لِضِيقِهِ وَكَثْرَةِ خَطَرِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ الْإِصَابَةَ بَعْدَ إِثْبَاتِهَا ، وَالْمَذْهَبُ جَوَازُهُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ نَوْعٌ مَعْهُودٌ فِي الرَّمْيِ ، فَأَشْبَهَ الْمُحَاطَّةَ وَالْمُبَادَرَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَبْعَثُ عَلَى مُعَاطَاةِ الْحِذْقِ فَصَحَّ . وَذَلِكَ فِي جَوَازِ النِّضَالِ عَلَى إِصَابَةِ الْحَوَابِ ، وَكَانَ عَقْدُهُمَا عَلَى إِصَابَةِ خَمْسَةٍ مِنْ عِشْرِينَ ، فَلَهُمَا إِذَا تَنَاضَلَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقْصُرَا عَلَى عَدَدِ الْإِصَابَةِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَسْتَوْفِيَا عَدَدَ الْإِصَابَةِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَسْتَوْفِيَهَا أَحَدُهُمَا ، وَيَقْصُرَ عَنْهَا الْآخَرُ . فَأَمَّا الْحَالُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَقْصُرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ عَدَدِ الْإِصَابَةِ فَيُصِيبَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ ، فَقَدِ ارْتَفَعَ حُكْمُ الْعَقْدِ بِنُقْصَانِ الْإِصَابَةِ مِنَ الْعَدَدِ الْمَشْرُوطِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا نَاضِلٌ وَلَا مَنْضُولٌ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالْقُرْبِ وَالْبُعْدِ مَعَ نُقْصَانِ الْعَدَدِ . وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ : وَهِيَ أَنْ يَسْتَوْفِيَا مَعًا عَدَدَ الْإِصَابَةِ فَيُصِيبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةً فَصَاعِدًا ، فَيُعْتَبَرَ حِينَئِذٍ حَالُ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ ، فَإِنَّهُمَا لَا يَخْلُوَانِ فِيهِمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ الْإِصَابَاتُ فِي الْهَدَفِ ، وَقَدْ تَسَاوَتْ فِي الْقُرْبِ مِنَ الشَّنِّ ، وَلَيْسَتْ بَعْضُهَا بِأَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنْ بَعْضٍ ، فَقَدْ تَكَافَآ وَلَيْسَ فِيهِمَا نَاضِلٌ وَلَا مَنْضُولٌ ، وَهَكَذَا لَوْ تَقَدَّمَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمٌ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الشَّنِّ مِنْ بَاقِي سِهَامِهِ ، وَتَسَاوَى السَّهْمَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ فِي الْقُرْبِ مِنَ الشَّنِّ كَانَا سَوَاءً لَا نَاضَلَ فِيهِمَا وَلَا مَنْضُولَ ، فَإِنْ تَقَدَّمَ لِأَحَدِهِمَا سَهْمٌ وَلِلْآخَرِ سَهْمَانِ وَتَسَاوَتِ السِّهَامُ الثَّلَاثَةُ فِي قُرْبِهَا مِنَ الشَّنِّ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُقْتَرِبَ بِسَهْمَيْنِ نَاضِلٌ لِلْمُقْتَرِبِ بِسَهْمٍ ، لِفَضْلِهِ فِي الْعَدَدِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمَا سَوَاءٌ لَا نَاضَلَ فِيهِمَا وَلَا مَنْضُولَ ؛ لِأَنَّ نِضَالَ الْحَوَابِ مَوْضُوعٌ عَلَى الْقُرْبِ دُونَ زِيَادَةِ الْعَدَدِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ سِهَامُ أَحَدِهِمَا أَقْرَبَ إِلَى الشَّنِّ مِنْ سِهَامِ الْآخَرِ ، فَأَقْرَبُهُمَا إِلَى الشَّنِّ هُوَ النَّاضِلُ ، وَأَبْعَدُهُمَا مِنَ الشَّنِّ هُوَ الْمَنْضُولُ . وَهَكَذَا لَوْ تَقَدَّمَ

لِأَحَدِهِمَا سَهْمٌ وَاحِدٌ ، فَكَانَ أَقْرَبَ إِلَى الشَّنِّ مِنْ جَمِيعِ سِهَامِ الْآخَرِ أُسْقِطَتْ بِهِ سِهَامُ صَاحِبِهِ ، وَلَمْ يَسْقُطْ بِهِ سِهَامُ نَفْسِهِ ، وَكَانَ هُوَ النَّاضِلَ بِسَهْمِهِ الْأَقْرَبِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ سِهَامُ أَحَدِهِمَا فِي الْهَدَفِ ، وَسِهَامُ الْآخَرِ فِي الشَّنِّ ، فَيَكُونُ الْمُصِيبُ فِي الشَّنِّ هُوَ النَّاضِلَ ، وَالْمُصِيبُ فِي الْهَدَفِ مَنْضُولًا . وَهَكَذَا لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا سَهْمٌ وَاحِدٌ فِي الشَّنِّ وَجَمِيعُ سِهَامِ الْآخَرِ خَارِجَ الشَّنِّ كَانَ الْمُصِيبُ فِي الشَّنِّ هُوَ النَّاضِلَ بِسَهْمِهِ الْوَاحِدِ وَقَدْ أُسْقِطَ بِهِ سِهَامُ صَاحِبِهِ ، وَلَمْ يُسْقِطْ لَهُ سِهَامَ نَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَبْعَدَ إِلَى الشَّنِّ مِنْ سِهَامِ صَاحِبِهِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ تَكُونَ سِهَامُهُمَا جَمِيعًا صَائِبَةً فِي الشَّنِّ لَكِنَّ سِهَامَ أَحَدِهِمَا أَوْ بَعْضِهِمَا فِي الشَّنِّ الدَّارَةِ ، وَسِهَامَ الْآخَرِ خَارِجَ الدَّارَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ جَمِيعُهَا فِي الشَّنِّ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَقَدْ حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ بَعْضِ الرُّمَاةِ أَنَّ الْمُصِيبَ فِي الدَّارَةِ نَاضِلٌ ، وَالْمُصِيبَ خَارِجَ الدَّارَةِ مَنْضُولٌ ؛ لِأَنَّهُ قُطْبُ الْإِصَابَةَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ فِي اخْتِيَارِهِ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ ، وَلَيْسَ مِنْهُمَا نَاضِلٌ وَلَا مَنْضُولٌ ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الشَّنِّ مَحَلُّ الْإِصَابَةِ . وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ : وَهُوَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ أَحَدُهُمَا إِصَابَةَ الْخَمْسِ وَيُقَصِّرَ الْآخَرُ عَنْهُمَا ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهَمَا : أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْفِي الْإِصَابَةِ أَقْرَبَ سِهَامًا إِلَى الشَّنِّ أَوْ مُسَاوِيًا صَاحِبَهُ ، فَيَكُونُ نَاضِلًا ، وَالْمُقَصِّرُ مَنْضُولًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمُقَصِّرُ فِي الْإِصَابَةِ أَقْرَبَ سِهَامًا مِنَ الْمُسْتَوْفِي لَهَا ، فَلَيْسَ فِيهَا نَاضِلٌ وَلَا مَنْضُولٌ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفِيَ قَدْ سَقَطَتْ سِهَامُهُ لِبُعْدِهَا ، وَالْمُقَصِّرَ قَدْ سَقَطَتْ سِهَامُهُ بِنُقْصَانِهَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَإِذَا تَشَارَطَا الْخَوَاسِقَ لَمْ يُحْسَبْ خَاسِقًا حَتَّى يَخْزِقَ الْجِلْدَ بِنَصْلِهِ ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنْوَاعَ الرَّمْيِ مِنْ قَارَعٍ ، وَخَازِقٍ ، وَخَاسِقٍ ، وَأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى جَمِيعِهَا اسْمُ الْخَوَاصِلِ . فَالْقَارِعُ مَا أَصَابَ الشَّنَّ وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ ، وَالْخَارِقُ مَا أَثَّرَ فِيهِ وَلَمْ يَثْبُتْ ، وَالْخَاسِقُ مَا ثَقَبَ الشَّنَّ وَثَبَتَ فِيهِ . وَيَحْمِلَانِ فِي الْإِصَابَةِ عَلَى مَا شَرَطَاهَا فَإِذَا شَرَطَا فِيهِمَا الْخَوَاسِقَ ، فَإِذَا خَرَقَ الشَّنَّ

وَثَبَتَ فِيهِ كَانَ خَاسِقًا مَحْسُوبًا ، وَسَوَاءٌ طَالَ ثُبُوتُهُ أَوْ قَصُرَ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِوُجُودِ الثُّبُوتِ لَا بِدَوَامِهِ ، وَإِنْ ثَقَبَ وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ ، فَالْمَذْهَبُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ أَنَّهُ غَيْرُ مَحْسُوبٍ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْخَسْقِ ، لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ صِفَتِهِ فِيهِ ، وَخَرَّجَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِيهِ قَوْلًا آخَرَ : أَنَّهُ مَحْسُوبٌ لَهُ ؛ لِأَنَّ سُقُوطَهُ بَعْدَ الثَّقْبِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِضَعْفِ الشَّنِّ أَوْ لِسَعَةِ الثَّقْبِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَحْسُوبًا لِوُجُودِ الثَّقْبِ الَّذِي هُوَ أَلْزَمُ الصِّفَتَيْنِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ يُصَيِّرُ الْخَاسِقَ مُسَاوِيًا لِلْخَازِقِ وَاخْتِلَافُ اسْمِهِمَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ حُكْمِهِمَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ تَشَارَطَا الْمُصِيبَ فَمَنْ أَصَابَ الشَّنَّ وَلَمْ يَخْرِقْهُ حُسِبَ لَهُ لِأَنَّهُ مُصِيبٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا تَشَارَطَا الْإِصَابَةَ احْتُسِبَ كُلُّ مُصِيبٍ مِنْ قَارِعٍ ، وَخَازِقٍ ، وَخَاسِقٍ المتناضلان في الرمي ؛ لِأَنَّ جَمِيعَهَا تُصِيبُ ، وَهَكَذَا لَوْ تَشَارَطَا الْإِصَابَةَ قَرْعًا احْتُسِبَ بِالْقَارِعِ وَبِالْخَازِقِ وَبِالْخَاسِقِ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى الْقَرْعِ ، وَلَوْ تَشَارَطَا الْخَوَاصَلَ احْتُسِبَ بِكُلِّ مُصِيبٍ ؛ لِأَنَّ إِصَابَةَ الْخَوَاصِلِ تَشْتَمِلُ عَلَى كُلِّ مُصِيبٍ مِنْ قَارِعٍ ، وَخَارِقٍ ، وَخَاسِقٍ . فَأَمَّا الْخَوَاصِلُ فَهُوَ مَا أَصَابَ جَانِبَ الشَّنِّ ، فَإِنْ شَرَطَاهُ فِي الرَّمْيِ لَمْ يُحْتَسَبِ الْآنَ ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطَاهُ احْتُسِبَ لَهُ مَعَ كُلِّ مُصِيبٍ فِي الشَّنِّ إِذَا كَانَتِ الْإِصَابَةُ مَشْرُوطَةً فِي الشَّنِّ .

فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاضَلَا عَلَى أَنْ تَكُونَ إِصَابَةُ أَحَدِهِمَا قَرْعًا ، وَإِصَابَةُ الْآخَرِ خَسْقًا حَتَّى يَتَكَافَآ فِي الْإِصَابَةِ قَرْعًا أَوْ خَسْقًا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ مَعْرِفَةُ أَحْذَقِهِمَا بِالرَّمْيِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاضَلَا عَلَى أَنْ تَكُونَ إِصَابَةُ أَحَدِهِمَا خَمْسَةً مِنْ عِشْرِينَ ، وَإِصَابَةُ الْآخَرِ عَشَرَةً مِنْ عِشْرِينَ ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنَاضُلِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ بِهِ الْأَحْذَقُ .

فَصْلٌ : وَلَوْ تَشَارَطَا الْإِصَابَةَ قَرْعًا عَلَى أَنْ يُحْتَسَبَ بِخَسْقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَرْعَيْنِ وَيُعْتَدَّ بِهِ إِصَابَتَيْنِ المتناضلين في الرمي كَانَ هَذَا جَائِزًا لِتَكَافُئِهِمَا فِيهِ ، لِتَكُونَ زِيَادَةُ الصِّفَةِ مُقَابِلًا لِزِيَادَةِ الْعَدَدِ . فَعَلَى هَذَا لَوْ شَرَطَا إِصَابَةَ عَشَرَةٍ مِنْ عِشْرِينَ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ ، فَأَصَابَ أَحَدُهُمَا تِسْعَةً قَرْعًا وَأَصَابَ الْآخَرُ قَرْعَيْنِ ، وَأَرْبَعَةَ خَوَاسِقَ ، فَقَدْ نَضَلَ مَعَ قِلَّةِ إِصَابَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَكْمَلَ بِمُضَاعَفَةِ الْخَوَاسِقِ الْأَرْبَعَةِ مَعَ الْقَرْعَيْنِ إِصَابَةَ عَشَرَةٍ نَقَصَ الْآخَرُ عَنْهُمَا بِإِصَابَةِ وَاحِدٍ فَصَارَ بِهَا مَنْضُولًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَإِذَا اشْتَرَطَا الْخَوَاسِقَ وَالشَّنُّ مُلْصَقٌ بِالْهَدَفِ فَأَصَابَ ثَمَّ رَجَعَ ، فَزَعَمَ الرَّامِي أَنَّهُ خَسَقَ ثَمَّ رَجَعَ لِغِلَظٍ لَقِيَهُ مِنْ حَصَاةٍ وَغَيْرِهَا ، وَزَعَمَ الْمُصَابُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَخْسَقْ وَأَنَّهُ إِنَّمَا قَرَعَ ثَمَّ رَجَعَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، إِلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ فَيُؤْخَذَ بِهَا .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اشْتِرَاطُ الْخَسْقِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي إِصَابَةِ الشَّنِّ دُونَ الْهَدَفِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّنَّ هُوَ جِلْدٌ يُنْصَبُ فِي الْهَدَفِ تُمَدُّ أَطْرَافُهُ بِأَوْتَارٍ أَوْ خُيُوطٍ تُشَدُّ فِي أَوْتَادٍ مَنْصُوبَةٍ فِي الْهَدَفِ الْمَبْنِيِّ ، وَرُبَّمَا كَانَ مُلْصَقًا بِحَائِطِ الْهَدَفِ ، وَرُبَّمَا كَانَ بَعِيدًا مِنْهُ بِنَحْوٍ مِنْ شِبْرٍ أَوْ ذِرَاعٍ ، وَهُوَ أَبْعَدُ مَا يُنْصَبُ ، وَخَسْقُ الشَّنِّ إِذَا كَانَ بَعِيدًا مِنَ الْهَدَفِ أَوْضَحُ مِنْهُ إِذَا كَانَ مُلْصَقًا بِهِ . فَإِذَا رَمَى وَالشَّنُّ مُلْصَقٌ بِالْهَدَفِ ، فَأَصَابَ الشَّنَّ ثُمَّ سَقَطَ بِالْإِصَابَةِ خَسَقَ ، فَزَعَمَ الرَّامِي أَنَّهَا خَسَقَ وَلَقِيَ غِلَظًا فِي الْهَدَفِ مِنْ حَصَاةٍ أَوْ نَوَاةٍ ، فَرَجَعَ وَهُوَ خَاسِقٌ وَزَعَمَ الْمَرْمِيُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَرَعَ فَسَقَطَ وَلَمْ يَخْسِقْ ، فَلَهُمَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُعْلَمَ صِدْقُ الرَّامِي فِي قَوْلِهِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُعْرَفَ مَوْضِعُ خَسْقِهِ ، وَيُرَى الْغِلَظُ مِنْ وَرَائِهِ ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينٍ ؛ لِأَنَّ الْحَالَ شَاهِدَةٌ بِصِدْقِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُعْلَمَ صِدْقُ الْمَرْمِيِّ عَلَيْهِ فِي إِنْكَارِهِ إِمَّا بِأَنْ لَا يَرَى فِي الشَّنِّ خَسْقًا ، وَإِمَّا بِأَنْ لَا يَرَى فِي الْهَدَفِ غِلَظًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْحَالَ شَاهِدَةٌ بِصِدْقِهِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَحْتَمِلَ صِدْقَ الْمُدَّعِي وَصِدْقَ الْمُنْكِرِ ؛ لِأَنَّ فِي الشَّنِّ خَوَاسِقَ ، وَفِي الْهَدَفِ غِلَظٌ ، وَقَدْ أَشْكَلَتِ الْإِصَابَةُ هَلْ كَانَتْ فِي مُقَابَلَةِ الْغِلَظِ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَةٌ حُمِلَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ عُدِمَتِ الْبَيِّنَةُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَا يُحْتَسَبُ بِهِ مُصِيبًا وَفِي الِاحْتِسَابِ بِهِ مُخْطِئًا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُحْتَسَبُ بِهِ فِي الْخَطَأِ إِذَا لَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ فِي الْإِصَابَةِ لِوُقُوفِ الرَّامِي بَيْنَ صَوَابٍ وَخَطَأٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُحْتَسَبُ بِهِ فِي الْإِصَابَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ لَا يُحْتَسَبُ بِهَا إِلَّا مَعَ الْيَقِينِ ، وَكَذَلِكَ لَا يُحْتَسَبُ بِالْخَطَأِ إِلَّا مَعَ الْيَقِينِ ، فَإِنْ نَكَلَ الْمُنْكِرُ عَنِ الْيَمِينِ أَحْلَفَ الرَّامِي الْمُدَّعِيَ ، فَإِذَا حَلَفَ احْتُسِبَ بِإِصَابَتِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ كَانَ الشَّنُّ بَالِيًا فَأَصَابَ مَوْضِعَ الْخَرْقِ ، فَغَابَ فِي الْهَدَفِ ، فَهُوَ مُصِيبٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا مُعْتَبِرٌ بِالشَّنِّ وَالْهَدَفِ أحوال ، وَلَهُمَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْهَدَفُ أَشَدَّ مِنَ الشَّنِّ ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ قَدْ قَوِيَ وَاشْتَدَّ ، فَإِذَا وَصَلَ السَّهْمُ إِلَيْهِ مِنْ ثَقْبٍ فِي الشَّنِّ ثَبَتَ فِي الْهَدَفِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنَ الشَّنِّ كَانَ ثُبُوتُهُ فِي الشَّنِّ الْأَضْعَفِ أَجْدَرَ وَهُوَ الَّذِي أَرَادَهُ الشَّافِعِيُّ ، فَيُحْتَسَبُ بِهِ خَاسِقًا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الشَّنُّ أَقْوَى مِنَ الْهَدَفِ وَأَشَدَّ ؛ لِأَنَّهُ جِلْدٌ مَتِينٌ ،

وَالْهَدَفُ تُرَابٌ ثَائِرٌ أَوْ طِينٌ لَيِّنٌ ، فَلَا يُحْتَسَبُ بِهِ مُصِيبًا ، وَلَا مُخْطِئًا ، أَمَّا الْإِصَابَةُ فَلِجَوَازِ أَنْ لَا يَخْسِقَ الشَّنَّ ، وَأَمَّا الْخَطَأُ فَلِعَدَمِ مَا خَسَقَ مَعَ بِلَى الشَّنِّ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَتَسَاوَى الشَّنُّ وَالْهَدَفُ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ ، فَلَا يُحْتَسَبَ بِهِ مُخْطِئًا ، وَفِي الِاحْتِسَابِ بِهِ مُصِيبًا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُحْتَسَبُ مِنْ إِصَابَةِ الْخَسْقِ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ فِي الْهَدَفِ قَائِمٌ مُقَامَ ثُبُوتِهِ فِي الشَّنِّ عِنْدَ تَسَاوِيهِمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُحْتَسَبُ فِي إِصَابَةِ الْخَسْقِ ، وَيُحْتَسَبُ فِي إِصَابَةِ الْقَرْعِ عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ أَصَابَ طَرَفَ الشَّنِّ فَخَرَقَهُ ، فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يُحْسَبُ لَهُ خَاسِقًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّنِّ طَعْنَةٌ أَوْ خَيْطٌ أَوْ جِلْدٌ أَوْ شَيْءٌ مِنَ الشَّنِّ يُحِيطُ بِالسَّهْمِ وَيُسَمَّى بِذَلِكَ خَاسِقًا وَقَلِيلٌ ثُبُوتِهِ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ ( قَالَ ) : وَلَا يَعْرِفُ النَّاسُ إِذَا وَجَّهُوا بِأَنْ يُقَالَ : خَاسِقٌ إِلَّا مَا أَحَاطَ بِهِ الْمَخْسُوقُ فِيهِ ، وَيُقَالُ لِلْآخَرِ : خَارِمٌ لَا خَاسِقٌ ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ أَنْ يَكُونَ الْخَاسِقُ قَدْ يَقَعَ بِالِاسْمِ عَلَى مَا أَوْهَنَ الصَّحِيحَ فَخَرَقَهُ ، فَإِذَا خَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا قَلَّ أَوْ كَثُرَ بِبَعْضِ النَّصْلِ سُمِّيَ خَاسِقًا ؛ لِأَنَّ الْخَسْقَ الثَّقْبُ ، وَهَذَا قَدْ ثَقَبَ وَإِنْ خَرَقَ . قَالَ : وَإِذَا وَقَعَ فِي خَرْقٍ وَثَبَتَ فِي الْهَدَفِ كَانَ خَاسِقًا وَالشَّنُّ أَضْعَفُ مِنَ الْهَدَفِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا خَرَمَ السَّهْمُ الشَّنَّ فِي إِصَابَةِ الْخَوَاسِقِ وثبت ، وَالْخَارِمُ هُوَ أَنْ يَقَعَ فِي حَاشِيَةِ الشَّنِّ فَيَخْرِمَهَا وَيَثْبُتَ ، فَإِنْ بَقِيَ مِنْ تَوَابِعِ الشَّنِّ مَا يُحِيطُ بِدَائِرِ السَّهْمِ مِنْ طُفْيَةٍ أَوْ خَيْطٍ ، وَالطُّفْيَةُ خُوصُ الْمُقْلِ يُدَارُ فِي حَاشِيَةِ الشَّنِّ بِالْحِجَازِ ، فَإِنْ كَانَتِ الطُّفْيَةُ بَاقِيَةً بِخَيْطٍ بِدَائِرِ السَّهْمِ الْخَارِمِ كَانَ خَاسِقًا ؛ لِأَنَّ الطُّفْيَةَ فِيهِ مِنْ جُمْلَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَبَقَّ مَعَ الْخَرْمِ شَيْءٌ مِنْ حَاشِيَةِ الشَّنِّ ، وَحَصَلَ مَا خَرَجَ مِنْ دَائِرِ السَّهْمِ مَكْشُوفًا فَلَا يَخْلُو مَوْضِعُ السَّهْمِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ غَيْرَ خَارِجٍ عَنْ دَائِرِ الشَّنِّ وَحَاشِيَتِهِ ، وَإِنَّمَا سَقَطَ حَاشِيَةُ الشَّنِّ بِضَعْفِهِ ، فَهَذَا يُحْتَسَبُ بِهِ خَاسِقًا ، وَإِنْ خَرَمَ ؛ لِأَنَّ خَرْمَهُ لِضَعْفِ الشَّنِّ لَا لِمَوْقِعِ السَّهْمِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهُ لِوُقُوعِ السَّهْمِ فِي الْحَاشِيَةِ ، وَيَدْخُلُ بَعْضُ دَائِرِ السَّهْمِ فِي الشَّنِّ ، وَيَخْرُجُ بَعْضُ دَائِرِهِ فِي الشَّنِّ ، فَفِي الِاعْتِدَادِ بِهِ خَاسِقًا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُعْتَدُّ بِهِ خَاسِقًا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اخْتِصَاصَهُ بِاسْمِ الْخَرْمِ قَدْ زَالَ عِنْدَ حُكْمِ الْخَسْقِ ؛ لِأَنَّ الْخَسْقَ مَا

أَحَاطَ بِالْمَخْسُوقِ ، وَاخْتِلَافُ الْأَسْمَاءِ يُغَيِّرُ الْأَحْكَامَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ صَارَ بَعْضُ السَّهْمِ وَاقِعًا فِي الشَّنِّ ، وَبَعْضُهُ خَارِجًا مِنَ الشَّنِّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنْ يُعْتَدَّ بِهِ خَاسِقًا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْخَرْمَ زِيَادَةٌ عَلَى الْخَسْقِ : لِأَنَّ كُلَّ خَارِمٍ خَاسِقٌ وَلَيْسَ كُلُّ خَاسِقٍ خَارِمًا . وَالثَّانِي : أَنَّ مَقْصُودَ الْخَسْقِ مِنَ الثَّقْبِ ، وَالثُّبُوتُ مَوْجُودٌ فِيهِ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ، فَإِنْ جُعِلَ خَاسِقًا كَانَ مُصِيبًا ، وَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ خَاسِقًا لَمْ يَكُنْ مُصِيبًا وَفِي الِاحْتِسَابِ بِهِ مُخْطِئًا وَجْهَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ كَانَ الشَّنُّ مَنْصُوبًا فَمَرَقَ مِنْهُ كَانَ عِنْدِي خَاسِقًا ، وَمِنَ الرُّمَاةِ مَنْ لَا يَحْسَبُهُ إِذَا لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا السَّهْمُ الْمَارِقُ ، فَهُوَ أَنْ يَنْفُذَ فِي الشَّنِّ ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ فَوْقَ الْهَدَفِ ، وَيَخْرُجَ مِنْهُ ، فَيَقَعَ وَرَاءَ الْهَدَفِ ، فَيُحْتَسَبَ لَهُ فِي الرِّقَاعِ . فَأَمَّا فِي الْخَاسِقِ فَفِي الِاحْتِسَابِ بِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُحْتَسَبُ بِهِ خَاسِقًا اعْتِبَارًا بِالْمَعْنَى ، وَأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى الْخَسْقِ ، فَيُؤْخَذُ فِيهِ مَعْنَى الْخَسْقِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ بَعْضِ الرُّمَاةِ أَنَّهُ لَا يُحْتَسَبُ بِهِ خَاسِقًا ، اعْتِبَارًا بِالِاسْمِ ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى مَارِقًا لَا يُسَمَّى خَاسِقًا ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَثْبَتَ هَذَا الْقَوْلَ لِلشَّافِعِيِّ ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَفَاهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَهُ إِلَى غَيْرِهِ ، وَلَا يَكُونُ مُخْطِئًا وَإِنْ لَمْ يُحْتَسَبْ خَاسِقًا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ أَصْحَابُنَا . وَأَمَّا السَّهْمُ الْمُزْدَلِفُ : فَهُوَ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ ، ثُمَّ يِزْدَلِفُ مِنْهَا بِحَمْوَتِهِ وَحِدَّتِهِ ، فَيَصِيرُ فِي الْهَدَفِ ، فَفِي الِاحْتِسَابِ بِهِ مُصِيبًا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُحْتَسَبُ بِهِ مُصِيبًا ؛ لِأَنَّهُ بِحِدَّةِ الرَّمْيِ أَصَابَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَيْسَ بِمُصِيبٍ ، لِخُرُوجِهِ مِنَ الرَّامِي إِلَى غَيْرِ الْهَدَفِ ، وَإِنَّمَا أَعَادَتْهُ الْأَرْضُ حِينَ ازْدَلَفَ عَنْهَا فِي الْهَدَفِ . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ لَمْ يُخْرِجِ الْمُزْدَلِفَ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَحَمَلَهُ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ بِاعْتِبَارِ حَالِهِ عِنْدَ مُلَاقَاةِ الْأَرْضِ ، فَإِنْ ضَعُفَتْ حَمْوَتُهُ بَعْدَ ازْدِلَافِهِ ، وَلَانَتْ كَانَ مَحْسُوبًا فِي الْإِصَابَةِ ، وَإِنْ قَوِيَتْ ، وَصَارَ بَعْدَ ازْدِلَافِهِ أَحَدَّ لَمْ

يُحْتَسَبْ بِهِ مُصِيبًا وَيَجُوزُ أَنْ يَتَنَاضَلَا عَلَى مُرُوقِ السَّهْمِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاضَلَا عَلَى ازْدِلَافِهِ ؛ لِأَنَّ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ فِعْلِ الرَّامِي ، وَازْدِلَافَهُ مِنْ تَأْثِيرِ الْأَرْضِ ، فَعَلَى هَذَا فِي الِاحْتِسَابِ بِهِ مُخْطِئًا إِذَا لَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ مُصِيبًا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ مُخْطِئًا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ سُوءِ الرَّمْيِ . وَالثَّانِي : لَا يَكُونُ مُخْطِئًا مَا أَصَابَ ، وَيَسْقُطُ الِاعْتِدَادُ بِهِ مُصِيبًا وَمُخْطِئًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَإِنْ أَصَابَ بِالْقِدْحِ لَمْ يُحْسَبْ إِلَّا مَا أَصَابَ بِالنَّصْلِ في الرمي " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا قِدْحُ السَّهْمِ فَهُوَ خَشَبَتُهُ الْمُرَيَّشَةُ ، وَاخْتُلِفَ فِيمَا يُسَمَّى بِهِ مِنْهَا ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ اسْمٌ لِجَمِيعِ الْخَشَبَةِ . وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ اسْمٌ يَخْتَصُّ بِمَوْضِعِ الْوَتَرِ مِنْهُ ، فَيُسَمَّى فُوقَ السَّهْمِ ، وَهُوَ الْجُزْءُ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الْوَتَرُ . وَأَمَّا النَّصْلُ فَهُوَ الطَّرَفُ الْآخَرُ مِنَ السَّهْمِ ، وَاخْتُلِفَ فِيمَا يُسَمَّى مِنْهُ نَصْلًا ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ اسْمٌ لِلْحَدِيدِ الْمُسَمَّى زَجًّا ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ اسْمٌ لِطَرَفِ الْخَشَبَةِ الَّتِي يُوضَعُ فِيهَا الزَّجُّ مِنَ الْحَدِيدِ ، وَالْإِصَابَةُ إِنَّمَا تَكُونُ بِالنَّصْلِ لَا بِالْقِدْحِ . فَإِذَا أَصَابَ بِغَيْرِ النَّصْلِ لَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ مُصِيبًا ، وَنُظِرَ فِيمَا أَصَابَ بِهِ مِنَ السَّهْمِ ، فَإِنْ أَصَابَ بِعُرْضِ السَّهْمِ ، احْتُسِبَ بِهِ مُخْطِئًا : لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى سُوءِ رَمْيِهِ ، وَإِنْ أَصَابَ بِقِدْحِ سَهْمِهِ ، فَفِي الِاحْتِسَابِ بِهِ مُخْطِئًا وَجْهَانِ تَعْلِيلًا بِمَا قَدَّمْنَاهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَوْ أَرْسَلَهُ مُفَارِقًا لِلشَّنِّ فَهَبَّتْ رِيحٌ فَصَرَفَتْهُ أَوْ مُقَصِّرًا فَأَسْرَعَتْ بِهِ فَأَصَابَ حُسِبَ مُصِيبًا وَلَا حُكْمَ لِلرِّيحِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ لِلرِّيحِ تَأْثِيرًا مِنْ تَغْيِيرِ السَّهْمِ عَنْ جِهَتِهِ ، وَحُذَّاقُ الرُّمَاةِ يَعْرِفُونَ مَخْرَجَ السَّهْمِ عَنِ الْقَوْسِ هَلْ هُوَ مُصِيبٌ أَوْ مُخْطِئٌ ، فَإِذَا خَرَجَ السَّهْمُ ، فَغَيَّرَتْهُ الرِّيحُ ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَخْرُجَ مُفَارِقًا لِلشَّنِّ ، فَتَعْدِلَ بِهِ الرِّيحُ إِلَى الشَّنِّ فَيُصِيبَ أَوْ يَكُونَ مُقَصِّرًا عَنِ الْهَدَفِ ، فَتُعِينَهُ الرِّيحُ حَتَّى يَنْبَعِثَ ، فَيُصِيبَ ، فَتُعْتَبَرَ حَالُ الرِّيحِ ، فَإِنْ كَانَتْ ضَعِيفَةً كَانَ مَحْسُوبًا فِي الْإِصَابَةِ : لِأَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ تَأْثِيرِ الرَّمْيِ ، وَفِي شَكٍّ مِنْ تَأْثِيرِ الرِّيحِ ، وَإِنْ كَانَتِ الرِّيحُ قَوِيَّةً نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً عِنْدَ إِرْسَالِ السَّهْمِ كَانَ مَحْسُوبًا فِي الْإِصَابَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اجْتَهَدَ فِي التَّحَرُّزِ مِنْ تَأْثِيرِ الرِّيحِ بِتَحْرِيفِ سَهْمِهِ ، فَأَصَابَ

بِاجْتِهَادِ رَمْيِهِ ، وَإِنْ حَدَثَتِ الرِّيحُ بَعْدَ إِرْسَالِ السَّهْمِ ، فَفِي الِاحْتِسَابِ بِهِ وَجْهَانِ تَخْرِيجًا مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الِاحْتِسَابِ بِإِصَابَةِ الْمُزْدَلِفِ : أَحَدُهُمَا : يُحْتَسَبُ بِهِ مُصِيبًا إِذَا احْتُسِبَ بِإِصَابَةِ الْمُزْدَلِفِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُحْتَسَبُ مُصِيبًا ، وَلَا مُخَالِفًا إِذَا لَمْ يُحْتَسَبْ بِإِصَابَةِ الْمُزْدَلِفِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَخْرُجَ السَّهْمُ مُوَافِقًا لِلْهَدَفِ ، فَتَعْدِلَ بِهِ الرِّيحُ حَتَّى يَخْرُجَ عَنِ الْهَدَفِ ، فَيُعْتَبَرَ حَالُ الرِّيحِ ، فَإِذَا كَانَتْ طَارِئَةً بَعْدَ خُرُوجِ السَّهْمِ عَنِ الْقَوْسِ أُلْغِيَ السَّهْمُ ، وَلَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ فِي الْخَطَأِ ؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْ حُدُوثِ الرِّيحِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، فَلَمْ يُنْسَبْ إِلَى سُوءِ الرَّمْيِ ، وَإِنْ كَانَتِ الرِّيحُ مَوْجُودَةً عِنْدَ خُرُوجِ السَّهْمِ نُظِرَ فِيهَا ، فَإِنْ كَانَتْ قَوِيَّةً لَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ فِي الْخَطَأِ : لِأَنَّهُ أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ الَّذِي يَتَحَرَّزُ بِهِ مِنَ الرِّيحِ ، وَلَمْ يُخْطِئْ مِنْ سُوءِ الرَّمْيِ ، وَإِنْ كَانَتِ الرِّيحُ ضَعِيفَةً ، فَفِي الِاحْتِسَابِ بِهِ مِنَ الْخَطَأِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ خَطَأً : لِأَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ تَأْثِيرِ الرَّمْيِ ، وَفِي شَكٍّ مِنْ تَأْثِيرِ الرِّيحِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَكُونُ مَحْسُوبًا فِي الْخَطَأِ ؛ لِأَنَّ الرِّيحَ تُفْسِدُ صَنِيعَ الْمُحْسِنِ ، وَإِنْ قَلَّتْ كَمَا تُفْسِدُهُ إِذَا كَثُرَتْ .

فَصْلٌ : وَلَوْ هَبَّتِ الرِّيحُ ، فَأَزَالَتِ الشَّنَّ عَنْ مَوْضِعِهِ إِلَى غَيْرِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُ السَّهْمِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّنِّ عَنْ مَوْضِعِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقَعَ فِي غَيْرِ الشَّنِّ وَفِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ ، فَيُحْتَسَبَ بِهِ مُخْطِئًا : لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْإِصَابَةِ قَبْلَ الرِّيحِ وَبَعْدَهَا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقَعَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ الشَّنُّ فِي الْهَدَفِ ، فَيُحْتَسَبُ مُصِيبًا لِوُقُوعِهِ فِي مَحَلِّ الْإِصَابَةِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَقَعَ فِي الشَّنِّ بَعْدَ زَوَالِهِ عَنْ مَوْضِعِهِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَزُولَ الشَّنُّ عَنْ مَوْضِعِهِ بَعْدَ خُرُوجِ السَّهْمِ ، فَيُحْتَسَبُ بِهِ فِي الْخَطَأِ لِوُقُوعِهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْإِصَابَةِ عِنْدَ خُرُوجِ السَّهْمِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَخْرُجَ السَّهْمُ بَعْدَ زَوَالِ الشَّنِّ عَنْ مَوْضِعِهِ ، وَعِلْمِ الرَّامِيِ بِزَوَالِهِ ، فَيُنْظَرُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صَارَ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ خَارِجًا مِنَ الْهَدَفِ لَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ مُصِيبًا وَلَا مُخْطِئًا لِخُرُوجِهِ عَنْ مَحَلِّ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ ، وَإِنْ كَانَ مُمَاثِلًا لِمَوْضِعِهِ مِنَ الْهَدَفِ احْتُسِبَ بِهِ مُصِيبًا : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَحِلًّا لِلْإِصَابَةِ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوْ كَانَ دُونَ الشَّنِّ شَيْءٌ ، فَهَتَكَهُ السَّهْمُ ثُمَّ مَرَّ بِحَمْوَتِهِ حَتَّى يُصِيبَ كَانَ مُصِيبًا ، وَلَوْ أَصَابَ الشَّنَّ ثُمَّ سَقَطَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ حُسِبَ ، وَهَذَا كَنَزْعِ إِنْسَانٍ إِيَّاهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِذَا اعْتَرَضَ بَيْنَ السَّهْمِ وَالْهَدَفِ حَائِلٌ مِنْ بَهِيمَةٍ أَوْ إِنْسَانٍ ، فَإِنِ امْتَنَعَ بِهِ السَّهْمُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْهَدَفِ لَمْ يُحْتَسَبْ فِي صَوَابٍ وَلَا خَطَأٍ ، وَإِنْ نَفَذَ فِي الْحَائِلِ حَتَّى مَرَقَ مِنْهُ ، وَأَصَابَ الْهَدَفَ كَانَ مُصِيبًا ، وَلَوْ نَقَضَ الْحَائِلُ السَّهْمَ حَتَّى عُدِلَ بِالنَّقْضِ إِلَى الْهَدَفِ لَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ مُصِيبًا وَلَا مُخْطِئًا : لِأَنَّهُ بِالنَّقْضِ أَصَابَ لَا بِالرَّمْيِ كَمَنْ رَمَى الْجَمْرَةَ بِحَصَاةٍ فَوَقَعَتْ عَلَى إِنْسَانٍ ، فَنَقَضَهَا حَتَّى وَقَعَتْ فِي الْجَمْرَةِ لَمْ يُحْتَسَبْ بِهَا ، وَلَوْ أَصَابَ السَّهْمُ الْحَائِلَ ثُمَّ انْدَفَعَ بِحَمْوَتِهِ ، فَأَصَابَ فَهَذَا مُزْدَلِفٌ ، وَفِي الِاحْتِسَابِ بِهِ فِي الْإِصَابَةِ قَوْلَانِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا بَأْسَ أَنْ يُنَاضِلَ أَهْلُ النُّشَّابِ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ وَأَهْلَ الْحُسْبَانِ : لِأَنَّ لَهَا نَصْلٌ ، وَكَذَلِكَ الْقِسِيُّ الدُّودَانِيَّةُ وَالْهِنْدِيَّةُ وَكُلُّ قَوْسٍ يُرْمَى عَنْهَا بِسَهْمٍ ذِي نَصْلٍ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَنْوَاعُ الْقِسِيِّ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِ النَّاسِ ، فَلِلْعَرَبِ قِسِيٌّ وَسِهَامٌ ، وَلِلْعَجَمِ قِسِيٌّ وَسِهَامٌ ، وَقِيلَ : إِنَّ أَوَّلَ مَنْ صَنَعَ الْقِسِيَّ الْعَرَبِيَّةَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ - وَأَوَّلَ مَنْ صَنَعَ الْقِسِيَّ الْفَارِسِيَّةَ النُّمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ الْقَوْسَ الْعَرَبِيَّةَ ، وَيَأْمُرُ بِهَا ، وَيَكْرَهُ الْقَوْسَ الْفَارِسِيَّةَ ، وَيَنْهَى عَنْهَا ، وَرَأَى رَجُلًا يَحْمِلُ قَوْسًا فَارِسِيَّةً فَقَالَ : مَلْعُونٌ حَامِلُهَا ، عَلَيْكُمْ بِالْقِسِيِّ الْعَرَبِيَّةِ وَسِهَامِهَا ، فَإِنَّهُ سَيُفْتَحُ عَلَيْكُمْ بِهَا وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُ مَحْمُولًا عَلَى الْحَظْرِ الْمَانِعِ ، وَفِي تَأْوِيلِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : لِيَحْفَظَ بِهِ آثَارَ الْعَرَبِ ، وَلَا يَعْدِلُ النَّاسُ عَنْهَا رَغْبَةً فِي غَيْرِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ النَّدْبُ إِلَى تَفْضِيلِ الْقَوْسِ الْعَرَبِيَّةِ بَاقِيًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ أَمَرَ بِهَا لِتَكُونَ شِعَارَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى لَا يَتَشَبَّهُوا بِأَهْلِ الْحَرْبِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، فَيُقْتَلُوا ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ النَّدْبُ إِلَى تَفْضِيلِهَا مُرْتَفِعًا : لِأَنَّهَا قَدْ فَشَتْ فِي عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ . وَالثَّالِثُ : مَا قَالَهُ عَطَاءٌ أَنَّهُ لَعَنَ مَنْ قَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ بِهَا ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ ذَلِكَ نَدْبًا إِلَى تَفْضِيلِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَيْهَا ، وَيَكُونُ نَهْيًا عَنْ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ بِهَا وَبِغَيْرِهَا ، وَخَصَّهَا بِاللَّعْنِ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَنَكَأَ فِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِهَا ، وَقَدْ رَضِيَ عَنْهَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ ، وَإِنْ كَانَ الِاقْتِدَاءُ بِرَسُولِ اللَّهِ لَكِنَّ فِي قَوْسِهِ لِمَنْ قَوِيَ رَمْيُهُ عَنْهَا أَحَبَّ إِلَيْنَا ، فَإِنْ كَانَ بِالْفَارِسِيَّةِ أَرَمَى كَانَتْ بِهِ أَوْلَى ، وَيَكُونُ النَّدْبُ مِنْهَا إِلَى مَا هُوَ بِهِ

أَرَمَى ، فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُتَنَاضِلَيْنِ فِي عَقْدِ نِضَالِهَا مِنْ خَمْسَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَشْتَرِطَا فِيهِ الرَّمْيَ عَنِ الْقَوْسِ الْعَرَبِيَّةِ ، فَعَلَيْهِمَا أَنْ يَتَنَاضَلَا بِالْعَرَبِيَّةِ ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا إِلَى الْفَارِسِيَّةِ : لِأَجْلِ الشَّرْطِ ، فَإِنْ تَرَاضَيَا مَعًا عَلَى الْعُدُولِ عَنِ الْعَرَبِيَّةِ إِلَى الْفَارِسِيَّةِ جَازَ : لِأَنَّ مُوجِبَ الشَّرْطِ أَنْ يَلْتَزِمَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ صَاحِبِهِ دُونَ غَيْرِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَشْتَرِطَا فِيهِ الرَّمْيَ عَنِ الْقَوْسِ الْفَارِسِيَّةِ ، فَعَلَيْهِمَا أَنْ يَتَنَاضَلَا بِالْفَارِسِيَّةِ ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا إِلَى الْعَرَبِيَّةِ ، فَإِنْ تَرَاضَيَا مَعًا بِالْعُدُولِ إِلَيْهَا جَازَ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَشْتَرِطَا أَنْ يَرْمِيَ أَحَدُهُمَا عَنِ الْقَوْسِ الْعَرَبِيَّةِ ، وَيَرْمِيَ الْآخَرُ عَنِ الْقَوْسِ الْفَارِسِيَّةِ ، فَهَذَا جَائِزٌ ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ قَوْسَاهُمَا : لِأَنَّ مَقْصُودَ الرَّمْيِ حَذْقُ الرَّامِيِ ، وَالْآلَةُ تَبَعٌ ، وَمِثْلُهُ فِي السَّبَقِ إِذَا شَرَطَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَتَسَابَقَ عَلَى فَرَسٍ ، وَالْآخَرُ عَلَى بَغْلٍ لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ سَوَّى أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ بَيْنَهُمَا فِي الْجَوَازِ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي السَّبَقِ الْمَرْكُوبَانِ وَالرَّاكِبَانِ تَبَعٌ ، فَلَزِمَ التَّسَاوِي فِيهِ ، وَلَمْ يَلْزَمِ التَّسَاوِي فِي آلَةِ الرَّمْيِ ، فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الشَّرْطِ فِي قَوْسِهِ وَإِنْ سَاوَى فِيهِمَا صَاحِبَهُ لِأَجْلِ شَرْطِهِ ، فَإِنْ رَاضَاهُ عَلَيْهَا جَازَ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَشْتَرِطَا أَنْ يَرْمِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمَّا شَاءَ مِنْ قَوْسٍ عَرَبِيَّةٍ أَوْ فَارِسِيَّةٍ ، فَيَجُوزَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْمِيَ عَنْ أَيِّ الْقَوْسَيْنِ شَاءَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الرَّمْيِ وَبَعْدَهُ ، فَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا مَنْعَ صَاحِبِهِ مِنْ خِيَارِهِ ، لَمْ يَجُزْ ، سَوَاءٌ تَمَاثَلَا فِيهَا أَوِ اخْتَلَفَا . وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ : أَنْ يُطْلِقَا الْعَقْدَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، فَإِنْ كَانَ لِلرُّمَاةِ عُرْفٌ فِي أَحَدِ الْقَوْسَيْنِ حُمِلَ عَلَيْهِ ، وَجَرَى فِي الْعُرْفِ فِي الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ مَجْرَى الشَّرْطِ فِي الْعَقْدِ الْمُقَيَّدِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلرُّمَاةِ فِيهِ عُرْفٌ مَعْهُودٌ فَهُمَا بِالْخِيَارِ فِيمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنْ أَحَدِ الْقَوْسَيْنِ إِذَا كَانَا فِيهَا مُتَسَاوِيَيْنِ : لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يُوجِبُ التَّكَافُؤَ وَإِنِ اخْتَلَفَا لَمْ يُقْرَعْ بَيْنَهُمَا : لِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي الْعَقْدِ ، وَقِيلَ لَهُمَا : إِنِ اتَّفَقْتُمَا وَإِلَّا فُسِخَ الْعَقْدُ بَيْنَكُمَا . فَأَمَّا الْقَوْسُ " الدُّودَانِيَّةُ " فَهِيَ الْقَوْسُ الَّتِي لَهَا مَجْرًى يَمُرُّ السَّهْمُ فِيهِ ، وَمِنْهَا قَوْسُ الرَّجُلِ ، وَإِنْ كَانَ أَغْلَبُهَا قَوْسَ الْيَدِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يُنَاضِلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِذَا اتَّفَقُوا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاضَلَ الرَّجُلَانِ أَحَدُهُمَا قَائِمٌ ، وَالْآخِرُ جَالِسٌ إِلَّا عَنْ تَرَاضٍ ، فَيَلْزَمُ تَسَاوِيهِمَا فِي الْقِيَامِ وَالْجُلُوسِ ، فَإِنِ اخْتَلَفَا اعْتُبِرَ فِيهِ الْأَغْلَبُ مِنْ عُرْفِ الرُّمَاةِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنَاضِلَ أَهْلُ النُّشَّابِ أَصْحَابَ الْجُلَاهِقِ : لِاخْتِلَافِ الصِّفَةِ فِيهَا ، وَأَنَّهُ لَيْسَ الْحَذْفُ بِأَحَدِهِمَا حَذْفًا بِالْآخَرِ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَضِلَ رَجُلَانِ وَفِي يَدِي أَحَدِهِمَا مِنَ النَّبْلِ أَكْثَرُ مِمَّا فِي يَدَيِ الْآخَرِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاضَلَا عَلَى أَنْ يُصِيبَ أَحَدُهُمَا عَشَرَةً مِنْ عِشْرِينَ ، وَيُصِيبَ الْآخَرُ عَشَرَةً مِنْ ثَلَاثِينَ ، فَيَكُونُ رَشْقُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ رَشْقِ الْآخَرِ ، وَيَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ : " فِي يَدِ أَحَدِهِمَا " أَيْ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزِ التَّفَاضُلُ فِي عَدَدِ الرَّشْقِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ التَّمَاثُلُ : لِأَنَّهُ إِنْ نَضَلَ ، فَلِكَثْرَةِ رَمْيِهِ لَا بِحَسْبَ صُنْعِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَتَنَاضَلَا عَلَى أَنْ يُصِيبَ أَحَدُهُمَا خَمْسَةً مِنْ عِشْرِينَ ، وَيُصِيبَ الْآخَرُ عَشَرَةً مِنْ عِشْرِينَ ، فَلَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ بِالتَّفَاضُلِ فِيمَا يُوجِبُ التَّمَاثُلَ وَأَنَّهُ إِنْ نَضَلَهُ فَلِقِلَّةِ إِصَابَتِهِ لَا بِحُسْنِ صَنِيعِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ مِنْ عَادَةِ حُذَّاقِ الرُّمَاةِ إِذَا رَمُوا أَنْ يَأْخُذُوا فِي الْيَدِ الْيُمْنَى بَيْنَ الْخِنْصَرِ وَالسَّبَّابَةِ سَهْمًا أَوْ سَهْمَيْنِ مُعَدًّا لِلرَّمْيِ ، فَأَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا أَنْ لَا يَجُوزَ أَنْ يَتَنَاضَلَا عَلَى أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا إِذَا رَمَى سَهْمٌ وَاحِدٌ وَفِي يَدِ الْآخَرِ سَهْمَانِ : لِأَنَّ كَثْرَةَ السِّهَامِ فِي الْيَدِ مُؤَثِّرٌ فِي قِلَّةِ الْإِصَابَةِ : لِأَنَّهُ إِنْ نَضَلَ فَلِقِلَّةِ الْمَانِعِ مِنْ إِصَابَتِهِ لَا بِحُسْنِ صَنِيعِهِ ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْيَدِ الْكَفَّ ذَاتَ الْأَصَابِعِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا عَلَى أَنْ يُحْسَبَ خَاسِقُهُ خَاسِقَيْنِ وَالْآخَرُ خَاسِقٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : لِأَنَّ عَقْدَ النِّضَالِ يُوجِبُ التَّسَاوِي ، فَإِذَا وَقَعَ فِيهِ التَّفَاضُلُ بِأَنْ يَكُونَ خَاسِقُ أَحَدِهِمَا خَاسِقَيْنِ ، وَخَاسِقُ الْآخَرِ خَاسِقًا وَاحِدًا بَطَلَ بِهِ الْعَقْدُ لِدُخُولِ التَّفَاضُلِ فِيهِ ، وَأَنَّهُ نَضَلَ لِمُضَاعَفَةِ خَوَاسِقِهِ لَا بِحُسْنِ صَنِيعِهِ . وَلَوْ شَرَطَا فِي الْقَرْعِ أَنْ يَكُونَ خَاسِقُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَارِعَيْنِ جَازَ : لِأَنَّهُمَا قَدْ تَسَاوَيَا فِي مُضَاعَفَةِ خَوَاسِقِهِمَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا عَلَى أَنَّ لِأَحَدِهِمَا ثَابِتًا لَمْ يَرْمِ بِهِ وَيُحْسَبُ لَهُ مَعَ خَوَاسِقِهِ ، وَلَا عَلَى أَنْ يَطْرَحَ مِنْ خَوَاسِقِهِ خَاسِقًا ، وَلَا عَلَى أَنَّ خَاسِقَ أَحَدِهِمَا خَاسِقَانِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : لِأَنَّ مَنِ احْتُسِبَ لَهُ بِخَاسِقٍ لَمْ يُصِبْهُ يَصِيرُ مُفَضَّلًا بِهِ عَلَى صَاحِبِهِ : فَإِنْ نَضَلَ ، فَلِتَفْضِيلِهِ لَا بِحُسْنِ صَنِيعِهِ ، وَمَنْ أُسْقِطَ لَهُ خَاسِقٌ قَدْ أَصَابَهُ يَصِيرُ بِهِ مَفْضُولًا إِنْ نَضَلَ ، فَلِحَطِّ إِصَابَتِهِ لَا لِسُوءِ صَنِيعِهِ ، فَيَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلًا عَلَى الْأَمْرَيْنِ : لِعَدَمِ التَّسَاوِي بَيْنَ الْمُتَفَاضِلَيْنِ في الرمي .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا أَنَّ أَحَدَهُمَا يَرْمِي مِنْ عُرْضٍ وَالْآخَرُ مِنْ أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَّا فِي عُرْضٍ وَاحِدٍ وَعَدَدٍ وَاحِدٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي التَّسَاوِي فِيهِ ، فَإِنْ وَقَعَ التَّفَاضُلُ فِيهِ أَفْسَدَهُ . وَمِنَ التَّفَاضُلِ اخْتِلَافُ الْهَدَفِ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ في الرمي ، فَيَشْتَرِطَا أَنْ يَرْمِيَ أَحَدُهُمَا مِنْ مِائَتَيْ ذِرَاعٍ ، وَيَرْمِيَ الْآخَرُ مِنْ أَقَلَّ مِنْهَا ، أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَجُزْ لِلتَّفَاضُلِ ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَتْ قَوْسُ أَحَدِهِمَا عَرَبِيَّةً ، يُصِيبُ مِنْ مِائَةِ ذِرَاعٍ ، وَقَوْسُ الْآخَرِ فَارِسِيَّةً يُصِيبُ مِنْ مِائَتَيْ ذِرَاعٍ ، فَشَرَطَا هَذَا التَّفَاضُلَ لِاخْتِلَافِ الْقَوْسَيْنِ ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا مِنْ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَشْتَرِطَا الْخِيَارَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْسَيْنِ فَيَجُوزَ هَذَا التَّفَاضُلُ : لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُسَاوِيَ صَاحِبَهُ فِيهِ . إِذَا عَدَلَ إِلَى قَوْسِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَشْتَرِطَا : أَحَدُهُمَا بِالْعَرَبِيَّةِ : وَلَا يَعْدِلُ عَنْهَا ، وَيَرْمِي الْآخَرُ بِالْفَارِسِيَّةِ ، وَلَا يَعْدِلُ عَنْهَا ، فَيَمْنَعَ هَذَا التَّفَاضُلُ مِنْ جَوَازِ التَّنَاضُلِ : لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُسَاوِيَ صَاحِبَهُ فِيهِ . وَمِنَ التَّفَاضُلِ الْمَانِعِ أَنْ يَكُونَ ارْتِفَاعُ الشَّنِّ فِي رَمْيِ أَحَدِهِمَا ذِرَاعًا ، وَارْتِفَاعُهُ فِي رَمْيِ الْآخَرِ بَاعًا ، فَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ . وَمِنَ التَّفَاضُلِ الْمَانِعِ أَنْ تَكُونَ إِصَابَةُ أَحَدِهِمَا فِي الشَّنِّ وَإِصَابَةُ الْآخَرِ فِي الدَّارَةِ الَّتِي فِي الشَّنِّ ، فَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْقَوْسَيْنِ ، فَعَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ خِيَارِهِمَا فِي الْأَمْرَيْنِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا عَلَى أَنْ يَرْمِيَ بِقَوْسٍ أَوْ نَبْلٍ بِأَعْيَانِهَا إِنْ تَغَيَّرَتْ لَمْ يُبَدِّلْهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى فَرْقُ مَا بَيْنَ السَّبَقِ وَالرَّمْيِ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ فَرَاهَةُ الْفَرَسَيْنِ مِنَ السَّبَقِ ، وَالْمَقْصُودَ مِنَ الرَّمْيِ حَذْقُ الرَّامِيَيْنِ ، فَصَارَ الْفَرَسُ فِي السَّبَقِ أَصْلًا ، وَالرَّاكِبُ تَبَعًا ، فَلَزِمَ تَعْيِينُ الْفَرَسِ ، وَلَمْ يَلْزَمْ تَعْيِينُ الرَّاكِبِ ، وَصَارَ الرَّامِي فِي النِّضَالِ أَصْلًا وَالْقَوْسُ تَبَعًا ، فَلَزِمَ تَعْيِينُ الرَّامِي وَلَمْ يَلْزَمْ تَعْيِينُ الْقَوْسِ ، فَإِنْ أُسْقِطَ تَعْيِينُ مَا يَلْزَمُ تَعْيِينُهُ مِنَ الْفَرَسِ فِي السَّبَقِ وَالرَّامِي فِي النِّضَالِ بَطَلَ الْعَقْدُ ، وَإِنْ عُيِّنَ مَا لَمْ يَلْزَمْ تَعْيِينُهُ مِنَ الرَّاكِبِ فِي السَّبَقِ أَنْ لَا يَرْكَبَ غَيْرُهُ ، وَالْقَوْسُ فِي النِّضَالِ أَنْ لَا يَرْمِيَ عَنْ غَيْرِهَا ، لَمْ يَتَعَيَّنِ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ أَصْلِهِ ، وَنُظِرَ فِي التَّعْيِينِ ، فَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الشَّرْطِ الَّذِي حُمِلَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ ، فَقَالَ : عَلَى أَنْ لَا يَرْكَبَ إِلَّا هَذَا الْفَارِسُ ، وَعَلَى أَنْ لَا يَرْمِيَ إِلَّا عَنْ هَذِهِ الْقَوْسِ بَطَلَ الْعَقْدُ فِي السَّبَقِ وَالنِّضَالِ : لِأَنَّهُ صَارَ مَعْقُودًا عَلَى شَرْطٍ غَيْرِ لَازِمٍ ، وَإِنْ

خَرَجَ مَخْرَجَ الْمَذْكُورِ فِي الْعَقْدِ ، فَقَالَ : وَيَرْكَبُ هَذَا الْفَارِسُ ، وَيَرْمِي عَنْ هَذِهِ الْقَوْسِ كَانَ الْعَقْدُ فِي السَّبَقِ وَالنِّضَالِ جَائِزًا ، وَلَهُ أَنْ يُبَدِّلَ الرَّاكِبَ بِغَيْرِهِ إِذَا كَانَ فِي مِثْلِ ثِقَلِهِ لِعِلَّةٍ وَلِغَيْرِ عِلَّةٍ ، وَيُبَدِّلَ الْقَوْسَ بِغَيْرِهَا إِذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسِهَا لِعِلَّةٍ وَلِغَيْرِ عِلَّةٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَمِنَ الرُّمَاةِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُمَا إِذَا سَمَّيَا قَرْعًا يَسْتَبِقَانِ إِلَيْهِ فَصَارَا عَلَى السَّوَاءِ ، أَوْ بَيْنَهُمَا زِيَادَةَ سَهْمٍ ، كَانَ لِلْمُسْبِقِ أَنْ يَزِيدَ فِي عَدَدِ الْقَرْعِ مَا شَاءَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي عَدَدِ الْقَرْعِ مَا لَمْ يَكُونَا سَوَاءً ، وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَزِيدَ بِغَيْرِ رِضَا الْمُسْبَقِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَذَا أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ كَمَا لَمْ يَكُنْ سَبَقُهُمَا فِي الْخَيْلِ وَلَا فِي الرَّمْيِ وَلَا فِي الِابْتِدَاءِ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى غَايَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَكَذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَزِيدَ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى زِيَادَةٍ وَاحِدَةٍ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا فِي لُزُومِ عَقْدِ السَّبَقِ وَالرَّمْيِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَازِمٌ كَالْإِجَارَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ جَائِزٌ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ ، كَالْجِعَالَةِ ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مَسْأَلَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : فِي فَسْخِ الْعَقْدِ ، فَإِنِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ صَحَّ ، وَهَلِ الْفَسْخُ إِقَالَةُ مُرَاضَاةٍ أَوْ فَسْخُ خِيَارٍ عَلَى الْقَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ إِقَالَةَ مُرَاضَاةٍ إِنْ قِيلَ بِلُزُومِهِ كَالْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ . وَالثَّانِي : فَسْخَ خِيَارٍ إِنْ قِيلَ بِجَوَازِهِ كَالْفَسْخِ فِي الْقِرَاضِ وَالْجِعَالَةِ . وَإِنِ انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِالْفَسْخِ ، فَإِنْ قِيلَ بِلُزُومِهِ كَالْإِجَارَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ التَّفَرُّدُ بِالْفَسْخِ ، وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِهِ كَالْجِعَالَةِ ، فَإِنْ كَانَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ جَازَ لَهُ الْفَسْخُ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ وَقَبْلَ الْغَلَبَةِ ، فَإِنْ كَانَ مُتَسَاوِيَيْنِ وَمُتَقَارِبَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْإِصَابَةِ ، أَوْ فُضِّلَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِسَهْمٍ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْفَسْخِ ، وَهُوَ فَسْخُ خِيَارٍ ، وَلَيْسَ بِإِقَالَةٍ ، وَإِنْ تَفَاضَلَا فِي الْإِصَابَةِ ، وَظَهَرَتْ عَلَى أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ قَبْلَ تَمَامِهِمَا ، فَإِنْ فَسَخَ مَنْ ظَهَرَ أَنَّهُ غَالِبٌ جَازَ ، وَإِنْ فَسَخَ مَنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مَغْلُوبٌ ، فَفِي جَوَازِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي خِيَارِ الْعَقْدِ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ لِئَلَّا يُضَاعَ عَلَى الْغَالِبِ مَا يَلُوحُ مِنْ وُجُوبِ حَقِّهِ . وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي زِيَادَةِ الشَّرْطِ ، وَهُوَ أَنْ يَعْقِدَاهُ عَلَى إِصَابَةِ عَشَرَةٍ مِنْ عِشْرِينَ ، فَيَجْعَلَ إِصَابَةَ خَمْسَةٍ مِنْ عِشْرِينَ أَوْ يَجْعَلَ إِصَابَةَ عَشَرَةٍ مِنْ ثَلَاثِينَ أَوْ يَعْقِدَ عَلَى أَنَّ الْعِوَضَ فِيهِ دِينَارٌ ، فَيُجْعَلَ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ ، فَإِنْ قِيلَ بِلُزُومِهِ كَالْإِجَارَةِ ، وَلَمْ يَصِحَّ

ذَلِكَ مِنْ أَحَدِهِمَا حَتَّى يَجْتَمِعَا عَلَى فَسْخِ الْعَقْدِ ، وَاسْتِئْنَافِ عَقْدٍ مُسْتَجَدٍّ . وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِهِ كَالْجِعَالَةِ جَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ أَحَدُهُمَا ، لَكِنْ لَا يَصِيرُ الْآخِذُ دَاخِلًا فِيهِ إِلَّا أَنْ يَسْتَأْنِفَ الرِّضَا بِهِ ، وَقِيلَ لِي : إِنْ شِئْتَ أَنْ تُرَامِيَهُ عَلَى هَذَا ، وَإِلَّا مَلَكَ خِيَارَكَ . فَأَمَّا مَا حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنِ الرُّمَاةِ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا أَرَادَ بِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَرَادَ أَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ لُزُومِهِ وَجَوَازِهِ وَزِيَادَتِهِ ، وَنُقْصَانِهِ ، قَدْ قَالَهُ غَيْرُهُ وَتَقَدَّمَهُ بِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَصَحَّ مَذَاهِبِهِمْ عِنْدَهُ : لِيُعْلَمَ صَحِيحُهَا وَفَاسِدُهَا . وَفِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : إِذَا سَمَّيَا قَرْعًا يَسْتَبِقَانِ إِلَيْهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ أَرَادَ بِالْقَرْعِ صِحَّةَ الْإِصَابَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ عَدَدَ الْإِصَابَةِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَالَ النِّضَالِ . وَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ : كَمَا لَمْ يَكُنْ سِبَاقُهُمْ فِي الْخَيْلِ ، وَلَا فِي الرَّمْيِ فِي الِابْتِدَاءِ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى غَايَةٍ وَاحِدَةٍ ، كَذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَزِيدَ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى زِيَادَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِ الْمُزَنِيِّ بِكَلَامِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَرَادَ اخْتِيَارَ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي لُزُومِ الْعَقْدِ دُونَ جَوَازِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُصِيبًا فِي اخْتِيَارِهِ ، مُخْطِئًا فِي تَعْلِيلِهِ : لِأَنَّ أَظْهَرَ الْقَوْلَيْنِ لُزُومُهُ ، فَصَحَّ اخْتِيَارُهُ ، وَعَلَّلَ بِأَنَّ مَا لَمْ يَنْعَقِدْ إِلَّا بِاجْتِمَاعٍ ، لَمْ يَنْفَسِخْ إِلَّا بِالِاجْتِمَاعِ وَهَذَا تَعْلِيلٌ فَاسِدٌ بِالْعُقُودِ الْجَائِزَةِ كُلِّهَا مِنَ الْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالْجِعَالَةِ لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا وَيَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْفَسْخِ أَحَدُهُمَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ إِذَا دَعَا أَحَدُهُمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ صَاحِبَهُ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَيْهِ ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُخْطِئًا فِي تَأْوِيلِهِ ، مُصِيبًا فِي تَعْلِيلِهِ : لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يُوجِبْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَّا مَا اجْتَمَعَا عَلَى الرِّضَا بِهِ فِي الْقَوْلَيْنِ مَعًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ إِنْ أَصَبْتَ بِهَذَا السَّهْمِ فَقَدَ نَضَلْتُكَ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ رَجُلٌ لَهُ سَبَقًا إِنْ أَصَابَ بِهِ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي عَقْدٍ بَيْنَ مُتَنَاضِلَيْنِ عَلَى إِصَابَةٍ مَعْلُومَةٍ مِنْ رَشْقٍ مَعْلُومٍ ، كَاشْتِرَاطِهِمَا إِصَابَةَ عَشَرَةٍ مِنْ عِشْرِينَ فَيَشْرَعَانِ فِي الرَّمْيِ ، وَيُصِيبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَقْدِ إِصَابَتِهِ عَلَى تَسَاوٍ أَوْ تُفَاضِلٍ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ ، ثُمَّ يَسْتَثْقِلَانِ إِتْمَامَ الرَّمْيِ ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ " هُوَ ذَا ، أَرْمِي بِهَذَا السَّهْمِ فَإِنْ أَصَبْتُ بِهِ ، فَقَدَ نَضَلْتُكَ وَإِنْ أَخْطَأْتُ بِهِ ، فَقَدَ نَضَلْتَنِي " فَهَذَا بَاطِلٌ ، لَا يَصِيرُ بِهِ نَاضِلًا إِنْ أَصَابَ ، وَلَا مَنْضُولًا إِنْ أَخْطَأَ . وَلِبُطْلَانِهِ عِلَّتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنَّهُ جَعَلَ الْإِصَابَةَ الْوَاحِدَةَ قَائِمَةً مَقَامَ إِصَابَاتٍ ، فَبَطَلَ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَالثَّانِيَةُ : أَنْ يَئُولَ إِلَى أَنْ يَصِيرَ مِنْ قِلَّةِ إِصَابَتِهِ نَاضِلًا وَمِنْ كَثْرَةِ إِصَابَتِهِ مَنْضُولًا ، فَإِنْ تَقَاسَمَا عَقْدَهُمَا ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ : ارْمِ بِسَهْمِكَ هَذَا ، فَإِنْ أَصَبْتَ بِهِ ، فَلَكَ دِرْهَمٌ ، جَازَ وَاسْتَحَقَّ الدِّرْهَمَ إِنْ أَصَابَ ، وَلِجَوَازِهِ عِلَّتَانِ : إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ قَدْ أَجَابَهُ إِلَى مَا سَأَلَ ، فَالْتَزَمَ لَهُ مَا بَذَلَ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَالثَّانِيَةُ : أَنَّهُ تَحْرِيضٌ فِي طَاعَةٍ فَلَزِمَ الْبَذْلُ عَلَيْهَا كَالْمُنَاضَلَةِ . قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : وَهَذَا بَذْلُ مَالٍ عَلَى عَمَلٍ ، وَلَيْسَ بِنِضَالٍ : لِأَنَّ النِّضَالَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَيْنَ اثْنَيْنِ ، فَأَكْثَرَ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَنَاضَلَ رَجُلَانِ عَلَى إِصَابَةِ عَشَرَةٍ مِنْ عِشْرِينَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَحَضَرَ ثَالِثٌ ، فَقَالَ لِمُخْرِجِ الْمَالِ : أَنَا شَرِيكُكَ فِي الْغُنْمِ وَالْغُرْمِ ، فَإِنْ نَضَلْتَ فَلِي نِصْفُ الْعَشَرَةِ ، وَإِنْ نَضَلَكَ فَعَلَيَّ نِصْفُ الْعَشَرَةِ كَانَ بَاطِلًا ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا : أَنَا شَرِيكُكَ فِي الْغُنْمِ وَالْغُرْمِ فَهُوَ بَاطِلٌ لِعِلَّتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي عَقْدِهِمَا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ شَرِيكًا لَهُمَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَصِيرُ آخِذًا بِغَيْرِ عَمَلٍ وَمُعْطِيًا مِنْ غَيْرِ بَذْلٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ قَالَ ارْمِ عَشَرَةَ أَرْشَاقٍ ، فَإِنْ كَانَ صَوَابُكَ أَكْثَرَ فَلَكَ كَذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُنَاضِلَ نَفْسَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صُورَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُزَنِيَّ حَذَفَ مِنْهَا مَا قَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " فَقَالَ فِيهِ : وَلَوْ قَالَ لَهُ : نَاضِلْ نَفْسَكَ ، وَارْمِ عَشَرَةَ أَرْشَاقٍ ، فَإِنْ كَانَ صَوَابُكَ أَكْثَرَ مِنْ خَطَئِكَ فَلَكَ كَذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُنَاضِلَ نَفْسَهُ ، فَحَذَفَ الْمُزَنِيُّ قَوْلَهُ : " نَاضِلْ نَفْسَكَ " وَأَوْرَدَ بَاقِيَ كَلَامِهِ ، وَحُكْمُهُ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا .

وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْلِيلِهِ ، فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ تَعْلِيلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ جَعَلَهُ مُنَاضِلًا لِنَفْسِهِ ، وَالنِّضَالُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَيْنَ اثْنَيْنِ ، فَإِنْ كَثُرَ ، فَاسْتَحَالَ نِضَالُ نَفْسِهِ المنضال فَبَطَلَ . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ عِلَّةُ بُطْلَانِهِ أَنَّهُ نَاضَلَ عَلَى خِطْئِهِ بِصَوَابِهِ بِقَوْلِهِ : إِنْ كَانَ صَوَابُكَ أَكْثَرَ مِنْ خَطَئِكَ ، وَالْخَطَأُ لَا يُنَاضَلُ عَلَيْهِ ، وَلَا بِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُصَوَّرَةٌ عَلَى مَا أَوْرَدَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ نِضَالَ نَفْسِهِ ، وَقَالَ لَهُ : ارْمِ عَشَرَةَ أَرْشَاقٍ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ الْعِلَّتَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ صَحِيحٌ ، وَيَسْتَحِقُّ مَا جُعِلَ لَهُ لِلتَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ : لِأَنَّهُ بَذَلَ مَالًا عَلَى عَمَلٍ لَمْ يُنَاضِلْ فِيهِ نَفْسَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ بَاطِلٌ لِلتَّعْلِيلِ الثَّانِي أَنَّهُ مُنَاضِلٌ عَلَى خِطْئِهِ وَصَوَابِهِ ، وَيَتَفَرَّعُ عَنْ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ ثَالِثَةٌ : وَاخْتَلَفَ فِيهَا أَصْحَابُنَا بِأَيِّهِمَا تَلْحَقُ عَلَى وَجْهَيْنِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : نَاضِلْ وَارْمِ عَشَرَةَ أَرْشَاقٍ فَإِنْ كَانَ صَوَابُكَ أَكْثَرَ ، فَلَكَ كَذَا فَتُوَافِقَ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى فِي قَوْلِهِ : نَاضِلْ ، وَتُوَافِقَ الْمَسْأَلَةَ الثَّانِيَةَ فِي حَذْفِ قَوْلِهِ : نَاضِلْ نَفْسَكَ ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : إِنَّهُمَا فِي حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فِي الْبُطْلَانِ : لِأَجْلِ قَوْلِهِ : نَاضِلْ ، وَالنِّضَالُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَيْنَ اثْنَيْنِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ : نَاضِلْ نَفْسَكَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا فِي حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فِي حَمْلِ صِحَّتِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ الْعِلَّتَيْنِ إِذَا سَقَطَ قَوْلُهُ : نَاضِلْ نَفْسَكَ صَارَ قَوْلُهُ : نَاضِلْ ، يَعْنِي : ارْمِ عَلَى نِضَالٍ ، وَالنِّضَالُ الْمَالُ ، فَصَارَ كَالِابْتِدَاءِ بِقَوْلِهِ : ارْمِ عَشَرَةَ أَرْشَاقٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا رَمَى بِسَهْمٍ فَانْكَسَرَ ، فَإِنْ أَصَابَ بِالنَّصْلِ كَانَ لَهُ خَاسِقًا ، وَإِنْ أَصَابَ بِالْقِدْحِ لَمْ يَكُنْ خَاسِقًا ، وَلَوِ انْقَطَعَ بِاثْنَيْنِ فَأَصَابَ بِهِمَا جَمِيعًا حُسِبَ الَّذِي فِيهِ النَّصْلُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ ، فَإِذَا انْكَسَرَ السَّهْمُ بَعْدَ خُرُوجِهِ عَنِ الْقَوْسِ ، فَلَهُ خَمْسَةُ أَحْوَالٍ إذا : أَحَدُهَا : أَنْ يَسْقُطَ عَادِلًا عَنِ الْهَدَفِ ، فَلَا يُحْتَسَبَ عَلَيْهِ فِي الْخَطَأِ : لِأَنَّهُ مِنْ فَسَادِ السَّهْمِ ، لَا مِنْ سُوءِ الرَّمْيِ .

وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُصِيبَ بِعُرْضِ السَّهْمِ ، فَيُرَدَّ عَلَيْهِ ، وَلَا يُحْتَسَبُ بِهِ مُصِيبًا وَلَا مُخْطِئًا : لِأَنَّهُ أَصَابَ بِغَيْرِ مَحَلِّ الْإِصَابَةِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُصِيبَ بِكَسْرِ الْقِدْحِ دُونَ النَّصْلِ ، فَيُرَدَّ ، وَلَا يُحْتَسَبُ : لِمَا ذَكَرْنَاهُ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يُصِيبَ بِكَسْرِ النَّصْلِ ، فَيُنْظَرَ ، فَإِنْ وَقَعَتِ الْإِصَابَةُ مِنْ كَسْرِ النَّصْلِ بِالطَّرَفِ الَّذِي فِيهِ حَدِيدَةُ النَّصْلِ ، احْتُسِبَ بِهِ مُصِيبًا : لِأَنَّهُ أَصَابَ بِمَحَلِّ الْإِصَابَةِ ، وَإِنْ أَصَابَ مِنْهُ بِالطَّرَفِ الْآخَرِ الْمُتَّصِلِ بِقِدْحِ الْفُوقِ لَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ مُصِيبًا وَلَا مُخْطِئًا : لِأَنَّهُ أَصَابَ بِغَيْرِ مَحَلِّ الْإِصَابَةِ . وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ : أَنْ يُصِيبَ بِالْكَسْرَيْنِ مَعًا ، فَلَا يُحْتَسَبَ بِكَسْرِ الْقِدْحِ ، وَيَكُونُ الِاحْتِسَابُ بِكَسْرِ النَّصْلِ مُعْتَبَرًا بِمَا ذَكَرْنَا إِنْ كَانَ بِطَرَفِ الْحَدِيدَةِ كَانَ مُصِيبًا ، وَإِنْ كَانَ بِطَرَفِهِ الْآخَرِ كَانَ مَرْدُودًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَإِنْ كَانَ فِي الشَّنِّ نَبْلٌّ فَأَصَابَ سَهْمٌ فُوقَ سَهْمٍ فِي الشَّنِّ لَمْ يُحْسَبْ وَرُدَّ عَلَيْهِ وَرُمِيَ بِهِ : لِأَنَّهُ عَارِضٌ دُونَ الشَّنِّ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فُوقَ السَّهْمِ هُوَ الْجُزْءُ الَّذِي فِي طَرَفِهِ لِمَوْقِعِ الْوَتَرِ ، فَإِذَا ثَبَتَ سَهْمٌ فِي الشَّنِّ ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ سَهْمُ هَذَا عَلَى فُوقِ السَّهْمِ الَّذِي فِي الْهَدَفِ ، فَلِلسَّهْمِ الثَّابِتِ فِي الْهَدَفِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَدْخُلَ مِنْهُ فِي الْهَدَفِ قَدْرَ نَصْلِهِ ، وَيَكُونَ بَاقِي طُولِهِ خَارِجًا ، فَلَا يُحْتَسَبَ لِهَذَا بِسَهْمِهِ لَا مُخْطِئًا ، وَلَا مُصِيبًا : لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ كُلَّ الْهَدَفِ ، فَصَارَ مُقَصِّرًا ، فَلَمْ يُعْتَدَّ بِهِ مُصِيبًا ، وَلَا مُخْطِئًا ، وَمَنَعَهُ طَائِلٌ ، فَلَمْ يَصِرْ مُخْطِئًا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ السَّهْمُ الثَّابِتُ فِي الْهَدَفِ قَدْ دَخَلَ جَمِيعُهُ فِي الْهَدَفِ حَتَّى غَاصَ ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعُ فُوقِهِ ، فَوَقَعَ عَلَيْهِ هَذَا السَّهْمُ ، فَيُنْظَرُ فِي الْإِصَابَةِ : فَإِنْ كَانَتْ قَرْعًا احْتُسِبَ بِهَذَا السَّهْمِ مُصِيبًا لِوُصُولِ السَّهْمِ إِلَى مَحَلِّ الْإِصَابَةِ مِنَ الْهَدَفِ ، وَإِنْ كَانَتِ الْإِصَابَةُ خَسْقًا لَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ مُصِيبًا وَلَا مُخْطِئًا إِلَّا إِنْ ثَبَتَ نَصْلُهُ مِنْ فُوقِ ذَلِكَ السَّهْمِ ، فَيُحْتَسَبُ بِهِ مُصِيبًا فِي الْخَسْقِ : لِأَنَّ مَا خَسَقَ الْخَشَبَ ، وَثَبَتَ فِيهِ فَأَوْلَى أَنْ يَخْسَقَ الشَّنَّ ، وَيَثْبُتَ فِيهِ ، وَأَحْسَنُ مَا تَكُونُ الْإِصَابَةُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : نُصِيبُ بِبَعْضِهَا أَفْوَاقَ بَعْضٍ فَلَوْلَا الْكَسْرُ لَاتَّصَلَتْ مُصِيبًا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا أَرَادَ الْمُسْتَبِقُ أَنْ يَجْلِسَ وَلَا يَرْمِيَ وَلِلْمُسْبَقِ فَضْلٌ أَوْ لَا فَضْلَ لَهُ فَسَوَاءٌ ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ الْفَضْلُ فَيَنْضُلُ وَيَكُونُ عَلَيْهِ الْفَضْلُ وَيُنْضَلُ وَالرُّمَاةُ

يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ لَهُ أَنْ يَجْلِسَ مَا لَمْ يَنْضُلْ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْلِسَ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ وَأَحْسَبُهُ إِنْ مَرِضَ مَرَضًا يَضُرُّ بِالرَّمْيِ أَوْ يُصِيبُ إِحْدَى يَدَيْهِ عِلَّةٌ تَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَجْلِسَ وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَقُولُوا إِذَا تَرَاضَيَا عَلَى أَصْلِ الرَّمْيِ الْأَوَّلِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا جَلَسَ أَحَدُ الْمُتَنَاضِلَيْنِ عَنِ الرَّمْيِ ، فَلَهُ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يُرِيدَ بِهِ تَأْخِيرَ الرَّمْيِ عَنْ وَقْتِهِ ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَعْذُورًا أَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ ، وَطَلَبَ التَّأْخِيرَ أُخِّرَ ، وَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى التَّعْجِيلِ سَوَاءٌ قِيلَ بِلُزُومِهِ كَالْإِجَارَةِ أَوْ بِجَوَازِهِ كَالْجِعَالَةِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَوْكَدَ مِنْ فَرْضِ الْجُمُعَةِ الَّتِي يَجُوزُ التَّأَخُّرُ عَنْهَا بِالْعُذْرِ وَأَعْذَارُهُ فِي تَأْخِيرِ الرَّمْيِ مَا أَثَّرَ فِي نَفْسِهِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ شَدَّةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ أَثَّرَ فِي رَمْيِهِ مِنْ شِدَّةِ رِيحٍ أَوْ مَطَرٍ أَوْ أَثَّرَ فِي أَهْلِهِ مِنْ مَوْتٍ حَلَّ أَوْ حَادِثٍ نَزَلَ أَوْ أَثَّرَ فِي مَالِهِ مِنْ جَائِحَةٍ طَرَقَتْ أَوْ خَوْفٍ طَرَأَ : وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي تَأْخِيرِ الرَّمْيِ عُذْرٌ ، وَالْتَمَسَ بِهِ الدَّعَةَ إِلَى وَقْتٍ آخَرَ ، فَفِي إِجْبَارِهِ عَلَى التَّعْجِيلِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُجْبَرُ عَلَيْهِ ، إِذَا قِيلَ بِلُزُومِهِ كَالْإِجَارَةِ . وَالثَّانِي : لَا يُجْبَرُ عَلَى تَعْجِيلِهِ إِذَا قِيلَ بِجَوَازِهِ كَالْجِعَالَةِ .

فَصْلٌ : وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُرِيدَ بِالْجُلُوسِ عَنِ الرَّمْيِ فَسْخَ الْعَقْدِ ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا فِي الْفَسْخِ أَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ ، فَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا فِي الْفَسْخِ ، وَأَعْذَارُ الْفَسْخِ أَضْيَقُ وَأَغْلَظُ مِنْ أَعْذَارِ التَّأْخِيرِ وَهِيَ مَا اخْتَصَّتْ بِنَفْسِهِ مِنَ الْعُيُوبِ الْمَانِعَةِ مِنْ تَتِمَّةِ رَمْيِهِ ، وَهِيَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ كَشَلَلِ يَدِهِ أَوْ ذَهَابِ بَصَرِهِ ، فَالْفَسْخُ وَاقِعٌ بِحُدُوثِ هَذَا الْمَانِعِ ، وَلَيْسَ يَحْتَاجُ إِلَى فَسْخِهِ بِالْقَوْلِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا يُرْجَى زَوَالُهُ كَمَرَضِ يَدِهِ أَوْ رَمَدِ عَيْنِهِ أَوْ عِلَّةِ جَسَدِهِ ، فَلَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِحُدُوثِ هَذَا الْمَانِعِ ، بِخِلَافِ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ ، لِإِمْكَانِ الرَّمْيِ بِإِمْكَانِ زَوَالِهِ ، وَيَكُونُ الْفَسْخُ بِالْقَوْلِ ، وَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ صَاحِبِهِ ، فَإِنْ طَلَبَ تَعْجِيلَ الرَّمْيِ ، فَلَهُ الْفَسْخُ لِتَعَذُّرِ التَّعْجِيلِ عَلَيْهِ ، وَيَكُونُ اسْتِحْقَاقُ هَذَا الْفَسْخِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخُ الْعَقْدِ بِهِ ، وَإِنْ أَجَابَ صَاحِبَهُ إِلَى الْإِنْظَارِ بِالرَّمْيِ إِلَى زَوَالِ الْمَرَضِ ، فَهَلْ يَكُونُ عُذْرُهُ فِي الْفَسْخِ بَاقِيًا أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ بَاقِيًا فِي اسْتِحْقَاقِ الْفَسْخِ : لِئَلَّا تَكُونَ ذِمَّتُهُ مُرْتَهِنَةً بِالْعَقْدِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ عُذْرَ الْفَسْخِ قَدْ زَالَ بِالِانْتِظَارِ ، وَلَيْسَ لِلْمُنْظِرِ أَنْ يَرْجِعَ فِي هَذَا الْإِنْظَارِ ، وَإِنْ جَازَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْإِنْظَارِ بِالدُّيُونِ : لِأَنَّهُ عَنْ عَيْبٍ رَضِيَ بِهِ وَجَرَى مَجْرَى الْإِنْظَارِ بِالْإِعْسَارِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِطَالِبِ الْفَسْخِ عُذْرٌ فِي الْفَسْخِ .

فَإِنْ قِيلَ بِلُزُومِ الْعَقْدِ كَالْإِجَارَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ ، وَأُخِذَ بِهِ جَبْرًا ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْهُ حُبِسَ عَلَيْهِ كَمَا يُحْبَسُ بِسَائِرِ الْحُقُوقِ إِذَا امْتَنَعَ بِهَا ، فَإِنْ طَالَ بِهِ الْحَبْسُ ، وَهُوَ عَلَى امْتِنَاعِهِ عُزِّرَ حَتَّى يُجِيبَ ، وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ الْعَقْدِ كَالْجِعَالَةِ ، فَلَهُ الْفَسْخُ قَبْلَ الرَّمْيِ للعقد بين المتناضلين ، وَبَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ ، وَقَبْلَ ظُهُورِ الْغَلَبَةِ ، فَإِنْ ظَهَرَتِ الْغَلَبَةُ لِأَحَدِهِمَا ، فَإِنْ كَانَتْ لِطَالِبِ الْفَسْخِ ، فَلَهُ الْفَسْخُ ، وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِهِ ، فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِلْفَسْخِ قَوْلَانِ مَضَيَا : أَحَدُهُمَا : لَا يَسْتَحِقُّهُ بَعْدَ ظُهُورِهَا ، لِتَفْوِيتِ الْأَغْرَاضِ الْمَقْصُودَةِ بَعْدَ ظُهُورِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي ، وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا : لَهُ الْفَسْخُ لِمَا عَلَّلَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ الْفَضْلُ فَيَنْضُلُ ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ الْفَضْلُ ، فَيُنْضَلُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْبِقَهُ عَلَى أَنْ يُعِيدَ عَلَيْهِ في الرمي " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا قَوْلُهُ : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْبِقَهُ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَعْقِدُ مَعَهُ عَقْدَ السَّبَقِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : لَا يَخْرُجُ مَالُ السَّبَقِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : " عَلَى أَنْ يُعِيدَ عَلَيْهِ " ، فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَخْطَأَ أُعِيدَ عَلَيْهِ السَّهْمُ وَلَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ فِي الْخَطَأِ ، وَيُجْعَلُ كُلُّ خَطَأَيْنِ خَطَأً وَاحِدًا . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَصَابَ أُعِيدَ صَوَابُهُ ، فَاحْتُسِبَ بِهِ إِصَابَتَيْنِ ، وَالْعَقْدُ عَلَى التَّأْوِيلَيْنِ بَاطِلٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : اشْتِرَاطُ تَفَاضُلِهِمَا فِيمَا يَجِبُ فِيهِ تُسَاوِيهِمَا . وَالثَّانِي . أَنَّ مَقْصُودَ عَقْدِهِمَا مَعْرِفَةُ أَحْذَقِهِمَا ، وَلَا يُعْلَمُ مَعَ مُنَاضَلَةِ التَّفَاضُلِ حَذْقُ الْحَاذِقِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ سَبَقَهُ عَلَى أَنْ يَرْمِيَ بِالْعَرَبِيَّةِ في الرمي لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْمِيَ بِالْفَارِسِيَّةِ : لِأَنَّ مَعْرُوفًا أَنَّ الصَّوَابَ عَنِ الْفَارِسِيَّةِ أَكْثَرُ مِنْهُ عَنِ الْعَرَبِيَّةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا كَانَ عَقْدُ نِضَالِهِمَا أَنْ يَكُونَ عَنْ قَوْسٍ عَرَبِيَّةٍ ، فَأَرَادَ أَنْ يُبَدِّلَهَا بِقَوْسٍ فَارِسِيَّةٍ لَمْ يَجُزْ المتناضلين لِأَنَّ الصَّوَابَ بِالْفَارِسِيَّةِ أَكْثَرُ مِنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُبَدِّلَهَا بِقَوْسٍ أُخْرَى عَرَبِيَّةٍ جَازَ : لِأَنَّ الْجِنْسَ يَتَعَيَّنُ بِالشَّرْطِ وَلَا يَتَعَيَّنُ لَهُ وَاحِدٌ مِنَ الْجِنْسِ ، وَلَوْ كَانَ عَقْدُ نِضَالِهِمَا عَلَى الْفَارِسِيَّةِ ، فَأَرَادَ أَنْ يُبَدِّلَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ ، لَمْ يَجُزْ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ تَعْيِينَ الْجِنْسِ يَمْنَعُ مِنَ الْعُدُولِ عَنْهُ .

وَالثَّانِي : أَنَّ مَقْصُودَ الرَّمْيِ تَفَاضُلُهُمَا فِي الْحَذْقِ المتناضلان ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْعَرَبِيَّةِ أَحْذَقَ ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَعَ التَّمَاثُلِ أَحْذَقُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ سَبَقَهُ وَلَمْ يُسَمِّ الْغَرَضَ في الرمي كَرِهْتُهُ ، فَإِنْ سَمَّيَاهُ كَرِهْتُ أَنْ يَرْفَعَهُ أَوْ يَخْفِضَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْغَرَضُ فِي اللُّغَةِ ، فَهُوَ اسْمٌ لِلْمُرَادِ بِالْفِعْلِ الْمَقْصُودِ ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْإِرَادَةِ ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مَا اقْتَرَنَ بِالْفِعْلِ ، وَالْإِرَادَةُ قَدْ تَعُمُّ ، فَتَكُونُ بِفِعْلٍ وَغَيْرِ فِعْلٍ ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي النِّضَالِ وَلَهُ فِيهِ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ ، فَحَقِيقَةُ الْغَرَضِ فِي النِّضَالِ : مَحَلُّ الْإِصَابَةِ مِنَ الْهَدَفِ ، وَمَجَازُهُ فِي النِّضَالِ مَوْقِفُ الرَّامِي عِنْدَ رَمْيِ الْهَدَفِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَصِفَ الْغَرَضَ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْإِصَابَةِ وَالْغَرَضَ الَّذِي هُوَ مَوْقِفُ الرَّامِي : لِيَكُوَنَ حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا أُرِيدَ بِهَا مِنْهُمَا مَعْلُومًا بَعْدَ تَفْسِيرِهِمَا وَمَعْرِفَتِهِمَا . أَمَّا الْغَرَضُ فِي الْهَدَفِ ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْهَدَفَ هُوَ بِنَاءٌ يُنْصَبُ فِيهِ الْغَرَضُ ، وَالْغَرَضُ يَشْتَمِلُ عَلَى شَنٍّ وَجَرِيدٍ وَعُرًى وَمَعَالِيقَ . فَالشَّنُّ هُوَ الْجِلْدُ . وَالْجَرِيدُ : هُوَ الْخَشَبُ الْمُحِيطُ بِالشَّنِّ ، حَتَّى يَنْبَسِطَ فِيهِ كَحَلْقَةِ الْمُنْخُلِ ، وَأَمَّا الْعُرَى : فَهُوَ كَالْحَلْقِ حَوْلَ الشَّنِّ . فَأَمَّا الْمَعَالِيقُ : فَهِيَ أَوْتَارٌ يُشَدُّ بِهَا عُرَى الشَّنِّ إِلَى أَوْتَادٍ فِي الْهَدَفِ ، وَفِي الشَّنِّ دَائِرَةٌ هِيَ أَضْيَقُ مِنْهُ ، وَفِي الدَّائِرَةِ هِلَالٌ هُوَ أَضْيَقُ ، وَفِي الْهِلَالِ خَاتَمٌ هُوَ أَضْيَقُ مِنْهُ ، فَأَحْذَقُ الرُّمَاةِ مَنْ يَشْتَرِطُ إِصَابَةَ الْخَاتَمِ ، فَلَا يُحْتَسَبُ لَهُ بِعِصَابَةِ الْهِلَالِ ، وَمَا زَادَ ثُمَّ يَلِيهِ مَنْ يَشْتَرِطُ إِصَابَةَ الْهِلَالِ ، فَلَا يُحْتَسَبُ لَهُ أَصَابَةُ الدَّائِرَةِ ، وَمَا زَادَ ، ثُمَّ يَلِيهِ مَنْ يَشْتَرِطُ إِصَابَةَ الدَّائِرَةِ ، فَلَا يُحْتَسَبُ لَهُ بِإِصَابَةِ الشَّنِّ ، وَمَا زَادَ ثُمَّ يَلِيهِ مَنْ يَشْتَرِطُ إِصَابَةَ الشَّنِّ ، فَلَا يُحْتَسَبُ لَهُ بِبَقِيَّةِ الْغَرَضِ ، وَمَا زَادَ ثُمَّ يَلِيهِ مَنْ يَشْتَرِطُ إِصَابَةَ الْغَرَضِ ، فَيُحْتَسَبُ بِإِصَابَةِ الشَّنِّ ، وَالشَّنِّ وَالْعُرَى ، وَفِي الِاحْتِسَابِ لَهُ بِإِصَابَةِ الْمَعَالِيقِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُحْتَسَبُ بِهَا كَالْعُرَى . وَالثَّانِي : لَا يُحْتَسَبُ بِهَا كَالْأَوْتَادِ وَلَهُمْ فِي مَحَلِّ الْغَرَضِ مِنَ الْهَدَفِ عَادَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَرْفَعُهُ وَيُسَمُّونَهُ " جَوَّانِيٌّ " ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْفِضُهُ وَيُسَمُّونَهُ " مَيْلَانِيٌّ " ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَسَّطُ فِيهِ وَيُسَمُّونَهُ " نَطْحَانِيٌّ " . وَأَمَّا الْغَرَضُ فِي مَوْقِفِ الرَّامِي ، فَهُوَ مَقَامُ الرَّامِي فِي اسْتِقْبَالِ الْهَدَفِ يَرْمِيهِ مِنْ مَسَافَةٍ مُقَدَّرَةٍ تَقِلُّ الْإِصَابَةُ بِبُعْدِهَا ، وَتَكْثُرُ بِقُرْبِهَا ، وَيَحْتَاجُ فِي الْقَرِيبَةِ إِلَى الْقَوْسِ اللَّيِّنَةِ حَتَّى لَا يَمْرُقَ السَّهْمُ ، وَفِي الْبَعِيدَةِ إِلَى الْقَوْسِ الشَّدِيدَةِ حَتَّى يَصِلَ السَّهْمُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا أَرَادَهُ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ : " وَإِنْ سَبَقَهُ ، وَلَمْ يُسَمِّ الْغَرَضَ كَرِهْتُهُ " ، هَلْ أَرَادَ بِهِ غَرَضَ الْهَدَفِ أَوْ غَرَضَ الْمَوْقِفِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ أَرَادَ غَرَضَ الْمَوْقِفِ أَنْ تَكُونَ مَسَافَتُهُ مُقَدَّرَةً بِالشَّرْطِ فِي الْعَقْدِ ، وَإِنْ أَغْفَلَا ذِكْرَهَا ، وَعُرْفُ الرُّمَاةِ فِيهِ مُخْتَلِفٌ ، بَطَلَ الْعَقْدُ لِلْجَهْلِ بِمَا هُوَ مَقْصُودٌ فِيهِ ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : " كَرِهْتُهُ " أَيْ حَرَّمْتُهُ ، كُلَّمَا قَالَ : " وَأَكْرَهُ أَنْ يُدْهَنَ مِنْ عَظْمِ فِيلٍ " أَيْ أُحَرِّمُهُ ، وَإِنْ كَانَ لِلرُّمَاةِ فِيهِ عُرْفٌ مَعْهُودٌ ، فَفِي حَمْلِهِمَا عَلَيْهِ مَعَ الْإِطْلَاقِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُحْمَلَانِ فِيهِ عَلَى الْعُرْفِ : لِأَنَّ الْعُرْفَ مَعَ عَدَمِ الشَّرْطِ يَقُومُ فِي الْعُقُودِ مَقَامَ الشَّرْطِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْعَقْدُ صَحِيحًا ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : " كَرَاهَةً " يُرِيدُ : كَرَاهَةَ اخْتِيَارٍ لَا كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ ، وَإِنَّمَا كَرِهَهُ مَعَ الصِّحَّةِ : لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ لِأَعْيَانِ الْمُتَنَاضِلَيْنِ أَغْرَاضٌ فِي مُخَالَفَةِ الْعُرْفِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُمَا لَا يُحْمَلَانِ فِيهِ عَلَى الْعُرْفِ ، لِهَذَا التَّعْلِيلِ مِنَ اخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ فِيهِ وَأَنَّ الْقَوِيَّ فِي الْبُعْدِ أَرْغَبُ ، وَالضَّعِيفَ فِي الْقُرْبِ أَرْغَبُ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلًا ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ : " كَرِهْتُهُ " أَيْ : حَرَّمْتُهُ ، وَإِذَا تَقَدَّرَتْ مَسَافَةُ الْغَرَضِ إِمَّا بِالشَّرْطِ وَإِمَّا بِالْعُرْفِ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنَ الْمُتَنَاضِلَيْنِ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ ، وَلَا يَنْقُصَ مِنْهُ : لِأَنَّ الْجَوَابَ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَوْلِ بِلُزُومِهِ كَالْإِجَارَةِ ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : " فَإِنْ سَمَّيَاهُ كَرِهْتُ أَنْ يَرْفَعَهُ أَوْ يَخَفِضَهُ أَيْ : مَنَعْتُ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ أَوْ يَنْقُصَ مِنْهُ : لِأَنَّ الزِّيَادَةَ ارْتِفَاعٌ ، وَالنُّقْصَانَ انْخِفَاضٌ ، فَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مُرَادِ الشَّافِعِيِّ بِالْمَسْأَلَةِ وَجَوَابُهَا عَلَى هَذَا الْمُرَادِ فِي أَحْكَامِهَا مَعَ الذِّكْرِ وَالْإِغْفَالِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ مُرَادَ الشَّافِعِيِّ بِهَذَا غَرَضُ الْهَدَفِ فِي ارْتِفَاعِهِ وَانْخِفَاضِهِ ، وَتَوَسُّطِهِ ، فَإِنْ سَمَّيَاهُ فِي الْعَقْدِ حُمِلَا عَلَى مَا سَمَّيَاهُ ، وَلَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْفَعَهُ إِنْ كَانَ مُنْخَفِضًا وَلَا أَنْ يَخْفِضَهُ إِذَا كَانَ مُرْتَفِعًا الْتِزَامًا بِحُكْمِ الشَّرْطِ . وَإِنْ أَغْفَلَاهُ لَمْ يَبْطُلِ الْعَقْدُ بِإِغْفَالِهِ : لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ مَقْصُودِهِ ، وَقِيلَ لَهُمَا : إِنِ اتَّفَقْتُمَا عَلَيْهِ بَعْدَ الْعَقْدِ حُمِلْتُمَا فِيهِ عَلَى اتِّفَاقِكُمَا ، وَلَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْكُمَا بَعْدَ الِاتِّفَاقِ أَنْ يَرْفَعَهُ أَوْ يَخْفِضَهُ ، وَإِنِ اخْتَلَفْتُمَا فِيهِ حُمِلْتُمَا عَلَى الْعُرْفِ ، وَيَكُونُ الِاتِّفَاقُ هَاهُنَا مُقَدَّمًا عَلَى الْعُرْفِ : لِأَنَّ ارْتِفَاعَ الْغَرَضِ أَمْكَنُ لِلطَّوِيلِ وَالرَّاكِبِ ، وَانْخِفَاضَهُ أَمْكَنُ لِلْقَصِيرِ وَالنَّازِلِ . وَإِنْ كَانَ الْعُرْفُ عِنْدَ تَقَدُّرِ الِاتِّفَاقِ مُخْتَلِفًا ، رُوعِيَ فِيهِ أَوْسَطُ الْأَغْرَاضِ الْمُسَمَّى :

الْجَوَّانِيَّ : لِتَعْدِيلِ مَا بَيْنَ الْإِرَادَتَيْنِ ، وَيَكُونُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : " كَرِهْتُ " مَحْمُولًا عَلَى كَرَاهَةِ الِاخْتِيَارِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَقَدْ أَجَازَ الرُّمَاةُ لِلْمُسْبِقِ أَنْ يُرَامِيَهُ رَشْقًا وَأَكْثَرَ فِي الْمِائَتَيْنِ ، وَمَنْ أَجَازَ هَذَا أَجَازَهُ فِي الرُّقْعَةِ وَفِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَلَامًا مُشْتَبَهًا يَشْتَمِلُ عَلَى أَسْمَاءٍ مُبْهَمَةٍ ، وَأَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ فَيَلْزَمُ تَعْيِينُ أَسْمَائِهَا ، وَبَيَانُ أَحْكَامِهَا . فَأَمَّا الْأَسْمَاءُ ، فَذَكَرَ مِنْهَا الرَّشْقَ ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ بِفَتْحِ الرَّاءِ اسْمٌ لِلرَّمْيِ ، وَبِكَسْرِهَا اسْمٌ لِعَدَدِ الرَّمْيِ ، وَهُمَا عَدَدَانِ لَازِمٌ وَمُسْتَحَبٌّ . فَأَمَّا اللَّازِمُ فِي الْعَقْدِ ، فَهُوَ جُمْلَةُ عَدَدِ الرَّمْيِ الَّذِي تَعَاقَدَا عَلَيْهِ ، كَاشْتِرَاطِهِمَا رَمْيَ مِائَةِ سَهْمٍ ، فَالْمِائَةُ رِشْقٍ يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الرِّشْقِ حَقِيقَةً . وَأَمَّا الْمُسْتَحَبُّ فِي الْعَقْدِ بين المتناضلين ، فَهُوَ تَفْصِيلُ عَدَدِ الرَّمْيِ الَّذِي يَتَنَاوَبَانِ فِيهِ كَاشْتِرَاطِهِمَا أَنْ يَتَرَامَيَا خَمْسًا خَمْسًا ، أَوْ عَشْرًا عَشْرًا ، فَالْعَشْرُ رِشْقٌ ، يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الرِّشْقِ مَجَازًا : لِأَنَّهَا بَعْضُ الْحَقِيقَةِ ، فَصَارَا رِشَقَيْنِ : رِشْقَ جُمْلَةٍ ، وَرِشْقَ تَفْصِيلٍ . وَعَادَةُ الرُّمَاةِ فِي رِشْقِ التَّفْصِيلِ مُخْتَلِفَةٌ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ خَمْسًا خَمْسًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ عَشْرًا عَشْرًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ اثْنَيْ عَشَرَ اثْنَيْ عَشَرَ تَبَرُّكًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ يَوْمَ أُحُدٍ : ارْمِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي ، اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً ، فَكَانَ حُسْنُ الْأَثَرِ فِي الرَّمْيِ مُعْتَبَرًا بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ رَمَى فِي الْإِسْلَامِ سَهْمًا ، وَأَرَاقَ فِيهِ دَمًا ، وَشِعْرُهُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ حَيْثُ يَقُولُ : أَلَا هَلْ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي حَمَيْتُ صَحَابَتِي بِصُدُورِ نَبْلِي فَمَا يَعْتَدُّ رَامٍ فِي عَدُوٍّ بِسَهْمٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَبْلِي وَذَلِكَ أَنَّ دِينَكَ دِينُ صِدْقٍ وَذُو حَقٍّ أَتَيْتَ بِهِ وَعَدْلِ فَأَمَّا النَّدْبُ ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ اسْمًا لِمَالِ السَّبَقِ ، وَالرَّمْيِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ اسْمًا لِعَدَدِ الرَّمْيِ كَالرِّشْقِ ، وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا ، هَلْ يَنْطَلِقُ عَلَى عَدَدِ الْجُمْلَةِ أَمْ عَدَدِ

التَّفْصِيلِ أَوْ يَخْتَصُّ بِعَدَدِ التَّفْصِيلِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَنْطَلِقُ عَلَى الْعَدَدَيْنِ كَالرِّشْقِ ، وَقَالَ آخَرُونَ : يَخْتَصُّ بِعَدَدِ التَّفْصِيلِ دُونَ الْجُمْلَةِ . وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا هَلْ يَخْتَصُّ بِرَمْيِ الْجُلَاهِقِ أَوْ يَعُمُّ النُّشَّابَ وَالْجُلَاهِقَ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : النَّدْبُ كَالرِّشْقِ يَعُمُّ انْطِلَاقَهُمَا عَلَى عَدَدِ الرَّمْيِ فِي النِّشَابِ وَالْجُلَاهِقِ وَهُوَ الْبُنْدُقُ . وَقَالَ آخَرُونَ : الرِّشْقُ مُخْتَصٌّ بِعَدَدِ الرَّمْيِ فِي النِّشَابِ ، وَالنَّدْبُ مُخْتَصٌّ بِعَدَدِ الرَّمْيِ فِي الْجُلَاهِقِ وَمِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ " الرُّقْعَةُ " وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي رِوَايَتِهَا فَرَوَاهَا الْمُزَنِيُّ : الرُّقْعَةُ بِالْقَافِ وَضَمِّ الرَّاءِ ، وَرَوَاهَا ابْنُ سُرَيْجٍ : " الرِّفْعَةُ " بِالْفَاءِ وَكَسَرِ الرَّاءِ مَأْخُوذٌ مِنَ الِارْتِفَاعِ ، وَزَعَمَ أَنَّهُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " وَنَسَبَ الْمُزَنِيَّ إِلَى الْوَهْمِ ، فَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَكُونُ هَذَا الِاسْمُ صِفَةً لِلْغَرَضِ فِي ارْتِفَاعِهِ مِنْ خَفْضٍ إِلَى عُلُوٍّ . وَعَلَى رِوَايَةِ الْمُزَنِيِّ أَنَّهَا الرُّقْعَةُ بِالْقَافِ اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهَا هَاهُنَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ اسْمٌ لِلْغَرَضِ الَّذِي فِي الْهَدَفِ ، فَيَكُونُ مُسَمًّى بِاسْمَيْنِ : بِالرُّقْعَةِ وَبِالْغَرَضِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ اسْمٌ يَخْتَصُّ بِهَا فِي وَسَطِ الْغَرَضِ مِنْ عَظْمٍ هُوَ أَضِيقُ مَا فِيهِ مِنْ مَوَاقِعَ الْإِصَابَةِ الَّذِي تَقَدَّمَ لَهُ سِمَةٌ بِالْخَاتَمِ ، فَيُسَمَّى بِاسْمَيْنِ بِالرُّقْعَةِ وَبِالْخَاتَمِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ اسْمٌ لِمَسَافَةِ الرَّمْيِ ، فِيمَا بَيْنَ مَوْقِفِ الرَّامِي وَالْهَدَفِ ، وَلَئِنْ طَالَ الْكَلَامُ بِتَفْسِيرِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ ، فَلَا غِنًى عَنْهَا : لِتَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ بِهَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي قَدْرِ الْمَسَافَةِ الَّتِي تَجُوزُ أَنْ يَتَنَاضَلَا إِلَيْهَا ، وَحَدُّ أَقَلِّهَا مَا يَجُوزُ أَنْ يُخْطِئَ فِيهِ الرُّمَاةُ لِبُعْدِهِ ، وَأَمَّا مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْطِئُوا فِيهِ : لِقُرْبِهِ ، فَالنِّضَالُ عَلَيْهِ بَاطِلٌ ، وَحَدُّ أَكْثَرِهَا مَا يَجُوزُ أَنْ يُصِيبَ فِيهِ الرُّمَاةُ لِقُرْبِهِ . فَأَمَّا مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُصِيبُوا فِيهِ لِبُعْدِهِ ، فَالنِّضَالُ عَلَيْهِ بَاطِلٌ ، وَهَذَانِ الْحَدَّانِ فِي الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ هُمَا حَدَّا تَحْقِيقٍ لِمَعْنَاهُمَا وَحَدُّهُمَا بِالْمَسَافَةِ حَدُّ تَقْرِيبٍ مِنْ غَيْرِ تَحْقِيقٍ ، وَأَثَرُ الْمَسَافَةِ عَلَى التَّقْرِيبِ مُعْتَادٌ وَنَادِرٌ ، فَأَمَّا حَدُّهُ الْمُعْتَادُ عَلَى التَّقْرِيبِ ، فَهُوَ مِائَتَا ذِرَاعٍ ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِمَ عَلَيْهِ مِنْ غَزَاةٍ ، وَوَصَفَ لَهُ حَرْبَهُمْ فِيهَا ، فَقَالَ : كُنَّا نُحَارِبُ الْعَدُوَّ ، فَإِنْ كَانُوا مِنَّا عَلَى مِائَتَيْ ذِرَاعٍ رَمَيْنَاهُمْ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110