كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي


فَإِنْ أُغْرِمَ الْأَوَّلُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الثَّانِي بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينُهُ فِيمَا غَرِمَهُ ، وَإِنْ أُغْرِمَ الثَّانِي رَجَعَ عَلَى الْأَوَّلِ بِمَا غَرِمَهُ مَعَ أُجْرَةِ مِثْلِ عَمَلِهِ . وَلَا يَلْزَمُ رَبَّ الْمَالِ - وَإِنْ أَخَذَ جَمِيعَ الرِّبْحِ - أَنْ يَدْفَعَ إِلَى وَاحِدٍ مِنَ الْعَامِلَيْنِ أُجْرَةَ الْمِثْلِ لِإِجْرَاءِ حُكْمِ الْغَصْبِ عَلَيْهِمَا بِالْمُخَالَفَةِ . وَذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ مَا رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ صَحِيحٌ ، وَأَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَيْسَ لَهُ مِنَ الرِّبْحِ إِلَّا نَصِفُهُ بِخِلَافِ الْمَأْخُوذِ غَصْبًا مَحْضًا ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ دَفَعَ الْمَالَ رَاضِيًا بِالنِّصْفِ مِنْ رِبْحِهِ وَجَاعِلًا نِصْفَهُ الْبَاقِيَ لِغَيْرِهِ ، فَذَلِكَ لَمْ يَسْتَحِقَّ مِنْهُ إِلَّا النِّصْفَ . فَأَمَّا النِّصْفُ الْبَاقِي فَقَدْ رَوَى الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ يَكُونُ بَيْنَ الْعَامِلَيْنِ . وَاخْتُلِفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ هَذَا خَطَأٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ فِي نَقْلِهِ ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ النِّصْفُ الْبَاقِي مِنَ الرِّبْحِ لِلْعَامِلِ الْأَوَّلِ ، وَلَا حَقَّ فِيهِ لِلثَّانِي لِفَسَادِ عَقْدِهِ وَيَرْجِعُ عَلَى الْأَوَّلِ بِأُجْرَةِ مِثْلِ عَمَلِهِ ، فَيُجْعَلُ الرِّبْحُ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ ، وَالْعَامِلِ الْأَوَّلِ ، وَيُجْعَلُ لِلثَّانِي أَنْ يَرْجِعَ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ عَلَى الْأَوَّلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ نَقْلَ الْمُزَنِيِّ صَحِيحٌ ، وَيَكُونُ النِّصْفُ الْبَاقِي مِنَ الرِّبْحِ بَيْنَ الْعَامِلَيْنِ نِصْفَيْنِ عَلَى شَرْطِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَرَى عَلَى الْعَامِلِ الْأَوَّلِ حُكْمُ الْقِرَاضِ مَعَ رَبِّ الْمَالِ ، جَرَى عَلَى الْعَامِلِ الْأَوَّلِ حُكْمُ الْقِرَاضِ مَعَ الْعَامِلِ الثَّانِي فَصَارَ النِّصْفُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا عَلَى سَوَاءٍ ، وَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ فِيمَا أَخَذَهُ رَبُّ الْمَالِ مِنْ نِصْفِ الرِّبْحِ ؛ لِأَنَّهُ بِاسْتِحْقَاقِ رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ مِنْهُمَا ، وَيَصِيرَا كَأَنَّهُ لَا رِبْحَ لَهُمَا إِلَّا النِّصْفُ الْبَاقِي ، فَهَذَا حُكْمُ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الْجَدِيدُ أَنَّ رِبْحَ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ لِلْغَاصِبِ ، فَعَلَى هَذَا لَا شَيْءَ لِرَبِّ الْمَالِ فِي الرِّبْحِ ، وَلَهُ مُطَالَبَةُ أَيِّ الْعَامِلَيْنِ شَاءَ بِرَأْسِ مَالِهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَبِعُدْوَانِهِ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَبِيَدِهِ . فَأَمَّا الرِّبْحُ فَقَدْ قَالَ الْمُزَنِيُّ : يَكُونُ لِلْعَامِلِ الْأَوَّلِ ، وَعَلَيْهِ لِلثَّانِي أُجْرَةُ مِثْلِهِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَحْكِيٌّ أَنَّ الْمُزَنِيَّ مُخْطِئٌ فِي نَقْلِهِ ، وَالرِّبْحَ كُلَّهُ لِلْعَامِلِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا صَارَ الرِّبْحُ تَبَعًا لِلْعَمَلِ ، وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِلْمَالِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِلثَّانِي الَّذِي لَهُ الْعَمَلُ دُونَ الْأَوَّلِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ عَمَلٌ .


وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْمُزَنِيَّ مُصِيبٌ فِي نَقْلِهِ ، وَالرِّبْحُ لِلْعَامِلِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي ، وَلِلثَّانِي عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ فِي قِرَاضٍ فَاسِدٍ ، وَالْعَامِلُ فِي الْقِرَاضِ الْفَاسِدِ لَا يَمْلِكُ رِبْحَهُ وَإِنْ فَسَدَ قِرَاضُهُ ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِغَيْرِهِ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِفَسَادِ الْعَقْدِ أُجْرَةَ مِثْلِهِ كَمَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَصِيدَ لَهُ وَيَحْتَشَّ إِجَارَةً فَاسِدَةً ، فَصَادَ الْأَجِيرُ وَاحْتَشَّ ، كَانَ الصَّيْدُ وَالْحَشِيشُ لِلْمُسْتَأْجِرِ دُونَ الْأَجِيرِ ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِمُسْتَأْجِرِهِ لَا لِنَفْسِهِ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ . فَهَذَا حُكْمُ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ . فَتَخَرَّجَ فِي الرِّبْحِ عَلَى مَا شَرَحْنَا مِنْ حُكْمِ الْقَوْلَيْنِ خَمْسَةُ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : أَنَّ جَمِيعَ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ ، وَلَا شَيْءَ فِيهِ لِلْعَامِلِينَ ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ . وَالثَّانِي : أَنَّ نِصْفَ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ ، وَالنِّصْفَ الْآخَرَ لِلْعَامِلِ الْأَوَّلِ ، وَلِلْعَامِلِ الثَّانِي عَلَى الْعَامِلِ الْأَوَّلِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ . وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ نِصْفَ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ ، وَالنِّصْفَ الْبَاقِي بَيْنَ الْعَامِلَيْنِ نِصْفَيْنِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ . وَالرَّابِعُ : أَنَّ الرِّبْحَ كُلَّهُ لِلْعَامِلِ الثَّانِي ، وَلَا شَيْءَ فِيهِ لِرَبِّ الْمَالِ ، وَلَا لِلْعَامِلِ الْأَوَّلِ ، وَهَذَا مَذْهَبٌ مَحْكِيٌّ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ . وَالْخَامِسُ : أَنَّ الرِّبْحَ كُلَّهُ لِلْعَامِلِ الْأَوَّلِ ، وَلَا شَيْءَ فِيهِ لِرَبِّ الْمَالِ ، وَلَا لِلْعَامِلِ الثَّانِي ، بَلْ يَرْجِعُ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ عَلَى الْعَامِلِ الْأَوَّلِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي مُقَارَضَةِ غَيْرِهِ ، وَلَا يَأْذَنَ لَهُ فِي الْعَمَلِ بِنَفْسِهِ يأذن رب المال للعامل ، فَهَذَا وَكَيْلٌ فِي عَقْدِ الْقِرَاضِ مَعَ غَيْرِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَارِضَ نَفْسَهُ ، كَالْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُبَايِعَ نَفْسَهُ ، ثُمَّ يُنْظَرُ : فَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ قَدْ عَيَّنَ لَهُ مَنْ يُقَارِضُهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ اجْتَهَدَ بِرَأْيِهِ فِيمَنْ يَرَاهُ أَهْلًا لِقِرَاضِهِ مِنْ ذَوِي الْأَمَانَةِ وَالْخِبْرَةِ . فَإِنْ قَارَضَ أَمِينًا غَيْرَ خَبِيرٍ بِالتِّجَارَةِ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ قَارَضَ خَبِيرًا بِالتِّجَارَةِ غَيْرَ أَمِينٍ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَجْتَمِعَ الشَّرْطَانِ فِيهِ : الْخِبْرَةُ ، وَالْأَمَانَةُ . فَإِنْ عَدَلَ عَمَّا وَصَفْنَا فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْدِلَ إِلَى مُقَارَضَةِ نَفْسِهِ .


وَالثَّانِي : أَنْ يَعْدِلَ إِلَى مُقَارَضَةِ غَيْرِ مَنْ عَيَّنَهُ رَبُّ الْمَالِ . فَإِنْ عَدَلَ إِلَى مُقَارَضَةِ نَفْسِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ ائْتِمَانَهُ عَلَى الْمَالِ إِنَّمَا كَانَ عَلَى مُقَارَضَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ لَا عَلَى التِّجَارَةِ بِهِ ، فَصَارَ لِأَجْلِ ذَلِكَ مُتَعَدِّيًا ضَامِنًا ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي رِبْحِ الْمَالِ ، وَيَكُونُ جَمِيعُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ رِبْحَ الْمَغْصُوبِ يَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ ، أَوْ لِلْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لِلْغَاصِبِ فَقَدْ صَارَ بِمُقَارَضَتِهِ نَفْسَهُ مُشْتَرِيًا لِرَبِّ الْمَالِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَعَ الْقَوْلَيْنِ مَعًا حَقٌّ فِي الرِّبْحِ ، وَلَا أُجْرَةَ لَهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَطَوِّعًا بِعَمَلٍ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ . وَإِنْ عَدَلَ إِلَى مُقَارَضَةِ غَيْرِ مَنْ عَيَّنَهُ رَبُّ الْمَالِ كَانَ ضَامِنًا لِلْمَالِ بِعُدْوَانِهِ ، وَكَانَ الْعَامِلُ فِيهِ ضَامِنًا لَهُ بِيَدِهِ ؛ لِأَنَّ مَنْ أَقَرَّ يَدَهُ عَلَى مَالٍ مَضْمُونٍ ضَمِنَهُ ، كَمَنِ اسْتَوْدَعَ مَالًا مَغْصُوبًا ، وَيَكُونُ جَمِيعُ رِبْحِهِ لِرَبِّ الْمَالِ قَوْلًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ مَا اشْتَرَى لِنَفْسِهِ ، وَلَا رُجُوعَ لِلْعَامِلِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِأُجْرَةِ عَمَلِهِ ، وَهَلْ يُرْجَعُ بِهَا عَلَى الْوَكِيلِ الْغَارِّ لَهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ فِي الزَّوْجِ الْمَغْرُورِ هَلْ يَرْجِعُ مَنْ غَرَّهُ بِالَّذِي غَرِمَهُ ؟ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْعَمَلِ بِنَفْسِهِ ، وَفِي مُقَارَضَةِ غَيْرِهِ يأذن رب المال للعامل فَيَكُونُ بِالْخِيَارِ لِمَكَانِ الْإِذْنِ فِي الْعَمَلِ بِنَفْسِهِ وَفِي مُقَارَضَةِ غَيْرِهِ . فَإِنْ عَمِلَ بِنَفْسِهِ صَحَّ وَكَانَ الرِّبْحُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ . وَإِنْ قَارَضَ غَيْرَهُ كَانَ وَكِيلًا فِي عَقْدِ الْقِرَاضِ مَعَهُ ، وَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا فِيهِ ثُمَّ نُظِرَ فِي عَقْدِهِ لِلْقِرَاضِ مَعَ غَيْرِهِ : فَإِنْ جَعَلَ الرِّبْحَ فِيهِ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ ، وَالْعَامِلِ فِيهِ ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْهُ صَحَّ الْقِرَاضُ ، وَكَانَ الرِّبْحُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ . وَإِنْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ فِي الرِّبْحِ سَهْمًا وَجَعَلَ الرِّبْحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ ، وَالْعَامِلِ أَثْلَاثًا كَانَ الْقِرَاضُ فَاسِدًا ؛ لِأَنَّ رِبْحَ الْقِرَاضِ مُوَزَّعٌ عَلَى الْمَالِ ، وَالْعَمَلِ ، وَهُوَ وَكِيلٌ لَيْسَ لَهُ مَالٌ ، وَلَا عَمَلٌ ، فَلَا يَكُونُ لَهُ فِي الرِّبْحِ حَقٌّ ، وَصَارَ شَرْطُهُ مُنَافِيًا لِلْعَقْدِ فَبَطَلَ وَصَارَ الْعَامِلُ مُضَارِبًا فِي قِرَاضٍ فَاسِدٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ وَعَلَيْهِ لِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ لِجَوَازِ مُقَارَضَتِهِ ، وَإِنَّمَا بَطَلَ الْعَقْدُ لِفَسَادِ الشَّرْطِ . وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ ، وَلَا عَلَى الْعَامِلِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرَ مُتَعَدٍّ فِي الْمَالِ ، وَإِنَّمَا حَصَلَ التَّعَدِّي فِي الْعَقْدِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا تَعَدِّي الْعَامِلِ فِي مَالِ الْقِرَاضِ مِنْ غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ :


أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ تَعَدِّيهِ فِيهِ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ مِثْلَ إِذْنِهِ بِالتِّجَارَةِ فِي الْأَقْوَاتِ فَيَتَّجِرُ فِي الْحَيَوَانِ ، فَهَذَا تَعَدٍّ يُضْمَنُ بِهِ الْمَالُ ، وَيَبْطُلُ مَعَهُ الْقِرَاضُ ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى فِي مُقَارَضَةِ غَيْرِهِ بِالْمَالِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ تَعَدِّيهِ لِتَغْرِيرِهِ بِالْمَالِ ، مِثْلَ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِالسَّفَرِ ، أَوْ يَرْكَبَ بِهِ بَحْرًا ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِرُكُوبِ الْبَحْرِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِ الْمَالِ بِيَدِهِ ضَمِنَهُ ، وَبَطَلَ الْقِرَاضُ بِتَعَدِّيهِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَعَ تَعَدِّيهِ فِي عَيْنِ الْمَالِ غَاصِبًا . وَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ انْتِقَالٍ عَيْنِ الْمَالِ إِلَى عَرُوضٍ مَأْذُونٍ فِيهَا ضَمِنَهَا بِالتَّعَدِّي ، وَلَمْ يَبْطُلْ بِهِ الْقِرَاضُ لِاسْتِقْرَارِهِ بِالتَّصَرُّفِ ، وَالشِّرَاءِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَإِنْ حَالَ عَلَى سِلْعَةٍ فِي الْقِرَاضِ حَوْلٌ وَفِيهَا رِبْحٌ فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الزَّكَاةَ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ ، وَالرِّبْحَ وَحِصَّةَ رِبْحِ صَاحِبِهِ ، وَلَا زَكَاةَ عَلَى الْعَامِلِ ؛ لِأَنَّ رِبْحَهُ فَائِدَةٌ فِإِنْ حَالَ الْحَوْلُ مُنْذُ قُوِّمَ صَارَ لِلْمُقَارِضِ رِبْحٌ زَكَّاهُ مَعَ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ خَلِيطٌ بِرِبْحِهِ وَإِنْ رَجَعَتِ السِّلْعَةُ إِلَى رَأْسِ الْمَالِ كَانَ لِرَبِّ الْمَالِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهَا تُزَكَّى بِرِبْحِهَا لِحَوْلِهَا ؛ لِأَنَّهَا لِرَبِّ الْمَالِ ، وَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ فِي الرِّبْحِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَى رَبِّ الْمَالِ مَالَهُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) هَذَا أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ لَوِ اشْتَرَى الْعَامِلُ أَبَاهُ وَفِي الْمَالِ رِبْحٌ كَانَ لَهُ بَيْعُهُ فَلَوْ مَلَكَ مِنْ أَبِيهِ شَيْئًا لَعَتَقَ عَلَيْهِ وَهَذَا دَلِيلٌ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَوْ كَانَ لَهُ رِبْحٌ قَبْلَ دَفْعِ الْمَالِ إِلَى رَبِّهِ كَانَ بِهِ شَرِيكًا وَلَوْ خَسِرَ حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا قَدْرُ رَأْسِ الْمَالِ كَانَ فِيمَا بَقِيَ شَرِيكًا ؛ لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ شَيْئًا زَائِدًا مَلَكَهُ نَاقِصًا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَصُورَتُهَا أَنْ يَكُونَ مَالُ الْقِرَاضِ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، فَيَحُولَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا ، وَقَدْ صَارَتْ بِرِبْحِ التِّجَارَةِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ ، فَفِي زَكَاتِهَا قَوْلَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ فِي الْعَامِلِ ، هَلْ هُوَ شَرِيكٌ فِي الرِّبْحِ ، أَوْ وَكِيلٌ مُسْتَأْجِرٌ بِحِصَّةٍ مِنَ الرِّبْحِ . فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ وَكِيلٌ مُسْتَأْجَرٌ ، وَحِصَّتُهُ مِنَ الرِّبْحِ أُجْرَةٌ يَمْلِكُهَا بِالْقَبْضِ ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ زَكَاةُ الْأَلْفَيْنِ كُلُّهَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ لِكَوْنِهِ مَالِكًا لِجَمِيعِهَا . وَيُزَكَّى الرِّبْحُ بِحَوْلِ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءٌ يَتْبَعُ أَصْلَهُ فِي الْحَوْلِ وَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِنَ الْمَالِ إِنْ شَاءَ . وَمِنْ أَيْنَ يُخْرِجُهَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : يُخْرِجُهَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ، وَأَصْلُهُ أَنَّهَا وَجَبَتْ فِي أَصْلِ الْمَالِ ، وَالرِّبْحُ تَبَعٌ ، فَعَلَى هَذَا قَدْ بَطَلَ مِنَ الْقِرَاضِ بِقَدْرِ مَا أَخْرَجَهُ فِي الزَّكَاةِ .


وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُخْرِجُهَا مِنَ الرِّبْحِ دُونَ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّهَا مَئُونَةٌ فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ الْمُؤَنِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَنْفَسِخُ بِإِخْرَاجِهَا شَيْءٌ مِنَ الْقِرَاضِ لِبَقَاءِ الْأَصْلِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يُخْرِجُ مِنَ الْأَصْلِ زَكَاتَهُ وَمِنَ الرِّبْحِ زَكَاتَهُ ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ فِيهِمَا فَلَمْ يَخْتَصَّ إِخْرَاجُهَا بِأَحَدِهِمَا . فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ مِنَ الْقِرَاضِ بِقَدْرِ مَا أَخْرَجَ مِنْ زَكَاةِ الْأَصْلِ دُونَ الرِّبْحِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْعَامِلَ شَرِيكٌ يَضْرِبُ فِي الرِّبْحِ بِسَهْمِ الْمِلْكِ . فَعَلَى هَذَا يَجِبُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ الْأَصْلِ وَحِصَّتَهُ مِنَ الرِّبْحِ وَذَلِكَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ وَفِي مَحَلِّ إِخْرَاجِهَا الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ . وَيَجِبُ عَلَى الْعَامِلِ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ حِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ . وَفِي ابْتِدَاءِ حَوْلِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : مِنْ حِينِ ظُهُورِ الرِّبْحِ لِحُدُوثِهِ عَنْ مِلْكِهِمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مِنْ حِينِ الْمُحَاسَبَةِ ، وَالْفَضْلِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حِينَئِذٍ يَعْلَمُ حَالَ الرِّبْحِ . وَهُوَ فِي الْوَجْهَيْنِ مَعًا يُخَالِفُ رَبُّ الْمَالِ الَّذِي يُزَكِّي الرِّبْحَ بِحَوْلِ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ النَّمَاءِ مَعَ أَصْلِهِ يُوجِبُ ضَمَّهُ إِلَيْهِ فِي حَوْلِهِ ، وَانْفِرَادَهُ عَنْهُ يُوجِبُ إِفْرَادَهُ بِحَوْلِهِ . أَلَا تَرَى أَنَّ السِّخَالَ إِذَا كَانَتْ مَعَ أُمِّهَا زُكِّيَتْ بِحَوْلِ أُمَّهَاتِهَا ، وَلَوِ انْفَرَدَتْ زُكِّيَتْ بِحَوْلِهَا . ثُمَّ هَلْ يَجُوزُ لِلْعَامِلِ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ حِصَّتِهِ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ فِي الزَّكَاةِ هَلْ وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ ، أَوْ فِي الْعَيْنِ ؟ أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ لِرَبِّ الْمَالِ إِخْرَاجُهَا مِنَ الْمَالِ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ جَازَ ذَلِكَ لِرَبِّ الْمَالِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ إِخْرَاجَ رَبِّ الْمَالِ لَهَا مِنَ الْمَالِ يَكُونُ مِنْ أَصْلٍ فَجَازَ ، وَإِخْرَاجَ الْعَامِلِ لَهَا مِنَ الْمَالِ يَكُونُ مِنْ رِبْحٍ فَلَمْ يَجُزْ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا ثِمَارُ الْمُسَاقَاةِ إِذَا وَجَبَ الْعُشْرُ فِيهَا ثمار المساقاة إذا وجب فيها الزكاة هل تخرج من حصة رب المال أو العامل أو في حصتيهما معا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ : فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَزَكَاةِ الْمَالِ : أَحَدُهُمَا يَكُونُ فِي حِصَّةِ رَبِّ الْمَالِ ، وَالثَّانِي فِي حِصَّتَيْهِمَا مَعًا ، وَيَسْتَوِيَانِ فِي الْأَدَاءِ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ يَجِبُ فِي حَقَّيْهِمَا بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ عَلَى سَوَاءٍ . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ : إِنَّ الْعُشْرَ فِيهَا مَأْخُوذٌ مِنْهَا مَعًا قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ زَكَاةِ الْمَالِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ .

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَمَّا اخْتَصَّ بِبَعْضِ الْمَالِ الْمُزَكَّى وَهُوَ الْأَصْلُ اخْتَصَّ بِتَحَمُّلِ الزَّكَاةِ عَنِ الْكُلِّ . وَكَمَا لَمْ يَخْتَصَّ رَبُّ الْمَالِ بِشَيْءٍ مِنَ الثَّمَرَةِ لَمْ يَتَحَمَّلْ زَكَاةَ كُلِّ الثَّمَرَةِ . وَالْفَرْقُ الثَّانِي : أَنَّ نَصِيبَ الْعَامِلِ مِنْ رِبْحِ الْمَالِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ لِجَوَازِ أَنْ يَجْبُرَ بِهِ مَا حَدَثَ مِنْ نُقْصَانِ الْأَصْلِ فَلَمْ تَلْزَمْهُ زَكَاتُهُ ، وَنَصِيبُهُ مِنَ الثَّمَرَةِ مُسْتَقِرٌّ ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ لَهُمَا ، وَالتَّالِفَ مِنْهَا يَلْزَمُهُ زَكَاتُهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَمَتَى شَاءَ رَبُّ الْمَالِ أَخَذَ مَالَهُ وَمَتَى أَرَادَ الْعَامِلُ الْخُرُوجَ مِنَ الْقِرَاضِ فَذَلِكَ لَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةً وَذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ رَبِّ الْمَالِ وَالْعَامِلِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْمُقَامِ عَلَى الْقِرَاضِ ، أَوْ فَسْخِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ ، بِخِلَافِ الْمُسَاقَاةِ اللَّازِمَةِ ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ فِي الْمُسَاقَاةِ مُؤَقَّتَةٌ إِلَى مُدَّةٍ لَوْ لَمْ يَلْزَمِ الْعَقْدُ فِيهَا لَفَسَخَ رَبُّ الْمَالِ بَعْدَ عَمَلِ الْعَامِلِ فَيَجْمَعُ لِنَفْسِهِ بَيْنَ الْعَمَلِ وَالثَّمَرَةِ ، وَيَخْرُجُ الْعَامِلُ بِفَوْتِ الْعَمَلِ بِغَيْرِ ثَمَرَةٍ ، فَلِذَلِكَ لَزِمَتْ . وَلَيْسَ الْقِرَاضُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ فِيهِ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ بِمُدَّةٍ ، وَقَدْ يَحْصُلُ بِأَقَلِّ عَمَلٍ وَبِأَقْرَبِ مُدَّةٍ ، وَإِذَا فَسَخَ أَمْكَنَ الْعَامِلَ اسْتِدْرَاكُ عَمَلِهِ بِبَيْعِ مَا ابْتَاعَهُ فَلَا يَفُوتُهُ رِبْحُهُ فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ .
_____مَسَائِلُ الْمُزَنِيِّ _____

مَسَائِلُ الْمُزَنِيِّ قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَهَذِهِ مَسَائِلُ أَجَبْتُ فِيهَا عَلَى قَوْلِهِ وَقِيَاسِهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ " . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " مِنْ ذَلِكَ لَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَقَالَ خُذْهَا فَاشْتَرِ بِهَا هَرَوِيًّا ، أَوْ مَرْوِيًّا بِالنِّصْفِ كَانَ فَاسِدًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ فَإِنِ اشْتَرَى فَجَائِزٌ وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ وَإِنْ بَاعَ فَبَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا مَا قَالَ . إِذَا دَفَعَ رَبُّ الْمَالِ إِلَى الْعَامِلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَالَ : اشْتَرِ بِهَا هَرَوِيًّا ، أَوْ مَرْوِيًّا بِالنِّصْفِ كَانَ فَاسِدًا بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي عِلَّةِ فَسَادِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عِلَّةَ فَسَادِهِ أَنَّهُ قَالَ فَاشْتَرِ بِهَا هَرَوِيًّا ، أَوْ مَرْوِيًّا فَلَمْ يُبَيِّنْ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ مِنَ


الْمَرْوِيِّ ، أَوِ الْهَرَوِيِّ ، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا فَجَعْلَهُ مُشْكَلًا ، وَالْقِرَاضُ إِنَّمَا يَصِحُّ بِأَنْ يَعُمَّ جَمِيعَ الْأَجْنَاسِ ، أَوْ يُعَيَّنَ بِأَحَدِ الْأَجْنَاسِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ عِلَّةَ فَسَادِهِ أَنَّهُ قَالَ بِالنِّصْفِ ، وَلَمْ يُبَيِّنِ النِّصْفَ هَلْ يَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ ، أَوْ لِلْعَامِلِ ؟ قَالَ وَاشْتِرَاطُهُ نِصْفَ الرِّبْحِ لِنَفْسِهِ مُبْطِلٌ لِلْقِرَاضِ مَا لَمْ يُبَيِّنْ نِصْفَ الْعَامِلِ ، وَاشْتِرَاطُهُ نِصْفَ الرِّبْحِ لِلْعَامِلِ غَيْرُ مُبْطِلٍ لِلْقِرَاضِ ، فَصَارَ الْقِرَاضُ بِهَذَا الْقَوْلِ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الصِّحَّةِ ، وَالْفَسَادِ فَبَطَلَ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ بَطَلَ بِقَوْلِهِ فَاشْتَرِ ، وَلَمْ يَقُلْ وَبِعْ ، وَالْقِرَاضُ إِنَّمَا يَصِحُّ بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ فَلِذَلِكَ بَطَلَ . فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي عِلَّةِ فَسَادِهِ فَإِنِ اشْتَرَى كَانَ الشِّرَاءُ جَائِزًا ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ وَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ ، وَإِنْ بَاعَ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ .

فَصْلٌ : إِذَا قَالَ خُذْ هَذَا الْمَالَ قِرَاضًا ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ الحكم كَانَ قِرَاضًا فَاسِدًا لِلْجَهْلِ بِنَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِنَ الرِّبْحِ إِلَّا أَنَّ شِرَاءَ الْعَامِلِ وَبَيْعَهُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِهِمَا لِكَوْنِهِمَا مِنْ مُوجِبَاتِ الْقِرَاضِ وَلِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ الْقِرَاضَ جَائِزٌ ، وَيَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْغَالِبُ مِنْ أَحْوَالِ الْقِرَاضِ فَحَمَلَ إِطْلَاقَهُ عَلَيْهِ . وَهَذَا الْمَحْكِيُّ عَنْهُ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ فِي إِطْلَاقِ الْقِرَاضِ لَجَازَ مِثْلُهُ فِي الْبَيْعِ إِذَا أَغْفَلَ فِيهِ الثَّمَنَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ وَهُوَ الْقِيمَةُ وَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ وَكُلِّ الْعُقُودِ . فَأَمَّا إِذَا قَالَ خُذْ هَذَا الْمَالَ فَاشْتَرِ بِهِ وَبِعْ ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ فَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ قِرَاضًا صَحِيحًا ، وَيَصِحُّ شِرَاءُ الْعَامِلِ وَبَيْعُهُ . وَهَلْ يَكُونُ قِرَاضًا فَاسِدًا ، أَوْ مَعُونَةً ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ اسْتِعَانَةً بِعَمَلِهِ كَمَا لَوْ قَالَ : اشْتَرِ وَبِعْ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الرِّبْحِ لِي ، فَعَلَى هَذَا لَا أُجْرَةَ لِلْعَامِلِ فِي عَمَلِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَكُونُ قِرَاضًا فَاسِدًا ؛ لِأَنَّهُ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِ أَمْرِهِ وَحَالِ قَوْلِهِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الرِّبْحِ لِي لِمَا فِيهِ مِنَ التَّصْرِيحِ بِأَنْ لَا شَيْءَ لَهُ فِيهِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ سَوَاءٌ حَصَلَ فِي الْمَالِ فَضْلٌ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " فَإِنْ قَالَ خُذْهَا قِرَاضًا ، أَوْ مُضَارَبَةً عَلَى مَا شَرَطَ فُلَانٌ مِنَ الرِّبْحِ لِفُلَانٍ فَإِنْ عَلِمَا ذَلِكَ فَجَائِزٌ وَإِنْ جَهِلَاهُ ، أَوْ أَحَدُهُمَا فَفَاسِدٌ " .


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا دَفَعَ الْمَالَ قِرَاضًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسَمِّيَ فِي الرِّبْحِ قَدْرًا وَجَعَلَهُ مَحْمُولًا عَلَى مِثْلِ مَا قَارَضَ بِهِ زَيْدٌ عَمْرًا فَإِنْ عَلِمَا مَا تَقَارَضَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو عَلَيْهِ صَحَّ قِرَاضُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا عَقَدَاهُ بِمَعْلُومٍ مِنَ الرِّبْحِ ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَنَا نِصْفَيْنِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ عَلَى مِثْلِ مَا قَارَضَ بِهِ زَيْدٌ عَمْرًا ، وَقَدْ عَلِمَا أَنَّهُمَا تَقَارَضَا عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَلِذَلِكَ صَحَّ الْقِرَاضُ فِي الْحَالَيْنِ . وَإِنْ جَهِلَا مَا قَارَضَ بِهِ زَيْدٌ عَمْرًا كَانَ الْقِرَاضُ بَاطِلًا لِجَهْلِهِمَا بِقَدْرِهِ ، وَالْجَهَالَةُ بِقَدْرِ الرِّبْحِ مُبْطِلَةٌ لِلْقِرَاضِ . فَإِنْ عَلِمَا بَعْدَ ذَلِكَ مَا تَقَارَضَ عَلَيْهِ زَيْدٌ وَعَمْرٌو لَمْ يَصِحَّ لِوُقُوعِهِ فَاسِدًا . وَهَكَذَا لَوْ عَلِمَهُ أَحَدُهُمَا حَالَ الْعَقْدِ وَجَهِلَهُ الْآخَرُ لَمْ يَصِحَّ الْقِرَاضُ ؛ لِأَنَّ جَهْلَ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِالْعِوَضِ كَجَهْلِهِمَا مَعًا بِهِ . فَلَوْ قَالَ خُذْهُ قِرَاضًا عَلَى مَا يُقَارِضُ بِهِ زَيْدٌ وَعَمْرٌو كَانَ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ زَيْدًا قَدْ يُقَارِضُ عَمْرًا ، وَقَدْ لَا يُقَارِضُهُ ، وَقَدْ يُقَارِضُهُ عَلَى قَلِيلٍ ، أَوْ كَثِيرٍ . وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : خُذْهُ قِرَاضًا عَلَى مَا يُوَافِقُكَ عَلَيْهِ زَيْدٌ لَمْ يَجُزْ لِلْجَهْلِ بِمَا يَكُونُ مِنْ مُوَافَقَتِهِ . وَهَكَذَا لَوْ قَالَ خُذْهُ قِرَاضًا عَلَى أَنَّ لَكَ مِنَ الرِّبْحِ مَا يَكْفِيكَ ، أَوْ يُقْنِعُكَ لَمْ يَجُزْ لِلْجَهْلِ بِكِفَايَتِهِ وَقَنَاعَتِهِ . فَإِنِ اشْتَرَى وَبَاعَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا صَحَّ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ ، وَكَانَ جَمِيعُ الرِّبْحِ وَالْخُسْرَانِ لِرَبِّ الْمَالِ وَعَلَيْهِ ، وَلِلْعَامِلِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " فَإِنْ قَارَضَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّ ثُلُثَ رِبْحِهَا لِلْعَامِلِ ، وَمَا بَقِيَ مِنَ الرِّبْحِ فَثُلُثُهُ لِرَبِّ الْمَالِ وَثُلُثَاهُ لِلْعَامِلِ الحكم فَجَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْأَجْزَاءَ مَعْلُومَةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا كَانَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ رَبِّ الْمَالِ ، وَالْعَامِلِ مَعْلُومًا صَحَّ بِهِ الْقِرَاضُ وَإِنْ بَعُدَ وَطَالَ ، فَإِذَا قَالَ رَبُّ الْمَالِ لِلْعَامِلِ : لَكَ ثُلُثُ الرِّبْحِ ، وَمَا بَقِيَ فَلِي ثُلُثُهُ وَثُلُثَاهُ لَكَ صَحَّ الْقِرَاضُ وَكَانَ لِلْعَامِلِ سَبْعَةُ أَتْسَاعِ الرِّبْحِ ، وَلِرَبِّ الْمَالِ تُسْعَانِ ؛ لِأَنَّ مَخْرَجَ الثَّلَاثَةِ تِسْعَةٌ ، وَهُوَ مَضْرُوبُ ثَلَاثَةٍ فِي ثَلَاثَةٍ ، فَيَكُونُ لِلْعَامِلِ بِالثُّلُثِ مِنَ التِّسْعَةِ ثَلَاثَةٌ ، ثُمَّ بِثُلُثَيْ مَا بَقِيَ مِنَ التِّسْعَةِ أَرْبَعَةٌ فَيَصِيرُ الْجَمِيعُ سَبْعَةَ أَتْسَاعٍ ، وَيَبْقَى لِرَبِّ الْمَالِ تُسْعَانِ . غَيْرَ أَنَّنَا نَسْتَحِبُّ لَهُمَا أَنْ يَعْدِلَا عَنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ الْغَامِضَةِ إِلَى مَا يُعْرَفُ عَلَى الْبَدِيهَةِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عِبَارَةٌ قَدْ تُوضَعُ لِلْإِخْفَاءِ ، وَالْإِغْمَاضِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :


لَكِ الثُّلُثَانِ مِنْ قَلْبِي وَثُلُثَا ثُلُثِهِ الْبَاقِي ثُلُثَا ثُلُثِ مَا يَبْقَى وَثُلُثَ الثُّلُثِ لِلسَّاقِي وَيَبْقَى أَسْهُمٌ سِتٌّ تُفَرَّقُ بَيْنَ عُشَّاقِي فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الشَّاعِرِ وَبَلَاغَتِهِ وَتَحْسِينِ عِبَارَتِهِ ، كَيْفَ أَغْمَضَ كَلَامَهُ ، وَقَسَّمَ قَلْبَهُ ، وَجَعْلَهُ مُجَزَّءًا عَلَى أَحَدٍ وَثَمَانِينَ جُزْءًا هِيَ مَضْرُوبُ ثَلَاثَةٍ فِي ثَلَاثَةٍ فِي ثَلَاثَةٍ فِي ثَلَاثَةٍ لِيَصِحَّ مِنْهَا مَخْرَجُ ثُلُثِ ثُلُثِ ثُلُثِ الثُّلُثِ الْبَاقِي ، فَجَعَلَ لِمَنْ خَاطَبَهُ أَرْبَعَةً وَسَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ قَلْبِهِ ، وَجَعَلَ لِلسَّاقِي جُزْءًا ، وَبَقِيَ سِتَّةُ أَجْزَاءٍ يُفَرِّقُهَا فِيمَنْ يُحِبُّ . وَلَيْسَ لِلْإِغْمَاضِ فِي مُعَاوَضَاتِ الْعُقُودِ وَجْهٌ يُرْتَضَى ، وَلَا حَالٌ تُسْتَحَبُّ غَيْرَ أَنَّ الْعَقْدَ لَا يُخْرَجُ بِهِ عَنْ حُكْمِ الصِّحَّةِ إِلَى الْفَسَادِ ، وَلَا عَنْ حَالِ الْجَوَازِ إِلَى الْمَنْعِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَئُولُ بِهِمَا إِلَى الْعِلْمِ ، وَلَا بِجَهْلٍ عِنْدَ الْحُكْمِ . وَهَكَذَا لَوْ قَلَبَ رَبُّ الْمَالِ شَرْطَهُ ، فَجَعَلَ لِنَفْسِهِ ثُلُثَ الرِّبْحِ ، وَثُلُثَيْ مَا يَبْقَى وَجَعْلَ الْبَاقِي لِلْعَامِلِ صَحَّ ، وَكَانَ لَهُ سَبْعَةُ أَتْسَاعِهِ ، وَلِلْعَامِلِ تُسْعَانِ . فَلَوْ قَالَ لِي رُبُعُ الرِّبْحِ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَا بَقِيَ وَلَكَ الْبَاقِي صَحَّ ، وَكَانَ الرِّبْحُ مَقْسُومًا عَلَى سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا هِيَ مَضْرُوبَةُ أَرْبَعَةٍ فِي أَرْبَعَةٍ ، فَيَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا ، وَلِلْعَامِلِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ . وَلَوْ قَالَ لِي ثُلُثُ الرِّبْحِ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَا بَقِيَ وَلَكَ الْبَاقِي صَحَّ ، وَكَانَ الرِّبْحُ مَقْسُومًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا هِيَ مَضْرُوبُ ثَلَاثَةٍ فِي أَرْبَعَةٍ ، ثُمَّ يَرْجِعُ بِأَنْصَافِهَا إِلَى سِتَّةٍ يَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ مِنْهَا خَمْسَةُ أَسْهُمٍ ، وَلِلْعَامِلِ سَهْمٌ وَاحِدٌ .

فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي حِصَّةِ أَحَدِهِمَا مِنَ الرِّبْحِ

فَصْلٌ : الْقَوْلُ فِي حِصَّةِ أَحَدِهِمَا مِنَ الرِّبْحِ إِذَا بَيَّنَ رَبُّ الْمَالِ لِلْعَامِلِ حِصَّةَ أَحَدِهِمَا مِنَ الرِّبْحِ دُونَ الْآخَرِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُصَرِّحَ بِذِكْرِ الْقِرَاضِ عِنْدَ الدَّفْعِ ، وَالثَّانِي : أَلَّا يُصَرِّحَ بِذِكْرِهِ . فَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِذِكْرِ الْقِرَاضِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُبَيِّنَ نَصِيبَ نَفْسِهِ ، أَوْ نَصِيبَ الْعَامِلِ فَإِنْ بَيَّنَ نَصِيبَ نَفْسِهِ فَقَالَ : خُذْ هَذَا الْمَالَ فَاشْتَرِ بِهِ وَبِعْ عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَ الرِّبْحِ كَانَ حَرَامًا فَاسِدًا ؛ لِأَنَّ لَهُ جَمِيعَ الرِّبْحِ فَلَمْ يَكُنْ فِي ذِكْرِ بَعْضِهِ بَيَانٌ . فَإِنْ بَيَّنَ نَصِيبَ الْعَامِلِ فَقَالَ عَلَى أَنَّ لَكَ نِصْفَ الرِّبْحِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَصِحُّ وَيَكُونُ قِرَاضًا فَاسِدًا كَمَا لَوْ بَيَّنَ نَصِيبَ نَفْسِهِ لِلْجَهْلِ بِحُكْمِ الْبَاقِي . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَكُونُ قِرَاضًا صَحِيحًا ، وَيَكُونُ كَمَا لَوْ بَيَّنَ بَاقِيَ الرِّبْحِ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ


يَسْتَحِقُّ كُلَّ الرِّبْحِ بِالْمِلْكِ ، فَإِذَا اسْتَثْنَى مِنْهُ النِّصْفَ لِلْعَامِلِ ثَبَتَ أَنَّ الْبَاقِيَ لَهُ النِّصْفُ . وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يُصَرِّحَ بِذِكْرِ الْقِرَاضِ فِي عَقْدِهِ : فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُبَيِّنَ نَصِيبَ الْعَامِلِ ، أَوْ نَصِيبَ نَفْسِهِ . فَإِنْ بَيَّنَ نَصِيبَ الْعَامِلِ فَقَالَ خُذْ هَذَا الْمَالَ قِرَاضًا عَلَى أَنَّ لَكَ نِصْفَ الرِّبْحِ صَحَّ الْقِرَاضُ وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ بَاقِيَ الرِّبْحِ بَعْدَ اسْتِثْنَاءِ النِّصْفِ مِنْهُ إِنْ حُمِلَ عَلَى حُكْمِ الْمَالِ كَانَ لِرَبِّهِ ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى حُكْمِ الْقِرَاضِ فَهُوَ بِمَثَابَتِهِ . وَإِنْ بَيَّنَ نَصِيبَ نَفْسِهِ فَقَالَ خُذْهُ قِرَاضًا عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَ الرِّبْحِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ يَجُوزُ حَمْلًا عَلَى مُوجَبِ الْقِرَاضِ فِي اشْتِرَاكِهِمَا فِي الرِّبْحِ ، فَصَارَ الْبَيَانُ لِنَصِيبِ أَحَدِهِمَا دَالًّا عَلَى أَنَّ الْبَاقِي لِلْآخَرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْقِرَاضَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ لِنَفْسِهِ بَعْضَ الرِّبْحِ الَّذِي هُوَ مَالِكٌ لِجَمِيعِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ بَيَانٌ لِمَا بَقِيَ . فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ : لَوْ قَالَ خُذْهُ قِرَاضًا عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَ الرِّبْحِ وَلَكَ ثُلُثٌ بَطَلَ عَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبِي عَلِيٍّ لِلْجَهْلِ بِحُكْمِ السُّدْسِ الْبَاقِي ، وَصَحَّ فِيهِ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ ، وَكَانَ السُّدْسُ الْمُغْفَلُ ذِكْرُهُ لِرَبِّ الْمَالِ مَضْمُومًا إِلَى النِّصْفِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ خُذْ هَذِهِ الْأَلْفَ قِرَاضًا عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَنَا ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْقِرَاضُ جَائِزٌ ، وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا يَكُونُ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مُتَفَاضِلًا وَمُتَسَاوِيًا فَصَارَ ذَلِكَ جَهْلًا بِحِصَصِهِمَا .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ خُذْ هَذَا الْأَلْفَ قِرَاضًا وَلَكَ رِبْحُ نِصْفِهَا لَمْ يَجُزْ ، وَلَوْ قَالَ لَكَ نِصْفُ رِبْحِهَا جَازَ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ إِذَا جَعَلَ لَهُ رِبْحَ نِصْفِهَا صَارَ مُنْفَرِدًا بِرِبْحِ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِرَبِّ الْمَالِ فِيهِ حُقٌّ وَعَامِلًا فِي النِّصْفِ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ حَقٌّ ، وَهَذَا خَارِجٌ عَنْ حُكْمِ الْقِرَاضِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ لَهُ نِصْفُ الْكُلِّ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنْ قَارَضَهُ عَلَى دَنَانِيرَ فَحَصَلَ فِي يَدَيْهِ دَرَاهِمُ ، أَوْ عَلَى دَرَاهِمَ فَحَصَلَ فِي يَدَيْهِ دَنَانِيرُ فَعَلَيْهِ بَيْعُ مَا حَصَلَ حَتَى يَصِيرَ مِثْلَ مَا لِرَبِّ الْمَالِ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ . وَأَنَّ رَدَّ رَأْسِ الْمَالِ فِي مِثْلِ جِنْسِهِ وَصِفَتِهِ وَاجِبٌ عَلَى الْعَامِلِ ، فَإِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ


دَرَاهِمَ فَحَصَلَ مَعَهُ دَنَانِيرُ فَعَلَيْهِ بَيْعُ الدَّنَانِيرِ بِالدَّرَاهِمِ حَتَّى يَحْصُلَ مَعَهُ رَأْسُ الْمَالِ إِذْ لَا فَرْقَ وَرَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ عَرْضًا ، أَوْ دَنَانِيرَ ؛ لِأَنَّهُمَا مَعًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ . فَلَوْ حَصَلَ فِي مَالِ الْقِرَاضِ مِنَ الدَّرَاهِمِ بِقَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ ، وَكَانَ بَاقِيهِ مِنَ الرِّبْحِ عَرْضًا لَمْ يَلْزَمِ الْعَامِلَ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ قَدْ وَصَلَ إِلَى رَأْسِ مَالِهِ ، وَكَانَا شَرِيكَيْنِ فِي الرِّبْحِ مِنَ الْعَرْضِ ، وَلَا يَلْزَمُ وَاحِدًا مِنْهُمَا بَيْعُهُ إِلَّا بِالتَّرَاضِي عَلَيْهِ ، وَكَانَ حُكْمُهُمَا فِي قِسْمَتِهِ عَلَى مَا يُوجِبُهُ حَالُ ذَلِكَ الْعَرْضِ مِنْ قِسْمَتِهِ جَبْرًا ، أَوْ صُلْحًا ، أَوِ الْبَيْعِ مِنْهُمَا جَبْرًا ، أَوْ صُلْحًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِذَا دَفَعَ مَالًا قِرَاضًا فِي مَرَضِهِ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ أَنِ اشْتَرَى وَبَاعَ وَرَبِحَ أَخَذَ الْعَامِلُ رِبْحَهُ وَاقْتَسَمَ الْغُرَمَاءُ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَدْفَعَ مَالًا قِرَاضًا لِمَا فِيهِ مِنْ تَثْمِيرِ مَالِهِ ، وَسَوَاءٌ قَارَضَ الْعَامِلُ عَلَى تَسَاوٍ فِي الرِّبْحِ ، أَوْ تَفَاضُلٍ ، وَكَانَ أَقَلَّهُمَا سَهْمًا ، أَوْ أَكْثَرَ ، وَيَكُونُ مَا يَصِلُ إِلَى الْعَامِلِ مِنْ كَثِيرِ الرِّبْحِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ دُونَ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّهُ بِيَسِيرِ الرِّبْحِ وَاصِلٌ إِلَى مَا لَمْ يَكُنْ وَاصِلًا إِلَيْهِ لَوْ كَفَّ عَنِ الْقِرَاضِ . وَهَكَذَا الْخِلَافُ فِيمَنْ أَجَّرَ دَارًا بِأَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مَالِكًا لِلْمَنْفَعَةِ فَإِذَا عَاوَضَ عَلَيْهَا فِي مَرَضِهِ بِبَعْضِ الْأُجْرَةِ فَقَدْ أَتْلَفَ مِلْكَهُ ، فَكَانَ مُعْتَبَرًا فِي الثُّلُثِ وَلَيْسَ رَبُّ الْمَالِ مَالِكًا لِرِبْحِ الْمَالِ الَّذِي صَارَ إِلَى بَعْضِهِ فَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَأَمَّا الْمَرِيضُ إِذَا سَاقَى عَلَى نَخْلَةٍ فِي مَرَضِهِ بِأَقَلِّ السَّهْمَيْنِ مِنَ الثَّمَرَةِ وَدُونَ مُسَاقَاةِ الْمِثْلِ فِي الْعَادَةِ الحكم فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلثَّمَرَةِ حِينَ سَاقَى كَمَا لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلرِّبْحِ حِينَ قَارَضَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ مَا نَقَصَ مِنْ سَهْمِهِ فِي مُسَاقَاةِ الْمِثْلِ مُحَابَاةٌ يُعْتَبَرُ فِي الثُّلُثِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقِرَاضِ أَنَّ ثَمَرَةَ النَّخْلِ فِي الْمُسَاقَاةِ قَدْ تَحْصُلُ بِغَيْرِ عَمَلٍ ، وَرِبْحُ الْمَالِ فِي الْقِرَاضِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِعَمَلٍ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ صِحَّةُ الْقِرَاضِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فِي قَلِيلِ الرِّبْحِ وَكَثِيرِهِ ، تَوَلَّى رَبُّ الْمَالِ إِنْ كَانَ حَيًّا مُحَاسَبَةَ الْعَامِلِ ، وَاسْتَوْفَى مِنْهُ الْأَصْلَ وَحِصَّةَ الرِّبْحِ ، وَإِنْ مَاتَ قَامَ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِي مُحَاسَبَةِ الْعَامِلِ ، وَاسْتِيفَاءِ الْحَقَّيْنِ مِنْ أَصْلٍ وَرِبْحٍ . فَإِنْ مَاتَ مُفْلِسًا وَكَثُرَتْ دُيُونُهُ عَنْ مَالِهِ قُدِّمَ الْعَامِلُ بِحِصَّتِهِ مِنْ رِبْحِ الْمَالِ عَلَى سَائِرِ


الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ شَرِيكًا فَالشَّرِيكُ لَا يَدْفَعُهُ الْغُرَمَاءُ عَنْ شَرِكَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ أَجِيرًا فَحَقُّهُ تَعَلَّقَ بِعَيْنِ الْمَالِ كَالْمُرْتَهِنِ ، وَالْمُرْتَهِنُ لَا يُزَاحِمُهُ الْغُرَمَاءُ فِي رَهْنِهِ . وَكَذَا لَوْ أَخَذَ الْمَرِيضُ مَالًا قِرَاضًا صَحَّ وَإِنْ كَانَ بِأَقَلِّ السَّهْمَيْنِ مِنَ الرِّبْحِ ، وَكَانَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ قَلِيلَ الرِّبْحِ كَسْبٌ وَلَيْسَ بِإِتْلَافٍ .

فَصْلٌ : يَجُوزُ لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ وَأَبِ الطِّفْلِ أَنْ يَدْفَعَ مِنْ مَالِهِ قِرَاضًا الحكم إِذَا رَأَى ذَلِكَ حَظًّا وَصَلَاحًا لِمَا فِيهِ مِنْ تَثْمِيرِ الْمَالِ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَأْخُذَ الْقِرَاضَ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاقِدَ بِمَالِ الْيَتِيمِ مَعَ نَفْسِهِ ، وَيَجُوزَ لِلْأَبِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ . وَلَوْ أَذِنَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُقَارِضَ بِالْمَالِ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَبْدِ مَقْصُورٌ عَلَى إِذْنِ سَيِّدِهِ ، وَلَا لِلْعَبْدِ أَنْ يَأْخُذَ مَالًا قِرَاضًا ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ مَقْصُورٌ عَلَى التِّجَارَةِ بِمَالِ سَيِّدِهِ . فَأَمَّا السَّفِيهُ فَلَا يَصِحُّ مَعَهُ عَقْدُ الْقِرَاضِ لَا عَامِلًا ، وَلَا ذَا مَالٍ لِفَسَادِ عُقُودِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنِ اشْتَرَى عَبْدًا وَقَالَ الْعَامِلُ اشْتَرَيْتُهُ لِنَفْسِي بِمَالِي وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ بَلْ فِي الْقِرَاضِ بِمَالِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ ، وَالْآخَرُ مُدَّعٍ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ وَإِنْ قَالَ الْعَامِلُ اشْتَرَيْتُهُ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ بَلْ لِنَفْسِكَ وَفِيهِ خُسْرَانٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُصَدَّقٌ فِيمَا فِي يَدَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا كَانَ بِيَدِ الْعَامِلِ عَبْدٌ قَدْ ظَهَرَ فِي مِثْلِهِ فَضْلٌ ، فَادَّعَى رَبُّ الْمَالِ أَنَّهُ مُشْتَرًى مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ ، وَقَالَ الْعَامِلُ : بَلِ اشْتَرَيْتُهُ لِنَفْسِي ، أَوْ قَالَ الْعَامِلُ وَفِي الْعَبْدِ خُسْرَانٌ : إِنَّنِي اشْتَرَيْتُهُ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ : بَلِ اشْتَرَيْتَهُ لِنَفْسِكَ فَالْقَوْلُ فِي الْحَالَيْنِ قَوْلُ الْعَامِلِ مَعَ يَمِينِهِ مَا لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الْمَالِ بَيِّنَةٌ بِخِلَافِهِ ؛ لِأَنَّ لِلْعَامِلِ أَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ وَلِلْقِرَاضِ ، وَلَا يَتَمَيَّزَ مَا بَيْنَ الْعَقْدَيْنِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ فَلَزِمَ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْلِهِ ، فَإِنْ أَقَامَ رَبُّ الْمَالِ بَيِّنَةً بِخِلَافِهِ فَهِيَ مُمْكِنَةٌ عَلَى إِقْرَارِهِ ، وَنَحْكُمُ بِهَا عَلَيْهِ . فَأَمَّا الْبَيِّنَةُ عَلَى عَقْدِهِ أَنَّهُ عَقَدَ بِعَيْنِ مَالِ الْقِرَاضِ فَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا مَسْمُوعَةٌ يُحْكَمُ بِهَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى عَيْنِ مَالِ الْقِرَاضِ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْقِرَاضِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ الْبَيِّنَةَ بِذَلِكَ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَنْوِيَ بِالْعَقْدِ عَلَى الْعَيْنِ أَنْ يَكُونَ لِنَفْسِهِ فَيَبْطُلُ ، وَلَا يَكُونُ فِي مَالِ الْقِرَاضِ .



فَصْلٌ : وَإِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الْمَالِ ، وَالْعَامِلُ فِي قَدْرِ مَا شَرَطَاهُ مِنَ الرِّبْحِ ، فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ شَرَطْتُ لَكَ ثُلُثَ الرِّبْحِ وَبَاقِيهِ لِي ، وَقَالَ بَلْ شَرَطْتَ لِي ثُلُثَيِ الرِّبْحِ ، وَبَاقِيهِ لَكَ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ كَمَا يَتَحَالَفُ الْمُتَبَايِعَانِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ عَقْدٍ فَلَمْ يَتَرَجَّحْ قَوْلُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ، وَوَجَبَ أَنْ يَتَحَالَفَا كَمَا يَتَحَالَفُ الْمُتَبَايِعَانِ إِذَا اخْتَلَفَا .

فَصْلٌ : وَإِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الْمَالِ ، وَالْعَامِلُ فِي قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ فَقَالَ الْعَامِلُ : هُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ : بَلْ هُوَ أَلْفَانِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رِبْحٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ بِقَدْرِ مَا ادَّعَاهُ رَبُّ الْمَالِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ ، مِثْلَ أَنْ يَدَّعِيَ الْعَامِلُ وَقَدْ أَحْضَرَ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ أَنَّ أَحَدَ الْأَلْفَيْنِ رَأْسُ مَالٍ . . . وَلَيْسَ فِيهَا رِبْحٌ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ مُخَرَّجَتَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ فِي الْعَامِلِ هَلْ هُوَ وَكِيلٌ ، أَوْ شَرِيكٌ ؟ أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْعَامِلَ وَكِيلٌ مُسْتَأْجَرٌ ، وَهَذَا قَوْلُ زُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْعَامِلِ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ شَرِيكٌ مُسَاهِمٌ ، وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ ، وَهُوَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ فِي اخْتِلَافِهِمَا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ نَافِذٌ فِيمَا بِيَدِهِ ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَوْ أَحْضَرَ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ ، وَذَكَرَ أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ مِنْهَا أَلْفٌ ، وَالرِّبْحَ أَلْفَانِ ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ رَأْسُ الْمَالِ مِنْهَا أَلْفَانِ ، وَالرِّبْحُ أَلْفٌ حُكِمَ بِقَوْلِ الْعَامِلِ وَاقْتَسَمَا الْأَلْفَيْنِ رِبْحًا ، وَجُعِلَ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفًا . فَلَوْ قَالَ الْعَامِلُ ، وَقَدْ أَحْضَرَ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ رَأْسُ الْمَالِ مِنْهَا أَلْفٌ ، وَالرِّبْحُ أَلْفٌ ، وَالْأَلْفُ الثَّالِثَةُ لِي ، أَوْ وَدِيعَةٌ فِي يَدِي ، أَوْ دَيْنٌ عَلَيَّ فِي قِرَاضٍ ، وَادَّعَاهَا رَبُّ الْمَالِ رِبْحًا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ مَعَ يَمِينِهِ لِمَكَانِ يَدِهِ .

مَسْأَلَةٌ : " وَلَوْ قَالَ الْعَامِلُ اشْتَرَيْتُ هَذَا الْعَبْدَ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ الْقِرَاضِ ثُمَّ اشْتَرَيْتُ الْعَبْدَ الثَّانِيَ بِتِلْكَ الْأَلْفِ قَبْلَ أَنْ أَنْقُدَ كَانَ الْأَوَّلُ فِي الْقِرَاضِ ، وَالثَّانِي لِلْعَامِلِ وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . لَيْسَ لِلْعَامِلِ أَنْ يَشْتَرِيَ فِي الْقِرَاضِ بِأَكْثَرَ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ ، فَإِذَا كَانَ مَالُ الْقِرَاضِ أَلْفًا فَاشْتَرَى بِالْعَبْدِ أَلْفًا مُنِعَ مِنْ شِرَاءِ غَيْرِهِ فِي الْقِرَاضِ ؛ لِأَنَّ مَا اشْتُرِيَ فِي الْقِرَاضِ مُقَدَّرٌ بِمَالِ الْقِرَاضِ . فَإِنِ اشْتَرَى عَبْدًا ثَانِيًا بِأَلْفٍ ثَانِيَةٍ قَبْلَ نَقْدِ الْأَلْفِ الْأُولَى فِي الْعَبْدِ الْأَوَّلِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ الْأَلْفَ الَّتِي بِيَدِهِ فِي الْعَبْدِ الْأَوَّلِ سَوَاءٌ كَانَ اشْتَرَاهُ بِعَيْنِهَا ، أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهَا ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْعَبْدِ الثَّانِي :


فَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ بِعَيْنِ تِلْكَ الْأَلْفِ الْمُسْتَحَقَّةِ فِي الْعَبْدِ الْأَوَّلِ كَانَ شِرَاؤُهُ بَاطِلًا لِاسْتِحْقَاقِهَا فِي غَيْرِهِ . وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِ بِعَيْنِ تِلْكَ الْأَلْفِ كَانَ الشِّرَاءُ لَازِمًا لَهُ لَا الْقِرَاضُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْفُذَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ فَإِنْ فَعَلَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ وَلَا عُدْوَانَ عَلَيْهِ فِي شِرَاءِ الثَّانِي وَإِنْ فَقَدَ الْأَلْفَ الْأُولَى فِي ثَمَنِ الثَّانِي ضَمِنَهَا ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ مِنْ مَالِهِ أَلْفًا مِثْلَهَا فِي ثَمَنِ الْأَوَّلِ وَيَبْرَأُ بِدَفْعِهَا إِلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ مِنْ ضَمَانِهَا لِرَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ دَفْعَهَا مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ لِعَقْدِ الْقِرَاضِ الَّذِيِ هُوَ مِنْ جِهَةِ رَبِّ الْمَالِ فَصَارَ كَأَنَّهُ دَافِعٌ لَهَا بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ ، ثُمَّ الْقِرَاضُ فِي الْعَبْدِ الْأَوَّلِ عَلَى صِحَّتِهِ ؛ لِأَنَّ تَعَدِّيَ الْعَامِلِ فِي ثَمَنِهِ الْمُسْتَحِقِّ لِبَائِعِهِ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ . وَإِذَا اشْتَرَى الْعَامِلُ فِي مَالِ الْقِرَاضِ عَبْدًا فَقُتِلَ فِي يَدِهِ فَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً أُخِذَتِ الْقِيمَةُ مِنْ قَاتِلِهِ ، وَكَانَتْ فِي مَالِ الْقِرَاضِ . وَإِنْ قُتِلَ عَمْدًا فَلِرَبِّ الْمَالِ ، وَالْعَامِلِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى أَخْذِ قِيمَتِهِ ، فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُمَا ، وَالْقِرَاضُ بِحَالِهِ فِيمَا أَخَذَاهُ مِنْ قِيمَتِهِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى الْقِصَاصِ مِنْ قَاتِلِهِ فَذَلِكَ لَهُمَا وَيَكُونُ ذَلِكَ مَحْسُوبًا عَلَى رَبِّ الْمَالِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ ، وَيَبْطُلُ الْقِرَاضُ فِيهِ ، سَوَاءٌ ظَهَرَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ أَمْ لَا ، كَمَا لَوْ أَمَرَ رَبُّ الْمَالِ بِشِرَاءِ ابْنِهِ كَانَ ثَمَنُ ابْنِهِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ خَارِجًا مِنَ الْقِرَاضِ ، وَلَا يَلْزَمُ الْعَامِلَ فِي حِصَّتِهِ شَيْءٌ مِنْ قِيمَتِهِ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَدْعُوَ الْعَامِلُ إِلَى الْقِصَاصِ مِنْ قَاتِلِهِ وَيَمْتَنِعَ رَبُّ الْمَالِ مِنْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ ، أَوْ لَيْسَ لِلْعَامِلِ اسْتِهْلَاكُ مَالِهِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ بَذَلَ لَهُ الْعَامِلُ ثَمَنَهُ لِيَقْتَصَّ مِنْ مَالِهِ لَمْ يَلْزَمْ رَبَّ الْمَالِ الْإِجَابَةُ إِلَيْهِ ، وَكَانَ ذَلِكَ عَفْوًا مِنْ رَبِّ الْمَالِ عَنِ الْقِصَاصِ . وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَدْعُوَ رَبُّ الْمَالِ إِلَى الْقِصَاصِ مِنْ قَاتِلِهِ وَيَمْتَنِعَ الْعَامِلُ . فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِي ثَمَنِهِ فَضْلٌ عِنْدَ قَتْلِهِ فَلَا حَقَّ لِلْعَامِلِ فِي مَنْعِ رَبِّ الْمَالِ مِنَ الْقِصَاصِ كَمَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي قِيمَتِهِ مِنْ رِبْحٍ . فَإِذَا اقْتَصَّ رَبُّ الْمَالِ مِنْهُ كَانَ ثَمَنُهُ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَبَطَلَ فِيهِ الْقِرَاضُ ، وَإِنْ كَانَ فِي ثَمَنِهِ فَضْلٌ فَهَلْ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنْ قَاتِلِهِ بِعَفْوِ الْعَامِلِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ فِي الْعَامِلِ هَلْ هُوَ شَرِيكٌ ، أَوْ وَكِيلٌ ؟ أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ الْقِصَاصُ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ شَرِيكٌ فِي فَضْلِ ثَمَنِهِ كَمَا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ بِعَفْوِ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ .


وَالثَّانِي : أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَسْقُطُ إِذَا قِيلَ : إِنَّهُ وَكِيلٌ ، لَكِنْ لَهُ مُطَالَبَةُ رَبِّ الْمَالِ بِحِصَّتِهِ مِنْ فَاضَلِ ثَمَنِهِ ، وَرَبُّ الْمَالِ عَلَى حَقِّهِ فِي الِاقْتِصَاصِ مِنْ قَاتِلِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِنْ نَهَى رَبُّ الْمَالِ الْعَامِلَ أَنْ يَشْتَرِيَ وَيَبِيعَ وَفِي يَدَيْهِ عَرْضٌ اشْتَرَاهُ فَلَهُ بَيْعُهُ وَإِنْ كَانَ فِي يَدَيْهِ عَيْنٌ فَاشْتَرَى فَهُوَ مُتَعَدٍّ ، وَالثَّمَنُ فِي ذِمَّتِهِ ، وَالرِّبْحُ لَهُ ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ اشْتَرَى بِالْمَالِ بِعَمَلِهِ فَالشِّرَاءُ بَاطِلٌ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ وَيَتَرَادَّانِ حَتَّى تَرْجِعَ السِّلْعَةُ إِلَى الْأَوَّلِ فَإِنْ هَلَكَتْ فَلِصَاحِبِهَا قِيمَتُهَا عَلَى الْأَوَّلِ وَيَرْجِعُ بِهَا الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي وَيَتَرَادَّانِ الثَّمَنَ الْمَدْفُوعَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الشِّرَاءَ بِمَالِ الْقِرَاضِ مَوْقُوفٌ عَلَى خِيَارِ مَالِكِهِ ، وَالْبَيْعَ حَقٌّ لِلْعَامِلِ فَإِذَا مَنَعَ رَبُّ الْمَالِ مِنَ الشِّرَاءِ ، لَمْ يَكُنْ لِلْعَامِلِ أَنْ يَشْتَرِيَ ، فَإِنِ اشْتَرَى بِعَيْنِ الْمَالِ بَطَلَ ، وَصَارَ ضَامِنًا لِلثَّمَنِ بِدَفْعِهِ ، وَالْبَائِعُ ضَامِنٌ لَهُ بِقَبْضِهِ ، وَرَبُّ الْمَالِ مُخَيَّرٌ فِي مُطَالَبَةِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا . فَإِنْ أُغْرِمَ الْعَامِلُ رَجَعَ الْعَامِلُ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ ، وَرَجَعَ الْبَائِعُ عَلَيْهِ بِسِلْعَتِهِ إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً ، أَوْ بِقِيمَتِهَا إِنْ كَانَتْ تَالِفَةً . وَإِنْ غَرِمَ الْبَائِعُ لَمْ يَرْجِعِ الْبَائِعُ بِغَرَامَةِ الثَّمَنِ ، وَرَجَعَ بِسِلْعَتِهِ إِنْ بَقِيَتْ وَبِقِيمَتِهَا إِنْ تَلِفَتْ . وَإِنْ كَانَ الْعَامِلُ عِنْدَ نَهْيِ رَبِّ الْمَالِ عَنِ الشِّرَاءِ قَدِ اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ صَحَّ الشِّرَاءُ لَهُ لَا فِي مَالِ الْقِرَاضِ ، وَمُنِعَ مَنْ دَفْعِ ثَمَنِهِ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ ، فَإِنْ دَفَعَهُ مِنْهُ ضَمِنَهُ كَمَا قُلْنَا لَوْ عَيَّنَهُ . فَأَمَّا بَيْعُ مَا بَدَّلَ الْعَامِلُ مِنْ عُرُوضِ الْقِرَاضِ فَهُوَ حَقٌّ لَهُ لَا يُمْتَنَعُ مِنْهُ بِمَنْعِ رَبِّ الْمَالِ لَهُ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ فَضْلِ ثَمَنِهِ الَّذِي لَا يَحْصُلُ لَهُ إِلَّا بِبَيْعِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا سُرِقَ الْمَالُ مِنْ يَدِ الْعَامِلِ ، أَوْ جَحَدَهُ إِيَّاهُ مَنْ عَامَلَ ، فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ضَمَانِهِ ، وَهَلْ يَكُونُ خَصْمًا فِي الْمُطَالَبَةِ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَوْكِيلٍ مِنْ مَالِكِهِ أَمْ لَا ؟ . عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَكُونُ خَصْمًا فِيهِ وَوَكِيلًا فِي الْمُطَالَبَةِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْقِرَاضِ قَدْ ضَمِنَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ خَصْمًا فِيهِ ، وَلَا مُسْتَحِقًّا لِلْمُطَالَبَةِ بِهِ إِلَّا بِتَوْكِيلٍ مِنْ رَبِّهِ لِخُرُوجِهِ بِذَلِكَ عَنْ عَمَلِ الْقِرَاضِ وَإِنَّمَا عَمَلُ الْعَامِلِ مَقْصُورٌ عَلَى الْبَيْعِ ، وَالشِّرَاءِ .


وَقَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْقِرَاضِ مُوجِبٌ عَلَى الْعَامِلِ اسْتِيفَاءَ مَالِهِ وَحِفْظَ أَصْلِهِ ، أَلَا تَرَاهُ لَوِ اسْتَرْجَعَ الْمَالَ مِنْ سَارِقِهِ ، وَقَبَضَهُ مِنْ جَاحِدِهِ كَانَ قِرَاضًا بِمُتَقَدِّمِ عَقْدِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ قَالَ الْعَامِلُ رَبِحْتُ أَلْفًا ثُمَّ قَالَ غَلِطْتُ ، أَوْ خِفْتُ نَزْعَ الْمَالِ مِنِّي فَكَذَبْتُ لَزِمَهُ إِقْرَارُهُ ، وَلِمَ يَنْفَعْهُ رُجُوعُهُ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا ذَكَرَ الْعَامِلُ أَنَّ الرِّبْحَ فِي الْقِرَاضِ أَلْفٌ ، فَطَالَبَهُ بِنِصْفِهَا فَزَعَمَ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي الْإِقْرَارِ بِهَا ، أَوْ خَافَ انْتِزَاعَ الْمَالِ مِنْ يَدِهِ فَكَذَبَ فِيهَا ، فَإِنْ عَلِمَ رَبُّ الْمَالِ بِصِدْقِهِ فِيمَا قَالَهُ لَمْ يَمْنَعْهُ مُطَالَبَتَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ كَانَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ ، وَالْعَامِلُ رَاجِعٌ فِي إِقْرَارِهِ فَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ . فَإِنْ سَأَلَ الْعَامِلُ إِحْلَافَ رَبِّ الْمَالِ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ مَا كَانَ أَقَرَّ بِهِ مِنَ الرِّبْحِ فَإِنْ ذَكَرَ شُبْهَةً مُحْتَمَلَةً اسْتَحَقَّ بِهَا إِحْلَافَ رَبِّ الْمَالِ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ شُبْهَةً فَفِي إِحْلَافِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ أَنَّ لَهُ إِحْلَافَهُ لِإِمْكَانِ قَوْلِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَيْسَ لَهُ إِحْلَافُهُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إِقْرَارِهِ . فَأَمَّا إِنِ ادَّعَى الْعَامِلُ تَلَفَ الرِّبْحِ مِنْ يَدِهِ كَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا ، وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ إِنْ كَذَّبَهُ رَبُّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ . وَهَكَذَا لَوِ ادَّعَى أَنَّهُ جَبَرَ بِالرِّبْحِ خُسْرَانًا مِنْ بَعْدُ قُبِلَ قَوْلُهُ لِاحْتِمَالِهِ وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ إِنْ كَذَّبَهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوِ اشْتَرَى الْعَامِلُ ، أَوْ بَاعَ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ فَبَاطِلٌ وَهُوَ لِلْمَالِ ضَامِنٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَامِلِ فِي الْقِرَاضِ مَوْضُوعٌ لِتَثْمِيرِهِ وَتَنْمِيَتِهِ ، فَيَلْزَمُهُ فِي بَيُوعِهِ وأَشربَتِهِ شَرْطَانِ : أَحَدُ شَرْطَيْ شِرَائِهِ : أَنْ يَشْتَرِيَ مَا يَرْجُو مِنْهُ فَضْلًا وَرِبْحًا إِمَّا فِي الْحَالِ ، أَوْ فِي ثَانِي حَالٍ ، فَإِنِ اشْتَرَى مَا يَعْلَمُ أَنْ لَا فَضْلَ فِيهِ فِي الْحَالِ ، وَلَا فِي ثَانِي حَالٍ لَمْ يَجُزْ لِعَدَمِ الرِّبْحِ الْمَقْصُودِ بِهِ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ إِمَّا مُسْتَرْخَصًا إِنْ كَانَ بَيْعُهُ فِي الْحَالِ ، أَوْ بِثَمَنِ مِثْلِهِ إِنْ كَانَ يَتَوَقَّعُ فِيهِ رِبْحًا فِي ثَانِي حَالٍ .


فَإِنِ اشْتَرَاهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ الْغَبْنُ فِيهِ يَسِيرًا قَدْ يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ كَانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ لَا تَخْلُو غَالِبًا مِنْهُ . وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ لَمْ يَجُزْ ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْعَقْدِ : فَإِنْ كَانَ بِعَيْنِ الْمَالِ بَطَلَ ، وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ كَانَ الشِّرَاءُ لَازِمًا لَا فِي مَالِ الْقِرَاضِ . وَأَمَّا بَيْعُهُ فَبِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَوَقَّعَ بِهِ تَنَاهِي أَسْعَارِهِ الْمَعْهُودَةِ لِيَسْتَكْمِلَ بِهِ الرِّبْحَ الْمَقْصُودَ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَسْتَوْفِيَ أَوْفَرَ الْأَثْمَانِ الْمَوْجُودَةِ ؛ لِأَنَّ بِهَا مَحَلٌّ بِرِبْحٍ مَقْصُودٍ . فَإِنْ بَاعَهُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ نُظِرَ فِيمَا غُبِنَ بِهِ : فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا قَدْ يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ كَانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ لَا تَخْلُو غَالِبًا مِنْهُ . وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ لَمْ يَجُزْ ، وَكَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقْبِضْ ، فَإِنْ قَبَضَ ضَمِنَ ، وَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ قَوْلَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . أَحَدُهُمَا : وَهُوَ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يَضْمَنُ جَمِيعَ الْقِيمَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَضْمَنُ مَا قَصَّرَ فِيهِ مِنْ نَقْصِ الْقِيمَةِ . وَلَا يَبْطُلُ عَقْدُ الْقِرَاضِ [ بِضَمَانِهِ ] ، لِاسْتِقْرَارِهِ بِتَصَرُّفِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوِ اشْتَرَى فِي الْقِرَاضِ خَمْرًا ، أَوْ خِنْزِيرًا ، أَوْ أُمَّ وَلَدٍ دَفَعَ الثَّمَنَ فَالشِّرَاءُ بَاطِلٌ وَهُوَ لِلْمَالِ ضَامِنٌ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . لَا يَجُوزُ لِلْعَامِلِ أَنْ يَشْتَرِيَ بِمَالِ الْقِرَاضِ مَا لَا يَصِحُّ شِرَاؤُهُ ، وَلَا يَجُوزُ تَمَلُّكُهُ مِنَ الْوُقُوفِ ، وَالْغُصُوبِ وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَكَذَلِكَ الْخُمُورُ ، وَالْخَنَازِيرُ ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَامِلُ أَوْ رَبُّ الْمَالِ مُسْلِمًا ، أَوْ نَصْرَانِيًّا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ الْعَامِلُ نَصْرَانِيًّا صَحَّ شِرَاؤُهُ لِلْخَمْرِ ، وَالْخِنْزِيرِ وَأُمِرَ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِحِصَّتِهِ مِنْ رِبْحِهِ . وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِيَهُ الْمُسْلِمُ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَشْتَرِيَهُ النَّصْرَانِيُّ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ ؛ وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَمْنَعُ مِنْ شِرَاءِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ فِيهِ مِنْ شِرَاءِ الْخِنْزِيرِ ، وَالْخَمْرِ كَالْمُسْلِمِ . وَإِذَا صَحَّ مَا وَصَفْنَاهُ مِنْ فَسَادِ هَذَا الشِّرَاءِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْعَامِلِ مَا لَمْ يَدْفَعْ مَالَ الْقِرَاضِ فِي ثَمَنِهِ ، وَإِنْ دَفْعَهُ ضَمِنَهُ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَأَكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى النَّصْرَانِيِّ مَالًا مُضَارَبَةً ، وَلَا أَكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ


أَنْ يَأْخُذَ مِنَ النَّصْرَانِيِّ مَالًا مُضَارَبَةً وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ أَظْهَرُ أَمَانَةً مِنَ النَّصْرَانِيِّ وَأَصَحُّ بُيُوعًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُقَارِضَ بِمَالِهِ رَجُلَيْنِ ، وَلِلرَّجُلَيْنِ أَنْ يُقَارِضَا بِمَالِهِمَا رَجُلًا ، أَوْ رَجُلَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ فَصَحَّ مَعَ الْوَاحِدِ ، وَالْجَمَاعَةِ كَالْوَكَالَةِ ، وَالْإِجَارَةِ ، وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُقَارِضَ رَجُلٌ وَاحِدٌ بِمَالِهِ رَجُلَيْنِ عَلَى أَنَّ لَهُ نِصْفَ الرِّبْحِ ، وَالنِّصْفَ الْبَاقِيَ بَيْنَ الْعَامِلَيْنِ فَهَذَا جَائِزٌ ، وَهَكَذَا لَوْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ ثُلُثَيِ الرِّبْحِ ، وَالثُّلُثُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ ثُلُثَاهُ وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهُ جَازَ وَكَانَ الرِّبْحُ مَقْسُومًا عَلَى تِسْعَةٍ لِرَبِّ الْمَالِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ ، وَلِصَاحِبِ ثُلُثِي الْبَاقِي سَهْمَانِ ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمٌ .

فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الثَّانِي أَنْ يُقَارِضَ رَجُلَانِ بِمَالِهِمَا رَجُلًا وَاحِدًا وَهُمَا فِي الْمَالِ سَوَاءٌ بيان أقسام ذلك وحكم كل قسم فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْتَرِطَا لَهُ مِنْ مَالِهِمَا شَرْطًا وَاحِدًا ، وَيَكُونَا فِي بَاقِي الرِّبْحِ عَلَى سَوَاءٍ فَهَذَا جَائِزٌ ، مِثَالُهُ أَنْ يَقُولَا : لَكَ ثُلُثُ الرِّبْحِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَالْبَاقِي مِنْهُ بَيْنَنَا نِصْفَيْنِ فَيَصِيرُ الرِّبْحُ بَيْنَ ثَلَاثَتِهِمْ أَثْلَاثًا . وَلَوْ جَعَلَا لَهُ نِصْفَ الرِّبْحِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَالْبَاقِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ كَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا لِلْعَامِلِ سَهْمَانِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيِ الْمَالِ سَهْمٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَشْتَرِطَا لَهُ شَرْطًا مُخْتَلِفًا وَيَكُونَا فِي الْبَاقِي عَلَى سَوَاءٍ فَهَذَا بَاطِلٌ ، مِثَالُهُ : أَنْ يَقُولَا : لَكَ ثُلُثُ الرِّبْحِ مِنْ حِصَّةِ أَحَدِنَا ، وَرُبُعُهُ مِنْ حِصَّةِ الْآخَرِ ، وَبَاقِي الرِّبْحِ بَيْنَنَا بِالسَّوِيَّةِ فَهَذَا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَخَذَ مِنْ حِصَّةِ أَحَدِهِمَا الثُّلُثَ بَقِيَ لَهُ مِنْ رُبُعِهِ ثُلُثَاهُ ، وَإِذَا أَخَذَ مِنَ الْآخَرِ الرُّبْعَ بَقِيَ لَهُ مِنْ رُبُعِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِطَا لَهُ التَّسَاوِيَ فِيمَا يَتَفَاضَلَانِ فِيهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَشْتَرِطَا لَهُ شَرْطًا وَاحِدًا وَيَكُونَا فِي الْبَاقِي مُتَفَاضِلَيْنِ فَهَذَا بَاطِلٌ . مِثَالُهُ : أَنْ يَقُولَا : لَكَ ثُلُثُ الرِّبْحِ مِنَ الْمَالَيْنِ ، وَالْبَاقِي بَيْنَنَا أَثْلَاثًا فَهَذَا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رُبُعِهِ ثُلُثَاهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِطَا التَّفَاضُلَ فِيمَا يَتَسَاوَيَانِ فِيهِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَشْتَرِطَا لَهُ شَرْطًا مُخْتَلِفًا ، وَيَكُونَ الْبَاقِي مُخْتَلِفًا عَلَى مُقْتَضَى شَرْطِهِمَا فِيمَا يَأْخُذُهُ الْعَامِلُ مِنْهُمَا فَهَذَا جَائِزٌ ، مِثَالُهُ : أَنْ يَقُولَا لَكَ مِنْ حِصَّةِ أَحَدِنَا بِعَيْنِهِ ثُلُثُ ثُلُثِ الرِّبْحِ وَبَاقِي رِبْحِهِ لَهُ ، وَمِنْ حِصَّةِ الْآخَرِ ثُلُثَا ثُلُثِ الرِّبْحِ وَبَاقِي رِبْحِهِ لَهُ جَازَ وَكَانَ الرِّبْحُ

مَقْسُومًا عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا ، لِلْعَامِلِ بِالْحَقَّيْنِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ ، سَهْمَانِ مِنْهَا بِثُلُثِ الثُّلُثِ ، وَأَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ بِثُلُثَيِ الثُّلُثِ وَلِصَاحِبِ الْمَالِ الْبَاذِلِ مِنْ حَقِّهِ ثُلُثَ الثُّلُثِ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ ، وَلِلْآخَرِ الْبَاذِلِ مِنْ حَقِّهِ ثُلُثَيِ الثُّلُثِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ .
فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ : أَنْ يُقَارِضَ رَجُلَانِ بِمَالِهِمَا رَجُلَيْنِ فَهَذَا يَنْقَسِمُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَقْسَامِ . وَإِذَا صَرَفْتَ فِكْرَكَ إِلَيْهَا وَصَحَّتْ لَكَ مُتَقَابِلَةً وَفِي أَجْزَاءِ أَقْسَامِهَا نُبَيِّنُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَهُ مِنْهَا ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ الْمَالِ زَيْدٌ وَعَمْرٌو ، وَالْعَامِلَيْنِ زَيْدٌ وَعَمْرٌو فَيَجْعَلَ زَيْدٌ لِزَيْدٍ مِنْ رِبْحِ الْمَالِ ثُلُثَ الثُّلُثِ وَلِعَمْرٍو ثُلُثَ السُّدْسِ ، وَالْبَاقِي مِنْ رِبْحِ حِصَّتِهِ لِنَفْسِهِ ، وَيَجْعَلَ عَمْرٌو لِعَمْرٍو مِنْ رِبْحِ الْمَالِ رُبُعَ الثُّلُثِ وَلِزَيْدٍ رُبُعَ السُّدْسِ ، وَالْبَاقِي مِنْ رُبُعِ حِصَّتِهِ لِنَفْسِهِ فَيَصِحُّ ، وَيَكُونُ الرِّبْحُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ عَلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ سَهْمًا ؛ لِأَنَّ مُخْرِجَ ثُلُثِ السُّدْسِ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُخْرِجُ ثُلُثِ الثُّلُثِ ، وَمُخْرِجُ رُبُعِ السُّدْسِ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ يَدْخُلُ فِيهَا مُخْرِجُ رُبُعِ الثُّلُثِ ، وَالْعَدَدَانِ يَتَّفِقَانِ بِالْأَسْدَاسِ فَكَانَ سُدُسُ أَحَدِهِمَا فِي جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ سَهْمًا ، مِنْهَا لِزَيْدٍ الْعَامِلِ مِنْ حِصَّةِ زَيْدٍ بِثُلُثِ الثُّلُثِ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ ، وَمِنْ حِصَّةِ عَمْرٍو بِرُبُعِ السُّدْسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ ، فَصَارَ لَهُ مِنَ الْحِصَّتَيْنِ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا ثُمَّ لِعَمْرٍو ، وَالْعَامِلِ مِنْ عَمْرٍو بِرُبُعِ الثُّلُثِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ مِنْ حِصَّةِ زَيْدٍ بِثُلُثِ السُّدْسِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ ، فَصَارَ لَهُ مِنَ الْحِصَّتَيْنِ عَشَرَةُ أَسْهُمٍ ، ثُمَّ لِزَيْدٍ صَاحِبِ الْمَالِ بِالْبَاقِي مِنْ رِبْحِ حِصَّتِهِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا ثُمَّ لِعَمْرٍو صَاحِبِ الْمَالِ بِالْبَاقِي مِنْ رِبْحِ حِصَّتِهِ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا ، وَلَوْلَا أَنَّ فِي اسْتِيفَاءِ أَقْسَامِ هَذَا الْفَصْلِ الْمَسْأَلَةَ تُذْهِبُ نَشَاطَ الْقَارِئِ وَتَسْتَكِدُّ فِكْرَ الْمُتَأَمِّلِ لَاسْتَوْفَيْتُهَا ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا ذَكَرْتُهُ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ كِفَايَةٌ لِمَنْ يَفْهَمُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
_____الْمُسَاقَاةُ_____
تسمية

المساقاة
وسبب تسميتها


الْمُسَاقَاةُ مَجْمُوعَةٌ مِنْ إِمْلَاءٍ وَمَسَائِلَ شَتَّى جَمَعْتُهَا مِنْهُ لَفْظًا مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " سَاقَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى أَنَّ نَصَّفَ الثَّمَرِ لَهُمْ وَكَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فَيَخْرِصُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ ثُمَّ يَقُولُ : إِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَمَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْخَرْصِ إِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي أَنْ يَخْرِصَ النَّخْلَ كُلَّهُ كَأَنَّهُ خَرَصَهَا مِائَةَ وَسْقٍ وَعَشَرَةَ أَوْسُقٍ وَعَشَرَةَ أَوْسُقٍ رُطَبًا ثُمَّ قَدَّرَ أَنَّهَا إِذَا صَارَتْ تَمْرًا نَقَصَتْ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ فَصَحَّتْ مِنْهَا مِائَةُ وَسْقٍ تَمْرًا فَيَقُولُ إِنْ شِئْتُمْ دَفَعْتُ إِلَيْكُمُ النِّصْفَ الَّذِي لَيْسَ لَكُمُ الَّذِي أَنَا فِيهِ قَيِّمٌ لِأَهْلِهِ عَلَى أَنْ تَضْمَنُوا لِي خَمْسِينَ وَسْقًا تَمْرًا مِنْ تَمْرٍ يُسَمِّيهِ وَيَصِفُهُ وَلَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوهَا وَتَبِيعُوهَا رُطَبًا كَيْفَ شِئْتُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي أَنْ أَكُونَ هَكَذَا مِثْلَكُمْ وَتُسَلِّمُونَ إِلَيَّ وَصْفَكُمْ وَأَضْمَنُ لَكُمْ هَذِهِ الْمَكِيلَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْمُسَاقَاةُ حدها فَهِيَ الْمُعَامَلَةُ عَلَى النَّخْلِ ، وَالشَّجَرِ بِبَعْضِ ثَمَرِهِ ، وَفِي تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا مُفَاعَلَةٌ عَلَى مَا يَشْرَبُ بِسَاقٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ سُمِّيَ سَقْيًا ، فَاشْتَقُّوا اسْمَ الْمُسَاقَاةِ مِنْهُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ غَالِبَ الْعَمَلِ الْمَقْصُودِ فِيهَا هُوَ السَّقْيُ فَاشْتُقَّ اسْمُهَا ، وَالْمُسَاقَاةُ حكمها وآراء العلماء في ذلك جَائِزَةٌ ، لَا يُعْرَفُ خِلَافٌ بَيْنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي جَوَازِهَا ، وَهُوَ قَوْلُ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ إِلَّا أَبَا حَنِيفَةَ وَحْدَهُ دُونَ أَصْحَابِهِ فَإِنَّهُ تَفَرَّدَ بِإِبْطَالِهَا وَحُكِيَ عَنِ النَّخَعِيِّ كَرَاهَتُهَا . وَاسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى إِبْطَالِ الْمُسَاقَاةِ بِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْغَرَرِ ، وَغَرَرُ الْمُسَاقَاةِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ وَعَدَمِهَا ، وَبَيْنَ قِلَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا ، فَكَانَ الْغَرَرُ فِيهِ أَعْظَمَ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بِإِبْطَالِهَا الْعَقْدَ أَحَقُّ . وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنَافِعَ أَعْيَانٍ بَاقِيَةٍ ، فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا بِبَعْضِهَا كَالْمُخَابَرَةِ وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ تَنَاوَلَ ثَمَرَةً لَمْ تُخْلَقْ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَمَا لَوِ اسْتُؤْجِرَ عَلَى عَمَلٍ بِمَا تُثْمِرُهُ هَذِهِ النَّخْلَةُ فِي الْقَابِلِ .


وَلِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ إِجَارَةٌ عَلَى عَمَلٍ جُعِلَتِ الثَّمَرُ فِيهِ أُجْرَةً ، وَالْأُجْرَةُ لَا تَصِحُّ إِلَّا أَنْ تَكُونَ مُعَيَّنَةً ، أَوْ ثَابِتَةً فِي الذِّمَّةِ ، وَمَا تُثْمِرُهُ نَخْلُ الْمُسَاقَاةِ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ ، وَلَا ثَابِتَةٍ فِي الذِّمَّةِ ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ بَاطِلَةً . وَلِأَنَّ مَا مُنِعَ مِنَ الْمُسَاقَاةِ فِيمَا سِوَى النَّخْلِ ، وَالْكَرْمِ مِنَ الشَّجَرِ مِنْ جَهَالَةِ الثَّمَرِ مُنِعَ مِنْهَا مِنَ النَّخْلِ ، وَالْكَرْمِ لِجَهَالَةِ الثَّمَرِ . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ يُحَدِّثُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُوَلَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ قَالَتِ الْيَهُودُ : نَحْنُ نَقُومُ لَكُمْ بِالْعَمَلِ فِي النَّخْلِ ، قَالَ فَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِمْ يَعْمَلُونَهَا وَيَقُومُونَ بِهَا عَلَى أَنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَطْرَ الثَّمَرِ وَلَهُمُ الشَّطْرَ ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْعَثُ مَنْ يَخْرِصُهَا عَلَيْهِمْ ، فَيَأْخُذُونَهَا وَيُؤَدُّونَ الشَّطْرَ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْيَهُودِ حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ : أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ عَلَى أَنَّ الثَّمَرَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ ، فَيَخْرُصُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ ، ثُمَّ يَقُولُ : " إِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي " فَكَانُوا يَأْخُذُونَهُ . فَدَلَّتْ مُسَاقَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ خَيْبَرَ وبيان الإعتراضات على الإستدلال به في المساقاة على النخل ورد هذه الإعتراضات - وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَفِيضَةً تَسْتَغْنِي عَنْ نَقْلٍ - عَلَى جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ عَلَى نَخْلٍ حكمها . اعْتَرَضُوا عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْخَبَرِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقَدَهَا عَلَى أَنْ يُقِرَّهُمْ مَا أَقَرَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَالْمُسَاقَاةُ لَا تَصِحُّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَتَّى تُعْقَدَ عَلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا عَقَدَهُ عَلَى هَذَا ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ فِي زَمَانِهِ مُمْكِنٌ ، وَعِلْمَهُ بِمَا أَقَرَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مُثَابٌ ثُمَّ نُسِخَ هَذَا الشَّرْطُ ، وَنَسْخُ بَعْضِ شَرَائِطِ الشَّيْءِ لَا يُوجِبُ نَسْخَ بَاقِيهِ ، وَالْجَوَابُ الثَّانِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا شَرَطَ ذَلِكَ فِي عَقْدِ الصُّلْحِ لَا فِي عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ ، فَإِنْ قِيلَ فَلَمْ يَذْكُرِ الْمُدَّةَ قِيلَ إِنَّمَا اقْتَصَرَ الرَّاوِي عَلَى نَقْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ ، وَلَمْ يَنْقُلْ شُرُوطَ الْعَقْدِ . وَالسُّؤَالُ الثَّانِي : إِنْ قَالُوا : إِنَّ أَهْلَ خَيْبَرَ عَبِيدٌ يُسْتَرَقُّونَ لَا تَصِحُّ مُسَاقَاتُهُمْ ، وَإِنَّمَا هِيَ مُخَارَجَةٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اصْطَفَى صَفِيَّةَ مِنْ سَبْيِهِمْ ، وَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَالَحَهُمْ عَلَى إِقْرَارِ الْأَرْضِ ، وَالنَّخْلِ مَعَهُمْ وَضَمَّنَهُمْ شَطْرَ الثَّمَرَةِ ، وَصُلْحُ الْعَبِيدِ وَتَضْمِينُهُمْ لَا يَجُوزُ . وَالثَّانِي : أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَجْلَاهُمْ عَنِ الْحِجَازِ ، وَإِجْلَاءُ عَبِيدِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا عَبِيدًا لَتَعَيَّنَ مَالِكُوهُمْ ، وَلَاقْتَسَمُوا رِقَابَهُمْ فَأَمَّا صَفِيَّةُ فَإِنَّهَا كَانَتْ مِنَ الذُّرِّيَّةِ دُونَ الْمُقَاتِلَةِ .


وَالسُّؤَالُ الثَّالِثُ : إِنْ قَالُوا إِنَّ الْأَرْضَ وَالنَّخْلَ كَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى أَمْلَاكِهِمْ ، وَإِنَّمَا شَرَطَ عَلَيْهِمْ شَطْرَ ثِمَارِهِمْ جِزْيَةً . وَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَلَكَ أَرْضَهُمْ وَكُلَّ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ ، أَلَا تَرَى أَنَّ عُمَرَ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي مَلَكْتُ مِائَةَ سَهْمٍ مِنْ خَيْبَرَ وَهُوَ مَالٌ لَمْ أُصِبْ قَطُّ مِثْلَهُ ، وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَجْلَاهُمْ عَنْهَا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْلِيَهُمْ عَنْ أَمْلَاكِهِمْ ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ الْمُنْعَقِدِ عَنْ سِيرَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي مُسَاقَاةِ أَهْلِ خَيْبَرَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتِّبَاعًا لَهُ إِلَى أَنْ حَدَثَ مِنْ إِجْلَائِهِمْ مَا حَدَثَ . ثُمَّ الدَّلِيلُ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى هُوَ أَنَّهَا تُنَمَّى بِالْعَمَلِ عَلَيْهَا ، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ إِجَارَتُهَا جَازَ الْعَمَلُ عَلَيْهَا بِبَعْضِ نَمَائِهَا كَالدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ فِي الْقِرَاضِ . ثُمَّ الِاسْتِدْلَالُ بِالْقِرَاضِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى جَوَازِ الْقِرَاضِ ، وَمَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مَأْخُوذًا عَنْ تَوْقِيفٍ ، أَوِ اجْتِهَادٍ يُرَدُّ إِلَى أَصْلٍ وَلَيْسَ فِي الْمُضَارَبَةِ تَوْقِيفٌ نُصَّ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا اجْتِهَادٌ أَدَّى إِلَى إِلْحَاقِهِ بِأَصْلٍ ، وَلَيْسَ فِي الْمُضَارَبَةِ فِي الشَّرْعِ أَصْلٌ تُرَدُّ إِلَيْهِ إِلَّا الْمُسَاقَاةَ . وَإِذَا كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ أَصْلًا لِفَرْعٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ كَانَتْ أَحَقَّ بِالْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ : وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا جَازَتِ الْمُضَارَبَةُ إِجْمَاعًا وَكَانَتْ عَمَلًا عَلَى عِوَضٍ مَظْنُونٍ مِنْ رِبْحٍ مَجُوزٍ كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ أَوْلَى بِالْجَوَازِ ؛ لِأَنَّهَا عَمَلٌ عَلَى عِوَضٍ مُعْتَادٍ مِنْ ثَمَرَةٍ غَالِبَةٍ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ نَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْغَرَرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُسَاقَاةَ لَيْسَتْ غَرَرًا ؛ لِأَنَّ الْغَرَرَ مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ جَائِزَيْنِ عَلَى سَوَاءٍ ، أَوْ بِتَرَجَّحِ الْأَخْوَفِ مِنْهُمَا ، وَالْأَغْلَبُ مِنَ الثَّمَرَةِ فِي الْمُسَاقَاةِ حُدُوثُهَا فِي وَقْتِهَا فِي الْعُرْفِ الْجَارِي فِي مِثْلِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْمُسَاقَاةَ وَإِنْ دَخَلَتْ فِي عُمُومِ الْغَرَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَقَدْ صَارَتْ مُسْتَثْنَاةً بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِي إِبَاحَتِهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمُخَابَرَةِ فَهُوَ أَنَّهُ قِيَاسٌ يَدْفَعُ إِحْدَى السُّنَّتَيْنِ بِالْأُخْرَى ، وَلَوْ جَازَ أَنْ نَقِيسَ الْمُسَاقَاةَ عَلَى الْمُخَابَرَةِ فِي الْمَنْعِ مِنْهَا لَجَازَ أَنْ نَقِيسَ الْمُخَابَرَةَ عَلَى الْمُسَاقَاةِ فِي جَوَازِهَا وَلَكِنِ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ فِيمَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ إِجَازَةِ الْمُسَاقَاةِ وَإِبْطَالِ الْمُخَابَرَةِ أَوْلَى مِنْ أَنْ تُرَدَّ إِحْدَى السُّنَّتَيْنِ بِالْأُخْرَى ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُخَابَرَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ .


أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا أَمْكَنَ التَّوَصُّلُ إِلَى مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ بِالْإِجَارَةِ لَمْ تَصِحَّ فِيهَا الْمُخَابَرَةُ ، وَلَمَّا لَمْ يُمْكِنِ التَّوَصُّلُ إِلَى مَنْفَعَةِ النَّخْلِ بِالْإِجَارَةِ صَحَّتْ فِيهَا الْمُسَاقَاةُ . وَالثَّانِي : أَنَّ النَّمَاءَ فِي النَّخْلِ وَالْكَرْمِ حَادِثٌ بِالْعَمَلِ مِنْ تَلْقِيحِ النَّخْلِ وَقَطْعِ الْكَرْمِ فَجَازَ أَنْ يَصِحَّ الْعَمَلُ فِيهَا بِبَعْضِ نَمَائِهَا كَالْقِرَاضِ ، وَلَيْسَ النَّمَاءُ فِي الْأَرْضِ حَادِثًا عَنِ الْعَمَلِ وَإِنَّمَا هُوَ حَادِثٌ عَنِ الْبَذْرِ الْمُودَعِ فِي الْأَرْضِ فَلَمْ يَصِحَّ الْعَمَلُ فِيهَا بِبَعْضِ النَّمَاءِ كَالْمَوَاشِي . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْبَيْعِ وَأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَا لَمْ يُخْلَقْ فَهُوَ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى النَّخْلِ الْمَخْلُوقَةِ وَكَانَتِ الثَّمَرَةُ الَّتِي لَمْ تُخْلَقْ تَبَعًا كَالْقِرَاضِ الَّذِي يُعْقَدُ عَلَى مَالٍ مَوْجُودٍ فَيَصِحُّ وَيَكُونُ الرِّبْحُ الْمَعْدُومُ تَبَعًا وَلَيْسَ كَالْبَيْعِ الَّذِي صَارَ الْعَقْدُ فِيهِ مُخْتَصًّا بِمَعْدُومٍ لَمْ يُخْلَقْ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْإِجَارَةِ إِذَا جُعِلَتِ الْأُجْرَةُ فِيهَا ثَمَرَةً لَمْ تُخْلَقْ فَهُوَ أَنَّ الْإِجَارَةَ لَمَّا صَحَّ عَقْدُهَا عَلَى مَعْلُومٍ مَوْجُودٍ لَمْ يَجُزْ عَقْدُهَا عَلَى مَعْدُومٍ وَلَا مَجْهُولٍ ، وَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ عَقْدُ الْمُسَاقَاةِ عَلَى مَوْجُودٍ مَعْلُومٍ جَازَ عَقْدُهَا عَلَى مَعْدُومٍ وَمَجْهُولٍ ، وَفَرْقٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْعِوَضَ فِي الْإِجَارَةِ يَمْلِكُهُ الْأَجِيرُ بَعْدَ أَنِ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مِلْكُ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يُسْتَأْنَفَ مِلْكٌ مَجْهُولٌ بِعِوَضٍ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُسَاقَاةُ ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْعَامِلِ وَرَبِّ الْمَالِ فَجَازَ أَنْ تَحْدُثَ فِي مِلْكِ مَالٍ مَجْهُولٍ ، وَلِهَذَا مَنَعْنَا عَلَى الْأَصَحِّ أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ أُجْرَةً فَلَمْ يَصِحَّ لِأَجْلِهِ الِاسْتِدْلَالُ بِجَهَالَةِ الْأُجْرَةِ وَكَانَ ذَلِكَ جَوَابًا عَنْهُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِمَا لَا تَصِحُّ فِيهِ الْمُسَاقَاةُ مِنَ الشَّجَرِ فَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ مَا يَكُونُ فَرْقًا وَجَوَابًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ الْمُسَاقَاةَ مِنَ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَإِذَا سَاقَى عَلَى النَّخْلِ ، أَوِ الْعِنَبِ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ فَهِيَ الْمُسَاقَاةُ الَّتِي سَاقَى عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِذَا دَفَعَ إِلَيْهِ أَرْضًا بَيْضَاءَ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا الْمَدْفُوعَةُ إِلَيْهِ فَمَا أَخْرَجَ اللَّهُ مِنْهَا مِنْ شَيْءٍ فَلَهُ جُزْءٌ مَعْلُومٌ فَهَذِهِ الْمُخَابَرَةُ الَّتِي نَهَى عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ تُرَدَّ إِحْدَى السُّنَّتَيْنِ بِالْأُخْرَى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ مِنَ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ نَمَاءَ النَّخْلِ فِي الْمُسَاقَاةِ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْعَمَلِ فَكَانَ فِي تَرْكِ لُزُومِهِ تَفْوِيتٌ لِلْعَمَلِ بِغَيْرِ بَدَلٍ ، وَنَمَاءُ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ مُتَّصِلٌ بِالْعَمَلِ فَلَمْ يَكُنْ فِي تَرْكِ لُزُومِهِ تَفْوِيتٌ لِلْعَمَلِ بِغَيْرِ بَدَلٍ ، فَلِذَلِكَ انْعَقَدَ لَازِمًا فِي الْمُسَاقَاةِ وَجَائِزًا فِي الْمُضَارَبَةِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَصِحَّةُ الْعَقْدِ فِيهَا مُعْتَبَرَةٌ بِأَرْبَعَةِ شَرَائِطَ أي المساقاة : فَالشَّرْطُ الْأَوَّلُ : أَنْ تَكُونَ النَّخْلُ مَعْلُومَةً من شروط المساقاة ، فَإِنْ كَانَتْ مَجْهُولَةً بِأَنْ قَالَ قَدْ سَاقَيْتُكَ أَحَدَ حَوَائِطِي ، أَوْ عَلَى مَا شِئْتَ مِنْ نَخْلِي كَانَ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ النَّخْلَ أَصْلٌ فِي الْعَقْدِ فَبَطَلَ بِالْجَهَالَةِ كَالْبَيْعِ . فَلَوْ سَاقَاهُ عَلَى نَخْلٍ غَائِبٍ بِشَرْطِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَخَرَّجَهُ بَعْضُهُمْ


عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْبَيْعِ ، وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ - وَهُوَ الْأَصَحُّ - إِلَى فَسَادِ الْعَقْدِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْمُسَاقَاةِ ، وَالْبَيْعِ بِأَنَّ الْبَيْعَ يُعَدَّى عَنِ الْغَرَرِ فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ غَرَرُ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ قَوِيَ عَلَى احْتِمَالِهِ فَصَحَّ فِيهِ ، وَعَقْدُ الْمُسَاقَاةِ غَرَرٌ ، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ غَرَرُ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ ضَعُفَ عَلَى احْتِمَالِهِ فَبَطَلَ فِيهِ . وَإِذَا لَمْ يَكُنْ يَجُوزُ إِلَّا عَلَى مُعَيَّنٍ مُشَاهَدٍ فَإِنْ كَانَ عِنْدَ عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ لَا ثَمَرَةَ عَلَيْهَا ، صَحَّ الْعَقْدُ وَلَوْ أَثْمَرَتْ مِنْ وَقْتِهِ إِنْ كَانَتْ عِنْدَ عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ مُثْمِرَةً فَقَدْ قَالَ الْمُزَنِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ جَازَ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ لَمْ يَجُزْ وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : إِنِ احْتَاجَتْ إِلَى الْقِيَامِ بِهَا حَتَّى يَطِيبَ جَازَ ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ لَمْ يَجُزْ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : إِنْ كَانَتْ تَزِيدُ جَازَ وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تَزِدْ لَمْ يَجُزْ فَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ فِي الْإِمْلَاءِ جَوَازُهُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتِ الْمُسَاقَاةُ عَلَى ثَمَرَةٍ مَعْدُومَةٍ أو معلومة كَانَ جَوَازُهَا بِالْمَعْلُومَةِ أَوْلَى ، وَلَعَلَّ هَذَا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْعَامِلِ أَنَّهُ أَجِيرٌ . وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ ، وَالْأَصَحُّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ بَاطِلَةٌ بِكُلِّ حَالٍ . وَقَدْ حَكَى الْبُوَيْطِيُّ ذَلِكَ عَنْهُ نَصًّا ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ جَوَازِهَا عِنْدَهُ أَنَّ لِعَمَلِهِ تَأْثِيرًا فِي حُدُوثِ الثَّمَرَةِ كَمَا أَنَّ لِعَمَلِ الْمُضَارِبَ تَأْثِيرًا فِي حُصُولِ الرِّبْحِ وَلَوْ حَصَلَ رِبْحُ الْمَالِ قَبْلَ عَمَلِ الْعَامِلِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ حَقٌّ كَذَلِكَ الْمُسَاقَاةُ ، فَلَوْ سَاقَاهُ عَلَى النَّخْلِ الْمُثْمِرَةِ عَلَى مَا يَحْدُثُ مِنْ ثَمَرَةِ الْعَامِ الْمُقْبِلِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَجَّلُ الْعَمَلَ فِيهَا اسْتِصْلَاحًا لِثَمَرَةٍ قَائِمَةٍ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ .

فَصْلٌ : وَالشَّرْطُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ الْعَامِلِ مِنَ الثَّمَرَةِ مَعْلُومًا بِجُزْءٍ شَائِعٍ فِيهَا من شروط المساقاة مِنْ نِصْفٍ ، أَوْ رُبُعٍ ، أَوْ عُشْرٍ ، قَلَّ ذَلِكَ الْجُزْءُ ، أَوْ كَثُرَ كَالْمُضَارَبَةِ فَإِنْ جُهِلَ نَصِيبُهُ بِأَنْ جُعِلَ لَهُ مَا يُرْضِيهِ ، أَوْ مَا يَكْفِيهِ ، أَوْ مَا يَحْكُمُ بِهِ الْحَاكِمُ لَمْ يَجُزْ لِلْجَهْلِ بِهِ . وَهَكَذَا لَوْ جُعِلَ لَهُ مِنْهَا مِائَةُ صَاعٍ مُقَدَّرَةٌ في المساقاة لَمْ يَجُزْ لِلْجَهْلِ بِهِ مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَرَةِ وَأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ جَمِيعَهَا ، أَوْ سَهْمًا يَسِيرًا مِنْهَا . فَلَوْ قَالَ قَدْ سَاقَيْتُكَ عَلَى هَذِهِ النَّخْلِ سَنَةً ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَدْرَ نَصِيبِهِ مِنْ ثَمَرِهَا فَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ جَوَازُهَا وَجَعَلَ الثَّمَرَةَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بِالسَّوِيَّةِ حَمْلًا لَهَا عَلَى عُرْفِ النَّاسِ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنِهِمَا فِي الثَّمَرَةِ وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ تَرْكَ ذِكْرِ الْعِوَضِ فِي الْعَقْدِ لَا يَقْتَضِي حَمْلَهُ عَلَى مَعْهُودِ النَّاسِ عُرْفًا كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ ، مَعَ أَنَّ الْعُرْفَ فِيهِ مُخْتَلِفٌ فَإِذَا قَالَ عَامَلْتُكَ عَلَى هَذِهِ النَّخْلِ سَنَةً ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَدْرَ نَصِيبِهِ مِنْهَا لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُعَامَلَةِ عِنْدَهُ عُرْفٌ وَلَوْ قَالَ سَاقَيْتُكَ عَلَى مِثْلِ مَا سَاقَى زَيْدٌ عَمْرًا فَإِنْ عَلِمَا قَدْرَ ذَلِكَ جَازَ ، وَإِنْ جَهِلَاهُ ، أَوْ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ . وَيَجُوزُ أَنْ يَسَاقِيَهُ فِي السِّنِينَ كُلِّهَا عَلَى نَصِيبٍ وَاحِدٍ مِثْلِ أَنْ يَقُولَ عَلَى أَنَّ لَكَ فِي السِّنِينَ كُلِّهَا النِّصْفَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّصِيبُ مُخْتَلِفًا فَيَكُونُ لَهُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى النِّصْفُ وَفِي الثَّانِيَةِ الثُّلُثُ وَفِي الثَّالِثَةِ الرُّبْعُ وَمَنَعَ مَالِكٌ مِنَ اخْتِلَافِ نَصِيبِ الْعَامِلِ فِي كُلِّ عَامٍ حَتَّى يُسَاوِيَ نَصِيبَهُ فِي جَمِيعِ الْأَعْوَامِ وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ فِي أَحْوَالِهِ مُتَّفِقًا جَازَ أَنْ يَكُونَ مُخْتَلِفًا كَالْبَيْعِ ، وَالْإِجَارَةِ .


فَإِذَا عُلِمَ نَصِيبُ الْعَامِلِ وَرَبِّ الْمَالِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْعَامِلَ شَرِيكٌ فِي الثَّمَرَةِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ ، وَقَدْ خَرَجَ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ أَجِيرٌ كَالْمَضَارِبِ وَيَخْتَصُّ رَبُّ الْمَالِ بِتَحَمُّلِ الزَّكَاةِ دُونَ الْعَامِلِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ شَرِيكٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَيْهِمَا إِنْ بَلَغَتْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ نِصَابًا فَإِنْ كَانَتْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ وَجُمْلَةُ الثَّمَرَةِ نِصَابًا فَفِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ قَوْلَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْخِلْطَةِ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي هَلْ يَكُونُ كَالْخِلْطَةِ فِي الْمَوَاشِي . فَأَمَّا سَوَاقِطُ النَّخْلِ مِنَ السَّعَفِ ، وَالسَّرْغِ ، وَاللِّيفِ هل للعامل أن يشترطه لنفسه ؟ فَهُوَ لِرَبِّ النَّخْلِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَأْلُوفِ النَّمَاءِ ، وَلَا مَقْصُودِ النَّخْلِ فَإِنْ شَرْطَهُ الْعَامِلُ لِنَفْسِهِ بَطَلَ الْعَقْدُ لِاخْتِصَاصِهِ بِمَا لَا يُشَارِكُهُ رَبُّ الْمَالِ فِيهِ ، وَإِنْ شَرَطَاهُ بَيْنَهُمَا فَفِي الْمُسَاقَاةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءٌ كَالثَّمَرَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَعْهُودِ النَّمَاءِ ، وَلَا مَقْصُودِهِ .

فَصْلٌ : وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ أَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ مَعْلُومَةً من شروط المساقاة ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ يَجُوزُ إِطْلَاقُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تُقَدَّرَ بِمُدَّةِ مَعْلُومَةٍ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قَدَّرَ لِأَهْلِ خَيْبَرَ مُدَّةً ، وَقَالَ : أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ . وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : إِنْ قُدِّرَتْ بِمُدَّةٍ لَزِمَتْ إِلَى انْقِضَائِهَا وَإِنْ لَمْ تُقَدَّرْ بِمُدَّةٍ صَحَّتْ وَكَانَتْ عَلَى سَنَةٍ وَاحِدَةٍ . وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ مَا لَزِمَ مِنْ عُقُودِ الْمَنَافِعِ تَقَدَّرَتْ مُدَّتُهُ كَالْإِجَارَةِ . فَإِذَا كَانَتِ الْمُدَّةُ الْمَعْلُومَةُ شَرْطًا فِيهَا فَأَقَلُّهَا مُدَّةٌ تَطَّلِعُ فِيهَا الثَّمَرَةُ وَتَسْتَغْنِي عَنِ الْعَمَلِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدِّرَهَا بِذَلِكَ حَتَّى يُقَدِّرَهَا بِالشُّهُورِ الَّتِي قَدْ أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى الْعَادَةَ بِأَنَّ الثِّمَارَ تَطَّلِعُ فِيهَا اطِّلَاعًا مُتَنَاهِيًا . فَإِنْ تَأَخَّرَ اطِّلَاعُ الثَّمَرَةِ فِيهَا بِحَادِثٍ ثُمَّ اطَّلَعَتْ بَعْدَ تَقَضِّيهَا في المساقاة ، فَعَلَى الْأَصَحِّ مِنَ الْمَذْهَبِ فِي أَنَّ الْعَامِلَ شَرِيكٌ تَكُونُ الثَّمَرَةُ بَيْنَهُمَا وَإِنَّ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْمُسَاقَاةِ قَبْلَ اطِّلَاعِهَا ؛ لِأَنَّ ثَمَرَةَ هَذَا الْعَامِ حَادِثَةٌ عَلَى مِلْكِهِمَا ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَإِنِ اسْتَحَقَّ الثَّمَرَةَ إِلَّا فِيمَا اخْتَصَّ بِالثَّمَرَةِ مِنْ تَأْبِيرٍ وَتَلْقِيحٍ ، وَإِنْ قِيلَ بِأَنَّ الْعَامِلَ أَجِيرٌ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الثَّمَرَةِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَانْقِطَاعِ الْعَمَلِ ، وَلَا يَسْتَهْلِكُ عَمَلَهُ بِغَيْرِ بَدَلٍ فَيُحْكَمَ لَهُ حِينَئِذٍ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ . فَأَمَّا أَكْثَرُ مُدَّةِ الْمُسَاقَاةِ فَيَأْتِي .

فَصْلٌ : وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ فِي صِيغَةِ الْعَقْدِ وَهُوَ أَنْ يَعْقِدَاهُ بِلَفْظِ الْمُسَاقَاةِ ، فَيَقُولُ سَاقَيْتُكَ ؛ لِأَنَّ أَلْفَاظَ الْعُقُودِ سَبْعَةٌ مِنْ أَسْمَائِهَا لِيَنْتَفِيَ الِاحْتِمَالُ عَنْهَا . فَإِنْ عَقَدَاهُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ بِأَنْ قَالَ اسْتَأْجَرْتُكَ لِلْعَمَلِ فِيهَا عقد المساقاة بلفظ الإجارة كَانَ الْعَقْدُ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ فِيهَا لَا تَصِحُّ ، فَإِذَا عَقَدَا بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ انْصَرَفَ إِلَيْهِمَا فَبَطَلَ . وَإِنْ لَمْ يَعْقِدَاهُ بِوَاحِدَةٍ مِنَ اللَّفْظَتَيْنِ ، وَقَالَ قَدْ عَامَلْتُكَ عَلَيْهَا بِالْعَمَلِ فِيهَا عَلَى الشَّرْطِ مِنْ ثَمَرِهَا في صيغة المساقاة فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ هَكَذَا يَكُونُ عَقْدُ الْمُسَاقَاةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ أَحْكَامِ الْعَقْدِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ الْعَقْدُ ، وَهَذَانِ


الْوَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْبَيْعِ إِذَا عُقِدَ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا اشْتَمَلَ الْعَقْدُ عَلَى شُرُوطِهِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ صَحَّ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُشْرَطَ فِيهِ خِيَارُ الثَّلَاثِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ أَمْ لَا عقد المساقاة ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ كَالْإِجَارَةِ . وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْثِقَ فِيهِ بِالشَّهَادَةِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْثِقَ فِيهِ بِالرَّهْنِ وَالضَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ . ثُمَّ يُؤْخَذُ الْعَامِلُ بِالْعَمَلِ الْمَشْرُوطِ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ فِي النَّخْلِ حَتَّى أَثْمَرَتْ كَانَ لَهُ نَصِيبُهُ مِنَ الثَّمَرَةِ إِنْ قِيلَ إِنَّهُ شَرِيكٌ ، وَلَا شَيْءَ لَهُ فِيهَا إِنْ قِيلَ إِنَّهُ أَجِيرٌ ، وَلِرَبِّ النَّخْلِ أَنْ يَأْخُذَ الْعَامِلَ جَبْرًا بِالْعَمَلِ لِلُزُومِ الْعَقْدِ . فَإِنْ أَرَادَ الْعَامِلُ أَنْ يُسَاقِيَ غَيْرَهُ عَلَيْهَا مُدَّةَ مَسَاقَاتِهِ جَازَ بِمِثْلِ نَصِيبِهِ فَمَا دُونُ كَالْإِجَارَةِ ، وَلَا يَجُوزُ بِأَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الزِّيَادَةَ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسَاقَاةِ حَيْثُ كَانَ لِلْعَامِلِ أَنْ يُسَاقِيَ عَلَيْهَا وَبَيْنَ الْمُضَارَبَةِ حَيْثُ لَمْ يَجُزْ لِلْعَامِلِ أَنْ يُضَارِبَ بِهَا أَنَّ تَصَرُّفَ الْعَامِلِ فِي الْمُضَارَبَةِ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَيْسَ بِلَازِمٍ فَلَمْ يَمْلِكِ الِافْتِيَاتَ عَلَيْهِ فِي تَصَرُّفِهِ ، وَتَصَرُّفَ الْعَامِلِ فِي الْمُسَاقَاةِ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِلُزُومِ الْعَقْدِ فَمَلَكَ الِاسْتِنَابَةَ فِي تَصَرُّفِهِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " فَالْمُسَاقَاةُ جَائِزَةٌ بِمَا وَصَفْتُ فِي النَّخْلِ ، وَالْكَرْمِ دُونَ غَيْرِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ ، وَالسَّلَامُ أَخَذَ صَدَقَةَ ثَمَرَتِهِمَا بِالْخَرْصِ وَثَمَرُهُمَا مُجْتَمِعٌ بَائِنٌ مِنْ شَجَرِهِ لَا حَائِلَ دُونَهُ يَمْنَعُ إِحَاطَةَ النَّاظِرِ إِلَيْهِ وَثَمَرُ غَيْرِهِمَا مُتَفَرِّقٌ بَيْنَ أَضْعَافِ وَرَقٍ لَا يُحَاطُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ فَلَا تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ إِلَّا عَلَى النَّخْلِ ، وَالْكَرْمِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ الشَّجَرِ مِنَ النَّبَاتِ مُثْمِرًا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ فهل تجوز المساقاة فيها : قِسْمٌ لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ النَّخْلُ ، وَالْكَرْمُ هل تجوز المساقاة عليهما ؟ . وَقَالَ دَاوُدُ : الْمُسَاقَاةُ جَائِزَةٌ فِي النَّخْلِ دُونَ الْكَرْمِ . وَحُكِيَ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ جَوَازُ الْمُسَاقَاةِ فِيمَا لَمْ يَكُنْ بَعْلًا مِنَ النَّخْلِ ، وَمَنَعَ مِنْهَا فِي الْبَعْلِ مِنَ النَّخْلِ وَفِي الْكَرْمِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ فِي الْكَرْمِ ، هَلِ قَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَصًّا ، أَوْ قِيَاسًا ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ قَالَ بِهِ نَصًّا وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاقَى فِي النَّخْلِ ، وَالْكَرْمِ . وَقَالَ آخَرُونَ وَهُوَ الْأَشْبَهُ أَنَّهُ قَالَ بِهِ قِيَاسًا عَلَى النَّخْلِ مِنْ وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا ، أَحَدُهُمَا اشْتِرَاكُهُمَا فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِمَا ، وَالثَّانِي بُرُوزُ ثَمَرِهِمَا ، وَإِمْكَانُ خَرْصِهِمَا .

فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّانِي مَا لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي بُطْلَانِ الْمُسَاقَاةِ فِيهِ وَهُوَ الْمَقَاثِي ، وَالْبَطَاطِخُ ، وَالْبَاذِنْجَانُ ، وَالْعَلَفُ هل تجوز المساقاة عليها ؟ . وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ جَوَازُهَا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ بِحُدُوثِ ثَمَرِهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ . وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ شَجَرًا ثَابِتًا فَهُوَ بِالزَّرْعِ أَشْبَهُ ، وَالْمُخَابَرَةُ عَلَى الزَّرْعِ بَاطِلَةٌ


فَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَ الزَّرْعَ مِنَ الْقِثَّاءِ ، وَالْبِطِّيخِ ، وَالْمَوْزِ وَقَصَبِ السُّكَّرِ .

فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ مَا كَانَ شَجَرًا فَفِي جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ عَلَيْهِ جَائِزَةٌ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا اجْتَمَعَ فِي الْأَشْجَارِ مَعْنَى النَّخْلِ مِنْ بَقَاءِ أَصْلِهَا ، وَالْمَنْعِ مِنْ إِجَارَتِهَا كَانَتْ كَالنَّخْلِ فِي جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ عَلَيْهَا مَعَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ بِأَرْضِ خَيْبَرَ شَجَرٌ لَمْ يُرْوَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِفْرَادُهَا عَنْ حُكْمِ النَّخْلِ ، وَلِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ مُشْتَقَّةُ الِاسْمِ مِمَّا يَشْرَبُ بِسَاقٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ عَلَى الشَّجَرِ حكمها بَاطِلَةٌ ، اخْتِصَاصًا بِالنَّخْلِ وَالْكَرْمِ ، لِمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ ، وَبَيْنَ الشَّجَرِ ، أَحَدُهُمَا اخْتِصَاصُ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِمَا دُونَ مَا سِوَاهُمَا مِنْ جَمِيعِ الْأَشْجَارِ ، وَالثَّانِي : بُرُوزُ ثَمَرِهِمَا وَإِمْكَانُ خَرْصِهِمَا دُونَ غَيْرِهِمَا مِنْ سَائِرِ الْأَشْجَارِ ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ بَيْنَ النَّخْلِ شَجَرٌ قَلِيلٌ فَسَاقَاهُ عَلَيْهِمَا صَحَّتِ الْمُسَاقَاةُ فِيهِمَا وَكَانَ الشَّجَرُ تَبَعًا كَمَا تَصِحُّ الْمُخَابَرَةُ فِي الْبَيَاضِ الَّذِي بَيْنَ النَّخْلِ وَيَكُونُ تَبَعًا .

مَسْأَلَةٌ تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ سِنِينَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَتَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ سِنِينَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَقَلِّ مُدَّةِ الْمُسَاقَاةِ فَأَمَّا أَكْثَرُ مُدَّتِهَا فَكَالْإِجَارَةِ فِي أَكْثَرِ مُدَّتِهَا ، وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي أَكْثَرِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ إِلَّا سَنَةً وَاحِدَةً لِزِيَادَةِ الْغَرَرِ فِيمَا زَادَ عَلَى السَّنَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَجُوزُ سِنِينَ كَثِيرَةً . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يَجُوزُ ثَلَاثِينَ سَنَةً ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَ الثَّلَاثِينَ حَدًّا لِأَكْثَرِ الْمُدَّةِ اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ كَلَامِهِ ، وَذَهَبَ سَائِرُهُمْ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ ثَلَاثِينَ سَنَةً لَيْسَ بِحَدٍّ لِأَكْثَرِ الْمُدَّةِ ، وَلَهُمْ فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَالَهُ مِثَالًا عَلَى وَجْهِ التَّكْثِيرِ ، وَالثَّانِي أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَا يَبْقَى أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ سَنَةً . فَعَلَى هَذَا فِي أَنَّ الْإِجَارَةَ تَجُوزُ سِنِينَ كَثِيرَةً ، فَهَلْ ذِكْرُ أُجْرَةِ كُلِّ سَنَةٍ مِنْهَا لَازِمٌ فِيهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُ أَنْ يُبَيِّنَ أُجْرَةَ كُلِّ سَنَةٍ مِنْهَا . وَالثَّانِي : لَا يَلْزَمُ . فَأَمَّا الْمُسَاقَاةُ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ ، كَمَا لَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ أَكْثَرَ مِنْ سِنَةٍ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي : تَجُوزُ سِنِينَ كَثِيرَةً يُعْلَمُ بَقَاءُ النَّخْلِ إِلَيْهَا ، كَمَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ سِنِينَ كَثِيرَةً . وَهَلْ يَلْزَمُ ذِكْرُ نَصِيبِ الْعَامِلِ فِي كُلِّ سَنَةٍ في المساقاة فِيهَا قَوْلًا وَاحِدًا وَفَرَّقُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْإِجَارَةِ بِأَنَّ ثِمَارَ النَّخْلِ مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ السِّنِينَ وَمَنَافِعَ الْإِجَارَةِ لَا تَخْتَلِفُ .




فَصْلٌ : فَلَوْ سَاقَاهُ عَلَى نَخْلَةٍ عَشْرَ سِنِينَ عَلَى أَنَّ لَهُ ثَمَرَةَ سَنَةٍ مِنْهَا لَمْ يَجُزْ سَوَاءٌ عَيَّنَ السَّنَةَ ، أَوْ لَمْ يُعَيِّنْهَا ؛ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُعَيِّنْهَا كَانَتْ مَجْهُولَةً ، وَإِنْ عَيَّنَهَا فَقَدْ شَرَطَ جَمْعَ الثَّمَرَةِ فِيهَا . وَلَوْ جَعَلَ لَهُ نِصْفَ الثَّمَرَةِ فِي سَنَةٍ مِنَ السِّنِينَ الْعَشَرَةِ إِنْ لَمْ يُعَيِّنْهَا بَطَلَتِ الْمُسَاقَاةُ لِلْجَهْلِ بِهَا وَإِنْ عَيَّنَهَا نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ السَّنَةِ الْأَخِيرَةِ بَطَلَتِ الْمُسَاقَاةُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ شَرَطَ عَلَيْهِ بَعْدَ حَقِّهِ مِنَ الثَّمَرَةِ عَمَلًا لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ عِوَضًا ، وَإِنْ كَانَتِ السَّنَةُ الْأَخِيرَةُ فَفِي صِحَّةِ الْمُسَاقَاةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا صَحِيحَةٌ كَمَا يَصِحُّ أَنْ يَعْمَلَ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ ، وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ فِي بَعْضِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ فِيهَا مُدَّةً تُثْمِرُ فِيهَا ، وَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ ثَمَرِهَا وَبِهَذَا الْمَعْنَى خَالَفَ السَّنَةَ الْوَاحِدَةَ .

فَصْلٌ : وَإِذَا سَاقَاهُ عَشْرَ سِنِينَ فَاطَّلَعَتْ ثَمَرَةُ السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ بَعْدَ تَقَضِّيهَا لَمْ يَكُنْ لِلْعَامِلِ فِي ثَمَرَةِ تِلْكَ السَّنَةِ حَقٌّ لِتَقَضِّيَ مُدَّتِهِ وَزَوَالِ عَقْدِهِ ، وَلَوِ اطَّلَعَتْ قَبْلَ تَقَضِّي تِلْكَ السَّنَةِ ثُمَّ تَقَضَّتْ ، وَالثَّمَرَةُ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا وَهِيَ بَعْدُ طَلْعٌ ، أَوْ بَلَحٌ كَانَ لَهُ حَقُّهُ مِنْهَا لِحُدُوثِهَا فِي مُدَّتِهِ ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ أَجِيرٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ حَقَّهُ مِنْهَا طَلْعًا ، أَوْ بَلَحًا وَلَيْسَ لَهُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ إِلَى بُدُوِّ الصَّلَاحِ ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ شَرِيكٌ كَانَ لَهُ اسْتِيفَاؤُهَا إِلَى بُدُوِّ الصَّلَاحِ ، وَتَنَاهِي الثَّمَرَةِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا سَاقَاهُ عَلَى النَّخْلِ فَاطَّلَعَتْ بَعْدَ قَبْضِ الْعَامِلِ لَهَا وَقَبْلَ عَمَلِهِ فِيهَا اسْتَحَقَّ نَصِيبَهُ مِنْ تِلْكَ الثَّمَرَةِ لِحُدُوثِهَا فِي يَدِهِ ، وَلَوِ اطَّلَعَتْ قَبْلَ قَبْضِهِ وَتَصَرُّفِهِ فِيهَا فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ أَجِيرٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي تِلْكَ الثَّمَرَةِ نَصِيبٌ لِارْتِفَاعِ يَدِهِ ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ شَرِيكٌ اسْتَحَقَّ نَصِيبًا مِنْ تِلْكَ الثَّمَرَةِ ؛ لِأَنَّهَا بَعْدَ الْعَقْدِ حَادِثَةٌ عَنْ مِلْكِهِمَا وَعَلَى الْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِ مَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ فِيهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ الْمُخَابَرَةُ هِيَ دَفْعُ الْأَرْضِ إِلَى مَنْ يَزْرَعُهَا عَلَى الشَّطْرِ مِنْ زَرْعِهَا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَإِذَا سَاقَاهُ عَلَى نَخْلٍ وَكَانَ فِيهِ بَيَاضٌ لَا يُوصَلُ إِلَى عَمَلِهِ إِلَّا بِالدُّخُولِ عَلَى النَّخْلِ وَكَانَ لَا يُوصَلُ إِلَى سَقْيِهِ إِلَّا بِشِرْكِ النَّخْلِ فِي الْمَاءِ فَكَانَ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ جَازَ أَنْ يُسَاقِيَ عَلَيْهِ مَعَ النَّخْلِ لَا مُنْفَرِدًا وَحْدَهُ وَلَوْلَا الْخَبَرُ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ دَفَعَ إِلَى أَهْلِ خَيْبَرَ النَّخْلَ عَلَى أَنَّ لَهُمُ النِّصْفَ مِنَ النَّخْلِ وَالزَّرْعِ وَلَهُ النِّصْفَ وَكَانَ الزَّرْعُ كَمَا وَصَفْتُ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ النَّخْلِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَالْمُخَابَرَةُ تعريفها هِيَ دَفْعُ الْأَرْضِ إِلَى مَنْ يَزْرَعُهَا عَلَى الشَّطْرِ مِنْ زَرْعِهَا ، فَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ أَرْضٌ ذَاتُ نَخْلٍ فِيهَا بَيَاضٌ فَسَاقَاهُ عَلَى النَّخْلِ وَخَابَرَهُ عَلَى الْبَيَاضِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْبَيَاضُ مُنْفَرِدًا عَنِ النَّخْلِ وَيُمْكِنُ سَقْيُ النَّخْلِ ، وَالتَّوَصُّلُ إِلَى صَلَاحِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْبَيَاضِ ، وَلَا تَصَرُّفَ فِيهِ فَلَا تَصِحُّ الْمُخَابَرَةُ عَلَيْهِ ، سَوَاءٌ قَلَّ الْبَيَاضُ أَوْ


كَثُرَ ، وَسَوَاءٌ أَفْرَدَهُ بِالْعَقْدِ ، أَوْ جَعَلَهُ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ فِي الْمُسَاقَاةِ تَمَيَّزَ بِحُكْمِهِ وَانْفَرَدَ عَنْ غَيْرِهِ فَبَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْبَيَاضُ بَيْنَ النَّخْلِ ، وَلَا يَتَوَصَّلُ إِلَى سَقْيِ النَّخْلِ إِلَّا بِسَقْيِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا ، وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا ، فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا جَازَ أَنْ يُخَابِرَهُ عَلَيْهِ مَعَ مَسَاقَاتِهِ عَلَى النَّخْلِ تَبَعًا لِرِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ فِي تَوَابِعِ الْعَقْدِ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْرَدَ بِالْعَقْدِ كَالثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا يَجُوزُ أَنْ تُبَاعَ تَبَعًا لِلنَّخْلِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا مُفْرَدَةً بِغَيْرِ شَرْطٍ ، وَكَالْحَمْلِ ، وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ يَجُوزُ بَيْعُهُمَا تَبَعًا ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُمَا مُفْرَدًا وَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى الْمُخَابَرَةِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ تَبَعًا لِئَلَّا يَفُوتَ الْعَمَلُ فِيهِ بِغَيْرِ بَدَلٍ ، وَلَا تَدْعُو الضَّرُورَةُ إِلَى إِفْرَادِهِ بِالْعَقْدِ . وَإِنْ كَانَ الْبَيَاضُ كَثِيرًا يَزِيدُ عَلَى النَّخْلِ فِفِيِ جَوَازِ الْمُخَابَرَةِ عَلَيْهِ تَبَعًا وَجْهَانِ ، أَحَدُهُمَا يَجُوزُ كَالْيَسِيرِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْيَسِيرَ يَكُونُ تَبَعًا لِلْكَثِيرِ ، وَلَا يَكُونُ الْكَثِيرُ تَبَعًا لِلْيَسِيرِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّتِ الْمُخَابَرَةُ عَلَى بَيَاضِ الْأَرْضِ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ عَلَى النَّخْلِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْعَقْدِ ، أَوْ يُفْرِدَهُمَا ، فَإِنْ جَمْعَ بَيْنِهِمَا فِي الْعَقْدِ المساقاة والمخابرة فَسَاقَاهُ فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ عَلَى النَّخْلِ وَخَابَرَهُ عَلَى الْبَيَاضِ فَلَا يَخْلُو قَدْرُ الْعِوَضِ فِيهِمَا مِنْ أَنْ يَتَسَاوَى ، أَوْ يَتَفَاضَلَ ، فَإِنْ تَسَاوَى فَقَالَ قَدْ سَاقَيْتُكَ عَلَى النَّخْلِ وَخَابَرْتُكَ عَلَى الْبَيَاضِ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الثَّمَرَةِ ، وَالزَّرْعِ صَحَّ الْعَقْدُ فِيهِمَا ، وَإِنْ تَفَاضَلَ الْعِوَضُ فِيهِمَا فَقَالَ قَدْ سَاقَيْتُكَ عَلَى النَّخْلِ وَخَابَرْتُكَ عَلَى الْبَيَاضِ عَلَى نِصْفِ الثَّمَرَةِ وَثُلُثِ الزَّرْعِ ، أَوْ عَلَى ثُلُثِ الثَّمَرَةِ وَنِصْفِ الزَّرْعِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ يَجُوزُ كَمَا لَوْ تَسَاوَى الْعَرْضُ فِيهِمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُمَا إِذَا تَفَاضَلَا تَمَيَّزَا ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا تَبَعًا لِلْآخَرِ ، وَلَا مَتْبُوعًا . فَإِنْ أُفْرِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعِقْدٍ فَسَاقَاهُ عَلَى النَّخْلِ فِي عَقْدٍ وَخَابَرَهُ عَلَى الْبَيَاضِ فِي عَقْدٍ آخَرَ فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ الْمُنْفَرِدَةَ لَا يَكُونُ بَعْضُهَا تَبَعًا لِبَعْضٍ . وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ اخْتَلَفُوا فِيمَنِ اشْتَرَى نَخْلًا ذَاتَ ثَمَرَةٍ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا ثُمَّ اشْتَرَى الثَّمَرَةَ فِي عَقْدٍ آخَرَ بِغَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ .


فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ جَوَازُهُ ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِأَصْلٍ صَارَ إِلَى مُشْتَرٍ وَاحِدٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ جَمَعَهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِتَفَرُّدِ كُلِّ عَقْدٍ بِحُكْمِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا جَوَّزْتُمُ الْمُخَابَرَةَ عَلَى الْبَيَاضِ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ عَلَى النَّخْلِ فَهَلَّا جَوَّزْتُمْ إِجَارَةَ النَّخْلِ ، وَالشَّجَرِ تَبَعًا لِإِجَارَةِ الْأَرْضِ . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا المساقاة والمخابرة أَنَّ الْمُسَاقَاةَ ، وَالْمُخَابَرَةَ لَا تَتَجَانَسَانِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَعْيَانٌ تُؤْخَذُ مِنْ أُصُولٍ بَاقِيَةٍ فَجَازِ الْعَقْدُ عَلَيْهِمَا تَبَعًا لِتَجَانُسِهِمَا ، وَإِجَارَةُ النَّخْلِ وَالْأَرْضِ مُخْتَلِفَتَانِ ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْإِجَارَةِ فِي الْأَرْضِ آثَارٌ وَمَنَافِعَ الْإِجَارَةِ فِي النَّخْلِ أَعْيَانٌ فَلَمْ يَجُزِ الْعَقْدُ عَلَيْهِمَا تَبَعًا لِاخْتِلَافِهِمَا .

فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ بَيْنَ نَخْلِ الْمُسَاقَاةَ زَرْعٌ لِرَبِّ النَّخْلِ كَالْمَوْزِ ، وَالْبِطِّيخِ وَقَصَبِ السُّكَّرِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحُبُوبِ فَسَاقَاهُ عَلَى النَّخْلِ ، وَالزَّرْعِ مَعًا عَلَى أَنْ يَعْمَلَ فِيهِمَا بِالنِّصْفِ مِنْهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ فِي الزَّرْعِ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ فِي النَّخْلِ كَمَا تَجُوزُ الْمُخَابَرَةُ تَبَعًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْمُسَاقَاةَ فِي الزَّرْعِ لَا تَجُوزُ تَبَعًا ، وَإِنْ جَازَتِ الْمُخَابَرَةُ تَبَعًا . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُسَاقَاةَ عَلَى الزَّرْعِ هِيَ اسْتِحْقَاقُ بَعْضِ الْأَصْلِ ، وَالْمُخَابَرَةَ عَلَى الْأَرْضِ لَا يَسْتَحِقُّ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْأَصْلِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَيْسَ لِلْمُسَاقِي فِي النَّخْلِ أَنْ يَزْرَعَ الْبَيَاضَ إِلَّا بِإِذْنِ رَبِّهِ فَإِنْ فَعَلَ فَكَمَنْ زَرَعَ أَرْضَ غَيْرِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، لَا يَجُوزُ لِلْعَامِلِ فِي الْمُسَاقَاةِ أَنْ يَزْرَعَ الْبَيَاضَ الَّذِي بَيْنَ النَّخْلِ إِلَّا بِعَقْدٍ مِنْ مَالِكِهِ ، أَوْ إِذْنٍ مِنْ جِهَتِهِ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَهُ أَنْ يَزْرَعَ الْبَيَاضَ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ إِذَا كَانَ أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا كَانَ تَبَعًا لِلْعَقْدِ دَخَلَ فِيهِ بِغَيْرِ شَرْطٍ كَالْحَمْلِ ، وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ . وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ لَا يَدْخُلُ فِيهَا إِلَّا الْمُسَمَّى بِهَا . وَلَيْسَ كُلُّ مَا صَحَّ دُخُولُهُ فِيهَا تَبَعًا بِشَرْطٍ دَخَلَ فِيهَا تَبَعًا بِغَيْرِ شَرْطٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَالَ الْعَبْدِ يَصِحُّ دُخُولُهُ فِي الْعَقْدِ تَبَعًا بِشَرْطٍ ، وَلَا يُدْخِلُهُ تَبَعًا بِغَيْرِ شَرْطٍ ، وَكَذَلِكَ الثَّمَرَةُ الْمُؤَبَّرَةُ تَتْبَعُ النَّخْلَ بِشَرْطٍ ، وَلَا تَتْبَعُهَا بِغَيْرِ شَرْطٍ ، وَفَارَقَ ذَلِكَ الْحَمْلُ وَاللَّبَنُ ؛ لِأَنَّهُمَا مِمَّا لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهِمَا مُفْرَدًا بِوَجْهٍ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَا تَبَعًا لِأَصْلِهِمَا بِغَيْرِ شَرْطٍ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَالُ الْعَبْدِ وَالثَّمَرَةُ ؛ لِأَنَّ إِفْرَادَ الْعَقْدِ عَلَيْهِمَا قَدْ يَجُوزُ عَلَى وَجْهٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتْبَعَ أَصْلَهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ ، كَذَلِكَ بَيَاضُ الْأَرْضِ لَمَّا جَازَ أَنْ يُفْرَدَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ بِالْإِجَارَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ تَبَعًا بِغَيْرِ شَرْطٍ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنْ لَيْسَ لِلْعَامِلِ زَرْعُهُ بِغَيْرِ إِذْنِ رَبِّهِ فَزَرَعَهُ فَهُوَ كَمَنْ زَرَعَ أَرْضَ غَيْرِهِ غَصْبًا فَيَكُونُ لِرَبِّ الْأَرْضِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِقَلْعِهِ ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى تَرْكِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ


حَقٌّ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجْبِرَ الزَّارِعَ عَلَى أَخْذِ قِيمَةِ زَرْعِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ قَلْعُ الزَّرْعِ مُضِرًّا بِأَرْضِهِ أَمْ لَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ قَلْعُهُ مُضِرًّا بِالْأَرْضِ أُجْبِرَ الزَّارِعُ عَلَى أَخْذِ قِيمَتِهِ مَقْلُوعًا ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ مِنَ الزَّرْعِ شَيْءٌ وَلَهُ نَفَقَتُهُ ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبٍ نَفْسٍ مِنْهُ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَلَيْسَ لَهُ مِنَ الزَّرْعِ شَيْءٌ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَعْنَاهُ لَيْسَ لَهُ مِنْهُ شَيْءٌ إِذَا رُوضِيَ عَلَى أَخْذِ قِيمَتِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقٌّ فِي اسْتِيفَائِهِ ، وَقَوْلُهُ : وَلَهُ نَفَقَتُهُ أَيْ : زَرْعُهُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ نَفَقَتَهُ هِيَ مِنْ مَالِهِ لَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ . فَإِنْ قِيلَ : إِذَا جَعَلْتُمْ وَلَدَ الْأَمَةِ مِنْ زِنًا لِسَيِّدِهَا دُونَ الزَّانِي بِهَا لِعُدْوَانِهِ لَزِمَكُمْ أَنْ تَجْعَلُوا زَرْعَ الْغَاصِبِ لِرَبِّ الْأَرْضِ دُونَ الْغَاصِبِ لِعُدْوَانِهِ . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ زَرْعَ الْغَاصِبِ مِنْ بَذْرِهِ يَقِينًا فَجُعِلَ لَهُ ، وَوَلَدَ الزَّانِي مِنْ مَائِهِ ظَنًّا لَا يَقِينًا فَلَمْ يَجْعَلْهُ لَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ بَذْرَ الزَّارِعِ مَالَ مَمْلُوكٍ تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ ، فَصَارَ مَا حَدَثَ عَنْهُ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ ، وَلَيْسَ مَاءُ الزَّانِي مَوْصُوفًا بِالْمِلْكِ ، وَلَا تَجُوزُ عَلَيْهِ الْمُعَاوَضَةُ فَلَمْ يَصِرْ مَا حَدَثَ عَنْهُ مِلْكًا لِلزَّانِي .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنْ لَا حَقَّ لِرَبِّ الْأَرْضِ فِي الزَّرْعِ فَلَا يَخْلُو حَالُ رَبِّ الْأَرْضِ وَالزَّارِعِ في المساقاة مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَرَاضَيَا عَلَى تَرْكِ الزَّرْعِ إِلَى أَوَانِ الْحَصَادِ ، فَيَجُوزُ وَيُؤْخَذُ الزَّارِعُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَتَرَاضَيَا عَلَى قَلْعِ الزَّرْعِ بَقْلًا فَيَجُوزُ وَيُؤْخَذُ الزَّارِعُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ إِلَى حِينِ قَلْعِهِ وَبِأَرْشِ نَقْصِهِ إِنْ حَدَثَ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَخْتَلِفَا فَيَدْعُوَ الزَّارِعُ إِلَى اسْتِيفَائِهِ إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ ، وَيَدْعُوَ رَبُّ الْأَرْضِ إِلَى قَلْعِهِ بَقْلًا فِي الْحَالِ ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ رَبِّ الْأَرْضِ وَيُجْبَرُ الزَّارِعُ عَلَى الْقَلْعِ وَغَرِمَ الْأُجْرَةَ ، وَالْأَرْشَ .

مَسْأَلَةٌ لَا تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ إِلَّا عَلَى جُزْءٍ مَعْلُومٍ



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ إِلَّا عَلَى جُزْءٍ مَعْلُومٍ قَلَّ ذَلِكَ ، أَوْ كَثُرَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، فَلَمْ يَصِحَّ مَعَ جَهَالَةِ الْعِوَضِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ . فَلَوْ سَاقَاهُ عَلَى مَا يَكْفِيهِ ، أَوْ مَا يُرْضِيهِ بِطَلَبِ الْمُسَاقَاةِ لِلْجَهْلِ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ مِنْهَا ، إِذْ قَدْ لَا يُرْضِيهِ إِلَّا جَمِيعُهَا ، وَلَا يَكْفِيهِ إِلَّا أَكْثَرُهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا صَحَّتِ الْمُسَاقَاةُ مَعَ الْجَهَالَةِ بِقَدْرِ الثَّمَرَةِ فَهَلَّا صَحَّتْ مَعَ الْجَهَالَةِ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ مِنَ الثَّمَرَةِ ؛ قِيلَ : لِأَنَّ الْعِلْمَ بِقَدْرِ مَا يَحْدُثُ مِنَ الثَّمَرَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ ، وَالْعِلْمَ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ مِنْهَا مُمْكِنٌ فَاعْتُبِرَ .

مَسْأَلَةٌ إِنْ سَاقَاهُ عَلَى أَنَّ لَهُ ثَمَرَ نَخْلَاتٍ بِعَيْنِهَا مِنَ الْحَائِطِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَإِنْ سَاقَاهُ عَلَى أَنَّ لَهُ ثَمَرَ نَخْلَاتٍ بِعَيْنِهَا مِنَ الْحَائِطِ لَمْ يَجُزْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُسَاقَاةِ يُوجِبُ اشْتِرَاكَ الْعَامِلِ وَرَبِّ النَّخْلِ فِي الثَّمَرَةِ فَإِذَا عَقَدَاهَا عَلَى أَنَّ لِلْعَامِلِ ثَمَرَ نَخَلَاتٍ بِعَيْنِهَا مِنْهَا أَفْضَى إِلَى أَنْ يَسْتَبِدَّ أَحَدُهُمَا بِجَمِيعِ الثَّمَرَةِ دُونَ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ لَا تَحْمِلَ تِلْكَ النَّخَلَاتُ فَيَنْصَرِفَ الْعَامِلُ بِغَيْرِ شَيْءٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا تَحْمِلَ إِلَّا تِلْكَ النَّخَلَاتُ وَحْدَهَا ، فَيَنْصَرِفَ رَبُّ الْمَالِ بِغَيْرِ شَيْءٍ ، فَلِذَلِكَ بَطَلَ . فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا جَازَ أَنْ يُسَاقِيَهُ عَلَى تِلْكَ النَّخَلَاتِ بِعَيْنِهَا مِنْ جُمْلَةِ النَّخْلِ كُلِّهِ - وَإِنْ جَازَ أَنْ تَحْمِلَ أَوْ لَا تَحْمِلَ - فَهَلَّا جَازَ أَنْ يُسَاقِيَهُ عَلَى جَمِيعِهَا بِثَمَرِ تِلْكَ النَّخَلَاتِ بِعَيْنِهَا - وَإِنْ جَازَ أَنْ تَحْمِلَ ، أَوْ لَا تَحْمِلَ - قِيلَ : لِأَنَّهُ إِذَا أَفْرَدَ عَقْدَ الْمُسَاقَاةِ بِتِلْكَ النَّخَلَاتِ بِعَيْنِهَا تَسَاوَيَا فِيهَا - حَمَلَتْ أَوْ لَمْ تَحْمِلْ - وَإِذَا كَانَ الْعَقْدُ عَلَى جَمِيعِهَا بِثَمَرِ تِلْكَ النَّخَلَاتِ فَقَدْ يَتَفَاضَلَانِ فِيهَا - إِنْ حَمَلَتْ أَوْ لَمْ تَحْمِلْ .

مَسْأَلَةٌ لَوِ اشْتَرَطَ عَلَى صَاحِبِهِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَكَذَلِكَ لَوِ اشْتَرَطَ عَلَى صَاحِبِهِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ لَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ أَحَدِهِمَا الصَّاعَ مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَرَةِ في عقد المساقاة يُفْضِي إِلَى الْجَهَالَةِ بِقَدْرِ الْعِوَضِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَهَالَةِ بِالْبَاقِي بَعْدَ الصَّاعِ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ لَا تَحْمِلَ النَّخْلُ إِلَّا ذَلِكَ الصَّاعَ ، وَإِذَا بَطَلَتَا لِمُسَاقَاةٍ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِمَا وَصَلْنَا كَانَتِ الثَّمَرَةُ كُلُّهَا لِرَبِّ النَّخْلِ وَكَانَ لِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ دَخَلَ فِي النَّخْلِ عَلَى الْإِجَارَةِ بِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ وَيَحْفَظَ بِشَيْءٍ مِنَ التَّمْرِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهُ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ " .


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنَ الْإِجَارَاتِ وَلَيْسَتْ مِنَ الْمُسَاقَاةِ ، وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَعْمَلَ فِي نَخْلِهِ ، أَوْ فِي غَيْرِ نَخْلِهِ عَلَى أَنَّ أُجْرَتَهُ ثَمَرَةُ نَخْلَةٍ بِعَيْنِهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ لَمْ تُخْلَقْ فَالْإِجَارَةُ بَاطِلَةٌ لِلْجَهْلِ بِقَدْرِ مَا تَحْمِلُ وَأَنَّهَا رُبَّمَا لَمْ تَحْمِلْ ، وَالْأُجْرَةُ لَا تَصْلُحُ إِلَّا مَعْلُومَةً فِي الذِّمَّةِ ، أَوْ عَيْنًا مُشَاهَدَةً . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ مَوْجُودَةً فَقَدْ خُلِقَتْ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ بَادِيَةَ الصَّلَاحِ فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ سَوَاءٌ شَرَطَ لَهُ جَمِيعَهَا ، أَوْ سَهْمًا شَائِعًا فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ تَصِحُّ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ غَيْرَ بَادِيَةِ الصَّلَاحِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُشْتَرَطَ لَهُ جَمِيعَهَا ، فَيُنْظَرُ ، فَإِنْ شَرَطَهُ فِيهِ الْقَطْعَ صَحَّتِ الْإِجَارَةُ ؛ لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ عَلَى مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ مِنَ الثَّمَرَةِ جَائِزَةٌ بِشَرْطِ الْقَطْعِ ، وَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ فِيهَا الْقَطْعَ لَمْ يَجُزْ لِفَسَادِ الْمُعَاوَضَةِ عَلَيْهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَشْرُطَ لَهُ سَهْمًا شَائِعًا فِيهَا مِنْ نِصْفٍ ، أَوْ ثُلُثٍ فَتَبْطُلَ الْإِجَارَةُ ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ قَطْعِ الْمُشَاعِ لَا يُمْكِنُ ، وَالْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ لَا يَجُوزُ ، فَلِذَلِكَ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ ، وَيُحْكَمُ لِلْعَامِلِ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ إِنْ عَمِلَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَكُلُّ مَا كَانَ فِيهِ مُسْتَزَادٌ فِي الثَّمَرِ مِنْ إِصْلَاحِ الْمَاءِ وَطَرِيقِهِ وَتَصْرِيفِ الْجَرِيدِ وَإِبَارِ النَّخْلِ ، وَقَطْعِ الْحَشِيشِ الْمُضِرِّ بِالنَّخْلِ وَنَحْوِهِ جَازَ شَرْطُهُ عَلَى الْعَامِلِ فَأَمَا شَدُّ الْحِظَارِ فَلَيْسَ فِيهِ مُسْتَزَادٌ ، وَلَا صَلَاحٌ فِي الثَّمَرَةِ فَلَا يَجُوزُ شَرْطُهُ عَلَى الْعَامِلِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْعَمَلَ الْمَشْرُوطَ فِي الْمُسَاقَاةِ عَلَى أَرْبَعَةٍ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الثَّمَرَةِ دُونَ النَّخْلِ . وَالثَّانِي : مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى النَّخْلِ دُونَ الثَّمَرَةِ ، وَالثَّالِثُ : مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى النَّخْلِ ، وَالثَّمَرَةِ . وَالرَّابِعُ : مَا لَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الثَّمَرَةِ ، وَلَا النَّخْلِ . فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الثَّمَرَةِ دُونَ النَّخْلِ فهل يجوز إشتراطه على العامل في المساقاة فَمِثْلُ إِبَارِ النَّخْلِ وَتَصْرِيفِ الْجَرِيدِ وَتَلْقِيحِ الثَّمَرَةِ وَلِقَاطِهَا رُطَبًا وَجِدَادِهَا تَمْرًا . فَهَذَا الضَّرْبُ يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ عَلَى الْعَامِلِ . وَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قَسَمٌ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَهُوَ كُلُّ مَا لَا تَحْصُلُ الثَّمَرَةُ إِلَّا بِهِ كَالتَّلْقِيحِ ، وَالْإِبَارِ ، وَقِسْمًا يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ إِلَّا بِالشَّرْطِ ، وَهُوَ كُلُّ مَا فِيهِ مُسْتَزَادٌ لِلثَّمَرَةِ ، وَقَدْ تَصْلُحُ بِعَدَمِهِ ، كَتَصْرِيفِ الْجَرِيدِ وَتَدْلِيَةِ الثَّمَرَةِ ، وَقَسَمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ كُلُّ مَا تَكَامَلَتِ الثَّمَرَةُ قَبْلَهُ كَاللِّقَاطِ ، وَالْجِدَادِ فَفِيهِ وَجْهَانِ :


أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْعَامِلِ إِلَّا بِشَرْطٍ لِتَكَامُلِ الثَّمَرَةِ بِعَدَمِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْعَامِلِ بِغَيْرِ شَرْطٍ ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ وَإِنْ تَكَامَلَتْ قَبْلَهُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى النَّخْلِ دُونَ الثَّمَرَةِ فهل يجوز إشتراطه على العامل في المساقاة ، فَمِثْلُ شَدِّ الْحَظَائِرِ وَحَفْرِ الْآبَارِ ، وَشَقِّ السَّوَاقِي ، وَكَرْيِ الْأَنْهَارِ . فَكُلُّ هَذَا مِمَّا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى النَّخْلِ دُونَ الثَّمَرَةِ فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْعَامِلِ وَكَذَا مَا شَاكَلَهُ مِنْ عَمَلِ الدَّوَالِيبِ وَإِصْلَاحِ الزَّرَانِيقِ . فَإِنْ شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ عَلَى الْعَامِلِ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا ، وَالْمُسَاقَاةُ فَاسِدَةً ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : يَبْطُلُ الشَّرْطُ ، وَتَصِحُّ الْمُسَاقَاةُ حَمْلًا عَلَى الشُّرُوطِ الزَّائِدَةِ فِي الرَّهْنِ تَبْطُلُ ، وَلَا يَبْطُلُ مَعَهَا الرَّهْنُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ عُقُودَ الْمُعَاوَضَاتِ إِذَا تَضَمَّنَتْ شُرُوطًا فَاسِدَةً بَطَلَتْ كَالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ ، وَالْإِجَارَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ وَهُوَ مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى النَّخْلِ فهل يجوز إشتراطه على العامل في المساقاة ، وَالثَّمَرَةِ فَكَالسَّقْيِ ، وَالْإِثَارَةِ ، وَقَطْعِ الْحَشِيشِ الْمُضِرِّ بِالنَّخْلِ . . إِلَى مَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى مِمَّا فِيهِ صَلَاحُ النَّخْلِ وَمُسْتَزَادٌ فِي الثَّمَرَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا لَا تَصْلُحُ الثَّمَرَةُ إِلَّا بِهِ كَالسَّقْيِ فِيمَا لَا يَشْرَبُ بِعُرُوقِهِ مِنَ النَّخْلِ حَتَّى يُسْقَى سَيْحًا فَهُوَ عَلَى الْعَامِلِ كَنَخْلِ الْبَصْرَةِ فَهُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ شُرُوطِ هَذَا الْفَصْلِ سَوَاءٌ ، وَهُوَ الضَّرْبُ الثَّانِي فِي هَذَيْنِ الضَّرْبَيْنِ ، وَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْعَامِلِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، وَاشْتِرَاطُهُ عَلَيْهِ تَأْكِيدٌ ، لِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِ النَّخْلِ وَزِيَادَةِ الثَّمَرَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ ، وَاشْتِرَاطُهُ عَلَى الْعَامِلِ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ بِصَلَاحِ النَّخْلِ أَخَصُّ مِنْهُ بِصَلَاحِ الثَّمَرَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ عَلَى الْعَامِلِ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الثَّمَرَةِ ، وَيَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِ النَّخْلِ فَلَمْ يَتَنَافَ الشَّرْطَانِ فِيهِ فَإِنْ شَرَطَهُ عَلَى الْعَامِلِ لَزِمَهُ ، وَإِنْ شُرِطَ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ لَزِمَهُ ، وَإِنْ أُعْقِلَ لَمْ يَلْزَمْ وَاحِدًا مِنْهُمَا ، أَمَّا الْعَامِلُ فَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ ، أَوْ مِنْ شُرُوطِهِ وَأَمَّا رَبُّ النَّخْلِ فَلِأَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَثْمِيرِ مَالِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الرَّابِعُ وَهُوَ مَا لَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى النَّخْلِ ، وَلَا عَلَى الثَّمَرَةِ فهل يجوز إشتراطه على العامل في المساقاة فَهُوَ كَاشْتِرَاطِهِ عَلَى الْعَامِلِ أَنْ يَبْنِيَ لَهُ قَصْرًا ، أَوْ يَخْدِمَهُ شَهْرًا ، أَوْ يَسْقِيَ لَهُ زَرْعًا ، فَهَذِهِ شُرُوطٌ تُنَافِي الْعَقْدَ ، وَتَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِهِ ، وَلَا تَخْتَصُّ بِشَيْءٍ فِي مَصْلَحَتِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْمُعِينُ .

مَسْأَلَةٌ كِتَابُ الشَّرْطِ فِي الرَّقِيقِ يَشْتَرِطُهُمُ الْمُسَاقِي

مَسْأَلَةٌ لَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُسَاقِي عَلَى رَبِّ النَّخْلِ غِلْمَانًا يَعْمَلُونَ مَعَهُ



كِتَابُ الشَّرْطِ فِي الرَّقِيقِ يَشْتَرِطُهُمُ الْمُسَاقِي مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُسَاقِي عَلَى رَبِّ النَّخْلِ غِلْمَانًا يَعْمَلُونَ مَعَهُ ، وَلَا يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي غَيْرِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ كَالْقِرَاضِ فِي أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عَلَى اخْتِصَاصِ رَبِّ الْمَالِ بِالنَّخْلِ وَاخْتِصَاصِ الْعَامِلِ بِالْعَمَلِ ، فَإِذَا أُطْلِقَتِ الْمُسَاقَاةُ أَخَذَ الْعَامِلُ بِجَمِيعِ الْعَمَلِ الَّذِي تَصْلُحُ بِهِ الثَّمَرَةُ ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَعْمَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ ، أَوْ بِأَعْوَانِهِ ، وَلَا اعْتِرَاضَ لِرَبِّ الْمَالِ عَلَيْهِ فِي رَأْيٍ ، وَلَا عَمَلٍ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الْعُرْفِ الْمَعْهُودِ فِي مِثْلِهَا . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُضَارَبَةِ حَيْثُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَعْنِيَ فِيهَا بِغَيْرِهِ بَدَلًا مِنْهُ ، وَبَيْنَ الْمُسَاقَاةِ فِي جَوَازِ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُسَاقَاةَ لَمَّا لَزِمَتْ مَلَكَ الِاسْتِنَابَةَ فِيهَا ، وَالْمُضَارَبَةُ لِمَا لَمْ تَلْزَمْ لَمْ يَمْلِكِ الِاسْتِنَابَةَ فِيهَا . وَالْفَرْقُ الثَّانِي : أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْمُضَارَبَةِ هُوَ الرَّأْيُ ، وَالتَّدْبِيرُ الْمُخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَهْلِهِ ، وَأَنَّهُ قَدْ يَخْفَى فَسَادُهُ إِلَّا بَعْدَ نُفُوذِهِ وَفَوَاتِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَعِينَ فِيهِ بِمَنْ رُبَّمَا قَصَّرَ عَنْ رَأْيِهِ لِفَوَاتِ اسْتِدْرَاكِهِ ، وَلَيْسَتِ الْمُسَاقَاةُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الْعَمَلُ ، وَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ إِنْ حَصَلَ ، وَاسْتِدْرَاكُهُ مُمْكِنٌ إِنْ حَدَثَ فَجَازَ أَنْ يَسْتَعِينَ بِغَيْرِهِ مِمَّنْ يَعْمَلُ بِتَدْبِيرِهِ فَإِنْ قَصَّرَ تَقْصِيرًا اسْتُدْرِكَ .

فَصْلٌ : فَإِنْ شَرَطَ الْعَامِلُ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ غِلْمَانًا يَعْمَلُونَ مَعَهُ فهل تصح المساقاة ؟ جَازَ الشَّرْطُ وَصَحَّتِ الْمُسَاقَاةُ ، وَهَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَمَا عَلَيْهِ فُقَهَاءُ أَصْحَابِهِ فِي جَوَازِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ فِي الْمُضَارَبَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ فِي الْمُسَاقَاةِ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي الْمُسَاقَاةِ عَمَلًا يَخْتَصُّ بِرَبِّ النَّخْلِ وَهُوَ حَفْرُ الْآبَارِ ، وَكَرْيُ الْأَنْهَارِ فَجَازَ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ عَمَلَ غِلْمَانِهِ وَلَيْسَ فِي الْمُضَارَبَةِ عَمَلٌ يَخْتَصُّ بِرَبِّ الْمَالِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ عَمَلَ غِلْمَانُهُ . فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا جَوَّزْتُمْ دُخُولَ الْعَبِيدِ فِي الْمُسَاقَاةِ تَبَعًا ، فَهَلَّا جَوَّزْتُمُ الْعَقْدَ عَلَيْهِمْ بِبَعْضِ كَسْبِهِمْ مُنْفَرِدًا ؟ .


قِيلَ قَدْ يَجُوزُ فِي تَوَابِعِ الْعَقْدِ مَا لَا يَجُوزُ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ يَصِحُّ أَنْ تُفْرَدَ بِالْعَقْدِ ، وَلَوْ عُقِدَتْ عَلَى مَالٍ صَحَّ ، وَكَانَ عَمَلُ الْبَدَنِ فِيهَا تَبَعًا لِلْعَقْدِ . فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا جَوَّزْتُمْ لِلْعَامِلِ أَنْ يَشْرُطَ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ عَمَلَ غِلْمَانِهِ فَهَلَّا جَوَّزْتُمْ أَنْ يَشْرُطَ عَلَيْهِ عَمَلَ نَفْسِهِ ، قِيلَ لَا يَجُوزُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَا يَكُونُ تَبَعًا لِمَالِهِ ، وَقَدْ يَكُونُ غِلْمَانُهُ تَبَعًا لِمَالِهِ كَالدُّولَابِ ، وَالثَّوْرِ فِي الْمُسَاقَاةِ . فَإِنْ قِيلَ فَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ مَشْرُوطًا عَلَى غِلْمَانِ رَبِّ النَّخْلِ فَلِمَاذَا يَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ سَهْمَهُ مِنَ الثَّمَرَةِ ، قِيلَ بِالتَّدْبِيرِ وَاسْتِعْمَالِ الْعَبِيدِ ، وَلِذَلِكَ لَزِمَ الْعَبِيدَ أَنْ يَعْمَلُوا بِتَدْبِيرِ الْعَامِلِ فَإِنْ شَرَطَ فِي الْعَقْدِ أَنْ يَعْمَلُوا بِتَدْبِيرِ أَنْفُسِهِمْ فَسَدَ .

فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ أَنْ يَشْرُطَ الْعَامِلُ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ غِلْمَانًا يَعْمَلُونَ مَعَهُ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْتَرِطَ غِلْمَانًا مُعَيَّنِينَ مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ عَمَلَ عَبْدِهِ سَالِمٍ ، أَوْ غَانِمٍ ، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ بِهَذَا الشَّرْطِ ، وَلَا يَجُوزُ لِرَبِّ النَّخْلِ أَنْ يُبْدِلَهُمْ بِغَيْرِهِمْ ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْعَبِيدِ قَدْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِمْ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْعَامِلِ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُمْ فِي غَيْرِ نَخْلِ سَيِّدِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْأُجَرَاءَ عَلَى الْعُمَّالِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْقَلُوا إِلَى غَيْرِ عَمَلِهِمْ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَشْتَرِطَ غِلْمَانًا مَوْصُوفِينَ غَيْرَ مُعَيَّنِينَ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ بِاشْتِرَاطِهِمْ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَصِحُّ حَتَّى يُعَيَّنُوا اعْتِبَارًا بِعُرْفِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي تَعْيِينِ الْعَبِيدِ فِي الْمُسَاقَاةِ . وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ قَدْ تَقُومُ مَقَامَ الْمُشَاهِدَةِ ، وَالتَّعْيِينِ . أَلَا تَرَى أَنَّ عُقُودَ الْمُعَاوَضَاتِ قَدْ تَجُوزُ بِالصِّفَةِ كَمَا تَجُوزُ بِالتَّعْيِينِ ، وَالْمُشَاهَدَةِ ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : وَمَنْ يَصِفْكَ فَقَدْ سَمَّاكَ لِلْعَرَبِ وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ لَا يُعِينَهُمْ ، وَلَا يَصِفَهُمْ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ لِلْجَهْلِ بِهِمْ ، وَالْمُسَاقَاةُ فَاسِدَةٌ لِمَا اقْتُرِنَ بِهَا مِنْ جَهَالَتِهِمْ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَيَجُوزُ لِرَبِّ النَّخْلِ أَنْ يَشْرُطَ عَلَى الْعَامِلِ غِلْمَانًا يَعْمَلُونَ مَعَهُ ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ أَخَصُّ بِالْعَامِلِ مِنْ رَبِّ الْمَالِ فَلَمَّا جَازَ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ كَانَ اشْتِرَاطُهُ عَلَى الْعَامِلِ أَجْوَزَ وَسَوَاءٌ عُيِّنُوا ، أَوْ وُصِفُوا ، أَوْ أُطْلِقُوا بِخِلَافِ اشْتِرَاطِهِمْ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُمْ فِي اشْتِرَاطِهِمْ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ مُسْتَثْنَوْنَ مِنْ عَمَلٍ وَجَبَ عَلَى الْعَامِلِ ، فَوَقَعَتِ الْجَهَالَةُ بِإِطْلَاقِهِمْ ، وَهُمْ فِي اشْتِرَاطِهِمْ عَلَى الْعَامِلِ دَاخِلُونَ فِي جُمْلَةِ الْعَمَلِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ ، فَلَمْ تَقَعِ الْجَهَالَةُ بِإِطْلَاقِهِمْ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ نَفَقَةُ الرَّقِيقِ عَلَى مَا يَتَشَارِطَانِ عَلَيْهِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَنَفَقَةُ الرَّقِيقِ عَلَى مَا يَتَشَارِطَانِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ نَفَقَةُ الرَّقِيقِ في المساقاة بِأَكْثَرَ مِنْ أُجْرَتِهِمْ فَإِذَا جَازَ أَنْ يَعْمَلُوا لِلْمُسَاقِي بِغَيْرِ أُجْرَةٍ جَازَ أَنْ يَعْمَلُوا لَهُ بِغَيْرِ نَفَقَةٍ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ نَفَقَتِهِمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَشْتَرِطَا مَحَلَّهَا فِي الْعَقْدِ ، أَوْ يُغْفِلَاهُ ، فَإِنْ شَرَطَا مَحَلَّهَا لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُشْرَطَ عَلَى الْعَامِلِ ، فَهَذَا جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فَجَازَ أَنْ تَكُونَ نَفَقَةُ الْغِلْمَانِ فِي النَّخْلِ مَشْرُوطَةً عَلَيْهِ كَمَا كَانَتْ أَجُورُ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُمْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُشْرَطَ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ فَهَذَا جَائِزٌ ، وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى غَيْرِهِ . وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ بِالشَّرْطِ أَنْ يَعْمَلُوا مَعَ الْعَامِلِ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ جَازَ أَنْ يَعْمَلُوا مَعَهُ بِغَيْرِ نَفَقَةٍ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَشْرُطَ مِنْ وَسَطِ الثَّمَرَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُمْ قَبْلَ حُدُوثِ الثَّمَرَةِ فَهَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ لِعَدَمِ مَحَلِّهَا ، وَإِنَّ مَا لَمْ يُخْلَقْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا عَلَى عَمَلٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُمْ بَعْدَ حُدُوثِ الثَّمَرَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ نَفَقَتُهُمْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الثَّمَرَةِ لِتُبَاعَ الثَّمَرَةُ فَيَصِيرُ ثَمَنُهَا فِي نَفَقَتِهِمْ فَهَذَا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ ، وَالنَّفَقَةَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ فِي الذِّمَّةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ نَفَقَاتُهُمْ مِنْ نَفْسِ الثَّمَرَةِ يَأْكُلُونَهَا قُوتًا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ جَائِزٌ لِوُجُودِ مَحَلِّهَا ، وَأَنَّ الثَّمَرَةَ لِمَا كَانَتْ لَهُمَا ، وَجَازَ اشْتِرَاطُ النَّفَقَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَازَ اشْتِرَاطُهَا فِي الثَّمَرَةِ الَّتِي هِيَ لَهُمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِذِمَّةٍ ، وَلَا مَعْلُومٍ مُسْتَحَقٍّ مِنْ عَيْنٍ ، وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ .
فَصْلٌ : فَإِنْ أَغْفَلَا اشْتِرَاطَ النَّفَقَةِ ، فَفِي الْمُسَاقَاةِ وَجْهَانِ نفقة الرقيق في المساقاة : أَحَدُهُمَا : بَاطِلَةٌ ، لِلْجَهْلِ بِمَحَلِّ النَّفَقَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَبَعٌ لِلْعَقْدِ ، فَلَمْ يَبْطُلْ بِهَا الْعَقْدُ ، فَعَلَى هَذَا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا عَلَى الْعَامِلِ لِاسْتِحْقَاقِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا عَلَى رَبِّ النَّخْلِ لِاشْتِرَاطِ عَمَلِهِمْ عَلَيْهِ ، وَأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَتْ أُجْرَتُهُمْ عَنِ الْعَامِلِ سَقَطَتْ نَفَقَتُهُمْ عَنْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهَا مِنْ وَسَطِ الثَّمَرَةِ ، لِاخْتِصَاصِ عَمَلِهِمْ بِهَا ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ تَأْتِ الثَّمَرَةُ أَخَذَ بِهَا السَّيِّدُ حَتَّى يَرْجِعَ بِهَا فِي الثَّمَرَةِ إِذَا أَتَتْ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
_____مَسَائِلُ الْمُزَنِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ _____


مَسَائِلُ الْمُزَنِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَهَذِهِ مَسَائِلُ أَجَبْتُ فِيهَا عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ وَقِيَاسِهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ " . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَمِنْ ذَلِكَ لَوْ سَاقَاهُ عَلَى نَخْلٍ سِنِينَ مَعْلُومَةً عَلَى أَنْ يَعْمَلَا فِيهَا جَمِيعًا لَمْ يَجُزْ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ قِيَاسًا عَلَى شَرْطِ الْمُضَارَبَةِ يَعْمَلَانِ فِي الْمَالِ جَمِيعًا فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ أَعَانَهُ مَعُونَةً مَجْهُولَةَ الْغَايَةِ بِأُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا شَرَطَ الْعَامِلُ أَنْ يَعْمَلَ مَعَهُ رَبُّ النَّخْلِ فِي الْمُسَاقَاةِ وَرَبُّ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ بِطَلَ الْعَقْدُ فِي الْمُسَاقَاةِ ، وَالْمُضَارَبَةِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عِلَّةِ بُطْلَانِهِ ، فَذَهَبَ الْمُزَنِيُّ إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْعَمَلِ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا فِيهِ يُفْضِي إِلَى جَهَالَةِ مَا يُسْتَحَقُّ عَلَى الْعَامِلِ مِنْ عَمَلِهِ ، وَالْعَمَلُ الْمَجْهُولُ لَا تَصِحُّ عَلَيْهِ الْمُعَاوَضَةُ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى بَطَلَتْ شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ لِاخْتِلَافِ عَمَلِ الشَّرِيكَيْنِ . وَهَذَا التَّعْلِيلُ مَدْخُولٌ بِاشْتِرَاطِ عَمَلِ غُلَامِ رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ مُخَالِفٌ لِعَمَلِ الْعَامِلِ كَمَا يُخَالِفُ عَمَلَ سَيِّدِهِ . وَذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ إِلَى أَنَّ عِلَّةَ بُطْلَانِهِ أَنَّهُ إِذَا شَرَطَ عَمَلَ رَبِّ النَّخْلِ صَارَ مُسْتَحِقًّا لِلْعِوَضِ عَلَى عَمَلِهِ وَعَمَلِ غَيْرِهِ فَبَطَلَ . وَهَذَا مَدْخُولٌ بِمِثْلِ مَا دَخَلَ بِهِ تَعْلِيلُ الْمُزَنِيِّ وَيَدْخُلُ عَلَى الْعِلَّتَيْنِ جَمِيعًا إِذَا سَاقَى رَجُلَيْنِ . وَذَهَبَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ مَا تَمَيَّزَ فِيهَا رَبُّ النَّخْلِ بِالْمَالِ ، وَالْعَامِلُ بِالْعَمَلِ ، فَإِذَا شُرِطَ الْعَمَلُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَسَدَتْ ، كَمَا لَوْ شُرِطَ الْمَالُ عَلَى الْعَامِلِ بَطَلَتْ ، لِتَغْيِيرِ مَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ مِنْ أَحْكَامِهِ فِي الْمُتَعَاقِدَيْنِ . وَهَذَا التَّعْلِيلُ أَيْضًا مَدْخُولٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ عَمَلِ غِلْمَانِ رَبِّ النَّخْلِ . وَالَّذِي أَذْهَبُ إِلَيْهِ أَنَّ تَعْلِيلَ بُطْلَانِهِ هُوَ أَنَّ اشْتِرَاطَ عَمَلِ رَبِّ النَّخْلِ فِيهَا يَقْتَضِي لُزُومَ ذَلِكَ ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ فِي مَالِهِ فَصَارَ هَذَا الشَّرْطُ بَاطِلًا ، وَأُبْطِلُ مَا شَرَطَهُ فِيهِ ، وَلَيْسَ عَمَلُ غِلْمَانِهِ مُسْتَحِقًّا عَلَى بَدَنِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ تَعَلَّقَ بِمَالِهِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْحُقُوقِ .

فَصْلٌ : فَعَلَى اخْتِلَافِ هَذَا التَّعْلِيلِ لَوْ شَرَطَ الْعَامِلُ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ جِنْسًا مِنَ الْعَمَلِ فِيهَا مَعْلُومًا كَالسَّقْيِ ، أَوِ التَّلْقِيحِ جَازَ عَلَى تَعْلِيلِ الْمُزَنِيِّ ؛ لِانْتِفَاءِ الْجَهَالَةِ عَنْهُ ، وَلَمْ يَجُزْ عَلَى تَعْلِيلِ مَنْ سِوَاهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .




مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ سَاقَاهُ عَلَى النِّصْفِ عَلَى أَنْ يُسَاقِيَهُ فِي حَائِطٍ آخَرَ عَلَى الثُّلُثِ لَمْ يَجُزْ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ كَالْبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ وَلَهُ فِي الْفَاسِدِ أَجْرُ مِثْلِهِ فِي عَمَلِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُمَا مَسْأَلَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ لِرَبِّ النَّخْلِ حَائِطٌ شَرْقِيٌّ وَلِلْعَامِلِ حَائِطٌ غَرْبِيٌّ ، فَيَقُولَ رَبُّ النَّخْلِ قَدْ سَاقَيْتُكَ عَلَى حَائِطَيِ الشَّرْقِيِّ عَلَى النِّصْفِ عَلَى أَنْ تُسَاقِيَنِي أَيُّهَا الْعَامِلُ عَلَى حَائِطِكَ الْغَرْبِيِّ عَلَى الثُّلُثِ ، فَهَذَا بَاطِلٌ ، وَهُوَ كَالْبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ ، فِي الصُّورَةِ ، وَالْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ قَدْ سَاقَيْتُكَ عَلَى أَنْ تُسَاقِيَنِي كَقَوْلِهِ بِعْتُكَ دَارِي عَلَى أَنْ تَبِيعَنِي عَبْدَكَ . وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الْحَائِطَانِ مَعًا لِرَبِّ النَّخْلِ ، أَحَدُهُمَا شَرْقِيٌّ ، وَالْآخَرُ غَرْبِيٌّ ، فَيَقُولَ رَبُّ النَّخْلِ : قَدْ سَاقَيْتُكَ عَلَى حَائِطَيِ الشَّرْقِيِّ عَلَى النِّصْفِ عَلَى أَنْ أُسَاقِيَكَ عَلَى حَائِطَيِ الْغَرْبِيِّ عَلَى الثُّلُثِ ، فَهَذَا بَاطِلٌ . قَالَ الْمُزَنِيُّ وَهُوَ كَالْبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ هَذَا التَّشْبِيهِ فِي الصُّورَةِ ، وَالْمَعْنَى ، فَذَهَبَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ إِلَى فَسَادِ هَذَا التَّشْبِيهِ وَأَنَّهُ فِي مَعْنَى بَيْعٍ وَشَرْطٍ لَا أَنَّهُ فِي مَعْنَى بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ . وَذَهَبَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى أَنَّهُ تَشْبِيهٌ صَحِيحٌ ، وَأَنَّهُ كَالْبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فِي الْمَعْنَى وَالصُّورَةِ ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُ الْعَقْدَيْنِ مَشْرُوطًا فِي الْآخَرِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَائِعُ فِيهِمَا وَاحِدًا ، أَوْ مُخْتَلِفًا وَإِنَّمَا فَسَدَتِ الْمُسَاقَاةُ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّشْبِيهِ بِالْبَيْعَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ فِي الْآخَرِ يُوجِبُ اسْتِدْرَاكَ مَا حَصَلَ مِنْ زِيَادَةِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ مَجْبُورًا بِنَقْصِ الْعَقْدِ الثَّانِي ، أَوِ اسْتِدْرَاكَ نُقْصَانِ الْأَوَّلِ مَجْبُورًا بِزِيَادَةِ الثَّانِي ، فَصَارَ الْعِوَضُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَقْدَيْنِ مُعْتَبَرًا بِالشَّرْطِ فَبَطَلَ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ قَالَ رَبُّ النَّخْلِ ، وَالْحَائِطَانِ جَمِيعًا لَهُ : قَدْ سَاقَيْتُكَ فِي حَائِطَيِ الشَّرْقِيِّ عَلَى النِّصْفِ ، وَأُسَاقِيكَ عَلَى حَائِطَيِ الْغَرْبِيِّ عَلَى الثُّلُثِ ، وَلَمْ يَجْعَلْ أَحَدَ الْعَقْدَيْنِ شَرْطًا فِي الْآخَرِ صَحَّ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّهُ نَاجِزٌ ، وَلَمْ يَصِحَّ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ مُوعَدٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا بَطَلَتِ الْمُسَاقَاةُ فِي إِحْدَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِمَعْنًى مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي ، وَقَدْ عَمِلَ الْعَامِلُ فِي النَّخْلِ عَمَلًا فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الثَّمَرَةِ وَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ فِي الْعَمَلِ كَالْمُضَارَبَةِ .


مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى : " فَإِنْ سَاقَاهُ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ عَلَى النِّصْفِ ، وَالْآخَرُ نَصِيبَهُ عَلَى الثُّلُثِ جَازَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا كَانَ النَّخْلُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ جَازَ أَنْ يُسَاقِيَا عَلَيْهَا رَجُلًا مُسَاقَاةً مُتَّفِقَةً وَمُخْتَلِفَةً ، فَالْمُتَّفِقَةُ : أَنْ يُسَاقِيَاهُ عَلَى أَنَّ لَهُ النِّصْفَ مِنْ حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَالْمُخْتَلِفَةُ : أَنْ يُسَاقِيَاهُ عَلَى أَنَّ لَهُ النِّصْفَ مِنْ حِصَّةِ أَحَدِهِمَا ، وَالثُّلُثَ مِنْ حِصَّةِ الْآخَرِ ، وَإِنَّمَا


كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ إِنْ أُلْحِقَتْ بِالْإِجَارَاتِ فَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الْإِجَارَاتِ جَائِزٌ ، وَإِنْ أُلْحِقَتْ بِالْبِيَاعَاتِ فَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الْبِيَاعَاتِ جَائِزٌ . وَخَالَفَتِ الْمُسَاقَاةُ الْكِتَابَةَ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ وَأَرَادَا كِتَابَتَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَفَاضَلَا فِي الْعِوَضِ حَتَّى يَكُونَا فِيهِ سَوَاءً . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَالَ الْكِتَابَةِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْكَسْبِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْمِلْكِ فَلَمَّا تَسَاوَيَا فِي الْمِلْكِ ، وَالْكَسْبِ وَجَبَ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْعِوَضِ ، وَلَيْسَ مَا يَأْخُذُهُ الْعَامِلُ مِنَ الثَّمَرَةِ مُسْتَحَقًّا بِالْمِلْكِ وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَمَلِ فَجَازَ أَنْ يَتَفَاضَلَا فِيهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّمَرَةَ إِذَا اسْتَحَقَّهَا الشَّرِيكَانِ بِالْمِلْكِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَفَاضَلَا فِيهَا كَالْكِتَابَةِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ مَسَاقَاتِهَا عَلَى التَّسَاوِي ، وَالتَّفَاضُلِ فَإِنْ تَسَاوَيَا فِيهَا وَجَعَلَا لَهُ النِّصْفَ مِنْ حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَازَ ، سَوَاءٌ عَلِمَ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ النَّخْلِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ ؛ لِأَنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ جَمِيعِ الثَّمَرَةِ مَعْلُومٌ ، كَمَا لَوْ بَاعَ الْوَكِيلُ عَبْدًا مُشْتَرَكًا بِثَمْنٍ وَاحِدٍ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ حِصَصَ الشُّرَكَاءِ فِيهِ صَحَّ الْبَيْعُ . وَإِنْ تَفَاضَلَا فِيهَا وَجَعَلَا لَهُ النِّصْفَ مِنْ حِصَّةِ أَحَدِهِمَا ، وَالثُّلُثَ مِنْ حِصَّةِ الْآخَرِ ، فَإِنْ عَلِمَ الْعَامِلُ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ النَّخْلِ صَحَّتِ الْمُسَاقَاةُ ، وَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَعْلَمْهُ بَطَلَتْ لِجَهْلِهِ بِقَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الثَّمَرَةِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَتِ النَّخْلُ كُلُّهَا لِوَاحِدٍ فَسَاقَى عَلَيْهَا رَجُلَيْنِ جَازَ ، سَوَاءٌ سَاوَى بَيْنَهُمَا أَوْ فَاضَلَ ، كَمَا جَازَ لِلرَّجُلَيْنِ مُسَاقَاةُ الْوَاحِدِ عَلَى مَا سَاقَى عَلَيْهَا رَجُلَيْنِ جَازَ بَلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَامِلَيْنِ رُبُعُ الثَّمَرَةِ فَقَدْ سَاوَى بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ جَعَلَ لِأَحَدِهِمَا الرُّبْعَ وَلِلْآخَرِ الثُّلُثَ فَقَدْ فَاضَلَ ، وَالْمُسَاقَاةِ جَائِزَةٌ ، كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرَيْنِ فِي عَمَلٍ وَاحِدٍ بِأُجْرَةٍ مُتَفَاضِلَةٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ سَاقَاهُ عَلَى حَائِطٍ فِيهِ أَصْنَافٌ مِنْ دَقَلٍ وَعَجْوَةٍ وَصَيْحَانِيٍّ عَلَى أَنَّ لَهُ مِنَ الدَّقَلِ النِّصْفَ وَمِنَ الْعَجْوَةِ الثُّلُثَ وَمِنَ الصَّيْحَانِيِّ الرُّبُعَ وَهُمَا يَعْرِفَانِ كُلَّ صِنْفٍ كَانَ كَثَلَاثَةِ حَوَائِطَ مَعْرُوفَةٍ وَإِنْ جَهِلَا ، أَوْ أَحَدُهُمَا كُلَّ صِنْفٍ لَمْ يَجُزْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا جَمَعَ الْحَائِطُ أَصْنَافًا مِنَ النَّخْلِ فَسَاقَاهُ عَلَى جَمِيعِهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ سَائِرِ أَصْنَافِهَا جَازَ ، وَلَوْ خَالَفَ بَيْنَ أَصْنَافِهَا فَسَاقَاهُ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الْبَرْنِيِّ وَعَلَى الثُّلُثِ مِنَ الْمَعْقِلِيِّ وَعَلَى الرُّبْعِ مِنَ الْإِبْرَاهِيمِيِّ نُظِرَ فَإِنْ عَلِمَا قَدْرَ صِنْفٍ مِنْهَا جَازَ ، وَصَارَ كَثَلَاثَةِ حَوَائِطَ سَاقَاهُ مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى النِّصْفِ وَمِنَ الْآخَرِ عَلَى الثُّلُثِ وَمِنَ الْآخَرِ عَلَى الرُّبْعِ ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَتَمَيَّزَ النَّخْلُ بِبِقَاعِهَا وَبَيْنَ أَنْ تَتَمَيَّزَ بِأَصْنَافِهَا . وَإِنْ جَهِلَا ، أَوْ أَحَدُهُمَا قَدْرَ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا لَمْ يَجُزْ ، وَكَانَتِ الْمُسَاقَاةُ بَاطِلَةً لِلْجَهْلِ بِقَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ ثَمَرِهَا وَصَارَ كَمَا لَوْ سَاقَاهُ مِنْ ثَلَاثَةِ حَوَائِطَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ أَحَدِهَا ، وَلَمْ يُعَيِّنْهُ


وَعَلَى الثُّلُثِ مِنْ آخَرَ لَمْ يَذْكُرْهُ وَعَلَى الرُّبْعِ مِنْ آخَرَ لَمْ يُمَيِّزْهُ كَانَ الْعَمَلُ بَاطِلًا ، وَلِلْعَامِلِ فِي ذَلِكَ أُجْرَةُ مِثْلِهِ إِنْ عَمِلَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ سَاقَاةُ عَلَى أَنَّ لِلْعَامِلِ ثُلُثَ الثَّمَرَةِ ، وَلَمْ يَقُولَا غَيْرَ ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا ، وَمَا بَعْدَ الثُّلُثِ فَهُوَ لِرَبِّ النَّخْلِ وَإِنِ اشْتَرَطَا أَنَّ لِرَبِّ النَّخْلِ ثُلُثَ الثَّمَرَةِ ، وَلَمْ يَقُولَا غَيْرَ ذَلِكَ كَانَ فَاسِدًا ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ لَمْ يَعْلَمْ نَصِيبَهُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ ثَمَرَ النَّخْلِ لِرَبِّهَا إِلَّا مَا شُرِطَ مِنْهَا لِلْعَامِلِ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ نَصِيبِ الْعَامِلِ لِمَنِ الْبَاقِي وَإِذَا اشْتَرَطَ رَبُّ النَّخْلِ لِنَفْسِهِ الثُّلُثَ ، وَلِمَ يُبَيِّنْ نَصِيبَ الْعَامِلِ مِنَ الْبَاقِي فَنَصِيبُ الْعَامِلِ مَجْهُولٌ وَإِذَا جُهِلَ النَّصِيبُ فَسَدَتِ الْمُسَاقَاةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ عَقْدَ الْمُسَاقَاةِ بَيْنَهُمَا لَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُبَيِّنَا فِيهِ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ رَبُّ النَّخْلِ عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَ الثَّمَرَةِ ، وَلَكَ نِصْفُهَا ، أَوْ لِي ثُلُثَاهَا وَلَكَ ثُلُثُهَا فَهَذَا أَوْضَحُ أَحْوَالِهِمَا فِي إِبَانَةِ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَأَوْكَدُ مَا يَتَعَاقَدَانِ عَلَيْهِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُبَيِّنَ نَصِيبَ الْعَامِلِ دُونَ رَبِّ النَّخْلِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ قَدْ سَاقَيْتُكَ عَلَى أَنَّ لَكَ أَيُّهَا الْعَامِلُ ثُلُثَ الثَّمَرَةِ ، فَالْمُسَاقَاةُ جَائِزَةٌ ، وَيَكُونُ الْبَاقِي بَعْدَ ثُلُثِ الْعَامِلِ لِرَبِّ النَّخْلِ ؛ لِأَنَّ جَمِيعَهَا عَلَى أَصْلِ مِلْكِهِ ، وَصَارَ كَالْعُمُومِ إِذَا خُصَّ بَعْضُهُ كَانَ بَاقِيهِ مَحْمُولًا عَلَى مُوجَبِ عُمُومِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُبَيِّنَ رَبُّ النَّخْلِ نَصِيبَ نَفْسِهِ دُونَ الْعَامِلِ ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ قَدْ سَاقَيْتُكَ عَلَى أَنَّ لِي ثُلُثَ الثَّمَرَةِ ، فَمَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ فِي ذَلِكَ بَاطِلَةٌ ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْقَاصِّ : أَنَّ الْمُسَاقَاةَ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ سَاقَيْتُكَ يُوجِبُ اشْتِرَاكَهُمَا فِي الثَّمَرَةِ فَكَانَ بَيَانُهُ لِنَصِيبِ نَفْسِهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ لِلْعَامِلِ كَمَا كَانَ بَيَانُهُ لِنَصِيبِ الْعَامِلِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ لِنَفْسِهِ وَصَارَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ [ النِّسَاءِ : 110 ] فَعُلِمَ أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ ثُلُثِ الْأُمِّ لِلْأَبِ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ خَطَأٌ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّ الثَّمَرَةَ لِرَبِّ النَّخْلِ ، فَإِذَا بَيَّنَ سَهْمَ الْعَامِلِ مِنْهَا صَارَ اسْتِثْنَاءً خَالَفَ حُكْمَ الْأَصْلِ فَصَارَ بَيَانًا ، وَإِذَا بَيَّنَ نَصِيبَ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً ؛ لِأَنَّهُ وَافَقَ حُكْمَ الْأَصْلِ ، إِذْ جَمِيعُ الثَّمَرَةِ لَهُ ، فَلَمْ يَصِرْ بَيَانًا . وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ الْمُزَنِيِّ ، وَأَبِي الْعَبَّاسِ مَحْمُولًا عَلَى اخْتِلَافِ حُكْمِهِ هَلْ هُوَ شَرِيكٌ ، أَوْ أَجِيرٌ ؟ فَحَمَلَ الْمُزَنِيُّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ أَجِيرٌ ، وَحَمَلَ أَبُو الْعَبَّاسِ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ شَرِيكٌ .


فَلَوْ قَالَ رَبُّ النَّخْلِ قَدْ سَاقَيْتُكَ عَلَى أَنَّ لَكَ ثُلُثَ الثَّمَرَةِ وَلِي نِصْفَهَا وَأَغْفَلَ ذِكْرَ السُّدْسِ الْبَاقِي غُلِّبَ فِي ذَلِكَ بَيَانُ نَصِيبِ الْعَامِلِ إِذْ لَيْسَ لَهُ أَكْثَرُ مِنَ الْمُسَمَّى ، وَصَحَّتِ الْمُسَاقَاةُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَيَّنَ نَصِيبَ الْعَامِلِ وَأَغْفَلَ ذِكْرَ الْبَاقِي كُلِّهِ صَحَّتِ الْمُسَاقَاةُ ، فَإِذَا أَغْفَلَ بَعْضَهُ كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ ، وَكَانَ مَا سِوَى ثُلُثِ الْعَامِلِ مِنَ النِّصْفِ الْمُسَمَّى ، وَالسُّدْسِ الْبَاقِي لِرَبِّ النَّخْلِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ لَا يُبَيِّنَ نَصِيبَ نَفْسِهِ ، وَلَا نَصِيبَ الْعَامِلِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ " قَدْ سَاقَيْتُكَ " حكم المساقاة بهذا القول فَالْمُسَاقَاةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ قَدْ تَخْتَلِفُ ، فَصَارَ الِاقْتِصَارُ عَلَى هَذَا مُفْضِيًا إِلَى جَهَالَةٍ تَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ لَهُ قَدْ سَاقَيْتُكَ عَلَى أَنَّ الثَّمَرَةَ بَيْنَنَا ، فَعِنْدَ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ صَحِيحَةٌ ، وَتَكُونُ الثَّمَرَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الثَّمَرَةِ يُوجِبُ تَسَاوِيَهُمَا فِيهَا . وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الْمُسَاقَاةَ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى تَسَاوٍ وَتَفَاضُلٍ فَلَمْ يَكُنْ حَمْلُهَا عَلَى التَّسَاوِي فِي الْإِطْلَاقِ بِأَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى التَّفَاضُلِ فَبَطَلَتْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ كَانَتِ النَّخْلُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَسَاقَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَلَى أَنَّ لِلْعَامِلِ ثُلُثَيِ الثَّمَرَةِ مِنْ جَمِيَعِ النَّخْلِ وَلِلْآخَرِ الثُّلُثَ كَانَ جَائِزًا ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَهُ سَاقَى شَرِيكَهُ فِي نِصْفِهِ عَلَى ثُلُثِ ثَمَرَتِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا كَانَتِ النَّخْلُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَسَاقَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا وَلَهُ الثُّلُثَانِ مِنْ جَمِيعِ ثَمَرِهَا فَهَذِهِ مُسَاقَاةٌ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّ لَهُ مِلْكًا وَعَمَلًا ، فَكَانَ لَهُ النِّصْفُ بِالْمِلْكِ ، وَالسُّدْسُ الزَّائِدُ عَلَيْهِ بِالْعَمَلِ . فَاخْتَصَّتِ الْمُسَاقَاةُ بِالثُّلُثِ مِنْ حَقِّ الشَّرِيكِ وَهُوَ النِّصْفُ ، وَذَلِكَ سُدُسُ الْكُلِّ . وَمِثْلُهُ فِي الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ أَلْفٌ بَيْنِ شَرِيكَيْنِ ضَارَبَهُ عَلَيْهَا عَلَى أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا وَحْدَهُ وَلَهُ الثُّلُثَانِ مِنَ الرِّبْحِ ، فَتَكُونُ الْمُضَارَبَةُ جَائِزَةً ، وَهِيَ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ حِصَّةِ الشَّرِيكِ ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ النِّصْفَ بِالْمِلْكِ ، وَالسُّدْسَ الزَّائِدَ بِالْعَمَلِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ سَاقَى شَرِيكَهُ عَلَى أَنَّ لِلْعَامِلِ الثُّلُثَ وَلِصَاحِبِهِ الّثُلُثَيْنِ لَمْ يَجُزْ كَرَجُلَيْنِ بَيْنَهُمَا أَلْفُ دِرْهَمٍ قَارَضَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فِي نِصْفِهِ فَمَا رَزَقَ اللَّهُ فِي الْأَلْفِ مِنْ رِبْحٍ فَالثُّلُثَانِ لِلْعَامِلِ وَلِصَاحِبِهِ الثُّلُثُ فَإِنَّمَا قَارَضَهُ فِي نِصْفِهِ عَلَى ثُلُثِ رِبْحِهِ فِي نِصْفِهِ وَلَوْ قَارَضَةُ عَلَى أَنَّ لِلْعَامِلِ ثُلُثَ الرِّبْحِ ، وَالثُّلُثَيْنِ لِصَاحِبِهِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ عَقَدَ لَهُ الْعَامِلُ أَنْ يَخْدِمَهُ فِي نِصْفِهِ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَسَلَّمَ لَهُ مَعَ خِدْمَتِهِ مِنْ رِبْحِ نِصْفِهِ تَمَامَ ثُلُثَيِ الْجَمِيعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَإِنْ عَمِلَ الْمُسَاقِي فِي هَذَا ، أَوِ الْمُقَارِضُ فَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَلَا أُجْرَةَ لِلْعَامِلِ ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ عَلَى غَيْرِ بَدَلٍ


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا سَاقَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي النَّخْلِ صَاحِبَهُ عَلَى أَنَّ لِلْعَامِلِ الثُّلُثَ مِنْ جَمِيعِ الثَّمَرَةِ كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ فَاسِدَةً ؛ لِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ تُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ عِوَضٍ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ ، فَإِذَا شَرَطَ إِسْقَاطَ الْعِوَضِ فِيهَا نَافَى مُوجِبَهَا ، فَبَطَلَتْ ، وَالْعَامِلُ إِذَا شَرَطَ ثُلُثَ الثَّمَرَةِ فَقَدْ أَسْقَطَ ثُلُثَ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْمِلْكِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَسْتَحِقُّ النِّصْفَ ، فَاقْتَصَرَ عَلَى الثُّلُثِ ، وَصَارَ بَاذِلًا لِعَمَلِهِ بِغَيْرِ بَدَلٍ . فَإِذَا بَطَلَتِ الْمُسَاقَاةُ بِمَا ذَكَرْتُ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بِالْمِلْكِ . قَالَ الْمُزَنِيُّ : وَلَا أُجْرَةَ لِلْعَامِلِ فِي عَمَلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَذَلَ الْعَمَلَ عَلَى غَيْرِ بَدَلٍ صَارَ مُتَطَوِّعًا بِهِ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ ، وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : لَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهَا مُسَاقَاةُ فَاسِدَةٌ ، وَالْعَقْدُ الْفَاسِدُ يُحْمَلُ فِي وُجُوبِ الْعِوَضِ عَلَى حُكْمِ الصَّحِيحِ ، وَإِنْ شَرَطَ فِيهِ إِسْقَاطَ الْبَدَلِ . أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ ثَوْبًا بِخَمْرٍ ، أَوْ خِنْزِيرٍ كَانَ ضَامِنًا لِقِيمَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ قِيمَةٌ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ مُوجِبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْعِوَضِ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ عَلَى أَنْ لَا ثَمَنَ عَلَيْكَ كَانَ الْمُشْتَرِي ضَامِنًا لِقِيمَتِهِ ، وَإِنْ شَرَطَ سُقُوطَ الْعِوَضِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ وَهَكَذَا لَوْ قَالَ أَجَّرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ عَلَى أَنَّ أُجْرَةً عَلَيْكَ ضَامِنًا لِلْأُجْرَةِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْعَقْدِ دُونَ الشَّرْطِ ، كَذَلِكَ فِي الْمُسَاقَاةِ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ وَجْهٌ ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسَاقَاةِ مُمْكِنٌ ، وَهُوَ أَنَّ مُشْتَرِيَ الثَّوْبِ عَلَى أَنْ لَا ثَمَنَ عَلَيْهِ وَمُسْتَأْجِرَ الدَّارِ عَلَى أَنْ لَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ ، هُمَا الْمُسْتَهْلِكَانِ مِلْكَ غَيْرِهِمَا ، فَضَمِنَا الْعِوَضَ مَعَ مَا شُرِطَ مِنْ شُرُوطِ الْعِوَضِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْعَقْدِ ، وَفِي الْمُسَاقَاةِ هُوَ الْمُسْتَهْلِكُ عَمَلَ نَفْسِهِ ، فَغُلِبَ فِيهِ حُكْمُ التَّطَوُّعِ بِالشَّرْطِ عَلَى حُكْمِ الْعَقْدِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ سَاقَا أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ، وَالنَّخْلُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ عَلَى أَنَّ لِلْعَامِلِ نِصْفَ الثَّمَرَةِ كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ فَاسِدَةً ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ فِيهَا هَدْرٌ لَا بَدَلٌ لَهُ وَتَكُونُ الثَّمَرَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بِالْمِلْكِ دُونَ الْعَقْدِ ، وَلَا أُجْرَةَ لِلْعَامِلِ عَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيِّ ، وَلَهُ الْأُجْرَةُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَلَكِنْ لَوْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ لِلْعَامِلِ نِصْفُ الثَّمَرَةِ ، وَهُوَ يَمْلِكُ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ النَّخْلِ صَحَّتِ الْمُسَاقَاةُ ؛ لِأَنَّ مَا فَضُلَ عَنْ قُدْرَةِ مِلْكِهِ يَصِيرُ مُقَابَلَةَ عَمَلِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوُ سَاقَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَلَى نَخْلٍ بَيْنَهُمَا سَنَةً مَعْرُوفَةً عَلَى أَنْ يَعْمَلَا فِيهَا جَمِيعًا عَلَى أَنَّ لِأَحَدِهِمَا الثُّلُثَ ، وَلِلْآخَرِ الثُّلُثَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِمُسَاقَاتِهِمَا مَعْنًى فَإِنْ عَمِلَا فَلِأَنْفُسِهِمَا عَمِلَا ، وَالثَّمَرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي نَخْلٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ بِالسَّوِيَّةِ سَاقَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَا فِيهَا جَمِيعًا ، عَلَى أَنَّ لِأَحَدِهِمَا الثُّلُثَ وَلِلْآخَرِ الثُّلُثَيْنِ فما حكم هذه الماقاة فَهَذِهِ مُسَاقَاةٌ بَاطِلَةٌ لِعِلَّتَيْنِ :


إِحْدَاهُمَا : أَنَّ الْعَامِلَ فِيهَا لَا يَتَمَيَّزُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ . وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّ عَمَلَ أَحَدِهِمَا عَلَى غَيْرِ بَدَلٍ ، وَإِذَا بَطَلَتِ الْمُسَاقَاةُ بِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بِالْمِلْكِ ، وَفِي عَمَلِهِمَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ هَدْرٌ لَا يُرَاعَى فِيهِ التَّفَاضُلُ ، وَلَا يُسْتَحَقُّ فِيهِ أُجْرَةٌ ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْمَالِ ، كَالشَّرِيكَيْنِ فِي الْمَالِ يَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ ، اعْتِبَارًا بِالْمَالِ ، وَإِنْ تَفَاضَلَا فِي الْعَمَلِ ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُمَا تَبَعٌ لِلْمَالِ ، فَلَمْ يُرَاعَ فِيهِ التَّفَاضُلُ ، وَلَمْ يُضْمَنْ بِالْأُجْرَةِ . وَهَذَا مُخَرَّجٌ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعَامِلَ شَرِيكٌ ، فَعَلَى هَذَا لَا أُجْرَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ ، وَإِنْ زَادَ عَلَيْهِ فِي عَمَلِهِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْعَمَلَ مُعْتَبَرٌ يُرَاعَى فِيهِ التَّفَاضُلُ وَيُسْتَحَقُّ فِيهِ الْأَجْرُ . كَالشَّرِيكَيْنِ بِأَبْدَانِهِمَا ، يَقْتَسِمَانِ الْكَسْبَ عَلَى أُجُورِ أَمْثَالِهِمَا ، وَبِحَسْبِ تَفَاضُلِهِمَا فِي أَعْمَالِهِمَا ، وَهَذَا مُخَرَّجٌ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " أَنَّ الْعَامِلَ أَجِيرٌ " ، فَعَلَى هَذَا يَرْجِعُ مَنْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ ثُلُثَيِ الثَّمَرَةِ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ أُجْرَةِ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ عَلَى عَمَلِهِ بَدَلًا ، وَلَمْ يَبْذُلْهُ تَطَوُّعًا فَاسْتَحَقَّ نِصْفَ الْأُجْرَةِ ، وَسَقَطَ نِصْفُهَا ؛ لِأَنَّ نِصْفَ عَمَلِهِ فِي مِلْكِ نَفْسٍ ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِبَدَلِهِ وَنِصْفِهِ فِي مِلْكِ شَرِيكِهِ ، فَرَجَعَ بِبَدَلِهِ . فَأَمَّا الْمُشْتَرِطُ لِنَفْسِهِ ثُلُثَ الثَّمَرَةِ ، فَعَلَى مَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ مِنْ أُجْرَتِهِ تَغْلِيبًا لِلشَّرْطِ ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَرْجِعُ بِنِصْفِ أُجْرَتِهِ تَغْلِيبًا لِلْعَقْدِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ سَاقَى رَجُلٌ رَجُلًا نَخْلًا مُسَاقَاةً صَحِيحَةً فَأَثْمَرَتْ ثُمَّ هَرَبَ الْعَامِلُ اكْتَرَى عَلَيْهِ الْحَاكِمُ فِي مَالِهِ مَنْ يَقُومُ فِي النَّخْلِ مَقَامَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا هَرَبَ الْعَامِلُ فِي الْمُسَاقَاةِ ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ عَمَلِهِ مَا لَا صَلَاحَ لِلنَّخْلِ ، وَالثَّمَرَةِ إِلَّا بِهِ ، وَجَبَ أَنْ يَلْتَمِسَهُ الْحَاكِمُ عِنْدَ اسْتِعْدَاءِ رَبِّ النَّخْلِ إِلَيْهِ ، وَإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عِنْدَهُ بِالْعَقْدِ لِيَأْخُذَهُ بِالْبَاقِي مِنْ عَمَلِهِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُسَاقَاةِ لَازِمٌ يُسْتَحَقُّ فِيهِ عَلَى الْعَامِلِ أُجْرَةُ الْعَمَلِ ، وَعَلَى رَبِّ النَّخْلِ الثَّمَرُ . فَإِنْ بَعُدَ الْعَامِلُ عَنِ الْحَاكِمِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ اسْتَأْجَرَ فِيمَا وَجَدَ مِنْ مَالِهِ أَجِيرًا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْبَاقِي مِنْ عَمَلِهِ ، ثُمَّ قَاسَمَ الْحَاكِمُ رَبَّ النَّخْلِ عَلَى الثَّمَرَةِ فَأَخَذَ مِنْهَا حِصَّةَ الْعَامِلِ لِيَحْفَظَهَا عَلَيْهِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لِلْعَامِلِ مَالًا يَأْخُذُ مِنْهُ أُجْرَةَ الْأَجِيرِ النَّائِبِ عَنْهُ ، اسْتَدَانَ عَلَيْهِ قَرْضًا مِنْ رَبِّ النَّخْلِ ، أَوْ غَيْرِهِ ، أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِيَقْضِيَ ذَلِكَ عِنْدَ حُصُولِ حِصَّةِ الْعَامِلِ مِنَ الثَّمَرَةِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَسْتَدِينُ مِنْهُ قَرْضًا نُظِرَ فِي الثَّمَرَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ بَادِيَةَ الصَّلَاحِ بِيعَ مِنْ حِصَّةِ الْعَامِلِ فِيهَا بِقَدْرِ أُجُورِ الْأُجَرَاءِ ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ بَادِيَةِ الصَّلَاحِ فَالْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهَا مُتَعَذِّرَةٌ لَا سِيَّمَا مَعَ الْإِشَاعَةِ ، فَلَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنَ الْعَامِلِ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ ، وَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ يُحْكَى عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ الْحَاكِمَ يُسَاقِي عَلَيْهَا لِأَجْلِ


الْبَاقِي مِنَ الْعَمَلِ فِيهَا رَجُلًا آخَرَ بِسَهْمٍ مُشَاعٍ فِي الثَّمَرَةِ يَدْفَعُهُ إِلَيْهِ مِنْ حِصَّةِ الْعَامِلِ عِنْدَ حُصُولِ الثَّمَرَةِ ، وَتَنَاهِيهَا ، وَيَعْزِلُ الْبَاقِي مِنْ حِصَّتِهِ - إِنْ بَقِيَ - مَحْفُوظًا لَهُ إِنْ عَادَ ، وَيَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ حِصَّتَهُ مِنْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي : أَنْ يُقَالَ لِرَبِّ النَّخْلِ : قَدْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ مَا بَقِيَ مِنَ الْعَمَلِ عَلَى الْعَامِلِ ، وَهَذَا عَيْبٌ يُوجِبُ الْخِيَارَ فِي الْمُقَامِ عَلَى الْمُسَاقَاةِ ، أَوِ الْفَسْخِ ، فَإِنْ أَقَامَ عَلَيْهَا صَارَ مُتَطَوِّعًا بِالْبَاقِي مِنَ الْعَمَلِ وَلِلْعَامِلِ حِصَّتُهُ مِنَ الثَّمَرَةِ ، وَإِنْ فَسَخَ صَارَ الْعَقْدُ مُنْفَسِخًا فِي الْبَاقِي مِنَ الْعَمَلِ . ثُمَّ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لُزُومُهُ فِي الْمَاضِي مِنَ الْعَمَلِ ، وَتَكُونُ حِصَّةُ الْعَامِلِ مِنَ الثَّمَرَةِ مُقَسَّطَةً عَلَى الْعَمَلَيْنِ الْمَاضِي مِنْهُ ، وَالْبَاقِي ، وَيَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ مِنْهَا مَا قَابَلَ الْمَاضِي مِنْ عَمَلِهِ ، وَيَسْتَحِقُّ رَبُّ النَّخْلِ مَا قَابَلَ الْبَاقِيَ مِنْ عَمَلِهِ مَضْمُومًا إِلَى حِصَّتِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ كَانَ رَبَّ النَّخْلِ عِنْدَ هَرَبِ الْعَامِلِ لَمْ يَأْتِ الْحَاكِمُ ، وَاسْتَأْجَرَ مِنْ مَالِهِ مَنْ عَمِلَ بَاقِيَ الْعَمَلِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحَاكِمِ كَانَ مُتَطَوِّعًا بِمَا أَنْفَقَ ، وَالْعَامِلُ عَلَى حَقِّهِ فِي الثَّمَرَةِ ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ الْحَاكِمِ نُظِرَ ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ الرُّجُوعَ بِمَا أَنْفَقَ ، أَوْ نَوَى الرُّجُوعَ ، وَلَمْ يَشْهَدْ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ بِالنَّفَقَةِ لَا يَرْجِعُ بِهَا ، وَالْعَامِلُ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الثَّمَرَةِ ، وَإِنْ نَوَى الرُّجُوعَ وَأَشْهَدَ أي رب النخل عند هرب العامل فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَرْجِعُ بِهَا لِلضَّرُورَةِ وَإِنَّ مَا فَعَلَهُ هُوَ غَايَةُ مَا فِي وُسْعِهِ . وَالثَّانِي : لَا يَرْجِعُ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ حَاكِمًا لِنَفْسِهِ عَلَى غَيْرِهِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ فِي ضَرُورَةٍ ، وَلَا غَيْرِهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " إِنْ عَلِمَ مِنْهُ سَرِقَةً فِي النَّخْلِ وَفَسَادًا العامل في المساقاة مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ وَتُكُورِيَ عَلَيْهِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ عَلَى الْعَامِلِ فِي الثَّمَرَةِ حَقَّيْنِ ( المساقاة ) : أَحَدُهُمَا : حِفْظُهَا ، وَالثَّانِي : أَدَاءُ الْأَمَانَةِ فِيهَا ، فَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ تَقْصِيرٌ فِي الْحِفْظِ أُخِذَ بِهِ وَاسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ مَنْ يَحْفَظُهَا مِنْ مَالِهِ ، وَإِنْ ظَهَرَتْ مِنْهُ خِيَانَةٌ فِي الثَّمَرَةِ وَسَرِقَةٌ لَهَا بِإِقْرَارٍ مِنْهُ ، أَوْ بَيِّنَةٍ قَامَتْ عَلَيْهِ ، أَوْ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي عِنْدَ نُكُولِهِ مُنِعَ مِنَ الثَّمَرَةِ وَرُفِعَتْ يَدُهُ عَنْهَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا ) : وَيُكَارَى عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ مَنْ يَعْمَلُ فِي الثَّمَرَةِ ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ اسْتَأْجَرَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ أَمِينًا يَضُمُّهُ إِلَيْهِ لِيَقُومَ بِحِفْظِ الثَّمَرَةِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلٍ مِنْهُ فِي الْحُكْمِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مَرْدُودٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ لِيَحْكُمَ بِمَا يَرَاهُ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ ، وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ . فَأَمَّا إِنِ ادَّعَى رَبُّ النَّخْلِ الْخِيَانَةَ ، وَالسَّرِقَةَ ، وَالْعَامِلُ مُنْكِرٌ لَهُمَا ، وَلَا بَيِّنَةَ تَقُومُ بِهَا فَالْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُ الْعَامِلِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَهُوَ عَلَى تَصَرُّفِهِ فِي الثَّمَرَةِ لَا تُرْفَعُ يَدُهُ عَنْهَا بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى ، فَإِنْ


أَرَادَ رَبُّ النَّخْلِ بِدَعْوَى السَّرِقَةِ الْغُرْمَ لَمْ تُسْمَعِ الدَّعْوَى مِنْهُ إِلَّا مَعْلُومَةً ، وَإِنْ أَرَادَ رَفْعَ يَدِ الْعَامِلِ بِهَا عَنِ الثَّمَرَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تُسْمَعُ مَجْهُولَةً لِاسْتِوَاءِ الْحُكْمِ فِي رَفْعِ يَدِهِ بِقَلِيلِ السَّرِقَةِ وَكَثِيرِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تُسْمَعُ إِلَّا مَعْلُومَةً ؛ لِأَنَّ رَفْعَ يَدِهِ بِهَا فَرْعٌ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْغُرْمِ فِيهَا ، فَصَارَ حُكْمُ الْغُرْمِ أَغْلَبَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَإِنْ أَنْفَقَ رَبُّ النَّخْلِ كَانَ مُتَطَوِّعًا بِهِ وَيَسْتَوْفِي الْعَامِلُ شَرْطَهُ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ وَإِنْ مَاتَ قَامَتْ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُسَاقَاةِ لَازِمٌ لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ فَإِنْ مَاتَ رَبُّ النَّخْلِ كَانَ الْعَامِلُ عَلَى عَمَلِهِ مِنَ الثَّمَرَةِ قَدْرَ شَرْطِهِ ، وَالْبَاقِي مَقْسُومٌ بَيْنَ وَرَثَةِ رَبِّ النَّخْلِ عَلَى فَرَائِضِهِمْ ، وَإِنْ مَاتَ الْعَامِلُ فَإِنْ قَامَ وَرَثَتُهُ بِبَاقِي الْعَمَلِ أَخَذَ حِصَّةَ الْعَامِلِ فِي الثَّمَرَةِ وَإِنِ امْتَنَعَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْعَمَلِ ، لِأَنَّ مَا لَزِمَ الْمَيِّتَ مِنْ حَقٍّ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِتَرِكَةٍ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِوَارِثٍ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُعَادِي عَلَى الْعَامِلِ مِنْ تَرِكَةِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ مِنَ الْبَاقِي مِنْ عَمَلِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَرِكَةٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَدَانَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْهَارِبِ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا ذِمَّةَ لَهُ وَيَكُونُ حُكْمُهُ كَحُكْمِ الْهَارِبِ إِذَا تَقَرَّرَتِ الِاسْتِدَانَةُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وَجْهَيْنِ :

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ عَمِلَ فِيهَا الْعَامِلُ فَأَثْمَرَتْ ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَبُّهَا المساقاة أَخَذَهَا وَثَمَّرَهَا ، وَلَا حَقَّ عَلَيْهِ فِيمَا عَمِلَ فِيهَا الْعَامِلُ . لِأَنَّهَا آثَارٌ لَا عَيْنٌ وَرَجَعَ الْعَامِلُ عَلَى الدَّافِعِ بِقِيمَةِ عَمَلٍ فَإِنِ اقْتَسَمَا الثَّمَرَةَ فَأَكَلَاهَا ثُمَّ اسْتَحَقَهَا رَبُّهَا رَجَعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَكِيلَةِ الثَّمَرَةِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا الدَّافِعُ لَهَا وَرَجَعَ الدَّافِعُ عَلَى الْعَامِلِ بِالْمَكِيلَةِ الَّتِي غَرِمَهَا وَرَجَعَ الْعَامِلُ عَلَى الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ بِأَجْرِ مِثْلِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ سَاقَى رَجُلًا عَلَى نَخْلٍ فِي يَدِهِ ، ثُمَّ اسْتُحِقَّتِ النَّخْلُ مِنْ يَدِ الْعَامِلِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَامِلِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ النَّخْلِ مِنْ يَدِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَمِلَ فِيهَا عَمَلًا أَمْ لَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ عَمِلَ فِيهَا عَمَلًا فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْمُسَاقِي ، وَلَا عَلَى رَبِّ النَّخْلِ ، وَإِنْ عَمِلَ فِيهَا عَمَلًا فَلَا يَخْلُو حَالُ النَّخْلِ مِنْ أَنْ تَكُونَ قَدْ أَثْمَرَتْ ، أَوْ لَمْ تُثْمِرْ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَدْ أَثْمَرَتِ اسْتَرْجَعَهَا رَبُّهَا ، وَلَا شَيْءَ لَهُ سِوَاهَا ، وَلِلْعَامِلِ عَلَى الْمُسَاقِي أُجْرَةُ مِثْلِ عَمَلِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ فَوَّتَ عَلَيْهِ عَمَلَهُ عَلَى عِوَضٍ فَاسِدٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ الْعَمَلِ ، وَهُوَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ . وَإِنْ أَثْمَرَتِ النَّخْلُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الثَّمَرَةِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَاقِيَةً بِيَدِهِ ، فَيَرْجِعُ رَبُّ النَّخْلِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَامِلِ وَالْمُسَاقِي بِمَا حَصَلَ بِيَدِهِ مِنَ الثَّمَرَةِ ؛ لِأَنَّ نَمَاءَ الْمَغْصُوبَ حَادِثٌ عَلَى مِلْكِ رَبِّهِ ، دُونَ غَاصِبِهِ . ثُمَّ لِلْعَامِلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُسَاقِي بِأُجْرَةِ مِثْلِ عَمَلِهِ لِتَفْوِيتِهِ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ


قِيلَ : فَاسْتِحْقَاقُ الثَّمَرَةِ جَارٍ مَجْرَى تَلَفِهَا ، وَتَلُفُ الثَّمَرَةِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ رُجُوعَ الْعَامِلِ عَلَى الْمُسَاقِي بِأُجْرَةِ عَمَلِهِ ، قِيلَ : إِنَّمَا يَمْتَنِعُ رُجُوعُهُ بِالْأُجْرَةِ عِنْدَ تَلَفِ الثَّمَرَةِ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ ، وَاسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بِالْأُجْرَةِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ النَّخْلِ لِفَسَادِ الْعَقْدِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدِ اسْتَهْلَكَهَا ، فَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَإِنْ كَانَا قَدِ اسْتَهْلَكَاهَا بُسْرًا ، أَوْ رُطَبًا ، أَوْ تَمْرًا مَكْنُوزًا رَجَعَ بِقِيمَتِهَا ، وَإِنْ كَانَا قَدِ اسْتَهْلَكَاهَا تَمْرًا بَثًّا رَجَعَ بِمِثْلِهَا ؛ لِأَنَّ لِلتَّمْرِ الْبَثِّ مِثْلًا ، وَلَيْسَ لِغَيْرِ الْبَثِّ مِثْلٌ ، ثُمَّ رَبُّ النَّخْلِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمِثْلِ مَا اسْتَهْلَكَهُ ، وَبَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُسَاقِي بِمِثْلِ جَمِيعِ الثَّمَرَةِ فَإِنْ رَجَعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمِثْلِ مَا اسْتَهْلَكَهُ فَلَا تَرَاجُعَ لِأَحَدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الثَّمَرَةِ ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الْعَامِلُ عَلَى الْمُسَاقِي بِأُجْرَةِ مِثْلِ عَمَلِهِ لِتَفْوِيتِهِ إِيَّاهُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْمُسَاقِي بِجَمِيعِ الثَّمَرَةِ رَجَعَ الْمُسَاقِي عَلَى الْعَامِلِ بِمِثْلِ مَا اسْتَهْلَكَهُ مِنْهَا ، وَرَجَعَ الْعَامِلُ عَلَى الْمُسَاقِي بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ حِصَّةُ الْمُسَاقِي بَاقِيَةً بِيَدِهِ ، وَحِصَّةُ الْعَامِلِ مُسْتَهْلِكَةً فَيَرْتَجِعُ رَبُّ النَّخْلِ مَا بِيَدِ الْمُسَاقِي مِنَ الثَّمَرَةِ ، ثُمَّ هُوَ فِيمَا اسْتَهْلَكَهُ الْعَامِلُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْعَامِلِ ، وَلَا يَرْجِعُ بِهِ الْعَامِلُ عَلَى الْمُسَاقِي ، وَلَكِنْ يَرْجِعُ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْمُسَاقِي وَيَرْجِعُ الْمُسَاقِي بِهِ عَلَى الْعَامِلِ وَيَرْجِعُ الْعَامِلُ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ عَلَى الْمُسَاقِي . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ تَكُونَ حِصَّةُ الْمُسَاقِي مُسْتَهْلَكَةً ، وَحِصَّةُ الْعَامِلِ بَاقِيَةً بِيَدِهِ فَيَرْجِعُ رَبُّ النَّخْلِ عَلَى الْعَامِلِ بِمَا بِيَدِهِ مِنَ الثَّمَرَةِ ؟ وَيَرْجِعُ عَلَى الْمُسَاقِي بِمَا اسْتَهْلَكَهُ مِنْهَا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْعَامِلِ ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ يَضْمَنُ بِالْيَدِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا ضَمَانُ مَا حَصَلَ بِيَدِهِ ، وَالْمُسَاقِي يَضْمَنُ بِالْعُدْوَانِ فَلَزِمَهُ ضَمَانُ مَا حَصَلَ بَعْدَ عُدْوَانِهِ ثُمَّ لِلْعَامِلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُسَاقِي بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ سَاقَاهُ عَلَى أَنَّهُ سَقَاهَا بِمَاءِ سَمَاءٍ أَوْ نَهْرٍ ، فَلَهُ الثُّلُثُ وَإِنْ سَقَاهَا بِالنَّضْحِ فَلَهُ النِّصْفُ كَانَ هَذَا فَاسِدًا ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُسَاقَاةِ كَانَ ، وَالنَّصِيبُ مَجْهُولٌ ، وَالْعَمَلُ غَيْرُ مَعْلُومٍ كَمَا لَوْ قَارَضَهُ بِمَالٍ عَلَى أَنَّ مَا رَبِحَ فِي الْبَرِّ فَلَهُ الثُّلُثُ ، وَمَا رَبِحَ فِي الْبَحْرِ فَلَهُ النِّصْفُ فَإِنْ عَمِلَ كَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَالتَّعْلِيلُ مُسْتَقِيمٌ ، وَفَسَادُ الْعَقْدِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : جَهَالَةُ الْعَمَلِ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ السَّقْيِ بِمَاءِ السَّمَاءِ ، وَالنَّضْحِ . وَالثَّانِي : جَهَالَةُ الْعِوَضِ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الثُّلُثِ ، وَالنِّصْفِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَإِنِ اشْتَرَطَ الدَّاخِلُ أَنَّ أُجْرَةَ الْأُجَرَاءِ مِنَ الثَّمَرَةِ المساقاة فَسَدَتِ الْمُسَاقَاةُ " .


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لَمَعَانٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الثَّمَرَةَ قَدْ تُحَلِّقُ ، وَلَا تُحَلِّقُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ عِوَضًا عَلَى عَمَلٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْأُجْرَةَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ فِي ذِمَّةٍ ، وَلَا هِيَ اسْتِحْقَاقُ جُزْءٍ مِنْ عَيْنٍ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ قَدْ يَسْتَوْعِبُ الثَّمَرَةَ فَلَا يَحْصُلُ لِرَبِّ النَّخْلِ ، وَلَا لِلْعَامِلِ شَيْءٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ سَاقَاهُ عَلَى وَدِيٍّ لِوَقْتٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُثْمِرُ إِلَيْهِ لَمْ يَجُزْ " . أَمَّا الْوَدِيُّ فَهُوَ الْفَسِيلُ الَّذِي لَمْ يَحْمِلْ بَعْدُ ، فَإِذَا سَاقَى عَلَيْهِ رَجُلًا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْفَسِيلِ فِي الْعُرْفِ الْمَعْهُودِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُعْلَمَ فِي غَالِبِ الْعُرْفِ أَنَّهُ يَحْمِلُ فِي مُدَّةِ الْمُسَاقَاةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُعْلَمَ بِالْعُرْفِ أَنَّهُ يَحْمِلُ فِي جَمِيعِ سِنِي الْمُسَاقَاةِ فَالْمُسَاقَاةُ جَائِزَةٌ ، فَإِنْ لَمْ يَحْمِلِ الْفَسِيلُ فَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ عَلَى رَبِّهِ كَمَا لَوْ حَالَ النَّخْلُ الطَّوِيلُ فَلَمْ يَحْمِلْ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُعْلَمَ بِالْعُرْفِ أَنَّهُ يَحْمِلُ فِي آخِرِ سِنِي الْمُسَاقَاةِ مِثْلَ أَنْ يُسَاقِيَهُ عَلَى فَسَيْلٍ خَمْسَ سِنِينَ يَعْلَمُ بِغَالِبِ الْعُرْفِ أَنَّهُ يَحْمِلُ فِي الْخَامِسَةِ ، وَلَا يَحْمِلُ فِيمَا قَبْلَهَا فَفِي الْمُسَاقَاةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا بَاطِلَةٌ لِتَفْوِيتِ عَمَلِهِ فِي الْأَعْوَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِغَيْرِ بَدَلٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا جَائِزَةٌ . وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ ؛ لِأَنَّ ثَمَرَةَ السَّنَةِ الْأَخِيرَةِ عِوَضٌ عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ ، كَمَا تَكُونُ الثَّمَرَةُ فِي آخِرِ السَّنَةِ عِوَضًا عَنْ عَمَلِهِ فِي أَوَّلِهَا . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُعْلَمَ بِغَالِبِ الْعُرْفِ أَنَّ الْفَسِيلَ لَا يَحْمِلُ فِي مُدَّةِ الْمُسَاقَاةِ كُلِّهَا ، فَالْمُسَاقَاةُ بَاطِلَةٌ لِعَدَمِ الْعِوَضِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَى الْعَامِلِ ، فَإِنْ عَمِلَ الْعَامِلُ فِيهَا عَمَلًا ، فَعَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيِّ : لَا أُجْرَةَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِأَنْ لَا يَأْخُذَ عَلَى عَمَلِهِ بَدَلًا . وَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ لَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى مُسَاقَاةٍ فَاسِدَةٍ ، فَلَوْ أَثْمَرَ هَذَا الْفَسِيلُ الَّذِي كَانَ الْعُرْفُ فِي مِثْلِهِ أَنَّهُ لَا يَحْمِلُ لَمْ تَصِحَّ الْمُسَاقَاةُ بَعْدَ انْعِقَادِهَا عَلَى الْفَسَادِ ، وَكَانَتِ الثَّمَرَةُ وَأُجْرَةُ الْعَامِلِ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الِاخْتِلَافِ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَجُوزَ فِي غَالِبِ الْعُرْفِ أَنْ يَحْمِلَ وَيَجُوزَ أَنْ لَا يَحْمِلَ ، وَالْأَمْرَانِ عَلَى سَوَاءٍ فَفِي الْمُسَاقَاةِ وَجْهَانِ :


أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّهَا بَاطِلَةٌ لِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ جَائِزٍ ، وَغَيْرِ جَائِزٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ جَائِزَةٌ ، كَمَا أَنَّ رِبْحَ الْمُضَارَبَةِ مَجُوزٌ ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ ، وَكَمَا لَوْ أُذِنَ لَهُ بِالْمَضَارَبَةِ فِي سَفَرٍ مَخُوفٍ صَحَّ الْعَقْدُ ، وَإِنْ جَازَ تَلَفُ الْمَالِ كَجَوَازِ سَلَامَتِهِ . فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ : لَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ إِنْ عَمِلَ ، أَثْمَرَتِ النَّخْلُ ، أَوْ لَمْ تُثْمِرْ ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الثَّمَرَةِ مَجُوزٌ ، فَلَمْ يُفَوِّتْ عَمَلَهُ بِغَيْرِ بَدَلٍ . وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي : إِنْ أَثْمَرَتْ كَانَ لَهُ حَقُّهُ مِنَ الثَّمَرَةِ ، وَإِنْ لَمْ تُثْمِرْ فَلَا شَيْءَ لَهُ .

فَصْلٌ : فَلَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ أَرْضًا وَسَقَاهُ عَلَى أَنْ يَغْرِسَ فِيهَا فَسَيْلًا لِيَكُونَ ثَمَرُ الْفَسِيلِ إِذَا أَثْمَرَ بَيْنَهُمَا لَمْ يَجُزْ ، وَكَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُسَاقَاةِ لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ عَلَى عَيْنٍ قَائِمَةٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " لَوِ اخْتَلَفَا بَعْدَ أَنْ أَثْمَرَتِ النَّخْلُ عَلَى مُسَاقَاةٍ صَحِيحَةٍ فَقَالَ رَبُّ النَّخْلِ عَلَى الثُّلُثِ وَقَالَ الْعَامِلُ بَلْ عَلَى النِّصْفِ تَحَالَفَا وَكَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ ، كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا أَقَرَّ لَهُ بِهِ رَبُّ النَّخْلِ أَوْ أَقَلَّ ، وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَى سَقَطَتَا وَتَحَالَفَا كَذَلِكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ النَّخْلِ ، وَالْعَامِلُ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى أَصْلِ الْعَقْدِ فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ ، كَالْعَرْضِ ، فَيَقُولُ رَبُّ النَّخْلِ : سَاقَيْتُكَ عَلَى الثُّلُثِ وَيَقُولُ الْعَامِلُ : عَلَى النِّصْفِ ، وَاخْتَلَفَا فِي الْمُدَّةِ ، أَوْ فِي النَّخْلِ ، فَانْهَمَا يَتَحَالَفَانِ كَمَا يَتَحَالَفُ الْمُتَبَايِعَانِ بِكَوْنِهِمَا مُخْتَلِفَيْنِ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي صِفَتِهِ ، مَا لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ بِمَا اخْتَلَفَا فِيهِ ، فَإِذَا تَحَالَفَا عَلَى مَا مَضَى فِي الْبُيُوعِ فُسِخَتِ الْمُسَاقَاةُ بَيْنَهُمَا . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَامِلِ عَمَلٌ فَلَا شَيْءَ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ ، فَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ سَوَاءٌ كَانَ أَقَلَّ مِمَّا ادَّعَى ، أَوْ أَكْثَرَ ، سَوَاءٌ أَثْمَرَتِ النَّخْلُ ، أَوْ لَمْ تُثْمِرْ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا ارْتَفَعَ بِالتَّحَالُفِ بَطَلَ الْمُسَمَّى ، وَاسْتُحِقَّ قِيمَةَ الْمُتْلَفِ . فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ قُضِيَ لِلْحَالِفِ مِنْهُمَا دُونَ النَّاكِلِ ، وَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَةٌ عُمِلَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَحَالُفٍ ، وَالْبَيِّنَةُ شَاهِدَانِ ، أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ ، أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ . فَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً فَقَدْ تَعَارَضَتَا ، وَفِيهِمَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : تَسْقُطُ الْبَيِّنَتَانِ ، وَيَرْجِعَانِ إِلَى التَّحَالُفِ . وَالثَّانِي : يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَأَيُّهُمَا قُرِعَتْ قُرْعَتُهُ حُكِمَ بِهَا ، وَهَلْ يَحْلِفُ صَاحِبُهَا مَعَهَا ، أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ، فَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الْبَيِّنَتَيْنِ ، أَوْ وُقُوفُهُمَا فَلَا يَجِيءُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ ، أَمَّا اسْتِعْمَالُهَا فَلِأَنَّ قِسْمَةَ الْعَقْدِ لَا تَصِحُّ وَأَمَّا وُقُوفُهُمَا فَلِأَنَّ وُقُوفَ الْعُقَدِ لَا يَجُوزُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ دَفَعَا نَخْلًا إِلَى رَجُلٍ مُسَاقَاةً فَلَمَّا أَثْمَرَتْ

اخْتَلَفُوا فَقَالَ الْعَامِلُ شَرَطْتُمَا لِيَ النِّصْفَ ، وَلَكُمَا النَّصْفُ فَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا وَأَنْكَرَ الْآخَرُ كَانَ لَهُ مُقَاسَمَةُ الْمُقِرِّ فِي نِصْفِهِ عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ وَتَحَالَفَ هُوَ وَالْمُنْكِرُ وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ فِي نِصْفِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي نَخْلٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ سَاقَيَا عَلَيْهَا رَجُلًا وَاحِدًا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ ، ثُمَّ أَثْمَرَتِ النَّخْلُ ، فَادَّعَى الْعَامِلُ أَنَّهُمَا سَاقَيَاهُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ جَمِيعِ الثَّمَرَةِ ، فَإِنْ صَدَّقَاهُ سَلِمَ إِلَيْهِ النِّصْفُ ، وَإِنْ كَذَّبَاهُ ، وَقَالَا بَلْ سَاقَيْنَاكَ عَلَى الثُّلُثِ تَحَالَفَ الْعَامِلُ وَالشَّرِيكَانِ عَلَى مَا مَضَى ثُمَّ لَهُ عَلَيْهِمَا أُجْرَةُ مِثْلِهِ . وَلَوْ صَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ كَانَ عَقْدُهُ مَعَ الْمُصَدِّقِ سَلِيمًا وَأَخَذَ النِّصْفَ مِنْ حِصَّتِهِ ، وَكَانَ عَقْدُهُ مَعَ الْآخَرِ مُخْتَلِفًا فِيهِ ؛ لِأَنَّهُمَا عَقْدَانِ يَتَمَيَّزُ حُكْمُهُمَا لِتَمَيُّزِ أَحْوَالِهِمَا ، فَإِنْ كَانَ الشَّرِيكُ الْمُصَدِّقُ عَدْلًا جَازَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَرِيكِهِ مَعَ شَاهِدٍ آخَرَ ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الشَّرِيكِ عَلَى شَرِيكِهِ مَقْبُولَةٌ ، فَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ مَعَهُ غَيْرُهُ جَازَ أَنْ يَحْلِفَ مَعَهُ الْعَامِلُ ، فَيُحْكَمَ لَهُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الشَّرِيكُ عَدْلًا تُحَالَفَ الْعَامِلُ وَالشَّرِيكُ الْمُكَذِّبُ ، فَإِذَا حَلَفَا فُسِخَ الْعَقْدُ فِي حِصَّتِهِ ، وَحُكِمَ لَهُ بِالنِّصْفِ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِهِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ شَرَطَ مِنْ نَصِيبِ أَحَدَهِمَا بِعَيْنِهِ النَّصْفَ وَمِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ بِعَيْنِهِ الثُّلُثَ جَازَ وَإِنْ جَهِلَا ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ وَفُسِخَ فَإِنْ عَمِلَ عَلَى ذَلِكَ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ ، وَالثَّمَرُ لِرَبِّهِ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُسَاقِيَا رَجُلًا عَلَى عِوَضٍ مُتَسَاوٍ وَمُتَفَاضِلٍ ، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَفَاضَلَ الْعِوَضَانِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُعَيِّنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا عَوَّضَ عَلَيْهِ مِنْ قَدْرٍ ، فَإِنْ جُهِلَ بِطَلَ لِلْجَهَالَةِ بِمَا يَسْتَحِقُّ مِنْ حِصَّتِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
_____مُخْتَصَرٌ مِنَ الْجَامِعِ فِي الْإِجَارَةِ _____

مَسْأَلَةٌ عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَى مَنَافِعِ الْأَعْيَانِ


مُخْتَصَرٌ مِنَ الْجَامِعِ فِي الْإِجَارَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ كُتُبٍ فِي الْإِجَارَةِ ، وَمَا دَخَلَ فِيهِ سِوَى ذَلِكَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَقَدْ يَخْتَلِفُ الرَّضَاعُ فَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ إِلَّا هَذَا جَازَتْ فِيهِ الْإِجَارَةُ حكمها ودليلها وَذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَعَمِلَ بِهَا بَعْضُ أَنْبِيَائِهِ فَذَكَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِجَارَتَهُ نَفْسَهُ ثَمَانِيَ حِجَجٍ مَلَكَ بِهَا بُضْعَ امْرَأَتِهِ وَقِيلَ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى أَنْ يَرْعَى لَهُ غَنَمًا فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى تَجْوِيزِ الْإِجَارَةِ وَمَضَتْ بِهَا السُّنَّةُ وَعَمِلَ بِهَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ ، وَالتَّابِعِينَ ، وَلَا اخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا وَعَوَامِّ أَهْلِ الْأَمْصَارِقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَالْإِجَارَاتُ صِنْفٌ مِنَ الْبُيُوعِ ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَى مَنَافِعِ الْأَعْيَانِ جَائِزٌ وَهُوَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ ، وَالتَّابِعِينَ ، وَالْفُقَهَاءِ وَحَكَى الشَّافِعِيُّ خِلَافَ بَعْضِ أَهْلِ الْكَلَامِ فِيهَا وَهُوَ مَا حُكِيَ عَنِ الْأَصَمِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ . اسْتِدْلَالًا بِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْغَرَرِ ، وَالْغَرَرُ يَدْخُلُ عَقْدَ الْإِجَارَةِ مِنْ وُجُوهٍ شَتَّى مِنْهَا أَنَّ الْمَنَافِعَ الْمُسْتَقْبَلَةَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ ، وَالْعَقْدَ عَلَى مَا لَمْ يُخْلَقْ بَاطِلٌ . وَمِنْهَا أَنَّ الْعَقْدَ يَتَوَجَّهُ إِلَى عَيْنٍ حَاضِرَةٍ تُرَى ، أَوْ غَائِبَةٍ تُوصَفُ وَلَيْسَتِ الْمَنَافِعُ أَعْيَانًا حَاضِرَةً ، وَلَا غَائِبَةً فَلَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ عَلَيْهَا وَمِنْهَا أَنَّ مَنَافِعَ الْعَبْدِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَدْ تَخْتَلِفُ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ قُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ وَنَشَاطِهِ وَكَسَلِهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَهَذَا قَوْلٌ جَهْلٌ مِمَّنْ قَالَهُ ، وَالْإِجَارَاتُ أَصُولٌ فِي أَنْفُسِهَا بُيُوعٌ عَلَى وَجْهِهَا ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِهَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [ الطَّلَاقِ : 6 ] . قَالَ الشَّافِعِيُّ : ( فَأَجَازَ الْإِجَارَةَ عَلَى الرِّضَاعِ ) ، وَالرِّضَاعُ يَخْتَلِفُ بِكَثْرَةِ رِضَاعِ الْمَوْلُودِ وَقِلَّتِهِ وَكَثْرَةِ اللَّبَنِ وَقِلَّتِهِ وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ إِلَّا هَذَا جَازَتِ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ وَإِذَا جَازَتْ عَلَيْهِ جَازَتْ عَلَى مِثْلِهِ ، وَمَا هُوَ فِي مِثْلِهِ مَعْنَاهُ وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الرِّضَاعِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قِلَّةُ اللَّبَنِ وَكَثْرَتُهُ . وَالثَّانِي : قِلَّةُ شُرْبِ الصَّبِيِّ وَكَثْرَتُهُ ثُمَّ صَحَّتِ الْإِجَارَةُ فِيهِ فَكَانَتْ صِحَّتُهَا فِي غَيْرِهِ أَوْلَى وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ ( بِقَوْلِهِ تَعَالَى ) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ [ الْقَصَصِ : 26 - 27 ]


فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ نَبِيًّا مِنْ أَنْبِيَائِهِ آجَرَ نَفْسَهُ حِجَجًا مُسَمَّاةً مَلَكَ بِهَا بُضْعَ امْرَأَةٍ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْإِجَارَةِ . وَاخْتَلَفُوا هَلْ كَانَ اسْتِئْجَارُ مُوسَى لِحِجَجٍ تُؤَدَّى ، أَوْ لِعَمَلٍ يُسْتَوْفَى فَقَالَ قَوْمٌ بَلْ كَانَ عَلَى حِجَجٍ اسْتِدْلَالًا بِظَاهِرِ اللَّفْظِ وَجَعَلُوا ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ الْإِجَارَةِ عَلَى الْحَجِّ . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ كَانَ عَلَى عَمَلٍ وَهُوَ رَعْيُ غَنَمٍ ثَمَانِي سِنِينَ . وَالْعَرَبُ تُسَمِّي السَّنَةَ حِجَّةً ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ فِي السَّنَةِ الْوَاحِدَةِ إِلَّا حِجَّةٌ وَاحِدَةٌ . قَالَ الشَّاعِرُ : كَأَنِّي وَقَدْ جَاوَزْتُ سَبْعِينَ حِجَّةً خَلَفْتُ بِهَا عَنْ مَنْكِبَيَّ دَائِيَا وَاسْتَدَلَّ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ عَلَى جَوَازِ الْإِجَارَةِ حكمها مِنَ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى ، وَالْخَضِرِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ : فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا [ الْكَهْفِ : 77 ] . فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِمْسَاكِ الْخَضِرِ عَلَى جَوَازِ الْإِجَارَةِ وَاسْتِبَاحَةِ الْأُجْرَةِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : أَعْطُوا الْأَجِيرَ أُجْرَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا يَسْتَامُ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ ، وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَتِهِ ، وَلَا تَنَاجَشُوا ، وَلَا تَبِيعُوا بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ وَمَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ رَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ ، وَلَمْ يُوَفِّهِ أَجْرَهُ . وَرَجُلٌ أَعْطَى بِي صَفْقَةَ يَمِينِهِ ثُمِ غَدَرَ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كَصَاحِبِ الْفَرْقِ وَذَكَرَ قِصَةَ ثَلَاثَةِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ أَحَدَهُمُ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا بِفَرْقٍ مِنْ بُرٍّ فَعَمِلَ ، وَلَمْ يَأْخُذْ أُجْرَتَهُ فَزَرَعَهُ لَهُ حَتَّى نَمَا وَصَارَ قَدْرًا عَظِيمًا ثُمَّ عَادَ الْأَجِيرُ فَدَفَعَ إِلَيْهِ جَمِيعَهُ .


وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَثَلُكُمْ فِيمَنْ مَضَى كَرَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى زَوَالِهَا بَقِيرَاطٍ الْحَدِيثَ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَرَادَ الْهِجْرَةَ قَالَ : يَا عَلِيُّ ارْتَدْ لَنَا دَلِيلًا مِنَ الْأَزْدِ فَإِنَّهُمْ أَوْفَى لِلْعَهْدِ فَاسْتَأْجَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُرَيْقِطٍ اللَّيْثِيَّ مِنَ الْأَزْدِ دَلِيلًا إِلَى الْمَدِينَةِ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا وُلِدَ ابْنُهُ إِبْرَاهِيمُ اسْتَأْجَرَ لَهُ ظِئْرًا ( يُقَالُ لَهَا ) أُمُّ سَيْفٍ امْرَأَةُ قَيْنٍ بِالْمَدِينَةِ يُقَالُ لَهُ أَبُو يُوسُفَ . وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ قَالَ : قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ بِأَنِّي رَجُلٌ أُكْرِيَ إِبِلِي أَفَتُجْزِئُ عَلَيَّ مِنْ حَجَّتِي فَقَالَ : أَلَسْتَ تُلَبِّي وَتَقِفُ وَتَرْمِي قُلْتُ : بَلَى . قَالَ ابْنُ عُمَرَ : سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ عِمَا سَأَلْتَنِي عَنْهُ فَلَمْ يُجِبْهُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [ الْبَقَرَةِ : 198 ] ، وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَسْقِي الْمَاءَ لِامْرَأَةٍ يَهُودِيَّةٍ كُلَّ دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : نَشَأْتُ يَتِيمًا وَهَاجَرْتُ مِسْكِينًا وَكُنْتُ أَجِيرًا لِبُسْرَةَ بِنْتِ صَفْوَانَ بِعُقْبَةِ رِجْلِي وَطَعَامِ بَطْنِي فَكُنْتُ أَخْدِمُ إِذَا نَزَلُوا وَأَخْدِمُ إِذَا رَكِبُوا فَزَوَّجَنِيهَا اللَّهُ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الدِّينَ قِوَامًا وَجَعَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ إِمَامًا . وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْإِجَارَةِ دَاعِيَةٌ ، وَالضَّرُورَةَ إِلَيْهَا مَاسَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ أَرَادَ عَمَلًا قَدَرَ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ ، وَلَا إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ حَسُنَ بِهِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ أَرَادَ طَعَامًا لِمَأْكَلِهِ وَثِيَابًا لِمَلْبَسِهِ قَدَرَ عَلَى عَمَلِهِ بِنَفْسِهِ وَعَلَى إِحْدَاثِهِ وَإِنْشَائِهِ فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى الْإِجَارَةِ عَلَى الْمَنَافِعِ كَمَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى ابْتِيَاعِ الْأَعْيَانِ ثُمَّ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا فَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِنَهْيِهِ عَنِ الْغَرَرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ بِغَرَرٍ ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْغَرَرِ مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ جَوَازَيْنِ عَلَى سَوَاءٍ ، وَالْأَغْلَبُ فِي الْإِجَارَةِ حَالُ السَّلَامَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ غَرَرٌ خُصَّ بِالشَّرْعِ لِقِلَّتِهِ وَضَرُورَتِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَا لَمْ يُخْلَقْ كَالْبَيْعِ فَهُوَ أَنَّ بَيْعَ مَا لَمْ يُخْلَقْ إِنَّمَا بَطَلَ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ خُلِقَ ، وَالْمَنَافِعُ لَمَّا لَمْ يُمْكِنِ الْعَقْدُ عَلَيْهَا بَعْدَ أَنْ خُلِقَتْ لِفَوَاتِهَا جَازَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ أَعْيَانًا حَاضِرَةً ، وَلَا غَائِبَةً فَهُوَ أَنَّهَا مَنَافِعُ أَعْيَانٍ حَاضِرَةٍ فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ .


وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْمَنَافِعَ تَخْتَلِفُ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْتُ فَهُوَ أَنَّ الْعَقْدَ إِنْ كَانَ عَلَى مَنَافِعَ مَضْمُونَةٍ فِي الذِّمَّةِ فَهِيَ مَعْلُومَةٌ غَيْرُ مُخْتَلِفَةٍ وَإِنْ كَانَ عَلَى مُدَّةٍ فَإِنَّهُ يُسْتَوْفَى مِنَ الْعَبْدِ عَمَلُ مِثْلِهِ جَبْرًا إِنْ لَمْ يُؤَدِّهِ طَوْعًا حَتَّى تَنْقَضِيَ مُدَّةُ إِجَارَتِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ جَوَازِ الْإِجَارَةِ حكمها فَهِيَ كَالْبَيْعِ يُعْتَبَرُ انْعِقَادُهَا بِأَرْبَعَةٍ ما تنعقد بن الإجارة : بِمُؤَجَّرٍ وَمُسْتَأْجِرٍ وَمُؤَاجِرٍ وَأُجْرَةٍ فَأَمَّا الْمُؤَجِّرُ فَهُوَ بَاذِلُ الْمَنْفَعَةِ كَالْبَائِعِ وَهُوَ مَنْ صَحَّ بَيْعُهُ صَحَّتْ إِجَارَتُهُ وَمَنْ لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ مِنْ مُوَلًّى عَلَيْهِ وَغَاصِبٍ لَمْ تَصِحَّ إِجَارَتُهُ وَأَمَّا الْمُسْتَأْجِرُ فَهُوَ طَالِبُ الْمَنْفَعَةِ كَالْمُشْتَرِي وَهُوَ مَنْ صَحَّ شِرَاؤُهُ صَحَّ اسْتِئْجَارُهُ وَمَنْ لَمْ يَصِحَّ شِرَاؤُهُ مِنْ مُوَلًّى عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ اسْتِئْجَارُهُ وَأَمَّا الْمُؤَاجِرُ فَهُوَ كُلُّ عَيْنٍ صَحَّ الِانْتِفَاعُ بِهَا مَعَ بَقَائِهَا صَحَّتْ إِجَارَتُهَا كَالدُّورِ ، وَالْعَقَارِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ مِنْ مَنَافِعِهَا أَعْيَانًا كَالنَّخْلِ ، وَالشَّجَرِ ، وَمَا لَمْ يَصِحَّ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ لَمْ تَصِحَّ إِجَارَتُهُ كَالدَّرَاهِمِ ، وَالْمَأْكُولِ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الدَّرَاهِمِ بِإِزَالَتِهَا عَنِ الْمِلْكِ وَمَنْفَعَةَ الْمَأْكُولِ بِالِاسْتِهْلَاكِ . فَإِنِ اسْتَأْجَرَهُمَا لِمَنْفَعَةٍ تُسْتَوْفَى مَعَ بَقَاءِ أَعْيَانِهِمَا كَاسْتِئْجَارِ الدَّرَاهِمِ لِلْجَمَالِ وَاسْتِئْجَارِ الطَّعَامِ لِيُعْتَبَرَ مِكْيَالًا فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَصِحُّ لِوُجُودِ الْمَعْنَى مِنْ حُصُولِ الِانْتِفَاعِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ هَذَا نَادِرٌ مِنْ مَنَافِعِ ذَلِكَ ، وَالْأَغْلَبُ سِوَاهُ فَصَارَ حُكْمُ الْأَغْلَبِ هُوَ الْمُغَلَّبَ . وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ الْمَضْمُونَةَ بِالْإِجَارَةِ هِيَ الْمَضْمُونَةُ بِالْغَصْبِ ، وَمَنَافِعُ الدَّرَاهِمِ وَالطَّعَامِ لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ تُضْمَنَ بِالْإِجَارَةِ وَهَكَذَا مَا كَانَتْ مَنَافِعُهُ أَعْيَانًا مِنَ النَّخْلِ ، وَالشَّجَرِ ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُمَا ثِمَارٌ هِيَ أَعْيَانٌ يُمْكِنُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا بَعْدَ حُدُوثِهَا فَلَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ عَلَيْهَا قَبْلَهُ وَهَكَذَا الْغَنَمُ فَإِنِ اسْتَأْجَرَ ذَلِكَ لِمَنْفَعَةٍ تُسْتَوْفَى مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ كَالِاسْتِظْلَالِ بِالشَّجَرِ ، أَوْ رَبْطِ مَوَاشِيَ إِلَيْهَا ، أَوْ سُفُنٍ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ هَذَا غَالِبًا فِيهَا وَمَقْصُودًا مِنْ مَنَافِعِهَا فَتَصِحَّ الْإِجَارَةُ عَلَيْهَا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ نَادِرًا غَيْرَ مَقْصُودٍ فِي الْعُرْفِ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ . ثُمَّ الْعَقْدُ وَإِنْ تَوَجَّهَ إِلَى الْعَيْنِ فَهُوَ إِنَّمَا تَنَاوَلَ الْمَنْفَعَةَ ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ فِي مُقَابَلَتِهَا وَإِنَّمَا تَوَجَّهَ إِلَى الْعَيْنِ لِتَعْيِينِ الْمَنْفَعَةِ بِهَا وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : الْعَقْدُ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْعَيْنَ دُونَ الْمَنْفَعَةِ لِيَسْتَوْفِيَ مِنَ الْعَيْنِ مَقْصُودَهُ مِنَ الْمَنْفَعَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ حِينَ الْعَقْدِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَوَجَّهَ الْعَقْدُ إِلَيْهَا وَهَذَا خَطَأٌ . أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَى مَنْفَعَةٍ مَضْمُونَةٍ فِي الذِّمَّةِ غَيْرِ مُضَافَةٍ إِلَى عَيْنٍ كَرَجُلٍ اسْتَأْجَرَ مِنْ رَجُلٍ عَمَلًا مَضْمُونًا فِي ذِمَّتِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَةً كَمَا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَعْلُومًا فَإِنْ كَانَتْ مَجْهُولَةً لَمْ تَصِحَّ الْإِجَارَةُ كَمَا لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ مَجْهُولًا ، وَالْعِلْمُ بِهَا قَدْ يَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ :


أَحَدُهُمَا : تَقْدِيرُ الْعَمَلِ مَعَ الْجَهْلِ بِالْمُدَّةِ . وَالثَّانِي : تَقْدِيرُ الْمُدَّةِ مَعَ الْجَهْلِ بِقَدْرِ الْعَمَلِ فَأَمَّا مَا يَتَقَدَّرُ فِيهِ بِالْعَمَلِ دُونَ الْمُدَّةِ فَمِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ قَدِ اسْتَأْجَرْتُكَ عَلَى أَنْ تَخِيطَ لِي هَذَا الثَّوْبَ ، أَوْ تَنْسِجَ لِي هَذَا الْغَزْلَ ، أَوْ تَصُوغَ لِي هَذَا الْخَلْخَالَ فَتَصِيرُ الْإِجَارَةُ مُقَدَّرَةً بِالْعَمَلِ فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْمُدَّةِ فِيهَا فَإِنْ شَرَطَ فِيهَا الْمُدَّةَ بَطَلَتْ . لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ قَدِ اسْتَأْجَرَتُكَ لِتَخِيطَ لِي هَذَا الثَّوْبَ فِي يَوْمٍ فَقَدْ يَفْرَغُ مِنْهُ فِي بَعْضِهِ فَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ فِي بَاقِيهِ فَقَدْ أَخَلَّ بِمُقْتَضَى شَرْطِهِ وَإِنْ عَمِلَ فَقَدْ زَادَ عَلَى عَقْدِهِ . وَأَمَّا مَا يُتَقَدَّرُ فِيهِ بِالْمُدَّةِ دُونَ الْعَمَلِ فَمِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ قَدِ اسْتَأْجَرْتُكَ عَلَى أَنْ تَبْنِيَ لِي شَهْرًا فَتَصِيرَ الْإِجَارَةُ مُقَدَّرَةً بِالْمُدَّةِ فَتَصِحَّ ، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ الْعَمَلِ فِيهَا إِذَا كَانَ جِنْسُهُ مَعْلُومًا فَإِنْ شَرَطَ فِيهَا قَدْرَ الْعَمَلِ بَطَلَتْ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَسْتَكْمِلُ ذَلِكَ الْعَمَلَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ فَإِنْ تَرَكَ بَاقِيهِ فَقَدْ أَخَلَّ بِمُقْتَضَى شَرْطِهِ وَإِنْ عَمِلَ فَقَدْ زَادَهُ فِي عَقْدِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْأُجْرَةُ تعريفها وشروطها فَهْوِ الْعِوَضُ الَّذِي فِي مُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ كَالثَّمَنِ فِي مُقَابَلَةِ الْمَبِيعِ وَحُكْمُهُ كَحُكْمِهِ فِي جَوَازِهِ مُعَيَّنًا وَفِي الذِّمَّةِ فَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ ، فَإِنْ جُهِلَتْ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ . وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا فَهَلْ يَصِحُّ الْعَقْدُ مَعَ الْجَهَالَةِ بِقَدْرِهِ إِذَا كَانَ مُشَاهَدًا أَمْ لَا ؟ أي الأجرة اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخَرِّجُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ : كَالسَّلَمِ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ الْمُشَاهَدُ فِيهِ جزَافًا قَدْ جُهِلَ قَدْرُهُ وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ يَصِحُّ قَوْلًا وَاحِدًا كَالْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ فِي حُكْمِ الْأَعْيَانِ الْمَقْبُوضَةِ بِخِلَافِ السَّلَمِ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَكُلُّ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا ، أَوْ مُعَوَّضًا جَازَ أَنْ يَكُونَ أُجْرَةً . فَلَوِ اسْتَأْجَرَ دَارًا بِمَنَافِعِ دَارٍ أُخْرَى ، أَوْ بِرَقَبَةِ دَارٍ أُخْرَى جَازَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ قَدْ أُقِيمَتْ فِي الشَّرْعِ مَقَامَ الْأَعْيَانِ فِي جَوَازِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا وَأَخْذِ الْعِوَضِ مِنْهَا وَوُجُوبِ بَدَلِهَا عَلَى مُتْلِفِهَا فَجَازَ أَنْ تَكُونَ ثَمَنًا وَأُجْرَةً كَمَا جَازَ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْجِرَةً . فَأَمَّا إِذَا اسْتَأْجَرَ عَبْدًا بِنَفَقَتِهِ ، أَوْ بَعِيرًا بِعُلُوفَتِهِ لَمْ يَجُزْ لِجَهَالَتِهِ وَأَجَازَهُ مَالِكٌ تَعَلُّقًا بِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَجَّرَ نَفْسَهُ بِطَعَامِ بَطْنِهِ وَعُقْبَةِ رِجْلِهِ . وَهَذَا مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ أَجْرُهَا بِمَا يَكْفِيهِ لِطَعَامِ بَطْنِهِ وَعُقْبَةِ رِجْلِهِ ، أَوْ يَكُونَ شَرَطَ ذَلِكَ مُقَدَّرًا .

مَسْأَلَةٌ الْإِجَارَاتُ صِنْفٌ مِنَ الْبُيُوعِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَالْإِجَارَاتُ صِنْفٌ مِنَ الْبُيُوعِ ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ " وَهَذَا كَمَا قَالَ . عَقْدُ الْإِجَارَةِ مِنَ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ فهل يجوز فسخه ؟ وبم يفسخ ؟ لَا يَجُوزُ فَسْخُهُ إِلَّا بِعَيْبٍ كَالْمَبِيعِ .


فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ مَوْجُودًا فِي الشَّيْءِ الْمُؤَاجِرِ كَالدَّارِ إِذَا خَرِبَتْ ، وَالدَّابَّةِ إِذَا مَرِضَتْ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَفْسَخَ دُونَ الْمُؤَجِّرِ كَمَا لَوْ وُجِدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبٌ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَفْسَخَ دُونَ الْبَائِعِ . وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ مَوْجُودًا فِي الْأُجْرَةِ فَإِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ أُبْدِلَ الْمَعِيبُ بِغَيْرِهِ ، وَلَا خِيَارَ وَإِنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً فَلِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يَفْسَخَ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ كَمَا يَفْسَخُ الْبَائِعُ بِوُجُودِ الْعَيْبِ فِي الثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ دُونَ الْمُشْتَرِي ، وَلَا يَجُوزُ فَسْخُ الْإِجَارَةِ بِعُذْرٍ يَطْرَأُ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَيْبٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَسْخُ الْإِجَارَةِ بِالْأَعْذَارِ الظَّاهِرَةِ مَعَ السَّلَامَةِ مِنَ الْعُيُوبِ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يَفْسَخَ بِالْأَعْذَارِ مِثْلَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ جَمَلًا لِحَجٍّ ثُمَّ يَبْدُوَ لَهُ الْعُدُولُ مِنَ الْحَجِّ إِمَّا لِعُذْرٍ ، أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ فَيَصِيرَ ذَلِكَ عُذْرًا فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ . أَوْ يَسْتَأْجِرَ دَارًا لِيَسْكُنَهَا ثُمَّ يُرِيدُ النُّقْلَةَ عَنِ الْبَلَدِ ، أَوْ يَسْتَأْجِرَ حِرْزًا لِمَتَاعِهِ ثُمَّ يُرِيدُ بَيْعَهُ ، أَوْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَطْحَنُ لَهُ بُرًّا ثُمَّ يُرِيدَ بَذْرَهُ إِلَى مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْذَارِ فَيُجْعَلَ لَهُ بِهَا فَسْخُ الْإِجَارَةِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ عُقُودَ الْمَنَافِعِ لَا تَلْزَمُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ كَالْوَكَالَةِ وَلِأَنَّ لِلْأَعْذَارِ مَدْخَلًا فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ . أَلَا تَرَى أَنَّ مَنِ اسْتُؤْجِرَ لِقَلْعِ ضِرْسٍ فَبَرِئَ جَازَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَسْخُ الْإِجَارَةِ لِلْعُذْرِ الطَّارِئِ ، وَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَلْعِ ضِرْسِهِ وَكَذَا كُلُّ عُذْرٍ وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [ الْمَائِدَةِ : 1 ] ، فَكَانَ عُمُومُ هَذَا الْأَمْرِ يُوجِبُ الْوَفَاءَ بِكُلِّ عَقْدٍ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ يُخَصِّصُهُ . وَلِأَنَّ كُلَّ عِقْدٍ لَزِمَ الْعَاقِدَيْنِ مَعَ سَلَامَةِ الْأَحْوَالِ لَزِمَهُمَا مَا لَمْ يَحْدُثْ بِالْعِوَضَيْنِ نَقْصٌ كَالْبَيْعِ . وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ لَزِمَ الْعَاقِدَ عِنْدَ ارْتِفَاعِ الْعُذْرِ لَمْ يَحْدُثْ لَهُ خِيَارٌ بِحُدُوثِ عُذْرٍ كَالزَّوْجِ وَلِأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ لَا يَمْلِكُ بِهِ الْمُؤَجِّرُ الْفَسْخَ لَمْ يَمْلِكْ بِهِ الْمُسْتَأْجِرُ الْفَسْخَ كَالْأُجْرَةِ لَا يَكُونُ حُدُوثُ الزِّيَادَةِ فِيهَا مُوجِبًا لِفَسْخِ الْمُؤَجِّرِ كَمَا لَمْ يَكُنْ حُدُوثُ النُّقْصَانِ فِيهَا مُوجِبًا لِفَسْخِ الْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَهَا فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ كَزِيَادَتِهَا فِي حَقِّ الْمُؤَجِّرِ وَلِأَنَّهُ عَقْدُ إِجَارَةٍ فَلَمْ يَجُزْ فَسْخُهُ بِعُذْرٍ كَالْمُؤَجِّرِ . وَلِأَنَّ الْعُقُودَ نَوْعَانِ : لَازِمَةٌ فَلَا يَجُوزُ فَسْخُهَا لِعُذْرٍ كَالْبَيْعِ ، وَغَيْرُ لَازِمَةٍ فَيَجُوزُ فَسْخُهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ كَالْقِرَاضِ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ عَقْدُ الْإِجَارَةِ مُلْحَقًا بِغَيْرِ اللَّازِمِ فِي جَوَازِ فَسْخِهِ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُلْحَقًا بِاللَّازِمِ فِي إِبْطَالِ فَسْخِهِ بِعُذْرٍ .


فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْوَكَالَةِ فَهُوَ أَنَّ الْوِكَالَةَ غَيْرُ لَازِمَةٍ يَجُوزُ فَسْخُهَا بِعُذْرٍ ، وَغَيْرِ عُذْرٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْإِجَارَةُ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ لِلْأَعْذَارِ تَأْثِيرًا فِي عُقُودِ الْإِجَارَاتِ كَالضِّرْسِ الْمُسْتَأْجَرِ عَلَى قَلْعِهِ إِذَا بَرِئَ فَالْجَوَابُ عَنْهُ هُوَ أَنَّ مَنْ مَلَكَ مَنْفَعَةً بِعَقْدِ إِجَارَةٍ فَقَدِ اسْتَحَقَّهَا وَلَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِيفَاؤُهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنِ اسْتَأْجَرَ سُكْنَى دَارٍ فَلَهُ أَنْ يَسْكُنَهَا ، وَلَا يُجْبَرَ عَلَى سُكْنَاهَا فَإِنْ مُكِّنَ مَنْ سُكْنَاهَا فَلَمْ يَسْكُنْ فَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ هَذَا أَصْلٌ مُقَرَّرٌ فِي الْإِجَارَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الضِّرْسُ عَلَى حَالِ مَرَضِهِ ، وَأَلَمِهِ فَقَلْعُهُ مُبَاحٌ وَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَجِيرَ بِقَلْعِهِ إِنْ شَاءَ . فَإِنْ أَبَى الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يَقْلَعَهُ مَعَ أَلَمِهِ لَمْ يُجْبِرْ عَلَيْهِ وَقِيلَ لَهُ قَدْ بَذَلَ لَكَ الْأَجِيرُ الْقَلْعَ وَأَنْتَ مُمْتَنِعٌ فَإِذَا مَضَتْ مُدَّةً يُمْكِنُ فِيهَا قَلْعُهُ فَقَدِ اسْتَحَقَّ أُجْرَتَهُ كَمَا لَوْ مَضَتْ مُدَّةَ السُّكْنَى وَإِنْ بَرِئَ الضِّرْسُ فِي الْحَالِ قَبْلَ إِمْكَانِ الْقَلْعِ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ ؛ لِأَنَّ قَلْعَهُ قَدْ حَرُمَ ، وَعَقْدُ الْإِجَارَةُ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مُبَاحًا لَا مَحْظُورًا فَصَارَ مَحَلَّ الْعَمَلِ مَعْدُومًا فَلِذَلِكَ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَهُ لِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ فَتَلِفَ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالتَّلَفِ وَبَيْنَ تَعَذُّرِهِ بِالْحَظَرِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ هل يجوز الخيار فيه مِنَ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ وَأَنَّ فَسْخَهُ بِالْعُذْرِ غَيْرُ جَائِزٍ فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْمُثُلَاتِ فِيهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ كَمَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُمَا مَعًا مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَا لَزِمَ مِنْ عُقُودِ الْمَنَافِعِ لَمْ يَصِحَّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ كَالنِّكَاحِ وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ الثَّلَاثَةِ يَتَضَمَّنُ إِتْلَافَ بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِيمَا لَيْسَ بِتَابِعٍ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَعَ بَقَاءِ الْعَقْدِ فِي جَمِيعِهِ فَلَمْ يَصِحَّ ، كَمَا لَوْ شَرَطَ فِي ابْتِيَاعِ الْعَبْدَيْنِ أَنَّهُ إِنْ تَلِفَ أَحَدُهُمَا فِي يَدِ الْبَائِعِ لَمْ يَبْطُلِ الْبَيْعُ وَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَبْقَ جَمِيعُهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لَمْ يَصِحَّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ قِيَاسًا عَلَى بَيْعِ الطَّعَامِ الرَّطْبِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ لَا يَدْخُلُهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَدْخُلُهُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ في عقد الإجارة أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَدْخُلُهُ كَالْبَيْعِ لِكَوْنِهِمَا عَقْدَيْ مُعَاوَضَةٍ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَجَّرَهَا الْمُؤَجِّرُ مِنْ غَيْرِ الْمُسْتَأْجِرِ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ صَحَّتِ الْإِجَارَةُ الثَّانِيَةُ وَكَانَ ذَلِكَ فَسْخًا لِلْإِجَارَةِ الْأُولَى . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ الْأُولَى ، وَلَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ الثَّانِيَةُ حَتَّى يَتَقَدَّمَهَا الْفَسْخُ لِئَلَّا يَصِيرَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ فَسْخًا وَعَقْدًا لِتَنَافِيهِمَا . وَلِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهٌ ؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ هُوَ الْأَوَّلُ وَتَوْجِيهُ الْمَذْهَبِ هُوَ أَنَّ اسْتِقْرَارَ الْعَقْدِ الثَّانِي يُوجِبُ فَسْخَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ بِالتَّأَهُّبِ لِلثَّانِي وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَوْ أَجَّرَهُ الْمُسْتَأْجِرُ كَانَتْ إِجَارَتُهُ بَاطِلَةً . سَوَاءٌ قَبَضَهُ ، أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْمُؤَجِّرِ يَمْنَعُ مِنْ إِمْضَاءِ الْمُسْتَأْجِرِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَوْ


افْتَرَقَا عَنْ تَرَاضٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُؤَجِّرَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ كَمَا لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي بَيْعُ مَا لَمْ يَقْبِضْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ لَا يَدْخُلُهُ وَيَصِيرُ الْعَقْدُ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ لَازِمًا ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ يُفَوِّتُ بَعْضَ الْمُدَّةِ فَأَشْبَهَ خِيَارَ الشَّرْطِ عَلَى هَذَا لَوْ أَجَّرَهُ الْمُؤَجِّرُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ ، أَوْ بَعْدَهُ لَمْ يَجُزْ وَلَوْ أَجَّرَهُ الْمُسْتَأْجِرُ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ جَازَ وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لِمُفَارَقَتِهِ الْبَيْعَ فِي الْخِيَارِ فَفَارَقَهُ فِي الْقَبْضِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ لِكَوْنِ الْمَنْفَعَةِ مَضْمُونَةً عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَأَشْبَهَ ضَمَانَ الْمَبِيعِ عَلَى الْبَائِعِ وَإِنْ فَارَقَ الْبَيْعَ فِي حُكْمِ الْخِيَارِ وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ فِي إِجَارَةِ مَا لَمْ يَقْتَصِرْ مِنْهُ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ مِثْلَ تَنَاوُلِ الدَّارِ الْمُؤَجَّرَةِ لِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ مِنْهَا ، أَوْ تَنَاوُلِ الْمَنْفَعَةِ فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : عَقْدُ الْإِجَارَةِ إِنَّمَا تَنَاوَلَ الدَّارَ الْمُؤَجَّرَةَ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ ، فَعَلَى هَذَا يَمْنَعُ مِنْ إِجَارَتِهَا قَبْلَ الْقَبْضِ كَمَا يَمْنَعُ مِنَ الْبَيْعِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْعَقْدَ إِنَّمَا تَنَاوَلَ الْمَنْفَعَةَ دُونَ الرَّقَبَةِ ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ فِي مُقَابَلَتِهَا ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَوَجَّهَ الْعَقْدُ إِلَى مَا لَمْ يُقَابِلْهُ الْعِوَضُ وَتَصِيرَ الْمَنَافِعُ بِتَسْلِيمِ الرَّقَبَةِ مَقْبُوضَةً حُكْمًا وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْقَبْضُ مُسْتَقِرًّا إِلَّا بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ ، فَعَلَى هَذَا تَجُوزُ إِجَارَتُهَا قَبْلَ قَبْضِهَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

مَسْأَلَةٌ : وَلِذَلِكَ يَمْلِكُ الْمُسْتَأْجِرُ الْمَنْفَعَةَ الَّتِي فِي الْعَبْدِ ، وَالدَّارِ ، وَالدَّابَّةِ إِلَى الْمُدَّةِ الَّتِي اشْتَرَطَهَا حَتَى يَكُونَ أَحَقَّ بِهَا مِنْ مَالِكِهَا وَيَمْلِكُ بِهَا صَاحِبُهَا الْعِوَضَ فَهِيَ مَنْفَعَةٌ مَعْقُولَةٌ مِنْ عَيْنٍ مَعْلُومَةٍ فَهِيَ كَالْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ وَلَوْ كَانَ حُكْمُهَا بِخِلَافِ الْعَيْنِ كَانَتْ فِي حُكْمِ الدَّيْنِ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكْتَرِيَ بِدَيْنٍ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ دَيْنًا بِدَيْنٍ ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ ( قَالَ ) وَإِذَا دَفَعَ مَا أَكْرَى وَجَبَ لَهُ جَمِيعُ الْكِرَاءِ كَمَا إِذَا دَفَعَ جَمِيعَ مَا بَاعَ وَجَبَ لَهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ أَجَلًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَيَمْلِكُ بِهَا صَاحِبُهَا الْعِوَضَ فَهِيَ مَنْفَعَةٌ مَعْقُولَةٌ مِنْ عَيْنٍ مَعْرُوفَةٍ فَهِيَ كَالْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ وَلَوْ كَانَ حُكْمُهَا خِلَافَ حُكْمِ الْعَيْنِ لَكَانَتْ فِي حُكْمِ الدَّيْنِ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكْتَرِيَ بِدَيْنٍ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ دَيْنًا بِدَيْنٍ ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ ، فَإِذَا دَفَعَ مَا أَكْرَى وَجَبَ لَهُ جَمِيعُ الْكِرَاءِ كَمَا إِذَا دَفَعَ مَا بَاعَ وَجَبَ لَهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ أَجَلًا وَهَذَا صَحِيحٌ وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَمْلِيكَ مَنَافِعَ فِي مُقَابَلَةِ أُجْرَةٍ ، فَأَمَّا الْمَنَافِعُ فَلَا خِلَافَ أَنَّهَا تُمْلَكُ بِالْعَقْدِ وَيَسْتَقِرُّ الْمِلْكُ بِالْقَبْضِ وَأَمَّا الْأُجْرَةُ فَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ في عقد الإجارة : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْتَرِطَا حُلُولَهَا فَتَكُونُ حَالَّةً اتِّفَاقًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَشْتَرِطَا تَأْجِيلَهَا ، أَوْ تَنْجِيمَهَا فَتَكُونُ مُؤَجَّلَةً ، أَوْ مُنَجِّمَةً إِجْمَاعًا . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُطْلِقَاهَا فَلَا يَشْتَرِطَا فِيهَا حُلُولًا ، وَلَا تَأْجِيلًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءَ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِيهَا أَنَّ الْأُجْرَةَ تَكُونُ حَالَةَ تَمَلُّكٍ بِالْعَقْدِ وَتُسْتَحَقُّ بِالتَّمْكِينِ .


وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تُعَجَّلُ الْأُجْرَةُ بَلْ تَكُونُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ فَكُلَّمَا مَضَى مِنَ الْمَنْفَعَةِ جُزْءٌ مَلَكَ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ الْأُجْرَةِ لَكِنَّ لَمَّا شَقَّ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ذَلِكَ عَلَى يَسِيرِ الْأَجْزَاءِ اسْتَحَقَّ أُجْرَةَ يَوْمٍ بِيَوْمٍ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ إِلَّا بِمُضِيِّ جَمِيعِ الْمُدَّةِ . وَاسْتَدَلَّا عَلَى أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تَتَعَجَّلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [ الطَّلَاقِ : 6 ] ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بِاسْتِكْمَالِ الرِّضَاعِ تَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ . وَبِمَا رِوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ حَثًّا عَلَى تَعْجِيلِهَا فِي أَوَّلِ زَمَانِ اسْتِحْقَاقِهَا وَذَلِكَ بَعْدَ الْعَمَلِ الَّذِي تُعْرَفُ بِهِ . وَلِأَنَّ أُصُولَ الْعُقُودِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى تَسَاوِي الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِيمَا يَمْلِكَانِهِ بِالْعَقْدِ وَيَكُونُ مِلْكُ الْعِوَضِ تَالِيًا لِمِلْكِ الْمُعَوَّضِ كَالْبَيْعِ إِذَا مَلَكَ عَلَى الْبَائِعِ الْمَبِيعَ مَلَكَ بِهِ الثَّمَنَ وَإِذَا سَلِمَ الْمَبِيعُ اسْتَحَقَّ قَبْضَ الثَّمَنِ فَلَمَّا كَانَ قَبْضُ الْمَنَافِعِ مُؤَجَّلًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَبْضُ الْأُجْرَةِ مُؤَجَّلًا وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اسْتِحْقَاقُ الْعِوَضِ بَعْدَ إِقْبَاضِ الْمُعَوَّضِ كَالْبَيْعِ وَلِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّ مِنَ الْأَعْوَاضِ عَلَى الْمَنَافِعِ يَلْزَمُ أَدَاؤُهُ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْمَنَافِعِ كَالْجَعَالَةِ وَالْقِرَاضِ وَلِأَنَّ مِلْكَ الْمُؤَجِّرِ لِلْأُجْرَةِ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِحْقَاقِهَا عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الدَّارَ الْمُؤَاجَرَةَ لَوِ انْهَدَمَتْ قَبِلَ تَقَضِّي الْمُدَّةِ اسْتَرْجَعَ مِنَ الْمُؤَجِّرِ مَا قَبَضَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلْأُجْرَةِ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَا لَزِمَ مِنْ عُقُودِ الْمَنَافِعِ اسْتَحَقَّ الْعِوَضَ فِيهِ حَالًّا كَالنِّكَاحِ وَلِأَنَّ كُلَّ عِوَضٍ تُعَجِّلُ بِالشَّرْطِ فَإِطْلَاقُهُ يُوجِبُ حُلُولَهُ كَالثَّمَنِ وَلِأَنَّ الْأُصُولَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى أَنَّ تَسْلِيمَ الْمُعَوَّضِ يُوجِبُ تَسْلِيمَ الْعِوَضِ لِيَسْتَوِيَ حُكْمُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِيمَا يَمْلِكَانِهِ مِنْ عِوَضٍ وَمُعَوَّضٍ فَلَا يَكُونُ حَظُّ أَحَدِهِمَا فِيهِ أَقْوَى مِنْ حَظِّ الْآخَرِ كَالْبَيْعِ إِذَا سَلِمَ الْمَبِيعُ فِيهِ وَجَبَ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ . وَكَالنِّكَاحِ إِذَا حَصَلَ التَّمْكِينُ وَجَبَ تَسْلِيمُ الصَّدَاقِ كَذَلِكَ الْإِجَارَةُ إِذَا حَصَلَ تَسْلِيمُ الْمَنْفَعَةِ وَجَبَ تَسْلِيمُ الْأُجْرَةِ ، وَالْمَنَافِعُ هَاهُنَا بِالتَّمْكِينِ مَقْبُوضَةٌ حُكْمًا وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْقَبْضُ مُسْتَقِرًّا لِأُمُورٍ أَرْبَعَةٍ : أَحَدُهَا : مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُؤَجَّلَةً وَبِالتَّمْكِينِ غَيْرُ مَقْبُوضَةٍ لَمَا جَازَ تَأْجِيلُ الْأُجْرَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ دَيْنًا بِدَيْنٍ ، وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ تَأْجِيلِهَا دَلِيلٌ عَلَى حُصُولِ قَبْضِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مَقْبُوضَةً لَمَا جَازَ لِمُسْتَأْجِرِ الدَّارِ أَنْ يُؤَجِّرَهَا ؛ لِأَنَّ بَيْعَ مَا لَمْ يُقْبَضْ بَاطِلٌ وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ إِجَارَتِهَا دَلِيلٌ عَلَى حُصُولِ قَبْضِهَا . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الزَّوْجَةَ لَا يَلْزَمُهَا التَّمْكِينُ مِنْ نَفْسِهَا إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ صَدَاقِهَا وَلَوْ كَانَ صَدَاقُهَا سُكْنَى دَارٍ تَسَلَّمَتْهَا لَزِمَهَا تَسْلِيمُ نَفْسِهَا فَلَوْلَا حُصُولُ قَبْضِهَا لِصَدَاقِهَا مَا أُلْزِمَتْ تَسْلِيمَ نَفْسِهَا . وَالرَّابِعُ : أَنَّ الْأُجْرَةَ لَوْ لَمْ تُمَلَّكْ بِتَسْلِيمِ الدَّارِ ، وَالتَّمْكِينِ مِنَ السُّكْنَى لَمَا جَازَتِ الْمُضَارَبَةُ عَلَيْهَا وَأَنْ يَأْخُذَ عَنِ الذَّهَبِ وَرِقًا وَعَنِ الْوَرِقِ ذَهَبًا كَمَا لَا يَجُوزُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الدُّيُونِ


الْمُؤَجَّلَةِ وَفِي جَوَازِ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهَا وَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الشَّوَاهِدِ أَنَّ الْمَنَافِعَ فِي حُكْمِ الْمَقْبُوضَةِ بِالتَّمْكِينِ لَزِمَ تَسْلِيمُ مَا فِي مُقَابَلَتِهَا مِنَ الْأُجْرَةِ فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ جَعَلْتُمُ الْمَنَافِعَ مَقْبُوضَةً حُكْمًا وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُقْبَضُ مُسْتَقِرًّا وَجَعَلْتُمُ الْأُجْرَةَ مَقْبُوضَةً قَبْضًا مُسْتَقِرًّا قِيلَ : لِأَنَّهُ لَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ مَقْبُوضَةً حُكْمًا فَجَعَلْنَا الْقَبْضَ فِيهَا مُسْتَقِرًّا ، وَلَا يُمْكِنُ فِي الْمَنَافِعِ أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ فِيهَا مُسْتَقِرًّا فَجَعَلْنَاهُ حُكْمًا عَلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا إِنَّ الْمَنَافِعَ مَقْبُوضَةٌ حُكْمًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَصَرَّفُ فِي الدَّارِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَزُولَ مِلْكُهُ عَنْ مَنَافِعِهَا بِالْهَدْمِ كَذَلِكَ الْأُجْرَةُ قَدْ يَتَصَرَّفُ فِيهَا الْمُؤَجِّرُ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَزُولَ مِلْكُهُ عَنْهَا بِالْهَدْمِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [ الطَّلَاقِ : 6 ] ، فَهُوَ أَنْ مَنَعْنَاهُ فَإِنْ بَذَلْنَ الرِّضَاعَ لَا أَنَّهُ أَرَادَ اسْتِكْمَالَ الرِّضَاعِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ : حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ [ التَّوْبَةِ : 29 ] ، أَيْ يَبْذُلُوا . أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى [ الطَّلَاقِ : 16 ] وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ إِتْمَامِ الرِّضَاعِ مَا احْتَاجَ إِلَى إِرْضَاعِ أُخْرَى فَصَارَتِ الْآيَةُ دَلِيلًا لَنَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطُوا الْأَجِيرَ أُجْرَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ فَهُوَ أَنَّ اسْتِدْلَالَنَا مِنْهُ كَاسْتِدْلَالِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْرَقُ حِينَ يَعْمَلُ فَيَقْتَضِي أَنْ يَسْتَحِقَّ أَخْذُهَا قَبْلَ إِتْمَامِ الْعَمَلِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَارِدًا فِيمَنْ شَرَطَ تَأْخِيرَ أُجْرَتِهِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْأُصُولِ وَاسْتِشْهَادُهُمْ بِالشَّرْعِ فَقَدْ بَيَّنَا وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ فَكَانَ دَلِيلًا وَانْفِصَالًا وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجَعَالَةِ ، وَالْقِرَاضِ فَالْمَعْنَى فِيهِمَا إِنْ سَلِمَ الْقِيَاسُ مِنَ النَّقْضِ بِالنِّكَاحِ أَنَّ الْعَقْدَ فِيهِمَا غَيْرُ لَازِمٍ فَلَمْ يَقَعْ فِيهِمَا إِجْبَارٌ ، وَالْإِجَارَةَ لَازِمَةٌ فَوَقَعَ فِيهَا إِجْبَارٌ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَهَا مَا اسْتُرْجِعَتْ بِالِانْهِدَامِ فَهُوَ بَاطِلٌ بِاشْتِرَاطِ التَّعْجِيلِ وَبِالنِّكَاحِ وَبِالْبَيْعِ فِي اسْتِرْجَاعِ بَعْضِ الثَّمَنِ فِي أَرْشِ الْعَيْبِ فَبَطَلَ الِاسْتِدْلَالُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْأُجْرَةَ يَسْتَحِقُّهَا الْمُؤَجِّرُ حَالَّةً بِالْعَقْدِ فَمَا لَمْ يَقْبِضْهَا فَهِيَ لَهُ دَيْنٌ كَالْأَثْمَانِ فَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ مَا أَجَّرَهُ فَلَا مُطَالَبَةَ لَهُ بِالْأُجْرَةِ كَمَا لَا يُطَالَبُ بِثَمَنِ مَا لَمْ يَقْبِضْهُ فَإِذَا سَلَّمَ مَا أَجَّرَهُ اسْتَحَقَّ الْمُطَالَبَةَ بِأُجْرَتِهِ كَمَا يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِثَمَنِ مَا أَقْبِضُهُ فَإِذَا قَبَضَ الْأُجْرَةَ فَقَدْ مَلَكَهَا . وَهَلْ يَكُونُ مِلْكُهُ مُسْتَقِرًّا عَلَيْهَا ، أَوْ مُرَاعًى فِيهِ قَوْلَانِ مَضَيَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ : أَحَدُهُمَا : مُرَاعًى لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ سَلَامَةِ الدَّارِ الْمُؤَجَّرَةِ فَتَسْتَقِرُّ وَبَيْنَ انْهِدَامِهَا فَيَرْتَجِعُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مُسْتَقِرٌّ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَرْتَجِعَ بِالِانْهِدَامِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ سَلَامَةُ الْحَالِ كَمَا أَنَّ بَائِعَ السَّلَمِ مُسْتَقِرُّ الْمِلْكِ عَلَى ثَمَنِهِ . وَإِنْ جَازَ أَنْ يَرْتَجِعَ مِنْهُ لِعَدَمِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ وَكَمَا أَنَّ الزَّوْجَةَ مُسْتَقِرَّةُ الْمِلْكِ عَلَى صَدَاقِهَا وَإِنْ جَازَ أَنْ يَرْتَجِعَ جَمِيعَهُ بِالرِّدَّةِ وَنِصْفَهُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَإِذَا قَبَضَ الْعَبْدَ فَاسْتَخْدَمَهُ ، أَوِ الْمَسْكَنَ فَسَكَنَهُ ثُمَّ هَلَكَ الْعَبْدُ ، أَوِ انْهَدَمَ الْمَسْكَنُ حُسِبَ قَدْرُ مَا اسْتُخْدِمَ وَسُكِنَ فَكَانَ لَهُ وَرَدَّ بِقَدْرِ مَا


بَقِيَ عَلَى الْمُكْتَرِي كَمَا لَوِ اشْتَرَى سَفِينَةَ طَعَامٍ ، كُلَّ قَفِيزٍ بِكَذَا فَاسْتَوْفَى بَعْضًا فَاسْتَهْلَكَهُ ثُمَّ هَلَكَ الْبَاقِي كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الثَّمَنِ بِقَدْرِ مَا قَبَضَ وَرَدَّ قَدْرَ مَا بَقِيَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا اسْتَأْجَرَ عَبْدًا سَنَةً لِيَخْدِمَهُ ، أَوْ دَارًا سَنَةً لِيَسْكُنَهَا فَانْهَدَمَتِ الدَّارُ وَمَاتَ الْعَبْدُ فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْعَبْدِ وَإِقْبَاضِ الدَّارِ فَلَا خِلَافَ أَنَّ الْإِجَارَةَ قَدْ بَطَلَتْ ، وَالْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ فِيهَا قَدْ سَقَطَتْ فَإِنْ كَانَ الْمُؤَجِّرُ قَدْ قَبَضَهَا فَعَلَيْهِ رَدُّهَا ؛ لِأَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ مَضْمُونٌ عَلَى عَاقِدِهِ مَا لَمْ يُسَلِّمْهُ كَالْمَبِيعِ مَضْمُونٌ عَلَى بَائِعِهِ مَا لَمْ يُسَلِّمْهُ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ مَوْتُ الْعَبْدِ وَانْهِدَامُ الدَّارِ بَعْدَ تَقَضِّي الْمُدَّةَ وَاسْتِيفَاءِ السُّكْنَى ، وَالْخِدْمَةِ فَالْإِجَارَةُ قَدْ مَضَتْ سَلِيمَةً ، وَالْأُجْرَةُ فِيهَا مُسْتَقِرَّةٌ ، وَلَا تَرَاجُعَ بَيْنِهِمَا . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْعَبْدِ وَالدَّارِ ، وَقَبْلَ اسْتِيفَاءِ السُّكْنَى وَالْخِدْمَةِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْإِجَارَةَ تَبْطُلُ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ بِمَوْتِ الْعَبْدِ وَانْهِدَامِ الدَّارِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَالْفُقَهَاءُ . وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : الْإِجَارَةُ صَحِيحَةٌ ، وَالْأُجْرَةُ لِلْمُسْتَأْجِرِ لَازِمَةٌ ، وَالْمَنَافِعُ عَلَيْهِ مَضْمُونَةٌ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ تَسْلِيمَ الدَّارِ الْمُؤَاجَرَةِ كَتَسْلِيمِهَا لَوْ كَانَتْ مَبِيعَةً فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِوَضِ وَتَسْلِيمِ الْمُعَوَّضِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ قَبَضَهَا عَنْ بَيْعٍ فَاسِدٍ فَانْهَدَمَتْ كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَنْفَسِخِ الْبَيْعُ كَذَلِكَ إِذَا قَبَضَهَا بِإِجَارَةٍ وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مَقْبُوضَةٌ حُكْمًا فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ لِجَوَازِ تَصَرُّفِهِ فِيهَا ، وَغَيْرُ مَقْبُوضَةٍ إِلَّا بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ فِي حَقِّ الْمُؤَجِّرِ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ ضَمَانِهَا وَتَسْلِيمِهَا . وَلَيْسَ تَسْلِيمُ الدَّارِ تَسْلِيمًا لَهَا مُسْتَقِرًّا وَإِنَّمَا يَسْتَقِرُّ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْمُدَّةِ الْبَاقِيَةِ لَمْ تُخْلَقْ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ تُقْبَضَ قَبْضَ انْبِرَامٍ ، وَلَا أَنْ يُمْلَكَ بِالْغَائِبِ مِنْهَا عِوَضٌ وَلِأَنَّهُ لَوِ اسْتَقَرَّ قَبْضُ الْمَنَافِعِ فِي حَالِ التَّسْلِيمِ لَوَجَبَ اسْتِرْجَاعُ الدَّارِ فِي الْحَالِ وَلَمَا انْتُظِرَ بِهَا تَقَضِّي الْمُدَّةِ لِأَجْلِ مَا اسْتَقَرَّ بِهَا مِنْ قَبْضِ الْمَنْفَعَةِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ اسْتِرْجَاعُهَا قَبِلَ تَقَضِّي الْمُدَّةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّرْكُ لِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ ، وَمَا بَطَلَ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ بَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِ وَلِأَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ ، أَوْ فِي مُقَابَلَةِ تَسْلِيمِ الدَّارِ أَوْ فِي مُقَابَلَةِ التَّمْكِينِ مِنْهَا إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَبَضَ ، وَلَمْ يَسْكُنْ لَلَزَمَتْهُ الْأُجْرَةُ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ تَسْلِيمِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا اسْتُرْجِعَتْ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ . فَثَبَتَ أَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ التَّمْكِينِ مِنْهَا إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلِ التَّمْكِينُ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ لَمْ يَسْتَحِقَّ جَمِيعَ الْأُجْرَةِ وَخَالَفَ الْبَيْعَ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ فِي مُقَابَلَةِ تَسْلِيمِ الرَّقَبَةِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَرْتَجِعْ .



فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْإِجَارَةُ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْعَبْدِ وَانْهِدَامِ الدَّارِ ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْعَبْدِ لِفَوَاتِ مَنَافِعِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَلَا تَنْفَسِخُ بِانْهِدَامِ الدَّارِ لِإِمْكَانِ الْمَنْفَعَةِ بِالْعَرْصَةِ وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْعَرْصَةَ لَيْسَتْ دَارًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَلَا مَنْفَعَتَهَا مَنْفَعَةُ دَارٍ وَإِنَّمَا هِيَ أَرْضٌ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ مَوْتِ الْعَبْدِ وَانْهِدَامِ الدَّارِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي أَوَّلِ الْمُدَّةِ ، أَوْ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِهَا فَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْمُدَّةِ قَبْلَ مُضِيِّ شَيْءٍ مِنْهَا فَالْإِجَارَةُ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ بَاطِلَةٌ وَيَسْتَرْجِعُ الْمُسْتَأْجِرُ أُجْرَتَهُ إِنْ كَانَ قَدْ أَقْبَضَهَا وَإِنْ كَانَ مَوْتُ الْعَبْدِ وَانْهِدَامُ الدَّارِ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ الْمُدَّةِ كَأَنْ مَضَى مِنْ سَنَةِ الْإِجَارَةِ نَصِفُهَا وَبَقِيَ نِصْفُهَا فَالْإِجَارَةُ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي مِنَ السَّنَةِ بَاطِلَةٌ . فَأَمَّا النِّصْفُ الْمَاضِي مِنْهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْفَسَادِ الطَّارِئِ عَلَى بَعْضِ الصَّفْقَةِ هَلْ يَكُونُ كَالْفَسَادِ الْمُقَارِنِ لِلْعَقْدِ فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا هُمَا سَوَاءٌ فَيَكُونُ بُطْلَانُ الْإِجَارَةِ فِيمَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ . وَقَالَ آخَرُونَ وَإِنَّ الْفَسَادَ الطَّارِئَ عَلَى الْعَقْدِ مُخَالِفٌ لِلْفَسَادِ الْمُقَارَنِ لِلْعَقْدِ فَتَكُونُ الْإِجَارَةُ فِيمَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ غَيْرَ فَاسِدَةٍ قَوْلًا وَاحِدًا فَإِنْ قِيلَ بِبُطْلَانِ الْإِجَارَةِ فِيمَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ لَزِمَ الْمُسْتَأْجِرَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فِي الْمَاضِي دُونَ الْمُسَمَّى وَإِنْ قِيلَ بِصِحَّةِ الْإِجَارَةِ فِيمَا مَضَى فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا خِيَارَ لَهُ لِفَوَاتِهِ عَلَى يَدِهِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتْ أُجْرَةُ السَّنَةِ كُلِّهَا مُتَسَاوِيَةً لِتُسَاوِي الْعَمَلِ فِيهَا فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ لِاسْتِيفَاءِ نِصْفِ الْعَمَلِ الْمُسْتَحِقِّ بِنِصْفِ السَّنَةِ الْمُسَمَّاةِ وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ فِيهَا مُخْتَلِفًا ، وَالْأُجْرَةُ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ مِثْلَ أَنْ تَكُونَ أُجْرَةُ النِّصْفِ الْمَاضِي مِنَ السَّنَةِ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَأُجْرَةُ النِّصْفِ الْبَاقِي خَمْسِينَ دِرْهَمًا تَقَسَّطَتِ الْأُجْرَةُ عَلَى الْعَمَلِ الْمُخْتَلِفِ دُونَ الْمُدَّةِ وَكَانَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ثُلُثَا الْأُجْرَةِ بِمُضِيِّ نِصْفِ الْمُدَّةِ ؛ لِأَنَّهَا تُقَابِلُ ثُلُثَيِ الْعَمَلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُقَامِ عَلَى الْإِجَارَةِ فِيمَا مَضَى وَبَيْنَ فَسْخِهَا فِيهِ . فَإِنْ أَقَامَ عَلَى الْمَاضِي لَزِمَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْحِسَابِ ، وَالْقِسْطِ وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخَرِّجُ قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ يُقِيمُ بِجَمِيعِ الْأُجْرَةِ ، وَإِلَّا فَسَخَ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَجْعَلُ الْفَسَادَ الطَّارِئَ كَالْفَسَادِ الْمُقَارِنِ لِلْعَقْدِ . وَإِنْ فَسَخَ الْإِجَارَةَ فِي الْمَاضِي لَزِمَهُ فِيهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ قَدْ رَفَعَ الْعِقْدَ فَسَقَطَ حُكْمُ الْمُسَمَّى فِيهِ .

فَصْلٌ : فَإِنْ مَرِضَ الْعَبْدُ وَاسْتَدَامَتِ الدَّارُ فَالْإِجَارَةُ لَا تَنْفَسِخُ لِبَقَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لِأَجْلِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ الْمُؤَثِّرِ فِي مَنْفَعَتِهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُقَامِ وَالْفَسْخِ . وَالْخِيَارُ فِيهِ عَلَى التَّرَاخِي لَا عَلَى الْفَوْرِ بِخِلَافِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَجَدَّدُ بِمُرُورِ الْأَوْقَاتِ لِحُدُوثِ


النَّقْصِ فِيهَا فَإِنْ كَانَ مَرَضُ الْعَبْدِ مَرَضًا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَمَلِ نُظِرَ فِيمَا اسْتُؤْجِرَ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا تَعَافُ النَّفْسُ مَرَضَهُ فِيهِ كَالْبِنَاءِ وَرَعْيِ الْمَوَاشِي وَحَرْثِ الْأَرْضِ فَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا تَعَافُ النَّفْسُ مَرَضَهُ كَخِدْمَتِهِ فِي مَأْكَلِهِ وَمَشْرَبِهِ وَمَلْبَسِهِ فَلَهُ الْخِيَارُ فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ فِي دَارٍ خَرِبَ جِوَارُهَا ، أَوْ دُكَّانٍ بَطَلَتْ سُوقُهُ فَلَا خِيَارَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ عَيْبٌ حَدَثَ فِي غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا فَانْهَدَمَ فِيهَا حَائِطٌ ، أَوْ سَقَطَ فِيهَا سَقْفٌ نُظِرَ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ سُكْنَى الدَّارِ بِانْهِدَامِ حَائِطِهَا وَسُقُوطِ سَقْفِهَا كَانَ كَمَا لَوِ انْهَدَمَ جَمِيعُهَا فِي بُطْلَانِ الْإِجَارَةِ فِيهَا وَإِنْ أَمْكَنَ سُكْنَاهَا لَمْ تَبْطُلِ الْإِجَارَةُ وَكَانَ مُخَيَّرًا فِي الْفَسْخِ لِلْعَيْبِ الْحَادِثِ . وَأَمَّا إِنِ انْهَدَمَ نِصْفُهَا وَبَقِيَ نِصْفُهَا الْبَاقِي مِنْهَا يُمْكِنُ سُكْنَاهُ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ فِي النِّصْفِ الْمُنْهَدِمِ وَهِيَ صَحِيحَةٌ فِي النِّصْفِ السَّلِيمِ وَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ وَمَنْ جَعَلَ مِنْ أَصْحَابِنَا الْفَسَادَ الطَّارِئَ عَلَى بَعْضِ الصَّفْقَةِ كَالْفَسَادِ الْمُقَارِنِ لِلصَّفْقَةِ خَرَّجَ الْإِجَارَةَ فِيمَا سَلِمَ مِنَ الدَّارِ عَلَى قَوْلَيْنِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا انْهَدَمَتِ الدَّارُ فَبَنَاهَا الْمُؤَجِّرُ لَمْ تَعُدِ الْإِجَارَةُ فِيهَا بَعْدَ فَسَادِهَا إِلَّا بِعَقْدٍ مُسْتَحْدَثٍ ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْعَقْدِ يَمْنَعُ مِنْ عَوْدِهِ إِلَّا بِاسْتِحْدَاثٍ عَقْدٍ وَلَكِنْ لَوِ اسْتَرَمَّتْ وَتَشَعَّثَتْ ، وَلَمْ يَخْتَرِ الْمُسْتَأْجِرُ الْفَسْخَ حَتَّى عَمَرَهَا الْمُؤَجِّرُ فَفِي خِيَارِ الْمُسْتَأْجِرِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ سَقَطَ لِارْتِفَاعِ مُوجِبِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ بَاقٍ بِحَالِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ اسْتِحْقَاقِهِ وَلَكِنْ لَوْ رَامَ الْمُؤَجِّرُ أَنْ يَمْنَعَ الْمُسْتَأْجِرَ مِنَ الْفَسْخِ حَتَّى يَعْمُرَهَا لَهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِلْمُؤَجَّرِ وَكَانَ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى خِيَارِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا فَانْطَمَّتْ آبَارُهَا وَامْتَلَأَتْ حُشُوشُهَا فَالَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا أَنَّ تَنْقِيَةَ ذَلِكَ وَتَنْظِيفَهُ عَلَى الْمُؤَجِّرِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ التَّمْكِينِ ، وَالَّذِي عِنْدِي وَأَرَاهُ مَذْهَبًا أَنَّ تَنْقِيَةَ مَا انْطَمَّ مِنْ آبَارِهَا عَلَى الْمُؤَجِّرِ وَتَنْقِيَةَ مَا امْتَلَأَ مِنْ حُشُوشِهَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّ امْتِلَاءَ الْحُشُوشِ مِنْ فِعْلِهِ فَصَارَ كَتَحْوِيلِ الْقُمَاشِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ انْطِمَامُ الْآبَارِ فَلَوِ امْتَنَعَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ تَنْقِيَةِ مَا يَلْزَمُ مِنَ الْحُشُوشِ أُجْبِرَ عَلَيْهِ وَلَوِ امْتَنَعَ الْمُؤَجِّرُ مِنْ تَنْقِيَةِ مَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْآبَارِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ وَكَانَ الْمُسْتَأْجِرُ بِالْخِيَارِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا مَا كَانَتِ الدَّارُ قَائِمَةً وَلَيْسَ الْوَارِثُ بِأَكْثَرَ مِنَ الْمَوْرُوثِ الَّذِي عَنْهُ وَرِثُوا فَإِنْ قِيلَ فَقَدِ انْتَفَعَ الْمُكْرِي بِالثَّمَنِ قِيلَ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي رُطَبٍ لِوَقْتٍ فَانْقَطَعَ رَجَعَ بِالثَّمَنِ ، وَقَدِ انْتَفَعَ بِهِ الْبَائِعُ وَلَوْ بَاعَ مَتَاعًا غَائِبًا بِبَلَدٍ وَدَفَعَ الثَّمَنَ فَهَلَكَ الْمُبْتَاعُ رَجَعَ بِالثَّمَنِ ، وَقَدِ انْتَفَعَ بِهِ الْبَائِعُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَذَا تَجْوِيزُ بَيْعِ الْغَائِبِ وَنَفَاهُ فِي مَكَانٍ آخَرَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . عَقْدُ الْإِجَارَةِ لَازِمٌ لَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُؤَجِّرِ ، وَلَا الْمُسْتَأْجِرِ . وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ .


وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ : الْإِجَارَةُ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُؤَجِّرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ عُقُودَ الْمَنَافِعِ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْعَاقِدِ كَالنِّكَاحِ ، وَالْمُضَارَبَةِ ، وَالْوَكَالَةِ وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَفْتَقِرُ إِلَى مُؤَجِّرٍ وَمُؤَاجِرٍ فَلَمَّا بَطَلَتْ بِتَلَفِ الْمُؤَاجِرِ بَطَلَتْ بِتَلَفِ الْمُؤَجِّرِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ عَقْدُ إِجَارَةٍ يَبْطُلُ بِتَلَفِ الْمُؤَاجِرِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ بِتَلَفِ الْمُؤَجِّرِ قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا أَجَّرَ نَفْسَهُ ؛ وَلِأَنَّ زَوَالَ مِلْكِ الْمُؤَجِّرِ عَنْ رَقَبَةِ الْمُؤَاجَرَةِ يُوجِبُ فَسْخَ الْإِجَارَةِ قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا بَاعَ مَا أَجَّرَهُ بِرِضَى الْمُسْتَأْجِرِ ؛ وَلِأَنَّ مَنَافِعَ الْإِجَارَةِ إِمَّا تُسْتَوْفَى بِالْعَقْدِ وَالْمِلْكِ ، وَقَدْ زَالَ مِلْكُ الْمُؤَجِّرِ بِالْمَوْتِ وَإِنْ كَانَ عَاقِدًا ، وَالْوَارِثُ لَا عَقْدَ عَلَيْهِ وَإِنْ صَارَ مَالِكًا فَصَارَتْ مُنْتَقِلَةً عَنِ الْعَاقِدِ إِلَى مَنْ لَيْسَ بِعَاقِدٍ فَوَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ لِتَنَافِي اجْتِمَاعِ الْعَقْدِ وَالْمِلْكِ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَا لَزِمَ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ لَمْ يَنْفَسِخْ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ كَالْبَيْعِ ، فَإِنْ قِيلَ : يَنْتَقِضُ بِمَوْتِ مَنْ أَجَّرَ نَفْسَهُ لَمْ يَصِحَّ : لِأَنَّ الْعَقْدَ إِنَّمَا يَبْطُلُ بِتَلَفِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا بِمَوْتِ الْعَاقِدِ ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ كَانَ حَيًّا فَمَرِضَ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ وَإِنْ كَانَ الْعَاقِدُ حَيًّا : لِأَنَّ السَّيِّدَ قَدْ يُعَاوِضُ عَلَى بِضْعِ أَمَتِهِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ كَمَا يُعَاوِضُ عَلَى خِدْمَتِهَا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَوْتُهُ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ عَلَى بِضْعِهَا لَمْ يَبْطُلْ بِالْعَقْدِ عَلَى اسْتِخْدَامِهَا . وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاعْتِلَالِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ عَلَى مَنَافِعِ مِلْكِهِ ، فَلَمْ يَبْطُلْ بِمَوْتِهِ كَالنِّكَاحِ عَلَى أَمَتِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَحَدُ مَنْفَعَتَيِ الْأَمَةِ ، فَلَمْ يَبْطُلْ بِمَوْتِ السَّيِّدِ كَالْمَنْفَعَةِ الْأُخْرَى ؛ وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ قَدْ تَنْتَقِلُ بِالْمُعَاوَضَةِ كَالْأَعْيَانِ ، فَجَازَ أَنْ تَنْتَقِلَ بِالْإِرْثِ كَالْأَعْيَانِ وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاعْتِلَالِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا صَحَّ أَنْ يَنْتَقِلَ بَعِوَضٍ صَحَّ أَنْ يَنْتَقِلَ إِرْثًا كَالْأَعْيَانِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا صَحَّ أَنْ يَنْتَقِلَ بِهِ الْأَعْيَانُ فِي الْبِيَاعَاتِ صَحَّ أَنْ يَنْتَقِلَ بِهِ الْمَنَافِعُ فِي الْإِجَارَاتِ أَصْلُهُ عَقْدُ الْحَيِّ الْمُخْتَارِ . وَلِأَنَّ بِالْمَوْتِ يَعْجَزُ عَنْ إِقْبَاضِ مَا اسْتُحِقَّ تَسْلِيمُهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ ، فَلَمْ يَبْطُلْ بِهِ الْعَقْدُ كَالْجُنُونِ وَالزَّمَانَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَبْطُلُ بِالْجُنُونِ فَلَمْ يَبْطُلْ بِالْمَوْتِ كَالْبَيْعِ ، وَلِأَنَّ مَنَافِعَ الْأَعْيَانِ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِهَا قَدْ تُسْتَحَقُّ بِالرَّهْنِ تَارَةً وَبِالْإِجَارَةِ أُخْرَى ، فَلَمَّا كَانَ مَا تُسْتَحَقُّ مَنْفَعَةُ ارْتِهَانِهِ إِذَا انْتَقَلَ مِلْكُهُ بِالْمَوْتِ لَمْ يُوجِبْ بُطْلَانَ رَهْنِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا اسْتُحِقَّتْ مَنْفَعَتُهُ بِالْإِجَارَةِ إِذَا انْتَقَلَ مِلْكُهُ بِالْمَوْتِ لَمْ يُوجِبْ بُطْلَانَ إِجَارَتِهِ ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا فِي الْأُمِّ ؛ وَلِأَنَّ الْوَارِثَ إِنَّمَا يَمْلِكُ بِالْإِرْثِ مَا كَانَ يَمْلِكُهُ الْمَوْرُوثُ ، وَالْمَوْرُوثُ إِنَّمَا كَانَ يَمْلِكُ الرَّقَبَةَ دُونَ الْمَنْفَعَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ الْوَارِثُ مَالِكًا لِلرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ ؛ وَلِأَنَّ إِجَارَةَ الْوَقْفِ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ مُؤَجِّرِهِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ عَقْدُ إِجَارَةٍ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَبْطُلَ بِمَوْتِ مُؤَجِّرِهِ كَالْوَقْفِ . وَأُمًّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى النِّكَاحِ وَالْمُضَارَبَةِ مَعَ انْتِقَاضِهِ بِالْوَقْفِ ، فَهُوَ أَنَّهُ إِنْ رَدَّهُ إِلَى


النِّكَاحِ فَالنِّكَاحُ لَمْ يَبْطُلْ بِالْمَوْتِ وَإِنَّمَا انْقَضَتْ مُدَّتُهُ بِالْمَوْتِ فَصَارَ كَانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ وَإِنْ رَدَّهُ إِلَى الْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِمَا عَدَمُ لُزُومِهِمَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَجَوَازُ فَسْخِهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ ، وَلَيْسَتِ الْإِجَارَةُ كَذَلِكَ لِلُزُومِهَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى انْهِدَامِ الدَّارِ فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ فَوَاتُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى مَا إِذَا بَاعَ مَا أَجَّرَ بِرِضَا الْمُسْتَأْجِرِ فَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمِ الْأَصْلِ : لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَبْطُلُ بِالْبَيْعِ عَنْ رِضَاهُ كَمَا لَا تَبْطُلُ بِالْبَيْعِ عَنْ سُخْطِهِ ، وَإِنَّمَا الْبَيْعُ مُخْتَلَفٌ فِي إِبْطَالِهِ ثُمَّ يَنْتَقِضُ عَلَى أَصْلِهِ بِعِتْقِ الْعَبْدِ الْمُؤَاجَرِ قَدْ زَالَ مِلْكُ سَيِّدِهِ عَنْ رَقَبَتِهِ مَعَ بَقَاءِ الْإِجَارَةِ عَلَيْهَا ، فَكَذَلِكَ إِذَا زَالَ مِلْكُهُ بِالْبَيْعِ وَالْمَوْتِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ الْمَنَافِعَ تُسْتَوْفَى بِعَقْدٍ وَمِلْكٍ وَهَذَا مُفْتَرَقٌ بِالْمَوْتِ ، فَهُوَ أَنَّ اجْتِمَاعَهَا يُعْتَبَرُ عِنْدَ الْعَقْدِ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيمَا بَعْدُ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ أَوْ بَاعَ ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُسْتَوْفَى مِنْ يَدِ الْوَارِثِ مَا لَمْ يُعَاقِدْ عَلَيْهِ كَمَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ ثَمَنُ مَا اشْتَرَاهُ الْمَوْرُوثُ وَيَقْبِضُ مِنْهُ أَعْيَانَ مَا بَاعَهُ الْمَوْرُوثُ : لِأَنَّ الْمَوْرُوثَ قَدْ مَلَّكَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِعَقْدِهِ ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ الْوَارِثُ بِمَوْتِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَإِنْ قِيلَ فَقَدِ انْتَفَعَ الْمُكْرِي بِالثَّمَنِ ، قِيلَ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي مَتَاعٍ لِوَقْتٍ فَانْقَطَعَ ذَلِكَ ، أَوِ ابْتَاعَ مَتَاعًا غَائِبًا بِبَلَدٍ فَدَفَعَ الثَّمَنَ فَهَلَكَ الْمَتَاعُ رَجَعَ بِالثَّمَنِ وَقَدِ انْتَفَعَ بِهِ الْبَائِعُ فَهَذَا سُؤَالٌ أَوْرَدَهُ الشَّافِعِيُّ وَانْفَصَلَ عَنْهُ . اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِهِ بِهِ فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : أَرَادَ بِهِ الرَّدَّ عَلَى مَنْ أَجَّلَ الْأُجْرَةَ وَمَنَعَ مِنْ حُلُولِهَا لِئَلَّا يَنْتَفِعَ الْمُكْرِي بِالْأُجْرَةِ قَبْلَ انْتِفَاعِ الْمُكْتَرِي بِالْمَنْفَعَةِ ، وَقَدْ تَنْهَدِمُ الدَّارُ فَتَفُوتُ الْمَنْفَعَةُ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : مِثْلُ هَذَا لَيْسَ يَمْتَنِعُ كَمَا أَنَّ بَائِعَ السَّلَمِ قَدْ يَتَعَجَّلُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ ، وَقَدْ يَهْلَكُ الْمُسْلِمُ فِيهِ عِنْدَ مَحَلِّهِ فَيَسْتَرْجِعُ ثَمَنَ مَا انْتَفَعَ بِهِ الْبَائِعُ دُونَ الْمُشْتَرِي . وَكَمَا يَقْبِضُ ثَمَنَ غَائِبٍ عَنْهُ فَتَلِفَ قَبْلَ قَبْضِهِ فَيَرُدُّ ثَمَنَهُ بَعْدَ الِانْتِفَاعِ بِهِ . وَقَالَ أَبُو الْفَيَّاضِ : يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الرَّدَّ عَلَى مَنْ أَبْطَلَ الْإِجَارَةَ بِمَوْتِ الْمُؤَجِّرِ لِئَلَّا يَنْتَفِعَ الْمُؤَجِّرُ بِالْأُجْرَةِ وَيُلْزِمَ وَارِثَهُ تَسْلِيمَ الْمَنْفَعَةِ فَأَجَابَ عَنْهُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْجَوَابَيْنِ : وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ : إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّ انْهِدَامَ الدَّارِ وَمَوْتَ الْعَبْدِ فِي تَضَاعِيفِ الْمُدَّةِ يُبْطِلُ الْإِجَارَةَ فِيمَا بَقِيَ وَيُوجِبُ أَنْ يَرُدَّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِهَا وَإِنِ انْتَفَعَ الْمُكْرِي بِهَا ، وَلَمْ يَنْتَفِعِ الْمُكْتَرِي مِنَ الْمَنْفَعَةِ بِمَا قَابَلَهَا فَأَجَابَ بِمَا ذَكَرَهُ مِنَ انْتِفَاعِ الْبَائِعِ بِثَمَنِ الْمُسْلِمِ وَثَمَنِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ وَإِنْ رَدَّهُمَا بِتَلَفِ السَّلَمِ فِيهِ وَتَلَفِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ . وَقَالَ الْمُزَنِيُّ : هَذَا تَجْوِيزُ بَيْعِ الْغَائِبِ وَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى بَيْعِ غَائِبٍ قَدْ رَآهُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِجَارَةَ الْمِلْكِ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُؤَجِّرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى


إِجَارَةِ الْوَقْفِ فَإِنْ أَجَرَّهُ وَلَا حَقَّ لَهُ فِي غَلَّتِهِ ، صَحَّتْ إِجَارَتُهُ وَلَمْ تَبْطُلْ بِمَوْتِهِ : لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَجِّرْ مِلْكَهُ وَإِنَّمَا نَابَ عَنْ غَيْرِهِ وَإِنْ أَجَرَّهُ مَنْ يَسْتَحِقُّ غَلَّتَهُ وَيَسْتَوْجِبُ أُجْرَتَهُ لِكَوْنِهِ وَقْفًا عَلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي بُطْلَانِ الْإِجَارَةِ بِمَوْتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْإِجَارَةَ قَدْ بَطَلَتْ بِمَوْتِهِ وَانْتِقَالِ الْمَنْفَعَةِ إِلَى غَيْرِهِ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْمِلْكِ وَالْوَقْفِ بِأَنَّ وَارِثَ الْمِلْكِ يَمْلِكُ عَنِ الْمُؤَجِّرِ ، فَلَمْ يَمْلِكْ مَا خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْمُؤَجِّرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَقْفُ : لِأَنَّ مُؤَجِّرَهُ يَمْلِكُ مَنْفَعَتَهُ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ فَإِذَا مَاتَ فَقَدِ انْقَطَعَ مِلْكُهُ وَانْتَقَلَ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ بِشَرْطِ الْوَقْفِ لَا بِالْإِرْثِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَبْطُلُ : لِأَنَّ مُؤَجِّرَهُ وَالٍ قَدْ أَجَّرَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَحَقِّ مَنْ بَعْدَهُ بِوِلَايَتِهِ فَإِذَا انْقَضَى حَقُّهُ بِمَوْتِهِ صَحَّتْ إِجَارَتُهُ فِي حَقِّ مَنْ بَعْدَهُ بِوِلَايَتِهِ فَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَوْفَى الْأُجْرَةَ اسْتَرْجَعَ مِنْ تَرِكَتِهِ أُجْرَةَ مَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ بَعْدَ مَوْتِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلٌ مِنْ أَبِيهِ دَارًا سَنَةً وَدَفَعَ إِلَيْهِ الْأُجْرَةَ ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ الْمُؤَجِّرُ نُظِرَ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُ هَذَا الِابْنِ الْمُسْتَأْجِرِ فَقَدْ سَقَطَ حُكْمُ الْإِجَارَةِ : لِأَنَّهُ صَارَ مَالِكًا لِلدَّارِ وَالْمَنْفَعَةِ إِرْثًا ، فَامْتَنَعَ بَقَاءُ عَقْدِهِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ أَمَتَهُ ثُمَّ وَرِثَهَا بَطَلَ نِكَاحُهَا . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى أَبِيهِ دَيْنٌ فَقَدْ صَارَتِ الدَّارُ مَعَ التَّرِكَةِ إِرْثًا وَإِنْ كَانَ عَلَى أَبِيهِ دَيْنٌ ضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِقَدْرِ الْأُجْرَةِ : لِأَنَّهَا صَارَتْ بِانْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ بِالْإِرْثِ دَيْنًا عَلَى الْأَبِ فَسَاوَى الْغُرَمَاءَ فِيهَا . فَلَوْ كَانَ لِلْأَبِ ابْنٌ آخَرُ انْفَسَخَتِ الْإِجَارَةُ فِي نِصْفِ الدَّارِ وَهُوَ حِصَّةُ الْمُسْتَأْجِرِ وَلَزِمَتْ فِي حِصَّةِ الِابْنِ الْآخَرِ وَرَجَعَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْهُمَا بِنِصْفِ الْأُجْرَةِ فِي تَرِكَةِ أَبِيهِ : لِأَنَّهَا صَارَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا بِيعَتِ الدَّارُ الْمُسْتَأْجَرَةُ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تُبَاعَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَالْإِجَارَةُ بِحَالِهَا ، وَيَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ بِالْإِجَارَةِ وَالرَّقَبَةِ بِالْبَيْعِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَرِثَهَا الْمُسْتَأْجِرُ فَتَبْطُلَ الْإِجَارَةُ وَبَيْنَ أَنْ يَبْتَاعَهَا فَلَا تَبْطُلَ ، أَنَّهُ بِالْإِرْثِ صَارَ قَائِمًا مَقَامَ الْمُؤَجِّرِ فَلَمْ يَنْفُذْ لَهُ عَقْدٌ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ بِالْبَيْعِ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْبَائِعِ إِلَّا فِيمَا سُمِّيَ بِالْعَقْدِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تُبَاعَ عَلَى أَجْنَبِيٍّ غَيْرِ الْمُسْتَأْجِرِ فَفِي الْبَيْعِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بَاطِلٌ ، وَالْإِجَارَةُ بِحَالِهَا : لِأَنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ مَمْنُوعَةٌ بِحَقٍّ فَصَارَتْ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْمَغْصُوبِ الَّذِي يَمْنَعُ يَدَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ بِظُلْمٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ صَحِيحٌ أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ ، وَالْإِجَارَةَ لَازِمَةٌ : لِأَنَّ ثُبُوتَ الْعَقْدِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِ الرَّقَبَةِ كَالْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِالْإِجَارَةِ فَلَا خِيَارَ لَهُ ، وَالْأُجْرَةُ لِلْبَائِعِ : لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهَا بِعَقْدِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْمُقَامِ وَالْفَسْخِ .




فَصْلٌ : فَإِذَا أَجَّرَ الْأَبُ ، أَوِ الْوَصِيُّ صَبِيًّا ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ رَشِيدًا فَالْإِجَارَةُ لَازِمَةٌ لَا تَنْفَسِخُ بِبُلُوغِهِ . وَلَوْ أَجَّرَ السَّيِّدُ أُمَّ وَلَدِهِ ثُمَّ مَاتَ عَنْهَا انْفَسَخَتِ الْإِجَارَةُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الصَّبِيَّ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَلَمْ يَزُلِ الْعَقْدُ بِزَوَالِ يَدِ عَاقِدِهِ ، وَأُمُّ الْوَلَدِ مَعْقُودٌ عَلَيْهَا فِي حَقِّ السَّيِّدِ فَزَالَ الْعَقْدُ بِزَوَالِ مِلْكِ عَاقِدِهِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ أَجَّرَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ نَفَذَ الْعِتْقُ ، وَالْإِجَارَةُ بِحَالِهَا لَازِمَةٌ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَأُمِّ الْوَلَدِ حَيْثُ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ بِعِتْقِ أُمِّ الْوَلَدِ وَلَمْ تَبْطُلْ بِعِتْقِ الْعَبْدِ ، أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ بِتَمْلِيكِ السَّيِّدِ لَهُ ، فَاخْتَصَّ التَّمْلِيكُ بِمَا كَانَ عَلَى مِلْكِ السَّيِّدِ ، وَأُمُّ الْوَلَدِ تَمْلِكُ نَفْسَهَا بِمَوْتِ السَّيِّدِ مِنْ غَيْرِ تَمْلِيكِهِ فَكَانَ الْمِلْكُ عَلَى عُمُومِهِ وَصَارَتْ أُمُّ الْوَلَدِ بِمَثَابَةِ الْمُسْتَأْجِرِ إِذَا وَرِثَ مَا اسْتَأْجَرَهُ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ فِيهِ وَصَارَ الْعَبْدُ بِمَثَابَةِ الْمُسْتَأْجِرِ إِذَا ابْتَاعَ مَا اسْتَأْجَرَ لَمْ تَبْطُلِ الْإِجَارَةُ فِيهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِنْ تَكَارَى دَابَّةً مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَطْنِ مُرٍّ فَتَعَدَّى بِهَا إِلَى عُسْفَانَ فَعَلَيْهِ كِرَاؤُهَا إِلَى مُرٍّ وَكِرَاءُ مِثْلِهَا إِلَى عُسْفَانَ وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا إِلَى مَكَانٍ فَاسْتَوْفَاهُ وَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ مِثْلَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى مُرٍّ فَيَرْكَبَهَا إِلَى مُرٍّ ثُمَّ يَتَعَدَّى بِرُكُوبِهَا إِلَى عُسْفَانَ فَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ بِرُكُوبِهَا إِلَى مُرٍّ : لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّهَا بِالْعَقْدِ ثُمَّ صَارَ بِمُجَاوَزَةِ مُرٍّ مُتَعَدِّيًا وَلَزِمَهُ حُكْمَانِ : أَحَدُهُمَا : كِرَاءُ الْمِثْلِ مِنْ مُرٍّ إِلَى عُسْفَانَ . وَالثَّانِي : الضَّمَانُ . فَأَمَّا كِرَاءُ الْمِثْلِ فَقَدْ وَافَقَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ يُسْقِطُ الْكِرَاءَ عَنِ الْغَاصِبِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ رُكُوبَ الْغَاصِبِ طَرَأَ عَلَى يَدٍ ضَامِنَةٍ فَسَقَطَ عَنْهُ الْكِرَاءُ ، وَرُكُوبَ هَذَا الْمُجَاوِزِ مَسَافَتَهُ طَرَأَ عَلَى يَدٍ غَيْرِ ضَامِنَةٍ فَلَزِمَهُ الْكِرَاءُ .

فَصْلٌ : أَمَّا الضَّمَانُ ضمان المستأجر فَلَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ فِيمَا حَدَثَ قَبْلَ مُجَاوَزَتِهِ وَتَعَدِّيهِ ، فَأَمَّا بَعْدَ الْمُجَاوَزَةِ وَالتَّعَدِّي فَقَدْ صَارَ مَأْخُوذًا بِهِ ، وَلَا يَخْلُو حَالُ الدَّابَّةِ ضمان المستأجر إذا تجاوز المكان المتفق عليه مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَتْلَفَ . وَالثَّانِي : أَنْ تَنْقُصَ . وَالثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ عَلَى حَالِهَا ، فَإِنْ تَلِفَتْ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهَا مَعَهَا أَمْ لَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا ضَمِنَ جَمِيعَ قِيمَتِهَا بِالْيَدِ : لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِهَا كَالْغَاصِبِ . وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا مَعَهَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ تَلَفُهَا فِي حَالِ الرُّكُوبِ ، أَوْ بَعْدَ النُّزُولِ ، فَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الرُّكُوبِ ضَمِنَ ضَمَانَ جِنَايَةٍ لَا ضَمَانَ غَصْبٍ : لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ لَمْ تَزُلْ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَلْزَمْهُ جَمِيعُ الْقِيمَةِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ جَمِيعُ الرُّكُوبِ مَحْظُورًا فَلَزِمَهُ بَعْضُهَا .


وَفِي قَدْرِ مَا يَلْزَمُهُ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : نِصْفُ الْقِيمَةِ : لِأَنَّ تَلَفَهَا كَانَ بِالْإِعْيَاءِ فِي مَسَافَتَيْنِ مُبَاحَةً غَيْرَ مَضْمُونَةٍ وَمَحْظُورَةً مَضْمُونَةً . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْقِيمَةَ تُقَسَّطُ عَلَى قَدْرِ الْمَسَافَتَيْنِ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ مِنَ الْقِيمَةِ قَدْرُ مَا قَابَلَ مَسَافَةَ الْإِجَارَةِ وَيَلْزَمُهُ مِنْهَا مَا قَابَلَ مَسَافَةَ الْعُدْوَانِ ، فَإِذَا كَانَ مِنْ مُرٍّ إِلَى مَكَّةَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَيْلًا وَمِنْ مُرٍّ إِلَى عُسْفَانَ ثَلَاثِينَ مِيلًا ، لَزِمَهُ مِنْ قِيمَةِ الدَّابَّةِ ثَلَاثُونَ جُزْءًا مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَثْمَانِهَا ، وَأَصْلُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ الْجَلَّادُ إِذَا أُمِرَ أَنْ يَجْلِدَ رَجُلًا ثَمَانِينَ سَوْطًا فَجَلَدَ أَحَدًا وَثَمَانِينَ سَوْطًا فَمَاتَ كَانَ فِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ قَوْلَانِ ؟ أَحَدُهُمَا : نِصْفُ الدِّيَةِ . وَالثَّانِي : جُزْءٌ مِنْ أَحَدٍ وَثَمَانِينَ جُزْءًا مِنَ الدِّيَةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ صَاحِبُهَا مُشَاهِدًا لِلرُّكُوبِ غَيْرَ مُنْكِرٍ لَهُ كَانَ ذَلِكَ بِرَضًى مِنْهُ ، فَوَجَبَ سُقُوطُ الضَّمَانِ . قِيلَ : الرِّضَا الَّذِي يُوجِبُ سُقُوطَ الضَّمَانِ مَا كَانَ إِذْنًا بِالْقَوْلِ ، وَلَيْسَ السُّكُوتُ إِذْنًا فِي اسْتِهْلَاكِ الْأَمْوَالِ ، أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلًا خَرَقَ ثَوْبًا عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يَرَاهُ لَزِمَهُ ضَمَانُهُ ، وَلَمْ يَسْقُطْ بِسُكُوتِهِ وَإِنْ كَانَ تَلِفَ الدَّابَّةَ بَعْدَ نُزُولِ الرَّاكِبِ عَنْهَا وَحُصُولِهَا فِي يَدِ صَاحِبِهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الرَّاكِبِ : لِأَنَّهُ قَدْ بَرِئَ مِنَ الضَّمَانِ بِرَدِّهَا عَلَى الْمَالِكِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رُكُوبُ التَّعَدِّي قَدْ نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا فَيَضْمَنَ قَدْرَ نَقْصِهَا . وَإِنْ لَمْ تَتْلَفِ الدَّابَّةُ وَلَكِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا نُظِرَ ؛ فَإِنْ كَانَ نَقْصُ قِيمَتِهَا بِغَيْرِ الرُّكُوبِ لَمْ يَضْمَنْهُ الرَّاكِبُ ، وَإِنْ كَانَ بِالرُّكُوبِ فَمَا قَابَلَ الْمُبَاحَ مِنْهُ لَمْ يَضْمَنْهُ ، وَمَا قَابَلَ الْمَحْظُورَ ضَمِنَهُ وَسَوَاءٌ كَانَ صَاحِبُهَا مَعَهَا أَمْ لَا : لِأَنَّهُ ضَمَانُ جِنَايَةٍ وَإِنْ كَانَتِ الدَّابَّةُ عَلَى حَالِهَا لَمْ يَضْمَنِ الرَّاكِبُ غَيْرَ الْأُجْرَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ دَارَهُ وَعَبْدَهُ ثَلَاثِينَ سَنَةً

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ دَارَهُ وَعَبْدَهُ ثَلَاثِينَ سَنَةً . الْإِجَارَةُ عَلَى سَنَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَجُوزُ : لِأَنَّ الْغَرَرَ يَسِيرٌ فِيهَا ، وَالضَّرُورَةُ دَاعِيَةٌ إِلَيْهَا ، فَأَمَّا مَا زَادَ عَلَى السَّنَةِ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ جَوَّزَهَا إِلَى خَمْسِ سِنِينَ أَوْ سِتِّ سِنِينَ لَا غَيْرَ ، وَلِلشَّافِعِيِّ فِيمَا زَادَ عَلَى السَّنَةِ الْوَاحِدَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ : لِأَنَّ الْإِجَارَةَ غَرَرٌ : لِأَنَّهَا عَقْدٌ عَلَى مَنَافِعَ قَدْ تُسَلَّمُ وَقَدْ لَا تُسَلَّمُ ، فَإِذَا قَلَّ الزَّمَانُ قَلَّ غَرَرُهَا فَجَازَ ، وَإِذَا طَالَ الزَّمَانُ كَثُرَ غَرَرُهَا فَبَطَلَ كَالْخِيَارِ ، وَالسَّنَةُ الْوَاحِدَةُ هِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي تَكْمُلُ فِيهَا مَنَافِعُ الزِّرَاعَةِ فِي الْأَرَضِينَ ، وَلَا يَتَغَيَّرُ غَالِبًا فِيهَا الْحَيَوَانَاتُ وَالدُّورُ فَلِذَلِكَ تَقَدَّرَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ بِهَا وَبَطَلَتْ فِيمَا جَاوَزَهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ هُنَا أَنَّ الْإِجَارَةَ تَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا : ثَلَاثِينَ سَنَةً وَقَالَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ مَا شَاءَ وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ - قَوْلُهُ تَعَالَى - قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ [ الْقَصَصِ : 27 ] ،


فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الْإِجَارَةِ سِنِينَ ، وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَكَارَى أَرْضًا ، وَلَمْ تَزَلْ بِيَدِهِ حَتَّى مَاتَ ، قَالَ ابْنُهُ : مَا كُنْتُ أَرَاهَا إِلَّا لَهُ مِنْ طُولِ مَا مَكَثَتْ بِيَدِهِ حَتَّى ذَكَرَهَا عِنْدَ مَوْتِهِ وَأَمَرَنَا بِقَضَاءِ شَيْءٍ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِرَائِهَا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ ؛ وَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ تَدْعُو فِي الْإِجَارَةِ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ لَا سِيَّمَا فِي الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ ، فَصَحَّتْ فِيمَا زَادَ عَلَى السَّنَةِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ كَمَا صَحَّتْ فِي السَّنَةِ وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ كَمَا أَنَّ الْبَيْعَ عَقْدٌ عَلَى عَيْنٍ ثُمَّ لَمَّا لَمْ تَتَقَدَّرْ بُيُوعُ الْأَعْيَانِ فَكَذَلِكَ لَا تَتَقَدَّرُ بُيُوعُ الْمَنَافِعِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ بِتَوْجِيهِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْإِجَارَةَ تَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا : تَجُوزُ ثَلَاثِينَ سَنَةً ، فَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَجْعَلُ الثَّلَاثِينَ حَدًّا عَلَى ظَاهِرِ لَفْظِهِ وَيَمْنَعُ مِمَّا زَادَ عَلَيْهَا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الثَّلَاثِينَ شَطْرُ الْعُمْرِ فِي الْغَالِبِ فَكَانَ مَا زَادَ عَلَيْهِ لِغَيْرِ الْعَاقِدِ ، وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الثَّلَاثِينَ لَيْسَ بِحَدٍّ وَتَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهَا عَلَى مَا يَشَاءُ الْمُتَعَاقِدَانِ . وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى ، وَالْبَيِّنَاتِ ، وَلَهُمْ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّكْثِيرِ لَا عَلَى طَرِيقِ التَّحْدِيدِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَالَهُ رَدًّا عَلَى قَوْمٍ جَعَلُوا مَا دُونَ الثَّلَاثِينَ حَدًّا لِلْجَوَازِ وَجَعَلُوا الثَّلَاثِينَ حَدًّا لِلْمَنْعِ وَالْفَسَادِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا غَيْرُ مَحْدُودَةِ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ في مدة الاجارة ، فَأَقَلُّ مُدَّتِهَا مَا أَمْكَنَ فِيهِ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا وَذَلِكَ قَدْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُؤَاجَرِ ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ دَارٌ لِلسُّكْنَى جَازَتْ إِجَارَتُهَا يَوْمًا وَاحِدًا ، وَأَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ تَافِهٌ لَمْ يَجْرِ بِهِ عُرْفٌ لَمْ يَصِحَّ بِهِ عَقْدٌ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ فَأَقَلُّهَا مُدَّةُ زِرَاعَتِهَا . فَأَمَّا أَكْثَرُ الْمُدَّةِ فَهُوَ مَا عُلِمَ بَقَاءُ الشَّيْءِ الْمُؤَاجَرِ فِيهَا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَرْضًا تَأَبَّدَ بَقَاؤُهَا ، وَإِنْ كَانَ دَارًا رُوعِيَ فِيهَا مُدَّةً يَبْقَى فِيهَا بِنَاؤُهَا وَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا رُوعِيَ فِيهِ الْأَغْلَبُ مِنْ مُدَّةِ حَيَاتِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا ، فَإِنْ عُقِدَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى سَنَةٍ لَمْ يَلْزَمْ تَقْسِيطُ الْأُجْرَةِ عَلَى شُهُورِهَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ ؛ وَلِأَنَّ شُهُورَ السَّنَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْغَالِبِ إِنَّهَا مُتَسَاوِيَةٌ ، وَالْمُؤَاجَرَةُ فِيهَا عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ . وَإِنْ عُقِدَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى سِنِينَ كَثِيرَةٍ فَهَلْ يَلْزَمُ تَقْسِيطُ الْأُجْرَةِ عَلَى كُلِّ سَنَةٍ مِنْهَا أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ :


أَحَدُهُمَا : لَا يَلْزَمُ كَمَا لَا يَلْزَمُ تَقْسِيطُهَا عَلَى الشُّهُورِ وَالْأَيَّامِ ، وَكَمَا لَا يَلْزَمُ تَقْسِيطُ الثَّمَنِ عَلَى أَعْيَانِ الصَّفْقَةِ وَإِنْ كَثُرَتْ وَاخْتَلَفَتْ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ تَقْسِيطَهَا عَلَى سِنِيِّ الْإِجَارَةِ وَاجِبٌ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ تَقْسِيطُهَا عَلَى الشُّهُورِ ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ قِسْطَ كُلِّ سَنَةٍ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ . وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ غَيْرُ مُنْبَرِمٍ بِخِلَافِ بُيُوعِ الْأَعْيَانِ الْمُنْبَرِمَةِ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ السَّلَامَةِ ، وَالْعَطَبِ مَا لَمْ يُذْكَرْ قِسْطُ كُلِّ سَنَةٍ مِنْهَا ، وَأُجُورُ السِّنِينَ قَدْ تَخْتَلِفُ فَيَتَعَذَّرُ الْعِلْمُ بِقَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِهِ مِنَ الْأُجْرَةِ عِنْدَ انْتِقَاضِ الْإِجَارَةِ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ شُهُورُ السَّنَةِ الْمُتَمَاثِلَةِ غَالِبًا . وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ كَاخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي السَّلَمِ إِذَا جَمَعَ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةً ، أَوْ إِلَى آجَالٍ مُخْتَلِفَةٍ هَلْ يَلْزَمُ تَقْسِيطُ الثَّمَنِ عَلَى كُلِّ جِنْسٍ مِنْهَا : لِأَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ غَيْرُ مُنْبَرِمٍ كَالْإِجَارَةِ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ سَلَامَةٍ وَعَطَبٍ . فَإِنْ قِيلَ : إِنْ تَقْسِيطَ الْأُجْرَةِ عَلَى السِّنِينَ وَاجِبٌ جَازَ أَنْ يُسَاوِيَ بَيْنَ أُجُورِ السِّنِينَ وَيُفَاضِلَ ، فَإِنْ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ رَجَعَ بِالْمُسَمَّى لَهَا مِنَ الْأُجْرَةِ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ تَقْسِيطَهَا عَلَى السِّنِينَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَبَطَلَتِ الْإِجَارَةُ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ قُدِّرَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فِيمَا مَضَى مِنَ السِّنِينَ وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ فِيمَا بَقِيَ ، وَرُبَّمَا تَفَاضَلَ ذَلِكَ بِحَسَبِ الزَّمَانِ أَوْ بِتَغَيُّرِ الْمُؤَاجِرِ ، ثُمَّ يُقَسَّطُ الْمُسَمَّى عَلَى ذَلِكَ وَنَنْظُرُ حِصَّةَ بَاقِي الْمُدَّةِ مِنَ الْمُسَمَّى فَيَكُونُ هُوَ الْقَدْرُ الْمَرْجُوعُ بِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَجَّرَ دَارَهُ كُلَّ شَهْرٍ بِدِينَارٍ وَلَمْ يَذْكُرْ عَدَدَ الشُّهُورِ وَغَايَتَهَا ، لَمْ تَصِحَّ الْإِجَارَةُ فِيمَا عَدَا الشَّهْرَ الْأَوَّلَ لِلْجَهَالَةِ بِمَبْلَغِهِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ : أَجَّرْتُهَا مُدَّةً . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّتِهَا وَلُزُومِهَا فَيَ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِجَارَةَ فِيهِ صَحِيحَةٌ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ لِكَوْنِهِ وَاحِدًا مِنْ عَدَدٍ مَجْهُولٍ ، فَلَمْ يَتَمَيَّزْ فِي الْحُكْمِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْإِجَارَةُ صَحِيحَةٌ وَلِلْمُسْتَأْجِرِ فَسْخُ الْإِجَارَةِ فِي كُلِّ شَهْرٍ قَبْلَ دُخُولِهِ ، فَإِذَا دَخَلَ قَبْلَ فَسْخِهِ لَزِمَهُ ، وَجَعَلَ إِطْلَاقَ الشُّهُورِ مَعَ تَسْمِيَةِ الْأُجْرَةِ لِكُلِّ شَهْرٍ جَارِيًا مَجْرَى بَيْعِ الصُّبْرَةِ الْمَجْهُولَةِ الْقَدْرِ إِذَا سَمَّى ثَمَنَ كُلِّ قَفِيزٍ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِلْجَهَالَةِ بِمَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ مِنَ الشُّهُورِ بِخِلَافِ الصُّبْرَةِ الَّتِي قَدْ أُشِيرَ إِلَيْهَا وَيَنْحَصِرُ كَيْلُهَا ، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ تَصِحَّ الْإِجَارَةُ فَلَا يَكُونَ لَهُ فَسْخُهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ، أَوْ تَبْطُلَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهَا مَعَ الْعُذْرِ .


وَيَلْزَمُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ إِنْ سَكَنَ دُونَ الْمُسَمَّى ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَأَيُّ الْمُتَكَارِيَيْنِ هَلَكَ فَوَرَثَتُهُ تَقُومُ مَقَامَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الْمُؤَجِّرَ فَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَ الْأُجْرَةَ بَرِئَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْهَا ، وَعَلَى الْوَارِثِ تَمْكِينُهُ مِنَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُؤَجِّرُ قَدْ قَبَضَهَا فَلِلْوَارِثِ مُطَالَبَةُ الْمُسْتَأْجِرِ بِهَا فَإِنْ كَانَتْ مُؤَجَّلَةً أَوْ مُنَجَّمَةً فَهِيَ إِلَى أَجَلِهَا وَعَلَى نُجُومِهَا لَا تُتَعَجَّلُ بِمَوْتِ مُسْتَحِقِّهَا . وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الْمُسْتَأْجِرَ ، فَعَلَى الْمُؤَجِّرِ تَمْكِينُ وَارِثِهِ مِنَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَ الْأُجْرَةَ فَلَا مَالَ إِلَيْهِ عَلَى الْوَارِثِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَ وَهِيَ مُؤَجَّلَةٌ أَوْ مُنَجَّمَةٌ حَلَّتْ : لِأَنَّ مَوْتَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ يُوجِبُ حُلُولَهُ ، وَلَا يُوجِبُهُ مَوْتُ مَنْ هُوَ لَهُ .

فَصْلٌ : إِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ دَارًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَجِّرَهَا بَعْدَ قَبْضِهَا مَا بَقِيَ لَهُ مِنْ مُدَّةِ إِجَارَتِهِ نُظِرَ ، فَإِنْ أَجَّرَهَا مِنْ غَيْرِ مُؤَجِّرِهَا جَازَ سَوَاءٌ أَجَّرَهَا بِمِثْلِ الْأُجْرَةِ أَوْ بِأَقَلَّ أَوْ بِأَكْثَرَ ، أَحَدَثَ فِيهَا عِمَارَةً أَوْ لَمْ يُحْدِثْ ، وَإِنْ أَجَّرَهَا مِنْ مُؤَجِّرِهَا فَفِي جَوَازِ الْإِجَارَةِ وَجْهَانِ : فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ : أَنَّهَا تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْمُؤَجِّرِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَا أَجَّرَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَاجِرَ مِنَ الْمُؤَجِّرِ ، وَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ إِلَى هَذَا فِي كِتَابِ الرَّهْنِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ أَجَّرَهَا مِنَ الْمُؤَجِّرِ بِمِثْلِ الْأُجْرَةِ ، أَوْ أَكْثَرَ صَحَّ ، وَإِنْ أَجَّرَهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ لَمْ يَجُزْ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِيمَنِ ابْتَاعَ سِلْعَةً ثُمَّ بَاعَهَا عَلَى بَائِعِهَا بِأَقَلَّ لَمْ يَجُزْ . قَالَ : وَإِنْ أَجَّرَهَا مِنْ غَيْرِ مُؤَجِّرِهَا بِمِثْلِ الْأُجْرَةِ أَوْ بِأَقَلَّ جَازَ ، فَإِنْ أَجَّرَهَا بِأَكْثَرَ لَمْ يَجُزْ إِلَّا يَكُونُ الْمُسْتَأْجِرُ قَدْ أَحْدَثَ فِيهَا عِمَارَةً لِتَكُونَ الزِّيَادَةُ فِي مُقَابَلَةِ عَيْنٍ تُرَى . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَنْ مَلَكَ الْإِجَارَةَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَمْ تَتَقَدَّرْ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ كَالْمَالِكِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ قَدْرٍ صَحَّ أَنْ يُؤَجِّرَ بِهِ الْمُؤَجِّرُ صَحَّ أَنْ يُؤَجِّرَ بِهِ الْمُسْتَأْجِرُ كَالْمِثْلِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ حَالٍ جَازَ لَهُ الْعَقْدُ فِيهَا بِقَدْرٍ جَازَ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَحْدَثَ عِمَارَةً ، وَلِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مَلَكَهَا بِعِوَضٍ فَصَحَّ أَنْ يُزِيلَ مِلْكَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الْعِوَضِ ؛ كَالزَّوْجِ يَجُوزُ أَنْ يُخَالِعَ بِأَكْثَرَ مِنَ الصَّدَاقِ وَلِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ عَلَى مِلْكِ نَفْسِهِ فِيمَا لَا تُرَاعَى فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُ الْعِوَضِ إِلَيْهِ كَالْبَيْعِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَجَّرَ الرَّجُلُ دَارَهُ أَرَادَ الْمُؤَجِّرُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَبَعْدَهَا مِنَ الزَّمَانِ أن يؤجرها فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُؤَجِّرَهَا مِنْ غَيْرِ مُسْتَأْجِرِهَا فَهَذَا عَقْدٌ بَاطِلٌ وَإِجَارَةٌ فَاسِدَةٌ لِمَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ حَائِلَةٌ تَمْنَعُ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ الثَّانِي فَبَطَلَ عَقْدُهُ لِزَوَالِ يَدِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُعَيَّنًا وَكَانَ قَبْضُهُ مُتَأَخِّرًا بَطَلَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ شَرَطَ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110