كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

زَكَاتَهَا وَاجِبَةٌ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي اسْتِقْرَارِ مِلْكِهَا ، وَتَعْجِيلِ إِخْرَاجِ زَكَاتِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مُفَصَّلًا ، وَشَرَحْنَاهُ مُبَيَّنًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ غَنِمُوا فَلَمْ يُقَسِّمْهُ الْوَالِي حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ زكاة الغنيمة ، فَقَدْ أَسَاءَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ ، وَلَا زَكَاةَ فِي فِضَّةٍ مِنْهَا وَلَا ذَهَبٍ حَتَّى يَسْتَقْبِلَ بِهَا حَوْلًا بَعْدَ الْقَسْمِ : لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهِ بِعَيْنِهِ ، وَأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمْنَعَهُمْ قِسْمَتَهُ إِلَّا أَنْ يُمَكِّنَهُ ، وَلِأَنَّ فِيهَا خُمُسًا وَإِذَا عُزِلَ سَهْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا لِمَا يَنُوبُ الْمُسْلِمِينَ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ لِمَالِكٍ بِعَيْنِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا غَزَا الْمُسْلِمُونَ أَرْضَ الْعَدُوِّ فَغَنِمُوا أَمْوَالَهُمْ لَمْ يَجُزْ لِلْإِمَامِ تَأْخِيرُ قَسْمِ مَالِ الْغَنِيمَةِ بَيْنَهُمْ ، إِلَّا لِعُذْرٍ مِنْ دَوَامِ حَرْبٍ أَوْ رَجْعَةِ عَدُوٍّ ، قَدْ أَخَّرَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ قِسْمَةَ غَنَائِمِهِ مَعْذُورًا لِإِشْكَالٍ عَلَيْهِ ، حَتَّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُنْكِرْ تَأْخِيرَ قِسْمَتِهَا عَلَيْهِ ، وَأَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِسْمَةَ غَنَائِمِ هَوَازِنَ لِعُذْرٍ ، فَأَمَّا تَأْخِيرُ قِسْمَتِهَا مَعَ ارْتِفَاعِ الْأَعْذَارِ وَزَوَالِ الْمَوَانِعِ فَغَيْرُ جَائِزٍ : لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَضْرَارِ بِالْغَانِمِينَ ، وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ تَعْجِيلَ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ " السِّيَرِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ الْكَلَامُ بَعْدَ هَذَا فِي فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي كَيْفِيَّةِ مِلْكِ الْغَنِيمَةِ . وَالثَّانِي : فِي زَكَاةِ مَالِ الْغَنِيمَةِ . فَأَمَّا مِلْكُ الْغَنِيمَةِ ، فَمَتَى كَانْتِ الْحَرْبُ قَائِمَةً فَالْغَنَائِمُ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ ، وَإِنْ أَجَازَهَا الْمُسْلِمُونَ وَمَنْ غَنِمَ شَيْئًا لَمْ يَمْلِكْهُ وَلَا مَالِكَ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ : لِأَنَّ غَنِيمَةَ الْعَدُوِّ مِنْ تَوَابِعِ الظَّفَرِ بِهِ وَهُوَ مَعَ الْمُعَاوَنَةِ وَالْحَرْبِ غَيْرُ مَظْفُورٍ بِهِ وَلَا مَقْدُورٍ عَلَيْهِ ، فَإِذَا انْجَلَتِ الْحَرْبُ وَأُحِيزَتِ الْغَنَائِمُ ، فَقَدْ مَلَكَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَتَمَلَّكُوا إِلَّا أَنَّهُمْ فِي الْحَالِ قَدْ مَلَكُوا كَالشَّفِيعِ مَلَكَ بِالشُّفْعَةِ أَنْ يَتَمَلَّكَ ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالْوَصِيَّةِ مَلَكَ أَنْ يَتَمَلَّكَ ، وَلِلزَّوْجِ مَلَكَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَنْ يَتَمَلَّكَ ، وَغَرِيمِ الْمُفْلِسِ مَلَكَ بِفَلَسِ الْمُشْتَرِي أَنْ يَتَمَلَّكَ ، وَإِنَّمَا مَلَكُوا أَنْ يَتَمَلَّكُوا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا قَدْ مَلَكُوا : لِأَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَوْ تَرَكَ حَقَّهُ ، وَلَمْ يَخْتَرْ تَمَلُّكَهُ رَجَعَ سَهْمُهُ عَلَى الَّذِينَ مَعَهُ كَالشُّفْعَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْقُوفًا لَهُ كَالْوَرَثَةِ الَّذِينَ إِذَا تَرَكَ أَحَدُهُمْ حَقَّهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الَّذِي مَعَهُ ، فَكَانَ مَوْقُوفًا لَهُ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْغَانِمِينَ مَلَكُوا بِالْغَنِيمَةِ أَنْ يَتَمَلَّكُوا فَتَمَلُّكُهُمْ يَكُونُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا بِاخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولُوا قَدِ اخْتَرْنَا أَنْ نَمْلِكَ فَيَمْلِكُونَ كَمَا يَمْلِكُ الْمُوصَى لَهُ لِقَبُولِهِ .

وَإِمَّا بِأَنْ يُقَسِّمَهَا بَيْنَهُمْ ، فَيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ سَهْمَهُ فَيَعْلَمَ أَنَّهُ قَدِ اخْتَارَهُ وَمَلَكَهُ كَمَا يَمْلِكُ أَهْلُ السُّهْمَانِ مَا قُسِّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا زَكَاةُ مَالِ الْغَنِيمَةِ إِذَا حَالَ الْحَوْلُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْغَانِمُونَ قَدْ تَمَلَّكُوهَا ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَلَّكُوهَا حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا سَوَاءٌ كَانَتْ جِنْسًا أَوْ أَجْنَاسًا عُزِلَ مِنْهَا الْخُمُسُ أَمْ لَمْ يُعْزَلْ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ مِلْكًا لِلْغَانِمِينَ ، وَلَا لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ وَإِنْ تَمَلَّكَهَا الْغَانِمُونَ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً ، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا سَوَاءٌ كَانَ جَمِيعُ أَجْنَاسِهَا مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، أَوْ كَانَ بَعْضُهُ مِمَّا لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ : لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُ الْأَجْنَاسِ بِعَيْنِهِ مِلْكًا لِرَجُلٍ مِنَ الْغَانِمِينَ بِعَيْنِهِ : لِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَسِّمَهَا بَيْنَهُمْ قِسْمَةَ تَحَكُّمٍ مَوْقُوفَةً عَلَى نَظَرِهِ ، فَيُعْطِي بَعْضَهُمْ وَرِقًا وَبَعْضَهُمْ ذَهَبًا وَبَعْضَهُمْ إِبِلًا وَبَعْضَهُمْ عَرَضًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الْغَنِيمَةُ جِنْسًا وَاحِدًا ، فَإِنْ كَانَ مَا لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالْخَيْلِ وَالسَّبْيِ وَالْعُرُوضِ ، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَتْ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ مَاشِيَةً سَائِمَةً ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ خُمُسُهَا مَعْزُولًا لِأَهْلِ الْخُمُسِ زكاة الغنيمة فَزَكَاتُهَا وَاجِبَةٌ ، لِأَنَّهَا مِلْكٌ لِجَمَاعَةٍ تَجِبُ عَلَيْهِمِ الزَّكَاةُ ، فَوَجَبَ أَنْ تَجِبَ فِيهَا الزَّكَاةُ كَالْأَمْوَالِ الْمُشَاعَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْخُمُسُ بَاقِيًا فِيهَا فَفِي وُجُوبِ زَكَاتِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ : لَا زَكَاةَ فِيهَا وَهُوَ بِنَصِّ الشَّافِعِيِّ أَشْبَهُ : لِأَنَّهُ قَالَ فِي تَعْلِيلِ إِسْقَاطِ الزَّكَاةِ عَنِ الْغَنِيمَةِ : " لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهِ بِعَيْنِهِ ، وَإِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمْنَعَهُمْ قِسْمَةً إِلَى أَنْ يُمْكِنَهُ ، وَلِأَنَّ فِيهَا خُمُسًا " . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ : الزَّكَاةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ الغنيمة إذا كان الخمس باقيا فيها وَهُوَ عِنْدِي فِي الْحُكْمِ أَصَحُّ : لِأَنَّ مُشَارَكَةَ أَهْلِ الْخُمُسِ لَهُمْ لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمْ ، كَمَا أَنَّ مُشَارَكَةَ الْمُكَاتَبِ وَالذِّمِّيِّ لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَى الْمُسْلِمِ الْحُرِّ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهَا جُمْلَةً ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْغَانِمِينَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُقَسِّمُوا قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ ، فَإِنِ اقْتَسَمُوا قَبْلَ الْحَوْلِ زكاة الغنيمة إذا قسمت قبل الحول ، فَلَا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَتَّى يَكُونَ سَهْمُهُ نِصَابًا ، وَيَتِمَّ حَوْلُهُ مِنْ حِينِ مَلَكَهُ ، وَإِنْ حَالَ الْحَوْلُ قَبْلَ قِسْمَتِهِمْ زكاة الغنيمة إذا لم تقسم قبل الحول فَإِنْ كَانَتِ الْغَنِيمَةُ لَا تَبْلُغُ نِصَابًا ، وَكَانَتْ مَعَ الْخُمُسِ نِصَابًا ، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَتِ الْغَنِيمَةُ سِوَى الْخُمُسِ نِصَابًا فَصَاعِدًا نُظِرَتْ فَإِنْ كَانَتْ مَاشِيَةً وَجَبَ فِيهَا الزَّكَاةُ سَوَاءٌ بَلَغَ سَهْمُ كُلِّ وَاحِدٍ

مِنْهُمْ نِصَابًا أَمْ لَا : لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا فَهُوَ خَلِيطٌ وَالْخُلْطَةُ فِي الْمَوَاشِي تَصِحُّ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَاشِيَةٍ كَفِضَّةٍ أَوْ ذَهَـبٍ نُظِرَتْ ، فَإِنْ بَلَغَ سَهْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى الْخُلْطَةِ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي ، فَعَلَى الْقَدِيمِ حَيْثُ مَنَعَ الْخُلْطَةَ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي ، لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ، وَعَلَى الْجَدِيدِ حَيْثُ جَوَّزَ الْخُلْطَةُ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ .

بَابُ الْبَيْعِ فِي الْمَالِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ بِالْخِيَارِ وَغَيْرِهِ وَبَيْعِ الْمُصَدِّقِ وَمَا قَبَضَ مِنْهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ

بَابُ الْبَيْعِ فِي الْمَالِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ بِالْخِيَارِ وَغَيْرِهِ وَبَيْعِ الْمُصَدِّقِ وَمَا قَبَضَ مِنْهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ بَاعَ بَيْعًا صَحِيحًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ الْبَيْعِ فِي الْمَالِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، أَوِ الْمُشْتَرِي أَوْ هُمَا ، قَبَضَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ ، فَحَالَ الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ مَلَكَ الْبَائِعُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاةُ : لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ بِخُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ حَتَى حَالَ الْحَوْلُ ، وَلِمُشْتَرِيهِ الرَّدُّ بِالتَّغَيُّرِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ بِالزَّكَاةِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَقَدْ قَالَ فِي بَابِ زَكَاةِ الْفِطْرِ : إِنَّ الْمِلْكَ يَتِمُّ بِخِيَارِهِمَا أَوْ بِخِيَارِ الْمُشْتَرِي ، وَفِي الشُّفْعَةِ أَنَّ الْمِلْكَ يَتِمُّ بِخِيَارِ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) الْأَوَّلُ إِذَا كَانَا جَمِيعًا بِالْخِيَارِ عِنْدِي أَشْبَهُ بِأَصْلِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي رَجُلٍ حَلَفَ بِعِتْقِ عَبْدِهِ أَنْ لَا يَبِيعَهُ فَبَاعَهُ أَنَّهُ عَتِيقٌ ، وَالسَّنَدُ عِنْدَهُ أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ جَمِيعًا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا تَفَرُّقَ الْأَبْدَانِ فَلَوْلَا أَنَّهُ مَلَكَهُ مَا عَتَقَ عَلَيْهِ عَبْدَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَمُقَدِّمُةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ : أَنَّ الْبَيْعَ هَلْ يَنْقُلُ الْمِلْكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ أَوْ بِالْعَقْدِ وَتَقَضِّي زَمَانِ الْخِيَارِ ؟ فَلِلشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّ مِلْكَ الْمَبِيعِ قَدِ انْتَقَلَ إِلَى الْمُشْتَرِي بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، وَإِنْ أَجَازَ دَفْعَهُ بِالْخِيَارِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ مِلْكَ الْمَبِيعِ لَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْمُشْتَرِي إِلَّا بِالْعَقْدِ ، وَتَقَضِّي زَمَانِ الْخِيَارِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا عُلِمَ ، أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ مُنْتَقِلًا بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَإِنِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ عُلِمَ أَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَكُنْ مُنْتَقِلًا . وَتَوْجِيهُ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : فِي رَجُلٍ بَقِيَ مِنْ حَوْلِ مَالِهِ يَوْمٌ أَوْ يَوْمَانِ فَبَاعَهُ بِخِيَارِ ثَلَاثٍ وَتَمَّ الْحَوْلُ قَبْلَ مُضِيِّهَا أَوْ بَاعَهُ بَيْعًا مُطْلَقًا فَحَالَ الْحَوْلُ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا الْبَيْعِ فِي الْمَالِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ ، وَالْجَوَابُ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ كَالْجَوَابِ فِي خِيَارِ الْعَقْدِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ خِيَارُ الشَّرْطِ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ : فَالْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ . وَالْفَصْلُ الثَّانِي : فِيمَا تُؤَدَّى مِنْهُ الزَّكَاةُ .

وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ : فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ وَخِيَارِ الْمُشْتَرِي بِمَا خَرَجَ مِنَ الْمَبِيعِ فِي الزَّكَاةِ فَأَمَّا وُجُوبُ الزَّكَاةِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنِ الْمِلْكَ قَدِ انْتَقَلَ إِلَى الْمُشْتَرِي بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، فَلَا زَكَاةَ عَلَى الْبَائِعِ مِنَ الْمَالِ لِخُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ قَبْلَ الْحَوْلِ ، فَإِنْ عَادَ إِلَى مِلْكِهِ بِفَسْخٍ اسْتَأْنَفَ حَوْلَهُ كَمَا اسْتَأْنَفَ مِلْكَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَى الْبَائِعِ بِفَسْخٍ لِتَمَامِ الْبَيْعِ وَانْبِرَامِ الْعَقْدِ اسْتَأْنَفَ الْمُشْتَرِي حَوْلَ زَكَاتِهِ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَقِلُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَتَقَضِّي الْخِيَارِ فَزَكَاتُهُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْبَائِعِ سَوَاءٌ تَمَّ الْبَيْعُ أَمْ لَا : لِحُلُولِ حَوْلِهِ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ ، وَيَسْتَأْنِفُ الْمُشْتَرِي حَوْلَهُ إِنْ تَمَّ عَلَيْهِ مِلْكُهُ مِنْ حِينِ يَقْضِي الْخِيَارُ لَا مِنْ حِينِ الْعَقْدِ : لِأَنَّهُ زَالَ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ انْتِقَالَ مِلْكِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى انْبِرَامِ الْبَيْعِ أَوْ فَسْخِهِ نُظِرَ ، فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ وَانْبَرَمَ فَلَا زَكَاةَ عَلَى الْبَائِعِ ، لِخُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ قَبْلَ حُلُولِ حَوْلِهِ ، وَاسْتَأْنَفَ الْمُشْتَرِي حَوْلَ زَكَاتِهِ مِنْ حِينِ عَقْدِهِ بَيْعَهُ ، وَإِنْ فُسِخَ الْبَيْعُ وَزَالَ الْعَقْدُ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ ، وَعَلَيْهِ زَكَاتُهُ لِحُلُولِ حَوْلِهِ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِهِ ، هَذَا كُلُّهُ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ الْعَيْنِ كَالْمَوَاشِي وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، فَأَمَّا مَا كَانَ لِلتِّجَارَةِ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا تَجِبُ فِيهِ إِلَّا زَكَاةُ التِّجَارَةِ كَالسِّلَعِ وَالْعُرُوضِ فَزَكَاةُ هَذَا وَاجِبَةٌ وَإِنْ بِيعَ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا لِأَنَّهَا فِي قِيمَتِهِ ، وَقَدْ دَلَلْنَا عَلَيْهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ الْعَيْنِ كَالْمَوَاشِي وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يُزَكَّى زَكَاةَ التِّجَارَةِ مِنْ قِيمَتِهِ كَانَ كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ تَجِبُ زَكَاتُهُ ، وَإِنْ بِيعَ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يُزَكَّى زَكَاةَ الْعَيْنِ ، كَانَ كَالَّذِي لِغَيْرِ التِّجَارَةِ فَيَكُونُ وُجُوبُ زَكَاتِهِ إِذَا حَالَ الْحَوْلُ فِي زَمَانِ خِيَارِهِ عَلَى الْأَقَاوِيلِ الْمَاضِيَةِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ إِذَا وَجَبَتْ فِي الْمَالِ الذي هو محل البيع عَلَى مَا مَضَى مِنَ الشَّرْحِ وَالتَّرْتِيبِ فَلِلْبَائِعِ حَالَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يُجِيبَ إِلَى دَفْعِهَا مِنْ مَالِهِ ، فَلَا كَلَامَ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَأْبَى أَنْ يَدْفَعَهَا مِنْ مَالِهِ وَيَمْتَنِعَ أَنْ يُخْرِجَهَا إِلَّا مِنْ مَالِ الْمَبِيعِ ، فَلَهُ حَالَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا بِهَا فَلِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ الزَّكَاةَ مِنْهَا سَوَاءٌ وَجَدَهَا فِي يَدِ الْبَائِعِ ، أَوْ يَدِ الْمُشْتَرِي تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا أَوْ بَطَلَ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا بِهَا فَلَهُ حَالَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ يُرِيدُ بِامْتِنَاعِهِ فَسْخَ الْعَقْدِ فَلَهُ ذَاكَ إِنْ كَانَ فِي خِيَارِ مَجْلِسٍ ، أَوْ خِيَارِ

شَرْطٍ هُوَ لَهُمَا مَعًا ، أَوْ لَهُ وَحْدَهُ فَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي خِيَارِ شَرْطٍ هُوَ لِلْمُشْتَرِي دُونَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يُرِيدَ بِامْتِنَاعِهِ فَسْخَ الْبَيْعِ وَإِنَّمَا يُرِيدُ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ مِنْ حَيْثُ يَجِبُ إِخْرَاجُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَطَوَّعَ ، فَالْمَالُ الْمَبِيعُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي قِيمَتِهِ كَعُرُوضِ التِّجَارَاتِ ، فَهَذَا يَجِبُ أَنْ تُؤْخَذَ زَكَاتُهُ مِنْ مَالِ بَايَعِهِ دُونَ الْمَالِ الْمَبِيعِ لِأَنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي قَدْ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ ، وَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي الْقِيمَةِ ، وَمَا تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ أَقْوَى حُكْمًا فِي الْعَيْنِ مِمَّا تَعَلَّقَ بِالْقِيمَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَجِبُ زَكَاةُ عَيْنِهِ كَالْمَوَاشِي وَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ ، فَإِنْ قِيلَ : الزَّكَاةُ وَجَبَتْ فِي الْعَيْنِ وُجُوبَ اسْتِحْقَاقٍ أُخِذَتِ الزَّكَاةُ مِنَ الْمَبِيعِ ، وَإِنْ قُلْنَا وَجَبَتْ فِي الرَّقَبَةِ وُجُوبًا مُنْبَرِمًا أُخِذَتِ الزَّكَاةُ مِنَ الْبَائِعِ .

فَصْلٌ : بُطْلَانُ الْبَيْعِ إِذَا أُخْرِجَتِ الزَّكَاةُ عَلَى مَا مَضَى فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ قَدْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهِ ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ فِي الْكُلِّ ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرَى لِسَلَامَةِ الْبَيْعِ ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي الْعَيْنِ وُجُوبَ اسْتِحْقَاقٍ ، فَهُوَ كَالضَّرْبِ الثَّانِي . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ وَنَفْسِ الْمَبِيعِ فَالْبَيْعُ فِي قَدْرِ مَا خَرَجَ فِي الزَّكَاةِ بَاطِلٌ ، فَأَمَّا الْبَاقِي فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُتَمَاثِلَ الْأَجْزَاءِ كَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ ، فَالْبَيْعُ فِيهِ جَائِزٌ قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ صَحِيحًا ، وَلَمَّا بَطَلَ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ بِمَعْنًى طَارِئً بَعْدَ سَلَامَةِ الْعَقْدِ ، فَلَمْ يَقْدَحْ ذَاكَ فِي بَيْعِ مَا بَقِيَ ، هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا وَالْمُعَوَّلِ عَلَيْهِ فِي الْمَذْهَبِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ لِأَجْلِ النَّقْصِ الطَّارِئِ مِنْ فَسْخِ الْبَيْعِ وَالْإِقَامَةِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ أَقَامَ ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُقِيمَ هَاهُنَا بِحِسَابِ الثَّمَنِ وَقِسْطِهِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَ قَوْلًا ثَانِيًا وَهُوَ أَنَّهُ يُقِيمُ لِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، وَإِلَّا فَسَخَ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ غَيْرَ مُتَمَاثِلِ الْأَجْزَاءِ كَالْمَاشِيَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ مُخْتَلِفَةَ الْأَسْبَابِ بَعْضُهَا صِغَارًا وَبَعْضُهَا كِبَارًا أَوْ مُخْتَلِفَةَ الْأَوْصَافِ بَعْضُهَا سِمَانًا وَبَعْضُهَا عِجَافًا فَالْبَيْعُ فِي الْكُلِّ بَاطِلٌ ، مِنْ جِهَةِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَلَكِنْ لِلْجَهْلِ بِمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ مُتَسَاوِيَةَ الْأَسْنَانِ مُتَقَارِبَةَ الْأَوْصَافِ ، فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْجَهْلِ بِمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ . وَالثَّانِي : جَائِزٌ تَشْبِيهًا بِمَا تَمَاثَلَتْ أَجْزَاؤُهُ لِتَقَارُبِ بَعْضِهِ مِنْ بَعْضٍ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ بَنَى بُطْلَانَ الْبَيْعِ فِي الْبَاقِي عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ : لِأَنَّ مَا طَرَأَ مِنَ الْفَسَادِ بَعْدَ الْعَقْدِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ مَا كَانَ مَوْجُودًا حَالَ الْعَقْدِ وَمَا ذَكَرْتُ أَصَحُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَإِذَا صَحَّ الْبَيْعُ فِي الْبَاقِي فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِمْضَائِهِ ، فَإِنْ أَمْضَاهُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بِحِسَابِ الثَّمَنِ وَقِسْطِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِلَّا فُسِخَ ، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ فُصُولُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ ، فَإِنَّهُ اخْتَارَ مِنْ أَقَاوِيلِ الشَّافِعِيِّ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَقِلُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَتَقَضِّي الْخِيَارِ وَاسْتَشْهَدَ عَلَى صِحَّتِهِ بِمَا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إِنَّ رَجُلًا لَوْ حَلَفَ بِعِتْقِ عَبْدِهِ أَنْ لَا يَبِيعَهُ فَبَاعَهُ عُتِقَ عَلَيْهِ ، وَالْعِتْقُ إِنَّمَا يَقَعُ بَعْدَ وُجُوبِ الْبَيْعِ ، فَلَوْلَا أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ بَعْدَ الْبَيْعِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا مَا عُتِقَ عَلَيْهِ ، وَالْجَوَابُ عَلَى هَذَا وَأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى إِبْقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِ ، أَنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ يَمْلِكُ الْبَائِعُ فِيهِ فَسْخَ الْعَقْدِ ، وَالْفَسْخُ قَدْ يَكُونُ فِعْلًا وَقَوْلًا ، فَإِذَا أَعْتَقَهُ فِي خِيَارِهِ كَانَ فَسْخًا ، فَيَصِيرُ عِتْقُهُ كَوُجُودِ الْفَسْخِ وَعَوْدِ الْمِلْكِ وَإِذَا أَنْفَذَ عِتْقَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ كَانَ نُفُوذُهُ بِصِفَةٍ تَتَقَدَّمُ الْبَيْعَ أَوْلَى . وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى بَقَاءِ الْمِلْكِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنْ مَلَكَ ثَمَرَةَ نَخْلٍ مِلْكًا صَحِيحًا قَبْلَ أَنْ تُرَى فِيهِ الصُّفْرَةُ أَوِ الْحُمْرَةُ ، فَالزَّكَاةُ عَلَى مَالِكِهَا الْآخَرِ يُزَكِّيهَا حِينَ تُزْهِي " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ زَكَاةَ الثِّمَارِ تَجِبُ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ ، فَإِذَا مَلَكَ ثَمَرَةً قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا مِلْكًا صَحِيحًا ، إِمَّا بِأَنْ وَرِثَهَا أَوِ اسْتَوْجَبَهَا أَوِ ابْتَاعَهَا مَعَ نَخْلِهَا ، ثُمَّ بَدَأَ إِصْلَاحَهَا فِي مِلْكِهِ فَعَلَيْهِ زَكَاتُهَا دُونَ مَنْ كَانَتْ عَلَى مِلْكِهِ : لِأَنَّ مَا بِهِ وَجَبَتْ زَكَاتُهَا وَهُوَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ كَانَ مَوْجُودًا فِي مِلْكِهِ فَلَوْ مَلَكَهَا بِبَيْعِ خِيَارٍ فَبَدَا صَلَاحُهَا فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ ، أَوْ خِيَارِ الثَّلَاثِ كَانَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ مَبْنِيًّا عَلَى الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنِ الْمِلْكَ قَدِ انْتَقَلَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَزَكَاتُهَا عَلَى الْمُشْتَرِي وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَقِلُ إِلَّا بِالْعَقْدِ ، وَتَقَضِّي الْخِيَارِ فَزَكَاتُهَا عَلَى الْبَائِعِ ، وَإِنْ قِيلَ : أَنَّهُ مَوْقُوفُ نُظِرَ فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ فَزَكَاتُهَا عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَإِنِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ فَزَكَاتُهَا عَلَى الْبَائِعِ ، فَلَوْ وَجَبَتْ زَكَاتُهَا عَلَى الْمُشْتَرِي عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمِلْكَ قَدِ انْتَقَلَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَفَسَخَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ فِي زَمَانِ الْخِيَارِ ، وَعَادَتِ الثَّمَرَةُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا إِلَى الْبَائِعِ ، فَفِي زَكَاتِهَا وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي الزَّكَاةِ هَلْ وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ أَوِ الْعَيْنِ ، أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا عَلَى الْمُشْتَرِي إِذَا قِيلَ : إِنَّهَا وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ وُجُوبًا مُنْبَرِمًا .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا قَدِ انْتَقَلَتْ إِلَى الْبَائِعِ لِانْتِقَالِ الثَّمَرَةِ إِلَيْهِ ، أَوْ قِيلَ : إِنَّهَا وَجَبَتْ فِي الْعَيْنِ وُجُوبَ اسْتِحْقَاقٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوِ اشْتَرَى الثَّمَرَةَ بَعْدَ مَا يَبْدُو صَلَاحُهَا وَالْعُشْرُ فِيهَا ، فَالْبَيْعُ فِيهَا مَفْسُوخٌ كَمَا لَوْ بَاعَهُ عَبْدَيْنِ أَحَدُهُمَا لَهُ وَالْآخَرُ لَيْسَ لَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي زَكَاةِ الْمَوَاشِي مُسْتَوْفَاةً ، وَسَنُشِيرُ إِلَى جُمْلَتِهَا وَنَذْكُرُ مَا سَنَحَ مِنَ الزِّيَادَةِ فِيهَا ، اعْلَمْ أَنَّ مَنْ بَاعَ ثَمَرَتَهُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا وَوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مَنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخَذَهَا لِخَرْصِهَا وَضَمِنَهَا بِزَكَاتِهَا فَبَيْعُ هَذَا جَائِزٌ ، لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَخَذَهَا أَمَانَةً ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا فِي يَدِهِ مَضْمُونَةً ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَبِيعَهُ تِسْعَةَ أَعْشَارِهَا ، وَيَسْتَثْنِيَ قَدْرَ الزَّكَاةِ مَشَاعًا فِيهَا ، فَهَذَا بَيْعٌ جَائِزٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَبِيعَهَا جَمِيعَهَا مَعَ مَا وَجَبَ مِنَ الزَّكَاةِ فِيهَا ، فَيَكُونُ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا بَاطِلٌ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّ الزَّكَاةَ اسْتِحْقَاقٌ فِي الْعَيْنِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْبَيْعُ فِي الْبَاقِي عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنِ اخْتِلَافِ الْعِلَّةِ : أَحَدُهُمَا : بَطَلَ : لِأَنَّ الصَّفْقَةَ جَمَعَتْ حَلَالًا وَحَرَامًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : جَائِزٌ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ ، فَإِنْ فَسَخَ رَجَعَ بِالثَّمَنِ ، وَإِنْ أَقَامَ فَالصَّحِيحُ أَنْ يُقِيمَ بِحِسَابِ الثَّمَنِ وَقِسْطِهِ وَقَدْ خَرَجَ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ يُقِيمَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِلَّا فَسَخَ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي الْأَصْلِ إِنَّ الْبَيْعَ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ جَائِزٌ إِذَا قُلْنَا إِنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ وُجُوبًا مُنْبَرِمًا ، فَعَلَى هَذَا الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ جَائِزٌ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ دَفَعَ الْبَائِعُ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهِ سَلِمَ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ وَانْبَرَمَ ، وَإِنْ أَخَذَهَا السَّاعِي مِنْ هَذِهِ الثَّمَرَةِ الْمَبِيعَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَ الثَّمَنَ ، وَصَارَتْ بِيَدِهِ ، فَأَخَذَهَا السَّاعِي مِنْهُ فَالْبَيْعُ لَا يَبْطُلُ فِيمَا أَخَذَهُ السَّاعِي : لِأَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ ، وَقَدْ صَارَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ لَكِنْ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِمِثْلِهِ : لِأَنَّ الثَّمَنَ مِثْلٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ فِي يَدِ الْبَائِعِ لَمْ يَقْبِضْهَا الْمُشْتَرِي بَعْدُ فَالْبَيْعُ فِيمَا أَخَذَهُ السَّاعِي مِنَ الزَّكَاةِ قَدْ بَطَلَ وَهُوَ فِي الْبَاقِي عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ جَائِزٌ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ عَلَى مَا مَضَى .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوِ اشْتَرَاهَا قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا عَلَى أَنْ يَجُدَّهَا أَخَذَ يَجُدُّهَا فَإِنْ بَدَا صَلَاحُهَا فُسِخَ الْبَيْعُ : لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُقْطَعُ فَيَمْنَعَ الزَّكَاةَ ، وَلَا يُجْبَرُ رَبُّ النَّخْلِ عَلَى تَرْكِهَا وَقَدِ اشْتَرَطَ قَطْعَهَا ، وَلَوْ رَضِيَا التَّرْكَ فَالزَّكَاةُ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَلَوْ رَضِيَ الْبَائِعُ التَّرْكَ وَأَبَى الْمُشْتَرِي فَفِيهَا قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنْ يُجْبَرُ عَلَى التَّرْكِ ، وَالثَّانِي : أَنْ يُفْسَخَ : لِأَنَّهُمَا اشْتَرَطَا الْقَطْعَ ثُمَّ بَطَلَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) فَأَشْبَهُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ بِقَوْلِهِ ، أَنْ يُفْسَخَ الْبَيْعُ قِيَاسًا عَلَى فَسْخِ الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا بَيْعُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا مُفْرَدَةً على من تكون زكاتها فَلَا يَجُوزُ إِلَّا بِشَرْطِ الْقَطْعِ ، وَلَوْ بَاعَهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ صَحَّ الْبَيْعُ ، وَوَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي قَطْعُهَا ، فَإِنْ تَمَادَى الْمُشْتَرِي فِي قَطْعِهَا وَدَافَعَ بِهِ حَتَّى بَدَا صَلَاحُهَا ، فَقَدْ وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ ثُمَّ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُجِيبَ الْبَائِعُ إِلَى تَرْكِ الثَّمَرَةِ عَلَى نَخْلِهِ إِلَى حِينِ صِرَامِهَا ، وَرَضِيَ الْمُشْتَرِي بِأَدَاءِ زَكَاتِهَا فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ في بيع الثمرة قبل بدو صلاحها وكيفية الزكاة فيها لَا يُفْسَخُ ، وَيَتْرُكُ الثَّمَرَةَ عَلَى النَّخْلِ إِلَى وَقْتِ الصِّرَامِ ، لَا تُقْطَعُ وَتُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنَ الْمُشْتَرِي عِنْدَ جَفَافِ الثَّمَرَةِ وَجِدَادِهَا . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَمْتَنِعَ الْبَائِعُ مِنْ تَرْكِ الثَّمَرَةِ عَلَى نَخْلِهِ ، وَيَأْبَى الْمُشْتَرِي مِنْ دَفْعِ الزَّكَاةِ مِنْ ثَمَرَتِهِ في بيع الثمرة قبل بدو صلاحها وكيفية الزكاة فيها فَالْوَاجِبُ أَنْ يَفْسَخَ الْبَائِعُ : لِأَنَّ فِي إِجْبَارِ الْبَائِعِ عَلَى تَرْكِ الثَّمَرَةِ إِضْرَارًا بِهِ وَفِي إِجْبَارِ الْمُشْتَرِي عَلَى قَطْعِهَا إِضْرَارٌ بِالْمَسَاكِينِ ، فَكَانَتِ الضَّرُورَةُ دَاعِيَةً إِلَى فَسْخِ الْبَيْعِ ، فَإِذَا فُسِخَ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُشْتَرِي الزَّكَاةُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ دَخَلَ فِي ابْتِيَاعِهَا عَلَى أَنْ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ فَسْخَ الْبَيْعِ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إِلَيْهِ ، فَأَمَّا الْبَائِعُ فَفِي إِيجَابِ زَكَاتِهَا عَلَيْهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ : لِأَنَّ بُدُوَّ صَلَاحِهَا كَانَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ هَاهُنَا أَنَّ زَكَاتَهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ : لِأَنَّ امْتِنَاعَهُ مِنَ التَّرْكِ سَبَبٌ لِفَسْخِ الْبَيْعِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَرْضَى الْمُشْتَرِي بِدَفْعِ زَكَاتِهَا وَيَمْتَنِعَ الْبَائِعُ مِنْ تَرْكِهَا ، فَيُفْسَخُ الْبَيْعُ في بيع الثمرة قبل بدو صلاحها وكيفية الزكاة فيها أَيْضًا وَتَرُدُّ الثَّمَرَةُ عَلَى الْبَائِعِ ، وَتُؤْخَذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ وَجْهًا وَاحِدًا : لِأَنَّ رِضَى الْمُشْتَرِي بِالتَّرْكِ يُوجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فَكَانَ امْتِنَاعُ الْبَائِعِ مِنْ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَيْهِ وُجُوبُ الزَّكَاةِ : لِأَنْ لَا تَسْقُطَ بَعْدَ وُجُوبِهَا .

وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ بِتَرْكِهَا ، وَيَمْتَنِعَ الْمُشْتَرِي مِنْ أَدَاءِ زَكَاتِهَا في بيع الثمرة قبل بدو صلاحها وكيفية الزكاة فيها فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ يُفْسَخُ الْبَيْعُ وَتُرَدُّ الثَّمَرَةُ عَلَى الْبَائِعِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعَ بَعْدَ الرِّضَا فَيَكُونُ الْمُشْتَرِي بِدَفْعِ الزَّكَاةِ مُغَرَّرًا . وَالثَّانِي : أَنَّ رِضَا الْبَائِعِ يُوجِبُ عَلَيْهِ تَرْكَهَا وَهُوَ قَدِ اسْتَحَقَّ تَعْجِيلَ الِانْتِفَاعِ بِهَا بِمَا شَرَطَ مِنْ قَطْعِهَا ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ تَأْجِيلُ مَا اسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ تَعْجِيلَهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْبَيْعَ مُقَرٌّ عَلَى حَالِهِ لَا يُفْسَخُ ، وَتُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنَ الْمُشْتَرِي وَإِنْ كَرِهَ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ رِضَى الْبَائِعِ تَرْكَهَا بَدَلَ زِيَادَةٍ غَيْرِ مُثْمِرَةٍ يَرْتَفِعُ بِهَا مَا يَخَافُهُ الْمُشْتَرِي مِنَ الضَّرَرِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ بِقَطْعِهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى قَبُولِهَا ، وَيَمْتَنِعَ الْبَائِعُ مِنَ الرُّجُوعِ فِيهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ وُجُوبَ زَكَاةِ الثَّمَرَةِ بِبُدُوِّ صَلَاحِهَا نَقْصٌ فِي الثَّمَرَةِ يَجْرِي مَجْرَى الْعَيْبِ ، فَلَمْ يَلْزَمِ الْبَائِعُ اسْتِرْجَاعَ ثَمَرَتِهِ نَاقِصَةً وَلَا قَبُولَهَا مَعِيبَةً ، وَكَانَ الْبَيْعُ لِلْمُشْتَرِي لَازِمًا وَزَكَاةُ الثَّمَرَةِ عَلَيْهِ حَتْمًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ : فَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ نَخْلَةً بِعَيْنِهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ ، فَلَمْ يَقْطَعْهَا الْمُشْتَرِي حَتَّى بَدَا صَلَاحُهَا نُظِرَ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ لِلْمُشْتَرِي غَيْرَ مَا اشْتَرَى ، وَلَا مَلَكَ الْبَائِعُ غَيْرَ مَا يَبْقَى فَلَا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا : لِأَنَّ تَمْيِيزَ مِلْكِهِمَا وَاشْتِرَاطَ الْقَطْعِ عَلَى الْوَاحِدِ مِنْهُمَا يَمْنَعُ مِنَ الْخُلْطَةِ ، وَنُقْصَانُ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ النِّصَابِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ الْخُلْطَةِ ، وَإِنْ مَلَكَ الْبَائِعُ تَمَامَ النِّصَابِ مَعَ مَا يَبْقَى وَلَمْ يَمْلِكِ الْمُشْتَرِي غَيْرَ مَا اشْتَرَى ، فَعَلَى الْبَائِعِ الزَّكَاةُ فَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ وَلَا خِيَارَ لَهُ ، وَإِنْ مَلَكَ الْمُشْتَرِي تَمَامَ النِّصَابِ مَعَ مَا اشْتَرَى ، وَلَمْ يَمْلِكِ الْبَائِعُ غَيْرَ مَا يَبْقَى فَلَا زَكَاةَ عَلَى الْبَائِعِ ، فَأَمَّا الْبَائِعُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ : يَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِمْضَائِهِ . وَقَالَ غَيْرُهُ : وَهُوَ الصَّحِيحُ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ، وَلَا يُفْسَخُ الْبَيْعُ قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ فِيمَا اشْتَرَاهُ لِأَجْلِ الَّذِي كَمَّلَ النِّصَابَ بِهِ ، وَإِنْ مَلَكَ الْبَائِعُ كَمَالَ النِّصَابِ مَعَ مَا يَبْقَى ، وَمَلَكَ الْمُشْتَرِي تَمَامَ النِّصَابِ مَعَ مَا اشْتَرَى فَعَلَى الْبَائِعِ الزَّكَاةُ ، فَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَعَلَى مَا مَضَى ، فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَحْوَالَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي مُخْتَلِفَةٌ عَلَى الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوِ اسْتَهَلَكَ رَجُلٌ ثَمَرَةً وَقَدْ خُرِصَتْ أَخَذَ بِثَمَنِ عُشْرِ وَسَطِهَا ، وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ بَاعَ الْمُصَدِّقُ شَيْئًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ ، أَوْ يُقَسِّمَهُ عَلَى أَهْلِهِ ، لَا يَجْزِي غَيْرُهُ وَأَفْسَخُ بَيْعَهُ إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا قَبَضَ السَّاعِي زَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ فَعَلَيْهِ إِيصَالُهَا إِلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ ، وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُهَا إِلَّا لِضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ ، مِنْ خَوْفِ طَرِيقٍ أَوْ خَوْفٍ مِنْ لُصُوصٍ أَوْ بُعْدِ مَسَافَةٍ يَخَافُ أَنْ تُحِيطَ مُؤْنَتُهَا بِثَمَنِهَا ، فَإِنْ بَاعَهَا لِضَرُورَةٍ كَانَ بَيْعُهُ جَائِزًا إِذَا كَانَ بِثَمَنِ مِثْلِهَا ، وَإِنْ بَاعَهَا لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا ، وَيَسْتَرْجِعُ مَا بَاعَهُ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي إِنْ كَانَ بَاقِيًا ، وَإِنْ تَلَفَ لَزِمَهُ ضَمَانُهُ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ لَزِمَهُ رَدُّ مِثْلِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ لَزِمَهُ أَكْثَرُ قِيمَتِهِ مِنْ وَقْتِ بَيْعِهِ إِلَى وَقْتِ تَلَفِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَكْرَهُ لِلرَّجُلِ شِرَاءَ صَدَقَتِهِ إِذَا وَصَلَتْ إِلَى أَهْلِهَا وَلَا أَفْسَخُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَلِذَا كَرِهْتُ لَهُ شِرَاءَ مَا تَصَدَّقَ بِهِ وَاجِبًا وَتَطَوُّعًا : لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُقَالُ لَهُ الْوَرْدُ فَرَآهُ يُبَاعُ فِي السُّوقِ ، فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ وَلَوْ أَعْطَيْتَهَا نِصْفَيْنِ وَدَعْهَا حَتَّى تَكُونَ هِيَ وَنِتَاجُهَا لَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَلِأَنْ لَا يُسَامِحَ فِي ثَمَنِهَا فَيُنْقِصَ مِنْ ثَوَابِهِ ، وَلِأَنْ لَا يُتْبِعَهَا نَفْسَهُ فَيُسْتَرَابَ لَهُ فَإِنِ ابْتَاعَهَا كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا . وَقَالَ مَالِكٌ : الْبَيْعُ بَاطِلٌ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ أَنْ يَعُودَ فِي صَدَقَتِهِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ ، وَذَكَرَ مِنْهُمْ رَجُلًا اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ وَلِأَنَّ عَوْدَهَا إِلَيْهِ بِغَيْرِ الْمَعْنَى الَّذِي تَمَلَّكَتْهُ عَلَيْهِ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ عَادَتْ إِلَيْهِ مِيرَاثًا ، جَازَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا تَصَدَّقَ عَلَى أَبِيهِ بِحَدِيقَةٍ فَمَاتَ فَرَجَعَتْ إِلَيْهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قُبِلَتْ صَدَقَتُكَ وَبَلَغَتْ مَحَلَّهَا وَصَارَ ذَلِكَ مِيرَاثًا " ، وَإِذَا جَازَ عَوْدُهَا إِلَيْهِ بِالْمِيرَاثِ جَازَ عَوْدُهَا بِالِابْتِيَاعِ ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّ كُلَّ مَا جَازَ أَنْ يَمْلِكَهُ إِرْثًا ، جَازَ أَنْ يَمْلِكَهُ ابْتِيَاعًا كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ .

فَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَفِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عُمَرَ كَانَ قَدْ وَقَفَ فَرَسَهُ وَشِرَاءُ الْوَقْفِ بَاطِلٌ بِوِفَاقٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَالِاسْتِحْبَابِ : لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ الْعَقْدِ دُونَ فَسَادِهِ كَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ النَّجِسِ ، وَأَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ .

فَصْلٌ : إِذَا كَانَ لِرَبِّ الْمَالِ دَيْنٌ عَلَى فَقِيرٍ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنِهِ قِصَاصًا مِنْ زَكَاتِهِ ، إِلَّا أَنْ يَدْفَعَ الزَّكَاةَ إِلَيْهِ فَيَقْبِضَهَا مِنْهُ ثُمَّ يَخْتَارُ الْفَقِيرُ دَفْعَهَا إِلَيْهِ قَضَاءً مِنْ دَيْنِهِ ، فَيَجُوزُ ، وَقَالَ مَالِكٌ إِنْ جَعَلَ مَا عَلَى الْفَقِيرِ مِنْ دَيْنِهِ قِصَاصًا مِنْ زَكَاتِهِ جَازَ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ وَالْعَجَبُ لَهُ إِذَا مَنَعَ مِنِ ابْتِيَاعِهَا بِعِوَضٍ عَاجِلٍ وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ قِصَاصًا بِدَيْنٍ هَالِكٍ هَذَا مَذْهَبٌ ظَاهِرُ الْفَسَادِ .

بَابُ زَكَاةِ الْمَعْدِنِ

بَابُ زَكَاةِ الْمَعْدِنِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنَ الْمَعَادِنِ إِلَّا ذَهَبًا أَوْ وَرِقًّا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْمَعْدِنُ فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ عَدَنَ الشَّيْءَ فِي الْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ فِيهِ وَالْعَدْنُ الْإِقَامَةُ ، وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : جَنَّاتُ عَدْنٍ ، [ النَّحْلِ : ] ، جَنَّاتِ إِقَامَةٍ وَقِيلَ : فِي الْبَلَدِ الْمَنْسُوبِ إِلَى عَدَنَ إِنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ ، إِنَّهُ كَانَ حَبْسًا لِتُبَّعٍ يُقِيمَ فِيهِ أَهْلُ الْجَرَائِمِ ، فَالْمَعَادِنُ هِيَ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ ، جَوَاهِرَ الْأَرْضِ مِنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالْمَرْجَانِ وَالْيَاقُوتِ وَالزُّمُرُّدِ وَالْعَقِيقِ وَالزَّبَرْجَدِ ، وَإِلَى مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْكُحْلِ وَالزِّئْبَقِ وَالنِّفْطِ فَلَا زَكَاةَ فِي جَمِيعِهَا ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي مِلْكٍ أَوْ مَوَاتٍ إِلَّا فِي مَعَادِنِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ ، دُونَ مَا عَدَاهُمَا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ مَا انْطَبَعَ مِنْهَا كَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ ، دُونَ مَا لَا يَنْطَبِعُ مِنَ الذَّائِبِ وَالْأَحْجَارِ : اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّكَازِ الْخُمُسُ وَالْمَعَادِنُ تُسَمَّى رِكَازًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْخُمُسُ فِي جَمِيعِهَا عَامًّا ، وَلِأَنَّهُ جَوْهَرٌ يَنْطَبِعُ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ كَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ ، وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ كُلَّ مَا لَا يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي عَيْنِهِ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ ، إِذَا أُخِذَ مِنْ مَعْدِنِهِ كَالْكُحْلِ وَالزِّرْنِيخِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَوْ وَرِثَهُ ، لَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ فَوَجَبَ إِذَا اسْتَفَادَهُ مِنَ الْمَعْدِنِ أَنْ لَا تَجِبَ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالنِّفْطِ وَالْقِيرِ ، وَلِأَنَّهُ مُقَوَّمٌ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْمَعْدِنِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالْيَاقُوتِ وَالزُّمُرُّدِ ، وَلِأَنَّ الْمَعَادِنَ إِمَّا أَنْ تَجْرِيَ مَجْرَى الْفَيْءَ فِيمَا تَجِبُ فِيهِ ، أَوْ مَجْرَى الزَّكَاةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ كَالْفَيْءِ : لِأَنَّ خُمُسَ الْفَيْءِ يَجِبُ فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ مَا انْطَبَعَ مِنْهَا وَلَمْ يَنْطَبِعْ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الزَّكَاةِ ، وَالزَّكَاةُ لَا تَجْرِي فِي غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَكَذَا لَا تَجِبُ إِلَّا فِي مَعَادِنِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ : لِأَنَّ الرِّكَازَ غَيْرُ الْمَعَادِنِ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ يَنْطَبِعُ فَفَاسِدٌ بِالزُّجَاجِ : لِأَنَّهُ يَنْطَبِعُ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ أَنَّهُ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ لَوْ مَلَكَ مِنْ غَيْرِ الْمَعْدِنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا خَرَجَ مِنْهَا ذَهَبٌ أَوْ وَرِقٌ فَكَانَ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ حَتَّى يُعَالَجَ بِالنَّارِ أَوِ الطَّعْنِ أَوِ التَّحْصِيلِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَصِيرَ ذَهَبًا أَوْ وَرِقَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . أَمَّا وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهِ فَبِاسْتِخْرَاجِهِ مِنْ مَعْدِنِهِ زكاة المعادن قبل معالجتها بالنار ، وَأَمَّا وَقْتُ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْهُ فَبِتَخْلِيصِهِ وَتَصْفِيَتِهِ حَتَّى يَصِيرَ وَرِقًا خَالِصًا أَوْ ذَهَبًا صَافِيًا ، كَالثِّمَارِ الَّتِي تَجِبُ زَكَاتُهَا بِبُدُوِّ صَلَاحِهَا ، وَيُخْرَجُ مِنْهَا بَعْدَ جَفَافِهَا وَصِرَامِهَا ، كَذَلِكَ مَعَادِنُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ بِالْأَخْذِ وَالِاسْتِخْرَاجِ ، وَتَجِبُ الزَّكَاةُ مِنْهَا بَعْدَ التَّصْفِيَةِ وَالتَّمَيُّزِ تَشْبِيهًا بِمَا ذَكَرْنَا وَلِأَنَّ النِّصَابَ فِيهِ مُعْتَبَرٌ ، وَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ إِلَّا بَعْدَ تَمْيِيزِهِ ، وَعَلَيْهِ الْتِزَامُ مُؤْنَتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ دَفَعَ مِنْهُ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَحْصُلَ ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا فَالْمُصَدِّقُ ضَامِنٌ ، وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ إِنِ اسْتَهْلَكَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ زَكَاةِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ قَبْلَ التَّمْيِيزِ وَالتَّصْفِيَةِ ، فَإِنْ أَخْرَجَهَا قَبْلَ تَمْيِيزِهَا وَتَصْفِيَتِهَا وَجَبَ عَلَى الْمُصَدِّقِ رَدُّ مَا أَخَذَهُ ، وَكَانَ ضَامِنًا لَهُ حَتَّى يَرُدَّهُ : لِأَنَّهُ أَخَذَ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَهُ ، فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ كَانَ عَلَيْهِ غَرِمَ قِيمَتَهُ فَإِنْ كَانَ ذَهَبًا غَرِمَ قِيمَتَهُ وَرِقًا ، وَإِنْ كَانَ وَرِقًا غَرِمَ قِيمَتَهُ ذَهَبًا فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْقِيمَةِ ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُصَدِّقِ مَعَ يَمِينِهِ : لِأَنَّهُ غَارِمٌ فَلَوْ رَدَّهُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ : لَيْسَ هَذَا لِي ، أَوْ قَدْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا ، فَالْقَوْلُ أَيْضًا قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، فَلَوْ لَمْ يَرُدَّ الْمُصَدِّقُ مَا أَخَذَهُ حَتَّى صَفَّاهُ وَمَيَّزَهُ ، وَكَانَ ذَلِكَ بِقَدْرِ مَا وَجَبَ مِنَ الزَّكَاةِ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ رَدَّ الزِّيَادَةَ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ طَالَبَ بِالنُّقْصَانِ كَأَنَّهُ مَيَّزَ مَا أَخَذَهُ فَكَانَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ، فَيَحْتَسِبُ بِهَذِهِ الْعَشْرَةِ وَإِنْ كَانَ جُمْلَةُ مَا أَخَذَ مِنَ الْمَعْدِنِ بَعْدَ تَمْيِيزِهِ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَالْعَشْرَةُ قَدَرُ زَكَاتِهَا إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا رُبُعُ الْعَشْرِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ طَالَبَ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ رَدَّ مَا فَضَلَ مِنْهَا وَيُشْبِهُ ذَلِكَ مِنْ زَكَاةِ الثِّمَارِ ، أَنْ يَأْخُذَ الْمُصَدِّقُ عُشْرَ الثَّمَرَةِ رُطَبًا وَهِيَ مِمَّا تَصِيرُ تَمْرًا فَعَلَيْهِ رَدُّهُ ، فَلَوْ لَمْ يَرُدَّهُ حَتَّى جَفَّفَهُ احْتَسَبَ بِمَا حَصَلَ مِنْهُ مِنْ زَكَاةِ رَبِّ الْمَالِ وَطَالَبَ بِمَا زَادَ أَوْ رَدَّ مَا نَقَصَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ تُرَابِ الْمَعَادِنِ بِحَالٍ : لِأَنَّهُ ذَهَبٌ أَوْ وَرِقٌ مُخْتَلِطٌ بِغَيْرِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ : بَيْعُ تُرَابِ الْمَعْدِنِ وَتُرَابِ الصَّاغَةِ غَيْرُ جَائِزٍ . وَقَالَ مَالِكٌ يَجُوزُ بَيْعُ تُرَابِ الْمَعَادِنِ دُونَ تُرَابِ الصَّاغَةِ : لِأَنَّ اخْتِلَاطَ الشَّيْءِ بِغَيْرِهِ لَا

يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ بَيْعِهِ كَالْحِنْطَةِ الْمُخْتَلِطَةِ بِالشَّعِيرِ وَالنِّدِّ الْمَعْجُونِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِهِ نَهْيُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْفَرْزِ وَفِي تُرَابِ الْمَعَادِنِ وَالصَّاغَةِ أَعْظَمُ الْفَرْدِ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ مَجْهُولٌ ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ كَتُرَابِ الصَّاغَةِ ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ جَوَازِ بَيْعِ الْحِنْطَةِ الْمُخْتَلِطَةِ بِالشَّعِيرِ فَإِنَّمَا جَازَ : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ ، وَمِثْلُهُ إِذَا اخْتَلَطَتِ الدَّرَاهِمُ بِالدَّنَانِيرِ جَازَ بَيْعُهَا : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَقْصُودٌ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، فَإِنْ بَاعَ تُرَابَ مَعَادِنِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَتُرَابَ مَعَادِنِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ لَمْ يَجُزْ لِعِلَّتَيْنِ . إِحْدَاهُمَا : خَوْفُ الرِّبَا . وَالثَّانِيَةُ : جَهَالَةُ الْمَعْقُودِ . فَلَوْ بَاعَ تُرَابَ الْفِضَّةِ بِالذَّهَبِ ، أَوْ تُرَابَ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَنَا لِجَهَالَةِ الْعُقُودِ ، وَجَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِزَوَالِ الرِّبَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ نَاحِيَتِنَا إِلَى أَنَّ فِي الْمَعَادِنِ الزَّكَاةَ ، وَغَيْرُهُمْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمَعَادِنَ رِكَازٌ فَفِيهَا الْخُمُسُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَا يَجِبُ فِي الْمَعَادِنِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ حَكَاهَا أَصْحَابُنَا أَقَاوِيلَ لِلشَّافِعِيِّ : أَحَدُهَا : فِيهَا رُبْعُ الْعُشْرِ مقدار زكاة المعادن كَالزَّكَاةِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ ، وَإِسْحَاقَ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ ، " وَالْإِمْلَاءِ " وَفِي كِتَابِ " الْأُمِّ " . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : أَنَّ فِيهَا الْخُمُسَ كَالرِّكَازِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَحَدُ أَقَاوِيلِ الشَّافِعِيِّ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ إِنْ أُخِذَ بِمُؤْنَةٍ وَتَعَبٍ فَفِيهِ رُبْعُ الْعُشْرِ ، وَإِنْ وُجِدَ نُدْرَةً مُجْتَمِعَةً أَوْ وُجِدَ فِي أَثَرِ سَيْلٍ فِي بَطْحَاءَ بِلَا مُؤْنَةٍ فَفِيهِ الْخُمُسُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ ، وَحَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ ، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " فَمَنْ أَوْجَبَ فِيهِ الْخُمُسَ اسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الرِّكَازُ ؟ فَقَالَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ اللَّذَانِ جَعَلَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعَادِنَ رِكَازٌ وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ وَجَدَ كَنْزًا فِي قَرْيَةٍ خَرِبَةٍ . فَقَالَ : إِنْ وَجَدَهُ فِي قَرْيَةٍ مَسْكُونَةٍ أَوْ فِي سَبِيلِ مَيِّتَاءَ فَعَرَفَهُ ،

وَإِنْ وَجَدَهُ فِي خَرْبَةٍ جَاهِلِيَّةٍ ، أَوْ فِي قَرْيَةٍ غَيْرِ مَسْكُونَةٍ فَفِيهِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ " وَلِأَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ إِيدَاعِ أَصْلٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ الْخُمُسَ كَالرِّكَازِ ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَ فِيهِ رُبْعَ الْعُشْرِ بِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّقَّةِ رُبْعُ الْعُشْرِ ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْطَعَ بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ مَعَادِنَ الْقَبَلِيَّةِ فَتِلْكَ الْمَعَادِنُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا إِلَّا الزَّكَاةُ إِلَى الْيَوْمِ وَهَذَا مُرْسَلٌ وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ ضَعِيفٌ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَعْتَمِدْ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ لَكِنْ قَدْ رَوَى غَيْرُ الشَّافِعِيِّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ مِنْهُ زَكَاةَ الْمَعَادِنِ الْقَبَلِيَّةَ وَهَذَا نَصٌّ مُسْتَنِدٌ ، وَرَوَى جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ وَفِي الْمَعْدِنِ الصَّدَقَةُ ، وَلِأَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْأَرْضِ لَمْ يُمْلَكْ غَيْرُهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ فِيهِ الْخُمُسُ كَالْحُبُوبِ ، وَاسْتَدَلَّ مَنِ اعْتَبَرَ كَثْرَةَ الْمُؤْنَةِ وَقِلَّتَهَا بِالزَّرْعِ وَالثَّمَرَةِ : لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا يَقِلُّ بِكَثْرَةِ الْمُؤْنَةِ ، إِذَا سَقَى بِغَرْبٍ أَوْ نَضْحٍ فَيَجِبُ فِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ ، وَيَكْثُرُ بِقِلَّةِ الْمُؤْنَةِ ، إِذَا سَقَى بِمَاءِ سَمَاءٍ أَوْ سَيْحٍ فَيَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ ، فَكَذَلِكَ الْمَعَادِنُ إِنْ قُلْنَا الْمُؤْنَةُ فِي الْمَأْخُوذِ مِنْهَا ، وَجَبَ فِيهَا الْخُمُسُ كَالرِّكَازِ وَإِنْ كَانَتِ الْمُؤْنَةُ فِي الْمَأْخُوذِ مِنْهَا وَجَبَ فِيهِ رُبْعُ الْعُشْرِ كَالنَّاضِّ ، فَهَذَا تَوْجِيهُ الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَا قِيلَ فِيهِ الزَّكَاةُ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ الذَّهَبُ مِنْهُ عِشْرِينَ مِثْقَالًا وَالْوَرِقُ مِنْهُ خَمْسَ أَوَاقٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : لَيْسَ يَخْتَلِفُ مَذْهَبٌ أَنَّ النِّصَابَ مُعْتَبَرٌ فِي الْمَعَادِنِ سَوَاءٌ قِيلَ : إِنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ رُبْعُ الْعُشْرِ كَالزَّكَاةِ ، أَوِ الْخُمُسُ كَالرِّكَازِ ، فَإِنْ كَانَ وَزْنًا فَلَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَ أَوَاقٍ ، وَإِنْ كَانَ ذَهَبًا فَلَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ : " لَوْ كُنْتُ الْوَاجِدَ لَهُ لَزَكَّيْتُهُ بَالِغًا مَا بَلَغَ " عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ لِنَفْسِهِ ، لِيَكُونَ خَارِجًا مِنَ الْخِلَافِ كَمَا قَالَ فِي السَّفَرِ : " أَمَّا أَنَا فَلَا أَقْصُرُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ " فَلَا وَجْهَ فِيهِ لِمَا وَهِمَ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَخَرَّجَ لَهُ ذَلِكَ قَوْلًا ثَانِيًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُخْرَجُ مِنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ نِصَابٍ ، وَبِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ لَيْسَ بِزَكَاةٍ وَإِنَّمَا هُوَ كَخُمُسِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ زَكَاةٌ ، وَإِنْ وَجَبَ فِيهِ الْخُمُسُ وَكَذَا الزَّكَاةُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ فَلَمَّا نَفَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا سِوَى الزَّكَاةِ ، وَأَثْبَتَ الزَّكَاةَ وَكَانَ فِي الْمَعَادِنِ وَالرِّكَازِ حَقٌّ ثَابِتٌ ، عُلِمَ أَنَّهُ زَكَاةٌ لِنَفْيهِ مَا سِوَاهَا ، وَلِأَنَّ مَالَ الْفَيْءِ مَأْخُوذٌ مِنْ مُشْرِكٍ عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ وَالذِّلَّةِ ، وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ مُسْلِمٍ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَالطُّهْرَةِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا مَعَ اخْتِلَافِ أَحْكَامِهِمَا وَمُوجِبِهِمَا ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى اعْتِبَارِ النِّصَابِ مَعَ مَا سَلَفَ فِي بَابِ زَكَاةِ الْوَرِقِ وَالذَّهَبِ ، مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ الْمِقْدَادِ أَنَّهُ ذَهَبَ لِحَاجَةٍ ، فَإِذَا بِجُرْذٍ يَخْرُجُ مِنْ أَرْضِ دَنَانِيرَ فَأَخْرَجَ سَبْعَةَ عَشَرَ دِينَارًا ثُمَّ أَخْرَجَ خِرْقَةً حَمْرَاءَ فِيهَا دِينَارٌ ، فَجَاءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَأْخُذْ زَكَاتَهَا فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مَا دُونَ النِّصَابِ مِنَ الْمَعَادِنِ وَالرِّكَازِ لَا شَيْءَ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُضَمُّ مَا أَصَابَ فِي الْأَيَّامِ الْمُتَتَابِعَةِ من المعادن " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِنَّمَا ضُمَّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ : لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ مُهْلَةٍ مِنَ النَّيْلِ ، فَلَوْ قُلْنَا أَنْ لَا يُضَمَّ لَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى سُقُوطِ الزَّكَاةِ عَنْهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ ظُهُورَ الصَّلَاحِ فِي بَعْضِ الثِّمَارِ بِمَنْزِلَةِ ظُهُورِهِ فِي الْجَمِيعِ ، لِأَنَّا لَوِ اعْتَبَرْنَا ثَمَرَةً بَعْدَ ثَمَرَةٍ سَقَطَتِ الزَّكَاةُ ، فَكَذَا الْمَعَادِنُ فَلَوْ أَتْلَفَ مَا أَخَذَهُ أَوْ لَا حُسِبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، فَإِذَا بَلَغَ مَعَ الثَّانِي نِصَابًا زَكَّاهُ ، وَفِيمَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ كَانَ الْمَعْدِنُ غَيْرَ حَاقِدٍ فَقَطَعَ الْعَمَلَ فِيهِ ثُمَّ اسْتَأْنَفَهُ لَمْ يُضَمَّ ، كَثُرَ الْقَطْعُ عَنْهُ لَهُ أَوْ قَلَّ ، وَالْقَطْعُ تَرْكُ الْعَمَلِ لِغَيْرِ عُذْرٍ أَدَّاهُ أَوْ عِلَّةِ مَرَضٍ أَوْ هَرَبِ عَبِيدٍ ، لَا وَقْتَ فِيهِ إِلَّا مَا وَصَفْتُ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا قَوْلُهُ غَيْرُ حَاقِدٍ يَعْنِي مَانِعٍ لِنَيْلِهِ يُقَالُ حَقَدَ الْمَعْدِنَ إِذَا مَنَعَ وَأَنَالَ إِذَا أَعْطَاهُ ، فَلَوْ كَانَ الْمَعْدِنُ مُنِيلًا غَيْرَ حَاقِدٍ فَقَطَعَ الْعَمَلَ فِيهِ كيفية الزكاة إذا ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقْطَعَهُ لِعُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ هَرَبِ عَبِيدٍ ، وَتَعَذُّرِ آلَةٍ ، فَإِذَا أَعَادَ ضَمَّ مَا أَصَابَهُ بَعْدَ عَوْدِهِ إِلَى مَا أَصَابَهُ قَبْلَ فَقْدٍ قَطَعَهُ : لِأَنَّ الْقَطْعَ لَمْ يَقَعْ بِاخْتِيَارِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ زَمَانِ النَّيْلِ ، وَأَوْقَاتِ الِاسْتِرَاحَةِ وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَقْطَعَهُ مُخْتَارًا نَاوِيًا تَرْكَ الْعَمَلِ فِيهِ ، فَإِنْ عَادَ صَارَ مُسْتَأْنِفًا وَلَمْ يَضُمَّ مَا أَصَابَهُ فِي الثَّانِي إِلَى مَا أَصَابَهُ فِي الْأَوَّلِ ، كَمَنْ غَيَّرَ نِيَّةَ التِّجَارَةِ ثُمَّ اسْتَأْنَفَهَا لَمْ يَبْنِ عَلَى مَا مَضَى ، وَاسْتَأْنَفَ حُكْمَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ تَابَعَ فَحَقَدَ وَلَمْ يَقْطَعِ الْعَمَلَ فِيهِ ضَمَّ مَا أَصَابَ مِنْهُ بِالْعَمَلِ الْآخَرِ إِلَى الْأَوَّلِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى الْعَمَلِ فَحَقَدَ الْمَعْدِنُ ، وَمَنَعَ نَيْلَهُ ثُمَّ أَنَالَ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ حِقْدُهُ يَسِيرًا فَهَذَا يُبْنَى ، وَلَا تَأْثِيرَ لِحِقْدِهِ لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ حِقْدُهُ كَثِيرًا وَزَمَانُ مَنْعِهِ طَوِيلًا ، فَفِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يَسْتَأْنِفُ وَلَا يَضُمُّ : لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمِّ بِشَرْطَيْنِ الْعَمَلِ وَالنَّيْلِ فَلَمَّا كَانَ قَطْعُ الْعَمَلِ مَعَ اسْتِدَامَةِ النَّيْلِ لَا يُوجِبُ الضَّمَّ فَكَذَا اسْتِدَامَةُ الْعَمَلِ مَعَ قَطْعِ النَّيْلِ لَا يُوجِبُ الضَّمَّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ يَضُمُّ وَلَا يَسْتَأْنِفُ : لِأَنَّ نَيْلَ الْمَعَادِنِ فِي الْعَادَةِ يَخْتَلِفُ بِنَيْلٍ تَارَةً وَبِحِقْدٍ تَارَةً ، وَلِأَنَّ انْقِطَاعَ النَّيْلِ عُذْرٌ كَانْقِطَاعِ الْعَمَلِ بِعُذْرٍ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ انْقِطَاعَ الْعَمَلِ بِعُذْرٍ يُوجِبُ الضَّمَّ وَكَذَا انْقِطَاعُ النَّيْلِ الَّذِي هُوَ عُذْرٌ يُوجِبُ الضَّمَّ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : وَالَّذِي أَنَا فِيهِ وَاقِفٌ الزَّكَاةُ فِي الْمَعْدِنِ وَالتَّبْرِ الْمَخْلُوقِ فِي الْأَرْضِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) إِذَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ أَصْلٌ فَأَوْلَى بِهِ أَنْ يَجْعَلَهُ فَائِدَةً وَقَدْ أَخْبَرَنِي عَنْهُ بِذَلِكَ مَنْ أَثِقُ بِقَوْلِهِ وَهُوَ الْقِيَاسُ عِنْدِي وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا اعْتِبَارُ الْحَوْلِ فِي زَكَاةِ الْمَعْدِنِ فَسَاقِطٌ لَا يُعْرَفُ ، قَوْلُ الشَّافِعِيِّ اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا مَا حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ مَنْ يَثِقُ بِهِ ، فَلَا يَلْزَمُنَا الْقَوْلُ بِهِ : لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ وَيَلْزَمُ الْمُزَنِيَّ الْقَوْلُ بِهِ : لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ ثُمَّ اسْتَدَلَّ الْمُزَنِيُّ أَيْضًا بِقَوْلِهِ إِنَّهُ فِيهِ وَاقِفٌ ، وَعِنْدَنَا أَنَّ

وُقُوفَ الشَّافِعِيِّ فِي الْمِقْدَارِ لَا فِي الْحَوْلِ ، وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْحَوْلَ لَا يُعْتَبَرُ فِي الْمَقَادِيرِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ : لِأَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْأَرْضِ ، فَلَمْ يُرَاعَ فِيهِ الْحَوْلُ كَالزَّرْعِ وَلِأَنَّ الْحَوْلَ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ كَامِلَ النَّمَاءِ وَهَذَا نَمَاءٌ فِي نَفْسِهِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْحَوْلُ كَالسِّخَالِ وَأَرْبَاحِ التِّجَارَاتِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَ مَا رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ قَوْلًا ثَانِيًا وَاعْتَبَرَ فِيهِ الْحَوْلَ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ لِقَوْلِهِ لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَلِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا تَتَكَرَّرُ زَكَاتُهُ : فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ حَوْلُهُ كَالْمُسْتَفَادِ بِهِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ .

فَصْلٌ : إِذَا اجْتَمَعَ رَجُلَانِ عَلَى مَعْدِنٍ فَأَخَذَا مِنْهُ مَعًا نِصَابًا كيفية أخذ الزكاة ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْخُلْطَةَ لَا تَصِحُّ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ فَلَا شَيْءَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْخُلْطَةَ تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ الْمَوَاشِي عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ فَعَلَيْهِمَا الزَّكَاةُ لِأَنَّهُمَا خَلِيطَانِ فِي نِصَابٍ .

فَصْلٌ : إِذَا عَمِلَ الْمُكَاتَبُ فِي الْمَعْدِنِ وَاسْتَفَادَ مِنْهُ وَرِقًا أَوْ ذَهَبًا هل تجب عليه الزكاة فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ مَالِكًا لِمَا أَخَذَهُ : لِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الزَّكَاةِ كَالْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ ، فَإِنْ قِيلَ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَغْنَمَ الْمُكَاتَبُ مَالًا فَيُؤْخَذَ خُمُسُهُ ؟ وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَفِيدَ مَعْدِنًا أَوْ رِكَازًا فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ ؟ قِيلَ : لِأَنَّهُ فِي الْغَنِيمَةِ لَا يَمْلِكُ إِلَّا أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهَا وَيَمْلِكُ أَهْلُ الْخُمُسِ مَعَهُ خُمُسَهَا ، وَفِي الرِّكَازِ وَالْمَعْدِنِ يَمْلِكُ جَمِيعَهُ أَوَّلًا فَإِنْ كَانَ حُرًّا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ خُمُسُهُ بَعْدَ مِلْكِهِ ، كَمَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُكَاتَبًا لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ خُمُسَهُ بَعْدَ مِلْكِهِ ، كَمَا لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَالِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنَ الْعَمَلِ في المعادن كَمَا يُمْنَعُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ فَإِنْ عَمِلَ فِيهِ بَعْدَ مِلْكِ مَا أَخَذَهُ ، لَمْ تَلْزَمْهُ زَكَاتُهُ : لِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ قِيلَ : إِذَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنَ الْعَمَلِ فِي الْمَعْدِنِ كَمَا يُمْنَعُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ ، فَهَلَّا كَانَ غَيْرَ مَالِكٍ لِمَا أَخَذَهُ مِنَ الْمَعْدِنِ ، كَمَا كَانَ غَيْرَ مَالِكٍ لِمَا أَحْيَاهُ مِنَ الْمَوَاتِ . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنْ ضَرَرَ الْأَحْيَاءِ مُؤَبَّدٌ فَلَمْ يَمْلِكْ بِهِ وَضَرَرَ عَمَلِهِ فِي الْمَعْدِنِ غَيْرُ مُؤَبَّدٍ فَمَلَكَ بِهِ كَمَا يَمْلِكُ الصَّيْدَ وَالْمَاءَ الْعَذْبَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابٌ فِي الزَّكَاةِ وَمَا تَجِبُ فِيهِ وَمَا تُمَلَّكُ بِهِ

بَابٌ فِي الزَّكَاةِ وَمَا تَجِبُ فِيهِ وَمَا تُمَلَّكُ بِهِ هَذَا بَابٌ أَغْفَلَ الْمُزَنِيُّ نَقْلَهُ ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ أَمَّا الرِّكَازُ تعريفه فَهُوَ : مَا دَفَنَهُ آدَمِيٌّ فِي أَرْضٍ فَعَثَرَ عَلَيْهِ إِنْسَانٌ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ . رَكَزْتُ الرُّمْحَ فِي الْأَرْضِ إِذَا غَرَسْتُهُ فَكُلُّ مَنْ وَجَدَ رِكَازًا فِي أَرْضِ الْإِسْلَامِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ مَوَاتًا . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ مُحْيَاةً فَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ مَوَاتًا ، فَالرِّكَازُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِنْ سَائِرِ الْأَمْوَالِ غَيْرَ ذَهَبٍ وَلَا وَرِقٍ : فَإِنْ كَانَ ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَرْبِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ لُقَطَةً يُعَرِّفُهُ الْوَاجِدُ حَوْلًا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَرْبِ الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ لِوَاجِدِهِ ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ وَاجِدِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ أَوْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الزَّكَاةِ فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الزَّكَاةِ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ ، فَإِنْ كَانَ الرِّكَازُ نِصَابًا فَفِيهِ الْخُمُسُ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وَالْإِمْلَاءِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ كَالْمُسْتَفَادِ مِنَ الْمَعْدِنِ وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ فِي قَوْلٍ ثَانٍ : أَنَّ فِيهِ الْخُمُسَ وَلَوْ كَانَ فَخَّارًا ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ : لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ فَأَمَّا الْحَوْلُ فَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الرِّكَازِ ، وَهُوَ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْفَتْوَى فَإِنْ قِيلَ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعَادِنِ حَيْثُ اعْتُبِرَ ثَمَّ الْحَوْلُ فِيهَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، قِيلَ : الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا الْحَوْلُ كَالرِّكَازِ ، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا عَلَى الْقَوْلِ الْمُخَرَّجِ أَنَّ الْمَعَادِنَ يَلْزَمُ فِيمَا يَسْتَأْنِفُ مِنْهَا

مُؤْنَةٌ فَاعْتُبِرَ فِيهَا الْحَوْلُ رِفْقًا كَعُرُوضِ التِّجَارَاتِ ، وَالرِّكَازُ نَمَاءٌ كَامِلٌ مِنْ غَيْرِ مُؤْنَةٍ لَازِمَةٍ ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْحَوْلُ كَالسِّخَالِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَتِ الْأَرْضُ مُحْيَاةً أرض الركاز ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ عَامِرَةً . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ خَرَابًا فَإِنْ كَانَتْ عَامِرَةً ، فَهُوَ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ مِلْكُ أَرْبَابِهَا دُونَ وَاجِدِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ خَرَابًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ جَاهِلِيَّةً . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ إِسْلَامِيَّةً فَإِنْ كَانَتْ جَاهِلِيَّةً عَادِيَّةً فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا وُجِدَ فِي الْمَوَاتِ يَكُونُ لِوَاجِدِهِ ، كَمَا أَنَّ مِنْ ضَرْبِ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَيْهِ الْخُمُسُ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ ، وَبَلَغَ نِصَابًا وَإِنْ كَانَتْ إِسْلَامِيَّةً فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُعْرَفَ أَرْبَابُهَا فَهُوَ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ مِلْكٌ لِأَرْبَابِهَا دُونَ وَاجِدِهِ كَالْعَامِرِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يُعْرَفَ أَرْبَابُهَا فَهُوَ لِبَيْتِ الْمَالِ دُونَ الْوَاجِدِ : لِأَنَّ وُجُودَهُ فِي مِلْكِ مُسْلِمٍ قَدْ أُجْرِيَ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ مِلْكُ ذَلِكَ الْمُسْلِمِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَهُ الْوَاجِدُ ، وَإِنْ جُهِلَ مَالِكُهُ ، فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا كَانَ لُقَطَةً كَمَا كَانَ ضَرْبُ الْإِسْلَامِ لُقَطَةً ، قِيلَ : ضَرْبُ الْإِسْلَامِ وُجِدَ فِي غَيْرِ مِلْكٍ فَكَانَ لُقَطَةً وَهَذَا وُجِدَ فِي مِلْكٍ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لُقَطَةً : لِأَنَّهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ مِلْكٌ لِصَاحِبِ الْمِلْكِ ، وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّقْسِيمِ تَشْهَدُ بِهِ أُصُولٌ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا غَيْرُ بِلَادِ الْإِسْلَامِ إِذَا وُجِدَ فِيهَا رِكَازٌ هل يؤخذ خمسه فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ لِأَهْلِ الْعَهْدِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ ، فَإِنْ كَانَتْ لِأَهْلِ الْعَهْدِ فَحُكْمُ مَا وُجِدَ فِيهَا مِنَ الرِّكَازِ كَحُكْمِ مَا وُجِدَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ ، وَإِنْ كَانَتْ لِأَهْلِ الْحَرْبِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تُوجَدَ فِي مَوَاتِهِمْ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : فِي عَامِرِهِمْ فَإِنْ وُجِدَ فِي مَوَاتِهِمْ فَهُوَ رِكَازٌ يُؤْخَذُ خُمُسُهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَكُونُ رِكَازًا وَلَا يُؤْخَذُ خُمُسُهُ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ " وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ " وَإِنْ وُجِدَ فِي عَامِرِهِمْ فَهُوَ غَنِيمَةٌ يُؤْخَذُ خُمُسُهَا ، وَلَا يَكُونُ رِكَازًا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَكُونُ غَنِيمَةً كَقَوْلِنَا ، لَكِنْ يُؤْخَذُ خُمُسُهَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ مَا غُنِمَ فِي وَجْهِ الْخُفْيَةِ مِنْ غَيْرِ إِمَامٍ لَمْ يُخَمَّسْ .

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَأَبُو ثَوْرٍ : يَكُونُ رِكَازًا كَمَا لَوْ وُجِدَ فِي مَوَاتِهِمْ ، وَهَذَا غَلَطٌ : لِأَنَّ مَا وُجِدَ فِي مَوَاتِهِمْ رِكَازٌ لِلْجَهْلِ بِمُلَّاكِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَا وُجِدَ فِي عَامِرِهِمْ رِكَازٌ لِمَعْرِفَةِ مُلَّاكِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا مَنْ مَلَكَ دَارًا فَوَجَدَ فِيهَا رِكَازًا فَهُوَ لَهُ إِنِ ادَّعَاهُ : لِأَنَّ يَدَهُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ ، فَهُوَ لِمَنْ مَلَكَ الدَّارَ عَنْهُ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ مَلَكَهَا بِمِيرَاثٍ ، فَهُوَ مِلْكٌ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ مِنْهُ بِقَدْرِ إِرْثِهِ إِنِ ادَّعَاهُ ، وَإِنْ أَنْكَرَهُ فَهُوَ لِمَنْ بَقِيَ مِنْ وَرَثَتِهِ إِنِ ادَّعَوْهُ ، وَإِنْ أَنْكَرُوهُ فَهُوَ لِمَنْ مَلَكَ الْمَوْرُوثَ الدَّارَ عَنْهُ إِنْ كَانَ بَاقِيًا ، أَوْ لِوَرَثَتِهِ إِنْ كَانَ مَيِّتًا ، فَإِنْ أَنْكَرُوهُ فَهُوَ لِمَنْ مَلَكُوا الدَّارَ عَنْهُ ، هَكَذَا أَبْدَأُ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ مَلَكَهَا بِابْتِيَاعٍ فَهُوَ لِلْبَائِعِ إِنِ ادَّعَاهُ ، وَإِنْ أَنْكَرَهُ فَهُوَ لِمَنِ ابْتَاعَ الْبَائِعَ الدَّارَ عَنْهُ ، إِنِ ادَّعَاهُ ثُمَّ كَذَلِكَ أَبَدًا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا مَنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا فَوَجَدَ فِيهَا رِكَازًا فَإِنِ ادَّعَاهُ مِلْكًا فَهُوَ لَهُ : لِأَنَّ يَدَهُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ رِكَازٌ وَجَدَهُ فَهُوَ لِمَالِكِ الدَّارِ إِنِ ادَّعَاهُ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ ، فَإِنِ اخْتَلَفَ الْمُسْتَأْجِرُ وَالْمَالِكُ الْمُؤَجِّرُ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ هُوَ مِلْكِي كَنْتُ دَفَنْتُهُ فِي الدَّارِ ، وَقَالَ الْمَالِكُ بَلْ كَانَ رِكَازًا وَجَدْتُهُ فِيهَا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ وَهُوَ لَهُ : لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا مَنْ أَقْطَعَهُ الْإِمَامُ أَرْضًا فَظَهَرَ فِيهَا رِكَازٌ فَهُوَ لِمُقْطَعِ الْأَرْضِ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا مِنَ الْوَاجِدِ أَوْ غَيْرِهِ : لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْأَرْضَ بِالْإِقْطَاعِ كَمَا يَمْلِكُهَا بِالِابْتِيَاعِ ، وَكَذَا مَنْ أَحْيَى أَرْضًا مَوَاتًا فَظَهَرَ فِيهَا رِكَازٌ فَهُوَ لِمُحْيِي الْأَرْضِ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْوَاجِدَ أَوْ غَيْرَهُ ، لِأَنَّهَا مِلْكٌ فَهَذَا الْكَلَامُ فِي اخْتِلَافِ الرِّكَازِ وَمَوَاضِعِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا اخْتِلَافُ حَالِ الْوَاجِدِ ، فَهُوَ لِكُلِّ مَنْ وَجَدَهُ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ بَالِغٍ أَوْ غَيْرِ بَالِغٍ عَاقِلٍ ، أَوْ مَجْنُونٍ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ ، أَوْ غَيْرِ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ . وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : لَا يَمْلِكُ الرِّكَازَ إِلَّا رَجُلٌ عَاقِلٌ فَأَمَّا الْمَرْأَةُ أَوِ الصَّبِيُّ أَوِ الْمَجْنُونُ ، فَلَا يَمْلِكُونَهُ وَهَذَا غَلَطٌ : لِأَنَّ الرِّكَازَ كَسْبٌ لِوَاجِدِهِ كَاكْتِسَابِهِ بِالِاصْطِيَادِ وَغَيْرِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِي تَمَلُّكِهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ الركاز كَمَا يَسْتُوُونَ فِي الِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِشَاشِ ، وَإِذَا مَلَكُوهُ فَعَلَيْهِمْ خُمُسُهُ لِأَنَّهُمْ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْعَبْدُ إِذَا وَجَدَ رِكَازًا فَهُوَ لِسَيِّدِهِ : لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ كَسْبِهِ وَعَلَى السَّيِّدِ إِخْرَاجُ خُمُسِهِ ، وَحُكِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ أَنَّ الْإِمَامَ يَرْضَخُ لِلْعَبْدِ فِيهِ وَلَا يُعْطِيهِ كُلَّهُ وَمَا ذَكَرْنَا أَصَحُّ : لِأَنَّهُ كَسْبٌ كَالِاصْطِيَادِ وَكَذَا الْمُدَبَّرُ وَالْمُعْتَقُ بِصَفْقَةٍ ، فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ إِذَا وَجَدَ رِكَازًا فَهُوَ لَهُ دُونَ سَيِّدِهِ : لِأَنَّهُ أَمْلَكُ لِكَسْبِ نَفْسِهِ ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَلْزَمُهُ زَكَاةُ مَالِهِ .



فَصْلٌ : فَأَمَّا الْكَافِرُ إِذَا وَجَدَ رِكَازًا فَهُوَ لَهُ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا قُلْنَا فِي الْمَعَادِنِ وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَقُولُ : الْكَافِرُ لَا يَمْلِكُ الرِّكَازَ ، وَلَا الْمَعْدِنَ كَمَا لَا يَمْلِكُ الْإِحْيَاءَ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مَعَ أَنَّ تَمَلُّكَهُ لِلرِّكَازِ أَقْوَى : لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ خِلْسَةً .

فَصْلٌ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الرِّكَازَ الَّذِي يَمْلِكُهُ وَاجِدُهُ مَا جَمَعَ وَصْفَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَرْبِ الْجَاهِلِيَّةِ من شروط الركاز ، وَذَلِكَ مَشْهُورٌ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الصُّوَرِ وَأَمَّا مَا كَانَ مَنْ ضَرْبِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَكُونُ رِكَازًا فَلَوِ اشْتَبَهَ ضَرْبُ الْجَاهِلِيَّةِ وَضَرْبُ الْإِسْلَامِ أَوْ كَانَتْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِجَاهِلِيَّةٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِسْلَامِيَّةً فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ تَكُونُ رِكَازًا ، وَحَكَوْهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ نَصًّا : لِأَنَّ الْإِسْلَامَ طَارِئٌ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ إِلَّا بِيَقِينٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ يَكُونُ لُقَطَةً وَلَا يَكُونُ رِكَازًا وَحَكَوْهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ نَصًّا : لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ فَلَا يُسْتَبَاحُ إِلَّا بِيَقِينٍ فَهَذَا أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ . وَالْوَصْفُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَدْفُونًا فِي أَرْضِ مَوَاتٍ من شروط الركاز فَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا غَيْرَ مَدْفُونٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ السَّيْلَ قَدْ أَظْهَرَهُ : لِأَنَّهُ كَانَ فِي مَجْرَى السَّيْلِ ، أَوْ كَانَ عَلَى شَفِيرِ وَادٍ فَهَذَا رِكَازٌ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُظْهِرَهُ السَّيْلُ ، فَهَذَا لُقَطَةٌ وَلَا يَكُونُ رِكَازًا فَلَوْ شَكَّ هَلْ أَظْهَرَهُ السَّيْلُ أَمْ لَا ؟ كَمَنْ شَكَّ هَلْ هُوَ مِنْ ضَرْبِ الْجَاهِلِيَّةِ ، أَمْ لَا ؟ فَيَكُونُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ رِكَازًا . وَالثَّانِي : لُقَطَةً .

فَصْلٌ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ النِّصَابَ مُعْتَبَرٌ فِي الرِّكَازِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ يَقَعُ التَّفْرِيعُ فِي الْمَسَائِلِ ، فَإِذَا كَانَ الرِّكَازُ نِصَابًا ، وَكَانَ وَاجِدُهُ حُرًّا مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ خُمُسِهِ ، وَإِنْ كَانَ دُونَ النِّصَابِ الرِّكَازُ فَلَا يَخْلُ حَالُ وَاجِدِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَمْلِكَ تَمَامَ النِّصَابِ . أَوْ لَا يَمْلِكَ فَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ تَمَامَ النِّصَابِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الرِّكَازِ وَإِنْ مَلَكَ تَمَامَ النِّصَابِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :

أَحَدُهَا : أَنْ يَجِدَ الرِّكَازَ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ عَلَى مَا كَانَ بِيَدِهِ كَأَنْ كَانَ يَمْلِكُ مِائَةَ دِرْهَمٍ قَدْ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ بِأَنِ اشْتَرَى بِمِائَةِ دِرْهَمٍ سِلْعَةً لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ حَالَ حَوْلُهَا وَوَجَدَ مِائَةَ دِرْهَمٍ رِكَازًا حِينَ حَالَ الْحَوْلُ فَهَذَا يَضُمُّ الرِّكَازَ إِلَى مَا كَانَ بِيَدِهِ وَيُزَكِّيهِمَا فَيُخْرِجُ مِنَ الرِّكَازِ الْخُمُسَ ، وَمِمَّا كَانَ بِيَدِهِ رُبْعَ الْعُشْرِ : لِأَنَّ الرِّكَازَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى حَوْلٍ ، وَمَا كَانَ بِيَدِهِ قَدْ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ ، وَقَدْ بَلَغَا نِصَابًا فَصَارَ تَقْدِيرُهُمَا تَقْدِيرَ نِصَابٍ حَالَ حَوْلُهُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَجِدَ الرِّكَازَ قَبْلَ حُلُولِ الْحَوْلِ عَلَى الْمِائَةِ الَّتِي بِيَدِهِ ، فَهَذَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الرِّكَازِ وَيَضُمُّهُ إِلَى الْمِائَةِ الَّتِي كَانَتْ بِيَدِهِ ، وَيَسْتَقْبِلُ بِهِمَا الْحَوْلَ لِأَنَّهُمَا تَمَّا نِصَابًا فَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ أَخْرَجَ مِنْهَا الزَّكَاةَ رُبْعَ الْعُشْرِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَجِدَ الرِّكَازَ بَعْدَ حَوْلِ الْمِائَةِ فَهَذَا حُكْمُ مَنْ مَعَهُ عَرَضٌ لِلتِّجَارَةِ حَالَ حَوْلُهُ ، وَقِيمَتُهُ دُونَ النِّصَابِ ثُمَّ زَادَتْ قِيمَتُهُ بَعْدَ الْحَوْلِ ثُمَّ بَلَغَتْ نِصَابًا فَيَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَصَحُّهُمَا : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَيَسْتَأْنِفُ لَهُمَا الْحَوْلَ مِنْ حِينِ تَمَّا نِصَابًا ، فَإِذَا حَالَ حَوْلُهُمَا أَخْرَجَ زَكَاتَهُمَا رُبْعَ الْعُشْرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ كَوُجُودِهِ عِنْدَ الْحَوْلِ فَيَضُمَّهُمَا وَيُخْرِجَ مِنَ الرِّكَازِ الْخُمُسَ ، وَمِمَّا كَانَ بِيَدِهِ رُبْعَ الْعُشْرِ فَلَوْ وَجَدَ مِائَةَ دِرْهَمٍ رِكَازًا وَهُوَ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهَا ، ثُمَّ وَجَدَ بَعْدَ يَوْمٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ رِكَازًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَيَسْتَأْنِفُ لَهَا الْحَوْلَ مِنْ حِينِ وَجَدَ الْمِائَةَ الثَّانِيَةَ ، فَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ أَخْرَجَ زَكَاتَهَا رُبْعَ الْعُشْرِ .

فَصْلٌ : إِذَا وَجَدَ رَجُلٌ رِكَازًا فَأَخْرَجَ خَمْسَةً ثُمَّ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مِلْكُهُ فَلِلْمُقِيمِ الْبَيِّنَةَ اسْتِرْجَاعُ الرِّكَازِ مِنْ وَاجِدِهِ مَعَ مَا أَخْرَجَهُ الْوَاجِدُ مِنْ خُمُسِهِ ، وَلِلْوَاجِدِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْخُمُسِ عَلَى الْوَالِي إِنْ كَانَ قَدْ دَفَعَهُ إِلَيْهِ ، وَلِلْوَالِي أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ إِنْ كَانَ بَاقِيًا فِي أَيْدِيهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَاقِيًا فِي أَيْدِيهِمْ أَوْ كَانَ قَدْ تَلِفَ فِي يَدِ الْوَالِي بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ ضَمِنَهُ فِي مَالِ الزَّكَاةِ وَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ بِتَفْرِيطٍ أَوْ خِيَانَةٍ ضَمِنَهُ فِي مَالِهِ .

فَصْلٌ : الْخُمُسُ الْوَاجِبُ فِي الرِّكَازِ مصارفه ، وَمَا يَجِبُ فِي الْمَعَادِنِ يُصْرَفُ مَصْرِفَ الصَّدَقَاتِ فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُصْرَفَانِ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ : لِأَنَّهُ مَالٌ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ كَالْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ .

وَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ وَأَبُو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ : حَقُّ الْمَعَادِنِ يُصْرَفُ فِي أَهْلِ الصَّدَقَاتِ وَخُمُسُ الرِّكَازِ يُصْرَفُ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ : لِأَنَّهُ وَاصِلٌ مِنْ جِهَةِ مُشْرِكٍ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ وَحَدِيثُ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ وَقَدْ مَضَى ، وَلِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْمَعْدِنِ وَالرِّكَازِ بِوَاجِدِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ وَجَدَهُ مُكَاتَبٌ أَوْ ذَمِّيٌّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، وَإِذَا كَانَ الِاعْتِبَارُ بِوَاجِدِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصْرَفَ مَصْرِفَ الْفَيْءِ : لِأَنَّ وَاجِدَهُ مُسْلِمٌ وَأُوجِبُ أَنْ يُصْرَفَ خُمُسُهُ مَصْرِفَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ : لِأَنَّهُ وَاصِلٌ مِنْ جِهَةِ مُشْرِكٍ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْوَاجِدُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ ، لِيُصْرَفَ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ وَلَوَجَبَ التَّوَقُّفُ عَنْ تَمَلُّكِهِ ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ فَلَا يَحِلُّ تَمَلُّكُهُ ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا بُطْلَانُ مَا اعْتَبَرُوا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ مَا يَقُولُ الْمُصَدِّقُ إِذَا أَخَذَ الصَّدَقَةَ لِمَنْ يَأْخُذُهَا مِنْهُ

بَابُ مَا يَقُولُ الْمُصَدِّقُ إِذَا أَخَذَ الصَّدَقَةَ لِمَنْ يَأْخُذُهَا مِنْهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِنَبِّيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ، [ التَّوْبَةِ : ] ، ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَالصَلَاةُ عَلَيْهِمُ الدُّعَاءُ لَهُمْ عِنْدَ أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنْهُمْ ، فَحَقٌّ عَلَى الْوَالِي إِذَا أَخَذَ صَدَقَةَ امْرِئٍ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ ، وَأُحِبُّ أَنْ يَقُولَ : آجَرَكَ اللَّهُ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَجَعَلَهُ طَهُورًا لَكَ وَبَارَكَ لَكَ فِيمَا أَبْقَيْتَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . يَخْتَارُ الْوَالِي الصَّدَقَاتِ أَنْ يَدْعُوَ لِأَرْبَابِهَا إِذَا أَخَذَهَا مِنْهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ سَكَنٌ لَهُمْ ، [ التَّوْبَةِ : ] ، مَعْنَاهُ وَادْعُ لَهُمْ إِنَّ دَعْوَتَكَ سَكَنٌ لَهُ . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ : جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَدَقَاتِ قَوْمِي فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ لِي ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْنَى عَلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ وَشَكَرَهُمْ ، وَذَمَّ أَهْلَ الْجِزْيَةِ وَأَغْلَظَ لَهُمُ ، فَوَجَبَ أَنْ يُتَأَسَّى بِأَفْعَالِهِ فِي الْفَرِيقَيْنِ : لِيَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا أُخِذَ مِنَ الزَّكَاةِ طَهُورًا ، وَبَيْنَ مَا أُخِذَ مِنَ الْجِزْيَةِ صَغَارًا ، وَإِذَا كَانَ هَذَا وَاضِحًا ، فَقَدْ حُكِيَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى الْوَالِي الدُّعَاءَ لِرَبِّ الْمَالِ عِنْدَ أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنْهُ ، احْتِجَاجًا بِمَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ سَأَلَهُ رَبُّ الْمَالِ الدُّعَاءَ لَهُ أَمْ لَا ، وَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَسَلْ رَبُّ الْمَالِ الدُّعَاءَ لَهُ فَلَيْسَ عَلَى الْوَالِي أَنْ يَدْعُوَ لَهُ : لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَدْفَعُ الزَّكَاةَ مُؤَدٍّ لِعِبَادَةٍ وَاجِبَةٍ ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ عَلَى غَيْرِهِ الدُّعَاءَ لَهُ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ ، فَأَمَّا إِذَا سَأَلَهُ رَبُّ الْمَالِ الدُّعَاءَ لَهُ فَفِي وُجُوبِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا يُسْتَحَبُّ وَلَا يَجِبُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَاجِبٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَمْرِ فِي الْآيَةِ .

فَصْلٌ : وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءُ الْوَالِي لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ عند أخذه الزكاة مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : آجَرَكَ اللَّهُ فِيمَا أَعْطَيْتَ ، وَجَعَلَهُ لَكَ طَهُورًا أَوْ بَارَكَ لَكَ فِيمَا أَبْقَيْتَ ، وَلَوْ قَالَ : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِمْ

لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ : لِأَنَّ ذَلِكَ ظَاهِرُ الْكِتَابِ وَنَصُّ السُّنَّةِ ، وَقَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ الصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ الرَّحْمَةُ ، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ الِاسْتِغْفَارُ ، وَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ الدُّعَاءُ ، وَقَالَ كَثِيرٌ : صَلَّى عَلَى غُرَّةِ الرَّحْمَنِ وَابْنَتِهَا لَيْلَى وَصَلَّى عَلَى جَارَاتِهَا الْأُخَرِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَقَدْ كَانَ طَاوُسٌ وَالِيًا عَلَى صَدَقَاتِ بَعْضِ الْبِلَادِ فَكَانَ يَقُولُ أَدُّوا زَكَاتَكُمْ رَحِمَكُمُ اللَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى هَذَا ، فَإِذَا دَفَعُوهَا إِلَيْهِ فَرَّقَهَا عَلَى مَسَاكِينِهِمْ ، وَمَنْ وَلَّى مِنْهُمْ لَمْ يَقُلْ لَهُ هَلُمَّ وَلَا ارْجِعْ ، وَيَنْبَغِي لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ أَنْ يُؤَدُّوا زَكَوَاتِ أَمْوَالِهِمْ طَيِّبَةً بِهَا نُفُوسُهُمْ ، كَمَا وَرَدَ الْخَبَرُ وَلَا يُدَافِعُوا الْوَالِيَ بِهَا إِذَا كَانَ عَدْلًا : فَيُحْوِجُوهُ إِلَى الْغِلْظَةِ فِي أَخْذِهَا وَالْخُرُوجِ عَمَّا وَصَفْتُ لَهُ مِنَ الْمُوَاسَاةِ بِهَا ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِذَا أَتَاكُمْ فَلَا يُفَارِقُكُمْ إِلَّا عَنْ رِضًا .

بَابُ مَنْ تَلْزَمُهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ

بَابُ مَنْ تَلْزَمُهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ ، عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ ذَكَرٍ وَأُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ " مِمَّنْ تَمُونُونَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّهُ يُقَالُ زَكَاةُ الْفِطْرِ وَزَكَاةُ الْفِطْرَةِ ، فَمَنْ قَالَ زَكَاةُ الْفِطْرِ أَوْجَبَهَا بِدُخُولِ الْفِطْرِ ، وَمَنْ قَالَ زَكَاةُ الْفِطْرَةِ ، فَأَوْجَبَهَا عَلَى الْفِطْرَةِ ، وَالْفِطْرَةُ : الْخِلْقَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ، [ الرُّومِ : ] ، أَيْ : خِلْقَتَهُ الَّتِي جَبَلَ النَّاسَ عَلَيْهَا وَهِيَ وَاجِبَةٌ إِجْمَاعًا . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ وَجَبَتِ ابْتِدَاءً بِمَا وَجَبَتْ بِهِ زَكَاةُ الْأَمْوَالِ أَوْ وَجَبَتْ بِغَيْرِهِ ؟ زكاة الفطر عَلَى مَذْهَبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّهَا وَجَبَتْ بِالظَّوَاهِرِ الَّتِي وَجَبَتْ بِهَا زَكَوَاتُ الْأَمْوَالِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، لِعُمُومِهَا فِي الزَّكَاتَيْنِ ، وَالْمَذْهَبُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهَا وَجَبَتْ بِغَيْرِ مَا وَجَبَتْ بِهِ زَكَاةُ الْأَمْوَالِ وَأَنَّ وُجُوبَهَا أَسْبَقُ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ أَنَّهُ قَالَ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ ، قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الزَّكَاةِ ، فَلَمَا نَزَلَتْ آيَةُ الزَّكَاةِ لَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا هَلْ وَجَبَتْ بِالسُّنَّةِ أَوْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ زكاة الفطر ، مَبْنِيَّةً عَلَى مَذْهَبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا وَجَبَتْ بِالسُّنَّةِ : لِحَدِيثِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ فَعَلَى هَذَا الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِهَا مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ صَاعًا مِنْ

تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ ، عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ ذَكَرٍ وَأُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ آبَائِهِ وَزَادَ فِيهِ " مِمَّنْ تَمُونُونَ " وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ : طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ الرَّفَثِ وَاللَّغْوِ ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ حِينَ أَوْجَبَهَا : " أَمَّا الْغَنِيُّ فَيُزَكِّيهِ بِهَا اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا الْفَقِيرُ فَيُعْطِيهِ اللَّهُ أَفْضَلَ مَا أَعْطَى " . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : أَنَّهَا وَجَبَتْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَإِنَّمَا الْبَيَانُ مَأْخُوذٌ مِنَ السُّنَّةِ كَمَا أُخِذَ مِنْهَا بَيَانُ الْأَمْوَالِ الْمُزَكَّيَاتِ ، وَمَنْ رَوَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَهَا فَمَعْنَاهُ قَدَّرَهَا كَمَا قَالَ فِي زَكَوَاتِ الْإِبِلِ : هَذِهِ " فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " بِمَعْنَى قَدَّرَهَا : لِأَنَّ فَرْضَ زَكَاتِهَا بِالْآيَةِ ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا بِأَيِّ آيَةٍ وَجَبَتْ زكاة الفطر عَلَى مَذْهَبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بِقَوْلِهِ تَعَالَى : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ، [ الْأَعْلَى : ، ] . وَالثَّانِي : بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ، [ الْبَيِّنَةِ : ] .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، فَهِيَ فَرْضٌ كَزَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هِيَ وَاجِبَةٌ وَلَيْسَتْ فَرْضًا كَالْوِتْرِ ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْفَرْضِ وَهَذَا الْخِلَافُ

إِذَا قُدِّرَ كَانَ كَلَامًا فِي الْعِبَارَةِ ، وِفَاقًا فِي الْمَعْنَى وَالْخِلَافُ فِي الْعِبَارَةِ مَعَ الْوِفَاقِ فِي الْمَعْنَى غَيْرُ مُؤَثِّرٍ ثُمَّ مِنَ الدَّلَالَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَأَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ حكمها فَرْضٌ ، حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ فَإِنْ قِيلَ : مَعْنَى قَوْلِهِمْ فَرَضَهَا أَيْ : قَدَّرَهَا ، كَمَا يُقَالُ فَرَضَ الْقَاضِي النَّفَقَةَ أَيْ : قَدَّرَهَا ، قُلْنَا : مَا تَقَدَّمَ مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي ظُهُورِ وُجُوبِهَا يُسْقِطُ هَذَا الِاعْتِرَاضَ ، ثُمَّ لَوْ لَزِمَ لَكَانَ عَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْفَرْضَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ فِي اللُّغَةِ وَعِبَارَةٌ عَنِ الْوُجُوبِ فِي الشَّرْعِ وَحَمْلُهُ عَلَى مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ أَوْلَى .

وَالثَّانِي : أَنَّ فِي الرِّوَايَةِ أَنَّهُ فَرَضَهَا عَلَى النَّاسِ ، وَلَوْ كَانَ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ لَقِيلَ : فَرَضَ مَا عَلَى النَّاسِ ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ لَصَحَّ ، وَلِأَنَّهَا زَكَاةٌ وَجَبَتْ فَافْتُرِضَتْ كَزَكَاةِ الْمَالِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ صِفَةٍ اتَّصَفَتْ بِهَا زَكَاةُ الْمَالِ اتَّصَفَتْ بِهَا زَكَاةُ الْفِطْرِ كَالْوُجُوبِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَلَمْ يَفْرِضْهَا إِلَّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَالْعَبِيدُ لَا مَالَ لَهُمْ ، وَإِنَمَا فَرْضُهُمْ عَلَى سَيِّدِهِمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . كُلُّ مَنْ كَانَ مُسْلِمًا حُرًّا فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ على من تجب إِذَا وَجَدَهَا بَعْدَ قُوتِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا ، وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهَا لَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى مَنْ صَلَّى وَصَامَ ، وَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهَا لَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى مَنْ أَطَاقَ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ ، وَبِمَذْهَبِنَا قَالَ سَائِرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، وَجَمِيعُ الْفُقَهَاءِ تَعَلُّقًا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، فَأَمَّا الْمُشْرِكُ هل تجب عليه زكاة الفطر فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ إِجْمَاعًا ، فَأَمَّا الْعَبْدُ كيف يخرج زكاة الفطر فَزَكَاةُ فِطْرِهِ عَلَى سَيِّدِهِ . وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ : هِيَ عَلَى الْعَبْدِ دُونَ سَيِّدِهِ تَعَلُّقًا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ ، عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ ذَكَرٍ وَأُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ فَرَضَهَا عَلَى الْعَبْدِ كَمَا فَرَضَهَا عَلَى الْحُرِّ ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَيْهِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَى سَيِّدِهِ ، رِوَايَةُ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ إِلَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ فَأَثْبَتَ عَلَى السَّيِّدِ زَكَاةَ فِطْرِهِ نَصًّا . وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ قَالَ كُنَّا نُؤَدِّي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ ، عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ ذَكَرٍ وَأُنْثَى صَاعًا مِنْ طَعَامٍ الْحَدِيثَ فَأَمَّا تَعَلُّقُهُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا هَلْ وَجَبَتْ زَكَاةُ فِطْرِهِ ابْتِدَاءً عَلَى سَيِّدِهِ أَوْ وَجَبَتِ ابْتِدَاءً ثُمَّ يَحْمِلُهَا سَيِّدُهُ ؟ فَلَهُمْ فِي ذَلِكَ مَذْهَبَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا وَجَبَتِ ابْتِدَاءً عَلَى سَيِّدِهِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ إِلَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ فَعَلَى هَذَا الْجَوَابِ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ فَرَضَهَا عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ ، فَمَعْنَاهُ عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَنْ كُلِّ عَبْدٍ ، وَقَدْ يَقُومُ " عَلَى " فِي اللُّغَةِ مَقَامَ " عَنْ " قَالَ الشَّاعِرُ :

إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ لَعَمْرُ اللَّهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا أَيْ : إِذَا رَضِيَتْ عَنِّي . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : أَنَّ السَّيِّدَ يَحْمِلُهَا عَنْ عَبْدِهِ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ كُنَّا نُؤَدِّي صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ فَعَلَى هَذَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ دَالٌّ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَى الْعَبْدِ ، وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ دَالٌّ عَلَى تَحَمُّلِ السَّيِّدِ فَلَا يَتَنَافَيَانِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُعْتَقُ نِصْفُهُ كيف يخرج زكاة الفطر ، فَكَالْعَبْدِ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ عَلَى سَيِّدِهِمْ ، فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ هل تجب عليه زكاة الفطر فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ، لِبَقَاءِ رِقِّهِ وَلَا عَلَى سَيِّدِهِ لِنُقْصَانِ مِلْكِهِ ، وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ حَكَاهُ أَبُو ثَوْرٍ عَنِ الْقَدِيمِ أَنَّ عَلَى السَّيِّدِ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ مُكَاتَبِهِ : لِأَنَّهُ عَلَى مِلْكِهِ ، وَإِنْ نَقَصَ تَصَرُّفُهُ كَالْآبِقِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَهُمْ وَالْمَرْأَةُ مِمَنْ يَمُونُونَ فَكُلُّ مَنْ لَزِمَتْهُ مُؤْنَةُ أَحَدٍ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ تَرْكُهَا ، أَدَّى زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْهُ ، وَذَلِكَ مَنْ أَجْبَرْنَاهُ عَلَى نَفَقَتِهِ مِنْ وَلَدِهِ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ الزَّمْنَى الْفُقَرَاءِ ، وَآبَائِهِ وَأُمَّهَاتِهِ الزَّمْنَى الْفُقَرَاءِ وَزَوْجَتِهِ وَخَادِمٍ لَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصِلُ هَذَا أَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ لَزِمَتْهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْهُ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا ، وَهُمْ ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ لَزِمَتْ نَفَقَاتُهُمْ بِأَنْسَابٍ . وَضَرْبٌ لَزِمَتْ نَفَقَاتُهُمْ بِأَسْبَابٍ ، فَأَمَّا ذَوُو الْأَنْسَابِ فَضَرْبَانِ : وَالِدُونَ وَمَوْلُودُونَ ، فَهُمُ الْآبَاءُ وَالْأَجْدَادُ وَالْأُمَّهَاتُ وَالْجَدَّاتُ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ ، وَلَهُمْ حَالَانِ : حَالُ فَقْرٍ ، وَحَالُ غِنًى فَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ فَنَفَقَاتُهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَكَذَلِكَ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ ، وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ فَلَهُمْ حَالَانِ : حَالُ صِحَّةٍ ، وَحَالُ زَمَانَةٍ ، فَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ زَمْنَى فَنَفَقَاتُهُمْ عَلَى أَوْلَادِهِمْ وَاجِبَةٌ ، وَكَذَلِكَ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَجِبُ نَفَقَاتُهُمْ دُونَ زَكَاةِ فِطْرِهِمْ ، وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ أَصِحَّاءَ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا لَا تَجِبُ نَفَقَاتُهُمْ وَلَا زَكَاةُ فِطْرِهِمْ حَتَّى يَجْتَمِعَ فِيهِمُ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا الْفَقْرُ وَالزَّمَانَةُ ، وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يُخَرِّجُ قَوْلًا ثَانِيًا ، أَنَّ نَفَقَاتِهِمْ وَزَكَاةَ فِطْرِهِمْ وَاجِبَةٌ بِالْفَقْرِ دُونَ الزَّمَانَةِ ، فَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمُطْلَقُ مِنْ كَلَامِهِ

مَحْمُولًا عَلَى الْمُقَيَّدِ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَفِي خِطَابِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ لَا تَجِبُ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا زَمْنَى وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا لَهُ قَوْلًا ثَانِيًا فَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَلِلْكَلَامِ عَلَيْهِ مَوْضِعٌ فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ ، هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ وَأَمَّا الْمَوْلُودُونَ فَهُمُ الْبَنُونَ وَالْبَنَاتُ ، وَسِوَاهُمْ وَإِنْ سَفُلُوا وَهُمْ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَغْنِيَاءُ وَالْآخَرُ فُقَرَاءُ ، فَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ فَنَفَقَاتُهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَكَذَلِكَ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ ، وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْجِزُوا عَنْ مَنَافِعِ أَنْفُسِهِمْ لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ زَمَانَةٍ فَعَلَى الْوَالِدِ ، وَإِنْ عَلَا نَفَقَاتُهُمْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنْ كَانُوا كِبَارًا فَعَلَى الْوَالِدِ وَإِنْ عَلَا نَفَقَاتُهُمْ دُونَ زَكَاةِ فِطْرِهِمْ ، وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا فَعَلَى الْوَالِدِ إِنْ كَانَ أَبًا نَفَقَاتُهُمْ وَزَكَاةُ فِطْرِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ جَدًّا فَعَلَيْهِ نَفَقَاتُهُمْ دُونَ فِطْرِهِمْ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونُوا كِبَارًا أَصِحَّاءَ لَا يَعْجِزُونَ عَنْ مَنَافِعِ أَنْفُسِهِمْ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَى الْوَالِدِ نَفَقَاتُهُمْ وَلَا زَكَاةُ فِطْرِهِمْ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْآبَاءِ هَلْ يَصِحُّ تَخْرِيجُهُ فِي الْأَبْنَاءِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَصِحُّ تَخْرِيجُهُ عَلَى ضَعْفِهِ وَوَهَائِهِ ، فَيُخَرَّجُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَانٍ : إِنَّ نَفَقَاتِهِمْ وَزَكَاةَ فِطْرِهِمْ وَاجِبَةٌ بِمُجَرَّدِ الْفَقْرِ دُونَ الزَّمَانَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ تَخْرِيجَهُ فِي الْأَبْنَاءِ لَا يَصِحُّ : لِأَنَّ نَفَقَةَ الْآبَاءِ أَوْكَدُ مِنْ نَفَقَةِ الْأَبْنَاءِ وَوَجْهُ تَأْكِيدِهَا أَنَّ إِعْفَافَ الْأَبِ وَاجِبٌ ، وَإِعْفَافَ الِابْنِ عَلَى أَبِيهِ غَيْرُ وَاجِبٍ فَلَمَّا تَأَكَّدَتْ نَفَقَاتُ الْآبَاءِ جَازَ أَنْ تَلْزَمَ بِالْفَقْرِ دُونَ الزَّمَانَةِ ، وَلَمَّا ضَعُفَتْ نَفَقَاتُ الْأَبْنَاءِ لَمْ تَلْزَمْ بِمُجَرَّدِ الْفَقْرِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهِ صِغَرٌ ، أَوْ زَمَانَةٌ ، فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ وَافَقَنَا فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ ، وَخَالَفَنَا فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَكَانَ مَنْ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ إِنِ اعْتَبَرَهَا بِالْوِلَايَةِ فَلَمْ يُوجِبْ عَلَى الِابْنِ هل يخرج زكاة الفطر عن أبيه فِطْرَةَ أَبِيهِ : لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى أَبِيهِ ، وَأَوْجَبَ عَلَى الْأَبِ فِطْرَةَ صِغَارِ وَلَدِهِ دُونَ كِبَارِهِمْ : لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى صِغَارِهِمْ دُونَ كِبَارِهِمْ ، ثُمَّ نَاقَضَ عَلَيْهِ فِي الْجَدِّ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ نَفَقَةَ ابْنِ ابْنِهِ دُونَ فِطْرَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا مَعَ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ وَعِلَّتُنَا فِي وُجُوبِ الْفِطْرَةِ ، وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ رِوَايَةُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ ذَكَرٍ وَأُنْثَى مِمَّنْ تَمُونُونَ " رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مُرْسَلًا وَرَوَاهُ غَيْرُهُ مُتَّصِلًا وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ " مِمَّنْ تَمُونُونَ "

فَاعْتَبَرَ الْفِطْرَةَ بِالْمُؤْنَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَلَمْ يَعْتَبِرْهَا بِالْوِلَايَةِ عَلَى مَا ذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ فَأَمَّا مِنْ غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ مِنَ الْأُخُوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ ، فَلَا تَجِبُ نَفَقَاتُهُمْ وَلَا زَكَاةُ فِطْرِهِمْ ، وَأَوْجَبَ أَبُو حَنِيفَةَ نَفَقَةَ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ ، وَلَمْ يُوجِبْ زَكَاةَ فِطْرِهِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ مِنْ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا ذَوُو الْأَسْبَابِ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : الْمَمْلُوكُونَ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : الزَّوْجَاتُ فَعَلَى الزَّوْجِ وإخراجه زكاة الفطر عن الزوجة عِنْدَنَا زَكَاةُ فِطْرِهِنَّ سَوَاءٌ كَانَ إِيسَارًا أَوْ إِعْسَارًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ لَا تَلْزَمُهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْهُنَّ ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ فِي أَمْوَالِهِنَّ احْتِجَاجًا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ الْخَبَرَ إِلَى أَنْ قَالَ " ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ " وَكَانَ عُمُومُ هَذَا مُتَنَاوِلًا لِلزَّوْجَاتِ كَمَا كَانَ مُتَنَاوِلًا لِلْأَزْوَاجِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَالِهِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِطْرُهُ كَالزَّوْجِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِطْرَةُ رَقِيقِهِ ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِطْرَةُ نَفْسِهِ كَالْخَلِيَّةِ غَيْرِ ذَاتِ الزَّوْجِ ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَحَمَّلَ بِالزَّوْجَةِ كَالزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ مُسْتَبَاحٌ بِهِ الْمَنْفَعَةُ فَلَمْ تَجِبْ بِهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ كَالْمُسْتَأْجَرَةِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا ، حَدِيثُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ مُسْلِمٍ وَعَبْدٍ ذَكَرٍ وَأُنْثَى مِمَّنْ تَمُونُونَ وَالزَّوْجُ مِمَّنْ يُلْزَمُ مُؤْنَتَهَا فَوَجَبَ أَنْ يُلْزَمَ زَكَاةَ فِطْرِهَا وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ أَدُّوا زَكَاةَ الْفِطْرِ عَمَّنْ تَمُونُونَ . وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَمَنْ يَمُونُونَ مِنِ امْرَأَةٍ أَوْ وَلَدٍ أَوْ مَمْلُوكٍ أَوْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَقَدْ جَاءَ بِمَا يُوَافِقُ الْمُتَّصِلَ فَقَبِلْنَاهُ ، وَلِأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ تَجِبُ بِهِ النَّفَقَةُ جَازَ أَنْ تَجِبَ بِهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ كَالْمِلْكِ وَالنَّسَبِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ حَقٍّ يُتَحَمَّلُ بِالنَّسَبِ جَازَ أَنْ يُتَحَمَّلَ بِالزَّوْجِيَّةِ كَالنَّفَقَةِ ، وَلِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الطُّهْرَةِ يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ شَخْصٍ مِنْ أَهْلِ الطُّهْرَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ فِطْرُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ كَعَبِيدِهِ وَصِغَارِ وَلَدِهِ ، فَإِنْ قَالُوا هَذَا بَاطِلٌ بِالْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ عَلَيْهِمَا نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ دُونَ زَكَاةِ الْفِطْرِ ، قُلْنَا : إِنَّمَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا بِالرِّقِّ قَدْ عَدِمَا الْقُدْرَةَ فَإِنْ قَالُوا : فَهَذَا يَبْطُلُ بِالْمُضْطَرِّ فَإِنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، وَلَا تَلْزَمُهُ زَكَاةُ فِطْرِهِ قِيلَ : عَنْ هَذَا جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ نَفَقَتَهُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، وَإِنَّمَا لَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ حَقٌّ يُعْطَاهُ بِالْحَاجَةِ : لِأَنَّ بَاقِيَ بَيْتِ الْمَالِ بَعْدَ الْمَصْلَحَةِ مَصْرُوفٌ فِي الْحَاجَةِ ، فَلَمْ تَكُنْ نَفَقَتُهُ وَاجِبَةً .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ نَفَقَةً ، فَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ عَلَى الْإِمَامِ ، وَإِنَّمَا هِيَ وَاجِبَةٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَعَلَى الْإِمَامِ إِخْرَاجُهَا كَمَا وَجَبَتْ نَفَقَةُ الْيَتِيمِ مِنْ مَالِهِ وَوَجَبَ عَلَى وَلِيِّهِ إِخْرَاجُهَا ، فَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَجَوَابُنَا لَهُمْ فِي الزَّوْجَةِ كَجَوَابِنَا لِدَاوُدَ فِي الْعَبْدِ ، وَقَدْ مَضَى ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الزَّوْجِ ، وَعَلَى الْخَلِيَّةِ غَيْرِ ذَاتِ الزَّوْجِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَتْ نَفَقَةُ الزَّوْجِ فِي مَالِهِ ، وَنَفَقَةُ غَيْرِ ذَاتِ الزَّوْجِ فِي مَالِهَا كَانَتْ زَكَاةُ الْفِطْرِ تَبَعًا لَهَا ، وَلَمَّا وَجَبَتْ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا كَانَتْ زَكَاةُ الْفِطْرِ تَبَعًا لَهَا . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْكَفَّارَاتِ وَالزَّكَوَاتِ فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَحَمَّلْ بِالنَّسَبِ وَالْمِلْكِ لَمْ يَتَحَمَّلْ بِالزَّوْجِيَّةِ ، وَلَمَّا كَانَتْ زَكَاةُ الْفِطْرِ تُتَحَمَّلُ بِالنَّسَبِ وَالْمِلْكِ جَازَ أَنْ تُتَحَمَّلَ بِالزَّوْجِيَّةِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُسْتَأْجَرَةِ فَالْمَعْنَى فِيهِ : إِنَّ نَفَقَتَهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَلِذَلِكَ لَمْ تَجِبْ زَكَاةُ فِطْرِهَا ، وَلَمَّا كَانَتْ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ وَاجِبَةً ، كَانَتْ زَكَاةُ فِطْرِهَا وَاجِبَةً .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَى الزَّوْجِ زَكَاةَ فِطْرِهَا زكاة الفطر على الزوجة فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً وُجُوبَ حَوَالَةً فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا ، وَهِيَ مُعْسِرَةٌ لَمْ يَلْزَمْهَا إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ عَنْ نَفْسِهَا : لِأَنَّ الْوُجُوبَ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهَا وَلَمْ يَلْزَمِ الزَّوْجُ إِخْرَاجَهَا عَنْهَا : لِأَنَّ إِعْسَارَهُ بِهَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا وَجَبَتِ ابْتِدَاءً عَلَى الزَّوْجِ ثُمَّ يَحْمِلُهَا الزَّوْجُ تَحَمُّلَ ضَمَانٍ فَعَلَى هَذَا وَهُوَ فِي الزَّوْجِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي الْعَبْدِ إِنْ كَانَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا ، وَهِيَ مُوسِرَةٌ وَجَبَ عَلَيْهَا إِخْرَاجُ الْفِطْرَةِ عَنْ نَفْسِهَا زكاة الفطر عن الزوجة : لِأَنَّ الْوُجُوبَ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَيْهَا وَالزَّوْجُ بِإِعْسَارِهِ لَا يَتَحَمَّلُ ذَلِكَ عَنْهَا ، فَإِنْ أَيْسَرَ الزَّوْجُ فِي ثَانِي حَالٍ رَجَعَتْ بِذَلِكَ عَلَيْهِ ، كَمَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالنَّفَقَةِ بَعْدَ يَسَارِهِ ، فَلَوْ نَشَزَتْ عَلَى زَوْجِهَا عِنْدَ إِهْلَالِ شَوَّالٍ هل يلزم الزوج زكاة الفطر لَمْ تَلْزَمْهُ نَفَقَتُهَا وَلَا زَكَاةُ فِطْرِهَا : لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَسْقُطُ بِالنُّشُوزِ وَزَكَاةُ الْفِطْرِ تَابِعَةٌ لَهَا فِي الْوُجُوبِ وَالسُّقُوطِ ، وَيَلْزَمُهَا زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْ نَفْسِهَا إِنْ كَانَتْ وَاجِدَةً .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ وإخراج زكاة الفطر عنها فَضَرْبَانِ : رَجْعِيَّةٌ وَبَائِنَةٌ فَالرَّجْعِيَّةُ لَهَا النَّفَقَةُ فِي عِدَّتِهَا ، وَعَلَى الزَّوْجِ زَكَاةُ فِطْرِهَا فَأَمَّا الْبَائِنُ فَلَهَا حَالَانِ : حَامِلٌ وَحَائِلٌ ، فَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا فَلَهَا السُّكْنَى وَلَا نَفَقَةَ ، وَلَا يَلْزَمُ الزَّوْجُ لَهَا زَكَاةَ الْفِطْرِ ، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَلَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ وَهَلْ عَلَى الزَّوْجِ زَكَاةُ الْفِطْرَةِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي نَفَقَةِ الْحَامِلِ هَلْ وَجَبَتْ لَهَا أَوْ لِحَمْلِهَا ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ النَّفَقَةَ وَجَبَتْ لَهَا فَعَلَى الزَّوْجِ زَكَاةُ فِطْرِهَا تَبَعًا لِلنَّفَقَةِ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ لِحَمْلِهَا ، لَمْ يَلْزَمِ الزَّوْجُ وإخراجه زكاة الفطر على المطلقة الحامل زَكَاةَ فِطْرِهَا : لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَيْسَتْ لَهَا ، وَالْحَمْلُ لَا يُزَكَّى عَنْهُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا خَادِمُ الزَّوْجَةِ فَمُعْتَبَرَةٌ بِحَالِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يُخْدَمُ مِثْلُهَا فِي الْغَالِبِ

لِتَبَذُّلِهَا فَلَيْسَ عَلَى الزَّوْجِ إِخْدَامُهَا ، وَلَا الْإِنْفَاقُ عَلَى خَادِمِهَا ، فَإِنْ كَانَ لَهَا خَادِمٌ فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَزَكَاةُ فِطْرِهِ دُونَ الزَّوْجِ زكاة الفطر عن الخادم ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يُخْدَمُ مِثْلُهَا فِي الْغَالِبِ لِصِيَانَتِهَا وَعُلُوِّ قَدْرِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ إِخْدَامُهَا ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : بَيْنَ أَنْ يَبْتَاعَ لَهَا خَادِمًا ، وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ لَهَا خَادِمًا ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ لَهَا خَادِمٌ فَيَلْتَزِمُ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَحَدَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَأَرَادَ أَنْ يَخْدِمَهَا بِنَفْسِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ لَهَا مُطَالَبَتُهُ بِإِخْدَامِ غَيْرِهِ : لِأَنَّ حَقَّهَا فِي الْخِدْمَةِ لَا فِي أَعْيَانِ الْخَدَمِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي لَيْسَ لِلزَّوْجِ ذَلِكَ وَلَهَا مُطَالَبَتُهُ بِخَادِمٍ غَيْرِهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ فِي خِدْمَةِ الزَّوْجِ لَهَا نَقْصًا دَاخِلًا عَلَيْهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهَا تَحْتَشِمُ فِي الْعَادَةِ مِنِ اسْتِخْدَامِهِ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى الْإِضْرَارِ بِهَا . فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ نُظِرَ فَإِنِ ابْتَاعَ لَهَا خَادِمًا لَزِمَهُ نَفَقَتُهُ وَزَكَاةُ فِطْرِهِ لِأَجْلِ مِلْكِهِ ، وَإِنِ اسْتَأْجَرَ لَهَا خَادِمًا لَمْ يَلْزَمْهُ نَفَقَتُهُ ، وَلَا زَكَاةُ فِطْرِهِ ، وَعَلَيْهِ دَفْعُ أُجْرَتِهِ ، وَإِنْ أَنْفَقَ عَلَى خَادِمِهَا فَذَاكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِ لِوُجُوبِ نَفَقَتِهِ ، فَإِنْ كَانَ لَهَا خَادِمٌ آخَرُ غَيْرُهُ فَعَلَيْهَا نَفَقَتُهُ وَفِطْرَتُهُ دُونَ الزَّوْجِ : لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا نَفَقَةُ خَادِمٍ وَاحِدٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُؤَدِّي عَنْ عَبِيدِهِ الْحُضُورِ وَالْغُيَّبِ زكاة الفطر عن العبيد وَإِنْ لَمْ يَرْجُ رَجْعَتَهُمْ إِذَا عَلِمَ حَيَاتَهُمْ ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَيَاتَهُمْ ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِابْنِ عُمَرَ بِأَنَّهُ كَانَ يُؤَدِّي عَنْ غِلْمَانِهِ بِوَادِي الْقُرَى ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَهَذَا مِنْ قَوْلِهِ أَوْلَى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا عَبِيدُهُ الْحُضُورُ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَلَيْهِ زَكَاةَ فِطْرِهِمْ وَأَمَّا عَبِيدُهُ الْغُيَّبُ فَلَهُمْ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْلَمَ حَيَاتَهُمْ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ ، سَوَاءٌ كَانَ يَعْرِفُ مَكَانَهُمْ وَيَرْجُو رَجْعَتَهُمْ أَمْ لَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَلْزَمُهُ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ إِذَا أَبِقُوا لِعَدَمِ تَصَرُّفِهِ كَمَا لَا يَلْزَمُهُ زَكَاةُ مَالِهِ الْغَائِبِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ ، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُؤَدِّي عَنْ غِلْمَانِهِ بِوَادِي الْقُرَى ،

وَلِأَنَّ زَكَاةَ فِطْرِهِمْ تَجِبُ لِأَجْلِ الْمِلْكِ لَا لِأَجْلِ التَّصَرُّفِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ كَانَ زَمِنًا لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ لَزِمَتْهُ نَفَقَتُهُ وَزَكَاةُ فِطْرِهِ فَأَمَّا الْمَالُ الْغَائِبُ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبْدِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِمْكَانَ التَّصَرُّفِ شَرْطٌ فِي زَكَاةِ الْمَالِ فَلَمْ يَجِبْ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ إِذَا كَانَ غَائِبًا لِعَدَمِ التَّصَرُّفِ ، وَلَيْسَ إِمْكَانُ التَّصَرُّفِ شَرْطًا فِي فِطْرَةِ الْعَبْدِ فَلَزِمَ إِخْرَاجُ فِطْرَتِهِ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ . وَالثَّانِي : أَنَّ زَكَاةَ الْمَالِ إِخْرَاجُ قَدْرٍ مِنْهُ فَإِذَا لَمْ يَحْضُرْ لَمْ تَجِبْ وَلَيْسَ فِطْرَةُ الْعَبْدِ مِنْهُ . فَجَازَ إِنْ لَمْ يَحْضُرْ أَنْ تَجِبَ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا تُعْلَمَ حَيَاتُهُمْ ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا إِنَّهُ يُؤَدِّي عَنْهُمُ الزَّكَاةَ وَإِنْ لَمْ يَرْجُ رَجْعَتَهُمْ إِذَا عَلِمَ حَيَاتَهُمْ ، وَكَانَ مَفْهُومُهُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ حَيَاتَهُمْ لَمْ يُؤَدِّ عَنْهُمْ . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ يُؤَدِّي عَنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَيَاتَهُمْ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَسَاعَدَهُمُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يُخَرِّجُونَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ : لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ حَيَاتِهِمْ وَوُجُوبُ فِطْرِهِمْ فَلَا تَسْقُطُ بِالشَّكِّ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُمْ عَنْ كَفَّارَةٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا لَمْ يُجْزِهِ إِلْغَاءٌ لِحُكْمِ حَيَاتِهِمْ فَكَذَلِكَ لَا تَلْزَمُهُ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ إِلْغَاءً لِحُكْمِ حَيَاتِهِمْ ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ جَعَلَ الْمَسْأَلَةَ قَوْلًا وَاحِدًا : أَنَّ زَكَاةَ فِطْرِهِمْ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَالْكَفَّارَةِ ، هُوَ أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْكَفَّارَةِ فِي ذِمَّتِهِ يَتَعَيَّنُ فَلَا يَسْقُطُ فَرْضُهَا بِالشَّكِّ ، وَالْأَصْلُ حَيَاةُ الْغَائِبِ فَلَمْ تَسْقُطْ زَكَاةُ فِطْرِهِ بِالشَّكِّ ، فَبِالْمَعْنَى الَّذِي احْتِيطَ فِي الْكَفَّارَةِ فَلَمْ يَسْقُطْ فَرْضُهَا بِالشَّكِّ بِمِثْلِهِ ، احْتِيطَ فِي زَكَاةِ الْفِطْرَةِ فَلَمْ يَسْقُطْ فَرْضُهَا بِالشَّكِّ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُزَكِّي عَمَّنْ كَانَ مَرْهُونًا أَوْ مَغْصُوبًا عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَرَقِيقَ رَقِيقِهِ . وَرَقِيقُ الْخِدْمَةِ وَالتِّجَارَةِ سَوَاءٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ كيف يخرج زكاة الفطر فَزَكَاةُ فِطْرِهِ وَاجِبَةٌ عَلَى سَيِّدِهِ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَمَنْ تَمُونُونَ وَلِأَنَّ زَكَاةَ الْمَالِ أَوْكَدُ مِنْ زَكَاةِ الْفِطْرِ : لِتَعَلُّقِهَا بِالْعَيْنِ فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعِ الرَّهْنُ زَكَاةَ الْمَالِ ، كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ زَكَاةَ الْفِطْرِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ زَكَاةَ فِطْرِهِ وَاجِبَةٌ ، لَزِمَ السَّيِّدُ إِخْرَاجَهَا مِنْ مَالِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِخْرَاجُهَا مِنْ رَقَبَتِهِ : لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِمُؤْنَتِهِ وَمُؤْنَتُهُ فِي مَالِهِ ، فَكَذَلِكَ زَكَاةُ فِطْرِهِ وَهَذَا يُخَالِفُ الْمَالَ الْمَرْهُونَ حَيْثُ أُخْرِجَتْ زَكَاتُهُ مِنْهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ : لِأَنَّ فِطْرَةَ الْعَبْدِ فِي ذِمَّةِ سَيِّدِهِ ، وَزَكَاةَ الْمَالِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي عَيْنِهِ فَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ فَزَكَاةُ فِطْرِهِ وَاجِبَةٌ ، قَالَ

الشَّافِعِيُّ : " وَيُزَكِّي عَمَّنْ كَانَ مَرْهُونًا ، أَوْ مَغْصُوبًا " وَرُوِيَ مَغْصُوبًا يَعْنِي زَمِنًا " وَأَيُّهُمَا كَانَ فَزَكَاةُ فِطْرِهِ وَاجِبَةٌ ، لِأَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمِلْكِ دُونَ التَّصَرُّفِ .

فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيُؤَدِّي عَنْ رَقِيقِ رَقِيقِهِ ، لِأَنَّهَا رَقِيقُهُ زكاة الفطر ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ حَيْثُ قَالَ : " الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ إِذَا مُلِكَ فَإِذَا مَلَكَ عَبْدُهُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ عَبِيدًا فَعَلَى السَّيِّدِ زَكَاتُهُ وَزَكَاةُ عَبِيدِهِ لِأَنَّهُمْ عَبِيدُهُ " فَأَمَّا عَلَى الْقَدِيمِ حَيْثُ قَالَ : " الْعَبْدُ يَمْلِكُ إِذَا مُلِكَ " فَفِي زَكَاةِ فِطْرِهِمْ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ السَّيِّدُ زَكَاةَ فِطْرِهِمْ لِأَنَّهُمْ عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ ، وَلَا يَلْزَمُ الْعَبْدُ الْمَالِكُ لَهُمْ زَكَاةَ فِطْرِهِمْ لِأَجْلِ رِقِّهِ ، وَنَقْصِ مِلْكِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ عَلَى السَّيِّدِ زَكَاةَ فِطْرِهِمْ : لِأَنَّ لَهُ انْتِزَاعَهُمْ مِنْ يَدِ عَبْدِهِ فَجَرَى عَلَيْهِمْ حُكْمُ مِلْكِهِ .

فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَرَقِيقُ الْخِدْمَةِ وَرَقِيقُ التِّجَارَةِ هل تجب عليه زكاة فطرهم سَوَاءٌ " وَهَذَا قَالَهُ رَدًّا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ ، حَيْثُ قَالَ فِيمَنْ مَلَكَ عَبِيدًا لِلتِّجَارَةِ هل تجب عليه زكاة فطرهم إِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ : لِأَنْ لَا يَجْتَمِعَ زَكَاتَانِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ ، وَعِنْدَنَا عَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ ، وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ عَنْ قِيمَتِهِمْ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي بَابِ زَكَاةِ التِّجَارَةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَ فِيمَنْ يَمُونُ كَافِرٌ لَمْ يُزَكِّ عَنْهُ : لِأَنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِالزَّكَاةِ إِلَّا مُسْلِمٌ . قَالَ مُحَمَّدٌ وَابْنُ عَاصِمٍ قَالَ سَمِعْتُ : الْمَعْضُوبُ الَّذِي لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْكَافِرَ لَا تَلْزَمُهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِ وَهُوَ إِجْمَاعٌ ، فَأَمَّا الْمُسْلِمُ إِذَا لَزِمَتْهُ مُؤْنَةُ كَافِرٍ مِنْ وَلَدٍ أَوْ وَالِدٍ وَزَوْجَةٍ أَوْ عَبْدٍ هل يخرج عنهم زكاة فطرهم ، فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُمْ دُونَ زَكَاةِ فِطْرِهِمْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا مَلَكَ الْمُسْلِمُ عَبْدًا كَافِرًا لَزِمَتْهُ زَكَاةُ فِطْرِهِ احْتِجَاجًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدُّوا زَكَاةَ الْفِطْرِ عَمَّنْ تَمُونُونَ وَلَمْ يُفَصِّلْ وَلِأَنَّهُ مِلْكٌ لِمُسْلِمٍ فَجَازَ أَنْ تَلْزَمَهُ زَكَاةُ فِطْرِهِ كَالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ حَالَ السَّيِّدِ الدَّافِعِ أَوْلَى مِنَ اعْتِبَارِ حَالِ الْعَبْدِ الْمَدْفُوعِ عَنْهُ : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ دُونَ الْعَبْدِ فَكَانَ اعْتِبَارُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَوْلَى . وَالثَّانِي : أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ تَجِبُ بِشَرْطَيْنِ الْإِسْلَامِ وَالْمَالِ ، فَلَمَّا كَانَ أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ وَهُوَ الْمَالُ مُعْتَبَرًا بِالسَّيِّدِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ الثَّانِي وَهُوَ الْإِسْلَامُ مُعْتَبَرًا بِالسَّيِّدِ ، وَإِذَا كَانَ اعْتِبَارُ حَالِ السَّيِّدِ أَوْلَى لَزِمَتْهُ فِطْرَةُ عَبْدِهِ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ كَافِرًا ، كَمَا يَلْزَمُهُ فِطْرَةُ عَبْدِهِ إِذَا كَانَ مُوسِرًا ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مُعْسِرًا ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ إِلَى أَنْ قَالَ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ ذَكَرٍ وَأُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَيَّدَهُ بِالْإِسْلَامِ .

وَرَوَى الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ زَكَاةٌ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ إِلَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ ، وَإِنَّ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ مُسْلِمَةٍ حُرَّةٍ أَوْ مَمْلُوكَةٍ صَدَقَةً وَكَانَ وُجُوبُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ مُقَيَّدًا بِالْإِسْلَامِ ، فَلَمْ تَجِبْ بِفَقْدِهِ وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ فَأَخْبَرَ أَنَّهَا طُهْرَةٌ وَالْكَافِرُ لَا يَتَطَهَّرُ بِهَا ، وَأَنَّهَا لِلصَّائِمِ وَالْكَافِرُ لَا صَوْمَ لَهُ ، فَثَبَتَ أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ وَلَا عَنِ الْعَبْدِ الْكَافِرِ ، وَلِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ مُشْرِكٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَ زَكَاةُ فِطْرِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ مِلْكًا لِمُشْرِكٍ ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ أَدَاءِ الْفِطْرَةِ عَنْ نَفْسِهِ أَوْكَدُ مِنْ وُجُوبِ أَدَائِهِ عَنْ غَيْرِهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَصْلٌ وَهُمْ فَرْعٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ إِذَا ضَاقَ مَالُهُ عَنْ جَمِيعِهِمْ بَدَأَ بِأَدَائِهَا عَنْ نَفْسِهِ ، فَالْبِدَايَةُ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْأَوْكَدِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْكُفْرَ مُؤَثِّرٌ فِي إِسْقَاطِهَا عَنْ نَفْسِهِ ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ كَافِرًا ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا فِي إِسْقَاطِهَا عَنْ عَبْدِهِ إِذَا كَانَ كَافِرًا ، وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ فِي وُجُوبِ الْفِطْرَةِ بِإِجْمَاعٍ ، وَلَيْسَ يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي الدَّافِعِ أَوِ الْمَدْفُوعِ عَنْهُ أَوْ فِيهِمَا جَمِيعًا مَعًا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي الدَّافِعِ وَحْدَهُ : لِأَنَّهُ يَتَحَمَّلُ عَنْ غَيْرِهِ ، وَلَا فِي الْمَدْفُوعِ عَنْهُ وَحْدَهُ : لِأَنَّ وُجُوبَهَا عَلَى غَيْرِهِ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِيهِمَا مَعَ كَوْنِهِ عَامًّا ، وَعَلَى الْأُصُولِ فِي ذَوِي الْأَلْبَابِ مُطَّرِدًا ، وَبِهَذَا يَبْطُلُ اسْتِدْلَالُهُ وَتَعَارُضُ قِيَاسِهِ وَبِخَبَرِنَا نَخُصُّ خَبَرَهُ .

فَصْلٌ : فَلَوْ مَلَكَ الْمُسْلِمُ عَبْدًا مُسْلِمًا فَارْتَدَّ الْعَبْدُ عَنِ الْإِسْلَامِ فِي هِلَالِ شَوَّالٍ ثُمَّ عَادَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْإِسْلَامِ هل تجب زكاة الفطر ، فَفِي وُجُوبِ زَكَاةِ فِطْرِهِ عَلَى السَّيِّدِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ - مُخَرَّجَةٍ مِنِ اخْتِلَافِ أَقَاوِيلِهِ فِي رِدَّةِ رَبِّ الْمَالِ فِي حَوْلِهِ ، هَلْ تُؤَثِّرُ فِي إِسْقَاطِ زَكَاتِهِ - أَحَدُهَا : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ إِذَا عَادَ اسْتَأْنَفَ حَوْلَهُ . وَالثَّانِي : - وَهُوَ أَصَحُّ - عَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِ ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ فِي رَبِّ الْمَالِ أَنَّ عَلَيْهِ زَكَاةَ مَالِهِ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوْ لَمْ يَعُدْ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِسْلَامِهِ إِذَا قُلْنَا إِنَّ زَكَاةَ رَبِّ الْمَالِ مَوْقُوفَةٌ فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَجَبَتْ عَنْهُ الْفِطْرَةُ ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ لَمْ تَجِبْ كَمَا إِذَا عَادَ رَبُّ الْمَالِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَالِهِ وَإِنْ لَمْ يَعُدْ لَمْ يَجِبْ .

فَصْلٌ : فَلَوْ مَلَكَ الْكَافِرُ عَبْدًا مُسْلِمًا ، إِمَّا بِأَنْ كَانَ الْعَبْدُ كَافِرًا فَأَسْلَمَ ، وَأَهَّلَ شَوَّالٌ قَبْلَ

انْتِزَاعِهِ مِنْ يَدِهِ ، أَوْ كَانَتْ أُمُّ وَلَدِهِ كَافِرَةً فَأَسْلَمَتْ ، فَهَلْ عَلَى السَّيِّدِ إِخْرَاجُ الْفِطْرَةِ عَنْهُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا عَلَى السَّيِّدِ . أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ إِخْرَاجُهَا عَنْهُ إِذَا قِيلَ : إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الْعَبْدِ وَأَنَّ السَّيِّدَ يَتَحَمَّلُهَا عَنْهُ تَحَمُّلَ ضَمَانٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِذَا قِيلَ : إِنَّهَا وَجَبَتِ ابْتِدَاءً عَلَى السَّيِّدِ وُجُوبَ حَوَالَةٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَ وَلَدُهُ فِي وِلَايَتِهِ لَهُمْ أَمْوَالٌ ، زَكَّى مِنْهَا عَنْهُمْ إِلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ فَيُجْزِئُ عَنْهُمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ تَابِعَةٌ لِلْمَنْفَعَةِ ، فَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ أَوْلَادٌ صِغَارٌ فِي وِلَايَتِهِ ، وَلَهُمْ أَمْوَالٌ فَنَفَقَتُهُمْ وَزَكَاةُ فِطْرِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ دُونَ مَالِ أَبِيهِمْ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ ، وَزُفَرَ بْنَ الْهُذَيْلِ ، فَإِنَّهُمَا أَوْجَبَا نَفَقَةَ الْأَطْفَالِ فِي أَمْوَالِهِمْ وَزَكَاةَ فِطْرِهِمْ عَلَى أَبِيهِمْ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدُّوا زَكَاةَ الْفِطْرِ عَمَّنْ تَمُونُونَ ، وَمُؤْنَةُ الْأَطْفَالِ فِي أَمْوَالِهِمْ : فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ تَابِعَةً لِلنَّفَقَةِ فِي أَمْوَالِهِمْ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَالِغَ لَمَّا وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِهِ وَجَبَتْ زَكَاةُ فِطْرِهِ فِي مَالِهِ ، وَالصَّغِيرُ الْفَقِيرُ لَمَّا وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ عَلَى أَبِيهِ وَجَبَتْ زَكَاةُ فِطْرِهِ عَلَى أَبِيهِ ، وَكَذَا الصَّغِيرُ الْغَنِيُّ لَمَّا وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِهِ وَجَبَتْ زَكَاةُ فِطْرِهِ فِي مَالِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا فِي أَمْوَالِهِمْ فَإِنْ تَطَوَّعَ الْأَبُ فَأَخْرَجَهَا عَنْهُمْ مِنْ مَالِهِ أَجْزَأَ ، وَكَانَ مُتَطَوِّعًا بِهَا ، وَلَوْ كَانَ الْوَالِي عَلَيْهِمْ أَمِينًا حَاكِمًا وَجَبَ فِي أَمْوَالِهِمْ : لِوِفَاقِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ ، وَيَتَوَلَّى الْأَمِينُ إِخْرَاجَهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، فَإِنْ تَطَوَّعَ الْأَمِينُ فَأَخْرَجَهَا عَنْهُمْ مِنْ مَالِهِ مُتَطَوِّعًا بِهَا لَمْ يُجْزِهِمْ ، وَفَرَّقَ أَصْحَابُنَا بَيْنَ الْأَبِ وَالْأَمِينِ بِأَنَّ الْأَبَ لَمَّا جَازَ أَنْ يَحُجَّ بِهِمْ جَازَ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِزَكَاةِ فِطْرِهِمْ ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لِلْأَمِينِ أَنْ يَحُجَّ بِهِمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِزَكَاةِ فِطْرِهِمْ ، وَفِيهِ عِنْدِي نَظَرٌ .

فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ وَلِلْوَلَدِ عَبْدٌ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ هل يخرج عنه زكاة فطره ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مُسْتَغْنِيًا عَنْ خِدْمَةِ الْعَبْدِ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ فَهُوَ غَنِيٌّ بِهِ فَلَا تَجِبُ عَلَى الْأَبِ نَفَقَتُهُ وَلَا نَفَقَةُ عَبْدِهِ ، وَلَا فِطْرَتُهُ وَلَا فِطْرَةُ عَبْدِهِ وَيُبَاعُ مِنَ الْعَبْدِ بِقَدْرِ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِمَا ، فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى خِدْمَةِ الْعَبْدِ غَيْرَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ فَهُوَ فَقِيرٌ ، وَعَلَى الْأَبِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ وَعَلَى عَبْدِهِ وَيُزَكِّيَ عَنْهُ وَعَنْ عَبْدِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ تَطَوَّعَ حُرٌّ مِمَّنْ يَمُونُ فَأَخْرَجَهَا عَنْ نَفْسِهِ أَجْزَأَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا مَنْ عَدَا الزَّوْجَةِ مِنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ الَّذِينَ تَجِبُ نَفَقَاتُهُمْ وَزَكَاةُ فِطْرِهِمْ إِذَا تَطَوَّعُوا بِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ ، فَقَدْ أَجْزَاهُمْ سَوَاءٌ اسْتَأْذَنُوا الْمُنْفِقَ

عَلَيْهِمْ ، أَوْ لَمْ يَسْتَأْذِنُوهُ : لِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ وَزَكَاةَ فِطْرِهِمْ تَجِبُ عَلَى طَرِيقِ الْمُوَاسَاةِ ، وَلِذَلِكَ تَجِبُ بِفَقْرِهِمْ وَتَسْقُطُ بِغِنَاهُمْ ، وَلَا رُجُوعَ لَهُمْ بِمَا أَنْفَقُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، وَأَمَّا الزَّوْجَةُ وإخراج زكاة الفطر عنها فَنَفَقَتُهَا وَزَكَاةُ فِطْرَتِهَا أَوْكَدُ ، لِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى طَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ وَلِذَلِكَ تَجِبُ مَعَ فَقْرِهَا وَغِنَاهَا ، وَتَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَتْهُ عَلَى نَفْسِهَا فَإِنْ تَطَوَّعَتْ بِزَكَاةِ فِطْرِهَا مِنْ مَالِهَا ، فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ زَوْجِهَا جَازَ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُجْزِي عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الزَّوْجِ وُجُوبَ حَوَالَةٍ . وَالثَّانِي : يُجْزِي عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الزَّوْجِ وُجُوبَ ضَمَانٍ .

فَصْلٌ : لَيْسَ لِلزَّوْجَةِ مُطَالَبَةُ الزَّوْجِ بِإِخْرَاجِ الْفِطْرَةِ عَنْهَا ، لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الزَّوْجِ دُونَهَا ، وَوُجُوبُهَا عَلَيْهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْحَوَالَةِ أَوْ مَجْرَى الضَّمَانِ ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَلَا مُطَالَبَةَ لَهَا بِهِ : لِأَنَّهُ إِنْ جَرَى مَجْرَى الْحَوَالَةِ ، فَلَيْسَ لِلْمُحِيلِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ ، وَإِنْ جَرَى مَجْرَى الضَّمَانِ ، فَلَيْسَ لِلْمَضْمُونِ عَنْهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ عَمَّنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ نَهَارِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَغَابَتِ الشَّمْسُ لَيْلَةَ شَوَّالٍ فَيُزَكِّي عَنْهُ وَإِنْ مَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ وَإِنْ وُلِدَ لَهُ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَمْسُ وَلَدٌ أَوْ مَلَكَ عَبْدًا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِي عَامِهِ ذَلِكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ تَجِبُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهَا تَجِبُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ الْفِطْرِ لِيَكُونَ جَامِعًا بَيْنَ آخِرِ شَيْءٍ مِنْ نَهَارِ رَمَضَانَ ، وَأَوَّلِ شَيْءٍ مِنْ لَيْلِ شَوَّالٍ ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ ، وَقَالَ مَالِكٌ بِقَوْلِهِ الْقَدِيمِ إِذَا وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ ، وَبِقَوْلِهِ الْجَدِيدِ إِذَا اشْتَرَى عَبْدًا ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْقَدِيمِ أَنَّهَا تَجِبُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّلَبِ فِي هَذَا الْيَوْمِ . فَدَلَّ عَلَى تَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِهِ وَأَوَّلُهُ طُلُوعُ الْفَجْرِ ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ أَدُّوا زَكَاةَ فِطْرِكُمْ وَأَضَافَ الْأَدَاءَ إِلَى الْفِطْرِ ، وَعَلَّقَهُ بِهِ ، وَإِطْلَاقُ الْفِطَرِ إِشَارَةٌ إِلَى نَهَارِ الْيَوْمِ دُونَ لَيْلِهِ ،

أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَعَرَفَتُكُمْ يَوْمَ تَعْرِفُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ " ، وَلِأَنَّ تَعَلُّقَ زَكَاةِ الْفِطْرِ بِعِيدِ الْفِطْرِ كَتَعَلُّقِ الْأُضْحِيَّةِ بِعِيدِ الْأَضْحَى فَلَمَّا كَانَتِ الْأُضْحِيَّةُ مُتَعَلِّقَةً بِنَهَارِ النَّحْرِ دُونَ لَيْلِهِ أَنْ تَكُونَ الْفِطْرَةُ مُتَعَلِّقَةً بِنَهَارِ الْفِطْرِ دُونَ لَيْلَةٍ ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا : أَنَّهُ حَقٌّ فِي مَالٍ يَخْرُجُ فِي يَوْمِ عِيدٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَعَلُّقُهُ بِالْيَوْمِ كَالْأُضْحِيَّةِ ، وَلِأَنَّ لَيْلَةَ الْفِطْرِ مِثْلُ مَا قَبْلَهَا فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ فِيهَا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَتَعَلَّقَ زَكَاةُ الْفِطْرِ بِهَا كَمَا لَمْ تَتَعَلَّقْ بِمَا قَبْلَهَا . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا : أَنَّهُ خَصْلَةٌ عَنْ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ فَوَجَبَ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ زَكَاةُ الْفِطْرَةِ كَالْيَوْمِ الْأَوَّلِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ فِي تَعَلُّقِهَا بِغُرُوبِ الشَّمْسِ دُونَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ طَهُورًا لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ وَفِيهِ دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ : فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ ، فَأَخْبَرَ أَنَّهَا مَفْرُوضَةٌ بِالْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ ، وَأَوَّلُ فِطْرٍ يَقَعُ مِنْ جَمِيعِ رَمَضَانَ مَغِيبُ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ نَهَارِهِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ مُتَعَلِّقًا بِهِ . وَالثَّانِي : قَوْلُهُ : طَهُورًا لِلصَّائِمِ : لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ شَيْئًا مِنْ زَمَانِ الصَّوْمِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الطُّهْرَةِ مِنَ الصَّوْمِ ، وَقَدْ تَحَرَّرَ هَذِهِ الدَّلَالَةُ قِيَاسًا فَيُقَالُ : لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ شَيْئًا مِنْ رَمَضَانَ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمُهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ قِيَاسًا عَلَى مَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَلِأَنَّ طُلُوعَ الْفَجْرِ فِي حُكْمِ مَا تَقَدَّمَ فِي أَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الصَّوْمِ قَدْ تَقَدَّمَهُ ، فَلَمْ يُجْزِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ كَمَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَا بَعْدَهُ . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ وَقْتٌ لَمْ يَتَعَقَّبْ زَمَانَ الصَّوْمِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ ، قِيَاسًا عَلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ ، وَلِأَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ إِمَّا أَنْ تَجِبَ بِخُرُوجِ رَمَضَانَ ، أَوْ بِدُخُولِ شَوَّالٍ ، وَغُرُوبِ الشَّمْسِ بِجَمِيعِ الْأَمْرَيْنِ فَكَانَ تَعَلُّقُ الزَّكَاةِ بِهِ أَوْلَى . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّلَبِ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِغْنَاءَهُمْ بِدَفْعِهَا لَهُمْ لَا بِوُجُوبِهَا لَهُمْ ، وَهِيَ تُدْفَعُ إِلَيْهِمْ فِي الْيَوْمِ لَا فِي اللَّيْلِ ، وَتَجِبُ لَهُمْ فِي اللَّيْلِ لَا فِي الْيَوْمِ . وَالثَّانِي : أَنَّ أَمْرَهُ بِإِغْنَائِهِمْ عَنِ الطَّلَبِ فِيمَا لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهَا ، أَوْ دَفْعِهَا فِيهِ ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ إِغْنَائِهِمْ عَنِ الطَّلَبِ ، وَهُمْ يَسْتَغْنُونَ فِيهِ عَنِ الطَّلَبِ بِمَا يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ مِنَ اللَّيْلِ .

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَدُّوا زَكَاةَ فِطْرِكُمْ وَالْفِطْرُ إِشَارَةٌ إِلَى نَهَارِ الْيَوْمَ دُونَ لَيْلِهِ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْفِطْرَ إِشَارَةٌ إِلَى عَيْنِ زَمَانِ الصَّوْمِ مِنَ اللَّيْلِ جَمِيعًا وَالنَّهَارِ لُغَةً وَشَرْعًا . أَمَّا اللُّغَةُ فَلِأَنَّ الْإِمْسَاكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيهِ ، وَأَمَّا الشَّرْعُ فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا ، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ . وَأَمَّا الِاعْتِبَارُ فَهُوَ أَنَّ يَوْمَ الْفِطْرِ وَلَيْلَتِهِ سَوَاءٌ ، فِي أَنَّ اسْمَ الْفِطْرِ مُنْطَلِقٌ عَلَيْهِمَا . وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ ، فَإِنْ قَصَدَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي زَمَانِ الْإِخْرَاجِ صَحَّ خُرُوجُهُ ، وَإِنْ قَصَدَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي زَمَانِ الْوُجُوبِ فَالْأُضْحِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ لَيْلَةَ الْفِطْرِ عَلَى مَا قَبْلَهَا فَغَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا لَيْسَ بِفِطْرٍ عَنْ جَمِيعِ الصَّوْمِ ، وَإِنَّمَا هُوَ فِطْرٌ عَنْ بَعْضِهِ وَلَيْلَةُ الْفِطْرِ خُرُوجٌ مِنْ جَمِيعِهِ فَافْتَرَقَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي زَمَانِ وُجُوبِهَا ، فَالتَّفْرِيعُ عَلَيْهِمَا مَبْنِيٌّ ، فَإِنْ وُلِدَ لَهُ مَوْلُودٌ أَوْ عَقَدَ عَلَى زَوْجَةٍ أَوْ مَلَكَ عَبْدًا عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَبَقَوْا عَلَى حَالِهِمْ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ ، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا ، لِوُجُودِهِمْ فِي الطَّرَفَيْنِ ، وَلَوْ وُلِدَ لَهُ الْمَوْلُودُ ، وَعَقَدَ عَلَى الزَّوْجَةِ ، وَمَلَكَ الْعَبْدَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَمَاتُوا ، أَوِ انْتَقَلُوا عَنْ حَالِهِمْ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، فَعَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ عَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ ، اعْتِبَارًا بِطُلُوعِ الْفَجْرِ ، فَلَوْ كَانُوا مَوْجُودِينَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ ، فَعَلَى قَوْلِهِ الْقَدِيمِ : عَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ ، وَعَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ لَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ ، فَلَوْ وُلِدَ الْمَوْلُودُ وَعَقَدَ عَلَى الزَّوْجَةِ ، وَمَلَكَ الْعَبْدَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، ثُمَّ مَاتَ الْوَلَدُ ، وَطَلَّقَ الزَّوْجَةَ ، وَمَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَمْ يَلْزَمْهُ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ ، عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَلَا عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَ عَبْدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ مَا يَمْلِكُ مِنْهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ كيف يخرج زكاة الفطر ، أَوْ بَيْنَ مِائَةِ شَرِيكٍ فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ لِمَالِكٍ وَاحِدٍ ، فَتَكُونُ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ زَكَاةُ الْفِطْرَةِ صَاعٌ وَاحِدٌ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مِائَةُ عَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ ، لَزِمَهُمَا عَلَى كُلِّ رَأْسِ صَاعٍ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ أَوْ مِائَةُ عَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَلَا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَالٍ ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : إِذَا كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ ، أَوْ بَيْنَ مِائَةِ شَرِيكٍ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاعٌ ، فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ بِشَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَالَ مَا تَتَكَرَّرَ زَكَاتُهُ فِي كُلِّ حَوْلٍ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ نِصَابٌ يَدْخُلُ الْعَفْرُ فِيمَا

دُونَهُ كَالْمَوَاشِي ، وَالنِّصَابُ عَبْدٌ كَامِلٌ وَالْعَفْرُ مِنْ دُونِهِ ، وَمَنْ مَلَكَ أَقَلَّ مِنْ عَبْدٍ كَامِلٍ فَهُوَ بِمَثَابَةِ مَنْ مَلَكَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ مِنَ الْمَاشِيَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمُهُ زَكَاتُهُ . وَالثَّانِي : أَنْ قَالَ الْعَبْدُ الْمُشْرِكُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ كَالْمُكَاتَبِ بَيْنَ سَيِّدِهِ وَبَيْنَ نَفْسِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمُهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ فِي الْمُشْرِكِ ، كَمَا لَمْ تَلْزَمْهُ فِي الْمُكَاتَبِ ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ أَنَّ فِطْرَةً عَمَّنْ لَمْ يَكْمُلْ تَصَرُّفُهُ فِيهِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْهُ كَالْمُكَاتَبِ ، وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ فَإِنَّهُ قَالَ : زَكَاةُ الْفِطْرِ تَجْرِي مَجْرَى الْكَفَّارَةِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ تَبْعِيضُ الْكَفَّارَةِ لَمْ يَجُزْ تَبْعِيضُ زَكَاةِ الْفِطْرِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا رِوَايَةُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ مِمَّنْ تَمُونُونَ ، وَفِيهِ دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ يَعْنِي : عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ فَكَانَ ظَاهِرُهُ فِي وُجُوبِهَا عَنِ الْمُنْفَرِدِ وَالْمُشْتَرِكِ . وَالثَّانِي : قَوْلُهُ مِمَّنْ يَمُونُونَ فَعَلَّقَهُمَا بِالْمُؤْنَةِ مِمَّنْ يَمْأَنُ ، فَوَجَبَ أَنْ يُزَكِّيَ عَنْهُ ، وَلِأَنَّهَا مُؤْنَةٌ تَجِبُ بِحَقِّ الْمِلْكِ الْمُنْفَرِدِ ، فَوَجَبَ أَنْ تَجِبَ بِحَقِّ الْمِلْكِ الْمُشْتَرِكِ كَالنَّفَقَةِ ، وَلِأَنَّهَا صَدَقَةٌ تَجِبُ لِأَجْلِ الْمِلْكِ الْمُنْفَرِدِ ، فَوَجَبَ أَنْ تَجِبَ لِأَجْلِ الْمُشْتَرِكِ كَسَائِرِ الصَّدَقَاتِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ مَا تَتَكَرَّرُ زَكَاتُهُ يَجِبُ اعْتِبَارُ النِّصَابِ فِيهِ ، فَهُوَ أَنَّ اعْتِبَارَ ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ النِّصَابَ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الْمَالِ وَزَكَاةُ الْفِطْرِ تَجِبُ فِي الْمَالِ وَغَيْرِ الْمَالِ ، أَلَّا تَرَاهَا تَجِبُ عَلَى الْحُرِّ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا عَلَى أَنَّهُمْ أَبْعَدُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ قَوْلًا لِأَنَّهُمْ قَالُوا : لَا تَجِبُ حَتَّى يَكُونَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ نِصَابَيْنِ نِصَابَ الْمَالِ وَنِصَابَ الْعَبْدِ ، وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ نَفَقَتَهُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَجِبْ زَكَاةُ فِطْرِهِ ، وَلَمَّا كَانَتْ نَفَقَةُ هَذَا وَاجِبَةً وَجَبَتْ زَكَاةُ فِطْرِهِ ، وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ فَيَفْسُدُ مَا قَالَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اعْتِبَارَ الْفِطْرَةِ بِالْكَفَّارَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ الْفِطْرَةَ تَجِبُ عَلَى الرَّقَبَةِ تَطْهِيرًا ، وَكَذَلِكَ تَجِبُ ابْتِدَاءً وَتَحَمُّلًا ، وَالْكَفَّارَةُ تَجِبُ عَنِ الْفِعْلِ تَمْحِيصًا وَتَكْفِيرًا ، وَذَلِكَ يَجِبُ ابْتِدَاءً وَلَا يَجِبُ تَحَمُّلًا . وَالثَّانِي : أَنَّ فِيهِ اسْتِيعَابًا لِقِيمَةِ الْعَبْدِ : لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ بَيْنَ مِائَةِ شَرِيكٍ فَيَلْزَمُهُمْ مِائَةُ صَاعٍ ، وَقَدْ تَكُونُ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ مِائَةِ صَاعٍ ، وَهَذَا خُرُوجُ عَنْ مَوْضُوعِ الْمُوَاسَاةِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَيْهِمَا فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ صَاعًا وَاحِدًا زكاة الفطر ، فَلَهُمَا حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ غَالِبُ قُوتِهِمَا وَاحِدًا ، فَيُخْرِجَانِ مِنْهُ صَاعًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ غَالِبُ قُوتِهِمَا مُخْتَلِفًا فَيَكُونُ قُوتُ أَحَدِهِمَا بَرًّا وَالْآخَرُ شَعِيرًا فَفِيهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ لَا يَجُوزُ لَهُمَا إِخْرَاجُ صَاعٍ مِنْ جِنْسَيْنِ ، وَلَا يَجْبُرُ مَنْ قُوتُهُ الشَّعِيرُ عَلَى إِخْرَاجِ الْبُرِّ : لِأَنَّهُ لَا يَجِدُهُ لَكِنْ يُخْرِجَانِ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ ، وَلِأَنَّ مَنْ يَقْتَاتُ الْبُرَّ يَقْدِرُ عَلَى الشَّعِيرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَجُوزُ لَهُمَا إِخْرَاجُ صَاعٍ مِنْ جِنْسَيْنِ فَيُخْرِجُ مَنْ قُوتُهُ الْبُرُّ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ ، وَيُخْرِجُ مَنْ قُوتُهُ الشَّعِيرُ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ بَيْنَ خَلِيطَيْنِ فَيُخْرِجُ أَحَدُهُمَا نِصْفَ شَاةٍ مِنْ غَنَمِهِ وَهِيَ ضَأْنٌ ، وَيُخْرِجُ الْآخَرُ نِصْفَ شَاةٍ مِنْ غَنَمِهِ وَهِيَ مِعْزَى .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كَانَ يَمْلِكُ نِصْفَهُ وَنِصْفُهُ حُرٌّ فَعَلَيْهِ فِي نِصْفِهِ نِصْفُ زَكَاتِهِ ، فَإِنْ كَانَ لِلْعَبْدِ مَا يَقُوتُهُ لَيْلَةَ الْفِطْرِ وَيَوْمَهُ أَدَّى النِّصْفَ عَنْ نِصْفِهِ الْحُرِّ : لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِمَا اكْتَسَبَ فِي يَوْمِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا كَانَ نِصْفُ الْعَبْدِ حُرًّا وَنِصْفُهُ مَمْلُوكًا كيف تكون الزكاة ، فَعَلَى السَّيِّدِ نِصْفُ صَاعٍ بِحَقِّ مِلْكِهِ وَعَلَى الْعَبْدِ نِصْفُ صَاعٍ بِحُرِيَّتِهِ ، لِيَكُونَ الصَّاعُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَلَى الْعَبْدِ بِقَدْرِ مَا عُتِقَ مِنْهُ ، وَلَا شَيْءَ عَلَى السَّيِّدِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : عَلَى السَّيِّدِ بِقَدْرِ مَا مَلَكَ مِنْهُ ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْعَبْدِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ مِمَّنْ تَمُونُونَ دَالٌّ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَيْهِمَا : لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ بَيْنَهُمَا ، وَإِذَا كَانَ هَذَا ثَابِتًا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْعَبْدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُهَايَّأً أَوْ غَيْرَ مُهَايَّأٍ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُهَايَّأً فَجَمِيعُ كَسْبِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ فَيَكُونُ لَهُ نِصْفُ كَسْبِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحُرِّيَّةِ ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ نَفَقَتِهِ ، وَلِسَيِّدِهِ نِصْفُ كَسْبِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الرِّقِّ ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ نَفَقَتِهِ ، وَيَكُونُ عَلَى السَّيِّدِ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ زَكَاةِ فِطْرِهِ ، وَعَلَيْهِ إِنْ كَانَ وَاجِدًا نِصْفُ صَاعٍ مِنْ زَكَاةِ فِطْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُهَايَّأً ، وَصُورَةُ الْمُهَايَّأَةِ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنْ يَكْتَسِبَ لِسَيِّدِهِ شَهْرًا ، وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فِيهِ ، وَلِنَفْسِهِ شَهْرًا وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ أَوْ يَوْمًا وَيَوْمًا ، فَفِي دُخُولِ زَكَاةِ الْفِطْرِ فِي الْمُهَايَّأَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : تَدْخُلُ فِي الْمُهَايَّأَةِ تَبَعًا لِلنَّفَقَةِ فَعَلَى هَذَا إِنْ أَهَّلَ شَوَّالٌ فِي شَهْرِ السَّيِّدِ ، فَعَلَى السَّيِّدِ زَكَاةُ فِطْرِهِ صَاعٌ كَامِلٌ ، وَإِنْ أَهَلَّ شَوَّالٌ فِي شَهْرِ الْعَبْدِ ، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِ صَاعٌ كَامِلٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرَةِ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي الْمُهَايَّأَةِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّفَقَةِ أَنَّ النَّفَقَةَ تَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مُدَّتِهِ مِثْلَ مَا تَلْزَمُهُ الْأُخْرَى

فِي مُدَّتِهِ فَدَخَلَتْ فِي الْمُهَايَّأَةِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِيهَا ، وَلَيْسَتْ زَكَاةُ الْفِطْرَةِ هَكَذَا : لِأَنَّهُ قَدْ يَلْزَمُهَا أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ ، فَلَمْ تَدْخُلْ فِي الْمُهَايَّأَةِ لِيَسْتَوِيَا فِيهَا ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَهَلَّ شَوَّالٌ فِي شَهْرِ السَّيِّدِ فَعَلَيْهِ جَمِيعُ النَّفَقَةِ ، وَنِصْفُ فِطْرَتِهِ ، وَعَلَى الْعَبْدِ نِصْفُهَا الْبَاقِي إِنْ كَانَ وَاجِدًا لَهَا ، وَإِنْ أَهَلَّ شَوَّالٌ فِي شَهْرِ الْعَبْدِ ، فَعَلَيْهِ جَمِيعُ نَفَقَتِهِ وَنِصْفُ فِطْرَتِهِ ، وَعَلَى السَّيِّدِ نِصْفُهَا الْبَاقِي ، فَأَمَّا الْعَبْدُ الْمُخَارِجُ فَزَكَاةُ فِطْرَتِهِ عَلَى سَيِّدِهِ ، وَكَذَلِكَ الْمُؤَاجِرُ لِبَقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ ، فَأَهَلَّ شَوَّالٌ وَلَمْ يَخْتَرْ إِنْفَاذَ الْبَيْعِ ثُمَّ أَنْفَذَهُ ، فَزَكَاةُ الْفِطْرِ عَلَى الْبَائِعِ ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَالزَّكَاةُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَالْمِلْكُ لَهُ ، وَهُوَ كَمُخْتَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا جَمِيعًا فَزَكَاةُ الْفِطْرِ عَلَى الْمُشْتَرِي ، ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) هَذَا غَلَطٌ فِي أَصْلِ قَوْلِهِ : لِأَنَّهُ يَقُولُ فِي رَجُلٍ لَوْ قَالَ : عَبْدِي حُرٌّ إِنْ بِعْتُهُ فَبَاعَهُ أَنَّهُ يُعْتَقُ : لِأَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَتِمَّ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا تَفَرُّقَ الْأَبْدَانِ فَهُمَا فِي خِيَارِ التَّفَرُّقِ كَهُوَ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ بِوَقْتٍ لَا فَرْقَ فِي الْقِيَاسِ بَيْنَهُمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا إِذَا ابْتَاعَ الرَّجُلُ عَبْدًا تَاجِرًا ثُمَّ أَهَلَّ شَوَّالٌ بَعْدَ انْبِرَامِهِ ، فَزَكَاةُ فِطْرَتِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي لَا تَخْتَلِفُ ، وَلَكِنْ لَوِ ابْتَاعَ عَبْدًا بِخِيَارِ ثَلَاثٍ ، ثُمَّ أَهَلَّ شَوَّالٌ قَبْلَ تَقَضِّيهَا ، فَفِي زَكَاةِ فِطْرَتِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي انْتِقَالِ الْمِلْكِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ زَكَاةَ فِطْرِهِ عَلَى الْبَائِعِ بِكُلِّ حَالٍ إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَقِلُ إِلَّا بِالْعَقْدِ ، وَتَقَضِّي الْخِيَارِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : عَلَى الْمُشْتَرِي بِكُلِّ حَالٍ إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ بِالْعَقْدِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُمَا خِيَارٌ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ وَانْبَرَمَ فَهِيَ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَإِنِ انْفَسَخَ فَهِيَ عَلَى الْبَائِعِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا جَمِيعًا ، أَوْ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ أَوْ لِلْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي ، فَالْحُكْمُ فِيهِ وَاحِدٌ ، وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا مِنِ اخْتِلَافِ الْحُكْمِ لِاخْتِلَافِ الْخِيَارِ ، فَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى الْأَقَاوِيلِ وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي زَكَاةِ الْمَالِ وَقَدْ مَضَى ، وَقَدْ كَانَ أَبُو الطَّيِّبِ ابْنُ سَلَمَةَ يَزْعُمُ أَنَّ الْأَقَاوِيلَ إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا ، أَوْ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ فَأَمَّا إِنْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ ، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِ قَوْلًا وَاحِدًا وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَوْلَى ، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ ، وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ يَقُولُ إِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ أَبَاهُ ، وَلَمْ يَقْبِضْهُ وَلَا دَفَعَ ثَمَنَهُ حَتَّى أَهَلَّ شَوَّالٌ زَكَّى عَنْهُ زَكَاةَ الْفِطْرِ ، وَلَمْ يُعْتِقْ عَلَيْهِ لِلْعَلَقَةِ الَّتِي بَقِيَتْ لِلْبَائِعِ فِيهِ وَهِيَ حَقُّ الِاحْتِبَاسِ ، لِأَجْلِ الثَّمَنِ فَصَارَ كَأَنَّ لِلْبَائِعِ فِيهِ خِيَارًا وَهَذَا خِلَافُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ وَغَيْرِهِ بَلْ إِنْ كَانَ الْمَبِيعُ تَاجِرًا

فَعِتْقُهُ عَلَيْهِ نَافِذٌ ، وَصَدَقَةُ فِطْرِهِ لَازِمَةٌ سَوَاءً دَفَعَ ثَمَنَهُ أَمْ لَا ، وَإِنْ كَانَ بِخِيَارٍ فَهُوَ عَلَى الْأَقَاوِيلِ وَلِلْكَلَامِ مَعَ ابْنِ خَيْرَانَ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " قَالَ وَلَوْ مَاتَ حِينَ أَهَلَّ شَوَّالٌ وَلَهُ رَقِيقٌ فَزَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْهُ وَعَنْهُمْ فِي مَالِهِ مُبْدَأَةٌ عَلَى الدَّيْنِ وَغَيْرِهِ مِنْ مِيرَاثٍ وَوَصَايَا وَلَوْ وَرِثُوا رَقِيقًا ثُمَّ أَهَلَّ شَوَّالٌ فَعَلَيْهِمْ زَكَاتُهُمْ بِقَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ شَوَّالٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ زَكَّى عَنْهُمُ الْوَرَثَةُ لِأَنَّهُمْ فِي مِلْكِهِمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَتَركَ رَقِيقًا فما الحكم ؟ لَمْ يَخْلُ حَالُ مَوْتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ شَوَّالٍ ، أَوْ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ شَوَّالٍ ، أَوْ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ وَجَبَتْ زَكَاةُ الْفِطْرِ فِي مَالِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ رَقِيقِهِ ، وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِمَوْتِهِ ، وَكَذَا الْعُشُورُ وَالزَّكَوَاتُ وَالْكَفَّارَاتُ لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ بَعْدَ وُجُوبِهَا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ الْكَفَّارَاتُ وَجَمِيعُ الزَّكَوَاتِ إِلَّا الْعُشْرَ ، احْتِجَاجًا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : أَشْهَدُ أَنَّ مَنْ فَرَّطَ فِي إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ حَتَّى حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ ، فَإِنَّهُ يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الرَّجْعَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ لَا يَقْطَعُ بِمِثْلِ هَذَا الْمُغَيَّبِ الَّذِي لَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ إِلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ ، وَإِذَا كَانَ تَوْقِيفًا وَالرَّجْعَةُ لَا تُسْأَلُ إِلَّا فِيمَا يُمْكِنُ تَلَافِيهِ ، ثَبَتَ أَنَّ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ عَنْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَا تَصِحُّ ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إِخْرَاجُهَا بَعْدَ الْمَوْتِ بَطَلَ وُجُوبُهَا بِالْمَوْتِ ، قَالَ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا حَضَرَتْهُ جِنَازَةٌ سَأَلَ عَنْ صَاحِبِهَا هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، فَإِذَا قَالُوا نَعَمْ امْتَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ ، فَلَوْ كَانَتِ الزَّكَاةُ كَالدَّيْنِ لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ لَسَأَلَ عَنْهَا ، وَامْتَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى صَاحِبِهَا قَالُوا : وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِالْمَوْتِ كَالصَّلَاةِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ، [ التَّوْبَةِ : ] ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْأَخْذِ حَالَ الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ ثَبَتَ وُجُوبُهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِالْوَفَاةِ كَالدَّيْنِ ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَجِبُ صَرْفُهُ إِلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِالْوَفَاةِ كَالْعُشْرِ ، فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ حُجَّةٌ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَثُبُوتِهَا بَعْدَ الْوَفَاةِ : لِأَنَّهُ سَأَلَ الرَّجْعَةَ لِإِخْرَاجِهَا ، فَلَوْ كَانَتْ بِالْمَوْتِ سَاقِطَةً لَمْ يَحْتَجْ إِلَى سُؤَالِ الرَّجْعَةِ ، فَأَمَّا سُؤَالُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ دُيُونِ الْمَوْتَى دُونَ الزَّكَوَاتِ ، فَلِأَنَّ الْغَالِبَ مِنَ الزَّكَوَاتِ وُجُوبُهَا عَلَى ذَوِي الْأَمْوَالِ وَأَهْلِ الْيَسَارِ ، وَهُوَ لَمْ يَكُنْ لِيَسْأَلَ إِلَّا عَنِ الْمَعْدُومِينَ مِنْ ذَوِي الْإِعْسَارِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ فَالصَّلَاةُ غَيْرُ سَاقِطَةٍ عَنْهُ كَالْحَجِّ وَهُوَ يَلْقَى اللَّهَ يَوْمَ يَلْقَاهُ ، وَهِيَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ لَكِنْ لَمَّا لَمْ تَصِحَّ النِّيَابَةُ فِيهَا لَمْ يُمْكِنِ الْمُطَالَبَةُ بِهَا .



فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ . إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ سِوَى الزَّكَاةِ دَيْنٌ أَمْ لَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سِوَى الزَّكَاةِ أُخِذَتِ الزَّكَاةُ مِنْ تَرِكَتِهِ ، وَاقْتَسَمَ الْوَرَثَةُ بَاقِيَ تَرِكَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَدْ وَجَبَ فِي مَالِهِ حَقَّانِ : حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الزَّكَاةُ ، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ وَهُوَ الدَّيْنُ ، فَإِنْ كَانَتْ تَرِكَتُهُ تَسَعُ لَهُمَا قُضِيَا مَعًا ، وَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ اقْتَسَمَهُ الْوَرَثَةُ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنْ ضَاقَتْ تَرِكَتُهُ عَنْهَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الزَّكَاةِ الَّتِي وَجَبَتْ مِنْ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ زَكَاةَ فِطْرٍ أَوْ زَكَاةَ مَالٍ ، فَإِنْ كَانَتْ زَكَاةَ مَالٍ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمَالِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا أَوْ مَعْدُومًا ، فَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا اسْتَقَرَّ الدَّيْنُ وَبَطَلَ تَعَلُّقُهَا بِالْعَيْنِ ، وَصَارَتْ لِاسْتِقْرَارِهَا فِي الذِّمَّةِ كَالدَّيْنِ ثُمَّ هَلْ تُقَدَّمُ عَلَى دَيْنِ الْآدَمِيِّ ، أَوْ يُقَدَّمُ عَلَيْهَا دَيْنُ الْآدَمِيِّ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تُقَدَّمُ عَلَى دَيْنِ الْآدَمِيِّ فَيَبْدَأُ بِإِخْرَاجِ جَمِيعِهَا وَيَصْرِفُ مَا بَقِيَ فِي دَيْنِ الْآدَمِيِّ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ دَيْنَ الْآدَمِيِّ يُقَدَّمُ عَلَيْهَا فَيُبْدَأُ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْآدَمِيِّ ، ثُمَّ يُصْرَفُ مَا بَقِيَ فِيهَا : لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ ، وَحَقَّ الْآدَمِيِّ لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُضَايَقَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُمَا سَوَاءٌ لَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ لِوُجُوبِ أَدَائِهِمَا فَيَخْرُجُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقِسْطٍ مَا احْتَمَلَتْهُ التَّرِكَةُ ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ الَّذِي وَجَبَتْ زَكَاتُهُ مَوْجُودًا فِي التَّرِكَةِ ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي الْعَيْنِ دُونَ الذِّمَّةِ أَوْ فِي الذِّمَّةِ وَالْعَيْنُ بِهَا مُرْتَهِنَةٌ قُدِّمَتِ الزَّكَاةُ عَلَى دَيْنِ الْآدَمِيِّ ، لِأَنَّهُمَا قَدِ اسْتَوَيَا فِي الْوُجُوبِ ، وَتَعَلَّقَ أَحَدُهُمَا بِالْعَيْنِ فَكَانَ أَقْوَى وَأَوْلَى بِالتَّقْدِمَةِ كَالْمُرْتَهِنِ يُقَدَّمُ بِثَمَنِ الرَّهْنِ عَلَى جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ لِمُشَارَكَتِهِ لَهُمْ فِي الدَّيْنِ ، وَفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِالْعَيْنِ ، وَإِنْ قِيلَ : وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ وُجُوبًا مُنْبَرِمًا لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْعَيْنِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الزَّكَاةِ الَّتِي قَدْ وَجَبَتْ فِي مَالٍ قَدْ تَلِفَ فَيَكُونُ فِيهَا ، وَفِي الدَّيْنِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ عَلَى مَا مَضَتْ فَهَذَا حُكْمُ زَكَاةِ الْمَالِ مَعَ الدَّيْنِ . فَأَمَّا زَكَاةُ الْفِطْرِ مَعَ الدَّيْنِ كيف تخرج ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا فَكَانَ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ يَقُولُ : هِيَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الدَّيْنِ قَوْلًا وَاحِدًا لِقِلَّتِهَا فِي الْغَالِبِ وَتَعَلُّقِهَا بِالرَّقَبَةِ فَاسْتَحَقَّتْ كَأَرْشِ الْجِنَايَةِ ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهَا كَزَكَاةِ الْمَالِ : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى يَجِبُ صَرْفُهُ إِلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُهُمَا فَعَلَى هَذَا فِيهَا ، وَفِي الدَّيْنِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ عَلَى مَا مَضَتْ .



فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَقَدْ مَاتَ قَبْلَ وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَلَيْهِ ، فَزَكَاتُهُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ بِحَالٍ فَأَمَّا زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْ رَقِيقِهِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى وَرَثَتِهِ : لِأَنَّ زَمَانَ الْوُجُوبِ أَتَى بَعْدَ انْتِقَالِ التَّرِكَةِ إِلَى مِلْكِهِمْ ، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ فَقَدِ اسْتَقَرَّتِ التَّرِكَةُ فِي مِلْكِهِمْ ، وَوَجَبَتْ فِطْرَةُ الرَّقِيقِ عَلَيْهِمْ تُقَسَّطُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِقِيمَةِ التَّرِكَةِ وَالرَّقِيقِ ، كَانَ قِيمَةُ الرَّقِيقِ أَلْفًا وَقَدْرُ الدَّيْنِ أَلْفًا فَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّ فِطْرَةَ الرَّقِيقِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الْوَرَثَةِ ، لِإِحَاطَةِ الدَّيْنِ بِهَا ، وَلَا عَلَى الْمُتَوَفَّى لِمَوْتِهِ قَبْلَ وُجُوبِهَا ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : التَّرِكَةُ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الْمُتَوَفَّى لَا يَمْلِكُهَا الْوَرَثَةُ ، إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ كُلِّهِ احْتِجَاجًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ ، [ النِّسَاءِ : ] ، فَجَعَلَ الْوَارِثَ مَالِكًا لِلتَّرِكَةِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ ، فَدَلَّ عَلَى انْتِفَاءِ مِلْكِهِ مِنْ قَبْلُ ، وَإِذَا لَمْ يَمْلِكْهَا الْوَارِثُ فَهِيَ عَلَى الْمَيِّتِ قَالَ : وَلِأَنَّ عُهْدَةَ مَا بِيعَ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ فِي دَيْنِهِ عَلَيْهِ لَا عَلَى وَارِثِهِ ، وَالْعُهْدَةُ إِنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ دُونَ غَيْرِهِ ، فَلَوْ كَانَ الْمِلْكُ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَيِّتِ إِلَى الْوَارِثِ لَوَجَبَتِ الْعُهْدَةُ عَلَى الْوَارِثِ دُونَ الْمَيِّتِ ، فَلَمَّا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَنْتَقِلْ إِلَيْهِ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ أَنَّ التَّرِكَةَ قَدِ انْتَقَلَتْ إِلَى مِلْكِ الْوَارِثِ بِمَوْتِهِ قَبْلَ إِخْرَاجِ وَصَايَاهُ وَقَضَاءِ دُيُونِهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أُمُورٌ . أَحَدُهَا : مَا لَا يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ أَنَّ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَقْضُوا دُيُونَهُ مِنْ غَيْرِ التَّرِكَةِ ، وَتَكُونُ التَّرِكَةُ مِلْكًا لَهُمْ ، فَلَوْلَا أَنَّ التَّرِكَةَ عَلَى مِلْكِهِمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ جَائِزًا لَهُمْ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَيِّتَ لَوْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ جَازَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَخْلُفُوا عَلَى دَيْنِهِ ، وَيَسْتَحِقُّوا وَيَقْضُوا مِنْهُ دُيُونَهُ فَلَوْلَا أَنْ مِلْكَ الدَّيْنِ قَدِ انْتَقَلَ إِلَيْهِمْ مَا جَازَ أَنْ يَخْلُفُوا عَلَى غَيْرِ مِلْكِهِمْ . وَالثَّالِثُ : مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ أَنَّ الْمَيِّتَ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَخَلَّفَ اثْنَيْنِ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الِاثْنَيْنِ ، وَتَرَكَ ابْنًا ثُمَّ أَنَّ الْغُرَمَاءَ أَبْرَءُوا الْمَيِّتَ مِنْ دُيُونِهِمْ كَانَتِ التَّرِكَةُ بَيْنَ الِابْنِ الْبَاقِي وَابْنِ ابْنِ الْمَيِّتِ نِصْفَيْنِ ، فَلَوْ كَانَتِ التَّرِكَةُ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ لَا تَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ لَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ التَّرِكَةِ لِلِابْنِ الْبَاقِي : لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِشَيْءٍ مِنْهَا فِي حَيَاتِهِ ، فَلَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِ هَذَا دَلَّ عَلَى أَنَّ التَّرِكَةَ قَدِ انْتَقَلَتْ بِالْمَوْتِ إِلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَالْمُرَادُ بِهَا جَوَازُ التَّصَرُّفِ دُونَ الْمِلْكِ ، وَأَمَّا الرُّجُوعُ بِالْعُهْدَةِ فِي تَرِكَتِهِ فَلِأَنَّ الْبَيْعَ كَانَ مِنْ أَجْلِ دَيْنِهِ ، وَقَدْ يُرْجَعُ بِالْعُهْدَةِ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى مَنْ لَيْسَ بِمَالِكٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّ عَبْدًا لَوْ بِيعَ فِي جِنَايَتِهِ ، وَدُفِعَ ثَمَنُهُ إِلَى الْمَجْنِي عَلَيْهِ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ ، رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِعُهْدَتِهِ وَقِيمَتِهِ عَلَى الْمَجْنِي عَلَيْهِ دُونَ سَيِّدِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَزَكَاةُ فِطْرِ الرَّقِيقِ عَلَى الْوَرَثَةِ ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ .



فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَقَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ يعني موت من تجب عليه زكاة الفطر وعنده رقيق فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْقَدِيمُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِطُلُوعِ الْفَجْرِ ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ فِطْرَةُ نَفْسِهِ لَيْسَتْ وَاجِبَةً بِحَالٍ ، وَفِطْرَةُ رَقِيقِهِ وَاجِبَةٌ عَلَى وَرَثَتِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الْجَدِيدُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ بَعْدَ وُجُوبِ الْفِطْرَةِ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِغُرُوبِ الشَّمْسِ ، فَتَكُونُ فِي مَالِهِ فِطْرَةُ نَفْسِهِ وَفِطْرَةُ رَقِيقِهِ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِعَبْدٍ يَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ ، فَمَاتَ ثُمَّ أَهَلَّ شَوَالٌ أَوْقَفْنَا زَكَاتَهُ فَإِنْ قِيلَ : فَهِيَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ خَرَجَ إِلَى مِلْكِهِ وَإِنْ رُدَّ فَهِيَ عَلَى الْوَارِثِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مِلْكِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ وَصَّى بِعَبْدِهِ لِرَجُلٍ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ شَوَّالٍ ، وَالْعَبْدُ يَخْرُجُ مِنْ ثُلْثِهِ ، ثُمَّ أَهَلَّ شَوَّالٌ قَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ ، فَزَكَاةُ فِطْرِهِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الْمَيِّتِ الْمُوصِي بِمَوْتِهِ قَبْلَ وُجُوبِهَا ، وَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى مَنْ أَهَلَّ شَوَّالٌ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْوَصِيَّةِ مَتَى يَمْلِكُهَا الْمُوصَى لَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَمْلِكُهَا لِقَبُولِهِ فَإِذَا قَبِلَ مِلْكَهَا حِينَئِذٍ فَعَلَى هَذَا فِطْرَةُ الْعَبْدِ عَلَى الْوَرَثَةِ سَوَاءٌ قَبِلَ الْمُوصَى لَهُ أَمْ لَمْ يَقْبَلْ : لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى مِلْكِهِمْ قَبْلَ قَبُولِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ قَبُولَهُ يُنْبِئُ عَنْ مِلْكٍ سَابِقٍ ، فَإِذَا قَبِلَ أَنَّهُ كَانَ مَالِكًا لَهُ مِنْ حِينِ مَاتَ الْمُوصِي فَعَلَى هَذَا عَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِ إِنْ قَبِلَ ، وَعَلَى الْوَرَثَةِ إِنْ لَمْ يَقْبَلْ ، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَوْلًا ثَالِثًا أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ بِمَوْتِ الْمُوصِي قَبِلَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ كَالْمِيرَاثِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِهِ ، فَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يُعِدُّهُ قَوْلًا ثَالِثًا ، فَعَلَى هَذَا تَجِبُ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَلَى الْمُوصَى لَهُ سَوَاءٌ قَبِلَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ ، وَامْتَنَعَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا مِنْ تَخْرِيجِهِ ، وَأَنْكَرُوهُ : لِأَنَّهُ لَيْسَ يُعْرَفُ لِلشَّافِعِيِّ فِي سَائِرِ كُتُبِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ تَصْرِيحٍ أَوْ تَلْوِيحٍ وَمَوْضِعُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ " الْوَصَايَا " إِنْ شَاءَ اللَّهُ .

فَصْلٌ : إِذَا أَوْصَى رَجُلٌ بِرَقَبَةِ عَبْدِهِ لِرَجُلٍ ، وَبِمَنْفَعَتِهِ لِآخَرَ كيف تكون زكاة الفطر ؟ فَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " أَنَّ زَكَاتَهُ وَنَفَقَتَهُ عَلَى مَالِكِ الرَّقَبَةِ : لِأَنَّ النَّفَقَةَ وَالْفِطْرَةَ تَجِبُ بِالْمِلْكِ لَا بِالْمَنْفَعَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ الْمُؤَاجِرَ نَفَقَتُهُ ، وَزَكَاةُ فِطْرِهِ عَلَى السَّيِّدِ مَالِكِ الرَّقَبَةِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ مَالِكِ الْمَنْفَعَةِ .



فَصْلٌ : فَلَوْ وَهَبَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ عَبْدًا قَبْلَ شَوَّالٍ ، ثُمَّ أَقْبَضَهُ الْعَبْدَ بَعْدَ شَوَّالٍ كيف تكون زكاة فطره ؟ فِي زَكَاةِ فِطْرِهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْهِبَةِ مَتَى تَمَلَّكَ فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ تَمَلَّكَ بِالْقَبْضِ ، فَعَلَى هَذَا زَكَاةُ فِطْرِهِ عَلَى الْوَاهِبِ : لِأَنَّهُ كَانَ فِي مِلْكِهِ حَتَّى أَهَلَّ شَوَّالٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَمْلِكُ بِالْعَقْدِ مِلْكًا مَوْقُوفًا عَلَى الْقَبْضِ ، فَعَلَى هَذَا زَكَاةُ الْفِطْرِ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ : لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى مِلْكِهِ حِينَ أَهَلَّ شَوَّالٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ فَوَرَثَتُهُ يَقُومُونَ مَقَامَهُ فَإِنْ قَبِلُوا فَزَكَاةُ الْفِطْرِ فِي مَالِ أَبِيهِمْ لِأَنَّهُمْ بِمِلْكِهِ مَلَكُوهُ " . أَمَّا إِنْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لَا أَعْرِفُ فِيهَا مُخَالِفًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فَأَمَّا إِنْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فما الحكم نُظِرَ فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ قَبُولِهِ فَقَدْ مَلَكَ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ مَوْتِهِ ، فَزَكَاةُ الْفِطْرِ عَلَى مَا مَضَى ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ قَبُولِهِ ، فَالْوَصِيَّةُ صَحِيحَةٌ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِهِ وَوَرَثَتُهُ يَقُومُونَ فِي الْقَبُولِ مَقَامَهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : قَدْ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ قَبُولِهِ ، وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ قَبُولُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ " الْوَصَايَا " إِنْ شَاءَ اللَّهُ . فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : فِي رَجُلٍ وَصَّى بِعَبْدِهِ لِرَجُلٍ ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي قَبْلَ شَوَّالٍ ، وَمَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ قَبُولِهِ وَبَعْدَ شَوَّالٍ فَوَرَثَتُهُ يَقُومُونَ فِي الْقَبُولِ مَقَامَهُ ، وَإِنْ قَبِلُوا ، وَقَبِلَ أَنَّهُمْ بِالْقَبُولِ قَدْ مَلَكُوا فَزَكَاةُ الْفِطْرِ عَلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي : لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى مِلْكِهِمْ قَبْلَ الْقَبُولِ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْقَبُولَ يُنْبِئُ عَنْ مِلْكٍ سَابِقٍ فَزَكَاةُ فِطْرِهِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْخُصُوصِ لَهُ ، وَمَأْخُوذَةٌ مِنْ تَرِكَتِهِ دُونَ وَرَثَتِهِ لِأَنَّهُمْ عَنْهُ يَمْلِكُونَهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ شَوَّالٌ وَعِنْدَهُ قُوتُهُ وَقُوتُ مَنْ يَقُوتُ لِيَوْمِهِ وَمَا يُؤَدِّي بِهِ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْهُ وَعَنْهُمْ أَدَّاهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . زَكَاةُ الْفِطْرِ تَجِبُ بِمَا فَضَلَ عَنْ قُوتِهِ يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ قُوتُهُ وَقُوتُ مَنْ يَلْزَمُهُ قُوتُهُ فِي يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ ، وَفَضَلَ عَنْ ذَلِكَ قَدْرُ فِطْرَتِهِ فَقَدْ لَزِمَتْهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَابْنُ سِيرِينَ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ .

قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَجِبُ زَكَاةِ الْفِطْرِ إِلَّا عَلَى مَنْ مَعَهُ نِصَابٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، فَاعْتَبَرَ إِحْدَى الزَّكَاتَيْنِ بِالْأُخْرَى اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ فَجَعَلَ الْغَنِيَّ مَأْخُوذًا مِنْهُ وَالْفَقِيرَ مَرْدُودًا عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ الْفَقِيرُ مَأْخُوذًا مِنْهُ كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ الْغَنِيُّ مَرْدُودًا عَلَيْهِ ، قَالَ : وَلِأَنَّهَا صَدَقَةٌ تَتَكَرَّرُ بِالْحَوْلِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُرَاعَى فِيهَا النِّصَابُ كَسَائِرِ الصَّدَقَاتِ قَالَ : وَلِأَنَّهُ مِمَّنْ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ بِاسْمِ الْفَقْرِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمُهُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ ، كَمَنْ لَمْ يَفْضُلْ مِنْ قُوتِهِ شَيْءٌ وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ عُمُومُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ . وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ ذَكَرٍ وَأُنْثَى صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ أَمَّا الْغَنِيُّ فَيُزَكِّيهِ اللَّهُ وَأَمَّا الْفَقِيرُ فَيَرُدُّ اللَّهُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى " ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَى الْفَقِيرِ ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ فِي مَالٍ لَا يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْمَالِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِيهِ وُجُودُ النِّصَابِ قِيَاسًا عَلَى الْكَفَّارَاتِ ، وَلِأَنَّهُ وَاجِدٌ فَضْلَةً عَنْ قُوتِ يَوْمِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ إِخْرَاجُهَا قِيَاسًا عَلَى مَنْ مَعَهُ نِصَابٌ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ احْتِجَاجِهِ بِالْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصَدَ بِهِ تَنْزِيهَ الْفُقَرَاءِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ بِهِ عَمَّا قُصِدَ لَهُ عَلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى زَكَاةِ الْأَمْوَالِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى سَائِرِ الصَّدَقَاتِ ، فَالْمَعْنَى فِي اعْتِبَارِ النِّصَابِ فِيهَا زِيَادَتُهَا بِزِيَادَةِ الْمَالِ وَنُقْصَانُهَا بِنُقْصَانِهِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى مَنْ لَمْ يَفْضُلْ مِنْ قُوتِهِ شَيْءٌ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَيْهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ بَعْدَ الْقُوتِ لِيَوْمِهِ إِلَّا مَا يُؤَدِّي عَنْ بَعْضِهِمْ أَدَّى عَنْ بَعْضِهِمْ زكاة الفطر وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إِلَّا قُوتُ يَوْمِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ زكاة الفطر " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ وَجَدَ زَكَاةَ فِطْرِهِ فَاضِلَةً عَنْ قُوتِ يَوْمِهِ ، فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُهَا ، وَاعْتِبَارُ وُجُودِ ذَلِكَ وَقْتَ وُجُوبِهَا ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ يُعْتَبَرُ وُجُودُ ذَلِكَ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ : لِأَنَّ بِهِ تَجِبُ زَكَاةُ الْفِطْرِ ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ يُعْتَبَرُ وُجُودُ ذَلِكَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ : لِأَنَّهُ بِهِ تَجِبُ زَكَاةُ الْفِطْرِ ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ ، أَوْ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ

وَاجِدًا لِجَمِيعِ الْفِطْرَةِ بَعْدَ قُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ ، أَوْ يَكُونَ غَيْرَ وَاجِدٍ لِشَيْءٍ مِنْهَا أَوْ يَكُونَ وَاجِدًا لِبَعْضِهَا ، فَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لِجَمِيعِهَا فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُهَا فَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهَا حَتَّى تَلَفَتْ مِنْ يَدِهِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ إِمْكَانِ إِخْرَاجِهَا فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْإِمْكَانِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَزَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ . وَالثَّانِي : عَلَيْهِ الضَّمَانُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفِطْرَةِ وَبَيْنَ زَكَاةِ الْمَالِ أَنَّ زَكَاةَ الْمَالِ تَتَعَلَّقُ بِعَيْنِهِ ، فَإِذَا تَلِفَتْ قَبْلَ الْإِمْكَانِ لَمْ يَجِبْ ضَمَانُهَا وَالْفِطْرَةُ لَا تَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الْمَالِ ، فَلَمْ يَكُنْ تَلَفُهُ قَبْلَ الْإِمْكَانِ مُسْقِطًا لِضَمَانِهَا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ غَيْرَ وَاجِدٍ لِشَيْءٍ مِنْهَا وَإِنَّمَا يَجِدُ قُوتَ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُهَا زكاة الفطر : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّلَبِ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْمَرَ بِإِغْنَاءِ غَيْرِهِ وَيُحْوِجَ نَفْسَهُ إِلَى أَنْ يُعِينَهُ غَيْرُهُ ، فَإِنْ وَجَدَهَا بَعْدَ وَقْتِ الْوُجُوبِ ، إِمَّا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عَلَى الْجَدِيدِ أَوْ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ عَلَى الْقَدِيمِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِخْرَاجُهَا ، وَيُحْسَبُ ذَلِكَ لَهُ وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ وَجَدَهَا يَوْمَ الْفِطْرِ وَجَبَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُهَا وَأَصْحَابُ مَالِكٍ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَذْهَبَ مَالِكٍ ، وَهَذَا غَلَطٌ : لِأَنَّ مَا كَانَ شَرْطًا فِي وُجُوبِهَا كَانَ وَجُودُهُ مُعْتَبَرًا فِي وَقْتِهَا كَالْإِسْلَامِ : لِأَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ تَجِبُ بِالْإِسْلَامِ وَالْقُدْرَةِ فَلَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ فَكَذَا إِذَا قَدَرَ عَلَيْهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ .

فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ زكاة الفطر فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ صَاعًا كَامِلًا فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُهُ : لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ لَا يَسْقُطُ بِهِ بَاقِيهَا ثُمَّ فِي كَيْفِيَّةِ إِخْرَاجِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ ، أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إِخْرَاجِهِ عَنْ نَفْسِهِ ، أَوْ عَنْ أَيِّهِمْ شَاءَ : لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِدَ الْفِطْرَةِ جَمِيعُهُمْ ، لَكَانَ مُخَيَّرًا فِي تَقْدِيمِ إِخْرَاجِهَا عَنْ أَيِّهِمْ شَاءَ فَكَذَا ، إِذَا كَانَ وَاجِدَ الْفِطْرَةِ أَحَدُهُمْ كَانَ مُخَيَّرًا فِي إِخْرَاجِهَا عَنْ أَيِّهِمْ شَاءَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُخْرِجُهَا عَنْ أَحَدِ الْجَمَاعَةِ لَا يُعَيِّنُهُ لِيَحْتَسِبَ اللَّهَ تَعَالَى بِهَا عَمَّنْ شَاءَ : لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِدَ الْفِطْرَةِ جَمِيعُهُمْ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُعَيِّنَهَا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، وَكَذَا إِذَا كَانَ وَاجِدَ الْفِطْرَةِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُعَيِّنَهَا عَنْ أَحَدِهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يُخْرِجَهُ عَنْ أَوْكَدِهِمْ حُرْمَةً وَأَقْوَاهُمْ سَبَبًا : لِأَنَّ مَنْ كَانَ حَقُّهُ أَوْكَدَ وَأَقْوَى فَهُوَ بِالْإِخْرَاجِ عَنْهُ أَحَقُّ وَأَوْلَى ، فَعَلَى هَذَا يَبْدَأُ بِنَفْسِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثَمَّ بِمَنْ

تَعُولُ ، ثُمَّ يَبْدَأُ بَعْدَ نَفْسِهِ بِزَوْجَتِهِ : لِأَنَّ نَفَقَةَ زَوْجَتِهِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى نَفَقَةِ أَقَارِبِهِ ، فَكَذَا فِطْرَةُ نَفْسِهِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى فِطْرَةِ أَقَارِبِهِ ، ثُمَّ يَبْدَأُ بَعْدَ زَوْجَتِهِ بِأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ الْفُقَرَاءِ وَهُمْ مُقَدَّمُونَ عَلَى الْأَبِ : لِأَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ بِنَصٍّ ، وَوُجُوبَ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَبِ بِاسْتِدْلَالٍ ، ثُمَّ يَبْدَأُ بَعْدَ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ بِأَبِيهِ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى أُمِّهِ : لِأَنَّ نَفَقَتَهُ فِي صِغَرِهِ قَدْ تَجِبُ عَلَى أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ ، فَكَانَتْ نَفَقَةُ أَبِيهِ أَوْكَدَ مِنْ نَفَقَةِ أُمِّهِ ، ثُمَّ يَبْدَأُ بَعْدَ أَبِيهِ بِأُمِّهِ وَهِيَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى كِبَارِ وَلَدِهِ ، لِقُوَّةِ حُرْمَتِهَا بِالْوِلَادَةِ ثُمَّ أَوْلَادِهِ الْكِبَارِ الْفُقَرَاءِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَا وَجَدَهُ بَعْدَ قُوتِهِ أَقَلَّ مِنْ صَاعٍ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَمَا ذَكَرَهُ مَنْصُوصًا فِي بَعْضِ كُتُبِهِ أَنَّ عَلَيْهِ إِخْرَاجَهُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْعَجْزَ عَنْ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ لَا يُسْقِطُ مَا بَقِيَ مِنْهَا ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُهُ كَالْكَفَّارَةِ الَّتِي لَا يَلْزَمُ إِخْرَاجُ بَعْضِهَا ، إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى جَمِيعِهَا وَهَذَا غَلَطٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَرْجِعُ فِيهَا إِلَى بَدَلٍ فَلَمْ يَلْزَمْهُ إِخْرَاجُ بَعْضِهَا وَالْفِطْرَةُ لَا يَرْجِعُ فِيهَا إِلَى بَدَلٍ فَلَزِمَهُ إِخْرَاجُ بَعْضِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ إِخْرَاجَ بَعْضِ الصَّاعِ قَدْ يَجِبُ فِي الْعَبْدِ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ ، فَوَجَبَ إِخْرَاجُهُ لِجَوَازِ تَبْعِيضِهِ وَالْكَفَّارَةُ لَا يَجُوزُ تَبْعِيضُهَا فَلَمْ يَجُزْ إِخْرَاجُ بَعْضِهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ كَانَ أَحَدٌ مِمَّنْ يَقُوتُ وَاجِدًا لِزَكَاةِ الْفِطْرِ لَمْ أُرَخِّصْ لَهُ فِي تَرْكِ أَدَائِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَبِينُ لِي أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا مَفْرُوضَةٌ عَلَى غَيْرِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الزَّوْجَةَ دُونَ الْأَقَارِبِ : لِأَنَّ الزَّوْجَةَ تَلْزَمُ نَفَقَتُهَا وَزَكَاةُ فِطْرِهَا مَعَ وُجُودِ ذَلِكَ فِي مِلْكِهَا وَالْأَقَارِبُ لَا يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ ، وَزَكَاةُ فِطْرِهِمْ مَعَ وُجُودِ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِمْ ، فَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا بِزَكَاةِ فِطْرِهَا سَقَطَتْ عَنْهُ كَمَا سَقَطَتْ عَنْهُ فِطْرَةُ نَفْسِهِ ، ثُمَّ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ مُوسِرَةً بِهَا ، لِأَنَّهَا مَفْرُوضَةٌ عَلَى غَيْرِهَا لَكِنْ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لَهَا لِخِلَافِ النَّاسِ فِيهَا ، وَفِيهَا وَجْهٌ آخَرُ ، أَنَّ عَلَيْهَا إِخْرَاجَ الْفِطْرَةِ عَنْ نَفْسِهَا إِذَا قِيلَ إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهَا ثُمَّ يَحْمِلُ الزَّوْجُ عَنْهَا وَيَخْرُجُ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي سَيِّدِ الْأَمَةِ إِذَا زَوَّجَهَا لِمُعْسِرٍ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهَا . فَإِنْ زَوَّجَهَا حُرًّا فَعَلَى الْحُرِّ الزَّكَاةُ عَنِ امْرَأَتِهِ فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا فَعَلَى سَيِّدِهَا فَإِنْ لَمْ يُدْخِلْهَا عَلَيْهِ ، أَوْ مَنَعَهَا مِنْهُ فَعَلَى السَّيِّدِ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا زَوَّجَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ وَأَهَلَّ شَوَّالٌ بَعْدَ تَزْوِيجِهَا فَالْكَلَامُ فِي زَكَاةِ فِطْرِهَا يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي وُجُوبِهَا عَلَى الزَّوْجِ . وَالثَّانِي : فِي وُجُوبِهَا عَلَى السَّيِّدِ فَأَمَّا الزَّوْجُ فَلَا تَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا ، فَإِنْ كَانَ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ مُدَبَّرًا لَمْ يَلْزَمْهُ زَكَاةُ فِطْرِهَا : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ فِطْرَةُ نَفْسِهِ لِأَجْلِ رِقِّهِ فَأَوْلَى أَنْ لَا تَلْزَمُهُ فِطْرَةُ غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ حُرًّا فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يَلْزَمْهُ زَكَاةُ فِطْرِهَا كَمَا لَمْ تَلْزَمْهُ زَكَاةُ فِطْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُمَكَّنًا فَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهَا بِاسْتِخْدَامِ السَّيِّدِ لَهَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهَا كَمَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا ، وَإِنْ كَانَ مُمَكَّنًا مِنْهَا بِتَسْلِيمِ السَّيِّدِ لَهَا فَعَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهَا وَنَفَقَتِهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَهَا بَعْدَ أَدَائِهَا إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا ، وَغَيْرَهَا مِنَ الصَّدَقَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ وَالتَّطَوُّعِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَخْرَجَ زَكَاةَ فِطْرِهِ ، وَكَانَ مُحْتَاجًا جَازَ أَنْ يَأْخُذَهَا مِمَّنْ أَخَذَهَا عَنْ فِطْرَتِهِ ، وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِعَيْنِهَا : لِأَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ عَوْدِ الصَّدَقَةِ إِلَى مُخْرِجِهَا كَمَا يُمْنَعُ مِنِ ابْتِيَاعِهَا ، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَعْنَيَيْنِ . أَحَدُهُمَا : إِنَّهَا قَدْ صَارَتْ مِلْكًا لِآخِذِهَا كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَأْخُذَ غَيْرَهَا مِنْ مَالِهِ جَازَ أَنْ يَأْخُذَهَا بِعَيْنِهَا مِنْ مَالِهِ : لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَالِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَعْطَاهَا لِمَعْنًى وَهُوَ الْقُدْرَةُ وَأَخَذَهَا بِمَعْنًى غَيْرَهُ وَهُوَ الْحَاجَةُ فَلَمْ يَكُنْ وُجُوبُ الْإِعْطَاءِ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْأَخْذِ كَمَا لَوْ عَادَتْ إِلَيْهِ بِإِرْثٍ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا السَّيِّدُ فَإِنْ أَوْجَبْنَا زَكَاةَ فِطْرِهَا عَلَى الزَّوْجِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حُرًّا مُوسِرًا مُمَكَّنًا فَلَيْسَ عَلَى السَّيِّدِ زَكَاةُ فِطْرِهَا : لِأَنَّ الْفِطْرَةَ تَجِبُ مَرَّةً وَالزَّوْجُ يَحْمِلُهَا فَسَقَطَتْ عَنِ السَّيِّدِ ، وَإِنْ لَمْ نُوجِبْ زَكَاةَ فِطْرِهَا عَلَى الزَّوْجِ ، فَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ السَّيِّدُ مَانِعًا مِنْهَا غَيْرَ مُمَكِّنٍ لِلزَّوْجِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فَزَكَاةُ فِطْرِهَا

عَلَى السَّيِّدِ مَعَ نَفَقَتِهَا : لِأَنَّ السَّيِّدَ لَمَّا وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا لِمَنْعِ الزَّوْجِ مِنْهَا ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهَا : لِأَنَّ الْفِطْرَةَ تَبَعٌ لِلنَّفَقَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ السَّيِّدُ غَيْرَ مَانِعٍ مِنْهَا مُمَكِّنًا لِلزَّوْجِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا ، وَإِنَّمَا سَقَطَتْ عَنِ الزَّوْجِ زَكَاةُ فِطْرِهَا إِمَّا لِرِقِّهِ أَوْ إِعْسَارِهِ ، فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا أَنَّ عَلَى السَّيِّدِ زَكَاةُ فِطْرِهَا ، وَقَالَ فِي الْحُرَّةِ إِذَا أَعْسَرَ الزَّوْجُ بِزَكَاةِ فِطْرِهَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا إِخْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَنْ نَفْسِهَا ، لِأَنَّهَا مَفْرُوضَةٌ عَلَى غَيْرِهَا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَكْثَرُهُمْ يَنْقُلُ جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى ، وَيُخْرِجُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُزَكِّيَ عَنْ أَمَتِهِ ، وَعَنِ الْحُرَّةِ أَنْ تُزَكِّيَ عَنْ نَفْسِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ السَّيِّدُ أَنْ يُزَكِّيَ عَنْ أَمَتِهِ ، وَلَا يَلْزَمُ الْحُرَّةُ أَنْ تُزَكِّيَ عَنْ نَفْسِهَا ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَحْمِلُ جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِ ، فَيَقُولُ : عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُزَكِّيَ عَنْ أَمَتِهِ ، وَلَيْسَ عَلَى الْحُرَّةِ أَنْ تُزَكِّيَ عَنْ نَفْسِهَا . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْحُرَّةَ مُسْتَحَقَّةُ التَّسْلِيمِ وَالتَّمْكِينِ بِالْعَقْدِ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى اخْتِيَارِهَا ، وَلَيْسَ لَهَا صُنْعٌ فِي نَقْلِ فَرْضِ الزَّكَاةِ إِلَى زَوْجِهَا ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وُجُوبُ الزَّكَاةِ عَلَى الزَّوْجِ بِاخْتِيَارِهَا لَمْ يَنْتَقِلْ وُجُوبُ الزَّكَاةِ إِلَيْهَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَمَةُ : لِأَنَّ تَسْلِيمَهَا غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَى السَّيِّدِ ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى اخْتِيَارِهِ فَإِنْ سَلَّمَهَا إِلَى مَنْ يَخْلُفُهُ فِي تَحَمُّلِ زَكَاتِهَا سَقَطَتْ عَنْهُ ، وَإِنْ سَلَّمَهَا إِلَى مَنْ لَا يَخْلُفُهُ فِي تَحَمُّلِهَا لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ ، فَلَمْ يَكُنْ تَطَوُّعُهُ بِتَسْلِيمِهَا سَقْطًا لِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ فَرْضِ زَكَاتِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ مَكِيلَةُ زَكَاةِ الْفِطْرِ

بَابُ مَكِيلَةُ زَكَاةِ الْفِطْرِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَبَيَّنَ فِي سُنَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنَ الْبَقْلِ مِمَا يَقْتَاتُ الرَّجُلُ وَمَا فِيهِ الزَّكَاةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : صَحِيحٌ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَصَّ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ عَلَى أَشْيَاهٍ ، فَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ( هَذَا التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ ) وَفِي حَدِيثِ غَيْرِهِ ( الْحِنْطَةُ وَالزَّبِيبُ ) فَاعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ كَوْنُهُ قُوتًا مُدَّخَرًا : لِأَنَّ مَا نَصَّ عَلَيْهِ مِنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ قُوتٌ مُدَّخَرٌ ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ كَوْنُهُ مَأْكُولًا مَكِيلًا ، حَتَّى رَوَى عَنْهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ أَنَّهُ إِنْ أَخْرَجَ صَاعًا مِنْ إِهْلِيلَجٍ أَجْزَأَ : لِأَنَّ مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ مَأْكُولٌ مَكِيلٌ ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَوْلَى لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّلَبِ فِي هَذَا الْيَوْمِ ، وَإِغْنَاؤُهُمْ بِالْقُوتِ أَعَمُّ ، وَنَفْعُهُمْ بِهِ أَكْثَرُ : لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْمَأْكُولِ مَا لَا يُغْنِي عَنِ الْقُوتِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا يَخْرُجُ زَكَاةُ الْفِطْرِ مِنْهُ مُقَابِلٌ لِمَا تَجِبُ زَكَاةُ الْمَالِ فِيهِ فَلَمَّا وَجَبَتْ زَكَاةُ الْأَمْوَالِ فِي الْأَقْوَاتِ الْمُدَّخَرَةِ دُونَ سَائِرِ الْمَأْكُولَاتِ ، اقْتَضَى أَنْ يَجِبَ إِخْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ مِنَ الْأَقْوَاتِ الْمُدَّخَرَةِ دُونَ سَائِرِ الْمَأْكُولَاتِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ كَوْنُهُ مُدَّخَرًا قُوتًا ، فَهُوَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَالْبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَالْعَلَسُ وَالسُّلْتُ وَالْأَرُزُّ وَاللُّوبِيَا وَالْحِمَّصُ وَالْجُلْبَانُ وَالْعَدَسُ وَالْجَاوَرْسُ وَالذُّرَةُ ، فَأَمَّا الْبَاقِلَّى فَقَدْ أَحْسَبُهُ يُقْتَاتُ فَإِنْ كَانَ قُوتًا أَجْزَأَهُ ، إِذَا أَدَّى مِنْهُ صَاعًا وَالَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ قُوتٌ تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ الْمَالِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْهُ زَكَاةَ الْفِطْرِ فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إِنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنَ الْبَقْلِ فَيَعْنِي مَا يَبْقَى مُدَّخَرًا : لِأَنَّ أَصْلَ الْبَقْلِ مَا يَبْقَى مِنَ الشَّيْءِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَيُّ قُوتٍ كَانَ الْأَغْلَبَ عَلَى الرَّجُلِ أَدَى مِنْهُ زَكَاةَ الْفِطْرِ كَانَ حِنْطَةً أَوْ ذُرَةً أَوْ عَلَسًا أَوْ شَعِيرًا أَوْ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأَقْوَاتِ الْمُدَّخَرَةِ ، هَلْ هِيَ عَلَى التَّرْتِيبِ أَوْ عَلَى التَّخْيِيرِ ؟ فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : نَصَّ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ أَنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ وَالْمُزَكِّي مُخَيَّرٌ بَيْنَ جَمِيعِهَا ، فَمِنْ أَيِّهَا أَخْرَجَ أَجَزْأَهُ ، لِمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ فَجَاءَ بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ ، وَلِأَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ مُوَاسَاةٌ وَالتَّخْيِيرُ فِيهَا أَيْسَرُ وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ جَمِيعِهَا أَرْفَقُ ، فَعَلَى هَذَا مِنْ أَيِّ قُوتٍ أَخْرَجَهَا أَجْزَأَهُ ، وَبَعْضُ الْأَقْوَاتِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ فَالتَّمْرُ وَالْبُرُّ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِمَا ، وَفِي أَوْلَاهُمَا لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ التَّمْرَ أَوْلَى . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُخْرِجُ ، وَعَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ جَارٍ بِهِ ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ وَفِي مَائِهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ ، وَالْعَجْوَةُ مِنَ الْخَيْرِ ، وَفِيهَا شِفَاءٌ مِنَ السُّمِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَقَدْ مَالَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْبُرَّ أَوْلَى . وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ : لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ الْآنَ قَدْ أُوسِعَ عَلَيْكُمْ فَأَخْرِجُوا الْبُرَّ ، وَلِأَنَّ التَّمْرَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ مِنْهُ أَقَلَّ مِنْ صَاعٍ ، وَالْبُرُّ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، وَكَانَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ هَلْ يُجْزِي أَقَلَّ مِنْ صَاعٍ أَمْ لَا أَوْلَى مِمَّا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِي مِنْهُ أَقَلَّ مِنْ صَاعٍ ، وَلَوْ قِيلَ : إِنَّ أَوْلَاهُمَا مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ لَكَانَ مَذْهَبًا ، وَلَكَانَ لَهُ فِي الِاعْتِبَارِ وَجْهٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : فِي الْأَقَلِّ وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا وَفِي أَكْثَرِ الْكُتُبِ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى التَّرْتِيبِ دُونَ التَّخْيِيرِ وَالِاعْتِبَارُ فِيهِ بِغَالِبِ الْقُوتِ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّلَبِ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَالْإِغْنَاءُ يَكُونُ بِمَا يَكْفِيهِ الْإِنْسَانُ مِنْ غَالِبِ الْقُوتِ فَلَوْ كَانَ الْمُزَكِّي مُخَيَّرًا فِيهِ ، لَجَازَ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا لَيْسَ بِغَالِبِ الْقُوتِ فَلَا يَسْتَغْنِي بِهِ ، وَإِذَا أَعْطَاهُ مِنْ غَالِبِ الْقُوتِ صَارَ مُسْتَغْنِيًا بِهِ ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يُعْتَبَرُ غَالِبُ قُوتِ بَلَدِهِ أَوْ غَالِبُ قُوتِهِ فِي نَفْسِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا ، وَفِي " الْأُمِّ " وَبِهِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدِ بْنُ حَرْبَوَيْهِ مِنْ أَصْحَابِنَا : إِنَّ الِاعْتِبَارَ بِغَالِبِ قُوتِهِ فِي نَفْسِهِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى :

مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ، [ الْمَائِدَةِ : ] ، وَلِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِفَرْضِ نَفْسِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اعْتِبَارُهُ لِقُوتِ نَفْسِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِغَالِبِ قُوتِ بَلَدِهِ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، خَاطَبَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ جَمْعًا بِغَالِبِ أَقْوَاتِهِمْ وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ تَوْسِعَةً وَرِفْقًا وَفِي اعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مَشَقَّةً وَضِيقًا ، وَمَا أَدَّى إِلَى التَّوْسِعَةِ وَالرِّفْقِ فِي الْمُوَاسَاةِ أَوْلَى ، فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ إِنْ عَدَلَ مِنْ غَالِبِ الْقُوتِ إِلَى مَا لَيْسَ بِغَالِبِ الْقُوتِ ، فَأَخْرَجَهُ فِي زَكَاةِ فِطْرِهِ فَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَا أَخْرَجَهُ مِنْ زَكَاتِهِ أَدْونَ مِنْ غَالِبِ قُوتِهِ ، كَأَنْ أَخْرَجَ شَعِيرًا ، وَغَالِبُ قُوتِهِ تَمْرٌ فَهَذَا لَا يُجْزِئُهُ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَا أَخْرَجَهُ فِي زَكَاتِهِ أَغْلَى مِنْ غَالِبِ قُوتِهِ كَأَنَّهُ أَخْرَجَ بُرًّا وَغَالِبُ قُوتِهِ شَعِيرٌ ، فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُجْزِئُهُ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ كَمَنْ أَخْرَجَ شَعِيرًا عَنْ زَكَاةِ بُرٍّ ، وَدَرَاهِمَ عَنْ زَكَاةِ دَنَانِيرَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُجْزِيهِ قَالَ : لِأَنَّهُ أَغْلَى مِمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ كَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ سِنٌّ فَأَخْرَجَ أَعْلَى مِنْهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَا أَدَّى مِنْ هَذَا أَدَّى صَاعًا بِصَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي قَدْرِ مَا يُؤَدَّى . وَالثَّانِي : فِي قَدْرِ الصَّاعِ الْمُؤَدَّى بِهِ . فَأَمَّا قَدْرُ مَا يُؤَدَّى مِنَ الْأَقْوَاتِ في زكاة الفطر فَصَاعٌ كَامِلٌ مِنْ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ أَوْ زَبِيبٍ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ أَخْرَجَ تَمْرًا أَوْ شَعِيرًا فَصَاعٌ ، وَإِنْ أَخْرَجَ بُرًّا فَنِصْفُ صَاعٍ وَعَنْهُ فِي التَّرْتِيبِ رِوَايَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : صَاعٌ كَالتَّمْرِ وَالثَّانِيَةُ نِصْفُ صَاعٍ كَالْبُرِّ : تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ ثَعْلَبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ أَدُّوا صَاعًا مِنْ قَمْحٍ عَنْ

كُلِّ اثْنَيْنِ وَرِوَايَةُ دَاوُدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ مُدَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ وَبِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ مُنَادِيًا أَنْ يُنَادِيَ أَلَا إِنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ أَوْ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ ، وَبِرِوَايَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، قَالَ خَطَبَنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ بِالْبَصْرَةِ فَقَالَ : أَخْرِجُوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ ، فَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ ، فَقَالَ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ : عَلِّمُوا إِخْوَانَكُمْ ، ثُمَّ قَالَ فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ ، أَوْ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ قَالَ : وَلِأَنَّهَا صَدَقَةٌ مَفْرُوضَةٌ تَتَعَلَّقُ بِأَجْنَاسِ الْمَالِ ، فَوَجَبَ أَنْ تَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ كَالْمَوَاشِي وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ بُرٍّ ، عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ ذَكَرٍ وَأُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ . وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَّ عَلَى صَدَقَةِ رَمَضَانَ فَقَالَ : عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ قَمْحٍ . وَرَوَى كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعَا مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ أَوْ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ وَرَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ إِذْ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ ، فَلَمْ نَزَلْ نُخْرِجُهُ حَتَّى قَدِمَ مُعَاوِيَةُ الْمَدِينَةَ فَكَلَّمَ فِيمَا كَلَّمَ فِيهِ فَقَالَ : إِنِّي لَأَرَى مُدَّيْنِ مِنْ بُرِّ الشَّامِ تَعْدِلُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ، فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : وَلَمْ أَزَلْ أُخْرِجُهُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّهُ قُوتٌ مُخْرَجٌ مِنْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا بِالصَّاعِ كَالتَّمْرِ : وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَجِبُ فِي الْأَقْوَاتِ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا

يَخْتَلِفَ قَدْرُهُ بِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ ، كَزَكَوَاتِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْأَخْبَارِ هِيَ ضَعِيفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ . أَمَّا حَدِيثُ ثَعْلَبَةَ فَقَدْ طَعَنَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ ، وَفِي رِوَايَةِ رَجُلٍ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ غَيْرِ مَعْرُوفٍ . وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَالْمَرْوِيُّ عَنْهُ خِلَافُهُ . وَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَوَجْهُ ضَعْفِهِ ظَاهِرٌ . وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ مُنْقَطِعُ الْإِسْنَادِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهُ ، ثُمَّ لَوْ سَلَّمْنَا هَذِهِ الْأَخْبَارَ الْوَاهِيَةَ مَعَ ضَعْفِهَا لَكَانَ الْجَوَابُ عَنْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَرْجِيحٌ . وَالثَّانِي : اسْتِعْمَالٌ فَأَمَّا التَّرْجِيحُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا رَوَيْنَاهُ أَزْيَدُ مِنْهَا وَالْأَخْذُ بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى . وَالثَّانِي : مَا رَوَيْنَاهُ أَحْوَطُ مِنْهَا وَالْأَخْذُ بِالْأَحْوَطِ أَوْلَى ، وَأَمَّا الِاسْتِعْمَالُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ إِخْرَاجِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ فِي ذَوِي الْيَسَارِ ، وَمَا رَوَوْهُ فِي إِخْرَاجِ نِصْفِ صَاعٍ فِيمَنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ مِنْ ذَوِي الْإِعْسَارِ ، فَيَكُونُ فِي نَصِّهِ عَلَى صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ تَنْبِيهٌ عَلَى صَاعٍ مِنَ الْبُرِّ فِي الْمُوسِرِينَ ، وَفِي نَصِّهِ عَلَى نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ ، تَنْبِيهٌ عَلَى نِصْفِ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ فِي الْمُعْسِرِينَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي عَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ ، أَوْ فِي وَالِدٍ تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى وَلَدَيْنِ ، فَيَكُونُ فِي نَصِّهِ عَلَى نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ تَنْبِيهٌ عَلَى نِصْفِ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ ، أَوْ فِي نَصِّهِ عَلَى صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ ، تَنْبِيهٌ عَلَى صَاعٍ مِنْ بُرٍّ ، فَيُحْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نَصٍّ وَتَنْبِيهٍ . وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْمَوَاشِي بِعِلَّةِ أَنَّهَا صَدَقَةٌ تَتَعَلَّقُ بِأَجْنَاسٍ ، فَوَجَبَ أَنْ تَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ فَبَاطِلٌ بِصَدَقَةِ الزُّرُوعِ ، لِأَنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ ، عَلَى أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ لَا تَجِبُ فِي الْمَالِ ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ وَيَجِبُ إِخْرَاجُهَا مِنَ الْمَالِ ، فَلَمْ يَسْلَمِ الْوَصْفُ وَلَمْ يَصِحَّ الْجَمْعُ .



فَصْلٌ : فَأَمَّا قَدْرُ الصَّاعِ الْمُؤَدَّى في زكاة الفطر ، فَهُوَ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ ، كُلُّ مُدٍّ مِنْهَا رِطْلٌ وَثُلُثٌ بِالْعِرَاقِيِّ ، فَيَكُونُ الصَّاعُ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثًا بِالْعِرَاقِيِّ ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَسَائِرِ فُقَهَاءِ الْحَرَمَيْنِ ، وَأَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِيِّينَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ : الْمُدُّ رِطْلَانِ وَالصَّاعُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ : اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَالْمُدُّ رِطْلَانِ ، وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ عَجْرَدٍ عَنْ أُمِّ أَنْفَعَ امْرَأَةِ أَبِي السِّعْرِ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ وَالصَّاعُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ قَالَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ سَأَلْتُ أُمَّ سَلَمَةَ أَنْ تُرِيَنِي صَاعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فَأَخْرَجَتْ صَاعًا حُزِرَ بِهِ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ وَهَذَا غَلَطٌ . وَدَلِيلُنَا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا : مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ : " أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ ؟ قَالَ نَعَمْ . قَالَ : احْلِقْ رَأْسَكَ وَانْسُكْ نَسْيَكَةً ، أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، أَوْ أَطْعِمْ ثَلَاثَةَ آصُعٍ سِتَّةَ مَسَاكِينَ . وَرُوِيَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَالَ : " أَوْ تَصَدَّقْ بِفَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ " فَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ أَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ ، وَقَوْلُ الْأَكْثَرِ وَاحِدٌ فَنَقَلَ عَنْهُ ثَلَاثَةَ آصُعٍ ، وَنَقَلَ عَنْهُ فَرَقًا ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ثَلَاثَةَ آصُعٍ فَنَقَلَ الرَّاوِي مَعْنَى الْخَبَرِ ، وَجَعَلَ مَكَانَ الْآصُعِ فَرَقًا ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَ بِفَرَقٍ فَنُقِلَ مَعْنَاهُ ، وَجُعِلَ مَكَانَ الْفَرَقِ ثَلَاثَةَ آصُعٍ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ثَلَاثَةُ آصُعٍ فَرَقٌ مِنْ تَمْرٍ فَيُؤَدَّى ذَلِكَ أَقُولُ عَلَى أَنَّ الْفَرَقَ ثَلَاثَةُ آصُعٍ فَلَمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْفَرَقَ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا بِالْعِرَاقِ ، ثَبَتَ أَنَّ الصَّاعَ الَّذِي هُوَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلْثُ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ ، وَرَوَى مَالِكٌ قَالَ أَخْرَجَ لِي نَافِعٌ صَاعًا وَقَالَ : هَذَا صَاعٌ أَعْطَانِيهِ ابْنُ عُمَرَ ، وَقَالَ هَذَا صَاعُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَعَيَّرْتُهُ فَكَانَ بِالْعِرَاقِيِّ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ وَرُوِيَ أَنَّ الرَّشِيدَ حَجَّ ، وَمَعَهُ أَبُو يُوسُفَ فَلَمَّا دَخَلَ الْمَدِينَةَ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِكٍ ، فَسَأَلَ أَبُو يُوسُفَ مَالِكًا عَنِ الصَّاعِ فَقَالَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ ، فَأَنْكَرَ أَبُو يُوسُفَ ذَلِكَ فَاسْتَدْعَى مَالِكٌ أَهْلَ الْمَدِينَةِ ، وَسَأَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُحْضِرُ صَاعَهُ مَعَهُ ، فَاجْتَمَعُوا وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَاعُهُ ، يَقُولُ : هَذَا وَرِثْتُهُ عَنْ أَبِي وَحَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ قَالَ وَرِثْتُهُ عَنْ جَدِّي ، وَأَنَّهُ كَانَ يُخْرَجُ بِهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَوَزَنَهُ الرَّشِيدُ ، فَإِذَا هُوَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ فَرَجَعَ أَبُو يُوسُفَ ، إِلَى هَذَا الظُّهُورِ فِي الصَّحَابَةِ وَاشْتِهَارُهُ فِي الْمَدِينَةِ وَتَوَاتُرِ نَقْلِ الْخَلَفِ عَنِ السَّلَفِ ، فَإِنْ قَالُوا هَذَا عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعَمَلُهُمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ، قِيلَ : إِنَّمَا احْتَجَجْنَا بِنَقْلِهِمْ دُونَ عَمَلِهِمْ وَنَقْلُهُمْ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رَوَى طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ

الْمَدِينَةِ وَالْمِيزَانُ مِيزَانُ أَهْلِ مَكَّةَ . فَكَانَ عَمَلُهُمْ بِذَلِكَ أَيْضًا حُجَّةً ، فَإِنْ قِيلَ : وَهُوَ سُؤَالُ الْكَرْخِيِّ مِنْ أَصْحَابِهِمْ إِنَّمَا عَيَّرُوهُ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثًا بِالْمَدِينَةِ ، وَرِطْلُ الْمَدِينَةِ رِطْلٌ وَنِصْفٌ بِالْعِرَاقِيِّ فَهُوَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ بِالْعِرَاقِيِّ ، وَرُجُوعُ أَبِي يُوسُفَ وَهْمٌ مِنْهُ ، قِيلَ : لَوْ كَانَ هَكَذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمَالِكٍ نِزَاعٌ ، وَلَمَّا كَانَ مِثْلُ هَذَا يَخْفَى عَلَى الرَّشِيدِ وَمَنْ حَضَرَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِالْخِلَافِ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ وَزَنُوهُ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثًا بِالْعِرَاقِيِّ ، ثُمَّ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : أَصْغَرُ الصِّيعَانِ صَاعُنَا . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الصَّاعَ هُوَ أَكْبَرُ ، وَأَنَّ صَاعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْأَصْغَرُ فَثَبَتَ قَوْلُنَا أَنَّهُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ : لِأَنَّهُ أَصْغَرُ الصِّيعَانِ ، فَأَمَّا مَا رَوَوْهُ مِنَ الْأَخْبَارِ فَضَعِيفَةٌ جِدًّا ، وَلَوْ صَحَّتْ رِوَايَتُهَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا حُجَّةٌ : لِأَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ وَأُمِّ أَنْفَعَ وَارِدٌ فِي صَاعِ الْمَاءِ ، وَخِلَافُنَا فِي صَاعِ الزَّكَوَاتِ ، وَقَدْ كَانَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آصُعٌ مُخْتَلِفَةٌ ، وَأَمَّا حَدِيثُ مُجَاهِدٍ فَهُوَ عَنْ حَزْرٍ وَالْحَزْرُ فِي الْمَقَادِيرِ غَيْرُ مَقْبُولٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا تُقَوَّمُ الزَكَاةُ ، وَلَوْ قُوِّمَتْ كَانَ لَوْ أَدَّى ثَمَنَ صَاعٍ زَبِيبٍ ضَرُوعٍ ، أَدَّى ثَمَنَ آصُعٍ حِنْطَةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ دَفْعَ الْقِيمَ فِي الزَّكَوَاتِ زكاة الفطر لَا يَجُوزُ ، وَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْقِيمَةِ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ ، فَلَوْ أَخْرَجَ قِيمَةَ الصَّاعِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ لَا يَجُوزُ لِمَا مَضَى ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَّ عَلَى قَدْرٍ مُتَّفَقٍ فِي أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ ، فَسَوَّى بَيْنَ قَدْرِهَا مَعَ اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا وَقِيمَهَا ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِقَدْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ دُونَ قِيمَتِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ فِيهِ لَوَجَبَ إِذَا كَانَ قِيمَةُ صَاعٍ مِنْ زَبِيبٍ ضُرُوعٍ ، وَهُوَ الزَّبِيبُ الْكِبَارُ أَضْعَافَ حِنْطَةٍ ، فَأَخْرَجَ مِنَ الزَّبِيبِ نِصْفَ صَاعٍ قِيمَتُهُ مِنَ الْحِنْطَةِ صَاعٌ أَنْ يُجْزِئَهُ ، فَلَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ ، وَإِنْ كَانَ بِقِيمَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْقِيمَةِ دُونَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يُؤدِّي إِلَّا الْحَبَّ نَفْسَهُ ، لَا يُؤَدِّي دَقِيقًا وَلَا سَوِيقًا وَلَا قِيمَةً " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ .

لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ بَدَلًا مِنَ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ دَقِيقًا وَلَا سَوِيقًا ، وَلَا بَدَلًا مِنَ التَّمْرِ دِبْسًا وَلَا نَاطِفًا ، وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ مِنْ جَوَازِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَوَاتِ ، وَأَجَازَ مَالِكٌ الدَّقِيقَ بَدَلًا مِنَ الْحَبِّ مَعَ وِفَاقَهُ أَنَّ الْقِيَمَ فِي الزَّكَوَاتِ لَا تَجُوزُ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ بَشَّارٍ الْأَنْمَاطِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا ، احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ إِذْ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ أَوْ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ دَقِيقٍ . وَهَذَا غَلَطٌ : لِأَنَّ الْحَبَّ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ ، وَهُوَ كَامِلُ الْمَنْفَعَةِ : لِأَنَّهُ يَصْلُحُ لِلْبَذْرِ وَالطَّحْنِ وَالْهَرْسِ وَالِادِّخَارِ ، وَالدَّقِيقُ مَسْلُوبُ الْمَنَافِعِ إِلَّا الِاقْتِيَاتَ ، فَلَمْ يَجُزْ إِخْرَاجُهُ لِنَقْصِ مَنَافِعِهِ ، فَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ أَنْكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ وَهِمَ فِيهِ سُفْيَانُ :

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَحَبُّ إِلَيَّ لِأَهْلِ الْبَادِيَةِ أَنْ لَا يُؤَدُّوا أَقِطًا : لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ قُوتًا فَالْفَثُّ قُوتٌ ، وَقَدْ يُقْتَاتُ الْحَنْظَلُ ، وَالَّذِي لَا أَشُكُّ فِيهِ أَنَّهُمْ يُؤَدُّونَ مِنْ قُوتِ أَقْرَبِ الْبُلْدَانِ بِهِمْ ، إِلَّا أَنْ يَقْتَاتُوا ثَمَرَةً لَا زَكَاةَ فِيهَا فَيُؤَدُّونَ مِنْ ثَمَرَةٍ فِيهَا زَكَاةٌ ، وَلَوْ أَدَّوْا أَقِطًا لَمْ أَرَ عَلَيْهِمْ إِعَادَةً . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قِيَاسُ مَا مَضَى أَنْ يَرَى عَلَيْهِمْ إِعَادَةً : لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهَا فِيمَا يُقْتَاتُ إِذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَرَةٌ فِيهَا زَكَاةٌ أَوْ يُجِيزُ الْقُوتَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ زَكَاةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا أَهْلُ الْبَادِيَةِ فَزَكَاةُ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمْ ، وَحُكِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ وَعَطَاءٍ أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَيْهِمْ ، وَهَذَا مَذْهَبٌ شَذُّوا بِهِ عَنِ الْإِجْمَاعِ ، وَخَالَفُوا فِيهِ نَصَّ السُّنَّةِ ، وَلَوْ جَازَ مَا قَالُوا مِنْ سُقُوطِ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَنْهُمْ مَعَ قَوْلِهِ " عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ ذَكَرٍ وَأُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ " لَجَازَ سُقُوطُ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ عَنْهُمْ ، فَلَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِهِ فِي زَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ ، كَذَلِكَ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ عَلَيْهِمْ ، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُهَا عَلَيْهِمْ فَلَهُمْ فِيهَا حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقْتَاتُوا مَا يَقْتَاتُهُ أَهْلُ الْحَضَرِ فَعَلَيْهِمْ إِخْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ مِنْهَا كَأَهْلِ الْحَضَرِ ، وَلَيْسَ لَهُمْ إِخْرَاجُ الْأَقِطِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقْتَاتُوا الْأَقِطَ فَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ قَالَ : كُنَّا نُخْرِجُ إِذْ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ وَرَوَى كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ أَوْ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ ، فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فَصَحِيحٌ وَأَمَّا هَذَا فَضَعِيفٌ ، فَإِنْ صَحَّ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ كَانَ يُخْرِجُ ذَلِكَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بِعِلْمِهِ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ فِي إِسْنَادِهِ فَإِنَّ لِأَهْلِ الْبَادِيَةِ إِخْرَاجُ الْأَقِطِ قَوْلًا وَاحِدًا ،

وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ كَانَ يُخْرِجُ الْأَقِطَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بِعِلْمِهِ بَدَلًا ، صَحَّ الْحَدِيثُ الْآخَرُ فِي إِسْنَادِهِ ، فَهَلْ يَجُوزُ لِأَهْلِ الْبَادِيَةِ ، إِخْرَاجُ الْأَقِطِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ ، يَجُوزُ لَهُمْ إِخْرَاجُهُ : لِأَنَّهُ قُوتٌ مُدَّخَرٌ يَسْتَنِدُ إِلَى أَثَرٍ فَجَازَ إِخْرَاجُهُ كَالتَّمْرِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ لَا يَجُوزُ لَهُمْ إِخْرَاجُهُ ، وَإِنْ كَانَ قُوتًا لَهُمْ مُدَّخَرًا فَهُوَ مِمَّا لَا زَكَاةَ فِيهِ ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُمْ إِخْرَاجُهُ ، كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُمْ إِخْرَاجُ الْقِثَّاءِ وَحَبِّ الْحَنْظَلِ وَإِنْ كَانَ قُوتًا لَهُمْ مُدَّخَرًا : لِأَنَّهُ مِمَّا لَا زَكَاةَ فِيهِ ، فَعَلَى هَذَا عَلَيْهِمْ إِخْرَاجُهَا مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبِلَادِ .

فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْبَادِيَةِ يَقْتَاتُونَ اللَّبَنَ هل يجزئ في زكاة الفطر ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُمْ لَوِ اقْتَاتُوا الْأَقِطَ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ إِخْرَاجُهُ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ إِخْرَاجُ اللَّبَنِ أَيْضًا ، وَإِنْ قُلْنَا يَجُوزُ فَفِي جَوَازِ إِخْرَاجِ اللَّبَنِ إِذَا كَانَ قُوتًا لَهُمْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ كَالْأَقِطِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، وَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ وَهُوَ الْأَصَحُّ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَقِطِ ثُبُوتُ الْأَثَرِ فِي الْأَقِطِ وَعَدَمُهُ فِي اللَّبَنِ ، وَلِأَنَّ الْأَقِطَ فِي حَالِ ادِّخَارِهِ فَجَازَ كَالتَّمْرِ ، وَاللَّبَنُ بِخِلَافِهِ فَلَمْ يَجُزْ كَالرُّطَبِ ، فَأَمَّا الْمَصْلُ وَالْكَشْكُ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ إِخْرَاجُهُ : لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ اقْتِيَاتُهُ مُفْرَدًا ، فَأَمَّا أَهْلُ جَزَائِرِ الْبَحْرِ الَّذِينَ يَقْتَاتُونَ السُّمُوكَ ، وَأَهْلُ الْفَلَوَاتِ النَّائِيَةِ الَّذِينَ يَقْتَاتُونَ الْبَيْضَ وَلُحُومَ الصَّيْدِ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ إِخْرَاجُهُ فِي زَكَاةِ فِطْرِهِمْ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ : لِأَنَّ حَالَهُمْ نَادِرَةٌ ، وَقُوتَهُمْ غَيْرُ رَاجِعٍ إِلَى أَثَرٍ ، فَأَمَّا أَهْلُ الْحَضَرِ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ إِخْرَاجُ الْأَقِطِ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ قُوتًا : لِأَنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ كُنَّا نُخْرِجُ الْأَقِطَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْحَضَرِ ، قُلْنَا : قَدْ كَانَ أَبُو سَعِيدٍ يَسْكُنُ الْبَادِيَةَ كَثِيرًا ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كُنْتَ فِي بَادِيَتِكَ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالْآذَانِ عَلَى أَنَّهُ قَالَ : " كُنَّا نُخْرِجُ " كِنَايَةً عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَهْلَ بَادِيَةٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ الرَّجُلُ نِصْفَ صَاعِ حِنْطَةٍ ، وَنِصْفَ صَاعِ شَعِيرٍ إِلَّا مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ الرَّجُلُ صَاعًا وَاحِدًا عَنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ مِنْ أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ فَيُخْرِجُ بَعْضَهُ بُرًّا وَبَعْضَهُ شَعِيرًا ، وَبَعْضَهُ تَمْرًا وَبَعْضَهُ زَبِيبًا : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " صَاعًا مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ

شَعِيرٍ " فَأَوْجَبَ كَمَالَ الصَّاعِ مِنَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ ، كَمَا أَوْجَبَ كَمَالَ الْكَفَّارَةِ مِنَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ تَبْعِيضُ الْكَفَّارَةِ فَيُطْعِمُ خَمْسَةً ، وَيَكْسُو خَمْسَةً لَمْ يَجُزْ تَبْعِيضُ الصَّاعِ فَيُعْطِي نِصْفَهُ بُرًّا وَنِصْفَهُ شَعِيرًا ، وَلَكِنْ لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ خَمْسَةُ آصُعٍ فَأَخْرَجَهَا مِنْ خَمْسَةِ أَجْنَاسٍ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْهَا صَاعٌ أَجْزَأَهُ ، إِذَا قِيلَ : أَنَّهُ مُخَيَّرٌ أَوْ كَانَتْ قُوتُهُ أَوْ قُوتُ بَلَدِهِ كَمَا يَجْزِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْكَفَّارَاتِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَ قُوتُهُ حِنْطَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ شَعِيرًا زكاة الفطر " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ قَوْلِهِ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَى التَّخْيِيرِ ، أَوْ عَلَى التَّرْتِيبِ فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ عَلَى التَّخْيِيرِ جَازَ إِذَا كَانَ قُوتُهُ تَمْرًا أَنْ يُخْرِجَ شَعِيرًا ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ عَلَى التَّرْتِيبِ اعْتِبَارًا بِغَالِبِ الْقُوتِ إِمَّا بِغَالِبِ قُوتِ بَلَدِهِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، أَوْ بِغَالِبِ قُوتِهِ فِي نَفْسِهِ . عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي : فَكَانَ غَالِبُ قُوتِهِ بُرًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ شَعِيرًا ، وَهُوَ أَظْهَرُ قَوْلَيْهِ ، وَأَشْهَرُ نَصِّهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ مُسَوَّسٍ وَلَا مَعِيبٍ ، فَإِنْ كَانَ قَدِيمًا لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَلَا لَوْنُهُ أَجْزَأَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْمُسَوَّسُ وَالْمَعِيبُ وَمَا يَعَافُ النَّاسُ أَكْلَهُ لِنَتَنِ رِيحِهِ وَتَغَيُّرِ لَوْنِهِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَهُ فِي زَكَاةِ فِطْرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ، [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَرَوَى عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ وَفِيهِ أَقْنَاءُ حَشَفٍ مُعَلَّقَةٌ ، وَبِيَدِهِ عَصًا فَطَعَنَهُ فِي الْقِنْوِ ، وَقَالَ : " إِنْ رَبَّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِأَطْيَبَ مِنْهَا فَعَلَ ، إِنَّ رَبَّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ لَا يَأْكُلُ غَيْرَ الْحَشَفِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " ، وَلِأَنَّ الْمَعِيبَ نَاقِصٌ وَالْمُسَوَّسَ فَارِغٌ . فَأَمَّا الْقَدِيمُ ، فَإِنْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ لَمْ يَجُزْ إِخْرَاجُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ شَيْءٌ مِنْ أَوْصَافِهِ ، وَإِنَّمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ لِقِدَمِهِ ، فَإِخْرَاجُهُ جَائِزٌ وَغَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَ قُوتُهُ حُبُوبًا مُخْتَلِفَةً ، فَأَخْتَارُ لَهُ خَيْرَهَا وَمِنْ أَيْنَ أَخْرَجَهُ أَجْزَأَهُ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَقْصَاةً وَذَكَرْنَا إِذَا اسْتَوَتْ أَقْوَاتُهُ ، وَلَمْ يَكُنْ بَعْضُهَا غَالِبًا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَفْضَلِهَا نَوْعًا ، وَأَكْثَرِهَا نَفْعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ، [ آلِ عِمْرَانَ : ] ، وَإِنْ أَخْرَجَ مَنْ أَدْونِهَا ، وَهُوَ غَالِبُ قُوتِهِ أَوْ جُمْلَةُ أَقْوَاتِهِ أَجْزَأَهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُقَسِّمُهَا عَلَى مَنْ تُقَسَّمُ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْمَالِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ مَصْرِفُ زَكَاةِ الْفِطْرِ ، مَصْرِفُ زَكَاةِ الْمَالِ فِي الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَالَ مَالِكٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ خَاصَّةً ، وَيَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى فَقِيرٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّلَبِ فِي هَذَا الْيَوْمِ ، وَأَشَارَ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَأَمَرَ بِإِغْنَائِهِمْ ، وَإِغْنَاؤُهُمْ لَا يَكُونُ بِأَقَلَّ مِنْ صَاعٍ . وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ : إِنْ تَوَلَّى إِخْرَاجَهُ بِنَفْسِهِ جَازَ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْ جُمْلَةِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ ، فَيَدْفَعُهَا إِلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ أَيِّ الْأَصْنَافِ شَاءَ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ ، وَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ لَمْ يُعْطِهَا إِلَّا فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ ، وَفَصَلَ بَيْنَهُمَا لِلضَّرُورَةِ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ يُمْكِنُهُ وَضْعُهَا فِي جَمِيعِهِمْ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ مَعَ اتِّسَاعِ الْمَالِ وَكَثْرَةِ الصَّدَقَاتِ وَرَبُّ الْمَالِ إِنْ كُلِّفَ ذَلِكَ شَقَّ عَلَيْهِ ، وَإِنَّ كُلِّفَ تَفْرِيقَ صَاعٍ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ حِصَّةً كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ فِي حَالِهِ ، وَرُبَّمَا بَعَثَهُ قِلَّتُهَا عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ أَخْذِهَا وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، [ التَّوْبَةِ : ] ، الْآيَةَ فَجَعَلَ مَا انْطَلَقَ اسْمُ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ مُسْتَحِقًّا لِمَنِ اشْتَمَلَتِ الْآيَةُ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهَا صَدَقَةٌ وَاجِبَةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَصَّ بِهَا صِنْفٌ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ كَزَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ ، فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا ، وَتَوَلَّى الْمُزَكِّي إِخْرَاجَهَا بِنَفْسِهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : فِي " الْأُمِّ " فَرَّقَهَا فِي سِتَّةِ أَصْنَافٍ ، وَسَقَطَ عَنْهُ سَهْمُ الْعَامِلِينَ وَالْمُؤَلِّفَةِ لِفَقْدِ مَا اسْتَحَقَّا بِهِ مِنَ الْحَاجَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْأَصْنَافَ السِّتَّةَ ، فَرَّقَهَا فِيمَنْ وَجَدَ مِنْهُمْ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى كَافِرٍ ، وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ دَفْعَهَا إِلَى كَافِرٍ ، وَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ فِي زَكَاةِ الْمَالِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ فَجَعَلَ مَنْ تُدْفَعُ الصَّدَقَةُ إِلَيْهِ فَقِيرًا ، أَوْ مَنْ تُؤْخَذُ الصَّدَقَةُ مِنْهُ غَنِيًّا ، فَلَمَّا لَمْ تُؤْخَذِ الصَّدَقَةُ إِلَّا مِنْ غَنِيٍّ مُسْلِمٍ ، وَجَبَ أَنْ لَا تُدْفَعَ الصَّدَقَةُ إِلَّا إِلَى فَقِيرٍ مُسْلِمٍ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَجِبُ إِخْرَاجُهُ لِلطُّهْرَةِ ، فَلَمْ يُجِزْهُ دَفْعُهُ إِلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ كَزَكَاةِ الْمَالِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَحَبُّ إِلَيَّ ذَوُو رَحِمِهِ إِنْ كَانَ لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ بِحَالٍ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْأَقَارِبُ وَذُوُوا الْأَرْحَامِ هل تدفع إليهم زكاة الفطر ؟ ، فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ نَفَقَاتُهُمْ وَاجِبَةً كَالْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ إِذَا كَانُوا فَقُرَاءَ زَمْنَى ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ الزَّكَاةَ إِلَيْهِمْ : لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ الزَّكَاةَ عَنْهُمْ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا تَكُونَ نَفَقَاتُهُمْ وَاجِبَةً ، كَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ ، فَالْأَوْلَى إِذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ أَنْ يَخُصَّهُمْ بِهَا : صِلَةً لِرَحِمِهِ وَبِرًّا لِأَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ، [ مُحَمَّدٍ : ] ، فَجَمَعَ بَيْنَ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ عَقَّبَهَا بِاللَّعْنَةِ إِبَانَةً لِعِظَمِ الْإِثْمِ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَبِيَدِهِ مِخْصَرَةٌ وَهُوَ يُومِئُ بِهَا وَيَقُولُ أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ وَادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : صِلُوا أَرْحَامَكُمْ وَلَوْ بِالسَّلَامِ . وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : خَيْرُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ يَعْنِي الْمُعَادِي وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةَ امْرِئٍ ، وَذُو رَحِمٍ مُحْتَاجٌ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهُمَا : لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةً كَامِلَةً وَذُو رَحِمِ مُحْتَاجٌ . وَالثَّانِي : لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ وَذُو رَحِمٍ مُحْتَاجٌ . وَالثَّالِثُ : لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةً إِمَّا فَرْضٌ ، وَإِمَّا تَطَوُّعٌ وَذُو رَحِمٍ تَجِبُ نَفَقَتُهُ مُحْتَاجٌ ، فَلَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ . وَيُخْتَارُ لِلزَّوْجَةِ إِذَا كَانَ زَوْجُهَا فَقِيرًا ، أَنْ تَخُصَّهُ بِصَدَقَتِهَا : لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى أَهْلِهَا وَأَقَارِبِهَا ، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ : إِنْ دُفِعَتْ إِلَيْهِ زَكَاتُهَا لَمْ يُجْزِهَا ، وَهَذَا غَلَطٌ : لِأَنَّ الْمُنَاسِبَ أَقْوَى سَبَبًا مِنَ الزَّوْجِ : لِأَنَّ عِصْمَةَ النَّسَبِ لَا يُمْكِنُ قَطْعُهَا ، وَعِصْمَةَ الزَّوْجِيَّةِ يُمْكِنُ قَطْعُهَا فَإِذَا جَازَ وَاسْتُحِبَّ لَهُ دَفْعُ الصَّدَقَةِ إِلَى أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ إِذَا كَانَتْ نَفَقَاتُهُمْ غَيْرَ وَاجِبَةٍ ، جَازَ لِلزَّوْجَةِ ، وَاسْتُحِبَّ لَهَا دَفْعُ الصَّدَقَةِ إِلَى زَوْجِهَا : إِذْ نَفَقَتُهُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، فَلَوْ عَدَلَ الْمُزَكِّي عَنْ أَقَارِبِهِ وَذَوِي رَحِمِهِ إِلَى الْأَجَانِبِ الْفُقَرَاءِ ، فَقَدْ عَدَلَ عَنِ الْأَوْلَى وَأَجْزَأَهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ طَرَحَهَا عِنْدَ مَنْ تُجْمَعُ عِنْدَهُ أَجْزَأَهُ زكاة الفطر إِنْ شَاءَ

اللَّهُ تَعَالَى . سَأَلَ رَجُلٌ سَالِمًا فَقَالَ أَلَمْ يَكُنِ ابْنُ عُمَرَ يَدْفَعُهَا إِلَى السُّلْطَانِ ؟ فَقَالَ : بَلَى ، وَلَكِنْ أَرَى أَنْ لَا يَدْفَعَهَا إِلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا زَكَاةُ الْفِطْرِ ، فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا وَهِيَ جَارِيَةٌ مَجْرَى زَكَاةِ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ ، كَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالْمَوَاشِي ، لَكِنْ عُرْفُ السَّلَفِ جَارٍ بِتَوَلِّي النَّاسِ تَفْرِيقَهَا بِنُفُوسِهِمْ ، فَإِنْ كَانَ وَالِيَ الْوَقْتِ جَائِرًا لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ عَادِلًا وَجَبَ عَلَى قَوْلِهِ الْقَدِيمِ دَفْعُهَا إِلَيْهِ ، وَاسْتُحِبَّ ذَلِكَ لَهُ عَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ هَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي زَكَاةِ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ ، فَأَمَّا زَكَاةُ الْفِطْرَةِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : " تَفْرِيقُهَا بِنَفْسِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَطْرَحَهَا عِنْدَ مَنْ تُجْمَعُ عِنْدَهُ " فَاحْتَمَلَ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْوَالِي نَزِهًا فَقَدْ أَوْرَدَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عَطَاءً عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : ادْفَعْهَا إِلَى الْوَالِي ، فَجَاءَ الرَّجُلُ إِلَى ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ : أَخْرِجْهَا بِنَفْسِكَ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ : فَإِنَّ عَطَاءً أَمَرَنِي أَنْ أَدْفَعَهَا إِلَى الْوَالِي فَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ : أَفْتَاكَ الصَّالِحُ بِغَيْرِ مَذْهَبِهِ لَا تَدْفَعْهَا إِلَيْهِمْ ، فَإِنَّمَا يُعْطِيهَا هِشَامٌ حَرَسَهُ ، وَبَوَّابَهُ وَمَنْ شَاءَ مِنْ غِلْمَانِهِ . وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ سَالِمًا فَقَالَ : أَحْمِلُ صَدَقَتِي إِلَى السُّلْطَانِ فَقَالَ : لَا . فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ : أَلَمْ يَكُنِ ابْنُ عُمَرَ يَدْفَعُهَا ؟ فَقَالَ : بَلَى ! وَلَكِنْ لَا أَرَى أَنْ تَدْفَعَهَا إِلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَحَبَّ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ ، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ وَأَوْلَى عِنْدِي .

فَصْلٌ : قَدْ ذَكَرْنَا وَقْتَ وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ ، فَأَمَّا وَقْتُ إِخْرَاجِهَا زكاة الفطر فَبَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَقَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فِعْلِهِ ، وَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ أَنْ يُطْعِمَ قَبْلَ خُرُوجِهِ لِصَلَاةِ الْعِيدِ ، فَأُمِرَ لَهُ تَفْرِيقُهَا فِي الْفُقَرَاءِ لِيَطْعَمُوا مِنْهَا قَبْلَ خُرُوجِهِمْ لِصَلَاةِ الْعِيدِ ، وَلِذَلِكَ أُمِرَ الْإِمَامُ بِتَأْخِيرِ صَلَاةِ الْفِطْرِ لِاشْتِغَالِ الْأَغْنِيَاءِ بِتَفْرِيقِهَا ، وَاشْتِغَالِ الْفُقَرَاءِ بِأَخْذِهَا فَإِنْ قَدَّمَهَا قَبْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ : لِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ أَحَدُ سَبَبَيْ وُجُوبِهَا فَإِنْ أَخَّرَهَا عَنْ يَوْمِ الْعِيدِ كَانَ مُسِيئًا آثِمًا ، وَكَانَ بِإِخْرَاجِهَا فِيمَا بَعْدُ قَاضِيًا ، وَلَكِنْ لَوْ أَخْرَجَهَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ مِنْ يَوْمِهِ أَجْزَأَهُ ، وَكَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا .

بَابُ الِاخْتِيَارِ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ

بَابُ الِاخْتِيَارِ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " أَخْبَرَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ خَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَلْيَبْدَأْ أَحَدُكُمْ بِمَنْ يَعُولُ ( قَالَ ) : فَهَكَذَا أُحِبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ بِمَنْ يَعُولُ : لِأَنَّ نَفَقَةَ مَنْ يَعُولُ فَرْضٌ ، وَالْفَرْضُ أَوْلَى بِهِ مِنَ النَّفْلِ ثُمَّ قَرَابَتُهُ ثُمَّ مَنْ شَاءَ ، وَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ كَانَتْ صَنَاعًا ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ فَقَالَتْ : لَقَدْ شَغَلْتَنِي أَنْتَ وَوَلَدُكَ عَنِ الصَّدَقَةِ ، فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : " لَكِ فِي ذَلِكَ أَجْرَانِ فَأَنْفِقِي عَلَيْهِمْ " وَاللَّهُ أَعْلَمُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ قَبْلَ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ مِنَ الزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ ، وَقَبْلَ الْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ مَعَ الْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ فَغَيْرُ مُسْتَحَقَّةً ، وَلَا مُخْتَارَةٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى ، وَلْيَبْدَأْ أَحَدُكُمْ بِمَنْ يَعُولُ وَفِي قَوْلِهِ : " عَنْ ظَهْرِ غِنًى " تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : بَعْدَ اسْتِغْنَاءِ نَفْسِهِ عَنْ تَتَبُّعِ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ يَدِهِ . وَالثَّانِي : بَعْدَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا يَقْبَلُ اللَّهُ النَّوَافِلَ إِلَّا بَعْدَ إِحْكَامِ الْفَرَائِضِ وَفِيهِ أَيْضًا تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَقْبَلُ اللَّهُ النَّوَافِلَ كَامِلَةً إِلَّا بَعْدَ أَحْكَامِ الْفَرَائِضِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَقْبَلُهَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بَعْدَ إِحْكَامِ الْفَرَائِضِ ، وَيُحْتَسَبُ بِالنَّوَافِلِ عَنِ الْفَرَائِضِ ، فَإِذَا كَمُلَتِ الْفَرَائِضُ تَقَبَّلَ النَّوَافِلَ ، وَقَدْ جَاءَ الْخَبَرُ بِهَذَا ، فَإِذَا أَدَّى الرَّجُلُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ مِنْ نَفَقَاتِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ ، وَمِنْ إِخْرَاجِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُهُ اسْتَحْبَبْنَا

حِينَئِذٍ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ عَبْدٍ يَتَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا طَيِّبًا وَلَا يَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ إِلَّا طَيِّبًا ، كَمَا يَضَعُهَا فِي يَدِ الرَّحْمَنِ فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ ، حَتَى اللُّقْمَةَ فَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنَّهَا لَمِثْلُ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ ثُمَّ قَرَأَ : أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ [ التَّوْبَةِ : ] وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَدْرِ مَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ . فَقَالَ قَوْمٌ : بِجَمِيعِ مَالِهِ كَفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَقَالَ آخَرُونَ بِنِصْفِهِ كَفِعْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ آخَرُونَ : بِثُلْثِهِ ، كَفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَالَّذِي عِنْدَنَا أَنَّ الِاسْتِحْبَابَ فِي ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْمُصَّدِّقِ ، فَإِنْ كَانَ حَسَنَ الْيَقِينِ قَنُوعًا ، لَا يُقَنِّطُهُ الْفَقْرُ وَلَا يَسْأَلُ عِنْدَ الْعَدَمِ ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ ، فَقَدْ رَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَتَصَدَّقَ فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي فَقُلْتُ : الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا ، فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي فَقَالَ : مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ ؟ قُلْتُ مِثْلَهُ قَالَ ، وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ ؟ فَقَالَ أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ . فَقُلْتُ لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَقَرَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى ذَلِكَ وَاسْتَحْسَنَهُ لِمَا عَلِمَ مِنْ قُوَّةِ إِيمَانِهِ وَصِحَّةٍ يَقِينِهِ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْفِقِ بِلَالُ وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا فَأَمَّا مَنْ كَانَ ضَعِيفَ الْيَقِينِ يَطْعَنُهُ الْفَقْرُ ، وَيَسْأَلُ عِنْدَ الْعَدَمِ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ بَلْ يَتَصَدَّقُ بِحَسَبَ حَالِهِ ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا رَوَى مَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ بِمِثْلِ بَيْضَةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَبْتُ هَذِهِ مِنْ مَعْدِنٍ فَخُذْهَا فَهِيَ صَدَقَةٌ لَا أَمْلِكُ غَيْرَهَا ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى أَتَى بِهَا مِرَارًا ، فَأَعْرَضَ ثُمَّ أَخَذَهَا فَحَذَفَهُ بِهَا فَلَوْ أَصَابَتْهُ لَأَوْجَعَتْهُ ، ثُمَّ قَالَ : يَأْتِي أَحَدُكُمْ بِمَا يَمْلِكُ فَيَقُولُ هَذِهِ صَدَقَةٌ ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ ، خَيْرُ الصَّدَقَاتِ مَا أَبْقَتْ غِنًى وَأَرَادَ غَيْلَانُ بْنُ سَلَمَةَ أَنْ يُوَصِّيَ بِمَالِهِ

كُلِّهِ لِلْمَسَاكِينِ فَأَكْرَهَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى رَجَعَ فِيهِ ، وَقَالَ : لَوْ مِتَّ عَلَى رَأْيِكَ لَرَجَمْتُ قَبْرَكَ كَمَا يُرْجَمُ قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ .

فَصْلٌ : وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ الصَّدَقَةِ بِالْيَسِيرِ ، فَإِنَّ قَلِيلَ الْخَيْرِ كَثِيرٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [ الزَّلْزَلَةِ : ] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرْدُدْ عَنْكَ حَذْمَةَ السَّائِلِ ، وَلَوْ بِمِثْلِ رَأْسِ الطَّيْرِ مِنَ الطَّعَامِ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَمْنَعْكُمْ مِنْ مَعْرُوفٍ صَغِيرَهُ وَيَخْتَارُ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى ذَوِي أَرْحَامِهِ ، لِمَا ذَكَرْنَا وَعَلَى أَهْلِ الْخَيْرِ ، وَذَوِي الْفَضْلِ ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا يَأْكُلْ طَعَامَكُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ فَإِنْ تَصَدَّقَ عَلَى كَافِرٍ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ ، أَوْ مَجُوسِيٍّ جَازَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [ الْإِنْسَانِ : ] وَالْأَسِيرُ لَا يَكُونُ إِلَّا كَافِرًا ، وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى مُطْعِمَهُ فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ ، وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أُمِّهِ أَسْمَاءَ قَالَتْ : قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي رَاغِبَةً مُشْرِكَةً فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أُمِّي جَاءَتْ رَاغِبَةً مُشْرِكَةً أَفَأَصِلُهَا ؟ قَالَ : " نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ " .

فَصْلٌ : يُسْتَحَبُّ لِلْفَقِيرِ أَنْ يَتَعَفَّفَ عَنِ السُّؤَالِ لِمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ بَايَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ، وَأَنْ لَا يَسْأَلَ أَحَدٌ أَحَدًا شَيْئًا وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا عِنْدَهُ قَالَ : مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفُّهُ اللَّهُ ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ ، وَمَنْ

يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ أَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ ، وَرَوَى طَارِقٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ يَسُدَّ اللَّهُ فَاقَتَهُ ، وَمَنْ أَنْزَلَهَا بِاللَّهِ أَوْشَكَ لَهُ بِالْغِنَى أَوْ بِمَوْتٍ عَاجِلٍ فَلِذَلِكَ كَرِهْنَا لَهُ السُّؤَالَ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى : لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [ الْبَقَرَةِ : ] فَإِنْ سَأَلَ لَمْ يَحْرُمِ السُّؤَالُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا وَيَقْصِدُ بِسُؤَالِهِ أَهْلَ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ سَائِلًا فَاسْأَلِ الصَّالِحِينَ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : يَدُ اللَّهِ الْعَلْيَاءُ وَيَدُ الْمُعْطِي الْوُسْطَى وَيَدُ الْمُسْتَعْطِي السُّفْلَى فَأَمَّا مَنْ سَأَلَ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنِ الْمَسْأَلَةِ ، بِمَالٍ أَوْ بِصِنَاعَةٍ فَهُوَ بِسُؤَالِهِ آثِمٌ ، وَمَا يَأْخُذُهُ عَلَيْهِ مُحَرَّمٌ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ سَأَلَ وَهُوَ غَنِيٌّ ، جَاءَتْ مَسْأَلَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُدُوشًا أَوْ خُمُوشًا أَوْ كُدُوحًا فِي وَجْهِهِ ، قِيلَ : وَمَا غِنَاهُ ؟ قَالَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ عَدْلُهَا مِنَ الذَّهَبِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَأَلَ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ فَقَدْ سَأَلَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَلَيْسَ الْغِنَى بِالْمَالِ وَحْدَهُ بَلْ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ غَنِيًّا بِمَالِهِ ، وَقَدْ يَكُونُ غَنِيًّا بِنَفْسِهِ وَصَنْعَتِهِ ، فَإِذَا اسْتَغْنَى بِمَادَّةٍ مَنْ مَالٍ أَوْ صَنْعَةٍ ، كَانَ غَنِيًّا تَحْرُمُ الْمَسْأَلَةُ عَلَيْهِ ، وَنَحْنُ نَسْأَلُ اللَّهَ الْمَعُونَةَ وَحُسْنَ الْكِفَايَةِ بِتَوْفِيقِهِ وَمِنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ .
_____كِتَابُ الصِّيَامِ_____
بيان الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الصِّيَامِ

كِتَابُ الصِّيَامِ أَمَّا الصَّوْمُ تعريفه فِي اللُّغَةِ : فَهُوَ الْإِمْسَاكُ ، يُقَالُ صَامَ فُلَانٌ بِمَعْنَى أَمْسَكَ عَنِ الْكَلَامِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا [ مَرْيَمَ : ] ، أَيْ : صَوْمًا وَسُكُوتًا أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ : فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا [ مَرْيَمَ : ] وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِوَقْتِ الْهَاجِرَةِ ، قَدْ صَامَ النَّهَارُ لِإِمْسَاكِ الشَّمْسِ فِيهِ عَنِ السَّيْرِ وَتَقُولُ خَيْلٌ صِيَامٌ بِمَعْنَى وَاقِفَةٌ ، قَدْ أَمْسَكَتْ عَنِ السَّيْرِ قَالَ النَّابِغَةُ : خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلِكُ اللُّجُمَا وَقَالَ الْآخَرُ : نَضْرِبُ الْهَامَ وَالدَّوَابِرَ مِنْهَا ثُمَّ صَامَتْ بِنَا الْجِيَادُ صِيَامًا أَيْ : قَامَتْ فَلَمْ تَنْبَعِثْ ، ثُمَّ جَاءَ الشَّرْعُ فَقَرَّرَ الصَّوْمَ ، إِمْسَاكًا مَخْصُوصًا فِي زَمَانٍ مَخْصُوصٍ ، فَانْتَقَلَ الصَّوْمُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ إِلَى مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ . فَصْلٌ : وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الصِّيَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [ الْبَقَرَةِ : ] الْآيَةَ قَوْلُهُ تَعَالَى : كُتِبَ عَلَيْكُمْ أَيْ : فُرِضَ عَلَيْكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [ الْمُجَادَلَةِ : ] أَيْ : فَرَضَ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ : أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [ الْبَقَرَةِ : ] فَلَمْ يُعَيِّنْ فِيهَا زَمَانَ الصِّيَامِ ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ إِلَى قَوْلِهِ : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [ الْبَقَرَةِ : ] فَعَيَّنَ زَمَانَهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَهُ مُبْهَمًا ، وَحَتَّمَ صِيَامَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْإِنْسَانُ فِيهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ صِيَامِهِ وَإِفْطَارِهِ ، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ : وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [ الْبَقَرَةِ : ] ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ

التَّفْسِيرِ ، حَتَّى نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : فَلْيَصُمْهُ ، وَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الصِّيَامِ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَحَجِّ الْبَيْتِ وَدَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ رَجُلًا ثَائِرَ الشِّعْرِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْمَعُ لِصَوْتِهِ دَوِيٌّ ، يَسْأَلُ عَنِ الْإِسْلَامِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ : " أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ ، وَتَصُومَ شَهْرَ رَمَضَانَ ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ " وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلُّوا خَمْسَكُمْ ، وَأَدُّوا زَكَاتَكُمْ طَيِّبَةً بِهَا نُفُوسُكُمْ ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ وَحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ ثُمَّ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ الصِّيَامِ ، وَهُوَ أَحَدُ أَرْكَانِ الدِّينِ فَمَنْ جَحَدَهُ فَقَدْ كَفَرَ ، وَمَنْ أَقَرَّ بِهِ وَلَمْ يَفْعَلْهُ فَقَدْ فَسَقَ ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ ، فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ لَا أَوْجَبْتُمْ عَلَيْهِ الْقَتْلَ ، كَمَا أَوْجَبْتُمُوهُ عَلَى تَارِكِ الصَّلَاةِ ، قُلْنَا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الصَّلَاةَ مُشَابِهَةٌ لِلْإِيمَانِ : لِأَنَّهُمَا قَوْلُ اللِّسَانِ وَاعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ ، فَقُتِلَ تَارِكُهَا كَمَا يُقْتَلُ تَارِكُ الْإِيمَانِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصِّيَامُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الصَّلَاةَ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْ تَارِكِهَا إِلَّا بِفِعْلِهِ فَلِذَلِكَ كَانَ تَرْكُهَا مُوجِبًا لِقَتْلِهِ ، وَالصِّيَامُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ تَارِكِهِ بِأَنْ يُمْنَعَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَمَا يُؤَدِّي إِلَى إِفْطَارِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ مُوجِبًا لِقَتْلِهِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ ، مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَحُرٍّ وَعَبْدٍ وَأَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَلَا صَوْمَ عَلَيْهِمْ لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُمَا .



فَصْلٌ : ثُمَّ أَوَّلُ مَا نَزَلَ فَرْضُ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي شَعْبَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ ، قِيلَ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْهُ ، وَفِي هَذَا الشَّهْرِ فُرِضَ اسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ ، فَأَمَّا فَرْضُ الصَّلَاةِ فَنَزَلَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ ، وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ : الصَّلَاةُ أَفْضَلُ مِنَ الصِّيَامِ : لِتَقَدُّمِ فَرْضِهَا وَمُقَارَنَتِهِ الْإِيمَانَ ، وَقَالَ آخَرُونَ : الصِّيَامُ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي عَلَيْهِ فاخْتَصَّ بِالصِّيَامِ ، وَأَضَافَهُ إِلَيْهِ وَقَالَ قَوْمٌ : الصَّلَاةُ بِمَكَّةَ أَفْضَلُ مِنَ الصِّيَامِ ، وَالصِّيَامُ بِالْمَدِينَةِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ مُرَاعَاةً لِمَوْضِعِ نُزُولِ فَرْضِهِمَا .

فَصْلٌ : قَالَ أَصْحَابُنَا : يُكْرَهُ أَنْ يُقَالَ : جَاءَ رَمَضَانُ وَذَهَبَ رَمَضَانُ : لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا تَقُولُوا جَاءَ رَمَضَانُ فَإِنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَكِنْ قُولُوا شَهْرَ رَمَضَانَ فَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الشَّهْرَ وَلَكِنْ ذَكَرَ مَعَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الشَّهْرَ جَازَ كَقَوْلِهِ : صُمْتُ رَمَضَانَ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَقَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَكَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَائِقٌ ، فَسُمِّيَ فِي الْإِسْلَامِ رَمَضَانَ مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّمْضَاءِ ، وَهُوَ شِدَّةُ الْحَرِّ : لِأَنَّهُ حِينَ فُرِضَ وَافَقَ شِدَّةَ الْحَرِّ وَقَدْ رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّمَا سُمِّيَ رَمَضَانُ : لِأَنَّهُ يَرْمِضُ الذُّنُوبَ أَيْ : يَحْرِقُهَا وَيَذْهَبُ بِهَا .

فَصْلٌ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ قِيلَ : كَانَ ابْتِدَاءُ فَرْضِ الصِّيَامِ أَوْ كَانَ نَاسِخًا لِصَوْمٍ تَقَدَّمَهُ عَلَى مَذْهَبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَانَ ابْتِدَاءَ فَرْضِ الصِّيَامِ ، وَكَأَنَّهُ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : أَنَّ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ نَاسِخٌ لِصَوْمٍ قَبْلَهُ ، ثُمَّ لَهُمْ فِيهِ مَذْهَبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَانَ نَاسِخًا لِصَوْمِ عَاشُورَاءَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ كَانَ نَاسِخًا لِلْأَيَّامِ الْبِيضِ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ، وَلَهُمْ فِي الْأَيَّامِ الْبِيضِ مَذْهَبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا الثَّانِي عَشَرَ وَمَا يَلِيهِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : أَنَّهَا الثَّالِثَ عَشَرَ وَمَا يَلِيهِ .

بَابُ النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ

بَابُ النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ صِيَامُ فَرْضٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَا نَذْرٍ وَلَا كَفَّارَةٍ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا صِيَامُ النَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ نِيَّةٍ مِنَ اللَّيْلِ إِجْمَاعًا فَأَمَّا صِيَامُ رَمَضَانَ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ زُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ ، أَنَّهُ قَالَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [ الْبَقَرَةِ : ] فَأَمَرَ بِصِيَامِهِ ، وَلَمْ يَأْمُرْ فِيهِ بِالنِّيَّةِ قَالَ : وَلِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ مُسْتَحَقُّ الصَّوْمِ يَمْنَعُ مِنْ إِيقَاعِ غَيْرِهِ فِيهِ ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى نِيَّةٍ ، كَالْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَمَّا كَانَ الْفِطْرُ فِيهِمَا مُسْتَحَقًّا ، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى نِيَّةٍ ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى [ اللَّيْلِ : ، ] ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُجَازَاةَ لَا تَقَعُ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ حَتَّى يَبْتَغِيَ بِهِ الْفَاعِلُ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى بِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِنَمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ فَنَفَى الْعَمَلَ إِلَّا بِنِيَّةٍ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَقْبَلُ اللَّهُ عَمَلًا بِغَيْرِ نِيَّةٍ . وَرَوَتْ حَفْصَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ وَرُوِيَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ .

وَرُوِيَ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ ، وَلِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ تَتَنَوَّعُ فَرْضًا وَنَفْلًا ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مِنْ شَرْطِهَا كَالصَّلَاةِ ، وَلِأَنَّ الصَّوْمَ هُوَ الْإِمْسَاكُ ، وَالْإِمْسَاكُ قَدْ يَقَعُ تَارَةً عِبَادَةً وَتَارَةً عَادَةً ، فَالْعَادَةُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ الْأَكْلِ طُولَ يَوْمِهِ لِتَصَرُّفِهِ بِأَشْغَالِهِ ، أَوْ تَقَدُّمِ مَا يَأْكُلُهُ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ نِيَّةٍ تُمَيِّزُ بَيْنَ إِمْسَاكِ الْعَادَةِ ، وَإِمْسَاكِ الْعِبَادَةِ ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى سُقُوطِ النِّيَّةِ لِأَنَّهَا مُجْمَلَةٌ ، وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِبَيَانِهَا وَهِيَ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي وُجُوبِ النِّيَّةِ ، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ : إِنَّهُ مُسْتَحَقُّ الصِّيَامِ فِيهِ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : إِنَّهُ فَاسِدٌ بِمَنْ بَقِيَ عَلَيْهِ مَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ قَدْرَ مَا يُؤَدِّيهَا فِيهِ ، فَقَدِ اسْتَحَقَّ زَمَانُهَا عَلَيْهِ ، وَمُنِعَ مِنْ إِيقَاعِ غَيْرِهَا فِيهِ ، ثُمَّ النِّيَّةُ فِيهِ وَاجِبَةٌ فَدَلَّ عَلَى فَسَادِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ .

وَالثَّانِي : أَنَّ إِيقَاعَ غَيْرِهِ فِيهِ لَا يَمْنَعُ لِأَنَّا قَدْ نَرَى الْإِفْطَارَ يَتَخَلَّلُهُ ، وَفِطْرُ الْعِيدَيْنِ لَمَّا كَانَ مُسْتَحَقًّا يَمْتَنِعُ مِنْ إِيقَاعِ غَيْرِهِ فِيهِ لَمْ يَتَخَلَّلْهُ غَيْرُهُ ، لِاسْتِحَالَةِ الصَّوْمِ فِيهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ، وَثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ النِّيَّةِ فِيهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا وَقْتُ النِّيَّةِ وَمَحِلُّهَا النية في الصوم ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : " إِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ الصِّيَامَ كُلَّ يَوْمٍ قَبْلَ الْفَجْرِ ، فَإِنْ نَوَى بَعْدَهُ لَمْ يُجْزِهِ " وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : " إِنْ نَوَى بَعْدَ الْفَجْرِ ، وَقَبْلَ الزَّوَالِ لِصَوْمٍ

مُسْتَحَقِّ الزَّمَانِ كَشَهْرِ رَمَضَانَ ، وَالنَّذْرِ الَّذِي قَدْ تَعَيَّنَ زَمَانُهُ أَجَزَأَهُ ، فَأَمَّا مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ زَمَانُهُ كَالْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَاتِ ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ نِيَّةٍ قَبْلَ الْفَجْرِ " وَقَالَ مَالِكٌ : " عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ قَبْلَ الْفَجْرِ ، إِلَّا أَنَّهُ إِنْ نَوَى فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى لِجَمِيعِ الشَّهْرِ أَجْزَأَهُ " فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ بَعَثَ إِلَى أَهْلِ الْعَوَالِي فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيُمْسِكْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ قَالَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِنَّمَا بَعَثَ إِلَيْهِمْ فِي نَهَارِ ذَلِكَ الْيَوْمِ ، لَا فِي لَيْلِهِ مَعَ كَوْنِ عَاشُورَاءَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَرْضًا ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ النِّيَّةِ مِنَ النَّهَارِ قَالَ ، وَلِأَنَّهُ صَوْمٌ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي ذِمَّتِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَفْتَقِرَ إِلَى نِيَّةٍ مِنَ اللَّيْلِ أَصْلُهُ صَوْمُ التَّطَوُّعِ قَالَ : وَلِأَنَّهُ لَمَّا شَقَّ عَلَى النَّاسِ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مَنُوطَةً بِوَقْتِ الدُّخُولِ فِي الصَّوْمِ ، وَهُوَ طُلُوعُ الْفَجْرِ رُخِّصَ لَهُمْ فِي التَّقَدُّمِ عَلَى الْفَجْرِ ، فَكَذَلِكَ أَيْضًا جُوِّزَ لَهُمْ بِهَذَا الْمَعْنَى التَّأَخُّرُ عَنِ الْفَجْرِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ ، رِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ وَقَدْ رَوَتْ ذَلِكَ أَيْضًا عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَفِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ " لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ " وَفِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ " لِمَنْ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ " فَنَفَى أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ مَحْكُومًا بِصِحَّتِهِ إِلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ النِّيَّةِ مِنَ اللَّيْلِ ، وَلِأَنَّهُ صَوْمُ يَوْمٍ وَاجِبٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ مِنْ شَرْطِهِ مِنَ اللَّيْلِ ، كَالْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَاتِ وَلِأَنَّهُ صَوْمٌ مُسْتَحَقٌّ عَرِيَ عَنِ النِّيَّةِ لَهُ قَبْلَ الْفَجْرِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ كَالنَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تُؤَدَّى وَتُقْضَى فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ النِّيَّةِ فِي أَدَائِهَا كَمَحَلِّ النِّيَّةِ فِي قَضَائِهَا ، أَصْلُهُ الصَّلَاةُ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِحَدِيثِ عَاشُورَاءَ ، وَأَهْلِ الْعَوَالِي فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ عَاشُورَاءَ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا بَلْ كَانَ تَطَوُّعًا لِقَوْلِهِ فِيهِ : صِيَامُ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ ، وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ غَيْرُ هَذَا ، أَلَا تَرَاهُ لَمْ يَأْمُرْ مَنْ أَكَلَ بِالْقَضَاءِ مَعَ شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَى إِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِيهِ أَنْ لَوْ كَانَ وَاجِبًا ، فَدَلَّ تَرْكُهُ أَنْ يَأْمُرَ مَنْ أَكَلَ بِالْقَضَاءِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ تَطَوُّعًا . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : هُوَ أَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا لَهُمْ أَنَّهُ كَانَ فَرْضًا فَإِنَّا نَقُولُ : إِنَّ ابْتِدَاءَ فَرْضِهِمْ كَانَ مِنْ حِينَ بَلَغَهُمْ ، وَأُنْفِذَ إِلَيْهِمْ وَمِنْ حِينِئِذٍ تَعَلَّقَتْ عَلَيْهِمُ الْعِبَادَةُ ، فَلَمْ يُخَاطَبُوا بِمَا تَقَدَّمَ كَأَهْلِ قُبَاءٍ لَمَّا اسْتَدَارُوا فِي رُكُوعِهِمْ إِلَى الْكَعْبَةِ مِنْ حِينِ بَلَغَهُمْ ، سَقَطَ عَنْهُمْ حُكْمُ الِاسْتِقْبَالِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ صَلَاتِهِمْ قَبْلَ عِلْمِهِمْ . وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ : أَنَّ صَوْمَ عَاشُورَاءَ وَإِنْ كَانَ فَرْضًا فَقَدْ نُسِخَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِذَا نُسِخَ

الْحُكْمُ مِنْ شَيْءٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ شَيْءٌ قِيَاسًا أَوِ اسْتِدْلَالًا ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى التَّطَوُّعِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ صَوْمَ التَّطَوُّعِ يُجْعَلُ فِيهِ الصَّائِمُ مُتَقَرِّبًا بِبَعْضِ يَوْمٍ ، وَذَلِكَ مِنْ وَقْتِ مَا يُؤَدَّى عَلَى قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا ، وَلَا يَحْصُلُ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْوَاجِبِ . وَالثَّانِي : أَنَّ فِي الْوَاجِبِ يَلْزَمُهُ إِمْسَاكُ يَوْمِهِ أَجْمَعَ ، وَلَا يَلْزَمُهُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي التَّطَوُّعِ فَلِذَلِكَ مَا افْتَرَقَا فِي مَحَلِّ النِّيَّةِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّهُ لَمَّا شَقَّ عَلَى النَّاسِ إِنَاطَةُ النِّيَّةِ بِالْفِعْلِ وَرُخِّصَ لَهُمْ فِي التَّقَدُّمِ ، فَكَذَلِكَ رُخِّصَ لَهُمْ فِي التَّأَخُّرِ فَغَلَطٌ بَيِّنٌ ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ إِذَا جُوِّزَ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْفِعْلِ طَرَأَ عَمَلُهَا عَلَى نِيَّةٍ سَابِقَةٍ ، وَاعْتِقَادٍ مُقَرَّرٍ ، وَإِذَا تَقَدَّمَ الْفِعْلُ عَلَى النِّيَّةِ ، وَرَدَ الْفِعْلُ عَارِيًا عَنْهَا ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ تَأْخِيرُهَا ، فَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ لِصِحَّةِ مَذْهَبِهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَنَفَى جِنْسَ الصِّيَامِ لِعَدَمِ النِّيَّةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ جِنْسُهُ بِوُجُودِهَا ، قَالَ : وَلِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ عِبَادَةٌ كَالصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ ، وَأَيَّامَهُ كَالرَّكَعَاتِ فِيهَا ثُمَّ كَانَتْ نِيَّةٌ وَاحِدَةٌ تُجْزِيهِ لِجَمِيعِ الصَّلَاةِ ، فَكَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ يُجْزِئُهُ نِيَّةٌ وَاحِدَةٌ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي وَجَبَتِ النِّيَّةُ مِنْ أَجْلِهِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مَوْجُودٌ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ، وَمَا يَلِيهِ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ ، وَهُوَ أَنَّهُ صَوْمُ يَوْمٍ وَاجِبٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِهِ تَقَدُّمُ النِّيَّةِ مِنْ لَيْلَتِهِ كَالْيَوْمِ الْأَوَّلِ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تُؤَدَّى وَتُقْضَى ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدَدُ النِّيَّةِ فِي أَدَائِهَا كَعَدَدِ النِّيَّةِ فِي قَضَائِهَا أَصْلُهُ الصَّلَاةُ ؛ لِأَنَّ الْفَوَائِتَ مِنْهَا كَالْمُؤَقَّتَاتِ ، فِي إِفْرَادِ كُلِّ صَلَاةٍ مِنْهَا بِنِيَّةٍ مُجَرَّدَةٍ ، وَلِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ فِطْرٍ إِلَى صَوْمٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِهِ نِيَّةٌ تَخُصُّهُ كَالْقَضَاءِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ فِي الصَّوْمِ قَضَاءٌ وَجَبَ فِيهِ أَدَاءٌ ، كَالِامْتِنَاعِ عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ، فَأَمَّا مَا اسْتُدِلَّ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ : لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَدَلِيلُنَا ؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ تَبْيِيتَ جِنْسِ الصِّيَامِ فِي جِنْسِ اللَّيْلِ فَكُلُّ يَوْمٍ مِنَ الصِّيَامِ يُبَيَّتُ فِي جِنْسٍ مِنَ اللَّيْلِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُبَيَّتَ بِمَا يُبَيَّتُ بِهِ الْأَوَّلُ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : إِنَّهُ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ كَالصَّلَاةِ فَغَلَطٌ بَلْ كُلُّ يَوْمٍ مِنْهُ عِبَادَةٌ ؛ لِأَنْ لَا يَتَعَدَّى فَسَادُهُ إِلَى غَيْرِهِ .

تَعْيِينُ النِّيَّةِ وَاجِبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَفِي كَيْفِيَّةِ تَعْيِينِهَا وَجْهَانِ

فَصْلٌ : فَأَمَّا تَعْيِينُ النِّيَّةِ فَوَاجِبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، وَفِي كَيْفِيَّةِ تَعْيِينِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَنْوِي أَنْ يَصُومَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ فَرْضًا كَمَا يَنْوِي صَلَاةَ الظُّهْرِ ؛ لِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا فَرْضًا ، كَمَا أَنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ لَا تَكُونُ إِلَّا فَرِيضَةً . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ يَنْوِي أَنْ يَصُومَ فَرْضًا مِنْ رَمَضَانَ وَلِذَلِكَ فِي الظُّهْرِ يَنْوِي أَنْ يُصَلِّيَ فَرِيضَةَ الظُّهْرِ لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُ هَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُرَاهِقَ قَدْ يُصَلِّي الظُّهْرَ ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ ، وَلَا يَكُونَا لَهُ فَرْضًا فَافْتَقَرَتْ نِيَّتُهُ إِلَى تَعْيِينِ الْفَرِيضَةِ ، فَأَمَّا إِنْ نَوَى فِي شَهْرِ رَمَضَانَ

صَوْمًا مُطْلَقًا لَمْ يُجْزِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَوَى نَذْرًا أَوْ كَفَّارَةً أَوْ تَطَوُّعًا فتنصرف نيته لرمضان لَمْ يُجْزِهِ عَنْ رَمَضَانَ وَلَا عَمَّا نَوَاهُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ مُقِيمًا انْصَرَفَتْ نِيَّتُهُ إِلَى رَمَضَانَ ، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا صَحَّ لَهُ مَا نَوَاهُ إِلَّا أَنْ يُطْلِقَ النِّيَّةَ ، أَوْ يَنْوِيَ صَوْمَ التَّطَوُّعِ فَتَنْصَرِفُ نِيَّتُهُ إِلَى صَوْمِ رَمَضَانَ ، وَسَوَّى أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ حُكْمَ السَّفَرِ وَالْحَضَرِ ، وَصَرَفَا النِّيَّةَ فِيهِمَا إِلَى صَوْمِ رَمَضَانَ ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنْ قَالَ : زَمَانُ رَمَضَانَ مُسْتَحَقٌّ لِلصَّوْمِ وَالشَّيْءُ إِذَا تَعَيَّنَ زَمَانُ اسْتِحْقَاقِهِ لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ لَهُ كَزَمَانِ الْفِطْرِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ النِّيَّةَ إِنَّمَا يُقْصَدُ بِهَا فِي الصَّوْمِ تَمْيِيزُ إِمْسَاكِ الْعِبَادَةِ مِنْ إِمْسَاكِ الْعَادَةِ وَالتَّعْيِينُ إِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ تَعْيِينُ الْفَرْضِ مِنَ النَّفْلِ ، وَوَجَدْنَا صَوْمَ رَمَضَانَ لَا يَتَنَوَّعُ فَرْضًا وَنَفْلًا ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَفْتَقِرَ إِلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ لَهُ قَالُوا : وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْحَجِّ فِيمَنْ أَحْرَمَ بِحَجَّةِ تَطَوُّعٍ وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ أَنَّهَا تَنْتَقِلُ إِلَى فَرْضِهِ ، وَكَذَلِكَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إِذَا نَوَاهُ عَنْ نَذْرٍ وَكَفَّارَةٍ ، أَوْ تَطَوُّعٍ انْتَقَلَتْ نِيَّتُهُ إِلَى فَرْضِهِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [ الْبَقَرَةِ : ] وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْهَاءَ كِنَايَةٌ عَنِ الشَّهْرِ وَعَائِدَةٌ إِلَيْهِ ، فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ فَلْيَنْوِ الصِّيَامَ لَهُ ، وَلَوْ أَرَادَ جِنْسَ الصَّوْمِ مُطْلَقًا ، لَقَالَ : فَلْيَصُمْ فَلَمَّا قَيَّدَهُ بِالْهَاءِ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ تَعْيِينِ النِّيَّةِ لَهُ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَمَا الْأَعْمَالُ بِالنيِّاتِ ، وَإِنَمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَصَرِيحُهُ أَنَّ لَهُ مَا يَنْوِيهِ ، وَدَلِيلُهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَا لَمْ يَنْوِهِ ، وَهَذَا إِذَا نَوَى تَطَوُّعًا لَمْ يَنْوِ صَوْمَ رَمَضَانَ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ الِاحْتِسَابُ لَهُ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْوِهِ ، وَكَانَ الظَّاهِرُ يُعْطِي حُصُولَ التَّطَوُّعِ لَهُ ، غَيْرَ أَنَّ دَلِيلَ الْإِجْمَاعِ أَبْطَلَهُ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَفْتَقِرُ قَضَاؤُهَا إِلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَفْتَقِرَ أَدَاؤُهَا إِلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ ، أَصْلُهُ الصَّلَاةُ وَعَكْسُهُ الْحَجُّ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ شَرْطًا فِي الصَّوْمِ قَضَاءٌ كَانَ شَرْطًا فِيهِ أَدَاءٌ كَأَصْلِ النِّيَّةِ ، وَلِأَنَّ الْبَدَلَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُسَاوِيَ حَكَمَ مُبْدَلِهِ ، أَوْ يَكُونَ أَخَفَّ مِنْهُ وَأَضْعَفَ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ آكَدَ مِنْهُ وَأَقْوَى فَلَا ، ثُمَّ كَانَ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِي الْقَضَاءِ وَاجِبًا ، فَبِأَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فِي الْأَدَاءِ أَوْلَى ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ زَمَانَ رَمَضَانَ مُسْتَحَقُّ الصِّيَامِ ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ ، قُلْنَا فَاسِدٌ بِمَنْ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ قَدْرُ مَا يَفْعَلُهَا فِيهِ فَقَدِ اسْتَحَقَّ زَمَانَ فِعْلِهَا وَوَجَبَ عَلَيْهِ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِيهَا ثُمَّ يَبْطُلُ بِالْمُسَافِرِ ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَوْ نَوَى رَمَضَانَ عَنْ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَجَزَأَ عَمَّا نَوَاهُ ثُمَّ لَا يَلْزَمُهُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِيهِ ، فَعُلِمَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ التَّعْيِينَ إِنَّمَا يُرَادُ لِمَا يَتَنَوَّعُ فَرْضًا وَنَفْلًا ، فَيَفْسَدُ أَيْضًا بِمَنْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ فَائِتَةٌ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لَهَا ، وَإِنْ لَمْ تَتَنَوَّعْ تِلْكَ الصَّلَاةُ ، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْحَجِّ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّنَا مُجْمِعُونَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالْحَجِّ ؛ لِأَنَّ عِنْدَنَا أَنَّهُ إِذَا أَحْرَمَ بِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ انْتَقَلَ إِلَى فَرْضِهِ وَأَجْزَأَهُ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : لَا يَنْتَقِلُ عَمَّا نَوَاهُ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : إِذَا نَوَى صِيَامَ التَّطَوُّعِ انْتَقَلَ إِلَى فَرْضِهِ وَأَجْزَأَهُ ، وَعِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ إِلَى فَرْضِهِ ، وَلَا يُجْزِيهِ عَمَّا نَوَاهُ وَإِذَا وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إِجْمَاعًا لَمْ يُجْزِهِ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا

بِالْآخَرِ ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْحَجِّ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَفْتَقِرْ قَضَاؤُهُ إِلَى التَّعْيِينِ ، لَمْ يَفْتَقِرْ أَدَاؤُهُ إِلَى التَّعْيِينِ ، وَلَمَّا افْتَقَرَ قَضَاءُ الصَّوْمِ إِلَى التَّعْيِينِ افْتَقَرَ أَدَاؤُهُ إِلَى التَّعْيِينِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا وَقْتُ النِّيَّةِ في الصوم فَهُوَ اللَّيْلُ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ . وَالثَّانِي : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَلَوْ نَوَى مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَمْ يُجْزِهِ ؛ لِخُلُوِّ جُزْءٍ مِنَ النَّهَارِ عَنِ النِّيَّةِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ أَجَزْتُمْ تَقْدِيمَ النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ وَمَنَعْتُمْ مِنْ تَقْدِيمِهَا فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ ؟ قُلْنَا : لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الصَّوْمَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ بِمُرُورِ الزَّمَانِ فَشَقَّ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ النِّيَّةِ فِي ابْتِدَائِهِ ، وَسَائِرُ الْعِبَادَاتِ يَدْخُلُ فِيهَا بِفِعْلِهِ ، فَلَمْ تَلْحَقْهُ الْمَشَقَّةُ فِي مُرَاعَاةِ أَوَّلِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ ابْتِدَاءَ الصَّوْمِ طُلُوعُ الْفَجْرِ وَطُلُوعُهُ يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مَعَ كَوْنِهِمْ نِيَامًا ، فَلَوْ كُلِّفُوا مُرَاعَاتَهُ لَشَقَّ عَلَيْهِمْ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ جَمِيعَ اللَّيْلِ مَحَلٌّ لِلنِّيَّةِ ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِنْ نَوَى فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ صَحَّ صَوْمُهُ ، وَإِنْ نَوَى فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ لَمْ يَصِحَّ ، قَالَ : لِأَنَّ النِّصْفَ الْأَخِيرَ مِنْ تَوَابِعِ النَّهَارِ الْمُسْتَقْبَلِ وَالنِّصْفَ الْأَوَّلَ مِنْ تَوَابِعِ النَّهَارِ الْمَاضِي ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَذَانَ الصُّبْحِ وَرَمْيَ الْجِمَارِ يَصِحُّ فِعْلُهُمَا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ ، وَلَا يَصِحُّ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ غَلَطٌ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ عُمُومِ الْخَبَرِ ، وَلِمَا فِي مُرَاعَاةِ نِصْفِ اللَّيْلِ مِنَ الْمَشَقَّةِ ، فَأَمَّا إِذَا نَوَى الصَّوْمَ ثُمَّ أَكَلَ أَوْ جَامَعَ فَهُوَ عَلَى نِيَّتِهِ ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ : عَلَيْهِ تَجْدِيدُ النِّيَّةِ بَعْدَ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَامَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ قَبْلَ الْفَجْرِ ، لَزِمَهُ تَجْدِيدُ النِّيَّةِ ، قَالَ ؛ لِأَنَّهُ بِالْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ قَدْ خَالَفَ نِيَّتَهُ ، وَمَا عَقَدَهُ مِنَ الصَّوْمِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ : غَلَطٌ مَذْهَبًا وَحِجَاجًا ، أَمَّا الْمَذْهَبُ : فَلِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ : وَلَوْ طَلَعَ الْفَجْرُ عَلَيْهِ وَهُوَ مُجَامِعٌ أَخْرَجَ مَكَانَهُ ، وَصَحَّ صَوْمُهُ فَلَوْ لَزِمَهُ تَجْدِيدُ النِّيَّةِ لَبَطَلَ صَوْمُهُ ؛ لِأَنَّ نِيَّتَهُ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ تُصَادِفُ أَقَلَّ النَّهَارِ ، وَأَمَّا الْحِجَاجُ فَعُمُومُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ وَلِأَنَّهُ مُفْطِرٌ فِي اللَّيْلِ وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ ، فَتَرْكُهُ الْأَكْلَ وَالْجِمَاعَ مَعَ كَوْنِهِ مُفْطِرًا غَيْرُ مُفِيدٍ .

فَصْلٌ : وَلَوْ نَوَى مِنَ اللَّيْلِ صَوْمَ الْغَدِ إِنْ شَاءَ زَيْدٌ ، وَخَفَّ عَلَيْهِ وَطَابَ لَهُ فَلَا صَوْمَ لَهُ ، وَإِنْ شَاءَ زَيْدٌ وَخَفَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ هِيَ قَصْدُ الْعَمَلِ بِاعْتِقَادٍ خَالِصٍ ، وَفِي تَعْلِيقِ النِّيَّةِ بِمَشِيئَةِ زَيْدٍ عُدُولٌ عَنْ مُقْتَضَى الْعِبَادَةِ ، وَلَوْ نَوَى صَوْمَ الْغَدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَالصَّحِيحُ أَنْ لَا صَوْمَ لَهُ ؛ لِأَنَّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ اسْتِثْنَاءٌ يَرْفَعُ حُكْمَ مَا نِيطَ بِهِ ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ بِأَنَّ صَوْمَهُ جَائِزٌ لِعِلَّتَيْنِ مَدْخُولَتَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَالنِّيَّةُ اعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ ، وَالْأَقْوَالُ لَا تُؤَثِّرُ فِي اعْتِقَادَاتِ الْقُلُوبِ وَهَذَا فَاسِدٌ بِمَشِيئَةِ زَيْدٍ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110