كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

مَالِهِ وَتَفْرِقَتِهِ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، فَأَنْكَرُوهُ ، وَنَكَلُوا عَنِ الْيَمِينِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ تُرَدَّ الْيَمِينُ عَلَى الْوَصِيِّ ، لِأَنَّهُ نَائِبٌ ، وَلَا عَلَى الْفُقَرَاءِ ، لِأَنَّهُمْ لَا يَنْحَصِرُونَ . وَفِي الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ وَجْهَانِ حَكَّاهُمَا أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ أَيْضًا تَعْلِيلًا بِمَا ذَكَرْنَا . فَأَمَّا إِذَا ادَّعَى الْوَصِيُّ حَقًّا لِطِفْلٍ ، فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ذَلِكَ ، وَنَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ ، لَمْ يَحْلِفِ الْوَصِيُّ وَلَمْ يُحْكَمْ بِالنُّكُولِ وَجْهًا وَاحِدًا ، وَكَانَ رَدُّ الْيَمِينِ مَوْقُوفًا عَلَى بُلُوغِ الطِّفْلِ ، لِأَنَّ لِرَدِّ الْيَمِينِ وَقْتًا مُنْتَظَرًا . فَأَمَّا مَا أَوْجَبْنَاهُ فِي الزَّكَاةِ بِنُكُولِ رَبِّ الْمَالِ ، فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ سُقُوطِهَا عَنْهُ بَعْدَ ظُهُورِ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ ، فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي مَوَاضِعِهِ أَنَّهُ حُكْمٌ بِالظَّاهِرِ الْمُتَقَدِّمِ دُونَ النُّكُولِ الطَّارِئِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : كُلُّ حَقٍّ سُمِعَتِ الدَّعْوَى فِيهِ ، وَجَازَتِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ ، وَجَبَتِ الْيَمِينُ عَلَى مُنْكِرِهِ ، وَرُدَّتِ الْيَمِينُ بِالنُّكُولِ عَنْهُ عَلَى مُدَّعِيهِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ مَالًا ، كَالْعَيْنِ وَالدَّيْنِ ، أَوْ غَيْرَ مَالٍ ، مِنْ قِصَاصٍ ، أَوْ نِكَاحٍ ، أَوْ طَلَاقٍ ، أَوْ عِتْقٍ ، أَوْ نَسَبٍ . هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : رَحِمَهُ اللَّهُ كُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ مَالًا ، وَلَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالُ . وَذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَشْيَاءَ : النِّكَاحُ ، وَالطَّلَاقُ ، وَالرَّجْعَةُ ، وَالْفَيْئَةُ فِي الْإِيلَاءِ ، وَدَعْوَى الرِّقِّ ، وَالِاسْتِيلَادُ ، وَالنَّسَبُ ، وَالْوَلَاءُ ، وَالْقَذْفُ . وَلَا تَجِبُ الْيَمِينُ فِيهِ عَلَى الْمُنْكِرِ ، وَلَا تُرَدُّ فِيهِ أَيْضًا عَلَى الْمُدَّعِي ، فَلَوِ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا ، فَأَنْكَرَتْهُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا ، وَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا . وَلَوِ ادَّعَتْ عَلَى زَوْجِهَا طَلَاقًا ، فَأَنْكَرَهُ من يصدق قوله منهما ؟ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ . وَأَنَّ وُجُوبَ الْيَمِينِ لِيُحْكَمَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ ، وَلَا يُحْكَمُ بِالنُّكُولِ فِيمَا لَا تَصِحُّ إِبَاحَتُهُ ، فَسَقَطَتْ فِيهِ الْيَمِينُ ، وَاسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْبَذْلَ لَا يَصِحُّ فِيهَا ، وَالنُّكُولُ بَذْلٌ ، فَلَمْ يُحْكَمْ فِيهَا بِالنُّكُولِ ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ فِيهَا الْيَمِينُ قِيَاسًا عَلَى حُدُودِ اللَّهِ الْمَحْضَةِ . وَدَلِيلُنَا : رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْلَفَ رُكَانَةَ بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ حِينَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْمَةَ الْبَتَّةَ ، وَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْبَتَّةِ وَاحِدَةً ، وَلِأَنَّ كُلَّ دَعْوَى لَزِمَتِ الْإِجَابَةُ عَنْهَا وَجَبَتِ الْيَمِينُ فِيهَا كَالْقِصَاصِ ، وَلِأَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ لَا يَمْتَنِعُ فِيهَا اسْتِحْقَاقُ الْيَمِينِ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ حُقُوقِهِمْ .

فَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى أنواعها فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ الْبَتَّةَ كَحَدِّ الزِّنَى وَحَدِّ شُرْبِ الْخَمْرِ ، فَلَا تَصِحُّ الدَّعْوَى فِيهِ ، وَلَا يَلْزَمُ الْجَوَابُ عَنْهُ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِسَتْرِهِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا ، فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِ " . وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلَّا سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ يَا هَزَّالُ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالزِّنَى ، ثُمَّ رَجَعَ لَمْ يُحَدَّ ، وَلِأَنَّ الدَّعْوَى لَا تَصِحُّ إِلَّا مِنْ خَصْمٍ فِي حَقِّهِ أَوْ حَقِّ غَيْرِهِ ، وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى . فَإِنْ تَعَلَّقَ بِالزِّنَى حَقٌّ لِآدَمِيٍّ كَالْقَاذِفِ بِالزِّنَى إِذَا طُولِبَ بِالْحَدِّ ، فَقَالَ : أَنَا صَادِقٌ فِي قَذْفِهِ بِالزِّنَى ، وَادَّعَاهُ عَلَى الْمَقْذُوفِ ؛ سُمِعَتْ حِينَئِذٍ هَذِهِ الدَّعْوَى ، لِيَكُونَ الْإِقْرَارُ بِهِ مُسْقِطًا لِحَدِّ الْقَذْفِ ، فَإِنْ أَنْكَرَ الْمَقْذُوفُ أُحْلِفَ ، فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَى الْقَاذِفِ ، فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ ، وَلَمْ يَجِبْ بِيَمِينِهِ حَدُّ الزِّنَى عَلَى الْمَقْذُوفِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ : مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ ، لِسَرِقَةٍ تُوجِبُ الْغُرْمَ ، وَهُوَ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ . وَالْقَطْعُ ، وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنْ سَقَطَ الْغُرْمُ بِتَحْلِيلٍ أَوْ إِبْرَاءٍ ، لَمْ تَصِحَّ الدَّعْوَى فِيهِ حِينَئِذٍ وَسَقَطَ وُجُوبُ الْيَمِينِ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَ الْغُرْمُ بَاقِيًا صَحَّتْ فِيهِ الدَّعْوَى ، وَوَجَبَتْ فِيهِ الْيَمِينُ فَإِنْ نَكَلَ السَّارِقُ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَى الْمُدَّعِي ، فَإِذَا حَلَفَ اسْتَحَقَّ الْغُرْمَ ، وَلَمْ يَجِبِ الْقَطْعُ ، لِأَنَّ الْغُرْمَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، وَالْقَطْعَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَجْرَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَ انْفِرَادِهِ ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِالِاجْتِمَاعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مُخْتَصَرٌ مِنْ كِتَابِ الشَّهَادَاتِ وَمَا دَخَلَهُ مِنَ الرِّسَالَةِ

بَابُ مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ وَمَنْ لَا تَجُوزُ وَمَنْ يَشْهَدُ بَعْدَ رَدِّ شَهَادَتِهِ

قَبُولُ شَهَادَةٍ الْعَدْلِ

مُخْتَصَرٌ مِنْ كِتَابِ الشَّهَادَاتِ وَمَا دَخَلَهُ مِنَ الرِّسَالَةِ بَابُ مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ وَمَنْ لَا تَجُوزُ وَمَنْ يَشْهَدُ بَعْدَ رَدِّ شَهَادَتِهِ مِنَ الْجَامِعَ وَمِنِ اخْتِلَافِ الْحُكَّامِ وَأَدَبِ الْقَاضِي وَغَيْرِ ذَلِكَ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ نَعْلَمُهُ - إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَلِيلًا - يُمَحِّضُ الطَّاعَةَ وَالْمُرُوءَةَ حَتَّى لَا يَخْلِطَهُمَا بِمَعْصِيَةٍ ، وَلَا يُمَحِّضُ الْمَعْصِيَةَ وَتَرْكَ الْمُرُوءَةِ حَتَّى لَا يَخْلِطَهُمَا شَيْئًا مِنَ الطَّاعَةِ وَالْمُرُوءَةِ ، فَإِذَا كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَى الرَّجُلِ الْأَظْهَرُ مِنْ أَمْرِهِ الطَّاعَةَ وَالْمُرُوءَةَ ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ ، وَإِذَا كَانَ الْأَغْلَبُ الْأَظْهَرُ مِنْ أَمْرِهِ الْمَعْصِيَةَ وَخِلَافَ الْمُرُوءَةِ ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِنَّمَا فَصَلَ الْمُزَنِيُّ الشَّهَادَاتِ كِتَابَيْنِ ، أَوَّلًا وَثَانِيًا ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ مُتَّصِلٌ بِالْحُكْمِ فَأَضَافَهُ إِلَى أَدَبِ الْقَاضِي . وَالثَّانِي : فِي صِفَةِ الشَّاهِدِ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ أَفْرَدَهُ عَنِ الْأَوَّلِ . وَالْمَقْبُولُ الشَّهَادَةِ ، هُوَ الْعَدْلُ ، وَالْمَرْدُودُ الشَّهَادَةِ هُوَ الْفَاسِقُ ، فَأَمَّا قَبُولُ شَهَادَةٍ مِنَ الْعَدْلِ ، فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [ الطَّلَاقِ : ] . وَلِقَوْلِهِ : مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَالرِّضَا مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْعَدْلِ مُنْتَفٍ عَنِ الْفَاسِقِ . وَأَمَّا التَّوَقُّفُ عَنْ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : " إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [ الْحُجُرَاتِ : ] . وَالنَّبَأُ الْخَبَرُ . وَكُلُّ شَهَادَةٍ خَبَرٌ ، وَإِنْ لَمْ يُكُنْ كُلُّ خَبَرٍ شَهَادَةً . وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ [ السَّجْدَةِ : ] . فَالْمَنْعُ مِنَ الْمُسَاوَاةِ إِذَا أَوْجَبَ قَبُولَ الْعَدْلِ ، أَوْجَبَ رَدَّ الْفَاسِقِ ، وَقِيلَ : إِنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي الْفَاسِقِ نَزَلَتَا فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ . وَسَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ الْأُولَى فِيهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْفَذَهُ إِلَى قَبِيلَةٍ مُصْدِقًا ، فَأَخَذَ مِنْ صَدَقَتِهَا ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَوْمِ إِحَنٌ ، فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ ، وَعَادَ ، فَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ مَنَعُوهُ الصَّدَقَةَ ، وَلَمْ يَمْنَعُوهُ ، فَهَمَّ بِغَزْوِهِمْ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ : " إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا " فَكَفَّ عَنْهُمْ وَعَلِمَ بِحَالِهِمْ . وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فَسَبَبُ نُزُولِهَا : أَنَّهُ اسْتَطَالَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ

ذَاتَ يَوْمٍ وَقَالَ : أَنَا أَثْبَتُ مِنْكَ جَنَانًا ، وَأَفْصَحُ مِنْكَ لِسَانًا ، وَأَهُدُّ مِنْكَ سِنَانًا فَنَزَلَ فِيهِ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ " يَعْنِي بِالْمُؤْمِنِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَبَالْفَاسِقِ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ . لَا يَسْتَوُونَ يَعْنِي فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَمَنَازِلِ الْآخِرَةِ . وَأَمَّا اسْمُ الْعَدْلِ فَهُوَ الْعَدِيلُ ، لِأَنَّهُ مُعَادِلٌ لِمَا جَازَاهُ وَالْمُعَادَلَةُ الْمُسَاوَاةُ . وَهُوَ فِي الشَّرْعِ حَقِيقَةٌ فِيمَنْ كَانَ مَرْضِيَّ الدَّيْنِ وَالْمُرُوءَةِ لِاعْتِدَالِهِ . وَأَمَّا اسْمُ الْفَاسِقِ فَهُوَ فِي اللُّغَةِ : مَأْخُوذٌ مِنَ الْخُرُوجِ عَنِ الشَّيْءِ يُقَالُ : فَسَقَتِ الرُّطْبَةُ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرِهَا . فَسُمِّيَ الْغُرَابُ فَاسِقًا لِخُرُوجِهِ مِنْ مَأْلَفِهِ ، وَسُمِّيَتِ الْفَأْرَةُ فُوَيْسِقَةً لِخُرُوجِهَا مِنْ جُحْرِهَا . وَهُوَ فِي الشَّرْعِ حَقِيقَةٌ فِيمَنْ كَانَ مَسْخُوطَ الدِّينِ وَالطَّرِيقَةِ لِخُرُوجِهِ عَنِ الِاعْتِدَالِ .

صِفَةُ الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ

صِفَةُ الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ فَرْقُ مَا بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ ، وَجَبَ الْعُدُولُ إِلَى صِفَةِ الْعَدْلِ فيمن تقبل شهادته وَإِلَى صِفَةِ الْفَاسِقِ ، لِيَكُونَ مَنْ وُجِدَتْ فِيهِ الْعَدَالَةُ مَقْبُولًا ، وَمَنْ وُجِدَ فِيهِ الْفِسْقُ مَرْدُودًا ، فَالْعَدْلُ فِي الشَّهَادَةِ مَنْ تَكَامَلَتْ فِيهِ ثَلَاثَةُ خِصَالٍ : إِحْدَاهُنَّ : أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا ، وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ : أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا ، حُرًّا ، مُسْلِمًا . وَلَيْسَ عَدَمُ التَّكْلِيفِ وَالْحُرِّيَّةِ مُوجِبًا لِفِسْقِهِ وَإِنْ كَانَ وَجُودُهُمَا شَرْطًا فِي عَدَالَتِهِ . وَالْخَصْلَةُ الثَّانِيَةُ : كَمَالُ دَيْنِهِ ، وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ : أَنْ يَكُونَ مُحَافِظًا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَوَامِرِهِ مُجَانِبًا لِكَبَائِرِ الْمَعَاصِي غَيْرَ مُصِرٍّ عَلَى صَغَائِرِهَا . وَالْكَبَائِرُ : مَا وَجَبَتْ فِيهَا الْحُدُودُ وَتَوَجَّهَ إِلَيْهَا الْوَعِيدُ . وَالصَّغَائِرُ : مَا قَلَّ فِيهَا الْإِثْمُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [ النِّسَاءِ : ] . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [ النَّجْمِ : ] . وَفِي هَذِهِ الْكَبَائِرِ لِأَهْلِ التَّأْوِيلِ أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : مَا زُجِرَ عَنْهُ بِالْحَدِّ .

وَالثَّانِي : مَا لَا يُكَفَّرُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ . وَالثَّالِثُ : مَا رَوَاهُ شُرَحْبِيلُ عَنِ ابْنَيْ مَسْعُودٍ قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكَبَائِرِ ، فَقَالَ : أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ ، وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ ، وَأَنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ وَالرَّابِعُ : مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ : كَمِ الْكَبَائِرُ ؟ أَسَبْعٌ هِيَ ؟ قَالَ : هِيَ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ أَقْرَبُ مِنْهَا إِلَى سَبْعٍ . لَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ ، وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ إِصْرَارٍ . فَكَانَ يَرَى كَبَائِرَ الْإِثْمِ مَا لَمْ يُسْتَغْفَرِ اللَّهَ عَنْهُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ . وَأَمَّا الْفَوَاحِشُ فَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا الزِّنَى . وَالثَّانِي : أَنَّهَا جَمِيعُ الْمَعَاصِي . وَأَمَّا اللَّمَمُ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ : - أَحَدُهَا : أَنْ يَعْزِمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ثُمَّ يَرْجِعَ عَنْهَا قَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ ، تَغْفِرْ جَمًّا وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لَا أَلَمَّا " . وَالثَّانِي : أَنْ يُلِمَّ بِالْمَعْصِيَةِ يَفْعَلُهَا ثُمَّ يَتُوبَ عَنْهَا ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ اللَّمَمَ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَدٌّ فِي الدُّنْيَا ، وَلَمْ يُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ عِقَابٌ . قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالرَّابِعُ : أَنَّ اللَّمَمَ مَا دُونَ الْوَطْءِ مِنَ الْقُبْلَةِ وَالْغَمْزَةِ ، وَالنَّظْرَةِ ، وَالْمُضَاجَعَةِ . قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ . وَرَوَى طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : مَا رَأَيْتُ أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَتَبَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ حَظَّهَا مِنَ الزِّنَى أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ ، فَزِنَا الْعَيْنَيْنِ النَّظَرُ ، وَاللِّسَانِ النُّطْقُ ، هِيَ النَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ .

فَصْلٌ : وَالْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ : ظُهُورُ الْمُرُوءَةِ من أسباب العدالة . وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : ضَرْبٌ يَكُونُ شَرْطًا فِي الْعَدَالَةِ . وَضَرْبٌ لَا يَكُونُ شَرْطًا فِيهَا . وَضَرْبٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ .

وَأَمَّا مَا يَكُونُ شَرْطًا فِيهَا فَهُوَ : مُجَانَبَةُ مَا سَخُفَ مِنَ الْكَلَامِ الْمُؤْذِي أَوِ الْمُضْحِكِ وَتَرْكُ مَا قَبُحَ مِنَ الضَّحِكِ الَّذِي يَلْهُو بِهِ . أَوْ يُسْتَقْبَحُ لِمَعْرِفَتِهِ أَوْ أَدَائِهِ . فَمُجَانَبَةُ ذَلِكَ مِنَ الْمُرُوءَةِ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ فِي الْعَدَالَةِ ، وَارْتِكَابُهَا مُفْضٍ إِلَى الْفِسْقِ . وَلِذَلِكَ نَتْفُ اللِّحْيَةِ مِنَ السَّفَهِ الَّذِي تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ ، وَكَذَلِكَ خِضَابُ اللِّحْيَةِ مِنَ السَّفَهِ الَّذِي تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ ، لِمَا فِيهَا مِنْ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى . فَأَمَّا مَا لَا يَكُونُ شَرْطًا فِيهَا فَهُوَ الْإِفْضَالُ بِالْمَالِ وَالطَّعَامِ وَالْمُسَاعَدَةُ بِالنَّفْسِ وَالْجَاهِ ، فَهَذَا مِنَ الْمُرُوءَةِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْعَدَالَةِ . فَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَضَرْبَانِ : عَادَاتٌ ، وَصَنَائِعُ . فَأَمَّا الْعَادَاتُ فَهُوَ أَنْ يُقْتَدَى فِيهَا بِأَهْلِ الصِّيَانَةِ دُونَ أَهْلِ الْبَذْلَةِ ، فِي مَلْبَسِهِ وَمَأْكَلِهِ وَتَصَرُّفِهِ . فَلَا يَتَعَرَّى عَنْ ثِيَابِهِ فِي بَلَدٍ يَلْبَسُ فِيهِ أَهْلُ الصِّيَانَةِ ثِيَابَهُمْ . وَلَا يَنْزِعُ سَرَاوِيلَهُ فِي بَلَدٍ يَلْبَسُ فِيهِ أَهْلُ الصِّيَانَةِ سَرَاوِيلَهُمْ ، وَلَا يَكْشِفُ رَأْسَهُ فِي بَلَدٍ يُغَطِّي فِيهِ أَهْلُ الصِّيَانَةِ فِيهِ رُءُوسَهُمْ . وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ لَا يُجَافِي أَهْلُ الصِّيَانَةِ ذَلِكَ فِيهِ ، كَانَ عَفْوًا ، كَالْحِجَازِ وَالْبَحْرِ الَّذِي يَقْتَصِرُ أَهْلُهُ فِيهِ عَلَى لَبْسِ الْمِئْزَرِ . وَأَمَّا الْمَأْكَلُ فَلَا يَأْكُلُ عَلَى قَوَارِعِ الطُّرُقِ وَلَا فِي مَشْيِهِ ، وَلَا يَخْرُجُ عَنِ الْعُرْفِ فِي مَضْغِهِ ، وَلَا يُعَانِي بِكَثْرَةِ أَكْلِهِ . وَأَمَّا التَّصَرُّفُ فَلَا يُبَاشِرُ ابْتِيَاعَ مَأْكُولِهِ وَمَشْرُوبِهِ وَحَمْلَهُ بِنَفْسِهِ فِي بَلَدٍ يَتَجَافَاهُ أَهْلُ الصِّيَانَةِ . إِلَى نَظَائِرِ هَذَا مِمَّا فِيهِ بَذْلَةٌ وَتَرْكُ تَصَوُّنٍ . وَفِي اعْتِبَارِ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْمُرُوءَةِ فِي شُرُوطِ الْعَدَالَةِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيهَا لِإِبَاحَتِهِ . قَدْ بَاعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتَرَى فِيمَنْ يَزِيدُ ، وَاشْتَرَى سَرَاوِيلَ بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ . وَقَالَ : " يَا وَزَّانُ زِنْ وَأَرْجِحْ " . وَقَالَ الرَّاوِي : فَأَخَذْتُهُ لِأَحْمِلَهُ . فَقَالَ : " دَعْهُ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِحَمْلِهِ " . وَقِيلَ لِعَائِشَةَ : مَا كَانَ يَصْنَعُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنْزِلِهِ إِذَا خَلَا ؟ قَالَتْ : كَانَ يَخْصِفُ النَّعْلَ وَيَرْقَعُ الدَّلْوَ . وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَسْلُكُ الطَّرِيقَ فِي خِلَافَتِهِ وَهُوَ مُتَخَلِّلٌ بِعَبَاءَةٍ قَدْ رَبَطَهَا بِشَوْكَةٍ .

وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَلْبَسُ الْمُرَقَّعَةَ . وَيَهْنَأُ بِعِيرَهُ بِيَدِهِ وَيَقُودُهُ . وَقَدِ اشْتَرَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَمِيصًا وَأَتَى تَجَّارًا فَوَضَعَ كُمَّهُ وَقَالَ : اقْطَعْ مَا فَضَلَ عَنِ الْأَصَابِعِ ، فَقَطَعَهُ بِفَأْسٍ فَقِيلَ لَهُ : لَوْ كَفَفْتَهُ ؟ فَقَالَ : دَعْهُ يَتَسَلَّلْ مَعَ الزَّمَانِ . وَعَمِلَ بِالْأَجْرِ فِي حَائِطٍ وَأَجَّرَ نَفْسَهُ مِنْ يَهُودِيَّةٍ لِيَسْقِيَ كُلَّ دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ . وَمَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ جَازَ ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَادِحًا فِي الْعَدَالَةِ ، لِأَنَّ الْمُرُوءَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْمَرْءِ ، وَهُوَ الْإِنْسَانُ فَصَارَتِ الْإِشَارَةُ بِهَا إِلَى الْإِنْسَانِيَّةِ ، فَانْتَفَتِ الْعَدَالَةُ عَنْ مَنْ لَا إِنْسَانِيَّةَ فِيهِ ، وَلِأَنَّ الْمُرُوءَةَ مِنْ دَوَاعِي الْحَيَاةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنَ الْمُرُوءَةِ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ فِي الْعَدَالَةِ ، وَلِأَنَّ الْمُرُوءَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْمَرْءِ وَهُوَ الْإِنْسَانُ ، فَصَارَتِ الْإِشَارَةُ بِهَا لِلْإِنْسَانِيَّةِ ، فَانْتَفَتِ الْعَدَالَةُ عَنْ مَنْ لَا إِنْسَانِيَّةَ فِيهِ ، وَلِأَنَّ حِفْظَ الْمُرُوءَةِ مِنْ دَوَاعِي الْحَيَاءِ . وَإِنْ كَانَ لَا يَفْسُقُ بِهِ ، لِأَنَّ الْعَدَالَةَ فِي الشَّهَادَةِ لِلْفَضِيلَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهَا ، وَهِيَ تَالِيَةٌ لِفَضِيلَةِ النُّبُوَّةِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [ النِّسَاءِ : ] . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [ الْبَقَرَةِ : ] . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [ الْمَعَارِجِ : ، ] . وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ مِنَ الْفَضِيلَةِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَرْسِلًا فِي الْبَذْلَةِ . وَلَيْسَ مَا ضَلَّهُ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ بَذْلَةً ، لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ عُرْفِ أَهْلِهِ فِي الزَّهَادَةِ وَالِانْحِرَافِ عَنِ الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ . وَقَدْ رَوَى أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنَ كَلَامِ النُّبُوَّةِ : إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ " . وَلِأَنَّ إِقْدَامَهُ عَلَى الْبَذْلَةِ وَالْعُدُولَ عَنِ الصِّيَانَةِ دَلِيلٌ عَلَى اطِّرَاحِ الصِّيَانَةِ وَالتَّحَفُّظِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَقِلَّ تَحَفُّظُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَدْ نَشَأَ عَلَيْهَا مِنْ صِغَرِهِ لَمْ تَقْدَحْ فِي عَدَالَتِهِ وَإِنِ

اسْتَحْدَثَهَا فِي كَبِيرِهِ قَدَحَتْ فِي عَدَالَتِهِ ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالْمَنْشَأِ مَطْبُوعًا بِهَا وَبَالِاسْتِحْدَاثِ مُخْتَارًا لَهَا . وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ : إِنِ اخْتَصَّتْ بِالدِّينِ قَدَحَتْ فِي عَدَالَتِهِ كَالْبَوْلِ قَائِمًا وَفِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ ، وَكَشْفِ الْعَوْرَةِ إِذَا خَلَا ، وَأَنْ يَتَحَدَّثَ بِمَسَاوِئِ النَّاسِ ، وَإِنِ اخْتَصَّتْ بِالدُّنْيَا لَمْ تَقْدَحْ فِي عَدَالَتِهِ . كَالْأَكْلِ فِي الطَّرِيقِ وَكَشْفِ الرَّأْسِ " بَيْنَ النَّاسِ وَالْمَشْيِ حَافِيًا ، لِأَنَّ مُرُوءَةَ الدِّينِ مَشْرُوعَةٌ وَمُرُوءَةَ الدُّنْيَا مُسْتَحْسَنَةٌ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الصَّنَائِعُ فَضَرْبَانِ : مُسْتَرْذَلٌ وَغَيْرُ مُسْتَرْذَلٍ . فَأَمَّا غَيْرُ الْمُسْتَرْذَلِ من الصنائع كَالزِّرَاعَةِ وَالصِّنَاعَةِ ، فَغَيْرُ قَادِحٍ فِي الْعَدَالَةِ ، لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَسْتَغْنِي النَّاسُ عَنِ الِاكْتِسَابِ بِصَنَائِعِهِمْ وَمَتَاجِرِهِمْ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " إِنَّ مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَا يُكَفِّرُهُ صَوْمٌ وَلَا صَلَاةٌ وَيُكَفِّرُهُ عَرَقُ الْجَبِينِ فِي طَلَبِ الْحِرْفَةِ " . وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " الْكَادُّ عَلَى عِيَالِهِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " أَكْذَبُ النَّاسِ الصَّبَّاغُونَ وَالصَّوَّاغُونَ " . قِيلَ : هَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَيْسَ بِمُسْنَدٍ ، لِأَنَّهُ سَمِعَ قَوْمًا يَرْجُفُونَ بِشَيْءٍ فَقَالَ : كِذْبَةٌ قَالَهَا الصَّبَّاغُونَ وَالصَّوَّاغُونَ . وَإِنْ ثَبَتَ مُسْنَدًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَأْوِيلِهِ . فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لِأَنَّهُمْ يَعِدُونَ وَيَخْلُفُونَ . وَإِخْلَافُ الْوَعْدِ كَذِبٌ . وَقَالَ آخَرُونَ : لِأَنَّ الصَّبَّاغِينَ يُسَمُّونَ الْأَلْوَانَ بِمَا أَشْبَهَهَا فَيَقُولُونَ : هَذَا لَوْنُ الشَّقَائِقِ وَلَوْنُ الشَّفَقِ وَلَوْنُ النَّارِنْجِ . وَالصَّوَّاغُونَ يُسَمُّونَ الْأَشْكَالَ بِمَا يُمَاثِلُهَا ، فَيَقُولُونَ : هَذَا زَرْعٌ وَهَذَا شَجَرٌ ، وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِغَيْرِ اسْمِهِ كَذِبٌ . وَقَالَ آخَرُونَ : يُرِيدُونَ بِالصَّبَّاغِينَ الَّذِينَ يَصْبُغُونَ الْكَلَامَ فَيُغَيِّرُونَ الصِّدْقَ

بَالْكَذِبِ ، لِأَنَّ الصَّبْغَ تَغْيِيرُ اللَّوْنِ بِغَيْرِهِ . وَيُرِيدُ بِالصَّوَّاغِينَ الَّذِينَ يَصُوغُونَ الْكَلَامَ . وَمِنْهُمُ الشُّعَرَاءُ . لِأَنَّهُمْ يَكْذِبُونَ فِي التَّشْبِيهِ وَالتَّشْبِيبِ . فَإِنْ كَانُوا عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ رُدَّتْ بِهِ شَهَادَتُهُمْ ، لِأَنَّ مُخَالَفَةَ الْوَعْدِ كَذِبٌ . وَإِنْ كَانُوا عَلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي ، لَمْ تُرَدَّ بِهِ الشَّهَادَةُ ، لِأَنَّ مُخَالَفَةَ الِاسْمِ اسْتِعَارَةٌ ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى التَّأْوِيلِ الثَّالِثِ ، رُدَّتِ الشَّهَادَةُ فِي الصَّبَّاغِينَ وَلَمْ تُرَدَّ فِي الصَّوَّاغِينَ إِذَا سَلِمُوا مِنَ الْكَذِبِ . وَأَمَّا الْمُسْتَرْذَلُ مِنَ الصَّنَائِعِ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَ مُسْتَرْذَلًا فِي الدِّينِ من الصنائع كَالْمُبَاشِرِينَ لِلْأَنْجَاسِ مِنَ الْكَنَّاسِينَ وَالزَّبَّالِينَ ، وَالْحَجَّامِينَ ، أَوِ الْمُشَاهِدِينَ لِلْعَوْرَاتِ كَالْقَيِّمِ وَالْمُزَيِّنِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا كَانَ مُسْتَرْذَلًا فِي الدُّنْيَا من الصنائع كَالنَّسِيجِ وَالْحِيَاكَةِ ، وَمَا يُدَنِّسُ بِرَائِحَتِهِ كَالْقَصَّابِ وَالسَّمَّاكِ ، فَإِنْ لَمْ يُحَافِظْ هَؤُلَاءِ عَلَى إِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَثِيَابِهِمْ فِي أَوْقَاتِ صَلَوَاتِهِمْ وَقَصَّرُوا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ ، كَانَ ذَلِكَ جُرْحًا فِي عَدَالَتِهِمْ وَقَدْحًا فِي دِيَانَتِهِمْ . وَإِنْ حَافَظُوا عَلَى إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ ، وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِ الْعَدَالَةِ ، فَفِي قَدْحِ ذَلِكَ فِي عَدَالَتِهِمْ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَقْدَحُ فِيهَا ، لِأَنَّ الرِّضَا بِهَا مَعَ الِاسْتِرْذَالِ قَدْحٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ النَّاسُ مِنْهَا بُدًّا . وَلِأَنَّهَا مُسْتَبَاحَةٌ شَرْعًا . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ مِنْهَا مَا اسْتُرْذِلَ فِي الدِّينِ . وَلَا يَقْدَحُ فِيهَا مَا اسْتُرْذِلَ فِي الدُّنْيَا ، لَا سِيَّمَا الْحِيَاكَةِ لِكَثْرَةِ الْخَيْرِ فِي أَهْلِهَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ شُرُوطِ الْعَدَالَةِ وَأَنَّهَا فِعْلُ الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابُ الْمَعَاصِي ، وَلُزُومُ الْمُرُوءَةِ ، عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا . فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : " لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ نَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَلِيلًا يُمَحِّضُ الطَّاعَةَ وَالْمُرُوءَةَ . حَتَّى لَا يَخْلِطَهُمَا بِمَعْصِيَةٍ ، وَلَا يُمَحِّضُ الْمَعْصِيَةَ وَتَرْكَ الْمُرُوءَةِ حَتَّى لَا يَخْلِطَهُمَا بِشَيْءٍ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْمُرُوءَةِ " . وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ فِي غَرَائِزِ أَنْفُسِهِمْ دَوَاعِيَ الطَّاعَاتِ وَدَوَاعِيَ الْمَعَاصِي فَلَمْ يَتَمَحَّضْ وُجُودُ أَحَدِهِمَا مَعَ اجْتِمَاعِ سَبَبِهِمَا وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : مَنْ لَكَ بِالْمَحْضِ وَلَيْسَ مَحْضٌ يَحِيقُ بَعْضٌ وَيَطِيبُ بَعْضُ

وَلِأَنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ الْأَنْبِيَاءُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [ طَهَ : ] . وَقَالَ تَعَالَى وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ [ صَ : ] . وَقَالَ : وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ [ يُوسُفَ : ] . وَقَالَ تَعَالَى فِي يُونُسَ : لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [ الْأَنْبِيَاءِ : ] . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَا مِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا مَنْ عَصَى اللَّهَ أَوْ هَمَّ بِمَعْصِيَةٍ إِلَّا أَخِي يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا " . وَقِيلَ : إِنَّهُ اخْتُبِرَ يَحْيَى فِي كُوزِ مَاءٍ رَآهُ مَمْلُوءًا وَفَرَغَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ . وَقِيلَ لَهُ : مَا فِي الْكُوزِ ، فَقَالَ : كَانَ فِيهِ مَاءٌ . وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ مَاءٌ فَيَكُونُ كَذِبًا فَتَحَفَّظَ حَتَّى سَلِمَ . وَلِأَنَّ أَعْصَى خَلْقِ اللَّهِ إِبْلِيسُ ، وَقَدْ كَانَتْ مِنْهُ طَاعَةٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ ص : ، ] . وَإِذَا لَمْ يَسْلَمْ أَحَدٌ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ الْعَدَالَةُ مَقْصُورَةً عَلَى خُلُوصِ الطَّاعَاتِ . وَلَا الْفِسْقُ مَقْصُورًا عَلَى خُلُوصِ الْمَعَاصِي . لِامْتِنَاعِ خُلُوصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا . وَلَا اعْتِبَارَ بِالْمُمْتَنِعِ فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ الْأَغْلَبُ مِنْ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ . فَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَيْهِ الطَّاعَةَ وَالْمُرُوءَةَ . حُكِمَ بِعَدَالَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ ، وَإِنْ عَصَى بِبَعْضِ الصَّغَائِرِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَيْهِ الْمَعْصِيَةَ وَتَرْكَ الْمُرُوءَةِ ، حُكِمَ بِفِسْقِهِ وَرَدِّ شَهَادَتِهِ وَإِنْ أَطَاعَ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [ الْمُؤْمِنُونَ : ، ] . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [ الْبَقَرَةِ : ] . فَغَلَّبَ حُكْمَ الْأَغْلَبِ كَمَا غَلَّبَ فِي الْإِبَاحَةِ وَالْحَظْرِ حُكْمَ الْأَغْلَبِ وَفِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ إِذَا اخْتَلَطَ بِمَائِعٍ . وَفِي نِكَاحِ النِّسَاءِ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِأُخْتٍ إِنْ كَانَتْ فِي عَدَدٍ مَحْصُورٍ ، حُرِّمْنَ عَلَيْهِ حَتَّى تَتَعَيَّنَ لَهُ مَنْ لَيْسَتْ بِأُخْتٍ فَتَحِلَّ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي جَمٍّ غَفِيرٍ حَلَلْنَ لَهُ حَتَّى تَتَعَيَّنَ لَهُ مَنْ هِيَ أُخْتٌ فَتَحْرُمَ .

فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَغْلَبِ أَصْلًا مُعْتَبَرًا فِي الْعَدَالَةِ وَالْفِسْقِ .

مَسْأَلَةٌ الْعَدَالَةَ فِي الشَّهَادَةِ مُعْتَبَرَةٌ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يُقْبَلُ الشَّاهِدُ حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدَهُ بِخَبَرٍ مِنْهُ أَوْ بَيِّنَةٍ أَنَّهُ حُرٌّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ تَقَرَّرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَدَالَةَ فِي الشَّهَادَةِ مُعْتَبَرَةٌ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : بِدِينِهِ ، وَمُرُوءَتِهِ ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا . فَأَمَّا اعْتِبَارُهَا بِدِينِهِ ، فَيَكُونُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنْ يُواظِبَ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَجْتَنِبَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْمَعَاصِي مِنَ الزِّنَى وَاللِّوَاطِ وَالْقَتْلِ وَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا يُصِرَّ عَلَى صَغَائِرِ الْمَعَاصِي ، وَإِصْرَارُهُ عَلَيْهَا الْإِكْثَارُ مِنْهَا وَقِلَّةُ الِانْقِبَاضِ عَنْهَا ، وَهَذَا مُعْتَبَرٌ فِيهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ، وَثُبُوتُهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ قَدْ يَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْلَمَهُ مِنْ حَالِهِ ، فَيَجُوزَ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ بِعِلْمِهِ سَوَاءٌ قِيلَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ أَمْ لَا . لِأَنَّهَا صِفَةُ إِخْبَارٍ تَتَقَدَّمُ عَلَى الْحُكْمِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَجْهَلَ حَالَهُ فَتَثْبُتَ عَدَالَتُهُ بِالْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ عَلَى مَا وَصَفْنَا فِي أَدَبِ الْقَاضِي . مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ بِهِ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ بِعَدَالَتِهِ بِقَوْلِهِ : إِنَّنِي عَدْلٌ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِفِسْقِهِ بِقَوْلِهِ : إِنِّي فَاسِقٌ . لِأَنَّهُ مَتْهُومٌ فِي التَّعْدِيلِ وَغَيْرُ مَتْهُومٍ فِي الْجَرْحِ ، لِأَنَّ الْعَدَالَةَ تُوجِبُ لَهُ حَقًّا ، وَالْفِسْقَ يُوجِبُ عَلَيْهِ حَقًّا .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمُرُوءَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يُعْتَبَرُ فِيهَا مِنَ الْمُرُوءَةِ فِي الْعَدَالَةِ وَمَا لَا يُعْتَبَرُ . وَلَيْسَ لِمَا لَا يُعْتَبَرُ مِنْهَا تَأْثِيرٌ . وَأَمَّا الْمُعْتَبَرُ مِنْهَا ، فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَفْعَالِ الْعَدْلِ . فَإِنْ عَرَفَهُ الْحَاكِمُ عَمِلَ فِيهَا بِمَعْرِفَتِهِ . وَإِنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ سَأَلَ عَنْهَا . وَهَلْ تَثْبُتُ عِنْدَهُ بِخَبَرٍ أَوْ شَهَادَةٍ ؟ مروءة الشاهد عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَثْبُتُ عِنْدَهُ . إِلَّا بِشَهَادَةٍ ، كَالْعَدَالَةِ فِي الدِّينِ ، وَلَا تَثْبُتُ إِلَّا بِشَاهِدَيْ عَدْلٍ قَدْ جَرَّبَاهُ عَلَى قَدِيمِ الْوَقْتِ وَحَدِيثِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا خَبَرٌ تَثْبُتُ بِقَوْلِ مَنْ يُوثَقُ بِهِ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا ، لِأَنَّ الْعَدَالَةَ فِي الدِّينِ بَاعِثَةٌ عَلَيْهَا . فَقَوِيَ الْخَبَرُ بِهَا فَأَقْنَعَ .

وَأَمَّا كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ فِي الدِّينِ فَتَكُونُ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ : بِبُلُوغِهِ ، وَعَقْلِهِ ، وَإِسْلَامِهِ ، وَحُرِّيَّتِهِ شروط الشاهد . فَأَمَّا الْبُلُوغُ ، فَإِنْ لَمْ يُشْتَبَهْ حَالُهُ فِيهِ لِكَوْنِهِ رَجُلًا مُشْتَدًّا فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ ، وَإِنِ اشْتَبَهَتْ حَالُهُ فِيهِ ، لِكَوْنِهِ رَجُلًا أَمْرَدَ ، فَحَكَمَ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بِبُلُوغِهِ يَكُونُ مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ شَوَاهِدُ الْبُلُوغِ بِالْإِثْبَاتِ ، إِذَا جُعِلَ الْإِثْبَاتُ فِي الْمُسْلِمِ بُلُوغًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَعْرِفَ الْحَاكِمُ سِنَّهُ فَيَحْكُمَ بِبُلُوغِهِ إِذَا اسْتَكْمَلَ سِنَّ الْبُلُوغِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَشْهَدَ بِبُلُوغِهِ شَاهِدَا عَدْلٍ فَيَحْكُمَ بِبُلُوغِهِ إِذَا اسْتَكْمَلَ سِنَّ الْبُلُوغِ فَتَكُونَ شَهَادَةً لَا خَبَرًا . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَقُولَ الْغُلَامُ : قَدْ بَلَغْتُ فَيُحْكَمَ بِبُلُوغِهِ فَتَكُونَ شَهَادَةٌ بِقَوْلِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَبْلُغُ بِالِاحْتِلَامِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ تَتَغَلَّظُ أَحْكَامُهُ بِتَوَجُّهِ التَّكْلِيفِ إِلَيْهِ فَكَانَ غَيْرَ مُتَّهَمٍ فِيهِ . وَأَمَّا الْعَقْلُ فَيُعْلَمُ مُشَاهَدَةً بِظُهُورِ نَتَائِجِهِ ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ إِنْ خَفِيَ لِإِمْكَانِ اخْتِبَارِهِ مَعَ الِاشْتِبَاهِ . حُكِيَ أَنَّ امْرَأَةً حَضَرَتْ عِنْدَ شُرَيْحٍ فِي مُحَاكَمَةٍ ، فَقِيلَ لَهُ : إِنَّهَا مَجْنُونَةٌ . فَقَالَ لَهَا مُخْتَبِرًا : أَيُّ رِجْلَيْكِ أَطْوَلُ ؟ فَمَدَّتْهُمَا لِتُقَدِّرَهُمَا ، فَصَرَفَهَا وَحَكَمَ بِعَقْلِهَا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْإِسْلَامُ من شروط الشاهد فَيُعْلَمُ بِأَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُعْلَمَ إِسْلَامُ أَحَدِ أَبَوَيْهِ أَوْ كِلَيْهِمَا قَبْلَ بُلُوغِهِ فَيُحْكَمَ بِإِسْلَامِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَتَلَفَّظَ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَيُحْكَمَ بِإِسْلَامِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُرَى مُصَلِّيًا فِي مَسَاجِدِنَا عَلَى قَدِيمِ الْوَقْتِ وَحَدِيثِهِ فَيُحْكَمَ بِإِسْلَامِهِ بِظَاهِرِ الْحَالِ لَا بِالصَّلَاةِ لِأَنَّنَا لَا نَحْكُمُ بِإِسْلَامِ الْكَافِرِ إِذَا صَلَّى . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَقُولَ إِنَّنِي مُسْلِمٌ فَيُحْكَمَ بِإِسْلَامِهِ . وَهَلْ يَحْتَاجُ إِلَى اخْتِبَارِهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ الْجَهْلِ بِحَالِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُخْتَبَرُ بِهِمَا لِأَنَّهُ أَحْوَطُ . وَالثَّانِي : لَا يَلْزَمُ اخْتِبَارُهُ بَعْدَ إِقْرَارِهِ لِجَرَيَانِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ إِنْ أَنْكَرَ فَإِنْ عَلِمَ

الْحَاكِمُ إِسْلَامَهُ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ حُكِمَ بِهِ . وَإِنْ جَهِلَهُ وَقَامَتِ الْبَيِّنَةُ بِإِسْلَامِهِ حُكِمَ بِهِ . وَلَمْ يُسْأَلِ الشُّهُودُ عَنْ سَبَبِ إِسْلَامِهِ . فَأَمَّا إِذَا شُوهِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى قَدِيمِ الْوَقْتِ وَحَدِيثِهِ ، حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ فِي الظَّاهِرِ . مَا لَمْ يُعْلَمْ كُفْرُهُ ، لِأَنَّ مَيِّتًا لَوْ وُجِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، مَجْهُولَ الْحَالِ ، وَجَبَ غَسْلُهُ وَتَكْفِينُهُ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَدَفْنُهُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ الدَّارِ . وَهَلْ يَكُونُ الْحُكْمُ بِإِسْلَامِهِ فِي الظَّاهِرِ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ بِإِسْلَامِهِ فِي الْبَاطِنِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ فِي الْبَاطِنِ تَبَعًا ، فَيَرِثُ وَيُورَثُ مِنْ غَيْرِ اسْتِكْشَافٍ عَنْ إِسْلَامِهِ اكْتِفَاءً بِظَاهِرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ حُكِمَ بِهِ فِي الظَّاهِرِ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْكُفْرِ قُبِلَ مِنْهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ ، وَلَوْ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ فِي الْبَاطِنِ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ بِالْكُفْرِ . وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الرِّدَّةِ ، وَهَذَا أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ . وَإِنْ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ، لَمْ يُسْأَلْ عَنْ إِسْلَامِهِ إِنْ شَهِدَ وَسُئِلَ عَنْ عَدَالَتِهِ . وَإِنْ حُكِمَ بِهِ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ ، سُئِلَ عَنْ إِسْلَامِهِ ثُمَّ عَنْ عَدَالَتِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ . فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهَا شَرْطٌ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ ، وَلَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَدَالَةِ الحرية ، لِأَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ فِي الْفُتْيَا وَالْأَخْبَارِ وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ فِي الشَّهَادَةِ . وَحُرِّيَّتُهُ تُعْلَمُ مِنْ وَجْهَيْنِ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِمَا ، وَثَالِثٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَلِدَهُ حُرَّةٌ فَيَكُونَ حُرَّ الْأَصْلِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُعْتِقَهُ مَالِكٌ فَيَصِيرَ حُرًّا بَعْدَ الرِّقِّ . وَالثَّالِثُ : الْمُخْتَلَفُ فِيهِ : أَنْ يَقُولَ : أَنَا حُرٌّ ، فَفِي ثُبُوتِ حُرِّيَّتِهِ بِقَوْلِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ : لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدَهُ بِخَبَرٍ مِنْهُ أَوْ بَيِّنَةٍ أَنَّهُ حُرٌّ ، فَكَانَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ خَبَرَهُ فِي حُرِّيَّتِهِ مَقْبُولٌ ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ فِي إِسْلَامِهِ مَقْبُولًا ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الدَّارِ إِسْلَامُ أَهْلِهَا ، كَانَ قَوْلُهُ فِي حُرِّيَّتِهِ مَقْبُولًا . لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ حُرِّيَّةُ أَهْلِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ فِي حُرِّيَّتِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ فِي إِسْلَامِهِ مَقْبُولًا . وَهَذَا أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ .

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ ، أَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِسْلَامَ إِذَا كَانَ كَافِرًا ، فَمَلَكَ الْإِقْرَارَ بِهِ . وَلَمْ يَمْلِكِ الْحُرِّيَّةَ إِذَا كَانَ عَبْدًا ، فَلَمْ يَمْلِكِ الْإِقْرَارَ بِهَا . وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " إِلَّا بِخَبَرٍ مِنْهُ " : يَعْنِي مِنَ الْحَاكِمِ : لِأَنْ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَعْمَلَ بِعِلْمِهِ فِي أَسْبَابِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا . وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ يَحْمِلُ الْجَمِيعَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ ، هَلِ الْحَكَمُ يَعْمَلُ فِيهِمَا بِعِلْمِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمَعْنَى . فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : وَلَا يُقْبَلُ الشَّاهِدُ حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدَهُ بِخَبَرٍ مِنْهُ أَوْ بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ أَنَّهُ حُرٌّ . فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِهِ بِنَفْيِ الْقَبُولِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ حَتَّى يَعْلَمَ حُرِّيَّةَ الشَّاهِدِ وَإِسْلَامَهُ فَيَسْمَعُهَا ثُمَّ يَسْأَلُ عَنْ عَدَالَتِهِ بِظُهُورِ الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ ، وَخَفَاءِ الْعَدَالَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُحْكَمُ بِهَا حَتَّى يَعْلَمَ حُرِّيَّتَهُ وَإِسْلَامَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَهَا قَبْلَ الْعِلْمِ بِحُرِّيَّتِهِ وَإِسْلَامِهِ كَالْعَدَالَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ جَارٍ إِلَى نَفْسِهِ وَلَا دَافِعٍ عَنْهَا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ جَارٍ إِلَى نَفْسِهِ وَلَا دَافِعٍ عَنْهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . لِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ : أَنْ يَخْلُوَ مِنَ التُّهَمِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا [ الْبَقَرَةِ : ] . وَالتُّهْمَةُ رِيبَةٌ . وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ وَلَا ذِي الْإِحْنَةِ " فَالْخَصْمُ الْمُنَازِعُ ، وَالظَّنِينُ : الْمُتَّهَمُ ، وَذِي الْإِحْنَةِ : الْعَدُوُّ . فَمِنَ الْمَتْهُومِينَ فِي الشَّهَادَةِ وَإِنْ كَانُوا عُدُولًا ، مَنْ يَجُرُّ بِشَهَادَتِهِ إِلَى نَفْسِهِ نَفْعًا ، أَوْ يَدْفَعُ عَنْهَا ضَرَرًا . فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ . فَمِنْ جَرِّ النَّفْعِ ، أَنْ يَشْهَدَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ أَوْ مُكَاتَبِهِ من لا تقبل شهادته ، لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِمَالِكِ عَبْدِهِ ، وَمُسْتَحِقٌّ أَخْذَ الْمَالِ مِنْ مُكَاتَبِهِ لِجَوَازِ عَوْدِهِ إِلَى رِقِّهِ . وَمِنْهَا أَنْ يَشْهَدَ الْوَكِيلُ لِمُوَكِّلِهِ فِيمَا هُوَ وَكِيلٌ فِيهِ من لا تقبل شهادته ، لِجَوَازِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ إِذَا ثَبَتَ ، فَكَانَ نَفْعًا . وَفِي جَوَازِ شَهَادَتِهِ لَهُ فِي غَيْرِ مَا هُوَ وَكِيلٌ فِيهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ ، لِعَدَمِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالنِّيَابَةِ عَنْ ذِي الْحَقِّ مَتْهُومًا وَمِنْهَا شَهَادَةُ الْوَلِيِّ لِلْمُولَّى عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ قَامَ مَقَامَهُ فِي النِّيَابَةِ عَنْهُ . وَمِنْهَا شَهَادَةُ الْوَصِيِّ لِلْمُوصِي بَعْدَ مَوْتِهِ من لا تقبل شهادته أَوْ لِأَبِيهِ عَلَى مَا شَهِدَ بِهِ ، وَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ لِعَدَمِ وَلَايَتِهِ . وَمِنْهَا شَهَادَةُ " الْمُوصَى لَهُ بِحَقٍّ " لِلْمُوصِي " بَعْدَ مَوْتِهِ من لا تقبل شهادته " إِذَا كَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِحَقِّ وَصِيَّتِهِ . وَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ ؟ فَإِنْ شَهِدَ لَهُ بِمَا لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَجْهًا وَاحِدًا . بِخِلَافِ الْوَكِيلِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، لِأَنَّ الْوَكِيلَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَقَرَّبَ بِشَهَادَتِهِ إِلَى مُوَكِّلِهِ ، وَالْمُوصَى لَهُ لَا يَتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى الْمُوصِي بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَصَارَ الْوَكِيلُ مَتْهُومًا وَالْمُوصَى لَهُ غَيْرُ مَتْهُومٍ . وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ لِلشَّاهِدِ عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ دَيْنٌ ، فَيَشْهَدَ لَهُ بِدَيْنٍ عَلَى غَيْرِهِ ، فَلِلْمَشْهُودِ لَهُ حَالَتَانِ : مُوسِرٌ ، وَمُعْسِرٌ . فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ لَهُ ، لِأَنَّهُ لَا يَجُرُّ بِهَا نَفْعًا لِوُصُولِهِ إِلَى دَيْنِهِ مِنْ يَسَارِهِ . وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا ، فَلَهُ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يُحْكَمَ بِفَلَسِهِ ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ . لِأَنَّ مَا شَهِدَ بِهِ مِنَ الدَّيْنِ صَائِرٌ إِلَيْهِ . فَصَارَ نَفْعًا يَتَرَحَّمُ بِهِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ لَا يُحْكَمَ بِفَلَسِهِ ، فَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ لَهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ : لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِهَا مُطَالَبَةَ الْمُعْسِرِ بِدَيْنِهِ كَالْمَحْكُومِ بِفَلَسِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : قَالَهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِي : تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ وَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ إِذَا حُكِمَ بِفَلَسِهِ . وَفَرَّقَا بَيْنَ الْمُعْسِرِ وَالْمَحْكُومِ بِفَلَسِهِ بِأَنَّهُ قَدْ حُكِمَ لَهُ بِمَالِ التَّفْلِيسِ وَلَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِمَالِ الْمُعْسِرِ ، وَهَذَا الْفَرْقُ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَسَاوِيهِمَا فِي غَيْرِهِ ، وَهُوَ وُصُولُهُ إِلَى حَقِّهِ بَعْدَ تَعَذُّرِهِ . وَمِنْهَا شَهَادَةُ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ ، فِيمَا هُوَ يُشْرِكُهُ فِيهِ ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ . فَإِنْ شَهِدَ لَهُ بِمَا لَيْسَ بِشَرِيكٍ ، جَازَ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ ، لِأَنَّ لِلْوَكِيلِ نِيَابَةً وَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ نِيَابَةٌ . وَلِهَذَا نَظَائِرُ تَجْرِي عَلَى حُكْمِهَا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا دَفْعُهُ بِشَهَادَةٍ لَهُ ضَرَرًا ، فَهِيَ الشَّهَادَةُ بِضِدِّ مَا ذَكَرْنَا فِي ضِدِّهِ فَمِنْهَا شَهَادَةُ

السَّيِّدِ بِجَرْحِ مَنْ شَهِدَ عَلَى عَبْدِهِ أَوْ مُكَاتَبِهِ من لا تقبل شهادته ، لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِهَا نَقْصًا فِي حَقِّهِ . وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الْوَكِيلِ بِجَرْحِ شُهُودٍ شَهِدُوا عَلَى مُوَكِّلِهِ من لا تقبل شهادته . وَمِنْهَا شَهَادَةُ الْوَصِيِّ بِالْإِبْرَاءِ مِنْ دَيْنٍ كَانَ عَلَى الْمُوصِي من لا تقبل شهادته : لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِهَا الْمُطَالَبَةَ عَنْ نَفْسِهِ . وَمِنْهَا أَنْ يَشْهَدَ الْمُوصَى لَهُ بِعَزْلِ مُشَارِكٍ لَهُ فِي الْوَصِيَّةِ من لا تقبل شهادته : لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِهَا مُزَاحَمَتَهُ فِي الْوَصِيَّةِ . وَمِنْهَا أَنْ يَشْهَدَ غُرَمَاءُ الْمُفْلِسِ بِالْإِبْرَاءِ مِنْ دَيْنٍ كَانَ عَلَى الْمُفْلِسِ من لا تقبل شهادته ، لِأَنَّهُمْ يَدْفَعُونَ بِهَا مُزَاحَمَةَ صَاحِبِ الدَّيْنِ لَهُمْ . وَمِنْهَا أَنْ تَشْهَدَ الْقَافِلَةُ بِجَرْحِ شُهُودٍ شَهِدُوا بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ من لا تقبل شهادته ، لِأَنَّهُمْ يَدْفَعُونَ بِهَا تَحَمُّلَ الدِّيَةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ . إِلَى نَظَائِرِ هَذَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ الْعَدُوِّ وَالْخَصْمِ

الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ الْعَدُوِّ وَالْخَصْمِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا عَلَى خَصْمٍ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ مَوْضِعُ عَدَاوَةٍ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا شَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ فَمَرْدُودَةٌ لَا تُقْبَلُ ، وَأَجَازَهَا أَبُو حَنِيفَةَ ، احْتِجَاجًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] . فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ ، وَلِأَنَّ الدِّينَ وَالْعَدَالَةِ يَمْنَعَانِ مِنَ الشَّهَادَةِ بِالزُّورِ . وَلِأَنَّ الْعَدَاوَةَ إِنْ كَانَتْ فِي الدِّينِ لَمْ تَمْنَعْ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ ، كَمَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ مَعَ ظُهُورِ الْعَدَاوَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا فَهِيَ أَسْهَلُ مِنْ عَدَاوَةِ الدِّينِ فَكَانَتْ أَوْلَى أَنْ تُقْبَلَ . وَدَلِيلُنَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقُومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا . وَالْعَدَاوَةُ مِنْ أَقْوَى الرَّيْبِ . وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ وَلَا زَانٍ وَلَا زَانِيَةٍ وَلَا ذِي غَمْرٍ عَلَى أَخِيهِ " . وَالْغَمْرُ : الْعَدَاوَةُ ، وَهَذَا نَصٌّ . وَلِأَنَّهَا شَهَادَةٌ تَقْتَرِنُ بِتُهْمَةٍ ، فَلَمْ تُقْبَلْ كَشَهَادَةِ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ .

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ عُمُومِ الْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَخْصِيصُهَا بِأَدِلَّتِنَا . وَالثَّانِي : حَمْلُهَا عَلَى التَّحَمُّلِ دُونَ الْأَدَاءِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ أَنَّ الدِّينَ وَالْعَدَالَةَ يَمْنَعَانِ مِنَ الشَّهَادَةِ بِالزُّورِ ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَمَّا لَمْ يَبْعَثْ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ ، لَمْ يُوجِبْ قَبُولَ شَهَادَةِ الْعَدُوِّ عَلَى عَدْوِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّ الْعَدَاوَةَ فِي الدُّنْيَا أَسْهَلُ : فَهُوَ أَنَّ الْعَدَاوَةَ فِي الدِّينِ تَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ بِمُوجِبِهِ فَزَالَتِ التُّهْمَةُ فِيهِ . وَالْعَدَاوَةُ فِي الدُّنْيَا أَغْلَظُ لِلْعُدُولِ بِهَا عَنْ أَحْكَامِ الدِّينِ . وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ الْمَقْذُوفِ عَلَى الْقَاذِفِ ، وَلَا الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَلَا الْمَسْرُوقِ مِنْهُ عَلَى السَّارِقِ ، وَوَلِيِّ الْمَقْتُولِ عَلَى الْقَاتِلِ ، وَالزَّوْجِ عَلَى امْرَأَتِهِ إِذَا زَنَتْ فِي فِرَاشِهِ ، إِلَى نَظَائِرِ هَذَا . وَإِذَا مَنَعَتِ الْعَدَاوَةُ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْعَدُوِّ ، لَمْ تَمْنَعْ مِنَ الشَّهَادَةِ لَهُ ، لِأَنَّهُ مَتْهُومٌ فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ وَغَيْرُ مَتْهُومٍ فِي الشَّهَادَةِ لَهُ . لِأَنَّ مَا بَعَثَ عَلَى الْعَدَاوَةِ لَا يَكُونُ جَرْحًا تَسْقُطُ بِهِ الشَّهَادَةُ .

الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ الْخَصْمِ عَلَى خَصْمِهِ

الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ الْخَصْمِ عَلَى خَصْمِهِ : فَصْلٌ : وَأَمَّا شَهَادَةُ الْخَصْمِ عَلَى خَصْمِهِ ، فَتُرَدُّ فِيمَا هُوَ خَصْمٌ فِيهِ ، لِرِوَايَةِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ وَلَا ذِي الْإِحْنَةِ " . وَلِأَنَّ الْخُصُومَةَ تُئُولُ إِلَى الْعَدَاوَةِ ، وَالْعَدَاوَةُ تَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لِخَصْمِهِ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ . فَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ وَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ قَذَفَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ الشَّاهِدَ فَصَارَ بِالْقَذْفِ خَصْمًا قَبْلَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ ، لَمْ تُرَدَّ وَجَازَ الْحُكْمُ بِهَا مَعَ حُدُوثِ الْخُصُومَةِ وَالْعَدَاوَةِ ، بِخِلَافِ حُدُوثِ الْفِسْقِ قَبْلَ الْحُكْمِ بِالشُّهُودِ ، وَلِأَنَّ حُدُوثَ الْخُصُومَةِ وَالْعَدَاوَةِ لَيْسَ بِجَرْحٍ يُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ ، وَلَوْ مَنَعَ حُدُوثَ ذَلِكَ مِنَ الْحُكْمِ بِهَا لَمَا صَحَّتْ شَهَادَةٌ عَلَى أَحَدٍ ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِسْقَاطِهَا بِحُدُوثِ نِزَاعٍ وَخُصُومَةٍ وَمَا أَدَّى إِلَى هَذَا بَطَلَ اعْتِبَارُهُ .

شَهَادَةُ الصِّدِّيقِ لِصَدِيقِهِ

شَهَادَةُ الصِّدِّيقِ لِصَدِيقِهِ : فَصْلٌ : وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الصَّدِيقِ لِصَدِيقِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُلَاطِفًا ، وَالْمُلَاطِفُ : الْمُهَادِي ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ .

وَقَالَ مَالِكٌ : لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الصَّدِيقِ الْمُلَاطِفِ لِصَدِيقِهِ ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ غَيْرِ الْمُلَاطِفِ ، لِتَوَجُّهِ التُّهْمَةِ إِلَيْهِ بِأَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِمَالٍ يَصِيرُ إِلَيْهِ بِالْمُلَاطَفَةِ بَعْضُهُ ؛ فَصَارَ جَارًّا بِهَا نَفْعًا . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ الْمَوَدَّةَ مَأْمُورٌ بِهَا ، وَالْهَدِيَّةُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا . فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ وُرُودُ الشَّرْعِ بِهَا مُوجِبًا لِرَدِّ الشَّهَادَةِ ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَارَقَ الْعَدُوَّ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِالنَّهْيِ عَنِ الْعَدَاوَةِ . وَلِأَنَّ ذَوِي الْأَنْسَابِ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَيْهِمْ بِالْمِيرَاثِ ، فَأُشْهِدُوا بِهِ وَسَائِرِ أَمْوَالِهِ ، ثُمَّ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ . وَالصَّدِيقُ الْمُلَاطِفُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ . وَلَا وَجْهَ لِمَا ذَكَرَ مِنْ جَوَازِ عَوْدِهِ إِلَى الصَّدِيقِ بِالْهَدِيَّةِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُهَادِيَهُ أَوْ لَا يُهَادِيَهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ مُهَادَاتِهِ وَيَجُوزُ إِذَا هَادَاهُ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ أَمْوَالِهِ فَلَمْ يَكُنْ لِتَعْلِيلِ الْمَنْعِ بِهَذَا وَجْهٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِمَوْلُودِيهِ بِهِ وَإِنْ سَفُلُوا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا لِوَلَدِ بَنِيهِ ، وَلَا لِوَلَدِ بَنَاتِهِ ، وَإِنْ سَفُلُوا ، وَلَا لِآبَائِهِ وَأُمَّهَاتِهِ وَإِنْ بَعُدُوا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِمَوْلُودِيهِ بِهِ وَإِنْ سَفُلُوا ، وَلَا شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدَيْهِ وَإِنْ بَعُدُوا . وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ ، وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ : شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَالْوَلَدِ لِوَالِدِهِ جَائِزَةٌ . وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ احْتِجَاجًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [ النِّسَاءِ : ] . وَلَا يُؤْمَرُ بِالْقِسْطِ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ إِلَّا وَهِيَ مَقْبُولَةٌ وَلِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - حَاكَمَ يَهُودِيًّا إِلَى شُرَيْحٍ فِي دِرْعٍ ادَّعَاهُ فِي يَدِهِ فَأَنْكَرَهَا . فَشَهِدَ لَهُ ابْنُهُ الْحَسَنُ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ فَرَدَّ شَهَادَتَهُ . وَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، كَيْفَ أَقْبَلُ شَهَادَةَ ابْنِكَ لَكَ ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ : فِي أَيِّ كِتَابٍ وَجَدْتَ هَذَا ؟ أَوْ فِي أَيِّ سُنَّةٍ ؟ وَعَزَلَهُ وَنَفَاهُ إِلَى قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا بِالصَّفَا ، نَيِّفًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا ، ثُمَّ أَعَادَهُ إِلَى الْقَضَاءِ ، وَلِأَنَّ الدِّينَ وَالْعَدَالَةَ يَحْجِزَانِ عَنِ الشَّهَادَةِ بِالزُّورِ وَالْكَذِبِ .

وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا [ الْبَقَرَةِ : ] . وَالرِّيبَةُ مُتَوَجِّهَةٌ إِلَى شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا ، لِمَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنَ الْمَيْلِ وَالْمَحَبَّةِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْوَلَدُ مَحْزَنَةٌ مَجْبَنَةٌ مَبْخَلَةٌ مَجْهَلَةٌ " . وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : يَا عَائِشَةُ فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي يَرِيبُنِي مَا يَرِيبُهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ بَعْضُ أَبِيهِ . وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا [ الزُّخْرُفِ : ] . أَيْ : وَلَدًا فَصَارَتِ الشَّهَادَةُ لَهُ كَالشَّهَادَةِ لِنَفْسِهِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي مَعْشَرٍ الدَّارِمِيِّ : " أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ " ، فَصَارَتِ الشَّهَادَةُ بِمَالِ أَبِيهِ كَالشَّهَادَةِ بِمَالِ نَفْسِهِ . وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ حَدِيثًا رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ ، وَلَا مَحْدُودٍ حَدًّا ، وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ وَلَا مُجَرَّبٍ فِي شَهَادَةِ زُورٍ وَلَا ظَنِينٍ فِي قَرَابَةٍ وَلَا وَلَاءٍ وَلَا شَهَادَةُ الْقَانِعِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ " وَوَصَلَ بِذَلِكَ " وَلَا شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَلَا الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ " ثُمَّ قَالَ وَهَذَا لَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ النَّقْلِ ، فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا فَهُوَ نَصٌّ . وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَفِي قَوْلِهِ : " وَلَا ظَنِينٍ فِي قَرَابَةٍ " دَلِيلٌ عَلَى الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لِكَسْبِهِ . وَلِأَنَّ وُرُودَ النَّصِّ بِالْمَنْعِ مِنْ شَهَادَةِ الظَّنِينِ وَهُوَ الْمُتَّهَمُ يُوجِبُ الْمَنْعَ مِنْ شَهَادَةِ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا قَرَنَهَا لِنَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ " شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ " دَلَّ عَلَى خُرُوجِهَا مَخْرَجَ الزَّجْرِ ، أَنْ يُخْبِرَ عَلَى نَفْسِهِ ، أَوْ وَلَدِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ . وَلَا يَمْنَعُ الدِّينُ وَالْعَدَالَةُ مِنْ رَدِّ الشَّهَادَةِ ، كَشَهَادَةِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ وَمُكَاتَبِهِ . وَأَمَّا إِنْكَارُ عَلِيٍّ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى شُرَيْحٍ ، فَلِأَنَّ شُرَيْحًا وَهِمَ فِي الدَّعْوَى : لِأَنَّ عَلِيًّا ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ادَّعَى الدِّرْعَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَلِذَلِكَ اسْتَشْهَدَ بِابْنِهِ الْحَسَنِ ، وَلَمْ يَدَّعِهَا

لِنَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ فِي الدَّعْوَى نَائِبًا عَنْ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَالْوَكِيلِ ، فَوَهِمَ شُرَيْحٌ ، وَظَنَّ أَنَّ الدَّعْوَى لِنَفْسِهِ ، وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ عَلِيٌّ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَعَزَلَهُ : لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُثْ فِي الْفَحْصِ عَنْ حَقِيقَةِ الْحَالِ ، فَيَعْلَمْ بِهَا جَوَازَ الشَّهَادَةِ ، فَصَارَتْ دَلِيلًا عَلَى الْمَنْعِ مِنْ شَهَادَةِ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا شَهَادَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ فَمَقْبُولَةٌ عَلَى الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ ، لِأَنَّهُ لَا يُتَّهَمُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ مُتَّهَمًا فِي الشَّهَادَةِ لَهُ . وَأَمَّا شَهَادَةُ الْوَلَدِ عَلَى وَالِدِهِ ، فَتُقْبَلُ فِي كُلِّ مَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ الْوَلَدُ عَلَى وَالِدِهِ مِنْ جَمِيعِ الْحُقُوقِ ، وَفِي قَبُولِهَا فِيمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ الْوَلَدُ عَلَى وَالِدِهِ مِنْ حَدِّ قَذْفٍ ، أَوْ قِصَاصٍ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا تُقْبَلُ ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُقْتَلْ بِقَتْلِهِ لَمْ يُقْتَلْ بِقَوْلِهِ : كَالْعَبْدِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْحَرِّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الْأَصَحُّ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ كَمَا تُقْبَلُ فِي غَيْرِهِ كَالْحُرِّ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنْ لَمْ يُقْتَلْ بِالْعَبْدِ . وَأَمَّا الْوَلَدُ مِنَ الرَّضَاعِ وَالْوَالِدُ مِنَ الرَّضَاعِ ، فَشَهَادَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ عَلَيْهِ ، فَمَقْبُولَةٌ ، بِخِلَافِ النِّسَبِ . لِاخْتِصَاصِ الرَّضَاعِ بِتَحْرِيمِ النِّكَاحِ ، وَبِفَارِقِ النَّسَبِ فِيمَا عَدَاهُ مِنْ أَحْكَامِهِ فِي التَّوَارُثِ ، وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ ، وَالْعِتْقِ بِالْمِلْكِ ، وَلَيْسَ تَحْرِيمُ النِّكَاحِ بِمَانِعٍ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ .

الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ الْأَقَارِبِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ مِنْ غَيْرِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ

الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ الْأَقَارِبِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ مِنْ غَيْرِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَأَمَّا مَنْ عَدَا عُمُومَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ مِنَ الْمُنَاسِبِينَ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَبَنِيهِمَا ، وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَبَنِيهِمَا ، وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ وَبَنِيهِمَا ، فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمُ الْبَعْضَ . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : لَا أَقْبَلُهَا مِنْ ذِي مَحْرَمٍ كَالْوَالِدِ وَالْوَلَدِ . وَقَالَ مَالِكٌ : أَقْبَلُهَا فِي كُلِّ حَقٍّ إِلَّا فِي النَّسَبِ لِأَنَّهُ مِنْهُمْ بِاجْتِذَابِهِ وَالتَّكَثُّرِ . وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ فَاسِدٌ ، لِأَنَّ عُمَرَ ، وَابْنَ الزُّبَيْرِ أَجَازَاهُ وَلَيْسَ لَهُمَا مُخَالِفٌ فَصَارَ إِجْمَاعًا . لِأَنَّهُ نَسَبٌ لَا يُوجِبُ الْعِتْقَ وَالنَّفَقَةَ فَلَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ كَغَيْرِ الْمَحْرَمِ مِنْ ذَوِي الْأَنْسَابِ .

وَأَمَّا شَهَادَةُ الْمُعْتَقِ لِمُعْتِقِهِ مِنْ أَعْلَى وَأَسْفَلَ حكمها ، فَمَقْبُولَةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ . وَمَنَعَ شُرَيْحٌ مِنْ قَبُولِهَا كَالْوِلَادَةِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ عَلِيٌّ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ : لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ النَّفَقَةِ ، وَهَذَا أَبْعَدُ مِنْ ذَوِي الْأَنْسَابِ الْبَعِيدَةِ لِتَعَدِّيهِمْ عَلَيْهِ فِي الْمِيرَاثِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ الضَّبْطُ وَالتَّيَقُّظُ فِي الشَّهَادَةِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا مَنْ يُعْرَفُ بِكَثْرَةِ الْغَلَطِ أَوِ الْغَفْلَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الضَّبْطُ وَالتَّيَقُّظُ ، فَهُمَا شَرْطَانِ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ ، لِيَقَعَ السُّكُونُ إِلَى صِحَّتِهَا ، فَإِنْ حَدَثَ مِنَ الشَّاهِدِ سَهْوٌ أَوْ غَلَطٌ ، فَإِنْ كَانَ فِيمَا شَهِدَ بِهِ ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ وَإِنْ كَانَ سَهْوُهُ وَغَلَطُهُ فِي غَيْرِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ - نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَيْهِ السَّهْوَ وَالْغَلَطَ ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ جَرْحًا فِي عَدَالَتِهِ . لِأَنَّ النَّفْسَ غَيْرُ سَاكِنَةٍ إِلَيْهِ إِلَى شَهَادَتِهِ لِحَمْلِهَا فِي الْأَغْلَبِ عَلَى السَّهْوِ وَالْغَلَطِ ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ التَّيَقُّظَ وَالضَّبْطَ ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ ، وَإِنْ غَلَطَ فِي بَعْضِ أَخْبَارِهِ وَسَهَا ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ يَخْلُو مِنْ سَهْوٍ أَوْ غَلَطٍ . وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَهَا وَقَالَ : " إِنَّمَا أَسْهُو لِأَسُنَّ ، وَإِذَا كَانَ لَا يَخْلُو ضَابِطٌ مِنْ غَلَطٍ ، وَلَا غَافِلٌ مِنْ ضَبْطٍ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَبَرُ الْأَغْلَبَ ، كَمَا يُعْتَبَرُ فِي الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي أَغْلَبُهَا ، فَيَكُونَ الْعَدْلُ وَالْفِسْقُ مُعْتَبَرًا بِمَا يَغْلِبُ مِنْ طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ ، وَكَذَلِكَ الضَّبْطُ وَالْغَفْلَةُ .

الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ الزَّوْجَيْنِ

الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ الزَّوْجَيْنِ : مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ كُنْتُ لَا أُجِيزُ شَهَادَةَ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ لِأَنَّهُ يَرِثُهَا ، مَا أَجَزْتُ شَهَادَةَ الْأَخِ لِأَخِيهِ إِذَا كَانَ يَرِثُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ . فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِلَى جَوَازِهَا وَقَبُولِ شَهَادَةِ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ . وَقَبُولِ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا . وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى : لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا : لِأَنَّهُ إِذَا أَيْسَرَ وَجَبَ لَهَا عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمُوسِرِينَ . وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ ، لِأَنَّهُ لَا يَجُرُّ بِهَا نَفْعًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ مَالِكٍ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ فِي الصَّدِيقِ الْمُلَاطِفِ .

احْتِجَاجًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [ الرُّومِ : ] . وَذَلِكَ مِنْ مُوجِبَاتِ الِارْتِيَابِ وَالتُّهْمَةِ . وَقَالُوا : وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ لَا يَحْجُبُ مِنَ الْإِرْثِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الشَّهَادَةِ كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ الْمِيرَاثَ يُسْتَحَقُّ بِنَسَبٍ وَسَبَبٍ ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْأَنْسَابِ مَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَسْبَابِ مَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ . وَتَحْرِيرُهُ : أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ مَا يُورِثُ بِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ مَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ كَالنَّسَبِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا فِي الْمَقَامِ وَالظَّعْنِ ، وَامْتِزَاجَهُمَا فِي الضِّيقِ وَالسَّعَةِ ، وَاخْتِصَاصَهُمَا بِالْمَيْلِ وَالْمَحَبَّةِ ، قَدْ جَمَعَ مِنْ أَسْبَابِ الِارْتِيَابِ الْمَانِعَةِ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ تُرَدَّ بِهِ الشَّهَادَةُ . وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [ الْبَقَرَةِ : ] . فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى عُمُومِهِ . وَرَوَى مَجَالِدٌ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنْ سُوِيدِ بْنِ غَفْلَةَ ، أَنَّ يَهُودِيًّا كَانَ يَسُوقُ امْرَأَةً عَلَى حِمَارٍ فَنَخَسَهَا فَرَمَى بِهَا ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ زَوْجُهَا وَأَخُوهَا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَبِلَ شَهَادَتَهُمَا . وَقَتَلَهُ وَصَلَبَهُ . وَقَالَ سُوِيدُ بْنُ غَفْلَةَ : إِنَّهُ لَأَوَّلُ مَصْلُوبٍ صُلِبَ بِالشَّامِ . وَلَيْسَ لِعُمَرَ مُخَالِفٌ فِي الصَّحَابَةِ مَعَ انْتِشَارِ الْقِصَّةِ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ لَا مُخَالِفَ لَهُ وَلِأَنَّ بَيْنَهُمَا صِلَةً لَا تُوجِبُ الْعِتْقَ ، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ ، كَالْعَشِيرَةِ وَلِأَنَّهَا حُرْمَةٌ حَدَثَتْ عَنْ صِلَةٍ ، فَلَمْ تَمْنَعْ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ ، لِآبَاءِ الزَّوْجَيْنِ وَأَبْنَائِهِمَا ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ ، فَلَمْ يُوجِبْ رَدَّ الشَّهَادَةِ كَالْإِجَارَةِ . وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ كَالْبَيْعِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً فَهُوَ أَنَّ الْمَوَدَّةَ لَا تُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ كَالْأَخَوَيْنِ ، وَعَلَى أَنَّهُ قَدْ يَحْدُثُ بَيْنَهُمَا تَبَاغُضٌ وَعَدَاوَةٌ تَزِيدُ عَلَى الْأَجَانِبِ ، فَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَعْنَى عِلَّةً فِي الْمَنْعِ ، لَفُرِّقَ بَيْنَ الْمُتَحَابِّينَ وَالْمُتَبَاغِضِينَ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا ، فَبَطَلَ التَّعْلِيلُ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَعْلِيلِهِمْ بِعَدَمِ الْحَجْبِ عَنِ الْمِيرَاثِ ، قِيَاسًا عَلَى الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ ، فَلَيْسَ عَدَمُ الْحَجْبِ عَنِ الْمِيرَاثِ عِلَّةً فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ ، لِأَنَّنَا نَرُدُّ شَهَادَةَ مَنْ لَا يَرِثُ مِنَ

الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ ، وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ الْبَعْضِيَّةَ الْمُوجِبَةَ لِلْعِتْقِ الَّتِي تَجْرِي عَلَى الْعُمُومِ ، فِيمَنْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ بِالنَّسَبِ ، فَصَارَ هُوَ عِلَّةَ الْحُكْمِ وَهُوَ مَعْدُومٌ فِي الزَّوْجِيَّةِ فَزَالَ عَنْهَا حُكْمُهُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى النِّسَبِ ، بِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْمِيرَاثِ . فَهُوَ فَاسِدٌ بِالْوَلَاءِ . ثُمَّ لَيْسَ الْمِيرَاثُ عِلَّةً لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ فِي الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودَيْنِ مَنْ لَا يَرِثُ وَشَهَادَتُهُ مَرْدُودَةٌ ، وَالْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ وَالْعَصَبَاتُ يَرِثُونَ وَشَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةٌ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِاجْتِمَاعِ أَسْبَابِ التُّهْمَةِ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ ، فَهُوَ أَنَّ انْفِرَادَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لَمَّا لَمْ تُوجِبِ التُّهْمَةُ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ ، لَمْ يَضُرَّ اجْتِمَاعُهَا مُوجِبًا لِلتُّهْمَةِ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ ، لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ فِي الْمُقَامِ وَالظَّعْنَ لَا يُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ كَالْأَصْحَابِ : لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ فِي الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ لَا تُوجِبُهَا كَالْأَصْدِقَاءِ ، وَالِامْتِزَاجُ فِي الضِّيقِ وَالسَّعَةِ لَا تُوجِبُهَا كَالْخُلْعِ . وَأَمَّا ابْنُ أَبِي لَيْلَى فَيُقَالُ لَهُ : يَنْتَفِعُ الزَّوْجُ بِيَسَارِ زَوْجَتِهِ فِي وُجُوبِ نَفَقَةِ ابْنِهِ عَلَيْهَا إِذَا أَعْسَرَ بِهَا وَلَا يُوجِبُ بِذَلِكَ رَدَّ شَهَادَتِهِ لَهَا ، كَذَلِكَ انْتِفَاعُهَا بِيَسَارِهِ فِيمَا يَجِبُ لَهَا مِنْ نَفَقَةِ الْمُوسِرِينَ لَا يُوجِبُ رَدَّ شَهَادَتِهَا لَهُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ

الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا أَرُدُّ شَهَادَةَ الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إِذَا كَانَ لَا يَرَى أَنْ يَشْهَدَ لِمُوافِقِهِ بِتَصْدِيقِهِ ، وَقَبُولِ يَمِينِهِ ، وَشَهَادَةُ مَنْ يُرَى كَذِبُهُ شِرْكًا بِاللَّهِ وَمَعْصِيَةً تَجِبُ بِهَا النَّارُ أَوْلَى أَنْ تَطِيبَ النَّفْسُ بِقَبُولِهَا مِنْ شَهَادَةِ مَنْ يُخَفِّفُ الْمَأْثَمَ فِيهَا ، وَكُلُّ مَنْ تَأَوَّلَ حَرَامًا عِنْدَنَا فِيهِ حَدٌّ أَوْ لَا حَدَّ فِيهِ ، لَمْ نَرُدَّ بِذَلِكَ شَهَادَتَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مِمَّنْ حُمِلَ عَنْهُ الدِّينُ وَجُعِلَ عَلَمًا فِي الْبُلْدَانِ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِلُّ الْمُتْعَةَ وَالدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ نَقْدًا ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَغَيْرِنَا حَرَامٌ ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنِ اسْتَحَلَّ سَفْكَ الدِّمَاءِ ، وَلَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْهُ بَعْدَ الشِّرْكِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَ ، فَاسْتَحَلَّ كُلَّ مُسْكِرٍ غَيْرَ الْخَمْرِ ، وَعَابَ عَلَى مَنْ حَرَّمَهُ ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ يُقْتَدَى بِهِ ، وَلَا مِنَ التَّابِعِينَ بَعْدَهُمْ رَدَّ شَهَادَةَ أَحَدٍ بِتَأْوِيلٍ وَإِنْ خَطَّأَهُ وَضَلَّلَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا فَصْلٌ قَدِ اخْتَلَطَ كَلَامُ أَصْحَابِنَا فِيهِ مِمَّنْ تَفَرَّدَ بِالْفِقْهِ دُونَ أُصُولِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ تُقَرَّرَ قَاعِدَتُهُ لِيُعْلَمَ بِهَا قَوْلُ الْمُخْتَلِفِينَ ، وَمَا يُوجِبُهُ اخْتِلَافُهُمْ فِيهِ مِنْ تَعْدِيلٍ وَتَفْسِيقٍ وَتَكْفِيرٍ . فَنَقُولُ : مَنْ تَدَيَّنَ بِمُعْتَقَدٍ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ - صِنْفَانِ : صِنْفٌ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِمُ اسْمُ الْإِسْلَامِ . وَصِنْفٌ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِمُ اسْمُهُ .

فَأَمَّا مَنْ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِمُ اسْمُ الْإِسْلَامِ ، فَهُوَ مَنْ كَذَّبَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَتَّبِعْهُ . فَخَرَجَ بِالتَّكْذِيبِ وَبِتَرْكِ الِاتِّبَاعِ مِنْ مِلَّتِهِ ، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِمُ اسْمُ الْكَفْرِ ، وَسَوَاءٌ مَنْ رَجَعَ مِنْهُمْ إِلَى مِلَّةٍ كَالْيَهُودِ ، وَالنَّصَارَى أَوْ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى مِلَّةٍ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَمَا عُظِّمَ مِنْ شَمْسٍ وَنَارٍ ، وَجَمِيعُهُمْ فِي التَّكْفِيرِ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ سَوَاءٌ . وَإِنْ فَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِهِمْ ، فَأَجَازَ شَهَادَةَ أَهْلِ الْمِلَلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَرَدَّ شَهَادَةَ غَيْرِهِمْ . وَأَمَّا مَنْ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِمُ اسْمُ الْإِسْلَامِ ، فَهُوَ مَنْ صَدَّقَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّبَعَهُ ، فَصَارَ بِتَصْدِيقِهِ عَلَى النُّبُوَّةِ مِنْ جُمْلَةِ أُمَّتِهِ وَبِصَلَاتِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ دَاخِلًا فِي مِلَّتِهِ ، فَخَرَجُوا بِانْطِلَاقِ اسْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ مَنْ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْكُفَّارِ ، فَهَذَا أَصْلٌ . ثُمَّ يَنْقَسِمُ مَنْ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : مُوافِقٌ ، وَمُتَّبَعٌ ، وَمُخَالِفٌ . وَأَمَّا الْمُوافِقُ : فَهُوَ مَنِ اعْتَقَدَ الْحَقَّ وَعَمِلَ بِهِ ، فَكَانَ بِاعْتِقَادِ الْحَقِّ مُتَدَيِّنًا وَبَالْعَمَلِ بِهِ مُؤَدِّيًا ، فَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَى عَدَالَتِهِ فِي مُعْتَقَدِهِ وَقَوْلِهِ ، مَقْبُولُ الْقَوْلِ فِي خَبَرِهِ وَشَهَادَتِهِ .

الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ الْمُتَّبِعِ

الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ الْمُتَّبِعِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُتَّبِعُ : فَهُوَ مَنْ عَمِلَ بِالْحَقِّ وَلَمْ يُخَالِفْ فِي الْمُعْتَقَدِ ، كَالْمُقَلِّدِ مِنَ الْعَامَّةِ لِلْعُلَمَاءِ ، فَإِنْ كَانَ التَّقْلِيدُ فِي الْفُرُوعِ ، فَهُوَ فَرْضُهُ ، وَهُوَ عَدْلٌ فِي مُعْتَقَدِهِ وَعَمَلِهِ . وَإِنْ كَانَ تَقْلِيدُهُ فِي أُصُولِ التَّوْحِيدِ ، فَمَنْ جَوَّزَ تَقْلِيدَهُ فِيهَا جَعَلَهُ عَدْلًا فِي مُعْتَقَدِهِ وَعَمَلِهِ ، وَمَنْ مَنَعَ التَّقْلِيدَ فِيهَا ، جَعَلَهُ مُقَصِّرًا فِي مُعْتَقَدِهِ وَمُؤَدِّيًا فِي عَمَلِهِ ، وَعَدَالَتُهُ مُعْتَبَرَةٌ بِسُكُونِ نَفْسِهِ وَنُفُورِهَا ، فَإِنْ كَانَ سَاكِنَ النَّفْسِ إِلَى صِحَّةِ التَّقْلِيدِ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الْعَدَالَةِ ، وَإِنْ كَانَ نَافِرَ النَّفْسِ مِنْهُ ، خَرَجَ مِنَ الْعَدَالَةِ .

الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ الْمُخَالِفِ

الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ الْمُخَالِفِ . فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمُخَالِفُ ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُخَالِفَ فِي الْعَمَلِ . وَالثَّانِي : فِي الْمُعْتَقَدِ . فَأَمَّا الْمُخَالِفُ فِي الْعَمَلِ حكم شهادته ، فَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ مَا لَا يَعْمَلُ بِهِ ، فَإِنْ كَانَ فِي مُبَاحٍ ، فَهُوَ عَلَى عَدَالَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي وَاجِبٍ ، فُسِّقَ بِهِ وَخَرَجَ عَنْ عَدَالَتِهِ ، لِأَنَّهُ تَعَمَّدَ الْمَعْصِيَةَ بِتَرْكِ مَا اعْتَقَدَ وَجُوبَهُ ، وَيَكُونُ كَالْعَمَلِ بِمَا اعْتَقَدَ تَحْرِيمُهُ .

وَأَمَّا الْمُخَالِفُ فِي الْمُعْتَقَدِ حكم شهادته ، فَمُخْتَلِفُ الْحُكْمِ بِخِلَافِهِ فِيمَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ الدِّينُ ، وَالدِّينُ مُنْعَقِدٌ عَلَى فُرُوعٍ وَأُصُولٍ . فَالْأُصُولُ ، مَا اخْتَصَّ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ ، وَالْفُرُوعُ مَا اخْتَصَّ بِالتَّكْلِيفِ وَالتَّعَبُّدِ ، وَلِلْأُصُولِ فُرُوعٌ ، وَلِلْفُرُوعِ أُصُولٌ . فَأَمَّا أُصُولُ الْأُصُولِ ، فَمَا اخْتُصَّ بِإِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَإِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ . وَفُرُوعُهُ مَا اخْتُصَّ بِالصِّفَاتِ وَأَعْلَامِ النُّبُوَّةِ . وَأُصُولُ الْفُرُوعِ مَا عُلِمَ قَطْعًا مِنْ دِينِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَفُرُوعُهُ مَا عُرِفَ بِغَيْرِ مَقْطُوعٍ ، فَأَمَّا الْمُخَالِفُ فِي أُصُولِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ لاتقبل شهادته ، فَمَقْطُوعٌ بِكُفْرِهِ ، وَيَخْرُجُ مِنِ انْطِلَاقِ اسْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ تَظَاهَرَ بِهِ ، فَلَا تَثْبُتُ لَهُ عَدَالَةٌ ، وَلَا تَصِحُّ لَهُ وِلَايَةٌ ، وَلَا تُقْبَلُ لَهُ شَهَادَةٌ . وَأَمَّا الْمُخَالِفُ فِي فُرُوعِ الْأُصُولِ مِنَ الصِّفَاتِ وَأَعْلَامِ النُّبُوَّةِ فهل تقبل شهادته ، فَإِنْ رَدَّهُ خَبَرٌ مَقْطُوعٌ بِصِدْقِهِ مِنْ قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ وَأَثَرٍ ، كَانَ مُخَالِفُهُ كَافِرًا ، لَا تَثْبُتُ لَهُ عَدَالَةٌ ، وَلَا تَصِحُّ لَهُ وِلَايَةٌ ، وَلَا تُقْبَلُ لَهُ شَهَادَةٌ ، كَذَلِكَ مَا رَدَّتْهُ الْعُقُولُ ، وَاسْتَحَالَ جَوَازُهُ فِيهَا ، وَمَا لَمْ يَرُدَّهُ خَبَرٌ مَقْطُوعٌ بِصِدْقِهِ ، وَلَا عَقْلَ يَسْتَحِيلُ بِهِ - نُظِرَ ، فَإِنِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْحَقِّ عَلَى تَكْفِيرِهِ بِهِ ، سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ ، وَلَمْ تَصِحَّ وِلَايَتُهُ ، وَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ ، وَإِنِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْحَقِّ فِي تَكْفِيرِهِ بِهِ ، فَهُوَ عَلَى الْعَدَالَةِ وَصِحَّةِ الْوِلَايَةِ وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ . فَهَذَا أَصْلٌ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ ، يُغْنِي عَنْ ضَرْبِ مَثَلٍ وَتَعْيِينِ مَذْهَبٍ .

الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ جَاحِدِ فُرُوعِ الدِّينِ

الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ جَاحِدِ فُرُوعِ الدِّينِ حكمها : فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفُرُوعُ : فَأُصُولُهَا كَالْأُصُولِ ، فَمَا عُلِمَ قَطْعًا مِنْ دِينِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِجْمَاعِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ عَلَيْهِ ، كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَأَعْدَادِهَا ، وَاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ بِهَا ، وَوُجُوبِ الزَّكَاةِ بَعْدَ حَوْلِهَا ، وَفَرْضِ الصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَزَمَانِهِمَا ، وَتَحْرِيمِ الزِّنَى وَالرِّبَا وَالْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ . فَإِنْ جَحَدَ وُجُوبَ أَحَدِهَا ، أَوِ اعْتَقَدَ فِي الصَّلَاةِ نُقْصَانًا مِنْهَا ، أَوْ زِيَادَةً عَلَيْهَا ، أَوْ غَيَّرَ الصِّيَامَ وَالْحَجَّ عَنْ زَمَانِهِمَا مِنْ تَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ ، أَوْ زَادَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ نَقَصَ مِنْهُ بَعْدَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ ، فَهُوَ كَافِرٌ . لِأَنَّهُ جَحَدَ بِهَذَا الْخِلَافِ مَا هُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَصَارَ كَالْجَاحِدِ لِصِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَا تَثْبُتُ لَهُ عَدَالَةٌ وَلَا تَصِحُّ لَهُ وِلَايَةٌ ، وَلَا تُقْبَلُ لَهُ شَهَادَةٌ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفُرُوعُ الَّتِي لَيْسَتْ بِأُصُولٍ ، فَالْخِلَافُ فِيهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي الْأَدَاءِ . وَالثَّانِي : فِي الْأَحْكَامِ . فَأَمَّا الْخِلَافُ فِي الْأَدَاءِ الْمُنْتَحِلَةِ ، فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : مَا اعْتَقَدَ بِهِ تَكْفِيرَ مُخَالِفِهِ وَاسْتِبَاحَةَ مَالِهِ وَدَمِهِ ، كَمَنْ يَرَى مِنَ الْخَوَارِجِ بِمُوالَاتِهِمْ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَكْفِيرَ جَمِيعِ الْأُمَّةِ ، وَكَالْغُلَاةِ يَرَوْنَ بِمُعْتَقَدِهِمْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، تَكْفِيرَ جَمِيعِ الْأُمَّةِ . يَرَى الْفَرِيقَانِ : بِهَذَا الْمُعْتَقَدِ أَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ دَارُ إِبَاحَةٍ فِي قَتْلِ رِجَالِهَا وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهَا ، وَغَنِيمَةِ أَمْوَالِهَا ، فَيُحْكَمُ بِكُفْرِ مَنْ هَذَا اعْتِقَادُهُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِتَكْفِيرِهِمُ السَّوَادَ الْأَعْظَمَ الْمُفْضِي إِلَى تَعْطِيلِ الْإِسْلَامِ وَدُرُوسِهِ ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، مِنْهَا وَاحِدَةٌ نَاجِيَةٌ ، قِيلَ : وَمَا هِيَ ؟ قَالَ : السَّوَادُ الْأَعْظَمُ " . وَالثَّانِي : اسْتِبَاحَتُهُمْ لِدَارٍ حَرَّمَ الشَّرْعُ نُفُوسَ أَهْلِهَا وَأَمْوَالَهُمْ ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنَعَتْ دَارُ الْإِسْلَامِ وَمَا فِيهَا وَأَبَاحَتْ دَارُ الشِّرْكِ وَمَا فِيهَا " . وَقَالَ يَوْمَ النَّحْرِ كَلَامًا شَهِدَهُ الْجَمُّ الْغَفِيرُ : " أَلَا إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمُ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي سَفَرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا " . فَكَانُوا أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ الْعَدَالَةِ وَأَوْلَاهُمْ بِرَدِّ الشَّهَادَةِ .

شَهَادَةُ مُعْتَقِدِ كُفْرِ مُخَالِفِهِ

شَهَادَةُ مُعْتَقِدِ كُفْرِ مُخَالِفِهِ حكمها . فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَنْ يَعْتَقِدُ تَكْفِيرَ مُخَالِفِهِ وَلَا يَرَى اسْتِبَاحَةَ دَمِهِ ، فَيُنْظَرُ فَإِنْ تَعَرَّضَ بِعَرْضٍ بِرَأْيِهِ لِتَكْفِيرِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ ، حُكِمَ بِكُفْرِهِ ، لِرَدِّهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [ الْفَتْحِ : ] . وَرَدِّهِ عَلَى رَسُولِهِ فِي قَوْلِهِ : " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ " وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ " ، فَتَسْقُطُ عَدَالَتُهُمْ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ بِكُفْرِهِمْ . وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِتَكْفِيرِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ ، وَاعْتَقَدُوا فِيهِمُ الْإِيمَانَ ، وَتَفَرَّدُوا بِتَكْفِيرِ أَهْلِ عَصْرِهِمْ ، فَهُمْ أَهْلُ ضَلَالٍ يُحْكَمُ بِفِسْقِهِمْ دُونَ كُفْرِهِمْ ، فَتَسْقُطُ عَدَالَتُهُمْ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ بِالْفِسْقِ دُونَ الْكُفْرِ .

شَهَادَةُ مُبْتَدِعِ الرَّأْيِ

شَهَادَةُ مُبْتَدِعِ الرَّأْيِ حكمها فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَبْتَدِعَ رَأْيًا وَلَا يَعْتَقِدَ بِهِ تَكْفِيرَ مُخَالِفِهِ ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَرْتَكِبَ فِيهِ الْهَوَى وَلَا يَتَمَسَّكَ فِيهِ بِتَأْوِيلٍ : فَهُوَ ضَالٌّ يُحْكَمُ بِفِسْقِهِ وَرَدِّ شَهَادَتِهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [ النَّازِعَاتِ : ، ] . وَسُنَّةُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي صَبِيغٍ ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَطُوفُ بِهَا ، وَيَسْأَلُ عَنِ الشُّبَهَاتِ ، وَيَمِيلُ إِلَى الْمُخَالَفَةِ ، فَأَمَرَ بِهِ وَضُرِبَ بِالْجَرِيدِ ، وَشُهِرَ بِالْمَدِينَةِ ، وَنُفِيَ عَنْهَا . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَعْضِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ : سُنَّتِي فِيهِ سُنَّةُ عُمَرَ فِي صَبِيغٍ ، وَلِأَنَّ مَنِ ارْتَكَبَ الْهَوَى وَلَمْ يَتَّبِعِ الدَّلِيلَ ، فَقَدْ ضَلَّ وَأَضَلَّ ، إِذْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ حَقٍّ وَبَاطِلٍ ، وَلَا بَيْنَ صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ ، وَلِأَنَّ الْهَوَى أَسْرَعُ إِلَى الْبَاطِلِ مِنَ الْحَقِّ ، لِخِفَّةِ الْبَاطِلِ وَثِقَلِ الْحَقِّ .

فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَتَمَسَّكَ فِيمَا ابْتَدَعَهُ بِتَأْوِيلٍ حكم شهادته فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُخَالِفَ بِهِ الْإِجْمَاعَ مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَدْفَعَ مَا اعْتَقَدَهُ الْإِجْمَاعُ ، وَإِمَّا أَنْ يَدْفَعَ بِمُعْتَقَدِهِ الْإِجْمَاعَ . فَإِنْ دَفَعَ بِمُعْتَقَدِهِ الْإِجْمَاعَ ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ أَوْ إِجْمَاعَ غَيْرِهِمْ . فَإِنْ خَالَفَ بِهِ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ فهل تقبل شهادته ، ضَلَّ بِهِ ، وَحُكِمَ بِفِسْقِهِ وَرَدِّ شَهَادَتِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ " . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ " . وَإِنْ خَالَفَ بِهِ إِجْمَاعَ غَيْرِ الصَّحَابَةِ حكم شهادته ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ إِنَّ الْإِجْمَاعَ هُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ ، وَيَعْتَقِدُ اسْتِحَالَةَ إِجْمَاعِ غَيْرِهِمْ ، لِتَبَاعُدِ أَعْصَارِهِمْ ، كَانَ عَلَى عَدَالَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ . وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ بِإِجْمَاعِ كُلِّ عَصْرٍ فُسِّقَ بِمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ ، وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ .

فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : وَأَنْ لَا يُخَالِفَ بِمُعْتَقَدِهِ الْإِجْمَاعَ فيمن تقبل شهادته ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تُفْضِيَ بِهِ الْمُخَالَفَةُ إِلَى الْقَدْحِ فِي بَعْضِ الصَّحَابَةِ ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : سَبٌّ وَجَرْحٌ .

فَإِنْ كَانَ الْقَدْحُ سَبًّا ، فُسِّقَ بِهِ ، وَعُزِّرَ مِنْ أَجْلِهِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ سَبَّ نَبِيًّا ، فَقَدْ كَفَرَ ، وَمَنْ سَبَّ صَحَابِيًّا فَقَدْ فَسَقَ " . وَلَيْسَ مَنْ عَاصَرَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَاهَدَهُ كَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَإِنَّمَا يَشْتَمِلُ اسْمُ الصَّحَابَةِ عَلَى مَنِ اجْتَمَعَ فِيهِ شَرْطَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَخَصَّصَ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالثَّانِي : أَنْ يَتَخَصَّصَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَأَمَّا اخْتِصَاصُهُ بِالرَّسُولِ ، فَيَكُونُ مِنْ أَمْرَيْنِ . أَحَدُهُمَا : مُكَاثَرَتُهُ فِي حَضَرِهِ وَسَفَرِهِ . وَالثَّانِي : مُتَابَعَتُهُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا . وَلَيْسَ مَنْ قَدِمَ عَلَيْهِ مِنَ الْوُفُودِ ، وَلَا مَنْ غَزَا مَعَهُ مِنَ الْأَعْرَابِ مِنَ الصَّحَابَةِ لِعَدَمِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فِيهِمْ . وَأَمَّا اخْتِصَاصُ الرَّسُولِ بِهِ ، فَيَكُونُ بِهِ بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَثِقَ بِسَرَائِرِهِمْ . وَالثَّانِي : أَنْ يَقْضِيَ بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ إِلَيْهِمْ . وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْمُنَافِقُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ لِعَدَمِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فِيهِمْ ، فَصَارَ الصَّحَابِيُّ مَنْ تَكَامَلَ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَمَنْ أَخَلَّ بِهَا خَرَجَ مِنْهُمْ . وَإِنْ كَانَ الْقَدْحُ فِي الصَّحَابَةِ جَرْحًا يَنْسُبُ بَعْضُهُمْ إِلَى فِسْقٍ وَضَلَالٍ - نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ مِنْ أَحَدِ الْعَشْرَةِ الَّذِينَ شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ ، صَارَ بِاعْتِقَادِهِ لِفِسْقِهِ فَاسِقًا مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْعَشْرَةِ - نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ ، صَارَ بِتَفْسِيقِ أَحَدِهِمْ فَاسِقًا : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ بِالرِّضَا عَنْهُمْ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ قَبْلَ تَنَازُعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قِتَالِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ ، صَارَ بِتَفْسِيقِهِ لِلصَّحَابَةِ فَاسِقًا ، مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ . وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ فِي تَنَازُعِ أَهْلِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فِي تَنَازُعِهِمْ هَلْ نَقَلَهُمْ عَنِ الْحُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ فِيهِمْ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ ، أَنَّهُمْ عَلَى اسْتِدَامَةِ حُكْمِ الرَّسُولِ فِيهِمْ مِنَ الْقَطْعِ بِعَدَالَتِهِمْ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ . وَلَا يُكْشَفُ عَنْ سَرَائِرِهِمْ فِي رِوَايَةِ خَبَرٍ وَلَا فِي ثُبُوتِ شَهَادَةٍ ، اسْتِدَامَةً لِحُكْمِ الصُّحْبَةِ فِيهِمْ ، وَمَنْ فَسَّقَ أَحَدَهُمْ كَانَ بِتَفْسِيقِهِ فَاسِقًا ، لِأَنَّهُمْ فِي التَّنَازُعِ مُتَأَوِّلُونَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُمْ صَارُوا بَعْدَ التَّنَازُعِ كَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَعْصَارِ عُدُولًا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ ، وَزَالَ عَنْهُمُ الْقَطْعُ بِعَدَالَتِهِمْ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ إِلَّا بَعْدَ الْكَشْفِ عَنْ عَدَالَةِ بَاطِنِهِ . وَمَنْ فَسَّقَ أَحَدَهُمْ لَمْ يَفْسُقْ بِتَفْسِيقِهِ ، وَكَانَ عَلَى عَدَالَتِهِ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ ، لِأَنَّهُمُ انْتَقَلُوا بِالتَّنَازُعِ عَنِ الْأُلْفَةِ إِلَى التَّقَاطُعِ ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تَقَاطَعُوا ، وَلَا تَدَابَرُوا ، وَلَا تَبَاغَضُوا ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا " . وَقَدْ أَحْدَثَ التَّنَازُعُ فِيهِمْ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ .

فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا تُفْضِيَ بِهِ الْمُخَالَفَةُ إِلَى الْقَدْحِ فِي الصَّحَابَةِ في قبول الشهادة ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تُفْضِيَ بِهِ الْمُخَالَفَةُ إِلَى الْبَغْيِ عَلَى إِمَامِهِ بِمُشَاقَّتِهِ وَخَلْعِ طَاعَتِهِ بِشُبْهَةٍ تَأَوَّلَ بِهَا فَسَادَ إِمَامَتِهِ ، فَلَهُ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُفَّ عَنِ الْقِتَالِ ، فَيَكُونَ عَلَى عَدَالَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُقَاتِلَ أَهْلَ الْعَدْلِ ، فَلَهُ فِي قِتَالِهِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَبْتَدِئَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ ، فَيَفْسُقَ بِمَا ابْتَدَأَهُ مِنْ قِتَالِهِمْ ، فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ لِتَعَدِّيهِ بِالْقِتَالِ مَعَ خَطَئِهِ فِي الِاعْتِقَادِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَبْدَأَ أَهْلُ الْعَدْلِ بِالْقِتَالِ ، فَيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ قِتَالَهُمْ ، فَلَهُ فِي قِتَالِهِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يُدْعَى إِلَى الطَّاعَةِ لِيُكَفَّ عَنْهُ ، فَيَمْتَنِعَ مِنْهَا ، فَيَفْسُقَ بِقِتَالِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَجِدُ مِنْهُ بُدًّا بِإِظْهَارِ الطَّاعَةِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُبْدَأَ بِالْقِتَالِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْعَاءٍ إِلَى الطَّاعَةِ ، فَلَا يَفْسُقَ بِقِتَالِهِ لِأَنَّهُ دَافَعَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ ، فَتُقْبَلَ شَهَادَتُهُ ، وَقَدْ أَمْضَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْهُ أَحْكَامَ مَنْ بَغَى عَلَيْهِ فِي قِتَالِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ .

فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا تُفْضِيَ بِهِ الْمُخَالَفَةُ إِلَى الْبَغْيِ فِي مُشَاقَّةِ أَهْلِ الْعَدْلِ في قبول الشهادة فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تُفْضِيَ بِهِ الْمُخَالَفَةُ إِلَى مُنَابَذَةِ مُخَالِفِيهِ بِالتَّحَزُّبِ وَالتَّعَصُّبِ في قبول الشهادة ، فَلَهُ حَالَتَانِ :

إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَبْدَأَ بِهَا لِيَسْتَطِيلَ عَلَى مُخَالِفِيهِ ، فَيَكُونَ ذَلِكَ فِسْقًا تُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ ، لِأَنَّهُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ اعْتِقَادِ الْخَطَأِ وَأَفْعَالِ السُّفَهَاءِ ، فَيُفَسَّقُ بِفِسْقِهِ لَا بِمُعْتَقَدِهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَسْتَدْفِعَ بِهَا مُنَابَذَةَ خُصُومِهِ ، فَإِنْ وَجَدَ إِلَى دَفْعِهِمْ بِغَيْرِ الْمُنَابَذَةِ سَبِيلًا ، صَارَ بِالْمُنَابَذَةِ سَفِيهًا مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلَى دَفْعِهِمْ بِغَيْرِهَا سَبِيلًا ، فَلَهُ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ لَا يَسْتَضِرَّ بِاحْتِمَالِهَا وَالصَّبْرِ عَلَيْهَا ، فَيَكُونَ بِفِعْلِهَا سَفِيهًا تُرَدُّ شُبَهَاتُهُ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَسْتَضِرَّ بِهَا ، فَيَكُونَ فِي دَفْعِهَا بِالْمُقَابَلَةِ عَلَى عَدَالَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ ، وَلِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عُذْرٌ مُسْتَبَاحٌ لِقَوْلِهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ " .

فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا تُفْضِيَ بِهِ الْمُخَالَفَةُ إِلَى الْمُنَابَذَةِ فهل تقبل شهادته ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْتَقِدَ بِتَصْدِيقِ مُوافِقِيهِ فِي دَعَاوِيهِمْ ، وَيَشْهَدَ لَهُمْ بِهَا عَلَى خُصُومِهِمْ كَالْخَطَّابِيَّةِ . يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى رَأْيِهِمْ لَمْ يَكْذِبْ ، فَيُصَدِّقُوهُ عَلَى مَا ادَّعَاهُ ، وَشَهِدُوا لَهُ عَلَى خَصْمِهِ إِنْ أَنْكَرَ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَظْهِرُ بِإِحْلَافِهِ قَبْلَ الشَّهَادَةِ لَهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْتَظْهِرُ ، وَيَشْهَدُ لَهُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ ، وَهِيَ فِي الْحَالَتَيْنِ شَهَادَةُ زُورٍ ، تَسْقُطُ بِهَا عَدَالَتُهُ ، وَتُرَدُّ بِهَا شَهَادَتُهُ ، لِأَنَّهُ شَهِدَ بِمَا لَمْ يَعْلَمْ ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ

فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَعْتَقِدَ بِتَصْدِيقِ مُوافِقِيهِ عَلَى مُخَالِفِيهِ ، وَيَتَحَفَّظَ فِي الشَّهَادَةِ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ شهادة المخالف ، حَتَّى يَعْلَمَهَا مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا ، فَهُمْ أَسْلَمُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ طَرِيقًا ، وَهُمْ صِنْفَانِ : صِنْفٌ يَرَوْنَ تَغْلِيظَ الْمَعَاصِي ، فَيَجْعَلُهَا بَعْضُهُمْ شِرْكًا ، وَيَجْعَلُهَا أَهْلُ الْوَعِيدِ خُلُودًا . وَصِنْفٌ يَرَوْنَ تَخْفِيفَ الْمَعَاصِي فِي إِرْجَائِهَا وَتَفْوِيضِهَا . وَكِلَا الصِّنْفَيْنِ فِي الْعَدَالَةِ وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ سَوَاءٌ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَشَهَادَةُ مَنْ يَرَى كَذِبَهُ شِرْكًا بِاللَّهِ ، وَمَعْصِيَةً تَجِبُ بِهَا النَّارُ - أَوْلَى أَنْ تَطِيبَ النَّفْسُ بِقَبُولِهَا مِنْ شَهَادَةِ مَنْ يُخَفِّفُ الْمَأْثَمَ ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهَا أَوْلَى مِنْ

شَهَادَةِ أَهْلِ الْحَقِّ فِيهَا ، يَعْنِي أَنَّ شَهَادَةَ مَنْ يُغَلِّظُ الْمَعَاصِي مِنْ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ - أَوْلَى أَنْ تَطِيبَ النَّفْسُ بِهَا مِنْ شَهَادَةِ مَنْ يُخَفِّفُهَا . فَصَارَ هَذَا التَّفْصِيلُ مُفْضِيًا إِلَى قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ لِسِتَّةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مَا انْتَحَلُوهُ بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَدْفَعَهُ إِجْمَاعٌ مُنْعَقِدٌ . وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا يُفْضِيَ إِلَى الْقَدْحِ فِي الصَّحَابَةِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ لَا يُقَاتِلَ عَلَيْهِ وَلَا يُنَابِذَ فِيهِ . وَالْخَامِسُ : أَنْ لَا يَرَى تَصْدِيقَ مُوافِقِهِ عَلَى مُخَالِفِهِ . وَالسَّادِسُ : أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُهُمْ مَرْضِيَّةً ، وَتَحَفُّظُهُمْ فِي الشَّهَادَةِ ظَاهِرٌ ، فَهَذَا حُكْمُ مَا تَعَلَّقَ بِالْآرَاءِ وَالنِّحَلِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي أَحْكَامِ الْفُرُوعِ من الشاهد فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : مَا ضَلَّ بِهِ . وَالثَّانِي : مَا أَخْطَأَ فِيهِ . وَالثَّالِثُ : مَا سَاغَ لَهُ . وَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ مَا ضَلَّ بِهِ ، فَهُوَ أَنْ يُخَالِفَ فِيهِ إِجْمَاعَ الْخَاصَّةِ دُونَ الْعَامَّةِ كَالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنْ لَا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ ، وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ، وَأَنْ لَا تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا ، فَالْمُخَالِفُ فِيهِ ضَالٌّ يُحْكَمُ بِفِسْقِهِ وَرَدِّ شَهَادَتِهِ . وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : وَهُوَ مَا أَخْطَأَ فِيهِ : فَهُوَ مَا شَذَّ الْخِلَافُ فِيهِ وَعَدَلَ الْمُتَأَخِّرُونَ عَنْهُ ، كَاسْتِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ ، وَبَيْعِ الدِّينَارِ بِالدِّينَارَيْنِ نَقْدًا ، وَمَسْحِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ ، وَقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ مِنَ الْمَنْكِبِ ، فَهَذَا خِلَافٌ شَذَّ قَائِلُهُ ، وَظَهَرَ فِيهِ خَطَئُهُ ، وَلِأَنَّهُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ مَنْسُوخٍ كَالْمُتْعَةِ ، وَبَيْنَ مَا تَوَالَى فِيهِ النَّقْلُ الصَّحِيحُ كَالرِّبَا فِي النَّقْدِ وَالنِّسَاءِ . وَبَيْنَ مَا ضَعُفَ فِيهِ التَّأْوِيلُ وَظَهَرَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ كَمَسْحِ الرِّجْلَيْنِ وَقَطْعِ السَّارِقِ مِنَ الْمَنْكِبِ ، فَحُكِمَ بِخَطَئِهِ لِظُهُورِ الدَّلِيلِ عَلَى فَسَادِهِ ، وَلَمْ يَبْلُغْ بِهِ حَدَّ الضَّلَالِ لِلشُّبْهَةِ الْمُعْتَرِضَةِ فِي احْتِمَالِهِ ، فَيَكُونُ الْمُخَالِفُ فِيهِ عَلَى عَدَالَتِهِ وَقَبُولِهِ شَهَادَتَهُ . وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَا سَاغَ الْخِلَافُ فِيهِ عَلَى عَدَالَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ ، فَهُوَ مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَاتِ ، وَالْمُعَامَلَاتِ ، وَالْمَنَاكِحِ الَّذِي لَمْ يَرِدْ فِيهِ حَدٌّ ، وَكَانَ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ وَجْهٌ مُحْتَمَلٌ ، فَلَا يَتَبَايَنُ فِيهِ الْمُخْتَلِفُونَ ، وَلَا يَتَنَابَذُ فِيهِ الْمُتَنَازِعُونَ ،

وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ وَجْهٌ ، فَمَنْ قَالَ : إِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ جَعَلَ جَمِيعَ أَقَاوِيلِهِمْ حَقًّا ، وَلَمْ يَجْعَلْ قَوْلَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَطَأً . وَمَنْ قَالَ : إِنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُحِقًّا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِهِمْ مُحِقًّا . وَهُوَ أَسْهَلُ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ وَجَمِيعُهُمْ عَلَى الْعَدَالَةِ وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ . فَهَذَا تَفْصِيلُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي عَدَالَةِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ ، أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ شَهَادَةَ جَمِيعِهِمْ ، وَلَا رَدَّ شَهَادَةَ جَمِيعِهِمْ ، حَتَّى فَصَّلْنَاهُ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ مَذْهَبُهُ ، وَأَوْجَبَتْهُ أُصُولُهُ . فَأَوْضَحْنَا بِهَا مَنْ كَانَ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ وَمَرْدُودَهَا ، وَخَالَفَهُ فِيهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ . فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ ، فَخَفَّفَ الْأَمْرَ فِيهَا ، وَأَجَازَ شَهَادَةَ كُلِّ مَنْ أُطْلِقَ اسْمُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ ، وَاعْتَبَرَ الْعَدَالَةَ بِالْأَفْعَالِ دُونَ الِاعْتِقَادِ . وَأَمَّا مَالِكٌ ، فَشَدَّدَ الْأَمْرَ فِيهَا ، فَرَدَّ شَهَادَةَ جَمِيعِهِمْ ، وَاقْتَصَرَ بِالْعَدَالَةِ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ . وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ قَوْلَيْهِمَا مَدْفُوعٌ بِمَا أَوْضَحْنَا مِنْ دَلَائِلِ الْقَبُولِ وَالرَّدِّ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

الْقَوْلُ فِي اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ وَالْحَمَامِ

الْقَوْلُ فِي اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ وَالْحَمَامِ شهادة اللاعب بهم . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَاللَّاعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ وَالْحَمَامِ بِغَيْرِ قِمَارٍ ، وَإِنْ كَرِهْنَا ذَلِكَ أَخَفُّ حَالًا . " قَالَ الْمُزَنِيُّ : " رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَكَيْفَ يُحَدُّ مَنْ شَرِبَ قَلِيلًا مِنْ نَبِيذٍ شَدِيدٍ وَيُجِيزُ شَهَادَتَهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي لَعِبِ الشِّطْرَنْجِ . وَالثَّانِي : فِي اللَّعِبِ بِالْحَمَامِ . فَأَمَّا اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ ، فَالْكَلَامُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي إِبَاحَتِهَا وَحَظْرِهَا . وَالثَّانِي : فِي عَدَالَةِ اللَّاعِبِ بِهَا وَجَرْحِهِ . فَأَمَّا إِبَاحَتُهَا وَحَظْرُهَا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، أَنَّهَا حَرَامٌ . وَالثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ كَرَاهَةَ تَغْلِيظٍ يُوجِبُ الْمَنْعَ ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ التَّحْرِيمِ .

وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهَا لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً كَمَا قَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلَا بِمُغَلَّظَةِ الْكَرَاهَةِ ، كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، ثُمَّ قَالَ : وَإِنْ كَرِهْنَا ذَلِكَ ، وَأَرَادَ بِهِ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِيمَا تَعُودُ كَرَاهَتُهُ إِلَيْهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَعُودُ كَرَاهَتُهُ إِلَيْهَا لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ اللَّعِبِ . وَالثَّانِي : تَعُودُ كَرَاهَتُهُ إِلَى مَا يَحْدُثُ عَنْهَا مِنَ الْخَلَاعَةِ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ حَظَرَهَا وَحَرَّمَهَا بِمَا رَوَاهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْلَعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ حكمه " . وِبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " كُلُّ اللَّعِبِ حَرَامٌ إِلَّا لَعِبَ الرَّجُلِ بِقَوْسِهِ ، وَلَعِبَهُ بِفَرَسِهِ ، وَلَعِبَهُ مَعَ زَوْجَتِهِ ، فَعَمَّ تَحْرِيمَ اللَّعِبِ إِلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ " . فَكَانَ الشِّطْرَنْجُ دَاخِلًا فِي عُمُومِ التَّحْرِيمِ وَخَارِجًا مِنِ اسْتِثْنَاءِ الْإِبَاحَةِ . وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّ بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ ، فَقَالَ : مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ؟ وَأَلْقَى فِيهَا كَفًّا مِنْ تُرَابٍ فَدَلَّ تَشْبِيهُهُ لَهَا بِالْأَصْنَامِ عَلَى تَحْرِيمِهَا كَالْأَصْنَامِ . وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْهَا ، فَقَالَ : أَحَقُّ هِيَ ؟ قِيلَ : لَا . قَالَ : فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تَصْرِفُونَ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَبَاحَهَا وَحَلَّلَهَا : بِانْتِشَارِهَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِقْرَارًا عَلَيْهَا ، وَعَمَلًا بِهَا ، فَرَوَى الْخَطِيبُ مَوْلَى سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ : كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَمُرُّ بِنَا وَنَحْنُ نَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ ، فَيُسَلِّمُ عَلَيْنَا وَلَا يَنْهَانَا . وَرَوَى الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ قَالَ : رَأَيْتُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّ بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ فَقَالَ : ادْفَعْ ذَا وَدَعْ ذَا . وَرَوَى أَبُو رَاشِدٍ قَالَ : رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَدْعُو غُلَامًا ، فَيُلَاعِبُهُ بِالشِّطْرَنْجِ . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ كَانَ يُجِيزُ الشِّطْرَنْجَ وَيَلْعَبُ بِهَا .

وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ . فَهَؤُلَاءِ خَمْسَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَقَرُّوا عَلَيْهَا وَلَعِبُوا بِهَا . وَأَمَّا التَّابِعُونَ : فَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَانَ يَلْعَبُ بِهَا . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ كَانَ يَلْعَبُ بِهَا اسْتِدْبَارًا . قَالَ الْمُزَنِيُّ : فَقُلْتُ لِلشَّافِعِيِّ : فَكَيْفَ كَانَ يَلْعَبُ بِهَا اسْتِدْبَارًا ؟ فَقَالَ : كَانَ يُوَلِّيهَا ظَهْرَهُ وَيَقُولُ لِلْغُلَامِ : بِمَاذَا دَفَعَ ؟ فَيَقُولُ : بِكَذَا . فَيَقُولُ : ائْتِ بِكَذَا . وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّهُ كَانَ يُلَاعِبُ أَهْلَهُ بِالشِّطْرَنْجِ . وَرَوَى أَبُو لُؤْلُؤَةَ قَالَ : رَأَيْتُ الشَّعْبِيَّ يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ مَعَ الْغُرَمَاءِ . وَرَوَى رَاشِدُ بْنُ كَرَيْبٍ قَالَ : رَأَيْتُ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أُقِيمَ قَائِمًا فِي لَعِبِ الشِّطْرَنْجِ . وَرُوِيَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ كَانَ يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ وَقَالَ : هِيَ لُبُّ الرِّجَالِ . وَإِذَا اشْتُهِرَ هَذَا عَمَّنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَقَدْ عَمِلَ بِهِ مَعَهُمْ مَنْ لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ وَفُضَلَائِهِمْ ، مَنْ حَذَفْنَا ذِكْرَهُمْ إِيجَازًا ، خَرَجَ مِنْ حُكْمِ الْحَظْرِ ، وَكَانَ بِالْإِجْمَاعِ أَشْبَهَ . وَلَيْسَ إِنْكَارُ عَلِيٍّ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهَا لِأَجْلِ حَظْرِهَا . وَقِيلَ : لِأَنَّهُمْ سَمِعُوا الْأَذَانَ وَهُمْ مُتَشَاغِلُونَ عَنْهَا . وَقِيلَ : لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَخِفُّونَ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهَا . وَمَا رَوَاهُ الْحَسَنُ مُرْسَلٌ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، وَلَا يُمْنَعُ أَنْ يَكُونَ قِيَاسًا عَلَى مَا اسْتَثْنَاهُ الرَّسُولُ مِنَ اللَّعِبِ : لِأَنَّ فِيهَا تَنْبِيهًا عَلَى مَكَائِدِ الْحَرْبِ وَوُجُوهِ الْحَزْمِ وَتَدْبِيرِ الْجُيُوشِ . وَمَا بَعَثَ عَلَى هَذَا ، إِنْ لَمْ يَكُنْ نَدْبًا مُسْتَحَبًّا فَأَحْرَى أَنْ لَا يَكُونَ حَظْرًا مُحَرَّمًا .

فَصْلٌ : وَأَمَّا عَنْ عَدَالَةِ اللَّاعِبِ بِهَا الشطرنج ، فَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَدَالَتَهُ سَاقِطَةٌ وَشَهَادَتَهُ مَرْدُودَةٌ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ لَعِبَ بِهَا . وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي مُوجِبِ رَدِّهَا ، فَرَدَّهَا مَالِكٌ لِحَظْرِهَا ، وَرَدَّهَا أَبُو حَنِيفَةَ لِتَغْلِيظِ كَرَاهَتِهَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَدَالَتَهُ وَجَرْحَهُ مُعْتَبَرٌ بِصِفَةِ لَعِبِهِ بِهَا ، فَإِنْ خَرَجَ بِهَا إِلَى خَلَاعَةِ أَهْلِهَا أَوْ قَامَرَ عَلَيْهَا أَوْ تَشَاغَلَ عَنِ الصَّلَاةِ بِهَا خَرَجَ عَنِ الْعَدَالَةِ بِمَا فَعَلَهُ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ ، فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ بِهَا لَا بِنَفْسِ اللَّعِبِ ، وَأَمَّا الْخَلَاعَةُ فَهُوَ أَنْ يَسْتَخِفَّ عَلَيْهَا بِلَغْوِ الْكَلَامِ ، وَأَنْ يَلْعَبَ بِهَا عَلَى الطَّرِيقِ ، وَأَنْ يَنْقَطِعَ إِلَيْهَا لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ حَتَّى يَلْهُوَ بِهَا عَمَّا سِوَاهَا .

وَأَمَّا الْقِمَارُ حكم لاعبه من حيث قبول شهادته فَهُوَ مَا يَأْخُذُهُ مِنَ الْعِوَضِ عَلَيْهَا إِنْ غَلَبَ ، أَوْ يَدْفَعُهُ مِنَ الْعِوَضِ عَنْهَا إِنْ غُلِبَ لِتَحْرِيمِ اللَّهِ تَعَالَى الْقِمَارَ نَصًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [ الْمَائِدَةِ : ] . وَالْمَيْسِرُ هُوَ الْقِمَارُ ، وَالْقِمَارُ مَا لَمْ يَحِلَّ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا آخِذًا أَوْ مُعْطِيًا ، فَيَأْخُذُ إِنْ كَانَ غَالِبًا ، وَيُعْطِي إِنْ كَانَ مَغْلُوبًا . فَأَمَّا إِنْ عَدَلَا عَنْهُ إِلَى حُكْمِ السَّبْقِ وَالرَّمْيِ الخروج من القمار ، بِأَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُ الْمُتَلَاعِبَيْنِ بِإِخْرَاجِ الْعِوَضِ دُونَ صَاحِبِهِ لِيُؤْخَذَ مِنْهُ إِنْ كَانَ مَغْلُوبًا وَلِيَسْتَرْجِعَهُ إِنْ كَانَ غَالِبًا ، وَيَكُونَ الْآخَرُ آخِذًا إِنْ كَانَ غَالِبًا وَغَيْرَ مُعْطٍ إِنْ كَانَ مَغْلُوبًا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِهِ فِي الشِّطْرَنْجِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى جَوَازِهِ فِي السَّبْقِ وَالرَّمْيِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِمْ فِي قَوْلِهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا سَبْقَ إِلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ " . هَلْ هُوَ أَصْلٌ بِذَاتِهِ أَوِ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ جُمْلَةِ مَحْظُورٍ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَصْلٌ فِي نَفْسِهِ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الشِّطْرَنْجِ قِيَاسًا عَلَى السَّبْقِ وَالرَّمْيِ ، لِجَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَى أَصْلِ النَّصِّ ، وَلَا يَكُونُ إِخْرَاجُ هَذَا الْعِوَضِ فِي الشِّطْرَنْجِ مَحْظُورًا ، فَلَا يَكُونُ بِهِ مَجْرُوحًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ السَّبْقَ وَالرَّمْيَ مُسْتَثْنًى مِنْ جُمْلَةٍ مَحْظُورَةٍ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الشِّطْرَنْجِ ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَكُونُ عَلَى الْأَصْلِ دُونَ الِاسْتِثْنَاءِ ، وَيَكُونُ إِخْرَاجُ هَذَا الْعِوَضِ فِي الشِّطْرَنْجِ مَحْظُورًا وَيَصِيرُ بِإِخْرَاجِهِ مَجْرُوحًا . وَأَمَّا تَشَاغُلُهُ بِهَا عَنِ الصَّلَاةِ ، فَهُوَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ وَقْتُهَا ، فَيَنْقَطِعَ بِهَا عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى يَفُوتَ ، فَإِنْ ذَكَرَهَا وَعَلِمَ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ . فَقَدْ فَسَقَ ، وَلَوْ كَانَ فِي دَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِدُخُولِ الْوَقْتِ حَتَّى فَاتَ ، فَإِنْ كَانَ فِي دَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ ، لَمْ يَفْسُقْ بِهِ . وَإِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ ذَلِكَ وَكَثُرَ فَسَقَ بِهِ وَلَوْ تَكَرَّرَ مِنْهُ لِكَثْرَةِ الْفِكْرِ حَتَّى تَكَرَّرَ مِنْهُ نِسْيَانُ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا حَتَّى فَاتَ ، لَمْ يَفْسُقْ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ الْفِكْرِ عَنْ نَفْسِهِ إِذَا طَرَأَ ، فَلَمْ يَفْسُقْ إِذَا كَثُرَ بِهِ نِسْيَانُ الصَّلَاةِ ، وَلَعِبُ الشِّطْرَنْجِ مِنْ فِعْلِهِ وَاخْتِيَارِهِ ، فَيَفْسُقُ إِذَا كَثُرَ بِهِ نِسْيَانُ الصَّلَاةِ . وَأَمَّا إِذَا تَجَرَّدَ لَعِبُ الشِّطْرَنْجِ عَمَّا يَفْسُقُ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ ، وَاسْتَرْوَحَ بِهِ فِي أَوْقَاتِ خَلَوَاتِهِ ، مُسْتَخْفِيًا بِهِ عَنِ الْمُحْتَشِمِينَ ، فَكَانَ لَعِبُهُ بِهِ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا لِيَشْفِيَ بِهِ هَمًّا وَيَسْتَحْدِثَ بِهِ رَاحَةً ، وَإِمَّا لِيَرْتَاضَ بِهِ فِي تَدْبِيرِهِ وَجَزَالَةِ رَأْيِهِ وَصِحَّةِ حَزْمِهِ ، فَهُوَ عَلَى عَدَالَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ .

وَهَلْ يَكُونُ عَفْوًا أَوْ مُبَاحًا . عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي مَعْنَى كَرَاهَةِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَهَا . هَلْ كَانَ عَائِدًا إِلَيْهَا أَوْ إِلَى مَا يَحْدُثُ فِيهَا ؟ فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَيْهَا كَانَ اللَّعِبُ بِهَا مَعْفُوًّا عَنْهُ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَا يَحْدُثُ عَنْهَا ، كَانَ اللَّعِبُ بِهَا مُبَاحًا . وَهُوَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي اللَّعِبِ بِالْحَمَامِ حكمه و هل تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ ؟ : فَمَذْهَبُ مَالِكٍ تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ . وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَنْقَسِمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : مَا تُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ ، وَهُوَ مَا يَخْرُجُ بِهِ إِلَى السَّفَاهَةِ ، إِمَّا بِالْبَذْلَةِ فِي أَفْعَالِهِ ، وَإِمَّا بِالْخَنَا فِي كَلَامِهِ ، وَالسَّفَاهَةُ خُرُوجٌ عَنِ الْعَدَالَةِ ، تُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَسْعَى بِحَمَامَةٍ ، فَقَالَ : " شَيْطَانٌ يَتْبَعُ شَيْطَانَةً " . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا لَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ ، وَهُوَ مَا كَانَ بِهِ مَحْفُوظَ الْمُرُوءَةِ لِاتِّخَاذِهَا إِمَّا لِلِاسْتِفْرَاخِ ، وَإِمَّا لِحَمْلِ الْكُتُبِ إِلَى الْبِلَادِ ، وَإِمَّا لِلْأَنَسَةِ بِأَصْوَاتِهَا ، فَيَكُونُ عَلَى عَدَالَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ . وَرَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْدَةَ ، فَقَالَ : " اتَّخِذْ زَوْجًا مِنْ حَمَامٍ " . وَلِأَنَّهَا تُسَمِّدُ كَمَا تُسَمِّدُ الْمَوَاشِي . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : مَا اخْتُلِفَ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ بِهِ . وَهُوَ أَنْ يَتَّخِذَهُ لِلْمُسَابَقَةِ بِهِ ، وَفِيهِ وَجْهَانِ ، بِنَاءً عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِهِ : لَا سَبْقَ إِلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ . فَإِنْ جُعِلَ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ أَصْلًا ، قِيسَ عَلَيْهِ إِبَاحَةُ السَّبْقِ بِالْحَمَامِ ، فَلَمْ يَخْرُجْ بِهِ مِنَ الْعَدَالَةِ وَلَمْ تُرَدَّ بِهِ الشَّهَادَةُ . وَإِنْ جُعِلَ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي ، اسْتِثْنَاءً مِنْ جُمْلَةِ مَحْظُورٍ لَمْ يَقُسْ عَلَيْهِ السَّبْقُ بِالْحَمَامِ ، فَخَرَجَ بِهِ مِنَ الْعَدَالَةِ وَرُدَّتْ بِهِ الشَّهَادَةُ . فَإِنِ اقْتَرَنَ بِهِ بِعِوَضٍ كَانَ حَرَامًا ، وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنِ الْعِوَضِ كَانَ سَفَهًا . وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : وَاللَّاعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ وَالْحَمَامِ أَخَفُّ حَالًا .

وَلَمْ يَذْكُرْ مَا صَارَ بِهِ أَخَفَّ حَالًا مِنْهُ . فَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ ، وَحَذَفَهُ الْمُزَنِيُّ اخْتِصَارًا . فَقَالَ : أَخَفُّ حَالًا مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي فُرُوعِ الدِّينِ .

الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ شَارِبِ الْخَمْرِ

الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ شَارِبِ الْخَمْرِ : مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَمَنْ شَرِبَ عَصِيرَ الْعِنَبِ الَّذِي عُتِقَ حَتَّى سَكِرَ ، وَهُوَ يَعْرِفُهَا خَمْرًا ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ ، لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا نَصٌّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا الْخَمْرُ مما يتخذ ، فَهُوَ عَصِيرُ الْعِنَبِ إِذَا أَسْكَرَ وَلَمْ تَمَسُّهُ نَارٌ ، وَلَمْ يُخَالِطْهُ مَاءٌ ، وَلَا يَكُونُ خَمْرًا إِنْ مَسَّتْهُ نَارٌ أَوْ خَالَطَهُ مَاءٌ . وَشُرْبُهُ مُحَرَّمٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [ الْمَائِدَةِ : ] . فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى تَحْرِيمِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَالرِّجْسُ الْمُضَافُ إِلَى الشَّيْطَانِ يَكُونُ رِجْسًا بِإِضَافَتِهِ إِلَى الشَّيْطَانِ تَغْلِيظًا . وَفِي الرِّجْسِ معناه أَرْبَعَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : سَخَطٌ . وَالثَّانِي : شَرٌّ . وَالثَّالِثُ : إِثْمٌ . وَالرَّابِعُ : حَرَامٌ . وَقَوْلُهُ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ أَيْ : مِمَّا يَدْعُو إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ وَيَأْمُرُ بِهِ . وَالثَّانِي : قَوْلُهُ فَاجْتَنِبُوهُ ، وَمَا وَرَدَ الْأَمْرُ بِاجْتِنَابِهِ حَرُمَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ وَفِيمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ " فَاجْتَنِبُوهُ " تَأْوِيلَانِ مُحْتَمَلَانِ : أَحَدُهُمَا : الرِّجْسُ أَنْ تَفْعَلُوهُ . وَالثَّانِي : الشَّيْطَانُ أَنْ تُطِيعُوهُ . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [ الْأَعْرَافِ : ] . فِيهِ تَأْوِيلَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا الزِّنَى خَاصَّةً ، وَمَا ظَهَرَ مِنْهَا الْمَنَاكِحُ الْفَاسِدَةُ ، وَمَا بَطَنَ السِّفَاحُ الصَّرِيحُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْفَوَاحِشَ : جَمِيعُ الْمَعَاصِي ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا : أَفْعَالُ الْجَوَارِحِ ، وَمَا بَطَنَ : اعْتِقَادُ الْقُلُوبِ . وَفِي الْإِثْمِ وَالْبَغْيِ معناهما تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ " الْإِثْمَ " الْخِيَانَةُ فِي الْأُمُورِ ، وَالْبَغْيَ التَّعَدِّي عَلَى النُّفُوسِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ أَشْهَرُ : أَنَّ الْإِثْمَ الْخَمْرُ ، وَالْبَغْيَ السُّكْرُ ، وَشَاهِدُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : شَرِبْتُ الْإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي كَذَاكَ الْإِثْمُ يَذْهَبُ بِالْعُقُولِ وَاخْتُلِفَ بِأَيِّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ . فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهَا حُرِّمَتْ بِالْآيَةِ الْأُولَى لِلتَّصْرِيحِ بِاسْمِ الْخَمْرِ . وَقَالَ قَوْمٌ : بَلْ حُرِّمَتْ بِالْآيَةِ الثَّانِيَةِ ، لِأَنَّهَا آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِيهِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " شَارِبُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ وَثَنٍ " فَجَعَلَهُ مَقْرُونًا بِالشِّرْكِ لِتَغْلِيظِ تَحْرِيمِهِ . فَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ مُسْتَحِلًّا كَفَرَ بِهِ . وَإِنْ قِيلَ : فَقَدِ اسْتَبَاحَ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ شُرْبَ الْخَمْرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا [ الْمَائِدَةِ : ] . وَقَدْ قَالَ : قَدْ أَيْقَنَّا وَآمَنَّا ، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْنَا فِيمَا شَرِبْنَا ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ قِيلَ : قَدْ أَنْكَرُوا عَلَيْهِ مَا تَأَوَّلَهُ وَأَبْطَلُوهُ ، فَرَجَعَ عَنْهُ ، وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى فَسَادِ شُبْهَتِهِ ، وَصَارَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ بِالنُّصُوصِ الْمَقْطُوعِ بِهَا . وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ غَيْرَ مُسْتَحِلٍّ لَهَا حكم شهادته ، كَانَ فَاسِقًا مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ ، قَلِيلًا شَرِبَ مِنْهَا أَوْ كَثِيرًا ، سَكِرَ مِنْهَا أَوْ لَمْ يَسْكَرْ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " حُرِّمَتِ الْخَمْرَةُ لِعَيْنِهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ " فِي رِوَايَةِ الْعِرَاقِيِّينَ " وَالْمُسْكِرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ : فِي رِوَايَةِ الْحِجَازِيِّينَ . وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَشْرَبَهَا صِرْفًا أَوْ مَمْزُوجَةً .

وَشَذَّ قَوْمٌ بِأَنْ قَالُوا : إِذَا مَزَجَهَا بِمَا غَلَبَ عَلَيْهَا ، لَمْ تَحْرُمْ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " حُرِّمَتِ الْخَمْرَةُ لِعَيْنِهَا " . وَهَذَا تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ ، لِأَنَّ الْعَيْنَ مَوْجُودَةٌ فِي الْمَمْزُوجِ بِهَا ، لَكِنْ لَوْ مُزِجَتْ بِالْمَاءِ قَبْلَ أَنْ تَشْتَدَّ ثُمَّ صَارَتْ بَعْدَ الْمَزْجِ مُسْكِرًا ، كَانَتْ فِي حُكْمِ النَّبِيذِ دُونَ الْخَمْرِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَلِيَتِ بِالنَّارِ بَعْدَ إِسْكَارِهَا كَانَتْ خَمْرًا ، لَوْ غَلِيَتْ بِالنَّارِ قَبْلَ إِسْكَارِهَا ثُمَّ أَسْكَرَتْ بَعْدَ غَلْيِهَا ، كَانَتْ نَبِيذًا وَلَمْ تَكُنْ خَمْرًا .

الْقَوْلُ فِي بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْعَقْدِ عَلَيْهَا

الْقَوْلُ فِي بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْعَقْدِ عَلَيْهَا : فَصْلٌ : وَأَمَّا بَيْعُ الْخَمْرِ ، فَحَرَامٌ ، وَبَائِعُهَا فَاسِقٌ ، وَالْعَقْدُ عَلَيْهَا بَاطِلٌ ، وَثَمَنُهَا مُحَرَّمٌ . رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَلَعَنَ بَائِعَهَا " ، وَلِأَنَّ بَيْعَهَا مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ . وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ " [ الْبَقَرَةِ : ] . وَأَمَّا اتِّخَاذُ الْخَمْرِ وَإِمْسَاكُهَا فَمُعْتَبَرٌ بِمَقْصُودِهِ ، فَإِنْ قَصَدَ بِهِ أَنْ يَنْقَلِبَ وَيَصِيرَ خَلًّا جَازَ . وَلَمْ يَفْسُقْ بِهِ لِأَنَّهَا تَحِلُّ بِالِانْقِلَابِ . وَإِنْ قَصَدَ ادِّخَارَهَا عَلَى حَالِهَا ، كَانَ مَحْظُورًا ، يَفْسُقُ بِهِ ، لِأَنَّ إِمْسَاكَهَا دَاعٍ إِلَى شُرْبِهَا . وَمَا دَعَا إِلَى الْحَرَامِ مَحْظُورٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

الْقَوْلُ فِي الْأَنْبِذَةِ وَشَهَادَةِ شَارِبِهَا

الْقَوْلُ فِي الْأَنْبِذَةِ وَشَهَادَةِ شَارِبِهَا . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنْ شَرِبَ سِوَاهَا مِنَ الْمُنْصِفِ أَوِ الْخَلِيطَيْنِ ، فَهُوَ آثِمٌ وَلَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ إِلَّا أَنْ يَسْكَرَ لِأَنَّهُ عِنْدَ جَمِيَعِهِمْ حَرَامٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ ، كَالْخَمْرِ عِنْدَنَا فِي تَحْرِيمِ مَا أَسْكَرَ مِنْهُ وَمَا لَمْ يُسْكِرْ ، وَجَعَلَ مُخَالِفُنَا تَحْرِيمَهُ مَقْصُورًا عَلَى السُّكْرِ ، فَأَحَلَّ قَلِيلَهُ إِذَا لَمْ يُسْكِرْ ، وَحَرَّمَ فِيهِ الْكَثِيرَ إِذَا أَسْكَرَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ . فَجَمِيعُ الْأَنْبِذَةِ الْمُسْكِرَةِ عِنْدَنَا مُحَرَّمَةٌ مِنْ أَيِّ الْأَنْوَاعِ كَانَتْ ، مِنْ زَبِيبٍ ، أَوْ تَمْرٍ ، أَوْ رُطَبٍ ، أَوْ بُسْرٍ ، أَوْ عَسَلٍ مَطْبُوخَةً وَنِيَّةً . وَحَرَّمَ أَبُو حَنِيفَةَ نِيَّهَا وَأَبَاحَ مَطْبُوخَهَا . فَإِذَا شَرِبَ نَبِيذًا مُسْكِرًا حكم شهادته ، فَإِنْ شَرِبَ مِنْهُ مَا أَسْكَرَ ، فَقَدْ شَرِبَ حَرَامًا فِي قَوْلِ

الْجَمِيعِ ، وَصَارَ بِهِ فَاسِقًا مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ ، وَإِنْ شَرِبَ مِنْهُ مَا لَمْ يُسْكِرْهُ فَإِنْ عَاقَرَ عَلَيْهِ أَوْ تَكَلَّمَ بِالْخَنَا وَالْهُجْرِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : لَوْ عَاقَرَ عَلَى الْمَاءِ كَانَ حَرَامًا . وَإِنْ لَمْ يُعَاقِرْ وَشَرِبَ مِنْهُ مَا لَمْ يُسْكَرْ ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ على الماء : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْتَقِدَ تَحْرِيمَهُ إِمَّا بِاجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ ، فَيَفْسُقَ بِشُرْبِهِ وَيُحَدَّ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ، لِإِقْدَامِهِ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ مَعْصِيَةً ، فَصَارَ بِإِقْدَامِهِ عَاصِيًا . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَعْتَقِدَ إِبَاحَتَهُ ، إِمَّا بِاجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يَكُونُ عَلَى عَدَالَتِهِ ، وَيُحَدُّ وَلَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ . وَقَالَ مَالِكٌ : قَدْ فَسَقَ ، فَيُحَدُّ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ . وَقَالَ الْمُزَنِيُّ : لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ وَلَا يُحَدُّ . وَمَنَعَا جَمِيعًا مِنِ اجْتِمَاعِ الْحَدِّ وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ ، فَجَعَلَ مَالِكٌ وُجُوبَ الْحَدِّ مُسْقِطًا لِلشَّهَادَةِ ، وَجَعَلَ الْمُزَنِيُّ قَبُولَ الشَّهَادَةِ مُسْقِطًا لِلْحَدِّ ، وَفَرَّقَ الشَّافِعِيُّ بَيْنَهُمَا ، فَأَوْجَبَ الْحَدَّ وَلَمْ يَرُدَّ الشَّهَادَةَ ، لِأَنَّ الْحَدَّ مِنْ حُكْمِ الشُّرْبِ لِلرَّدْعِ عَنْهُ ، وَرَدَّ الشَّهَادَةِ بِالْفِسْقِ بِالتَّفْسِيقِ فِي حُكْمِ الْمَعْصِيَةِ ، وَالْمَعْصِيَةُ فِي تَأْوِيلِ مَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ مُرْتَفِعَةٌ ، فَلَمْ يَمْتَنِعِ اجْتِمَاعُ الْحَدِّ وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ كَالْقَاذِفِ إِذَا تَابَ قَبْلَ الْحَدِّ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : إِنْ شَرِبَ غَيْرَ مُعْتَقِدِ الْإِبَاحَةِ وَلَا حَظْرٍ ، مَعَ عِلْمِهِ بِاخْتِلَافِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي إِبَاحَتِهَا وَحَظْرِهَا ، فَفِي فِسْقِهِ وَرَدٍّ شَهَادَتِهِ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ فَاسِقٌ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ ، لِأَنَّ تَرْكَ الِاسْتِرْشَادِ فِي الشُّبَهَاتِ تَهَاوُنٌ فِي الدِّينِ ، فَصَارَ فِسْقًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّهُ عَلَى عَدَالَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ ، لِأَنَّ اعْتِقَادَ الْإِبَاحَةِ أَغْلَظُ مِنَ الشُّرْبِ ، لِأَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ إِبَاحَةَ الْخَمْرِ كَفَرَ ، وَمَنْ شَرِبَهَا وَلَمْ يَعْتَقِدْ إِبَاحَتَهَا لَمْ يَكْفُرْ ، فَلَمَّا لَمْ يَفْسُقْ مَنِ اعْتَقَدَ إِبَاحَةَ النَّبِيذِ وَشُرْبِهِ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَفْسُقَ مَنْ شَرِبَهُ وَلَا يَعْتَقِدُ إِبَاحَتَهُ .

الْقَوْلُ فِي الْأَشْرِبَةِ الَّتِي لَا تُسْكِرُ وَشَهَادَةِ شَارِبِهَا

الْقَوْلُ فِي الْأَشْرِبَةِ الَّتِي لَا تُسْكِرُ وَشَهَادَةِ شَارِبِهَا : فَصْلٌ : وَأَمَّا مَا لَا يُسْكَرُ مِنَ الْأَنْبِذَةِ وَالْأَشْرِبَةِ كَالْفُقَاعِ وَالْقَارِصِ ، فَمُبَاحٌ لَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ .

وَحُكِيَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَطَائِفَةٍ مِنَ الشِّيعَةِ وَرُبَّمَا عُزِيَ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ شُرْبَ الْفُقَاعِ وَالْقَارِصِ حَرَامٌ . لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " كُلُّ مُخَمَّرٍ خَمْرٌ " . وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّ عَلَى بَائِعِ فُقَاعٍ ، فَقَالَ : مِنْ خِمَارٍ مَا أَوْقَحَكَ . وَهَذَا تَأْوِيلٌ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ ، وَوَرَدَتِ السُّنَّةُ بِرَدِّهِ . وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : " كُنَّا نَنْبِذُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى غَذَائِهِ ، فَيَشْرَبُهُ عَلَى عَشَائِهِ ، وَنُبِذَ لَهُ عَلَى عَشَائِهِ ، فَيَشْرَبُهُ عَلَى غَذَائِهِ " . وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إِنَّا لِنَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْأَطْعِمَةِ الْغَلِيظَةِ ، وَنَشْرَبُ عَلَيْهَا مِنْ هَذِهِ الْأَنْبِذَةِ الشَّدِيدَةِ ، فَنَقْطَعُهَا فِي أَجْوَافِنَا . يَعْنِي قَبْلَ أَنْ يُسْكِرَ . وَلِأَنَّ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ السُّكْرُ ، فَمَا لَمْ يُسْكِرْ لَمْ يُحَرَّمْ كَسَائِرِ الْأَشْرِبَةِ . وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْخَبَرِ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ . وَلَوْ كَانَ الْفُقَاعُ حَرَامًا عِنْدَ عَلِيٍّ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ لَأَظْهَرَ مِنَ الْإِنْكَارِ وَالْمَنْعِ ، مَا يَجِبُ بِإِظْهَارِ الْمُنْكَرِ ، وَلَمَا اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَعَ الْإِقْرَارِ عَلَيْهِ . وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْمُنْصِفِ وَالْخَلِيطَانِ ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي صِفَتِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُنْصِفَ مَا طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ نِصْفُهُ ، وَالْخَلِيطَانِ خَلِيطُ الْبُسْرِ بِالرَّطْبِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُنْصِفَ مَا يُنْصَفُ مِنْ تَمْرٍ وَزَبِيبٍ ، وَالْخَلِيطَانِ خَلِيطُ الْبُسْرِ بِالرُّطَبِ ، وَإِنْ كَانَ هَذَا مُسْكِرًا فَهُوَ حَرَامٌ ، وَإِنْ لَمْ يُسْكِرْ ، فَفِي كَرَاهَتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُكْرَهُ كَمَا لَا تُكْرَهُ سَائِرُ الْأَشْرِبَةِ الَّتِي لَا تُسْكِرُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُكْرَهُ وَإِنْ لَمْ يُكْرَهْ غَيْرُهَا . لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِالنَّهْيِ عَنْهَا . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِسْرَاعُ الْإِدْرَاكِ إِلَيْهَا قَبْلَ غَيْرِهَا .

وَالثَّانِي : إِسْكَارُهَا مَعَ بَقَاءِ حَلَاوَتِهَا ، وَإِسْكَارُ غَيْرِهَا مَعَ حُدُوثِ مَرَارَتِهَا . وَلَا تُرَدُّ شَهَادَةُ شَارِبِهَا كُرِهَتْ أَمْ لَمْ تُكْرَهْ .

مَسْأَلَةٌ اللَّعِبَ بِالنَّرْدِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَكْرَهُ اللَّعِبَ بِالنَّرْدِ لِلْخَبَرِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي النَّرْدِ ، فَحَرَّمَهَا مَالِكٌ ، وَفَسَّقَ اللَّاعِبَ بِهَا حكم شهادته ، وَأَحَلَّهَا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَلَمْ يُفَسِّقِ اللَّاعِبَ بِهَا إِذَا حَافَظَ عَلَى عِبَادَتِهِ وَمُرُوءَتِهِ . وَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ النَّرْدَ أَغْلَظُ فِي الْمَنْعِ مِنَ الشِّطْرَنْجِ ، وَصَرَّحَ فِيهَا بِالْكَرَاهَةِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ ، هَلْ هِيَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ أَمْ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ ؟ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ وَتَغْلِيظٍ ، تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ وَإِنْ لَمْ تُحَرَّمْ . وَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ إِلَى أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ تُوجِبُ فِسْقَ اللَّاعِبِ بِهَا وَرَدَّ شَهَادَتِهِ . وَرَوَى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ ، عَنْ مُوسَى بْنِ مَيْسَرَةَ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ ، عَنْ أَبِي مُوسَى ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ " . وَرُوِيَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بَرِيدَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ ، فَكَأَنَّمَا يَغْمِسُ يَدَهُ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَدَمِهِ " . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " لَا يَقْلِبُ كِعَابَهَا أَحَدٌ يَنْتَظِرُ مَا يَأْتِي بِهِ إِلَّا عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ " . فَصَارَ فَرْقُ مَا بَيْنَ النَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ فِي الْحُكْمِ ، أَنَّ الشَّطْرَنْجَ لَا يُحَرَّمُ ، وَفِي كَرَاهَتِهِ وَجْهَانِ وَالنَّرْدُ مَكْرُوهَةٌ وَفِي تَحْرِيمِهَا وَجْهَانِ ، وَالشَّطْرَنْجُ لَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ إِذَا خَلَصَتْ وَتُرَدُّ بِالنَّرْدِ وَإِنْ خَلَصَ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى : أَنَّ الشَّطْرَنْجَ فائدته مَوْضُوعَةٌ لِصِحَّةِ الْفِكْرِ وَصَوَابِ التَّدْبِيرِ وَنِظَامِ السِّيَاسَةِ ، فَهِيَ صَادِرَةٌ إِنْ ظَهَرَ فِيهَا عَنْ حَذْقَةٍ . وَالنَّرْدُ مَوْضُوعَةٌ إِلَى مَا يَأْتِي بِهِ مِنْ كَعَابِهَا وَفُصُوصِهَا ، فَهُوَ كَالْأَزْلَامِ . وَقِيلَ : إِنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْبُرُوجِ الِاثْنَيْ عَشَرَ . وَالْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ ، لِأَنَّ بُيُوتَهَا اثْنَا عَشَرَ كَالْبُرُوجِ وَيَقْطَعُهَا مِنْ جَانِبَيِ الْفَصِّ سَبْعَةٌ ، كَالْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ . فَعَدَلَ بِهَا عَنْ حُكْمِ الشَّرْعِ إِلَى تَدْبِيرِ الْكَوَاكِبِ وَالْبُرُوجِ .

وَهَكَذَا اللَّعِبُ بِالْأَرْبَعَةَ عَشَرَ ، الْمُفَوَّضَةِ إِلَى الْكَعَابِ ، وَمَا ضَاهَاهَا ، فِي حُكْمِ النَّرْدِ فِي التَّحْرِيمِ . وَأَمَّا اللَّعِبُ بِالْخَاتَمِ حكمه وهل تقبل شهادة لاعبه فَهُوَ حَدَسِيٌّ لَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ .

الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ أَهْلِ الْغِنَاءِ

الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ أَهْلِ الْغِنَاءِ : مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ كَانَ يُدِيمُ الْغِنَاءَ وَيَغْشَاهُ الْمُغَنُّونُ مُعْلِنًا ، فَهَذَا سَفَهٌ تُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَقِلُّ لَمْ تُرَدَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي الْغِنَاءِ . وَالثَّانِي : فِي أَصْوَاتِ الْمَلَاهِي . وَأَمَّا الْغِنَاءُ : فَمِنَ الصَّوْتِ مَمْدُودٌ ، وَمِنَ الْمَالِ مَقْصُورٌ ، كَالْهَوَاءِ وَهُوَ مِنَ الْجَوِّ مَمْدُودٌ ، وَمِنْ هَوَى النَّفْسِ مَقْصُورٌ . كَتَبَ إِلَيَّ أَخِي مِنَ الْبَصْرَةِ وَقَدِ اشْتَدَّ شَوْقُهُ لِلِقَائِي بِبَغْدَادَ شِعْرًا قَالَ فِيهِ : طِيبُ الْهَوَاءِ بِبَغْدَادٍ يُشَوِّقُنِي قِدْمًا إِلَيْهَا وَإِنْ عَاقَتْ مَقَادِيرُ فَكَيْفَ صَبْرِي عَنْهَا الْآنَ إِذْ جَمَعَتْ طِيبَ الْهَوَاءَيْنِ مَمْدُودٌ وَمَقْصُورُ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي إِبَاحَةِ الْغِنَاءِ وَحَظْرِهِ ، فَأَبَاحَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَحَظَرَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِرَاقِ . وَكَرِهَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ فِي أَصَحِّ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ ، فَلَمْ يُبِيحُوهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَمْ يَحْظُرُوهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، فَتَوَسَّطُوا فِيهِ بِالْكَرَاهَةِ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَبَاحَهُ ، بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ مَرَّ بِجَارِيَةٍ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ تُغَنِّي وَهِيَ تَقُولُ : هَلْ عَلَيَّ وَيْحَكُمَا إِنْ لَهَوْتُ مِنْ حَرَجِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا حَرَجَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ "

وَرَوَى الزُّهْرِيُّ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : كَانَتْ عِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ ، فَقَالَ : أَمَزْمُورُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " دَعْهُمَا فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ " . وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " الْغِنَاءُ زَادُ الْمُسَافِرِ " . وَكَانَ لِعُثْمَانَ جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ فِي اللَّيْلِ ، فَإِذَا جَاءَ وَقْتُ السَّحَرِ قَالَ : أَمْسِكَا فَهَذَا وَقْتُ الِاسْتِغْفَارِ ، وَقَامَ إِلَى صَلَاتِهِ . وَلِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ أَهْلُ الْحِجَازِ يَتَرَخَّصُونَ فِيهِ وَيُكْثِرُونَ مِنْهُ ، وَهُمْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَجِلَّةِ الْفُقَهَاءِ ، فَلَا يُنْكِرُونَهُ عَلَيْهِمْ وَلَا يَمْنَعُونَهُمْ مِنْهُ إِلَّا فِي إِحْدَى حَالَتَيْنِ : إِمَّا فِي الِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ ، أَوِ الْإِكْثَارِ مِنْهُ ، كَالَّذِي حُكِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ كَانَ مُنْقَطِعًا إِلَيْهِ ، وَمُكْثِرًا مِنْهُ ، حَتَّى بَدَّدَ فِيهِ أَمْوَالَهُ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ ، فَقَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ : قُمْ بِنَا إِلَيْهِ ، فَقَدْ غَلَبَ هَوَاهُ عَلَى شَرَفِهِ وَمُرُوءَتِهِ ، فَلَمَّا اسْتَأْذَنَا عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ جَوَارِيهِ ، يُغَنِّينَ فَأَمَرَهُنَّ بِالسُّكُوتِ ، وَأَذِنَ لَهُمَا فِي الدُّخُولِ ، فَلِمَا اسْتَقَرَّ بِهِمَا الْجُلُوسُ ، قَالَ مُعَاوِيَةُ : يَا عَبْدَ اللَّهِ ، مُرْهُنَّ يَرْجِعْنَ إِلَى مَا كُنَّ عَلَيْهِ ، فَرَجَعْنَ يُغَنِّينَ ، فَطَرِبَ مُعَاوِيَةُ حَتَّى حَرَّكَ رِجْلَيْهِ عَلَى السَّرِيرِ ، فَقَالَ عَمْرٌو : إِنَّ مَنْ جِئْتَ تَلْحَاهُ أَحْسَنُ حَالًا مِنْكَ ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ : إِلَيْكَ عَنِّي يَا عَمْرُو ، فَإِنَّ الْكَرِيمَ طَرُوبٌ . وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْغَنَاءِ مَا يُكْرَهُ كَالَّذِي رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، وَقَدْ عَادَ ابْنُ جَامِعٍ إِلَى مَكَّةَ بِأَمْوَالٍ جَمَّةٍ حَمَلَهَا مِنَ الْعِرَاقِ ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : عَلَامَ لِعَطَاءِ ابْنِ جَامِعٍ هَذِهِ الْأَمْوَالُ ؟ فَقَالُوا : عَلَى الْغِنَاءِ ، قَالَ : " ابْنُ جَامِعٍ مَاذَا يَقُولُ فِيهِ " ؟ قَالُوا : يَقُولُ : أُطَـوِّفُ بِالْبَيْـتِ فِي مَـنْ يُطَـوفُ وَأَرْفَـعُ مِـنْ مِـئْـزَرِي الْمُسْبِــلِ قَالَ : هِيَ السُّنَّةُ ، ثُمَّ مَاذَا يَقُولُ ؟ قَالُوا : وَأَسْجُـدُ بِالْلَيْـلِ حَتَّى الصَّبَاحِ وَأَتْلُـو مِنَ الْمُحْكَـمِ الْمُنْزَلِ قَالَ : أَحْسَنَ وَأَصْلَحَ ، ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالُوا : عَسَـى فَـارِجُ الْهَـمِّ عَنْ يُوسُـفٍ يُسَخِّـرُ لِـي رَبَّةَ الْمَحْمَــلِ قَالَ : أَفْسَدَ الْخَبِيثُ مَا أَصْلَحَ لَا سَخَّرَ اللَّهُ لَهُ .

وَاسْتَدَلَّ مَنْ حَظَرَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ [ الْفُرْقَانِ : ] . وَفِيهِ أَرْبَعَةُ تَأْوِيلَاتٍ : - أَحَدُهَا : الْغِنَاءُ . قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالثَّانِي : أَعْيَادُ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، قَالَهُ ابْنُ سِيرِينَ . وَالثَّالِثُ : الْكَذِبُ ، قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ . وَالرَّابِعُ : الشِّرْكُ ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ رَحِمَهُ اللَّهُ . وَقَالَ تَعَالَى : وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [ الْفُرْقَانِ : ] . وَفِيهِ ثَلَاثُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : إِذَا ذَكَرُوا الْفُرُوجَ وَالنِّكَاحَ كَنَّوْا عَنْهَا . وَالثَّانِي : إِذَا مَرُّوا بِالْمَعَاصِي أَنْكَرُوهَا ، قَالَهُ الْحَسَنُ . وَالثَّالِثُ : إِذَا مَرُّوا بِأَهْلِ الْمُشْرِكِينَ أَنْكَرُوهُ ، قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ . وَقَالَهُ تَعَالَى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [ لُقْمَانَ : ] الْآيَةَ . وَفِي " لَهْوَ " أَرْبَعَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ الْغِنَاءُ ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَقَتَادَةُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ شِرَاءُ الْمُغَنِّيَاتِ . وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " لَا يَحِلُّ بَيْعُ الْمُغَنِّيَاتِ ، وَلَا شِرَاؤُهُنَّ ، وَلَا التِّجَارَاتُ فِيهِنَّ ، وَأَثْمَانُهُنَ حَرَامٌ ، وَفِيهِنَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ " . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ شِرَاءُ الطَّبْلِ وَالْمِزْمَارِ ، قَالَهُ عَبْدُ الْكَرِيمِ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ مَا أَلْهَى عَنِ اللَّهِ تَعَالَى ، قَالَهُ الْحَسَنُ . وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ لُقْمَانَ : ] . تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : لِيَمْنَعَ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي : لِيَصُدَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ . حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ . وَفِي قَوْلِهِ " بِغَيْرِ عِلْمٍ " : تَأْوِيلَانِ .

أَحَدُهُمَا : بِغَيْرِ حُجَّةٍ . وَالثَّانِي : بِغَيْرِ رِوَايَةٍ . وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا [ لُقْمَانَ : ] . تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : تَكْذِيبًا . وَالثَّانِي : اسْتِهْزَاءً بِهَا . وَمِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ : " الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ ، كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ " . وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " الْغِنَاءُ نَهِيقُ الشَّيْطَانِ " . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَنْهَاكُمْ عَنْ صَوْتَيْنِ فَاجِرَيْنِ : الْغِنَاءِ ، وَالنِّيَاحَةِ " . وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : الْغِنَاءُ رُقْيَةُ الزِّنَى . وَإِذَا تَقَابَلَ بِمَا ذَكَرْنَا ، دَلَائِلُ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ ، يَخْرُجُ مِنْهَا حُكْمُ الْكَرَاهَةِ . فَلَمْ يُحْكَمْ بِإِبَاحَتِهِ ، لِمَا قَابَلَهُ مِنْ دَلَائِلِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ ، وَلَمْ نَحْكُمْ بِحَظْرِهِ لِمَا قَابَلَهُ مِنْ دَلَائِلِ الْإِبَاحَةِ ، " فَصَارَ يَتَرَدَّدَهُ بَيْنَهُمَا مَكْرُوهًا غَيْرَ مُبَاحٍ وَلَا مَحْظُورٍ . وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْغِنَاءِ : أَحَلَالٌ هُوَ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : أَحَرَامٌ هُوَ ؟ قَالَ : لَا ، يُرِيدُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ لِتَوَسُّطِهِ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

الْقَوْلُ فِي الْمَلَاهِي

الْقَوْلُ فِي الْمَلَاهِي فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمَلَاهِي فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : حَرَامٍ ، وَمَكْرُوهٍ ، وَحَلَالٍ . فَأَمَّا الْحَرَامُ من الملاهي : فَالْعُودُ ، وَالطُّنْبُورُ ، وَالْمِعْزَفَةُ ، وَالطَّبْلُ ، وَالْمِزْمَارُ ، وَمَا أَلْهَى بِصَوْتٍ مُطْرِبٍ إِذَا انْفَرَدَ . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى أُمَّتِي الْخَمْرَ ، وَالْمَيْسِرَ ، وَالْمِزْرَ ، وَالْكُوبَةَ ، وَالْمَزَامِيرَ ، وَالْقِنِّينَ " . فَالْمَيْسِرُ : الْقِمَارُ ، وَالْمِزْرُ : نَبِيذُ الذُّرَةِ ، وَالْكُوبَةُ : الطَّبْلُ ، وَالْقِنِّينُ : الْبُرْبُطُ ، وَلِأَنَّهَا تُلْهِي عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنِ الصَّلَاةِ كَالشَّرَابِ .

وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَخُصُّ الْعَوْدَ مِنْ بَيْنِهَا وَلَا يُحَرِّمُهُ ، لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ عَلَى حَرَكَاتٍ نَفْسَانِيَّةٍ تَنْفِي الْهَمَّ ، وَتُقَوِّي الْهِمَّةَ وَتَزِيدُ فِي النَّشَاطِ . وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ الْمَلَاهِي طَرَبًا ، وَأَشْغَلُهَا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنِ الصَّلَاةِ ، وَإِنْ تَمَيَّزَ بِهِ الْأَمَاثِلُ عَنِ الْأَرَاذِلِ . وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ من الملاهي : فَمَا زَادَ بِهِ الْغِنَاءُ طَرَبًا ، وَلَمْ يَكُنْ بِانْفِرَادِهِ مُطْرِبًا ، كَالْفُسَحِ ، وَالْقَضِيبِ ، فَيُكْرَهُ مَعَ الْغِنَاءِ لِزِيَادَةِ إِطْرَابِهِ ، وَلَا يُكْرَهُ إِذَا انْفَرَدَ لِعَدَمِ إِطْرَابِهِ . وَأَمَّا الْمُبَاحُ من الملاهي : فَمَا خَرَجَ عَنْ آلَةِ الْإِطْرَابِ ، إِمَّا إِلَى إِنْذَارٍ كَالْبُوقِ ، وَطَبْلِ الْحَرْبِ . أَوْ لِمَجْمَعٍ وَإِعْلَانٍ كَالدُّفِّ فِي النِّكَاحِ ، كَمَا قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ : " أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ " . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ ضَرْبُ الدُّفِّ عَلَى النِّكَاحِ عَامٌّ فِي كُلِّ الْبُلْدَانِ وَالْأَزْمَانِ ؟ فَعَمَّ بَعْضُهُمْ لِإِطْلَاقِهِ ، وَخَصَّ بَعْضُهُمْ فِي الْبُلْدَانِ الَّتِي لَا يَتَنَاكَرُ أَهْلُهَا فِي الْمَنَاكِحِ ، كَالْقُرَى وَالْبَوَادِي ، وَيُكْرَهُ فِي غَيْرِهَا ، فِي مِثْلِ زَمَانِنَا ، لِأَنَّهُ قَدْ عُدِلَ بِهِ إِلَى السَّخَفِ وَالسَّفَاهَةِ . فَأَمَّا الشَّبَّابَةُ : فَهِيَ فِي الْأَمْصَارِ مَكْرُوهَةٌ ، لِأَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِيهَا لِلسُّخْفِ وَالسَّفَاهَةِ ، وَهِيَ فِي الْأَسْفَارِ وَالرُّعَاةِ مُبَاحَةٌ ، لِأَنَّهَا تَحُثُّ عَلَى السَّيْرِ وَتَجْمَعُ الْبَهَائِمَ إِذَا سَرَحَتْ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَحْكَامُ الْأَغَانِي وَالْمَلَاهِي ، فَإِنْ قِيلَ بِتَحْرِيمِهَا فَهِيَ مِنَ الصَّغَائِرِ دُونَ الْكَبَائِرِ ، يُفْتَقَرُ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ ، وَلَا تُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ إِلَّا مَعَ الْإِصْرَارِ . وَإِنْ قِيلَ بِكَرَاهَتِهَا ، فَهِيَ مِنَ الْخَلَاعَةِ لَا يُفْتَقَرُ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ وَلَا تُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ إِلَّا مَعَ الْإِصْرَارِ ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : فِيمَنْ بَاشَرَهَا بِنَفْسِهِ . وَالثَّانِي : فِيمَنْ يَسْتَعْمِلُهَا لِلَهْوِهِ وَالثَّالِثُ : فِيمَنْ يَغْشَى أَهْلَهَا . فَأَمَّا الْمُبَاشِرُ لَهَا بِنَفْسِهِ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَصِيرَ مَنْسُوبًا إِلَيْهَا وَمُسَمًّى بِهَا ، يُقَالُ إِنَّهُ مُغَنِّي يَأْخُذُ عَلَى غِنَائِهِ أَجْرًا ، يَدْعُوهُ النَّاسُ إِلَى دُورِهِمْ أَوْ يَغْشَوْنَهُ لِذَلِكَ فِي دَارِهِ ، فَهَذَا سَفِيهٌ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ المغني ، لِأَنَّهُ قَدْ تَعَرَّضَ لِأَخْبَثِ الْمَكَاسِبِ وَنُسِبَ إِلَى أَقْبَحِ الْأَسْمَاءِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُغَنِّيَ لِنَفْسِهِ إِذَا خَلَا فِي دَارِهِ بِالْيَسِيرِ اسْتِرْوَاحًا فَهَذَا مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا خَلَا فِي دَارِهِ يَتَرَنَّمُ بِالْبَيْتِ وَالْبَيْتَيْنِ :

وَاسْتُؤْذِنَ عَلَيْهِ ذَاتَ يَوْمٍ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَهُوَ يَتَرَنَّمُ فَقَالَ : أَسَمِعْتَنِي يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ . قَالَ : إِنَّا إِذَا خَلَوْنَا فِي مَنَازِلِنَا نَقُولُ كَمَا يَقُولُ النَّاسُ . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ، وَكَانَ مِنْ زُهَّادِ الصَّحَابَةِ ، أَنَّهُ قَالَ : إِنِّي لَأَجُمُّ قَلْبِي بِشَيْءٍ مِنَ الْبَاطِلِ لِأَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى الْحَقِّ . فَإِنْ قَرَنَ يَسِيرَ غِنَائِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَلَاهِي مِمَّا حَظَرْنَاهُ ، نُظِرَ . فَإِنْ خَرَجَ صَوْتُهُ عَنْ دَارِهِ حَتَّى يُسْمَعَ مِنْهَا ، كَانَ سَفَهًا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ . وَإِنْ خَافَتْ بِهِ وَلَمْ يُسْمَعْ ، كَانَ عَفْوًا إِذَا قَلَّ وَلَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُغَنِّيَ إِذَا اجْتَمَعَ مَعَ إِخْوَتِهِ لِيَسْتَرْوِحُوا بِصَوْتِهِ وَلَيْسَ بِمُنْقَطِعٍ عَلَيْهِ . وَلَا يَأْخُذُ عَلَيْهِ أَجْرًا ، نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِهِ ، يَدْعُوهُ النَّاسُ لِأَجْلِهِ ، كَانَ سَفَهًا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ بِهِ ، وَلَا دَعَا النَّاسَ لِأَجْلِهِ ، نُظِرَ . فَإِنْ كَانَ مُتَظَاهِرًا بِهِ مُعْلِنًا لَهُ ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَتِرًا بِهِ ، لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ مُسْتَمِعِ الْغِنَاءِ

الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ مُسْتَمِعِ الْغِنَاءِ فَصْلٌ : وَأَمَّا مُسْتَمِعُ الْغِنَاءِ . فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَصِيرَ مُنْقَطِعًا إِلَيْهِ ، يَدْفَعُ عَلَيْهِ حَذَرًا وَيَتَّبِعُ فِيهِ أَهْلَ الْخُدُورِ ، فَهَذَا سَفِيهٌ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقِلَّ اسْتِمَاعُهُ ، وَيَسْمَعَهُ أَحْيَانًا فِي خَلْوَتِهِ اسْتِرْوَاحًا بِهِ ، فَهُوَ عَلَى عَدَالَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ ، إِذَا لَمْ يَقْصِدِ الِاسْتِمَاعَ غِنَاءَ امْرَأَةٍ غَيْرِ ذَاتِ مَحْرَمٍ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " رَوِّحُوا الْقُلُوبَ تَعِي الذِّكْرَ " . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَتَوَسَّطَ بَيْنَ الْمُكْثِرِ وَالْمُقِلِّ نُظِرَ . فَإِنِ اشْتُهِرَ بِهِ وَانْقَطَعَ بِهِ عَنْ أَشْغَالِهِ ، صَارَ سَفِيهًا مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ بِهِ وَلَا قَطَعَهُ عَنْ أَشْغَالِهِ ، فَهُوَ عَلَى عَدَالَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا مُقْتَنِي الْمُغَنِّيِينَ وَالْمُغَنِّيَاتِ ، مِنَ الْغِلْمَانِ وَالْجَوَارِي حكم شهادته ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ :

أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ جَلِيسًا لَهُمْ ، وَمَقْصُودًا لِأَجْلِهِمْ ، فَهَذَا سَفِيهٌ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ وَحَالُهُ فِي الْجَوَارِي أَغْلَظُ مِنْ حَالِهِ فِي الْغِلْمَانِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : لِأَنَّهُ قَدْ جَمَعَ سَفَهًا وَدَنَاءَةً ، وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقْتَنِيَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ لِيَسْتَمِعَ غِنَاءَهُمْ إِذَا خَلَا ، مُقْبِلًا مُسْتَتِرًا ، غَيْرَ مُكَاثِرٍ وَلَا مُجَاهِرٍ . فَهُوَ عَلَى عَدَالَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَدْعُوَ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي سَمَاعِهِمْ فَيُنْظَرُ : فَإِنْ كَانَ يَدْعُوهُمْ مِنْ أَجْلِ السَّمَاعِ ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ . وَإِنْ دَعَاهُمْ لِغَيْرِ الْغِنَاءِ ، نُظِرَ . فَإِنْ كَثُرَ حَتَّى اشْتُهِرَ ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ ، وَإِنْ قَلَّ وَلَمْ يَشْتَهِرْ ، فَإِنْ كَانَ الْغِنَاءُ مِنْ غُلَامٍ ، لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ ، وَإِنْ كَانَ الْغِنَاءُ مِنْ جَارِيَةٍ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً رُدَّتْ شَهَادَتُهُ وَشَهَادَةُ مُسْتَمِعِهَا إِذَا اعْتَمَدَ الْمُسْتَمِعُ سَمَاعَهَا ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَمِدْ لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ وَإِنْ كَانَتْ أَمَّةً ، فَسَمَاعُهَا أَخَفُّ مِنْ سَمَاعِ الْحُرَّةِ ، لِنَقْصِهَا فِي الْعَوْرَةِ ، وَأَغْلَظُ مِنْ سَمَاعِ الْغُلَامِ لِزِيَادَتِهَا فِي الْعَوْرَةِ ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَغْلِبَ نَقْصُهَا عَنِ الْحُرَّةِ وَإِجْرَائِهَا مَجْرَى الْغُلَامِ ، فَلَا تُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَغْلِبَ زِيَادَتُهَا عَلَى الْغُلَامِ وَإِجْرَائِهَا مَجْرَى الْحُرَّةِ ، فَتُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ الْحَادِي وَالرَّاجِزِ

الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ الْحَادِي وَالرَّاجِزِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَأَمَّا الِاسْتِمَاعُ لِلْحُدَاءِ وَنَشِيدِ الْأَعْرَابِ ، فَلَا بَأْسَ بِهِ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلشَّرِيدِ : " أَمَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ شَيْءٌ ؟ " قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : " هِيهِ " فَأَنْشَدَهُ بَيْتًا فَقَالَ " هِيهِ " حَتَّى بَلَغَتْ مِائَةَ بَيْتٍ وَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُدَاءَ وَالرَّجَزَ وَقَالَ لِابْنِ رَوَاحَةَ " حَرِّكْ بِالْقَوْمِ " ، فَانْدَفَعَ يَرْجِزُ قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : كَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ اسْتِدْبَارًا ، فَقُلْتُ لَهُ : كَيْفَ يَلْعَبُ بِهَا اسْتِدْبَارًا ، قَالَ : يُوَلِّيهَا ظَهْرَهُ ثُمَّ يَقُولُ : " بِأَيِّ شَيْءٍ وَقَعَ " ، فَيَقُولُ : بِكَذَا فَيَقُولُ : أَوْقِعْ عَلَيْهِ بِكَذَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . لَا بَأْسَ بِالْحُدَاءِ وَنَشِيدِ الْأَعْرَابِ ، وَالشِّعْرِ ، وَالرَّجَزِ ، وَهُوَ مُبَاحٌ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ . وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ : كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ نَامَ بِالْوَادِي حَادِيَانِ . وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : كُنَّا فِي سَفَرٍ مَعَ

رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ جَيِّدَ الْحُدَاءِ ، فَكَانَ مَعَ الرِّجَالِ ، وَكَانَ أَنْجَشَةُ مَعَ النِّسَاءِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ : " حَرِّكْ بِالْقَوْمِ " ، فَانْدَفَعَ يَرْتَجِزُ ، وَتَبِعَهُ أَنْجَشَةُ ، فَأَعْنَقَتِ الْإِبِلُ فِي السَّيْرِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " رُويْدَكَ يَا أَنْجَشَةُ رِفْقًا بِالْقَوَارِيرِ " يَعْنِي النِّسَاءَ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ : " أَمَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ شَيْءٌ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ . قَالَ : فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا فَقَالَ : هِيهِ . فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا آخَرَ . فَقَالَ : هِيهِ . فَأَنْشَدْتُهُ إِلَى أَنْ بَلَغَ مِائَةَ بَيْتٍ . وَهِيهِ : مَوْضُوعَةٌ فِي الْكَلَامِ لِلْحَثِّ وَالِاسْتِزَادَةِ ، وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَ شَعْرَ أُمَيَّةَ لِأَنَّ أَكْثَرَهُ عِبَرٌ وَأَمْثَالٌ ، وَأَذْكَارٌ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ ، وَوَعْدٌ وَوَعِيدٌ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ النبي صلى الله عليه وسلم . وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهِ : " إِنْ كَادَ لَيُسْلِمَ " . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَقِيَ فِي سَفَرٍ رَكْبًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مَعَهُمْ حَادٍ ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَحْدُوا ، فَقَالُوا : إِنَّ حَادِيَنَا حَدَا وَنَامَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ ، ثُمَّ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّا أَوَّلُ الْعَرَبِ حُدَاءً بِالْإِبِلِ ، قَالَ : وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : إِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُغِيرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ ، فَأَغَارَ رَجُلٌ مِنَّا عَلَى إِبِلٍ فَاسْتَاقَهَا فَتَبَدَّدَتْ ، فَضَرَبَ غُلَامَهُ عَلَى يَدِهِ ، فَكَانَ الْغُلَامُ كُلَّمَا ضَرَبَهُ صَاحَ وَايَدَاهُ ! وَايَدَاهُ ! وَالْإِبِلُ تَجْتَمِعُ لِحُسْنِ صَوْتِهِ ، وَهُوَ يَقُولُ : هَكَذَا أَفْعَلُ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ ، فَقَالَ : وَمِمَّنْ أَنْتُمْ ؟ قَالُوا : مِنْ مُضَرَ ، فَقَالَ : " وَنَحْنُ مِنْ مُضَرَ وَكَيْفَ كُنْتُمْ أَوَّلَ الْعَرَبِ حُدَاءً ؟ " . فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى إِنْشَادِ الرَّجَزِ وَإِبَاحَةِ الْحُدَاءِ ، وَجَوَازِ الضَّحِكِ عِنْدَ التَّعَجُّبِ وَلِأَنَّ الْحُدَاءَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهِ اللَّهْوُ كَالْغِنَاءِ ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ حَثُّ الْمُطِيِّ وَإِعْنَاقِ السَّيْرِ ، فَلَمْ تَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ كَرَاهِيَةٌ . وَلِأَنَّ الْحُدَاءَ الْحَسَنَ الرَّجَزُ ، فَيُبَاحُ بِالصَّوْتِ الشَّجِيِّ ، فَيُخَفِّفُ كِلَالَ السَّفَرِ ، وَيُحْدِثُ نَشَاطَ النَّفْسِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْكَرَاهَةِ وَجْهٌ ، وَسَوَاءٌ فِيهِ الْحَادِي وَالْمُسْتَمِعُ ، وَهَكَذَا التَّغَنِّي بِالرُّكَانِيَّةِ مُبَاحٌ ، لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ الْحُدَاءِ ، يَعْدِلُ فِيهِ عَنْ أَلْحَانِ الْغِنَاءِ . وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ ، اسْتَقْبَلَهُ الْأَنْصَارُ وَخَرَجَ إِلَيْهِ الْفِتْيَانُ بِالدُّفُوفِ وَهُمْ يُنْشِدُونَ :

طَلَــعَ الْبَــــدْرُ عَلَيْـــنَا مِـــنْ ثَنِيَّـاتِ الْــوَدَاعِ وَجَـــبَ الشُّكْـــرُ عَلَيْنَـــا مَـــا دَعَـــا لِلَّــــهِ دَاعِ وَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ أَزِقَّةِ الْمَدِينَةِ ، فَسَمِعَ جِوَارِيَ لِبَنِي النَّجَّارِ يُنْشِدُونَ : نَحْـــنُ جَـــوَارٍ لِبَنِي النَّجَّــارِ يَا حَبَّذَا مُحَمَّـدٌ مِنْ جَـارِ فَقَالَ : " يَا حَبَّذَا أَنْتُنَّ " .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا كَانَ هَكَذَا كَانَ تَحْسِينُ الصَّوْتِ بِذِكْرِ اللَّهِ وَالْقُرْآنِ أَوْلَى مَحْبُوبًا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ كَإِذْنِهِ لِنَبِيٍّ حَسَنِ التَّرَنُّمِ بِالْقُرْآنِ ، وَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ يَقْرَأُ ، فَقَالَ " لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ " قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ بِالْأَلْحَانِ ، وَتَحْسِينِ الصَّوْتِ بِأَيِّ وَجْهٍ مَا كَانَ ، وَأَحَبُّ مَا يُقْرَأُ إِلَيَّ حَدْرًا وَتَحْزِينًا . قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : لَوْ كَانَ مَعْنَى " يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ " عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ ، لَكَانَ يَتَغَانَى وَتَحْسِينُ الصَّوْتِ هُوَ يَتَغَنَّى ، وَلَكِنَّهُ يُرَادُ بِهِ تَحْسِينُ الصَّوْتِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا تَحْسِينُ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ حَدْرًا وَتَحْزِينًا فَمُسْتَحَبٌّ ، لِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ كَإِذْنِهِ لِنَبِيٍّ حَسَنِ التَّرَنُّمِ بِالْقُرْآنِ " وَرُوِيَ : حُسْنُ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ زِينَةُ الْقُرْآنِ . وَمَعْنَى قَوْلِهِ " أَذِنَ اللَّهُ " أَيْ : مَا اسْتَمَعَ اللَّهُ . وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ [ الِانْشِقَاقِ : ] . أَيْ : سَمِعَتْ لَهُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَسْمَعَ . وَرَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ : " حَسِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ " . وَرَوَى الزُّهْرِيُّ ، عَنْ عَمْرَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ قِرَاءَةَ أَبِي مُوسَى ، فَقَالَ : " لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِنَ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ " .

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْمَعُ قِرَاءَتَكَ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْمَعُنِي لَحَبَّرْتَهُ تَحْبِيرًا " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ ، فَلْيَقْرَأْ بِقِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ " يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ ، لِحُسْنِ أَدَائِهِ ، وَصِحَّةِ تَرْتِيلِهِ ، وَتَحْقِيقِ أَلْفَاظِهِ . وَكَانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ذَا صَوْتٍ حَسَنٍ ، وَأَدَاءٍ صَحِيحٍ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَقَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ . وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي قِرَاءَتِهِ عَلَيْهِ . فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لِيَسْتَنَّ بِهِ النَّاسُ بَعْدَهُ ، فَلَا يَسْتَنْكِفُ شَرِيفٌ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى مَشْرُوفٍ ، وَلَا كَبِيرٌ عَلَى صَغِيرٍ . وَقَالَ آخَرُونَ : لِيَسْمَعَ النَّاسُ قِرَاءَتَهُ وَأَدَاءَهُ ، فَيَأْخُذُونَ عَنْهُ . وَقَالَ آخَرُونَ : أَرَادَ بِهِ تَفْضِيلَ أُبَيٍّ بِذَلِكَ ، وَلِأَنَّ فِي تَحْسِينِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ تَحْرِيكَ الْقُلُوبِ بِالْحَزَنِ وَالْخُشُوعِ ، وَإِنْذَارِ النُّفُوسِ بِالْحَزَنِ وَالْخُضُوعِ ، فَيَكُونُ أَبْعَثَ عَلَى الطَّاعَةِ وَأَمْنَعَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي تَهَجُّدِهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى إِذَا بَلَغَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [ النِّسَاءِ : ] . فَبَكَى حَتَّى عَلَا نَحِيبُهُ ، وَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهَا حَتَّى تَحَزَّنَ صَوْتُهُ . وَمَرَّ بَعْضُ أَهْلِ الْبِطَالَةِ ، وَقَدْ هَمَّ بِمَعْصِيَةٍ وَقَتْلِ نَفْسٍ ، بِصَالِحٍ الْمُرِّيِّ وَهُوَ يَقْرَأُ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [ الْفُرْقَانِ : ] . فَانْزَجَرَ بِهَا ، وَأَلْقَى السِّكِّينَ مِنْ يَدِهِ ، وَخَرَّ مَغْشِيًّا عَلَى وَجْهِهِ ، وَتَابَ ، وَصَارَ نَاسِكًا .

الْقَوْلُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالْأَلْحَانِ

الْقَوْلُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالْأَلْحَانِ : فَصْلٌ : فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْأَلْحَانِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْأَغَانِي ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا ، فَرَخَّصَهَا قَوْمٌ وَأَبَاحُوهَا ، لِرِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ " .

وَشَدَّدَهَا آخَرُونَ وَحَظَرُوهَا ، لِخُرُوجِهَا عَنِ الزَّجْرِ وَالْعِظَةِ إِلَى اللَّهْوِ وَالطَّرَبِ . وَلِأَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ عُرْفِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحَابَتِهِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، إِلَى مَا اسْتُحْدِثَ مِنْ بَعْدِهِ . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كُلُّ مُحَدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ . وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ ، فَإِنَّهُ عَدَلَ عَنْ هَذَيْنِ الْإِطْلَاقَيْنِ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ بِاعْتِبَارِ الْأَلْحَانِ ، فَإِذَا أُخْرِجَتْ أَلْفَاظُ الْقُرْآنِ عَنْ صِيغَتُهُ ، بِإِدْخَالِ حَرَكَاتٍ فِيهِ وَإِخْرَاجِ حَرَكَاتٍ مِنْهُ ، يُقْصَدُ بِهَا وَزْنُ الْكَلَامِ وَانْتِظَامُ اللَّحْنِ ، أَوْ مَدُّ مَقْصُورٍ ، أَوْ قَصْرُ مَمْدُودٍ ، أَوْ مَطَطٌ حَتَّى خَفِيَ اللَّفْظُ ، وَالْتَبَسَ الْمَعْنَى ، فَهَذَا مَحْظُورٌ ، يُفَسَّقُ بِهِ الْقَارِئُ ، وَيَأْثَمُ بِهِ الْمُسْتَمِعُ ، لِأَنَّهُ قَدْ عَدَلَ بِهِ عَنْ نَهْجِهِ إِلَى اعْوِجَاجِهِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [ الزُّمَرِ : ] . وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهُ اللَّحْنُ عَنْ صِيغَةِ لَفْظِهِ وَقِرَاءَتِهِ عَلَى تَرْتِيلِهِ كَانَ مُبَاحًا ، لِأَنَّهُ قَدْ زَادَ بِأَلْحَانِهِ فِي تَحْسِينِهِ وَمِيلِ النَّفْسِ إِلَى سَمَاعِهِ . أَمَّا قَوْلُهُ : لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ " فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَعْنَاهُ مَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِالْقُرْآنِ ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَصْمَعِيِّ ، وَمَالَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ . وَحَكَى زُهَيْرُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْمُزَنِيِّ ، أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى رَجُلٍ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ ، فَقَالَ : يَا هَذَا إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ مُتَغَنِّيًا فَبِالشِّعْرِ ، فَقَالَ الرَّجُلُ : أَلَيْسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ ، فَقَالَ لَهُ إِيَاسٌ : إِنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِالْقُرْآنِ ، أَلَمْ تَسْمَعْ حَدِيثَهُ الْآخَرَ " مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ فَظَنَّ أَنَّ أَحَدًا أَغْنَى مِنْهُ . أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الشَّاعِرِ : غَنِينَا بِذِكْرِ اللَّهِ عَمَّا نَرَاهُ فِي يَدِ الْمُتَمَوِّلِينَا وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى غِنَاءِ الصَّوْتِ فِي تَحْسِينِهِ وَتَحْزِينِهِ دُونَ أَلْحَانِهِ . وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ ، وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ ، وَقَالَ : لَوْ أَرَادَ هَذَا لَقَالَ : " مَنْ لَمْ يَتَغَانَ بِالْقُرْآنِ " .

الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ أَهْلِ الْعَصَبِيَّةِ

الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ أَهْلِ الْعَصَبِيَّةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَيْسَ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ قَوْمَهُ ، وَالْعَصَبِيَّةُ الْمَحْضَةُ ، أَنْ يُبْغَضَ الرَّجُلُ لِأَنَّهُ مِنْ بَنِي فُلَانٍ ، فَإِذَا أَظْهَرَهَا ، وَدَعَا إِلَيْهَا ، وَتَأَلَّفَ عَلَيْهَا ، فَمَرْدُودٌ ، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْمُسْلِمِينَ بِالْإِسْلَامِ ، وَهُوَ أَشْرَفُ أَنْسَابِهِمْ ، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ " وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كُونَوَا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا ، فَمَنْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَأَمْرَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُسْلِمِينَ بِالْأُلْفَةِ وَالتَّنَاصُرِ ، وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ . وَقَالَ تَعَالَى : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [ الْحُجُرَاتِ : ] . وَقَالَ تَعَالَى : وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [ التَّوْبَةِ : ] . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أُمَّتِي كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا " وَقَالَ فِيمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ مِنَ التَّقَاطُعِ : وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [ آلِ عِمْرَانَ : ] . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تَحَاسَدُوا ، وَلَا تَقَاطَعُوا ، وَلَا تَدَابَرُوا ، وَلَا تَبَاغَضُوا ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا ، لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ ، وَالسَّابِقُ أَسْبَقُهُمَا إِلَى الْجَنَّةِ " فَكَانَ هَذَا أَصْلًا فِي الدِّينِ ، لِيَكُونُوا يَدًا عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ فِيهِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ " . وَيَشْتَمِلُ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : فِي الْمَحَبَّةِ . وَالثَّانِي : فِيمَا يُفْضِي إِلَيْهِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ . وَالثَّالِثُ : فِي الْبُغْضِ . وَالرَّابِعُ : فِيمَا يُفْضِي إِلَيْهِ مِنَ الْعَدَاوَةِ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : فِي الْمَحَبَّةِ . وَنَتَحَدَّثُ عَنْ أَسْبَابٍ يَكُونُ بَعْضُهَا مُسْتَحَبًّا وَبَعْضُهَا مُبَاحًا وَبَعْضُهَا مَكْرُوهًا .

فَأَمَّا الْمُسْتَحَبُّ : فَهُوَ الْمَحَبَّةُ فِي الدِّينِ ، وَظُهُورُ الْخَيْرِ ، وَمَا قَرَّبَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَبَاعَدَ مِنْ مَعَاصِيهِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [ آلِ عِمْرَانَ : ] . وَلِذَلِكَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ . فَأَمَّا الْمُبَاحُ : فَهُوَ الْمَحَبَّةُ عَلَى النَّسَبِ وَعَلَى التَّجَانُسِ فِي عِلْمٍ أَوْ أَدَبٍ ، وَعَلَى مَا أُبِيحَ مِنْ صِنَاعَةٍ أَوْ مَكْسَبٍ ، فَهَذَا مُبَاحٌ تَقْوَى بِهِ الْعَدَالَةُ وَلَا تَضْعُفُ بِهِ ، وَلِهَذَا النَّوْعِ أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ : وَلَيْسَ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ قَوْمَهُ " . هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَعْدَلُ خَلْقِ اللَّهِ ، وَقَدْ أَحَبَّ قُرَيْشًا لِنَسَبِهِ فِيهِمْ حَتَّى خَصَّهُمْ بِخِلَافَتِهِ فَقَالَ : " الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ " . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلَا تَتَقَدَّمُوهَا ، وَتَعَلَّمُوا مِنْ قُرَيْشٍ وَلَا تُعَالِمُوهَا ، " وَحَمَى لَهُمْ لَمَّا عَادُوا إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ بَدْرٍ وَمَعَهُ مِنَ الْأَنْصَارِ سَلَامَةُ بْنُ وَقْشٍ وَقَدْ سَأَلَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَمَّنْ لَقِيَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ ، فَقَالَ سَلَامَةُ : وَهَلْ لَقِينَا إِلَّا عَجَائِزَ صُلْعًا ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " أُولَئِكَ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ " ، فَنَفَى عَنْهُمُ الْعَارَ مَعَ كُفْرِهِمْ وَمُحَارَبَتِهِمْ لَهُ . وَسَمِعَ شَاعِرًا مِنْ حِمْيَرٍ يُنْشِدُهُ : إِنِّي امْرُؤٌ حِمْيَرِيٌّ حِينَ تَنْسِبُنِي لَا مِنْ رَبِيعَةَ آبَائِي وَلَا مُضَرَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " ذَاكَ أَهْوَنُ لِقَدَرِكَ وَأَبْعَدُ لَكَ مِنَ اللَّهِ " . وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ : فَهُوَ الْمَحَبَّةُ عَلَى الْمُوافَقَةِ فِي الْمَعَاصِي ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ " فَصَارَ مُحِبُّ الْعَاصِي كَالْعَاصِي .

فَأَمَّا الْمَحَبَّةُ لِاسْتِحْسَانِ الصُّوَرِ ، فَإِنْ كَانَتْ لِهَوًى يُفْضِي إِلَى رِيبَةٍ ، كُرِهَتْ وَإِنْ كَانَتْ لِاسْتِحْسَانِ صُنْعِ اللَّهَ تَعَالَى وَبَدِيعِ خَلْقِهِ ، لَمْ تُكْرَهْ وَكَانَتْ بِالْمُسْتَحَبَّةِ أَشْبَهَ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الْعَصَبِيَّةِ في الشهادة : فَهِيَ شِدَّةُ الْمُمَايَلَةِ لِقَوْمٍ عَلَى قَوْمٍ ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ عَصَبِيَّتُهُ لَهُمْ عَامَّةً فِي كُلِّ حَقٍّ وَبَاطِلٍ ، وَعَلَى كُلِّ مُحِقٍّ وَمُبْطِلٍ ، فَهَذَا فِسْقٌ تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ [ التَّوْبَةِ : ] . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ عَصَبِيَّتُهُ لَهُمْ مَقْصُورَةً عَلَى أَخْذِ الْحَقِّ لَهُمْ ، وَدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُمْ ، فَيَكُونُ بِهَا عَلَى عَدَالَتِهِ ، وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [ الْمَائِدَةِ : ] . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ : " أَعِنْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا ، فَقَالَ الرَّجُلُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : أُعِينُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ أُعِينُهُ ظَالِمًا ، فَقَالَ : " تَرُدُّهُ عَنْ ظُلْمِهِ " . ثُمَّ تُعْتَبَرُ هَذِهِ الْعَصَبِيَّةُ ، فَإِنْ كَانَتْ لِمَحَبَّةِ الْقَوْمِ فَهِيَ مُبَاحَةٌ وَإِنْ كَانَتْ لِنُصْرَةِ الْحَقِّ فَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ .

الْقَوْلُ فِي الْبُغْضِ

[ الْقَوْلُ فِي الْبُغْضِ ] . فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ : فِي الْبُغْضِ في الشهادة : فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : مُسْتَحَبٌّ ، وَمُبَاحٌ وَمَكْرُوهٌ . فَأَمَّا الْمُسْتَحَبُّ : فَهُوَ بُغْضُهُ لِأَهْلِ الْمَعَاصِي ، فَيَكُونُ بُغْضُهُ لَهُمْ طَاعَةً يُؤْجَرُ عَلَيْهَا لِاخْتِصَاصِهِ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى . وَأَمَّا الْمُبَاحُ : فَهُوَ بُغْضُهُ لِمَنْ لَوَى حَقَّهُ وَتَظَاهَرَ بِعَدَاوَتِهِ ، فَيَكُونُ السَّبَبُ الْبَاعِثُ عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مُبَاحًا ، وَلَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ وَلَا يُؤَثَّمُ بِهِ ، وَهُوَ فِيهِ عَلَى عَدَالَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ ، مَا لَمْ يَتَجَاوَزِ الْبُغْضَ إِلَى غَيْرِهِ . وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ : فَهُوَ بُغْضُهُ لِمَنْ خَالَفَهُ فِي نَسَبٍ ، أَوْ عِلْمٍ ، أَوْ صِنَاعَةٍ ، فَيَكُونُ الْبُغْضُ لِهَذَا السَّبَبِ مَكْرُوهًا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّقَاطُعِ .

فَإِنْ أَلَّبَ عَلَيْهِ وَتَعَصَّبَ فِيهِ كَانَ جَرْحًا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ ، وَإِنْ لَمْ يَتَجَاوَزِ الْبُغْضَ إِلَى مَا سِوَاهُ كَانَ عَلَى عَدَالَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ حَمَى نَفْسَهُ مِنْ نَتَائِجِ الْبُغْضِ . فَأَمَّا إِنْ كَانَ بُغْضُهُ لِغَيْرِ سَبَبٍ ، فَإِنْ كَانَ خَاصًّا فِي وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ ، لَمْ تُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ قَلْبَهُ ، وَإِنْ كَانَ عَامًّا لِكُلِّ أَحَدٍ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " شَرُّ النَّاسِ مَنْ يَبْغَضُ النَّاسَ وَيَبْغَضُونَهُ " فَيَكُونُ ذَلِكَ جَرْحًا فِيهِ ، فَتُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ لِخُرُوجِهِ عَنِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنَ الْأُلْفَةِ ، إِلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنَ التَّقَاطُعِ .

الْقَوْلُ فِي الْعَدَاوَةِ

[ الْقَوْلُ فِي الْعَدَاوَةِ ] . فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ : فِي الْعَدَاوَةِ : وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبُغْضِ وَالْعَدَاوَةِ ، أَنَّ الْبُغْضَ بِالْقَلْبِ ، وَالْعَدَاوَةَ بِالْعَمَلِ ، وَمَعَ كُلِّ عَدَاوَةٍ بُغْضٌ وَلَيْسَ مَعَ كُلِّ بُغْضٍ عَدَاوَةٌ ، فَصَارَتِ الْعَدَاوَةُ أَغْلَظَ مِنَ الْبُغْضِ ، فَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : مُسْتَحَبَّةٌ ، وَمُبَاحَةٌ ، وَمَكْرُوهَةٌ . فَأَمَّا الْمُسْتَحَبَّةُ : فَهِيَ فِي الدِّينِ ، لِمَنْ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ أَوْ تَعَرَّضَ لِمَعَاصِيهِ . وَهَذَا غَضَبٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِي حُقُوقِ أَوَامِرهِ وَنَوَاهِيهِ ، فَخَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْعَدَاوَةِ إِلَى نُصْرَةِ الدِّينِ ، فَكَانَ أَبْلَغَ فِي عَدَالَتِهِ ، وَأَوْلَى بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ ، لِأَنَّ مَنْ غَضِبَ لِلَّهِ فِي مَعْصِيَةِ غَيْرِهِ ، كَانَ بِدَفْعِ الْمَعْصِيَةِ عَنْ نَفْسِهِ أَوْلَى . وَأَمَّا الْمُبَاحَةُ : فَهِيَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، إِذَا بُدِءَ بِالْعَدَاوَةِ ، فَقَابَلَ عَلَيْهَا بِمَا لَمْ يَتَجَاوَزْ فِيهِ حُكْمَ الشَّرْعِ ، فَهُوَ مُسْتَوْفٍ لِحَقِّهِ مِنْهُ ، غَيْرُ قَادِحٍ فِي عَدَالَتِهِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ " [ النَّحْلِ : ] . وَشَهَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ عَلَى غَيْرِهِ ، فَأَمَّا قَبُولُهَا عَلَى عَدْوِّهِ فَمُعْتَبَرَةٌ بِحَالِهِ بَعْدَ الْمُقَابَلَةِ فَإِنْ سَكَنَ بَعْدَ نُفُورِهِ ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى نُفُورِهِ ، رُدَّتْ . وَأَمَّا الْمَكْرُوهَةُ : فَهُوَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِهَا مِنْ غَيْرِ سَبَبِ " بِوُجُوبِهَا " ، فَيَكُونُ بِهَا مُتَجَوِّزًا ، فَإِنْ قَرْنَهَا بِفُحْشٍ فِي قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ ، صَارَ بِهَا مَجْرُوحًا فِي حَقِّ الْكَافَّةِ ، لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَحَدٍ وَلَا عَلَيْهِ ، وَإِنْ تَجَرَّدَتْ عَنْ فُحْشٍ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ ، فَهُوَ عَلَى عَدَالَتِهِ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ ، عَلَى غَيْرِهِ وَمَرْدُودُ الشَّهَادَةِ عَلَى عَدُوِّهِ ، وَمَقْبُولُ الشَّهَادَةِ لِعَدُّوِهِ .

الْقَوْلُ فِي حُكْمِ الشِّعْرِ

[ الْقَوْلُ فِي حُكْمِ الشِّعْرِ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ( وَالشِّعْرُ حكمه كَلَامٌ ، فَحَسَنُهُ كَحَسَنِ الْكَلَامِ ، وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِهِ ، وَفَضْلُهُ عَلَى الْكَلَامِ أَنَّهُ سَائِرٌ ، وَإِذَا كَانَ الشَّاعِرُ لَا يُعْرَفُ بِشَتْمِ النَّاسِ

وَأَذَاهُمْ وَلَا يَمْتَدِحُ ، فَيُكْثِرُ الْكَذِبَ الْمَحْضَ ، وَلَا يَتَشَبَّبُ بِامْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا ، وَلَا يُشْهِرُهَا بِمَا يَشِينُهَا ، فَجَائِزُ الشَّهَادَةِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ ، لَمْ تَجُزْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي شَهَادَةِ الشَّاعِرِ إِذَا صَارَ بِالشِّعْرِ مَشْهُورًا وَإِلَيْهِ مَنْسُوبًا ، فَمَنَعَ قَوْمٌ مِنْ قَبُولِهَا ، وَجَعَلُوا تَوَفُّرَهُ عَلَى الشِّعْرِ جَرْحًا ، تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ [ الشُّعَرَاءِ : ] . وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَأَنَّ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا حَتَّى يَرِيهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا . وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ قَرْضَ الشِّعْرِ وَإِنْشَادَهُ إِذَا كَانَ سَلِيمًا لَيْسَ بِجَرْحٍ ، وَشَهَادَةُ مَنِ انْتَسَبَ إِلَيْهِ مَقْبُولَةٌ ، عَلَى مَا سَنُوَضِّحُهُ مِنْ شَرِحٍ وَتَفْصِيلٍ لِرِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَافِعٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الشِّعْرُ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ حَسَنُهُ كَحَسِنِ الْكَلَامِ وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِ الْكَلَامِ . وَرُوِيَ عَنْ عِصْمَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً . وَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا وَإِنَّ أَصْدَقَ بَيْتٍ قَالَتْهُ الْعَرَبُ : أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ . . . . . . . . . . . . . . . . . . وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ وَفَدَ عَلَيْهِ الشُّعَرَاءُ ، فَأَنْشَدُوهُ وَمَدَحُوهُ ، وَأَثَابَ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ ، فَمِنْهُمْ أَعْشَى بْنُ حِرْمَازٍ وَفَدَ عَلَيْهِ وَأَنْشَدَهُ مَا امْتَدَحَهُ بِهِ فَقَالَ : يَا مَالِكَ الْأَرْضِ وَدَيَّانَ الْعَرَبْ إِلَيْكَ أَشْكُو حِقْبَةً مِنَ الْحِقَبْ إِلَى أَنِ انْتَهَى إِلَى شَكْوَى امْرَأَتِهِ :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . وَهُنَّ شَرُّ غَالِبٍ لِمَنْ غَلَبْ وَمِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ وَكَانَ قَدْ هَدَرَ اللَّهُ دَمَهُ ، فَوَرَدَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُسْتَخْفِيًا ، فَقَامَ إِلَيْهِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ مُمْتَدِحًا فَقَالَ : بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ مُتَيَّمٌ إِثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ إِلَى أَنِ انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ : نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَوْعَدَنِي وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَأْمُولُ فَقَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ ، فَاضْرِبْ عُنُقَهُ . فَقَالَ : " لَا ، دَعْهُ فَإِنَّهُ قَدْ أَسْلَمَ " وَأَعْطَاهُ بُرْدَةً كَانَتْ عَلَيْهِ ، فَابْتَاعَهَا مِنْهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ ، وَهِيَ الَّتِي مَعَ الْخُلَفَاءِ إِلَى الْيَوْمِ . وَقَدْ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُعَرَاءُ ، مِنْهُمْ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ ، وَكَانُوا يُنْشِدُونَ الشِّعْرَ تَارَةً ابْتِدَاءً وَيَأْمُرُهُمْ بِهِ أُخْرَى لِيَرُدُّوا عَلَى مَنْ هَجَاهُ ، كَمَا قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ : هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ وَعِنْدَ اللَّهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ بَقَاءُ

وَاسْتَنْشَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّرِيدَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ ، وَأَنْشَدَهُ مِنْهُ مِائَةَ بَيْتٍ . وَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ شَهِدَ قِسَّ بْنَ سَاعِدَةَ بِعُكَاظٍ عَلَى جَمَلٍ أَشْهَبَ ، وَهُوَ يَقُولُ : أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَاشَ مَاتَ ، وَمَنْ مَاتَ فَاتَ ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ . مَا لِي أَرَى النَّاسَ يَذْهَبُونَ فَلَا يَرْجِعُونَ ، أَرَضُوا بِالْإِقَامَةِ فَأَقَامُوا ، أَمْ تُرِكُوا هُنَالِكَ فَنَامُوا . إِنَّ فِي السَّمَاءِ لَخَبَرًا ، وَإِنَّ فِي الْأَرْضِ لَعِبَرًا سَقْفٌ مَرْفُوعٌ وَسِهَالٌ مَوْضُوعٌ . وَبِحَارٌ بُحُورٌ ، وَتُخُومٌ تَخُورُ ثُمَّ تَغُورُ . أَقْسَمَ قَسٌّ بِاللَّهِ قَسَمًا : إِنَّ للَّهِ لَدِينًا هُوَ أَرْضَى مِنْ دِينٍ نَحْنُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ تَكَلَّمَ بِأَبْيَاتِ شِعْرٍ مَا أَدْرِي مَا هِيَ . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَدْ كُنْتُ شَاهِدًا ذَاكَ وَالْأَبْيَاتُ عِنْدِي . فَقَالَ : أَنْشِدْنِيهَا : فَأَنْشَدَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . فِي الذَّاهِبِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْقُرُونِ لَنَا بَصَائِرْ لَمَّا رَأَيْتُ مَوَارَدًا لِلْمَوْتِ لَيْسَ لَهَا مَصَادِرْ وَرَأَيْتُ قَوْمِي نَحْوَهَا تَمْضِي الْأَكَابِرُ وَالْأَصَاغِرْ لَا يَرْجِعُ الْمَاضِي إِلَيَّ وَلَا مِنَ الْبَاقِينَ عَابِرْ أَيْقَنْتُ أَنِّي لَا مَحَالَةَ حَيْثُ صَارَ القَوْمُ صَائِرْ وَقَدْ أَنْشَدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِعْرَ طَرَفَةَ : سَتُبْدِي لَكَ الْأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلًا وَيَأْتِيكَ مَنْ لَمْ تُزَوِّدْهُ الْأَخْبَارَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّهُ قَالَ :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وَيَأْتِيكَ بِالْأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا لِي وَلِلشِّعْرِ وَمَا لِلشِّعْرِ وَلِي " يُرِيدُ مَا قَالَهُ اللَّهُ فِيهِ عَزَّ وَجَلَّ : " وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ " وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَفَاءَلْ بِمَا تَرْجُو يَكُنْ فَلَقَلَّمَا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : بِمَا تَرْجُوهُ أَلَّا تَكُونَا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فَصَارَ بِمَا تَمَّمَهُ عَلِيٌّ شِعْرًا مُنْتَظِمًا . وَاسْتَوْقَفَتْهُ قُتَيْلَةُ بِنْتُ النَّضِرِ بْنِ الْحَارِثِ عَامَ الْفَتْحِ ، بَعْدَ قَتْلِ أَبِيهَا صَبْرًا فَأَنْشَدَتْهُ : أَمُحَمَّدٌ هَا أَنْتَ خَيْرُ نَجِيبَةٍ مِنْ قَوْمِهَا وَالْفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ النَّضْرُ أَقْرَبُ مَنْ قَتَلْتَ قَرَابَةً وَأَحَقُّهُمْ إِنْ كَانَ عِتْقًا يُعْتَقُ مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنَتَ وَرُبَّمَا مَنَّ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَوْ سَمِعْتُ شِعْرَهَا مَا قَتَلْتُهُ " . وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ يَقُولُونَ الشِّعْرَ وَيَتَمَثَّلُونَ بِأَشْعَارِ الْعَرَبِ ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدِ اسْتَشْهَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا سَأَلَهُ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ بِأَشْعَارِ الْعَرَبِ ، وَدَلَّ بِهِ عَلَى مَعَانِيهِ وَقَالَ : الشِّعْرُ دِيوَانُ الْعَرَبِ ، فَمَا أَنْكَرَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ .

وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ أَوَّلِ النَّاسِ إِسْلَامًا ، فَقَالَ : أَبُو بَكْرٍ ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ إِذَا تَذَكَّرْتُ شَجَوًا مِنْ أَخِي ثِقَةٍ فَاذْكُرْ أَخَاكَ أَبَا بَكْرِ بِمَا فَعَلَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ أَتْقَاهَا وَأَعْدَلَهَا إِلَّا النَّبِيَّ وَأَوْفَاهَا بِمَا حَمَلَا الثَّانِيَ اثْنَيْنِ وَالْمَحْمُودَ مَشْهَدُهُ وَأَوَّلَ النَّاسِ مِنْهُمْ صَدَّقَ الرُّسُلَا وَحَبَسَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْحُطَيْئَةَ الشَّاعِرَ ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْحَبْسِ شِعْرًا يَقُولُ مَاذَا تَقُولُ لِأَفْرَاخٍ بِذِي مَرَخٍ حُمْرِ الْحَوَاصِلِ لَا مَاءٌ وَلَا شَجَرُ أَلْقَيْتَ كَاسِبَهُمْ فِي قَعْرِ مُظْلِمَةٍ فَاغْفِرْ عَلَيْكَ سَلَامُ اللَّهِ يَا عُمَرُ أَنْتَ الْإِمَامُ الَّذِي مِنْ بَعْدِ صَاحِبِهِ أَلْقَتْ عَلَيْكَ مَقَالِيدَ النُّهَى الْبَشَرُ مَا يُؤْثِرُوكَ بِهَا إِذْ قَدَّمُوكَ لَهَا لَكِنْ لِأَنْفُسِهِمْ كَانَتْ بِكَ الْأَثَرُ فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ هَذَا الشِّعْرُ أَطْلَقَهُ وَقَالَ : إِنَّ الشِّعْرَ لِيَسْتَنْزِلُ الْكَرِيمَ . فَإِذَا كَانَ الشِّعْرُ فِي الصَّحَابَةِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ ، وَكَانَ الشُّعَرَاءُ مِنْهُمْ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ جَرْحًا فِي قَائِلِهِ وَلَا مُنْشِدِهِ ، لِأَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ مُنْكِرًا وَلَا يُقِرُّونَ عَلَيْهِ . وَقَدْ مَرَّ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَهُوَ يُنْشِدُ شِعْرَهُ أَحْدَاثًا مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْهُ ، فَقَالَ : أَتُعْرِضُونَ عَنْهُ ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُقْبِلُ عَلَيْهِ إِذَا أَنْشَدَهُ ، فَنَهَضَ حَسَّانُ وَقَبَّلَ يَدَ الزُّبَيْرِ . وَقِيلَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ : إِنْ قَوْمًا يَكْرَهُونَ إِنْشَادَ الشِّعْرِ فِي الْمَسْجِدِ ، فَقَالَ : هَؤُلَاءِ يَنْسُكُونَ نُسْكًا أَعْجَمِيًّا . وَرَوَى أَبُو بَكْرِبْنُ سَيْفٍ فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ عَنْهُ ، وَقَالَ : سَأَلَتْهُ أَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ وَيُصْدِقَهَا شِعْرًا ؟ فَقَالَ : إِنْ كَانَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ : يَوَدُّ الْمَرْءُ أَنْ يُعْطَى مُنَاهُ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا مَا أَرَادَا يَقُولُ الْمَرْءُ فَائِدَتِي وَمَالِي وَتَقْوَى اللَّهِ أَفْضَلُ مَا أَفَادَا جَازَ ، فَدَلَّ مَا وَصَفْنَا ، وَإِنَّ مَعَ الْإِطَالَةِ بِيَسِيرٍ ، أَنَّ إِنْشَاءَ الشِّعْرِ وَإِنْشَادَهُ مُبَاحٌ ، وَإِنْشَاءُ الشِّعْرِ مَا كَانَ مِنْ قَوْلِهِ . وَإِنْشَادُهُ مَا كَانَ مِنْ قَوْلِ غَيْرِهِ .

فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [ الشُّعَرَاءُ : ] . فَقَدْ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ : يُرِيدُ بِالشُّعَرَاءِ ، الَّذِينَ إِذَا قَالُوا كَذَبُوا وَإِذَا غَضِبُوا سَبُّوا . وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ) أَرْبَعَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : الشَّيَاطِينُ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالثَّانِي : الْمُشْرِكُونَ ، قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ . وَالثَّالِثُ : السُّفَهَاءُ ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ . وَالرَّابِعُ : الرُّوَاةُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ [ الشُّعَرَاءِ : ] . ثَلَاثُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : فِي كُلِّ فَنٍّ مِنَ الْكَلَامِ يَأْخُذُونَ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي : فِي كُلِّ لَغْوٍ يَخُوضُونَ ، قَالَهُ قُطْرُبٌ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَمْدَحَ قَوْمًا بِبَاطِلٍ ، وَيَذُمَّ قَوْمًا بِبَاطِلٍ ، قَالَ قَتَادَةُ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ [ الشُّعَرَاءِ : ] . يَعْنِي مَنْ كَذَبَ فِي مَدْحٍ أَوْ هِجَاءٍ . فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حَضَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ، وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ ، عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَبَكَوْا وَقَالُوا : هَلَكْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [ الشُّعَرَاءِ : ] . فَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ : وَقَالَ : هُمْ أَنْتُمْ . وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا فِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : فِي شِعْرِهِمْ . وَالثَّانِي : فِي كَلَامِهِمْ . وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا أَيْ : رَدُّوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا هَجَوْا بِهِ الْمُسْلِمِينَ ، فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمَذْمُومَ مِنَ الشِّعْرِ مَا فِيهِ مِنْ هَجْوٍ : وَالْهَجْوُ فِي الْكَلَامِ مَذْمُومٌ فَكَيْفَ فِي الشِّعْرِ ، وَلِأَنَّ الشِّعْرَ يَحْفَظُهُ نَظْمُهُ ، فَيَنْتَشِرُ وَيَبْقَى عَلَى الْأَعْصَارِ وَالدُّهُورِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا حَتَى يَرِيهِ ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا " فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَ مِنَ الشِّعْرِ كَذِبًا وَفُحْشًا وَهِجَاءً . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَنْقَطِعُ إِلَيْهِ وَيَتَشَاغَلُ عَنِ الْقُرْآنِ وَعُلُومِ الدِّينِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الشِّعْرَ حكم الشعر وقبول شهادة قائلة فِي حُكْمِ الْكَلَامِ لَا يُخْرِجُهُ نَظْمُهُ عَنْ إِبَاحَتِهِ وَحَظْرِهِ ، فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : مُسْتَحَبٌّ ، وَمُبَاحٌ ، وَمَحْظُورٌ . فَأَمَّا الْمُسْتَحَبُّ فَنَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا حَذَّرَ مِنَ الْآخِرَةِ أَنْشَدَهُ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ : فَلَوْ كُنَّا إِذَا مِتْنَا تُرِكْنَا لَكَانَ الْمَوْتُ رَاحَةَ كُلِّ حَيِّ وَلَكِنَّا إِذَا مِتْنَا بُعِثْنَا وَنُسْأَلُ بَعْدَهُ عَنْ كُلِّ شَيِّ وَأُنْشِدَ لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : الْمَوْتُ خَيْرٌ مِنْ رُكُوبِ الْعَارِ وَالَعَارُ خَيْرٌ مِنْ دُخُولِ النَّارِ وَاللَّهِ ، مَا هَذَا وَهَذَا جَارِي وَالثَّانِي : مَا حَثَّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ ، كَالْمَحْكِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ، أَنَّهُ مَرَّ بِبَابِ قَوْمٍ ، فَسَمِعَ رَجُلًا يُنْشِدُ : أَنْتِ أُخْتِي وَحُرْمَةُ جَارِي وَحَقِيقٌ عَلَيَّ حِفْظُ الْجِوَارِ إِنَّ لِلْجَارِ إِنْ نُصِيبُ لَنَا حَافِظًا لِلنَّصِيبِ فِي الْإِسْرَارِ مَا أُبَالِي إِنْ كَانَ بِالْبَابِ سِتْرُهُ مُسْبَلٌ ، أَوْ يَبْقَى بِغَيْرِ سِتَارِ فَدَقَّ الْبَابَ وَقَالَ : عَلِّمُوا فِتْيَانِكُمْ مِثْلَ هَذَا الشِّعْرِ . فَهَذَانِ النَّوْعَانِ مُسْتَحَبَّانِ ، وَهُمَا أَحْفَظُ لِلْعَدَالَةِ ، وَأَبْعَثُ عَلَى قَبُولِ الشَّهَادَةِ . وَأَمَّا الْمُبَاحُ : فَمَا سَلِمَ مِنْ فُحْشٍ أَوْ كَذِبٍ ، وَهُوَ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا جَلَبَ نَفْعًا . وَالثَّانِي : مَا لَمْ يَعُدْ بِضَرَرٍ .

فُلَا تَقْدَحُ فِي الشَّهَادَةِ ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ . وَأَمَّا الْمَحْظُورُ فَنَوْعَانِ : كَذِبٌ وَفُحْشٌ . وَهُمَا جَرْحٌ فِي قَائِلِهِ ، فَأَمَّا فِي مُنْشِدِهِ ، فَإِنْ حَكَاهُ إِنْكَارًا لَمْ يَكُنْ جَرْحًا ، وَإِنْ حَكَاهُ اخْتِيَارًا كَانَ جَرْحًا . فَإِنْ تَشَبَّبَ فِي شِعْرِهِ وَوَصَفَ امْرَأَةً ، فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهَا لَمْ يَقْدَحْ فِي عَدَالَتِهِ ، وَإِنْ عَيَّنَهَا قَدْحَ فِي عَدَالَتِهِ . فَأَمَّا الْمُكْتَسِبُ بِالشِّعْرِ شهادته ، فَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي إِذَا مَدَحَ وَيَذُمُّ إِذَا مُنِعَ ، فَهُوَ قَدْحٌ فِي عَدَالَتِهِ ، فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ . وَإِنْ كَانَ لَا يَقْتَضِي إِذَا مَدَحَ ، وَلَا يَذُمُّ إِذَا مُنِعَ ، وَتَقَبَّلَ مَا وَصَلَهُ إِلَيْهِ عَفْوًا ، فَهُوَ عَلَى عَدَالَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ .

الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ الزِّنَا

[ الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ الزِّنَا ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَجُوزُ شَهَادَةُ وَلَدِ الزِّنَا فِي الزِّنَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّ الْأَنْسَابَ لَيْسَتْ مِنْ شُرُوطِ الْعَدَالَةِ ، فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ وَلَدِ الزِّنَا إِذَا كَانَ عَدْلًا فِي الزِّنَى وَغَيْرِ الزِّنَى . وَقَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا أَقْبَلُ شَهَادَتَهُ فِي الزِّنَى وَأَقْبَلُهَا فِي غَيْرِ الزِّنَى ، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ : لَا أَقْبَلُ شَهَادَتَهُ بِحَالٍ . اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " وَلَدُ الزِّنَى شَرُّ الثَّلَاثَةِ " . وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَدُ زَنْيَةٍ " . وَإِذَا كَانَ شَرًّا مِنَ الزَّانِي وَمَدْفُوعًا مِنَ الْجَنَّةِ ، كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ ، فَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ . وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُ أَحَدًا بِذَنْبِ غَيْرِهِ وَهُوَ تَعَالَى يَقُولُ : وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [ الْأَنْعَامِ : ] . فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَاخَذَ وَلَدُ الزَّانِي بِذَنْبِ أَبَوَيْهِ ، لِأَنَّهُ ظُلْمٌ ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الظُّلْمِ ، وَهُوَ تَعَالَى يَقُولُ : وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [ الْكَهْفِ : ] . وَلِأَنَّ عَارَ النَّسَبِ رُبَّمَا مَنَعَهُ مِنِ ارْتِكَابِ الْعَارِ ، لِئَلَّا يَصِيرَ جَامِعًا بَيْنَ عَارَيْنِ ، فَصَارَ مَزْجُورًا بِمَعَرَّةِ نَسَبِهِ عَنْ مَعَرَّةِ كَذِبِهِ ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ مَعَ ظُهُورِ عَدَالَتِهِ .

وَأَمَّا الْخَبَرُ الْأَوَّلُ وَهُوَ " وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ " فَهُوَ مِنْ مَنَاكِيرِ الْأَخْبَارِ ، وَمَا رَوَاهُ إِلَّا مَضْعُوفٌ ، غَيْرُ مَقْبُولِ الْحَدِيثِ ، وَنَصُّ الْقُرْآنِ يَمْنَعُ مِنْهُ ، وَلَوْ سَلِمَتِ الرِّوَايَةُ لَكَانَ لِاسْتِعْمَالِهِ وُجُوهًا : أَحَدُهَا : أَنَّهُ شَرُّ الثَّلَاثَةِ نَسَبًا . وَالثَّانِي : شَرُّ الثَّلَاثَةِ إِذَا كَانَ زَانِيًا . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ كَانَ وَاحِدًا مِنْ ثَلَاثَةٍ ، فَأُشِيرَ إِلَيْهِ أَنَّهُ شَرُّهُمْ ، فَكَانَ ذَلِكَ لِلزِّنَى تَعْرِيفًا لَا تَعْلِيلًا . وَالرَّابِعُ : مَا ذُكِرَ أَنَّ أَبَا عَزَّةَ الْجُمَحِيَّ كَانَ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقْدَحُ فِيهِ بِالْعَظَائِمِ ، فَذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَقُولُهُ ، وَقِيلَ لَهُ : إِنَّهُ وَلَدُ زَنْيَةٍ ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " وَلَدُ الزِّنَى شَرُّ الثَّلَاثَةِ " يَعْنِي بِهِ أَبَا عَزَّةَ . وَأَمَّا الْخَبَرُ الثَّانِي : فَهُوَ أَوْهَى مِنَ الْأَوَّلِ ، وَأَضْعَفُ وَأَبْعَدُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الِاحْتِمَالِ وَجْهٌ ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْبِطَ طَاعَتَهُ مَعْصِيَةُ غَيْرِهِ ، وَالْكَفْرُ أَعْظَمُ مِنَ الزِّنَى ، وَلَا يُحْبَطُ عَمَلُ الْمُؤْمِنِ بِكُفْرِ أَبَوَيْهِ ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَحْبِطَ عَمَلَهُ بِزِنَى وَالِدَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ الْمَحْدُودِ

[ الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ الْمَحْدُودِ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالْمَحْدُودُ فِيمَا حُدَّ فِيهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا أَرَادَ بِهِ مَالِكًا ، فَإِنَّهُ يَقُولُ : مَنْ حُدَّ فِي مَعْصِيَةٍ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ فِيمَا حُدَّ فِيهِ ، وَقُبِلَتْ فِي غَيْرِهِ ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ فِي الزِّنَا إِذَا شَهِدَ بِالزِّنَا ، وَلَا الْمَحْدُودِ فِي الْخَمْرِ إِذَا شَهِدَ فِي الْخَمْرِ ، وَلَا الْمَقْطُوعِ فِي السَّرِقَةِ إِذَا شَهِدَ بِالسَّرِقَةِ . اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهَا اسْتِرَابَةٌ يَقْتَضِي الدَّفْعَ عَنِ الشَّهَادَةِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا [ الْبَقَرَةِ : ] . وَبِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي عَهْدِهِ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ : الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا مَجْلُودًا فِي حَدٍّ ، أَوْ مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ ، أَوْ ظَنِينًا فِي وَلَاءٍ ، أَوْ نَسَبٍ . وَتَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : وَدَّ السَّارِقُ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ سُرَّاقًا وَوَدَّ الزَّانِي أَنْ يَكُونَ النَّاسُ زُنَاةً ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِيَنْفِيَ الْمَعَرَّةَ عَنْ نَفْسِهِ بِمُشَارَكَةِ غَيْرِهِ .

وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ . وَشَهَادَتُهُ إِذَا تَابَ مَقْبُولَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [ النُّورِ : ، ] . وَقَدْ وَافَقَ مَالِكٌ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْقَاذِفِ إِذَا تَابَ بَعْدَ حَدِّهِ ، أَنَّ شَهَادَتَهُ مَقْبُولَةٌ فِي الْقَذْفِ وَغَيْرِهُ . وَكَذَلِكَ حُكْمُ مَنْ حُدَّ فِي غَيْرِهِ . وَتَحْرِيرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسًا ، أَنَّ مَنْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ فِي غَيْرِ مَا حُدَّ فِيهِ ، قُبِلَتْ فِيمَا حُدَّ فِيهِ كَالْقَاذِفِ . وَلَيْسَ لِلتَّعْلِيلِ بِالِارْتِيَابِ وَجْهٌ ، لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَعَمَّ وَلَمْ يَخُصَّ . وَلَا دَلِيلَ فِيمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ ، لِتَوَجُّهِهِ إِلَى مَا قَبْلَ التَّوْبَةِ ، فَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى مَا بَعْدَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ أَهْلِ الْقُرَى وَالْبَوَادِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ

[ الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ أَهْلِ الْقُرَى وَالْبَوَادِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالْقَرَوِيِّ عَلَى الْبَدَوِيِّ وَالْبَدَوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيِّ إِذَا كَانُوا عُدُولًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا كَانَ الْبَدَوِيُّ عَدْلًا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ عَلَى الْقَرَوِيِّ ، كَمَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْقَرَوِيِّ عَلَى الْبَدَوِيِّ . وَقَالَ مَالِكٌ : أَقْبَلُ شَهَادَةَ الْقَرَوِيِّ عَلَى الْبَدَوِيِّ ، وَلَا أَقْبَلُ شَهَادَةَ الْبَدَوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيِّ . إِلَّا فِي الْجِرَاحِ . اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ - عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا أَقْبَلُ شَهَادَةَ الْبَدَوِيِّ عَلَى صَاحِبِ قَرْيَةٍ " . وَلِأَنَّ مَا خَرَجَ عَنِ الْعُرْفِ رِيبَةٌ فِي الشَّهَادَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا [ الْبَقَرَةِ : ] . وَالْعُرْفُ جَارٍ بِأَنَّ الْبَدَوِيَّ يَشْهَدُ لِلْقَرَوِيِّ ، وَلَمْ يَجْرِ الْعُرْفُ بِإِشْهَادِ الْقَرَوِيِّ لِلْبَدَوِيِّ ، فَصَارَ بِخُرُوجِهِ عَنِ الْعُرْفِ مَتْهُومًا ، وَدَلِيلُنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلَ شَهَادَةَ الْأَعْرَابِيِّ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ وَصَامَ ، وَأَمْرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ . وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَوْطَانِ لَا تُؤَثِّرُ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ كَأَهْلِ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى . وَلِأَنَّ الشَّـهَادَةَ فِي الْجِرَاحِ أَغْلَظُ مِنْهَا فِي الْأَمْوَالِ ، فَلَمَّا قُبِلَتْ شَهَادَةُ الْبَدَوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيِّ فِي الْجِرَاحِ ، كَانَ أَوْلَى أَنَّ تُقْبَلَ فِي غَيْرِ الْجِرَاحِ .

وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا ، أَنَّ مَنْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ فِي الْجِرَاحِ ، قُبِلَتْ فِي غَيْرِ الْجِرَاحِ كَالْقَرَوِيِّ . وَلِأَنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ أَسْلَمُ فِطْرَةً وَأَقَلُّ حَيَاءً ، فَكَانَ الصِّدْقُ فِيهِمْ أَغْلَبُ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونُوا بِقَبُولِ الشَّهَادَةِ أَجْدَرُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ ، فَرَاوِيهِ عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ . وَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَإِنْ صَحَّ ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا عَلَى الْجَهْلِ بِعَدَالَتِهِ لِخَفَاءِ أَحْوَالِ أَهْلِ الْبَادِيَةِ ، وَإِمَّا عَلَى بَدَوِيٍّ بِعَيْنِهِ عُلِمَ جُرْحُهُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اعْتِبَارِ الْعُرْفِ . فِي الْإِشْهَادِ ، فَهُوَ فَاسِدٌ بِأَهْلِ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى ، فَإِنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِأَنَّ أَهْلَ الْقُرَى يُشْهِدُونَ أَهْلَ الْأَمْصَارِ ، وَلَا يُشْهِدُ أَهْلُ الْأَمْصَارِ أَهْلَ الْقُرَى ، وَهَذَا الْعُرْفُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ، وَكَذَلِكَ فِي الْبَادِيَةِ وَالْحَاضِرَةِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ وَالْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ

[ الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ وَالْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا شَهِدَ صَبِيٌّ أَوْ عَبْدٌ أَوْ نَصْرَانِيٌ بِشَهَادَةٍ ، فَلَا يَسْمَعُهَا وَاسْتِمَاعُهُ لَهَا تَكَلُّفٌ ، وَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ وَأُعْتِقَ الْعَبْدُ وَأَسْلَمَ النَّصْرَانِيُّ ثُمَّ شَهِدُوا بِهَا بِعَيْنِهَا ، قَبِلْتُهَا ، فَأَمَا الْبَالِغُ الْمُسْلِمُ أَرُدُّ شَهَادَتَهُ فِي الشَّيْءِ ثُمَّ يَحْسُنُ حَالُهُ ، فَيَشْهَدُ بِهَا ، فَلَا أَقْبَلُهَا لَأَنَّا حَكَمْنَا بِإِبْطَالِنَا وَجَرْحِهِ فِيهَا ، لِأَنَّهُ مِنَ الشَّرْطِ أَنْ لَا يُخْتَبَرَ عَمَلُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : مُشْتَبِهَيْنِ فِي الصُّورَةِ مُخْتَلِفِينَ فِي الْحُكْمِ : فَأَحَدُهُمَا : أَنْ يَشْهَدَ صَبِيٌّ قَبْلَ بُلُوغِهِ ، أَوْ عَبْدٌ قَبْلَ عِتْقِهِ شهادة ، أَوْ نَصْرَانِيٌّ قَبْلَ إِسْلَامِهِ الشهادة بِشَهَادَةٍ ، فَيَرُدُّهُمُ الْحَاكِمُ فِيهَا ، ثُمَّ يَبْلُغُ الصَّبِيُّ وَيُعْتَقُ الْعَبْدُ ، وَيُسْلِمُ النَّصْرَانِيُّ ، فَيَشْهَدُوا بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ الَّتِي رَدُّوا فِيهَا عِنْدَ ذَلِكَ الْحَاكِمِ أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ ، قُبِلَتْ بَعْدَ تَقَدُّمِ الرَّدِّ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا أَقْبَلُهَا بَعْدَ رَدِّهَا . وَالْفَصْلُ الثَّانِي : تُرَدُّ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ ، وَيَشْهَدُ بِهَا بَعْدَ زَوَالِ الْفِسْقِ . أَنْ يَشْهَدَ بَالِغٌ حُرٌّ مُسْلِمٌ بِشَهَادَةٍ ، فَيَرُدُّهَا الْحَاكِمُ بِالْفِسْقِ ، ثُمَّ تَحْسُنُ حَالُهُ وَيَصِيرُ عَدْلًا ، فَيَشْهَدُ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ عِنْدَ ذَلِكَ الْحَاكِمِ أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ ، رُدَّتْ وَلَمْ تُقْبَلْ : وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ ، وَأَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ : تُقْبَلُ وَلَا تُرَدُّ . فَسِوَى مَالِكٌ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ فِي الرَّدِّ ، وَسِوَى أَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ بَيْنَهُمَا فِي الْقَبُولِ .

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تُقْبَلُ إِذَا رُدَّتْ بِالصِّغَرِ وَالرِّقِّ وَالْكُفْرِ ، وَلَا تُقْبَلُ إِذَا رَدَّتْ بِالْفِسْقِ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حُدُوثَ الْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ وَالْإِسْلَامِ يَقِينٌ ، وَحُدُوثُ الْعَدَالَةِ مَظْنُونٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ الصِّغَرَ وَالرِّقَّ وَالْكُفْرَ ظَاهِرٌ يُمْنَعُ مِنْ سَمَاعِ الشَّهَادَةِ ، فَصَارَتْ مَرْدُودَةً بِغَيْرِ حُكْمٍ . وَالْفِسْقُ بَاطِنٌ فَصَارَ رَدُّهَا فِيهِ بِحُكْمِ . لَوْ فَرَّقَ عَلَى هَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ رَدِّهَا بِالْفِسْقِ الظَّاهِرِ فَتُقْبَلُ ، وَبَيْنَ رَدِّهَا بِالْفِسْقِ الْبَاطِنِ فَلَا تُقْبَلُ ، لَكَانَ وَجْهًا لِأَنَّ الْفِسْقَ الظَّاهِرَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى اجْتِهَادٍ ، فَصَارَ مَرْدُودًا بِغَيْرِ حُكْمٍ كَالْكُفْرِ وَالرِّقِّ وَالصِّغَرِ ، وَالْفِسْقَ الْبَاطِنِ يَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادٍ فَصَارَ مَرْدُودًا بِالْحُكْمِ ، وَمَا نَفَذَ فِيهِ الْحُكْمُ بِاجْتِهَادٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْقَضَ بِاجْتِهَادٍ .

فَصْلٌ : وَلَوْ دُعِيَ الْعَبْدُ أَوِ الْكَافِرُ إِلَى تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ ، لَمْ يَلْزَمْهُمَا تَحَمُّلُهَا ، وَلَوْ دُعِيَا إِلَى أَدَاءِ شَهَادَةٍ قَدْ تَحَمَّلَاهَا ، لَمْ يَلْزَمْهُمَا أَدَاؤُهَا ، لِأَنَّ التَّحَمُّلَ يُرَادُ بِهِ الْأَدَاءُ ، وَالْأَدَاءُ غَيْرُ مَقْبُولٍ ، فَلَمْ يَلْزَمَا . وَلَوْ دُعِيَ الْفَاسِقُ ، إِلَى تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ ، فَإِنْ كَانَ فِسْقُهُ ظَاهِرًا لَمْ يَلْزَمْهُ تَحَمُّلُهَا . وَإِنْ كَانَ فِسْقُهُ بَاطِنًا لَزِمَهُ تَحَمُّلُهَا ، وَهَكَذَا ، لَوْ دُعِيَ إِلَى أَدَاءِ مَا قَدْ تَحَمَّلَهُ مِنَ الشَّهَادَةِ ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ أَدَاؤُهُ إِنْ كَانَ ظَاهِرَ الْفِسْقِ ، وَلَزِمَهُ أَدَاؤُهَا إِنْ كَانَ بَاطِنَ الْفِسْقِ ، لِأَنَّ رَدَّ شَهَادَتِهِ بِالْفِسْقِ الظَّاهِرِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَبِالْفِسْقِ الْبَاطِنِ مُخْتَلِفٌ فِيهِ . وَإِذَا رَدَّ الْحَاكِمُ شَهَادَةَ رَجُلٍ بِفِسْقٍ ، ثُمَّ دُعِيَ لِيَشْهَدَ بِهَا عِنْدَ غَيْرِهِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِجَابَةُ ، لِأَنَّ رَدَّهَا بِالْحُكْمِ قَدْ أَبْطَلَهَا ، وَلَوْ تَوَقَّفَ الْحَاكِمُ عَنْ قَبُولِهَا لِلْكَشْفِ عَنْ عَدَالَتِهِ حَتَّى مَاتَ ، أَوْ عُزِلَ ، ثُمَّ دُعِيَ لِيَشْهَدَ بِهَا عِنْدَ غَيْرِهِ ، لَزِمَتْهُ الْإِجَابَةُ ، لِأَنَّهَا لَمْ تُرَدَّ فَلَمْ تَبْطُلْ .

فَصْلٌ : وَإِذَا دُعِيَ الْمُتَحَمِّلُ لِلشَّهَادَةِ ، إِلَى أَدَائِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ وَهُوَ مِمَّنْ يَصِحُ مِنْهُ الْأَدَاءُ ، فَامْتَنَعَ وَقَالَ : إِنِّي أَخَافُ أَنْ لَا يَقْبَلَ الْحَاكِمُ شَهَادَتِي ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا فِي امْتِنَاعِهِ ، وَلَزِمَهُ الْأَدَاءُ وَلِلْحَاكِمِ اجْتِهَادُهُ فِي الْقَبُولِ أَوِ الرَّدِّ . وَلَوِ امْتَنَعَ عَنِ الْأَدَاءِ وَقَالَ : لَيْسَ الْحَاكِمُ عِنْدِي مُسْتَحِقًّا لِلْحُكْمِ ، إِمَّا لِفِسْقٍ أَوْ جَهْلٍ ، لَزِمَهُ الْأَدَاءُ ، وَلَيْسَ لِلشَّاهِدِ اجْتِهَادٌ فِي صِحَّةِ التَّقْلِيدِ وَفَسَادِهِ . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : لَا يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ إِذَا اعْتَقَدَ فَسَادَ تَقْلِيدِهِ بِفِسْقٍ أَوْ جَهْلٍ ، وَإِنَّمَا تَلْزَمُهُ الشَّهَادَةُ عِنْدَ مَنْ يَرْتَضِي مِنَ الْحُكَّامِ ، كَمَا يَلْزَمُ الْحَاكِمَ قَبُولُ شَهَادَةِ مَنْ يَرْتَضِي مِنَ الشُّهُودِ .

وَحُكِيَ أَنَّ أَحْمَدَ لَزِمَتْهُ شَهَادَةٌ ، فَدُعِيَ إِلَى أَدَائِهَا عِنْدَ بَعْضِ الْحُكَّامِ ، فَامْتَنَعَ . وَقَالَ : إِنَّ الْقَاضِيَ لَيْسَ بِرِضًى ، فَقَالَ الدَّاعِي : يُتْلِفُ عَلَيَّ مَالِي . فَقَالَ أَحْمَدُ : مَا أَتَلَفْتُ عَلَيْكَ مَالَكَ ، الَّذِي وَلَّى هَذَا الْقَاضِي أَتْلَفَ عَلَيْكَ مَالَكَ . وَلَيْسَ لِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهٌ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالشَّهَادَةِ وَصُولُ ذِي الْحَقِّ إِلَى حَقِّهِ ، فَلَمْ يَفْتَرِقْ فِي وُصُولِهِ إِلَيْهِ حَقُّهُ بَيْنَ صِحَّةِ التَّقْلِيدِ وَفَسَادِهِ . فَإِنْ دُعِيَ الشَّاهِدُ إِلَى أَدَاءِ شَهَادَةٍ عِنْدَ أَمِيرٍ أَوْ ذِي يَدٍ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ إِلْزَامُ الْحُقُوقِ وَالْإِجْبَارُ عَلَيْهَا ، لَزِمَ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَدَاؤُهَا عِنْدَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ الْوَارِثِ بِدَيْنٍ عَلَى الْمُوَرِّثِ

[ الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ الْوَارِثِ بِدَيْنٍ عَلَى الْمُوَرِّثِ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ ابْنَيْنِ ، فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى أَبِيهِ بِدَيْنٍ ، فَإِنْ كَانَ عَدْلًا ، حَلَفَ الْمُدَّعِي وَأَخَذَ الدَّيْنَ مِنْ الِاثْنَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا ، أَخَذَ مِنْ يَدَيِ الشَّاهِدِ بِقَدْرِ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْهُ لَوْ جَازَتْ شَهَادَتُهُ ، لِأَنَّ مَوْجُودًا فِي شَهَادَتِهِ أَنَ لَهُ فِي يَدَيْهِ حَقَّا ، وَفِي يَدَيِ الْجَاحِدِ حَقًّا ، فَأَعْطَيْتُهُ مِنَ الْمُقِرِّ وَلَمْ أُعْطِهِ مِنَ الْمُنْكِرِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ ادَّعَى دَيْنًا عَلَى مَيِّتٍ ، وَوَرِثَهُ ابْنَانِ لَهُ ، فَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ ، فَالْمُصَدِّقُ مُقِرٌّ وَالْمُكَذِّبُ مُنْكِرٌ وَلِلْمُقِرِّ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ عَدْلًا ، فَيَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لِلْمُدَّعِي بِدَيْنِهِ فِي حَقِّ أَخِيهِ الْمُنْكِرِ مَعَ شَاهِدٍ آخَرَ ، أَوْ مَعَ يَمِينِ الْمُدَّعِي ، وَلَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ شَهَادَةً حَتَّى يَسْتَأْنِفَهَا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ ، لِأَنَّ لَفْظَ الْإِقْرَارِ لَا يَكُونُ شَهَادَةً ، وَشَهَادَتُهُ تَكُونُ عَلَى أَبِيهِ دُونَ أَخِيهِ ، لِوُجُوبِ الدَّيْنِ عَلَى الْأَبِ . وَمَنَعَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ الْلُؤْلُؤِيُّ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ لِمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ مِنَ التُّهْمَةِ فِي اسْتِدْرَاكِ إِقْرَارِهِ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ شَهَادَتَهُ مَقْبُولَةٌ ، لِأَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِإِقْرَارِهِ فَانْتَفَتِ التُّهْمَةِ عَنْهُ ، فَلَمْ تَمْنَعْ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى أَبِيهِ وَإِنْ مُنِعَ مِنَ الشَّهَادَةِ لَهُ ، فَإِذَا صَحَّتِ الشَّهَادَةُ اسْتَحَقَّ صَاحِبُ الدَّيْنِ جَمِيعَ دَيْنِهِ مِنْ أَصْلِ التَّرِكَةِ نِصْفُهُ يَسْتَحِقُّهُ بِالْإِقْرَارِ فِي حَقِّ الْمُصَدِّقِ ، وَنِصْفُهُ يَسْتَحِقُّهُ بِالشَّهَادَةِ فِي حَقِّ الْمُنْكِرِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ غَيْرَ عَدْلٍ ، أَوْ يَكُونَ عَدْلًا لَمْ تَكْمُلْ بِهِ الشَّهَادَةُ

لِعَدَمِ غَيْرِهِ ، أَوْ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَرَى الْحُكْمَ بِالْيَمِينِ وَالشَّاهِدِ ، أَوْ يَرَاهُ فَلَا يَحْلِفُ مَعَهُ الْمُدَّعِي ، فَالْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ عَلَى سَوَاءٍ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ ، أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنَ الْمُقِرِّ مِنَ الدَّيْنِ بِقَدْرِ حَقِّهِ ، وَهُوَ النِّصْفُ ، وَيَحْلِفُ الْمُنْكِرُ عَلَى النِّصْفِ الْآخَرِ وَيَبْرَأُ ، وَيَمِينُهُ عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْبَتِّ . وَيَقُولُ : وَاللَّهِ لَا أَعْلَمُ أَنَّ لَهُ عَلَى أَبِي مَا ادَّعَاهُ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِرَاقِ : يَلْزَمُ الْمُقِرَّ جَمِيعُ الدَّيْنِ . وَكَانَ أَبُو عُبَيْدِ بْنِ حِرْثُونَ وَأَبُو جَعْفَرٍ الْإِسْتِرَابَاذِيُّ وَهُمَا مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : يُخَرِّجَانِ هَذَا قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعِيِّ ، فَخَالَفَهُمَا مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَكْثَرُهُمْ ، وَوَافَقَهُمَا أَقَلُّهُمْ ، وَجَعَلُوهُ تَخْرِيجًا مِنْ مُقْتَضَى نَصٍّ ، وَلَيْسَ بِتَخْرِيجٍ مِنْ نَصٍّ ، وَهُوَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : إِذَا حَلَفَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ فِي الْقَسَامَةِ ، فَاسْتَحَقَّ بِأَيْمَانِهِ نِصْفَ الدِّيَةِ ، وَكَانَ عَلَى الْمَقْتُولِ دَيْنٌ ، قَضَى جَمِيعَهُ مِنْ حِصَّةِ الِابْنِ الْحَالِفِ ، كَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَخَرَّجُوهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ : وَاخْتَلَفَ مَنْ أَنْكَرَ تَخْرِيجَ هَذَا الْقَوْلِ فِي مَا قَالَهُ فِي الْقَسَامَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ أَحَدُ الِابْنَيْنِ بِأَيْمَانِهِ ، كَانَ جَمِيعَ التَّرِكَةِ ، فَأُخِذَ جَمِيعُ الدَّيْنِ مِنْهُ ، وَلَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ غَيْرَهُ مَا لَزِمَهُ مِنَ الدَّيْنِ إِلَّا نِصْفُهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ أَخَاهُ مُعْتَرِفٌ بِالدَّيْنِ ، فَاسْتَحَقَّ بِاعْتِرَافِهِمَا جَمِيعَ الدَّيْنِ ، وَعُجِّلَ قَضَاؤُهُ مِنَ الذِّمَّةِ لِتَأْخِيرِ غَيْرِهِ لِيَرْجِعَ عَلَى أَخِيهِ بِقَدْرِ حَقِّهِ ، وَلَوْ كَانَ الْأَخُ مُنْكِرًا لَمْ يُؤْخَذْ مِنَ الْمُقِرِّ إِلَّا قَدْرَ حَقِّهِ . وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى وُجُوبِ الدَّيْنِ كُلِّهِ عَلَى الْمُقِرِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [ النِّسَاءِ : ] . فَجَعْلَ لِلْوَارِثِ مَا فَضَلَ عَنِ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَرِثَ إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ جَمِيعِهِ ، لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ مُقَدَّمٌ وَلَيْسَ بِمُشَارِكٍ . وَلِأَنَّ مَا يَأْخُذُهُ الْمُنْكِرُ مِنَ التَّرِكَةِ كَالْمَغْصُوبِ فِي حَقِّ الدَّيْنِ ، وَغَصْبُ بَعْضِ التَّرِكَةِ مُوجِبٌ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ بَاقِيهَا ، فَلَزِمَ أَخْذُ جَمِيعِهِ مِنْهُ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ عَلَى الْمُقِرِّ مِنْهُمَا نِصْفَ الدَّيْنِ دُونَ جَمِيعِهِ ، هُوَ أَنَّ الدَّيْنَ مُسْتَحَقٌّ

فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ فِي بَعْضِهَا ، وَلَيْسَ مَعَ الْمُقِرِّ إِلَّا نِصْفُهَا ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ مِنَ الدَّيْنِ إِلَّا نِصْفُهُ كَالْمُقِرَّيْنِ . وَلَوْ أَنَّهُ لَوْ لَزِمَ الْمُقِرَّ جَمِيعُ الدَّيْنِ ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ عَلَى أَخِيهِ ، لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ تَحْمُّلَ جَمِيعِ الدَّيْنِ وَفِي مُوَافَقَةِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ ، وَإِنْ خَالَفَهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيُّ فِي قَبُولِهَا ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ فِي الدَّيْنِ إِلَّا قَدْرُ حَقِّهِ لِتَسْلَمَ شَهَادَتُهُ عَنْ جَرِّ نَفْعٍ وَدَفْعِ ضَرَرٍ . وَلِأَنَّ أَحَدَ الِابْنَيْنِ لَوِ ادَّعَى دَيْنًا لِأَبِيهِ عَلَى مُنْكِرٍ ، فَرَدَّ الْيَمِينَ عَلَيْهِ وَحَلِفَ ، لَمْ يَسْتَحِقْ مِنَ الدَّيْنِ إِلَّا نِصْفَهُ ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ عَلَى أَبِيهِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا نِصْفُهُ ، لِأَنَّ مَا لِلْأَبِ مِنَ الدَّيْنِ فِي مُقَابَلَةِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ . وَالْأَصَحُّ مِنْ إِطْلَاقِهَا عِنْدِي ، أَنْ يَنْظَرَ فِي التَّرِكَةِ . فَإِنْ لَمْ يَقْتَسِمْ لَهَا الِابْنَانِ حَتَّى أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِالدَّيْنِ ، قَضَى جَمِيعَهُ مِنْهَا ، فَكَانَ مَحْسُوبًا مِنْ حَقِّ الْمُقِرِّ دُونَ الْمُنْكِرِ . وَإِنِ اقْتَسَمَ الِابْنَانِ التَّرِكَةَ ، ثُمَّ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِالدَّيْنِ . لَمْ يَلْزَمْهُ مِنْهُ إِلَّا نِصْفُهُ لِأَنَّ الْمُقِرَّ مُعْتَرِفٌ بِاسْتِحْقَاقِ جَمِيعِ الدَّيْنِ فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ . فَصَارَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مُقِرًا بِجَمْعِهِ وَبَعْدَ أَخْذِ النِّصْفِ بِالْقِسْمَةِ مُقِرًّا بِنِصْفِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ ، وَقِيلَ : إِنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمُقِرُّ مِنَ الدَّيْنِ إِلَّا بِقَدْرِ حِصَّتِهِ وَهُوَ النِّصْفُ ، فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ فِي الدَّيْنِ . وَيَكُونُ صَاحِبُ الدَّيْنِ مُخَاصِمًا لِلْمُنْكِرِ فِي بَقِيَّةِ دَيْنِهِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ يَلْزَمُ الْمُقِرَّ جَمِيعَ الدَّيْنِ ، لَمْ يُؤْخَذْ بِدَفْعِ جَمِيعِهِ إِلَّا بَعْدَ إِحْلَافِ أَخِيهِ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ ، فَإِذَا حَلَفَ أُخِذَ مِنَ الْمُقِرِّ حِينَئِذٍ جَمِيعُ الدَّيْنِ ، وَصَارَ الْمُقِرُّ خَصْمًا لِأَخِيهِ الْمُنْكِرِ لِيَسْتَأْنِفَ الدَّعْوَى عَلَيْهِ وَيَحْلِفُ عَلَيْهَا إِنِ اسْتَدَامَ الْإِنْكَارَ ، وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْيَمِينُ فِي حَقِّ أَخِيهِ بِالْيَمِينِ الَّتِي حَلَفَهَا لِصَاحِبِ الدَّيْنِ ، لِاخْتِلَافِ مُسْتَحِقِّيهَا . كَمَا لَوْ أَدَّى أَحَدُ الْأَخَوَيْنِ دَيْنًا عَلَى مُنْكِرٍ وَأَحْلَفُهُ عَلَيْهِ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الْأَخِ الْآخَرِ مِنْ إِحْلَافِهِ .

الْقَوْلُ فِي إِقْرَارِ الْوَارِثِ بِالْوَصِيَّةِ

[ الْقَوْلُ فِي إِقْرَارِ الْوَارِثِ بِالْوَصِيَّةِ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَنَّ أَبَاهُ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ مَالِهِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا كَانَتِ الدَّعْوَى فِي وَصِيَّةٍ اعْتَرَفَ بِهَا أَحَدُ

الِابْنَيْنِ وَأَنْكَرَهَا الْآخَرُ في الشهادة . فَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ كَالْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ ، فَلَا يَلْزَمُ الْمُقِرُّ بِهَا إِلَّا قَدْرُ حِصَّتِهِ وَهُوَ نِصْفُ الثُّلُثِ ، بِوِفَاقِ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَمِيعِ أَصْحَابِنَا . بِخِلَافِ الدَّيْنِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ ، لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، فَإِنَّ جَمِيعَ الدَّيْنِ مُسْتَحَقٌّ فِيمَا يُوجَدُ مِنْ قَلِيلِ التَّرِكَةِ وَكَثِيرِهَا . وَالْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ التَّرِكَةِ لَا يُسْتَحَقُّ إِلَّا مِنْ جَمِيعِهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ مُعَيَّنَةٌ فِي ثُلُثَيْ شَيْءٍ مِنَ التَّرِكَةِ ، كَالْوَصِيَّةِ بِدَارٍ اعْتَرَفَ بِهَا أَحَدُهُمَا وَأَنْكَرَهَا الْآخَرُ : فَلَا تَخْلُو الدَّارُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً فِي التَّرِكَةِ لَمْ يَقْتَسِمَاهَا ، فَلَا يَلْزَمُ الْمُقِرَّ إِلَّا نِصْفُهَا عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ . لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مِنْهَا إِلَّا النِّصْفَ ، وَعَلَى الْمُنْكِرِ الْيَمِينُ فَإِذَا حَلَفَ ، حُسِبَ عَلَى الْمُقِرِّ قِيمَةُ النِّصْفِ مِنْ حِصَّتِهِ . فَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّ أَبَاهُ وَصَّى بِجَمِيعِ هَذِهِ الدَّارِ لِزَيْدٍ ، وَأَقَرَّ الْآخَرُ أَنَّهُ وَصَّى بِجَمِيعِهَا لِعَمْرٍو ، كَانَ نِصْفُ الدَّارِ لِزَيْدٍ فَمِنْ حِصَّتِهِ مِنْ صَدَقَةٍ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ لِعَمْرٍو ، وَنِصْفُ الدَّارِ لِعَمْرٍو ، وَهُوَ حِصَّةٌ مِنْ صَدَقَةٍ ، وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ لِزَيْدٍ ، لِأَنَّهُ لَوْ تَصَادَقَ الْأَخَوَانِ عَلَى الْوَصِيَّتَيْنِ لَكَانَتِ الدَّارُ بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو نِصْفَيْنِ ، وَقَدْ صَارَتْ بَيْنَهُمَا كَذَلِكَ فَلَمْ يَكُنِ التَّكْذِيبُ مُضِرًّا ، وَانْتَقَلَتِ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهُ أَحَقُّ بِجَمِيعِهَا مِنْ صَاحِبِهِ ، فَيَتَحَالَفَانِ عَلَيْهَا وَتُقِرُّ بَعْدَ أَيْمَانِهِمَا بَيْنَهُمَا ، فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَنَكَلَ الْآخَرُ ، قَضَى بِجَمِيعِهَا لِلْحَالِفِ دُونَ النَّاكِلِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تَكُونَ الدَّارُ قَدْ حَصَلَتْ فِي سَهْمِ الْمُقِرِّ بَعْدَ الْقِسْمَةِ . فَيَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ جَمِيعِهَا ، لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِهَا لِلْمُوصَى لَهُ ، وَيَصِيرُ خَصْمًا لِأَخِيهِ فِي نِصْفِهَا ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَالْمُنْكِرِ مُخَاصَمَةٌ ، لِوُصُولِهِ إِلَى حَقِّهِ مِنَ الْمُقِرِّ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ تَكُونَ الدَّارُ قَدْ حَصَلَتْ فِي سَهْمِ الْمُنْكِرِ ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُقِرِّ بِهَا لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا ، وَلَا مُطَالَبَةَ عَلَيْهِ بِهَا وَلَا بِقِيمَتِهَا ، فَإِذَا حَلَفَ الْمُنْكِرُ بَرِئَ مِنَ الْمُطَالَبَةِ وَحَصَلَتْ لَهُ الدَّارُ وَبَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِهَا . فَإِذَا كَانَ الْمُقِرُّ عَدْلًا ، فَشَهِدَ عَلَى أَخِيهِ بِالْوَصِيَّةِ بِالدَّارِ سُمِعَتْ شَهَادَتُهُ وَحُكِمَ بِهَا عَلَى أَخِيهِ مَعَ شَاهِدٍ آخَرَ أَوْ مَعَ عَيْنِ الْمُوصَى لَهُ ، وَانْتُزِعَتِ الدَّارُ مِنْ يَدِهِ بِالْوَصِيَّةِ ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَخِيهِ بِبَدَلِهَا مِنْ تَرِكَةِ أَبِيهِ وَإِنِ اعْتَرَفَ لَهُ بِذَلِكَ ، لِأَنَّهُ بِالْإِنْكَارِ جَاحِدٌ لِاسْتِحْقَاقِ غَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ

مَسْأَلَةٌ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ بِكِتَابِ الْقَاضِي

بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَتَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ بِكِتَابِ الْقَاضِي فِي كُلِّ حَقٍّ لِلْآدَمِيِّينَ مَالًا أَوْ حَدًّا أَوْ قِصَاصًا ، وَفِي كُلِّ حَدٍّ لِلَّهِ قَوْلَانِ ، أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ تَجُوزُ ، وَالْآخَرُ : لَا تَجُوزُ مِنْ قِبَلِ دَرْءِ الْحُدُودِ بِالشُّبُهَاتِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ ، فَجَائِزَةٌ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى جَوَازِهَا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الشَّهَادَةَ وَثِيقَةٌ مُسْتَدَامَةٌ ، وَقَدْ يَطْرَأُ عَلَى الشَّاهِدِ مِنِ احْتِدَامِ الْمَنِيَّةِ وَالْعَجْزِ عَنِ الشَّهَادَةِ لِغَيْبَةٍ أَوْ مَرَضٍ مَا تَدْعُو الضَّرُورَةُ فِيهِ إِلَى الْإِرْشَادِ عَلَى شَهَادَتِهِ ، لِيَسْتَدِيمَ بِهَا الْوَثِيقَةَ ، وَلَا يَقْوَى بِهِ الْحَقُّ . وَالثَّانِي : أَنَّ الشَّهَادَةَ خَبَرٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُلُّ خَبَرٍ شَهَادَةٌ ، فَلِمَا جَازَ نَقْلُ الْخَبَرِ لِاسْتِدَامَةِ الْعِلْمِ بِهِ ، جَازَ نَقْلُ الشَّهَادَةِ لِاسْتِدَامَةِ التَّوْثِيقِ بِهَا . فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُهَا ، فَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهُمَا : فِي وُجُوبِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ . وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ شَاهِدِ الْأَصْلِ إِذَا دَعَاهُ صَاحِبُ الْحَقِّ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ ، وَلَهُ حَالَتَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُجِيبَ إِلَيْهَا ، فَيَكُونُ بِالْإِجَابَةِ مُحْسِنًا ، سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى الْأَدَاءِ أَوْ عَجَزَ وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْهَا ، فَلَهُ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى أَدَائِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ ، فَلَا تَلْزَمُهُ الشَّهَادَةُ عَلَى شَهَادَتِهِ ، لِأَنَّ تَحَمُّلَ الشَّهَادَةِ مُوجِبٌ لِأَدَائِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ ، وَلَيْسَ بِمُوجِبِ الْإِشْهَادِ عَلَيْهَا ، فَلَمْ تَلْزَمُهُ غَيْرُ الْمَقْصُودِ بِتَحَمُّلِهَا . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَعْجِزَ عَنْ أَدَائِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ إِمَّا لِمَرَضٍ أَوْ زَمَانَةٍ ، أَوْ لِسَفَرٍ وَنَقْلَةٍ ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ عَلَى شَهَادَتِهِ .

فَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ إِلَى وُجُوبِ إِشْهَادِهِ عَلَى شَهَادَتِهِ ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا عِنْدَ الْحُكَّامِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ حِفْظِ الْحَقِّ عَلَى صَاحِبِهِ فِي الْحَالَيْنِ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاءُ شَهَادَتِهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِشْهَادُ عَلَى شَهَادَتِهِ لِثَلَاثِ مَعَانٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْمَقْصُودَ بِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ أَدَاؤُهَا دُونَ الْإِشْهَادِ عَلَيْهَا ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ فِي التَّحَمُّلِ غَيْرِ الْمَقْصُودِ بِهِ . وَالثَّانِي : الْإِشْهَادُ عَلَيْهَا لَا يُسْقِطُ فَرْضَ أَدَائِهَا فَلَمْ يَلْزَمْهُ بِالتَّحَمُّلِ فَرْضَانِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْمُقِرَّ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِشْهَادُ عَلَى إِقْرَارِهِ لَمْ يَلْزَمِ الشَّاهِدَ الْإِشْهَادُ عَلَى شَهَادَتِهِ . وَالَّذِي أَرَاهُ أَوْلَى الْمَذْهَبَيْنِ عِنْدِي ، أَنْ يُعْتَبَرَ الْحَقُّ الْمَشْهُودُ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَنْتَقِلُ إِلَى الْأَعْيَانِ كَالْوَقْفِ الْمُؤَبَّدِ الَّذِي يَنْتَقِلُ إِلَى بَطْنٍ بَعْدَ بَطْنٍ ، لَزِمَهُ الْإِشْهَادُ عَلَى شَهَادَتِهِ ، لِأَنَّ الْبَطْنَ الْمَوْجُودَ يَصِلُ إِلَى حَقِّهِ بِالْأَدَاءِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ غَيْرُهُ ، وَالْبَطْنُ الْمَفْقُودُ قَدْ لَا يَصِلُ إِلَى حَقِّهِ إِلَّا بِالْإِشْهَادِ عَلَى شَهَادَتِهِ ، فَلَزِمَهُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهَا فِي حَقِّهِ . وَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ الْمَعْقُودَةُ إِلَى مُدَّةٍ قَدْ لَا يَعِيشُ الشُّهُودُ إِلَى انْقِضَائِهَا فِي الْأَغْلَبِ ، فَهِيَ بِمَثَابَةِ الْمُنْتَقَلِ فِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ عَلَى شَهَادَتِهِ . وَكَذَلِكَ الدُّيُونُ الْمُؤَجَّلَةِ بِالْأَجَلِ الْبَعِيدِ . فَأَمَّا فِي الْحُقُوقِ الْمُعَجَّلَةِ ، أَوْ فِي الْبَيَاعَاتِ الْمَقْبُوضَةِ النَّاجِزَةِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ فِيهَا غَيْرُ الْأَدَاءِ عِنْدَ التَّنَازُعِ ، لِأَنَّ التَّوْثِيقَ بِهَا غَيْرُ مُسْتَدَامٍ وَأَمَّا إِذَا ابْتَدَأَ الشَّاهِدُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى شَهَادَتِهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ جَازَ ، وَكَانَ بِهَا مُتَطَوِّعًا ، لِأَنَّهَا اسْتِظْهَارٌ فِي التَّوْثِيقِ لِصَاحِبِ الْحَقِّ ، كَالْمُتَحَمِّلِ لِلْخَبَرِ إِذَا ابْتَدَأَ بِرِوَايَتِهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ جَازَ وَكَانَ بِهَا مُتَطَوِّعًا . وَلَا يَسْقُطُ عَنِ الشَّاهِدِ فَرْضُ الْأَدَاءِ بِهَذَا الْإِشْهَادِ إِذَا أَحْدَثَ التَّنَازُعَ مَعَ إِمْكَانِ الشَّهَادَةِ ، فَإِنِ انْقَطَعَ التَّنَازُعُ ، سَقَطَ عَنْهُ فَرَضُ الْأَدَاءِ وَالْإِشْهَادِ مَعًا .

فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الثَّانِي : مَا تَجُوزُ فِيهِ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ . وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِالْحَقِّ الْمَشْهُودِ فِيهِ وَهُوَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ . وَالثَّانِي : مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى . فَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فَتَجُوزُ فِيهَا الْإِشْهَادُ عَلَى الشَّهَادَةِ ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا لَا يَثْبُتُ

بِشَاهِدَيْنِ كَالنِّكَاحِ ، وَالطَّلَاقِ ، وَالْعِتْقِ ، وَالنَّسَبِ ، وَالْقِصَاصِ ، وَالْقَذْفِ ، أَوْ كَانَ يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ كَالْأَمْوَالِ ، أَوْ كَانَ يَثْبُتُ بِالنِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ كَالْوِلَادَةِ وَعُيُوبِ النِّسَاءِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِيمَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ كَحَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ ، وَيَجُوزُ فِيمَا عَدَاهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمَحْضَةِ . وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا سَقَطَ بِالشُّبْهَةِ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى التَّخْفِيفِ ، وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ تَغْلِيظٌ فَتَنَافَيَا . وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى التَّغْلِيظِ وَفِيمَا عَدَا الْأَمْوَالِ الَّتِي يَجُوزُ أَنْ يُسْتَبَاحَ بِالْإِبَاحَةِ ، فَلَمَّا صَحَّتِ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الْأَمْوَالِ الَّتِي هِيَ أَخَفُّ ، كَانَ جَوَازُهَا فِي الْمُغَلَّظِ أَحَقُّ . وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةِ ، كَحَدِّ الزِّنَا ، وَشَرِبِ الْخَمْرِ ، وَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ ، فَفِي جَوَازِ الشَّهَادَةِ فِيهَا عَلَى الشَّهَادَةِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ : أَحَدُهُمَا : تَجُوزُ الشَّهَادَةُ فِيهَا عَلَى الشَّهَادَةِ ، وَتَثْبُتُ بِشُهُودِ الْفَرْعِ كَثُبُوتِهَا بِشُهُودِ الْأَصْلِ ، اعْتِبَارًا بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَا تَسْقُطُ بِالْعَفْوِ أَحَقُّ بِالِاسْتِيفَاءِ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ بِالْعَفْوِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ فِيهَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ ، وَلَا تَثْبُتُ إِلَّا بِشُهُودِ الْأَصْلِ دُونَ شُهُودِ الْفَرْعِ ، لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عَلَى سِتْرِهَا وَكِتْمَانِهَا وَدَرْئِهَا بِالشُّبَهَاتِ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ مَا اسْتَطَعْتُمْ " . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ " . فَكَانَتْ لِأَجْلِ ذَلِكَ مُنَافِيَةً لِتَأْكِيدِهَا بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ . وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي كِتَابِ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي ، كَالْقَوْلِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ . تَجُوزُ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، وَفِي جَوَازِهَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلَانِ .

فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ : فِي صِفَةِ الْإِشْهَادِ عَلَى الشَّهَادَةِ . وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِمَا تَحَمَّلَهُ شَاهِدُ الْأَصْلِ ، وَلَهُ فِي صِحَّةِ تَحَمُّلِهِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يُشَاهِدَ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْحَقِّ مِنْ حُضُورِهِ عَقْدَ بَيْعٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ نِكَاحٍ يَسْمَعُ فِيهِ الْبَذْلَ وَالْقَبُولَ ، أَوْ مُشَاهَدَتِهِ لِقَتْلٍ أَوْ إِتْلَافِ مَالٍ ، أَوْ سَمَاعِهِ لِلَفْظِ الْقَذْفِ ، فَيَصِحُّ تَحَمُّلُهُ مِنْ غَيْرِ إِقْرَارٍ وَلَا اسْتِرْعَاءٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ ، وَيَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِمِثْلِ مَا تَحْمَّلَهُ .

وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْحَقِّ ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَسْمَعَ إِقْرَارَ الْمُقِرِّ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَهُوَ يَقُولُ : " لِفُلَانٍ عَلِيَّ كَذَا دِرْهَمٌ " فَيَصِحُّ تَحَمُّلُ الشَّاهِدِ لِهَذَا الْإِقْرَارِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَرْعِيَهُ الْمُقِرُّ لِلشَّهَادَةِ ، وَيَقُولُ " اشْهَدْ عَلِيَّ بِهَذَا " ، لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي الْإِقْرَارِ عِنْدَ الْحُكَّامِ أَنْ لَا يَكُونَ إِلَّا بِالْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ ، فَاسْتُغْنِيَ بِالْعُرْفِ عَنْ الِاسْتِرْعَاءِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَسْمَعَ إِقْرَارَهُ عِنْدَ غَيْرِ الْحَاكِمِ ، إِمَّا عِنْدَ الشَّاهِدِ أَوْ عِنْدَ غَيْرِ الشَّاهِدِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِفَةِ التَّحَمُّلِ لِلشَّهَادَةِ بِهَذَا الْإِقْرَارِ ، هَلْ يَفْتَقِرُ إِلَى اسْتِرْعَاءِ الْمُقِرِّ ؟ وَالِاسْتِرْعَاءُ أَنْ يَقُولَ : اشْهَدْ عَلَيَّ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَطَائِفَةٍ ، أَنَّ التَّحَمُّلَ لِلشَّهَادَةِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالِاسْتِرْعَاءِ بِهَا ، فَإِنْ سَمِعَ الشَّاهِدُ الْإِقْرَارَ مِنْ غَيْرِ اسْتِرْعَاءٍ لَمْ يَصِحَّ تَحَمُّلُهُ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرِدْ بِذَلِكَ : عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ أُقْرِضُكَ إِيَّاهَا ، أَوْ أَهَبُهَا لَكَ ، فَلَا يُلْزَمُهُ مَا أَقَرَّ بِهِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ التَّحَمُّلُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ تَحَمُّلَ الْإِقْرَارِ صَحِيحٌ وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ الِاسْتِرْعَاءِ ، وَالشَّهَادَةُ بِهِ جَائِزَةٌ لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ دُونَ السَّرَائِرِ . وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِذَا اخْتَبَأَ الشَّاهِدُ حَتَّى سَمِعَ إِقْرَارَ الْمُقِرِّ : أَنَّ لِزَيْدٍ عَلَيَّ أَلْفًا ، وَالْمُقِرُّ غَيْرُ عَالِمٍ بِحُضُورِ الشَّاهِدِ وَسَمَاعِهِ ، أَنْ يَتَحَمَّلَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ وَيَشْهَدَ بِهَا عَلَى الْمُقِرِّ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمُقِرِّ غَفْلَةٌ تَتِمُّ بِهَا الْحِيلَةُ عَلَيْهِ وَالْخِدَاعُ ، فَلَا يَصِحُّ تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ مِنَ الْمُخْتَبِئِ حَتَّى يَرَاهُ الْمُقِرُّ أَوْ يَعْلَمَ بِهِ . وَسَوَّى أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ ذِي الْغَفْلَةِ وَغَيْرِهِ فِي صِحَّةِ تَحْمِّلِ الْمُخْتَبِئِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَوْلَى لِتَمَامِ الْحِيلَةِ عَلَى الْغَافِلِ وَانْتِفَائِهَا عَنِ الضَّابِطِ فَهَذَانِ الْوَجْهَانِ فِي وُجُوبِ الِاسْتِرْعَاءِ . وَالْأَصَحُّ عِنْدِي مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ الْإِقْرَارِ ، إِنِ اقْتَرَنَ بِهِ قَوْلٌ أَوْ أَمَارَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ اسْتَغْنَى تَحَمُّلُهُ عَنْ الِاسْتِرْعَاءِ ، وَالْقَوْلُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : لَهُ عَلِيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ بِحَقٍّ وَاجِبٍ . وَالْأَمَارَةُ أَنْ يَحْضُرَ الْمُقِرُّ عِنْدَ الشَّاهِدِ لِيَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ فَيَعْلَمَ شَاهِدُ الْحَالِ أَنَّهُ إِقْرَارٌ بِوَاجِبٍ .

وَإِنْ تَجَرَّدَ الْإِقْرَارُ عَمَّا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ أَمَارَةٍ ، افْتَقَرَ إِلَى الِاسْتِرْعَاءِ وَلَمْ يَصِحَّ تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ عَلَى إِطْلَاقِهِ . فَإِنْ أَرَادَ الشَّاهِدُ أَنْ يَشْهَدَ بِهَذَا الْإِقْرَارِ عِنْدَ الْحَاكِمِ ، لَزِمَهُ أَنْ يَذْكُرَ فِي شَهَادَتِهِ صِفَةَ الْإِقْرَارِ ، فَإِنْ كَانَ بِالِاسْتِرْعَاءِ قَالَ فِي شَهَادَتِهِ : أَشْهَدُ أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدِي وَأَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَقِلْ : أَشْهَدُ ، وَقَالَ : أَقَرَّ عِنْدِي ، وَأَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ كَانَ إِخْبَارًا وَلَمْ تَكُنْ شَهَادَةً . فَلَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا حَتَّى يَقُولَ : أَشْهَدُ أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدِي ، وَأَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ ، لِأَنَّ الْحُكْمَ يَكُونُ بِالشَّهَادَةِ دُونَ الْخَبَرِ . وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ قَدْ حَضَرَ الْمُقِرَّ وَأَقَرَّ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِرْعَاءٍ قَالَ فِي شَهَادَتِهِ : " أَشْهَدُ إِنَّهُ أَقَرَّ عِنْدِي بِكَذَا " وَلَا يَقُولُ : " وَأَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ " ، لِيَجْتَهِدَ الْحَاكِمُ رَأْيَهُ فِي صِحَّةِ هَذَا التَّحَمُّلِ وَفَسَادِهِ . وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ قَدْ سَمِعَ إِقْرَارَ الْمُقِرِّ مِنْ غَيْرِ حُضُورٍ عِنْدَهُ ، قَالَ فِي شَهَادَتِهِ : " أَشْهَدُ إِنِّي سَمِعْتُهُ يُقِرُّ بِكَذَا " وَلَا يَقُولُ : أَقَرَّ " عِنْدِي " لِيَكُونَ الْحَاكِمُ هُوَ الْمُجْتَهِدُ دُونَ الشَّاهِدِ . فَإِنْ أَرَادَ الشَّاهِدُ أَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِي صِحَّةِ هَذَا التَّحَمُّلِ وَفَسَادِهِ نُظِرَ : فَإِنْ أَرَادَ الشَّاهِدُ أَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِي صِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَفَسَادِهِ لَمْ يَجُزْ ، وَكَانَ الْحَاكِمُ أَحَقَّ بِهَذَا الِاجْتِهَادِ . وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِي لُزُومِ الْأَدَاءِ وَسُقُوطِهِ عَنْهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لِاخْتِصَاصِهِ بِوُجُوبِ الْأَدَاءِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ ، لِأَنَّ فِي الْإِقْرَارِ حَقًّا لِغَيْرِهِ .

الْقَوْلُ فِي صِحَّةِ تَحَمُّلِ شَاهِدِ الْفَرْعِ وَأَدَائِهِ

[ الْقَوْلُ فِي صِحَّةِ تَحَمُّلِ شَاهِدِ الْفَرْعِ وَأَدَائِهِ ] . فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ شَاهِدِ الْأَصْلِ فِي صِحَّةِ تَحَمُّلِهِ الشَّهَادَةَ ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى شَاهِدِ الْفَرْعِ فِي صِحَّةِ تَحَمُّلِهِ وَصِحَّةِ أَدَائِهِ . فَأَمَّا تَحَمُّلُهُ فَمُعْتَبَرٌ فِي شَاهِدِ الْأَصْلِ وَلَهُ فِي تَحَمُّلِ شَاهِدِ الْفَرْعِ عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَذَكُرَ شَاهِدُ الْأَصْلِ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْحَقِّ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ ، فَيَقُولُ : أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفًا مِنْ ثَمَنٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ صَدَاقٍ ، فَإِذَا سَمِعَهُ شَاهِدُ الْفَرْعِ صَحَّ تَحَمُّلُهُ لِلشَّهَادَةِ عَنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَرْعِهِ إِيَّاهَا ، وَفِيهِ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ وَجْهٌ آخَرُ

أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَحَمُّلُهُ إِلَّا بِالِاسْتِرْعَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاحْتِمَالِ بِالْوَعْدِ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، لِأَنَّ ذِكْرَ السَّبَبِ تَعْيِينٌ مِنْ الِاحْتِمَالِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدُ الْأَصْلِ بِالشَّهَادَةِ عِنْدَ الْحَاكِمِ ، فَإِنْ سَمِعَهُ شَاهِدُ الْفَرْعِ صَحَّ تَحَمُّلُهُ لَهَا ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَرْعِهِ إِيَّاهَا ، لِأَنَّ الْحَاكِمَ مُلْزَمٌ ، فَلَمْ تَكُنِ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُ إِلَّا بِمَا لَزِمَ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَقُولَ شَاهِدُ الْأَصْلِ : أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفًا ، فَإِذَا سَمِعَهُ شَاهِدُ الْفَرْعِ لَمْ يَصِحَّ تَحَمُّلُهُ إِلَّا بِالِاسْتِرْعَاءِ وَجْهًا وَاحِدًا ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمُقِرِّ عَلَى وَجْهَيْنِ : وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُقِرِّ وَالشَّاهِدِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحَقَّ فِي الشَّاهِدِ لَازِمٌ لِغَيْرِ الشَّاهِدِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُغَلَّظَ حُكْمُهُ بِالِاسْتِرْعَاءِ لِيَتَحَقَّقَ صِحَّةُ الْإِلْزَامِ بِنَفْسِ الِاحْتِمَالِ . وَالْحَقُّ فِي الْإِقْرَارِ لَازِمٌ لِلْمُقِرِّ لَا يَتَعَدَّاهُ فَيَتَحَقَّقُ حُكْمُهُ فِي صِحَّةِ الْإِلْزَامِ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِ احْتِمَالٌ لَمَا اسْتَظْهَرَ بِهِ لِنَفْسِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ وَشُرُوطُ الشَّهَادَةِ أَغْلَظُ مِنْ شُرُوطِ الْخَبَرِ لِصِحَّةِ إِخْبَارِ مَنْ لَا يَصِحُّ شَهَادَتُهُ مِنَ الْعَبِيدِ وَالنِّسَاءِ ، وَلِذَلِكَ اعْتُبِرَ الِاسْتِرْعَاءُ فِي الشَّهَادَةِ وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْإِقْرَارِ ، وَلِذَلِكَ قَبِلَ رُجُوعِ الشَّاهِدِ وَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُ الْمُقِرِّ . وَإِذَا كَانَ الِاسْتِرْعَاءُ مُعْتَبَرًا فِي الشَّهَادَةِ فَالِاسْتِرْعَاءُ أَنْ يَقُولَ شَاهِدُ الْأَصْلِ لِشَاهِدِ الْفَرْعِ : " أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفًا فَاشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي وَعَنْ شَهَادَتِي " . فَأَمَّا قَوْلُهُ : " فَاشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي " اسْتِرْعَاءٌ لَا يَصِحُّ التَّحَمُّلُ إِلَّا بِهِ . فَلَوْ قَالَ فَاشْهَدْ أَنْتَ بِهَا لَمْ يَكُنِ اسْتِرْعَاءٌ ، حَتَّى يَقُولَ : " فَاشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي " ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : " وَعَنْ شَهَادَتِي " فَهُوَ إِذْنٌ لَهُ فِي النِّيَابَةِ عَنْهُ فِي الْأَدَاءِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ التَّحَمُّلِ وَمُعْتَبَرٌ فِي جَوَازِ الْأَدَاءِ أَمْ لَا الاسترعاء في الشهادة ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ فِي صِحَّةِ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ ، لِأَنَّ شَاهِدَ الْفَرْعِ نَائِبٌ عَنْ شَاهِدِ الْأَصْلِ فِي الْأَدَاءِ ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْإِذْنُ بِالنِّيَابَةِ كَالْوَكِيلِ وَالْوَصِيِّ ، وَهَذَا قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَصِحُّ التَّحَمُّلُ وَالْأَدَاءُ مَعَ تَرْكِهِ ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى شَهَادَتِهِ لَيْسَتْ مِنْ حُقُوقِهِ ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ إِذْنُهُ ، وَهَذَا قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ .

الْقَوْلُ فِي شُرُوطِ أَدَاءِ شَاهِدِ الْفَرْعِ

[ الْقَوْلُ فِي شُرُوطِ أَدَاءِ شَاهِدِ الْفَرْعِ ] . فَصْلٌ : وَأَمَّا صِحَّةُ الْأَدَاءِ فَمُعْتَبَرَةٌ بِشَاهِدِ الْأَصْلِ وَصِحَّةُ أَدَائِهِ مُعْتَبَرَةٌ بِخَمْسَةِ شُرُوطٍ شاهد الفرع : أَحَدُهَا : أَنْ يَصِحَّ تَحَمُّلُهُ عَلَى الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ ، فَإِذَا أَخَلَّ بِشَرْطٍ مِنْهَا لَمْ يَصِحَّ أَدَاؤُهُ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا عَلَى شَهَادَتِهِ غَيْرَ رَاجِعٍ عَنْهَا ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْهَا قَبْلَ الْأَدَاءِ لَمْ يَصِحَّ أَدَاؤُهُ ، وَلَوْ رَجَعَ بَعْدَ الْأَدَاءِ وَقَبْلَ الْحُكْمِ بَطَلَ الْأَدَاءُ ، وَلَوْ رَجَعَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِالْأَدَاءِ ، لَمْ يَبْطُلِ الْحُكْمُ بِرُجُوعِهِ . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ شَاهِدُ الْأَصْلِ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ ، إِمَّا لِغَيْبَةٍ أَوْ زَمَانَةٍ أَوْ مَوْتٍ ، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لَمْ يَكُنْ لِشَاهِدِ الْفَرْعِ أَنْ يُؤَدِّيَهَا عَنْهُ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَقْوَى مِنَ الْفَرْعِ ، وَإِذَا وُجِدَتِ الْقُوَّةُ فِي الشَّهَادَةِ لَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُهَا ، وَخَالَفَتِ الْوَكَالَةُ فِي جَوَازِهَا عَنِ الْحَاضِرِ ، لِأَنَّ الْحَاضِرَ قَدْ يَضْعُفُ عَنِ اسْتِيفَاءِ حُجَّتِهِ كَالْغَائِبِ . وَخَالَفَتِ الْخَبَرَ فِي جَوَازِ قَبُولِهَا مِنَ الْمُخْبِرِ مَعَ وُجُودِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ ، لِأَنَّ الْخَبَرَ يَلْزَمُ الْمُخْبِرَ وَالْمُسْتَخْبِرَ وَالشَّهَادَةُ تَلْزَمُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ دُونَ الشَّاهِدِ . فَلَوْ شَهِدَ شَاهِدُ الْفَرْعِ لِغَيْبَةِ شَاهِدِ الْأَصْلِ أَوْ مَرَضِهِ ، ثُمَّ قَدِمَ شَاهِدُ الْأَصْلِ مِنْ سَفَرِهِ أَوْ صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ بَعْدَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ الْفَرْعِ لَمْ تُسْمَعْ شَهَادَةُ الْأَصْلِ . وَإِنْ كَانَ قَبْلَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِهَا سُمِعَتْ شَهَادَةُ الْأَصْلِ وَلَمْ يَنْفُذِ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ الْفَرْعِ . فَأَمَّا الْغَيْبَةُ الَّتِي تَجُوزُ مَعَهَا شَهَادَةُ الْفَرْعِ ، فَقَدِ اعْتَبَرَهَا أَبُو حَنِيفَةَ بِمُدَّةِ الْقَصْرِ وَهِيَ مَسَافَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عِنْدَهُ . وَاعْتَبَرَهَا أَبُو يُوسُفَ بِأَنْ يَكُونَ إِذَا رَجَعَ إِلَيْهَا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْعَوْدِ مِنْهَا قَبْلَ اللَّيْلِ إِلَى وَطَنِهِ . وَعَلَى الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ بِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ فِي عَوْدِهِ ، لِأَنَّ دُخُولَ الْمَشَقَّةِ عَلَى الشَّاهِدِ يُسْقِطُ عَنْهُ فَرْضَ الْأَدَاءِ .

الشَّرْطُ الرَّابِعُ : أَنْ يُسَمِّيَ شَاهِدَ الْأَصْلِ فِي أَدَائِهِ بِمَا يُعْرَفُ بِهِ ، فَإِنْ أَغْفَلَ ذِكْرَهُ لَمْ يَصِحَّ أَدَاؤُهُ ، لِأَنَّهُ فَرْعُهُ ، وَقَدْ يَكُونُ الْأَصْلُ غَيْرَ مَرْضِيٍّ ، فَتَكُونُ الشَّهَادَةُ مَرْدُودَةٌ وَإِنْ كَانَ الْفَرْعُ مَرْضِيًّا ، فَقَبُولُهَا مُعْتَبَرٌ بِعَدَالَةِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ ، وَإِنْ قَالَ شَاهِدُ الْفَرْعِ : " أَشْهَدَنِي شَاهِدُ عَدْلٍ رِضًى " لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ حَتَّى يُسَمِّيَهُ ، لِأَنَّ تَزْكِيَةَ الشُّهُودِ إِلَى الْحَاكِمِ دُونَ غَيْرِهِ . وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ : أَنْ يُؤَدِّيَ الشَّهَادَةَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي تَحْمَّلَهَا ، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَحْمَّلَ عَنْ شَاهِدِ الْأَصْلِ لِذِكْرِهِ لِسَبَبِ وُجُوبِ الْحَقِّ مِنْ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ ، ذَكَرَهُ فِي أَدَائِهِ عَنْهُ ، فَقَالَ " أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ ابْنَ فُلَانٍ الشَّاهِدَ أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ وَعَنْ شَهَادَتِهِ ، أَنَّ فُلَانَ ابْنَ فُلَانٍ أَقَرَّ عِنْدَهُ وَأَشْهَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّ عَلَيْهِ لِفُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، فَتَصِحُّ الشَّهَادَةُ بِهَذَا الْأَدَاءِ . فَإِنْ قَالَ " أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ وَلَمْ يَقُلْ " وَعَنْ شَهَادَتِهِ " فَفِي صِحَّةِ أَدَائِهِ وَجْهَانِ تَعْلِيلًا بِمَا قَدَّمْنَاهُ . وَهَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ . فَإِنْ قَالَ شَاهِدُ الْفَرْعِ : أَشْهَدُ عَنْ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ الشَّاهِدِ جَازَ . وَلَوْ قَالَ : " أَشْهَدُ عَلَيْهِ " لَمْ يَجُزْ ، لِأَنَّ الْحَقَّ عَلَى الْمُقِرِّ لَا عَلَى الشَّاهِدِ .

فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الرَّابِعُ : مَنْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُؤَدِّيًا لِلشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ . مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهُمُ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ ، سَوَاءٌ كَانَتْ شَهَادَةُ الْأَصْلِ مِمَّا تُقْبَلُ فِيهَا النِّسَاءُ أَوْ لَا تُقْبَلُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْفُرُوعِ إِذَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُنَّ فِي الْأَصْلِ ، لِأَنَّ حُكْمَ الْفَرْعِ يُعْتَبَرُ بِالْأَصْلِ . وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِشَهَادَةِ الْفَرْعِ إِثْبَاتُ شَهَادَةِ الْأَصْلِ وَالْمَقْصُودَ بِشَهَادَةِ الْأَصْلِ إِثْبَاتُ الْحَقِّ ، فَصَارَتْ صِفَةُ الْحَقِّ مُعْتَبَرَةٌ فِي شَهَادَةِ الْأَصْلِ ، وَصِفَتُهُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي شَهَادَةِ الْفَرْعِ ، وَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُ الْحَقِّ سَقَطَتْ شَهَادَةُ النِّسَاءِ . فَإِنْ كَانَتْ شَهَادَةُ الْأَصْلِ مِمَّا يُحْكَمُ فِيهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، فَيَحْمِلُهَا فِي الْفَرْعِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ وَأَرَادَ صَاحِبُ الْحَقِّ أَنْ يَحْلِفَ الْيَمِينَ الْوَاحِدَ ، كَمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ الْيَمِينَ الْوَاحِدَ فِي الْأَصْلِ لَمْ يَجُزْ ، لِأَنَّ شَهَادَةَ الْأَصْلِ لَا تَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ الْحَقُّ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ .

فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ فِي الْفَرْعِ عَنْ شَاهِدٍ وَاحِدٍ فِي الْأَصْلِ ، وَأَرَادَ صَاحِبُ الْحَقِّ أَنْ يَحْلِفَ مَعَهَا جَازَ ، لِأَنَّهُ قَدْ يُثْبَتُ بِهِمَا شَهَادَةُ الْوَاحِدِ ، فَجَازَ أَنْ يَحْلِفَ مَعَهُ ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ ، لِأَنَّ يَمِينَهُ لِإِثْبَاتِ حَقِّهِ وَلَيْسَتْ لِإِثْبَاتِ الشَّهَادَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

الْقَوْلُ فِي تَحَمُّلِ شَاهِدِ الْفَرْعِ وَأَدَائِه

[ الْقَوْلُ فِي تَحَمُّلِ شَاهِدِ الْفَرْعِ وَأَدَائِهِ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا سَمِعَ الرَّجُلَانِ الرَّجُلَ يَقُولُ : أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُمَا : اشْهَدَا عَلَى شَهَادَتِي ، فَلَيْسَ لَهُمَا أَنْ يَشْهَدَا بِهَا ، وَلَا لِلْحَاكِمِ أَنْ يَقْبَلَهَا : لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَرْعِهِمَا إِيَّاهَا ، وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ لَهُ عَلَى فُلَانٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَعَدَهُ بِهَا ، وَإِذَا اسْتَرْعَاهُمَا إِيَّاهَا لَمْ يَفْعَلْ إِلَّا وَهِيَ عِنْدَهُ وَاجِبَةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذَا مِمَّا قَدْ مَضَى فِيهِ الْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ تَكُونُ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَذْكُرَ شَاهِدُ الْأَصْلِ فِي شَهَادَتِهِ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْحَقِّ ، أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ أُجْرَةِ أَرْضٍ أَوْ قَرْضٍ ، فَيَصِحُّ أَنْ يَتَحَمَّلَهُ شَاهِدُ الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ اسْتِرْعَاءٍ ، وَفِيهِ لِبَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ وَجْهٌ آخَرُ ، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّحَمُّلُ إِلَّا بِالِاسْتِرْعَاءِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدُ الْأَصْلِ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِالْحَقِّ فَإِذَا سَمِعَهُ شَاهِدُ الْفَرْعِ صَحَّ تَحَمُّلُهُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَرْعِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدُ الْأَصْلَ عِنْدَ شَاهِدَيِ الْفَرْعِ ، أَوْ سَمَاعِهِمَا مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الشَّهَادَةِ يَقُولَانِ " نَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ " ، وَلَمْ يَذْكُرَا سَبَبَ وُجُوبِهَا ، لَمْ يَصِحَّ تَحَمُّلُ شَاهِدَيِ الْفَرْعِ إِلَّا بِالِاسْتِرْعَاءِ ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَعَدَهُ بِهَا ، فَإِذَا اسْتَرْعَاهُمَا إِيَّاهَا لَمْ يَفْعَلْ إِلَّا وَهِيَ وَاجِبَةٌ . وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّ الِاسْتِرْعَاءَ وَثِيقَةٌ ، وَالْوَثَائِقُ تُسْتَعْمَلُ فِي الْوَاجِبَاتِ ، فَصَارَ الِاحْتِمَالُ بِالِاسْتِرْعَاءِ مُنْتَفِيًا . فَأَمَّا تَحْمُلُ الْإِقْرَارَ ، فَفِي اعْتِبَارِ الِاسْتِرْعَاءِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُعْتَبَرُ فِيهِ كَمَا تُعْتَبَرُ فِي تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ لِمَا فِيهَا مِنَ الِاحْتِمَالِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُعْتَبَرُ الِاسْتِرْعَاءُ فِي الْإِقْرَارِ ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي الشَّهَادَةِ ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ أَوْكَدُ مِنَ الشَّهَادَةِ ، وَلِذَلِكَ لَوْ رَجَعَ الْمُقِرُّ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ وَلَوْ رَجَعَ الشَّاهِدُ قَبْلَ رُجُوعِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا كَانَ الِاسْتِرْعَاءُ فِي الْإِقْرَارِ مُعْتَبَرًا ، فَقَالَ الشَّاهِدُ لِلْمُقِرِّ : " أَشْهَدُ عَلَيْكَ بِذَلِكَ " ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، كَانَ هَذَا اسْتِرْعَاءً صَحِيحًا ، وَلَوْ قَالَ : أَشْهَدُ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ الِاسْتِرْعَاءِ بِذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ ، أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُ " أَشْهَدُ " اسْتِرْعَاءٌ صَحِيحٌ كَقَوْلِهِ " نَعَمْ " بَلْ هُوَ آكَدُ لِمَا فِيهِ مِنْ لَفْظِ الْأَمْرِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ قَوْلُهُ " أَشْهَدُ " اسْتِرْعَاءٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاحْتِمَالِ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ ، أَوْ يَشْهَدَ عَلَى بَعْضِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : إِنْ قَالَ لَهُ " اشْهَدْ " لَمْ يَكُنِ اسْتِرْعَاءً وَلَوْ قَالَ : اشْهَدْ عَلَيَّ كَانَ اسْتِرْعَاءً لِنَفْيِ الِاحْتِمَالِ بِقَوْلِهِ ( عَلَيَّ ) وَلَوْ قَالَ لَهُ اشْهَدْ عَلَيَّ بِذَلِكَ كَانَ اسْتِرْعَاءً صَحِيحًا عَلَى الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ لِانْتِفَاءِ وُجُوهِ الِاحْتِمَالِ ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي التَّأْكِيدِ مِنْ قَوْلِهِ نَعَمْ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الِاسْتِرْعَاءَ فِي الْإِقْرَارِ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ ، فَقَالَ الشَّاهِدُ لِلْمُقِرِّ أَشْهَدُ عَلَيْكَ بِذَلِكَ ؟ فَقَالَ : لَا ، فَفِي بُطْلَانِ الشَّهَادَةِ بِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ بَطَلَتْ بِقَوْلِهِ لَا . وَالثَّانِي : لَا تَبْطُلُ ، لِأَنَّ الرُّجُوعَ فِي الْإِقْرَارِ غَيْرُ مَقْبُولٍ .

الْقَوْلُ فِي سُؤَالِ الْقَاضِي عَنْ جِهَةِ التَّحَمُّلِ

[ الْقَوْلُ فِي سُؤَالِ الْقَاضِي عَنْ جِهَةِ التَّحَمُّلِ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأُحِبُّ لِلْقَاضِي أَنْ لَا يَقْبَلَ هَذَا مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الصِّحَّةِ ، حَتَّى يَسْأَلَهُ مِنْ أَيْنَ هِيَ ؟ فَإِنْ قَالَ بِإِقْرَارٍ مِنْهُ ، أَوْ بِبَيْعٍ حَضَرْتُهُ ، أَوْ سَلَفٍ أَجَازَ ، وَلَوْ لَمْ يَسْأَلْهُ رَأَيْتُهُ جَائِزًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، يَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ إِذَا شَهِدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِحَقٍّ عَلَى رَجُلٍ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الشَّهَادَةَ بِذِكْرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْحَقِّ ، وَحَتَّى لَا يُحْوِجَ الْحَاكِمَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ سَبَبِ وُجُوبِهِ . فَيَقُولُ : " أَشْهَدُ إِنَّهُ أَقَرَّ عِنْدِي أَوْ حَضَرْتُ عَقْدَ بَيْعٍ وَجَبَ بِهِ ، فَإِنْ أَغْفَلَ الشَّاهِدُ ذِكْرَ السَّبَبِ فَقَالَ : أَشْهَدُ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَقُولَ لَهُ : " مِنْ أَيْنَ شَهِدَ عَلَيْهِ ؟ وَلَا يَقُولُ : كَيْفَ شَهِدْتَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ : كَيْفَ شَهِدْتَ عَلَيْهِ ؟ قَدْحٌ ، وَقَوْلُهُ : مِنْ أَيْنَ شَهِدْتَ عَلَيْهِ ؟ اسْتِخْبَارٌ ، وَلِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْتَخْبِرَ الشَّاهِدَ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْقَدْحِ فِيهِ . فَإِذَا سَأَلَهُ الْحَاكِمُ : مِنْ أَيْنَ شَهِدْتَ عَلَيْهِ ؟ فَيَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ ، هَلْ شَهِدَ

عَلَى إِقْرَارِهِ بِالْحَقِّ ، أَوْ عَنْ حُضُورِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْحَقِّ لِيَزُولَ بِهِ الِاحْتِمَالُ عَنْ شَهَادَتِهِ . فَإِنْ سَأَلَهُ الْحَاكِمُ وَأَجَابَهُ الشَّاهِدُ ، فَقَدْ قَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا عَلَيْهِ وَلَزِمَ الْحُكْمُ بِالشَّهَادَةِ ، إِذَا صَحَّتْ . وَإِنْ سَأَلَهُ الْحَاكِمُ ، فَلَمْ يُجِبْهُ الشَّاهِدُ ، فَقَدْ قَامَ الْحَاكِمُ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ السُّؤَالِ ، وَقَصَّرَ الشَّاهِدُ فِيمَا إِلَيْهِ مِنَ الْجَوَابِ ، فَيَنْظُرُ الْحَاكِمُ فِي حَالِ الشَّاهِدِ ، فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ غَفْلَةٌ ، لَمْ يَحْكُمْ بِشَهَادَتِهِ ، لِاحْتِمَالِهَا مَعَ الْغَفْلَةِ ، وَإِنْ كَانَ ضَابِطًا مُتَيَقِّظًا ، حَكَمَ بِشَهَادَتِهِ لِانْتِفَاءِ الِاحْتِمَالِ بِالضَّبْطِ وَالتَّيَقُّظِ . وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْهُ الْحَاكِمُ ، فَالْحَاكِمُ هُوَ الْمُقَصِّرُ ، وَحُكْمُهُ إِنْ حَكَمَ بِالشَّهَادَةِ نَافِذٌ ، لِأَنَّ سُؤَالَهُ اسْتِظْهَارٌ ، وَتُحْمَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى ظَاهِرِ الصِّحَّةِ إِلَى أَنْ يَثْبُتَ مَا يُنَافِيهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

الْقَوْلُ فِي تَزْكِيَةِ شُهُودِ الْأَصْلِ

[ الْقَوْلُ فِي تَزْكِيَةِ شُهُودِ الْأَصْلِ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ وَلَمْ يُعَدِّلَاهُ ، قَبِلَهُمَا وَسَأَلَ عَنْهُ ، فَإِنْ عُدِّلَ قَضَى بِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَهُوَ كَمَا قَالَ : إِذَا شَهِدَ شَاهِدَا الْفَرْعِ عِنْدَ الْحَاكِمِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدِ الْأَصْلِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُسَمِّيَاهُ وَيُعَدِّلَاهُ ، فَيَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِمَا عَلَيْهِ بِمَا تَحَمَّلَاهُ عَنْهُ وَبِتَعْدِيلِهِمَا لَهُ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا أَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِمَا فِي تَعْدِيلِهِ ، لِأَنَّهُمَا مَتْهُومَانِ فِيهِ لِمَا يَتَضَمَّنُهَا مِنْ إِمْضَاءِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمَا حَتَّى يَشْهَدَ غَيْرُهُمَا بِعَدَالَتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ غَيْرُهُمَا كَانَ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمَا مَرْدُودًا . وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَدَالَتَهُمَا تَنْفِي عَنْهُمَا هَذِهِ التُّهْمَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ التُّهْمَةُ فِي إِمْضَاءِ شَهَادَتِهِمَا عَنْهُ يُوجِبُ رَدَّ شَهَادَتِهِمَا بِعَدَالَتِهِ ، وَلَوَجَبَ لِأَجْلِهَا رَدُّ جَمِيعِ شَهَادَتِهِمَا ، لِأَنَّ الشَّاهِدَ إِنَّمَا يَشْهَدُ لِإِمْضَاءِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ ، وَهَذَا مَدْفُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ فَكَانَ ذَلِكَ مَدْفُوعًا بِالْحِجَاجِ .

فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ لَا يُسَمِّيَاهُ وَلَا يُعَدِّلَاهُ شهادة شاهد الفرع على شاهد الأصل بدون تسميته أو تعديله .

فَلَا يَصِحُّ هَذَا الْأَدَاءُ ، وَلَا يَحْكُمُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ ، لِأَنَّ الْحُكْمَ بِهَا مُعْتَبَرٌ بِعَدَالَةِ شُهُودِ الْفَرْعِ وَشُهُودِ الْأَصْلِ ، وَلَا يُعْرَفُ عَدَالَةُ مَنْ لَمْ يُسَمَّ . وَيَجُوزُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَبُولِ الْخَبَرِ الْمُرْسَلِ أَنَّ تُقْبَلَ هَذِهِ الشَّهَادَةُ فَإِنِ الْتَزَمَ جَرَى عَلَى الْقِيَاسِ ، وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ نَاقَضَ . وَنَحْنُ نَجْرِي عَلَى الْقِيَاسِ فِي رَدِّهِمَا .

الْقَوْلُ فِي حُكْمِ تَسْمِيَةِ شَاهِدِ الْفَرْعِ لِشَاهِدِ الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ تَعْدِيلٍ

[ الْقَوْلُ فِي حُكْمِ تَسْمِيَةِ شَاهِدِ الْفَرْعِ لِشَاهِدِ الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ تَعْدِيلٍ ] . فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يُسَمِّيَاهُ وَلَا يُعَدِّلَاهُ . فَيَسْمَعُ الْحَاكِمُ شَهَادَتَهُمَا وَيَكْشِفُ عَنْ عَدَالَةِ شَاهِدِ الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِهِمَا . وَحُكِيَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، وَأَبِي يُوسُفَ ، أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَسْمَعُ هَذِهِ الشَّهَادَةَ حَتَّى يُعَدِّلَ شُهُودَ الْفَرْعِ شَاهِدَ الْأَصْلِ ، فَإِنْ عَدَّلَهُ غَيْرُهُمَا لَمْ يَحْكُمْ بِشَهَادَتِهِمَا . وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ : لِأَنَّ تَرْكَ تَزْكِيَةِ شَاهِدَيِ الْفَرْعِ لِشَاهِدِ الْأَصْلِ رِيبَةٌ : وَالشَّهَادَةُ مَعَ الِاسْتِرَابَةِ مَرْدُودَةٌ . وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ التَّزْكِيَةَ لَا يُعَيَّنُ فِيهَا الْمُزَكِّي ، وَقَدْ عَيَّنُوهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الشَّهَادَةَ كَالْخَبَرِ ، وَلَمَّا كَانَ نَاقِلُ الْخَبَرِ عَنْ رَاوِيهِ يَجُوزُ تَزْكِيَتُهُ مِنْ غَيْرِ نَاقِلِهِ ، كَذَلِكَ الشَّهَادَةُ يَجُوزُ فِيهَا تَزْكِيَةُ شَاهِدَيِ الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ شُهُودِ الْفَرْعِ .

الْقَوْلُ فِي تَعْدِيلِ شَاهِدِ الْفَرْعِ لِشَاهِدِ الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ

[ الْقَوْلُ فِي تَعْدِيلِ شَاهِدِ الْفَرْعِ لِشَاهِدِ الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ ] . فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَعْدِّلَاهُ وَلَا يُسَمِّيَاهُ . فَلَا يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِمَا حَتَّى يُسَمِّيَاهُ . وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهَا إِذَا زَكَّى شَاهِدَ الْأَصْلِ وَلِمَ يُسَمِّيَهُ ، لِأَنَّ الْعَدَالَةَ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ دُونَ الِاسْمِ . وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا عِنْدَهُمَا فَاسِقًا عِنْدَ غَيْرِهِمَا ، فَصَارَ مَجْهُولَ الْحَالِ بِإِغْفَالِ تَسْمِيَتِهِ .

وَالثَّانِي : أَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَطْرُدَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ جَرْحَ الشُّهُودِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ إِطْرَادُ جُرِحِ مَنْ لَمْ يُسَمَّ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

الْقَوْلُ فِي الْعَدَدِ فِي شُهُودِ الْفَرْعِ

[ الْقَوْلُ فِي الْعَدَدِ فِي شُهُودِ الْفَرْعِ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ ، فَقَدْ رَأَيْتُ كَثِيرًا مِنَ الْحُكَامِ وَالْمُفْتِينَ يُجِيزُونَهُ ، ( قَالَ الْمُزَنِيُّ : ) وَخَرَّجَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَقَطَعَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَنَّهُ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا إِلَّا عَلَى وَاحِدٍ مِمَنْ شَهِدَا عَلَيْهِ ، وَآمُرُهُ بِطَلَبِ شَاهِدَيْنِ عَلَى الشَّاهِدِ الْآخَرِ ، ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَمَنْ قَطَعَ بِشَيْءٍ كَانَ أَوْلَى بِهِ مِنْ حِكَايَتِهِ لَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصِلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْعَدَدَ مُعْتَبَرٌ فِي شُهُودِ الْفَرْعِ لِاعْتِبَارِهِ فِي شُهُودِ الْأَصْلِ ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَخْلُو مِنِ اعْتِبَارِ الْعَدَدِ فِيهَا ، أَصْلًا كَانَتْ أَوْ فَرْعًا ، فَإِذَا كَانَتْ شَهَادَةُ الْأَصْلِ مُعْتَبَرَةٌ بِشَاهِدَيْنِ ، فَلِشَهَادَةِ الْفَرْعِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْهَدَ فِي الْفَرْعِ شَاهِدَانِ عَلَى شَهَادَةِ أَحَدِ شَاهِدَيِ الْأَصْلِ ، وَيَشْهَدُ آخَرَانِ عَلَى الشَّاهِدِ الْآخَرِ ، فَيَصِيرُ شُهُودُ الْفَرْعِ أَرْبَعَةٌ يَتَحَمَّلُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الِاثْنَيْنِ اثْنَانِ ، فَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَى جَوَازِهِ وَهُوَ أَوْلَى مَا اسْتُعْمِلَ فِيهِ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَشْهَدَ فِي الْفَرْعِ وَاحِدٌ عَلَى شَهَادَةِ أَحَدِهِمَا أَوْ يَشْهَدَ آخَرُ عَلَى شَهَادَةِ الْآخَرِ ، فَهَذَا غَيْرُ مُجْزِي لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ مَذْهَبُنَا ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَحُكِيَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ ، وَأَحْمَدَ ، وَإِسْحَاقَ جَوَازُهُ ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ أَصْلَ الْحَقِّ لَمَّا ثَبَتَ بِشَاهِدَيْنِ ، جَازَ أَنْ يَنُوبَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٌ ، فَتَصِيرُ نِيَابَتُهُمَا بِشَاهِدَيْنِ . وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُفْضٍ إِلَى أَنْ يَصِيرَ الْعَدَدُ مُعْتَبَرًا فِي الْأَصْلِ دُونَ الْفَرْعِ ، وَحُكْمُ الْفَرْعِ أَغْلَظُ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ . وَالثَّانِي : أَنَّ شَهَادَةَ الْفَرْعِ مُوجِبَةٌ لِثُبُوتِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ ، وَلَا تَثْبُتُ بِالْوَاحِدِ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَشْهَدَ فِي الْفَرْعِ شَاهِدَانِ عَلَى أَحَدِ شَاهِدَيِ الْأَصْلِ ثُمَّ يَشْهَدَانِ مَعًا عَلَى الشَّاهِدِ الْآخَرِ ، فَيَتَحَمَّلُ شَاهِدُ الْفَرْعِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شَاهِدَيِ الْأَصْلِ فَفِيهِ قَوْلَانِ :

أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ . وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَحْمُولَانِ عَلَى أَصْلٍ ، وَهُوَ أَنَّ ثُبُوتَ الْحَقِّ ، هَلْ يَكُونُ بِشُهُودِ الْأَصْلِ أَوْ بِشُهُودِ الْفَرْعِ ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَثْبُتُ بِشُهُودِ الْأَصْلِ ، وَيَتَحَمَّلُهُ عَنْهُمْ شُهُودُ الْفَرْعِ ، لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ شَرْطُ الشَّهَادَةِ إِذَا كَانَ مِمَّا يُعَايَنُ فِي شُهُودِ الْأَصْلِ دُونَ شُهُودِ الْفَرْعِ وَيَتَحَمَّلُهُ عَنْهُمْ شُهُودُ الْفَرْعِ ، فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَا الْفَرْعِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شُهُودِ الْأَصْلِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ بِشُهُودِ الْفَرْعِ ، وَهُمْ يَتَحَمَّلُونَ الشَّهَادَةَ عَنْ شُهُودِ الْأَصْلِ ، لِجَوَازِ شَهَادَتِهِمْ بَعْدَ مَوْتِ شُهُودِ الْأَصْلِ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا تَحَمَّلَ شَاهِدَا الْفَرْعِ عَنْ أَحَدِ شَاهِدَيِ الْأَصْلِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُمَا أَنْ يَتَحَمَّلَا عَنِ الشَّاهِدِ الْآخَرِ . وَوَهِمَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ ، فَعَكَسَهُ ، وَجَعَلَ ثُبُوتَ الْحَقِّ بِشُهُودِ الْأَصْلِ مَانِعًا مِنْ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدُ الْفَرْعِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شَاهِدَيِ الْأَصْلِ ، وَجَعَلَ ثُبُوتَهُ بِشُهُودِ الْأَصْلِ ، تَجَوَّزَ أَنْ يَشْهَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ شَاهِدَيِ الْفَرْعِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شَاهِدَيِ الْأَصْلِ . وَهَذَا عَكْسُ الصَّوَابِ ، لِأَنَّ الْحَقَّ إِذَا ثَبَتَ بِشُهُودِ الْأَصْلِ ، فَهُوَ تَحْمُّلٌ بِحَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ ، وَيَجُوزُ ثُبُوتُهُ بِشَاهِدَيْنِ ، فَإِذَا بِشُهُودِ الْفَرْعِ فَهُوَ تَحْمُّلٌ لِلشَّهَادَةِ بِشَاهِدَيْنِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَحَمَّلَاهَا عَنْهُمَا ، لِأَنَّهُمَا يَصِيرَانِ فِيهَا كَأَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْوَهْمِ ، وَفَرَّقَ مَا بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ . ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَوْجِيهِ الْقَوْلَيْنِ فِي غَيْرِ الْمَسْأَلَةِ ، أَنَّهُ إِنْ قِيلَ : يَجُوزُ لِشَاهِدَيِ الْفَرْعِ أَنْ يَشْهَدَا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شَاهِدَيِ الْأَصْلِ فَدَلِيلُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى شَخْصَيْنِ فَجَازَ أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَيْهَا فِي حَقِّ وَاحِدٍ ، كَمَا جَازَ أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَيْهَا فِي حَقَّيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَيْهَا فِي الْحَقِّ الْوَاحِدِ أَوْكَدُ مِنِ اجْتِمَاعِهِمَا عَلَيْهَا فِي حَقَّيْنِ ؟ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِّ الْوَاحِدِ مُوَافِقٌ وَفِي الْحَقَّيْنِ غَيْرُ مُوَافِقٍ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِشَاهِدَيِ الْفَرْعِ إِذَا شَهِدَا عَلَى أَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ أَنْ يَشْهَدَا عَلَى الْآخَرِ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَيْهِ غَيْرُهُمَا ، فَدَلِيلُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا قَدْ قَامَا فِي التَّحَمُّلِ عَنْ أَحَدِهِمَا مَقَامَ شَاهِدٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ الْحَقُّ ، فَإِذَا شَهِدَا فِيهِ عَلَى الشَّاهِدِ الْآخَرِ صَارَا كَالشَّاهِدِ إِذَا شَهِدَا بِذَلِكَ الْحَقِّ مَرَّتَيْنِ ، وَلَا تَتِمُّ الشَّهَادَةُ بِهَذَا كَذَلِكَ بِالشَّاهِدَيْنِ .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُقْبَلْ مِنْ شَاهِدِ الْأَصْلِ حَتَّى يَشْهَدَ مَعَهُ غَيْرُهُ ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْ شَاهِدَيِ الْفَرْعِ حَتَّى يَشْهَدَ مَعَهُمَا غَيْرُهُمَا .

الْقَوْلُ فِي اعْتِبَارِ الْعَدَدِ بِحَسْبَ الْأَحْكَامِ

[ الْقَوْلُ فِي اعْتِبَارِ الْعَدَدِ بِحَسْبَ الْأَحْكَامِ ] . فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى اعْتِبَارِ الْعَدَدِ فِي شُهُودِ الْفَرْعِ ، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِالْعَدَدِ فِي شُهُودِ الْأَصْلِ ، وَالْعَدَدُ الْمُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالشَّاهِدَيْنِ . كَالنِّكَاحِ ، وَالطَّلَاقِ ، وَالْقِصَاصِ ، وَالْعِتْقِ ، وَالنَّسَبِ ، فَفِي الْعَدَدِ الْمُعْتَبَرِ فِي شُهُودِ الْفَرْعِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : شَاهِدَانِ يَتَحَمَّلَانِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شَاهِدَيِ الْأَصْلِ ، إِذَا جُعِلَ ثُبُوتُ الْحَقِّ بِشُهُودِ الْأَصْلِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَرْبَعَةٌ يَشْهَدُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شَاهِدَيِ الْأَصْلِ اثْنَانِ إِذَا جُعِلَ ثُبُوتُ الْحَقِّ بِشُهُودٍ كَالْفَرْعِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ كَالْأَمْوَالِ ، فَفِي الْعَدَدِ الْمُعْتَبَرِ فِي شُهُودِ الْفَرْعِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : شَاهِدَانِ يَتَحَمَّلَانِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ ، إِذَا جُعِلَ ثُبُوتُ الْحَقِّ بِشُهُودِ الْأَصْلِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : سِتَّةٌ يَتَحَمَّلُونَ كُلُّ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ عَنْ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ ، إِذَا جُعِلَ ثُبُوتُ الْحَقِّ بِشُهُودِ الْفَرْعِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِأَرْبَعَةِ رِجَالٍ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَجُوزُ ، لَمْ يَجُزْ تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ فِيهَا . وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِهَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَجَوَازِهَا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، كَانَ عَدَدُ الشُّهُودِ مُعْتَبَرًا بِأَصْلَيْنِ ، فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَصْلَيْنِ قَوْلَانِ . أَحَدُ الْأَصْلَيْنِ : فِي شَاهِدَيِ الْفَرْعِ إِذَا شَهِدَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شُهُودِ الْأَصْلِ ، هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَا عَلَى غَيْرِهِ مِنْهُمْ ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ : وَالْأَصْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالزِّنَا ، هَلْ يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ أَوْ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِأَرْبَعَةٍ كَالشَّهَادَةِ عَلَى فِعْلِ الزِّنَا ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ لِأَنَّ تَحَمُّلَ الشَّهَادَةِ كَالْإِقْرَارِ فَصَارَ بِاجْتِمَاعِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فِي عَدَدِ شُهُودِ الْفَرْعِ أَرْبَعَةَ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا . : اثْنَانِ يَتَحَمَّلَانِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَرْبَعَةِ ، إِذَا جَعَلَ شَاهِدَيِ الْفَرْعِ أَنْ

يَتَحَمَّلَا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شُهُودِ الْأَصْلِ ، وَجَعَلَ ثُبُوتَ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا بِشَاهِدَيْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ شُهُودَ الْفَرْعِ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْإِقْرَارَ بِالزِّنَا لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِأَرْبَعَةٍ ، وَجَعَلَ لِشُهُودِ الْفَرْعِ أَنْ يَتَحَمَّلُوا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شُهُودِ الْأَصْلِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ شُهُودَ الْفَرْعِ فِيهِ ثَمَانِيَةٌ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّهُ لَا يَتَحَمَّلُ شُهُودُ الْفَرْعِ إِلَّا عَنْ وَاحِدٍ مِنْ شُهُودِ الْأَصْلِ وَقِيلَ : إِنَّ الْإِقْرَارَ بِالزِّنَا يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ . وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ : أَنَّ شُهُودَ الْفَرْعِ فِيهِ سِتَّةَ عَشْرَةَ ، إِذَا مُنِعَ شُهُودُ الْفَرْعِ مِنْ أَنْ يَشْهَدُوا إِلَّا عَنْ وَاحِدٍ ، وَقِيلَ : إِنَّ الْإِقْرَارَ بِالزِّنَا لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِأَرْبَعَةٍ لِيَشْهَدَ كُلُّ أَرْبَعَةٍ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَرْبَعَةِ . وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ : مَا يَكُونُ ثُبُوتُهُ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ كَالْوِلَادَةِ ، وَالِاسْتِهْلَالِ ، وَالرَّضَاعِ وَعُيُوبِ النِّسَاءِ الْبَاطِنَةِ فَفِي عَدَدِ الشُّهُودِ فِي الْفَرْعِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : اثْنَانِ يَتَحَمَّلَانِ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ النِّسْوَةِ الْأَرْبَعَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : ثَمَانِيَةٌ يَتَحَمَّلُ كُلُّ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ عَنْ وَاحِدَةٍ مِنَ النِّسَاءِ الْأَرْبَعَةِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْحُدُودِ وَجَرْحِ الشُّهُودِ

مَسْأَلَةٌ إِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا

[ بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْحُدُودِ وَجَرْحِ الشُّهُودِ ] . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَإِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا الشَّهَادَةِ عَلَى الْحُدُودِ وَجَرْحِ الشُّهُودِ ، سَأَلَهُمُ الْإِمَامُ : أَزَنَى بِامْرَأَةٍ ؟ لِأَنَّهُمْ قَدْ يَعُدُّونَ الزِّنَا وُقُوعًا عَلَى بَهِيمَةٍ ، وَلَعَلَّهُمْ يَعْدُّونَ الِاسْتِمْنَاءَ زِنًا ، فَلَا يُحَدُّ حَتَى يُثْبِتُوا رُؤْيَةَ الزِّنَا ، وَتَغْيِيبَ الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ ، ( قَالَ الْمُزَنِيُّ : ) رَحِمَهُ اللَّهُ : وَقَدْ أَجَازَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ أَنَّ إِتْيَانَ الْبَهِيمَةِ كَالزِّنَا يُحَدُّ فِيهِ ، قَالَ : وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ ، اثْنَانِ مِنْهُمْ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي بَيْتٍ ، وَاثْنَانِ مِنْهُمْ فِي بَيْتٍ غَيْرِهِ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا ، وَمِنْ حَدِّ الشُّهُودِ إِذَا لَمْ يُتِمُّوا أَرْبَعَةً حَدُّهُمْ ، ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : قَدْ قُطِعَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بِحَدِّهِمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا مُغَلَّظٌ عَلَى سَائِرِ الْحُدُودِ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى إِتْلَافِ النُّفُوسِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَدْخُلُ بِهِ تَعِدِّي الْمَعَرَّةِ الْفَاضِحَةِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ يَفْسَدُ بِهِ النَّسَبُ اللَّاحِقُ . وَلِذَلِكَ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ بِهِ صِيَانَةً لِلْأَعْرَاضِ وَحِفْظًا لِلْأَنْسَابِ ، وَتَغْلِيظُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي عَدَدِ الشُّهُودِ ، وَهُمْ أَرْبَعَةٌ خُصَّ بِهِمُ الزِّنَا مِنْ جَمِيعِ الْحُدُودِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [ النُّورِ : ] . وَلَا يُوجَبُ الْحَدُّ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ عُدُولٍ لَا امْرَأَةَ فِيهِمْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تَغْلِيظُهُ بِالْكَشْفِ عَنْ حَالِ الشَّهَادَةِ حَتَّى تَنْتَفِيَ عَنْهَا الِاحْتِمَالُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَيَشْمَلُ هَذَا الْكَشْفَ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : عَنْ حَالِ الزِّنَا . وَالثَّانِي : عَنْ صِفَتِهِ .

وَالثَّالِثُ : عَنْ مَكَانِهِ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : فِي السُّؤَالِ عَنْ حَالِ الزِّنَا . فَيَسْأَلُ الْحَاكِمُ شُهُودَ الزِّنَا : عَنِ الزِّنَا ؟ لِأَنَّ اسْتِدْعَاءَ الشَّهْوَةِ بِالْإِنْزَالِ الْمَحْظُورِ ، قَدْ يَكُونُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : الزِّنَا بِامْرَأَةٍ ، وَهُوَ صَرِيحُ الزِّنَا اسْمًا وَحُكْمًا ، فَإِذَا قَالُوا : " زَنَى بِامْرَأَةٍ " . لَمْ يَسْمَعِ الْحَاكِمُ هَذَا مِنْهُمْ حَتَّى يَقُولُوا مَنِ الْمَرْأَةُ ، لِأَنَّهَا رُبَّمَا كَانَتْ زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ ، كَانَ وَطْؤُهَا حَلَالًا ، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ شُبْهَةٍ ، كَانَ وَطْؤُهَا مُشْتَبِهًا يَسْقُطُ فِيهِ الْحَدُّ ، وَلَزِمَ بَيَانُهَا لِيَعْلَمَ أَنَّ وَطْأَهَا زِنًا ، وَبَيَانُهَا يَكُونُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِمَّا أَنْ تُعَيَّنَ بِالتَّسْمِيَةِ لَهَا ، أَوْ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهَا ، فَيَصِيرُوا شَاهِدِينَ عَلَيْهَا بِالزِّنَا . وَإِمَّا أَنْ يُطْلِقُوا وَيَقُولُوا : زَنَا بِأَجْنَبِيَّةٍ مِنْهُ ، غَيْرِ مُسَمَّاةٍ وَلَا مُعَيَّنَةٍ ، فَتَصِحُّ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ دُونَهَا ، وَلَا يَلْزَمُ فِي الشَّهَادَةِ أَنْ يَقُولُوا : وَطِئَهَا بِغَيْرِ شُبْهَةٍ ، لِأَنَّهَا مُعْتَقَدَةٌ غَيْرُ مُشَاهَدَةٍ ، اخْتِصَاصُهَا بِمُعْتَقَدِ الْوَاطِئِ ، فَإِنِ ادَّعَاهَا ، قُبِلَتْ إِذَا أَمْكَنَتْ ، وَلَا يَكُونُ الشُّهُودُ مَعَهَا قَذْفَةٌ . وَهَكَذَا لَوْ شَهِدُوا عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَا ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتَهُمْ حَتَّى يَذْكُرُوا الزَّانِيَ بِهَا مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، إِمَّا بِالتَّسْمِيَةِ أَوْ بِالْإِشَارَةِ ، فَيَصِيرُوا شَاهِدِينَ عَلَيْهِمَا بِالزِّنَا ، وَإِمَّا أَنْ يُطْلِقُوا فَيَقُولُوا : زَنَى بِهَا أَجْنَبِيٌّ مِنْهَا ، فَيَصِيرُوا شَاهِدِينَ عَلَيْهَا دُونَهُ .

فَصْلٌ : وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : اللِّوَاطُ الشهادة عليه . فَيَقُولُوا : تَلَوَّطَ بِغُلَامٍ ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا حَدَّ فِيهِ : وَعِنْدَنَا أَنَّ الْحَدَّ فِيهِ وَاجِبٌ وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَحَدِّ الزِّنَا ، وَهُوَ جَلْدُ مِائَةٍ إِنْ كَانَا بِكْرَيْنِ ، وَالرَّجْمُ إِنْ كَانَا ثَيِّبَيْنِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُقْتَلُ الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ بِهِ سَوَاءً كَانَا بِكْرَيْنِ أَوْ ثَيِّبَيْنِ ، وَالتَّلُوطُ بِالْمَرْأَةِ كَالتَّلَوُّطِ بِالْغُلَامِ ، يَكُونُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ مُوجِبًا لِحَدِّ الزِّنَا ، وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي مُوجِبًا لِلْقَتْلِ .

فَصْلٌ : وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : إِتْيَانُ الْبَهِيمَةِ ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْقَتْلِ ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ وَمَنْ أَتَاهَا " ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ مُوجِبٌ لِحَدِّ الزِّنَا ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110