كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي

( قَالَ ) : وَلَا شَيْءَ فِي الْعَسَلِ إذَا كَانَ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ ، وَإِنْ كَانَ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ أَوْ فِي الْجِبَالِ فَفِيهِ الْعُشْرُ كَيْفَ كَانَ صَاحِبُهُ ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ أَنَّ مَا رُوِيَ فِي إيجَابِ الْعُشْرِ فِي الْعَسَلِ لَمْ يَثْبُتْ ، وَمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ لَمْ يَثْبُتْ فَهَذَا مِنْهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا عُشْرَ فِي الْعَسَلِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ مُنْفَصِلٌ مِنْ الْحَيَوَانِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ كَالْإِبْرَيْسِمِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ دُودِ الْقَزِّ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ بَنِي سَامِرٍ قَوْمٌ مِنْ جُرْهُمَ كَانَتْ لَهُمْ نَحْلٌ عَسَّالَةٌ فَكَانُوا يُؤَدُّونَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كُلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةً وَكَانَ يَحْمِي لَهُمْ وَادِيَهُمْ فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيَّ فَأَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُ شَيْئًا فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ إلَى عُمَرَ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ أَنَّ النَّحْلَ ذُبَابُ غَيْثٍ يَسُوقُهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى مَنْ يَشَاءُ فَإِنْ أَدُّوا إلَيْكَ مَا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحْمِ لَهُمْ وَادِيَهُمْ وَإِلَّا فَخَلِّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّاسِ فَدَفَعُوا إلَيْهِ الْعُشْرَ .
وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ أَنَّ فِي الْعَسَلِ الْعُشْرَ } ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ النَّحْلَ تَأْكُلُ مِنْ نُوَّارِ الشَّجَرِ وَثِمَارِهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } فَمَا يَكُونُ مِنْهَا مِنْ الْعَسَلِ مُتَوَلِّدٌ مِنْ الثِّمَارِ ، وَفِي الثِّمَارِ - إذَا كَانَتْ فِي أَرْضٍ عُشْرِيَّةٍ - الْعُشْرُ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهَا ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ فِي أَرْضٍ خَرَاجِيَّةٍ لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَيْءٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي ثِمَارِ الْأَشْجَارِ النَّابِتَةِ فِي

أَرْضِ الْخَرَاجِ شَيْءٌ وَبِهَذَا فَارَقَ دُودُ الْقَزِّ فَإِنَّهُ يَأْكُلُ الْوَرَقَ ، وَلَيْسَ فِي الْأَوْرَاقِ عُشْرٌ فَكَذَلِكَ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهَا

( قَالَ : ) وَلَا شَيْءَ فِي الْقِيرِ وَالنِّفْطِ وَالْمِلْحِ ؛ لِأَنَّهَا فَوَّارَةٌ كَالْمَاءِ ، وَأَمَّا مَا حَوْلَهَا مِنْ الْأَرْضِ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا : لَا شَيْءَ فِيهَا مِنْ الْخَرَاجِ ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْعُيُونُ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ صَالِحَةٍ لِلزِّرَاعَةِ فَكَانَتْ كَالْأَرْضِ السَّبِخَةِ وَمَا لَا يَبْلُغُهَا الْمَاءُ ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُول : لَا شَيْءَ فِي مَوْضِعِ الْقِيرِ ، وَأَمَّا حَرِيمُهُ مِمَّا أَعَدَّهُ صَاحِبُهُ لِإِلْقَاءِ مَا يَحْصُلُ لَهُ فِيهِ يُمْسَحُ فَيُوجِبُ فِيهِ الْخَرَاجَ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ صَالِحٌ لِلزِّرَاعَةِ إنَّمَا عَطَّلَهُ صَاحِبُهُ لِحَاجَتِهِ فَلَا يَسْقُطُ الْخَرَاجُ عَنْهُ

( قَالَ ) : وَلَا شَيْءَ فِي الطَّرْفَاءِ وَالْقَصَبِ الْفَارِسِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَنْبِتُ فِي الْجِنَانِ بِمَاءٍ وَلَا يُقْصَدُ بِهِ اسْتِغْلَالُ الْأَرَاضِي عَادَةً بَلْ لَا يَبْقَى عَلَى الْأَرْضِ فَإِنَّهُ مُفْسِدٌ لَهَا ، وَالْعُشْرُ إنَّمَا يَجِبُ فِيمَا يُقْصَدُ بِهِ اسْتِغْلَالُ الْأَرَاضِيِ عَادَةً

( قَالَ ) : وَلَا يَسْقُطُ فِيهِ الْخُمُسُ عَنْ الرِّكَازِ وَالْمَعْدِنِ ، وَإِنْ كَانَ وَاجِدُهُ مُعْسِرًا أَوْ فَقِيرًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ } وَلِأَنَّهُ لَيْسَ يَجِبُ عَلَى الْوَاحِدِ وَلَكِنَّ الْخُمُسَ صَارَ حَقًّا لِمَصَارِفِ الْخُمُسِ حِينَ وَقَعَ هَذَا فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ يَدِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ مَنْ يُظْهِرُهُ

( قَالَ : ) وَإِذَا تَقَبَّلَ الرَّجُلُ مِنْ السُّلْطَانِ مَعْدِنًا ، ثُمَّ اسْتَأْجَرَ فِيهِ أُجَرَاءَ وَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ مَالًا قَالَ : يُخَمَّسُ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِلْمُتَقَبِّلِ ؛ لِأَنَّ عَمَلَ أُجَرَائِهِ كَعَمَلِهِ بِنَفْسِهِ ، وَلِأَنَّ عَمَلَهُمْ صَارَ مُسَلَّمًا إلَيْهِ حُكْمًا بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْأُجْرَةِ لَهُمْ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانُوا عَمِلُوا فِيهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَالْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ لَهُمْ دُونَهُ ؛ لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا الْمَالَ وَالْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ لِلْوَاجِدِ وَالتَّقَبُّلُ مِنْ السُّلْطَانِ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ مَا هُوَ عَيْنٌ وَالتَّقَبُّلُ فِي مِثْلِهِ لَا يَصِحُّ كَمَنْ تَقَبَّلَ أَجَمَةً فَاصْطَادَ فِيهَا السَّمَكَ غَيْرُهُ كَانَ لِلَّذِي اصْطَادَهُ ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَقَبَّلَ بَعْضَ الْمَقَانِصِ مِنْ السُّلْطَانِ فَاصْطَادَ فِيهَا غَيْرُهُ كَانَ الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ التَّقَبُّلُ مِنْهُ فَهَذَا مِثْلُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

قَالَ ) : الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الْعُشْرِ قَوْله تَعَالَى { أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ } قِيلَ الْمُرَادُ بِالْمَكْسُوبِ مَالُ التِّجَارَةِ فَفِيهِ بَيَانُ زَكَاةِ التِّجَارَةِ ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ ، وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ الْعُشْرُ .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } وَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ فَفِيهِ الْعُشْرُ } ، ثُمَّ الْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ كُلَّ مَا يَسْتَنْبِتُ فِي الْجِنَانِ وَيُقْصَدُ بِهِ اسْتِغْلَالُ الْأَرَاضِي فَفِيهِ الْعُشْرُ الْحُبُوبُ وَالْبُقُولُ وَالرِّطَابُ وَالرَّيَاحِينُ وَالْوَسْمَةُ وَالزَّعْفَرَانُ وَالْوَرْدُ وَالْوَرْسُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ حِينَ كَانَ وَالِيًا بِالْبَصْرَةِ أَخَذَ الْعُشْرَ مِنْ الْبُقُولِ مِنْ كُلِّ عَشْرِ دَسْتَجَاتٍ دَسْتَجَةٌ وَأَخَذَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ بِالْحَدِيثِ الْعَامِّ { مَا سَقَتْ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ فَفِيهِ الْعُشْرُ } وَكَانَ يَقُولُ : الْعُشْرُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ كَالْخَرَاجِ فَكَمَا أَنَّ هَذَا كُلَّهُ يُعَدُّ مِنْ نَمَاءِ الْأَرْضِ فِي وُجُوبِ الْخَرَاجِ فَكَذَلِكَ فِي وُجُوبِ الْعُشْرِ وَالْمُسْتَثْنَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى خَمْسَةُ أَشْيَاءَ : السَّعَفُ فَإِنَّهُ مِنْ أَغْصَانِ الْأَشْجَارِ ، وَلَيْسَ فِي الشَّجَرِ شَيْءٌ وَالتِّبْنُ فَإِنَّهُ سَاقٌ لِلْحَبِّ كَالشَّجَرِ لِلثِّمَارِ وَالْحَشِيشُ فَإِنَّهُ يُنَقَّى مِنْ الْأَرْضِ ، وَلَا يُقْصَدُ بِهِ اسْتِغْلَالُ الْأَرَاضِي وَالطُّرَفَاءُ وَالْقَصَبُ فَإِنَّهُ لَا يُقْصَدُ اسْتِغْلَالُ الْأَرَاضِيِ بِهِمَا عَادَةً وَالْمُرَادُ الْقَصَبُ الْفَارِسِيُّ فَأَمَّا قَصَبُ السُّكَّرِ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَكَذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِمَا إذَا كَانَ يُتَّخَذُ مِنْهُ السُّكَّرُ وَكَذَلِكَ فِي قَصَبِ الذَّرِيرَةِ الْعُشْرُ .
وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ

شَيْءٌ ، وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَا لَيْسَتْ لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ مَقْصُودَةٌ فَلَا شَيْءَ فِيهِ كَالْبُقُولِ وَالْخُضَرِ وَالرَّيَاحِينِ إنَّمَا الْعُشْرُ فِيمَا لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ مَقْصُودَةٌ .
وَاحْتَجَّا فِيهِ بِحَدِيثِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ } .
وَتَأْوِيلُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى صَدَقَةٌ تُؤْخَذُ أَيْ لَا يَأْخُذُ الْعَاشِرُ مِنْ الْخَضْرَاوَاتِ إذَا مَرَّ بِهَا عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : مَا كَانَ تَافِهًا عَادَةً يَتَيَسَّرُ وُجُودُهُ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ فَلَا يَجِبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الصُّيُودِ وَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَإِنَّمَا يَجِبُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا يَعِزُّ وُجُودُهُ فَيَنَالُهُ الْأَغْنِيَاءُ دُونَ الْفُقَرَاءِ كَالسَّوَائِمِ وَمَالِ التِّجَارَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا مَا لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ يَعِزُّ وُجُودُهُ فَأَمَّا الْخَضْرَاوَاتُ وَالرَّيَاحِينُ فَتَافِهَةٌ عَادَةً وَلِهَذَا أَوْجَبْنَا فِي الزَّعْفَرَانِ ، وَلَمْ نُوجِبْ فِي الْوَرْسِ وَالْوَسْمَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِمَا انْتِفَاعًا عَامًّا وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ فِي الْحِنَّاءِ ؛ لِأَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ انْتِفَاعًا عَامًّا ، وَلَمْ يُوجِبْهُ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الرَّيَاحِينِ وَفِي الثُّومِ وَالْبَصَلِ رِوَايَتَانِ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ : هُمَا مِنْ الْخُضَرِ فَلَا شَيْءَ فِيهِمَا ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَالَ يَقَعَانِ فِي الْكَيْلِ وَيَبْقَيَانِ فِي أَيْدِي النَّاسِ مِنْ حَوْلٍ إلَى حَوْلٍ فَيَجِبُ فِيهَا الْعُشْرُ وَالْبِطِّيخُ وَالْقِثَّاءُ وَالْخِيَارُ لَا شَيْءَ فِيهَا عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الرِّطَابِ وَبَزْرُهَا غَيْرُ مَقْصُودٍ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا وَكَذَلِكَ فِي الثِّمَارِ قَالَ : لَا شَيْءَ فِي الْكُمِّثْرَى وَالْخَوْخِ وَالْمِشْمِشِ وَالْإِجَّاصِ

وَمَا يُجَفَّفُ مِنْهَا لَا يَعْتَبِرُ وَأَوْجَبْنَا فِي الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ الْعُشْرَ وَفِي الْفُسْتُقِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجِبُ الْعُشْرُ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجِبُ ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْعُشْرُ يَجِبُ فِي الْقَلِيلِ مِنْ الْخَارِجِ وَكَثِيرِهِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ النِّصَابُ لِعُمُومِ الْحَدِيثَيْنِ كَمَا رَوَيْنَا ؛ وَلِأَنَّ النِّصَابَ فِي أَمْوَالِ الزَّكَاةِ كَانَ مُعْتَبَرٌ لِحُصُولِ صِفَةِ الْغِنَى لِلْمَالِكِ بِهَا ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِإِيجَابِ الْعُشْر فَإِنَّ أَصْلَ الْمَالِ هُنَا لَا يُعْتَبَرُ فَهُوَ وَخُمُسُ الرِّكَازِ سَوَاءٌ ، وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْعُشْرُ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا فَخَمْسَةُ أَوْسُقٍ أَلْفٌ وَمِائَتَا مَنٍّ وَاحْتَجَّا فِيهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ } وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ بِالْأَوْسَاقِ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ فَقِيمَةُ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِائَتَا دِرْهَمٍ ، ثُمَّ قَالَا : هَذَا حَقٌّ مَالِيٌّ وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَيُعْتَبَرُ فِيهِ النِّصَابُ كَالزَّكَاةِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ تَافِهٌ عَادَةً ، وَهُوَ عَفْوٌ شَرْعًا وَمُرُوءَةً وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : الْعُشْرُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ وَبِاعْتِبَارِ الْخَارِجِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ تَصِيرُ الْأَرْضُ نَامِيَةً فَيَجِبُ الْعُشْرُ كَمَا يَجِبُ الْخَرَاجُ ، ثُمَّ الْمَذْهَبُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنَّ مَا يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فِيهِ بِالْبَيْعِ بِضَمِّ بَعْضِهِ إلَى بَعْضٍ وَمَا لَا يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فِيهِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ لَا يُضَمُّ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ ؛ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فَيُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالسَّوَائِمِ .
وَعَنْ أَبِي

يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْكُلَّ إذَا أَدْرَكَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ يُضَمُّ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ وُجُوبُهُ بِاعْتِبَارِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ فَإِذَا أَدْرَكَتْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَهِيَ مَنْفَعَةٌ وَاحِدَةٌ فَيُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ كَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ .

وَإِذَا تَفَرَّقَتْ الْأَرَاضِي لِرَجُلٍ وَاحِدٍ فَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَا كَانَ مِنْ عَمَلِ عَامِلٍ وَاحِدٍ يُجْمَعُ وَمَا كَانَ مِنْ عَمَلِ عَامِلَيْنِ يُعْتَبَرُ فِيهِ النِّصَابُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْعَامِلِ وِلَايَةُ الْأَخْذِ مِمَّا لَيْسَ فِي عَمَلِهِ وَمَا فِي عَمَلِهِ دُونَ النِّصَابِ .
وَالْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُضَمُّ بَعْضُ ذَلِكَ إلَى الْبَعْضِ لِإِيجَابِ الْعُشْرِ ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ وَاحِدٌ وَوُجُوبُ الْعُشْرِ عَلَيْهِ فَكَانَ مُرَادُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ هَذَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا فِي حَقِّ الْأَخْذِ لِلْعَامِلِ فَعَلَى مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى

وَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ جَمَاعَةٍ فَأَخْرَجَتْ طَعَامًا فَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُعْشِرُ إنْ بَلَغَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ كَمَا بَيَّنَّا فِي السَّوَائِمِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إذَا كَانَ الْخَارِجُ كُلُّهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَفِيهِ الْعُشْرُ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِالْمَالِكِ فِي الْعُشْرِ ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ بِالْخَارِجِ حَتَّى يَجِبَ الْعُشْرُ فِي الْأَرَاضِي الْمَوْقُوفَةِ الَّتِي لَا مِلْكَ لَهَا ، ثُمَّ الْعُشْرُ يَجِبُ فِيمَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ أَوْ سُقِيَ سَيْحًا فَأَمَّا مَا سُقِيَ بِغَرْبٍ ، أَوْ دَالِيَةٍ ، أَوْ سَانِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ وَبِهِ وَرَدَ الْأَثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرْبٍ ، أَوْ دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ } وَفِي رِوَايَةٍ { مَا سُقِيَ بَعْلًا ، أَوْ سَيْحًا فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِالرِّشَاءِ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ } وَعَلَّلَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا بِقِلَّةِ الْمُؤْنَةِ فِيمَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ وَكَثْرَةِ الْمُؤْنَةِ فِيمَا سُقِيَ بِغَرْبٍ ، أَوْ دَالِيَةٍ وَقَالُوا لِكَثْرَةِ الْمُؤْنَةِ تَأْثِيرٌ فِي نُقْصَانِ الْوَاجِبِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَإِنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ الْخُمُسَ فِي الْغَنَائِمِ وَالْمُؤْنَةُ فِيهَا أَعْظَمُ مِنْهَا فِي الزِّرَاعَةِ وَلَكِنَّ هَذَا تَقْدِيرٌ شَرْعِيٌّ فَنَتْبَعُهُ وَنَعْتَقِدُ فِيهِ الْمَصْلَحَةَ وَإِنْ لَمْ نَقِفْ عَلَيْهِ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ : لَا عُشْرَ إلَّا فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ إذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ الْخَاصِّ فَإِنَّ اعْتِبَارَ الْوَسْقِ لِلنِّصَابِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا فِيمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ .

( قَالَ ) : وَإِذَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ الْعُشْرِيَّةُ طَعَامًا وَعَلَى صَاحِبِهَا دَيْنٌ كَثِيرٌ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْعُشْرُ ، وَكَذَلِكَ الْخَرَاجُ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَعْدِمُ غِنَى الْمَالِكِ بِمَا فِي يَدِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ غِنَى الْمَالِكِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِإِيجَابِ الْعُشْرِ

( قَالَ ) : وَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ لِمُكَاتَبٍ ، أَوْ صَبِيٍّ ، أَوْ مَجْنُونٍ وَجَبَ الْعُشْرُ فِي الْخَارِجِ مِنْهَا عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَا شَيْءَ فِي الْخَارِجِ مِنْ أَرْضِ الْمُكَاتَبِ وَالْعُشْرُ عِنْدَهُ قِيَاسُ الزَّكَاةِ لَا يَجِبُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْمَالِكِ أَمَّا عِنْدَنَا فَالْعُشْرُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ كَالْخَرَاجِ وَالْمُكَاتَبُ وَالْحُرُّ فِيهِ سَوَاءٌ ، وَكَذَلِكَ الْخَارِجُ مِنْ الْأَرَاضِي الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الرِّبَاطَاتِ وَالْمَسَاجِدِ يَجِبُ فِيهَا الْعُشْرُ عِنْدَنَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجِبُ إلَّا فِي الْمَوْقُوفَةِ عَلَى أَقْوَامٍ بِأَعْيَانِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَالْمُلَّاكِ أَمَّا الْمَوْقُوفَةُ عَلَى أَقْوَامٍ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمْ فَلَا شَيْءَ فِيهَا .

( قَالَ ) : رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ الْعُشْرِ وَزَرَعَهَا قَالَ عُشْرُ مَا خَرَجَ مِنْهَا عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ بَالِغًا مَا بَلَغَ سَوَاءٌ كَانَ أَقَلَّ مِنْ الْأَجْرِ ، أَوْ أَكْثَرَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْعُشْرُ فِي الْخَارِجِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ الْخَارِجِ وَالْخَارِجُ كُلُّهُ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَكَانَ الْعُشْرُ عَلَيْهِ كَالْخَارِجِ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ لِلْأَرْضِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ وُجُوبَ الْعُشْرِ بِاعْتِبَارِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَالْمَنْفَعَةُ سَلِمَتْ لِلْآجِرِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ بَدَلَ الْمَنْفَعَةِ ، وَهِيَ الْأُجْرَةُ وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ الْأَصْلِ أَمَّا الْمُسْتَأْجِرُ فَإِنَّمَا سَلِمَتْ لَهُ الْمَنْفَعَةُ بِعِوَضٍ فَلَا عُشْرَ عَلَيْهِ كَالْمُشْتَرِي لِلزَّرْعِ ، ثُمَّ الْعُشْرُ مُؤْنَةُ الْأَرْض النَّامِيَةِ كَالْخَرَاجِ وَخَرَاجُ أَرْضِ الْمُؤَاجَرِ عَلَى الْمُؤَاجِرِ فَكَذَلِكَ الْعُشْرُ عَلَيْهِ أَمَّا أَذَا أَعَارَ أَرْضَهُ مِنْ مُسْلِمٍ فَالْعُشْرُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ فِي الْخَارِجِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : عَلَى الْمُعِيرِ وَقَاسَهُ بِالْخَرَاجِ وَقَالَ : حِينَ سَلَّطَ الْمُسْتَعِيرُ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ فَكَأَنَّهُ انْتَفَعَ بِهِ بِنَفْسِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ : مَنْفَعَةُ الْأَرْضِ سَلِمَتْ لِلْمُسْتَعِيرِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَوُجُوبُ الْعُشْرِ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ الْمَنْفَعَةِ حَتَّى لَا يَجِبَ مَا لَمْ يَحْصُلْ الْخَارِجُ بِخِلَافِ الْمُسْتَأْجِرِ فَإِنَّ سَلَامَةَ الْمَنْفَعَةِ لَهُ كَانَ بِعِوَضٍ وَبِخِلَافِ الْخَرَاجِ فَإِنَّ وُجُوبَهُ بِاعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ وَقَدْ تَمَكَّنَّ الْمُعِيرُ مِنْ ذَلِكَ ، ثُمَّ مَحَلُّ الْخَرَاجِ الذِّمَّةُ ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَعِيرِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقٌّ لَازِمٌ فِي الْأَرْضِ وَمَحَلُّ الْعُشْرِ الْخَارِجُ ، وَهُوَ مُسْتَحَقٌّ لِلْمُسْتَعِيرِ فَإِنْ كَانَ أَعَارَ الْأَرْضَ مِنْ ذِمِّيٍّ فَالْعُشْرُ عَلَى الْمُعِيرِ ؛ لِأَنَّ

الْعُشْرَ صَدَقَةٌ لَا يُمْكِنُ إيجَابُهَا عَلَى الْكَافِرِ وَالْمُعِيرُ صَارَ مُفَوِّتًا حَقَّ الْفُقَرَاءِ بِالْإِعَارَةِ مِنْ الْكَافِرِ فَكَانَ ضَامِنًا لِلْعُشْرِ .

( قَالَ ) : مُسْلِمٌ اشْتَرَى مِنْ كَافِرٍ أَرْضَ خَرَاجٍ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ عِنْدَنَا .
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : تَصِيرُ عُشْرِيَّةً ؛ لِأَنَّ فِي الْخَرَاجِ مَعْنَى الصَّغَارِ ، وَهَذَا لَا يَبْدَأُ بِهِ الْمُسْلِمُ فَكَذَلِكَ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْإِسْلَامِ إذَا أَسْلَمَ مَالِكُهُ ، أَوْ بَاعَهُ مِنْ مُسْلِمٍ ، وَقَاسَ خَرَاجَ الْأَرْضِ بِخَرَاجِ الرُّءُوسِ وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَرْضُ خَرَاجٍ بِالسَّوَادِ فَكَانَ يُؤَدِّي فِيهَا الْخَرَاجَ وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ مَعْنَى الصِّغَارِ فِي ابْتِدَاءِ وَضْعِ الْخَرَاجِ دُونَ الْبَقَاءِ كَمَا أَنَّ مَعْنَى الْعُقُودِ فِي ابْتِدَاءِ الِاسْتِرْقَاقِ دُونَ الْبَقَاءِ حَتَّى إذَا أَسْلَمَ الرَّقِيقُ يَبْقَى رَقِيقًا بِخِلَافِ خَرَاجِ الرُّءُوسِ فَإِنَّهُ ذُلٌّ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً فَلِهَذَا لَا يَبْقَى بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَالْمَرْجِعُ فِي مَعْرِفَةِ مَا قُلْنَا إلَى عَادَاتِ النَّاسِ .

( قَالَ ) وَإِنْ اشْتَرَى ذِمِّيٌّ مِنْ مُسْلِمٍ أَرْضَ عُشْرٍ فَإِنْ أَخَذَهَا مُسْلِمٌ بِالشُّفْعَةِ ، أَوْ كَانَ فِي الْبَيْعِ خِيَارٌ لِلْبَائِعِ ، أَوْ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا فَرَجَعَتْ إلَى الْمُسْلِمِ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ كَمَا كَانَتْ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِ لَمْ يَنْقَطِعْ عَنْهَا فَإِنْ بَقِيَتْ فِي مِلْكِ الْكَافِرِ وَانْقَطَعَ حَقُّ الْمُسْلِمِ عَنْهَا فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ عُشْرَانِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : يُؤْخَذُ مِنْهُ عُشْرٌ وَاحِدٌ .
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ أَصْلًا ، وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ جَمِيعًا وَكَانَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ لَا شَيْءَ فِيهَا وَجَعْلُ هَذَا قِيَاسُ السَّوَائِمِ إذَا اشْتَرَاهَا الْكَافِرُ مِنْ مُسْلِمٍ وَلَكِنْ هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ الْأَرَاضِي النَّامِيَةَ فِي دَارِنَا لَا تَخْلُو عَنْ وَظِيفَةٍ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ لَا يُجَوِّزُ الْبَيْعَ أَصْلًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِي الْكَافِرِ يَشْتَرِي عَبْدًا مُسْلِمًا وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ يَقُولُ : بِأَنَّ مَا كَانَ وَظِيفَةً لِهَذِهِ الْأَرْضِ يَبْقَى وَبِاعْتِبَارِ كُفْرِ الْمَالِكِ الْحَادِثِ يَجِبُ الْخَرَاجُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا .
وَمَالِكٌ يَقُولُ : يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْفُقَرَاءِ تَعَلَّقَ بِهَا ، وَمَالُ الْكَافِرِ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ فَيُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا لِإِبْقَاءِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ فِيهَا ، وَأَمَّا مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ : مَا صَارَ وَظِيفَةً لِلْأَرْضِ لَا يَتَبَدَّلُ بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ كَالْخَرَاجِ فِي الْأَرَاضِي الْخَرَاجِيَّةِ ، ثُمَّ الْعُشْرُ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُوضَعُ مَوْضِعَ

الصَّدَقَاتِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي السِّيَرِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْفُقَرَاءِ تَعَلَّقَ بِهَا فَهُوَ كَتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُقَاتِلَةِ بِالْأَرَاضِيِ الْخَرَاجِيَّةِ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْعُشْرَ يُوضَعُ فِي بَيْتِ مَالِ الْخَرَاجِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُصْرَفُ إلَى الْفُقَرَاءِ مَا كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى بِطَرِيقِ الْعِبَادَةِ وَمَالُ الْكَافِرِ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ فَيُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ كَمَالٍ يَأْخُذُهُ الْعَاشِرُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَإِنَّمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُؤْخَذُ مِنْهُ عُشْرَانِ ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ الْمُسْلِمِ إذَا وَجَبَ أَخْذُهُ مِنْ الْكَافِرِ يَضْعُفُ عَلَيْهِ كَصَدَقَةِ بَنِي تَغْلِبَ وَمَا يَمُرُّ بِهِ الذِّمِّيُّ عَلَى الْعَاشِرِ أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ : الْأَرَاضِي النَّامِيَةُ لَا تَخْلُو عَنْ وَظِيفَةٍ فِي دَارِنَا وَالْوَظِيفَةُ إمَّا الْخَرَاجُ ، أَوْ الْعُشْرُ ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْعُشْرِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ صَدَقَةٌ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ فَتَعَيَّنَ الْخَرَاجُ بِخِلَافِ الْخَرَاجِ فِي الْأَرَاضِي الْخَرَاجِيَّةِ ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ كَاسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ بِاعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ وَمَالُ الْمُسْلِمِ يَصْلُحُ لِذَلِكَ .

( قَالَ ) : وَإِنْ اشْتَرَى تَغْلِبِيٌّ أَرْضَ عُشْرٍ مِنْ مُسْلِمٍ ضُوعِفَ عَلَيْهِ الْعُشْرُ لِلصُّلْحِ الَّذِي جَرَى بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ تَضْعِيفَ الْعُشْرِ عَلَيْهِمْ فِي الْأَرَاضِي الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ فِي الْأَصْلِ فَأَمَّا مَنْ اشْتَرَى مِنْهُمْ أَرْضًا عُشْرِيَّةً مِنْ مُسْلِمٍ فَعَلَيْهِ عُشْرٌ وَاحِدٌ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ مَا صَارَ مِنْ وَظِيفَةٍ لِلْأَرْضِ يُقَرَّرُ ، وَلَا يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْمَالِكِ فَإِنْ أَسْلَمَ عَلَيْهَا ، أَوْ بَاعَهَا مِنْ مُسْلِمٍ فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ مُضَاعَفًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عُشْرٌ وَاحِدٌ .
وَذَكَرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ الْمَسْأَلَةَ بَعْدَ هَذَا وَذَكَرَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَتَأْوِيلُهُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي الْأَرَاضِي الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ فِي الْأَصْلِ سَوَاءٌ أَسْلَمُوا عَلَيْهَا أَوْ بَاعُوهَا مِنْ مُسْلِمٍ يَجِبُ الْعُشْرُ مُضَاعَفًا ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ وَظِيفَةً لِهَذِهِ الْأَرْضِ أَمَّا أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ : تَضْعِيفُ الْعُشْرِ بِاعْتِبَارِ كُفْرِ الْمَالِكِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِإِسْلَامِهِ ، أَوْ بَيْعِهِ مِنْ الْمُسْلِمِ فَهُوَ نَظِيرُ السَّوَائِمِ إذَا أَسْلَمَ عَلَيْهَا التَّغْلِبِيُّ أَوْ بَاعَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِ لَا يَجِبُ فِيهَا إلَّا صَدَقَةٌ وَاحِدَةٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : التَّضْعِيفُ عَلَى بَنِي تَغْلِبَ فِي الْعُشْرِ بِمَنْزِلَةِ الْخَرَاجِ حَتَّى يُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ وَبَعْدَ مَا صَارَتْ خَرَاجِيَّةٌ لَا تَتَبَدَّلُ بِإِسْلَامِ الْمَالِكِ ، وَلَا بِبَيْعِهَا مِنْ الْمُسْلِمِ فَهَذَا كَذَلِكَ بِخِلَافِ السَّوَائِمِ فَإِنَّهُ لَا وَظِيفَةَ فِيهَا بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ حَتَّى إذَا كَانَتْ لِغَيْرِ التَّغْلِبِيِّ مِنْ الْكُفَّارِ لَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّضْعِيفَ فِيهَا كَانَ بِاعْتِبَارِ الْمَالِكِ فَيَسْقُطُ

بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ ، أَوْ بِتَبَدُّلِ حَالِهِ بِالْإِسْلَامِ .

أَمَّا بَيَانُ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ وَالْخَرَاجِيَّةِ فَنَقُولُ أَرْضُ الْعَرَبِ كُلُّهَا أَرْضٌ عُشْرِيَّةٌ وَحَدُّهَا مِنْ الْعُذَيْبِ إلَى مَكَّةَ وَمِنْ عَدَنِ أَبْيَنَ إلَى أَقْصَى حَجَرٍ بِالْيَمَنِ بِمُهْرَةٍ وَكَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ تَكُونَ أَرْضُ مَكَّةَ أَرْضَ خَرَاجٍ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَحَهَا عَنْوَةً وَقَهْرًا وَلَكِنَّهُ لَمْ يُوَظِّفْ عَلَيْهَا الْخَرَاجَ فَكَمَا لَا رِقَّ عَلَى الْعَرَبِ لَا خَرَاجَ عَلَى أَرْضِهِمْ وَكُلُّ بَلْدَةٍ أَسْلَمَ أَهْلُهَا طَوْعًا فَهِيَ أَرْضٌ عُشْرِيَّةٌ ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْوَظِيفَةِ فِيهَا عَلَى الْمُسْلِمِ وَالْمُسْلِمُ لَا يُبْدَأُ بِالْخَرَاجِ صِيَانَةً لَهُ عَنْ مَعْنَى الصِّغَارِ فَكَانَ عَلَيْهِ الْعُشْرُ وَكُلُّ بَلْدَةٍ افْتَتَحَهَا الْإِمَامُ عَنْوَةً وَقَسَمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ فَهِيَ أَرْضٌ عُشْرِيَّةٌ لِمَا بَيَّنَّا وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ إذَا جَعَلَ دَارِهِ بُسْتَانًا ، أَوْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ أَرْضٌ عُشْرِيَّةٌ وَفِي النَّوَادِرِ ذُكِرَ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَرَاضِي تَقْرُبُ مِنْ الْأَرَاضِي الْعُشْرِيَّةِ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ وَإِنْ كَانَتْ بِالْقُرْبِ مِنْ الْأَرَاضِي الْخَرَاجِيَّةِ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ ؛ لِأَنَّ لِلْقُرْبِ عِبْرَةً أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يَقْرُبُ مِنْ الْقَرْيَةِ لَيْسَ لِأَحَدٍ إحْيَاؤُهَا لِحَقِّ أَهْلِ الْقَرْيَةِ ، وَالْمَرْءُ أَحَقُّ بِالِانْتِفَاعِ بِفِنَاءِ دَارِهِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ أَحْيَاهَا بِمَاءِ السَّمَاءِ ، أَوْ عَيْنٍ اسْتَنْبَطَهَا ، أَوْ نَهْرٍ شَقَّهُ لَهَا مِنْ الْأَوْدِيَةِ الْعِظَامِ كَالْفُرَاتِ وَدِجْلَةَ وَجَيْحُونَ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ وَإِنْ شَقَّ لَهَا نَهْرًا مِنْ بَعْضِ الْأَنْهَارِ الْخَرَاجِيَّةِ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ لَا يُوَظَّفُ عَلَى الْمُسْلِمِ إلَّا بِالْتِزَامِهِ فَإِذَا سَاقَ إلَى أَرْضِهِ مَاءَ الْخَرَاجِ فَهُوَ مُلْتَزِمٌ لِلْخَرَاجِ فَيَلْزَمُهُ وَإِلَّا فَلَا وَأَمَّا أَرْضُ السَّوَادِ وَالْجَبَلِ فَهِيَ أَرْضُ

خَرَاجٍ وَحْدُ السَّوَادِ مِنْ الْعُذَيْبِ إلَى عَقَبَةَ حُلْوَانَ وَمِنْ الثَّعْلَبِيَّةِ إلَى عَبَّادَانَ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ فَتَحَ السَّوَادَ وَظَّفَ عَلَيْهَا الْخَرَاجَ وَبَعَثَ لِذَلِكَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ وَحُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ .

( قَالَ ) : وَكُلُّ بَلْدَةٍ فَتَحَهَا الْإِمَامُ عَنْوَةً وَقَهْرًا ، ثُمَّ مَنَّ بِهَا عَلَى أَهْلِهَا فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْوَظِيفَةِ فِيهَا عَلَى الْكَافِرِ ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْعُشْرِ ؛ لِأَنَّهُمَا صَدَقَةٌ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا فَيُوَظَّفُ الْخَرَاجُ عَلَيْهَا ؛ وَلِأَنَّ خَرَاجَ الْأَرَاضِي تَبَعٌ لِخَرَاجِ الْجَمَاجِمِ ، وَالذِّمِّيُّ إذَا جَعَلَ دَارِهِ بُسْتَانًا ، أَوْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَعَلَيْهِ فِيهَا الْخَرَاجُ لِمَا بَيَّنَّا .

( قَالَ ) : وَإِذَا قَالَ صَاحِبُ الْأَرْضِ : قَدْ أَدَّيْت الْعُشْرَ إلَى الْمَسَاكِينِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ وَإِنْ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ فِيهِ إلَى السُّلْطَانِ فَكَانَ نَظِيرُ زَكَاةِ السَّوَائِمِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .

( قَالَ ) : وَإِنْ وَضَعَ الْعُشْرَ ، أَوْ الزَّكَاةَ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ السُّلْطَانَ وَسِعَهُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى .

وَاعْلَمْ أَنَّ مَصَارِفَ الْعُشْرِ وَالزَّكَاةِ مَا يُتْلَى فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } الْآيَةُ وَلِلنَّاسِ كَلَامٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ فَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْفَقِيرَ هُوَ الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَالْمِسْكِينُ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْفُقَرَاءِ { لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا } قِيلَ لَا إلْحَافًا ، وَلَا غَيْرَ إلْحَافٍ وَفِي الْمِسْكِينِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } وَقَدْ جَاءَ يَسْأَلُ وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْفَقِيرَ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ وَيُظْهِرُ افْتِقَارَهُ وَحَاجَتَهُ إلَى النَّاسِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ } وَالْمِسْكِينُ هُوَ الَّذِي بِهِ زَمَانَةٌ لَا يَسْأَلُ ، وَلَا يُعْطَى لَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ } أَيْ لَاصِقًا بِالتُّرَابِ مِنْ الْجُوعِ وَالْعُرْي .
فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا أَنَّ الْمِسْكِينَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْفَقِيرِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْفَقِيرُ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْمِسْكِينِ وَبَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيهِ اخْتِلَافٌ وَمَنْ قَالَ بِأَنَّ الْمِسْكِينَ أَسْوَأُ حَالًا قَالَ الْفَقِيرُ الَّذِي يَمْلِكُ شَيْئًا وَلَكِنْ لَا يُغْنِيه قَالَ الرَّاعِي أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبْدُ وَالْمِسْكِينُ مَنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَمَنْ قَالَ الْفَقِيرُ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْمِسْكِينِ قَالَ : الْمِسْكِينُ مَنْ يَمْلِكُ مَالًا يُغْنِيَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ } وَقَالَ الرَّاجِزُ هَلْ لَكَ فِي أَجْرٍ عَظِيمٍ تُؤْجَرُهْ تَغِيثُ مِسْكِينًا كَثِيرًا عَسْكَرُهْ عَشْرُ شِيَاهٍ سَمْعُهُ وَبَصَرُهْ .
وَالْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مُشْتَقٌّ مِنْ انْكِسَارِ فَقَارِ

الظَّهْرِ ، وَالْحَدِيثُ يَشْهَدُ لِهَذَا ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمَّتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ } وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْخِلَافِ إنَّمَا تَظْهَرُ فِي الْوَصَايَا وَالْأَوْقَافِ أَمَّا الزَّكَاةُ فَيَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ عِنْدَنَا فَلَا يَظْهَرُ هَذَا الْخِلَافُ .
وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ، وَهُمْ الَّذِينَ يَسْتَعْمِلُهُمْ الْإِمَامُ عَلَى جَمْعِ الصَّدَقَاتِ وَيُعْطِيهِمْ مِمَّا يَجْمَعُونَ كِفَايَتَهُمْ وَكِفَايَةَ أَعْوَانِهِمْ ، وَلَا يُقَدَّرُ ذَلِكَ بِالثَّمَنِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ لِعَمَلِ الْفُقَرَاءِ كَانَتْ كِفَايَتُهُمْ فِي مَالِهِمْ ، وَلِهَذَا يَأْخُذُونَ مَعَ الْغِنَى ، وَلَوْ هَلَكَ مَا جَمَعُوهُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا سَقَطَ حَقُّهُمْ كَالْمُضَارِبِ إذَا هَلَكَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ فِي يَدِهِ بَعْدَ التَّصَرُّفِ ، وَكَانَتْ الزَّكَاةُ مُجْزِيَةً عَنْ الْمُؤَدِّينَ ؛ لِأَنَّهُمْ نَائِبُونَ عَنْ الْفُقَرَاءِ بِالْقَبْضِ .
وَأَمَّا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ فَكَانُوا قَوْمًا مِنْ رُؤَسَاءِ الْعَرَبِ كَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَكَانَ يُعْطِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَرْضِ اللَّهِ سَهْمًا مِنْ الصَّدَقَةِ يُؤَلِّفُهُمْ بِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ فَقِيلَ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا وَقِيلَ كَانُوا وَعَدُوا أَنْ يُسْلِمُوا فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّهُ يُصْرَفُ إلَيْهِمْ وَهُمْ كُفَّارٌ قُلْنَا الْجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْأَغْنِيَاءِ لِدَفْعِ شَرِّ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ يَدْفَعُ إلَيْهِمْ جُزْءًا مِنْ مَالِ الْفُقَرَاءِ لِدَفْعِ شَرِّهِمْ وَذَلِكَ قَائِمٌ مَقَامَ الْجِهَادِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، ثُمَّ سَقَطَ ذَلِكَ السَّهْمُ بِوَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ انْقَضَى الرَّشَا بِوَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى أَنَّهُمْ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ استَبْذَلُوا الْخَطَّ لِنَصِيبِهِمْ فَبَذَلَ لَهُمْ وَجَاءُوا إلَى عُمَرَ فَاسْتَبْذَلُوا خَطَّهُ فَأَبَى وَمَزَّقَ خَطَّ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَقَالَ : هَذَا شَيْءٌ كَانَ يُعْطِيكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأْلِيفًا لَكُمْ وَأَمَّا الْيَوْمُ فَقَدْ أَعَزَّ اللَّهُ الدِّينَ فَإِنْ ثَبَتُّمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَّا فَبَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ السَّيْفُ فَعَادُوا إلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَقَالُوا لَهُ : أَنْتَ الْخَلِيفَةُ أَمْ عُمَرَ بَذَلْت لَنَا الْخَطَّ وَمَزَّقَهُ عُمَرُ فَقَالَ : هُوَ إنْ شَاءَ وَلَمْ يُخَالِفْهُ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَفِي الرِّقَابِ } فَالْمُرَادُ إعَانَةُ الْمُكَاتَبِينَ عَلَى أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ بِصَرْفِ الصَّدَقَةِ إلَيْهِمْ عِنْدَنَا .
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْمُرَادُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِالصَّدَقَةِ عَبْدًا فَيَعْتِقَهُ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَمَا يَأْخُذُهُ بَائِعُ الْعَبْدِ عِوَضٌ عَنْ مِلْكِهِ ، وَالْعَبْدُ يَعْتِقُ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى فَلَا يُوجَدُ التَّمْلِيكُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ أَيْ رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ : فُكَّ الرَّقَبَةَ وَأَعْتِقْ النَّسَمَةَ قَالَ : أَوَ لَيْسَا سَوَاءً يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : لَا ، فَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي عِتْقِهِ } .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَالْغَارِمِينَ } فَهُمْ الْمَدْيُونُونَ الَّذِينَ لَا يَمْلِكُونَ نِصَابًا فَاضِلًا عَنْ دَيْنِهِمْ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْمُرَادُ مَنْ تَحَمَّلَ غَرَامَةً فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَإِطْفَاءِ الثَّائِرَةِ بَيْنَ الْقَبِيلَتَيْنِ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } فَهُمْ فُقَرَاءُ الْغُزَاةِ هَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : هُمْ فُقَرَاءُ الْحَاجِّ الْمُنْقَطِعِ بِهِمْ .
لِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا جَعَلَ بَعِيرًا لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَمَرَ

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ الْحَاجُّ } وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : الطَّاعَاتُ كُلُّهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ عِنْدَ إطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ الْمَقْصُودُ بِهِمْ الْغُزَاةُ عِنْدَ النَّاسِ .
وَلَا يُصْرَفُ إلَى الْأَغْنِيَاءِ مِنْ الْغُزَاةِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا لِخَمْسَةٍ وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى } وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْمُرَادُ الْغِنَى بِقُوَّةِ الْبَدَنِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْكَسْبِ إنَّمَا تَكُونُ بِالْبَدَنِ لَا بِمِلْكِ الْمَالِ بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ الْآخَرِ { وَرَدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ } .
وَأَمَّا ابْنُ السَّبِيلِ فَهُوَ الْمُنْقَطِعُ عَنْ مَالِهِ لِبُعْدِهِ مِنْهُ وَالسَّبِيلُ الطَّرِيقُ فَكُلُّ مَنْ يَكُونُ مُسَافِرًا عَلَى الطَّرِيقِ يُسَمَّى ابْنَ السَّبِيلِ كَمَنْ يَكُونُ فَقِيرًا ، أَوْ غَنِيًّا يُسَمَّى ابْنَ الْفَقْرِ وَابْنَ الْغِنَى ، وَابْنُ السَّبِيلِ غَنِيٌّ مِلْكًا حَتَّى تَجِبَ الزَّكَاةُ فِي مَالِهِ وَيُؤْمَرَ بِالْأَدَاءِ إذَا وَصَلَتْ يَدُهُ إلَيْهِ ، وَهُوَ فَقِيرٌ يَدًا حَتَّى تُصْرَفَ إلَيْهِ الصَّدَقَةُ لِلْحَالِ لِحَاجَتِهِ ، ثُمَّ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ مَصَارِفُ الصَّدَقَاتِ لَا مُسْتَحِقُّونَ لَهَا عِنْدَنَا حَتَّى يَجُوزَ الصَّرْفُ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : هُمْ مُسْتَحِقُّونَ لَهَا حَتَّى لَا تَجُوزَ مَا لَمْ تُصْرَفْ إلَى الْأَصْنَافِ السَّبْعَةِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ ثَلَاثَةٌ وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ وَبِحَدِيثِ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ فِي الصَّدَقَاتِ بِقِسْمَةِ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ ، وَلَا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ حَتَّى تَوَلَّى قِسْمَتَهَا مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرَقْعَةً } وَاعْتَبَرَ أَمْرُ الشَّرْعِ بِأَمْرِ الْعِبَادِ فَإِنَّ مَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِهَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ لَمْ يَجُزْ حِرْمَانُ بَعْضِهِمْ فَكَذَلِكَ فِي أَمْرِ الشَّرْعِ .
( وَلَنَا ) قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا

الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ } وَبَعَثَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِصَدَقَةٍ إلَى بَيْتِ أَهْلِ رَجُلٍ وَاحِدٍ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ إغْنَاءُ الْمُحْتَاجِ ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِالصَّرْفِ إلَى وَاحِدٍ ، وَبِهِ فَارَقَ أَوَامِرَ الْعِبَادِ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهَا اللَّفْظُ دُونَ الْمَعْنَى فَقَدْ تَقَعُ خَالِيَةً عَنْ حِكْمَةٍ حَمِيدَةٍ بِخِلَافِ أَوَامِرِ الشَّرْعِ أَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُرَادُ بَيَانُ الْمَصَارِفِ فَإِلَى أَيِّهِمْ انْصَرَفَتْ أَجْزَأَتْ كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ فِي الصَّلَاةِ ، وَإِذَا اسْتَقْبَلَ جُزْءًا كَانَ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْأَصْنَافَ بِأَوْصَافٍ تُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ سَدُّ خِلَّةِ الْمُحْتَاجِ .
.

( قَالَ ) : وَلَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ عُشْرٍ مَا لَمْ يَزْرَعْ وَعُشْرُ ثَمَرٍ لَمْ يَخْرُجْ أَمَّا تَعْجِيلُ عُشْرِ الثِّمَارِ قَبْلَ ظُهُورِ الطَّلْعِ فَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ فِي الْإِمْلَاءِ قَالَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُجُوبِ إلَّا مُجَرَّدُ مُضِيِّ الزَّمَانِ فَهُوَ كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ بَعْدُ كَمَالِ النِّصَابِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا : السَّبَبُ الْمُوجِبُ لَمْ يُوجَدْ ؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ مِلْكُ رِقَابِ النَّخِيلِ ، وَهُوَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْعُشْرِ حَتَّى لَوْ قَطَعَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ وَتَعْجِيلُ الْحَقِّ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهِ لَا يَجُوزُ كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ قَبْلَ تَمَامِ النِّصَابِ أَمَّا تَعْجِيلُ عُشْرِ الزَّرْعِ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ فَلَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ وَقَدْ بَقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُجُوبِ عَمَلٌ سِوَى مُضِيِّ الزَّمَانِ ، وَهُوَ الزِّرَاعَةُ وَبَعْدَ نَبَاتِ الزَّرْعِ يَجُوزُ التَّعْجِيلُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَأَمَّا بَعْدَ مَا زُرِعَ قَبْلَ أَنْ يَنْبُتَ فَيَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وُجُوبِ الْعُشْرِ إلَّا مُضِيُّ الزَّمَانِ ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يُوجَدْ ؛ لِأَنَّ الْحَبَّ فِي الْأَرْضِ كَهُوَ فِي الْحَبِّ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ .

( قَالَ ) : وَلَا يُعْطِي زَكَاتَهُ وَعُشْرَهُ وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ وَأَبَوَيْهِ وَأَجْدَادَهُ وَكُلَّ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْمُؤَدِّي بِالْوِلَادَةِ ، أَوْ يُنْسَبُ إلَيْهِ بِالْوِلَادَةِ ، وَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْإِيتَاءِ بِانْقِطَاعِ مَنْفَعَةِ الْمُؤَدِّي عَمَّا أَدَّى وَالْمَنَافِعُ بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ مُتَّصِلَةٌ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً } فَلَمْ يَتِمَّ الْإِيتَاءُ بِالصَّرْفِ إلَيْهِمْ فَأَمَّا مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْقَرَابَةِ فَيَتِمُّ الْإِيتَاءُ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ ، وَهُوَ أَفْضَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ ( قَالَ ) : وَلَا يُعْطِي مُدَبَّرَهُ وَعَبْدَهُ وَأُمَّ وَلَدِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ مَمَالِيكَهُ كَسْبُهُمْ لَهُ ، وَكَذَلِكَ لَا يُعْطِي مُكَاتَبَهُ ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ دَائِرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْلَى فَلَمْ يَتِمَّ الْإِيتَاءُ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ دَفَعَ إلَى مُكَاتَبٍ غَنِيٍّ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْإِيتَاءُ تَمَّ بِانْقِطَاعِ مَنْفَعَةِ الْمُؤَدِّي عَمَّا أَدَّى ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ لِلْغَنِيِّ مِلْكٌ ، وَلَا يَدٌ لِلْحَالِ وَكَذَلِكَ لَا يَصْرِفُ إلَى زَوْجَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِيتَاءَ لَا يَتِمُّ فَمَالُ الزَّوْجَةِ مِنْ وَجْهٍ لِزَوْجِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَوَجَدَك عَائِلًا فَأَغْنَى } قِيلَ بِمَالِ خَدِيجَةَ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ جَائِزَةٌ فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا تُعْطِي زَوْجَهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تُعْطِيه ( وَاسْتَدَلَّا ) بِحَدِيثِ { زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّصَدُّقِ عَلَى زَوْجِهَا فَقَالَ : يَجُوزُ وَلَك أَجْرَانِ أَجْرُ الصَّدَقَةِ وَأَجْرُ الصِّلَةِ } ؛ وَلِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلزَّوْجَةِ فِي مَالِ زَوْجِهَا فَيَتِمُّ الْإِيتَاءُ كَمَا يَتِمُّ بِالصَّرْفِ

إلَى الْإِخْوَةِ بِخِلَافِ الزَّوْجِ يَصْرِفُ إلَى زَوْجَتِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : لِزَوْجَتِهِ أَصْلُ الْوِلَادِ ، ثُمَّ مَا يَتَفَرَّعُ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ يُمْنَعُ صَرْفُ زَكَاةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ فَكَذَلِكَ الْأَصْلُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ وَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرِثُ صَاحِبَهُ مِنْ غَيْرِ حَجْبٍ كَمَا بِالْوِلَادِ وَحَدِيثُ زَيْنَبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَحْمُولٌ عَلَى صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ امْرَأَةً ضَيِّقَةَ الْيَدِ تَعْمَلُ لِلنَّاسِ وَتَتَصَدَّقُ مِنْ ذَلِكَ وَبِهِ نَقُولُ أَنَّهُ يَجُوزُ صَرْفُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْطَى غَنِيًّا ، أَوْ وَلَدًا صَغِيرًا لِغِنًى مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهِ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ مَصْرِفَ الصَّدَقَاتِ الْفُقَرَاءُ بِالنَّصِّ فَإِنْ صَرَفَ إلَى زَوْجَةِ غَنِيٍّ وَهِيَ فَقِيرَةٌ ، أَوْ إلَى بِنْتٍ بَالِغَةٍ لِغِنًى ، وَهِيَ فَقِيرَةٌ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ صَرَفَهَا إلَى الْفَقِيرِ وَاسْتِحْقَاقُهَا النَّفَقَةَ عَلَى الْغِنَى لَا يُخْرِجُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَصْرِفًا كَأُخْتٍ فَقِيرَةٍ لِغَنِيٍّ فُرِضَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهَا مَكْفِيَّةُ الْمُؤْنَةِ بِاسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ عَلَى الْغَنِيِّ بِالْإِنْفَاقِ فَهُوَ نَظِيرُ وَلَدٍ صَغِيرٍ لِغَنِيٍّ وَكَذَلِكَ لَوْ صَرَفَهَا إلَى هَاشِمِيٍّ أَوْ مَوْلًى هَاشِمِيٍّ ، وَهُوَ يَعْلَمُ بِحَالِهِ لَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِمُحَمَّدٍ ، وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ } وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ الْأَرْقَمَ بْنَ أَبِي الْأَرْقَمِ عَلَى الصَّدَقَاتِ فَاسْتَتْبَعَ أَبَا رَافِعٍ فَجَاءَ مَعَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا أَبَا رَافِعٍ إنَّ

اللَّهَ تَعَالَى كَرِهَ لِبَنِي هَاشِمٍ غُسَالَةِ النَّاسِ ، وَإِنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } .
وَهَذَا فِي الْوَاجِبَاتِ فَأَمَّا فِي التَّطَوُّعَاتِ وَالْأَوْقَافِ فَيَجُوزُ الصَّرْفُ إلَيْهِمْ وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي النَّوَادِرِ ؛ لِأَنَّ فِي الْوَاجِبِ الْمُؤَدِّي يُطَهِّرُ نَفْسَهُ بِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ فَيَتَدَنَّسُ الْمُؤَدَّى بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَفِي النَّفْلِ يَتَبَرَّعُ بِمَا لَيْسَ عَلَيْهِ فَلَا يَتَدَنَّسُ بِهِ الْمُؤَدَّى كَمَنْ تَبَرَّدَ بِالْمَاءِ فَإِنْ أَعْطَاهُ غَنِيًّا ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِحَالِهِ فَإِنَّهُ يُجْزِي إنْ وَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّهُ فَقِيرٌ ، أَوْ سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ ، أَوْ كَانَ جَالِسًا مَعَ الْفُقَرَاءِ ، أَوْ كَانَ عَلَيْهِ زِيُّ الْفُقَرَاءِ ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ غَنِيٌّ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ ظَهَرَ لَهُ بِيَقِينٍ ؛ لِأَنَّ الْمَصْرِفَ فِي الصَّدَقَاتِ الْفُقَرَاءُ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ فَلَا يُجْزِئُهُ كَمَنْ تَوَضَّأَ بِالْمَاءِ ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ نَجِسٌ ، أَوْ قَضَى الْقَاضِي فِي حَادِثَةٍ بِاجْتِهَادٍ ، ثُمَّ ظَهَرَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الصَّرْفُ إلَى مَنْ هُوَ فَقِيرٌ عِنْدَهُ وَقَدْ فَعَلَ فَيَجُوزُ كَمَا إذَا صَلَّى الْإِنْسَانُ إلَى جِهَةٍ بِالتَّحَرِّي ، ثُمَّ ظَهَرَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْغِنَى وَالْفَقْرَ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِمَا وَقَدْ لَا يَقِفُ الْإِنْسَانُ عَلَى غِنَى نَفْسِهِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ وَالتَّكْلِيفُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ بِخِلَافِ النَّصِّ فَإِنَّهُ مِمَّا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَكَذَلِكَ يُوقَفُ عَلَى نَجَاسَةِ الْمَالِ وَطَهَارَتِهِ .

وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ دَفَعَ إلَى أَبِيهِ ، أَوْ ابْنِهِ جَازَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَهُمَا وَذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ رِوَايَةً عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ .
وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ النَّسَبَ مِمَّا يُحْكَمُ بِهِ وَيُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ حَقِيقَةً فَيَتَبَيَّنُ الْخَطَأُ بِيَقِينٍ كَمَا لَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ عَبْدُهُ ، أَوْ مُكَاتَبُهُ .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حَدِيثُ { مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ دَفَعَ أَبِي صَدَقَتَهُ إلَى رَجُلٍ لِيَصْرِفَهَا وَيُفَرِّقَهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ فَأَعْطَانِي فَلَمَّا رَآهُ أَبِي فِي يَدِي فَقَالَ : مَا إيَّاكَ أَرَدْت يَا بُنَيَّ فَقُلْت مَا أَنَا بِاَلَّذِي أَرُدُّهُ عَلَيْك فَاخْتَصَمْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا مَعْنُ لَك مَا أَخَذْت وَيَا يَزِيدُ لَك مَا نَوَيْت } فَقَدْ جَوَّزَ الصَّرْفَ إلَى الْوَلَدِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الصَّرْفَ إلَى الْوَلَدِ قُرْبَةٌ بِدَلِيلِ التَّطَوُّعِ فَأَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَكْثَرَ مِمَّا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَنْ الْمُؤَدِّي عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ مَقَامَ الْكَمَالِ فِي حُكْمِ الْجَوَازِ وَكَذَلِكَ إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ هَاشِمِيٌّ فَهُوَ عَلَى هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ ذِمِّيٌّ فَهُوَ عَلَى هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ يُحْكَمُ بِهِ وَيُوقَفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ حَرْبِيٌّ قَالَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ يَجُوزُ .
وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ مُسْتَأْمَنًا فِي دَارِنَا فَهُوَ كَالذِّمِّيِّ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي جَامِعِ الْبَرَامِكَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَى الْحَرْبِيِّ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ أَصْلًا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَامَ مَقَامَ مَا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ .

( قَالَ ) : وَيُكْرَهُ أَنْ يُعْطِيَ رَجُلًا مِنْ الزَّكَاةِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، أَوْ لَهُ عِيَالٌ وَإِنْ أَعْطَاهُ جَازَ وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُجْزِئُهُ إعْطَاءُ الْمِائَتَيْنِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِإِعْطَاءِ الْمِائَتَيْنِ إلَيْهِ إنَّمَا يُكْرَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ فَوْقَ الْمِائَتَيْنِ وَزُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : غِنَى الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ يَقْتَرِنُ بِقَبْضِهِ وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ جَوَازِهِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْغِنَى يَحْصُلُ بِالْمِلْكِ ، وَذَلِكَ حُكْمٌ يَثْبُتُ بَعْدَ قَبْضِهِ فَلَمْ يَقْتَرِنْ الْغِنَى بِالدَّفْعِ وَالْقَبْضِ فَلَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ وَلَكِنْ يَعْقُبُهُ مُتَّصِلًا بِهِ فَأَوْجَبَ الْكَرَاهَةَ لِلْقُرْبِ كَمَنْ صَلَّى وَبِقُرْبِهِ نَجَاسَةٌ جَازَتْ الصَّلَاةُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَى مَكَان طَاهِرٍ ، وَكَانَ مَكْرُوهًا لِلْقُرْبِ مِنْ النَّجَاسَةِ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ : جُزْءٌ مِنْ الْمِائَتَيْنِ مُسْتَحَقٌّ لِحَاجَتِهِ لِلْحَالِ وَالْبَاقِي دُونَ الْمِائَتَيْنِ فَلَا تَثْبُتُ بِهِ صِفَةُ الْغِنَى إلَّا أَنْ يُعْطِيَهُ فَوْقَ الْمِائَتَيْنِ .

، ثُمَّ الْغِنَى الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ أَخْذِ الصَّدَقَةِ أَنْ يَمْلِكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ مَا يُسَاوِيَهَا فَضْلًا عَنْ حَاجَتِهِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : أَنْ يَمْلِكَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا كَانَ صَاحِبَ عِيَالٍ لَا تُغْنِيه الْمِائَتَانِ جَازَ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ الْمِائَتَيْنِ لِقِيَامِ حَاجَتِهِ كَابْنِ السَّبِيلِ تُصْرَفُ إلَيْهِ الزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَ مَالِكًا لِلْمَالِ .
وَسُفْيَانُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ سَأَلَ النَّاسَ ، وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ الْمَسْأَلَةِ جَاءَتْ مَسْأَلَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُدُوشًا ، أَوْ خُمُوشًا ، أَوْ كُدُوشًا فِي وَجْهِهِ قِيلَ وَمَا الْغِنَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَنْ يَمْلِكَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا } .
وَتَأْوِيلُهُ عِنْدَهُمَا فِي حُرْمَةِ السُّؤَالِ وَالطَّلَبِ وَبِهِ نَقُولُ : { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : مَا أَتَاك مِنْ هَذَا الْمَالِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ ، وَلَا اسْتِشْرَافٍ فَخُذْهُ فَإِنَّهُ مَالُ اللَّهِ تَعَالَى يُؤْتِيه مَنْ يَشَاءُ } وَذَمَّ السُّوَالَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { السُّؤَالُ آخِرُ كَسْبِ الْعَبْدِ أَيْ يَبْقَى فِي ذُلِّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .

وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ وَلَيْسَ لَهُ عِيَالٌ ، وَلَا مَالٌ يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ عِنْدَنَا ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سِوًى } .
وَتَأْوِيلُهُ عِنْدَنَا حُرْمَةُ الطَّلَبِ وَالسُّؤَالِ .
أَلَا تَرَى مَا رُوِيَ { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُقَسِّمُ الصَّدَقَاتِ فَقَامَ إلَيْهِ رَجُلَانِ يَسْأَلَانِهِ فَنَظَرَ إلَيْهِمَا وَرَآهُمَا جَلِدَيْنِ فَقَالَ : أَمَّا أَنَّهُ لَا حَقَّ لَكُمَا فِيهِ وَإِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا ، مَعْنَاهُ لَا حَقَّ لَكُمَا فِي السُّؤَالِ } .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَوَّزَ الْإِعْطَاءَ لَهُمَا وَقِيلَ كَانَ الْحُكْمُ فِي الِابْتِدَاءِ أَنَّ حُرْمَةَ الْأَخْذِ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِقُوَّةِ الْبَدَنِ ، ثُمَّ انْتَسَخَ بِمِلْكِ خَمْسِينَ ، ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى مِلْكِ النِّصَابِ وَإِنَّمَا حَمَلْنَا عَلَى هَذَا لِيَكُونَ النَّاسِخُ أَخَفُّ مِنْ الْمَنْسُوخِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا ، أَوْ مِثْلِهَا .
}

( قَالَ ) : رَجُلٌ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى آخَرَ عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ وَأَمَرَهُ بِقَبْضِهِ فَقَبَضَهُ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْقَبْضِ وَكِيلُهُ فَتَعَيَّنَ الْمَقْبُوضُ مِلْكًا لِصَاحِبِ الْمَالِ فَكَأَنَّهُ قَبَضَ بِنَفْسِهِ ، ثُمَّ صَرَفَ إلَيْهِ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ فَيَكُونُ مُؤَدِّيًا الْعَيْنَ دُونَ الدَّيْنِ .

( قَالَ ) : رَجُلٌ تَصَدَّقَ عَلَى رَجُلٍ بِدَرَاهِمَ مِنْ مَالِهِ عَنْ زَكَاةِ مَالِ رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَرَضِيَ بِهِ لَمْ يُجْزِهِ مِنْ زَكَاتِهِ ؛ لِأَنَّ رِضَاهُ فِي الِانْتِهَاءِ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِيمَا كَانَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ ، وَالصَّدَقَةُ عَنْ الْمُتَصَدِّقِ كَانَ تَامًّا غَيْرَ مَوْقُوفٍ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ رِضَا الْآخَرِ بِهِ وَإِنْ كَانَ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِأَمْرِهِ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَقْرِضًا الْمَالَ مِنْهُ إنْ شَرَطَ لَهُ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ ، أَوْ مُسْتَوْهِبًا مِنْهُ إنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَهُ ذَلِكَ وَالْفَقِيرُ يَكُونُ نَائِبًا عَنْهُ فِي الْقَبْضِ يَقْبِضُ لَهُ أَوَّلًا ، ثُمَّ لِنَفْسِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا انْعَدَمَ الْأَمْرُ فِي الِابْتِدَاءِ ، ثُمَّ لَا يَرْجِعُ الْمُؤَدِّي عَلَى الْآمِرِ هُنَا إلَّا بِالشَّرْطِ بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ فَهُنَاكَ أَمَرَهُ أَنْ يَمْلِكَ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِمَا يُؤَدِّي فَلَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِدُونِ الشَّرْطِ ، وَهُنَا لَا يَصِيرُ مُمَلَّكًا مِنْهُ شَيْئًا فِي ذِمَّتِهِ بِمَا يُؤَدِّي .
يُوضِحُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ هُنَاكَ هُوَ مُطَالَبٌ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ يُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ بِالْأَدَاءِ بِأَمْرِهِ سَقَطَتْ عَنْهُ هَذِهِ الْمُطَالَبَةُ فَثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ وَهُنَا مَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لَا يُطَالَبُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ فَلَا يَثْبُتُ لِلْمُؤَدِّي بِأَمْرِهِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ إلَّا بِالشَّرْطِ كَمَنْ يَقُولُ : لِغَيْرِهِ عَوِّضْ هِبَتِي مِنْ مَالِكَ لِفُلَانٍ فَعَوَّضَهُ لَا يَرْجِعُ إلَّا بِالشَّرْطِ .

( قَالَ ) : رَجُلٌ لَهُ مِائَتَا قَفِيزٍ حِنْطَةً لِلتِّجَارَةِ قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ فَحَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا ، ثُمَّ رَجَعَتْ قِيمَتُهَا إلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ فَإِنْ أَرَادَ أَدَاءَ الزَّكَاة مِنْ الْعَيْنِ تَصَدَّقَ بِرُبْعِ عُشْرِهَا خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ أَرَادَ أَدَاءَ الزَّكَاةِ مِنْ الْقِيمَةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : يُؤَدِّي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ مُعْتَبِرًا وَقْتَ الْوُجُوبِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُؤَدِّي دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفًا مُعْتَبِرًا وَقْتَ الْأَدَاءِ فَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ ، وَهُوَ رُبْعُ الْعُشْرِ جَاءَ فِي الْأَثَرِ هَاتُوا رُبْعَ عُشْرِ أَمْوَالِكُمْ ؛ وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيمَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ ، وَهُوَ الْعَيْنُ إلَّا أَنَّ لَهُ وِلَايَةَ نَقْلِ الْحَقِّ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الْقِيمَةِ بِاخْتِيَارِهِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْعَيْنِ وَقْتَ الِاخْتِيَارِ زَائِدًا كَانَ ، أَوْ نَاقِصًا وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : الْوَاجِبُ عِنْدَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ إمَّا رُبْعُ عُشْرِ الْعَيْنِ ، أَوْ رُبْعُ عُشْرِ الْقِيمَةِ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ وَالْمُخَيَّرُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إذَا أَدَّى أَحَدَهُمَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ مِنْ الْأَصْلِ وَاجِبًا .
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ تَأْثِيرَ الْقِيمَةِ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ هُنَا أَكْثَرُ مِنْ تَأْثِيرِ الْعَيْنِ حَتَّى إذَا كَمُلَ النِّصَابُ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ تَجِبُ الزَّكَاةُ سَوَاءٌ كَانَ كَامِلًا مِنْ حَيْثُ الْعَيْنُ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ وَقَدْ فَرَّعَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَابًا فِي الْجَامِعِ فَمَا زَادَ عَلَى هَذَا فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ وَقَرَّرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْعِبَادِ عَلَى أَصْلِ الْكُلِّ .

( قَالَ ) : وَالْعُشْرُ وَاجِبٌ فِي قَلِيلِ الْعَسَلِ وَكَثِيرِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا كَانَ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِي بَابِ الْعُشْرِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ الْعَسَلِ الْعُشْرُ وَمُرَادُهُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ قِيمَةَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ أَدْنَى مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ كَالْقُطْنِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالسُّكَّرِ وَالْعَسَلِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ فِيهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَعْتَبِرُ فِيهِ خَمْسَةُ أَمْثَالٍ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ ذَلِكَ الشَّيْءَ فَفِي الْقُطْنِ يُعْتَبَرُ خَمْسَةُ أَحْمَالٍ وَفِي الزَّعْفَرَانِ خَمْسَةُ أَمْنَانٍ وَفِي السُّكَّرِ كَذَلِكَ وَفِي الْعَسَلِ خَمْسَةُ أَفْرَاقٍ وَالْفَرْقُ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ رِطْلًا فَخَمْسَةُ أَفْرَاقٍ تَكُون تِسْعِينَ مَنًّا هَكَذَا ذَكَرَهُ فِي نَوَادِرِ هِشَامٍ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَمَالِي أَنَّ فِي الْعَسَلِ الْمُعْتَبَرِ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ وَرَوَى عَشْرُ قِرَبٍ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ غَيْرَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ يُقَاسَ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لِمَعْنَى مُؤَثِّرٍ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فِيمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ ؛ لِأَنَّ الْوَسْقَ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ ذَلِكَ الْجِنْسُ فَكَذَلِكَ فِي كُلِّ مَالٍ يُعْتَبَرُ فِيهِ خَمْسَةُ أَمْثَالٍ أَدْنَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : نَصْبُ النِّصَابِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ وَلَكِنْ فِيمَا فِيهِ نَصٌّ يُعْتَبَرُ الْمَنْصُوصُ وَمَا لَا نَصَّ فِيهِ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْقِيمَةُ كَمَا فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ مَعَ السَّوَائِمِ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ .

( قَالَ ) : رَجُلٌ لَهُ أَرْضٌ عُشْرِيَّةٌ وَفِيهَا نَحْلٌ لَا يَعْلَمُ بِهِ صَاحِبُهَا فَجَاءَ رَجُلٌ وَأَخَذَ عَسَلَهَا فَهُوَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ ، وَفِيهِ الْعُشْرُ وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تُتَّخَذْ لِذَلِكَ أَمَّا كَوْنُهُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ فَلِأَنَّهُ صَارَ مُحَرَّزًا لَهُ بِمِلْكِهِ فَكَانَتْ يَدُهُ إلَيْهِ أَسْبَقَ حُكْمًا فَيَكُونُ هُوَ أَوْلَى بِمِلْكِهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الطَّيْرِ إذَا فَرَّخَ فِي أَرْضِ رَجُلٍ فَجَاءَ رَجُلٌ ، وَأَخَذَهُ فَهُوَ لِلْآخِذِ ؛ لِأَنَّ الطَّيْرَ لَا يُفَرِّخُ فِي مَوْضُوعٍ لِيَتْرُكَهُ فِيهِ بَلْ لِيُطَيِّرَهُ إذَا قَوِيَ ذَلِكَ فَلَمْ يَصِرْ صَاحِبُ الْأَرْضِ مُحْرِزًا لِلْفَرْخِ بِمِلْكِهِ فَكَانَ لِلْآخِذِ فَأَمَّا النَّحْلُ فَيُعَسِّلُ فِي الْمَوْضِعِ لِيَتْرُكَهُ فِيهِ فَصَارَ صَاحِبُ الْأَرْضِ مُحْرِزًا لَهُ بِمِلْكِهِ كَالْمَاءِ إذَا اجْتَمَعَ فِي أَرْضٍ فَاجْتَمَعَ مِنْهُ الْحَمَأُ وَالطِّينُ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ ، وَوُجُوبُ الْعُشْرِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ نَمَاءٌ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ .
وَقَالَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ : إذَا وُجِدَ الْجَوْزُ ، أَوْ اللَّوْزُ فِي جَبَلٍ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ كَالصُّيُودِ وَالْعُشْرُ فِيمَا يَكُونُ مِنْ نَمَاءِ أَرْضِ الْعُشْرِ .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَوْجُودَ نَمَاءٌ كُلُّهُ فَلَا فَرْقَ فِي وُجُوبِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِهِ ، أَوْ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ كَخُمُسِ الْمَعَادِنِ .

( قَالَ ) : وَمَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ إذَا كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى هِيَ لَهُ سَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ ، أَوْ لَا لِظَاهِرِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ } وَمِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ لِبَيَانِ السَّبَبِ فِي لِسَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَهُوَ حُرٌّ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَلَا إنَّ عَادِيَ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ، ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي } وَبَعْدَ وُجُودِ الْإِذْنِ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ لَا حَاجَةَ إلَى إذْنِ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ لِأَحَدِكُمْ إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِهِ } فَتَبَيَّنَ بِهَذَا الْحَدِيثِ شَرْطُ الْمِلْكِ ، وَهُوَ إذْنُ الْإِمَامِ كَمَا تَبَيَّنَ بِمَا وَرَدَ السَّبَبُ ، وَهُوَ الْإِحْيَاءُ وَالْحُكْمُ بَعْدَ وُجُوبِ السَّبَبِ يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ شَرْطِهِ ، ثُمَّ النَّاسُ فِي الْمَوَاتِ مِنْ الْأَرَاضِي سَوَاءٌ فَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ إذْنَ الْإِمَامِ أَدَّى إلَى امْتِدَادِ الْمُنَازَعَةِ وَالْخُصُومَةِ بَيْنَهُمْ فِيهَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَرْغَبُ فِي إحْيَاءِ نَاحِيَةٍ وَجَعَلَ التَّدْبِيرَ فِي مِثْلِهِ إلَى الْأَئِمَّةِ يَرْجِعُ إلَى الْمَصْلَحَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ إطْفَاءِ ثَائِرَةِ الْفِتْنَةِ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَعُودُ فِي كِتَابِ الشُّرْبِ مَعَ بَيَانِ حَدِّ الْمَوَاتِ فَمَا زَادَ عَلَى هَذَا نُبَيِّنُهُ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( قَالَ ) مَنْ أَصَابَ رِكَازًا وَسِعَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِخُمُسِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَإِذَا أَطَلَعَ الْإِمَامَ عَلَى ذَلِكَ أَمْضَى لَهُ مَا صَنَعَ ؛ لِأَنَّ الْخُمُسَ حَقُّ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَقَدْ أَوْصَلَهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ ، وَهُوَ فِي إصَابَةِ الرِّكَازِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى حِمَايَةِ الْإِمَامِ فَكَانَ هُوَ فِي الْحُكْمِ كَزَكَاةِ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَى جَمِيعِ ذَلِكَ وَسِعَهُ أَنْ يُمْسِكَهُ لِنَفْسِهِ لِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَإِنْ وَجَدْتهَا فِي قَرْيَةٍ خَرِبَتْ عَلَى عَهْدِ فَارِسَ فَخُمُسُهَا لَنَا وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لَك وَسَنُتِمُّهَا لَك أَيْ نُعْطِيَك الْخُمُسَ مِنْهَا أَيْضًا ؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْخُمُسِ فِي الْمُصَابِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِمَّا أَوْجَفَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَلَا يَكُونُ الْوُجُوبُ عَلَى الْمُصِيبِ خَاصَّةً فَهُوَ فِي كَوْنِهِ مَصْرِفًا كَغَيْرِهِ وَلَوْ رَأَى الْإِمَامُ فِي خُمُسِ الْغَنَائِمِ أَنْ يَصْرِفَهَا إلَى الْغَانِمِينَ لِحَاجَتِهِمْ وَسِعَهُ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ هَذَا الْمُصِيبُ فِي الْخُمُسِ وَإِنْ تَصَدَّقَ بِالْخُمُسِ عَلَى أَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْ أَوْلَادِهِ وَآبَائِهِ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ وَضْعُهُ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ حَاجَتِهِ فَفِي آبَائِهِ وَأَوْلَادِهِ أَوْلَى ، وَهُوَ نَظِيرُ خُمُسِ الْغَنَائِمِ إذَا رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَضَعَهُ فِي أَوْلَادِ الْغَانِمِينَ وَآبَائِهِمْ .

( قَالَ ) : وَمَا جُبِيَ مِنْ الْخَرَاجِ فَهُوَ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ يُعْطِي الْإِمَامُ مِنْهُ أَعْطِيَةَ الْمُقَاتِلَةِ وَفِي نَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا يُجْبَى إلَى بَيْتِ الْمَالِ أَنْوَاعٌ أَرْبَعٌ أَحَدُهَا الْخُمُسُ وَمَصْرِفُهُ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } الْآيَةُ قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ سَهْمُ اللَّهِ وَسَهْمُ الرَّسُولِ وَاحِدٌ .
وَقَالَ قَتَادَةُ : ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى لِافْتِتَاحِ الْكَلَامِ فَكَانَ الْخُمُسُ يُقَسَّمُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَمْسَةٍ ، ثُمَّ سَقَطَ سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَوْتِهِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : هُوَ مَصْرُوفٌ إلَى كُلِّ خَلِيفَةٍ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّهُمْ نَائِبُونَ مِنَّا بِهِ مُحْتَاجُونَ إلَى مَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ مِنْ جَوَائِزِ الْوُفُودِ وَالرُّسُلِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ مَا رَفَعُوا هَذَا السَّهْمَ لِأَنْفُسِهِمْ وَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبَبِ النُّبُوَّةِ وَلَمْ يَنْتَقِلْ ذَلِكَ إلَى أَحَدٍ بَعْدَهُ فَهُوَ نَظِيرُ الصَّفِيِّ الَّذِي كَانَ يَصْطَفِيه لِنَفْسِهِ وَكَذَلِكَ سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى بِوَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَنَا .
وَبَيَانُهُ فِي كِتَابِ السِّيَرِ وَبَقِيَ الْمَصْرِفُ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ .
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ قَسَّمُوا الْخُمُسَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ .
وَالنَّوْعُ الثَّانِي الصَّدَقَاتُ وَالْعُشُورُ وَقَدْ بَيَّنَّا مَصَارِفَهَا .
وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ الْخَرَاجُ وَالْجِزْيَةُ وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ صَدَقَاتِ بَنِي تَغْلِبَ وَمَا يَأْخُذُ الْعَاشِرُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ إذَا مَرُّوا عَلَيْهِ فَهَذَا النَّوْعُ مَصْرُوفٌ إلَى نَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ .
وَمِنْهَا إعْطَاءُ الْمُقَاتِلَةِ

كِفَايَتَهُمْ وَكِفَايَةَ عِيَالِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْجِهَادِ وَدَفْعِ شَرِّ الْمُشْرِكِينَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فَيُعْطَوْنَ الْكِفَايَةَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ إيجَادُ الْكُرَاعِ وَالْأَسْلِحَةِ وَسَدُّ الثُّغُورِ وَإِصْلَاحُ الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ وَسَدُّ الْبَثْقِ وَكَرْيُ الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ .
وَمِنْهُ أَرْزَاقُ الْقُضَاةِ وَالْمُفْتِينَ وَالْمُحْتَسِبِينَ وَالْمُعَلَّمِينَ وَكُلُّ مَنْ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِلْعَمَلِ مِنْ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِ الْحِسْبَةِ فَكِفَايَتُهُ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمَالِ .
وَالنَّوْعُ الرَّابِعُ تَرِكَةُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، أَوْ مَنْ يَرِثُهُ الزَّوْجُ ، أَوْ الزَّوْجَةُ فَقَطْ فَإِنَّ الْبَاقِيَ مَصْرُوفٌ إلَى بَيْتِ الْمَالِ ، وَمَا يُوجَدُ مِنْ اللُّقَطَةِ إذَا لَمْ يَعْرِفْهَا أَحَدٌ فَهُوَ مَوْضُوعٌ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَمَصْرُوفُ هَذَا النَّوْعِ نَفَقَةُ اللَّقِيطِ وَتَكْفِينُ مَنْ يَمُوتُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا مَالَ لَهُ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ فِي صَرْفِ الْأَمْوَالِ إلَى الْمَصَارِفِ فَلَا يَدْعُ فَقِيرًا إلَّا أَعْطَاهُ حَقَّهُ مِنْ الصَّدَقَاتِ حَتَّى يُغْنِيَهُ وَعِيَالَهُ وَإِنْ احْتَاجَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَيْسَ فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ الصَّدَقَاتِ شَيْءٌ أَعْطَى الْإِمَامُ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْخَرَاجِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى بَيْتِ مَالِ الصَّدَقَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْخَرَاجَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ يُصْرَفُ إلَى حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ مَا إذَا احْتَاجَ الْإِمَامُ إلَى إعْطَاءِ الْمُقَاتِلَةِ ، وَلَا مَالَ فِي بَيْتِ مَالِ الْخَرَاجِ صَرَفَ ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الصَّدَقَةِ وَكَانَ دَيْنًا عَلَى بَيْتِ مَالِ الْخَرَاجِ ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ حَقُّ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فَإِذَا صَرَفَ الْإِمَامُ مِنْهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ كَانَ ذَلِكَ دَيْنًا لَهُمْ عَلَى مَا هُوَ حَقُّ الْمَصْرُوفِ إلَيْهِمْ ، وَهُوَ مَالُ الْخَرَاجِ .

( قَالَ ) : وَمَا أُخِذَ مِنْ صَدَقَاتِ بَنِي تَغْلِبَ وُضِعَ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ لِمَا مَرَّ وَمَا أُخِذَ مِنْ صَدَقَاتِ أَهْلِ بَلَدٍ رُدَّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ كَمَا { أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ } وَحَكَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ لَا تَخْرُجُ الزَّكَاةُ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ إلَّا لِذِي قَرَابَةٍ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا ( قَالَ ) وَإِذَا لَمْ يَبْقَ مُحْتَاجٌ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ فَإِنْ كَانَ بِقُرْبٍ مِنْهُمْ مُحْتَاجٌ فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ فُقَرَاءِ غَيْرِهِمْ لِقُرْبِهِمْ فَلَوْ وَضَعَهَا الْإِمَامُ فِي أَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَسِعَهُ ذَلِكَ فَإِنْ أَخْرَجَهَا إلَى غَيْرِهِمْ جَازَ ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْفَصْلِ

( قَالَ ) : وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا وَلَمْ يُقِرَّ وَلَيْسَ فِي الدِّيوَانِ اسْمُهُ ، وَلَا يَلِي لِلْمُسْلِمِينَ شَيْئًا لَمْ يُعْطَ مِنْ الْخَرَاجِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِالْكَسْبِ لِنَفْسِهِ ، وَلَا يَعْمَلُ لِلْمُسْلِمِينَ عَمَلًا فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ مَالِهِمْ .

( قَالَ ) : وَتَجِبُ لِلْإِمَامِ نَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ قَدْرَ مَا يُغْنِيه يُفْرَضُ لَهُ ذَلِكَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا اُسْتُخْلِفَ رَآهُ عُمَرُ يَحْمِلُ شَيْئًا مِنْ مَتَاعِ أَهْلِهِ فَقَالَ : إلَى أَيْنَ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ : إلَى السُّوقِ أَبِيعُ مَتَاعًا لِأَهْلِي لِأُنْفِقَهُ فِي حَوَائِجِي فَجَمَعَ الصَّحَابَةَ وَفَرَضُوا لَهُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمَيْنِ وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ ، أَوْ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَثُلُثَا دِرْهَمٍ عَلَى مَا اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ أَوْصَى إلَى عَائِشَةَ عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ تَرُدَّ ذَلِكَ كُلَّهُ حَتَّى قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : رَحِمَك اللَّهُ يَا أَبَا بَكْرٍ لَقَدْ أَتْعَبْت مَنْ بَعْدَك وَعُمَرُ فِي خِلَافَتِهِ كَانَ يَأْخُذُ الْكِفَايَةَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ الْجَزُورَ يُنْحَرُ كُلَّ يَوْمٍ وَالْعُنُقُ مِنْهُ لِآلِ عُمَرَ أَمَّا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَانَ لَا يَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِثَرْوَتِهِ وَيَسَارِهِ وَأَمَّا عَلِيٌّ فَكَانَ يَأْخُذُ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ مَالِي مِنْ مَالِكُمْ كُلُّ يَوْمٍ قَصْعَتَا ثَرِيدٍ فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا كَانَ غَنِيًّا فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَأْخُذَ وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا أَخَذَ كِفَايَتَهُ وَكِفَايَةَ عِيَالِهِ عَلَى مَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ فِي حَقِّ الْأَوْصِيَاءِ { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ }

( قَالَ ) ، وَلَا شَيْءَ لِأَهْلِ الذَّمَّةِ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ ؛ لِأَنَّهُ مَالُ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُصْرَفُ إلَى غَيْرِهِمْ وَكَذَلِكَ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ مِمَّا أَخَذَ مِنْهُمْ الْعَاشِرُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ صَارَ حَقًّا لِلْمُسْلِمِينَ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ : إذَا كَانَ مُحْتَاجًا عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ يُعْطَى قَدْرَ حَاجَتِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى شَيْخًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ يَسْأَلُ فَقَالَ : مَا أَنْصَفْنَاهُ أَخَذْنَا مِنْهُ فِي حَالَ قُوَّتِهِ وَلَمْ نَرُدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ ضَعْفِهِ وَفَرَضَ لَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ شَاذٌّ فَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ عُلَمَاؤُنَا ، وَرَأَوْا أَنَّ مِنْ التَّرْغِيبِ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ أَنْ لَا يُعْطَى مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا مَا لَمْ يُسْلِمْ .

( قَالَ ) : وَأَمِيرُ الْجَيْشِ فِي الْغَنِيمَةِ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ مِنْ الْجُنْدِ إنْ كَانَ فَارِسًا فَلَهُ سَهْمُ الْفَرَسَانِ وَإِنْ كَانَ رَاجِلًا فَلَهُ سَهْمُ الرَّجَّالَةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْعَلُ سَهْمَهُ فِي الْغَنِيمَةِ كَسَهْمِ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ مَنْ جَاهَدَ بَعْدَهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَقَدْ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْغَنَائِمِ ثَلَاثُ حُظُوظِ : خُمُسُ الْخُمُسِ وَصَفِيٌّ يَصْطَفِيه لِنَفْسِهِ مِنْ دِرْعٍ ، أَوْ سَيْفٍ ، أَوْ جَارِيَةٍ وَسَهْمٌ كَسَهْمِ أَحَدِهِمْ فَخُمُسُ الْخُمُسِ وَالصَّفِيُّ كَانَ هُوَ مُخْتَصًّا بِهِ أَخَذَهُمَا بِوِلَايَةِ النُّبُوَّةِ فَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ لِأُمَرَاءِ الْجُيُوشِ وَبَعْدَهُ بَقِيَ السَّهْمُ فَهُوَ لِأُمَرَاءِ الْجُيُوشِ كَمَا كَانَ يَأْخُذُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اعْلَمْ أَنَّ مَسَائِلَ أَوَّلِ الْكِتَابِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ ، وَهُوَ أَنَّ ضَمَّ النُّقُودِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ فَإِنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ، وَإِنْ كَانَا جِنْسَيْنِ صُورَةً فَفِي مَعْنَى الْمَالِيَّةِ هُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ تُقَوَّمُ الْأَمْوَالُ بِهِمَا ، وَأَنَّهُ لَا مَقْصُودَ فِيهِمَا سِوَى أَنَّهُمَا قِيَمُ الْأَشْيَاءِ وَبِهِمَا تُعْرَفُ خِيرَةُ الْأَمْوَالِ وَمَقَادِيرُهَا وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } ثُمَّ اعْتِبَارُ كَمَالِ النِّصَابِ لِأَجْلِ صِفَةِ الْغِنَى كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى } وَالْغِنَى بِهِمَا يَكُونُ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ وَاعْتِبَارُ كَمَالِ النِّصَابِ لِمَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ ، وَهُمَا فِي مِقْدَارِ الْوَاجِبِ فِيهِمَا كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِيهِمَا رُبْعُ الْعُشْرِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَكَذَلِكَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّمَاءِ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا فِي الْمَالِ النَّامِي وَمَعْنَى النَّمَاءِ فِيهَا بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ ، وَرُبَّمَا يَحْصُلُ بِالتِّجَارَةِ فِي الذَّهَبِ النَّمَاءُ مِنْ الْفِضَّةِ أَوْ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ فَكَانَا بِمَنْزِلَةِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ فِي مَعْنَى النَّمَاءِ وَعُرُوضُ التِّجَارَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً صُورَةً يُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ فِي حَقِّ حُكْمِ الزَّكَاةِ ، فَكَذَلِكَ النُّقُودُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ نِصَابَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكْمُلُ بِمَا يَكْمُلُ بِهِ نِصَابُ الْآخَرِ ، وَهُوَ الْعُرُوض فَكَذَلِكَ يَكْمُلُ نِصَابُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ بِخِلَافِ السَّوَائِمِ ثُمَّ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُضَمُّ

أَحَدُ النَّقْدَيْنِ إلَى الْآخَرِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَعِنْدَهُمَا بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَكْمِيلُ النِّصَابِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْقِيمَةِ فِيهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ كَانَتْ لَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ وَهِيَ تُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ صِفَةُ الْمَالِيَّةِ وَالْمَالِيَّةُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِاعْتِبَارِ الْوَزْنِ إلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ { جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ } وَبِاعْتِبَارِ الْوَزْنِ لَا يُمْكِنُ تَكْمِيلُ النِّصَابِ إلَّا مِنْ حَيْثُ الْأَجْزَاءِ .
وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : ضَمُّ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ كَمَا فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ صِفَةُ الْمَالِيَّةِ ، وَصِفَةُ الْغِنَى لِلْمَالِكِ ، ذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ ، وَإِنَّمَا لَا تُعْتَبَرُ قِيمَةُ النَّقْدِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ فَأَمَّا عِنْدَ مُقَابَلَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ كَسَرَ عَلَى إنْسَانٍ قَلْبَ فِضَّةٍ جَيِّدَةٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ مِنْ الذَّهَبِ فَلَمَّا كَانَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادَةِ تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ عِنْدَ مُقَابَلَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ عِنْدَ ضَمِّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ .
إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ : رَجُلٌ لَهُ ثَمَانِيَةُ دَنَانِيرَ ثَمَنُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ حَالَ عَلَيْهِمَا الْحَوْلُ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ نِصَابَهُ بَلَغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ نِصَابَهُ نَاقِصٌ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ نِصْفَ نِصَابٍ مِنْ الْفِضَّةِ وَخُمُسَيْ نِصَابِ الذَّهَبِ فَإِذَا جَمَعْت بَيْنَهُمَا

كَانَتْ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ نِصَابٍ وَنِصْفَ خُمُسٍ .

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا أَنَّهُ إذَا كَانَتْ لَهُ خَمْسَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا وَدِينَارٌ قِيمَتُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ دِينَارٍ ثَمَنُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ فَثَمَنُ خَمْسَةٍ وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا تِسْعَةَ عَشَرَ دِينَارًا فَإِنْ ضَمَّهَا إلَى الدِّينَارِ يَكُونُ عِشْرِينَ دِينَارًا ، وَبِهَذِهِ الرِّوَايَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ عَلَى أَصْلِهِ يُقَوَّمُ الذَّهَبُ تَارَةً بِالْفِضَّةِ وَالْفِضَّةُ تَارَةً بِالذَّهَبِ ، ذَلِكَ لِأَجْلِ الِاحْتِيَاطِ وَتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ ( قَالَ ) : وَإِنْ كَانَ لَهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةُ دَنَانِيرَ ثَمَنُهَا خَمْسُونَ دِرْهَمًا فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ كَامِلٌ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةِ ، وَمِنْ حَيْثُ الْأَجْزَاءِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ نِصَابِ الْفِضَّةِ وَرُبْعَ نِصَابِ الذَّهَبِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ لَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ دِينَارًا وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا ثَمَنُهَا خَمْسَةُ دَنَانِيرَ ، أَوْ كَانَتْ لَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ ثَمَنُهَا عَشَرَةُ دَنَانِيرَ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ بِالِاتِّفَاقِ لِكَمَالِ النِّصَابِ سَوَاءٌ اُعْتُبِرَ الضَّمُّ بِالْأَجْزَاءِ أَوْ بِالْقِيمَةِ وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ مِنْ أَيِّ الْجِنْسَيْنِ تُؤَدَّى الزَّكَاةُ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُؤَدِّي مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبْعَ عُشْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِمَا رُبْعُ الْعُشْرِ بِالنَّصِّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ } وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : هَاتُوا عُشُورَ أَمْوَالِكُمْ وَفِي أَدَاءِ رُبْعِ الْعُشْرِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مُرَاعَاةُ النَّظَرِ لِصَاحِبِ الْمَالِ وَالْفُقَرَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ لَوْ هَلَكَ أَحَدُ النَّوْعَيْنِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ مِنْ النَّوْعِ الْآخَرِ إلَّا رُبْعَ عُشْرِهِ فَكَذَلِكَ فِي حَالِ بَقَاءِ النَّوْعَيْنِ .

( قَالَ ) : وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ ثُمَّ أَضَافَ إلَيْهَا أَلْفًا أُخْرَى ثُمَّ خَلَطَهُمَا ثُمَّ ضَاعَتْ مِنْهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ خَمْسَمِائَةٍ إذَا لَمْ يَعْرِفْ الَّذِي ضَاعَ مِنْ الَّذِي بَقِيَ ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْمَالِ كَانَ مَشْغُولًا بِحَقِّ الْفُقَرَاءِ وَنِصْفَهُ كَانَ فَارِغًا عَنْ حَقِّهِمْ ، وَلَيْسَ صَرْفُ الْهَلَاكِ إلَى أَحَدِ النَّوْعَيْنِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيَجْعَلُ الْهَالِكَ مِنْهُمَا وَالْبَاقِيَ مِنْهُمَا كَمَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فَإِنَّمَا بَقِيَ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ خَمْسُمِائَةٍ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَمَلَ الْمَالُ عَلَى النِّصَابِ وَالْوَقْصِ فَهَلَكَ مِنْهُمَا شَيْءٌ يَجْعَلُ الْهَالِكَ مِنْ الْوَقْصِ خَاصَّةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى نَحْوُ مَا إذَا كَانَ لَهُ فَوْقَ النِّصَابِ ثَمَانُونَ مِنْ الْغَنَمِ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ ثُمَّ هَلَكَ أَرْبَعُونَ فَعَلَيْهِ فِي الْبَاقِي شَاةٌ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْوَقْصَ تَبَعٌ لِلنِّصَابِ بِاسْمِهِ وَحُكْمِهِ فَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ الْوَقْصُ إلَّا بَعْدَ النِّصَابِ ، وَهَذَا هُوَ عَلَامَةُ الْأَصْلِ مَعَ التَّبَعِ فَإِنَّ التَّبَعَ يَقُومُ بِالْأَصْلِ وَالْأَصْلُ يَسْتَغْنِي عَنْ التَّبَعِ ثُمَّ لَا يَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَ التَّبَعِ وَالْأَصْلِ وَجَعْلِ الْهَالِكِ مِنْ الْمَالَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْمُعَارَضَةِ فَأَمَّا هُنَا فَأَحَدُ الْأَلْفَيْنِ لَيْسَ بِتَبَعٍ لِلْآخَرِ فَتَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَهُمَا فَلِهَذَا يُجْعَلُ الْهَالِكُ مِنْهُمَا ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ إذَا كَانَ فِيهَا رِبْحٌ فَهَلَكَ مِنْهَا شَيْءٌ يَجْعَلُ الْهَالِكَ مِنْ الرِّبْحِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِرَأْسِ الْمَالِ وَالْمَالُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا هَلَكَ مِنْهُ شَيْءٌ يُجْعَلُ الْهَالِكُ مِنْ نَصِيبِ الشَّرِيكَيْنِ وَالْبَاقِي مِنْ نَصِيبِهِمَا .
فَإِنْ قِيلَ لِمَاذَا لَمْ يَجْعَلْ صَاحِبَ الْمَالِ بِهَذَا الْخَلْطِ مُسْتَهْلِكًا لِمَالِ الزَّكَاةِ حَتَّى يَكُونَ ضَامِنًا اعْتِبَارًا لِحُقُوقِ

الْعِبَادِ فَإِنَّهُ لَوْ غَصَبَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَخَلَطَهَا بِأَلْفٍ مِنْ مَالِهِ كَانَ ضَامِنًا .
قُلْنَا ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ حَقَّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِي عَيْنِ الدَّرَاهِمِ حَتَّى لَوْ أَرَادَ أَنْ يُمْسِكَ تِلْكَ الدَّرَاهِمَ وَيُعْطِيَهُ غَيْرَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، وَالْخَلْطُ اسْتِهْلَاكُ الْعَيْنِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ بَعْدَهُ إلَى تِلْكَ الْعَيْنِ فَأَمَّا حَقُّ الْفُقَرَاءِ هُنَا فَفِي مَعْنَى الْمَالِيَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّ لِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ مِنْ دَرَاهِمَ غَيْرِ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ ، وَمِنْ جِنْسٍ آخَرَ مِنْ الْمَالِ ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْخَلْطِ تَفْوِيتُ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ ، وَلَا إخْرَاجُ الْمَالِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ بِالْخَلْطِ شَيْئًا فَإِنْ عَرَفَ مِائَةَ دِرْهَمٍ مِنْ الْبَاقِي أَنَّهَا مِنْ دَرَاهِمِهِ الْأُولَى وَلَمْ يَعْرِفْ غَيْرَهَا فَإِنَّهُ يُزَكِّي هَذِهِ الْمِائَةَ دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفًا ؛ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ أَنَّ رُبْعَ عُشْرِهَا حَقُّ الْفُقَرَاءِ وَيُزَكِّي تِسْعَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِمَّا بَقِيَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَرَفَ الْمِائَةَ بَقِيَ الْمُشْتَبَهُ أَلْفٌ وَتِسْعُمِائَةٍ فَإِذَا جُعِلَتْ كُلُّ مِائَةٍ سَهْمًا كَانَتْ عَشَرَةُ أَسْهُمٍ مِنْ ذَلِكَ فَارِغَةً عَنْ الزَّكَاةِ وَتِسْعَةُ أَسْهُمٍ مَشْغُولَةً بِالزَّكَاةِ فَمَا هَلَكَ يَكُونُ مِنْهَا بِالْحِصَّةِ ، وَمَا بَقِيَ كَذَلِكَ فَلِهَذَا يُزَكِّي تِسْعَةَ أَجْزَاءَ مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِمَّا بَقِيَ ، وَلَوْ عَرَفَ مِائَةَ دِرْهَمٍ أَنَّهَا مِنْ دَرَاهِمِهِ الْأُخْرَى وَلَمْ يَعْرِفْ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمِائَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحُلْ عَلَيْهَا الْحَوْلُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ عَشَرَةَ أَجْزَاءَ مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِمَّا بَقِيَ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَبَهَ تِسْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا عَشَرَةٌ مِنْ ذَلِكَ مَالُ الزَّكَاةِ وَتِسْعَةٌ فَارِغَةٌ فَيَكُونُ الْهَلَاكُ مِنْهُمَا بِالْحِصَّةِ وَالْبَاقِي كَذَلِكَ .

( قَالَ ) : رَجُلٌ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ سُودٌ وَأَلْفُ دِرْهَمٍ بِيضٌ فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ الْحَوْلِ بِشَهْرٍ زَكَّى خَمْسَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا مِنْ الْبِيضِ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَهْلِكَ الْبِيضُ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ أَوْ تُسْتَحَقَّ ، أَوْ يَتِمَّ الْحَوْلُ عَلَى الْمَالَيْنِ فَإِنْ ضَاعَتْ الْبِيضُ قَبْلَ الْحَوْلِ ، وَتَمَّ الْحَوْلُ عَلَى السُّودِ يُجْزِئُهُ مَا أَدَّى عَنْ زَكَاةِ السُّودِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَجَّلَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الزَّكَاةِ عِنْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ ، وَهُوَ زَكَاةُ السُّودِ فَالْمُعَجَّلُ يُجْزِي مِنْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَدَّى بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا بِيضًا بِزَكَاةِ السُّودِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْبِيضَ وَالسُّودَ جِنْسٌ وَاحِدٌ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ فَلِهَذَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ أَصْلُ النِّيَّةِ فَأَمَّا نِيَّةُ التَّعْيِينِ فَغَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا كَمَنْ عَلَيْهِ قَضَاءُ أَيَّامٍ مِنْ رَمَضَانَ وَصَامَ بِعَدَدِهَا يَنْوِي الْقَضَاءَ يُجْزِئُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ فِي نِيتَةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ وَأَرْبَعُونَ مِنْ الْغَنَمِ فَعَجَّلَ زَكَاةَ الْغَنَمِ شَاةً ثُمَّ ضَاعَتْ الْغَنَمُ ، وَتَمَّ الْحَوْلُ عَلَى الْإِبِلِ فَإِنَّ الْمُعَجَّلَ لَا يُجْزِئُ عَنْ زَكَاةِ الْإِبِلِ ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ وَلِهَذَا لَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ تُعْتَبَرُ نِيَّةُ التَّمْيِيزِ .
وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الْبِيضُ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ لَمْ يُجْزِ الْمُعَجَّلُ عَنْ زَكَاةِ السُّودِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَجَّلَ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ فَلَا يُجْزِئُ ذَلِكَ عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ وَكَيْفَ يُجْزِئُ ، وَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَدَّى مِنْ الْبِيضِ إلَى الْفُقَرَاءِ أَمَّا هُنَا إنَّمَا عَجَّلَ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ بِالْهَلَاكِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ

يَكُنْ مِلْكًا لَهُ فَيُجْزِي الْمُعَجَّلُ عَمَّا يَلْزَمُهُ عِنْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ ، وَلَوْ حَالَ الْحَوْلُ عَلَى الْمَالَيْنِ جَمِيعًا فَفِي رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ قَالَ : الْمُعَجَّلُ يَكُونُ مِنْ زَكَاةِ الْبِيضِ حَتَّى إذَا هَلَكَتْ الْبِيضُ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ السُّودِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا .
وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ : الْمُعَجَّلُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا حَتَّى إذَا هَلَكَتْ الْبِيضُ فَعَلَيْهِ نِصْفُ زَكَاةِ السُّودِ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا وَنِصْفُ دِرْهَمٍ .
وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ بَعْدَ مَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِمَا يُجْعَلُ الْأَدَاءُ بِطَرِيقِ التَّعْجِيلِ كَالْأَدَاءِ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ ، وَلَوْ أَدَّى بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ زَكَاةَ الْبِيضِ كَانَ الْمُؤَدَّى عَمَّا نَوَاهُ خَاصَّةً فَكَذَلِكَ إذَا عَجَّلَ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ حِينَ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِمَا فَاعْتَبَرْنَا نِيَّتَهُ فِي التَّمْيِيزِ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَمَلًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } بِخِلَافِ مَا إذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى .
وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ ، وَهِيَ الْأَصَحُّ مَا بَيَّنَّا أَنَّ السُّودَ وَالْبِيضَ جِنْسٌ وَاحِدٌ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ نِيَّةِ التَّمْيِيزِ فِيهِمَا فَكَأَنَّهُ قَصَدَ عِنْدَ الْأَدَاءِ تَعْجِيلَ الزَّكَاةِ فَقَطْ فَيُجْعَلُ الْمُؤَدَّى مِنْ الْمَالَيْنِ جَمِيعًا إذَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهَا ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَدَاءِ بَعْدَ الْوُجُوبِ فَإِنَّهُ تَفْرِيغٌ لِلْمَالِ عَنْ حَقِّ الْفُقَرَاءِ ؛ لِأَنَّ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ يَصِيرُ الْمَالُ مَشْغُولًا بِحَقِّ الْفُقَرَاءِ فَكَانَتْ نِيَّةُ الْأَدَاءِ عَنْ زَكَاةِ الْبِيضِ مُفِيدَةً مِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَصَدَ بِهِ تَفْرِيغَ الْبِيضِ دُونَ السُّودِ بِخِلَافِ التَّعْجِيلِ قَبْلَ الْوُجُوبِ فَإِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي نِيَّةِ التَّمْيِيزِ هُنَاكَ ، وَبِاعْتِبَارِ هَذَا

الْمَعْنَى لَوْ أَدَّى زَكَاةَ الْبِيضِ بَعْدَ الْوُجُوبِ ثُمَّ هَلَكَتْ الْبِيضُ لَمْ يَكُنْ الْمُؤَدَّى عَنْ السُّودِ ، وَلَوْ عَجَّلَ قَبْلَ الْوُجُوبِ ثُمَّ هَلَكَتْ الْبِيضُ ، وَتَمَّ الْحَوْلُ عَلَى السُّودِ كَانَ الْمُعَجَّلُ مِنْ زَكَاةِ السُّودِ وَاَلَّذِي بَيَّنَّا فِي السُّودِ وَالْبِيضِ كَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إذَا كَانَتْ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَعِشْرُونَ مِثْقَالًا مِنْ ذَهَبٍ فَعَجَّلَ زَكَاةَ أَحَدِ الْمَالَيْنِ ، أَوْ أَدَّى بَعْدَ الْوُجُوبِ فَهِيَ فِي جَمِيعِ الْفُصُولِ مِثْلُ مَا سَبَقَ وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ عَيْنًا وَأَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنًا عَلَى إنْسَانٍ فَعَجَّلَ زَكَاةَ الْعَيْنِ ثُمَّ ضَاعَتْ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ فَالْمُعَجَّلُ يُجْزِي عَنْ زَكَاةِ الدَّيْنِ وَلَوْ أَدَّى زَكَاةَ الْعَيْنِ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ ثُمَّ ضَاعَتْ قَبْلَ الْحَوْلِ لَمْ يُجْزِ الْمُؤَدَّى عَنْ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَدَاءِ بَعْدَ الْوُجُوبِ إنَّمَا قَصَدَ تَطْهِيرَ مَالِهِ الْعَيْنِ وَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُهُ فَكَانَ بَقَاؤُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَلَاكُهُ سَوَاءً فِي التَّعْجِيلِ وَقَبْلَ الْوُجُوبِ إنَّمَا قَصَدَ إسْقَاطَ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الزَّكَاةِ عِنْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ ، وَإِنَّمَا لَزِمَتْهُ الزَّكَاةُ فِي الدَّيْنِ وَأَدَاءُ الْعَيْنِ عَنْ زَكَاةِ الدَّيْنِ جَائِزٌ .
وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ وَجَارِيَةٌ لِلتِّجَارَةِ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ فَعَجَّلَ زَكَاةَ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ مَاتَ الَّذِي عَجَّلَ الزَّكَاةَ عَنْهُ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ وَتَمَّ الْحَوْلُ عَلَى الْآخَرِ فَالْمُعَجَّلُ يُجْزِئُ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا إذَا زَكَّى أَحَدَهُمَا بَعْدَ الْحَوْلِ ثُمَّ مَاتَ الَّذِي زَكَّى عَنْهُ وَلَوْ عَجَّلَ زَكَاةَ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ مَاتَ الَّذِي زَكَّى عَنْهُ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ الْبَاقِيَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَعَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ عَلَيْهِ نِصْفُ زَكَاةِ الْبَاقِي ؛ لِأَنَّ الْمُعَجَّلَ يُجْزِئُ عَنْهُمَا إذَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِمَا عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ .

( قَالَ ) : وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ مِنْهَا قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ وَفِي يَدِهِ مِائَتَا دِرْهَمٍ إلَّا دِرْهَمًا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمُعَجَّلَ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ بِالْوُصُولِ إلَى كَفِّ الْفَقِيرِ فَتَمَّ الْحَوْلُ وَنِصَابُهُ نَاقِصٌ وَكَمَالُ النِّصَابِ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ مُعْتَبَرٌ لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ كَانَ الْمُؤَدَّى تَطَوُّعًا لَا يَمْلِكُ اسْتِرْدَادَهُ مِنْ الْفَقِيرِ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَى كَفِّ الْفَقِيرِ بِطَرِيقِ الْقُرْبَةِ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِيهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ نَوَى أَصْلَ التَّصْدِيقِ وَالصِّفَةِ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ الصِّفَةِ حِينَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ فَيَبْقَى أَصْلُ نِيَّةِ الصَّدَقَةِ .

( قَالَ ) : وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ جَارِيَةٌ لِلتِّجَارَةِ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ إلَّا يَوْمًا ثُمَّ اعْوَرَّتْ فَتَمَّ الْحَوْلُ ، وَهِيَ كَذَلِكَ قَالَ : يُزَكِّيهَا عَوْرَاءَ وَمُرَادُهُ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهَا بَعْدَ الْعَوَرِ نِصَابًا فَأَمَّا إذَا كَانَتْ دُونَ النِّصَابِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ بِالْعَوَرِ فَاتَ نِصْفُهَا ، وَكَمَالُ النِّصَابِ فِي آخِرِ الْحَوْلِ مُعْتَبَرٌ لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فَإِذَا كَانَتْ قِيمَتُهَا مَعَ الْعَوَرِ نِصَابًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَهَا عَوْرَاءَ ؛ لِأَنَّ مَا هَلَكَ مِنْهَا قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ يَصِيرُ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ كَمَا لَمْ يَكُنْ فَإِنْ ذَهَبَ الْعَوَرُ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ ذَهَابِ الْعَوَرِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ وَحُكْمُ الزَّكَاةِ لَا يَسْرِي إلَى الزِّيَادَةِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ مُتَّصِلَةً كَانَتْ أَوْ مُنْفَصِلَةً .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهَا بَعْدَ الْعَوَرِ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَتَمَّ الْحَوْلُ ، وَهِيَ كَذَلِكَ ثُمَّ ذَهَبَ الْعَوَرُ لَمْ تَلْزَمْهُ الزَّكَاةُ فَكَمَا لَا يُعْتَبَرُ ذَهَابُ الْعَوَرِ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ لِإِيجَابِ أَصْلِ الزَّكَاةِ فَكَذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ لِإِيجَابِ أَصْلِ الزِّيَادَةِ وَلَوْ ذَهَبَ الْعَوَرُ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ فَتَمَّ الْحَوْلُ ، وَهِيَ صَحِيحَةُ الْعَيْنَيْنِ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ قِيمَتِهَا صَحِيحَةً ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ إنَّمَا حَدَثَتْ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ وَمِثْلُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ يُضَمُّ إلَى أَصْلِ الْمَالِ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ مُتَّصِلَةً كَانَتْ ، أَوْ مُنْفَصِلَةً مُتَوَلِّدَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ لَهُ أَلْفَا دِرْهَمٍ فَضَاعَ أَلْفٌ مِنْهُمَا قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ عَلَى الْبَاقِيَةِ فَزَكَّاهَا ثُمَّ وَجَدَ الْمَالَ الَّذِي كَانَ ضَاعَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهِ زَكَاةٌ بِخِلَافِ مَا إذَا وَجَدَ الْمَالَ الَّذِي ضَاعَ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي ضَاعَ صَارَ تَاوِيًا فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ فَإِذَا وَجَدَهُ

كَانَ بِمَنْزِلَةِ اسْتِفَادَةٍ اسْتَفَادَهَا مِنْ جِنْسِ مَالِهِ وَحُكْمُ الزَّكَاةِ إنَّمَا يَتَقَرَّرُ بِآخِرِ الْحَوْلِ فَإِذَا تَقَرَّرَ حُكْمُ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ فِي الْأَلْفِ لَا يَلْزَمُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَلْفِ الْأُخْرَى شَيْءٌ ، وَإِنْ وَجَدَهَا أَمَّا إذَا وَجَدَهَا قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ فَإِنَّمَا يُقَرَّرُ حُكْمُ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ فِي أَلْفَيْنِ .
وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ اعْوَرَّتْ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَهَا عَوْرَاءَ ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ نِصْفُهَا وَلَوْ هَلَكَتْ كُلُّهَا بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ سَقَطَتْ عَنْهُ الزَّكَاةُ فَكَذَلِكَ إذَا هَلَكَ الْبَعْضُ فَإِنْ ذَهَبَ الْعَوَرُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَهَا صَحِيحَةً ؛ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ حُكْمُ الزَّكَاةِ فِي قِيمَتِهَا صَحِيحَةً ثُمَّ انْتَقَضَ بِالْخُسْرَانِ الَّذِي لَحِقَهُ ، وَقَدْ ارْتَفَعَ ذَلِكَ الْخُسْرَانُ بِذَهَابِ الْعَوَرِ فَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ ضَاعَ أَحَدُ الْأَلْفَيْنِ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ فَزَكَّى مَا بَقِيَ ثُمَّ وَجَدَ الَّذِي كَانَ ضَاعَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَهُ ، وَهَذَا الْأَصْلُ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ أَنَّ الزِّيَادَةَ إذَا حَدَثَتْ فِي مَحَلِّ النُّقْصَانِ كَانَتْ جَابِرَةً لِلنُّقْصَانِ وَيَنْعَدِمُ بِهَا النُّقْصَانُ مَعْنًى .
يُوَضِّحُهُ أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ ، وَهِيَ قَدْ عَادَتْ بِذَهَابِ الْعَوَرِ إلَى الْمَالِيَّةِ الْأُولَى الَّتِي تَقَرَّرَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِيهَا عِنْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ كُلَّهُ

( قَالَ ) رَجُل لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ حَالَ عَلَيْهِمْ الْحَوْلُ ثُمَّ ابْتَاعَ بِهَا جَارِيَةً لِلتِّجَارَةِ قِيمَتُهَا ثَمَانُمِائَةٍ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْأَلْفِ فَإِنْ مَاتَتْ الْجَارِيَةُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا زَكَاةُ الْمِائَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ حَابَى فِي الشِّرَاءِ بِقَدْرِ الْمِائَتَيْنِ ، وَذَلِكَ لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ فَصَارَ مُسْتَهْلِكًا مَحَلَّ حَقِّ الْفُقَرَاءِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ فَيَضْمَنُ زَكَاةَ الْمِائَتَيْنِ وَفِي مِقْدَارِ ثَمَانِمِائَةٍ حَوَّلَ حَقَّهُمْ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ يَعْدِلُهُ فَإِنَّ الْجَارِيَةَ الَّتِي لِلتِّجَارَةِ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ فِي كَوْنِهَا مَالَ الزَّكَاةِ فَيَكُونُ هَلَاكُ الْجَارِيَةِ فِي يَدِهِ كَهَلَاكِ الدَّرَاهِمِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ السَّوَائِمِ فَإِنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ فَاشْتَرَى بِهَا أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ ثُمَّ هَلَكَتْ الْغَنَمُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي السَّوَائِمِ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ فَإِنَّمَا النَّمَاءُ مَطْلُوبٌ مِنْ عَيْنِهَا وَالْعَيْنُ الثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ لَوْ وُجِدَ مِنْهُ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ انْقَطَعَ بِهِ الْحَوْلُ فَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ صَارَ مُسْتَهْلِكًا ضَامِنًا لِلزَّكَاةِ وَهُنَا وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي الدَّرَاهِمِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ وَالنَّمَاءُ مَطْلُوبٌ بِالتَّصَرُّفِ وَلِهَذَا لَوْ وُجِدَ مِنْهُ هَذَا التَّصَرُّفُ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ لَمْ يَنْقَطِعْ بِهِ الْحَوْلُ فَإِذَا وُجِدَ بَعْد كَمَالِ الْحَوْلِ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا لِزَكَاةٍ أَيْضًا فَإِنْ كَانَ ابْتَاعَ بِالْأَلْفِ جَارِيَةً لِغَيْرِ التِّجَارَةِ وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى حَالِهَا فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْأَلْفِ مَاتَتْ الْجَارِيَةُ أَوْ بَقِيَتْ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلِكًا حَقَّ الْفُقَرَاءِ بِتَصَرُّفِهِ فَالْجَارِيَةُ الَّتِي لِلْخِدْمَةِ لَيْسَتْ بِمَالِ الزَّكَاةِ أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ لَوْ وُجِدَ مِنْهُ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ انْقَطَعَ بِهِ الْحَوْلُ فَإِذَا وُجِدَ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ صَارَ

ضَامِنًا لِلزَّكَاةِ

( قَالَ ) رَجُلٌ عِنْدَهُ جَارِيَةٌ لِلتِّجَارَةِ فَوَلَدَتْ وَلَدًا قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا فَعَلَيْهِ زَكَاتُهُمَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا يَنْفَصِلُ عَنْ الْأُمِّ بِصِفَتِهَا وَهِيَ عِنْدَهُ لِلتِّجَارَةِ فَوَلَدُهَا كَذَلِكَ ثُمَّ الْمُسْتَفَادُ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ يُضَمُّ إلَى أَصْلِ النِّصَابِ بِعِلَّةِ الْمُجَانَسَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَوَلَّدًا مِنْ الْأَصْلِ فَالْمُتَوَلَّدُ أَوْلَى فَإِنْ وَلَدَتْ بَعْدَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ فَإِنَّهُ يُزَكِّيهَا ، وَلَا يُزَكِّي وَلَدَهَا لِأَنَّ الْحَوْلَ قَدْ انْتَهَى قَبْلَ انْفِصَالِ الْوَلَدِ ، وَإِنَّمَا يَسْرِي مِنْ الْأَصْلِ إلَى الْوَلَدِ مَا كَانَ قَائِمًا لَا مَا كَانَ مُنْتَهِيًا .
أَلَا تَرَى أَنَّ الرِّقَّ يَنْتَهِي بِالْعِتْقِ فَالْوَلَدُ الَّذِي يَنْفَصِلُ بَعْدَ الْعِتْقِ لَا يَكُونُ رَقِيقًا ، وَلَا لَنَا هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَالٍ اسْتَفَادَهُ مِنْ جِنْسِ النِّصَابِ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ فَلَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ إلَّا بِاعْتِبَارِ حَوْلٍ جَدِيدٍ فَإِنْ قِيلَ لَمَّا وَلَدَتْ بَعْدَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ حُدُوثَ الْوَلَدِ كَانَ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ فِيهِ حُكْمُ الْحَوْلِ قُلْنَا نَعَمْ لَكِنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْوَلَدِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ لَا بِاعْتِبَارِ عَيْنِهِ وَصِفَةُ الْمَالِيَّةِ تَحْدُثُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَإِنَّ الْجَنِينَ فِي الْبَطْنِ لَا يَكُونُ مَالًا مَنْقُولًا وَلِهَذَا لَا يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ فَمَا بِهِ صَارَ الْوَلَدُ مَحَلَّ وُجُوبِ الزَّكَاةِ حَادِثٌ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ فَلَا يَسْرِي إلَيْهِ حُكْمُ الزَّكَاةِ

( قَالَ ) رَجُلٌ لَهُ جَارِيَةٌ قِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَبَاعَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عِنْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ وَمَالُهُ عِنْدَ ذَلِكَ ثَمَانُمِائَةٍ وَلَوْ اسْتَهْلَكَ الْكُلَّ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا مِنْ الزَّكَاةِ فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَهْلَكَ الْبَعْضَ بِتَصَرُّفِهِ .
وَلَوْ بَاعَهَا بَعْدَ الْحَوْلِ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْأَلْفِ ؛ لِأَنَّهُ بِقَدْرِ الْمُحَابَاةِ صَارَ مُسْتَهْلِكًا وَلَوْ اسْتَهْلَكَ الْكُلَّ بَعْدَ الْحَوْلِ كَانَ ضَامِنًا لِلزَّكَاةِ فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَهْلَكَ الْبَعْضَ ( قَالَ ) ، وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَهُ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ فَبَاعَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ يَضُمُّ هَذَا إلَى مَالِهِ فَيُزَكِّيهِ مَعَ مَالِهِ إذَا تَمَّ الْحَوْلُ ؛ لِأَنَّ هَذَا مُسْتَفَادٌ مِنْ جِنْسِ النِّصَابِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ وَلَوْ بَاعَهَا بَعْدَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ فِي ثَمَنِهَا حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَفَادٌ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ لَمَّا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ عِنْدَهُ فَإِنَّمَا حَدَثَتْ الْمَالِيَّةُ لَهُ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ بِتَصَرُّفِهِ هَذَا فَيَكُونُ ثَمَنُهَا بِمَنْزِلَةِ مَالٍ وُهِبَ لَهُ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ

( قَالَ ) وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ عِنْدَهُ لِلتِّجَارَةِ وَقِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَبَاعَهَا بَعْدَ الْحَوْلِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْأَلْفِ قَالَ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ بِقَدْرِهِ يُشِيرُ بِهَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ ، وَهُوَ مَا إذَا بَاعَهَا بِتِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ ضَامِنًا شَيْئًا مِنْ الزَّكَاةِ لِأَنَّ الْخَمْسِينَ وَنَحْوَهَا مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ وَصَاحِبُ الْمَالِ مُسَلَّطٌ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ شَرْعًا بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ فِي مَالِ الْيَتِيمِ وَكَمَا أَنَّ هُنَالِكَ يُفْصَلُ بَيْنَ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ وَمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فِي تَصَرُّفِهَا فَكَذَلِكَ هُنَا يُفْصَلُ بَيْنَهُمَا فَإِذَا كَانَتْ الْمُحَابَاةُ بِقَدْرِ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَهْلِكًا شَيْئًا ، وَإِنْ كَانَتْ بِقَدْرِ مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ كَانَ مُسْتَهْلِكًا مَحَلَّ حَقِّ الْفُقَرَاءِ فِي مِقْدَارِ الْمُحَابَاةِ فَكَانَ ضَامِنًا لِلزَّكَاةِ .
وَلَوْ بَاعَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ضَمَّ الْمِائَةَ إلَى مَالِهِ ثُمَّ زَكَّاهُ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي مِقْدَارِ الْمُحَابَاةِ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلِكًا قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ

( قَالَ ) وَلَوْ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ قِيمَتُهَا خَمْسُمِائَةٍ فَبَاعَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَاشْتَرَاهَا الْمُشْتَرِي لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَرَدَّهَا بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَعَلَى الْبَائِعِ زَكَاةُ الْأَلْفِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي عِنْدَ رَدِّ الْجَارِيَةِ بِالْعَيْبِ يَثْبُتُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْبَائِعِ وَيُتَخَيَّرُ هُوَ بَيْنَ أَدَاءِ الْأَلْفِ وَبَيْنَ أَدَاءِ أَلْفٍ أُخْرَى بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْرُوفِ أَنَّ النُّقُودَ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ فَهَذَا دَيْنٌ لَحِقَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ الزَّكَاةِ قَالَ وَعَلَى الرَّادِّ زَكَاةُ خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ لِأَنَّهُ تَمَّ الْحَوْلُ وَفِي مِلْكِهِ الْجَارِيَةُ فَقَطْ ، وَإِنَّمَا اسْتَفَادَ الزِّيَادَةَ بِرَدِّهَا بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ إلَّا زَكَاةُ الْخَمْسِمِائَةِ فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا كَانَتْ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ خَمْسُمِائَةٍ حِينَ كَانَتْ لَا عَيْبَ فِيهَا فَأَمَّا مَعَ وُجُودِ الْعَيْبِ تَكُونُ قِيمَتُهَا دُونَ الْخَمْسِمِائَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَجِبَ عَلَى الْمُشْتَرِي زَكَاةُ خَمْسِمِائَةٍ قُلْنَا مُرَادُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ هَذَا الْجَوَابِ مَا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهَا خَمْسَمِائَةٍ مَعَ وُجُودِ هَذَا الْعَيْبِ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ إذَا تَعَذَّرَ رَدُّ الْجَارِيَةِ فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَكُونُ الْجُزْءُ الْفَائِتُ بِسَبَبِ الْعَيْبِ كَالْقَائِمِ حُكْمًا فَلِهَذَا يَلْزَمُهُ زَكَاةُ خَمْسِمِائَةٍ ( قَالَ ) ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ فَبَاعَهَا بِخَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ فَوَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهَا عَيْبًا فَرَدَّهَا فَعَلَى الْمُشْتَرِي زَكَاةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ الْحَوْلُ وَالْجَارِيَةُ فِي مِلْكِهِ وَهِيَ تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ فَتَلْزَمُهُ زَكَاةُ الْأَلْفِ سَوَاءٌ رَدَّهَا بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ فِي الرَّدِّ فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ بَيْعِهِ إيَّاهَا بِخَمْسِمِائَةٍ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ وَعَلَى

الْبَائِعِ زَكَاةُ خَمْسِمِائَةٍ ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ الْحَوْلُ وَفِي مِلْكِهِ خَمْسُمِائَةٍ ثُمَّ اسْتَفَادَ الزِّيَادَةَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا زَكَاةُ خَمْسِمِائَةٍ

( قَالَ ) وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَبْدٌ ثَمَنُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِآخَرَ جَارِيَةٌ ثَمَنُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَتَبَايَعَا الْعَبْدَ بِالْجَارِيَةِ وَتَقَابَضَا وَهُمَا لِلتِّجَارَةِ جَمِيعًا فَحَالَ الْحَوْلُ ثُمَّ وَجَدَ الَّذِي قَبَضَ الْعَبْدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَرَدَّهُ فَإِنْ كَانَ رَدَّهُ بِقَضَاءِ قَاضٍ وَأَخَذَ جَارِيَتَهُ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَكَاةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ أَمَّا الرَّادُّ فَلِأَنَّهُ تَمَّ الْحَوْلُ وَفِي مِلْكِهِ الْعَبْدُ ثُمَّ اسْتَفَادَ الزِّيَادَةَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا زَكَاةُ الْأَلْفِ وَأَمَّا الْمَرْدُودُ عَلَيْهِ فَلِأَنَّ عَيْنَ الْجَارِيَةِ اُسْتُحِقَّتْ مِنْ يَدِهِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ ، وَذَلِكَ مُسْقِطٌ لِلزَّكَاةِ عَنْهُ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا زَكَاةُ مَا عَادَ إلَيْهِ مِنْ الْمَالِيَّةِ ، وَذَلِكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ ( قَالَ ) ، وَإِنْ رَدَّهَا بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ فَعَلَى الرَّادِّ زَكَاةُ الْأَلْفِ لِمَا قُلْنَا وَعَلَى الْمَرْدُودِ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْأَلْفَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ الْحَوْلُ وَفِي مِلْكِهِ جَارِيَةٌ قِيمَتُهَا أَلْفَا دِرْهَمٍ ثُمَّ أَخْرَجَهَا مِنْ مِلْكِهِ بِاخْتِيَارِهِ حِينَ أَقَالَ الْعَقْدَ بِالْعَيْبِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَيَلْزَمُهُ زَكَاةُ الْأَلْفَيْنِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ بِغَيْرِ الْقَضَاءِ فَيَلْزَمُهُ زَكَاةُ الْأَلْفَيْنِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ بِمَنْزِلَةِ الْإِقَامَةِ ، وَهُوَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا كَبَيْعٍ مُسْتَقِلٍّ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فِي الدَّرَاهِمِ لِأَنَّ حَقَّ الرَّادِّ هُنَاكَ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الدَّرَاهِمِ الْمَدْفُوعَةِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهَا هُنَا حَقُّ الرَّادِّ يَتَعَيَّنُ فِي الْجَارِيَةِ فَلِهَذَا جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ إذَا رَدَّ الْعَبْدَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلَوْ كَانَ الَّذِي قَبَضَ الْجَارِيَةَ هُوَ الَّذِي وَجَدَ الْعَيْبَ بِهَا فَرَدَّهَا بِقَضَاءٍ ، أَوْ بِغَيْرِهِ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْأَلْفَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَارُ لِلرَّدِّ وَقَدْ تَمَّ الْحَوْلُ وَمَالُهُ أَلْفَا دِرْهَمٍ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ

الزَّكَاةِ بِإِخْرَاجِهَا مِنْ مِلْكِهِ بِاخْتِيَارِهِ

( قَالَ ) رَجُلٌ لَهُ جَارِيَةٌ لِلتِّجَارَةِ بَاعَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ بَاعَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ آخَرَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَاشْتَرَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ بَعْدَ الْحَوْلِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي الْآخَرِ زَكَاةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَلَا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْبَائِعَيْنِ ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا اُسْتُحِقَّتْ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي الْآخَرِ فَقَدْ اسْتَوْجَبَ الرُّجُوعَ بِثَمَنِهَا عَلَى بَائِعِهَا ، وَذَلِكَ مَالٌ سَالِمٌ لَهُ فَعَلَيْهِ زَكَاتُهُ وَأَمَّا بَائِعُهَا فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى بَائِعِهَا أَيْضًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنَّمَا كَانَ مَالُهُ أَلْفًا وَعَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ لِلْمُشْتَرِي الْآخَرِ فَلَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ ، وَكَذَلِكَ الْأَوَّلُ كَانَ فِي يَدِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فِي الْحَوْلِ وَعَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ فَلَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ وَمَالُ الْمَدْيُونِ لَا يَكُونُ نِصَابَ الزَّكَاةِ

( قَالَ ) رَجُلٌ لَهُ جَارِيَةٌ لِلتِّجَارَةِ بِثَمَنِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَبَاعَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بَيْعًا فَاسِدًا وَاشْتَرَاهَا الْمُشْتَرِي بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ وَتَقَابَضَا فَحَالَ الْحَوْلُ فَعَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ بِفَسَادِ الْعَقْدِ وَعَلَى الْبَائِعِ زَكَاةُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَى الْمُشْتَرِي بِقِيمَتِهَا وَقِيمَتُهَا أَلْفَا دِرْهَمٍ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبَةِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَالَ الْبَائِعِ عِنْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ أَلْفَا دِرْهَمٍ وَعَلَى الْمُشْتَرِي زَكَاةُ الْأَلْفِ ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهَا دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ فَإِنَّمَا مَالُهُ الَّذِي يُسَلَّمُ لَهُ مَا دَفَعَ فِي ثَمَنِهَا ، وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ إلَّا زَكَاةُ الْأَلْفِ وَيَسْتَوِي إنْ رَدَّهَا بِقَضَاءٍ ، أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ أَوْ لَمْ يَرُدَّهَا وَلَكِنْ أَعْتَقَهَا الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْحَوْلِ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمَالِيَّةُ وَالْمَالِيَّةُ الَّتِي تُسَلَّمُ لِلْبَائِعِ عِنْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ مِقْدَارُهَا أَلْفَانِ فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الْجَارِيَةَ أَوْ قِيمَتَهَا إذَا تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهَا وَاَلَّذِي يُسَلَّمُ لِلْمُشْتَرِي مِقْدَارُ الْأَلْفِ دِرْهَمٍ فَيَلْزَمُهُ زَكَاةُ الْأَلْفِ

( قَالَ ) وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَضَاعَ نِصْفُهَا قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ ثُمَّ أَفَادَ مِائَةً فَتَمَّ الْحَوْلُ وَعِنْدَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ كَمَالُ النِّصَابِ فِي آخِرِ الْحَوْلِ مَعَ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْهُ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ وَقَدْ وُجِدَ وَالْمُسْتَفَادُ لَوْ كَانَ قَبْلَ هَلَاكِ بَعْضِ النِّصَابِ كَانَ مَضْمُونًا إلَى النِّصَابِ لِعِلَّةِ الْمُجَانَسَةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ هَلَاكِ بَعْضِ النِّصَابِ لِبَقَاءِ حُكْمِ الْحَوْلِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَإِنْ تَمَّ الْحَوْلُ وَلَمْ يَسْتَفِدْ هَذِهِ الْمِائَةَ ثُمَّ مَضَتْ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ إلَّا يَوْمًا ثُمَّ اسْتَفَادَ مِائَةً ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْحَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ تَمَّ الْحَوْلُ الْأَوَّلُ وَمَالُهُ دُونَ النِّصَابِ فَلَمْ تَلْزَمْهُ الزَّكَاةُ وَلَمْ يَنْعَقِدْ الْحَوْلُ الثَّانِي عَلَى مَالِهِ لِنُقْصَانِ النِّصَابِ فِي أَوَّلِ هَذَا الْحَوْلِ ، وَإِنَّمَا اسْتَفَادَ الْمِائَةَ وَلَيْسَ عَلَى مَالِهِ حَوْلٌ يَنْعَقِدُ فَلَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ وَلَكِنْ يَنْعَقِدُ الْحَوْلُ مِنْ حِينِ اسْتَفَادَ الْمِائَةَ لِأَنَّهُ تَمَّ نِصَابُهُ الْآنَ فَإِذَا تَمَّ الْحَوْلُ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ زَكَّى الْمِائَتَيْنِ

( قَالَ ) وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَهَبَ لِرَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ ثُمَّ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ عِنْدَهُ ثُمَّ وَهَبَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ لِغَيْرِهِ فَعَلَيْهِ زَكَاتُهَا لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلِكًا مَحَلَّ حَقِّ الْفُقَرَاءِ بِمَا صَنَعَ حِينَ أَخْرَجَ الْمَالَ مِنْ مِلْكِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَمُرَادُهُ مَا إذَا وَهَبَهَا لِغَنِيٍّ فَأَمَّا إذَا وَهَبَهَا لِفَقِيرٍ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا شَيْئًا لِأَنَّ الْهِبَةَ مِنْ الْفَقِيرِ صَدَقَةٌ لَا رُجُوعَ فِيهَا وَمَنْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ الْمَالِ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا لِلزَّكَاةِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الزَّكَاةَ ؛ لِأَنَّهُ فِي مِقْدَارِ الزَّكَاةِ أَوْصَلَ الْحَقَّ إلَى مُسْتَحَقِّهِ فَلَوْ رَجَعَ فِيهَا الْوَاهِبُ الْآخَرُ فَضَاعَتْ عِنْدَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهَا زَكَاةٌ لِأَنَّ بِالرُّجُوعِ يَعُودُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ وَيَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَهْلِكًا مَحَلَّ حَقِّ الْفُقَرَاءِ فَهَلَاكُهُ فِي يَدِهِ بَعْدَ الرُّجُوعِ كَهَلَاكِهِ فِي يَدِهِ قَبْلَ الْهِبَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَضَعْ وَلَكِنْ رَجَعَ فِيهَا الْأَوَّلُ فَلَا زَكَاةَ عَلَى الْوَاهِبِ الثَّانِي ، وَلَا عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهَا اُسْتُحِقَّتْ مِنْ يَدِ الثَّانِي بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ فَالدَّرَاهِمُ تَتَعَيَّنُ فِي الْهِبَةِ وَالرُّجُوعِ فِيهَا ، وَلَا زَكَاةَ عَلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي مِلْكِهِ حِينَ تَمَّ الْحَوْلُ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْأَوَّلُ رَجَعَ فِيهَا بِقَضَاءٍ ، أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَى قَوْلِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ لِلْوَاهِبِ الْأَوَّلِ أَنْ يَرْجِعَ فِي مِقْدَارِ الزَّكَاةِ إذَا أَدَّى وَلَكِنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْهِبَةِ

( قَالَ ) وَلَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ لِلتِّجَارَةِ فَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ ثُمَّ بَاعَهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ فَعَلَيْهِ أَدَاءُ الزَّكَاةِ مِنْ ثَمَنِهِ إذَا قَبَضَهُ ؛ لِأَنَّهُ حَوَّلَ حَقَّ الْفُقَرَاءِ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ يَعْدِلُهُ فَلَوْ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَاسْتَرَدَّ الثَّمَنَ فَمَاتَ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ فَإِنَّمَا عَادَ الْعَبْدُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ وَهَلَاكُهُ فِي يَدِهِ بَعْدَ مَا عَادَ كَهَلَاكِهِ قَبْلَ الْبَيْعِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَنْتَقِضُ مِنْ الْأَصْلِ بِفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي بِخِيَارِ الشَّرْطِ فَمَاتَ عِنْدَ الْبَائِعِ فَإِنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ فَالرَّدُّ بِحُكْمِهِ يَكُونُ فَسْخًا مِنْ الْأَصْلِ سَوَاءٌ كَانَ بِقَضَاءٍ ، أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ

( قَالَ ) رَجُلٌ لَهُ عَبْدٌ لِلتِّجَارَةِ فَحَالَ الْحَوْلُ ، وَهُوَ عِنْدَهُ ثُمَّ تَزَوَّجَ عَلَيْهِ امْرَأَةً وَدَفَعَهُ إلَيْهَا ثُمَّ فَجَرَ بِهَا ابْنُ زَوْجِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَعَلَيْهَا رَدُّ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَيَلْزَمُهَا رَدُّ الصَّدَاقِ فَإِنْ رَدَّتْهُ فَمَاتَ عِنْدَ الزَّوْجِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ جِهَتِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فِي حُكْمِ الْفَسْخِ فَإِنَّمَا عَادَ الْعَبْدُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الزَّوْجِ فَيَكُونُ هَلَاكُهُ بَعْدَ الِاسْتِرْدَادِ كَهَلَاكِهِ قَبْلَ النِّكَاحِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمِلْكِ الْجَدِيدِ مِنْ سَبَبٍ جَدِيدٍ وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا سَبَبٌ جَدِيدٌ لِمِلْكِ الزَّوْجِ فِي الْعَبْدِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَوْلِ بِعَوْدِهِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ فَلَوْ مَاتَ فِي يَدِهَا فَهِيَ ضَامِنَةٌ قِيمَتَهُ لِلزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهَا رَدُّ الْعَبْدِ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلرَّدِّ فَتَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ ؛ لِأَنَّهَا قَبَضَتْهُ عَلَى وَجْهِ الْمِلْكِ لِنَفْسِهَا بِعِوَضٍ فَيَدْخُلُ الْمَقْبُوضُ فِي ضَمَانِهَا فَلَوْ قَبَضَ الزَّوْجُ مِنْهَا الْقِيمَةَ فَضَاعَتْ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلِكًا مَحَلَّ حَقِّ الْفُقَرَاءِ بِتَصَرُّفِهِ حِينَ تَزَوَّجَ عَلَى رَقَبَةِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ مِلْكِهِ بِعِوَضٍ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ فَكَانَ ضَامِنًا لِلزَّكَاةِ إلَّا أَنَّهُ مَتَى عَادَ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ يَرْتَفِعُ حُكْمُ الِاسْتِهْلَاكِ بِهِ وَلَمْ يَعُدْ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ حَتَّى هَلَكَ فِي يَدِهَا فَبَقِيَ مُسْتَهْلِكًا وَهَلَاكُ الْقِيمَةِ الْمَقْبُوضَةِ فِي يَدِهِ كَهَلَاكِ مَالٍ آخَرَ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً لِلْخِدْمَةِ ثُمَّ هَلَكَتْ الْجَارِيَةُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَاسْتَرَدَّ الْقِيمَةَ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا لِلزَّكَاةِ وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَاتَ فِي يَدِ بَائِعِ الْجَارِيَةِ فَاسْتَرَدَّ قِيمَتَهُ فَهَلَكَتْ الْقِيمَةُ فِي يَدِهِ كَانَ ضَامِنًا لِلزَّكَاةِ وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْعَبْدِ عِنْدَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَحَالَ

عَلَيْهَا الْحَوْلُ ثُمَّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَدَفَعَ إلَيْهَا ثُمَّ قَبَّلَتْ ابْنَ زَوْجِهَا بِشَهْوَةٍ قَبْلَ الدُّخُولِ فَرَدَّتْ الْأَلْفَ إلَى الزَّوْجِ فَضَاعَتْ مِنْهُ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا رَدُّ الْأَلْفِ الْمَقْبُوضَةِ بِعَيْنِهَا وَلَكِنْ لَهَا الْخِيَارُ إنْ شَاءَتْ رَدَّتْ تِلْكَ الْأَلْفَ ، وَإِنْ شَاءَتْ رَدَّتْ مِثْلَهَا فَلَمْ يَخْرُجْ الزَّوْجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَهْلِكًا مَحَلَّ حَقِّ الْفُقَرَاءِ ، وَإِنْ رَدَّتْ تِلْكَ الْأَلْفَ وَفِي الْأَوَّلِ عَلَيْهَا رَدُّ الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ فَيَخْرُجُ الزَّوْجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَهْلِكًا بِعَوْدِ الْعَبْدِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ

( قَالَ ) وَلَوْ حَالَ الْحَوْلُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَيْهَا ثُمَّ قَبَّلَتْ ابْنَهُ بِشَهْوَةٍ فَرَدَّتْ عَلَيْهِ الْأَلْفَ فَعَلَيْهَا زَكَاةُ الْأَلْفِ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهَا رَدُّ الْأَلْفِ بِعَيْنِهَا كَانَ هَذَا دَيْنًا لَحِقَهَا بَعْدَ الْحَوْلِ فَلَا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ عَنْهَا وَعَلَى الزَّوْجِ الزَّكَاةُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى ، وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّهَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ كَانَتْ فِي مِلْكِ الْمَرْأَةِ وَيَدِهَا وَفِي مَسْأَلَةِ الْعَبْدِ لَوْ نَوَتْ هِيَ التِّجَارَةَ وَحَقَّقَتْ ذَلِكَ وَحَالَ الْحَوْلُ عِنْدَهَا ثُمَّ قَبَّلَتْ ابْنَ الزَّوْجِ فَرَدَّتْ الْعَبْدَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا زَكَاةٌ ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْعَبْدِ اُسْتُحِقَّتْ مِنْ يَدِهَا بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ ، وَذَلِكَ مُسْقِطٌ لِلزَّكَاةِ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ عَنْهَا هُنَا لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا فَهِيَ الَّتِي اكْتَسَبَتْ سَبَبَ زَوَالِ مِلْكِهَا عَنْ الْعَبْدِ فَتَكُونُ مُتْلِفَةً حَقَّ الْفُقَرَاءِ فَتَلْزَمُهَا الزَّكَاةُ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا صُنْعٌ فِي إبْطَالِ مِلْكِهَا فِي الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ صُنْعَهَا تَقْبِيلُ ابْنِ الزَّوْجِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُبْطِلٍ مِلْكَهَا الْعَبْدَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ ذَلِكَ مِنْهَا بَعْدَ الدُّخُولِ لَمْ يُبْطِلْ مِلْكَهَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْعَبْدِ وَلَكِنَّ الْمُبْطِلَ لِمِلْكِهَا انْفِسَاخُ النِّكَاحِ ، ذَلِكَ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ فَلِهَذَا يُجْعَلُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ يَدِهَا

( قَالَ ) رَجُلٌ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ إلَّا شَهْرًا فَزَكَّى الْأَلْفَ عَمَّا يَسْتَفِيدُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ ثُمَّ أَفَادَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا وَحَال عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَالْمُعَجَّلُ يُجْزِئُ مِنْ زَكَاةِ الْمُسْتَفَادِ وَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْمِائَةِ ؛ لِأَنَّ بِمَا عَجَّلَ لَمْ يَنْقَطِعْ حُكْمُ الْحَوْلِ فَقَدْ بَقِيَ فِي مِلْكِهِ بَعْضُ النِّصَابِ ، وَهُوَ الْمِائَةُ ثُمَّ الْمُسْتَفَادُ مَضْمُومٌ إلَى مَا بَقِيَ عِنْدَهُ فِي حُكْمِ الْحَوْلِ بِعِلَّةِ الْمُجَانَسَةِ فَعِنْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ فِي الْكُلِّ وَزَكَاةُ أَرْبَعِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَقَدْ عَجَّلَهَا فَإِنَّمَا بَقِيَ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْمِائَةِ دِرْهَمَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَدِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ عِنْدَهُمَا وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ إنَّمَا يَجُوزُ عَنْ الْمَالِ الْقَائِمِ فِي مِلْكِهِ ، وَلَا يَجُوزُ عَمَّا يَسْتَفِيدُهُ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْمُسْتَفَادِ عِنْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ وَنَحْنُ نَقُولُ لَمَّا جُعِلَ الْمُسْتَفَادُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْجُودِ عِنْدَهُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ فِي حُكْمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ فَكَذَلِكَ يُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْجُودِ عِنْدَهُ فِي حُكْمِ جَوَازِ التَّعْجِيلِ فَإِنْ تَمَّ الْحَوْلُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَفِيدَ شَيْئًا ثُمَّ أَفَادَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا فَالْمُعَجَّلُ لَا يُجْزِي مِنْ زَكَاتِهَا وَيُجْزِي مِنْ زَكَاةِ الْمِائَةِ خَاصَّةً ، وَهَذَا غَلَطٌ ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ الْحَوْلُ وَفِي مِلْكِهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَالْمُعَجَّلُ قَدْ تَمَّ خُرُوجُهُ عَنْ مِلْكِهِ بِالْوُصُولِ إلَى الْفَقِيرِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِي الْمِائَةِ أَصْلًا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُعَجَّلُ يُجْزِي مِنْ زَكَاةِ الْمِائَةِ ثُمَّ حِينَ اسْتَفَادَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا نَعْقِدُ الْحَوْلَ عَلَى مَالِهِ فَإِذَا تَمَّ الْحَوْلُ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ الْكُلَّ

( قَالَ ) وَلَوْ كَانَتْ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا عَمَّا يُفِيدُ ثُمَّ أَفَادَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ عَامَّةِ ذَلِكَ فَالْمُعَجَّلُ لَا يُجْزِي مِنْ زَكَاتِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَجَّلَ قَبْلَ كَمَالِ النِّصَابِ وَتَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ النِّصَابِ لَا يَجُوزُ لِمَعْنًى ، وَهُوَ أَنَّ جَوَازَ التَّعْجِيلِ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ وَالسَّبَبُ هُوَ كَمَالُ النِّصَابِ فَالْأَدَاءُ قَبْلَهُ يَكُونُ تَعْجِيلًا قَبْلَ وُجُودِ السَّبَبِ ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِمَنْزِلَةِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَالصَّوْمِ قَبْلَ دُخُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ

( قَالَ ) فَإِنْ كَانَتْ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا كُلَّهَا عَمَّا يُفِيدُ ثُمَّ أَفَادَ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ مِنْ عَامَّةِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ بِهَا حَوْلًا ، وَلَا يُجْزِيهِ الْمُعَجَّلُ عَمَّا يَلْزَمُهُ مِنْ زَكَاتِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَصَدَّقَ بِجَمِيعِهَا فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ الْحَوْلِ إذْ لَمْ يَبْقَ فِي مِلْكِهِ شَيْءٌ مِمَّا انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَإِذَا انْقَطَعَ حُكْمُ الْحَوْلِ كَانَ الْمُؤَدَّى تَطَوُّعًا ، وَلَا يُجْزِيهِ عَمَّا يَلْزَمُهُ مِنْ الزَّكَاةِ مِنْ مَالٍ آخَرَ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ عَجَّلَ عَنْ الْمِائَتَيْنِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ زَكَاةَ حَوْلَيْنِ ثُمَّ اسْتَفَادَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَمَضَى حَوْلَانِ فَالْمُعَجَّلُ يُجْزِيهِ عَنْ زَكَاةِ الْحَوْلَيْنِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ قَدْ بَقِيَ حُكْمُ الْحَوْلِ بِبَقَاءِ بَعْضِ النِّصَابِ وَمِلْكُ النِّصَابِ الْوَاحِدِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ بِاعْتِبَارِ كُلِّ حَوْلٍ وَحَوَلَانُ الْحَوْلِ شَرْطٌ لَا سَبَبٌ فَلِهَذَا جَازَ التَّعْجِيلُ أَمَّا هُنَا لَمْ يَبْقَ فِي مِلْكِهِ شَيْءٌ مِمَّا انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَمِلْكُ ذَلِكَ النِّصَابِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي مَالٍ آخَرَ مَقْصُودًا فَلِهَذَا لَا يُجْزِي الْمُعَجَّلُ حَتَّى لَوْ بَقِيَ عِنْدَهُ دِرْهَمٌ مِنْ الْمِائَتَيْنِ ثُمَّ اسْتَفَادَ عَشَرَةَ آلَافٍ فَتَمَّ الْحَوْلُ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ وَيُجْزِي الْمُعَجَّلُ عَمَّا يَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ الْحَوْلُ مُنْعَقِدًا بِبَقَاءِ جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ فِي مِلْكِهِ وَقَدْ اسْتَفَادَ مِنْ جِنْسِهِ فَتَمَّ الْحَوْلُ وَنِصَابُهُ كَامِلٌ فَتَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ وَيُجْزِيهِ الْمُعَجَّلُ عَمَّا يَلْزَمُهُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْحَوْلِ

( قَالَ ) وَلَوْ كَانَتْ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَضَاعَ نِصْفُهَا بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ فَعَلَيْهِ أَدَاءُ دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفٍ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ فَإِنَّهُ لَوْ ضَاعَ الْكُلُّ يَسْقُطُ عَنْهُ جَمِيعُ الزَّكَاةِ فَإِنْ ضَاعَ النِّصْفُ سَقَطَ عَنْهُ نِصْفُ الزَّكَاةِ ثُمَّ هَذَا عَلَى أَصْلِهِمَا وَاضِحٌ فَإِنَّمَا يُوجِبَانِ الْكُسُورَ فِي زَكَاةِ الدَّرَاهِمِ ابْتِدَاءً فَالْبَقَاءُ أَوْلَى وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُوجِبُ الْكُسُورَ فِي زَكَاةِ الدَّرَاهِمِ ابْتِدَاءً وَلَكِنْ يَقُولُ بِبَقَاءِ الْكُسُورِ بَعْدَ الْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ مُعْتَبَرٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ ، وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ

( قَالَ ) رَجُلٌ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ حَالَ عَلَيْهَا خَمْسَةُ أَحْوَالٍ ثُمَّ ضَاعَ نِصْفُهَا فَعَلَيْهِ نِصْفُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْخَمْسِ سِنِينَ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ هَلَاكَ النِّصْفِ مُعْتَبَرٌ بِهَلَاكِ الْكُلِّ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي بَيَانِ مَا يَلْزَمُهُ فِيهَا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَلْزَمُهُ فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَفِي الْحَوْلِ الثَّانِي أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا صَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ وَدَيْنُ الزَّكَاةِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عِنْدَهُ ، وَهُوَ لَا يَرَى الزَّكَاةَ فِي الْكُسُورِ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ زَكَاةُ تِسْعِمِائَةٍ وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَهَكَذَا فِي كُلِّ سَنَةٍ لَا يَعْتَبِرُ فِي مَالِهِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الزَّكَاةِ لِلسِّنِينَ الْمَاضِيَةِ وَالْكُسُورُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يُعْتَبَرُ مِنْ مَالِهِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الزَّكَاةِ لِلسِّنِينَ الْمَاضِيَةِ وَتُعْتَبَرُ الْكُسُورُ ؛ لِأَنَّهُمَا يُوجِبَانِ الزَّكَاةَ فِي الْكُسُورِ ، وَلَا يَعْتَبِرَانِ بَعْدَ النِّصَابِ الْأَوَّلِ نِصَابًا وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَلْزَمُهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الزَّكَاةِ عِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْأَصْلَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ

( قَالَ ) : رَجُلٌ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ ثُمَّ اسْتَفَادَ أَلْفًا أُخْرَى فَحَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا ثُمَّ اسْتَفَادَ أَلْفًا أُخْرَى فَحَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا ثُمَّ ضَاعَ نِصْفُهَا فَإِنَّهُ يُزَكِّي فِي السَّنَةِ الْأُولَى نِصْفَ الْمَالِ الْأَوَّلِ ، وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مَا بَقِيَ مِنْ نِصْفِ الْمَالِ الْأَوَّلِ وَنِصْفِ الْمَالِ الْآخَرِ ، وَفِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ الْأَوَّلِ وَالْمَالِ الثَّانِي وَنِصْفِ الْمَالِ الْآخَرِ كُلِّهِ ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ الْأُولَى حَالَ عَلَيْهَا ثَلَاثُهُ أَحْوَالٍ ثُمَّ هَلَكَ نِصْفُهَا فَعَلَيْهِ فِيهَا لِلسَّنَةِ الْأُولَى زَكَاةُ نِصْفِ الْأَلْفِ وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ كَذَلِكَ إلَّا مِقْدَارَ مَا وَجَبَ فِيهَا لِلسَّنَةِ الْأُولَى فَإِنَّ ذَلِكَ صَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ ، وَفِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ كَذَلِكَ إلَّا مِقْدَارَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ لِلْحَوْلَيْنِ وَالْأَلْفُ الثَّانِيَةُ حَالَ عَلَيْهَا حَوْلَانِ ثُمَّ هَلَكَ نِصْفهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ لِلْحَوْلِ الْأَوَّلِ نِصْفَهَا وَلِلْحَوْلِ الثَّانِي كَذَلِكَ إلَّا مِقْدَارَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ لِلْحَوْلِ الْأَوَّلِ ، وَالْأَلْفُ الثَّالِثَةُ حَالَ عَلَيْهَا حَوْلٌ وَاحِدٌ ثُمَّ هَلَكَ نِصْفُهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ نِصْفَهَا ؛ لِأَنَّ هَلَاكَ بَعْضِ الْمَالِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ مُعْتَبَرٌ بِهَلَاكِ الْكُلِّ .

( قَالَ ) : وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ أَرْبَعُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ ثُمَّ أَخْرَجَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْهَا يُزَكِّيهَا فَتَصَدَّقَ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ ضَاعَ عِشْرُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ الْمَالِ ، وَبَقِيَ تِسْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا ، وَهَذِهِ الْخَمْسُمِائَةِ الَّتِي بَقِيَتْ مِنْ الْأَلْفِ الَّتِي أَخْرَجَهَا لِلزَّكَاةِ فَالْخَمْسُمِائَةِ الَّتِي زَكَّى عَنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفًا وَخَمْسِمِائَةٍ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَدَّى كَانَ فِي مِلْكِهِ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفًا سِوَى الْأَلْفِ الَّتِي أَخْرَجَهَا لِلزَّكَاةِ فَإِذَا ضُمَّتْ هَذِهِ الْخَمْسُمِائَةِ الْمُؤَدَّاةِ إلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفًا كَانَ الْكُلُّ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ ، وَإِنَّمَا قَصَدَ أَدَاءَ الزَّكَاةِ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ فَلِهَذَا تَتَوَزَّعُ تِلْكَ الْخَمْسُمِائَةِ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَمَا أَصَابَ عِشْرِينَ أَلْفًا الَّتِي هَلَكَتْ بَطَلَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى بَعْضَ زَكَاتِهَا ، وَهَلَكَ الْبَعْضُ وَمَا أَصَابَ تِسْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ يُحْتَسَبُ لَهُ مِنْ زَكَاتِهَا ، وَيُؤَدِّي مَا بَقِيَ مِنْ زَكَاتِهَا اعْتِبَارًا لِهَلَاكِ الْبَعْضِ بِهَلَاكِ الْكُلِّ .

( قَالَ ) : وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ ثَلَثُمِائَةِ دِرْهَمٍ فَحَالَ عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ ثُمَّ ضَاعَ نِصْفُهَا فَإِنَّهُ يُزَكِّي خَمْسِينَ وَمِائَةَ دِرْهَمٍ لِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ النِّصَابَ الْأَوَّلَ يُجْعَلُ أَصْلًا وَيُجْعَلُ الْهَلَاكُ فِيمَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ الْأَوَّلِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَكَأَنَّهُ كَانَ فِي مِلْكِهِ ، فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَلَا يَجِبُ فِيهَا إلَّا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ لِلْحَوْلِ الْأَوَّلِ ثُمَّ هَلَكَ رُبْعُهَا فَيَسْقُطُ عَنْهُ رُبْعُ الْوَاجِبِ ، وَيَبْقَى ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ أَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَجْمَعُ بَيْنَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ يُسْقِطُ نِصْفَ ذَلِكَ بِهَلَاكِ نِصْفِ الْمَالِ وَيَبْقَى النِّصْفُ لِبَقَاءِ نِصْفِ الْمَالِ

( قَالَ ) : وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا تَصَدَّقَ بِمَالٍ لَا يَنْوِي بِهِ زَكَاتَهُ فَإِنَّهُ لَا يُجْزِيهِ مِنْ زَكَاتِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } ؛ وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ فَلَا تَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ وَمُرَادُهُ إذَا تَصَدَّقَ بِمَالٍ آخَرَ سِوَى النِّصَابِ فَأَمَّا إذَا تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ النِّصَابِ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْهُ ، وَقَدْ أَوْصَلَهُ إلَى مُسْتَحَقِّهِ فَإِنْ تَصَدَّقَ بِبَعْضِ النِّصَابِ فَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ أَحَدِهِمَا لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الزَّكَاةِ وَعِنْدَ الْآخَرِ يَسْقُطُ عَنْهُ مِقْدَارُ زَكَاةِ الْمُؤَدَّى وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ

( قَالَ ) : وَإِنْ تَصَدَّقَ رَجُلٌ عَنْهُ بِأَمْرِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ جَازَ ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تُجْزِي فِيهَا النِّيَابَةُ فَأَدَاءُ الْغَيْرِ بِأَمْرٍ كَأَدَائِهِ بِنَفْسِهِ ، وَهَذَا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ ، وَهُوَ إغْنَاءُ الْمُحْتَاجِ ثُمَّ لَا يَكُونُ لِلْمُؤَدِّي أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِدُونِ الشَّرْطِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَضَى دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ فَإِنَّ الدَّيْنَ كَانَ وَاجِبًا فِي ذِمَّتِهِ ، وَكَانَ هُوَ مَطْلُوبًا بِهِ مُجْبَرًا عَلَى قَضَائِهِ فَإِذَا مَلَّكَهُ الْمُؤَدِّيَ بِبَدَلٍ أَدَّاهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ بِأَمْرِهِ رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ ، وَلَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا بِأَدَائِهِ ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ فَلَمْ يَكُنْ الْمُؤَدِّي مُمَلَّكًا شَيْئًا مِنْهُ فَلَا يَرْجِعُ بِدُونِ شَرْطٍ كَمَا لَوْ عَوَّضَ عَنْ هِبَتِهِ بِأَمْرِهِ ، وَإِنْ تَصَدَّقَ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يُجْزِ عَنْ الزَّكَاةِ لِانْعِدَامِ النِّيَّةِ مِنْهُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ مَطْلُوبٌ فِي الْعِبَادَةِ ، ذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ بِأَدَاءِ الْغَيْرِ بِدُونِ أَمْرِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ

( قَالَ ) : وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ جَارِيَةٌ لِلتِّجَارَةِ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ وَهِيَ تُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَارَتْ تُسَاوِي أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ اعْوَرَّتْ فَصَارَتْ قِيمَتُهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ عَنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْحَادِثَةَ كَانَتْ تَبَعًا لِلْأَصْلِ فَيَجْعَلُ مَا هَلَكَ مِنْ الزِّيَادَةِ أَوَّلًا وَيَصِيرُ ذَلِكَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَكَأَنَّهَا اعْوَرَّتْ حِينَ كَانَ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، وَتَرَاجَعَتْ قِيمَتُهَا إلَى مِائَةٍ فَيَسْقُطُ عَنْهُ نِصْفُ الزَّكَاةِ بِاعْتِبَارِ مَا هَلَكَ ، وَيَبْقَى النِّصْفُ بِاعْتِبَارِ مَا بَقِيَ .
وَلَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ جَارِيَةٌ قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ ثُمَّ بَاعَهَا بِثَلَثِمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ تَوَتْ مِنْهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ الْمِائَةَ ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ كَانَ تَبَعًا لِلْأَصْلِ فَمَا تَوِيَ مِنْ الرِّبْحِ صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ، وَكَأَنَّهُ بَاعَهَا بِمِائَتَيْنِ فَتَوَتْ مِائَةٌ وَاسْتَوْفَى مِائَةً فَيَلْزَمُهُ زَكَاةُ الْمِائَةِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ

( قَالَ ) : رَجُلٌ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ عَلَى غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ ثُمَّ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ ، أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهَا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا ، وَلَا تُجْزِيهِ مِنْ زَكَاةِ غَيْرِهَا ، وَإِنْ نَوَى ذَلِكَ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَدَاءَ الدَّيْنِ بِزَكَاةِ الْمَالِ الْعَيْنِ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ أَكْمَلُ مِنْ الدَّيْنِ فِي الْمَالِيَّةِ أَمَّا زَكَاةُ هَذِهِ الْأَلْفِ فَلَا إشْكَالَ أَنَّهَا تَسْقُطُ عَنْهُ إذَا كَانَ الْمَدْيُونُ فَقِيرًا لِأَنَّهُ أَوْصَلَ الْحَقَّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَدْيُونُ غَنِيًّا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ قَالَ يَكُونُ ضَامِنًا زَكَاتَهَا .
وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ كَانَ الْمَالُ عَيْنًا فِي يَدِهِ فَوَهَبَهُ مِنْ غَنِيٍّ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ صَارَ مُسْتَهْلِكًا حَقَّ الْفُقَرَاءِ ضَامِنًا لِلزَّكَاةِ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ دَيْنًا فَأَبْرَأَهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ فِي الزَّكَاةِ لِلْغَنِيِّ فَلَا يَكُونُ فِي فِعْلِهِ إيصَالُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ .
وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ أَدَاءَ الزَّكَاةِ عَنْ الدَّيْنِ لَا يَجِبُ إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ وَحِينَ أَبْرَأَهُ الْمَدْيُونَ مِنْهُ فَقَدْ انْعَدَمَ الْقَبْضُ فَلَا يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ عَنْهُ وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ بِالْإِبْرَاءِ صَارَ مُبْطِلًا الدَّيْنَ بِتَصَرُّفِهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْقَابِضِ الْمُسْتَهْلِكِ كَالْمُشْتَرِي إذَا أَعْتَقَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ يَصِيرُ قَابِضًا حَتَّى يَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ وَلَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى فَقِيرٍ آخَرَ وَأَمَرَ بِقَبْضِهَا مِنْهُ يَنْوِي عَنْ زَكَاتِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُجْزِيهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْفَقِيرَ وَكِيلٌ مِنْ جِهَتِهِ فِي الْقَبْضِ فَكَأَنَّهُ قَبَضَهَا بِنَفْسِهِ ثُمَّ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ يَنْوِي مِنْ زَكَاتِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ قَبَضَهَا ثُمَّ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْمَدْيُونِ ، وَهُوَ يَنْوِي مِنْ زَكَاتِهِ فَإِنَّهُ يُجْزِيهِ إذَا كَانَ فَقِيرًا كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ

غَنِيًّا ، وَهُوَ يَعْلَمُ بِذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ الزَّكَاةِ وَيَكُونُ ضَامِنًا زَكَاةَ هَذِهِ الْأَلْفِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا أَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ فَلَا يُشَكُّ فِيهِ وَعَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ فَلِأَنَّهُ بِالْقَبْضِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الزَّكَاةِ فَكَانَ هِبَتُهُ مِنْهُ كَهِبَتِهِ مِنْ غَنِيٍّ آخَرَ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ بِغِنَاهُ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ الْأَدَاءِ إلَيْهِ فَذَلِكَ يُجْزِيهِ مِنْ الزَّكَاةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمُرَادُهُ إذَا تَحَرَّى وَدَفَعَ إلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ فَقِيرٌ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ التَّحَرِّي ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ ذِمِّيًّا فَإِنْ دَفْعَ الزَّكَاةِ إلَى الذِّمِّيِّ مَعَ الْعِلْمِ لَا يَجُوزُ كَدَفْعِهِ إلَى الْغَنِيِّ .
وَإِنْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى وَالِدِهِ ، أَوْ وَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ ، أَوْ تَصَدَّقَتْ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ عَلَى زَوْجِهَا وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِذَلِكَ ثُمَّ عَلِمُوا فَإِنَّهُ لَا يُجْزِيهِمْ مِنْ الزَّكَاةِ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الزَّكَاةِ وَالتَّحَرِّي قَالَ يُجْزِي ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَاسْتَدَلَّا فِيهِ بِحَدِيثِ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ تِلْكَ الرِّوَايَةِ وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ النَّسَبَ ، وَإِنْ كَانَ طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ فِي الْأَصْلِ الِاجْتِهَادَ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْطُوعِ بِهِ شَرْعًا وَلِهَذَا لَوْ نَفَى نَسَبَ رَجُلٍ عَنْ أَبِيهِ لَزِمَهُ الْحَدُّ فَإِنَّمَا تَحَوَّلَ مِنْ اجْتِهَادٍ إلَى يَقِينٍ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالِاجْتِهَادِ بَعْدَ الْيَقِينِ كَمَا لَوْ قَضَى الْقَاضِي فِي حَادِثَةٍ بِاجْتِهَادٍ ثُمَّ ظَهَرَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْغَنِيِّ لِأَنَّ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَإِنَّمَا تَحَوَّلَ هُنَاكَ مِنْ اجْتِهَادٍ إلَى اجْتِهَادٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى عَبْدِ أَبِيهِ ، أَوْ أُمِّهِ ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ

بِهِ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَهُ لَمْ يُجْزِهِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا ، وَهَذَا عَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ فَإِنَّ التَّصَدُّقَ بِالزَّكَاةِ عَلَى عَبْدٍ بِمَنْزِلَةِ التَّصَدُّقِ عَلَى مَوْلَاهُ وَلِهَذَا لَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى عَبْدِ غَنِيٍّ ، وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ فَإِنَّهُ لَا يُجْزِيهِ وَلَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى حَرْبِيٍّ دَخَلَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ ، أَوْ بِغَيْرِ أَمَانٍ لَمْ يُجْزِهِ عَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الزَّكَاةِ جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ التَّصَدُّقِ بِهِ عَلَى الذِّمِّيِّ فَقَالَ يُجْزِيهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَى الْحَرْبِيِّ لَا يَكُونُ قُرْبَةً أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُتَنَفَّلُ بِهِ ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ مَبَرَّةِ أَهْلِ الْحَرْبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ } فَلَا يَقَعُ فِعْلُهُ مَوْقِعَ الصَّدَقَةِ بِخِلَافِ التَّصَدُّقِ بِهِ عَلَى الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُ يَقَعُ مَوْقِعَ الصَّدَقَةِ ؛ لِأَنَّا لَمْ نُنْهَ عَنْ الْمَبَرَّةِ مَعَ مَنْ لَا يُقَاتِلُنَا وَلِهَذَا جَازَ التَّنْفِيلُ بِهِ

( قَالَ ) : وَلَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَمَكَثَ فِيهَا سَنَتَيْنِ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِي الْمَالِ الَّذِي خَلَّفَ وَفِيمَا أَفَادَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ حَيْثُ مَا يَكُونُ إلَّا أَنَّ مَالَهُ الَّذِي خَلَّفَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إذَا كَانَ مِنْ السَّوَائِمِ فَلِلسُّلْطَانِ حَقُّ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهُ بِخِلَافِ مَا أَفَادَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّ فِيمَا أَفَادَ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَدْ انْعَدَمَتْ الْحِمَايَةُ مِنْ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الزَّكَاةَ مِنْهَا وَلَكِنْ يَعْنِي مَنْ عَلَيْهِ بِالْأَدَاءِ إلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِخِلَافِ مَا إذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَى أَهْلِ بَلَدِهِ لِأَنَّ فُقَرَاءَ أَهْلِ بَلَدِهِ لَهُمْ حَقُّ الْمُجَاوَرَةِ مَعَ الْحَاجَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فَأَمَّا فِي دَارِ الْحَرْبِ قَلَّ مَا يَجِدُ فُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَوْ وَجَدَهُمْ فَالْفُقَرَاءُ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ مِنْ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَوْ نَقَلَ صَدَقَةَ بَلَدِهِ إلَى فُقَرَاءِ بَلْدَةٍ أُخْرَى هُمْ أَفْضَلُ مِنْ فُقَرَاءِ أَهْلِ بَلْدَتِهِ فَذَلِكَ أَوْلَى بِهِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَسَيْفٌ فِيهِ فِضَّةٌ مِائَةُ دِرْهَمٍ ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ فَعَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاةُ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْفِضَّةِ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ فَحِلْيَةُ السَّيْفِ وَغَيْرُهَا مِنْ ذَلِكَ سَوَاءٌ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ بِهِ

( قَالَ ) : وَلَوْ كَانَتْ لَهُ أَوَانٍ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلِاسْتِعْمَالِ لَا لِلتِّجَارَةِ فَعَلَيْهِ فِيهَا الزَّكَاةُ بِخِلَافِ اللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ وَالْجَوَاهِرِ إذَا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ فَإِنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِيهَا بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّمَاءِ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ فِيهَا كَسَائِرِ الْعُرُوضِ فَأَمَّا وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِاعْتِبَارِ عَيْنِهَا وَالْعَيْنُ لَا تَتَبَدَّلُ بِالصَّنْعَةِ ، وَلَا بِالِاسْتِعْمَالِ ثُمَّ لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا ، وَلَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ أَنَّهُ كَيْفَ يُؤَدِّي الزَّكَاةَ مِنْ الْأَوَانِي الْمَصُوغَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : إذَا كَانَ لَهُ إنَاءٌ مَصُوغٌ مِنْ الْفِضَّةِ وَزْنُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَإِمَّا أَنْ يَتَصَدَّقَ بِرُبْعِ عُشْرِهِ عَلَى فَقِيرٍ فَيَكُونَ شَرِيكًا لَهُ فِي ذَلِكَ ، أَوْ يُؤَدِّيَ قِيمَةَ رُبْعِ عُشْرِهِ مِنْ الذَّهَبِ فَإِنْ أَدَّى خَمْسَةَ دَرَاهِمَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ جَمِيعُ الزَّكَاةِ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ فَضْلَ الْقِيمَةِ ، وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فِيمَا يُؤَدَّى مَعَ الْمُجَانَسَةِ فَإِنَّهُ لَا رِبَا فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ أَدَّى خَمْسَةَ دَرَاهِمَ تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ ؛ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْوَزْنُ دُونَ الْجُودَةِ وَالصَّنْعَةِ فَإِنْ أَدَّى قِيمَةَ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ مِنْ الذَّهَبِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ جَمِيعُ الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَدَاءِ الْفَضْلِ .

( قَالَ ) : رَجُلٌ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَقَالَ : هِيَ فِي الْمَسَاكِينِ صَدَقَةٌ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَكَلَّمَهُ ثُمَّ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَعَلَيْهِ فِيهَا الزَّكَاةُ ؛ لِأَنَّهُ ، وَإِنْ لَزِمَهُ التَّصَدُّقُ بِهَا بِحُكْمِ النَّذْرِ فَمِلْكُهُ كَامِلٌ فِيهَا فَإِنَّ دُيُونَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُمَكِّنُ نُقْصَانًا فِي الْمِلْكِ خُصُوصًا مَا لَا تَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ بِحَالٍ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي مَالِهِ بِخِلَافِ دَيْنِ الزَّكَاةِ فَإِنْ تَصَدَّقَ بِهَا عَمَّا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ فَعَلَيْهِ زَكَاتُهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ ؛ لِأَنَّهُ صَرَفَ حَقَّ الْفُقَرَاءِ إلَى حَاجَتِهِ فَإِنَّ الْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ مِنْ جُمْلَةِ حَاجَتِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إنْفَاقِهِ الْمَالَ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ ضَامِنًا لِلزَّكَاةِ ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ مِنْهَا يَنْوِي عَنْ زَكَاتِهَا ثُمَّ تَصَدَّقَ بِمَا بَقِيَ مِمَّا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ فَعَلَيْهِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ يَتَصَدَّقُ بِهَا ؛ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ بِالْخَمْسَةِ الْأُولَى كَانَ عَنْ الزَّكَاةِ دُونَ النَّذْرِ فَإِنَّهُ نَوَاهَا عَنْ الزَّكَاةِ وَلِلْمَرْءِ مَا نَوَى ثُمَّ تَصَدَّقَ عَنْ نَذْرِهِ بِمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَتِسْعِينَ ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَ التَّصَدُّقَ بِمِائَتَيْنِ عَنْ نَذْرِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ خَمْسَةً أُخْرَى .
وَإِنْ ضَاعَ الْمَالُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ الزَّكَاةِ ، وَلَا مِمَّا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ غَنِيًّا فِي هَذَا الْمَحَلِّ فَلَا يَبْقَى بَعْدَ فَوَاتِ الْمَحَلِّ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ وُجِدَ مِنْهُ تَصَرُّفٌ ، وَهُوَ الْأَدَاءُ ، وَلَا وَجْهَ لِتَجْوِيزِ الْمُؤَدَّى عَنْهَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ الْوَاحِدَ لَا يَتَّسِعُ لِذَلِكَ فَجَعَلْنَا الْمُؤَدَّى عَمَّا نَوَاهُ ، وَصَارَ هُوَ فِي حَقِّ الْآخَرِ كَالْمُسْتَهْلِكِ لِلْمَحَلِّ وَهُنَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ تَصَرُّفٌ ، وَإِنَّمَا فَاتَ الْمَحَلُّ لِضَيَاعِ الْمَالِ وَمَعْنَى فَوَاتِ الْمَحَلِّ يَتَحَقَّقُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَقَّيْنِ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ .

( قَالَ ) : وَلَوْ أَنَّ أُمَّ وَلَدٍ لِرَجُلٍ لَهَا حُلِيٌّ مِنْ ذَهَبٍ ، أَوْ فِضَّةٍ فَعَلَى الْمَوْلَى أَنْ يُزَكِّيَ ذَلِكَ مَعَ مَالِهِ إذَا حَالَ الْحَوْلُ ؛ لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ فِي حُكْمِ الْمِلْكِ كَالْأَمَةِ الْقِنَّةِ فَكَسْبُهَا وَمَا فِي يَدِهَا يَكُونُ مِلْكًا لِلْمَوْلَى ، وَكَذَلِكَ كَسْبُ الْعَبْدِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ كَثِيرٌ مُحِيطٌ بِمَا فِي يَدِهِ فَلَا زَكَاةَ عَلَى سَيِّدِهِ فِيمَا فِي يَدِهِ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ فَلِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ مَا فِي يَدِهِ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا ؛ فَلِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ مَشْغُولٌ بِحَقِّ الْغُرَمَاءِ ، وَالْمَالُ الْمَشْغُولُ بِالدَّيْنِ لَا يَكُونُ نِصَابَ الزَّكَاةِ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ أَكْثَرُ مِمَّا عَلَيْهِ فَالْفَضْلُ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى فَارِغٌ عَنْ حَقِّ الْغُرَمَاءِ فَيَضُمُّهُ إلَى مَالِهِ وَيُزَكِّيهِ وَلَكِنَّ هَذَا بَعْدَ مَا يَقْضِي الْعَبْدُ دُيُونَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ لِلْمَوْلَى شَيْءٌ مِنْ كَسْبِهِ قَبْلَ قَضَاءِ دُيُونِهِ فَإِذَا قَضَى دُيُونَهُ فَالْآنَ يُسَلَّمُ الْفَضْلُ لِلْمَوْلَى فَيُؤَدِّي الزَّكَاةَ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ مَالٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ فَقَضَاهُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ عَنْهُ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ

قَالَ ) : وَالْمَجْنُونُ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ فَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ ثُمَّ بَرِئَ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ لِلْحَوْلِ الْمَاضِي سَوَاءٌ كَانَ مَجْنُونًا جُنُونًا أَصْلِيًّا ، أَوْ جُنُونًا طَارِئًا ، وَإِنْ أَفَاقَ فِي يَوْمٍ مِنْ الْحَوْلِ فِي أَوَّلِهِ ، أَوْ فِي آخِرِهِ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ قَالَ : وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ رَمَضَانَ يَعْنِي إذَا كَانَ مُفِيقًا فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ فِي أَوَّلِهِ ، أَوْ فِي آخِرِهِ فَعَلَيْهِ صَوْمُ جَمِيعِ الشَّهْرِ وَيَتَبَيَّنُ بِمَا ذَكَرَ هُنَا أَنَّ فِي الصَّوْمِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْجُنُونِ الْأَصْلِيِّ وَالْجُنُونِ الطَّارِئِ وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ فِيهِ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ ، وَاَلَّذِي قَالَ هُنَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَكْثَرُ الْحَوْلِ ، وَقَالَ : إنْ كَانَ مُفِيقًا فِي أَكْثَرِ الْحَوْلِ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ هُوَ إنْ كَانَ مَجْنُونًا فِي أَكْثَرِ الْحَوْلِ لَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ ، وَقَاسَ الْأَهْلِيَّةَ فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ بِالْمَحَلِّيَّةِ فِيمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، وَهِيَ السَّائِمَةُ فَإِنَّ صَاحِبَ السَّائِمَةِ إذَا كَانَ يَعْلِفُهَا بَعْضَ الْحَوْلِ اُعْتُبِرَ نَافِيهِ أَكْثَرَ الْحَوْلِ فَإِنْ كَانَتْ سَائِمَةً فِي أَكْثَرِ الْحَوْلِ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ وَإِلَّا فَلَا ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَقَلَّ تَبَعٌ لِلْأَكْثَرِ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ أَلَا تَرَى أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا كَانَ صَحِيحًا فِي أَكْثَرِ السَّنَةِ تَلْزَمُهُ الْجِزْيَةُ ، وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا فِي أَكْثَرِ السَّنَةِ لَا تَلْزَمُهُ الْجِزْيَةُ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْحَوْلَ لِلزَّكَاةِ كَالشَّهْرِ لِلصَّوْمِ ثُمَّ لَوْ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنْ الشَّهْرِ مُفِيقًا يَلْزَمُهُ صَوْمُ جَمِيعِ الشَّهْرِ فَكَذَلِكَ إذَا أَدْرَكَ جُزْءًا مِنْ الْحَوْلِ مُفِيقًا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْمُسْتَفَادُ فَإِنَّ وُجُودَ الْمُسْتَفَادِ فِي مِلْكِهِ فِي جُزْءٍ مِنْ الْحَوْلِ ، وَإِنْ قَلَّ كَوُجُودِهِ فِي جَمِيعِ

الْأَحْوَالِ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ فَكَذَلِكَ حُكْمُ الْإِفَاقَةِ

( قَالَ ) : وَالْأَجِيرُ وَالْمُضَارَبُ وَصَاحِبُ الْبِضَاعَةِ وَالْمُسْتَوْدَعُ وَالْعَبْدُ وَالْمُكَاتَبُ لَا يُعْتَبَرُ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ أَمَّا الْأَجِيرُ وَصَاحِبُ الْبِضَاعَةِ وَالْمُسْتَوْدَعِ ؛ فَلِأَنَّهُمْ أُمَنَاءُ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْمَالِ ، وَالْعَاشِرُ إنَّمَا يَأْخُذُ الزَّكَاةَ ، ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِنِيَّةِ صَاحِبِ الْمَالِ وَأَدَائِهِ أَوْ أَمْرِهِ بِذَلِكَ ، وَلَمْ يُوجَدْ ، وَأَمَّا الْمُضَارَبُ فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلِ يَأْخُذُ الْعَاشِرُ مِنْهُ الزَّكَاةَ وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ لَا يَأْخُذُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَالَ يَعْقُوبُ : وَلَا أَعْلَمُهُ رَجَعَ فِي الْعَبْدِ وَقِيَاسُ قَوْلِهِ الْآخَرِ يُوجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ الْعَبْدُ أَيْضًا ، وَهُنَا نَصٌّ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْمُضَارَبِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ رُجُوعُهُ فِي الْعَبْدِ أَيْضًا ، وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَلَا شَكَّ ؛ لِأَنَّ الْعَاشِرَ لَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ لَا مَالِكَ لِكَسْبِهِ فَالْمُكَاتَبُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ وَالْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَهُ مَا بَقِيَ عَقْدُ الْكِتَابَةِ فَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا سَوَاءٌ كَانَ السَّيِّدُ مَعَهُ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ فَأَمَّا الْمُتَفَاوِضَانِ وَالشَّرِيكَانِ شَرِكَةَ عِنَانٍ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُزَكِّيَ نِصْفَ مَا فِي أَيْدِيهِمَا ؛ لِأَنَّ مِلْكَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ الْمُشْتَرَكِ بِالْكَامِلِ ، وَإِنْ أَخَذَ الْعَاشِرُ مِنْ الْمُضَارَبِ شَيْئًا فَكَذَلِكَ لَا يُجْزِئُ رَبَّ الْمَالِ مِنْ زَكَاتِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَاشِرَ غَاصِبٌ فِيمَا أَخَذَ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَمِنْ غَيْرِ الزَّكَاةِ غُصِبَ بَعْضُ مَالِهِ لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ مِنْ الزَّكَاةِ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارَبِ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ أُخِذَ مِنْهُ الْمَالُ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ وَلَكِنْ لَا رِبْحَ لَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رَبُّ الْمَالِ مَالَهُ لِأَنَّ مَا أَخَذَ الْعَاشِرُ تَاوٍ فَكَأَنَّهُ هَلَكَ بَعْضُ الْمَالِ مِنْ يَدِ الْمُضَارَبِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُضَارَبُ هُوَ الَّذِي دَفَعَ ذَلِكَ إلَيْهِ كَانَ ضَامِنًا

لِرَبِّ الْمَالِ مَا دَفَعَهُ إلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ خَائِنٌ فِي دَفْعِ الْمَالِ إلَى غَيْرِ مَنْ أَمَرَ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ

( قَالَ ) : وَلَوْ أَنَّ أَحَدَ الْمُتَفَاوِضَيْنِ ، أَوْ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ شَرِكَةَ عِنَانٍ أَدَّى الزَّكَاةَ عَنْ الْمَالِ كُلِّهِ بِغَيْرِ إذْنِ الشَّرِيكِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِنَصِيبِ الشَّرِيكِ فِيمَا أَدَّى ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَائِبٌ عَنْ صَاحِبِهِ فِي التِّجَارَةِ وَاسْتِنْمَاءِ الْمَالِ لَا فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ فَكَانَ مُتَعَدِّيًا فِيمَا أَدَّى مِنْ نَصِيبِ الشَّرِيكِ وَذَلِكَ لَا يُجْزِئُ مِنْ زَكَاةِ الشَّرِيكِ لِانْعِدَامِ نِيَّتِهِ وَأَمْرِهِ فَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنًا لِصَاحِبِهِ نَصِيبَهُ فَيَتَعَاوَضَانِ وَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا مُتَطَوِّعًا فِيمَ أَدَّى الزَّكَاةَ عَلَى مَا عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَرْجِعَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى الْفَقِيرِ بِشَيْءٍ ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَمَرَ صَاحِبَهُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ عَنْ جَمِيعِ الْمَالِ فَإِنْ أَدَّى أَحَدُهُمَا جَازَ الْمُؤَدَّى عَنْ زَكَاتِهَا ، وَإِنْ أَدَّيَا جَمِيعًا مَعًا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَكُونُ مُؤَدِّيًا زَكَاةَ نَصِيبِهِ ، وَلَا رُجُوعَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ سَوَاءٌ أَدَّيَا مِنْ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ ، أَوْ أَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ فَإِنْ أَدَّى أَحَدُهُمَا أَوَّلًا مِنْ خَالِصِ مِلْكِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرَطَ عِنْدَ الْأَمْرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا يُؤَدِّي عَنْهُ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْمَأْمُورِ إذَا لَمْ يَكُنْ شَرِيكًا فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ شَرِيكًا فِي الْمَالِ ، وَإِنْ أَدَّى أَحَدُهُمَا مِنْ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ ثُمَّ أَدَّى الْآخَرُ مِنْ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ أَيْضًا فَالثَّانِي ضَامِنٌ لِنَصِيبِ صَاحِبِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَوَاءٌ عَلِمَ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَعِنْدَهُمَا لَا يَكُونُ ضَامِنًا سَوَاءٌ عَلِمَ بِأَدَائِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الزِّيَادَاتِ وَفِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَعْلَمَ بِأَدَائِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ هُنَاكَ

( قَالَ ) : وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ بَيْنَهُمَا عَبْدٌ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا ، وَهُوَ مُعْسِرٌ فَاسْتَسْعَى الْآخَرُ الْعَبْدَ فِي حِصَّتِهِ مِنْهُ بَعْدَ حَوْلٍ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْمُسْتَسْعَى فِي بَعْضِ قِيمَتِهِ مُكَاتَبٌ وَمَا عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، وَلَا زَكَاةَ فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ بَعْدَ الْقَبْضِ ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا الْمُسْتَسْعَى فِي بَعْضِ قِيمَتِهِ حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَيَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ إذَا قَبَضَهُ بِمَنْزِلَةِ دَيْنٍ لَهُ عَلَى آخَرَ فَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا فَضَمَّنَهُ الشَّرِيكُ نِصْفَ قِيمَتِهِ وَقَبَضَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُمَلَّكًا نَصِيبَهُ مِنْ شَرِيكِهِ بِاخْتِيَارِ تَضْمِينِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ مَلَكَ نَصِيبَهُ بِالْبَيْعِ بِالدَّرَاهِمِ إذَا قَبَضَ الثَّمَنَ بَعْدَ الْحَوْلِ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى

( قَالَ ) : وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَرِثَ عَنْ أَبِيهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَخَذَهَا بَعْدَ سِنِينَ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ لِمَا مَضَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْآخَرِ وَفِي قَوْلِهِمَا عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لَمَا مَضَى فَفِي هَذَا الرِّوَايَةِ جَعَلَ الْمَوْرُوثَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ الضَّعِيفِ مِثْلَ الصَّدَاقِ وَبَدَلَ الْخُلْعِ ، وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَكَذَلِكَ فِي هَذَا وَفِي كِتَابِ الزَّكَاةِ جَعَلَ الْمَوْرُوثَ كَالدَّيْنِ الْمُتَوَسِّطِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ ثَمَنُ مَالِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ فَقَالَ : إذَا قَبَضَ نِصَابًا كَامِلًا بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْوَارِثَ يَخْلُفُ الْمُوَرِّثَ فِي مِلْكِهِ ، وَذَلِكَ الدَّيْنُ كَانَ مَالَ الزَّكَاةِ فِي مِلْكِ الْمُوَرِّثِ فَكَذَلِكَ فِي مِلْكِ الْوَارِثِ ، وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمِيرَاثِ يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا يُمْلَكُ دَيْنًا عِوَضًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ ، وَهُوَ الصَّدَاقُ فَلَا يَكُونُ نِصَابَ الزَّكَاةِ حَتَّى يُقْبَضَ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمِيرَاثَ صِلَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَالصَّدَقَةُ لِلْمَرْأَةِ فِي مَعْنَى الصِّلَةِ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } أَيِّ عَطِيَّةً وَمَا يُسْتَحَقُّ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ لَا يَتِمُّ فِيهِ الْمِلْكُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا يَكُونُ نِصَابَ الزَّكَاةِ

( قَالَ ) : وَلَوْ بَاعَ جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ فَأَخَذَهَا بَعْدَ سِنِينَ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى عِنْدَهُمْ جَمِيعًا ، وَهَذَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ بَعْدَ الْقَبْضِ قَالَ الْكَرْخِيُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ ثُمَّ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا لَمْ يَقْبِضْ مِائَتَيْنِ لَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِخِلَافِ الدَّيْنِ الَّذِي هُوَ عِوَضٌ عَنْ مَالِ التِّجَارَةِ فَإِنَّهُ إذَا قَبَضَ مِنْهُ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ الْمَالِ كَانَ نِصَابَ الزَّكَاةِ فَعِوَضُهُ يَكُونُ بِنَاءً فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ وَنِصَابُ الْبِنَاءِ يَتَقَدَّرُ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهُنَا أَصْلُ هَذَا الْمَالِ لَمْ يَكُنْ مَالَ الزَّكَاةِ فَكَانَ ثَمَنُهُ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ أَصْلًا مُبْتَدَأً وَنِصَابُ الِابْتِدَاءِ يَتَقَدَّرُ بِمِائَتَيْنِ فَلَا يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ مَا لَمْ يَقْبِضْ مِائَتَيْنِ وَعِنْدَهُمَا إذَا قَبَضَ شَيْئًا قَلِيلًا ، أَوْ كَثِيرًا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ بِقَدْرِ مَا قَبَضَ فِي الدُّيُونِ كُلِّهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ .

( قَالَ ) : وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِوَصِيَّةٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَمَكَثَ سِنِينَ ثُمَّ بَلَغَهُ فَقَبِلَ الْوَصِيَّةَ ثُمَّ أَخَذَهَا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ لِمَا مَضَى ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى بِهِ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ قَبُولِهِ فَلَا يَكُونُ نِصَابَ الزَّكَاةِ فِي حَقِّهِ ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَنْبَغِي أَنْ تَلْزَمَهُ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْمُوصَى بِهِ يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ قَبُولِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمِيرَاثِ فَإِنْ قَبِلَهَا ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى بِهِ إنَّمَا يَمْلِكُهُ الْمُوصَى لَهُ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ فَلَا يَتِمُّ مِلْكُهُ فِيهِ إلَّا بِالْقَبْضِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ مَسْأَلَةُ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ نَظِيرُ مَسْأَلَةِ الْمِيرَاثِ ، وَفِيهَا رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا بَيَّنَّا فِي الْمِيرَاثِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْوَصِيَّةِ الرِّوَايَةُ وَاحِدَةٌ أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْآخَرِ بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ عَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُوصَى لَهُ بِنَاءٌ عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي حَتَّى لَا يُرَدَّ بِالْعَيْبِ ، وَلَا يَصِيرَ مَغْرُورًا فِيمَا اشْتَرَاهُ الْمُوصِي فَأَمَّا مِلْكُ الْوَارِثِ يَنْبَنِي عَلَى مِلْكِ الْمُوَرِّثِ فَلِهَذَا اعْتَبَرَ هُنَاكَ مِلْكَ الْمُوَرِّثِ وَجَعَلَهُ نِصَابَ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَاعْتَبَرَ هَاهُنَا مِلْكَ الْمُوصَى لَهُ ابْتِدَاءً فَلَمْ يَجْعَلْهُ نِصَابَ الزَّكَاةِ مَا لَمْ يَتِمَّ مِلْكُهُ بِالْقَبْضِ

( قَالَ ) : وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَخَاتَمُ فِضَّةٍ فِي أُصْبُعِهِ فِيهِ دِرْهَمٌ فَحَالَ الْحَوْلُ عَلَى الْمَالِ غَيْرَ شَهْرٍ ثُمَّ ضَاعَ الْمَالُ ، وَبَقِيَ الْخَاتَمُ ثُمَّ اسْتَفَادَ أَلْفًا ، وَتَمَّ الْحَوْلُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ الْمَالَ ؛ لِأَنَّ فِضَّةَ الْخَاتَمِ كَانَتْ مَضْمُومَةً إلَى الْأَلْفِ فِي حُكْمِ النِّصَابِ فَيَبْقَى الْحَوْلُ بِبَقَائِهَا ، وَإِنْ ضَاعَ الْأَلْفُ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ بَقَاءَ جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ يَكْفِي لِبَقَاءِ الْحَوْلِ فَإِنَّمَا اسْتَفَادَ الْأَلْفَ ، وَالْحَوْلُ بَاقٍ فَتَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ إذَا تَمَّ الْحَوْلُ لِوُجُودِ كَمَالِ النِّصَابِ فِي طَرَفَيْ الْحَوْلِ مَعَ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْهُ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَاتَمٌ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْحَوْلَ عَلَى الْمُسْتَفَادِ مُنْذُ مَلَكَهُ ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ جَمِيعُ النِّصَابِ حِينَ ضَاعَ الْمَالُ الْأَوَّلُ فَلَمْ يَبْقَ الْحَوْلُ الْأَوَّلُ مُنْعَقِدًا ؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ يَسْتَدْعِي جُزْءًا مِنْ النِّصَابِ فَإِنْ وَجَدَ دِرْهَمًا مِنْ الدَّرَاهِمِ الْأُوَلِ قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ ضَمَّهُ إلَى مَا عِنْدَهُ فَيُزَكِّي الْكُلَّ وَكَذَلِكَ إنْ وَجَدَ الْبَقِيَّةَ بَعْدَمَا زَكَّى فَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ كُلَّهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَاتَمٌ ؛ لِأَنَّ بِالضَّيَاعِ لَا يَنْعَدِمُ أَصْلُ الْمِلْكِ ، وَإِنَّمَا تَنْعَدِمُ يَدُهُ وَتَمَكُّنُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ فَإِذَا ارْتَفَعَ ذَلِكَ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ بِأَنْ وَجَدَ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ صَارَ الضَّيَاعُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَكَأَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ حَتَّى وَجَدَ الْأَلْفَ الْأُخْرَى ، وَتَمَّ الْحَوْلُ فَتَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ عَنْ الْكُلِّ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ ثُمَّ سَقَطَ الدَّيْنُ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ إذَا تَمَّ الْحَوْلُ ، وَإِنْ كَانَ إنَّمَا وَجَدَ مَا ضَاعَ بَعْدَ الْحَوْلِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا حَتَّى يَكْمُلَ الْحَوْلُ فِيهِ مُنْذُ اسْتَفَادَ الْمَالَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَمَّ ، وَالْمَالُ

الْأَوَّلُ تَاوٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ بِاعْتِبَارِهِ ، وَإِنَّمَا انْعَقَدَ الْحَوْلُ عَلَى مَالِهِ مِنْ حِينِ اسْتَفَادَ ، وَإِنْ كَانَتْ ضَاعَتْ الْأَلْفُ الْأُولَى بَعْدَ الْحَوْلِ ، وَبَقِيَ الْخَاتَمُ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِي الْخَاتَمِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَضْمُومًا إلَى مَالِهِ وَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِ ، وَلَمَّا تَمَّ الْحَوْلُ ثُمَّ هَلَكَ بَعْضُ مَالِهِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ ، وَبَقِيَ الْبَعْضُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ مِنْ الْبَاقِي حِصَّتَهُ

( قَالَ ) : فَإِنْ مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ غَيْرَ دِرْهَمٍ وَفِي يَدِهِ فِضَّةٌ فِيهِ دِرْهَمٌ فَإِنَّ الْعَاشِرَ يَأْخُذُ مِنْهُ الزَّكَاةَ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ كَمَالُ النِّصَابِ فِيمَا يَمُرُّ بِهِ عَلَى الْعَاشِرِ ، وَقَدْ وُجِدَ فَإِنَّ الْخَاتَمَ مِنْ نِصَابِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ خَاتَمٌ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ، وَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ الْعَاشِرُ شَيْئًا ، وَإِنْ أَخْبَرَهُ بِمَالٍ آخَرَ لَهُ فِي بَيْتِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَعْتَبِرُ كَمَالَ النِّصَابِ فِي الْمَالِ الْمَمْرُورِ بِهِ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ حَقِّ الْأَخْذِ لِلْعَاشِرِ بِاعْتِبَارِ حَاجَةِ صَاحِبِ الْمَالِ إلَى الْحِمَايَةِ ، ذَلِكَ فِي الْمَالِ الْمَمْرُورِ بِهِ عَلَيْهِ دُونَ الَّذِي خَلَّفَهُ فِي بَيْتِهِ فَإِذَا كَانَ الْمَمْرُورُ بِهِ عَلَيْهِ نِصَابًا كَامِلًا يَأْخُذُ مِنْهُ الزَّكَاةَ ، وَإِلَّا لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا

( قَالَ ) : وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَهَبَ لِرَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ ثُمَّ رَجَعَ فِيهَا الْوَاهِبُ بِقَضَاءٍ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا عَلَى الْوَاهِبِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي مِلْكِهِ ، وَلَا عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ؛ لِأَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ بِعَيْنِهِ وَيَسْتَوِي فِيهِ الرُّجُوعُ بِقَضَاءٍ ، أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ لِأَنَّ حَقَّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ مَقْصُورٌ عَلَى الْعَيْنِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْقَضَاءُ وَغَيْرُ الْقَضَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَحُلْ عَلَيْهَا الْحَوْلُ عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهُ حَتَّى اسْتَفَادَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ثُمَّ رَجَعَ فِيهَا الْوَاهِبُ بِقَضَاءٍ ، أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا لِمَا قُلْنَا لَهُ ، وَيُزَكِّي الْمَوْهُوبُ لَهُ الْمَالَ الْمُسْتَفَادَ إذَا تَمَّ الْحَوْلُ ( قَالَ ) فِي الْكِتَابِ : إذَا مَضَى تَمَامُ حَوْلٍ مُنْذُ مَلَكَهَا فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ : بِالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ يَبْطُلُ مِلْكُ الْمَوْهُوبِ لَهُ مِنْ الْأَصْلِ فَيُقْطَعُ حُكْمُ ذَلِكَ الْحَوْلِ وَيُعْتَبَرُ مُضِيُّ حَوْلٍ عَلَى الْمُسْتَفَادِ مِنْ حِينِ مَلَكَهُ ( قَالَ ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ : رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ إذَا تَمَّ الْحَوْلُ مِنْ حِينِ مَلَكَ الْمَوْهُوبَ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْمُسْتَفَادِ ؛ لِأَنَّ الْحَوْلَ كَانَ انْعَقَدَ مِنْ حِينِ مَلَكَ الْمَوْهُوبَ فَحِينَ اسْتَفَادَ أَلْفًا كَانَتْ هَذِهِ الْأَلْفُ مَضْمُومَةً إلَى أَصْلِ النِّصَابِ فِي حُكْمِ الْحَوْلِ ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي الْمَوْهُوبِ صَارَ كَأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ هَلَكَ مِنْ مَالِهِ فَيَبْقَى الْحَوْلُ بِبَقَاءِ الْمُسْتَفَادِ ، وَيَلْزَمُهُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ عَمَّا هُوَ بَاقٍ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ يُنْهِي مِلْكَ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَالْمِلْكُ ثَبَتَ لَهُ فِي الْهِبَةِ إلَى أَنْ يَرْجِعَ الْوَاهِبُ فِيهِ ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْمَوْهُوبُ جَارِيَةً فَوَطِئَهَا ثُمَّ رَجَعَ فِيهَا الْوَاهِبُ فَلَيْسَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ عُقْرُهَا ،

وَلَوْ وَلَدَتْ وَلَدًا ثُمَّ رَجَعَ فِيهَا الْوَاهِبُ بَقِيَ الْوَلَدُ سَالِمًا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ فِي حَقِّ الْمَوْهُوبِ بِمَنْزِلَةِ الْهَلَاكِ .

( قَالَ ) : رَجُلٌ لَهُ أَرْضٌ أَجَرَهَا ثَلَاثَ سِنِينَ كُلَّ سَنَةٍ بِثَلَثِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَلَمْ يَأْخُذْ الْأُجْرَةَ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ ثُمَّ أَخَذَهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً فَنَقُولُ : إذَا مَضَى ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ انْعَقَدَ الْحَوْلُ عَلَى مَالِهِ ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، وَإِنَّمَا تُمْلَكُ بِالتَّعْجِيلِ أَوْ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ ، وَلَمْ يُوجَدْ التَّعْجِيلُ هُنَا فَإِنَّمَا يُمْلَكُ بِحَسَبِ مَا يُسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا فَإِذَا مَضَتْ ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ فَقَدْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، وَلَا يَنْعَقِدُ الْحَوْلُ عَلَى مَالِهِ إلَّا بَعْدَ كَمَالِ النِّصَابِ فَإِذَا مَضَى بَعْدَ ذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا وَجَبَ عَلَيْهِ زَكَاةُ خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنْ الْأُجْرَةِ ثَلَثَمِائَةٍ أُخْرَى ، ذَلِكَ مُسْتَفَادٌ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ فَإِنَّمَا تَمَّ الْحَوْلُ وَفِي مِلْكِهِ خَمْسُمِائَةٍ فَلِهَذَا يَلْزَمُهُ زَكَاةُ خَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ إذَا مَضَتْ سَنَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ ثَمَانِمِائَةٍ إلَّا مِقْدَارَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ زَكَاةِ الْخَمْسِمِائَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ بِمُضِيِّ الْحَوْلِ الثَّانِي ثَلَثَمِائَةٍ أُخْرَى فَتَمَّ الْحَوْلُ الثَّانِي وَمَالُهُ ثَمَانُمِائَةٍ إلَّا أَنَّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ زَكَاةِ الْخَمْسِمِائَةِ دَيْنٌ فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ مَالِهِ فِي الْحَوْلِ الثَّانِي ، وَكَذَلِكَ الْكُسُورُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِهِمَا تُعْتَبَرُ الْكُسُورُ .
وَهَذَا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي يُوجِبُ فِيهَا الزَّكَاةَ فِي الْأُجْرَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَهُوَ رِوَايَةُ هَذَا الْكِتَابِ وَالْجَامِعِ وَالْأَمَالِي وَذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْأُجْرَةَ بِمَنْزِلَةِ الصَّدَاقِ لَا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا بَعْدَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَيْسَتْ بِمَالٍ وَلَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَأْخُذُ حُكْمَ

الْمَالِيَّةِ بِالْعَقْدِ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ الْحَيَوَانُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بِمُقَابَلَتِهَا ثُمَّ عَلَى هَذَا الرِّوَايَةِ فِي وُجُوبِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ عِنْدَ الْقَبْضِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ مَا لَمْ يَقْبِضْ مِائَتَيْنِ لَا يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ ، وَإِنْ أَخَذَتْ حُكْمَ الْمَالِيَّةِ بِالْعَقْدِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ نِصَابَ الزَّكَاةِ بِحَالٍ فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ بِمَنْزِلَةِ ثَمَنِ مَالِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ فَلَا يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ مَا لَمْ يَقْبِضْ مِائَتَيْنِ ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَالَ إذَا قَبَضَ مِنْهَا أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَعَلَيْهِ أَدَاءُ الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِي حُكْمِ التِّجَارَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْنِ فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ بِمَنْزِلَةِ دَيْنٍ هُوَ ثَمَنُ مَالِ التِّجَارَةِ فَإِذَا قَبَضَ مِنْهَا أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا يَلْزَمُهُ أَدَاءُ دِرْهَمٍ فَإِنْ كَانَ أَجَّرَهَا كُلَّ سَنَةٍ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ لَمْ يَنْعَقِدْ الْحَوْلُ مَا لَمْ يَمْضِ كَمَالُ السَّنَةِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ عِنْدَ مُضِيِّ سَنَةٍ فَإِذَا مَضَتْ سَنَةٌ أُخْرَى زَكَّى أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّ بِمُضِيِّ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أُخْرَى مِنْ الْأَجْرِ فَإِنَّمَا تَمَّتْ السَّنَةُ وَفِي مِلْكِهِ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ إذَا مَضَتْ سَنَةٌ أُخْرَى فَعَلَيْهِ زَكَاةُ سِتِّمِائَةٍ ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ الْحَوْلُ وَفِي مِلْكِهِ سِتُّمِائَةٍ إلَّا أَنَّهُ يَطْرَحُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الزَّكَاةِ لِلسَّنَةِ الْمَاضِيَةِ ، وَهُوَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَالْكُسُورُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا فَإِنَّمَا يُزَكِّي عِنْدَهُ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ خَمْسَمِائَةٍ وَسِتِّينَ دِرْهَمًا .

( قَالَ ) : رَجُلٌ لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ ضَمِنَهَا رَجُلٌ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَحَالَ الْحَوْلُ عَلَى مَالِهِ ثُمَّ أَبْرَأَ مِنْهُ الْأَصِيلَ فَلَا زَكَاةَ عَلَى الَّذِي كَانَ لَهُ الْمَالُ ، وَلَا عَلَى الضَّامِنِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَمَّا الَّذِي لَهُ أَصْلُ الْمَالِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ لَا يَكُونُ ضَامِنًا لِلزَّكَاةِ عَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَدْيُونُ عَنِيًا أَوْ فَقِيرًا وَأَمَّا عَلَى الضَّامِنِ فَلِأَنَّ الْمَالَ قَدْ وَجَبَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ بِالضَّمَانِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْأَصِيلِ عِنْدَ الْأَدَاءِ ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَكَانَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِقَدْرِ مَالِهِ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ وَمَالُ الْمَدْيُونِ لَا يَكُونُ نِصَابَ الزَّكَاةِ فَلِهَذَا لَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ ، وَإِنْ سَقَطَ عَنْهُ الدَّيْنُ بِالْإِبْرَاءِ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

( قَالَ ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : رَجُلٌ لَهُ أَرْضٌ عُشْرِيَّةٌ فَمَنَحَهَا لِمُسْلِمٍ فَزَرَعَهَا فَالْعُشْرُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ وَالْخَارِجُ سُلِّمَ لِلْمُسْتَعِيرِ بِغَيْرِ عِوَضٍ الْتَزَمَهُ فَيَكُونُ هَذَا وَالْخَارِجُ مِنْ مِلْكِهِ فِي حَقِّهِ سَوَاءً .
وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْعُشْرَ عَلَى الْمُعِيرِ ؛ لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ فَيَجِبُ عَلَى مَالِكِ الْأَرْضِ كَالْخَرَاجِ إلَّا أَنَّهُ فَرَّقَ مَا بَيْنَ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الْعُشْرِ حُصُولُ النَّمَاءِ حَقِيقَةً وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْمُعِيرَ آثَرَ الْمُسْتَعِيرَ عَلَى نَفْسِهِ فِي تَحْصِيلِ النَّمَاءِ فَيَكُونُ مُسْتَهْلِكًا مَحَلَّ حَقِّ الْفُقَرَاءِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ زَرَعَ الْأَرْضَ لِنَفْسِهِ ثُمَّ وَهَبَ الْخَارِجَ مِنْ غَيْرِهِ ( قَالَ : وَلَوْ مَنَحَهَا لِرَجُلٍ كَافِرٍ ) فَعُشْرُهَا عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ رِوَايَةَ ابْنِ الْمُبَارَكِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ هُنَا مَنَحَهَا مَنْ لَا عُشْرَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ فِي الْعُشْرِ مَعْنَى الصَّدَقَةِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا فَيَصِيرُ بِهِ مُسْتَهْلِكًا مَحَلَّ حَقِّ الْفُقَرَاءِ ، وَفِي الْأَوَّلِ إنَّمَا يَمْنَحُهَا لِمُسْلِمٍ ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَلْزَمَهُ الْعُشْرُ فَلَا يَصِيرُ مُسْتَهْلِكًا بَلْ يَكُونُ مُحَوِّلًا حَقَّهُمْ مِنْ نَفْسِهِ إلَى غَيْرِهِ ( قَالَ ) : وَلَوْ غَصَبَهَا مُسْلِمٌ فَزَرَعَهَا فَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ نَقَصَهَا فَالْعُشْرُ عَلَى رَبِّهَا ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ ضَامِنٌ لِنُقْصَانِ الْأَرْضِ ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْأُجْرَةِ يُسَلِّمُ لِرَبِّ الْأَرْضِ فَيَلْزَمُهُ الْعُشْرُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِهِمَا الْعُشْرُ فِي الْخَارِجِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَجَرَهَا مِنْ مُسْلِمٍ ، وَإِنْ لَمْ يَنْقُصْهَا الزَّرْعُ فَلَا عُشْرَ عَلَى رَبِّهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا ، وَلَا كَانَ مُسَلِّطًا لِلزَّارِعِ عَلَى زِرَاعَتِهَا

وَلَكِنَّ الْعُشْرَ فِي الْخَارِجِ عَلَى الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ سُلِّمَتْ لَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَإِنْ غَصَبَهَا مِنْهُ كَافِرٌ فَإِنْ نَقَصَهَا الزِّرَاعَةُ فَالْعُشْرُ عَلَى رَبِّهَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سُلِّمَ لَهُ عِوَضُ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَجَرَهَا ، وَإِنْ لَمْ يَنْقُصْهَا فَلَا عُشْرَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ مَنْ سُلِّمَتْ لَهُ الْمَنْفَعَةُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَلْزَمَهُ الْعُشْرُ وَالْمَالِكُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا وَرَوَى جَرِيرُ بْنُ إسْمَاعِيلَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عَلَى الْغَاصِبِ عُشْرَهَا ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ سُلِّمَتْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَسْلَمُ أَنْ لَوْ كَانَ مَالِكًا لِلْأَرْضِ ، وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ عِنْدَهُ الْكَافِرَ إذَا اشْتَرَى أَرْضًا عُشْرِيَّةً مِنْ مُسْلِمٍ فَعَلَيْهِ عُشْرُهَا كَمَا كَانَ ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فِي مَصْرِفِ الْعُشْرِ الْمَأْخُوذِ مِنْ الْكَافِرِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي السِّيَرِ وَالزَّكَاةِ

( قَالَ ) : وَلَوْ أَعَارَ الْمُسْلِمُ أَرْضَهُ الْخَرَاجِيَّةَ فَالْخَرَاجُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَعِيرُ مُسْلِمًا ، أَوْ كَافِرًا ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْخَرَاجِ بِاعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ ، وَقَدْ كَانَ الْمُعِيرُ مُتَمَكِّنًا مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ الْخَرَاجُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ ، وَمُؤْنَةُ الْمِلْكِ تَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ إلَّا أَنَّ فِي الْعُشْرِ مَحَلَّ هَذِهِ الْمُؤْنَةِ الْخَارِجَ فَأَمْكَنَ إيجَابُهَا فِيهِ فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَعِيرُ مُسْلِمًا أَوْجَبْنَا الْخَرَاجَ فِي الْخَارِجِ وَمَحَلِّ الْخَرَاجِ ذِمَّةَ الْمَالِكِ فَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَعِيرُ مُسْلِمًا ، أَوْ كَافِرًا كَانَ الْخَرَاجُ عَلَى الْمَالِكِ فِي ذِمَّتِهِ فَإِنْ غَصَبَهَا مُسْلِمٌ ، أَوْ كَافِرٌ فَعَلَى الْغَاصِبِ نُقْصَانُ الْأَرْضِ وَالْخَرَاجُ عَلَى رَبِّهَا وَيَسْتَوِي إنْ قَلَّ النُّقْصَانُ ، أَوْ كَثُرَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَخْرَجَهَا بِعِوَضٍ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ كَانَ النُّقْصَانُ مِثْلَ الْخَرَاجِ أَوْ أَكْثَرَ فَالْخَرَاجُ عَلَى رَبِّهَا ، وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ أَقَلَّ فَعَلَى الْغَاصِبِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْخَرَاجَ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ النُّقْصَانِ اُسْتُحْسِنَ ذَلِكَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْقُصْهَا الزِّرَاعَةُ شَيْئًا فَالْخَرَاجُ عَلَى الْغَاصِبِ دُونَ الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ هُوَ الْمُتَمَكِّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ دُونَ الْمَالِكِ

( قَالَ ) : وَلَوْ أَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ زَرَعَهَا ، وَلَمْ تُخْرِجْ شَيْئًا ، أَوْ أَصَابَ الزَّرْعَ آفَةٌ فَلَا خَرَاجَ فِيهَا بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَزْرَعْهَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَطَّلَهَا فَقَدْ تَمَكَّنَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا وَإِذَا زَرَعَهَا فَلَمْ تُخْرِجْ شَيْئًا ، أَوْ أَصَابَ الزَّرْعَ آفَةٌ انْعَدَمَ تَمَكُّنُهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا ، وَهُوَ مُصَابٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُعَانُ ، وَلَا يَغْرَمُ شَيْئًا كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى اسْتِئْصَالِهَا وَمِمَّا حُمِدَ مِنْ سِيَرِ الْأَكَاسِرَةِ أَنَّهُ إذَا أَصَابَ زَرْعَ بَعْضِ الرَّعِيَّةِ آفَةٌ غَرِمُوا لَهُ مَا أَنْفَقَ فِي الزِّرَاعَةِ مِنْ بَيْتِ مَالِهِمْ ، وَقَالُوا التَّاجِرُ شَرِيكٌ فِي الْخُسْرَانِ كَمَا هُوَ شَرِيكٌ فِي الرِّبْحِ فَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ الْإِمَامُ شَيْئًا فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ لَا يُغَرِّمَهُ الْخَرَاجَ فَإِنْ لَمْ يَزْرَعْهَا وَلَكِنَّهَا غَرِقَتْ ثُمَّ نَضَبَ الْمَاءُ عَنْهَا فِي وَقْتٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى زِرَاعَتِهَا قَبْلَ مُضِيِّ السَّنَةِ فَلَا خَرَاجَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا ، وَلَوْ نَضَبَ الْمَاءُ عَنْهَا فِي وَقْتٍ يَقْدِرُ عَلَى زِرَاعَتِهَا قَبْلَ مُضِيِّ السَّنَةِ فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ زَرَعَهَا ، أَوْ لَمْ يَزْرَعْهَا لِأَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا

( قَالَ ) : وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى أَرْضًا عُشْرِيَّةً أَوْ خَرَاجِيَّةً لِلتِّجَارَةِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا ، وَإِنْ حَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا ، وَلَكِنَّ فِيهَا الْعُشْرَ ، أَوْ الْخَرَاجَ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعُشْرِ ، أَوْ الْخَرَاجِ بِاعْتِبَارِ نَمَاءِ الْأَرْضِ ، وَكَذَلِكَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّمَاءِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَقَّيْنِ يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ أَرْضٍ وَاحِدَةٍ وَلَمَّا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا رَجَّحْنَا مَا تَقَرَّرَ فِيهَا ، وَهُوَ الْعُشْرُ ، أَوْ الْخَرَاجُ فَقَدْ صَارَ ذَلِكَ وَظِيفَةً لَازِمَةً لِهَذِهِ الْأَرْضِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِنِيَّتِهِ ، وَلِأَنَّ الْعُشْرَ وَالْخَرَاجَ أَسْرَعُ وُجُوبًا مِنْ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِمَا كَمَالُ النِّصَابِ ، وَلَا صِفَةُ الْغِنَى فِي الْمَالِكِ وَبِهِ فَارَقَ مَا لَوْ اشْتَرَى دَارًا لِلتِّجَارَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي رَقَبَةِ الدَّارِ وَظِيفَةٌ أُخْرَى فَتُعْمَلُ نِيَّةُ التِّجَارَةِ فِيهَا حَتَّى تَلْزَمَهُ الزَّكَاةُ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْأَرْضَ إذَا كَانَتْ عُشْرِيَّةً فَاشْتَرَاهَا لِلتِّجَارَةِ فَعَلَيْهِ فِيهَا الزَّكَاةُ ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ إنَّمَا يَجِبُ فِي الْخَارِجِ وَالزَّكَاةُ إنَّمَا تَجِبُ بِاعْتِبَارِ مَالِيَّةِ الْأَرْضِ فِي ذِمَّةِ الْمَالِكِ فَقَدْ اخْتَلَفَ مَحَلُّ الْحَقَّيْنِ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِخِلَافِ الْخَرَاجِ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِي ذِمَّةِ الْمَالِكِ كَالزَّكَاةِ وَلَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ وَقَدْ صَحَّ مِنْ أَصْلِ عُلَمَائِنَا أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ وَالْعُشْرُ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ وَالْخَرَاجُ يَجِبُ فِي ذِمَّةِ الْمَالِكِ ثُمَّ لَمْ يُجْزِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا

( قَالَ ) وَلَوْ أَنَّ كَافِرًا اشْتَرَى أَرْضًا عُشْرِيَّةً فَعَلَيْهِ فِيهَا الْخَرَاجُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَكِنَّ هَذَا بَعْدَ مَا انْقَطَعَ حَقُّ الْمُسْلِمِ عَنْهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ حَتَّى لَوْ اسْتَحَقَّهَا مُسْلِمٌ ، أَوْ أَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ كَانَتْ عُشْرِيَّةً عَلَى حَالِهَا سَوَاءٌ وُضِعَ عَلَيْهَا الْخَرَاجُ ، أَوْ لَمْ يُوضَعْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّ الْمُسْلِمِ عَنْهَا فَلَوْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهَا عَيْبًا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَرُدَّهُ بَعْدَ مَا وُضِعَ عَلَيْهَا الْخَرَاجُ ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ عَيْبٌ ، وَهَذَا عَيْبٌ حَدَثَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَيَمْنَعُهُ مِنْ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ أَلَا تَرَى أَنَّ مُسْلِمًا لَوْ اشْتَرَى أَرْضًا خَرَاجِيَّةً بِشَرْطِ أَنَّ خَرَاجَهَا دِرْهَمٌ فَوَجَدَهُ دِرْهَمَيْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا فَإِنْ كَانَ زِيَادَةُ الْخَرَاجِ عَيْبًا فَكَذَلِكَ أَصْلُ الْخَرَاجِ فَإِذَا تَعَذَّرَ رَدُّهَا بِالْعَيْبِ رَجَعَ بِحِصَّةٍ مِنْ الثَّمَنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وُضِعَ عَلَيْهَا الْخَرَاجُ حَتَّى وَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ الْأَرْضَ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا بِيعَتْ بِوَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا التَّفْصِيلَ هُنَا وَمُرَادُهُ مِنْ وَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا مُطَالَبَةُ صَاحِبِهَا بِأَدَاءِ الْخَرَاجِ

( قَالَ ) : وَلَوْ أَنَّ تَغْلِبِيًّا اشْتَرَى أَرْضًا مِنْ أَرْضِ الْعُشْرِ فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ مُضَاعَفًا ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ فَلِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ عَلَى أَنْ يُضَعَّفَ عَلَيْهِمْ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ وَالْعُشْرُ يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ فَيُضَعَّفُ عَلَيْهِمْ ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ فَلِأَنَّ كَافِرًا آخَرَ لَوْ اشْتَرَى أَرْضًا عُشْرِيَّةً كَانَ الْعُشْرُ عَلَيْهِ مُضَاعَفًا عِنْدَهُ فَالتَّغْلِبِيُّ أَوْلَى وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ عُشْرٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ تَضْعِيفَ الْعُشْرِ فِي الْأَرَاضِي الْأَصْلِيَّةِ لَهُمْ ، وَهِيَ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الصُّلْحُ فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَرَضِينَ التَّغْلِبِيُّ كَغَيْرِهِ مِنْ الْكُفَّارِ وَمَا صَارَ وَظِيفَةً فِي الْأَرْضِ لَا يَتَبَدَّلُ بِتَبَدُّلِ الْمِلْكِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى أَرْضًا خَرَاجِيَّةً كَانَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ عَلَى حَالِهِ وَلَوْ اشْتَرَى أَرْضًا مِنْ أَرْضِ نَجْرَانَ كَانَ عَلَيْهِ الْمَالُ عَلَى حَالِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ : إنَّمَا وَقَعَ الصُّلْحُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ عَلَى أَنْ يُضَعَّفَ عَلَيْهِمْ مَا يَبْذُلُهُ الْمُسْلِمُ وَالْخَرَاجُ مِمَّا لَا يَبْذُلُهُ الْمُسْلِمُ فَلَا يُضَعَّفُ عَلَيْهِمْ وَأَمَّا الْعُشْرُ مِمَّا يَبْذُلُهُ الْمُسْلِمُ فَيُضَعَّفُ عَلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ الصُّلْحِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى سَائِمَةً مِنْ مُسْلِمٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ فِيهَا مُضْعِفَةً وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى أَرْضًا خَرَاجِيَّةً فَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ فِي وَقْتٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ زِرَاعَتِهَا قَبْلَ مُضِيِّ السَّنَةِ فَالْخَرَاجُ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا بَعْدَ مَا تَمَلَّكَهَا ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى زِرَاعَتِهَا حَتَّى تَمْضِيَ السَّنَةُ فَالْخَرَاجُ عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَمَكِّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي السَّنَةِ

قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ وُجُوبَ الْخَرَاجِ بِاعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ .

( قَالَ ) : وَإِنْ بَاعَ أَرْضًا عُشْرِيَّةً بِمَا فِيهَا مِنْ الزَّرْعِ فَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ قَدْ بَلَغَ فَالْعُشْرُ عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ بِإِدْرَاكِ الزَّرْعِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعُشْرُ فِيهَا ثُمَّ بِإِخْرَاجِهَا مِنْ مِلْكِهِ صَارَ مُسْتَهْلِكًا مَحَلَّ حَقِّ الْفُقَرَاءِ فَيَكُونُ ضَامِنًا لِلْعُشْرِ ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ الزَّرْعُ فَالْعُشْرُ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عُشْرُ الزَّرْعِ غَلَى الْبَائِعِ وَفَضْلُ مَا بَيْنَهُمَا عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْعُشْرَ يَجِبُ فِي الْقَصِيلِ إذَا قَصَلَهُ صَاحِبُهُ وَإِذَا لَمْ يَقْصِلْهُ حَتَّى انْعَقَدَ الْحَبُّ فَإِنَّمَا يَجِبُ الْعُشْرُ فِي الْحَبِّ دُونَ الْقَصِيلِ وَقَدْ انْعَقَدَ الْحَبُّ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَكَانَ الْعُشْرُ عَلَيْهِ ، وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : هُوَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَالِكِ كَذَلِكَ فَأَمَّا إذَا كَانَ الزَّرْعُ فِي مِلْكِ إنْسَانٍ ، وَانْعِقَادُ الْحَبِّ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْحَالَيْنِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعُشْرِ فِي النَّمَاءِ الْحَاصِلِ ، وَأَصْلُ الزَّرْعِ إنَّمَا حَصَلَ لِلْبَائِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَأَمَّا الْمُشْتَرِي إنَّمَا حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ بِعِوَضٍ ، وَهُوَ الثَّمَنُ فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْعُشْرِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَأَوْجَبْنَاهُ عَلَى الْبَائِعِ وَمَا حَصَلَ مِنْ الْفَضْلِ بَعْدَ الشِّرَاءِ إنَّمَا يَسْلَمُ لِلْمُشْتَرِي بِغَيْرِ عِوَضٍ فَعَلَيْهِ عُشْرُ ذَلِكَ الْفَضْلِ فَإِنْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْخَضْرَاوَاتِ ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ عِنْدَهُمَا

( قَالَ ) وَلَوْ أَنَّ أَرْضًا غَصَبَهَا رَجُلٌ فَزَرَعَهَا فَالزَّرْعُ لَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَا يَتَصَدَّقُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِشَيْءٍ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْغَصْبِ فِيمَا إذَا تَصَرَّفَ الْغَاصِبُ فِي الْمَغْصُوبِ ، أَوْ تَصَرَّفَ الْمُودَعُ وَرَبِحَ ( قَالَ ) : فَإِنْ كَانَ أَجَرَهَا بِمَالٍ كَثِيرٍ يَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا ، وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِهَا قَبْلَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ بِاعْتِبَارِ مُضِيِّ الْحَوْلِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ، وَهُوَ مَا إذَا نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ عَيَّنَهَا فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ هُنَاكَ كَانَ مِلْكًا طَيِّبًا لَهُ ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَ التَّصَدُّقَ بِهَا بِنَذْرِهِ وَالِالْتِزَامُ بِالنَّذْرِ يَكُونُ فِي الذِّمَّةِ وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِغَيْرِهَا وَيُمْسِكَهَا فَلِهَذَا لَزِمَتْهُ الزَّكَاةُ فِيهَا وَأَمَّا هُنَا إنَّمَا لَزِمَهُ التَّصَدُّقُ فِي عَيْنِ هَذَا الْمَالِ حَيْثُ تَمَكَّنَ مِنْهُ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِغَيْرِهِ وَيُمْسِكَهُ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ فَإِنْ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذَا فَقَالَ : عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِيهَا وَالْفَضْلُ يَتَصَدَّقُ بِهِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهَا كَامِلٌ فَتَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ بِاعْتِبَارِ الْحَوْلِ ، وَلَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْمَالِ بِمَعْنَى التَّطْهِيرِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } ، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ بِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِي هَذَا الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ يَزُولُ الْخَبَثُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ ، وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِالْفَضْلِ فَلَا مَعْنَى لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِيهَا فَقُلْنَا يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِهَا بَعْدَ الْحَوْلِ كَمَا كَانَ يَتَصَدَّقُ

قَبْلَ الْحَوْلِ

( قَالَ ) وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا بَاعَ أَرْضَهُ الْعُشْرِيَّةَ بِمَا فِيهَا مِنْ زَرْعٍ لَمْ يُدْرِكْ مِنْ كَافِرٍ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُوضَعُ فِيهَا الْخَرَاجُ لِأَنَّ الْحَبَّ انْعَقَدَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَكَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي زَرَعَهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْبَائِعِ عُشْرُ الزَّرْعِ وَيُوضَعُ الْخَرَاجُ عَلَى الْكَافِرِ أَمَّا قَوْلُهُ عَلَى الْبَائِعِ عُشْرُ الزَّرْعِ صَحِيحٌ عَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِهِ فِيمَا بَاعَهَا مِنْ مُسْلِمٍ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَيُوضَعُ الْخَرَاجُ عَلَى الْكَافِرِ فَهُوَ غَلَطٌ ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْكَافِرَ إذَا اشْتَرَى أَرْضًا عُشْرِيَّةً فَعَلَيْهِ فِيهَا عُشْرَانِ ، وَلَا يُوضَعُ الْخَرَاجُ عَلَيْهِ فَهُنَا أَيْضًا عَلَى قَوْلِهِ يَجِبُ فِي الْفَضْلِ عُشْرَانِ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا كَانَ عَلَيْهِ عُشْرُ الْفَضْلِ فَإِذَا كَانَ كَافِرًا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْفَضْلِ عُشْرَانِ

( قَالَ ) : وَإِنْ أَجَرَهَا مُسْلِمٌ مِنْ مُسْلِمٍ فَلَمْ يَزْرَعْهَا فَلَا عُشْرَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْعُشْرِ الْخَارِجُ وَلَمْ يَحْصُلْ وَلَوْ عَطَّلَهَا الْمَالِكُ لَمْ يَجِبْ عُشْرُهَا عَلَى أَحَدٍ فَكَذَلِكَ إذَا عَطَّلَهَا الْمُسْتَأْجِرُ وَلَكِنْ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ الْأَجْرُ إنْ كَانَ قَدْ قَبَضَهَا ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ وَبِالتَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ يَتَقَرَّرُ الْأَجْرُ عَلَيْهِ .

( قَالَ ) : وَلَوْ أَنَّ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ مَاتَ رَبُّهَا قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ الْخَرَاجُ فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ وَرَثَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ فِي مَعْنَى الصِّلَةِ فَيَسْقُطُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ ، وَلَا يَتَحَوَّلُ إلَى التَّرِكَةِ كَالزَّكَاةِ ثُمَّ خَرَاجُ الْأَرْضِ مُعْتَبَرٌ بِخَرَاجِ الرَّأْسِ فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْنَى الصِّغَارِ وَكَمَا أَنَّ خَرَاجَ الرَّأْسِ يَسْقُطُ بِمَوْتِ مَنْ عَلَيْهِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ فَكَذَلِكَ خَرَاجُ الْأَرْضِ ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْوَرَثَةِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ .

( قَالَ ) : وَلَوْ مَاتَ رَبُّ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ ، وَفِيهَا زَرْعٌ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ عَلَى حَالِهِ ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ ، وَقَالَ يَسْقُطُ بِمَوْتِ رَبِّ الْأَرْضِ فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الزَّرْعُ كَمَا حَصَلَ صَارَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْفُقَرَاءِ وَرَبِّ الْأَرْضِ عُشْرُهُ حَقُّ الْفُقَرَاءِ وَتِسْعَةُ أَعْشَارِهِ حَقُّ رَبِّ الْأَرْضِ ، وَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ فِي إيجَابِ الْعُشْرِ الْمَالِكُ حَتَّى يَجِبَ فِي أَرْضِ الْمُكَاتَبِ وَالْعَبْدِ وَالْمَدْيُونِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَبِمَوْتِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الْآخَرِ وَلَكِنْ يَبْقَى بِبَقَاءِ مَحَلِّهِ فَأَمَّا الْخَرَاجُ مَحَلُّهُ الذِّمَّةُ وَبِمَوْتِهِ خَرَجَتْ ذِمَّتُهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ صَالِحَةً لِالْتِزَامِ الْحُقُوقِ وَالْمَالُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الذِّمَّةِ فِيهَا فِيمَا طَرِيقُهُ طَرِيقُ الصِّلَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وُجُوبَ الْخَرَاجِ فِي أَرْضِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ؛ لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ وَمَالُ الصَّبِيِّ مُحْتَمِلٌ لِلْمُؤْنَاتِ بِمَنْزِلَةِ النَّفَقَاتِ

( قَالَ ) : وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا عَجَّلَ خَرَاجَ أَرْضِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَذَلِكَ يُجْزِيهِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْخَرَاجِ مِلْكُ الْأَرْضِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا ، ذَلِكَ مَوْجُودٌ وَالتَّعْجِيلُ بَعْدَ تَمَامِ السَّبَبِ جَائِزٌ لِسَنَةٍ وَلِسَنَتَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَجَّلَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ لِسَنَتَيْنِ كَانَ جَائِزًا فَكَذَلِكَ إذَا عَجَّلَ الزَّكَاةَ عَنْ النِّصَابِ لِسَنَتَيْنِ كَانَ جَائِزًا فَأَمَّا إذَا عَجَّلَ عُشْرَ أَرْضَهُ قَبْلَ أَنْ يَزْرَعَهَا لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّ الْعُشْرَ ، وَإِنْ كَانَ مُؤْنَةَ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا بِاعْتِبَارِ حُصُولِ الْخَارِجِ فَلَا يَتِمُّ السَّبَبُ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ وَقَبْلَ تَمَامِ السَّبَبِ لَا يَجُوزُ التَّعْجِيلُ كَمَا لَوْ عَجَّلَ الزَّكَاةَ عَنْ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ قَبْلَ أَنْ يَجْعَلَهَا سَائِمَةً وَبَعْدَ مَا زَرَعَهَا جَازَ تَعْجِيلُ الْعُشْرِ سَوَاءٌ اسْتَحْصَدَ ، أَوْ لَمْ يَسْتَحْصِدْ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ قَدْ تَمَّ ، وَلَمْ يَبْقَ إلَى وُجُوبِ الْعُشْرِ إلَّا مُجَرَّدُ مُضِيِّ الزَّمَانِ فَهُوَ كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ بَعْدَ كَمَالِ النِّصَابِ قَبْلَ الْحَوْلِ فَإِنْ عَجَّلَ عُشْرَ نَخْلَهُ قَالَ : هُنَا يُجْزِيهِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إنْ حَصَلَ الطَّلْعُ جَازَ التَّعْجِيلُ وَإِلَّا لَمْ يُجْزِ لِأَنَّ مِلْكَ النَّخْلِ كَمِلْكِ الْأَرْضِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْعُشْرَ لَا يَجِبُ فِيهِ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي الْخَارِجِ مِنْهُ فَكَمَا لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الْعُشْرِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْأَرْضِ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ عُشْرِ النَّخْلِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ الطَّلْعُ بِخِلَافِ مَا إذَا عَجَّلَ عُشْرَ الزَّرْعِ قَبْلَ أَنْ يَنْعَقِدَ الْحَبُّ ؛ لِأَنَّ الْقَصِيلَ مَحَلٌّ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ فِيهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَصَلَهُ كَمَا هُوَ يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الْعُشْرِ مِنْهُ فَلِهَذَا جَازَ التَّعْجِيلُ بِاعْتِبَارِهِ وَأَمَّا النَّخْلُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْعُشْرِ فَإِنَّهُ لَوْ قَطَعَهُ كَانَ حَطَبًا لَا شَيْءَ فِيهِ فَلَا يَجُوزُ فِيهِ الْعُشْرُ

بِاعْتِبَارِهِ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وُجُوبِ الْعُشْرِ إلَّا مُجَرَّدُ مُضِيِّ الزَّمَانِ فَيَجُوزُ التَّعْجِيلُ كَمَا يَجُوزُ التَّعْجِيلُ عَنْ الزَّرْعِ قَبْلَ أَنْ يَنْعَقِدَ الْحَبُّ وَعَنْ النِّصَابِ قَبْلَ أَنْ يَحُولَ الْحَوْلُ

( قَالَ ) وَلَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ أَرْضَ نَخْلٍ ، أَوْ مُشْجِرَةٌ فَلَا خَرَاجَ فِيهَا لَكِنْ يُوضَعُ عَلَيْهَا بِقَدْرِ مَا تَطِيقُ ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا خَرَاجُ الْكَرْمِ ، وَلَا خَرَاجَ الرُّطَبَةِ ، وَلَا خَرَاجُ الزَّرْعِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ هَذِهِ الْأَرَاضِي فِي الِانْتِفَاعِ وَلَكِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا وَظَّفَ مِنْ الْخَرَاجِ اعْتَبَرَ الطَّاقَةَ حَيْثُ قَالَ لِلَّذِينَ مَسَحَا الْأَرَاضِي لَعَلَّكُمَا حَمَّلْتُمَا الْأَرَاضِيَ مَا لَا تُطِيقُ فَقَالَا : بَلْ حَمَّلْنَاهَا مَا تَطِيقُ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الطَّاقَةُ فَفِي الْمُشْجِرَةِ وَأَرْضِ النَّخْلِ تُعْتَبَرُ الطَّاقَةُ أَيْضًا ، ذَلِكَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى غَلَّتِهِ فَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ غَلَّةِ الرُّطَبَةِ فَخَرَاجُهَا مِثْلُ خَرَاجِ أَرْضِ الرُّطَبَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ غَلَّةِ الْكَرْمِ ، وَكَذَلِكَ .

( قَالَ ) : فَإِنْ عَجَّلَ خَرَاجَ أَرْضِهِ ثُمَّ غَرِقَتْ تِلْكَ السَّنَةَ كُلَّهَا فَإِنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ مَا أَدَّى مِنْ خَرَاجِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا فَلَا يَلْزَمُهُ خَرَاجُهَا وَيَدُ الْإِمَامِ فِي الْخَرَاجِ الْمُعَجَّلِ نَائِبَةٌ عَنْ يَدِ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَ هَذَا فِي زَكَاةِ السَّائِمَةِ إذَا عَجَّلَهَا فَدَفَعَهَا إلَى السَّاعِي ثُمَّ هَلَكَتْ السَّائِمَةُ وَالْمُعَجَّلُ قَائِمٌ فِي يَدِ السَّاعِي فَإِنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ فِي الْخَرَاجِ ( قَالَ ) : فَإِنْ زَرَعَهَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ يَحْسِبُ لَهُ مَا أَدَّى مِنْ خَرَاجِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ إنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ نَائِبَةٌ فِي ذَلِكَ الْمَالِ كَيَدِهِ ، وَلَا فَائِدَةَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ ثُمَّ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ .
فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّكُمْ قُلْتُمْ فِي الزَّكَاةِ إذَا عَجَّلَهَا وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِي ذَلِكَ الْحَوْلِ فَإِنَّ الْمُعَجَّلَ لَا يُجْزِئُ عَمَّا يَلْزَمُهُ فِي حَوْلٍ آخَرَ .
قُلْنَا ذَلِكَ فِيمَا إذَا دَفَعَهَا إلَى الْفَقِيرِ فَتَتِمُّ تَطَوُّعًا عِنْدَ مُضِيِّ الْحَوْلِ وَهُنَا لَا يَتِمُّ الْمُؤَدَّى خَرَاجًا فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ ، وَلَكِنْ لَهُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ فَيُحْسَبُ ذَلِكَ لَهُ مِنْ خَرَاجِهِ فِي الْحَوْلِ الثَّانِي

( قَالَ ) : فَإِنْ أَجَرَ أَرْضِهِ سِنِينَ فَغَرِقَتْ سَنَةً فَلَمْ يَفْسَخْ الْقَاضِي الْإِجَارَةَ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ حَتَّى يَنْضُبَ الْمَاءُ عَنْهَا ، وَلَا خَرَاجَ عَلَى رَبِّهَا فِي السَّنَةِ الَّتِي غَرِقَتْ فِيهَا ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ ، وَقَدْ انْعَدَمَ إلَّا أَنَّ فَرْقَ مَا بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَجْرَ يَجِبُ لِلْمُدَّةِ الَّتِي مَضَتْ قَبْلَ أَنْ تَغْرَقَ وَالْخَرَاجُ لَا يَجِبُ ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ عِوَضٌ يَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا بِحَسَبِ مَا يُسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ فَأَمَّا الْخَرَاجُ إنَّمَا يَجِبُ جُمْلَةً وَاحِدَةً بِاعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ حِينَ غَرِقَتْ الْأَرْضُ وَتَكُونُ الْإِجَارَةُ عَلَى حَالِهَا ؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ مَعَ بَقَائِهَا بِعَارِضٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَتَبْقَى الْإِجَارَةُ مَا لَمْ يَفْسَخْ الْقَاضِي الْعَقْدَ فَإِنْ فَسَخَ الْقَاضِي الْعَقْدَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَإِنَّهَا لَا تَعُودُ الْإِجَارَةُ مُسْتَقْبَلَةً ؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِفَسْخِ الْعَقْدِ وَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ لَهُ قَائِمٌ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ إذَا أَبَقَ فَإِنْ لَمْ يَفْسَخْ الْقَاضِي الْعَقْدَ حَتَّى عَادَ كَانَتْ الْإِجَارَةُ بَاقِيَةً ، وَإِنْ فَسَخَ الْقَاضِي الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا لَمْ تَعُدْ الْإِجَارَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَإِنْ عَادَ مِنْ إبَاقِهِ .

( قَالَ ) : وَلَوْ أَنَّ صَبِيًّا أَدَّى أَبُوهُ عُشْرَ أَرْضَهُ أَوْ خَرَاجَهَا ، أَوْ أَدَّى ذَلِكَ وَصِيُّهُ فَهُمَا ضَامِنَانِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مَا إذَا أَدَّيَا الْعُشْرَ إلَى الْفُقَرَاءِ أَوْ الْخَرَاجَ إلَى الْمُقَاتِلَةِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ فِيهِمَا لِلسُّلْطَانِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْ الصَّبِيِّ بِأَدَائِهَا إلَى الْفُقَرَاءِ أَوْ الْمُقَاتِلَةِ فَأَمَّا إذَا أَدَّيَا إلَى السُّلْطَانِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا وَكَيْفَ يَضْمَنَا وَالسُّلْطَانُ يُطَالِبُهُمَا بِذَلِكَ وَيُجْبِرُهُمَا عَلَى الْأَدَاءِ ثُمَّ بَيَّنَ مَصَارِفَ الصَّدَقَاتِ وَالْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ وَالْخُمْسِ وَالْجِزْيَةِ وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ وَمِنْ بَنِي تَغْلِبَ وَقَدْ بَيَّنَّا جَمِيعَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ .

( قَالَ ) : فَإِنْ اشْتَرَى بِمَالِ الْخَرَاجِ غَنَمًا سَائِمَةً لِلتِّجَارَةِ ، وَحَال عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَعَلَيْهِ فِيهَا الزَّكَاةُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اجْتَمَعَتْ الْغَنَمُ الْمَأْخُوذَةُ فِي الزَّكَاةِ فِي يَدِ الْإِمَامِ ، وَهِيَ سَائِمَةٌ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا فَائِدَةَ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ مَصْرِفَ الْوَاجِبِ وَالْمُوجِبَ فِيهِ وَاحِدٌ ، وَهُنَا فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ فَائِدَةٌ فَإِنَّ مَصْرِفَ الْمُوجِبَ فِيهِ الْمُقَاتِلَةُ وَمَصْرِفَ الْوَاجِبِ الْفُقَرَاءُ فَكَانَ الْإِيجَابُ مُفِيدًا فَلِهَذَا تَجِبُ الزَّكَاةُ ( قَالَ ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَفِي هَذَا الْفَصْلِ نَظَرٌ فَإِنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ وَالْمَالِكِ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ فِي سَوَائِمِ الْوَقْفِ ، وَلَا فِي سَوَائِمِ الْمُكَاتَبِ وَيُعْتَبَرُ فِي إيجَابِهَا صِفَةُ الْغِنَى لِلْمَالِكِ ، ذَلِكَ لَا يُوجَدُ هُنَا إذَا اشْتَرَاهَا الْإِمَامُ بِمَالِ الْخَرَاجِ لِلْمُقَاتِلَةِ فَلَا يَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا لِنَفْسِهِ فَحِينَئِذٍ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ بِاعْتِبَارِ وُجُودِ الْمَالِكِ وَصِفَةِ الْغِنَى لَهُ .

( قَالَ ) : وَإِنْ كَانَ لِلرَّجُلِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ بَعِيرًا حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ ثُمَّ اسْتَفَادَ عَشَرَةَ أَبْعِرَةٍ فَضَمَّهَا مَعَهَا ثُمَّ ضَاعَ مَعَهَا عَشَرَةٌ مِنْ الْإِبِلِ لَا يَعْلَمُ مِنْ أَيِّهِمَا هِيَ فَعَلَيْهِ ثَلَاثٌ مِنْ الْغَنَمِ فِيهَا وَالْقِيَاسُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَسْبَاعِ بِنْتِ مَخَاضٍ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْجُمْلَةَ كَانَتْ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ فَحِينَ ضَاعَ مِنْهَا عَشَرَةٌ يُجْعَلُ مَا ضَاعَ مِمَّا فِيهِ الزَّكَاةُ ، وَمِمَّا لَا زَكَاةَ فِيهِ بِالْحِصَّةِ فَيَكُونُ خَمْسَةَ أَسْبَاعِ مَا ضَاعَ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ وَسُبُعَاهُ مِمَّا لَا زَكَاةَ فِيهِ وَخَمْسَةُ أَسْبَاعِ الْعَشَرَةِ سَبْعَةٌ وَسُبُعٌ وَقَدْ كَانَ وَجَبَ عَلَيْهِ بِنْتُ مَخَاضٍ فِي خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ضَاعَ مِنْهَا سَبْعَةٌ وَسُبُعٌ ، وَبَقِيَ مِنْهَا سَبْعَةَ عَشَرَ وَسِتَّةُ أَسْبَاعِ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ فَإِنْ كَانَ سُبُعٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعَةَ أَسْبَاعٍ فَإِذَا جَمَعْتَ خَمْسَ مَرَّاتٍ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعَةَ أَسْبَاعٍ يَكُونُ سَبْعَةَ عَشَرَ وَسِتَّةَ أَسْبَاعٍ فَلِهَذَا كَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ خَمْسَةَ أَسْبَاعِ بِنْتِ مَخَاصٍ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ : الشَّرْعُ أَوْجَبَ الْغَنَمَ عِنْدَ قِلَّةِ الْإِبِلِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُجَانَسَةٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ صَاحِبِ الْمَالِ بِإِيجَابِ الشِّقْصِ عَلَيْهِ كَمَا يَدْفَعُ الضَّرَرَ عَنْهُ فِي الِابْتِدَاءِ فَيُجْعَلُ الْهَلَاكُ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَكَأَنَّ فِي مِلْكِهِ سَبْعَةَ عَشَرَ بَعِيرًا وَسِتَّةَ أَسْبَاعٍ فَعَلَيْهِ فِيهَا ثَلَاثَةٌ مِنْ الْغَنَمِ وَلَكِنَّ وَجْهَ الْقِيَاسِ أَقْوَى ؛ لِأَنَّ مَعْنَى دَفْعِ الضَّرَرِ مُعْتَبَرٌ فِي الِابْتِدَاءِ فَأَمَّا فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ لَا يُعْتَبَرُ ، وَلَكِنْ يَبْقَى مِنْ الْوَاجِبِ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ النِّصَابُ فِي الْبَقَاءِ بِخِلَافِ الِابْتِدَاءِ ، وَقَدْ كَانَ الْوَاجِبُ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ بِنْتَ مَخَاضٍ فَلَا مَعْنَى لِلتَّحْوِيلِ إلَى الْغَنَمِ عِنْدَ هَلَاكِ بَعْضِ الْمَالِ فَعَرَفْنَا أَنَّ

وَجْهَ الْقِيَاسِ أَقْوَى فَلِهَذَا فَرَّعَ عَلَى وَجْهِ الْقِيَاسِ فَقَالَ : إنْ عَرَفَ خَمْسَةً مِنْ الْإِبِلِ فَعَلَيْهِ فِيهَا خُمُسُ بِنْتِ مَخَاضٍ وَفِي الْبَاقِيَةِ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ ثُلُثَيْ بِنْتِ مَخَاضٍ أَمَّا وُجُوبُ خُمُسِ بِنْتِ مَخَاضٍ فِي الْخَمْسَةِ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَجَبَ بِنْتُ الْمَخَاضِ فِي خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ فَيَكُونُ فِي خَمْسَةٍ خُمُسُهَا ثُمَّ بَقِيَ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ عِشْرُونَ وَمَا لَا زَكَاةَ فِيهِ عَشْرَةٌ وَالْهَالِكُ عَشْرَةٌ فَثُلُثُ الْهَالِكِ مِمَّا لَا زَكَاةَ فِيهِ وَثُلُثَا مَا فِيهِ الزَّكَاةُ ، وَهُوَ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ فَإِذَا نَقَصْنَا ذَلِكَ مِنْ الْعِشْرِينَ بَقِيَ ثُلُثُ عُشْرٍ وَثُلُثٌ وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ ثُلُثَا بِنْتِ مَخَاضٍ فِي سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ ؛ لِأَنَّهَا ثُلُثَا خَمْسَةٍ وَعِشْرَيْنِ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٌ يَكُونُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسه فَإِنَّ كُلَّ خُمْسٍ يَكُون ثَلَاثَةً وَثُلُثًا فَلِهَذَا قَالَ فِي الْبَاقِيَةِ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ ثُلُثَيْ بِنْتِ مَخَاضٍ وَلَوْ كَانَ لَهُ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ بَعِيرًا فَخَلَطَهَا بِمِثْلِهَا بَعْدَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ ثُمَّ ضَاعَ نِصْفُهَا فَعَلَيْهِ فِي الْبَاقِي نِصْفُ بِنْتِ مَخَاضٍ ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْهَالِكِ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ وَنِصْفَهُ مِمَّا لَا زَكَاةَ فِيهِ وَأَنَّ مَا بَقِيَ نِصْفُ مَالِ الزَّكَاةِ فَلِهَذَا قَالَ : عَلَيْهِ نِصْفُ بِنْتِ مَخَاضٍ فِي الْقِيَاسِ وَيَنْبَغِي عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ عَلَيْهِ فِي الْبَاقِي شَاتَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْهَالِكَ يُجْعَلُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَالْبَاقِي مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ اثْنَا عَشَرَ وَنِصْفٌ وَلَكِنَّ وَجْهَ الْقِيَاسِ أَقْوَى كَمَا بَيَّنَّا وَمَا ذَكَرَ بَعْد هَذَا إلَى آخِرِ الْكِتَابِ مِنْ مَسَائِلِ الْمَعْدِنِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ فَقَدْ بَيَّنَّا جَمِيعَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَةِ ذَلِكَ هُنَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( قَالَ ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ : رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الصَّوْمُ فِي اللُّغَةِ : هُوَ الْإِمْسَاكُ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُك اللُّجُمَا أَيْ وَاقِفَةٌ وَمِنْهُ صَامَ النَّهَارُ إذَا وَقَفَتْ الشَّمْسُ سَاعَةَ الزَّوَالِ ، وَفِي الشَّرِيعَةِ : عِبَارَةٌ عَنْ إمْسَاكٍ مَخْصُوصٍ ، وَهُوَ الْكَفُّ عَنْ قَضَاءِ الشَّهْوَتَيْنِ شَهْوَةِ الْبَطْنِ وَشَهْوَةِ الْفَرْجِ مِنْ شَخْصٍ مَخْصُوصٍ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا طَاهِرًا مِنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَفِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ ، وَهُوَ مَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى وَقْتِ غُرُوبِ الشَّمْسِ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ فَالِاسْمُ شَرْعِيٌّ فِيهِ مَعْنَى اللُّغَةِ وَأَصْلُ فَرْضِيَّةِ الصَّوْمِ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ } إلَى قَوْلِهِ { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } فَفِيهِ بَيَانُ السَّبَبِ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّرْعُ مُوجِبًا ، وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ وَأَمَرَ بِالْأَدَاءِ نَصًّا بِقَوْلِهِ فَلْيَصُمْهُ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ } ، وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا الصَّوْمَ وَقَدْ كَانَ وَقْتُ الصَّوْمِ فِي الِابْتِدَاءِ مِنْ حِينِ يُصَلِّي الْعِشَاءَ أَوْ يَنَامُ وَهَكَذَا كَانَ فِي شَرِيعَةٍ مَنْ قَبْلِنَا ثُمَّ خَفَّفَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمْرَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ ، وَجَعَلَ أَوَّلَ الْوَقْتِ مِنْ حِينِ يَطْلُعْ الْفَجْرُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ } الْآيَةَ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ الصُّبْحُ الصَّادِقُ وَالْخَيْطُ اللَّوْنُ وَفِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ } وَسَبَبُ هَذَا التَّخْفِيفِ مَا اُبْتُلِيَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {

وَمَا اُبْتُلِيَ بِهِ صِرْمَةُ بْنُ أَنَسٍ حِينَ رَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْهُودًا فَقَالَ : مَا لَك أَصْبَحْت طَلْحًا أَوْ قَالَ طَلِيحًا } الْحَدِيثُ وَمَعْنَى التَّخْفِيفِ أَنَّ الْمُعْتَادَ فِي النَّاسِ أَكْلَتَانِ الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ فَكَانَ التَّقَرُّبُ بِالصَّوْمِ فِي الِابْتِدَاءِ بِتَرْكِ الْغَدَاءِ وَالِاكْتِفَاءِ بِأَكْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْعَشَاءُ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبْقَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْأَكْلَتَيْنِ جَمِيعًا ، وَجَعَلَ مَعْنَى التَّقَرُّبِ فِي تَقْدِيمِ الْغَدَاءِ عَنْ وَقْتِهِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السُّحُورِ إنَّهُ الْغِذَاءُ الْمُبَارَكُ وَالتَّقَرُّبُ بِالصَّوْمِ مِنْ حَيْثُ مُجَاهِدَةُ النَّفْسِ وَالْمُجَاهَدَةُ فِي هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بِمَنْعِ النَّفْسِ مِنْ الطَّعَامِ وَقْتَ الِاشْتِهَاءِ وَالثَّانِي بِالْقِيَامِ وَقْتَ حُبِّهَا الْمَنَامَ وَمِنْ الْمُجَاهَدَةِ حِفْظُ اللِّسَانِ وَتَعْظِيمُ مَا عَظَّمَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا بَدَأَ بِهِ الْكِتَابَ وَذَكَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ جَاءَ رَمَضَانُ وَذَهَبَ رَمَضَانُ وَلَكِنْ لِيَقُلْ جَاءَ شَهْرُ رَمَضَانَ وَذَهَبَ شَهْرُ رَمَضَانَ قَالَ لَا أَدْرِي لَعَلَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَأَنَّهُ ذَهَبَ فِي هَذَا إلَى مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تَقُولُوا جَاءَ رَمَضَانُ وَذَهَبَ رَمَضَانُ فَإِنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى } وَفِي رِوَايَةٍ { وَلَكِنْ عَظِّمُوهُ كَمَا عَظَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى } وَاخْتَارَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا قَوْلَ مُجَاهِدٍ فِي هَذَا فَقَالَ : وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُكْرَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُبِنْ مَذْهَبَ نَفْسِهِ ، وَلَا رَوَى خَبَرًا بِخِلَافِ قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَقَالُوا : فِي بَيَانِ الْمَعْنَى إنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْإِرْمَاضِ ، وَهُوَ الْإِحْرَاقُ وَالْمُحْرِقُ لِلذُّنُوبِ الْمَذْهَبُ لَهَا هُوَ

اللَّهُ تَعَالَى ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً } وَقَالَ { : مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَقَامَهُ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ } وَقَالَ { : إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ } وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ رَمَضَانَ وَاثِبَاتُ الِاسْمِ لَا يَكُونُ بِالْآحَادِ وَإِنَّمَا يَكُونُ بِالْمُتَوَاتِرِ وَالْمَشَاهِيرِ ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ كَالْحَكِيمِ وَالْعَالِمِ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَالَ : جَاءَ الْحَكِيمُ وَالْعَالِمُ وَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى

( قَالَ ) : رَجُلٌ تَسَحَّرَ وَقَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَمُرَادُهُ الْفَجْرُ الثَّانِي فَبِطُلُوعِ الْفَجْرِ الْأَوَّلِ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ ذَنَبَ السِّرْحَانِ لَا يَدْخُلُ وَقْتُ الصَّوْمِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا يَغُرَّنَّكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ وَلَا الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيرُ الْمُنْتَشِرُ } ، وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ تَسَحُّرَهُ كَانَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي فَسَدَ صَوْمُهُ إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّهُ يَقِيسُهُ عَلَى النَّاسِي بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَخْصُوصَ مِنْ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ، وَعِنْدَنَا الْمَخْصُوصُ مِنْ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ فَإِنَّ قِيَاسَ الْأَصْلِ يُعَارِضُهُ وَلَا يَلْحَقُ بِهِ إلَّا مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى النَّاسِي ؛ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ هَذَا الْغَلَطِ مُمْكِنٌ فِي الْجُمْلَةِ بِخِلَافِ النِّسْيَانِ ثُمَّ فَسَادُ صَوْمِهِ لِفَوَاتِ رُكْنِ الصَّوْمِ ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ ، وَعَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ فِي بَقِيَّةِ يَوْمِهِ قَضَاءً لِحَقِّ الْوَقْتِ فَإِنَّ الْإِمْسَاكَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عِنْدَ فَوَاتِ الصَّوْمِ مَشْرُوعٌ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أَلَا مَنْ أَكَلَ فَلَا يَأْكُلُ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ هَذَا الْيَوْمِ } ؛ لِأَنَّ فَوَاتَ الْأَدَاءِ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ فَيَضْمَنُهُ بِالْمِثْلِ بِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ لَهُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ وَكَفَّارَةُ الْفِطْرِ عُقُوبَةٌ لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى الْجَانِي قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ أَفْطَرَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهَرِ وَاَلَّذِي أَفْطَرَ ، وَهُوَ يَرَى أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَغِبْ فَعَلَيْهِ مِثْلُ هَذَا } وَفِيهِ حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ حِينَ أَفْطَرَ مَعَ الصَّحَابَةِ يَوْمًا فَلَمَّا صَعِدَ الْمُؤَذِّنُ الْمِئْذَنَةَ

قَالَ الشَّمْسُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ بَعَثْنَاك دَاعِيًا وَلَمْ نَبْعَثْك رَاعِيًا مَا تَجَانَفْنَا لِإِثْمٍ وَقَضَاءَ يَوْمٍ عَلَيْنَا يَسِيرٌ

( قَالَ ) : رَجُلٌ أَصْبَحَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ جُنُبًا فَصَوْمُهُ تَامٌّ إلَّا عَلَى قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ يَعْتَمِدُونَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ قَالَهُ } .
( وَلَنَا ) قَوْله تَعَالَى { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ } إلَى قَوْلِهِ { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضِ } ، وَإِذَا كَانَتْ الْمُبَاشَرَةُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ مُبَاحَةً فَالِاغْتِسَالُ يَكُونُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ضَرُورَةً وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِتْمَامِ الصَّوْمِ وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا { أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ : إنِّي أَصْبَحْت جُنُبًا وَأَنَا أُرِيدُ الصَّوْمَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَأَنَا رُبَّمَا أُصْبِحُ جُنُبًا وَأَنَا أُرِيدُ الصَّوْمَ فَقَالَ : لَسْت كَأَحَدِنَا فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَعْلَمَكُمْ بِمَا يَبْقَى } .
وَلَمَّا بَلَغَ عَائِشَةَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَتْ : رَحِمَ اللَّهُ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ ثُمَّ يُتِمُّ صَوْمَهُ وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ فَذُكِرَ قَوْلُهَا لِأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَقَالَ : هِيَ أَعْلَمُ حَدَّثَنِي بِهِ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَكَانَ يَوْمئِذٍ مَيِّتًا ثُمَّ تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ مَنْ أَصْبَحَ بِصِفَةٍ تُوجِبُ الْجَنَابَةَ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُخَالِطًا أَهْلَهُ ، وَإِنْ احْتَلَمَ نَهَارًا لَمْ يُفْطِرْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ الْقَيْءُ وَالْحِجَامَةُ وَالِاحْتِلَامُ }

( قَالَ ) : وَإِنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ لَمْ يُفْطِرْ لِمَا رَوَيْنَا وَلِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الصَّوْمُ مِمَّا دَخَلَ ، وَإِنْ تَقَيَّأَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ قَاءَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَمَنْ اسْتِقَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ } ؛ وَلِأَنَّ فِعْلَهُ يُفَوِّتُ رُكْنَ الصَّوْمِ ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ فَفِي تَكَلُّفِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَعُودَ شَيْءٌ إلَى جَوْفِهِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَقُولُ كُلُّ مُفْطِرٍ غَيْرُ مَعْذُورٍ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَلَمْ يُفَصِّلْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ مَلِيءِ الْفَمِ ، وَمَا دُونَهُ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ، وَهُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّ مَا دُونَ مَلِيءِ الْفَمِ تَبَعٌ لِرِيقِهِ فَكَانَ قِيَاسَ مَا لَوْ تَجَشَّأَ وَمِلْءُ الْفَمِ لَا يَكُونُ تَبَعًا لِرِيقِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ نَاقِضٌ لِطَهَارَتِهِ فَإِنْ عَادَ إلَى جَوْفِهِ ، أَوْ أَعَادَهُ فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَرَدَّهُ ، وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرْمِيَ بِهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَرَوَى ابْنُ مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَكَانَ مِلْءَ فِيهِ أَوْ أَكْثَرَ فَعَادَ إلَى جَوْفِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ تَعَمَّدَ ذَلِكَ ، أَوْ لَمْ يَتَعَمَّدْ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ الصُّنْعَ فِي طَرَفِ الْإِخْرَاجِ ، أَوْ الْإِدْخَالِ ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ بِهِ الْإِمْسَاكُ وَأَبُو يُوسُفَ يَعْتَبِرُ انْتِقَاضَ الطَّهَارَةِ لِيَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِتَبَعٍ لِرِيقِهِ حَتَّى إذَا ذَرَعَهُ الْقَيْءُ دُونَ مِلْءِ الْفَمِ ، وَعَادَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ بِالِاتِّفَاقِ .
وَإِنْ أَعَادَهُ فَسَدَ صَوْمُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَلَمْ

يَفْسُدْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَإِنْ كَانَ مِلْءَ الْفَمِ فَعَادَ بِنَفْسِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَلَمْ يَفْسُدْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، وَإِنْ أَعَادَهُ فَسَدَ صَوْمُهُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ تَقَيَّأَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ فَمِهِ فَإِنْ عَادَ بِنَفْسِهِ يَفْسُدْ صَوْمُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَلَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَإِنْ أَعَادَهُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي إحْدَاهُمَا لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَاقِضٍ لِطَهَارَتِهِ وَفِي الْأُخْرَى يَفْسُدُ صَوْمُهُ لِكَثْرَةِ صُنْعِهِ فِي الْإِدْخَالِ وَالْإِخْرَاجِ جَمِيعًا فَكَانَ قِيَاسَ مِلْءِ الْفَمِ

( قَالَ ) : وَإِنْ احْتَجَمَ الصَّائِمُ لَمْ يَضُرَّهُ إلَّا عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ يَسْتَدِلُّونَ فِيهِ بِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِمَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ وَهُوَ يَحْتَجِمُ فِي رَمَضَانَ فَقَالَ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } .
( وَلَنَا ) حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ : { مَرَّ بِنَا أَبُو طَيْبَةَ فِي بَعْضِ أَيَّامِ رَمَضَانَ فَقُلْنَا مِنْ أَيْنَ جِئْت فَقَالَ : حَجَمْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَعَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ { : أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ شَكَا النَّاسُ إلَيْهِ الدَّمَ فَرَخَّصَ لِلصَّائِمِ أَنْ يَحْتَجِمَ } وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ ، وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ بِالْقَاحَةِ } وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِهِمَا وَهُمَا يَغْتَابَانِ آخَرَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } أَيْ أَذْهَبَتْ ثَوَابَ صَوْمِهِمَا الْغَيْبَةُ وَقِيلَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ غُشِيَ عَلَى الْمَحْجُومِ فَصَبَّ الْحَاجِمُ الْمَاءَ فِي حَلْقِهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } أَيْ فَطَّرَهُ بِمَا صَنَعَ بِهِ فَوَقَعَ عِنْدَ الرَّاوِي أَنَّهُ قَالَ : أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ ثُمَّ خُرُوجُ الدَّمِ مِنْ الْبَدَنِ لَا يُفَوِّتُ رُكْنَ الصَّوْمِ وَلَا يَحْصُلُ بِهِ اقْتِضَاءُ الشَّهْوَةِ وَبَقَاءُ الْعِبَادَةِ بِبَقَاءِ رُكْنِهَا

( قَالَ ) : وَاذَا طَهُرَتْ الْحَائِضُ فِي بَعْضِ نَهَارِ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِهَا صَوْمُهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ لِلْأَدَاءِ فِي أَوَّلِهِ ، وَعَلَيْهَا الْإِمْسَاكُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّ مَنْ كَانَ مُبَاحًا لَهُ الْإِفْطَارُ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لَا يَلْزَمُهُ الْإِمْسَاكُ فِيهِ فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْإِمْسَاكِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لَا يَتَجَزَّأُ كَوُجُوبِ الصَّوْمِ ، وَعَلَى هَذَا الصَّبِيُّ إذَا بَلَغَ وَالْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ وَالْمَرِيضُ إذَا بَرِئَ وَالْمُسَافِرُ إذَا قَدِمَ مِصْرَهُ وَالْمَجْنُونُ إذَا أَفَاقَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ لَا يَلْزَمُهُمْ الْإِمْسَاكُ عِنْدَهُ بِخِلَافِ يَوْمِ الشَّكِّ إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ وَالْمُتَسَحِّرُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ كَانَ مُبَاحًا لَهُ بَاطِنًا وَالْأَصْلُ عِنْدَنَا أَنَّ مَنْ صَارَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ عَلَى صِفَةٍ لَوْ كَانَ عَلَيْهَا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ فَعَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ فِي بَقِيَّةِ النَّهَارِ ؛ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ مَشْرُوعٌ خَلَفًا عَنْ الصَّوْمِ عِنْدَ فَوَاتِهِ لِقَضَاءِ حَقِّ الْوَقْتِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَكَلَ ، وَلَا عُذْرَ بِهِ اتَّهَمَهُ النَّاسُ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ مَوَاضِعِ التُّهْمَةِ وَاجِبٌ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَقِفْنَ مَوَاقِفَ التُّهَمِ } .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إيَّاكَ وَمَا يَقَعُ عِنْدَ النَّاسِ إنْكَارُهُ ، وَفِي رِوَايَةٍ مَا يَسْبِقُ إلَى الْقُلُوبِ إنْكَارُهُ ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَك اعْتِذَارُهُ فَلَيْسَ كُلُّ سَامِعٍ نُكُرًا يُطِيقُ أَنْ يُوسِعَهُ عُذْرًا ، وَإِنْ أَكَلَتْ لَمْ يَلْزَمْهَا شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ لَحِقَ الْوَقْتِ ، وَقَدْ فَاتَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ وَعَلَيْهَا قَضَاءُ هَذَا الْيَوْمِ مَعَ سَائِرِ أَيَّامِ الْحَيْضِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : مَا بَالُ إحْدَانَا تَقْضِي

صِيَامَ أَيَّامِ الْحَيْضِ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ فَقَالَتْ أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ كُنَّا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقْضِي صِيَامَ أَيَّامِ الْحَيْضِ وَلَا نَقْضِي الصَّلَاةَ ؛ وَلِأَنَّ الْحَرَجَ عُذْرٌ مُسْقِطٌ لِلْقَضَاءِ كَمَا أَنَّهُ مُسْقِطٌ لِلْأَدَاءِ وَفِي قَضَاءِ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ عِشْرِينَ يَوْمًا حَرَجٌ بَيِّنٌ وَلَيْسَ فِي قَضَاءِ صَوْمِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ فِي إحْدَى عَشَرَ شَهْرًا كَبِيرُ حَرَجٍ

( قَالَ ) : وَيُقَبِّلُ الصَّائِمُ وَيُبَاشِرُ إذَا كَانَ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ مَا سِوَى ذَلِكَ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يُقَبِّلُ ، وَهُوَ صَائِمٌ } وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ يُصِيبُ مِنْ وَجْهِهَا ، وَهُوَ صَائِمٌ قَالَتْ وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِأَدَبِهِ أَوْ لِإِرَبِهِ فَالْأَدَبُ الْعُضْوُ وَالْإِرْبُ الْحَاجَةُ { وَجَاءَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَذْنَبْت ذَنْبًا فَاسْتَغْفِرْ لِي قَالَ وَمَا ذَنْبُك قَالَ هَشَشْت إلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ فَقَبَّلْتهَا فَقَالَ : أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت بِمَاءٍ ثُمَّ مَجَجْته أَكَانَ يَضُرُّك فَقَالَ : لَا قَالَ : فَقُمْ إذَنْ } وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى مَعْنَى بَقَاءِ رُكْنِ الصَّوْمِ وَانْعِدَامِ اقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ بِنَفْسِ التَّقْبِيلِ فَإِنْ كَانَ لَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ فَالتَّحَرُّزُ أَوْلَى لِمَا رُوِيَ { أَنَّ شَابًّا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ فَمَنَعَهُ ، وَسَأَلَ شَيْخٌ عَنْ ذَلِكَ فَأَذِنَ لَهُ فِيهِ فَنَظَرَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَدْ عَلِمْت لِمَ نَظَرَ بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ إنَّ الشَّيْخَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ } وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِي حَدِيثِهِ { أَنَّ الشَّابَّ قَالَ لَهُ : إنَّ دِينِي وَدِينَهُ وَاحِدٌ قَالَ : نَعَمْ وَلَكِنَّ الشَّيْخَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ } ، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى مَعْنَى تَعْرِيضِ الصَّوْمِ لِلْفَسَادِ وَالتَّجَاوُزِ عَنْ الْقُبْلَةِ إلَى غَيْرِهَا .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ فَمَنْ رَتَعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ } وَعَلَى هَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَرِهَ الْمُبَاشَرَةَ الْفَاحِشَةَ لِلصَّائِمِ وَكَذَلِكَ بِأَنْ يُعَانِقَهَا وَهُمَا مُتَجَرِّدَانِ وَيَمَسَّ ظَاهِرُ فَرْجِهِ ظَاهِرَ فَرْجِهَا

( قَالَ ) : وَإِنْ اشْتَبَهَ شَهْرُ رَمَضَانَ عَلَى الْأَسِيرِ تَحَرَّى وَصَامَ شَهْرًا بِالتَّحَرِّي ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِصَوْمِ رَمَضَانَ وَطَرِيقُ الْوُصُولِ إلَيْهِ التَّحَرِّي عِنْدَ انْقِطَاعِ سَائِرِ الْأَدِلَّةِ كَأَمْرِ الْقِبْلَةِ فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ شَهْرَ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّحَرِّي ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَامَ شَهْرًا قَبْلَهُ لَمْ يُجْزِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْعِبَادَةَ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهَا فَلَمْ تُجْزِهِ كَمَنْ صَلَّى قَبْلُ ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّهُ إنْ عَلِمَ بِهِ قَبْلَ مُضِيِّ شَهْرِ رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ ، وَإِنْ عَلِمَ بِهِ بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرِ رَمَضَانَ جَازَ صَوْمُهُ ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَامَ شَهْرًا بَعْدَهُ جَازَ بِشَرْطَيْنِ إكْمَالُ الْعِدَّةِ وَتَبْيِيتُ النِّيَّةِ لِشَهْرِ رَمَضَانَ ؛ لِأَنَّهُ قَاضٍ لِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِشُهُودِ الشَّهْرِ وَفِي الْقَضَاءِ يُعْتَبَرُ هَذَانِ الشَّرْطَانِ .
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ وَلَمْ يَنْوِ الْقَضَاءَ .
قُلْنَا ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ مِنْ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ، وَهَذَا وَنِيَّةُ الْقَضَاءِ سَوَاءٌ فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَامَ شَوَّالَ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمِ الْفِطْرِ ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِيهِ لَا يَجُوزُ عَنْ الْقَضَاءِ ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَامَ ذِي الْحَجَّةِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَامَ شَهْرًا آخَرَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ شَيْءٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ رَمَضَانُ كَامِلًا ، وَذَلِكَ الشَّهْرُ نَاقِصًا فَحِينَئِذٍ يَقْضِي يَوْمًا لِإِكْمَالِ الْعِدَّةِ

( قَالَ ) : وَإِنْ صَامَ شَهْرَ رَمَضَانَ تَطَوُّعًا ، وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ ، أَوْ لَا يَعْلَمُ فَصَوْمُهُ عَنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى فُصُولٍ أَحَدُهَا أَنَّ أَصْلَ النِّيَّةِ شَرْطٌ لِأَدَاءِ صَوْمِ رَمَضَانَ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَحُجَّتُهُ أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي زَمَانِ رَمَضَانَ صَوْمٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ الزَّمَانَ مِعْيَارٌ لِلصَّوْمِ وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ إلَّا صَوْمٌ وَاحِدٌ وَمِنْ ضَرُورَةِ اسْتِحْقَاقِ الْفَرْضِ فِيهِ انْتِفَاءُ غَيْرِهِ فَمَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ مِنْ الْإِمْسَاكِ فِي هَذَا الْيَوْمِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ لِصَوْمِ الْفَرْضِ فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَتَى بِهِ يَقَعُ مِنْ الْوَجْهِ الْمُسْتَحَقِّ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ وَهَبَ النِّصَابَ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْ فَقِيرٍ جَازَ عَنْ الزَّكَاةِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ .
( وَلَنَا ) حَرْفَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ فِعْلٌ هُوَ عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْإِخْلَاصِ وَالْعَزِيمَةِ قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } ، وَالثَّانِي أَنَّ مَعَ اسْتِحْقَاقِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ بَقِيَتْ مَنَافِعُهُ مَمْلُوكَةٌ لَهُ فَإِنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِفِعْلٍ يُبَاشِرُهُ عَنْ اخْتِيَارٍ وَيَصْرِفُ إلَيْهِ مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ ، وَصَرْفُ مَنَافِعِهِ الْمَمْلُوكَةِ إلَى مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مُخْتَارًا فِيهِ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ قَصْدٍ وَعَزِيمَةٍ ، وَفِي مَسْأَلَةِ هِبَةِ النِّصَابِ مَعْنَى الْقَصْدِ وَالْعَزِيمَةِ حَصَلَ بِاخْتِيَارِ الْمَحَلِّ وَمَعْنَى الْعَزِيمَةِ حَصَلَ لِحَاجَةِ الْمَحَلِّ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ وَهَبَ لِفَقِيرٍ شَيْئًا لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِيهِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ ، وَهُوَ الثَّوَابُ وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُنْكِرُ هَذَا الْمَذْهَبِ لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيَقُولُ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُ أَنَّ صَوْمَ جَمِيعِ الشَّهْرِ يَتَأَدَّى بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ

رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَحُجَّتُهُمَا أَنَّ صَوْمَ الشَّهْرِ فِي مَعْنَى عِبَادَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّ سَبَبَهَا وَاحِدٌ ، وَهُوَ شُهُودُ جُزْءٍ مِنْ الشَّهْرِ وَالشُّرُوعُ فِيهَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَالْخُرُوجُ مِنْهَا كَذَلِكَ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ رَكَعَاتِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ .
( وَلَنَا ) أَنَّ صَوْمَ كُلِّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ عَلَى حِدَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّ فَسَادَ الْبَعْضِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ مَا بَقِيَ وَأَنَّهُ يَتَخَلَّلُ بَيْنَ الْأَيَّامِ زَمَانٌ لَا يَقْبَلُ الصَّوْمَ ، وَهُوَ اللَّيْلُ ، وَإِنْ انْعَدَمَتْ الْأَهْلِيَّةُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ لَا يَمْنَعُ تَقَرُّرَ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَا بَقِيَ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ صَلَوَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَيَسْتَدْعِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِيَّةً عَلَى حِدَةٍ ثُمَّ إنْ أَطْلَقَ نِيَّةَ الصَّوْمِ ، أَوْ نَوَى النَّفَلَ فَهُوَ صَائِمٌ عَنْ الْفَرْضِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ فَنَوَى النَّفَلَ لَمْ يَكُنْ صَائِمًا ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ جَازَ صَوْمُهُ عَنْ النَّفْلِ ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ بِأَدَاءِ الْفَرْضِ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ جَازَ صَوْمُهُ عَنْ الْفَرْضِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ لَمْ يَكُنْ صَائِمًا ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْعِلْمِ كَانَ إلَى أَدَاءِ النَّفْلِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَهُوَ كَنِيَّةِ أَدَاءِ الصَّوْمِ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّهُ لَغْوٌ لِكَوْنِهِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِيهِ .
وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : إنَّ صِفَةَ الْفَرِيضَةِ قُرْبَةٌ كَأَصْلِ الصَّوْمِ فَكَمَا لَا يَتَأَدَّى أَصْلُ الصَّوْمِ إلَّا بِالنِّيَّةِ فَكَذَلِكَ الصِّفَةُ وَبِانْعِدَامِ الصِّفَةِ يَنْعَدِمُ الصَّوْمُ ضَرُورَةً وَعَلَى هَذَا إذَا أَطْلَقَ النِّيَّةَ لَا يَجُوزُ ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّ بِنِيَّةِ النَّفْلِ صَارَ مُعْرِضًا عَنْ الْفَرْضِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُغَايِرَةِ فَصَارَ كَإِعْرَاضِهِ بِتَرْكِ النِّيَّةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ نَاوِيًا لِلصَّوْمِ الْمَشْرُوعِ فِي

هَذَا الْوَقْتِ بِنِيَّةِ النَّفْلِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقِدَ فِي الْمَشْرُوعِ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَنَّهُ نَفْلٌ يَكْفُرُ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَطْلَقَ النِّيَّةَ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ مَا صَارَ مُعْرِضًا بِهَذِهِ النِّيَّةِ .
( وَلَنَا ) حَدِيثُ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَ يَصُومَانِ يَوْمَ الشَّكِّ وَكَانَا يَقُولَانِ ، لَأَنْ نَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ نُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ وَإِنَّمَا كَانَا يَصُومَانِ بِنِيَّةِ النَّفْلِ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ بِنِيَّةِ الْفَرْضِ فَلَوْلَا أَنَّ عِنْدَ التَّبَيُّنِ يَجُوزُ الصَّوْمُ عَنْ الْفَرْضِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا التَّحَرُّزِ مِنْهُمَا مَعْنًى ثُمَّ هَذَا صَوْمُ عَيْنٍ فَيَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ كَالنَّفْلِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ هُوَ الْمَشْرُوعُ فِيهِ وَغَيْرُهُ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ أَصْلًا وَالْمُتَعَيِّنُ فِي زَمَانٍ كَالْمُتَعَيِّنِ فِي مَكَان فَيَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْجِنْسِ كَمَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ النَّوْعِ وَمَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي أَصْلِ الصَّوْمِ يَتَحَقَّقُ لِبَقَاءِ الِاخْتِيَارِ لِلْعَبْدِ فِيهِ وَلَا يَتَحَقَّقُ فِي الصِّفَةِ إذْ لَا اخْتِيَارَ لَهُ فِيهَا فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ إبْدَالُ هَذَا الْوَصْفِ بِوَصْفٍ آخَرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ نِيَّةِ الصِّفَةِ وَنِيَّةِ النَّفْلِ وَلَغْوٌ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ النَّفَلَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْفَرْضِ يَكُونُ بِنِيَّةِ النَّفْلِ فَإِذَا لَغَتْ نِيَّةُ النَّفْلِ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْإِعْرَاضُ ، وَهُوَ نَظِيرُ الْحَجِّ عَلَى قَوْلِهِ وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلُهُ أَنَّهُ لَوْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ نَفْلٌ يَكْفُرُ وَعَلَى هَذَا قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُسَافِرِ إذَا نَوَى وَاجِبًا آخَرَ فِي رَمَضَانَ وَقَعَ عَنْ فَرْضِ رَمَضَانَ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ حَتَّى لَوْ أَدَّى جَازَ وَإِنَّمَا يُفَارِقُ الْمُقِيمَ فِي التَّرَخُّصِ بِالْفِطْرِ فَإِذَا لَمْ يَتَرَخَّصْ كَانَ هُوَ وَالْمُقِيمُ سَوَاءٌ وَأَبُو

حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : يَقَعُ صَوْمُهُ عَمَّا نَوَى ؛ لِأَنَّهُ مَا تَرَكَ التَّرَخُّصَ حِينَ قَصَدَ صَرْفَ مَنَافِعِهِ إلَى مَا هُوَ الْأَهَمُّ ، وَهُوَ مَا تَقَرَّرَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَهَذِهِ الرُّخْصَةُ لِدَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ عَنْهُ فَكَانَ مِنْ مَصَالِحِ بَدَنِهِ وَفِي هَذِهِ النِّيَّةِ اعْتِبَارُ الْمَصْلَحَةِ أَنْ يَصُومَ ، أَوْ يُفْطِرَ فَصَحَّ مِنْهُ ؛ وَلِأَنَّ رَمَضَانَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ كَشَعْبَانَ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَصُومَ أَوْ يُفْطِرَ فَإِنْ نَوَى الْمُسَافِرُ النَّفَلَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْهُ يَقَعُ عَنْ فَرْضِ رَمَضَانَ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ التَّرَخُّصَ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ يَقَعُ عَنْ النَّفْلِ ؛ لِأَنَّ رَمَضَانَ فِي حَقِّهِ كَشَعْبَانَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ .
فَأَمَّا الْمَرِيضُ إذَا نَوَى وَاجِبًا آخَرَ فَالصَّحِيحُ أَنَّ صَوْمَهُ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ ؛ لِأَنَّ إبَاحَةَ الْفِطْرِ لَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ الصَّوْمِ فَأَمَّا عِنْدَ الْقُدْرَةِ هُوَ وَالصَّحِيحُ سَوَاءٌ بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ ، وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْجَوَابَ فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ سَوَاءٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَهُوَ سَهْوٌ أَوْ مُؤَوَّلٌ وَمُرَادُهُ مَرِيضٌ يُطِيقُ الصَّوْمَ وَيَخَافُ مِنْهُ زِيَادَةَ الْمَرَضِ وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي وَقْتِ النِّيَّةِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ أَوَّلَهُ مِنْ وَقْتِ غُرُوبِ الشَّمْسِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعِبَادَاتِ اقْتِرَانُ النِّيَّةِ بِحَالِ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ إلَّا أَنَّ وَقْتَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ وَقْتٌ مُشْتَبَهٌ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا مَنْ يَعْرِفُ النُّجُومَ وَسَاعَاتِ اللَّيْلِ ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ وَقْتُ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ وَالْمُتَهَجِّدُ بِاللَّيْلِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَنَامَ سَحَرًا فَلِدَفْعِ الْحَرَجِ جَوَّزَ لَهُ بِنِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ عَلَى حَالَةِ الشُّرُوعِ ، وَإِنْ كَانَ غَافِلًا عَنْهُ عِنْدَ الشُّرُوعِ بِأَنْ تُجْعَلَ تِلْكَ النِّيَّةُ كَالْقَائِمَةِ حُكْمًا فَأَمَّا النِّيَّةُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لِصَوْمِ رَمَضَانَ

تَجُوزُ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَجُوزُ وَفِي الْكِتَابِ لَفْظَانِ أَحَدُهُمَا إذَا نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ وَالثَّانِي إذَا نَوَى قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ فَالشَّرْطُ عِنْدَنَا وُجُودُ النِّيَّةِ فِي أَكْثَرِ وَقْتِ الْأَدَاءِ لِيُقَامَ مُقَامَ الْكُلِّ ، وَإِذَا نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ لَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ سَاعَةَ الزَّوَالِ نِصْفُ النَّهَارِ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتُ أَدَاءِ الصَّوْمِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَعْزِمْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ } وَالْعَزْمُ عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى الشَّيْءِ فَإِذَا لَمْ يَنْعَقِدْ قَلْبُهُ عَلَى الصَّوْمِ مِنْ اللَّيْلِ لَا يُجْزِئُهُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْقَصْدَ وَالْعَزِيمَةَ عِنْدَ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ الْعِبَادَةِ شَرْطٌ لِيَكُونَ قُرْبَةً كَالصَّلَاةِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ فَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْجُزْءُ قُرْبَةً وَمَا بَقِيَ لَا يَكْفِي لِلْفَرِيضَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمٍ كَامِلٍ بِخِلَافِ النَّفْلِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ شَرْعًا فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ صَائِمًا مِنْ حِينِ نَوَى مَعَ أَنَّ مَبْنَى النَّفْلِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالْفَرْضِ عَلَى الضِّيقِ أَلَا تَرَى أَنَّ صَلَاةَ النَّفْلِ تَجُوزُ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ وَرَاكِبًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّزُولِ بِخِلَافِ الْفَرْضِ .
( وَلَنَا ) حَدِيثُ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ { أَنَّ النَّاسَ أَصْبَحُوا يَوْمَ الشَّكِّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدِمَ أَعْرَابِيٌّ وَشَهِدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ : نَعَمْ فَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُ أَكْبَرُ يَكْفِي الْمُسْلِمِينَ أَحَدُهُمْ فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ

بِالصِّيَامِ وَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى أَلَا مَنْ كَانَ أَكَلَ فَلَا يَأْكُلَنَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ } وَتَأْوِيلُ حَدِيثِهِ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ النَّهْيُ عَنْ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ عَلَى اللَّيْلِ ثُمَّ هُوَ عَامٌّ دَخَلَهُ الْخُصُوصُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَهُوَ صَوْمُ النَّفْلِ فَنَحْمِلُهُ عَلَى سَائِرِ الصِّيَامَاتِ بِالْقِيَاسِ ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا يَوْمُ صَوْمٍ فَالْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ يَصِيرَ صَوْمًا بِالنِّيَّةِ قَبْلَ الزَّوَالِ كَالنَّفْلِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ لِلصَّوْمِ رُكْنًا وَاحِدًا ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى آخِرِهِ فَإِذَا اقْتَرَنَتْ النِّيَّةُ بِأَكْثَرِهِ تَرَجَّحَ جَانِبُ الْوُجُودِ عَلَى جَانِبِ الْعَدَمِ فَيُجْعَلُ كَاقْتِرَانِ النِّيَّةِ بِجَمِيعِهِ ثُمَّ اقْتِرَانُ النِّيَّةِ بِحَالَةِ الشُّرُوعِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي بَاب الصَّوْمِ بِدَلِيلِ جَوَازِ التَّقْدِيمِ فَصَارَتْ حَالَةُ الشُّرُوعِ هُنَا كَحَالَةِ الْبَقَاءِ فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ ، وَإِذَا جَازَ نِيَّتُهُ مُتَقَدِّمَةً دَفْعًا لِلْحَرَجِ جَازَ نِيَّتُهُ مُتَأَخِّرَةً عَنْ حَالَةِ الشُّرُوعِ بِطَرِيقِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ تَقْتَرِنْ بِالشُّرُوعِ هُنَا فَقَدْ اقْتَرَنَتْ بِالْأَدَاءِ وَمَعْنَى الْحَرَجِ فِي جِنْسِ الصَّائِمِينَ لَا يَنْدَفِعُ بِجَوَازِ التَّقْدِيمِ فَفِي الصَّائِمِينَ صَبِيٌّ يَبْلُغُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَحَائِضٌ تَطْهُرُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ فَلَا يَنْتَبِهُ إلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَفِي أَيَّامِهِ يَوْمَ الشَّكِّ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْوِيَ الْفَرْضَ لَيْلًا إذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ .
وَإِنْ نَوَى الصَّوْمَ بَعْدَ الزَّوَالِ لَمْ يُجْزِهِ لِانْعِدَامِ الشَّرْطِ فِي أَكْثَرِ وَقْتِ الْأَدَاءِ فَيَتَرَجَّحُ بِهِ جَانِبُ الْعَدَمِ ثُمَّ الْقُرْبُ بِسَبَبِ الصَّوْمِ وَقَعَ فِي تَرْكِ الْغَدَاءِ كَمَا بَيَّنَّا وَوَقْتُ الْغَدَاءِ قَبْلَ الزَّوَالِ لَا بَعْدَهُ فَإِذَا نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ كَانَ تَارِكًا لِلْغَدَاءِ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ ، وَإِذَا نَوَى بَعْدَ الزَّوَالِ لَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ الْغَدَاءَ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ فَلَا

يَكُونُ صَوْمًا وَكَذَلِكَ الْمُسَافِرُ إذَا نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ وَقَدْ قَدِمَ مِصْرَهُ ، أَوْ لَمْ يَقْدَمْ وَلَمْ يَكُنْ أَكَلَ شَيْئًا جَازَ صَوْمُهُ عَنْ الْفَرْضِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ يَقُولُ إمْسَاكُ الْمُسَافِرِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِصَوْمِ الْفَرْضِ فَلَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى وُجُودِ النِّيَّةِ وَلَمْ يَسْتَنِدْ إلَيْهِ فِي حَقِّهِ إلَى أَوَّلِ النَّهَارِ بِخِلَافِ الْمُقِيمِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ جُوِّزَ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ إقَامَةُ النِّيَّةِ فِي أَكْثَرَ وَقْتِ الْأَدَاءِ مُقَامَهَا فِي جَمِيعِ الْوَقْتِ وُجِدَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ فَالْمُسَافِرُ فِي هَذَا الْوَقْتِ أُسْوَةُ الْمُقِيمِ إنَّمَا يُفَارِقُهُ التَّرَخُّصُ بِالْفِطْرِ وَلَمْ يَتَرَخَّصْ بِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْعِبَادَةَ فِي وَقْتِهَا مَعَ ضَرْبِ نُقْصَانٍ أَوْلَى مِنْ تَفْوِيتِهَا عَنْ وَقْتِهَا وَالْمُسَافِرُ وَالْمُقِيمُ فِي هَذَا سَوَاءٌ وَبِهَذَا فَارَقَ صَوْمَ الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ ، وَالْأَيَّامُ فِي حَقِّهِ سَوَاءٌ فَلَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ إذَا لَمْ نُجَوِّزْهُ مَعَ النُّقْصَانِ فَلِهَذَا اعْتَبَرَ صِفَةَ الْكَمَالِ مِنْهُ

( قَالَ ) : رَجُلٌ أَصْبَحَ صَائِمًا فِي رَمَضَانَ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْهُ فَصَوْمُهُ جَائِزٌ ، وَقَدْ أَسَاءَ حِينَ تَقَدَّمَ النَّاسَ وَمُرَادُهُ فِي هَذَا يَوْمُ الشَّكِّ وَمَعْنَى الشَّكِّ أَنْ يَسْتَوِيَ طَرَفُ الْعِلْمِ وَطَرَفُ الْجَهْلِ بِالشَّيْءِ وَإِنَّمَا يَقَعُ الشَّكُّ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَمَّا إنْ غُمَّ هِلَالُ شَعْبَانَ فَوَقَعَ الشَّكُّ أَنَّهُ الْيَوْمُ الثَّلَاثُونَ مِنْهُ أَوْ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ ، أَوْ غُمَّ هِلَالُ رَمَضَانَ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الْيَوْمِ الثَّلَاثِينَ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ ، أَوْ مِنْ رَمَضَانَ وَلَا خِلَافَ إنَّهُ يُكْرَهُ الصَّوْمُ فِيهِ بِنِيَّةِ الْفَرْضِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ } ؛ وَلِأَنَّهُ حِينَ نَوَى الْفَرْضَ فَقَدْ اعْتَقَدَ الْفَرِيضَةَ فِيمَا لَيْسَ بِفَرْضٍ ، وَذَلِكَ كَاعْتِقَادِ النَّفْلِيَّةِ فِيمَا هُوَ فَرْضٌ وَلَكِنْ مَعَ هَذَا إذَا تَبَيَّنَّ أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ فَصَوْمُهُ تَامٌّ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ لِعَيْنِ الصَّوْمِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ فَأَمَّا إذَا صَامَ فِيهِ بِنِيَّةِ النَّفْلِ فَلَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَنَا ، وَهُوَ الْأَفْضَلُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ وَافَقَ ذَلِكَ يَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ ، أَوْ صَامَ قَبْلَهُ أَيَّامًا فَلَا بَأْسَ بِهِ وَإِلَّا فَهُوَ مَكْرُوهٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ } وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ صَوْمِ سِتَّةِ أَيَّامٍ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَيَوْمِ الشَّكِّ } وَلَنَا حَدِيثُ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا يَصُومَانِ يَوْمَ الشَّكِّ كَمَا رَوَيْنَا ؛ وَلِأَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مِنْ شَعْبَانَ ؛ لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يُزَالُ بِالشَّكِّ وَالصَّوْمُ مِنْ شَعْبَانَ تَطَوُّعًا مَنْدُوبٌ إلَيْهِ كَمَا فِي سَائِرِ أَيَّامِهِ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا كَانَ

يَصُومُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي شَعْبَانَ فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ } وَتَأْوِيلُ النَّهْيِ أَنْ يَنْوِيَ الْفَرْضَ فِيهِ وَبِهِ نَقُولُ .
( قَالَ ) : إلَّا أَنْ يَكُونَ أَبْصَرَ الْهِلَالَ وَحْدَهُ وَرَدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ وَإِنَّمَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ إذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُغَيِّمَةً أَوْ جَاءَ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ ، أَوْ كَانَ مِنْ مَوْضِعٍ نَشِزٍ فَإِنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ قَالَ ؛ لِأَنَّ تُهْمَةَ الْكَذِبِ إذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ غَيْمٌ أَظْهَرَ فَإِنَّ الْغَيْمَ مَانِعٌ مِنْ الرُّؤْيَةِ فَإِذَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ فَعِنْدَ قِيَامِهِ أَوْلَى .
( وَلَنَا ) حَدِيثُ عِكْرِمَةَ عَلَى مَا رَوَيْنَاهُ ثُمَّ هُوَ مُخْبِرٌ بِأَمْرٍ دِينِيٍّ ، وَهُوَ وُجُوبُ أَدَاءِ الصَّوْمِ عَلَى النَّاسِ فَوَجَبَ قَبُولُ خَبَرِهِ إذَا لَمْ يُكَذِّبْهُ الظَّاهِرُ كَمَنْ رَوَى حَدِيثًا ، وَهَذَا الظَّاهِرُ لَا يُكَذِّبُهُ فَلَعَلَّهُ تَقَشَّعَ الْغَيْمُ عَنْ مَوْضِعِ الْقَمَرِ فَاتَّفَقَتْ لَهُ الرُّؤْيَةُ دُونَ غَيْرِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُكَذِّبُهُ فَإِنَّهُ مُسَاوٍ لِلنَّاسِ فِي الْمَوْقِفِ وَالْمَنْظَرِ وَحِدَةِ الْبَصَرِ وَمَوْضِعِ الْقَمَرِ فَإِذَا رَدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ وَلَا يُفْطِرُ إلَّا عَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ يَعْتَمِدُ ظَاهِرَ قَوْله تَعَالَى { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ } ، وَهَذَا لَيْسَ بِيَوْمِ الصَّوْمِ فِي حَقِّ الْجَمَاعَةِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْوَاحِدِ .
( وَلَنَا ) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا } ؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْحُكْمُ

، وَقَدْ كَانَ لَزِمَهُ الصَّوْمُ قَبْلَ أَنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ فَإِنْ أَفْطَرَ بِالْجِمَاعِ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ يَقُولُ : إنَّهُ مُتَيَقِّنٌ أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ إذْ لَا طَرِيقَ لِلتَّيَقُّنِ أَقْوَى مِنْ الرُّؤْيَةِ وَتَيَقُّنُهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِشَكِّ غَيْرِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ فِيهِ عَنْ الْفَرْضِ ، وَيَوْمُ الشَّكِّ يُنْهَى فِيهِ عَنْ مِثْلِهِ وَكَمَا أَنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ فَكَذَلِكَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الْفِطْرِ .
( وَلَنَا ) أَنَّهُ مُفْطِرٌ بِالشُّبْهَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ حِينَ رَدَّ شَهَادَتَهُ فَقَدْ حَكَمَ بِأَنَّهُ كَاذِبٌ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ أَوْجَبَ لَهُ الْحُكْمَ بِهِ ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُهُ هَذَا حَقًّا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لَكَانَ يُبَاحُ الْفِطْرُ لَهُ فَإِذَا كَانَ نَافِذًا ظَاهِرًا يَصِيرُ شُبْهَةً وَكَفَّارَةُ الْفِطْرِ عُقُوبَةٌ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ حَتَّى لَا يَجِبُ عَلَى الْمُخْطِئِ ثُمَّ الْكَفَّارَةُ إنَّمَا وَجَبَتْ بِالْفِطْرِ فِي يَوْمِ رَمَضَانَ مُطْلَقًا ، وَهَذَا الْيَوْمُ رَمَضَانُ مِنْ وَجْهٍ شَعْبَانُ مِنْ وَجْهٍ أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ النَّاسِ لَا يَلْزَمُهُمْ الصَّوْمَ فِيهِ وَيَوْمٌ مِنْ رَمَضَانَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الصَّوْمِ فِيهِ قَضَاءً أَوْ أَدَاءً فَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْيَوْمُ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَوْ أَوْجَبْنَا الْكَفَّارَةَ فِيهِ كَانَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ عَلَى الْمَنْصُوصِ وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي إثْبَاتِ الْكَفَّارَةِ فَأَمَّا وُجُوبُ الصَّوْمِ فَهُوَ عِبَادَةٌ يُؤْخَذُ فِيهِ بِالِاحْتِيَاطِ فَكَوْنُهُ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ وَجْهٍ يَكْفِي فِي حَقِّهِ

( قَالَ ) : رَجُلٌ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ بِنْتِ سَعْدٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ وَهُمَا صَائِمَانِ فَقَالَ : قَدْ أَفْطَرَا } وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ حُصُولَ الْإِنْزَالِ بِهِ ثُمَّ مَعْنَى افْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ قَدْ حَصَلَ بِالْإِنْزَالِ فَانْعَدَمَ رُكْنُ الصَّوْمِ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ بِدُونِ رُكْنِهَا وَلَكِنْ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِنُقْصَانٍ فِي الْجِنَايَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ التَّقْبِيلَ تَبَعٌ وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ بِنَفْسِهِ وَفِي النُّقْصَانِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ عَلَى كُلِّ مُفْطِرٍ غَيْرِ مَعْذُورٍ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إنْ أَنْزَلَتْ لِحَدِيثِ { أُمِّ سُلَيْمٍ أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ امْرَأَةٍ تَرَى فِي مَنَامِهَا مِثْلَ مَا يَرَى الرَّجُلُ فَقَالَ : إنْ كَانَ مِنْهَا مِثْلَ مَا يَكُونُ مِنْهُ فَلْتَغْتَسِلْ } أَشَارَ إلَى أَنَّهَا تُنْزِلُ كَالرَّجُلِ ، وَإِذَا أَنْزَلَتْ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الرَّجُلِ

( قَالَ ) : وَمَنْ أَكَلَ ، أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ نَاسِيًا فِي صَوْمِهِ لَمْ يُفْطِرْهُ ذَلِكَ وَالنَّفَلُ وَالْفَرْضُ فِيهِ سَوَاءٌ .
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْفَرْضِ يَقْضِي ، وَهُوَ الْقِيَاسُ عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَوْلَا قَوْلُ النَّاسِ لَقُلْت يَقْضِي أَيْ لَوْلَا رِوَايَتُهُمْ الْأَثَرَ أَوْ لَوْلَا قَوْلُ النَّاسِ إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى خَالَفَ الْأَثَرَ وَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ رُكْنَ الصَّوْمِ يَنْعَدِمُ بِأَكْلِهِ نَاسِيًا كَانَ ، أَوْ عَامِدًا وَبِدُونِ الرُّكْنِ لَا يُتَصَوَّرُ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ وَالنِّسْيَانُ عُذْرٌ بِمَنْزِلَةِ الْحَيْضِ وَالْمَرَضِ فَلَا يُمْنَعُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ عِنْدَ انْعِدَامِ الْأَدَاءِ .
( وَلَنَا ) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إنِّي أَكَلْت وَشَرِبْت فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا وَأَنَا صَائِمٌ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ أَطْعَمَك وَسَقَاك فَتِمَّ عَلَى صَوْمِك } وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنْ أَكَلَ ، أَوْ شَرِبَ لَمْ يَفْطُرْ ، وَإِنْ جَامَعَ نَاسِيًا أَفْطَرَ قَالَ ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ ؛ لِأَنَّ زَمَانَ الصَّوْمِ زَمَانُ وَقْتٍ لِلْأَكْلِ عَادَةً فَيُبْتَلَى فِيهِ بِالنِّسْيَانِ وَلَيْسَ بِوَقْتِ الْجِمَاعِ عَادَةً فَلَا تَكْثُرُ فِيهِ الْبَلْوَى وَلَكِنَّا نَقُولُ : قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ فِي حُكْمِ الصَّوْمِ فَإِذَا وَرَدَ نَصٌّ فِي أَحَدِهِمَا كَانَ وُرُودًا فِي الْآخَرِ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْمُقَدَّمَةِ كَمَنْ يَقُولُ : لِغَيْرِهِ اجْعَلْ زَيْدًا وَعُمَرًا فِي الْعَطِيَّةِ سَوَاءً ثُمَّ يَقُولُ : أَعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا كَانَ ذَلِكَ تَنْصِيصًا عَلَى أَنَّهُ يُعْطِي عَمْرًا أَيْضًا دِرْهَمًا فَإِنْ تَذَكَّرَ فَنَزَعَ نَفْسَهُ مِنْ سَاعَتِهِ فَصَوْمُهُ تَامٌّ ، وَكَذَا الَّذِي طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ ، وَهُوَ مُخَالِطٌ

لِأَهْلِهِ إذَا نَزَعَ نَفْسَهُ مِنْ سَاعَتِهِ فَصَوْمُهُ تَامٌّ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا جَمِيعًا يَقْضِي الصَّوْمَ لِوُجُودِ جُزْءٍ مِنْ الْمُوَاقَعَةِ ، وَإِنْ قَلَّ بَعْدَ التَّذَكُّرِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ .
( وَلَنَا ) أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ بَعْدَ التَّذَكُّرِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ إلَّا الِامْتِنَاعُ مِنْ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَذَلِكَ رُكْنُ الصَّوْمِ فَلَا يَفْسُدُ الصَّوْمُ وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي نَوَادِرِ الصَّوْمِ أَنَّهُ قَالَ فِي الَّذِي طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ يَقْضِي بِخِلَافِ النَّاسِي وَالْفَرْقُ أَنَّ اقْتِرَانَ الْمُوَاقَعَةِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مَانِعٌ مِنْ انْعِقَادِ الصَّوْمِ ، وَفِي النَّاسِي صَوْمُهُ كَانَ مُنْعَقِدًا وَلَمْ يُوجَدْ مَا يَرْفَعُهُ ، وَهُوَ اقْتِضَاءُ الشَّهْوَةِ بَعْدَ التَّذَكُّرِ فَبَقِيَ صَائِمًا فَإِنْ أَتَمَّ الْفِعْلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ إلَّا عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَجْعَلُ اسْتِدَامَةَ الْفِعْلِ بَعْدَ التَّذَكُّرِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ كَالْإِنْشَاءِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الشُّبْهَةَ قَدْ تَمَكَّنَتْ فِي فِعْلِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ ابْتِدَاءَهُ لَمْ يَكُنْ جِنَايَةً وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الَّذِي طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ إذَا أَتَمَّ الْفِعْلَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِخِلَافِ مَا إذَا تَذَكَّرَ ؛ لِأَنَّ آخِرَ الْفِعْلِ مِنْ جِنْسِ أَوَّلِهِ وَفِي الَّذِي طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ أَوَّلُ فِعْلِهِ عَمْدٌ فَكَذَلِكَ آخِرُهُ بِخِلَافِ النَّاسِي فَإِنْ ذُكِّرَ النَّاسِي فَلَمْ يَتَذَكَّرْ وَأَكَلَ مَعَ ذَلِكَ فَقَدْ ذَكَرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ أَنَّ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ لِبَقَاءِ الْمَانِعِ ، وَهُوَ النِّسْيَانُ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَفْسُدُ صَوْمُهُ ؛ لِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ قَدْ لَزِمَهُ حِينَ ذُكِّرَ وَعَدَمُ التَّذَكُّرِ بَعْدَ مَا ذُكِّرَ نَادِرٌ فَلَا يُعْتَبَرُ

( قَالَ ) : وَإِذَا تَمَضْمَضَ الصَّائِمُ فَسَبَقَهُ الْمَاءُ فَدَخَلَ حَلْقَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ فَصَوْمُهُ تَامٌّ كَمَا لَوْ شَرِبَ ، وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } ثُمَّ عُذْرُ هَذَا أَبْيَنُ مِنْ عُذْرِ النَّاسِي فَإِنَّ النَّاسِيَ قَاصِدٌ إلَى الشُّرْبِ غَيْرُ قَاصِدٍ إلَى الْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ ، وَهَذَا غَيْرُ قَاصِدٍ إلَى الشُّرْبِ وَلَا إلَى الْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ فَإِذَا لَمْ يَفْسُدْ الصَّوْمُ ثَمَّةَ فَهُنَا أَوْلَى .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَلَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ بَالِغْ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا } فَالنَّهْيُ عَنْ الْمُبَالَغَةِ الَّتِي فِيهَا كَمَالُ السُّنَّةِ عِنْدَ الصَّوْمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ دُخُولَ الْمَاءِ فِي حَلْقِهِ مُفْسِدٌ لِصَوْمِهِ ؛ وَلِأَنَّ رُكْنَ الصَّوْمِ قَدْ انْعَدَمَ مَعَ عُذْرِ الْخَطَأِ وَأَدَاءِ الْعِبَادَةِ بِدُونِ رُكْنِهَا لَا يُتَصَوَّرُ وَهَكَذَا الْقِيَاسُ فِي النَّاسِي وَلَكِنَّا تَرَكْنَاهُ بِالسُّنَّةِ ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ ؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ النِّسْيَانِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَالتَّحَرُّزَ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْخَطَأِ مُمْكِنٌ ثُمَّ رُكْنُ الصَّوْمِ قَدْ انْعَدَمَ مَعْنًى فَإِنَّ الَّذِي حَصَلَ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا قَدْ انْعَدَمَ صُورَةً لَا مَعْنًى بِأَنْ يَتَنَاوَلَ حَصَاةً فَسَدَ صَوْمُهُ فَإِذَا انْعَدَمَ مَعْنًى أَوْلَى ؛ لِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْمَعَانِي فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ أَبْيَنُ مِنْ مُرَاعَاةِ الصُّوَرِ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ : إنْ كَانَ وُضُوءُهُ فَرْضًا لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ ، وَإِنْ كَانَ نَفْلًا فَسَدَ صَوْمُهُ لِهَذَا .
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ : إنْ كَانَ فِي الثَّلَاثِ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ ، وَإِنْ جَاوَزَ الثَّلَاثَ يَفْسُدُ صَوْمُهُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ فَصْلَ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96