كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي

وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِشُرْبِ نَبِيذِ الزَّبِيبِ إذَا كَانَ مَطْبُوخًا ، وَإِنْ كَانَ مُشْتَدًّا ، فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ شَرِبَ مِنْهُ بَعْدَ مَا صَبَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ ، وَسَقَى أَصْحَابَهُ ، ثُمَّ لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ أَذِنَ لَهُ فِي الشُّرْبِ مِنْ إدَاوَتِهِ ، وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ شَرِبَ ذَلِكَ بِإِذْنِهِ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ أَتَضْرِبُنِي فِيمَا شَرِبْته ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا حَدَدْتُك لِسُكْرِكَ ، فَهُوَ دَلِيلٌ أَنَّهُ إذَا سَكِرَ مِنْ النَّبِيذِ الَّذِي يَجُوزُ شُرْبُ الْقَلِيلِ مِنْهُ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ ، وَعَنْ حَمَّادٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ دَخَلْت عَلَى إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ يَتَغَذَّى ، فَدَعَا بِنَبِيذٍ ، فَشَرِبَ ، وَسَقَانِي ، فَرَأَى فِي الْكَرَاهَةَ ، فَحَدَّثَنِي عَنْ عَلْقَمَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَيَتَغَدَّى عِنْدَهُ ، وَيَشْرَبُ عِنْدَهُ النَّبِيذَ يَعْنِي نَبِيذَ الْجَرِّ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَعْتَادُ شُرْبَهُ حَتَّى ذُكِرَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّهُ أَرَاهُمْ الْجَرَّ الْأَخْضَرَ الَّذِي كَانَ يَنْبِذُ فِيهِ لِابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَعَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا عِنْدَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَكَانَ يُحَدِّثُنَا بِحُرْمَةِ النَّبِيذِ ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَقَالَ اُسْكُتْ يَا صَبِيُّ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ شَرِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَبِيذًا مُشْتَدًّا صُلْبًا ، وَكَذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَبِيذًا مُشْتَدًّا كَانَ يَعْتَادُ شُرْبَهُ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ سَقَانِي عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَبِيذًا ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِي مِنْ التَّغَيُّرِ بَعَثَ مَعِي قَنْبَرًا يَهْدِينِي ، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ

عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إنَّ الْقَوْمَ لَيَجْتَمِعُونَ عَلَى الشَّرَابِ ، وَهُوَ لَهُمْ حَلَالٌ ، فَلَا يَزَالُونَ يَشْرَبُونَ حَتَّى يُحَرَّمَ عَلَيْهِمْ يَعْنِي إذَا بَلَغُوا حَدَّ السُّكْرِ .
وَكَذَلِكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَشْرَبُ الْمُثَلَّثَ ، وَيَأْمُرُ بِاِتِّخَاذِهِ لِلنَّاسِ حَتَّى رُوِيَ عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدَ قَالَ : قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ الطِّلَاءُ الَّذِي يَأْمُرُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِاِتِّخَاذِهِ لِلنَّاسِ ، وَيَسْقِيهِمْ مِنْهُ كَيْفَ كَانَ قَالَ كَانَ يُطْبَخُ الْعَصِيرُ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ ، وَيَبْقَى ثُلُثُهُ ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يَسْقِيهِمْ بَعْدَ مَا يَشْتَدُّ لِمَا ذُكِرَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : إنَّا نَنْحَرُ جَزُورًا لِلْمُسْلِمِينَ ، وَالْعُنُقُ مِنْهَا لِآلِ عُمَرَ ، ثُمَّ يَشْرَبُ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا النَّبِيذِ ، فَيُقَطِّعُهُ فِي بُطُونِنَا ، وَلِكَثْرَةِ مَا رُوِيَ مِنْ الْآثَارِ فِي إبَاحَةِ شُرْبِ الْمُثَلَّثِ ذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا عَدَّ مِنْ خِصَالِ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ ، وَأَنْ لَا يُحَرَّمَ نَبِيذُ الْجَرِّ ، وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ قَالَ : لَأَنْ أَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ ، فَأَنْقَطِعَ نِصْفَيْنِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُحَرِّمَ نَبِيذَ الْجَرِّ ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِمَا فِي التَّحْرِيمِ مِنْ رَدِّ الْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ ، وَإِسَاءَةِ الْقَوْلِ فِي الْكِبَارِ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَذَلِكَ لَا يَحِلُّ ، فَأَمَّا مَعَ الْإِبَاحَةِ ، فَقَدْ لَا يُعْجِبُ الْمَرْءَ الْإِصَابَةُ مِنْ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ لِلِاحْتِيَاطِ ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا يُوَافِقُ طَبْعَهُ ، وَهَذِهِ الرُّخْصَةُ تَثْبُتُ بَعْدَ التَّحْرِيمِ ، فَقَدْ كَانُوا فِي الِابْتِدَاءِ نُهُوا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ لِتَحْقِيقِ الزَّجْرِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : شَهِدْت تَحْرِيمَهُ كَمَا شَهِدْتُمْ ، ثُمَّ شَهِدْت تَحْلِيلَهُ ، فَحَفِظْت ذَلِكَ ، وَنَسِيتُمْ .
فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ مَا يُرْوَى مِنْ الْآثَارِ فِي حُرْمَتِهِ قَدْ انْتَسَخَ بِالرُّخْصَةِ فِيهِ بَعْدَ الْحُرْمَةِ ، وَعَنْ

إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : إنَّمَا كُرِهَ التَّمْرُ ، وَالزَّبِيبُ لِشِدَّةِ الْغِشِّ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ كَمَا كُرِهَ اللَّحْمُ ، وَالتَّمْرُ ، وَكَمَا كُرِهَ أَنْ يَقْرِنَ الرَّجُلُ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ ، فَأَمَّا الْيَوْمَ ، فَلَا بَأْسَ بِهِ ، وَهَذَا مِنْهُ بَيَانُ تَأْوِيلِ النَّهْيِ عَنْ شَرَابِ الْخَلِيطَيْنِ ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ الْيَوْمَ ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ : قَوْلُ النَّاسِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ خَطَأٌ مِنْهُمْ ، إنَّمَا أَرَادَ السُّكْرُ حَرَامٌ ، فَأَخْطَئُوا ، وَسَنُبَيِّنُ تَأْوِيلَ هَذَا اللَّفْظِ بَعْدَ هَذَا ، وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا غَزْوَةَ تَبُوكَ ، فَمَرَّ بِقَوْمٍ يُزَفِّتُونَ ، فَقَالَ مَا هَؤُلَاءِ ، فَقِيلَ : أَصَابُوا مِنْ شَرَابٍ لَهُمْ ، فَنَهَاهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا فِي الدُّبَّاءِ ، وَالْحَنْتَمِ ، وَالْمُزَفَّتِ ، فَلَمَّا مَرَّ بِهِمْ رَاجِعًا مِنْ غُزَاتِهِمْ شَكَوْا إلَيْهِ مَا لَقُوا مِنْ التُّخَمَةِ ، فَأَذِنَ لَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْهَا ، وَنَهَاهُمْ عَنْ الْمُسْكِرِ } ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الرُّخْصَةَ كَانَتْ بَعْدَ النَّهْيِ ، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَاهُمْ فِي الِابْتِدَاءِ لِتَحَقُّقِ الزَّجْرِ عَنْ شُرْبِ الْمُسْكِرِ ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ فِي شُرْبِ الْقَلِيلِ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ لَا يَبْلُغُوا حَدَّ الْمُسْكِرِ ، وَالزَّبِيبُ الْمُعَتَّقُ إذَا لَمْ يُطْبَخْ ، فَلَا بَأْسَ بِشُرْبِهِ مِمَّا لَمْ يَغْلِ ، فَإِذَا غَلَا ، وَاشْتَدَّ ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ ، وَالْكَلَامُ هُنَا فِي فُصُولٍ أَحَدُهَا فِي الْخَمْرِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ .
وَإِنَّمَا بَقِيَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي ، فَصْلٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : الْعَصِيرُ ، وَإِنْ أَشْتَدَّ ، فَلَا بَأْسَ بِشُرْبِهِ مَا لَمْ يَغْلِ ، وَيَقْذِفْ بِالزَّبَدِ ، فَإِذَا غَلَا ، وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ ، فَهُوَ خَمْرٌ حِينَئِذٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - إذَا اشْتَدَّ ، فَهُوَ خَمْرٌ ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْخَمْرِيَّةِ فِيهِ لِكَوْنِهِ مُسْكِرًا مُخَامِرًا لِلْعَقْلِ ،

وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الشِّدَّةِ فِيهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ لِمَا فِي شُرْبِهَا مِنْ إيقَاعِ الْعَدَاوَةِ ، وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ اللَّذَّةِ الْمُطْرِبَةِ ، وَالْقُوَّةِ الْمُسْكِرَةِ فِيهَا ، فَأَمَّا بِالْغَلَيَانِ ، وَالْقَذْفِ بِالزَّبَدِ ، فَيَرِقُّ ، وَيَصْفُو ، وَلَا تَأْثِيرَ لِذَلِكَ فِي إحْدَاثِ السُّكْرِ ، فَبَعْدَمَا صَارَ مُشْتَدًّا ، فَهُوَ خَمْرٌ سَوَاءٌ غَلَا ، وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ ، أَوْ لَمْ يَغْلِ : يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ قَدْ يَحْتَالُ بِإِلْقَاءِ شَيْءٍ عَلَيْهِ ، وَيَحْتَالُ لِلْمَنْعِ مِنْ الْغَلَيَانِ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ غَلَيَانٌ ، وَلَا قَذْفٌ بِالزَّبَدِ أَصْلًا ، وَلَكِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَشْتَدَّ لِيَكُونَ مُسْكِرًا ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ الشِّدَّةُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُسْكِرَ صِفَةُ الْعَصِيرِ ، وَهُوَ أَصْلٌ لِمَا يُعْصَرُ مِنْ الْعِنَبِ ، وَمَا بَقِيَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْأَصْلِ ، فَالْحُكْمُ لَهُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَعَ بَقَاءِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحِطَّةِ فِي الْمَحَلَّةِ لَا يُعْتَبَرُ السُّكَّانُ .
، ثُمَّ حُكْمُ الصِّحَّةِ ، وَالْحَدُّ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالرَّأْيِ ، وَلَكِنْ طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ النَّصُّ وَالنَّصُّ إنَّمَا ، وَرَدَ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ ، وَالْخَمْرُ مُغَايِرٌ لِلْعَصِيرِ ، وَلَا تَتِمُّ الْمُغَايِرَةُ مَعَ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ آثَارِ الْعَصِيرِ ، وَقَدْ كَانَ الْحِلُّ ثَابِتًا فِيهِ ، وَمَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ بِيَقِينٍ لَا يُزَالُ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْغَلَيَانِ ، وَالْقَذْفِ بِالزَّبَدِ ، وَالْأَصْلُ فِي الْحُدُودِ اعْتِبَارُ نِهَايَةِ الْكَمَالِ فِي سَبَبِهَا كَحَدِّ الزِّنَا ، وَالسَّرِقَةِ لَا يَجِبُ إلَّا بَعْدَ كَمَالِ الْفِعْلِ اسْمًا ، وَصُورَةً ، وَمَعْنًى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِمَا فِي النُّقْصَانِ مِنْ شُبْهَةِ الْعَدَمِ ، وَالْحُدُودُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، فَلِهَذَا اسْتَقْصَى أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَ : لَا تَتَوَفَّرُ أَحْكَامُ الْخَمْرِ عَلَى الْعَصِيرِ بِمُجَرَّدِ الشِّدَّةِ إلَّا بَعْدَ الْغَلَيَانِ ، وَالْقَذْفِ

بِالزَّبَدِ .
.

فَأَمَّا نَبِيذُ التَّمْرِ ، وَنَبِيذُ الزَّبِيبِ ، فَإِنْ لَمْ يُطْبَخْ حَتَّى غَلَا ، وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ ، فَهُوَ حَرَامٌ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْآثَارِ فِيهِ ، وَبَعْدَ الطَّبْخِ يَحِلُّ شُرْبُهُ ، وَإِنْ اشْتَدَّ ، وَاتَّفَقَتْ الرِّوَايَاتُ فِي التَّمْرِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ أَدْنَى الطَّبْخِ ، وَهُوَ أَنْ يَنْضَجَ ، وَفِي الزَّبِيبِ الْمُعَتَّقِ كَذَلِكَ ، وَهُوَ أَنْ يُكْسَرَ بِشَيْءٍ ثُمَّ تُسْتَخْرَجَ حَلَاوَتُهُ بِالْمَاءِ كَمَا فِي التَّمْرِ ، وَأَمَّا إذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ الطَّبْخُ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ ، وَيَبْقَى ثُلُثُهُ كَمَا فِي الْعَصِيرِ ، وَالْوَجْهُ فِيهِ مَا حُكِيَ عَنْ السَّلَفِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ مَا يَكُونُ مِنْهُ الْعَصِيرُ ابْتِدَاءً إذَا أُعِيدَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ ، فَحُكْمُ مَا يُعْصَرُ مِنْهُ حُكْمُ الْعَصِيرِ ، وَمَا لَا يَكُونُ مِنْهُ الْعَصِيرُ فِي الِابْتِدَاءِ لَا يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الْعَصِيرِ فِي الِانْتِهَاءِ ، فَمَا يَسِيلُ مِنْ الرُّطَبِ فِي الِابْتِدَاءِ يَحِلُّ بِأَدْنَى الطَّبْخِ ، فَكَذَلِكَ فِي الِانْتِهَاءِ ، وَمَا يَسِيلُ مِنْ الْعِنَبِ فِي الِابْتِدَاءِ لَا يَحِلُّ مَا لَمْ يَذْهَبْ بِالطَّبْخِ ثُلُثَاهُ ، فَكَذَلِكَ فِي الِانْتِهَاءِ ، فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ ، فَالزَّبِيبُ ، وَالتَّمْرُ سَوَاءٌ ، وَإِذَا طُبِخَ أَدْنَى طَبْخِهِ ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ شُرْبُ الْقَلِيلِ مِنْهُ ، وَإِنْ اشْتَدَّ ؛ لِأَنَّ الْعَصِيرَ الَّذِي كَانَ فِي الْعِنَبِ قَدْ ذَهَبَ حِينَ زُبِّبَ ، وَالزَّبِيبُ عَيْنٌ آخَرُ سِوَى الْعِنَبِ .
( أَلَا تَرَى ) إنْ غَصَبَ عِنَبًا ، فَجَعَلَهُ زَبِيبًا انْقَطَعَ حَقُّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِي الِاسْتِرْدَادِ ، فَإِذًا تُعْتَبَرُ حَالُهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ ، وَعَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ هُوَ وَالتَّمْرُ سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ ، ثُمَّ الَّتِي مِنْ نَبِيذِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ ، فَهُوَ لَيْسَ نَظِيرُ الْخَمْرِ فِي الْحُكْمِ حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعَلَى قَوْلِ

أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِالشُّرْبِ مِنْهُ مَا لَمْ يُسْكِرْ ، وَإِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ الْمُنَصَّفُ ، وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ بِالطَّبْخِ نِصْفُهُ إذَا غَلَا ، وَاشْتَدَّ لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ ، وَلَكِنْ يَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ شَرِبَ مِنْهُ مَا لَمْ يَسْكَرْ ، وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ إذَا أَصَابَ الثَّوْبَ مِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ كَثِيرًا فَاحِشًا ، وَفِي النَّادِقِ ، وَهُوَ مَا طُبِخَ أَدْنَى طَبْخِهِ ، وَكَانَ دُونَ النِّصْفِ ، فَأَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُنَصَّفِ فِي حُكْمِ الْبَيْعِ وَالْحَدِّ ، وَعَنْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ أُلْحِقَ بِالْخَمْرِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَأَمَّا حُكْمُ النَّجَاسَةِ فِيهِ ؛ فَلِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي حُرْمَتِهِ ، وَيَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الْبَلْوَى أَيْضًا ، وَبِاعْتِبَارِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ يَخِفُّ حُكْمُ النَّجَاسَةِ كَمَا فِي بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ، وَأَمَّا فِي حُكْمِ الْحَدِّ ، فَلِأَنَّ الْعُلَمَاءَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لَمَّا اخْتَلَفُوا فِي حُرْمَتِهِ ، فَالِاخْتِلَافُ الْمُعْتَبَرُ يُورِثُ شُبْهَةً ، وَالْحَدُّ مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ .
وَأَمَّا حُكْمُ الْبَيْعِ ، فَهُمَا يَقُولَانِ إنَّ عَيْنَهُ مُحَرَّمَةُ التَّنَاوُلِ ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْخَمْرِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ ، وَالتَّقَوُّمَ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ شَرْعًا ، وَلَا مَنْفَعَةَ فِي هَذَا الْمَشْرُوبِ سِوَى الشُّرْبِ ، وَإِذَا كَانَ مُحَرَّمَ الشُّرْبِ شَرْعًا كَانَ ، فَاسِدًا لِمَالِيَّتِهِ ، وَالتَّقَوُّمِ شَرْعًا ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْخَمْرِ ؛ وَلِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَّى فِي الْخَمْرِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالشُّرْبِ حِينَ لَعَنَ بَائِعَهَا وَمُشْتَرِيَهَا كَمَا لَعَنَ شَارِبَهَا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ

يَكُونُ تَسْلِيطًا لِلْمُشْتَرِي عَلَى الشُّرْبِ عَادَةً ، فَإِذَا كَانَ الشُّرْبُ حَرَامًا حَرُمَ الْبَيْعُ أَيْضًا ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ هَذَا شَرَابٌ مُخْتَلَفٌ فِي إبَاحَةِ شُرْبِهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْمُثَلَّثِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ حُرْمَةِ التَّنَاوُلِ حُرْمَةُ الْبَيْعِ ، فَإِنَّ الدُّهْنَ النَّجِسَ لَا يَحِلُّ تَنَاوُلُهُ ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ السِّرْقِينِ جَائِزٌ ، وَإِنْ كَانَ تَنَاوُلُهُ حَرَامًا ، وَالسِّرْقِينُ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ ، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ بَيْعُهُ جَائِزًا ، فَكَذَلِكَ الْمُنَصَّفُ ، وَمَا أَشْبَهَهُ ، وَبُطْلَانُ بَيْعِ الْخَمْرِ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِيهِ ، وَمَا عُرِفَ بِالنَّصِّ لَا يُلْحَقُ بِهِ إلَّا مَا يَكُونُ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .
وَهَذِهِ الْأَشْرِبَةُ لَيْسَتْ فِي مَعْنَى الْخَمْرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِدَلِيلِ حُكْمِ الْحَدِّ ، وَحُكْمِ النَّجَاسَةِ ، فَجَازَ بَيْعُهَا بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ ، فَأَمَّا الْمُثَلَّثُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، فَلَا بَأْسَ بِشُرْبِهِ ، وَالْمُسْكِرُ مِنْهُ حَرَامٌ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا ، وَعَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ شُرْبَهُ ، وَعَنْهُ أَنَّهُ حَرَّمَ شُرْبَهُ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ احْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ { : مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ ، فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ } ، وَفِي رِوَايَةٍ { مَا أَسْكَرَتْ الْجَرْعَةُ مِنْهُ ، فَالْجَرْعَةُ مِنْهُ حَرَامٌ } ، وَفِي رِوَايَةٍ { ، فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ } ؛ وَلِأَنَّ الْمُثَلَّثَ بَعْدَ مَا اشْتَدَّ خَمْرٌ ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ إنَّمَا يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ لَا لِكَوْنِهِ مَاءً .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْعَصِيرَ الْحُلْوَ لَا يُسَمَّى خَمْرًا ، وَإِنَّمَا تَسْمِيَتُهُ بِالْخَمْرِ لِمَعْنَى مُخَامَرَتِهِ الْعَقْلَ ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي

سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ } .
وَلَوْ سَمَّاهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ خَمْرًا لَكَانَ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ عَلَى إثْبَاتِ هَذَا الِاسْمِ لَهُ ، فَإِذَا سَمَّاهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِهِ وَهُوَ أَفْصَحُ الْعَرَبِ أَوْلَى ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْكَثِيرَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ مُسَاوٍ لِلْكَثِيرِ مِنْ الْخَمْرِ فِي حُكْمِ الْحُرْمَةِ ، وَوُجُوبِ الْحَدِّ ، فَكَذَلِكَ الْقَلِيلُ ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَلِيلَ فِي الْحُرْمَةِ كَالْكَثِيرِ ؛ لِأَنَّ شُرْبَ الْقَلِيلِ مِنْهُ لَوْ كَانَ مُبَاحًا لَمَا ، وَجَبَ الْحَدُّ ، وَإِنْ سَكِرَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ السُّكْرَ إنَّمَا حَصَلَ بِشُرْبِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ جَمِيعًا ، فَبِاعْتِبَارِ جَانِبِ الْحَلَالِ يُمْنَعُ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِ .

وَإِذَا اجْتَمَعَ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ ، وَالْمُسْقِطُ لَهُ تَرَجَّحَ الْمُسْقِطُ عَلَى الْمُوجِبِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ اسْتَدَلَّا بِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْآثَارِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَعَنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَأَقْوَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ قَوْلُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا ، وَالْمُسْكِرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ } ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ لَا يَتَنَاوَلُ سَائِرَ الْأَشْرِبَةِ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ عَطْفَ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ الْحَكِيمِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ يُسَمَّى خَمْرًا لِمَعْنَى مُخَامَرَةِ الْعَقْلِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ ، وَالْمَجَازُ لَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ ، وَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { : كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ } لَا يَكَادُ يَصِحُّ ، فَقَدْ قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ثَلَاثٌ لَا يَصِحُّ فِيهِنَّ حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَذَكَرَ فِي جُمْلَتِهَا كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ ، ثُمَّ مُرَادُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَشْبِيهُ الْمُسْكِرِ بِالْخَمْرِ فِي حُكْمٍ خَاصٍّ ، وَهُوَ الْحَدُّ ، فَقَدْ بُعِثَ مُبَيِّنًا لِلْأَحْكَامِ دُونَ الْأَسَامِي ، وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّ الْمُسْكِرَ ، وَهُوَ الْقَدَحُ الْأَخِيرُ مُشْبِهٌ لِلْخَمْرِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ بِشُرْبِهِ ، وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْقَى يَوْمَ النَّحْرِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، فَأُتِيَ بِنَبِيذٍ مِنْ السِّقَايَةِ ، فَلَمَّا قَرَّبَهُ إلَى فِيهِ قَطَّبَ وَجْهَهُ ، وَرَدَّهُ قَالَ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَحَرَامٌ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَدَعَا بِمَاءٍ ، وَصَبَّ عَلَيْهِ ، ثُمَّ شَرِبَ ، وَقَالَ إنَّهُ إذَا اسْتَلْبَثَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْرِبَةِ ، فَاكْسِرُوا مُتُونَهَا بِالْمَاءِ } ، فَقَدْ كَانَ مُشْتَدًّا ، وَلِهَذَا قَطَّبَ وَجْهَهُ ،

وَرَدَّهُ ثُمَّ لَمَّا خَافَ أَنْ يَظُنَّ النَّاسُ أَنَّهُ حَرَامٌ أَخَذَهُ ، وَشَرِبَهُ ، فَدَلَّ أَنَّ الْمُشْتَدَّ مِنْ الْمُثَلَّثِ لَا بَأْسَ بِشُرْبِهِ .
وَلَا يُقَالُ : إنَّمَا قَطَّبَ وَجْهَهُ لِحُمُوضَتِهِ ؛ لِأَنَّ شُرْبَ السِّقَايَةِ إنَّمَا كَانَ يُتَّخَذُ لِشُرْبِ الْحَاجِّ ، وَلَا يُسْقَى الْخَلُّ الْعَطْشَانَ ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ قَطَّبَ وَجْهَهُ لِلشِّدَّةِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْخَمْرَ مَوْعُودٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ } ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِهِ فِي الدُّنْيَا مُبَاحًا يَعْمَلُ عَمَلَهُ لِيَعْلَمَ بِالْإِصَابَةِ مِنْهُ تِلْكَ اللَّذَّةِ ، فَيَتِمُّ التَّرْغِيبُ فِيهِ ، وَمَا هُوَ مُبَاحٌ فِي الدُّنْيَا يَصِيرُ كَالْأُنْمُوذَجِ لِمَا هُوَ مَوْعُودٌ فِي دَارِ الْآخِرَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَمَّا وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الشُّرْبَ فِي الْكَأْسِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الْآخِرَةِ أَحَلَّ مِنْ جِنْسِهِ فِي الدُّنْيَا ، وَهُوَ الشُّرْبُ مِنْ الْكَأْسِ الْمُتَّخَذِ مِنْ الزُّجَاجِ ، وَالْبَلُّورِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ لِهَذَا الْمَعْنَى ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ الْحِلِّيَّةَ فِي الْآخِرَةِ أَحَلَّ لَهُمْ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ فِي ذَلِكَ ، وَتَقَرَّرَ هَذَا الْحَرْفُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، فَنَقُولُ إنَّ الشَّرْعَ حَرَّمَ الْخَمْرَ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ لِمَعْنَى الِابْتِلَاءِ ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِتِلْكَ اللَّذَّةِ لِيَكُونَ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْهُ عَمَلًا بِخِلَافِ هَوَى النَّفْسِ ، وَتَعَاطِيهَا لِلْأَمْرِ ، وَحَقِيقَةُ تِلْكَ اللَّذَّةِ لَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالْوَصْفِ بَلْ بِالذَّوْقِ ، وَالْإِصَابَةِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ مَا هُوَ حَلَالٌ لِتَصِيرَ تِلْكَ اللَّذَّةُ بِهِ مَعْلُومَةً بِالتَّجْرِبَةِ ، فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ يُعْتَبَرُ هَذَا بِسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ كَالزِّنَا ، وَغَيْرِهِ إلَّا أَنَّ فِي الْخَمْرِ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ مِنْهُ حَرَامٌ ؛ لِأَنَّ قَلِيلَهُ يَدْعُو

إلَى كَثِيرِهِ ، فَأَمَّا هَذِهِ الْأَشْرِبَةُ ، فَفِيهَا مِنْ الْغِلَظِ ، وَالْكَثَافَةِ مَا لَا يَدْعُو قَلِيلُهَا إلَى كَثِيرِهَا ، فَكَانَ الْقَلِيلُ مِنْهَا مُبَاحًا مَعَ وَصْفِ الشِّدَّةِ ، وَالْمُسْكِرُ مِنْهَا حَرَامٌ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُسْكِرَ هُوَ الْكَأْسُ الْأَخِيرُ ، وَأَنَّهُ مُبَايِنٌ فِي الْحُكْمِ لِمَا لَيْسَ بِمُسْكِرٍ مِنْهُ ، وَهُوَ كَمَنْ شَرِبَ أَقْدَاحًا مِنْ مَاءٍ ، ثُمَّ شَرِبَ قَدَحًا مِنْ الْخَمْرِ ، فَالْمُحَرَّمُ عَلَيْهِ هُوَ الْخَمْرُ ، وَبِهَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ دُونَ مَا سَبَقَ مِنْ الْأَقْدَاحِ ، فَهَذَا مِثْلُهُ .
فَإِنْ كَانَ يَسْكَرُ بِشُرْبِ الْكَثِيرِ مِنْهُ ، فَذَاكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ تَنَاوُلُ الْقَلِيلِ مِنْهُ كَالْبَنْجِ ، وَلَبَنِ الْفَرَسِ ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ ، فَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ عِنْدَنَا حَرَامٌ ، وَذَلِكَ الْقَدَحُ الْأَخِيرُ ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ فِي تَأْوِيلِهِ : إذَا كَانَ يَشْرَبُ عَلَى قَصْدِ السُّكْرِ ، فَإِنَّ الْقَلِيلَ ، وَالْكَثِيرَ عَلَى هَذَا الْقَصْدِ حَرَامٌ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يَشْرَبُ لِاسْتِمْرَاءِ الطَّعَامِ فَلَا ، فَهُوَ نَظِيرُ الْمَشْيِ عَلَى قَصْدِ الزِّنَا يَكُونُ حَرَامًا ، وَعَلَى قَصْدِ الطَّاعَةِ يَكُونُ طَاعَةً ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ ، فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ هُوَ عَلَى مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْقَدَحُ الْأَخِيرُ الَّذِي هُوَ مُسْكِرٌ قَلِيلُهُ ، وَكَثِيرُهُ حَرَامٌ ، ثُمَّ هَذَا عِنْدَ التَّحْقِيقِ دَلِيلُنَا ، فَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَا هُوَ الْكَثِيرُ مِنْهُ يَكُونُ مُسْكِرًا ، فَالْمُحَرَّمُ عَلَيْهِ قَلِيلٌ مِنْ ذَلِكَ الْكَثِيرِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا جَعَلْنَا الْمُحَرَّمَ هُوَ الْقَدَحُ الْأَخِيرُ ، فَأَمَّا إذَا جَعَلْنَا الْكُلَّ مُحَرَّمًا ، فَلَا يَكُونُ الْمُحَرَّمُ قَلِيلًا مِنْ ذَلِكَ الْكَثِيرِ كَمَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ ، ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ لِتَحْقِيقِ الزَّجْرِ ، ثُمَّ جَاءَتْ الرُّخْصَةُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي شُرْبِ الْقَلِيلِ مِنْهُ ، وَمَهْمَا

أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْآثَارِ ، فَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِبَعْضِهَا ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ بَعْضِهَا ، وَلَا بَأْسَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ وَالْبُسْرِ جَمِيعًا ، أَوْ أَحَدِهِمَا وَحْدَهُ إذَا طُبِخَ ؛ لِأَنَّ الْبُسْرَ مِنْ نَوْعِ التَّمْرِ ، فَإِنَّهُ يَابِسُ الْعَصَبِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا : أَنَّ الْمَطْبُوخَ مِنْ نَبِيذِ التَّمْرِ شُرْبُهُ حَلَالٌ ، وَالْمُسْكِرُ مِنْهُ حَرَامٌ ، وَكَذَلِكَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ ، أَوْ الْبُسْرُ وَالزَّبِيبُ ، وَهُوَ شَرَابُ الْخَلِيطَيْنِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْكَلَامَ فِيهِ ، وَبَعْدَ مَا طُبِخَ مُعَتَّقُهُ ، وَغَيْرُ مُعَتَّقِهِ سَوَاءٌ فِي إبَاحَةِ الشُّرْبِ يَعْنِي الْمُشْتَدَّ مِنْهُ ، وَغَيْرَ الْمُشْتَدِّ مِنْهُ ، وَالْمُحَرَّمُ الْمُسْكِرُ مِنْهُ ، وَذَلِكَ بِغَيْرِ الْمُشْتَدِّ لَا يَحْصُلُ .
وَلَوْ حَصَلَ كَانَ مُحَرَّمًا أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ الْأَكْلِ فَوْقَ الشِّبَعِ ، وَلَا بَأْسَ بِهَذِهِ الْأَنْبِذَةِ كُلِّهَا مِنْ الْعَسَلِ ، وَالذُّرَةِ ، وَالْحِنْطَةِ ، وَالشَّعِيرِ ، وَالزَّبِيبِ ، وَالتَّمْرِ ، وَكُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ النَّبِيذِ عُتِّقَ ، أَوْ لَمْ يُعَتَّقْ خُلِطَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ ، أَوْ لَمْ يُخْلَطْ بَعْدَ أَنْ يُطْبَخَ أَمَّا الْكَلَامُ فِي نَبِيذِ التَّمْرِ ، وَالزَّبِيبِ ، فَقَدْ بَيَّنَّاهُ .

وَأَمَّا فِي سَائِرِ الْأَنْبِذَةِ ، فَفِي ظَاهِرِ الْجَوَابِ لَا بَأْسَ بِالشُّرْبِ مِنْهُ مَطْبُوخًا كَانَ ، أَوْ غَيْرَ مَطْبُوخٍ ، وَفِي النَّوَادِرِ رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ شُرْبَ النِّيءِ مِنْهُ بَعْدَ مَا اشْتَدَّ لَا يَحِلُّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { الْخَمْرُ مِنْ خَمْسَةٍ : مِنْ النَّخْلِ ، وَالْكَرْمِ ، وَالْحِنْطَةِ ، وَالشَّعِيرِ ، وَالذُّرَةِ } ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ خَمْرٌ حَقِيقَةً ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ التَّشْبِيهُ بِالْخَمْرِ فِي أَنَّهُ لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ النِّيءَ مِنْ نَقِيعِ الزَّبِيبِ ، وَالتَّمْرِ إذَا كَانَ مُشْتَدًّا لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ ، فَكَذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الشِّدَّةِ يَجْمَعُ الْكُلَّ ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْعَسَلَ ، وَالذُّرَةَ ، وَالشَّعِيرَ حَلَالُ التَّنَاوُلِ مُتَغَيِّرًا كَانَ ، أَوْ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ ، فَكَذَلِكَ مَا يُتَّخَذُ مِنْهَا مِنْ الْأَشْرِبَةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الطَّعَامِ ، وَالتَّغَيُّرُ فِي الطَّعَامِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحُرْمَةِ ، فَكَذَلِكَ نَفْسُ الشِّدَّةِ لَا تُوجِبُ الْحُرْمَةَ ، فَقَدْ يُوجَدُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَدْوِيَةِ كَالْبَنْجِ ، وَفِي بَعْضِ الْأَشْرِبَةِ كَاللَّبَنِ ، وَالْحَدِيثُ فِيهِ شَاذٌّ وَالشَّاذُّ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى لَا يَكُونُ مَقْبُولًا ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّحْرِيمِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الرُّخْصَةِ لِتَحَقُّقِ الْمُبَالَغَةِ فِي الزَّجْرِ .
وَلَا حَدَّ عَلَى شَارِبِ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْعَسَلِ ، وَالْحِنْطَةِ ، وَالشَّعِيرِ ، وَالذُّرَةِ ، وَكَذَلِكَ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْفَانِيدِ ، وَالتُّوتِ ، وَالْكُمَّثْرَى ، وَغَيْرِ ذَلِكَ أَسْكَرَ ، أَوْ لَمْ يُسْكِرْ ؛ لِأَنَّ النَّصَّ ، وَرَدَ بِالْحَدِّ فِي الْخَمْرِ ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ فَلَوْ أَوْجَبْنَا فِيهِ الْحَدَّ كَانَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ ثُمَّ الْحَدُّ مَشْرُوعٌ لِلزَّجْرِ عَنْ ارْتِكَابِ سَبَبِهِ ، وَدُعَاءُ الطَّبْعِ إلَى هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ لَا يَكُونُ كَدُعَاءِ الطَّبْعِ إلَى الْمُتَّخَذِ مِنْ الزَّبِيبِ ، وَالْعِنَبِ ، وَالتَّمْرِ ، فَلَا

يُشْرَعُ فِيهِ الزَّجْرُ أَيْضًا ، وَإِنْ اشْتَدَّ عَصِيرُ الْعِنَبِ ، وَغَلَا ، وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ ، ثُمَّ طُبِخَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ بِالطَّبْخِ ؛ لِأَنَّ الطَّبْخَ لَاقَى عَيْنًا حَرَامًا ، فَلَا يُفِيدُ الْحِلَّ فِيهِ كَطَبْخِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلنَّارِ تَأْثِيرٌ فِي الْحِلِّ ، وَلَا فِي تَغْيِيرِ طَبْعِ الْجَوْهَرِ بِخِلَافِ الْعَصِيرِ الْحُلْوِ إذَا طُبِخَ ، فَالطَّبْخُ هُنَاكَ حَصَلَ فِي عَيْنٍ حَلَالٍ ، وَلِلطَّبْخِ تَأْثِيرٌ فِي مَنْعِ ثُبُوتِ صِفَةِ الْحُرْمَةِ فِيهِ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْخَمْرَ هِيَ الَّتِي مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا اشْتَدَّ ، فَإِذَا طُبِخَ الْعَصِيرُ ، ثُمَّ اشْتَدَّ ، فَهُوَ حِينَ اشْتَدَّ مَا كَانَ نِيئًا ، فَلَا يَكُونُ خَمْرًا ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَحِينَ اشْتَدَّ كَانَ نِيئًا ، وَصَارَ خَمْرًا ، ثُمَّ الطَّبْخُ فِي الْخَمْرِ لَا يُوجِبُ تَبْدِيلَ عَيْنِهِ ، وَلِهَذَا يُحَدُّ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ قَلِيلًا كَانَ ، أَوْ كَثِيرًا .
وَلَا بَأْسَ بِنَبِيذِ الْفَضِيخِ يَعْنِي إذَا صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ ، ثُمَّ طُبِخَ ، وَتُرِكَ حَتَّى اشْتَدَّ ، فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّ الطَّبْخَ لَاقَى عَيْنًا حَلَالًا ، وَلِأَنَّهُ إنْ رَقَّ فَرِقَّتُهُ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَاءِ ، وَالْمَاءُ حَلَالُ الشُّرْبِ وَحْدَهُ ، وَالْفَضِيخُ كَذَلِكَ ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا .
قُلْت ، فَهَلْ يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَطْبُوخِ عَلَى النِّصْفِ ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ ، وَهُوَ حُلْوٌ ، قَالَ لَا أُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا مَا قَدْ ذَهَبَ ثُلُثَاهُ ، وَبَقِيَ ثُلُثُهُ قِيلَ : هَذَا غَلَطٌ ، وَالصَّحِيحُ ، وَهُوَ غَيْرُ حُلْوٍ ، فَالْحُلْوُ حَلَالٌ ، وَإِنْ كَانَ نِيئًا كَيْفَ لَا يَحِلُّ بَعْدَ الطَّبْخِ ، وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ طُبِخَ ، وَهُوَ حُلْوٌ لَمْ يَتَغَيَّرْ حِينَ ذَهَبَ مِنْهُ النِّصْفُ ، أَوْ أَقَلُّ ، ثُمَّ تُرِكَ حَتَّى اشْتَدَّ ، فَهَذَا هُوَ الْمُنَصَّفُ ، وَالْقَاذِفُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْكَلَامَ فِيهِمَا فِي حُكْمِ الشِّرَاءِ ، وَالْبَيْعِ .
.

وَإِذَا ، وَقَعَتْ قَطْرَةٌ مِنْ خَمْرٍ ، أَوْ مُسْكِرٍ ، أَوْ نَقِيعِ زَبِيبٍ قَدْ اشْتَدَّ فِي قَدَحٍ مِنْ مَاءٍ أَمَرْت بِإِرَاقَتِهِ ، وَكَرِهْت شُرْبَهُ ، وَالتَّوَضُّؤَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَنَجَّسَ بِمَا وَقَعَ فِيهِ ، وَالتَّوَضُّؤُ بِالْمَاءِ النَّجِسِ لَا يَجُوزُ ، وَإِذَا شَرِبَهُ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ شَارِبًا لِلْقَطْرَةِ الْوَاقِعَةِ فِيهِ ، وَذَلِكَ حَرَامٌ ، وَلِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلْحِلِّ وَالْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ ، فَيُغَلَّبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ عَلَى الْمُوجِبِ لِلْحِلِّ ، فَإِنْ شَرِبَ رَجُلٌ مَاءً فِيهِ خَمْرٌ ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ غَالِبًا بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ فِيهِ طَعْمُ الْخَمْرِ ، وَلَا رِيحُهُ ، وَلَا لَوْنُهُ لَمْ يُحَدَّ ؛ لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ مُسْتَهْلَكٌ بِالْغَالِبِ ، وَالْغَالِبُ مَاءٌ نَجِسٌ ؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّ لِلزَّجْرِ ، وَالطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ لَا تَدْعُو إلَى شُرْبِ مِثْلِهِ عَلَى قَصْدِ التَّلَهِّي ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْخَمْرُ غَالِبًا حَتَّى كَانَ يُوجَدُ فِيهِ طَعْمُهُ ، وَرِيحُهُ ، وَتَبَيَّنَ لَوْنُهُ حَدَدْتُهُ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ ، وَالْغَالِبُ هُوَ الْخَمْرُ ؛ وَلِأَنَّ الطِّبَاعَ تَمِيلُ إلَى شُرْبِ مِثْلِهِ لِلتَّلَهِّي ، وَقَدْ يُؤْثِرُ الْمَرْءُ الْمَمْزُوجَ عَلَى الصِّرْفِ ، وَقَدْ يَشْرَبُ بِنَفْسِهِ صِرْفًا ، وَيَمْزُجُ لِجُلَسَائِهِ ، وَهُوَ وَإِنْ مَزَجَهُ بِالْمَاءِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَمْرًا اسْمًا ، وَحُكْمًا ، وَمَقْصُودًا وَلَوْ لَمْ يَجِدْ فِيهِ رِيحَهَا ، وَوَجَدَ طَعْمَهَا حُدَّ ؛ لِأَنَّ الرَّغْبَةَ فِي شُرْبِهَا لِطَعْمِهَا لَا لِرِيحِهَا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يَتَكَلَّفُ لِإِذْهَابِ رِيحِهَا ، وَلِزِيَادَةِ الْقُوَّةِ فِي طَبْعِهَا .

وَلَوْ مَلَأَ فَاهُ خَمْرًا ، ثُمَّ مَجَّهُ ، وَلَمْ يَدْخُلْ جَوْفَهُ مِنْهَا شَيْءٌ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ ذَاقَ الْخَمْرَ ، وَمَا شَرِبَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ عَلَى الشُّرْبِ بِهَذِهِ ، وَأَنَّ الصَّائِمَ لَوْ فَعَلَهُ مَعَ ذِكْرِهِ لِلصَّوْمِ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ ، وَكَذَلِكَ الطَّبْعُ لَا يَمِيلُ إلَى هَذَا الْفِعْلِ ، فَلَا يُشْرَعُ فِيهِ الزَّجْرُ بِخِلَافِ شُرْبِ الْقَلِيلِ ، فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الشُّرْبِ ، وَالطَّبْعُ مَائِلٌ إلَى شُرْبِ الْخَمْرِ قُلْت ، وَالتَّمْرُ الْمَطْبُوخُ يُمْرَسُ فِيهِ الْعِنَبُ ، فَيَغْلِيَانِ جَمِيعًا ، وَالْعِنَبُ غَيْرُ مَطْبُوخٍ قَالَ : أَكْرَهُ ذَلِكَ ، وَأَنْهَى عَنْهُ ، وَلَا أَحُدُّ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ إلَّا أَنْ يَسْكَر ، وَالْكَلَامُ فِي فَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي طَبْخِ الْعِنَبِ قَبْلَ أَنْ يُعْصَرَ ، فَإِنَّ الْحَسَنَ رَوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الزَّبِيبِ ، وَالتَّمْرُ يَكْفِي أَدْنَى الطَّبْخِ فِيهِ ، وَلَكِنَّ الْحَسَنَ بْنَ أَبِي مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ ، وَقَالَ سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَقُولُ : إنَّهُ لَا يَحِلُّ مَا لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَا مَا فِيهِ بِالطَّبْخِ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الَّذِي فِي الْعِنَبِ هُوَ الْعَصِيرُ ، وَالْعَصْرُ مُمَيِّزٌ لَهُ عَنْ التُّفْلِ وَالْقِشْرِ ، وَكَمَا لَا يَحِلُّ الْعَصِيرُ بِالطَّبْخِ مَا لَمْ يَذْهَبْ مِنْهُ ثُلُثَاهُ ، فَكَذَلِكَ الْعِنَبُ .
فَإِنْ جُمِعَ فِي الطَّبْخِ بَيْنَ الْعِنَبِ ، وَالتَّمْرِ ، أَوْ بَيْنَ الزَّبِيبِ ، وَالتَّمْرِ لَا يَحِلُّ مَا لَمْ يَذْهَبْ بِالطَّبْخِ ثُلُثَاهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ خَلَطَ عَصِيرَ الْعِنَبِ بِنَقِيعِ التَّمْرِ ، وَالزَّبِيبِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْعَصْرَ لَا يَحِلُّ بِالطَّبْخِ مَا لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُ إذَا كَانَ وَحْدَهُ ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَعَ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ الْمُوجِبُ لِلْحِلِّ ، وَالْحُرْمَةِ ، وَفِي مِثْلِهِ يُغَلَّبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا ، وَذَكَرَ الْمُعَلَّى فِي نَوَادِرِهِ أَنَّ نَقِيعَ التَّمْرِ ، وَالزَّبِيبِ إذَا طُبِخَ

أَدْنَى طَبْخِهِ ثُمَّ نُقِعَ فِيهِ تَمْرٌ ، أَوْ زَبِيبٌ ، فَإِنْ كَانَ مَا نُقِعَ فِيهِ شَيْئًا يَسِيرًا لَا يُتَّخَذُ النَّبِيذُ مِنْ مِثْلِهِ ، فَهُوَ مُعْتَبَرٌ ، وَلَا بَأْسَ بِشُرْبِهِ ، وَإِنْ كَانَ يُتَّخَذُ النَّبِيذُ مِنْ مِثْلِهِ لَمْ يَحِلَّ شُرْبُهُ مَا لَمْ يُطْبَخْ قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى نَقِيعٍ مَطْبُوخٍ ، وَلَوْ صُبَّ فِي الْمَطْبُوخِ قَدَحٌ مِنْ نَقِيعٍ لَمْ يَحِلَّ شُرْبُهُ إذَا اشْتَدَّ ، وَيُغَلَّبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ عَلَى الْمُوجِبِ لِلْحِلِّ ، فَهَذَا مِثْلُهُ .
وَلَا يُحَدُّ فِي شُرْبِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يُسْكِرْ إمَّا لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي إبَاحَةِ شُرْبِهِ ، أَوْ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ لِلِاحْتِيَاطِ ، وَفِي الْحُدُودِ يُحْتَالُ لِلدَّرْءِ ، وَلِلْإِسْقَاطِ ، فَلَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ مَا لَمْ يُسْكِرْ ، وَإِنْ خَلَطَ الْخَمْرَ بِالنَّبِيذِ ، وَشَرِبَهُ رَجُلٌ ، وَلَمْ يَسْكَرْ ، فَإِنْ كَانَتْ الْخَمْرُ هِيَ الْغَالِبَةُ حَدَدْتُهُ ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيذُ هُوَ الْغَالِبُ لَمْ نَحُدَّهُ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَغْلُوبَ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا بِالْغَالِبِ ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ لِلْغَالِبِ ، وَهَذَا فِي الْجِنْسَيْنِ مَجْمَعٌ عَلَيْهِ ، وَالنَّبِيذُ ، وَالْخَمْرُ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ ، فَإِنَّ أَحْكَامَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ ، فَإِنْ طُبِخَ الزَّبِيبُ وَحْدَهُ ، أَوْ التَّمْرُ ، ثُمَّ مَرَسَ الْعِنَبُ فِيهِ ، فَلَا بَأْسَ بِهِ مَا دَامَ حُلْوًا ، فَإِذَا اشْتَدَّ ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ مُرِسَ الْعِنَبُ فِي نَبِيذِ الْعَسَلِ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عَصِيرٍ خُلِطَ بِنَبِيذٍ ، وَاشْتَدَّ ، فَإِنْ طُبِخَا جَمِيعًا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَا الْعَصِيرِ ، ثُمَّ اشْتَدَّ ، فَلَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الشَّرْطُ فِي الْعَصِيرِ ، وَهُوَ ذَهَابُ الثُّلُثَيْنِ بِالطَّبْخِ قَدْ وُجِدَ ، وَالْعِنَبُ الْأَبْيَضُ ، وَالْأَسْوَدُ يُعْصَرَانِ لَا بَأْسَ بِعَصِيرِهِمَا مَا دَامَ حُلْوًا ، فَإِذَا اشْتَدَّ فَهُوَ خَمْرٌ ، وَإِنَّمَا ، أَوْرَدَ هَذَا ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ بَعْضِ الْعَوَامّ أَنَّ الْخَمْرَ مِنْ الْعِنَبِ الْأَسْوَدِ دُونَ الْأَبْيَضِ هَذَا ، وَإِنْ

كَانَ لَا يَشْكُلُ عَلَى الْفُقَهَاءِ ، فَلِرَدِّ مَا ، وَقَعَ عِنْدَ الْعَوَامّ كَمَا ذُكِرَ فِي الِاصْطِيَادِ بِالْكَلْبِ الْكُرْدِيِّ فِي كِتَابِ الصَّيْدِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ .

وَمَا طُبِخَ مِنْ التَّمْرِ ، وَالزَّبِيبِ ، وَعُتِّقَ ، فَلَا بَأْسَ بِهِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَكْرَهُ الْمُعَتَّقَ مِنْ الزَّبِيبِ ، وَالتَّمْرِ ، وَأَنْهَى عَنْهُ ، وَهَذَا قَوْلُهُ الْأَوَّلُ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا : كُلُّ نَبِيذٍ يَزْدَادُ جَوْدَةً عِنْدَ إبَّانِهِ ، فَلَا خِيَارَ فِيهِ ، وَقَدْ رَجَعَ عَنْ هَذَا إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَدْ ذُكِرَ رُجُوعُهُ فِي رِوَايَاتِ أَبِي حَفْصٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَكَذَلِكَ نَبِيذُ التَّمْرِ الْمُعَتَّقِ يُجْعَلُ فِيهِ الرَّازِيّ ، وَهُوَ شَيْءٌ يَجْعَلُونَهُ فِي نَبِيذِ التَّمْرِ عِنْدَ الطَّبْخِ لِتَقْوَى بِهِ شِدَّتُهُ ، وَيُنْتَقَصُ مِنْ النَّفْخِ الَّذِي هُوَ فِيهِ ، وَالشِّدَّةُ بَعْدَ الطَّبْخِ لَا تَمْنَعُ شُرْبَهُ ، فَكَذَلِكَ إذَا جُعِلَ فِيهِ مَا تَتَقَوَّى بِهِ الشِّدَّةُ ، فَذَلِكَ يَمْنَعُ شُرْبُهُ ، وَيُكْرَهُ شُرْبُ دُرْدِيِّ الْخَمْرِ ، وَالِانْتِفَاعُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الدُّرْدِيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ بِمَنْزِلَةِ صَافِيهِ ، وَالِانْتِفَاعُ بِالْخَمْرِ حَرَامٌ ، فَكَذَلِكَ بِدُرْدِيِّهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ فِي الدُّرْدِيِّ أَجْزَاءَ الْخَمْرِ .
وَلَوْ وَقَعَتْ قَطْرَةٌ مِنْ خَمْرٍ فِي مَاءٍ لَمْ يَجُزْ شُرْبُهُ ، وَالِانْتِفَاعُ بِهِ ، فَالدُّرْدِيُّ أَوْلَى ، وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَتَدَلَّكُ بِدُرْدِيِّ الْخَمْرِ فِي الْحَمَّامِ ، فَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ حَتَّى لَعَنَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ لَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ عَنْهُ ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ بِذَلِكَ بَعْدَ مَا أَنْكَرَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَلَوْ شَرِبَ مِنْهُ ، وَلَمْ يَسْكَرْ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يَجِبُ بِشُرْبِ قَطْرَةٍ مِنْ الْخَمْرِ ، وَفِي الدُّرْدِيِّ قَطَرَاتٌ مِنْ الْخَمْرِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : وُجُوبُ الْحَدِّ لِلزَّجْرِ ، وَإِنَّمَا يُشْرَعُ الزَّجْرُ فِيمَا تَمِيلُ إلَيْهِ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ ، وَالطِّبَاعُ لَا تَمِيلُ إلَى شُرْبِ الدُّرْدِيِّ بَلْ مَنْ يَعْتَادُ شُرْبَ

الْخَمْرِ يَعَافُ الدُّرْدِيَّ ، فَيَكُونُ شُرْبُهُ كَشُرْبِ الدَّمِ ، وَالْبَوْلِ ، ثُمَّ الْغَالِبُ عَلَى الدُّرْدِيِّ أَجْزَاءُ تُفْلِ الْعِنَبِ مِنْ الْقِشْرِ ، وَغَيْرِهِ .
وَلَوْ كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الْمَاءُ لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ بِشُرْبِهِ كَمَا بَيَّنَّا ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْغَالِبُ تُفْلُ الْعِنَبِ ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ فِي خَلٍّ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ خَلًّا ، فَإِنَّ مِنْ طَبْعِ الْخَمْرِ يَصِيرُ خَلًّا إذَا تُرِكَ كَذَلِكَ ، فَإِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ الْخَلُّ ، أَوْلَى أَنْ يَصِيرَ خَلًّا وَخَلُّ الْخَمْرِ حَلَالٌ

وَإِذَا طُبِخَ فِي الْخَمْرِ رَيْحَانٌ يُقَالُ : لَهُ سَوْسَنٌ حَتَّى يَأْخُذَ رِيحَهَا ثُمَّ يُبَاعُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْهُنَ ، أَوْ يَتَطَيَّبَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ الْخَمْرِ ، وَإِنْ تَكَلَّفُوا لِإِذْهَابِ رَائِحَتِهِ بِرَائِحَةِ شَيْءٍ آخَرَ غَلَبَ عَلَيْهَا ، وَالِانْتِفَاعُ بِالْخَمْرِ حَرَامٌ قَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَمْرِ عَشْرًا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : لَعَنَ اللَّهُ فِي الْخَمْرِ عَشْرًا } ، وَقَالَ فِي الْجُمْلَةِ مَنْ يَنْتَفِعُ بِهَا ، وَلَا تَمْتَشِطُ الْمَرْأَةُ بِالْخَمْرِ فِي الْحَمَّامِ ؛ لِأَنَّهَا فِي خِطَابِ تَحْرِيمِ الشُّرْبِ كَالرَّجُلِ ، وَكَذَلِكَ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهَا عِنْدَ الشُّرْبِ ، فَكَذَلِكَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا مِنْ حَيْثُ الِامْتِشَاطِ ، وَذَلِكَ شَيْءٌ يَصْنَعُهُ بَعْضُ النِّسَاءِ ؛ لِأَنَّهُ يَزِيدُ فِي تَرْنِيقِ الشَّعْرِ ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَنْهَى النِّسَاءَ عَنْ ذَلِكَ أَشَدَّ النَّهْيِ ، وَكَذَلِكَ لَا يَحِلُّ أَنْ يُسْقَى الصِّبْيَانُ الْخَمْرَ لِلدَّوَاءِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَالْإِثْمُ عَلَى مَنْ يَسْقِيهِمْ ؛ لِأَنَّ الْإِثْمَ يَنْبَنِي عَلَى الْخِطَابِ ، وَالصَّبِيُّ غَيْرُ مُخَاطَبٍ ، وَلَكِنْ مَنْ يَسْقِيهِ مُخَاطَبٌ ، فَهُوَ الْآثِمُ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : إنَّ أَوْلَادَكُمْ وُلِدُوا عَلَى الْفِطْرَةِ ، فَلَا تُدَاوُوهُمْ بِالْخَمْرِ ، وَلَا تُغَذُّوهُمْ بِهَا ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ فِي رِجْسٍ شِفَاءً ، وَإِنَّمَا الْإِثْمُ عَلَى مَنْ سَقَاهُمْ ، وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُدَاوِيَ بِهَا جُرْحًا فِي بَدَنِهِ ، أَوْ يُدَاوِيَ بِهَا دَابَّتَهُ ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ انْتِفَاعٍ بِالْخَمْرِ وَالِانْتِفَاعُ بِالْخَمْرِ مُحَرَّمٌ شَرْعًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، ثُمَّ الضَّرُورَةُ لَا تَتَحَقَّقُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْحَلَالِ مَا يَعْمَلُ عَمَلَهُ فِي الْمُدَاوَاةِ .
.

وَإِنْ غُسِلَ الظَّرْفُ الَّذِي كَانَ فِيهِ الْخَمْرُ ، فَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُجْعَلَ فِيهِ النَّبِيذُ ، وَالْمُرَبَّى ؛ لِأَنَّ الظَّرْفَ كَانَ تَنَجَّسَ بِمَا جُعِلَ فِيهِ مِنْ الْخَمْرِ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ تَنَجَّسَ بِجَعْلِ الْبَوْلِ ، وَالدَّمِ فِيهِ ، فَيَطْهُرُ بِالْغَسْلِ ، وَإِذَا صَارَ طَاهِرًا بِالْغَسْلِ حَلَّ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ، وَإِنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ ، وَذَكَرَ فِيهَا الْخَمْرَ } ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَطْهُرُ الثَّوْبُ بَعْدَ مَا يُصِيبُهُ الْخَمْرُ بِالْغَسْلِ فَكَذَلِكَ الظُّرُوفُ وَاَلَّذِي رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ بِكَسْرِ الدِّنَانِ ، وَشَقِّ الرَّوَايَا } قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الزَّجْرِ عَنْ الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ ، ثُمَّ قِيلَ : فِي تَأْوِيلِهِ الْمُرَادُ مَا يُشْرَبُ فِيهِ الْخَمْرُ حَتَّى لَا يُمْكِنَ اسْتِخْرَاجُهُ بِالْغَسْلِ ، وَتُوجَدُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ مِنْ كُلِّ مَا يُجْعَلُ فِيهِ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، فَهُوَ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ ، فَلَا يَحِلُّ كَثِيرُهُ ؛ لِأَنَّهُ عَيْنٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ بِطَرِيقٍ حَلَالٍ شَرْعًا .

قُلْت : فَالْخَمْرُ يُطْرَحُ فِيهَا السَّمَكُ ، وَالْمِلْحُ ، فَيُصْنَعُ مُرَبَّى قَالَ : لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إذَا تَحَوَّلَتْ عَنْ حَالِ الْخَمْرِ ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ تَخْلِيلَ الْخَمْرِ بِالْعِلَاجِ جَائِزٌ عِنْدَنَا ، وَيَحِلُّ تَنَاوُلُ الْخَلِّ بَعْدَ التَّخْلِيلِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ التَّخْلِيلُ حَرَامٌ بِإِلْقَاءِ شَيْءٍ فِي الْخَمْرِ مِنْ مِلْحٍ ، أَوْ خَلٍّ ، وَلَا يَحِلُّ ذَلِكَ الْخَلُّ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَالتَّخْلِيلُ مِنْ غَيْرِ إلْقَاءِ شَيْءٍ فِيهِ بِالنَّقْلِ مِنْ الظِّلِّ إلَى الشَّمْسِ ، أَوْ إيقَادِ النَّارِ بِالْقُرْبِ مِنْهُ لَا يَحِلُّ عِنْدَهُ أَيْضًا ، وَلَكِنْ إذَا تَخَلَّلَ ، فَلَهُ قَوْلَانِ فِي إبَاحَةِ تَنَاوُلِ ذَلِكَ الْخَلِّ ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ تَخْلِيلِ الْخَمْرِ } ، وَفِي رِوَايَةٍ { نَهَى أَنْ تُتَّخَذَ الْخَمْرُ خَلًّا } ، وَفِي { حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ فِي حِجْرِهِ خُمُورٌ لِيَتَامَى ، فَلَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالَ مَاذَا أَصْنَعُ بِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : أَرْقِهَا قَالَ : أَفَلَا أُخَلِّلُهَا قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا } ، فَقَدْ أَمَرَهُ بِالْإِرَاقَةِ .
وَلَوْ كَانَ التَّخَلُّلُ جَائِزًا لَأَرْشَدَهُ إلَى ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِصْلَاحِ فِي حَقِّ الْيَتَامَى ، فَلَمَّا سَأَلَهُ عَنْ التَّخَلُّلِ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ ، فَلَوْ كَانَ جَائِزًا لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُرَخِّصَ فِيهِ فِي خُمُورِ الْيَتَامَى ، وَإِذَا ثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنَّ التَّخْلِيلَ حَرَامٌ ، فَالْفِعْلُ الْمُحَرَّمُ شَرْعًا لَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي الْحِلِّ كَذَبْحِ الشَّاةِ فِي غَيْرِ مَذْبَحِهَا ؛ وَلِأَنَّ الْخَمْرَ عَيْنٌ مُحَرَّمُ الِانْتِفَاعِ بِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَالتَّخْلِيلُ تَصَرُّفٌ فِيهَا عَلَى قَصْدِ التَّمَوُّلِ ، فَيَكُونُ حَرَامًا كَالْبَيْعِ ، وَالشِّرَاءِ ، وَكَمَا لَوْ أَلْقَى فِي الْخَمْرِ شَيْئًا حُلْوًا كَالسُّكَّرِ ، وَالْفَانِيذِ حَتَّى صَارَ حُلْوًا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ نَجَاسَةَ الْعَيْنِ تُوجِبُ

الِاجْتِنَابَ ، وَفِي التَّخْلِيلِ اقْتِرَابٌ مِنْهُ ، وَذَلِكَ ضِدُّ الْمَأْمُورِ بِهِ نَصًّا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { ، فَاجْتَنِبُوهُ } بِخِلَافِ الْخَمْرِ لِلْإِرَاقَةِ ، فَإِنَّهُ مُبَالَغَةٌ فِي الِاجْتِنَابِ عَنْهُ ، ثُمَّ مَا يُلْقَى فِي الْخَمْرِ نَجِسٌ بِمُلَاقَاةِ الْخَمْرِ إيَّاهُ ، وَمَا يَكُونُ نَجِسًا فِي نَفْسِهِ لَا يُفِيدُ الطَّهَارَةَ فِي غَيْرِهِ ، وَعَلَى هَذَا الْحَرْفِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ مَا إذَا أُلْقِيَ فِيهِ شَيْءٌ ، وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يُجْعَلْ فِيهِ شَيْءٌ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا تَخَلَّلَ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ هُنَاكَ تَنْجِيسُ شَيْءٍ بِإِلْقَائِهِ فِيهِ ، وَلَا مُبَاشَرَةُ فِعْلٍ حَرَامٍ فِي الْخَمْرِ ، فَهُوَ نَظِيرُ الصَّيْدِ إذَا خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ بِنَفْسِهِ حَلَّ اصْطِيَادُهُ .
وَلَوْ أَخْرَجَهُ إنْسَانٌ لَمْ يَحِلَّ ، وَوَجَبَ رَدُّهُ إلَى الْحَرَمِ وَمَنْ قَتَلَ مُوَرِّثَهُ يُحْرَمُ مِنْ الْمِيرَاثِ بِمُبَاشَرَتِهِ فِعْلًا حَرَامًا بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ بِنَفْسِهِ ، وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مِنْ طَبْعِ الْخَمْرِ أَنْ يَتَخَلَّلَ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ ، فَإِذَا تَخَلَّلَتْ ، فَقَدْ تَحَوَّلَتْ بِطَبْعِهَا ، وَصَارَتْ فِي حُكْمِ شَيْءٍ آخَرَ ، فَأَمَّا التَّخْلِيلُ ، فَلَيْسَ بِتَقْلِيبٍ لِلْعَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعِبَادِ تَقْلِيبُ الطِّبَاعِ ، وَإِنَّمَا الَّذِي إلَيْهِمْ إحْدَاثُ الْمُجَاوَرَةِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ ، فَيَكُونُ هَذَا تَنْجِيسًا لِمَا يُلْقَى فِي الْخَمْرِ لَا تَقْلِيبًا لِطَبْعِ الْخَمْرِ ، وَهُوَ نَظِيرُ الشَّابِّ يَصِيرُ شَيْخًا بِمُضِيِّ الزَّمَانِ ، وَبِتَكْلِيفِهِ لَا يَصِيرُ شَيْخًا ، فَإِذَا لَمْ يَتَبَدَّلْ طَبْعُهُ بِهَذَا التَّخْلِيلِ بَقِيَ صِفَةُ الْخَمْرِيَّةِ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَطْهُرْ كَمَا إذَا أُلْقِيَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ الْحَلَاوَةِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَ ، فَإِنَّ نَجَاسَةَ الْجِلْدِ بِمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ الدُّسُومَاتِ النَّجِسَةِ ، وَالدَّبْغُ إزَالَةٌ لِتِلْكَ الدُّسُومَةِ ، وَإِلَى الْعِبَادِ الْفَصْلُ ، وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ ، فَكَانَ فِعْلُهُ إصْلَاحًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُمَيَّزُ بِهِ

الطَّاهِرُ مِنْ النَّجِسِ ، فَأَمَّا نَجَاسَةُ الْخَمْرِ ، فَلِعَيْنِهَا لَا لِغَيْرٍ اتَّصَلَ بِهَا ، وَإِنَّمَا تَنْعَدِمُ هَذِهِ الصِّفَةُ بِتَحَوُّلِهَا بِطَبْعِهَا ، وَلَا أَثَرَ لِلتَّخْلِيلِ فِي ذَلِكَ .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { : أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ ، فَقَدْ طَهُرَ كَالْخَمْرِ يُخَلَّلُ ، فَيَحِلُّ } ، وَلَا يُقَالُ : قَدْ رُوِيَ كَالْخَمْرِ تُخَلَّلُ ، فَحَلَّ ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ كَالْخَبَرَيْنِ ، فَيُعْمَلُ بِهِمَا ، ثُمَّ مَا رَوَيْنَاهُ أَقْرَبُ إلَى الصِّحَّةِ ؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَ دَبْغَ الْجِلْدِ بِهِ ، وَالدَّبْغُ يَكُونُ بِصُنْعِ الْعِبَادِ لَا بِطَبْعِهِ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ التَّخْلِيلُ الَّذِي يَكُونُ بِصُنْعِ الْعِبَادِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّ هَذَا صَلَاحٌ لِجَوْهَرٍ فَاسِدٍ ، فَيَكُونُ مِنْ الْحِكْمَةِ ، وَالشَّرْعِ أَنْ لَا يَنْهَى عَمَّا هُوَ حِكْمَةٌ ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْخَمْرَ جَوْهَرٌ ، فَاسِدٌ ، فَإِصْلَاحُهُ بِإِزَالَةِ صِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ عَنْهُ ، وَالتَّخْلِيلُ إزَالَةٌ لِصِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ إصْلَاحٌ لَهُ ، وَهُوَ كَدَبْغِ الْجِلْدِ ، فَإِنَّ عَيْنَ الْجِلْدِ نَجِسٌ ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ .
وَلَوْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ بِمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ الدُّسُومَاتِ لَجُوِّزَ بَيْعَهُ كَالدُّسُومَاتِ النَّجِسَةِ ، وَلَكِنَّ الدَّبْغَ إصْلَاحٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَعْصِمُهُ عَنْ النَّتْنِ ، وَالْفَسَادِ ، فَكَانَ جَائِزًا شَرْعًا ، وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَ إنَّ هَذَا إفْسَادٌ فِي الْحَالِ لِمَا يُلْقَى فِيهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مَوْجُودٌ فِي دَبْغِ الْجِلْدِ ، فَإِنَّهُ إفْسَادٌ لِمَا يُجْعَلُ فِيهِ مِنْ الشَّبِّ ، وَالْقَرَظِ ، وَهَذَا إصْلَاحٌ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ ، وَالْعِبْرَةُ لِلْمَآلِ لَا لِلْحَالِ ، فَإِنَّ إلْقَاءَ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ يَكُونُ إتْلَافًا لِلْبَذْرِ فِي الْحَالِ ، وَلَكِنَّهُ إصْلَاحٌ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ التَّخْلِيلَ لَيْسَ بِتَصَرُّفٍ فِي الْخَمْرِ عَلَى قَصْدِ تَمَوُّلِ الْخَمْرِ بَلْ هُوَ إتْلَافٌ لِصِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ ، وَبَيْنَ تَمَوُّلِ

الْخَمْرِ ، وَإِتْلَافِ صِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ مُنَافَاةٌ ، فَمَا كَانَ الِاقْتِرَابُ مِنْ الْعَيْنِ لِإِتْلَافِ صِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ إلَّا نَظِيرَ الِاقْتِرَابِ مِنْهَا لِإِرَاقَةِ الْعَيْنِ ، وَذَلِكَ جَائِزٌ شَرْعًا ، وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ تَقْلِيبَ الطِّبَاعِ لَيْسَ إلَى الْعِبَادِ ، وَإِنَّمَا إلَيْهِمْ إحْدَاثُ الْمُجَاوَرَةِ ، وَلَكِنَّ إحْدَاثَ الْمُجَاوَرَةِ بَيْنَ الْخَلِّ وَالْخَمْرِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَقْوَى عَلَى إتْلَافِ صِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ بِتَحَوُّلِهَا إلَى طَبْعِ الْحِلِّ فِي أَسْرَعِ الْأَوْقَاتِ ، فَكَانَ هَذَا أَقْرَبُ إلَى الْجَوَازِ مِنْ الْإِمْسَاكِ ، وَإِذَا جَازَ الْإِمْسَاكُ إلَى أَنْ يَتَخَلَّلَ ، فَالتَّخْلِيلُ ، أَوْلَى بِالْجَوَازِ ، وَأَمَّا إذَا أَلْقَى فِيهِ شَيْئًا مِنْ الْحَلَاوَةِ ، فَذَلِكَ لَيْسَ بِإِتْلَافٍ لِصِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَبْعِ الْخَمْرِ أَنْ يَصِيرَ حُلْوًا ، فَعَرَفْنَا أَنَّ مَعْنَى الشِّدَّةِ ، وَالْمَرَارَةِ قَائِمٌ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَظْهَرُ لِغَلَبَةِ الْحَلَاوَةِ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا مِنْ طَبْعِ الْخَمْرِ أَنْ يَصِيرَ خَلًّا ، فَيَكُونُ التَّخْلِيلُ إتْلَافًا لِصِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ كَمَا بَيَّنَّا ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ مِنْ وَجْهٍ ، فَعَلَيْهِ إحْدَاثُ الْمُجَاوَرَةِ ، وَمِنْ وَجْهٍ إتْلَافٌ لِصِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ كَمَا قُلْنَا ، فَيُوَفِّرُ حَظَّهُ عَلَيْهِمَا ، فَيَقُولُ لِاعْتِبَارِ جَانِبِ إحْدَاثِ الْمُجَاوَرَةِ لَا يَحِلُّ بِإِلْقَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْحَلَاوَاتِ فِيهِ ، وَلِاعْتِبَارِ جَانِبِ إتْلَافِ صِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ يَحِلُّ التَّخْلِيلُ .
فَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ التَّخْلِيلِ ، فَالْمُرَادُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ الْخَمْرُ اسْتِعْمَالَ الْخَلِّ بِأَنْ يُؤْتَدَمَ بِهِ ، وَيُصْطَبَغَ بِهِ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ تَحْلِيلِ الْحَرَامِ ، وَتَحْرِيمِ الْحَلَالِ ، وَأَنْ تُتَّخَذَ الدَّوَابُّ كَرَاسِيَّ } ، وَالْمُرَادُ الِاسْتِعْمَالُ { ، وَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

مَا عَبَدْنَاهُمْ قَطُّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَيْسَ كَانُوا يَأْمُرُونَ ، وَيَنْهَوْنَ ، فَيُطِيعُونَهُمْ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : هُوَ ذَاكَ } قَدْ فَسَّرَ الِاتِّخَاذَ بِالِاسْتِعْمَالِ ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ ذَكَرَ بَعْضُ الرُّوَاةِ ، { أَفَلَا أُخَلِّلُهَا ؟ قَالَ نَعَمْ } ، وَإِنْ صَحَّ مَا رُوِيَ ، فَإِنَّمَا نَهَى عَنْ التَّخْلِيلِ فِي الِابْتِدَاءِ لِلزَّجْرِ عَنْ الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ ، فَقَدْ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ الِانْزِجَارُ عَنْ الْعَادَةِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِرَاقَةِ الْخُمُورِ ، وَنَهَى عَنْ التَّخْلِيلِ لِذَلِكَ كَمَا أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الزَّجْرِ عَنْ الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ فِي اقْتِنَاءِ الْكِلَابِ ، ثُمَّ كَانَ لَا يَأْمَنُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعِفُّوا فِي خُمُورِ الْيَتَامَى إذْ لَمْ يَبْقَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ الْخَمْرِ ، فَأَمَرَ فِي خُمُورِ الْيَتَامَى أَيْضًا بِالْإِرَاقَةِ لِلزَّجْرِ ، وَالْوَاجِبُ عَلَى الْوَصِيِّ الْمَنْعُ مِنْ إفْسَادِ مَالِ الْيَتِيمِ لَا إصْلَاحُ مَا فَسَدَ مِنْهُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنْ شَاةَ الْيَتِيمِ إذَا مَاتَتْ لَا يَجِبُ عَلَى الْوَصِيِّ دَبْغُ جِلْدِهَا ، وَإِنْ كَانَ لَوْ فَعَلَهُ جَازَ ، فَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّخْلِيلُ ، وَإِنْ كَانَ لَوْ فَعَلَهُ كَانَ جَائِزًا إذَا ثَبَتَ جَوَازُ التَّخْلِيلِ ، فَكَذَلِكَ جَوَازُ اتِّخَاذِ الْمُرَبَّى مِنْ الْخَمْرِ بِإِلْقَاءِ الْمِلْحِ ، وَالسَّمَكِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ لِصِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ كَمَا فِي التَّخْلِيلِ ، وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ يُعَارِضُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ لَا بَأْسَ بِهِ ، ثُمَّ تَأْوِيلُ حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُ مَا بَيَّنَّا مِنْ تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ السِّيَاسَةِ لِلزَّجْرِ ، وَلَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ بَيْعُ الْخَمْرِ ، وَلَا أَكْلُ ثَمَنِهَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى

سَمَّاهَا رِجْسًا ، فَيَقْضِي ذَلِكَ بِنَجَاسَةِ الْعَيْنِ ، وَفَسَادِ الْمَالِيَّةِ ، وَالتَّقْوِيمِ كَمَا فِي الْمَيْتَةِ ، وَالدَّمِ ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ ، وَقَدْ أَمَرَ بِالِاجْتِنَابِ عَنْهَا ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْمُسْلِمِ الِاقْتِرَابُ مِنْهَا عَلَى جِهَةِ التَّمَوُّلِ بِحَالٍ ، وَفِي الْحَدِيثِ { أَنَّ أَبَا عَامِرٍ كَانَ يُهْدِي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاوِيَةً مِنْ خَمْرٍ كُلَّ عَامٍ ، فَأَهْدَى لَهُ فِي الْعَامِ الَّتِي حُرِّمَتْ فِيهِ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : إنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ الْخَمْرَ ، فَلَا حَاجَةَ لِي فِي خَمْرِك قَالَ : خُذْهَا ، وَبِعْهَا ، وَانْتَفِعْ بِثَمَنِهَا فِي حَاجَتِك ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَا أَبَا عَامِرٍ إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا ، وَأَكْلَ ثَمَنِهَا .
} { ، وَسُئِلَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ بَيْعِ الْخَمْرِ ، وَأَكْلِ ثَمَنِهَا ، فَقَالَ : قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ ، فَجَمَلُوهَا ، وَبَاعُوهَا ، وَأَكَلُوا ثَمَنَهَا ، وَإِنَّ الَّذِي حَرَّمَ الشُّرْبَ حَرَّمَ بَيْعَهَا ، وَأَكْلَ ثَمَنِهَا ، وَمِمَّنْ لَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَمْرِ بَائِعُهَا ، وَمُشْتَرِيهَا .
} .

فَإِنْ صُنِعَ الْخَمْرُ فِي مَرَقَةٍ ، ثُمَّ طُبِخَ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ ، وَلَا يَحِلُّ هَذَا الصُّنْعُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِعْمَالُ الْخَمْرِ كَاسْتِعْمَالِ الْخَلِّ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، ثُمَّ الطَّبْخُ فِي الْخَمْرِ لَا يُحِلُّهَا ، وَلَا يُغَيِّرُ الْحُكْمَ الثَّابِتَ فِيهَا كَمَا لَوْ طَبَخَهَا لَا فِي مَرَقَةٍ ، وَلَكِنْ لَا يُحَدُّ مَنْ شَرِبَ تِلْكَ الْمَرَقَةَ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهَا غَيْرُ الْخَمْرِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْغَالِبُ فِي حُكْمِ الْحَدِّ ؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِشُرْبِ الْخَمْرِ ، وَالْمَرَقَةُ تُؤْكَلُ مَعَ الطَّعَامِ ، وَالْأَكْلُ غَيْرُ الشُّرْبِ ، وَلِهَذَا لَا نُوجِبُ الْحَدَّ فِي الدُّرْدِيِّ ؛ لِأَنَّهُ إلَى الْأَكْلِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى الشُّرْبِ ، وَيُكْرَهُ الِاحْتِقَانُ بِالْخَمْرِ ، وَالْإِقْطَارُ مِنْهَا فِي الْإِحْلِيلِ ، وَلَا حَدَّ فِي ذَلِكَ أَمَّا الِاسْتِشْفَاءُ بِعَيْنِ الْخَمْرِ ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ عِنْدَنَا وَالشَّافِعِيُّ يُجَوِّزُ ذَلِكَ إذَا أَخْبَرَهُ عَدْلَانِ أَنَّ شِفَاءَهُ فِي ذَلِكَ ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِشُبْهَةِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي إبَاحَةِ هَذَا الْفِعْلِ ، وَلِحَاجَتِهِ إلَى التَّدَاوِي ، ثُمَّ مَا يُقَطَّرُ فِي إحْلِيلِهِ لَا يَصِلُ إلَى جَوْفِهِ ، وَلِهَذَا لَا يُفْطِرُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَالْحُقْنَةُ ، وَإِنْ كَانَتْ مُفْطِرَةً ، فَالْحَدُّ لَا يَلْزَمُهُ فِيمَا يَصِلُ إلَى جَوْفِهِ مِنْ أَسَافِلِ الْبَدَنِ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لِلزَّجْرِ ، وَالطَّبْعُ لَا يَمِيلُ إلَى ذَلِكَ ، وَالتَّمْرُ يُطْبَخُ ، وَيُطْبَخُ مَعَهُ الْكَشُوثَاءُ فَنُبِذَ فَلَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّ مَا يُطْبَخُ مَعَهُ يَزِيدُ فِي شِدَّتِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشِّدَّةَ لَا تُوجِبُ الْحُرْمَةَ فِي الْمَطْبُوخِ مِنْ التَّمْرِ

وَلَوْ عُجِنَ الدَّقِيقُ بِالْخَمْرِ ، ثُمَّ خُبِزَ كَرِهْتُ أَكْلَهُ ؛ لِأَنَّ الدَّقِيقَ تَنَجَّسَ بِالْخَمْرِ ، وَالْعَجِينُ النَّجِسُ لَا يَطْهُرُ بِالْخَبْزِ ، فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ .
وَلَوْ صَبَّ الْخَمْرَ فِي حِنْطَةٍ لَمْ يُؤْكَلْ حَتَّى تُغْسَلَ ؛ لِأَنَّهَا تَنَجَّسَتْ بِالْخَمْرِ ، فَإِنْ غَسَلَ الْحِنْطَةَ ، وَطَحَنَهَا ، وَلَمْ يُوجَدْ فِيهَا طَعْمُ الْخَمْرِ ، وَلَا رِيحُهَا ، فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهَا ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ كَانَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا ، وَقَدْ زَالَتْ بِالْغَسْلِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ آثَارِهَا ، فَهُوَ ، وَمَا لَوْ تَنَجَّسَتْ بِبَوْلٍ ، أَوْ دَمٍ سَوَاءٌ ، فَإِنْ تَشَرَّبَتْ الْخَمْرُ فِي الْحِنْطَةِ ، فَقَدْ ذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ تُغْسَلُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، وَتُجَفَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ، فَتَطْهُرُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تَطْهُرُ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ إنَّمَا يُزِيلُ مَا عَلَى ظَاهِرِهَا ، فَأَمَّا مَا تَشَرَّبَ فِيهَا ، فَلَا يُسْتَخْرَجُ إلَّا بِالْعَصْرِ ، وَالْعَصْرُ فِي الْحِنْطَةِ لَا يَتَأَتَّى ، وَهُوَ إلَى الْقِيَاسِ أَقْرَبُ ، وَمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ أَرْفَقُ بِالنَّاسِ لِأَجْلِ الْبَلْوَى ، وَالضَّرُورَةِ فِي جِنْسِ هَذَا ، فَإِنَّ هَذَا الْخِلَافَ فِي فُصُولٍ مِنْهَا التَّرَوِّي إذَا تَشَرَّبَ الْبَوْلُ فِيهِ ، وَاللَّوْحُ ، وَالْآجُرُّ ، وَالْخَزَفُ الْجَدِيدُ ، وَالنَّعْلُ فِي الْحَمَّامِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، فَإِنَّ لِلتَّجْفِيفِ أَثَرًا فِي اسْتِخْرَاجِ مَا تَشَرَّبَ مِنْهُ ، فَيُقَامُ التَّجْفِيفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مُقَامُ الْعَصْرِ فِيمَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْعَصْرُ ، فَيُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ .
.

وَيُكْرَهُ أَنْ يُسْقَى الدَّوَابُّ الْخَمْرَ ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ انْتِفَاعٍ بِالْخَمْرِ ، وَاقْتِرَابٌ مِنْهَا عَلَى قَصْدِ التَّمَوُّلِ ، وَلِذَلِكَ يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَسْقِيَهَا ، أَوْ الْمُسْكِرُ الذِّمِّيَّ كَمَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْرَبَهَا ، وَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَمْرِ سَاقِيهَا كَمَا لَعَنَ شَارِبَهَا .

وَإِنْ كَانَ لِرَجُلٍ دَيْنٌ عَلَى رَجُلٍ ، فَقَضَاهُ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ ، أَوْ خِنْزِيرٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ كَافِرًا ، فَلَا بَأْسَ حِينَئِذٍ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّ الْكَافِرِ ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَيَسْتَحِقُّ الْبَائِعُ ثَمَنَهُ ، ثُمَّ الْمُسْلِمُ يَأْخُذُ مِلْكَ مَدْيُونِهِ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ ، وَمَا يَأْخُذُهُ عِوَضٌ عَنْ دَيْنِهِ فِي حَقِّهِ لَا ثَمَنَ الْخَمْرِ ، فَأَمَّا بَيْعُ الْخَمْرِ مِنْ الْمُسْلِمِ ، فَبَاطِلٌ ، وَالثَّمَنُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ لَهُ بَلْ هُوَ ، وَاجِبُ الرَّدِّ عَلَى مَنْ أُخِذَ مِنْهُ ، وَصَاحِبُ الدَّيْنِ لَيْسَ يَأْخُذُ مِلْكَ مَدْيُونِهِ بَلْ مِلْكَ الْغَيْرِ الْحَاصِلِ عِنْدَهُ بِسَبَبٍ ، فَاسِدٍ شَرْعًا ، فَيَكُونُ هُوَ بِهَذَا الْأَخْذِ مُقَرِّرًا الْحُرْمَةَ ، وَالْفَسَادَ ، وَذَلِكَ لَا يَحِلُّ .

وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَجْعَلُهُ خَمْرًا ؛ لِأَنَّ الْعَصِيرَ مَشْرُوبٌ طَاهِرٌ حَلَالٌ ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَأَكْلُ ثَمَنِهِ ، وَلَا ، فَسَادَ فِي قَصْدِ الْبَائِعِ إنَّمَا الْفَسَادُ فِي قَصْدِ الْمُشْتَرِي ، وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ بَيْعَ الْكَرْمِ مِمَّنْ يَتَّخِذُ الْخَمْرَ مِنْ عَيْنِهِ جَائِزٌ لَا بَأْسَ بِهِ ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْأَرْضِ مِمَّنْ يُغْرَسُ فِيهَا كَرْمًا لِيَتَّخِذَ مِنْ عِنَبِهِ الْخَمْرُ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ ، وَكَرِهَ ذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْعَصِيرِ ، وَالْعِنَبِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ، وَتَمْكِينٌ مِنْهَا ، وَذَلِكَ حَرَامٌ ، وَإِذَا امْتَنَعَ الْبَائِعُ مِنْ الْبَيْعِ يَتَعَذَّرُ عَلَى الْمُشْتَرِي اتِّخَاذُ الْخَمْرِ ، فَكَانَ فِي الْبَيْعِ مِنْهُ تَهْيِيجُ الْفِتْنَةِ ، وَفِي الِامْتِنَاعِ تَسْكِينُهَا .

وَمَنْ أَهْرَاقَ خَمْرَ مُسْلِمٍ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ ، وَإِتْلَافُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ كَإِتْلَافِ الْمَيْتَةِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ جَبْرًا لِمَا دَخَلَ عَلَى الْمُتْلَفِ عَلَيْهِ مِنْ نُقْصَانِ الْمَالِيَّةِ ، وَإِنْ كَانَ سُكَّرًا ، أَوْ طِلَاءً قَدْ طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُهُ ، أَوْ رُبُعُهُ ، فَأَهْرَاقَهُ رَجُلٌ ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ .
فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمَّا جَوَّزَ الْبَيْعَ فِي هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ كَانَتْ الْمَالِيَّةُ ، وَالتَّقَوُّمُ فِيهَا ثَابِتَةً ، فَقَالَ إنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُتْلِفِ ، وَلَكِنْ بِالْقِيمَةِ لَا بِالْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ تَمْلِيكِ عَيْنِهَا ، وَإِنْ كَانَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ جَازَ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْخَمْرِ ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى مُتْلِفِهَا أَيْضًا ، وَفِي الْكِتَابِ قَالَ قُلْت مِنْ أَيْنَ اخْتَلَفَا ؟ قَالَ : الْخَمْرُ حَرَامٌ ، وَهَذَا لَيْسَ كَالْخَمْرِ إنَّمَا هُوَ شَيْءٌ نَكْرَهُهُ نَحْنُ ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ ، فَتَعْمَلُ فِي إسْقَاطِ الْمَالِيَّةِ ، وَالتَّقَوُّمِ ، وَحُرْمَةُ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ لَمْ تَكُنْ بِنَصٍّ مَقْطُوعٍ بِهِ ، فَلَا تَسْقُطُ الْمَالِيَّةُ ، وَالتَّقَوُّمُ بِهِ ، فَإِنْ غَصَبَ مِنْ مُسْلِمٍ خَمْرًا ، فَصَارَتْ فِي يَدِهِ خَلًّا ، ثُمَّ ، وَجَدَهَا صَاحِبُهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ ، وَالْعَيْنُ بَاقِيَةٌ بَعْدَ التَّخَلُّلِ ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا ، وَفِي جِلْدِ الْمَيْتَةِ إذَا دَبَغَهُ الْغَاصِبُ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ .
.

وَلَا بَأْسَ بِطَعَامِ الْمَجُوسِ ، وَأَهْلِ الشِّرْكِ مَا خَلَا الذَّبَائِحِ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَأْكُلُ ذَبَائِحَ الْمُشْرِكِينَ ، وَكَانَ يَأْكُلُ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ طَعَامِهِمْ ، فَإِنَّهُ كَانَ يُجِيبُ دَعْوَةَ بَعْضِهِمْ تَأْلِيفًا لَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ ، فَأَمَّا ذَبَائِحُ أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَلَا بَأْسَ بِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { ، وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } ، وَلَا بَأْسَ بِالْأَكْلِ فِي أَوَانِي الْمَجُوسِ ، وَلَكِنْ غَسْلُهَا أَحَبُّ إلَيَّ ، وَأَنْظَفُ ؛ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ طَبْخِ الْمَرَقَةِ فِي أَوَانِي الْمُشْرِكِينَ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اغْسِلُوهَا ، ثُمَّ اُطْبُخُوا فِيهَا } ؛ وَلِأَنَّ الْآنِيَةَ تُتَّخَذُ مِمَّا هُوَ طَاهِرٌ ، وَالْأَصْلُ فِيهَا الطَّهَارَةُ إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ فِيهَا مَا يَصْنَعُونَهُ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ ، فَيُسْتَحَبُّ غَسْلُهَا لِذَلِكَ ، وَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ ، وَتَمَسَّكَ بِالْأَصْلِ لَمْ يَضُرَّهُ ، وَهُوَ نَظِيرُ الصَّلَاةِ فِي سَرَاوِيلِ الْمَجُوسِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ ، وَلَا بَأْسَ بِالْجُبْنِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ صَنْعَةِ الْمَجُوسِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ غُلَامًا لِسَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَتَاهُ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ بِسَلَّةٍ فِيهَا جُبْنٌ ، وَخُبْزٌ ، وَسِكِّينٌ ، فَجَعَلَ يُقَطِّعُ مِنْ ذَلِكَ الْجُبْنِ لِأَصْحَابِهِ ، فَيَأْكُلُونَهُ ، وَيُخْبِرُهُمْ كَيْفَ يَصْنَعُ الْجُبْنَ ؛ وَلِأَنَّ الْجُبْنَ بِمَنْزِلَةِ اللَّبَنِ ، وَلَا بَأْسَ بِمَا يَجْلِبُهُ الْمَجُوسُ مِنْ اللَّبَنِ إنَّمَا لَا يَحِلُّ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الذَّكَاةُ إذَا كَانَ الْمُبَاشِرُ لَهُ مَجُوسِيًّا ، أَوْ مُشْرِكًا ، وَالذَّكَاةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِتَنَاوُلِ اللَّبَنِ ، وَالْجُبْنِ ، فَهُوَ نَظِيرُ سَائِرِ الْأَطْعِمَةِ ، وَالْأَشْرِبَةِ بِخِلَافِ الذَّبَائِحِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الذَّكَاةَ إنَّمَا تُشْتَرَطُ فِيمَا فِيهِ الْحَيَاةُ ، وَلَا حَيَاةَ فِي اللَّبَنِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ .
.

وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ الشَّاةُ إذَا مَاتَتْ ، وَفِي ضِرْعِهَا لَبَنٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَتَنَجَّسُ اللَّبَنُ بِمَوْتِهَا ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ يَتَنَجَّسُ ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ عِنْدَهُ حَيَاةٌ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ يَتَنَجَّسُ بِتَنَجُّسِ الْوِعَاءِ بِمَنْزِلَةِ لَبَنٍ صُبَّ فِي قَصْعَةٍ نَجِسَةٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : لَوْ كَانَ اللَّبَنُ يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ لَتَنَجَّسَ بِالْحَلْبِ أَيْضًا ، فَإِنَّ مَا أُبِينَ مِنْ الْحَيِّ مَيِّتٌ ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يُحْلَبَ اللَّبَنُ ، فَيُشْرِبَ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَا حَيَاةَ فِيهِ ، فَلَا يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ ، وَلَا بِنَجَاسَةِ وِعَائِهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْدِنِهِ ، وَلَا يُعْطَى الشَّيْءُ فِي مَعْدِنِهِ حُكْمَ النَّجَاسَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ فِي الْأَصْلَ ، اللَّبَنُ إنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ } ، وَعَلَى هَذَا إنْفَحَةُ الْمَيْتَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ طَاهِرَةٌ مَائِعَةً كَانَتْ ، أَوْ جَامِدَةً بِمَنْزِلَةِ اللَّبَنِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ نَجِسَةُ الْعَيْنِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إنْ كَانَتْ مَائِعَةً ، فَهِيَ نَجِسَةٌ بِنَجَاسَةِ الْوِعَاءِ كَاللَّبَنِ ، وَإِنْ كَانَتْ جَامِدَةً ، فَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِهَا بَعْدَ الْغَسْلِ ؛ لِأَنَّ بِنَجَاسَةِ الْوِعَاءِ لَا يَتَنَجَّسُ بَاطِنُهَا ، وَمَا عَلَى ظَاهِرِهَا يَزُولُ بِالْغَسْلِ ، وَأَشَارَ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ إلَى حَرْفٍ ، فَقَالَ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ إنْفَحَةً ، وَلَا لَبَنًا ، وَهِيَ مَيِّتَةٌ ، وَلَا يَضُرُّهَا مَوْتُ الشَّاةِ يَعْنِي أَنَّ اللَّبَنَ ، وَالْإِنْفَحَةَ تَنْفَصِلُ مِنْ الشَّاةِ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ حَيَّةً كَانَتْ الشَّاةُ ، أَوْ مَيِّتَةً ذُبِحَتْ ، أَوْ لَمْ تُذْبَحْ ، فَلَا يَكُونُ لِمَوْتِ الشَّاةِ تَأْثِيرٌ فِي اللَّبَنِ ، وَالْإِنْفَحَةِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ مَاتَتْ دَجَاجَةٌ ، فَوُجِدَ فِي بَطْنِهَا بَيْضَةٌ ، فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْبَيْضَةِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ إنْ كَانَتْ

صُلْبَةً ، فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَتْ لَيِّنَةً لَمْ يَجُزْ الِانْتِفَاعُ بِهَا كَاللَّبَنِ ، وَالْإِنْفَحَةِ عَلَى أَصْلِهِ .
.

وَلَوْ سَقَى شَاةً خَمْرًا ثُمَّ ذُبِحَتْ سَاعَتَئِذٍ ، فَلَا بَأْسَ بِلَحْمِهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَبَ مِنْهَا اللَّبَنَ ، فَلَا بَأْسَ بِشُرْبِهِ ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ صَارَتْ مُسْتَهْلَكَةً بِالْوُصُولِ إلَى جَوْفِهَا ، وَلَمْ تُؤَثِّرْ فِي لَحْمِهَا ، وَلَا فِي لَبَنِهَا ، وَهِيَ عَلَى صِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ بِحَالِهَا ، فَلِهَذَا لَا بَأْسَ بِأَكْلِ لَحْمِهَا ، وَشُرْبِ لَبَنِهَا

وَلَوْ صَبَّ رَجُلٌ خَابِيَةً مِنْ خَمْرٍ فِي نَهْرِ مِثْلِ الْفُرَاتِ ، أَوْ أَصْغَرَ مِنْهُ ، وَرَجُلٌ أَسْفَلَ مِنْهُ ، فَمَرَّتْ بِهِ الْخَمْرُ فِي الْمَاءِ ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشْرَبَ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ إلَّا أَنْ يَكُونَ يُوجَدُ فِيهِ طَعْمُهَا ، أَوْ رِيحُهَا ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ حِينَئِذٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ ، وَقَعَتْ قَطْرَةٌ مِنْ خَمْرٍ فِي إنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ ؛ لِأَنَّ مَاءَ الْإِنَاءِ قَدْ تَنَجَّسَ ، فَلَا يَحِلُّ شُرْبُهُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُوجَدُ فِيهِ طَعْمُ الْخَمْرِ ، وَأَمَّا الْفُرَاتُ ، فَلَا يَتَنَجَّسُ إذْ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ، وَلَا رَائِحَتُهُ بِمَا صُبَّ فِيهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ ، أَوْ لَوْنَهُ ، أَوْ رِيحَهُ } ، وَالْمُرَادُ الْمَاءُ الْجَارِي ، ثُمَّ مَا صُبَّ فِي الْفُرَاتِ يَصِيرُ مَغْلُوبًا مُسْتَهْلَكًا بِالْمَاءِ ، فَمَا يَشْرَبُهُ الرَّجُلُ مَاءُ الْفُرَاتِ ، وَلَا بَأْسَ بِشُرْبِ مَاءِ الْفُرَاتِ إلَّا إذَا كَانَ يُوجَدُ فِيهِ رِيحُ الْخَمْرِ ، أَوْ طَعْمُهَا ، فَيُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى وُجُودِ عَيْنِ الْخَمْرِ فِيمَا شَرِبَهُ ، وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ فِي الْجِيفَةِ الْوَاقِعَةِ فِي نَهْرٍ يَجْرِي فِيهِ الْمَاءُ أَنَّهُ إنْ كَانَ جَمِيعُ الْمَاءِ ، أَوْ أَكْثَرُهُ يَجْرِي عَلَى الْجِيفَةِ ، فَذَلِكَ الْمَاءُ نَجِسٌ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُ لَا يَجْرِي عَلَى الْجِيفَةِ ، فَهُوَ طَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ يُجْعَل تَبَعًا لِلْأَكْثَرِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى .

وَإِذَا خَافَ الْمُضْطَرُّ الْمَوْتَ مِنْ الْعَطَشِ ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشْرَبَ مِنْ الْخَمْرِ مَا يَرُدُّ عَطَشَهُ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَحِلُّ شُرْبُ الْخَمْرِ لِلْعَطَشِ ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَا تَرُدُّ الْعَطَشَ بَلْ تَزِيدُ فِي عَطَشِهِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْحَرَارَةِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ } الْآيَةَ ، فَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَيْتَةِ ، فَفِيهَا بَيَانٌ أَنَّ مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنًى مِنْ الْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِالشَّرْعِ وَحُرْمَةُ الْخَمْرِ ثَابِتَةٌ بِالشَّرْعِ كَحُرْمَةِ الْمَيْتَةِ ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ ، وَلَا بَأْسَ بِالْإِصَابَةِ مِنْهَا عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ بِقَدْرِ مَا يَدْفَعُ الْهَلَاكَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ يَرُدُّ عَطَشَهُ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّ فِي الْخَمْرِ رُطُوبَةً ، وَحَرَارَةً ، فَالرُّطُوبَةُ الَّتِي فِيهَا تَرُدُّ عَطَشَهُ فِي الْحَالِ ، ثُمَّ بِالْحَرَارَةِ الَّتِي فِيهَا يَزْدَادُ الْعَطَشُ فِي الثَّانِي ، وَإِلَى أَنْ يَهِيجَ ذَلِكَ بِهِ رُبَّمَا يَصِلُ إلَى الْمَاءِ ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَدْفَعُ الْهَلَاكَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهَا إلَى السُّكْرِ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ ، فَإِنْ سَكِرَ نَظَرْنَا ، فَإِنْ لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا يُسَكِّنُ عَطَشَهُ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ شُرْبَ هَذَا الْمِقْدَارِ حَلَالٌ ، وَهُوَ وَإِنْ سَكِرَ مِنْ شُرْبِ الْحَلَالِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ كَمَا لَوْ سَكِرَ مِنْ اللَّبَنِ ، أَوْ الْبَنْجِ ، وَإِنْ اسْتَكْثَرَ مِنْهُ بَعْدَ مَا سَكَنَ عَطَشُهُ حَتَّى سَكِرَ ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ بَعْدَ مَا سَكَنَ عَطَشُهُ ، وَهُوَ غَيْرُ مُضْطَرٍّ ، فَالْقَلِيلُ ، وَالْكَثِيرُ مِنْهَا سَوَاءٌ فِي حُكْمِهِ ، فَمِقْدَارُ مَا شَرِبَ بَعْدَ تَسْكِينِ الْعَطَشِ حَرَامٌ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ يَكْفِي فِي إيجَابِ الْحَدِّ عَلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ النَّبِيذُ إذَا شَرِبَ مِنْهُ ، فَوْقَ مَا يُجْزِئُهُ حَتَّى سَكِرَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ السُّكْرَ مِنْ النَّبِيذِ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ كَشُرْبِ الْخَمْرِ ، وَلَا

ضَرُورَةَ لَهُ فِي شُرْبِ الْقَدَحِ الْمُسْكِرِ ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لِذَلِكَ ، وَإِذَا كَانَ مَعَ رَقِيقٍ لَهُ مَاءٌ كَثِيرٌ ، فَأَبَى أَنْ يَسْقِيَهُ حَلَّ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ عَلَيْهِ بِمَا دُونَ السِّلَاحِ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مُحَرَّزٌ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ إلَّا أَنَّ الْمَاءَ فِي الْأَصْلِ كَانَ مُبَاحًا مُشْتَرَكًا ، وَذَلِكَ الْأَصْلُ بَقِيَ مُعْتَبَرًا بَعْدَ الْإِحْرَازِ حَتَّى لَا يَتَعَلَّقَ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ ، فَلِاعْتِبَارِ إبَاحَةِ الْأَصْلِ قُلْنَا يُقَاتِلُهُ بِمَا دُونَ السِّلَاحِ ، وَلِكَوْنِهِ مَالًا مَمْلُوكًا لَهُ فِي الْحَالِ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ عَلَيْهِ بِالسِّلَاحِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ ، فَهُوَ شَهِيدٌ } ، فَكَيْفَ يُقَاتِلُ بِالسِّلَاحِ مَنْ إذَا قَتَلَهُ كَانَ شَهِيدًا ، وَفِي الْمَاءِ الْمُبَاحِ إذَا مَنَعَهُ مِنْهُ قَاتَلَهُ بِالسِّلَاحِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الشُّرْبِ ، فَأَمَّا فِي الطَّعَامِ ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ ، وَلَكِنَّهُ يَغْصِبُهُ إيَّاهُ إنْ اسْتَطَاعَ ، فَيَأْكُلُهُ ، ثُمَّ يُعْطِيهِ ثَمَنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ لِلْمُضْطَرِّ حَقٌّ فِي هَذَا الطَّعَامِ قَطُّ ، وَلَكِنَّ الطَّعَامَ مِلْكٌ لِصَاحِبِهِ ، فَهُوَ يَمْنَعُ الْغَيْرَ مِنْ مِلْكِهِ ، وَذَلِكَ مُطْلَقٌ لَهُ شَرْعًا ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَاتِلَهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَكِنَّ الْمُضْطَرَّ يَخَافُ الْهَلَاكَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَذَلِكَ مُبِيحٌ لَهُ التَّنَاوُلَ مِنْ طَعَامِ الْغَيْرِ بِشَرْطِ الضَّمَانِ ، وَهُوَ إنَّمَا يَتَأَتَّى بِفِعْلٍ مَقْصُورٍ عَلَى الطَّعَامِ غَيْرِ مُتَعَدٍّ إلَى صَاحِبِهِ ، وَالْمَقْصُورُ عَلَى الطَّعَامِ الْأَخْذُ ، فَأَمَّا الْقِتَالُ ، فَيَكُونُ مَعَ صَاحِبِ الطَّعَامِ لَا مَعَ الطَّعَامِ ، فَلِهَذَا لَا يُقَاتِلُهُ بِالسِّلَاحِ ، وَلَا بِغَيْرِهِ ، فَإِنْ كَانَ الرَّقِيقُ الَّذِي مَعَهُ الْمَاءُ يَخَاف عَلَى نَفْسِهِ الْمَوْتَ إنْ لَمْ يُحْرِزْ مَاءَهُ ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْهُ بَعْضَهُ ، وَيَتْرُكُ بَعْضَهُ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ يَنْظُرُ لِلْكُلِّ ، وَإِنَّمَا يَحِلُّ لِلْمُضْطَرِّ شَرْعًا دَفْعُ

الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ بِطَرِيقٍ لَا يَكُونُ فِيهِ هَلَاكُ غَيْرِهِ ، وَفِي أَخْذِ جَمِيعِ الْمَاءِ مِنْهُ هَلَاكُ صَاحِبِ الْمَاءِ لِقِلَّتِهِ بِحَيْثُ لَا يَدْفَعُ الْهَلَاكَ إلَّا عَنْ أَحَدِهِمَا ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ صَاحِبِ الْمَاءِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي مِلْكِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ غَيْرِهِ .

ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا مَسَائِلَ قَدْ بَيَّنَّا أَكْثَرَهَا فِي الْحُدُودِ ، فَقَالَ يُضْرَبُ الشَّارِبُ الْحَدَّ بِالسَّوْطِ فِي إزَارٍ ، وَسَرَاوِيلَ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهَا ؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ مُغَلَّظَةٌ كَجِنَايَةِ الزَّانِي ، فَيُنْزَعُ عَنْهُ ثِيَابُهُ عِنْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ لِيَخْلُصَ الْأَلَمُ إلَى بَدَنِهِ ، وَالْمَرْأَةُ فِي حَدِّ الشُّرْبِ كَالرَّجُلِ عَلَى قِيَاسِ حَدِّ الزِّنَا ، وَيُفَرَّقُ الضَّرْبُ عَلَى أَعْضَائِهَا كَمَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ إلَّا أَنَّهَا لَا تُجَرَّدُ عَنْ ثِيَابِهَا ؛ لِأَنَّ بَدَنَهَا عَوْرَةٌ ، وَكَشْفُ الْعَوْرَةِ حَرَامٌ ، وَلَكِنْ يُنْزَعُ عَنْهَا الْحَشْوُ ، وَالْفَرْوُ لِكَيْ يَخْلُصَ الْأَلَمُ إلَى بَدَنِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا غَيْرُ جُبَّةٍ مَحْشُوَّةٍ لَمْ يُنْزَعْ ذَلِكَ عَنْهَا ؛ لِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ لَا يَحِلُّ بِحَالٍ ، وَكَذَلِكَ لَا يُطْرَحُ عَنْهَا خِمَارُهَا ، وَتُضْرَبُ قَاعِدَةً لِيَكُونَ أَسْتَرَ لَهَا هَكَذَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُضْرَبُ الرِّجَالُ قِيَامًا ، وَالنِّسَاءُ قُعُودًا .
وَالْأَصْلُ فِي حَدِّ الشُّرْبِ مَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِشَارِبِ خَمْرٍ ، وَعِنْدَهُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَضْرِبُوهُ ، فَضَرَبُوهُ ، كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِنَعْلَيْهِ } ، فَلَمَّا كَانَ زَمَانُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ ذَلِكَ ثَمَانِينَ سَوْطًا ، وَالْخَبَرُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ ، فَهُوَ مَشْهُورٌ ، وَقَدْ تَأَكَّدَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إنَّمَا الْعَمَلُ بِهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَإِنَّهُ جَعَلَ حَدَّ الشُّرْبِ ثَمَانِينَ سَوْطًا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ضَرَبَهُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِنَعْلَيْهِ كَانَ الْكُلُّ فِي مَعْنَى ثَمَانِينَ جَلْدَةً ، وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ مُوجِبَةٌ لِلْعِلْمِ ، فَيَجُوزُ إثْبَاتُ الْحَدِّ بِهِ ، وَفِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِالسُّكْرِ ، فَحَدُّ السُّكْرِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ لَا يَعْرِفَ الْأَرْضَ مِنْ السَّمَاءِ ، وَلَا الْأُنْثَى

مِنْ الذَّكَرِ ، وَلَا نَفْسَهُ مِنْ حِمَارٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنْ يَخْتَلِطَ كَلَامُهُ ، فَلَا يَسْتَقِرُّ فِي خِطَابٍ ، وَلَا جَوَابٍ ، وَاعْتُبِرَ الْعُرْفُ فِي ذَلِكَ ، فَإِنَّ مَنْ اخْتَلَطَ كَلَامُهُ بِالشُّرْبِ يُسَمَّى سَكْرَانَ فِي النَّاسِ ، وَتَأَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتَبَرَ النِّهَايَةَ ، فَقَالَ فِي الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْحَدِّ تُعْتَبَرُ النِّهَايَةُ كَمَا فِي السَّرِقَةِ ، وَالزِّنَا ، وَنِهَايَةُ السُّكْرِ هَذَا أَنْ يَغْلِبَ السُّرُورُ عَلَى عَقْلِهِ حَتَّى لَا يُمَيِّزَ شَيْئًا عَنْ شَيْءٍ .
وَإِذَا كَانَ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ عَرَفْنَا أَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لِعَقْلِهِ مَعَ مَا بِهِ مِنْ السُّرُورِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ نِهَايَةُ السُّكْرِ ، وَفِي النُّقْصَانِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ ، وَالْحُدُودُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَلِهَذَا ، وَافَقَهُمَا فِي السُّكْرِ الَّذِي يَحْرُمُ عِنْدَهُ الشُّرْبُ إذْ الْمُعْتَبَرُ اخْتِلَاطُ الْكَلَامِ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ النِّهَايَةِ فِيهِ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَالْحِلُّ ، وَالْحُرْمَةُ يُؤْخَذُ فِيهِمَا بِالِاحْتِيَاطِ ، وَأَيَّدَ هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : مَنْ بَاتَ سَكْرَانًا بَاتَ عَرُوسَ الشَّيْطَانِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْتَسِلَ إذَا أَصْبَحَ ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ السَّكْرَانَ مَنْ لَا يُحِسُّ بِشَيْءٍ مِمَّا يُصْنَعُ بِهِ ، وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ - عَلَى قَوْلِهِمَا ، وَحُكِيَ أَنَّ أَئِمَّةَ بَلْخِي رَحِمَهُمُ اللَّهُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُسْتَقْرَأُ سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَقْرَأَهَا ، فَلَيْسَ بِسَكْرَانَ حَتَّى حُكِيَ أَنَّ أَمِيرًا بِبَلْخٍ أَتَاهُ بَعْضُ الشُّرَطِ بِسَكْرَان ، فَأَمَرَهُ الْأَمِيرُ أَنْ يَقْرَأَ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } ، فَقَالَ السَّكْرَانُ لِلْأَمِيرِ : اقْرَأْ أَنْتَ سُورَةَ الْفَاتِحَةِ أَوَّلًا ، فَلَمَّا قَالَ الْأَمِيرُ { : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } : فَقَالَ قِفْ ، فَقَدْ

أَخْطَأْت مِنْ وَجْهَيْنِ تَرَكْت التَّعَوُّذَ عِنْدَ افْتِتَاحِ الْقِرَاءَةِ ، وَتَرَكْت التَّسْمِيَةَ وَهِيَ آيَةٌ مِنْ الْفَاتِحَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ ، وَالْقُرَّاءِ ، فَخَجِلَ الْأَمِيرُ ، وَجَعَلَ يَضْرِبُ الشُّرَطِيَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ ، وَيَقُولُ لَهُ أَمَرْتُك أَنْ تَأْتِيَنِي بِسَكْرَانَ ، فَجِئْتنِي بِمُقْرِئِ بَلْخِي .
، وَإِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِالشُّرْبِ ، وَهُوَ سَكْرَانُ حَبَسَهُ حَتَّى يَصْحُوَ ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَا يَتِمُّ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فِي حَالِ سُكْرِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا ، وَالْمَمْلُوكُ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْحَدِّ بِالشُّرْبِ كَالْحُرِّ إلَّا أَنَّ عَلَى الْمَمْلُوكِ نِصْفُ مَا عَلَى الْحُرِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { ، فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } .

وَلَا حَدَّ عَلَى الذِّمِّيِّ فِي شَيْءٍ مِنْ الشَّرَابِ ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ إبَاحَةَ الشُّرْبِ ، وَاعْتِقَادُ الْحُرْمَةِ شَرْطٌ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ مَشْرُوعٌ لِلزَّجْرِ عَنْ ارْتِكَابِ سَبَبِهِ ، وَبِدُونِ اعْتِقَادِ الْحُرْمَةِ لَا يَتَحَقَّقُ هَذَا ، ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ الْخِطَابِ قَاصِرٌ عَنْهُمْ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا ؛ لِأَنَّا أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ ، وَمَا يَعْتَقِدُونَ ، وَلِهَذَا بَقِيَ الْخَمْرُ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّهِمْ ، وَلِهَذَا قُلْنَا : الْمَجُوسِيُّ إذَا تَزَوَّجَ أُمَّهُ ، وَدَخَلَ بِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَدُّ ، وَإِنْ كَانَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِالزِّنَا .

وَلَا يُحَدُّ الْمُسْلِمُ بِوُجُودِ رِيحِ الْخَمْرِ مِنْهُ حَتَّى يَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِشُرْبِهَا ، أَوْ يُقِرَّ ؛ لِأَنَّ رِيحَ الْخَمْرِ شَاهِدُ زُورٍ ، فَقَدْ يُوجَدُ رِيحُ الْخَمْرِ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ ، فَإِنَّ مَنْ اسْتَكْثَرَ مِنْ أَكْلِ السَّفَرْجَلِ يُوجَدُ مِنْهُ رِيحُ الْخَمْرِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ قَوْلِ الْقَائِلِ يَقُولُونَ لِي أَنْتَ شَرِبْت مُدَامَةً ، فَقُلْت لَهُمْ لَا بَلْ أَكَلْت السَّفَرْجَلَا ، وَقَدْ تُوجَدُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ مِمَّنْ شَرِبَهَا مُكْرَهًا ، أَوْ مُضْطَرًّا لِدَفْعِ الْعَطَشِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَمَدَ رِيحُهَا فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ .

وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ وَاحِدٌ أَنَّهُ شَرِبَهَا ، وَآخَرُ أَنَّهُ قَاءَهَا لَمْ يُحَدَّ ؛ لِأَنَّ مَنْ شَرِبَهَا مُكْرَهًا ، أَوْ مُضْطَرًّا قَدْ يَقِيءُ الْخَمْرَ ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ ، وَإِنَّمَا بَقِيَ عَلَى الشُّرْبِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ عَلَى الشُّرْبِ ، وَالرِّيحُ مِنْهُ مَوْجُودٌ ، فَاخْتَلَفَا فِي الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّ الشُّرْبَ فُعِلَ ، فَعِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْوَقْتِ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدًا بِفِعْلِ آخَرَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ شَرِبَهَا ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِشُرْبِهَا ، فَإِنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالشُّرْبِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ ثُمَّ رَجَعَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ قَدْ اخْتَلَفَتْ ، فَأَحَدُهُمَا يَشْهَدُ بِالْفِعْلِ ، وَالْآخَرُ بِالْقَوْلِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ سَكْرَانُ مِنْ الْخَمْرِ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ سَكْرَانُ مِنْ السُّكَّرِ ، فَإِنَّمَا شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِفِعْلٍ آخَرَ ، وَلَا يُقَالُ : يَنْبَغِي أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِمَا يُرَى مِنْ سُكْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَكْرَانَ مِنْ غَيْرِ الشُّرْبِ ، أَوْ مِنْ الشُّرْبِ بِالْإِيجَارِ ، أَوْ الْإِكْرَاهِ عَلَى الشُّرْبِ ، أَوْ كَانَ شَرِبَ عَلَى قَصْدِ التَّدَاوِي ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ عَلَيْهِ .

وَلَا يُحَدُّ بِإِقْرَارِهِ فِي حَالِ سُكْرِهِ مِنْ الْخَمْرِ ؛ لِأَنَّ السَّكْرَانَ لَا يَثْبُتُ عَلَى كَلَامٍ وَاحِدٍ ، وَلَكِنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِالشَّيْءِ ، وَبِضِدِّهِ ، وَالْإِصْرَارُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالسَّبَبِ لَا بُدَّ مِنْهُ لِإِيجَابِ حَدِّ الْخَمْرِ .
وَلَوْ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّهُ شَرِبَ أَمْسِ خَمْرًا لَمْ يُحَدَّ أَيْضًا ، وَإِنَّمَا يُحَدُّ إذَا أَتَاهُ سَاعَةَ شُرْبٍ ، وَالرِّيحُ يُوجَدُ مِنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ يُؤْخَذُ بِإِقْرَارِهِ مَتَى جَاءَ مِثْلَ حَدِّ الزِّنَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ بِالْبَيِّنَةِ ، وَالْإِقْرَارِ جَمِيعًا .

وَإِذَا أُكْرَهَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ لَا يُحَدُّ ؛ لِأَنَّ الشُّرْبَ فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ مُبَاحٌ لَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنًى مِنْ الْحُرْمَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّ مَشْرُوعٌ لِلزَّجْرِ ، وَقَدْ كَانَ مُنْزَجِرًا حِينَ لَمْ يُقْدِمْ عَلَى الشُّرْبِ مَا لَمْ تَتَحَقَّقْ الضَّرُورَةُ بِالْإِكْرَاهِ .

وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ ، وَجَاءَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ شَرِبَ الْخَمْرَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ لَمْ يُحَدَّ ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ لَمْ يَبْلُغْهُ ، فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْخِطَابِ فِي حَقِّهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ الْمَوْلُودِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إذَا شَرِبَ الْخَمْرَ ، ثُمَّ قَالَ : لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهَا حَرَامٌ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ قَدْ اشْتَهَرَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَالظَّاهِرُ يُكَذِّبُ الْمَوْلُودَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَقُولُ ، وَالظَّاهِرُ لَا يُكَذِّبُ الَّذِي جَاءَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ فِيمَا يَقُولُ ، فَيُعْذَرُ بِجَهْلِهِ ، وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى ، أَوْ شَرِبَ ، أَوْ سَرَقَ ، فَإِنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَلَا يُعْذَرُ بِقَوْلِهِ لَمْ أَعْلَمْ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الزِّنَا ، وَالسَّرِقَةِ فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا ، فَالظَّاهِرُ يُكَذِّبُهُ إذَا قَالَ لَمْ أَعْلَمْ بِحُرْمَتِهَا ؛ وَلِأَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ ، وَالزِّنَا مِمَّا تَجُوزُ إقَامَتُهُ عَلَى الْكَافِرِ فِي حَالِ كُفْرِهِ ، وَهُوَ الذِّمِّيُّ ، فَبَعْدَ الْإِسْلَامِ ، أَوْلَى أَنْ يُقَامَ بِخِلَافِ حَدِّ الْخَمْرِ ؛ وَلِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا ، وَالسَّرِقَةِ ثَبَتَ بِنَصٍّ يُتْلَى ، وَحَدُّ الْخَمْرِ بِخَبَرٍ يُرْوَى ، فَكَانَ أَقْرَبَ إلَى الدَّرْءِ مِنْ حَدِّ الزِّنَا ، وَالسَّرِقَةِ ، وَيَسْتَوِي فِي حَدِّ الزِّنَا إنْ طَاوَعَتْهُ الْمَرْأَةُ عَلَى ذَلِكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، أَوْ أَكْرَهَهَا ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الزِّنَا فِي حَقِّهِمَا جَمِيعًا قَدْ اشْتَهَرَتْ ، وَإِذَا شَرِبَ قَوْمٌ نَبِيذًا ، فَسَكِرَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ حُدَّ مَنْ سَكِرَ ؛ لِأَنَّ مَشْرُوبَ بَعْضِهِمْ غَيْرَ مَشْرُوبِ الْبَعْضِ ، فَيُعْتَبَرُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَالُهُ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْقَوْمَ إذَا سُقُوا خَمْرًا عَلَى مَائِدَةٍ ، فَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ خَمْرٌ لَزِمَهُ الْحَدُّ ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ مِنْهُمْ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَدُّ ، وَالْمُحْرِمُ فِي حَدِّ الْخَمْرِ كَالْحَلَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ

لِلْمُحْرِمِ ، وَالْإِحْرَامِ فِي إبَاحَةِ الشُّرْبِ ، وَلَا فِي الْمَنْعِ مِنْ إقَامَةِ هَذَا الْحَدِّ .

وَإِذَا قَذَفَ السَّكْرَانُ رَجُلًا حُبِسَ حَتَّى يَصْحُوَ ، ثُمَّ يُحَدَّ لِلْقَذْفِ ، وَيُحْبَسَ حَتَّى يَخِفَّ عَنْهُ الضَّرْبُ ، ثُمَّ يُحَدَّ لِلسُّكْرِ ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ فِي مَعْنَى حَقِّ الْعِبَادِ ، وَسُكْرُهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَيْهِ بِقَذْفِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَعَ سُكْرِهِ مُخَاطَبٌ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَخَذَ حَدَّ الشُّرْبِ مِنْ الْقَذْفِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : إذَا شَرِبَ هَذَى ، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى ، وَحَدُّ الْمُفْتَرِينَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ثَمَانُونَ جَلْدَةً .

وَإِذَا شَرِبَ الْخَمْرَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ حُدَّ حَدَّ الْخَمْرِ ، ثُمَّ يُحْبَسُ حَتَّى يَخِفَّ عَنْهُ الضَّرْبُ ، ثُمَّ يُعَزَّرُ لِإِفْطَارِهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ؛ لِأَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ مُلْزِمٌ لِلْحَدِّ ، وَمُهْتِكُ حُرْمَةَ الشَّهْرِ ، وَالصَّوْمِ يَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ ، وَلَكِنَّ الْحَدَّ أَقْوَى مِنْ التَّعْزِيرِ ، فَيُبْتَدَأُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ، ثُمَّ لَا يُوَالِي بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ التَّعْزِيرِ لِكَيْ يُؤَدِّيَ إلَى الْإِتْلَافِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أُتِيَ بِالنَّجَاشِيِّ الْحَارِثِيِّ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ ، فَحَدَّهُ ، ثُمَّ حَبَسَهُ حَتَّى إذَا كَانَ الْغَدُ أَخْرَجَهُ ، فَضَرَبَهُ عِشْرِينَ سَوْطًا ، وَقَالَ : هَذَا لِجَرَاءَتِك عَلَى اللَّهِ ، وَإِفْطَارِك فِي شَهْرِ رَمَضَانَ .

رَجُلٌ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الْإِمَامَ ، وَقَدْ شَرِبَ خَمْرًا ، أَوْ سَكِرَ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ ، أَوْ سَرَقَ ، أَوْ زَنَى ثُمَّ تَابَ ، وَأَسْلَمَ ، فَإِنَّهُ يُحَدُّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مَا خَلَا الْخَمْرِ ، وَالسُّكْرِ ، فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ كَافِرٌ ، وَحَدُّ الْخَمْرِ ، وَالسُّكْرِ لَا يُقَامُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْكُفَّارِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَعْتَقِدُ إبَاحَةَ سَبَبِهِ ، فَإِذَا كَانَ ارْتِكَابُهُ سَبَبَهُ فِي حَالٍ يَعْتَقِدُ إبَاحَتَهُ لَا يُقَامُ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا حَدُّ الزِّنَا ، وَالسَّرِقَةِ ، فَيُقَامُ عَلَى الْكَافِرِ لِاعْتِقَادِهِ حُرْمَةَ سَبَبِهِ ، فَيُقَامُ عَلَى الْمُرْتَدِّ بَعْدَ إسْلَامِهِ أَيْضًا كَالذِّمِّيِّ إذَا بَاشَرَ ذَلِكَ ، ثُمَّ أَسْلَمَ .
وَإِنْ لَمْ يَتُبْ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ غَيْرِ حَدِّ الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا ، وَالسَّرِقَةِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَدْ صَارَتْ مُسْتَحَقَّةً لِلَّهِ تَعَالَى ، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ عَلَى رِدَّتِهِ ، وَمَتَى اجْتَمَعَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى النَّفْسُ ، وَمَا دُونَهَا يُقْتَلُ ، وَيُلْغَى مَا سِوَى ذَلِكَ ، وَأَمَّا حَدُّ السَّرِقَةِ ، فَفِيهِ مَعْنَى حَقِّ الْعَبْدِ ، فَيُقَامُ عَلَيْهِ ، وَيَضْمَنُ السَّرِقَةَ لِحَقِّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ ، فَإِنْ شَرِبَ ، وَهُوَ مُسْلِمٌ ، فَلَمَّا ، وَقَعَ فِي يَدِ الْإِمَامِ ارْتَدَّ ، ثُمَّ تَابَ لَمْ يَحُدَّ ، وَإِنْ كَانَ زَنَى ، أَوْ سَرَقَ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ مَا اعْتَرَضَ مِنْ الرِّدَّةِ يَمْنَعُ وُجُوبَ حَدِّ الْخَمْرِ ، وَالسُّكْرِ عَلَيْهِ ، فَيَمْنَعُ بَقَاءَهُ ، وَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ حَدِّ الزِّنَا ، وَالسَّرِقَةِ ، فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْبَقَاءَ ، وَقَدْ قَالَ فِي آخِرِ الْكِتَابِ : إذَا ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ ، ثُمَّ سَرَقَ ، أَوْ زَنَى ، أَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ ، أَوْ سَكِرَ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ ، ثُمَّ تَابَ ، وَأَسْلَمَ لَمْ يُحَدَّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا فِي الْقَذْفِ ، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ أَيْضًا شَيْءٌ مِنْ الْحُدُودِ غَيْرَ حَدِّ الْقَذْفِ ، وَيُقْتَلُ ، وَإِنْ

أَخَذْتَهُ ، وَهُوَ مُسْلِمٌ شَارِبًا خَمْرًا ، أَوْ زَانِيًا ، أَوْ سَارِقًا ، فَلَمَّا ، وَقَعَ فِي يَدِك ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ ، فَاسْتَتَبْتَهُ ، فَتَابَ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحُدُودُ إلَّا حَدَّ الْخَمْرِ .
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُخَالِفُ الرِّوَايَةَ الْأُولَى فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا زَنَى ، أَوْ سَرَقَ فِي حَالِ رِدَّتِهِ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بَعْدَ تَوْبَتِهِ كَمَا لَا يُقَامُ قَبْلَ تَوْبَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ بِمَنْزِلَةِ الْحَرْبِيِّ ، فَإِنَّهُ اعْتَقَدَ مُحَارَبَتَهُ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْهَا ، وَالْحَرْبِيُّ إذَا ارْتَكَبَ شَيْئًا مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْحَدِّ ، ثُمَّ أَسْلَمَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، فَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّ ، وَفُرِّقَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ هَذَا ، وَبَيْنَ مَا إذَا زَنَى ، أَوْ سَرَقَ ، وَهُوَ مُسْلِمٌ ، ثُمَّ ارْتَدَّ ، ثُمَّ أَسْلَمَ ، فَقَالَ هُنَاكَ حِينَ ارْتَكَبَ السَّبَبَ مَا كَانَ حَرْبِيًّا لِلْمُسْلِمِينَ ، فَيَكُونُ مُسْتَوْجِبًا لِلْحَدِّ ، وَلَمْ يَزُلْ تَمَكُّنُ الْإِمَامِ مِنْ إقَامَتِهِ عَلَيْهِ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يَشْتَغِلُ بِهِ قَبْلَ تَوْبَتِهِ لِاسْتِحْقَاقِ نَفْسِهِ بِالرِّدَّةِ وَقَدْ انْعَدَمَ بِالْإِسْلَامِ ، فَلِهَذَا يُقَامُ عَلَيْهِ ، وَتَزْوِيجُ السَّكْرَانِ ، وَلَدَهُ الصَّغِيرَ ، وَهِبَتُهُ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ قَوْلًا ، أَوْ فِعْلًا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ كَالصَّاحِي ، وَبِالسُّكْرِ لَا يَنْعَدِمُ عَقْلُهُ إنَّمَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ السُّرُورُ ، فَيَمْنَعُهُ مِنْ اسْتِعْمَالِ عَقْلِهِ ، وَذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِي تَصَرُّفِهِ سَوَاءٌ كَانَ شَرِبَ مُكْرَهًا ، أَوْ طَائِعًا ، فَأَمَّا إذَا شَرِبَ الْبَنْجَ ، أَوْ شَيْئًا حُلْوًا ، فَذَهَبَ عَقْلُهُ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْتُوهِ فِي التَّصَرُّفَاتِ .

وَإِنْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى شَهَادَةِ سَكْرَانُ ، أَوْ شَهِدَ السَّكْرَانُ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ رَجُلٌ ، فَاسِقٌ ، وَأَنَّهُ سَكْرَانُ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ ، وَلِهَذَا لَوْ ارْتَدَّ فِي حَالِ سُكْرِهِ لَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ اسْتِحْسَانًا قَالَ : لَا أَظُنُّ سَكْرَانًا يَنْفَلِتُ مِنْ هَذَا ، وَأَشْبَاهِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي السِّيَرِ ، وَإِذَا أُتِيَ الْإِمَامُ بِرَجُلٍ شَرِبَ خَمْرًا ، وَشَهِدَ بِهِ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ ، فَقَالَ : إنَّمَا أُكْرِهْت عَلَيْهَا ، أَوْ قَالَ : شَرِبْتهَا ، وَلَمْ أَعْرِفْهَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْحَدِّ قَدْ ظَهَرَ ، وَهُوَ يَدَّعِي عُذْرًا مُسْقِطًا ، فَلَا يُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ إذْ لَوْ صُدِّقَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ لَانْسَدَّ بَابُ إقَامَةِ حَدِّ الْخَمْرِ أَصْلًا ، وَهَذَا بِخِلَافِ الزَّانِي إذَا ادَّعَى النِّكَاحَ ؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ يُنْكِرُ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْحَدِّ ، فَبِالنِّكَاحِ يَخْرُجُ الْفِعْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ زِنًا مَحْضًا ، وَهُنَا بَعْدَ الْإِكْرَاهِ ، وَالْجَهْلِ لَا يَنْعَدِمُ السَّبَبُ ، وَهُوَ حَقِيقَةُ شُرْبِ الْخَمْرِ إنَّمَا هَذَا عُذْرٌ مُسْقِطٌ ، فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ يُقِيمُهَا عَلَى ذَلِكَ .

، وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْكُلَ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ هَكَذَا نُقِلَ { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَأْكُلَ الْمُسْلِمُ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ } ؛ وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَكْثِيرُ جَمْعِ الْفَسَقَةِ ، وَإِظْهَارُ الرِّضَا بِصَنِيعِهِمْ ، وَذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ فِي عَشْرِ دَوَارِيقَ عَصِيرِ عِنَبٍ فِي قِدْرٍ ، ثُمَّ يُطْبَخُ ، فَيُغْلَى ، فَيَقْذِفُ بِالزَّبَدِ ، فَجَعَلَ يَأْخُذُ ذَلِكَ الزَّبَدَ حَتَّى جَمَعَ قَدْرَ دَوْرَقٍ ، فَإِنَّهُ يُطْبَخُ حَتَّى يَبْقَى ثَلَاثَةَ دَوَارِيقَ ثُلُثُ الْبَاقِي ؛ لِأَنَّ مَا أَخَذَهُ مِنْ الزَّبَدِ انْتَقَصَ مِنْ أَصْلِ الْعَصِيرِ ، فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ فِي الْحِسَابِ ، فَظَهَرَ أَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ الْعَصِيرِ تِسْعَةُ دَوَارِيقَ ، فَإِنَّمَا يَصِيرُ مُثَلَّثًا إذَا طُبِخَ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ ، وَيَبْقَى ثُلُثُهُ ثَلَاثَةُ دَوَارِيقَ ، وَإِنْ نَقَصَ مِنْهُ دَوْرَقٌ آخَرُ فِي ذَلِكَ الْغَلَيَانِ ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ لِأَنَّ مَا نَقَصَ بِالْغَلَيَانِ فِي مَعْنَى الدَّاخِلِ فِيمَا بَقِيَ ، فَلَا يَصِيرُ ذَلِكَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الطَّبْخُ إلَى أَنْ يَذْهَبَ ثُلُثَا الْعَصِيرِ .
وَلَوْ صَبَّ رَجُلٌ فِي قِدْرٍ عَشَرَةَ دَوَارِيقَ عَصِيرًا ، وَعِشْرِينَ دَوْرَقًا مَاءً ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ يَذْهَبُ بِالطَّبْخِ قَبْلَ الْعَصِيرِ ، فَإِنَّهُ يَطْبُخُهُ حَتَّى يَذْهَبَ ثَمَانِيَةُ أَتْسَاعِهِ ، وَيَبْقَى التُّسْعُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ بِالْغَلَيَانِ ، فَالذَّاهِبُ هُوَ الْمَاءُ فَقَطْ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَطْبُخَهُ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَا الْعَصِيرِ ، وَيَبْقَى ثُلُثَهُ ، وَهُوَ سُبْعُ الْجُمْلَةِ ، وَإِنْ كَانَا يَذْهَبَانِ بِالْغَلَيَانِ مَعًا طَبَخَهُ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِالْغَلَيَانِ ثُلُثَا الْعَصِيرِ ، وَثُلُثَا الْمَاءِ ، وَالْبَاقِي ثُلُثُ الْعَصِيرِ ، وَثُلُثُ الْمَاءِ ، فَهُوَ ، وَمَا لَوْ صَبَّ الْمَاءَ فِي الْعَصِيرِ بَعْدَ مَا طَبَخَهُ عَلَى الثُّلُثِ ، وَالثُّلُثَيْنِ سَوَاءٌ .

وَإِذَا طُبِخَ عَصِيرٌ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُهُ ، ثُمَّ صَنَعَ مِنْهُ مُلِيقًا ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَغَيَّرَ عَنْ حَالِهِ ، فَلَا بَأْسَ بِهِ ، وَإِنْ صَنَعَهُ بَعْدَ مَا غَلَى فَتَغَيَّرَ عَنْ حَالِ الْعَصِيرِ ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا غَلَى ، وَاشْتَدَّ صَارَ مُحَرَّمًا ، وَالْمُلِيقُ الْمُتَّخَذُ مِنْ عَيْنِ الْمُحَرَّمِ لَا يَكُونُ حَلَالًا كَالْمُتَّخَذِ مِنْ الْخَمْرِ ، فَأَمَّا قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ ، فَهُوَ حَلَالُ الشُّرْبِ ، فَأَمَّا صَنِيعُ الْمُلِيقِ مِنْ عَصِيرٍ ، فَحَلَالٌ ، وَإِذَا طَبَخَ الرَّجُلُ عَصِيرًا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُهُ ، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى بَرَدَ ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ الطَّبْخَ حَتَّى ذَهَبَ نِصْفُ مَا بَقِيَ ، فَإِنْ كَانَ أَعَادَ عَلَيْهِ الطَّبْخَ قَبْلَ أَنْ يَغْلِيَ ، أَوْ يَتَغَيَّرَ عَنْ حَالِ الْعَصِيرِ ، فَلَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّ الطَّبْخَ فِي دُفْعَتَيْنِ إلَى ذَهَابِ الثُّلُثَيْنِ مِنْهُ ، وَفِي دُفْعَةٍ سَوَاءٌ ، وَإِنْ صَنَعَهُ بَعْدَ مَا غَلَى ، وَتَغَيَّرَ عَنْ حَالِ الْعَصِيرِ ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الطَّبْخَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ لَاقَى شَيْئًا مُحَرَّمًا ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ خَمْرٍ طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ بِهِ ، وَإِذَا طَبَخَ الرَّجُلُ عَصِيرًا حَتَّى ذَهَبَ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ ، ثُمَّ قَطَعَ عَنْهُ النَّارَ ، فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى ذَهَبَ مِنْهُ تَمَامُ الثُّلُثَيْنِ ، فَلَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُثَلَّثًا بِقُوَّةِ النَّارِ ، فَإِنَّ الَّذِي بَقِيَ مِنْهُ مِنْ الْحَرَارَةِ بَعْدَ مَا قُطِعَ عَنْ النَّارِ أَثَرُ تِلْكَ النَّارِ ، فَهُوَ ، وَمَا لَوْ صَارَ مُثَلَّثًا ، وَالنَّارُ تَحْتَهُ سَوَاءٌ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ بَرَدَ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مُثَلَّثًا ؛ لِأَنَّ الْغَلَيَانَ بَعْدَمَا انْقَطَعَ عَنْهُ أَثَرُ النَّارِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الشِّدَّةِ ، وَحِينَ اشْتَدَّ ، فَقَدْ صَارَ مُحَرَّمًا بِنَفْسِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْغَلَيَانَ بِقُوَّةٍ لَا يُنْقِصُ مِنْهُ شَيْئًا بَلْ يَزِيدُ فِي رِقَّتِهِ بِخِلَافِ الْغَلَيَانِ بِقُوَّةِ النَّارِ ، فَإِنْ شَرِبَ الطِّلَاءَ الَّذِي قَدْ طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ عُشْرُهُ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ

يَسْكَرَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ ذَهَبَ بِالطَّبْخِ شَيْءٌ ، فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَمْرًا ، وَفِي غَيْرِ الْخَمْرِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ إلَّا بِالسُّكْرِ .
.

وَإِذَا اسْتَعَطَ الرَّجُلُ بِالْخَمْرِ ، أَوْ اكْتَحَلَ بِهَا ، أَوْ اقْتَطَرَهَا فِي أُذُنِهِ ، أَوْ دَاوَى بِهَا جَائِفَةً ، أَوْ آمَّةً ، فَوَصَلَ إلَى دِمَاغِهِ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ يَعْتَمِدُ شُرْبَ الْخَمْرِ ، وَهُوَ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ لَا يَصِيرُ شَارِبًا ، وَلَيْسَ فِي طَبْعِهِ مَا يَدْعُوهُ إلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ لِتَقَعَ الْحَاجَةُ إلَى شَرْعِ الزَّاجِرِ عَنْهُ .
وَلَوْ عَجَنَ دَوَاءً بِخَمْرٍ ، وَلَتَّهُ ، أَوْ جَعَلَهَا أَحَدَ أَخْلَاطِ الدَّوَاءِ ، ثُمَّ شَرِبَهَا ، وَالدَّوَاءُ هُوَ الْغَالِبُ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْخَمْرُ هِيَ الْغَالِبَةُ ، فَإِنَّهُ يُحَدُّ ؛ لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا بِالْغَالِبِ إذَا كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ ، وَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) ذُكِرَ عَنْ الشَّعْبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : لَا يُبْلَغُ بِالتَّعْزِيرِ أَرْبَعُونَ سَوْطًا ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا ؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ سَوْطًا أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْ الْحَدِّ ، وَهُوَ حَدُّ الْعَبِيدِ فِي الْقَذْفِ ، وَالشُّرْبِ ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ ، فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ } ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ، ثُمَّ رَجَعَ ، وَقَالَ يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ خَمْسَةً ، وَسَبْعِينَ سَوْطًا ؛ لِأَنَّ أَدْنَى الْحَدِّ ثَمَانُونَ سَوْطًا ، وَحَدُّ الْعَبْدِ نِصْفُ الْحُرِّ ، وَلَيْسَ بِحَدٍّ كَامِلٍ ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ أَيْضًا ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ بِالتَّعْزِيرِ تِسْعَةً ، وَسَبْعِينَ سَوْطًا ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا ، وَأَمَّا تَقْدِيرُ النُّقْصَانِ بِالْخَمْسَةِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى ، فَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ ، وَالتَّعْزِيرِ بَيْنَ خَمْسَةِ أَسْوَاطٍ ، وَيَضْرِبُ دُفْعَةً ، فَإِنَّمَا نَقَصَ فِي التَّعْزِيرِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْوَاطٍ .
.

وَإِذَا أُخِذَ الرَّجُلُ مَعَ الْمَرْأَةِ ، وَقَدْ أَصَابَ مِنْهَا كُلَّ مُحَرَّمٍ غَيْرَ الْجِمَاعِ عُزِّرَ بِتِسْعَةٍ ، وَثَلَاثِينَ سَوْطًا ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْحُدُودِ أَنَّ كُلَّ مِنْ ارْتَكَبَ مُحَرَّمًا لَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ ، فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ ، ثُمَّ الرَّأْيُ فِي مِقْدَارِ ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ ، وَيَبْنِي ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ جَرِيمَتِهِ ، وَهَذِهِ جَرِيمَةٌ مُتَكَامِلَةٌ ، فَلِهَذَا قُدِّرَ التَّعْزِيرُ فِيهَا بِتِسْعَةٍ ، وَثَلَاثِينَ سَوْطًا ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الضَّرْبَ فِي التَّعْزِيرِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي الْحُدُودِ ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَهُ تَخْفِيفٌ مِنْ حَيْثُ نُقْصَانُ الْعَدَدِ ، وَأَنَّهُ يُنْزَعُ ثِيَابُهُ عِنْدَ الضَّرَرِ ، وَيُضْرَبُ عَلَى ظَهْرِهِ ، وَلَا يُفَرَّقُ عَلَى أَعْضَائِهِ إنَّمَا ذَلِكَ فِي الْحُدُودِ ، وَإِذَا نَقَبَ السَّارِقُ النَّقْبَ ، وَأَخَذَ الْمَتَاعَ ، فَأُخِذَ فِي الْبَيْتِ ، أَوْ أُخِذَ ، وَقَدْ خَرَجَ بِمَتَاعٍ لَا يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ، فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ لِارْتِكَابِهِ مُحَرَّمًا ، وَالْمَرْأَةُ فِي التَّعْزِيرِ كَالرَّجُلِ ؛ لِأَنَّهَا تُشَارِكُهُ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلتَّعْزِيرِ ، وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ ، فَاسِقًا مُتَّهَمًا بِالشَّرِّ كُلِّهِ ، فَأُخِذَ عُزِّرَ لِفِسْقِهِ ، وَحُبِسَ حَتَّى يُحْدِثَ تَوْبَةً ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ ، وَقَدْ { حَبَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ .
} .

وَاَلَّذِي يَزْنِي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ نَهَارًا ، فَيَدَّعِي شُبْهَةً يَدْرَأُ بِهَا الْحَدَّ عَنْ نَفْسِهِ يُعَزَّرُ لِإِفْطَارِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُرْتَكِبٌ لِلْحَرَامِ بِإِفْطَارِهِ ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ زَانِيًا بِمَا ادَّعَى مِنْ الشُّبْهَةِ ، وَلَا يُحْبَسُ هُنَا ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ لِلتُّهْمَةِ ، فَأَمَّا جَزَاءُ الْفِعْلِ الَّذِي بَاشَرَهُ ، فَالتَّعْزِيرُ ، وَقَدْ أُقِيمَ عَلَيْهِ ، وَالْمُسْلِمُ الَّذِي يَأْكُلُ الرِّبَا ، أَوْ يَبِيعُ الْخَمْرَ ، وَلَا يَنْزِعُ عَنْ ذَلِكَ إذَا رُفِعَ إلَى الْإِمَامِ يُعَزِّرُهُ ، وَكَذَلِكَ الْمُخَنَّثُ ، وَالنَّائِحَةُ ، وَالْمُغَنِّيَةُ ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُعَزَّرُونَ بِمَا ارْتَكَبُوا مِنْ الْمُحَرَّمِ ، وَيُحْبَسُونَ حَتَّى يُحْدِثُوا التَّوْبَةَ ؛ لِأَنَّهُمْ بَعْدَ إقَامَةِ التَّعْزِيرِ عَلَيْهِمْ مُصِرُّونَ عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِمْ ، وَذَلِكَ ، فَوْقَ التُّهْمَةِ فِي إيجَابِ حَبْسِهِمْ إلَى أَنْ يُحْدِثُوا التَّوْبَةَ ، وَإِذَا شَتَمَ الْمُسْلِمُ امْرَأَةً ذِمِّيَّةً ، أَوْ قَذَفَهَا بِالزِّنَا عُزِّرَ ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّةَ غَيْرُ مُحْصَنَةٍ ، فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهَا ، وَلَكِنَّ قَاذِفَهَا مُرْتَكِبٌ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ ، فَيُعَزَّرُ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَذَفَ مُسْلِمَةً قَدْ زَنَتْ ، أَوْ مُسْلِمًا قَدْ زَنَى ، أَوْ أَمَةً مُسْلِمَةً ؛ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ مِنْ هَؤُلَاءِ غَيْرُ مُحْصَنٍ ، وَلَكِنَّ الْقَاذِفَ مُرْتَكِبٌ مَا هُوَ حَرَامٌ ، وَهُوَ إشَاعَةُ الْفَاحِشَةِ ، وَهَتْكٌ لِلسِّتْرِ عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلتَّعْزِيرِ عَلَيْهِ ، وَإِذَا قَطَعَ اللُّصُوصُ الطَّرِيقَ عَلَى قَوْمٍ ، فَلَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ دَفْعًا عَنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَأَمْوَالِهِمْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ ، فَهُوَ شَهِيدٌ } ، وَإِذَا اسْتَعَانُوا بِقَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَحِلَّ لَهُمْ أَنْ يُعِينُوهُمْ ، وَيُقَاتِلُوهُمْ مَعَهُمْ ، وَإِنْ أَتَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ ، فَرْضٌ ، وَبِذَلِكَ ، وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ بِأَنَّهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ ، فَلَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ

يَتْرُكُوا ذَلِكَ إذَا قَدَرُوا عَلَيْهِ .
قُلْت ، وَالرَّجُلُ يَخْتَرِطُ السَّيْفَ عَلَى الرَّجُلِ ، وَيُرِيدُ أَنْ يَضْرِبَهُ ، وَلَمْ يَفْعَلْ ، أَوْ شَدَّ عَلَيْهِ بِسِكِّينٍ ، أَوْ عَصًا ، ثُمَّ لَمْ يَضْرِبْهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ هَلْ يُعَزَّرُ قَالَ : نَعَمْ ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَا لَا يَحِلُّ مِنْ تَخْوِيفِ الْمُسْلِمِ ، وَالْقَصْدُ إلَى قَتْلِهِ ، قُلْت ، وَالرَّجُلُ يُوجَدُ فِي بَيْتِهِ الْخَمْرُ بِالْكُوفَةِ ، وَهُوَ فَاسِقٌ ، أَوْ يُوجَدُ الْقَوْمُ مُجْتَمَعِينَ عَلَيْهَا ، وَلَمْ يَرَهُمْ أَحَدٌ يَشْرَبُونَهَا غَيْرَ أَنَّهُمْ جَلَسُوا مَجْلِسَ مَنْ يَشْرَبُهَا هَلْ يُعَزَّرُونَ قَالَ : نَعَمْ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْفَاسِقَ يَسْتَعِدُّ الْخَمْرَ لِلشُّرْبِ ، وَأَنَّ الْقَوْمَ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهَا لِإِرَادَةِ الشُّرْبِ ، وَلَكِنْ بِمُجَرَّدِ الظَّاهِرِ لَا يَتَقَرَّرُ السَّبَبُ عَلَى وَجْهٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ ، فَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ ، وَالتَّعْزِيرُ مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ ، فَلِهَذَا يُعَزَّرُونَ ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يُوجَدُ مَعَهُ رَكْوَةٌ مِنْ الْخَمْرِ بِالْكُوفَةِ ، أَوْ قَالَ رَكْوَةٌ ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي عَهْدِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ كَمَا يُقَامُ عَلَى الشَّارِبِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَسْبِقُ إلَى وَهْمِ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّهُ يَشْرَبُ بَعْضَهَا ، وَيَقْصِدُ الشُّرْبَ فِيمَا بَقِيَ مَعَهُ مِنْهَا إلَّا أَنَّهُ حُكِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ لِهَذَا الْقَائِلِ لِمَ تَحُدَّهُ قَالَ : لِأَنَّ مَعَهُ آلَةَ الشُّرْبِ ، وَالْفَسَادِ قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَارْجُمْهُ إذًا ، فَإِنَّ مَعَهُ آلَةَ الزِّنَا ، فَهَذَا بَيَانٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إقَامَةُ الْحَدِّ بِمِثْلِ هَذَا الظَّاهِرِ ، وَالتُّهْمَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) رَجُلٌ طَبَخَ عَشَرَةَ أَرْطَالِ عَصِيرٍ حَتَّى ذَهَبَ مِنْهُ رِطْلٌ ، ثُمَّ أَهْرَاقَ ثَلَاثَةَ أَرْطَالٍ مِنْهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَطْبُخَ الْبَقِيَّةَ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهَا كَمْ يَطْبُخُهَا قَالَ : يَطْبُخُهَا حَتَّى يَبْقَى مِنْهَا رِطْلَانِ ، وَتُسْعَا رِطْلٍ ؛ لِأَنَّ الرِّطْلَ الذَّاهِبَ بِالْغَلَيَانِ فِي الْمَعْنَى دَاخِلٌ فِيمَا بَقِيَ ، وَكَانَ الْبَاقِي قَبْلَ أَنْ يَنْصَبَّ مِنْهُ شَيْءٌ تِسْعَةُ أَرْطَالٍ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلَّ رِطْلٍ مِنْ ذَلِكَ فِي مَعْنَى رِطْلٍ ، وَتُسْعٍ ؛ لِأَنَّ الذَّاهِبَ بِالْغَلَيَانِ اقْتَسَمَ عَلَى مَا بَقِيَ أَتْسَاعًا ، فَإِنْ انْصَبَّ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَرْطَالٍ ، وَثَلَاثَةُ أَتْسَاعِ رِطْلٍ يَكُونُ الْبَاقِي سِتَّةَ أَرْطَالٍ ، وَسِتَّةَ أَتْسَاعِ رِطْلٍ ، فَيَطْبُخُهُ حَتَّى يَبْقَى مِنْهُ الثُّلُثُ ، وَهُوَ رِطْلَانِ ، وَتُسْعَا رِطْلٍ .
وَلَوْ كَانَ ذَهَبَ بِالْغَلَيَانِ رِطْلَانِ ثُمَّ إهْرَاقَ مِنْهُ رِطْلَانِ قَالَ : يَطْبُخُهُ حَتَّى يَبْقَى مِنْهُ رِطْلَانِ ، وَنِصْفٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَهَبَ بِالْغَلَيَانِ رِطْلَانِ ، فَالْبَاقِي ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ كُلُّ رِطْلٍ فِي مَعْنَى رِطْلٍ ، وَرُبْعٍ ، فَلَمَّا انْصَبَّ مِنْهُ رِطْلَانِ ، فَاَلَّذِي انْصَبَّ فِي الْمَعْنَى رِطْلَانِ ، وَنِصْفٌ ، وَالْبَاقِي مِنْ الْعَصِيرِ سَبْعَةُ أَرْطَالٍ ، وَنِصْفٌ ، وَإِنْ ذَهَبَ بِالْغَلَيَانِ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ ، ثُمَّ انْصَبَّ رِطْلٌ وَاحِدٌ مِنْهُ ، أَوْ أَخَذَ رَجُلٌ مِنْهُ رِطْلًا قَالَ يَطْبُخُ الْبَاقِيَ حَتَّى يَبْقَى مِنْهُ رِطْلَانِ ، وَثُلُثَا رِطْلٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَهَبَ بِالْغَلَيَانِ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ ، فَمَا ذَهَبَ فِي الْمَعْنَى دَاخِلٌ فِيمَا بَقِيَ ، وَصَارَ كُلُّ رِطْلٍ بِمَعْنَى رِطْلَيْنِ ، فَلَمَّا انْصَبَّ مِنْ الْبَاقِي رِطْلٌ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَهُ مِنْ الْعَصِيرِ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ ، فَيَطْبُخُهُ إلَى أَنْ يَبْقَى ثُلُثُ ثَمَانِيَةِ أَرْطَالٍ ، وَذَلِكَ رِطْلَانِ ، وَثُلُثَا رِطْلٍ ، وَفِي الْكِتَابِ أَشَارَ إلَى طَرِيقٍ آخَرَ فِي تَخْرِيجِ جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ، فَقَالَ : السَّبِيلُ أَنْ يَأْخُذَ ثُلُثَ الْجَمِيعِ ، فَيَضْرِبُهُ فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ

مَا انْصَبَّ مِنْهُ ، ثُمَّ يَقْسِمُهُ عَلَى مَا بَقِيَ بَعْدَ مَا ذَهَبَ بِالطَّبْخِ قَبْلَ أَنْ يَنْصَبَّ مِنْهُ شَيْءٌ ، فَمَا خَرَجَ بِالْقِسْمَةِ ، فَهُوَ حَلَالٌ مَا بَقِيَ مِنْهُ ، وَبَيَانُ هَذَا : أَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ، فَتَأْخُذُ ثُلُثَ الْعَصِيرِ ثَلَاثَةً ، وَثُلُثًا ، وَتَضْرِبُهُ فِيمَا بَقِيَ بَعْدَمَا انْصَبَّ مِنْهُ ، وَهُوَ سِتَّةٌ ، فَيَكُونُ عِشْرِينَ ، ثُمَّ تَقْسِمُ الْعِشْرِينَ عَلَى مَا بَقِيَ بَعْدَ مَا ذَهَبَ بِالطَّبْخِ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَنْصَبَّ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَذَلِكَ تِسْعَةٌ ، وَإِذَا قَسَمْت عِشْرِينَ عَلَى تِسْعَةٍ ، فَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ ذَلِكَ اثْنَانِ وَتُسْعَانِ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ حَلَالَ مَا بَقِيَ رِطْلَانِ ، وَتُسْعَا رِطْلٍ .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ تَأْخُذُ أَيْضًا ثَلَاثَةً وَثُلُثًا ، وَتَضْرِبُهُ فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ الِانْصِبَابِ ، وَهُوَ سِتَّةٌ ، فَيَكُونُ عِشْرِينَ ، ثُمَّ تَقْسِمُ ذَلِكَ عَلَى مَا بَقِيَ بَعْدَ الطَّبْخِ قَبْلَ الِانْصِبَابِ ، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ ، فَكُلُّ قِسْمٍ مِنْ ذَلِكَ اثْنَانِ ، وَنِصْفٌ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ حَلَالَ مَا بَقِيَ مِنْهُ رِطْلَانِ ، وَنِصْفٌ .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ تَأْخُذُ ثَلَاثَةً ، وَثُلُثًا ، وَتَضْرِبُهُ فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ الِانْصِبَابِ ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ ، فَيَكُونُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ ، وَثُلُثًا ، ثُمَّ تَقْسِمُهُ عَلَى مَا بَقِيَ قَبْلَ الِانْصِبَابِ بَعْدَ الطَّبْخِ ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ ، فَيَكُونُ كُلُّ قِسْمٍ اثْنَيْنِ ، وَثُلُثَيْنِ ، فَلِهَذَا قُلْنَا يَطْبُخُهُ حَتَّى يَبْقَى رِطْلَانِ ، وَثُلُثَا رِطْلٍ ، وَفِي الْأَصْلِ قَالَ : حَتَّى يَبْقَى رِطْلَانِ ، وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسٍ ، وَثُلُثُ خُمُسٍ ، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ ثُلُثَيْ رِطْلٍ إذَا تَأَمَّلْت ، وَرُبَّمَا يَتَكَلَّفُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لِتَخْرِيجِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ عَلَى طَرِيقِ الْحِسَابِ مِنْ الْجَبْرِ ، وَالْمُقَابَلَةِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي الِاشْتِغَالِ بِهَا كَثِيرُ فَائِدَةٍ هُنَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ ، وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إمْلَاءً الْإِكْرَاهُ : اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِغَيْرِهِ ، فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ ، أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَنْعَدِمَ بِهِ الْأَهْلِيَّةُ فِي حَقِّ الْمُكْرَهِ أَوْ يَسْقُطُ عَنْهُ الْخِطَابُ ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ مُبْتَلًى ، وَالِابْتِلَاءُ يُقَرِّرُ الْخِطَابَ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ فِي غَيْرِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ فِيمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَنَوَّعَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فَتَارَةً يَلْزَمُهُ الْإِقْدَامُ عَلَى مَا طُلِبَ مِنْهُ ، وَتَارَةً يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ ، وَتَارَةً يُرَخَّصُ لَهُ فِي ذَلِكَ ، وَتَارَةً يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ ، فَذَلِكَ آيَةُ الْخِطَابِ ، وَلِذَلِكَ لَا يَنْعَدِمُ أَصْلُ الْقَصْدِ ، وَالِاخْتِيَارِ بِالْإِكْرَاهِ ، كَيْفَ يَنْعَدِمُ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا طُلِبَ مِنْهُ أَنْ يَخْتَارَ أَهْوَنَ الْأَمْرَيْنِ عَلَيْهِ ، وَزَعَمَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ : أَنَّ أَثَرَ الْإِكْرَاهِ التَّامِّ فِي الْأَفْعَالِ فِي نَقْلِ الْفِعْلِ مِنْ الْمُكْرَهِ إلَى الْمُكْرِهِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحِ ، فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ نَقْلُ الْفِعْلِ الْمَوْجُودِ مِنْ شَخْصٍ إلَى غَيْرِهِ ، وَالْمَسَائِلُ تَشْهَدُ بِخِلَافِ هَذَا أَيْضًا ، فَإِنَّ الْبَالِغَ إذَا أَكْرَهَ صَبِيًّا عَلَى الْقَتْلِ يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرِهِ ، وَهَذَا الْفِعْلُ فِي مَحَلِّهِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقَوَدِ ، فَلَا يَصِيرُ مُوجِبًا بِانْتِقَالِهِ إلَى مَحِلٍّ آخَرَ ، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ تَأْثِيرَ الْإِكْرَاهِ فِي جَعْلِ الْمُكْرَهِ آلَةً لِلْمُكْرِهِ ، فَيَصِيرُ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ ، وَجَعْلُ الْمُكْرَهِ آلَةً لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ بِالْإِكْرَاهِ يَنْعَدِمُ الِاخْتِيَارُ مِنْهُ أَصْلًا ، وَلَكِنْ ؛ لِأَنَّهُ يَفْسُدُ اخْتِيَارُهُ بِهِ لِتَحَقُّقِ الْإِلْجَاءِ فَالْمَرْءُ مَجْبُولٌ عَلَى حُبِّ حَيَاتِهِ ، وَذَا يَحْمِلُهُ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ فَيَفْسُدَ بِهِ

اخْتِيَارُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَالْفَاسِدُ فِي مُعَارَضَةِ الصَّحِيحِ كَالْمَعْدُومِ فَيَصِيرُ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ لِوُجُودِ الِاخْتِيَارِ الصَّحِيحِ مِنْهُ ، وَالْمُكْرَهُ يَصِيرُ كَالْآلَةِ لِلْمُكْرِهِ لِانْعِدَامِ اخْتِيَارِهِ حُكْمًا فِي مُعَارَضَةِ الِاخْتِيَارِ الصَّحِيحِ ، وَلِهَذَا اُقْتُصِرَ عَلَى مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لَهُ فِيهِ دُونَ مَا لَا يَصْلُحُ كَالتَّصَرُّفَاتِ قَوْلًا ، فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ تَكَلُّمُ الْمَرْءِ بِلِسَانِ غَيْرِهِ ، وَتَأْثِيرُ الْإِكْرَاهِ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فِي انْعِدَامِ الرِّضَا مِنْ الْمُكْرَهِ بِحُكْمِ الشَّبَهِ .
وَشَبَّهَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ بِالْهَزْلِ ، فَإِنَّ الْهَزْلَ عَدَمُ الرِّضَا بِحُكْمِ السَّبَبِ مَعَ وُجُودِ الْقَصْدِ ، وَالِاخْتِيَارِ فِي نَفْسِ السَّبَبِ ، فَالْإِكْرَاهُ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْهَازِلَ غَيْرُ مَحْمُولٍ عَلَى التَّكَلُّمِ ، وَالْمُكْرَهَ مَحْمُولٌ عَلَى ذَلِكَ ، وَبِذَلِكَ لَا يَنْعَدِمُ اخْتِيَارُهُ كَمَا بَيَّنَّا ، وَشَبَّهَهُ بَعْضُهُمْ بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ ، فَإِنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يُعْدِمُ الرِّضَا بِحُكْمِ السَّبَبِ دُونَ نَفْسِ السَّبَبِ ، ثُمَّ فِي الْإِكْرَاهِ يُعْتَبَرُ مَعْنًى فِي الْمُكْرِهِ ، وَمَعْنًى فِي الْمُكْرَهِ ، وَمَعْنًى فِيمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ ، وَمَعْنًى فِيمَا أُكْرِهَ بِهِ ، فَالْمُعْتَبَرُ فِي الْمُكْرَهِ تَمَكُّنُهُ مِنْ إيقَاعِ مَا هَدَّدَهُ بِهِ ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ ذَلِكَ ، فَإِكْرَاهُهُ هَذَيَانٌ .

وَفِي الْمُكْرَهِ الْمُعْتَبَرُ أَنْ يَصِيرَ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُكْرِهِ فِي إيقَاعِ مَا هَدَّدَهُ بِهِ عَاجِلًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُلْجَأً مَحْمُولًا طَبْعًا إلَّا بِذَلِكَ ، وَفِيمَا أُكْرِهَ بِهِ بِأَنْ يَكُونَ مُتْلِفًا ، أَوْ مُزْمِنًا ، أَوْ مُتْلِفًا عُضْوًا ، أَوْ مُوجِبًا عَمَّا يَنْعَدِمُ الرِّضَا بِاعْتِبَارِهِ ، وَفِيمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ مُمْتَنِعًا مِنْهُ قَبْلَ الْإِكْرَاهِ إمَّا لِحَقِّهِ ، أَوْ لِحَقِّ آدَمِيٍّ آخَرَ ، أَوْ لِحَقِّ الشَّرْعِ ، وَبِحَسَبِ اخْتِلَافِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي الْكِتَابِ لِتَفْصِيلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ ، وَقَدْ اُبْتُلِيَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِسَبَبِ تَصْنِيف هَذَا الْكِتَابِ عَلَى مَا حُكِيَ عَنْ ابْنِ سِمَاعَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ لَمَّا صَنَّفَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا الْكِتَابِ سَعَى بِهِ بَعْضُ حُسَّادِهِ إلَى الْخَلِيفَةِ .
فَقَالَ : إنَّهُ صَنَّفَ كِتَابًا سَمَّاكَ فِيهِ لِصًّا غَالِيًا فَاغْتَاظَ لِذَلِكَ ، وَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِ ، وَأَتَاهُ الشَّخْصُ ، وَأَنَا مَعَهُ ، فَأَدْخَلَهُ عَلَى الْوَزِيرِ أَوَّلًا فِي حُجْرَتِهِ ، فَجَعَلَ الْوَزِيرُ يُعَاتِبُهُ عَلَى ذَلِكَ فَأَنْكَرَهُ مُحَمَّدٌ أَصْلًا ، فَلَمَّا عَلِمْتُ السَّبَبَ أَسْرَعْتُ الرُّجُوعَ إلَى دَارِهِ ، وَتَسَوَّرْتُ حَائِطَ بَعْضِ الْجِيرَانِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا سَمَّرُوا عَلَى بَابِهِ ، فَدَخَلْتُ دَارِهِ ، وَفَتَّشْت الْكُتُبَ حَتَّى وَجَدْتُ كِتَابَ الْإِكْرَاهِ ، فَأَلْقَيْتُهُ فِي جُبٍّ فِي الدَّارِ ؛ لِأَنَّ الشُّرَطَ أَحَاطُوا بِالدَّارِ قَبْلَ خُرُوجِي مِنْهَا ، فَلَمْ يُمْكِنِّي أَنْ أَخْرُجَ ، وَاخْتَفَيْتُ فِي مَوْضِعٍ حَتَّى دَخَلُوا ، وَحَمَلُوا جَمِيعَ كُتُبِهِ إلَى دَارِ الْخَلِيفَةِ بِأَمْرِ الْوَزِيرِ ، وَفَتَّشُوهَا ، فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا مِمَّا ذَكَرَهُ السَّاعِي لَهُمْ ، فَنَدِمَ الْخَلِيفَةُ عَلَى مَا صَنَعَ بِهِ ، وَاعْتَذَرَ إلَيْهِ ، وَرَدَّهُ بِجَمِيلٍ ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ أَرَادَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يُعِيدَ تَصْنِيفَ الْكِتَابِ ، فَلَمْ يُجِبْهُ خَاطِرُهُ إلَى مُرَادِهِ ، فَجَعَلَ يَتَأَسَّفُ عَلَى مَا

فَاتَهُ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ ، ثُمَّ أَمَرَ بَعْضَ وُكَلَائِهِ أَنْ يَأْتِيَ بِعَامِلٍ يُنَقِّي الْبِئْرَ ؛ لِأَنَّ مَاءَهَا قَدْ تَغَيَّرَ ، فَلَمَّا نَزَلَ الْعَامِلُ فِي الْبِئْرِ ، وَجَدَ الْكِتَابَ فِي آجُرَّةٍ ، أَوْ حَجَرِ بِنَاءٍ مِنْ طَيِّ الْبِئْرِ لَمْ يَبْتَلَّ ، فَسُرَّ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ ، وَكَانَ يُخْفِي الْكِتَابَ زَمَانًا ، ثُمَّ أَظْهَرَهُ ، فَعُدَّ هَذَا مِنْ مَنَاقِبِ مُحَمَّدٍ ، وَمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ تَفْرِيعِهِ لِمَسَائِلِ هَذَا الْكِتَابِ ، ثُمَّ بَدَأَ الْكِتَابَ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ فِي الرَّجُلِ يُجْبِرُهُ السُّلْطَانُ عَلَى الطَّلَاقِ ، وَالْعَتَاقِ ، فَيُطَلِّقُ ، أَوْ يُعْتِقُ ، وَهُوَ كَارِهٌ إنَّهُ جَائِزٌ وَاقِعٌ ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَابْتَلَاهُ بِأَشَدَّ مِنْ هَذَا ، وَهُوَ يَقَعُ كَيْفَمَا كَانَ ، وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَقَالُوا : طَلَاقُ الْمُكْرَهِ ، وَاقِعٌ سَوَاءٌ كَانَ الْمُكْرِهُ سُلْطَانًا ، أَوْ غَيْرَهُ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدٍ مُتْلِفٍ ، أَوْ غَيْرِ مُتْلِفٍ ، وَالْخِلَافُ فِي هَذَا الْفَصْلِ كَانَ مَشْهُورًا بَيْنَ السَّلَفِ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَلِهَذَا اسْتَكْثَرَ مِنْ أَقَاوِيلِ السَّلَفِ عَلَى مُوَافَقَةِ قَوْلِ إبْرَاهِيمَ .
وَفِي قَوْلِهِ : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَابْتَلَاهُ بِأَشَدَّ مِنْ هَذَا إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ بَقَاءِ الْأَهْلِيَّةِ ، وَالْخِطَابِ مَعَ الْإِكْرَاهِ ، وَإِنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ فِي ذَلِكَ ، وَلَكِنَّ عَدَمَ الرِّضَا بِحُكْمِ الطَّلَاقِ لَا يَمْنَعُ الْوُقُوعَ ، وَلِهَذَا وَقَعَ مَعَ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ عِنْدَ الْإِيقَاعِ ، وَمَعَ الْهَزْلِ مِنْ الْمُوقِعِ ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَ هَذَا اللَّفْظَ مِمَّا ذَكَرَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ : إنَّهَا اُبْتُلِيَتْ فَلْتَصْبِرْ ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَابْتَلَاهَا بِأَشَدَّ مِنْ هَذَا ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ أَجَازَ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ أَنَّ رَجُلًا

ضَرَبَ غُلَامَهُ حَتَّى طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ، فَقَالَ : بِئْسَ مَا صَنَعَ ، وَإِنَّمَا فَهِمُوا مِنْهُ بِهَذَا الْفَتْوَى بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ حَتَّى قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ رَاوِي الْحَدِيثِ : أَيْ هُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ بِئْسَ مَا صَنَعَ أَيْ حِينَ فَرَّقَ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ ، وَمَنْ قَالَ : لَا يَقَعُ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ يَقُولُ : مُرَادُ سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِئْسَ مَا صَنَعَ فِي اكْتِسَابِهِ بِالْإِكْرَاهِ ، وَتَضْيِيعِهِ ، وَقْتَ نَفْسه ، وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ قَصْدَهُ ، وَجَعَلَ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ لَغْوًا ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ .
وَأَصْلُ هَذَا فِيمَا إذَا بَاعَ رَجُلًا عَيْنًا مِنْ مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، ثُمَّ أَخْبَرَ الْمَالِكَ بِهِ ، فَقَالَ : بِئْسَ مَا صَنَعْت ، وَهَذَا اللَّفْظُ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ إجَازَةً لِلْبَيْعِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ : نِعْمَ مَا صَنَعْت ، أَوْ أَحْسَنْت ، أَوْ أَصَبْت ، فَإِنَّ فِي اللَّفْظِ الْأَوَّلِ إظْهَارُ الْكَرَاهَةِ لِصُنْعِهِ ، وَفِي اللَّفْظِ الثَّانِي إظْهَارُ الرِّضَا بِهِ ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى عَكْس هَذَا : أَنَّ قَوْلَهُ نِعْمَ مَا صَنَعْت يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ فِي الْعَادَةِ ، فَيَكُونُ رَدًّا لَا إجَازَةً ، وَقَوْلُهُ بِئْسَ مَا صَنَعْت يَكُونُ إجَازَةً ؛ لِأَنَّهُ إظْهَارٌ لِلتَّأَسُّفِ عَلَى مَا فَاتَهُ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا نَفَذَ الْبَيْعُ ، وَزَالَ مِلْكُهُ ، فَجَعَلْنَاهُ إجَازَةً لِذَلِكَ ، وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو الطَّائِيِّ أَنَّ { رَجُلًا كَانَ مَعَ امْرَأَتِهِ نَائِمًا ، فَأَخَذَتْ سِكِّينًا ، وَجَلَسَتْ عَلَى صَدْرِهِ ، فَوَضَعَتْ السِّكِّينَ عَلَى حَلْقِهِ ، وَقَالَتْ : لَتُطَلِّقَنِّي ثَلَاثًا أَلْبَتَّةَ أَوْ لَأَذْبَحَنَّكَ ، فَنَاشَدَهَا اللَّهَ ، فَأَبَتْ عَلَيْهِ ، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : لَا قَيْلُولَةَ فِي الطَّلَاقِ } ، وَفِيهِ دَلِيلُ وُقُوعِ

طَلَاقِ الْمُكْرَهِ ؛ لِأَنَّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا قَيْلُولَةَ فِي الطَّلَاقِ } تَأْوِيلَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهَا بِمَعْنَى الْإِقَالَةِ ، وَالْفَسْخِ أَيْ لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ ، وَالْفَسْخَ بَعْدَ وُقُوعِهِ ، وَإِنَّمَا لَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ مَا يَحْتَمِلُ الْإِقَالَةَ ، أَوْ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا ، وَالثَّانِي - أَنَّ الْمُرَادَ إنَّمَا اُبْتُلِيَتْ بِهَذَا لِأَجْلِ يَوْمِ الْقَيْلُولَةِ ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ .
وَبِطَرِيقٍ آخَرَ يُرْوَى هَذَا الْحَدِيثُ { أَنَّ رَجُلًا خَرَجَ مَعَ امْرَأَتِهِ إلَى الْجَبَلِ لِيَمْتَارَ الْعَسَلَ ، فَلَمَّا تَدَلَّى مِنْ الْجَبَلِ بِحَبْلٍ ، وَضَعَتْ السِّكِّينَ عَلَى الْحَبْلِ ، فَقَالَتْ لَتُطَلِّقَنِّي ثَلَاثًا ، أَوْ لَأَقْطَعَنَّهُ ، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا ، ثُمَّ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَفْتِيَ ، فَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا قَيْلُولَةَ فِي الطَّلَاقِ ، وَأَمْضَى طَلَاقَهُ } ، وَذُكِرَ نَظِيرُ هَذَا عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ مُبْغِضَةً لِزَوْجِهَا ، فَرَاوَدَتْهُ عَلَى الطَّلَاقِ ، فَأَبَى ، فَلَمَّا رَأَتْهُ نَائِمًا قَامَتْ إلَى سَيْفِهِ فَأَخَذَتْهُ ، ثُمَّ وَضَعَتْهُ عَلَى بَطْنِهِ ، ثُمَّ حَرَّكَتْهُ بِرِجْلِهَا ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ قَالَتْ لَهُ ، وَاَللَّهِ لَأُنْفِذَنَّكَ بِهِ ، أَوْ لَتُطَلِّقَنِّي ثَلَاثًا فَطَلَّقَهَا ، فَأَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَاسْتَغَاثَ بِهِ فَشَتَمَهَا ، وَقَالَ : وَيْحَكِ مَا حَمَلَكِ عَلَى مَا صَنَعْتِ ، فَقَالَتْ بُغْضِي إيَّاهُ ، فَأَمْضَى طَلَاقَهُ .
، وَهُوَ دَلِيلٌ لَنَا عَلَى أَنَّ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ وَاقِعٌ ، وَلَا يُقَالُ : فِي هَذَا كُلِّهِ إنَّ هَذَا الْإِكْرَاهَ كَانَ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَتَحَقَّقُ بِالِاتِّفَاقِ ، فَإِنَّهُ صَارَ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ لَمَّا كَانَتْ مُتَمَكِّنَةً مِنْ إيقَاعِ مَا خَوَّفَتْهُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُعَارِضُ قَوْلَهُ : فَشَتَمَهَا أَيْ نَسَبَهَا إلَى سُوءِ الْعِشْرَة ،

وَالصُّحْبَةِ ، وَإِلَى الظُّلْمِ كَمَا يَلِيقُ بِفِعْلِهَا لَا أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِيهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بُهْتَانٌ لَا يُظَنُّ بِهِ ، وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ : طَلَاقُ الْمُكْرَهِ جَائِزٌ ، وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : أَرْبَعٌ وَاجِبَاتٌ عَلَى مَنْ تَكَلَّمَ بِهِنَّ : الطَّلَاقُ ، وَالْعَتَاقُ ، وَالنِّكَاحُ ، وَالنَّذْرُ يَعْنِي النَّذْرَ الْمُرْسَلَ إذْ الْيَمِينُ بِالنَّذْرِ يَمِينٌ ، وَبِهِ نَأْخُذُ ، فَنَقُولُ : هَذَا كُلُّهُ جَائِزٌ لَازِمٌ إنْ كَانَ جَادًّا فِيهِ ، أَوْ هَازِلًا أُكْرِهَ عَلَيْهِ ، أَوْ لَمْ يُكْرَهْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَمَدُ تَمَامُ الرِّضَا ، وَلَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ وُقُوعِهِ ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : ثَلَاثٌ لَا لَعِبَ فِيهِنَّ : الطَّلَاقُ ، وَالْعَتَاقُ ، وَالصَّدَقَةُ يَعْنِي النَّذْرَ بِالصَّدَقَةِ ، وَمُرَادُهُ أَنَّ الْهَزْلَ ، وَالْجِدَّ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ سَوَاءٌ ، فَالْهَازِلُ لَاعِبٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُرِيدُ بِالْكَلَامِ غَيْرَ مَا وُضِعَ لَهُ الْكَلَامُ .
وَذُكِرَ نَظِيرَهُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : ثَلَاثٌ لَا لَعِبَ بِهِنَّ ، وَاللَّعِبُ فِيهِنَّ جِدٌّ النِّكَاحُ ، وَالطَّلَاقُ ، وَالْعَتَاقُ ، وَعَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : ثَلَاثٌ لَيْسَ فِيهِنَّ لَعِبٌ : الطَّلَاقُ ، وَالنِّكَاحُ ، وَالْعَتَاقُ ، وَأَيَّدَ هَذَا كُلَّهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ الطَّلَاقُ ، وَالرَّجْعَةُ ، وَالنِّكَاحُ } ، وَإِنَّمَا ، أَوْرَدَ هَذِهِ الْآثَارَ لِيَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ الْمُكْرَهِ ، فَلِلْوُقُوعِ حُكْمُ الْجِدِّ مِنْ الْكَلَامِ ، وَالْهَزْلُ ضِدُّ الْجِدِّ ، ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَمْتَنِعْ الْوُقُوعُ مَعَ وُجُودِ مَا يُضَادُّ الْجِدَّ ، فَلَأَنْ لَا يَمْتَنِعَ الْوُقُوعُ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُضَادُّ الْجِدَّ ، فَإِنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى الْجِدِّ ، وَأَجَابَ إلَى ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا ضِدُّ الْإِكْرَاهِ

الرِّضَا ، فَيَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْبَيِّنَةِ لُزُومُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مَعَ الْإِكْرَاهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْتَنِعْ لُزُومُهَا بِمَا هُوَ ضِدُّ الْجِدِّ ، فَلَأَنْ لَا يَمْتَنِعَ لُزُومُهَا مَعَ جِدٍّ أَقْدَمَ عَلَيْهِ عَنْ إكْرَاهٍ أَوْلَى ، وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَرْبَعٌ مُبْهَمَاتٌ مُقْفَلَاتٌ لَيْسَ فِيهِنَّ رَدُّ يَدٍ الطَّلَاقُ ، وَالْعَتَاقُ ، وَالنِّكَاحُ ، وَالنَّذْرُ ، وَقَوْلُهُ مُبْهَمَاتٌ أَيْ وَاقِعَاتٌ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ فِي اللُّزُومِ مُكْرَهًا كَانَ الْمُوقِعُ أَوْ طَائِعًا يُقَالُ : فَرَسُ بَهِيمٍ إذَا كَانَ عَلَى لَوْنٍ وَاحِدٍ ، وَقَوْلُهُ مُقْفَلَاتٌ أَيْ لَازِمَاتٌ لَا تَحْتَمِلُ الرَّدَّ بِسَبَبِ الْعُذْرِ ، وَقَدْ بَيَّنَّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : لَيْسَ فِيهِنَّ رَدُّ يَدٍ ، وَعَنْ الشَّعْبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إذَا أَجْبَرَ السُّلْطَانُ عَلَى الطَّلَاقِ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَإِنْ كَانَ لِصًّا فَلَا شَيْءَ ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : الْإِكْرَاهُ يَتَحَقَّقُ مِنْ السُّلْطَانِ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْ غَيْرِهِ ، ثُمَّ ظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ الْمُكْرِهَ عَلَى الطَّلَاقِ إذَا كَانَ سُلْطَانًا يَقَعُ ، وَلَا يَقَعُ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ إذَا كَانَ الْمُكْرِهُ لِصًّا ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : مُرَادُهُ بَيَانُ الْوُقُوعِ بِطَرِيقِ التَّشْبِيهِ يَعْنِي أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الطَّلَاقِ ، وَإِنْ كَانَ سُلْطَانًا فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ جَائِزٌ فَإِذَا كَانَ لِصًّا ، أَوْلَى أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا ؛ لِأَنَّ إكْرَاهِ اللِّصِّ لَيْسَ بِشَيْءٍ .
وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَا : كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ ، وَالْمَعْتُوهِ ، وَإِنَّمَا اُسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِمَا عَلَى وُقُوعِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ ؛ لِأَنَّهُمَا حَكَمَا بِلُزُومِ كُلِّ طَلَاقٍ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ ، وَالْمَعْتُوهِ ، وَالْمُكْرَهُ لَيْسَ بِصَبِيٍّ ، وَلَا مَعْتُوهٍ ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَاهُمَا لِبَقَاءِ الْأَهْلِيَّةِ ، وَالْخِطَابِ مَعَ الْإِكْرَاهِ ، وَعَنْ الزُّهْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ فَتًى أَسْوَدَ كَانَ

مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَكَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ ، فَبَعَثَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلًا يَسْعَى عَلَى الصَّدَقَةِ ، وَقَالَ لَهُ : اذْهَبْ بِهَذَا الْغُلَامِ مَعَك يَرْعَ غَنَمَك ، وَيُعِنْك ، فَتُعْطِيَهُ مِنْ سَهْمِك فَذَهَبَ بِالْفَتَى فَرَجَعَ ، وَقَدْ قُطِعَتْ يَدُهُ فَقَالَ : وَيْحَكَ مَالَكَ ؟ قَالَ : زَعَمُوا أَنِّي سَرَقْتُ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ الْإِبِلِ ، فَقَطَعَنِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاَللَّهِ لَئِنْ وَجَدْتُهُ قَطَعَك بِغَيْرِ حَقٍّ لِأُقِيدَنَّكَ مِنْهُ قَالَ فَلَبِثُوا مَا لَبِثُوا ، ثُمَّ إنَّ مَتَاعًا لِامْرَأَةِ أَبِي بَكْرٍ سُرِقَ ، وَذَلِكَ الْأَسْوَدُ قَائِمٌ يُصَلِّي ، فَرَفَعَ يَدَهُ إلَى السَّمَاءِ ، وَقَالَ : اللَّهُمَّ أَظْهِرْ عَلَى السَّارِقِ اللَّهُمَّ أَظْهِرْ عَلَى السَّارِقِ ، فَوَجَدُوا ذَلِكَ الْمَتَاعَ عِنْدَهُ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَيْحَكَ مَا أَجْهَلَك بِاَللَّهِ ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ ، فَقُطِعَتْ رِجْلُهُ ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قُطِعَتْ رِجْلُهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ، فَوَائِدَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ ، وَاخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ ذَكَرَ هُنَاكَ أَنَّ الْفَتَى كَانَ أَقْطَعَ الْيَدِ ، وَالرِّجْلِ ، فَقُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى ، وَهُنَا ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ أَقْطَعَ الْيَدِ ، فَقَطَعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رِجْلَهُ ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ الْحَدِيثَ هُنَا لِحَرْفٍ ، وَهُوَ قَوْلُهُ ، ( وَاَللَّهِ لَئِنْ وَجَدْتُهُ قَطَعَك بِغَيْرِ حَقٍّ لَأُقِيدَنَّكَ مِنْهُ ) وَبِهِ نَأْخُذُ ، فَنَقُولُ إذَا بَعَثَ الْخَلِيفَةُ عَامِلًا ، فَأَمَرَ رَجُلًا بِقَطْعِ يَدِ غَيْرِهِ ، أَوْ قَتَلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ ، فِعْلِهِ أَنَّ الْقِصَاصَ عَلَى الْعَامِلِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ لِأَنَّ أَمْرَ مِثْلِهِ إكْرَاهٌ ، فَإِنَّ مِنْ عَادَةِ الْعُمَّالِ أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِشَيْءٍ ، ثُمَّ يُعَاقِبُونَ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ بِالْقَتْلِ ، وَغَيْرِهِ ، وَالْفِعْلُ يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ بِمِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ }

، وَاللَّعِينُ مَا كَانَ يُبَاشِرُ حَقِيقَتَهُ ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُطَاعًا بِأَمْرِهِ ، وَالْأَمْرُ مِنْ مِثْلِهِ إكْرَاهٌ ، وَالْكَلَامُ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ .
.

، وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ اللَّهَ ، وَرَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ ، ثُمَّ تَرَكُوهُ ، فَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا وَرَاءَك ؟ قَالَ : شَرٌّ مَا تَرَكُونِي حَتَّى نِلْتُ مِنْك ، وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : فَكَيْفَ تَجِدُ قَلْبَك ؟ قَالَ : أَجِدُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنْ عَادُوا ، فَعُدْ } ، فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُجْرِيَ كَلِمَةَ الشِّرْكِ عَلَى اللِّسَانِ مُكْرَهًا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مُطْمَئِنَّ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ ، وَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ الْإِيمَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ اعْتِقَادَهُ بِمَا أَجْرَاهُ عَلَى لِسَانِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ حَالِ قَلْبِهِ ، فَلَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ لَمْ يُعَاتِبْهُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ ، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَحْمِلُونَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ، فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ } عَلَى ظَاهِرِهِ يَعْنِي إنْ عَادُوا إلَى الْإِكْرَاهِ ، فَعُدْ إلَى مَا كَانَ مِنْك مِنْ النَّيْلِ مِنِّي ، وَذِكْرِ آلِهَتِهِمْ بِخَيْرٍ ، وَهُوَ غَلَطٌ ، فَإِنَّهُ لَا يُظَنُّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَأْمُرُ أَحَدًا بِالتَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الشِّرْكِ ، وَلَكِنَّ مُرَادَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، فَإِنْ عَادُوا إلَى الْإِكْرَاهِ ، فَعُدْ إلَى طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ التَّكَلُّمَ وَإِنْ كَانَ يُرَخَّصُ لَهُ فِيهِ ، فَالِامْتِنَاعُ مِنْهُ أَفْضَلُ .
( أَلَا تَرَى ) { أَنَّ خُبَيْبَ بْنَ عَدِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا امْتَنَعَ حَتَّى قُتِلَ سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ الشُّهَدَاءِ ، وَقَالَ : هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ وَقِصَّتُهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَخَذُوهُ ، وَبَاعُوهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ، فَجَعَلُوا يُعَاقِبُونَهُ عَلَى أَنْ يَذْكُرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ ، وَيَسُبَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ يَسُبُّ آلِهَتَهُمْ ، وَيَذْكُرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْرٍ ، فَأَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ ، فَلَمَّا أَيْقَنَ أَنَّهُمْ قَاتِلُوهُ سَأَلَهُمْ أَنْ يَدَعُوهُ لِيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ ، فَأَوْجَزَ صَلَاتَهُ ، ثُمَّ قَالَ إنَّمَا أَوْجَزْتُ لِكَيْ لَا تَظُنُّوا أَنِّي أَخَافُ الْقَتْلَ ، ثُمَّ سَأَلَهُمْ أَنْ يُلْقُوهُ عَلَى وَجْهِهِ لِيَكُونَ هُوَ سَاجِدًا لِلَّهِ حِينَ يَقْتُلُونَهُ ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ ذَلِكَ ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ ، وَقَالَ اللَّهُمَّ إنِّي لَا أَرَى هُنَا إلَّا وَجْهَ عَدُوٍّ ، فَأَقْرِئْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنِّي السَّلَامَ اللَّهُمَّ احْصِ هَؤُلَاءِ عَدَدًا ، وَاجْعَلْهُمْ بَدَدًا ، وَلَا تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ : وَلَسْت أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي ، فَلَمَّا قَتَلُوهُ ، وَصَلَبُوهُ تَحَوَّلَ ، وَجْهُهُ إلَى الْقِبْلَةِ ، وَجَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْرِئُهُ سَلَامَ خُبَيْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ ، وَقَالَ هُوَ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ ، وَهُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ } ، فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الِامْتِنَاعَ أَفْضَلُ .
وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا فِي قَوْله تَعَالَى { مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ } قَالَ ذَلِكَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } { عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَرْحٍ ، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ ، وَأَكْرَهُوهُ عَلَى مَا أَكْرَهُوا عَلَيْهِ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ

عَنْهُ أَجَابَهُمْ إلَى ذَلِكَ مُعْتَقِدًا ، فَأَكْرَمُوهُ ، وَكَانَ مَعَهُمْ إلَى أَنْ فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ ، فَجَاءَ بِهِ عُثْمَانُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ أَنْ يُبَايِعَهُ ، وَفِيهِ قِصَّةٌ ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { ، وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } } ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ إذَا بَدَّلَ الِاعْتِقَادَ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ مُكْرَهًا كَانَ ، أَوْ طَائِعًا ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَى تَبْدِيلِ الِاعْتِقَادِ ، فَإِنَّهُ لَا اطِّلَاعَ لِأَحَدٍ مِنْ الْعِبَادِ عَلَى اعْتِقَادِهِ ، وَهُوَ الْمُرَادُ أَيْضًا مِنْ قَوْله تَعَالَى { مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ } ، فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { إلَّا مَنْ أُكْرِهَ ، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ } ، فَهُوَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا قِصَّتَهُ ، وَعَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ الشَّعْبِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ الرَّجُلِ يَأْمُرُ عَبْدَهُ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا قَالَ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : قَائِلٌ : يُقْتَلُ الْعَبْدُ ، وَآخَرُ قَالَ : يُقْتَلُ الْمَوْلَى ، وَالْعَبْدُ ، وَآخَرُ قَالَ : يُقْتَلُ الْمَوْلَى ، وَالْمُرَادُ بَيَانُ حُكْمِ الْقِصَاصِ عِنْدَ الْقَتْلِ مُكْرَهًا أَنَّهُ عَلَى مَنْ يَجِبُ ، فَإِنَّ أَمْرَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِكْرَاهِ ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ إنْ خَالَفَ أَمْرَهُ كَأَمْرِ السُّلْطَانِ فِي حَقِّ رَعِيَّتِهِ ، ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ الْقَوْلَ الرَّابِعَ ، وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ لَمْ يَكُنْ فِي السَّلَفِ ، وَإِنَّمَا سَبَقَ بِهِ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَاسْتَحْسَنَهُ ، وَبَيَانُ الْمَسْأَلَةِ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ .
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ أَنَّ الْمُفْتِيَ لَا يَقْطَعُ الْجَوَابَ عَلَى شَيْءٍ ، وَلَكِنْ يَذْكُرُ أَقَاوِيلَ الْعُلَمَاءِ فِي الْحَادِثَةِ كَمَا ، فَعَلَهَا الشَّعْبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَلَكِنْ هَذَا إذَا كَانَ الْمُسْتَفْتِي مِمَّنْ يُمْكِنُهُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ

الْأَقَاوِيلِ ، وَيُرَجِّحُ بَعْضَهَا عَلَى الْبَعْضِ ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ ، فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ بِبَيَانِ أَقَاوِيلِ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، فَلَا بُدَّ لِلْمُفْتِي مِنْ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ أَصَحَّ الْأَقَاوِيلِ عِنْدَهُ لِلْأَخْذِ بِهِ ، وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ التَّقِيَّةُ جَائِزَةٌ لِلْمُؤْمِنِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يَجْعَلُ فِي الْقَتْلِ تَقِيَّةً ، وَبِهِ نَأْخُذُ .
، وَالتَّقِيَّةُ أَنْ يَقِيَ نَفْسَهُ مِنْ الْعُقُوبَةِ بِمَا يُظْهِرُهُ ، وَإِنْ كَانَ يُضْمِرُ خِلَافَهُ ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ يَأْبَى ذَلِكَ ، وَيَقُولُ : إنَّهُ مِنْ النِّفَاقِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } ، وَإِجْرَاءُ كَلِمَةِ الشِّرْكِ عَلَى اللِّسَانِ مُكْرَهًا مَعَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ مِنْ بَابِ التَّقِيَّةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِيهِ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَّا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ التَّقِيَّةِ يَجُوزُ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَالرُّسُلِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، فَأَمَّا فِي حَقِّ الْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ ، فَمَا كَانَ يَجُوزُ ذَلِكَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى أَصْلِ الدَّعْوَةِ إلَى الدِّينِ الْحَقِّ ، وَقَدْ جَوَّزَهُ بَعْضُ الرَّوَافِضِ لَعَنَهُمْ اللَّهُ ، وَلَكِنَّ تَجْوِيزَ ذَلِكَ مُحَالٌ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا يَقْطَعَ الْقَوْلَ بِمَا هُوَ شَرِيعَةٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ أَوْ فَعَلَهُ تَقِيَّةً ، وَالْقَوْلُ بِهَذَا مُحَالٌ ، وَقَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يَجْعَلُ فِي الْقَتْلِ تَقِيَّةً : يَعْنِي إذَا أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ طَاعَةِ الْمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ ، وَإِيثَارِ رُوحِهِ عَلَى رُوحِ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي الْحُرْمَةِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ عِظَمُ حُرْمَةِ الْمُؤْمِنِ ؛ لِأَنَّ الشِّرْكَ بِاَللَّهِ أَعْظَمُ الْأَشْيَاءِ وِزْرًا ،

وَأَشَدُّهَا تَحْرِيمًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرُنَّ مِنْهُ } إلَى قَوْلِهِ عَزَّ ، وَجَلَّ { أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ ، وَلَدًا } ، ثُمَّ يُبَاحُ لَهُ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ وَلَا يُبَاحُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقَتْلِ فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ فِيهِ يَتَبَيَّنُ عِظَمُ حُرْمَةِ الْمُؤْمِنِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ مُرَادُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ لَيْسَ بِالْيَدِ يَعْنِي الْقَتْلَ ، وَالتَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ هُوَ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ مُكْرَهًا ، وَعَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : فِتْنَةُ السَّوْطِ أَشَدُّ مِنْ فِتْنَةِ السَّيْفِ قَالُوا لَهُ : وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ إنَّ الرَّجُلَ لَيُضْرَبُ بِالسَّوْطِ حَتَّى يَرْكَبَ الْخَشَبَ يَعْنِي الَّذِي يُرَادُ صَلْبُهُ يُضْرَبُ بِالسَّوْطِ حَتَّى يَصْعَدَ السُّلَّمَ ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ مَا يُرَادُ بِهِ إذَا صَعِدَ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْإِكْرَاهَ كَمَا يَتَحَقَّقُ بِالتَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ يَتَحَقَّقُ بِالتَّهْدِيدِ بِالضَّرْبِ الَّذِي يَخَافُ مِنْهُ التَّلَفَ ، وَالْمُرَادُ بِالْفِتْنَةِ الْعَذَابُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ } ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : إنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ ، وَالْمُؤْمِنَاتِ } أَيْ عَذَّبُوهُمْ ، فَمَعْنَاهُ عَذَابُ السَّوْطِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ السَّيْفِ ؛ لِأَنَّ الْأَلَمَ فِي الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ يَكُونُ فِي سَاعَتِهِ ، وَتَوَالِي الْأَلَمِ فِي الضَّرْبِ بِالسَّوْطِ إلَى أَنْ يَكُونَ آخِرَهُ الْمَوْتُ ، وَقَدْ { كَانَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِمَّنْ يَسْتَعْمِلُ التَّقِيَّةَ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ يُدَارِي رَجُلًا ، فَقِيلَ لَهُ : إنَّك مُنَافِقٌ ، فَقَالَ لَا ، وَلَكِنِّي أَشْتَرِي دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ مَخَافَةَ أَنْ يَذْهَبَ كُلُّهُ ، وَقَدْ اُبْتُلِيَ بِبَعْضِ ذَلِكَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَخَذُوهُ ، وَاسْتَحْلَفُوهُ عَلَى أَنْ لَا يَنْصُرَ رَسُولَ اللَّهِ فِي غَزْوَةٍ ، فَلَمَّا تَخَلَّصَ مِنْهُمْ جَاءَ إلَى

رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْفِ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ ، وَنَحْنُ نَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ عَلَيْهِمْ } ، وَذَكَرَ عَنْ مَسْرُوقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : بَعَثَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِتَمَاثِيلَ مِنْ صُفْرٍ تُبَاعُ بِأَرْضِ الْهِنْدِ ، فَمُرَّ بِهَا عَلَى مَسْرُوقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : وَاَللَّهِ لَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ يَقْتُلُنِي لَغَرَّقْتُهَا ، وَلَكِنِّي أَخَافُ أَنْ يُعَذِّبَنِي ، فَيَفْتِنَنِي ، وَاَللَّهِ لَا أَدْرِي أَيَّ الرَّجُلَيْنِ مُعَاوِيَةُ رَجُلٌ قَدْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ، أَوْ رَجُلٌ قَدْ يَئِسَ مِنْ الْآخِرَةِ ، فَهُوَ يَتَمَتَّعُ فِي الدُّنْيَا ، وَقِيلَ هَذِهِ تَمَاثِيلُ كَانَتْ أُصِيبَتْ فِي الْغَنِيمَةِ ، فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِبَيْعِهَا بِأَرْضِ الْهِنْدِ لِيَتَّخِذَ بِهَا الْأَسْلِحَةَ ، وَالْكُرَاعَ لِلْغُزَاةِ ، فَيَكُونُ دَلِيلًا لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي جَوَازِ بَيْعِ الصَّنَمِ ، وَالصَّلِيبِ مِمَّنْ يَعْبُدُهُ كَمَا هُوَ طَرِيقَةُ الْقِيَاسِ .
وَقَدْ اسْتَعْظَمَ ذَلِكَ مَسْرُوقٌ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا هُوَ طَرِيقُ الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي كَرَاهَةِ ذَلِكَ وَمَسْرُوقٌ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ ، وَكَانَ يُزَاحِمُ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الْفَتْوَى ، وَقَدْ رَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ إلَى قَوْلِهِ فِي مَسْأَلَةِ النَّذْرِ بِذَبْحِ الْوَلَدِ ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا قَوْلُ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْلِهِ ، وَقَدْ كَانُوا فِي الْمُجْتَهَدَاتِ يُلْحِقُ بَعْضُهُمْ الْوَعِيدَ بِالْبَعْضِ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَقَحَّمَ جَرَاثِيمَ جَهَنَّمَ ، فَلْيَقُلْ فِي الْحَدِيثِ يَعْنِي بِقَوْلِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِمَسْرُوقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ فِي مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا قَالَ عَنْ اعْتِقَادٍ ، وَقَدْ كَانَ هُوَ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَكَانَ

كَاتِبَ الْوَحْيِ ، وَكَانَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَقَدْ أَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ ، فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمًا إذَا مَلَكْتَ أَمَرَ أُمَّتِي ، فَأَحْسِنْ إلَيْهِمْ إلَّا أَنَّ نَوْبَتَهُ كَانَتْ بَعْدَ انْتِهَاءِ نَوْبَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَمَضَى مُدَّةُ الْخِلَافَةِ ، فَكَانَ هُوَ مُخْطِئًا فِي مُزَاحَمَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَارِكًا لِمَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ مِنْ الِانْقِيَادِ لَهُ ؛ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا ، وَيُحْكَى أَنَّ أَبَا بَكْرِ مُحَمَّدَ بْنَ الْفَضْلِ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ يَنَالُ مِنْهُ فِي الِابْتِدَاءِ ، فَرَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّ شَعْرَةً تَدَلَّتْ مِنْ لِسَانِهِ إلَى مَوْضِعِ قَدَمِهِ ، فَهُوَ يَطَؤُهَا ، وَيَتَأَلَّمُ مِنْ ذَلِكَ ، وَيَقْطُرُ الدَّمُ مِنْ لِسَانِهِ ، فَسَأَلَ الْمُعَبِّرَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إنَّك تَنَالُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِيَّاكَ ، ثُمَّ إيَّاكَ .
وَقَدْ قِيلَ : فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ أَيْضًا أَنَّ تِلْكَ التَّمَاثِيلَ كَانَتْ صِغَارًا لَا تَبْدُو لِلنَّاظِرِ مِنْ بُعْدٍ ، وَلَا بَأْسَ بِاِتِّخَاذِ مِثْلِ ذَلِكَ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ وُجِدَ خَاتَمُ دَانْيَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ عَلَيْهِ نَقْشُ رَجُلٍ بَيْنَ أَسَدَيْنِ يَلْحَسَانِهِ ، وَكَانَ عَلَى خَاتَمِ أَبِي هُرَيْرَةَ ذُبَابَتَانِ ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِاِتِّخَاذِ مَا صَغُرَ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَكِنَّ مَسْرُوقًا رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ يُبَالِغُ فِي الِاحْتِيَاطِ ، فَلَا يَجُوزُ اتِّخَاذُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَا بَيْعُهُ ، ثُمَّ كَانَ تَغْرِيقُ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ عِنْدَهُ ، وَقَدْ تَرَكَ ذَلِكَ مَخَافَةً عَلَى نَفْسِهِ ، وَفِيهِ تَبْيِينُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِ التَّقِيَّةِ ، وَأَنَّهُ يُرَخَّصُ لَهُ فِي تَرْكِ بَعْضِ مَا هُوَ فَرْضٌ عِنْدَ خَوْفِ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَمَقْصُودُهُ مِنْ إيرَادِ الْحَدِيثِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ التَّعْذِيبَ بِالسَّوْطِ يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ كَمَا يَتَحَقَّقُ فِي

الْقَتْلِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ لَوْ عَلِمْتُ أَنَّهُ يَقْتُلُنِي لَغَرَّقْتهَا ، وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ يُعَذِّبَنِي ، فَيَفْتِنَنِي ، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ فِتْنَةَ السَّوْطِ أَشَدُّ مِنْ فِتْنَةِ السَّيْفِ .
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : لَا جُنَاحَ عَلَيَّ فِي طَاعَةِ الظَّالِمِ إذَا أَكْرَهَنِي عَلَيْهَا ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بَيَانَ جَوَازِ التَّقِيَّةِ فِي إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ إذَا أَكْرَهَهُ الْمُشْرِكُ عَلَيْهَا ، فَالظَّالِمُ هُوَ الْكَافِرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ } ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ طَاعَةَ الظَّالِمِ فِي الْقَتْلِ ؛ لِأَنَّ الْإِثْمَ عَلَى الْمُكْرَهِ فِي الْقَتْلِ لَا يَنْدَفِعُ بِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ بَلْ إذَا قَدِمَ عَلَى الْقَتْلِ كَانَ آثِمًا إثْمَ الْقَتْلِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَلَوْ أَنَّ لُصُوصًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ غَيْرِ الْمُتَأَوِّلِينَ ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ تَجَمَّعُوا ، فَغَلَبُوا عَلَى مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَمِيرًا ، فَأَخَذُوا رَجُلًا ، فَقَالُوا لَنَقْتُلَنَّكَ أَوْ لَتَشْرَبَنَّ هَذَا الْخَمْرَ ، أَوْ لَتَأْكُلَنَّ هَذِهِ الْمَيْتَةَ ، أَوْ لَحْمَ هَذَا الْخِنْزِيرِ ، فَفَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَنَا فِي سَعَةٍ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ثَابِتَةٌ بِالشَّرْعِ ، وَهِيَ مَفْسَدَةٌ بِحَالَةِ الِاخْتِيَارِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَثْنَى حَالَةَ الضَّرُورَةِ مِنْ التَّحْرِيمِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ } ، وَالْكَلَامُ الْمُقَيَّدُ بِالِاسْتِثْنَاءِ يَكُونُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى ، فَظَهَرَ أَنَّ التَّحْرِيمَ مَخْصُوصٌ بِحَالَةِ الِاخْتِيَارِ ، وَقَدْ تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ هُنَا لِخَوْفِ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ ، فَالْتَحَقَتْ هَذِهِ الْأَعْيَانُ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ بِسَائِرِ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ ، فَكَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ التَّنَاوُلِ مِنْهَا ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ حَتَّى يُقْتَلَ كَانَ آثِمًا ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ آثِمًا ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِيمَنْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ ، فَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْ الْمَيْتَةِ حَتَّى مَاتَ ، فَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ آثِمًا ، وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَكُونُ آثِمًا ، فَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْإِثْمَ يَنْتَفِي عَنْ الْمُضْطَرِّ ، وَلَا تَنْكَشِفُ الْحُرْمَةُ بِالضَّرُورَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } ، وَقَالَ تَعَالَى { : فَمَنْ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
وَهَذَا لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِصِفَةِ أَنَّهَا مَيْتَةٌ ، أَوْ خَمْرٌ ، وَبِالضَّرُورَةِ لَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ ، فَإِذَا امْتَنَعَ كَانَ امْتِنَاعُهُ مِنْ الْحَرَامُ ، فَلَا يَكُونُ آثِمًا فِيهِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْحُرْمَةَ لَا

تَتَنَاوَلُ حَالَةَ الضَّرُورَةِ ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَثْنَاةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ } ، فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ : يَصِيرُ الْكَلَامُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى ، وَقَدْ كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ التَّحْرِيمِ فَبَقِيَ عَلَى مَا كَانَ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ ، أَوْ يُقَالَ : الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ التَّحْرِيمِ إبَاحَةٌ ، وَإِذَا ثَبَتَتْ الْإِبَاحَةُ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ ، فَامْتِنَاعُهُ مِنْ التَّنَاوُلِ حَتَّى تَلِفَ كَامْتِنَاعِهِ مِنْ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ الْحَلَالِ حَتَّى تَلِفَتْ نَفْسُهُ ، فَيَكُونُ آثِمًا فِي ذَلِكَ ، وَصِفَةُ الْخَمْرِيَّةِ تُوجِبُ الْحُرْمَةَ لِمَعْنَى الرِّفْقِ بِالْمُتَنَاوِلِ ، وَهُوَ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ اسْتِعْمَالِ عَقْلِهِ ، وَيَصُدَّهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ، وَعَنْ الصَّلَاةِ ، وَكَذَلِكَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ لِمَا فِي طَبْعِ الْخِنْزِيرِ مِنْ الِانْتِهَابِ ، وَلِلْغِذَاءِ أَثَرٌ فِي الْخَلْقِ ، وَالرِّفْقُ هُنَا فِي الْإِبَاحَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ الْبَعْضِ أَهْوَنُ مِنْ إتْلَافِ الْكُلِّ ، وَفِي الِامْتِنَاعِ مِنْ التَّنَاوُلِ هَلَاك الْكُلُّ ، فَتَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْعَدَ بِقَطْعِ عُضْوٍ ، أَوْ بِضَرْبِ مِائَةِ سَوْطٍ ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا مِمَّا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ ، أَوْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْأَعْضَاءِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمُضْطَرَّ كَمَا لَا يُبَاحُ لَهُ قَتْلُ الْإِنْسَانِ لِيَأْكُلَ مِنْ لَحْمِهِ لَا يُبَاحُ لَهُ قَطْعُ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ ، وَالضَّرْبُ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ بِمَنْزِلَةِ الْقَتْلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ فِتْنَةَ السَّوْطِ أَشَدُّ مِنْ فِتْنَةِ السَّيْفِ ، وَالْأَعْضَاءُ فِي هَذَا سَوَاءٌ حَتَّى لَوْ أَوْعَدَهُ بِقَطْعِ أُصْبُعٍ ، أَوْ أُنْمُلَةٍ يَتَحَقَّقُ بِهِ الْإِلْجَاءُ ، فَكُلّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ بِاحْتِرَامِ النَّفْسِ تَبَعًا لَهَا ، وَلَوْ أَوْعَدَهُ بِضَرْبِ سَوْطٍ ، أَوْ سَوْطَيْنِ لَمْ يَسَعْهُ تَنَاوُلُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلَا عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ بِمَا هَدَّدَهُ بِهِ

إنَّمَا يَغُمُّهُ ذَلِكَ ، أَوْ يُؤْلِمُهُ أَلَمًا يَسِيرًا ، وَالْإِلْجَاءُ لَا يَتَحَقَّقُ بِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ بِالْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ ، وَالْقَيْدِ لَا يَتَحَقَّقُ الْإِلْجَاءُ حَتَّى لَا يُبَاحَ لَهُ تَنَاوُلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ، وَالْغَمُّ الَّذِي يُصِيبُهُ بِالْحَبْسِ رُبَّمَا يَزِيدُ عَلَى مَا يُصِيبُهُ بِضَرْبِ سَوْطٍ ، أَوْ سَوْطَيْنِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْجُهَّالَ يَتَهَازَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِهَذَا الْمِقْدَارِ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ ضَرْبٍ لَا يَخَافُ مِنْهُ تَلَفَ نَفْسٍ ، أَوْ ذَهَابَ عُضْوٍ فِي أَكْثَرِ الرَّأْيِ ، وَمَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ ؛ لِأَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ يُقَامُ مُقَامَ الْحَقِيقَةِ فِيمَا لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَتِهِ حَقِيقَةً ، قَالَ : وَقَدْ وَقَّتَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ أَدْنَى الْحُدُودِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا ، فَإِنْ هُدِّدَ بِأَقَلَّ مِنْهَا لَمْ يَسَعْهُ الْإِقْدَامُ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ مَشْرُوعٌ بِطَرِيقِ التَّعْزِيرِ ، وَالتَّعْزِيرُ يُقَامُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ زَاجِرًا لَا مُتْلِفًا ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : نَصْبُ الْمِقْدَارِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ ، وَلَا نَصَّ فِي التَّقْدِيرِ هُنَا ، وَأَحْوَالُ النَّاسِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ تَحَمُّلِ أَبْدَانِهِمْ لِلضَّرْبِ ، وَخِلَافِهِ ، فَلَا طَرِيقَ سِوَى رُجُوعِ الْمُكْرَهِ إلَى غَالِبِ رَأْيِهِ ، فَإِنْ وَقَعَ فِي غَالِبِ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَا تَتْلَفُ بِهِ نَفْسُهُ ، وَلَا عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ لَا يَصِيرُ مُلْجَأً ، وَإِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ التَّلَفَ مِنْهُ يَصِيرُ مُلْجَأً .
وَإِنْ كَانَ التَّهْدِيدُ بِعَشَرَةِ أَسْوَاطٍ ، وَهَكَذَا نَقُولُ فِي التَّعْزِيرِ لِلْإِمَامِ أَنْ يَبْلُغَ بِالتَّعْزِيرِ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ سَوْطًا إذَا كَانَ فِي أَكْثَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَا يُتْلِفُ بِهِ نَفْسَهُ ، وَلَا عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ تَغَلَّبَ هَؤُلَاءِ اللُّصُوصُ عَلَى بَلَدٍ ، وَلَكِنَّهُمْ أَخَذُوا رَجُلًا فِي طَرِيقٍ ، أَوْ مِصْرٍ لَا يَقْدِرُ فِيهَا عَلَى غَوْثٍ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ خَوْفُهُ التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَذَلِكَ بِتَمَكُّنِهِمْ مِنْ إيقَاعِ مَا هَدَّدُوهُ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَحْضُرَ الْغَوْثُ

، وَلَوْ تَوَعَّدُوهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِحَبْسِ سَنَةٍ ، أَوْ بِقَيْدِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْنَعُوهُ طَعَامًا ، وَلَا شَرَابًا لَمْ يَسَعْهُ الْإِقْدَامُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ ، وَالْقَيْدَ يُوجِبُ الْهَمَّ ، وَالْحَزَنَ ، وَلَا يُخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسٍ ، وَلَا عُضْوٍ ، وَلِدَفْعِ الْحَزَنِ لَا يَسَعُهُ تَنَاوُلُ الْحَرَامِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَقْصِدُ بِشُرْبِهَا دَفْعَ الْهَمِّ ، وَالْحَزَنِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَوْ تَحَقَّقَ الْإِلْجَاءُ بِالْحَبْسِ لَتَحَقَّقَ بِحَبْسِ يَوْمٍ ، أَوْ نَحْوِهِ ، وَذَلِكَ بَعِيدٌ ، وَإِنْ قَالُوا لَنُجِيعَنَّكَ أَوْ لَتَفْعَلَنَّ بَعْضَ مَا ذَكَرْنَا لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ حَتَّى يَجِيءَ مِنْ الْجُوعِ مَا يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ ؛ لِأَنَّ الْجُوعَ شَيْءٌ يُهَيِّجُ مِنْ طَبْعِهِ ، وَبَادِي الْجُوعِ لَا يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ إنَّمَا يُخَافُ التَّلَفُ عِنْدَ نِهَايَةِ الْجُوعِ بِأَنْ تَخْلُوَ الْمَعِدَةُ عَنْ مَوَادِّ الطَّعَامِ فَتَحْتَرِقَ ، وَشَيْءٌ مِنْهُ لَا يُوجَدُ عِنْدَ أَدْنَى الْجُوعِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْإِكْرَاهَ فِي هَذَا مُعْتَبَرٌ بِالضَّرُورَةِ ، وَالْمُضْطَرُّ الَّذِي يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْعَطَشِ ، وَالْجُوعِ يُبَاحُ لَهُ تَنَاوُلُ الْمَيْتَةِ ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ ، وَلَا يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَدْنَى الْجُوعِ مَا لَمْ يَخَفْ التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ إذَا هَدَّدُوهُ بِضَرْبِ سَوْطٍ فَإِنَّ هُنَاكَ يُبَاحُ لَهُ التَّنَاوُلُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَصْبِرَ إلَى أَنْ يَبْلُغَ الضَّرْبُ حَدًّا يَخَافُ مِنْهُ التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ فِعْلُ الْغَيْرِ بِهِ ، فَيَنْظُرُ إلَى مَا هَدَّدَهُ بِهِ ، فَإِذَا كَانَ يَخَافُ مِنْهُ التَّلَفَ يُبَاحُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ إيقَاعِ مَا هَدَّدَهُ بِهِ يُجْعَلُ كَحَقِيقَةِ الْإِيقَاعِ ، وَالرُّجُوعُ هُنَا يُهَيِّجُ مِنْ طَبْعِهِ ، وَلَيْسَ هُوَ فِعْلُ الْغَيْرِ بِهِ ، فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْقَدْرُ الْمَوْجُودُ مِنْهُ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا كَانَ يَعْلَمُ

أَنَّ الْجُوعَ صَارَ بِحَيْثُ يَخَافُ مِنْهُ التَّلَفَ ، وَأَرَادَ أَنْ يَتَنَاوَلَ مَكَّنُوهُ مِنْ ذَلِكَ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ صَبَرَ إلَى تِلْكَ الْحَالَةِ ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتَنَاوَلَ لَمْ يُمَكِّنُوهُ مِنْ ذَلِكَ ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ إلَّا إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ حَالُهُ إلَى ذَلِكَ ، فَحِينَئِذٍ لَا يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ بِأَدْنَى الْجُوعِ قَالَ : وَكُلُّ شَيْءٍ جَازَ لَهُ فِيهِ تَنَاوُلُ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْإِكْرَاهِ ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ عِنْدَنَا الْكُفْرُ بِاَللَّهِ إذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ ، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ، وَهَذَا يَجُوزُ فِي الْعِبَادَةِ ، فَإِنَّ حُرْمَةَ الْكُفْرِ حُرْمَةٌ ثَابِتَةٌ مُضَمَّنَةٌ لَا تَنْكَشِفُ بِحَالٍ ، وَلَكِنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الشِّرْكِ عَلَى اللِّسَانِ مَعَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ ؛ لِأَنَّ الْإِلْجَاءَ قَدْ تَحَقَّقَ ، وَالرُّخْصَةُ فِي إجْرَاءِ كَلِمَةِ الشِّرْكِ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ الْمُلْجَأِ بِشَرْطِ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ إلَّا أَنَّ هُنَا إنْ امْتَنَعَ كَانَ مُثَابًا عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بَاقِيَةٌ ، فَهُوَ فِي الِامْتِنَاعِ مُتَمَسِّكٌ بِالْعَزِيمَةِ ، وَالْمُتَمَسِّكُ بِالْعَزِيمَةِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُتَرَخِّصِ بِالرُّخْصَةِ قَالَ : وَقَدْ بَلَغَنَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : مَا مِنْ كَلَامٍ أَتَكَلَّمُ بِهِ يَدْرَأُ عَنِّي ضَرْبَتَيْنِ بِسَوْطِ غَيْرِ ذِي سُلْطَانٍ إلَّا كُنْت مُتَكَلِّمًا بِهِ ، وَإِنَّمَا نَضَعُ هَذَا عَلَى الرُّخْصَةِ فِيمَا فِيهِ الْأَلَمُ الشَّدِيدُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ سَوْطَيْنِ ، فَأَمَّا أَنْ يَقُولَ السَّوْطَانِ اللَّذَانِ لَا يُخَافُ مِنْهُمَا تَلَفٌ يُوجِبَانِ الرُّخْصَةَ لَهُ فِي إجْرَاءِ كَلِمَةِ الشِّرْكِ ، فَهَذَا مِمَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنُّ بِعَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَّا تَصَرُّفُ هَذَا اللَّفْظِ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْمَثَلِ ، فَلِبَيَانِ الرُّخْصَةِ عِنْدَ خَوْفِ التَّلَفِ ، وَقِيلَ السَّوْطَانِ فِي حَقِّهِ كَانَ يُخَافُ مِنْهُمَا التَّلَفُ لِضَعْفِ

نَفْسِهِ ، فَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ { صَعِدَ شَجَرَةً يَوْمًا ، فَضَحِكَتْ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَضْحَكُوا ، فَهُمَا ثَقِيلَانِ فِي الْمِيزَانِ } .
وَلَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ اللُّصُوصَ قَالُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِلرَّجُلِ ، وَالرَّجُلُ لَا يَرَى أَنَّهُمْ يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ لَمْ يَسَعْهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْمُحَرَّمِ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ خَوْفُ التَّلَفِ ، وَلَا يَصِيرُ خَائِفًا التَّلَفَ إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ هَدَّدُوهُ بِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَتِهِ حَقِيقَةً يُعْتَبَرُ فِيهِ غَالِبُ الرَّأْيِ ، فَإِنْ كَانَ لَا يَخَافُ أَنْ يُقْدِمُوا عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ حَتَّى يُعَاوِدُوهُ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يُعَاوِدُوهُ ، وَهَذَا عَلَى مَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّك لَوْ رَأَيْت رَجُلًا يَنْقُبُ عَلَيْك دَارَك مِنْ خَارِجٍ ، أَوْ دَخَلَ عَلَيْك لَيْلًا مِنْ الثُّقْبِ بِالسَّيْفِ ، وَخِفْت إنْ أَنْذَرْتَهُ يَضْرِبُكَ ، وَكَانَ عَلَى أَكْثَرِ رَأْيِك ذَلِكَ وَسِعَك أَنْ تَقْتُلَهُ قَبْلَ أَنْ تُعْلِمَهُ إذَا خِفْت أَنْ يَسْبِقَك إنْ أَعْلَمْته ، وَفِي هَذَا إتْلَافُ نَفْسٍ ، ثُمَّ أَجَازَ الِاعْتِمَادَ عَلَى غَالِبِ الرَّأْيِ لِتَعَذُّرِ الْوُقُوعِ عَلَى حَقِيقَتِهِ ، فَكَذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ .

، وَلَوْ هَدَّدُوهُ بِقَتْلٍ ، أَوْ إتْلَافِ عُضْوٍ ، أَوْ بِحَبْسٍ ، أَوْ قَيْدٍ لِيُقِرَّ لِهَذَا الرَّجُلِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ لَهُ بِهِ ، فَالْإِقْرَارُ بَاطِلٌ أَمَّا إذَا هَدَّدُوهُ بِمَا يَخَافُ مِنْهُ التَّلَفَ ، فَهُوَ مُلْجَأٌ إلَى الْإِقْرَارِ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ ، وَالْإِقْرَارُ خَبَرٌ مُتَمَيِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ ، وَالْكَذِبِ ، فَإِنَّمَا يُوجِبُ الْحَقَّ بِاعْتِبَارِ رُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِالْإِلْجَاءِ ، وَكَذَلِكَ إنْ هَدَّدُوهُ بِحَبْسٍ ، أَوْ قَيْدٍ ؛ لِأَنَّ الرِّضَا يَنْعَدِمُ بِالْحَبْسِ ، وَالْقَيْدِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْهَمِّ ، وَالْحَزَنِ بِهِ ، وَانْعِدَامُ الرِّضَا يَمْنَعُ تَرْجِيحَ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي إقْرَارِهِ ، ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِكْرَاهَ نَظِيرُ الْهَزْلِ ، وَمَنْ هَزَلَ بِإِقْرَارِهِ لِغَيْرِهِ ، وَتَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ هَزَلَ بِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ، فَكَذَلِكَ إذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ : لِمَاذَا لَمْ يُجْعَلْ هَذَا بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ الْخِيَارِ ؟ ، وَشَرْطُ الْخِيَارِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ بَلْ مَتَى صَحَّ شَرْطُ الْخِيَارِ مَعَ الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ لَا يَجِبُ الْمَالُ حَتَّى لَوْ قَالَ : كَفَلْت لِفُلَانٍ عَنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ لَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ .
فَأَمَّا إذَا أَطْلَقَ الْإِقْرَارَ بِالْمَالِ ، وَهُوَ خَبَرٌ عَنْ الْمَاضِي ، فَلَا يَصِحُّ مَعَهُ شَرْطُ الْخِيَارِ ، وَالْإِكْرَاهُ هُنَا مُتَحَقِّقٌ ، فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ بِمَوْضِعٍ يَصِحُّ فِيهِ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَنَاوُلِ الْحَرَامِ ؛ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ هُنَاكَ الْإِلْجَاءُ ، وَذَلِكَ مَا يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ ، وَهُنَا الْمَانِعُ مِنْ وُجُوبِ الْمَالِ انْعِدَامُ الرِّضَا بِالِالْتِزَامِ ، وَقَدْ انْعَدَمَ الرِّضَا بِالْإِكْرَاهِ ، وَإِنْ كَانَ بِحَبْسٍ ، أَوْ قَيْدٍ قَالَ شُرَيْحٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْقَيْدُ كُرْهٌ ، وَالْوَعِيدُ كُرْهٌ ، وَالضَّرْبُ كُرْهٌ ، وَالسِّجْنُ كُرْهٌ ، وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَيْسَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ بِأَمِينٍ إذَا ضَرَبْتَ ، أَوْ

بَغَيْتَ ، أَوْ جَوَّعْتَ أَيْ هُوَ لَيْسَ بِطَائِعٍ عِنْدَ خَوْفِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ طَائِعًا كَانَ مُكْرَهًا ، وَلَوْ تَوَعَّدُوهُ بِضَرْبِ سَوْطٍ وَاحِدٍ ، أَوْ حَبْسِ يَوْمٍ ، أَوْ قَيْدِ يَوْمٍ عَلَى الْإِقْرَارِ بِأَلْفٍ ، فَأَقَرَّ بِهِ كَانَ الْإِقْرَارُ جَائِزًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُكْرَهًا بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْحَبْسِ ، وَالْقَيْدِ ، فَالْجُهَّالُ قَدْ يَتَهَازَلُونَ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ ، فَيَحْبِسُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ يَوْمًا ، أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ، أَوْ يُقَيِّدُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَغُمَّهُ ذَلِكَ ، وَقَدْ يَفْعَلُ الْمَرْءُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَيَجْعَلُ الْقَيْدَ فِي رِجْلِهِ ، ثُمَّ يَمْشِي تَشْبِيهًا بِالْمُقَيَّدِ أَرَأَيْت لَوْ قَالُوا لَهُ لَنَطْرُقَنَّكَ طَرْقَةً ، أَوْ لَنَسِمَنَّكَ ، أَوْ لَتُقِرَّنَّ بِهِ - أَمَا كَانَ إقْرَارُهُ جَائِزًا ، وَالْحَدُّ فِي الْحَبْسِ الَّذِي هُوَ إكْرَاهٌ فِي هَذَا مَا يَجِيءُ مِنْهُ الِاغْتِمَامُ الْبَيِّنُ ، وَفِي الضَّرْبِ الَّذِي هُوَ إكْرَاهٌ مَا يَجِدُ مِنْهُ الْأَلَمَ الشَّدِيدَ ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدٌّ لَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ نَصْبَ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ .
، وَلَكِنَّ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى الْحَاكِمُ إذَا رُفِعَ ذَلِكَ إلَيْهِ ، فَمَا رَأَى أَنَّهُ إكْرَاهٌ أَبْطَلَ الْإِقْرَارَ بِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ ، فَالْوَجِيهُ الَّذِي يَضَعُ الْحَبْسَ مِنْ جَاهِهِ تَأْثِيرُ الْحَبْسِ ، وَالْقَيْدِ يَوْمًا فِي حَقِّهِ ، فَوْقَ تَأْثِيرِ حَبْسِ شَهْرٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، فَلِهَذَا لَمْ تُقَدَّرْ فِيهِ بِشَيْءٍ ، وَجَعَلْنَاهُ مَوْكُولًا إلَى رَأْيِ الْقَاضِي لِيَبْنِيَ ذَلِكَ عَلَى حَالِ مَنْ اُبْتُلِيَ بِهِ .
.

وَلَوْ أَكْرَهُوهُ عَلَى أَنْ يُقِرَّ لِرَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَأَقَرَّ لَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ كَانَ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّهُمْ حِينَ أَكْرَهُوهُ عَلَى أَلْفٍ ، فَقَدْ أَكْرَهُوهُ عَلَى أَقَلَّ مِنْهَا ، فَالْخَمْسُمِائَةِ بَعْضُ الْأَلْفِ ، وَمِنْ ضَرُورَةِ امْتِنَاعِ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِالْأَلْفِ إذَا كَانَ مُكْرَهًا امْتِنَاعُ صِحَّةِ إقْرَارِهِ بِمَا هُوَ دُونَهُ ، وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ عَادَاتِ الظَّلَمَةِ أَنَّهُمْ يُكْرِهُونَ الْمَرْءَ عَلَى الْإِقْرَارِ ، وَبَدَلِ الْحَطِّ بِأَلْفٍ ، وَيَقْنَعُونَ مِنْهُ بِبَعْضِهِ ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ جُعِلَ مُكْرَهًا عَلَى مَا دُونَ الْأَلْفِ ، وَلَوْ أَقَرَّ بِأَلْفَيْنِ لَزِمَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّهُ طَائِعٌ فِي الْإِقْرَارِ فِي أَحَدِ الْأَلْفَيْنِ ، وَلَيْسَ مِنْ عَادَاتِ الظَّلَمَةِ أَنْ يَتَحَكَّمُوا عَلَى الْمَرْءِ بِمَالٍ ، وَمُرَادُهُمْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ، وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ هَذَا ، وَبَيْنَ مَا إذَا شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِأَلْفٍ ، وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ ، فَإِنَّ هُنَاكَ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى شَيْءٍ ، وَقَالَ هُنَاكَ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِقَدْرِ أَلْفٍ ، وَتَصِحُّ الزِّيَادَةُ ؛ لِأَنَّ فِي الشَّهَادَةِ تُعْتَبَرُ الْمُوَافَقَةُ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ لَفْظًا ، وَمَعْنًى ، وَقَدْ انْعَدَمَتْ الْمُوَافَقَةُ لَفْظًا ، فَالْأَلْفُ غَيْرُ الْأَلْفَيْنِ ، وَهُنَا الْمُكْرَهُ مُضَارٌّ مُتَعَنِّتٌ ، فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ ، وَقَدْ قُصِدَ الْإِضْرَارُ بِهِ بِإِلْزَامِ الْأَلْفِ إيَّاهُ بِإِقْرَارِهِ ، فَيُرَدُّ عَلَيْهِ قَصْدُهُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْأَلْفُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ ، وَيَلْزَمُهُ مَا زَادَ عَلَيْهِ ، وَلَوْ أَقَرَّ بِأَلْفِ دِينَارٍ لَزِمَتْهُ ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ ، وَالدَّنَانِيرَ جِنْسَانِ حَقِيقَةً ، فَيَكُونُ هُوَ طَائِعًا فِي جَمِيعِ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الْجِنْسِ الْآخَرِ .
وَلَا يُقَالُ : الدَّرَاهِمُ ، وَالدَّنَانِيرُ جُعِلَا كَجِنْسٍ ، وَاحِدٍ فِي الْأَحْكَامِ ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي الْإِنْشَاءَاتِ ، فَأَمَّا فِي الْإِخْبَارَاتِ ، فَهُمَا جِنْسَانِ كَمَا فِي الدَّعْوَى ، وَالشَّهَادَةِ ، فَإِنَّهُ إذَا ادَّعَى

الدَّرَاهِمَ ، وَشَهِدَ لَهُ الشُّهُودُ بِالدَّنَانِيرِ لَا تُقْبَلُ ، وَالْإِقْرَارُ إخْبَارٌ هُنَا ، فَالدَّرَاهِمُ ، وَالدَّنَانِيرُ فِيهِ جِنْسَانِ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ لَهُ بِنِصْفِ غَيْرِ مَا أَكْرَهُوهُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَكِيلِ ، أَوْ الْمَوْزُونِ ، فَهُوَ طَائِعٌ مَتَى أَقَرَّ بِهِ .
.

وَلَوْ أَكْرَهُوهُ عَلَى أَنَّهُ يُقِرُّ لَهُ بِأَلْفٍ ، فَأَقَرَّ لَهُ ، وَلِفُلَانٍ الْغَائِبِ بِأَلْفٍ ، فَالْإِقْرَارُ كُلُّهُ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ سَوَاءٌ أَقَرَّ الْغَائِبُ بِالشَّرِكَةِ ، أَوْ أَنْكَرَهَا ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ صَدَّقَهُ الْغَائِبُ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ بَطَلَ الْإِقْرَارُ كُلُّهُ ، وَإِنْ قَالَ لِي عَلَيْهِ نِصْفُ هَذَا الْمَالِ ، وَلَا شَرِكَةَ بَيْنِي ، وَبَيْنَ هَذَا الَّذِي أَكْرَهُوهُ عَلَى الْإِقْرَارِ لَهُ جَازَ الْإِقْرَارُ لِلْغَائِبِ بِنِصْفِ الْمَالِ ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْإِقْرَارِ أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا أَقَرَّ لِوَارِثِهِ ، وَلِأَجْنَبِيٍّ بِدَيْنٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْإِقْرَارُ بَاطِلٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّ الْمَالَ مُشْتَرَكٌ بَيْنهمَا ، وَلَا وَجْهَ لِإِثْبَاتِ الشَّرِكَةِ لِلْوَارِثِ ، فَيَبْطُلُ الْإِقْرَارُ كُلُّهُ ، وَهُنَا أَقَرَّ بِالْمَالِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا ، وَلَا وَجْهَ لِإِثْبَاتِ الشَّرِكَةِ لِمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ لَهُ ، فَكَانَ الْإِقْرَارُ بَاطِلًا ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ صَدَّقَهُ الْأَجْنَبِيُّ بِالشَّرِكَةِ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ ، فَلَهُ نِصْفُ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِنِصْفِ الْمَالِ ، وَادَّعَى عَلَيْهِ شَرِكَةَ الْوَارِثِ مَعَهُ ، وَهُنَا أَيْضًا أَقَرَّ لِلْغَائِبِ بِنِصْفِ الْمَالِ طَائِعًا ، وَادَّعَى عَلَيْهِ شَرِكَةَ الْحَاضِرِ مَعَهُ ، فَكَانَ إقْرَارُهُ لِلْغَائِبِ بِنِصْفِ الْمَالِ صَحِيحًا ، وَدَعْوَاهُ الشَّرِكَةَ بَاطِلَةٌ .

وَلَوْ أَكْرَهُوهُ عَلَى هِبَةِ جَارِيَتِهِ لِعَبْدِ اللَّهِ ، فَوَهَبَهَا لِعَبْدِ اللَّه ، وَزَيْدٍ ، وَقَبَضَاهَا بِأَمْرِهِ جَازَتْ فِي حِصَّةِ زَيْدٍ ؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهُ نِصْفَ الْجَارِيَةِ طَائِعًا ، وَالشُّيُوعُ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْهِبَةِ ، وَبَطَلَتْ فِي حِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بِالْإِكْرَاهِ ، ثُمَّ الْهِبَةُ إنْشَاءُ التَّصَرُّفِ ، فَبُطْلَانُهُ فِي نَصِيبِ مَنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ كَالْوَصِيَّةِ ، فَإِنَّ مَنْ أَوْصَى لِوَارِثِهِ ، وَلِأَجْنَبِيٍّ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ فِي نَصِيبِ الْأَجْنَبِيِّ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَلْفِ دِرْهَمٍ بَطَلَتْ الْهِبَةُ كُلُّهَا أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ هِبَةُ مَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ مِنْ رَجُلَيْنِ إذَا كَانَ طَائِعًا فِي حَقِّهِمَا ، فَإِذَا كَانَ مُكْرَهًا فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا كَانَ أَوْلَى ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، فَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ هُنَا ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ بَطَلَتْ فِي نَصِيبِ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ الْأَصْلِ ، فَلَوْ صَحَّتْ فِي نَصِيبِ زَيْدٍ كَانَتْ فِي مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْهِبَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ ، وَهَبَ دَارِهِ مِنْ رَجُلٍ ، فَاسْتَحَقَّ نِصْفَهَا بَطَلَتْ الْهِبَةُ فِي الثَّانِي ، وَاسْتُشْهِدَ لِهَذَا بِمَا لَوْ اشْتَرَى دَارًا ، وَهُوَ شَفِيعُهَا مَعَ رَجُلٍ غَائِبٍ فَقَبَضَهَا ، وَوَهَبَهَا ، وَسَلَّمَهَا ، ثُمَّ حَضَرَ الْغَائِبُ ، فَأَخَذَ نِصْفَهَا بِالشُّفْعَةِ بَطَلَتْ الْهِبَةُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ فِي النِّصْفِ الْمَأْخُوذِ بِالشُّفْعَةِ الْهِبَةُ تَبْطُلُ مِنْ الْأَصْلِ .
، وَكَذَلِكَ لَوْ ، وَهَبَ لِرَجُلٍ دَارًا عَلَى أَنْ يُعَوِّضَهُ مِنْ نِصْفِهَا خَمْرًا ، فَالْهِبَةُ تَبْطُلُ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي لِبُطْلَانِهَا فِي النِّصْفِ الَّذِي شُرِطَ فِيهِ الْخَمْرُ عِوَضًا ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَرِيضِ إذَا وَهَبَ دَارِهِ مِنْ إنْسَانٍ ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا ، ثُمَّ مَاتَ ، فَإِنَّ الْهِبَةَ تُنْتَقَضُ فِي الثُّلُثَيْنِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ ، وَتَبْقَى فِي

الثُّلُثِ صَحِيحَةً ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ فِي الْكُلِّ صَحِيحَةٌ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَإِنَّمَا تُنْتَقَضُ فِي الثُّلُثَيْنِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْوَاهِبِ ، فَكَانَ الشُّيُوعُ فِي الثُّلُثِ طَارِئًا ، وَذَلِكَ لَا يُبْطِلُ الْهِبَةَ كَمَا لَوْ وَهَبَ دَارِهِ مِنْ إنْسَانٍ ، ثُمَّ رَجَعَ فِي نِصْفِهَا ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَسَائِلِ ، الْمُبْطِلُ لِلْهِبَةِ فِي النِّصْفِ مُقْتَرِنٌ بِالسَّبَبِ ، فَبَطَلَتْ الْهِبَةُ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ مِنْ الْأَصْلِ ، فَالشُّيُوعُ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي يَكُونُ مُقَارِنًا لَا طَارِئًا .

وَلَوْ أَكْرَهُوهُ عَلَى هِبَةِ جَارِيَتِهِ لِرَجُلٍ ، وَدَفَعَهَا إلَيْهِ ، فَوَهَبَ ، وَدَفَعَ ، فَأَعْتَقَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ جَازَ عِتْقُهُ ، وَغَرِمَ الْمُعْتِقُ قِيمَتَهَا ، أَمَّا قَوْلُهُ ، وَلَوْ دَفَعَهَا إلَيْهِ ، فَهُوَ فَصْلٌ مِنْ الْكَلَامِ ، فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْهِبَةِ يَكُونُ إكْرَاهًا عَلَى الدَّفْعِ بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْبَيْعِ ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إكْرَاهًا عَلَى التَّسْلِيمِ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُكْرَهَ مُضَارٌّ مُتَعَنِّتٌ ، وَالْهِبَةُ لَا تُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهَا مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا الْقَبْضُ ، فَإِذَا كَانَ الضَّرَرُ الَّذِي قَصَدَهُ الْمُكْرَهُ ، وَهُوَ إزَالَةُ مِلْكِهِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْقَبْضِ تَعَدَّى الْإِكْرَاهُ إلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا الْبَيْعُ ، فَمُوجِبُ الْمِلْكِ بِنَفْسِهِ ، وَالْإِضْرَارُ بِهِ يَتَحَقَّقُ مَتَى صَحَّ ، فَلَا يَتَعَدَّى الْإِكْرَاهُ عَنْ الْبَيْعِ إلَى شَيْءٍ آخَرَ ، وَإِذَا سَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ كَانَ طَائِعًا فِي التَّسْلِيمِ .
يُوَضِّحُهُ : أَنَّ الْقَبْضَ فِي بَابِ الْبَيْعِ يُوجِبُ مِلْكَ التَّصَرُّفِ ، وَذَلِكَ حُكْمٌ آخَرُ غَيْرُ مَا هُوَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ بِالْبَيْعِ ، وَهُوَ مِلْكُ الْغَيْرِ ، فَلَا يَتَعَدَّى الْإِكْرَاهُ إلَيْهِ بِدُونِ التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا الْقَبْضُ فِي بَابِ الْهِبَةِ ، فَيُوجِبُ الْمِلْكَ الَّذِي هُوَ حُكْمُ الْهِبَةِ ، وَهُوَ مِلْكُ الْغَيْرِ ، فَلِهَذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْهِبَةِ إكْرَاهًا عَلَى التَّسْلِيمِ ، ثُمَّ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ تَفْسُدُ الْهِبَةُ ، وَلَكِنَّ الْهِبَةَ الْفَاسِدَةَ تُوجِبُ الْمِلْكَ بَعْدَ الْقَبْضِ كَالْهِبَةِ الصَّحِيحَةِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ فَسَادَ السَّبَبِ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الْمِلْكِ بِالْقَبْضِ ، فَإِذَا أَعْتَقَهَا ، أَوْ دَبَّرَهَا أَوَاسْتَوْلَدَهَا ، فَقَدْ لَاقَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِنْهُ مِلْكَ نَفْسِهِ فَكَانَتْ نَافِذَةً ، وَعَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهَا ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْعَيْنِ كَانَ مُسْتَحِقًّا عَلَيْهِ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ بِنُفُوذِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا كَالْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا ،

وَإِذَا شَاءَ الْمُكْرَهُ فِي هَذَا كُلِّهِ رَجَعَ عَلَى الَّذِينَ أَكْرَهُوهُ بِقِيمَتِهَا ؛ لِأَنَّهُمْ أَتْلَفُوا عَلَيْهِ مِلْكَهُ ، فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ بِوَعِيدٍ مُتْلِفٍ يَجْعَلُ الْمُكْرَهَ مُلْجَأً ، وَذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَ الْمُكْرَهِ آلَةً لِلْمُكْرِهِ ، وَنِسْبَةُ الْفِعْلِ إلَيْهِ فِيمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً ، وَهُوَ فِي التَّسْلِيمِ ، وَالْإِتْلَافِ الْحَاصِلِ بِهِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ ، فَإِذَا صَارَ الْإِتْلَافُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ كَانَ ضَامِنًا لِلْقِيمَةِ ، فَإِنْ ضَمَّنَهُمْ الْقِيمَةَ رَجَعُوا بِهَا عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ؛ لِأَنَّهُمْ قَامُوا فِي الرُّجُوعِ عَلَيْهِ مَقَامَ مَنْ صَحِبَهُمْ ، وَلِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا بِالصُّحْبَةِ ، وَلَوْ كَانَتْ قَائِمَةً مِنْ هَذَا الْمَوْهُوبِ لَهُ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوهَا مِنْهُ ، وَإِذَا أَتْلَفُوهَا بِالْإِعْتَاقِ كَانَ لَهُمْ أَنْ يُضَمِّنُوهُ قِيمَتَهَا .
فَإِنْ قِيلَ : لِمَاذَا لَا تَنْفُذُ الْهِبَةُ مِنْ جِهَتِهِمْ ؟ قُلْنَا : لِأَنَّهُمْ مَا وَهَبُوهَا لَهُ ، وَإِنَّمَا قَصَدُوا الْإِضْرَارَ بِالْمُكْرَهِ لَا التَّبَرُّعَ مِنْ جِهَتِهِمْ بِخِلَافِ الْغَاصِبِ إذَا وَهَبَ الْمَغْصُوبَ ، ثُمَّ ضَمِنَ الْقِيمَةَ ، فَإِنَّ هُنَاكَ قَصْدُ تَنْفِيذِ الْهِبَةِ مِنْ جِهَتِهِ ، فَإِذَا مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ نَفَذَتْ الْهِبَةُ مِنْ جِهَتِهِ كَمَا قَصَدَهَا ، وَلِذَلِكَ لَوْ أَكْرَهُوهُ عَلَى الْبَيْعِ ، وَالتَّسْلِيمِ ، فَفَعَلَ ، فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي ، أَوْ دَبَّرَهُ ، أَوْ كَانَتْ أَمَةً ، فَاسْتَوْلَدَهَا نَفَذَ ذَلِكَ كُلُّهُ عِنْدَنَا ، وَقَالَ زُفَرُ لَا يَنْفُذُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مِنْ الْمُكْرَهِ بِالْقَبْضِ يَصِيرُ مَالِكًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ بَيْعَ الْمُكْرَهِ دُونَ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ ، فَالْبَائِعُ هُنَاكَ رَاضٍ بِأَصْلِ السَّبَبِ ، وَالْبَيْعُ هُنَاكَ يَتِمُّ بِمَوْتِ الْبَائِعِ ، وَهُنَا لَا يَتِمُّ ، ثُمَّ هُنَاكَ الْمُشْتَرِي لَا يَمْلِكُهُ بِالْقَبْضِ ، فَهُنَا أَوْلَى إذْ بَيْعُ الْمُكْرَهِ كَبَيْعِ الْهَازِلِ .
وَلَوْ

تَصَادَقَا أَنَّهُ كَانَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا هَزْلًا لَمْ يَمْلِكْ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِالْقَبْضِ ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْبَائِعُ مُكْرَهًا ، وَكَلَامُهُ فِي الْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ ، أَوْضَحُ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَنْعَدِمُ فِي جَانِبِ الْمُكْرَهِ بِالْإِلْجَاءِ ، فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْمُكْرَهَ بَاشَرَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ ، فَلَا يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ ، وَإِنْ كَانَ لَوْ أَجَازَهُ الْمَالِكُ طَوْعًا صَحَّ : وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ بَيْعَ الْمُكْرَهِ ، فَاسِدٌ ، وَالْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ بِحُكْمِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ يَصِيرُ مَالِكًا ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ مَا هُوَ رُكْنُ الْعَقْدِ لَمْ يَنْعَدِمْ بِالْإِكْرَاهِ ، وَهُوَ الْإِيجَابُ ، وَالْقَبُولُ فِي مَحَلِّهِ ، وَإِنَّمَا انْعَدَمَ مَا هُوَ شَرْطُ الْجَوَازِ ، وَهُوَ الرِّضَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } ، وَتَأْثِيرُ انْعِدَامِ شَرْطِ الْجَوَازِ فِي إفْسَادِ الْعَقْدِ كَمَا هُوَ فِي الرِّبَا ، فَإِنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا شَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ ، فَإِذَا انْعَدَمَتْ الْمُسَاوَاةُ كَانَ الْعَقْدُ ، فَاسِدًا ، وَكَانَ الْمِلْكُ ثَابِتًا لِلْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ .
فَهَذَا مِثْلُهُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ ، فَإِنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يَجْعَلُ الْعَقْدَ فِي حَقِّ حُكْمِهِ كَالْمُتَعَلِّقِ بِالشَّرْطِ ، وَالْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ الشَّرْطِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَى أَنَّى بِالْخِيَارِ شَرْطٌ ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ إدْخَالُهُ عَلَى أَصْلِ السَّبَبِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ ، فَيَكُونُ دَاخِلًا عَلَى حُكْمِ السَّبَبِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَحْتَمِلُ التَّأَخُّرَ عَنْ السَّبَبِ ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْبَائِعَ هُنَاكَ غَيْرُ رَاضٍ بِالسَّبَبِ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالشَّرْطِ ، فَلَا يَتِمُّ رِضَاهُ بِهِ قَبْلَ الشَّرْطِ ، فَكَانَ أَضْعَفَ مِنْ بَيْعِ الْمُكْرَهِ ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ رَاضٍ بِالسَّبَبِ لِدَفْعِ الشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِ السَّبَبِ ، وَالْخِيَارُ الثَّابِتُ لِلْمُكْرَهِ مِنْ طَرِيقِ

الْحُكْمِ ، فَيَكُونُ نَظِيرَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ ، وَخِيَارِ الْعَيْبِ ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ السَّبَبِ فِي الْحُكْمِ مُقَيَّدًا لِحُكْمِهِ ، فَكَذَلِكَ بَيْعُ الْمُكْرَهِ ، وَكَذَلِكَ الْهَازِلُ ، فَإِنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِأَصْلِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ اسْمٌ لِلْجِدِّ الَّذِي لَهُ فِي الشَّرْعِ حُكْمٌ .
وَالْهَزْلُ ضِدُّ الْجِدِّ ، فَإِذَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يُبَاشِرَا مَا هُوَ سَبَبُ الْمِلْكِ لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا مُوجِبًا لِلْمِلْكِ ، وَهُنَا الْمُكْرَهُ دُعِيَ إلَى الْجِدِّ ، وَقَدْ أَجَابَ إلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَتَى بِغَيْرِهِ كَانَ طَائِعًا ، فَكَانَ بَيْعُ الْمُكْرَهِ أَقْوَى مِنْ بَيْعِ الْهَازِلِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَإِنَّمَا يَنْعَدِمُ الْفِعْلُ فِي جَانِبِ الْمُكْرَهِ إذَا صَارَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرَهِ ، وَذَلِكَ يَقْتَصِرُ عَلَى مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ فِيهِ آلَةً لِلْمُكْرَهِ ، وَفِي الْبَيْعِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ هُوَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ ؛ لِأَنَّ التَّكَلُّمَ بِلِسَانِ الْغَيْرِ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْمُكْرَهُ مُبَاشِرًا لِلْبَيْعِ فَإِنْ قِيلَ : هُوَ فِي التَّسْلِيمِ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ ، فَيَنْتَقِلُ ذَلِكَ إلَى الْمُكْرَهِ ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ سَلَّمَ بِنَفْسِهِ ، فَلَا يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي قُلْت : هُوَ فِي التَّسْلِيمِ مُتَمِّمٌ لِلْعَقْدِ ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لَلْمُكْرِه ، وَإِنَّمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لَلْمُكْرِه فِي تَسْلِيمِ ابْتِدَاءِ غَصْبٍ .
وَثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَا يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَنْبَنِي عَلَى تَسْلِيمٍ هُوَ حُكْمُ الْعَقْدِ ، وَذَلِكَ مُتَصَوَّرٌ عَلَى الْمُكْرَهِ أَيْضًا ؛ يُوَضِّحُهُ : أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْإِكْرَاهِ فِي تَبْدِيلِ مَحَلِّ الْفِعْلِ ، وَلَوْ أَخْرَجْنَا هَذَا التَّسْلِيمَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَمِّمًا لِلْعَقْدِ جَعَلْنَاهُ غَصْبًا ابْتِدَاءً بِنِسْبَتِهِ إلَى الْمُكْرَهِ ، فَيَتَبَدَّلُ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ ذَاتُ الْفِعْلِ ، وَإِذَا كَانَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَبَدَّلَ مَحَلُّ الْفِعْلِ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ

تَتَبَدَّلَ ذَاتُهُ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ عَلَّلَ لِتَنْفِيذِ عِتْقِ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْمِلْكِ ، فَنَقُولُ : إيجَابُ الْبَيْعِ مُطْلَقًا تَسْلِيطٌ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْعِتْقِ ، وَالْإِكْرَاهُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْلِيطِ عَلَى الْعِتْقِ ، وَنُفُوذَ الْعِتْقِ بِحُكْمِهِ كَمَا لَا يَمْنَعُ الْإِكْرَاهُ صِحَّةَ الْإِعْتَاقِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يُوَكِّلَ فِي عِتْقِ عَبْدِهِ ، فَفَعَلَ ، وَأَعْتَقَهُ الْوَكِيلُ نَفَذَ عِتْقُهُ ، فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَإِذَا ثَبَتَ نُفُوذُ الْعِتْقِ ، وَالتَّدْبِيرِ ، وَالِاسْتِيلَاءِ ، فَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَى الْمُشْتَرِي رَدُّ عَيْنِهَا ، فَيَضْمَنُ قِيمَتَهَا لِلْبَائِعِ ، فَإِنْ شَاءَ الْبَائِعُ ضَمَّنَ الَّذِينَ أَكْرَهُوهُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ ، وَمَا يُتَمِّمُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ مُضَافًا إلَيْهِمْ ، فَالْإِتْلَافُ الْحَاصِلُ بِهِ يَصِيرُ مُضَافًا إلَيْهِمْ فِي حَقِّ الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لَهُمْ فِي الْإِتْلَافِ ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُمْ قِيمَتَهَا ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ بِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُمْ قَامُوا مَقَامَ الْبَائِعِ ؛ أَوْ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا بِالضَّمَانِ ، وَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ الْبَيْعِ مِنْ جِهَتِهِمْ ، فَيَرْجِعُونَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِقِيمَتِهَا ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهَا عَلَيْهِمْ طَوْعًا بِالْإِعْتَاقِ ، وَلَوْ أَنَّ الْمُشْتَرِي أَتْلَفَهَا ، وَالْمَوْهُوبُ لَهُ لَمْ يَفْعَلْ بِهَا ذَلِكَ ، وَلَكِنَّهُ بَاعَهَا ، أَوْ وَهَبَهَا ، وَسَلَّمَهَا ، أَوْ كَاتَبَهَا كَانَ لِمَوْلَاهَا الْمُكْرَهِ أَنْ يَنْقُضَ جَمِيعَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ تَحْتَمِلُ النَّقْضَ ، فَيُنْقَضُ لِحَقِّ الْمُكْرَهِ بِخِلَافِ الْعِتْقِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْعِتْقَ لَا يُنْتَقَضُ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ ، وَالْبَيْعُ ، وَالْهِبَةُ ، وَالْكِتَابَةُ تُنْتَقَضُ لِحَقِّهِ فَإِنْ قِيلَ : فَأَيْنَ ذَهَبَ قَوْلُكُمْ أَنَّ بَيْعَ الْمُكْرَهِ فَاسِدٌ ، وَالْمُشْتَرَى شِرَاءً ، فَاسِدًا لَا يُنْقَضُ مِنْهُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ بَعْدَ الْقَبْضِ لِحَقِّ الْبَائِعِ قُلْنَا ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ

الْبَائِعُ سَلَّمَ الْمَبِيعَ رَاضِيًا بِهِ ، فَيَصِيرُ بِالتَّسْلِيمِ مُسَلَّطًا لِلْمُشْتَرِي عَلَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ ، وَهُنَا الْمُكْرَهُ غَيْرُ رَاضٍ بِالتَّسْلِيمِ ، وَلَوْ رَضِيَ بِالتَّسْلِيمِ تَمَّ الْبَيْعِ ، فَوَازَنَهُ الْمُشْتَرِي شِرَاءً ، فَاسِدًا إذَا أُكْرِهَ الْبَائِعُ عَلَى التَّسْلِيمِ ، فَسَلَّمَهُ مُكْرَهًا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ مُعْتَبَرٌ بِالصَّحِيحِ ، وَفِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ إذَا قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ ، وَتَصَرَّفَ فِيهِ يُنْقَضُ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ مَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ لِإِبْقَاءِ حَقِّ الْبَائِعِ فِي الْحَبْسِ دُونَ مَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ .

قَالَ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ يُكْرَهُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ إلَّا ، وَهُوَ يُرَدُّ إلَّا مَا جَرَى فِيهِ عِتْقٌ ، أَوْ تَدْبِيرٌ ، أَوْ وِلَادَةٌ ، أَوْ طَلَاقٌ ، أَوْ نِكَاحٌ ، أَوْ نَذْرٌ ، أَوْ رَجْعَةٌ فِي الْعِدَّةِ ، أَوْ فِي الْإِيلَاءِ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجِمَاعِ ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَجُوزُ فِي الْإِكْرَاهِ ، وَلَا تُرَدُّ ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُكْرَهِ قَوْلًا مُنْعَقِدٌ عِنْدَنَا إلَّا أَنَّ مَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ مِنْهُ كَالْبَيْعِ ، وَالْإِجَارَةِ يُفْسَخُ ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ مِنْهُ كَالطَّلَاقِ ، وَالنِّكَاحِ ، وَالْعَتَاقِ ، وَجَمِيعِ مَا سَمَّيْنَا ، فَهُوَ لَازِمٌ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَصَرُّفَاتُ الْمُكْرَهِ قَوْلًا يَكُونُ لَغْوًا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفَاتِ الصَّبِيِّ ، وَالْمَجْنُونِ ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ بِحَبْسٍ ، أَوْ قَتْلٍ .
وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ، وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْحُكْمِ لِمَا يُكْرَهُ عَلَيْهِ الْمَرْءُ فِي الدِّينِ قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ ، وَالنِّسْيَانُ ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يُكْرَهُ عَلَيْهِ يَكُونُ مَرْفُوعًا عَنْهُ حُكْمُهُ ، وَإِثْمُهُ ، وَعَيْنُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ مُوجِبٌ لِلْحُرْمَةِ ، فَالْإِكْرَاهُ الْبَاطِلُ عَلَيْهِ يَمْنَعُ حُصُولَ الْفُرْقَةِ كَالرِّدَّةِ ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ انْعِقَادَ التَّصَرُّفَاتِ شَرْعًا بِكَلَامٍ يَصْدُرُ عَنْ قَصْدٍ ، وَاخْتِيَارٍ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا ، وَلِهَذَا لَا يَنْعَقِدُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِكَلَامِ الصَّبِيِّ ، وَالْمَجْنُونِ ، وَالنَّائِمِ ، وَلَيْسَ لِلْمُكْرَهِ اخْتِيَارٌ صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا فِيمَا تَكَلَّمَ بِهِ بَلْ هُوَ مُكْرَهٌ عَلَيْهِ ، وَالْإِكْرَاهُ يُضَادُّ الِاخْتِيَارَ ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُ هَذَا الْإِكْرَاهِ فِي انْعِدَامِ اخْتِيَارِهِ بِهِ لِكَوْنِهِ إكْرَاهًا بِالْبَاطِلِ ، وَلِكَوْنِهِ مَعْذُورًا فِي ذَلِكَ ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ قَصْدٌ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا الْتَحَقَ

بِالْمَجْنُونِ بِخِلَافِ الْعِنِّينِ إذَا أَكْرَهَهُ الْقَاضِي عَلَى الْفُرْقَةِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ أَوْ الْمَوْلَى بَعْدَهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إكْرَاهٌ بِحَقٍّ لِانْعِدَامِ اخْتِيَارِهِ شَرْعًا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمَدْيُونَ إذَا أَكْرَهَهُ الْقَاضِي عَلَى بَيْعِ مَالِهِ نَفَذَ بَيْعُهُ ، وَالذِّمِّيُّ إذَا أَسْلَمَ عَبْدُهُ ، فَأُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ نَفَذَ بَيْعُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَكْرَهَهُ عَلَى الْبَيْعِ بِغَيْرِ حَقٍّ قَالَ : وَعَلَى هَذَا قُلْت ، وَإِذَا أُكْرِهَ الْحَرْبِيُّ عَلَى الْإِسْلَامِ صَحَّ إسْلَامُهُ ، وَلَوْ أُكْرِهَ الْمُسْتَأْمَنُ ، أَوْ الذِّمِّيُّ عَلَى الْإِسْلَامِ لَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ ؛ لِأَنَّهُ إكْرَاهٌ بِالْبَاطِلِ ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ السَّكْرَانُ ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ شَرْعًا ، فَهُوَ فِي الْمَعْنَى كَالْمُكْرَهِ بِحَقٍّ ، فَيَكُونُ قَصْدُهُ ، وَاخْتِيَارُهُ مُعْتَبَرًا شَرْعًا ، وَلِهَذَا نَفَذَ مِنْهُ جَمِيعُ التَّصَرُّفَاتِ ، وَلِهَذَا صَحَّ إقْرَارُهُ بِالطَّلَاقِ هُنَاكَ ، وَلَا يَصِحُّ هُنَا إقْرَارُهُ بِالطَّلَاقِ بِالِاتِّفَاقِ ، فَكَذَلِكَ إنْشَاؤُهُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْهَازِلِ ؛ لِأَنَّهُ قَاصِدٌ إلَى التَّكَلُّمِ بِالطَّلَاقِ مُخْتَارٌ لَهُ ، فَإِنَّ بَابَ الْهَزْلِ وَاسِعٌ ، فَلَمَّا اخْتَارَ عِنْدَ الْهَزْلِ التَّكَلُّمَ بِالطَّلَاقِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْكَلِمَاتِ عَرَفْنَا أَنَّهُ مُخْتَارٌ لِلَّفْظِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لِحُكْمِهِ ، فَأَمَّا الْمُكْرَهُ ، فَغَيْرُ مُخْتَارٍ فِي التَّكَلُّمِ بِالطَّلَاقِ هُنَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ النَّجَاةُ إذَا تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ آخَرَ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يُجَامِعَ امْرَأَةً ، وَهِيَ أُمُّ امْرَأَتِهِ ، فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّا ادَّعَيْنَا هَذَا فِي الْأَقْوَالِ الَّتِي يَكُونُ ثُبُوتُهَا شَرْعًا بِنَاءً عَلَى اخْتِيَارٍ صَحِيحٍ ، فَأَمَّا الْأَفْعَالُ فَتَحَقُّقُهَا بِوُجُودِهَا حِسًّا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ إذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ مِنْ الْمَجْنُونِ كَانَ مُوجِبًا لِلْفُرْقَةِ أَيْضًا ، فَكَذَلِكَ مِنْ الْمُكْرَهِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ ؛ وَلِأَنَّ سَبَبَ الْإِكْرَاهِ مُحَافَظَةُ قَدْرِ

الْمِلْكِ عَلَى الْمُكْرَهِ حَتَّى قُلْتُمْ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْعِتْقِ : الْمُكْرِهُ يَضْمَنُ الْقِيمَةَ لِلْمُكْرَهِ ، وَكَمَا تَجِبُ مُحَافَظَةُ قَدْرِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ تَجِبُ مُحَافَظَةُ عَيْنِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ ، وَلَا طَرِيقَ لِذَلِكَ سِوَى أَنْ يُجْعَلُ الْفِعْلُ عَدَمًا فِي جَانِبِ الْمُكْرَهِ ، وَيُجْعَلُ هُوَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ ، وَإِذَا صَارَ آلَةً لَهُ امْتَنَعَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ ، وَالْعَتَاقِ ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِكُمْ : إنَّهُ فِي التَّكَلُّمِ لَا يَصْلُحُ آلَةً ، فَإِنَّكُمْ جَعَلْتُمُوهُ آلَةً حَيْثُ أَوْجَبْتُمْ ضَمَانَ الْقِيمَةِ عَلَى الْمُكْرَهِ فِي الْعَتَاقِ ، وَضَمَانُ نِصْفِ الصَّدَاقِ عَلَى الْمُكْرَهِ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، ثُمَّ إنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُجْعَلَ آلَةً حَتَّى يَصِيرَ الْفِعْلُ مَوْجُودًا مِنْ الْمُكْرَهِ يُجْعَلُ آلَةً حَتَّى يَنْعَدِمَ الْفِعْلُ فِي جَانِبِ الْمُكْرَهِ ، فَيَلْغُو طَلَاقُهُ ، وَعَتَاقُهُ .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رَوَيْنَا مِنْ الْآثَارِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ ، فَلَا يُلْغَى كَمَا لَوْ كَانَ طَائِعًا ، وَبَيَانُهُ أَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ كَلَامٌ ، وَالْأَهْلِيَّةُ لِلْكَلَامِ يَكُونُ مُمَيِّزًا ، وَمُخَاطَبًا ، وَبِالْإِكْرَاهِ لَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مُخَاطَبٌ فِي غَيْرِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ فِيمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ حَتَّى يُنَوَّعُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ كَمَا قَرَّرْنَا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ يَنْبَنِي عَلَى اعْتِدَالِ الْحَالِ ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ أَحْوَالُ النَّاسِ ، فَأَقَامَ الشَّرْعُ الْبُلُوغَ عَنْ عَقْلٍ مَقَامَ اعْتِدَالِ الْحَالِ فِي تَوَجُّهِ الْخِطَابِ ، وَاعْتِبَارُ كَلَامِهِ شَرْعًا تَيْسِيرًا لِلْأَمْرِ عَلَى النَّاسِ ، وَبِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ لَا يَنْعَدِمُ هَذَا الْمَعْنَى ، وَالسَّبَبُ الظَّاهِرُ مَتَى قَامَ مَقَامَ الْمَعْنَى الْخَفِيِّ دَارَ الْحُكْمُ مَعَهُ وُجُودًا ، وَعَدَمًا ، وَبَيَانُ الْمَحَلِّيَّةِ أَنَّهُ مَلَكَهُ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا لَكَانَ تَصَرُّفُهُ مُصَادِفًا مَحَلَّهُ ، وَلَيْسَ لِلطَّوَاعِيَةِ تَأْثِيرٌ فِي

جَعْلِ مَا لَيْسَ بِمَحَلٍّ مَحَلًّا ، فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّصَرُّفَ صَادَفَ مَحَلَّهُ إلَّا أَنَّ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ يَنْعَدِمُ الرِّضَا مِنْهُ بِحُكْمِ السَّبَبِ ، وَلَا يَنْعَدِمُ أَصْلُ الْقَصْدِ ، وَالِاخْتِيَارِ ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ عَرَفَ الشَّرَّيْنِ ، فَاخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا ، وَهَذَا دَلِيلُ حُسْنِ اخْتِيَارِهِ ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُفْسِدًا لِاخْتِيَارِهِ ، وَهُوَ قَاصِدٌ إلَيْهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ دَفْعَ الشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَا يَتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ .
وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْمَقْصُودِ إلَّا بِهِ يَكُونُ مَقْصُودًا ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ قَاصِدٌ مُخْتَارٌ ، وَلَكِنْ لَا لِعَيْنِهِ بَلْ لِدَفْعِ الشَّرِّ عَنْهُ ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْهَازِلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَاصِدٌ إلَى التَّكَلُّمِ مُخْتَارٌ لَهُ لَا لِحُكْمِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ ، وَهُوَ الْهَزْلُ ، ثُمَّ طَلَاقُ الْهَازِلِ وَاقِعٌ ، فَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الرِّضَا بِالْحُكْمِ بَعْدَ الْقَصْدِ إلَى السَّبَبِ ، وَالِاخْتِيَارِ لَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَالَ الْمُكْرَهِ فِي اعْتِبَارِ كَلَامِهِ ، فَوْقَ حَالِ الْهَازِلِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْجِدِّ مِنْ الْكَلَامِ ، وَالْهَزْلُ ضِدُّ الْجِدِّ ، وَالْمُكْرَهُ يَتَكَلَّمُ بِالْجِدِّ ؛ لِأَنَّهُ يُجِيبُ إلَى مَا دُعِيَ إلَيْهِ ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الرِّدَّةِ ، فَإِنَّهَا تَنْبَنِي عَلَى الِاعْتِقَادِ ، وَهُوَ التَّكَلُّمُ بِخَبَرٍ عَنْ اعْتِقَادِهِ ، وَقِيَامُ السَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ ، وَأَنَّهُ فِي إخْبَارِهِ كَاذِبٌ ، وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِالطَّلَاقِ ، وَالْإِقْرَارُ مُتَمَيِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ ، وَالْكَذِبِ ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ مِنْ الطَّائِعِ لِتَرَجُّحِ جَانِبِ الصِّدْقِ ، فَإِنَّ دِينَهُ ، وَعَقْلَهُ يَدْعُوَانِهِ إلَى ذَلِكَ .
، وَفِي حَقِّ الْمُكْرَهِ قِيَامُ السَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَذِبٌ ، وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ إذَا كَانَ كَاذِبًا ، فَالْإِخْبَارُ بِهِ لَا يَصِيرُ صِدْقًا ، فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ الْمُقِرُّ بِاخْتِيَارِهِ لَا يَصِيرُ كَائِنًا حَقِيقَةً ،

وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا هَزَلَ بِالرِّدَّةِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ إنَّمَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ لِاسْتِخْفَافِهِ بِالدِّينِ ، فَإِنَّ الْهَازِلَ مُسْتَخِفٌّ لَا مَحَالَةَ إذْ الِاسْتِخْفَافُ بِالدِّينِ كُفْرٌ ، فَأَمَّا الْمُكْرَهُ ، فَغَيْرُ مُسْتَخِفٍّ ، وَلَا مُعْتَقِدٍ لِمَا يُخْبِرُ بِهِ مُكْرَهًا ، ثُمَّ إنْ وَجَبَ مُحَافَظَةُ قَدْرِ الْمِلْكِ عَلَى الْمُكْرَهِ ، فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ مُحَافَظَةُ عَيْنِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْ الْعَبْدِ ، وَهُوَ مُوسِرٌ ، فَإِنَّهُ يَجِبُ مُحَافَظَةُ قَدْرِ الْمِلْكِ عَلَى السَّاكِتِ بِإِيجَابِ الضَّمَانِ لَهُ عَلَى الْعِتْقِ ، وَلَا يَجِبُ مُحَافَظَةُ عَيْنِ مِلْكِهِ بِإِبْطَالِ عِتْقِ الْمُعْتِقِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ عَلَى شَيْئَيْنِ : التَّكَلُّمُ بِالْعَتَاقِ ، وَالْإِتْلَافُ ، وَهُوَ فِي التَّكَلُّمِ لَا يَصْلُحُ آلَةً لَلْمُكْرِهِ ؛ لِأَنَّ تَكَلُّمَهُ بِلِسَانِ الْغَيْرِ لَا يَتَحَقَّقُ ، وَفِي الْإِتْلَافِ يَصْلُحُ آلَةً لَهُ ، فَجَعَلْنَا الْإِتْلَافَ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ ، فَأَوْجَبْنَا الضَّمَانَ عَلَيْهِ ، وَجَعَلْنَا التَّكَلُّمَ بِالطَّلَاقِ ، وَالْعَتَاقِ مَقْصُورًا عَلَى الْمُكْرَهِ ، فَحَكَمْنَا بِنُفُوذِ قَوْلِهِ بِأَنَّ الْمُكْرَهَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ آلَةً حَتَّى يَنْعَدِمَ التَّكَلُّمُ فِي جَانِبِهِ حُكْمًا .
قُلْنَا هَذَا شَيْءٌ لَا يُمْكِنُ تَحْقِيقُهُ هُنَا ، فَإِنَّ الْخِلَافَ فِي الْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ ، وَالْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ سَوَاءٌ ، وَعِنْدَ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ لَا يَنْعَدِمُ الْفِعْلُ فِي جَانِبِ الْمُكْرَهِ بِحَالٍ ، ثُمَّ نَقُولُ لَيْسَ لِلْإِكْرَاهِ تَأْثِيرٌ فِي الْإِهْدَارِ ، وَالْإِلْغَاءِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ لَا يُجْعَلُ فِعْلُهُ لَغْوًا بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ التُّهْمَةِ ، وَلَكِنْ يُجْعَلُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ تَأْثِيرَ الْإِكْرَاهِ فِي تَبْدِيلِ النِّسْبَةِ حَتَّى يَكُونَ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرَهِ ، وَهَذَا يَقْتَصِرُ عَلَى مَا يَصْلُح أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ آلَةً لِلْمُكْرِهِ ، فَلَوْ اعْتَبِرْنَا

ذَلِكَ لَانْعَدَمَ الْفِعْلُ فِي جَانِبِ الْمُكْرَهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ كَانَ تَأْثِيرُ الْإِكْرَاهِ فِي الْإِلْغَاءِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ ، وَالْحَدِيثِ نَفْيُ الْإِثْمِ لَا رَفْعُ الْحُكْمِ ، وَبِهِ نَقُولُ : إنَّ الْإِثْمَ يَرْتَفِعُ بِالْإِكْرَاهِ حَتَّى لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى إيقَاعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ ، أَوْ الطَّلَاقِ حَالَةَ الْحَيْضِ لَا يَكُونُ آثِمًا إذَا ثَبَتَ أَنَّ تَصَرُّفَاتِهِ تَنْعَقِدُ شَرْعًا ، فَمَا لَا يَكُونُ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ بَعْدَ وُقُوعِهِ يَلْزَمُ مِنْ الْمُكْرِهِ ، وَمَا لَا يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا يَكُونُ لَازِمًا مِنْهُ ، وَالطَّلَاقُ ، وَالْعَتَاقُ لَا يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا حَتَّى إنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَهُمَا ، وَمَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ ، وَيَعْتَمِدُ لُزُومُهُ تَمَامَ الرِّضَا قُلْنَا لَا يَكُونُ لَازِمًا إذَا صَدَرَ مِنْ الْمُكْرَهِ إلَّا أَنْ يَرْضَى بِهِ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ صَرِيحًا ، أَوْ دَلَالَةً ، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُ بِهِ ، فَإِنْ بَاعَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُكْرَهِ الْعَبْدَ مِنْ غَيْرِهِ ، وَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي الْآخَرُ نَفَذَ عِتْقُهُ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُكْرَهِ مَلَكَ بِالشِّرَاءِ ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُكْرَهِ حَقُّ الْفَسْخِ كَمَا كَانَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ مَالِكًا بِالشِّرَاءِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ الْفَسْخ إلَّا أَنَّ عِتْقَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُكْرَهِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَنْفُذُ ، وَعِتْقُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُكْرَهِ نَافِذٌ قَبَضَهُ ، أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ لِأَنَّ بَيْعَ الْمُكْرَهِ ، فَاسِدٌ ، فَالْمُشْتَرِي مِنْهُ لَا يَصِيرُ مَالِكًا إلَّا بِالْقَبْضِ .
فَأَمَّا بَيْعُ الْمُشْتَرِي مِنْهُ ، فَصَحِيحٌ ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُكْرَهِ حَقُّ الْفَسْخِ كَالْمُشْتَرِي إذَا قَبَضَ الْمَبِيعَ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ ، وَبَاعَهُ صَحَّ بَيْعُهُ ، وَإِنْ كَانَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الْفَسْخِ ، فَإِذَا صَحَّ الْبَيْعُ مَلَكَهُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، وَيَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهِ ، وَيَصِيرُ بِالْعِتْقِ قَابِضًا لَهُ : يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُشْتَرِي بِإِيجَابِ

الْبَيْعِ لِغَيْرِهِ يَصِيرُ مُسَلِّطًا لَهُ عَلَى الْعِتْقِ ، وَهُوَ لَوْ أَعْتَقَ بِنَفْسِهِ نَفَذَ عِتْقُهُ ، فَيَنْفُذُ عِتْقُ الْمُشْتَرِي مِنْهُ بِتَسْلِيطِهِ أَيْضًا ، ثُمَّ كَانَ لِلْمَوْلَى الْخِيَارُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُكْرَهَ قِيمَتَهُ إذَا كَانَ الْوَعِيدُ بِقَتْلٍ ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ صَارَ مَنْسُوبًا إلَيْهِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الَّذِي أَعْتَقَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ الْمَالِيَّةَ فِيهِ بِالْإِعْتَاقِ ، وَالْعِتْقُ يَنْفُذُ مِنْ جِهَتِهِ حَتَّى يَثْبُتَ الْوَلَاءُ لَهُ ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْمُكْرَهَ رَجَعَ الْمُكْرَهُ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ ، وَإِنْ شَاءَ عَلَى الْمُشْتَرِي الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْمُكْرِهِ بَعْدَ مَا ضَمِنَ لَهُ ؛ وَلِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَدٍّ فِي حَقِّهِ ، فَيَضْمَنُ أَيَّهمَا شَاءَ ، فَإِنْ ضَمِنَ الْمُشْتَرِي الْآخَرُ الْمُكْرَهَ ، أَوْ الْمُكْرِهَ رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ اسْتِرْدَادَ قِيمَتِهِ مِنْهُ كَاسْتِرْدَادِ عَيْنِهِ ، وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلْبَيْعَيْنِ جَمِيعًا .
، فَيَرْجِعُ هُوَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ بِالثَّمَنِ عَلَى مَوْلَاهُ ، وَإِنْ ضَمِنَ الْمُكْرَهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلَ ، أَوْ ضَمِنَهُ الْمُكْرِهُ نَفَذَ الْبَيْعُ بَيْنَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ ، وَالْمُشْتَرِي الْآخَرِ ، وَكَانَ الثَّمَنُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ ، وَكَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا فِيمَا بَيْنَهُمَا إلَّا أَنَّهُ كَانَ لِلْمُكْرَهِ حَقُّ الْفَسْخِ ، فَإِذَا سَقَطَ حَقُّهُ بِوُصُولِ الْقِيمَةِ إلَيْهِ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ نَفَذَ الْبَيْعُ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي الْآخَرِ .
.

وَلَوْ كَانَ الْإِكْرَاهُ بِقَيْدٍ ، أَوْ حَبْسٍ ، أَوْ قَتْلٍ عَلَى أَنْ يَبِيعَهَا مِنْهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَقِيمَتُهَا عَشَرَةُ آلَافٍ ، فَبَاعَهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَفِي الْقِيَاسِ هَذَا الْبَيْعُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِعَقْدٍ آخَرَ سِوَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ ، فَالْبَيْعُ بِخَمْسِمِائَةٍ غَيْرُ الْبَيْعِ بِأَلْفٍ بِدَلِيلِ الدَّعْوَى ، وَالشَّهَادَةِ ، وَإِذَا أَتَى بِعَقْدٍ آخَرَ كَانَ طَائِعًا فِيهِ كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْبَيْعِ فَوَهَبَ لَهُ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الْبَيْعُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَكْرَهَهُ عَلَى الْبَيْعِ بِأَلْفٍ ، فَقَدْ أَكْرَهَهُ عَلَى الْبَيْعِ بِأَقَلَّ مِنْ أَلْفٍ ؛ لِأَنَّ قَصْدَ الْمُكْرِهِ الْإِضْرَارُ بِالْمُكْرَهِ ، وَفِي مَعْنَى الْإِضْرَارِ هَذَا الْمَبِيعُ ، فَوْقَ الْبَيْعِ بِأَلْفٍ ، فَكَانَ هُوَ مُحَصِّلًا مَقْصُودَ الْمُكْرِهِ ، فَلِهَذَا كَانَ مُكْرَهًا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ بِأَلْفٍ إذَا بَاعَ بِأَلْفَيْنِ يَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، وَالْوَكِيلُ بِشِرَاءِ عَيْنٍ بِأَلْفٍ إذَا اشْتَرَاهَا بِخَمْسِمِائَةٍ يَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا تَحْصِيلُ مَقْصُودِ الْمُوَكِّلِ ، فَوْقَ مَا أَمَرَهُ بِهِ ، فَلَا يُعَدُّ خِلَافًا ، وَلَوْ بَاعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الْإِضْرَارِ دُونَ مَا أَمَرَهُ بِهِ الْمُكْرِهُ ، فَلَمْ يَكُنْ هُوَ مُحَصِّلًا مَقْصُودَ الْمُكْرِهِ فِيمَا بَاشَرَهُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ مِنْ الْبَيْعِ بِأَلْفٍ لَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ الْبَيْعِ بِأَلْفَيْنِ ، وَالْمُمْتَنِعُ مِنْ الْبَيْعِ بِأَلْفٍ يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ الْبَيْعِ بِخَمْسِمِائَةٍ .
.

وَلَوْ أَكْرَهُوهُ عَلَى الْبَيْعِ ، فَوَهَبَهُ نَفَذَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ مِنْ الْبَيْعِ قَدْ لَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ الْهِبَةِ لِلْقَصْدِ إلَى الْإِنْعَامِ ، ثُمَّ هُوَ مُخَالِفٌ لَلْمُكْرِهِ فِي جِنْسِ مَا أَمَرَهُ بِهِ ، فَلَا يَكُونُ مُحَصِّلًا مَقْصُودَ الْمُكْرِهِ بَلْ يَكُونُ طَائِعًا مُخَالِفًا لَهُ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إذَا بَاعَ بِأَلْفِ دِينَارٍ بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِخَمْسِمِائَةٍ ، فَهُنَاكَ مَا خَالَفَ الْمُكْرِهَ فِي جِنْسِ مَا أَمَرَهُ بِهِ ، وَتَحْصِيلُ مَقْصُودِ الْمُكْرِهِ فِيمَا بَاشَرَهُ إثْمٌ ، فَكَانَ مُكْرَهًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْرَهُوهُ عَلَى أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَوَهَبَ لَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ غَيْرُ الْإِقْرَارِ مِنْ التِّجَارَةِ ، وَالْهِبَةُ تَبَرُّعٌ ، وَالْمُمْتَنِعُ مِنْ الْإِقْرَارِ قَدْ لَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ الْهِبَةِ ، فَكَانَ هُوَ فِي الْهِبَةِ طَائِعًا .

وَلَوْ أَكْرَهُوهُ عَلَى بَيْعِ جَارِيَتِهِ ، وَلَمْ يُسَمُّوا أَحَدًا ، فَبَاعَهَا مِنْ إنْسَانٍ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ قَصْدَ الْمُكْرِهِ الْإِضْرَارُ بِالْمُكْرَهِ لَا مَنْفَعَةَ الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الْمُشْتَرِي لَا يَتَمَكَّنُ الْخَلَلُ فِي مَقْصُودِ الْمُكْرَهِ ، فَكَانَ هُوَ مُكْرَهًا فِي الْبَيْعِ مِمَّنْ بَاعَهُ ، وَلَوْ أَخَذُوهُ بِمَالٍ لِيُؤَدِّيَهُ ، وَذَلِكَ الْمَالُ أَصْلُهُ بَاطِلٌ ، فَاكْرَهُوهُ عَلَى أَدَائِهِ ، وَلَمْ يَذْكُرُوا لَهُ بَيْعَ جَارِيَتِهِ ، فَبَاعَهَا لِيُؤَدِّيَ ذَلِكَ الْمَالَ ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ طَائِعٌ فِي الْبَيْعِ ، وَإِنَّمَا أُكْرِهَ عَلَى أَدَاءِ الْمَالِ : وَوَجْهُهُ أَنَّ بَيْعَ الْجَارِيَةِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِأَدَاءِ الْمَالِ ، فَقَدْ يَتَحَقَّقُ أَدَاءُ الْمَالِ بِطَرِيقِ الِاسْتِقْرَاضِ ، وَالِاسْتِيهَابِ مِنْ غَيْرِ بَيْعِ الْجَارِيَةِ ، وَهَذَا هُوَ عَادَةُ الظَّلَمَةِ إذَا أَرَادُوا أَنْ يُصَادِرُوا رَجُلًا يَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْمَالِ ، وَلَا يَذْكُرُونَ لَهُ بَيْعَ شَيْءٍ مِنْ مِلْكِهِ حَتَّى إذَا بَاعَهُ يَنْفُذُ بَيْعُهُ ، فَالْحِيلَةُ لِمَنْ اُبْتُلِيَ بِذَلِكَ أَنْ يَقُولَ : مِنْ أَيْنَ أُؤَدِّي وَلَا مَالَ لِي ؟ فَإِذَا قَالَ لَهُ الظَّالِمُ : بِعْ جَارِيَتَك ، فَالْآنَ يَصِيرُ مُكْرَهًا عَلَى بَيْعِهَا فَلَا يَنْفُذُ بَيْعُهَا .

وَلَوْ أَكْرَهُوهُ عَلَى أَنْ يَبِيعَ جَارِيَتَهُ مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَبَاعَهَا مِنْهُ بِقِيمَةِ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَنَانِيرَ جَازَ الْبَيْعُ فِي الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ ، وَالدَّنَانِيرَ جِنْسَانِ حَقِيقَةً ، وَهُوَ فِي الِاسْتِحْسَانِ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُمَا فِي الْمَعْنَى ، وَالْمَقْصُودِ جِنْسٌ وَاحِدٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ فِي الْإِنْشَاءَاتِ جُعِلَا كَجِنْسٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي شِرَاءِ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ ، وَفِي شِرَاءِ الْمُضَارِبِ بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ ، وَرَأْسِ الْمَالِ مِنْ النَّقْدِ الْآخَرِ ، وَفِي الْإِخْبَارَاتِ هُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ ، وَبِهَذَا يَتَّضِحُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا ، وَبَيْنَ الْإِقْرَارِ الَّذِي سَبَقَ فَالْإِقْرَارُ إخْبَارٌ ، وَالدَّرَاهِمُ ، وَالدَّنَانِيرُ فِي ذَلِكَ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ ، وَهُنَا إنَّمَا أُكْرِهَ عَلَى إنْشَاءِ الْبَيْعِ ، وَالدَّرَاهِمُ ، وَالدَّنَانِيرُ فِي ذَلِكَ جِنْسٌ وَاحِدٌ ، فَكَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا ، وَلَوْ أَكْرَهُوهُ عَلَى أَنْ يَبِيعَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَبَاعَهَا بِعَرَضٍ ، أَوْ حِنْطَةٍ ، أَوْ شَعِيرٍ جَازَ الْبَيْعُ بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَرَضِ ، وَهُوَ آتٍ بِعَقْدٍ آخَرَ سِوَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ حَقِيقَةً ، وَحُكْمًا .
، وَقَدْ يَمْتَنِعُ الْإِنْسَانُ مِنْ الْبَيْعِ بِالنَّقْدِ ، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْبَيْعِ بِالْعَرَضِ لِمَا لَهُ مِنْ الْغَرَضِ فِي ذَلِكَ الْعَرَضِ ، وَقَدْ يَمْتَنِعُ مِنْ الْبَيْعِ بِالْعَرَضِ ، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْبَيْعِ بِالنَّقْدِ ، فَالْمُكْرَهُ عَلَى أَحَدِ النَّوْعَيْنِ يَكُونُ طَائِعًا فِي الْعَقْدِ الْآخَرِ إذَا بَاشَرَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أُكْرِهَ بِوَعِيدِ قَتْلٍ عَلَى عِتْقِ عَبْدِهِ ، فَأَعْتَقَهُ نَفَذَ الْعِتْقُ عِنْدَنَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ فِي التَّكَلُّمِ بِالْعِتْقِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ آلَةً لَلْمُكْرِهِ ، فَيَبْقَى تَكَلُّمُهُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ ، وَيَصِيرُ بِهِ مُعْتِقًا ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ ، وَإِنْ كَانَ يُفْسِدُ اخْتِيَارَهُ لَكِنْ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُخَاطَبًا ، وَفِيمَا يُمْكِنُ نِسْبَتُهُ إلَى الْمُكْرِهِ يُجْعَلُ الْمُكْرَه آلَةً لَهُ ، فَرَجَحَ الِاخْتِيَارُ الصَّحِيحُ عَلَى الِاخْتِيَارِ الْفَاسِدِ ، وَفِيمَا لَا يُمْكِنُ نِسْبَتُهُ إلَى الْمُكْرِهِ يَبْقَى مُضَافًا إلَى الْمُكْرَهِ بِمَا لَهُ مِنْ الِاخْتِيَارِ الْفَاسِدِ ، وَعَلَى الْمُكْرِهِ ضَمَانُ قِيمَتهِ ؛ لِأَنَّ فِي حُكْمِ الْإِتْلَافِ الْمُكْرَهَ يُصْبِحُ آلَةً لَلْمُكْرِهِ ، فَيَصِيرُ الْإِتْلَافُ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ تَرْجِيحًا لِلِاخْتِيَارِ الصَّحِيحِ عَلَى الِاخْتِيَارِ الْفَاسِدِ ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْمُكْرِهُ مُوسِرًا ، أَوْ مُعْسِرًا ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذَا الضَّمَانِ بِاعْتِبَارِ مُبَاشَرَةِ الْإِتْلَافِ ، فَيَكُونُ جُبْرَانًا لِحَقِّ الْمُتْلَفِ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارَةِ ، وَالْعُسْرَةِ ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ نَفَذَ الْعِتْقُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ مَالِكِهِ ، وَلَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِي مَالِهِ بِخِلَافِ الْمَرِيضِ يَعْتِقُ عَبْدَهُ ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ ، فَهُنَاكَ يَجِبُ السِّعَايَةُ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ ، وَكَذَلِكَ إذَا أَعْتَقَ الْمَرْهُونُ ، وَهُوَ مُعْسِرٌ ، فَإِنَّهُ يَجِبُ السِّعَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ ، وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِلسَّفَهِ إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ تَجِبُ السِّعَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ صَارَ هُوَ فِي حُكْمِ التَّصَرُّفِ نَاقِصَ الْمِلْكِ لِوُجُوبِ النَّظَرِ لَهُ شَرْعًا ، وَهُنَا بِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ لَمْ يَصِرْ نَاقِصَ الْمِلْكِ ، وَمَعْنَى النَّظَرِ يَتِمُّ بِإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ ، ثُمَّ الْوَلَاءُ يَكُونُ لِلْمُكْرَهِ ؛

لِأَنَّهُ هُوَ الْمُعْتِقُ ، وَالْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ ، وَثُبُوتُ الْوَلَاءِ لَهُ يُبْطِلُ حَقَّهُ فِي تَضْمِينِ الْمُكْرِهِ كَمَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ ، ثُمَّ رَجَعَا بَعْدَ الْقَضَاء ضُمِّنَا قِيمَتَهُ ، وَالْوَلَاءُ ثَابِتٌ لِلْمَوْلَى ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ ، وَلَيْسَ لِلْمُكْرِهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَبْدِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْمَوْلَى ، وَلَا سَبِيلَ لِلْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ فِي الِاسْتِسْعَاءِ ؛ وَلِأَنَّ الْمُكْرِهَ لَمْ يَصِرْ مَالِكًا لِلْعَبْدِ بِالضَّمَانِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْوَلَاءَ لِلْمُكْرَهِ ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ ، فَأُكْرِهَ أَحَدُهُمَا حَتَّى أَعْتَقَهُ جَازَ عِتْقُهُ ، ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْعِتْقُ لَا يَتَجَزَّأُ ، فَيَعْتِقُ الْعَبْدُ كُلُّهُ ، وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ ، وَعَلَى الْمُكْرِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا ضَمَانُ جَمِيعِ الْقِيمَةِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتْلِفًا الْمِلْكَ عَلَيْهِمَا ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا ضَمِنَ نَصِيبَ الْمُكْرَهِ ؛ لِأَنَّهُ بَاشَرَ إتْلَافَ نَصِيبِهِ ، وَيُسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَةِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمُكْرَهِ إتْلَافُ نَصِيبِ الشَّرِيكِ قَصْدًا ، وَلَكِنَّهُ تَعَدَّى إلَيْهِ التَّلَفُ حُكْمًا ، فَيَكُونُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ شَرِيكِ الْمُعْتِقِ ، وَالْمُعْتِقُ إذَا كَانَ مُعْسِرًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ نَصِيبِ شَرِيكِهِ ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ لَهُ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ رَقَبَتِهِ ، وَلَا يَرْجِعُ ، وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ .
أَمَّا عَلَى الْعَبْدِ ، فَلِأَنَّهُ سَعَى فِي بَدَلِ مَا سُلِّمَ لَهُ ، وَأَمَّا الْمُكْرِهِ ، فَلِأَنَّهُ ضَمِنَ بِمُبَاشَرَةِ الْإِتْلَافِ ، وَأَمَّا فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَالْمُكْرِهُ ضَامِنٌ لِنَصِيبِ الْمُكْرَهِ مُوسِرًا كَانَ ، أَوْ مُعْسِرًا ، وَفِي نَصِيبِ السَّاكِتِ إنْ كَانَ الْمُكْرِهُ مُوسِرًا ، فَالسَّاكِتُ

بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَاهُ فِي نَصِيبِهِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُكْرِهَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ ، فَإِنْ ضَمَّنَهُ يَرْجِعُ الْمُكْرَهُ بِهَذَا النِّصْفِ مِنْ الْقِيمَةِ عَلَى الْعَبْدِ فَاسْتَسْعَاهُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ السَّاكِتِ فِي ذَلِكَ ، وَصَارَ مُتَمَلِّكًا لِنَصِيبِهِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ ، وَالْوَلَاءُ بَيْنَ الْمُكْرَهِ ، وَالْمُكْرِهِ نِصْفَانِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُكْرِهُ مُعْسِرًا ، فَلِلسَّاكِتِ حَقُّ الِاسْتِسْعَاءِ ، وَالْإِعْتَاقِ ، وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ الْمُكْرَهِ نِصْفَانِ لِأَنَّهُ عَتَقَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مِلْكِهِ .

، وَلَوْ أُكْرِهَ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَفَعَلَ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا بَانَتْ مِنْهُ لِمَا قُلْنَا ، وَعَلَى الزَّوْجِ نِصْفُ الصَّدَاقِ إنْ كَانَ سَمَّى لَهَا مَهْرًا ، وَالْمُتْعَةُ إنْ لَمْ يَكُنْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا ، وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الْمُكْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَلْزَمهُ ذَلِكَ الْمَالَ حُكْمًا ، فَإِنَّ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ مُسْقِطٌ لِجَمِيعِ الصَّدَاقِ إلَّا إذَا كَانَ بِسَبَبٍ مُضَافٍ إلَى الزَّوْجِ ، فَحِينَئِذٍ يَجِبُ نِصْفُ الصَّدَاقِ بِالنَّصِّ ، وَالْمُكْرِهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْفُرْقَةَ مُضَافَةً إلَى الزَّوْجِ بِإِكْرَاهِهِ ، فَكَأَنَّهُ أَلْزَمَ الزَّوْجَ ذَلِكَ الْمَالَ ، أَوْ فَوَّتَ يَدَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ ، فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ كَالْغَاصِبِ ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَضْمَنُ شَاهِدًا الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ .
، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ دَخَلَ بِهَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ كُلَّهُ تَقَرَّرَ عَلَى الزَّوْجِ بِالدُّخُولِ ، وَالْمُكْرِهِ إنَّمَا أَتْلَفَ عَلَيْهِ مِلْكَ النِّكَاحِ ، وَمِلْكُ النِّكَاحِ لَا يَتَقَوَّمُ بِالْإِتْلَافِ عَلَى الزَّوْجِ عِنْدَنَا ، وَلِهَذَا لَا نُوجِبُ عَلَى شَاهِدَيْ الطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ ضَمَانًا عِنْدَ الرُّجُوعِ ، وَلَا عَلَى الْمَرْأَةِ إنْ ارْتَدَّتْ بَعْدَ الدُّخُولِ ، وَلَا عَلَى الْقَاتِلِ لِمَنْكُوحَةِ الْغَيْرِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْبُضْعَ مَضْمُونًا بِمَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ عَلَى الزَّوْجِ كَمَا هُوَ مَضْمُونٌ بِمَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْبِضْعُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا بِالْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ مَا هُوَ مَالٌ ، وَبَيْنَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ ، وَتَقَوُّمُهُ عِنْدَ النِّكَاحِ لِإِظْهَارِ خَطَرِ الْمَمْلُوكِ ، وَهَذَا الْخَطَرُ لِلْمَمْلُوكِ لَا لِلْمِلْكِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ إزَالَةَ الْمِلْكِ بِغَيْرِ شُهُودٍ ، وَبِغَيْرِ ، وَلِيٍّ صَحِيحٌ ، فَلَا حَاجَةَ إلَى

إظْهَارِ الْخَطَرِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ ، فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ الْمُتْلِفُ شَيْئًا .
.

وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَكْرَهَ امْرَأَةَ أَبِيهِ فَجَامَعَهَا يُرِيدُ بِهِ الْفَسَادَ عَلَى أَبِيهِ ، وَلَمْ يَدْخُلُ بِهَا أَبُوهُ كَانَ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ نِصْفُ الْمَهْرِ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ ، وَقَعَتْ بِسَبَبٍ مُضَافٍ إلَى الْأَبِ ، وَهُوَ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ ، وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى ابْنِهِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَلْزَمهُ ذَلِكَ حُكْمًا ، وَإِنْ كَانَ الْأَبُ قَدْ دَخَلَ بِهَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الِابْنِ بِشَيْءٍ لِمَا قُلْنَا ، وَهَذَا الْفَصْلُ ، أَوْرَدَهُ لِإِيضَاحِ مَا سَبَقَ ، وَقَوْلُهُ بَرِيدُ بِهِ الْفَسَادَ أَيْ يَكُونُ قَصْدُهُ إفْسَادَ النِّكَاحِ ، فَأَمَّا الزِّنَا ، فَلَا يَكُونُ إفْسَادًا .
.

وَلَوْ أُكْرِهَ بِوَعِيدِ قَتْلٍ ، أَوْ حَبْسٍ حَتَّى تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ ، وَمَهْرِ مِثْلِهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ جَازَ النِّكَاحُ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْجِدَّ ، وَالْهَزْلَ فِي النِّكَاحِ ، وَالطَّلَاقِ ، وَالْعَتَاقِ سَوَاءٌ ، فَكَذَلِكَ الْإِكْرَاهُ ، وَالطَّوَاعِيَةُ ، وَلِلْمَرْأَةِ مِقْدَارُ مَهْرِ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الْمَالِ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا ، وَيَخْتَلِفُ بِالْجِدِّ ، وَالْهَزْلِ ، فَيَخْتَلِفُ أَيْضًا بِالْإِكْرَاهِ ، وَالطَّوْعِ ، فَلَا يَصِحُّ مِنْ الزَّوْجِ الْتِزَامُ الْمَالِ مُكْرَهًا إلَّا أَنَّ مِقْدَارَ مَهْرِ الْمِثْلِ يَجِبُ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ لَا مَحَالَةَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ بِدُونِ التَّسْمِيَةِ يَجِبُ ، فَعِنْدَ قَبُولِ التَّسْمِيَةِ فِيهِ مُكْرَهًا ، أَوْلَى أَنْ يَجِبَ ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ يَبْطُلُ لِانْعِدَامِ الرِّضَا مِنْ الزَّوْجِ بِالْتِزَامِهِ ، وَلَوْ أَنَّ الْمَرْأَةَ هِيَ الَّتِي أُكْرِهَتْ بِبَعْضِ مَا ذَكَرْنَا عَلَى أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا مِنْهُ بِأَلْفٍ ، وَمَهْرُ مِثْلِهَا عَشَرَةُ آلَافٍ فَزَوَّجَهَا أَوْلِيَاؤُهَا مُكْرَهِينَ ، فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ ، وَتَقَوُّمُهُ عَلَى الْمُتَمَلِّكِ بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِيمَا هُوَ مَصُونٌ عَنْ الِابْتِذَالِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْمُكْرَهِ ، ثُمَّ يَقُولُ الْقَاضِي لِلزَّوْجِ : إنْ شِئْت ، فَأَتْمِمْ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا ، وَهِيَ امْرَأَتُك إنْ كَانَ كُفُؤًا لَهَا ، فَإِنْ أَبَى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ، وَلَا شَيْءَ لَهَا ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الزَّوْجَ إنْ كَانَ كُفُؤًا لَهَا ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ ؛ لِمَا يَلْحَقُهَا مِنْ الضَّرَرِ بِنُقْصَانِ حَقِّهَا عَنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا ، وَالزَّوْجُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ إزَالَةِ هَذَا الضَّرَرِ بِأَنْ يَلْتَزِمَ لَهَا كَمَالَ مَهْرِ مِثْلِهَا ، فَإِنْ الْتَزَمَ ذَلِكَ فَالنِّكَاحُ بَيْنَهُمَا لَازِمٌ ، وَإِنْ أَبَى ، فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ، وَلَا شَيْءَ لَهَا إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا مُكْرَهَةً ، فَلَهَا تَمَامُ مَهْرِ مِثْلِهَا

لِانْعِدَامِ الرِّضَا مِنْهَا بِالنُّقْصَانِ ، وَلَا خِيَارَ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ انْدَفَعَ حِينَ اسْتَحَقَّتْ كَمَالَ مَهْرِ مِثْلِهَا ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا ، وَهِيَ طَائِعَةٌ ، أَوْ رَضِيَتْ بِمَا سَمَّى لَهَا ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ ، وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ ، وَأَصْلُهُ فِيمَا إذَا زَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مِنْ كُفُؤٍ بِدُونِ صَدَاقِ مِثْلِهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ .
، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الزَّوْجُ كُفُؤًا لَهَا ، فَلَهَا أَنْ لَا تَرْضَى بِالْمَقَامِ مَعَهُ سَوَاءٌ الْتَزَمَ الزَّوْجُ لَهَا كَمَالَ مَهْرِ الْمِثْلِ ، أَوْ لَمْ يَلْتَزِمْ دَخَلَ بِهَا ، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ؛ لِمَا يَلْحَقُهَا مِنْ الضَّرَرِ مِنْ اسْتِفْرَاشِ مَنْ لَا يُكَافِئُهَا ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا ، وَهِيَ طَائِعَةٌ ، أَوْ رَضِيَتْ ، فَلِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ طَلَبِ الْكَفَاءَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهَا لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا طَائِعَةً مِنْ غَيْرِ كُفُؤٍ كَانَ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ ، فَهُنَا أَيْضًا لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ الرِّضَا بِسُقُوطِ حَقِّهِمْ فِي الْكَفَاءَةِ ، وَالزَّوْجُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إزَالَةِ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ ، فَيَكُونُ لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ رَضِيَ بِأَنْ يُتِمَّ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا ، أَوْ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ .

وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا ، وَجَبَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ قِصَاصٌ فِي نَفْسٍ ، أَوْ فِيمَا دُونَهَا ، فَأُكْرِهَ بِوَعِيدِ قَتْلٍ ، أَوْ حَبْسٍ حَتَّى عَفَا فَالْعَفْوُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْقِصَاصِ نَظِيرُ الطَّلَاقِ فِي أَنَّ الْهَزْلَ ، وَالْجِدَّ فِيهِ سَوَاءٌ ، فَإِنَّهُ إبْطَالُ مِلْكِ الِاسْتِيفَاءِ ، وَلَيْسَ فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْمِلْكِ شَيْءٌ ، وَلَا ضَمَانَ لَهُ عَلَى الْجَانِي ؛ لِأَنَّ الْجَانِيَ لَمْ يَلْتَزِمْ لَهُ عِوَضًا ، وَلَمْ يَتَمَلَّكْ عَلَيْهِ شَيْئًا ، وَتُقَوَّمُ النَّفْسُ بِالْمَالِ عِنْدَ الْخَطَأِ لِصِيَانَةِ النَّفْسِ عَنْ الْإِهْدَارِ ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ عِنْدَ الْإِسْقَاطِ بِالْعَفْوِ ؛ لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ ، وَالْبَدَلُ فِيهِ صَحِيحٌ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَهْلِكْ عَلَيْهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا ، فَإِنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ ، وَلِهَذَا لَا يُضَمَّنُ شُهُودُ الْعَفْو إذَا رَجَعُوا ، وَمَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إذَا قَتَلَهُ إنْسَانٌ لَا يَضْمَنُ لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ شَيْئًا ، وَكَذَلِكَ إذَا مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لَا يَكُونُ ضَامِنًا لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ شَيْئًا ، فَكَذَلِكَ الْمُكْرِهُ .

وَلَوْ ، وَجَبَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ مِنْ مَالٍ ، أَوْ كَفَالَةٍ بِنَفْسٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، فَأُكْرِهَ بِوَعِيدِ قَتْلٍ ، أَوْ حَبْسٍ حَتَّى أَبْرَأَ مِنْ ذَلِكَ الْحَقِّ كَانَ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِبْرَاءِ تَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا ، وَبِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ يَنْعَدِمُ الرِّضَا ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ الدَّيْنِ ، وَإِنْ كَانَ إسْقَاطًا ، وَلَكِنْ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ ، وَلِهَذَا يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْمَدْيُونِ ، وَإِبْرَاءُ الْكَفِيلِ ، فَرْعٌ لِإِبْرَاءِ الْأَصِيلِ ، وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ مِنْ حُقُوقِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ صِحَّتَهَا بِاعْتِبَارِ دَعْوَى الْمَالِ ، فَلِهَذَا لَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ مَعَ الْإِكْرَاهِ كَمَا لَا تَصِحُّ مَعَ الْهَزْلِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى تَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ بَعْدَ مَا طَلَبهَا ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الشُّفْعَةِ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ كَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ ، وَلِهَذَا مَلَكَهُ الْأَبُ ، وَالْوَصِيُّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَالتِّجَارَةُ تَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا ، وَذَلِكَ يُعْتَمَدُ بِالْإِكْرَاهِ ، وَلَوْ كَانَ الشَّفِيعُ حِينَ عَلِمَ بِهَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِطَلَبِهَا ، فَأُكْرِهَ حَتَّى سَدَّ فَمَهُ ، وَلَمْ يَتْرُكْهُ يَنْطِقُ يَوْمًا ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ عَلَى شُفْعَتِهِ إذَا خَلَّى عَنْهُ ، فَإِنْ طَلَبَ عِنْدَ ذَلِكَ ، وَإِلَّا بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْقِطَ لِلشُّفْعَةِ تَرَكَ الطَّلَبَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ تَرْكَ الطَّلَبِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ لَا يُبْطِلُ الشُّفْعَةَ لِانْعِدَامِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الطَّلَبِ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ الطَّلَبِ هُنَا حِينَ سَدَّ ، فَمَهُ ، أَوْ قِيلَ : لَهُ لَئِنْ تَكَلَّمْت بِطَلَبِ شُفْعَتِك لَنَقْتُلَنَّكَ ، أَوْ لَنَحْبِسَنَّكَ ، فَهَذَا لَا يُبْطِلُ شُفْعَتَهُ ، فَأَمَّا بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ إذَا لَمْ يَطْلُبْ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ لِتَرْكِ الطَّلَبِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ ، فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ بِمَنْزِلَةِ الْهَزْلِ ، وَالْهَازِلُ بِتَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ

تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ ، فَكَذَلِكَ الْمُكْرَهُ عَلَى تَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ قُلْنَا إذَا هَزَلَ بِتَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الطَّلَبِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ لِتَرْكِ الطَّلَبِ مَعَ الْإِمْكَانِ لَا بِالْهَزْلِ بِالتَّسْلِيمِ ، فَأَمَّا إذَا طَلَبَ الشُّفْعَةَ ، ثُمَّ سَلَّمَهَا هَازِلًا ، وَاتَّفَقَا أَنَّهُ كَانَ هَازِلًا فِي التَّسْلِيمِ لَمْ تَبْطُلْ شُفْعَتُهُ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التِّجَارَةِ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا .
فَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي : إنَّهُ لَمْ يَكُفَّ عَنْ الطَّلَبِ لِلْإِكْرَاهِ ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَخْذَهَا بِالشُّفْعَةِ ، وَقَالَ الشَّفِيعُ : مَا كَفَفْت إلَّا لِلْإِكْرَاهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الشَّفِيعِ ؛ لِأَنَّ قِيَامَ السَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا كَفَّ عَنْ الطَّلَبِ لِلْإِكْرَاهِ ، وَلَكِنَّهُ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا مَنَعَهُ مِنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ إلَّا الْإِكْرَاهُ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِي ادَّعَى عَلَيْهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ ، فَإِذَا أَنْكَرَهُ اُسْتُحْلِفَ عَلَيْهِ .
.

وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَكْرَهَهُ أَهْلُ الشِّرْكِ عَلَى أَنْ يَكْفُرَ بِاَللَّهِ ، وَلَهُ امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ ، فَفَعَلَ ، ثُمَّ خُلِّيَ سَبِيلُهُ ، فَقَالَتْ : قَدْ كَفَرْتَ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، وَبِنْتُ مِنْك ، وَقَالَ الرَّجُلُ : إنَّمَا أَظْهَرْت ذَلِكَ ، وَقَلْبِي مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ، فَفِي الْقِيَاسِ الْقَوْلُ قَوْلُهَا ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَنَا إلَى مَعْرِفَةِ سِرِّهِ ، فَوَجَبَ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَى ظَاهِرِ مَا نَسْمَعُهُ مِنْهُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ الظَّاهِرَ الَّذِي يُوقَفُ عَلَيْهِ مَقَامَ الْخَفِيِّ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ لِلتَّيْسِيرِ عَلَى النَّاسِ ، فَبِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ قَدْ سُمِعَ مِنْهُ كَلِمَةُ الرِّدَّةِ ، فَتَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ ، فَقَالَ : الْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { قَبِلَ قَوْلَ عَمَّارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلَمْ يُجَدِّدْ النِّكَاحَ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ } ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ ، فَإِنَّ امْتِنَاعَهُ مِنْ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الشِّرْكِ حَتَّى تَحَقَّقَ الْإِكْرَاهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُطْمَئِنُّ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ ، وَأَنَّهُ مَا قَصَدَ بِالتَّكَلُّمِ إلَّا دَفْعَ الشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ ، فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ ، فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَالَ مَا قَالَ مُعْتَقِدًا ، وَهُوَ مُعَارِضٌ لِلْإِكْرَاهِ ، فَعِنْدَ تَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ يُصَارُ إلَى ظَاهِرِ مَا سُمِعَ مِنْهُ ، فَأَمَّا الشِّرْكُ مِمَّا لَا يَجُوزُ اعْتِقَادُهُ ، وَالْإِكْرَاهُ ، فَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُعْتَقِدٌ ، فَلِهَذَا لَا يُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ إذَا أَجْرَى كَلِمَةَ الشِّرْكِ مُكْرَهًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَكْرَهَهُ لِصٌّ بِالْقَتْلِ عَلَى قَطْعِ يَدِ نَفْسِهِ ، فَهُوَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ اُبْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ ، فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا عَلَيْهِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { : مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا } ، ثُمَّ حُرْمَةُ الطَّرَفِ تَابِعَةٌ لِحُرْمَةِ النَّفْسِ ، وَالتَّابِعُ لَا يُعَارِضُ الْأَصْلَ ، وَلَكِنْ يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الْأَصْلِ ، فَفِي إقْدَامِهِ عَلَى قَطْعِ الْيَدِ مُرَاعَاةُ حُرْمَةِ نَفْسِهِ ، وَفِي امْتِنَاعِهِ مِنْ ذَلِكَ تَعْرِيضُ النَّفْسِ ، وَتَلَفُ النَّفْسِ يُوجِبُ تَلَفَ الْأَطْرَافِ لَا مَحَالَةَ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إتْلَافَ الْبَعْضِ لِإِبْقَاءِ الْكُلِّ يَكُونُ ، أَوْلَى مِنْ إتْلَاف الْكُلِّ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَنْ ، وَقَعَتْ فِي يَدِهِ أَكَلَةٌ يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ لِيَدْفَعَ بِهِ الْهَلَاكَ عَنْ نَفْسِهِ ، وَقَدْ ، فَعَلَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَهَذَا الْمُكْرَهُ فِي مَعْنَى ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ الْهَلَاكَ عَنْ نَفْسِهِ بِقَطْعِ طَرَفِهِ إلَّا أَنَّهُ قَيَّدَهُ بِالْمَشِيئَةِ هُنَا ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْأَكَلَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَحُرْمَةُ الطَّرَفِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ ، فَلِهَذَا تَحَرَّزَ عَنْ الْإِثْبَاتِ فِي الْجَوَابِ ، وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنْ قَطَعَ يَدَ نَفْسِهِ ، ثُمَّ خَاصَمَ الْمُكْرِهَ فِيهِ قَضَى الْقَاضِي لَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِالْقَوَدِ ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ صَارَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ لِمَا تَحَقَّقَ الْإِكْرَاهُ عَلَى مَا بَيَّنَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْمُكْرِهِ عَلَى الْقَتْلِ ، فَكَأَنَّ الْمُكْرِهَ بَاشَرَ قَطْعَ يَدِهِ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ الْقَوَدَ عَلَى الْمُكْرِهِ ، فَقِيلَ فِي هَذَا الْفَصْلِ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ

أَيْضًا ، وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ أَرْشُ الْيَدِ فِي مَالِهِ ، وَقِيلَ هُنَا يَجِبُ الْقَوَدُ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجْعَلُ الْمُكْرَهَ آلَةً فِي قَتْلِ الْغَيْرِ لِكَوْنِهِ آثِمًا لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقَتْلِ ، وَهُنَا يَحِلُّ لِلْمُكْرَهِ الْإِقْدَامُ عَلَى قَطْعِ يَدِهِ ، فَكَانَ هُوَ آلَةً بِمَنْزِلَةِ الْمُكْرَهِ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ ، فَيَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرِهُ .
.

، وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَطْرَحَ نَفْسَهُ فِي النَّارِ بِوَعِيدِ قَتْلٍ ، فَهُوَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ أَمَّا إنْ كَانَ يَرْجُو النَّجَاةَ مِنْ النَّارِ ، فَإِنَّهُ يُلْقِي نَفْسَهُ عَلَى قَصْدِ النَّجَاةِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَرْجُو النَّجَاةَ ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ ؛ لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَخْتَارُ أَلَمَ النَّارِ عَلَى أَلَمِ السَّيْفِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ أَلَمَ السَّيْفِ ، وَرُبَّمَا يَكُونُ فِي النَّارِ بَعْضُ الرَّاحَةِ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ يَأْتِي عَلَى نَفْسِهِ ، وَقِيلَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَسَعُهُ أَنْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ إذَا كَانَ لَا يَرْجُو النَّجَاةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَلْقَى نَفْسَهُ صَارَ مَقْتُولًا بِفِعْلِ نَفْسِهِ ، وَلَوْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ صَارَ مَقْتُولًا بِفِعْلِ الْمُكْرِهِ ، وَحَيْثُ يَسَعُهُ الْإِلْقَاءُ ، فَلِوَلِيِّهِ الْقَوْدُ عَلَى الْمُكْرِهِ ، وَهَذَا لَا يَشْكُلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْجَوَابِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أُبِيحَ لَهُ الْإِقْدَامُ صَارَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَطْرَحَ نَفْسَهُ مِنْ ، فَوْقِ بَيْتٍ إلَّا أَنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجِبُ الْقَوَدُ كَمَا لَوْ أَلْقَاهُ الْمُكْرِهُ بِنَفْسِهِ .
، وَعِنْدَهُمَا إذَا كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتُلُ غَالِبًا فَهُوَ ، وَإِلْقَاءُ النَّفْسِ فِي النَّارِ سَوَاءٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَطْرَحَ نَفْسَهُ فِي مَاءٍ ، وَهُنَا الْقَوْدُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُكْرِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا لَوْ أَلْقَاهُ بِنَفْسِهِ ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا إذَا كَانَ يُرْجَى النَّجَاةُ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَقْتُلُ غَالِبًا يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرَهِ ، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ، وَهْبٍ قَالَ اسْتَعْمَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَجُلًا عَلَى جَيْشٍ ، فَخَرَجَ نَحْوَ الْجَبَلِ ، فَانْتَهَى إلَى نَهْرٍ لَيْسَ عَلَيْهِ جِسْرٌ فِي يَوْمٍ بَارِدٍ ، فَقَالَ أَمِيرُ ذَلِكَ الْجَيْشِ لِرَجُلٍ انْزِلْ فَابْغِ لَنَا مَخَاضَةً نَجُوزُ فِيهَا ، فَقَالَ

الرَّجُلُ : إنِّي أَخَافُ إنْ دَخَلْت الْمَاءَ أَنْ أَمُوتَ قَالَ ، فَأَكْرَهَهُ ، فَدَخَلَ الْمَاءَ قَالَ يَا عُمَرَاهُ ، يَا عُمَرَاهُ ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ هَلَكَ فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَهُوَ فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ قَالَ يَا لَيْتَكَاهُ ، يَا لَيْتَكَاهُ ، ، فَبَعَثَ إلَى أَمِيرِ ذَلِكَ الْجَيْشِ فَنَزَعَهُ ، وَقَالَ : لَوْلَا أَنْ يَكُونَ سُنَّةً لَأَقَدْتُهُ مِنْك ، ثُمَّ غَرَّمَهُ الدِّيَةَ ، وَقَالَ : لَا تَعْمَلْ لِي عَمَلًا أَبَدًا قَالَ ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ الْأَمِيرُ بِهَذَا عَلَى غَيْرِ إرَادَةِ قَتْلِهِ بَلْ لِيَدْخُلَ الْمَاءَ ، فَيَنْظُرَ لَهُمْ مَخَاضَةَ الْمَاءِ ، فَضَمَّنَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دِيَتَهُ ، فَكَيْفَ بِمَنْ أَمَرَهُ ، وَهُوَ يُرِيدُ قَتْلَهُ بِذَلِكَ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرِهِ ، وَأَنَّهُ يَجِبُ بِغَيْرِ السِّلَاحِ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ سُنَّةً يَعْنِي فِي حَقِّ مَنْ لَا يَقْصِدُ الْقَتْلَ ، وَيَكُونُ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ ، فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ قَاصِدًا إلَى قَتْلِهِ بِمَا لَا يُلْجِئُهُ ، فَإِنَّهُ يَسْتَوْجِبُ الْقَوَدَ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : إنَّمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ ، وَقَدْ يُهَدِّدُ الْإِمَامُ بِمَا لَا يَتَحَقَّقُ ، وَيَتَحَرَّزُ فِيهِ عَنْ الْكَذِبِ بِبَعْضِ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ .
.

وَلَوْ قَالَ لَتَقْطَعَنَّ يَدَ نَفْسِك ، أَوْ لَأَقْطَعَنَّهَا أَنَّهُ لَمْ يَسَعْهُ قَطْعُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُكْرَهٍ ، فَالْمُكْرَهُ مَنْ يَنْجُو عَمَّا هُدِّدَ بِهِ بِالْإِقْدَامِ عَلَى مَا طُلِبَ مِنْهُ ، وَهُنَا فِي الْجَانِبَيْنِ عَلَيْهِ ضَرَرُ قَطْعِ الْيَدِ ، وَإِذَا امْتَنَعَ صَارَتْ يَدُهُ مَقْطُوعَةً بِفِعْلِ الْمُكْرِهِ ، وَإِذَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ صَارَتْ مَقْطُوعَةً بِفِعْلِ نَفْسِهِ ، وَهُوَ يَتَيَقَّنُ بِمَا يَفْعَلُهُ بِنَفْسِهِ ، وَلَا يَتَيَقَّنُ بِمَا هَدَّدَهُ بِهِ الْمُكْرِهُ ، فَرُبَّمَا يُخَوِّفُهُ بِمَا لَا يُحَقِّقُهُ ، فَلِهَذَا لَا يَسَعُهُ قَطْعُهَا ، وَلَوْ قَطَعَهَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ نِسْبَةَ الْفِعْلِ إلَى الْمُكْرِهِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ ، وَالْإِكْرَاهُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا يُقْدِمُ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هُنَا ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا اقْتَصَرَ حُكْمُ فِعْلِهِ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ لَتَقْتُلَنَّ نَفْسَكَ بِهَذَا السَّيْفِ ، أَوْ لَأَقْتُلَنَّكَ بِهِ لَمْ يَكُنْ هَذَا إكْرَاهًا لِمَا قُلْنَا .

، وَلَوْ قَالَ لَهُ لَأَقْتُلَنَّكَ بِالسِّيَاطِ ، أَوْ لَتَقْتُلَنَّ نَفْسَك بِهَذَا السَّيْفِ ، أَوْ ذَكَرَ لَهُ نَوْعًا مِنْ الْقَتْلِ هُوَ أَشَدُّ عَلَيْهِ مِمَّا أَمَرَهُ أَنْ يَفْعَلَ بِنَفْسِهِ ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ قُتِلَ بِهِ الَّذِي أَكْرَهَهُ ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ هُنَا تَحَقَّقَ ، فَإِنَّهُ قَصَدَ بِالْإِقْدَامِ عَلَى مَا طُلِبَ مِنْهُ دَفْعَ مَا هُوَ أَشَدُّ عَلَيْهِ ، فَالْقَتْلُ بِالسِّيَاطِ أَفْحَشُ ، وَأَشَدُّ عَلَى الْبَدَنِ مِنْ الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ بِالسَّيْفِ يَكُونُ فِي لَحْظَةٍ ، وَبِالسِّيَاطِ يَطُولُ ، وَيَتَوَالَى الْأَلَمُ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ : فِتْنَةُ السَّوْطِ أَشَدُّ مِنْ فِتْنَةِ السَّيْفِ ، وَكَذَلِكَ مَا دُونَ النَّفْسِ لَوْ قِيلَ : لَهُ لَتُحْرِقَنَّ يَدَك بِالنَّارِ ، أَوْ لَتَقْطَعَنَّهَا بِهَذَا الْحَدِيدِ ، فَقَطَعَهَا قُطِعَتْ يَدُ الَّذِي أَكْرَهَهُ إنْ كَانَ وَاحِدًا لِتَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ عَدَدًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ فِي يَدِهِ قَوَدٌ ، وَعَلَيْهِمْ دِيَةُ الْيَدِ فِي أَمْوَالِهِمْ بِخِلَافِ النَّفْسِ .
، وَأَصْلُ هَذَا الْفَرْقِ فِي الْمُبَاشَرَةِ حَقِيقَةً ، فَإِنَّهُ لَوْ قَطَعَ جَمَاعَةٌ يَدَ رَجُلٍ لَمْ يَلْزَمْهُمْ الْقَوَدُ عِنْدَنَا ، وَلَوْ قَتَلُوا رَجُلًا كَانَ عَلَيْهِمْ الْقَوَدُ ، وَيَأْتِي هَذَا الْفَرْقُ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

، وَلَوْ أُكْرِهَ بِوَعِيدِ قَتْلٍ عَلَى أَنْ يَطْرَحَ مَالَهُ فِي الْبَحْرِ ، أَوْ عَلَى أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَهُ ، أَوْ يَكْسِرَ مَتَاعَهُ ، فَفَعَلَ ذَلِكَ ، فَالْمُكْرِهُ ضَامِنٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ الْمَالِ مِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ فِيهِ آلَةً لِلْمُكْرِهِ ، فَعِنْدَ تَحَقُّقِ الْإِلْجَاءِ يَصِيرُ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا لِلْمُكْرِهِ ، فَكَأَنَّهُ بَاشَرَ الْإِتْلَافَ بِيَدِهِ وَالشَّافِعِيُّ فِي هَذَا لَا يُخَالِفُنَا ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ يُبَاحُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ سَوَاءٌ كَانَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ ، وَإِذَا صَارَ الْإِقْدَامُ مُبَاحًا لَهُ كَانَ هُوَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرِهِ خَاصَّةً ، وَأَصْحَابُهُ خَرَّجُوا لَهُ قَوْلَيْنِ سِوَى هَذَا : أَحَدُهُمَا أَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ عَلَى الْمُكْرِهِ لِصَاحِبِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتْلِفُ حَقِيقَةً ، ثُمَّ يَرْجِعُ هُوَ عَلَى الْمُكْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي ، أَوْقَعَهُ فِي هَذِهِ الْوَرْطَةِ ، وَالثَّانِي أَنَّ الضَّمَانَ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِتْلَافِ وُجِدَ مِنْ الْمُكْرَهِ ، وَالْقَصْدُ إلَى الْإِضْرَارِ وُجِدَ مِنْ الْمُكْرِهِ ، فَكَانَا بِمَنْزِلَةِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْإِتْلَافِ ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى ذَلِكَ بِحَبْسٍ ، أَوْ قَيْدٍ ، فَفَعَلَهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْمُكْرِهِ ضَمَانٌ ، وَلَا قَوَدٌ ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ إنَّمَا يَصِيرُ كَالْآلَةِ عِنْدَ تَمَامِ الْإِلْجَاءِ ، وَهُوَ مَا إذَا خَافَ التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلَيْسَ فِي التَّهْدِيدِ بِالْحَبْسِ ، وَالْقَيْد مَعْنَى خَوْفِ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ ، فَيَبْقَى الْفِعْلُ مَقْصُورًا عَلَى الْمُكْرَهِ ، فَيُؤَاخِذُ بِحُكْمِهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَبْسِ ، وَالْقَيْدِ إلَّا هَمٌّ يَلْحَقُهُ ، وَمَنْ يُتْلِفُ مَالَ الْغَيْرِ اخْتِيَارًا ، فَإِنَّمَا يَقْصِدُ بِذَلِكَ دَفْعَ الْغَمِّ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِحَسَدِهِ إيَّاهُ عَلَى مَا آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْمَالِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُسْقِطًا لِلضَّمَانِ عَنْهُ .
.

وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِتَلَفٍ عَلَى أَنْ يَأْكُلَ طَعَامًا لَهُ ، أَوْ يَلْبَسَ ثَوْبًا لَهُ ، فَلَبِسَهُ مُكْرَهًا حَتَّى تَخَرَّقَ لَمْ يَضْمَنْ الْمُكْرِهُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفَسَادٍ بَلْ أَمَرَهُ أَنْ يَصْرِفَ مَالَ نَفْسِهِ إلَى حَاجَتِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ ، فَسَادًا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْأَبَ ، وَالْوَصِيَّ يَفْعَلَانِ ذَلِكَ لِلصَّبِيِّ ، وَلَا يَكُونُ فَسَادًا مِنْهُمَا ، ثُمَّ هَذَا مِنْ وَجْهٍ أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ ، فَإِنَّ التَّقْتِيرَ وَتَرْكَ الْإِنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهِ بَعْدَ وُجُودِ السَّعَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَفِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ دَفْعُ الْفَسَادِ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ مَا أَمَرَهُ بِهِ لَيْسَ بِفَسَادٍ ، فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ بِخِلَافِ إحْرَاقِ الْمَالِ بِالنَّارِ أَوْ طَرْحِهِ فِي الْمَاءِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ ، فَسَادٌ لَا انْتِفَاعٌ بِالْمَالِ .
.

وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ قَتْلٍ عَلَى أَنْ يَقْتُلَ عَبْدَهُ بِالسَّيْفِ ، أَوْ عَلَى أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي حُكْمِ نَفْسِهِ بَاقٍ عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ ذِمَّتَهُ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْقَهْرِ ، وَالْمِلْكِ ، فَكَمَا لَا يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِحُرٍّ لَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ ، فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ عِنْدَ ضَرُورَةِ الْمَخْمَصَةِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ مَالَهُ إلَى حَاجَتِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ عَبْدَهُ لِيَأْكُلَ مِنْ لَحْمِهِ ، فَإِنْ ، فَعَلَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الَّذِي أَكْرَهَهُ بِقَتْلِهِ قَوَدًا بِعَبْدِهِ إنْ كَانَ مِثْلَهُ ، وَيَأْخُذَ دِيَةَ يَدِهِ إنْ كَانَ قَطَعَ يَدَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاشَرَ الْمُكْرِهُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلنَا أَنَّ الْقَوَدَ يَجْرِي بَيْنَ الْأَحْرَارِ ، وَالْمَمَالِيكِ فِي النَّفْسِ ، وَلَا يَجْرِي فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، وَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ بِحَبْسٍ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُكْرِهِ شَيْءٌ ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْأَدَبُ بِالضَّرْبِ ، وَالْحَبْسِ ، وَالْإِلْجَاءُ لَمْ يَتَحَقَّقْ ، فَكَانَ فِعْلُ الْقَتْلِ مَقْصُورًا عَلَى الْمَوْلَى ، فَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ ، وَلَيْسَ عَلَى الْمَوْلَى سِوَى الْإِثْمِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي بَدَلِ نَفْسِ الْعَبْدِ لِلْمَوْلَى ، وَلَا يَسْتَوْجِبُ هُوَ عَلَى نَفْسِهِ عُقُوبَةً ، وَلَا مَالًا ، فَأَمَّا الْإِثْمُ ، فَهُوَ حَقُّ الشَّرْعِ ، فَكَمَا يَصِيرُ آثِمًا بِالْإِقْدَامِ عَلَى قَتْلِ الْحُرِّ مُكْرَهًا ؛ لِأَنَّهُ يُؤْثِرُ رُوحَهُ عَلَى رُوحِ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي الْحُرْمَةِ ، وَيُطِيعُ الْمَخْلُوقَ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ ، وَقَدْ نَهَاهُ الشَّرْعُ عَنْ ذَلِكَ ، فَكَذَلِكَ الْمَوْلَى يَكُونُ آثِمًا بِهَذَا الطَّرِيقِ .

، وَلَوْ أَنَّ قَاضِيًا أَكْرَهَ رَجُلًا بِتَهْدِيدِ ضَرْبٍ ، أَوْ حَبْسٍ ، أَوْ قَيْدٍ حَتَّى يُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِحَدٍّ ، أَوْ قِصَاصٍ كَانَ الْإِقْرَارُ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ ، وَالْكَذِبِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً إذَا تَرَجَّحَ جَانِبُ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ ، وَالتَّهْدِيدُ بِالضَّرْبِ ، وَالْحَبْسِ يَمْنَعُ رُجْحَانَ جَانِبِ الصِّدْقِ عَلَى مَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَيْسَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ بِأَمِينٍ إذَا ضَرَبْتَ أَوْ أَوْثَقْتَ ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ صِحَّةُ الْإِقْرَارِ مَعَ التَّهْدِيدِ بِالضَّرْبِ ، وَالْحَبْسِ فِي حَقِّ السَّارِقِ ، وَغَيْرِهِ إلَّا شَيْءٌ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ بَعَثَ إلَيْهِ ، وَسَأَلَهُ عَنْ ضَرْبِ السَّارِقِ لِيُقِرَّ ، فَقَالَ مَا لَمْ يَقْطَعْ اللَّحْمَ أَوْ يُبِينَ الْعَظْمَ ، ثُمَّ نَدِمَ عَلَى مَقَالَتِهِ ، وَجَاءَ بِنَفْسِهِ إلَى مَجْلِسِ الْأَمِيرِ لِيَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ ، فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ حَتَّى اعْتَرَفَ ، وَجَاءَ بِالْمَالِ ، فَلَمَّا رَأَى الْمَالَ مَوْضُوعًا بَيْنَ يَدَيْ الْأَمِيرِ قَالَ : مَا رَأَيْت ظُلْمًا أَشْبَهَ بِالْحَقِّ مِنْ هَذَا ، فَإِنْ خُلِّيَ سَبِيلُهُ بَعْدَ مَا أَقَرَّ مُكْرَهًا ، ثُمَّ أُخِذَ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَجِيءَ بِهِ ، فَأَقَرَّ بِمَا كَانَ تَهَدَّدَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إكْرَاهٍ مُسْتَقِلٍّ أُخِذَ بِذَلِكَ كُلِّهِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ الْأَوَّلَ كَانَ بَاطِلًا ، وَلَمَّا خُلِّيَ سَبِيلُهُ ، فَقَدْ انْتَهَى حُكْمُ ذَلِكَ الْأَخْذِ ، وَالتَّهْدِيدِ ، فَصَارَ كَأَنْ لَمْ يُوجَدْ أَصْلًا حَتَّى أُخِذَ الْآنَ فَأَقَرَّ بِغَيْرِ إكْرَاهٍ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُخْلَ سَبِيلُهُ ، وَلَكِنَّهُ قَالَ : لَهُ ، وَهُوَ فِي يَدِهِ بَعْدَمَا أَقَرَّ إنِّي لَا أُؤَاخِذُكَ بِإِقْرَارِك الَّذِي أَقْرَرْت بِهِ ، وَلَا أَضْرِبُك ، وَلَا أَحْبِسُك ، وَلَا أَعْرِضُ لَك ، فَإِنْ شِئْت فَأَقِرَّ ، وَإِنْ شِئْت ، فَلَا تُقِرَّ ، وَهُوَ فِي يَدِ الْقَاضِي عَلَى حَالِهِ لَمْ يَجُزْ هَذَا الْإِقْرَارُ ؛ لِأَنَّ

كَيْنُونَتَهُ فِي يَدِهِ حَبْسٌ مِنْهُ لَهُ ، وَإِنَّمَا كَانَ هَدَّدَهُ بِالْحَبْسِ ، فَمَا دَامَ حَابِسًا لَهُ كَانَ أَثَرُ ذَلِكَ الْإِكْرَاهِ بَاقِيًا ، وَقَوْلُهُ لَا أَحْبِسُكَ نَوْعُ غُرُورٍ ، وَخِدَاعٍ مِنْهُ ، فَلَا يَنْعَدِمُ بِهِ أَثَرُ ذَلِكَ الْإِكْرَاهِ ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إنَّمَا أَقَرَّ لِأَجْلِ إقْرَارِهِ الْمُتَقَدِّمُ ، فَإِنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ الْإِنْكَارُ ، وَأَنَّهُ إذَا تَنَاقَضَ كَلَامُهُ يَزْدَادُ التَّشْدِيدُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ، فَهُنَاكَ قَدْ خُلِّيَ سَبِيلُهُ ، وَصَارَ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الذَّهَابِ إنْ شَاءَ ، فَيَنْقَطِعُ بِهِ أَثَرُ ذَلِكَ الْإِكْرَاهِ .
وَإِنْ خُلِّيَ سَبِيلُهُ ، وَلَمْ يَتَوَارَ عَنْ بَصَرِ الْقَاضِي حَتَّى بَعَثَ مَنْ أَخَذَهُ ، وَرَدَّهُ إلَيْهِ ، فَأَقَرَّ بِاَلَّذِي أَقَرَّ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ جَدِيدٍ ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَتَوَارَ عَنْ بَصَرِهِ ، فَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَخْذِهِ ، وَحَبْسِهِ ، فَيُجْعَلُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ عَلَى حَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ حِينَ رَدَّهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ لَمْ يَحْبِسْهُ ، وَلَكِنَّهُ هَدَّدَهُ ، فَلَمَّا أَقَرَّ قَالَ : إنِّي لَسْت أَصْنَعُ بِك شَيْئًا ، فَإِنْ شِئْت فَأَقِرَّ ، وَإِنْ شِئْت فَدَعْ ، فَأَقِرَّ لَمْ يَأْخُذْهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي يَدِهِ ، فَكَأَنَّهُ مَحْبُوسٌ فِي سِجْنِهِ ، فَكَانَ أَثَرُ التَّهْدِيدِ الْأَوَّلِ قَائِمًا أَرَأَيْت لَوْ خَلَّى سَبِيلَهُ ، ثُمَّ بَعَثَ مَعَهُ مَنْ يَحْفَظُهُ ، ثُمَّ رَدَّهُ إلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَأَقَرَّ أَكَانَ يُؤْخَذُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؟ أَوْ لَا يُؤْخَذُ بِهِ ؟ ؛ لِأَنَّ يَدَ مَنْ يَحْفَظُهُ لَهُ كَيَدِهِ فِي ذَلِكَ .
.

وَلَوْ أَكْرَهَهُ قَاضٍ بِضَرْبٍ ، أَوْ حَبْسٍ حَتَّى يُقِرَّ بِسَرِقَةٍ ، أَوْ زِنًا ، أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ ، أَوْ قَتْلٍ ، فَأَقَرَّ بِذَلِكَ ، فَأَقَامَهُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ رَجُلًا مَعْرُوفًا بِمَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ ، فَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ الْمُكْرِهِ فِيمَا أَمْكَنَ الْقِصَاصُ فِيهِ ، وَيُضَمَّنُ مِنْ مَالِهِ مَا لَا يُسْتَطَاعُ الْقِصَاصُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ كَانَ بَاطِلًا ، وَالْإِقْرَارُ الْبَاطِلُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ ، فَبَقِيَ هُوَ مُبَاشِرًا لِلْجِنَايَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَيَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ فِيمَا يُسْتَطَاعُ فِيهِ الْقِصَاصُ ، وَلَكِنْ يُسْتَحْسَنُ أَنْ يَلْزَمَهُ ضَمَانُ جَمِيعِ ذَلِكَ فِي مَالِهِ ، وَيُدْرَأُ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِمَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ ، فَاَلَّذِي يَقَعُ فِي قَلْبِ كُلِّ سَامِعٍ أَنَّهُ صَادِقٌ فِي إقْرَارِهِ لِمَا أَقَرَّ بِهِ ، وَذَلِكَ يُورِثُ شُبْهَةً ، وَالْقِصَاصُ مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ؛ وَلِأَنَّ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْبُرَ الْمَعْرُوفَ بِذَلِكَ الْفِعْلِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالضَّرْبِ ، وَالْحَبْسِ ، فَإِنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ قَلَّمَا يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ طَائِعًا ، وَإِذَا أَقَرَّ بِهِ مُكْرَهًا عِنْدَهُمْ يَصِحُّ إقْرَارُهُ ، وَتُقَامُ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ ، فَيَصِيرُ اخْتِلَاف الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ شُبْهَةً ، وَالْقَاضِي مُجْتَهِدٌ فِي مَا صَنَعَ ، فَهَذَا اجْتِهَادٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ وَجْهٍ ، فَيَكُونُ مُسْقِطًا لَلْقَوَدِ عَنْهُ ، وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ الْمَالُ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ مِمَّا يُثْبِتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ ، وَبِالْإِقْرَارِ الْبَاطِلَ لَمْ تَسْقُطْ حُرْمَةُ نَفْسِهِ ، وَأَطْرَافِهِ ، فَيَصِيرُ ضَامِنًا لَهُ مُرَاعَاةً لِحُرْمَةِ نَفْسِهِ ، وَطَرَفِهِ .
وَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ بِشَيْءٍ مِمَّا رُمِيَ بِهِ أَخَذْتُ فِيهِ بِالْقِيَاسِ وَأَوْجَبْتُ الْقِصَاصَ عَلَى الْقَاضِي فِي مَا يُسْتَطَاعُ فِيهِ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِالصَّلَاحِ ، فَاَلَّذِي يَسْبِقُ إلَيْهِ ، أَوْهَامُ النَّاسِ أَنَّهُ

بَرِيءُ السَّاحَةِ مِمَّا رُمِيَ بِهِ ، وَإِنَّمَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ كَاذِبًا بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا قِيلَ : فِيمَنْ دَخَلَ عَلَى إنْسَانٍ بَيْتَهُ شَاهِرًا سَيْفَهُ مَادًّا رُمْحَهُ فَقَتَلَهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ ، ثُمَّ اخْتَصَمَ ، أَوْلِيَاؤُهُ مَعَ صَاحِبِ الْبَيْتِ ، فَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُ كَانَ هَارِبًا مِنْ اللُّصُوصِ مُلْتَجِئًا إلَيْكَ ، وَقَالَ صَاحِبُ الْبَيْتِ : بَلْ كَانَ لِصًّا قَصَدَ قَتْلِي ، فَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ رَجُلًا مَعْرُوفًا بِالصَّلَاحِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَوْلِيَاءِ ، وَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى صَاحِبِ الْبَيْتِ ، وَإِنْ كَانَ مُتَّهَمًا بِالدِّعَارَةِ ، فَفِي الْقِيَاسِ كَذَلِكَ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْبَيْتِ ، وَلَا قِصَاصَ ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ .
، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ دَخَلَ عَلَيْهِ مُكَابِرًا ، وَأَنَّهُ قَدْ أَهْدَرَ دَمَهُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ، وَلَكِنْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَقُولُ : مُجَرَّدُ الظَّاهِرِ لَا يُسْقِطُ حُرْمَةَ النُّفُوسِ الْمُحْتَرَمَةِ ، وَلَا يَجُوزُ إهْدَارُ الدِّمَاءِ الْمَحْقُونَةِ ، وَلَكِنْ يَصِيرُ الظَّاهِرُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ عَنْهُ ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ صِيَانَةً لِدَمِ الْمَقْتُولِ عَنْ الْهَدْرِ ، فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَإِذَا بَعَثَ الْخَلِيفَةُ عَامِلًا عَلَى كُورَةٍ ، فَقَالَ لِرَجُلٍ لَتَقْتُلَنَّ هَذَا الرَّجُلَ عَمْدًا بِالسَّيْفِ ، أَوْ لَأَقْتُلَنَّكَ ، فَقَتَلَهُ الْمَأْمُورُ ، فَالْقَوَدُ عَلَى الْآمِرِ الْمُكْرِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَلَا قَوَدَ عَلَى الْمُكْرَهِ ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرِهِ دُونَ الْمُكْرَهِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرِهِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَلَهُ فِي إيجَابِ الْقَوَدِ عَلَى الْمُكْرِهِ قَوْلَانِ .
، وَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمَا الْقَوَدُ ، وَزَادُوا عَلَى هَذَا ، فَأَوْجَبُوا الْقَوَدَ عَلَى الْمُمْسِكِ حَتَّى إذَا أَمْسَكَ رَجُلًا ، فَقَتَلَهُ عَدُوُّهُ قَالُوا يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الْمُمْسِكِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ أَسْتَحْسِنُ أَنْ لَا يَجِبَ الْقَوَدُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَلَكِنْ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْمُكْرِهِ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ أَمَّا زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } ، وَالْمُرَادُ سُلْطَانُ اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ مِنْ الْقَاتِلِ وَالْقَاتِلُ هُوَ الْمُكْرِهُ حَقِيقَةً ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مَنْ قَتَلَ مَنْ يُكَافِئُهُ لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ يُعْتَمَدُ بِحَقٍّ مَضْمُونٍ ، فَيَلْزَمُهُ الْقَوَدُ كَمَا لَوْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ ، فَقَتَلَ إنْسَانًا ، وَأَكَلَ مِنْ لَحْمِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ هُوَ الْمُكْرِهُ أَنَّ الْقَتْلَ فِعْلٌ مَحْسُوسٌ ، وَهُوَ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْمُكْرَهِ ، وَالطَّائِعِ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ فَيُعْرَفُ بِهِ أَنَّهُ قَاتِلٌ حَقِيقَةً ، وَمِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ أَنَّهُ يَأْثَمُ إثْمَ الْقَتْلِ ، وَإِثْمُ الْقَتْلِ عَلَى مَنْ بَاشَرَ الْقَتْلَ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقَتْلِ إذَا قَدَرَ عَلَى قَتْلِ الْمُكْرِهَ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ كَمَا لَوْ كَانَ طَائِعًا ، وَبِهِ نُعَلِّلُ .
، فَنَقُولُ : كُلُّ حُكْمٍ يَتَعَلَّقُ بِالْقَتْلِ ، فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُكْرَهِ بِالْإِكْرَاهِ

كَالْإِثْمِ ، وَالتَّفْسِيقِ ، وَرَدِّ الشَّهَادَةِ ، وَإِبَاحَةِ قَتْلِهِ لِلْمَقْصُودِ بِالْقَتْلِ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الضَّرُورَةِ فِي إسْقَاطِ الْإِثْمِ دُونَ الْحُكْمِ حَتَّى إنَّ مَنْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ يُبَاحُ لَهُ تَنَاوُلُ مَالِ الْغَيْرِ ، وَيَكُونُ ضَامِنًا ، ثُمَّ هُنَا لَا يَسْقُطُ إثْمُ الْفِعْلِ عَنْ الْمُكْرَهِ ، فَلَأَنْ لَا يَسْقُطَ عَنْهُ حُكْمُ الْقَتْلِ أَوْلَى ، وَلَمَّا جَعَلَ هَذَا نَظِيرَ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ فِي إثْمِ الْفِعْلِ ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِهِ ، وَلَا يُقَالُ : إنَّمَا يَأْثَمُ إثْمَ سُوءِ الِاخْتِيَارِ ، أَوْ إثْمَ جَعْلِ الْمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ ؛ لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ عَلَى هَذَا كُلِّهِ كَمَا هُوَ مُكْرَهٌ عَلَى الْقَتْلِ .
وَالشَّافِعِيُّ يَسْتَدِلُّ بِهَذَا أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ يُوجِبُ الْقَوَدَ عَلَى الْمُكْرَهِ أَيْضًا لِلسَّبَبِ الْقَوِيِّ ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ إلَى الْقَتْلِ بِهَذَا الطَّرِيقِ ظَاهِرٌ مِنْ الْمُتَخَيِّرَيْنِ ، وَالْقِصَاصُ مَشْرُوعٌ بِطَرِيقِ الزَّجْرِ ، فَيُقَامُ السَّبَبُ الْقَوِيُّ مَقَامَ الْمُبَاشَرَةِ فِي حَقِّ الْمُكْرَهِ لِتَغْلِيظِ أَمْرِ الدَّمِ ، وَتَحْقِيقِ مَعْنَى الزَّجْرِ كَمَا قَالَ فِي شُهُودِ الْقِصَاصِ يَلْزَمُهُمْ الْقَوَدُ قَالَ ، وَعَلَى أَصْلِكُمْ حَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ يَجِبُ عَلَى الرَّدَى بِالسَّبَبِ الْقَوِيِّ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ يُقْتَلُونَ بِالْوَاحِدِ قِصَاصًا لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الزَّجْرِ ، وَمَنْ أَوْجَبَ الْقَوَدَ عَلَى الْمُمْسِكِ يَسْتَدِلُّ بِهَا أَيْضًا ، فَنَقُولُ الْمُمْسِكُ قَاصِدٌ إلَى قَتْلِهِ مُسَبِّبٌ لَهُ ، فَإِذَا كَانَ التَّسْبِيبُ يُقَامُ مُقَامَ الْمُبَاشَرَةِ فِي أَخْذِ بَدَلِ الدَّمِ ، وَهُوَ الدِّيَةُ يَعْنِي حَافِرَ الْبِئْرِ فِي الطَّرِيقِ ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ إلَّا أَنَّ الْمُتَسَبِّبَ إذَا قَصَدَ شَخْصًا بِعَيْنِهِ يَكُونُ عَامِدًا ، فَيَلْزَمُهُ الْقَوَدُ ، وَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ بِتَسَبُّبِهِ شَخْصًا بِعَيْنِهِ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخْطِئِ ، فَتَلْزَمُهُ الدِّيَةُ وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ طَرِيقٌ آخَرُ أَنَّ الْمُكْرَهَ مَعَ الْمُكْرِهِ بِمَنْزِلَةِ

الشَّرِيكَيْنِ فِي الْقَتْلِ ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ وُجِدَ مِنْ الْمُكْرِهِ ، وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِهِ ، وَهُوَ الِانْتِقَامُ يَحْصُلُ لَهُ ، وَالْمُبَاشَرَةُ وُجِدْت مِنْ الْمُكْرَهِ ، فَكَانَا بِمَنْزِلَةِ الشَّرِيكَيْنِ ، ثُمَّ وَجَبَ الْقَوَدُ عَلَى أَحَدِهِمَا ، وَهُوَ الْمُكْرِهُ فَكَذَلِكَ عَلَى الْآخَرِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمَا كَشَرِيكَيْنِ أَنَّهُمَا مُشْتَرَكَانِ فِي إثْمِ الْفِعْلِ ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقَتْلِ أَنْ يَقْتُلَهُمَا جَمِيعًا .
، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْمُكْرَهَ مُلْجَأٌ إلَى هَذَا الْفِعْلِ ، وَالْإِلْجَاءُ بِأَبْلَغِ الْجِهَاتِ يَجْعَلُ الْمُلْجَأَ آلَةً لِلْمُلْجِئِ ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لَهُ كَمَا فِي إتْلَافِ الْمَالِ ، فَإِنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ عَلَى الْمُكْرِهِ ، وَيَصِيرُ الْمُكْرَهُ آلَةً لَهُ حَتَّى لَا يَكُونَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ حُكْمِ الْإِتْلَافِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُبَاشِرَ ، وَالْمُتَسَبِّبَ إذَا اجْتَمَعَا فِي الْإِتْلَافِ ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُبَاشِرِ دُونَ الْمُتَسَبِّبِ ، وَلَمَّا وَجَبَ ضَمَانُ الْمَالِ عَلَى الْمُكْرِهِ عُلِمَ أَنَّ الْإِتْلَافَ مَنْسُوبٌ إلَى الْمُكْرِهِ ، وَلَا طَرِيقَ لِلنِّسْبَةِ إلَيْهِ سِوَى جَعْلِ الْمُكْرَهِ آلَةً لِلْمُكْرِهِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْقَتْلِ ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ فِيهِ بِأَنْ يَأْخُذَ بِيَدِهِ مَعَ السِّكِّينِ ، فَيَقْتُلَ بِهِ غَيْرَهُ ، وَتَفْسِيرُ الْإِلْجَاءِ أَنَّهُ صَارَ مَحْمُولًا عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ بِالتَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ ، فَالْإِنْسَانُ مَجْبُولٌ عَلَى حُبِّ الْحَيَاةِ ، وَلَا يَتَوَصَّلُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِالْإِقْدَامِ عَلَى الْقَتْلِ ، فَيَفْسُدُ اخْتِيَارُهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ ، ثُمَّ يَصِيرُ مَحْمُولًا عَلَى هَذَا الْفِعْلِ ، وَإِذَا فَسَدَ اخْتِيَارُهُ الْتَحَقَ بِالْآلَةِ الَّتِي لَا اخْتِيَارَ لَهَا ، فَيَكُونُ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَى مَنْ فَسَدَ اخْتِيَارُهُ ، وَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ لَا عَلَى الْآلَةِ ، فَلَا يَكُونُ عَلَى الْمُكْرَهِ شَيْءٌ مِنْ حُكْمِ الْقَتْلِ مِنْ قِصَاصٍ ، وَلَا دِيَةٍ ، وَلَا كَفَّارَةٍ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ شَيْئًا مِنْ

الْمَقْصُودِ لَا يَحْصُلُ لِلْمُكْرَهِ ، فَلَعَلَّ الْمَقْتُولَ مِنْ أَخَصِّ أَصْدِقَائِهِ ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ ، فَأَمَّا الْإِثْمُ ، فَبَقَاءُ الْإِثْمِ عَلَيْهِ لَا يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الْحُكْمِ كَمَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ : اقْطَعْ يَدِي ، فَقَطَعَهَا كَانَ آثِمًا ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الْقَطْعِ بَلْ فِي الْحُكْمِ يُجْعَلُ كَأَنَّ الْآمِرَ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مَعَ ، فَسَادِ الِاخْتِيَارِ يَبْقَى مُخَاطَبًا ، فَلِبَقَائِهِ مُخَاطَبًا كَانَ عَلَيْهِ إثْمُ الْقَتْلِ ، وَلِفَسَادِ اخْتِيَارِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ حُكْمِ الْقَتْلِ ، ثُمَّ حَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِي الْعُذْرِ عَنْ فِعْلِ الْإِثْمِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ تَأْثِيرَ الْإِلْجَاءِ فِي تَبْدِيلِ النِّسْبَةِ لَا فِي تَبْدِيلِ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ ، وَلَوْ جَعَلْنَا الْمُكْرَهَ هُوَ الْفَاعِلُ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ لَمْ يَتَبَدَّلْ بِهِ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ ، وَلَوْ أَخَّرَ جِنَايَةَ الْمُكْرَهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا فِي حَقِّ الْآثِمِ تَبَدَّلَ بِهِ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّ الْآثِمَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى حَدِّ الدِّينِ ، وَإِذَا جَعَلْنَا الْمُكْرَهَ فِي هَذَا آلَةً كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى حَدِّ دِينِ الْمُكْرِهِ دُونَ الْمُكْرَهِ ، وَإِذَا قُلْنَا : الْمُكْرَهُ آثِمٌ ، وَيَكُونُ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ فِي حَقِّ الْآثِمِ كَانَتْ جِنَايَةً عَلَى دِينِهِ بِارْتِكَابِ مَا هُوَ حَرَامٌ مَحْضٌ ، وَبِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ لَا يَتَبَدَّلُ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ ، فَأَمَّا فِي حَقِّ الضَّمَانِ فَمَحَلُّ الْجِنَايَةِ نَفْسُ الْمَقْتُولِ سَوَاءٌ كَانَ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرَهِ ، أَوْ إلَى الْمُكْرِهِ ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ فِي حَقِّ الْإِثْمِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى حَدِّ دِينِ نَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِغَيْرِهِ ، وَالثَّانِي - أَنَّا لَوْ جَعَلْنَا الْمُكْرَهَ آلَةً فِي حَقِّ الْإِثْمِ كَانَ ذَلِكَ إهْدَارًا ، وَلَيْسَ تَأْثِيرُ الْإِلْجَاءِ فِي الْإِهْدَارِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ فِي الْمَالِ لَا يُجْعَلُ

فِعْلُ الْمُكْرَهِ كَفِعْلِ بَهِيمَةٍ لَيْسَ لَهَا اخْتِيَارٌ صَحِيحٌ ، وَالْمُكْرِهُ آثِمٌ بِإِكْرَاهِهِ ، فَإِذَا لَمْ يُجْعَلْ الْمُكْرَهُ آثِمًا كَانَ هَذَا إهْدَارًا لِلْآثِمِ فِي حَقِّهِ أَصْلًا ، وَلَا تَأْثِيرَ لِلْإِلْجَاءِ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ حُكْمِ الْفِعْلِ ، فَإِنَّهُ إذَا جُعِلَ الْمُكْرَهُ آلَةً فِيهِ كَانَ الْمُكْرِهُ مُؤَاخَذًا بِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ هَدَرًا ، وَلَا يُقَالُ : الْحَرْبِيُّ إذَا أَكْرَهَ مُسْلِمًا عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ ، فَإِنَّ الْفِعْلَ يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرَهِ عِنْدَكُمْ ، وَفِي هَذَا إهْدَارٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُكْرَهِ شَيْءٌ مِنْ الضَّمَانِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِهْدَارٍ بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاشَرَ الْحَرْبِيُّ قَتْلَهُ فَيَكُونُ الْمَقْتُولُ شَهِيدًا ، وَلَا يَكُونُ قَتْلُ الْحَرْبِيِّ إيَّاهُ هَدَرًا ، وَإِنْ كَانَ لَا يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ مِنْ الضَّمَانِ إذَا أَسْلَمَ ، وَبِهِ ، فَارَقَ الْمُضْطَرَّ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْجَأٍ إلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ لِيَصِيرَ هُوَ آلَةً لِلْمُلْجِئِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ فِي الْمَالِ الضَّمَانُ ، وَاجِبٌ عَلَيْهِ ، فَعَرَفْنَا بِهِ أَنَّ حُكْمَ الْفِعْلِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ الْمُكْرَهُ أَنَّ الْقِصَاصَ يَلْزَمُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَالْقِصَاصُ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، فَيُعْتَمَدُ الْمُسَاوَاةُ حَتَّى أَنَّ بِدُونِ الْمُسَاوَاةِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ كَمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ ، وَالْمُسْتَأْمَنِ ، وَكَمَا فِي كَسْرِ الْعِظَامِ ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُبَاشَرَةِ ، وَالتَّسَبُّبِ ، وَلَا طَرِيقَ لِجَعْلِ الْمُكْرَهِ شَرِيكًا إلَّا بِنِسْبَةِ بَعْضِ الْفِعْلِ إلَيْهِ ، وَإِذَا كَانَ لِلْإِلْجَاءِ تَأْثِيرٌ فِي نِسْبَةِ بَعْضِ الْفِعْلِ إلَى الْمُلْجِئِ ، فَكَذَلِكَ فِي نِسْبَةِ جَمِيعِ الْفِعْلِ إلَيْهِ ، وَلَا مَعْنَى لِإِيجَابِ الْقَوَدِ عَلَى الْمُمْسِكِ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ جَزَاءُ مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ ، فَإِنَّهُ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَفِي التَّسَبُّبِ نُقْصَانٌ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ مَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ ،

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96